ج17.تفسير الشعراوي
وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)
وهكذا يبيِّن الحق سبحانه أن على العبد أن يستغفر من ذنوبه السابقة التي وقع فيها،
وأن يتوب من الآن، وأن يرجع إلى منهج الله تعالى، لينال الفضل من الحق سبحانه.
المطلوب ـ إذن ـ من العبد أن يستغفر الله تعالى، وأن يتوب إليه.
هذا هو مطلوب الله من العاصي؛ لأن درء المفسدة مقدَّم على جلب المصلحة، وحين يعجل
العبد بالتوبة إلى الله تعالى فهو يعلم أن ذنباً قد وقع وتحقق منه، وعليه ألا يؤجل
التوبة إلى زمنٍ قادم؛ لأنه لا يعلم إن كان سيبقى حياً أم لا.
ولذلك يقول الحق سبحانه:
{ وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعاً
حَسَناً إِلَىا أَجَلٍ مُّسَمًّى } [هود: 3].
والحق سبحانه يُجمل قضية اتباع منهجه في قوله تعالى:
{ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَىا }[طه: 123].
وقال في موضع آخر:
{ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ
حَيَاةً طَيِّبَةً }[النحل: 97].
فالحياة الطيبة في الدنيا وعدم الضلال والشقاء متحققان لمن اتبع منهج الله تعالى.
وظن بعض العلماء أن هذا القول يناقض في ظاهره قول النبي صلى الله عليه وسلم بأن
" الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر " و " إن أشد الناس بلاءً
الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل ".
وقال بعض العلماء: فكيف تقول: { يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعاً حَسَناً } [هود: 3].
هنا نقول: ما معنى المتاع؟
المتاع: هو ما تستمتع به وتستقبله بسرور وانبساط.
ويعلم المؤمن أن كل مصيبة في الدنيا إنما يجزيه الله عليها حسن الجزاء، ويستقبل
هذا المؤمن قضاء الله تعالى بنفس راضية؛ لأن ما يصيبه قد كتبه الله عليه، وسوف
يوافيه بما هو خير منه.
وهناك بعض من المؤمنين قد يطلبون زيادة الابتلاء.
إذن: فالمؤمن كل أمره خير؛ وإياك أن تنظر إلى من أصابته الحياة بأية مصيبة على أنه
مصاب حقاً؛ لأن المصاب حقاً هو من حُرِم من الثواب.
ونحن نجد في القرآن قصة العبد الصالح الذي قتل غلاماً كان أبواه مؤمنين، فخشي
العبد الصالح أن يرهقهما طغياناً وكفراً، فهذا الولد كان فتنة، ولعله كان سيدفع
أبويه إلى كل محرم، ويأتي لهما بالشقاء.
إذن: فالمؤمن الحق هو الذي يستحضر ثواب المصيبة لحظة وقوعها.
ومنَّا من قرأ قصة المؤمن الصالح الذي سار في الطريق من المدينة إلى دمشق، فأصيبت
رِجْله بجرح وتلوث هذا الجرح، وامتلأ بالصديد مما يقال عنه في الاصطلاح الحديث
" غرغرينة " وقرر الأطباء أن تٌقطع رجله، وحاولوا أن يعطوه "
مُرَقِّداً " أي: مادة تُخدِّره، وتغيب به عن الوعي؛ ليتحمل ألم بتر الساق،
فرفض العبد الصالح وقال:
إني لا أحب أن أغفل عن ربي طرفة عين.
ومثل هذا العبد يعطيه الله سبحانه وتعالى طاقة على تحمُّل الألم، لأنه يستحضر
دائماً وجوده في معية الله، ومفاضٌ عليه من قدرة الله وقوته سبحانه.
وحينما قطع الأطباء رجله، وأرادوا أن يكفنوها وأن يدفنوها، فطلب أن يراها قبل أن
يفعلوا ذلك، وأمسكها ليقول: اللهم إن كنت قد ابتليت في عضو، فإني قد عوفيت في
أعضاء.
إذن: فصاحب المصيبة حين يستحضر الجزاء عليها، إنما يحيا في متعة، ولذلك لا تتعجب
حين يحمد أناس خالقهم على المصائب؛ لأن الحمد يكون على النعمة، والمصيبة قد تأتي
للإنسان بنعمة أوسع مما أفقدته.
ولذلك نجد اثنين من العارفين بالله وقد أراد أن يتعالم كل منهما على الآخر؛ فقال
واحد منهما:
كيف حالكم في بلادكم أيها الفقراء؟
ـ والمقصود بالفقراء هم العُبَّاد الزاهدون ويعطون أغلب الوقت لعبادة الله تعالى ـ
فقال العبد الثاني:
حالنا في بلادنا إنْ أعطينا شكرنا، وإنْ حُرمنا صبرنا.
فضحك العبد الأول وقال:
هذا حال الكلاب في " بلخ: أي: أن الكلب إن أعطيته يهز ذيله، وإن منعه أحد فهو
يصبر.
وسأل العبد الثاني العبد الأول:
وكيف حالكم أنتم؟
فقال: نحن إن أعطينا آثرنا، وإن حُرِمنا شركنا.
إذن: فكل مؤمن يعيش في منهج الله سبحانه وتعالى فهو يستحضر في كل أمر مؤلم وفي كل
أمر متعب، أن له جزاءً على ما ناله من التعب؛ ثواباً عظيماً خالداً من الله سبحانه
وتعالى.
ولذلك يقول الحق سبحانه:
} يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعاً حَسَناً { [هود: 3].
والحسن هنا له مقاييس، يُقاس بها اعتبار الغاية؛ فحين تضم الغاية إلى الفعل تعرف
معنى الحسن.
ومثال ذلك: هو التلميذ الذي لا يترك كتبه، بل حين ياتي وقت الطعام، فهو يأكل
وعيناه لا تفارقان الكتاب.
هذا التلميذ يستحضر متعة النجاح وحُسْنه ونعيم التفوق، وهو تلميذ يشعر بالغاية وقت
أداء الفعل.
ويقول الحق سبحانه في نفس الآية:
} وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ { [هود: 3].
أي: يؤتى كل ذي فضل مجزول لمن لا فضل له، فكأن الحق سبحانه يمنِّي الفضل للعبد.
ومثال ذلك: الفلاح الذي يأخذ من مخزن غلاله إردباً من القمح ليبذره في الأرض؛
ليزيده الله سبحانه وتعالى بزراعة هذا الإردب، ويصبح الناتج خمسة عشر إردباً.
والفضل هو الأجر الزائد عن مساويه، فمثلاً هناك فضل المال قد يكون عندك، أي: زائد
عن حاجتك، وغيرك لا يملك مالاً يكفيه، فإن تفضلت ببعض من الزائد عندك، وأعطيته لمن
لا مال عنده فأنت تستثمر هذا العطاء عند الله سبحانه وتعالى.
والحق سبحانه وتعالى قد يعطيك قوة، فتعطى ما يزيد منها لعبد ضعيف.
وقد يكون الحق سبحانه قد أسبغ عليك فضلاً من الحلم، فتعطى منه لمن أصابه السفه
وضيق الخلق.
إذن: فكل ما يوجد عند الإنسان من خصلة طيبة ليست عند غيره من الناس، ويفيضها
عليهم، فهي تزيد عنده لأنها تربو عند الله، وإن لم يُفِضْها على الغير فهي تنقص.
ولذلك يقول الحق سبحانه:
{ وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُو
عِندَ اللَّهِ وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ
فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ }[الروم: 39].
ويقول الحق سبحانه وتعالى في الآية التي نحن بصدد خوطرنا عنها:
} وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ { [هود: 3].
وبعض من أهل المعرفة يفهم هذا القول الكريم بأن الإنسان الذي يفيض على غيره مما
آتاه الله، يعطيه الحق سبحانه بالزيادة ما يعوضه عن الذي نقص، أو أنه سبحانه
وتعالى يعطي كل صاحب فضلٍ فضل ربه، وفضل الله تعالى فوق كل فضل.
ثم يقول الحق سبحانه:
} وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ { [هود:
3].
فإن أعرضوا عنك فأبلغهم أنك تخاف عليهم من عذاب اليوم الآخر، ويُوصف العذاب مرة
بأنه كبير، ويوصف مرة بأنه عظيم، ويوصف مرة بأنه مهين؛ لأنه عذاب لا ينتهي ويتنوع
حسب ما يناسب المعذب، فضلاً عن أن العذاب الذي يوجد في دنيا الأغيار هو عذاب يجري
في ظل المظنة بأنه سينقضي، أما عذاب اليوم الآخر فهو لا ينقضي بالنسبة للمشركين
بالله أبداً.
ويقول الحق من بعد ذلك: } إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ {
(/1463)
إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)
أي: إلى الله مرجعكم في الإيجاد والإمداد، والبداية والنهاية، وبداية النهاية التي
لا انتهاء معها وهي الآخرة، فيثيب المحسن على إحسانه، ويعاقب المسيء على إساءته،
فيؤتي سبحانه لكل ذي عمل صالح في الدنيا أجره، وثوابه في الآخرة.
ومن كثرت حسناته على سيئاته دخل الجنة، ومن زادت سيئاته على حسناته دخل النار.
وفي الدنيا من زادت حسناته على سيئاته وعاش بين القبض والبسط.
والقبض والبسط هو إقبال على الله بتوبة وباعتراف بالذنب، والإقرار بالذنب هو بداية
التوبة.
ومن كثرت سيئاته على حسناته كان في ضنك العيش وقلق النفس.
ويؤتي الحق سبحانه كل ذي فضل فضله، فمن عمل لله عز وجل؛ وفقه الله فيما يستقبل على
طاعته، والذين أعرضوا يُخاف عليهم من عذاب يوم كبير.
{ وَهُوَ عَلَىا كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [هود: 4].
لأنه سبحانه القادر على الإيجاد وعلى الإمداد، وعلى البداية والنهاية المحدودة،
وبداية الخلود إما إلى جنة وإما إلى نار، فهو القادر على كل شيء.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: { أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ
لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ }
(/1464)
أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)
وإذا وجد " ألا " في أول الكلام فأنت تعلم أنها للتنبيه، ومعنى التنبيه
أنه أمر يوقظ لك السامع إن كان غافلاً؛ لأنك تحب ألا تفوته كلمة من الكلام الذي
تقوله.
وحين تنبهه بغير أداء الأسلوب الذي تريده منه، هنا يكون التنبيه قد أخذ حقه، ومن
بعد ذلك يجيء الكلام الذي تقوله، وقد تهيَّأ ذهن السامع لاستقبال ما تقول.
فـ " ألا " ـ إذن ـ هي أداة تنبيه؛ لأن الكلام ستار بين المتكلم
والمخاطب، والمخاطب لا يعرف الموضوع الذي ستكلمه فيه، والمتكلم هو الذي يملك زمام
الموقف، وهو يهيىء ذهنه لترتيب ما يقول من كلمات، أما المستمع فسوف يفاجأ
بالموضوع؛ وحتى لا يفاجأ ولا تضيع منه الفرصة ليلتقط كلمات المتكلم من أولها، فهو
ينبه بأداة تنبيه ليستمع.
ويقول الحق سبحانه هنا:
{ أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ } [هود: 5].
ويقال: ثنيت الشيء أي: طويته، وجعلته جزئين متصلين فوق بعضهما البعض.
وحين يثني الإنسان صدره، فهو يثنيه إلى الأمام ناحية بطنه، ويداري بذلك وجهه،
والغرض هنا من مداراة الوجه هو إخفاء الملامح؛ لأن انفعال مواجيد النفس البشرية
ينضح على الوجوه؟
وهم كارهون للرسول صلى الله عليه وسلم، وحاقدون عليه؛ ولا يريدون أن يلحظ الرسول
صلى الله عليه وسلم ما على ملامحهم من انفعالات تفضح مواجيدهم الكارهة.
ومثل ذلك جاء من قوم نوح عليه السلام، حين قال الحق سبحانه على لسان نوح:
{ وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُواْ أَصَابِعَهُمْ فِي
آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ وَاسْتَكْبَرُواْ
اسْتِكْبَاراً }[نوح: 7].
ومن البداهة أن نعرف أن الإصبع لا تدخل كلها إلى الأذن، إنما الأنملة تسد فقط فتحة
السمع، وعدَّل القرآن الكريم ذلك بمبالغة تكشف موقف نوح ـ عليه السلام ـ، فكل منهم
أراد أن يُدخِل إصبعه في أذنه حتى لا يسمع أي دعوة، وهذا دليل كراهية، وهذه شهادة
ضدهم؛ لأنهم يفهمون أنهم لو سمعوا فقد تميل قلوبهم لما يقال.
ولذلك نجد أن القرآن الكريم وهو ينقل لنا ما قاله مشركو مكة لبعضهم البعض:
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـاذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْاْ
فِيهِ }[فصلت:26].
فكأنهم تواصوا بالتشويش على القرآن، ثقة منهم في أن القرآن لو تناهى إلى الأذن فقد
يؤثر في نفسية السامع؛ لأن النفس البشرية أغيار، و قد تأتي للنفس ما يجعلها تميل
دون أن يشعر صاحبها.
ولو كان هذا القرآن باطلاً، فلماذا خافوا من سماعه؟
ولكنه الغباء في العناد والكفر.
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى:
{ أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ
يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } [هود: 5].
وهم قد استغشوا ثيابهم ليغطوا وجوههم؛ مداراة للانفعالات التي تحملها هذه الوجوه،
وهي انفعالات كراهية، أو أنها قد تكون انفعالات أخرى، فساعة يسمع واحد منهم القرآن
قد ينفعل لما يسمع، ولا يريد أن يُظهر الانفعال.
إذن: فالانفعال قد يكون قسرياً، وكان كفار قريش رغم كيدهم وحربهم لرسول الله صلى
الله عليه وسلم، يتسللون ناحية بيت النبي صلى الله عليه وسلم ليسمعوا القرآن،
وكانوا يضبطون بعضهم البعض هنالك، ويدّعي كل منهم أنه إنما مرَّ على بيت النبي صلى
لله عليه وسلم مصادفة.
وفي ذلك يقول الشاعر:اذكُروهُمْ وقد تسلَّل كلُّ بعدَ ما انفضَّ مجلسُ
السُّمَّارِاختلاساً يسْعَى لحجرةِ طَهَ لسَماعِ التنزيلِ في الأسْحَارِعُذْرهم
حُسْنُهُ فلمّا تَراءَوْا عَلَّلوها ببَارزِ الأعْذَارِوجاء الحق سبحانه وتعالى
هنا في نفس الآية بـ " ألا " في قوله:
} أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا
يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ { [هود: 5].
فهم إن داروا على محمد صلى الله عليه وسلم، فهل هم قادرون على المداراة على رب
محمد؟ والذي لا يدركه بصر محمد فربُّ محمد سيُعلمه به.
وما دام الحق سبحانه يعلم ما يسرون، فمن باب أولى أنه سبحانه وتعالى يعلم ما
يعلنون.
والحق سبحانه وتعالى غيب، وربما ظن ظان أنه قد يفلت منه شيء، ولكن الحق سبحانه
يُحصي ولا يُحصَى عليه، فإن ظن ظان أن الحق سبحانه يعلم الغيب فقط؛ لأنه غيب، فهذا
ظن خاطىء؛ لأنه يعلم السر والعلن، فهو عليم بذات الصدور، وكلمة " عليم "
صيغة مبالغة، وهي ذات في كنهها العلم.
وقول الحق سبحانه:
} عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ { [هود: 5].
نجد فيه كلمة } ذَاتِ { وهي تفيد الصحبة، و(ذَاتِ الصُّدُورِ) أي: الأمور المصاحبة
للصدور.
ونحن نعلم أن الصدر محل القلب، ومحل الرئة، والقلب محل المعتقدات التي انتُهي إليها،
وصارت حقائق ثابتة، وعليها تدور حركة الحياة.
ويُقصد بـ } بِذَاتِ الصُّدُورِ { أي: المعاني التي لا تفارق الصدور، فهي صاحبات
دائمة الوجود في تلك الصدور، سواء أكانت حقداً أو كراهية، أو هي الأحاسيس التي لا
تظهر في الحركة العادية، سواء أكانت نية حسنة أو نية سيئة.
وكل الأمور التي يسمونها ذات الصدور، أي: صاحبات الصدور، وهي القلوب، وكأن الجِرْم
نفسه وهو القلب معلوم للحق سبحانه وتعالى، فخواطره من باب أولى معلومة.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ {
(/1465)
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)
وحين يذكر القرآن الكريم لقطة توضح صفة ما، فهو يأتي بما يتعلق بهذه الصفة، وما
دام الحق سبحانه عليماً بذات الصدور، فهذا علم بالأمور السلبية غير الواضحة، والحق
سبحانه يعلم الإيجابيات أيضاً، فهو يعلم النية الحسنة أيضاً، ولكن الكلام هنا يخص
جماعة يثنون صدورهم.
وجاء في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، وبيَّن أنه عليم بكل شيء.
وقال سبحانه:
{ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ
مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا } [هود: 6].
والدابة: كا ما يدب على الأرض، وتستخدم في العرف الخاص للدلالة على أي كائن يدب
على الأرض غير الإنسان.
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه:
{ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ
أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ }[الأنعام: 38].
وذكر الحق سبحانه وتعالى عن موسى عليه السلام أنه شُغِل ـ حينما كُلِّف ـ بخواطر
عن أهله، وتساءل: كيف أذهب لأداء الرسالة وأترك أهلي؟
فأوحى الله سبحانه أن يضرب حجراً فانفلق الحجر عن صخرة، فأمره الحق سبحانه أن يضرب
الصخرة، فضربها فانفلقت ليخرج له حجر، فضرب الحجر فانشق له عن دودة تلوك شيئاً
كأنما تتغذى به، فقال: إن الذي رزق هذه في ظلمات تلك الأحجار كلها لن ينسى أهلي
على ظهر الأرض. ومضى موسى عليه السلام إلى رسالته.
وهذا أمر طبيعي؛ لأن الحق سبحانه خالق كل الخلق، ولا بد أن يضمن له استبقاء حياة
واستبقاء نوع؛ فاستبقاء الحياة بالقوت، واستبقاء النوع بالزواج والمصاهرة.
إذن: فمن ضمن ترتيبات الخلق أن يوفر الحق سبحانه وتعالى استبقاء الحياة بالقوت،
واستبقاء النوع بالتزاوج.
ولذلك نقول دائماً: يجب أن نفرق بين عطاء الإله وعطاء الرب، فالإله سبحانه هو رب
الجميع، لكنه إله من آمن به.
وما دام الحق سبحانه هو رب الجميع، فالجميع مسئولون منه؛ فالشمس تشرق على المؤمن
وعلى الكافر، وقد يستخرج الكافر من الشمس طاقة شمسية وينتفع بها، فلماذا لا يأخذ
المؤمن بالأسباب؟
والهواء موجود للمؤمن والكافر؛ لأنه عطاء ربوبية، فإن استفاد الكافر من الهواء
ودرسه، واستخدم وخواصه أكثر من المؤمن؛ فعلى المؤمن أن يجدَّ ويكدَّ في الأخذ
بالأسباب.
إذن: فهناك عطاء للربوبية يشترك فيه الجميع، لكن عطاء الألوهية إنما يكون في
العبادة، وهو يُخرجك من مراداتك إلى مرادات ربك، فحين تطلب منك شهواتك أن تفعل
أمراً فيقول لك المنهج: لا.
وفي هذا تحكم منك في الشهوات، وارتقاء في الاختبارات، أما في الأمور الحياتية
الدنيا، فعطاء الربوبية لكل كائن ليستبقي حياته.
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى:
{ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا } [هود: 6].
وكلمة " على " تفيد أن الرزق حق للدابة، لكنها لم تفرضه هي على الله
سبحانه وتعالى، ولكنه سبحانه قد ألزم نفسه بهذا الحق.
ويقول سبحانه:
} وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا { [هود: 6].
ولأنه سبحانه هو الذي يرزق الدابة فهو يعلم مستقرها وأين تعيش؛ ليوصل إليها هذا
الرزق.
والمستقر: هو مكان الاستقرار، والمستودع: هو مكان الوديعة.
والحق سبحانه يُعْلِمنا بذلك ليطمئن كل إنسان أن رزقه يعرف عنوانه، والإنسان لا
يعلم عنوان الرزق.
فالرزق يأتي لك من حيث لا تحتسب، لكن السعي إلى الرزق شيء آخر؛ فقد تسعى إلى رزق
ليس لك، بل هو رزق لغيرك.
فمثلاً: أنت قد تزرع أرضك قمحاً فيأتي لك سفر للخارج، وتترك قمحك؛ ليأكله غيرك،
وتأكل أنت من قمح غيرك.
ولذلك يقول الحق سبحانه:
} وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ {
[هود: 6].
أي: أن كل أمر مكتوب، وهناك فرق بين أن تفعل ما تريد، ولكن لا يحكم إرادتك مكتوب؛
فما يأتي على بالك تفعله، وبين أن تفعل أمراً قد وضعت خطواته في خطة واضحة مكتوبة،
ثم تأتي أفعالك وفقاً لما كتبته.
ومن عظمة الخالق سبحانه أن كتب كل شيء، ثم يأتي كل ما في الحياة وفق ما كتب.
والدليل على ذلك ـ على سبيل المثال ـ أن الله سبحانه كان يوحي إلى رسوله بالسورة
من القرآن الكريم، وبعد ذلك يُسرِّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي، فيتلو
السورة على أصحابه، فمن يستطيع الكتابة فهو يكتب، ومن يحفظ فهو يحفظ.
ثم يأتي الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة، فيقرأ السورة كما كُتِبَتْ، ويأتي
كل نجم من القرآن في مكانه الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم لصحابته، فكيف كان
يحدث ذلك؟
لقد حدث ذلك بما جاء به الحق سبحانه، وأبلغه لرسوله صلى الله عليه وسلم:
{ سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَىا }[الأعلى: 6].
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ {
(/1466)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
وقد تعرض القرآن الكريم لمسألة خلق الأرض والسماء أكثر من مرة.
وقلنا من قبل: إن الحق سبحانه وتعالى قد شاء أن يخلق الأرض والسموات في ستة أيام
من أيام الدنيا، وكان من الممكن أن يخلقها في أقل من طرفة عين بكلمة " كن
" وعرفنا أن هناك فارقاً بين إيجاد الشيء، وطرح مكونات إيجاد الشيء.
ومثال ذلك ـ ولله المثل الأعلى ـ حين يريد الإنسان صنع " الزبادي " ،
فهو يضع جزءاً من مادة الزبادي ـ وتسمى " خميرة " ـ في كمية مناسبة من
اللبن الدافىء، وهذه العملية لا تستغرق من الإنسان إلا دقائق، ثم يترك اللبن
المخلوط بخميرة الزبادي، وبعد مضي أربع وعشرين ساعة يتحول اللبن المخلوط بالخميرة
إلى زبادي بالفعل.
وهذا يحدث بالنسبة لأفعال البشر، فهي أفعال تحتاج إلى علاج، ولكن أفعال الخالق
سبحانه وتعالى لا علاج فيها؛ لأنها كلها تأتي بكلمة " كن ".
أو كما قال بعض العلماء: إن الله شاء أن يجعل خلق الأرض والسموات في ستة أيام، وقد
أخذ بعض المستشرقين من هذه الآية، ومن آيات أخرى مجالاً لمحاولة النيل من القرآن
الكريم، وأن يدَّعوا أن فيه تعارضاً، فالحق سبحانه وتعالى هنا يقول:
{ وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } [هود:
7].
وجاءوا إلى آية التفصيل وجمعوا ما فيها من أيام، وقالوا: إنها ثمانية أيام، وهي
قول الحق سبحانه:
{ قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ
وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا
رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِي
أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَىا إِلَى السَّمَآءِ
وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ
أَتَيْنَا طَآئِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ }[فصلت:
9ـ12].
وهنا قال بعض المستشرقين: لو كانت هذه قصة الخلق للأرض والسموات لطابقت آية
الإجمال آية التفصيل.
وقال أحدهم: لنفرض أن عندي عشرة أرادب من القمح، وأعطيت فلاناً خمسة أرادب وفلاناً
ثلاثة أرادب، وفلاناً أعطيته إردبين، وبذلك ينفد ما عندي؛ لأن التفصيل مطابق
للإجمال.
وادَّعي هذا البعض من المستشرقين أن التفصيل لا يتساوى مع الإجمال. ولم يفطنوا إلى
أن المتكلم هو الله سبحانه وتعالى، وهو يكلم أناساً لهم ملكة أداء وبيان وبلاغة
وفصاحة؛ وقد فهم هؤلاء ما لم يفهمه المستشرقون.
هم فهموا، كأهل فصاحة، أن الحق ـ سبحانه وتعالى ـ قد خلق الأرض في يومين، ثم جعل
فيها رواسي وبارك فيها، إما في الأرض أو في الجبال، وقدَّر فيها أقواتها، وكل ذلك
تتمة للحديث عن الأرض.
ومثال ذلك: حين أسافر إلى الإسكندرية فأنا أصل إلى مدينة طنطا في ساعة ـ مثلاً ـ
وإلى الإسكندرية في ساعتين، أي: أن ساعة السفر التي وصلت فيها إلى طنطا هي من ضمن
ساعتي السفر إلى الإسكندرية.
وكذلك خلق الأرض والرواسي وتقدير القوت، كل ذلك في أربعة أيام متضمنة يَوْمَىْ
خَلْق الأرض، ثم جاء خلق السماء في يومين.
ثم يقول الحق سبحانه:
} وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَآءِ { [هود: 7].
كل هذه المسائل الغيبية لها حجة أساسية، وهي أن الذي أخبر بها هو الصادق، فلا أحد
يشك أن الأرض والسموات مخلوقة، ولا أحد يشك في أن السموات والأرض أكبر خلقاً من
خلق الناس، وليس هناك أحد من البشر ادَّعى أنه خلق الأرض أو خلق السموات.
وكل المخترعات البشرية نعرف أصحابها، مثل: المصباح الكهربي، والهاتف، والميكروفون،
والتليفزيون، والسيارة، وغيرها.
ولكن حين نجيء إلى السموات والأرض لا نجد أحداً قد ادعى أنه قد خلقها.
وقد أبلغنا الحق سبحانه أنه هو الذي خلقها، وهي لمن ادّعاها إلى أن يظهر مُعارِض،
ولن يظهر هذا المعارض أبداً.
وكل هذا الخلق من أجل البلاء:
} لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً { [هود: 7].
أي: ليختبركم أيكم أحسن عملاً، ولكن من الذي يحدد العمل؟
إنه الله سبحانه وتعالى.
وهل الحق سبحانه في حاجة إلى أن يختبر مخلوقاته؟
لا، فالله سبحانه يعلم أزلاً كل ما يأتي من الخلق، ولكنه سبحانه أراد بالاختبار أن
يطابق ما يأتي منهم على ما عمله أزلاً؛ حجة عليهم.
وهكذا فاختبار الحق سبحانه لنا اختبار الحجة علينا.
ثم يقول الحق سبحانه:
} وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـاذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ { [هود: 7].
وهنا يصور الحق ـ سبحانه وتعالى ـ تكذيب المعاندين لرسول الله صلى الله عليه وسلم،
فهم يلقون بالألفاظ على عواهنها من قبل أن تمر على تفكيرهم.
فلو أنهم قد مروا بهذه الكلمات على تفكيرهم؛ لاستحال منطقياً أن يقولوها.
والرسول صلى الله عليه وسلم يخبرهم ببلاغ الحق سبحانه وتعالى لهم بأنهم مبعوثون من
بعد الموت.
وهذا كلام إخباري بأنهم إن ماتوا ـ وهم سيموتون لا محالة ـ سيبعثهم الله سبحانه،
فما كان منهم إلا أن قالوا:
} إِنْ هَـاذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ { [هود: 7].
والخبر الذي يقوله لهم هو خبر، فما موقع السحر منه؟ إنهم يعلمون أنه صلى الله عليه
وسلم لم يقل ذلك إلا من نص القرآن الكريم، وهم يقولون عن القرآن الكريم إنه سحر،
فكأن النص نفسه من السحر الذي حكموا به على القرآن.
وأوضحنا من قبل أن إبطال قضية السحر في القرآن الكريم دليله منطقي مع القول؛ لأنهم
إن كانوا قد ادعوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أن محمداً ـ في عرفهم ـ قد
سحر القوم الذين اتبعوه.
فالساحر له تأثير على المسحور، والمسحور لا دخل له في عملية السحر، فإذا كان محمد
قد سحر القوم الذين اتبعوه، فلماذا لم يسحر هؤلاء المنكرين لرسالته؛ بنفس الطريقة
التي سحر بها غيرهم؟
وحيث إنهم قد بقوا على ما هم عليه من عناد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا
دليل على أن المسألة ليست سحراً، ولو كان الأمر كذلك لسحرهم جميعاً.
وقولهم: } إِنْ هَـاذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ { [هود: 7].
يدل على أنه سحر محيط، لا سحر لأناس خاصين، فكلمة } سِحْرٌ مُّبِينٌ { تعني: سحراً
محيطاً بكل من يريد سحره.
وبقاء واحد على الكفر دون إيمان برسول الله يدل على أن المسألة ليست سحراً.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَىا
أُمَّةٍ {
(/1467)
وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8)
وساعة تجد { لَئِنْ } فافهم اللام الأولى التي بعد " و " إنما جاءت؛
لتدل على أن الكلام فيه قسم مؤكد، وإن كان محذوفاً، واكتفى باللام عن القسم،
وتقديره: " والله لئن ".
والقسم يأتي لتأكيد المقسم عليه بالمقسم به، وتأكيد المقسم عليه إنما يأتي لأن
هناك من يشك فيه.
فأنت لا تٌقسم لإنسان تلقاه وتقول له: والله لقد كنت عند فلان بالأمس.
إذن: فالقسم يأتي لشك طرأ عند السامع، وأنت لا تقسم ابتداء.
ويأتي القسم على مقدار مراتب الشك، وتأكيداً بأدواته.
والقرآن الكريم يقول هنا:
{ وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَىا أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ } [هود:
8].
فالواو هنا هي واو القسم، وهنا أيضاً شرط، والقسم يحتاج لجواب، والشرط أيضاً يحتاج
إلى جواب.
وإذا اجتمع الشرط والقسم فبلاغة الأسلوب تكتفي بجواب واحد، مثلما نقول: "
والله إن فعلت كذا لأفعلن معك كذا ".
وهكذا يُغْنِي جواب القسم عن جواب الشرط، والمتقدم سواء أكان قسماً أو شرطاً هو
الذي يغني جوابه عن الآخر.
مثلما نقول: " والله إن جاء فلان لأكرمته " ، فالقسم هنا متقدم، وأغنى
جوابه عن جواب الشرط. وإن قلت: إن جاءك فلان والله لتكرمه، فهنا الشرط هو المتقدم.
والاثنان متحدان، لكن غاية ما هناك أن القسم تأكيد والشرط تأسيس، فإذا تقدم ذو خبر
على الاثنين ـ على الشرط وعلى القسم ـ نأتي بجواب الشرط فوراً، مثلما نقول: "
زيد والله إن جاءك أكرمه "؛ لأن الشرط كما قلنا تأسيس، والقسم تأكيد، ويرجح
هنا الشرط، لأن التأسيس أولى من التأكيد.
وهنا يقول الحق سبحانه:
{ وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَىا أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ
لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ } [هود: 8].
والجواب هنا للقسم، وهو يغني عن جواب الشرط.
أي: أن العذاب يُؤخَّر.
وقد أوعد الحق ـ سبحانه ـ الكافرين بمحمد صلى الله عليه وسلم بأن يعذبهم، وكان
العذاب للأمم السابقة هو عذاب استئصال، منهم من أرسل الله سبحانه عليه عاصفة،
ومنهم من أخذته الصيحة، ومنهم من أغرقه، ومنهم من خسف به الأرض.
فكأن مهمة الرسل السابقين أن يبلغوا الدعوة، ثم تتلوى السماء تأديب الكافرين
بالرسالات.
ولكن الحق سبحانه وتعالى قد شاء أن يفضِّل أمة محمد صلى الله عليه وسلم على الأمم
كلها، وأن تعذِّب الكافرين في المعارك.
وحين يتوعدهم الرسول صلى الله عليه وسلم بعذاب، فللعذاب ميلاد، وقد يُؤخَّر ليرى
المحيطون بالكافرين الضلال والفساد، فإذا ما وقع عذاب الله سبحانه على هؤلاء
الكافرين، فلن يحزن عليهم أحد.
وهكذا أراد الله سبحانه الإمهال والإملاء ليكون لهما معنى واضح في الحياة،
والإملاء للظالم؛ لتزداد مظالمه زيادة تجعل الأمة التي يعيش فيها تكره ظلمه، فإذا
وقع عليه عذاب، لا يعطف عليه أحد.
ونحن نعلم أن النفس البشرية بنت المشهد، فحين يُقتل واحد وتمر سنوات على قضيته، ثم
يصدر الحكم بإعدامه، فالناس تنسى لذعة القتل الأول، وتعطف على القاتل حين يصدر
الحكم بإعدامه.
ولذلك أقول دائماً:
إن من دواعي استمرار الجرائم إبطاءات المحاكمة، تلك الإبطاءات التي تجعل عواطف
الناس من المجرم؛ لأن مشهد المقتول أولاً قد انتهى من ذاكرتهم.
ولكن لو استحضر الناس ـ وقت العقوبة ـ ظرف الجريمة؛ لَفرِحوا بالحكم على القاتل
بالقتل.
ولذلك نجد الحق ـ سبحانه وتعالى ـ حينما يريد أن يعذب أحداً يقول:
{ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ }[النور: 2].
وذلك ليتم التعذيب أمام المجتمع الذي شقى بإفسادهم وشقى بمظالمهم، فمن يُعتدَى على
عرضه، ويرى عذاب المعتدي فهو يُشْفى.
وهنا يبيِّن الحق سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: لقد توعدتهم بالعذاب.
ونحن نبطن العذاب بالإمهال لهم، ولكنهم جعلوا من ذلك مناط السخرية والاستهزاء
والتهكم، وتساءلوا: أين هو العذاب؟
ونحن نجد القرآن يقول على ألسنتهم.
{ وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ }[ص: 16].
والقط: هو جزاء العمل، وهو مأخوذ من القط أي: القطع.
والعذاب إنما يتناسب مع الجرم، فإن كانت الجريمة كبيرة فالعذاب كبير، وإن كانت
الجريمة صغير فالعذاب يكون محدوداً، فكان العذاب موافقاً للجريمة.
ومن العجيب أن منهم من قال:
{ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا
حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }[الأنفال: 32].
وجاء على ألسنتهم ما أورده القرآن الكريم في قولهم:
{ أَوْ تُسْقِطَ السَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً }[الإسراء: 92].
ولا شك أن الإنسان لا يتمنى ولا يرجو أن يقع عليه العذاب، ولكنهم قالوا ذلك تحديا
وسخرية واستهزاءً.
وشاء الحق سبحانه وتعالى ألا يعذب الكافرين المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه
وسلم مثلما عذب الكافرين الذين عاصروا الرسالات السابقة؛ لأن الحق سبحانه وتعالى
هو القائل:
{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ }[الأنفال: 33].
فضلاً عن أن هناك أناساً منهم ستروا إيمانهم؛ لأنهم لا يملكون القوة التي تمكنهم
من مجابهة الكافرين، ولا يملكون القوة ليرحلوا إلى دار الإيمان بالهجرة، وحتمت
عليهم ظروفهم أن يعيشوا مع الكافرين.
وهناك في سورة الفتح ما يوضح ذلك، حين قال الحق سبحانه وتعالى:
{ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ
مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ
مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ
مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ
تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
}[الفتح: 25].
أي: لو تميَّز الكافرون عن المؤمنين لسلّط الحق سبحانه العذاب الأليم على
الكافرين، لكن لو دخل المسلمون بجيشهم الذي كان في الحديبية على مكة، ودرات هناك
معركة، فهذه المعركة ستصيب كل أهل مكة، وفيهم المؤمنون المنثورون بين الكافرين،
وهم غير متحيزين في جهة بحيث يوجد المسلمون الضربة للجانب الكافر.
إذن: فلو ضرب المسلمون المقاتلون، لضربوا بعضاً من المؤمنين، وهذا ما لا يريده
الحق سبحانه وتعالى.
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى:
} وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَىا أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ { [هود:
8].
والأمة: هي الطائفة أو الجماعة من جنس واحد، مثل أمة الإنس، وأمة الجن، وأمة
النمل.. وغير ذلك من خلق الله.
والحق سبحانه هو القائل:
{ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ
أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَىا
رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ }[الأنعام: 38].
والأمة: طائفة يجمعها نظام واحد وقانون واحد، وأفرادها مستاوون في كل شيء، فتكون
كل واحدة من هذه الأمم أمة، وهناك الأمة: الطائفة من الزمن. مثل قول الحق سبحانه:
{ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ }[يوسف: 45].
أي: أن هذا الذي تذكر بعد فترة من الزمن، وقد تكون الفترة المسماة " أمة
" ، هي الزمن الذي يتحمل جيلاً من الأجيال.
الأمة ـ إذن ـ هي جماعة وطائفة لها جنس يجمعها، ولها تميزات أفرادية، وهي تلتقي في
معنى عام.
فأمة الإنسان هي حيوان ناطق مفكر، وهناك قدر عام يجمع كل إنسان، ولكن هناك تفاوتات
في المواهب.
ولا توجد نفس بشرية واحدة تملك موهبة الهندسة والطب والتجارة والصيدلة والمحاسبة؛
لأن كل حرفة من تلك الحرف تحتاج إلى دراسة.
ولا يملك إنسان من العمر ما يتيح له التخصص في كل تلك المجالات؛ ولذلك يتخصص كل
فرد في مجال؛ ليخدم غيره فيه، وغيره يتخصص في مجال آخر ويخدم الباقين، وهكذا.
وفي هذا تكافل اجتماعي، يشعر فيه كل فرد بـأنه يحتاج للآخرين، وأنه لا يستطيع أن
يحيا مستقلاً بذاته عن كل الخلق.
ولو عرف واحد كل الحرف التي في الدنيا، من طب وهندسة وقضاء، وسباكة، ونجارة،
وزراعة، وغيرها فلن يسأل عن الباقين؟
لذلك شاء الله سبحانه وتعالى أن تلتحم المجتمعات ضرورة وقسراً، لا تفضُّلاً من أحد
على أحد.
والذي يكنس الشارع أو يعمل في تنظيف الصرف الصحي لا يفعل ذلك تفضُّلاً، بل يفعل
ذلك احتياجاً؛ لأنه يحتاج إلى العمل والرزق؛ لأن جسمه يحتاج إلى الطعام، وإلى
الستر بالملابس، وأولاده يطلبون الطعام والمأوى والملبس، ولولا ذلك لما عمل في تلك
المهنة.
وإذا أخلص في عمله فالله سبحانه يحببه فيها، وإن ارتقت أحواله، يظل في هذا العمل؛
لأنه عشق إتقان مهنته.
ولقد رأيت رجلاً كان يعمل في هذه المهنة، ويحمل الأقذار على كتفه، وحين وسَّع الله
عليه، اشترى عربة يجرها حمار ليحمل فيها ما ينزحه من تلك المجاري.
وحين وسَّع الله عليه أكثر، اشترى سيارة فيها ماكينة شفط للقاذورات، وصار يجلس على
الكرسي، ويدير " موتور " نزح المجاري لداخل خزان السيارة المخصص لذلك.
إذن: فارتباطات المجتمع لا بد أن تنشأ عن حاجة، لا عن تفضُّل؛ لأن التفضل ليس فيه
إلزام بالعمل، لكن الحاجة هي التي فيها إلزام بالعمل؛ لتسير حركة الحياة.
ومن يعشق عمله على أي وضع كان، يوفقه الله تعالى فيه أكثر؛ لأنه احترم قدر الله
تعالى في نفسه، ولم يستنكف، ويعطيه الله سبحانه كل الخير من هذا العمل، بقدر حبه
للعمل وأخلاصه فيه.
وإن نظرت إلى العظماء في كل مهنة مهما صغرت، فستجد أن تاريخهم بدأ بقبولهم لقدر
الله سبحانه وتعالى فيهم.
ونحن نعلم أن قيمة كل امرىء فيما يحسنه؛ ولذلك تجد الأمة مكونة من مواهب متكاملة
لا متكررة، حتى يحتاج كل إنسان إلى عمل غيره.
ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى:
{ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً
سُخْرِيّاً }[الزخرف: 32].
لأن أحداً لا يسخَّر الآخر لعمل إلا إذا كان المسخَّر في حاجة إلى هذا العمل.
ولذلك تجد من يطرق بابك ويسأل: ألا تحتاج إلى سائق؟ ألا تحتاج إلى خادم؟
وصاحب الحاجة هو الذي يعرض نفسه؛ لعله يجد العمل الذي يتقنه.
ولذلك يجب ألا يتصور أهل أي إنسان أنه حين يخدم في أي حرفة من الحرف أنه يخدم
المخدوم، لا.. إنه يخدم حاجة نفسه.
وهكذا تترابط الأمة ارتباط حاجات، لا ارتباط تفضل.
وقد قال الحق سبحانه وتعالى عن سيدنا إبراهيم عليه السلام:
{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً }[النحل: 120].
لأن هناك مواهب متعددة قد اجتمعت فيه، وهي مواهب لا تجتمع إلا في أمة من الناس.
وكلمة " أمة " تطلق على الزمن، وتطلق على الجماعة من كل جنس، وتطلق على
الرجل الجامع لكل خصال الخير.
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى:
} وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَىا أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ { [هود:
8].
وعادة ما تأتي كلمة } مَّعْدُودَةٍ { لتفيد القلة؛ مثل قول الحق سبحانه:
{ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ
الزَّاهِدِينَ }[يوسف: 20].
وما دام الثمن بَخْساً فلا بد أن تكون الدراهم معدودة.
والسبب في فهمنا لكلمة } مَّعْدُودَةٍ { أنها تفيد القلة، هو أننا لا نُقبل على
عَدِّ شيء إلا مظنة أننا قادرون على عَدِّه؛ لأنه قليل، لكن مالا نُقبل على عدِّه
فهو الكثير.
ومثال ذلك: أن أحداً لم يعد الرمل، أو النجوم.
ولذلك جاء قول الحق سبحانه:
{ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا }[إبراهيم: 34].
و " إن " ـ كما نعلم ـ تأتي للشك، ونعم الله سبحانه ليست مظنة الحصر.
ورغم أن البشرية قد تقدمت في علوم الإحصاء فهل تفرَّغ أحد ليُحصي نعم الله؟
طبعاً لا.. وبطبيعة الحال يمكن إحصاء السكان والعاملين في أي مجال أو تخصص.
وقديماً كان القائمون على فتح صناديق النذور ليحسبوا ما فيها، فيضعوا الورق من فئة
المائة جنيه معاً، والورق من فئة العشرة جنيهات معاً، وكذلك بقية الفئات من
الأوراق المالية، إلى أن يصلوا إلى القروش، فيقوموا بوزن كليو جرام منها، ويحسبوا
كم قرشاً في الكيلو جرام، ويزنوا بعد ذلك بقية القروش؛ ليحسبوا المجموع على حساب
عدد القروش التي حصروها في الكليو جرام الأول.
وقول الحق سبحانه هنا:
} وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَىا أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ
لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ { [هود: 8].
كأنهم يتساءلون سخرية واستهزاء: لماذا يتأخر العذاب الذي توعَّدهم به رسول الله
صلى الله عليه وسلم؛ لأن الإنسان لا يتشوق إلى ما يؤلمه، ولا يقال مثل هذا الكلام
إلا على سبيل التهكم.
ويأتي الرد عليهم بأداة التنبيه، وهي " ألا " أي: تَنبَّهوا إلى هذا
الرد.
ويقول الحق سبحانه وتعالى:
} يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ { [هود: 8].
وهذا تأكيد أن العذاب سيأتي، ولكن العباد دائماً يعجلون.
والله سبحانه لا يعجل بعجلة العباد؛ حتى تبلغ الأمور ما أراد، وكل أمر له وقت وله
ميلاد، وسيأتيهم ما كانوا يستعجلون؛ لأن الحق سبحانه وتعالى يقول:
} وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ { [هود: 8].
وقد جاء تأكيد وصول العذاب إليهم بأشياء: أولها: " ألا " وهي أداة
تنبيه، وكذلك قوله سبحانه وتعالى: } يَوْمَ يَأْتِيهِمْ { ، وهذا خبر بأن العذاب
آت لا محالة؛ لأن الذي يخبر به هو الله سبحانه وتعالى.
وأيضاً فهذا العذاب: } لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ { [هود: 8].
أي: أنه عذاب مستمر.
وقول الحق سبحانه وتعالى:
} وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ { [هود: 8].
يعني: أنه حل بهم ونزل عليهم، ووقع لهم العذاب الذي استهزأوا به من قبل.
ونحن نعلم أن كلمة (حاق) فعل ماضٍ، والكلام على أمر مستعجل، ويُعبَّر عن الأمر
المستعجل بالمضارع؛ لأن الفعل المضارع يدل على الحال أو الاستقبال، فكيف يستعجلون
أمراً، ويأتي التعبير عنه بالفعل الماضي؟
ولكن القائل هنا هو الله الحق سبحانه وتعالى، والكلام مأخوذ بقانون المتكلم، وكل
فعل يُنسَب إلى قوة فاعله، والله سبحانه هو قوة القوى.
وقال الحق سبحانه وتعالى في موضع آخر من القرآن:
{ أَتَىا أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ }[النحل: 1].
وكلمة " أتى " في عرفنا اللغوي فعل ماضٍ، أي: أن الكلام جاء من المتكلم
بعد وقوع النسبة خارجاً، مثلما نقول: " نجح محمد " فهذا يعني أن النجاح
قد حدث بالفعل.
وحين يقول الله سبحانه: } أَتَىا أَمْرُ اللَّهِ { نفهم أن } أَتَىا أَمْرُ
اللَّهِ { نسبة كلامية سبقتها نسبة واقعية.
وقوله سبحانه بعد ذلك: } فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ { يدل على أن الأمر لم يقع، ولكن
المتكلم هنا هو الله سبحانه وتعالى.
والمعنى أن الأمر واقع لا محالة؛ ذلك لأن كل فعل إنما ينسب لقوة الفاعل.
ومثال ذلك من حياتنا ـ ولله المثل الأعلى ـ أنك قد ترغب في أن تنقل حقيبة ضخمة
وثقيلة، فيقول ابنك الشاب: دعني أحملها لك، وهو يقول ذلك لأنه قادر على أن يحملها
في زمن يناسب قوته.
وإن جاءك ابنك الصغير وقال: سأحملها أنا. فهو لن يحمل الحقيبة إلا في مقدار زمن
يناسب قوته، وهي قوة ضعيفة.
إذن: ففي المجال البشري أنت تحكم على الماضي، وقد يكون الحكم صادقاً أو كاذباً،
ولكنك بالنسبة لأمر مستقبل، لا تستطيع أن حكم عليه؛ لأنك لا تملك من المستقبل
شيئاً.
أما إذا كان قائل الكلام قادراً على إنفاذ ما يقوله الآن في المستقبل، ولا عائق
يعوقه، فاعلم أن الأمر قادم لا محالة.
وهنا نجد الإخبار من الله سبحانه وتعالى، ولا شيء في الكون يتأبَّى على الله
سبحانه.
وما دام الحق سبحانه قد قال إنه أمرٌ قد أتى، فهو آتٍ لا محالة.
ولذلك قال سبحانه:
} وَحَاقَ بِهِم { [هود: 8].
مع أن السياق في العرف البشري أن يقال: وسيحيق بهم ما كانوا به يستهزئون؛ لأنهم
كانوا يستعجلون العذاب.
وجاء قول الحق سبحانه وتعالى: } وَحَاقَ { لأن الأمر بالنسبة له سبحانه لن يحول
بينه وبين وقوعه أي عائق.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ {
(/1468)
وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9)
وهنا أيضاً تبدأ الآية الكريمة بقوله سبحانه: { وَلَئِنْ } وهذا يعني أن اللام قد
سبقت لتدل على القسم، وكأنه يقول: لئن أذقنا الإنسان رحمة، ثم نزعناها منه لوقع في
الياس.
وهنا أيضاً قسم وشرط، والقسم متقدم، فالجواب يكون للقسم.
وكلمة { أَذَقْنَا } توضح أن الإذاقة محلها الأول الفم، ومعناها: تناول الشيء
لإدراك طعمه: حلو أو مر، لاذع أوغير لاذع، قلوي أو حامض.
ومن العجيب في دقة التكوين الإنساني أن كل منطقة في اللسان لها طعم تنفعل له، فطرف
اللسان ينفعل لطعم معين، ووسط اللسان ينفعل لطعم آخر، وجوانب اللسان تنفعل لطعم
ثالث، وهكذا.
كل ذلك في عضو واحد شاء له الحق سبحانه هذه الدقة في التركيب.
وكل " حلمة " من مكوِّنات اللسان لها شيء تحس به؛ ولذلك نجد الإنسان
يذوق الطعام، فيقول: إن هذا الطعام ينقصه الملح، أو يذوب الحلوى ـ مثل الكنافة ـ
فيقول: إن السكر المحلاة به مضبوط.
وكذلك حرارة الجسم، يقيس الإنسان حرارته، فإن وجدها سبعة وثلاثين درجة ونصف
الدرجة؛ فيقول: إنها حرارة طبيعية. وإن نقصت حرارة الإنسان عن ذلك يقال: إنه مصاب
بالهبوط. وإن ارتفعت يقال: مصاب بالحمى.
وهذا قياس للحرارة بالجملة لجسم الإنسان، ولها المنافذ الخاصة بها. ولكن كل عضو في
الجسم تلزمه درجة حرارة خاصة به ليؤدي عمله.
فالكبد إن قلَّت درجة حرارته عن أربعين درجة لا يؤدي مهمته. وجسم الإنسان فيه
جوارح متعددة؛ وحرارة العين مثلاً تسع درجات؛ لأنها لو زادت حرارتها عن ذلك
لانفجرت العين، وحرارة الأذن ثماني درجات.
وأنت لا تستطيع أن تأتي بأشياء مختلفة الحرارة وتضعها مع بعضها، ولكن الحق سبحانه
وتعالى شاء ذلك بالنسبة للجسم الإنساني.
وهنا يقول الحق سبحانه:
{ وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ } [هود: 9].
والذوق هو للإدراك، لا للأكل، فأنت حين تشتري فاكهة يقول لك البائع: " تفضَّل
ذُقْ " فتأخذ واحدة منها لتستطيب طعمها.
فالذوق ـ إذن ـ هو تناول الشيء لإدراك طعمه.
والنعمة حين يشاء الحق سبحانه وتعالى أن تصيب الإنسان، ثم تُنزَع منه، هنا يصاب
الإنسان بالقلق أو الحزن أو الهلع، أو اليأس.
والنعمة مهما قلَّت فالإنسان يستطيبها، وإن نُزعت منه فهو يئوس كفور.
واليأس: هو قطع الأمل من حدوث شيء، ولأن الإنسان لا يملك الفعل، ولو كان يقدر عليه
لما يئس.
والمؤمن لا ييأس أبداً؛ لأن الله سبحانه هو القائل:
{ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ
}[يوسف: 87].
اليأس ـ إذن ـ هو أن تقطع الأمل من أمر مراد لك، ولا تملك الوسائل لتحققه.
والذي ييأس هو الذي ليس له إله يركن إليه؛ لأن الله تعالى هو الركن الرشيد الشديد،
والمؤمن إن فقد شيئاً يقول: " إن الله سيُعوِّضني خيراً منه ".
أما الذي لا إيمان له بإله فهو يقول: " إن هذه الصدفة قد لا تتكرر مرة أخرى
".
فالإنسان الذي يُسْرَق منه جنيه قد يحزن، ولكن إذا ما كان عنده في المنزل عشرة
جنيهات فهو يحزن قليلاً على الجنيه المفقود.
والإنسان لا ييأس إلا عند عدم يقينه بمصدر يرد عليه ما يريده، ولكن حين يؤمن بمصدر
يرد عليه ما يريده فلا تجده يائساً قانطاً.
والمؤمن يعلم أن النعمة لها واهب، إن جاءت شكر الله عليها، وإن سُلبت منه، فهو
يعلم أن الحق سبحانه قد سلبها لحكمة.
والحق سبحانه وتعالى يقول هنا:
} وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً { [هود: 9].
ونحن نعلم أن الإنسان مقصود به كل أبناء آدم ـ عليه السلام ـ وهم كثيرون، منهم
المؤمن، ومنهم الكافر.
وهنا تأتي كلمة " الإنسان " على إطلاقها، ولكن الحق سبحانه وتعالى
يستثنى المؤمن في موضع آخر حين يقول الحق سبحانه:
{ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ
}[العصر: 1ـ3].
و " الإنسان " مفرد يدل على الإنسان في كل مدلولاته، ويستثنى من نوع
الإنسان من آمن به.
فإن رأيت كلمة إنسان فاعلم أن المراد بالإنسان أفراد الإنسان كلهم.
والإنسان لو عزل نفسه عن منهج الله تعالى فهو في خسران إلا إذا اتبع منهج الله،
فالمنهج يحميه من الزلل، وتسير غرائزه إلى ما أراد الحق سبحانه لها.
فقد خلق الحق سبحانه الغرائز لمهام أساسية، فغريزة الجوع تجعل الإنسان يطلب
الطعام، والعطش أراده الله سبحانه وتعالى لينتبه الإنسان إلى طلب الارتواء بالماء.
وغريزة بقاء النوع تدفع الإنسان للزواج، وغريزة حب الاستطلاع هي التي تدفع الإنسان
إلى كشف المخترعات.
والحق سبحانه وتعالى هو القائل عن الساهين عن استكشاف آيات الله تعالى:
{ وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا
وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ }[يوسف: 105].
والباحث العلمي التجريبي المعلمي ينظر في ظواهر الكون ليستطلع أسرار الكون.
وهناك فارق بين حب الاستطلاع لاكتشاف أسرار الكون، وحب الاستطلاع لأخبار الناس.
إن حب الاستطلاع عموماً هو مدار التقاءات الكون، ولكن الدين والخلق هو الذي يوجه
حب الاستطلاع.
إذن: فالقرائن لها مهمة يجب ألاّ تنفلت إلى غيرها، والدين قد جاء ليعلي من الغرائز
ويوجهها إلى مهامها.
لذلك نجد الحق سبحانه وتعالى يقول:
{ وَلاَ تَجَسَّسُواْ }[الحجرات: 12].
أي: لا تتبعوا العورات؛ لأننا لو أبحنا لواحد أن يتتبع عورات الناس؛ لأبحنا لكل
الآخرين أن يتتبعوا عوراته.
وحين منع الحق ـ سبحانه وتعالى ـ الإنسان من تتبُّع عورات غيره، فهو قد حماه من
تتبع عوراته.
وهنا يقول الحق سبحانه:
} وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ {
[هود: 9].
(/1469)
وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10)
وهنا نجد الضراء هي الموجودة، والنعماء هي التي تطرأ، عكس الحالة الأولى، حيث كانت
الرحمة، من خير ويسر ـ هي الموجودة.
فالنزع في الأولى طرأ على رحمة موجودة، والنعماء طرأت على ضرَّاء موجودة.
وهناك فرق بين نعماء ونعمة، وضراء وضر؛ فالضر هو الشيء الذي يؤلم النفس، والنعمة
هي الشيء الذي تتنعم به النفس.
لكن التنعُّم والألم قد يكونان في النفس، ولا ينضح أي منهما على الإنسان، فإن نضح
على الإنسان أثر النعمة يقال فيها " نعماء " ، وإن نضح عليه أثر من الضر
يقال: " ضراء ".
وهنا يقول الحق سبحانه:
{ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ
السَّيِّئَاتُ عَنِّي } [هود: 10].
ولا يفطن من يقول ذلك إلى المُذْهِب الذي أذهبَ السيئات؛ لأن السيئة لا تذهب
وحدها.
ولو كان القائل مؤمناً لقال: رفع الله عني السيئات.
لكنه غير مؤمن؛ ولذلك يغرق في فرح كاذب وفخر لا أساس له.
ويصفه الحق سبحانه وتعالى بقوله:
{ إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ } [هود: 10].
وكأن الفرح بالنعمة أذهله عن المنعم، وعمن نزع منه السيئة.
وأما الفخر، فنحن نعلم أن الفخر هو الاعتداد بالمناقب، وقد تجد إنساناً يتفاخر على
إنسان آخر بأن يذكر له مناقب وأمجاداً لا يملكها الآخر.
ونحن نعلم أن التميز لفرد ما يوجد في المجتمع، ولكن أدب الإيمان يفرض ألا يفخر
الإنسان بالتميز.
ولذلك نجد النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا
فخر ".
وفي أحدى المعارك نجده صلى الله عليه وسلم يقول:
" أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب ".
وقد اضطر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك؛ لأن الكافرين في تلك المعركة
ظنوا أنهم حاصروه هو ومن معه وأنه سوف يهرب، لكنه صلى الله عليه وسلم بشجاعته
أعلن:
" أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب " وكان أقرب المسلمين إلى مكان الأعداء
الكافرين وفي مواجهتهم.
ونحن نجد المتصارعين أو المتنافسين، واحدهم يدخل على الآخر بصوت ضخم ليهز ثقة
الطرف الآخر بنفسه.
والفخور إنسان غائب بحجاب الغفلة عن واهب المناقب التي يتفاخر بها، ولو كان
مستحضراً لجلال الواهب لتضاءل أمامه، ولو اتجهت بصيرة المتكبر والفخور إلى الحق
سبحانه وتعالى لتضاءل أمامه، ولردَّ كل شيء إلى الواهب.
ومثال ذلك في القرآن الكريم هو قول الحق سبحانه على لسان صاحب موسى عليهما السلام:
{ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي }[الكهف: 82].
وهذا سلوك العابد المتواضع.
أما حال الفخورين اللاهين عن الحق سبحانه وتعالى، فقد صوره القرآن في قول قارون:
{ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىا عِلْمٍ عِندِي }[القصص: 78].
وكان مصيره هو القول الحق:
{ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ }[القصص: 81].
ولذلك قلنا: إنك تحصِّن كل نعمة عندك بقولك عند رؤيتها: " بسم الله ما شاء
الله "؛ لتتذكر أن هذه النعمة لم تأت بجهدك فقط، ولكنها جاءت لك أولاً بمشيئة
الله سبحانه وتعالى، وذلك لتبقي عين الواهب حارسة للنعمة التي عندك.
أما حين تنسى الواهب فلن يحفظ تلك النعمة لك.
ونحن نلحظ أن الحق سبحانه وتعالى لم يمنع الفرح المنبعث عن انشراح الصدر والسرور
بنعمة الله بل طلبه منا في قوله سبحانه:
{ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ }[يونس: 58].
ولكن الحق سبحانه يطلب من المؤمن أن لا يكون الفرح المنبعث لأتفه الأسباب،
والملازم له، وإلا كان من الفرحين الذين ذمهم الله تعالى.
يقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك: } إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ
الصَّالِحَاتِ {
(/1470)
إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)
وكلمة { صَبَرُواْ } هنا موافقة للأمرين الذين سبقا في الآيتين السابقتين، فهناك
نزع الرحمة، وكذلك هناك " نعماء " من بعد " ضرَّاء " ، وكلا
الموقفين يحتاج للصبر؛ لأن كلاّ منا مقدور للأحداث التي تمر به، وعليه أن يصبر
لملحظية حكمة القادر سبحانه.
وبدأ الحق سبحانه وتعالى هذه الآية بالاستنثاء، فقال جل وعلا:
{ إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ } [هود: 11].
ولولا هذا الاستثناء لكان الكل ـ كل البشر ـ ينطبق عليهم الحكم الصادر في الآيتين
السابقتين، حكم باليأس والكفر، أو الفرح والفخر دون تذكُّر واهب النعم سبحانه.
ولكن هذا الاستثناء قد جاء ليُطمئن الذين صبروا على ما قد يصيبهم في أمر الدعوة،
أو ما يصيبهم في ذواتهم؛ لا من الكافرين؛ لكن بتقدير العزيز العليم.
أو أنهم صبروا عن عمل إخوانهم المؤمنين.
إذن: فالصبر معناه حدُّ النفس بحيث ترضى عن أمر مكروه نزل بها. والأمر المكروه له
مصادر عدة، منها:
* أمر لا غريم لك فيه كالمرض مثلاً.
* أو أن يكون لك غريم في الأمر؛ كأن يُسرق منك متاع، أو يُعتدى عليك، وفي هذه
الحالة تنشغل برغبة الانتقام، وتتأج نفسك برغبة النيل من هذا الغريم، أكثر مما
تتأجج في حالة عدم وجود الغريم، فحين يمرض الإنسان فلا غريم له.
وفي حالة الرغبة من الانتقام فالصبر يختلف عن الصبر في حالة وجود الغريم.
ولذلك عرض الحق سبحانه وتعالى لتأتِّي الصبر حسب هذه المراحل، فسيدنا لقمان يقول
لابنه:
{ وَاصْبِرْ عَلَىا مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ }[لقمان:
17].
وفي موضع آخر يقول الحق سبحانه:
{ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ }[الشورى: 43].
وفي هذه الآية " لام " التوكيد لتؤكد أن هذا الأمر يحتاج إلى عزم قوي؛
لأن لي فيها غريماً يثير غضبي.
فساعة أرى من ضربني أو أهانني أو سرقني أو أساء إليَّ إساءة بالغة، فالأمر هنا
يحتاج صبراً وقوة وعزيمة.
أما في الحالة الأولى ـ حالة عدم وجود غريم ـ فالحق سبحانه يكتفي فقط بالقول
الكريم:
{ وَاصْبِرْ عَلَىا مَآ أَصَابَكَ }[لقمان: 17].
ولكنه سبحانه أضاف في الآية الأخرى " اللام " لتأكيد العزم، وليضيف
سبحانه في حالة وجود غريم طلب الغفران، فيقول سبحانه:
{ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ }[الشورى: 43].
وهكذا نجد المستثنى، وهم الصابرون على ألوانهم المختلفة.
وهنا يقول سبحانه:
{ إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } [هود: 11].
وما دام هنا صبر، فالصبر لا يكون إلا على إيذاء. ولكن إياك أن يكون الإيذاء من
خصمك في الإيمان، أو من خصمك في ما دون الإيمان، صارفاً لك عن نشاطك في طاعة الله
سبحانه؛ لأن الصبر لا يعني أن تكبت غضبك وتعذب نفسك بهذا الكبت بما يصرفك عن مهامك
في الحياة، بل يسمح لك الحق سبحانه أن تتخلص من غلِّك وحقدك، بمعايشة الإيمان الذي
يُخفف من غَلْواء الغضب.
ولكسر حدة الغل أباح لك الحق سبحانه وتعالى أن تعتدي على من اعتدى عليك بمثل ما
اعتدى؛ لأن سبحانه وتعالى لا يريد لك أن تظل في حالة غليان بالغضب أو القهر بما
يمنعك من العمل، بل يريد الحق سبحانه أن تتوجه بطاقاتك إلى أداء عملك.
ولذلك لا يلزمك الحق سبحانه إلا بحكم العدل فيقول عز وجل:
{ فَمَنِ اعْتَدَىا عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىا
عَلَيْكُمْ }[البقرة: 194].
ولكن هناك القادر على التحكم في نفسه، ولذلك يقول الحق سبحانه:
{ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ }[آل عمران: 134].
ومعنى كظم الغيظ: أن الغيظ موجود، لكن صاحبه لا يتحرك بنزوع انتقامي، مثلما تقول:
" كظمت القِرْبة " لأن حامل القربة لو لم يكظم الماء فيها، لتفلَّت
الماء منها، أي: أنه يحبس الماء فيها.
وكظم الغيظ درجة ومنزلة، قد لا تكون إيجابية؛ لأن الغيظ مازال موجوداً؛ ولذلك تأتي
مرحلة أرقى، وتتمثل في قول الحق سبحانه:
{ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ }[آل عمران: 134].
أي: أن تُخرج الغيظ من قلبك وتتسامح.
إذن: فأنت هنا أمام مراحل ثلاث:
أن تردَّ الاعتداء عليك بمثله، والمثليَّة في رد الاعتداء أمر لا يمكن أن يتحقق،
فمن صفعك صفعة، كيف تستطيع أن تضبط كمية الألم في الصفعة التي ردها إليه؟
إن المتحكم في ردِّ الاعتداء هو الغضب، والغضب لا يقيس الاعتداء بمثله، فلا يتحقق
العدل المطلوب؛ لهذا يكون الصبر خيراً مصداقاً لقوله تعالى:
{ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ }[النحل: 126].
فإن أزدتَ من قوة صفعتك تكون معتدياً.
ولعلنا نذكر مسرحية " تاجر البندقية " لشكسبير، وبطلها هذا التاجر
اليهودي الذي أقرض رجلاً مالاً، وكان صَكُّ القرض يفرض أن يقتطع اليهودي رطلاً من
لحم المقترض إن تأخر في السداد.
وتأخَّر المقترض في السداد، وأراد المرابي اليهودي أن يقتطع رطلاً من لحم المقترض،
وعُرِض الأمر على القاضي، وكان القاضي رجلاً حكيماً، وأراد أن يصدر حكماً يتلمس
فيه العدالة، فقال القاضي: لا مانع أن تأخذ رطلاً من لحم الرجل؛ هات السكين، واقطع
رطلاً واحداً بلا زيادة أو نقصان؛ لأننا سنأخذ مقابل تلك الزيادة من لحمك أنت بنفس
السكين، وكذلك إن قطعت من اللحم ما يقل عن الرطل، فسنقطع الناقص لك من لحمك أنت
عقاباً لك.
وتردَّد المرابي اليهودي؛ لأن الجزار ـ أيَّ جزار ـ لا يمكن أن يضبط يده ليقطع
رطلاً مكتمل الوزن، بل يقطع أحياناً ما يزيد عن الوزن المطلوب، ويقطع أحياناً ما
يقل عن الوزن المطلوب، ثم يكمل أو ينقص الوزن حسب كل حالة.
وانسحب المرابي اليهودي وتنازل عن دعواه، والذي دفعه إلى ذلك هو عدم قدرته على أخذ
المثل، فلو كان قد ارتقى قليلاً في مشاعره لما وصل إلى هذا الحكم.
والحق سبحانه وتعالى يحضنا على أن نرد العدوان بمثله، وإن أردنا الارتقاء فلنكظم
الغيظ، وإن أردنا الارتقاء أكثر فلنخرج الغيظ من القلب ولنكن من العافين عن الناس؛
لننال محبة الله تعالى، لأنه سبحانه وتعالى يقول:
{ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ }[آل عمران: 134].
وفي هذا يرتقي المؤمن بمنهج الله سبحانه، فيجعل المعتدَي عليه هو الذي يُحسن.
وحين تريد أن تفسر حب الله سبحانه للمحسنين فلسفيّاً أو منطقياً أو اقتصادياً،
ستجد القضية صحيحة، والله سبحانه وتعالى يقول:
{ وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ
}[النور: 22].
فإن أساء أخوك إليك سيئة، فإما أن ترد بالمثل، أو تكظم الغيظ أو ترقى إلى العفو،
وبذلك تكون من المحسنين؛ لأنك إذا كنت قد ارتكبت سيئة، وعلمت أن الله سبحانه
وتعالى يغفرها لك، ألا تشعر بالسرور؟
إذن: فما دُمْت تريد أن يغفر الله تعالى لك السيئة عنده، فلماذا لا تعفو عن سيئة
أخيك في حقك؟
وقول الحق سبحانه:
{ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ }[النور: 22].
وقد جاء الحق سبحانه هنا من ناحية النفس، فجعل عفو العبد عن سيئة العبد بحسنة،
فلعفو العبد ثمن عند الله تعالى؛ لأن العبد سيأخذ مغفرة الله تعالى، وفوق ذلك فأنت
تترك عقاب المسيء والانتقام منه لربك، وعند التسليم له راحة.
ولو اقتصصتَ أنت ممن أساء إليك، فقصاصك على قدر قوتك، أما إن تركته إلى قدرة الله
تعالى، فهذا أصعب وأشق؛ لأنك تركته إلى قوة القوي.
وهكذا ينال العافي عن المسيء مرتبة راقية؛ لأنه جعل الله ـ سبحانه وتعالى ـ في
جانبه.
وهناك من يقول: كيف يأمر الدين الناس بأن يحسنوا لمن أساء إليهم؟ ويعلل ذلك بأنه
أمر ضد النفس.
ونقول: إن الإحسان إلى المسيء هو مرحلة ارتقاء، وليست تكليفاً أصيلاً؛ لأن الحق
سبحانه قد أباح أن نرد العدوان بمثله، ثم حثَّ المؤمن على أن يكظم غيظه، أو يرتقي
إلى العفو وأن يصل إلى الإحسان، وكل هذه ارتقاءات اليقين بالله سبحانه وتعالى.
وانظر إلى نفسك ـ ولله المثل الأعلى ومنزَّه سبحانه عن كل مَثلٍ ـ إنْ أردت أن
تطبق الأمر على ذاتك حين تجد ولداً من أولادك قد اعتدى على أخيه، فقلبك وعواطفك
وتلطفاتك تكون مع المعتدَى عليه.
ومن يقول: كيف يكلّفني الشرع بأن أحسن إلى من أساء إليَّ؟
نقول له: تذكَّرْ قول الحسن البصري رضي الله عنه: " أفلا أحْسِنُ لمن جعل
الله في جانبي ".
ولو طبَّق العالم هذه القاعدة بيقينٍ وإخلاصٍ لصارت الحياة على الأرض جنة معجَّلة،
التسامح، قوامها القرب، ومنهجها الحب.
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه وتعالى:
} إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَـائِكَ لَهُمْ
مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ { [هود: 11].
وإن تسأل أحد: ولماذا ينالون المغفرة؟
نقول: لأنهم صبروا وغفروا؛ لذلك يهديهم الله تعالى مغفرة من عنده، لأنه صبر على
الإساءة، وغفر لمن أساء، فلا بد أن يُثيبه الله تعالى، لا بالمغفرة فقط، ولكن
بالأجر الكبير أيضاً.
ويقول سبحانه بعد ذلك: } فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىا إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ
بِهِ صَدْرُكَ {
(/1471)
فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12)
وهنا نجد الحق سبحانه يأتي بصيغة الاستفهام في قوله تعالى:
{ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىا إِلَيْكَ } [هود: 12].
وهو استفهام في معرض النهي.
ولله المثل الأعلى ـ أنت قد تقول لابنك لتحثَّه على الاجتهاد: " لعلَّك سُررت
من فشل فلان " وفَحْوَى هذا الخطاب، استفهام في معرض النهي، وهو استفهام يحمل
الرجاء.
وهنا تجد أن الراجي هو ربك ـ سبحانه وتعالى ـ الذي أرسلك بالدعوة.
ولذلك يأتي قول الحق سبحانه مُبيِّناً: لا يضيق صدرك يا رسول الله من هؤلاء
المتعنتين، الذين يريدون أن يخرجوك عن مقامك الذي تلحُّ دائماً في التأكيد عليه،
فأنت تؤكد لهم دائماً أنك بشرٌ، وكان المفروض فيهم أن تكون مطلوباتهم منك على
مقدار ما أقررت على نفسك، فأنت لم تَقُلْ أبداً عن نفسك إنك إله، ليطلبوا منك آيات
تُخالف النواميس، بل أنت مُبلِّغ عن الله تعالى.
وإياك أن يضيق صدرك فلا تُبلغهم شيئاً مما أنزِلَ إليك؛ لأن البلاغَ هو الحُجَّة
عليهم، فلو ضاق صدرُك منهم، وانقصتَ البلاغ الموكَّل إليك؛ لأنهم كلما أبلغوا بآية
كذَّبوها، فاعلمْ أن الله سبحانه وتعالى سوف يزيد عقابهم بقدر ما كذَّبوا.
وكلمة " ضائق " اسم فاعل، ويعني أن الموصوف به لن يظل محتفظاً بهذه
الصفة لتكون لازمة له، ولكنها تعبِّر عن مرحلة من المراحل، مثلما نقول: "
فلان نَاجِر " أي: أنه قادر على القيام بأعمال النجارة مرَّة واحدة ـ أو
قليلاً ـ ولا يحترف هذا العمل.
وكذلك كلمة " ضائق " وهي تعبِّر في مرحلة لا أكثر مِنْ فَرْط ما قابلوا
الرسول صلى الله عليه وسلم من إنكار، وما طالبوا به من أشياء تخرج عن نطاق
إنسانيته، فقد طالبوا هنا أن ينزل عليه كَنْزٌ.
وقد جاء الحق سبحانه بذكر مسألة الكنز؛ ليدلنا على مدى ما عندهم من قيم الحياة،
فقيمة القيم عندهم تركزَّتْ في المال؛ ولذلك تمنَّوا لو أن هذا القرآن قد نزل على
واحد من الأثرياء، مصداقاً لقول الحق سبحانه:
{ وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـاذَا الْقُرْآنُ عَلَىا رَجُلٍ مِّنَ
الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }[الزخرف: 31].
إذن: فلم يكن اعتراضهم على القرآن، بل على مَنْ نزل عليه القرآن. وفي الآية
الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها، طلبوا أن ينزل إليه كَنْزٌ، وقد ظنوا أن
الثراء سيلهيه هو ومَنْ معه عن الدعوة إلى الله تعالى ونسوا أنهم قد عرضوا الثروة
عليه من قبل.
وهكذا وضح لمن عرض عليه هذا الأمر أن مسألة الكنز لا تشغله صلى الله عليه وسلم.
والكَنْزُ ـ لغويّاً ـ هو الشيء المجتمع، فإن كانت الماشية ـ مثلاً ـ مليئة باللحم
يقال لها: " مُكْتَنِزَةٌ لحماً " ولكن كلمة " الكنز " أطلقت
على الشيء الذي هو ثمن لأي شيءٍ، وهو الذهب.
ولذلك قال الحق سبحانه:
{ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }[التوبة: 34].
ونحن نعلم أن هناك فارقاً بين الرزق المباشر والرزق غير المباشر، فالرزق الغير
مباشر هو ما تنتفع به، طعاماً أو شراباً، وهناك شيء يأتي لك بالرزق الغير مباشر؛
لكنه لا يُغني عن الرزق المباشر المستمر.
فلو أن إنساناً في صحراء ومعه قناطير مقنطرة من الذهب، ولا يجد طعاماً ولا شربة
ماء، ماذا يفعل له الذهب " ولو عرض عليه إنسانٌ آخر رغيف خبز وشربة ماء مقابل
كل ما يملك من ذهب لوافق على الفور. وهنا لا يكون التقييم أن قنطار الذهب مقابل
الرغيف وشربة الماء، ولكن قنطار الذهب هنا مقابل استمرار الحياة وضرورة الحاجة.
إذن: معنى كلمة " كنز " هو نقد من الذهب والفضة مجتمعاً، ويقال عنه
بالعامية عندنا في مصر: " نقود تحت البلاطة " ، ولكن إذا أدَّى صاحب هذا
النقد حقَّ الله تعالى فيما ادَّخره، لا يُعتبر كَنْزاً؛ لأن الشرط في الكَنْزِ أن
يكون مَخفيّاً، والزكاة التي تُخرَج من المال المدَّخر توضح للمجتمع أن صاحب المال
لا يُخفى ما عنده.
ولذلك لا يُسمَّى الكَنْزُ إلاَّ للشيء المجتمع وممنوع منه حق الله تعالى، فإنْ
أدَّى حقُّ الله سبحانه فقد رُفعَتْ عنه الكَنزية؛ لأن الحق سبحانه وتعالى يقول:
{ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }[التوبة: 34].
ومن هذا القول الكريم نفهم أن مَنْ يملك مالاً ويؤدِّي حقَّ الله فيه، لا يُعتبر
كَنْزاً، وحين تُنقِص الزكاةُ المالَ في ظاهر الأمر، فهي تدفع الإنسان إلى أن
يُحْسِن استثمار هذا المال؛ حتى لا يفقده على مدار أربعين عاماً، بحكم أن زكاة
المال هي اثنان ونصف في المائة؛ ولذلك يحاول صاحب المال أن يُثمِّره، وهو بذلك
يُهيِّىء فرصة لغير واجدٍ وقادرٍ لأن يعمل، وبذلك تقلُّ البطالة.
وقد تكون أنت صاحب المال؛ لكنك لا تفهم أسرار التجارة والصناعة، فتشارك مَنْ يفهم
في التجارة أو الصناعة، وبذلك تفتح أبواب فرص عمل لمن لا عمل له وقادر على إدارة
العمل.
هذه هي إرادة الحق سبحانه وتعالى في أن يجعل من تكامل المواهب نماءً وزيادة، تكامل
مواهب الوَجْد ـ النقود ـ ومواهب الجَهْد، وبين الوجد والجهد تنشأ الحركة، ويتفق
صاحب المال مع صاحب الجهد على نسب الربح حسب العرض والطلب؛ لأن كل تبادل إنما يخضع
لهذا الأمر ـ العرض والطلب ـ لأن مثل هذا التعاون بين الواجد والقادر ينتج سلعة،
والسلعة لا هَوًى لها، ولكن من يملك السلعة ومن يشتري السلعة لهما هوى، فمالكُ
السلعة يرغب في البيع بأعلى سعر، ومن يرغب في شراء السلعة يريدها بأقل سعر، لكن
السلعة نفسها لا هوى لها.
وما دام العرض والطلب هو الذي يتحكَّم في السلع، فهذا توازن في ميزان الاقتصاد.
وعلى سبيل المثال: إن عُرضت اللحوم بسعر مرتفع، فكبرياء الذات في النفس البشرية
تدفع غير القادر لأن يقول: إن تناول اللحم يرهقني صحيّاً. ويتجه إلى الأطعمة
الأخرى التي يقدر على ثمنها؛ لأن السلعة هي التي تتحكم، أما إذا تدخل أحدٌ في
تسعير السلع، بأن اكتنز المال، ولم يخرجه للسوق لاستثماره، حينئذ تختفي قدرة
الحركة لصاحب المال، ولا يجد صاحب الموهبة مجالاً لإتقان صنعته.
وقول الحق سبحانه وتعالى في هذه الآية:
} لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ { [هود: 12].
فكلمة " لولا " ـ كما نعلم ـ للتمني، وهم تمنوا الكنز أولاً، ثم طلبوا
مجيء مَلَك، وكيف ينزل المَلَك؟ أينزل على خِلقته أم على خِلْقته بأن يتجسد على
هيئة رجل؟
والحق سبحانه وتعالى يقول:
{ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً }[الأنعام: 9].
وإن نزل المَلَك على هيئة رجل فكيف يتعرَّفون إلى أصله كمَلَك؟ وهذا غباء في
الطلب.
وأيضاً قال الحق سبحانه وتعالى:
{ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَىا إِلاَّ أَن
قَالُواْ أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً * قُل لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ
مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَآءِ
مَلَكاً رَّسُولاً }[الإسراء: 94ـ95].
ولو أنزله الحق سبحانه مَلَكاً فسوف يكون من نفس طبيعتهم البشرية، وسوف يلتقي بهم
ويتكلم معهم، ولن يستطيعوا تمييزه عن بقية الناس وسوف يُكذِّبونه أيضاً.
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه رَدًّا له عن هذا
الطلب: } إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ { [هود: 12].
وهذا الكلام موجَّه من الله سبحانه للرسول صلى الله عليه وسلم ليُلقِّنه الحجة
التي يرد بها عليهم، وقد قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن نفسه إنه نذير
وبشير، وقد طلب غيركم الآيات، وحين جاءت الآيات التي طلبوها لم يؤمنوا، بل ظلُّوا
على تكذيبهم؛ فنكَّل الحق سبحانه بهم.
إذن: فالعناد بالكفر لا ينقلب إلى إيمان بمجرد نزول الآيات، والحق سبحانه هو
القائل:
{ وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا
الأَوَّلُونَ }[الإسراء: 59].
أي: أن الآيات التي طلبها الكافرون لم يأت بها الله سبحانه؛ لأن الأولين قد
كذَّبوا بها؛ ولذلك يبلغ الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم هنا بقوله:
} إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ { [هود: 12].
وهو صلى الله عليه وسلم قد نزل عليه القرآن بالنذارة والبشارة.
ويُنهي الحق سبحانه وتعالى الآية بقوله:
} وَاللَّهُ عَلَىا كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ { [هود: 12].
وأنت حين توكِّل إنساناً في البيع والشراء والهِبَة والنَّقل، وله حرية التصرف في
كل ما خصك، وترقب سلوكه وتصرُّفه، فإنْ أعجبك ظللتَ على تمسكك بتوكيله عنك، وإن لم
يعجبك تصرُّفه فأنت تُلْغي الوكالة، هذا في المجال البشري، أما وكالة الله سبحانه
وتعالى على الخَلْق فهي باقية أبداً، وإن أبى الكافرون منهم.
يقول الحق سبحانه بعد ذلك: } أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ
سُوَرٍ {
(/1472)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13)
وفي قول الحق سبحانه وتعالى هنا بيان لِلَوْنٍ آخر من مصادمة الكافرين لمنهج رسول
الله صلى الله عليه وسلم والإيمان به، فقالوا: إن محمداً قد افترى القرآن.
والافتراء: هو الكذب المتعمَّد، ومعنى الكذب المتعمد أنه كلام يخالف واقعاً في
الكون.
فإذا كان الواقع نَفْياً وأنت قلت قضيةَ إثبات؛ تكون قد خالفت الواقع، كأن يُوجد
في الكون شرٌّ ما ثم تقول أنت: لا يوجد شرٌّ في هذا المكان، وهكذا يكون الواقع
إيجاباً والكلام نفْياً.
وكذلك أن يكون في الواقع نَفْيٌّ وفي الكلام إيجابٌ، فهذا أيضاً كذبٌ؛ لأن الصدق
هو أن تتوافق القضية الكلامية مع الواقع الكوني، فإن اختلفتْ مع الواقع الكوني صار
الكلام كاذباً.
والكذب نوعان: نوع متعمد، ونوع غير متعمد. والكذب خرق واقع واختلاق غير موجود.
ويقال خرقت الشيء أي: أنك أتيت لواقع وبدَّلت فيه.
والحق سبحانه وتعالى يقول:
{ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ }[الأنعام: 100].
ويقول أيضاً الحق سبحانه:
{ وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً }[العنكبوت: 17].
أي: تأتون بشيء من عدم، وهو من عندكم فقط.
ويقول الله سبحانه تعالى:
{ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ }[الأنعام: 116].
وحين اتهموا محمداً صلى الله عليه وسلم بهتاناً بأنه افترى القرآن جاء الرد من
القرآن الكريم بمنتهى البساطة، فأنتم ـ معشر العرب ـ أهل فصاحة وبلاغة، وقد جاء
القرآن الكريم من جنس ونوع نُبوغكم، وما دمتم قد قُلْتم: إن محمداً قد افترى
القرآن، وأن آيات القرآن ليست من عند الله، فلماذا لا تفترون مثله؟
وما دام الافتراء أمراً سهلاً بالنسبة لكم، فلماذا لا تأتون بمثل القرآن ولو بعشْر
سور منه؟ وأنتم قد عِشْتم مع محمد منذ صِغَره، ولم يكن له شعْر، ولا نثر، ولا
خطابة، ولا علاقة له برياضاتكم اللغوية، ولم يزاول الشعر أو الخطابة، ولم يشترك في
أسواق البلاغة والشعر التي كانت تُعقد في الجاهلية مثل سوق عكاظ.
وإذا كان مَنْ لا رياضة له على الكلام ولا على البلاغة، قد جاء بهذا القرآن؛
فَلْيكُنْ لديكم ـ وأنتم أهل قُدْرة ودُرْبة ورياضة على البلاغة أن تأتوا ببعض من
مثله، وإن كان قد افترى القرآن فلماذا لا تفترون مثله؟
وأنتم تعرفون المعارضات التي تُقام في أسواق البلاغة عندكم، حين يقول شاعر قصيدة،
فيدخل معه شاعر أخر في مباراة ليلقي قصيدة أفضل من قصيدة الشاعر الأول، ثم تُعقد
لجان تحكيم تُبَيِّن مظاهر الحُسْن ومظاهر السوء في أي قصيدة.
ولو كان محمدٌ صلى الله عليه وسلم قد افترى القرآن ـ كما تقولون ـ فأين أنتم؟ ألم
تعرفوه منذ طفولته؟ ولذلك يأمر الحق سبحانه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول:
{ قُل لَّوْ شَآءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ
لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }
[يونس: 16].
فهَل أثرَ عن محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال شعراً أو ألقى خطبة أو تَبارَى في
عكاظَ أو المربد أو ذي المجاز أو المَجَنَّة، وتلك هي أسواق البلاغة ومهرجاناتها
في تلك الأيام؟
هو لم يذهب إلى تلك الأماكن منافساً أو قائلاً.
إذن: أفليسَ الذين تنافسوا هناك أقدر منه على الافتراء؟ ألم يكن امرؤ القيس شاعراً
فَحْلاً؟ لقد كان، وكان له نظير يعارضه.
وكذلك كان عمرو بن كلثوم، والحارث بن حِلَّزة اليشْكُري، كما جاء في عصور تالية
آخرون مثل: جرير والفرزدق.
إذن: فأنتم تعرفون مَنْ يقولون الشعر ومَنْ يعارضونهم من أمثالهم من الشعراء.
إذن: فهاتوا مَنْ يفتري مثل سور القرآن، فإنْ لم تفتروا، فمعنى ذلك أن القرآن ليس
افتراء.
ولذلك يقول الحق سبحانه هنا:
} أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ
مُفْتَرَيَاتٍ { [هود: 13].
فهل كانوا قادرين على قبول التحدي، بأنْ يأتُوا بعشر سُوَر من مثل القرآن الكريم
في البيان الآسر وقوة الفصاحة وأسرار المعاني؟
لقد تحدَّاهم بأن يأتوا ـ أولاً ـ بمثل القرآن، فلم يستطيعوا، ثم تحدَّاهم بأن
يأتوا بعشر سور، فلم يستطيعوا، وتحدَّاهم بأن يأتوا بسورة، ثم تحدَّى أن يأتوا ولو
بحديث مثله، فلم يستطيعوا.
وهنا جاء الحق سبحانه بالمرحلة الثانية من التحدي، وهو أنْ يأتوا بِعَشْر سُور،
ولم يكتف الحق سبحانه بذلك، بل طالبهم أن يَدْعُوا مَجْمَعاً من البُلَغَاء، فقال
سبحانه:
} وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ { [هود: 13].
أي: هاتوا كلَّ شركائكم وكل البُلغاء، من دون الله تعالى.
الحق سبحانه وتعالى هنا يقطع عليهم فرصة الادّعاء عليه سبحانه حتى لا يقولوا: سوف
ندعو الله؛ ولذلك طالبهم الحق سبحانه أن يُجنِّبوه } وَادْعُواْ مَنِ
اسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ { [هود: 13].
أي: إن كنتم صادقين في أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد افترى القرآن، وبما أنكم
أهل ريادة في الفصاحة فَلْتفتروا عَشْر سُوَرٍ من مثل القرآن، أنتم ومَنْ تستطيعون
دعوتهم من الشركاء.
لذلك كان الرد الحكيم من الله في قول الحق سبحانه بعد ذلك: } فَإِلَّمْ
يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ {
(/1473)
فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)
والخطاب هنا موجَّه إلى الذين ادَّعوا أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد افترى
القرآن، أو أن الخطاب مُوجَّه لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الحق سبحانه
وتعالى قال في الآية السابقة:
{ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ
مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ
}[هود: 13ـ14].
أي: إن لم يردُّوا على التحدي، فليعلموا وليتيقَّنوا أن هذا القرآن هو من عند الله
تعالى، بشهادة الخصوم منهم.
ولماذا عدَّل الحق سبحانه هنا الخطاب، وقال:
{ فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ } [هود: 14].
أي: من تدعونهم، ثم قال سبحانه:
{ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَآ أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ } [هود: 14].
وقد قال الحق سبحانه ذلك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم مُطالَبٌ بالبلاغ وما
بلغه الرسول صلى الله عليه وسلم للمؤمنين مطلوب منه أن يُبلغوه، وإنْ لم يستجيبوا
للرسول صلى الله عليه وسلم أو للمؤمنين، ولم يأتِ أحد مع مَنْ يتهم القرآن بأنه
مُفترًى مِن محمدٍ.
وقد يكون هؤلاء الموهوبون خائفين من التحدي؛ لأنهم عرفوا أن القرآن حق، وإن جاءوا
ليفتروا مثله فلن يستطيعوا، ولذلك فاعلموا ـ يا مَنْ لا تؤمنون بالقرآن ـ أن
القرآن: { أَنَّمَآ أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ } [هود: 14].
إذن: فالخطاب يكون مرَّة ـ موجَّهاً للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته.
ولذلك عَدَلَ الحق سبحانه عن ضمير الإفراد إلى ضمير الجمع في قوله تعالى:
{ فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَآ أُنزِلَ بِعِلْمِ
اللَّهِ } [هود: 14].
أي: ازدادوا علماً أيها المؤمنون بأن القرآن إنما نزل من عند الله.
والعِلْم ـ كما نعلم ـ مراحل ثلاث: علم يقين، وعين يقين، وحق يقين.
أو أن الخطاب مُوجَّه للكافرين الذين طلب القرآن منهم أن يَدْعُوا من يستطيعون
دعاءه ليعاونهم في معارضة القرآن: { فَاعْلَمُواْ أَنَّمَآ أُنزِلَ بِعِلْمِ
اللَّهِ } [هود: 14].
وأعلى مراتب العِلْم عند الحق سبحانه الذي يعلم كل العلم أزلاً، وهو غير علمنا
نحن، الذَي يتغير حسب ما يتيح لنا الله سبحانه أن نعلم، فأنت قد تكون عالماً بشيءٍ
وتجهل أشياء، أوعلمتَ شيئاً وغابتْ عنك أشياء.
ولذلك تجد الأطباء، وأصحاب الصناعات الدقيقة وغيرهم من الباحثين والعلماء يستدرك
بعضهم البعض، فحين يذهب مريض لطبيب مثلاً ويصف له دواءً لا يستجيب له، فيذهب
المريض إلى طبيب آخر، فيستدرك على الطبيب الأول، فيصف دواء، وقد لا يستجيب له
المريض مرة ثانية، وهنا يجتمع الأطباء على هيئة " مجمع طبي " يُقرّر ما
يصلح أو لا يصلح للمريض.
ويستدرك كلٌّ منهم على الآخر إلى أن يصلوا إلى قرار، والذي يستدرك هو الأعلم؛ لأن
الطبيب الأول كتب الدواء الذي أرهق المريض أو لم يَستجبْ له، وهو قد حكم بما عنده
من عِلْم، كذلك بقية الباحثين والعلماء.
وما دام فوق كل ذي علمٍ عليمٌ؛ فالطبيب الثاني يستدرك على الطبيب الأول.. وهكذا.
ولكن أيوجد أحدٌ يستدرك على الله سبحانه وتعالى؟ لا يوجد.
وما دام القرآن الكريم قد جاء بعلم الله تعالى، فلا علم لبشر يمكن أن يأتي بمثل
هذا القرآن.
} فَاعْلَمُواْ أَنَّمَآ أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَن لاَّ إِلَـاهَ إِلاَّ
هُوَ { [هود: 14].
وجاء الحق سبحانه هنا بأنه لا إله إلا هو؛ حتى لا يدَّعي أحدٌ أن هناك إلهاً آخر
غير الله.
وذكر الله سبحانه هنا أن هذا القرآن قد نزل في دائرة:
} لاَّ إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ { [هود: 14].
وما دام الحق سبحانه قد حكم بذلك فلنثق بهذا الحكم.
مثال ذلك: هو حكم الحق سبحانه على أبي لهب وعلى امرأته بأنهما سيدخلان النار فهل
كان من الممكن أن يعلن أبو لهب إسلامه، ولو نفاقاً؟ طبعاً لا؛ لأن الذي خلقَه علم
كيف يتصرف أبو لهب.
لذلك نجد بعد سورة المسد التي قررت دخول أبي لهب النار، قول الحق سبحانه:
{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }[الإخلاص: 1].
أي: أن الحق سبحانه ما دام قد أصدر حكمه بأن أبا لهب سيدخل وزوجه النار، فلن يقدر
أحد على أن يُغيِّر من حكمه سبحانه، فلا إله إلا هو.
ويُنهي الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله تعالى:
} فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ { [هود: 14].
وهذا استفهام، أي: طلب للفهم، ولكن ليس كل استفهام طلباً للفهم، فهذا الاستفهام
هنا صادر عن إرادة حقيقية قادرة على فرض الإسلام على من يستفهم منهم.
ولكنه سبحانه شاء أن يأتي هذا الاستفهام على لسان رسوله ليقابله جواب، ولو لم يكن
السائل واثقاً أنه لا يوجد إلا الإسلام لما قالها، ولو لم يكن السائل واثقاً أنه
لا جواب إلا أن يُسْلِم السامع، ما جعل جواب السامع حجة على السامع.
وقائل هذا الكلام هو الخالق سبحانه، ولله المثل الأعلى، وهو سبحانه مُنزَّه عن كل
مثل، تجد إنساناً يحكي لك أمراً بتفاصيله، ثم يسألك: هل أنا صادق فيما قلت لك؟..
وهو يأتي بهذا الاستفهام؛ لأنه واثق من أنك ستقول له: نعم، أنت صادق.
وإذا نظرنا في آية تحريم الخمر والميسر ـ على سبيل المثال ـ نجد الحق سبحانه
وتعالى يقول:
{ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ
وَالْبَغْضَآءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ
وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ }[المائدة: 91].
وكأن هذا الاستفهام يحمل صيغة الأمر بأن: انتهوا من الخمر والميسر، واخجلوا مما
تفعلون.
إذن: فقول الحق سبحانه في آخر الآية الكريمة:
} فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ { [هود: 14] يعني: أسلموا، واتركوا اللجاجة بأن
القرآن قد جاء من عند محمد، أو أنه افتراه، بل هو من عند الله سبحانه الذي لا إله
إلا هو.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا {
(/1474)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15)
وكان الكافرون قد تكلموا بما أورده الحق سبحانه على ألسنتهم وقالوا:
{ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ }[هود: 12].
فهم ـ إذن ـ مشغولون بنعيم الدنيا وزينتها.
والحياة تتطلب المقومات الطبيعية للوجود، من ستر عورة، وأكل لقمة وبيت يقي الإنسان
ويؤويه. أما الزينة فأمرها مختلف، فبدلاً من أن يرتدي الإنسان ما يستر العورة، يطلب
لنفسه الصوف الناعم شتاء، والحرير الأملس صيفاً، وبدلاً من أن يطلب حجرة متواضعة
تقيه من البرد أو الحر، يطلب لنفسه قصراً.
وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:
{ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ
وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ
الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ }[آل عمران: 14].
وكل هذه أشياء تدخل في متاع الحياة الدنيا، ويقول الحق سبحانه:
{ ذالِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ }[آل
عمران: 14].
إذن: ما معنى كلمة " زينة "؟
معنى كلمة " زينة " أنها حُسْنٌ أو تحسين طارىء على الذات، وهناك فرق
بين الحسن الذاتي والحسن الطارىء من الغير.
والمرأة ـ على سبيل المثال ـ حين تتزين فهي تلبس الثياب الجميلة الملفتة، وتتحلّى
بالذهب البرَّاق، فهو المعدن الذي يأخذ نفاسته من كثرة تلألئه الذي يخطف الأبصار،
ولا تفعل ذلك بمغالاة إلا التي تشك في جمالها.
أما المرأة الجميلة بطبيعتها، فهي ترفض أن تتزين؛ ولذلك يسمونها في اللغة: "
الغانية " ، أي: التي استغنت بجمالها الطبيعي عن الزينة، ولا تحتاج إلى
مداراة كِبرَ أذنيها بقُرْط ضخم، ولا تحتاج إلى مداراة رقبتها بعقد ضخم، ولا تحاول
أن تداري معصمها الريان بسوار، وترفض أن تُخفِي جمال أصابعها بالخواتم.
وحين تُبالغ المرأة في ذلك التزيُّن فهي تعطي الانطباع المقابل.
وقد يكون المثل الذي أضربه الآن بعيداً عن هذا المجال، لكنه يوضح كيف يعطي الشيء
المبالَغ فيه المقابل له.
وفي ذلك يقول المتنبي:الطِّيبُ أنت إذَا أصَابكَ طِيبهُ والماءُ أنتَ إذا اغتسلتَ
الغاسلُوهو هنا يقول: إن الطيب إذا ما أصاب ذلك الإنسان الموصوف، فالطيب هو الذي
يتطيَّب، كما أن الماء هو الذي يُغْسَل إذا ما لمس هذا الإنسان، وكذلك تأبى المرأة
الجميلة أن تُزيِّن نَحْرَها بقلادة؛ لأن نحرها بدون قلادة يكون أكثر جمالاً.
ويقال عن مثل هذه المرأة " غانية "؛ لأنها استغنتْ بجمالها.
ويقال عن جمال نساء الحضر: إنه جمال مصنوع بمساحيق، وكأن تلك المساحيق مثبتة على
الوجه بمعجون كمعجون دهانات الحوائط، وكأن كل واحدة تفعل ذلك قد جاءت بسكين من
سكاكين المعجون لتملأ الشقوق المجعدة في وجهها.
ولحظة أن يسيح هذا المعجون ترتبك، ويختل مشهد وجهها بخليط الألوان؛ ولذلك
يقال:حُسْنُ الحضَارةِ مُجْلُوبٌ بِتَطْريةٍ وفي البدَاوةِ حُسْنٌ غيرُ مَجْلوبِ
إذن: فالزينة هي تحسين الشيء بغيره، والشيء الحسن يستعني عن الزينة.
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى:
} مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ
أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ { [هود: 15].
أي: إن كفرتم بالله فهو سبحانه لا يضن عليكم في أن يعطيكم مقومات الحياة وزينتها؛
لأنه رب، وهو الذي خلقكم واستدعاكم إلى الوجود، وقد ألزم الحق سبحانه نفسه أن
يعطيكم ما تريدون من مقومات الحياة وزينتها؛ لأنه سبحانه هو القادر على أن يوفِّي
بما وعد.
وهو سبحانه يقول هنا:
} نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ { [هود: 15].
أي: أنهم إن أخذوا بالأسباب فالحق سبحانه يُلزم نفسه بإعطاء الشيء كاملاً غير
منقوص.
وهم في هذه الدار الدنيا لا يُبْخَسون في حقوقهم، فمن يتقن عمله يأخذ ثمرة عمله.
وهذا القول الكريم يحُلُّ لنا إشكالاً كبيراً نعاني منه، فهناك مَنْ يقول: إن
هؤلاء المسلمين الذين يقولون: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، ويقيمون الصلاة،
ويبنون المساجد، بينما هُمْ قومٌ متخلّفون ومتأخّرون عن رَكْب الحضارة، بينما نجد
الكافرين وهم يَرْفُلُون في نعيم الحَضَارة.
ونقول: إن لله تعالى عطاءَ ربوبية للأسباب، فمن أحسنَ الأسباب حتى لو كان كافراً،
فالأسباب تعطيه، ولكن ليس له في الآخرة من نصيب؛ لأن الحق سبحانه يقول:
{ وَقَدِمْنَآ إِلَىا مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً
}[الفرقان: 23].
والحق سبحانه يجزي الكافر الذي يعطي خيراً للناس بخيرٍ في الدنيا، ويجزي الصادق
الذي لا يكذب من الكفار بصدق الآخرين معه في الدنيا، ويجزي من يمدُّ يده بالمساعدة
من الكفار بمساعدة له في الدنيا.
وكلها أعمال مطلوبة في الدِّين، ولكنَّ الكافر قد يفعلها، فيردُّ الله سبحانه
وتعالى له ما فعل في الدنيا، وإنْ كان قد فعل ذلك ليُقَال: إن فلاناً عَمِلَ كذا،
أو فلاناً كان شَهْماً في كذا، فيُقال له: " علْمتَ لِيُقال وقد قِيل ".
وإذا كان الكافرون يأخذون بالأسباب؛ فالحق سبحانه يعطيهم ثمرة ما أخذوا من
الأسباب.
ويجب أن نقول لمن يتهم المسلمين بالتخلُّف:
لقد كان المسلمون في أوائل عهدهم متقدمين، وكانوا سادة حين طبَّقوا دينهم، ظاهراً
وباطناً، شكلاً ومضموناً.
وعلى ذلك فالتخلُّف ليس لازماً ولا ملازماً للإسلام، وإنما جاء التخلُّف لأننا
تركنا روح الإسلام وتطبيقه.
وإنْ عقدنا مقارنة بين حال أوربا حينما كانت الكنيسة هي المسيطرة، كنا نجد طل صاحب
نشاط عقلي مُبْدِعٍ ينال القتل عقوبة على الإبداع، وكانت تسمى تلك الأيام في أوربا
" العصور المظلمة ".
وحينما جاءت الحروب الصليبية وعرفت أوربا قوة الإسلام والمسلمين، ودحرهم المسلمون،
بدأوا في محاولة الخروج على سلطان البابا والكنيسة، وعندما فعلوا ذلك تَقَدَّموا.
هم ـ إذن ـ عندما تركوا سلطان البابا تقدموا، ونحن حين تركنا العمل بتعاليم
الإسلام تخلَّفنا.
إذن: فأيُّ الجَرْعَتيْن خير؟
إن واقع الحياة قد أثبت تقدُّم المسلمين حين أخذوا بتعاليم الإسلام، وتخلفوا حين
تركوها.
وهكذا.. فمعيار التقدُّم هو الأخذْ بالأسباب، فمن أخذ بالأسباب وهو مؤمن نال حُسْن
خير الدنيا وحُسْن ثواب الآخرة، ومَنْ لم يؤمن وأخذ بالأسباب نال خير الدنيا ولم
يَنَلْ ثواب الآخرة.
والحق سبحانه وتعالى هو القائل:
{ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ
مَآءً حَتَّىا إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ
}[النور: 39].
وهكذا يُفاجأ بالإله الذي كذَّب به.
والحق سبحانه يقول:
{ مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ
بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَىا شَيْءٍ
}[إبراهيم: 18].
إذنْ: فمن أراد الدنيا وزينتها، فالحق الأعلى سبحانه يوفِّيه حسابه ولا يبخسه من
حقه شيئاً، فحاتم الطائي ـ على سبيل المثال ـ أخذ صفة الكرم، وعنترة أخذ صفة
الشجاعة،ـ وكل إنسان أحسن عملاً أخذ أجره، ولكن عطاء الآخرة هو لمن عمل عمله لوجه
الله تعالى، وآمن به.
وحتى الذين دخلوا الإسلام نفاقاً وحاربوا مع المسلمين، أخذوا نصيبهم من الغنائم،
ولكن ليس لهم في الآخرة من نصيب.
إذن: فالوفاء يعني وجود عَقْد، وما دام هناك عقد بين العامل والعمل، وأتقن العاملُ
العملَ فلا بد أن يأخذ أجره دون بَخْس؛ لأن البَخْسَ هو إنقاص الحق.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: } أُوْلَـائِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي
الآخِرَةِ {
(/1475)
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)
إذن: فالنار مثوى هؤلاء الذين عملوا من أجل الدنيا دون إيمان بالله، فقد أخذوا
حسابهم في الدنيا، أما عملهم فقد حبط في الآخرة، والحَبَط هو انتفاخ الماشية حين
تأكل شيئاً أخضر لم ينضح بعد، ويقال في الريف عن ذلك: " انتفخت البهيمة
" أي: أن هناك غازات في بطنها، وقد يظنها الجاهل سِمْنةً، لكن هذا الانتفاخ
يزول بزوال سببه.
وعمل الكافرين إنما يحبط في الآخرة؛ لأنه باطل.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: { أَفَمَن كَانَ عَلَىا بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ
وَيَتْلُوهُ }
(/1476)
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17)
والبيِّنة هي بصيرة الفطرة السليمة التي تُلْفِت الإنسان إلى وجود وجب الوجود،
وتوضِّح للإنسان أن هذا الكون الجميل البديع لا بُدَّ له من واجد.
وهكذا تكون الهداية بالبصيرة والفطرة.
والعربي القديم حين سار في الصحراء ووجود بَعْراً مُلْقَى في الصحراء، ورأى أثر قدم،
فقال: " البَعْرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، وسماء ذات أبراج
وأرض ذات فجاج وبحار ذات امواج، أفلا يدل كُلُّ ذلك على اللطيف الخبير؟ ".
وهكذا اهتدى الرجل بالفطرة، وهي بيِّنة من الله.
وقد أودع الله سبحانه في كل إنسان فطرة، وبهذه الفطرة شهدنا في عالم الذَّرِّ.
وفي ذلك يقول الحق سبحانه:
{ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ
وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىا أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىا
شَهِدْنَآ }[الأعراف: 172].
إذن: فالبيِّنة هي:إيمان الفطرة المركوز في ذرات الأشياء.
وقد تُضبِّب الشهوات هذا الإيمان، فلا يحمل نفسه على المنهج فيرسل الحق سبحانه
رحمة منه رسلاً تذكِّرنا بالبينات الأولى، وتدلنا على العلل والأحكام حتى تنضمَّ
البينة من الرسل على البينة من الفطرية في الكائن.
وهكذا يبيِّن الحق سبحانه وتعالى مناط الاقتناع بدين الله، فقد يكون هذا الأمر
مجهولاً للخلق، فيريد سبحانه أن يبيِّن لنا أن هذا الجهل هو جهل غير طبيعي؛ لأن
الفطرة السليمة تهتدي قبل أن يجيء رسولٌ يُلْفِتنا إلى القوة العليا التي تدبِّر
حركة هذا الكون.
وقد ضربت من قبل مثلاً لذلك بمن سقطتْ به طائرة في الصحراء، لا ماء فيها ولا طعام
ولا أنيس ولا مأوى، ثم غلبه النوم فنام، وحين استيقظ وجد مائدة منصوبة عليها أطايب
الطعام وأطيب الشراب، ووجد صواناً منصوباً ليأوي إليه؛ فلا بد لهذا الإنسان أن
يدور بفكره سؤالٌ: من صنع هذا؟
وهو سيسأل نفسه هذا السؤال قبل أن يستمتع بشيء من هذا، خصوصاً وأنه لم يجد أحداً
يقول له: أنت في ضيافتي.
إذنْ: فلا بد أن يفكر بعقله.
وكذلك الإنسان الذي طرأ على الوجود، وما ادَّعى واحدٌ من خَلْق الله تعالى أنه خلق
هذا الوجود، وما ادَّعى أحدٌ أنه خلق السموات والأرض، وما ادَّعى أحدٌ أنه سخَّر
كلَّ ما في الكون لخدمة الإنسان.
وكان من الواجب على الإنسان قبل أن ينعم بهذا، أن يفكر: من الذي صنع له كل ذلك؟
فإذا جاء رسول من جنس الإنسان ليقول له: أنا جئت لأحل لك اللغز المطلوب لك.
هنا كان على الإنسان أن يرهف سمعه لذلك الرسول؛ لأنه قد جاء ليحلَّ للإنسان أمراً
يشغل باله.
ومن لطف الله سبحانه بنا أنه يطلب منا مقدَّماً أن نفكر في ذلك، بل تركنا فترة
طويلة بلا تكليف في هذه الدنيا، لينعم الإنسان بخير ربه، وبعد ذلك إذا ما جاء
اكتمال الرشد ونضج، ولم يكن مكرهاً؛ فالحق سبحانه وتعالى يكلفه بتكاليف الإيمان.
ولا بد للإنسان أن يتساءل: فكل شيء ـ مهما كان تافهاً ـ لا بد له من صانع،
والمصباح الذي يضيء دائرة قطرها 20 متراً، عرفنا صانعه، ودرسنا المعامل التي
أنجزته، والإمكانات التي تم استخدامها، والمواد التي صنع منها، أفلا نعرف تاريخ
هذه الشمس، ومن جعلها لا تحتاج إلى صيانة ولا إلى وقود ولا إلى قطع غيار، وتنير
نصف الكرة الأرضية؟
هذه مسألة كان يجب أن نبحثها؛ لنرى آفاق تلك البينة، بينة نور وقوة وفطرة، يهبها
الله للإنسان المفكر؛ ليهتدي إلى أن وراء هذه الكون خالقاً مدبراً.
فإذا ما جاء إنسان مثله ليقول له: إن خالق الدنيا هو الله تعالى، وهو سبحانه يطلب
منك كذا وكذا، كان أمراً منطقياً وطبيعياً أن نسمع لهذا الإنسان ونطابق ما يقول
على إحساس الفطرة ورؤية البينات.
إذن: فنحن نصل إلى المجهول أولاً بالفطرة، وقد نصل بالبديهة التي لا تشوبها أدنى
شبهة، فأنت حين ترى دخاناً تعتقد بالبديهة أن هناك ناراً، وحين تسير في الصحراء
وترى خضرة؛ ألا تعتقد أن هناك مياهاً ترويها؟
هذه ـ إذن ـ أمور تعرفها بالبديهة، ولا تحتاج إلى بحث أو جهد.
وهناك أمور قد تتطلب منك جهداً عقلياً تبحث به عما بعد المقدمات، مثل الجهد العقلي
الذي استدل به العربي على أن هناك إلهاً خالقاً يُدير هذا الكون، فاستدل من البعرة
على وجود البعير، وأن أثر القدم يدل على المسير، واستنتج من ذلك أن الكواكب ذات
الأبراج، والأرض ذات الفجاج، والبحار ذات الأمواج، كلها أمور تدل على وجود اللطيف
الخبير.
كل هذه الأمور لم يقدر العقل إلا على الحكم عليها جملة، وإن لم يعرف التفصيل.
لقد عرف العقل أن وراء هذا الكون خالقاً، صانعاً، حكيماً، لكنه لم يعرف اسماً له،
وهذا أمر لا يعرفه الإنسان بالعقل، ولا يعرف أيضاً ما هو المنهج المطلوب لهذا
الخالق، وبماذا يجزي المطيع له، ولا بماذا يعاقب العاصي له.
إذن: لا بد من بلاغ عن الله تعالى يدل على القوة التي اقتنعت بها جملة.
والمفكرون بالعقل في الكون يعلمون أن وراء هذا الكون خالقاً، لكن لا يعرفون اسمه،
ولا مطلوبه.
إذن: فأنت لا تعرف اسم الله إلا منه، عن طريق الوحي إلى رسوله، ولا تعرف مطلوب
الله إلا من الرسول الذي أنزل عليه البلاغ.
ومن رحمة الله بالإنسان أنه سبحانه قد أرسل رسولاً، ومع هذا الرسول معجزة هي
القرآن؛ لأن العقل حتى حين يهتدي إلى قوة القادر الأعلى سبحانه، فإنها ستظل
بالنسبة له مبهمة، وحين أنزل الحق سبحانه القرآن الكريم فقد أنزله رحمة بعباده
وبينة لهم.
} أَفَمَن كَانَ عَلَىا بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ {
[هود: 17].
فالقرآن حجة ونور، وهو يهدي البصيرة الفطرية والموجودة في الإنسان } وَيَتْلُوهُ
شَاهِدٌ مِّنْهُ { [هود: 17] هو من أنزل عليه الوحي، ويخبرنا عن الحق سبحانه
وتعالى ما يوضح لنا أن الخالق الأعلى والقوة المطلقة هو الله سبحانه ويوضح لنا
الشاهد مطلوب الله تعالى.
ونحن هنا أمام ثلاثة شهود:
الشاهد الأول: هو الحجة والبينة.
والشاهد الثاني: هو البرهان والبصيرة التي يهتدي إليها العقل، والرسول هو من يبين
لنا المنهج بعد الإجمال.
وهذا الرسول جاء من قبله كتاب موسى:
} وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىا إِمَاماً وَرَحْمَةً { [هود: 17].
وهذا هو الشاهد الثالث.
ومن لا يلتفت إلى المدلول بالأدلة الثلاثة مقصِّر؛ فمن عنده تلك البينة، ومن سمع
الشاهد من الرسول، والشاهد الذي قبله، وهو كتاب موسى عليه السلام وشاهد بعده إلى
نفس قوم موسى لا بد أن يقوده ذلك إلى الإيمان.
وقول الحق سبحانه:
} أُوْلَـائِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ { [هود: 17].
إشارة إلى من التفتوا إلى الأدلة: بينة، وشاهداً، وشاهداً من قبله.
ثم يقول الحق سبحانه:
} وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ { [هود: 17].
والكفر ـ كما علمنا ـ هو الستر، والكفر في ذاته دليل على الإيمان، فلا يفكر أحد
بغير موجود.
فوجود المكفور به سابق على الكفر، والكفر طارىء عليه.
إذن: فالكفر طارىء على الإيمان؛ لأن الإيمان هو أصل الفطرة.
} وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ { [هود: 17].
وكلمة " أحزاب " جمع حزب. والحزب هو الجماعة الملتقية على مبدأ تتحمس
لتنفيذه، مثل الأحزاب التي نراها في الحياة السياسية، وهي أحزاب بشرية تتصارع في
المناهج والغايات، وهم أحرار في ذلك؛ لأنهم يتصارعون بفكر البشر.
أما في العقيدة الأولى، فَمنَ المُخطِّط الأعلى، وهو الحق سبحانه وتعالى، فالمنهج
يأتي منه؛ لأن هذا المنهج يوصل إليه؛ لذلك قال الله سبحانه عمَّن يتبعون منهجه:
{ أُوْلَـائِكَ حِزْبُ اللَّهِ }[المجادلة: 22].
أي: أنهم يدخلون في حزب يختلف عن أحزاب البشر التي تختلف أو تتفق في فكر البشر.
وهنا يقول الحق سبحانه:
} وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ { [هود: 17].
والمقصود بهم كفار قريش عبدة الأوثان، والصابئة واليهود والنصارى الذين لم يؤمنوا
برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل منهم جماعة تمثل حزباً، ويقول عنهم الحق
سبحانه:
{ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ }[المؤمنون: 53].
ومن يكفر من هؤلاء برسالة رسول الله وبرسول الله فالجزاء هو النار، وبذلك بيَّن
لنا الحق سبحانه أن هنالك حزبين: حزب الله، والأحزاب الأخرى، وهما فريقان كلّ
منهما مواجه للآخر.
ويقول الحق سبحانه لرسوله، والمراد أيضاً أمة محمد صلى الله عليه وسلم:
} فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ { [هود: 17].
أي: لا تكن يا رسول الله في شك من ذلك؛ لأن رسالتك وبعثتك تقوم على أدلة البينة
والفطرة والهدى والنور المطلوب من الله تعالى، والشاهد معك، كما شهد لك من جاء من
قبلك أنك جئت بالمنهج الحق:
} إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ { [هود: 17].
والحق ـ كما علمنا من قبل ـ هو الشيء الثابت الذي لا يعتريه تغيير، وهذا الحق لا
يمكن أن يأتي إلا من إله لا تتغير أفعاله.
ويُنهي الحق سبحانه الآية بقوله:
} وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ { [هود: 17].
وهؤلاء لا يؤمنون عناداً؛ لأن الأدلة منصوبة بأقوى الحجج، ومَنْ يمتنع عليها هو
مجرد معاند.
والحق سبحانه يقول في مثل هؤلاء المعاندين:
{ وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً }[النمل:
14].
أي: أنهم مع كفرهم يعلمون صدق الأدلة على رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وعلى صدق بعثته، فيكون كفرهم حنيئذ كفر عناد؛ لأن الأدلة منصوبة بأقوى الحجج،
فيكون من يمتنع على الإيمان بهذه الأدلة إنساناً معانداً.
يقول الحق سبحانه وتعالى: } وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىا عَلَى اللَّهِ كَذِباً
{
(/1477)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)
هذه الآية تبدأ بخبر مؤكد في صيغة استفهام، حتى يأتي الإقرار من هؤلاء الذين
افتروا على الله كذباً، والإقرار سيد الأدلة.
الواحد من هؤلاء المفترين إذا سمع السؤال وأدار ذهنه في الظالمين، فلن يجد ظلماً
أفدح ولا أسوأ من الذي يفتري على الله كذباً، ويقر بذلك.
وهكذا شاء الحق سبحانه أن يأتي هذا الخبر في صيغة استفهام، ليأتي الإقرار اعترافاً
بهذا الظلم الفظيع.
وهؤلاء المكذبون يُعرَضون على الله مصداقاً لقول الحق سبحانه:
{ أُوْلَـائِكَ يُعْرَضُونَ عَلَىا رَبِّهِمْ } [هود: 18].
والعرض إظهار الشيء الخفي لنقف على حاله.
ومثال ذلك في حياتنا: هو الاستعراض العسكري حتى يبيِّن الجيش قوته أمام الخصوم،
وحتى تُبلغ الدولة غيرها من الدول بحجم قوتها.
وكذلك نجد الضابط يستعرض فرقته ليقف على حال أفرادها، ويقيس درجة انضباط كل فرد
فيها وحسن هندامه، وقدرة الجنود على طاعة الأوامر.
ومثال آخر من حياتنا: فنحن نجد مدير المدرسة يستعرض تلاميذها لحظة إعلان نتائج
الامتحان، ويرى المدير والتلاميذ خزي المقصر منهم أو الذي لم يؤد واجبه بالتمام.
فما بالنا بالعرض على الله تعالى، حين يرى المكذبون حالهم من الخزي؟
ذلك أنهم سيفاجأون بوجود الله الذي أنكروه افتراءً؛ لأن الحق سبحانه يقول:
{ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ
مَآءً حَتَّىا إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ
}[النور: 39].
فأيُّ خزي ـ إذن ـ سيشعرون به؟!
ويُظهر الحق سبحانه وتعالى ما كان مخفيّا منهم حين يعرض الكل على الله تعالى
مصداقاً لقوله سبحانه:
{ وَعُرِضُواْ عَلَىا رَبِّكَ صَفَّاً }[الكهف: 48].
وكذلك يُعرضون على النار؛ لأن الحق سبحانه هو القائل:
{ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً }[غافر: 46].
وهكذا يظهر الخزي والخجل والمهانة على هؤلاء الذين افتروا على الله تعالى.
وهو سبحانه يعلم كل شيء أزلاً، ولكنه سبحانه شاء بذلك أن يكشف الناس أمام بعضهم
البعض، وأمام أنفسهم، حتى إذا ما رأى إنسان في الجنة إنساناً في النار، فلا يستثير
هذا المشهد شفقة المؤمن؛ لأنه يعلم أن جزاء المفتري هو النار.
ويا ليت الأمر يقتصر على هذا الخزي، بل هناك شهادة الأشهاد؛ لأن الحق سبحانه
وتعالى يقول في نفس الآية:
{ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَـاؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىا رَبِّهِمْ } [هود:
18].
والأشهاد جمع له مفرد، هو مرة " شاهد " ، مثل " صاحب " و
" أصحاب " ، ومرة يكون المفرد " شهيد " مثل " شريف
" و " أشراف ".
والأشهاد منهم الملائكة؛ لأن الحق سبحانه يقول:
{ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }[ق: 18].
وكذلك الحق سبحانه:
{ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا
تَفْعَلُونَ }
[الإنفطار: 10ـ12].
أو شهود من الأنبياء الذين بلغوهم منهج الله؛ لأن الحق سبحانه يقول:
{ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىا
هَـاؤُلاءِ شَهِيداً }[النساء: 41].
وأيضاً الشهيد على هؤلاء هو المؤمن من أمة محمد عليه الصلاة والسلام، فيبلِّغها
إلى غيره، مصداقاً لقول الحق سبحانه:
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى
النَّاسِ }[البقرة: 143].
وكلمة " الشهادة " تعني: تسجيل ما فعلوا، وتسجل أيضاً أنهم بُلِّغوا
المنهج وعاندوه وخرجوا عليه، فارتكبوا الجريمة التي تقتضي العقاب، لأن العقوبة لا
تكون إلا بجريمة، ولا تجريم إلا بنص، ولا نص إلا بإعلام.
ولذلك نجد القوانين التي تصدر من الدولة تحمل دائماً عبارة " يُعمل بالقانون
من تاريخ نشره في الجريدة الرسمية ".
إذن: فعمل الأشهاد أن يعلنوا أن الذين أنكروا الرسالة والرسول قد بُلِّغوا المنهج،
وبُلِّغوا أن إنكار هذا المنهج وإنكار هذا الرسول هو الجريمة الكبرى، وأن عقوبة
هذا الإنكار هي الخلود في النار.
ولأن الحق سبحانه وتعالى هو العدل نفسه؛ لذلك فلا عقاب إلا بالتأكيد من وقوع
الجريمة، لذلك لا بد من شهادات متعددة، ولذلك يأتي الشاهد من الملائكة، وهو من جنس
غير جنس المعروضين، ويأتي الشاهد من الأنبياء وهو من جنس البشر إلا أنه معصوم.
وكذلك يأتي الشاهد من الإخوة المؤمنين الذين يشهدون أنهم قد بُلِّغوا منهج
الإيمان، ثم تأتي شهادة هي سيدة الشهادات كلها، وهي شهادة الأبعاض على الكل.
يقول الحق سبحانه:
{ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ *
حَتَّىا إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ
وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ
شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ
وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }[فصلت: 19ـ21]ٍ.
فالجوارح تنطق لتقيم الحجة على أولئك المذنبين.
وسؤال المذنبين عن كيفية وقوع النطق لا لزوم له؛ لذلك نجد السؤال هنا " لمَ
"؛ لأن الجوارح كانت هي أدوات المذنبين في ارتكاب الجرائم؛ لأن اليد هي التي
امتدت لتسرق، واللسان هو الذي نطق قول الزور، والقلب هو الذي حقد، والساق هي التي
مشت إلى المعصية.
والإنسان ـ كما نعلم ـ مركَّب من جوارح، وهذه الجوارح لها أجهزة تكوِّن الكل
الإنساني، ومدير كل الجسم هو العقل، فهو الذي يأمر اليد لتمتد وتسرق، أو تمتد
لتربت على اليتيم؛ والعين تأخذ أوامرها من العقل، فإما أن يأمرها بأن تنظر إلى
جمال الكون، وتعتبر بما تراه من أحداث، أو يأمرها بأن تنظر إلى الحرام.
إذن: الجوارح خادمة مطيعة مُسخَّرة لذلك الإنسان وإرادته، لكن الأمر يختلف في
الآخرة، حيث لا أمر لأحد إلا الله.
والحق سبحانه القائل:
{ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ }[غافر: 16].
فالجوارح تقول يوم القيامة لأصحابها: كنا نفعل ما تأمروننا به من المعاصي رغماً
عنا؛ لأننا كنا مُسخَّرين لكم في الدنيا، والآن انحلَّتْ إرادتكم عنا فقلنا ما
أجبرتمونا على فعله.
وهكذا تعترف الأشهاد، مصداقاً لقول الحق سبحانه:
} وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَـاؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىا رَبِّهِمْ أَلاَ
لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ { [هود: 18].
وما داموا قد كذبوا على ربهم، فالمكذوب عليه هو الله، ولا بد أن يطردهم من الرحمة،
وهم قد ارتكبوا قمة الظلم وهو الشرك به والإلحاد وإنكار الرسول صلى الله عليه وسلم
والرسالة.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ {
(/1478)
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19)
وهنا يحدثنا القرآن عن هؤلاء الذين كفروا بالله وآياته ورسوله صلى الله عليه وسلم،
ولم يكتفوا بكفرهم، بل تمادوا وأرادوا أن يصدوا غيرهم عن الإيمان.
وبذلك تعدَّوا في الجريمة، فبعد أن أجرموا في ذواتهم؛ أرادوا لغيرهم أن يُجرم.
وسبق أن أنزل الحق سبحانه خطاباً خاصّاً بأهل الكتاب، الذين سبق لهم الإيمان برسول
سابق على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أعماهم الطمع في السلطة الزمنية
فطمسوا الآيات المبشرة برسول الله في كتبهم، وهم بذلك إنما صدُّوا عن سبيل الله،
وأرادوا أن تسير الحياة معوجَّة.
يقول الحق سبحانه:
{ قُلْ ياأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ
تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَآءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا
تَعْمَلُونَ }[آل عمران: 99].
وقد أرسل الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم ليعدل المُعوجَّ من أمور المنهج.
والعوج هو عدم الاستقامة والسوائية، وقد يكون في القيم، وهي ما قد خفي من
المعنويات، فتقول: أخلاق فلان فيها عوج، وأمانة فلان فيها عوج.
ويقول الحق سبحانه:
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَىا عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل
لَّهُ عِوَجَا }[الكهف: 1].
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الله سبحانه:
{ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً } [هود: 19].
أما في الأمور المحسة فلا يقال: " عِوَج " ، بل يقال: " عَوَج،
فأنت إذا رأيت شيئاً معوجاً في الأمور المحسة تقَول: عَوَج.
لكننا نقرأ في القرآن قول الحق سبحانه:
{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً *
فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لاَّ تَرَىا فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً }[طه:
105ـ107].
وقد أوردها الحق سبحانه هنا بهذا الشكل لدقة الأداء القرآني؛ لأن هناك عوجاً حسياً
يحسه الإنسان، مثلما يسير الإنسان في الصحراء؛ فيجد الطريق منبسطاً ثم يرتفع إلى
ربوة ثم ينبسط مرة أخرى، ثم يقف في الطريق جبل، ثم ينزل إلى وادٍ، وأي إنسان يرى
مثل هذا الطريق يجد فيه عوجاً.
أما إذا كنت ترى الأرض مبسوطة مسطوحة كالأرض الزراعية، فقد تظن أنها أرض مستوية،
ولكنها ليست كذلك؛ بدليل أن الفلاح حين يغمر الأرض بالمياه، يجد بقعة من الأرض قد
غرقت بالماء، وقطعة أخرى من نفس الأرض لهم تمسها المياه، وبذلك نعرف أن الأرض فيها
عوج لحظة أن جاء الماء، والماء ـ كما نعلم ـ هو ميزان كل الأشياء المسطوحة.
ولذلك حين نريد أن نحكم استواء جدار أو أرض، فنحن نأتي بميزان الماء؛ لأنه يمنع
حدوث أي عوج مهما بلغ هذا العوج من اللطف والدقة التي قد لا تراها العين المجردة.
وفي يوم القيامة يأتي أصحاب العوج في العقيدة، ويصورهم الحق سبحانه في قوله:
{ يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لاَ عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ
لِلرَّحْمَـانِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً }[طه: 108].
هم ـ إذن ـ يصطفُّون بلا اعوجاج، كما يصطف المجرمون تبعاً لأوامر من يقودهم إلى
السجن، في ذلة وصَغَار ولا ينطقون إلا همساً.
وهنا يقول الحق سبحانه:
{ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ
بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ } [هود: 19].
والسبب في صَدِّهم عن سبيل الله أنهم يريدون الحال مُعْوجاً ومائلاً، وأن
يُنفِّروا الناس من الإيمان ليضمنوا لأنفسهم السلطة الزمنية ويفسدون في الأرض؛ لأن
مجيء الإصلاح بالإيمان أمر يزعجهم تماماً، ويسلب منهم ما ينتفعون به بالفساد.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: { أُولَـائِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي
الأَرْضِ }
(/1479)
أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20)
والإعجاز هو الامتناع، وأعجزت فلاناً، أي: برهنت على أنه ممتنع عن الأمر وغير قادر
عليه.
وقد تجلَّى الإعجاز ـ على سبيل المثال ـ في عجز هؤلاء الذين أنكروا أن القرآن
معجزة أن يأتي بآية من مثله.
والمعجز في الأرض هو من لا تقدر عليه.
ويبيِّن لنا الحق سبحانه في هذه الآية أن هؤلاء الكافرين لا يُعجزون الله في
الأرض، بدليل أن هناك نماذج من أمم قد سبقت وكفرت، فمنهم من أخذته الريح، ومنهم من
خسف الله بهم الأرض، ومنهم من غرق، وإذا انتقلوا إلى الآخرة فليس لهم ولي أو نصير
من دون الله؛ لأن الولي هو القريب منك، ولا يقرب منك إلا من تحبه، ومن ترجو خيره.
فإذا قَرُب منك إنسان له مواهب فوق مواهبك، نضح عليك من مواهبه، وإذا كان من يقرب
منك قوياً وأنت ضعيف، ففي قوته سياج لك، وإن كان غنياً، فغناه ينضح عليك، وإن كان
عالماً أفادك بعلمه، إن كان حليماً أفادك بحلمه لحظة غضبك، وكل صاحب موهبة تعلو
موهبتك وأنت قريب منه، فسوف يفيدك من موهبته.
والولي هو النصير أيضاً؛ لأنك أول ما تستصرخ سيأتي لك القريب منك.
وهؤلاء الذين يصدُّون عن سبيل الله لن يجدوا وليّاً ولا نصيراً في الآخرة ـ وإن
وجدوه في الدنيا ـ لأن كل إنسان في الآخرة سيكون مشغولاً بنفسه:
{ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ
ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىا وَمَا هُم بِسُكَارَىا
وَلَـاكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ }[الحج: 2].
ويقول الحق سبحانه:
{ ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ وَاخْشَوْاْ يَوْماً لاَّ يَجْزِي
وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً }[لقمان:
33].
وكذلك يقول الحق سبحانه:
{ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ
وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ }[عبس:
34ـ37].
إذن: فهؤلاء الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله لا يُعجزون الله في الأرض، ولا يجدون
الولي أو النصير في الآخرة، بل:
{ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ } [هود: 20].
ونحن نفهم الضِّعْفَ على أنه الشيء يصير مرتين، ونظن أن في ذلك قوة، ونقول: لا؛
لأن الذي يأتي ليسند الشيء الأول ويشفع له، كان الأول بالنسبة له ضعيف.
إذن: فالمُضَاعفة هي التي تظهر ضعف الشيء الذي يحتاج إلى ما يدعمه.
ومُضَاعفة العذاب أمر منطقي لهؤلاء الذين أرادوا الأمر عوجاً، وصدوا عن سبيل الله
تعالى، وأرادوا بذلك إضلال غيرهم.
وقول الحق سبحانه:
{ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ } [هود: 20].
لا يتناقض مع قوله الحق:
{ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىا }[الأنعام: 164].
لأن هؤلاء الذين صدوا عن سبيل الله ليس لهم وزر واحد، بل لهم وِزْران: ووزر الضلال
في ذواتهم، ووزر الإضلال لغيرهم.
وهناك آية تقول:
{ وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ
النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن
يَفْعَلْ ذالِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ }[الفرقان: 68ـ69].
أي: أن مَنْ يفعل ذلك يَلْقَ مضاعفة للعذاب.. لماذا؟
لأنه كان أسوة لغيره في أن يرتكب نفس الجرم.
والحق سبحانه وتعالى لا يريد للذنوب أن تنتشر، ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى يحض
على أن يرى المؤمنون من ارتكب الجُرْم لحظةَ العقاب، مثلما يقول سبحانه في الزنا:
{ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ }[النور: 2].
وحين يرى المؤمنون وقوع العقوبة على جريمة ما، ففي ذلك تحذير من ارتكاب الجُرْم،
وحدّ من وقوع الجرائم.
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يضاعف العذاب لأولئك الذين صَدُّوا عن
سبيل الله، وأرادوا إضلال غيرهم، فارتكبوا جريمتين:
أولاهما: ضلالهم.
والثانية: إضلالهم لغيرهم.
ولذلك تجد بعضاً من الذين أضلُّوا يقولون يوم القيامة:
{ رَبَّنَآ أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ نَجْعَلْهُمَا
تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ }[فصلت: 29].
ويقولون أيضاً:
{ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ
* رَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً
}[الأحزاب: 67ـ68].
إذن: فالدعوة إلى الانحراف إضلال، وعمل الشيء بالانحراف إضلال؛ لأنه أسوة أمام
الغير.
ومضاعفة العذاب لا تعني الإحراق مرة واحدة في النار؛ لأن الحق سبحانه لو تركنا
للنار لتحرقنا مرة واحدة لانتهى الإيلام؛ ولذلك أراد الحق سبحانه أن يكون هناك
عذاب بعد عذاب.
يقول الحق سبحانه:
{ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ
الْعَذَابَ }[النساء: 56].
فهو عذاب على الدوام.
أو أن العذاب الذي يضاعف له لون آخر، فهناك عذاب للكفر، وهناك عذاب للإفساد.
يقول الحق سبحانه:
{ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ }[النحل:
88].
فالعذاب على الكفر لا يلغي العذاب على المعاصي التي يرتكبها الكافر.
فإذا كانت الشاة القرناء يُقتصُّ للشاة الجلحاء منها، أي: أن الشاة التي لها قرون
وتنطح الشاة التي لا قرون لها، فيوم القيامة يتم القصاص منها، رغم أنه لا حساب
للحيوانات؛ لأنها لا تملك الاختيار، ولكنها سوف تُستخدم كوسيلة إيضاح لميزان
العدالة.
ويقول الحق سبحانه:
} يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا
كَانُواْ يُبْصِرُونَ { [هود: 20].
أي: ما كانوا يستطيعون الاستفادة من السمع رغم وجود آلة السمع، فلم يستمعوا لبلاغ
الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا استطاعوا الاستفادة من أبصارهم ليروا آيات الله
سبحانه وتعالى في الكون، فكأنهم صُمٌّ عُمْيٌ، أو يضاعف لهم العذاب مدة استطاعتهم
السمع والإبصار.
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه:
{ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ }[مريم: 38].
أي: أن سمعهم وأبصارهم ستكون سليمة وجيدة في الآخرة.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } أُوْلَـائِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُمْ {
(/1480)
أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21)
إذن: فهم خسروا أنفسهم؛ لأنهم بظلم النفس وإعطائها شهوة عاجلة زمنها قليل، أخذوا
عذاباً آجلاً زمنه خالد.
وفي هذا ظلم للنفس، وهذه قمة الخيبة، وهذا يدل على اختلال الموازين،
وأنت قد تظلم غيرك فتأخذ من عنده بعضاً من الخير لتستفيد به، وبذلك تظلم الغير
لصالح نفسك.
وظلم النفس يعني أنك تعطيها متعة عاجلة وتغفل عنها عذاباً آجلاً، والمتعة العاجلة
لها مدة محدودة، أما العذاب فلا مدة تحدده.
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:
{ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } [هود: 21].
أي: لم يهتد إليهم ما كانوا يعبدونهم من دون الله، ولو كان لهؤلاء الذين عبدوهم
قوة يوم القيامة؛ لهرعوا إليهم ليستنقذوهم من العذاب، ولكنهم بلا حول ولا قوة؛ لأن
الحق سبحانه قد حكم على هؤلاء الكافرين، وقال:
{ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ }[التوبة: 74].
وكذلك هؤلاء الآلهة المعبودة من دون الله تعالى، أو شركاء مع الله، لا يهتدون
إليهم، حتى بفرض قدرتهم على النصرة، فتلك الآلهة أو الشركاء لا يهتدون إليهم، ولا
يعرفون لهم مكاناً.
وقول الحق سبحانه: { وَضَلَّ عَنْهُمْ } [هود: 21].
أي: غاب وتاه عنهم.
وقوله سبحانه: { مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } [هود: 21].
أي: ما كانوا يدَّعونه كذباً.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: { لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ }
(/1481)
لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)
واختلف العلماء في معنى كلمة { لاَ جَرَمَ } ، والمعنى العام حين تسمع كلمة { لاَ
جَرَمَ } أي: حق وثابت، أو لا بد من حصول شيء محدد.
وحين يقول الحق سبحانه:
{ لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ }[النحل: 62].
أي: حَقَّ وثبت أن لهم النار؛ نتيجة ما فعلوا من أعمال، وتلك الأعمال مقدمة بين
يدي عذابهم، فحين نسمع { لاَ جَرَمَ } ومعها العمل الذي ارتكبوه، تثق في أنه يحق
على الله ـ سبحانه ـ أن يعذبهم.
وقال بعض العلماء: إن معنى: { لاَ جَرَمَ } حق وثبت.
وقال آخرون: إن معنى { لاَ جَرَمَ } هو لا بد ولا مفر.
والمعنيان ملتقيان لأن انتفاء البُدِّية يدل على أنها ثابتة.
وكان يجب على العلماء أن يبحثوا في مادة الكلمة، ومادة الكلمة هي " الجرم
" ، والجرم: هو القطع، ويقال: جرم يده، أي: قطع يده.
وقول الحق سبحانه هنا:
{ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ } [هود: 22].
أي: لا قَطْع لقول الله فيهم بأن لهم النار، ولا شيء يحول دون ذلك أبداً، ولا بد
أن ينالوا هذا الوعيد؛ وهكذا التقى المعنى بـ " لا بد ".
إذن: فساعة تسمع كلمة " لا جرم " ، أي: ثبت، أو لا بد من حدوث الوعيد.
وأيضاً تجد كلمة " الجريمة " مأخوذة من " الجرم " ، وهي قطع
ناموس مستقيم، فحين نقرر ألا يسرق أحد من أحد شيئاً، فهذا ناموس مستقيم، فإن سرق
واحد من آخر، فهو قد قطع الأمن والسلام للناس، وأيُّ جريمة هي قَطْع للمألوف الذي
يحيا عليه الناس.
وأيضاً يقال: جرم الشيء أي: اكتسب شرَّه، ومنه الجريمة، ولذلك يقال: من الناس من
هو " جارم " وهي اسم فاعل من الفعل: " جرم " ، مثل كلمة
" كاتب " من الفعل " كتب " و " مجروم عليه " وهي
اسم مفعول، مثلها مثل " مكتوب ".
فإن أخذت الجريمة من قطع الأمر السائد في النظام، فهؤلاء الذين افتروا على الله وظلموا
وصدوا عن سبيل الله، فلا جريمة في أن يعذبهم الله بالنار.
ومثل هذه العقوبة ليست جريمة؛ لأن العقوبة على الجريمة ليست جريمة، بل هي مَنْع
للجريمة.
وهكذا تلتقي المعاني كلها، فحين نقول: { لاَ جَرَمَ } فذلك يعني أنه لا جريمة في
الجزاء؛ لأن الجريمة هي الآثام العظيمة التي ارتكبوها.
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:
{ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا }[الشورى: 40].
وقد سمَّاها الحق سيئة؛ لأنها تسيء إلى المجتمع أو تسيء إلى الفرد نفسه.
ولهذا يقول الحق سبحانه:
{ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ }[النحل: 126].
وهكذا نجد أن هناك معاني متعددة لتأويل قول الحق سبحانه: { لاَ جَرَمَ } ، فهي
تعني: لا قطع لقول الله في أن المشركين سيدخلون النار، أو لا بد أن يدخلوا النار،
أو حق وثبت أن يدخلوا النار، أو لا جريمة من الحق سبحانه عليهم أن يفعل بهم هكذا؛
لأنهم هم الذين فعلوا ما يستحق عقابهم.
ويقول الحق سبحانه:
} لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ { [هود: 22].
وكلمة (الأخسرون) جمع " أخسر " وهي أفعل تفضيل لخاسر، وخاسر اسم فاعل
مأخوذ من الخسارة.
والخسارة في أمور الدنيا أن تكون المبادلة إجحافاً لواحد، كأن يشتري شيئاً بخمسة
قروش وكان يجب أن يبيعها بأكثر من خمسة قروش، لكنه باعها بثلاثة قروش فقط، فبعد أن
كان يرغب في الزيادة، باع الشيء بمنا ينقص عن قيمته الأصلية.
ومن يفعل ذلك يسمى " خاسر " ، والخسارة في الدنيا موقوتة بالدنيا، ومن
يخسر في صفقة قد يربح في صفقة أخرى.
ولنفترض أنه قد خسر في كل صفقات الدنيا، فما أقصر وقت الدنيا! لأن كل ما ينتهي فهو
قصير، لكن خسارة الآخرة لا نهاية لها.
ويقول الحق سبحانه وتعالى:
{ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ
سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ
صُنْعاً }[الكهف: 103ـ104].
وهكذا وصفهم الحق سبحانه مرة بأنهم الأخسرون، ومرة يقول سبحانه واصفاً الحكم
عليهم:
{ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ }[الزمر: 15].
وهو خسران محيط يستوعب كل الأمكنة.
وشاء الحق سبحانه بعد ذلك أن يأتي بالمقابل لهؤلاء، وفي ذلك فيض من الإيناسات
المعنوية؛ لأن النفس حين ترى حكماً على شيء تأنس أن تأخذ الحكم المقابل على الشيء
المقابل.
فحين يسمع الإنسان قول الحق سبحانه:
{ إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ }[الانفطار: 13].
فلا بد أن يأتي إلى الذهن تساؤل عن مصير الفُجَّار، فيقول الحق سبحانه:
{ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ }[الانفطار: 14].
وهذا التقابل يعطي بسطة النفس الأولى وقبضة النفس الثانية، وبين البسطة والقبضة
توجد الموعظة، ويوجد الاعتبار.
ويأتي الحق سبحانه هنا بالمقابل للمشركين الذين صدوا عن سبيل الله، فصاروا إلى
النار، والمقابل هم المؤمنون أصحاب العمل الصالح.
فيقول الحق سبحانه: } إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ {
(/1482)
إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23)
الإيمان ـ كما نعلم ـ أمر عقدي، يعلن فيه الإنسان إيمانه بإله واحد موجود، ويلتزم
بالمنهج الذي أنزله الله سبحانه وتعالى على الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن آمن
بالله تعالى ولم يعمل العمل الصالح يتلقَّ العقاب؛ لأن فائدة الإيمان إنما تتحقق
بالعمل الصالح.
لذلك نجد الحق سبحانه وتعالى يقول لنا:
{ قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـاكِن قُولُواْ
أَسْلَمْنَا }[الحجرات: 14].
أي: اتبعتم ظاهر الإسلام.
وهكذا نعرف أنه يوجد مُتيقِّن بصحة واعتقاد بأن الإله الواحد الأحد موجود، وأن
الرسول صلى الله عليه وسلم مُبلِّغ عن الله عز وجل؛ لكن العمل الذي يقوم به
الإنسان هو الفيصل بين مرتبة المؤمن، ومرتبة المعلم.
فالذي يُحسن العمل هو مؤمن، أما من يؤدي العمل بتكاسل واتِّباع لظواهر الدين، فهو
المسلم، وكلاهما يختلف عن المنافق الذي يدَّعي الحماس إلى أداء العبادات، لكنه
يمكر ويبِّيت العداء للإسلام الذي لا يؤمن به.
وكان المنافقون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسبق الناس إلى صفوف الصلاة،
وكانوا مع هذا يكتمون الكيد ويدبرون المؤامرات ضد النبي صلى الله عليه وسلم.
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى:
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُواْ إِلَىا
رَبِّهِمْ } [هود: 23].
هذا القول يبيِّن لنا أن معيار الإيمان إنما يعتمد على التوحيد، وإتقان أداء ما
يتطلبه منهج الله سبحانه، وأن يكون كل ذلك بإخبات وخضوع، ولذلك يقال: رُبَّ معصية
أورثت ذلاً وانكساراً، خير من عبادة أورثت عزّاً واستكباراً.
أي: أن المؤمن عليه ألا يأخذ العبادة وسيلة للاستكبار.
وكلمة { وَأَخْبَتُواْ } أي: خضعوا خشية لله تعالى، فهم لا يؤدون فروض الإيمان
لمجرد رغبتهم في ألاَّ يعاقبهم الله، لا بل يؤدون فروض الإيمان والعمل الصالح خشية
لله.
وأصل الكلمة من " الخبت " وهي الأرض السهلة المطمئنة المتواضعة، وكذلك
الخبت في الإيمان.
ويصف الحق سبحانه أهل الإيمان المخبتين بأنهم:
{ أُوْلَـائِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [هود: 23].
أي: الملازمون لها، وخلودهم في الجنة يعني أنهم يقيمون في النعيم أبداً، ونعيم
الجنة مقيم ودائم، على عكس نعيم الدنيا الذي قد يفوته الإنسان بالموت، أو يفوت
النعيم الإنسان بالسلب؛ لأن الإنسان في الدنيا عرضة للأغيار، أما في الآخرة، فأهل
الإيمان أصحاب العمل الصالح المخبتون لربهم، فهم أهل النعيم المقيم أبداً.
وهكذا عرض الحق سبحانه حال الفريقين: الفريق الذي ظلم نفسه بافتراء الكذب وعلى
الله، وصدوا عن سبيل الله، وابتغوا الأمر عوجاً، هؤلاء لن يُعجزوا الله، وليس لهم
أولياء يحمونهم من العذاب المضاعف.
وهم الذين خسروا أنفسهم، ولن يجدوا عوناً من الآلهة التي عبدوها من دون الله، ولا
شيء بقادر على أن يفصل بينهم وبين العذاب، وهم الأخسرون.
أما الفريق الثاني فهم الذين آمنوا وعملوا الصالحة بخشوع وخشية ومحبة لله سبحانه
وتعالى، وهم أصحاب الجنة الخالدون فيها.
إذن: فلكل فريق مسلكه وغايته.
لذلك يقول الحق سبحانه بعد ذلك: { مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَىا وَالأَصَمِّ
}
(/1483)
مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)
والفريقان هما من تحدثنا عنهما من قبل.
وكلمة " الفريق " تعني: جماعة يلتقون عند غاية وهدف واحد، مثلما نقول:
فريق كرة القدم أو غيره من الفرق، فهي جماعات، كل جماعة منها لها هدف يجمعها.
ونحن نجد الحق سبحانه وتعالى يقول:
{ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ }[الشورى: 7].
وكلمة { الْفَرِيقَيْنِ } جاءت في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها؛ لأن كل فرقة
تضم جماعة مختلفة عن الجماعة الأخرى، ولهؤلاء متعصبون، وللآخرين متعصبون.
ويضرب الحق سبحانه وتعالى في هذه الآية المثل بسَيِّدَي الحواس الإداركية في
الإنسان، وهما السمع والبصر، فهما المصدران الأساسيان عند الإنسان لأخذ المعلومات،
إما مسموعة، أو مرئية، ثم تتكون لدى الإنسان قدرة الاستنباط والتوليد مما سمعه
بالأذن ورآه بالعين.
ولذلك قال لنا الحق سبحانه:
{ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً
وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
}[النحل: 78].
إذن فما دام الحق سبحانه قد جعل السمع و الأبصار والأفئدة مصادر تأتي منها ثمرة،
هي المعلومات وتمحيصها، فالحق سبحانه يستحق الشكر عليها.
ونحن نعلم أن الطفرات الحضارية وارتقاءات العلم، إنما تأتي بمن سمع ومن رأى، ثم
جاءت من الاستنباط أفكار تطبيقية تفيد البشرية.
ومثال ذلك: هو من رأى إناء طعام وله غطاء، وكان بالإناء ماء يغلي، فارتفع الغطاء
عن الإناء.
هذا الإنسان اكتشف طاقة البخار، واستنبط أن البخار يحتاج حيِّزاً أكبر من حيز
السائل الموجود في الإناء؛ لذلك ارتفع الغطاء عن الإناء، وارتقى هذا الاكتشاف
ليطور كثيراً من أوجه الحياة.
ولو أن كل إنسان وقف عند ما يسمعه أو يراه ولم يستنبط منه شيئاً لما تطورت الحياة
بكل تلك الارتقاءات الحضارية.
وهنا يقول الحق سبحانه:
{ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَىا وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ
يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً } [هود: 24].
ولن يشك كل من الأعمى أو الأصم أن من يرى أو من يسمع هو خير منه، ولا يمكن أن
يستوي الأعمى بالبصير، أو الأصم بمن يسمع.
وهكذا جاء الحق سبحانه وتعالى بالأشياء المتناقضة، ليحكم الإنسان السامع أو
القارىء لهذه الآية، وليفصل بحكم يُذكِّره بالفارق بين الذي يرى ومن هو أعمى،
وكذلك بين من يسمع ومن هو أصم، ومن الطبيعي ألا يستويان.
لذلك يُنهي الحق سبحانه الآية بقوله تعالى:
{ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } أي: ألا تعتبرون بوجود هذه الأشياء.
ونحن نعلم أن الله سبحانه وتعالى قد قال لنا:
{ فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَـاكِن تَعْمَىا الْقُلُوبُ الَّتِي فِي
الصُّدُورِ }[الحج: 46].
أي: أن الإنسان قد يكون مبصراً، أو له أذن تسمع، لكنه لا يستخدم حاسة الإبصار أو
حاسة السمع فيما خلقت من أجله في التقاط مجاهيل الأشياء.
وبعد أن بيَّن الحق سبحانه وَصْفَ كل طرف وصراعه مع الآخر، واختلاف كل منهما في
الغاية، والصراع الذي بينهما تشرحه قصص الرسل عليهم السلام.
ويقول الحق سبحانه في بعض من مواضع القرآن الكريم، وفي كل موضع لقطات من قصة أي
رسول، واللقطة التي توجد في سورة قد تختلف عن اللقطة التي في سورة أخرى.
ومثال ذلك: أن الحق سبحانه قد تكلم في سورة يونس عن نوح وموسى وهارون ويونس عليهم
السلام، وهنا ـ في سورة هود ـ تأتي مرة أخرى قصة نوح عليه السلام، فيقول سبحانه
وتعالى: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىا قَوْمِهِ }
(/1484)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25)
والآية توضِّح مسألة إرسال نوح عليه السلام كرسول لقومه، وعلى نوح الرسول أن يمارس
مهمته وهي البلاغ، فيقول:
{ إِنَّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } [هود: 25].
ونحن نلحظ أن همزة (إن) في إحدى قِرَاءَتَى الآية تكون مكسورة، وفي قراءة أخرى
تكون مفتوحة، أما في القراءة بالكسر فتعني أن نوحاً عليه السلام قد جاء بالرسالة
فبلغ قومه وقال:
{ إِنَّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } [هود: 25].
وأما في القراءة الأخرى بالفتح فتعني أن الرسالة هي:
{ إِنَّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } [هود: 25].
فكأن القراءة الأولى تعني الرواية عن قصة البلاغ، والقراءة الثانية تحدد مضمون
الرسالة: { إِنَّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } [هود: 25].
والقراءة الأولى فيها حذف القول، وحذف القول كثير في القرآن، مثل قوله تعالى:
{ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم
بِمَا صَبَرْتُمْ }[الرعد: 23ـ24].
وهذا يعني أن الملائكة يدخلون على المؤمنين في الجنة من كل باب، وساعة الدخول يقول
الملائكة:
{ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ }[الرعد: 24].
وقول نحو عليه السلام: { إِنَّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } [هود: 25].
نعلم منه أن النذير ـ كما قلنا من قبل ـ هو من يخبر بشرٍّ لم يأت وقته بعد، حتى
يستعد السامع لملاقاته، وما دام أن نبي الله نوحاً قد جاء نذيراً، فالسياق مستمر؛
لأن الحق سبحانه قال في الآية التي قبلها:
{ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ }[هود: 24].
أي: أن هناك فريقاً عاصياً وكافراً وله نذير، أما الفريق الآخر فله بشير، يخبر
بخير قادم ليستعد السامع أيضاً لاستقباله بنفس مطمئنة.
والفريق الكافر الذي يستحق الإنذار، يأتي لهم الحق سبحانه بنص الإنذار في قوله
تعالى: { أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ }
(/1485)
أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26)
ونحن نعلم أن نوحاً عليه السلام محسوب على قومه، وهم محسوبون عليه؛ ولذلك نجده
خائفاً عليهم؛ لأن الرباط الذي يربطه بهم رباط جامع قوي.
وكذلك نجد الحق سبحانه يُحنِّن قلوب الرسل إليهم لعلهم يحسنون استقبال الرسول.
ومثال ذلك: قول الحق سبحانه:
{ وَإِلَىا عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً }[الأعراف: 65].
ولأن الرسول أخ لهم فلن يغشَّهم أو يخدعهم.
واستقبل الملأ من قوم نوح الأمر بما يقوله الحق سبحانه عنهم: { فَقَالَ الْمَلأُ
الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ }
(/1486)
فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)
والملأ ـ كما نعلم ـ هم وجوه القوم، وهم السادة الذين يملأون العيون مهابة،
ويتصدرون أي مجلس.
وهناك مثل شعبي في بلادنا يوضح ذلك المعنى حين نقول: " فلان يملأ العين
".
أي: أن العين حين تنظر إليه لا تكون فارغة، فلا جزء في العين يرى غيره.
ويقال أيضاً: " فلان قَيْد النواظر " أي: أنه إذا ظهر تقيَّدت به كل
النواظر، فلا تلتفت إلى سواه، ولا يمكن أن يكون كذلك إلا إذا كانت فيه مزايا تجذب
العيون إليه بحيث لا تتحول عنه.
والمراد بذلك هو الحاشية المقربة، أو الدائرة الأولى التي حول المركز، فَحَوْل كل
مركز هناك دوائر، والملأ هم الدائرة الأولى، ثم تليهم دائرة ثانية، ثم ثالثة
وهكذا، والارتباك إنما ينشأ حين يكون للدائرة أكثر من مركز، فتتشتت الدوائر.
وردَّ الذين يكوِّنون الملأ على سيدنا نوح قائلين:
{ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا } [هود: 27].
أي: أنه لا توجد لك ميزة تجعلك متفوقاً علينا، فما الذي سوَّدك علينا لتكون أنت
الرسول؟
وقولهم هذا دليل غباء؛ لأن الرسول ما دام قد جاء من البشر، فسلوكه يكون أسوة،
وقوله يصلح للاتباع، ولو كان الرسول من غيرِ البشر لكان من حق القوم أن يعترضوا؛
لأنهم لن يستطيعوا اتخاذ الملاك أسوة لهم.
ولذلك بيَّن الحق سبحانه هذه المسألة في قوله تعالى:
{ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَىا إِلاَّ أَن
قَالُواْ أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً }[الإسراء: 94].
وجاء الرد منه سبحانه بأن قُلْ لهم:
{ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا
عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَآءِ مَلَكاً رَّسُولاً }[الإسراء: 95].
إذن: فالرسول إنما يجيء مُبلِّغ منهج وأسوة سلوك، فإذا لم يكن من جنس البشر،
فالأسوة لن تصلح، ولن يستطيع إلا البلاغ فقط.
ومثال ذلك: أنت حين ترى الأسد في أي حديقة من حدائق الحيوان، يصول ويجول، ويأكل
اللحم النَّيء المقدم له من الحارس، أتحدثك نفسك أن تفعل مثله؟.. طبعاً لا، لكنك
إن رأيت فارساً على جواد ومعه سيفه، فنفسك قد تحدثك أن تكون مثله.
وهكذا نجد أن الأسوة تتطلب اتحاد الجنس؛ ولذلك قلنا: إن الأسوة هي الدليل على
إبطال من يدَّعي الألوهية لعزير أو لعيسى عليهما السلام.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى ما جاء على لسان الملأ الكافر من قوم نوح:
{ وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا } [هود: 27].
والأراذل جمع " أرذل " ، مثل قولنا: " أفاضل قوم " ، وهي جمع
" أفضل ".
والأرذل هو الخسيس الدنيء في أعين الناس. ورذال المال أي: رديئه. ورذال كل شيء هو
نفايته.
ونرى في الريف أثناء مواسم جمع " القطن " عملية " فرز "
القطن، يقوم بها صغار البنين والبنات، فيفصلون القطن النظيف، عن اللوز الذي لم
يتفتح بالشكل المناسب؛ لأن اللوزة المصابة عادة ما تعاني من ضمور، ولم تنضج النضج
الصحيح.
وكذلك يفعل الفلاحون في موسم جمع " البلح " ، فيفصلون البلح الجيد عن
البلح المعيب.
إذن: فرذال كل شيء هو نفايته.
وقد قال الملأ من الكفار من قوم نوح:
} وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا { [هود: 27].
أي: أنهم وصفوا من آمنوا بنوح عليه السلام بأنهم نفاية المجتمع.
وجاء الحق على ألسنتهم بقولهم في موضع آخر:
{ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ }[الشعراء: 111].
ولم يَنْفِ نوح عليه السلام ذلك؛ لأن الذين اتبعوه قد يكونون من الضعاف، وهَم
ضحايا الإفساد؛ لأن القوى في المجتمع لا يقربه أحد؛ ولذلك فإنه لا يعاني من ضغوط
المفسدين، أما الضعاف فهم الذين يعانون من المفسدين؛ فما إن يظهر المُخلِّص لهم من
المفسدين فلا بد أن يتمسكوا به.
ولكن ذلك لا يعني أن الإيمان لا يلمس قلوب الأقوياء، بدليل أن البعض من سادة
وأغنياء مكة استجابوا للدعوة المحمدية مثل: أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب،
وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنهم.
ولكن الغالب في دعوات الإصلاح أنه يستجيب لها المطحونون بالفساد، هؤلاء الذين
يشعرون بالغليان في مراجل الألم بسبب الفساد، وما إن يظهر داعية الإصلاح ويريد أن
يزحزح الفساد، فيلتفُّون حوله ويتعاطفون معه، وإن كانوا غير عبيد، لكن محكومين
بالغير، فهم يؤمنون علناً برجل الإصلاح، وإن كانوا عبيداً مملوكين للسادة؛ فهم
يؤمنون خفية، ويتحمل القوي منهم الاضطهاد والتعذيب.
إذن: فكل رسول يأتي إنما يأتي في زمن فساد، وهذا الفساد ينتفع به بعض الناس؛
وطغيان يعاني منه الكثيرون الواقع عليهم الفساد والطغيان.
ويأتي الرسول وكأنه ثورة على الطغيان والفساد؛ لذلك يتمسك به الضعفاء ويفرحون به،
وتلتف قلوبهم حوله.
أما المنتفعون بالفساد فيقولون: إن أتباعك هم أراذلنا. وكأن هذا القول طَعْن في
الرسول، لكنهم أغبياء؛ لأن هذا القول دليل على ضرورة مجيء الرسول؛ ليخلص هؤلاء
الضعاف، ويجيء الرسول ليقود غضبة على فساد الأرض، ولينهي هذا الفساد.
وهي غضبة تختلف عن غضبة الثائر العادي من الناس، فالثائر من الناس يرى من يصفق له
من المطحونين بالفساد.
لكن آفة الثائر من البشر شيء واحد، هي أنه يريد أن يستمر ثائراً، ولكن الثائر الحق
هو الذي يثور ليهدم الفساد، ثم يهدأ ليبني الأمجاد، فلا يسلط السيف على الكل، ولا
يفضِّل قوماً على قوم، ولا يدلل مَنْ طُغِي عليهم، ويظلم مَنْ طغوا.
بل عليه أن يحكم بين الناس بالعدل والرحمة؛ لتستقيم الأمور، وتذهب الأحقاد، ويعلم
الناس كلهم أن الثائر ما جاء ضد طائفة بعينها، وإنما جاء ضد ظلم طائفة لغيرها،
فإذا أخذ من الظالم وأعطى المظلوم؛ فليجعل الاثنين سواء أمام عينيه.
ومن هنا يجيء الهدوء والاستقرار في المجتمع.
إذن: فقد كان قول الكافرين من ملأ قوم نوح.
} وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا { [هود: 27].
هو قول يؤكد وجود الفساد في هذا المجتمع، وأن الضعاف المطحونين من الفساد قد
اتبعوا نوحاً عليه السلام.
ويقول الحق سبحانه:
} بَادِيَ الرَّأْيِ { [هود: 27].
والبادي هو الظاهر؛ ضد المستتر.
وهناك قراءة أخرى هي } بَادِيءَ الرَّأْيِ {؟
أي: بعد بدء الرأي.
والآية هنا تقول:
} بَادِيَ الرَّأْيِ { [هود: 27].
أي: ظاهر الأمر، فساعة ما يُلْقى إلى الإنسان أيُّ شيء فهو ينظر له نظرة سطحية، ثم
يفكر بإمعان في هذا الشيء.
وساعة يسمع الإنسان دعوى أو قضية، فعليه ألا يحكم عليها بظاهر الأمر، بل لا بد أن
يبحث القضية أو الدعوى بتروٍّ وهدوء.
وهم قد قالوا لنوح عليه السلام: أنت بشر مثلنا، وقد اتبعك أراذلنا؛ لأنهم نظروا
إلى دعوتك نظرة ظاهرية، ولو تعقَّبوا دعوتك وتأمَّلوها ونظروا في عواقبها بتدبُّر
لما آمنوا بها.
ويكشف الحق سبحانه هذا الغباء فيهم، فقول الملأ بأن الضعفاء كان يجب عليهم أن
يتدبروا الأمر ويتمعنوا في دعوة نوح قبل الإيمان به، ينقضه إصرار الضعفاء على
الإيمان؛ لأنه يؤكد أن جوهر الحكم عندهم جوهر سليم؛ لأن الواحد من هؤلاء الضعفاء
لا يقيس الأمر بمقياس من يملك المال، ولا بمقياس من يملك الجاه، ولا بمقياس من له
سيادة،بل قاس الضعيف من هؤلاء الأمر بالقلب، الذي تعقَّل وتبصَّر، وباللسان الذي
أعلن الإيمان؛ لأن الإنسان بأصغريه: قلبه ولسانه.
إذن: فهذا الملأ الكافر من قوم نوح ـ عليه السلام ، قد حكم بأن الضعاف أراذل
بالمقاييس الهابطة، لا بالمقاييس الصحيحة.
ولو امتنع هؤلاء الذي يُقال عنهم " أراذل " عن خدمة من يقال لهم "
سادة " لذاق السادة الأمرَّين، فهم الذين يقدِّمون الخدمة، ولو لم يصنع
النجار أثاث البيت لما كانت هناك بيوت مؤثثة.
ولو امتنع العمال عن الحفر والبناء لما كانت هناك قصور مشيدة.
ولو امتنع الطاهي عن طهي الطعام لما كانت هناك موائد ممتدة، وكل خدمات هؤلا ء
الضعاف تصب عند الغني أو صاحب المال أو صاحب الجاه.
وهكذا نرى أن الكون يحتاج إلى من يملك الثورة ـ ولو عن طريق الميراث ـ ليصرف على
من يحتاجه المجتمع أيضاً، وهم الضعاف الذين يعطون الخير من كدِّهم وإنتاجهم.
إذن: فالضعفاء هم تتمة السيادة.
وحين نمعن النظر لوجدنا أن سيادة الثَّريِّ أو صاحب الجاه إنما تأتي نتيجة
لمجهودات من يقال عنهم: إنهم أراذل.
ولو أنهم تخلَّوا عن الثرى أو صاحب الجاه، لما استطاع أن يكون سيداً. ويذكر لنا
الحق سبحانه بقية ما قاله الملأ الكافر من قوم نوح:
} وَمَا نَرَىا لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ { [هود:
27].
وهم ـ بهذا القول ـ قد أنكروا أن سيادتكم إنما نشأت بجهد من قالوا عنهم إنهم
أراذل، وأنكروا فضل هؤلاء الناس.
ويُلفتنا الحق سبحانه وتعالى إلى الآفة الي تنتاب بعض المجتمعات حين يذكر لنا ما
قاله الكافرون:
{ وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـاذَا الْقُرْآنُ عَلَىا رَجُلٍ مِّنَ
الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا
بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ
فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً }[الزخرف: 31ـ
32].
إذن: فالحق سبحانه هو الذي قسم المعيشة، وآفة الحكم أن ننظر إلى المرفوع على أنه
الغنى، لا، فليس المرفوع هو الغنى، بل هو كل ذي موهبة ليست في سواه.
وما دام مرفوعاً في مجال فهو سيخدم غيره فيه، وغيره سيخدمونه فيما رُفعوا فيه؛ لأن
المسألة أساسها التكامل.
لذلك لا يُديم الله سبحانه غِنَى أحدٍ أبد الدهر، بل جعل الدنيا دُوَلاً بين
الناس.
إذن: فلو عرف هذا الملأ الكافر من قوم نوح ـ عليه السلام ـ معنى كلمة الفضل لما
قالوها؛ لأن الفضل هو الزائد عن المطلوب للكائن، في المحسوسات أو المعاني والفضل
يقتضي وجود فاضل ومفضول.
ولينظر كل طاغية في حياته ليرى ما الفاضل فيها؟
إنه بعض من المال أو الجاه، وكل مَنْ يخدم هذا الطاغية هم أصحاب الفضل؛ لأن سيادة
الطاغية مبنية على عطائهم.
فهم أصحاب الفضل، ما دام الفضل هو الأمر الزائد عن الضروري.
إذن: فحقيقة ارتباط العالم بعضه ببعض، هو ارتباط الحاجة لا ارتباط السيطرة، ولذلك
حين نرى مسيطراً يطغى، فنحن نقول له: تعقَّل الأمر؛ لأنك ما سيطرت إلا بأناس من
الأراذل، فإظهار قوته تكون بمن يُجيدون تصويب السلاح، أو بمن تدربوا على إيذاء
البشر، فهو يبني سيادته ببعض الأراذل، كوسائل لتحقيق سيطرته.
وقول الكافرين من ملأ نوح ـ عليه السلام ـ:
} وَمَا نَرَىا لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ { [هود: 27].
يكشف أنهم قد فهموا الفضل على أنه الغِنَى، والجاه والمناصب، وهم قد أخطأوا الفهم.
ويُنهي الحق سبحانه الآية بقوله:
} بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ { [هود: 27].
والظن هو الراجح، والمرجوح هو الوهم؛ وهذا يثبت أن في الإنسان فطرة تستيقظ في
النفس كومضات فالمتكبر يمضي في كبره إلى أن تأتي له ومضة من فطرته، فيعرف أن الحق
حق، وأن الباطل باطل.
وحين جاءت هذه الومضة في نفوس هذا الملأ الكافر، قالوا:
} بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ { [هود: 27].
ولم يقولوا: " نعتقد أنكم كاذبون ".
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } قَالَ ياقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ {.
(/1487)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28)
وقول نوح عليه السلام: { أَرَأَيْتُمْ } أي: أخبروني إن كنت على بين موهوبة من
الله تعالى ونور وبصيرة وفطرة بالهداية، وآتاني الحق سبحانه: { رَحْمَةً } أي:
رسالة، بينما خفيت هذه المسألة عنكم، فهل أجبركم على ذلك؟ لا؛ لأن الإيمان لا بد
أن يأتي طواعية بعد إقناع ملموس، وانفعال مأنوس، واختيار بيقين.
وحين ننظر في قوله:
{ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ } [هود: 28].
نجد الهمزة الاستفهامية ثم الفعل " نلزم " ثم كاف المخاطبة، وهنا نكون
أمام استفهام، وفعل، وفاعل مطمور في الفعل، ومفعول أو هو كاف المخاطبة، ومفعول ثان
هو الرحمة.
إذن: فلا إلزام من الرسول لقومه بأن يؤمنوا؛ لأن الإيمان يحتاج إلى قلوب، لا
قوالب، وإكراه القوالب لا يزرع الإيمان في القلوب.
والحق سبحانه يريد من خلقه قلوباً تخشع، لا قوالب تخضع، ولو شاء سبحانه لأرغمهم
وأخضعهم كما أخضع الكون كله له، سبحانه القائل:
{ أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَآءُ }[النازعات: 27].
فالحق سبحانه وتعالى أخضع السماء والشمس والقمر، وكلَّ الكون، وهو سبحانه يقول
لنا:
{ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ }[غافر: 57].
والكون كله يخضع لمشيئة الله سبحانه وتعالى.
وقد خلق الحق سبحانه الملائكة وهم جنس أعلى من البشر، وقال سبحانه عنهم:
{ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ
}[التحريم: 6].
إذن: فالحق سبحانه وتعالى لو أراد قوالب لأخضع الخلق كلهم لعبادته، ولكنه سبحانه
وتعالى يريد قلوباً تخشع؛ ولذلك يقول تبارك وتعالى:
{ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ * إِن نَّشَأْ
نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا
خَاضِعِينَ }[الشعراء: 3ـ4].
وهكذا نعلم أن الحق سبحانه مُنَزَّهٌ عن رغبة أخضاع القوالب البشرية، بل شاء
سبحانه أن يجعل الإنسان مختاراً؛ ولذلك لا يُكْرِهُ الله سبحانه أحداً على
الإيمان.
والدِّين لا يكون بالإكراه، بل بالطواعية والرضا.
والحق سبحانه وتعالى هو القائل:
{ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ }[البقرة:
256].
وهكذا يطلب الحق سبحانه من الخلق أن يعرضوا أمر الإيمان على العقل، فالعقل
بالإدراك ينفعل متعجباً لإبداع المبدع، وعند الإعجاب ينزع إلى اختياره بيقين
المؤمن.
يقول الحق:
{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ
لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ }[آل عمران: 190].
والإكراه إنما يكون على أمر غير مُتَبَيَّن، أما الدِّين فأمر يتبيَّن فيه الرشد؛
لأن المنهج حين يطلب منك ألا تسرق غيرك، فهو يضمن لك ألا يسرقك الغير، وحين يأمرك
ألا تنظر إلى محارم غيرك، فهو يحمي محارمك، وحين يأمرك ألا تغتاب أحداً، وألا تحقد
على أحد، ففي هذا كله راحة للإنسان.
إذن: فما يطلبه المنهج هو كل أمر مريح للإنسان، وأنت إن نظرت في مطلوبات المنهج
فلن تجدها مطلوبة منك وحدك، ولكن مطلوبة من الناس لك أيضاً.
وهو تبادل مراد من الله لإعمار الكون أخذاً وعطاء.
ولذلك لا يحتاج مثل هذا الرشد إلى إكراه عليه، بل تجد فيه البينة واضحة فاصلة بينه
وبين الغَيِّ.
والآفة أن بعضاً من الناس يستخدمون هذه الآية في غير موضعها، فحين تطلب من مسلم أن
يصلِّي تجده يقول لك:
{ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ }[البقرة: 256].
ولك أن تقول له: لا إكراه في الحَمْل على الدِّين والإيمان به، لكنك إذا آمنت
بالدِّين فإياك أن تكسره، بتعطيل منهجه أو الإعراض عنه.
ولذلك يشدِّد الحق سبحانه عقوبة الخروج من الدين؛ لأن الحق سبحانه لم يُكرِه أحداً
على الدخول في الدين، بل للإنسان أن يفكر ويتدبر؛ لأنه إن دخَل في الدين وارتكب
ذنباً فسيلقى عقاب الذنب؛ لأنه دخل برغبته واختاره بيقينه، فالمخالفة لها عقابها.
إذن: فالدخول إلى الإيمان لا إكراه فيه، ولكن الخروج من الدين يقتضي إقامة الحد
على المرتدِّ ومعاقبة العاصي على عصيانه.
وعندما يعلم الجميع هذا الأمر فهم يعلمون أن الحق سبحانه وتعالى قد جعل الصعوبة في
الدخول إلى الدين عن طريق تصعيب آثار الخروج منه.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك على لسان نوح عليه السلام: } وَياقَوْمِ لا
أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً {
(/1488)
وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29)
ومثل هذا القول بمعناه جاء مع كل رسول، ففي مواضع أخرى يقول الحق سبحانه:
{ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً }[الأنعام: 90].
لأن العِوَض في التبادل قد لا يكون مالاً، بل قد يكون تمراً، أو شعيراً أو قطناً
أو غير ذلك، والأجر ـ كما نعلم ـ هو أعم من أن يكون مالاً أو غير مال؛ لذلك يقول
الحق سبحانه هنا:
{ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ } [هود:
29].
وهكذا نجد أن الحق سبحانه قد أغْلَى الأمر.
وقول الرسول:
{ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ } [هود: 29].
هو قول يدل على أن الأمر الذي جاء به الرسول هو أمر نافع؛ لأن الأجرة لا تستحق إلا
مقابل المنفعة.
ونحن نعلم أن مبادلة الشيء بعينه أو ما يساويه؛ تُسمَّى شراء، أما أن يأخذ الإنسان
المنفعة من العين، وتظل العين ملكاً لصاحبها، فمن يأخذ هذه المنفعة يدفع عنها
إيجاراً، فكان نوحاً عليه السلام يقول: لقد كنت أستحق أجراً لأنني أقدِّم لكم
منفعة، لكنني لن آخذ منكم شيئاً، لا زُهْداً في الأجر، ولكني أطمع في الأجر ممن هو
أفضل منكم وأعظم وأكبر.
ولأن هذا الملأ الكافر قد وصف من اتبع نوحاً بأنهم أراذل؛ لذلك ياتي الرد من نوح
عليه السلام:
{ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ } [هود: 29].
ويوضح هذا الرد أن نوحاً عليه السلام لا يمكن أن يطرد إنساناً من حظيرة الإيمان
لأنه فقير، فاليقين الإيماني لا علاقة له بالثروة أو الجاه أو الفقر والحاجة.
ولا يُخْلِي رسولٌ مكاناً من أتباعه الفقراء ليأتي الأغنياء، بل الكلُّ سواسية
أمام الله سبحانه وتعالى.
والحق سبحانه يقول:
{ وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ
يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ
حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ
}[الأنعام: 52].
وقد جعل الحق سبحانه هؤلاء الذين يطلق عليهم كلمة " أراذل " فتنة، فمن
تكبَّر بسبب فقر وضعف أتباع الرسل، فليغرق في كِبْره.
لذلك يقول الحق سبحانه:
{ وَكَذالِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَـاؤُلاءِ مَنَّ
اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ
}[الأنعام: 53].
وأيضا يأمر الحق سبحانه رسوله بأن يضع عينه على هؤلاء الضعاف، وألا ينصرف عنهم أو
عن أي واحد منهم، فيقول الحق سبحانه:
{ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ
وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ }[الكهف: 28].
جاء هذا القول حتى لا ينشأ فساد أو عداء بين المؤمنين برسول الله صلى الله عليه
وسلم، ولا يقال: " فلان مُقَرَّبٌ منه "؛ ولذلك كان صلى الله عليه وسلم
إذا جلس؛ يوزع نظره على كل جلسائه، حتى يظن كل جالس أن نظره لا يتحول عنه.
وفي هذه الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سحبانه وتعالى على
لسان سيدنا نوح ـ عليه السلام ـ وصفاً لهؤلاء الضعاف الذين آمنوا:
} إِنَّهُمْ مُّلاَقُواْ رَبِّهِمْ { [هود: 29].
وفي هذا بيانٌ أن نوحاً ـ عليه السلام ـ لن يطرد هؤلاء الضعاف المؤمنين، فلو طردهم
وهم الذين سيلقون الله تعالى، أيسمح نوح عليه السلام أن يقال عنه أمام الحق ـ
تبارك وتعالى ـ إنه قد طرد قوماً آمنوا رسالته؟ طبعاً لا.
ونحن نعلم أن الحق سبحانه يحاسب رسله، والمرسَل إليهم، فهو سبحانه القائل:
{ فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ
}[الأعراف: 6].
إذن: فنوح ـ عليه السلام ـ يعلم أنه مسئول أمام ربه، ولكن هذا الملأ الكافر من
قومه يجهلون؛ ولذلك يقول الحق سبحانه في نهاية هذه الآية الكريمة على لسان نوح
عليه السلام:
} وَلَـاكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ { [هود: 29].
أي: أنهم لا يفهمون مهمة نوح عليه السلام، وأنه مسئول أمام ربه.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: } وَياقَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ {
(/1489)
وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30)
وهنا يوضِّح نوح عليه السلام أنه لا يقدر على مواجهة الله إن طرد هؤلاء الضعاف؛
لأن أحداً لن ينصر نوحاً على الله ـ عز وجل ـ لحظة الحساب، فهناك يوم لا ملك فيه
لأحد إلا لله، ولا أحد يشفع إلا بإذنه سبحانه، ولا أحد بقادر على أن ينصر أحداً
على الله تعالى؛ لأنه القاهر فوق كل خلقه،
والنصر ـ كما نعلم ـ يكون بالغلبة، أما الشفاعة فهي بالخضوع، والحق سبحانه لا يأذن
لأحد أن يشفع في طرد مؤمن من حظيرة الإيمان.
وفي هذا القول تذكير من نوح عليه السلام لقومه؛ ولذلك قال الحق سبحانه:
{ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } [هود: 30]
أي: يجب ألاَّ تأخذكم الغفلة، وتُنسيكم ما يجب أن تتذكروه.
وكما جاء الحق سبحانه بالتذكُّر، وهو الأمر الذي بدوامه يبعد الإنسان الغفلة، جاء
الحق سبحانه أيضاً بالتفكُّر، وهو التأمل لاستنباط شيء جديد عن طريق إعمال العقل
بالتفكر، الذي يجعل الإنسان في تأمل يقوده إلى تقديس وتنزيه الخالق، وبهذا يصل
الإنسان إلى الحقائق التي تكشف له معالم الطريق.
وجاء الحق ـ سبحانه ـ أيضاً بالتدبر، أي: ألا يأخذ الإنسان الأمور بظواهرها، أو أن
ينخدع بتلك الظواهر، بل لا بد من البحث في حقائق الأشياء.
لذلك يقول الحق جَلَّ وعَلاَ:
{ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ }[النساء: 82].
أي: أفلا يبحثون عن الكنوز الموجودة في المعطيات الخلفية للقرآن.
والتدبر هو الذي يكشف المعاني الخفية خلف ظواهر الآيات، والناس يتفاضلون في تعرضهم
لأسرار كتاب الله حين ينظرون خلف ظواهر المعاني.
ولذلك نجد عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: " ثَوِّروا القرآن "
أي: قَلِّبوا معاني الآيات لتجدوا ما فيها من كنوز، ولا تأخذوا الآيات بظواهرها،
فعجائب القرآن لا تنقضي.
ويقول الحق سبحانه وتعالى مواصلاً ما جاء على لسان سيدنا نوح: { وَلاَ أَقُولُ
لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ }
(/1490)
وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)
وهكذا يَسُدُّ نوح ـ عليه السلام ـ على هذا الملأ الكافر كل أسباب إعراضهم عن
الإيمان، فإن ظنوا أن الإيمان يتطلب ثراءً، فنوح لا يملك خزائن لله، وهو لا يملك
أكثر من هذا الملأ، وإن طلبوا أن يكشف لهم الغيب، فالغيب علمه عند الله تعالى
وحده.
ولم يَدَّعِ نوح أنه من جنس آخر غير البشر، إنما هو بشر مثلهم، لا يملك ما يجبرهم
به على الطاعة، ثراءً، أو جاهاً، أو علم غيب.
ولن يطرد نوح عليه السلام مَنْ آمن مِنَ الضِّعاف الذين تزدريهم وتحتقرهم وتتهكَّم
عليهم عيون هذا الملأ الكافر؛ لأن نوحاً يخشى سؤال الله ـ عَزَّ وجَلَّ ـ له إن
سَدَّ في وجوه الضعاف أبواب الإيمان.
ولا بد من وقفة هنا عند قول الحق سبحانه:
{ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ
أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن
يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً } [هود: 31].
ونلحظ هنا أن الخطاب قد حُوِّل إلى الغَيبة، فلم يخاطب نوح عليه السلام الضعاف
ويقول لهم: إن الله سيمنع عنكم الخير، ذلك لأن الله سبحانه وتعالى هو العليم بما
في نفوسهم، ولو قال نوح لهم مثل هذا القول لكان من الظالمين.
واللام في كلمة { لِلَّذِينَ } تعني الحديث عن الضعاف، لا حديثاً إلى الضعاف.
ومجيء " اللام " بمعنى " عن " له نظائر، مثل قول الحق سبحانه:
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ إِنْ هَـاذَآ إِلاَّ
سِحْرٌ مُّبِينٌ }[سبأ: 43].
وهم هنا لا يقولون للحق، ولكنهم يقولون عن الحق، وهكذا جاءت " اللام "
بمعنى " عن ".
وهكذا أوضح نوح ـ عليه السلام ـ أنه لو طرد من يقال عنهم " أراذل " ،
لكان معنى ذلك أنه يعلم النوايا، ونوح ـ عليه السلام ـ يعلم يقيناً أن الله هو
الأعلم بما في النفوس؛ لذلك لا يضع نوح نفسه في موضع الظلم لا لنفسه ولا لغيره.
يقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك: { قَالُواْ يانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا
فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا }
(/1491)
قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32)
والجدال هو قول كلام يقابل كلاماً آخر، والقصد عند كل طرف متكلم أن يزحزح الطرف
الآخر عن مذهبه بحجة أو بشبهة، بهدف إسقاط المذهب.
إذن: فالجدال هو مناقشة طرفين، يتقاسمان الكلام بهدف أن يقنع أحدهما الآخر بأن
ينصرف عن مذهبه هو إلى مذهب القائل.
وكلمة " الجدال " مأخوذة من " الجَدْل " أي: الفَتْل، وفتل
الحبل إنما يأتي من أخذ شعرات من الكتان أو الحرير أو أي مادة مثل هذا أو ذاك، ثم
ضَمِّ شعرتين إلى بعضهما، ثم القيام بِلَفِّ كل شعرتين أخريين، وهكذا حتى يتم
اكتمال الحبل.
ويقال للرجل القوي: " مفتول العضلات " ، أي: أن عضلاته ليست رخوة أو
ضعيفة، بل مفتولة، أي: متداخلة ومشدودة.
وحين تنظر إلى الجهاز العضلي فأنت تندهش لقدرة الحق سبحانه وتعالى الذي خلق كل
عضلة بشكل وأسلوب معين، يتيح لها أن تتآزر وتتعاون مع غيرها من العضلات لأداء
الحركات المطلوبة منها.
فحين يرفع الإنسان رأسه فهو يحتاج لحركة أكثر من عضلة، وحين تعمل اليد فهي تحرك
أكثر من عضلة، ولو تعطلت حركة عضلة واحدة، لامتنعت الحركة المقابلة لها.
وهم قد قالوا لنوح عليه السلام:
{ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا } [هود: 32].
ونحن نعلم أن نوحاً عليه السلام عاش ألف عام إلا خمسين عاماً، ومعنى ذلك أن جداله
معهم أخذ وقتاً طويلاً.
والجدال يختلف عن المِرَاء، لأن الجدال إنما يكون لحقٍّ، والمراء، يكون بعد ظهور
الحق.
الجدال ـ إذن ـ مطلوب، والحق سبحانه هو القائل:
{ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ }[النحل: 125].
وكذلك يقول سبحانه وتعالى:
{ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي
إِلَى اللَّهِ }[المجادلة: 1].
إذن: فالجدال مطلوب لنصل إلى الحق، شرط أن يكون جدلاً حسناً، لا احتكاك فيه ولا
إيذاء.
وهناك فارق بين احتكاك الآراء، وتحكُّك الآراء، فالتحكك كالتلكَّك، وهو الرغبة في
عدم الوصول إلى الحق، لكن الاحتكاك هو الذي يوصل إلى الحق، مثلما نحكُّ الزناد
بقطعة من حديد فتولد الشرر لنرى الحق، أما التحكُّك فهو يواري ويطمس الحقيقة.
والمِرَاء هو الجدَال بعد أن يظهر الحق، وهو مأخوذ من مَرَى الضَّرع، فحينَ يقومون
بإنزال اللبن من ضرع الناقة أو البقرة، فالضرع يكون ملآن، وينزل منه اللبن بشدة
وقوة، وبعد أن ينتهي حَلْبُ الضرع، يظل مَنْ يحلبها مُمْسِكاً بحَلَمات الناقة أو
الجاموسة، ويستحلب ما بقى من اللبن، ويُقال لهذا الجزء الأخير " المريى
".
ولذلك أخذوا من هذه العملية كلمة " المراء " ، وهو ما بعد ظهور الحق.
وهناك بجانب الجدال والمراء، والاحتكاك، والتحكُّك، والحِجَاج؛ والمراد بالحجاج هو
إظهار حجة الخصم على الخصم.
وبعد أن مَلُّوا من جدال نوح ـ عليه السلام ـ طلبوا أن ينزل بهم العذاب الذي
أنذرهم به، وقد استبطأوا مجيء هذا العذاب؛ لأن نوحاً عليه السلام عاش بينهم ألف
سنة إلا خمسين، وقالوا:
{ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } [هود: 32].
وكأنهم ـ بهذا القول ـ قد أخرجوا نوحاً مَخْرج من بيده أن يأتي بالعذاب، أو يمنع
العذاب، وهذه مسألة لا يملكها نوح، بل هي مِلْك لله سبحانه وتعالى.
ولذلك يُنبههم نوح عليه السلام: { قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ }
(/1492)
قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33)
لأن الحق سبحانه هو الذي يقدِّر للعذاب أواناً، ويقدِّر لكل تعذيب ميلاداً، ولا
يَعْجَلُ الله بعجلة العباد حتى تبلغ الأمور ما أراد.
وهم لن يعجزوا الله تعالى ولن يفلتوا منه؛ لأنه لا توجد قوة في الكون يمكن أن تمنع
مشيئة الله تعالى، أو أن تتأبَّى عليه.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك على لسان نوح عليه السلام: { وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي
إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمَْ }
(/1493)
وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)
والمعنى هنا: إن كان الله سبحانه يريد أن يغويكم فلن تنتفعوا بالنصيحة إن أردت أن
أنصحكم؛ لأن الآية بها تعدُّد الشرطين.
ومثال ذلك من حياتنا: حين يطرد ناظر المدرسة طالباً، عقاباً له على خطأ معين،
فالطالب قد يستعطف الناظر، فيقول الناظر: " إن جئتني غداً أقبل اعتذارك إنْ
كان معك والدك ".
وقول الناظر: " إن كان معك والدك " هو شرط متأخِّر، ولكنه كان يجب أن
يتقدَّم.
وفي الآية الكريمة ـ التي نحن بصددها ـ جاء الشرط الأول متأخِّراً، ولكن هل يغوي
الله سبحانه عِبادَه؟
لا، إنه سبحانه يهديهم، والغواية هي الضلال والبعد عن الطريق المستقيم.
والحق سبحانه يقول عن محمد صلى الله عليه وسلم:
{ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىا }[النجم: 2].
وقال سبحانه عن آدم عليه السلام حين أكل من الشجرة:
{ وَعَصَىا ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىا }[طه: 121].
ونحن يجب ألاَّ نقع في الآفة التي يخطىء البعض بها، حين يستقبلون ألفاظ العقائد
على أساس ما اشتهر به اللفظ من معنى؛ فالألفاظ لها معانٍ متعددة.
لذلك لا بد أن نعرض كل معاني اللفظ لنأخذ اللفظ المناسب للسِّياق.
ومثال ذلك هو قول الحق سبحانه:
{ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُواْ
الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً }[مريم: 59].
وقوله سبحانه هنا: { فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً }.
أي: سوف يلقون عذاباً، لأن غَيَّهم كان سبباً في تعذيبهم، فسمَّى العذاب باسم
مُسبِّبه.
ومثل قول الحق سبحانه:
{ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا }[الشورى: 40].
والحق سبحانه لا يُسيء لعباده ، ولكنهم هم الذين يُسيئون لأنفسهم، فسمَّى ما
يلقاهم من العذاب سيئةً.
وكذلك " الغَيُّ " يرد بمعنى " الإغواء " ، ويرد بمعنى الأثر
الذي يترتب عن الغي من العذاب.
وقد عرض الحق سبحانه وتعالى في كتابه صوراً متعددة للإغواء، فآدم عليه السلام حين
تَنكَّبَ عن الطريق، وأكل من الشجرة المحرَّمة رغم تحذير الحق سبحانه له ألاّ
يقربها، قال الحق سبحانه وتعالى في هذا الموقف:
{ وَعَصَىا ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىا }[طه: 121].
وقد فعل آدم عليه السلام ذلك بحكم طبيعته البشرية، فأراد الله تعالى أن يعلمه أنه
إذا خالف المنهج في " افعل " و " لا تفعل " ستظهر عورته وتبدو
له سوءاته.
وهكذا أخذ آدم عليه السلام التجربة ليكون مُستعِداً لاستقبال المنهج والوَحْي.
وقد ذكر لنا الحق سبحانه كلمات الشيطان بقوله:
{ قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ
وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ }[الحجر: 39].
ولكن هل أغوى الله ـ سبحانه ـ الشيطان؟
إن الحق سبحانه لا يُغْوِي، ولكنه يترك الخيار للمكلَّف إن شاء أطاع، وإن شاء
عَصَى.
ولو أنه سبحانه وتعالى جعلنا مؤمنين لما كان لنا اختيار، فإن أطاع الإنسان نال
عطاء الله، وإن ضَلَّ، فقد جعل الله له الاختيار، ووَجَّهه لغير المراد مع صلاحيته
للمراد.
إذن: فالاختيار ليس مقصوراً على الإغواء بل فيه الهداية أيضاً، والإنسان قادر على
أن يهتدي، وقادر على أن يضلَّ.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ
}
(/1494)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)
جاء هذا القول في صُلْب قصة نوح ـ عليه السلام ـ وقد يكون مما أوحى به الله سبحانه
لنوح عليه السلام، أو يكون المراد به أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم
هذا الكلام.
والافتراء ـ كما نعلم ـ هو الكذب المتعمِّد الذي يناقض واقعاً.
وانظروا إلى كل ما جاء بالمنهج ليلتزم به الفرد، ستجدون أنه مُلْزِمٌ للجميع،
وستكون الفائدة التي تعود عليك بالتزام الجميع ـ بما فيهم أنت ـ فائدة كبيرة، فإن
قال لك المنهج: لا تسرقْ؛ فهذا أمانٌ لك من أن يسرقك الناس.
ولذلك فساعة تسمع للمنهج، لا تنظرْ إلى المأخوذ منك، بل التفتْ إلى المأخوذ لك.
وعلى ذلك لا يمكن أن يكون المنهج افتراء.
ونحن نعلم أن المنهج يؤسِّس في المجتمعات مقاييس عادلة للاستقامة، وحين يُشَرِّع
الحق سبحانه تشريعاً، قد يبدو لك أنه يُحِدُّ من حريتك، ولكنه في الواقع يُحقِّق
لك منافع متعدِّدة، ويحميك من أن يعتدي الآخرين عليك.
وكان الردُّ على الاتهام بالافتراء يتمثَّل في أمرين: إما أن يفتروا مثله، أو أن
يتحمَّل هو وِزْرُ إجرام الافتراء.
وإن لم يكن قد افتراه، فعليهم يقع وِزْرُ إجرامهم باتِّهامه أنه قد افترى.
وأسلوب الآية الكريمة يحذف عنهم البراءة في الشطر الأول منها، ولو جاء بالقول دون
احتباك، لقال سبحانه: قل إن افتريته فعليَّ إجرامي وأنتم براءه منه، وإنْ لم
أفْتَرِ فعليكم إجرامكم وأنا برىء.
وجاء الحذف من شِقِّ المقابل من شِقِّ آخر، وهذا ما يسمَّى في اللغة "
الاحتباك ".
والحق سبحانه وتعالى يقول:
{ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ }[البقرة:
249].
والفئة القليلة تكون قلَّتُها في الأفراد والعَتَاد وكلِّ لوازم الحرب، والفئة
الكثيرة، تظهر كثرَتها في العُدَّة والعَدَد وكلِّ لوازم الحرب، والفئة القليلة
إنما تَغْلِب بإذن الله تعالى.
وهكذا يوضِّح الحق سبحانه أن الأسباب تقضي بغلبة الفئة الكثيرة، لكن مشيئته سبحانه
تغلب الأسباب وتصل إلى ما شاءه الله تعالى.
ولذلك يقول الحق سبحانه في آية أخرى:
{ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَىا كَافِرَةٌ }[آل عمران: 13].
وحذف سبحانه صفة الإيمان عن الفئة الأولى، كما حذف عن الفئة الثانية صفة أنها
تقاتل في سبيل الطاغوت والشيطان، وهذا يسمَّى " الاحتباك ".
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها قال الحق سبحانه:
{ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا
تُجْرِمُونَ } [هود: 35].
ولكن الحق سبحانه وتعالى شاء أن يبين لنا قول رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم
حين خاطب قومه، فقال سبحانه:
{ قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ
}[سبأ: 25].
فلم يَقُلْ: " عَمَّا تُجرمون ". فلم يقابل إيذاءهم القوليَّ والمادِّيَّ
له بإيذاء قوليٍّ.
وكذلك ذكر الحق سبحانه ما جاء على لسان محمد صلى الله عليه وسلم:
{ وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىا هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }[سبأ: 24].
وهذا ارتقاء في الجدل يناسب رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أنزلها الله
على العالم كله.
وبعد ألف عام إلا خمسين من جدال نوح عليه السلام لقومه، قال له الحق سبحانه
وتعالى: { وَأُوحِيَ إِلَىا نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ }
(/1495)
وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
ومجيء " إلا " هنا ليس للاستثناء، ولكنها اسم بمعنى " غير "
أي: لن يؤمن من قومك غير الذي آمن.
ولهذا نظير في قمة العقائد حين قال الحق سبحانه:
{ لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا }[الأنبياء: 22].
و " إلا " هنا أيضاً بمعنى " غير " ، ولو كانت " إلا
" بمعنى الاستثناء لعنى ذلك أن الله سبحانه ـ معاذ الله ـ سيكون ضمن آلهة
آخرين، لذلك لا يصلح هنا أن تكون " إلا " للاستثناء، بل هي بمعنى "
غير " ، وتفيد معنى الوحدانية لله عَزَّ وجَلَّ وتَفرُّده بالألوهية.
والآية التي نتناولها بخواطرنا تؤكد أنه لا يوجد غير من آمن بنوح ـ عليه السلام ـ
من قومه، سوف يؤمن؛ فقد ختم الله المسألة.
وهذا يعطينا تبريراً لاجتراء نوح ـ عليه السلام ـ على الدعاء على الذين لم يؤمنوا
من قومه بقوله:
{ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِن
تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً
}[نوح: 26ـ 27].
وكان تبرير ذلك أنه عليه السلام قد دعاهم إلى الإيمان زماناً طويلاً فلم يستجيبوا،
وأوحى له الله تعالى أنهم لن يؤمنوا، وقال له سبحانه:
{ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [هود: 36].
والابتئاس هو الحزن المحبط، وهم قد كفروا وليس بعد الكفر ذنب.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: { وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا }
(/1496)
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)
وهكذا علم نوح بمسألة الإغراق من خلال الوحي له بصنع السفينة. ومعنى " أصنع
" أي: اعمل الصنعة، وهناك فرق بين الصنعة والحرفة، فالصنعة أنْ تُوجِدَ
معدوماً، كصانع الأكواب، أو صانع الأحذية، أو صانع النَّجَفَ، أو صانع الكراسي،
أما الذي يقوم على صيانة الصنعة فهو الحرفيُّ.
وهناك عملية أخرى للاستنباطات مثل مهنة الزارع الذي يحرث الأرض ويبذر فيها الحَبَّ
ويرويها ليستنبط منها النباتات، ويسمَّى صاحب هذه المهنة " زارع " أو
" فلاَّح "؛ لأن اقتيات الحياة المباشر يأتي من الزراعة.
أما الصانع فيأتي بشيء من متطلبات الحياة، في تطورها ويوجد آلةً أو يصنع جهازاً لم
يكن موجوداً، و الحرفيُّ هو الذي يصون تلك الآلة، أما التاجر فهو الذي يقوم
بعمليةٍ تجمع كل ذلك، ويكون هو الوسيلة بين منتج الشيء والمستهلك، فالتاجر يكون
لعرض الأشياء بغية البيع والشراء.
والحق سبحانه وتعالى يقول هنا لنوح عليه السلام:
{ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ } [هود: 37].
أي: أوجد شيئاً من عدم، إلا أن هذا الشيء سيصنع من شيء آخر موجود، لأن نوحاً عليه
السلام قد زرع من قبل شجرة وعاشت معه كل هذه المدة الطويلة، وتضخَّمت في الجذع
والفروع.
وبدأ نوح عليه السلام في عملية شقِّ الشجرة ليصنع منها السفينة التي بلغ طولها ـ
كما قيل ـ ثلاثمائة ذراع وبلغ عرضها خمسين ذراعاً، وبلغ ارتفاعها ثلاثين ذراعاً
ومكوَّنة من ثلاثة أدوار لتسع المؤمنين، وزوجين من كل نوع من حيوانات الأرض
ودوابِّها وهوامها وسباعها ووحوشها.
ونحن قد علمنا أن الشجرة التي زرعها نوح عليه السلام قد تضخَّمت جداً لطول المدَّة
التي قضاها نوح في دعوته لقومه؛ ونعلم أيضاً أن جذع الشجرة ينمو دائرياً بمقدار
دائرة كل عام. وحين نقطع جذع الشجرة نجد أن قطر الجذع مكوَّن من دوائر، وكل دائرة
تمثِّل عاماً من عمرها.
وهكذا بلغ حجم الشجرة ما يساعد نوحاً عليه السلام على أن يصنع السفينة.
وقد علَّمه الحق سبحانه بالوحي وإلهام الخواطر كيف يصنع السفينة، ألمْ يُلهِم الله
سبحانه نبيِّه داود عليه السلام في مسألة الحديد؟ وقال لنا سبحانه أنه ـ جلَّ
وعَلا ـ قد أمر الجبال أو تُؤَوِّب معه، وكذلك الطير، فألان له الحديد دون نار:
{ ياجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ
اعْمَلْ سَابِغَاتٍ }[سبأ: 10ـ11].
هكذا أخبرنا الحق سبحانه أن الحديد صار ليِّنًا دون نار ـ بإذنه سبحانه ـ ليصنع
منه داود دروعاً كبير مستوفية للظهور والصدر، لتحمي معاطب الإنسان.
وقد أوحى الحق سبحانه لداود عليه السلام أن يصنع تلك الدروع بطريقة عجيبة، بأن
يجعلها سابغات.
والسابغة هي المسرودة، مثل الحصير، حيث يُوضع العُود بجانب العود، ويربط الأعواد
كلها بطريقة تسهل من فَرْد الحصير أو لَفِّه.
وفي نفس الآية يبيِّن لنا الحق سبحانه كيفية الوحي لداود عليه السلام بتلك الصناعة
الدقيقة، فيقول سبحانه:
{ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ }[سبأ: 11].
أي: أنك يا داود حين تنسج الحديد الليِّن ـ بإذن الله تعالى ـ لتجعله دروعاً عليك
أن تصنع تلك الدروع بتقدير دقيق كي لا تكون الدِّرع ضيِّقة على صدر المقاتل فتضيق
حركته، وتقلِّل من قدرته على التنفس، فيلهث بسرعة، ولا يستطيع مواصلة القتال.
وكذلك يجب ألاَّ تكون الدِّرع واسعة على صدر المقاتل؛ حتى لا تساعد سعة الدِّرع
سيف الخصم، فيضرب الدِّرع نفسه صدر المقاتل، وتكون قوة الدِّرع مضافة إلى قوة سيف
الخصم، ولكن حين تكون الدِّرع قادرة على الإحاطة بالجسم دون أن يُكبِّل الحركة،
فهذه الدِّرع المناسبة للقتال.
وقد أتقن داود عليه السلام صناعة تلك الدُّروع بتلك الهندسة الدقيقة التي أوحى
الحق سبحانه بها إليه، فقد صنعها بأمر الحق الأعلى سبحانه حين قال له:{ وَقَدِّرْ
}[سبأ: 11] وكلمة قدر تعطي معنى التقدير والإتقان.
فعلى الذين يصنعون الأشياء عليهم أن يعلموا أن القرآن الكريم لحظة يوجِّه إلى
الإتقان في الأداء والعمل، فإنه يعلمنا طريقة التقدير والإتقان في العمل والإبداع
فيه، لتتخذ من هذا التوجيه نبراساً نسير عليه؛ ليكون العمل صالحاً، وأنت ترى من
يتقن صنعته وهو يقول: " الله " ، وكأن هذا القول اعتراف الفطرة الأولى
بقدرة الحق سبحانه على أن يَهَبَ الإنسانَ طاقة الإتقان والإبداع.
ويقول الحق سبحانه أيضاً في تعليمه لداود عليه السلام:
{ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ }[الأنبياء: 80].
وهكذا يلقي الله تعالى الخاطر في قلب الرسول أو النبي أن " افعل كذا "؛
فيفعل.
وحين ننظر إلى حضارة مصر القديمة، نجد كلَّ علومها وفنونها في التحنيط والألوان
والنَّحت، كانت من اختصاص الكهنة الذين يُمثِّلون السلطة الدينية، ولم يكتب هؤلاء
الكهنة أسرار تلك العلوم، فلم يستطع أحد من المعاصرين أن يتعرف عليها.
وهكذا نجد أن كل أمر في أصوله؛ مصدره السماء.
وفي قصة نوح عليه السلام نجد الحق سبحانه يقول:
} وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي
الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ { [هود: 37].
ومعنى " بأعيننا " هو بحفظنا وبرعايتنا. وكلمة " بأعيننا "
تفيد شمول الحفظ وكمال الرعاية.
ألم يقل الحق سبحانه في مسألة تخصُّ رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم؟
{ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا }[الطور: 48].
وكذلك قال سبحانه في قصة سيدنا موسى عليه السلام:
{ وَلِتُصْنَعَ عَلَىا عَيْنِي }[طه: 39].
وأنقذ الحق سبحانه موسى عليه السلام من الفرعون الذي كان يقتل أطفال بني إسرائيل،
وألقى الله تعالى المحبة لموسى في قلب زوجة الفرعون، وقال سبحانه:
{ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي }[طه: 39].
لأن موسى عليه السلام حين كان طفلاً رضيعاً قد ألقىَ في اليَمِّ، والتقطه رجال
الفرعون، لكن زوجة الفرعون قالت لزوجها طالبة لموسى الحياة:
{ قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ }[القصص: 9].
ونحن نجد أن عَدُوَّ موسى وقومه، يلتقط موسى ليعيش في كنفه ورعايته، وكأن الله
سبحانه يقول لهم: سأجعلكم تُربُّون مَنْ يتولّى قهركم.
وقول الحق سبحانه:
} وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا { [هود: 37].
أي: إنك إن توقَّفتَ لأية عقبة، فسوف نُلهمك بما تُواجه به تلك العقبة.
وحين صنع نوح عليه السلام الفُلْك احتاج لألواح خشبية، ولا بد أن تتماسك تلك
الألواح، ولم تكن مسامير قد اختُرعتْ بَعْدُ، فأوحى له الله تعالى أن يربط الألواح
بالحبال المجدولة، وقد فعل هذا أحد مكتشفي أمريكا في العصر الحديث، حين صنع سفينة
من نبات البَرْدِى وربطها بالحبال المجدولة القوية.
وقال الحق سبحانه في طريقة صنع سفينة نوح عليه السلام:
{ وَحَمَلْنَاهُ عَلَىا ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ }[القمر: 13].
أي: أن نوحاً عليه السلام قد أحضر من الخشب وربطها بحبال مجدولة، وأحْكَمَ الرَّبط
بقدر مقتدر بما لا يسمح بتسرب الماء إلى داخل السفينة.
مثلما تصنع البراميل الخشبية في عصرنا، حيث يصنعها الصانع من قطع خشبية مستطيلة،
ويرتّبها ثم يُحْكم رَبْطَها بإطار قويٍّ، وحين يوضع فيها أي سائل، فالخشب يتشرَّب
من هذا السائل ويتمدَّد ليسدَّ المسَام، فلا ينضح السائل من البرميل؛ لأن الخشب هو
المادة الوحيدة التي تتمدّد بالبرودة على العكس من كل المواد التي تتمدّد
بالحرارة.
ولذلك نجد النَّجَّار الحاذق في صنعته هو مَنْ يصنع الأثاث أو الأبواب أو الشبابيك
في الفصول الرتيبة؛ لأنه إن صنعها في الصيف، سنجد الخشب وهو منكمش؛ فإذا ما جاء
الشتاء تمدَّد ذلك الخشب وسبَّب عدم إحكام إغلاق الأبواب والنوافذ، وكذلك إن صنعها
في الشتاء والخشب متمدِّد سيأتي الصيف وتنكمش الأبواب، وتكون لها متاعبها، فلا
يسهل ضبط إغلاق الأبواب أو ضبط أي صندوق أو شبَّاك بإحكام.
ثم يقول الحق سبحانه:
} وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ { [هود:
37].
أي: لا تحدِّثني في أمر المغفرة لمن ظلموا أنفسهم بالكفر، وهم مَن ارتكبوا الظلم
العظيم، وهو الكفر في القمة العقدية، وهي الإيمان بالله تعالى واحداً أحداً لا
شريك له؛ لذلك استحقوا العقاب، وهو الإغراق.
وهكذا عَلِمَ نوح عليه السلام أنَّ صُنْعِ السفينة مرتبط بلون العقاب الذي سيقع
على مَنْ كفروا برسالته، فهو ومَنْ آمنوا معه سوف ينجون، أما مَنْ كفر فلسوف يغرق.
ويبيِّن الحق سبحانه وتعالى حين يقول: } وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ
عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ {
(/1497)
وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38)
وكان السادة والكبراء من ملأ نوح يمرون عليه وهو يصنع السفينة يسخرون منه، بما
يعني: ها هو بعد أن ادَّعى النبوة يتحوَّل إلى نجَّار، ثم يتساءلون: كيف تصل هذه
السفينة من " الموصل " إلى البحر؟
ولم يكونوا قد علموا ما علمه نوح عليه السلام من أن الماء هو الذي سوف يأتي ليحمل
السفينة.
ونحن نلحظ في قول الحق سبحانه وتعالى:
{ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ } [هود: 38].
تنفيذ الأمر الذي صدر من الله سبحانه وتعالى إلى نوح عليه السلام حين قال سبحانه:
{ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي
الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ }[هود: 37].
ثم يقول الحق سبحانه بعد ذلك: { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ
يُخْزِيهِ }
(/1498)
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39)
ونلحظ في قول الحق سبحانه: { فَسَوْفَ } { تَعْلَمُونَ } أن الفعل الذي يعلمه نوح
عليه السلام وهو أمر الإغراق سيحدث مستقبلاً؛ لأن أي حدث ـ كما نعلم ـ له أكثر من
صورة، فإن جاء الكلام عن الحدث بعد وقوعه؛ كان الفعل ماضياً، وإن جاء الكلام وقت
الحدث كان الفعل مضارعاً.
وإن جاء الكلام عن حدث لم يأت زمنه فالأمر يقتضي أن نسبق الكلام عن الحدث بحرف
" السين " كأن نقول: " سيعلمون " وهذا عن الاستقبال القريب،
أما عن الاستقبال البعيد فتأتي كلمة " سوف ".
ونحن نعلم أن نوحاً عليه السلام قضى العديد من السنين وهو يصنع السفينة؛ ولذلك جاء
بـ " سوف " لتدل على أوسع مَدًى زمنيٍّ.
وما الذي سوف يعلمونه؟ إن العذاب، أيأتي لنوح ومن معه أم يأتي للذين كفروا من ملأ
نوح.
لذلك يقول الحق سبحانه على لسان نوح عليه السلام:
{ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ } [هود: 39].
وفي هذا القول ما يؤكِّد أن نوحاً عليه السلام يعلم أن العذاب سوف يأتيهم؛ لأنهم
كفروا وسَخِروا وقالوا:
{ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ }[هود: 32].
وقول الحق سبحانه:
{ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } هود: 39].
نجد فيه كلمة { يَحِلُّ } وهي ضِدُّ الرحيل، وتفيد النزول من أعلى إلى مكان
الإقامة، فَحَلَّ بالمكان، أي: نزلَ ليقيم به، والضِّدُّ هو الرحيل أو الترحال.
وقول الحق سبحانه: { مُّقِيمٌ } يعني أن العذاب الذي سيحِلُّ بهم عذاب دائم.
ويقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك: { حَتَّىا إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ
التَّنُّورُ }
(/1499)
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آَمَنَ وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)
وكلمة { حَتَّىا } تدل على الغاية وكلمة { أَمْرُنَا } تدل على الطوفان، ثم الأمر
من الحق سبحانه بأن يحمل فيها من كل زوجين اثنين، ومَنْ آمن معه وكانوا قِلَّة قليلة.
إذن: ففي قصة نوح عليه السلام أكثر من مرحلة، أمر من الله تعالى بقوله:
{ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ }[هود: 37].
وعمل من نوح عليه السلام بأن يصنع، وقد استغرق هذا الفعل وقتاً طويلاً من نوح عليه
السلام إلى أن جاء أمر الطوفان الذي يدل عليه قول الحق سبحانه:
{ وَفَارَ التَّنُّورُ } [هود: 40].
ومعنى كلمة { فَارَ } أي: أن الماء قد وصل إلى درجة الغليان.
فالماء يحتوي على هواء بدليل أن السمك يتنفس من الماء، وحين نغلي الماء نرى فقاقيع
الهواء وهي تخرج من الماء، ثم يثقل الماء إلى أن تشتد سخونة الغليان، فيفور الماء
منثوراً خارج إناء الغليان.
و " التنور " هو المكان الذي تتم فيه عملية الخبز، وخروج الماء من
التنور هو علامة مميزة يعلمها نوح عليه السلام ليحمل من يريد نجاتهم، من المؤمنين،
ومن متاع الدنيا كله.
وكانت العلامة هي خروج الماء من غير مَظَانِّه وهو التنور.
واختلف العلماء في تفسير كلمة " التنور " فمنهم من قال: إن التنور هو
المكان الذي كان آدم عليه السلام يخبز فيه، أو هو المكان الذي كانت تعمل فيه حواء،
أو هو بيت نوح، أو هو بيت سيدة عجوز.
وكل تلك التفسيرات لا تفيد ولا تضرُّ، المهم أن فوران التنور كان علامة بين نوح
عليه السلام وربه، وأنه إذا ما فار التنور فعَلَى نوح أن يحمل من كل زوجين اثنين.
وقول الحق سبحانه:
{ احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ } [هود: 40].
تعني: أن يحمل من كل الكائنات، وتدل على ذلك كلمة { كُلٍّ } المنونة ـ وتفيد
التعميم ـ أي: احمل في السفينة من كل شيء، تطلبه حياة الناجين من جميع أصناف
النباتات والحيوانات، حتى الخنزير كان ضمن ما حمله نوح عليه السلام.
والذين يقولون إن تحريم الخنزير جاء؛ لأن نوحاً عليه السلام لم يحمله معه، لم
يفطنوا إلى أهمية الخنزير كحيوان يأكل القاذورات وينظف الأرض منها؛ لأن كل كائن له
مهمة، وليست مهمة الكائنات فقط أن يأكلها الإنسان.
وكلمة:
{ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ } [هود: 40].
تدل على أن كلمة " زَوْجٍ " هي مفرد؛ بدليل قول الحق سبحانه:
{ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا }[النساء: 1].
إذن: كلمة " زَوْجٍ " تعني مفرد معه مثله، كزوج من الأحذية مثلاً.
أقول ذلك حتى لا نأخذ كلمة " الزوج " على أنها اثنان؛ ولذلك نجد الحق
سبحانه يقول في آية أخرى.
{ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ
قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ
أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَمِنَ
الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ }
[الأنعام: 143ـ144].
وحين نجمع العدد سنجده ثمانية، ولو كانت كلمة " زوج " تطلق على الاثنين
لصار العدد في تلك الآية الكريمة ستة عشر.
ويوضِّح القرآن الكريم أن كلمة " زوج " مفرد في قول الحق سبحانه:
{ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىا * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ
فَسَوَّىا * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَىا }[القيامة:
37ـ39].
إذن: فالذكر زوج، والأنثى زوج أيضاً.
وواصل نوح عليه السلام تنفيذ أمر الحق سبحانه:
} احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ
عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ { [هود: 40].
وهكذا شاء الحق سبحانه أن يستبقي الحياة بنجاة كل ما تحتاجه الحياة بالسفينة،
ويقال: إنهم عاشوا في تلك السفينة عامين.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ
مَجْرياهَا وَمُرْسَاهَا {
(/1500)
وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)
هذه هي المرحلة الأخيرة في قصة السفينة، وبدأت القصة بأمر من الله سبحانه لنوح
عليه السلام أن اصنع الفلك، ثم تمهيد من نوح لقومه، ثم ظل يصنع الفلك حتى جاءت
إشارة البدء بعلامة:
{ وَفَارَ التَّنُّورُ }[هود: 40]
وحَمَلَ نوح عليه السلام في الفُلْك ـ بأمر من الله تعالى ـ من كل شيء زوجين
اثنين، وأهله ومَنْ آمن معه.
وقال نوح عليه السلام لمن آمن:
{ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرياهَا وَمُرْسَاهَا } [هود: 41].
وهذا القول منسوب لنوح عليه السلام؛ لأنه أضاف:
{ إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [هود: 41].
والركوب يقتضي أن يكون الراكب على المركوب، ومستعلٍ عليه. والاستعلاء يقتضي أن
يكون الشيء المُستعلَى عليه في خدمة المُستعلِي، فكأن تسخير الله سبحانه للسفينة
إنما جاء ليخدم المستعلِي.
ولكن الله تعالى يقول هنا:
{ ارْكَبُواْ فِيهَا } [هود: 41].
ولم يقل: " اركبوا عليها ".
قال الحق سبحانه وتعالى ذلك؛ ليعطينا لقطة عن طريق صنع السفينة، فقد صنعها نوح
عليه السلام بوحي من الله تعالى على أفضل نظام في البواخر، ولم يصنعها بطريقة
بدائية، فهم ـ إذن ـ لم يركبوها على سطحها، بل تم بناؤها بما يتيح لهم السكن فيها،
خصوصاً وأن تلك السفينة تحمل وحوشاً وهواماً وحيوانات بجانب البشر، لذلك كان لا بد
من بنائها على هيئة طبقات وأدوار.
وقول الحق سبحانه:
{ بِسْمِ اللَّهِ مَجْرياهَا وَمُرْسَاهَا } [هود: 41].
يُبيِّن لنا أنها قد صُنعت لتُنجي من الغرق؛ لذلك لا بد أن تسير بالراكبين فيها
إلى مكان لا يصله الماء، ولا بد أن يكون هذا المكان عالياً؛ ليتيح الرُّسُوَّ، كما
أتاح الفيضان عملية الجريان.
وهكذا كان جريانها باسم الله، ورُسُوُّها بإذنه سبحانه.
وقول نوح عليه السلام:
{ بِسْمِ اللَّهِ مَجْرياهَا وَمُرْسَاهَا } [هود: 41].
يعلِّمنا أن جريانها إنما يتمُّ بمشيئة الله تعالى وأنهم يركبون فيها، لا لمكانتهم
الشخصية، ولكن لإيمانهم بالله تعالى.
ومثال ذلك من حياتنا ـ ولله المثل الأعلى ـ: نجد القاضي يقول مفتتحاً الحكم:
" باسم الدستور والقانون " أي: أنه لا يحكم بذاته كقاضٍ، لكنه يحكم باسم
الدستور والقانون.
ونوح عليه السلام يقول:
{ بِسْمِ اللَّهِ مَجْرياهَا وَمُرْسَاهَا } [هود: 41],
لأن السفينة لله أمر، ولرسوله صناعة.
ولذلك يقال: " كل شيء لا يبدأ باسم الله فهو أبْتر ".
لأنك حين تُقبل على فعل شيء، فالأفعال أو الأحداث تحتاج إلى طاقات متعددة، فإن كان
الفعل عضليّا، فهو يحتاج لقوة، وإن كان الفعل عقليّا فهو يحتاج لفكر ورويَّة
وأناة، وإن كان فعلاً فيه مواجهة لأهل الجاه فهو يحتاج إلى شجاعة، وإن كان من أجل
تصفية نفوس فهو يحتاج إلى الحِلْم؟
إذن: فاحتياجات الأحداث كثيرة ومختلفة، ومن أجل أن تحصل على القوة فقد تقول:
" باسم القوي القادر " ولكي تحصل على علم؛ تقول: " باسم العليم
" ، وتريد الغني؛ فتقول: " باسم الغنيِّ " وحين تحتاج إلى الحلم
تقول: " باسم الحليم " ، وعندما تحتاج إلى الشجاعة؛ تقول: " باسم
القهار ".
وقد يحتاج الفعل الواحد لأشياء كثيرة، والذي يُغْنِي عن كل ذلك أن تنادي ربك
وتتبرَّك باسم واجد الوجود وهو الله سبحانه وتعالى، ففيه تنطوي كل صفات الكمال
والجلال.
وإياك أن تتهيَّب أو تستحي، بل ادخل على كل أمر باسم الله، حتى لو كنت عاصياً؛ لأن
الحق سبحانه رحمن رحيم.
وقول الحق سبحانه على لسان نوح عليه السلام:
} إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ { [هود: 41].
إنما يقصد أن هؤلاء المؤمنين برسالة نوح كانوا من البشر، ولم يطبِّقوا ـ كغالبية
البشر ـ كل التكاليف؛ لأنهم ليسوا ملائكة.
لذلك قَدَّر الحق سبحانه وتعالى إيمانهم وعفا عن بعض الذنوب التي ارتكبوها ولم
يؤاخذهم بها.
هذه هي الميزة في قول: " بسم الله الرحمن الرحيم ".
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك يَصفُ السفينة ورُكَّابها: } وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي
مَوْجٍ كَالْجِبَالِ {
(/1501)
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42)
وجرت بهم السفينة، لا بين موج هائج فحسب، ولكن كان الموج كالجبال، وهذا يدل على
أنها مُسيَّرة بقوة عالية لا تؤثر فيها الأمواج، ثم يجيء الحديث عن عاطفة الأبوة
حين ينادي نوح ابنه:
{ وَنَادَىا نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يابُنَيَّ ارْكَبَ مَّعَنَا وَلاَ
تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ } [نوح: 42].
ورفض الابن مطلب أبيه معتمداً على أن الجبل يحميه.
وفي هذا يقول الحق سبحانه مبيناً مُراد الابن في مُخالفة مراد أبيه: { قَالَ
سَآوِي إِلَىا جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَآءِ }
(/1502)
قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)
هكذا ظن ابن نوح أنه سينجو إن آوى إلى جبل، لعل ارتفاع الجبل يعصمه من الغرق، لكن
نوحاً عليه السلام يعلم أن لا نجاة لكافر، بل النجاة فقط هي لمن رحمه الله
بالإيمان.
وهكذا فرَّق الموج بين نوح وابنه؛ وغرق الابن.
وأراد الحق سبحانه أن يُنهى الكلام عن نوح عليه السلام، فجاء بلقطة استواء السفينة
على الجودي.
ويقال: إن جبل الجودي يوجد في الموصل ويقال: إنه ناحية الكوفة، وإن كان هذا القول
مجرد علم لا ينفع، والجهل به لا يضر.
ويقول الحق سبحانه: { وَقِيلَ ياأَرْضُ ابْلَعِي مَآءَكِ }
(/1503)
وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)
والبلع هو مرور الشيء من الحَلْق ليسقط في الجوف، وساعة أن يأتي في القرآن أمر من
الله تعالى مثل:
{ وَقِيلَ ياأَرْضُ ابْلَعِي مَآءَكِ } [هود: 44].
فافهم أن القائل هو من تَنْصَاع له الأرض.
ولم يَقُل الله سبحانه: " قال الله يا أرض ابلعي ماءك "؛ لأن هناك أصلاً
متعيّناً وإنْ لم يقُله، والحق سبحانه يريد أن ينمِّي فينا غريزة وفطنة الإيمان؛
لأن أحداً غير الله تعالى ليس بقادر على أن يأمر الأرض بأن تبلع الماء.
ويكون أمره سبحانه للسماء: { وَياسَمَآءُ أَقْلِعِي } أي: أن توقف المطر.
وهكذا يُنهي الحق سبحانه الطوفان الذي أغرق الدنيا بأن أوقف المصبَّ، وأعطى الأمر
للمصرف أن يسحب الماء.
ونحن نلاحظ عند سقوط المطر أن شبكة الصرف الصحيِّ تطفح إن كان هناك ما يسدُّ تصريف
الماء؛ لأن أرض المدن حالياً صارت من الأسفلت الذي لا يمتص المياه؛ ولذلك نجد
الجهات المختصة تجنِّد طاقاتها لإصلاح مواسير الصرف الصحي لتمتص مياه المطر حتى لا
تتعطل حركة الحياة.
وأقول هنا: إن حُسن استخدام الماء من حُسن الإيمان؛ لأني ألحظ أن الناس حين
يتوضأون فهم يفتحون صنابير الماء بما يزيد كثيراً عن حاجتهم للوضوء الشرعي، فيجب
ألا نرتكب إثم ترك الماء النقيِّ ليضيع دون جدوى.
وعلى الناس أن يدَّخروا الماء، ولا يُسيئوا استغلاله؛ لأن الماء حين يتوفَّر فهو
يُحيي الأموات، ونحن نحتاج الماء لاستزراع الصحاري، ونحتاج لتخفيف العبء على شبكات
الصرف الصحيِّ.
باختصار؛ نحن نحتاج إلى حُسن استقبال نِعَمِ الله تعالى وحُسن التصرُّف فيها؛
لننعم بها، ونسعد بخيرها.
وقول الحق سبحانه:
{ وَياسَمَآءُ أَقْلِعِي } [هود: 44].
أي: اتركي المطر.. ومن ذلك أخذنا كلمة " قِلْع " الذي يوضع فوق السفن
الشراعية الصغيرة، وهو الشِّراع.
ويُقال: " أقلعت المركب " أي: تركت السكون الذي كانت عليه وهي واقفة على
الشاطىء.
ويقول الحق سبحانه:
{ وَغِيضَ الْمَآءُ } [هود: 44].
وبناها الحق سبحانه هنا للمجهول؛ لنعلم أن الله تعالى هو الذي أمر الماء بأن يغيض.
ومادة " غاض " تُستعمل لازمةً، وتُستعمل متعديةً.
ثم يقول سبحانه:
{ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ } [هود: 44].
أي: استقرت السفينة على جبل الجودي.
ويُنهي الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله:
{ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [هود: 44].
وهو بعدٌ نهائيٌّ إلى يوم القيامة.
وتتحرك عاطفة الأبوة في نوح عليه السلام، ويظهرها قول الحق سبحانه: { وَنَادَى
نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي }
(/1504)
وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45)
وعاطفة الأبوة عاطفة محمودة، والحق سبحانه يشحن بها قلب الأب على قَدْر حاجة
البنوة، ولو لم تكن تلك العاطفة موجودة، لما تحمُّل أيُّ أبٍ أو أيُّ أمٍّ متاعب
تربية الأبناء.
وحتى نعلم أن الأنبياء لا بنوة لهم إلا بنوة الاتِّباع نجد المثل في إبراهيم خليل
الرحمن عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، حين قال فيه الحق سبحانه:
{ وَإِذِ ابْتَلَىا إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ }[البقرة:
124].
أي: أن أداء إبراهيم عليه السلام للتكاليف كان على وجه التمام، مثلما أراد أن يرفع
القواعد من البيت، فرفعها فوق قامته بالاحتيال، فاحضر حجراً ووقف عليه ليُعلي جدار
الكعبة.
وقال له الله تعالى:
{ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً }[البقرة: 124].
لأنك مأمون على منهج الله وقادر على أن تنفِّذه بدقة، فقال إبراهيم عليه السلام:
{ وَمِن ذُرِّيَّتِي }[البقرة: 124].
فقال الحق سبحانه:
{ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }[البقرة: 124].
من هذا نعلم أن النبوَّة ليس لها بنوَّة، بل النبوَّة لها أتباع.
ويتضح ذلك أيضاً في قول إبراهيم عليه السلام بعد أن استقرَّ في ذهنه قول الحق
سبحانه:
{ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }[البقرة: 124].
قال إبراهيم لربه سبحانه طلباً للرزق لمكة وأهلها:
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـاذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ
أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ
}[البقرة: 126].
هكذا طلب إبراهيم عليه السلام الرزق للمؤمنين، لكن الحق سبحانه يبيِّن له أنه نقل
المسألة إلى غير مكانها؛ فالرزق عطاء ربوبية للمؤمن والكافر، لكن تكليفات الألوهية
هي للمؤمن فقط؛ لذلك قال الحق سبحانه:
{ وَمَن كَفَرَ }[البقرة: 126].
أي: أن الرزق يشمل المؤمن والكافر، عطاء من الربوبية.
ونريد أن نقول إنَّ عاطفة الأبوة والأمومة إنما تتناسب مع حاجة الابن تناسباً
عكسيّا، فإن كان الابن قوّياً فعاطفة الأبوة والأمومة تقلُّ.
ومثال ذلك: أننا نجد شقيقين أحدهما غني قائم بأمر الأبوين ويتكفَّل بهما، بينما
الابن الآخر فقير لا يقدر على رعاية الأبوين.
وسنلحظ أن قلب الأب والأم يكون مع الفقير، لا مع الغَنيِّ، فعاطفة الأبوة والأمومة
تكون مع الضعيف والمريض والغائب، وكلما كان الابن في حاجة؛ كانت العاطفة معه.
وفي نداء نوح عليه السلام لربه سبحانه نلحظ أن نوحاً كان يملك المبرِّر طلباً
لنجاة الابن؛ لأن الحق سبحانه أمره بأن يحمل في السفينة من كلٍّ زوجين اثنين وكذلك
أهله، فأراد نوح عليه السلام أن يطلب النجاة لابنه من أهله، فقال:
{ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ
الْحَاكِمِينَ } [هود: 45].
إذن: فنوح عليه السلام يملك حق الدعاء؛ لأنه يطلب تحقيق وعد الله تعالى بأن يحمل
أهله معه للنجاة.
وحين يقول نوح: { وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ } هو إقرار بأن الله سبحانه لا
يخطىء؛ لأن الابن قد غرق، بل لا بد أن ذلك الغرق كان لحكمة.
ويقول الحق سبحانه: { قَالَ يانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ
غَيْرُ صَالِحٍ }
(/1505)
قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)
ويريد الحق سبحانه هنا أن يلفتَ نبيَّه نوحاً إلى أن أهليَّة الأنبياء ليست أهلية
الدم واللحم، ولكنها أهلية المنهج والاتِّباع، وإذا قاس نوح ـ عليه السلام ـ ابنه
على هذا القانون، فلن يجده ابناً له.
ألم يقل نبينا صلى الله عليه وسلم عن سلمان الفارسي: " سلمان منَّا آل البيت
".
إذن: فالبنوة بالنسبة للأنبياء هي بنوة اتِّباع، لا بنوة نَسَب.
وانظر إلى دقة الأداء في قول الله تعالى:
{ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } [هود: 46].
ثم يأتي سبحانه بالعلة والحيثية لذلك بقوله:
{ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } [هود: 46].
فكأن البنوة هنا عمل، وليست ذاتاً، فالذات منكورة هنا، والمذكور هو العمل، فعمل
ابن نوح جعله غير صالح أن يكون ابناً لنوح.
وهكذا نجد أن المحكوم عليه في البنوة للأنبياء ليس الدم، وليس الشحم، وليس اللحم،
إنما هو الاتِّباع بدليل أن الحق سبحانه وصف ابن نوح بقوله تعالى: { إِنَّهُ
عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } ولو كان عملاً صالحاً لكان ابنه.
ويقول الحق سبحانه:
{ فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ
الْجَاهِلِينَ } [هود: 46].
والحق سبحانه يطلب من نوح هنا أن يفكِّر جيِّداً قبل أن يسأل، فلا غبار على
الأنبياء حين يربيِّهم ربُّهم.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: { قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ }
(/1506)
قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47)
وهنا يدعو نوح عليه السلام ربه سبحانه وتعالى أن يغفر له ما قاله، وهو هنا يقرُّ
بأنه لما أحبَّ أن يسأل نجاة ابنه لم يستطع أن يكتم سؤاله، ولكن الحق سبحانه
وتعالى وحده هو القادر على أن يمنع من قبله مثل هذا السؤال، وهذه قمة التسليم لله
تعالى.
وقول نوح عليه السلام:
{ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ } [هود: 47].
يوضِّح لنا أن الإنسان لا يعوذ من شيء بشيء إلا إن كانت قوته لا تقدر على أن تمتنع
عنه.
ولذلك يستعيذ نوح عليه السلام من أن يسأل ما ليس له به علم، ويرجو مغفرة الله
سبحانه وتعالى ورحمته حتى لا يكون من الخاسرين.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: { قِيلَ يانُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ }
(/1507)
قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48)
وقوله الحق سبحانه:
{ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا } [يونس: 48].
يدل على أن نوحاً عليه السلام قد تلقَّى الأمر بالنزول من السفينة ليباشر مهمته
الإيمانية في أرض فيها مقومات الحياة، مما حمل في تلك السفينة من كلٍّ زوجين
اثنين، ومن معه من المؤمنين الذين أنجاهم الله تعالى، وأغرق مَنْ قالوا عليهم إنهم
أراذل.
وقول الحق سبحانه:
{ أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ } [هود: 48].
تضمَّن أهل نوح عليه السلام ومَنْ آمن به، وكذلك أمم الوحوش والطيور والحيوانات
والدواب.
أي: أنها إشارة إلى الأمة الأساسية، وهي أمة الإنسان وإلى الأمم الخادمة للإنسان،
وهكذا توفرت مقومات الحياة للمؤمنين، ويتفرَّغ نوح وقومه إلى المهمة الإيمانية في
الأرض.
وقول الحق سبحانه:
{ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا } [هود: 48].
والمقصود بالسلام هو الأمن والاطمئنان، فلم يَعُدْ هناك من الكافرين ما ينغِّص على
نوح ـ عليه السلام ـ أمره، ولن يجد من يكدِّر عليه بالقول:
{ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا }[هود: 32].
ولن يجد مَنْ يتهمه بالافتراء.
ومَنْ بقي مع نوح هم كلهم من المؤمنين، وهم قد شهدوا أن نجاتهم من الغرق قد تمت
بفضل المنهج الذي بلَّغهم به نوح عن الله تعالى.
وقول الحق سبحانه:
{ وَبَركَاتٍ } [هود: 48].
يعني أن الحق سبحانه يبارك في القليل ليجعله كثيراً.
ويقال: " إن هذا الشيء مبارك " كالطعام الذي يأتي به الإنسان ليكفي
اثنين، ولكنه فوجىء بخمسة من الضيوف، فيكفي هذا الجميع.
إذن: فالشيء المبارك هو القليل الذي يؤدِّي ما يؤدِّيه الكثير، مع مظنَّة أنه لا
يفي.
وكان يجب أن تأتي هنا كلمة { وَبَركَاتٍ } لأن ما يحمله نوح ـ عليه السلام ـ من
كلٍّ زوجين اثنين إنما يحتاج إلى بركات الحق سبحانه وتعالى ليتكاثر ويكفي.
وقول الحق سبحانه:
{ وَعَلَىا أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ
مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } [هود: 48].
هذا القول يناسب الطبيعة الإنسانية، فقد كان المؤمنون مع نوح ـ عليه السلام ـ هم
الصفوة، وبمضيِّ الزمن طرأت الغفلة على بعضٍ منهم، ويأتي جيل من بعدهم فلا يجد
الأسوة أو القدوة، ثم تحيط بالأجيال التالية مؤثرات تفصلهم تماماً عن المنهج.
وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " ينام الرجل النومة فتُقبض الأمانة
من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر الوَكْت، ثم ينام النومة فتُقبض الأمانة من قلبه فيظل
أثرها كأثر المَجْل، كجمر دحرجته على رجلك فنفط، فتراه مُنتبراً، وليس فيه شيء، ثم
أخذ حصى فدحرجه على رجله، فيصبح الناس يتبايعون، لا يكاد أحد يؤدِّي الأمانة، حتى
يقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً، حتى يقال للرجل: ما أجلده! ما أظرفه! ما
أعقله! وما في قلبه مثقال حبة من خَرْدلٍ من إيمان ".
وهكذا تطرأ الغفلة على أصحاب المنهج، ويقول صلى الله عليه وسلم: " تُعرض
الفِتَن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأيّما قلب أشْرِبَها نُكتت فيه نكتة
سوداء، وأيما قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل
الصفا لا تضرُّه فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مُرْباداً كالكوز
مُجَخِّياً لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً إلا ما أشْرِبَ مِنْ هَواه ".
وأعوذ بالله تعالى من طروء فتنة الغفلة على القلوب.
والحق سبحانه يتحدث في هذه الآية عن الذين بقوا مع نوح عليه السلام وهم صفوة من
المؤمنين، لكن منهم من ستطرأ عليه الغفلة، وسيمتِّعهم الله سبحانه وتعالى أيضاً
بمتاع الدنيا، ولن يضنَّ عليهم، ولكن سَيَلحقُهم العذاب.
فإذا ما جاء جيل على الغافلين فهو يخضع لمؤثِّرين اثنين:
المؤثر الأول: غفلته هو.
المؤثر الثاني: أسوة الغافلين من السابقين عليه.
ونحن نعلم أن مِنْ ذرية نوح عليه السلام " قوم عادٍ " الذين أرسل الحق
سبحانه إليهم هوداً عليه السلام، وكذلك " قوم ثمود " الذين أرسل إليهم
أخاهم صالحاً عليه السلام، وقوم لوطٍ، وهؤلاء جميعاً رَانَتِ الغفلة على قلوبهم.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَآ إِلَيْكَ
{
(/1508)
تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)
وكلمة " تلك " إشارة وخطاب، والمخاطب هو رسول الله صلى الله عليه وسلم،
و " التاء " إشارة إلى السفينة وما تبعها من أنباء الغيب، ولم يكن رسول
الله صلى الله عليه وسلم معاصراً لها ولا يعلمها هو، ولا يعلمها أحد من قومه.
وأنت يا رسول الله لم يُعلَم عنك إنك جلستَ إلى معلِّم، ولم يذكر عنك أنك قرأت في
كتاب؛ ولذلك يأتي في القرآن:
{ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَىا مُوسَى الأَمْرَ
}[القصص: 44].
وجاء:
{ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ
مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ }[آل عمران: 44].
إذن: فما دمتَ يا محمد لم تقرأ ولم تتعلَّم عن معلِّم فمَن علَّمك؟
إنما عَلَّمك الله سبحانه.
وكأن الله سبحانه وتعالى علَّم رسوله صلى الله عليه وسلم قصة نوح عليه السلام
وأراد بها إلقاء الأسوة وإلقاء العبرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يثق بأن
كل رسول إنما يصنع حركته الإيمانية المنهجية بعين من الله، وأنه سبحانه لن يسلِّمه
إلى خصومة ولا أعدائه.
ولذلك يأتي القول الكريم: { فَاصْبِرْ }؛ لأنك قد عرفت الآن نتيجة صبر نوح عليه
السلام الذي استمر ألف سنة إلا خمسين، ويأتي بعدها قوله سبحانه:
{ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ } [هود: 49].
تأتي بعد ذلك قصة قوم عاد بعد قصة نوح، ونحن نعلم أن الحق سبحانه وتعالى لا يُرسل
رسولاً إلا إذا عَمَّ الفساد.
إذن: فقد حصلت الغفلة من بعد نوح، وانضمَّت لها أسوة الأبناء بالآباء فانطمس
المنهج، وعزَّ على الموجودين أن يقيموه.
والله سبحانه وتعالى لا يبعث برسلٍ جُددٍ إلا إذا لم يوجد في الأمة من يرفع كلمة
الله؛ لأننا نعلم أن المناعة الإيمانية في النفس الإنسانية قد تكون مناعة ذاتية،
بمعنى أن الإنسان قد تُحدِّثه نفسه بالانحراف عن منهج الله، لكن النفس اللوَّامة
تردعه وتردُّه إلى الإيمان.
أما إذا تصلَّبتْ ذاتُه، ولم توجد لديه نفس لوَّامة، فالمناعة الذاتية تختفي، ولكن
قد يقوم المجتمع المحيط بِلَوْمِهِ.
ولكن إذا اختفت المناعة الذاتية، والمناعة من المجتمع فلا بد أن يبعث ربُّ العزة
سبحانه برسولٍ جديدٍ، وبيِّنة جديدة، وبرهان جديد.
هكذا حدث من بعد نوح عليه السلام.
ولذلك يأتي قول الحق سبحانه: { وَإِلَىا عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً }
(/1509)
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50)
يفتتح الحق سبحانه الآية بتحنينهم ومؤانستهم بالمرسَل إليهم، فيُخبرهم أنه أخوهم،
ولا يمكن للأخ أن يريد لهم العَنَتَ، بل هو ناصح، مأمون عليهم، وعلى ما يبلغهم به.
وحين يقول لهم:
{ ياقَوْمِ } [هود: 50].
فهذا للإيناس أيضاً.
ثم يدعوهم إلى عبادة الله تعالى وحده؛ لأنهم اتخذوا غير الله إلهاً، وهذا قمة
الافتراء.
والله سبحانه لم يقل:
{ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ } [هود: 50].
إلا لأن الفساد قد طَمَّ.
ويقول سبحانه بعد ذلك ما جاء على لسان هود: { ياقَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ
أَجْراً }
(/1510)
يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51)
وكأن هوداً عليه السلام يقول لهم: ما الذي يشقُّ عليكم فيما آمركم به وأدعوكم
إليه، إنني أقدِّم لكم هذا البلاغ من الله تعالى، ولا أسألكم عليه أجراً، فليس من
المعقول أن أنقلكم مما ألفتم، ثم آخذ منكم مالاً مقابل ذلك، ولا يمكن أن أجمع
عليكم مشقة تَرْك ما تَعوَّدْتُم عليه وكذلك أجر تلك الدعوة.
وما دُمْتُ لن آخذ منكم أجراً، إذن: فلا مشقة أكلِّفكم بها، كما أنني في غِنًى عن
ذلك الأجر؛ لأن أجري على من أرسلني.
{ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [هود: 51].
أي: أنَّ أجري على مَنْ خَلَقني مُعَدّا لهذه الرسالة؛ لأن الفطرة تعني التكوين
الأساسي للإنسان.
والحق سبحانه قد أعدَّ هوداً عليه السلام ليكون رسولاً، ونحن نعلم ـ أيضاً أن
الأجر يكون عادة مقابلاً للمنفعة.
وسبق أن ضربنا المثل بمن يشتري بيتاً، فهو يدفع ثمن البيت لصاحبه، وتُسمَّى هذه
العملية بيعاً وشراءً.
أما إذا استأجر الإنسان بيتاً فهو يدفع إيجاراً مقابل انتفاعه بالسكن فيه.
وقول هود عليه السلام:
{ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً } [هود: 51].
يفيد أنه كان من الواجب أن يدفعوا أجراً كبيراً مقابل منفعتهم بما يدعوهم إليه؛
لأن الأجر الذي تدفعونه في المستأجرات العامة لكم إنما يكون مقابلاً لمنافع
موقوتة، لكن ما يقدمه لهم هود عليه السلام هو منفعة غير موقوتة!
ولذلك ترك هود عليه السلام الأجر لمن يقدر عليه، وهو الله سبحانه وتعالى. فهو
القادر على كل شيء.
وقد أوضحنا من قبل أن كل مواكب الرسل جاءت بهذه العبارة:
{ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً } [هود: 51].
إلا إبراهيم وموسى عليهما السلام؛ فسيدنا إبراهيم لم يَقُلْها بسبب أبيه، وسيدنا
موسى لم يقلها؛ لأن فرعون قال له:
{ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً }[الشعراء: 18].
إذن: كان يجب على قوم هود أن يعقلوا الفائدة الجَمَّة، وهي المنهج الرِّسالي الذي
جاء به هود عليه السلام.
ثم يقول الحق سبحانه ما جاء على لسان هود عليه السلام مخاطباً قومه: { وَياقَوْمِ
اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ }
(/1511)
وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)
وهكذا نعلم أن الاستغفار هو إقرار بالتقصير وارتكاب الذنوب، فنقول يارب اغفر لنا.
وساعة تطلب المغفرة من الله تعالى، فهذا إعلان منك بالإيمان، واعتراف بأن تكليف
الحق لك هو تكليف حق.
وما دام الإنسان قد طلب من الله تعالى أن يغفر له الذي فات من ذنوب، فعليه ألا
يرتكب ذنوباً جديدة، وبعد التوبة على العبد أن يحرص على تجنب المعاصي.
وعلى الإنسان أن يتذكّر أن ما به من نعمة فمن الله، وأن الكائنات المسخرة هي مسخرة
بأمر الله تعالى؛ فلا تنسيك رتابة الحياة عن مسببها الواهب لكل النعم.
والحق سبحانه وتعالى حين يرسل رسولاً، فأول ما ينزل به الرسول إلى الأمة هو أن
يصحِّح العقيدة في قمتها، ويدعوهم إلى الإيمان بإله واحد يتلقَّون عنه " افعل
" و " لا تفعل ".
وهنا يكون الكلام من هود عليه السلام إلى قومه " قوم عاد " ، والدعوة
إلى الإيمان بإله واحد وعبادته، والأخذ بمنهجه لا يمكن أن يقتصر على الطقوس فقط من
الشهادة بوحدانية الله تعالى، والصلاة، والصيام، والزكاة، والحج.
ولكن عبادة الله تعالى هي أن تؤدِّي الشعائر والعبادات، وتتقن كل عمل في ضوء منهج
الله، فلا تعزل الدين عن حركة الحياة.
والذين يخافون من دخول الإسلام في حركة الحياة، يريدون منَّا أن نقصر الدين على
الطقوس، ونقول لهم: إن الإسلام حينما دخل في حركة الحياة غزا الدنيا كلها، وحارب
حضارتين عريقتين؛ حضارة الفرس في الشرق، وحضارة الرومان في الغرب.
وهؤلاء كانوا أمماً لها حضارات قديمة وقوية، وثقافات وقوانين، ومع ذلك جاء قوم من
البدو الأمِّيين؛ يقود عقيدتهم رجلٌ أمِّيٌّ أرسله الله سبحانه وتعالى؛ فيطيح بكل
هؤلاء؛ نظماً وثقافات وارتقاءات بمستوى الحياة إلى مستوى طموح العقل.
يريد هؤلاء ـ إذن ـ أن يقوقعوا الإسلام في الأركان الخمسة فقط؛ ليعزلوه عن حركة
الحياة.
ونقول لهم: لا، لا يمكنكم أن تقصروا العبادات على الأركان الخمسة فقط؛ لأن العبادة
معناها أن يوجد عابد لمعبود حقٍّ، وأن يطيع العابد أوامر المعبود؛ وتتمثَّل أوامر
المعبود في " افعل " و " لا تفعل "؛ وما لم يَردْ فيه "
افعل " و " لا تفعل "؛ فهو مباح؛ إن شئت فعلته وإن شئت لم تفعله؛
وبفعله أو عدم فعله لا يفسد الكون.
إذن: فالعبادة هي كل أمر صادر من الله تعالى؛ فلا تعزلوها في الطقوس؛ لأن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أبلغنا؛ وأوضح لنا أن أركان الإسلام الخمس هي التي بني
عليها الإسلام؛ وليست هي كل الإسلام.
إذن: فالإسلام بناء يقوم على أركان؛ لذلك لا يمكن أن نحصر الإسلام في أركانه فقط؛
فالإسلام هو كل حركة في الحياة، ولا بد أن تنتظم حركات البشر تبعاً لمنهج الله،
لتنتظم الحياة كما انتظم الكون من حولنا.
فالعبادة تستوعب كل حركة في الحياة، وقد فهم البعض خطأ أن العبادة تنحصر في باب
العبادات في تقسيم الفقهاء، وأغفلوا أن باب المعاملات هو من العبادة أيضاً،
واستقامة الناس في المعاملات تؤدي إلى انتظام حياة الناس.
وفي الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه:
} وَياقَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ { [هود: 52].
والاستغفار لا يكون إلا عن ذنوب سبقت؛ وإذا كان هذا هو أول ما قاله هود عليه
السلام لقومه؛ إذن: فالاستغفار هنا عن الذنوب التي ارتكبوها مخالفة لمنهج الرسول
الذي جاء من قبله، أو هي الذنوب التي ارتكبوها بالفطرة.
ثم يدعوهم بقوله: } ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ { [هود: 52].
والتوبة تقتضي العزم على ألا تُنشئوا ذنوباً جديدة.
ثم يقول الحق سبحانه في نفس الآية:
} يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىا
قُوَّتِكُمْ { [هود: 52].
ولقائل أن يقول: وما صلة الاستغفار بهذه المسألة الكونية؟
ونقول: إن للكون مالكاً لكلِّ ما فيه؛ جماده ونباته وحيوانه؛ وهو سبحانه قادر، ولا
يقدر كائن أن يعصي له أمراً؛ وهو القادر أن يخرج الأشياء عن طبيعتها؛ فإذا جاءت
غيمة وتحسب أنها ممطرة؛ قد يأمرها الحق سبحانه فلا تمطر.
مثلما قال سبحانه في موضع آخر من كتابه الكريم:
{ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هَـاذَا
عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ
أَلِيمٌ }[الأحقاف: 24].
إذن: فلا تأخذ الأسباب على أنها رتابة؛ إنما ربُّ الأسباب يملكها؛ فإن شاء فعل ما
يشاء.
وإذا ما عبدتَ الله تعالى العبادة التي تنتظم بها كل حركة في الحياة؛ فأنت تُقبل
على عمارة الأرض؛ وتوفِّر لنفسك القُوْتَ باستنباطه من الأسباب التي طمرها الله
سبحانه وتعالى في الأرض.
والقوت ـ كما نعلم ـ من جنس الأرض؛ لذلك لا بد أن نزرع الأرض؛ وتَمُدَّ البذور
جذورها الضارعة المسبِّحة الساجدة لله تعالى؛ فيُمطر الحقُّ سبحانه السماءَ؛ فتأخذ
البذور حاجتها من الماء المتسرِّب إليها عبر الأرض؛ ونأخذ نحن أيضاً حاجتنا من هذا
الماء.
والسماء هي كل ما عَلاكَ فأظلَّكَ؛ أما السماء العليا فهذا موضوع آخر، وكل الأشياء
دونها.
وانظروا قول الحق سبحانه:
{ مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ
فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَآءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ
يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ }[الحج: 15].
أي: من كان يظن أن الله تعالى لن ينصر رسوله فليأت بحبل أو أي شيء ويربطه فيما
علاه ويعلِّق نفسه فيه؛ ولسوف يموت، وغيظه لن يرحل عنه.
} يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً { [هود: 52].
والمدرار: هو الذي يُدِرُّ بتتابع لا ضرر فيه؛ لأن المطر قد يهطل بطغيان ضارٍّ،
كما فتح الله سبحانه أبواب السماء بماء منهمر.
إذن: المدرار هو المطر الذي يتوالى توالياً مُصلحاً لا مُفسداً.
ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يقول حين ينزل المطر: " اللهم حوالينا ولا
علينا ".
ومتى أرسِل المطر مدراراً متتابعاً مصلحاً؛ فالأرض تخضرُّ؛ وتعمر الدنيا؛ ونزداد
قوة إلى قوتنا.
أما مَنْ يتولَّى؛ فهو يُجرم في حقِّ نفسه؛ لأن إجرام العبد إنما يعود على نفسه؛
لا تظنّ أن إجرام أَيِّ عبدٍ بالمعصية يؤذي غيره.
والحق سبحانه يقول:
{ وَلَـاكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }[يونس: 44].
ويأتي الحق سبحانه من بعد ذلك بالردِّ الذي قاله قوم عاد: } قَالُواْ ياهُودُ مَا
جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ {
(/1512)
قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53)
وهم هنا ينكرون أن هوداً قد أتاهم بِبَيِّنة أو مُعجزةٍ.
والبيِّنة ـ كما نعلم ـ هي الأمارة الدالة على صدق الرسول.
وصحيح أن هوداً هنا لم يذكر معجزته؛ وتناسوا أن جوهر أي معجزة هو التحدي؛ فمعجزة
نوح عليه السلام هي الطوفان، ومعجزة إبراهيم عليه السلام أن النار صارت برداً
وسلاماً عليه حين ألقوه فيها.
ونحن نلحظ أن المعجزة العامة لكل رسول يمثلها قول نوح عليه السلام:
{ ياقَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ
فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ لاَ
يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونَ
}[يونس: 71].
أي: إن كنتم أهلاً للتحدي، فها أنا ذا أمامكم أحارب الفساد، وأنتم أهل سيطرة وقوة
وجبروت وطغيان.
وأحْكِموا كيدكم؛ لكنكم لن تستطيعوا قتل المنهج الرباني؛ لأن أحداً لن يستطيعَ
إطفاء نور الله في يد رسول من رسله؛ أو أن يخلِّصوا الدنيا منه بقتله.. ما حدث هذا
أبداً.
إذن: فالبيِّنة التي جاء بها هود عليه السلام أنه وقف أمامهم ودعاهم إلى ترك
الكفر؛ وهو تحدي القادرين عليه؛ لأنهم أهل طغيان؛ وأهل بطش؛ ومع ذلك لم يقدروا
عليه؛ مثلما لم يقدر كفار قريش على رسولنا صلى الله عليه وسلم.
ونحن نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء ومعه المعجزة الجامعة الشاملة
وهي القرآن الكريم؛ وسيظل القرآن معجزة إلى أن تقوم الساعة.
ونعلم أن غالبية الرسل ـ عليهم جميعاً السلام ـ قد جاءوا بمعجزات حسية كونية؛
انتهى أمدها بوقوعها، ولولا أن القرآن يخبرنا بها ما صدَّقناها، مثلها مثل عود
الثقاب يشتعل مرة ثم ينطفىء.
فمثلاً شفى عيسى ـ عليه السلام ـ الأكمه والأبرص ـ بإذن ربه ـ فمَنْ رآه آمن به،
ومَنْ لم يَرَه قد لا يؤمن، وكذلك موسى ـ عليه السلام ـ ضرب البحر بالعصا فانفلق
أمامه؛ ومن رآه آمن به، وانتهت تلك المعجزات؛ لكن القرآن الكريم باقٍ إلى أن تقوم
الساعة.
ويستطيع أي واحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم قبل قيام الساعة أن يقول: محمد
رسول الله ومعجزته القرآن؛ لأن محمداً صلى الله عليه وسلم جاء رسولاً عامّا؛ ولا
رسول من بعده؛ لذلك كان لا بد أن تكون معجزته من الجنس الباقي؛ ومع ذلك قالوا له:
{ وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىا تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً
* أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ
خِلالَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا
كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً }[الإسراء: 90ـ 92].
وكل ما طلبوه مسائل حسية؛ لذلك يأتي الرد:
{ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَىا عَلَيْهِمْ
}
[العنكبوت: 51].
ومع ذلك كذَّبوا.
وأضاف قوم عاد:
} وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ
{ [هود: 53].
هم ـ إذن ـ قد خدعوا أنفسهم بتسميتهم لتلك الأصنام " آلهة "؛ لأن الإله
مَنْ يُنزل منهجاً يحدِّد من خلاله كيف يُعْبَد؛ ولم تَقُل الأصنام لهم شيئاً؛ ولم
تُبلغهم منهجاً.
إذن: فالقياس المنطقي يُلغي تَصوُّر تلك الأصنام كآلهة؛ فلماذا عبدوها؟
لقد عبدوها؛ لأن الفطرة تنادي كل إنسان بأن تكون له قوة مألوه لها؛ والقوة المألوه
لها إن كان لها أوامر تحدُّ من شهوات النفس، فهذه الأوامر قد تكون صعبة على النفس،
أما إن كانت تلك الآلهة بلا أوامر أو نواهي فهذه آلهة مريحة لمن يخدع نفسه بها،
ويعبدها مظنة أنها تنفع أو تضر.
وهذه هي حُجَّة كل ادِّعاء نبوة أو ادِّعاء مَهديَّة في هذا العصر، فيدَّعي
النبيُّ الكاذب النبوَّة، ويدعو للاختلاط مع النساء، وشرب الخمر، وارتكاب
الموبقات، ويسمِّى ذلك ديناً.
وتجد مثل هذه الدَّعاوَي في البهائية والقاديانية؛ وغيرها من المعتقدات الزائفة.
وقولهم:
} وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ { [هود: 53].
يعني: وما نحن بتاركي آلهتنا بسبب قولك.
وقولهم: } وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ { [هود: 53].
أي: وما نحن لك بمصدِّقين، لأن (آمن) تأتي بمعاني متعددة.
فإنْ عدَّيتها بنفسها مثل قول الحق سبحانه:
{ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ }[قريش: 4].
وإنْ عدَّيتها بحرف " الباء " مثل قول الحق سبحانه:
{ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ
أَجْرُهُمْ }[البقرة: 62].
فالمعنى يتعلّق باعتقاد الألوهية.
وإن عدَّيتها بحرف " اللام "؛ مثل قول الحق سبحانه:
{ فَمَآ آمَنَ لِمُوسَىا إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَىا خَوْفٍ مِّن
فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ }[يونس: 83].
تكون بمعنى التصديق.
يقول الحق سبحانه بعد ذلك: } إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ
{
(/1513)
إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54)
و " إن " التي تُفتتح بها الآية الكريمة أداة شرطية، وأداة " إن
" الشرطية يأتي بعدها جملة شرط، وجواب شرط، فإن لم تكن كذلك فهي تكون بمعنى
النفي؛ مثل قول الحق سبحانه:
{ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ }[المجادلة: 2].
وهنا يقول الحق سبحانه:
{ إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ } [هود: 54].
أي: " ما نقول إلا اعتراك ".
وهكذا نعلم أن كلمة " إنْ " هنا جاءت بمعنى النفي.
و " إلا " هي أداة استثناء، وقبلها فعل هو " نقول " ، وإذا
وجدت أداة استثناء، ولم يذكر المستثنى منه صراحة، فاعلم أنه واحد من ثلاثة: إما أن
يكون مصدر الفعل، وإما أن يكون ظرف الفعل، وإما أن يكون حال الفعل.
وعلى ذلك فمعنى الآية الكريمة:
وما نقول لك إلا أنَّ آلهتنا أصابتك بسوء؛ لأنك سَفَّهتهم وأبْطَلتَ ألوهيّتهم،
وجئتَ بإلهٍ جديدٍ من عندك، فأصابتك الآلهة بسوء ـ يراد به الجنون ـ فأخذتَ تخلط
في الكلام الذي ليس له معنى.
ويردُّ عليهم هود عليه السلام بما جاء في نفس الآية:
{ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ
} [هود: 54].
وهو يُشهِد الله الذي يثق أنه أرسله، ويحمي ذاته، ويحمي عقله؛ لأن عقل الرسول هو
الذي يدير كيفية أداء البلاغ عن الله.
والحق سبحانه وتعالى لا يمكن أن يرسل رسولاً ولا يحميه.
وقد قال الكافرون عن سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم أنه مجنون؛ فأنزل
الحق سبحانه وتعالى قوله الكريم:
{ مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ
مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلَىا خُلُقٍ عَظِيمٍ }[القلم: 2ـ4].
ونحن نعلم أن المجنون لا خُلُق له، وفي هذا البيان أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم في قمة العقل؛ لأنه في قمة الخُلُق الطيِّب.
وهنا يُشهد هود عليه السلام قومه ويطالبهم أن يرجعوا إلى الفطرة السليمة، ويحكموا:
أهو مجنون أم لا، ويشهدهم أيضاً أنه بريء من تلك الآلهة التي يُشركون بعبادتها من
دون الله تعالى.
ثم يقول الحق سبحانه ما جاء على لسان هود عليه السلام: { مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي
جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ }
(/1514)
مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55)
وقوله: { مِن دُونِهِ } أي: من دون الله، فهم قد عبدوا أصناماً من دون الله
سبحانه، ومطلب هود عليه السلام منهم أن يكيدوا له جميعاً، وهم كثرة طاغية، وهو فرد
واحد؛ وإن كادت الكثرة المتجبِّرة لواحد، فمن المتوقع أن يغلبوه، وهو ـ عليه
السلام ـ هنا يتحداهم ويطلب منهم أن يعملوا كل مكرهم وكيدهم، وأن يقتلوه لو
استطاعوا، وهذه قمة التحدي.
والتحدي هنا معجزة؛ لأنه ساعة يتحداهم فهو يعلم أن الله سبحانه وتعالى ينصره، وهو
ـ عليه السلام ـ متأكد من قوله:
{ أُشْهِدُ اللَّهَ }[هود: 54].
الذي قاله في الآية السابقة، ولا يمكن أن يرمي مثل هذا التحدي جزافاً، لأن الإنسان
لا يجازف بحياته في كلمة.
وهو لم يَقُلْ: { فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ } [يونس: 55] إلا إذا
كان قد آوى إلى ركن شديد، وإنه ينطق بالكلمة عن إيمان بأن الحق سبحانه سيهبه قدرة
على نفاذ الكلمة.
وهو قد أشهد الله تعالى، والله سبحانه هو أول من شهد لنفسه، يقول الحق سبحانه:
{ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ }[آل عمران: 18].
وكذلك شهدت الملائكة وأولو العلم، والله سبحانه وتعالى حين شهد لنفسه فإنما
يطمئننا أنه إذا ألقى أمراً علم أنه مُنفَّذ لا محالة.
وقد أشهد هود عليه السلام ربَّه سبحانه، وهو واثق من حمايته له وما كان الحق
سبحانه ليرسل رسولاً ليُمكِّن منه قوماً يُزيحوه من حركة الرسالة.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى ما جاء على لسان هود عليه السلام: { إِنِّي
تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ }
(/1515)
إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)
يعلن لهم هود عليه السلام حقيقة أنه يتوكَّل على الله تعالى الذي لا يعلوهم فقط،
ولا يرزقهم وحدهم، بل هو الآخذ بناصية كل دابَّة تدُّب في الأرض ولها حرية وحركة،
والناصية هي مقدّم الرأس، وبها خصلة من الشعر.
وحين تريد إهانة واحد فأنت تمسكه من خصلة الشعر هذه وتشدُّه منها.
والحق سبحانه وتعالى يقول:
{ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ
}[الرحمن: 41].
وفي آية أخرى يقول الله سبحانه:
{ كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ }[العلق: 15].
إذن: فكيف لم يجرؤ قوم عاد على أن يسلِّطوا مجموعة ثعابين، وأعداداً من الكلاب
المتوحشة ـ مثلاً ـ على سيدنا هود عليه السلام.
لم يستطيعوا ذلك، وقد أعلن لهم سبب عجزهم عن الإضرار به حين قال لهم:
{ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ إِنَّ رَبِّي عَلَىا
صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [هود: 56].
ونحن نلحظ أنه عليه السلام قال في صدر الآية:
{ رَبِّي وَرَبِّكُمْ } [هود: 56]، وفي عَجزُ الآية قال: { إِنَّ رَبِّي } [هود:
56]، والسبب في قوله: { رَبِّي وَرَبِّكُمْ } [هود: 56] أنهم كانوا قادحين في
مسألة ربوبية الحق سبحانه.
لذلك قال عليه السلام في مجال السيطرة: { رَبِّي وَرَبِّكُمْ } أما في عجز الآية
فقال:
{ إِنَّ رَبِّي عَلَىا صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [هود: 56].
أي: أن الإله الواحد سبحانه له مطلق العدالة، ولم يأتِ هنا بشيء يخصُّ أربابهم؛
لأنه هنا يتحدث عن مطلق عدالة الحق سبحانه.
والحق سبحانه وتعالى على صراط مستقيم في منتهى قُدرته، وقَهْره وسيطرته، ولا شيء
يُفلت منه، ومع كل قدرة الله تعالى اللامتناهية فهو لا يستعمل قهره في الظلم.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّآ
أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ }
(/1516)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)
الفعل " تولَّوا " أصله: " تتولَّوا " ، وفي اللغة: إذا ابتدأ
فعل بتاءين يُقتصَر على تاء واحدة.
وهكذا يكون المعنى:
إن تتولَّوا فقد أبلغتكم المنهج الذي أرسلت به إليكم، ولا عُذر لكم عندي؛ لأن الحق
سبحانه لا يعذِّب قوماً وهم غافلون؛ لذلك أرسلني إليكم.
أو أن الخطاب من الله سبحانه لهود عليه السلام ليبِّين له: فإن تولَّوا فقل لهم: {
أَبْلَغْتُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً
غَيْرَكُمْ } [هود: 57].
والاستخلاف أن يوجد قوم خلفاء لقوم، إما أن يكونوا عادلين؛ فلا يقفوا من المناهج
ولا من الرسالات مثلما وقف قوم عاد.
وإما أن يكونوا غير عادلين، مثل من قال فيهم الحق سبحانه:
{ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُواْ
الشَّهَوَاتِ }[مريم: 59].
والحق سبحانه قد وعد المؤمنين وعداً طيِّباً:
{ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ
}[النور: 55].
إذن: فالاستخلاف إما أن يكون الخلف فيه صاحب عمل صالح، أو أن يبدد المنهج فلا
يتبعه، بل يتبع الشهوات.
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه:
{ هَا أَنتُمْ هَـاؤُلاَءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم
مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ
الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَآءُ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً
غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَالَكُم }[محمد: 38].
وهنا يقول الحق سبحانه:
{ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً } [هود: 57].
لأن المنهج الذي نزل على الخَلْق، أنزله الحق سبحانه وتعالى لصلاح العباد، وهو
سبحانه خَلَق أولاً بكل صفات الكمال فيه، ولن يزيده العباد وصفاً من الأوصاف، ولن
يسلبه أحد وصفاً من الأوصاف.
ولذلك نقول للمتمردين على عبوديتهم لله كفراً، وللمتمردين على المنهج بالمعصية:
أنتم ألفتم التمرد؛ إما التمرد في القمة وهو الكفر بالله، وإما التمرد على أحكام
الله بمخالفتها، فلماذا لا يتمرد أحدكم على المرض، ويقول: " لن أمرض "؟
ولماذا لا يتمرد أحدكم على الموت ويرفض أن يموت؟
إذن: فما دُمْتَ قد عرفت التمرد فيما لك فيه اختيار، فهل تستطيع التمرد على أحكام
الله القهرية فيك؟
إنك لن تستطيع؛ لأنك مأخوذ بناصيتك. والحق سبحانه إن شاء أن يوقف القلب، فلن
تستطيع أن تأمر قلبك بعدم التوقف.
لذلك قال هود عليه السلام:
{ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلَىا كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ } [هود:
57].
فالله سبحانه رقيب؛ لأنه قيوم قائم على كل أمور كونه.
وبعض الفلاسفة قالوا: إن الله قد خلق الكون، وخلق النواميس والقوانين، ثم تركها
تقوم بعملها.
ولهؤلاء نقول: لا؛ فأنتم أقررتم بصفات الخالق القادر، فأين صفات القيومية لله
القائم على كل نفس بما كسبت، وهو سبحانه القائل لعبيده عن نفسه:
{ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ }[البقرة: 255].
وهو سبحانه حين يقول هذا إنما يطمئن العباد؛ ليناموا ويرتاحوا؛ لأنه سبحانه
مُنزَّه عن الغَفْلة أو النوم، بل هو سبحانه قيوم.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: { وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً
وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ }
(/1517)
وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58)
وساعة تسمع { وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا } فأنت تعرف أن هناك آمراً وأمراً مُطاعاً،
وبمجرد صدور الأمر من الآمر سبحانه يكون التنفيذ؛ لأنه يأمر مَنْ له قدرة على
التنفيذ:
ولذلك يقول الحق سبحانه:
{ إِذَا السَّمَآءُ انشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ }[الإنشقاق:
1ـ2].
إذن: فهي بمجرد السمع نَفَّذت أمر الحق سبحانه.
وحين شاء الحق سبحانه أن يُنجي موسى عليه السلام من الذبح الذي أمر به فرعون؛ أوحى
الله سبحانه لأمِّ موسى قائلاً:
{ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ
تَحْزَنِي إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ }[القصص:
7].
وكيف تفعل أمٌّ ذلك.
إن كل أمًّ إنما تحرص على ابنها؛ والذبح لموسى أمر مظنون، والإلقاء في البحر موت
محقَّق، لكن أم موسى استقبلت الوحي؛ ولم تتردد؛ مما يدل على أنها تُناقش الأمر
بمقاييس البشر، بل بتنفيذ إلهامٍ واردٍ إليها من الله سبحانه؛ إلهام لا ينازعه
شَكٌّ أو شيطان.
وبعد ذلك يأمر الله سبحانه البحر:
{ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ }[طه: 39].
وقد استقبل البحرُ الأمرَ الإلهي؛ لأنه أمر من قادر على الإنفاذ، كما قام بتنفيذ
الضد.
في قصة نوح عليه السلام قال الحق سبحانه:
{ حَتَّىا إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ }[هود: 40].
وحدث الطوفان؛ ليغرق الكافرين.
وهنا يقول الحق سبحانه:
{ وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا } [هود: 58].
يعني: مجيء الأمر بالعذاب للمخالفين لدعوة هود عليه السلام، وقد تحقَّق هذا العذاب
بطريقة خاصة ودقيقة؛ تتناسب في دقتها مع عظمة الآمر بها سبحانه وتعالى.
فحين تأتي رِيحٌ صَرْصَرٌ أو صَيحةٌ طاغيةٌ، فهذا العذاب من خارجهم، وما دام
العذاب من الخارج، وبقوة من قوى الطبيعة الصادرة بتوجيه الله؛ فقد يَعُمُّ
المكذِّبين لسيدنا هود، ومعهم المصدِّقون به وبرسالته، فكيف يتأتَّى أن تذهب
الصيحة إلى آذان المكذِّبين فقط، وتخرق تلك الآذان؛ وتترك آذان المؤمنين؟
إنها قدرة التقدير لا قوة التدمير. إن مُوجِّه الصيحة قد حدَّد لها مَنْ تُصيب ومن
تترك، وهي صيحة موجَّهة، مثلها مثل حجارة سِجِّيل التي رمتها طير أبابيل على أبرهة
الحبشي وجنوده؛ مع نجاةَ جنود قريش بنفس الحجارة؛ ولم تكن إصابة بالطاعون كما
ادَّعى بعضٌ من المتفلسفين.
وهذه من أسرار عظمة الحق سبحانه فهو يأخذ بشيء واحد؛ ولكنه يُنجي المؤمن؛ ويعذِّب
الكافر؛ فلا يوجد ناموس يحكم الكون بدون قدرة مسيطرة عليه.
يقول المتنبي:تُسَوِّدُ الشَّمْسُ مِنَّا بِيضَ أوجُهِنا وَمَا تُسوِّدُ بِيضَ
العَينِ والَّلمَمِوَكَانَ حَالُهُما فِي الحُكْمِ واحِدَةً لَو احْتَكَمْنَا مِنَ
الدُّنْيَا إلَى حَكَمِوهكذا يضرب المتنبي المثل بأن جلوس الواحد منا في الشمس؛
يجعل بشرة الأبيض تميل إلى السمرة ولا تسود بياض الشعر، لكن إن تركت شيئاً أسود في
الشمس فترة لوجدته يميل إلى الأبيض؛ ويحدث ذلك رغم أن الفاعل واحد؛ لكن القابل
مختلف.
والحق سبحانه يقول هنا:
} وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ
بِرَحْمَةٍ مِّنَّا { [هود: 58].
فلا تقل كيف نجوا من العذاب الجامع والعذاب العام؛ لأن هذه هي الرحمة.
والرحمة ـ كما نعلم ـ هي ألا يمس الداء الإنسان من أول الأمر؛ أما الشفاء فهو
يعالج الداء.
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:
{ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ
}[الإسراء: 82].
ونحن نلحظ هنا أن الحق سبحانه يذكر في نفس الآية الكريمة نجاتين:
النجاة الأولى: من العذاب الجامع؛ الريح الصرصر؛ من الصيحة؛ من الطاغية، يقول
سبحانه:
} نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا
وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ { [هود: 58].
والنجاة الثانية: هي نجاة من عذاب الآخرة الغليظ، فعذاب الدنيا رغم قسوته، إلا أنه
موقوت بعمر الدنيا.
أما عذاب الآخرة فهو عذاب بلا نهاية، ووصفه الحق سبحانه بالغلظة.
وغلظ الشيء يعطي له القوة والمتانة، وهو عذاب غليظ على قدر ما يستوعب الحكم.
ولذلك حينما يُملِّك الحقُّ سبحانه رجلاً بُضْع امرأة بعقد الزواج، ويصف ذلك
بالميثاق الغليظ، والنفعية هنا متصلة بالعفة والعِرْض، ولم يُملِّك الرجل النفعية
المطلقة من المرأة التي يتزوجها؛ فالزوج يُمكَّن من عورة زوجته بعقد الزواج.
يقول الحق سبحانه:
{ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً }[النساء: 21].
وكانت نجاة هود عليه السلام والمؤمنين معه من العذاب الأول مقدمة للنجاة من العذاب
الغليظ.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ {
(/1518)
وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59)
و " تلك " إشارة إلى المكان الذي عاش فيه قوم عاد؛ لأن الإشارة هنا
لمؤنث، ولنتذكر أن المتكلم هنا هو الله سبحانه وتعالى.
وهكذا فصل بين " عاد " المكان، و " عاد " المكين، وهم قوم
عاد؛ لذلك قال سبحانه { جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ } [هود: 59] فهم قد ذهبوا
وبقيت آثارهم.
و " عاد " إما أن تطلق على المكان والمحل، وإما أن تطلق على الذوات التي
عاشت في المكان، فإذا أشار سبحانه بـ { تِلْكَ } فهي إشارة إلى الديار، والديار لم
تجحد بآيات الله؛ ولذلك جاء بعدها بقوله تعالى:
{ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ } [هود: 59].
والجحود هو النكران مع قوة الحجة والبرهان.
والآيات ـ كما نعلم ـ جمع آية، وهي الأمور العجيبة الملفتة للنظر التفاتاً يوحي
بإيمان بما تنص عليه.
ومن الآيات ما يدل على قمة العقيدة، وهو الإيمان بواجب الوجود؛ بالله الرب الخالق
الحكيم القادر سبحانه وتعالى، مثل آيات الليل والنهار والشمس والقمر، ورؤية الأرض
خاشعة إلى آخر تلك الآيات التي في القمة.
وكذلك هناك آيات أخرى تأتي مصدقة لمن يخبر أنه جاء رسولاً من عند الله تعالى، وهي
المعجزات.
وآيات أخرى فيها الأحكام التي يريدها الله سبحانه بمنهجه لضمان صحة حركة الحياة في
خلقه.
وقوم عاد جحدوا بكل هذه الآيات؛ جحدوا الإيمان، وجحدوا تصديق الرسول بالمعجزة،
وأهملوا وتركوا منهج الله جحوداً بإعراض.
لذلك يقول الحق سبحانه:
{ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ } [هود: 59].
وهود عليه السلام هو الذي أرسله الحق سبحانه إلى قوم عاد، فهل هو المعنيُّ
بالعصيان هنا؟
نقول: لا؛ لأن الله عز وجل قال:
{ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ
وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ
بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ }[آل عمران: 81].
إذن: فكل أمة من الأمم عندها بلاغ من رسولها بأن تصدق أخبار كل رسول يُرسَل.
ولذلك قال الحق سبحانه:
{ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ
بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ }[البقرة: 285].
فهم قد انقسموا إلى قسمين؛ لأن الحق سبحانه يقول:
{ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } [هود: 59].
أي: أن هناك مُتَّبِعاً، ومُتَّبَعاً.
والمقصود بالجبار العنيد هم قمم المجتمع، سادة الطغيان والصنف الثاني هم من اتبعوا
الجبابرة.
ومن رحمته سبحانه أنه حين يتكلم عن الفِرَق الضالة، فهو يتكلم أيضاً عن الفرق
المضلة، فهناك ضالٌّ في ذاته، وهناك مُضِلٌّ لغيره.
والمضل لغيره عليه وزران: وزر ضلالة في ذاته، ووزر إضلال غيره.
أما الذين اتَّبعوا فلهم بعض العذر؛ لأنهم اتَّبعوا بالجبروت والقهر، لا بالإقناع
والبينة.
وانظر إلى القرآن الكريم حين يعالج هذه القضية، فيتحدث عن الفئة التي ضلت في ذاتها
ويقول:
{ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ
هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ }[البقرة: 78].
ويتحدث الحق سبحانه بعد ذلك عن الفئة المضلة فيقول:
{ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ
هَـاذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً }[البقرة: 79].
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: { وَأُتْبِعُواْ فِي هَـاذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً }
(/1519)
وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)
والزمان بالنسبة للخلق ثلاثة أقسام: حياتهم زمن أول، ومن لحظة الموت إلى أن تقوم
الساعة زمن ثان وهو زمن البرزخ، وساعة يبعثون هي الزمن الثالث.
والحياة الأولى فيها العمل، وحياة البرزخ فيها عرض الجزاء، مجرد العرض، والحياة
الثالثة هي الآخرة إما إلى الجنة وإما إلى النار.
يقول الحق سبحانه:
{ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ
يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }[البقرة: 28].
هذه هي الأزمنة الثلاثة ـ حياة، وبرزخ، وبعث ـ وكل وقت منها له ظرف.
ويعبر القرآن عن هذا، فيقول عن عذاب آل فرعون منذ أن أغرقهم الله سبحانه في البحر:
{ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ
السَّاعَةُ أَدْخِلُواْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ }[غافر: 46].
وفي هذا دليل على عرض الجزاء في البرزخ مصداقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم
" القبر إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النار ".
إذن: فهنا زمنان: زمن عرضهم على النار غدوّاً وعشيّاً، وزمن دخولهم النار.
وهذا يثبت عذاب البرزخ؛ لأن الإنسان الكافر يرى فيه موقعه من النار، ويرى نصيبه من
العذاب، ثم تقوم الساعة ليأخذ نصيبه من العذاب.
وبالنسبة لقوم عاد، أذاقهم الله سبحانه العذاب في الدنيا، ثم يدخلهم النار يوم
القيامة.
ويقول الحق سبحانه في نفس الآية:
{ أَلا إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ }
[هود: 60].
وكلمة " ألا " هي أداة تنبيه ـ كما قلنا من قبل ـ تنبه السامع إلى أهمية
ما يلقيه المتكلم حتى لا يجابه السامع بالكلام وهو غافل، ولأن المتكلم هو الذي
يقود زمام الكلام، فيجب ألا يستقبله السامع غافلاً، فتأتي كلمة " ألا "
كجرس ينبه إلى ما بعدها من كلام.
والكلام عن قوم عاد الذين نالوا عذاباً في الدنيا بالريح العقيم، ثم أتبعوا لعنة من
البرزخ، وسوف يُستقبلون يوم القيامة باللعنات؛ فهذه لعنات ثلاث.
وجاء الحق سبحانه وتعالى بحيثية هذه اللعنات مخافة أن يرى قلب السامع من كثرة ما
يقع عليهم من لعن، فبيَّن بكلمة " ألا " أي: تنبهوا إلى أن قوم عاد
كفروا ربهم.
وللجريمة زمن، وللعقوبة عليها زمن، وكفرهم بربهم حدث في الدنيا، وهو كفر في القمة؛
لذلك نالوا عقاباً في الدنيا.
والخطر كل الخطر أن يتأخر زمن العقوبة عن زمن الجريمة، فلا تأخذكم بهم الرحمة
الحمقاء، لأن كفرهم هو الكفر بالقمة العقدية؛ لذلك تواصل لعنهم في البرزخ، ثم تأتي
لهم لعنة الآخرة.
وهم لم يكفروا بنعمة ربهم، بل كفروا بربهم.
والحق سبحانه لم يطلب من أحد عبادته قبل سن التكليف، وقدم لهم كما يقدم لكل الخلق
نعمه التي لا تعد ولا تحصى؛ ولذلك فهم يستحقون اللعنات وهي الجزاء العادل.
وقد أوضح لهم هود عليه السلام:
{ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ
هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ إِنَّ رَبِّي عَلَىا صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }[هود: 56].
أي: أن الحق سبحانه عادل.
وأنت حين تسمع جريمتهم؛ تنفعل وتطلب أقصى العقاب لهم؛ ولذلك يأتي قول الحق سبحانه:
} أَلا إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ {
[هود: 60].
فأنت لا تكتفي بلعنتهم الأولى، بل تلعنهم مرة أخرى.
ولسائل أن يقول: ولماذا يقول الحق سبحانه هنا:
} أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ { [هود: 60].
ونقول: لقد قال الحق سبحانه وتعالى في موضع آخر من القرآن:
{ وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأُولَىا }[النجم: 50].
وهذا يوضح لنا أن " عاداً " كانت اثنتين: عاداً الاولى، وهم قوم عاشوا
وضَلُّوا فأهلكهم الله، وهناك عاد الثانية.
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: } وَإِلَىا ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً {
(/1520)
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61)
ونحن نلحظ أن الحق سبحانه يبيِّن لنا هنا أنه أرسل إلى ثمود واحداً منهم هو صالح
عليه السلام.
وجاء الحق سبحانه بلفظ { أَخَاهُمْ } ليبين العلاقة التي بين صالح ـ عليه السلام ـ
وقومه، فهو قد نشأ بينهم، وعرفوه وخبروه، فإذا ما جاءهم بدعوة ـ وقد لمسوا صدقه ـ
فلا بد أن يؤمنوا بما جاء به من منهج.
وناداهم صالح عليه السلام: { ياقَوْمِ } ، وهي من القيام، يعني: يا من تقومون
للأمور. والذي يقوم على الأمر عادة هم الرجال؛ لأن أمر النساء مستور ـ دائماً ـ في
طي الرجال، فليس كل حكم من أحكام الدين يأتي فيه ذكر المرأة، بل نجد كثيراً من
الأحكام تنزل للرجال، والنساء مطويات على الستر في ظل الرجال، والرجل يشقى ويكدح،
والمرأة تدير حياة السُكْنى وتربية الأولاد.
ونحن نجد من النساء ومن الرجال من يتراضون عند الزواج على ألا تخرج المرأة للعمل.
إن للمرأة حق العمل إن احتاجت ولم تجد من يعولها، ولكن إن وجدت من يقوم عليها،
فلماذا لا تلتفت إلى عمل لا يقل أهمية عن عمل الرجل، وهو رعاية الأسرة؟
وكذلك يجد من يقوم باسم الحرية بالهجوم على الحجاب، ونقول لمن يفعل ذلك: إذا كنت
لم تنتقد التهتك في الملابس، ووَصَفْتَهُ بأنه " حرية " ، فلماذا تتدخل
في أمر الحجاب، ولا تعتبره " حرية " أيضاً.
ونعود إلى الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها { اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا
لَكُمْ مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُهُ } [هود: 61] والعبادة تقتضي تلقي أوامر الإله
المعبود بـ " افعل " و " لا تفعل " في كل حركة من حركات
الحياة.
فكان أول شيء طلبه صالح من قومه ثمود { اعْبُدُواْ اللَّهَ } وأمر عبادة الله وحده
مطلوب من كل أحد، ولا يسع أحداً مخالفته.
{ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُهُ } [هود: 61].
تقرير واقع لا تستطيعون تغييره، فليس لكم إله آخر غير الله، مهما حاولتم ادعاء
آلهة أخرى.
ويقول الحق سبحانه:
{ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا } [هود: 61].
والإنشاء هو الإيجاد ابتداء من غير واسطة شيء، ويقال: أنشأ، أي: أوجد وجوداً
ابتداءً من غير الاستعانة بشيء آخر.
لذلك لا نقول لمن اخترع: إنه " أنشأ " لأنه استعان بأشياء كثيرة ليصل
إلى اختراعه؛ فقد يكون مستعيناً بمادة أخذها من الجبال، وبخبره تجارب صنعها من
سبقوه، ولكن الحق سبحانه وتعالى هو الذي ينشيء من عدم.
والوجود من العدم قسمان: قسم أوجدته باستعانة بموجود، وقسم أوجدته من عدم محض،
وهذا الأخير هو الإنشاء ولا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى.
والحق سبحانه جلَّت مشيئته في الإنشاء، فهو ينشيء الإنسان من التقاء الزوج
والزوجة، وإن أرجعت هذا الإنشاء إلى البداية الأولى في آدم عليه السلام، فستجد أن
الحق سبحانه وتعالى قد خلقه من نفس مادة الأرض، والأرض مخلوق من مخلوقات الله.
فمنيُّ الزوج وبويضة الزوجة يتكونان من خلاصة الدم، الذي هو خلاصة الأغذية وهي
تأتي من الأرض، فسواء رمزت لآدم بإنشائه من الأرض، أو أبقيتها في ذريته، فكل شيء
مَردُّه إلى الأرض.
وقول الحق سبحانه:
} أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا { [هود: 61].
نجد فيه كلمة } اسْتَعْمَرَكُمْ { وساعة ترى الألف والسين والتاء فاعلم أنها
للطلب، وهكذا يكون معنى كلمة " استعمر " هو طلب التعمير.
ومن الخطأ الشائع تسمية البلاد التي تحتل بلاداً أخرى: " دول الاستعمار
".
أقول: إن ذلك خطأ، لأنهم لو كانوا دول استعمار، فهذا يعني أنهم يرغبون في عمارة
الأرض، ولكنهم في حقيقة الأمر كانوا يخربون في الأرض؛ ولذلك كان يجب أن تسمى
" دول الاستخراب ".
} وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا { أي: طلب منكم عمارتها، وهذا يتطلب أمرين اثنين: أن
يبقي الناس الأمر الصالح على صلاحه، أو يزيدوه صلاحاً.
وكما ضربت المثل من قبل بتحسين وسائل وصول المياه إلى المنازل بعد اكتشاف نظرية
الأواني المستطرقة، فقد كان الناس يشربون الماء من الترع، ثم تم اختراع كيفية
تكرير المياه، ثم جاءت نظرية الأواني المستطرقة، فاستغلها الناس في بناء خزانات
عالية، وتوصيل الماء بواسطة مواسير تدخل لكل بيت.
وهكذا تصل المياه النقية لكل منزل، وهكذا يزداد في الأمر الصالح صلاحاً.
وأيضاً إن استصلحنا الأرض البور، فنحن نزيد الأرض رقعة صالحة لإنتاج الغذاء
لمقابلة الزيادة في عدد السكان.
وما دام عدد السكان في زيادة فلا بد من زيادة رقعة الأرض بالاستصلاح؛ لأن الأزمة
التي نعاني منها الآن، هي نتيجة للغفلة التي مرت علينا، فزاد التكاثر عن
الاستصلاح، وكان الواجب يقتضي أن نزيد من الاستصلاح بما يتناسب مع الزيادة في
السكان.
وهكذا نفهم معنى استعمار الأرض.
ومن عظمة الحق سبحانه وتعالى أنه تجلَّى على الخَلْق بصفات من صفاته، فالقويُّ
يعين الضعيف، والحق سبحانه له مطلق القوة، ويَهَبُ الخلق من حكمته حكمة، ومن قبضه
قبضاً، ومن بسطه بسطاً، ومن غناه غنىً؛ ولكن الصفات الحسنى كلها ذاتية فيه وموهوبة
منه لنا.
والدليل على ذلك أن القوي فينا يصير إلى ضعف، والغني منا قد يصيبه الفقر؛ حتى لا
نفهم أن هذه الصفات ذاتية فينا، وأن الحق سبحانه وتعالى قد أعطانا من صفاته قدرة
لنفعل.
ومن أعطاه الله تعالى قدرة ليفعل؛ عليه أن يلاحظ أنه انتفع بفعل من سبقه، فإن أكل
اليوم تمراً ـ على سبيل المثال ـ فعليه أن يتذكر أن الذي زرع له النخلة هو من
سبقه، فليزرع من يأكل البلح الآن نخلة لتفيده بعد سبع سنين ـ وهو الزمن اللازم
لتطرح النخلة بلحاً ـ وليستفيد بها من يأتي من بعده.
ويقول الحق سبحانه وتعالى ما جاء على لسان صالح عليه السلام لقومه " ثمود
" في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
} فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ {
[هود: 61].
فإن استغفر الإنسان، فالحق سبحانه قريب من كل عبد يستغفر عن ذنوب لا تمثل حقوقاً
للناس، والله سبحانه وتعالى يجيب لطالب المغفرة.
فماذا كان الرد من قوم ثمود؟
يقول الحق عز وجل ما جاء على ألسنتهم: } قَالُواْ ياصَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا
مَرْجُوّاً قَبْلَ هَـاذَا {
(/1521)
قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62)
كانوا ينظرون إلى صالح ـ عليه السلام ـ بتقدير ورجاء قبل أن يدعوهم لعبادة الله
تعالى وحده، ولا إله غيره.
والمرجوُّ هو الإنسان المؤمَّل فيه الخير، ذكاءً، وطموحاً، وأمانة، وأية خصلة من
الخصال التي تبشر بأنه له مستقبلاً حسناً.
ولكن ما إن دعاهم صالح ـ عليه السلام ـ إلى عبادة الله سبحانه وتعالى أعلنوا أنه ـ
بتلك الدعوة ـ إنما يفسد رجاءهم فيه وما كانوا يأملون فيه.
وقد أوضح لهم صالح ـ عليه السلام ـ ما أوضحه الرسل من قبله ومن بعده، أن اتخاذ
الأصنام أو الأشجار أو الشمس آلهة تُعْبد هو أمر خاطىء؛ لأن العبادة تقتضي أوامر
ونواهي ينزل بها منهج؛ يتبعه من يعبدون، وتلك الكائنات المعبودة لا منهج لها، ولا
عبادة دون منهج.
وأضاف قوم ثمود:
{ وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ } [هود: 62].
والشك هو استواء الطرفين: النفي والإثبات.
إذن: فهم ليسوا على يقين أن عبادتهم لما عبد آباؤهم هي عبادة صادقة، ودعوة صالح
عليه السلام لهم جعلتهم يترددون في أمر تلك العبادة؛ وهذا يُظهر أن خصال الخير في
صالح عليه السلام جعلتهم يترددون في أمر عبادتهم.
ويقول الحق سبحانه وتعالى ما جاء على لسان صالح عليه السلام لثمود: { قَالَ
ياقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىا بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي }
(/1522)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63)
وكأن صالحاً قد ارتضاهم حكماً فقال: أخبروني إذا كنت أنا على بينة من ربي ويقين
بأنه أرسلني وأيَّدني، وأنا إن خدعت الناس جميعاً فلن أخدع نفسي، فهل أترك ما
أكرمني به ربي وأنزل إليَّ منهجاً أدعوكم إليه؟ هل أترك ذلك وأستمع لكلامكم؟ هل
أترك يقيني بأنه أرسلني بهذه الرسالة { وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً } [هود: 63] وهي
النبوة؟
{ فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ } [هود: 63].
وساعة يستفهم إنسان عن شيء في مثل هذا الموقف فهو لا يستفهم إلا عن شيء يثق أن
الإجابة ستكون بما يرضيه.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى على لسان صالح عليه السلام:
{ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ } [هود: 63].
ونحن نعلم أن الخسارة ضد المكسب، ومعنى الخسارة أن يقل رأس المال. فهل التخسير
واقع منه عليهم أم واقع منهم عليه.
إن ثراء الأسلوب القرآني هنا يوضح لنا هذه المعاني كلها، فإن أطاعهم صالح ـ عليه
السلام ـ وعصى ربه، فهو قد أزاد في خسارته، أو أنه ينسبهم إلى الخسران أكثر، لأنهم
غير مهديين، ويريدون له أن يضل ويتبع ما يعبدون من دون الله تعالى.
إذن: فالتخسير إما أن يكون واقعاً عليهم من صالح ـ عليه السلام ـ وإما أن يكون
واقعاً منهم على صالح.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك على لسان صالح عليه السلام: { وَياقَوْمِ هَـاذِهِ
نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً }
(/1523)
وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64)
وكان قوم صالح قد طلبوا آية، فقالوا له: إن كنت نبيّاً فأخرج لنا ناقة من تلك
الصخرة، وأشاروا إلى صخرة ما، وهم قوم كانوا نابغين في نحتن بيوتهم في الجبال. ومن
يَزُورْ المنطقة الواقعة بين الشام والمدينة، يمكنه أن يشاهد مدائن صالح، وهي
منحوتة في الجبال.
وقد قال فيهم الحق سبحانه:
{ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ }[الشعراء: 149].
هم ـ إذن ـ قد حددوا الآية، وهي خروج ناقة من صخرة أشاروا إليها، فخرجت الناقة وهي
حامل.
وبعد أن وُجدت الناقة على وفق ما طلبوها لم يطيقوا أن يعلنوا التصديق، وقد قال لهم
صالح عليه السلام:
{ وَياقَوْمِ هَـاذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ } [هود: 64].
وساعة تسمع شيئاً مضافاً إلى الله تعالى، فاعلم أن له عظمة بعظمة المضاف إليه.
مثلما نقول: " بيت الله " ، وهذا القول إن أُطلق فالمقصود به الكعبة
المشرفة، وإن حددنا موقعاً وقلنا عنه: " بيت الله " فنحن نبني عليه
مسجداً، وتكون أرضه قد حُكرت لتكون مُصَلّى، ولا يُزاوَل فيها أي عمل آخر.
هكذا تكون الكعبة هي بيت الله باختيار الله تعالى، وتكون هناك مساجد أخرى هي بيوت
لله باختيار خَلْق الله.
ولذلك فبيت الله ـ باختيار الله ـ هو قبلة لبيوت الله باختيار خلق الله.
إذن: فإن أضيف شيء لله تعالى، فهو يأخذ عظمة الحق سبحانه وتعالى، وقد قال لهم
صالح: { هَـاذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ } [هود: 64] وهي ليست ناقة زيد أو ناقة عمرو.
ولم يلتفت قوم صالح إلى ما قاله صالح عليه السلام، ولم يلحظوا أن الشيء المنسوب
لله تعالى له عظمة من المضاف إليه.
ومثال ذلك: " ابن أبي لهب، وكان قد تزوج ابنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم
وحين اشتد عناد أبي لهب للرسول صلى الله عليه وسلم، قال أبو لهب لابنه: طلق بنت
محمد، فطلقها، وفعل فعلاً يدل على الازدراء، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه
وسلم وقال: " أما إني أسأل الله أن يسلط عليه كلبه ".
فقال أبو لهب: إني لأتوجس شرّاً من دعوة محمد.
ثم سافر ابن أبي لهب مع بعض قومه في رحلة، وكانوا إذا ناموا طلب أبو لهب مكاناً في
وسط رحال الركب كله خوفاً على ابنه من دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا
بأسد يقفز من الرحال ويأكل الولد " ، فهنا نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم
الأمر إلى الله فقال: " أكلك كلب من كلاب الله " فكان كلب الله أسداً.
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يوضح لهم صالح عليه السلام: هذه الناقة
هي الآية التي طلبتموها وقد جاءت من الصخر.
وكان يقدر أن يأتي لهم بالجنس الأرقى من الجماد، وهو النبات، ولكن الحق سبحانه استجاب
للآية التي طلبوها وهي من جنس الحيوان.
ونحن نعلم أن الكائنات الأرضية إما أن تكون جماداً، وإما أن يأخذ الجماد صفة النمو
فيصير نباتاً، وإما أن يأخذ صفة الحس والحركة فيصير حيواناً، وإما أن يأخذ صفة
الحس والحركة والفكر فيصير إنساناً.
وكان من الممكن أن يأتي لهم صالح عليه السلام بشجرة من الصخر، وهذا أمر فيه إعجاز
أيضاً، ولكن الحق سبحانه أرسل الآية كما طلبوها؛ ناقة من جنس الحيوان، وحامل في
الوقت نفسه.
وطالبهم صالح عليه السلام أن يحافظوا عليها؛ لأنها معجزة، عليهم ألا يتعرضوا لها.
وقال لهم:
} فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ
فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ { [هود: 64].
وهكذا وعظهم، وطلب منهم أن يتركوها تأكل في أرض الله، وإن مسّوها بسوء ولم يأخذهم
عذاب، فمن آمن به لا بد أن يكفر.
إذن: فلا بد أن يأتي العذاب القريب إن هم مسّوها.
وهم قد مسّوها بالفعل، وهو ما تبينه الآية الكريمة التالية: } فَعَقَرُوهَا
فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ {
(/1524)
فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65)
وجلسوا في منازلهم ثلاثة أيام ثم جاءهم العذاب.
ولقائل أن يقول: ولمَ الإمهال بثلاثة أيام؟
ونقول: إن العذاب إذا جاء فالألم الحسِّي ينقطع من المعذَّب، ويشاء الله تعالى أن
يعيشوا في ذلك الألم طوال تلك المُدَّة حتى يتألموا حِسِّيًا، وكل يوم يمرُّ عليهم
تزداد آلامهم من قرب الوعيد الذي قال فيه الله تعالى:
{ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } [هود: 65].
الحق سبحانه هو الذي يَعِدُ ، وهو القادر على إنفاذ الوعد، ولا تقوم قوة أمامه؛
لذلك فهو وعد صادق غير مكذوب.
على عكس الإنسان منا حين يَعِدُ بشيء، فمن الممكن أن يأتي وقت تنفيذ الوعد ولا
يستطيع.
لذلك يقول لنا الحق سبحانه:
{ وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذالِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ
اللَّهُ }[الكهف: 23ـ24].
لأنك إن قلت: " أفعل ذلك غداً " ، وتعد إنساناً بلقائه لكذا وكذا؛ فقل:
" إن شاء الله "؛ لأن الله تعالى لا يمنع ترتيب أمور لزمن يأتي، وإنما
يجب أن يردف من يرتب الأمور " بمشيئة القوي القادر " حتى إذا لم ينجز ما
وعد به؛ يكون قد خرج عن الكذب، لأن الله تعالى لم يشأ، لأن الإنسان إذا وعد، فهو
لا يعتمد على إرادته، ولكن مشيئة الله تعالى تعلو كل شيء.
والفعل ـ كما نعلم ـ يقتضي فاعلاً، ومفعولاً، وزمناً، وسبباً دافعاً، وقدرة تمكِّن
الإنسان من الفعل، فهل يملك أحدٌ شيئاً من كل هذا؟
إن الإنسان لا يملك نفسه أن يعيش إلى الغد، ولا يملك من يعده أن يوجد غداً حتى
يلقاه، ولا يملك أن يظل السبب سبباً للِّقاء؛ فربما انتهى السبب، ولا يملك حين
تجتمع الأسباب كلها أن توجد له قدرة وقوة على إنفاذ السبب.
إذن: فإذا قال: " أفعل ذلك غداً مع فلان "؛ يكون قد جازم وتكلم في شيء
لا يملك عنصراً واحداً من عناصره، فقل: " إن شاء الله " ، أي: أنك
تستعين بمشيئة من يملك كل هذه العناصر.
ويعطي الحق سبحانه في كل لقطة إيمانية من اللقطات، قدرته على خلقه فهو سبحانه
القائل:
{ فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذالِكَ
وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } [هود: 65].
وقوله: { فِي دَارِكُمْ } لأن من هؤلاء الذين كفروا قوماً في مكان يختلف عن مكان
آخر يوجد به أيضاً قوم كافرون، ومنهم المسافر، ومنهم العائد من سفر، فتتبعهم
العذاب حيثما كانوا، فلم ينزل على مكان واحد، إنما نزل على المكين منهم في أي
مكان.
ولم يَنْجُ من هذه المسألة إلا واحد اسمه " أبو رغال " ، وكان يحج إلى
بيت الله، فلم يتبعه عذابه في بيت الله؛ لأن الله سبحانه طلب منا نحن عباده أن
نؤمِّن من دخل بيته، فهو سبحانه وتعالى أوْلى بأن يؤمِّن من دخل البيت الحرام، وظل
الحجر الذي سيُضرب به، أو الصيحة التي كان عليها أن تأخذه، ظلت إلى أن خرج من
الحرم فوقعت عليه.
. وعَمَّ العذابُ الكافرين من قوم صالح، وتتبع من في الديار إلا هذا الرجل، وما إن
خرج من البيت الحرام حتى وقع عليه العذاب.
ولذلك كان قاتل الأب أو الإنسان الذي عليه دم نتيجة أنه ارتكب جريمة قتل، إذا ما
دخل البيت الحرام فهو يُؤمَّن إلى أن يخرج، وكانوا يُضيِّقون عليه، فلا يطعمه أحد،
ولا يسقيه أحد ليضطر إلى الخروج، فيتم القصاص منه بعد خروجه من البيت الحرام،
ولتظل حرمة البيت الحرام مُصَانة.
ونحن نعلم أن الحق سبحانه أراد من تحريم القتال في البيت الحرام، صيانة وتكريماً
للكرامة الإنسانية.
ونحن نعلم أيضاً أن كل حدث من الأحداث يقتضي زماناً، ويقتضي مكاناً.
وكان العرب دائمي الغارات على بعضهم البعض، فأراد الحق سبحانه أن يوجد مكان يحرم
فيه القتال؛ فخصَّ البيت الحرام بذلك، وأراد سبحانه أن يوجد زمان يحرم فيه القتال؛
فكانت الأشهر الحرم؛ لان الحرب قد تكون سجالاً بين الناس وتوقظ فيهم الحمية
والأنفة والعزة.
وكل واحد منهم يحب في ذاته أن ينتهي من الحرب، ولكنه لا يحب أن يجبن أمام الناس،
فأراد الحق سبحانه أن يجعل لهم شيئاً يتوارون فيه من الزمان ومن المكان، فحرم
القتال في الأشهر الحرم.
وما إن تأتي الأشهر الحرم حتى يعلن المقاتل من هؤلاء: لولا الأشهر الحرم لكنت قد
أنزلت بخصمي الهزيمة الساحقة، وهو يقول ذلك ليداري كبرياءه؛ لأنه في أعماقه يتمنى
انتهاء الحرب.
وكذلك حين يدخل مقاتل إلى البيت الحرام، هنا يقول مَنْ كان يحاربه: لو لم يدخل
الحرم؛ لأذقته عذاب الهزيمة.
وبمضيِّ الزمان وبالمكث في المكان ينعم الناس بالأمن والسلام، وربما عشقوه فانتهوا
من الحرب.
ثم يقول الحق سبحانه: } فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ
آمَنُواْ مَعَهُ {
(/1525)
فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66)
فحين شاء الحق أن يُنزل العذاب بثمود، بعد مُضيِّ المدة التي أنذروا بنزول العذاب
بعدها، نجَّى الحق صالحاً عليه السلام والذين آمنوا برسالته من الهلاك، فحفظتهم
رحمة الله؛ لأنهم آمنوا بما نزل على صالح من منهج، ولم يُعَانِ المؤمنون برسالة
صالح ما عانى منه قوم ثمود من الذل والفضيحة.
هذا الذل وتلك الفضيحة التي حاقت بثمود.
ويذيل الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله:
{ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ } [هود: 66].
هذا خطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم تسلية وتسرية عنه وتقوية لعزمه، فالحق سبحانه
مقتدر يأخذ كل كافر، ولا يغلبه أحد ولا يعجزه شيء، وفي هذا إنذار لمن كفروا برسالة
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: { وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ }
(/1526)
وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67)
ويسمي الحق سبحانه هنا العذاب الذي نزل على ثمود " الصيحة " وسمّاه في
موضع آخر " الطاغية ":
{ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بِالطَّاغِيَةِ }[الحاقة: 5].
وسمّاه في موضع آخر " صاعقة " فقال سبحانه:
{ فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ
وَثَمُودَ }[فصلت: 13].
وفي سورة الأعراف سمّاه " الرجفة " ، وكل من الصاعقة والصيحة والرجفة
تؤدي معنى الحدث الذي يَدْهَمُ، ولا يمكن الفكاك منه.
ولقائل أن يقول: لماذا لم يقل الحق سبحانه هنا: " وأخذت الذين ظلموا الصيحة
"؟ لماذا اختفت تاء التأنيث من الفعل، وقال سبحانه:
{ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ } [هود: 67].
ونقول: إن الذي يتكلم هنا هو رب العباد سبحانه، ولا يصح أن نفهم الصيحة على أنها
جاءت لتعبر عن صيحة واحدة، فتاء التأنيث تعبر عن الصيحة لمرة واحدة، أما إذا تكررت
وصارت صياحاً كثيراً تأخذهم كل صيحة من الصياح.
وهنا نلمح أن الصيحة فيها ضعف الأنوثة، أما الصياح ففيه عزيمة وقوة الرجولة، فأراد
الحق سبحانه أن يجمع الأمرين، فقال: " أخذ " ولم يقل: " أخذت
".
ثم قال سبحانه:
{ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ } [هود: 67].
أي: مُلْقون على رُكَبهم وعلى جباههم بلا حركة.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ }
(/1527)
كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)
ومادة " غَنِيَ ".. " غِنىً " ، أو " غَنَاءً "
كلها متساوية؛ لأن الغَنَاء هو الوجود؛ وجود شيء يُغَنِي عن شيء، فالغِنَى هو وجود
مال يغنيك عن غيرك، والغناء هو ما نسمعه من المُغَنِّين، والأغنية التي يعجب
الإنسان من كلماتها ولحنها، فهو يقيم معها إقامة تطرد ما سواها مما سمع من الكلام
على كثرة ما سمع أو قرأ، والغَناء هو للإقامة.
والحق سبحانه يقول:
{ حَتَّىا إِذَآ أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَآ
أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً
فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ }[يونس: 24].
أي: كأنها لم توجد من قبل.
وهنا يقول الحق سبحانه:
{ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ } [هود: 68].
أي: لم يقيموا فيها، لأنها صارت حصيداً.
ثم يقول الحق سبحانه في نفس الآية: { أَلاَ إِنَّ ثَمُودَاْ كَفرُواْ رَبَّهُمْ }
[هود: 68]، وهذه هي حيثية العذاب الذي نزل بهم.
وعادة ما تتعدى كلمة " كفر " بالباء، ويقال: كفروا بربهم، ولكن الحق
سبحانه يقول هنا:
{ أَلاَ إِنَّ ثَمُودَاْ كَفرُواْ رَبَّهُمْ } [هود: 68].
والفارق كبير بين المعنيين، فمعنى { كَفرُواْ رَبَّهُمْ } أي: ستروا وجوده، فلا
وجود له، ولكن معنى " كفروا بربهم " هو اعتراف بالله الموجود، لكنهم لم
يؤمنوا به.
وقول الحق سبحانه: { كَفرُواْ رَبَّهُمْ } يرد على الملاحدة الذين لا يقرون بوجود
الله، لأن ذنب إنكار وجود الله ليس بعده ذنب، ولا يوجد ما هو أكثر منه في الذنوب.
لذلك يقول الحق سبحانه:
{ أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ } [هود: 68].
أي: أنهم: يستحقون ما وقع عليهم من إهلاك وطرد من رحمة الله، ولن يعطف عليهم أحد
لضخامة ذنبهم.
ويأتي الحق سبحانه في الآية التالية بقصة جديدة من قصص الأنبياء، وهي جزء من قصة
أبي الأنبياء إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، يقول سبحانه: { وَلَقَدْ
جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِالْبُـشْرَىا }
(/1528)
وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69)
وكلمة " رسل " جمع " رسول " ، والرسول هو المرسَل من جهة إلى
جهة، وأي إنسان تبعثه إلى جهة ما؛ اسمه رسول، ولكن المعنى الشرعي للرسول: أن يكون
مُرسَلاً من الله.
ويقول الحق سبحانه:
{ اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ }[الحج: 75].
واصطفاء الملائكة كرسل لتيسير التلقِّي عن الخالق سبحانه؛ لأن القوة التي تتلقى عن
الخالق سبحانه وتعالى لا بد أن تكون قوة عالية، والإنسان منا لا يقدر على أن يتلقى
مباشرة عن الحق سبحانه.
لذلك يأتي لنا الله جَلَّ عُلاَه بالرسل، فيصطفي من الملائكة المخصوصين القادرين
على التلقي لينزلوا على المصطفى من البشر القادر على حمل الرسالة.
وهكذا نعلم أن الملائكة ليست كلها قادرة على التلقي من الله تعالى، ولا كل البشر
بقادرين على التلقي عن الله أو عن الملائكة.
وهذه الحلقات في الإبلاغ أرادها الحق سبحانه، لتؤهل للضعيف أن يأخذ من الأقوى؛
والبشر يلجأون إلى ذلك في حياتهم.
وسبق أن ضربت المثل، بأننا أثناء الليل نطفىء نور المنزل، لكننا نترك ضوءاً خافتاً
يوضح لنا ملامح البيت، فإن قمنا ليلاً من النوم؛ لا نصطدم بمتاع البيت، فيتحطم ما
نصطدم به إن كان أضعف منا، أو نُصَاب نحن إن اصطدمنا بما هو أقوى منا.
والنور الضعيف يتيح لنا أن نرى مكان مفتاح الضوء القوي.
وكذلك يفعل الله سبحانه وتعالى، فيأتي بمصطفى من الملائكة، يتلقى عن الحق سبحانه
ويبلغ المَلَكُ من هؤلاء الرسولَ المصطفى من البشر.
والحق سبحانه هو القائل:
{ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ
حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ }[الشورى: 51].
وهنا يقول الحق سبحانه:
{ وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِالْبُـشْرَىا } [هود: 69].
والبشرى هي الإخبار بشيء يسرُّ قبل أوان وقوعه، وهي عكس الإنذار الذي يعني الإخبار
بشيء محزن قبل أوانه.
وقبل أن يوضح الرسل لإبراهيم ـ عليه السلام ـ البشارة التي جاءوا من أجلها، يعلمنا
الحق سبحانه المقدمات اللازمة للدخول إلى الأماكن، فمن أدب الدخول إلى أي مكان أن
نسلِّم على أهل هذا المكان، والحق سبحانه القائل:
{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ
حَتَّىا تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ عَلَىا أَهْلِهَا }[النور: 27].
ولذلك يأتي الحق سبحانه هنا بما قالته الملائكة من قبل إبلاغ البشرى:
{ قَالُواْ سَلاَماً } [هود: 69].
وجاء سبحانه بردِّ إبراهيم عليه السلام:
{ قَالَ سَلاَمٌ } [هود: 69].
ونحن نلحظ أن السلام جاء على ألسنتهم بالنصب، والرد بالسلام جاء بالرفع، وقولهم: {
سَلاَماً } دل على فعل يوضح التجدد، والرد جاء بكلمة { سَلاَمٌ } بالرفع؛ ليدل على
الثبات والإصرار.
والحق سبحانه هو القائل:
{ وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ }
[النساء: 86].
هكذا استقبل إبراهيم عليه السلام رسل الحق سبحانه.
ثم يقول الحق سبحانه:
} فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ { [هود: 69].
والعجل هو ولد البقر.
وهناك آيات كثيرة في القرآن تعرضت لقصة إبراهيم عليه السلام في أكثر من موضع من
مواضع القرآن، لا بقصد التكرار، ولكن لأن كل لقطة في أي موضع هي لقطة مقصودة لها
دلائلها وأسرارها، فإذا جُمِعَتْ اللقطات فسوف تكتمل لك قصة إبراهيم عليه السلام
في شمول متكامل.
وعلى سبيل المثال: يقول الحق سبحانه:
{ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ }[الأنعام:
75].
وفي موضع آخر يتعرض الحق سبحانه للتربية اليقينية التي أرادها لإبراهيم، فيقول
سبحانه:
{ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـاذَا رَبِّي
فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّآ رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً
قَالَ هَـاذَا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي
لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَماَّ رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً
قَالَ هَـاذَا رَبِّي هَـاذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ ياقَوْمِ إِنِّي
بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }[الأنعام:
76ـ79].
إن هذه الآيات تبين وظيفة الحواس إدراكاً، ووظيفة الوجدان انفعالاً، ووظيفة
الاختيار توحيداً وإذعاناً بيقين.
ثم يقول الحق سبحانه في موضع آخر على لسان إبراهيم عليه السلام فخاطب عمه باحترام
لمكانته التي تساوي منزلة الأب.
يقول الحق سبحانه:
{ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً *
إِذْ قَالَ لأَبِيهِ ياأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ
وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً * ياأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا
لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً * ياأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ
الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَـانِ عَصِيّاً * ياأَبَتِ إِنِّي
أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَـانِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ
وَلِيّاً }[مريم: 41ـ45].
فهذه الآية تبين رفق الداعي مع جمال العرض.
فأصرَّ العَمُّ على الشرك، فقال إبراهيم عليه السلام:
{ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي }[مريم: 47].
وبعد ذلك يتبرأ منه لإصراره على الكفر.
ثم هناك لقطة من يُحاجِج إبراهيم في ربه:
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ
الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ
أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ }[البقرة: 258].
وكانت تلك سفسطة في القول ناتجة عن عجز في التعبير، فليس إصدار حكم بالقتل على
إنسان، ثم العفو عنه، هو إحياء وإماتة، فأخذه إبراهيم عليه السلام إلى منطقة لا
يجرؤ عليها أحد، وقال:
{ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ
الْمَغْرِبِ }[البقرة: 258].
وهذه الآية تبين منطق الحق أمام زيف الباطل، ثم يأتي في موضع آخر من القرآن ليبين
المقارنة بين فكرة الكفر، وفكرة الإيمان، فيقول سبحانه:
{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا
تَعْبُدُونَ * قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ
هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ *
قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ }
[الشعراء: 69ـ74].
وفي هذه الآية أمثلة تحمل جواب الإسكات.
ثم يقول الحق سبحانه، على لسان إبراهيم عليه السلام:
{ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ *
وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ *
وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ }[الشعراء:
78ـ82].
يقول رب العزة سبحانه في سورة الأنبياء:
{ وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ *
إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَـاذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا
عَاكِفُونَ * قَالُواْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ
كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ * قَالُواْ أَجِئْتَنَا
بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ * قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فطَرَهُنَّ وَأَنَاْ عَلَىا ذالِكُمْ مِّنَ
الشَّاهِدِينَ }[الأنبياء: 51ـ56].
هذه هي التربية اليقينية التي أرادها الحق سبحانه لإبراهيم عليه السلام ليعلمنا
كيف يكون الإيمان؟
وكان قوم إبراهيم يعبدون آلهة غير الله، لكن إبراهيم عليه السلام توصَّل إلى عبادة
مَنْ خَلَقه وخَلَق الكون، وهو الصانع الذي يضع قانون صيانة ما يصنع سبحانه
وتعالى:
ولذلك نلاحظ قوله:
{ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ }[الشعراء: 78].
فلم يقل: " الذي خلقني يهديني " لأن هذه دعوى؛ ستُدَّعى، وسيضع الناس
قوانين لأنفسهم، فبيَّن الحق سبحانه أن الذي خَلَق هو الذي يَهْدِي.
وجاء الحق سبحانه بكلمة " هو " لحصر الأمر حتى لا يشارك الخلق خالقهم
فيه، لكن الأمر الذي لم يُدَّعَ، لم يأت فيه بكلمة " هو " كقوله:
{ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ }[الشعراء: 81].
فما لا شركة فيه عند الخَلْق يأتي به القرآن من غير تأكيد الضمير، ولكن في الأمر
الآخر يأتي بتأكيد الضمير كقوله:
{ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ }[الشعراء: 80].
فقد قال: " إن الطبيب هو الذي يشفيني " ، ولكن ذلك غير حقيقي؛ لأن الله
سبحانه هو الذي يضع العلم، وهو الذي خلق الداء وخلق الدواء.
ثم بعد ذلك يقول الحق سبحانه في قصة إبراهيم عليه السلام:
{ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ }[البقرة: 127].
إذن: فكل مناسبة تأتي لتأكيد معنى من معاني الإيمان تأتي معها لقطة من لقطات قصة
إبراهيم عليه السلام، وإذا جُمِعت اللقطات كلها تجد قصة إبراهيم كاملة.
وإذا كان الله سبحانه وتعالى يريد أن يقص على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم القصص،
فذلك لتثبيت فؤاده صلى الله عليه وسلم:
{ وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ
فُؤَادَكَ }[هود: 120].
لأن النبي صلى الله عليه وسلم يتعرض لكثير من الأحداث فيذكِّره الله سبحانه بما
حدث للرسل عليهم السلام ويأتي باللقطات الإيمانية ليثبت فؤاد الرسول صلى الله عليه
وسلم.
وهنا يقول الحق سبحانه:
} قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ {
[هود: 69].
وفي موضع آخر يقول الحق سبحانه:
{ إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ
}[الحجر: 52].
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه هذا الموقف:
{ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ
عَلَيمٍ }[الذاريات: 28].
أي: أحس في نفسه الخوف، وهذا من أمر المواجيد؛ لأن كل فعل من الأفعال له مقدمات
تبدأ بالإدراك، ثم النزوع، ثم الفعل؛ فحين رآهم إبراهيم عليه السلام أوجس في نفسه
خيفة، ثم نزع إلى فعل هو السلام.
والشرع لا يتدخل في الإدراك أو المواجيد، ولكنه يتدخل في النزوع، إلا في أمر واحد
من مدركات الإنسان، وهو إدراك الجمال في المرأة.
لذلك أمر الشرع بغض البصر؛ حتى لا يدرك الإنسان ذلك فينزع إلى سلوك ليس له حق فيه،
ولأن إدراك حُسْن المرأة قد يدفع الغرائز إلى السلوك الفوري؛ لأن الغرائز لا تفصل
النزوع عن الوجدان والإدراك.
وهنا بيَّن الحق مواجيد إبراهيم عليه السلام حين قال:
{ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ }[هود: 70].
وجاء بالمعنى النزوعي حين قال:
} قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ { [هود: 69].
وهو حين التأكيد والتثبيت.
وقال الحق سبحانه:
} فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ { [هود: 69].
وهو: العجل السمين المشوي على الحجارة؛ لأن الشواء ـ كما نعلم ـ قد يكون على اللهب
أو على الفحم، أو على الحجارة.
ومثل ذلك يحدث في البلاد العربية حين يأتون بحجر رقيق جدّاً، ويحمُّونه على النار،
ثم يشوون عليه اللحم، وهذا ما يضمن عدم حدوث تفاعلات بين اللحم والحجر؛ لأن هناك
تفاعلات تحدث من الحديد أو من الفحم؛ ولذلك فهذه أنظف طريقة للشواء.
أو أن كلمة: } بِعِجْلٍ حَنِيذٍ { [هود: 69].
أي: ينزل منه الدهن بعد الشواء.
وقول الحق سبحانه:
} فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ { [هود: 69].
لأن طبيعة سيدنا إبراهيم عليه السلام هي محبة الضيوف وإكرامهم.
ومن عادة الكرام أن يُعجِّلوا بإكرام الضيف، وتقديم الطعام له، والكريم هو من يفعل
ذلك؛ لأنه لا يعلم ما قد مر على الضيف دون طعام، فإن كان الضيف جائعاً؛ أكل، وإن
كان شبعان فهو يعلن ذلك.
ويقول الحق سبحانه ما حدث بعد أن جاء لهم إبراهيم عليه السلام بالعجل المشوي: }
فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ {
(/1529)
فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70)
وحين رأى إبراهيم أن أيديهم لا تصل إلى الطعام توجس من ذلك شرّاً ونكرهم، أي:
استنكر أنهم لم يأكلوا من طعام قدَّمه لهم، فهل علم إبراهيم أنهم ملائكة؟
لقد علم إبراهيم عليه السلام أنهم ملائكة من كلامهم.
وقد بيَّن ذلك قول الحق سبحانه في موضع آخر من القرآن:
{ إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ *
قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ * قَالَ
أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَىا أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ *
قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَن
يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ * قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ
أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىا قَوْمٍ
مُّجْرِمِينَ }[الحجر: 52ـ58].
إذن: فهم لم يقولوا له مثلما قالوا للوط عليه السلام:
{ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ }[هود: 81].
وهنا حين قالوا لإبراهيم عليه السلام:
{ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىا قَوْمِ لُوطٍ } [هود: 70].
أي: أنهم فهموا أن إبراهيم عليه السلام يعلم أنهم ملائكة؛ لأن المَلك قد يتشكل في
هيئة إنسان، مثلما تشكَّل جبريل عليه السلام أمام سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وكذلك الجن لهم قدرة على التشكل، إلا أن هناك فارقاً بين تشكل الملك وتشكل الجن،
فالجن إن تشكل تحكمه الصورة، فإن تشكل في صورة رجل فيمكنك أن تمسك به وتؤذيه.
ألم يَقُلْ رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن عفريتاً من الجن تفلَّت البارحة ليقطع عليَّ صلاتي، فأمكنني الله منه،
فأخذته، فأردت أن أربطه على سارية من سواري المسجد، حتى تنظروا إليه كلكم، فذكرت
دعوة أخي سليمان:
{ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِي
إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ } [ص: 35].
فرددته خاسئاً ".
إذن: إذا تشكل الجن حكمته الصورة، ويمكن أن نضربه مثلاً، أما الملاك إذا تشكل
فالصورة لا تحكمه.
وحُكْم الصورة عند تشكل الجني هي التي تحمينا من مخاوفنا، وهو أيضاً يخاف منا
مثلما نخاف منه، ولذلك لا يظهر الجني متشكلاً في صورة إلا لحظة قصيرة ليختفي على
الفور؛ لأنه يخاف أن تكون قد علمتم أن الصورة التي تشكل عليها تحكمه وتستطيع أن
تفتك به؛ لذلك فالجن يخافون من البشر.
وشاء الحق سبحانه ذلك الأمر حتى لا يفزع الجنُّ الناسَ.
وهنا يقول الحق سبحانه:
{ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ } [هود: 70].
وكلمة { نَكِرَهُمْ } تقتضي أن ننظر في مادة " النون والكاف والراء "
وكلمة " نكر " وكلمة " أنكر " كلتاهما مستعملة في القرآن.
والشاعر يقول:وَأنْكَرتَنِي ومَا كَانَ الَّذِي نَكِرَتْ مِنَ الحَوادِث إلاّ
الشَّيبَ والصَّلَعاوالاستعمال اللغوي يدل على أن المقابح من ألوان السلوك تسمى
منكرات، أي: ينكرها الإنسان بفطرته.
وهنا حين رأى إبراهيم عليه السلام أن أيديهم لا تصل إلى العجل الحنيذ نكرهم، وأوجس
في نفسه خيفة، فلاحَظوا ذلك، وقالوا:
} لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىا قَوْمِ لُوطٍ { [هود: 70].
وهكذا عرف لمن جاءوا، واطمأن أن قومه لم يأتوا بفعل يستحقون عليه العذاب، وخصوصاً
أن كتب التاريخ تقول: إن إمرأة إبراهيم عليه السلام قالت له: ألا تضم ابن أخيك إلى
كنفك هنا؛ لأن قومه يوشك أن يعمهم الله بالعذاب.
وحين سمعت أن الرسل إنما جاءت إلى قوم لوط سُرَّتْ من فراستها، وتبسَّمت لأنها تنبهت
إلى هذه المسألة.
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه:
{ قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىا قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ
عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ * مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ
}[الذاريات: 32ـ34].
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا
بِإِسْحَاقَ {
(/1530)
وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71)
فعندما كانت أمرأته قائمة على خدمة الضيوف، وسمعت كلام الملائكة اطمأنت على أنه لا
عذاب على قومهم، وتحققت فراستها فضحكت فأزادها الله سروراً، وبشَّرتها الملائكة
بإسحق، ومن وراء إسحق يعقوب.
فبعد دفع العذاب، وبيان أمر العذاب لقوم آخرين مجرمين، تأتي البشارة بتحقيق ما كان
إبراهيم عليه السلام وزوجه يصبوان إليه، وإن كان أوانها قد فات؛ لأن زوجة إبراهيم
كانت قد بلغت التسعين من عمرها، وبلغ هو المائة والعشرين عاماً. وفي هذا امتنان
على إبراهيم بمجيء ابن الابن أيضاً، وكذلك يمتن الله سبحانه على عباده حين يقول:
{ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ
أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً }[النحل: 72].
ولذلك قال الحق سبحانه:
{ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [هود: 71].
فالإنسان يحب أن يكون له ابن، ويحب أكثر أن يرى ابن ابنه، لأن هذا يمثل امتداداً
له.
وهكذا توالت البشارات، فقد أعلنت الملائكة أنها جاءت لتعذب قوم لوط، هؤلاء الذين
اختلف معهم إبراهيم عليه السلام؛ لما جاءوا به من الفواحش،وكذلك لأن إبراهيم عليه
السلام وامرأته قد علما أنهما لم يأتيا بأي أمر يغضب الله تعالى.
والثالثة من البشارات هي الغلام، وكان ذلك حُلْماً قديماً عند امرأة إبراهيم عليه
السلام لأنها عاقر، واستقبلت امرأة إبراهيم البشارة الأولى بالضحك، واستقبلت
البشارة بالابن بالدهشة.
وهذا ما يقول فيه الحق سبحانه: { قَالَتْ يَاوَيْلَتَىا أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ
}
(/1531)
قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72)
والشيء العجيب هو الذي يخالف نواميس الكون المعتادة، ولكن هناك فرقاً بين النواميس
وخالق النواميس، الذي هو قادر على أن يخرق النواميس.
وها هو سيدنا إبراهيم يقول في موضع آخر:
{ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَىا أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ }[الحجر: 54].
ولم يأت هنا بقول امرأة إبراهيم التي قالت:
{ يَاوَيْلَتَىا أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـاذَا بَعْلِي شَيْخاً } [هود:
72].
وتسمية الزوج بعلاً فيها دقة شديدة؛ لأن البعل هو الذي يقوم بأمر المبعول ولا
يحوجه لأحد.
كذلك الزوج يقوم بأمر زوجته فيما لا يستطيع أبوها ولا أخوها أن يقوما به، وهو
الإحساس بالأنوثة والإخصاب، وهو أهم ما تطلبه المرأة.
وأيضاً سُمِّي النخل بالبعل، لأنه لا يطلب من زارعة أن يسقيه، وإنما يكتفي النخل
بما يمتصه من الأرض، وما ينزل له من مطر السماء.
وكذلك سُمِّي نوع من الفول " بالفول البعلي " ، وهو الذي لا يحتاج إلى
إرواء.
إذن: فالبعل هو الزوج الذي يقوم على أمر زوجته فلا يُحوجها إلى غيره في أي شيء من
الأشياء.
وهنا تتعجب زوجة إبراهيم عليه السلام من أمر الإنجاب؛ لأن هذا شيء عجيب يقع على
غير انتظار؛ ولذلك يرد الملائكة عليها.
ويقول الحق سبحانه عن ذلك: { قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ }
(/1532)
قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)
والعجب ـ إذن ـ إنما يكون من قانون بشري، وإنما القادر الأعلى سبحانه له طلاقة
القدرة في أن يخرق الناموس.. ومن خرق النواميس جاءت المعجزات لتثبت صدق البلاغ عن
الله تعالى، فالمعجزات أمر خارق للعادة الكونية.
والقصة التي حدثت لإبراهيم عليه السلام وامرأته تكررت في قصة زكريا عليه السلام،
والحق سبحانه هو الذي أعطى مريم عليها السلام بشارة التذكير لزكريا عليه السلام
حين سألها:
{ أَنَّىا لَكِ هَـاذَا }[آل عمران: 37].
فقالت مريم:
{ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
}[آل عمران: 37].
إذن: فالحساب يكون بين الخلق وبعضهم، لا بين الخالق ـ سبحانه ـ وخَلْقه.
ولذلك ياتي قول الحق عز وجل:
{ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ }[آل عمران: 38].
وما دام زكريا عليه السلام قد تذكَّر بقول مريم:
{ إِنَّ اللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }[آل عمران: 37].
فمن حقه أن يدعو:
{ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً }[آل عمران: 38].
فأوحى له الله سبحانه وتعالى:
{ يازَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ يَحْيَىا لَمْ نَجْعَل لَّهُ
مِن قَبْلُ سَمِيّاً }[مريم: 7].
أي: أن الحق سبحانه لم يرزقه الابن فقط، بل وسماه له أيضاً باسمٍ لم يسبقه إليه
أحد.
وتسمية الله تعالى غير تسمية البشر، فإن كان بعض البشر قد سموا من بعد ذلك بعض
أبنائهم باسم " يحيى " فقد فعلوا ذلك من باب الفأل الحسن في أن يعيش
الابن.
لكن الحق سبحانه حين يسمي اسماً، فقد سماه " يحيى " ليحيا بالفعل، ويبلغ
سن الرشد، ثم لا يأتي الموت؛ لذلك قُتِل يحيى وصار شهيداً، والشهيد حيٌّ عند ربه
لا يأتي إليه موتٌ أبداً.
وهذا عكس تسمية البشر؛ لأن الإنسان قد يسمي ابنه " سعيد " ويعيش الابن
حياته في منتهى الشقاء.
والشاعر يقول عن الإنسان الذي سمى ابنه " يحيى ":وَسَمَّيْتُهُ يَحْيَى
لِيَحْيَا فَلَمْ يَكُنْ لِرَدِّ قَضَاءِ الله فيهِ سَبِيلُوحين نرجع إلى أن مريم
عليها السلام هي التي نبهت إلى قضية الرزق من الله، نجد أن زكريا عليه السلام قد
دعا، وذكر أنه كبير السن وأن زوجه عاقر.
ولا بد أن زكريا عليه السلام يعرف أن الحق سبحانه وتعالى يعلم كل شيء أزلاً، ولذلك
شاء الله سبحانه أن يطمئن زكريا عليه السلام بأنه سيرزقه الولد ويسميه، ويأتي قول
الحق سبحانه وتعالى:
{ كَذالِكَ قَالَ رَبُّكَ }[مريم: 9].
وما دام الحق سبحانه وتعالى هو الذي قرَّر، فلا رادَّ لما أراده، ولذلك يقول
سبحانه:
{ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً }[مريم:
9].
وهكذا توالت الأحداث بعد أن نبهت مريم زكريا عليه السلام إلى قضية خَرْق النواميس
التي تعرضت هي لها بعد ذلك، حينما تمثَّل لها المَلك بشراً، وبشَّرها بغلام اسمه
المسيح عيسى ابن مريم ـ عليه السلام.
وتساءلت مريم عن كيفية حدوث ذلك ـ وهي التي لم يمسسها بشر ـ فيذكِّرها الملك بأنها
هي التي أجرى الله سبحانه وتعالى على لسانها قوله الحق في أثناء كلامها مع زكريا
عليه السلام:
{ إِنَّ اللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }[آل عمران: 37].
وكان لا بد من طمأنتها؛ لأن إنجابها للمسيح عيسى ـ عليه السلام ـ دون أب هي مسألة
عرض، ويجب أن تُقبل عليها وهي آمنة، غير مرتابٍ فيها ولا متهمة.
والآية التي نحن بصددها هنا تتعرض لامرأة إبراهيم عليه السلام حين جاءتها البشارة
بالطفل، وكيف أوضحت لها الملائكة أنه لا عجب مما قدَّره الله تعالى وأراده، خلافاً
للناموس الغالب في خلقه؛ لأن رحمة الله تبارك وتعالى بكل خير فيها قد وسعت أهل بيت
النبوة، ومن تلك الرحمة والبركات هبة الأبناء في غير الأوان المعتاد.
ولهذا قال الحق سبحانه هنا:
} رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ { [هود: 73].
وينهي الحق سبحانه الآية بقوله تعالى:
} إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ { [هود: 73].
أي: أنه سبحانه يستحق الحمد لذاته، وكل ما يصدر عنه يستوجب الحمد له من عباده، فلا
حد لخيره وإحسانه، والله تعالى مُطْلَقُ صفات المجد.
وكلمة " حميد " ـ في اللغة ـ من " فَعِيل " وتَرِدُ على
معنيين: إما أن تكون بمعنى فاعل مثل قولنا: " الله رحيم " بمعنى أنه
راحم خلقه. وإما أن تكون بمعنى مفعول؛ كقولنا: " قتيل " بمعنى "
مقتول ".
وكلمة " حميد " هنا تأتي بالمعنيين معاً: " حامدٌ " و "
محمودٌ " ، مثل قول الحق سبحانه عن نفسه أنه " الشكور "؛ لأنه
سبحانه يشكر من يشكره على نعمه بطاعته. والله سبحانه " حميدٌ "؛ لأنه
حامدٌ لمن يطيعه طاعة نابعة من الإيمان، والله سبحانه " محمودٌ " ممن
أنعم عليهم نعمه السابغة.
والله سبحانه هو المجيد الذي يعطي قبل أن يُسأل.
ولذلك نجد عارفاً بالله تعالى قد جاءه سائل، فأخرج كيساً ووضعه في يده، ثم رجع إلى
أهله يبكي، فقالت له امرأته: وما يبكيك وقد أديت له حق سؤاله؟ قال: أنا أبكي لأني
تركته ليسأل، وكان المفروض ألا أجعله يقف موقف السائل.
والحق سبحانه وتعالى أعطانا، حتى قبل أن نعرف كيف نسأل، ومثال ذلك: هو عطاء الحق
سبحانه وتعالى للجنين في بطن أمه، والجنين لم يتعلم الكلام والسؤال.
والحق سبحانه وتعالى في كل لقطة من لقطات القرآن يعطي فكرة اجتماعية مأخوذة من
الدين، فها هو ذا سيدنا إبراهيم عليه السلام يقدم العجل الحنيذ للضيوف، ليعلمنا
أنه إذا جاء لك ضيف، وعرضت عليه الطعام، ولم يأكل، فلا ترفع الطعام من أمامه، بل
عليك أن تسأله أن يأكل، فإن رد بعزيمة، وقال: لقد أكلت قبل أن أحضر إليك، فَلَكَ
أن ترفع الطعام من أمامه بعد أن أكدت عليه في تناول الطعام.
ويروي بعض العارفين أن سيدنا إبراهيم عليه السلام حينما قال: ألا تأكلون؟ قالت
الملائكة: لا نأكل إلا إذا دفعنا ثمن الطعام. فقال إبراهيم، بما آتاه الله من حكمة
النبوة ووحي الإلهام: ثمنه أن تُسمُّوا الله أوله، وتحمدوه آخره.
وأنت إذا أقبلت على طعام وقلت في أوله: " بسم الله الرحمن الرحيم " وإذا
انتهيت منه وقلت: " الحمد لله "؛ تكون قد أديت حق الطعام مصداقاً لقول
الحق سبحانه:
{ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ }[التكاثر: 8].
وهكذا بيَّن لنا الحق سبحانه أن إبراهيم عليه السلام وزوجه قد أطمأنا على أن
الملائكة قد جاءت لهما بالبشرى، وأنها لا تريد بإبراهيم أو بقومه سوءاً، بل هي
مكلفة بتعذيب قوم لوط.
وهنا يقول الحق سبحانه: } فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ {
(/1533)
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74)
والجدل هو أن تأخذ حُجَّة من مقابل؛ وتعطيه حُجَّة؛ لتصل إلى حق. والجدل يختلف عن
المراء فالمراء يعني أنك تعرف الحقيقة وتجادل بالباطل لأنك لا تريد أن تصل إلى
الحق.
وقد نهانا الحق سبحانه عن المراء، وأمرنا بأن نجادل بشرط أن يكون الجدال بالتي هي
أحسن.
وهنا يبيِّن لنا الحق سبحانه أن إبراهيم بعد أن ذهب عنه الروع وجاءته البشرى بأن
الله تعالى سيرزقه بغلام، وعلم إبراهيم من الملائكة أنهم ذاهبون لتعذيب قوم لوط:
{ قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىا قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ
عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ * مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ }[الذاريات: 32ـ
34].
ومجادلة سيدنا إبراهيم في عقاب قوم لوط، لم تكن ردّاً لأمر الله، ولكن طلباً
للإمهال لعلهم يؤمنون؛ ذلك أن قلب إبراهيم عليه السلام؛ قلب رحيم.
ولذلك يأتي الحق سبحانه بالعلة في المجادلة في قوله تعالى: { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ
لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ }
(/1534)
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75)
إذن: فالعلة في الجدال أنه حليم لا يُعجِّل بالعقوبة، وأوَّاه؛ أي: يتأوه من
القلب، والتأوه رقة في القلب، وإن كان التأوه من الأعلى فهذا يعني الخوف من ألا
يكون قد أدى حق الله تعالى، وإن كان التأوه للأقل فهو رحمة ورأفة.
ولذلك فقد طلب إبراهيم عليه السلام من الله تعالى تأجيل العذاب لقوم لوط لعلهم
يؤمنون، وتأوُّههُ هنا لله تعالى، وعلى هؤلاء الجهلة بما ينتظرهم من عذاب أليم.
وقال الحق سبحانه في صفات إبراهيم أنه " منيب " أي: يرجع إلى الحكم وإلى
الحق في قضاياه.
ألم يَقُلْ الحق سبحانه في موضع آخر من كتابه العزيز:
{ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ
وَعَدَهَآ إِيَّاهُ }[التوبة: 114].
وبعد أن بحث إبراهيم عليه السلام عن الحق، وأناب إليه، يبين لنا الله سبحانه
وتعالى مظهرية الإنابة في قوله تعالى:
{ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ }[التوبة:
114].
وهنا في الآية التي نحن بصدد خوطرنا عنها والتي أوضحت تأوه إبراهيم لله عز وجل
وتأوهه رحمة بهؤلاء الذين لم يؤمنوا، وهم قوم لوط، وأيضاً كانت حجة إبراهيم ـ عليه
السلام ـ في الجدال ما قاله الحق سبحانه في سورة العنكبوت:
{ وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىا قَالُواْ إِنَّا
مُهْلِكُواْ أَهْلِ هَـاذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَالِمِينَ *
قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً }[العنكبوت: 31ـ32].
وكان سؤال إبراهيم للملائكة: كيف تُهلكون أهل هذه القرية وفيهم من هو يؤمن بالله
وعلى رأسهم نبي من الله هو لوط عليه السلام، وردت عليه الملائكة:
{ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ
كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ }[العنكبوت: 32].
وكأن إبراهيم خليل الرحمن يعلم أن وجود مؤمنين مع الكافرين في قرية واحدة، يبيح له
الجدال عن أهل القرية جميعاً.
ويتلقى إبراهيم الرد هنا في سورة هود في الآية التالية: { يَاإِبْرَاهِيمُ
أَعْرِضْ عَنْ هَـاذَآ }
(/1535)
يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آَتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)
وقول الملائكة:
{ يَاإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَـاذَآ } [هود: 76].
يعني إبلاغ إبراهيم أن مسألة تعذيب من لم يؤمن من قوم لوط أمرٌ مُنتهٍ ومحسوم، فهم
قد جاءوا لينفذوا، لا ليهدِّدوا؛ وأبلغوا إبراهيم:
{ إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبَّكَ } [هود: 76].
وإذا ما كان الأمر قد جاء من الله، فإبراهيم عليه السلام لأنه { مُّنِيبٌ } يعلم
أن أي أمر من الله تعالى لا بد أن يُنفَّذ، فلا بد أن يَتقبَّل ـ أمرَ الحق
سبحانه:
{ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ } [هود: 76].
أي: لا أحد بقادر على أن يرد عذاب الله. وكما أن هناك وعداً من الله تعالى غير
مكذوب، فهناك أيضاً عذاب غير مردود.
ويُروى أن إبراهيم عليه السلام في جداله قال للملائكة: إذا كان في قوم لوط خمسون
قد آمنوا بالله تعالى، أتعذبونهم؟ قالوا: لا. قال: وإن كان فيهم عشرة يؤمنون
بالله، أتعذبونهم؟ قالوا: لا. قال وإن كان فيهم واحد هو لوط؟ فردَّت الملائكة:
{ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ
}[العنكبوت: 32].
وانتهى الجدال، وذهبت الملائكة إلى مهمتها التي هي إيقاع العذاب بقوم لوط.
ويقول الحق سبحانه: { وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ }
(/1536)
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77)
أي: أن لوطاً شعر بالسوء، وضاق بهم ذرعاً، والذرع مأخوذ من الذراع التي فيها الكف
والأصابع وندفع بها الأشياء، وأي شيء تستطيع أن تمد إليه ذراعك لتدفع به، وإن لم
تَطُله ذراعك؛ قلت: " ضقت به ذرعاً " أي: أن يدي لم تطله، وهو أمر فوق
قوتي وطاقتي، وفوق ما آتاني الله من الآلات ومن الحيل.
وما الذي يسيء لوطاً في مجيء الملائكة؟
قيل: لأن الملائكة قد جاءوا على الشكل المعروف من الجمال، فحين يُقال: " فلان
ملاك " ، أي: شكله جميل.
ولوط ـ عليه السلام ـ يعلم أن آفة قومه هي إتيان الذكور، وامرأته تعلم هذه الآفة،
لكن موقفها من ذلك غير موقف لوط، فهي ترحب بتلك الآفة.
ويُقال: إنها تنبهت لمجيء الرجال الحِسان ـ ولم تعرف أنهم ملائكة العذاب ـ وصعدت
إلى سطح المنزل، وصفقت لعل القوم ينتبهون لها، فلم يلتفت لها أحد، فأشعلت ناراً
فانتبه لها القوم، وأشارت لهم بما يعبر عن مجيء ضيوف يتميزون بالجمال.
وهنا قال لوط عليه السلام:
{ هَـاذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ } [هود: 77].
أي: يوم شديد المتاعب.
ويقال: " يوم عصيب " و " يوم عصبصب " ، ومنه " العُصْبَة
" وهم جماعة يتكاتفون على شيء، ويقوى الفرد بمجموعهم، وقد صدق ظن لوط.
وفي هذا يقول الحق سبحانه عن ذلك: { وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ
وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ }
(/1537)
وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78)
وقول الحق سبحانه: { وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ } [هود: 78].
أي: يسرعون إليه في تدافق، والإنسان إذا لم يكن قد مرن على الشر وله به دُربة،
يكون متردداً خائفاً، أما من له دربة فهو يقبل على الشر بجرأة ونشاط.
وكلمة " يهرعون " هي من الألفاظ العجيبة في اللغة العربية، وألفاظ اللغة
تجد فيها فعلاً له فاعل، كقولنا: " يضربُ زيدٌ عَمْراً " أي: أن الضارب
هو " زيد " والمضروب هو " عمرو " ، ونقول: " يُضْرَبُ
عمرو " أي: أننا بنينا الفعل للمجهول، وسُمِّي عمرو " نائب فاعل ".
أما في الفعل " يُهْرَعُ " فلا نجد أحداً يقول: " يُهرع " إلا
ويكون بعدها فاعل وليس نائب فاعل، مثلها مثل الفعل " جُنَّ " فهل هناك
من يأتي لنفسه بالجنون، أم أن الجنون هو الذي جاءه؟ لا أحد يعرف سبب الجنون؛ ولذلك
بُنيت الكلمة للمجهول، ولكن ما يأتي بعدها يكون فاعلاً. وهذا من إعجاز البيان
القرآني.
وكذلك نقول: " زُكِمَ فلان " فمن الذي أصابه بالزكام؟ لا نعرف سبباً
ظاهراً للزكام.
إذن: فإذا جُهِلَ الفاعل فنحن نبني الفعل للمجهول، ولكن ما يأتي بعده يكون فاعلاً.
وقول تعالى:
{ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ } [هود: 78].
يبيِّن أنهم أقبلوا باندفاع، كأنهم يعشقون ما يذهبون إليه؛ لأن كلاً منهم له دربة
على ذلك الفعل المشين، أو أن كلاً منهم ذاهب إلى ما يحب دون تَهيُّب، باندفاع من
نفسه ودَفْع من غيره، مثلما تقول: " سنوزع تمويناً بالمجان "؛ هنا تجد
الناس يتدافعون، كل منهم من تلقاء نفسه، وغيره يدفعه ليرتد إلى الوراء.
وقوم لوط كانوا على دُرْبة بتلك الفاحشة.
يقول الحق سبحانه عنهم:
{ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ } [هود: 78].
أي: أن هذه المسألة عندهم كانت محببة، ولهم دربة عليها وخفيفة على قلوبهم، ولا
حياء يمنعهم عنها.
فالحياء يعني أن بعض الناس يعمل السيئة ويخشى الآخرون أن يفعلوها، لكن إذا ما
كانوا يحبون تلك السيئة، فلن يخجل أحد من الآخر.
وماذا يكون موقف لوط ـ عليه السلام ـ في هذا اليوم العصيب؟ لقد أقبلوا عليه بسرعة،
وفي كوكبة واندفاع، وهو يعلم نياتهم ويعلم سوابقهم، وفكَّر لوط ـ عليه السلام ـ في
أن يصرفهم انصرافاً من جنس اندفاعهم.
يقول الحق سبحانه:
{ قَالَ ياقَوْمِ هَـاؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } [هود: 78].
وقد قال ذلك لأن المرأة مخلوقة لذلك، ومن الممكن أن يتزوجوا من بناته.
وكان العُرْف في أيام لوط عليه السلام لا يمنع أن يزوِّج المؤمن ابنته لغير
المؤمن؟ وقد زَوَّجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إحدى بناته لعُتبة بن أبي لهب،
وأخرى لأبي العاص بن الربيع؟ قبل تحريم الحق سبحانه تزويج المؤمنة لغير المؤمن.
فهل كان المقصود: بناته من صُلبه أم بنات أمته، أم بنات المؤمنين به؟ وقد قيل: إنه
لم يؤمن بالله إلا لوط وابنتاه، فكيف يكون الزواج لابنتين من كل هذا العدد من
الرجال المتدافعين؟
وقيل: إنه بحث عن السادة الأقوياء الذين بيدهم القرار، وأراد أن يراضيهم بهذا
الزواج؛ لعلهم يرجعون عن الفواحش والسيئات، وفي هذا طهر لهم، وبذلك يحفظون كرامته
أمام ضيوفه.
يقول لوط عليه السلام:
} فَاتَّقُواْ اللًّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي { هود: 78].
وكلمة " ضيف " ـ كما نعلم ـ جاءت هنا مفردة، ولكنها تطلق أيضاً على
الجمع، والمثنى، وتصلح للدلالة على المذكر وعلى المؤنث أيضاً، فإن جاء ضيف واحد
تقول: " هذا ضيفي " ، وإن جاء اثنان تقول: " هذان ضيفي " ،
وإن كانت امرأة تقول: " هذه ضيفي " ، وإن كانتا امرأتين تقول: "
هاتان ضيفي " ، وإن جاءت جماعة تقول: " هؤلاء ضيفي ".
والحق سبحانه يقول:
{ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ }[الذاريات: 24].
وهناك ألفاظ أخرى كذلك في اللغة مثل: كلمة " طفل " فهي مفرد؛ ولكنها قد
تطلق على الجماعة، إلا أن كلمة " طفل " وُجِد لها جمع هو " أطفال
".
والحق سبحانه يقول:
{ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ
بِخُمُرِهِنَّ عَلَىا جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ
لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ
أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي
إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ
أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَىا عَوْرَاتِ النِّسَآءِ }[النور:
31].
إذن: فكلمة " طفل " تطلق أيضاً، ويراد بها الجماعة.
وهنا يطلب لوط عليه السلام من قومه ألا يخزوه في ضيفه، والخزي فضيحة أمام النفس
وأمام الناس.
والإنسان قد تهون عليه نفسه ويُقبل على العمل السيىء ما لم يره أحد، أما أن يراه
الناس، ففي هذا فضح له؛ فالفضيحة تكون بين جمهرة الناس، والهوان أن يكون العمل
السيىء بينه وبين نفسه.
ويتساءل لوط عليه السلام:
} أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ { [هود: 78].
أي: ألا يوجد بينكم رجل له عقل ومروءة وكرامة، يمنع هذه المسألة.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ {
(/1538)
قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79)
هذه الآية تحمل رد المتدافعين طلباً للفحشاء من قوم لوط؛ فقد قالوا له: أنت تعلم
مقصدنا، وليس لنا في بناتك أية حاجة نعتبرها غاية لمجيئنا.
وكان هذا يعني الإعراض عن قبول نصحه لهم بالتزوج من بناته بدلاً من طلب فعل
الفاحشة مع ضيوف لوط، وهم الملائكة الذين جاءوا في هيئة رجال بلغوا مبلغ الكمال في
الجمال.
ويأتي الحق سبحانه برد لوط عليه السلام: { قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً }
(/1539)
قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آَوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)
وساعة تقرأ كلمة " لو " فهذا هو التمني، أي: رجاء أن يكون له قوة يستطيع
أن يدفع بها هؤلاء، وكان لا بد من وجود شرط، مثل قولنا: " لو أن زيداً عندك
لجئت " ، لكن نجد هنا شرطاً ولا جواب، كأن يقال: " لو أن لي بكم قوة
لفعلت كذا وكذا ".
ولذلك يقال إن الملائكة قالت له: إن ركنك لشديد؛ ولذلك قال:
{ أَوْ آوِي إِلَىا رُكْنٍ شَدِيدٍ } [هود: 80].
والشيء الشديد هو المتجمِّع تجمُّعاً يصعب فَصْلُه، أو المختلط اختلاطاً بمزجٍ
يصعب تحلُّله؛ لأنك حين تجمع الأشياء؛ فإما أن تجمع أشياء أجناسها منفصّلة، ولكنك
تربطها ربطاً قوياً، مثل أن تربط المصلوب على شجرة برباط قوي، لكن كليهما ـ
المصلوب والشجرة ، منفصل عن الآخر وله ذاته، وهناك ما يُسمَّى خلطاً، وهناك ما
يُسمَّى مزجاً، والخلط هو أن تخلط أشياء، وكل شيء منها متميز عن غيره بحيث تستطيع
أن تفصله، أما المزج فلا يمكن فصل الأشياء الممتزجة ببعضها.
ومثال ذلك: أنك قد تخلط فول التدميس مثلاً مع حبات من الفول السوداني، وتستطيع أن
تفصل الاثنين بعضهما عن بعض؛ لأنك جمعتهما على استقلال. ولكن إن قُمْتَ بعصر ليمون
على كوب من الماء المحلى بالسكر؛ فهذا مزج يصعب حَلُّه.
وقد قال لوط عليه السلام ذلك لأنه لم يكن في مَنعةٍ من قومه، أهل " سدوم
" ويقال: إنها خمس قرى قريبة من " حمص ".
وقد تعجَّب رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول لوط، فقال ـ فيما رواه البخاري ـ:
" رحم الله أخي لوطاً كان يأوي إلى ركن شديد ".
فَلِهوْل ما عانى لوط عليه السلام من كرب المفاجأة قال ذلك، وهو يعلم أنه لا يوجد
سند أو ركن أشد من الحق سبحانه وتعالى.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك ما قالته الملائكة للوط عليه السلام: { قَالُواْ
يالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ }
(/1540)
قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)
وهكذا علم لوط ـ لأول مرة ـ أنهم رسل من الله تعالى، رغم أنهم حين تكلموا مع
إبراهيم لم يقولوا أنهم رسل من الله؛ ليدلنا على أن إبراهيم عليه السلام كان يعلم
أنهم رسل من الحق سبحانه، لكنه لم يكن يعلم سبب مجيئهم.
وهم حين أخبروا لوطاً: { إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ } [هود:
81] فمن باب أولى ألا يصلوا إليهم، وتخبر الملائكة لوطاً أن يسري بأهله ليلاً أي:
أخرج بأهلك في جزء من الليل، وقد أوضحت الملائكة أن موعد النكال بقوم لوط هو
الصبح:
{ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ } [هود: 81].
لذلك قالوا:
{ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الَّيْلِ } [هود: 81].
والمقصود أن يترك ربع الليل الأول، وربعه الآخر، وأن يسير في نصف الليل الذي بعد
ربع الليل الأول وينتهي عند ربع الليل الأخير، وقيل: إن أليق ما يكون بالقطع هو
النصف.
ثم يقول الحق سبحانه:
{ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ } [هود: 81].
والالتفات: هو الانصراف عن الشيء الموجود قبالتك، ويسمى الانصراف عن المقابل. فهل
المقصود هو الالتفات الحسي أم الالتفات المعنوي؟
نحن نعلم أن لوطاً سيصحب المؤمنين معه؛ من ديارهم وأموالهم، وما ألفوه من مقام ومن
حياة؛ لذلك تنبههم الملائكة ألا تتجه قلوبهم إلى ما تركوه، وعليهم أن ينقذوا
أنفسهم، وسيعوضهم الله سبحانه خيراً مما فاتهم.
هذا هو المقصود بعد الالتفات المعنوي، وأيضاً مقصود به عدم الالتفات الحسي.
وتوصي الملائكة لوطاً عليه السلام ألا يصحب امرأته معه؛ لأنها خانته بموالاتها
للقوم المفسدين، وإفشائها للأسرار، وعليه أن يتركها مع الذين يصيبهم العذاب.
ولكنها لحظة الخروج ادعت أنها مخلصة للوط، وقالت: سأخرج حيث تخرج، ثم نظرت إلى
القوم وقالت: وا قوماه ورجعت لتمكث معهم، ولينالها العذاب الذي نالهم في الموعد
الذي حددته الملائكة وهو الصبح:
{ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ } [هود: 81].
وقد تحدد الصبح لإهلاكهم؛ لأنه وقت الدعة والهدوء فيكون العذاب أشد نكالاً.
ويقول الحق سبحانه: { فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا }
(/1541)
فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82)
والحق سبحانه يبين لنا هنا أن الأمر بالعذاب حين يصدر، فالمأمور يستجيب قهراً،
ويقال إن قرى قوم لوط خمس: قرية " سدوم " وقرية " دادوما "
وقرية " ضعوه " ، وقرية " عامورا " وقرية " قتم ".
وقوله تعالى:
{ جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا } [هود: 82].
أي: انقلبت انقلاباً تامّاً.
ويقول القرآن في موضع آخر:
{ وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَىا }[النجم: 53].
والمؤتفكة من الإفك وهو الكذب المتعمَّد، أي: قول نسبة كلامية تخالف الواقع، ولأن
من يقول الإفك إنما يقلب الحقيقة إلى غير الحقيقة زعماً، ويقلب غير الحقيقة إلى ما
يشبه الحقيقة.
كذلك المؤتفكة، أي: القرى التي جعل عاليها سافلها فانقلبت فيها الأوضاع.
ونفذ أمر الله بأن أمطر عليهم حجارة من سجيل منضود، وهو طين قد تحجَّر.
والحق سبحانه يقول في آية أخرى{ حِجَارَةً مِّن طِينٍ }[الذرايات: 33].
وكلمة " حجارة " تعطي الإحساس بالصلابة، أما كلمة " طين "
فتعطي إحساساً بالليونة، ولكن الطين الذي نزل قد تحجر بأمر من الله تعالى، وهو قد
نزل منضوداً.. أي: يتتابع في نظام، وكأن كل حجر يعرف صاحبه، لأن الحق سبحانه يقول
بعد ذلك: { مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ }
(/1542)
مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)
وكلمة " مسوَّمة " أي: مُعلَّمة، وكأن كل حجر قد تم توجيهه إلى صاحبه،
فهذا الحجر يذهب إلى فلان، وذلك إلى فلان، مثل الصواريخ الموجهة إلى البلاد، ولكن
الدقة في هذه الحجارة أن كل حجر يعرف على من بالتحديد سوف ينزل بالعذاب، وقد جعلها
الحق سبحانه لتعذيب المكين، أي: الإنسان، ولا تدمر البلاد.
وهي مُرتَّبة؛ لأن الحق سبحانه قال:
{ سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ }[هود: 82].
ووردت كلمة (سجيل) أيضاً في قول الحق سبحانه:
{ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ }[الفيل: 3ـ4].
ويُنهي الحق سبحانه الآية بقوله:
{ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ } [هود: 83].
والظالمون هنا مقصود بهم الكافرون برسالة الحق ـ سبحانه وتعالى ـ التي تتابعت في
الموكب الرسالي وخاتمها هو محمد صلى الله عليه وسلم.
ونحن نعلم أن القصص القرآني قد نزل تسلية وثباتاً بيقين لرسول الله صلى الله عليه
وسلم وتذكرة بالأسوة:
{ وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ
فُؤَادَكَ }[هود: 120].
وتحكي القصص المعارك التي قامت بين كل رسول مُؤيَّد بمعجزة من الله، وبين المنكرين
له والكافرين به، وقد انتهت كل هذه المعارك بنصرة الرسول على الكافرين، إلا أن
الرسل السابقين لم يُكلّفوا أن يقاتلوا من أجل الإيمان، بل كان عليهم أن يعلنوا
الحجة الإيمانية فقط، وأن يبلغوا المنهج، فإن عصى القوم؛ فالسماء هي التي تتدخل
لتأديب المخالفين.
والحق سبحانه يقول:
{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي
لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاَدِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُواْ الصَّخْرَ
بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِى الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْاْ فِي الْبِلاَدِ *
فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ *
إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ }[الفجر: 6ـ14].
ولكن الأمر اختلف بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم، لأن دين محمد صلى الله عليه وسلم
هو الدين الذي تقوم عليه الساعة، وقومه مأمونون على البلاغ عن الله تعالى خلافة
للرسول صلى الله عليه وسلم.
وعلى كل واحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يعلم حكماً من أحكام الله تعالى أن
يبلغه؛ لأنه قائم مقام الرسول صلى الله عليه وسلم.
والحق سبحانه يقول:
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى
النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً }[البقرة: 143].
إذن: فكل واحد من أمته صلى الله عليه وسلم هو امتداد لرسالة الإسلام، وبدلاً من أن
السماء كانت تتدخل لتأديب الكافرين، جعل الله سبحانه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم
أن يقفوا بالقوة أمام الكافرين، لا لفرض الإيمان؛ لأن الإيمان لا يُفرض، ولا يُكره
عليه؛ لأنك قد تُكره إنساناً في الأمور الحسية، لكنك لا تستطيع أن تملك قلبه،
والحق سبحانه يريد الإيمان الغيبي الذي يملك القلوب.
ولذلك يقول الحق سبحانه:
{ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ * إِن نَّشَأْ
نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا
خَاضِعِينَ }[الشعراء: 3ـ4].
إذن: فالحق سبحانه يريد قلوباً تخشع، لا أعناقاً تخضع.
وهكذا فُوِّضَتْ أمة محمد صلى الله عليه وسلم تفويضين: فُوِّضَتْ في نقل رسالة
محمد صلى الله عليه وسلم إلى الأجيال، وكل جيل ينقلها إلى الجيل الذي يليه.
وها هو صلى الله عليه وسلم يقول: " نَضَّر الله امرأ سمع مقاتلي فوعاها
وأداها إلى من لم يسمعها، فرُبَّ مُبلغٍ أوعى من سامع ".
وفُوِّضَتْ أمة محمد صلى الله عليه وسلم في أن تقف من الكافرين موقف تأديب، لا
لتفرض الدين ولكن لتحمي حق اختيار الدين، فلم يحدث أن رُفع سيفٌ في الإسلام ليفرض
ديناً؛ بل رفع السيف ليحمي حرية اختيار الإنسان للدين.
يقول سبحانه:
{ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ }[الكهف: 29].
فإذا آمن فعليه الالتزام بالإيمان، فلا يكسر حكماً من أحكام الإيمان، وهذا تصعيب
للدخول في الإسلام، فمن أين يأتي ادعاء فرض الدين على المخالفين؟!
إذن: فقد آمن المؤمن من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إيمانين: الإيمان الأول هو أن
يؤمن بالإسلام، والإيمان الثاني أن يبلغ الدعوة.
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل
".
فهل المقصود بالعلماء هم من يعلمون العلم فقط؛ لا، بل يقصد كل من يعرف قضية من
قضايا الإيمان معرفة سليمة وصحيحة وينساح بالدعوة في الأرض ليعلِّم غير المؤمنين
ويترك الناس أحراراً في اختيار الدين.
وكذلك يقف المؤمنون برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأية قوة تحارب حرية
اختيار الدين.
وهكذا جاءت قصص القرآن لتثبيت فؤاده صلى الله عليه وسلم.
ونحن نعلم أن الحق سبحانه قد بعث المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو في مكة، فصرخ
بالدعوة، لا في آذان القبائل الواهية في أطراف الجزيرة، ولكن في آذان سادة
الجزيرة، حتى لا يقال: إنه استضعف قوماً فناداهم إلى الإيمان به، ولم يجرؤ على
السادة، وهم قريش، التي أخذت السيادة بحكم إقامتها في مكان البيت العتيق، وكان كل
العرب يحجون إلى البيت الحرام، فإذا ما تعرضت قبيلة لقريش بسوء، فقريش قادرة على
أن تنال من أبناء تلك القبيلة حين يحجون إلى البيت الحرام.
وهكذا أخذت قريش هيبتها من وجودها حول البيت.
إذن: فالبيت هو الذي صنع السيادة لقريش، وهو الذي صنع السيادة للآلهة المدَّعاة من
الأصنام حين يأتي كل قوم بإلههم من الحجر؛ ليضعوه في البيت؛ ليكتسب الحجر قداسة من
قداسة البيت.
إذن: فقد أخذت قريش السيادة من البيت الحرام، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم
فأعلن الدعوة على أسماع السادة، وسَفَّه أحلامهم، ولم يُبَالِ بجبروتهم وسيادتهم
على الجزيرة.
لكن الحق سبحانه قد شاء ألا يكون انتصار الإسلام على يد السادة من قريش في مكة، بل
جاء انطلاق الإسلام من المدينة؛ لأن الله سبحانه أراد أن يُعلِّم الدنيا كلها أن
العصبية لمحمد لم تخلق الإيمان بمحمد.
ولكن الله تعالى قد شاء أن يكون المستضعفون من أطراف الجزيرة هم الذين نصروا
الدعوة؛ فكأن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم هو الذي خلق العصبية لمحمد للحق
الممثَّل في رسالة محمد، ولم تخلق العصبية لمحمد إيماناً به وبرسالته.
وإذا كان الحق سبحانه قد نعتهم بالظالمين، وبيَّن لهم أن المكان الذي قُلِبَ عاليه
أسفله، ليس ببعيد عنهم، فهل لهم أن يتخذوا من ذلك عبرة؟
والظلم ـ كما نعلم ـ هو مجاوزة الحق للغير، أي: أن تأخذ حق الغير وتعطيه لغير ذي
حق، فإذا كان ظلماً في الألوهية، فهذا هو الشرك العظيم، وإن كان ظلماً في إعطاء حق
من حقوق الدنيا للغير، فهو ظلم للإنسانية، والظلم درجات بحسب الجريمة.
وقد ظلمت قريش نفسها ظلماً عظيماً؛ لأنها أشركت بالله؛ وجعلت له شركاء في
الألوهية؛ وهذا أقصى أنواع الظلم.
والله سبحانه يريد أن يذكِّر هؤلاء الظالمين بأن عذاب الله حين يجيء، أو أمر الله
حين يأتي؛ لا يمكن أن يقوم أمامه قائم يمنعه، فتنبهوا جيداً إلى أنكم عُرْضة أن
يُنزل الله تعالى بكم العذاب كما أنزل بهذه القرى؛ وهي غير بعيدة عنكم، فالمسافة
بين المدينة والشام قد تبدو مسافة طويلة إلا أن الله تعالى قد جعلهم يمرون عليها
في كل رحلة من رحلات الصيف إلى الشام.
إذن: فهي قرى تقع على طريق مسلوكة؛ ولذلك يقول الحق سبحانه عن موقعها:
{ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ }[الحجر: 76].
أي: بطريق تمرون عليها، لا يجرفها سيل، ولا يغير معالمها ريح.
بل هي طريق ثابتة مقيمة تمرون عليها حينما تذهبون في رحلة الصيف إلى الشام، فكان
من الواجب أن تأخذوا في كل مرور لقطة وعبرة؛ حتى لا تقعوا في ظلم آخر.
وقد نبهكم الله سبحانه أيضاً بمروركم على ديار قوم صالح الذين خاطبهم الحق سبحانه
بقوله:
{ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ
لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ }[الشعراء:
128ـ130].
هكذا ترون ديار ثمود وديار عاد وديار لوط وهي خاوية، وكان من الواجب ـ معشر قريش ـ
ألا تبالغوا في الظلم، وأن تنتبهوا بالعبرة إلى مصير كل من يشرك بالله تعالى.
ويلفتهم الحق سبحانه إلى أنهم لم يكفروا بحق الألوهية فقط، ولكنهم ـ ايضاً ـ كفروا
بشكر النعمة، وظلموا؛ لأن الله سبحانه هو الذي أنعم عليهم برحلة الشتاء إلى اليمن،
وبرحلة الصيف إلى الشام، والرحلتان للتجارة التي تأتي بالزيادة لقريش؛ لأنهم
يخرجون بالأموال ويعودون بالبضائع التي يبيعونها لأهل مكة، ولزوار بيت الله
الحرام.
وقد أخذت قريش مهابتها عند كل قوم يمرون عليهم أثناء الرحلتين، من أنهم يعيشون حول
البيت الحرام، لذلك يمتن الله سبحانه على قريش في قوله سبحانه:
{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ
كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم
بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ }[الفيل: 1ـ5].
فالقوم الذين جاءوا ليهدموا البيت الحرام ـ وهو رمز السيادة ـ لو هدم وتحوَّل
الحجيج إلى صنعاء، لسقطت مهابة قريش، ولكن الله تعالى حمى البيت وأرسل عليهم طيراً
أبابيل، وجعل الذين قصدوه بسوء كعصف مأكول.
لماذا صنع الله تعالى ذلك؟
تأتي الإجابة في السورة التالية لسورة الفيل حيث يقول الحق سبحانه في سورة قريش:
{ لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَآءِ وَالصَّيْفِ *
فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـاذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ
وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ }[قريش: 1ـ4].
إذن: كان من الواجب حين يمرون على هذه الديار أن يأخذوا منها عبرة، وأنهم ـ وإن
كانوا يمرون على هذه الديار بقصد التجارة وهي سر معاشهم ـ إذا لم يأخذوا من هؤلاء
العبرة فهم يقترفون ظلماً جديداً آخر.
لذلك يقول الحق سبحانه:
} وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ { [هود: 83].
أو: أن الله سبحانه وتعالى أراد أن ينبه قريشاً إلى أن الهلاك الذي نزل بهؤلاء
القوم المشركين، ليس ببعيد أن يصيب قريشاً، وأن يرسل الله سبحانه على كل واحد من
الكافرين به حجراً مسوَّماً يصيبه في مكانه الذي يكون فيه.
والسطحيَّون ـ في اللغة ـ يخطئون فيأخذون على القرآن مآخذ، لا تلتفت إليها الملكة
الصحيحة في اللغة، ويقولون: كيف يقول الله:
} وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ { [هود: 83].
وكلمة " ما هي " مؤنثة، وتقتضي أن يقول: " بعيدة " بدلاً من
كلمة " بعيد " ، أي: أن يكون القول: " وما هي من الظالمين ببعيدة
" ونسوا أن المتكلم هو الله تعالى، وأنهم لم يدرسوا اللغة دراسة صحيحة؛ لأن
" فعيل " إن جاءت بمعنى " مفعول " ، فهنا يستوي المذكر
والمؤنث.
ومثال ذلك من القرآن الكريم أيضاً هو قول الحق سبحانه:
{ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ }[التحريم: 4].
وقول الحق سبحانه:
{ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ }[الأعراف: 56].
إذن: فعدم درايتهم باللغة هو الذي جعلهم يخطئون مثل هذا الخطأ.
ويأتي الحق سبحانه بعد ذلك بقصة أخرى من القصص التي جاء بها الله في هذه السورة
لموكب الرسل، فيأتي بقصة شعيب عليه السلام، ويقول سبحانه: } وَإِلَىا مَدْيَنَ
أَخَاهُمْ شُعَيْباً {
(/1543)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84)
و " مدين " هو اسم ابن إبراهيم عليه السلام، ولم يكن هذا الابن موجوداً
وقت بعثة شعيب، لكن القبيلة التي تناسلت منه سُمِّيت باسمه، وكذلك القرية التي
أقامت فيها القبيلة سميت باسمه، فإن قلت إن شعيباً أرسل لقبيلة مدين، فهذا قول
سليم، وإن قلت إنه أرسل لقرية مدين، فهذا قول سليم أيضاً؛ لأن القرية لا بد لها من
سكان.
والحق سبحانه يقول على لسان إخوة يوسف عليه السلام:
{ وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا }[يوسف: 82].
والمقصود " أسأل أهل القرية ".
إذن: فمرة يطلب الاسم على المكان، ومرة يطلق المكان ويراد به المكين.
وقد بدأ شعيب رسالته مع قومه من حيث بدأ كل الرسل بالدعوة إلى قمة التدين، وهو أن
يعبدوا الله وحده لا شريك له ولا إله غيره، وهذا هو القدر المشترك في كل الرسالات.
والحق سبحانه يقول:
{ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىا بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَآ
إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىا وَعِيسَىا أَنْ أَقِيمُواْ
الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ
إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ
}[الشورى: 13].
إذن: فقمة الدين قي قضية العقيدة الإيمانية، وهي عبادة الله تعالى وحده ولا إله
غيره، لأن الحق سبحانه حين يوجه الأوامر التكليفية " افعل " و " لا
تفعل " فالله سبحانه لا يوجهها إلا لمن آمن به إلهاً واحداً، أما الذي لا
يؤمن به، فالله سبحانه لا يوجه إليه أي حكم.
ولذلك تجد حيثية كل حكم تكليفي في القرآن مُصَدَّراً بقوله تعالى:
{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ }[البقرة: 178].
سواء أكان الأمر صياماً، أم قصاصاً، ففي كل تكليف يُصدَّر بهذا القول، لا بد أن
يأتي المعنى: يا من آمنت بي إلهاً قادراً حكيماً، اسمع مني التكليف.
ولذلك أقول دائماً:
إن علة كل تكليف هي الإيمان بالمكلِّف، ولا داعي للبحث عن علة أخرى.
فمثلاً حيث يُقَال: إن علة الوضوء النظافة، نقول: وإن لم يوجد ماء، فنحن نلمس
التراب أو الحجر ثم نمسح وجوهنا في التيمم.
إذن: فالمقصد هو أن نتهيأ للصلاة بأي شكل يحقق مقصود العبادة وهو الطاعة للخالق
سبحانه وتعالى.
وإياك أن تؤخر تنفيذ الحكم إلى أن تبرره؛ لأن مبرره هو صدوره عن الله سبحانه
وتعالى.
وكذلك كل شيء يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحن نتبعه، ولا نبحث عن علة له،
وإلا لو كنا نؤجل الأحكام إلى أن تثبت تبريراتها العلمية مثل فساد لحم الخنزير بما
يحمله من أمراض، ومثل قدرة الخمر على إهلاك المخ وتدمير خلاياه، فضلاً عن تدمير
خلايا الكبد، فنحن لو كنا قد أجلنا تلك الأحكام، فماذا كان الموقف؟
لقد طبَّق المسلمون هذه الأحكام فور نزولها؛ لإيمانهم بالمنهج وحبهم في القرب من
الله، ثم أثبتت الأيام صدق الله تعالى في تكليفه.
وهنا يقول الحق سبحانه:
} وَإِلَىا مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا
لَكُمْ مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُهُ { [هود: 84].
وعرفنا أن العبادة ليست محصورة في الصلاة أو الصوم أو الزكاة أو الحج؛ لأن هذه هي
الأركان الأساسية التي يقوم عليها الإسلام؛ ولكن الإسلام أيضاً هو عمارة الأرض
بتنفيذ كل التكاليف، وكل ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
فإقبال الإنسان على مهنة ما يحتاجها المجتمع هو عبادة، وإذا خلتْ صنعة من صانع
فعلى ولي الأمر أن يكلف ويرغم بعض الناس على تعلمها؛ وأيضاً إتقان الصنعة عبادة.
وقول الحق سبحانه على لسان شعيب عليه السلام:
} مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُهُ { [هود: 84].
أي: إياك أن تأخذ حكماً تكليفياً من أحد آخر غير الله سبحانه وتعالى، لأنه لا إله
إلا الله وحده لا شريك له.
وإياك أن تستدرك من البشر حكماً على الله سبحانه وتعالى، وتظلم نفسك وتقول: "
لقد فات الله أن يقول لنا هذا الحكم، ولنأتي لأنفسنا بحكم جديد ".
إياك أن تستدرك حكماً على الله. افهم الحكم أولاً، فإن جاء حكماً محكماً فخذه،
وإنْ كان غير محكم بأن جاء مجملاً، أو غير مبيَّن، فانظر باجتهادك إلى أية جهة
تصل.
ولذلك " نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل من أرسله مبعوثاً إلى اليمن
فقال: " كيف تصنع إن عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بما في كتاب الله. قال فإن لم
يكن في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فإن لم يكن في
سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو، قال: فضرب رسول الله
صلى الله عليه وسلم على صدري ثم قال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صلى الله
عليه وسلم لما يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
وبعد أن دعا شعيب ـ عليه السلام ـ آل مدين لعبادة الله سبحانه وحده، وهذا هو الأمر
المشترك بين جميع الرسل ـ عليه السلام ـ تأتي الأحكام الأخرى، فمن يعمل فاحشة له
علاجه، ومن ينقص في الكيل والميزان، فالرسول يعالج هذا الأمر.
لأن العالم القديم كان عالم انعزال، لا التحام فيه أو مواصلة؛ فقد يوجد عيب وآفة
في مكان، ولا يوجد هذا العيب أو تلك الآفة في مكان آخر.
وكل رسول يأتي ليعالج عيباً محدداً في المكان الذي أرسله الله إليه، ولكن رسول
الله محمداً صلى الله عليه وسلم جاء ـ وهو الرحمة المهداة للجميع وخاتم الأنبياء
والمرسلين ـ جاء صلى الله عليه وسلم والدنيا على ميعاد بالالتقاء الإيماني، فلما
تقاربت البلاد عن طريق سرعة الاتصالات، وما يحدث في عصرنا الآن بقارة أمريكا نجده
عندنا في نفس اليوم أو غداً، فالعالم الآن عالم التقاء، وتعددت الداءات فيه وتوحدت
بسبب سرعة الالتقاء عن طريق عدم التمييز بين الخبيث والطيب.
ولذلك شاء الحق سبحانه أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم هو خاتم الرسل.
وكانت خيبة آل مدين هي عدم عبادة الله وحده، وكذلك كانت فيهم خسيسة التطفيف في
الكيل والميزان، لذلك يقول الحق سبحانه على لسان شعيب عليه السلام:
} وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ { [هود:
84].
وحين قرأ العلماء هذا القول الكريم لم يلتفتوا إلى أن المراد ليس نقص المكيل
والموزون، لأنه لو شاء لقال: " ولا تنقصوا المكيل أو الموزون " هذا إذا
نظرنا إلى الأمر من وجهة ما يريد البائع، ولكن القول هنا يقصد أن يأخذ كل ذي حق
حقه، أن يأخذ المشتري حقه من السلعة، وأن يأخذ البائع حقه في الربح.
إذن: فهذا القول الكريم يشمل البائع والمشتري معاً.
والكيل ـ كما نعرف ـ هو تعديل شيء بشيء، فإن كان في الخفة والثقل؛ فالأمر يحتاج
إلى ميزان، وإن كان تعديل شيء بشيء في الكم، فهذا يحتاج إلى الكيل، وهذا هو الأمر
المشهور في الكيل والميزان، وأي تعديل شيء بشيء يحتاج إلى ما يناسبه؛ فالقماش
مثلاً ـ يتم تعديله بالمتر، والأرض يتم تعديلها بالمساحة؛ أي: قياس الطول والعرض،
وبعض الأشياء تُباع بالحجم، وهذا يعني قياس الطول والعرض والارتفاع واستخراج
الناتج بعملية ضرب كل منهم في الآخر.
إذن: فالأمر المهم هو أن يأخذ كل إنسان حقه، حتى وإن كان تأجير قوة عامل لينجز
عملاً، فأنت تعدل زمن وقوة العمل بالأجر الملائم، والأمر المشهور هو الكيل
والميزان، لكن بقية التقييمات موجودة؛ ليأخذ كل ذي حق حقه.
لأن الإنسان لو أخذ غير حقه لاستمرأ أن يأخذ حقوق الناس، ولو أكل بعض الناس حقوق
البعض الآخر؛ لَزهدَ من أكلتْ حقوقهم في العمل.
وأنت حين تعطي للإنسان أقل مما يستحق، أو تأخذ من جهده فوق ما تدفع له من أجر،
تجده يبطىء في العمل، ولا ينجز المطلوب منه على تمام الدقة، ومن هنا يحدث الخلل.
ولذلك أقول: إن إعطاء كل ذي حق حقه يزيد من جودة الأداء في العمل.
وعلينا أن نترك صاحب الطموح ليعمل؛ بدلاً من أن يخزن ماله أو يكنزه؛ لأن صاحب
الطموح حين يقيم مشروعاً أو بناءً؛ فهو يفيد الفقراء وينفعهم ـ حتى وإن كان لا
يفكر في ذلك ـ فالذي يبني عمارة سكنية ينفع الصناع والعمال ومنتجي المواد اللازمة
للبناء ـ دون أن يقصد ـ وسينتفع العامل الفقير ـ دون أن يقصد صاحب العمل ـ وربما
انتفع كل الفقراء مما يصنعه صاحب العمل، قبله فيما يفعل.
إذن: فمن المهم أن يأخذ كل إنسان حقه قبل أن يجف عرقه؛ مصداقاً لقول رسول الله صلى
الله عليه وسلم: " أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه ".
وهكذا نعلم أن الدين في ظاهر الأمر يحض على الإيثار، وفي واقع الأمر، هو يحرص على
تأكيد ثواب الإنسان عند ربه؛ لأن الذي يؤثر غيره على نفسه ـ ولو كان به خصاصة ـ لو
كان معه مال قليل وأعطاه لآخر عنده ضائقة، وليس عند هذا الآخر مال، هنا يكون صاحب
المال القليل قد آثر الآخر على نفسه في ظاهر الأمر،ـ ولكنه سيأخذ أضعاف هذا المال
ثواباً من عند الله تعالى.
وهكذا يعلمنا الدين النفعية الراقية، وهي النفعية التي يعاملنا بها الله سبحانه؛
وحين نترك قانون النفعية ليسيطر على حركة الناس، فنحن نوفر سيولة الانتفاع في
المجتمع.
وهنا في الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها عرفنا أن شعيباً قال لأهل مدين:
} وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ { [هود:
84].
أي: أنكم يا أهل مدين غير مضطرين لذلك؛ لأن من يبيع منكم عنده سلع، ومن يشتري إنما
يملك نقوداً، فاكتفوا بالخير الذي عندكم، وليأخذ كل ذي حق حقه، وهذه قضية يغفل
عنها كثير من الناس؛ فالذي يبيع قد يبيع صنفاً واحداً، فإن غش في الكيل أو الميزان،
فسوف يغشه ويخدعه غيره في الأصناف الأخرى التي تلزمه لحياته.
وإن اشتغل واحد في إنقاص الكيل والميزان، فالآخرون سيفعلون مثل ذلك في كل ما يخص
حياته؛ لأن المخادع الواحد، سيلقي مخادعين كثيرين، وهنا يقول شعيب عليه السلام: ما
الذي يضطركم إلى ذلك وأنتم بخير؟
ثم يقول محذراً:
} وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ { [هود: 84].
لانك حين تنقص شيئاً وأنت تبيع أو تزيد شيئاً حين تشتري، فأنت لا تخدع من تتعامل
معه، وإنما تخدع نفسك.
وكلنا يعلم أن الغفلة قد تطرأ على البائع، وقد تطرأ على المشتري، وقد يحاول بائع
أن يستغل غفلة المشتري فيزيد من ثقل الميزان بإصبعه، وقد يحاول المشتري أن يستغل
غفلة البائع بأن يرفع كفة الميزان بإصبعه من غير أن يراه البائع، فيأخذ غير حقه،
وهذا نوع من خداع النفس؛ لأن الحق سبحانه إنما يأمر بالاستقامة في البيع والشراء؛
لأن الانتفاع بأي شيء مهما كَثُر، فهو موقوت بعمر الإنسان في الدنيا، وعمر الإنسان
موقوت، ولكن الذي يغش ويخدع إنما يُعرِّض نفسه لعذاب الله سبحانه في الآخرة، وهو
عذاب بلا أمد ولا نهاية.
وهكذا يسلِّم الإنسان نفسه لفائدة قليلة في الدنيا الزائلة، ثم يلقى عذاباً لا
ينتهي في آخرة غير زائلة.
والعذاب في الآخرة عذاب محيط، بمعنى أن المعذَّب لا يستطيع أن يفلت منه، فأنت في
الدنيا بإمكانك أن تحتال في النجاة من العذاب، وقد تلجأ إلى من هو أقوى منك
ليحميك، ولكنك في الآخرة تواجه يوماً لا بيع فيه ولا خُلَّة ولا شفاعة، إن كنت من
أهل النار.
يقول الحق سبحانه بعد ذلك ما جاء على لسان شعيب مواصلاً الحديث إلى أهل مدين: }
وَياقَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ {
(/1544)
وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85)
وفي الآية الكريمة السابقة قال الحق سبحانه:
{ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ }[هود: 84].
وهكذا نعلم أن عدم الإنقاص في الكيل والميزان مطلوب، وكذلك توفية المكيال والميزان
مطلوبة؛ لأنهما أمر واحد، والحق سبحانه لا يتكلم عن المكيل ولا عن الموزون إلا
بإطلاقهما، وهو كل عمل فيه واسطة بين البائع والمشتري.
وفي موضع آخر من القرآن الكريم يقول الحق سبحانه:
{ وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ
يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ }[المطفيين:
1ـ3].
ذلك لأن البائع قد يقول لك: أنت مأمون فزِنْ أنت لنفسك أو كِلْ أنت لنفسك، وقد
تخدع البائع فتأخذ أكثر من حقك؛ وقد يفعل البائع عكس ذلك، وفي مثل هذا بؤس
للاثنين.
وهنا يقول شعيب عليه السلام:
{ وَياقَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ } [هود: 85].
والحق سبحانه هنا تكلم عن النقص وعن الإيفاء.
ثم يقول سبحانه:
{ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ } [هود: 85].
وهذا كلام عام لا ينحصر في مكيل أو موزون، فقد يأتي مشترٍ ليبخس من قيمة سلعة ما،
أو أن يأخذ رشوة لقضاء مصلحة، أو يخطف ما ليس حقّاً له، أو يغتصب، أو يختلس، وكلها
أمور تعني: أخذ غير حق بوسائل متعددة.
ونحن نعلم أن الخطف إنما يعني أن يمد إنسان يده إلى ما يملكه آخر ويأخذه ويجري،
أما الغصب، فهو أن يمد إنسان يده ليأخذ شيئاً، فيقاومه صاحب الشيء، لكن المغتصب
يأخذ الشيء عنوة، أما المختلس فهو المأمون على شيء فاختلسه، والمرتشي هو من أخذ
مالاً أو شيئاً مقابل خدمة هي حق لمن يطلبها.
إذن: فقول الحق سبحانه وتعالى:
{ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ } [هود: 85].
تضم أشياء متعددة.
والبخس هو أن تضر غيرك ضرراً، بإنقاص حقه، سواء أكان له حجم، أو ميزان، أو كَمٌّ،
أو كَيْفٌ.
وكلمة " أشياء " مفردها: " شيء " ، ويقولون عن الشيء: "
جنس الأجناس " فالثمرة يقال لها: " شيء " ، وكل الثمر يقال له:
" شيء ".
والحق سبحانه وتعالى يوصينا ألا يغرنا أي شيء مهما كان قليلاً.
ونحن نلحظ هنا أن كلمة " الناس " جمع، وكلمة " أشياءهم " جمع
أيضاً، وإذا قوبل جمع بجمع اقتضت القسمة آحاداً. أي: لا تبخس الفرد شيئاً، وإنْ
قَلَّ.
ونجد واحداً من العارفين بالله قد استأجر مطيَّة من خان ليذهب بها من مكان إلى
مكان آخر، فلما ركب المطية وقع منه السوط الذي يحركها به، فأوقف الدابة مكانها
وعاد ماشياً على قدميه إلى موقع سقوط السوط ليأخذه، ثم رجع ماشياً إلى مكان الدابة
ليركبها، فقال له واحد من الناس: لماذا لم ترجع بالدابة إلى موقع السوط لتأخذه
وتعود؛ فأجاب العارف بالله: لقد استأجرتها لأصِلَ بها إلى مكان في اتجاه معين، ولم
يتضمن اتفاقي مع صاحبها أن أبحث بها عن السوط.
ونجد عارفاً آخر جلس يكتب كتاباً، وكان الناس في ذلك الزمان يجففون الحبر الزائد
بوضع قليل من الرمال فوق الصفحات المكتوبة، ولم يجد العارف بالله ما يجفف به
المكتوب، فأخذ حفنة من تراب بجانب جدار، ثم ذهب إلى صاحب الجدار وقال له: أنا أخذت
تراباً من جانب جدارك فقوِّمه فقال صاحب الجدار: والله لِورَعِك لا أقوِّم، أي:
أنه قد تسامح في هذا الأمر.
ويُنهي الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله:
} وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ { [هود: 85].
وكلمة عثا، يَعْثي، ويعثوا، وعثى. يعثي؛ كلها تعني: زاول فساداً، أي: أن يعمد
الإنسان إلى الصالح في ذاته فيفسده، مثل طَمْر بئر ماء، أو حفر طريق يسير فيه
الناس، وهو كل أمر يخرج الصالح ـ في ذاته ـ عن صلاحه.
والمجتمع كله ـ بكل فرد فيه ـ مأمور بعدم مزاولة الفساد، ولو طبَّق كل واحدٍ ذلك
لصار المجتمع كله صالحاً، ولكن الآفة أن بعض الناس يحب أن يكون غيره غير مفسد،
ولكنه هو نفسه يفسد، ولا يريد من أحد أن يعترض عليه.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ {
(/1545)
بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)
أي: ما يبقى لكم من الأمر الحلال خير لكم؛ لأن من يأخذ غير حقه يخطىء؛ لأنه يزيل
البركة عن الحلال بالحرام؛ فمن يأخذ غير حقه يسلط الله عليه أبواباً تنهب منه
الزائد عن حقه.
وأنت تسمع من يقول: " فلان هذا إنما يحيا في بركة " ، أي: أن دخله قليل،
ولكن حالته طيبة، ويربي أولاده بيسر، على عكس إنسان آخر قد يكون غنيّاً من غير
حلال، لكنه يحيا في ضنك العيش.
وقد تجد هذا الإنسان قد انفتحت عليه مصارف الدنيا فلا يكفي ماله لصد همومه، لأن
الله سبحانه قد جَرَّأ عليه مصارف سوء متعددة.
وقد يستطيع الإنسان أن يخدع غيره من الناس، ولكنه لن يستطيع أن يخدع ربه أبداً.
وقول الحق سبحانه:
{ بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ } [هود: 86].
أي: أن الله تعالى يُذهِب ـ عمن يراعي حقوق غيره ـ مصارف السوء.
وسبق أن قلنا قديماً: فلننظر إلى رزق السلب لا إلى رزق الإيجاب؛ لأن الناس في
غالبيتها تنظر إلى رزق الإيجاب، بمعنى البحث عن المال الكثير، وينسون أن الحق
سبحانه وتعالى قد يسلط مصارف السوء على صاحب المال الكثير الذي جمعه من غير حق،
بينما يسلب عن الذي يرعى حقوق الناس تلك المصارف من السوء.
ومن يُربُّون أولادهم من سُحْت أو حرام، لا يبارك الله فيهم؛ لأن هناك في تكوينهم
شيئاً حراماً. فنجد ـ على سبيل المثال ـ ابن المرتشي يأخذ دروساً خصوصية ويرسب،
بينما ابن المنضبط والملتزم بتحصيل الكسب الحلال مقبل على العلم وناجح. أو قد يرزق
الله تعالى صاحب المال الحرام زوجة لا يرضيها أي شيء، بل تطمع في المزيد دائماً،
بينما يعطي الله سبحانه من يرعى حقوق الناس زوجة تقدر كل ما يفعله.
يقول الحق سبحانه:
{ بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [هود: 86].
أي: إن كنتم مؤمنين بأن الله تعالى رقيب، وأنه سبحانه قيُّوم؛ فلا تأخذ حقّاً غير
حقك؛ لأنك لن تستغل إلا نفسك؛ لأن الله سبحانه وتعالى رقيب عليك.
ويُنهي الحق سبحانه الآية بقوله:
{ وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } [هود: 86].
أي: أن شعيباً عليه السلام قد أوضح لأهل مدين: أنا لن أقف على رأس كل مفسد لأمنعه
من الإفساد؛ لأن كل إنسان عليه أن يكون رقيباً على نفسه ما دام قد آمن بالله
سبحانه، وما دام قد عرف أن الحق سبحانه قد قال:
{ بَقِيَّةُ اللَّهِ } [هود: 86].
أي: أن ما يبقى إنما تشيع فيه البركة.
وهذه هي فائدة الإيمان: ما يأمر به وما ينهي عنه.
وهذا أمر يختلف عن القانون الوضعي؛ لأن عين القانون الوضعي قاصرة عما يخفى من أمور
الناس فكأنها تحميهم من الوقوع تحت طائلته.
. أما القانون الإلهي فهو محيط بأحوال الناس المعلنة، والخافية.
ومن يتأمل الآيات الثلاث:
{ وَإِلَىا مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا
لَكُمْ مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ
إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ *
وَياقَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ
النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّةُ
اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ
بِحَفِيظٍ }[هود: 84ـ86].
من يتأمل هذه الآيات يجد عناصر الصيانة للحركة في المجتمع كله، والمجتمع إن لم
تُصَنْ حركته يفسد؛ لأن حركة المجتمع أرادها الحق سبحانه حركة تكاملية، لا تكرار
فيها؛ ولو تكررت المواهب لما احتاج أحد إلى مواهب غيره.
والمصلحة العامة تقتضي أن يحتاج كل إنسان إلى موهبة الآخر، فمن يدرس الدكتوراه فهو
يحتاج إلى من يكنس الشارع، ومن يعالج الناس ليشفيهم الله نجده يحتاج إلى من يقوم
بإصلاح المجاري.
وماذا كان رد أهل مدين على قول شعيب؟
يقول الحق سبحانه: } قَالُواْ ياشُعَيْبُ أَصَلَاوتُكَ تَأْمُرُكَ {
(/1546)
قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)
أي: أيأمرك إلهك ودينك أن نترك ما يعبد آباؤنا؟
ولقائل أن يقول: ولماذا قالوا: " أصلاتك "؟
نقول: لأن الإسلام بُنِيَ على خمس: أولها شهادة ألاّ إله إلا الله وأن محمداً رسول
الله؛ ويكفي أن يقولها الإنسان مرة واحدة في حياته كلها، ثم إقامة الصلاة، وبعد
ذلك إيتاء الزكاة، ثم صوم رمضان، ثم حج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً.
وأنت إن نظرت إلى هذه الأركان فقد تجد إنساناً لا يملك ما يزكِّى به أو ما يحج به،
وقد يكون مريضاً فلا صوم عليه، وهو ينطق بالشهادة مرة واحدة في حياته، ولا يبقى في
أركان الدين إلا الصلاة؛ ولذلك يقال عنها: " عماد الدين من أقامها فقد أقام
الدين، ومن تركها فقد هدم الدين " لأنها الركن الوحيد الذي يعلن العبد فيه
الولاء لربه كل يوم خمس مرات، دواماً في الولاء لله.
ولا تسقط الصلاة أبداً عن أي إنسان مهما كانت ظروفه، فإن عجز عن الحركة؛ فله أن
يصلي برموش عينيه، وإن عجز عن تحريك رموش عينيه فَلْيُجْرِ الصلاة على قلبه، حتى
في حالة الحرب والمسايفة فالإنسان المسلم يصلي صلاة الخوف.
إذن: فالصلاة هي الركن الذي لا يسقط أبداً، ويُكرَّر في اليوم خمس مرات، وقد
أعطاها الحق سبحانه في التشريع ما يناسبها من الأهمية.
وكل تكليفات الإسلام جاءت بوحي من الله سبحانه وتعالى، فجبريل عليه السلام يحمل
الوحي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ويبلغنا الرسول صلى الله عليه وسلم إياه،
وتميزت الصلاة وحدها بأن الحق سبحانه قد كلَّف بها النبي صلى الله عليه وسلم في
أثناء وجوده في الملأ الأعلى؛ عند سدرة المنتهى، وذلك لفرط أهميتها.
ومثال ذلك من حياتنا ـ ولله المثل الأعلى ـ نجد الرئيس في أي موقع من مواقع العمل؛
وهو يستقبل البريد اليومي المتعلق بالعمل، ويحول كل خطاب إلى الموظف المختص ليدرسه
أو ليقترح بخصوصه اقتراحاً، وإذا وجد الرئيس أمراً مهمّاً قادماً من أعلى
المستويات؛ فهو يستدعي الموظف المختص؛ ويرتب معه الإجراءات والترتيبات الواجب
اتخاذها؛ وإذا كان هذا يحدث في الأمور البشرية، فما بالنا بالتكليف من الله سبحانه
وتعالى للرسول؟
وقد شاء الحق سبحانه أن يكون تكليف الصلاة ـ لأهميته ـ هو التكليف الوحيد الذي نال
تلك المنزلة؛ لأنها الركن الذي يتكرر خمس مرات في اليوم الواحد؛ ولا مناص منه.
فأنت قد لا تنطق الشهادة إلا مرة واحدة؛ لكنك تقولها في كل صلاة.
وفي الزكاة تضحِّي ببعض المال؛ وأنت لم تولد ومعك المال؛ إلا إن كنت قد ورثت وأنت
في بطن أمك؛ ولا بد أن تزكِّي من مالك؛ والمال لا يأتي إلا من العمل؛ والعمل فرع
من الوقت؛ وأنت في الصلاة تضحِّي بالوقت نفسه؛ والوقت أوسع من دائرة الزكاة.
وفي الصيام أنت تمتنع عن شهوتي البطن والفرج؛ من الفجر إلى المغرب؛ لكنك تمارس كل
أنشطة الحياة؛ أما في الصلاة فأنت تصوم عن شهوتي الفرج والطعام؛ وتصوم أكثر عن
أشياء مباحة لك في الصيام.
وفي الحج أنت تتوجه إلى بيت الله الحرام؛ وأنت في كل صلاة تتوجه إلى بيت الله
الحرام.
وهكذا تجتمع كل أركان الإسلام في الصلاة.
وأهل مدين هنا ـ في الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها ـ قد هزءوا برسولهم
شعيب عليه السلام، وصلاته؛ مثلما فعل كفار قريش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال أهل مدين لشعيب عليه السلام:
} أَصَلَاوتُكَ تَأْمُرُكَ { [هود: 87].
وظنوا أنهم بهذا القول إنما يتهكمون عليه؛ لأن شعيباً كان كثير الصلاة؛ وهم ـ
ككفار قريش ـ يجهلون أن الصلاة تأمر وتنهى.
والحق سبحانه يقول:
{ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَىا عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ }[العنكبوت: 45].
إذن: فللصلاة أمر، وللصلاة نهي، وما دام قد ثبت لشيء حكم؛ يثبت له مقابله، وأنت
تسمع من يقول لآخر: أنت تصلي لذلك فأنا أثق في أمانتك وتسمع إنساناً آخر ينصح
صديقاً بقوله: كيف تسمح لنفسك أن ترتكب هذا الإثم وأنت خارج من الصلاة؟
وكثير من الناس يغفلون عن أن التقابل في الجهات إنما يحل مشاكل متعددة؛ فيأخذون
جهة ويتركون الأخرى.
ولذلك أقول: ما دام الحق سبحانه قد قال إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فلا بد
أنها تأمر بالبر والخير.
ومثال آخر: نجده في قول الحق سبحانه عن غرق قوم فرعون:
{ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَآءُ وَالأَرْضُ }[الدخان: 29].
وما دام الحق سبحانه وتعالى قد نفى بكاء السموات والأرض على قوم فرعون؛ ففي
المقابل فلا بد أنها تبكي على قوم آخرين؛ لأن السموات والأرض من المسخّرات للتسبيح
، وقال الحق سبحانه عنهما:
{ إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ
فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا }[الأحزاب: 72].
وبهذا القول اختارت كل من السموات والأرض مكانة الكائنات المسبِّحة، مصداقاً لقول
الحق سبحانه:
{ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ }[الإسراء: 44].
فإذا رأت السموات والأرض إنساناً مُسبِّحاً؛ فلا بد أن تحبه، وإن رأت إنساناً
كافراً، معانداً؛ فلا بد أن تكرهه.
وما دامت السموات والأرض لم تبكِ على قوم فرعون؛ فذلك لأنهم ضالون؛ لأنها لا تبكي
إلا على المهديين.
وقد حلَّ لنا الإمام علي بن أبي طالب ـ كرم الله وجهه ـ هذه المسألة؛ فقال: "
إذا مات المؤمن بكى عليه موضعان: موضع في الأرض، وموضع في السماء، أما موضعه الذي
في الأرض؛ فمصلاّه، وأما موضعه في السماء فمصعد عمله ".
لأن موضعه الذي كان يصلي فيه؛ يُحرم من أن واحداً كان يصلي فيه، وأما موضعه الذي
كان يصعد منه عمله؛ فيفتقد رائحة عبور العمل الصالح.
فإن أردت بالصلاة الدين؛ وهي رمز الدين؛ فللصلاة أمر هو نفس أمر الدين، وهي الأمر
بالإيمان الحق، لأن الإيمان المقلد لا نفع له.
إذن: فقد أراد أهل مدين التهكم على دعوة شعيب لهم؛ وتساءلوا:
} أَصَلَاوتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ { [هود: 87].
وهذا القول يحمل أيضاً ردهم على دعوته لهم ألاّ يعبدوا غير الله؛ فلا إله غيره؛
وردوا كذلك على دعوته لهم ألاّ ينقصوا الكيل والميزان؛ وألاّ يبخسوا الناس
أشياءهم؛ وأن يتيقنوا أن ما يبقى عند الله هو الخير لهم، وألا يعثوا في الأرض
مفسدين.
وقالوا: أتنهانا أيضاً عن أن نفعل بأموالنا ما نشاء؟ وكأنهم قد عميت بصيرتهم؛
لأنهم إن أباحوا لأنفسهم أن يفعلوا بأموالهم ما يشاءون؛ فغيرهم سيبيحون لأنفسهم أن
يفعلوا بأموالهم ما يشاءون؛ وستصطدم المصالح، ويخسر الجميع.
وقولهم: } إِنَّكَ لأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ { [هود: 87].
استمرار في التهكم الذي بدءوه بقولهم:
} أَصَلَاوتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ { [هود: 87].
مثلهم في ذلك مثل منافقي المدينة الذين قالوا للأنصار:
{ لاَ تُنفِقُواْ عَلَىا مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّىا يَنفَضُّواْ
}[المنافقون: 7].
وكانوا يريدون أن يضربوا المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار؛ وقد قالوا: } رَسُولِ
اللَّهِ { تهكماً؛ وهم يحرضون أثرياء المدينة على تجويع المهاجرين.
ومثلهم ـ أيضاً ـ مثل قوم لوط حين نهاهم عن فعل تلك الفحشاء؛ فقالوا تهكماً منه
وممن آمن معه:
{ أَخْرِجُوهُمْ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ }[الأعراف:
82].
فهل تطهرهم علة للإخراج من القرية، ولكنهم قالوا هذا لأنهم لا يريدون أن يكون بينهم
من يعكر ما هم فيه.
وهذا مثلما نسمع في حياتنا من يقول: " لا تستعن بفلان لأنه حنبلي ".
هم ـ إذن ـ قد قالوا:
} إِنَّكَ لأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ { [هود: 87].
وهذا منطق السخرية منه؛ لأنه لم يوافقهم على عبادة غير الله؛ ولم يوافقهم على
إنقاص الكيل والميزان؛ ونهاهم عن بَخْس الناس أشياءهم.
وإذا قيل حُكْمٌ وهو حقٌّ؛ ويقوله من لا يؤمن به؛ فهو يقصد به الهُزْء والسخرية.
وهو لون من التهكم جاء في القرآن الكريم في مواضع متعددة؛ فنجد الحق سبحانه يقول
لمن تجبر وطغى في الدنيا؛ ويلقى عذاب السعير في الآخرة:
{ ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ }[الدخان: 49].
وكذلك يقول الحق سبحانه:
{ وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوجُوهَ
}[الكهف: 29].
وفي كُلٍّ من القولين تهكم وسخرية، وكذلك قولهم في الآية التي نحن بصدد خواطرنا
عنها:
} أَصَلَاوتُكَ تَأْمُرُكَ { [هود: 87].
وهذا قول يحمل التهكم بصلاته.
وكذلك قولهم:
} إِنَّكَ لأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ { [هود: 87].
يعني التساؤل: كيف يصح لك وأنت العاقل الحليم أن تتورط وتقول لنا:
{ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُهُ }[هود: 84].
وقد قالوا ذلك لأنهم قد ألفوا عبادة الأصنام، وكذلك تهكموا على دعوته لهم بعدم
إنقاص الكيل والميزان.
وأيضاً لم يقبلوا منه قوله بأن يحسنوا التصرف في المال، والعلة التي برروا بها كل
هذا السَّفَه أن شعيباً حليم رشيد؛ فيكف يدعوهم إلى ما يخالف أهواءهم؟
ويأتي الحق سبحانه بما قاله شعيب ـ عليه السلام ـ فيقول جَلَّ شأنه: } قَالَ
ياقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىا بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي {
(/1547)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)
وهنا يعلن لهم شعيب ـ عليه السلام ـ أنه على يقين من أن الله سبحانه وتعالى قد
أعطاه حجة ومنهجاً، وقد رزقه الرزق الحسن الذي لا يحتاج معه إلى أحد؛ فامور حياته
ميسورة.
وقد يكون المقصود بالرزق الحسن رحمة النبوة.
ثم يقول الحق سبحانه ما جاء على لسان شعيب عليه السلام:
{ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىا مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } [هود: 88].
أي: أنني أطبق ما أدعوكم إليه على نفسي؛ فلا أنقص كيلاً أو أخْسِر ميزاناً، ولا
أبخس أحداً أشياءه؛ لأني لا أعبد غير الله.
وكلمة " أخالف " تدل على اتجاهين متضادين، فإن كان قولك بهدف صرف إنسان
عن فعل لكي تفعله أنت؛ تكون قد خالفته " إلى " كذا، وإن كنت تريده أن
يفعل فعلاً كيلا تفعله أنت؛ تكون قد خالفته " عن " كذا.
فشعيب ـ عليه السلام ـ يوضح لهم أنه لا ينهاهم عن أفعال؛ ليفعلها هو؛ بل ينهاهم عن
الذي لا يفعله؛ لأن الحق سبحانه قد أمره بألا يفعل تلك الأفعال، فالحق سبحانه هو
الذي أوحى له بالمنهج، وهو الذي أنزل عليه الرسالة.
وشعيب ـ عليه السلام ـ لا ينهاهم عن أفعال يفعلها هو؛ لأنه لا يستأثر لنفسه بما
يرونه خيراً؛ فليس في نقص الكيل والميزان؛ أو الشرك بالله أدنى خير، فكل تلك
الأفعال هي الشر نفسه.
ويوضح لهم شعيب ـ عليه السلام ـ مهمة النبوة؛ فيقول:
{ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ } [هود: 88].
فالنبوات كلها لا يرسلها الله تعالى إلا حين يطم الفساد، ويأتي النبي المُرسَل
بمنهج يدل الناس إلى ما يصلح أحوالهم؛ من خلال " افعل " و " لا
تفعل " ويكون النبي المُرسَل هو الأسوة لتطبيق المنهج؛ فلا يأمر أمراً هو عنه
بنَجْوةٍ؛ ويطبق على نفسه أولاً كل ما يدعو إليه.
ولذلك قال شعيب ـ عليه السلام ـ:
{ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ } [هود: 88].
لأن الله سبحانه وتعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها، وما يدخل في طوعها.
ويقول شعيب ـ عليه السلام ـ بعد ذلك:
{ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ }
[هود: 88].
وهكذا نعلم أن هناك فرقاً بين العمل؛ وبين التوفيق في العمل؛ لأن جوارحك قد تنشغل
بالعمل؛ ولكن النية قد تكون غير خالصة؛ عندئذ لا يأتي التوفيق من الله.
أما إن أقبلت على العمل؛ وفي نيتك أن يوفقك الله سبحانه لتؤدي هذا العمل بإخلاص؛
فستجد الله تعالى وهو يصوِّب لك أيَّ خطأ تقع فيه؛ وستنجز العمل بإتقان وتشعر
بجمال الإتقان، وفي الجمال جلال.
والحق سبحانه وتعالى يقول هنا ما جاء على لسان شعيب عليه السلام: { عَلَيْهِ
تَوَكَّلْتُ }؛ أي: أنه لا يتوكل إلا على الله؛ ولا يصح أن تعطف على هذا القول
شيئاً؛ لأنك إن عطفت على هذا القول وقلت " على الله توكلت وعليك "؛
فتوقع ألا يوفقك الله، لأنك أشركت أحداً غير الله.
ونجد في القرآن الكريم قول الحق سبحانه على لسان هود عليه السلام:
{ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ }[هود: 56].
ويجوز لك هنا أن تعطف.
ولك أن تتذكر قول أحد العارفين: " اللهم إني أستغفرك من كل عملٍ قصدتُ به
وجهك فخالفني فيه ما ليس لك ".
فلا تترك شيئاً يزحف على توكلك على الله تعالى؛ لأنك إليه تنيب؛ وترجع؛ كما قال
شعيب عليه السلام: } وَإِلَيْهِ أُنِيبُ {.
ويقول الحق سبحانه وتعالى من بعد ذلك: } وَياقَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي
{
(/1548)
وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89)
يقول لهم شعيب عليه السلام: أرجو ألا تحملكم عداوتكم لي على أن تُجرموا جُرْماً؛
يكون سبباً في أن ينزل الحق سبحانه بكم عقاباً، مثلما أصاب القوم الذين سبقوكم؛ من
الذين خالفوا رسلهم؛ فأنزل الله ـ عز وجل ـ عليهم العذاب كالغرق، و الرجفة،
والصيحة، والصاعقة، فاحذروا ذلك.
وشعيب عليه السلام ينصحهم هنا حرصاً منه عليهم، على الرغم من علمه أنهم يكنون له
العداء؛ لأنه دعاهم إلى ترك عبادة الأصنام التي عبدوها آباءهم؛ ونهاهم عن إنقاص
الكيل والميزان، وألا يبخسوا الناس أشياءهم؛ وسبق أن عذَّب الحق سبحانه المخالفين
لشرع الله من الأمم السابقة؛ ويذكرهم شعيب ـ عليه السلام ـ بأقرب من عُذِّبوا
زماناً ومكاناً؛ وهم قوم لوط.
يقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك: { وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ
إِلَيْهِ }
(/1549)
وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)
وهذه الآية تبين لنا أن الحق سبحانه لا يغلق أمام العاصي ـ حتى المُصِرّ على شيء
من المعصية ـ باب التوبة.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط
على بعيره وقد أضله في أرض فلاة ".
ولنا أن نتخيل بماذا يشعر من فقد بعيره؛ وهذا البعير يحمل زاد صاحبه ورَحْله؛ ثم
يعثر الرجل على بعيره هذا.
لا بد ـ إذن ـ أن يفرح صاحب البعير بالعثور عليه.
والحق سبحانه يقول هنا ما جاء على لسان شعيب ـ عليه السلام ـ لقومه:
{ وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ } [هود: 90].
وما دمتم ستستغفرونه عن الذنوب الماضية؛ وتتوبون إليه؛ بألا تعودوا إلى ارتكابها
مرة أخرى؛ فالحق سبحانه لا يرد مَنْ قصد بابه: { إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ }
[هود: 90] لأن مغفرته تستر العذاب، ورحمته تمنع العذاب.
وجاء الحق سبحانه هنا بأوسع المعاني: المغفرة، والرحمة، ومعهما صفته " الودود
"؛ وهي من الود؛ والود هو الحب؛ والحب يقتضي العطف على قدر حاجة المعطوف
عليه.
ولله المثل الأعلى: نرى الأم ولها ولدان: أولهما قادر ثري يأتي لها بما تريد؛
وثانيهما ضعيف فقير؛ فنجد قلب الأم ـ دائماً ـ مع هذا الضعيف الفقير؛ وتحنِّن قلب
القويِّ القادر على الفقير الضعيف.
ونجد المرأة العربية القديمة تجيب على من سألها: أي أبنائك أحب إليك؟ فتقول:
الصغير حتى يكبر؛ والغائب حتى يعود؛ والمريض حتى يشفى.
إذن: فالحب يقتضي العطف على قدر الحاجة.
ويقول الحق سبحانه في الحديث القدسي:
" يا بن آدم؛ لا تَخَافنَّ من ذي سلطان؛ ما دام سلطاني باقياً؛ وسلطاني لا
ينفد أبداً. يا بن آدم لا تَخْشَ من ضيق رزق؛ وخزائني ملآنة، وخزائني لا تنفد
أبداً. يا بن آدم خلقتك للعبادة؛ فلا تلعب، وضمنت لك رزقك فلا تتعب، فَوَعِزَّتي
وجلالي إن رضيت بما قسمتُه لك أرحتُ قلبك وبدنك؛ وكنتَ عندي محموداً؛ وإن أنت لم
ترض بما قسمتُه لك؛ فوعزتي وجلالي لأسلِّطنَّ عليك الدنيا، تركض فيها ركض الوحوش
في البرية؛ ثم لا يكون لك منها إلا ما قسمته لك. يا بن آدم خلقت السموات والأرض
ولم أعْيَ بخلقهنَّ؛ أيعييني رغيف عيش أسوقه لك؟ يا بن آدم لا تسألني رزق غد كما أطلب
منك عمل غدٍ. يا بن آدم أنا لك مُحِبٌّ؛ فبحقي عليك كنْ لي مُحِبّاً ".
وهذا الحديث الكريم يبيِّن مدى مودة الله سبحانه لخلقه؛ تلك المودة التي لا
تستوعبها القلوب المشركة.
ويأتي الحق ـ سبحانه وتعالى ـ بعد ذلك بقول أهل مدين رَدّاً على شعيب عليه السلام
ـ: { قَالُواْ ياشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً }
(/1550)
قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91)
وهذا يُظاهي قول مشركي قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قالوا:
{ قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ
وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ }[فصلت: 5].
والإيمان يتطلب قلباً غير ممتلىء بالباطل؛ ليُحسن استقباله؛ أما القلوب الممتلئة
بالباطل، فهي غير قادرة على استقبال الإيمان؛ إلا إذا أخلت العقولُ تلك القلوبَ من
الباطل، وناقشت العقول كُلاً من الحق والباطل، ثم تأذن لما اقتنعت به أن يدخل
القلوب.
ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى يطبع ويختم على القلوب الممتلئة بالكفر؛ فلا يخرج
منها الكفر ولا يدخل فيها الإيمان.
ولم يكتف أهل مدين بإعلان الكفر؛ بل هددوا شعيباً وقالوا:
{ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَآ
أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ } [هود: 91].
وهذا التهديد يحمل تحدِّياً، وكأنهم ظنوا أن بقدرتهم الفتك به؛ لأنهم يبغضون
حياته؛ وأعلنوا حجة واهية؛ وهي أن رهطه ـ أي: قومه وأهله؛ لأن الرهط هم الجماعة
التي يتراوح عدد أفرادها بين ثلاثة وعشرة أفراد ـ ما زالوا على عبادة الأصنام؛ وأن
هذا الرهط سيغضب لأي ضرر يصيب شعيباً؛ وتناسوا أن الذي أرسل شعيباً ـ عليه السلام
ـ لا بد أن يحميه، وهم ـ بتناسيهم هذا ـ حققوا مشيئة الله ـ عز وجل ـ بأن يُسخِّر
الكفر لخدمة الإيمان.
ومثال ذلك: هو بقاء عم النبي صلى الله عليه وسلم أبي طالب على دين قومه؛ وقد ساهم
هذا الأمر في حماية محمد صلى الله عليه وسلم في ظاهر الأسباب
ثم يأتي الحق سبحانه من بعد ذلك بردِّ شعيب عليه السلام على قومه؛ فيقول: { قَالَ
ياقَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ }
(/1551)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92)
وهنا يتساءل شعيب عليه السلام باستنكار: أوضعتم رهطي في كفة؛ ومعزَّة الله تعالى
في كفة؟ وغلَّبتم خوفكم من رهطي على خوفكم من الله؟! ولم يأبه شعيب عليه السلام
باعتزازهم برهطه أمام اعتزازه بربه؛ لأنه أعلن ـ من قبل ـ توكله على الله؛ ولأنه
يعلم أن العزة لله تعالى أولاً وأخيراً.
ولم يكتفوا بذلك الاعتزاز بالرهط عن الاعتزاز بالله؛ بل طرحوا التفكير في الإيمان
بالله وراء ظهورهم؛ لأن شعيباً عليه السلام يقول لهم:
{ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً } [هود: 92].
أي: لم يجعلوا الله سبحانه ـ أمامهم، فلم يأبهوا بعزة الله؛ ولا بحماية الله؛ وجعلوا
لبعض خلقه معزَّة فوق معزَّة الله.
ولم يقل: (ظِهْرِيًّا) نسبة إلى (الظهر)، فعندما ننسب تحدث تغييرات، فعندما ننسب
إلى اليمن نقول: يمنيّ. ونقول: يمانيّ، فالنسب هنا إلى الظهري، وهي المنسي
والمتروك، فأنت ساعة تقول: أنت طرحت فلاناً وراء ظهرك، يعني جعلته بعيداً عن
الصورة بالنسبة للأحداث، ولم تحسب له حساباً. إذن: فهناك تغييرات تحدث في باب
النسب.
ويذكِّرهم شعيب عليه السلام بقوله:
{ إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } [هود: 92].
أي: أن كل ما تقولونه أو تفعلونه محسوب عليكم؛ لأن الحق سبحانه لا تخفَى عليه خافية،
وقد سبق أن عرفنا أن القول يدخل في نطاق العمل؛ فكلُّ حدث يقال لهم: " عمل
"؛ وعمل اللسان هو القول؛ وعمل بقية الجوارح هو الأفعال.
وقد شرَّف الحق سبحانه القول لأنه وسيلة الإعلام الأولى عنه سبحانه.
يقول الحق سبحانه من بعد ذلك ما جاء على لسان شعيب عليه السلام: { وَياقَوْمِ
اعْمَلُواْ عَلَىا مَكَانَتِكُمْ }
(/1552)
وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93)
إذن: فشعيب عليه السلام عنده القضية المخالفة؛ لأن الله تعالى عنده أعزُّ من رهطه؛
وباعتزازه بربه قد آوى إلى ركن شديد، وبهذا الإيمان يعلن لهم: افعلوا ما في
وُسْعكم، وما في مُكْنتكم هو ما في مُكْنة البشر، وسأعمل ما في مُكْنتي، ولست
وحدي، بل معي الله سبحانه وتعالى؛ ولن تتسامى قوتكم الحادثة على قدرة الله
المطلقة.
ومهما فعلتم لمعارضة هذا الإصلاح الذي أدعوكم إليه؛ فلن يخذلني الذي أرسلني؛ وما
دمتم تريدون الوقوف في نفس موقف الأمم السابقة التي تصدت لموجات الإصلاح السماوية؛
فهزمهم الله سبحانه بالصيحة، وبالرجفة، وبالريح الصرصر، وبالقذف بأي شيء من هذه
الأشياء، وقال لهم: اعملوا على مكانتكم، وإياكم أن تتوهموا أني أتودد إليكم؛ فأنا
على بينة من ربي، ولكني أحب الخير لكم، وأريد لكم الإصلاح.
ولم يَقُلْ شعيب عليه السلام هذا القول عن ضعف، ولكن قاله ردّاً على قولهم:
{ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ }[هود:
91].
وأبرز لهم مكانته المستمدة من قوة مَنْ أرسله سبحانه وتعالى، وقال:
{ اعْمَلُواْ عَلَىا مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ } [هود: 93].
وهكذا أوضح لهم: أنا لن أقف مكتوف الأيدي، لأني سأعمل على مكانتي، و { سَوْفَ
تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُواْ
إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ } [هود: 93].
أي: أن المستقبل سوف يبيِّن مَنْ مِنَّا على الحق ومَنْ مِنَّا على الضلال، ولم
سيكون النصر والغلبة، ومن الذي يأتيه الخزي؛ أي: أن يشعر باحتقار نفسه وهوانها؛
ويعاني من الفضيحة أمام الخلق؛ ومَنْ مِنَّا الكاذب، ومَنْ على الحق.
وكان لا بد أن تأتي الآية التالية: { وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا
شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ }
(/1553)
وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94)
ونلحظ أن الحق سبحانه قد أورد في هذه السورة: أسلوبين منطوقين أحدهما بالواو،
والآخر بالفاء.
الأول: { وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا } [هود: 94]، في قصة اثنين آخرين من الرسل.
الثاني:{ فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا }[هود: 66].
في قصة اثنين من الرسل.
وقصة شعيب هي إحدى القصتين اللتين جاء فيهما { وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا } ولم يأت
بـ " الفاء " لأنها ـ كما نعلم ـ تقتضي التعقيب بسرعة، وبدون مسافة
زمنية؛ وتسمى في اللغة " فاء التعقيب " ، مثل قول الحق سبحانه:
{ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ }[عبس: 21].
أما " ثم " فتأتي لتعقيب مختلف؛ وهو التعقيب بعد مسافة زمنية؛ مثل قول
الحق سبحانه:
{ ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ }[عبس: 22].
وقد جاءت " الفاء " مرة في قصة قوم لوط؛ لأن الحق سبحانه قد حدد الموعد
الذي ينزل فيه العذاب، وقال:
{ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ }[هود: 81].
فكان لا بد أن تسبق " الفاء " هذا الحديث عن عذابهم، فقال:
{ فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا
حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ }[هود: 82].
أما هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، فقد قال الحق سبحانه:
{ وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ }
[هود: 94].
ولم يذكر وعداً ولم يحدد موعد العذاب.
والحق سبحانه يقول:
{ وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا } [هود: 94].
وكل أمر يقتضي آمراً؛ ويقتضي مأموراً؛ ويقتضي مأموراً به.
والآمر هنا هو الله سبحانه؛ وهو القادر على إنفاذ ما يأمر به، ولا يجرؤ مأمور ما
على مخالفة ما يأمر به الحق سبحانه؛ فالكون كله يأتمر بأمر خالقه.
إذن: فحين يخبرنا الحق سبحانه وتعالى أن العذاب قد جاء لقوم؛ فمعنى ذلك أن الأمر
قد صدر؛ ولم يتخلف العذاب عن المجيء؛ لأن التخلف إنما ينشأ من مجازفة أمر لمأمور
قد لا يطيعه، ولا يجرؤ العذاب على المخالفة لأنه مُسخَّر، لا اختيار له.
والقائل هنا هو الله سبحانه صاحب الأمر الكوني والأمر التشريعي؛ فإذا قال الحق
سبحانه حكماً من الأحكام وسجله في القرآن؛ فتيقن من أنه حادث لا محالة؛ لأن القضية
الكونية هي من الحق سبحانه وتعالى، ولا تتخلف أو تختلف مع مشيئته سبحانه، والحكم
التشريعي يسعد به مَنْ يُطِّبقه؛ ويشقى من يخالفه.
والحق سبحانه يعطينا مثالاً لهذا في قصة أم موسى.. يقول جَلَّ شأنه:
{ وَأَوْحَيْنَآ إِلَىا أُمِّ مُوسَىا أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ
فَأَلْقِيهِ فِي اليَمِّ }[القصص: 7].
فمنطق البشر يقول: كيف نقول لامرأة: إذا خِفْتِ على ابنك ألقيه في البحر؟ كيف
ننجيه من موت مظنون إلى موت محقق؟
هذا وإن كان مخالفاً لسنن العادة إلا أن أم موسى سارعت لتنفيذ أمر الله سبحانه؛
لأن أوامر الله بالإلهام للمقربين، لا يأتي لها معارض في الذهن.
والحق سبحانه كما أمرها بإلقاء وليدها في اليم ، فقال:
{ إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَىا أُمِّكَ مَا يُوحَىا * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ
فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ }[طه: 38ـ39].
كذلك أمر الحق ـ سبحانه وتعالى ـ اليمَّ بإلقاء التابوت ، وفي داخله موسى ـ
للساحل، ولذلك فيقين أم موسى في أن أوامر الله لا تتخلف، جعلها تسارع في تنفيذ ما
أمرها الله به.
والحق سبحانه يريد أن يُربِّبَ الإيمان، أي: يزيده في قلوب عباده، فَهَبْ أن الله
قضى بقضية أو أمر بأمر، ثم لم يأت الكون على وفق ما أمر الله، فماذا يكون موقف
الناس؟
فما دام رب العزة سبحانه قد قال فلا بد أن يحدث ما أمر به، فعندما يقول الحق
سبحانه:{ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ }[الصافات: 173].
فلا بد أن تكون الغلبة لجنود الله، فإذا ما غُلبوا فافهموا أن شرط الجندية لله قد
تخلَّف، وأن عنصراً من عناصر الجندية قد تخلف وهو الطاعة.
ومثال هذا: الذين خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في البقاء على الجبل
يوم أحد، إنهم خالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فماذا يحدث لو أنهم انتصروا
مع هذه المخالفة؟
إذن: فقد انهزم المسلمون الذين اختلت فيهم صفة من صفات جنديتهم لله.
ولا بد أن تلتقي القضيتان: القرآنية والكونية؛ لأن قائل القرآن هو صاحب سنن الكون
سبحانه وتعالى.
ولأن أهل مدين هنا قد أعلنوا الكفر؛ فلا بد أن يأتيهم العذاب.
وسمَّى الحق سبحانه هنا العذاب بالصيحة؛ وقال:
} وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ
جَاثِمِينَ { [هود: 94].
وسمَّى الحق سبحانه في سورة الأعراف العذاب الذي لحق بهم: " الرجفة "؛
فقال:
{ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ }[الأعراف:
91].
وسماه في قصة قوم عاد:
{ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ }[الحاقة: 6].
وسمَّاه بالخسف في عذاب قارون.
ومن عظمة التوجيه الإلهي أن العذاب كان ينتقي القوم الكافرين فقط؛ ولا يصيب الذين
آمنوا، بدليل قول الحق سبحانه:
} نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ { [هود: 94].
ولا يقدر على ذلك إلا إله قادر مقتدر؛ يُصرِّف الأمور كما يشاء سبحانه.
وكلمة " نجينا ": من النجاة؛ أي: أن يوجد بنجوة؛ وهي المكان العالي،
والعرب قد عرفوا مبكراً طغيان الماء؛ فقد كانوا يقيمون في اليمن ثم بعثرهم السيل
مصداقاً لقول الحق سبحانه:
{ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ
كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُواْ لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ
غَفُورٌ * فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ
وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ
وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ }[سبأ: 15ـ16].
هكذا تفرق العرب من اليمن؛ وانتشروا في الجزيرة العربية، وكانوا يخافون من الماء ـ
رغم أنه سر الحياة؛ وفضَّلوا التعب في البحث عن الماء للشرب لهم ولأنعامهم؛ بدلاً
من الوجود بجانب الماء، ومن عداوة الماء جاءت كلمة " نجا " أي: صعد إلى
مكان مرتفع.
واستخدمت كلمة " نجا " في كل موقف ينجو فيه الإنسان من الخطر الداهم،
فيقال: " نجا من النار "؛ " ونجا من العدو "؛ " ونجا من
الحيوان المفترس "؛ وكلها مأخوذة من النجوة، أي: المكان المرتفع. ويقال في
الفعل (نجا): نجا فلان، إذا كانت قوته تسعفه ليخلص نفسه من العذاب.
أما إذا كانت قوته غير قادرة على تخليصه من العذاب، فهو يحتاج إلى مَنْ يُنجيه،
ويُقال: " أنجاه " ، إذا كانت المسألة تحتاج إلى جهد ومعالجة صعبة
ليتحقق الفوز.
ونسب الفعل فيها إلى الله؛ فقال " نجينا ".
ويأتي الحق سبحانه في مثل هذا الأمر بضمير الجمع، كقوله تعالى:
{ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ }[القدر: 1].
فكل شيء فيه فعل من الحق سبحانه وتعالى يأتي الله فيه بضمير الجمع: إنَّا.
أما إذا كان الشيء متعلقاً بصفة من صفات الذات الإلهية، فإن الحق سبحانه يأتي
بضمير الإفراد (أنا) مثل قوله تعالى:
{ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ }[طه: 14].
وقد أنجى الحق سبحانه شعيباً والذين آمنوا معه؛ لأن شعيباً عليه السلام قال لقومه:
{ اعْمَلُواْ عَلَىا مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ }[هود: 93].
وكان عمل شعيب عليه السلام فيه صحة وعزيمة التوكل؛ لذلك أنجاه الله تعالى والذين
آمنوا معه، فهو سبحانه لا يريد من عباده إلا التوجه بالنية الخالصة الصادقة إليه،
فإذا توجَّه العبد بالنية الصادقة إلى الله، فالحق سبحانه يريح العبد، ويُعينه
بالاطمئنان على أداء أي عمل.
ومجرد الإيمان بالله تعالى والاتجاه إليه بصدق وإخلاص؛ يفتح أمام العبد آفاقاً من
النجاح والرفعة.. والمفتاح في يد العبد؛ لأن الحق سبحانه قد قال في الحديث القدسي:
" من ذكرني في نفسه ذكرته في ملأ خير منه ".
إذن: فالمفتاح في يد العبد.
والحق سبحانه هو القائل:
" ومن تقرَّب إليَّ شبراً تقرَّبتُ إليه ذراعاً ".
وهكذا يترك الحق سبحانه أمر التقرب إليه للعبد، وعندما يتقرب العبد من الله تعالى،
فإنه سبحانه يتقرَّب إلى العبد أكثر وأكثر.
ثم يقول الحق سبحانه في حديثه القدسي:
" ومن جاءني يمشي أتيته هرولة " لأن المشي قد يُتعب العبد، لكن لا شيء
يُتعب الحق سبحانه أبداً؛ لأنه مُنزَّهٌ عن ذلك.
إذن: فالحق سبحانه يريد منا أن نُخلص النية في الالتحام بمعية الله تعالى، ليضفي
علينا ربنا سبحانه من صفات جلاله وصفات جماله.
وانظروا إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه
في الغار.. يقول الحق سبحانه:
{ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا }
[التوبة: 40].
أي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى صاحبه عن الحزن بعلة معية الله سبحانه
وتعالى، ولا بد أن أبا بكر الصديق قد قال كلاماً يفيد الحزن؛ لأن الحزن لم يأت له
من تلقاء نفسه، بل من قانونٍ كوني، حين قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "
لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا " لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتكلم
عن القانون الكوني، لكنه يتكلم عن طلاقة قدرة المكوِّن سبحانه، فقال: " ما
ظنك باثنين الله ثالثهما؟ ".
فمعية الله أضفت عليهما شيئاً من جلاله وجماله، والله سبحانه لا تدركه الأبصار،
وهو يدرك الأبصار.
وقد أنجى الحق سبحانه شعيباً والذين آمنوا معه برحمة منه سبحانه، والرحمة ألا
يصيبك شيء.
ومثال ذلك: إن الإنسان يعالج فيشفى، ومرة أخرى يحميه الله من الداء.
ولذلك انتبهوا إلى حقيقة أن القرآن قد جاء بأمرين: شفاء، ورحمة، فإذا كان هناك داء
وترجعه إلى منهج الله؛ فالحق سبحانه يشفيه، والرحمة ألا يصيبك الداء من البداية.
وأما الذين ظلموا فقد أخذتهم الصيحة، وفي آية أخرى يقول سبحانه:
{ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ }[هود: 67].
وفي هذه الآية يقول الحق سبحانه:
} وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ { [هود: 94].
لأن القرآن على جمهرته جاء على لغة قريش، لا ليُعْلي قريشاً؛ ولكن لأن لغة قريش
كانت مُصفَّاة من جميع القبائل العربية، فهي تملك صفوة لغة كل القبائل، ولكن لم
يكن ذلك يعني أن نطمس بقية القبائل.
ولذلك جاء في القرآن بعض من لغات القبائل الأخرى، حتى لا يعطي لقريش سيادة في
الإسلام كما كان لها سيادة في الجاهلية، لذلك يأتي بلغات القبائل الأخرى، فمرة
ياتي بتاء التأنيث ومرة لا يأتي بها.
والتأنيث إما أن يكون حقيقياً أو مجازياً. والتأنيث الحقيقي هو المقابل للمذكر،
مثل: المرأة. والتأنيث المجازي مثل: " الصيحة " و " الحجرة ".
وكانت القبائل العربية تتجاوز في المؤنث المجازي؛ فمرة تأتي " التاء "
ومرة لا تأتي.
وإن كان هناك فَصْل بين الفعل والفاعل، فالفاصل قائم مقام التأنيث فيقول سبحانه:
{ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ }[هود: 67].
فكأن الصيحة لها مقدرة على أن تأخذ بما أودعه فيها مُرسِل الصيحة من قوة الأخذ،
وأخذه أليم شديد.
ويُنهي الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله تعالى:
} فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ { [هود: 94].
ونلحظ أن كل عذاب إنما يحدد له الحق سبحانه موعداً هو الصبح، مثل قوله تعالى:
{ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ }[هود: 81].
ومثل قوله الحق:
{ فَسَآءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ }[الصافات: 177].
والصبح هو وقت الهجمة على الغافل الذي لم يغادره النوم بعد، مثل زُوَّار الفجر
الذين يقبضون على الناس قبيل النهار.
ويقول الحق سبحانه:
} فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ { [هود: 94].
ولم يقل سبحانه: " فأصبحوا في دارهم جاثمين "؛ لأن بعضهم قد لا يكون في
بيته، بل في مكان آخر لزيارة أو تجارة.
ومثال ذلك: قصة أبي رغال، وكان في مكة، لكن الحجر الذي قتله بإرادة الله سبحانه
نزل عليه في البقاع ولم ينزل عليه الحجر في مكة؛ لأن الله سبحانه قد شاء ألا ينزل
عليه الحجر في البيت الحرام، الآمن، وكأن الحجر قد تتَّبعه، مثلما تتبعت الصيحة
الكفار من أهل مدين.
ونلحظ في الكلمة الأخيرة من هذه الآية الكريمة وهي " جاثمين " أن حرفي
" الجيم " و " الثاء " حين يجتمعان معاً ـ بصرف النظر عن
الحرف الثالث ، ففيهما شيء من الهلاك، وشيء من الغنائية. ومعنى " جاثمين
" أي: مُلقَون على بطونهم بلا حراك.
والحق سبحانه يقول:
{ وَتَرَىا كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً }[الجاثية: 28].
أي: يركع كل مَنْ فيها على ركبتيه. ويقال عن الميت: " الجثة ".
وانظروا إلى عظمة الحق سبحانه حين يجعل الناس تنطق لفظ " الجثة " تعبيراً
عن أي " ميت " عظيماً كان أم وضيعاً، ثم توضع جثته في القبر، لتحتضنه
أمه الأولى؛ الأرض.
ومن يرغب في تهدئة إنسان ملتاع وغاضب لموت عزيز عليه، فَلْيقُلْ له: هل تتحمل
جثمانه أسبوعاً؟ وسوف يجيب: " لا ".
إذن: فبمجرد أن ينزع الله سبحانه السر الذي به كان الإنسان إنساناً، وهو الروح،
يصبح الإنسان جثة ثم يتخشب، ثم يَرِمُّ.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك وصفاً لمن أخذتهم الصيحة من أهل " مدين ": }
كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ {
(/1554)
كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)
أي: أن من يمر على أهل " مدين " بعد ذلك كأنهم لم يكن لهم وجود.
والحق سبحانه يقول:
{ حَتَّىا إِذَآ أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَآ
أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا }[يونس: 24].
فالإنسان الذي ارتقى حتى وصل إلى الحضارات المتعددة، إلى حد أنه قد يطلب القهوة
بالضغط على زر آلة، فإذا شاء الله سبحانه أزال كل ذلك في لمح البصر.
هذه الحياة المرفهة يستمتع فيها الإنسان كمخدوم، وهي غير الجنة التي ينال فيها
الإنسان ما يشتهي بمجرد أن يخطر الأمر بباله.
وهنا يقول الحق سبحانه:
{ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ } [هود: 95].
ومادة " الغنى " منها: الغناء ـ بكسر الغين ـ وهو ما يغنيه المطربون،
ومنها الغناء ـ بفتح الغين ـ وهو يؤدي إلى الشيء الذي يغنيك عن شيء آخر، فالغنى
بالمال يكتفي عما في أيدي الناس.
وهكذا الغناء؛ لأن الأذن تسمع كثيراً، والعين تقرأ كثيراً، لكن الإنسان لا يردد
إلا الكلام الذي يعجبه، والملحَّن بطريقة تعجبه؛ فالغناء هو اللحن المستطاب الذي
يغنيك عن غيره.
والغَناء، أي: الإقامة في مكان إقامةً تغنيك عن الذهاب إلى مكان آخر، وتتوطن في
هذا المكان الذي يغنيك عن بقية الأماكن.
إذن: فقول الحق سبحانه:
{ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ } [هود: 95].
أي: كأنهم لم يقيموا هنا، ويستغنوا بهذا المكان عن أي مكان سواه.
ويقول الحق سبحانه في موضع آخر من القرآن الكريم:
{ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ }[هود: 100].
أي: أن الأطلال قائمة بما تحتويه من أحجار ورسوم، مثل معابد قدماء المصريين، وأنت
حين تزورها لا تجد المعابد كلها سليمة، بل تجد عموداً منتصباً، وآخر مُلْقىً على
الأرض،ـ وباباً غير سليم، ولو كانت كلها حصيداً؛ لاختفت تماماً، ولكنها بقايا
قائمة، ومنها ما اندثر.
وهذا يثبت لنا صدق الأداء القرآني بأنه كانت هناك حضارات، لأنها لو ذهبت كلها؛ لما
عرفنا أن هناك حضارات قد سبقت.
ثم يقول الحق سبحانه:
{ أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ } [هود: 95].
وكلمة " ألا " ـ كما عرفنا من قبل ـ هي " أداة استفتاح "
ليلتفت السامع وينصت،فلا تأخذه غفلة عن الأمر المهم الذي يتكلم به المتكلم،
وليستقبل السامع الكلام كله استقبال المستفيد.
وكلمة " بُعْداً " ليست دعاءً على أهل مدين بالبعد؛ لأنها هلكت بالفعل،
ومادة كلمة " بُعْداً " هي: " الباء " و " العين "
و " الدال " وتستعمل استعمالين: مرة تريد منها الفراق؛ والفراق بينونة
إلى لقاء مظنون، إما إذا كانت إلى بينونة متيقنة ألا تكون، ولذلك جاء بعدها:
{ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ } [هود: 95].
وهي تدل على أنه بعدٌ لا لقاء بعده إلا حين يجمع الحق سبحانه الناس يوم القيامة.
والشاعر يقول:يَقُولُون لا تبعدْ وهُمْ يَدفِنُونَني وأينَ مَكَانُ البُعدِ إلا
مَكانِيَافهذا هو البعد الذي يذهب إليه الإنسان ولا يعود.
ولما خَصَّ الحق سبحانه ثمود بالذكر هنا، وقد سبق أن قال سبحانه عن أقوام آخرين:
" ألا بعداً "؟
لأن الصيحة قد جاءت لثمود، وبذلك اتفقوا في طريقة العذاب.
وتنتهي هنا قصة شعيب عليه السلام مع مدين، ونلحظ أن لها مساساً برسلٍ مثل موسى
عليه السلام، مثلما كان لقوم لوط مساس بإبراهيم عليه السلام.
وهكذا نعلم أن هناك رسلاً قد تعاصرت، أي: أن كل واحد منهم أرسل إلى بيئة معينة
ومكان معين. ولأن المرسل إليهم هم عبيد الله كلهم؛ لذلك أرسل لكل بيئة رسولاً
يناسب منهجه عيوب هذه البيئة.
وإبراهيم عليه السلام هو عم لوط عليه السلام، وموسى عليه السلام هو صهر شعيب عليه
السلام. وقد ذهب موسى إلى أهل مدين قبل أن يرسله الله إلى فرعون.
ونحن نعلم أن الأماكن في الأزمنة القديمة كانت منعزلة، ويصعب بينها الاتصال، وكل
جماعة تعيش في موقع قد لا يدرون عن بقية المواقع شيئاً، وكل جماعة قد يختلف داؤها
عن الأخرى.
لكن حين أراد الحق سبحانه بعثة محمد صلى الله عليه وسلم كرسولٍ خاتمٍ، فقد علم
الحق سبحانه أزلاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم على ميعاد مع ارتقاء البشرية،
وقد توحدت الداءات.
فما يحدث الآن في أي مكان في العالم، ينتقل إلينا عبر الأقمار الصناعية في ثوانٍ
معدودة، لذلك كان لا بد من الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم.
أما تعدد الرسل اللقطات لكل رسول بالقرآن، فليست تكراراً كما يظن السطحيون؛ لأن
الأصل في القصص القرآني أن الحق سبحانه قد أنزله لتثبيت الرسول صلى الله عليه
وسلم، فقد كانت الآيات تنزل من السماء الدنيا بالوحي لتناسب الموقف الذي يحتاج فيه
الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تثبيت للفؤاد.
ويبيِّن الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يتذكر إخوانه من الرسل وما حدث
لهم مع أقوامهم وانتصار الله لهم في النهاية، وحين أراد الحق سبحانه أن يقص قصة
محبوكة جاء بسورة يوسف.
وهكذا فليس في القرآن تكرار، بل كل لقطة إنما جاءت لتناسب موقعها في تثبيت الرسول
صلى الله عليه وسلم.
ولنا أن نلحظ أن قصة شعيب عليه السلام مع قومه، ما كان يجب أن تنتهي إلا بأن تأتي
فيها لقطة من قصة موسى عليه السلام، وهو صهر شعيب عليه السلام.
والملاحظ أن الحق سبحانه قد ذكر هنا من قصة موسى عليه السلام لقطتين:
اللقطة الأولى: هي الإرسال بالآيات إلى فرعون.
واللقطة الثانية: هي خاتمة فرعون لا مع موسى عليه السلام، ولكن مع الحق سبحانه يوم
القيامة، يقول تعالى:
{ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ
الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ * وَأُتْبِعُواْ فِي هَـاذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ
الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ }[هود: 98ـ99].
وكان لشعيب عليه السلام مهمة تثبيت قلب موسى عليه السلام من الهلع، حين أعلن له
أنه خائف من أن يقتله قوم فرعون لأنه قتل رجلاً منهم، فقال له شعيب عليه السلام ما
ذكره الحق سبحانه في قوله:
{ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }[القصص: 25].
وهكذا ثبَّته وهيَّأ له حياة يعيش فيها آمناً لمدة ثماني حجج أو أن يتمها عشر حجج،
مصداقاً لقول الحق سبحانه:
{ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَىا أَن
تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَآ
أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ
* قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ
عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَىا مَا نَقُولُ وَكِيلٌ }[القصص: 27ـ28].
وهكذا باشر شعيب عليه السلام مهمة في قصة موسى عليه السلام.
ومن هذا ومن ذلك يعطينا الحق سبحانه الدرس بأن الفطرة السليمة لها تقنينات قد
تلتقي مع قانون السماء؛ لأن الحق سبحانه لا يمنع عقول البشر أن تصل إلى الحقيقة،
لكن العقول قد تصل إلى الحقيقة بعد مرارة من التجربة، مثلما قنَّن الحق سبحانه
الطلاق في الإسلام، ثم أخذت به بلاد أخرى غير مسلمة بعد أن عانت مُرَّ المعاناة.
ومثلما حرَّم الحق سبحانه الخمر، ثم أثبت العلم مضارها على الصحة، فهل كنا مطالبين
بأن نؤجل حكم الله تعالى إلى أن يهتدي العقل إلى تلك النتائج؟
لا؛ لأن الحق سبحانه قد أنزل في القرآن قانون السماء الذي يقي الإنسان شر التجربة؛
لأن الذي أنزل القرآن سبحانه هو الذي خلقنا وهو مأمون علينا، وقد أثبتت الأيام صدق
حكم الله تعالى في كل ما قال بدليل أن غير المؤمنين بالقرآن يذهبون إلى ما نزل به
القرآن ليطبقوه.
وفي قصة موسى عليه السلام مثل واضح على مشيئة الحق سبحانه، فها هو فرعون الكافر قد
قام بتربية موسى بعد أن التقطه لعله يكون قرة عين له، رغم أن فرعون كان يُقتِّل
أطفال تلك الطائفة.
ثم تلحظ أخت موسى أخاها، ويرد الحق سبحانه موسى عليه السلام إلى أمه.
وقد صوَّر الشاعر هذا الموقف بقوله:إذا لَمْ تُصادِفْ في بَنِيكَ عِنَايةً مِنَ
اللهِ فقدْ كَذبَ الرَّاجِي وخَابَ المأملُفَمُوسَى الذي رَبَّاهُ جِبريلُ كافرٌ
ومُوسَى الذي ربَّاه فِرْعونُ مُرسَلُوقد جاءت قصة موسى عليه السلام هنا موجزة، في
البداية وفي النهاية؛ ليبيِّن لنا الحق سبحانه أن لشعيب دوراً مع واحد من أولي
العزم من الرسل، وهو موسى عليه السلام،
وكان مقصود موسى عليه السلام قبل أن يبعث ـ هو ماء مدين، فحدث ما يمكن أن نجد فيه
حلاً لمشاكل الجنسين ـ الرجل والمرأة ـ وهي رأس الحربة التي تُوجَّه إلى المجتمعات
الإسلامية؛ لأن البعض يريد أن تتبذل المرأة في مفاتنها، لإغواء الشباب في أعز
أوقات شراسة المراهقة.
لكن القرآن حَلَّ هذه المسألة في رحلة بسيطة، ولنقرأ قول الحق سبحانه عن موسى:
{ وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ
يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَينِ تَذُودَانِ }[القصص: 23].
أي: تمنعان الماشية من الاقتراب من المياه، وكان هذا المشهد مُلْفتاً لموسى عليه
السلام، وكان من الطبيعي أن يتساءل: ألم تأتيا إلى هنا لتسقيا الماشية؟! وقال
القرآن السؤال الطبيعي:
{ مَا خَطْبُكُمَا }[القصص: 23].
فتأتيه الإجابة من المرأتين:
{ قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّىا يُصْدِرَ الرِّعَآءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ }[القصص:
23].
وهكذا نعلم أن خروج المرأة له علة أن الأب شيخ كبير، وأن خروج المرأتين لم يكن
بغرض المزاحمة على الماء، ولكن بسبب الضرورة، وانتظرتا إلى أن يسقي الرعاة، بل
ظلَّتا محتجبتين بعيداً؛ لذلك تقدم موسى عليه السلام ليمارس مهمة الرجل:
{ فَسَقَىا لَهُمَا }[القصص: 24].
وهذه خصوصية المجتمع الإيماني العام، لا خصوصية قوم، ولا خصوصية قربى، ولا خصوصية
أهل، بل خصوصية المجتمع الإيماني العام.
فساعة يرى الإنسان امرأة قد خرجت إلى العمل، فيعرف أن هناك ضرورة ألجأتها إلى ذلك،
فيقضي الرجل المسلم لها حاجتها.
وأذكر حين ذهبت إلى مكة في عام 1950م أن نزل صديقي من سيارته أمام باب منزلٍ، وكان
يوجد أمام الباب لوح من الخشب عليه أرغفة من العجين التي لم تخبز بعد، وذهب به إلى
المخبز، ثم عاد به بعد خبزه إلى نفس الباب. وقال لي: إن هذه هي عادة أهل مكة، إن
وجد إنسان لوحاً من العجين غير المخبوز؛ فعليه أن يفعل ذلك؛ لأن وجود هذا اللوح
أمام الباب إنما يعني أن الرجل رب البيت غائب.
وهذا كله مأخوذ من كلمة:
{ فَسَقَىا لَهُمَا }[القصص: 24].
وعمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يأمر الجنود أن تدق الأبواب لتسأل أهل البيوت عن
حاجاتهم.
والأمر الثالث والمهم هو أن المرأة التي تخرج إلى مهمة عليها ألا تستمرىء ذلك، بل
تأخذها على قدر الضرورة، فإذا وجدت منفذاً لهذه الضرورة، فعليها أن تسارع إلى هذا
المنفذ، ولذلك قالت الفتاة لأبيها شعيب:
{ ياأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ
}[القصص: 26].
ويُنهي شعيب عليه السلام هذا الموقف إنهاءً إيمانياً حكيماً حازماً، فيقول لموسى:
{ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَىا أَن
تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ }[القصص:
27].
وهكذا يعلم موسى ـ عليه السلام ـ أن شعيباً لا يُلقي بابنته هكذا دون مهر، لا.. بل
لا بد أن يكون لها مهر، وأيضاً تصبح أختها محرمة عليه.
وهذه القصة وضعت لنا مبادىء تحل كل المشكلات التي يتشدق بها خصوم الإسلام.
وهنا نحن نجد في الغرب صيحات معاصرة تطالب بأن تقوم المرأة بالبقاء في المنزل
لرعاية الأسرة والأولاد؛ ليس لأن المرأة ناقصة، ولكن لأن كمال المرأة في أداء أسمى
مهمة توكل إليها، وهي تربية الأبناء.
ونحن نعلم أن طفولة الإنسان هي أطول أعمار الطفولة في كل الكائنات، والأبناء الذين
ينشأون برعاية أم متفرغة يكونون أفضل من غيرهم.
وهكذا نتعلم من قصة شعيب عليه السلام مع موسى عليه السلام.
وهنا يقول الحق سبحانه: } وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىا بِآيَاتِنَا {
(/1555)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96)
ونحن نعلم أن الآيات إذا وردت في القرآن إنما تنصرف إلى ثلاثة أشياء:
آيات كونية تعاصر كل الناس ويراها كل واحد، مثل آيات الليل والنهار والشمس والقمر
والنجوم والأرض الخاشعة إذا ما نزل عليها الماء اهتزت وربت، وكلها آيات كونية تلفت
العقل إلى النظر في أن وراء هذا الكون الدقيق تكويناً هندسياً أقامه إله قادر.
وهناك آيات تأتي لبيان صدق الرسول في البلاغ عن الله، وهي المعجزات مثل: ناقة ثمود
المبصرة، وشفاء عيسى عليه السلام للأكمه والأبرص بإذن الله.
ثم آيات الأحكام التي تبيِّن مطلوبات المنهج بـ " افعل " و " لا
تفعل ".
وهنا قال الحق سبحانه:
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىا بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } [هود: 96].
فهناك آيات تدل على صدقه، وفوق ذلك سلطان ظاهر، إما أن يكون سلطاناً يقهر الغالب،
أو سلطان حجة تقنع العقل.
وسلطان القوة قد يقهر الغالب، لكنه لا يقهر القلب، والله سبحانه يريد قلوباً، لا
قوالب؛ لذلك قال سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم:
{ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ * إِن نَّشَأْ
نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا
خَاضِعِينَ }[الشعراء: 3ـ4].
إذن: فالحق سبحانه يطلب القلوب لا القوالب، قلوب تأتي إلى الله تعالى طواعية بدون
إكراه.
لذلك فالسطان الأهم هو سلطان الحجة؛ لأنه يقنع الإنسان أن يفعل.. ولم يكن لموسى
عليه السلام سلطانٌ من القوة ليظهر، بل كان له سلطان الحجة، وهو قول الحق سبحانه:
{ وَقَالَ مُوسَىا يافِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ *
حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَّ أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ
بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ }[الأعراف:
104ـ105].
فيرد عليه فرعون:
{ قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ *
فَأَلْقَىا عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا
هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ }[الأعراف: 106ـ108].
وبياض اليد مسألة ذاتية في موسى عليه السلام، وطارئة أيضاً، فلم تكن مرضاً كالبهاق
مثلاً، بدليل الاحتياط في قوله تعالى:
{ وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَىا جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ }[طه:
22].
أما العصا فهي الحجة التي دفعت فرعون إلى أن يأتي بالسحرة، ليغلبهم موسى أمام
فرعون والملأ، فيتبع السحرة موسى ويؤمنوا برب موسى وهارون.
ونحن نعلم أن الحق سبحانه قد أرسل موسى عليه السلام بتسع آيات هي: العصا التي تصير
ثعباناً يلقف ما صنع السحرة، واليد البيضاء من غير سوء، ثم أخذ آل فرعون بالسنين،
ونقص في الأنفس والثمرات، لأن الجدب يمنع الزرع، ونقص الأموال يحقق المجاعة، وكذلك
أرسل الحق سبحانه على قوم فرعون الطوفان والجراد والقُمَّل والضفادع، هذه هي
الآيات التسع التي أرسلها الحق سبحانه على آل فرعون، بسبب عدم إيمانهم برسالة موسى
عليه السلام.
وهناك آيات آخرى أرسلها الحق سبحانه لقوم موسى بواسطة موسى عليه السلام؛ هي نتق
الجبل، وضرب البحر بالعصا، ثم ضرب الحجر بالعصا لتتفجر اثنتا عشرة عيناً، وكذلك
نزول التوراة في ألواح.
إذن: فالكلام في الآيات التسع المقصود بها الآيات التي أرسل بها موسى إلى فرعون،
أما هذه الآيات فقد كانت بعد الخروج من مصر أو مصاحبة له كضرب البحر بالعصا.
والدليل على أن قصة موسى مع فرعون خاصة، أن موسى كانت له رسالتان: الرسالة الأولى
مع فرعون، والرسالة الثانية مع بني إسرائيل.
ولذلك نلحظ أن الحق سبحانه وتعالى يخبرنا في آخر السورة بالخلاف بين موسى عليه
السلام وبني إسرائيل:
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىا الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ }[هود: 110].
إذن: فقصته مع بني إسرائيل تأتي بعد إيتائه الكتاب، أي: التوراة.
وهنا يتكلم الحق سبحانه عن آيات موسى عليه السلام مع فرعون فيقول:
} وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىا بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ { [هود: 96].
أي: سلطان محيط لا يدع للخصم مكاناً أو فكاكاً.
ثم يقول الحق سبحانه: } إِلَىا فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ {
(/1556)
إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97)
والملأ: هم القوم الذين يملأون العيون، ويتصدرون المجالس. ويقال: " فلان ملء
العين " أي: لا تقتحمه العيون؛ لأنه واضح ظاهر.
فالملأ ـ إذن ـ هم أشراف القوم، وهم ـ عادة ـ الذين يزينون للطاغية الاستخفاف
بالرعية.
والحق سبحانه يقول:
{ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ
}[الزخرف: 54].
وحين يتكلم الحق سبحانه عن فرعون والملأ والقوم، نجده يبيِّن ويفصل بين الملأ من
جهة، وفرعون من جهة أخرى، وكذلك يفصل بين الفرعون والملأ من جهة، والقوم من جهة
أخرى.. فلكل طرف من تلك الأطراف الثلاثة أسلوب يعامله الحق سبحانه به.
وهنا يبيِّن لنا الله سبحانه أن الملأ قد اتبعوا أمر فرعون، هذا الأمر الذي يصفه
الحق سبحانه بقوله:
{ وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } [هود: 97].
والرشد يقابله الغيُّ، وهذا القول يدلنا على أن الملأ من قوم فرعون لم يتدارسوا
أمر فرعون بتأنٍّ، ولم تستقبله عقولهم بالبحث، وهم لو فعلوا ذلك لما اتبعوا أمر
فرعون.
ويبيِّن الحق سبحانه لنا عدم رشد أمر فرعون، فهو يذكر لنا ما يحدث له يوم القيامة
هو وقومه، فيقول تعالى: { يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ }
(/1557)
يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98)
وكلمة " يقدم " هي من مادة " القاف " و " الدال " و
" الميم ". وعند استخدام هذه المادة في التعبير قولاً أو كتابة، فهي تدل
على الإقبال بالمواجهة؛ فيقال: " قدم فلان " دليل إقباله عليك مواجهة.
وإذا قيل: " أقبل فلان " فهذا يعني الإقبال بشيءٍ من العزم. و "
قدم القوم يقدمهم " أي: أنهم يتقدمون في اتجاه واحد، ومن يقودهم يتقدمهم.
ويُفهم من هذا أن فرعون اتبعه الملأ، والقوم اتبعوا الملأ وفرعون، وما داموا قد
اتَّبعوه في الأولى؛ فلا بد أن يتبعوه في الآخرة.
ويأتي القرآن بآيات ويُبيِّنها، مثل قول الحق سبحانه:
{ فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ
جَهَنَّمَ جِثِيّاً * ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ
عَلَى الرَّحْمَـانِ عِتِيّاً * ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ
أَوْلَىا بِهَا صِلِيّاً }[مريم: 68ـ70].
فالحق سبحانه ينزع من كل جماعة الأشد فتوة وسطوة، ويلقيه في النار، لأنه أعلم بمن
يجب أن يَصْلَى السعير.
ويقول الحق سبحانه:
{ وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَىا رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً *
ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً
}[مريم: 71ـ72].
ولم يقل الحق سبحانه: " وإنْ منهم إلاّ واردُها ".
وإنما قال:{ وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا }[مريم: 71].
وبذلك عمَّم الخطاب للكل، أو أنه يستحضر الكفار ويترك المؤمنين بمعزل.
وهنا يقول الحق سبحانه عن قوم فرعون:
{ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ } [هود: 98].
وحين تكلم كتاب الله الكريم عن " الورود " ، وهو الكتاب الذي نزل بلسان
عربي مبين، نجد أن الورود يأتي بمعنى الذهاب إلى الماء دون شرب من الماء، قلت:
" وردَ يردُ وروداً " ، وإن أردت التعبير عن شرب الماء مع الورود، فقل:
" وردَ يردُ وِرْداً " بدليل أن الحق سبحانه يقول هنا:
{ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ } [هود: 98].
أي: إنهم يشعرون بالبؤس لحظة أن يروا ماء جهنم ويشربون منه.
إذن: فكلمة " الوِرْد " تطلق على عملية الشرب من الماء، وقد تطلق على
ذات الورادين مثل قوله:
{ وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَىا جَهَنَّمَ وِرْداً }[مريم: 86].
وقد قال الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى في معلقته:فَلمَّا وَرَدْنَ الماءَ
زُرقاً جِمَامُهُ وَضَعْنَ عِصِيَّ الحاضِرِ الُمَتَخيّمِوالشاعر هنا يصف الرَّكْب
ساعة يرى المياه الزرقاء الخالية من أي شيء يعكرها أو يُكدِّرها، فوضع القوم عصا
الترحال.
وكان الغالب قديماً أن يحمل كل من يسير عصاً في يده، مثل موسى عليه السلام حين
قال:
{ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىا غَنَمِي وَلِيَ
فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىا }[طه: 18].
ويقول الشاعر:فألقتْ عصَاها واستقرَّ بها النَّوَى كمَا قَرَّ عيناً بالإياب المُسَافرُ
فساعة رأى الركب المياه زرقاء، فهذا يعني أنها مياه غير مكدَّرة.
ونحن نعلم أن المياه لا لون لها، ولكنها توصف بالزُّرْقة إن كانت خالية من
الشوائب، شديدة الصفاء، فتنعكس عليها صورة السماء الزرقاء.
والشاعر يصف قومه ساعة أن وصلوا إلى الماء الصافي وتوقفوا وأقاموا في المكان.
وهكذا نجد أن الورود يعني الذهاب إلى الماء دون الشرب منه. والورد للماء يُفرح
النفس أولاً، ثم يورده ويرويه ما يشربه منها، ومن يرد الماء لا شك أنه يعاني من
ظمأ يريد أن يرويه، وحرارة كبد يريد أن يبردها.
وهنا يقول الحق سبحانه:
} وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ { [هود: 98].
وفي هذا تهكم شديد، لأنهم ـ قوم فرعون ـ ساعة يرون الماء يشعرون بقرب ري الظمأ
وإبراد الحرارة، ولكنهم يشربون من ماء جهنم، فبئس ما يشربون، فهو يُطمعهم أولاً،
ثم يؤيسهم بعد ذلك.
كما في قوله سبحانه:
{ وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوجُوهَ
}[الكهف: 29].
فهم ساعة يسمعون كلمة " يغاثوا " يفهمون أن هناك فرجاً قادماً لهم، فإذا
ما علموا أنه ماء كالمهل يشوي الوجوه، عانوا من مرارة التهكم.
ولله المثل الأعلى: فأنت تجد من يدعوك لأطايب الطعام، وبعد ذلك تغسل يديك، فيلح
عليك من دعاك إلى تناول الحلوى، فتستشرف نفسك إلى تناول الحلوى، بينما يكون من
دعاك قد أوصى الطباخ أن يخلط الحلوى بنبات " الشطة " فيلتهب جوفك؛ أليس
في هذا تهكم شديد؟!
والحق سبحانه يبيِّن لهم أن الورد إنما جاء لترطيب الكبد، لكن أكبادهم ستشتعل بما
تشربونه من هذا الماء، وكذلك الطعام الذي يأكله أهل النار.
والحق سبحانه يقول:
{ وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ }[الحاقة: 36].
وهكذا تصير النكبة نكبتين.
وبعض الناس قد فهم قول الحق سبحانه:
{ وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا }[مريم: 71].
بمعنىأنهم جميعاً سوف يَرِدون جهنم.
ولكن الحق سبحانه يقول أيضاً:
{ ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَىا بِهَا صِلِيّاً }[مريم: 70].
إذن: فالحق سبحانه يعطي لكل الناس صورة للنار، فإذا رأى المؤمنون النار وتسعُّرها،
ولم يدخلوها، عرفوا كيف نجَّتهم كلمة الإيمان منها فيحمدون الله سبحانه وتعالى على
النجاة.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } وَأُتْبِعُواْ فِي هَـاذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ
الْقِيَامَةِ {
(/1558)
وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)
أي: أن اللعنة قد بقيت لهم، وما زلنا نحن المسلمين نلعنهم إلى الآن، ثم يصيرون إلى
اللعنة الكبرى، وهي لعنة يوم القيامة: { بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ } [هود:
99] والرفد: هو الغطاء، فهل تعد اللعنة في الآخرة عطاءً؟
إن هذا تهكم منهم أيضاً، مثلها مثل قول الحق سبحانه:
{ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ }[هود: 98].
ثم يقول الحق سبحانه: { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْقُرَىا }
(/1559)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100)
وقد أهلك الحق سبحانه تلك القرى بالعذاب؛ لأنها كذَّبت أنبياءها. والخطاب موجَّه
لرسول الله صلى الله عليه وسلم لتثبيت فؤاده، والحق سبحانه إنما يبيِّن له أن
الكافرين لن يكونوا بمنجىً من العذاب؛ كما أخذ الله سبحانه الأمم السابقة الكافرة
بالعذاب.
وقول الحق سبحانه:
{ نَقُصُّهُ عَلَيْكَ } [هود: 100].
يتطلب أن نفرِّق بين المعنى الشائع عن القصة، والمعنى الحقيقي لها، فبعض الناس
يقول: إن القرآن فيه قصص، والقصص عادة تمتلىء بالتوسع، وتوضع فيها أحداث خيالية من
أجل الحبكة.
ولهؤلاء نقول: أنتم لم تفهموا معنى كلمة " القصة " في اللغة العربية،
لأنها تعني ـ في لغتنا ـ الالتزام الحرفي بما كان فيها من أحداث، فهي مأخوذة من
كلمة: " قصّ الأثر " ، ومن يقص الأثر إنما يتتبع مواقع الأقدام إلى أن
يصل إلى الشيء المراد.
إذن: فقصص القرآن يتقصى الحقائق ولا يقول غيرها، أما ما اصطُلح عليه من عرف العامة
أنه قصص، بما في تلك القصص من خيالات وعناصر مشوقة، فهذا ما يُسمَّى ـ لغوياً ـ بالروايات،
ولا يُعتبر قصصاً.
وقصص الإهلاك للأمم التي كفرت إنما هو عبرة لمن لا يعتبر، والناس تعلم أن ما رواه
القرآن من قصص هو واقع تدل عليه آثار الحضارات التي اندثرت، وبقيت منها بقايا
أحجار ونقوش على المقابر.
ونحن نجد في آثار الحضارات السابقة ما هو قائم من بقايا أعمدة ونقوش، ومنها ما هو
مُحطَّم.
ولذلك يقول الحق سبحانه في موضع آخر من القرآن:
{ وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ * وَبِالَّيْلِ أَفَلاَ
تَعْقِلُونَ }[الصافات: 137ـ138].
أي: أنكم تشاهدون من الآثار ما هو قائم وما هو حطيم.
ويقول الحق سبحانه عن تلك القرى: { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـاكِن ظَلَمُواْ
أَنفُسَهُمْ }
(/1560)
وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آَلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101)
ويبيِّن الحق سبحانه هنا أنه حين أخذ تلك الأقوام بالعذاب لم يظلمهم؛ لأن معنى
الظلم أن يكون لإنسانٍ الحق، فتسلبه هذا الحق.
وفي واقع الأمر أن تلك الأمم التي كفرت وأخذها الله بالعذاب، هي التي ظلمت نفسها
بالشرك، وكذَّبت تلك الأقوام الرسل الذين جاءوا وفي يد كل منهم دليل الصدق وأمارات
الرسالة.
وهكذا ظلم هؤلاء الكفار أنفسهم؛ لذلك لا بد أن نعلم أن الحق سبحانه مُنزَّه عن أن
يظلم أحداً.
وهم حين أشركوا بالله ـ تعالى ـ آلهة أخرى، لماذا لم تتحرك تلك الآلهة المزعومة
وتتدخل لتحمي مَنْ آمنوا بها؟!
ويخبرنا الحق سبحانه أن الحجارة التي عبدوها تلعنهم، وهم في النار، وهذه الأحجار
تكون وقوداً للنار.
والحق سبحانه يقول عن النار:
{ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ }[البقرة:
24].
وهؤلاء الذين عبدوا واحداً من الناس أو بعضاً من الأصنام، إنما تجنَّوا، بالجهل
على هذا الإنسان الذي عبدوه أو تلك الأحجار التي صلَّوا لها أو قدَّسوها.
والشاعر المسلم تأمل غار حراء وغار ثور ـ وكلامها من الأحجار ـ فوجد أن غار حراء
قد شهد نزول الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم، وغار ثور حمى رسول الله صلى
الله عليه وسلم حين اختفى فيه ومعه الصديق أبو بكر في أثناء الهجرة من مكة إلى
المدينة،ـ فتخيل الشاعر أن غار ثور قد حسد غار حراء وقال:كَمْ حَسَدْنَا حِراءً
حينَ يَرى الرُّوحَ أميناً يَغْزُوكَ بالأنْوَارِفَحِرَاءٌ وثَوْرٌ صَارَا سَواءً
بِهما تَشفَّعْ لأمَّةِ الأحْجَارِفغار حراء شهد جبريل عليه السلام وهو يهبط
بالنور على محمد صلى الله عليه وسلم، لكن غار ثور نال أيضاً الشرف لحمايته الرسول
في الهجرة.
ويقول الشاعر على لسان الأحجار:عَبَدُونا ونَحْنُ أعْبَدُ للهِ مِنَ القائِمينَ
بالأسْحَارِقَدْ تَجنَّوا جَهْلاً كمَا قَدْ تجَنَّوا علَى ابنِ مَرْيَمَ
والحوَارِيلِلمُغَالِي جَزَاؤهُ والمُغَالَى فيهِ تُنْجِيهِ رَحْمَةُ
الغَفَّارِوهكذا لا تُغني عنهم آلهتهم المعبودة شيئاً سواء أكانت بشراً أم حجارة،
لم تُغنِ عنهم شيئاً ولم ترفع عنهم العذاب الذي تلقوه عقاباً في الدنيا وسعيراً في
الآخرة، وإذا كانوا قد دعوهم من دون الله في الدنيا، فحين جاء العذاب لم تتقدم تلك
الآلهة لتحميهم من العذاب.
ويُنهي الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله:
{ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ } [هود: 101].
أي: أن تخلّي تلك الآلهة التي أشركوها مع الله تعالى أو عبدوها من دون الله.. هذا
التخلي يزيدهم ألماً وإهلاكاً نفسياً وتخسيراً، لأن التتبيب هو القطع والهلاك.
والحق سبحانه يقول:
{ تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ }[المسد: 1].
كذلك الأخذ الذي أخذ الله به القرى التي كذَّبت أنبياءها.
لذلك يقول الحق سبحانه بعد ذلك: { وَكَذالِكَ أَخْذُ رَبِّكَ }
(/1561)
وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)
أي: أن الأخذ الذي أخذ به الله القرى الكافرة، إنما هو مثل حي لكل من يكفر.
والحق سبحانه يقول:
{ وَالْفَجْرِ * وَلَيالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَالَّيْلِ إِذَا
يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ }[الفجر: 1ـ5].
أي: أن الحق سبحانه يقسم لعل كل صاحب عقلٍ يستوعب ضرورة الإيمان، ويضرب الأمثلة
بالقوم الذين جاءهم الأخذ بالعذاب، فيقول سبحانه:
{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي
لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاَدِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُواْ الصَّخْرَ
بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِى الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْاْ فِي الْبِلاَدِ *
فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ *
إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ }[الفجر: 6ـ14].
فهو سبحانه قد أخذ كل هؤلاء أخذ العزيز المقتدر.
وقوله سبحانه هنا:
{ وَكَذالِكَ } [هود: 102].
أي: مثل الأخذ الذي أخِذَتْ به القرى التي كذَّبت رسلها، فظلمت نفسها.
والأخذ هنا عقاب على العمل، بدليل أنه أنجى شعيباً عليه السلام وأخذ قومه بسبب
ظلمهم، فالذات الإنسانية بريئة، ولكن الفعل هو الذي يستحق العقاب.
ومثال ذلك: نجده في قصة نوح عليه السلام حين قال له الحق سبحانه:
{ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ }[هود: 46].
فالذي وضع ابن نوح في هذا الموضع هو أن عمله غير صالح؛ لذلك فلا يقولن نوح: إنه
ابني.
فليس الإهلاك بعلَّة الذات والدم والقرابة، بل الإهلاك بعلة العمل، فأنت لا تكره
شخصاً يشرب الخمر لذاته، وإنما تكرهه لعمله، ونحن نعلم أن البنوة للأنبياء ليست
بنوة الذوات، وإنما بنوة الأعمال.
وكذلك نجد الحق سبحانه ينبه إبراهيم عليه السلام ألا يدعو لكل ذريته، فحين كرَّم
الحق سبحانه إبراهيم عليه السلام وقال:
{ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً }[البقرة: 124].
جاء الطلب والدعاء من إبراهيم عليه السلام لله تعالى:
{ وَمِن ذُرِّيَّتِي }[البقرة: 124].
لأن إبراهيم عليه السلام أراد أن تمتد الإمامة إلى ذريته أيضاً، فجاء الرد من الله
سبحانه:
{ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }[البقرة: 124].
وظلت هذه القضية في بؤرة شعور إبراهيم عليه السلام، وعلم تماماً أن البنوَّة للأنبياء
ليست بنوة ذوات، بل هي بنوة أعمال.
ولذلك نجد دعاء إبراهيم عليه السلام حين نزل بأهله في وادٍ غير ذي زرع، وقال:
{ رَبِّ اجْعَلْ هَـاذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ
}[البقرة: 126].
وهنا انتبه إبراهيم عليه السلام وأضاف:
{ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ }[البقرة: 126].
فجاء الرد من الحق سبحانه موضحاً خطأ القياس؛ لأن الرزق عطاء ربوبية يستوي فيه
المؤمن والكافر، والطائع والعاصي؛ فلا تخلط بين عطاء الربوبية وعطاء الألوهية؛ لأن
عطاء الألوهية تكليف، وعطاء الربوبية رزق، لذلك قال الحق سبحانه:
{ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىا عَذَابِ النَّارِ
وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }
[البقرة: 126].
فأنت يا إبراهيم دعوتَ برزق الأهل بالثمرات لمن آمن، لأن بؤرة شعورك تعي الدرس،
لكن هناك فرقاً بين عطاء الألوهية في التكليف، وعطاء الربوبية في الرزق، فمن كفر
سيرزقه ربه، ويمتعه قليلاً ثم يكون له حساب آخر.
إذن: فأخْذُ الحق سبحانه للظالمين بكفرهم هو عنف التناول لمخالفٍ، وتختلف قوة
الأخذ بقوة الأخذ، فإذا كان الآخذ هو الله سبحانه، فهو أخْذ عزيز مقتدر.
وهو أخذ لمن ظلموا أنفسهم بقمة الظلم وهو الكفر، وإن كان الظلم لحقوق الآخرين فهو
فسق، وأيضاً ظلم النفس فسق؛ لأن الحق سبحانه حين يُحرِّم عليك أن تظلم غيرك فهو قد
حرَّم عليك أيضاً ظلم نفسك.
ويصف الحق سبحانه أخذه للظالمين بقوله:
} إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ { [هود: 102].
أي: أن أخذه موجع على قدر طلاقة قدرته سبحانه.
وهَبْ أن إنساناً أساء إلى إنسان، فالحق سبحانه أعطى هذا الإنسان أن يرد السيئة
بسيئة، حتى لا تتراكم الانفعالات وتزداد.
لذلك يقول الحق سبحانه:
{ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ }[النحل: 126].
حتى لا تبيت انفعالاتك عندك قهراً، ولكن من كان لديه قوة ضبط النزوع فعليه أن ينظر
في قول الحق سبحانه:
{ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ }[آل عمران: 134].
إذن: فإما أن ترد السيئة بعقاب مماثل لها، وإما أن تكظم غيظك، أي: لا تُترجم غيظك
إلى عمل نزوعي، وإما أن ترتقي إلى الدرجة الأعلى وهي أن تعفو؛ لأن الله تعالى يحب
من يحسن بالعفو.
ولذلك حين سألوا الحسن البصري: كيف يُحسِن الإنسان إلى من أساء إليه؟
أجاب: إذا أساء إليك عبد، ألاَ يُغضب ذلك ربه منه؟ قالوا: نعم. قال: وحين يغضب
الله من الذي أساء إليك؛ ألا يقف إلى جانبك؛ أفلا تحُسِن إلى من جعل الله يقف إلى
جانبك؟
ولهذا السبب يُروى عن أحد الصالحين أنه سمع أن شخصاً اغتابه؛ فأهدى إليه ـ مع
خادمه ـ طبقاً من بواكير الرطب، وتعجب الخادم متسائلاً: لماذا تهديه الرطب وقد
اغتابك؟
قال العارف بالله: بَلِّغْهُ شكري وامتناني لأنه تصدَّق عليَّ بحسناته عندما
اغتابني، وحسناته ـ بلا شك ـ أنفَسُ من هذا الرطب.
ولذلك يقال: إن الذي يعفو أذكى فهماً ممن عاقب، لأن الذي يعاقب إنما يعاقب بقوته؛
والذي يعفو فهو الذي يترك العقاب لقوة الله تعالى، وهي قوة لا متناهية.
وهكذا نفهم قول الحق سبحانه:
} وَكَذالِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَىا وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ
أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ { [هود: 102].
أي: أخذٌ موجعٌ على قدر قوة الله سبحانه؛ وهو أخذ شديد؛ لأن الشدة تعني: جمع الشيء
إلى الشيء بحيث يصعب انفكاكه؛ أو أن تجمع شيئين معاً وتقبضهما بحيث يصعب تحلل أي
منهما عن الآخر.
وهذه أقوى غاية القوة.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } إِنَّ فِي ذالِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ
الآخِرَةِ {
(/1562)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآَخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103)
من يخاف عذاب الآخرة، فإن هذه الآيات التي تخبر عن الذي حدث للأمم السابقة، إنما
تلفته إلى ضرورة الإيمان بأن الله سبحانه يحاسب كل إنسان على الإيمان وعلى العمل.
ومن يسمع لقصص الأقوام السابقة؛ ويعتبر بما جاء فيها؛ وينتفع بالخبرة التي جاءت
منها؛ فهو صاحب بصيرة نافذة؛ فكل ما حدث للأقوام السابقة آيات ملفتة.
ولذلك يقال: " إن لكل آية من مواليد؛ هي العبر بالآيات " ومن لا يؤمن
فهو لن يعتبر؛ مصداقاً لقول الحق سبحانه:
{ وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا
وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ }[يوسف: 105].
إذن: فقد شاء الحق سبحانه أن يلفتنا بالآيات لنعتبر بها ونكون من أولي الألباب؛
فلا ندخل في دائرة من لا يخافون العذاب؛ أولئك الذي يتلقّون العذاب خزياً في
الدنيا وجحيماً في الآخرة؛ وعذاب الآخرة لا نهاية له؛ والفضيحة فيه أمام كل الخلق.
لذلك قال الحق سبحانه:
{ ذالِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ } [هود:
103].
أي: أن الفضيحة في هذا اليوم تكون مشهودة من كل البشر؛ من لدن آدم إلى آخر البشر؛
لذلك تكون فضيحة مدوية أمام من يعرفهم الإنسان؛ وأمام من لا يعرفهم.
وقول الحق سبحانه:
{ ذالِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ } [هود: 103].
وكلمة " مجموع " تقتضي وجود " جامع "؛ و " المجموع
" يتناسب مع قدرة " الجامع "؛ فما بالنا والجامع هو الحق الخالق
لكل الخلق سبحانه وتعالى.
ولا يجتمع الخلق يومها عن غفلة؛ بل يجتمعون وكلهم انتباه؛ فالحق سبحانه يقول:
{ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ }[إبراهيم: 42].
ويقول الحق سبحانه أيضاً:
{ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ
كَفَرُواْ }[الأنبياء: 97].
وهنا يقول سبحانه:
{ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ } [هود: 103].
أي: أن الخلق سيشهدون هذا الفضح المخزي لمن لم يعتبر بالآيات.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك في ميعاد هذا اليوم. { وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ
لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ }
(/1563)
وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104)
وهكذا نعلم أن تأخر مجيء يوم القيامة؛ لا يعني أنه لن يأتي؛ بل سوف يأتي ـ لا
محالة ـ ولكن لكل حدث ميعاد ميلاد، ولكم في تتابع مواليدكم ما يجعلكم تثقون بأن
مواليد الأحداث إنما يحددها الله.
وقول الحق سبحانه:
{ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ } [هود: 104].
يتطلب أن نعرف أن كلمة " الأجل " تطلق مرة على مدة عمر الكائن من لحظة
ميلاده إلى لحظة نهايته.
والحق سبحانه يقول:
{ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ }[الرعد: 38].
وتطلق كلمة " الأجل " مرة أخرى على لحظة النهاية وحدها، مصداقاً لقول
الحق سبحانه:
{ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ }[الأعراف:
34].
ولنعرف جميعاً أن كل أجل ـ وإن طال ـ فهو معدود، وكل معدود قليل مهما بدا كثيراً؛
لذلك فَلْنقُلْ أن كل معدود قليل. ما دُمْنَا قادرين على إحصائه.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: { يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ
بِإِذْنِهِ }
(/1564)
يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105)
وهنا جمع الحق سبحانه جماعة في حكم واحد، فقوله تعالى:
{ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ } [هود: 105].
يعني: لا تتكلم أي نفس إلا بإذن الله، وقد كانوا يتكلمون في الحياة الدنيا بطلاقة
القدرة التي منحهم أياها الله سبحانه حين أخضع لهم جوارحهم.
وجعل الحق سبحانه الجوارح مؤتمرة بأمر الإنسان؛ وشاء سبحانه أن يجعل بعضاً من خلقه
نماذج لقدرته على سلب بعض تلك الجوارح؛ فتجد الأخرس الذي لا يستطيع الكلام؛ وتجد
المشلول الذي لا يستطيع الحركة؛ وتجد الأعمى الذي لا يبصر، وغير ذلك..
وبتلك النماذج يتعرف البشر على حقيقة واضحة هي أن ما يتمتعون به من سيطرة على
جوارحهم هو أمر موهوب لهم من الله تعالى؛ وليست مسألة ذاتية فيهم.
وقول الحق سبحانه:
{ يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [هود: 105].
يبيِّن لنا سبحانه حقيقة تسخير الجوارح لطاعتنا في الدنيا، فهي ترضخ لإرادتنا؛
لأنه سبحانه شاء أن يسخرها لأوامرنا ولانفعالاتنا، ولا أحد فينا يتكلم إلا في إطار
الإذن العام للإرادة أن تنفعل لها الجوارح.
وقد يسلب الله سبحانه هذا الإذن فلا تنفعل الجوارح للإرادة، فتجد الحق سبحانه يقول
في آية أخرى.
{ لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـانُ وَقَالَ صَوَاباً
}[النبأ: 38].
ويقول الحق عز وجل في آية أخرى:
{ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىا بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ }[الصافات: 27].
وهناك آية أخرى يقول فيها الحق سبحانه:
{ هَـاذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ * وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ
}[المرسلات: 35ـ36].
ويقول الحق سبحانه أيضاً:
{ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا }[النحل: 111].
وفي موضع آخر يقول سبحانه:
{ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ }[الصافات: 24].
وهكذا قد يُخيَّل للبعض أن هناك آيات تناقض بعضها؛ فهناك آيات تسمح بالكلام، وهناك
آيات تنفي القدرة على الكلام.
وأقول: يجب أن نفهم أن الكلام الذي سيعجز الأشقياء عن نطقه يوم القيامة هو الكلام
المجدي النافع، وسيتكلم البعض كلام السفسطة الذي لا يفيد، مثل لومهم بعضهم البعض؛
وذكره لنا القرآن في قوله سبحانه:
{ وَقَال الَّذِينَ كَفَرُواْ رَبَّنَآ أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ
الْجِنِّ وَالإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا }[فصلت: 29].
وهذا كلام لا يشفع لصاحبه ولا يجدي.
إذن: فالممنوع هو الكلام المجدي المفيد، أو أن مقامات القيامة متفاوتة؛ فوقت
يتكلمون فيه؛ ووقت يؤخذون فيه، فينبهرون ولا يتكلمون، ويأمر الحق سبحانه الجوارح
المنفعلة أن تتكلم وتشهد عليهم.
ويقسِّم الحق سبحانه أحوال الناس قسمين، كما في قوله تعالى في آخر الآية:
{ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } [هود: 105].
وجاء بالاسم المحدد لكل من القسمين: " شقي " و " سعيد "؛ لأن
الاسم يدل على الثبوت، فالشقاء ثابت لمن نُعت بالشقي؛ والسعادة ثابتة لمن نُعت
بالسعيد.
ثم يبيِّن لنا الحق سبحانه منازل مَنْ شَقُوا، ومنازل مَنْ سُعِدوا؛ ولذلك يعدل عن
استخدام الاسم إلى استخدام الفعل، فيقول سبحانه: { فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ
فَفِي النَّارِ }
(/1565)
فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106)
والذين حكموا على أنفسهم بالشقاء لخروجهم عن منهج الله؛ يجمعهم الشقاء؛ لكنهم
يدخلون النار أفراداً وزُمَراً.
والحق سبحانه يقول:
{ وَسِيقَ الَّذِينَ كَـفَرُواْ إِلَىا جَهَنَّمَ زُمَراً }[الزمر: 71].
وفي آية أخرى يقول سبحانه:
{ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا }[الأعراف: 38].
وهكذا نفهم أن الكافرين ـ في الوصف الثابت ـ أشقياء، لكنهم لحظة دخول النار إنما
يدخلونها أفراداً؛ بل ويدخل معهم بعض من المسلمين العصاة، ويتلقى كل واحد منهم
عقابه المناسب لما ارتكب من الذنوب والمعاصي؛ ويعاني كل منهم من شقاء يتناسب مع
آثامه؛ وبذلك يجتمعون في الشقاء ويختلفون في نوع وكمية العذاب؛ كلٌّ حسب ذنوبه، ولا
يظلم ربك أحداً.
وجاء الحق سبحانه هنا بالفعل " شقوا " ليبيِّن لنا أنهم هم الذين
اختاروا الشقاء؛ وأتوا به لأنفسهم؛ لأن الحق سبحانه خلق عباده وترك لكل منهم حق
الاختيار؛ وأنزل لهم المنهج؛ ليصونوا أنفسهم؛ وأعان ـ من اختار الإيمان ـ على
الطاعة.
ثم يذكر الحق سبحانه في نفس الآية موقف مَنْ أدخلوا على أنفسهم الشقاء، فيقول
عنهم:
{ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ } [هود: 106].
ونحن نعلم أن الذي يتنفس في النار سيخرج الهواء من صدره ساخناً مثلما يأخذ الشهيق
ساخناً.
ويواصل الحق سبحانه وتعالى وَصْفَ ما يتلقاه أهل الشقاء في النار، فيقول سبحانه: {
خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ }
(/1566)
خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)
وكلمة " الخلود " تفيد المكث طويلاً؛ مكوثاً له ابتداء ولا نهاية له؛
وإذا أبِّد فهو تأكيد للخلود.
والذين شقوا إنما يدخلون النار؛ بدءاً من لحظة:
{ يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ }[هود: 105].
وهو عذاب لا نهاية له بالنسبة للكافرين.
وأما عذاب المسلم العاصي على ما ارتكب من آثام؛ فبدايته من لحظة انتهاء الحساب إلى
أن تنتهي فترة عذابه المناسبة لمعاصيه؛ ويدخل الجنة من بعد ذلك.
ولهذا قال الحق سبحانه:
{ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ } [هود: 107].
وهكذا ينقص الحق سبحانه الخلود في النار بالنسبة لأنصاف المؤمنين، فالحق سبحانه {
فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [هود: 107] ولا يحكمه أي شيء.
وإياكم أن تظنوا أن قدر الله يحكمه؛ فالقدر فِعْلُه، ولا أحد يسأل الله سبحانه
عمَّا يفعل؛ لأن ذات الله هي الفاعلة؛ فإن شاء سبحانه أن ينقص خلود مسلم عاصٍ في
النار؛ فالنقص يكون في النهاية؛ وبذلك يتحقق أيضاً نقص خلوده في الجنة، لأنه لا
يدخلها إلا بعد أن يستوفي عقابه.
وبهذا التصور ينتهي الإشكال الذي اختلف حوله مائة وخمسون عالماً؛ فقد ظن بعضهم أن
الحق سبحانه يغلق أبواب النار على من أدخلهم إياها، ويستمر ذلك إلى ما لا نهاية،
وكذلك من دخل الجنة من البداية سيظل فيها أبداً، ولن يُلحق الله أصحاب الكبائر
بالجنة، ومن قال بذلك الرأي إنما يُسوِّي بين من ارتكب الكبيرة وبين الكافر بالله،
وهذا أمر غير متصور، وهو بعيد عن رحمة الله.
وإذا كان هذا البعض من العلماء قد استدل على رأيه بالآية الكريمة التي جاءت في
سورة الجن، والتي يقول فيها الحق سبحانه:
{ إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالاَتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً }[الجن: 23].
فنحن نقول: إن الحق سبحانه يربِّب لطفه للكافر حتى يؤمن، وللعاصي حتى يتوب، وهذا
من رحمة الله سبحانه، فتأبيد الخلود في العذاب لم يرد إلا في آيتين، وهذا دليل على
عظيم رحمة الله وسِعَة عفوه سبحانه.
ولذلك قيل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه رحمة الله للعالمين؛ وكلمة "
العالمين " جمع " عالَم " والعالَم هو ما سِوى الله تعالى.
ولذلك هناك رحمة للكافر؛ هي عطاء الله له في الدنيا.
وهكذا نعلم أن الله سبحانه هو الذي يملك نواميس الكون، ولم يتركها تفعل وحدها، بل
يزاول سبحانه سلطانه عليها، وما دام القدر هو فعله سبحانه؛ فهو يغيِّر فيه كما
يشاء.
فهو سبحانه رب الزمان والمكان والحركة، وما دام هو رب كل شيء فإنه فعال لما يريد،
وهنا تخضع أبدية الزمان لمراده ومشيئته.
وقول الحق سبحانه:
{ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ } [هود: 107].
نفهم منه أن الجنة أو النار لا بد أن يوجد لهما ما يعلوهما ويظللهما، ولا بد أن
يوجدا فوق أرض ما.
وإذا قال قائل: إن الحق سبحانه قد ذكر في القرآن أن السماء سوف تمور وتنفطر.
نقول رداً عليه: لا تأخذ آية في القرآن إلا بضميمة مثيلاتها.
ولذلك قال الحق سبحانه:
{ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ }[إبراهيم: 48].
والحق سبحانه يورث أرض الجنة لمن يشاء؛ لأنه سبحانه هو القائل على لسان المؤمنين
يوم القيامة:
{ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ }[الزمر:
74].
أو لأن الإنسان له أغيار، وما حوله له أغيار.
ومن العجيب أن الإنسان المخدوم بالمادة الجامدة؛ وبالنبات النامي؛ وبالحيوان الذي
يحس ويتحرك؛ هذا الإنسان قد يكون أطول عمراً من بعض المخلوقات المسخَّرة لخدمته؛
لكنه أقل عمراً من الشمس ومن القمر.
لكن الحق سبحانه هنا يصور عمر الإنسان في الآخرة؛ فكأنه سبحانه يعطي الأمد على
أطول ما عرفنا من الأعمار؛ ولذلك قال سبحانه:
} مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ { [هود: 107].
وإذا علَّق الله سبحانه شيئاً على شيء، فلا بد أن يوجد هذا التعليق.
والحق سبحانه يتكلم عن أهل النار من الكفار، فيقول تعالى:
{ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّىا يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ
}[الأعراف: 40].
فهل سيلج الجمل في سَمِّ الخِياط؟ إن ذلك محال.
ولذلك أقول: فلنأخذ التعليقات في نطاق أنه سبحانه:
} فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ { [هود: 107].
وقد جاء في الكتاب قول سيدنا عيسى عليه السلام:
{ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }[المائدة: 118].
فكان مقتضى السياق أن يقول سبحانه: وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم.
وهذه نظرة سطحية لمدلولات القرآن، بعقول البشر، أما ببلاغة الحق سبحانه فيكون
الأمر مخالفاً، فأمر التعذيب أو الغفران موكول لله سبحانه بيده وحده، وليس لأحد أن
يسأله لِمَ فعل هذا؟ ولِمَ ترك هذا؟
لذلك كان هذا هو معنى العزة؛ ولذلك كان سبحانه عزيزاً، وهو سبحانه أيضاً حكيم في
أي أمر يحكم فيه سواء أكان بالتعذيب أو المغفرة.
لذلك جاء سبحانه بالخاتمة التي تثبت للحق سبحانه التعذيب أو المغفرة.
ففي تعذيب الكافرين قال سبحانه: } فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ { [هود: 107].
وفي الكلام عن الطائعين الذين أدخلوا الجنة قال سبحانه: } وَأَمَّا الَّذِينَ
سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ {
(/1567)
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)
فالحق سبحانه يعطي المؤمنين ما شاء، ويؤكد خلودهم في الجنة، وعطاؤه لهم لا مقطوع
ولا ممنوع.
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: { فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ
هَـاؤُلاءِ }
(/1568)
فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آَبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)
فهل كان الرسول صلى الله عليه وسلم في مرية؟
هل كان الرسول صلى الله عليه وسلم في شك؟
لا، ولكنه قول الآمر الأعلى سبحانه للأدنى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في صدد
هذا الأمر؛ وبذلك ينصرف أمر الحق سبحانه إلى الدوام.
مثلما قال الحق سبحانه للنبي صلى الله عليه وسلم:
{ أَقِمِ الصَّلاَةَ }[الإسراء: 78].
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقيم الصلاة قبلها، ولكن قول الحق سبحانه هنا إنما
يمثل بداية التشريع.
ومثل هذا أيضاً قول الحق سبحانه في خطاب النبي صلى الله عليه وسلم:
{ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ
وَالْمُنَافِقِينَ }[الأحزاب: 1].
فهل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتقي الله؟
نقول: لا، إنما هو لإدامة التقوى، فإنه إذا أمر الأعلى الأدنى بأمر هو بصدد فعله،
انصرف هذا الأمر إلى الدوام، واتباع أمته للتقوى والإعراض عن النفاق والكفر، وهو
خطاب للرسول وأمته، فللرسول الدوام والترقي والحصانة، ولأمته الاتباع لمنهج الله.
ومثل هذا قوله تعالى:
{ يَآأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ }[البقرة: 153].
وهو سبحانه يناديهم بالإيمان؛ لأنهم اعتقدوا اعتقاد الالوهية الواحدة، ومن يسمع
منهم هذا الخطاب عليه أن يداوم على الإيمان.
وما دام قد آمن بالإله الواحد قبل الخطاب، فقد استحق أن ينال التكريم من الحق
سبحانه بأن يخاطبه ويصفه بأنه من المؤمنين، فإذا نُودِي عليهم بهذه الصفة فهي
علامة السمو المقبول.
وإذا طُلبت الصفة ممن توجد الصفة فيه، فاعلم أنه سبحانه يطلب دوام الصفة فيه
واستمرارها، وفي الاستمرارية ارتقاء.
وقول الحق سبحانه هنا:
{ مِّمَّا يَعْبُدُ هَـاؤُلاءِ } [هود: 109].
نجد أن التحقيق لا يثبت لهم عبادة؛ لأن معنى العبادة ائتمار عابدٍ بأمر معبود.
وهؤلاء إنما يعبدون الأصنام، وليس للأصنام منهج يسير عليه من آمنوا بها.
ولكن الحق سبحانه أثبت لهم هنا أنهم عبدوا الأصنام، وهم قد قالوا من قبل:
{ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى }[الزمر: 3].
وهو إيمان فقد حجية التعقل الإيماني، أي: أن تستقبل أنت بذاتك القضية الإيمانية
وتناقشها لتدخل عليها باقتناع ذاتك.
وهم قد دخلوا إلى الإيمان بعبادة الأصنام باقتناع الغير، وهم الآباء، فإيمانهم
إيمان تقليد، وفي التقليد جفاف الفطرة السليمة وهو لا ينفع.
ونحن نعلم أن الحق سبحانه وتعالى قد جعل النِّسَب في الكون إما ليثبت نسبة
إيجابية، أو نسبة سلبية.
{ مَا يَعْبُدُونَ } [هود: 109].
أي: على ما قالوا إنه عبادة، ولكنه ليس عبادة، لأن العبادة تقتضي أمراً ونهياً،
وليس للأصنام أوامر أو نواهٍ، وعبادتهم هي عبادة تقليدية للآباء؛ ولذلك قالوا:
{ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ }[البقرة: 170].
ولذلك يقرر الحق سبحانه هنا جزاءهم، فيقول تعالى:
{ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ } [هود: 109].
أي: سنعطيهم جزاءهم كاملاً؛ لأنهم يفسدون في الكون، رغم أن الحق سبحانه قد جعل لكل
منهم حق الاختيار في أن يفعل الشيء أو لا يفعله، وإن لم تنضبط حركة الاختيار،
فالتوازن الاجتماعي يصير إلى اختلال.
وما دام للإنسان حق الاختيار؛ فقد أنزل الحق سبحانه له المنهج الذي يضم التكاليف
الإيمانية.
وهم حين قلدوا الآباء قد ساروا في طريق إفساد الكون؛ لذلك يُوفِّيهم الحق سبحانه
نصيبهم من العذاب.
والمفهوم من كلمة " النصيب " أنها للرزق، ويذكرها الحق سبحانه هنا
لتقرير نصيب من العذاب، وفي هذا تهكم عليهم، وسخرية منهم.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىا الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ
فِيهِ {
(/1569)
وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110)
وسورة هود هي السورة الوحيدة في القرآن التي جاء فيها ذكر رسول واحد مرتين، فقد
ذكر الحق سبحانه أنه أمر موسى عليه السلام بأن يذهب إلى فرعون، وأن يريه الآيات،
ولم يزد، ثم انتقل من ذلك الإبلاغ فقال سبحانه:
{ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ }[هود: 98].
أي: أنه أعقب أولية البلاغ بالختام الذي انتهى إليه فرعون يوم القيامة، فيُورِد
قومه النار.
ثم يأتي الحق سبحانه هنا إلى موسى عليه السلام بعد ابتداء رسالته؛ ولذلك يقول
تعالى:
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىا الْكِتَابَ } [هود: 110].
ونحن نعلم أن ذِكْر موسى عليه السلام في البداية كان بمناسبة ذِكْر ما له علاقة بشعيب
عليه السلام حين ورد موسى ماء مدين، ولكن العجيب أنه عند ذِكْر شعيب لم يذكر قصة
موسى معه، وإنما ذكر قصة موسى مع فرعون.
وقد علمنا أن موسى عليه السلام لم يكن آتياً إلى فرعون إلا لمهمة واحدة، هي أن
يرسل معه بني إسرائيل ولا يعذبهم.
وأما ما يتأتى بعد ذلك من الإيمان بالله فقد جاء كأمر تبعيٍّ، لأن رسالة موسى عليه
السلام لم تكن إلا لبني إسرائيل؛ ولذلك جاء هنا بالكتاب ليبلغه إلى بني إسرائيل
منهجاً، أما في الموضع الأول فقد ذكر سبحانه الآيات التي أرسل بها موسى إلى فرعون.
ونحن نعلم أن سورة هود عرضت لمواكب الرسل: نوح، وهود، وصالح، وشعيب، وإبراهيم ـ
عليهم جميعاً السلام ـ وجاء الحديث فيها عن موسى عليه السلام مرتين: مرة في علاقته
بفرعون، ومرة في علاقته ببني إسرائيل.
وفي كل لقطة من اللقطات مهمة أساسية من مهمات المنهج الإلهي للناس عموماً، من أول
آدم عليه السلام إلى أن تقوم الساعة؛ إلا أنه عند ذكر كل رسول يأتي باللقطة التي
تعالج داءً موقوتاً عند القوم.
فالقَدْر المشترك في دعوات كل الرسل هو قوله سبحانه:
{ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُهُ }[الأعراف: 59].
ثم يختلف الأمر بعد ذلك من رسول لآخر، فمنهم من يأمر قومه ألا يعبدوا الأصنام؛
ومنهم من يأمر قومه ألا ينقصوا الكيل والميزان.
وهكذا نجد في كل لقطة مع كل رسول علاج داء من داءات تلك الأمة، أما الإسلام فقد
جاء ليعالج داءات البشرية كلها؛ لذلك جمعت كل القيم الفاضلة في القرآن كمنهج
للبشرية.
لذلك فالحق سبحانه لا يقص علينا القصص القرآني للتسلية، أو لقتل الوقت، أو لتعلم
التاريخ؛ ولكن لنلتقط العبرة من رسالة كل رسول إلى أمته التي بعث إليها ليعالج
داءها.
وبما أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم ستكون آخر عهدٍ لالتقاء البشر بالبشر، وستكون
فيها كل أجواء وداءات الدنيا، لذلك فعليهم التقاط تلك العبر؛ لأن رسالتهم تستوعب
الزمان كله، والمكان كله.
والحق سبحانه هنا يقول:
} وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىا الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ { [هود: 110].
ونحن نعلم أنه إذا تقدم أمران على ضمير الغيبة؛ فيصح أن يعود الضمير إلى كل أمر
منهما.
وقوله سبحانه: } فَاخْتُلِفَ فِيهِ { [هود: 110].
يصح أن يكون الاختلاف في أمر موسى، ويصح أن يكون الاختلاف في أمر الكتاب، والخلاف
في واحد منهما يؤدي إلى الخلاف في الآخر؛ لأنه لا انفصال بين موسى عليه السلام،
والكتاب الذي أنزله الله عليه.
وهكذا فالأمران يلتقيان: أمر الرسالة في الكتاب، وأمر الرسول في الاصطفاء؛ ولذلك
لم يجعلهما الحق سبحانه أمرين، بل هما أمر واحد؛ لأن الرسول لا ينفصل عن منهجه.
وقوله الحق: } آتَيْنَا مُوسَىا الْكِتَابَ { [هود: 110] أمر يتعلق بفعل الحق
سبحانه، ولله ذات، ولله صفات، ولله أفعال.
وهو سبحانه مُنزَّه في ذاته عن أي تشبيه، ولله صفات، وهي ليست ككل الصفات، فالحق
سبحانه موجود، وأنت موجود، لكن وجوده قديم أزليٌّ لا ينعدم، وأنت موجود طارىء
ينعدم.
ونحن نأخذ كل ما يتعلق بالله سبحانه في إطار:
{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ }[الشورى: 11].
فإذا تكلم الحق سبحانه عن الفعل فخذ كل فعلٍ صدر عنه بقوته سبحانه غير النهائية.
وقوله سبحانه هنا:
} آتَيْنَا مُوسَىا الْكِتَابَ { [هود: 110].
نفهم منه أن هذا الفعل قد استلزم صفات متكاملة، علماً وحكماً، وقدرةً، وعفواً،
وجبروتاً، وقهراً، فهناك أشياء كثرة تتكاتف لتحقيق هذا الإتيان.
وقد يسأل سائل: وما دام موسى عليه السلام قد أوتي الكتاب، واختُلف فيه، فلماذا لم
يأخذ الحق سبحانه قوم موسى كما أخذ قوم نوح، أو قوم عاد، أو قوم ثمود، أو بقية
الأقوام الذين أخذهم الله بالعذاب؟
ونقول: ما نجوا من عذاب الله بقدرتهم؛ بل لأن الحق سبحانه قد جعل عذابهم آجلاً، وهو
يوم الحساب.
ولذلك قال سبحانه في الآية نفسها:
} وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ { [هود: 110].
وبذلك حكم الحق حكماً فاصلاً، كما حكم على الأمم السابقة التي كانت مهمة رسلهم هي
البلاغ، ولم تكن مهمة رسلهم أن يحاربوا من أجل إرساء دعوة أو تثبيت حق؛ ولذلك كانت
السماء هي التي تتدخل بالأمر النهائي.
لكن اختلف الأمر في رسالة موسى عليه السلام، فقد سبق فيه قول الله تعالى بالتأجيل
للحساب إلى يوم القيامة.
ثم يقول الحق سبحانه هنا:
} وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ { [هود: 110].
كأنهم في شك من يوم القيامة، وفي شك من الحساب، مثل قوله سبحانه في أول الآية عن
الاختلاف في الكتاب وموسى عليه السلام.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } وَإِنَّ كُـلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ
أَعْمَالَهُمْ {
(/1570)
وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)
إذن: فالحق سبحانه قد أخذ قوم الرسل السابقين على موسى بالعذاب، أما في بدء رسالة
موسى عليه السلام فقد تم تأجيل العذاب ليوم القيامة.
ويبيِّن الحق سبحانه: لا تعتقدوا أن تأجيل العذاب ليوم القيامة يعني الإفلات من
العذاب، بل كل واحد سيوفِّى جزاء عمله؛ بالثواب لمن أطاع، وبالعقاب لمن عصا، فأمر
الله سبحانه آت ـ لا محالة ـ وتوفية الجزاء إنما تكون على قدر الأعمال، كفراً أو
إيماناً، صلاحاً أو فساداً، وميعاد ذلك هو يوم القيامة.
وهنا وقفة في أسلوب النص القرآني، حتى يستوعب الذين لا يفهمون اللغة العربية
كمَلَكة، كما فهمها العرب الأقدمون.
ونحن نعلم أن العربي القديم لم يجلس إلى معلم، لكنه فهم اللغة ونطق بها صحيحة؛
لأنه من أمة مفطورة على الأداء البياني الدقيق، الرقيق، الرائع.
فاللغة ـ كما نعلم ـ ليست جنساً، وليست دماً، بل هي ظاهرة اجتماعية، فالمجتمع الذي
ينشأ فيه الطفل هو الذي يحدد لغته، فالطفل الذي ينشأ في مجتمع يتحدث العربية، سوف
ينطق بالعربية، والطفل الذي يوجد في مجتمع يتحدث اللغة الإنجليزية، سينطق
بالإنجليزية؛ لأن اللغة هي ما ينطق به اللسان حسبما تسمع الأذن.
وكانت غالبية البيئة العربية في الزمن القديم بيئة منعزلة، وكان من ينشأ فيها إنما
يتكلم اللغة السليمة.
أما العربي الذي عاش في حاضرة مثل مكة، ومكة ـ بما لها من مكانة ـ كانت تستقبل
أغراباً كثيرين؛ ولذلك كان أهل مكة يأخذون الوليد فيها لينقلوه إلى البادية؛ حتى
لا يسمع إلا اللغة العربية الفصيحة، وحتى لا يحتاج إلى من يضبط لسانه على لغة
العرب الصافية.
ولنقرِّبْ هذا الأمر، ولننظر إلى أن هناك في حياتنا الآن لغتين: لغة نتعلمها في
المنازل والشوارع ونتخاطب بها، وتسمى " اللغة العامية " ، ولغة أخرى
نتعلمها في المدارس، وهي اللغة المصقولة المميزة بالفصاحة والضبط.
وكان أهل مكة يرسلون أبناءهم إلى البادية لتلتقط الأذن الفصاحة، وكانت اللغة
الفصيحة هي " العامية " في البادية، ولم يكن الطفل في البادية يحتاج إلى
معلم ليتعلمها؛ لأن أذنه لا تسمع إلا الفصاحة.
وكانت هذه هي اللغة التي يتفوق فيه إنسان ذلك الزمان كملكة، وهي تختلف عن اللغة
التي نكتسبها الآن، ونصقلها في مدارسنا، وهي لغة تكاد تكون مصنوعة، فما بالنا
بالذين لم يتعلموا العربية من قبل من المستشرقين، ويتعلمون اللغة على كِبَر.
وهؤلاء لم يمتلكوا صفاء اللغة، لذلك حاولوا أن يطعنوا في القرآن، وادعى بعض
أغبيائهم أن في القرآن لحناً، قالوا ذلك وهم الذين تعلموا اللغة المصنوعة، رغم أن
من استقبلوا القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أهل الفصاحة، لم يجدوا في
القرآن لحناً، ولو أنهم أخذوا لحناً على القرآن في زمن نزوله؛ لأعلنوا هذا اللحن؛
لأن القرآن نزل باللغة الفصيحة على أمة فصيحة، بليغة صناعتها الكلام.
ولأمرٍ ما أبق الله سبحانه صناديد قريش وصناديد العرب على كفرهم لفترة، ولو أن
أحداً منهم اكتشف لحناً في القرآن لأعلنه.
وذلك حتى لا يقولن أحد أنهم قد آمنوا فستروا على القرآن عيوباً فيه. ولو كان عند
أحدهم مَهْمَزٌ لما منعه كفره أن يبين ذلك، فهل يمكن لهؤلاء المستشرقين الذين
عاشوا في القرن العشرين أن يجدوا لحناً في القرآن، وهم لم يمتلكوا ناصية اللغة
ملكة، بل تعلموها صناعة، والصنعة عديمة الإحساس الذوقي.
ومثال ذلك: عدم فهم هؤلاء لأسرار اللغة في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها،
فالحق سبحانه يقول:
} وَإِنَّ كُـلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ
بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ { [هود: 111].
أي: أن كل واحد من الذين صدَّقوا أو من الذين كذَّبوا، له توفية في الجزاء، للطائع
الثواب؛ وللعاصي العقوبة.
وكلمة " إنَّ " ـ كما نعلم ـ هي في اللغة " حرف توكيد " في
مقابلة مَنْ ينكر ما يجيء بعدها.
والإنكار ـ كما نعلم ـ مراحل، فإذا أردت أن تخبر واحداً بخبر لا يعلمه، فأنت تقول
له مثلاً: " زارني فلان بالأمس ".
وهكذا يصادف الخبر ذهن المستمع الخالي، فإن قال لك: " لكن فلاناً كان بالأمس
في مكان آخر " ، فأنت تقول له: " إن فلاناً زارني بالأمس ".
وحين يرد عليك السامع: " لكنني قابلت فلاناً الذي تتحدث عنه أمس في المكان
الفلاني ".
وهنا قد تؤكد قولك: " والله لقد زارني فلان بالأمس ".
إذن: فأنت تأتي بالتوكيد على حَسْب درجة الإنكار.
وحين يؤجل الحق سبحانه العذاب لبعض الناس في الدنيا، قد يقول غافل: لعل الله لم
يعد يعذِّب أحداً.
ولذلك بيَّن الحق سبحانه مؤكداً أن الحساب قادم، لكل من الطائع والمصدِّق، والعاصي
المكذِّب، فقال سبحانه:
} وَإِنَّ كُـلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ { [هود:
111].
والذين لم تستقم لهم اللغة كملكة، كالمستشرقين، وأخذوها صناعة، توقفوا عند هذه
الآية وقالوا: لماذا جاء بالتنوين في كلمة " كلاً "؟
وهم لم يعرفوا أن التنوين يغني عن جملة، فساعة تسمع أو تقرأ التنوين، فاعلم أنه
عِوَضٌ عن جملة، مثل قول الحق سبحانه:
{ فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ
}[الواقعة: 83ـ84].
و " كلاً " في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها توجز أن كلاً من الطائع
المؤمن، والعاصي الكافر، سوف يلقى جزاءه ثواباً أو عقاباً.
أما قوله سبحانه: } لَّمَّا { في نفس الآية، فنحن نعلم أن " لما "
تستعمل في اللغة بمعنى " الحين " و " الزمان " مثل قول الحق
سبحانه:
{ وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىا لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ }[الأعراف: 143].
ومثل قوله سبحانه:
{ وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ
}[يوسف: 94].
أي حين فصلت العير وخرجت من مصر قال أبوهم:{ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ }[يوسف:
94].
و " لما " تأتي أيضاً للنفي مثل قوله سبحانه:
{ قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـاكِن قُولُواْ
أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ }[الحجرات: 14].
أي: أن الإيمان لم يدخل قلوبهم بعد، وتحمل كلمة " لما " الإذن بأن
الإيمان سوف يدخل قلوبهم بعد ذلك.
وحين تستخدم كلمة " لما " في النفي تكون " حرفاً " مثلها مثل
كلمة " لم " ، ولكنها تختلف عن " لم " لأن " لم "
تجزم الفعل المضارع، ولا يتصل نفيها بساعة الكلام، بل بما مضى، وقد يتغير الموقف.
أما " لما " فيتصل نفيها إلى وقت الكلام، وفيها إيذان بأن يحدث ما
تنفيه.
وهكذا نفهم أن قول الحق سبحانه:
} وَإِنَّ كُـلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ
بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ { [هود: 111].
أي: أن كلاً من الطائع والعاصي سيوفَّى حسابه وجزاؤه ثواباً أو عقاباً، حين يأتي
أجل التوفية، وهو يوم القيامة.
وقد جاءت " لما " لتخدم فكرة العقوبة التي كانت تأتي في الدنيا، وشاء
الله سبحانه أن يؤجل العقوبة للكافرين إلى الآخرة، وأنسب حرف للتعبير عن ذلك هو
" لما ".
وحين تقرأ } لَيُوَفِّيَنَّهُمْ { تجد اللام، وهي لام القسم بأن الحق سبحانه
سيوفيهم حسابهم إن ثواباً أو عقاباً.
والله سبحانه بما يفعل العباد خبير، هو سبحانه يعلم أفعال العبد قبل أن تقع،
ولكنها حين تقع لا يمكن أن تُنسَى أو تذهب أدراج الرياح؛ لأن من يعلمها هو "
الخبير " صاحب العلم الدقيق، والخبير يختلف عن العالِم الذي قد يعلم
الإجماليات، لكن الخبير هو المدرَّب على التخصص.
ولذلك غالباً ما تأتي كلمتا " اللطيف والخبير " معاً؛ لأن الخبير هو من
يعلم مواقع الأشياء، واللطيف هو من يعرف الوصول إلى مواقع تلك الأشياء.
ومثال هذا: أنك قد تعرف مكان اختباء رجل في جبل مثلاً، هذه المعرفة وهذه الخبرة لا
تكفيان للوصول والنفاذ إلى مكانه، بل إن هذا يحتاج إلى ما هو أكثر، وهو الدقة
واللطف.
والحق سبحانه جاء بهذا الحديث عن موسى عليه السلام ليسلِّي رسوله صلى الله عليه
وسلم، لأن بعضاً من الكافرين برسالة محمد عليه الصلاة والسلام قالوا: ما دام الله
يأتي بالعذاب ليبيد من يكفرون برسله، فلماذا لا يأتي لنا العذاب؟
ولهذا جاء ما يخبر هؤلاء بأن الحق سبحانه سيوقع العقوبة على الكافرين، لا محالة،
فإياك أن يخادعوك ـ يا رسول الله ـ في شيء، أو يساوموك على شيء، مثلما قالوا: نعبد
إلهك سنة، وتعبد آلهتنا سنة.
وقد سبق أن قطع الحق سبحانه هذا الأمر بأن أنزل:
{ قُلْ ياأَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنتُمْ
عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ * وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ }[الكافرون: 1ـ4].
وهذا هو قطع العلاقات التام في تلك المسألة التي لا تقبل المساومة، وهي العبادة.
ونحن نعلم أن العبادة أمر قلبي، لا يمكن المساومة فيه، وقطع العلاقات في مثل هذا
الأمر أمر واجب؛ لأنه لا يمكن التفاوض حوله؛ فهي ليست علاقات ظرف سياسي، ولكنه أمر
ربَّاني، يحكمه الحق سبحانه وحده.
وقول الحق سبحانه:
{ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ * وَلاَ
أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ }[الكافرون: 2ـ4].
هذا القول الكريم يشعر من يسمعه ويقرؤه أنهم سيظلون على عبادة غير الله، وأن
محمداً سيظل على عبادة الله، وأن كلمة " الله " ستعلو؛ لأن الحق سبحانه
يأتي بعد سورة " الكافرين " بقوله تعالى:
{ إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي
دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ
كَانَ تَوَّاباً }[النصر: 1ـ3].
وهنا يقول الحق سبحانه: } فَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ {
(/1571)
فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)
والاستقامة معناها: عدم الميل أو الانحراف ـ ولو قيد شعرةٍ ـ وهذا أمر يصعب
تحقيقه؛ لأن الفاصل بين الضدين، أو بين المتقابلين هو أدق من الشعرة في بعض
الأحيان.
ومثال ذلك: حين ترى الظل والضوء، فأحياناً يصعد الظل على الضوء، وأحياناً يصعد
الضوء على الظل، وسنجد صعوبة في تحديد الفاصل بين الظل والنور، مهما دقت المقاييس.
وهكذا يصبح فصل الشيء عن نقيضه صعباً، ولذلك فالاستقامة أمر شاق للغاية.
وساعة أن نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " شيبتني هود
وأخواتها ".
ولولا أن قال الحق سبحانه في كتابه الكريم:
{ فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ }[التغابن: 16].
فلولا نزول هذه الآية لتعب المسلمون تماماً، وقد أنزل الحق سبحانه هذا القول بعد
أن قال:
{ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ }[آل عمران: 102].
وعزَّ ذلك على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الحق سبحانه ما يخفف به
عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم بأن قال سبحانه:
{ فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ }[التغابن: 16].
إذن: فالأمر بالاستقامة هو أمر بدقة الأداء المطلوب لله أمراً ونهياً، بحيث لا
نميل إلى جهة دون جهة.
وهكذا تطلب الاستقامة كامل اليقظة وعدم الغفلة.
ويقول الحق سبحانه:
{ فَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ } [هود: 112].
وهذا إيذان بألاَّ ييأس رسول الله صلى الله عليه وسلم من وقوف صناديد قريش أمام
دعوته صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم سيتساقطون يوماً بعد يوم.
وقول الحق سبحانه:
{ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [هود: 112].
يعني ألا نتجاوز الحد، فالطغيان هو مجاوزة الحد.
وهكذا نعلم أن الإيمان قد جعل لكل شيء حدّاً، إلا أن حدود الأوامر غير حدود
النواهي؛ فالحق سبحانه إن أمرك بشيء، فهو يطلب منك أن تلتزمه ولا تتعده.
وقال الحق سبحانه:
{ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا }[البقرة: 229].
وهذا القول في الأوامر، أما في النواهي فقد قال سبحانه:
{ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا }[البقرة: 187].
أي: أن تبتعد عنها تماماً.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي
يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملكٍ حمى، ألا وإن حمى الله محارمه
".
وحين ينهانا الحق سبحانه عن الاقتراب من شيء فهذه هي استقامة الاحتياط، وهي قد
تسمح لك بأن تدخل في التحريم ما ليس داخلاً فيه، فمثلاً عند تحريم الخمر، جاء
الأمر باجتنابها أي: الابتعاد عن كل ما يتعلق بالخمر حتى لا يجتمع المسلم هو
والخمر في مكان.
وجعل الحق سبحانه أيضاً الاستقامة في مسائل الطاعة، وهو سبحانه يقول:
{ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ }
[الأنعام: 141].
والنهي عن الإسراف هنا؛ ليعصمنا الحق سبحانه من لحظة نتذكر فيها كثرة ما حصدنا،
ولكننا لا نجد ما نقيم به الأود فقد يسرف الإنسان لحظة الحصاد لكثرة ما عنده، ثم
تأتي له ظروف صعبة فيقول: " يا ليتني لم أُعْطِ ". وهكذا يعصمنا الحق
سبحانه من هذا الموقف.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سدِّدوا وقاربوا واعلموا أنه لن يدخل
أحدكم عمله الجنة، وأن أحب الأعمال أدومها إلى الله وإن قل "؛ لأن الدين قوي
متين، و " لن يشاد الدين أحد إلا غلبه ".
وهكذا نجد الحق سبحانه ونجد رسوله صلى الله عليه وسلم أعلم بنا، والله لا يريد منا
عدم الطغيان من ناحية المحرمات فقط، بل من ناحية الحلِّ أيضاً، فيوصينا سبحانه
بالرفق واللين والهوادة ، وأن يجعل الإنسان لنفسه مُكْنة الاختيار.
ومثال ذلك: أن يلزم الإنسان نفسه بعشرين ركعة كل ليلة، وهو يلزم نفسه بذلك نذراً
لله تعالى في ساعة صفاء، لكنه حين يبدأ في مزوالة ذلك القدر يكتشف صعوبته، فتكرهه
نفسه.
ولذلك يأمرنا الحق سبحانه بالاستقامة وعدم الطغيان؛ استقامة في تحديد المأمور به
والمنهي عنه؛ ولذلك كان الاحتياط في أمر العبادات أوسع لمن يطلب الاستقامة.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الحلال بيِّن، والحرام بين، وبينهما
أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه
".
ولذلك يطلب الشارع الحكيم سبحانه منا في الاحتياط أن نحتاط مرة بالزيادة، وأن
نحتاط بمرة بالنقص، فحين تصلي خارج المسجد الحرام، يكفيك أن تكون جهتك الكعبة، أما
حين تصلي في المسجد الحرام، فأنت تعلم أن الكعبة قسمان: قسم بنايته عالية، وقسم
اسمه " الحطيم " وهو جزء من الكعبة، لكن نفقتهم أيام رسول الله صلى الله
عليه وسلم قد قصرت؛ فلم يبنوه.
لذلك فأنت تتجه ببصرك إلى البناء العالي المقطوع بكعبيته، وهذا هو الاحتياط
بالنقص.
أما الاحتياط بالزيادة، فمثال ذلك: هو الطواف، وقد يزدحم البشر حول الكعبة، ولا
تسمح ظروفك إلا بالطواف حول المسجد.
وهكذا يطول عليك الطواف، لكنه طواف بالزيادة فعند الصلاة يكون الاحتياط بالنقص،
أما عند الطواف فيكون الاحتياط بالزيادة.
وهكذا نجد الاحتياط هو الذي يحدد معنى الاستقامة.
ويُنهي الحق سبحانه الآية بقوله تعالى:
} إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ { [هود: 112].
وفي الآية السابقة قال سبحانه:{ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }[هود: 111].
وعلمنا معنى الخبير، أما المقصود بالبصير هنا فهو أنه سبحانه يعلم حركة العبادة؛
لأن حركة العبادة مرئية.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ
فَتَمَسَّكُمُ {
(/1572)
وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113)
والكافرون ـ كما نعلم ـ قد عرضوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعبد آلهتهم
سنة، وأن يعبدوا هم الله سنة، ولكن الحق سبحانه قطع وفصل في هذا الأمر.
ويأتي هنا توكيد هذا الأمر؛ فيقول سبحانه:
{ وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ } [هود: 113].
والركون هو الميل والسكون والمودة والرحمة، وأنت إذا ركنت للظالم؛ أدخلت في نفسه
أن لقوته شأناً في دعوتك.
والركون أيضاً يعني: المجاملة، وإعانة هذا الظالم على ظلمه، وأن تزِّين للناس ما
فعله هذا الظالم.
وآفة الدنيا هي الركون للظالمين؛ لأن الركون إليهم إنما يشجعهم على التمادي في
الظلم، والاستشراء فيه. وأدنى مراتب الركون إلى الظالم ألا تمنعه من ظلم غيره،
وأعلى مراتب الركون إلى الظالم أن تزين له هذا الظلم؛ وأن تزين للناس هذا الظلم.
وأنت إذا استقرأت وضع الظلم في العالم كله لوجدت آن آفات المجتمعات الإنسانية إنما
تنشأ من الركون إلى الظالم؛ لكنك حين تبتعد عن الظالم، وتقاطعه أنت ومن معك؛ فلسوف
يظن أنك لم تُعرْض عنه إلا لأنك واثق بركن شديد آخر؛ فيتزلزل في نفسه؛ حاسباً حساب
القوة التي تركن إليها؛ وفي هذا إضعاف لنفوذه؛ وفي هذا عزلة له وردع؛ لعله يرتدع
عن ظلمه.
والركون للظالم إنما يجعل الإنسان عرضة لأن تمسه النار بقدر آثار هذا الركون؛ لأن
الحق سبحانه يقول:
{ وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا
لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ } [هود: 113].
فأنتم حين تركنون إلى ظالم إنما تقعون في عداء مع منهج الله؛ فيتخلى الله عنكم ولا
ينصركم أحد؛ لأنه لا وليَّ ولا ناصر إلا الله تعالى.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: { وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ }
(/1573)
وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)
وهذا أمر بالخير؛ يوجهه الله سبحانه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم.
ونحن نلحظ في هذه الآيات من سورة هود أنها تحمل أوامر ونواهي؛ الأوامر بالخير
دائماً؛ والنواهي عن الشر دائماً.
ونلحظ أن الحق سبحانه قال:
{ فَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ }[هود: 112].
ثم وَجَّه النهي للأمة كلها:{ وَلاَ تَطْغَوْاْ }[هود: 112] ولم يقل: "
فاستقم ولا تطغي " لأن الأمر بالخير يأتي للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته
معه؛ وفي النهي عن الشر يكون الخطاب موجهاً إلى الأمة، وفي هذا تأكيد لرفعة مكانة
النبي صلى الله عليه وسلم.
ونرى نفس الأمر حين يوجه الحق سبحانه الحديث إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم
فيقول سبحانه وتعالى:
{ وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ }[هود: 113].
ولم يقل: " ولا تركن إلى الذين ظلموا ".
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه
وسلم ولأمته:
{ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ } [هود: 114].
والإقامة تعني: أداء المطلوب على الوجه الأكمل، مثل إقامة البنيان؛ وأن تجعله
مؤدياً للغرض المطلوب منه.
ويقال: " أقام الشيء " أي: جعله قائماً على الأمر الذي يؤدي به مهمته.
وقول الحق سبحانه:
{ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ } [هود: 114].
أي: نهايته من ناحية، ونهايته من الناحية الأخرى؛ لان طرف الشيء هو نهايته.
وتتحدد نهاية الطرفين من منطقة وسط الشيء، فالوسط هو الفاصل بين الطرفين؛ فما على يمين
الوسط يعد طرفاً؛ وما على يسار الوسط يعد طرفاً آخر؛ وكل جزء بعد الوسط طرف.
وعادةً ما يعد الوسط هو نقطة المنتصف تماماً، وما على يمينها يقسم إلى عشرة أجزاء،
وما على يسارها يقسم إلى عشرة أجزاء أخرى، وكل قسم بين تلك الأجزاء التي على
اليمين و التي على اليسار يعد طرفاً.
وقول الحق سبحانه:
{ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ } [هود: 114].
يقتضي أن تعرف أن النهار عندنا إنما نتعرف عليه من بواكير الفجر الصادق، وهذا هو
أول طرف نقيم فيه صلاة الفجر، ثم يأتي الظهر؛ فإن وقع الظهر قبل الزوال حسبناه من
منطقة ما قبل الوسط، وإن كان بعد الزوال حسبناه من منطقة ما بعد الوسط.
وبعد الظهر هناك العصر، وهو طرف آخر.
وقول الحق سبحانه:
{ وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ } [هود: 114].
يقتضي منا أن نفهم أن كلمة { زُلَفاً } هي جمع؛ زلفة، وهي مأخوذة من: أزلفه، إذا
قرَّبه.
والجمع أقله ثلاثة؛ ونحن نعلم أن لنا في الليل صلاة المغرب، وصلاة العشاء، ولذلك
نجد الإمام أبا حنيفة يعتبر الوتر واجباً، فقال: إن صلاة العشاء فرض، وصلاة الوتر
واجب؛ وهناك فرق بين الفرض والواجب.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك مباشرة:
{ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ } [هود: 114].
وهذا التعقيب يضع الصلاة في قمة الحسنات، وقد أوضح رسول الله صلى الله عليه وسلم
هذا بأن قال: " الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما لم
تُغْشَ الكبائر ".
واختلف العلماء في معنى السيئات والحسنات، وقال بعضهم: الحسنة هي ما جعل الله سبحانه
على عملها ثواباً، والسيئة هي ما جعل الله على عملها عقاباً.
وأول الحسنات في الإيمان أن تشهد أن لا إله إلا الله، وهذه حسنة أذهبت الكفر؛ لأن
الحسنات يذهبن السيئات.
ولذلك قال بعض العلماء: إن المسلم الذي ارتكب معصية أو كبيرة من الكبائر، لا يخلد
في النار؛ لأنه إذا كانت حسنة الإيمان قد أذهبت سيئة الكفر، أفلا تذهب ما دون
الكفر؟.
وهكذا يخفّف العقاب على المسلم فينال عقابه من النار، ولكنه لا يخلد فيها؛ لأننا
لا يمكن أن نساوي بين من آمن بالله ومن لم يؤمن بالله.
والإيمان بالله هو أكبر حسنة، وهذه الحسنة تذهب الكفر، ومن باب أولى أن تذهب ما
دون الكفر.
وتساءل بعض العلماء: هل الفرائض هي الحسنات التي تذهب السيئات؟
وأجاب بعضهم: هناك أحاديث صحيحة قد وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حسنات
في غير الفرائض، ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن صوم يوم عرفة إلى
صوم يوم عرفة يذهب السيئات ".
ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الإنسان الذي يستقبل نعمة الله
بقوله: الحمد لله الذي رزقنيه من غير حولٍ مني ولا قوة، والحمد لله الذي كساني من
غير حولٍ مني ولا قوة ". وهذا القول يكفّر السيئات.
ألم يقل صلى الله عليه وسلم " إنك إذا قلت: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله
إلا الله، والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم " فهذا القول
كفارة؟
إذن: فالحسنات مطلقة سواء أكانت فرضاً أم غير فرضٍ، وهي تذهب السيئات. والسيئة هي
عمل توعد الله ـ سبحانه ـ من يفعله بالعقوبة.
وتساءل أيضاً بعض العلماء: إن السيئة عمل، والعمل إذا وقع يُرفع ويُسجَّل، فكيف
تُذهبها الحسنة؟
وأجابوا: إن ذهاب السيئة يكون إما عن طريق مَنْ يحفظ العمل، ويكتبه عليك، فيمحوه
الله من كتاب سيئاتك، أو أن يعفو الله سبحانه وتعالى عنك؛ فلا يعاقبك عليه، أو
يكون ذهاب العمل في ذاته فلا يتأتى، وما وقع لا يرتفع؛ أو يحفظها الله إن وقعت؛
لأنه هو سبحانه القائل:
{ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }[ق: 18].
ويقول سبحانه:
{ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ }[الانفطار: 10ـ11].
وهكذا يكون إذهاب السيئة، إما محوها من الكتاب، وإما أن تظل في الكتاب، ويذهب الله
سبحانه عقوبتها بالمغفرة.
والحق سبحانه يقول:
{ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ
إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ }[النجم: 32].
واجتناب الكبائر لا يمنع من وقوع الصغائر.
والحق سبحانه يقول:
{ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَىا عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ }[العنكبوت: 45].
وحين ننظر إلى مواقيت الصلاة، نجدها خمسة مواقيت، فمن تعلَّق قلبه بالصلاة، إنما
ينشغل قلبه طوال وقت حركته بإقامة الصلاة، ثم يأتي وقت الليل لينام، وكل من يرتكب
معصية سينشغل فكره بها لمدةٍ، ولو لم يأت له وقت صلاة لأحسَّ بالضياع، أما إذا ما
جاء وقت الصلاة فقلبه يتجه لله سبحانه طالباً المغفرة.
وإن وقعت منه المعصية مرة، فقد لا تقع مرة أخرى، أو أن الصلاة تنهى عن الفحشاء
والمنكر في وقت الاستعداد لها، فمن جلس لينمَّ على غيره، أو يظلم الناس، إذا ما
سمع أذان الصلاة وقام وتوضأ؛ فقد رحم الناس في وقت وضوئه ووقت صلاته ووقت ختمه
للصلاة.
وهناك أعمال كثيرة من الفروض والحسنات وهي تمحو السيئات، وعلى المسلم أن ينشغل
بزيادة الحسنات، وألا ينشغل بمحو السيئات؛ لأن الحسنة الواحدة بشعرة أمثالها وقد
يضاعفها الله سبحانه، أما السيئة فإنما تكتب واحدة.
ويُنهي الحق سبحانه هذه الآية الكريمة بقوله:
} ذالِكَ ذِكْرَىا لِلذَّاكِرِينَ { [هود: 114].
أي: إن إقامة الصلاة طرفي النهار، وزلفاً من الليل هي حسنات تذهب السيئات؛ وفي ذلك
ذكرى وتنبيه للنفس إلى شيء غُفِل عنه، أي: أن هذا الشيء كان موجوداً من قبل، ولكن
جاءت الغفلة لتنسيه، والإخبار الأول أزال الجهل بهذا الشيء، والإخبار الثاني
يذكِّرك بالحكم؛ لأن آفة الإنسان أن الأمور التي تمر به من المرائي والمدركات،
تتوالى وتصير الأشياء التي في بؤرة الشعور إلى حاشية الشعور، فيغفل الإنسان عما
صار في حاشية الشعور، ولا بد من مجيء معنى جديد ليذكِّر بما غاب في حاشية الشعور.
ومثال ذلك: إنك إذا ألقيت حجراً في بحر، فهذا الحجر يستقر في بؤرة تصنع حولها
دوائر من المياه، وتذهب هذه الدوائر إلى أن تختفي من رؤية الإنسان، ودليل ذلك أنك
قد تتذكر أحداثاً مرت عليك من عشرين عاماً أو أكثر، هذه الأحداث كانت موجودة في
حاشية الشعور، ثم جاء لك ما ينبهك إليها.
والمخ كآلة التصوير الفوتوغرافية يلتقط أحياناً من مرة واحدة، وأحياناً من مرتين،
أو أكثر، والالتقاط من أول مرة إنما يتم لأن المخ في تلك اللحظة كان خالياً من
الخواطر.
ونحن نجد أن من فقدوا أبصارهم إنما ينعم الله سبحانه عليهم بنعمة أخرى، هي قدرتهم
الكبيرة على حفظ العلم؛ لأنه حين يسمع الكفيف العلم لا تشغله الخواطر المرئية التي
تسرق انتباه بؤرة الشعور، أما المبصر، فقد تسرق بؤرة شعوره ما يمر أمامه، فيسمع
العلم لأكثر من مرة إلى أن يصادف العلم بؤرة الشعور خالية فيستقر فيها.
وهكذا تفعل الذكرى؛ لأنها تستدعي ما في حاشية الشعور إلى بؤرة الشعور، فإذا انشغلت
عن طاعة وذهبت إلى معصية، فالذكرى توضح لك آفاق المسئولية التي تتبع المعصية، وهي
العقاب.
ولذلك يقال: " لا خير في خيرٍ بعده النار، ولا شر في شر بعده الجنة ".
والحق سبحانه يقول هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
} وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ { [هود:
114].
وأنت حين تنظر إلى أركان الإسلام، ستجد أنك تشهد ألا إله إلا الله، وأن محمداً
رسول الله مرة واحدة في العمر، والركن الثاني، وهو الصلاة، وهو ركن لا يسقط أبداً،
فهي كل يوم خمس مرات، فيها تنطق بالشهادة، وتزكِّي ببعض الوقت ليبارك لك الله ـ
سبحانه وتعالى ـ فيما بقي لك من وقتٍ، وفيها تصوم عن الطعام والشراب وكل ما يفسد
الصيام، وأنت تتجه لحظة قيام الصلاة إلى البيت الحرام.
ففي الصلاة تتضح العبادات الأخرى، ففيها من أركان الإسلام الخمس.
ولذلك لا تسقط الصلاة أبداً؛ لأنك إن لم تستطع الصلاة واقفاً؛ فَلَكَ أن تصلي
قاعداً، وإن لم تكن تستطيع الحركة فَلَكَ أن تحرك رموش عينيك، وأنت تصلي.
وهكذا تجد في الصلاة كل أركان الدين، ولأهميتها نجد أنها تبقى مع الإنسان إلى آخر
رمقٍ في حياته، وهي قد أخذت أهميتها في التشريع على قدر أهميتها في التكليف، وكل
تكاليف الإسلام قد جاءت بواسطة الوحي إلا الصلاة، فقد جاءت مباشرة من الله تعالى،
فقد استدعى الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم إليه ليفرض عليه الصلاة وهي تحية
لأمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ نظراً لأنها شرعت في قرب محمد صلى الله عليه وسلم
من ربه سبحانه وتعالى.
لذلك جعل الحق سبحانه الصلاة المفروضة في القرب وسيلة لقرب أمة رسوله صلى الله
عليه وسلم جميعاً؛ ولذلك فهي الباقية.
ويُحكَى أن الإمام علياً ـ كرم الله وجهه ورضي عنه ـ أقبل على قوم وقال لهم: أي
آيةٍ في كتاب الله أَرْجَى عندكم؟
أي: ما هي الآية التي تعطي الرجاء والطمأنينة والبشرى بأن الحق سبحانه يقبلنا
ويغفر لنا ويرحمنا، فقال بعضهم: هي قول الحق سبحانه:
{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذالِكَ
لِمَن يَشَآءُ }[النساء: 116].
فقال الإمام علي: حسنة، وليست إياها؟ أي: أنها آية تحقق ما طلبه، لكنها ليست الآية
التي يعنيها.
فقال بعض القوم إنها قول الحق سبحانه:
{ وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ
يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً }[النساء: 110].
فكرر الإمام علي: حسنة، وليست إياها.
فقال بعض القوم: هي قول الحق سبحانه:
{ قُلْ ياعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىا أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن
رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً }
[الزمر: 53].
فقال الإمام علي: حسنة، وليست إياها:
فقال بعضهم: هي قوله سبحانه:
{ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ
اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ
}[آل عمران: 135].
فقال الإمام علي: حسنة، وليست إياها.
وصمت القوم وأحجموا، فقال الإمام علي كرَّم الله وجهه: ما بالكم يا معشر المسلمين؟
وكأنه يسألهم: لماذا سكتم؟.. فقالوا: لا شيء.
وهكذا جعل الإمام علي التشويق أساساً يبني عليه ما سوف يقول لهم: واشرأبت أعناقهم،
وأرهفوا السمع، فقال لهم الإمام علي: سمعت حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: " أَرْجَى آية في كتاب الله هي قول الحق سبحانه:
} وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ إِنَّ
الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذالِكَ ذِكْرَىا لِلذَّاكِرِينَ { [هود:
114].
يا علي إن أحدكم ليقوم من وضوئه فتتساقط عن جوارحه ذنوبه، فإذا أقبل على الله
بوجهه وقلبه لا ينفتل ـ أي: لا يلتفت ـ إلا وقد غفر الله له كل ذنوبه كيوم ولدته
أمه؛ فإذا أحدث شيئاً بين الصلاتين فله ذلك، ثم عدَّ الصلوات الخمس واحدة واحدة،
فقال بين الصبح والظهر، وبين الظهر والعصر، وبين العصر والمغرب، وبين المغرب
والعشاء، وبين العشاء والفجر، ثم قال صلى الله عليه وسلم: " يا علي إنما
الصلوات الخمس لأمتي كنهر جارٍ بباب أحدكم، أو لو كان على جسد واحد منكم درن ثم
اغتسل في البحر، أيبقى على جسده شيء من الدرن؟ قال: فذلكم والله الصلوات لأمتي
".
ولذلك لو نظرنا إلى الأعمال لوجدنا كل عمل له مجاله في عمره إلا مجال الصلاة،
فمجالها كل عمر الإنسان.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ
الْمُحْسِنِينَ {
(/1574)
وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)
وجاءت كلمة " اصبر " لتخدم كل عمليات الاستقامة.
وكذلك يقول الحق سبحانه:
{ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا }[طه: 132].
والصبر نوعان: صبر " على " ، وصبر " عن " وفي الطاعات يكون
الصبر على مشقة الطاعة، مثل صبرك على أن تقوم من النوم لتصلي الفجر، وفي اتقاء
المعاصي يكون الصبر عن الشهوات.
وهكذا نعلم أن الصبر على إطلاقه مطلوب في الأمرين: في الإيجاب للطاعة، وفي السلب
عن المعصية.
ونحن نعلم أن الجنة حٌقَّتْ بالمكاره؛ فاصبر على المكاره، وحُفَّتِ النار
بالشهوات؛ فاصبر عنها.
وافرض أن واحداً يرغب في أكل اللحم، ولكنه لا يملك ثمنها، فهو يصبر عنها؛ ولا
يستدين.
ولذلك يقول الزهاد: ليس هناك شيء اسمه غلاء، ولكن هناك شيء اسمه رخص النفس.
ولذلك نجد من يقول: إذا غلا شيء عليّ تركته، وسيكون أرخص ما يكون إذا غلا.
والحق سبحانه يقول:
{ وَاصْبِرْ عَلَىا مَآ أَصَابَكَ }[لقمان: 17].
وهنا يقول الحق سبحانه:
{ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [هود: 115].
وهم الذين أدخلوا أنفسهم في مقام الإحسان، وهو أن يلزم الواحد منهم نفسه بجنس ما
فرض الله فوق ما فرق الله، من صلاة أو صيام، أو زكاة، أو حج لبيت الله؛ لأن
العبادة ليست اقتراحاً من عابدٍ لمعبود، بل المعبود هو الذي يحدد ما يقربك إليه.
وحاول ألاّ تدخل في مقام الإحسان نَذْراً؛ لأنه قد يشق عليك أن تقوم بما نذرته،
واجعل زمان الاختيار والتطوع في يدك؛ حتى لا تدخل مع الله في ودٍّ إحساني ثم تفتر
عنه، وكأنك ـ والعياذ بالله ـ قد جرَّبت مودة الله تعالى، فلم تجده أهلاً لها، وفي
هذا طغيان منك.
وإذا رأيت إشراقات فيوضات على مَنْ دخل مقام الإحسان فلا تنكرها عليه، وإلا لسويت
بين من وقف عند ما فُرِضَ عليه، وبين من تجاوز ما فُرِضَ عليه من جنس ما فَرَضَ
الله.
وجرب ذلك في نفسك، والتزم أمر الله باحترام مواقيت الصلاة، وقم لتصلي الفجر في
المسجد، ثم احرص على أن تتقن عملك، وحين يجيء الظهر قم إلى الصلاة في المسجد،
وحاول أن تزيد من ركعات السنة، وستجد أن كثافة الظلمانية قد رَقَّتْ في أعماقك،
وامتلأتَ بإشراقات نوارينة تفوق إدراكات الحواس، ولذلك لا تستكثر على مَنْ يرتاض
هذه الرياضة الروحية، حين تجد الحق سبحانه قد أنار بصيرته بتجليات من وسائل إدراك
وشفافية.
ولذلك لا نجد واحداً من أهل النور والإشراق يدَّعي ما ليس له، والواحد منهم قد
يعلم أشياء عن إنسان آخر غير ملتزم، ولا يعلنها له؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد
خَصَّه بأشياء وصفات لا يجب أن يضعها موضع التباهي والمراءاة.
وحين عرض الحق سبحانه هذه القضية أراد أن يضع حدوداً للمرتاض ولغير المرتاض، في
قصة موسى عليه السلام حينما وجد موسى وفتاة عبداً صالحاً، ووصف الحق سبحانه العبد
الصالح بقوله تعالى:
{ عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ
مِن لَّدُنَّا عِلْماً }[الكهف: 65].
وقال العبد الصالح لموسى عليه السلام:
{ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً }[الكهف: 67].
وبيَّن العبد الصالح لموسى ـ بمنتهى الأدب ـ عذره في عدم الصبر، وقال له:
{ وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىا مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً }[الكهف: 68].
وردَّ موسى عليه السلام:
{ سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللَّهُ صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً }[الكهف:
69].
فقال العبد الصالح:
{ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حَتَّىا أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ
ذِكْراً }[الكهف: 70].
ولكن الأحداث توالت؛ فلم يصبر موسى؛ فقال له العبد الصالح:
{ هَـاذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ }[الكهف: 78].
وهذا حكم أزلي بأن المرتاض للرياضة الروحية، ودخل مقام الإحسان لا يمكن أن يلتقي
مع غير المرتاض على ذلك، وليلزم غير المرتاض الأدب مثلما يلتزم المرتاض الأدب،
ويقدم العذر في أن ينكر عليه غير المرتاض معرفة ما لا يعرفه.
ولو أن المرتاض قد عذر غير المرتاض، ولو أن غير المرتاض تأدب مع المرتاض لاستقرَّ
ميزان الكون.
والحق سبحانه يبيِّن لنا مقام الإحسان وأجر المحسنين، في قوله تعالى:
{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ
إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ }[الذاريات: 15ـ16].
ويبيِّن الحق سبحانه لنا مدارج الإحسان، وأنها من جنس ما فرض الله تعالى، في قوله
سبحانه:
{ كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ }[الذاريات: 17].
والحق سبحانه لم يكلف في الإسلام ألا يهجع المسلم إلا قليلاً من الليل، وللمسلم أن
يصلي العشاء، وينام إلى الفجر.
وتستمر مدارج الإحسان، فيقول الحق سبحانه:
{ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ }[الذاريات: 18].
والحق سبحانه لم يكلِّف المسلم بذلك، ولكن الذي يرغب في الارتقاء إلى مقام الإحسان
يفعل ذلك.
ويقول الحق سبحانه أيضاً:
{ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ }[الذاريات: 19].
ولم يحدد الحق سبحانه هنا هذا الحق بأنه حق معلوم، بل جعله حقاً غير معلوم أو
محددٍ، والله سبحانه لم يفرض على المسلم إلا الزكاة، ولكن من يرغب في مقام الإحسان
فهو يبذل من ماله للسائل والمحروم.
وهكذا يدخل المؤمن إلى مقام الإحسان، ليودَّ الحق سبحانه.
ولله المثل الأعلى: نحن نجد الإنسان حين يوده غيره؛ فهو يعطيه من خصوصياته، ويفيض
عليه من مواهبه الفائضة، علماً، أو مالاً، فما بالنا بمن يدخل في ودٍّ مع الله
سبحانه وتعالى.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ {.
(/1575)
فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116)
وكلمة " لولا " هنا تحضيضية، والتحضيض إنما يكون حثاً لعفلٍ لم يأت
زمنه، فإن كان الزمن قد انتهى ولا يمكن استدراك الفعل فيه، تكون " لولا
" للتحسر والتأسف.
وفي سورة يونس يقول الحق سبحانه:
{ فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ
يُونُسَ }[يونس: 98].
وذكَّرهم بالآيات. ونحن قد علمنا أن " لولا " لها استعمالان في اللغة،
فهي إن دخلت على جملة اسمية، فهي تدل على امتناع لوجود، كقول إنسان لآخر: "
لولا أن أباك فلاناً لضربتك على ما أذنبت " وتسمى " لولا " في هذه
الحالة " حرف امتناع لوجود ".
وإذا دخلت " لولا " على جملة فعلية، فهي أداة تحضيض، وتحميس، وحث
المخاطب على أن يفعل شيئاً، مثلما تشجِّع طالباً على المذاكرة، فتقول له: "
لولا ذاكرت بجد واجتهاد في العام الماضي لما نجحت ووصلت إلى هذه السنة الدراسية
".
وفي هذا تحميس له على بذل مزيد من الجهد، أما إذا قلت لراسب: " لولا ذاكرت
لما رسبت " فهذا توبيخ وتأسيف له على ما فات، وشحن طاقته لما هو آت؛ لأن
الزمن قد فات وانتهى وقت المذاكرة؛ لذلك تكون " لولا " ـ هنا ـ للتقريع
والتوبيخ.
والحق سبحانه وتعالى يرشدنا إلى أن بقية الأشياء هي التي ثبتت أمام أحداث الزمن،
فأحداث الزمن تأتي لتطوح بالشيء التافه أولاً، ثم بما دونه ثم بما دونه، ويبقى
الشيء القوي؛ لأنه ثابت على أحداث الزمن؛ وبقية الأشياء دائماً خيرها.
والحق سبحانه قد بيَّن لنا أنه قد أهلك الأمم التي سبقت؛ لأنه لم توجد فئة منهم
تنهى عن الفساد في الأرض، وجاء الإهلاك لامتناع من يقاوم الفساد بالأمر بالمعروف،
والنهي عن المنكر.
وضرب الحق سبحانه لنا المثل بالبقية في كل شيء، وأنها هي التي تبقى أمام الأحداث،
ففي قصة شعيب عليه السلام يقول الحق سبحانه:
{ ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُهُ وَلاَ
تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي
أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ * وَياقَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ
وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ
تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن
كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }[هود: 84ـ86].
ومعنى ذلك أن نقص المكيال أو الميزان قد يزيد التاجر ما عنده، ولكنه لا يلتفت إلى
ماهو مدخور.
ولذلك قال شعيب عليه السلام:
{ وَياقَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ
النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ }[هود: 85].
فأنت إن نظرت إلى شيء قد ذهب، فامتلك القدرة على أن تحقق فيه بالفهم، لتجده مدخراً
لك باقياً.
ولنا المثل في موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله
عنها ـ حينما سألها عن شاة أُهديت له، وكانت تعرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
يحب من الشاة كتفها، فتصدقت بكل الشاة إلا جزءاً من كتفها، فلمَّا سألها: ما فعلت
بالشاةّ قالت: ذهبت كلها إلا كتفها.
هكذا نظرت عائشة ـ رضي الله عنها ـ هذا المنظور الواقعي؛ بأن الباقي من الشاة هو
كتفها فقط، وأنها تصدقت بباقي الشاة، ويلفتها رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتة
إيمان ويقين، ويقول لها: " بقى كلها إلا كتفها ".
هكذا نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما بقي من الشاة من خير.
ويؤيد ذلك حديث قاله صلى الله عليه وسلم: " وهل لك يابن آدم من مالك إلا ما
أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت ".
ويلفتنا القرآن الكريم إلى المنظور، وإلى المدخور، فيقول الحق سبحانه:
{ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ
الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً }[الكهف: 46].
ويصف الحق سبحانه هذا المدخور بقوله:
{ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً }[الكهف: 46].
وفي آية أخرى يقول سبحانه:
{ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ
مَّرَدّاً }[مريم: 76].
إذن: لا بد أن تنظر إلى الباقيات في الأشياء؛ لأنها هي التي يُعوَّل عليها.
ويلفتنا الحق سبحانه إلى ذلك في أكثر من موضع من القرآن الكريم، فيقول تعالى:
{ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىا }[الأعلى: 17].
ويقول سبحانه:
{ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىا }[القصص: 60].
إذن: فإياك أن تنظر إلى الذاهب، ولكن انظر إلى الباقي.
وإذا عضَّتِ الإنسان الأحداث في أي شيء، نجد أن سطحي الإيمان يفزع مما ذهب، ونجد
راسخ الإيمان شاكراً لله تعالى على ما بقي.
وها هو ذا سيدنا عبد الله بن جعفر ـ رضي الله عنه ـ حينما جُرحت ساقه جرحاً
شديداً، وهو في الطريق إلى الشام، ولحظة أن وصل إلى قصر الخلافة قال الأطباء: لا
بد من التخدير لنقطع الساق المريضة، فقال: والله ما أحب أن أغفل عن ربي طرفة عين.
وكان هذا القول يعني أن تجرى له جراحة بتر الساق دون مخدر، فلمَّا قُطعت الساق،
وأرادوا أن يأخذوها ليدفنوها؛ لتسبقه إلى الجنة إن شاء الله؛ قال: ابعثوا بها،
فجاءوا بها إليه، فأمسكها بيده وقال: اللهم إن كنت قد ابتليت في عضو؛ فقد عافيت في
أعضاء.
هكذا نظر المؤمن إلى ما بقي.
وحين يتكلم القرآن الكريم عن مراتب ومراقي الإيمان يقول مرة:
{ فَأُوْلَـائِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ }[غافر: 40].
ويقول عن أناس آخرين:
{ أُولَـائِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ }[البقرة: 157].
والجنة باقية بإبقاء الله لها، ولكن رحمة الله باقية ببقاء الله، وهكذا تكون درجة
الرحمة أرقى من درجة الجنة.
وهكذا تجد في كل أمر ما يسمى بالباقيات.
وهنا يقول الحق سبحانه:
} فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ
عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ {
[هود: 116].
أي: لولا أن كان في الناس بقية من الخير وبقية من الإيمان، وبقية من اليقين،
وكانوا ينهون عن الفساد في الأرض، لولا هم لخسف الله الأرض بمن عليها.
والبقايا في كل الأشياء هي نتيجة الاختيار، والاختبار؛ مصداقاً لقول الحق سبحانه:
{ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ
فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ }[الرعد: 17].
وفي العصر الحديث نقول: " البقاء للأصلح ".
إذن: فالحق سبحانه إنما يحفظ الحياة بهؤلاء الذين ينهون عن الفساد في الأرض؛ لأنهم
يعملون على ضوء منهج الله، وهذا المنهج لا يزيد ملكاً لله، ولا يزيد صفة من صفات
الكمال لله، لأنه سبحانه خلق الكون بكل صفات الكمال فيه، ومنهجه سبحانه إنما يُصلح
حركة الحياة، وحركة الأحياء.
وهكذا يعود منهج السماء بالخير على مخلوقات الله، لا على الله الذي كوَّن الكون
بكماله.
واقرأ إن شئت قول الحق سبحانه:
{ وَالسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي
الْمِيزَانِ }[الرحمن: 7ـ8].
فكما رفع الحق سبحانه السماء بلا عمد، وجعل الأمور مستقرة متوازنة؛ فلكم أن تعدلوا
في الكون في الأمور الاختيارية بميزان دقيق؛ لأن اعوجاج الميزان إنما يفسد حركة
الحياة.
ومن اعوجاج الميزان أن يأخذ العاطل خير الكادح، ويرى الناس العاطل، وهو يحيا في
ترفٍ من سرقة خير الكادح، فيفعلون مثله، فيصير الأمر إلى انتشار الفساد.
وينزوي أصحاب المواهب، فلا يعمل الواحد منهم أكثر من قدر حاجته؛ لأن ثمرة عمله إن
زادت فهي غير مصونة بالعدالة.
وهكذا تفسد حركة الحياة، وتختل الموازين، وتتخلف المجتمعات عن ركب الحياة.
والحق سبحانه وتعالى يقول:
} فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ
عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ { [هود: 116].
وشاء الحق سبحانه أن يجعل أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير الأمم بشرط أن يأمورا
بالمعروف، وينهوا عن المنكر.
قال الله تعالى:
{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ }[آل عمران: 110].
وجعلها الحق سبحانه الأمة الخاتمة، لأنه لا رسالة بعد رسالة محمد صلى الله عليه
وسلم، وقد كانت الرسالات قبلها تأتي بعد أن يتقلص الخير في المجتمعات، وفي النفوس.
فقد وضع الحق سبحانه المنهج لأول الخلق في النفس الإنسانية، وكانت المناعة ذاتية
في الإنسان، إن ارتكب ذنباً فهو يتوب ويرجع بعد أن يلوم نفسه، ولكن قد يستقر أمره
على المعصية، وتختفي منه " النفس اللوَّامة " ، ويستسلم للنفس الأمَّارة
بالسوء، فيجد من المجتمع من يقوِّمه، فإذا ما فسد المجتمع، فالسماء تتدخل بإرسال
الرسل، إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقد أمَّنها الحق سبحانه أنه سيظل فيها
إلى أن تقوم الساعة من يدعو إلى الخير، ومن يأمر بالمعروف، ومن ينهى عن المنكر؛
ولذلك لن يوجد أنبياء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم تأكيداً لهذا المعنى: " علماء أمتي
كأنبياء بني إسرائيل ".
والعَالِم: هو كل من يعلم حكماً من أحكام الله سبحانه، وعليه أن يبلغه إلى الناس.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " نضَّر الله وجه امرىءٍ سمع مقاتلي
فوعاها، وأدَّاها إلى من لم يسمعها، فرُبَّ مُبلَّغ أوعى من سامِع ".
ويقول الحق سبحانه:
} أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً
مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ
فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ { [هود: 116].
وقد أنجى الحق سبحانه بعضاً ممن نهوا عن الفساد في الأرض.
ونرى أمثلة على ذلك في القرية التي كانت حاضرة البحر، وكانت تأتيهم حيتانهم شُرعاً
يوم السبت الذي حرموا فيه الصيد على أنفسهم، ويوم لا يسبتون لا تأتيهم.
ويقول الحق سبحانه:
{ وَإِذَا قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ
أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَىا رَبِّكُمْ
وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا
الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ
بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ }[الأعراف: 164ـ165].
هكذا أنجى الله سبحانه الذي نهوا عن السوء في تلك القرية، وقد نرى في بعض
المجتمعات عنصرين:
الأول: أنه لا يوجد طائفة تنهى عن الفساد.
والعنصر الثاني: أن ينفتح على المجتمع باب الترف على مصراعيه، وفي انفتاح باب
الترف على مصراعيه مذلَّة للبشر؛ لأنك قد تجد إنساناً لا تترفه إمكاناته؛ فيزيد
هذه الإمكانات بالرشوة والسرقة والغصب.
وكل ذلك إنما ينشأ لأن الإنسان يرى مترفين يتنعمون بنعيم لا تؤهله إمكاناته أن
يتنعم به.
ويقول الحق سبحانه وتعالى عن إهلاك مثل هذه المجتمعات:
{ وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ
فِيهَا }[الإسراء: 16].
وبعض الناس يفهمون هذه الآية الكريمة على غير وجهها؛ فهم يفهمون الفسق على أنه
نتيجة لأمر من الله ـ سبحانه وتعالى ـ والحقيقة أنهم إنما قد خالفوا أمر الله؛ لأن
الحق سبحانه يقول:
{ وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ
}[البينة: 5].
أي: أن الحق سبحانه أمر المترفين أن يتبعوا منهج الله، لكنهم خالفوا المنهج الإلهي
مختارين؛ ففسقوا عن أمر ربهم.
وفي الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
} وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ { [هود: 116].
وقوله سبحانه: (ظلموا) تبين أن مادة الترف التي عاشوا فيها جاءت من الظلم، وأخذ
حقوق الناس وامتصاص دماء الكادحين.
ومادة (ترف) تعني النعمة يتنعم بها الإنسان. ومنها: أَترف، وأُترف، وكلمة "
أترف " أي: أطغته النعمة، وأنسته المنعم سبحانه. وأترف، أي: مد الله له في
النعمة ليأخذه أخذ عزيز مقتدر.
والحق سبحانه يقول:
{ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ
شَيْءٍ حَتَّىا إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُواْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً }[الأنعام:
44].
فمن يمسك عدوه ليرفعه؛ فلا يظنن أنه يدلِّله، ولكنه يرفعه ليلقيه من علٍ، فيزداد
ويعظم ألمه. وكان الله سبحانه قد أعطى أمثال هؤلاء نعمة؛ ليطغوا.
ولنا أن ننتبه إلى كلمة " الفتح " التي تجعل النفس منشرحة، وعلينا أن
ننتبه إلى المتعلق بها، أهو فتح عليك، أم فتح لك؟
إن فُتح عليك؛ فافهم أن النعمة جاءت لتطغيك، ولكن إن فُتح لك، فهذا تيسير منه
سبحانه، فهو القائل:
{ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً }[الفتح: 1].
وهؤلاء الذين يحدثنا الحق سبحانه عنهم في هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها؛
قد فتح الله سبحانه عليهم أبواب الضر؛ لأنهم غفلوا عنه.
ويُنهي الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله:
} وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ { [هود: 116].
أي: كانوا يقطعون ما كان يجب أن يوصل؛ وهو اتباع منهج السماء؛ لأن كلمة (مجرمين)
مأخوذة من مادة " جرم " وتعني: " قطع " ، وقطع اتباع منهج
السماء؛ والغفلة عن الإيمان بالخالق سبحانه، والاستغراق في الترف الذي حققوه
لأنفسهم بظلم الغير، وأخذ نتيجة عرق وجهد الغير.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: } وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىا {.
(/1576)
وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)
وساعة تقرأ أو تسمع (ما كان) يتطرق إلى ذهنك: ما كان ينبغي.
ومثال ذلك: هو قولنا: " ما كان يصح لفلان أن يفعل كذا ". وقولنا هذا
يعني أن فلاناً قد فعل أمراً لا ينبغي أن يصدر منه.
وهناك فرق بين نفي الوجود؛ ونفي انبغاء الوجود.
والحق سبحانه يقول:
{ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ }[يس: 69].
وهذا لا يعني أن طبيعة الرسول صلى الله عليه وسلم جامدة، ولا يستطيع ـ معاذ الله ـ
أن يتذوق المعاني الجميلة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم جُبل على الرحمة؛ وقد قال فيه
الحق سبحانه:
{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ
الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ }[آل عمران: 159].
ولهذا نفهم قوله الحق:
{ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ }[يس: 69].
أي: أن الحق سبحانه لم يشأ له ان يكون شاعراً.
وهكذا نفهم أن هناك فرقاً بين " نفي الوجود " وبين " نفي انبغاء
الوجود ".
والحق سبحانه يقول هنا:
{ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىا بِظُلْمٍ } [هود: 117].
أي: لا يتأتى، ويستحيل أن يهلك الله القرى بظلم؛ لأن مراد الظالم أن يأخذ حق الغير
لينتفع به؛ ولا يوجد عند الناس ما يزيد الله شيئاً؛ لأنه سبحانه واهب كل شيء؛ لذلك
فالظلم غير وارد على الإطلاق في العلاقة بين الخالق سبحانه وبين البشر.
وحين يورد الحق سبحانه كلمة " القرى " ـ وهي أماكن السكن ـ فلنعلم أن
المراد هو " المكين " ، مثل قول الحق سبحانه:
{ وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ }[الأعراف:
163].
وقوله الحق أيضاً:
{ وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا }[يوسف: 82].
والحق سبحانه في مثل هاتين الآيتين؛ وكذلك الآية التي نتناولها الآن بهذه الخواطر
إنما يسأل عن المكين.
والله سبحانه يقول هنا:
{ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىا بِظُلْمٍ } [هود: 117].
أي: أنه مُنزَّه عن أن يهلكهم بمجاوزة حَدٍّ، لكن له أن يهلكهم بعدل؛ لأن العدل
ميزان، فإن كان الوزن ناقصاً كان الخسران، ومن العدل العقاب، وإن كان الوزن
مستوفياً كان الثواب.
وفي مجالنا البشرى؛ لحظة أن نأخذ الظالم بالعقوبة؛ فنحن نتبعه فعلاً؛ لكننا نريح
كل المظلومين؛ وهذه هي العدالة فعلاً.
ومن خطأ التقنينات الوضعية البشرية هو ذلك التراخي في إنفاذ الحقوق في التقاضي؛ فقد
تحدث الجريمة اليوم؛ ولا يصدر الحكم بعقاب المجرم إلا بعد عشر سنوات، واتساع
المسافة بين ارتكاب الجريمة وبين توقيع العقوبة؛ إنما هو واحد من أخطاء التقنينات
الوضعية؛ ففي هذا تراخٍ في إنفاذ حقوق التقاضي؛ لأن اتساع المسافة بين ارتكاب
الجريمة وبين توقيع العقوبة؛ إنما يضعف الإحساس ببشاعة الجريمة.
ولذلك حرص المشرع الإسلامي على ألا تطول المسافة الزمنية بين وقوع الجريمة وبين
إنزال العقوبة، فعقاب المجرم في حُمُوَّة وجود الأثر النفسي عند المجتمع؛ يجعل
المجتمع راضياً بعقاب المجرم، ويذكِّر الجميع ببشاعة ما ارتكب؛ ويوازن بين الجريمة
وبين عقوبتها.
ويقول الحق سبحانه هنا:
} وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىا بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ {
[هود: 117].
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه:
{ لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىا بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ
}[الأنعام: 131].
إذن: لا بد من إزاحة الغفلة أولاً، وقد أزاح الله سبحانه الغفلة عنا بإرسال الرسل
وبالبيان وبالنذر؛ حتى لا تكون هناك عقوبة إلا على جريمة سبق التشريع لها.
وهكذا أعطانا الله سبحانه وتعالى البيان اللازم لإدارة الحياة، ثم جاء من بعد ذلك
الأمر بضرورة الإصلاح:
} وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىا بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ {
[هود: 117].
والإصلاح في الكون هو استقبال ما خلق الله سبحانه لنا في الكون من ضروريات لننتفع
بها، وقد كفانا الله ضروريات الحياة؛ وأمرنا أن نأخذ بالأسباب لنطور بالابتكارات
وسائل الترف في الحياة.
وضروريات الحياة من طعام وماء وهواء موجودة في الكون، والتزاوج متاح بوجود الذكر
والأنثى في الكائنات المخلوقة، أما ما نصنعه نحن من تجويد لأساليب الحياة
ورفاهيتها فهذا هو الإصلاح المطلوب منا.
وسبق أن قلنا: إن المصلح هو الذي يترك الصالح على صلاحه، أو يزيده صلاحاً يؤدي إلى
ترفه وإلى راحته، وإلى الوصول إلى الغاية بأقل مجهود في أقل وقت.
والقرى التي يصلح أهلها؛ لا يهلكها الله؛ لأن الإصلاح إما أن يكون قد جاء نتيجة
اتباع منهج نزل من الله تعالى؛ فتوازنت به حركة الإنسان مع حركة الكون، ولم تتعاند
الحركات؛ بل تتساند وتتعاضد، ويتواجد المجتمع المنشود.
وإما أن هؤلاء الناس لم يؤمنوا بمنهج سماوي، ولكنهم اهتدوا إلى أسلوب عمل يريحهم،
مثل الأمم الملحدة التي اهتدت إلى شيء ينظم حياتهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم
يمنع العقل البشري أن يصل إلى وضع قانون يريح الناس.
لكن هذا العقل لا يصل إلى هذا القانون إلا بعد أن يرهق البشر من المتاعب والمصاعب،
أما المنهج السماوي فقد شاء به الله سبحانه أن يقي الناس أنفسهم من التعب، فلا
تعضهم الأحداث.
وهكذا نجد القوانين الوضعية وهي تعالج بعض الداءات التي يعاني منها البشر، لا تعطي
عائد الكمال الاجتماعي، أما قوانين السماء فهي تقي البشر من البداية فلا يقعون
فيما يؤلمهم.
وهكذا نفهم قول الحق سبحانه:
} وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ { [هود: 117].
لأنهم إما أن يكونوا متبعين لمنهج سماوي، وإما أن يكونوا غير متبعين لمنهج سماوي،
لكنهم يصلحون أنفسهم.
إذن: فالحق سبحانه وتعالى لا يهلك القرى لأنها كافرة؛ بل يبقيها كافرة ما دامت تضع
القوانين التي تنظم حقوق وواجبات أفرادها؛ وإن دفعت ثمن ذلك من تعاسة وآلام.
ولكن على المؤمن أن يعلن لهم منهج الله؛ فإن أقبلوا عليه ففي ذلك سعادتهم، وإن لم
يقبلوا؛ فعلى المؤمنين أن يكتفوا من هؤلاء الكافرين بعدم معارضة المنهج الإيماني.
ولذلك نجد ـ في البلاد التي فتحها الإسلام ـ أناساً بَقَوْا على دينهم؛ لأن
الإسلام لم يدخل أي بلد لحمل الناس على أن يكونوا مسلمين، بل جاء الإسلام بالدليل
المقنع مع القوة التي تحمي حق الإنسان في اختيار عقيدته.
يقول الله جَلَّ علاه:
{ لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ
وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }[الممتحنة: 8].
فإذا كانت بعض المجتمعات غير مؤمنة بالله، ومُصْلِحة؛ فالحق سبحانه لا يهلكها بل
يعطيهم ما يستحقونه في الحياة الدنيا؛ لأنه سبحانه القائل:
{ مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ
يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن
نَّصِيبٍ }[الشورى: 20].
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: } وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً
وَاحِدَةً {.
(/1577)
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118)
ونحن نعلم أن الإنسان قد طرأ على هذا الكون بعد أن خلق الله ـ سبحانه ـ في هذا
الكون كل مقومات الحياة؛ المسخرة بأمر الله لهذا الإنسان؛ ليمارس مهمة الخلافة في
الأرض؛ ولم تتأبَّ تلك الكائنات على خدمة الإنسان، سواء أكان مؤمناً أم كافراً؛
لأن الحق ـ سبحانه ـ هو الذي استدعى الإنسان إلى الوجود، وما دام قد استدعاه؛ فهو
ـ سبحانه ـ لن يضن عليه بمقومات هذا الوجود؛ من بقاء حياة، وبقاء نوع.
وهذا هو عطاء الربوبية الذي كفله الله ـ سبحانه ـ لكل البشر: مؤمنهم وكافرهم، وهو
عطاء يختلف عن عطاء الألوهية المتمثل في المنهج الإيماني: " افعل " و
" لا تفعل ".
ومن يأخذ عطاء الألوهية مع عطاء الربوبية فهو من سعداء الدنيا والآخرة.
إذن: فقدرة الله ـ سبحانه ـ قد أرغمت الكون ـ دون الإنسان ـ أن يؤدي مهمته، وكان
من الممكن أن يجعل البشر أمة واحدة مهتدية لا تخرج عن نظام أرادة الله ـ سبحانه
وتعالى ـ كما لم تخرج الشمس أو القمر أو الهواء أو أي من الكائنات الأخرى
المسخَّرة عن إرادته.
لأن الحق ـ تبارك وتعالى ـ أثبت لنفسه طلاقة القدرة في تسخير أجناس لمراده؛ بحيث
لا تخرج عنه، وذلك يثبت لله ـ سبحانه ـ القدرة ولا يثبت له المحبوبية.
أما الذي يثبت له المحبوبية فهو أن يخلق خَلْقاً؛ ويعطيهم في تكوينهم اختياراً.
ويجعل هذا الاختيار كلَّ واحدٍ فيهم صالحاً أن يطيع، وصالحاً أن يعصي، فلا يذهب
إلى الإيمان والطاعة إلا لمحبوبية الله ـ تعالى.
وهكذا نعلم أن الكون المسخَّر المقهور قد كشف لنا سَيَّال القدرة، والجنس الذي
وهبه الله الاختيار إن أطاع فهو يكشف لنا سيال المحبوبية.
والحق ـ سبحانه ـ هو القائل:
{ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ }[الكهف: 29].
ولكن أيُترك الإنسان حتى يأتي له الغرور في أنه يملك الاختيار دائماً؟
لا.. فمع كونك مختاراً إياك أن تغتر بهذا الاختيار؛ لأن في طيِّك قهراً، وما دام
في طيك قهر فعليك أن تتأدب؛ ولا تتوهَّم أنك مختار في أن تؤمن بالله أو لا تؤمن؛
ولا تتوهم أنك مُنفلت من قبضة الله ـ تعالى ـ فهو يملك زمامك في القهريات التي
تحفظ لك حياتك مثل: الحيوان والنبات والجماد، ولكنه ـ سبحانه ـ ميَّزك بالعقل.
وخطأ الإنسان دائماً أنه قد يعطي الأسماء معاني ضد مسمياتها، فكلمة " العقل
" مأخوذة من " عقل " وتعني: " ربط "؛ فلا تجمح بعقلك في
غير المطلوب منه؛ لأن مهمة العقل أن يكبح جماحك. وتذكر دائماً: في قبضة من أنت؛
وفي زمام من أنت؛ وفي أي الأمور أنت مقهور؟
وما دُمْتَ مقهوراً في أشياء فاختر أن تكون مقهوراً لمنهج الله سبحانه واحفظ أدبك
مع الله، واعلم أنه قد وهبك كل وجودك سواء ما أنت مختار فيه أو مقهور عليه.
وانظر إلى من سلبهم الحق ـ سبحانه ـ بعض ما كانوا يظنون أنها أمور ذاتية فيهم،
فتجد من كان يحرك قدمه غير قادر على تحريكها، أو يحاول أن يرفع يده فلا يستطيع.
ولو كانت مثل هذه الأمور ذاتية في الإنسان لما عَصَتْه، وهذا دليل على أنها أمور
موهوبة من الله، وإنْ شاء أخذها، فهو ـ سبحانه ـ يأخذها ليؤدِّب صاحبها.
وما دام الإنسان بهذا الشكل، فليقُل لنفسه: إياك أن تَغترَّ بأن الله جعل فيك
زاوية اختيار، وتذكّر أنك على أساس من هذه الزاوية تتلقَّى التكليف من الله بـ
" افعل " ، و " لا تفعل "؛ لأن معنى " افعل كذا ":
أنك صالحٌ ألاّ تفعل؛ ومعنى " لا تفعل كذا ": أنك صالحٌ أنْ تفعل؛ لأن
لديك منطقة اختيار؛ ولكن لديك في زواياك الأخرى منطقة قَهْرٍ وتسخير، فتأدَّبْ في
منطقة الاختيار، كما تأدبت في منطقة الاضطرار والقهر.
وقد وصف الحق ـ سبحانه ـ الإنسان بأنه كنود، قال تعالى:
{ إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ }[العاديات: 6].
لإن الإنسان لا يتذكر أحياناً أن مهمة عقله الأولى هي أن يعقل حدوده، وأن يقول
لنفسه: ما دامت الحيوانية فيَّ مقهورة، وما دامت الجمادية فيَّ مقهورة؛ فَلأكُنْ
مؤدباً مع ربي، وأجعل منطقة الاختيار على مراد منهج الله.
وأنت إنْ أردتَ أن تضع إحصائية لـ " افعل " ولا " تفعل "
لوجدت ما لم يَرِدْ فيه تكليف بـ " افعل " و " لا تفعل " لا
يقل عن خمسة وتسعين في المائة من حركة الحياة، وهو المباح.
وأنزل الله ـ سبحانه ـ التكليف لتنضبط به حركة حياتك كلها ـ إنْ جعلت التكليف هو
مرادك ـ وهو لن يأخذ أكثر من خمسة في المائة من حركة الحياة، ويعود خير ذلك عليك.
فساعة يقول لك التكليف: عليك أن تزكِّي عن مالك، فلا بد لك من أن تقدِّر المقابل،
لأنك إن افتقرتَ واحتجْتَ؛ سيأتيك من زكاة الآخرين ما يلبِّي احتياجاتك، فمن
" أفعل " التي تلتزم بها ويلتزم بها غيرك تأتي الثمرة التي تسدُّ عجز أي
ضعف في المجتمع الإيماني بالتراحم المتبادل النابع عن اليقين بالمنهج.
وحين يقول لك التكليف: لا تعتدِ على حُرمات الغير، فهو يقيِّد حريتك في ظاهر
الأمر، لكنه يحمي حُرماتك من أن يعتدي عليها الغير، وحين تتعقل أوامر التكليف كلها
ستجدها لصالحك؛ سواء أكان الأمر بـ " افعل " أو " لا تفعل ".
وهنا يقول الحق ـ سبحانه: } وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً
{ [هود: 118].
و " لو " تفيد الامتناع. أي: أن الله ـ تعالى ـ لم يجعل الناس أمة
واحدة، بل جعلهم مختلفين.
وقد حاول بعض من الذين يريدون أن يدخلوا على الإسلام بنقد ما، فقالوا: ألاَ تتعارض
هذه الآية مع قول الله:{ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ
النَّبِيِّينَ }[البقرة: 213].
وظن أصحاب هذا القول أن البشر لم يلتفتوا إلى خالقهم من البداية؛ ثم بعث الله
الأنبياء ليلفتهم إلى المنهج.
ونقول لهؤلاء: لا، فقد ضمن الحق ـ سبحانه ـ للناس قُوتَهم وقوام حياتهم، وكذلك ضمن
لهم المنهج الإيماني منذ أن أمر آدم وزوجه بالهبوط إلى الأرض لممارسة مهمة الخلافة
فيها، وقال الله ـ سبحانه:{ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَىا
}[طه: 123].
ولو استقصى هؤلاء الآيات التي تعالج هذا الأمر، وهي ثلاث آيات؛ فهنا يقول الحق ـ
سبحانه: } وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً { [هود:
118].
وفي الآية التي ظنوا أنها تتعارض مع الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول ـ
سبحانه:
{ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ
وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ
النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ
أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ
وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىا صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }[البقرة: 213].
وهكذا نعرف أن الحق سبحانه وتعالى أنزل المنهج مع آدم ـ عليه السلام ـ ثم طرأتْ
الغفلة؛ فاختلف الناس، فبعث الله الأنبياء ليحكموا فيما اختلف فيه الناس.
إذن: فقول الله ـ تعالى:
} وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً { [هود: 118].
يعني أنه ـ سبحانه ـ لو شاء لجعل الناس كلهم على هداية؛ لأنه بعد أن خلقهم؛
وأنزلهم إلى الأرض؛ وأنزل لهم المنهج؛ كانوا على هداية، ولكن بحكم خاصية الاختيار
التي منحها الله لهم، اختلفوا.
ثم يقول الحق ـ سبحانه: } وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ { [هود: 118].
أي: أنهم سيظلون على الخلاف.
ويأتي الحق ـ سبحانه وتعالى ـ في الآية التالية بالاستثناء فيقول: } إِلاَّ مَن
رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذالِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ {.
(/1578)
إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)
أي: أن الحق ـ سبحانه ـ قد خَلَقَ الخَلْق للرحمة والاختلاف.
وساعة نرى " اسم إشارة " أو " ضميراً " عائداً على كلام
متقدِّم، فنحن ننظر ماذا تقدم. والمتقدم هنا:{ وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ *
إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ }[هود: 118ـ119].
والحق ـ سبحانه وتعالى ـ حين تكلم عن خلق الإنسان قال:
{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ }[الذاريات: 56].
ومعنى العبادة هو طاعة الله ـ سبحانه ـ في " افعل " و " لا تفعل
" وهذا هو المراد الشرعي من العبادة؛ ولكن المرادات الاجتماعية تحكَّمتْ فيها
خاصية الاختيار، فحدث الاختلاف، ونشأ هذا الاختلاف عن تعدُّد الأهواء.
فلو أن هَوَانَا كان واحداً؛ لما اختلفنا، ولكنّا نختلف نتيجة لاختلاف الأهواء، فهذا
هواه يميني؛ وذاك هواه يساري؛ وثالث هواه شيوعيٌّ؛ ورابع هواه رأسماليّ؛ وخامس
هواه وجوديّ، وكل واحد لهم هوى.
ولذلك قال الحق سبحانه:{ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ
السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ }[المؤمنون: 71].
ولم يكن العالم ليستقيم؛ لو اتبع الله ـ سبحانه ـ أهواء البشر المختلفة، ولكن
أحوال هذا العالم يمكن أن تستقيم؛ إذا صدرتْ حركته الاختيارية عن هوًى واحد؛ ولذلك
قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئتُ به ".
وفي حياتنا اليومية نلاحظ أن الأعمال التي تسير بها حركة الحياة وبدون أن ينزل
تكليف فيها؛ نجد فيها اختلافاً لا محالة؛ لأن الحق سبحانه وتعالى لو شاء لخلقنا
كلنا عباقرة في كل مناحي الحياة؛ أو يخلقنا كلنا شعراء أو أطباء أو فلاسفة.
ولو شاء ـ سبحانه ـ ذلك فمن سيقوم بالأعمال الأخرى؟ فلو أننا كنا كلنا أطباء فمن يقوم
بأعمال الزراعة وغيرها؟ ولو كنا جميعاً مهندسين؛ فمن يقوم بأعمال التجارة وغيرها؟
وقد شاء الحق ـ سبحانه ـ أن يجعل مواهبنا مختلفة ليرتبط العالم ببعضه ارتباط
تكاملٍ وضرورة؛ لا ارتباط تفضُّل.
ولذلك يقول الحق ـ سبحانه:
{ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ
مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ
دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً }[الزخرف: 32].
وهكذا نعرف أن رفع الدرجات لا يعني تلك النظرة الحمقاء الرعناء، والتي تدعي أن في
ذلك التقسيم رفعة للغنى وتقليلاً لشأن الفقير؛ لأن الواقع يؤكد أن كل إنسان هو
مرفوع في جهة بسبب ما يُحسنه فيها؛ ومرفوع عليه في جهة أخرى بسبب ما لا يُحسنه
ويُحسنه غيره، وغيره مكمل له.
وهكذا يتبادل البشر ما يحققه اختلاف مواهبهم، واختلاف المواهب هي مقومات التلاحم.
ولذلك قلنا: إن مجموع سمات ومواهب كل إنسان إنما يتساوى مع مجموع سمات ومواهب كل
إنسان آخر، ولا تفاضل إلا بالتقوى؛ وقيمة كل امرىء ما يُحسنه.
وقد ترى صاحب السيارة الفارهة وهو يرجو عامل إصلاح السيارات الذي يرتدي ملابس رثة
ومتسخة؛ ليصلح له سيارته؛ فيقول له العامل: لا وقت عندي لإصلاح سيارتك؛ فيلحّ صاحب
السيارة الفارهة بالرجاء؛ فيرضى العامل ويرق قلبه لحال هذا الرجل صاحب السيارة
الفارهة ويذهب لإصلاحها.
لذلك أقول: إذا نظرتَ لمن هو دونك في أي مظهر من مظاهر الحياة؛ فلا تغترَّ بما
تفوقتَ وتميزتَ به عليه؛ ولكن قُلْ لنفسك: لا بد أن هذا الإنسان متفوق في مجال ما.
ونحن نعلم أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ ليس له أبناء ليميز واحداً بكامل المواهب،
ويترك آخر دون موهبة.
ولذلك يقول الحق ـ سبحانه ـ هنا:{ وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن
رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذالِكَ خَلَقَهُمْ }[هود: 118ـ119].
وإن كان الاختلاف في المقدرات والمنهج؛ فهذا ما يولِّد الكفر أو الإيمان، ولنا أن
نعرف أن الكفر له رسالة؛ بل هو لازم ليستشعر المؤمن حلاوة الإيمان. ولو لم يكن
للكفر وظيفة لما خلقه الله.
وقد قلت قديماً: إن الكفر يعاون الإيمان؛ مثلما يعاوِن الألم العافية، فلولا الألم
لما جئنا بالطبيب ليشخِّص الداء، ويصفَ الدواء الشافي بإذن الله.
ولذلك نقول: الألم رسول العافية.
والحق سبحانه يقول هنا:{ وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ
رَبُّكَ }[هود: 118ـ119].
وأنت إن دقَّقت النظر في الاختلاف لوجدته عين الوفاق.
ومثال ذلك: اختلاف أبنائك فيما يحبونه من ألوان الطعام، فتجد ابناً يفضِّل صدر
الدجاجة، وآخر يفضل الجزء الأسفل منها " الوَرِك " ، وتضحك أنت لهذا
الاختلاف، لأنه اختلاف في ظاهر الأمر، ولكن باطنه وِفَاق، لو اتفقنا جميعاً في
الأمزجة لوجدنا التعاند والتعارض؛ وهذا ما ينتشر بين أبناء المهنة الواحدة.
ولمن يسأل: هل الخلق للاختلاف أم الخلق للرحمة؟
نقول: إن الخلق للاختلاف والرحمة معاً، لأن الجهة مُنفكَّة.
ثم يقول ـ سبحانه ـ في نفس الآية: } وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ
جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ { [هود: 119].
والحق سبحانه قد علم أزلاً بمن يختار الإيمان ومن يختار الكفر، وهذا من صفات العلم
الأزليّ لله ـ سبحانه وتعالى ـ ولذلك قال ـ سبحانه: } وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ
{ أي: علم ـ سبحانه ـ مَنْ مِنْ عباده سيختار أن يعمل في الدنيا عملَ أهل النار،
ومن سيختار أن يعمل عملَ أهل الجنة؛ لسبْق علمه الأزليّ بمرادات عباده
واختياراتهم.
وسبق أن ضربنا مثلاً ـ ولله المثل الأعلى ـ بعميد الكلية الذي يعلن للأساتذة ضرورة
ترشيح المتفوقين في كل قسم؛ لأن هناك جوائز في انتظارهم، فيرشح كل أستاذ أسماء
المتفوقين الذين لمسَ فيهم النبوغ والإخلاص للعلم، ويطلب العميد من أساتذة من خارج
جامعته أن يضعوا امتحانات مفاجئة لمجموع الطلاب؛ ويُفاجأ العميد بتفوق الطلبة
الذين لمس فيهم أساتذتهم النبوغ والإخلاص للعلم، وهنا يتحقق العميد من صدق تنبؤ
الأساتذة الذين يعملون تحت قيادته.
ولكن قد تحدث مفاجأة: أن يتخلف واحد من هؤلاء الطلبة لمرض أصابه أو طارىء يطرأ
عليه من تعب أعصاب أو إرهاق أو غير ذلك؛ وبهذا يختلّ تقدير أستاذه؛ لكن تقدير الحق
ـ سبحانه ـ مُنزَّه عن الخطأ، وما عَلِمه أزلاً فهو مُحقَّق لا محالة؛ لذلك بيَّن
لنا أنه عِلْم أزليّ، ويتحدى الكافر به أن يغيره.
وكلنا يعرف أن الحق ـ سبحانه ـ أنزل قوله الكريم:
{ تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ }[المسد: 1].
وسمعها أبو لهب ولم يتحدها بإعلان الإيمان ـ ولو نفاقاً.
وقول الحق: } وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ { تبيِّن لنا أن الحق ـ سبحانه ـ إنْ قال
شيئاً فهو قد تَمَّ بالفعل؛ فلا رادَّ لمشيئته، أما نحن فعلينا أن نسبق كل وعد
بعمل سنقوم به بقول:{ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ }[الكهف: 24].
لأن الحق يقول لنا:{ وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذالِكَ غَداً *
إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ }[الكهف: 23ـ24].
وفي هذا احترامٌ لوضعنا البشري، وإيمانٌ بغلبة القهر، ومعرفة لحقيقة أننا من
الأغيار؛ لأن كل حدث من الأحداث يتطلب فاعلاً؛ ومفعولاً يقع عليه الفعل؛ ومكاناً؛
وزماناً؛ وسبباً؛ ولا أحدَ مِنَّا يملك أيَّ واحد من تلك العناصر.
فإن قُلْتَ: } إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ { تكون قد عصمتَ نفسك من أن تكون
كاذباً، أو أن تَعِدَ بما لا تستطيع، لكن إذا كان مَنْ يقول هو مالك كل شيء، ولا
قوة تخرجه عَمَّا قال، فهو وحده القادر على أن ينفِّذ ما يقول.
ولذلك قلنا: إن كل فعل يُنسب إلى الله ـ تعالى ـ يتجرد عن الزمن؛ فلا نقول: "
فعل ماضٍ " أو " فعل سيحدث في المستقبل " أو " فعل مضارع
"؛ لأن تلك الأمور إنما تُقاسُ بها أفعال البشر، لكن أفعال الله ـ سبحانه ـ
لا تقاس بنفس المقياس، فسبحانه حين يقرر أمراً فنحن نأخذه على أساس أنه قد وقع
بالفعل.
والحق ـ سبحانه ـ يقول:
{ أَتَىا أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ }[النحل: 1].
وقوله سبحانه: } أَتَىا { بمعنى: تَقرَّر الأمر ولم يُنفَّذ ـ بعد ـ فلا
تتعجَّلوه؛ وهذا هو تحدِّي القيومية القاهرة، ولا توجد قوة قادرة على أن تمنع وقوع
أمر شاءه الله ـ سبحانه وتعالى ـ فهو يحكم فيما يملك، ولا مُنَازِع له سبحانه.
وقوله الحق: } لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ {
[هود: 119].
فسببه أن الإنس والجن هما الثقلان المكلَّفان.
ويقول الحق ـ سبحانه ـ بعد ذلك: } وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ
الرُّسُلِ {.
(/1579)
وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)
وساعة ترى التنوين في قوله الحق { وَكُـلاًّ } فاعلمْ أن المقصود هو قصة كل رسول
جاء بها الحق ـ سبحانه ـ في القرآن الكريم.
وحين يتكلم الحق ـ سبحانه وتعالى ـ عن فعل قد أحدثه؛ فلنا أنْ ننظر: هل هذا الفعل
مأخوذ من صفة له ـ سبحانه ـ أم مأخوذ من اسم موجود؟ فيحقّ لنا أن نأخذ الاسم ونأخذ
الفعل مثل قوله ـ تعالى:{ خَلَقَكُمْ }[النحل: 70].
نعلم منه أنه ـ سبحانه ـ خالق، ولكن إنْ جاء فعل ليس له أصل في أسماء الله الحسنى،
فإياك أنْ تشتقَّ من الفعل اسماً لله.
ومثال ذلك قوله ـ سبحانه: { وَكُـلاًّ نَّقُصُّ } [هود: 120].
والذي يقصُّ هنا هو الله ـ سبحانه ـ لكن لا أحد في إمكانه أن يقول: إن الله
قصَّاص، مثلما لا يحق لأحد أن يقول: إن الله ماكر، رغم أن الله ـ سبحانه ـ قد
قال:{ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ
}[الأنفال: 30].
وكذلك لا يصح لأحد أن يقول: الله المخادع، رغم أن الحق ـ سبحانه قد قال:{ إِنَّ
الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ }[النساء: 142].
وهكذا نتعلم أدب الحديث عن الله المتصف بكل صفات الكمال والجلال؛ وأن نكتفي بقول:
إن مثل هذا الفعل جاء للمشاكلة ما دام ليس له وجود ضمن أسماء الله الحسنى.
وهنا يقول الحق ـ سبحانه:
{ وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ } [هود: 120].
و " أنباء " جمع " نبأ " ، وهو الخبر العظيم الذي له أهمية،
والذي يختلف به الحال عند العلم به، وأخبار الرسل ـ عليهم السلام ـ تتناثر لقَطاتٍ
مختلفة عَبْرَ سور القرآن الكريم، موضحة ما جاء به كل رسول معالجاً الداء الذي
عانى منه قومه، وكذلك ما عاناه كل رسول من عَنَت القوم المبعوث لهم، وجاء ذكر تلك
الأنباء في القرآن لتثبيت فؤاد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول سيصادف في
الدعوة المتاعب والصعاب.
وقد ذكر القرآن بعضاً من تلك المواقف، يقول الحق ـ سبحانه:
{ وَزُلْزِلُواْ حَتَّىا يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَىا
نَصْرُ اللَّهِ }[البقرة: 214].
ويقول الحق ـ سبحانه ـ مصوِّراً حال المؤمنين:
{ إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ
الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ
الظُّنُونَاْ }[الأحزاب: 10].
ومثل هذه المواقف تقتضي تثبيت الفؤاد؛ بمعنى تسكينه على منطق اليقين الإيماني
بربِّ أرسله رسولاً ليبلِّغ منهجاً، وما كان الله سبحانه ليرسل رسولاً ليبلِّغ
منهجاً ثم يُسلمه لأعدائه.
فإذا ما ذكر له أخبار الرسل والصعاب التي تعرضوا لها تهون عليه المصاعب التي يتعرض
لها، ويثبت فؤاده.
و " الفؤاد " هو ما نقول عنه: " القلب " ، وهو وعاء العقائد،
بمعنى أن المخ يستقبل من الحواس ـ وسائل الإدراكات من عين ترى، ومن أذن تسمع، ومن
أنف يشُم، ومن فَمٍ يستطعم، ومن كفٍّ تلمس ـ فتتولد المعلومات التي يصنفها المخ،
ويرتبها كقضايا عقلية.
ويناقش المخ تلك القضايا العقلية إلى أن تصح القضية العقلية صحة لا يأتي بعدها ما
ينقضها، فيسقطها المخ في الفؤاد لتصير عقيدة؛ لا تطفو بعدها إلى العقل لتُناقش من
جديد؛ ولذلك يسمونها " عقيدة " ـ من العقدة ـ فلا تتذبذب بعد ذلك.
إذن: فالفؤاد هو الوعاء القابل للقضايا التي انتهى المخ من تمحيصها تمحيصاً وصل
فيه إلى الحق، وأسقطها على القلب ليدير حركة الحياة على مُقْتضاها.
وعلى سبيل المثال: نجد الشاب الذي يفكر في مستقبله، فيدرس مزايا وعيوب المهن
المختلفة ليختار منها التخصص الذي يتناسب مع مواهبه؛ وأحلامه، ثم يدرس المحسَّات
التي استقبلها بحواسه ليُمحِّصها بعقله؛ وما ينتهي إليه عقله يسقطه في قلبه؛ ليصير
عقيدة يدير بها حركة حياته.
مثال هذا: أنه قد استقر في وجدان الناس وعقولهم أن النار مُحْرقة، ولكن من أين جاء
هذا اليقين في أن النار محرقة؟ نقول: جاء من أمر حسي بأن شاهد الناس أن مَنْ
مسَّته النار أحرقته.
لا بد ـ إذن ـ أن يكون القلب ثابتاً؛ غير مذبذب.
ولذلك يقول الحق ـ سبحانه:
} وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ
فُؤَادَكَ { [هود: 120].
لأن الفؤاد هو الوعاء الذي من مهمته أن يكون مستعداً لاستقبال كلمة الحق؛ وليقبل
تنبيه الذكرى، وجلال الموعظة، وكمال الوارد من الحق ـ سبحانه ـ وما يأتي من الحق ـ
سبحانه ـ هو الحق أيضاً، والحق هو الشيء الثابت الذي لا يطرأ عليه تغيير.
وحق الحق ينبوع العقيدة الذي ستصدر عنه طاعة التكليف، ولا بد أن يكون الإنسان على
ثقة من حكمه المكلِّف قبل أن يُقبِلَ على التكليف؛ لذلك لزم أن يأتي الدليل على
وجود الحق ـ سبحانه ـ وهو قمة الوجود الأعلى ـ قبل أن تأتي الموعظة، ويكون الإيمان
بالوجود الأعلى الذي لا يتغير ولا تطرأ عليه الأغيار هو السابق لمجيء تلك الموعظة.
لأن الموعظة قد تتطلب من الإنسان شيئاً يكره أن يلتزم به، وهي هنا صادرة من الحق ـ
سبحانه ، الذي خلق، ولا يمكن أن يغش أو يخدع مخلوقاته، ويحملها لك رسول منه ـ
سبحانه.
وقد تكره الموعظة إن صدرت عن إنسان مثلك؛ لأنه لن يَعِظك إلا بكمال يتميز به ليعدد
نقصاً فيك، وإن لم يكن الواعظ يتمتع بالكمال الذي يعظ به؛ بالموعوظ سيردُّ على
الواعظ قائلاً: فَلْتعِظْ نفسك أولاً.
ولذلك نجد قول الحق ـ سبحانه:
{ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ }
[الصف: 3].
لأن الواعظ الذي يَعِظُ بما لا يطبقه على نفسه يعطي الحجة للموعوظ ليرفض الموعظة؛
وليقول لنفسه: " لو كان في هذا الأمر خير لطبَّقه على نفسه ".
وهكذا بيَّنت الآية الكريمة موقف الرسول صلى الله عليه وسلم كمُثَبَّتٍ، وأيضاً
موقف المؤمنين برسالته كمذكَّرين من الرسول بأنهم سيتعرضون للمتاعب؛ متاعب مشقة
التكليف التي سيعاني منها مَنْ لا يأخذ التكليف بعمق الفهم.
فقد يرى بعض المكلَّفين ـ مثلاً ـ أن الأمر بغَضِّ الطَّرْف حرمانٌ من شهوة طارئة
ولا يَسْبر غورَ الفهم بأن غَضَّ الطَّرْف أمراً لكافة المؤمنين أن يغضوا الطرف عن
محارمه، وقد يرى في الزكاة أنها أخْذٌ من ماله، ولا يَسْبر غور الفهم بأن في
الزكاة تأميناً له إنْ مرَّت عليه الأغيار وصار فقيراً؛ عندئذ سيقدم له المجتمع
الإيماني التأمين الاجتماعي الذي يحميه وعياله من مَغبَّة السؤال.
وعمق الفهم أمر مطلوب؛ لأن الحق ـ سبحانه ـ هو القائل:
{ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ }[النساء: 82].
لأنك حين تتدبر المعاني ستعلم أن التكليف هو تشريف لك؛ وستقول لنفسك: " ما
كلفني الله إلا لخير نفسي؛ وإن ظهر أنه لخير الناس ".
ومن المتاعب أيضاً ما يلقاه المؤمنون من عنت المستفيدين من الفساد؛ هؤلاء الذين
يعيشون على الانتفاع من المفاسد، ويواجهون كل من يريد أن يقضي على الفساد؛ لأن
الفساد في الأرض لا يعيش إلا إذا وُجِد منتفعٌ بهذا الفساد؛ والمنتفع بالفساد يكره
ويعلن الخصومة لكلِّ مقاومٍ له.
إذن: فموقف خصوم النبي صلى الله عليه وسلم موقف طبيعي لصالحهم، ولكنهم ـ لحمقهم ـ
حددوا الصالح بمصالحهم الآنية في الحياة الدنيا؛ ولم ينظروا إلى عاقبة ما يؤول
إليه أمرهم في الآخرة نعيماً أو عذاباً.
ولو أنهم امتلكوا البصيرة؛ لعرفوا أن من مصلحتهم أن يوجد مَنْ يُقوِّمهم حتى لا
يقدموا لأنفسهم شراً يوجد لهم في الآخرة.
ولو أنهم فَطِنوا؛ لعلموا أن الرسول كما جاء لصلاح المستضعفين المستغلين بالفساد؛
جاء أيضاً لصالحهم، ولو أنهم كانوا على شيء من التعقل؛ لكانوا من أنصار رسول الله
صلى الله عليه وسلم؛ ولكان من الواجب عليهم كلما حدثتهم أنفسهم بالسعي إلى الفساد؛
وسمعوا من الرسول صلى الله عليه وسلم ما ينتظرهم نتيجة لهذا الفساد؛ أن يتبعوه وأن
يشكروه؛ لأنه خلَّصهم من طاقة الشر الموجودة فيهم.
وهنا يوضح الحق ـ سبحانه ـ لرسوله: أنت لست بدعاً من الرسل، وكل رسول تعرَّض
للمتاعب مثلما تتعرض أنت لمثلها، وأنت الرسول الخاتم، ولأن الدين الذي جئتَ به لن
يأتي بعده دين آخر؛ لذلك لا بد أن تتركز المتاعب كلها معك؛ فكُنْ على ثقة تماماً
أنك مُصادِفٌ للمتاعب.
ولذلك نثبِّت فؤادك بما نقصُّه عليك من أنباء الرسل؛ لأن هذا الفؤاد هو الذي
سيستقبل الحقائق الإيمانية من قمة " لا إله إلا الله " إلى أن يكون ذكرى
تذكّرك والمؤمنين معك.
وهكذا بيَّنتْ الآية موقف الرسول صلى الله عليه وسلم كمثَّبت؛ وموقف المؤمنين
كمذكَّرين من الرسول؛ لأنهم سيتعرضون للمتاعب أيضاً.
ونحن نعرف جميعاً ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار حين بايعوه في
العقبة على نصرته، وقالوا: إنْ نحن وفينا بما عاهدناك عليه؛ فماذا يكون لنا؟ ولم
يَقُلْ لهم صلى الله عليه وسلم: " ستملكون الدنيا، وستصبحون سادة الفُرْس
والروم " ، بل قال لهم: " لكم الجنة ".
لأنه صلى الله عليه وسلم يعلم أن منهم مَنْ سيموت قبل أن تتحقق تلك الانتصارات؛
لذلك وعدهم بالقَدْر المشترك الذي يتساوى فيه مَنْ يموت بعد إعلانه للإيمان، وبين
مَنْ سيعيش ليشهد تلك الانتصارات.
وهكذا تبينا كيف تضمَّنت الآية الكريمة تثبيت فؤاد الرسول صلى الله عليه وسلم؛
وكيفية إعداد هذا الفؤاد لاستقبال الحق والموعظة وذكرى المؤمنين معه.
هذا هو الطرف الأول، فماذا عن الطرف الثاني؛ الطرف المكذِّب للرسول؟
كان ولا بد أن يتكلم الحق ـ سبحانه ـ هنا عن المكذِّبين للرسول؛ لأن استدعاء
المعاني يجعل النفس قابلة للسماع عن الطرف الآخر.
وما دام الحق ـ سبحانه ـ قد تكلم عن تثبيت وعاء الاستقبال، والموعظة، وتذكير
المؤمنين؛ لحظة أن تخور منهم العزائم، فلا بُدَّ ـ إذن ـ أن يتكلم ـ سبحانه ـ عن
القسم الآخر؛ وهو القسم المكذِّب، فيوضح ـ سبحانه ـ لرسوله أن له أن يتحداهم ولا
يتهيَّب.
يقول الحق ـ سبحانه: } وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ {.
(/1580)
وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121)
أي: اصنعوا ما شئتم، ومعنى ذلك أنه صلى الله عليه وسلم مستندٌ إلى رصيد قويّ من
الإيمان بإلهٍ لا يهوله أن يستعد له الخصم؛ فهو صلى الله عليه وسلم والذين معه لا
يواجهون الخصم بذواتهم؛ ولا بعدَدهم وعُددهم؛ وإنما يواجهونه بالركن الركين الذي
يستندون إليه، وهو الحق سبحانه وتعالى.
ونحن نرى في حياتنا اليومية أن أي قائد في معركة إنما يشعر بالثقة حين يصل إلى
علمه أن مدداً سوف يصله من الوطن الذي يحارب من أجله؛ لأنه سيعزز من قوته، فما
بالنا بالمدد الذي يأتي ممن لا ينفد ما عنده؛ وممن لا يُجير عليه أحدٌ؛ فهو يُجير
ولا يُجَار عليه.
ولذلك نلاحظ أن الأنبياء استظلوا بتلك المظلة، فموسى ـ عليه السلام ـ حين كاد
الفرعون أن يلحق به؛ ورأى قومه أنْ لا نجاة لهم؛ فالبحر أمامهم والعدو وراءهم؛
صرخوا:
{ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ }[الشعراء: 61].
لكن موسى ـ عليه السلام ـ يطمئنهم:
{ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ }[الشعراء: 62].
فموسى ـ عليه السلام ـ يعلم أنه مُستند بقوة الله لا بقوة قومه، وأمدَّه الله ـ
سبحانه ـ بمعجزة جديدة:
{ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ }[الشعراء: 63].
فينفلق البحر؛ ليفسح بين مياهه طريقاً يابسة؛ وسار موسى عليه السلام وقومه، وفكر موسى
في قطع السبيل على عدوه حتى لا يسير في نفس الطريق المشقوق بأمر الله عبر معجزة
ضرب البحر بالعصا، وأراد موسى ـ عليه السلام ـ أن يضرب البحر ضربة ثانية ليعود
البحر إلى حالة السيولة مرة أخرى، فيقول له الله ـ سبحانه:{ وَاتْرُكِ الْبَحْرَ
رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ }[الدخان: 24].
أي: أتركه على ما هو عليه؛ لينخدع فرعون ويسير في الطريق اليابسة، ثم يعيد الحق ـ
سبحانه ـ البحر كما كان، وبذلك أنْجَى الحق ـ سبحانه ـ وأهْلَكَ بالشيء الواحد؛
وهذه لا يقدر عليها غير الله ـ سبحانه وتعالى وحده.
وهكذا يَهَبُ الحق ـ سبحانه ـ المؤمنين به القدرة على تحدي الكافرين. والإيمان كله
معركة من التحدي؛ تحدٍّ في صدق الرسول كمبلِّغ عن الله، ومعه معجزة تدل على
رسالته، وتحدٍّ في نصرة الرسول ومَنْ معه من قلة مؤمنة؛ فيغلبون الكثرة الكافرة.
والحق ـ سبحانه يقول:{ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً
بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ }[البقرة: 249].
وهكذا يشيع التحدي في معارك الإيمان.
وقد تميِّز كل رسول بمعجزة يتحدى بها أولاً؛ ثم ينتهي دورها؛ لينزل له بعدها منهج
من السماء؛ ليبشِّر به قومه، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم تميَّز بمعجزة لا
تنتهي، وهي عَيْنُ منهجه؛ لأنه رسول إلى كل الأزمان وإلى كل الأمكنة؛ فكان لا بد
من معجزة تصاحب المنهج إلى يوم القيامة.
ولذلك نجد كل مؤمن بالرسالة المحمدية يقول: محمد رسول الله والقرآن معجزته إلى أن
تقوم الساعة.
والحق ـ سبحانه ـ يقول هنا: } وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ
عَلَىا مَكَانَتِكُمْ { [هود: 121].
ونحن نعلم أن كل كائن منَّا له مكان، أي: له حَيِّز وجِرْم. ويقال: فلان له مكانة
في القوم، أي: له مركز مرموق؛ إذا خلا منه لا يستطيع غيره أنْ يشغله، وهو مكان
يدلُّ على الشرف والعظمة والسيادة والوجاهة ونباهة الشأن.
فقول الحق: } اعْمَلُواْ عَلَىا مَكَانَتِكُمْ { [هود: 121].
أي: اعلموا على قَدْر طاقتكم من عُدة ومن عَدد، فإن لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم
رباً سيهديه وينصره، وفي هذا تهديد لهم؛ وليس أمراً لهم؛ لأنهم ككفار لن يمتثلوا
لأمر مِنْ عَدوِّهم.
ولو أنهم امتثلوا لأمر محمد وربِّ محمد لَمَا كانوا كافرين؛ بل لأصبحوا من
الطائعين.
وحين يقول لهم ـ سبحانه ـ في آخر الآية:
} إِنَّا عَامِلُونَ { [هود: 121].
فمعنى ذلك أن كل ما في قدراتكم هو محدود لأنكم من الأغيار الأحداث؛ أما فعل الله ـ
تعالى ـ فهو غير محدود؛ لأنه ـ سبحانه ـ قديمٌ أزليٌّ لا تحده حدود، ولن يناقض عمل
المُحدَث الحادث عمل القديم الأزلي، فقوة الحادث المُحدَث موهوبة له من غيره، أما
قوة الحق ـ سبحانه ـ فهي ذاتية فيه.
ونحن نعلم أن أيَّ عمل إنما يُقَاس بقوة فاعله، وخطأ المستقبلين لمنهج الله أنهم
إذا جاء عمل؛ نَسَوا مَنِ الذي عَمِلَ العمل، ولو كان العمل من فعل البشر لَحقَّ
للإنسان أن يتكلم، لكن إذا ما كان العمل من الله ـ تعالى ـ فليلزمِ الإنسان حدوده.
ومثال ذلك: هؤلاء الذين جادلوا في مسألة الإسراء التي قال فيها الحق ـ تبارك وتعالى:{
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىا بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
إِلَىا الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ }[الإسراء: 1].
وقالوا: إننا نضرب إليها أكباد الإبل شهراً، فكيف يقول إنه أتاها في ليلة؟
وكان الرد عليهم: إن محمداً لم يَقُلْ إنه سَرَى من البيت الحرام إلى المسجد
الأقصى بقوته هو، بل أُسْرِيَ به، والذي عمل ذلك هو الله ـ سبحانه ـ وليس محمداً،
فقيسوا هذا العمل بقوة الله تعالى وليس بقوة محمد.
ويقول الحق ـ سبحانه ـ بعد ذلك: } وَانْتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ {.
(/1581)
وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122)
في هذه الآية نلمس الوعيد والتهديد؛ فالكافرون ينتظرون وعد الشيطان لهم، والمؤمنون
ينتظرون وعد الرحمن لهم.
ولذلك سيقول المؤمنون للكافرين يوم القيامة:{ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا
رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً }[الأعراف: 44].
وفي انتظار الكفار تهديد لهم، وفي انتظار المؤمنين تثبيت لقلوبهم، ولو لم تَأْتِ
الأحداث المستقبلة كما قالها القرآن لتشكك المؤمنون، ولكن المؤمنين لم يتشككوا،
وهكذا نتأكد أن القول بالانتظار لم يكن ليصدر إلا مِنْ واثقٍ بأن ما في هذا القول
سوف يتحقق.
وقد جاء الواقع بما يؤيد بعض الأحداث التي جاءت في القرآن.
ألم ينزل قول الحق ـ سبحانه:
{ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ }[القمر: 45].
وكان وقت نزول هذا القول الحكيم إبان ضعف البداية، حتى قال عمر ـ رضي الله عنه ـ
أيُّ جَمْعٍ يهزم؟ لأن عمر حينئذ كان يلمس ضعف حال المؤمنين، وعدم قدرة بعض
المؤمنين على حماية نفسه، ثم تأتي غزوة بدر؛ ليرى المؤمنون صدق ما تنبأ به رسول
الله صلى الله عليه وسلم.
ومن العجيب أنه صلى الله عليه وسلم خطط على الأرض مواقع مصرع بعض كبار الكافرين،
بل وأماكن إصاباتهم، وجاء ذلك قرآناً يُتلى على مر العصور، مثل قوله الحق:{
سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ }[القلم: 16].
وهكذا شاء الحق ـ سبحانه ـ أن يأتي الواقع بما يؤيد صدق الرسول صلى الله عليه
وسلم، كما شاء ـ سبحانه ـ أن يُنزل على الرسول لقطاتٍ من قصص الرسل الذين سبقوه
لشد أَزْره، وليثبِّت فؤاده، ويذكِّر المؤمنين فيزدادوا إيماناً.
ثم يختتم الحق ـ سبحانه ـ سورة هود بقوله الكريم: { وَللَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ }
(/1582)
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
أي: أن ما جاء من ذكر حكيم هو أمر غائب عنكم، يخبركم به الله ـ سبحانه ـ من خلال
ما يُنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد شاء الحق ـ سبحانه ـ أن يحفظ هذا الذِّكْر الحكيم، ثقة منه ـ سبحانه ـ أنه إذا
أخبرنا في القرآن بخبر لم يجيء أوانه، فَلْنفهم أنه قد أخبر بما له من أزلية علم
بالكون وما يجري فيه، وبما له من قدرة مطلقة تتحكم فيما يؤول إليه أمر المُختار من
الكائنات ـ مؤمنهم وكافرهم ـ فإذا حدثنا القرآن بشيء مما يغيب عن الإنسان، فلنعلم
أنه إخبار بصدق مطلق.
وهناك الكثير مما يغيب عن الإنسان، وهناك حجاب بين وسائل إدراك الإنسان وبين بعض
المُدْركات، ومرة يكون الحجاب حجابَ زمنٍ، فإذا أخبر الله ـ تعالى ـ عن أمر لم
نشهده من قديم قد أَوْغَلَ في الزمن، ولم يقرأه النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب ولم
يسمعه من معلِّم؛ فهذا كَشْف لحجاب الماضي.
ولذلك فبعض سور القرآن الكريم يسميها العلماء " ماكُنات القرآن " مثل
قوله الحق:{ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ
يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ }[آل عمران: 44].
وغير ذلك من الآيات التي تبدأ بقوله الحق: { مَا كُنْتَ }.
وقد كان هناك أناس في ذلك الماضي يدركون ما صار غيباً عن الرسول ومَنْ معه؛ لكن
الحق ـ سبحانه ـ أظهر هذا الغيب للرسول الذي لم يجلس إلى مُعلِّم بشهادة أعدائه،
وكذلك كشف الحق ـ سبحانه ـ لرسوله حجاب الزمان وحجاب المكان.
ومَنْ ينكشف له حجاب الزمان وحجاب المكان؛ إنما ينكشف له حجاب المستقبل أيضاً،
والذي كشف هذا هو الحق ـ سبحانه ـ الذي قدَّر مجيء هذا العالم، وما سوف يحدث فيه
إلى أن تقوم الساعة.
وقد طمر الحق ـ سبحانه ـ في القرآن أموراً لو كُشف عنها في زمن بَعْثة الرسول؛
لكان الحديث عنها فوق مستوى العقول والإدراك؛ وتحدث ـ سبحانه ـ عن وقائع مستقبلية
بالنسبة للمعاصرين لرسول الله صلى عليه وسلم؛ لم يكن أحد يتوقعها.
وكانت هناك معركة بين أرقى حضارتين معاصرتين للإسلام؛ حضارة فارس وحضارة الروم،
وكانت الحضارتان تتنازعان السيطرة وتوسيع مناطق النفوذ. وهَزَمَتْ فارس ـ التي لا
تؤمن بإله ـ امبراطورية الروم التي تعتنق المسيحية، ولا تؤمن برسالة محمد الخاتمة.
لذلك حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهزيمة الذين يؤمنون بإله في السماء؛
فَيُسرِّي الله ـ سبحانه ـ الأمر على رسوله، ويُنزِل الحق ـ سبحانه ـ قرآناً
يُتلَى على مَرِّ العصور وكل الأزمان؛ يحمل نبوءة انتصار الروم بعد هزيمتهم من
الفرس.
ويقول سبحانه:{ الـم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن
بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِن
قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ
يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ }[الروم: 1ـ5].
هكذا تأتي النبوءة في القرآن تحمل التحديد لميعاد نصر الروم في بضع سنين؛ و "
البِضْع " يقصد به من ثلاث لتسع سنوات.
وإنْ قيل: تلك نبوءة محمد، نقول: ما عِلْم محمد بأخبار المعسكرين ولا بأسرار
السياسة الداخلية لهما؟
وقد جاء نصر الروم كما حدد القرآن، وكان هذا هَتْكا للحجب، حجاب الزمان، وحجاب
المكان، وحجاب الناس، وأوحى به الحق سبحانه عالم الغيب المطلق لرسوله صلى الله عليه
وسلم.
والغيب المطلق هو الذي لا يعرفه إلا الحق ـ تبارك وتعالى ـ وليس له مقدمات، ويكشفه
الله لمن يرتضيه، مصداقاً لقوله ـ سبحانه:{ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ
عَلَىا غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَىا مِن رَّسُولٍ }[الجن: 26ـ27].
وهذا الغيب المطلق يختلف عن الغيب المقيّد الذي له مقدمات؛ ما إن يأخذ بها الإنسان
ويرتبها حتى يصل إلى اكتشاف سرٍّ من أسرار الكون.
والحق ـ سبحانه ـ هو القائل:
{ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ
بِمَا شَآءَ }[البقرة: 255].
وهكذا نعلم أن كل المكتشفات كانت موجودة في الكون ومطمورة فيه؛ وجعل الله ـ تعالى
لكل مستور منها ميلاداً، فالبخار واستخدامه في الحركات كان له ميلاد؛ والكهرباء
كان لها ميلاد؛ واكتشاف الذرة كقوة ومصدر للطاقة كان له ميلاد، وكل مُكْتَشف
ومُخْتَرع له ميلاد، وتتوالى مواليد الغيب مستقبلاً، وفي ميلادها إيمان اليقين بمن
أخفاه وأظهره، وهو الله الحكيم.
وقد يأتي هذا الميلاد بكشف وبحث؛ وقد يُظهره الله بدون بَحْث؛ أو يُظهره صدفة؛
مثلما أظهر قانون الطفو النابع من قاعدة " أرشميدس " ومثلما أظهر الحق ـ
سبحانه ـ قانون الجاذبية صدفة؛ أي: أنه سبب من الأسباب جعل عبداً من عباده يبحث في
شيء، فيظهر له شيء لم يكن يبحث عنه؛ ولذلك نسب الحق ـ سبحانه ـ الإحاطة له ـ
سبحانه.
وهنا يقول الحق ـ سبحانه: } وَللَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ
يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ { [هود: 123].
ولم يقل: " إليه يَرْجع الأمر كله " ، لأنه سبحانه ضبط كل مخلوق على
قدر.
ولله المثل الأعلى: كما تضبط أنت المنبه على ميقات معين، وكما يضبط المقاتل
القنبلة لتنفجر في توقيت معين، والكون كله مُرتَّب على هذا الترتيب.
والله ـ سبحانه ـ القائل:
{ إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ }[يس:
82].
فكل شيء إما يرجع إلى الله في التوقيت الذي شاءه الله.
أو: أن الأمر هو كل ما يتعلق بكائن حي؛ لأن الحق ـ سبحانه ـ قد خلق في الكون أشياء
وترك ملكيتها له ـ سبحانه ـ والحق ـ سبحانه ـ لا ينتفع بها، أما الإنسان فينتفع
بها، وإن كان لا يقربها ولا يملكها، مثل: الشمس التي ترسل أشعتها، ويستفيد الإنسان
بضوئها وحرارتها، وهي لا تدخل في ملكية الإنسان؛ لأنها من أساسيات الحياة؛ لذلك لم
يجعل للإنسان الذي خَصَّه الله بخاصية الاختيار حق ملكيتها أو الاقتراب منها؛ حتى
لا يعبث بها.
وكذلك كل أساسيات الحياة جعلها الحق ـ سبحانه ـ في سلطته وحده، ولم يَأْمَنْ أحداً
من خلقه عليها، مثل الأرض بعناصرها، وكذلك الماء والهواء حتى لا يعبث أحد بأنفاس
الهواء لأحد آخر.
شاء الحق سبحانه أن يجعل الأساسيات في يده دون أن يُملِّكها لأحد؛ رحمةً منه بنا،
ذلك أنه ـ سبحانه ـ عَلِمَ أن الإنسان بما تعتريه من أغيار قد يسيء استخدام تلك
الأساسيات.
وسَخَّر الله هذه الأساسيات لخدمة كل المخلوقات، وسخَّر بعض المخلوقات ليسُوسها
الإنسان، وبعض المخلوقات الآخر لم يستطع الإنسان تسخيره، وحتى قوة الإنسان نفسه؛
شاء الحق ـ سبحانه ـ أن يجعلها أغياراً؛ فالقوي يسير إلى الضَّعْف، والفقير قد
يصبح غنياً.
وهكذا يَثْبت لنا أن كل ما نملك موهوب لنا من الله ـ تعالى وليس هناك ما هو ذاتيٌّ
فِينا، وما نملكه اليوم لا يخرج عن الملكية الموقوتة، فإذا جاء يوم القيامة؛ رجع
كل ما نملك لله ـ سبحانه وتعالى.
ولذلك يقول الحق ـ سبحانه:
{ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ }[غافر: 16].
ولذلك أيضاً تشهد الجوارح على الإنسان؛ لأنها تخرج عن التسخير الذي كانت عليه في
الدنيا.
وإذا كان الحق ـ سبحانه ـ يقول هنا:
} وَللَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ { [هود: 123].
فهو ـ سبحانه ـ يقول في آية أخرى:{ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ
وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَىا }[طه: 6].
وكأن الحق ـ سبحانه ـ ينبه البشر منذ نزول القرآن إلى أهمية ما تحت الثرى من كنوز
يمتنُّ الله ـ تعالى ـ بها على عباده أنه يملكها.
ونحن نعيش الآن باستخراج المكنوز الذي تحت الثرى.
وحين يقول الحق ـ سبحانه هنا ـ في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها ـ: }
وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ { [هود: 123].
ففي ذلك تنبيه لكل إنسان، ليعمل مُسْتهدفاً النجاة حين لا يكون لنفسه على نفسه
سبيل يوم القيامة.
وليعلم كل إنسان أن كل ما يستمتع به هو من فيوضات الحق الأعلى الذي أعطى الإنسان
قدرة من باطن قوته ـ سبحانه ـ وأعطاه غِنًى من باطن غِنَاه ـ سبحانه ـ وأعطاه حكمة
من باطن حكمته ـ سبحانه ـ وأعطاه قبضاً وبسطاً من باطن قدرته ـ سبحانه ـ وكذلك
أعطى لعبيده من كل صفة بعضاً من فَيْضها، ثم تظل الفيوضات للحق ـ سبحانه وتعالى.
وحين يشاء فهو يسلب كل الفيوضات ويعود الأمر إليه، لأن الأمر كله له سبحانه.
فإنْ حُدِّثتَ في القرآن بأمر تغيب عنك مقدماتُه، فاعلمْ أن الذي أنزل هذا الكتاب
لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض.
ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم على ثقة أن الحق ـ سبحانه ـ حين أمره أن
يتوعد أعداء الدين فهو يُطمئنه أن المرجع في كل الأمور إليه ـ سبحانه.
واطمأن الرسول صلى الله عليه وسلم والذين معه أن أعداء الدين إنْ لم يُجازَوْا في
الدنيا، فغداً ترجع الأمور كلها إلى الله، وإن كان الحق قد مَلَّكهم أشياء؛
فسيسلُبهم هذه الملكية في الآخرة، وإنْ كان قد أعطاهم الخِيَار في الدنيا؛ خِيَار
أنْ يؤمنوا ويطيعوا، أو أنْ يكفروا ويعصوا؛ فهذا الاختيار سيزول عنهم في الآخرة،
وكل مالك لمُلْك يصير مُلْكه بعده إلى الله.
وما دام الأمرُ كذلك فلنعبد الله وحده ـ سبحانه ـ لأنه صاحبُ الأمر فيما مضى؛ وله
الأمر الآن؛ وله الأمر فيما يأتي.
وهو ـ سبحانه ـ الذي شاء، فجعل للإنسان ثلاثةَ أزمان: زمان سَبقَ وجود آدم؛ وزمان
من بعد آدم إلى وجود أيٍّ منا؛ ثم زمان مستقبل إلى ما لا نهاية؛ وبذلك يكون لكل
منا زمان ماضٍ؛ وزمان حاضر وزمان مستقبل، وكل منا يدور في فلك الأحداث.
ومن المنطقي بعد أن تستمتع بوجودك في الحياة؛ وتنضج عقلياً أن تتساءل عن ماضيك،
وتاريخ الجنس البشري.
وأنت ـ في هذه الحالة ـ تكون رَهْناً بثقة المحدِّث: هل يقول الصدق أم يقول الكذب؟
خُصوصاً إذا كان الحديث عن تاريخ ما قبل آدم، ولا بد أنْ تقول لنفسك: لا يمكن أن
يُحدِّثني عن ذلك إلا مَنْ خلقني.
وساعة يُبلِّغُكَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بداية الخلق قائلاً: " كان
الله، ولم يكُنْ شيء غيره ".
ومعنى ذلك أن الصادق الوحيد الذي يمكن أن نقبل منه كلاماً عمَّا فاتَ قبل آدم هو
الله ـ سبحانه وتعالى.
وإنْ سألتَ: لماذا وُجِدتُ في زمني هذا، ولم أوجد في زمن آخر؟ هنا ستقول لنفسك إنْ
كنت مؤمناً: " إن مشيئة وإرادة مَنْ أوجدني هي التي رجَّحتْ وجودي في هذا
الزمن عن أي زمن آخر ".
ولا بد أن تسأل نفسك: وما المطلوب مني؟
وستجد أن المطلوب منك هو حركة الحياة؛ لأن تلك الحركة هي الفاصل بين الحياة
والموت، والحق يقول:{ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا
}[هود: 61].
فقد أعطاك الحق ـ سبحانه ـ العقل لتفكر، وأعطاك الطاقة لتفعل، وسخَّر لك الكون
بالمطمور فيه من الرزق؛ لتستخرجه وتتعيش منه.
وهكذا يتضح لك أن كل شيء يحتاج منك أن تتحرك، وأنت في حركتك تحتاج لطاقة تأخذها من
الأعلى منك وتعطي للأدنى منك؛ لذلك أنت تأخذ طاقة من الأعلى منك، وتُعطي للأدنى
منك.
وأنت تعلم أن قمة المطلوب منك أن تُصلي بين يدي الله خمس مرات كل يوم؛ لتشحن طاقتك
وتخرج للحياة بعد أن تُجدِّد ولاءك لمن خلقك وخلق الأكوان كلها، وإنْ أحسنتَ
الوقوف بين يدي الله سيأتي مستقبلك مبنياً على هذا الإحسان.
والحق ـ سبحانه ـ يعطينا مثلاً لهاتين الحركتين، فيقول:
{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ
الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَىا ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ }[الجمعة: 9].
هذه حركة يأخذ فيها الإنسان طاقة من الأعلى، فالسعي إلى ذكر الله وترك البيع من
أجل ذلك يعطي الإنسان طاقة إيمانية، يظهر أثرها في الحركة الثانية من حركات
الإنسان.
ولذلك يقول الحق ـ سبحانه ـ بعد هذا:
{ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُواْ فِي الأَرْضِ وَابْتَغُواْ مِن
فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }[الجمعة:
10].
ولذلك يقول الحق ـ سبحانه ـ في هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
} فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ {
[هود: 123].
أي: أطِع الله في أمره؛ لأنه ـ سبحانه ـ الأعلى منك، بأن تؤدي المطلوب العبادي من:
صلاة، وزكاة، وصيام، وحج إنِ استطعتَ لذلك سبيلاً، لتأخذ من المدد الأعلى ما يعينك
في حركتك الثانية التي تتحركها في الكون.
ومن العجيب أن حركتك في الكون الأدنى تُعينك على حركتك لاستمداد الطاقة من مُكوِّن
الكون ـ سبحانه.
فأنت حين تصلي تحتاج لِسَتْر عورتك بثوب، وحتى تأتي بالثوب لا بد لك من أن تعتمد
على حركة الفلاح في الزراعة، وحركة العامل في النَسْج، وحركة التاجر في البيع،
وحركتك في عملك الذي يتيح لك أجراً تشتري منه الثوب.
وبذلك تكون قد أخذتَ كل علوم الحياة؛ لكي تذهب للصلاة لتأخذ المدد من المدد
الأعلى.
وهكذا تجد أنك في حركة دائرة؛ تأخذ المدد من الأعلى لتعطي الكون الأدنى، وتأخذ من
الأدنى ما يتيح لك الوقوف بين يدي صاحب المدد الأعلى.
وبهذا يثبت لك أن الحركة في الحياة الحاضرة لكل إنسان بالنسبة لعمره في الحياة، هي
استقبال من المدد الأعلى، وانفعال مع المدد الأدنى، وكل منهما يعين على الآخر؛
لذلك فعليك أن تعبد الله بأن تنظِّم حركة حياتك على ضوء منهجه ـ سبحانه.
واعلم أنه ستصادفك المصاعب فإن صادفتك فتوكل على الله، وتلك فائدة من فوائد
استمرار ولائك لله الذي تأخذ منه المدد.
ولذلك " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر قام إلى الصلاة
".
ومعنى " حزبة " أي خرج عن أسبابه، لذلك فهو يذهب إلى المسبب الأعلى،
فإنْ عبدتَ الله وتوكلتَ عليه؛ فهو يعينك؛ لأنه ـ سبحانه لا يغفل عما نعمل.
وهذه الآية تدلُّك على السعادة في الحاضر والمستقبل؛ لأنك إن كنت ترعى الله
فسبحانه يكتب لك الحسنة بعشرة أمثالها، وقد يضاعف عن ذلك، وتُكتب السيئة بمثلها.
وبذلك تكون هذه الآية قد استوعبت وانتظمت حال الإنسان: قبل حياته، وحاضر حياته،
ومستقبل حياته إلى أن تقوم الساعة.
يقول الحق ـ سبحانه:
{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا
دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ }[الأنفال: 24].
فدعوة الله بالطاعة، ودعوة الرسول بالسلوك السَّويّ يعطي للمؤمن حياة الحياة، وهي
حياة تعيش في معية الله.
(/1583)
الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1)
لقد تعرضنا من قبل لفواتح السور؛ من أول سورة البقرة، وسورة آل عمران، وقلنا: إن
فواتح بعض من سور القرآن تبدأ بحروف مُقطَّعة؛ ننطقها ونحن نقرؤها بأسماء الحروف،
لا بمسميات الحروف.
فإن لكل حرف اسماً ومُسمَّى، واسم الحرف يعرفه الخاصة الذين يعرفون القراءة
والكتابة، أما العامة الذين لا يعرفون القراءة أو الكتابة؛ فهم يتكلمون بمسميات
الحروف، ولا يعرفون أسماءها.
فإن الأمي إذا سُئل أن يتهجى أيَّ كلمة ينطقها، وأن يفصل حروفها نطقاً؛ لما عرف،
وسبب ذلك أنه لم يتعلم القراءة والكتابة، أما المتعلم فهو يعرف أسماء الحروف
ومُسمَّياتها.
ونحن نعلم أن القرآن قد نزل مسموعاً، ولذلك أقول: إياك أن تقرأ كتاب الله إلا أن
تكون قد سمعته أولاً؛ فإنك إذا قرأته قبل أن تسمعه فسيستوي عندك حين تقرأ في أول
سورة البقرة:{ الم }[البقرة: 1].
مثلما تقول في أول سورة الشرح:{ أَلَمْ }[الشرح: 1].
أما حين تسمع القرآن فأنت تقرأ أول سورة البقرة كما سمعها رسول الله صلى الله عليه
وسلم من جبريل ـ عليه السلام ـ " ألف لام ميم " ، وتقرأ أول سورة الشرح
" ألم ".
وأقول ذلك لأن القرآن ـ كما نعلم ـ ليس كأي كتاب تُقبِل عليه لتقرأه من غير سماع،
لا. بل هو كتاب تقرؤه بعد أن تسمعه وتصحح قراءتك على قارئ؛ لتعرف كيف تنطق كل
قَوْل كريم، ثم من بعد ذلك لك أن تقرأ بعد أن تعرفتَ على كيفية القراءة؛ لأن كل
حرف في الكتاب الكريم موضوع بميزان وبقدر.
ونحن نعلم أيضا أن آيات القرآن منها آياتٌ مُحْكمات وأُخَر مُتَشابهات. والآيات
المُحْكماتُ تضم الأحكام التي عليك أن تفعلها لِتُثاب عليها، وإنْ لم تفعلها
تُعاقب، وكل ما في الآيات المُحْكمات وَاضح.
أما الآيات المُتَشابهات إنما جاءت متشابهة لاختلاف الإدراك من إنسان لآخر، ومن
مرحلة عُمرية لأخرى، ومن مجتمع لآخر، والإدراكات لها وسائل يتشابه فيها الناس،
مثل: العين، والأذن، والأنف، واللسان، واليد.
ووسائل الإدراك هذه؛ لها قوانين تحكمها:
فعيْنُك يحكمها قانون إبصارك، الذي يمتد إلى أن تلتقي خطوط الأشعة عند بؤرة تمتنع
رؤيتُك عندها؛ ولذلك تصغُر الأشياء تدريجياً كلما ابتعدت عنها إلى أن تتلاشى من
حدود رؤيتك.
وصوتُك له قانون؛ تحكمه ذبذبات الهواء التي تصل إلى أدوات السمع داخل أذنك.
وكذلك الشَّمُّ له حدود؛ لأنك لا تستطيع شَمَّ وردة موجودة في بلد بعيدة.
وكذلك العقل البشري له حدود يُدرك بها، وقد علم الله كيف يدرك الإنسان الأمور، فلم
يمنع تأمل وردة جميلة، لكنه أمر بغضِّ البصر عند رؤية أي امرأة.
وهكذا يُحدِّد لكَ الحق الحلال الذي تراه، ويُحدِّد لك الحرام الذي يجب أن تمتنع
عن رؤيته.
وكذلك في العقل؛ قد يفهم أمراً وقد لا يفهم أمراً آخر، وعدم فَهْمك لذلك الأمر هو
لَوْن من الفهم أيضاً، وإنْ تساءلتَ كيف؟
انظر إلى موقف تلميذ في الإعدادية؛ وجاء له أستاذه بتمرين هندسي مما يدرسه طلبة
الجامعة؛ هنا سيقول التلميذ الذكي لأستاذه: نحن لم نأخذ الأسس اللازمة لحلِّ مثل
هذا التمرين الهندسي، هذا القول يعني أن التلميذ قد فهم حدوده.
وهكذا يعلمنا الله الأدب في استخدام وسائل الإدراك؛ فهناك أمر لك أن تفهمه؛ وهناك
أمر تسمعه من ربك وتطيعه، وليس لك أن تفهمه قبل تنفيذه؛ لأنه فوق مستوى إدراكك.
ودائما أقول هذا المثل ـ ولله المثل الأعلى ـ إنك حين تنزل في فندق كبير، تجد أن
لكل غرفة مفتاحاً خاصاً بها، لا يفتح أي غرفة أخرى، وفي كل دَوْر من أدوار الفندق
يوجد مفتاح يصلح لفتْح كل الأدوار، ولا يفهم هذا الأمر إلا المتخصص في تصميم مثل
تلك المفاتيح.
فما بالنا بكتاب الله تعالى، وهو الكتاب الجامع في تصميم مثل تلك المفاتيح.
فما بالنا بكتاب الله ـ تعالى ـ وهو الكتاب الجامع الذي يقول فيه الحق ـ تبارك
وتعالى:{ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ
مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا
تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ
تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا
بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ
}[آل عمران: 7].
إذن: فهذا المتشابه يعتبره أهل الزيغ فرصة لتحقيق مَأْربهم، وهو إبطال الدين بأيِّ
وسيلة وبأي طريقة، ويحاولون ممارسة التكبر على كتاب الله.
ولهؤلاء نقول: لقد أراد الله أن يكون بعضٌ من سور الكتاب الكريم مُبْتدئةً بحروف
تنطق بأسمائها لا بمُسمَّياتها.
وقد أرادها الحق ـ سبحانه ـ كذلك ليختبر العقول؛ فكما أطلق ـ سبحانه ـ للعقل
البشري التفكير في أمور كثيرة؛ فهناك بعض من الأمور يخيب فيها التفكير، فلا يستطيع
العقل إدراك الأشياء التي تفوق حدود عقله.
والحق ـ سبحانه وتعالى ـ يصنع للإنسان ابتلاءات في وسائل إدراكه؛ وجعل لكل وسيلة
إدراك حدوداً، وشاء أن يأتي بالمتشابه ليختبر الإنسان، ويرى: ماذا يفعل المؤمن؟
وقوله الحق ـ سبحانه:{ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ
فِي الْعِلْمِ.. }[آل عمران: 7].
قد يُفْهم منه أنه عطف؛ بمعنى أن الراسخين في العلم يعلمون تأويله؛ وبالتالي
سيُعلِّمون الناس ما ينتهون إليه من علم بالتأويل. ولكن تأويل الراسخين في العلم
هو قولهم:{ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا... }[آل عمران: 7].
إذن: فنهاية تأويلهم: هو من عند ربنا، وقد آمنا به.
وجاء لنا قوله صلى الله عليه وسلم لِيَحُل لنا إشكال المُتَشابَه:
" ما تشابه منه فآمنوا به ".
لأن المتشابه من ابتلاءات الإيمان.
والمثل الذي أضربه هنا هو أمره صلى الله عليه وسلم لنا أن نستلم الحجر الأسود وأن نُقبِّله،
وأن نَرْجُم الحجر الذي يمثل إبليس، وكلاهما حجر، لكننا نمتثل بالإيمان لما أمرنا
به صلى الله عليه وسلم.
وأنت لو أقبلتَ على كل أمر بحُكْم عقلك، وأردتَ أن تعرف الحكمة وراء كل أمر،
لَعبدْتَ عقلك، والحق ـ سبحانه ـ يريد أن تُقبِل على الأمور بِحُكْمِه هو ـ
سبحانه.
وأنت إن قلتَ لواحد: إن الخمر تهري الكبد. ووضعت على كبده جهاز الموجات فوق
الصوتية الذي يكشف صورة الكبد، ثم ناولتَ الرجل كأس خمر؛ فرأى ما يفعله كأس الخمر
في الكبد، ورَاعَه ذلك؛ فقال: والله لن أشربها أبداً.
هل هو يفعل ذلك لأنه مؤمن؟ أم أنه ربط سلوكه بالتجربة؟
لقد ربط سلوكه بالتجربة، وهو يختلف عن المؤمن الذي نفَّذ تعاليم السماء فامتنع عن
الخمر لأن الله أمر بذلك، فلا يمكن أن نؤجل تعاليم السماء إلى أن تظهر لنا الحكمة
منها.
إذن: فعِلَّة المُتَشابه؛ الإيمان به. وقد يكون للمُتَشابه حكمة؛ لكِنَّا لن
نُؤجِّل الإيمان حتى نعرف الحكمة.
وأقول دائماً: يجب أن يعامل الإنسانُ إيمانَه بربه معاملته لطبيبه، فالمريض يذهب
إلى طبيبه ليعرض عليه شكواه من مرض يؤلمه؛ ليصفَ الطبيب له الدواء، كذلك عمل عقلك؛
عليه أن ينتهي عند عتبة إيمانك بالله.
ونجد من أقوال أهل المعرفة بالله مَنْ يقول: إن العقل كالمطيَّة، يُوصِّلك إلى باب
السلطان، لكنه لا يدخل معك.
إذن: فالذي يناقش في عِلَل الأشياء هو مَنْ يرغب في الحديث مع مُسَاوٍ له في
الحكمة، وهل يوجد مُسَاوٍ لله؟
طبعا لا، لذلك خُذْ افتتاحيات السور التي جاءت بالحروف المقطعة كما جاءت، واختلافنا
على معانيها يؤكد على أنها كَنْز لا ينفذ من العطاء إلى أن تُحل إنْ ـ شاء الله ـ
من الله.
ومن العجيب أن آيات القرآن كلها مبنيةٌ على الوَصْل، ففي آخر سورة هود نجد قول
الحق ـ سبحانه:{ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }[هود: 123].
وكان من المفترض أن نقف عليها فننطق كلمة " تعملون " ساكنة النون، لكنها
موصولة بـ " بسم الله الرحمن الرحيم "؛ لذلك جاءت النون مفتوحة.
وأيضاً ما دامت الآيات مبنية على الوصل، كان من المفروض أن ننطق بدء سورة يوسف
" ألفٌ لامٌ رَاءٌ " لكن الرسول صلى الله عليه وسلم علَّمنَا أن نقرأها
" ألفْ لامْ راءْ " وننطقها ساكنة.
وهذا دليل على أنها كلمة مبنية على الوقف، ودليل على أن لله ـ سبحانه ـ حكمة في
هذا وفي ذاك.
ونحن نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يراجع القرآن مرة كل رمضان مع جبريل ـ
عليه السلام ـ وراجعه مرتين في رمضان الذي سبق وفاته صلى الله عليه وسلم.
وهكذا وصلنا القرآن كما أنزله الحق ـ سبحانه ـ على رسوله الكريم صلى الله عليه
وسلم.
وهنا يقول الحق: } الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ { [يوسف: 1].
و " تلك " إشارة لما بَعْدَ (الر)، وهي آيات الكتاب.
أي: خذوا منها أن آيات القرآن مُكوَّنة من مثل هذه الحروف، وهذا فَهْم البعض
لمعنى: } الر... { [يوسف: 1] لكنه ليس كل الفهم.
مثل: صانع الثياب الذي يضع في واجهة المحل بعضاً من الخيوط التي تم نَسْج القماش
منها؛ ليدلنا على دِقَّة الصنعة.
فكأنَّ الله ـ سبحانه ـ يُبيِّن لنا أن } الر... { [يوسف: 1] أسماء لحروف هي من
أسماء الحروف التي نتكلم بها، والقرآن تكوَّنت ألفاظه من مثل تلك الحروف، ولكن
آيات القرآن معجزة، لا يستطيع البشر ـ ولو عاونهم الجن ـ أن يأتوا بمثله.
إذن: فالسُّمو ليس من ناحية الخامة التي تُكوِّن الكلام، ولكن المعجزة أن المتكلم
هو الحق ـ سبحانه ـ فلا بد أن يكون كلامه مُعجزاً؛ وإن كان مُكوَّناً من نفس
الحروف التي نستخدمها نحن البشر.
وهناك معنى آخر: فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ينطق أسماء الحروف "
ألِفْ لام رَاء " ، وهو صلى الله عليه وسلم الأمي بشهادة المعاصرين له بما
فيهم خصومه، رغم أن القادر على نُطْق أسماء الحروف لا بُدَّ أن يكون مُتعلِّماً،
ذلك أن الأمي ينطق مُسمَّيات الحروف ولا يعرف أسماءها، وفي هذا النطق شهادة بأن
مَنْ علَّمه ذلك هو ربه الأعلى.
ويقول الحق ـ سبحانه: } الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ { [يوسف: 1].
كلمة " الكتاب " عندما تُطلق فمعناها ينصرف إلى القرآن الكريم.
ونجد كلمة " المبين " ، أي: الذي يُبيِّن كل شيء تحتاجه حركة الإنسانِ
الخليفةِ في الأرض، فإن بانَ لك شيء وظننتَ أن القرآن لم يتعرَّض له، فلا بد أن
تبحث عن مادة أو آية تلفتك إلى ما يبين لك ما غابَ عنك.
ويُروى عن الإمام محمد عبده أنه قابل أحد المستشرقين في باريس؛ ووجَّه المستشرق
سؤالاً إلى الإمام فقال:
مادامتْ هناك آية في القرآن تقول:{ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ...
}[الأنعام: 38] فَدعْنِي أسألك: كم رغيفاً ينتجه أردبُّ القمح؟
فقال الإمام للمستشرق: انتظر. واستدعى الإمام خبازاً، وسأله: كم رغيفاً يمكن أن
نصنعه من أردب القمح؟ فأجاب الخباز على السؤال.
هنا قال المستشرق: لقد طلبتُ منك إجابة من القرآن، لا من الخباز. فردَّ الإمامُ:
إذا كان القرآن قد قال:{ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ... }[الأنعام:
38] فالقرآن قال أيضاً:{ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ
تَعْلَمُونَ }[النحل: 43].
لقد فَطِن الإمام محمد عبده إلى أن العقل البشري أضيق من أن يسع كل المعلومات التي
تتطلبها الحياة؛ لذلك شاء الحق ـ سبحانه ـ أن يوزِّع المواهب بين البشر؛ ليصبح كل
متفوق في مجال ما، هو من أهل الذكر في مجاله.
ونحن ـ على سبيل المثال ـ عندما نتعرض لمسألة ميراث؛ فنحن نلجأ إلى مَنْ تخصص في
المواريث، ليدلنا على دقة توزيع أنصبة هذا الميراث.
وحين يؤدي المسلم من العامة فريضة الحج، فيكفيه أن يعلم أن الحج فريضة؛ ويبحث عند
بَدْء الحج عمَّنْ يُعلِّمه خُطوات الحج كما أدَّاها صلى الله عليه وسلم.
وهذا سؤال لأهل الذكر، مثلما نستدعي مهندساً ليصمم لنا بيتاً حين نشرع في بناء
بيت، بعد أن نمتلك الإمكانات اللازمة لذلك.
وهكذا نرى أن علوم الحياة وحركتها أوسع من أن يتسع لها رأس؛ ولذلك وزَّع الله
أسباب فضله على عباده، ليتكاملوا تكاملَ الاحتياج، لا تكامل التفضُّل، ويصير كل
منهم مُلْتحماً بالآخرين غَصبْاً عنه.
وبعد ذلك يقول الحق ـ سبحانه: } إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً... {.
(/1584)
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)
وبالنسبة للقرآن نجد الحق ـ سبحانه ـ يقول:{ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ
}[الشعراء: 193].
فنسب النزول مرة لجبريل كحامل للقرآن ليبلغ به رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومرة
يقول:{ نُزِّلَ... }[محمد: 2]، والنزول في هذه الحالة منسوب لله وجبريل والملائكة.
أما قول الحق ـ سبحانه:{ أُنْزِلَ... }[البقرة: 91]، فهو القول الذي يعني أن
القرآن قد تعدى كونه مَكْنوناً في اللوح المحفوظ ليباشر مهمته في الوجود ببعث رسول
الله صلى الله صلى الله عليه وسلم.
هذا هو معنى الإنزال للقرآن جملةً واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ثم
نزل من بعد ذلك نجوماً متفرقة؛ ليعالج كل المسائل التي تعرَّض لها المسلمون.
وهكذا يؤول الأمر إلى أن القرآن نزل أو نزل به الروح الأمين.
والحق ـ سبحانه ـ يقول:{ وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ..
}[الإسراء: 105] أي: أن الحق ـ سبحانه ـ أنزله من اللوح المحفوظ إلى السماء
الدنيا، ثم أنزله مفرقاً ليعالج الأحداث ويباشر مهمته في الوجود الواقعي.
وفي هذه الآية يقول ـ سبحانه:
{ إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً... } [يوسف: 2].
وفي الآية السابقة قال:{ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ... }[يوسف: 1].
فمرَّة يَصِفه بأنه قرآن بمعنى المقروء، ومرَّة يَصِفه بأنه كتاب؛ لأنه مسطور،
وهذه من معجزات التسمية.
ونحن نعلم أن القرآن حين جُمِع ليكتب؛ كان كاتب القرآن لا يكتب إلا ما يجده
مكتوباً، ويشهد عليه اثنان من الحافظين.
ونحن نعلم أن الصدور قد تختلف بالأهواء، أما السطور فمُثْبتة لا لَبْسَ فيها.
وهو قرآن عربي؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سيجاهر بالدعوة في أمة عربية، وكان
لابد من وجود معجزة تدل على صدق بلاغه عن الله، وأن تكون مِمَّا نبغ فيه العرب؛
لأن المعجزة مشروطة بالتحدي، ولا يمكن أن يتحداهم في أمر لا ريادة لهم فيه ولا لهم
به صلة؛ حتى لا يقولن أحد: نحن لم نتعلم هذا؛ ولو تعلمناه لجئنا بأفضل منه.
وكان العرب أهل بيان وأدب ونبوغ في الفصاحة والشعر، وكانوا يجتمعون في الأسواق،
وتتفاخر كل قبيلة بشعرائها وخطبائها المُفوَّهين، وكانت المباريات الآدائية تُقَام،
وكانت التحديات تجرى في هذا المجال، ويُنصَب لها الحكام.
أي: أن الدُّرْبَة على اللغة كانت صناعة متواترة ومتواردة، محكوم عليها من الناس
في الأسواق، فهم أمة بيان وبلاغة وفصاحة.
لذلك شاء الحق ـ سبحانه ـ أن يكون القرآن معجزة من جنس ما نبغ فيه العرب، وهم أول قوم
نزل فيهم القرآن، وحين يؤمن هؤلاء لن يكون التحدي بفصاحة الألفاظ ونسق الكلام، بل
بالمبادىء التي تطغى على مبادىء الفرس والروم.
وهي مبادىء قد نزلت في أمة مبتدِّية ليس لها قانون يجمعها، ولا وطن يضمهم يكون
الولاء له، بل كل قبيلة لها قانون، وكلهم بَدْو يرحلون من مكان إلى مكان.
وحين نزل فيهم القرآن عَلِم أهل فارس والروم أن تلك الأمة المُبتدِّية قد امتلكتْ
ما يبني حضَارة ليس لها مثل من قَبْل، رغم أن النبي أمِيٌّ وأن الأمة التي نزل
فيها القرآن كانت أمية.
وفارس والروم يعلمون أن الرسول الذي نزل في تلك الأمة تحدَّاهم بما نبغُوا فيه،
وما استطاع واحد منهم أن يقوم أمام التحدي، ومن هنا شعروا أنهم أمام تحد حضاري من
نوع آخر لم يعرفوه.
ويشاء الحق ـ سبحانه ـ أن ينزل القرآن عربياً؛ لأن الحق لم يكن ليرسل رسولاً إلا
بلسان قومه، فهو القائل:{ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ
قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ... }[إبراهيم: 4].
وأُرسِلَ محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن، الذي تميَّز عن سائر كتب الرسل الذين
سبقوه؛ بأنه كتاب ومعجزة في آنٍ واحد، بينما كانت معجزات الرسل السابقين عليه صلى
الله عليه وسلم مُنْفصلةً عن كُتب الأحكام التي أُنزِلَتْ إليهم.
ويظلُّ القرآن معجزة تحمل منهجاً إلى أنْ تقومَ الساعة، ومادام قد آمنَ به الأوائل
وانساحوا في العالم، فتحقق بذلك ما وعد به الله أن يكون هذا الكتابُ شاملاً، يجذب
كل مَنْ لم يؤمن به إلى الانبهار بما فيه من أحكام.
ولذلك حين يبحثون عن أسباب انتشار الإسلام في تلك المدة الوجيزة، يجدون أن الإسلام
قد انتشر لا بقوة مَنْ آمنوا به؛ بل بقوة مَنْ انجذبوا إليه مَشْدُوهِين بما فيه
من نُظُمٍ تُخلِّصهم من متاعبهم.
ففي القرآن قوانين تُسعِد الإنسانَ حقاً، وفيه من الاستنباءات بما سوف يحدث في
الكون؛ ما يجعل المؤمنين به يذكرون بالخشوع أن الكتاب الذي أنزله الله على رسولهم
لم يفرط في شيء.
وإذا قال قائل من المستشرقين: كيف تقولون: إن القرآن قد نزل بلسان عربي مبين؛ رغم
وجود ألفاظ أجنبية مثل كلمة " آمين " التي تُؤمِّنُون بها على دعاء
الإمام؛ كما توجد ألفاظ رومية، وأخرى فارسية؟
وهؤلاء المستشرقون لم يلتفتوا إلى أن العربي استقبل ألفاظاً مختلفة من أمم متعددة
نتيجة اختلاطه بتلك الأمم، ثم دارتْ هذه الألفاظ على لسانه، وصارت تلك الألفاظ
عربية، ونحن في عصورنا الحديثة نقوم بتعريب الألفاظ، وندخل في لغتنا أيَّ لفظ
نستعمله ويدور على ألسنتنا، ما دُمْنا نفهم المقصود به.
ويُذيِّل الحق ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بقوله:
} لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ { [يوسف: 2].
ليستنهض همة العقل، ليفكر في الأمر، والمُنْصف بالحق يُهِمه أن يستقبل الناس ما
يعرضه عليهم بالعقل، عكس المدلس الذي يهمه أن يستر العقل جانباً؛ لينفُذَ من وراء
العقل.
وفي حياتنا اليومية حين ينبهك التاجر لسلعة ما، ويستعرض معك مَتَانتها ومحاسنها؛
فهو يفعل ذلك كدليل على أنه واثق من جودة بضاعته.
أما لو كانت الصَّنْعة غير جيدة، فهو لن يدعوك للتفكير بعقلك؛ لأنك حين تتدبر
بعقلكَ الأمر تكتشف المُدلس وغير المُدلس؛ لذلك فهو يدلس عليك، ويُعمِّي عليك، ولا
يدع لك فرصة للتفكير.
ويقول الحق ـ سبحانه ـ من بعد ذلك: } نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ... {.
(/1585)
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)
حين يتحدث الحق ـ سبحانه ـ عن فعل من أفعاله؛ ويأتي بضمير الجمع؛ فسبب ذلك أن كل
فعل من أفعاله يتطلب وجودَ صفات متعددة؛ يتطلب: علماً؛ حكمة؛ قدرة؛ إمكانات.
ومَنْ غيره ـ سبحانه ـ له كل الصفات التي تفعل ما تشاء وقْتَ أن تشاء؟
لا أحد سواه قادر على ذلك؛ لأنه ـ سبحانه ـ وحده صاحب الصفات التي تقوم بكل مطلوب
في الحياة ومُقدَّر.
لكن حين يتكلم ـ سبحانه ـ عن الذات؛ فهو يؤكد التوحيد فلا تأتي بصيغة الجمع، يقول
تعالى:{ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَـاهَ إِلا أَنَاْ فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ
الصَّلاَةَ لِذِكْرِي }[طه: 14].
وهنا يتكلم ـ سبحانه ـ بأسلوب يعبر عن أفعال لا يَقْدر عليها غيره؛ بالدقة التي
شاءها هو ـ سبحانه ـ فيقول:
{ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ... } [يوسف: 3].
وحدد ـ سبحانه ـ أنه هو الذي يقصُّ، وإذا وُجِد فعل لله؛ فنحن نأخذ الفعل بذاته
وخصوصه؛ ولا نحاول أن نشتق منه اسماً نطلقه على الله؛ إلا إذا كان الفعل له صفة من
صفاته التي عَلِمْناها في أسمائه الحسنى؛ لأنه الذات الأقدس.
وفي كل ما يتعلق به ذاتاً وصفاتٍ وأفعالاً إنما نلتزم الأدب؛ لأننا لا نعرف شيئا
عن ذات الله إلا ما أخبرنا الله عن نفسه، لذلك لا يصح أن نقول عن الله أنه قصَّاص،
بل نأخذ الفعل كما أخبرنا به، ولا نشتق منه اسماً لله؛ لأنه لم يصف نفسه في أسمائه
الحسنى بذلك.
والواجب أن ما أطلقه ـ سبحانه ـ اسماً نأخذه اسماً، وما أطلقه فعلاً نأخذه فعلاً.
وهنا يقول ـ سبحانه:
{ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ.... } [يوسف: 3].
ونعلم أن كلمة " قص " تعني الإتباع، وقال بعض العلماء: إن القصة تُسمَّى
كذلك لأن كل كلمة تتبع كلمة، ومأخوذة من قَصَّ الأثر، وهو تتبع أثر السائر على
الأرض، حتى يعرف الإنسان مصير مَنْ يتتبعه ولا ينحرف بعيداً عن الاتجاه الذي سار
فيه مَنْ يبحث عنه.
واقرأ قول الحق ـ سبحانه ـ:{ وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن
جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ }[القصص: 11].
و{ قُصِّيهِ... }[القصص: 11] أي: تتبعي أثره.
إذن: فالقَصُّ ليس هو الكلمة التي تتبع كلمة، إنما القَصُّ هو تتبُّع ما حدث
بالفعل.
ويعطينا الحق سبحانه مثلاً من قصة موسى عليه السلام مع فتاه:{ قَالَ أَرَأَيْتَ
إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَآ أَنْسَانِيهُ
إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً
* قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَىا آثَارِهِمَا قَصَصاً
}[الكهف: 63ـ64]، أي: تَابَعا الخطوات.
وهكذا نعلم أن القص هو تتبُّع ما حدث بالفعل، فتكون كل كلمة مُصوِّرة لواقع، لا
لَبْسَ فيه أو خيال؛ ولا تزيُّد، وليس كما يحدث في القصص الفنيِّ الحديث؛ حيث يضيف
القصَّاص لقطاتِ خيالية من أجل الحَبْكة الفنية والإثارة وجَذْب الانتباه.
أما قصص القرآن فوضْعُه مختلف تماماً، فكلُّ قَصص القرآن إنما يتتبع ما حدث فعلاً؛
لنأخذ منها العبرة؛ لأن القصة نوع من التاريخ.
والقصة في القرآن مرةً تكون للحدث، ومرَّة تكون لتثبيت فؤاد الرسول صلى الله عليه
وسلم، فلم تَأْتِ قصة رسول في القرآن كاملة، إلا قصة يوسف ـ عليه السلام.
أما بقية الرسل فقَصَصهم جاءت لقطات في مناسبات لتثبيت فؤاد الرسول محمد صلى الله
عليه وسلم، فتأتي لقطة من حياة رسول، ولقطة من حياة رسول آخر، وهكذا.
ولا يقولن أحد: إن القرآن لم يستطع أن يأتي بقصة كاملة مستوفية؛ فقد شاء الحق ـ
سبحانه ـ أن يأتي بقصة يوسف من أولها إلى آخرها، مُسْتوفية، ففيها الحدث الذي
دارتْ حوله أشخاصٌ، وفيها شخصٌ دارتْ حوله الأحداث.
فقصة يوسف ـ عليه السلام ـ في القرآن لا تتميز بالحَبْكة فقط؛ بل جمعتْ نَوعَيْ
القصة، بالحدث الذي تدور حوله الشخصيات، وبالشخص الذي تدور حوله الأحداث.
جاءتْ قصة يوسف بيوسف، وما مَرَّ عليه من أحداث؛ بَدْءً من الرُّؤيا، ومروراً بحقد
الأخوة وكيدهم، ثم محاولة الغواية له من امرأة العزيز، ثم السجن، ثم القدرة على
تأويل الأحلام، ثم تولَّي السلطة، ولقاء الأخوة والإحسان إليهم، وأخيراً لقاء الأب
من جديد.
إذن: فقول الحق ـ سبحانه:
} نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ... { [يوسف: 3].
يبيّن لنا أن الحُسْن أتى لها من أن الكتب السابقة تحدثت عن قصة يوسف، لكن أحبار
اليهود حين قرأوا القصة كما جاءتْ بالقرآن ترك بعضهم كتابه، واعتمد على القرآن في
روايتها، فالقصة أحداثها واحدة، إلا صياغة الأداء؛ وتلمُّسات المواجيد النفسية؛
وإبراز المواقف المطْويَّة في النفس البشرية؛ وتحقيق الرُّؤى الغيبية كُلُّ ذلك
جاء في حَبْكة ذات أداء بياني مُعْجز جعلها أحسنَ القَصَص.
أو: هي أحسن القصص بما اشتملتْ عليه من عِبَر متعددة، عِبَر في الطفولة في مواجهة
الشيخوخة، والحقد الحاسد بين الأخوة، والتمرد، وإلقائه في الجبِّ والكيد له، ووضعه
سجيناً بظلم، وموقف يوسف عليه السلام من الافتراء الكاذب، والاعتزاز بالحق حتى
تمَّ له النصر والتمكين.
وكيف ألقى الله على يوسف ـ عليه السلام ـ محبَّة منه؛ ليجعل كل مَنْ يلتقي به يحب
خدمته.
وكيف صانَ يوسف إرثَ النبوة، بما فيها من سماحة وقدرة على العفو عند المقدرة؛
فعفَا عن إخوته بما روتْه السورة:{ قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ
يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ }[يوسف: 92].
وقالها سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم لأهله يوم فتح مكة: " اذهبوا فأنتم
الطلقاء ".
وهكذا تمتليء سورة يوسف بِعِبَر متناهية، يتجلَّى بعضٌ منها في قضية دخوله السجنَ
مظلوماً، ثم يأتيه العفو والحكم؛ لذلك فهي أحسنُ القَصص؛ إما لأنها جمعتْ حادثة
ومَنْ دار حولها من أشخاص، أو جاء بالشخص وما دار حوله من أحداث.
أو: أنها أحسنُ القصص في أنها أدّتْ المُتَّحد والمتفق عليه في كل الكتب السابقة،
وجاء على لسان محمد الأمي، الذي لا خبرة له بتلك الكتب؛ لكن جاء عَرْضُ الموضوع
بأسلوب جذَّاب مُسْتمِيل مُقْنع مُمْتع.
أو: أنها أحسن القصص؛ لأن سورة يوسف هي السورة التي شملت لقطاتٍ متعددةٍ تساير:
العمر الزمني؛ والعمر العقلي؛ والعمر العاطفي للإنسان في كل أطواره؛ ضعيفاً؛
مغلوباً على أمره؛ وقوياً مسيطراً، مُمكَّناً من كل شيء.
بينما نجد أنباء الرسل السابقين جاءت كلقطات مُوزَّعة كآيات ضمن سُور أخرى؛ وكل
آية جاءت في موقعها المناسب لها.
إذن: فالحُسْن البالغ قد جاء من أسلوب القرآن المعجز الذي لا يستطيع واحد من البشر
أن يأتي بمثله.
يقول الحق سبحانه: } نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَآ
أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هَـاذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ
الْغَافِلِينَ { [يوسف: 3].
والمقصود بالغفلة هنا أنه صلى الله عليه وسلم كان أُمِّياً، ولم يعرف عنه أحدٌ قبل
نزول القرآن أنه خطيب أو شاعر، وكل ما عُرِف عنه فقط هو الصفات الخُلقية العالية
من صدق وأمانة؛ وهي صفات مطلوبة في المُبلّغ عن الله؛ فما دام لم يكذب من قبل على
بشر فكيف يكذب وهو يُبلِّغ عن السماء رسالتها لأهل الأرض؟
إن الكذب أمر مُسْتبعد تماماً في رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وبعدها.
والمثال على تصديق الغير لرسول الله هو تصديق أبي بكر رضي الله عنه له حين أبلغه
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الوحي قد نزل عليه، لم يَقُلْ له أكثر من أنه
رسول من عند الله، فقال أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ: صدقْتَ.
وحين حدثتْ رحلة الإسراء؛ وكذَّبها البعض متسائلين: كيف نضرب إليها أكباد الإبل
شهراً ويقول محمد إنه قطعها في ليلة؟ فسألهم أبو بكر: أقال ذلك؟ قالوا: نعم. فقال
أبو بكر: ما دام قد قال فقد صدق.
وهكذا نجد أن حيثية الصِّدْق قبل الرسالة هي التي دَلَّتْ على صدقه حين أبلغ بما
نزل عليه من وحي.
مثال ذلك: تصديق خديجة رضي الله عنها وأرضاها له؛ حين أبلغها بنزول الوحي، فقالت
له: " والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتَصِلُ الرَّحِم، وتحمل الكَلَّ،
وتُكسِب المَعْدُوم، وتَقْري الضَّيف، وتعين على نوائب الحق ".
وكان في صدق بصيرتها، وعميق حساسية فطرتها أسبابٌ تؤيد تصديقها له صلى الله عليه
وسلم في نبوته.
وحين وقعت بعض الأمور التي لا تتفق مع منطق المقدمات والنتائج، والأسباب
والمسببات؛ كانت بعض العقول المعاصرة لرسول الله تقف متسائلة: كيف؟ فيوضح لهم أبو
بكر: " انتبهوا إنه رسول الله ".
مثال هذا: ما حدث في صلح الحديبية، حين يقول عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ
متسائلاً ـ ويكاد أن يكون رافضاً لشروط هذا الصلح ـ: ألسْنا على الحق؟ عَلام نعطي
الدَّنية في ديننا؟
ويرد عليه أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ: استمسك بِغَرْزِه يا عمر، إنه رسول الله.
أي: انتبه واعلم أنك تتكلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس في ذلك انصياعٌ
أعمى؛ بل هي طاعة عن بصيرة مؤمنة.
والحق سبحانه يقول هنا:
} وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ { [يوسف: 3].
والغافل: هو الذي لا يعلم ـ لا عن جهل، أو قصور عقل ـ ولكن لأن ما غفل عنه هو أمر
لا يشغل باله.
أو: أن يكون المقصود بقوله:
} لَمِنَ الْغَافِلِينَ { [يوسف: 3].
أي: أنك يا محمد لم تكن ممَّنْ يعرفون قصة يوسف؛ لأنك لم تتعلم القراءة فتقرأها من
كتاب، ولم تجلس إلى مُعلِّم يروي لك تلك القصة، ولم تجمع بعضاً من أطراف القصة من
هنا أو هناك.
بل أنت لم تَتَلقَّ الوحي بها إلا بعد أن قال بعض من أهل الكتاب لبعض من أهل مكة:
اسألوه عن أبناء يعقوب وأخوة يوسف؛ لماذا خرجوا من الشام وذهبوا إلى مصر؟
وكان ضَرْباً من الإعجاز أن ينزل إليك يا رسول الله هذا البيان العالي بكل تفاصيل
القصة، كدليل عمليٍّ على أن مُعلِّم محمدٍ صلى الله عليه وسلم هو الله، وأنه
سبحانه هو مَنْ أَوحى بها إليه.
والوَحْي ـ كما نعلم ـ هو الإعلام بخفاء، وسبحانه يوحي للملائكة فيقول:{ إِذْ
يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ
آمَنُواْ... }[الأنفال: 12].
وسبحانه يوحي إلى مَنْ يصطفي من البشر إلى صفوتهم؛ مصداقاً لقوله سبحانه:{ وَإِذْ
أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُواْ
آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ }[المائدة: 111].
ويقذف الحق سبحانه بالإلهام وحياً لا يستطيع الإنسان دَفْعاً له، مثل الوحي لأم
موسى بأن تلقي طفلها الرضيع موسى في اليَمِّ:{ إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَىا أُمِّكَ
مَا يُوحَىا * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ
فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ
وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىا عَيْنِي }[طه:
38-39].
ويوحي سبحانه إلى الأرض وهي الجماد، مثل قوله الحق:{ بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىا
لَهَا }[الزلزلة: 5].
وأوحى سبحانه إلى النحل، فقال الحق:{ وَأَوْحَىا رَبُّكَ إِلَىا النَّحْلِ أَنِ
اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ *
ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً }[النحل:
68-69].
والحق سبحانه يوحي لمن شاء بما شاء، فالكل؛ جماد ونبات وحيوان وإنسان؛ من خَلْقه،
وهو سبحانه يخاطبهم بِسِرِّ خلقه لهم، واختلاف وسائل استيعابهم لذلك.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ... {.
(/1586)
إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)
وهكذا تبدأ قصة يوسف، حين يقول لأبيه يعقوب عليهما السلام " يا أبت " ،
وأصل الكلمة " يا أبي " ، ونجد في اللغة العربية كلمات " أبي
" و " أبتِ " و " أبتَاهُ " و " أَبَة " وكلها
تؤدي معنى الأبوة، وإن كان لكل منها مَلْحظ لغوي.
ويستمر يوسف في قوله:
{ ياأَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } [يوسف: 4].
وكلنا رأينا الشمس والقمر؛ كُلٌّ في وقت ظهوره؛ لكن حلُم يوسف يُبيِّن أنه رآهما
معاً، وكلنا رأينا الكواكب متناثرة في السماء آلافاً لا حَصْرَ لها، فكيف يرى يوسف
أحد عشر كوكباً فقط؟
لا بُدَّ أنهم اتصفوا بصفات خاصة ميَّزتهم عن غيرهم من الكواكب الأخرى؛ وأنه قام
بعدِّهِم.
ورؤيا يوسف عليه السلام تبيِّن أنه رآهم شمساً وقمراً وأحد عشر كوكباً؛ ثم رآهم
بعد ذلك ساجدين.
وهذا يعني أنه رآهم أولاً بصفاتهم التي نرى بها الشمس والقمر والنجوم بدون سجود؛
ثم رآهم وهم ساجدون له؛ بملامح الخضوع لأمر من الله، ولذلك تكررت كلمة " رأيت
" وهو ليس تكراراً، بل لإيضاح الأمر.
ونجد أن كلمة: { سَاجِدِينَ } [يوسف: 4] وهي جمع مذكر سالم؛ ولا يُجمع جَمْع
المذكر السالم إلا إذا كان المفرد عاقلاً، والعقل يتميز بقدرة الاختيار بين
البدائل؛ والعاقل المؤمن هو مَنْ يجعل اختياراته في الدنيا في إطار منهج الدين،
وأسْمَى ما في الخضوع للدين هو السجود لله.
ومَنْ سجدوا ليوسف إنما سجدوا بأمر من الله، فَهُم إذن يعقلون أمر الحق سبحانه
وتعالى.
مثلهم في ذلك مَثَلْ ما جاء في قول الحق سبحانه:{ إِذَا السَّمَآءُ انشَقَّتْ *
وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ }[الانشقاق: 1-2] هذه السماء تعقل أمر ربها الذي
بناها.
وقال عنها أنها بلا فُرُوجٍ:{ أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى السَّمَآءِ فَوْقَهُمْ
كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ }[ق: 6] وهي أيضاً
تسمع أمر ربها، مصداقاً لقوله سبحانه:{ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ
}[الانشقاق: 2].
أي: أنها امتلكت حاسة السمع؛ لأن " أذنت " من الأذن؛ وكأنها بمجرد
سماعها لأمر الله؛ تنفعل وتنشق.
وهكذا نجد أن كل عَالَم من عوالم الكون أُمَم مثل أمة البشر، ويتفاهم الإنسان مع
غيره من البشر ممَّن يشتركون معه في اللغة، وقد يتفاهم مع البشر أمثاله ممن لا
يعرف لغتهم بالإشارة، أو من خلال مُترجم، أو من خلال تعلُّم اللغة نفسها.
ولكن الإنسان لا يفهم لغة الجماد، أو لغة النبات، أو لغة الحيوان؛ إلا إذا أنعم
الله على عبد بأن يفهم عن الجماد، أو أن يفهم الجماد عنه.
والمثل: هو تسبيح الجبال مع داود، ويُشكِّل تسبيحه مع تسبيحها " جُوقة "
من الانسجام مُكَوَّن من إنسان مُسبِّح؛ هو أعلى الكائنات، والمُردِّد للتسبيح هي
الجبال، وهي من الجماد أدنى الكائنات.
ونحن نعلم أن كل الكائنات تُسبِّح، لكننا لا نفقه تسبيحها، ولكن الحق سبحانه يختار
من عباده مَنْ يُعلِّمه مَنْطِق الكائنات الأخرى، مثلما قال سبحانه عن سليمان:{
وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ ياأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ
الطَّيْرِ.. }[النمل: 16] وهكذا عَلِمْنا أن للطير منطقاً. وعلَّم الحقُّ سبحانه
سليمان لغة النمل؛ لأننا نقرأ قول الحق:{ حَتَّىا إِذَآ أَتَوْا عَلَىا وَادِ
النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ ياأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ
يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ
ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ
الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىا وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً
تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ }[النمل:
18-19].
إذن: فلكُلِّ أُمَّة من الكائنات لغة، وهي تفهم عن خالقها، أو مَنْ أراد له الله
سبحانه وتعالى أن يفهم عنها، وبهذا نعلم أن الشمس والقمر والنجوم حين سجدتْ بأمر
ربها ليوسف في رؤياه؛ إنما فهمتْ عن أمر ربها.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } قَالَ يابُنَيَّ... {.
(/1587)
قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)
وحين يُورِد القرآن خطاب أب لابن لا نجد قوله { يابُنَيَّ } وهو خطابُ تحنينٍ،
ويدل على القرب من القلب، و " بُني " تصغير " ابن ".
أما حين يأتي القرآن بحديث أب عن ابنه فهو يقول " ابني " مثل قول الحق
سبحانه عن نوح يتحدث عن ابنه الذي اختار الكفر على الإيمان:{ إِنَّ ابْنِي مِنْ
أَهْلِي... }[هود: 45].
وكلمة " يا بني " بما فيها من حنان وعطف؛ ستفيدنا كثيراً فيما سوف يأتي
من مواقف يوسف؛ ومواقف أبيه منه.
وقول يعقوب ليوسف " يا بني " يُفْهم منه أن يوسف عليه السلام ما زال
صغيراً، فيعقوب هو الأصل، ويوسف هو الفرع، والأصل دائماً يمتلئ بالحنان على الفرع،
وفي نفس الوقت نجد أيَّ أب يقول: مَنْ يأكل لقمتي عليه أن يسمع كلمتي.
وقول الأب: يا بني، يفهم منه أن الابن ما زال صغيراً، ليست له ذاتية منفصلة عن
الأب ليقرر بها ما هو المناسب، وما هو غير المناسب.
وحين يفزع يوسف مما يُزعِجه أو يُسيء إليه؛ أو أي أمر مُعْضَل؛ فهو يلجأ إلى مَنْ
يحبه؛ وهو الأب؛ لأن الأب هو ـ الأقدر في نظر الابن - على مواجهة الأمور الصعبة.
وحين روى يوسف عليه السلام الرؤيا لأبيه؛ قال يعقوب عليه السلام:
{ قَالَ يابُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىا إِخْوَتِكَ } [يوسف: 5].
ونفهم من كلمة " رؤيا " أنها رؤيا منامية؛ لأن الشمس والقمر والنجوم لا
يسجدون لأحد، وهذا ما يوضح لنا دقة اللغة العربية، فكلمة واحدة هي " رأى
" قد يختلف المعنى لها باختلاف ما رُؤيَ؛ فرؤيتك وأنت يقظانُ يُقال عنها
" رؤية "؛ ورؤيتك وأنت نائم يُقال عنها " رؤيا ".
والرؤية مصدر مُتفق عليه من الجميع: فأنت ترى ما يراه غيرك؛ وأما " الرؤيا
" فهي تأتي للنائم.
وهكذا نجد الالتقاء في " رأى " والاختلاف في الحالة؛ هل هي حالة النوم
أو حالة اليقظة. وفي الإعراب كلاهما مؤنث؛ لأن علامة التأنيث إما: " تاء
" ، أو " ألف ممدودة " ، أو " ألف مقصورة ".
وأخذت الرؤية الحقيقية التي تحدث في اليقظة " التاء " وهي عمدة التأنيث؛
أما الرؤيا المنامية فقد أخذت ألف التأنيث.
ولا يقدح في كلمة " رؤيا " أنها منامية إلا آية واحدة في القرآن حيث
تحدث الحق سبحانه عن لحظة أن عُرِجَ به صلى الله عليه وسلم؛ فقال:{ وَمَا
جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ }[الإسراء:
60].
ولكن من يقولون: " إنها رؤيا منامية " لم يفقهوا المعنى وراء هذا القول؛
فالمعنى هو: إن ما حدث شيء عجيب لا يحدث إلا في الأحلام، ولكنه حدث في الواقع؛
بدليل أنه قال عنها: أنها " فتنة للناس ".
فالرسول صلى الله عليه وسلم لو كان قد قال إنها رؤيا منامية لما كذَّبه أحد فيما
قال: لكنه أعلن أنها رؤيا حقيقية؛ لذلك عَبّر عنها القرآن بأنها فتنة للناس.
وهنا يقول يعقوب عليه السلام:
} قَالَ يابُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىا إِخْوَتِكَ.. { [يوسف: 5].
لأن يعقوب عليه السلام كأب مأمونٌ على ابنه يوسف؛ أما إخوة يوسف فهم غير مأمونين
عليه، وحين يقصُّ يوسف رؤياه على أبيه، فهو سينظر إلى الصالح ليوسف ويدلُّه عليه.
أما إن قصَّ الرؤيا على إخوته؛ فقد تجعلهم الأغيار البشرية يحسدون أخاهم، وقد كان.
وإن تساءل أحد: ولماذا يحسدونه على رؤيا منامية، رأى فيها الشمس والقمر وأحدَ عشرَ
كوكباً يسجدون له؟
نقول: لا بُدَّ أن يعقوب عليه السلام قد عَلِم تأويل الرُّؤيا: وأنها نبوءة لأحداث
سوف تقع؛ ولا بُدَّ أن يعقوب عليه السلام قد علم أيضاً قدرة إخوة يوسف على تأويل
تلك الرؤيا، ولو قالها يوسف لهم لَفهِموا المقصود منها، ولا بُدَّ حينئذ أن يكيدوا
له كيداً يُصيبه بمكروه.
فهم قد أصابهم الضيق من يوسف وهو ما زال طفلاً، فما باله بضيقهم إنْ عَلِموا مثل
هذه الرؤيا التي سيجد له فيها الأب والأم مع الإخوة.
ولا يعني ذلك أن نعتبر إخوة يوسف من الأشرار؛ فهم الأسباط؛ وما يصيبهم من ضيق بسبب
عُلُو عاطفة الأب تجاه يوسف هو من الأغيار التي تصيب البشر، فهم ليسوا أشراراً
بالسَّليقة؛ لأن الشرير بالسَّليقة تتصاعد لديه حوادثُ السوء، أما الخيِّر
فتتنزَّل عنده حوادث السوء.
والمثال على ذلك: أنك قد تجد الشرير يرغب في أن يصفع إنساناً آخر صفعة على
الخَدِّ؛ ولكنه بعد قليل يفكر في تصعيد العدوان على ذلك الإنسان، فيفكر أن يصفعه
صفعتين بدلاً من صفعة واحدة؛ ثم يرى أن الصفعتين لا تكفيان؛ فيرغب أن يُزيد
العدوان بأن يصوِّب عليه مسدساً؛ وهكذا يُصعِّد الشرير تفكيره الإجرامي.
أما الخَيِّر فهو قد يفكر في ضرب إنسان أساء إليه " علقة "؛ ولكنه
يُقلِّل من التفكير في رَدِّ الاعتداء بأن يكتفي بالتفكير في ضربة صفعتين بدلاً من
" العلقة " ، ثم يهدأ قليلاً ويعفو عَمَّنْ أساء إليه.
وإخوة يوسف ـ وهم الأسباط ـ بدءوا في التفكير بانتقام كبير من يوسف، فقالوا
لبعضهم:{ اقْتُلُواْ يُوسُفَ... }[يوسف: 9].
ثم هبطوا عن هذه الدرجة المُؤْلمة من تعبيرهم عن الغيرة من زيادةِ محبة أبيهم
ليوسف، فقالوا:{ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ }[يوسف:
9].
وحينما أرادوا أن يطرحوه أرضاً ترددوا؛ واستبدلوا ذلك بإلقائه في الجُبِّ لعل أن
يلتقطه بعض السيَّارة. فقالوا:{ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ
بَعْضُ السَّيَّارَةِ... }
[يوسف: 10].
وهذا يدل على أنهم تنزَّلوا عن الانتقام الشديد بسبب الغيرة؛ بل إنهم فكروا في
نجاته.
وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه:
} لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىا إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً... {
[يوسف: 5].
والكيد: احتيال مستور لمَنْ لا تقوى على مُجَابهته، ولا يكيد إلا الضعيف؛ لأن
القوي يقدر على المواجهة.
ولذلك يُقَال: إن كيد النساء عظيم؛ لأن ضعفهن أعظم.
ويُذيِّل الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله:
} إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ { [يوسف: 5].
وهذه العداوة معروفة لنا تماماً؛ لأنه خرج من الجنة ملعوناً مطروداً؛ عكس آدم الذي
قَبِل الله توبته؛ وقد أقسم الشيطان بعزة الله لَيُغْوِينَّ الكُلَّ، واستثنى
عبادَ اللهِ المخلصين.
ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: " لقد أعانني الله على شيطاني فأسلم ".
ويصف الحق سبحانه عداوة الشيطان للإنسان أنها عداوةٌ مُبينة. أي: محيطة. وحين نقرأ
القرآن نجد إحاطة الشيطان للإنسان فيها يقظة:{ ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ
أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ...
}[الأعراف: 17] ولم يأت ذِكْر للمجيء من الفوقية أو من التحتية؛ لأن مَنْ يحيا في
عبودية تَحتية؛ وعبادية فوقية؛ لا يأتيه الشيطان أبداً.
ونلحظ أن الحق سبحانه جاء بقول يعقوب عليه السلام مخاطباً يوسف عليه السلام في هذه
الآية:
} فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً { [يوسف: 5]، ولم يقل: فيكيدوك، وهذا من نَضْح نبوة يعقوب
عليه السلام على لسانه؛ لأن هناك فارقاً بين العبارتين، فقول: " يكيدوك
" يعني أن الشرَّ المستور الذي يدبرونه ضدك سوف يصيبك بأذى. أما }
فَيَكِيدُواْ لَكَ... { [يوسف: 5] فتعني أن كيدهم الذي أرادوا به إلحاق الشر بك
سيكون لحسابك، ويأتي بالخير لك.
ولذلك نجد قوله الحق في موقع آخر بنفس السورة:{ كَذالِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ...
}[يوسف: 76] أي: كدنا لصالحه.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } وَكَذالِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ... {.
(/1588)
وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آَلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
أي: كما آنسَك الله بهذه الرؤيا المُفْرحة المُنْبِئة بأنه سيكون لك شأن كبير
بالنسبة لإخوتك وبالنسبة لأبيك، فلسوف يجتبيك ربك؛ لا بأن يحفظك فقط؛ ولكن بأن
يجعل كيدهم سبباً لصالحك، ويُعلِّمك من تأويل الأحاديث ما يجعل أصحابَ الجاهِ
والنفوذ يلتفتون إليك.
ومعنى تأويل الشيء أي معرفة ما يؤول إليه الشيء، ونعلم أن الرُّؤى تأتي كطلاسم،
ولها شَفرة رمزية لا يقوم بِحلِّها إلا مَنْ وهبه الله قدرة على ذلك؛ فهي ليست
عِلْماً له قواعد وأصول؛ لأنها إلهامات من الله سبحانه وتعالى.
وبعد ذلك تصير يا يوسف على خزائن الأرض؛ حين يُوجد الجَدْبُ، ويعُمُّ المنطقة
كلها، وتصبح عزيز مصر.
ويتابع الحق سبحانه:
{ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ... } [يوسف: 6].
فكل ما تَمَتَّع به يوسف هو من نعم الدنيا، وتاج نعمة الدنيا أن الله اجتباه
رسولاً.
أو أن: { وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ... } [يوسف: 6].
بمعنى إلا تسلب منك النعمة أبداً؛ ففي حياة يوسف منصبٌ مهم، هو منصب عزيز مصر،
والمناصب من الأغيار التي يمكن أن تنزع.
أو أن: { وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ... } [يوسف: 6].
بأن يصل نعيم دنياك بنعيم أُخْراك.
ويتابع الحق سبحانه:
{ وَعَلَىا آلِ يَعْقُوبَ كَمَآ أَتَمَّهَآ عَلَىا أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [يوسف: 6].
يُذكِّر الحق سبحانه يوسف عليه السلام بأن كيد إخوته له لا يجب أن يُحوِّله إلى
عداوة؛ لأن النِّعم ستتم أيضاً على هؤلاء فهم آلُ يعقوب؛ هم وأبناؤهم حَفَدة
يعقوب، وسينالهم بعضٌ من عِزِّ يوسف وجاهه وماله، كما أتمَّها من قبل على إبراهيم
الجد الأول ليوسف باتخاذه خليلا لله، وأتمَّ سبحانه نعمته على إسحق بالنبوة.
وهو سبحانه أعلمُ بمَنْ يستحق حمْل الرسالة، وهو الحكيم الذي لا يترك شيئاً للعبث؛
فهو المُقدِّر لكل أمر بحيث يكون مُوافِقاً للصواب.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: { لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ... }.
(/1589)
لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آَيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7)
أي: أن يوسف صار ظَرْفاً للأحداث، لأن " في " تدل على الظرفية، ومعنى
الظرفية أن هناك شيئاً يُظْرف فيه شيء آخر، فكأن يوسف صار ظَرْفاً ستدور حوله
الأحداث بالأشخاص المشاركين فيها.
و " يوسف " اسم أعجمي؛ لذلك فهو " ممنوع من الصرف " أي: ممنوع
من التنوين فلا نقول: في يوسفٍ.
و { يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ } [يوسف: 7]
وهذا يعني أن ما حدث إنما يُلفِت لقدرة الله سبحانه؛ فقد أُلقِيَ في الجُبِّ
وأُنقِذ ليتربى في أرقى بيوت مصر.
ونعلم أن كلمة آية تطلق على الأمر العجيب الملفت للنظر، وهي تَرِد بالقرآن بثلاثة
معانٍ:
آية كونية: مثل الشمس والقمر والليل والنهار، تلك الآيات الكونية رصيد للنظر في
الإيمان بواجب الوجود وهو الله سبحانه؛ فساعة ترى الكون منتظماً بتلك الدقة
المتناهية؛ لا بُدًَّ أن تفكر في ضرورة وجود خالق لهذا الكون.
والآيات العجيبة الثانية هي المعجزات الخارقة للنواميس التي يأتي بها الرسل؛ لتدل
على صدق بلاغهم عن الله، مثل النار التي صارت بَرْداً وسلاماً على إبراهيم، ومثل
الماء الذي انفلق وصار كالطور العظيم أمام عصا موسى.
وهناك المعنى الثالث لكلمة آية، والمقصود بها آيات القرآن الكريم.
وفي قول الحق سبحانه:
{ لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ } [يوسف: 7].
نستشف العبرة من كل ما حدث ليوسف الذي كَادَ له إخوته ليتخلصوا منه؛ لكن كَيْدهم
انقلب لصالح يوسف.
وفي كل ذلك سَلْوى لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لتثبيت فؤاده؛ فلا يُعِير بالاً
لاضطهاد قومه له، وتآمرهم عليه، ورغبتهم في نَفْيه إلى الشام، ومحاولتهم قَتْله،
ومحاولتهم مُقاطعته، وقد صاروا من بعد ذلك يعيشون في ظلال كَنفِه.
إذن: فلا تيأس يا محمد؛ لأن الله ناصرك بإذنه وقدرته، ولا تستبطئ نصر الله، أنت
ومَنْ معك، كما جاء في القرآن.{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ
وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ
الْبَأْسَآءُ وَالضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّىا يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ
آمَنُواْ مَعَهُ مَتَىا نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ
}[البقرة: 214].
ويبين لنا الحق سبحانه ما حدث ليوسف بعد القهر الذي أصابه من إخوته، ويمر الوقت
إلى أن تتحقق رؤيا الخير التي رآها يوسف عليه السلام.
ويُقال: إن رؤيا يوسف تحققت في فترة زمنية تتراوح بين أربعين سنة وثمانين عاماً.
ولذلك نجد رُؤْيَا الخير يطول أَمَدُ تصديقها؛ ورُؤْيَا الشر تكون سريعة؛ لأن من
رحمة الله أن يجعل رؤيا الشر يقع واقعاً وينتهي، لأنها لو ظلَّتْ دون وقوع لأمد
طويل؛ لوقع الإنسان فريسةَ تخيُّل الشر بكُلِّ صوره.
والشر لا يأتي إلا على صورة واحدة، ولكن الخير له صور متعددة؛ فيجعلك الله
مُتخيلاً لما سوف يأتيك من الخير بألوان وتآويل شتى.
والمثل لدعوة الشر هو دعوة موسى على آل فرعون؛ حين قال:{ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَىا
أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَىا قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّىا يَرَوُاْ
الْعَذَابَ الأَلِيمَ }[يونس: 88].
ويقول الحق سبحانه:
} لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ { [يوسف: 7] فكل
يوم من أيام تلك القصة هناك آية وتُجمع آيات.
وهناك قراءة أخرى: " لقد كان في يوسف وإخوته آية للسائلين " أي: أن كل
القصة بكل تفاصيلها وأحداثها آية عجيبة.
والحق سبحانه أعطانا في القرآن مثلاً على جَمْع الأكثر من آية في آية واحدة، مثلما
قال:{ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً }[المؤمنون: 50] مع أن كلاً
منهما آية منفردة.
ولك أن تنظر إلى قصة يوسف كلها على أنها آية عجيبة تشمل كل اللقطات، أو تنظر إلى
كل لقطة على أنها آية بمفردها.
ويقول الحق سبحانه في آخر هذه الآية أن القصة: } آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ { [يوسف:
7].
والسائلون هنا إما من المشركين الذين حرَّضهم اليهود على أنْ يسألوا رسول الله صلى
الله عليه وسلم عن مسألة يوسف، وإما من المسلمين الذين يطلبون العِبَر من الأمم
السابقة، وجاء الوَحْيُ لينزل على الرسول الأميِّ بتلك السورة بالأداء الرفيع
المُعْجِز الذي لا يَقْوَى عليه بشر.
وأنت حين تقرأ السورة؛ قد تأخذ من الوقت عشرين دقيقة، هاتْ أنت أيَّ إنسان ليتكلم
ثُلث ساعة، ويظل حافظاً لما قاله؛ لن تجد أحداً يفعل ذلك؛ لكن الحق سبحانه قال
لرسوله صلى الله عليه وسلم:{ سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَىا }[الأعلى: 6].
ولذلك نجد الرسول صلى الله عليه وسلم يحفظ ما أُنزل إليه من ربه، ويُمليه على
صحابته ويصلي بهم؛ ويقرأ في الصلاة ما أُنزِل عليه، ورغم أن في القرآن آياتٍ
متشابهات؛ إلا أنه صلى الله عليه وسلم لم يخطئ مرة أثناء قراءته للقرآن.
والأمثلة كثيرة منها قوله الحق:{ وَاصْبِرْ عَلَىا مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ
مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ }[لقمان: 17].
ومرة أخرى يقول:{ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ }[الشورى: 43] وكذلك قول
الحق سبحانه:{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ }[الحجر: 45].
وفي موقع آخر يقول الحق:{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ }[الطور:
17].
فكيف يتأتَّى لبشر أمي أن يتذكر كل ذلك، لولا أن الذي أنزل عليه الوحي قد شاء له
ذلك.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ... {.
(/1590)
إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8)
ولا بُدَّ لنا هنا أن ننظر إلى الأخوة بنوعياتها؛ فقد تكون الأخوة من ناحية
الأبوين معاً؛ وقد تكون من ناحية الأب دون الأم، أو من ناحية الأم دون الأب، وكان
عدد أبناء يعقوب عليه السلام اثنا عشر: سبعة من واحدة؛ وأربعة من اثنتين: زلفى
وبلهه؛ واثنين من راحيل هما: يوسف، وأخوه بنيامين.
وتبدأ الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
{ ذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىا أَبِينَا مِنَّا.. } [يوسف: 8].
وحرف اللام الذي سبق اسم يوسف جاء للتوكيد، وكأنهم قالوا: والله إن أبانا يحب يوسف
وأخاه أكثر من حُبِّه لنا. والتوكيد لا يأتي إلا بصدد إنكار.
وهذا يدل على أنهم مختلفون في أمر يوسف عليه السلام؛ فأحدهم يريد أن ينتقم من
يوسف، وآخر يقترح تخفيف المسألة بإلقائه في الجب؛ ثم انتهوا إلى أن يوسف أحبُّ إلى
أبيهم منهم.
وفي قولهم لَمْحة من إنصاف؛ فقد أثبتوا حب أبيهم لهم؛ ولكن قولهم به بعضٌ من غفلة
البشر؛ لأنهم كان يجب أن يلتمسوا سبب زيادة حُبِّ أبيهم ليوسف وأخيه.
فيوسف وأخوه كانوا صِغَاراً وماتت أمهما؛ ولم يَعُدْ لهم إلا الأب الذي أحسَّ
بضرورة أن يَجتمع فيه تجاههما حنانُ الأب وحنانُ الأم؛ ولأنهما صغارٌ نجد الأب
يحنُو عليهما بما أودعه الله في قلبه من قدرة على الرعاية.
وهذا أمر لا دَخْل ليعقوب فيه؛ بل هي مسألة إلهية أودعها الله في القلوب بدون
اختيار؛ ويُودعها سبحانه حتى في قلوب الحيوانات.
وقد شاء سبحانه أن يجعل الحنان على قدر الحاجة؛ فالقطة ـ على سبيل المثال ـ إن
اقتربَ أحد من صغارها المولودين حديثاً؛ تهجم على هذا الذي اقترب من صغارها.
ولذلك نجد العربي القديم قد أجاب على مَنْ سأله " أي أبنائك أحب إليك؟ "
فقال: " الصغير حتى يكبر؛ والغائب حتى يعود، والمريض حتى يشفى ".
وهذه مسألة نراها في حياتنا اليومية، فنجد امرأة لها ولدان، واحد أكرمه الله بسعة
الرزق ويقوم بكل أمورها واحتياجاتها؛ والآخر يعيش على الكفاف أو على مساعدة أخيه
له؛ ونجد قلبها دائما مع الضعيف.
ولذلك نقول: إن الحب مسألة عاطفية لا تخضع إلى التقنين؛ ولا تكليف بها؛ وحينما
يتعرض القرآن لها فالحق سبحانه يوضح: أن الحب والبغض انفعالات طبيعية؛ فأحبِبْ
مَنْ شئتَ وأبغِضْ مَنْ شئتَ؛ ولكن إياك أن تظلم الناس لمن أحببت؛ أو تظلم مَنْ
أبغضت.
اقرأ قول الحق سبحانه:{ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ
تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىا }[المائدة: 8].
فأحبب مَنْ شئتَ، وأبغض مَنْ شئتَ، ولكن لا تظلم بسبب الحب أو البغض.
وقد يقول قائل: ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:
" لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه ".
نقول: اقرأ ما جاء في نفس رواية الحديث؛ فقد قال عمر رضي الله عنه ـ بوضوحه
وصراحته وجراءته؛ دون نفاق ـ: أحبك يا رسول الله عن مالي وعن ولدي أما عن نفسي؛
فلا، فكرر النبي صلى الله عليه وسلم قوله: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه
من نفسه ".
ففطِنَ عمر رضي الله عنه إلى أن الأمر هو التزام عقديٌّ وتكليفي؛ وفَهِم أنَ
المطلوب هو حُبُّ العقل؛ لا حب العاطفة.
وحب العقل ـ كما نعلم ـ هو أن تُبصر الأمر النافع وتفعله؛ مثلما تأخذ الدواء
المُرَّ؛ وأنت تفعل ذلك بحبٍّ عقلي؛ رغبةً منك في أن يأذن الحق بالشفاء.
والمسلم يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعقله؛ لأنه يعلم أنه لولا مجيء رسول
الله لما عرف حلاوة الإيمان، وقد يتسامى المسلم في حُبِّ رسول الله صلى الله عليه
وسلم إلى أن يصير حب الرسول في قلبه حباً عاطفياً.
وهكذا نرى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد أوضح لنا الخطوط الفاصلة بين مباديء
الحب العقلي والحب العاطفي.
والمثال الآخر من سيرة عمر رضي الله عنه في نفس المسألة؛ حب العقل وحب العاطفة؛
حين مَرَّ عليه قاتل أخيه؛ فقال واحد ممَّنْ يجلسون معه: هذا قاتل أخيك. فقال عمر:
وماذا أفعل به وقد هداه الله للإسلام؟
وصرف عمر وجهه بعيداً عن قاتل أخيه؛ فجاء القاتل إليه قائلاً: لماذا تزوي وجهك
عني؟ قال عمر: لأنِّي لا أحبك، فأنت قاتل أخي. فقال الرجل: أو يمنعني عدم حبك لي
من أيِّ حق من حقوقي؟ قال عمر: لا. فقال الرجل: " لك أن تحب مَنْ تريد، وتكره
مَنْ تريد، ولا يبكي على الحب إلا النساء ".
وكان على إخوة يوسف أن ينتبهوا إلى حب والدهم ليوسف وأخيه هو انفعال طبيعي لا
يُؤاخَذُ به الأب؛ لأن ظروف الولدين حتمت عليه أن يحبهم مثل هذا الحب.
وتستمر القصة بما فيها من تصعيد للخير وتصعيد للشر؛ ولسائل أن يسأل: ولماذا أنصبَّ
غضبهم على يوسف وحده؟
ويقال: إنهم لم يرغبوا أنْ يَفْجعوا أباهم في الاثنين ـ يوسف وأخيه ـ أو أن شيئاً
من رؤيا يوسف تسرب إليهم.
ومن العجيب أن يقولوا بعد ذلك: } وَنَحْنُ عُصْبَةٌ { [يوسف: 8].
والعصبة من عدد عشرة فما فوق؛ والعصبة أيضاً هم المُتكاتفون المُتعصِّبون لبعضهم
البعض؛ وهم الذين يقومون بالمصالح ويقضون الحاجات؛ وقد تقاعد أبوهم؛ وترك لهم
إدارة أعمال العائلة.
وقالوا: " ما دُمْنَا نقوم بمصالح العائلة، فكان من الواجب أن يَخُصَّنا
أبونا بالحب " ولم يلتفتوا إلى أنهم عُصْبة، وهذا ما جعل الأب يحبهم، لكنه
أعطى مَنْ ليسوا عصبة مزيداً من الرعاية، ولكنهم سدروا في غَيِّهم، ووصلوا إلى
نتيجة غير منطقية وهي قولهم:
} إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ { [يوسف: 8].
وهذا القول هو نتيجة لا تنسجم مع المقدمات، فيوسف وأخوه طفلان ماتت أمهما، ولا بُدَّ
أن يعطف عليهم الأب؛ وحبُّه لهما لم يمنع حبه للأبناء الكبار القادرين على
الاعتماد على أنفسهم.
وحين يقولون:
} إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ { [يوسف: 8]
قد يفهم بعض الناس كلمة " ضلال " هنا بالمعنى الواسع لها.
نقول: لا؛ لأن هناك ضلالاً مقصوداً، وهو أن يعرف طريق الحق ويذهب إلى الباطل، وهذا
ضلال مذموم.
وهناك ضلال غير مقصود، مثل: ضلال رجل يمشي فيسلك طرقاً لا يعرفها فيضل عن مقصده؛
ومثل مَنْ ينسى شيئاً من الحق. وسبحانه القائل:{ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا
فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَىا... }[البقرة: 282].
وسبحانه القائل أيضاً:{ وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَىا }[الضحى: 7].
إذن: فالضلال المذموم هو أن تعرف طريق الحق، وتذهب إلى الضلال.
وهكذا أخطأ إخوة يوسف في تقدير أمر حُبِّ أبيهم ليوسف وأخيه؛ ووصلوا إلى نتيجة
ضارَّة؛ لأن المقدمات التي أقاموا عليها تلك النتيجة كانت باطلة؛ ولو أنهم
مَحَّصُوا المقدمات تمحيصاً دقيقاً لَمَا وصلوا إلى النتيجة الخاطئة التي قالوها:
} إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ { [يوسف: 8].
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك ما جاء على ألسنة إخوة يوسف: } اقْتُلُواْ يُوسُفَ...
{.
(/1591)
اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)
والقتل هو قمة ما فكّروا فيه من شرّ؛ ولأنهم من الأسباط هبط الشر إلى مرتبة أقل؛
فقالوا: { أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً } [يوسف: 9].
فكأنهم خافوا من إثم القتل؛ وظنوا بذلك أنهم سينفردون بحبِّ أبيهم؛ لأنهم قالوا: {
يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ } [يوسف: 9].
والوجه هو الذي تتم به المواجهة والابتسام والحنان، وهو ما تظهر عليه الانفعالات.
والمقصود بـ: { يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ } [يوسف: 9]، هو ألا يوجد عائق
بينكم وبين أبيهم.
وقولهم: { وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ } [يوسف: 9]، أي: أنهم
يُقدِّرون الصلاح؛ ويعرفون أن الذي فكَّروا فيه غيرُ مقبول بموازين الصلاح؛ ولذلك
قالوا: إنهم سيتوبون من بعد ذلك.
ولكن: ما الذي أدراهم أنهم سوف يعيشون إلى أن يتوبوا؟ وهم بقولهم هذا نَسُوا أن
أمر المَوْت قد أبهم حتى لا يرتكب أحدٌ المعاصيَ والكبائرَ.
أو: أن يكون المقصود بـ: { قَوْماً صَالِحِينَ } [يوسف: 9]، هو أن يكونوا صالحين
لحركة الحياة، ولعدم تنغيص علاقتهم بأبيهم؛ فحين يخلُو لهم وجهه؛ سيرتاحون إلى أن
أباهم سيعدل بينهم، ويهبُهم كل حبه فيرتاحون.
أو أن يكون المقصود بـ: { قَوْماً صَالِحِينَ } [يوسف: 9]، أن تلك المسألة التي
تشغل بالهم وتأخذ جزءاً من تفكيرهم إذا ما وجدوا لها حلاً؛ فسيرتاح بالهم فينصلح
حالهم لإدارة شئون دنياهم.
وهكذا نفهم أن سعيهم إلى الصلاح: منوط بمراداتهم في الحياة، بحسب مفهومهم للصلاح
والحياة.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: { قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ... }.
(/1592)
قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10)
وهكذا نرى التخفيف في الشر حين يرفض واحد منهم مبدأ القتل، واستبدله بالإخفاء
بإلقائه في الجُبِّ.
ولم يحدد الحق سبحانه لنا اسم القائل حتى يعصمهم جميعاً من سوء الظن بهم.
والجب هو البئر غير المطوي؛ ونحن نعلم أن الناس حين تحفر بئراً، فمياه البئر تتدفق
طوال الوقت؛ وقد يأتي الردم فيسُدُّ البئر؛ ولذلك يبنون حول فُوَّهة البئر بعضاً
من الطوب لحمايته من الرَّدْم؛ ويسمون مثل هذا البئر " بئر مطوي " ،
وهكذا تظل المياه في البئر في حالة استطراق.
وكلمة: { غَيَابَتِ الْجُبِّ } [يوسف: 10]، أي: المنطقة المخفية في البئر؛ وعادة
ما تكون فوق الماء؛ وما فيها يكون غائباً عن العيون.
ولسائل أن يقول: وكيف يتأتَّى إلقاؤه في مكان مَخْفيٍّ مع قول أحد الإخوة: {
يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ } [يوسف: 10].
ونقول: إن في مثل هذا القول تنزيلاً لدرجة الشر التي كانت مُتوقِّدة في اقتراح بعضهم
بقتل يوسف؛ وفي هذا الاقتراح تخفيض لمسألة القتل أو الطّرْح أرضاً.
وبعد ذلك عاد القائل لحالته العادية، وصَحَتْ فيه عاطفة الأخوة؛ وقال:
{ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ } [يوسف: 10]، أي: أنه توقع عدم رفضهم لاقتراحه.
وهكذا يشرح لنا الحق سبحانه كيف تمَّتْ تصفية هذه المسألة؛ فلم يقف صاحب هذا الرأي
بالعنف ضد اقتراح إخوته بقتل يوسف أو طَرْحه في الأرض؛ بل أخذ يستدرجهم ليستلَّ
منهم ثورة الغضب؛ فلم يَقُلْ لهم " لا تقتلوه " ، ولكنه قال: " لا
تقتلوا يوسف ".
وفي نُطْقِه للاسم تحنين لهم.
ويضيف:
{ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن
كُنتُمْ فَاعِلِينَ } [يوسف: 10].
وكأنه يأمل في أن يتراجعوا عن مخططهم.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: { قَالُواْ يَاأَبَانَا... }.
(/1593)
قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11)
وبعد أن وافقوا أخاهم الذي خفَّف من مسألة القتل، ووصل بها إلى مسألة الإلقاء في
الجب؛ بدأوا التنفيذ، فقال واحد منهم مُوجِّهاً الكلام لأبيه، وفي حضور الإخوة: {
قَالُواْ يَاأَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَىا يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ
لَنَاصِحُونَ } [يوسف: 11].
وساعة تسمع قول جماعة؛ فاعلم أن واحداً منهم هو الذي قال، وأمَّنَ الباقون على
كلامه؛ إِما سُكوتاً أو بالإشارة.
ولكي يتضح ذلك اقرأ قول الحق سبحانه عن دعاء موسى عليه السلام على فرعون وكان معه
هارون.
قال موسى عليه السلام:{ وَقَالَ مُوسَىا رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ
وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ
عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَىا أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَىا
قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّىا يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ }[يونس:88].
ورد الحق سبحانه على دعاء موسى:{ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا... }[يونس:
89].
والذي دعا هو موسى، والذين أمَّنَ على الدعوة هو هارون عليه السلام.
وهكذا نفهم أن الذي قال:
{ يَاأَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَىا يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ
} [يوسف: 11].
تلك الكلمات التي وردتْ في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، هو واحد من إخوة
يوسف، وأمَّن بقية الإخوة على كلامه.
وقولهم: { مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَىا يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ }
[يوسف: 11]، يدل أنه كانت هناك محاولات سابقة منهم في ذلك، ولم يوافقهم الأب.
وقولهم: { وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ } [يوسف: 11].
يعني أنهم سوف ينتبهون له، ولن يحدث له ضرر أو شرّ؛ وسيعطونه كل اهتمام فلا داعي
أن يخاف عليه الأب.
ويستمر عَرْض ما جاء على لسان إخوة يوسف: { أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً... }.
(/1594)
أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12)
ولأنهم كانوا يخرجون للرعي والعمل؛ لذلك كان يجب أن يأتوا بعِلَّة ليأذن لهم أبوهم
بخروج يوسف معهم، ويوسف في أوان الطفولة؛ واللعب بالنسبة له أمر مُحبَّب ومسموح
به؛ لأنه ما زال تحت سن التكليف، واللعب هو الشغل المباح لقصد انشراح النفس.
ويُفضِّل الشرع أن يكون اللعب في مجال قد يطلبه الجدُّ مستقبلاً؛ كأن يتعلمَ
الطفلُ السباحةَ، أو المصارعة، أو إصابة الهدف؛ وهي الرماية وهكذا نفهم معنى
اللعب: إنه شُغُل لا يُلهِي عن واجب، أما اللهو فهو شغُلُ يُلهِي عن واجب.
وهناك بعضٌ من الألعاب يمارسها الناس؛ ويجلسون معاً؛ ثم يُؤذِّن المؤذن؛ ويأخذهم
الحديث؛ ولا يلتفون إلى إقامة الصلاة في ميعادها؛ وهكذا يأخذهم اللهو عن الضرورة؛
أما لو التفتوا إلى إقامة الصلاة: لَصَار الأمر مجرد تسلية لا ضرر منها.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: { قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي.. }. قَالَ
إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ
وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13)
وكلام الأب هنا لا بُدَّ أن يغيظهم فهو دليل المحبة الفائقة إلى الدرجة التي يخاف فيها
من فِراق يوسف لِقلَّة صبره عنه، وشدة رعايته له؛ ثم جاء لهم بالحكاية الأخرى،
وهي:
{ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ } [يوسف:13]
وقال بعض الناس: لقد علَّمهم يعقوب الكذبة؛ ولولا ذلك ما عرفوا أن يكذبوها.
ونلحظ أن يعقوب جعل للأخوة لَحْظاً؛ فلم يقل: " أخاف أن يأكله الذئب وأنتم
قاعدون " بل قال:
{ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ } [يوسف:13].
وهذا ليُربِّي فيهم مواجيد الأخوة التي تفترض ألاَّ يتصرفوا مع أخيهم بشرّ؛ ولا أن
يتصرف غيرهم معه بشرّ إلا إذا غفلوا عن أخيهم.
ونلحظ في ردِّهم عجزَهم عن أنْ يردوا على قوله:
{ قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ.. } [يوسف: 13].
فهذا الحب من يعقوب ليوسف هو الذي دفعهم إلى الحقد على يوسف، ورَدُّوا فقط على
خوفه من أنْ يأكله الذئب، وجاء القرآن بما قالوه: { قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ...
}.==
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق