ج7وج8وج9.كتاب الكشاف أبو القاسم محمود
بن عمرو بن أحمد، الزمخشري
وقوله : { لِيَهْلِكَ } بدل منه . واستعير الهلاك والحياة للكفر والإسلام ، أي ليصدر كفر من كفر عن وضوح بينة ، لا عن مخالجة شبهة ، حتى لا تبقى له على الله حجة ، ويصدر إسلام من أسلم أيضاً عن يقين وعلم بأنه دين الحق الذي يجب الدخول فيه والتمسك به وذلك أن ما كان من وقعة بدر من الآيات الغرّ المحجلة التي من كفر بعدها كان مكابراً لنفسه مغالطاً لها . وقرىء : «ليهلك» بفتح اللام وحي ، بإظهار التضعيف { لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ } يعلم كيف يدبر أموركم ويسوي مصالحكم . أو لسميع عليم بكفر من كفر وعقابه ، وبإيمان من آمن وثوابه .
إِذْ
يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا
لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ
عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
{ إِذْ يُرِيكَهُمُ الله } نصبه بإضمار اذكر . أو هو بدل ثان من يوم الفرقان ، أو متعلق بقوله { لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي يعلم المصالح إذ يقللهم في عينك { فِى مَنَامِكَ } في رؤياك . وذلك أن الله عزّ وجل أراه في رؤياه قليلاً ، فأخبر بذلك أصحابه فكان تثبيتاً لهم وتشجيعاً على عدوهم . وعن الحسن : في منامك في عينك ، لأنها مكان النوم ، كما قيل للقطيفة : المنامة ، لأنه ينام فيها . وهذا تفسير فيه تعسف ، وما أحسب الرواية صحيحة فيه عن الحسن ، وما يلائم عليه بكلام العرب وفصاحته { لَّفَشِلْتُمْ } لجبنتم وهبتم الإقدام { ولتنازعتم } في الرأي ، وتفرقت فيما تصنعون كلمتكم ، وترجحتم بين الثبات والفرار { ولكن الله سَلَّمَ } أي عصم وأنعم بالسلامة من الفشل والتنازع والاختلاف { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } يعلم ما سيكون فيها من الجراءة والجبن والصبر والجزع .
وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)
{ وَإِذَا يُرِيكُمُوهُمْ } الضميران مفعولان . معنى : وإذ يبصركم إياهم . و { قَلِيلاً } نصب على الحال ، وإنما قللهم في أعينهم تصديقاً لرؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليعاينوا ما أخبرهم به فيزداد يقينهم ويجدّوا ويثبتوا . قال ابن مسعود رضي الله عنه : لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي : أتراهم سبعين؟ قال : أراهم مائة ، فأسرنا رجلاً منهم فقلنا له : كم كنتم؟ قال : ألفاً { وَيُقَلّلُكُمْ فِى أَعْيُنِهِمْ } حتى قال قائل منهم : إنما هم أكلة جزور . فإن قلت : الغرض في تقليل الكفار في أعين المؤمنين ظاهر ، فما الغرض في تقليل المؤمنين في أعينهم؟ قلت : قد قللهم في أعينهم قبل اللقاء ، ثم كثرهم فيها بعده ليجترؤا عليهم ، قلة مبالاة بهم ، ثم تفجؤهم الكثرة فيبهتوا ويهابوا ، وتفل شوكتهم حين يرون ما لم يكن في حسابهم وتقديرهم ، وذلك قوله : { يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ رَأْىَ العين } [ آل عمران : 13 ] ولئلا يستعدوا لهم ، وليعظم الاحتجاج عليهم باستيضاح الآية البينة من قلتهم أوّلاً وكثرتهم آخراً . فإن قلت : بأي طريق يبصرون الكثير قليلاً؟ قلت بأن يستر الله عنهم بعضه بساتر أو يحدث في عيونهم ما يستقلون به الكثير ، كما أحدث في أعين الحول ما يرون به الواحد اثنين . قيل لبعضهم : إن الأحول يرى الواحد اثنين ، وكان بين يديه ديك واحد فقال : مالي لا أرى هذين الديكين أربعة؟ .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)
{ إذا لَقِيتُمْ فِئَةً } إذا حاربتم جماعة من الكفار ، وترك أن يصفها لأن المؤمنين ما كانوا يلقون إلا الكفار . واللقاء اسم للقتال غالب { فاثبتوا } لقتالهم ولا تفرّوا { واذكروا الله كَثِيراً } في مواطن الحرب مستظهرين بذكره ، مستنصرين به ، داعين له على عدوكم : اللهم اخذلهم ، اللهم اقطع دابرهم { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } لعلكم تظفرون بمرادكم من النصرة والمثوبة . وفيه إشعار بأنّ على العبد أن لا يفتر عن ذكر ربه أشغل ما يكون قلباً وأكثر ما يكون هما ، وأن تكون نفسه مجتمعة لذلك وإن كانت متوزعة عن غيره . وناهيك بما في خطب أمير المؤمنين عليه السلام في أيام صفين وفي مشاهده مع البغاة والخوارج - من البلاغة والبيان ولطائف المعاني ، وبليغات المواعظ والنصائح - دليلاً على أنهم كانوا لا يشغلهم عن ذكر الله شاغل وإن تفاقم الأمر { وَلاَ تنازعوا } قرىء بتشديد التاء { فَتَفْشَلُواْ } منصوب بإضمار أن ، أو مجزوم لدخوله في حكم النهي ، وتدل على التقديرين قراءة من قرأ : «وتذهب ريحكم» بالتاء والنصب وقراءة من قرأ : «ويذهب ريحكم» بالياء والجزم والريح : الدولة ، شبهت في نفوذ أمرها وتمشيه بالريح وهبوبها ، فقيل : هبت رياح فلان إذا دالت له الدولة ونفذ أمره . ومنه قوله :
يَا صَاحِبَيَّ ألاَ لاَحَيَّ بِالْوَادِي ... إلاّ عبِيدٌ قُعُودٌ بَيْنَ أذوَاد
أتُنْظِرَانِ قَلِيلاً رَيْثَ غَفَلَتِهِم ... أمْ تَعْدُوَانِ فَإِنَّ الرِّيحَ لِلْعَادِي
وقيل : لم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله تعالى . وفي الحديث :
( 426 ) " نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور " .
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)
حذرهم - بالنهي عن التنازع واختلاف الرأي - نحو ما وقع لهم بأحد لمخالفتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من فشلهم وذهاب ريحهم { كالذين خَرَجُواْ مِن ديارهم } هم أهل مكة حين خرجوا لحماية العير ، فأتاهم رسول أبي سفيان وهم بالجحفة : أن ارجعوا فقد سلمت عيركم ، فأبى أبو جهل وقال : حتى نقدم بدراً نشرب بها الخمور ، وتعزف علينا القيان ونطعم بها من حضرنا من العرب . فذلك بطرهم ورئاؤهم الناس بإطعامهم ، فوافوها ، فسقوا كؤس المنايا مكان الخمر وناحت عليهم النوائح مكان القيان ، فنهاهم أن يكونوا مثلهم بطرين طربين مرائين بأعمالهم ، وأن يكونوا من أهل التقوى ، والكآبة والحزن من خشية الله عز وجل ، مخلصين أعمالهم لله .
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)
{ و } اذكر { إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم } التي عملوها في معاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووسوس إليهم أنهما لا يغلبون ولا يطاقون ، وأوهمهم أن اتباع خطوات الشيطان وطاعته مما يجيرهم فلما تلاقى الفريقان نكص الشيطان وتبرأ منهم ، أي بطل كيده حين نزلت جنود الله وكذا عن الحسن رحمه الله : كان ذلك على سبيل الوسوسة ولم يتمثل لهم . وقيل :
( 427 ) لما اجتمعت قريش على السير ذكرت الذي بينها وبين بني كنانة من الحرب ، فكان ذلك يثنيهم ، فتمثل لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم الشاعر الكناني - وكان من أشرافهم - في جند من الشياطين معه راية ، وقال : لا غالب لكم اليوم ، وإني مجيركم من بني كنانة . فلما رأى الملائكة تنزل ، نكص وقيل : كانت يده في يد الحارث بن هشام ، فلما نكص قال له الحارث : إلى أين؟ أتخذلنا في هذه الحال؟ فقال : إني أرى ما لا ترون ، ودفع في صدر الحارث وانطلق ، وانهزموا ، فلما بلغوا مكة قالوا : هزم الناس سراقة ، فبلغ ذلك سراقة فقال : والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم فلما أسلموا علموا أنه الشيطان . وفي الحديث :
( 428 ) « وما رؤى إبليس يوماً أصغر ولا أدحر ولا أغيظ من يوم عرفة لما يرى من نزول الرحمة إلا ما رؤي يوم بدر » فإن قلت : هلا قيل لا غالباً لكم كما يقال : لا ضارباً زيداً عندنا؟ قلت : لو كان ( لكم ) مفعولاً لغالب ، بمعنى : لا غالباً إياكم لكان الأمر كما قلت؛ لكنه خبر تقديره : لا غالب كائن لكم .
إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)
{ إِذْ يَقُولُ المنافقون } بالمدينة { والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } يجوز أن يكون من صفة المنافقين ، وأن يراد الذين هم على حرف ليسوا بثابتي الأقدام في الإسلام . وعن الحسن : هم المشركون { غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ } يعنون أنّ المسلمين اغتروا بدينهم وأنهم يتقوّون به وينصرون من أجله ، فخرجوا وهم ثلاثمائة وبضعة عشر إلى زهاء ألف ، ثم قال جواباً لهم { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَإِنَّ الله عَزِيزٌ } غالب يسلط القليل الضعيف على الكثير القوي .
وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51)
{ وَلَوْ تَرَى } ولو عاينت وشاهدت؛ لأن «لو» تردّ المضارع إلى معنى الماضي؛ كما تردّ «إن» الماضي إلى معنى الاستقبال . و { إِذْ } نصب على الظرف وقرىء : «يتوفى» بالياء والتاء و { الملائكة } رفعها بالفعل و { يَضْرِبُونَ } حال منهم ، ويجوز أن يكون في { يَتَوَفَّى } ضمير الله عز وجل ، و { الملائكة } مرفوعة بالابتداء ، و { يَضْرِبُونَ } خبر . وعن مجاهد : وأدبارهم : استاههم ، ولكن الله كريم يكنى ، وإنما خصوهما بالضرب . لأنّ الخزي والنكال في ضربهما أشدّه ، وبلغني عن أهل الصين أن عقوبة الزاني عندهم أن يصبر ، ثم يعطي الرجل القوي البطش شيئاً عمل من حديد كهيئة الطبق فيه رزانة وله مقبض ، فيضربه على دبره ضربه واحد بقوّته فيجمد في مكانه . وقيل : يضربون ما أقبل منهم وما أدبر { وَذُوقُواْ } معطوف على { يَضْرِبُونَ } على إرادة القول : أي ويقولون ذوقوا { عَذَابَ الحريق } أي مقدمة عذاب النار . أو وذوقوا عذاب الآخرة : بشارة لهم به . وقيل : كانت معهم مقامع من حديد ، كلما ضربوا بها التهبت النار أو ويقال لهم يوم القيامة : ذوقوا . وجواب { لَوْ } محذوف : أي لرأيت أمراً فظيعاً منكراً { ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } يحتمل أن يكون من كلام الله ومن كلام الملائكة ، و { ذلك } رفع بالابتداء و { بِمَا قَدَّمَتْ } خبره { وَأَنَّ الله } عطف عليه ، أي ذلك العذاب بسببين : بسبب كفركم ومعاصيكم وبأن الله { لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ } لأن تعذيب الكفار من العدل كإثابة المؤمنين . وقيل : ظلام للتكثير لأجل العبيد أو لأن العذاب من العظم بحيث لولا الاستحقاق لكان المعذب بمثله ظلاماً بليغ الظلم متفاقمه .
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54)
الكاف في محل الرفع : أي دأب هؤلاء مثل دأب آل فرعون . ودأبهم : عادتهم وعملهم الذي دأبوا فيه : أي داوموا عليه وواظبوا . و { كَفَرُواْ } تفسير لدأب آل فرعون . و { ذلك } إشارة إلى ما حل بهم ، يعني ذلك العذاب أو الانتقام بسبب أن الله لم ينبغ له ولم يصحّ في حكمته أن يغير نعمته عند قوم { حتى يُغَيّرُواْ مَا } بهم من الحال . فإن قلت : فما كان من تغيير آل فرعون ومشركي مكة حتى غير الله نعمته عليهم؟ ولم تكن لهم حال مرضية فيغيروها إلى حال مسخوطة قلت : كما تغير الحال المرضية إلى المسخوطة ، تغير الحال المسخوطة إلى أسخط منها ، وأولئك كانوا قبل بعثة الرسول إليهم كفرة عبدة أصنام ، فلما بعث إليهم بالآيات البينات فكذبوه وعادوه وتحزبوا عليه ساعين في إراقة دمه ، غيروا حالهم إلى أسوإ مما كانت ، فغير الله ما أنعم به عليهم من الإمهال وعاجلهم بالعذاب { وَأَنَّ الله سَمِيعٌ } لما يقول مكذبو الرسل { عَلِيمٌ } بما يفعلون { كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ } تكرير للتأكيد . وفي قوله : { بآيات رَبّهِمْ } زيادة دلالة على كفران النعم وجحود الحق . وفي ذكر الإغراق بيان للأخذ بالذنوب { وَكُلٌّ كَانُواْ ظالمين } وكلهم من غرقى القبط وقتلى قريش كانوا ظالمين أنفسهم بالكفر والمعاصي .
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)
{ الذين كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } أي أصروا على الكفر ولجوا فيه ، فلا يتوقع منهم إيمان وهم بنو قريظة ، عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يمالئوا عليه فنكثوا بأن أعانوا مشركي مكة بالسلاح وقالوا : نسينا وأخطأنا ، ثم عاهدهم فنكثوا ومالوا معهم يوم الخندق ، وانطلق كعب بن الأشرف إلى مكة فحالفهم { الذين عاهدت مِنْهُمْ } بدل من الذين كفروا ، أي الذين عاهدتهم من الذين كفروا جعلهم شر الدواب ، لأن شر الناس الكفار ، وشر الكفار المصرون منهم ، وشر المصرين الناكثون للعهود { وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ } لا يخافون عاقبة الغدر ولا يبالون ما فيه من العار والنار { فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِى الحرب } فإما تصادفنهم وتظفرن بهم { فَشَرّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ } ففرق عن محاربتك ومناصبتك بقتلهم شر قتلة والنكاية فيهم ، من وراءهم من الكفرة ، حتى لا يجسر عليك بعدهم أحد ، اعتباراً بهم واتعاظاً بحالهم وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه «فشرذ» بالذال المعجمة بمعنى : ففرق ، وكأنه مقلوب «شذر» من قولهم ( ذهبوا شذر مذر ) ، ومنه : الشذر : المتلقط من المعدن لتفرّقه وقرأ أبو حيوة «من خلفهم» ومعناه : فافعل التشريد من ورائهم ، لأنه إذا شرد الذين وراءهم فقد فعل التشريد في الوراء وأوقعه فيه؛ لأن الوراء جهة المشردين ، فإذا جعل الوراء ظرفاً للتشريد فقد دلّ على تشريد من فيه ، فلم يبق فرق بين القراءتين { لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } لعلّ المشردين من ورائهم يتعظون .
وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)
{ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ } معاهدين { خِيَانَةً } ونكثا بأمارات تلوح لك { فانبذ إِلَيْهِمْ } فاطرح إليهم العهد { على سَوَاء } على طريق مستو قصد ، وذلك أن تظهر لهم نبذ العهد وتخبرهم إخباراً مكشوفاً بينا أنك قطعت ما بينك وبينهم ، ولا تناجزهم الحرب وهم على توهم بقاء العهد فيكون ذلك خيانة منك { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين } فلا يكن منك إخفاء نكث العهد والخداع وقيل : على استواء في العلم بنقض العهد . وقيل على استواء في العداوة . والجار والمجرور في موضع الحال ، كأنه قيل : فانبذ إليهم ثابتاً على طريق قصد سوى ، أو حاصلين على استواء في العلم أو العداوة ، على أنها حال من النابذ والمنبوذ إليهم معاً .
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59)
{ سَبَقُواْ } أفلتوا وفاتوا من أن يظفر بهم { إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ } إنهم لا يفوتون ولا يجدون طالبهم عاجزاً عن إدراكهم وقرىء : أنهم بالفتح بمعنى : لأنهم ، كل واحدة من المكسورة والمفتوحة تعليل إلاَّ أنَّ المكسورة على طريقة الاستئناف والمفتوحة تعليل صريح وقرىء : «يعجزون» بالتشديد وقرأ ابن محيضن : «يعجزون» ، بكسر النون وقرأ الأعمش «ولا تحسبِ الذين كفروا» بكسر الباء وبفتحها على حذف النون الخفيفة وقرأ حمزة : «ولا يحسبن» بالياء على أن الفعل للذين كفروا وقيل فيه : أصله أن سبقوا ، فحذفت أن ، كقوله : { وَمِنْ ءاياته يُرِيكُمُ البرق } [ الروم : 24 ] واستدل عليه بقراءة ابن مسعود رضي الله عنه : «أنهم سبقوا» . وقيل : وقع الفعل على أنهم لا يعجزون ، على أن «لا» صلة ، وسبقوا في محل الحال ، بمعنى سابقين أي مفلتين هاربين . وقيل معناه : ولا يحسبنهم الذين كفروا سبقوا ، فحذف الضمير لكونه مفهوماً . وقيل : ولا يحسبن قبيل المؤمنين الذين كفروا سبقوا . وهذه الأقاويل كلها متمحلة ، وليست هذه القراءة التي تفرد بها حمزة بنيرة . وعن الزهري أنها نزلت فيمن أفلت من فل المشركين .
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)
{ مِن قُوَّةٍ } من كل ما يتقوى به في الحرب من عددها . وعن عقبة بن عامر :
( 429 ) سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر : " ألا إن القوة الرمي " قالها ثلاثاً . ومات عقبة عن سبعين قوساً في سبيل الله . وعن عكرمة : هي الحصون ، والرباط : اسم للخيل التي تربط في سبيل الله . ويجوز أن يسمى بالرباط الذي هو بمعنى المرابطة ، ويجوز أن يكون جمع ربيط كفصيل وفصال وقرأ الحسن «ومن ربط الخيل» بضم الباء وسكونها جمع رباط . ويجوز أن يكون قوله : { وَمِن رّبَاطِ الخيل } تخصيصاً للخيل من بين ما يتقوى به ، كقوله : { وَجِبْرِيلَ وميكال } [ البقرة : 98 ] وعن ابن سيرين رحمه الله : أنه سئل عمن أوصى بثلث ماله في الحصون؟ فقال : يشتري به الخيل ، فترابط في سبيل الله ويغزي عليها ، فقيل له : إنما أوصى في الحصون ، فقال : ألم تسمع قول الشاعر :
أَنَّ الْحُصُونَ الْخَيْلُ لاَ مَدَرُ الْقُرَى ... { تُرْهِبُونَ } قرىء بالتخفيف والتشديد وقرأ ابن عباس ومجاهد رضي الله عنهما «تخزون» والضمير في { بِهِ } راجع إلى ما استطعتم { عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ } هم أهل مكة { وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ } هم اليهود ، وقيل : المنافقون وعن السدي : هم أهل فارس ، وقيل : كفرة الجن ، وجاء في الحديث :
( 430 ) " إن الشيطان لا يقرب صاحب فرس ولا داراً فيها فرس عتيق " وروي :
( 431 ) أنّ صهيل الخيل يرهب الجن .
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)
جنح له وإليه : إذا مال . والسلم تؤنث تأنيث نقيضها وهي الحرب قال :
السِّلْمُ تَأْخُذُ مِنْهَا مَا رَضِيتَ بِه ... وَالْحَرْبُ يَكْفِيكَ مِنْ أَنْفَاسِهَا جُرَعُ
وقرىء بفتح السين وكسرها . وعن ابن عباس رضي الله عنه أن الآية منسوخة بقوله تعالى : { قاتلوا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله } [ التوبة : 29 ] وعن مجاهد بقوله : { فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] والصحيح أن الأمر موقوف على ما يرى فيه الإمام صلاح الإسلام وأهله من حرب أو سلم ، وليس بحتم أن يقاتلوا أبداً ، أو يجابوا إلى الهدنة أبداً وقرأ الأشهب العقيلي : «فاجنح» بضم النون { وَتَوَكَّلْ عَلَى الله } ولا تخف من إبطانهم المكر في جنوحهم إلى السلم ، فإنّ الله كافيك وعاصمك من مكرهم وخديعتهم . قال مجاهد ، يريد قريظة .
وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)
{ فَإِنَّ حَسْبَكَ الله } فإن محسبك الله : قال جرير :
إنِّي وَجَدّتُ مِنَ الْمَكَارِمِ حَسْبَكُم ... أَنْ تَلْبَسُوا خَزَّ الثِّيَابِ وَتَشْبَعُوا
{ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } التأليف بين قلوب من بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآيات الباهرة ، لأنّ العرب - لما فيهم من الحمية والعصبية ، والإنطواء على الضغينة في أدنى شىء وإلقائه بين أعينهم إلى أن ينتقموا - لا يكاد يأتلف منهم قلبان ، ثم ائتلفت قلوبهم على اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واتحدوا ، وأنشؤا يرمون عن قوس واحدة ، وذلك لما نظم الله من ألفتهم وجمع من كلمتهم ، وأحدث بينهم من التحاب والتوادّ ، وأماط عنهم من التباغض والتماقت ، وكلفهم من الحب في الله والبغض في الله ، ولا يقدر على ذلك إلا من يملك القلوب . فهو يقلبها كما شاء . ويصنع فيها ما أراد ، وقيل : هم الأوس والخزرج ، كان بينهم من الحروب والوقائع ما أهلك سادتهم ورؤسائهم ودق جماجمهم ، ولم يكن لبغضائهم أمد ومنتهى ، وبينهما التجاور الذي يهيج الضغائن ويديم التحاسد والتنافس ، وعادة كل طائفتين كانتا بهذه المثابة أن تتجنب هذه ما آثرته أختها وتكرهه وتنفر عنه ، فأنساهم الله تعالى ذلك كله حتى اتفقوا على الطاعة وتصافوا وصاروا أنصاراً وعادوا أعواناً ، وما ذاك إلا بلطيف صنعه وبليغ قدرته .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)
{ وَمَنِ اتبعك } الواو بمعنى مع وما بعده منصوب ، تقول : حسبك وزيداً درهم ، ولا تجرّ؛ لأنّ عطف الظاهر المجرور على المكنى ممتنع قال :
فَحَسْبُكَ وَالضَّحَّاكَ عَضْبٌ مُهَنَّدُ ... والمعنى : كفاك وكفى أتباعك من المؤمنين الله ناصراً أو يكون في محل الرفع : أي كفاك الله وكفاك المؤمنون ، وهذه الآية نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال ، وعن ابن عباس رضي الله عنه نزلت في إسلام عمر رضي الله عنه ، وعن سعيد بن جبير : أنه أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة وثلاثون رجلاً وست نسوة ثم أسلم عمر ، فنزلت .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)
التحريض : المبالغة في الحث على الأمر من الحرض ، وهو أن ينهكه المرض ويتبالغ فيه حتى يشفى على الموت ، أو أن تسميه حرضاً : وتقول له : ما أراك إلا حرضاً في هذا الأمر وممرضاً فيه ، ليهيجه ويحرّك منه . ويقال : حركه وحرضه وحرصه وحرشه وحربه ، بمعنى ، وقرىء «حرص» ، بالصاد غير المعجمة ، حكاها الأخفش ، من الحرص ، وهذه عدة من الله وبشارة بأن الجماعة من المؤمنين إن صبروا غلبوا عشرة أمثالهم من الكفار بعون الله تعالى وتأييده ، ثم قال : { بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } أي بسبب أنَّ الكفار قوم جهلة يقاتلون على غير احتساب وطلب ثواب كالبهائم ، فيقل ثباتهم ويعدمون لجهلهم بالله نصرته ويستحقون خذلانه ، خلاف من يقاتل على بصيرة ومعه ما يستوجب به النصر والإظهار من الله تعالى . وعن ابن جريج كان عليهم أن لا يفروا ويثبت الواحد منهم للعشرة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث حمزة رضي الله عنه في ثلاثين راكباً ، فلقي أبا جهل في ثلاثمائة راكب . قيل : ثم ثقل عليهم ذلك وضجوا منه ، وذلك بعد مدّة طويلة ، فنسخ وخفف عنهم بمقاومة الواحد الاثنين ، وقيل : كان فيهم قلة في الابتداء ، ثم لما كثروا بعد نزل التخفيف . وقرىء «ضعفاً» ، بالفتح والضم ، كالمكث والمكث ، والفقر والفقر . وضعفاً : جمع ضعيف . وقرىء الفعل المسند إلى المائة بالتاء والياء في الموضعين ، والمراد بالضعف : الضعف في البدن . وقيل : في البصيرة والاستقامة في الدين ، وكانوا متفاوتين في ذلك فإن قلت : لم كرّر المعنى الواحد وهو مقاومة الجماعة لأكثر منها مرّتين قبل التخفيف وبعده؟ قلت : للدلالة على أن الحال مع القلة والكثرة واحدة لا تتفاوت؛ لأن الحال قد تتفاوت بين مقاومة العشرين المائتين والمائة الألف ، وكذلك بين مقاومة المائة المائتين والألف الألفين .
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)
وقرىء : «للنبي» ، على التعريف وأسارى . ويثخن ، بالتشديد . ومعنى الإثخان : كثرة القتل والمبالغة فيه ، من قولهم : أثخنته الجراحات إذا أثبتته حتى تثقل عليه الحركة . وأثخنه المرض إذا أثقله من الثخانة التي هي الغلظ والكثافة ، يعني حتى يذل الكفر ويضعفه بإشاعة القتل في أهله ، ويعز الإسلام ويقويه بالاستيلاء والقهر . ثم الأسر بعد ذلك . ومعنى { مَا كَانَ } ما صح له وما استقام ، وكان هذا يوم بدر ، فلما كثر المسلمون نزل { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء } [ محمد : 4 ] وروي :
( 432 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أتي بسبعين أسيراً فيهم العباس عمه وعقيل بن أبي طالب ، فاستشار أبا بكر رضي الله عنه فيهم فقال : قومك وأهلك استبقهم لعلّ الله أن يتوب عليهم ، وخذ منهم فدية تقوي بها أصحابك . وقال عمر رضي الله عنه : كذبوك وأخرجوك فقدّمهم واضرب أعناقهم ، فإنّ هؤلاء أئمة الكفر ، وإن الله أغناك عن الفداء : مكن علياً من عقيل ، وحمزة من العباس ، ومكني من فلان لنسيب له ، فلنضرب أعناقهم . فقال صلى الله عليه وسلم : " إنّ الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن ، وإن الله ليشدّد قلوب رجال حتى تكون أشدّ من الحجارة ، وإنّ مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال : " { فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ إبراهيم : 36 ] " ومثلك يا عمر مثل نوح ، قال : " { رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الارض مِنَ الكافرين دَيَّاراً } [ نوح : 26 ] ثم قال لأصحابه : " أنتم اليوم عالة فلا يفلتن أحد منكم إلا بفداء أو ضرب عنق " وروي : أنه قال لهم :
( 433 ) إن شئتم قتلتموهم ، وإن شئتم فاديتموهم ، واستشهد منكم بعدّتهم ، فقالوا : بل نأخذ الفداء ، فاستشهدوا بأحد ، وكان فداء الأسارى عشرين أوقية ، وفداء العباس أربعين أوقية . وعن محمد بن سيرين : كان فداؤهم مائة أوقية ، والأوقية أربعون درهماً وستة دنانير . وروي :
( 434 ) أنهم لما أخذوا الفداء نزلت الآية ، فدخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو وأبو بكر يبكيان فقال : يا رسول الله أخبرني ، فإن وجدت بكاء بكيت ، وإن لم أجد بكاء تباكيت ، فقال : أبكي على أصحابك في أخذهم الفداء ، ولقد عرض عليّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة - لشجرة قريبة منه - وروى أنه قال :
( 435 ) لو نزل عذاب من السماء لما نجا منه غير عمر وسعد بن معاذ ، رضي الله عنهما ، لقوله كان الإثخان في القتل أحب إليّ { عَرَضَ الدنيا } حطامها ، سمى بذلك لأنه حدث قليل اللبث ، يريد الفداء { والله يُرِيدُ الأخرة } يعني ما هو سبب الجنة من إعزاز الإسلام بالإثخان في القتل وقرىء : «يريدون» ، بالياء وقرأ بعضهم «والله يريد الآخرة»؛ بجرّ الآخرة على حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه على حاله كقوله :
أَكُلَّ امْرِىءٍ تَحْسبِينَ امْرَأ ... وَنَارٍ تَوَقَّدُ بِاللَّيْلِ نَارَاً
ومعناه والله يريد عرض الآخرة . على التقابل ، يعني ثوابها { والله عَزِيزٌ } يغلب أولياءه على أعدائه ويتكنون منهم قتلاً وأسراً ويطلق لهم الفداء ، ولكنه { حَكِيمٌ } يؤخر ذلك إلى أن يكثروا ويعزوا وهم يعجلون { لَّوْلاَ كتاب مّنَ الله سَبَقَ } لولا حكم منه سبق إثباته في اللوح وهو أنه لا يعاقب أحد بخطأ ، وكان هذا خطأ في الاجتهاد؛ لأنهم نظروا في أن استبقاءهم ربما كان سبباً في إسلامهم وتوبتهم ، وأن فداءهم يتقوى به على الجهاد في سبيل الله ، وخفي عليهم أن قتلهم أعز للإسلام وأهيب لمن وراءهم وأفل لشوكتهم . وقيل : كتابه أنه سيحل لهم الفدية التي أخذوها . وقيل : إن أهل بدر مغفور لهم . وقيل : إنه لا يعذب قوماً إلا بعد تأكيد الحجة وتقديم النهي ، ولم يتقدم نهي عن ذلك { فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ } روي : أنهم أمسكوا عن الغنائم ولم يمدّوا أيديهم إليها ، فنزلت . وقيل : هو إباحة للفداء ، لأنه من جملة الغنائم { واتقوا الله } فلا تقدموا على شيء لم يعهد إليكم فيه .
فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)
فإن قلت : ما معنى الفاء؟ قلت : التسبيب والسبب محذوف ، معناه : قد أبحت لكم الغنائم فكلوا مما غنمتم . وحلالاً : نصب على الحال من المغنوم ، أو صفة للمصدر ، أي أكلاً حلالاً ، وقوله : { إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } معناه أنكم إذا اتقيتموه بعد ما فرط منكم من استباحة الفداء قبل أن يؤذن لكم فيه ، غفر لكم ورحمكم وتاب عليكم .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70)
{ فى أَيْدِيكُم } في ملكتكم ، كأن أيديكم قابضة عليهم وقرىء : «من الأسرى» { فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً } خلوص إيمان وصحة نية { يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ } من الفداء ، إما أن يخلفكم في الدنيا أضعافه ، أو يثيبكم في الآخرة وفي قراءة الأعمش . «يثبكم خيراً» وعن العباس رضي الله عنه أنه قال :
( 436 ) كنت مسلماً ، لكنهم استكرهوني . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن يكن ما تذكره حقاً فالله يجزيك " فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا أوكان أحد الذين ضمنوا إطعام أهل بدر وخرج بالذهب لذلك . وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للعباس :
( 437 ) " افد ابني أخيك عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث ، فقال : يا محمد ، تركتني أتكفف قريشاً ما بقيت . فقال له : فأين الذهب الذي دفعته إلى أمّ الفضل وقت خروجك من مكة وقلت لها : لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا ، فإن حدث بي حدث فهو لك ولعبد الله وعبيد الله والفضل؛ فقال العباس وما يدريك؟ قال : «أخبرني به ربي» " قال العباس : فأنا أشهد أنك صادق ، وأن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله ، والله لم يطلع عليه أحد إلا الله ، ولقد دفعته إليها في سواد الليل ، ولقد كنت مرتاباً في أمرك ، فأمّا إذ أخبرتني بذلك فلا ريب . قال العباس رضي الله عنه : فأبدلني الله خيراً من ذلك ، لي الآن عشرون عبداً ، إن أدناهم ليضرب في عشرين ألفاً ، وأعطاني زمزم ما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة ، وأنا أنتظر المغفرة من ربي . وروي :
( 438 ) أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مال البحرين ثمانون ألفاً ، فتوضأ لصلاة الظهر وما صلى حتى فرقه ، وأمر العباس أن يأخذ منه ما قدر على حمله ، وكان يقول : هذا خير مما أخذ مني وأرجو المغفرة ) وقرأ الحسن وشيبة : «مما أُخِذَ منكم» ، على البناء للفاعل .
وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)
{ وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ } نكث ما بايعوك عليه من الإسلام والردّة واستحباب دين آبائهم { فَقَدْ خَانُواْ الله مِن قَبْلُ } في كفرهم به ونقض ما أخذ على كل عاقل من ميثاقه { فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ } كما رأيتم يوم بدر فسيمكن منهم إن أعادوا الخيانة . وقيل : المراد بالخيانة منع ما ضمنوا من الفداء .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)
الذين هاجروا : أي فارقوا أوطانهم وقومهم حباً لله ورسوله : هم المهاجرون . والذي آووهم إلى ديارهم ونصروهم على أعدائهم : هم الأنصار { بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } أي يتولى بعضهم بعضاً في الميراث ، وكان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالهجرة والنصرة دون ذوي القرابات ، حتى نسخ ذلك بقوله تعالى { وَأُوْلُو الارحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ } وقرىء : «من ولايتهم» ، بالفتح والكسر أي من توليهم في الميراث . ووجه الكسر أن تولى بعضهم بعضاً شبه بالعمل والصناعة ، كأنه بتوليه صاحبه يزاول أمراً ويباشر عملاً { فَعَلَيْكُمُ النصر } فواجب عليكم أن تنصروهم على المشركين { إِلاَّ على قَوْمٍ } منهم { بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ } عهد فإنه لا يجوز لكم نصرهم عليهم لأنهم لا يبتدؤون بالقتال ، إذا الميثاق مانع من ذلك .
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)
{ والذين كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } ظاهره إثبات الموالاة بينهم كقوله تعالى في المسلمين { أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } [ الأنفال : 72 ] ومعناه : نهى المسلمين عن موالاة الذين كفروا وموارثتهم وإيجاب مباعدتهم ومصارمتهم وإن كانو أقارب ، وأن يتركوا يتوارثون بعضهم بعضاً ثم قال : { إِلاَّ تَفْعَلُوهُ } أي إلا تفعلوا ما أمرتكم به من تواصل المسلمين وتولى بعضهم بعضاً حتى في التوارث ، تفضيلاً لنسبة الإسلام على نسبة القرابة ولم تقطعوا العلائق بينكم وبين الكفار . ولم تجعلوا قرابتهم كلا قرابة تحصل فتنة في الأرض ومفسدة عظيمة ، لأنّ المسلمين ما لم يصيروا يداً واحدة على الشرك ، كان الشرك ظاهراً والفساد زائداً وقرىء «كثير» بالثاء .
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
{ أُوْلئِكَ هُمُ المؤمنون حَقّاً } لأنهم صدقوا إيمانهم وحققوه ، بتحصيل مقتضياته من هجرة الوطن ومفارقة الأهل والانسلاخ من المال لأجل الدين ، وليس بتكرار لأن هذه الآية واردة للثناء عليهم والشهادة لهم مع الموعد الكريم ، والأولى للأمر بالتواصل { والذين ءامَنُواْ مِن بَعْدُ } يريد اللاحقين بعد السابقين إلى الهجرة ، كقوله : { والذين جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا ولإخواننا الذين سَبَقُونَا بالإيمان } [ الحشر : 10 ] ألحقهم بهم وجعلهم منهم تفضلاً منه وترغيباً { وَأُوْلُو الارحام } أولو القرابات أولى بالتوارث ، وهو نسخ للتوارث بالهجرة والنصرة { فِى كتاب الله } تعالى في حكمه وقسمته . وقيل في اللوح . وقيل في القرآن ، وهو آية المواريث وقد استدل به أصحاب أبي حنيفة رحمه الله على توريث ذوي الأرحام .
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 439 ) « من قرأ سورة الأنفال وبراءة فأنا شفيع له يوم القيامة ، وشاهد أنه برىء من النفاق وأعطى عشر حسنات بعد كل منافق ومنافقة ، وكان العرش وحملته يستغفرون له أيام حياته في الدنيا » .
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2)
{ بَرَآءَةٌ } خبر مبتدأ محذوف أي هذه براءة و { مِّنَ } لابتداء الغاية ، متعلق بمحذوف وليس بصلة ، كما في قولك : برئت من الدين . والمعنى : هذه براءة واصلة من الله ورسوله { إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ } كما يقال : كتاب من فلان إلى فلان . ويجوز أن يكون { بَرَآءَةٌ } مبتدأ لتخصيصها بصفتها ، والخبر { إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ } كما تقول : رجل من بني تميم في الدار وقرىء «براءة» بالنصب ، على : اسمعوا براءة وقرأ أهل نجران «مِن الله» بكسر النون والوجه الفتح مع لام التعريف لكثرته . والمعنى أن الله ورسوله قد برئا من العهد الذي عاهدتم به المشركين وأنه منبوذ إليهم . فإن قلت : لم علقت البراءة بالله ورسوله والمعاهدة بالمسلمين؟ قلت : قد أذن الله في معاهدة المشركين أوّلاً فاتفق المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاهدوهم ، فلما نقضوا العهد أوجب الله تعالى النبذ إليهم ، فخوطب المسلمون بما [ تجّدد ] من ذلك فقيل لهم : اعلموا أنّ الله ورسوله قد برئا مما عاهدتم به المشركين . وروي أنهم عاهدوا المشركين من أهل مكة وغيرهم من العرب ، فنكثوا إلا ناساً منهم وهم بنو ضمرة وبنو كنانة فنبذ العهد إلى الناكثين ، وأمروا أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر آمنين أين شاؤا لا يتعرض لهم ، وهي الأشهر الحرم في قوله : { فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم } وذلك لصيانة الأشهر الحرم من القتل والقتال فيها .
( 441 ) وكان نزولها سنة تسع من الهجرة وفتح مكة سنة ثمان ، وكان الأمير فيها عتاب بن أسيد ، فأمّر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه على موسم سنة تسع ، ثم أتبعه علياً رضي الله عنه راكب العضباء ليقرأها على أهل الموسم ، فقيل له : لو بعثت بها إلى أبي بكر رضي الله عنه؟ فقال : لا يؤدي عني إلا رجل مني ، فلما دنا عليّ سمع أبو بكر الرغاء ، فوقف ، وقال : هذا رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما لحقه قال : أمير أو مأمور؟ قال : مأمور . وروي :
( 442 ) أنّ أبا بكر لما كان ببعض الطريق هبط جبريل عليه السلام فقال : يا محمد ، لا يبلغنّ رسالتك إلا رجل منك ، فأرسل علياً ، فرجع أبو بكر رضي الله عنهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أشيء نزل من السماء قال : " نعم ، فسر وأنت على الموسم ، وعليّ ينادي بالآي " فلما كان قبل التروية خطب أبو بكر رضي الله عنه وحدثهم عن مناسكهم ، وقام علي رضي الله عنه يوم النحر عند جمرة العقبة فقال : يا أيها الناس ، إني رسول رسول الله إليكم . فقالوا : بماذا؟ فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية .
وعن مجاهد رضي الله عنه ثلاثة عشرة آية ، ثم قال : أمرت بأربع : « أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة ، وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده » فقالوا عند ذلك يا علي ، أبلغ ابن عمك أنا قد نبذنا العهد وراء ظهورنا ، وأنه ليس بيننا وبينه عهد إلا طعن بالرماح وضرب بالسيوف . وقيل : إنما أمر أن لا يبلغ عنه إلا رجل منه؛ لأنّ العرب عادتها في نقض عهودها أن يتولى ذلك على القبيلة رجل منها ، فلو تولاه أبو بكر رضي الله عنه . لجاز أن يقولوا هذا خلاف ما يعرف فينا من نقض العهود فأزيحت علتهم بتولية ذلك علياً رضي الله عنه فإن قلت : الأشهر الأربعة ما هي؟ قلت : عن الزهري رضي الله عنه أنّ براءة نزلت في شوال ، فهي أربعة أشهر : شوّال ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرّم ، وقيل هي عشرون من ذي الحجة ، والمحرّم ، وصفر ، وشهر ربيع الأوّل ، وعشر من شهر ربيع الآخر . وكانت حرماً؛ لأنهم أُومنوا فيها وحرّم قتلهم وقتالهم . أو على التغليب؛ لأنّ ذا الحجة والمحرّم منها . وقيل : لعشر من ذي القعدة إلى عشر من ربيع الأول؛ لأنّ الحج في تلك السنة كان في ذلك الوقت للنسيء الذي كان فيهم ، ثم صار في السنة الثانية من ذي الحجة . فإن قلت ما وجه إطباق أكثر العلماء على جواز مقاتلة المشركين في الأشهر الحرم وقد صانها الله تعالى عن ذلك؟ قلت : قالوا قد نسخ وجوب الصيانة وأبيح قتال المشركين فيها { غَيْرُ مُعْجِزِي الله } لا تفوتونه وإن أمهلكم ، وهو مخزيكم : أي مذلكم في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالعذاب .
وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3)
{ وَأَذَانٌ } ارتفاعه كارتفاع براءة على الوجهين ، ثم الجملة معطوفة على مثلها ، ولا وجه لقول من قال : إنه معطوف على براءة ، كما لا يقال : عمرو معطوف على زيد ، في قولك : زيد قائم ، وعمرو قاعد ، والأذان : بمعنى الإيذان وهو الإعلام ، كما أنّ الأمان والعطاء بمعنى الإيمان والإعطاء . فإن قلت : أي فرق بين معنى الجملة الأولى والثانية؟ قلت : تلك إخبار بثبوت البراءة . وهذه إخبار بوجوب الإعلام بما ثبت . فإن قلت : لم علقت البراءة بالذين عوهدوا من المشركين وعلق الأذان بالناس؟ قلت : لأنّ البراءة مختصة بالمعاهدين والناكثين منهم ، وأمّا الأذان فعام لجميع الناس من عاهد ومن لم يعاهد ، ومن نكث من المعاهدين ومن لم ينكث { يَوْمَ الحج الأكبر } يوم عرفة . وقيل : يوم النحر؛ لأنّ فيه تمام الحج ومعظم أفعاله ، من الطواف . والنحر ، والحلق ، والرمي . وعن علي رضي الله عنه : أن رجلاً أخذ بلجام دابته فقال : ما الحج الأكبر؟ قال يومك هذا . خل عن دابتي . وعن ابن عمر رضي الله عنهما :
( 443 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع فقال " هذا يوم الحج الأكبر " ووصف الحج بالأكبر لأنّ العمرة تسمى الحج الأصغر ، أو جعل الوقوف بعرفة هو الحج الأكبر لأنه معظم واجباته؛ لأنه إذا فات فات الحج ، وكذلك إن أريد به يوم النحر؛ لأن ما يفعل فيه معظم أفعال الحج - فهو الحج الأكبر . وعن الحسن رضي الله عنه : سمي يوم الحج الأكبر لاجتماع المسلمين والمشركين فيه وموافقته لأعياد أهل الكتاب ، ولم يتفق ذلك قبله ولا بعده ، فعظم على قلب كل مؤمن وكافر . حذفت الباء التي هي صلة الأذان تخفيفاً وقرىء «إنّ الله» بالكسر لأنّ الأذان في معنى القول { وَرَسُولُهُ } عطف على المنوي في { بَرِىء } أو على محل «إن» المكسورة واسمها وقرىء بالنصب ، عطفاً على اسم إن أو لأنّ الواو بمعنى مع : أي بريء معه منهم ، وبالجرّ على الجوار . وقيل : على القسم ، كقوله : لعمرك . ويحكى أن أعرابياً سمع رجلاً يقرؤها فقال : إن كان الله بريئاً من رسوله فأنا منه بريء ، فلببه الرجل إلى عمر ، فحكى الأعرابي قراءته ، فعندها أمر عمر رضي الله عنه بتعلم العربية { فَإِن تُبْتُمْ } من الكفر والغدر { فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ } عن التوبة ، أو ثبتم على التولي والإعراض عن الإسلام والوفاء فاعلموا أنكم غير سابقين الله تعالى ولا فائتين أخذه وعقابه .
إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)
فإن قلت : مم استثنى قوله { إِلاَّ الذين عاهدتم } ؟ قلت : وجهه أن يكون مستثنى من قوله : { فَسِيحُواْ فِى الأرض } [ التوبة : 2 ] لأن الكلام خطاب للمسلمين . ومعناه : براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين . فقولوا لهم سيحوا ، إلا الذين عاهدتم منهم ثم لم ينقضوا فأتموا إليهم عهدهم والاستثناء بمعنى الاستدراك ، وكأنه قيل بعد أن أمروا في الناكثين ، ولكن الذين لم ينكثوا فأتموا إليهم عهدهم ، ولا تجروهم مجراهم ، ولا تجعلوا الوفيَّ كالغادر { إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين } يعني أنّ قضية التقوى أن لا يسوّي بين القبيلين فاتقوا الله في ذلك { لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً } لم يقتلوا منكم أحداً ولم يضروكم قط { وَلَمْ يظاهروا } ولم يعاونوا { عَلَيْكُمْ } عدوّاً ، كما عدت بنو بكر على خزاعة عيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وظاهرتهم قريش بالسلاح حتى وفد عمرو بن سالم الخزاعي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنشد :
لاَهُمَّ إنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّدَا ... حِلْفَ أبِينَا وَأبِيكَ الأتْلَدَا
إن قُرَيْشاً أَخْلَفُوكَ الْمَوْعِدَا ... وَنَقَضُوا ذِمَامكَ الْمُؤَكَّدَا
هُمْ بَيَّتُونَا بِالْحَطِيمِ هُجَّدا ... وَقَتَلُونَا رُكَّعاً وَسُجَّدَا
فقال عليه الصلاة والسلام :
( 444 " لا نصرت إن لم أنصركم " وقرىء : «لم ينقضوكم» ، بالضاد معجمة أي لم ينقضوا عهدكم . ومعنى { فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ } فأدّوه إليهم تامّاً كاملاً . قال ابن عباس رضي الله عنه : بقي لحيّ من كنانة من عهدهم تسعة أشهر ، فأتمّ إليهم عهدهم .
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
انسلخ الشهر ، كقولك انجرد الشهر ، وسنة جرداء . و { الاشهر الحرم } التي أبيح فيها للناكثين أن يسيحوا { فاقتلوا المشركين } يعني الذين نقضوكم وظاهروا عليكم { حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } من حلٍّ أو حرم { وَخُذُوهُمْ } وأسروهم . والأخيذ : الأسير { واحصروهم } وقيدوهم وامنعوهم من التصرف في البلاد . وعن ابن عباس رضي الله عنه : حصرهم أن يحال بينهم وبين المسجد الحرام { كُلَّ مَرْصَدٍ } كلّ ممرّ مجتاز ترصدونهم به ، وانتصابه على الظرف كقوله { لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صراطك المستقيم } [ الأعراف : 16 ] . { فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ } فأطلقوا عنهم بعد الأسر والحصر . أو فكفوا عنهم ولا تتعرّضوا لهم كقوله :
خَلِّ السَّبِيلَ لِمَنْ يَبْنِي الْمَنَارَ بِهِ ... وعن ابن عباس رضي الله عنه : دعوهم وإتيان المسجد الحرام { إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } يغفر لهم ما سلف من الكفر والغدر .
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)
{ أَحَدٌ } مرتفع بفعل الشرط مضمراً يفسره الظاهر ، تقديره : وإن استجارك أحد استجارك ولا يرتفع بالابتداء ، لأنّ «إن» من عوامل الفعل لا تدخل على غيره . والمعنى : وإن جاءك أحد من المشركين بعد انقضاء الأشهر لا عهد بينك وبينه ولا ميثاق ، فاستأمنك ليسمع ما تدعو إليه من التوحيد والقرآن ، وتبين ما بعثت له فأمّنه { حتى يَسْمَعَ كَلاَمَ الله } ويتدبره ويطلع على حقيقة الأمر { ثُمَّ أَبْلِغْهُ } بعد ذلك داره التي يأمن فيها إن لم يسلم . ثم قاتله إن شئت من غير غدر ولا خيانة ، وهذا الحكم ثابت في كل وقت . وعن الحسن رضي الله عنه : هي محكمة إلى يوم القيامة . وعن سعيد بن جبير : جاء رجل من المشركين إلى عليّ رضي الله عنه فقال : إن أراد الرجل منا أن يأتي محمداً بعد انقضاء هذا الأجل يسمع كلام الله ، أو يأتيه لحاجة قتل؟ قال : لا ، لأنّ الله تعالى يقول : { وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ المشركين استجارك } الآية . وعن السُدّي والضحاك رضي الله عنهما : هي منسوخة بقوله تعالى : { فاقتلوا المشركين } [ التوبة : 5 ] . { ذلك } أي ذلك الأمر ، يعني الأمر بالإجارة في قوله : { فَأَجِرْهُ } . { ب } سبب { أَنَّهُمْ } قوم جهلة { لاَّ يَعْلَمُونَ } ما الإسلام وما حقيقة ما تدعو إليه ، فلا بدّ من إعطائهم الأمان حتى يسمعوا ويفهموا الحق .
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)
{ كَيْفَ } استفهام في معنى الاستنكار والاستبعاد؛ لأن يكون للمشركين عهد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم أضداد وغرة صدورهم ، يعني : محال أن يثبت لهؤلاء عهد فلا تطمعوا في ذلك ولا تحدثوا به نفوسكم ولا تفكروا في قتلهم . ثم استدرك ذلك بقوله : { إِلاَّ الذين عاهدتم } أي ولكن الذين عاهدتم منهم { عِندَ المسجد الحرام } ولم يظهر منهم نكث كبني كنانة وبني ضمرة ، فتربصوا أمرهم ولا تقاتلوهم { فَمَا استقاموا لَكُمْ } على العهد { فاستقيموا لَهُمْ } على مثله { إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين } يعني أن التربص بهم من أعمال المتقين { كَيْفَ } تكرار لاستبعاد ثبات المشركين على العهد ، وحذف الفعل لكونه معلوماً كما قال :
وَخَبَّرْتُمَانِي أَنَّمَا الْمَوْتُ بِالْقُرَى ... فَكَيْف وَهَاتَا هَضْبَة وَقَليبُ
يريد : فكيف مات . أي : كيف يكون لهم عهد { و } حالهم أنهم { إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ } بعد ما سبق لهم من تأكيد الأيمان والمواثيق ، لم ينظروا في حلف ولا عهد ولم يبقوا عليكم { لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ } لا يراعوا حلفاً . وقيل : قرابة . وأنشد لحسان رضي الله عنه :
لَعَمْرُكَ إنَّ إلَّكَ مِنْ قُرَيْش ... كَإلِّ السَّقْبِ مِنْ رَأَلِ النَّعَامِ
وقيل : { إِلاًّ } إلها وقرىء : «إيلا» ، بمعناه وقيل : جبرئيل ، وجبرئل ، من ذلك . وقيل : منه اشتق الآل بمعنى القرابة ، كما اشتقت الرحم من الرحمن ، والوجه ان اشتقاق الإلّ بمعنى الحلف ، لأنهم إذا تماسحوا وتحالفوا رفعوا به أصواتهم وشهروه ، من الأل وهو الجؤار ، وله أليل : أي أنين يرفع به صوته . ودعت ألليها : إذا ولولت ، ثم قيل لكل عهد وميثاق : إلّ . وسميت به القرابة ، لأن القرابة عقدت بين الرجلين ما لا يعقده الميثاق { يُرْضُونَكُم } كلام مبتدأ في وصف حالهم من مخالفة الظاهر الباطن ، مقرّر لاستبعاد الثبات منهم على العهد . وإباء القلوب مخالفة ما فيها من الأضغان ، لما يجرونه على ألسنتهم من الكلام الجميل { وَأَكْثَرُهُمْ فاسقون } متمرّدون خلعاء لا مروءة تزعهم ، ولا شمائل مرضية تردعهم ، كما يوجد ذلك في بعض الكفرة ، من التفادي عن الكذب والنكث ، والتعفف عما يثلم العرض ويجرّ أحدوثة السوء .
اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)
{ اشتروا } استبدلوا { بآيات الله } بالقرآن والإسلام { ثَمَناً قَلِيلاً } وهو اتباع الأهواء والشهوات { فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ } فعدلوا عنه أو صرفوا غيرهم . وقيل : هم الأعراب الذين جمعهم أبو سفيان وأطعمهم { هُمُ المعتدون } المجاوزون الغاية في الظلم والشرارة .
فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11)
{ فَإِن تَابُواْ } عن الكفر ونقض العهد { فَإِخوَانُكُمْ فِى الدين } فهم إخوانكم على حذف المبتدأ ، كقوله تعالى : { فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم } [ الأحزاب : 5 ] ، { وَنُفَصّلُ الايات } ونبينها . وهذا اعتراض ، كأنه قيل : وإن من تأمّل تفصيلها فهو العالم بعثاً وتحريضاً على تأمّل ما فصل من أحكام المشركين المعاهدين ، وعلى المحافظة عليها .
وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)
{ وَطَعَنُواْ فِى دِينِكُمْ } وثلبوه وعابوه { فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر } فقاتلوهم ، فوضع أئمة الكفر موضع ضميرهم : إشعاراً بأنهم إذا نكثوا في حال الشرك تمرّداً وطغياناً وطرحاً لعادات الكرام الأوفياء من العرب ، ثم آمنوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وصاروا إخواناً للمسلمين في الدين ، ثم رجعوا فارتدوا عن الإسلام ونكثوا ما بايعوا عليه من الإيمان والوفاء بالعهود ، وقعدوا يطعنون في دين الله ويقولون ليس دين محمدبشيء ، فهم أئمة الكفر وذوو الرياسة والتقدم فيه ، لا يشق كافر غبارهم . وقالوا : إذا طعن الذمي في دين الإسلام طعناً ظاهراً ، جاز قتله؛ لأن العهد معقود معه على أن لا يطعن ، فإذا طعن فقد نكث عهده وخرج من الذمّة { إِنَّهُمْ لا أيمان لَهُمْ } جمع يمين : «وقرىء : لا إيمان لهم ، أي لا إسلام لهم» أو لا يعطون الأمان بعد الردّة والنكث ، ولا سبيل إليه ، فإن قلت : كيف أثبت لهم الإيمان في قوله : { وَإِن نَّكَثُواْ أيمانهم } ثم نفاها عنهم؟ قلت : أراد أيمانهم التي أظهروها ثم قال لا إيمان لهم على الحقيقة ، وأيمانهم ليست بأيمان . وبه استشهد أبو حنيفة رحمه الله على أن يمين الكافر لا تكون يميناً . وعند الشافعي رحمه الله : يمينهم يمين . وقال : معناه أنهم لا يوفون بها ، بدليل أنه وصفها بالنكث { لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ } متعلق بقوله { فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر } أي ليكن غرضكم في مقاتلتهم بعد ما وجد منهم ما وجد من العظائم أن تكون المقاتلة سبباً في انتهائهم عما هم عليه . وهذا من غاية كرمه وفضله وعوده على المسيء بالرحمة كلما عاد . فإن قلت : كيف لفظ أئمة؟ قلت : همزة بعدها همزة بين بين ، أي : بين مخرج الهمزة والياء . وتحقيق الهمزتين قراءة مشهورة ، وإن لم تكن بمقبولة عند البصريين . وأما التصريح بالياء فليس بقراءة . ولا يجوز أن تكون قراءة . ومن صرح بها فهو لاحن محرف .
أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)
{ أَلاَ تقاتلون } دخلت الهمزة على { لاَ تقاتلون } تقريراً بانتفاء المقاتلة . ومعناه : الحضّ عليها على سبيل المبالغة { نَّكَثُواْ أيمانهم } التي حلفوها في المعاهدة { وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرسول } من مكة حين تشاوروا في أمره بدار الندوة ، حتى أذن الله تعالى له في الهجرة ، فخرج بنفسه { وَهُم بَدَءوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي : وهم الذين كانت منهم البداءة بالمقاتلة ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءهم أولاً بالكتاب المنير وتحداهم به ، فعدلوا عن المعارضة لعجزهم عنها إلى القتال فهم البادءون بالقتال والبادىء أظلم ، فما يمنعكم من أن تقاتلوهم بمثله ، وأن تصدموهم بالشرّ كما صدموكم؟ وبخهم بترك مقاتلتهم وحضّهم عليها ، ثم وصفهم بما يوجب الحضّ عليها . ويقرر أن من كان في مثل صفاتهم من نكث العهد وإخراج الرسول والبدء بالقتال من غير موجب ، حقيق بأن لا تترك مصادمته ، وأن يوبخ من فرط فيها { أَتَخْشَوْنَهُمْ } تقرير بالخشية منهم وتوبيخ عليها { فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ } فتقاتلوا أعداءه { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } يعني أن قضية الإيمان الصحيح أن لا يخشى المؤمن إلاّ ربه ، ولا يبالي بمن سواه ، كقوله تعالى : { وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ الله } [ الأحزاب : 39 ] .
قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)
[ و ] لما وبخهم الله على ترك القتال ، جرّد لهم الأمر به فقال : { قاتلوهم } ووعدهم - ليثبت قلوبهم ويصحح نياتهم - أنه يعذبهم بأيديهم قتلاً ، ويخزيهم أسراً ، ويوليهم النصر والغلبة عليهم { وَيَشْفِ صُدُورَ } طائفة من المؤمنين ، وهم خزاعة ، قال ابن عباس رضي الله عنه : هم بطون من اليمن وسبأ قدموا مكة فأسلموا ، فلقوا من أهلها أذى شديداً ، فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكون إليه ، فقال : " أبشروا فإن الفرج قريب " { وَيُذْهِبْ غَيْظَ } قلوبكم لما لقيتم منهم من المكروه ، وقد حصّل الله لهم هذه المواعيد كلها ، فكان ذلك دليلاً على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحة نبوته { وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَاء } ابتداء كلام ، وإخبار بأن بعض أهل مكة يتوب عن كفره ، وكان ذلك أيضاً ، فقد أسلم ناس منهم وحسن إسلامهم ، وقرىء : «ويتوب» بالنصب بإضمار «أن» ودخول التوبة في جملة ما أجيب به الأمر من طريق المعنى { والله عَلِيمٌ } يعلم ما سيكون كما يعلم ما قد كان { حَكِيمٌ } لا يفعل إلاّ ما اقتضته الحكمة .
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)
{ أَمْ } منقطعة ، ومعنى الهمزة فيها التوبيخ على وجود الحسبان . والمعنى : أنكم لا تتركون على ما أنتم عليه ، حتى يتبين الخلص منكم ، وهم الذين جاهدوا في سبيل الله لوجه الله ، ولم يتخذوا وليجة أي بطانة ، من الذين يضادّون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين رضوان الله عليهم { وَلَمَّا } معناها التوقع ، وقد دلّت على أن تبين ذلك ، وإيضاحه متوقع كائن ، وأن الذين لم يخلصوا دينهم لله يميز بينهم وبين المخلصين . وقوله : { وَلَمْ يَتَّخِذُواْ } معطوف على جاهدوا ، داخل في حيز الصلة ، كأنه قيل : ولما يعلم الله المجاهدين منكم المخلصين غير المتخذين وليجة من دون الله . والوليجة : فعيلة من ولج ، كالدخيلة من دخل . والمراد بنفي العلم نفي المعلوم ، كقول القائل . ما علم الله مني ما قيل فيّ ، يريد : ما وجد ذلك مني .
مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17)
{ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ } ما صحّ لهم ما استقام { أَن يَعْمُرُواْ مساجد الله } يعني المسجد الحرام ، لقوله : { وَعِمَارَةَ المسجد الحرام } وأما القراءة بالجمع ففيها وجهان ، أحدهما : أن يراد المسجد الحرام ، وإنما قيل مساجد لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها؛ فعامره كعامر جميع المساجد ، ولأن كل بقعة منه مسجد . والثاني : أن يراد جنس المساجد ، وإذا لم يصلحوا لأن يعمروا جنسها ، دخل تحت ذلك أن لا يعمروا المسجد الحرام الذي هو صدر الجنس ومقدمته وهو آكد ، لأنّ طريقته طريقة الكناية ، كما لو قلت : فلان لا يقرأ كتب الله ، كنت أنفى لقراءته القرآن من تصريحك بذلك . و { شاهدين } حال من الواو في { يَعْمُرُواْ } والمعنى : ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين : عمارة متعبدات الله ، مع الكفر بالله وبعبادته . ومعنى شهادتهم على أنفسهم بالكفر : ظهور كفرهم وأنهم نصبوا أصنامهم حول البيت ، وكانوا يطوفون عراة ويقولون : لا نطوف عليها بثياب قد أصبنا فيها المعاصي ، وكلما طافوا بها شوطاً سجدوا لها . وقيل : هو قولهم لبيك لا شريك لك إلاّ شريك هو لك تملكه وما ملك . وقيل :
( 445 ) قد أقبل المهاجرون والأنصار على أسارى بدر فعيروهم بالشرك ، فطفق عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يوبخ العباس بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطيعة الرحم ، وأغلظ له في القول . فقال العباس : تذكرون مساوينا وتكتمون محاسننا . فقال : أو لكم محاسن؟ قالوا : نعم ونحن أفضل منكم أجراً . إنا لنعمر المسجد الحرام . ونحجب الكعبة ، ونسقي الحجيج ونفك العاني ، فنزلت { حَبِطَتْ أعمالهم } التي هي العمارة والحجابة والسقاية وفك العناة . وإذا هدم الكفر أو الكبيرة الأعمال الثابتة الصحيحة إذا تعقبها ، فما ظنك بالمقارن . وإلى ذلك أشار في قوله : { شاهدين } حيث جعله حالاً عنهم ودلّ على أنهم قارنون بين العمارة والشهادة بالكفر على أنفسهم في حال واحدة ، وذلك محال غير مستقيم .
إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)
{ إِنَّمَا يَعْمُرُ مساجد الله } وقرىء بالتوحيد : أي : إنما تستقيم عمارة هؤلاء وتكون معتداً بها ، والعمارة تتناول رمّ ما استرمّ منها ، وقمها وتنظيفها ، وتنويرها بالمصابيح ، وتعظيمها ، واعتيادها للعبادة والذكر ، ومن الذكر درس العلم ، بل هو أجلّه وأعظمه ، وصيانتها مما لم تبن له المساجد من أحاديث الدنيا فضلاً عن فضول الحديث ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 446 ) « ( يأتي في آخر الزمان ناس من أمتي يأتون المساجد فيقعدون فيها حلقاً ذكرهم الدنيا وحب الدنيا لا تجالسوهم فليس لله بهم حاجة » وفي الحديث :
( 447 ) « الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش » وقال عليه [ الصلاة و ] السلام :
( 448 ) « قال الله تعالى : إن بيوتي في أرضي المساجد ، وإن زوّاري فيها عمارها ، فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي ، فحق على المزور أن يكرم زائره » وعنه عليه [ الصلاة و ] السلام :
( 449 ) « من ألف المسجد ألفه الله » وقال عليه [ الصلاة و ] السلام :
( 450 ) « إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان » وعن أنس رضي الله عنه :
( 451 ) ( من أسرج في مسجد سراجاً لم تزل الملائكة وحملة العرش تستغفر له ما دام في ذلك المسجد ضوؤه ) . فإن قلت : هلاّ ذكر الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قلت : لما علم وشهر أن الإيمان بالله تعالى قرينته الإيمان بالرسول عليه [ الصلاة و ] السلام لاشتمال كلمة الشهادة والأذان ، والإقامة وغيرها عليهما مقترنين مزدوجين كأنهما شيء واحد غير منفك أحدهما عن صاحبه ، انطوى تحت ذكر الإيمان بالله تعالى الإيمان بالرسول عليه [ الصلاة و ] السلام . وقيل : دلّ عليه بذكر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة؟ فإن قلت : كيف قيل : { وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله } والمؤمن يخشى المحاذير ، ولا يتمالك أن لا يخشاها؟ قلت : هي الخشية والتقوى في أبواب الدين ، وأن لا يختار على رضا الله غيره لتوقع مخوف ، وإذا اعترضه أمران : أحدهما حقّ الله ، والآخر حق نفسه أن يخاف الله ، فيؤثر حقّ الله على حقّ نفسه . وقيل : كانوا يخشون الأصنام ويرجونها ، فأريد نفي تلك الخشية عنهم { فعسى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين } تبعيد للمشركين عن مواقف الاهتداء وحسن لأطماعهم من الانتفاع بأعمالهم التي استعظموها وافتخروا بها وأملوا عاقبتها ، بأن الذين آمنوا وضموا إلى إيمانهم العمل بالشرائع مع استشعار الخشية والتقوى ، اهتداؤهم دائر بين عسى ولعل ، فما بال المشركين يقطعون أنهم مهتدون ونائلون عند الله الحسنى . وفي هذا الكلام ونحوه لطف للمؤمنين في ترجيح الخشية على الرجاء ورفض الاغترار بالله تعالى .
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)
السقاية والعمارة : مصدران من سقى وعمر ، كالصيانة والوقاية . ولا بدّ من مضاف محذوف تقديره { أَجَعَلْتُمْ } أهل { سِقَايَةَ الحاج وَعِمَارَةَ المسجد الحرام كَمَنْ ءامَنَ بالله } تصدقه قراءة ( ابن الزبير وأبي وجزة السعدي ) وكان من القراء : «سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام» ، والمعنى إنكار أن يشبه المشركون بالمؤمنين ، وأعمالهم المحبطة بأعمالهم المثبتة ، وأن يسوي بينهم . وجعل تسويتهم ظلماً بعد ظلمهم بالكفر . وروي أن المشركين قالوا لليهود : نحن سقاة الحجيج وعمار المسجد الحرام ، أفنحن أفضل أم محمد وأصحابه؟ فقالت لهم اليهود : أنتم أفضل . وقيل : إن علياً رضي الله عنه قال للعباس :
( 452 ) يا عمّ ألا تهاجرون ، ألا تلحقون برسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال : ألست في أفضل من الهجرة : أسقي حاجّ بيت الله ، وأعمر المسجد الحرام ، فلما نزلت قال العباس : ما أراني إلاّ تارك سقايتنا . فقال عليه السلام : " أقيموا على سقايتكم فإن لكم فيها خيراً " .
الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)
هم { أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ الله } من أهل السقاية والعمارة عندكم { وَأُوْلَئِكَ هُمُ الفائزون } لا أنتم والمختصون بالفوز دونكم وقرىء : «يبشرهم» بالتخفيف والتثقيل ، وتنكير المبشر به لوقوعه وراء صفة الواصف وتعريف المعرّف . وعن ابن عباس رضي الله عنه : هي في المهاجرين خاصة .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)
وكان قبل فتح مكة من آمن لم يتمّ إيمانه إلاّ بأن يهاجر ويصارم أقاربه الكفرة ويقطع موالاتهم . فقالوا : يا رسول الله : إن نحن اعتزلنا من خالفنا في الدين قطعنا آباءنا وأبناءنا وعشائرنا وذهبت تجارتنا وهلكت أموالنا وخربت ديارنا ، وبقينا ضائعين ، فنزلت ، فهاجروا ، فجعل الرجل يأتيه ابنه أو أبوه أو أخوه أو بعض أقاربه فلا يلتفت إليه ولا ينزله ولا ينفق عليه ، ثم رخص لهم بعد ذلك . وقيل : نزلت في التسعة الذين ارتدّوا ولحقوا بمكة فنهى الله تعالى عن موالاتهم . وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم :
( 453 ) " لا يطعم أحدكم طعم الإيمان حتى يحبّ في الله ويبغض في الله : حتى يحبّ في الله أبعد الناس ، ويبغض في الله أقرب الناس إليه " وقرىء : «عشيرتكم» و «عشيراتكم» . وقرأ الحسن : وعشائركم { فَتَرَبَّصُواْ حتى يَأْتِىَ الله بِأَمْرِهِ } وعبيد عن ابن عباس هو فتح مكة وعن الحسن هي عقوبة عاجلة أو آجلة . وهذه آية شديدة لا ترى أشدّ منها ، كأنها تنعى على الناس ما هم عليه من رخاوة عقد الدين ، واضطراب حبل اليقين ، فلينصف أورع الناس وأتقاهم من نفسه ، هل يجد عنده من التصلب في ذات الله والثبات على دين الله ما يستحب له دينه على الآباء والأبناء والإخوان والعشائر والمال والمساكن وجميع حظوظ الدنيا ويتجرد منها لأجله؟ أم يزوي الله عنه أحقر شيء منها بمصلحته فلا يدري أي طرفيه أطول؟ ويغويه الشيطان عن أجلّ حظ من حظوظ الدين ، فلا يبالي كأنما وقع على أنفه ذباب فطيره؟ .
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)
مواطن الحرب : مقاماتها ومواقفها قال :
وَكَمْ مَوْطِنٍ لَوْلاَيَ طُحْتَ كَمَا هَوَى ... بِأَجْرَامِهِ مِنْ قُلَّةِ النِّيقِ مُنْهَوِي
وامتناعه من الصرف لأنه جمع ، وعلى صيغة لم يأت عليها واحد ، والمواطن الكثيرة : وقعات بدر ، وقريظة ، والنضير ، والحديبية ، وخيبر ، وفتح مكة . فإن قلت : كيف عطف الزمان والمكان وهو { يَوْمٍ حُنَيْنٍ } على المواطن؟ قلت : معناه وموطن يوم حنين . أو في أيام مواطن كثيرة ويوم حنين . ويجوز أن يراد بالموطن الوقت كمقتل الحسين ، على أنّ الواجب أن يكون يوم حنين منصوباً بفعل مضمر لا بهذالظاهر . وموجب ذلك أنّ قوله : { إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ } بدل من يوم حنين ، فلو جعلت ناصبه هذا الظاهر لم يصحّ؛ لأنّ كثرتهم لم تعجبهم في جميع تلك المواطن ولم يكونوا كثيراً في جميعها ، فبقي أن يكون ناصبه فعلاً خاصاً به ، إلاّ إذا نصبت «إذ» بإضمار «اذكر» وحنين : وادٍ بين مكة والطائف ، كانت فيه الوقعة بين المسلمين وهم اثنا عشر ألفاً الذين حضروا فتح مكة ، منضماً إليهم ألفان من الطلقاء ، وبين هوازن وثقيف وهم أربعة آلاف فيمن ضامّهم من إمداد سائر العرب فكانوا الجمّ الغفير ، فلما التقوا قال رجل من المسلمين : لن نغلب اليوم من قلة ، فساءت رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل قائلها رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل : أبو بكر رضي الله عنه وذلك قوله : { إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ } فاقتتلوا قتالاً شديداً وأدركت المسلمين كلمة الإعجاب بالكثرة ، وزلّ عنهم أن الله هو الناصر لا كثرة الجنود فانهزموا حتى بلغ فلهم مكة ، وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده وهو ثابت في مركزه لا يتحلحل ، ليس معه إلاّ عمه العباس رضي الله تعالى عنه آخذ بلجام دابته وأبو سفيان بن الحرث ابن عمه ، وناهيك بهذه الوحدة شهادة صدق على تناهي شجاعته ورباطة جأشه صلى الله عليه وسلم ، وما هي إلاّ من آيات النبوة وقال :
( 454 ) يا ربي ائتني بما وعدتني . وقال صلى الله عليه وسلم للعباس - وكان صيتاً : صيح بالناس ، فنادى الأنصار فخذاً فخذاً ، ثم نادى : يا أصحاب الشجرة ، با أصحاب البقرة ، فكرّوا عنقاً واحداً وهم يقولون : لبيك لبيك ، ونزلت الملائكة عليهم البياض على خيول بلق ، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قتال المسلمين فقال : هذا حين حمي الوطيس ، ثم أخذ كفاً من تراب فرماهم به ثم قال : انهزموا ورب الكعبة فانهزموا ، قال العباس : لكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض . خلفهم على بغلته { بِمَا رَحُبَتْ } ما مصدرية ، والباء بمعنى مع ، أي مع رحبها وحقيقته ملتبسة برحبها ، على أن الجارّ والمجرور في موضع الحال ، كقولك : دخلت عليه بثياب السفر ، أي ملتبساً بها لم أحلها ، تعني مع ثياب السفر .
والمعنى : لا تجدون موضعاً تستصلحونه لهربكم إليه ونجاتكم لفرط الرعب ، فكأنها ضاقت عليكم { ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } ثم انهزمتم { سَكِينَتَهُ } رحمته التي سكنوا بها وآمنوا { وَعَلَى المؤمنين } الذين انهزموا . وقيل : هم الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وقع الهرب { وَأَنزَلَ جُنُوداً } يعني الملائكة ، وكانوا ثمانية آلاف ، وقيل : خمسة آلاف ، وقيل : ستة عشر ألفاً { وَعذَّبَ الذين كَفَرُواْ } بالقتل والأسر ، وسبي النساء والذراري { ثُمَّ يَتُوبُ الله } أي يسلم بعد ذلك ناس منهم . وروي :
( 455 ) أنّ ناساً منهم جاؤوا فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام وقالوا : يا رسول الله ، أنت خير الناس وأبرّ الناس وقد سبي أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا . قيل : سبي يومئذ ستة آلاف نفس ، وأخذ من الأبل والغنم ما لا يحصى ، فقال : إنّ عندي ما تروون ، إنّ خير القول أصدقه ، اختاروا : إما ذراريكم ونساءكم ، وإما أموالكم . قالوا : ما كنا نعدل بالأحساب شيئاً ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : «إنّ هؤلاء جاؤوا مسلمين ، وإنا خيرناهم بين الذراري والأموال فلم يعدلوا بالأحساب شيئاً ، فمن كان بيده شيء طابت نفسه أن يردّه فشأنه ، ومن لا فليعطنا وليكن قرضاً علينا حتى نصيب شيئاً فنعطيه مكانه . قالوا : رضينا وسلمنا ، فقال : إني لا أدري لعل فيكم من لا يرضى ، فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إلينا ، فرفعت إليه العرفاء أن قد رضوا .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)
النجس : مصدر ، يقال : نجس نجساً ، قذر قذراً . ومعناه ذوو نجس؛ لأنّ معهم الشرك الذي هو بمنزلة النجس ، ولأنّهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات ، فهي ملابسة لهم . أو جعلوا كأنهم النجاسة بعينها ، مبالغة في وصفهم بها . وعن ابن عباس رضي الله عنه : أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير . وعن الحسن : من صافح مشركاً توضأ . وأهل المذاهب على خلاف هذين القولين . وقرىء : «نجس» ، بكسر النون وسكون الجيم على تقدير حذف الموصوف ، كأنه قيل : إنما المشركون جنس نجس ، أو ضرب نجس ، وأكثر ما جاء تابعاً لرجس وهو تخفيف نجس ، نحو : كبد ، في كبد { فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام } فلا يحجوا ولا يعتمروا ، كما كانوا يفعلون في الجاهلية { بَعْدَ عَامِهِمْ هذا } بعد حجّ عامهم هذا وهو عام تسع من الهجرة حين أمّر أبو بكر على الموسم ، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه ، ويدلّ عليه قول عليّ كرمّ الله وجهه حين نادى ببراءة : ألا لا يحجّ بعد عامنا هذا مشرك ، ولا يمنعون من دخول الحرم والمسجد الحرام وسائر المساجد عندهم . وعند الشافعي : يمنعون من المسجد الحرام خاصة . وعند مالك : يمنعون منه ومن غيره من المساجد . وعن عطاء رضي الله عنه أن المراد بالمسجد الحرام : الحرم ، وأن على المسلمين أن لا يمكنوهم من دخوله ، ونهي المشركين أن يقربوه راجع إلى نهي المسلمين عن تمكينهم منه ، وقيل : المراد أن يمنعوا من تولي المسجد الحرام والقيام بمصالحة ويعزلوا عن ذلك { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً } أي فقراً بسبب منع المشركين من الحجّ وما كان لكم في قدومهم عليكم من الأرفاق والمكاسب { فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ } من عطائه أو من تفضله بوجه آخر ، فأرسل السماء عليهم مدراراً ، فأغزر بها خيرهم وأكثر ميرهم وأسلم أهل تبالة وجرش فحملوا إلى مكة الطعام وما يعاش به ، فكان ذلك أعود عليهم مما خافوا العيلة لفواته . وعن ابن عباس رضي الله عنه : ألقى الشيطان في قلوبهم الخوف وقال : من أين تأكلون؟ فأمرهم الله بقتال أهل الكتاب وأغناهم بالجزية . وقيل : بفتح البلاد والغنائم . وقرىء : «عائلة» ، بمعنى المصدر كالعافية ، أو حالاً عائلة . ومعنى قوله : { إِن شَاء } الله . إن أوجبت الحكمة إغناءكم وكان مصلحة لكم في دينكم { إِنَّ الله عَلِيمٌ } بأحوالكم { حَكِيمٌ } لا يعطي ولا يمنع إلاّ عن حكمة وصواب .
قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)
{ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب } بيان للذين مع ما في حيزه . نفى عنهم الإيمان بالله لأنّ اليهود مثنية والنصارى مثلثة . وإيمانهم باليوم الآخر لأنهم فيه على خلاف ما يجب وتحريم ما حرّم الله ورسوله؛ لأنهم لا يحرمون ما حرم في الكتاب والسنة . وعن أبي روق : لا يعملون بما في التوراة والإنجيل ، وأن يدينوا دين الحق ، وأن يعتقدوا دين الإسلام الذي هو الحق وما سواه الباطل . وقيل : دين الله ، يقال : فلان يدين بكذا إذا اتخذه دينه ومعتقده . سميت جزية؛ لأنها طائفة مما على أهل الذمة أن يجزوه أي يقضوه ، أو لأنّهم يجزون بها من منّ عليهم بالإعفاء عن القتل { عَن يَدٍ } إما أن يراد يد المعطي أو الآخذ فمعناه على إرادة يد المعطي حتى يعطوها عن يد : أي عن يد مؤاتية غير ممتنعة لأنّ من أبى وامتنع لم يعط يده ، بخلاف المطيع المنقاد ، ولذلك قالوا : أعطى بيده . إذا انقاد وأصحب . ألا ترى إلى قولهم : نزع يده عن الطاعة ، كما يقال : خلع ربقة الطاعة عن عنقه ، أو حتى يعطوها عن يد إلى يد نقداً غير نسيئة ، لا مبعوثاً على يد أحد . ولكن عن يد المعطي إلى يد الأخذ ، وأما على إرادة يد الآخذ فمعناه حتى يعطوها عن يد قاهرة مستولية ، أو عن إنعام عليهم . لأنّ قبول الجزية منهم وترك أرواحهم لهم نعمة عظيمة عليهم { وَهُمْ صاغرون } أي تؤخذ منهم على الصغار والذل . وهو أن يأتي بها بنفسه ماشياً غير راكب ، ويسلمها وهو قائم - والمتسلم جالس ، وأن يتلتل تلتلة ويؤخذ بتلبيبه ، ويقال له : أدّ الجزية ، وإن كان يؤدّيها ويزخ في قفاه ، وتسقط بالإسلام عند أبي حنيفة ولا يسقط به خراج الأرض . واختلف فيمن تضرب عليه ، فعند أبي حنيفة : تضرب على كل كافر من ذمي ومجوسي وصابىء وحربي ، إلاّ على مشركي العرب وحدهم . روى الزهري :
( 456 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح عبدة الأوثان على الجزية ، إلاّ من كان من العرب وقال لأهل مكّة : « هل لكم في كلمة إذا قلتموها دانت لكم بها العرب وأدّت إليكم العجم الجزية » ، وعند الشافعي لا تؤخذ من مشركي العجم . والمأخوذ عند أبي حنيفة في أوّل سنة من الفقير الذي له كسب : اثنا عشر درهماً . ومن المتوسط في الغني : ضعفها ، ومن المكثر : ضعف الضعف ثمانية وأربعون ، ولا تؤخذ من فقير لا كسب له . وعند الشافعي : يؤخذ في آخر السنة من كل واحد دينار ، فقيراً كان أو غنياً ، كان له كسب أو لم يكن .
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)
{ عُزَيْرٌ ابن الله } مبتدأ وخبر ، كقوله : المسيح ابن الله ، وعزير : اسم أعجمي كعازر وعيزار وعزرائيل ، ولعجمته وتعريفه : امتنع صرفه . ومن نوّن فقد جعله عربياً . وأمّا قول من قال : سقوط التنوين للالتقاء الساكنين كقراءة من قرأ : «أحد الله» أو لأنّ الابن وقع وصفاً والخبر محذوف وهو معبودنا ، فتمحل عنه مندوحة ، وهو قول ناس من اليهود ممن كان بالمدينة ، وما هو بقول كلهم عن ابن عباس رضي الله عنه : جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم سلامُ بنِ مشْكم ونعمان بن أوفى وشاس بن قيس ومالك بن الصيف ، فقالوا ذلك . وقيل : قاله فنحاص . وسبب هذا القول أنّ اليهود قتلوا الأنبياء بعد موسى عليه السلام ، فرفع الله عنهم التوراة ومحاها من قلوبهم ، فخرج عزير وهو غلام يسيح في الأرض ، فأتاه جبريل عليه السلام فقال له : إلى أين تذهب؟ قال : أطلب العلم فحفظه التوراة . فأملاها عليهم عن ظهر لسانه لا يخرم حرفاً ، فقالوا ما جمع الله التوراة في صدره وهو غلام إلاّ لأنه ابنه . والدليل على أنّ هذا القول كان فيهم : أنّ الآية تليت عليهم ، فما أنكروا ولا كذبوا؛ مع تهالكهم على التكذيب . فإن قلت : كل قول يقال بالفم فما معنى قوله : { ذلك قَوْلُهُم بأفواههم } ؟ قلت : فيه وجهان : أحدهما : أن يراد أنه قول لا يعضده برهان ، فما هو إلاّ لفظ يفوهون به ، فارغ من معنى تحته كالألفاظ المهملة التي هي أجراس ونغم لا تدلّ على معان . وذلك أن القول الدال على معنى لفظه مقول بالفم ومعناه مؤثر في القلب . وما لا معنى له مقول بالفم لا غير . والثاني : أن يراد بالقول المذهب ، كقولهم : قول أبي حنيفة ، يريدون مذهبه وما يقول به ، كأنه قيل : ذلك مذهبهم ودينهم بأفواههم لا بقلوبهم ، لأنه لا حجة معه ولا شبهة حتى يؤثر في القلوب ، وذلك أنهم إذا اعترفوا أنه لا صاحبة له لم تبق شبهة في انتفاء الولد { يضاهون } لا بدّ فيه من حذف مضاف تقديره يضاهي قولهم قولهم ، ثم حذف المضاف وأقيم الضمير المضاف إليه مقامه؛ فانقلب مرفوعاً . والمعنى : أن الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى يضاهي قولهم قول قدمائهم ، يعني أنه كفر قديم فيهم غير مستحدث . أو يضاهي قول المشركين : الملائكة بنات الله تعالى الله عنه . وقيل : الضمير للنصارى ، أي يضاهي قولهم : المسيح ابن الله ، قول اليهود : عزير ابن الله ، لأنهم أقدم منهم . وقرىء : «يضاهؤن» بالهمز من قولهم : امرأة ضهيأ على فعيل : وهي التي ضاهأت الرجال في أنها لا تحيض وهمزتها مزيدة كما في عرقىء { قاتلهم الله } أي هم أحقاء بأن يقال لهم هذا ، تعجباً من شناعة قولهم ، كما يقال لقوم ركبوا شنعاء : قاتلهم الله ما أعجب فعلهم { أنى يُؤْفَكُونَ } كيف يصرفون عن الحق؟ .
اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)
اتخاذهم أرباباً : أنهم أطاعوهم في الأمر بالمعاصي وتحليل ما حرَّم الله وتحريم ما حلّله ، كما تطاع الأرباب في أوامرهم . ونحوه تسميه أتباع الشيطان فيما يوسوس به : عباده ، بل كانوا يعبدون الجنّ { ياأبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان } [ مريم : 44 ] وعن عديّ بن حاتم رضي الله عنه :
( 457 ) انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب ، فقال : " أليسوا يحرّمون ما أحلّ الله فتحرمونه ، ويحلّون ما حرّمه الله فتحلونه " ؟ قلت : بلى . قال : «فتلك عبادتهم» . وعن فضيل رضي الله عنه . ما أبالي أطعت مخلوقاً في معصية الخالق ، أو صليت لغير القبلة . وأمّا المسيح فحين جعلوه ابناً لله فقد أهلوه للعبادة . ألا ترى إلى قوله : { قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين } [ الزخرف : 81 ] . { وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إلها واحدا } أمرتهم بذلك أدلّة العقل والنصوص في الإنجيل والمسيح عليه السلام : أنه من يشرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنة { سبحانه } تنزيه له عن الإشراك به ، واستبعاد له . ويجوز أن يكون الضمير في { وَمَا أُمِرُواْ } للمتخذين أرباباً ، أي : وما أمر هؤلاء الذين هم عندهم أرباب إلاّ ليعبدوا الله ويوحدوه ، فكيف يصحّ أن يكونوا أرباباً وهم مأمورون مستعبدون مثلهم .
يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)
مثل حالهم في طلبهم أن يبطلوا نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم بالتكذيب ، بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم منبث في الآفاق ، يريد الله أن يزيده ويبلغه الغاية القصوى في الإشراق أو الإضاءة . ليطفئه بنفخة ويطمسه { لِيُظْهِرَهُ } ليظهر الرسول عليه السلام { عَلَى الدين كُلّهِ } على أهل الأديان كلهم . أو ليظهر دين الحق على كل دين . فإن قلت : كيف جاز ، أبى الله إلاّ كذا ، ولا يقال : كرهت أو أبغضت إلا زيداً؟ قلت : قد أجرى «أبى» مجرى «لم يرد» ألا ترى كيف قوبل { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ } بقوله : { ويأبى الله } وكيف أوقع موقع ولا يريد الله إلاّ أن يتمّ نوره .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)
معنى أكل الأموال على وجهين : إما أن يستعار الأكل للأخذ . ألا ترى إلى قولهم : أخد الطعام وتناوله . وإمّا على أن الأحوال يؤكل بها فهي سبب الأكل . ومنه قوله :
إنَّ لَنَا أَحْمِرَةً عِجَافَا ... يَأْكُلْنَ كُلَّ لَيْلَةٍ إكَافَا
يريد : علفاً يشترى بثمن إكاف . ومعنى أكلهم بالباطل : أنهم كانوا يأخذون الرشا في الأحكام ، والتخفيف والمسامحة في الشرائع { والذين يَكْنِزُونَ } يجوز أن يكون إشارة إلى الكثير من الأحبار والرهبان ، للدلالة على اجتماع خصلتين مذمومتين فيهم : أخذ البراطيل ، وكنز الأموال ، والضنّ بها عن الإنفاق في سبيل الخير . ويجوز أن يراد المسلمون الكانزون غير المنفقين ، ويقرن بينهم وبين المرتشين من اليهود والنصارى ، تغليظاً ودلالة على أن من يأخذ منهم السحت ، ومن لا يعطي منكم طيب ماله : سواء في استحقاق البشارة بالعذاب الأليم . وقيل : نسخت الزكاة آية الكنز . وقيل : هي ثابتة ، وإنما عني بترك الإنفاق في سبيل الله منع الزكاة . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 458 ) " ما أدّى زكاته فليس بكنز وإن كان باطناً ، وما بلغ أن يزكى فلم يزك فهو كنز وإن كان ظاهراً " وعن عمر رضي الله عنه أنّ رجلاً سأله عن أرض له باعها فقال : أحرز مالك الذي أخذت ، احفر له تحت فراش امرأتك . قال : أليس بكنز؟ قال : ما أدّى زكاته فليس بكنز وعن [ ابن ] عمر رضي الله عنهما : كل ما أدّيت زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين ، وما لم يؤدّ زكاته فهو الذي ذكر الله تعالى وإن كان على ظهر الأرض فإن قلت : فما تصنع بما روى سالم بن [ أبي ] الجعد رضي الله عنهم أنها لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 459 ) " تباً للذهب تباً للفضة " قالها ثلاثاً . فقالوا له : أيّ مال نتخذ؟ قال : " لساناً ذاكراً ، وقلباً خاشعاً ، وزوجة تعين أحدكم على دينه " وبقوله عليه الصلاة والسلام :
( 460 ) " من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها "
( 461 ) وتوفي رجل فوجد في مئزره دينار ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كية» وتوفي آخر فوجد في مئزره ديناران ، فقال : «كيتان» قلت : كان هذا قبل أن تفرض الزكاة ، فأمّا بعد فرض الزكاة ، فالله أعدل وأكرم من أن يجمع عبده مالاً من حيث أذن له فيه ، ويؤدّي عنه ما أوجب عليه فيه ، ثم يعاقبه . ولقد كان كثير من الصحابة كعبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله وعبيد الله رضي الله عنهم يقتنون ويتصرفون فيها ، وما عابهم أحد ممن أعرض عن القنية ، لأنّ الإعراض اختيار للأفضل ، وإلاّ دخل في الورع والزهد في الدنيا ، والاقتناء مباح موسع لا يذمّ صاحبه ، ولكل شيء حدّ .
وما روي عن علي رضي الله عنه : أربعة آلاف فما دونها نفقة ، فما زاد فهو كنز . كلام في الأفضل . فإن قلت : لم قيل : ولا ينفقونها ، وقد ذكر شيئان؟ قلت : ذهاباً بالضمير إلى المعنى دون اللفظ : لأن كل واحد منهما جملة وافية وعدة كثيرة ودنانير ودراهم ، فهو كقوله : { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا } وقيل : ذهب به إلى الكنوز ، وقيل : إلى الأموال . وقيل : معناه ولا ينفقونها والذهب ، كما أن معنى قوله :
فَإنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ ... وقيار كذلك . فإن قلت : لم خصّا بالذكر من بين سائر الأموال؟ قلت : لأنهما قانون التمول وأثمان الأشياء ، ولا يكنزهما إلاّ من فضلا عن حاجته ، ومن كثرا عنده حتى يكنزهما لم يعدم سائر أجناس المال ، فكان ذكر كنزهما دليلاً على ما سواهما ، فإن قلت : ما معنى قوله : { يُحْمَى عَلَيْهَا } ؟ وهلا قيل : تحمى ، من قولك : حمى الميسم وأحميته ، ولا تقول : أحميت على الحديد؟ قلت : معناه أن النار تحمى عليها ، أي توقد ذات حمى وحرّ شديد ، من قوله : { نَارٌ حَامِيَةٌ } [ القارعة : 11 ] ولو قيل : يوم تحمى ، لم يعط هذا المعنى . فإن قلت : فإذا كان الإحماء للنار ، فلم ذكر الفعل؟ قلت : لأنه مسند إلى الجار والمجرور ، أصله : يوم تحمى النار عليها ، فلما حذفت النار قيل : يحمى عليها ، لانتقال الإسناد عن النار إلى عليها ، كما تقول : رفعت القصة إلى الأمير ، فإن لم تذكر القصة قلت : رفع إلى الأمير وعن ابن عامر أنه قرأ : «تحمى» بالتاء . وقرأ أبو حيوة : «فيكوى» بالياء . فإن قلت : لم خصّت هذه الأعضاء؟ قلت : لأنهم لم يطلبوا بأموالهم - حيث لم ينفقوها في سبيل الله - إلاّ الأغراضَ الدنيوية ، ومن وجاهة عند الناس ، وتقدّم ، وأن يكون ماء وجوههم مصوناً عندهم ، يتلقون بالجميل ، ويحيون بالإكرام ، ويبجلون ويحتشمون ، ومن أكل طيبات يتضلعون منها وينفخون جنوبهم ، ومن لبس ناعمة من الثياب يطرحونها على ظهورهم ، كما ترى أغنياء زمانك هذه أغراضهم وطلباتهم من أموالهم ، لا يخطرون ببالهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 462 ) " ذهب أهل الدثور بالأجور " وقيل : لأنهم كانوا إذا أبصروا الفقير عبسوا ، وإذا ضمهم وإياه مجلس ازوروا عنه وتولوا بأركانهم وولوه ظهورهم . وقيل : معناه يكون على الجهات الأربع مقاديمهم ومآخيرهم وجنوبهم { هذا مَا كَنَزْتُمْ } على إرادة القول . وقوله : { لأَنفُسِكُمْ } أي كنزتموه لتنتفع به نفوسكم وتلتذ وتحصل لها الأغراض التي حامت حولها وما علمتم أنكم كنزتموه لتستضر به أنفسكم وتتعذب وهو توبيخ لهم { فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ } . وقرىء : «تكنزون» بضم النون أي وبال المال الذي كنتم تكنزونه أو وبال كونكم كانزين .
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)
{ فِى كتاب الله } فيما أثبته وأوجبه من حكمه ورآه حكمة وصواباً . وقيل في اللوح : { أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } ثلاثة سرد : ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم ، وواحد فرد وهو رجب . ومنه قوله عليه السلام في خطبته في حجة الوداع :
( 463 ) « ألا إنَّ الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق السموات والأرض » والسنة اثنا عشر شهراً : منها أربعة حرم ، ثلاث متواليات : ذو القعدة وذو الحجة ، والمحرّم . ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان . والمعنى : رجعت الأشهر إلى ما كانت عليه ، وعاد الحج في ذي الحجّة ، وبطل النسىء الذي كان في الجاهلية ، وقد وافقت حجّة الوداع ذا الحجّة ، وكان حجّة أبي بكر رضي الله عنه قبلها في ذي القعدة { ذلك الدين القيم } يعني أنّ تحريم الأشهر الأربعة هو الدين المستقيم ، دين إبراهيم وإسماعيل ، وكانت العرب قد تمسكت به وراثة منهما ، وكانوا يعظمون الأشهر الحرم ويحرّمون القتال فيها ، حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه أو أخيه لم يهجه ، وسموا رجباً : الأصم ومنصل الأسنة ، حتى أحدثت النسىء فغيروا { فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ } في الحرم { أَنفُسَكُمْ } أي لا تجعلوا حرامها حلالاً . وعن عطاء : تالله ما يحلّ للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الأشهر الحرم إلاّ أن يقاتلوا ، وما نسخت ، وعن عطاء الخراساني رضي الله عنه : أحلّت القتال في الأشهر الحرم براءة من الله ورسوله . وقيل : معناه لا تأتموا فيهن ، بياناً لعظم حرمتهن ، كما عظم أشهر الحجّ بقوله تعالى : { فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ } الآية [ البقرة : 197 ] وإن كان ذلك محرّماً في سائر الشهور { كَآفَّةً } حال من الفاعل أو المفعول { مَعَ المتقين } ناصر لهم ، حثّهم على التقوى بضمان النصر لأهلها .
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)
والنسىء : تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر ، وذلك أنهم كانوا أصحاب حروب وغارات ، فإذا جاء الشهر الحرام وهم محاربون شقّ عليهم ترك المحاربة ، فيحلّونه ويحرّمون مكانه شهر آخر ، حتى رفضوا تخصيص الأشهر الحرم بالتحريم ، فكانوا يحرّمون من شقّ شهور العام أربعة أشهر وذلك قوله تعالى : { لّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله } أي ليوافقوا العدّة التي هي الأربعة ولا يخالفوها وقد خالفوا التخصيص الذي هو أحد الواجبين . وربما زادوا في عدد الشهور فيجعلونها ثلاثة عشر أو أربعة عشر ليتسع لهم الوقت . ولذلك قال عزّ وعلا { إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْرا } [ التوبة : 36 ] يعني من غير زيادة زادوها . والضمير في : يحلونه ، ويحرّمونه للنسىء . أي إذا أحلّوا شهراً من الأشهر الحرم عاماً ، رجعوا فحرّموه في العام القابل ، وروي : أنه حدث ذلك في كنانة لأنهم كانوا فقراء محاويج إلى الغارة ، وكان جنادة بن عوف الكناني مطاعاً في الجاهلية ، وكان يقوم على جمل في الموسم فيقول بأعلى صوته : إنّ آلهتكم قد أحلّت لكم المحرم فأحلوه ، ثم يقوم في القابل فيقول : إنّ آلهتكم قد حرمت عليكم المحرم فحرموه . جعل النسىء زيادة في الكفر ، لأن الكافر كلما أحدث معصية ازداد كفراً ، { فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ } [ التوبة : 125 ] ، كما أن المؤمن إذا أحدث الطاعة ازداد إيماناً { فَزَادَتْهُمْ إيمانا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } [ التوبة : 124 ] . وقرىء : «يُضِل» على البناء للمفعول ، و «يَضَل» بفتح الياء والضاد ، و { يُضَلُّ } على أن الفعل لله عزّ وجلّ . وقرأ الزهري : «ليوطئوا» بالتشديد . والنسىء مصدر نسأه إذا أخره . يقال نسأه ونسأ ونساء ونسيئاً ، كقولك : مسه مساً ومساساً ومسيساً . وقرىء بهنّ جميعاً . وقرىء : «النَسَى» بوزن الندى . و «النِسي» بوزن النهي ، وهما تخفيف النسىء والنسء . فإن قلت : ما معنى قوله : { فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ الله } ؟ قلت : معناه فيحلوا بمواطأة العدة وحدها من غير تخصيص ما حرّم الله من القتال ، أو من ترك الاختصاص للأشهر بعينها { زُيّنَ لَهُمْ سُوء أعمالهم } خذلهم الله فحسبوا أعمالهم القبيحة حسنة { والله لاَ يَهْدِى } أي لا يلطف بهم بل يخذلهم . وقرىء : «زين لهم سوء أعمالهم» على البناء للفاعل ، وهو الله عزّ وجلّ .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)
{ اثاقلتم } تثاقلتم . وبه قرأ الأعمش ، أي تباطأتم وتقاعستم . وضمن معنى الميل والإخلاد فعدي بإلى . والمعنى : ملتم إلى الدنيا وشهواتها وكرهتم مشاق السفر ومتاعبه ، ونحوه : { أَخْلَدَ إِلَى الأرض واتبع هَوَاهُ } [ الأعراف : 176 ] وقيل : ملتم إلى الإقامة بأرضكم ودياركم . وقرىء : «أثاقلتم»؟ على الاستفهام الذي معناه الإنكار والتوبيخ . فإن قلت : فما العامل في «إذا» وحرف الاستفهام مانعة أن يعمل فيه؟ قلت : ما دلّ عليه قوله : { اثاقلتم } أو ما في { مَالَكُمْ } من معنى الفعل ، كأنه قيل : ما تصنعون إذا قيل لكم كما تعمله في الحال إذا قلت : مالك قائماً ، وكان ذلك في غزوة تبوك في سنة عشر بعد رجوعهم من الطائف . استتفروا في وقت عسرة وقحط وقيظ مع بعد الشقة وكثرة العدو ، فشقّ عليهم . وقيل : ما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة إلاّ ورّى عنها بغيرها إلاّ في غزوة تبوك ليستعدّ الناس تمام العدة { مِنَ الاخرة } أي بدل الآخرة كقوله : لَجَعَلْنَا مِنكُمْ ملائكة [ الزخرف : 60 ] . { فِى الآخرة } في جنب الآخرة { إِلاَّ تَنفِرُواْ } سخط عظيم على المتثاقلين حيث أوعدهم بعذاب أليم مطلق يتناول عذاب الدارين ، وأنه يهلكهم ويستبدل بهم قوماً آخرين خيراً منهم وأطوع ، وأنه غني عنهم في نصرة دينه ، لا يقدح تثاقلهم فيها شيئاً : وقيل : الضمير للرسول : أي ولا تضروه ، لأنّ الله وعده أن يعصمه من الناس وأن ينصره ، ووعد الله كائن لا محالة ، وقيل : يريد بقوله : { قَوْماً غَيْرَكُمْ } [ التوبة : 39 ] أهل اليمن . وقيل : أبناء فارس ، والظاهر مستغن عن التخصيص . فإن قلت : كيف يكون قوله : { فَقَدْ نَصَرَهُ الله } جواباً للشرط؟ قلت : فيه وجهان أحدهما : إلاّ تنصروه فسينصره من نصره حين لم يكن معه إلاّ رجل واحد ولا أقل من الواحد ، فدلّ بقوله : { فَقَدْ نَصَرَهُ الله } على أنه ينصره في المستقبل ، كما نصره في ذلك الوقت . والثاني : أنه أوجب له النصرة وجعله منصوراً في ذلك الوقت ، فلن يخذل من بعده . وأسند الإخراج إلى الكفار كما أسند إليهم في قوله : { مّن قَرْيَتِكَ التى أَخْرَجَتْكَ } [ محمد : 13 ] لأنهم حين هموا بإخراجه أذن الله له في الخروج فكأنهم أخرجوه { ثَانِيَ اثنين } أحد اثنين ، كقوله : { ثالث ثلاثة } وهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق رضي الله عنه . يروى :
( 464 ) ( أنّ جبريل عليه السلام لما أمره بالخروج قال : من يخرج معي؟ قال : أبو بكر ) وانتصابه على الحال . وقرىء : «ثاني اثنين» بالسكون و { إِذْ هُمَا } بدل من إذ أخرجه . والغار : ثقب في أعلى ثور ، وهو جبل في يمين مكة على مسيرة ساعة ، مكثا فيه ثلاثاً { إِذْ يَقُولُ } بدل ثان .
وقيل :
( 465 ) طلع المشركون فوق الغار فأشفق أبو بكر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم فقال : إن تصب اليوم ذهب دين الله ، فقال عليه الصلاة والسلام : " ما ظنك باثنين الله ثالثهما " وقيل :
( 466 ) لما دخلا الغار بعث الله تعالى حمامتين فباضتا في أسفله ، والعنكبوت فنسجت عليه . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللَّهم أعم أبصارهم " فجعلوا يتردّدون حول الغار ولا يفطنون . وقد أخذ الله بأبصارهم عنه . وقالوا : من أنكر صحبة أبي بكر رضي الله عنه فقد كفر ، لإنكاره كلام الله ، وليس ذلك لسائر الصحابة { سَكِينَتَهُ } ما ألقى في قلبه من الأمنة ، التي سكن عندها وعلم أنهم لا يصلون إليه ، والجنود الملائكة يوم بدر ، والأحزاب وحنين . وكلمة الذين كفروا : دعوتهم إلى الكفر { وَكَلِمَةُ الله } دعوته إلى الإسلام . وقرىء : «كلمة الله» بالنصب ، والرفع أوجه و { هِىَ } فصل أو مبتدأ ، وفيها تأكيد فضل كلمة الله في العلوّ ، وأنها المختصة به دون سائر الكلم { خِفَافًا وَثِقَالاً } خفافاً في النفور لنشاطكم له ، وثقالاً عنه لمشقته عليكم ، أو خفافاً لقلة عيالكم وأذيالكم ، وثقالاً لكثرتها . أو خفافاً من السلاح وثقالاً منه . أو ركباناً ومشاة . أو شباباً وشيوخاً . أو مهازيل وسماناً . أو صحاحاً ومراضاً . وعن ابن أمّ مكتوم أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أعليّ أن أنفر؟ قال : نعم ، حتى نزل قوله : { لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ } [ النور : 61 ] . وعن ابن عباس : نسخت بقوله : { لَّيْسَ عَلَى الضعفاء وَلاَ على المرضى } [ التوبة : 91 ] وعن صفوان بن عمرو : كنت والياً على حمص ، فلقيت شيخاً كبيراً قد سقط حاجباه من أهل دمشق على راحلته يريد الغزو . فقلت : يا عمّ لقد أعذر الله إليك فرفع حاجبيه وقال : يا ابن أخي استنفرنا الله خفافاً وثقالاً ، إلا أنه من يحبه الله يبتله . وعن الزهري : خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو ، وقد ذهبت إحدى عينيه ، فقيل له : إنك عليل صاحب ضرر ، فقال : استنفرنا الله الخفيف والثقيل ، فإن لم يمكنّي الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع { وجاهدوا بأموالكم وَأَنفُسِكُمْ } إيجاب للجهاد بهما إن أمكن ، أو بأحدهما على حسب الحال والحاجة .
لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42)
العرض : ما عرض لك من منافع الدنيا . يقال : الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر ، أي لو كان ما دعوا إليه غنماً قريباً سهل المنال { وَسَفَرًا قَاصِدًا } وسطاً مقارباً { الشقة } المسافة الشاقّة . وقرأ عيسى بن عمر : «بعدت عليهم الشقة» بكسر العين والشين ومنه قوله :
يَقُولُونَ لاَ تَبْعُدْ وَهُمْ يَدْفِنُونَه ... وَلاَ بُعْدَ إلاَّ مَا تُوَارِي الصَّفَائِحُ
{ بالله } متعلق بسيحلفون ، أو هو من جملة كلامهم . والقول مراد في الوجهين ، أي سيحلفون بعني المتخلفين عند رجوعك من غزوة تبوك معتذرين يقولون بالله { لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ } أو سيحلفون بالله ويقولون : لو استطعنا ، وقوله : { لَخَرَجْنَا } سدّ مسدّ جوابي القسم ولو جميعاً ، والإخبار بما سوف يكون بعد القفول من حلفهم واعتذارهم . وقد كان من جملة المعجزات . ومعنى الاستطاعة : استطاعة العدّة ، أو استطاعة الأبدان ، كأنهم تمارضوا . وقرىء : «لو استطعنا» ، بضم الواو تشبيهاً لها بواو الجمع في قوله : { فَتَمَنَّوُاْ الموت } [ البقرة : 94 ] . { يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ } إما أن يكون بدلاً من سيحلفون ، أو حالاً بمعنى مهلكين . والمعنى : أنهم يوقعونها في الهلاك بحلفهم الكاذب وما يحلفون عليه من التخلف . ويحتمل أن يكون حالاً من قوله : { لَخَرَجْنَا } أي لخرجنا معكم ، وإن أهلكنا أنفسنا وألقيناها في التهلكة بما نحملها من المسير في تلك الشقة . وجاء به على لفظ الغائب ، لأنه مخبر عنهم . ألا ترى أنه لو قيل : سيحلفون بالله لو استطاعوا لخرجوا ، لكان سديداً ، يقال : حلف بالله ليفعلنّ ولأفعلنّ ، فالغيبة على حكم الإخبار ، والتكلم على الحكاية .
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)
{ عَفَا الله عَنكَ } كناية عن الجناية ، لأن العفو رادف لها . ومعناه : أخطأت وبئس ما فعلت . و { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } بيان لما كنى عنه بالعفو . ومعناه : مالك أذنت لهم في القعود عن الغزو حين استأذنوك واعتلوا لك بعللهم وهلاّ استأنيت بالإذن { حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ } من صدق في عذره ممن كذب فيه . وقيل : شيئان فعلهما رسول الله ولم يؤمر بهما : إذنه للمنافقين وأخذه من الأسارى فعاتبه الله تعالى .
لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44)
{ لاَ يَسْتَأْذِنُكَ } ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوك في أن يجاهدوا ، وكان الخلص من المهاجرين والأنصار يقولون : لا نستأذن النبي أبداً ، ولنجاهدنّ أبداً معه بأموالنا وأنفسنا . ومعنى { أَن يجاهدوا } في أن يجاهدوا أو كراهة أن يجاهدوا { والله عَلِيمٌ بالمتقين } شهادة لهم بالانتظام في زمرة المتقين ، وعدة لهم بأجزل الثواب .
إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)
{ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ } يعني المنافقين ، وكانوا تسعة وثلاثين رجلاً { يَتَرَدَّدُونَ } عبارة عن التحير ، لأنّ التردد ديدن المتحير ، كما أن الثبات والاستقرار ديدن المستبصر . وقرىء : «عدة» ، بمعنى عدّته فعل بالعدّة ما فعل بالعدة من قال :
وَأَخْلَفُوكَ عِدَ الأَمْرِ الَّذِي وَعَدُوا ... من حذف تاء التأنيث ، وتعويض المضاف إليه منها . وقرىء : «عِدة» بكسر العين بغير إضافة ، و «عدة» بإضافة . فإن قلت : كيف موقع حرف الاستدراك؟ قلت : لما كان قوله : { وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج } معطياً معنى نفي خروجهم واستعدادهم للغزو . قيل : { ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم } كأنه قيل : ما خرجوا ولكن تثبطوا عن الخروج لكراهة انبعاثهم ، كما تقول : ما أحسن إليَّ زيد ، ولكن أساء إليّ { فَثَبَّطَهُمْ } فكسلهم وخذلهم وضعف رغبتهم في الانبعاث { وَقِيلَ اقعدوا } جعل إلقاء الله في قلوبهم كراهة الخروج أمراً بالقعود . وقيل : هو قول الشيطان بالوسوسة . وقيل : هو قولهم لأنفسهم . وقيل : هو إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم في القعود . فإن قلت : كيف جاز أن يوقع الله تعالى في نفوسهم كراهة الخروج إلى الغزو وهي قبيحة ، وتعالى الله عن إلهام القبيح؟ قلت : خروجهم كان مفسدة ، لقوله : { لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً } فكان إيقاع كراهة ذلك الخروج في نفوسهم حسناً ومصلحة . فإن قلت : فلم خطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأذن لهم فيما هو مصلحة؟ قلت : لأنّ إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم لم يكن للنظر في هذه المصلحة ولا علمها إلا بعد القفول بإعلام الله تعالى ، ولكن لأنهم استأذنوه في ذلك واعتذروا إليه ، فكان عليه أن يتفحص عن كنه معاذيرهم ولا يتجوّز في قبولها ، فمن ثم أتاه العتاب ويجوز أن يكون في ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الإذن لهم مع تثبيط الله إياهم مصلحة أخرى ، فبإذنه لهم فقدت تلك المصلحة ، وذلك أنهم إذا ثبطهم الله فلم ينبعثوا وكان قعودهم بغير إذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم قامت عليهم الحجّة ولم تبق لهم معذرة . ولقد تدارك الله ذلك حيث هتك أستارهم وكشف أسرارهم وشهد عليهم بالنفاق ، وأنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر . فإن قلت : ما معنى قوله : { مَعَ القاعدين } ؟ قلت : هو ذمّ لهم وتعجيز ، وإلحاق بالنساء والصبيان والزمنى الذين شأنهم القعود والجثوم في البيوت ، وهم القاعدون والخالفون والخوالف ، ويبينه قوله تعالى : { رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف } [ التوبة : 87 ، 93 ] . { إِلاَّ خَبَالاً } ليس من الاستثناء المنقطع في شيء كما يقولون لأنَّ الاستثناء المنقطع هو أن يكون المستثنى من غير جنس المستثنى منه ، كقولك : ما زادوكم خيراً إلاّ خبالا ، والمستثنى منه في هذا الكلام غير مذكور ، وإذا لم يذكر وقع الاستثناء من أعمّ العام الذي هو الشيء ، فكان استثناء متصلاً؛ لأنّ الخبال بعض أعمّ العام كأن قيل ما زادوكم شيئاً إلا خبالاً والخبال الفساد والشر { ولأَوْضَعُواْ خلالكم } ولسعوا بينكم بالتضريب والنمائم وإفساد ذات البين .
يقال : وضع البعير وضعاً إذا أسرع وأوضعته أنا ، والمعنى : ولأوضع ركائبهم بينكم ، والمراد الإسراع بالنمائم؛ لأنّ الراكب أسرع من الماشي . وقرأ ابن الزبير رضي الله عنه : «ولأرقصوا» من رقصت الناقة رقصاً إذا أسرعت وأرقصتها قال :
وَالرَّاقِصَاتِ إلَى مِنى فَالْغَبْغَبِ ... وقرىء : «ولأوفضوا» فإن قلت : كيف خطّ في المصحف : ولا أوضعوا ، بزيادة ألف؟ قلت : كانت الفتحة تكتب إلفاً قبل الخط العربي ، والخط العربي اخترع قريباً من نزول القرآن ، وقد بقي من ذلك الألف أثر في الطباع ، فكتبوا صورة الهمزة ألفاً ، وفتحتها ألفاً أخرى ، ونحو : أو لا أذبحنه . { يَبْغُونَكُمُ الفتنة } يحاولون أن يفتنوكم بأن يوقعوا الخلاف فيما بينكم ويفسدوا نياتكم في مغزاكم { وَفِيكُمْ سماعون لَهُمْ } أي نمامون يسمعون حديثكم فينقلونه إليهم . أو فيكم قوم يسمعون للمنافقين ويطيعونهم { وَلَقَدْ ابتغوا الفتنة } أي العنت ونصب الغوائل والسعي في تشتيت شملك وتفريق أصحابك عنك ، كما فعل عبد الله بن أبيّ يوم أحد حين انصرف بمن معه وعن ابن جريج رضي الله عنه : وقفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم على الثنية ليلة العقبة وهم اثنا عشر رجلاً ليفتكوا به { مِن قَبْلُ } من قبل غزوة تبوك { وَقَلَّبُواْ لَكَ الامور } ودبروا لك الحيل والمكايد ، ودوَّروا الآراء في إبطال أمرك . وقرىء؛ «وقلبوا» بالتخفيف { حتى جَاء الحق } وهو تأييدك ونصرك { وَظَهَرَ أَمْرُ الله } وغلب دينه وعلا شرعه .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)
{ ائذن لّي } في القعود { وَلاَ تَفْتِنّى } ولا توقعني في الفتنة وهي الإثم ، بأن لا تأذن لي فإني إن تخلفت بغير إذنك أثمت . وقيل : ولا تلقني في الهلكة ، فإني إذا خرجت معك هلك مالي وعيالي . وقيل : قال الجدّ بن قيس : قد علمت الأنصار أني مستهتر بالنساء فلا تفتنّي ببنات الأصفر يعني نساء الروم ، ولكني أعينك بمال فاتركني . وقرىء : «ولا تفتني» من أفتنه { أَلا فِى الفتنة سَقَطُواْ } أي إنّ الفتنة هي التي سقطوا فيها ، وهي فتنة التخلف . وفي مصحف أبيّ رضي الله عنه : سقط؛ لأنّ «من» موحد اللفظ مجموع المعنى { لَمُحِيطَةٌ بالكافرين } يعني أنها تحيط بهم يوم القيامة . أو هي محيطة بهم الآن؛ لأنّ أسباب الإحاطة معهم فكأنهم في وسطها .
إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50)
{ إِن تُصِبْكَ } في بعض الغزوات { حَسَنَةٌ } ظفر وغنيمة { تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ } نكبة وشدّة في بعضها نحو ما جرى في يوم أحد يفرحوا بحالهم في الإنحراف عنك ، و { يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا } أي أمرنا الذي نحن متسمون به ، من الحذر والتيقظ والعمل بالحزم { مِن قَبْلُ } من قبل ما وقع . وتولوا عن مقام التحدّث بذلك والاجتماع له إلى أهاليهم { وَّهُمْ فَرِحُونَ } مسرورون . وقيل : تولوا : أعرضوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)
قرأ ابن مسعود رضي الله عنه : «قل هل يصيبنا» . وقرأ طلحة رضي الله عنه : «هل يصيّبنا» ، بتشديد الياء . ووجهه أن يكون «يفعيل» لا «يفعل» لأنه من بنات الواو ، كقولهم : الصواب ، وصاب السهم يصوب ، ومصاوب في جمع مصيبة ، فحقّ «يفعل» منه «يصوّب» ألا ترى إلى قولهم : صوّب رأيه ، إلاّ أن يكون من لغة من يقول : صاب السهم يصيب . ومن قوله : أسهمي الصائبات والصيب ، واللام في قوله : { إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا } مفيدة معنى الاختصاص كأنه قيل : لن يصيبنا إلاّ ما اختصنا الله [ به ] بإثباته وإيجابه من النصرة عليكم أو الشهادة . ألا ترى إلى قوله : { هُوَ مولانا } أي الذي يتولانا ونتولاه ، ذلك بأنّ الله مولى الذين آمنوا وأنّ الكافرين لا مولى لهم { وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } وحق المؤمنين أن لا يتوكلوا على غير الله ، فليفعلوا ما هو حقهم .
قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)
{ إِلا إِحْدَى الحسنيين } إلاّ إحدى العاقبتين اللتين كل واحدة منهما هي حسن العواقب ، وهما النصرة والشهادة { وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ } إحدى السوأتين من العواقب ، إمّا { أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مّنْ عِندِهِ } وهو قارعة من السماء كما نزلت على عاد وثمود { أَوْ } بعذاب { بِأَيْدِينَا } وهو القتل على الكفر { فَتَرَبَّصُواْ } بنا ما ذكرنا من عواقبنا { إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبّصُونَ } ما هو عاقبتكم ، فلا بدّ أن يلقى كلنا ما يتربصه لا يتجاوزه .
قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53)
{ أَنفَقُواْ } يعني في سبيل الله ووجوه البر { طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } نصب على الحال ، أي طائعين أو مكرهين . فإن قلت : كيف أمرهم بالإنفاق ثم قال : { لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ } ؟ قلت : هو أمر في معنى الخبر ، كقوله تبارك وتعالى : { قُلْ مَن كَانَ فِى الضلالة فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً } [ مريم : 75 ] ومعناه : لن يتقبل منكم أنفقتم طوعاً أو كرهاً . ونحوه قوله تعالى : { استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } [ التوبة : 80 ] وقوله :
أَسِيئِي بِنَا أَوْ أَحْسِنِي لاَ مَلُومَةً ... أي لن يغفر الله لهم ، استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم ، ولا نلومك - أسأت إلينا أم أحسنت . فإن قلت : متى يجوز نحو هذا؟ قلت : إذا دلّ الكلام عليه كما جاز عكسه في قولك : رحم الله زيداً وغفر له ، فإن قلت : لم فعل ذلك؟ قلت : لنكتة فيه ، وهي أنّ كثيراً كأنه يقول لعزة : امتحني لطف محلك عندي وقوّة محبتي لك ، وعامليني بالإساءة . والإحسان ، وانظري هل يتفاوت حالي معك مسيئة كنت أو محسنة؟ وفي معناه قول القائل :
أَخُوكَ الَّذِي إنْ قُمْتَ بِالسَّيْفِ عَامِدا ... لِتَضْرِبَهُ لَمْ يَسْتَفِثَّكَ فِي الْوُدِّ
وكذلك المعنى : أنفقوا وانظروا هل يتقبل منكم؟ واستغفر لهم أو لا تستغفر لهم ، وانظر هل ترى اختلافاً بين حال الاستغفار وتركه؟ فإن قلت : ما الغرض في نفي التقبل؟ أهو ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم تقبله منهم وردّه عليهم ما يبذلون منه؟ أم هو كونه غير مقبول عند الله تعالى ذاهباً هباء لا ثواب له؟ قلت : يحتمل الأمرين جميعاً . وقوله : { طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } معناه طائعين من غير إلزام من الله ورسوله ، أو ملزمين . وسمي الإلزام إكراهاً ، لأنهم منافقون ، فكان إلزامهم الإنفاق شاقاً عليهم كالإكراه . أو طائعين من غير إكراه من رؤسائكم ، لأن رؤساء أهل النفاق كانوا يحملون على الإنفاق لما يرون من المصلحة فيه ، أو مكرهين من جهتهم . وروي : أنها نزلت في الجدّ بن قيس حين تخلف عن غزوة تبوك وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا مالي أعينك به فاتركني { إِنَّكُمْ } تعليل لردّ إنفاقهم . والمراد بالفسق : التمرّد والعتو .
وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)
{ أَنَّهُمْ } فاعل منع . وهم ، وأن تقبل مفعولاه . وقرىء : «أن تقبل» ، بالتاء والياء على البناء للمعفول . ونفقاتهم ، ونفقتهم ، على الجمع والتوحيد . وقرأ السلمي : «أن يَقْبل منهم نفقاتهم» على أن الفعل لله عزّ وجلّ { كسالى } بالضم والفتح ، جمع كسلان ، نحو سكارى وغيارى ، في جمع سكران وغيران ، وكسلهم لأنهم لا يرجون بصلاتهم ثواباً ، ولا يخشون بتركها عقاباً فهي ثقيلة عليهم كقوله تعالى : { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين } [ البقرة : 45 ] وقرأت في بعض الأخبار :
( 467 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كره للمؤمن أن يقول : كسلت ، كأنه ذهب إلى هذه الآية ، فإنّ الكسل من صفات المنافقين ، فما ينبغي أن يسنده المؤمن إلى نفسه . فإن قلت : الكراهية خلاف الطواعية وقد جعلهم الله تعالى طائعين في قوله { طَوْعاً } ثم وصفهم بأنهم لا ينفقون إلاّ وهم كارهون . قلت : المراد بطوعهم أنهم يبذلونه من غير إلزام من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من رؤسائهم ، وما طوعهم ذاك إلاّ عن كراهية واضطرار ، لا عن رغبة واختيار .
فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)
الإعجاب بالشيء : أن يسرّ به سرور راض به متعجب من حسنه . والمعنى : فلا تستحسن ولا تفتنن بما أوتوا من زينة الدنيا ، كقوله تعالى : { وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ } [ طه : 131 ] فإن الله تعالى إنما أعطاهم ما أعطاهم للعذاب ، بأن عرضه للتغنم والسبي ، وبلاهم فيه بالآفات والمصائب ، وكلفهم الإنفاق منه في أبواب الخير ، وهم كارهون له على رغم أنوفهم ، وأذاقهم أنواع الكلف والمجاشم في جمعه واكتسابه وفي تربية أولادهم . فإن قلت : إن صحّ تعليق التعذيب بإرادة الله تعالى ، فما بال زهوق أنفسهم { وَهُمْ كافرون } ؟ قلت : المراد الاستدراج بالنعم ، كقوله تعالى : { إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً } [ آل عمران : 178 ] كأنه قيل : ويريد أن يديم عليهم نعمته إلى أن يموتوا وهم كافرون ملتهون بالتمتع عن النظر للعاقبة .
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)
{ لَمِنكُمْ } لمن جملة المسلمين { يَفْرَقُونَ } يخافون القتل وما يفعل بالمشركين ، فيتظاهرون بالإسلام تقية { مَلْجَئاً } مكاناً يلتجئون إليه متحصنين به من رأس جبل أو قلعة أو جزيرة { أَوْ مغارات } أو غيراناً . وقرىء بضم الميم ، من أغار الرجل وغار إذا دخل الغور . وقيل : هو تعدية غار الشيء وأغرته أنا ، يعني : أمكنة يغيرون فيها أشخاصهم . ويجوز أن يكون من : أغار الثعلب ، إذا أسرع ، بمعنى مهارب ومفارّ { أَوْ مُدَّخَلاً } أو نفقاً يندسون فيه وينجحرون ، وهو مفتعل من الدخول . وقرىء مدخلاً من دخل ومدخلاً من أدخل : مكاناً يدخلون فيه أنفسهم . وقرأ أبيّ بن كعب رضي الله عنه : متدخلاً وقرىء : لو ألوا إليه لالتجؤا إليه { يَجْمَحُونَ } يسرعون إسراعاً لا يردّهم شيء؛ من الفرس الجموح ، وهو الذي إذا حمل لم يردّه اللجام . وقرأ أنس رضي الله عنه : يجمزون . فسئل فقال : يجمحون ويجمزون ويشتدّون واحد .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)
{ يَلْمِزُكَ } يعيبك في قسمه الصدقات ويطعن عليك . قيل : هم المؤلفة قلوبهم . وقيل : هو ابن ذي الخويصرة رأس الخوارج ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم غنائم حنين فقال :
( 468 ) اعدل يا رسول الله ، فقال صلوات الله عليه وسلامه " ويلك إن لم أعدل فمن يعدل؟ " وقيل : هو أبو الجواظ ، من المنافقين ، قال :
( 469 ) ألا ترون إلى صاحبكما إنما يقسم صدقاتكم في رعاة الغنم ، وهو يزعم أنه يعدل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا أبالك أما كان موسى راعياً أما كان داود راعياً» فلما ذهب قال عليه الصلاة والسلام «احذروا هذا وأصحابه فإنهم منافقون» . وقرىء : يلمزك بالضم ، ويلمزك ويلامزك . التثقيل والبناء على المفاعلة مبالغة في اللمز . ثم وصفهم بأن رضاهم وسخطهم لأنفسهم ، لا للدين وما فيه صلاح أهله ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعطف قلوب أهل مكة يومئذ بتوفير الغنائم عليهم فضجر المنافقون منه . وإذا للمفاجأة : أي وإن لم يعطوا منها فاجؤا للسخط .
وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)
جواب «لو» محذوف تقديره : لو أنهم رضوا لكان خيراً لهم . والمعنى : ولو أنهم رضوا ما أصابهم به الرسول من الغنيمة وطابت به نفوسهم وإن قلّ نصيبهم وقالوا : كفانا فضل الله وصنعه ، وحسبنا ما قسم لنا سيرزقنا الله غنيمة أخرى فيؤتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر مما أتانا اليوم { إِنَّا إِلَى الله } في أن يغنمنا ويخولنا فضله لراغبون .
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
{ إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَاء } قصر لجنس الصدقات على الأصناف المعدودة وأنها مختصة بها ، لا تتجاوزها إلى غيرها ، كأنه قيل : إنما هي لهم لا لغيرهم . ونحوه قولك : إنما الخلافة لقريش ، تريد لا تتعداهم ولا تكون لغيرهم فيحتمل أن تصرف إلى الأصناف كلها وأن تصرف إلى بعضها ، وعليه مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه . وعن حذيفة وابن عباس وغيرهما من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أنهم قالوا : في أي صنف منها وضعتها أجزاك . وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه : لو نظرت إلى أهل بيت من المسلمين فقراء متعففين فجبرتهم بها كان أحبّ إليّ . وعند الشافعيّ رضي الله عنه ، لا بدّ من صرفها إلى الأصناف الثمانية وعن عكرمة رضي الله عنه أنها تفرق في الأصناف الثمانية . وعن الزهري أنه كتب لعمر بن عبد العزيز تفريق الصدقات على الأصناف الثمانية { والعاملين عَلَيْهَا } السعاة الذين يقبضونها { والمؤلفة قُلُوبُهُمْ } أشراف من العرب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستألفهم على أن يسلموا فيرضخ لهم شيئاً منها حين كان في المسلمين قلة . والرقاب : المكاتبون يعانون منها . وقيل : الأسارى . وقيل : تبتاع الرقاب فتعتق { والغارمين } الذين ركبتهم الديون ولا يملكون بعدها ما يبلغ النصاب . وقيل : الذين تحملوا الحمالات فتداينوا فيها وغرموا { وَفِى سَبِيلِ الله } فقراء الغزاة والحجيج المنقطع بهم { وابن السبيل } المسافر المنقطع عن ماله فهو فقير حيث هو غنيّ حيث ماله { فَرِيضَةً مّنَ الله } في معنى المصدر المؤكد ، لأن قوله إنما الصدقات للفقراء معناه فرض الله الصدقات لهم . وقرىء : «فريضة» بالرفع على : تلك فريضة . فإن قلت : لم عدل عن اللام إلى «في» في الأربعة الأخيرة؟ قلت : للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره ، لأن «في» للوعاء ، فنبه على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات ويجعلوا مظنة لها ومصباً ، وذلك لما في فكّ الرقاب من الكتابة أو الرقّ أو الأسر ، وفي فكّ الغارمين من الغرم من التخليص والإنقاذ ، ولجمع الغازي الفقير أو المنقطع في الحج بين الفقر والعبادة ، وكذلك ابن السبيل جامع بين الفقر والغربة عن الأهل والمال ، وتكرير «في» في قوله : { وَفِى سَبِيلِ الله وابن السبيل } فيه فضل ترجيح لهذين على الرقاب والغارمين . فإن قلت : فكيف وقعت هذه الآية في تضاعف ذكر المنافقين ومكايدهم؟ قلت : دلّ بكون هذه الأصناف مصارف الصدقات خاصة دون غيرهم على أنهم ليسوا منهم ، حسماً لأطماعهم وإشعاراً باستيجابهم الحرمان ، وأنهم بعداء عنها وعن مصارفها ، فما لهم وما لها؟ وما سلطهم على التكلم فيها ولمز قاسمها صلوات الله عليه وسلامه؟ .
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)
الأذن : الرجل الذي يصدق كل ما يسمع ويقبل قول كل أحد ، سمي بالجارحة التي هي آلة السماع ، كأن جملته أذنٌ سامعة ، ونظيره قولهم للربيئة . عين . وإيذاؤهم له : هو قولهم فيه { هُوَ أُذُنٌ } . وأذن خير ، كقولك : رجل صدق ، تريد الجودة والصلاح ، كأنه قيل : نعم هو أذن ، ولكن نعم الأذن . ويجوز أن يريد : هو أذن في الخير والحق وفيما يجب سماعه وقبوله ، وليس بأذن في غير ذلك ودلّ عليه قراءة حمزة «ورحمةٍ» بالجرّ عطفاً عليه أي : هو أذن خير ورحمة لا يسمع غيرهما ولا يقبله . ثم فسر كونه أذن خير بأنه يصدق بالله ، لما قام عنده من الأدلة ويقبل من المؤمنين الخلص من المهاجرين والأنصار ، وهو رحمة لمن آمن منكم ، أي أظهر الإيمان أيها المنافقون حيث يسمع منكم ويقبل إيمانكم الظاهر ، ولا يكشف أسراركم ولا يفضحكم ، ولا يفعل بكم ما يفعل بالمشركين ، مراعاة لما رأى الله من المصلحة في الإبقاء عليكم ، فهو أذن كما قلتم ، إلاّ أنه أذن خير لكم لا أذن سوء فسلم لهم قولهم فيه ، إلا أنه فسر بما هو مدح له وثناء عليه ، وإن كانوا قصدوا به المذمّة والتقصير بفطنته وشهامته ، وأنه من أهل سلامة القلوب والغرّة . وقيل : إنّ جماعة منهم ذمّوه صلوات الله عليه وسلامه وبلغه ذلك ، فاشتغلت قلوبهم فقال بعضهم : لا عليكم فإنما هو أذن سامعة قد سمع كلام المبلغ فأذن ، ونحن نأتيه ونعتذر إليه فيسمع عذرنا أيضاً فيرضى ، فقيل : هو أذن خير لكم . وقرىء : «أذن خير لكم» ، على أن أذن خبر مبتدإ محذوف؛ وخير كذلك ، أي هو أذن هو خير لكم يعني إن كان كما تقولون فهو خير لكم ، لأنه يقبل معاذيركم ولا يكافئكم على سوء دخلتكم . وقرأ نافع بتخفيف الذال . فإن قلت : لم عدّي فعل الإيمان بالباء إلى الله تعالى ، وإلى المؤمنين باللام؟ قلت : لأنه قصد التصديق بالله الذي هو نقيض الكفر به ، فعدّي بالباء وقصد السماع من المؤمنين ، وأن يسلم لهم ما يقولونه ويصدّقه ، لكونهم صادقين عنده ، فعدّي باللام ، ألا ترى إلى قوله : { وَما أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صادقين } [ يوسف : 17 ] ما أنبأه عن الباء . ونحوه : { فما آمن لموسى إلاّ ذرية من قومه } [ يونس : 83 ] ، { أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون } [ الشعراء : 111 ] ، { ءامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ لَكُمْ } [ طه : 71 ] فإن قلت : ما وجه قراءة ابن أبي عبلة : ورحمة بالنصب؟ قلت : هي علة معللها محذوف تقديره : ورحمة لكم يأذن لكم ، فحذف لأنّ قوله : { أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ } يدلّ عليه .
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62)
{ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ } الخطاب للمسلمين وكان المنافقون يتكلمون بالمطاعن أو يتخلفون عن الجهاد ، ثم يأتونهم فيعتذرون إليهم ويؤكدون معاذيرهم بالحلف ليعذروهم ويرضوا عنهم ، فقيل لهم : إن كنتم مؤمنين كما تزعمون فأحق من أرضيتم الله ورسوله بالطاعة والوفاق . وإنما وحد الضمير لأنه لا تفاوت بين رضا الله ورضا رسوله صلى الله عليه وسلم ، فكانا في حكم مرضيّ واحد ، كقولك : إحسان زيد وإجماله نعشني وجبر مني . أو والله أحقّ أن يرضوه ، ورسوله كذلك .
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)
المحادة مفاعلة من الحدّ كالمشاقة من الشقّ { فَأَنَّ لَهُ } على حذف الخبر ، أي : فحق أن له { نَارِ جَهَنَّمَ } وقيل : معناه فله ، وأنّ : تكرير؛ لأن في قوله : { أَنَّهُ } تأكيداً ، ويجوز أن يكون { فأَنَّ لَهُ } معطوفاً على أنه ، على أن جواب { مَن } محذوف تقديره : ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله يهلك فأن له نار جهنم . وقرىء : «ألم تعلموا» بالتاء .
يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64)
كانوا يستهزؤن بالإسلام وأهله وكانوا يحذرون أن يفضحهم الله بالوحي فيهم؛ حتى قال بعضهم : والله لا أرانا إلاّ شرّ خلق الله ، لوددت أني قدمت فجلدت مائة جلدة؛ وأن لا ينزل فينا شيء يفضحنا . والضمير في عليهم وتنبئهم للمؤمنين . وفي قلوبهم : للمنافقين . وصحّ ذلك لأن المعنى يقود إليه . ويجوز أن تكون الضمائر للمنافقين؛ لأن السورة إذا نزلت في معناهم فهي نازلة عليهم . ومعنى تنبئهم بما في قلوبهم كأنها تقول لهم : في قلوبكم كيت وكيت ، يعني أنها تذيع أسرارهم عليهم حتى يسمعوها مذاعة منتشرة فكأنها تخبرهم بها . وقيل : معنى يحذر : الأمر بالحذر ، أي ليحذر المنافقون . فإن قلت : الحذر واقع على إنزال السورة في قوله : { يَحْذَرُ المنافقون أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ } فما معنى قوله : { مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ } ؟ قلت : معناه محصل مبرز إنزال السورة . أو أنّ الله مظهر ما كنتم تحذرونه ، أي تحذرون إظهاره من نفاقكم .
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)
( 470 ) بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في غزوة تبوك وركب من المنافقين يسيرون بين يديه فقالوا : انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتتح قصور الشام وحصونه ، هيهات هيهات ، فأطلع الله نبيه عليه السلام على ذلك فقال : احبسوا عليّ الركب ، فأتاهم فقال : قلتم كذا وكذا ، فقالوا : يا نبي الله لا والله ما كنا في شيء من أمرك ولا من أمر أصحابك ، ولكن كنا في شيء مما يخوض فيه الركب ليقصر بعضنا على بعض السفر { أبالله وءاياته وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ } لم يعبأ باعتذارهم لأنهم كانوا كاذبين فيه ، فجعلوا كأنهم معترفون باستهزائهم ، وبأنه موجود منهم ، حتى وبخوا بأخطائهم موقع الاستهزاء ، حيث جعل المستهزأ به يلي حرف التقرير ، وذلك إنما يستقيم بعد وقوع الاستهزاء وثبوته { لاَ تَعْتَذِرُواْ } لا تشتغلوا باعتذاراتكم الكاذبة ، فإنها لا تنفعكم بعد ظهور سركم { قَدْ كَفَرْتُمْ } قد ظهر كفركم باستهزائكم { بَعْدَ إيمانكم } بعد إظهاركم الإيمان { إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مّنْكُمْ } بإحداثهم التوبة وإخلاصهم الإيمان بعد النفاق { نُعَذّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ } مصرين على النفاق غير تائبين منه . أو أن نعف عن طائفة منكم لم يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يستهزؤوا فلم نعذبهم في العاجل نعذب في العاجل طائفة بأنهم كانوا مجرمين مؤذين لرسول الله صلى الله عليه وسلم مستهزئين . وقرأ مجاهد : إن تعف عن طائفة على البناء للمفعول مع التأنيث ، والوجه التذكير : لأنّ المسند إليه الظرف ، كما تقول : سير بالدابة . ولا تقول : سيرت بالدابة ، ولكنه ذهب إلى المعنى ، كأنه قيل : إن ترحم طائفة ، فأنث لذلك وهو غريب ، والجيد قراءة العامّة : إن يعف عن طائفة ، بالتذكير . وتعذب طائفة ، بالتأنيث . وقرىء : إن يعف عن طائفة يعذب طائفة ، على البناء للفاعل وهو الله عزّ وجلّ .
الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)
{ بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ } أريد به نفي أن يكونوا من المؤمنين ، وتكذيبهم في قولهم : { وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ } [ التوبة : 56 ] وتقرير قوله : { وَمَا هُم مّنكُمْ } [ التوبة : 56 ] ثم وصفهم بما يدلّ على مضادة حالهم لحال المؤمنين { يَأْمُرُونَ بالمنكر } بالكفر والمعاصي { وَيَنْهَوْنَ عَنِ المعروف } عن الإيمان والطاعات { وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ } شحا بالمبارّ والصدقات والإنفاق في سبيل الله { نَسُواْ الله } أغفلوا ذكره { فَنَسِيَهُمْ } فتركهم من رحمته وفضله { هُمُ الفاسقون } هم الكاملون في الفسق الذي هو التمرّد في الكفر والانسلاخ عن كل خير ، وكفى المسلم زاجراً أن يلم بما يكسبه هذا الاسم الفاحش الذي وصف الله به المنافقين حين بالغ في ذمهم ، وإذا كره رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلم أن يقول كسلت ، لأن المنافقين وصفوا بالكسل في قوله : { كسالى } [ النساء : 142 ] فما ظنك بالفسق { خالدين فِيهَا } مقدّرين الخلود { هِىَ حَسْبُهُمْ } دلالة على عظم عذابها ، وأنه لا شيء أبلغ منه ، وأنه بحيث لا يزاد عليه ، نعوذ بالله من سخطه وعذابه { وَلَعَنَهُمُ الله } وأهانهم من التعذيب ، وجعلهم مذمومين ملحقين بالشياطين الملاعين ، كما عظم أهل الجنة وألحقهم بالملائكة المكرمين { وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } ولهم نوع من العذاب سوى الصلي بالنار ، مقيم دائم كعذاب النار . ويجوز أن يريد : ولهم عذاب مقيم معهم في العاجل لا ينفكون عنه ، وهو ما يقاسونه من تعب النفاق ، والظاهر المخالف للباطن ، خوفاً من المسلمين وما يحذرونه أبداً من الفضيحة ونزول العذاب إن اطلع على أسرارهم .
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)
الكاف محلها رفع على : أنتم مثل الذين من قبلكم . أو نصب على : فعلتم ما فعل الذين من قبلكم وهو أنكم استمتعتم وخضتم كما استمتعوا وخاضوا . ونحوه قول النمر :
كَالْيَوْمِ مَطْلُوباً وَلاَ طَلَبَا ... بإضمار «لم أر» وقوله : { كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً } تفسير لتشبيههم بهم ، وتمثيل فعلهم بفعلهم . والخلاق : النصيب وهو ما خلق للإنسان ، أي قدّر من خير ، كما قيل له «قسم» لأنه قسم . ونصيب ، لأنه نصب ، أي أثبت . والخوض : الدخول في الباطل واللهو { كالذي خَاضُواْ } كالفوج الذي خاضوا ، وكالخوض الذي خاضوه . فإن قلت : أي فائدة في قوله : { فاستمتعوا بخلاقهم } وقوله : { كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بخلاقهم } مغن عنه كما أغنى قوله : { كالذى خَاضُواْ } عن أن يقال : وخاضوا فخضتم كالذي خاضوا؟ قلت : فائدته أن يذمّ الأوّلين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا ورضاهم بها ، والتهائم بشهواتهم الفانية عن النظر في العاقبة وطلب الفلاح في الآخرة ، وأن يخسس أمر الاستمتاع ويهجن أمر الرضى به ، ثم يشبه بعد ذلك حال المخاطبين بحالهم ، كما تريد أن تنبه بعض الظلمة على سماجة فعله فتقول : أنت مثل فرعون ، كان يقتل بغير جرم ويعذب ويعسف وأنت تفعل مثل فعله . وأما { وَخُضْتُمْ كالذي خَاضُواْ } فمعطوف على ما قبله مستند إلى مستغن باستناده إليه عن تلك التقدمة { حَبِطَتْ أعمالهم فِي الدنيا والاخرة } نقيض قوله : { وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين } [ العنكبوت : 27 ] .
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)
{ وأصحاب مَدْيَنَ } وأهل مدين وهم قوم شعيب { والمؤتفكات } مدائن قوم لوط . وقيل : قريات قوم لوط وهود وصالح . وائتفاكهنّ : انقلاب أحوالهنّ عن الخير إلى الشر { فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ } فما صحّ منه أن يظلمهم وهو حكيم لا يجوز عليه القبيح وأن يعاقبهم بغير جرم ، ولكن ظلموا أنفسهم حيث كفروا به فاستحقوا عقابه .
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)
{ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } في مقابلة قوله في المنافقين : { بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ } . { سَيَرْحَمُهُمُ الله } السين مفيدة وجود الرحمة لا محالة ، فهي تؤكد الوعد ، كما تؤكد الوعيد في قولك : سأنتقم منك يوماً ، تعني أنك لا تفوتني وإن تباطأ ذلك ، ونحوه { سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً } [ مريم : 96 ] ، { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى } [ الضحى : 5 ] ، { سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ } [ النساء : 152 ] . { عَزِيزٌ } غالب على كل شيء قادر عليه ، فهو يقدر على الثواب والعقاب { حَكِيمٌ } واضع كلا موضعه على حسب الاستحقاق { ومساكن طَيّبَةً } عن الحسن : قصوراً من اللؤلؤ والياقوت الأحمر والزبرجد . و { عَدْنٍ } علم ، بدليل قوله : { جنات عَدْنٍ التى وَعَدَ الرحمن } [ مريم : 61 ] ويدلّ عليه ما روى أبو الدرداء رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 471 ) «عدن دار الله التي لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر ، لا يسكنها غير ثلاثة : النبيون ، والصدّيقون ، والشهداء . يقول الله تعالى طوبى لمن دخلك» وقيل : هي مدينة في الجنة . وقيل : نهر جناته على حافاته { ورضوان مّنَ الله أَكْبَرُ } وشيء من رضوان الله أكبر من ذلك كله ، لأنّ رضاه هو سبب كل فوز وسعادة ، ولأنهم ينالون برضاه عنهم تعظيمه وكرامته ، والكرامة أكبر أصناف الثواب ، ولأن العبد إذا علم أن مولاه راض عنه فهو أكبر في نفسه مما وراءه من النعم ، وإنما تتهنأ له برضاه ، كما إذا علم بسخطته تنغصت عليه ، ولم يجد لها لذة وإن عظمت . وسمعت بعض أولى الهمة البعيدة والنفس المرّة من مشايخنا يقول : لا تطمح عيني ولا تنازع نفسي إلى شيء مما وعد الله في دار الكرامة ، كما تطمح وتنازع إلى رضاه عني ، وأن أحشر في زمرة المهديين المرضيين عنده { ذلك } إشارة إلى ما وعد الله ، أو إلى الرضوان : أي هو { الفوز العظيم } وحده دون ما يعدّه الناس فوزاً . وروى :
( 472 ) " أنّ الله عزّ وجلّ يقول لأهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك ، فيقول : أنا أعطيكم أفضل من ذلك؟ قالوا : وأي شيء أفضل من ذلك؟ قال : أُحِلُّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً " .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73)
{ جاهد الكفار } بالسيف { والمنافقين } بالحجّة { واغلظ عَلَيْهِمْ } في الجهادين جميعاً ، ولا تحابهم وكل من وقف منه على فساد في العقيدة فهذا الحكم ثابت فيه ، يجاهد بالحجة ، وتستعمل معه الغلظة ما أمكن منها ، وعن ابن مسعود : إن لم يستطع بيده فبلسانه ، فإن لم يستطع فليكفهرّ في وجهه فإن لم يستطع فبقلبه . يريد الكراهة والبغضاء والتبرأ منه . وقد حمل الحسن جهاد المنافقين على إقامة الحدود عليهم إذا تعاطوا أسبابها .
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)
( 473 ) أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك شهرين ينزل عليه القرآن ، ويعيب المنافقين المتخلفين فيسمع من معه منهم ، منهم الجلاس بن سويد . فقال الجُلاَس : والله لئن كان ما يقول محمد حقاً لإخواننا الذين خلفناهم وهم ساداتنا وأشرافنا ، فنحن شرّ من الحمير . فقال عامر بن قيس الأنصاري للجلاس : أجل ، والله إنّ محمداً لصادق وأنت شرّ من الحمار . وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستحضر فحلف بالله ما قال ، فرفع عامر يده فقال : اللَّهم أنزل على عبدك ونبيك تصديق الكاذب وتكذيب الصادق فنزلت { يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ } فقال الجلاس : يا رسول الله ، لقد عرض الله عليّ التوبة . والله لقد قلته وصدق عامر ، فتاب الجلاس وحسنت توبته { وَكَفَرُواْ بَعْدَ إسلامهم } وأظهروا كفرهم بعد إظهارهم الإسلام { وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ } وهو الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك عند مرجعه من تبوك :
( 474 ) تواثق خمسة عشر منهم على أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذا تسنم العقبة بالليل ، فأخذ عمار بن ياسر بخطام راحلته يقودها وحذيفة خلفها يسوقها ، فبينما هما كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفاف الإبل وبقعقعة السلاح ، فالتفت فإذا قوم متلثمون ، فقال : إليكم إليكم يا أعداء الله ، فهربوا . وقيل : همّ المنافقون بقتل عامر لردّه على الجلاس . وقيل : أرادوا أن يتوّجوا عبد الله بن أبيّ وإن لم يرض رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم { وَمَا نَقَمُواْ } وما أنكروا وما عابوا { إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ الله } وذلك أنهم كانوا حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في ضنك من العيش لا يركبون الخيل ولا يحوزون الغنيمة فأثروا بالغنائم وقتل للجلاس مولى ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته اثني عشر ألفاً فاستغنى { فَإِن يَتُوبُواْ } هي الآية التي تاب عندها الجلاس { فِى الدنيا والاخرة } بالقتل والنار .
وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)
روي : أنّ ثعلبة بن حاطب قال :
( 475 ) يا رسول الله ، ادع الله أن يرزقني مالاً ، فقال صلى الله عليه وسلم : «يا ثعلبة ، قليل تؤدّي شكره وخير من كثير لا تطيقه» فراجعه وقال : والذي بعثك بالحقّ لئن رزقني الله مالاً لأعطينّ كل ذي حقّ حقّه ، فدعا له ، فاتخذ غنماً فنمت كما ينمى الدود حتى ضاقت بها المدينة ، فنزل وادياً وانقطع عن الجماعة والجمعة ، فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل : كثر ماله حتى لا يسعه واد . قال : «يا ويح ثعلبة» ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدّقين لأخذ الصدقات ، فاستقبلهما الناس بصدقاتهم ، ومرّا بثعلبة فسألاه الصدقة وأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي فيه الفرائض ، فقال : ما هذه إلاّ جزية ، ما هذه إلاّ أخت الجزية ، وقال : ارجعا حتى أرى رأيي ، فلما رجعا قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يكلماه : «يا ويح ثعلبة» مرّتين ، فنزلت ، فجاءه ثعلبة بالصدقة ، فقال : «إنّ الله منعني أن أقبل منك ، فجعل التراب على رأسه فقال : هذا عملك قد أمرتك فلم تطعني ، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء بها إلى أبي بكر رضي الله عنه فلم يقبلها ، وجاء إلى عمر رضي الله عنه في خلافته فلم يقبلها ، وهلك في زمان عثمان رضي الله عنه . وقرىء : «لنصدّقن ولنكوننْ» بالنون الخفيفة فيهما { مّنَ الصالحين } قال ابن عباس رضي الله عنه : يريد الحجّ { فَأَعْقَبَهُمْ } عن الحسن وقتادة رضي الله عنهما : أن الضمير للبخل . يعني : فأورثهم البخل { نِفَاقاً } متمكناً { فِى قُلُوبِهِمْ } لأنه كان سبباً فيه وداعياً إليه . والظاهر أن الضمير لله عزّ وجلّ . والمعنى : فخذلهم حتى نافقوا وتمكن في قلوبهم نفاقهم فلا ينفك عنها إلى أن يموتوا بسبب إخلافهم ما وعدوا الله من التصدّق والصلاح وكونهم كاذبين . ومنه : جعل خلف الوعد ثلث النفاق . وقرىء : «يكذبون» ، بالتشديد ، وألم تعلموا ، بالتاء . عن عليّ رضي الله عنه .
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78)
{ سِرَّهُمْ ونجواهم } ما أسرّوه من النفاق والعزم على إخلاف ما وعدوه وما يتناجون به فيما بينهم من المطاعن في الدين وتسمية الصدقة جزية وتدبير منعها .
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79)
{ الذين يَلْمِزُونَ } محله النصب أو الرفع على الذمّ . ويجوز أن يكون في محل الجرّ بدلاً من الضمير في سرهم ونجواهم . وقرىء : «يلمزون» ، بالضم { المطوعين } المتطوّعين المتبرعين . روي :
( 476 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حثّ على الصدقة فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب . وقيل : بأربعة آلاف درهم وقال : كان لي ثمانية آلاف ، فأقرضت ربي أربعة وأمسكت أربعة لعيالي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت " - فبارك الله له حتى صولحت تماضر امرأته عن ربع الثمن على ثمانين ألفاً - وتصدّق عاصم بن عديّ بمائة وسق من تمر ، وجاء أبو عقيل الأنصاري رضي الله عنه بصاع من تمر فقال : بتّ ليلتي أجرّ بالجرير على صاعين ، فتركت صاعاً لعيالي ، وجئت بصاع فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينثره على الصدقات ، فلمزهم المنافقون وقالوا : ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلاّ رياء ، وإن كان الله ورسوله لغنيين عن صاع أبي عقيل ، ولكنه أحبّ أن يذكر بنفسه ليعطي من الصدقات ، فنزلت { إِلاَّ جُهْدَهُمْ } إلاّ طاقتهم . قرىء بالفتح والضم { سَخِرَ الله مِنْهُمْ } كقوله : { الله يَسْتَهْزِىء بِهِمْ } [ البقرة : 15 ] في أنه دعاء . ألا ترى إلى قوله : { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)
( 477 ) سأل عبد الله بن عبد الله بن أبيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رجلاً صالحاً أن يستغفر لأبيه في مرضه ففعل ، فنزلت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ الله قد رخص لي فسأزيد على السبعين " فنزلت : { سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } [ المنافقون : 6 ] وقد ذكرنا أن هذا الأمر في معنى الخبر ، كأنه قيل : لن يغفر الله لهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم ، وإن فيه معنى الشرط ، وذكرنا النكتة في المجيء به على لفظ الأمر ، والسبعون جار مجرى المثل في كلامهم للتكثير ، قال عليّ بن أبي طالب عليه السلام :
لاّصْبَحَنَّ الْعَاصِ وَابْنَ الْعَاصِي ... سَبْعِينَ أَلْفاً عَاقِدِي النَّوَاصِي
فإن قلت : كيف خفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أفصح العرب وأخبرهم بأساليب الكلام وتمثيلاته ، والذي يفهم من ذكر هذا العدد كثرة الاستغفار ، كيف وقد تلاه بقوله : { ذلك بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ } . . . الآية فبين الصارف عن المغفرة لهم حتى قال : «قد رخص لي ربي فسأزيد على السبعين» قلت : لم يخف عليه ذلك ، ولكنه خيل بما قال إظهاراً لغاية رحمته ورأفته على من بعث إليه ، كقول إبراهيم عليه السلام { وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ إبراهيم : 36 ] وفي إظهار النبي صلى الله عليه وسلم الرأفة والرحمة : لطف لأمّته ودعاء لهم إلى ترحم بعضهم على بعض .
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81)
{ المخلفون } الذين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين فأذن لهم وخلفهم في المدينة في غزوة تبوك ، أو الذين خلفهم كسلهم ونفاقهم والشيطان { بِمَقْعَدِهِمْ } بقعودهم عن الغزو { خلاف رَسُولِ الله } خلفه . يقال : أقام خلاف الحي . بمعنى بعدهم ظعنوا ولم يظعن معهم ، وتشهد له قراءة أبي حيوة : خلف رسول الله . وقيل : هو بمعنى المخالفة لأنهم خالفوه حيث قعدوا ونهض ، وانتصابه على أنه مفعول له أو حال ، أي قعدوا لمخالفته أو مخالفين له { أَن يجاهدوا بأموالهم وَأَنْفُسِهِمْ } تعريض بالمؤمنين وبتحملهم المشاقّ العظام لوجه لله تعالى وبما فعلوا من بذل أموالهم وأرواحهم في سبيل الله تعالى وإيثارهم ذلك على الدعة والخفض . وكره ذلك المنافقون . وكيف لا يكرهونه وما فيهم ما في المؤمنين من باعث الإيمان وداعي الإيقان { قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّا } استجهال لهم ، لأنّ من تصوّن من مشقة ساعة فوقع بسبب ذلك التصوُّن في مشقة الأبد ، كان أجهل من كل جاهل : ولبعضهم :
مَسَرَّةُ أَحْقَابٍ تَلَقَّيْتُ بَعْدَهَا ... مَسَاءَةَ يَوْمٍ أَرْيُهَا شِبْهُ الصَّاب
فَكَيْفَ بَأَنْ تَلْقَى مَسَرَّةَ سَاعَة ... وَرَاءَ تَقَضِّيهَا مَسَاءَة أَحْقَابِ
فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)
معناه : فسيضحكون قليلاً ، ويبكون كثيراً { جَزَاءً } إلاّ أنه أخرج على لفظ الأمر للدلالة على أنه حتم واجب لا يكون غيره . يروى أن أهل النفاق يبكون في النار عمر الدنيا ، لا يرقأ لهم دمع ولا يكتحلون بنوم .
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83)
وإنما قال { إلى طَائِفَةٍ مّنْهُمْ } لأنّ منهم من تاب عن النفاق وندم على التخلف ، أو اعتذر بعذر صحيح . وقيل : لم يكن المخلقون كلهم منافقين ، فأراد بالطائفة : المنافقين منهم { فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ } يعني إلى غزوة بعد غزوة تبوك . { أَوَّلَ مَرَّةٍ } هي الخروج إلى غزوة تبوك ، وكان إسقاطهم عن ديوان الغزاة عقوبة لهم على تخلفهم الذي علم الله أنه لم يدعهم إليه إلاّ النفاق ، بخلاف غيرهم من المتخلفين { مَعَ الخالفين } قد مرّ تفسيره . [ و ] قرأ مالك بن دينار رحمه الله : «مع الخلفين» على قصر الخالفين . فإن قلت : { مَرَّةٍ } نكرة وضعت موضع المرات للتفضيل ، فلم ذكر اسم التفضيل المضاف إليها وهو دال على واحدة من المرات؟ قلت : أكثر اللغتين : هند أكبر النساء ، وهي أكبرهنّ . ثم إنّ قولك : هي كبرى امرأة ، لا تكاد تعثر عليه . ولكن هي أكبر امرأة ، وأول مرة وآخر مرة . وعن قتادة : ذكر لنا أنهم كانوا اثني عشر رجلاً قيل فيهم ما قيل .
وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85)
روي :
( 478 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم على قبور المنافقين ويدعو لهم فلما مرض رأس النفاق عبد الله بن أبيّ بعث إليه ليأتيه ، فلما دخل عليه قال : أهلكك حبّ اليهود . فقال : يا رسول الله بعثت إليك لتستغفر لي لا لتؤنبني وسأله أن يكفنه في شعاره الذي يلي جلده ويصلّي عليه ، فلما مات دعاه ابنه حباب إلى جنازته ، فسأله عن اسمه فقال : أنت عبد الله ابن عبد الله . الحباب : اسم شيطان ، فلما همّ بالصلاة عليه قال له عمر : أتصلّي على عدوّ الله ، فنزلت وقيل : أراد أن يصلّي عليه فجذبه جبريل . فإن قلت : كيف جازت له تكرمة المنافق وتكفينه في قميصه؟ قلت : كان ذلك مكافأة له على صنيع سبق له . وذلك
( 479 ) أنّ العباس رضي الله عنه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أخذ أسيراً ببدر لم يجدوا له قميصاً وكان رجلاً طوالاً ، فكساه عبد الله قميصه .
( 480 ) وقال له المشركون يوم الحديبية : إنا لا نأذن لمحمد ولكنا نأذن لك ، فقال : لا ، إن لي في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة فشكر رسول الله صلى الله عليه وسلم له ذلك ، وإجابة له إلى مسئلته إياه ، فقد كان عليه الصلاة والسلام لا يردّ سائلاً ، وكان يتوفر على دواعي المروءة ويعمل بعادات الكرام ، وإكراماً لابنه الرجل الصالح ، فقد روي : أنه قال له :
( 481 ) أسألك أن تكفنه في بعض قمصانك ، وأن تقوم على قبره ، ولا يشمت به الأعداء ، وعلماً بأن تكفينه في قميصه لا ينفعه مع كفره ، فلا فرق بينه وبين غيره من الأكفان ، وليكون إلباسه إياه لطفاً لغيره ، فقد روي أنه قيل له :
( 482 ) لم وجهت إليه بقميصك وهو كافر؟ فقال : « إنّ قميصي لن يغني عنه من الله شيئاً ، وإني أؤمل من الله أن يدخل في الإسلام كثير بهذا السبب » فيروى أنه أسلم ألف من الخزرج لما رأوه طلب الاستشفاء بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك ترحمه واستغفاره كان للدعاء إلى التراحم والتعاطف ، لأنهم إذا رأوه يترحم على من يظهر الإيمان وباطنه على خلاف ذلك ، دعا المسلم إلى أن يتعطف على من واطأ قلبه لسانه ورآه حتماً عليه . فإن قلت : فكيف جازت الصلاة عليه؟ قلت : لم يتقدم نهي عن الصلاة عليهم ، وكانوا يجرون مجرى المسلمين لظاهر إيمانهم ، لما في ذلك من المصلحة . وعن ابن عباس رضي الله عنه : ما أدري ما هذه الصلاة ، إلاّ أني أعلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخادع { مَّاتَ } صفة لأحد . وإنما قيل : مات ، وماتوا بلفظ الماضي - والمعنى على الاستقبال - على تقدير الكون والوجود؛ لأنه كائن موجود لا محالة { أَنَّهُمْ كَفَرُواْ } تعليل للنهي ، وقد أعيد قوله : { وَلاَ تُعْجِبْكَ } لأنّ تجدد النزول له شأن في تقرير ما نزل له وتأكيده ، وإرادة أن يكون على بال من المخاطب لا ينساه ولا يسهو عنه ، وأن يعتقد أن العمل به مهمّ يفتقر إلى فضل عناية به ، لا سيما إذا تراخى ما بين النزولين فأشبه الشيء الذي أهم صاحبه ، فهو يرجع إليه في أثناء حديثه ويتخلص إليه ، وإنما أعيد هذا المعنى لقوته فيما يجب أن يحذر منه .
وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87) لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)
يجوز أن يراد السورة بتمامها ، وأن يراد بعضها في قوله : { وَإِذَا نُزّلَتْ سُورَةٌ } كما يقع القرآن والكتاب على كله وعلى بعضه . وقيل : هي براءة ، لأنّ فيها الأمر بالإيمان والجهاد { أَنْ ءَامِنُوا } هي أن المفسرة { أُوْلُو الطول } ذوو الفضل والسعة ، من طال عليه طولاً { مَعَ القاعدين } مع الذين لهم علة وعذر في التخلف { فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ } ما في الجهاد من الفوز والسعادة وما في التخلف من الشقاء والهلاك { لكن الرسول } أي إن تخلف هؤلاء فقد نهد إلى الغزو من هو خير منهم وأخلص نية ومعتقداً ، كقوله : { فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً } [ الأنعام : 89 ] ، { فَإِنِ استكبروا فالذين عِندَ رَبّكَ } [ فصلت : 38 ] . { الخَيْرَاتِ } تتناول منافع الدارين لإطلاق اللفظ . وقيل : الحور ، لقوله : { فِيهِنَّ خيرات } [ الرحمن : 70 ] .
وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)
{ المعذرون } من عذر في الأمر ، إذا قصر فيه وتوانى ولم يجدّ : وحقيقته أنه يوهم أن له عذراً فيما يفعل ولا عذر له : أو المعتذرون بإدغام التاء في الذال ونقل حركتها إلى العين ويجوز في العربية كسر العين لالتقاء الساكنين وضمها لإتباع الميم ، ولكن لم تثبت بهما قراءة ، وهم الذين يعتذرون بالباطل ، كقوله : { يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ } وقرىء : «المعذرون» بالتخفيف : وهو الذي يجتهد في العذر ويحتشد فيه . قيل : هم أسد وغطفان . قالوا : إن لنا عيالاً : وإن بنا جهداً فائذن لنا في التخلف . وقيل :
( 483 ) هم رهط عامر بن الطفيل قالوا : إن غزونا معك أغارت أعراب طيّ على أهالينا ومواشينا ، فقال صلى الله عليه وسلم : «سيغنيني الله عنكم» . وعن مجاهد . نفر من غفار ، اعتذروا فلم يعذرهم الله تعالى : وعن قتادة : اعتذروا بالكذب . وقرىء : «المعذرون» بتشديد العين والذال ، من تعذر بمعنى اعتذر ، وهذا غير صحيح؛ لأنّ التاء لا تدغم في العين إدغامها في الطاء والزاي والصاد ، في المطوّعين ، وأزكى وأصدق . وقيل : أريد المعتذرون بالصحة ، وبه فسر المعذرون والمعذرون ، على قراءة ابن عباس رضي الله عنه الذين لم يفرطوا في العذر { وَقَعَدَ الذين كَذَبُواْ الله وَرَسُولَهُ } هم منافقو الأعراب الذين لم يجيئوا ولم يعتذروا ، وظهر بذلك أنهم كذبوا الله ورسوله في ادعائهم الإيمان . وقرأ أبيّ : «كذبوا» بالتشيد { سَيُصِيبُ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ } من الأعراب { عَذَابٌ أَلِيمٌ } في الدنيا بالقتل ، وفي الآخرة بالنار .
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)
{ الضعفاء } الهرمى والزمنى . والذين لا يجدون : الفقراء . وقيل : هم مزينة وجهينة وبنو عذرة . والنصح لله ورسوله : الإيمان بهما ، وطاعتهما في السرّ والعلن ، وتوليهما ، والحبّ والبغض فيهما كما يفعل الموالي الناصح بصاحبه { عَلَى المحسنين } على المعذورين الناصحين ، ومعنى : لا سبيل عليهم : لا جناح عليهم . ولا طريق للعاتب عليهم { قُلْتَ لاَ أَجِدُ } حال من الكاف في { أَتَوْكَ } وقد قبله مضمرة ، كما قيل في قوله : { أَوْ جَاءوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ } [ النساء : 90 ] أي إذا ما أتوك قائلاً لا أجد { تَوَلَّوْاْ } ولقد حصر الله المعذورين في التخلف الذين ليس لهم في أبدانهم استطاعة ، والذين عدموا آلة الخروج ، والذين سألوا المعونة فلم يجدوها . وقيل : «المستحملون» أبو موسى الأشعري وأصحابه . وقيل : البكاؤون ، وهم ستة نفر من الأنصار { تَفِيضُ مِنَ الدمع } كقولك : تفيض دمعاً ، وهو أبلغ من يفيض دمعها ، لأنّ العين جعلت كأن كلها دمع فائض ، و «من» للبيان كقولك : أفديك من رجل ، ومحل الجار والمجرور النصب على التمييز { أَلاَّ يَجِدُواْ } لئلا يجدوا . ومحله نصب على أنه مفعول له ، وناصبه المفعول له الذي هو حزناً .
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94)
فإن قلت : { رَضُواْ } ما موقعه؟ قلت : هو استئناف ، كأنه قيل : ما بالهم استأذنوا وهم أغنياء؟ فقيل : رضوا بالدناءة والضعة والانتظام في جملة الخوالف { وَطَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ } يعني أن السبب في استئذانهم رضاهم بالدناءة وخذلان الله تعالى إياهم . فإن قلت : فهل يجوز أن يكون قوله : { قُلْتَ لاَ أَجِدُ } استئنافاً مثله ، كأنه قيل : إذا ما أتوك لتحملهم تولوا ، فقيل : ما لهم تولوا باكين؟ فقيل : قلت لا أجد ما أحملكم عليه . إلاّ أنه وسط بين الشرط والجزاء كالاعتراض { قُلْتَ } نعم ويحسن { لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ } علة للنهي عن الاعتذار؛ لأن غرض المعتذر أن يصدق فيما يعتذر به ، فإذا علم أنه مكذب وجب عليه الإخلال وقوله : { قَدْ نَبَّأَنَا الله مِنْ أَخْبَارِكُمْ } علة لانتفاء تصديقهم لأنّ الله عزّ وجلّ إذا أوحى إلى رسوله الإعلام بأخبارهم وما في ضمائرهم من الشرّ والفساد ، لم يستقم مع ذلك تصديقهم في معاذيرهم { وَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ } أتنيبون أم تثبتون على كفركم { ثُمَّ تُرَدُّونَ } إليه وهو عالم كل غيب وشهادة وسرّ وعلانية ، فيجازيكم على حسب ذلك .
سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95)
{ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ } فلا توبخوهم ولا تعاتبوهم { فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ } فأعطوهم طلبتهم { إِنَّهُمْ رِجْسٌ } تعليل لترك معاتبتهم ، يعني أنّ المعاتبة لا تنفع فيهم ولا تصلحهم ، إنما يعاتب الأديب ذو البشرة . والمؤمن يوبخ على زلة تفرط منه ، ليطهره التوبيخ بالحمل على التوبة والاستغفار ، وأما هؤلاء فأرجاس لا سبيل إلى تطهيرهم { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } يعني وكفتهم النار عتاباً وتوبيخاً ، فلا تتكلفوا عتابهم .
يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)
{ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ } أي غرضهم في الحلف بالله طلب رضاكم لينفعهم ذلك في دنياهم { فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ } فإن رضاكم وحدكم لا ينفعهم إذا كان الله ساخطاً عليهم وكانوا عرضة لعاجل عقوبته وآجلها . وقيل : إنما قيل ذلك لئلا يتوهم متوهم أن رضا المؤمنين يقتضي رضا الله عنهم . وقيل :
( 484 ) هم جدّ بن قيس ومعتب بن قشير وأصحابهما ، وكانوا ثمانين رجلاً منافقين فقال النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة : « لا تجالسوهم ولا تكلموهم » وقيل : جاء عبد الله بن أبيّ يحلف أن لا يتخلف عنه أبداً .
الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97)
{ الاعراب } أهل البدو { أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا } من أهل الحضر لجفائهم وقسوتهم وتوحشهم ، ونشئهم في بعد من مشاهدة العلماء ومعرفة الكتاب والسنّة { وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ } وأحقّ بجهل حدود الدين وما أنزل الله من الشرائع والأحكام . ومنه قوله صلى الله عليه وسلم :
( 485 ) « إنّ الجفاء والقسوة في الفدّادين » { والله عَلِيمٌ } يعلم حال كل أحد من أهل الوبر والمدر { حَكِيمٌ } فيما يصيب به مسيئهم ومحسنهم ومخطئهم ومصيبهم من عقابه وثوابه .
وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)
{ مَغْرَمًا } غرامة وخسراناً . والغرامة : ما ينفقه الرجل وليس يلزمه ، لأنه لا ينفق إلاّ تقية من المسلمين ورياء ، لا لوجه الله عزّ وجلّ وابتغاء المثوبة عنده { وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدوائر } دوائر الزمان : دوله وعقبه لتذهب غلبتكم عليه ليتخلص من إعطاء الصدقة { عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السوء } دعاء معترض ، دعى عليهم بنحو ما دعوا به ، كقوله عزّ وجلّ : { قَالَتْ اليهود يَدُ الله مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ } [ المائدة : 64 ] وقرىء «السُّوء» بالضم وهو العذاب ، كما قيل له سيئة . والسوء بالفتح ، وهو ذمّ للدائرة ، كقولك : رجل سوء ، في نقيض قولك : رجل صدق ، لأنّ من دارت عليه ذامّ لها { والله سَمِيعٌ } لما يقولون إذا توجهت عليهم الصدقة { عَلِيمٌ } بما يضمرون . وقيل : هم أعراب أسد وغطفان وتميم { قربات } مفعول ثان ليتخذ . والمعنى : أنّ ما ينفقه سبب لحصول القربات عند الله { وصلوات الرسول } لأنّ الرسول كان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة ويستغفر لهم ، كقوله :
( 486 ) " اللَّهم صلّ على آل أبي أوفى " وقال تعالى : { وَصَلّ عَلَيْهِمْ } [ التوبة : 103 ] فلما كان ما ينفق سبباً لذلك قيل : يتخذ ما ينفق قربات وصلوات { ألا إِنَّهَا } شهادة من الله للمتصدق بصحة ما اعتقد من كون نفقته قربات وصلوات وتصديق لرجائه على طريق الاستئناف ، مع حرفي التنبيه والتحقيق المؤذنين بثبات الأمر وتمكنه ، وكذلك { سَيُدْخِلُهُمُ } وما في السين من تحقيق الوعد ، وما أدلّ هذا الكلام على رضا الله تعالى عن المتصدقين ، وأن الصدقة منه بمكان إذا خلصت النية من صاحبها . وقرىء : «قُربة» بضم الراء . وقيل : هم عبد الله وذو البجادين ورهطه .
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)
{ وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ } هم الذين صلّوا إلى القبلتين . وقيل : الذين شهدوا بدراً . وعن الشعبي : من بايع بالحديبية وهي بيعة الرضوان ما بين الهجرتين { و } من { الأنصار } أهل بيعة العقبة الأولى ، وكانوا سبعة نفر ، وأهل العقبة الثانية وكانوا سبعين ، والذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة مصعب بن عمير فعلمهم القرآن . وقرأ عمر رضي الله عنه : «والأنصارُ» بالرفع عطفاً على ( السابقون ) . وعن عمر أنه كان يرى أن قوله : { والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ } بغير واو صفة للأنصار ، حتى قال له زيد : إنه بالواو ، فقال : ائتوني بأبيّ ، فقال تصديق ذلك في أول الجمعة { وَءاخَرِينَ مِنْهُم } [ الجمعة : 3 ] وأوسط الحشر { والذين جاءوا مّن بَعْدِهِمْ } [ الحشر : 10 ] وآخر الأنفال { والذين ءامَنُواْ مِن بَعْدُ } [ الأنفال : 75 ] . وروي : أنه سمع رجلاً يقرؤه بالواو ، فقال : من أقرأك؟ قال : أبيّ ، فدعاه فقال : أقرأنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنك لتبيع القرظ بالبقيع ، قال : صدقت ، وإن شئت قلت : شهدنا وغبتم ، ونصرنا وخذلتم ، وآوينا وطردتم . ومن ثم قال عمر : لقد كنت أرانا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا ، وارتفع السابقون بالابتداء ، وخبره { رَّضِىَ الله عَنْهُمْ } ومعناه : رضي عنهم لأعمالهم { وَرَضُواْ عَنْهُ } لما أفاض عليهم من نعمته الدينية والدنيوية وفي مصاحف أهل مكة : تجري من تحتها ، وهي قراءة ابن كثير ، وفي سائر المصاحف : تحتها ، بغير من .
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)
{ وَمِمَّنْ حَوْلَكُم } يعني حول بلدتكم وهي المدينة { منافقون } وهم جهينة وأسلم وأشجع وغفار ، كانوا نازلين حولها { وَمِنْ أَهْلِ المدينة } عطف على خبر المبتدإ الذي هو ممن حولكم ويجوز أن يكون جملة معطوفة على المبتدإ والخبر إذا قدّرت : ومن أهل المدينة قوم مردوا على النفاق ، على أنّ { مَرَدُواْ } صفة موصوف محذوف كقوله :
أَنَا ابْنُ جَلاَ . . . . . . . . . . . . ... وعلى الوجه الأول لا يخلو من أن يكون كلاماً مبتدأ أو صفة لمنافقون ، فصل بينها وبينه بمعطوف على خبره { مَرَدُواْ عَلَى النفاق } تمهروا فيه ، من مرن فلان عمله ، ومرد عليه : إذا درب به وضرى ، حتى لان عليه ومهر فيه ، ودّل على مرانتهم عليه ومهارتهم فيه بقوله : { لاَ تَعْلَمُهُمْ } أي يخفون عليك مع فطنتك وشهامتك وصدق فراستك ، لفرط تنوّقهم في تحامي ما يشكك في أمرهم ، ثم قال : { نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } أي لا يعلمهم إلاّ الله ، ولا يطلع على سرهم غيره ، لأنهم يبطنون الكفر في سويداوات قلوبهم إبطاناً ، ويبرزون لك ظاهراً كظاهر المخلصين من المؤمنين ، لا تشك معه في إيمانهم ، وذلك أنهم مردوا على النفاق وضروا به ، فلهم فيه اليد الطولى { سَنُعَذّبُهُم مَّرَّتَيْنِ } قيل : هما القتل وعذاب القبر . وقيل : الفضيحة وعذاب القبر . وعن ابن عباس رضي الله عنه أنهم اختلفوا في هاتين المرّتين ، فقال :
( 487 ) قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً يوم الجمعة فقال : «اخرج يا فلان فإنك منافق ، اخرج يا فلان فإنك منافق» فأخرج ناساً وفضحهم ) ، فهذا العذاب الأوّل ، والثاني عذاب القبر . وعن الحسن : أخذ الزكاة من أموالهم ونهك أبدانهم { إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ } إلى عذاب النار .
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)
{ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ } أي لم يعتذروا من تخلفهم بالمعاذير الكاذبة كغيرهم ، ولكن اعترفوا على أنفسهم بأنهم بئس ما فعلوا متذممين نادمين ، وكانوا ثلاثة : أبو لبابة مروان بن عبد المنذر ، وأوس بن ثعلبة ، ووديعة بن حزام . وقيل :
( 488 ) كانوا عشرة ، فسبعة منهم أوثقوا أنفسهم : بلغهم ما نزل في المتخلفين فأيقنوا بالهلاك ، فأوثقوا أنفسهم على سواري المسجد ، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدخل المسجد فصلى ركعتين - وكانت عادته صلى الله عليه وسلم كلما قدم من سفر -فرآهم موثقين ، فسأل عنهم ، فذكر له أنهم أقسموا أن لا يحلوا أنفسهم حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلهم ، فقال : وأنا أقسم أن لا أحلّهم حتى أومر فيهم ، فنزلت ، فأطلقهم وعذرهم ، فقالوا : يا رسول الله ، هذه أموالنا التي خلفتنا عنك فتصدق بها وطهرنا ، فقال : ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً ، فنزلت : خذ من أموالهم { عَمَلاً صالحا } خروجاً إلى الجهاد { وَءَاخَرَ سَيِّئاً } تخلفاً عنه . عن الحسن وعن الكلبي : التوبة والإثم . فإن قلت : قد جعل كل واحد منهما مخلوطاً فما المخلوط به؟ قلت : كل واحد منهما مخلوط ومخلوط به؛ لأنّ المعنى خلط كل واحد منهما الآخر ، كقولك : خلطت الماء واللبن ، تريد : خلطت كل واحد منهما بصاحبه . وفيه ما ليس في قولك : خلطت الماء باللبن؛ لأنّك جعلت الماء مخلوطاً واللبن مخلوطاً به ، وإذا قلته بالواو وجعلت الماء واللبن مخلوطين ومخلوطاً بهما ، كأنك قلت : خلطت الماء باللبن واللبن بالماء ، ويجوز أن يكون من قولهم : بعت الشاة شاة ودرهماً ، بمعنى شاة بدرهم . فإن قلت : كيف قيل : { أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } وما ذكرت توبتهم؟ قلت : إذا ذكر اعترافهم بذنوبهم ، وهو دليل على التوبة ، فقد ذكرت توبتهم .
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)
{ تُطَهّرُهُمْ } صفة لصدقة . وقرىء : «تطهرهم» ، من أطهره بمعنى طهره . و «تطهرهم» ، بالجزم جواباً للأمر . ولم يقرأ { وَتُزَكّيهِمْ } إلاّ بإثبات الياء . والتاء في { تُطَهّرُهُمْ } للخطاب أو لغيبة المؤنث . والتزكية : مبالغة في التطهير وزيادة فيه ، أو بمعنى الإنماء والبركة في المال { وَصَلّ عَلَيْهِمْ } واعطف عليهم بالدعاء لهم وترحم ، والسنّة أن يدعو المصدق لصاحب الصدقة إذا أخذها . وعن الشافعي رحمه الله : أحب أن يقول الوالي عند أخذ الصدقة : أجرك الله فيما أعطيت ، وجعله طهوراً ، وبارك لك فيما أبقيت . وقرىء : «إن صلاتك» على التوحيد { سَكَنٌ لَّهُمْ } يسكنون إليه وتطمئن قلوبهم بأن الله قد تاب عليهم { والله سَمِيعٌ } يسمع اعترافهم بذنوبهم ودعاءهم { عَلِيمٌ } بما في ضمائرهم ، والغمّ من الندم لما فرط منهم .
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)
قرىء : { أَلَمْ يَعْلَمُواْ } بالياء والتاء ، وفيه وجهان ، أحدهما : أن يراد المتوب عليهم ، يعني : ألم يعلموا قبل أن يتاب عليهم وتقبل صدقاتهم { أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة } إذا صحّت ، ويقبل الصدقات إذا صدرت عن خلوص النية ، وهو للتخصيص والتأكيد ، وأن الله تعالى من شأنه قبول توبة التائبين . وقيل : معنى التخصيص في هو : أن ذلك ليس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنما الله سبحانه هو الذي يقبل التوبة ويردّها ، فاقصدوه بها ووجهوها إليه .
وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
{ وَقُلِ } لهؤلاء التائبين { اعملوا } فإن عملكم لا يخفى - خيراً كان أو شراً - على الله وعباده كما رأيتم وتبين لكم . والثاني : أن يراد غير التائبين ترغيباً لهم في التوبة ، فقد روي أنهم لما تيب عليهم قال الذين لم يتوبوا : هؤلاء الذين تابوا كانوا بالأمس معنا لا يكلمون ولا يجالسون فما لهم فنزلت . فإن قلت : فما معنى قوله : { وَيَأْخُذُ الصدقات } قلت : هو مجاز عن قبوله لها ، وعن ابن مسعود رضي الله عنه : إن الصدقة تقع في يد الله تعالى قبل أن تقع في يد السائل والمعنى : أنه يتقبلها ويضاعف عليها ، وقوله : { فَسَيَرَى الله } وعيد لهم وتحذير من عاقبة الإصرار والذهول عن التوبة .
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)
قرىء : «مرجون» و «مرجؤن» من أرجيته ، وأرجأته : إذا أخرته . ومنه المرجئة ، يعني : وآخرون من المتخلفين موقوف أمرهم { إِمَّا يُعَذّبُهُمْ } إن بقوا على الإصرار ولم يتوبوا { وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ } إن تابوا ، وهم ثلاثة : كعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، ومرارة ابن الربيع : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن لا يسلموا عليهم ولا يكلموهم ، ولم يفعلوا كما فعل أبو لبابة وأصحابه من شدّ أنفسهم على السواري وإظهار الجزع والغمّ ، فلما علموا أنّ أحداً لا ينظر إليهم فوّضوا أمرهم إلى الله تعالى ، وأخلصوا نياتهم ، ونصحت توبتهم ، فرحمهم الله { والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } . وفي قراءة عبد الله : غفور رحيم . وإمّا للعباد : أي خافوا عليهم العذاب وارجوا لهم الرحمة .
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)
في مصاحف أهل المدينة والشام : الذين اتخذوا بغير واو ، لأنها قصة على حيالها . وفي سائرها بالواو على عطف قصة مسجد الضرار الذي أحدثه المنافقون على سائر قصصهم . روي :
( 489 ) أنّ بني عمرو بن عوف لما بنوا مسجد قباء بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم فأتاهم فصلى فيه فحسدتهم إخوتهم بنو غنم بن عوف وقالوا : نبني مسجداً ونرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي فيه ، ويصلّي فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشام ، ليثبت لهم الفضل والزيادة على إخوتهم ، وهو الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق ، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد : لا أجد قوماً يقاتلوك إلا قاتلتك معهم ، فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين ، فلما انهزمت هوازن خرج هارباً إلى الشام ، وأرسل إلى المنافقين . أن استعدّوا بما استطعتم من قوة وسلاح ، فإني ذاهب إلى قيصر وآت بجنود ومخرج محمداً وأصحابه من المدينة ، فبنوا مسجداً بجنب مسجد قباء ، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والشاتية ، ونحن نحبّ أن تصلّي لنا فيه وتدعو لنا بالبركة ، فقال صلى الله عليه وسلم : إني على جناح سفر وحال شغل . وإذا قدمنا إن شاء الله صلّينا فيه ، فلما قفل من غزوة تبوك سألوه إتيان المسجد ، فنزلت عليه ، فدعا بمالك بن الدخشم ومعن بن عديّ وعامر بن السكن ووحشي قاتل حمزة ، فقال لهم : انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه واحرقوه ، ففعلوا ، وأمر أن يتخذ مكانه كناسة تلقى فيها الجيف والقمامة ، ومات أبو عامر بالشام بقنسرين { ضِرَارًا } مضارْة لإخوانهم أصحاب مسجد قباء ومعازة { وَكُفْراً } وتقوية للنفاق { وَتَفْرِيقًا بَيْنَ المؤمنين } لأنهم كانوا يصلون مجتمعين في مسجد قباء فيغتص بهم ، فأرادوا أن يتفرقوا عنه وتختلف كلمتهم { وَإِرْصَادًا } وإعداداً { ل } أجل { منْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ } وهو الراهب : أعدوه له ليصلّي فيه ويظهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل : كل مسجد بني مباهاة أو رياء وسمعة أو لغرض سوى ابتغاء وجه الله أو بمال غير طيب ، فهو لاحق بمسجد الضرار . وعن شقيق أنه لم يدرك الصلاة في مسجد بني عامر؛ فقيل له : مسجد بني فلان لم يصلوا فيه بعد ، فقال : لا أحبّ أن أصلّي فيه ، فإنّه بني على ضرار ، وكل مسجد بني على ضرار أو رياء أو سمعة فإنّ أصله ينتهي إلى المسجد الذي بني ضراراً . وعن عطاء : لما فتح الله تعالى الأمصار على يد عمر رضي الله عنه أمر المسلمين أن يبنوا المساجد وأن لا يتخذوا في مدينة مسجدين يضارّ أحدهما صاحبه ، فإن قلت : { والذين اتخذوا } ما محله من الإعراب؟ قلت : محله النصب على الاختصاص .
كقوله : { المقيمين الصلاة } [ النساء : 162 ] وقيل : هو مبتدأ خبره محذوف ، معناه : وفيمن وصفنا الذين اتخذوا كقوله : { والسارق والسارقة } [ المائدة : 38 ] . فإن قلت : بم يتصل قوله : { مِن قَبْلُ } ؟ قلت : باتخذوا ، أي اتخذوا مسجداً من قبل أن ينافق هؤلاء بالتخلف { إِنْ أَرَدْنَا } ما أردنا ببناء هذا المسجد { إِلاَّ } إلا الخصلة { الحسنى } أو الإرادة الحسنة ، وهي الصلاة . وذكر الله والتوسعة على المصلين { لَّمَسْجِدٌ أُسّسَ عَلَى التقوى } قيل : هو مسجد قباء أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى فيه أيام مقامه بقباء ، وهي يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس ، وخرج يوم الجمعة ، وهو أولى ، لأنّ الموازنة بين مسجدي قباء أوقع . وقيل : هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، وعن أبي سعيد الخدري :
( 490 ) سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الذي أسس على التقوى ، فأخذ حصباء فضرب بها الأرض وقال : " هو مسجدكم هذا مسجد المدينة " { مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ } من أول يوم من أيام وجوده { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ } قيل :
( 491 ) لما نزلت مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه المهاجرون حتى وقف على باب مسجد قباء ، فإذا الأنصار جلوس فقال : أمؤمنون أنتم؟ فسكت القوم ، ثم أعادها : فقال عمر : يا رسول الله إنهم لمؤمنون وأنا معهم . فقال صلى الله عليه وسلم : «أترضون بالقضاء؟» قالوا : نعم ، قال : «أتصبرون على البلاء؟» قالوا : نعم . قال : «أتشكرون في الرخاء؟» قالوا : نعم . قال صلى الله عليه وسلم : «مؤمنون ورب الكعبة» . فجلس ثم قال : يا معشر الأنصار ، إنّ الله عزّ وجلّ قد أثنى عليكم فما الذي تصنعون عند الوضوء وعند الغائط ، فقالوا : يا رسول الله ، نتبع الغائط الأحجار الثلاثة ، ثم نتبع الأحجار الماء . فتلا النبي صلى الله عليه وسلم : { رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ } . وقرىء؛ «أن يطهروا» بالإدغام . وقيل : هو عام في التطهر من النجاسات كلها . وقيل : كانوا لا ينامون الليل على الجنابة ، ويتبعون الماء أثر البول . وعن الحسن : هو التطهر من الذنوب بالتوبة . وقيل : يحبّون أن يتطهروا بالحمى المكفرة لذنوبهم ، فحموا عن آخرهم . فإن قلت : ما معنى المحبتين؟ قلت : محبتهم للتطهر أنهم يؤثرونه ويحرصون عليه حرص المحبّ للشيء المشتهى له على إيثاره . ومحبة الله تعالى إياهم : أنه يرضى عنهم ويحسن إليهم ، كما يفعل المحبّ بمحبوبه .
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)
قرىء : أسس بنيانه» و «أُسس بنيانه» ، على البناء للفاعل والمفعول . وأسس بنيانه ، جمع أساس على الأضافة ، وأساس بنيانه ، بالفتح والكسر : جمع أس؛ وآساس بنيانه على أفعال ، جمع أس أيضاً ، وأس بنيانه . والمعنى : أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة قوية محكمة وهي الحق الذي هو تقوى الله ورضوانه { خَيْرٌ أَم مَّنْ } أسسه على قاعدة هي أضعف القواعد وأرخاها وأقلها بقاء ، وهو الباطل والنفاق الذي مثله مثل { شَفَا جُرُفٍ هَارٍ } في قلة الثبات والاستمساك ، وضع شفا الجرف في مقابلة التقوى؛ لأنه جعل مجازاً عما ينافي التقوى . فإن قلت : فما معنى قوله : { فانهار بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ } ؟ قلت : لما جعل الجرف الهائر مجازاً عن الباطل قيل : فانهار به في نار جهنم ، على معنى : فطاح به الباطل في نار جهنم ، إلاّ أنه رشح المجاز فجيء بلفظ الانهيار الذي هو للجرف ، وليصور أنّ المبطل كأنه أسس بنياناً على شفا جرف من أودية جهنم فانهار به ذلك الجرف فهوى في قعرها . والشفا : الحرف والشفير . وجرف الوادي : جانبه الذي يتحفر أصله بالماء وتجرفه السيول فيبقى واهياً . والهار : الهائر وهو المتصدع الذي أشفى على التهدم والسقوط . ووزنه فعل ، قصر عن فاعل ، كخلف من خالف . ونظيره : شاك وصات ، في شائك وصائت . وألفه ليست بألف فاعل ، إنما هي عينه . وأصله هور وشوك وصوت . ولا ترى أبلغ من هذا الكلام ولا أدلّ على حقيقة الباطل وكنه أمره . وقرىء : جرف ، بسكون الراء : فإن قلت : فما وجه ما روى سيبويه عن عيسى بن عمر : على تقوىً من الله ، بالتنوين؟ قلت : قد جعل الألف للإلحاق لا للتأنيث ، كتترى فيمن نوّن ، ألحقها بجعفر . وفي مصحف أبيّ : فانهارت به قواعده . وقيل : حفرت بقعة من مسجد الضرار فرؤي الدخان يخرج منه . وروي أن مجمع بن حارثة كان إمامهم في مسجد الضرار ، فكلم بنو عمرو بن عوف أصحاب مسجد قباء عمر بن الخطاب في خلافته أن يأذن لمجمع فيؤمهم في مسجدهم فقال : لا ، ولا نعمة عين ، أليس بإمام مسجد الضرار؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، لا تعجل عليّ ، فوالله لقد صليت بهم والله يعلم أني لا أعلم ما أضمروا فيه ، ولو علمت ما صليت معهم فيه ، كنت غلاماً قارئاً للقرآن وكانوا شيوخاً لا يقرؤون من القرآن شيئاً ، فعذره وصدّقه وأمره بالصلاة بقومه .
لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
{ رِيبَةً } شكاً في الدين ونفاقاً ، وكان القوم منافقين ، وإنما حملهم على بناء ذلك المسجد كفرهم ونفاقهم كما قال عزّ وجلّ : { ضِرَارًا وَكُفْرًا } [ التوبة : 107 ] فلما هدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ازدادوا -لما غاظهم من ذلك وعظم عليهم - تصميماً على النفاق ومقتاً للإسلام ، فمعنى قوله : { لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذى بَنَوْاْ رِيبَةً فِى قُلُوبِهِمْ } لا يزال هدمه سبب شكّ ، ونفاق زائد على شكّهم ونفاقهم لا يزول وسمه عن قلوبهم ولا يضمحلّ أثره { إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ } قطعاً وتفرّق أجزاء ، فحينئذٍ يسلون عنه . وأمّا ما دامت سالمة مجتمعة فالريبة باقية فيها متمكنة ، فيجوز أن يكون ذكر التقطيع تصويراً لحال زوال الريبة عنها . ويجوز أن يراد حقيقة تقطيعها وما هو كائن منه بقتلهم أو في القبور أو في النار . وقرىء : «يقطع» ، بالياء . و «تقطع» بالتخفيف . و «تَقطع» بفتح التاء بمعنى تتقطع . وتقطع قلوبهم ، على أن الخطاب للرسول أي إلاّ أن تقطع أنت قلوبهم بقتلهم . وقرأ الحسن : إلى أن ، وفي قراءة عبد الله : «ولو قطعت قلوبهم» . وعن طلحة : ولو قطعت قلوبهم على خطاب الرسول أو كل مخاطب . وقيل : معناه إلاّ أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندماً وأسفاً على تفريطهم .
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)
مثل الله إثابتهم بالجنة على بذلهم أنفسهم وأموالهم في سبيله بالشروى . وروى : تاجرهم فأغلى لهم الثمن . وعن عمر رضي الله عنه فجعل لهم الصفقتين جميعاً . وعن الحسن : أنفساً هو خلقها وأموالاً هو رزقها . وروي :
( 492 ) أنّ الأنصار حين بايعوه على العقبة قال عبد الله بن رواحة : اشترط لربك ولنفسك ما شئت . قال : اشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم . قال : فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال : لكم الجنة . قالوا : ربح البيع ، لا نقيل ولا نستقيل . ومرّ برسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابيّ وهو يقرؤها فقال : كلام من؟ قال كلام الله . قال : بيع الله مربح لا نقيله ولا نستقيله ، فخرج إلى الغزو فاستشهد { يقاتلون } فيه معنى الأمر ، كقوله : { وتجاهدون فِى سَبِيلِ الله بأموالكم وَأَنفُسِكُمْ } [ الصف : 11 ] . وقرىء : «فيقتلون» و «يقتلون» على بناء الأوّل للفاعل والثاني للمفعول ، وعلى العكس { وَعْدًا } مصدر مؤكد . أخبر بأن هذا الوعد الذي وعده للمجاهدين في سبيله وعد ثابت قد أثبته { فِي التوراة والإنجيل } كما أثبته في القرآن ، ثم قال : { وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله } لأنّ إخلاف الميعاد قبيح لا يقدم عليه الكرام من الخلق مع جوازه عليهم لحاجتهم ، فكيف بالغني الذي لا يجوز عليه القبيح قط ، ولا ترى ترغيباً في الجهاد أحسن منه وأبلغ .
التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)
{ التائبون } رفع على المدح . أي : هم التائبون يعني المؤمنين المذكورين . ويدلّ عليه قراءة عبد الله وأبيّ رضي الله عنهما : «التائبين» بالياء إلى : والحافظين ، نصباً على المدح . ويجوز أن يكون جراً صفة للمؤمنين . وجوّز الزجاج أن يكون مبتدأ خبره محذوف ، أي : التائبون العابدون من أهل الجنة أيضاً وإن لم يجاهدوا ، كقوله : { وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى } [ النساء : 95 ] وقيل : هو رفع على البدل من الضمير في يقاتلون . ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره العابدون ، وما بعده خبر بعد خبر ، أي التائبون من الكفر على الحقيقة الجامعون لهذه الخصال . وعن الحسن : هم الذين تابوا من الشرك وتبرؤا من النفاق . و { العابدون } الذين عبدوا الله وحده وأخلصوا له العبادة وحرصوا عليها . و { السائحون } الصائمون شبهوا بذوي السياحة في الأرض في امتناعهم من شهواتهم . وقيل : هم طلبة العلم يسيحون في الأرض يطلبونه في مظانه .
مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)
قيل :
( 493 ) قال صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب : « أنت أعظم الناس عليَّ حقاً ، وأحسنهم عندي يداً ، فقل كلمة تجب لك بها شفاعتي » ، فأبى فقال : « لا أزال أتسغفر لك ما لم أنه عنه » ، فنزلت . وقيل :
( 494 ) لما افتتح مكة سأل أي أبويه أحدث به عهداً؟ فقيل : أمك آمنة ، فزار قبرها بالأبواء ، ثم قام مستعبراً فقال : إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي ، واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي ، فنزلت . وهذا أصحّ لأنّ موت أبي طالب كان قبل الهجرة ، وهذا آخر ما نزل بالمدينة . وقيل : استغفر لأبيه . وقيل :
( 495 ) قال المسلمون ما يمنعنا أن نستغفر لآبائنا وذوي قرابتنا وقد استغفر إبراهيم لأبيه ، وهذا محمد يستغفر لعمه { مَا كَانَ لِلنَّبِىّ } ما صح له الاستغفار في حكم الله وحكمته { مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أصحاب الجحيم } لأنهم ماتوا على الشرك .
وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)
قرأ طلحة وما استغفر إبراهيم لأبيه ، وعنه : وما يستغفر إبراهيم ، على حكاية الحال الماضية { إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ } أي وعدها إبراهيم أباه ، وهو قوله : { لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } [ الممتحنة : 4 ] ويدلّ عليه قراءة الحسن وحماد الراوية : وعدها أباه . فإن قلت : كيف خفي على إبراهيم أن الاستغفار للكافر غير جائز حتى وعده؟ قلت : يجوز أن يظن أنه ما دام يرجى منه الإيمان جاز الاستغفار له ، على أن امتناع جواز الاستغفار للكافر إنما علم بالوحي ، لأنّ العقل يجوّز أن يغفر الله للكافر . ألا ترى إلى قوله عليه السلام لعمه : لأستغفرنّ لك ما لم أنه . وعن الحسن
( 496 ) قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن فلاناً يستغفر لأبائه المشركين ، فقال : ونحن نستغفر لهم فنزلت . وعن علي رضي الله عنه :
( 497 ) رأيت رجلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان ، فقلت له ، فقال : أليس قد استغفر إبراهيم فإن قلت : فما معنى قوله : { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ } ؟ قلت : معناه : فلما تبين له من جهة الوحي أنه لن يؤمن وأنه يموت كافراً وانقطع رجاؤه عنه ، قطع استغفاره فهو كقوله : { مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أصحاب الجحيم } [ التوبة : 113 ] . { أَوَّاهٌ } فعال ، من أوه كلأل من اللؤلؤ ، وهو الذي يكثر التأوه . ومعناه أنه لفرط ترحمه ورقته وحلمه كان يتعطف على أبيه الكافر ويستغفر له ، مع شكاسته عليه ، وقوله : «لأرجمنك» .
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116)
يعني ما أمر الله باتقائه واجتنابه كالاستغفار للمشركين وغيره مما نهى عنه وبين أنه محظور لا يؤاخذ به عباده الذين هداهم للإسلام ، ولا يسميهم ضلالاً ، ولا يخذلهم إلاّ إذا أقدموا عليه بعد بيان خطره عليهم وعلمهم أنه واجب الاتقاء والاجتناب . وأما قبل العلم والبيان فلا سبيل عليهم ، كما لا يؤاخذون بشرب الخمر ولا ببيع الصاع بالصاعين قبل التحريم . وهذا بيان لعذر من خاف المؤاخذة بالاستغفار للمشركين قبل ورود النهي عنه . وفي هذه الآية شديدة ما ينبغي أن يغفل عنها : وهي أنّ المهديّ للإسلام إذا أقدم على بعض محظورات الله داخل في حكم الإضلال ، والمراد بما يتقون : ما يجب اتقاؤه للنهي ، فأما ما يعلم بالعقل كالصدق في الخبر ، وردّ الوديعة فغير موقوف على التوقيف .
لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)
{ تَابَ الله على النبى } كقوله : { لّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } [ الفتح : 2 ] وقوله : { واستغفر لِذَنبِكَ } وهو بعث للمؤمنين على التوبة ، وأنه ما من مؤمن إلاّ وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار حتى النبي والمهاجرون والأنصار ، وإبانة لفضل التوبة ومقدارها عند الله ، وأن صفة التوابين الأوّابين صفة الأنبياء ، كما وصفهم بالصالحين ليظهر فضيلة الصلاح . وقيل : معناه تاب الله عليه من إذنه للمنافقين في التخلف عنه ، كقوله : { عَفَا الله عَنكَ } [ التوبة : 43 ] ، { فِى سَاعَةِ العسرة } في وقتها ، والساعة مستعملة في معنى الزمان المطلق ، كما استعملت الغداة والعشية واليوم :
غَدَاةً طَفَتْ عَلْمَاءِ بَكْرُ بْنُ وَائِلٍ ... وَكُنَّا حَسِبْنَا كُلَّ بَيْضَاءَ شَحْمَةً
عَشِيَّةَ قَارَعْنَا جُذَامَ وَحِمْيَراً ... إذَا جَاءَ يَوْماً وَارِثِي يَبْتَغِي الْغِنَى
يَجِدْ جُمْعَ كَفٍّ غَيْرَ مَلأَى وَلاَ صِفْر ... والعسرة : حالهم في غزوة تبوك كانوا في عسرة من الظهر : يعتقب العشرة على بعير واحد . وفي عسرة من الزاد : تزوّدوا التمر المدود والشعير المسوّس والإهالة الزنخة ، وبلغت بهم الشدّة أن اقتسم التمرة اثنان ، وربما مصها الجماعة ليشربوا عليها الماء . وفي عسرة من الماء ، حتى نحروا الإبل واعتصروا فروثها . وفي شدّة زمان ، من حمارّة القيظ ومن الجدب والقحط والضيقة الشديدة { كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ } عن الثبات على الإيمان ، أو عن اتباع الرسول في تلك الغزوة والخروج معه . وفي «كاد» ضمير الشأن ، وشبهه سيبويه بقولهم : ليس خلق الله مثله . وقرىء : «يزيغ» بالياء . وفي قراءة عبد الله : «من بعد ما زاغت قلوب فريق منهم» ، يريد المتخلفين من المؤمنين كأبي لبابة وأمثاله { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } تكرير للتوكيد . ويجوز أن يكون الضمير للفريق : تاب عليهم لكيدودتهم .
وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)
{ الثلاثة } كعب بن مالك ، ومرارة بن الربيع ، وهلال بن أمية . ومعنى { خُلّفُواْ } خلفوا عن الغزو وقيل عن أبي لبابة وأصحابه حين تيب عليهم بعدهم وقرىء «خلفوا» أي خلفوا الغازين بالمدينة ، أو فسدوا من الخالفة وخلوف الفم . وقرأ جعفر الصادق رضي الله عنه : «خالفوا» . وقرأ الأعمش : «وعلى الثلاثة المخلفين» { بِمَا رَحُبَتْ } برحبها ، أي : مع سعتها ، وهو مثل للحيرة في أمرهم ، كأنهم لا يجدون فيها مكاناً يقرّون فيه قلقاً وجزعاً مما هم فيه { وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ } أي قلوبهم ، لا يسعها أنس ولا سرور؛ لأنها حرجت من فرط الوحشة والغمّ { وَظَنُّواْ } وعلموا { أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ } سخط { الله إِلاَّ } إلى استغفاره { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ } ثم رجع عليهم بالقبول والرحمة كرّة بعد أخرى ، ليستقيموا على توبتهم ويثبتوا وليتوبوا أيضاً فيما يستقبل إن فرطت منهم خطيئة ، علماً منهم أن الله تواب على من تاب ولو عاد في اليوم مائة مرة . روي أن ناساً من المؤمنين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . منهم من بدا له وكره مكانه فلحق به . عن الحسن : بلغني أنه كان لأحدهم حائط كان خيراً من مائة ألف درهم فقال : يا حائطاه ، ما خلفني إلاّ ظلك وانتظار ثمرك ، اذهب فأنت في سبيل الله . ولم يكن لآخر إلاّ أهله فقال : يا أهلاه ما بطأني ولا خلفني إلاّ الضنّ بك لا جرم ، والله لأكابدنّ المفاوز حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فركب ولحق به . ولم يكن لآخر إلاّ نفسه لا أهل ولا مال ، فقال : يا نفس ما خلفني إلاّ حبّ الحياة لك والله لأكابدنّ الشدائد حتى ألحق برسول الله ، فتأبط زاده ولحق به . قال الحسن : كذلك والله المؤمن يتوب من ذنوبه ولا يصرّ عليها .
( 498 ) وعن أبي ذرّ الغفاري : أن بعيره أبطأ به فحمل متاعه على ظهره واتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشياً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى سواده : كن أبا ذرّ ، فقال الناس : هو ذاك ، فقال : " رحم الله أبا ذرّ ، يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويبعث وحده " ( 499 )
وعن أبي خيثمة أنه بلغ بستانه وكانت له امرأة حسناء ، فرشت له في الظلّ ، وبسطت له الحصير ، وقرّبت إليه الرطب والماء البارد ، فنظر فقال : ظلّ ظليل ، ورطب يانع ، وماء بارد ، وامرأة حسناء ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الضحّ والريح . : ما هذا بخير ، فقام فرحل ناقته وأخذ سيفه ورمحه ومرّ كالريح ، فمدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفه إلى الطريق ، فإذا براكب يزهاه السراب فقال : «كن أبا خيثمة» فكانه .
ففرح به رسول الله صلى الله عليه وسلم واستغفر له .
ومنهم من بقي لم يلحق به . منهم الثلاثة .
( 500 ) قال كعب : لما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمت عليه فردّ عليّ كالمغضب بعد ما ذكرني وقال : «ليت شعري ما خلف كعباً»؟ فقيل له : ما خلفه إلاّ حسن برديه والنظر في عطفيه . فقال معاذ : [ بئس ما قلت والله يا رسول الله ] ما أعلم إلاّ فضلاً وإسلاماً ، ونهى عن كلامنا أيها الثلاثة ، فتنكر لنا الناس ولم يكلمنا أحد من قريب ولا بعيد ، فلما مضت أربعون ليلة أمرنا أن نعتزل نساءنا ولا نقربهنّ ، فلما تمت خمسون ليلة إذا أنا بنداء من ذروة سلع : أبشر يا كعب بن مالك ، فخررت ساجداً وكنت كما وصفني ربي { ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ } وتتابعت البشارة ، فلبست ثوبي وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو جالس في المسجد وحوله المسلمين ، فقام إليّ طلحة بن عبيد الله حتى صافحني وقال : لتهنك توبة الله عليك ، فلن أنساها لطلحة ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يستنير استنارة القمر : ( أبشر يا كعب بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمّك ، ثم تلا علينا الآية ) . وعن أبي بكر الورّاق أنه سئل عن التوبة النصوح؟ فقال : أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت ، وتضيق عليه نفسه ، كتوبة كعب بن مالك وصاحبيه .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)
{ مَعَ الصادقين } وقرىء : «من الصادقين» وهم الذين صدقوا في دين الله نية وقولاً وعملاً ، أو الذين صدقوا في إيمانهم ومعاهدتهم لله ورسوله على الطاعة من قوله : { رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عاهدوا الله عَلَيْهِ } [ الأحزاب : 23 ] وقيل : هم الثلاثة ، أي كونوا مثل هؤلاء في صدقهم وثباتهم . وعن ابن عباس رضي الله عنه : الخطاب لمن آمن من أهل الكتاب ، أي كونوا مع المهاجرين والأنصار ، ووافقوهم وانتظموا في جملتهم ، واصدقوا مثل صدقهم . وقيل لمن تخلف من الطلقاء عن غزوة تبوك . وعن ابن مسعود رضي الله عنه :
( 501 ) لا يصلح الكذب في جدّ ولا هزل ، ولا أن يعد أحدكم صبيه ثم لا ينجزه . اقرءوا إن شئتم : وكونوا مع الصادقين فهل فيها من رخصة؟ { وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ } أمروا بأن يصحبوه على البأساء والضراء ، وأن يكابدوا معه الأهوال برغبة ونشاط واغتباط ، وأن يلقوا أنفسهم في الشدائد ما تلقاه نفسه ، علماً بأنها أعزُّ نفس عند الله وأكرمها عليه . فإذا تعرضت مع كرامتها وعزّتها للخوض في شدّة وهول ، وجب على سائر الأنفس أن تتهافت فيما تعرّضت له ، ولا يكترث لها أصحابها ولا يقيموا لها وزناً ، وتكون أخفّ شيء عليهم وأهونه ، فضلاً عن أن يربئوا بأنفسهم عن متابعتها ومصاحبتها ويضنوا بها على ما سمح بنفسه عليه ، وهذا نهي بليغ ، مع تقبيح لأمرهم ، وتوبيخ لهم عليه ، وتهييج لمتابعته بأنفة وحمية { ذلك } إشارة إلى ما دلّ عليه قوله : ما كان لهم أن يتخلفوا من وجوب مشايعته ، كأنه قيل ذلك الوجوب { ب } سبب { إِنَّهُمْ لا يُصِيبَهُم } شيء من عطش ، ولا تعب ، ولا مجاعة في طريق الجهاد ، ولا يدوسون مكاناً من أمكنة الكفار بحوافر خيولهم وأخفاف رواحلهم وأرجلهم . ولا يتصرفون في أرضهم تصرفاً يغيظهم ويضيق صدورهم { وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوّ نَّيْلاً } ولا يرزءونهم شيئاً بقتل أو أسر أو غنيمة أو هزيمة أو غير ذلك { إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ } واستوجبوا الثواب ونيل الزلفى عند الله ، وذلك مما يوجب المشايعة . ويجوز أن يراد بالوطء الإيقاع والإبادة ، لا الوطء بالأقدام والحوافر ، كقوله عليه السلام :
( 502 ) " آخر وطأة وطئها الله بوج " والموطىء . إما مصدر كالمورد وإما مكان فإن كان مكاناً فمعنى يغيظ الكفار : يغيظهم وطئه والنيل أيضاً يجوز أن يكون مصدراً مؤكداً ، وأن يكون بمنعى المنيل . ويقال : نال منه إذا رزأه ونقصه ، وهو عام في كل ما يسؤوهم وينكبهم ويلحق بهم ضرراً . وفيه دليل على أن من قصد خيراً كان سعيه فيه مشكوراً من قيام وقعود ومشي وكلام وغير ذلك ، وكذلك الشرّ . وبهذه الآية استشهد أصحاب أبي حنيفة أنّ المدد القادم بعد انقضاء الحرب يشارك لنا الجيش في الغنيمة ، لأنّ وطء ديارهم مما يغيظهم وينكي فيهم .
( 503 ) ولقد أسهم النبي صلى الله عليه وسلم لابني عامر ، وقد قدما بعد تقضي الحرب ، وأمدّ أبو بكر الصديق رضي الله عنه المهاجر بن أبي أمية وزياد بن أبي لبيد بعكرمة بن أبي جهل مع خمسمائة نفس ، فلحقوا بعد ما فتحوا فأسهم لهم . [ و ] عند الشافعي : لا يشارك المدد الغانمين ، وقرأ عبيد ابن عمير : «ظماء» بالمدح يقال : ظمىء ظماءة وظماء { وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً } ولو تمرة ولو علاقة سوط { وَلاَ كَبِيرَةً } مثل ما أنفق عثمان رضي الله عنه في جيش العسرة { وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا } أي أرضاً في ذهابهم ومجيئهم ، والوادي كل منفرج بين جبال وآكام يكون منفذاً للسيل ، وهو في الأصل «فاعل» من ودى إذا سال . ومنه الودي . وقد شاع في استعمال العرب بمعنى الأرض . يقولون : لا تصلّ في وادي غيرك { إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ } ذلك من الإنفاق وقطع الوادي : ويجوز أن يرجع الضمير فيه إلى عمل صالح وقوله : { لِيَجْزِيَهُمُ } متعلق بكتب أي أثبت في صحائفهم لأجل الجزاء .
وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)
اللام لتأكيد النفي . ومعناه أن نفير الكافة عن أوطانهم لطلب العلم غير صحيح ولا ممكن . وفيه أنه لو صحّ وأمكن ، ولم يؤدّ إلى مفسدة لوجب التفقه على الكافة ، ولأنّ طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة { فَلَوْلاَ نَفَرَ } فحين لم يمكن نفير الكافة ولم يكن مصلحة فهلا نفر { مِن كُلّ فِرْقَةٍ مّنْهُمْ طَائِفَةٌ } أي من كل جماعة كثيرة جماعة قليلة منهم يكفونهم النفير { لّيَتَفَقَّهُواْ فِى الدين } ليتكلفوا الفقاهة فيه ، ويتجشموا المشاق في أخذها وتحصيلها { وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ } وليجعلوا غرضهم ومرمى همتهم في التفقه : إنذار قومهم وإرشادهم والنصيحة لهم ، لا ما ينتحيه الفقهاء من الأغراض الخسيسة ويؤمّونها من المقاصد الركيكة ، ومن التصدّر والترؤس والتبسط في البلاد ، والتشبه بالظلمة في ملابسهم ومراكبهم ومنافسة بعضهم بعضاً ، وفشوّ داء الضرائر بينهم وانقلاب حماليق أحدهم إذا لمح ببصره مدرسة لآخر ، أو شرذمة جثوا بين يديه ، وتهالكه على أن يكون موطأ العقب دون الناس كلهم ، فما أبعد هؤلاء من قوله عزّ وجلّ : { لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى الأرض وَلاَ فَسَاداً } [ القصص : 83 ] . { لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } إرادة أن يحذروا الله فيعملوا عملاً صالحاً . ووجه آخر : وهو أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث بعثاً - بعد غزوة تبوك وبعد ما أنزل في المتخلفين من الآيات الشداد - استبق المؤمنون عن آخرهم إلى النفير وانقطعوا جميعاً عن استماع الوحي والتفقه في الدين ، فأمروا أن ينفر من كل فرقة منهم طائفة إلى الجهاد ويبقى أعقابهم يتفقهون ، حتى لا ينقطعوا عن التفقه الذي هو الجهاد الأكبر ، لأنّ الجدال بالحجّة أعظم أثراً من الجلاد بالسيف . وقوله : { لّيَتَفَقَّهُواْ } الضمير فيه للفرق الباقية بعد الطواف ، النافرة من بينهم { وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ } ولينذر الفرق الباقية قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم بما حصلوا في أيام غيبتهم من العلوم وعلى الأوّل الضمير للطائفة النافرة إلى المدينة للتفقه .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)
{ يَلُونَكُمْ } يقربون منكم ، والقتال واجب مع كافة الكفرة قريبهم وبعيدهم ، ولكن الأقرب فالأقرب أوجب . ونظيره { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين } [ الشعراء : 214 ] وقد حارب رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه ، ثم غيرهم من عرب الحجاز ، ثم غزا الشام . وقيل : هم قريظة والنضير وفدك وخيبر . وقيل : الروم ، لأنهم كانوا يسكنون الشأم والشأم أقرب إلى المدينة من العراق وغيره ، وهكذا المفروض على أهل كل ناحية أن يقاتلوا من وليهم ، ما لم يضطر إليهم أهل ناحية أخرى . وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه سئل عن قتال الديلم؟ فقال : عليك بالروم . وقرىء : «غلظة» بالحركات الثلاث ، فالغلظة كالشدّة ، والغلظة كالضغطة ، والغلظة كالسخطة ونحوه { واغلظ عَلَيْهِمْ } [ التوبة : 73 ] { وَلاَ تَهِنُواْ } [ آل عمران : 139 ] وهو يجمع الجرأة والصبر على القتال وشدّة العداوة والعنف في القتل والأسر ، ومنه { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ الله } [ النور : 2 ] . { مَعَ المتقين } ينصر من اتقاه فلم يترأف على عدّوه .
وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)
{ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ } فمن المنافقين من يقول بعضهم لبعض { أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه } السورة { إيمانا } إنكاراً واستهزاء بالمؤمنين واعتقادهم زيادة الإيمان بزيادة العلم الحاصل بالوحي والعمل به . وأيكم : مرفوع بالابتداء . وقرأ عبيد بن عمير : «أيكم» بالفتح على إضمار فعل يفسره { زَادَتْهُ } تقديره : أيكم زادت زادته هذه إيماناً { فَزَادَتْهُمْ إيمانا } لأنها أزيد لليقين والثبات ، وأثلج للصدر . أو فزادتهم عملاً ، فإن زيادة العمل زيادة في الإيمان ، لأنّ الإيمان يقع على الاعتقاد والعمل { فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ } كفراً مضموماً إلى كفرهم ، لأنهم كلما جدّدوا بتجديد الله الوحي كفراً ونفاقاً ، ازداد كفرهم واستحكم وتضاعف عقابهم .
أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127)
قرىء : «أولا يرون» ، بالياء والتاء { يُفْتَنُونَ } يبتلون بالمرض والقحط وغيرهما من بلاء الله ثم لا ينتهون ولا يتوبون عن نفاقهم ، ولا يذكرون ، ولا يعتبرون ، ولا ينظرون في أمرهم ، أو يبتلون في الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعاينون أمره وما ينزل الله عليه من نصرته وتأييده . أو يفتنهم الشيطان فيكذبون وينقضون العهود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقتلهم وينكل بهم ، ثم لا ينزجرون { نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ } تغامزوا بالعيون إنكاراً للوحي وسخرية به قائلين { هَلْ يَرَاكُمْ مّنْ أَحَدٍ } من المسلمين لننصرف ، فإنا لا نصبر على استماعه ويغلبنا الضحك ، فنخاف الافتضاح بينهم . أو ترامقوا يتشاورون في تدبير الخروج والانسلال لواذا يقولون : هل يراكم من أحد . وقيل : معناه : إذا ما أنزلت سورة في عيب المنافقين { صَرَفَ الله قُلُوبَهُم } دعاء عليهم بالخذلان وبصرف قلوبهم عما في قلوب أهل الإيمان من الانشراح { قُلُوبَهُم } بسبب أنهم { قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } لا يتدبرون حتى يفقهوا .
لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
{ مّنْ أَنفُسِكُمْ } من جنسكم ومن نسبكم عربي قرشي مثلكم ، ثم ذكر ما يتبع المجانسة والمناسبة من النتائج بقوله : { عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } أي شديد عليه شاق - لكونه بعضاً منكم - عنتكم ولقاؤكم المكروه ، فهو يخاف عليكم سوء العاقبة والوقوع في العذاب { حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ } حتى لا يخرج أحد منكم عن اتباعه والاستسعاد بدين الحقّ الذي جاء به { بالمؤمنين } منكم ومن غيركم { رَءوفٌ رَّحِيمٌ } . وقرىء : «من أنْفَسِكم» أي من أشرفكم وأفضلكم . وقيل : هي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفاطمة وعائشة رضي الله عنهما . وقيل : لم يجمع الله اسمين من أسمائه لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : { رَءوفٌ رَّحِيمٌ } . { فَإِن تَوَلَّوْاْ } فإن أعرضوا عن الإيمان بك وناصبوك فاستعن وفوّض إليه ، فهو كافيك معرّتهم ولا يضرونك وهو ناصرك عليهم . وقرىء : { العظيم } بالرفع . وعن ابن عباس رضي الله عنه : العرش لا يقدر أحد قدره . وعن أبيّ ابن كعب : آخر آية نزلت : { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ } .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 504 ) " ما نزل عليّ القرآن إلاّ آية آية وحرفاً حرفاً ، ما خلا سورة براءة وقل هو الله أحد ، فإنهما أنزلتا عليّ ومعهما سبعون ألف صفّ من الملائكة " .
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)
{ الر } تعديد للحروف على طريق التحدي . و { تِلْكَ ءايات الكتاب } إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات والكتاب السورة . و { الحكيم } ذو الحكمة لاشتماله عليها ونطقه بها . أو وصف بصفة محدثة . قال الأعشى :
وَغَرِيبَةٍ تَأْتِي الْمُلُوكَ حَكِيمَة ... قَدْ قُلْتُها لِيُقَالَ مَنْ ذَا قَالَهَا
الهمزة لإنكار التعجب والتعجيب منه . و { أَنْ أَوْحَيْنَا } اسم كان ، وعجباً : خبرها . وقرأ ابن مسعود : «عجب» فجعله اسماً وهو نكرة و { أَنْ أَوْحَيْنَا } خبراً وهو معرفة ، كقوله :
يَكُونُ مِزَاجَهَا عَسَلٌ وَمَاءُ ... والأجود أن تكون «كان» تامة ، وأن أوحينا بدلاً من عجب . فإن قلت : فما معنى اللام في قوله : { كَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا } ؟ وما هو الفرق بينه وبين قولك : أكان عند الناس عجباً؟ قلت : معناه أنهم جعلوه لهم أعجوبة يتعجبون منها ، ونصبوه علماً لهم يوجهون نحوه استهزائهم وإنكارهم ، وليس في عند الناس هذا المعنى ، والذي تعجبوا منه أن يوحى إلى بشر ، وأن يكون رجلاً من أفناء رجالهم ، دون عظيم من عظمائهم ، فقد كانوا يقولون : العجب أنّ الله لم يجد رسولاً يرسله إلى الناس إلاّ يتيم أبي طالب ، وأن يذكر لهم البعث وينذر بالنار ويبشر بالجنة ، وكل واحد من هذه الأمور ليس بعجب ، لأنّ الرسل المبعوثين إلى الأمم لم يكونوا إلاّ بشر مثلهم . وقال الله تعالى : { قُل لَوْ كَانَ فِى الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مّنَ السماء مَلَكًا رَّسُولاً } [ الإسراء : 95 ] وإرسال الفقير أو اليتيم ليس بعجب أيضاً ، لأنّ الله تعالى : إنما يختار من استحق الاختيار ، لجمعه أسباب الاستقلال بما اختير له من النبوّة . والغنى والتقدم في الدنيا ليس من تلك الأسباب في شيء { وَمَا أموالكم وَلاَ أولادكم بالتى تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زلفى } [ سبأ : 37 ] والبعث للجزاء على الخير والشرّ هو الحكمة العظمى فكيف يكون عجباً؟ إنما العجب العجيب والمنكر في العقول تعطيل الجزاء { أَنْ أَنذِرِ الناس } أن هي المفسرة؛ لأنّ الإيحاء فيه معنى القول : ويجوز أن تكون المخففة من الثقيلة ، وأصله : أنه أنذر الناس ، على معنى : أن الشأن قولنا أنذر الناس . و { أَنَّ لَهُمْ } الباء معه محذوف { قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبّهِمْ } أي سابقة وفضلاً ومنزلة رفيعة . فإن قلت : لم سميت السابقة قدماً؟ قلت : لما كان السعي والسبق بالقدم ، سميت المسعاة الجميلة والسابقة قدماً ، كما سميت النعمة يداً لأنها تعطى باليد . وباعاً لأنّ صاحبها يبوع بها ، فقيل : لفلان قدم في الخير . وإضافته إلى صدق دلالة على زيادة فضل ، وأنه من السوابق العظيمة ، وقيل : مقام صدق { إِنَّ هَذَا } إن هذا الكتاب وما جاء به محمد { لسحر } ومن قرأ : «لساحر» فهذا إشارة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو دليل عجزهم واعترافهم به وإن كانوا كاذبين في تسميته سحراً ، وفي قراءة أبيّ : «ما هذا إلاّ سحر» .
أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)
{ يُدَبِّرُ } يقضي ويقدر على حسب مقتضى الحكمة ويفعل ما يفعل المتحري للصواب الناظر في أدبار الأمور وعواقبها ، لئلا يلقاه ما يكره آخراً . و { الامر } أمر الخلق كله وأمر ملكوت السموات والأرض والعرش . فإن قلت : ما موقع هذه الجملة؟ قلت : قد دلّ بالجملة قبلها على عظمة شأنه وملكه بخلق السموات والأرض ، مع بسطتها واتساعها في وقت يسير ، وبالاستواء على العرش ، وأتبعها هذه الجملة لزيادة الدلالة على العظمة وأنه لا يخرج أمر من الأمور من قضائه وتقديره ، وكذلك قوله : { مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ } دليل على العزة والكبرياء ، كقوله : { يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن } [ النبأ : 38 ] و { ذلكم } إشارة إلى المعلوم بتلك العظمة ، أي ذلك العظيم الموصوف بما وصف به هو ربكم ، وهو الذي يستحق منكم العبادة { فاعبدوه } وحده ولا تشركوا به بعض خلقه من ملك أو إنسان ، فضلاً عن جماد لا يضرّ ولا ينفع { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } فإن أدنى التفكر والنظر ينبهكم على الخطأ فيما أنتم عليه { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً } أي لا ترجعون في العاقبة إلاّ إليه فاستعدوا للقائه { وَعَدَ الله } مصدر مؤكد لقوله : { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ } و { حَقًّا } مصدر مؤكد لقوله : { وَعَدَ الله } . { إنَّهُ يبدؤ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ } استئناف معناه التعليل لوجوب المرجع إليه ، وهو أنّ الغرض ومقتضى الحكمة بابتداء الخلق وإعادته هو جزاء المكلفين على أعمالهم . وقرىء : «أنه يبدؤ الخلق» بمعنى لأنه . أو هو منصوب بالفعل الذي نصب وعد الله : أي وعد الله وعداً بدأ الخلق ثم إعادته . والمعنى : إعادة الخلق بعد بدئه . وقرىء : «وعد الله» ، على لفظ الفعل . ويبدىء ، من أبدأ . ويجوز أن يكون مرفوعاً بما نصب حقاً ، أي حقّ حقاً بدأ الحلق ، كقوله :
أَحَقّاً عِبَادَ اللَّهِ أَنّ لَسْتُ جَائِيا ... وَلاَ ذَاهِباً إلاّ عَلَيَّ رَقِيبُ
وقرىء : «حق أنه يبدؤ الخلق» كقولك : حق أنّ زيداً منطلق { بالقسط } بالعدل ، وهو متعلق بيجزى . والمعنى : ليجزيهم بقسطه ويوفيهم أجورهم . أو بقسطهم وبما أقسطوا وعدلوا ولم يظلموا حين آمنوا وعملوا صالحاً ، لأنّ الشرك ظلم . قال الله تعالى : { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] والعصاة : ظلاّم أنفسهم ، وهذا أوجه ، لمقابلة قوله : { بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } .
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)
الياء في { ضِيَاء } منقلبة عن واو ضوء لكسرة ما قبلها . وقرىء : «ضئاء» بهمزتين بينهما ألف على القلب ، بتقديم اللام على العين ، كما قيل في عاق : عقا . والضياء أقوى من النور { وَقَدَّرَهُ } وقدّر القمر . والمعنى وقدّر مسيره { مَنَازِلَ } أو قدّره ذا منازل ، كقوله تعالى : { والقمر قدرناه مَنَازِلَ } [ يس : 39 ] . { والحساب } وحساب الأوقات من الشهور والأيام والليالي { ذلك } إشارة إلى المذكور أي ما خلقه إلاّ ملتبساً بالحق الذي هو الحكمة البالغة ولم يخلقه عبثاً . وقرىء : «يفصل» ، بالياء .
إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)
خصّ المتقين لأنهم يحذرون العاقبة فيدعوهم الحذر إلى النظر والتدبر .
إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8)
{ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا } لا يتوقعونه أصلاً ، ولا يخطرونه ببالهم لغفلتهم المستولية عليهم ، المذهلة باللذات وحبّ العاجل عن التفطن للحقائق . أو لا يأملون حسن لقائنا كما يأمله السعداء أو لا يخافون سوء لقائنا الذي يجب أن يخاف { وَرَضُواْ بالحياة الدنيا } من الآخرة ، وآثروا القليل الفاني على الكثير الباقي ، كقوله تعالى : { أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة } [ التوبة : 38 ] . { واطمأنوا بِهَا } وسكنوا فيها سكون من لا يزعج عنها ، فبنوا شديداً وأمّلوا بعيداً .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)
{ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ } يسدّدهم بسبب إيمانهم للاستقامة على سلوك السبيل المؤدّي إلى الثواب ، لذلك جعل { تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأنهار } بياناً له وتفسيراً ، لأنّ التمسك بسبب السعادة كالوصول إليها ، ويجوز أن يريد : يهديهم في الآخرة بنور إيمانهم إلى طريق الجنة ، كقوله تعالى : { يَوْمَ تَرَى المؤمنين والمؤمنات يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبأيمانهم } [ الحديد : 12 ] ومنه الحديث :
( 505 ) " إنّ المؤمن إذا خرج من قبره صُوِّر له عمله في صُوِّر حسنة ، فيقول له : أنا عملك ، فيكون له نوراً وقائداً إلى الجنة وأما الكافر إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة سيئة فيقول له أنا عملك فينطلق به حتى يدخله النار " فإن قلت : فلقد دلّت هذه الآية على أنّ الإيمان الذي يستحق به العبد الهداية والتوفيق والنور يوم القيامة ، هو إيمان مقيد ، وهو الإيمان المقرون بالعمل الصالح ، والإيمان الذي لم يقرن بالعمل الصالح فصاحبه لا توفيق له ولا نور . قلت : الأمر كذلك . ألا ترى كيف أوقع الصلة مجموعاً فيها بين الإيمان والعمل ، كأنه قال : إنّ الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح ، ثم قال : بإيمانهم ، أي بإيمانهم هذا المضموم إليه العمل الصالح ، وهو بين واضح لا شبهة فيه { دَعْوَاهُمْ } دعاؤهم ، لأنّ «اللَّهم» نداء لله ومعناه : اللَّهم إنا نسبحك ، كقول القانت في دعاء القنوت : اللَّهم إياك نعبد ولك نصلّي ونسجد . ويجوز أن يراد بالدعاء : العبادة { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله } [ مريم : 48 ] على معنى : أن لا تكليف في الجنة ولا عبادة ، وما عبادتهم إلاّ أن يسبحوا الله ويحمدوه ، وذلك ليس بعبادة ، إنما يلهمونه فينطقون به تلذذاً بلا كلفة ، كقوله تعالى : { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً } [ الأنفال : 35 ] . { وَءَاخِرُ دعواهم } وخاتمة دعائهم الذي هو التسبيح { أَنِ } يقولوا : { الحمد للَّهِ رَبّ العالمين } . ومعنى { تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سلام } أنّ بعضهم يحيي بعضاً بالسلام . وقيل : هي تحية الملائكة إياهم ، إضافة للمصدر إلى المفعول . وقيل : تحية الله لهم . وأن هي المخففة من الثقيلة ، وأصله : أنه الحمد لله ، على أن الضمير للشأن كقوله :
أَنّ كُلَّ هالِكٌ مَنْ يَحْفَي وَيَنْتَعِلُ ... وقرىء : «أَنَّ الحمدَ لله» بالتشديد ونصب الحمد .
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)
أصله { وَلَوْ يُعَجّلُ الله لِلنَّاسِ الشر } تعجيله لهم الخير ، فوضع { استعجالهم بالخير } موضع تعجيله لهم الخير إشعاراً بسرعة إجابته لهم وإسعافه بطلبتهم ، حتى كأنّ استعجالهم بالخير تعجيل لهم ، والمراد أهل مكة . وقولهم : فأمطر علينا حجارة من السماء ، يعني : ولو عجلنا لهم الشرّ الذي دعوا به كما نعجل لهم الخير ونجيبهم إليه { لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } لأميتوا وأهلكوا . وقرىء : «لقضى إليهم أجلهم» على البناء للفاعل ، وهو الله عزّ وجلّ ، وتنصره قراءة عبد الله : «لقضينا إليهم أجلهم» فإن قلت : فكيف اتصل به قوله : { فَنَذَرُ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا } وما معناه؟ قلت : قوله : { وَلَوْ يُعَجّلُ الله } متضمن معنى نفي التعجيل ، كأنه قيل : ولا نعجل لهم الشرّ ، ولا نقضي إليهم أجلهم فنذرهم { فِي طغيانهم } أي فنمهلهم ونفيض عليهم النعمة مع طغيانهم ، إلزاماً للحجّة عليهم .
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12)
{ لِجَنبِهِ } في موضع الحال ، بدليل عطف الحالين عليه أي دعانا مضطجعاً { أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا } . فإن قلت : فما فائدة ذكر هذه الأحوال؟ قلت : معناه أنّ المضرور لا يزال داعياً لا يفتر عن الدعاء حتى يزول عنه الضرّ ، فهو يدعونا في حالاته كلها - إن كان مضطجعاً عاجز النهض متخاذل النوء أو كان قاعداً لا يقدر على القيام ، أو كان قائماً لا يطيق المشي والمضطرب - إلى أن يخف كل الخفة ويرزق الصحة بكمالها والمسحة بتمامها . ويجوز أن يراد أن من المضرورين من هو أشدّ حالاً وهو صاحب الفراش . ومنهم من هو أخفّ وهو القادر على القعود . ومنهم المستطيع للقيام ، وكلهم لا يستغنون عن الدعاء واستدفاع البلاء ، لأنّ الإنسان للجنس { مَرَّ } أي مضى على طريقته الأولى قبل مسّ الضرّ ، ونسي حال الجهد . أو مرّ عن موقف الابتهال والتضرع لا يرجع إليه ، كأنه لا عهد له به { كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا } ، كأنه لم يدعنا ، فخفف وحذف ضمير الشأن قال :
كَأَنْ ثَدْيَاهُ حُقّانِ ... { كذلك } مثل ذلك التزيين { زُيّنَ لِلْمُسْرِفِينَ } زين الشيطان بوسوسته أو الله بخذلانه وتخليته { مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } من الإعراض عن الذكر واتباع الشهوات .
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)
{ لَمَّا } ظرف لأهلكنا : والواو في { وَجَاءتْهُمْ } للحال ، أي ظلموا بالتكذيب وقد جاءتهم رسلهم بالحجج والشواهد على صدقهم وهي المعجزات . وقوله : { وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ } يجوز أن يكون عطفاً على ظلموا ، وأن يكون اعتراضاً واللام لتأكيد النفي ، يعني : ما كانوا يؤمنون حقاً تأكيداً لنفي إيمانهم ، وأن الله قد علم منهم أنهم يصرون على كفرهم ، وأن الإيمان مستبعد منهم . والمعنى : أن السبب في إهلاكهم تكذيب الرسل ، وعلم الله أنه لا فائدة في إمهالهم بعد أن ألزموا الحجّة ببعثه الرسل { كذلك } مثل ذلك الجزاء يعني الإهلاك { نَجْزِي } كل مجرم ، وهو وعيد لأهل مكة على إجرامهم بتكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقرىء : «يجزي» بالياء { ثُمَّ جعلناكم } الخطاب للذين بعث إليهم محمد صلى الله عليه وسلم ، أي استخلفناكم في الأرض بعد القرون التي أهلكنا { لِنَنظُرَ } أتعملون خيراً أم شراً فنعاملكم على حسب عملكم . و { كَيْفَ } في محل النصب بتعلمون لا بننظر ، لأنّ معنى الاستفهام فيه يحجب أن يتقدّم عليه عامله . فإن قلت : كيف جاز النظر على الله تعالى وفيه معنى المقابلة قلت : هو مستعار للعلم المحقق الذي هو العلم بالشيء موجوداً شبه بنظر الناظر وعيان المعاين في تحققه .
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)
غاظهم ما في القرآن من ذمّ عبادة الأوثان والوعيد للمشركين ، فقالوا : { ائت بِقُرْءانٍ } آخر ليس فيه ما يغيظنا من ذلك نتبعك { أَوْ بَدّلْهُ } بأن تجعل مكان آية عذاب آية رحمة ، وتسقط ذكر الآلهة وذمّ عبادتها . فأمر بأن يجيب عن التبديل ، لأنه داخل تحت قدرة الإنسان ، وهو أن يضع مكان آية عذاب آية رحمة مما أنزل ، وأن يسقط ذكر الآلهة . وأما الإتيان بقرآن آخر ، فغير مقدور عليه للإنسان { مَا يَكُونُ لِى } ما ينبغي لي وما يحلّ ، كقوله تعالى : { مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقّ } [ المائدة : 116 ] . { أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِى } من قبل نفسي . وقرىء : بفتح التاء : من غير أن يأمرني بذلك ربي { إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَىَّ } لا آتي ولا أذر شيئاً من نحو ذلك ، إلاّ متبعاً لوحي الله وأوامره ، إن نسخت آية تبعت النسخ ، وأن بدِّلت آية مكان آية تبعت التبديل ، وليس إليّ تبديل ولا نسخ { إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى } بالتبديل والنسخ من عند نفسي { عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } . فإن قلت : أما ظهر وتبين لهم العجز عن الإتيان بمثل القرآن حتى قالوا : { ائت بِقُرْءانٍ غَيْرِ هذا } ؟ قلت : بلى ، ولكنهم كانوا لا يعترفون بالعجز ، وكانوا يقولون : لو نشاء لقلنا مثل هذا . ويقولون : افترى على الله كذباً ، فينسبونه إلى الرسول ويزعمونه قادراً عليه وعلى مثله . مع علمهم بأنّ العرب مع كثرة فصحائها وبلغائها إذا عجزوا عنه ، كان الواحد منهم أعجز . فإن قلت : لعلهم أرادوا : ائت بقرآن غير هذا أو بدّله ، من جهة الوحي كما أتيت بالقرآن من جهته . وأراد بقوله : { مَا يَكُونُ لِى } ما يتسهل لي وما يمكنني أن أُبدّله . قلت : يردّه قوله : { إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى } . فإن قلت : فما كان غرضهم وهم أدهى الناس وأنكرهم في هذا الاقتراح؟ قلت : الكيد والمكر . أما اقتراح إبدال قرآن بقرآن ، ففيه أنه من عندك وأنك قادر على مثله ، فأبدل مكانه آخر ، وأما اقتراح التبديل والتغيير ، فللطمع ولاختبار الحال . وأنه إن وجد منه تبديل ، فإما أن يهلكه الله فينجو منه ، أو لا يهلكه فيسخروا منه ، ويجعلوا التبديل حجة عليه وتصحيحاً لافترائه على الله .
قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16)
{ لَّوْ شَاء الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ } يعني أن تلاوته ليست إلاّ بمشيئة الله وإحداثه أمراً عجيباً خارجاً عن العادات ، وهو أن يخرج رجل أميّ لم يتعلم ولم يستمع ولم يشاهد العلماء ساعة من عمره ، ولا نشأ في بلد فيه علماء فيقرأ عليهم كتاباً فصيحاً ، يبهر كل كلام فصيح ، ويعلو على كل منثور ومنظوم ، مشحوناً بعلوم من علوم الأصول والفروع ، وأخبار مما كان وما يكون ، ناطقاً بالغيوب التي لا يعلمها إلاّ الله ، وقد بلغ بين ظهرانيكم أربعين سنة تطلعون على أحواله ، ولا يخفى عليكم شيء من أسراره ، وما سمعتم منه حرفاً من ذلك ، ولا عرفه به أحد من أقرب الناس منه وألصقهم به { وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ } ولا أعلمكم به على لساني . وقرأ الحسن : «ولا أدراتكم به» على لغة من يقول : اعطاته وأرضاته ، في معنى أعطيته وأرضيته . وتعضده قراءة ابن عباس : «ولا أنذرتكم به» . ورواه الفراء : «ولا ادرأتكم به» وبالهمز . وفيه وجهان ، أحدهما : أن تقلب الألف همزة ، كما قيل : لبأت بالحج . ورثأت الميت وحلأت السويق ، وذلك لأنّ الألف والهمزة من وادٍ واحد . ألا ترى أنّ الألف إذا مستها الحركة انقلبت همزة . والثاني : أن يكون من درأته إذا دفعته ، وأدرأته إذا جعلته دارئاً . والمعنى : ولا جعلتكم بتلاوته خصماء تدرؤونني بالجدال وتكذبونني . وعن ابن كثير : «ولأدراكم به» بلام الابتداء لإثبات الإدراء ومعناه : لو شاء الله ما تلوته أنا عليكم ولأعلمكم به على لسان غيري ، ولكنه يمنّ على من يشاء من عباده ، فخصني بهذه الكرامة ورآني لها أهلاً دون سائر الناس { فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً } وقرىء : «عمراً» بالسكون . يعني : فقد أقمت فيما بينكم يافعاً وكهلاً ، فلم تعرفوني متعاطياً شيئاً من نحوه ولا قدرت عليه ، ولا كنت متواصفاً بعلم وبيان فتتهموني باختراعه { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } فتعلموا أنه ليس إلاّ من الله لا من مثلي . وهذا جواب عما دسّوه تحت قولهم : ائت بقرآن غير هذا من إضافة الافتراء إليه .
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)
{ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً } يحتمل أن يريد افتراء المشركين على الله في قولهم : إنه ذو شريك وذو ولد ، وأن يكون تفادياً مما أضافوه إليه من الافتراء .
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)
{ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ } الأوثان التي هي جماد لا تقدر على نفع ولا ضرّ . وقيل : إن عبدوها لن تنفعهم ، وإن تركوا عبادتها لم تضرّهم ، ومن حق المعبود أن يكون مثيباً على الطاعة معاقباً على المعصية . وكان أهل الطائف يعبدون اللات ، وأهل مكة العزّى ومناة وهبل وأسافاً ونائلة { و } كانوا { يَقُولُونَ هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله } وعن النضر بن الحرث : إذا كان يوم القيامة شفعت لي اللات والعزّى { أَتُنَبّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ } أتخبرونه بكونكم شفعاء عنده ، وهو إنباء بما ليس بالمعلوم لله ، وإذا لم يكن معلوماً له وهو العالم الذات المحيط بجميع المعلومات ، لم يكن شيئاً لأنّ الشيء ما يعلم [ به ] ويخبر عنه ، فكان خبراً ليس له مخبر عنه . فإن قلت : كيف أنبأوا الله بذلك؟ قلت : هو تهكم بهم وبما ادعوه من المحال الذي هو شفاعة الأصنام ، وإعلام بأنّ الذي أنبؤا به باطل غير منطوٍ تحت الصحة ، فكأنهم يخبرونه بشيء لا يتعلق به علمه كما يخبر الرجل الرجل بما لا يعلمه . وقرىء : «أتنبئون» بالتخفيف . وقوله : { فِى السماوات وَلاَ فِى الأرض } تأكيد لنفيه؛ لأنّ ما لم يوجد فيهما فهو منتف معدوم { تُشْرِكُونَ } قرىء بالتاء والياء وما موصولة أو مصدرية ، أي عن الشركاء الذين يشركونهم به أو عن إشراكهم .
وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)
{ وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً } حنفاء متفقين على ملة واحدة من غير أن يختلفوا بينهم ، وذلك في عهد آدم إلى أن قتل قابيل هابيل . وقيل : بعد الطوفان حين لم يذر الله من الكافرين دياراً { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ } وهوتأخير الحكم بينهم إلى يوم القيامة { لَّقُضِىَ بِيْنَهُمْ } عاجلاً فيما اختلفوا فيه ، ولميز المحق من المبطل ، وسبق كلمته بالتأخير لحكمة أوجبت أن تكون هذه الدار دار تكليف ، وتلك دار ثواب وعقاب . وقالوا : { لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ } أرادوا آية من الآيات التي كانوا يقترحونها وكانوا لا يعتدّون بما أنزل عليه من الآيات العظام المتكاثرة التي لم ينزل على أحد من الأنبياء مثلها ، وكفى بالقرآن وحده آية باقية على وجه الدهر بديعة غريبة في الآيات ، دقيقة المسلك من بين المعجزات ، وجعلوا نزولها كلا نزول ، وكأنه لم ينزل آية قط ، حتى قالوا : { لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ رَبَّهُ } ، وذلك لفرط عنادهم وتماديهم في التمرّد وانهماكهم في الغيّ { فَقُلْ إِنَّمَا الغيب للَّهِ } أي هو المختصّ بعلم الغيب المستأثر به لا علم لي ولا لأحد به ، يعني أنّ الصارف عن إنزال الآيات المقترحة أمر مغيب لا يعلمه إلاّ هو { فانتظروا } نزول ما اقترحتموه { إِنّى مَعَكُم مّنَ المنتظرين } لما يفعل الله بكم لعنادكم وجحودكم الآيات .
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21)
سلط الله القحط سبع سنين على أهل مكة حتى كادوا يهلكون ، ثم رحمهم بالحيا ، فلما رحمهم طفقوا يطعنون في آيات الله ويعادون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكيدونه ، و «إذا» الأولى للشرط ، والآخرة جوابها وهي للمفاجأة ، والمكر : إخفاء الكيد وطيه ، من الجارية الممكورة المطوية الخلق . ومعنى { مَسَّتْهُمْ } خالطتهم حتى أحسوا بسوء أثرها فيهم . فإن قلت : ما وصفهم بسرعة المكر ، فكيف صحّ قوله : { أَسْرَعُ مَكْرًا } ؟ قلت : بلى دلت على ذلك كلمة المفاجأة ، كأنه قال : وإذا رحمناهم من بعد ضراء فاجئوا وقوع المكر منهم ، وسارعوا إليه قبل أن يغسلوا رؤوسهم من مسّ الضرّاء ، ولم يتلبثوا ريثما يسيغون غصتهم . والمعنى : أنّ الله تعالى دبر عقابكم وهو موقعه بكم قبل أن تدبروا كيف تعملون في إطفاء نور الإسلام { إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ } إعلام بأنّ ما تظنونه خافياً مطوياً لا يخفى على الله ، وهو منتقم منكم . وقرىء : «يمكرون» ، بالتاء والياء . وقيل : مكرهم قولهم : سقينا بنوء كذا . وعن أبي هريرة :
( 506 ) إنّ الله ليُصَبِّح القوم بالنعمة ويُمَسِّيهم بها ، فتصبح طائفة منهم بها كافرين يقولون : مطرنا بنوء كذا .
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)
قرأ زيد بن ثابت : «ينشركم» ومثله قوله : { فانتشروا فِى الأرض } [ الجمعة : 10 ] ، { ثُمَّ إِذَا أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُون } [ الروم : 20 ] فإن قلت : كيف جعل الكون في الفلك غاية للتسيير في البحر ، والتسيير في البحر إنما هو بالكون في الفلك؟ قلت : لم يجعل الكون في الفلك غاية التسيير في البحر ، ولكن مضمون الجملة الشرطية الواقعة بعد «حتى» بما في حيّزها ، كأنه قيل : يسيركم حتى إذا وقعت هذه الحادثة وكان كيت وكيت من مجيء الريح العاصف وتراكم الأمواج والظنّ للهلاك والدعاء بالإنجاء . فإن قلت : ما جواب «إذا»؟ قلت : جاءتها . فإن قلت : فدعوا؟ قلت : بدل من ظنوا؛ لأنّ دعاءهم من لوازم ظنهم الهلاك فهو ملتبس به . فإن قلت : ما فائدة صرف الكلام عن الخطاب إلى الغيبة؟ قلت : المبالغة ، كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها ويستدعي منهم الإنكار والتقبيح . فإن قلت : ما وجه قراءة أمّ الدرداء : «في الفلكي» بزيادة ياء النسب؟ قلت : قيل هما زائدتان كما في الخارجي والأحمري . ويجوز أن يراد به اللجّ والماء الغمر الذي لا تجري الفلك إلاّ فيه .
والضمير في { جرين } للفلك ، لأنه جمع فلك كالأسد ، في فعل أخي فعل . وفي قراءة أمّ الدرداء : «للفلك» أيضاً؛ لأنّ الفلكي يدلّ عليه { جَاءتْهَا } جاءت الريح الطيبة ، أي تلقتها . وقيل : الضمير للفلك { من كُلّ مَّكَانَ } من جميع أمكنة الموج { أُحِيطَ بِهِمْ } أي أهلكواجعل إحاطة العدوّ بالحي مثلاً في الهلاك { مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } من غير إشراك به؛ لأنهم لا يدعون حينئذ غيره معه { لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا } على إرادة القول . أو لأنّ { دَعَوُاْ } من جملة القول : { يَبْغُونَ فِى الأرض } يفسدون فيها ويعبثون متراقين في ذلك ، ممعنين فيه ، من قولك : بغى الجرح إذا ترامى إلى الفساد . فإن قلت : فما معنى قوله : { بِغَيْرِ الحق } والبغي لا يكون بحق؟ قلت : بلى ، وهو استيلاء المسلمين على أرض الكفرة ، وهدم دورهم ، وإحراق زروعهم وقطع أشجارهم كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني قريظة . قرىء : «متاع الحياة الدنيا» ، بالنصب : فإن قلت : ما الفرق بين القراءتين؟ قلت : إذا رفعت كان المتاع خبراً للمبتدإ الذي هو { بَغْيُكُمْ } و { على أَنفُسِكُمْ } صلته ، كقوله : { فبغى عَلَيْهِمْ } ومعناه : إنما بغيكم على أمثالكم والذين جنسهم جنسكم يعني بغى بعضكم على بعض منفعة الحياة الدنيا لابقاء لها وإذا نصبت { فَعَلَىَّ أَنفُسَكُمْ } خبر غير صلة معناه إنما بغيكم بال على أنفسكم ، و { متاع الحياة الدنيا } في موضع المصدر المؤكد ، كأنه قيل : تتمتعون متاع الحياة الدنيا . ويجوز أن يكون الرفع على : هو متاع الحياة الدنيا بعد تمام الكلام . وعن البني صلى الله عليه وسلم أنه قال :
( 507 )
« لا تمكر ولا تعن ماكراً ، ولا تبغ ولا تعن باغياً ، ولا تنكث ولا تعن ناكثاً » وكان يتلوها . وعنه عليه الصلاة والسلام :
( 508 ) « أسرع الخير ثواباً صلة الرحم ، وأعجل الشرّ عقاباً البغي واليمين الفاجرة » ، وروي :
( 509 ) « ثنتان يعجلهما الله تعالى في الدنيا : البغي وعقوق الوالدين » وعن ابن عباس رضي الله عنه :
( 510 ) لو بغى جبل على جبل لدك الباغي . وكان المأمون يتمثل بهذين البيتين في أخيه :
يَا صَاحِبَ الْبَغْيِ إنَّ الْبَغْيَ مَصْرَعَة ... فَارْبَعْ فَخَيْرُ فِعَالِ الْمَرْءِ أَعْسَلُهُ
فَلَوْ بَغَى جَبَلٌ يَوْماً عَلَى جَبَل ... لانْدَكَّ مِنْهُ أَعَالِيهِ وَأَسْفَلُهُ
وعن محمد بن كعب : ثلاث من كنّ فيه كنّ عليه : البغي والنكث والمكر . قال الله تعالى : { إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ } .
إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)
هذا من التشبيه المركب ، شبهت حال الدنيا في سرعة تقضيها وانقراض نعيمها بعد الإقبال ، بحال نبات الأرض في جفافه وذهابه حطاماً بعد ما التف وتكاثف ، وزين الأرض بخضرته ورفيفه { فاختلط بِهِ } فاشتبك بسببه حتى خالط بعضه بعضاً { أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا وازينت } كلام فصيح : جعلت الأرض آخذة زخرفها على التمثيل بالعروس ، إذا أخذت الثياب الفاخرة من كل لون ، فاكتستها وتزينت بغيرها من ألوان الزين . وأصل { ازّينت } تزينت ، فأدغم . وبالأصل قرأ عبد الله . وقرىء : «وأزينت» ، أي أفعلت ، من غير إعلال الفعل كأغيلت أي صارت ذات زينة . وازيانت ، بوزن ابياضت { قَادِرُونَ عَلَيْهَا } متمكنون من منفعتها محصلون لثمرتها ، رافعون لعلتها { أَتَاهَا أَمْرُنَا } وهو ضرب زرعها ببعض العاهات بعد أمنهم واستيقانهم أنه قد سلم { فَجَعَلْنَاهَا } فجعلنا زرعها { حَصِيداً } شبيهاً بما يحصد من الزرع في قطعه واستئصاله { كَأَن لَّمْ تَغْنَ } كأن لم يغن زرعها ، أي لم ينبت على حذف المضاف في هذه المواضع لا بدّ منه ، وإلاّ لم يستقم المعنى . وقرأ الحسن : «كأن لم يغن» بالياء على أن الضمير للمضاف المحذوف ، الذي هو الزرع . وعن مروان أنه قرأ على المنبر : «كأن لم تتغن» بالأمس ، من قول الأعشى :
طَوِيلُ الثّوَاءِ طَوِيلُ التَّغَنِّي ... والأمس مثل في الوقت القريب كأنه قيل : كأن لم تغن آنفاً .
وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)
{ دَارُ السلام } الجنة ، أضافها إلى اسمه تعظيماً لها . وقيل السلام السلامة؛ لأنّ أهلها سالمون من كل مكروه . وقيل : لفشوّ السلام بينهم وتسليم الملائكة عليهم { إِلاَّ قِيلاً سلاما سلاما } [ الواقعة : 26 ] { وَيَهْدِى } ويوفق { مَن يَشَآء } وهم الذين علم أنّ اللطف يجدي عليهم ، لأنّ مشيئته تابعة لحكمته ومعناه : يدعو العباد كلهم إلى دار السلام ، ولا يدخلها إلاّ المهديون .
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)
{ الحسنى } المثوبة الحسنى { وَزِيَادَةٌ } وما يزيد على المثوبة وهي التفضل . ويدلّ عليه قوله تعالى : { وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ } [ النساء : 173 ] وعن عليّ رضي الله عنه : الزيادة : غرفة من لؤلؤة واحدة . وعن ابن عباس رضي الله عنه : الحسنى : الحسنة ، والزيادة : عشر أمثالها . وعن الحسن رضي الله عنه : عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، وعن مجاهد رضي الله عنه : الزيادة مغفرة من الله ورضوان . وعن يزيد بن شجرة : الزيادة أن تمرّ السحابة بأهل الجنة فتقول : ما تريدون أن أمطركم؟ فلا يريدون شيئاً إلاّ أمطرتهم . وزعمت المشبهة والمجبرة أن الزيادة النظر إلى وجه الله تعالى ، وجاءت بحديث مرفوع :
( 511 ) « إذا دخل أهل الجنة الجنة نودوا أن يا أهل الجنة فيكشف الحجاب فينظرون إليه ، فوالله ما أعطاهم الله شيئاً هو أحبّ إليهم منه » { وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ } لا يغشاها { قَتَرٌ } غبرة فيها سواد { وَلاَ ذِلَّةٌ } ولا أثر هوان وكسوف بال . والمعنى لا يرهقهم ما يرهق أهل النارإذكاراً بما ينقذهم منه برحمته . ألا ترى إلى قوله تعالى { تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ } [ عبس : 41 ] { وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } [ يونس : 27 ] .
وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27)
فإن قلت : ما وجه قوله : { والذين كَسَبُواْ السيئات جَزَاء سَيّئَةٍ بِمِثْلِهَا } وكيف يتلاءم؟ قلت : لا يخلو ، إمّا أن يكون { والذين كَسَبُواْ } معطوفاً على قوله : { لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ } [ يونس : 26 ] كأنه قيل : وللذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها ، وإمّا أن يقدّر : وجزاء الذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها على معنى : جزاؤهم أن تجازى سيئة واحدة بسيئة مثلها لا يزاد عليها ، وهذا أوجه من الأوّل ، لأنّ في الأوّل عطفاً على عاملين وإن كان الأخقش بجيزه . وفي هذا دليل على أنّ المراد بالزيادة الفضل ، لأنه دلّ بترك الزيادة على السيئة على عدله ، ودلّ ثمة بإثبات الزيادة على المثوبة على فضله . وقرىء : «يرهقهم ذلة» بالياء { مّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ } أي لا يعصمهم أحد من سخط الله وعذابه . ويجوز ما لهم من جهة الله ومن عنده من يعصمهم كما يكون للمؤمنين { مُظْلِماً } حال من الله . ومن قرأ : ( قطعاً ) بالسكون من قوله : { بِقِطْعٍ مّنَ اليل } [ هود : 81 ] جعله صفة له . وتعضده قراءة أبيّ بن كعب : كأنما يغشى وجوههم قطع من الليل مظلم . فإن قلت : إذا جعلت مظلماً حالاً من الليل ، فما العامل فيه؟ قلت : لا يخلو إمّا أن يكون { أُغْشِيَتْ } من قبل إن { مِّنَ اليل } صفة لقوله : { قِطَعًا } فكان إفضاؤه إلى الموصوف كإضفائه إلى الصفة ، وإمّا أن يكون معنى الفعل في { مِّنَ اليل } .
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28)
{ مَكَانَكُمْ } الزموا مكانكم لا تبرحوا حتى تنظروا ما يفعل بكم . و { أَنتُمْ } أكد به الضمير في مكانكم لسدّه مسدّ قوله : الزموا { وَشُرَكَاؤُكُمْ } عطف عليه . وقرىء : «وشركاءكم» على أنّ الواو بمعنى مع ، والعامل فيه ما في مكانكم من معنى الفعل { فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ } ففرّقنا بينهم وقطعنا أقرانهم . والوصل التي كانت في بينهم في الدنيا . أو فباعدنا بينهم بعد الجمع بينهم في الموقف . وتبرؤ شركائهم منهم ومن عبادتهم ، كقوله تعالى : { ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِن دُونِ الله قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا } [ غافر : 73 ] وقرىء : «فزايلنا بينهم» كقولك : صاعر خدّه وصعره ، وكالمته وكلّمته . { مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ } إنما كنتم تعبدون الشياطين ، حيث أمروكم أن تتخذوا لله أنداداً فأطعتموهم .
فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)
{ إَن كُنَّا } هي المخففة من الثقيلة ، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية ، وهم الملائكة والمسيح ومن عبدوه من دون الله من أولي العقل ، وقيل : الأصنام ينطقها الله عزّ وجلّ فتشافههم بذلك مكان الشفاعة التي زعموها وعلقوا بها أطماعهم { هُنَالِكَ } في ذلك المقام وفي ذلك الموقف أوفى ذلك الوقت على استعارة اسم المكان للزمان { تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ } تختبر وتذوق { مَّا أَسْلَفَتْ } من العمل فتعرف كيف هو ، أقبيح أم حسن ، أنافع أم ضارّ ، أمقبول أم مردود؟ كما يختبر الرجل الشيء ويتعرّفه ليكتنه حاله . ومنه قوله تعالى : { يَوْمَ تبلى السرائر } [ الطارق : 9 ] وعن عاصم : نبلو كلَّ نفس ، بالنون ونصب كل : أي نختبرها باختبار ما أسلفت من العمل ، فنفرق حالها بمعرفة حال عملها : إن كان حسناً فهي سعيدة ، وإن كان سيئاً فهي شقية . والمعنى : نفعل بها فعل الخابر ، كقوله تعالى : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [ هود : 7 ] ويجوز أن يراد نصيب بالبلاء وهو العذاب كل نفس عاصية بسبب ما أسلفت من الشرّ . وقرىء : «تتلو» ، أي تتبع ما أسلفت؛ لأنّ عمله هو الذي يهديه إلى طريق الجنة أو إلى طريق النار . أو تقرأ في صحيفتها ما قدّمت من خير أو شرّ { مولاهم الحق } ربهم الصادق ربوبيته؛ لأنهم كانوا يتولون ما ليس لربوبيته حقيقة . أو الذي يتولى حسابهم وثوابهم ، العدل الذي لا يظلم أحداً . وقرىء : «الحق» بالفتح على تأكيد قوله : { رُدُّواْ إلى الله } [ الأنعام : 62 ] كقولك : هذا عبد الله الحق لا الباطل . أو على المدح كقولك : الحمد لله . أهل الحمد { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } وضاع عنهم ما كانوا يدعون أنهم شركاء لله . أو بطل عنهم ما كانوا يختلقون من الكذب وشفاعة الآلهة .
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)
{ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء والأرض } أي يرزقكم منهما جميعاً ، لم يقتصر برزقكم على جهة واحدة ليفيض عليكم نعمته ويوسع رحمته { مِنْ يَمْلِكُ السمع والأبصار } من يستطيع خلقهما وتسويتهما على الحدّ الذي سويا عليه من الفطرة العجيبة . أو من يحميهما ويحصنهما من الآفات مع كثرتها في المدد الطوال ، وهما لطيفان يؤذيهما أدنى شيء بكلاءته وحفظه { وَمَن يُدَبّرُ الأمر } ومن يلي تدبير أمر العالم كله ، جاء بالعموم بعد الخصوص { أَفَلاَ تَتَّقُونَ } أفلا تقون أنفسكم ولا تحذرون عليها عقابه فيما أنتم بصدده من الضلال { فَذَلِكُمُ } إشارة إلى من هذه قدرته وأفعاله { رَبُّكُمُ الحق } الثابت ربوبيته ثباتاً لا ريب فيه لمن حقق النظر { فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال } يعني أن الحق والضلال لا واسطة بينهما ، فمن تخطى الحق وقع في الضلال { فأنى تُصْرَفُونَ } عن الحق إلى الضلال ، وعن التوحيد إلى الشرك ، وعن السعادة إلى الشقاء { كَذَلِكَ } مثل ذلك الحق { حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ } أي كما حق وثبت أنّ الحق بعده الضلال ، أو كما حق أنهم مصروفون عن الحق ، فكذلك حقّت كلمة ربك { عَلَى الذين فَسَقُواْ } أي تمرّدوا في كفرهم وخرجوا إلى الحدّ الأقصى فيه ، و { أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } بدل من الكلمة أي حقّ عليهم انتفاء الإيمان ، وعلم الله منهم ذلك . أو حق عليهم كلمة الله أنهم من أهل الخذلان ، وأن إيمانهم غير كائن . أو أراد بالكلمة : العدة بالعذاب ، وأنهم لا يؤمنون تعليل ، بمعنى : لأنهم لا يؤمنون .
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)
فإن قلت : كيف قيل لهم { هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يبدأالخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ } وهم غير معترفين بالإعادة؟ قلت : قد وضعت إعادة الخلق لظهور برهانها موضع ما إن دفعه دافع كان مكابراً ردّاً للظاهر البين الذي لا مدخل للشبهة فيه ، دلالة على أنهم في إنكارهم لها منكرون أمراً مسلماً معترفاً بصحته عند العقلاء ، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : { قُلِ الله يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ } فأمره بأن ينوب عنهم في الجواب ، يعني أنه لا يدعهم لجاجهم ومكابرتهم أن ينطقوا بكلمة الحق فكلم عنهم . يقال : هداه للحق وإلى الحق فجمع بين اللغتين : ويقال : هدى بنفسه بمعنى اهتدى ، كما يقال : شرى بمعنى اشترى . ومنه قوله : { أَمَّن لاَّ يَهِدِّى } . وقرىء : «لا يهدّى» بفتح الهاء وكسرها مع تشديد الدال . والأصل : يهتدي ، فأدغم وفتحت الهاء بحركة التاء ، أو كسرت لالتقاء الساكنين ، وقد كسرت الياء لاتباع ما بعدها . وقرىء : «إلاّ أن يهدى» من هداه وهدّاه للمبالغة . ومنه قولهم : تهدى . ومعناه أن الله وحده هو الذي يهدي للحق ، بما ركب في المكلفين من العقول وأعطاهم من التمكين للنظر في الأدلة التي نصبها لهم ، وبما لطف بهم ووفقهم وألهمهم وأخطر ببالهم ووقفهم على الشرائع ، فهل من شركائكم الذين جعلتم أنداداً لله أحد من أشرفهم كالملائكة والمسيح وعزير ، يهدي إلى الحق مثل هداية الله . ثم قال : أفمن يهدي إلى الحق هذه الهداية أحقّ بالاتباع ، أم الذي لا يهدي أي لا يهتدي بنفسه ، أو لا يهدي غيره إلاّ أن يهديه الله وقيل : معناه أم من لا يهتدي من الأوثان إلى مكان فينتقل إليه { إِلاَّ أَن يهدى } إلاّ أن ينقل ، أو لا يهتدي ولا يصحّ منه الاهتداء إلاّ أن ينقله الله من حاله إلى أن يجعله حيواناً مكلفاً فيهديه { فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } بالباطل ، حيث تزعمون أنهم أنداداً لله .
وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)
{ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ } في قرارهم بالله { إِلاَّ ظَنّا } لأنه قول غير مستند إلى برهان عندهم { إَنَّ الظن } في معرفة الله { لاَ يُغْنِى مِنَ الحق } وهو العلم { شَيْئاً } وقيل : وما يتبع أكثرهم في قولهم للأصنام أنها آلهة وأنَّها شفعاء عند الله إلاّ الظنّ . والمراد بالأكثر : الجميع { إِنَّ الله عَلِيمٌ } وعيد على ما يفعلون من اتباع الظنّ وتقليد الآباء . وقرىء : «تفعلون» بالتاء .
وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40)
{ وَمَا كَانَ هذا القرءان } افتراء { مِن دُونِ الله ولكن } كان { تَصْدِيقَ الذى بَيْنَ يَدَيْهِ } وهو ما تقدمه من الكتب المنزلة ، لأنه معجز دونها فهو عيار عليها وشاهد لصحتها ، كقوله تعالى : { هُوَ الحق مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } [ فاطر : 31 ] . وقرىء : «ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب» على : ولكن هو تصديق وتفصيل . ومعنى وَمَا كَانَ أن يَفْتَرِى . وما صحّ وما استقام ، وكان محالاً أن يكون مثله في علو أمره وإعجازه مفتري { وَتَفْصِيلَ الكتاب } وتبيين ما كتب وفرض من الأحكام والشرائع ، من قوله : { كتاب الله عَلَيْكُمْ } [ النساء : 24 ] . فإن قلت : بم اتصل قوله : { لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبّ العالمين } قلت : هو داخل في حيز الاستدراك . كأنه قال : ولكن كان تصديقاً وتفصيلاً منتفياً عنه الريب كائناً من رب العالمين . ويجوز أن يراد : ولكن كان تصديقاً من رب العالمين وتفصيلاً منه لا ريب في ذلك ، فيكون { مِن رَّبِّ العالمين } متعلقاً بتصديق وتفصيل ، أو يكون { لاَ رَيْبَ فِيهِ } اعتراضاً ، كما تقول : زيد لا شكّ فيه كريم { أَمْ يَقُولُونَ افتراه } بل أيقولون : اختلقه ، على أن الهمزة تقرير لإلزام الحجة عليهم . أو إنكار لقولهم واستبعاد . والمعنيان متقاربان { قُلْ } إن كان الأمر كما تزعمون { فَأْتُواْ } أنتم على وجه الافتراء { بِسُورَةٍ مّثْلِهِ } فأنتم مثلي في العربية والفصاحة . ومعنى { بِسُورَةٍ مّثْلِهِ } أي شبيهة به في البلاغة وحسن النظم . وقرىء : «بسورة مثله» على الإضافة ، أي : بسورة كتاب مثله { وادعوا } من دون الله { مَنِ استطعتم } من خلقه للاستعانة به على الإتيان بمثله : يعني : أنّ الله وحده هو القادر على أن يأتي بمثله لا يقدر على ذلك أحد غيره ، فلا تستعينوه وحده ، ثم استعينوا بكل من دونه { إِن كُنتُمْ صادقين } أنه افتراء { بَلْ كَذَّبُواْ } بل سارعوا إلى التكذيب بالقرآن ، وفاجؤه في بديهة السماع قبل أن يفقهوه ويعلموا كنه أمره ، وقبل أن يتدبروه ويقفوا على تأويله ومعانيه وذلك لفرط نفورهم عما يخالف دينهم وشرادهم عن مفارقة دين آبائهم ، كالناشيء على التقليد من الحشوية ، إذا أحسّ بكلمة لا توافق ما نشأ عليه وألفه - وإن كانت أضوأ من الشمس في ظهور الصحة وبيان الاستقامة - أنكرها في أوّل وهلة ، واشمأز منها قبل أن يحسّ إدراكها بحاسّة سمعه من غير فكر في صحة أو فساد ، لأنه لم يشعر قلبه إلاّ صحة مذهبه وفساد ما عداه من المذاهب . فإن قلت : ما معنى التوقع في قوله : { وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } ؟ قلت : معناه أنهم كذبوا به على البديهة قبل التدبر ومعرفة التأويل ، تقليداً للآباء . وكذبوه بعد التدبر ، تمرداً وعناداً ، فذمهم بالتسرع إلى التكذيب قبل العلم به ، وجاء بكلمة التوقع ليؤذن أنهم علموا بعد علو شأنه وإعجازه لما كرّر عليهم التحدّي ، ورازوا قواهم في المعارضة واستيقنوا عجزهم عن مثله ، فكذبوا به بغياً وحسداً { كَذَلِكَ } أي مثل ذلك التكذيب { كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } يعني قبل النظر في معجزات الأنبياء وقبل تدبرها من غير إنصاف من أنفسهم ، ولكن قلدوا الآباء وعاندوا .
وقيل : هو في الذين كذبوا وهم شاكون . ويجوز أن يكون معنى { وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } ولم يأتهم بعد تأويل ما فيه من الإخبار بالغيوب أي عاقبته ، حتى يتبين لهم أهو كذب أم صدق ، يعني أنه كتاب معجز من جهتين : من جهة إعجاز نظمه ، ومن جهة ما فيه من الإخبار بالغيوب ، فتسرعوا إلى التكذيب به قبل أن ينظروا في نظمه وبلوغه حدّ الإعجاز ، وقبل أن يخبروا أخباره بالمغيبات وصدقه وكذبه { وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ } يصدق به في نفسه ، ويعلم أنه حق ، ولكنه يعاند بالتكذيب . ومنهم من يشكّ فيه لا يصدق به ، أو يكون للاستقبال ، أي : ومنهم من سيؤمن به ومنهم من سيصرّ { وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بالمفسدين } بالمعاندين ، أو المصرين .
وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41)
{ وَإِن كَذَّبُوكَ } وإن تموا على تكذيبك ويئست من إجابتهم ، فتبرأ منهم وخلهم فقد أعذرت ، كقوله تعالى : { فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنّى بَرِىء } [ الشعراء : 216 ] وقيل : هي منسوخة بآية السيف .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43)
{ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } معناه : ومنهم ناس يستمعون إليك إذا قرآت القرآن وعلمت الشرائع ، ولكنهم لا يعون ولا يقبلون وناس ينظرون إليك ويعاينون أدلة الصدق وأعلام النبوة ولكنهم لا يصدقون . ثم قال : أتطمع أنك تقدر على إسماع الصم ولو انضم إلى صممهم عدم عقولهم؛ لأن الأصم العاقل ربما تفرّس واستدلّ إذا وقع في صماخه دويّ الصوت ، فإذا اجتمع سلب السمع والعقل جميعاً فقد تمّ الأمر . وأتحسب أنك تقدر على هداية العمي ولو انضم إلى العمى - وهو فقد البصر - فقد البصيرة؛ لأن الأعمى الذي له في قلبه بصيرة قد يحدس ويتظنن . وأما العمى مع الحمق فجهد البلاء ، يعني أنهم في اليأس من أن يقبلوا ويصدقوا ، كالصمّ والعمي الذين لا بصائر لهم ولا عقول . وقوله : { أَفَأَنتَ . . . . . أَفَأَنتَ } دلالة على أنه لا يقدر على إسماعهم وهدايتهم إلاّ الله عزّ وجلّ بالقسر والإلجاء ، كما لا يقدر على ردّ الأصم والأعمى المسلوبي العقل حديدي السمع والبصر راجحي العقل ، إلاّ هو وحده .
إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)
{ إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئًا } أي لا ينقصهم شيئاً مما يتصل بمصالحهم من بعثة الرسل وإنزال الكتب ، ولكنهم يظلمون أنفسهم بالكفر والتكذيب ، ويجوز أن يكون وعيداً للمكذبين ، يعني : أن ما يلحقهم يوم القيامة من العذاب لاحق بهم على سبيل العدل والاستيجاب . ولا يظلمهم الله به ، ولكنهم ظلموا أنفسهم باقتراف ما كان سبباً فيه .
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)
{ إِلاَّ سَاعَةً مّنَ النهار } يستقربون وقت لبثهم في الدنيا . وقيل : في القبور ، لهول ما يرون { يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ } يعرف بعضهم بعضاً ، كأنهم لم يتفارقوا إلاّ قليلاً ، وذلك عند خروجهم من القبور ثم ينقطع التعارف بينهم لشدّة الأمر عليهم . فإن قلت : { كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ } و { يَتَعَارَفُونَ } كيف موقعهما؟ قلت : أما الأولى فحال من «هم» أي يحشرهم مشبهين بمن لم يلبث إلاّ ساعة . وأما الثانية فإما أن تتعلق بالظرف . وإما أن تكون مبينة ، لقوله : { كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً } لأنّ التعارف لا يبقى مع طول العهد وينقلب تناكراً { قَدْ خَسِرَ } على إرادة القول ، أي يتعارفون بينهم قائلين ذلك ، أو هي شهادة من الله تعالى على خسرانهم . والمعنى أنهم وضعوا في تجارتهم وبيعهم الإيمان بالكفر { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } للتجارة عارفين بها ، وهو استئناف فيه معنى التعجب ، كأنه قيل : ما أخسرهم!
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46)
{ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ } جواب نتوفينك ، وجواب نرينك محذوف ، كأنه قيل : وإما نرينك بعض الذي نعدهم في الدنيا فذاك ، أو نتوفينك قبل أن نريكه فنحن نريكه في الآخرة . فإن قلت : الله شهيد على ما يفعلون في الدارين ، فما معنى ثم؟ قلت : ذكرت الشهادة والمراد مقتضاها ونتيجتها وهو العقاب ، كأنه قال : ثم الله معاقب على ما يفعلون . وقرأ ابن أبي عبلة : «ثم» بالفتح ، أي هنالك . ويجوز أن يراد : أنّ الله مؤدّ شهادته على أفعالهم يوم القيامة ، حين ينطق جلودهم وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم شاهدة عليهم .
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47)
{ وَلِكُلّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ } يبعث إليهم لينبههم على التوحيد ، ويدعوهم إلى دين الحق { فَإِذَا جَاء } هم { رَسُولَهُمْ } بالبينات فكذبوه ، ولم يتبعوه { قُضِىَ بَيْنَهُمْ } أي بين النبيّ ومكذّبيه { بالقسط } بالعدل ، فأنجى الرسول وعذّب المكذّبون ، كقوله؛ { وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] أو لكل أمّة من الأمم يوم القيامة رسول تنسب إليه وتدعى به ، فإذا جاء رسولهم الموقف ليشهد عليهم بالكفر والإيمان ، كقوله تعالى : { وَجِىء بالنبيين والشهداء وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ بالحق } [ الزمر : 69 ] .
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49)
{ متى هذا الوعد } استعجال لما وعدوا من العذاب استبعاداً له { لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِى ضَرّا } من مرض أو فقر { وَلاَ نَفْعاً } من صحة أو غنى { إِلاَّ مَا شَاء الله } استثناء منقطع : أي ولكن ما شاء الله من ذلك كائن ، فكيف أملك لكم الضرر وجلب العذاب؟ { لِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ } يعني أن عذابكم له أجل مضروب عند الله وحدّ محدود من الزمان { إِذَا جَاء } ذلك الوقت أنجز وعدكم لا محالة ، فلا تستعجلوا . وقرأ ابن سيرين : «فإذا جاء آجالهم» .
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52)
{ بَيَاتًا } نصب على الظرف ، بمعنى . وقت بيات ، فإن قلت : هلا قيل ليلاً أو نهاراً؟ قلت : لأنه أريد : إن أتاكم عذابه وقت بيات فبيتكم وأنتم ساهون لا تشعرون ، كما يبيت العدو المباغت . والبيات بمعنى التبييت ، كالسلام بمعنى التسليم ، وكذلك قوله : { نَهَارًا } معناه في وقت أنتم فيه مشتغلون بطلت بالمعاش والكسب . ونحوه { بياتا وَهُمْ نَائِمُونَ } [ الأعراف : 98 ] ، { ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ } [ الأعراف : 98 ] الضمير في { مِنْهُ } للعذاب . والمعنى : أن العذاب كله مكروه مرّ المذاق موجب للنفار ، فأي شيء يستعجلون منه وليس شيء منه يوجب الاستعجال . ويجوز أن يكون معناه التعجب ، كأنه قيل أي شيء هول شديد يستعجلون منه ، ويجب أن تكون «من» للبيان في هذا الوجه . وقيل : الضمير في { مِنْهُ } لله تعالى . فإن قلت : بم تعلق الاستفهام؟ وأين جواب الشرط قلت تعلق بأرأيتم لأنَّ المعنى : أخبروني ماذا يستعجل منه المجرمون وجواب الشرط محذوف وهو : تندموا على الاستعجال ، أو تعرفوا الخطأ فيه . فإن قلت : فهلا قيل : ماذا تستعجلون منه . قلت : أريدت الدلالة على موجب ترك الاستعجال وهو الإجرام؛ لأنّ من حق المجرم أن يخاف التعذيب على إجرامه ، ويهلك فزعاً من مجيئه وإن أبطأ ، فضلاً أن يستعجله . ويجوز أن يكون { مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ المجرمون } جواباً للشرط ، كقولك : إن أتيتك ماذا تطعمني؟ بما تتعلق الجملة بأرأيتم ، وأن يكون { أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ ءامَنْتُمْ بِهِ } جواب الشرط ، و { مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ المجرمون } اعتراضاً . والمعنى : إن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإيمان ، ودخول حرف الاستفهام على ثم ، كدخوله على الواو والفاء في قوله : { أَفَأَمِنَ أَهْلُ القرى } [ الأعراف : 97 ] ، { أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى } [ الأعراف : 98 ] . { ءآلئان } على إرادة القول ، أي : قيل لهم إذا آمنوا بعد وقوع العذاب : آلآن آمنتم به { وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ } يعني : وقد كنتم به تكذبون؛ لأنّ استعجالهم كان على جهة التكذيب والإنكار . وقرىء : «آلان» ، بحذف الهمزة بعد اللام وإلقاء حركتها على اللام { ثُمَّ قِيلَ الذين ظَلَمُواْ } عطف على «قيل» المضمر قبل آلآن .
وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53)
{ وَيَسْتَنْبِئُونَكَ } ويستخبرونك فيقولون : { أَحَقٌّ هُوَ } وهو استفهام على جهة الإنكار والاستهزاء . وقرأ الأعمش : «آلحق هو» ، وهو أدخل في الاستهزاء ، لتضمنه معنى التعريض بأنه باطل . وذلك أنّ اللام للجنس ، فكأنه قيل : أهو الحق لا الباطل؟ أو أهو الذي سميتموه الحق ، والضمير للعذاب الموعود . و { إِى } بمعنى «نعم» في القسم خاصة ، كما كان «هل» بمعنى «قد» في الاستفهام خاصة . وسمعتهم يقولون في التصديق : إيوَ ، فيصلونه بواو القسم ولا ينطقون به وحده { وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ } بفائتين العذاب ، وهو لاحق بهم لا محالة .
وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)
{ ظَلَمَتْ } صفة لنفس على : ولو أنّ لكل نفس ظالمة { مَّا فِى الأرض } أي ما في الدنيا اليوم من خزائنها وأموالها وجميع منافعها على كثرتها { لاَفْتَدَتْ بِهِ } لجعلته فدية لها . يقال : فده فافتدى . ويقال : افتداه أيضاً بمعنى فداه { وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا رَأَوُاْ العذاب } لأنهم بهتوا لرؤيتهم ما لم يحتسبوه ولم يخطر ببالهم وعاينوا من شدة الأمر وتفاقمه ما سلبهم قواهم وبهرهم فلم يطيقوا عنده بكاء ولا صراخاً ولا ما يفعله الجازع ، سوى إسرار الندم والحسرة في القلوب ، كما ترى المقدّم للصلب يثخنه ما دهمه من فظاعة الخطب ، ويغلب حتى لا ينبس بكلمة ويبقى جامداً مبهوتاً ، وقيل : أسر رؤساؤهم الندامة من سفالتهم الذين أضلوهم حياء منهم وخوفاً من توبيخهم وقيل أسروها أخلصوها ، إما لأن إخفاءها إخلاصها ، وإما من قولهم : سرّ الشيء ، خالصه . وفيه تهكم بهم وبأخطائهم وقت إخلاص الندامة . وقيل : أسروا الندامة : أظهروها ، من قولهم : أسر الشيء وأشره إذا أظهره . وليس هناك تجلد { وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ } أي بين الظالمين والمظلومين ، دلّ على ذلك ذكر الظلم . ثم أتبع ذلك الإعلام بأنّ له الملك كله ، وأنه المثيب المعاقب ، وما وعدوه من الثواب والعقاب فهو حق . وهو القادر على الإحياء والإماتة ، لا يقدر عليهما غيره ، وإلى حسابه وجزائه المرجع ، ليعلم أن الأمر كذلك ، فيخاف ويرجىء ولا يغتر به المغترون .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)
{ قَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ } أي قد جاءكم كتاب جامع لهذه الفوائد من موعظة وتنبيه على التوحيد { و } هو { شِفَآء } أي دواء { لِّمَا فِي } صدوركم من العقائد الفاسدة ودعاء إلى الحق { وَرَحْمَةً } لمن آمن به منكم . وأصل الكلام : بفضل الله وبرحمته فليفرحوا ، فبذلك فليفرحوا ، والتكرير للتأكيد والتقرير وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا ، فحذف أحد الفعلين لدلالة المذكور عليه ، والفاء داخلة لمعنى الشرط؛ كأنه قيل : إن فرحوا بشيء فليخصوهما بالفرح ، فإنه لا مفروح به أحق منهما . ويجوز أن يراد : بفضل الله وبرحمته فليعتنوا فبذلك فليفرحوا . ويجوز أن يراد : قد جاءتكم موعطة بفضل الله وبرحمته ، فبذلك : فبمجيئها فليفرحوا .
( 512 ) وقرىء : «فلتفرحوا» بالتاء وهو الأصل والقياس ، وهي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما روي . وعنه :
( 513 ) لتأخذوا مصافكم» قالها في بعض الغزوات . وفي قراءة أبيّ : «فافرحوا» { هُوَ } راجع إلى ذلك . وقرىء : «مما تجمعون» بالياء والتاء . وعن أبيّ بن كعب :
( 514 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا : { قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ } فقال : بكتاب الله والإسلام» وقيل : «فضله» الإسلام «ورحمته» ما وعد عليه .
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)
{ أَرَأَيْتُمْ } أخبروني . و { مَّاَ أَنزَلَ الله } «ما» في موضع النصب ، بأنزل ، أو بأرأيتم ، في معنى : أخبرونيه { فَجَعَلْتُمْ مّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً } أي أنزله الله رزقاً حلالاً كله فبعضتموه وقلتم : هذا حلال وهذا حرام ، كقولهم : { هذه أنعام وَحَرْثٌ حِجْرٌ } ، { مَا فِى بُطُونِ هذه الانعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا } { الله أَذِنَ لَكُمْ } متعلق بأرأيتم . وقل : تكرير للتوكيد . والمعنى : أخبروني آلله أذن لكم في التحليل والتحريم فأنتم تفعلون ذلك بإذنه ، أم تتكذبون على الله في نسبة ذلك إليه . ويجوز أن تكون الهمزة للإنكار ، وأم منقطعة بمعنى : بل أتفترون على الله ، تقريراً للافتراء . وكفى بهذه الآية زاجرة زجراً بليغاً عن التجوز فيما يسئل عنه من الأحكام . وباعثة على وجوب الاحتياط فيه ، وأن لا يقول أحد في شيء جائز أو غير جائز إلاّ بعد إيقان وإتقان ، ومن لم يوقن فليتق الله وليصمت ، وإلاّ فهو مفتر على الله { يَوْمُ القيامة } منصوب بالظن ، وهو ظنّ واقع فيه ، يعني : أي شيء ظنّ المفترين في ذلك اليوم ما يصنع بهم فيه وهو يوم الجزاء بالإحسان والإساءة ، وهو وعيد عظيم حيث أبهم أمره . وقرأ عيسى ابن عمر : «وما ظنّ» على لفظ الفعل . ومعناه : وأي ظنّ ظنّوا يوم القيامة . وجيء به على لفظ الماضي لأنه كائن فكأن قد كان { إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس } حيث أنعم عليهم بالعقل ورحمهم بالوحي وتعليم الحلال والحرام { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ } هذه النعمة ولا يتبعون ما هدوا إليه .
وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)
{ وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ } «ما» نافية والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والشأن : الأمر ، وأصله الهمز بمعنى القصد ، من شأنت شأنه إذا قصدت قصده . والضمير في { مِنْهُ } للشأن لأن تلاوة القرآن شأن من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل هو معظم شأنه ، أو للتنزيل ، كأنه قيل : وما تتلو من التنزيل من قرآن ، لأنّ كلّ جزء منه قرآن ، والإضمار قبل الذكر تفخيم له . أو لله عزّ وجلّ . وما { تَعْمَلُونَ } أنتم جميعاً { مِنْ عَمَلٍ } أيّ عمل كان { إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا } شاهدين رقباء نحصي عليكم { إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ } من أفاض في الأمر إذا اندفع فيه { وَمَا يَعْزُبُ } . قرىء بالضم والكسر «وما يبعد وما يغيب» ، ومنه : الروض العازب { وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك وَلا أَكْبَرَ } القراءة بالنصب والرفع ، والوجه النصب على نفي الجنس ، والرفع على الابتداء ليكون كلاماً برأسه ، وفي العطف على محل { مِن مّثْقَالِ ذَرَّةٍ } أو على لفظ { مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } [ النساء : 40 ] فتحاً في موضع الجرّ لامتناع الصرف : إشكال ، لأنّ قولك : «لا يعزب عنه شيء إلاّ في كتاب» مشكل . فإن قلت : لم قدّمت الأرض على السماء ، بخلاف قوله : في سورة سبأ { عالم الغيب لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى السموات وَلاَ فِى الأرض } [ سبأ : 3 ] ؟ قلت : حق السماء أن تقدم على الأرض ، ولكنه لما ذكر شهادته على شئون أهل الأرض وأحوالهم وأعمالهم ، ووصل بذلك قوله : { لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ } [ سبأ : 3 ] لاءم ذلك أن قدّم الأرض على السماء ، على أنّ العطف بالواو حكمه حكم التثنية .
أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)
{ أَوْلِيَاء الله } الذين يتولونه بالطاعة ويتولاهم بالكرامة . وقد فسر ذلك في قوله : { الذين ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } فهم توليهم إياه { لَهُمُ البشرى فِي الحياة الدنيا وَفِى الأخرة } فهو توليه إياهم . وعن سعيد بن جبير :
( 515 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل : من أولياء الله؟ فقال : « هم الذين يذكر الله برؤيتهم » يعني السمت والهيئة . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الإخبات والسكينة . وقيل : هم المتحابون في الله . وعن عمر رضي الله عنه : سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول :
( 516 ) « إنَّ من عباد الله عباداً ما هم بأنبياء ولا شهداء ، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله » قالوا : يا رسول الله ، خبرنا من هم وما أعمالهم؟ فلعلنا نحبهم ، قال : « هم قوم تحابوا في الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها ، فوالله إن وجوههم لنور ، وإنهم لعلى منابر من نور ، لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس » ثم قرأ الآية : { الذين كَفَرُواْ } نصب أو رفع على المدح أو على وصف الأولياء أو على الابتداء والخبر لهم البشرى ، والبشرى في الدنيا ما بشر الله به المؤمنين المتقين في غير مكان من كتابه ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 517 ) « هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له » وعنه عليه الصلاة والسلام : ذهبت النبوّة وبقيت المبشرات . وقيل : هي محبة الناس له والذكر الحسن . وعن أبي ذرّ :
( 518 ) قلت : لرسول الله صلى الله عليه وسلم : الرجل يعمل العمل لله ويحبه الناس فقال : « تلك عاجل بشرى المؤمن » وعن عطاء : لهم البشرى عند الموت تأتيهم الملائكة بالرحمة . قال الله تعالى : { تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملئكة أَن لا تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بالجنة } [ فصلت : 30 ] وأمّا البشرى في الآخرة فتلقى الملائكة إياهم مسلمين مبشرين بالفوز والكرامة ، وما يرون من بياض وجوههم وإعطاء الصحائف بأيمانهم وما يقرءون منها ، وغير ذلك من البشارات { لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله } لا تغيير لأقواله ولا إخلاف لمواعيده ، كقوله تعالى : { مَا يُبَدَّلُ القول لَدَىَّ } [ ق : 29 ] و { ذلك } إشارة إلى كونهم مبشرين في الدارين ، وكلتا الجملتين اعتراض .
وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65)
{ وَلاَ يَحْزُنكَ } وقرىء : «ولا يحزنك» من أحزنه { قَوْلُهُمْ } تكذيبهم لك ، وتهديدهم وتشاورهم في تدبير هلاكك وإبطال أمرك ، وسائر ما يتكلمون به في شأنك { إِنَّ العزة للَّهِ } استئناف بمعنى التعليل ، كأنه قيل : ما لي لا أحزن؟ فقيل : إن العزّة لله جميعاً ، أي إن الغلبة والقهر في ملكة الله جميعاً ، لا يملك أحد شيئاً منها لا هم ولا غيرهم ، فهو يغلبهم وينصرك عليهم { كَتَبَ الله لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى } [ المجادلة : 21 ] . { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا } [ غافر : 51 ] وقرأ أبو حيوة «أن العزة» بالفتح بمعنى لأن العزة على صريح التعليل ومن جعله بدلاً من قولهم ثم أنكره ، فالمنكر هو تخريجه ، لا ما أنكر من القراءة به { هُوَ السميع العليم } يسمع ما يقولون . ويعلم ما يدبرون ويعزمون عليه . وهو مكافئهم بذلك .
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66)
{ مَن فِى السماوات وَمَنْ فِى الأرض } يعني العقلاء المميزين وهم الملائكة والثقلان ، وإنما خصّهم ، ليؤذن أنّ هؤلاء إذا كانوا له وفي ملكته فهم عبيد كلهم ، وهو سبحانه وتعالى : ربهم ولا يصلح أحد منهم للربوبية ، ولا أن يكون شريكاً له فيها ، ما وراءهم مما لا يعقل أحقّ أن لا يكون له ندّاً وشريكاً ، وليدلّ على أن من اتّخذ غيره رباً من ملك أو إنسي فضلاً عن صنم أو غير ذلك ، فهو مبطل تابع لما أدّى إليه التقليد وترك النظر . ومعنى : وما يتبعون شركاء ، أي : وما يتبعون حقيقة الشركاء وإن كانوا يسمونها شركاء ، لأنّ شركة الله في الربوبية محال { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ } ظنهم أنها شركاء { وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } يحزرون ويقدرون أن تكون شركاء تقديراً باطلاً . ويجوز أن يكون { وَمَا يَتَّبِعُ } في معنى الاستفهام ، يعني : وأي شيء يتبعون . و { شُرَكَاء } على هذا نصب بيدعون ، وعلى الأوّل بيتبع . وكان حقه . وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء شركاء ، فاقتصر على أحدهما للدلالة . ويجوز أن تكون «ما» موصولة معطوفة على «من» كأنه قيل : ولله ما يتبعه الذين يدعون من دون الله شركاء ، أي : وله شركاؤهم . وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه : تدعون ، بالتاء ، ووجهه أن يحمل { وَمَا يَتَّبِعُ } على الاستفهام ، أي : وأي شيء يتبع الذين تدعونهم شركاء من الملائكة والنبيين ، يعني : أنهم يتبعون الله ويطيعونه ، فما لكم لا تفعلون مثل فعلهم؟ كقوله تعالى : { أُولَئِكَ الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبّهِمُ الوسيلة } [ الإسراء : 57 ] ثم صرف الكلام عن الخطاب إلى الغيبة فقال : إن يتبع هؤلاء المشركون إلاّ الظن ، ولا يتبعون ما يتبع الملائكة والنبييون من الحق .
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67)
ثم نبه على عظيم قدرته ونعمته الشاملة لعباده التي يستحق بها أن يوحّدوه بالعبادة ، بأنه جعل لهم الليل مظلماً ليسكنوا فيه مما يقاسون في نهارهم من تعب التردّد في المعاش ، والنهار مضيئاً يبصرون فيه مطالب أرزاقهم ومكاسبهم { لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } سماع معتبر مدّكر .
قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68)
{ سبحانه } تنزيه له عن اتخاذ الولد ، وتعجب من كلمتهم الحمقاء { هُوَ الغنى } علة لنفي الولد لأنّ ما يطلب به الولد من يلد ، وما يطلبه له السبب في كله الحاجة ، فمن الحاجة منتفية عنه كان الولد عنه منتفياً { لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض } فهو مستغن بملكه لهم عن اتخاذ أحد منهم ولدا { إِنْ عِندَكُمْ مّن سُلْطَانٍ بهذا } ما عندكم من حجة بهذا القول والباء حقها أن تتعلق بقوله : { إِنْ عِندَكُمْ } على أن يجعل القول مكاناً للسلطان ، كقولك : ما عندكم بأرضكم موز ، كأنه قيل : إن عندكم فيما تقولون سلطان { أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } لما نفى عنهم البرهان جعلهم غير عالمين ، فدلّ على أنّ كل قول لا برهان عليه لقائله فذاك جهل وليس بعلم .
قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
{ يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب } بإضافة الولد إليه { متاع فِى الدنيا } أي افتراؤهم هذا منفعة قليلة في الدنيا ، وذلك حيث يقيمون رياستهم في الكفر ومناصبة النبي صلى الله عليه وسلم بالتظاهر به ، ثم يلقون الشقاء المؤبد بعده .
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)
{ كَبُرَ عَلَيْكُمْ } عظم عليكم وشقّ وثقل . ومنها قوله تعالى : { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين } [ البقرة : 45 ] . ويقال : تعاظمه الأمر { مَّقَامِى } مكاني ، يعني نفسه ، كما تقول : فعلت كذا لمكان فلان : وفلان ثقيل الظل . ومنه : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ } [ الرحمن : 46 ] بمعنى خاف ربه . أو قيامي ومكثي بين أظهركم مدداً طوالاً أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً أو مقامي وتذكيري؛ لأنهم كانوا إذا وعظوا الجماعة قاموا على أرجلهم يعظونهم ، ليكون مكانهم بيناً وكلامهم مسموعاً ، كما يحكى عن عيسى صلوات الله عليه أنه كان يعظ الحواريين قائماً وهم قعود { فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ } من أجمع الأمر ، وأزمعه ، إذا نواه وعزم عليه . قال :
هَلْ أَغْدُوَنْ يَوْماً وَأَمْرِي مُجْمعُ ... والواو بمعنى «مع» يعني : فأجمعوا أمركم مع شركائكم . وقرأ الحسن : «وشركاؤكم» بالرفع عطفاً على الضمير المتصل ، وجاز من غير تأكيد بالمنفصل لقيام الفاصل مقامه لطول الكلام ، كما تقول : اضرب زيداً وعمرو . وقرىء : «فاجمعوا» من الجمع . وشركاءكم نصب للعطف على المفعول ، أو لأنّ الواو بمعنى «مع» وفي قراءة أبيّ : «فأجمعوا أمركم وادعوا شركاءكم» فإن قلت : كيف جاز إسناد الإجماع إلى الشركاء؟ قلت : على وجه التهكم ، كقوله : { قُلِ ادعوا شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ } [ الأعراف : 195 ] فإن قلت : ما معنى الأمرين؟ أمرهم الذي يجمعونه ، وأمرهم الذي لا يكون عليهم غمة؟ قلت : أمّا الأمر الأوّل فالقصد إلى إهلاكه ، يعني : فأجمعوا ما تريدون من إهلاكي واحتشدوا فيه وابذلوا وسعكم في كيدي . وإنما قال ذلك إظهاراً لقلة مبالاته وثقته بما وعده ربه من كلاءته وعصمته إياه ، وأنهم لن يجدوا إليه سبيلاً . وأما الثاني ففيه وجهان ، أحدهما : أن يراد مصاحبتهم له وما كانوا فيه معه من الحال الشديدة عليهم المكروهة عندهم ، يعني : ثم أهلكوني لئلا يكون عيشكم بسببي غصة وحالكم عليكم غمة : أي غماً وهماً ، والغم والغمة ، كالكرب والكربة . والثاني أن يراد به ما أريد بالأمر الأوّل ، والغمة السترة من غمه إذا ستره . ومنها قوله عليه السلام :
( 519 ) " ولا غمة في فرائض الله " أي لا تستر ، ولكن يجاهر بها ، يعني : ولا يكن قصدكم إلى إهلاكي مستوراً عليكم ولكن مكشوفاً مشهوراً تجاهرونني به { ثُمَّ اقضوا إِلَىَّ } ذلك الأمر الذي تريدون بي ، أي : أدّوا إليَّ قطعه وتصحيحه ، كقوله تعالى : { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر } [ الحجر : 66 ] أو أدّوا إليّ ما هو حق عليكم عندكم من هلاكي كما يقضي الرجل غريمه { وَلاَ تُنظِرُونَ } ولا تمهلوني . قرىء : «ثم افضوا إليّ» بالفاء بمعنى : ثم انتهوا إليّ بشرّكم . وقيل : هو من أفضى الرجل إذا خرج إلى الفضاء ، أي أصحروا به إليَّ وأبرزوه لي { فَإِن تَوَلَّيْتُمْ } فإن أعرضتم عن تذكيري ونصيحتي { فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ } فما كان عندي ما ينفركم عني وتتهموني لأجله من طمع في أموالكم وطلب أجر على عظتكم { إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الله } وهو الثواب الذي يثيبني به في الآخرة أي : ما نصحتكم إلاّ لوجه الله ، لا لغرض من أغراض الدنيا { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين } الذين لا يأخذون على تعليم الدين شيئاً ولا يطلبون به دنيا ، يريد : أن ذلك مقتضى الإسلام ، والذي كل مسلم مأمور به .
والمراد أن يجعل الحجّة لازمة لهم ويبرىء ساحته ، فذكر أن توليهم لم يكن [ عن ] تفريط منه في سوق الأمر معهم على الطريق الذي يجب أن يساق عليه ، وإنما ذلك لعنادهم وتمرّدهم لا غير { فَكَذَّبُوهُ } فتموا على تكذيبه ، وكان تكذيبهم له في آخر المدّة المتطاولة كتكذيبهم في أوّلها ، وذلك عند مشارفة الهلاك بالطوفان { وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ } يخلفون الهالكين بالغرق { كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين } تعظيم لما جرى عليهم ، وتحذير لمن أنذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مثله ، وتسلية له .
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)
{ مِن بَعْدِهِ } من بعد نوح { رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ } يعني هوداً وصالحاً وإبراهيم ولوطاً وشعيباً { فَجَاءوهُم بالبينات } بالحجج الواضحة المثبتة لدعواهم { فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ } فما كان إيمانهم إلاّ ممتنعاً كالمحال لشدّة شكيمتهم في الكفر وتصميمهم عليه { بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ } يريد أنهم كانوا قبل بعثة الرسل أهل جاهلية مكذبين بالحق . فما وقع فصل بين حالتهم بعد بعثة الرسل وقبلها ، كأن لم يبعث إليهم أحد { كَذَلِكَ نَطْبَعُ } مثل ذلك الطبع المحكم نطبع { على قُلوبِ المعتدين } والطبع جار مجرى الكناية عن عنادهم ولجاجهم ، لأنّ الخذلان يتبعه . ألا ترى كيف أسند إليهم الاعتداء ووصفهم به .
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78)
{ مّن بَعْدِهِمْ } من بعد الرسل { بئاياتنا } بالآيات التسع { فاستكبروا } عن قبولها ، وهو أعظم الكبر أن يتهاون العبيد برسالة ربهم بعد تبينها ، ويتعظموا عن تقبلها { وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ } كفاراً ذوي آثام عظام ، فلذلك استكبروا عنها واجترءوا على ردّها { فَلَمَّا جَاءهُمُ الحق مِنْ عِندِنَا } فلما عرفوا أنه هو الحق ، وأنه من عند الله ، لا من قبل موسى وهارون { قالوا } لحبهم الشهوات { إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } وهم يعلمون أنّ الحق أبعد شيء من السحر الذي ليس إلاّ تمويهاً وباطلاً . فإن قلت : هم قطعوا بقولهم : { إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } على أنه سحر ، فكيف قيل لهم : أتقولون أسحر هذا؟ قلت : فيه أوجه : أن يكون معنى قوله : { أَتقُولُونَ لِلْحَقّ } أتعيبونه وتطعنون فيه . وكان عليكم أن تذعنوا له وتعظموه ، من قولهم : فلان يخاف القالة ، وبين الناس تقاول إذا قال بعضهم لبعض ما يسوؤه ، ونحو القول : الذكر ، في قوله : { سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ } [ الأنبياء : 60 ] ثم قال : { أَسِحْرٌ هذا } فأنكر ما قالوه في عيبه والطعن عليه ، وأن يحذف مفعول أتقولون وهو ما دلّ عليه قولهم : { إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } كأنه قيل : أتقولون ما تقولون ، يعني قولهم : إن هذا لسحر مبين ، ثم قيل : أسحر هذا؟ وأن يكون جملة قوله : { أَسِحْرٌ هذا وَلاَ يُفْلِحُ الساحرون } حكاية لكلامهم ، كأنهم قالوا : أَجئتما بالسحر تطلبان به الفلاح { وَلاَ يُفْلِحُ الساحرون } كما قال موسى للسحرة : ما جئتم به آلسحر ، إنّ الله سيبطله { لِتَلْفِتَنَا } لتصرفنا . واللفت والفتل : أخوان ، ومطاوعهما الالتفات والانفتال { عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا } يعنون عبادة الأصنام { وَتَكُونَ لَكُمَا الكبرياء } أي الملك؛ لأن الملوك موصوفون بالكبر . ولذلك قيل للملك الجبار ، ووصف بالصيد والشوس ، ولذلك وصف ابن الرقيات مصعباً في قوله :
مُلْكُهُ مُلْكُ رَأْفَةٍ لَيْسَ فِيه ... جَبَرُوتٌ مِنْهُ وَلاَ كُبْرِيَاءُ
ينفي ما عليه الملوك من ذلك . ويجوز أن يقصدوا ذمّهما وأنهما إن ملكا أرض مصر تجبرا وتكبرا ، كما قال القبطي لموسى عليه السلام : إن تريد إلاّ أن تكون جباراً في الأرض { وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ } أي مصدّقين لكما فيما جئتما به . وقرىء : «يطبع» ويكون لكما ، بالياء .
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)
{ مَا جِئْتُمْ بِهِ } ما موصولة واقعة مبتدأ . و { السحر } خبر ، أي الذي جئتم به هو السحر لا الذي سماه فرعون وقومه سحراً من آيات الله . وقرىء : «آلسحر» على الاستفهام . فعلى هذه القراءة «ما» استفهامية ، أي : أيّ شيء جئتم به ، أهو السحر؟ وقرأ عبد الله : «ما جئتم به سحر» وقرأ أبيّ : «ما أتيتم به سحر» . والمعنى : لا ما أتيت به { إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ } سيمحقه أو يظهر بطلانه بإظهار المعجزة على الشعوذة { لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ المفسدين } لا يثبته ولا يديمه ، ولكن يسلط عليه الدمار { وَيُحِقُّ الله الحق } ويثبته { بكلماته } بأوامره وقضاياه . وقرىء : «بكلمته» بأمره ومشيئته .
فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83)
{ فَمَا ءامَنَ لموسى } في أوّل أمره { إِلاَّ ذُرّيَّةٌ مّن قَوْمِهِ } إلاّ طائفة من ذراري بني إسرائيل ، كأنه قيل : إلاّ أولاد من أولاد قومه . وذلك أنه دعا الآباء فلم يجيبوه خوفاً من فرعون ، وأجابته طائفة من أبنائهم مع الخوف . وقيل : الضمير في قومه لفرعون ، والذرية : مؤمن آل فرعون ، وآسية امرأته ، وخازنه ، وامرأة خازنه وماشطته . فإن قلت : إلام يرجع الضمير في قوله : { وَمَلَئِهِمْ } ؟ قلت : إلى فرعون ، بمعنى آل فرعون ، كما يقال : ربيعة ومضر . أو لأنه ذو أصحاب يأتمرون له . ويجوز أن يرجع إلى الذرية ، أي على خوف من فرعون وخوف من أشراف بني إسرائيل ، لأنهم كانوا يمنعون أعقابهم خوفاً من فرعون عليهم وعلى أنفسهم . ويدلّ عليه قوله : { أَن يَفْتِنَهُمْ } يريد أن يعذبهم { وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأرض } لغالب فيها قاهر { وَإِنَّهُ لَمِنَ المسرفين } في الظلم والفساد ، وفي الكبر والعتوّ بادعائه الربوبية .
وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86)
{ إن كُنْتُمْ ءَامَنْتُم بِاللهِ } صدقتم به وبآياته { فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ } فإليه أسندوا أمركم في العصمة من فرعون . ثم شرط في التوكل الإسلام ، وهو أن يسلموا نفوسهم لله ، أي يجعلوها له سالمة خالصة لا حظّ للشيطان فيها؛ لأن التوكل لا يكون مع التخليط . ونظيره في الكلام : إن ضربك زيد فاضربه ، وإن كانت بك قوّة { فَقَالُواْ على الله تَوَكَّلْنَا } إنما قالوا ذلك ، لأن القوم كانوا مخلصين ، لا جرم أن الله سبحانه قبل توكلهم ، وأجاب دعاءهم ، ونجاهم وأهلك من كانوا يخافونه ، وجعلهم خلفاء في أرضه ، فمن أراد أن يصلح للتوكل على ربه والتفويض إليه ، فعليه برفض التخليط إلى الإخلاص { لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً } موضع فتنة لهم ، أي : عذاب يعذبوننا ويفتنوننا عن ديننا . أو فتنة لهم يفتتنون بنا ويقولون : لو كان هؤلاء على الحق لما أصيبوا .
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)
تبوّأ المكان : اتخذه مباءة ، كقولك : توطنه ، إذا اتخذه وطناً . والمعنى اجعلا بمصر بيوتاً من بيوته مباءة لقومكما ومرجعاً يرجعون إليه للعبادة والصلاة فيه { واجعلوا بُيُوتَكُمْ } تلك { قِبْلَةً } أي مساجد متوجهة نحو القبلة وهي الكعبة ، وكان موسى ومن معه يصلون إلى الكعبة ، وكانوا في أوّل أمرهم مأمورين بأن يصلوا في بيوتهم خفية من الكفرة ، لئلا يظهروا عليهم فيؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم ، كما كان المؤمنون على ذلك في أوّل الإسلام بمكة . فإن قلت : كيف نوّع الخطاب ، فثنى أوّلاً ، ثم جمع ، ثم وحد آخراً . قلت : خوطب موسى وهارون عليهما السلام أن يتبوآ لقومهما بيوتاً ، ويختاراها للعبادة ، وذلك مما يفوّض إلى الأنبياء . ثم سيق الخطاب عامّاً لهما ولقومهما باتخاذ المساجد والصلاة فيها ، لأنّ ذلك واجب على الجمهور ، ثم خصّ موسى عليه السلام بالبشارة التي هي الغرض ، تعظيماً لها وللمبشر بها .
وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88)
الزينة : ما يتزين به من لباس أو حلي أو فرش أو أثاث أو غير ذلك . وعن ابن عباس رضي الله عنه : كانت لهم من فسطاط مصر إلى أرض الحبشة جبال فيها معادن من ذهب وفضة وزبرجد وياقوت . فإن قلت : ما معنى قوله : { رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ } ؟ قلت : هو دعاء بلفظ الأمر ، كقوله : { رَبَّنَا اطمس } ، { واشدد } ، وذلك أنه لما عرض عليهم أيات الله وبيناته عرضاً مكرّراً وردّد عليهم النصائح والمواعظ زماناً طويلاً ، وحذرهم عذاب الله وانتقامه ، وأنذرهم عاقبة ما كانوا عليه من الكفر والضلال المبين ، ورآهم لا يزيدون على عرض الآيات إلا كفراً ، وعلى الإنذار إلاّ استكباراً ، وعن النصيحة إلاّ نبوّا ، ولم يبق له مطمع فيهم ، وعلم بالتجربة وطول الصحبة أنه لا يجيء منهم إلاّ الغي والضلال ، وأنّ إيمانهم كالمحال الذي لا يدخل تحت الصحة ، أو علم ذلك بوحي من الله - اشتد غضبه عليهم ، وأفرط مقته وكراهته لحالهم ، فدعا الله عليهم بما علم أنه لا يكون غيره ، كما تقول : لعن الله إبليس ، وأخزى الله الكفرة ، مع علمك أنه لا يكون غير ذلك ، وليشهد عليهم بأنه لم يبق له فيهم حيلة ، وأنهم لا يستأهلون إلاّ أن يخذلوا ويخلى بينهم وبين ضلالهم يتسكعون فيه ، كأنه قال : ليثبتوا على ما هم عليه من الضلال . وليكونوا ضلالاً ، وليطبع الله على قلوبهم فلا يؤمنوا وما عليّ منهم ، هم أحقّ بذلك وأحقّ كما يقوله الأب المشفق لولده الشاطر إذا ما لم يقبل منه ، حسرة على ما فاته من قبول نصيحته ، وحرداً عليه ، لا أن يريد خلاعته واتباعه هواه . ومعنى الشدّ على القلوب . الاستيثاق منها حتى لا يدخلها الإيمان { فَلاَ يُؤْمِنُواْ } جواب للدعاء الذي هو «اشدد» أو دعاء بلفظ النهي ، وقد حملت اللام في ليضلوا على التعليل ، على أنهم جعلوا نعمة الله سبباً في الضلال ، فكأنهم أوتوها ليضلّوا . وقوله : { فَلاَ يُؤْمِنُواْ } عطف على ليضلوا . وقوله : { رَبَّنَا اطمس على أموالهم واشدد على قُلُوبِهِمْ } دعاء معترض بين المعطوف والمعطوف عليه . وقرأ الفضل الرقاشي : «أئنك آتيت» على الاستفهام ، واطمس بضم الميم .
قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)
قرىء : «دعواتكما» . قيل : كان موسى يدعو وهارون يؤمّن . ويجوز أن يكونا جميعاً يدعوان . والمعنى : إنّ دعاءكما مستجاب ، وما طلبتما كائن ولكن في وقته { فاستقيما } فاثبتا على ما أنتما عليه من الدعوة والزيادة في إلزام الحجّة ، فقد لبث نوح عليه السلام في قومه ألف عام إلاّ قليلاً ولا تستعجلا . قال ابن جريج ، فمكث موسى بعد الدعاء أربعين سنة { وَلاَ تَتَّبِعَانّ سَبِيلَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ } أي لا تتبعا طريق الجهلة بعادة الله في تعليقه الأمور بالمصالح ، ولا تعجلا فإن العجلة ليست بمصلحة . وهذا كما قال لنوح عليه السلام { إِنّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين } [ هود : 46 ] . وقرىء : «ولا تتبعان» بالنون الخفيفة ، وكسرها لالتقاء الساكنين تشبيهاً بنون التثنية ، وبتخفيف التاء من تبع .
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)
قرأ الحسن : وجوزنا من أجاز المكان وجوزه وجاوزه ، وليس من جوز الذي في بيت الأعشى :
وَإذَا تَجَوَّزْنَا حِبَالِ قَبِيلَةٍ ... لأنه لو كان منه لكان حقه أن يقال وجوّزنا بني إسرائيل في البحر كما قال :
كَمَا جَوَّزَ السَّكِّيّ فِي الْبَابِ فَيْتَقُ ... { فَأَتْبَعَهُمْ } فلحقهم . يقال : تبعته حتى أتبعته . وقرأ الحسن : «وعدوّا» . وقرىء : أنه بالفتح على حذف الياء التي هي صلة الإيمان ، وإنه بالكسر على الاستئناف بدلاً من آمنت . كرر المخذول المعنى الواحد ثلاث مرات في ثلاث عبارات حرصاً على القبول ، ثم لم يقبل منه حيث أخطأ وقته . وقاله حين لم يبق له اختيار قط ، وكانت المّرة الواحدة كافية في حال الاختيار وعند بقاء التكليف .
آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)
{ ءآلئان } أتؤمن الساعة في وقت الاضطرار حين أدركك الغرق وأيست من نفسك . قيل : قال ذلك حين ألجمه الغرق يعني حين أوشك أن يغرق . وقيل : قاله بعد أن غرق في نفسه . والذي يحكي أنه حين قال : { ءامَنتُ } أخذ جبريل من حال البحر فدسه في فيه ، فللغضب لله على الكافر في وقت قد علم أنّ إيمانه لا ينفعه . وأمّا ما يضم إليه من قولهم : خشية أن تدركه رحمة الله فمن زيادات الباهتين لله وملائكته : وفيه جهالتان ، إحداهما : أنّ الإيمان يصحّ بالقلب كإيمان الأخرس ، فحال البحر لا يمنعه . والأخرى : أنّ من كره إيمان الكافر وأحبّ بقاءه على الكفر فهو كافر لأن الرضا بالكفر كفر { مِنَ المفسدين } من الضالين المضلين عن الإيمان ، كقوله : { الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله زدناهم عَذَابًا فَوْقَ العذاب بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ } [ النحل : 98 ] . وروي : أنّ جبريل عليه السلام أتاه بفتيا : ما قول الأمير في عبد لرجل نشأ في ماله ونعمته فكفر نعمته وجحد حقه وادّعى السيادة دونه؟ فكتب فرعون فيه : يقول أبو العباس الوليد بن مصعب : جزاء العبد الخارج على سيده الكافر نعماه أن يغرق في البحر ، فلما ألجمه الغرق ناوله جبريل خطه فعرفه { نُنَجّيكَ } بالتشديد والتخفيف : نبعدك مما وقع فيه قومك من قعر البحر . وقيل : نلقيك بنجوة من الأرض . وقرىء : «ننحيك» بالحاء : نلقيك بناحية مما يلي البحر ، وذلك أنه طرح بعد الغرق بجانب البحر قال كعب : رماه الماء إلى الساحل كأنه ثور { بِبَدَنِكَ } في موضع الحال ، أي : في الحال التي لا روح فيك ، وإنما أنت بدن ، أو ببدنك كاملاً سوياً لم ينقص منه شيء ولم يتغير ، أو عرياناً لست إلا بدناً من غير لباس ، أو بدرعك . قال عمرو بن معديكرب :
أَعَاذِلُ شكَّتِي بَدَنِي وَسَيْفِي ... وَكُلُّ مُقَلِّصٍ سَلِسُ القِيَادِ
وكانت له درع من ذهب يعرف بها . وقرأ أبو حنيفة رحمه الله : «بأبدانك» هو على وجهين : إما أن يكون مثل قولهم : هوى بأجرامه ، يعني : ببدنك كله وافياً بأجزائه . أو يريد : بدروعك كأنه كان مظاهراً بينها { لِمَنْ خَلْفَكَ ءايَةً } لمن وراءك من الناس علامة ، وهم بنو إسرائيل ، وكان في أنفسهم أن فرعون أعظم شأناً من أن يغرق . وروي أنهم قالوا : ما مات فرعون ولا يموت أبداً . وقيل : أخبرهم موسى بهلاكه فلم يصدّقوه ، فألقاه الله على الساحل حتى عاينوه ، وكأن مطرحه كان على ممرّ من بني إسارئيل حتى قيل : لمن خلفك . وقيل : { لِمَنْ خَلْفَكَ } لمن يأتي بعدك من القرون . ومعنى كونه آية : أن تظهر للناس عبوديته ومهانته ، وأنّ ما كان يدّعيه من الربوبية باطل محال ، وأنه مع ما كان فيه من عظم الشأن وكبرياء الملك آل أمره إلى ما ترون لعصيانه ربه عزّ وجلّ ، فما الظنّ بغيره ، أو لتكون عبرة تعتبر بها الأمم بعدك ، فلا يجترئوا على نحو ما اجترأت عليه إذا سمعوا بحالك وبهوانك على الله . وقرىء : «لمن خلقك» بالقاف : أي لتكون لخالقك آية كسائر آياته . ويجوز أن يراد : ليكون طرحك على الساحل وحدك وتمييزك من بين المغرقين لئلا يشتبه على الناس أمرك ، ولئلا يقولوا لادّعائك العظمة إنّ مثله لا يغرق ولا يموت آية من آيات الله التي لا يقدر عليها غيره ، وليعلموا أنَّ ذلك تعمد منه لإماطة الشبه في أمرك .
وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)
{ مُبَوَّأَ صِدْقٍ } منزلاً صالحاً مرضياً وهو مصر والشام { فَمَا اختلفوا } في دينهم وما تشعبوا فيه شعباً إلاّ من بعد ما قرأوا التوراة وكسبوا العلم بدين الحق ولزمهم الثبات عليه واتحاد الكلمة ، وعلموا أن الاختلاف فيه تفرّق عنه . وقيل : هو العلم بمحمد صلى الله عليه وسلم واختلاف بني إسرائيل ، وهم أهل الكتاب ، اختلافهم في صفته ونعته ، وأنه هو أم ليس به . بعد ما جاءهم العلم والبيان أنه هو لم يرتابوا فيه . كما قال الله تعالى : { الذين آتيناهم الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ } [ البقرة : 146 ] .
================================================
ج8.كتاب : الكشاف أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95)
فإن قلت : كيف قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : { فَإِن كُنتَ في شَكّ مّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ } مع قوله في الكفرة : { وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكّ مّنْهُ مُرِيبٍ } . قلت : فرق عظيم بين قوله : { إِنَّهُمْ لَفِى شَكٌّ مِنْهُ مُرِيبٍ } بإثبات الشكّ لهم على سبيل التأكيد والتحقيق ، وبين قوله : { فَإِن كُنتَ فِي شَكّ } بمعنى الفرض والتمثيل ، كأنه قيل : فإن وقع لك شك مثلاً وخيّل لك الشيطان خيالاً منه تقديراً { فَاسْأَلِ الذين يَقْرَؤونَ الكتاب } والمعنى : أنّ الله عزّ وجلّ قدم ذكر بني إسرائيل وهم قرأة الكتاب ، ووصفهم بأنّ العلم قد جاءهم ، لأنّ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل ، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، فأراد أم يأكد علمهم بصحة القرآن وصحة نبوّة محمد عليه [ الصلاة و ] السلام ، ويبالغ في ذلك ، فقال : فإن وقع لك شكّ فرضاً وتقديراً وسبيل من خالجته شبهة في الدين أن يسارع إلى حّلها وإماطتها ، إما بالرجوع إلى قوانين الدين وأدلته ، وإما بمقادحة العلماء المنبهين على الحقّ فسل علماء أهل الكتاب ، يعني : أنهم من الإحاطة بصحة ما أنزل إليك وقتلها علماً بحيث يصلحون لمراجعة مثلك ومساءلتهم فضلاً عن غيرك ، فالغرض وصف الأحبار بالرسوخ في العلم بصحة ما أنزل الله إلى رسول الله ، لا وصف رسول الله بالشكّ فيه ، ثم قال : { لَقَدْ جَاءكَ الحق مِن رَّبّكَ } أي ثبت عندك بالآيات والبراهين القاطعة أنّ ما أتاك هو الحق الذي لا مدخل فيه للمرية { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الذين كَذَّبُواْ بآيات الله } أي فاثبت ودم على ما أنت عليه من انتفاء المرية عنك والتكذيب بآيات الله . ويجوز أن يكون على طريقة التهييج والإلهاب ، كقوله : { فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً للكافرين وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ ءايات الله بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ } [ القصص : 87 ] ولزيادة التثبيت والعصمة ، ولذلك قال عليه السلام عند نزوله :
( 520 ) " ولا أشك ولا أسأل بل أشهد أنه الحق " وعن ابن عباس رضي الله عنه : لا والله ما شكّ طرفة عين ، ولا سأل أحداً منهم ، وقيل : خوطب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد خطاب أمته . فإن كنتم في شكّ مما أنزلنا إليكم ، لقوله : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً } [ النساء : 174 ] وقيل : الخطاب للسامع ممن يجوز عليه الشكّ ، كقول العرب : إذا عزّ أخوك فهن . وقيل : «إن» للنفي ، أي : فما كنت في شك فاسأل ، يعني : لا نأمرك بالسؤال لأنك شاك ، ولكن لتزداد يقيناً ، كما ازداد إبراهيم عليه السلام بمعاينة إحياء الموتى . وقرىء : «فاسأل الذين يقرؤون الكتب» .
إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)
{ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبّكَ } ثبت عليهم قول الله الذي كتبه في اللوح وأخبر به الملائكة أنهم يموتون كفاراً فلا يكون غيره . وتلك كتابة معلوم لا كتابة مقدّر ومراد تعالى الله عن ذلك .
فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)
{ فَلَوْلاَ كَانَتْ } فهلا كانت { قَرْيَةٌ } واحدة من القرى التي أهلكناها ، تابت عن الكفر وأخلصت الإيمان قبل المعاينة وقت بقاء التكليف ، ولم تأخر كما أخر فرعون إلى أن أخذ بمخنقه { فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا } بأن يقبله الله منها لوقوعه في وقت الاختيار . وقرأ أبيّ وعبد الله : «فهلا كانت» { إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ } استثناء من القرى؛ لأنّ المراد أهاليها ، وهو استثناء منقطع بمعنى : ولكن قوم يونس لما آمنوا . ويجوز أن يكون متصلاً والجملة في معنى النفي ، كأنه قيل : ما آمنت قرية من القرى الهالكة إلاّ قوم يونس ، وانتصابه على أصل الاستثناء . وقرىء بالرفع على البدل ، هكذا روي عن الجرمي والكسائي . روي أن يونس عليه السلام بعث إلى نينوى من أرض الموصل فكذبوه ، فذهب عنهم مغاضباً ، فلما فقدوه خافوا نزول العذاب . فلبسوا المسوح ، وعجوا أربعين ليلة . وقيل : قال لهم يونس : إن أجلكم أربعون ليلة ، فقالوا : إن رأينا أسباب الهلاك آمنا بك ، فلما مضت خمس وثلاثون أغامت السماء غيماً أسود هائلاً يدخن دخاناً شديداً ثم يهبط حتى يغشى مدينتهم ويسوّد سطوحهم فلبسوا المسوح وبرزوا إلى الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم ، وفرّقوا بين النساء والصبيان ، وبين الذواب وأولادها ، فحنّ بعضها على بعض ، وعلت الأصوات والعجيج ، وأظهروا الإيمان والتوبة وتضرعوا ، فرحمهم الله وكشف عنهم ، وكان يوم عاشوراء يوم الجمعة . وعن ابن مسعود : بلغ من توبتهم أن ترادّوا المظالم ، حتى إنّ الرجل كان يقتلع الحجر وقد وضع عليه أساس بنائه فيردّه ، وقيل : خرجوا إلى شيخ من بقية علمائهم فقالوا : قد نزل بنا العذاب فما ترى؟ فقال لهم : قولوا : «يا حيّ حين لا حيّ ، ويا حيّ محيي الموتى ، ويا حيّ لا إله إلاّ أنت» فقالوها فكشف عنهم . وعن الفضيل بنعياض : قالوا : «اللَّهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلّت ، وأنت أعظم منها وأجلّ ، افعل بنا ما أنت أهله ، ولا تفعل بنا ما نحن أهله» .
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)
{ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ } مشيئة القسر والإلجاء { لآمَنَ مَن فِى الأرض كُلُّهُمْ } على وجه الإحاطة والشمول { جَمِيعاً } على الإيمان مطبقين عليه لا يختلفون فيه . ألا ترى إلى قوله : { أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس } يعني إنما يقدر على إكراههم واضطرارهم إلى الإيمان هو لا أنت . وإيلاء الاسم حرف الاستفهام ، وللإعلام بأن الإكراه ممكن مقدور عليه ، وإنما الشأن في المكره من هو؟ وما هو إلاّ هو وحده لا يشارك فيه ، لأنه هو القادر على أن يفعل في قلوبهم ما يضطّرون عنده إلى الإيمان ، وذلك غير مستطاع للبشر .
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)
{ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ } يعني من النفوس التي علم أنها تؤمن { إِلاَّ بِإِذْنِ الله } أي بتسهيله وهو منح الألطاف { وَيَجْعَلُ الرجس عَلَى الذين لاَ يَعْقِلُونَ } قابل بالإذن بالرجس وهو الخذلان ، والنفس المعلوم إيمانها بالذين لا يعقلون وهم المصرون على الكفر ، كقوله : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } وسمي الخذلان رجسا وهو العذاب لأنه سببه . وقرىء : «الرجز» بالزاي . وقرىء : «ونجعل» بالنون .
قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)
{ مَاذَا فِى السموات والأرض } من الآيات والعبر { وَمَا تُغْنِى الآيات والنذر } والرسل المنذرون . أو الإنذارات { عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } لا يتوقع إيمانهم ، وهم الذين لا يعقلون وقرىء : وما يغني بالياء ، و «ما» نافية ، أو استفهامية .
فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)
{ أَيَّامِ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ } وقائع الله تعالى فيهم . كما يقال : «أيام العرب» لوقائعها { ثُمَّ نُنَجّى رُسُلَنَا } معطوف على كلام محذوف يدلّ عليه قوله : { إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ } كأنه قيل : نهلك الأمم ثم ننجي رسلنا ، على حكاية الأحوال الماضية { والذين ءامَنُواْ } ومن آمن معهم ، كذلك { نُنجِ المؤمنين } مثل ذلك الإنجاء ننجي المؤمنين منكم ، ونهلك المشركين . و { حَقّاً عَلَيْنَا } اعتراض ، يعني : حقّ ذلك علينا حقاً . وقرىء : «ننجّ» بالتشديد .
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104)
{ يا أَيُّهَا الناس } يا أهل مكة { إِن كُنتُمْ فِى شَكّ مّن دِينِى } وصحته وسداده ، فهذا ديني فاسمعوا وصفه ، واعرضوه على عقولكم ، وانظروا فيه بعين الإنصاف ، لتعلموا أنه دين لا مدخل فيه للشكّ ، وهو أني لا أعبد الحجارة التي تعبدونها من دون من هو إلهكم وخالقكم { ولكن أَعْبُدُ الله الذى يَتَوَفَّاكُمْ } وإنما وصفه بالتوفي ، ليريهم أنه الحقيق بأن يخاف ويتقي ، فيعبدون دون ما لا يقدر على شيء { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المؤمنين } يعني أنّ الله أمرني بذلك ، بما ركب فيّ من العقل ، وبما أوحي إليّ في كتابه . وقيل : معناه إن كنتم من ديني ومما أنا عليه أثبت عليه أن تركه وأوافقكم فلا تحدّثوا أنفسكم بالمحال ولا تشكوا في أمري ، واقطعوا عني أطماعكم ، واعلموا أني لا أعبد الذين تعبدون من دون الله ، ولا اختار الضلالة على الهدى ، كقوله : { قُلْ يا أَيُّهَا الكافرون لا أعبد ما تعبدون } [ الكافرون : 1-2 ] . { أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ } أصله : بأن أكون ، فحذف الجار ، وهذا الحذف يحتمل أن يكون من الحذف المطرد الذي هو حذف الحروف الجارّة مع «أن» و «أن» . وأن يكون من الحذف غير المطرد ، وهو قوله : أمرتك الخير فاصدع بما تؤمر .
وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105)
فإن قلت : عطفُ قوله : { وَأَنْ أَقِمْ } على { أَنْ أَكُونَ } فيه إشكال ، لأنّ «أن» لا تخلو من أن تكون التي للعبارة ، أو التي تكون مع الفعل في تأويل المصدر ، فلا يصح أن تكون للعبارة وإن كان الأمر مما يتضمن معنى القول ، لأنّ عطفها على الموصولة يأبى ذلك . والقول بكونها موصولة مثل الأولى ، لا بساعد عليه لفظ الأمر ، وهو { أَقِمِ } لأنّ الصلة حقها أن تكون جملة تحتمل الصدق والكذب . قلت : قد سوّغ سيبويه أن توصل «أن» بالأمر والنهي ، وشبه ذلك بقزلهم : أنت الذي تفعل ، على الخطاب؛ لأنّ الغرض وصلها بما تكون معه في معنى المصدر . والأمر والنهي دالان على المصدر دلالة غيرهما من الأفعال { أَقِمْ وَجْهَكَ } استقم إليه ولا تلتفت يمينا ولا شمالاً . و { حَنِيفاً } حال من الذين ، أو من الوجه .
وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106)
{ فَإِن فَعَلْتَ } معناه : فإن دعوت من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرّك ، فكني عنه بالفعل إيجازاً { فَإِنَّكَ إِذًا مّنَ الظالمين } إذاً جزاء للشرط وجواب لسؤال مقدّر ، كأن سائلاً سأل عن تبعة عبادة الأوثان . وجعل من الظالمين؛ لأنه لا ظلم أعظم من الشرك ، { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] .
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108)
أتبع النهي عن عبادة الأوثان ووصفها بأنها لا تنفع ولا تضرّ ، أنّ الله عزّ وجلّ هو الضارّ النافع ، الذي إن أصابك بضرّ لم يقدر على كشفه إلاّ هو وحده دون كل أحد ، فكيف بالجماد الذي لا شعور به . وكذلك إن أرادك بخير لم يرد أحد ما يريده بك من فضله وإحسانه ، فكيف بالأوثان؟ فهو الحقيق إذاً بأن توجه إليه العبادة دونها ، وهو أبلغ من قوله : { إِنْ أَرَادَنِىَ الله بِضُرّ هَلْ هُنَّ كاشفات ضُرّهِ أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ ممسكات رَحْمَتِهِ } [ الزمر : 38 ] . فإن قلت : لم ذكر المسّ في أحدهما ، والإرادة في الثاني؟ قلت : كأنه أراد أن يذكر الأمرين جميعاً : الإرادة والإصابة في كل واحد من الضرّ والخير ، وأنه لا رادّ لما يريده منهما ، ولا مزيل لما يصيب به منهما ، فأوجز الكلام بأن ذكر المسّ وهو الإصابة في أحدهما ، والإرادة في الآخر؛ ليدلّ بما ذكر على ما ترك ، على أنه قد ذكر الإصابة بالخير في قوله تعالى : { يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } والمراد بالمشيئة : مشيئة المصلحة .
{ قَدْ جَاءكُمُ الحق } فلم يبق لكم عذر ولا على الله حجّة ، فمن اختار الهدى واتباع الحق فما نفع باختياره إلاّ نفسه ، ومن آثر الضلال فما ضرّ إلاّ نفسه ، واللام وعلى : دلا على معنى النفع والضرّ . وكل إليهم الأمر بعد إبانة الحق وإزاحة العلل . وفيه حثّ على إيثار الهدى واطراح الضلال مع ذلك { وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ } بحفيظ موكول إليّ أمركم وحملكم على ما أريد ، إنما أنا بشير ونذير .
وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)
{ واصبر } على دعوتهم واحتمال أذاهم وإعراضهم { حتى يَحْكُمَ الله } لك بالنصرة عليهم والغلبة .
( 521 ) وروي أنها لما نزلت جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار فقال : " إنكم ستجدون بعدي أثرة ، فاصبروا حتى تلقوني " يعني أني أُمرت في هذه الآية بالصبر على ما سامتني الكفرة فصبرت فاصبروا أنتم على ما يسومكم الأمراء الجورة» ، قال أنس : فلم نصبر .
( 522 ) وروي أنّ أبا قتادة تخلف عن تلقي معاوية حين قدم المدينة وقد تلقته الأنصار ، ثم دخل عليه من بعد ، فقال له : ما لك لم تتلقنا؟ قال : لم تكن عندنا دواب . قال : فأين النواضح؟ قال : قطعناها في طلبك وطلب أبيك يوم بدر ، وقال صلى الله عليه وسلم : " يا معشر الأنصار ، إنكم ستلقون بعدي أثرة " قال معاوية : فماذا قال : قال : «فاصبروا حتى تلقوني» قال فاصبر . قال : إذن نصبر . فقال عبد الرحمن بن حسان :
أَلاَ أبْلِغْ مُعَاوِيَةَ بْنَ حَرْب ... أَمِيرَ الظّالِمِينَ نَثَا كَلاَمِي
بِأَنّا صَابِرُونَ فَمُنْظِرُوكُم ... إلَى يَوْمِ التَّغَابُنِ وَالْخِصَامِ
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 523 ) " من قرأ سورة يونس أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بيونس وكذب به ، وبعدد من غرق مع فرعون " .
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)
{ أُحْكِمَتْ ءاياته } نظمت نظما رصينا محكماً لا يقع في نقض ولا خلل ، كالبناء المحكم المرصف . ويجوز أن يكون نقلا بالهمزة ، من «حكم» بضم الكاف ، إذا صار حكيماً : أي جعلت حكيمة ، كقوله تعالى : { آيات الكتاب الحكيم } [ يونس : 1 ] وقيل : منعت من الفساد ، من قولهم : أحكمت الدابة إذا وضعت عليها الحكمة لتمنعها من الجماح . قال جرير :
أبَنِي حَنِيفَةَ أَحْكِمُوا سُفَهَاءَكُم ... إنِّي أخَافُ عَلَيْكُمُ أنْ أغْضَبَا
وعن قتادة : أُحكمت من الباطل { ثُمّ فُصّلَتْ } كما تفصل القلائد بالفرائد ، من دلائل التوحيد ، والأحكام ، والمواعظ ، والقصص . أو جعلت فصولاً ، سورة سورة ، وآية آية . وفرقت في التنزيل ولم تنزل جملة واحدة . أو فصل فيها ما يحتاج إليه العباد : أي بين ولخص . وقرىء : «أحكمت آياته ثم فصلت» أي أحكمتها أنا ثم فصلتها . وعن عكرمة والضحاك : ثم فصلت ، أي فرّقت بين الحق والباطل . فإن قلت : ما معنى ثم؟ قلت : ليس معناها التراخي في الوقت ، ولكن في الحال ، كما تقول : هي محكمة أحسن الإحكام ، ثم مفصلة أحسن التفصيل . وفلان كريم الأصل ، ثم كريم الفعل ، وكتاب : خبر مبتدأ محذوف وأحكمت : صفة له . وقوله : { مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } صفة ثانية . ويجوزأن يكون خبراً بعد خبر ، وأن يكون صلة لأحكمت وفصلت ، أي : من عنده إحكامها وتفصيلها ، وفيه طباق حسن؛ لأنَّ المعنى : أحكمها حكيم وفصلها : أي بينها وشرحها خبير عالم بكيفيات الأمور .
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)
{ أَلاَّ تَعْبُدُواْ } مفعول له على معنى : لئلا تعبدوا . أو تكون «أن» مفسرة؛ لأنّ في تفصيل الآيات معنى القول ، كأنه قيل قال لا تعبدوا إلا الله ، أو أمركم أن لا تعبدوا إلا الله { وَأَنِ استغفروا } أي أمركم بالتوحيد والاستغفار . ويجوز أن يكون كلاماً مبتدأ منقطعاً عما قبله على لسان النبي صلى الله عليه وسلم ، إغراء منه على اختصاص الله بالعبادة . ويدل عليه قوله : { إِنّنى لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } كأنه قال : ترك عبادة غير الله ، إنني لكم منه نذير ، كقوله تعالى : { فَضَرْبَ الرقاب } [ محمد : 4 ] والضمير في { مِّنْهُ } لله عز وجل ، أي : إنني لكم نذير وبشير من جهته ، كقوله : { رَسُولٌ مّنَ الله } [ البينة : 2 ] أو هي صلة لنذير ، أي : أنذركم منه ومن عذابه إن كفرتم ، وأبشركم بثوابه إن آمنتم . فإن قلت : ما معنى ثم في قوله : { ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ } ؟ قلت : معناه استغفروا من الشرك ، ثم ارجعوا إليه بالطاعة . أو استغفروا ، والاستغفار توبة ، ثم أخلصوا التوبة واستقيموا عليها ، كقوله : { ثُمَّ استقاموا } [ الأحقاف : 13 ] . { يُمَتّعْكُمْ } يطوّل نفعكم في الدنيا بمنافع حسنة مرضية ، من عيشة واسعة ، ونعمة متتابعة { إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } إلى أن يتوفاكم ، كقوله : { فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياة طَيّبَةً } [ النحل : 97 ] { وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } ويعط في الآخرة كل من كان له فضل في العمل وزيادة فيه جزاء فضله لا يبخس منه . أو فضله في الثواب ، والدرجات تتفاضل في الجنة على قدر تفاضل الطاعات { وَإِن تَوَلَّوْاْ } وإن تتولوا { عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ } هو يوم القيامة ، وصف بالكبر كما وصف بالعظم والثقل . وبين عذاب اليوم الكبير بأن مرجعهم إلى من هو قادر على كل شيء ، فكان قادراً على أشدّ ما أراد من عذابهم لا يعجزه . وقرىء : «وإن تولوا» من ولي .
أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)
{ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ } يزورّون عن الحق وينحرفون عنه؛ لأن من أقبل على الشيء استقبله بصدره ، ومن ازورّ عنه وانحرف ثنى عنه صدره وطوى عنه كشحه { لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ } يعني : ويريدون ليستخفوا من الله ، فلا يطلع رسوله والمؤمنين على ازورارهم . ونظير إضمار يريدون - لقود المعنى إلى إضماره - الإضمار في قوله تعالى : { اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق } [ الشعراء : 63 ] معناه فضرب فانفلق . ومعنى { أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ } ويزيدون الاستخفاء حين يستغشون ثيابهم أيضاً ، كراهة لاستماع كلام الله تعالى : كقول نوح عليه السلام : { جَعَلُواْ أصابعهم فِى ءاذانهم واستغشوا ثِيَابَهُمْ } [ نوح : 7 ] ثم قال : { يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } يعني أنه لا تفاوت في علمه بين إسرارهم وإعلانهم ، فلا وجه لتوصلهم إلى ما يريدون من الاستخفاء ، والله مطلع على ثنيهم صدورهم واستغشائهم ثيابهم ، ونفاقهم غير نافق عنده . روي أنها نزلت في الأخنس بن شريق وكان يظهر لرسول الله صلى الله عليه وسلم المحبة وله منطق حلو وحسن سياق للحديث ، فكان يعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم مجالسته ومحادثته ، وهو يضمر خلاف ما يظهر . وقيل : نزلت في المنافقين . وقرىء : «تثنوني صدورهم» ، «واثنونى» من الثني ، كاحلولى من الحلاوة ، وهو بناء مبالغة ، قرىء بالتاء والياء . وعن ابن عباس لتثنوني . وقرىء تثنونّ وأصله تثنونن «تفعوعل» من الثن وهو ما هش وضعف من الكلأ ، يريد : مطاوعة صدورهم للثني ، كما ينثني الهش من النبات . أو أراد ضعف إيمانهم ومرض قلوبهم . وقرىء : «تثنئن» من اثنأن «افعال» منه ، ثم همز كما قيل : ابيأضت ، وادهأمت وقرىء : «تثنوي» بوزن ترعوي .
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)
فإن قلت : كيف قال : { عَلَى الله رِزْقُهَا } بلفظ الوجوب وإنما هو تفضل؟ قلت : هو تفضل إلا أنه لما ضمن أن يتفضل به عليهم ، رجع التفضل واجباً كنذور العباد . والمتستقرّ : مكانه من الأرض ومسكنه . والمتسودع حيث كان مودعاً قبل الاستقرار ، من صلب ، أو رحم ، أو بيضة { وَمُسْتَوْدَعَهَا } كل واحد من الدواب ورزقها ومستقرّها ومستودعها في اللوح ، يعني ذكرها مكتوب فيه مبين .
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
{ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء } أي ما كان تحته خلق قبل خلق السموات والأرض . وارتفاعه فوقها إلا الماء . وفيه دليل على أنّ العرش والماء كانا مخلوقين قبل السموات والأرض . وقيل : وكان الماء على متن الريح ، والله أعلم بذلك ، وكيفما كان فالله ممسك كل ذلك بقدرته ، وكلما ازدادت الأجرام كانت أحوج إليه وإلى إمساكه { لِيَبْلُوَكُمْ } متعلق بخلق ، أي خلقهن لحكمة بالغة ، وهي أن يجعلها مساكن لعباده ، وينعم عليهم فيها بفنون النعم ، ويكلفهم الطاعات واجتناب المعاصي ، فمن شكر وأطاع أثابه ، ومن كفر وعصى عاقبه . ولما أشبه ذلك اختبار المختبر قال : ليبلوكم . يريد : ليفعل بكم ما يفعل المبتلي لأحوالكم كيف تعملون . فإن قلت : كيف جاز تعليق فعل البلوى؟ قلت : لما في الاختبار من معنى العلم؛ لأنه طريق إليه فهو ملابس له ، كما تقول : انظر أيهم أحسن وجهاً واسمع أيهم أحسن صوتاً؛ لأنّ النظر والاستماع من طريق العلم . فإن قلت كيف قيل : { أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } وأعمال المؤمنين هي التي تتفاوت إلى حسن وأحسن ، فأمّا أعمال المؤمنين والكافرين فتفاوتها إلى حسن وقبيح؟ قلت : الذين هم أحسن عملا هم المتقون ، وهم الذين استبقوا إلى تحصيل ما هو غرض الله من عباده ، فخصهم بالذكر واطرح ذكر من وراءهم تشريفاً لهم وتنبيهاً على مكانهم منه ، وليكون ذلك لطفاً للسامعين ، وترغيباً في حيازة فضلهم . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 524 ) " ليبلوكم أيكم أحسن عقلاً ، وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله " قرىء : «ولئن قلت إنكم مبعثون» بفتح الهمزة . ووجهه أن يكون من قولهم : ائت السوق عنك تشتري لنا لحماً ، وأنك تشتري بمعنى علك ، أي : ولئن قلت لهم لعلكم مبعوثون ، بمعنى : توقعوا بعثكم وظنوه ، ولا تبتوا القول بإنكاره ، لقالوا : { إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } باتين القول ببطلانه . ويجوز أن تضمن «قلت» معنى «ذكرت» ومعنى قولهم : { إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } أنّ السحر أمر باطل ، وأن بطلانه كبطلان السحر تشبيهاً له به . أو أشاروا بهذا إلى القرآن لأن القرآن هو الناطق بالبعث ، فإذا جعلوه سحراً فقد اندرج تحته إنكار ما فيه من البعث وغيره . وقرىء : «إن هذا إلا ساحر» ، يريدون الرسول ، والساحر : كاذب مبطل .
وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8)
{ العذاب } عذاب الآخرة . وقيل عذاب يوم بدر . وعن ابن عباس : قتل جبريل المستهزئين { إلى أُمَّةٍ } إلى جماعة من الأوقات { مَا يَحْبِسُهُ } ما يمنعه من النزول استعجالاً له على وجه التكذيب والاستهزاء . و { يَوْمَ يَأْتِيهِمُ } منصوب بخبر ليس ، ويستدل به من يستجيز تقديم خبر ليس على ليس ، وذلك أنه إذا جاز تقديم معمول خبرها عليها ، كان ذلك دليلاً على جواز تقديم خبرها؛ إذ المعمول تابع للعامل ، فلا يقع إلا حيث يقع العامل { وَحَاقَ بِهِم } وأحاط بهم { مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ } العذاب الذي كانوا به يستعجلون . وإنما وضع يستهزئون موضع يستعجلون؛ لأنّ استعجالهم كان على جهة الاستهزاء . والمعنى : ويحيق بهم إلا أنه جاء على عادة الله في أخباره .
وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)
{ الإنسان } للجنس { رَحْمَةً } نعمة من صحة وأمن وجدة { ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ } ثم سلبنا تلك النعمة { إنه ليؤوس } شديد اليأس من أن تعود إليه مثل تلك النعمة المسلوبة . قاطع رجاءه من سعة فضل الله من غير صبر ولا تسليم لقضائه ولا استرجاع { كَفُورٌ } عظيم الكفران لما سلف له من التقلب في نعمة الله نَسَّاءٌ له { ذَهَبَ السيئات عَنّي } أي المصائب التي ساءتني { إِنَّهُ لَفَرِحٌ } أشر بطر { فَخُورٌ } على الناس بما أذاقه الله من نعمائه ، قد شغله الفرح والفخر عن الشكر { إِلاَّ الذين } آمنوا ، فإنّ عادتهم إن نالتهم رحمة أن يشكروا ، وإن زالت عنهم نعمة أن يصبروا .
فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12)
كانوا يقترحون عليه آيات تعنتاً لا استرشاداً ، لأنهم لو كانوا مسترشدين لكانت آية واحدة مما جاء به كافية في رشادهم . ومن اقتراحاتهم { لَوْلاَ أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ } وكانوا لا يعتدون بالقرآن ويتهاونون به وبغيره مما جاء به من البينات ، فكان يضيق صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلقى إليهم ما لا يقبلونه ويضحكون منه ، فحرّك الله منه وهيجه لأداء الرسالة وطرح المبالاة بردّهم واستهزائهم واقتراحهم بقوله : { فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ } أي لعلك تترك أن تلقيه إليهم وتبلغه إياهم مخافة ردّهم له وتهاونهم به { وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ } بأن تتلوه عليهم { أَن يَقُولُواْ } مخافة أن يقولوا : { لَوْلاَ أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ } أي هلا أنزل عليه ما اقترحنا نحن من الكنز والملائكة ولم أنزل عليه ما لا نريده ولا نقترحه ، ثم قال : { إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ } أي ليس عليك إلا أن تنذرهم بما أوحي إليك وتبلغهم ما أمرت بتبليغه ، ولا عليك ردّوا أو تهاونوا أو اقترحوا { والله على كُلّ شَىْء وَكِيلٌ } يحفظ ما يقولون ، وهو فاعل بهم ما يجب أن يفعل ، فتوكل عليه ، وكل أمرك إليه ، وعليك بتبليغ الوحي بقلب فسيح وصدر منشرح ، غير ملتفت إلى استكبارهم ولا مبال بسفههم واستهزائهم . فإن قلت : لم عدل عن ضيق إلى ضائق؟ قلت : ليدل على أنه ضيق عارض غير ثابت ، لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أفسح الناس صدراً . ومثله قولك : زيد سيد وجواد ، تريد السيادة والجود الثابتين المستقرين ، فإذا أردت الحدوث قلت : سائد وجائد ونحوه كانوا قوماً عامين في بعض القراءات ، وقول السمهري العكلي :
بِمَنْزِلَةٍ أَمَّا اللَّئِيمُ فَسَامِن ... بِهَا وَكِرَامُ النّاسِ بَادٍ شُحُوبُهَا
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13)
{ أَمْ } منقطعة . والضمير في { افتراه } لما يوحى إليك . تحداهم أوّلا بعشر سور ، ثم بسورة واحدة ، كما يقول المخابر في الخط لصاحبه : اكتب عشرة أسطر نحو ما أكتب ، فإذا تبين له العجز عن مثل خطه قال : قد اقتصرت منك على سطر واحد { مِّثْلِهِ } بمعنى أمثاله ، ذهاباً إلى مماثلة كل واحدة منها له { مُفْتَرَيَاتٍ } صفة لعشر سور لما قالوا : افتريت القرآن واختلقته من عند نفسك وليس من عند الله ، قاودهم على دعواهم وأرخى معهم العنان وقال : هبوا أني اختلقته من عند نفسي ولم يوح إلي وأنّ الأمر كما قلتم ، فأتوا أنتم أيضاً بكلام مثله مختلق من عند أنفسكم ، فأنتم عرب فصحاء مثلي لا تعجزون عن مثل ما أقدر عليه من الكلام . فإن قلت : كيف يكون ما يأتون به مثله ، وما يأتون به مفترى وهذا غير مفترى؟ قلت : معناه مثله في حسن البيان والنظم وإن كان مفترى .
فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)
فإن قلت : ما وجه جمع الخطاب بعد إفراده وهو قوله : { لَكُمْ فاعلموا } بعد قوله : { قُلْ } ؟ قلت : معناه فإن لم يستجيبوا لك وللمؤمنين لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كانوا يتحدّونهم ، وقد قال في موضع آخر : { فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فاعلم } [ القصص : 50 ] ويجوز أن يكون الجمع لتعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله :
فَإنْ شَئْتُ حَرَّمْتُ النْسَاءَ سِوَاكُمُ ... وووجه آخر : وهو أن يكون الخطاب للمشركين ، والضمير في { لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ } لمن استطعتم ، يعني : فإن لم يستجب لكم من تدعونه من دون الله إلى المظاهرة على معارضته لعلمهم بالعجز عنه وأن طاقتهم أقصر من أن تبلغه { فاعلموا أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ الله } أي أنزل ملتبساً بما لا يعلمه إلا الله ، من نظم معجز للخلق ، وإخبار بغيوب لا سبيل لهم إليه { و } اعلموا عند ذلك { و أَن لاَّ إله إِلاَّ } الله وحده ، وأن توحيده واجب والإشراك به ظلم عظيم { فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ } مبايعون بالإسلام بعد هذه الحجة القاطعة ، وهذا وجه حسن مطرد . ومن جعل الخطاب للمسلمين فمعناه : فاثبتوا على العلم الذي أنتم عليه ، وازدادوا يقيناً وثبات قدم على أنه منزل من عند الله وعلى التوحيد . ومعنى { فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ } فهل أنتم مخلصون؟
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)
{ نُوَفّ إِلَيْهِمْ } نوصل إليهم أجور أعمالهم وافية كاملة من غير بخس في الدنيا ، وهو ما يرزقون فيها من الصحة والرزق . وقيل : هم أهل الرياء . يقال للقراء منهم : أردت أن يقال : فلان قارىء ، فقد قيل ذلك . ولمن وصل الرحم وتصدّق : فعلت حتى يقال ، فقيل ولمن قاتل فقتل : قاتلت حتى يقال فلان جريء ، فقد قيل : وعن أنس بن مالك : هم اليهود والنصارى ، إن أعطوا سائلاً أو وصلوا رحماً ، عجل لهم جزاء ذلك بتوسعة في الرزق وصحة في البدن . وقيل : هم الذين جاهدوا من المنافقين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسهم لهم في الغنائم . وقرىء : «يوفّ» بالياء على أن الفعل لله عز وجل . وتوفَّ إليهم أعمالهم بالتاء ، على البناء للمفعول . وفي قراءة الحسن : «نوفي» ، بالتخفيف وإثبات الياء ، لأنّ الشرط وقع ماضياً ، كقوله :
يَقُولُ لاَ غائِبٌ مَالِي وَلاَ حَرِمُ ... { وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا } وحبط في الآخرة ما صنعوه ، أو صنيعهم ، يعني : لم يكن له ثواب لأنهم لم يريدوا به الآخرة ، إنما أرادوا به الدنيا ، وقد وفي إليهم ما أرادوا { وباطل مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي كان عملهم في نفسه باطلاً ، لأنه لم يعمل لوجه صحيح ، والعمل الباطل لا ثواب له . وقرىء : «وبطل» على الفعل . وعن عاصم : وباطلا بالنصب ، وفيه وجهان : أن تكون ما إبهامية وينتصب بيعملون ، ومعناه : وباطلاً ، أيّ باطل كانوا يعملون . وأن تكون بمعنى المصدر على : وبطل بطلاناً ما كانوا يعملون .
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17)
{ أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ } معناه : أمّن كان يريد الحياة الدنيا كمن كان على بينة أي لا يعقبونهم في المنزلة ولا يقاربونهم ، يريد أنّ بين الفريقين تفاوتاً بعيداً وتبايناً بيناً ، وأراد بهم من آمن من اليهود كعبد الله بن سلام وغيره ، كان على بينة { مّن رَّبّهِ } أي على برهان من الله وبيان أنّ دين الإسلام حق وهو دليل العقل { وَيَتْلُوهُ } ويتبع ذلك البرهان { شَاهِدٌ مّنْهُ } أي شاهد يشهد بصحته ، وهو القرآن { مِنْهُ } من الله ، أو شاهد من للقرآن ، فقد تقدّم ذكره آنفاً { وَمِن قَبْلِهِ } ومن قبل القرآن { كِتَابُ موسى } وهو التوراة ، أي : ويتلو ذلك البرهان أيضاً من قبل القرآن كتاب موسى . وقرىء : «كتاب موسى» بالنصب ، ومعناه : كان على بينة من ربه ، وهو الدليل على أنّ القرآن حق ، { وَيَتْلُوهُ } : ويقرأ القرآن { شَاهِدٌ مّنْهُ } شاهد ممن كان على بينة . كقوله : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِى إسراءيل على مِثْلِه } [ الأحقاف : 10 ] ، { قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب } [ الرعد : 43 ] ، { وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى } ويتلو من قبل القرآن والتوراة { إِمَاماً } كتاباً مؤتما به في الدين قدوة فيه { وَرَحْمَةً } ونعمة عظيمة على المنزل إليهم { أولئك } يعني من كان على بينة { يُؤْمِنُونَ بِهِ } يؤمنون بالقرآن { وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب } يعني أهل مكة ومن ضامهم من المتحزِّبين على رسول الله صلى الله عليه وسلم { فالنار مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَةٍ } وقرىء : «مُرية» بالضم وهما الشك { مِّنْهُ } من القرآن أو من الموعد .
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)
{ يُعْرَضُونَ على رَبّهِمْ } يحبسون في الموقف وتعرض أعمالهم ويشهد عليهم { الأشهاد } من الملائكة والنبيين بأنهم الكذابون على الله بأنه اتخذ ولداً وشريكاً ، ويقال { أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين } فوا خزياه ووا فضيحتاه . والأشهاد : جمع شاهد أو شهيد ، كأصحاب أو أشراف { وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا } يصفونها بالاعوجاج وهي مستقيمة . أو يبغون أهلها أن يعوجوا بالارتداد ، وهم الثانية لتأكيد كفرهم بالآخرة واختصاصهم به { أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِى الأرض } أي ما كانوا يعجزون الله في الدنيا أن يعاقبهم لو أراد عقابهم ، وما كان لهم من يتولاهم فينصرهم منه ويمنعهم من عقابه ، ولكنه أراد إنظارهم وتأخير عقابهم إلى هذا اليوم ، وهو من كلام الأشهاد { يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب } وقرىء : «يضعف» { مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع } أراد أنهم لفرط تصامّهم عن استماع الحق وكراهتهم له ، كأنهم لا يستطيعون السمع ولعل بعض المجبرة يتوثب إذا عثر عليه فيوعوع به على أهل العدل ، كأنه لم يسمع الناس يقولون في كل لسان : هذا كلام لا أستطيع أن أسمعه ، وهذا مما يمجه سمعي . ويحتمل أن يريد بقوله : { وَمَا كَانَ لَهُم مّنْ دون الله أَوْلِيَاء } أنهم جعلوا آلهتهم أولياء من دون الله ، وولايتها ليست بشيء ، فما كان لهم في الحقيقة من أولياء ، ثم بين نفي كونهم أولياء بقوله : { مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ } فكيف يصلحون للولاية . وقوله : { يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب } اعتراض بوعيد { خَسِرُواْ أَنفُسَهُم } اشتروا عبادة الآلهة بعبادة الله ، فكان خسرانهم في تجارتهم ما لا خسران أعظم منه ، وهو أنهم خسروا أنفسهم { وَضَلَّ عَنْهُم } وبطل عنهم وضاع ما اشتروه وهو { مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } من الآلهة وشفاعتها { لاَ جَرَمَ } فسر في مكان آخر { هُمُ الأخسرون } لا ترى أحداً أبين خسراناً منهم .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23)
{ وَأَخْبَتُواْ إلى رَبّهِمْ } واطمأنوا إليه وانقطعوا إلى عبادته بالخشوع والتواضع من الخبت وهي الأرض المطمئنة . ومنه قولهم للشيء : الدنيء الخبيت . قال :
يَنْفَعُ الطَّيِّبُ الْقَلِيلُ مِنَ الرِّز ... قِ وَلاَ يَنْفَعُ الْكَثِيرُ الْخَبِيتُ
وقيل : التاء فيه بدل من الثاء .
مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)
شبه فريق الكافرين بالأعمى والأصم ، وفريق المؤمنين بالبصير والسميع ، وهو من اللف والطباق . وفيه معنيان : أن يشبه الفريق تشبيهين اثنين ، كما شبه امرؤ القيس قلوب الطير بالحشف والعناب ، وأن يشبهه بالذي جمع بين العمى والصمم ، أو الذي جمع بين البصر والسمع . على أن تكون الواو في { والأصم } وفي { والسميع } لعطف الصفة على الصفة ، كقوله :
الصَّابِحِ فَالْغَانِمِ فَالآيِبِ ... { هَلْ يَسْتَوِيَانِ } يعني الفريقين { مَثَلاً } تشبيهاً .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26)
أي أرسلنا نوحاً بأني لكم نذير . ومعناه أرسلناه ملتبساً بهذا الكلام ، وهو قوله : { إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } بالكسر ، فلما اتصل به الجارّ فتح كما فتح في { كَانَ } والمعنى على الكسر ، وهو قولك : إنّ زيداً كالأسد . وقرىء بالكسر على إرادة القول { أَن لاَّ تَعْبُدُواْ } بدل من { إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ } أي أرسلناه بأن لا تعبدوا { إِلاَّ الله } أو تكون «أن» مفسرة متعلقة بأرسلنا أو بنذير وصف اليوم بأليم من الإسناد المجازي لوقوع الألم فيه . فإن قلت : فإذا وصف به العذاب؟ قلت : مجازي مثله ، لأنّ الأليم في الحقيقة هو المعذب ، ونظيرهما قولك : نهارك صائم ، وجدّ جدّه .
فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)
{ الملا } الأشراف من قولهم : فلان مليء بكذا ، إذا كان مطيقاً له ، وقد ملؤا بالأمر؛ لأنهم ملؤا بكفايات الأمور واضطلعوا بها وبتدبيرها . أو لأنهم يتمالؤن أي يتظاهرون ويتساندون أو لأنهم يملؤن القلوب هيبة والمجالس أبهة أو لأنهم ملاء بالأحلام والآراء الصائبة { مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا } تعريض بأنهم أحق منه بالنبوة وأنّ الله لو أراد أن يجعلها في أحد من البشر لجعلها فيهم ، فقالوا : هب أنك واحد من الملأ ومواز لهم في المنزلة ، فما جعلك أحق منهم؟ ألا ترى إلى قولهم : { وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ } . أو أرادوا أنه كان ينبغي أن يكون ملكاً لا بشر . والأراذل جمع الأرذل كقوله : { أكابر مُجْرِمِيهَا } [ الأنعام : 123 ] «أحاسنكم أخلاقاً» وقرىء : «بادي الرأي» بالهمز وغير الهمز ، بمعنى : اتبعوك أوّل الرأي أو ظاهر الرأي ، وانتصابه على الظرف ، أصله : وقت حدوث أوّل رأيهم ، أو وقت حدوث ظاهر رأيهم فحذف ذلك وأقيم المضاف إليه مقامه . أرادوا : أن اتباعهم لك إنما هو شيء عنّ لهم بديهة من غير روية ونظر ، وإنما استرذلوا المؤمنين لفقرهم وتأخرهم في الأسباب الدنيوية ، لأنهم كانوا جهالاً ما كانوا يعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا ، فكان الأشرف عندهم من له جاه ومال ، كما ترى أكثر المتسمين بالإسلام يعتقدون ذلك ويبنون عليه إكرامهم وإهانتهم ، ولقد زلّ عنهم أن التقدّم في الدنيا لا يقرب أحداً من الله وإنما يبعده ، ولا يرفعه بل يضعه ، فضلاً أن يجعله سبباً في الاختيار للنبوّة والتأهيل لها ، على أن الأنبياء عليهم السلام بعثوا مرغبين في طلب الآخرة ورفض الدنيا ، مزهدين فيها ، مصغرين لشأنها وشأن من أخلد إليها ، فما أبعد حالهم من الاتصاف بما يبعد من الله ، والتشرف بما هو ضعة عند الله { مِن فَضْلِ } من زيادة شرف علينا تؤهلكم للنبوّة ، { بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذبين } فيما تدّعونه .
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)
{ أَرَءيْتُمْ } أخبروني { إِن كُنتُ على بَيّنَةٍ } على برهان { مّن رَّبّى } وشاهد منه يشهد بصحة دعواي { وءاتاني رَحْمَةً مِنْ عِندهِ } بإيتاء البينة على أن البينة في نفسها هي الرحمة ، ويجوز أن يريد بالبينة : المعجزة ، وبالرحمة : النبوّة . فإن قلت : فقوله : { فَعُمّيَتْ } ظاهر على الوجه الأوّل ، فما وجهه على الوجه الثاني؟ وحقه أن يقال فعميتا؟ قلت : الوجه أن يقدّر فعميت بعد البينة ، وأن يكون حذفه للاقتصار على ذكره مرة : ومعنى عميت خفيت . وقرىء : «فعميت» بمعنى أخفيت . وفي قراءة أبي «فعماها عليكم» فإن قلت : فما حقيقته؟ قلت : حقيقته أن الحجة كما جعلت بصيرة ومبصرة جعلت عمياء ، لأنّ الأعمى لا يهتدي ولا يهدي غيره ، فمعنى فعميت عليكم البينة فلم تهدكم ، كما لو عمي على القوم دليلهم في المفازة بقوا بغير هاد . فإن قلت : فما معنى قراءة أبي؟ قلت : المعنى أنهم صمموا على الإعراض عنها فخلاهم الله وتصميمهم ، فجعلت تلك التخلية تعمية منه ، والدليل عليه قوله : { أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كارهون } يعني أنكرهكم على قبولها ونقسركم على الاهتداء بها ، وأنتم تكرهونها ولا تختارونها ، ولا إكراه في الدين؟ وقد جيء بضميري المفعولين متصلين جميعاً . ويجوز أن يكون الثاني منفصلاً كقولك : أنلزمكم إياها . ونحوه { فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله } [ البقرة : 137 ] ويجوز : فسيكفيك إياهم . وحكي عن أبي عمرو إسكان الميم . ووجهه أنّ الحركة لم تكن إلا خلسة خفيفة ، فظنها الراوي سكوناً . والإسكان الصريح لحن عند الخليل وسيبويه وحذاق البصريين؛ لأن الحركة الإعرابية لا يسوغ طرحها إلا في ضرورة الشعر . والضمير في قوله : { لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ } راجع إلى قوله لهم : { إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله } [ هود : 25 ] . وقرىء : «وما أنا بطارد الذين آمنوا» بالتنوين على الأصل . فإن قلت : ما معنى قوله : { إنهم ملاقو رَّبُّهُمْ } ؟ قلت : معناه أنهم يلاقون الله فيعاقب من طردهم . أو يلاقونه فيجازيهم على ما في قلوبهم من إيمان صحيح ثابت ، كما ظهر لي منهم وما أعرف غيره منهم . أو على خلاف ذلك مما تقرفونهم به من بناء إيمانهم على بادىء الرأي من غير نظر وتفكر . وما علي أن أشق عن قلوبهم وأتعرّف سر ذلك منهم حتى أطردهم إن كان الأمر كما تزعمون . ونحوه { وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ } الآية [ الأنعام : 52 ] ، أو هم مصدقون بلقاء ربهم موقنون به عالمون أنهم ملاقوه لا محالة { تَجْهَلُونَ } تتسافهون على المؤمنين وتدعونهم أراذل : من قوله :
ألاَ لاَ يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا ... أو تجهلون بلقاء ربكم . أو تجهلون أنهم خير منكم { مَن يَنصُرُنِى مِنَ الله } من يمنعني من انتقامه { إِن طَرَدتُّهُمْ } وكانوا يسألونه أن يطردهم ليؤمنوا به ، أنفة من أن يكونوا معهم على سواء { أَعْلَمُ الغيب } معطوف على { عِندِى خَزَائِنُ الله } أي لا أقول عندي خزائن الله ، ولا أقول : أنا أعلم الغيب .
ومعناه : لا أقول لكم : عندي خزائن الله فأدعي فضلا عليكم في الغنى ، حتى تجحدوا فضلي بقولكم { وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ } [ هود : 27 ] ولا أدعي علم الغيب حتى تنسبوني إلى الكذب والافتراء ، أو حتى أطلع على ما في نفوس أتباعي وضمائر قلوبهم { وَلا أَقُولُ إِنّى مَلَكٌ } حتى تقولوا لي ما أنت إلا بشر مثلنا ، ولا أحكم على من استرذلتم من المؤمنين لفقرهم أن الله لن يؤتيهم خيراً في الدنيا والآخرة لهوانهم عليه ، كما تقولون ، مساعدة لكم ونزولاً على هواكم { إِنّى إِذًا لَّمِنَ الظالمين } إن قلت شيئاً من ذلك ، والازدراء : افتعال من زري عليه إذا عابه . وأزرى به : قصر به ، يقال ازدرته عينه ، واقتحمته عينه .
قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32)
{ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا } معناه : أردت جدالنا وشرعت فيه فأكثرته ، كقولك : جاد فلان فأكثر وأطاب { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا } من العذاب المعجل .
قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)
{ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ الله } أي ليس الإتيان بالعذاب إليّ إنما هو إلى من كفرتم به وعصيتموه { إِن شَاء } يعني إن اقتضت حكمته أن يعجله لكم . وقرأ ابن عباس رضي الله عنه . «فأكثرت جدلنا» فإن قلت : ما وجه ترادف هذين الشرطين؟ قلت : قوله : { إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ } جزاؤه ما دلّ عليه قوله : { لاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى } وهذا الدال في حكم ما دلّ عليه ، فوصل بشرط كما وصل الجزاء بالشرط في قولك : إن أحسنت إليّ أحسنت إليك إن أمكنني . فإن قلت : فما معنى قوله : { إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ } ؟ قلت : إذا عرف الله من الكافر الإصرار فخلاه وشأنه ولم يلجئه ، سمى ذلك إغواء وإضلالاً ، كما أنه إذا عرف منه أنه يتوب ويرعوي فلطف به : سمي إرشاداً وهداية . وقيل : { أَن يُغْوِيَكُمْ } أن يهلككم من غوى الفصيل غوي ، إذا بشم فهلك ، ومعناه : أنكم إذا كنتم من التصميم على الكفر بالمنزلة التي لا تنفعكم نصائح الله ومواعظه وسائر ألطافه ، كيف ينفعكم نصحي؟ { فَعَلَىَّ إِجْرَامِى } وإجرامي بلفظ المصدر والجمع . كقوله : والله يعلم إسرارهم وأسرارهم . ونحو : جرم وأجرام قفل وأقفال . وينصر الجمع أن فسره الأولون بآثامي والمعنى : إن صح وثبت أني افتريته ، فعلي عقوبة إجرامي أي افترائي . وكان حقي حينئذ أن تعرضوا عني وتتألبوا عليّ { وَأَنَاْ بَرِىء } يعني ولم يثبت ذلك وأنا بريء منه . ومعنى { مّمَّا تُجْرَمُونَ } من إجرامكم في إسناد الافتراء إليّ فلا وجه لإعراضكم ومعاداتكم .
وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)
{ لَن يُؤْمِنَ } إقناط من إيمانهم ، وأنه كالمحال الذي لا تعلق به للتوقع { إِلاَّ مَنْ قَدْ ءَامَنَ } إلا من قد وجد منه ما كان يتوقع من إيمانه ، وقد للتوقع وقد أصابت محزها { فَلاَ تَبْتَئِسْ } فلا تحزن حزن بائس مستكين ، قال :
مَا يَقْسِمُ اللَّهُ فَاقْبَلْ غَيْرَ مُبْتَئِس ... مِنْهُ وَاقْعُدْ كَرِيماً نَاعِمَ الْبَالِ
والمعنى : فلا تحزن بما فعلوه من تكذيبك وإيذائك ومعاداتك ، فقد حان وقت الانتقام لك منهم { بِأَعْيُنِنَا } في موضع الحال ، بمعنى : اصنعها محفوظاً ، وحقيقته : ملتبساً بأعيننا ، كأن لله معه أعينا تكلؤه أن يزيغ في صنعته عن الصواب ، وأن لا يحول بينه وبين عمله أحد من أعدائه . ووحينا : وأنا نوحي إليك ونلهمك كيف تصنع . عن ابن عباس رضي الله عنه : لم يعلم كيف صنعة الفلك ، فأوحى الله إليه أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر { وَلاَ تخاطبنى فِى الذين ظَلَمُواْ } ولا تدعني في شأن قومك واستدفاع العذاب عنهم بشفاعتك { إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ } إنهم محكوم عليهم بالإغراق ، وقد وجب ذلك وقضي به القضاء وجف القلم ، فلا سبيل إلى كفه ، كقوله : { يإبراهيم أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبّكَ وَإِنَّهُمْ اتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ } [ هود : 76 ] .
وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39)
{ وَيَصْنَعُ الفلك } حكاية حال ماضية { سَخِرُواْ مِنْهُ } ومن عمله السفينة ، وكان يعملها في برية بهماء في أبعد موضع من الماء ، وفي وقت عزَّ الماء فيه عزة شديدة ، فكانوا يتضاحكون ويقولون له : يا نوح ، صرت نجاراً بعد ما كنت نبياً { فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ } يعني في المستقبل { كَمَا تَسْخَرُونَ } منا الساعة ، أي : نسخر منكم سخرية مثل سخريتكم إذا وقع عليكم الغرق في الدنيا والحرق في الآخرة . وقيل : إن تستجهلونا فيما نصنع فإنا نستجهلكم فيما أنتم عليه من الكفر والتعرّض لسخط الله وعذابه ، فأنتم أولى بالاستجهال منا . أو إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم في استجهالكم ، لأنكم لا تستجهلون إلا عن جهل بحقيقة الأمر ، وبناء على ظاهر الحال كما هو عادة الجهلة في البعد عن الحقائق . وروي أنّ نوحاً عليه السلام اتخذ السفينة في سنتين ، وكان طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسون ذراعاً ، وطولها في السماء ثلاثون ذراعاً ، وكانت من خشب الساج وجعل لها ثلاثة بطون ، فحمل في البطن الأسفل : الوحوش والسباع والهوام ، وفي البطن الأوسط : الدواب والأنعام ، وركب هو ومن معه في البطن الأعلى مع ما يحتاج إليه من الزاد ، وحمل معه جسد آدم عليه السلام وجعله معترضاً بين الرجال والنساء ، وعن الحسن : كان طولها ألفاً ومائتي ذراع ، وعرضها ستمائة . وقيل : إنّ الحواريين قالوا لعيسى عليه السلام : لو بعثت لنا رجلاً شهد السفينة يحدّثنا عنها ، فانطلق بهم حتى انتهى إلى كثيب من تراب ، فأخذ كفا من ذلك التراب فقال : أتدرون من هذا؟ قالوا الله ورسوله أعلم . قال : هذا كعب بن حام . قال : فضرب الكثيب بعصاه فقال : قم بإذن الله ، فإذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه وقد شاب فقال له عيسى عليه السلام : هكذا أهلكت؟ قال لا ، مت وأنا شاب ، ولكنني ظننت أنها الساعة فمن ثمت شبت . قال : حدثنا عن سفينة نوح . قال : كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع ، وعرضها ستمائة ذراع ، وكانت ثلاث طبقات : طبقة للدواب والوحوش ، وطبقة للإنس ، وطبقة للطير . ثم قال : له عد بإذن الله كما كنت ، فعاد تراباً { مَن يَأْتِيهِ } في محل النصب بتعلمون ، أي : فسوف تعلمون الذي يأتيه عذاب يخزيه ، ويعني به إياهم ، ويريد بالعذاب : عذاب الدنيا وهو الغرق { وَيَحِلُّ عَلَيْهِ } حلول الدين والحق اللازم الذي لا انفكاك له عنه { عَذَابٌ مُّقِيمٌ } وهو عذاب الآخرة .
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)
{ حتى } هي التي يبتدأ بعدها الكلام ، دخلت على الجملة من الشرط والجزاء . فإن قلت : وقعت غاية لماذا؟ قلت : لقوله ويصنع الفلك ، أي : وكان يصنعها إلى أن جاء وقت الموعد ، فإن قلت : فإذا اتصلت «حتى» بيصنع فما تصنع بما بينهما من الكلام؟ قلت : هو حال من يصنع ، كأنه قال : يصنعها والحال أنه كلما مرّ عليه ملأ من قومه سخروا منه . فإن قلت : فما جواب كلما؟ قلت : أنت بين أمرين : إما أن تجعل «سخروا» جواباً و «قال» استئنافاً ، على تقدير سؤال سائل ، أو تجعل «سخروا» بدلاً من «مرّ» أو صفة «لملأ» و «قال» جواباً . { وَأَهْلَكَ } عطف على اثنين ، وكذلك { وَمَنْ ءامَنَ } يعني : واحمل أهلك والمؤمنين من غيرهم . واستثنى من أهله من سبق عليه القول أنه من أهل النار ، وما سبق عليه القول بذلك إلا للعلم بأنه يختار الكفر ، لا لتقديره عليه وإرادته به - تعالى الله عن ذلك - قال الضحاك : أراد ابنه وامرأته { إِلاَّ قَلِيلٌ } روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
( 525 ) " كانوا ثمانية : نوح وأهله ، وبنوه الثلاثة ، ونساؤهم " وعن محمد بن إسحاق : كانوا عشرة : خمسة رجال وخمس نسوة . وقيل كانوا اثنين وسبعين رجلاً وامرأة ، وأولاد نوح : سام وحام ويافث ، ونساؤهم فالجميع ثمانية وسبعون : نصفهم رجال ونصفهم نساء . ويجوز أن يكون كلاماً واحداً وكلامين؛ فالكلام الواحد : أن يتصل { بِسْمِ اللَّهِ } ب ( اركبوا ) حالا من الواو ، بمعنى : اركبوا فيها مسمين الله أو قائلين بسم الله وقت إجرائها ووقت إرسائها ، إما لأن المجرى والمرسى للوقت ، وإما لأنهما مصدران كالإجراء والإرساء ، حذف منهما الوقت المضاف ، كقولهم خفوق النجم ، ومقدم الحاج . ويجوز أن يراد مكاناً الإجراء والإرساء ، وانتصابهما بما في { بِسْمِ اللَّهِ } من معنى الفعل ، أو بما فيه من إرادة القول . والكلامان : أن يكون { بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } جملة من مبتدأ وخبر مقتضبه ، أي بسم الله إجراؤها وإرساؤها . يروى أنه كان إذا أراد أن تجري قال : بسم الله فجرت ، وإذا أراد أن ترسو قال : بسم الله فرست ، ويجوز أن يقحم الاسم ، كقوله :
ثُمَّ اسْمُ السَّلاَمِ عَلَيْكُمَا ... ويراد : بالله إجراؤها وإرساؤها ، أي بقدرته وأمره . وقرىء : { مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } بفتح الميم ، من جرى ورسى ، إما مصدرين أو وقتين أو مكانين . وقرأ مجاهد { مجريها ومرسيها } بلفظ اسم الفاعل ، مجروري المحل ، صفتين لله . فإن قلت : ما معنى قولك : جملة مقتضبة؟ قلت : معناه أن نوحاً عليه السلام أمرهم بالركوب ، ثم أخبرهم بأن مجراها ومرساها بذكر اسم الله أو بأمره وقدرته . ويحتمل أن تكون غير مقتضيه بأن تكون في موضع الحال كقوله :
وَجَاؤُنَا بِهِمْ سَكَرٌ عَلَيَنا ... فلا تكون كلاماً برأسه ، ولكن فضلة من فضلات الكلام الأوّل ، وانتصاب هذه الحال عن ضمير الفلك ، كأنه قيل : اركبوا فيها مجراة ومرساة بسم الله بمعنى التقدير ، كقوله تعالى : { فادخلوها خالدين } [ الزمر : 73 ] . { إِنَّ رَبّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } لولا مغفرته لذنوبكم ورحمته إياكم لما نجاكم .
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)
فإن قلت : بم اتصل قوله : { وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ } ؟ قلت : بمحذوف دل عليه { اركبوا فِيهَا بِسْمِ الله } [ هود : 41 ] كأنه قيل : فركبوا فيها يقولون : بسم الله ، { وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ } أي تجري وهم فيها { فِى مَوْجٍ كالجبال } يريد موج الطوفان ، شبه كل موجة منه بالجبل في تراكمها وارتفاعها . فإن قلت : الموج : ما يرتفع فوق الماء عند اضطرابه وزخيره وكان الماء قد التقى وطبق ما بين السماء والأرض ، وكانت الفلك تجري في جوف الماء كما تسبح السمكة ، فما معنى جريها في الموج؟ قلت : كان ذلك قبل التطبيق ، وقبل أن يغمر الطوفان الجبال . ألا ترى إلى قول ابنه : سآوى إلى جبل يعصمني من الماء . قيل : كان اسم ابنه : كنعان . وقيل : يام . وقرأ علي رضي الله عنه : ابنها ، والضمير لامرأته . وقرأ محمد بن علي وعروة بن الزبير : ابنه ، بفتح الهاء ، يريدان ابنها ، فاكتفيا بالفتحة عن الألف ، وبه ينصر مذهب الحسن . قال قتادة : سألته فقال : والله ما كان ابنه ، فقلت : إن الله حكى عنه إن ابني من أهلي ، وأنت تقول : لم يكن ابنه ، وأهل الكتاب لا يختلفون في أنه كان ابنه ، فقال : ومن يأخذ دينه من أهل الكتاب ، واستدل بقوله : { مّنْ أَهْلِى } [ هود : 45 ] ولم يقل : مني ، ولنسبته إلى أمّه وجهان ، أحدهما : أن يكون ربيباً له ، كعمر بن أبي سلمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن يكون لغير رشدة ، وهذه غضاضة عصمت منها الأنبياء عليهم السلام . وقرأ السدي «ونادى نوح ابناه» على الندبة والترثي . أي : قال : يا ابناه . والمعزل : مفعل ، من عزله عنه إذا نحاه وأبعده ، يعني وكان في مكان عزل فيه نفسه عن أبيه وعن مركب المؤمنين . وقيل : كان في معزل عن دين أبيه { يابنى } قرىء بكسر الياء اقتصاراً عليه من ياء الإضافة ، وبالفتح اقتصاراً عليه من الألف المبدلة من ياء الإضافة في قولك «يا بنيا» أو سقطت الياء والألف لالتقاء الساكنين؛ لأنّ الراء بعدهما ساكنة { إِلاَّ مَن رَّحِمَ } إلا الراحم وهو الله تعالى ، أو لا عاصم اليوم من الطوفان إلا من رحم الله أي إلا مكان من رحم الله من المؤمنين ، وكان لهم غفوراً رحيماً في قوله : { إِنَّ رَبّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ هود : 41 ] وذلك أنه لما جعل الجبل عاصماً من الماء قال له : لا يعصمك اليوم معتصم قط من جبل ونحوه سوى معتصم واحد وهو مكان من رحمهم الله ونجاهم يعني السفينة . وقيل لا عاصم ، بمعنى : لاذا عصمة إلا من رحمه الله ، كقوله : { مَّاء دَافِقٍ } [ الطارق : 6 ] و { عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } [ الحاقة : 21 ] وقيل : «إلا من رحم» استثناء منقطع ، كأنه قيل : ولكن من رحمه الله فهو المعصوم ، كقوله : { مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن } [ النساء : 157 ] وقرىء «إلا من رُحِم» على البناء للمفعول .
وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)
نداء الأرض والسماء بما ينادي به الحيوان المميز على لفظ التخصيص والإقبال عليهما بالخطاب من بين سائر المخلوقات وهو قوله : «يا أرض» ، «ويا سماء» ثم أمرهما بما يؤمر به أهل التمييز والعقل من قوله : «ابلعي ماءك» و «أقلعي» من الدلالة على الاقتدار العظيم ، وأن السموات والأرض وهذه الأجرام العظام منقادة لتكوينه فيها ما يشاء غير ممتنعة عليه ، كأنها عقلاء مميزون قد عرفوا عظمته وجلالته وثوابه وعقابه وقدرته على كل مقدور ، وتبينوا تحتم طاعته عليهم وانقيادهم له ، وهم يهابونه ويفزعون من التوقف دون الامتثال له والنزول على مشيئته على الفور من غير ريث ، فكما يرد عليهم أمره كان المأمور به مفعولاً لا حبس ولا إبطاء . والبلع : عبارة عن النشف . والإقلاع : الإمساك . يقال : أقلع المطر وأقلعت الحمى { وَغِيضَ الماء } من غاضه إذا نقصه { وَقُضِىَ الأمر } وأنجز ما وعد الله نوحاً من هلاك قومه { واستوت } واستقرّت السفينة { عَلَى الجودى } وهو جبل بالموصل { وَقِيلَ بُعْدًا } يقال بعد بعدا وبعدا ، إذا أرادوا البعد البعيد من حيث الهلاك والموت ونحو ذلك ، ولذلك اختص بدعاء السوء ومجيء أخباره على الفعل المبني للمفعول للدلالة على الجلال والكبرياء ، وأنّ تلك الأمور العظام لا تكون إلا بفعل فاعل قادر ، وتكوين مكون قاهر ، وأنّ فاعلها فاعل واحد لا يشارك في أفعاله ، فلا يذهب الوهم إلى أن يقول غيره : يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي ، ولا أن يقضي ذلك الأمر الهائل غيره ، ولا أن تستوي السفينة على متن الجودي وتستقر عليه إلا بتسويته وإقراره ، ولما ذكرنا من المعاني والنكت استفصح علماء البيان هذه الآية ورقصوا لها رؤسهم ، لا لتجانس الكلمتين ، وهما قوله : «ابلعي» و «أقلعي» وذلك وإن كان لا يخلي الكلام من حسن ، فهو كغير الملتفت إليه بإزاء تلك المحاسن التي هي اللب وما عداها قشور . وعن قتادة : استقلت بهم السفينة لعشر خلون من رجب ، وكانت في الماء خمسين ومائة يوم ، واستقرت بهم على الجودي شهراً ، وهبط بهم يوم عاشوراء . وروي أنها مرت بالبيت فطافت به سبعاً ، وقد أعتقه الله من الغرق . وروي أنّ نوحاً صام يوم الهبوط وأمر من معه فصاموا شكراً لله تعالى .
وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)
نداؤه ربه : دعاؤه له ، وهو قوله : { رَبّ } مع ما بعده من اقتضاء وعده في تنجية أهله . فإن قلت : فإذا كان النداء هو قوله : «رب» فكيف عطف «قال رب» على «نادى» بالفاء؟ قلت : أريد بالنداء إرادة النداء ، ولو أريد النداء نفسه لجاء ، كما جاء قوله : { إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً قَالَ رَبّ } [ مريم : 3 ] بغير فاء { إِنَّ ابنى مِنْ أَهْلِى } أي بعض أهلي ، لأنه كان ابنه من صلبه ، أو كان ريبياً له فهو بعض أهله { وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق } وأن كل وعد تعده فهو الحق الثابت الذي لا شك في إنجازه والوفاء به ، وقد وعدتني أن تنجي أهلي ، فما بال ولدي؟ { وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين } أي أعلم الحكام وأعدلهم؛ لأنه لا فضل لحاكم على غيره إلا بالعلم والعدل . ورب غريق في الجهل والجور من متقلدي الحكومة في زمانك قد لقب أقضى القضاة ، ومعناه أحكم الحاكمين فاعتبر واستعبر ويجوز أن يكون من الحكمة على أن يبني من الحكمة حاكم بمعنى النسبة كما قيل دارع من الدرع ، وحائض وطالق على مذهب الخليل { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالح } تعليل لانتفاء كونه من أهله . وفيه إيذان بأن قرابة الدين غامرة لقرابة النسب ، وأنّ نسيبك في دينك ومعتقدك من الأباعد في المنصب وإن كان حبشياً وكنت قرشياً لصيقك وخصيصك . ومن لم يكن على دينك - وإن كان أمس أقاربك رحماً - فهو أبعد بعيد منك ، وجعلت ذاته عملاً غير صالح ، مبالغة في ذمّه ، كقولها :
فَإنَّمَا هي إقْبَالٌ وَإدْبَارُ ... وقيل : الضمير لنداء نوح ، أي : إنّ نداءك هذا عمل غير صالح وليس بذاك - فإن قلت : فهلا قيل : إنه عمل فاسد؟ قلت : لما نفاه عن أهله ، نفى عنه صفتهم بكلمة النفي التي يستبقي معها لفظ المنفي ، وآذن بذلك أنه إنما أنجى من أنجى من أهله لصلاحهم ، لا لأنهم أهلك وأقاربك . وإنّ هذا لما انتفى عنه الصلاح لم تنفعه أبوّتك ، كقوله : { كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صالحين فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِينَا عَنْهُمَا مِنَ الله شَيْئاً } [ التحريم : 10 ] وقرىء : «عمل غير صالح» أي عمل عملا غير صالح . وقرىء : «فلا تسئلنّ» بكسر النون بغير ياء الإضافة وبالنون الثقيلة بياء وبغير ياء ، يعني فلا تلتمس مني ملتمساً أو التماساً لا تعلم أصواب هو أم غير صواب ، حتى تقف على كنهه . وذكر المسألة دليل على أنّ النداء كان قبل أن يغرق حين خاف عليه . فإن قلت : لم سمي نداؤه سؤالاً ولا سؤال فيه؟ قلت : قد تضمن دعاؤه معنى السؤال وإن لم يصرح به ، لأنه إذا ذكر الموعد بنجاة أهله في وقت مشارفة ولده الغرق فقد استنجز . وجعل سؤال ما لا يعرف كنهه جهلاً وغباوة ، ووعظه أن لا يعود إليه وإلى أمثاله من أفعال الجاهلين .
فإن قلت : قد وعده أن ينجي أهله ، وما كان عنده أن ابنه ليس منهم ديناً ، فلما أشفى على الغرق تشابه عليه الأمر ، لأن العدة قد سبقت له وقد عرف الله حكيماً لا يجوز عليه فعل القبيح وخلف الميعاد ، فطلب إماطة الشبهة وطلبُ إماطة الشبهة واجب ، فلم زجر وسمي سؤاله جهلاً؟ قلت : إن الله عز وعلا قدّم له الوعد بإنجاء أهله مع استثناء من سبق عليه القول منهم ، فكان عليه أن يعتقد أن في جملة أهله من هو مستوجب للعذاب لكونه غير صالح ، وأن كلهم ليسوا بناجين ، وأن لا تخالجه شبهة حين شارف ولده الغرق في أنه من المستثنين لا من المستثنى منهم ، فعوتب على أن اشتبه عليه ما يجب أن لا يشتبه .
قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47)
{ أَنْ أَسْأَلَكَ } من أن أطلب منك في المستقبل ما لا علم لي بصحته ، تأدباً بأدبك واتعاظاً بموعظتك { وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِى } ما فرط مني من ذلك { وَتَرْحَمْنِى } بالتوبة عليّ { أَكُن مّنَ الخاسرين } أعمالاً .
قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48)
وقرىء : «يا نوح اهبط» بضم الباء { بسلام مّنَّا } مسلماً محفوظاً من جهتنا أو مسلماً عليك مكرّماً { وبركات عَلَيْكَ } ومباركاً عليك ، والبركات الخيرات النامية . وقرىء : «وبركة» على التوحيد { وعلى أُمَمٍ مّمَّن مَّعَكَ } يحتمل أن تكون من للبيان . فيراد الأمم الذين كانوا معه في السفينة؛ لأنهم كانوا جماعات . أو قيل لهم أمم ، لأنّ الأمم تتشعب منهم ، وأن تكون لإبتداء الغاية أي : على أمم ناشئة ممن معك ، وهي الأمم إلى آخر الدهر وهو الوجه . وقوله : { وَأُمَمٌ } رفع بالابتداء . و { سَنُمَتّعُهُمْ } صفة ، والخبر محذوف تقديره : وممن معك أمم سنمتعهم ، وإنما حذف لأنّ قوله : { مّمَّن مَّعَكَ } يدل عليه والمعنى : أنّ السلام منا والبركات عليك وعلى أمم مؤمنين ينشؤون ممن معك ، وممن معك أمم ممتعون بالدنيا منقلبون إلى النار ، وكان نوح عليه السلام أبا الأنبياء ، والخلق بعد الطوفان منه وممن كان معه في السفينة . وعن محمد بن كعب القرظي : دخل في ذلك السلام كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة ، وفيما بعده من المتاع والعذاب كل كافر . وعن ابن زيد : هبطوا والله عنهم راض ثم أخرج منهم نسلا ، منهم من رحم ومنهم من عذب وقيل : المراد بالأمم الممتعة : قوم هود وصالح ولوط وشعيب .
تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)
{ تِلْكَ } إشارة إلى قصة نوح عليه السلام . ومحلها الرفع على الابتداء ، والجمل بعدها أخبار ، أي تلك القصة بعض أنباء الغيب موحاة إليك ، مجهولة عندك وعند قومك { مّن قَبْلِ هذا } من قبل إيحائي إليك وإخبارك بها . أو من قبل هذا العلم الذي كسبته بالوحي . أو من قبل هذا الوقت { فاصبر } على تبليغ الرسالة وأذى قومك ، كما صبر نوح وتوقع في العاقبة لك ولمن كذبك نحو ما قيض لنوح ولقومه { إِنَّ العاقبة } في الفوز والنصر والغلبة { لّلْمُتَّقِينَ } وقوله : { وَلاَ قَوْمُكَ } معناه : إنّ قومك الذين أنت منهم على كثرتهم ووفور عددهم إذا لم يكن ذلك شأنهم ولا سمعوه ولا عرفوه ، فكيف برجل منهم كما تقول لم يعرف هذا عبد الله ولا أهل بلده .
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)
{ أخاهم } واحداً منهم ، وانتصابه للعطف على أرسلنا نوحا ، و { هُودًا } عطف بيان . و { غَيْرُهُ } بالرفع : صفة على محل الجار والمجرور . وقرىء : «غيره» ، بالجرّ صفة على اللفظ { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ } تفترون على الله الكذب باتخاذكم الأوثان له شركاء . ما من رسول إلا واجه قومه بهذا القول ، لأنّ شأنهم النصيحة ، والنصيحة لا يمحصها ولا يمحضها إلا حسم المطامع ، وما دام يتوهم شيء منها لم تنجع ولم تنفع { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } إذ تردّون نصيحة من لا يطلب عليها أجراً إلا من الله . وهو ثواب الآخرة ، ولا شيء أنفى للتهمة من ذلك ، قيل { استغفروا رَبَّكُمْ } آمنوا به { ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ } من عبادة غيره ، لأن التوبة لا تصلح إلا بعد الإيمان ، والمدرار : الكثير الدرور ، كالمغزار . وإنما قصد استمالتهم إلى الإيمان وترغيبهم فيه بكثرة المطر وزيادة القوّة؛ لأنّ القوم كانوا أصحاب زروع وبساتين وعمارات ، حرّاصاً عليها أشد الحرص ، فكانوا أحوج شيء إلى الماء . وكانوا مدلين بما أوتوا من شدّة القوّة والبطش والبأس والنجدة ، مستحرزين بها من العدوّ ، مهيبين في كل ناحية . وقيل : أراد القوّة في المال وقيل : القوّة على النكاح وقيل : حبس عنهم القطر ثلاث سنين وعقمت أرحام نسائهم . وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه وفد على معاوية ، فلما خرج تبعه بعض حجابه فقال : إني رجل ذو مال ولا يولد لي ، فعلمني شيئاً لعلّ الله يرزقني ولداً ، فقال : عليك بالاستغفار ، فكان يكثر الاستغفار حتى ربما استغفر في يوم واحد سبعمائة مرة ، فولد له عشرة بنين ، فبلغ ذلك معاوية فقال : هلا سألته ممَّ قال ذلك ، فوفد وفدة أخرى ، فسأله الرجل فقال : ألم تسمع قول هود عليه السلام { وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ } وقول نوح عليه السلام : { وَيُمْدِدْكُمْ بأموال وَبَنِينَ } [ نوح : 12 ] { وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ } ولا تعرضوا عني وعما أدعوكم إليه وأُرغبكم فيه { مُّجْرِمِينَ } مصرّين على إجرامكم وآثامكم .
قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53)
{ مَا جِئْتَنَا بِبَيّنَةٍ } كذب منهم وجحود ، كما قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لولا أُنزل عليه آية من ربه ، مع فوت آياته الحصر { عَن قَوْلِكَ } حال من الضمير في تاركي آلهتنا ، كأنه قيل : وما نترك آلهتنا صادرين عن قولك : { وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } وما يصح من أمثالنا أن يصدقوا مثلك فيما يدعوهم إليه ، إقناطاً له من الإجابة .
إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55)
{ اعتراك } مفعول نقول ، وإلا لغو . والمعنى : ما نقول إلا قولنا اعتراك بعض آلهتنا بسوء ، أي خبلك ومسك بجنون لسبك إياها وصدّك عنها وعداوتك لها . مكافأة لك منها على سوء فعلك بسوء الجزاء ، فمن ثم تتكلم بكلام المجانين وتهذي بهذيان المبرسمين . وليس بعجب من أولئك أن يسموا التوبة والاستغفار خبلا وجنوناً وهم عاد أعلام الكفر وأوتاد الشرك . وإنما العجب من قوم من المتظاهرين بالإسلام سمعناهم يسمون التائب من ذنوبه مجنوناً والمنيب إلى ربه مخبلا ، ولم نجدهم معه على عشر مما كانوا عليه في أيام جاهليته من الموادّة وما ذاك إلا لعرق من الإلحاد أبى إلا أن ينبض ، وضب من الزندقة أراد أن يطلع رأسه وقد دلت أجوبتهم المتقدّمة على أنّ القوم كانوا جفاة غلاظ الأكباد ، لا يبالون بالبهت ولا يلتفتون إلى النصح . ولا تلين شكيمتهم للرشد . وهذا الأخير دال على جهل مفرط وبله متناه ، حيث اعتقدوا في حجارة أنها تنصر وتنتقم ، ولعلهم حين أجازوا العقاب كانوا يجيزون الثواب . من أعظم الآيات أن يواجه بهذا الكلام رجل واحد أمّة عطاشا إلى إراقة دمه . يرمونه عن قوس واحدة ، وذلك لثقته بربه وأنه يعصمه منهم ، فلا تنشب فيه مخالبهم . ونحو ذلك قال نوح عليه السلام لقومه : { ثُمَّ اقضوا إِلَىَّ وَلاَ تُنظِرُونَ } [ يونس : 71 ] أكد براءته من آلهتهم وشركهم ووثقها بما جرت به عادة الناس من توثيقهم الأمور بشهادة الله وشهادة العباد ، فيقول الرجل : الله شهيد على أني لا أفعل كذا ويقول لقومه كونوا شهداء على أني لا أفعله . فإن قلت : هلا قيل : إني أشهد الله وأشهدكم؟ قلت : لأنّ إشهاد الله على البراءة من الشرك إشهاد صحيح ثابت في معنى تثبيت التوحيد وشدّ معاقده ، وأمّا إشهادهم فما هو إلا تهاون بدينهم ودلالة على قلة المبالاة بهم فحسب ، فعدل به عن لفظ الأوّل لاختلاف ما بينهما ، وجيء به على لفظ الأمر بالشهادة ، كما يقول الرجل لمن يبس الثرى بينه وبينه . اشهد علي أني لا أحبك ، تهكما به واستهانة بحاله { مّمَّا تُشْرِكُونَ به مِن دُونِهِ } من إشراككم آلهة من دونه ، أو مما تشركونه من آلهة من دونه ، أي أنتم تجعلونها شركاء له ، ولم يجعلها هو شركاء . ولم ينزل بذلك سلطاناً { فَكِيدُونِى جَمِيعًا } أنتم وآلهتكم أعجل ما تفعلون ، من غير إنظار؛ فإني لا أبالي بكم وبكيدكم ، ولا أخاف معرتكم وإن تعاونتم عليّ وأنتم الأقوياء الشداد ، فكيف تضرني آلهتكم ، وما هي إلا جماد لا تضر ولا تنفع ، وكيف تنتقم مني إذا نلت منها وصددت عن عبادتها ، بأن تخبلني وتذهب بعقلي .
إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)
ولما ذكر توكله على الله وثقته بحفظه وكلاءته من كيدهم ، وصفه بما يوجب التوكل عليه من اشتمال ربوبيته عليه وعليهم . من كون كل دابة في قبضته وملكته وتحت قهره وسلطانه ، والأخذ بنواصيها ، تمثيل لذلك { إِنَّ رَبّى على صراط مُّسْتَقِيمٍ } يريد أنه على طريق الحق والعدل في ملكه ، لا يفوته ظالم ، ولا يضيع عنده معتصم به { فَإِن تَوَلَّوْاْ } فإن تتولوا . فإن قلت : الإبلاغ كان قبل التولي ، فكيف وقع جزاء للشرط؟ قلت : معناه فإن تتولوا لم أعاتب على تفريط في الإبلاغ ، وكنتم محجوجين بأنّ ما أرسلت به إليكم قد بلغكم فأبيتم إلا تكذيب الرسالة وعداوة الرسول { وَيَسْتَخْلِفُ } كلام مستأنف ، يريد : ويهلككم الله ويجيء بقوم آخرين يخلفونكم في دياركم وأموالكم { وَلاَ تَضُرُّونَهُ } بتوليكم { شَيْئاً } من ضرر قط ، لأنه لا يجوز عليه المضارّ والمنافع ، وإنما تضرون أنفسكم . وفي قراءة عبد الله { وَيَسْتَخْلِفُ } بالجزم وكذلك : ولا تضروه ، عطفاً على محل { فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ } والمعنى : إن يتولوا يعذرني ويستخلف قوماً غيركم ولا تضروا إلا أنفسكم { على كُلّ شَىْء حَفِيظٌ } أي رقيب عليه مهيمن ، فما تخفى عليه أعمالكم ولا يغفل عن مؤاخذتكم . أو من كان رقيباً على الأشياء كلها حافظاً لها وكانت مفتقرة إلى حفظه من المضارّ ، لم يضر مثله مثلكم .
وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58)
{ والذين ءامَنُواْ مَعَهُ } قيل : كانوا أربعة آلاف . فإن قلت : ما معنى تكرير التنجية؟ قلت : ذكر أولا أنه حين أهلك عدوهم نجاهم ثم قال : { وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } على معنى : وكانت تلك التنجية من عذاب غليظ ، وذلك أنّ الله عز وجل بعث عليهم السموم فكانت تدخل في أنوفهم وتخرج من أدبارهم فتقطعهم عضواً عضواً . وقيل : أراد بالثانية التنجية من عذاب الآخرة ، ولا عذاب أغلظ منه وأشدّ . وقوله : برحمة منا ، يريد : بسبب الإيمان الذي أنعمنا عليهم بالتوفيق له .
وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)
{ وَتِلْكَ عَادٌ } إشارة إلى قبورهم وآثارهم ، كأنه قال : سيحوا في الأرض فانظروا إليها واعتبروا ، ثم استأنف وصف أحوالهم فقال : { جَحَدُواْ بآيات رَبّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ } لأنهم إذا عصوا رسولهم فقد عصوا جميع رسل الله ، { لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ } [ البقرة : 285 ] قيل لم يرسل إليهم إلا هود وحده { كُلّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } يريد رؤساءهم وكبراءهم ودعاتهم إلى تكذيب الرسل . ومعنى اتباع أمرهم : طاعتهم . ولما كانوا تابعين لهم دون الرسل جعلت اللعنة تابعة لهم في الدارين تكبهم على وجوههم في عذاب الله . و { ألا } وتكرارها مع النداء على كفرهم والدعاء عليهم ، تهويل لأمرهم وتفظيع له ، وبعث على الاعتبار بهم والحذر من مثل حالهم . فإن قلت : { بُعْدًا } دعاء بالهلاك ، فما معنى الدعاء به عليهم بعد هلاكهم؟ قلت : معناه الدلالة على أنهم كانوا مستأهلين له : ألا ترى إلى قوله :
إخْوَتي لاَ تَبْعَدُوا أبدَا ... وَبَلَى وَاللَّهِ قَدْ بَعِدُوا
{ قَوْمِ هُودٍ } عطف بيان لعاد : فإن قلت : ما الفائدة في هذا البيان والبيان حاصل بدونه؟ قلت : الفائدة فيه أن يوسموا بهذه الدعوة وسما ، وتجعل فيهم أمراً محققاً لا شبهة فيه بوجه من الوجوه ، ولأنّ عاداً عادان : الأولى القديمة التي هي قوم هود والقصة فيهم ، والأخرى إرم .
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)
{ هُوَ أَنشَأَكُمْ مّنَ الأرض } لم ينشئكم منها إلا هو ، ولم يستعمركم فيها غيره . وإنشاؤهم منها خلق آدم من التراب { واستعمركم فِيهَا } وأمركم بالعمارة ، والعمارة متنوعة إلى واجب وندب ومباح ومكروه ، وكان ملوك فارس قد أكثروا من حفر الأنهار وغرس الأشجار ، وعمروا الأعمار الطوال ، مع ما كان فيهم من عسف الرعايا ، فسأل نبي من أنبياء زمانهم ربه عن سبب تعميرهم ، فأوحى إليه : إنهم عمروا بلادي فعاش فيها عبادي . وعن معاوية بن أبي سفيان أنه أخذ في إحياء الأرض في آخر أمره ، فقيل له ، فقال : ما حملني عليه إلا قول القائل :
لَيْسَ الفَتَى بِفتَي لاَيسْتَضَاءُ بِه ... وَلاَ تَكُونُ لَهُ في الأَرْضِ آثَارُ
وقيل : استعمركم من العمر ، نحو استبقاكم من البقاء ، وقد جعل من العمرى . وفيه وجهان ، أحدهما : أن يكون استعمر في معنى أعمر ، كقولك استهلكه في معنى أهلكه . ومعناه : أعمركم فيها دياركم ، ثم هو وارثها منكم عند انقضاء أعماركم . والثاني أن يكون بمعنى جعلكم معمرين دياركم فيها ، لأنّ الرجل إذا ورّث داره من بعده فكأنما أعمره إياها ، لأنه يسكنها عمره ثم يتركها لغيره { قَرِيبٌ } داني الرحمة سهل المطلب { مُّجِيبٌ } لمن دعاه وسأله { فِينَا } فيما بيننا { مَرْجُوّا } كانت تلوح فيك مخايل الخير وأمارات الرشد فكنا نرجوك لننتفع بك ، وتكون مشاوراً في الأمور ومسترشداً في التدابير ، فلما نطقت بهذا القول انقطع رجاؤنا عنك وعلمنا أن لا خير فيك . وعن ابن عباس : فاضلاً خيراً نقدّمك على جميعنا . وقيل : كنا نرجو أن تدخل في ديننا وتوافقنا على ما نحن عليه { يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا } حكاية حال ماضية { مُرِيبٍ } من أرابه إذا أوقعه في الريبة وهي قلق النفس وانتفاء الطمأنينة باليقين . أو من «أراب الرجل» إذا كان ذا ريبة على الإسناد المجازي . قيل : { إِن كُنتُ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّى } بحرف الشك وكان على يقين أنه على بينة ، لأنّ خطابه للجاحدين ، فكأنه قال : قدّروا أني على بينة من ربي ، وأني نبيّ على الحقيقة ، وانظروا إن تابعتكم وعصيت ربي في أوامره ، فمن يمنعني من عذاب الله؟ { فَمَا تَزِيدُونَنِى } إذن حينئذ { غَيْرَ تَخْسِيرٍ } يعني تخسرون أعمالي وتبطلونها . أو فما تزيدونني بما تقولون لي وتحملونني عليه غير أن أخسركم ، أي أنسبكم إلى الخسران وأقول لكم إنكم خاسرون { ءَايَةً } نصب على الحال قد عمل فيها ما دلّ عليه اسم الإشارة من معنى الفعل . فإن قلت : فبم يتعلق { لَكُمْ } قلت بآية حالاً منها متقدّمة؛ لأنها لو تأخرت لكانت صفة لها ، فلما تقدمت انتصبت على الحال { عَذَابٌ قَرِيبٌ } عاجل لا يستأخر عن مسكم لها بسوء إلا يسيراً ، وذلك ثلاثة أيام ثم يقع عليكم { تَمَتَّعُواْ } استمتعوا بالعيش { فِى دَارِكُمْ } في بلدكم .
وتسمى البلاد الديار؛ لأنه يدار فيه أي يتصرف . يقال : ديار بكر ، لبلادهم . وتقول العرب الذين حوالي مكة : نحن من عرب الدار ، يريدون من عرب البلد . وقيل : في دار الدنيا . وقيل : عقروها يوم الأربعاء وهلكوا يوم السبت { غَيْرُ مَكْذُوبٍ } غير مكذوب فيه ، فاتسع في الظرف بحذف الحرف واجرائه مجرى المفعول به ، كقولك : يوم مشهود ، من قوله :
وَيَوْمَ شَهِدْنَاهُ . . . . . . . . . ... أو على المجاز ، كأنه قيل للوعد : نفي بك ، فإذا وفى به فقد صدق ولم يكذب . أو وعد غير كذب ، على أنّ المكذوب مصدر كالمجلود والمعقول ، وكالمصدوقة بمعنى الصدق { وَمِنْ خِزْىِ يَوْمِئِذٍ } قرىء مفتوح الميم لأنه مضاف إلى إذ ، وهو غير متمكن ، كقوله :
عَلَى حِينَ عَاتَبْتُ المَشِيبَ عَلَى الصِّبَا ... فإن قلت : علام عطف؟ قلت : على نجينا ، لأنّ تقديره ونجيناهم من خزي يومئذ ، كما قال { وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } [ هود : 58 ] على : وكانت التنجية من خزي يومئذ ، أي من ذله ومهانته وفضيحته ، ولا خزي أعظم من خزي من كان هلاكه يغضب الله وانتقامه . ويجوز أن يريد بيومئذ يوم القيامة ، كما فسر العذاب الغليظ بعذاب الآخرة . وقرىء : «ألا إن ثمود» و «لثمود» كلاهما بالصرف وامتناعه ، فالصرف للذهاب إلى الحيّ أو الأب الأكبر ، ومنعه للتعريف والتأنيث ، بمعنى القبيلة .
وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)
{ أَرْسَلْنَا } يريد الملائكة . عن ابن عباس : جاءه جبريل عليه السلام وملكان معه . وقيل : جبريل وميكائيل وإسرافيل . وقيل : كانوا تسعة . وعن السدي : أحد عشر { بالبشرى } هي البشارة بالولد ، وقيل : بهلاك قوم لوط ، والظاهر الولد { سلاما } سلمنا عليك سلاماً { سلاما } أمركم سلام . وقرىء : «فقالوا سلما قال سلم» بمعنى السلام . وقيل : سلم وسلام ، كحرم وحرام ، وأنشد :
مَرَرْنَا فَقُلْنَا إيِه سِلْمٌ فَسَلَّمَت ... كَمَا اكْتَلَّ بِالبَرْقِ الْغَمَامُ اللَّوَائِحُ
{ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء } فما لبث في المجيء به ، بل عجل فيه ، أو فما لبث مجيئه . والعجل : ولد البقرة ، ويسمى الحسيل والخبش بلغة أهل السراة ، وكان مال إبراهيم عليه الصلاة والسلام البقر { حنيذ } مشويّ بالرضف في أخدود . وقيل { حَنِيذٍ } يقطر دسمه ، من حنذت الفرس إذا ألقيت عليها الجل حتى تقطر عرقاً ، ويدل عليه { بِعِجْلٍ سَمِينٍ } [ الذاريات : 26 ] . يقال : نكره وأنكره واستنكره ، ومنكور قليل في كلامهم ، وكذلك : أنا أنكرك ، ولكن منكر ومستنكر ، وأنكرك . قال الأعشى :
وَأَنْكَرَتْني وَمَا كَانَ الَّذِي نَكِرَت ... مِنَ الْحَوَادِثِ إلاّ الشَّيْبَ والصَّلَعَا
قيل : كان ينزل في طرف من الأرض فخاف أن يريدوا به مكروهاً . وقيل : كانت عادتهم أنه إذامسّ من يطرقهم طعامهم أمنوه وإلا خافوه ، والظاهر أنه أحسّ بأنهم ملائكة ، ونكرهم لأنه تخوّف أن يكون نزولهم لأمر أنكره الله عليه أو لتعذيب قومه ، ألا ترى إلى قولهم : { لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط } وإنما يقال هذا لمن عرفهم ولم يعرف فيم أرسلوا { فَأَوْجَسَ } فأضمر . وإنما قالوا : { لاَ تَخَفْ } لأنهم رأوا أثر الخوف والتغير في وجهه . أو عرفوه بتعريف الله . أو علموا أن علمه بأنهم ملائكة موجب للخوف ، لأنهم كانوا لا ينزلون إلا بعذاب { وامرأته قَآئِمَةٌ } قيل : كانت قائمة وراء الستر تسمع تحاورهم . وقيل : كانت قائمة على رؤسهم تخدمهم . وفي مصحف عبد الله : وامرأته قائمة وهو قاعد { فَضَحِكَتْ } سروراً بزوال الخيفة أو بهلاك أهل الخبائث . أو كان ضحكها ضحك إنكار لغفلتهم وقد أظلهم العذاب . وقيل : كانت تقول لإبراهيم : اضمم لوطاً ابن أخيك إليك فإني أعلم أنه ينزل بهؤلاء القوم عذاب ، فضحكت سروراً لما أتى الأمر على ما توهمت . وقيل ضحكت فحاضت . وقرأ محمد بن زياد الأعرابي «فضحكت» بفتح الحاء { يَعْقُوبَ } رفع بالابتداء ، كأنه قيل : ومن وراء إسحاق يعقوب مولود أو موجود ، أي من بعده . وقيل الوراء : ولد الولد . وعن الشعبي أنه قيل له : أهذا ابنك؟ فقال نعم ، من الوراء ، وكان ولد ولده . وقرىء : «يعقوب» بالنصب ، كأنه قيل . ووهبنا لها إسحاق ، ومن وراء إسحاق يعقوب ، على طريقة قوله :
. . . . . . لَيْسُوا مُصْلِحِينَ عَشِيرَةً ... وَلاَ نَاعِبٍ . . . . . . . . . . . .
الألف في { يا ويلتا } مبدلة من ياء الإضافة ، وكذلك في «يالهفاً» و «ياعجباً» وقرأ الحسن : «يا ويلتي» بالياء على الأصل .
و { شَيْخًا } نصب بما دلّ عليه اسم الإشارة . وقرىء : «شيخ» على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هذا بعلي هو شيخ . أو بعلي : بدل من المبتدأ ، وشيخ : خبر ، أو يكونان معاً خبرين . قيل : بشرت ولها ثمان وتسعون سنة ، ولإبراهيم مائة وعشرون سنة { إِنَّ هذا لَشَىْءٌ عَجِيبٌ } أن يولد ولد من هرمين ، وهو استبعاد من حيث العادة التي أجراها الله . وإنما أنكرت عليها الملائكة تعجبها ف { قالوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله } لأنها كانت في بيت الآيات ومهبط المعجزات والأمور الخارقة للعادات ، فكان عليها أن تتوقر ، ولا يزدهيها ما يزدهي النساء الناشئآت في غير بيوت النبوة ، وأن تسبح الله وتمجده مكان التعجب ، وإلى ذلك أشارت الملائكة صلوات الله عليهم في قولهم : { رَحْمَتُ الله وبركاته عَلَيْكُمْ } أرادوا أن هذه وأمثالها مما يكرمكم به رب العزة ويخصكم بالإنعام به يا أهل بيت النبوّة ، فليست بمكان عجب . وأمر الله : قدرته وحكمته : وقوله : { رَحْمَتُ الله وبركاته عَلَيْكُمْ } كلام مستأنف علل به إنكار التعجب ، كأنه قيل : إياك والتعجب ، فإنّ أمثال هذه الرحمة والبركة متكاثرة من الله عليكم . وقيل : الرحمة النبوة ، والبركات الأسباط من بني إسرائيل ، لأنّ الأنبياء منهم ، وكلهم من ولد إبراهيم { حَمِيدٌ } فاعل ما يستوجب به الحمد من عباده { مَّجِيدٌ } كريم كثير الإحسان إليهم . وأهل البيت : نصب على النداء أو على الاختصاص لأن { أَهْلَ البيت } مدح لهم؛ إذ المراد : أهل بيت خليل الرحمن .
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75)
{ الروع } ما أوجس من الخيفة . حين نكر أضيافه . والمعنى : أنه لما اطمأن قلبه بعد الخوف وملىء سروراً بسبب البشرى بدل الغم ، فرغ للمجادلة ، فإن قلت : أين جواب لما؟ قلت : هو محذوف كما حذف قوله : { فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ } [ يوسف : 15 ] وقوله : { يجادلنا } كلام مستأنف دال على الجواب . وتقديره : اجترأ على خطابنا ، أو فطن لمجادلتنا ، أو قال : كيت وكيت : ثم ابتدأ فقال : { يجادلنا فِى قَوْمِ لُوطٍ } وقيل في { يجادلنا } : هو جواب لما ، وإنما جيء به مضارعاً لحكاية الحال : وقيل إن «لما» ترد المضارع إلى معنى الماضي ، كما ترد «إن» الماضي إلى معنى الاستقبال ، وقيل : معناه أخذ يجادلنا ، وأقبل يجادلنا . والمعنى : يجادل رسلنا . ومجادلته إياهم أنهم قالوا : { إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذه القرية } [ العنكبوت : 31 ] فقال : أرأيتم لو كان فيها خمسون رجلاً من المؤمنين أتهلكونها؟ قالوا : لا ، قال : فأربعون؟ قالوا : لا ، قال : فثلاثون؟ قالوا : لا حتى بلغ العشرة . قالوا : لا . قال : أرأيتم إن كان فيها رجل واحد مسلم أتهلكونها؟ قالوا : لا ، فعند ذلك قال : { إِنَّ فِيهَا لُوطاً } [ العنكبوت : 32 ] { قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ } [ العنكبوت : 32 ] . { فِى قَوْمِ لُوطٍ } في معناهم . وعن ابن عباس : قالوا له : إن كان فيها خمسة يصلون رفع عنهم العذاب . وعن قتادة : ما قوم لا يكون فيهم عشرة فيهم خير . وقيل : كان فيها أربعة آلاف ألف إنسان { إِنَّ إبراهيم لَحَلِيمٌ } غير عجول على كل من أساء إليه { أواه } كثير التأوّه من الذنوب { مُّنِيبٌ } تائب راجع إلى الله بما يحب ويرضى . وهذه الصفات دالة على رقة القلب والرأفة والرحمة ، فبين أنّ ذلك مما حمله على المجادلة فيهم رجاء أن يرفع عنهم العذاب . ويمهلوا لعلهم يحدثون التوبة والإنابة كما حمله على الاستغفار لأبيه .
يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)
{ ياإبراهيم } على إرادة القول : أي قالت له الملائكة { أَعْرِضْ عَنْ هاذآ } الجدال وإن كانت الرحمة ديدنك ، فلا فائدة فيه { إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ } وهو قضاؤه وحكمه الذي لا يصدر إلا عن صواب وحكمة ، والعذاب نازل بالقوم لا محالة ، لا مردّ له بجدال ولا دعاء ولا غير ذلك .
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77)
كانت مساءة لوط وضيق ذرعه لأنه حسب أنهم إنس ، فخاف عليهم خبث قومه وأن يعجز عن مقاومتهم ومدافعتهم . روي أنّ الله تعالى قال لهم : لا تهلكوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات ، فلما مشى معهم منطلقاً بهم إلى منزله قال لهم : أما بلغكم أمر هذه القرية؟ قالوا : وما أمرهم؟ قال : أشهد بالله إنها لشرقرية في الأرض عملاً ، يقول ذلك أربع مرات ، فدخلوا معه منزله ولم يعلم بذلك أحد ، فخرجت امرأته فأخبرت بهم قومها . يقال : يوم عصيب ، وعصوصب ، إذا كان شديداً من قولك : عصبه ، إذا شدّه .
وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79)
{ يُهْرَعُونَ } يسرعون كأنما يدفعون دفعاً { وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السيئات } ومن قبل ذلك الوقت كانوا يعملون الفواحش ويكثرونها ، فضروا بها ومرنوا عليها وقل عندهم استقباحها ، فلذلك جاؤا يهرعون مجاهرين لا يكفهم حياء . وقيل معناه : وقد عرف لوط عادتهم في عمل الفواحش قبل ذلك { هؤلاءآء بَنَاتِى } أراد أن يقي أضيافه ببناته ، وذلك غاية الكرم ، وأراد : هؤلاء بناتي فتزوّجوهنّ وكان تزويج المسلمات من الكفار جائزاً ، كما زوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنتيه من عتبة بن أبي لهب وأبي العاص بن وائل قبل الوحي وهما كافران وقيل كان لهم سيدان مطاعان ، فأراد أن يزوجهما ابنتيه وقرأ ابن مروان «هنّ أطهر لكم» بالنصب ، وضعفه سيبويه وقال : احتبى ابن مروان في لحنه . وعن أبي عمرو بن العلاء : من قرأ { هُنَّ أَطْهَرُ } بالنصب فقد تربع في لحنه ، وذلك أنّ انتصابه على أن يجعل حالا قد عمل فيها ما في هؤلاء من معنى الفعل ، كقوله : { هذا بَعْلِى شَيْخًا } [ هود : 72 ] أو ينصب هؤلاء بفعل مضمر ، كأنه قيل : خذوا هؤلاء ، وبناتي : بدل ، ويعمل هذا المضمر في الحال ، و «هنّ» فصل ، وهذا لا يجوز لأنّ الفصل مختص بالوقوع بين جزأي الجملة ، ولا يقع بين الحال وذي الحال ، وقد خرّج له وجه لا يكون { هؤلاء } فيه فصلا ، وذلك أن يكون هؤلاء مبتدأ و { بَنَاتِى هُنَّ } جملة في موضع خبر المبتدأ ، كقولك : هذا أخي هو ، ويكون { أَطْهَرُ } حالاً { فاتقوا الله } بإيثارهن عليهم { وَلاَ تخزوني } ولا تهينوني ولا تفضحوني ، من الخزي ، أو ولا تخجلوني ، من الخزاية وهي الحياء { فِى ضَيْفِى } في حق ضيوفي فإنه إذا خزى ضيف الرجل أو جاره فقد خزى الرجل ، وذلك من عراقة الكرم وأصالة المروءة { أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ } رجل واحد يهتدي إلى سبيل الحق وفعل الجميل ، والكف عن السوء . وقرىء : «ولا تخزون» بطرح الياء . ويجوز أن يكون عرض البنات عليهم مبالغة في تواضعه لهم وإظهاراً لشدّة امتعاضه مما أوردوا عليه ، طمعاً في أن يستحيوا منه ويرقوا له إذا سمعوا ذلك ، فيتركوا له ضيوفه مع ظهور الأمر واستقرار العلم عنده وعندهم أن لا مناكحة بينه وبينهم ، ومن ثمّ { قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ } مستشهدين بعلمه { مَا لَنَا فِى بَنَاتِكَ مِنْ حَقّ } لأنك لا ترى مناكحتنا ، وما هو إلا عرض سابري . وقيل : لما تخذوا إتيان الذكران مذهباً وديناً لتواطؤهم عليه ، كان عندهم أنه هو الحق ، وأنّ نكاح الإناث من الباطل ، فلذلك قالوا : ما لنا في بناتك من حق قط؛ لأنّ نكاح الإناث أمر خارج من مذهبنا الذي نحن عليه . ويجوز أن يقولوه على وجه الخلاعة ، والغرض نفي الشهوة { لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ } عنوا إتيان الذكور وما لهم فيه من الشهوة .
قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)
جواب «لو» محذوف ، كقوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الجبال } [ الرعد : 31 ] يعني لو أنّ لي بكم قوّة لفعلت بكم وصنعت . يقال : ما لي به قوّة ، وما لي به طاقة . ونحوه { لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا } [ النمل : 27 ] وما لي به يدان؛ لأنه في معنى لا أضطلع به ولا أستقلّ به . والمعنى لو قويت عليكم بنفسي ، أو أويت إلى قويّ أستند إليه وأتمنع به فيحميني منكم . فشبه القويّ العزيز بالركن من الجبل في شدّته ومنعته ، ولذلك قالت الملائكة - وقد وجدت عليه - : إنّ ركنك لشديد . وقال النبي صلى الله عليه وسلم :
( 526 ) " رحم الله أخي لوطاً ، كان يأوي إلى ركن شديد " وقرىء : «أو آوى» بالنصب بإضمار «أن» كأنه قيل لو أن لي بكم قوّة أو أويا ، كقولها :
للَبْسُ عَبَاءَةٍ وَتَقَرَّ عَيْنِي ... وقرىء : «إلى ركن» بضمتين . وروي أنه أغلق بابه حين جاؤوا وجعل يرادّهم ما حكى الله عنه ويجادلهم ، فتسوّروا الجدار .
قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)
فلما رأت الملائكة ما لقي لوط من الكرب قالوا : يا لوط ، إن ركنك لشديد { إِنَّا رُسُلُ رَبّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ } فافتح الباب ودعنا وإياهم ، ففتح الباب فدخلوا ، فاستأذن جبريل عليه السلام ربه في عقوبتهم فأذن له ، فقام في الصورة التي يكون فيها فنشر جناحه - وله جناحان وعليه وشاح من درّ منظوم وهو براق الثنايا - فضرب بجناحه وجوههم فطمس أعينهم فأعماهم ، كما قال الله تعالى : { فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ } [ القمر : 37 ] فصاروا لا يعرفون الطريق ، فخرجوا وهم يقولون : النجاء النجاء ، فإن في بيت لوط قوماً سحرة { لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ } جملة موضحة للتي قبلها؛ لأنهم إذا كانوا رسل الله لم يصلوا إليه ولم يقدروا على ضرره . قرىء : { فَأَسْرِ } بالقطع والوصل . و { إِلاَّ امرأتك } بالرفع والنصب . وروي أنه قال لهم : متى موعد هلاكهم؟ قالوا : الصبح . فقال : أريد أسرع من ذلك . فقالوا : { أَلَيْسَ الصبح بِقَرِيبٍ } وقرىء : { الصبح } بضمتين . فإن قلت : ما وجه قراءة من قرأ { إِلاَّ امرأتك } بالنصب؟ قلت : استثناها من قوله : { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ } والدليل عليه قراءة عبد الله : «فأسر بأهلك بقطع من الليل إلا امرأتك» . ويجوز أن ينتصب عن لا يلتفت ، على أصل الاستثناء وإن كان الفصيح هو البدل ، أعني قراءة من قرأ بالرفع ، فأبدلها عن أحد . وفي إخراجها مع أهله روايتان : روي أنه أخرجها معهم ، وأمر أن لا يلتفت منهم أحد إلا هي ، فلما سمعت هدّة العذاب التفتت وقالت : يا قوماه ، فأدركها حجر فقتلها . وروي أنه أمر بأن يخلفها مع قومها ، فإن هواها إليهم ، فلم يسر بها . واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين .
فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)
{ جَعَلْنَا عاليها سَافِلَهَا } جعل جبريل جناحه في أسفلها ، ثم رفعها إلى السماء حتى سمع أهل السما نباح الكلاب وصياح الديكة ، ثم قلبها عليهم وأتبعوا الحجارة من فوقهم { مّن سِجّيلٍ } قيل هي كلمة معربة من سنككل ، بدليل قوله : { حِجَارَةً } من طين وقيل : هي من أسجله؛ إذا أرسله لأنها ترسل على الظالمين . ويدل عليه قوله : { لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً } [ الذاريات : 33 ] وقيل : مما كتب الله أن يعذب به من السجل ، وسجل لفلان { مَّنْضُودٍ } نضد في السماء نضداً معدّاً للعذاب . وقيل يرسل بعضه في أثر بعض متتابعاً { مُّسَوَّمَةً } معلمة للعذاب وعن الحسن كانت معلمة ببياض وحمرة وقيل عليها سيماً يعلم بها أنها ليست من حجارة الأرض . وقيل : مكتوب على كل واحد اسم من يرمي به { وَمَا هِىَ } من كل ظالم ببعيد . وفيه وعيد لأهل مكة . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 527 ) « أنه سأل جبريل عليه السلام؟ فقال : يعني ظالمي أمّتك ، ما من ظالم منهم إلا وهو بعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة » . وقيل الضمير للقرى ، أي هي قريبة من ظالمي مكة يمرون بها في مسايرهم { بِبَعِيدٍ } بشيء بعيد . ويجوز أن يراد : وما هي بمكان بعيد؛ لأنها وإن كانت في السماء وهي مكان بعيد ، إلا أنها إذا هوت منها فهي أسرع شيء لحوقاً بالمرمى ، فكأنها بمكان قريب منه .
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)
{ إِنّى أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ } يريد : بثروة واسعة تغنيكم عن التطفيف . أو أراكم بنعمة من الله حقها أن تقابل بغير ما تفعلون . أو أراكم بخير فلا تزيلوه عنكم بما أنتم عليه ، كقول مؤمن آل فرعون : { يَا ياقوم لَكُمُ الملك اليوم ظاهرين فِى الأرض فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله إِن جَاءنَا } [ غافر : 29 ] { يَوْمٍ مُّحِيطٍ } مهلك من قوله : { وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ } [ الكهف : 42 ] وأصله من إحاطة العدوّ . فإن قلت : وصف العذاب بالإحاطة أبلغ ، أم وصف اليوم بها؟ قلت : بل وصف اليوم بها ، لأن اليوم زمان يشتمل على الحوادث ، فإذا أحاط بعذابه فقد اجتمع للمعذب ما اشتمل عليه منه كما إذا أحاط بنعيمه . فإن قلت : النهي عن النقصان أمر بالإيفاء فما فائدة قوله : أوفوا؟ قلت : نهوا أولا عن عين القبيح الذي كانوا عليه من نقص المكيال والميزان ، لأنّ في التصريح بالقبيح نعياً على المنهي . وتعييراً له ، ثم ورد الأمر بالإيفاء الذي هو حسن في العقول مصرحاً بلفظه ، لزيادة ترغيب فيه وبعث عليه ، وجيء به مقيداً بالقسط : أي ليكن الإيفاء على وجه العدل والتسوية ، من غير زيادة ولا نقصان ، أمراً بما هو الواجب ، لأن ما جاوز العدل فضل وأمر مندوب إليه . وفيه توقيف على أنّ الموفى عليه أن ينوي بالوفاء بالقسط؛ لأنّ الإيفاء وجه حسنه أنه قسط وعدل ، فهذه ثلاث فوائد .
البخس : الهضم والنقص . ويقال للمكس : البخس . قال زهير :
وفى كُلِّ مَا بَاعَ آمْرؤٌ بَخْسُ دِرْهَمِ ... وروي : مكس درهم ، وكانوا يأخذون من كل شيء يباع شيئاً ، كما تفعل السماسرة . أو كانوا يمكسون الناس . أو كانوا ينقصون من أثمان ما يشترون من الأشياء ، فنهوا عن ذلك . والعثي في الأرض نحو السرقه والغارة وقطع السبيل . ويجوز أن يجعل التطفيف والبخس عثيا منهم في الأرض { بَقِيَّتُ الله } ما يبقى لكم من الحلال بعد التنزه عما هو حرام عليكم { خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } بشرط أن تؤمنوا ، وإنما خوطبوا بترك التطفيف والبخس والفساد في الأرض وهم كفرة بشرط الإيمان . فإن قلت : بقية الله خير للكفرة ، لأنهم يسلمون معها من تبعة البخس والتطفيف ، فلم شرط الإيمان؟ قلت لظهور فائدتها مع الإيمان من حصول الثواب مع النجاة من العقاب ، وخفاء فائدتها مع فقده لانغماس صاحبها في غمرات الكفر . وفي ذلك استعظام للإيمان ، وتنبيه على جلالة شأنه . ويجوز أن يراد : إن كنتم مصدقين لي فيما أقول لكم وأنصح به إياكم . ويجوز أن يراد . ما يبقى لكم عند الله من الطاعات خير لكم ، كقوله : { والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ } [ الكهف : 46 ] وإضافة البقية إلى الله من حيث أنها رزقه الذي يجوز أن يضاف إليه . وأمّا الحرام فلا يضاف إلى الله ولا يسمى رزقاً ، وإذا أريد به الطاعة فكما تقول : طاعة الله . وقرىء : «تقية الله» بالتاء وهي تقواه ومراقبته التي تصرف عن المعاصي والقبائح { وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } وما بعثت لأحفظ عليكم أعمالكم وأجازيكم عليها ، وإنما بعثت مبلغاً ومنبهاً على الخير وناصحاً ، وقد أعذرت حين أنذرت .
قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)
كان شعيب عليه السلام كثير الصلوات ، وكان قومه إذا رأوه يصلي تغامزوا وتضاحكوا ، فقصدوا بقولهم : { أصلواتك تَأْمُرُكَ } السخرية والهزء - والصلاة وإن جاز أن تكون آمرة على طريق المجاز ، كما كانت ناهية في قوله : { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } [ العنكبوت : 45 ] وأن يقال : إنّ الصلاة تأمر بالجميل والمعروف ، كما يقال : تدعو إليه وتبعث عليه - إلا أنهم ساقوا الكلام مساق الطنز وجعلوا الصلاة آمرة على سبيل التهكم بصلاته ، وأرادوا أنّ هذا الذي تأمر به من ترك عبادة الأوثان باطل لا وجه لصحته ، وأنّ مثله لا يدعوك إليه داعي عقل ، ولا يأمرك به آمر فطنة ، فلم يبق إلا أن يأمرك به آمر هذيان ووسوسة شيطان ، وهو صلواتك التي تداوم عليها في ليلك ونهارك ، وعندهم أنها من باب الجنون ومما يتولع به المجانين والموسوسون من بعض الأقوال والأفعال . ومعنى تأمرك { أَن نَّتْرُكَ } تأمرك بتكليف أن نترك { مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا } لحذف المضاف الذي هو التكليف ، لأنّ الإنسان لا يؤمر بفعل غيره . وقرىء { أصلاتك } بالتوحيد . وقرأ ابن أبي عبلة «أو أن تفعل في أموالنا ما تشاء» بتاء الخطاب فيهما ، وهو ما كان يأمرهم به من ترك التطفيف والبخس ، والاقتناع بالحلال القليل من الحرام الكثير . وقيل : كان ينهاهم عن حذف الدراهم والدنانير وتقطيمها ، وأرادوا بقولهم : { إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد } نسبته إلى غاية السفه والغيّ ، فعكسوا ليتهكموا به ، كما يتهكم بالشحيح الذي لا يبضّ حجره ، فيقال له : لو أبصرك حاتم لسجد لك . وقيل : معناه إنك للمتواصف بالحلم والرشد في قومك ، يعنون أنّ ما تأمر به لا يطابق حالك وما شهرت به .
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)
{ وَرَزَقَنِى مِنْهُ } أي من لدنه { رِزْقًا حَسَنًا } وهو ما رزقه من النبوّة والحكمة . وقيل { رِزْقًا حَسَنًا } حلالاً طيباً من غير بخس ولا تطفيف . فإن قلت : أين جواب { أَرَءيْتُمْ } وما له لم يثبت كما أثبت في قصة نوح ولوط؟ قلت : جوابه محذوف ، وإنما لم يثبت لأنّ إثباته في القصتين دلّ على مكانه ، ومعنى الكلام ينادي عليه . والمعنى : أخبروني إن كنت على حجة واضحة ويقين من ربي وكنت نبياً على الحقيقة ، أيصح لي أن لا آمركم بترك عبادة الأوثان والكف عن المعاصي والأنبياء لا يبعثون إلا لذلك يقال : خالفني فلان إلى كذا : إذا قصده وأنت مول عنه ، وخالفني عنه إذا ولي عنه وأنت قاصده . ويلقاك الرجل صادراً عن الماء فتسأله عن صاحبه؟ فيقول : خالفني إلى الماء ، يريد أنه قد ذهب إليه وارداً وأنا ذاهب عنه صادراً . ومنه قوله تعالى : { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَا أنهاكم عَنْهُ } يعني أن أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها ، لأستبد بها دونكم { إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإصلاح } ما أريد إلا أن أصلحكم بموعظتي ونصيحتي وأمري بالمعروف ونهي عن المنكر { مَا استطعت } ظرف ، أي : مدّة استطاعتي للإصلاح ، وما دمت متمكنا منه لا آلو فيه جهداً . أو بدل من الإصلاح ، أي : المقدار الذي استطعته منه . ويجوز أن يكون على تقدير حذف المضاف على قولك : إلا الإصلاح إصلاح ما استطعت . أو مفعول له كقوله :
ضَعِيفُ النِّكَايةِ أَعْدَاءَهُ ... أي ما أريد إلا أن أصلح ما استطعت إصلاحه من فاسدكم { وَمَا توفيقى إِلاَّ بالله } وما كوني موفقاً لإصابة الحق فيما آتي وأذر ، ووقوعه موافقاً لرضا الله إلا بمعونته وتأييده والمعنى : أنه استوفق ربه في إمضاء الأمر على سننه ، وطلب منه التأييد والإظهار على عدوّه ، وفي ضمنه تهديد للكفار وحسم لأطماعهم فيه .
وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)
«جرم» مثل كسب في تعديه إلى مفعول واحد ، وإلى مفعولين تقول : جرم ذنباً وكسبه ، وجرمته ذنباً وكسبته إياه ، قال :
جَرِمَتْ فَزَارَةُ بَعْدَهَا أَنْ يَغْضَبُوا ... ومنه قوله تعالى : { لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِى أَن يُصِيبَكُم } أي لا يكسبنكم شقاقي إصابة العذاب . وقرأ ابن كثير بضم الياء ، من أجرمته ذنباً ، إذا جعلته جارماً له ، أي كاسباً ، وهو منقول من جرم المتعدي إلى مفعول واحد ، كما نقل : أكسبه المال ، من كسب المال . وكما لا فرق بين كسبته ما لا وأكسبته إياه ، فكذلك لا فرق بين جرمته ذنباً وأجرمته إياه . والقراءتان مستويتان في المعنى لا تفاوت بينهما . إلا أن المشهورة أفصح لفظاً ، كما إن كسبته ما لا أفصح من أكسبته . والمراد بالفصاحة : أنه على ألسنة الفصحاء من العرب الموثوق بعربيتهم أدور ، وهم له أكثر استعمالاً . وقرأ أبو حيوة ، ورويت عن نافع : { مّثْلُ مَا أَصَابَ } ، بالفتح لإضافته إلى غير متمكن ، كقوله :
لَمْ يَمْنَعِ الشُّرْب ... مِنْهَا غَيْرَ أَنْ نَطَقَتْ
{ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مّنكُم بِبَعِيدٍ } يعني أنهم أهلكوا في عهد قريب من عهدكم ، فهم أقرب الهالكين منكم . أو لا يبعدون منكم في الكفر والمساوي وما يستحق به الهلاك . فإن قلت : ما لبعيد لم يرد على ما يقتضيه قوم من حمله على لفظه أو معناه؟ قلت : إما أن يراد : وما إهلاكهم ببعيد ، أو ما هم بشيء بعيد أو بزمان أو مكان بعيد . ويجوز أن يسوي في قريب وبعيد ، وقليل وكثير ، بين المذكر والمؤنث لورودها على زنة المصادر التي هي الصهيل والنهيق ونحوهما { رَحِيمٌ وَدُودٌ } عظيم الرحمة للتائبين ، فاعل بهم ما يفعل البليغ المودّة بمن يودّه ، من الإحسان والإجمال .
قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)
{ مَا نَفْقَهُ } ما نفهم { كَثِيرًا مّمَّا تَقُولُ } لأنهم كانوا لا يلقون إليه أذهانهم رغبة عنه وكراهية له ، كقوله : { وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ } [ الأنعام : 25 ] . أو كانوا يفقهونه ولكنهم لم يقبلوه ، فكأنهم لم يفقهوه . وقالوا ذلك على وجه الاستهانة به ، كما يقول الرجل لصاحبه إذا لم يعبأ بحديثه : ما أدري ما تقول أو جعلوا كلامه هذياناً وتخليطاً ، لا ينفعهم كثير منه ، وكيف لا ينفعهم كلامه وهو خطيب الأنبياء ، وقيل : كان ألثغ { فِينَا ضَعِيفًا } لا قوة لك ولا عز فيما بيننا ، فلا تقدر على الامتناع منا إن أردنا بك مكروهاً . وعن الحسن { ضَعِيفاً } مهيناً . وقيل : { ضَعِيفاً } أعمى . وحمير تسمى المكفوف : ضعيفاً ، كما يسمى ضريراً ، وليس بسديد؛ لأنّ { فِينَا } يأباه . ألا ترى أنه لو قيل إنا لنراك فينا أعمى ، لم يكن كلاماً؛ لأن الأعمى أعمى فيهم وفي غيرهم ، ولذلك قللوا قومه حيث جعلوهم رهطاً . والرهط : من الثلاثة إلى العشرة . وقيل : إلى السبعة . وإنما قالوا : ولولاهم ، احتراماً لهم واعتداداً بهم؛ لأنهم كانوا على ملتهم ، لا خوفا من شوكتهم وعزتهم { لرجمناك } لقتلناك شرّ قتلة { وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ } أي لا تعزّ علينا ولا تكرم ، حتى نكرمك من القتل ونرفعك عن الرجم . وإنما يعزّ علينا رهطك ، لأنهم من أهل ديننا لم يختاروك علينا ولم يتبعوك دوننا ، وقد دلّ إيلاء ضميره حرف النفي على أنّ الكلام واقع في الفاعل لا في الفعل ، كأنه قيل : وما أنت علينا بعزيز ، بل رهطك هم الأعزة علينا ، ولذلك قال في جوابهم : { أَرَهْطِى أَعَزُّ عَلَيْكُم مّنَ الله } ولو قيل : وما عززت علينا ، لم يصح هذا الجواب . فإن قلت : فالكلام واقع فيه وفي رهطه وأنهم الأعزة عليهم دونه ، فكيف صح قوله : { أَرَهْطِى أَعَزُّ عَلَيْكُم مّنَ الله } قلت : تهاونهم به - وهو نبيّ الله - تهاون بالله ، فحين عز عليهم رهطه دونه كان رهطه أعز عليهم من الله . ألا ترى إلى قوله تعالى : { مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله } [ النساء : 80 ] ، { واتخذتموه وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّاً } ونسيتموه وجعلتموه كالشيء المنبوذ وراء الظهر لا يعبأ به ، والظهريّ : منسوب إلى الظهر والكسر من تغييرات النسب . ونظيره قولهم في النسبة إلى أمس : أمسي { بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } قد أحاط بأعمالكم علماً ، فلا يخفى عليه شيء منها { على مَكَانَتِكُمْ } لا تخلو المكانة من أن تكون بمعنى المكان ، يقال : مكان ومكانة ، ومقام ومقامة . أو تكون مصدراً من مكن مكانة فهو مكين . والمعنى : اعملوا قارّين على جهتكم التي أنتم عليها من الشرك والشنآن لي . أو اعملوا متمكنين من عداوتي مطيقين لها { إِنّى عامل } على حسب ما يؤتيني الله من النصرة والتأييد ويمكنني { مَن يَأْتِيهِ } يجوز أن تكون { مَن } استفهامية ، معلقة لفعل العلم عن عمله فيها؛ كأنه قيل : سوف تعلمون أينا يأتيه عذاب يخزيه ، وأينا هو كاذب ، وأن تكون موصولة قد عمل فيها ، كأنه قيل : سوف تعلمون الشقي الذي يأتيه عذاب يخزيه والذي هو كاذب .
فإن قلت : أي فرق بين إدخال الفاء ونزعها في { سَوْفَ تَعْلَمُونَ } ؟ قلت : إدخال الفاء : وصل ظاهر بحرف موضوع للوصل ، ونزعها : وصل خفي تقديريّ بالاستئناف الذي هو جواب لسؤال مقدّر ، كأنهم قالوا : فماذا يكون إن عملنا نحن على مكانتنا وعملت أنت؟ فقال : سوف تعلمون ، فوصل تارة بالفاء وتارة بالاستئناف ، للتفنن في البلاغة كما هو عادة بلغاء العرب ، وأقوى الوصلين وأبلغهما الاستئناف ، وهو باب من أبواب علم البيان تتكاثر محاسنه { وارتقبوا } وانتظروا العاقبة وما أقول لكم { إِنّى مَعَكُمْ رَقِيبٌ } أي منتظر . والرقيب بمعنى الراقب ، من رقبه ، كالضريب والصريم بمعنى الضارب والصارم . أو بمعنى المراقب ، كالعشير والنديم ، أو بمعنى المرتقب ، كالفقير والرفيع بمعنى المفتقر والمرتفع . فإن قلت : قد ذكر عملهم على مكانتهم وعمله على مكانته ، ثم أتبعه ذكر عاقبة العاملين منه ومنهم ، فكان القياس أن يقول : من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو صادق . حتى ينصرف من يأتيه عذاب يخزيه إلى الجاحدين ، ومن هو صادق إلى النبي المبعوث إليهم ، قلت : القياس ما ذكرت ، ولكنهم لما كانوا يدعونه كاذباً قال : { وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ } يعني في زعمكم ودعواكم ، تجهيلا لهم . فإن قلت : ما بال ساقتي قصة عاد وقصة مدين جاءتا بالواو ، والساقتان الوسطيان بالفاء؟ قلت قد وقعت الوسطيان بعد ذكر الوعد ، وذلك قوله : { إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح } [ هود : 81 ] ، { ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } [ هود : 65 ] فجيء بالفاء الذي هو للتسبيب ، كما تقول : وعدته فلما جاء الميعاد كان كيت وكيت . وأما الأخريان فلم تقعا بتلك المثابة . وإنما وقعتا مبتدأتين ، فكان حقهما أن تعطفا بحرف الجمع على ما قبلهما كما تعطف قصة على قصة . الجاثم : اللازم لمكانه لا يريم ، كاللابد يعني أن جبريل صاح بهم صيحة فزهق روح كل واحد منهم بحيث هو قعصا { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ } كأن لم يقيموا في ديارهم أحياء متصرفين مترددين . البعد : بمعنى البعد وهو الهلاك ، كالرشد بمعنى الرشد . ألا ترى إلى قوله : { كَمَا بَعِدَتْ } ؟ وقرأ السلمي «بعدت» بضم العين ، والمعنى في البناءين واحد ، وهو نقيض القرب ، إلا أنهم أرادوا التفصلة بين البعد من جهة الهلاك وبين غيره ، فغيروا البناء كما فرقوا بين ضماني الخير والشر فقالوا : وعد وأوعد ، وقراءة السلمي جاءت على الأصل اعتباراً لمعنى البعد من غير تخصيص ، كما يقال : ذهب فلان ومضى ، في معنى الموت . وقيل : معناه بعداً لهم من رحمة الله كما بعدت ثمود منها .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)
{ بآياتنا وسلطان مُّبِينٍ } فيه وجهان : أن يراد أنّ هذه الآيات فيها سلطان مبين لموسى على صدق نبوّته ، وأن يراد بالسلطان المبين : العصا؛ لأنها أبهرها { وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } تجهيل لمتبعيه حيث شايعوه على أمره ، وهو ضلال مبين لا يخفى على من فيه أدنى مسكة من العقل ، وذلك أنه ادّعى الإلهية وهو بشر مثلهم ، وجاهر بالعسف والظلم والشر الذي لا يأتي إلا من شيطان مارد ، ومثله بمعزل من الإلهية ذاتاً وأفعالاً ، فاتبعوه وسلموا له دعواه ، وتتابعوا على طاعته . والأمر الرشيد : الذي فيه رشد أي : وما في أمره رشد إنما هو غيّ صريح وضلال ظاهر مكشوف ، وإنما يتبع العقلاء من يرشدهم ويهديهم ، لا من يضلهم ويغويهم . وفيه أنهم عاينوا الآيات والسلطان المبين في أمر موسى عليه السلام ، وعلموا أن معه الرشد والحق ، ثم عدلوا عن اتباعه إلى اتباع من ليس في أمره رشد قط { يَقْدُمُ قَوْمَهُ } أي كما كان قدوة لهم في الضلال كذلك يتقدّمهم إلى النار وهم يتبعونه . ويجوز أن يريد بقوله : { وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } وما أمره بصالح حميد العاقبة . ويكون قوله : { يَقْدُمُ قَوْمَهُ } تفسيراً لذلك وإيضاحاً . أيّ : كيف يرشد أمر من هذه عاقبته . والرشد مستعمل في كل ما يحمد ويرتضى ، كما استعمل الغيّ في كل ما يذم ويتسخط . ويقال : قدمه بمعنى تقدّمه . ومنه : قادمة الرحل ، كما يقال : قدمه بمعنى تقدّمه ، ومنه مقدّمة الجيش . وأقدم بمعنى تقدّم . ومنه مقدّم العين . فإن قلت : هلا قيل : يقدم قومه فيوردهم؟ ولم جيء بلفظ الماضي؟ قلت : لأن الماضي يدل على أمر موجود مقطوع به ، فكأنه قيل : يقدّمهم فيوردهم النار لا محالة . و { الورد } المورود . و { المورود } الذي وردوه شبه بالفارط الذي يتقدّم الواردة إلى الماء . وشبه أتباعه بالواردة ، ثم قيل : بئس الورد الذي يردونه النار؛ لأنّ الورد إنما يراد لتسكين العطش وتبريد الأكباد ، والنار ضدّه { وَأُتْبِعُواْ فِى هذه } في هذه الدنيا { لَّعْنَةُ } أي يلعنون في الدنيا ، ويلعنون في الآخرة { بِئْسَ الرفد المرفود } رفدهم . أي : بئس العون المعان . وذلك أنّ اللعنة في الدنيا رفد للعذاب ومدد له ، وقد رفدت باللعنة في الآخرة ، وقيل : بئس العطاء المعطى .
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101)
{ ذلك } مبتدأ { مِنْ أَنْبَاء القرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ } خبر بعد خبر ، أي : ذلك النبأ بعض أنباء القرى المهلكة مقصوص عليك { مِنْهَا } الضمير للقرى ، أي : بعضها باق وبعضها عافي الأثر ، كالزرع القائم على ساقه والذي حصد . فإن قلت : ما محمل هذه الجملة؟ قلت : هي مستأنفة لا محل لها { وَمَا ظلمناهم } بإهلاكنا إياهم { ولكن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } بارتكاب ما به أهلكوا { فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ ءالِهَتَهُمُ } فما قدرت أن ترد عنهم بأس الله { يَدْعُونَ } يعبدون وهي حكاية حال ماضية . و { لَّمَّا } منصوب بما أغنت { أَمْرُ رَبّكَ } عذابه ونقمته { تَتْبِيبٍ } تخسير . يقال تبّ إذا خسر . وتببه غيره ، إذا أوقعه في الخسران .
وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)
محل الكاف الرفع ، تقديره : ومثل ذلك الأخذ { أَخْذُ رَبّكَ } والنصب فيمن قرأ : وكذلك أخذ ربك ، بلفظ الفعل . وقرىء : «إذ أخذ القرى» { وَهِىَ ظالمة } حال من القرى { أَلِيمٌ شَدِيدٌ } وجيع صعب على المأخوذ . وهذا تحذير من وخامة عاقبه الظلم لكل أهل قرية ظالمة من كفار مكة وغيرها ، بل لكل من ظلم غيره أو نفسه بذنب يقترفه . فعلى كل من أذنب أن يحذر أخذ ربه الأليم الشديد ، فيبادر التوبة ولا يغتر بالإمهال .
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103)
{ ذلك } إشارة إلى ما قص الله من قصص الأمم الهالكة بذنوبهم { لآيَةً لِّمَنْ خَافَ } لعبرة له ، لأنه ينظر إلى ما أحل الله بالمجرمين في الدنيا ، وما هو إلا أنموذج مما أعدّ لهم في الآخرة ، فإذا رأى عظمه وشدّته اعتبر به عظم العذاب الموعود ، فيكون له عبرة وعظة ولطفاً في زيادة التقوى والخشية من الله تعالى . ونحوه : { إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يخشى } [ النازعات : 26 ] { ذلك } إشارة إلى يوم القيامة ، لأنّ عذاب الآخرة دلّ عليه . و { الناس } رفع باسم المفعول الذي هو مجموع كما يرفع بفعله إذا قلت يجمع له الناس . فإن قلت لأي فائدة أوأثر اسم المفعول على فعله؟ قلت : لما في اسم المفعول من دلالة على ثبات معنى الجمع لليوم وأنه يوم لا بدّ من أن يكون ميعاداً مضروباً لجمع الناس له ، وأنه الموصوف بذلك صفة لازمة ، وهو أثبت أيضاً لإسناد الجمع إلى الناس ، وأنهم لا ينفكون منه ، ونظيره قول المتهدد : إنك لمنهوب مالك محروب قومك ، فيه من تمكن الوصف وثباته ما ليس في الفعل ، وإن شئت فوازن بينه وبين قوله : { يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجمع } [ التغابن : 9 ] تعثر على صحة ما قلت لك . ومعنى يجمعون له : يجمعون لما فيه من الحساب والثواب والعقاب { يَوْمٌ مَّشْهُودٌ } مشهود فيه ، فاتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول به ، كقوله :
وَيَوْمٍ شَهِدْنَاهُ سُلَيْماً وَعامِراً ... أي يشهد فيه الخلائق الموقف لا يغيب عنه أحد . والمراد بالمشهود : الذي كثر شاهدوه ومنه قولهم : لفلان مجلس مشهود ، وطعام محضور . قال :
في مَحْفَلٍ مِنْ نَوَاصِي النَّاسِ مَشْهُودِ ... فإن قلت : فما منعك أن تجعل اليوم مشهوداً في نفسه دون أن تجعله مشهوداً فيه ، كما قال الله تعالى : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } [ البقرة : 185 ] ؟ قلت : الغرض وصف ذلك اليوم بالهول والعظم وتميزه من بين الأيام ، فإن جعلته مشهوداً في نفسه فسائر الأيام كذلك مشهودات كلها ، ولكن يجعل مشهوداً فيه حتى يحصل التميز كما تميز يوم الجمعة عن أيام الأسبوع بكونه مشهوداً فيه دونها ، ولم يجز أن يكون مشهوداً في نفسه؛ لأنّ سائر أيام الأسبوع مثله يشهدها كل من يشهده ، وكذلك قوله : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } [ البقرة : 185 ] الشهر منتصب ظرفاً لا مفعولا به ، وكذلك الضمير في { فَلْيَصُمْهُ } والمعنى : فمن شهد منكم في الشهر فليصم فيه ، يعني : فمن كان منكم مقيماً حاضراً لوطنه في شهر رمضان فليصم فيه ، ولو نصبته مفعولاً فالمسافر والمقيم كلاهما يشهدان الشهر ، لا يشهده المقيم ، ويغيب عنه المسافر :
وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104)
الأجل : يطلق على مدة التأجيل كلها وعلى منتهاها ، فيقولون : انتهى الأجل ، وبلغ الأجل آخره ، ويقولون : حل الأجل { فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ } [ الأعراف : 34 ] يراد آخر مدة التأجيل ، والعدّ إنما هو للمدّة لا لغايتها ومنتهاها ، فمعنى قوله : { وَمَا نُؤَخّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ } إلا لانتهاء مدة معدودة بحذف المضاف . وقرىء : «وما يؤخره» بالياء .
يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105)
قرىء : «يوم يأت» بغير ياء . ونحوه قولهم : لا أدر ، حكاه الخليل وسيبويه . وحذف الياء والاجتزاء عنها بالكسرة كثير في لغة هذيل . فإن قلت : فاعل يأتي ما هو؟ قلت : الله عز وجل ، كقوله : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله } [ البقرة : 210 ] ، { أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ } [ الأنعام : 158 ] ، { وَجَاء رَبُّكَ } [ الفجر : 22 ] وتعضده قراءة : «وما يؤخر» بالياء . وقوله : { بِإِذْنِهِ } ويجوز أن يكون الفاعل ضمير اليوم ، كقوله تعالى : { أو تَأْتِيَهُمُ الساعة } [ يوسف : 107 ] . فإن قلت : بما انتصب الظرف؟ قلت : إمّا أن ينتصب بلا تكلم . وإما بإضمار «اذكر» وإمّا بالانتهاء المحذوف في قوله : { إِلا لأجل معدود } [ هود : 104 ] أي ينتهي الأجل يوم يأتي ، فإن قلت : فإذا جعلت الفاعل ضمير اليوم ، فقد جعلت اليوم وقتاً لإتيان اليوم وحدّدت الشيء بنفسه قلت : المراد إتيان هوله وشدائده { لاَ تَكَلَّمُ } لا تتكلم ، وهو نظير قوله : { لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن } [ النبأ : 38 ] . فإن قلت : كيف يوفق بين هذا وبين قوله تعالى : { يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تجادل عَن نَّفْسِهَا } [ النحل : 111 ] وقوله تعالى : { هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } [ المرسلات : 36 ] ، قلت : ذلك يوم طويل له مواقف ومواطن ، ففي بعضها يجادلون عن أنفسهم ، وفي بعضها يكفون عن الكلام فلا يؤذن لهم ، وفي بعضها يؤذن لهم فيتكلمون ، وفي بعضها : يختم على أفواههم وتتكلم أيديهم وتشهد أرجلهم { فَمِنْهُمْ } الضمير لأهل الموقف ولم يذكروا؛ لأنّ ذلك معلوم ، ولأنّ قوله : { لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ } يدل عليه ، وقد مرّ ذكر الناس في قوله : { مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس } [ هود : 103 ] والشقى الذي وجبت له النار لإساءته ، والسعيد الذي وجبت له الجنة لإحسانه .
فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)
قراءة العامّة بفتح الشين . وعن الحسن «شقوا» بالضم ، كما قرىء : «سعدوا» والزفير : إخراج النفس . والشهيق : ردّه . قال الشماخ :
بَعِيدُ مَدَى التَّطْرِيبِ أَوَّلُ صَوْتِهِ ... زَفِيرٌ وَيَتْلُوهُ شَهِيقٌ مُحَشْرَجُ
{ مَا دَامَتِ السماوات والأرض } فيه وجهان ، أحدهما : أن تراد سموات الآخرة وأرضها وهي دائمة مخلوقة للأبد . والدليل على أن لها سموات وأرضاً قوله تعالى : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض } [ إبراهيم : 48 ] وقوله : { وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَاء } [ الزمر : 74 ] ولأنه لا بدّ لأهل الآخرة مما يقلهم ويظلهم : إمّا سماء يخلقها الله ، أو يظلهم العرش ، وكل ما أظلك فهو سماء . والثاني أن يكون عبارة عن التأييد ونفي الانقطاع . كقول العرب : ما دام تعار ، وما أقام ثبير ، وما لاح كوكب ، وغير ذلك من كلمات التأبيد . فإن قلت : فما معنى الاستثناء في قوله : { إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ } وقدثبت خلود أهل الجنة والنار في الأبد من غير استثناء؟ قلت : هو استثناء من الخلود في عذاب النار ، ومن الخلود في نعيم الجنة : وذلك أن أهل النار لا يخلدون في عذاب النار وحده ، بل يعذبون بالزمهرير وبأنواع من العذاب سوى عذاب النار ، وبما هو أغلظ منها كلها وهو سخط الله عليهم وخسؤه لهم وإهانته إياهم . وكذلك أهل الجنة لهم سوى الجنة ما هو أكبر منها وأجل موقعاً منهم ، وهو رضوان الله ، كما قال : { وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا ومساكن طَيّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ ورضوان مّنَ الله } [ التوبة : 72 ] ولهم ما يتفضل الله به عليهم سوى ثواب الجنة مما لا يعرف كنهه إلا هو ، فهو المراد بالاستثناء . والدليل عليه قوله : { عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ } [ هود : 108 ] ومعنى قوله في مقابلته : { إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ } أنه يفعل بأهل النار ما يريد من العذاب ، كما يعطي أهل الجنة عطاءه الذي لا انقطاع له ، فتأمّله فإنّ القرآن يفسر بعضه بعضاً ، ولا يخدعنك عنه قول المجبرة . إنّ المراد بالاستثناء خروج أهل الكبائر من النار بالشفاعة ، فإنّ الاستثناء الثاني ينادي على تكذيبهم ويسجل بافترائهم . وما ظنك بقوم نبذوا كتاب الله لما روى لهم بعض النوابت عن عبد الله بن عمرو بن العاص :
( 528 ) ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد؛ وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقاباً ، وقد بلغني أن من الضلال من اغترّ بهذا الحديث ، فاعتقد أن الكفار لا يخلدون في النار . وهذا ونحوه والعياذ بالله من الخذلان المبين ، زادنا الله هداية إلى الحق ومعرفة بكتابه ، وتنبيهاً على أن نعقل عنه ، ولئن صح هذا عن ابن العاص ، فمعناه أنهم يخرجون من حرّ النار إلى برد الزمهرير فذلك خلوّ جهنم وصفق أبوابها ، وأقول : ما كان لابن عمرو في سيفيه ، ومقاتلته بهما علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، ما يشغله عن تسيير هذا الحديث .
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)
{ غَيْرَ مَجْذُوذٍ } غير مقطوع ، ولكنه ممتدّ إلى غير نهاية ، كقوله : { لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } [ فصلت : 8 ] لما قصّ قصص عبدة الأوثان ، وذكر ما أحلّ بهم من نقمه ، وما أعدّ لهم من عذابه قال : { فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هؤلاء } أي : فلا تشك بعد ما أنزل عليك من هذ القصص في سوء عاقبة عبادتهم وتعرّضهم بها لما أصاب أمثالهم قبلهم تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعدة بالانتقام منهم ووعيداً لهم ثم قال : { مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ ءابآؤهُم } يريد أن حالهم في الشرك مثل حال آبائهم من غير تفاوت بين الحالين ، وقد بلغك ما نزل بآبائهم فسينزلنّ بهم مثله ، وهو استئناف معناه تعليل النهي عن المرية . و «ما» في مما ، وكما : يجوز أن تكون مصدرية وموصولة ، أي : من عبادتهم ، وكعبادتهم . أو مما يعبدون من الأوثان ، ومثل ما يعبدون منها { وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ } أي حظهم من العذاب كما وفينا آباءهم أنصباءهم . فإن قلت : كيف نصب { غَيْرَ مَنقُوصٍ } حالاً عن النصيب الموفى؟ قلت : يجوز أن يوفى وهو ناقص ، ويوفى وهو كامل . ألا تراك تقول . وفيته شطر حقه ، وثلث حقه ، وحقه كاملاً وناقصاً .
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110)
{ فاختلف فِيهِ } آمن به قوم وكفر به قوم ، كما اختلف في القرآن { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ } يعني كلمة الإنظار إلى يوم القيامة { لَّقُضِىَ بِيْنَهُمْ } بين قوم موسى أو قومك . وهذه من جملة التسلية أيضاً .
وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)
{ وَإِنَّ كُلاًّ } التنوين عوض من المضاف إليه ، يعني : وإنّ كلهم ، وإنَّ جميع المختلفين فيه { لَيُوَفّيَنَّهُمْ } جواب قسم محذوف . واللام في { لَّمَّا } موطئة للقسم ، و { مَا } مزيدة والمعنى : وإنّ جميعهم والله ليوفينهم { رَبُّكَ أعمالهم } من حسن وقبيح وإيمان وجحود . وقرىء : «وإن كلا» بالتخفيف على إعمال المخففة عمل الثقيلة ، اعتباراً لأصلها الذي هو التثقيل . وقرأ أبيّ : «وإن كل لما ليوفينهم» على أنّ إن نافية . ولما بمعنى إلا . وقراءة عبد الله مفسرة لها . وإن كل إلا ليوفينهم ، وقرأ الزهري وسليمان بن أرقم «وإن كلا لما ليوفينهم» بالتنوين ، كقوله : { أَكْلاً لَّمّاً } [ الفجر : 19 ] والمعنى : وإن كلا ملمومين ، بمعنى مجموعين ، كأنه قيل : وإنّ كلا جميعاً ، كقوله : { فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } [ الحجر : 30 ] .
فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)
{ فاستقم كَمآ أُمِرْتَ } فاستقم استقامة مثل الاستقامة التي أمرت بها على جادّة الحق ، غير عادل عنها { وَمَن تَابَ مَعَكَ } معطوف على المستتر في استقم . وإنما جاز العطف عليه ولم يؤكد بمنفصل لقيام الفاصل مقامه . والمعنى : فاستقم أنت وليستقم من تاب على الكفر وآمن معك { وَلاَ تَطْغَوْاْ } ولا تخرجوا عن حدود الله { إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } عالم فهو مجازيكم به ، فاتقوه . وعن ابن عباس :
( 529 ) ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع القرآن آية كانت أشدّ ولا أشقّ عليه من هذه الآية . ولهذا قال : « شيبتني هود والواقعة وأخواتهما »
( 530 ) وروي أنّ أصحابه قالوا له : لقد أسرع فيك الشيب . فقال : « شيبتني هود » وعن بعضهم : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم فقلت له : روي عنك أنك قلت : شيبتني هود . فقال : نعم . فقلت : ما الذي شيبك منها؟ أقصص الأنبياء وهلاك الأمم؟ قال : لا ، ولكن قوله : { فاستقم كَمَا أُمِرْتَ } . وعن جعفر الصادق رضي الله عنه { فاستقم كَمَا أُمِرْتَ } قال : افتقرْ إلى الله بصحة العزم .
وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113)
قرىء : «ولا تركنوا» ، بفتح الكاف وضمها مع فتح التاء . وعن أبي عمرو : بكسر التاء وفتح الكاف ، على لغة تميم في كسرهم حروف المضارعة إلا الياء في كل ما كان من باب علم يعلم . ونحوه قراءة من قرأ { فَتَمَسَّكُمُ النار } بكسر التاء . وقرأ ابن أبي عبلة : «ولا تُركِنوا» ، على البناء للمفعول ، من أركنه إذا أماله ، والنهي متناول للانحطاط في هواهم ، والانقطاع إليهم ، ومصاحبتهم ومجالستهم وزيارتهم ومداهنتهم ، والرضا بأعمالهم ، والتشبه بهم ، والتزيي بزيهم ، ومدّ العين إلى زهرتهم . وذكرهم بما فيه تعظيم لهم . وتأمّل قوله : { وَلاَ تركنوا } فإن الركون هو الميل اليسير . وقوله : { إِلَى الذين ظَلَمُواْ } أي إلى الذين وجد منهم الظلم ، ولم يقل إلى الظالمين . وحكي أنّ الموفق صلى خلف الإمام فقرأ بهذه الآية فغشي عليه ، فلما أفاق قيل له ، فقال : هذا فيمن ركن إلى من ظلم ، فكيف بالظالم . وعن الحسن رحمه الله : جعل الله الدين بين لاءين : { وَلاَ تَطْغَوْاْ } [ هود : 112 ] ، { وَلاَ تَرْكَنُواْ } ولما خالط الزهري السلاطين كتب إليه أخ له في الدين : عافانا الله وإياك أبا بكر من الفتن ، فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك أن يدعو لك الله ويرحمك : أصبحت شيخاً كبيراً وقد أثقلتك نعم الله بما فهمك الله من كتابه وعلمك من سنة نبيه ، وليس كذلك أخذ الله الميثاق على العلماء ، قال الله سبحانه { لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ } [ آل عمران : 187 ] واعلم أنّ أيسر ما ارتكب وأخفّ ما احتملت : أنك آنست وحشة الظالم ، وسهلت سبيل الغي بدنوّك ممن لم يؤدّ حقاً ولم يترك باطلاً حين أدناك اتخذوك قطباً تدور عليك رحى باطلهم ، وجسراً يعبرون عليك إلى بلائهم وسلماً يصعدون فيك إلى ضلالهم ، يُدخلون الشكّ بك على العلماء ، ويقتادون بك قلوب الجهلاء ، فما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خرّبوا عليك ، وما أكثر ما أخذوا منك في جنب ما أفسدوا عليك من دينك ، فيما يؤمنك أن تكون ممن قال الله فيهم { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً } [ مريم : 59 ] فإنك تعامل من لا يجهل ، ويحفظ عليك من لا يغفل ، فداو دينك فقد دخله سقم ، وهيىء زادك فقد حضر السفر البعيد ، وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء ، والسلام . وقال سفيان : في جهنم واد لا يسكنه إلا القرّاء الزائرون للملوك . وعن الأوزاعي : ما من شيء أبغض إلى الله من عالم يزور عاملاً . وعن محمد بن مسلمة : الذباب على العذرة ، أحسن من قارىء على باب هؤلاء . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 531 ) " من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصى الله في أرضه "
ولقد سئل سفيان عن ظالم أشرف على الهلاك في برية ، هل يسقى شربة ماء؟ فقال : لا ، فقيل له : يموت؟ فقال : دعه يموت . { وَمَا لَكُمْ مّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَاء } حال من قوله : { فَتَمَسَّكُمُ } أي : فتمسكم النار وأنتم على هذه الحال . ومعناه : وما لكم من دون الله من أنصار يقدرون على منعكم من عذابه ، لا يقدر على منعكم من غيره { ثُمَّ لا تُنصَرُونَ } ثم لا ينصركم هو ، لأنه وجب في حكمته تعذيبكم وترك الإبقاء عليكم . فإن قلت : فما معنى ثم؟ قلت : معناها الاستبعاد ، لأنّ النصرة من الله مستبعدة مع استيجابهم العذاب واقتضاء حكمته له .
وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)
{ طَرَفَىِ النهار } غدوة وعشية { وَزُلَفاً مِّنَ اليل } وساعات من الليل وهي ساعاته القريبة من آخر النهار ، من أزلفه إذا قربه وازدلف إليه ، وصلاة الغدوة : الفجر ، وصلاة العشية : الظهر والعصر؛ لأنّ ما بعد الزوال عشيّ . وصلاة الزلف : المغرب والعشاء . وانتصاب طرفي النهار على الظرف ، لأنهما مضافان إلى الوقت ، كقولك : أقمت عنده جميع النهار ، وأتيته نصف النهار وأوله وآخره ، تنصب هذا كله على إعطاء المضاف حكم المضاف إليه . ونحوه { وَأَطْرَافَ النهار } [ طه : 130 ] وقرىء : «وزُلُفا» ، بضمتين . وزلفا ، بسكون اللام . وزلفى : بوزن قربى . فالزلف : جمع زلفة ، كظلم في ظلمة . والزلف بالسكون : نحو بسرة وبسر . والزلف بضمتين نحو بسر في بسر . والزلفى بمعنى الزلفة ، كما أن القربى بمعنى القربة : وهو ما يقرب من آخر النهار من الليل . وقيل : وزلفا من الليل : وقربا من الليل ، وحقها على هذا التفسير أن تعطف على الصلاة ، أي : أقم الصلاة طرفي النهار ، وأقم زلفا من الليل ، على معنى : وأقم صلاة تتقرّب بها إلى الله عز وجل في بعض الليل { إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات } فيه وجهان ، أحدهما : أن يراد تكفير الصغائر بالطاعات ، وفي الحديث :
( 532 ) " إن الصلاة إلى الصلاة كفارة ما بينهما ما اجتنبت الكبائر " والثاني : إن الحسنات يذهبن السيئات ، بأن يكن لطفاً في تركها ، كقوله : { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } [ العنكبوت : 45 ] وقيل :
( 533 ) نزلت في أبي اليسر عمرو بن غزية الأنصاري ، كان يبيع التمر فأتته امرأة فأعجبته ، فقال لها : إن في البيت أجود من هذا التمر . فذهب بها إلى بيته فضمها إلى نفسه وقبلها ، فقالت له : اتق الله ، فتركها وندم ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما فعل ، فقال صلى الله عليه وسلم : " أنتظر أمر ربي ، فلما صلى صلاة العصر نزلت ، فقال : نعم ، اذهب فإنها كفارة لما عملت "
( 534 ) وروي أنه أتى أبا بكر فأخبره فقال : استر على نفسك وتب إلى الله ، فأتى عمر رضي الله عنه فقال له مثل ذلك ، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت ، فقال عمر : أهذا له خاصة أم للناس عامة؟ فقال : بل للناس عامة وروي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له :
( 535 ) " توضأ وضوءاً حسناً وصل ركعتين { إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات } " { ذلك } إشارة إلى قوله { فاستقم } فما بعده { ذكرى لِلذكِرِينَ } عظة للمتعظين .
وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)
ثم كرّ إلى التذكير بالصبر بعد ما جاء بما هو خاتمة للتذكير ، وهذا الكرور لفضل خصوصية ومزية وتنبيه على مكان الصبر ومحله ، كأنه قال : وعليك بما هو أهمّ مما ذكرت به وأحق بالتوصية ، وهو الصبر على امتثال ما أمرت به والانتهاء عما نهيت عنه ، فلا يتم شيء منه إلا به { فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين } جاء بما هو مشتمل على الاستقامة وإقامة الصلوات والانتهاء عن الطغيان والركون إلى الظالمين والصبر وغير ذلك من الحسنات .
فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116)
{ فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القرون } فهلا كان وقد حكوا عن الخليل : كل «لولا» في القرآن فمعناها «هلا» إلا التي في الصافات ، وما صحت هذه الحكاية ففي غير الصافات { لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مّن رَّبّهِ لَنُبِذَ بالعراء } [ القلم : 49 ] ، { وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ } [ الفتح : 25 ] ، { وَلَوْلاَ أَن ثبتناك لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ } [ الإسراء : 74 ] ، { أُوْلُواْ بَقِيَّتُ } أولو فضل وخير . وسمى الفضل والجودة بقية لأنّ الرجل يستبقي مما يخرجه أجوده وأفضله ، فصار مثلاً في الجودة والفضل . ويقال : فلان من بقية القوم ، أي من خيارهم . وبه فسر بيت الحماسة :
إنْ تُذْنِبُوا ثُمَّ يَأْتِينِي بَقِيَّتُكُمْ ... ومنه قولهم : في الزوايا خبايا ، وفي الرجال بقايا . ويجوز أن تكون البقية بمعنى البقوى ، كالتقية بمعنى التقوى ، أي : فهلا كان منهم ذوو بقاء على أنفسهم وصيانة لها من سخط الله وعقابه ، وقرىء : «أولو بقية» ، بوزن لقية ، من بقاه يبقيه إذا راقبه وانتظره ومنه :
( 536 ) «بقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم » والبقية المرّة من مصدره . والمعنى : فلو كان منهم أولو مراقبة وخشية من انتقام الله ، كأنهم ينتظرون إيقاعه بهم لإشفاقهم { إِلاَّ قَلِيلاً } استثناء منقطع ، معناه : ولكن قليلاً ممن أنجينا من القرون نهوا عن الفساد ، وسائرهم تاركون للنهي . و { مِنْ } في { مّمَّنْ أَنجَيْنَا } حقها أن تكون للبيان لا للتبعيض؛ لأن النجاة إنما هي للناهين وحدهم ، بدليل قوله تعالى : { أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السوء وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ } [ الأعراف : 165 ] . فإن قلت : هل لوقوع هذا الاستثناء متصلا وجه يحمل عليه؟ قلت : إن جعلته متصلا على ما عليه ظاهر الكلام ، كان المعنى فاسداً؛ لأنه يكون تخصيصاً لأولى البقية على النهي عن الفساد ، إلا للقليل من الناجين منهم كما تقول : هلا قرأ قومك القرآن إلا الصلحاء منهم ، تريد استثناء الصلحاء من المحضضين على قراءة القرآن وإن قلت : في تحضيضهم على النهي عن الفساد معنى نفيه عنهم ، فكأنه قيل : ماكان من القرون أولو بقية إلا قليلاً ، كان استثناء متصلا ومعنى صحيحاً ، وكان انتصابه على أصل الاستثناء ، وإن كان الأفصح أن يرفع على البدل { واتبع الذين ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ } أراد بالذين ظلموا : تاركي النهي عن المنكرات ، أي : لم يهتموا بما هو ركن عظيم من أركان الدين ، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعقدوا هممهم بالشهوات ، واتبعوا ما عرفوا فيه التنعم والتترف ، من حب الرياسة والثروة ، وطلب أسباب العيش الهنيء . ورفضوا ما وراء ذلك ونبذوه وراء ظهورهم . وقرأ أبو عمرو في رواية الجعفي ، «واتبع الذين ظلموا» ، يعني : واتبعوا جزاء ما أترفوا فيه . ويجوز أن يكون المعنى في القراءة المشهورة : أنهم اتبعوا جزاء إترافهم . وهذا معنى قويّ لتقدم الإنجاء ، كأنه قيل : إلا قليلاً ممن أنجينا منهم وهلك السائر .
فإن قلت : علام عطف قوله : { واتبع الذين ظَلَمُواْ } ؟ قلت : إن كان معناه : واتبعوا الشهوات ، كان معطوفاً على مضمر ، لأنّ المعنى إلا قليلاً ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد ، واتبع الذين ظلموا شهواتهم ، فهو عطف على نهوا . وإن كان معناه واتبعوا جزاء الإتراف ، فالواو للحال ، كأنه قيل : أنجينا القليل وقد اتبع الذين ظلموا جزاءهم . فإن قلت : فقوله { وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ } ؟ قلت : على أترفوا أي : اتبعوا الإتراف وكونهم مجرمين؛ لأن تابع الشهوات مغمور بالآثام . أو أريد بالإجرام إغفالهم للشكر . أو على اتبعوا ، أي اتبعوا شهواتهم وكانوا مجرمين بذلك . ويجوز أن يكون اعتراضاً وحكماً عليهم بأنهم قوم مجرمون .
وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)
{ كَانَ } بمعنى صح واستقام . واللام لتأكيد النفي . و { بِظُلْمٍ } حال من الفاعل . والمعنى : واستحال في الحكمة أن يهلك الله القرى ظالماً لها { وَأَهْلُهَا } قوم { مُصْلِحُونَ } تنزيهاً لذاته عن الظلم ، وإيذاناً بأن إهلاك المصلحين من الظلم . وقيل : الظلم الشرك ، ومعناه أنه لا يهلك القرى بسبب شرك أهلها وهم مصلحون يتعاطون الحق فيما بينهم ولا يضمون إلى شركهم فساداً آخر .
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)
{ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً } يعني لاضطرهم إلى أن يكونوا أهل أمّة واحدة أي ملة واحدة وهي ملة الإسلام ، كقوله : { إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } [ الأنبياء : 92 ] وهذا الكلام يتضمن نفي الاضطرار ، وأنه لم يضطرهم إلى الاتفاق على دين الحق ، ولكنه مكنهم من الاختيار الذي هو أساس التكليف ، فاختار بعضهم الحق وبعضهم الباطل ، فاختلفوا ، فلذلك قال : { وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ } إلا ناساً هداهم الله ولطف بهم ، فاتفقوا على دين الحق غير مختلفين فيه { ولذلك خَلَقَهُمْ } ذلك إشارة إلى ما دل عليه الكلام الأوّل وتضمنه ، يعني : ولذلك من التمكن والاختيار الذي كان عنه الاختلاف خلقهم ، ليثيب مختار الحق بحسن اختياره ، ويعاقب مختار الباطل بسوء اختياره { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ } وهي قوله للملائكة { لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ } لعلمه بكثرة من يختار الباطل .
وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122)
{ وَكُلاًّ } التنوين فيه عوض من المضاف إليه كأنه قيل . وكل نبأ { نَقُصُّ عَلَيْكَ } و { مِنْ أَنْبَاء الرسل } بيان لكل . { وَمَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ } بدل من كلا . ويجوز أن يكون المعنى : [ و ] كل واقتصاص نقصّ عليك ، على معنى : وكل نوع من أنواع الاقتصاص نقصّ عليك ، يعني : على الأساليب المختلفة ، و { مَا نُثَبّتُ بِهِ } مفعول نقصّ . ومعنى تثبيت فؤاده : زيادة يقينه وما فيه طمأنينة قلبه ، لأن تكاثر الأدلة أثبت للقلب وأرسخ للعلم { وَجَاءكَ فِى هذه الحق } أي في هذه السورة . أو في هذه الأنباء المقتصة فيها ما هو حق { وَمَوْعِظَةٌ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ وَقُل لّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } من أهل مكة وغيرهم { اعملوا } على حالكم وجهتكم التي أنتم عليها { إِنَّا عَامِلُونَ وانتظروا } بنا الدوائر { إِنَّا مُنتَظِرُونَ } أن ينزل بكم نحو ما اقتص الله من النقم النازلة بأشباهكم .
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
{ وَللَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض } لا تخفى عليه خافية مما يجري فيهما ، فلا تخفى عليه أعمالكم { وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمر كُلُّهُ } فلا بدّ أن يرجع إليه أمرهم وأمرك ، فينتقم لك منهم { فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } فإنه كافيك وكافلك { وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ } وقرىء : «تعملون» بالتاء : أي أنت وهم على تغليب المخاطب .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 537 ) " من قرأ سورة هود أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بنوحٍ ومَن كَذَّبَ به ، وهود وصالح وشعيب ولوط وإبراهيم وموسى وكان يوم القيامة من السعداء إن شاء الله تعالى ذلك "
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)
{ تِلْكَ } إشارة إلى آيات السورة . و { الكتاب المبين } السورة ، أي تلك الآيات التي أنزلت إليك في هذه السورة آيات السورة الظاهر أمرها في إعجاز العرب وتبكيتهم . أو التي تبين لمن تدبرها أنها من عند الله لا من عند البشر . أو الواضحة التي لا تشتبه على العرب معانيها لنزولها بلسانهم . أو قد أبين فيها ما سألت عنه اليهود من قصة يوسف . فقد روي أن علماء اليهود قالوا لكبراء المشركين : سلوا محمداً لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر؟ وعن قصة يوسف { أنزلناه } أنزلنا هذا الكتاب الذي فيه قصة يوسف في حال كونه { قُرْءاناً عَرَبِيّاً } وسمى بعض القرآن قرآناً ، لأنّ القرآن اسم جنس يقع على كله وبعضه { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } إرادة أن تفهموه وتحيطوا بمعانيه ولا يلتبس عليكم { وَلَوْ جعلناه قُرْءاناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصّلَتْ ءاياته } [ فصلت : 44 ] . { القصص } على وجهين : يكون مصدراً بمعنى الاقتصاص ، تقول : قصّ الحديث يقصه قصصاً ، كقولك : شله يشله شللاً ، إذا طرده . ويكون «فعلا» بمعنى «مفعول» كالنفض والحسب . ونحوه النبأ والخبر : في معنى المنبأ به والمخبر به . ويجوز أن يكون من تسمية المفعول بالمصدر ، كالخلق والصيد . وإن أريد المصدر ، فمعناه : نحن نقص عليك أحسن القصص { بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هذا القرءان } أي بإيحائنا إليك هذه السورة ، على أن يكون أحسن منصوباً نصب المصدر ، لإضافته إليه ، ويكون المقصوص محذوفاً؛ لأنّ قوله : { بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هذا القرءان } مغن عنه . ويجوز أن ينتصب هذا القرآن بنقصّ ، كأنه قيل : نحن نقص عليك أحسن الاقتصاص هذا القرآن بإيحائنا إليك . والمراد بأحسن الاقتصاص : أنه اقتصّ على أبدع طريقة وأعجب أسلوب . ألا ترى أنّ هذا الحديث مقتص في كتب الأولين وفي كتب التواريخ ، وألا ترى اقتصاصه في كتاب منها مقارباً لاقتصاصه في القرآن . وإن أريد بالقصص المقصوص . فمعناه : نحن نقص عليك أحسن ما يقص من الأحاديث ، وإنما كان أحسنه لما يتضمن من العبر والنكت والحكم والعجائب التي ليست في غيرها والظاهر أنه أحسن ما يقتص في بابه ، كما يقال في الرجل : هو أعلم الناس وأفضلهم ، يراد في فنه . فإن قلت : ممّ اشتقاق القصص؟ قلت : من قصّ أثره إذا اتبعه ، لأنّ الذي يقصّ الحديث يتبع ما حفظ منه شيئاً فشيئاً ، كما يقال : تلا القرآن ، إذا قرأه ، لأنه يتلو أي يتبع ما حفظ منه آية بعد آية { وَإِن كُنتُ } إن مخففة من الثقيلة . واللام هي التي تفرق بينها وبين النافية . والضمير في { قَبْلِهِ } راجع إلى قوله : ما أوحينا والمعنى : وإنّ الشأن والحديث كنت من قبل إيحائنا إليك من الغافلين عنه ، أي : من الجاهلين به ، ما كان لك فيه علم قط ولا طرق سمعك طرف منه .
إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)
{ إِذْ قَالَ يُوسُفُ } بدل من أحسن القصص ، وهو من بدل الاشتمال ، لأن الوقت مشتمل على القصص وهو المقصوص ، فإذا قصَّ وقته فقد قص . أو بإضمار «اذكر» ويوسف اسم عبراني ، وقيل عربي وليس بصحيح؛ لأنه لو كان عربياً لانصرف لخلوّه عن سبب آخر سوى التعريف . فإن قلت : فما تقول فيمن قرأ : «يوسِف» بكسر السين ، أو «يوسَف» بفتحها ، هل يجوز على قراءته أن يقال «هو عربي» لأنه على وزن المضارع المبني للفاعل أو المفعول من آسف . وإنما منع الصرف للتعريف ووزن الفعل؟ قلت : لا؛ لأنّ القراءة المشهورة قامت بالشهادة ، على أن الكلمة أعجمية ، فلا تكون عربية تارة وأعجمية أخرى ، ونحو يوسف : يونس ، رويت فيه هذه اللغات الثلاث ولا يقال هو عربي لأنه في لغتين منها بوزن المضارع من آنس وأونس . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 538 ) " إذا قيل : من الكريم؟ فقولوا : الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم : يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم " { يا أبت } قرىء بالحركات الثلاث . فإن قلت : ما هذه التاء؟ قلت : تاء تأنيث وقعت عوضاً من ياء الإضافة ، والدليل على أنها تاء تأنيث قلبها هاء في الوقف . فإن قلت : كيف جاز إلحاق تاء التأنيث بالمذكر؟ قلت : كما جاز نحو قولك : حمامة ذكر وشاة ذكر ، ورجل ربعة ، وغلام يفعة . فإن قلت : فلم ساغ تعويض تاء التأنيث من ياء الإضافة؟ قلت : لأنّ التأنيث والإضافة يتناسبان في أنّ كل واحد منهما زيادة مضمومة إلى الاسم في آخره . فإن قلت فما هذه الكسرة؟ قلت : هي الكسرة التي كانت قبل الياء في قولك : يا أبي ، قد زحلقت إلى التاء ، لاقتضاء تاء التأنيث أن يكون ما قبلها مفتوحاً : فإن قلت : فما بال الكسرة لم تسقط بالفتحة التي اقتضتها التاء وتبقى التاء ساكنة؟ قلت : امتنع ذلك فيها ، لأنها اسم ، والأسماء حقها التحريك لأصالتها في الإعراب ، وإنما جاز تسكين الياء وأصلها أن تحرّك تخفيفاً ، لأنها حرف لين . وأما التاء فحرف صحيح نحو كاف الضمير ، فلزم تحريكها . فإن قلت : يشبه الجمع بين التاء وبين هذه الكسرة الجمع بين العوض والمعوّض منه ، لأنها في حكم الياء ، إذا قلت : يا غلام ، فكما لا يجوز «يا أبتي» لا يجوز «يا أبت» . قلت الياء والكسرة قبلها شيآن والتاء عوض من أحد الشيئين ، وهو الياء والكسرة غير متعرض لها ، فلا يجمع بين العوض والمعوض منه ، إلا إذا جمع بين التاء والياء لا غير . ألا ترى إلى قولهم «يا أبتا» مع كون الألف فيه بدلا من التاء ، كيف جاز الجمع بينها وبين التاء ، ولم يعد ذلك جمعاً بين العوض والمعوّض منه ، فالكسرة أبعد من ذلك .
فإن قلت : فقد دلت الكسرة في يا غلام على الإضافة؛ لأنها قرينة الياء ولصيقتها . فإن دلت على مثل ذلك في «يا أبت» فالتاء المعوّضة لغو : وجودها كعدمها . قلت : بل حالها مع التاء كحالها مع الياء إذا قلت يا أبي . فإن قلت : فما وجه من قرأ بفتح التاء وضمها؟ قلت : أما من فتح فقد حذف الألف من «يا أبتا» واستبقى الفتحة قبلها ، كما فعل من حذف الياء في «يا غلام» ويجوز أن يقال : حركها بحركة الباء المعوض منها في قولك «يا أبي» . وأما من ضم فقد رأى اسماً في آخره تاء تأنيث ، فأجراه مجرى الأسماء المؤنثة بالتاء فقال : «يا أبت» كما تقول «ياتبة» من غير اعتبار لكونها عوضاً من ياء الإضافة ، وقرىء : «إني رأيت» بتحريك الياء . «وأحد عشر» بسكون العين ، تخفيفاً لتوالي المتحركات فيما هو في حكم اسم واحد ، وكذا إلى تسعة عشر ، إلا اثني عشر لئلا يلتقي ساكنان ، ورأيت من الرؤيا ، لا من الرؤية ، لأنَّ ما ذكره معلوم أنه منام؛ لأنّ الشمس والقمر لو اجتمعا مع الكواكب ساجدة ليوسف في حال اليقظة ، لكانت آية عظيمة ليعقوب عليه السلام ، ولما خفيت عليه وعلى الناس . فإن قلت : ما أسماء تلك الكواكب؟ قلت :
( 539 ) روى جابر أنّ يهودياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد ، أخبرني عن النجوم التي رآهنّ يوسف ، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم : فنزل جبريل عليه السلام فأخبره بذلك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لليهودي «إن أخبرتك هل تسلم»؟ قال : نعم . قال : «جريان ، والطارق ، والذيال ، وقابس ، وعمودان ، والفليق ، والمصبح ، والضروح ، والفرغ ، ووثاب ، وذو الكتفين رآها يوسف والشمس والقمر نزلن من السماء وسجدن له» فقال اليهودي : إي والله ، إنها لأسماؤها .
وقيل : الشمس والقمر أبواه . وقيل : أبوه وخالته . والكواكب : إخوته وعن وهب أنّ يوسف رأى وهو ابن سبع سنين أنّ إحدى عشرة عصا طوالا كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدارة ، وإذا عصا صغير تثب عليها حتى اقتلعتها وغلبتها ، فوصف ذلك لأبيه فقال : إياك أن تذكر هذا لإخوتك ، ثم رأى وهو ابن ثنتي عشرة سنة الشمس والقمر والكواكب تسجد له ، فقصها على أبيه فقال له : لا تقصها عليهم ، فيبغوا لك الغوائل . وقيل : كان بين رؤيا يوسف ومصير إخوته إليه أربعون سنة . وقيل : ثمانون . فإن قلت لم أخر الشمس والقمر؟ قلت : أخرهما ليعطفهما على الكواكب على طريق الاختصاص ، بياناً لفضلهما واستبدادهما بالمزية على غيرهما من الطوالع ، كما أخر جبريل ، وميكائيل عن الملائكة ، ثم عطفهما عليها لذلك ، ويجوز أن تكون الواو بمعنى مع ، أي : رأيت الكواكب مع الشمس والقمر . فإن قلت : ما معنى تكرار رأيت قلت : ليس بتكرار ، إنما هو كلام مستأنف على تقدير سؤال وقع جواباً له ، كأن يعقوب عليه السلام قال له عند قوله : { إِنّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا } كيف رأيتها سائلاً عن حال رؤيتها؟ فقال : { رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ } فإن قلت : فلم أجريت مجرى العقلاء في رأيتهم لي ساجدين؟ قلت : لأنه لما وصفها بماهو خاص بالعقلاء وهو السجود . أجرى عليها حكمهم ، كأنها عاقلة ، وهذا كثير شائع في كلامهم ، أن يلابس الشيء الشيء من بعض الوجوه ، فيعطى حكماً من أحكامه إظهاراً لأثر الملابسة والمقاربة .
قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
عرف يعقوب عليه السلام دلالة الرؤيا على أن يوسف يبلغه الله مبلغاً من الحكمة ، ويصطفيه للنبوّة ، وينعم عليه بشرف الدارين ، كما فعل بآبائه ، فخاف عليه حسد الإخوة وبغيهم ، والرؤيا بمعنى الرؤية؛ إلا أنها مختصة بما كان منها في المنام دون اليقظة ، فرق بينهما بحرفي التأنيث كما قيل : القربة والقربى . وقرىء : «روياك» بقلب الهمزة واواً . وسمع الكسائي : «رُيَّاك» و «رِيَّاك» بالإدغام وضم الراء وكسرها ، وهي ضعيفة؛ لأنّ الواو في تقدير الهمزة فلا يقوى إدغامها كما لم يقو الإدغام في قولهم «اتزر» من الإزار ، و «اتجر» من الأجر { فَيَكِيدُواْ } منصوب بإضمار «أن» والمعنى : إن قصصتها عليهم كادوك : فإن قلت : هلا قيل : فيكيدوك ، كما قيل : فكيدوني؟ قلت : ضمن معنى فعل يتعدى باللام ، ليفيد معنى فعل الكيد ، مع إفادة معنى الفعل المضمن ، فيكون آكد وأبلغ في التخويف ، وذلك نحو : فيحتالوا لك . ألا ترى إلى تأكيده بالمصدر { عَدُوٌّ مُّبِينٌ } ظاهر العداوة لما فعل بآدم وحواء ، ولقوله { لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صراطك المستقيم } [ الأعراف : 16 ] فهو يحمل على الكيد والمكر وكل شرّ ، ليورّط من يحمله ، ولا يؤمن أن يحملهم على مثله { وكذلك } ومثل ذلك الأجتباء { يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ } يعني وكما اجتباك لمثل هذه الرؤيا العظيمة الدالة على شرف وعز وكبرياء شأن ، كذلك يجتبيك ربك لأمور عظام . وقوله { وَيُعَلّمُكَ } كلام مبتدأ غير داخل في حكم التشبيه ، كأنه قيل : وهو يعلمك ويتمّ نعمته عليك . والاجتباء ، الاصطفاء ، افتعال من جبيت الشيء إذا حصلته لنفسك ، وجبيت الماء في الحوض : جمعته . والأحاديث : الرؤيا : لأنّ الرؤيا إما حديث نفس أو ملك أو شيطان . وتأويلها عبارتها وتفسيرها ، وكان يوسف عليه السلام أعبر الناس للرؤيا ، وأصحهم عبارة لها . ويجوز أن يراد بتأويل الأحاديث معاني كتب الله وسنن الأنبياء ، وما غمض واشتبه على الناس من أغراضها ومقاصدها ، يفسرها لهم ويشرحها ويدلهم على مودعات حكمها . وسميت أحاديث؛ لأنه يحدث بها عن الله ورسله . فيقال : قال الله وقال الرسول كذا وكذا . ألا ترى إلى قوله تعالى : { فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } [ الأعراف : 185 ] ، { الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث } [ الزمر : 23 ] وهو اسم جمع للحديث وليس بجمع أحدوثة . ومعنى إتمام النعمة عليهم أنه وصل لهم نعمة الدنيا بنعمة الآخرة ، بأن جعلهم أنبياء في الدنيا وملوكاً . ونقلهم عنها إلى الدرجات العلا في الجنة . وقيل : أتمها على إبراهيم بالخلة ، والإنجاء من النار ، ومن ذبح الولد . وعلى إسحاق بإنجائه من الذبح ، وفدائه بذبح عظيم ، وبإخراج يعقوب والأسباط من صلبه . وقيل : علم يعقوب أنّ يوسف يكون نبياً وإخوته أنبياء استدلالا بضوء الكواكب ، فلذلك قال { وعلى ءالِ يَعْقُوبَ } وقيل : لما بلغت الرؤيا إخوة يوسف حسدوه وقالوا : ما رضي أن سجد له إخوته حتى سجد له أبواه .
وقيل : كان يعقوب مؤثراً له بزيادة المحبة والشفقة لصغره ولما يرى فيه من المخايل وكان إخوته يحسدونه فلما رأى الرؤيا ضاعف له المحبة فكان يضمه كل ساعة إلى صدره ولا يصبر عنه ، فتبالغ فيهم الحسد . وقيل : لما قص رؤياه على يعقوب قال : هذا أمر مشتت يجمع الله لك بعد دهر طويل . وآل يعقوب . أهله وهم نسله وغيرهم . وأصل آل : أهل ، بدليل تصغيره على أُهَيل ، إلا أنه لا يستعمل إلا فيمن له خطر . يقال : آل النبي ، وآل الملك . ولا يقال : آل الحائك ، ولا آل الحجام ، ولكن أهلهما . وأراد بالأبوين : الجد ، وأبا الجد؛ لأنهما في حكم الأب في الأصالة . ومن ثم يقولون : ابن فلان ، وإن كان بينه وبين فلان عدّة . و { إبراهيم وإسحاق } عطف بيان لأبويك { إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ } يعلم من يحق له الاجتباء { حَكِيمٌ } لا يتم نعمته إلا على من يستحقها .
لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7)
{ فِى يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ } أي في قصتهم وحديثهم { ءايات } علامات ودلائل على قدرة الله وحكمته في كل شيء { لّلسَّائِلِينَ } لمن سأل عن قصتهم وعرفها . وقيل آيات على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم للذين سألوه من اليهود عنها ، فأخبرهم بالصحة من غير سماع من أحد ولا قراءة كتاب . وقرىء : «آية» ، وفي بعض المصاحف : عبرة ، وقيل : إنما قص الله تعالى على النبي عليه الصلاة والسلام خبر يوسف وبغي إخوته عليه ، لما رأى من بغي قومه عليه ليتأسى به . وقيل أساميهم : يهوذا : وروبيل ، وشمعون ، ولاوي ، وربالون ، ويشجر ، ودينة ، ودان ، ونفتالي ، وجاد ، وآشر : السبعة الأولون كانوا من ليا بنت خالة يعقوب ، والأربعة الآخرون من سريتين : زلفة ، وبلهة . فلما توفيت ليا تزوج أختها راحيل ، فولدت له بنيامين ويوسف .
إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8)
{ لِيُوسُفَ } اللام للابتداء . وفيها تأكيد وتحقيق لمضمون الجملة . أرادوا أنّ زيادة محبته لهما أمر ثابت لا شبهة فيه { وَأَخُوهُ } هو بنيامين . وإنما قالوا أخوه وهم جيمعاً إخوته ، لأنّ أمّهما كانت واحدة . وقيل { أَحَبُّ } في الاثنين ، لأن أفعل من لا يفرّق فيه بين الواحد وما فوقه ، ولا بين المذكر والمؤنث إذا كان معه «من» ولا بد من الفرق مع لام التعريف ، وإذا أضيف جاز الأمران . والواو في { وَنَحْنُ عُصْبَةٌ } واو الحال . يعني : أنه يفضلهما في المحبة علينا ، وهما اثنان صغيران لا كفاية فيهما ولا منفعة ، ونحن جماعة عشرة رجال كفأة نقوم بمرافقه ، فنحن أحقّ بزيادة المحبة منهما ، لفضلنا بالكثرة والمنفعة عليهما { إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضلال مُّبِينٍ } أي في ذهاب عن طريق الصواب في ذلك . والعصبة والعصابة : العشرة فصاعداً . وقيل : إلى الأربعين ، سموا بذلك لأنهم جماعة تعصب بهم الأمور ويستكفون النوائب . وروى النزال بن سبرة عن عليّ رضي الله عنه : «ونحن عصبة» ، بالنصب . وقيل : معناه ونحن نجتمع عصبة . وعن ابن الأنباري هذا كما تقول العرب؛ إنما العامري عمته ، أي يتعهد عمته .
اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)
{ اقتلوا يُوسُفَ } من جملة ما حكى بعد قوله : إذ قالوا : كأنهم أطبقوا على ذلك إلا من قال { لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ } وقيل : الآمر بالقتل شمعون ، وقيل : دان ، والباقين كانوا راضين ، فجعلوا آمرين { أَرْضًا } أرضاً منكورة مجهولة بعيدة من العمران ، وهو معنى تنكيرها وإخلائها من الوصف ، ولإبهامها من هذا الوجه نصبت نصب الظروف المبهمة { يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ } يقبل عليكم إقبالة واحدة لا يلتفت عنكم إلى غيركم . والمراد : سلامة محبته لهم ممن يشاركهم فيها وينازعهم إياها ، فكان ذكر الوجه لتصوير معنى إقباله عليهم؛ لأنّ الرجل إذا أقبل على الشيء أقبل بوجهه . ويجوز أن يراد بالوجه الذات ، كما قال تعالى : { ويبقى وَجْهُ رَبّكَ } [ الرحمن : 27 ] وقيل { يَخْلُ لَكُمْ } يفرغ لكم من الشغل بيوسف { مِن بَعْدِهِ } من بعد يوسف ، أي من بعد كفايته بالقتل أو التغريب ، أو يرجع الضمير إلى مصدر اقتلوا أو اطرحوا { قَوْمًا صالحين } تائبين إلى الله مما جنيتم عليه . أو يصلح ما بينكم وبين أبيكم بعذر تمهدونه . أو تصلح دنياكم وتنتظم أموركم بعده بخلوّ وجه أبيكم . و { تَكُونُواْ } إمّا مجزوم عطفاً على { يَخْلُ لَكُمْ } أو منصوب بإضمار أن والواو بمعنى مع ، كقوله : { وَتَكْتُمُواْ الحق } [ البقرة : 42 ] .
قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10)
{ قَائِلٌ مّنْهُمْ } هو يهوذا ، وكان أحسنهم فيه رأيا . وهو الذي قال : فلن أبرح الأرض . قال لهم : القتل عظيم { وَأَلْقُوهُ فِى غَيَابَةِ الجب } وهي غوره وما غاب منه عن عين الناظر وأظلم من أسفله . قال المنخل :
وَإنْ أنَا يَوْماً غَيَّبَتْنِي غَيَابَتِي ... فَسِيرُوا بِسَيْرِي في الْعَشِيرَةِ والأَهْلِ
أراد غيابة حفرته التي يدفن فيها . وقرىء : «غيابات» على الجمع . و «غيابات» بالتشديد . وقرأ الجحدري «غيبة» والجب : البئر لم تطو ، لأن الأرض تجبّ جباً لا غير { يَلْتَقِطْهُ } يأخذه بعض السيارة بعض الأقوام الذين يسيرون في الطريق . وقرىء : «تلتقطه» بالتاء على المعنى؛ لأنّ بعض السيارة سيارة ، كقوله :
كَمَا شَرِقَتْ صَدْرُ الْقَنَاةِ مِنَ الدَّمِ ... ومنه : ذهبت بعض أصابعه { إِن كُنتُمْ فاعلين } إن كنتم على أن تفعلوا ما يحصل به غرضكم ، فهذا هو الرأي .
قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12)
{ مالك لاَ تَأْمَنَّا } قريء بإظهار النونين ، وبالإدغام بإشمام وبغير إشمام . و «تيمنا» بكسر التاء مع الإدغام . والمعنى : لم تخافنا عليه ونحن نريد له الخير ونحبه ونشفق عليه؟ وما وجد منا في بابه ما يدل على خلاف النصيحة والمقة وأرادوا بذلك لما عزموا على كيد يوسف استنزاله عن رأيه وعادته في حفظه منهم . وفيه دليل على أنه أحسّ منهم بما أوجب أن لا يأمنهم عليه { نرتع } نتسع في أكل الفواكه وغيرها . وأصل الرتعة : الخصب والسعة . وقرىء : «نرتع» من ارتعى يرتعي . وقرىء : «يرتع ويلعب» بالياء ، ويرتع ، من أرتع ماشيته . وقرأ العلاء بن سيابة : يرتع بكسر العين ، ويلعب ، بالرفع على الابتداء . فإن قلت : كيف استجاز لهم يعقوب عليه السلام اللعب؟ قلت : كان لعبهم الاستباق والانتضال . ليضروا أنفسهم بما يحتاج إليه لقتال العدوّ لا للهو ، بدليل قوله { إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ } [ يوسف : 17 ] وإنما سموه لعباً لأنه في صورته .
قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13)
{ لَيَحْزُنُنِى } اللام لام الابتداء ، كقوله : { إِنَّ رَبَّكَ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ } [ النحل : 124 ] ودخولها أحد ما ذكره سيبويه من سبي المضارعة . اعتذر إليهم بشيئين ، أحدهما : أنّ ذهابهم به ومفارقته إياه مما يحزنه ، لأنه كان لا يصبر عنه ساعة . والثاني : خوفه عليه من عدوة الذئب إذا غفلوا عنه برعيهم ولعبهم ، أوقلّ به اهتمامهم ولم تصدق بحفظه عنايتهم . وقيل : رأى في النوم أنّ الذئب قد شدّ على يوسف فكان يحذره ، فمن ثم قال ذلك فلقنهم العلة ، وفي أمثالهم : البلاء موكل بالمنطق . وقرىء : «الذئب» بالهمزة على الأصل وبالتخفيف . وقيل : اشتقاقه من تذاءبت الريح إذا أتت من كل جهة .
قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14)
القسم محذوف تقديره : والله { لَئِنْ أَكَلَهُ الذئب } واللام موطئة للقسم . وقوله : { إِنَّا إِذَا لخاسرون } جواب للقسم مجزىء عن جزاء الشرط ، والواو في { وَنَحْنُ عُصْبَةٌ } واو الحال : حلفوا له لئن كان ما خافه من خطفة الذئب أخاهم من بينهم - وحالهم أنهم عشرة رجال ، بمثلهم تعصب الأمور وتكفي الخطوب - إنهم إذاً لقوم خاسرون ، أي هالكون ضعفاً وخوراً وعجزاً . أو مستحقون أن يهلكوا لأنه لا غناء عندهم ولا جدوى في حياتهم . أو مستحقون لأن يدعي عليهم بالخسارة والدّمار ، وأن يقال : خسرهم الله ودمّرهم حين أكل الذئب بعضهم وهم حاضرون . وقيل : إن لم نقدر على حفظ بعضنا فقد هلكت مواشنا إذاً وخسرناها فإن قلت : قد اعتذر إليهم بعذرين ، فلم أجابوا عن أحدهما دون الآخر؟ قلت : هو الذي كان يغيظهم ويذيقهم الأمّرين فأعاروه آذاناً صما ولم يعبؤوا به .
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)
{ أَن يَجْعَلُوهُ } مفعول { أَجْمَعُواْ } من قولك : أجمع الأمر وأزمعه { فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ } [ يونس : 71 ] . وقرىء : «في غيابات» الجب : وقيل هو بئر بيت المقدس . وقيل : بأرض الأردنّ وقيل : بين مصر ومدين . وقيل : على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب . وجواب «لما» محذوف . ومعناه : فعلوا به ما فعلوا من الأذى ، فقد روي أنهم لما برزوا به إلى البرّية أظهروا له العدواة وأخذوا يهنونه ويضربونه ، وكلما استغاث بواحد منهم لم يغثه إلا بالإهانة والضرب ، حتى كادوا يقتلونه . فجعل يصيح : يا أبتاه ، لو تعلم ما يصنع بابنك أولاد الإماء ، فقال يهوذا : أما أعطيتموني موثقاً أن لا تقتلوه؟ فلما أرادوا إلقاءه في الجب تعلق بثيابهم فنزعوها من يده ، فتعلق بحائط البئر فربطوا يديه ونزعوا قميصه ، فقال : يا إخوتاه ، ردّوا عليّ قميصي أتوارى به ، وإنما نزعوه ليلطخوه بالدم ويحتالوا به على أبيهم ، فقالوا له : ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكباً تؤنسك ، ودلوه في البئر ، فلما بلغ نصفها ألقوه ليموت ، وكان في البئر ماء فسقط فيه ثم أوى إلى صخرة فقام عليها وهو يبكي ، فنادوه فظنّ أنها رحمة أدركتهم ، فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه ليقتلوه فمنعهم يهوذا ، وكان يهوذا يأتيه بالطعام . ويروى أن إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار وجرّد عن ثيابه أتاه جبريل بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه ، فدفعه إبراهيم إلى إسحاق ، وإسحاق إلى يعقوب ، فجعله يعقوب في تميمة علقها في عنق يوسف ، فجاء جبريل فأخرجه وألبسه إياه { وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ } قيل أُوحي إليه في الصغر كما أُوحي إلى يحيى وعيسى : وقيل كان إذا ذاك مدركاً . وعن الحسن : كان له سبع عشرة سنة { لَتُنَبّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا } وإنما أُوحي إليه ليؤنس في الظلمة والوحشة ، ويبشر بما يؤول إليه أمره . ومعناه : لتتخلصن مما أنت فيه ، ولتحدّثن إخوتك بما فعلوا بك { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } أنك يوسف لعلوّ شأنك وكبرياء سلطانك ، وبعد حالك عن أوهامهم ، ولطول العهد المبدّل للهيئات والأشكال ، وذلك أنهم حين دخلوا عليه ممتارين فعرفهم وهم له منكرون ، دعا بالصواع فوضعه على يده ، ثم نقره فطنّ فقال : إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف ، وكان يدنيه دونكم ، وأنكم انطلقتم به وألقيتموه في غيابة الجب ، وقلتم لأبيكم : أكله الذئب ، وبعتموه بثمن بخس . ويجوز أن يتعلق { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } بقوله { وَأَوْحَيْنَا } على أنا آنسناه بالوحي وأزلنا عن قلبه الوحشة ، وهم لا يشعرون ذلك ويحسبون أنه مرهق مستوحش لا أنيس له وقرىء : «لننبئنهم» بالنون على أنه وعيد لهم . وقوله : { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } متعلق بأوحينا لا غير .
وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)
وعن الحسن «عشيا» على تصغير عشيّ يقال : لقيته عشيا وعشياناً ، وأصيلا وأصيلاناً ورواه ابن جني : عشى ، بضم العين والقصر . وقال عشوا من البكاء . وروي أن امرأة حاكمت إلى شريح فبكت فقال له الشعبي : يا أبا أمية ، أما تراها تبكي؟ فقال : قد جاء إخوة يوسف يبكون وهم ظلمة : ولا ينبغي لأحد أن يقضي إلا بما أمر أن يقضي به من السنة المرضية . وروي أنه لما سمع صوتهم فزع وقال : ما لكم يا بنيّ؟ هل أصابكم في غنمكم شيء؟ قالوا : لا . قال : فما لكم وأين يوسف؟ { قَالُواْ يأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ } أي نتسابق ، والافتعال والتفاعل يشتركان كالانتضال والتناضل : والارتماء والترامي ، وغير ذلك . والمعنى : نتسابق في العدو أو في الرمي . وجاء في التفسير : ننتضل { بِمُؤْمِنٍ لَّنَا } بمصدّق لنا { وَلَوْ كُنَّا صادقين } ولو كنا عندك من أهل الصدق والثقة ، لشدّة محبتك ليوسف ، فكيف وأنت سيء الظن بنا ، غير واثق بقولنا .
وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)
{ بِدَمٍ كَذِبٍ } ذي كذب . أو وصف بالمصدر مبالغة ، كأنه نفس الكذب وعينه ، كما يقال للكذاب : هو الكذب بعينه ، والزور بذاته . ونحوه .
فَهُنَّ بِهِ جُودٌ وَأنْتُمْ بِهِ بُخْلُ ... وقرىء : «كذباً» نصباً على الحال ، بمعنى جاءوا به كاذبين ، ويجوز أن يكون مفعولاً له . وقرأت عائشة رضي الله عنها : كدب ، بالدال غير المعجمة ، أي كدر . وقيل : طري ، وقال ابن جني : أصله من الكدب وهو الفوف : البياض الذي يخرج على أظفار الأحداث . كأنه دم قد أثر في قميصه . روي أنهم ذبحوا سخلة ولطخوه بدمها ، وزلّ عنهم أن يمزقوه . وروي أنّ يعقوب لما سمع بخبر يوسف صاح بأعلى صوته وقال : أين القميص؟ فأخذه وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص وقال : تالله ما رأيت كاليوم ذئباً أحلم من هذا ، أكل ابني ولم يمزق عليه قميصه . وقيل كان في قميص يوسف ثلاث آيات : كان دليلاً ليعقوب على كذبهم ، وألقاه على وجهه فارتد بصيراً ، ودليلا على براءة يوسف حين قدّ من دبر . فإن قلت : { على قَمِيصِهِ } ما محله؟ قلت : محله النصب على الظرف ، كأنه قيل : وجاءوا فوق قميصه بدم كما تقول : جاء على جماله بأحمال . فإن قلت : هل يجوز أن تكون حالا متقدمة؟ قلت : لا ، لأنّ حال المجرور لا تتقدم عليه { سَوَّلَتْ } سهلت من السول وهو الاسترخاء ، أي : سهلت { لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا } عظيماً ارتكبتموه من يوسف وهوّنته في أعينكم : استدل على فعلهم به بما كان يعرف من حسدهم وبسلامة القميص . أو أُوحي إليه بأنهم قصدوه { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } خبر أو مبتدأ لكونه موصوفاً أي فأمري صبر جميل ، أو فصبر جميل أمثل ، وفي قراءة أبيّ : «فصبراً جميلاً» والصبر الجميل جاء في الحديث المرفوع :
( 540 ) [ «أنه الذي لا شكوى فيه » ومعناه الذي لا شكوى فيه إلى الخلق . ] ألا ترى إلى قوله : { إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى الله } [ يوسف : 86 ] وقيل : لا أعايشكم على كآبة الوجه ، بل أكون لكم كما كنت وقيل : سقط حاجبا يعقوب على عينيه فكان يرفعهما بعصابة ، فقيل له : ما هذا؟ فقال : طول الزمان وكثرة الأحزان . فأوحى الله تعالى إليه : يا يعقوب أتشكوني؟ قال : يا رب . خطيئة فاغفرها لي { والله المستعان } أي أستعينه { على } احتمال { مَا تَصِفُونَ } من هلاك يوسف والصبر على الرزء فيه .
وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19)
{ وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ } رفقة تسير من قبل مدين إلى مصر ، وذلك بعد ثلاثة أيام من إلقاء يوسف في الجب ، فأخطئوا الطريق فنزلوا قريباً منه ، وكان الجب في قفرة بعيدة من العمران لم يكن إلا للرعاة . وقيل : كان ماؤها ملحاً . فعذب حين ألقي فيه يوسف { فَأَرْسَلُواْ } رجلا يقال له مالك ابن ذعر الخزاعي ، ليطلب لهم الماء . والوارد : الذي يرد الماء ليستقي للقوم { يابشرى } نادى البشرى ، كأنه يقول : تعالى ، فهذا من آونتك وقرىء : «يا بشراي» على إضافتها إلى نفسه . وفي قراءة الحسن وغيره : «يا بشري» بالياء مكان الألف ، جعلت الياء بمنزلة الكسرة قبل ياء الإضافة وهي لغة للعرب مشهورة سمعت أهل السروات يقولون في دعائهم : يا سيدي ومولي . وعن نافع : يا بشراي بالسكون ، وليس بالوجه لما فيه من التقاء الساكنين على غير حدّه ، إلا أن يقصد الوقف . وقيل : لما أدلى دلوه أي أرسلها في الجب تعلق يوسف بالحبل ، فلما خرج إذا هو بغلام أحسن ما يكون ، فقال : يا بشراي { هذا غُلاَمٌ } وقيل : ذهب به ، فلما دنا من أصحابه صاح بذلك يبشرهم به { وَأَسَرُّوهُ } الضمير للوارد وأصحابه : أخفوه من الرفقة . وقيل : أخفوا أمره ووجدانهم له في الجب ، وقالوا لهم : دفعه إلينا أهل الماء لنبيعه لهم بمصر . وعن ابن عباس أنّ الضمير لإخوة يوسف ، وأنهم قالوا للرفقة هذا غلام لنا قد أبق فاشتروه منا ، وسكت يوسف مخافة أن يقتلوه . و { بضاعة } نصب على الحال ، أي : أخفوه متاعاً للتجارة . والبضاعة : ما بضع من المال للتجارة أي قطع { والله عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } لم يخف عليه أسرارهم ، وهو وعيد لهم حيث استبضعوا ما ليس لهم . أو : والله عليم بما يعمل إخوة يوسف بأبيهم وأخيهم من سوء الصنيع .
وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)
{ وَشَرَوْهُ } وباعوه { بِثَمَنٍ بَخْسٍ } مبخوس ناقص عن القيمة نقصاناً ظاهراً ، أو زيف ناقص العيار { دراهم } لا دنانير { مَّعْدُودَةً } قليلة تعدّ عدّاً ولا توزن ، لأنهم كانوا لا يزنون إلا ما بلغ الأوقية وهي الأربعون ، ويعدّون ما دونها . وقيل للقليلة معدودة؛ لأنّ الكثيرة يمتنع من عدّها لكثرتها . وعن ابن عباس : كانت عشرين درهماً . وعن السدي : اثنين وعشرين { وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين } ممن يرغب عما في يده فيبيعه بما طف من الثمن لأنهم التقطوه ، والملتقط للشيء متهاون به لا يبالي بم باعه ، ولأنه يخاف أن يعرض له مستحق ينتزعه من يده فيبيعه من أوّل مساوم بأوكس الثمن . ويجوز أن يكون معنى { وَشَرَوْهُ } واشتروه ، يعني الرفقة من إخوته { وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزهدين } لأنهم اعتقدوا أنه آن فخافوا أن يخطروا بما لهم فيه . ويروى أنّ إخوته اتبعوهم يقولون لهم : استوثقوا منه لا يأبق . وقوله : { فِيهِ } ليس من صلة { الزاهدين } لأنّ الصلة لا تتقدّم على الموصول . ألا تراك لا تقول : وكانوا زيداً من الضاربين ، وإنما هو بيان ، كأنه قيل : في أي شيء زهدوا؟ فقال : زهدوا فيه .
وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)
{ الذى اشتراه } قيل هو قطفير أو أطفير ، وهو العزيز الذي كان على خزائن مصر ، والملك يؤمئذ الريان بن الوليد رجل من العماليق ، وقد آمن بيوسف ومات في حياة يوسف ، فملك بعده قابوس بن مصعب ، فدعاه يوسف إلى الإسلام فأبى ، واشتراه العزيز وهو ابن سبع عشرة سنة ، وأقام في منزله ثلاث عشرة سنة ، واستوزره ريان بن الوليد وهو ابن ثلاثين سنة ، وآتاه الله العلم والحكمة وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة ، وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة . وقيل : كان الملك في أيامه فرعون موسى ، عاش أربعمائة سنة بدليل قوله : { وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بالبينات } [ غافر : 34 ] وقيل : فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف . وقيل : اشتراه العزيز بعشرين ديناراً وزوجي نعل وثوبين أبيضين . وقيل : أدخلوه السوق يعرضونه فترافعوا في ثمنه ، حتى بلغ ثمنه وزنه مسكاً وورقاً وحريراً ، فابتاعه قطفير بذلك المبلغ { أَكْرِمِى مَثْوَاهُ } اجعلي منزله ومقامه عندنا كريماً ، أي حسناً مرضياً ، بدليل قوله { إِنَّهُ رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَاىَّ } [ يوسف : 23 ] والمراد تفقديه بالإحسان وتعهديه بحسن الملكة ، حتى تكون نفسه طيبة في صحبتنا ، ساكنة في كنفنا . ويقال للرجل : كيف أبو مثواك وأم مثواك لمن ينزل به من رجل أو امرأة ، يراد : هل تطيب نفسك بثوائك عنده ، وهل يراعى حق نزولك به . واللام في { لاِمْرَأَتِهِ } متعلقةبقال ، لا باشتراه { عسى أَن يَنفَعَنَا } لعله إذا تدرّب وراض الأمور وفهم مجاريها ، نستظهر به على بعض ما نحن بسبيله ، فينفعنا فيه بكفايته وأمانته . أو نتبناه ونقيمه مقام الولد ، وكان قطفير عقيماً لا يولد له ، وقد تفرس فيه الرشد فقال ذلك . وقيل : أفرس الناس ثلاثة : العزيز حين تفرس في يوسف ، فقال لامرأته { أَكْرِمِى مَثْوَاهُ عسى أَن يَنفَعَنَا } والمرأة التي أتت موسى وقالت لأبيها { ياأبت استجره } [ القصص : 26 ] وأبو بكر حين استخلف عمر رضي الله عنهما . وروي أنه سأله عن نفسه ، فأخبره بنسبه فعرفه { وكذلك } الإشارة إلى ما تقدّم من إنجائه وعطف قلب العزيز عليه ، والكاف منصوب تقديره : ومثل ذلك الإنجاء والعطف { مَكَّنَّا } له ، أي : كما أنجيناه وعطفنا عليه العزيز ، كذلك مكنا له في أرض مصر وجعلناه ملكاً يتصرف فيها بأمره ونهيه { وَلِنُعَلّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الاحاديث } كان ذلك الإنجاء والتمكين لأنّ غرضنا ليس إلا ما تحمد عاقبته من علم وعمل { والله غَالِبٌ على أَمْرِهِ } على أمر نفسه : لا يمنع عما يشاء ولا ينازع ما يريد ويقضي . أو على أمر يوسف يدبره لا يكله إلى غيره ، قد أراد إخوته به ما أرادوا ، ولم يكن إلا ما أراد الله ودبره { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } أن الأمر كله بيد الله .
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)
قيل في الأشدّ : ثماني عشرة ، وعشرون ، وثلاث وثلاثون ، وأربعون . وقيل : أقصاه ثنتان وستون { حُكْمًا } حكمة وهو العلم بالعمل واجتناب ما يجهل فيه . وقيل : حكما بين الناس وفقها { وَكَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين } تنبيه على أنه كان محسناً في عمله ، متقياً في عنفوان أمره ، وأنّ الله آتاه الحكم والعلم جزاء على إحسانه . وعن الحسن : من أحسن عبادة ربه في شبيبته آتاه الله الحكمة في اكتهاله .
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)
المراودة : مفاعلة ، من راد يرود إذا جاء وذهب ، كأن المعني : خادعته عن نفسه ، أي : فعلت ما يفعل المخادع لصاحبه عن الشيء الذي لا يريد أن يخرجه من يده ، يحتال أن يغلبه عليه ويأخذه منه ، وهي عبارة عن التحمل لمواقعته إياها { وَغَلَّقَتِ الأبواب } قيل : كانت سبعة . وقرىء : «هَيت» بفتح الهاء وكسرها مع فتح التاء ، وبناؤها كبناء أين ، وعيط . وهيت كجير وهيت كحيث . وهئت بمعنى تهيأت يقال : هاء يهيء ، كجاء يجيء : إذا تهيأ . وهيئت لك واللام من صلة الفعل وأما في الأصوات فللبيان كأنه قيل : لك أقول هذا ، كما تقول : هلم لك { مَعَاذَ الله } أعوذ بالله معاذاً { إِنَّهُ } إن الشأن والحديث { ربى } سيدي ومالكي ، يريد قطفير { أَحْسَنَ مَثْوَاىَّ } حين قال لك أكرمي مثواه ، فما جزاؤه أن أخلفه في أهله سوء الخلافة وأخونه فيهم { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون } الذين يجازون الحسن بالسيء . وقيل : أراد الزناة لأنهم ظالمون أنفسهم . وقيل : أراد الله تعالى ، لأنه مسبب الأسباب .
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)
همّ بالأمر إذا قصده وعزم عليه ، قال :
همَمْتُ وَلَمْ أفعل وَكِدْتُ وَلَيْتَنِي ... تَرَكْتُ عَلَى عُثْمانَ تَبْكي حَلاَئِلُهْ
ومنه قولك : لا أفعل ذلك ولا كيداً ولا هماً . أي ولا أكاد أن أفعله كيداً ، ولا أهم بفعله هماً ، حكاه سيبويه ، ومنه : الهمام وهو الذي إذا همّ بأمر أمضاه ولم ينكل عنه . وقوله : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ } معناه . ولقد همت بمخالطته { وَهَمَّ بِهَا } وهمّ بمخالطتها { لَوْلا أَن رأى بُرْهَانَ رَبّهِ } جوابه محذوف ، تقديره : لولا أن رأى برهان ربه لخالطها ، فحذف؛ لأنّ قوله : { وَهَمَّ بِهَا } يدل عليه ، كقولك : هممت بقتله لولا أني خفت الله ، معناه لولا أني خفت الله [ لقتلته ] . فإن قلت : كيف جاز على نبيّ الله أن يكون منه هم بالمعصية وقصدٌ إليها؟ قلت المراد أنّ نفسه مالت إلى المخالطة ونازعت إليها عن شهوة الشباب وقرمه ميلاً يشبه الهم به والقصد إليه ، وكما تقتضيه صورة تلك الحال التي تكاد تذهب بالعقول والعزائم . وهو يكسر ما به ويردّه بالنظر في برهان الله المأخوذ على المكلفين من وجوب اجتناب المحارم ، ولو لم يكن ذلك الميل الشديد المسمى هماً لشدّته لما كان صاحبه ممدوحاً عند الله بالامتناع؛ لأن استعظام الصبر على الابتلاء ، على حسب عظم الابتلاء وشدته . ولو كان همه كهمها عن عزيمة ، لما مدحه الله بأنه من عباده المخلصين . ويجوز أن يريد بقوله : { وَهَمَّ بِهَا } وشارف أن يهم بها ، كما يقول الرجل : قتلته لو لم أخف الله ، يريد مشارفة القتل ومشافهته . كأنه شرع فيه فإن قلت : قوله { وَهَمَّ بِهَا } داخل تحت حكم القسم في قوله : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ } أم هو خارج منه؟ قلت : الأمران جائزان . ومن حق القارىء إذا قدّر خروجه من حكم القسم وجعله كلاماً برأسه أن يقف على قوله : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ } ويبتدىء قوله : { وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّءَا بُرْهَانَ رَبّهِ } وفيه أيضاً إشعار بالفرق بين الهمين . فإن قلت : لم جعلت جواب لولا محذوفاً يدل عليه هم بها وهلا جعلته هو الجواب مقدماً فإن قلت : لأن لولا لا يتقدم عليها جوابها ، من قبل أنه في حكم الشرط ، وللشرط صدر الكلام وهو مع ما في حيزه من الجملتين مثل كلمة واحدة ، ولا يجوز تقديم بعض الكلمة على بعض . وأما حذف بعضها إذا دلّ الدليل عليه فجائز ، فإن قلت : فلم جعلت «لولا» متعلقة بهمّ بها وحده ولم تجعلها متعلقة بجملة قوله : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا } لأن الهمّ لا يتعلق بالجواهر ولكن بالمعاني . فلا بدّ من تقدير المخالطة والمخالطة لا تكون إلا من اثنين معاً ، فكأنه قيل : ولقد هما بالمخالطة لولا أن منع مانع أحدهما؟ قلت : نعم ما قلت ، ولكنّ الله سبحانه وتعالى قد جاء بالهمين على سبيل التفصيل حيث قال { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا } فكان إغفاله إلغاء له ، فوجب أن يكون التقدير ، ولقد همت بمخالطته وهم بمخالطتها ، على أنّ المراد بالمخالطتين توصلها إلى ما هو حظها من قضاء شهوتها منه ، وتوصله إلى ما هو حظه من قضاء شهوته منها { لَوْلا أَن رَّءَا بُرْهَانَ رَبّهِ } فترك التوصل إلى حظه من الشهوة؛ فلذلك كانت «لولا» حقيقة بأن تعلق بهمّ بها وحده ، وقد فسرهمّ يوسف بأنه حل الهميان وجلس منها مجلس المجامع ، وبأنه حل تكة سراويله وقعد بين شعبها الأربع وهي مستلقية على قفاها ، وفسر البرهان بأنه سمع صوتاً : إياك وإياها ، فلم يكترث له ، فسمعه ثانياً فلم يعمل به ، فسمع ثالثاً : أعرض عنها فلم ينجع فيه حتى مثل له يعقوب عاضاً على أنملته .
وقيل : ضرب بيده في صدره فخرجت شهوته من أنامله . وقيل : كل ولد يعقوب له اثنا عشر ولداً إلا يوسف ، فإنه ولد له أحد عشر ولداً من أجل ما نقص من شهوته حين همّ ، وقيل : صيح به : يا يوسف ، لا تكن كالطائر : كان له ريش ، فلما زنى قعد لا ريش له . وقيل : بدت كف فيما بينهما ليس لها عضد ولا معصم ، مكتوب فيها { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لحافظين كِرَاماً كاتبين } [ الانفطار : 11 ] فلم ينصرف ، ثم رأى فيها { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً } [ الإسراء : 32 ] فلم ينته ، ثم رأى فيها { واتقوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله } [ البقرة : 281 ] فلم ينجع فيه ، فقال الله لجبريل عليه السلام : أدرك عبدي قبل أن يصيب الخطيئة ، فانحط جبريل وهو يقول : يا يوسف ، أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب في ديوان الأنبياء؟ وقيل : رأى تمثال العزيز . وقيل : قامت المرأة إلى صنم كان هناك فسترته وقالت : أستحي منه أن يرانا . فقال يوسف استحييت ممن لا يسمع ولا يبصر ، ولا أستحي من السميع البصير ، العليم بذوات الصدور . وهذا ونحوه . مما يورده أهل الحشو والجبر الذين دينهم بهت الله تعالى وأنبيائه ، وأهل العدل والتوحيد ليسوا من مقالاتهم ورواياتهم بحمد الله بسبيل ، ولو وُجِدَت من يوسف عليه السلام أدنى زلة لنُعِيت عليه وذُكِرَت توبته واستغفاره ، كما نُعِيَت على آدم زلته ، وعلى داود ، وعلى نوح ، وعلى أيوب ، وعلى ذي النون ، وذُكِرت توبتهم واستغفارهم ، كيف وقد أثنى عليه وسمي مخلصاً ، فعلم بالقطع أنه ثبت في ذلك المقام الدحض ، وأنه جاهد نفسه مجاهدة أُولي القوّة والعزم ، ناظراً في دليل التحريم ووجه القبح ، حتى استحق من الله الثناء فيما أَنزل من كتب الأولين ، ثم في القرآن الذي هو حجة على سائر كتبه ومصداق لها ، ولم يقتصر إلا على استيفاء قصته وضرب صورة كاملة عليها ، ليجعل له لسان صدق في الآخرين ، كما جعله لجدّه الخليل إبراهيم عليه السلام ، وليقتدي به الصالحون إلى آخر الدهر في العفة وطيب الإزار والتثبت في مواقف العثار ، فأخزى الله أولئك في إيرادهم ما يؤدّي إلى أن يكون إنزال الله السورة التي هي أحسن القصص في القرآن العربي المبين ليقتدي بنبي من أنبياء الله ، في القعود بين شعب الزانية وفي حل تكته للوقوع عليها ، وفي أن ينهاه ربه ثلاث كرّات ويصاح به من عنده ثلاث صيحات بقوارع القرآن ، وبالتوبيخ العظيم ، وبالوعيد الشديد ، وبالتشبيه بالطائر الذي سقط ريشه حين سفد غير أنثاه ، وهو جاثم في مربضه لا يتحلحل ولا ينتهي ولا ينتبه ، حتى يتداركه الله بجبريل وبإجباره ، ولو أن أوقح الزناة وأشطرهم وأحدهم حدقة وأصلحهم وجهاً لقي بأدنى ما لقي به نبي الله مما ذكروا ، لما بقي له عرق ينبض ولا عضو يتحرّك .
فيا له من مذهب ما أفحشه ، ومن ضلال ما أبينه { كذلك } الكاف منصوب المحل ، أي مثل ذلك التثبيت ثبتناه . أو مرفوعه ، أي الأمر مثل ذلك { لِنَصْرِفَ عَنْهُ السوء } من خيانة السيد { والفحشاء } من الزنا { إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين } الذين أخلصوا دينهم لله ، وبالفتح الذين أخلصهم الله لطاعته بأن عصمهم . ويجوز أن يريد بالسوء . مقدّمات الفاحشة ، من القبلة والنظر بشهوة ، ونحو ذلك . وقوله : { مّنْ عِبَادِنَا } معناه بعض عبادنا ، أي : هو مخلص من جملة المخلصين . أو هو ناشىء منهم ، لأنه من ذرية إبراهيم الذين قال فيهم { إِنَّا أخلصناهم بِخَالِصَةٍ } [ ص : 46 ] .
وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)
{ واستبقا الباب } وتسابقا إلى الباب على حذف الجارّ وإيصال الفعل ، كقوله { واختار موسى قَوْمَهُ } [ الأعراف : 155 ] [ أو ] على تضمين «استبقا» معنى «ابتدرا» نفر منها يوسف ، فأسرع يريد الباب ليخرج وأسرعت وراءه لتمنعه الخروج . فإن قلت : كيف وجد الباب ، وقد جمعه في قوله { وَغَلَّقَتِ الأبواب } [ يوسف : 23 ] قلت : أراد الباب البراني الذي هو المخرج من الدار والمخلص من العار ، فقد روى كعب أنه لما هرب يوسف جعل فراش القفل يتناثر ويسقط حتى خرج من الأبواب { وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ } اجتذبته من خلفه فانقد ، أي انشق حين هرب منها إلى الباب وتبعته تمنعه { وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا } وصادفا بعلها وهو قطفير ، تقول المرأة لبعلها : سيدي . وقيل : إنما لم يقل سيدهما ، لأنّ ملك يوسف لم يصح ، فلم يكن سيداً له على الحقيقة . قيل : ألفياه مقبلاً يريد أن يدخل . وقيل جالساً مع ابن عمّ للمرأة . لما اطلع منها زوجها على تلك الهيئة المريبة وهي مغتاظة على يوسف إذ لم يؤاتها جاءت بحيلة جمعت فيها غرضيها : وهما تبرئة ساحتها عند زوجها من الريبة والغضب على يوسف ، وتخويفه طمعاً في أن يؤاتيها خيفة منها ومن مكرها ، وكرها لما أيست من مؤاتاته طوعاً . ألا ترى إلى قولها : { وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا ءامُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ } [ يوسف : 32 ] و «ما» نافية ، أي : ليس جزاؤه إلا السجن . ويجوز أن تكون استفهامية ، بمعنى : أي شيء جزاؤه إلا السجن ، كما تقول : مَنْ في الدار إلا زيد . فإن قلت : كيف لم تصرح في قولها بذكر يوسف ، وإنه أراد بها سوءاً؟ قلت : قصدت العموم ، وأنّ كل من أراد بأهلك سوءاً فحقه أن يسجن أو يعذب ، لأنّ ذلك أبلغ فيما قصدته من تخويف يوسف . وقيل : العذاب الأليم الضرب بالسياط . ولما أغرت به وعرّضته للسجن والعذاب وجب عليه الدفع عن نفسه فقال : { هِىَ رَاوَدَتْنِى عَن نَّفْسِى } ولولا ذلك لكتم عليها { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّنْ أَهْلِهَا } قيل كان ابن عمّ لها ، إنما ألقى الله الشهادة على لسان من هو من أهلها؛ لتكون أوجب للحجة عليها ، وأوثق لبراءة يوسف ، وأنفى للتهمة عنه . وقيل : هو الذي كان جالساً مع زوجها لدى الباب . وقيل كان حكيماً يرجع إليه الملك ويستشيره ويجوز أن يكون بعض أهلها كان في الدار فبصر بها من حيث لا تشعر ، فأغضبه الله ليوسف بالشهادة له والقيام بالحق . وقيل : كان ابن خال لها صبياً في المهد . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 541 ) " تكلم أربعة وهم صغار : ابن ماشطة فرعون ، وشاهد يوسف ، وصاحب جريج ، وعيسى " فإن قلت : لم سمي قوله شهادة وما هو بلفظ الشهادة؟ قلت : لما أدّى مؤدى الشهادة في أن ثبت به قول يوسف وبطل قولها سمي شهادة : فإن قلت : الجملة الشرطية كيف جازت حكايتها بعد فعل الشهادة؟ قلت : لأنها قول من القول ، أو على إرادة القول ، كأنه قيل : وشهد شاهد فقال إن كان قميصه .
فإن قلت : إن دل قدّ قميصه من دبر على أنها كاذبة وأنها هي التي تبعته واجتبذت ثوبه إليها فقدّته ، فمن أين دل قدّه من قبل على أنها صادقة ، وأنه كان تابعها؟ قلت : من وجهين ، أحدهما : أنه إذا كان تابعها وهي دافعته عن نفسها قدت قميصه من قدّامه بالدفع . والثاني : أن يسرع خلفها ليلحقها فيتعثر في مقادم قميصه فيشقه . وقرىء : «من قبل» ومن دبر ، بالضم على مذهب الغايات . والمعنى : من قبل القميص ومن دبره . وأما التنكير فمعناه من جهة يقال لها قبل ، ومن جهة يقال لها دبر . وعن ابن أبي إسحاق أنه قرأ : «من قبل» و «من دبر» بالفتح ، كأنه جعلهما علمين للجهتين فمنعهما الصرف للعلمية والتأنيث . وقرئا بسكون العين . فإن قلت : كيف جاز الجمع بين «إن» الذي هو للاستقبال وبين «كان»؟ قلت : لأنّ المعنى أن يعلم أنه كان قميصه قدّ ، ونحوه كقولك : إن أحسنت إليّ فقد أحسنت إليك من قبل ، لمن يمتن عليك بإحسانه ، تريد : إن تمتن عليَّ أمتنَّ عليك { فَلَماَّ رَّءَا } يعني قطفير وعلم براءة يوسف وصدقه وكذبها { قَالَ إِنَّهُ } إن قولك { مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءا } أو إنّ الأمر وهو طمعها في يوسف { مِن كَيْدِكُنَّ } الخطاب لها ولأمتها . وإنما استعظم كيد النساء لأنه وإن كان في الرجال ، إلا أنّ النساء ألطف كيداً وأنفذ حيلة . ولهنّ في ذلك نيقة ورفق ، وبذلك يغلبن الرجال . ومنه قوله تعالى : { وَمِن شَرّ النفاثات فِى العقد } [ الفلق : 4 ] والقصريات من بينهنّ معهنّ ما ليس مع غيرهنّ من البوائق وعن بعض العلماء : أنا أخاف من النساء أكثر مما أخاف من الشيطان ، لأنّ الله تعالى يقول : { إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفاً } [ النساء : 76 ] وقال للنساء : { إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } . { يُوسُفَ } حذف منه حرف النداء لأنه منادى قريب مفاطن للحديث وفيه تقريب له وتلطيف لمحله { أَعْرِضْ عَنْ هذا } الأمر واكتمه ولا تحدّث به { واستغفرى } أنت { لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخاطئين } من جملة القوم المتعمدين للذنب . يقال : خطىء ، إذا أذنب متعمداً ، وإنما قال : { مِنَ الخاطئين } بلفظ التذكير تغليباً للذكور على الإناث ، وما كان العزيز إلا رجلاً حليماً . وروي أنه كان قليل الغيرة .
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32)
{ وَقَالَ نِسْوَةٌ } وقال جماعة من النساء وكنّ خمساً : امرأة الساقي ، وامرأة الخباز ، وامرأة صاحب الدواب ، وامرأة صاحب السجن ، وامرأة الحاجب . والنسوة اسم مفرد لجمع المرأة وتأنيثه غير حقيقي كتأنيث اللمة ، ولذلك لم تلحق فعله تاء التأنيث . وفيه لغتان : كسر النون وضمها { فِى المدينة } في مصر { امرأت العزيز } يردن قطفير ، والعزيز : الملك بلسان العرب { فتاها } غلامها . يقال : فتاي وفتاتي ، أي غلامي وجاريتي { شَغَفَهَا } خرق حبه شغاف قلبها حتى وصل إلى الفؤاد ، والشغاف حجاب القلب ، وقيل جلدة رقيقة يقال لها لسان القلب . قال النابغة :
وَقَدْ حَالَ هَمٌّ دُونَ ذَلِكَ وَالِج ... مَكَانَ الشِّغَافِ تَبْتَغِيهِ الأَصَابِعُ
وقرىء : «شعفها» بالعين ، من شعف البعير إذا هنأه فأحرقه بالقطران ، قال :
كَمَا شَعَفَ المَهْنُوءَةَ الرَّجُلُ الطّالي ... و { حَبّاً } نصب على التمييز { فِى ضلال مُّبِينٍ } في خطأ وبُعدٍ عن طريق الصواب { بِمَكْرِهِنَّ } باغتيابهنّ وسوء قالتهن ، وقولهنّ : امرأة العزيز عشقت عبدها الكنعاني ومقتها ، وسمي الاغتياب مكراً لأنه في خفية وحالِ غيبة ، كما يخفي الماكر مكره . وقيل : كانت استكتمتهنّ سرّها فأفشينه عليها { أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ } دعتهنّ . قيل : دعت أربعين امرأة منهنّ الخمس المذكورات { وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً } ما يتكئن عليه من نمارق ، قصدت بتلك الهيئة وهي قعودهنّ متكئات والسكاكين في أيديهنّ : أن يدهشن ويبهتن عند رؤيته ، ويشغلن عن نفوسهنّ فتقع أيديهنّ على أيديهنّ فيقطعنها ، لأن المتكىء إذا بهت لشيء وقعت يده على يده ، ولا يبعد أن تقصد الجمع بين المكر به وبهنّ ، فتضع الخناجر في أيديهنّ ليقطعن أيديهنّ ، فتبكتهنّ بالحجة ، ولتهول يوسف من مكرها إذا خرج على أربعين نسوة مجتمعات في أيديهنّ الخناجر ، وتوهمه أنهنّ يثبن عليه . وقيل : متكأ : مجلس طعام لأنهم كانوا يتكؤن للطعام والشراب والحديث كعادة المترفين ، ولذلك .
( 542 ) " نهى أن يأكل الرجل متكئاً " وأتتهنّ السكاكين ليعالجن بها ما يأكلن . وقيل : { مُتَّكَئاً } طعاماً ، من قولك اتكأنا عند فلان : طعمنا ، على سبيل الكناية؛ لأن من دعوته ليطعم عندك اتخذت له تكأة يتكىء عليها . قال جميل :
فَظَلَلْنَا بِنِعْمَةٍ واتَّكَأْنَا ... وَشَرِبْنَا الحَلاَلَ مِنْ قُلَلِهْ
وعن مجاهد { مُتَّكَئاً } طعاماً يحزّ حزّا ، كأن المعنى يعتمد بالسكين؛ لأنّ القاطع يتكىء على المقطوع بالسكين . وقرىء : «متكا» بغير همز . وعن الحسن : «متكاء» بالمدّ ، كأنه مفتعال ، وذلك لإشباع فتحة الكاف ، كقوله «بمُنْتزاحِ» بمعنى بمنتزح . ونحوه «يَنْبَاعُ» بمعنى ينبع . وقرىء : «متكأ» وهو الأترج ، وأنشد :
فَأَهْدَتْ مَتْكَةً لِبَنِي أبِيهَا ... تَخُبُّ بِهَا العَثْمَثَةُ الْوِقَاحُ
وكانت أهدت أترجة على ناقة ، وكأنها الأترجة التي ذكرها أبو داود في سننه أنها شقت بنصفين ، وحملا كالعدلين على جمل . وقيل : الزماورد وعن وهب : أترجا وموزاً وبطيخاً .
وقيل : أعتدت لهنَّ ما يقطع ، من متك الشيء بمعنى بتكه إذا قطعه . وقرأ الأعرج : { مُتَّكَئاَ } مفعلاً ، من تكىء يتكأ ، إذا اتكأ { أَكْبَرْنَهُ } أعظمنه وهبن ذلك الحسن الرائع والجمال الفائق . قيل : كان فضل يوسف على الناس في الحسن كفضل القمر ليلة البدر على نجوم السماء . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 543 ) " مررت بيوسف الليلة التي عرج بي إلى السماء ، فقلت لجبريل : من هذا؟ فقال يوسف ، فقيل : يا رسول الله كيف رأيته؟ قال «كالقمر ليلة البدر "
وقيل : كان يوسف إذا سار في أزقة مصر يرى تلألؤ وجهه على الجدران ، كما يرى نور الشمس من الماء عليها . وقيل : ما كان أحد يستطيع وصف يوسف . وقيل : كان يشبه آدم يوم خلقه ربه . وقيل : ورث الجمال من جدّته سارة . وقيل : أكبرن بمعنى حضن ، والهاء للسكت ، يقال : أكبرت المرأة إذا حاضت ، وحقيقته : دخلت في الكبر لأنها بالحيض تخرج من حدّ الصغر إلى حدّ الكبر ، وكأن أبا الطيب أخذ من هذا التفسير قوله :
خَفِ اللَّهَ وَاسْتُرْ ذَا الْجَمَالَ بِبُرْقَع ... فَإنْ لُحْتَ حَاضَتْ في الْخُدُورِ الْعَوَاتِقُ
{ قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } جرحنها ، كما تقول : كنت أقطع اللحم فقطعت يدي ، تريد : جرحتها { حاشا } كلمة تفيد معنى التنزيه في باب الاستثناء . تقول : أساء القوم حاشا زيد . قال :
حَاشَا أَبِي ثَوْبَانَ إنَّ بِه ... ضَنًّا عَنِ المَلْحَاةِ وَالشَّتْمِ
وهي حرف من حروف الجر ، فوضعت موضع التنزيه والبراءة ، فمعنى «حاشا الله» براءة الله وتنزيه الله ، وهي قراءة ابن مسعود ، على إضافة حاشا إلى الله إضافة البراءة . ومن قرأ : حاشا لله ، فنحو قولك : سقيا لك؛ كأنه قال : براءة ، ثم قال : لله ، لبيان من يبرأ وينزه . والدليل على تنزيل «حاشا» منزلة المصدر : قراءة أبي السمال : { حاشا لله } بالتنوين . وقراءة أبي عمرو « { حَاشَ للَّهِ } » بحذف الألف الآخرة . وقراءة الأعمش « { حشا لله } » بحذف الألف الأولى . وقرىء : «حاش لله» بسكون الشين ، على أن الفتحة تبعت الألف في الإسقاط ، وهي ضعيفة لما فيها من التقاء الساكنين على غير حدّه . وقرىء : «حاشا الإله» . فإن قلت : فلم جاز في حاشا لله أن لا ينوّن بعد إجرائه مجرى : براءة لله؟ قلت : مراعاة لأصله الذي هو الحرفية . ألا ترى إلى قولهم : جلست من عن يمينه ، كيف تركوا «عن» غير معرب على أصله؟ وعلى قوله «غدت من عليه» منقلب الألف إلى الياء مع الضمير؟ والمعنى : تنزيه الله تعالى من صفات العجز ، والتعجب من قدرته على خلق جميل مثله . وأما قوله : { حَاشا للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوء } [ يوسف : 51 ] فالتعجب من قدرته على خلق عفيف مثله { مَا هذا بَشَرًا } نفين عنه البشرية لغرابة جماله ومباعدة حسنه ، لما عليه محاسن الصور ، وأثبتن له الملكية وبتتن بها الحكم ، وذلك لأن الله عز وجل ركز في الطباع أن لا أحسن من الملك ، كما ركز فيها أن لا أقبح من الشيطان ، ولذلك يشبه كل متناه في الحسن والقبح بهما ، وما ركز ذلك فيها إلا لأن الحقيقة كذلك ، كما ركز في الطباع أن لا أدخل في الشر من الشياطين ، ولا أجمع للخير من الملائكة ، إلا ما عليه الفئة الخاسئة المجبرة من تفضيل الإنسان على الملك ، وما هو إلا من تعكيسهم للحقائق ، وجحودهم للعلوم الضرورية ، ومكابرتهم في كل باب ، وإعمال «ما» عمل «ليس» هي اللغة القدمى الحجازية وبها ورد القرآن .
ومنها قوله تعالى : { مَّا هُنَّ أمهاتهم } [ المجادلة : 2 ] ومن قرأ على سليقته من بني تميم ، قرأ : «بشر» بالرفع . وهي في قراءة ابن مسعود . وقرىء : «ما هذا بشرى» أي ما هو بعبد مملوك لئيم { إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ } تقول هذا بشرى ، أي حاصل بشرى ، بمعنى : هذا بشرى . وتقول : هذا لك بشري أم بكري؟ والقراءة هي الأولى ، لموافقتها المصحف؛ ومطابقة بشر لملك { قَالَتْ فذلكن } ولم يقل فهذا وهو حاضر ، رفعاً لمنزلته في الحسن ، واستحقاق أن يحب ويفتتن به ، وربئاً بحاله واستبعاداً لمحله ، ويجوز أن يكون إشارة إلى المعنى بقولهنّ : عشقت عبدها الكنعاني . تقول : هو ذلك العبد الكنعاني الذي صوّرتن في أنفسكنّ ، ثم لمتننى فيه . تعني : أنكن لم تصوّرنه بحق صورته ، ولو صوّرتنه بما عاينتن لعذرتني في الافتنان به . الاستعصام : بناء مبالغة يدل على الامتناع البليغ والتحفظ الشديد ، كأنه في عصمة وهو يجتهد في الاستزادة منها . ونحوه استمسك واستوسع الفتق واستجمع الرأي واستفحل الخطب . وهذا بيان لما كان من يوسف عليه السلام لا مزيد عليه ، وبرهان لا شيء أنور منه ، على أنه بريء مما أضاف إليه أهل الحشو مما فسروا به الهمّ والبرهان . فإن قلت : الضمير في { ءَامُرُهُ } راجع إلى الموصول ، أم إلى يوسف؟ قلت : بل إلى الموصول . والمعنى : ما آمر به ، فحذف الجار كما في قولك : أمرتك الخير ، ويجوز أن تجعل «ما» مصدرية ، فيرجع إلى يوسف ومعناه : ولئن لم يفعل أمري إياه ، أي موجب أمري ومقتضاه . قرىء : «وليكونا» بالتشديد والتخفيف . والتخفيف أولى ، لأنّ النون كتبت في المصحف ألفاً على حكم الوقف ، وذلك لا يكون إلا في الخفيفة .
قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)
وقرىء : « { السجن } » بالفتح على المصدر . وقال { يَدْعُونَنِى } على إسناد الدعوة إليهنّ جميعاً ، لأنهنّ تنصحن له وزينّ له مطاوعتها ، وقلن له : إياك وإلقاء نفسك في السجن والصغار ، فالتجأ إلى ربه عند ذلك وقال : ربِّ نزولُ السجن أحبّ إلي من ركوب المعصية . فإن قلت : نزول السجن مشقة على النفس شديدة ، وما دعونه إليه لذة عظيمة ، فكيف كانت المشقة أحبّ إليه من اللذة؟ قلت : كانت أحبّ إليه وآثر عنده نظراً في حسن الصبر على احتمالها لوجه الله ، وفي قبح المعصية ، وفي عاقبة كل واحدة منهما ، لا نظراً في مشتهى النفس ومكروهها { وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنّى كَيْدَهُنَّ } فزع منه إلى ألطاف الله وعصمته ، كعادة الأنبياء والصالحين فيما عزم عليه ووطن عليه نفسه من الصبر ، لا أن يطلب منه الإجبار على التعفف والإلجاء إليه { أَصْبُ إِلَيْهِنَّ } أمل إليهنّ . والصبوة : الميل إلى الهوى . ومنها : الصبا؛ لأنّ النفوس تصبو إليها لطيب نسيمها وروحها وقرىء : «أصب إليهنّ» من الصبابة { مِنَ الجاهلين } من الذين لا يعملون بما يعلمون . لأنّ من لا جدوى لعلمه فهو ومن لا يعلم سواء . أو من السفهاء ، لأنّ الحكيم لا يفعل القبيح . وإنما ذكر الاستجابة ولم يتقدّم الدعاء ، لأنّ قوله { وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنّى } فيه معنى طلب الصرف والدعاء باللطف { السميع } لدعوات الملتجئين إليه { العليم } بأحوالهم وما يصلحهم .
ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)
{ بَدَا لَهُمْ } فاعله مضمر ، لدلالة ما يفسره عليه وهو : ليسجننه ، والمعنى : بدالهم بداء ، أي : ظهر لهم رأي ليسجننه ، والضمير في { لَهُمْ } للعزيز وأهله { مّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات } وهي الشواهد على براءته ، وما كان ذلك إلا باستنزال المرأة لزوجها ، وفتلها منه في الذروة والغارب وكان مطواعة لها وجميلاً ذلولا زمامه في يدها ، حتى أنساه ذلك ما عاين من الآيات وعمل برأيها في سجنه وإلحاق الصغار به كما أوعدته به ، وذلك لما أيست من طاعته لها ، أو لطمعها في أن يذلله السجن ويسخره لها . وفي قراءة الحسن : «لتسجننه» بالتاء على الخطاب : خاطب به بعضهم العزيز ومن يليه ، أو العزيز وحده على وجه التعظيم { حتى حِينٍ } إلى زمان ، كأنها اقترحت أن يسجن زماناً حتى تبصر ما يكون منه . وفي قراءة ابن مسعود «عتى حين» وهي لغة هذيل ، وعن عمر رضي الله عنه أنه سمع رجلاً يقرأ : «عتى حين» فقال : من أقرأك؟ قال : ابن مسعود فكتب إليه : إن الله أنزل هذا القرآن فجعله عربياً وأنزله بلغة قريش ، فأقرىء الناس بلغة قريش ولا تقرئهم بلغة هذيل ، والسلام .
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)
{ مَّعَ } يدل على معنى الصحبة واستحداثها ، تقول : خرجت مع الأمير ، تريد مصاحباً له ، فيجب أن يكون دخولهما السجن مصاحبين له { فَتَيَانَ } عبدان للملك : خبازه وشرابيه : رقي إليه أنهما يسمانه ، فأمر بهما إلى السجن ، فأدخلا ساعة أدخل يوسف عليه السلام { إِنّى أَرَانِى } يعني في المنام ، وهي حكاية حال ماضية { أَعْصِرُ خَمْرًا } يعني عنباً ، تسمية للعنب بما يؤول إليه . وقيل : الخمر - بلغة عمان - : اسم للعنب . وفي قراءة ابن مسعود «أعصر عنباً» { مّنَ المحسنين } من الذين يحسنون عبارة الرؤيا ، أي : يجيدونها ، رأياه يقصّ عليه بعض أهل السجن رؤياه فيؤوّلها له ، فقالا له ذلك . أو من العلماء ، لأنهما سمعاه يذكر للناس ما علما به أنه عالم . أو من المحسنين إلى أهل السجن . فأحسن إلينا بأن تفرّج عنا الغمة بتأويل ما رأينا إن كانت لك يد في تأويل الرؤيا . روي أنه كان إذا مرض رجل منهم قام عليه ، وإذا أضاق وسع له ، وإذا احتاج جمع له . وعن قتادة : كان في السجن ناس قد انقطع رجاؤهم وطال حزنهم ، فجعل يقول : أبشروا اصبروا تؤجروا ، إنّ لهذا لأجراً ، فقالوا : بارك الله عليك ما أحسن وجهك وما أحسن خلقك ! لقد بورك لنا في جوارك ، فمن أنت يا فتى؟ قال : أنا يوسف ابن صفي الله يعقوب ابن ذبيح الله إسحاق ابن خليل الله إبراهيم ، فقال له عامل السجن : لو استطعت خليت سبيلك ، ولكني أحسن جوارك ، فكن في أي بيوت السجن شئت . وروي أن الفتيين قالا له إنا لنحبك من حين رأيناك ، فقال : أنشدكما بالله أن لا تحباني ، فوالله ما أحبني أحد قط إلا دخل عليّ من حبه بلاء ، لقد أحبتني عمتي فدخل عليّ من حبها بلاء ، ثم أحبني أبي فدخل عليّ من حبه بلاء ، ثم أحبتني زوجة صاحبي فدخل عليّ من حبها بلاء ، فلا تحباني - بارك الله فيكما - وعن الشعبي أنهما تحالما له ليمتحناه فقال الشرابي؛ إني أراني في بستان ، فإذا بأصل حبلة عليها ثلاثة عناقيد من عنب ، فقطفتها وعصرتها في كأس الملك ، وسقيته . وقال الخباز : إني أراني وفوق رأسي ثلاث سلال فيها أنواع الأطعمة ، وإذا سباع الطير تنهش منها . فإن قلت : إلام يرجع الضمير في قوله : { نَبّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ } ؟ قلت : إلى ما قصا عليه . والضمير يجري مجرى اسم الإشارة في نحوه كأنه قيل : نبئنا بتأويل ذلك .
قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)
لما استعبراه ووصفاه بالإحسان ، افترض ذلك فوصل به وصف نفسه بما هو فوق علم العلماء ، وهو الإخبار بالغيب ، وأنه ينبئهما بما يحمل إليهما من الطعام في السجن قبل أن يأتيهما ويصفه لهما ، ويقول : اليوم يأتيكما طعام من صفته كيت وكيت ، فيجدانه كما أخبرهما ، وجعل ذلك تخلصاً إلى أن يذكر لهما التوحيد ويعرض عليهما الإيمان ويزينه لهما ، ويقبح إليهما الشرك بالله ، وهذه طريقة على كل ذي علم أن يسلكها مع الجهال والفسقة ، إذا استفتاه واحد منهم أن يقدم الهداية والإرشاد والموعظة والنصيحة أولاً ، ويدعوه إلى ما هو أولى به وأوجب عليه مما استفتى فيه ثم يفتيه بعد ذلك ، وفيه أنّ العالم إذا جهلت منزلته في العلم فوصف نفسه بما هو بصدده - وغرضه أن يقتبس منه وينتفع به في الدين - لم يكن من باب التزيكة { بِتَأْوِيلِهِ } ببيان ماهيته وكيفيته؛ لأنّ ذلك يشبه تفسير المشكل والإعراب عن معناه { ذلكما } إشارة لهما إلى التأويل ، أي ذلك التأويل والإخبار بالمغيبات { مِمَّا عَلَّمَنِى رَبّى } وأوحي به إليّ ولم أقله عن تكهن وتنجم { إِنّى تَرَكْتُ } يجوزأن يكون كلاماً مبتدأ ، وأن يكون تعليلاً لما قبله . أي علمني ذلك وأوحي إليّ؛ لأني رفضت ملة أولئك واتبعت ملة الأنبياء المذكورين وهي الملة الحنيفية ، وأراد بأولئك الذين لا يؤمنون : أهل مصر ومن كان الفتيان على دينهم ، وتكريرهم للدلالة على أنهم خصوصاً كافرون بالآخرة ، وأنّ غيرهم كانوا قوماً مؤمنين بها ، وهم الذين على ملة إبراهيم ، ولتوكيد كفرهم بالجزاء تنبيهاً على ما هم عليه من الظلم والكبائر التي لا يرتكبها إلا من هو كافر بدار الجزاء ، ويجوز أن يكون فيه تعريض بما مني به من جهتهم حين أودعوه السجن ، بعد ما رأوا الآيات الشاهدة على براءته ، وأنّ ذلك ما لا يقدم عليه إلا من هو شديد الكفر بالجزاء وذكر آباءه ليريهما أنه من بيت النبوّة بعد أن عرّفهما أنه نبيّ يوحى إليه ، بما ذكر من إخباره بالغيوب ليقوي رغبتهما في الاستماع إليه واتباع قوله : { مَا كَانَ لَنَا } ما صحّ لنا معشر الأنبياء { أَن نُّشْرِكَ بالله } أي شيء كان من ملك أو جنيّ أو إنسيّ ، فضلاً [ عن ] أن نشرك به صنماً لا يسمع ولا يبصر ، ثم قال { ذلك } التوحيد { مِن فَضْلِ الله عَلَيْنَا وَعَلَى الناس } أي على الرسل وعلى المرسل إليهم؛ لأنهم نبهوهم عليه وأرشدوهم إليه { ولكن أَكْثَرَ الناس } المبعوث إليهم { لاَ يَشْكُرُونَ } فضل الله فيشركون ولا ينتبهون وقيل : إنَّ ذلك من فضل الله علينا لأنه نصب لنا الأدلة التي ننظر فيها ونستدلّ بها . وقد نصب مثل تلك الأدلة لسائر الناس من غير تفاوت ، ولكن أكثر الناس لا ينظرون ولا يستدلون اتباعاً لأهوائهم ، فيبقون كافرين غير شاكرين .
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)
{ ياصاحبى السجن } يريد يا صاحبيَّ في السجن ، فأضافهما إلى السجن كما تقول : يا سارق الليلة ، فكما أن الليلة مسروق فيها غير مسروقة ، فكذلك السجن مصحوب فيه غير مصحوب ، وإنما المصحوب غيره وهو يوسف عليه السلام ، ونحوه قولك لصاحبيك : يا صاحبي الصدق فتضيفهما إلى الصدق ، ولا تريد أنهما صحبا الصدق ، ولكن كما تقول رجلا صدق ، وسميتهما صاحبين لأنهما صحباك . ويجوز أن يريد : يا ساكني السجن ، كقوله : { أصحاب النار وأصحاب الجنة } [ الحشر : 20 ] { ءَأرْبَابٌ مُّتَّفَرّقُونَ } يريد التفرّق في العدد والتكاثر . يقول أأن تكون لكما أرباب شتى ، يستعبدكما هذا ويستعبدكما هذا { خَيْرٌ } لكما { أَمِ } أن يكون لكما رب واحد قهار لا يغالب ولا يشارك في الربوبية ، بل هو { القهار } الغالب ، وهذا مثل ضربه لعبادة الله وحده ولعبادة الأصنام { مَا تَعْبُدُونَ } خطاب لهما ولمن على دينهما من أهل مصر { إِلاَّ أَسْمَاء } يعني أنكم سميتم ما لا يستحق الإلهية آلهة ، ثم طفقتم تعبدونها ، فكأنكم لا تعبدون إلا أسماء فارغة لا مسميات تحتها . ومعنى { سَمَّيْتُمُوهَا } سميتم بها . يقال : سميته بزيد ، وسميته زيداً { مَّا أَنزَلَ الله بِهَا } أي بتسميتها { مّن سلطان } من حجة { إِنِ الحكم } في أمر العبادة والدين { أَلاَ لِلَّهِ } ثم بين ما حكم به فقال { أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذلك الدين القيم } الثابت الذي دلت عليه البراهين .
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)
{ أَمَّا أَحَدُكُمَا } يريد الشرابي { فَيَسْقِى رَبَّهُ } سيده . وقرأ عكرمة «فيسقي ربه» أي يسقي ما يروي به على البناء للمفعول . روي أنه قال للأوّل : ما رأيت من الكرمة وحسنها هو الملك وحسن حالك عنده؛ وأما القضبان الثلاثة فإنها ثلاثة أيام تمضي في السجن ، ثم تخرج وتعود إلى ما كنت عليه ، وقال للثاني : ما رأيت من السلال ثلاثة أيام ثم تخرج فتقتل { قُضِىَ الأمر } قطع وتم ما { تَسْتَفْتِيَانِ } فيه من أمركما وشأنكما . فإن قلت : ما استفتيا في أمر واحد ، بل في أمرين مختلفين ، فما وجه التوحيد؟ قلت : المراد بالأمر ما اتهما به من سمّ الملك وما سجنا من أجله ، وظناً أنّ ما رأياه في معنى ما نزل بهما ، فكأنهما كانا يستفتيانه في الأمر الذي نزل بهما أعاقبته نجاة أم هلاك ، فقال لهما : قُضي الأمر الذي فيه تستفتيان ، أي : ما يجرّ إليه من العاقبة ، وهي هلاك أحدهما ونجاة الآخر . وقيل : جحدا وقالا : ما رأينا شيئاً ، على ما روي أنهما تحالما له ، فأخبرهما أن ذلك كائن صدقتما أو كذبتما .
وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
{ ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ } الظانّ هو يوسف إن كان تأويله بطريق الاجتهاد ، وإن كان بطريق الوحي فالظان هو الشرابي ، ويكون الظنّ بمعنى اليقين { اذكرنى عِندَ رَبّكَ } صفني عند الملك بصفتي ، وقص عليه قصتي لعله يرحمني وينتاشني من هذه الورطة { فَأَنْسَاهُ الشيطان } فأنسى الشرابي { ذِكْرَ رَبّهِ } أن يذكره لربه . وقيل فأنسي يوسف ذكر الله حين وكل أمره إلى غيره { بِضْعَ سِنِينَ } البضع ما بين الثلاث إلى التسع ، وأكثر الأقاويل على أنه لبث فيه سبع سنين . فإن قلت : كيف يقدر الشيطان على الإنسان؟ قلت : يوسوس إلى العبد بما يشغله عن الشيء من أسباب النسيان ، حتى يذهب عنه ويزل عن قلبه ذكره ، وأما الإنساء ابتداء فلا يقدر عليه إلا الله عز وجل { مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ أَوْ نُنسِهَا } [ البقرة : 106 ] . فإن قلت : ما وجه إضافة الذكر إلى ربه إذا أريد به الملك؟ وما هي بإضافة المصدر إلى الفاعل ولا إلى المفعول؟ قلت : قد لابسه في قولك : فأنساه الشيطان ذكر ربه ، أو عند ربه فجازت إضافته إليه ، لأنّ الإضافة تكون بأدنى ملابسة . أو على تقدير : فأنساه الشيطان ذكر أخبار ربه ، فحذف المضاف الذي هو الإخبار . فإن قلت : لم أنكر على يوسف الاستعانة بغير الله في كشف ما كان فيه ، وقد قال الله تعالى : { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى } [ المائدة : 2 ] وقال حكاية عن عيسى عليه السلام { مَنْ أَنصَارِى إِلَى الله } [ آل عمران : 52 ] وفي الحديث :
( 544 ) « الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه المسلم » . ( 545 ) « من فرّج عن مؤمن كربة فرّج الله عنه كربة من كربات الآخرة » وعن عائشة رضي الله عنها :
( 546 ) « أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأخذه النوم ليلة من الليالي ، وكان يطلب من يحرسه حتى جاء سعد فسمعت غطيطه » وهل ذلك إلا مثل التداوي بالأدوية والتقوّى بالأشربة والأطعمة . وإن كان ذلك لأنّ الملك كان كافراً ، فلا خلاف في جواز أن يستعان بالكفار في دفع الظلم والغرق والحرق ونحو ذلك من المضارّ؟ قلت : كما اصطفى الله تعالى الأنبياء على خليقته فقد اصطفى لهم أحسن الأمور وأفضلها وأولاها والأحسن والأولى بالنبي أن لا يكل أمره إذا ابتلي ببلاء إلا إلى ربه ، ولا يعتضد إلا به ، خصوصاً إذا كان المعتضد به كافراً؛ لئلا يشمت به الكفار ويقولوا لو كان هذا على الحق وكان له رب يغيثه لما استغاث بنا . وعن الحسن أنه كان يبكي إذا قرأها ويقول : نحن إذا نزل بنا أمر فزعنا إلى الناس .
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)
لما دنا فرج يوسف ، رأى ملك مصر «الريان بن الوليد» رؤيا عجيبة هالته : رأى سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس . وسبع بقرات عجاف ، فابتلعت العجاف السمان . ورأى سبع سنبلات خضر قد انعقد حبها ، وسبعاً أخر يابسات قد استحصدت وأدركت ، فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها ، فاستعبرها فلم يجد في قومه من يحسن عبارتها { سِمَانٍ } جمع سمين وسمينة ، وكذلك رجال ونسوة كرام . فإن قلت : هل من فرق بين إيقاع { سِمَانٍ } صفة للمميز وهو { بقرات } دون المميز وهو { سَبْعَ } وأن يقال : سبع بقرات سمانا؟ قلت : إذا أوقعتها صفة لبقرات . فقد قصدت إلى أن تميز السبع بنوع من البقرات وهي السمان منهنّ لا بجنسهنّ . ولو وصفت بها السبع لقصدت إلى تمييز السبع بجنس البقرات لا بنوع منها ، ثم رجعت فوصفت المميز بالجنس بالسمن . فإن قلت : هلا قيل : سبع عجاف على الإضافة؟ قلت ، التمييز موضوع لبيان الجنس ، والعجاف وصف لا يقع البيان به وحده . فإن قلت : فقد يقولون : ثلاثة فرسان وخمسة أصحاب؟ قلت : الفارس والصاحب والراكب ونحوها : صفات جرت مجرى الأسماء فأخذت حكمها وجاز فيها ما لم يجز في غيرها . ألا تراك لا تقول : عندي ثلاثة ضخام وأربعة غلاظ . فإن قلت : ذاك مما يشكل وما نحن بسبيله لا إشكال فيه . ألا ترى أنه لم يقل بقرات سبع عجاف ، لوقوع العلم بأنّ المراد البقرات؟ قلت : ترك الأصل لا يجوز مع وقوع الاستغناء عما ليس بأصل ، وقد وقع الاستغناء بقولك { سَبْعٌ عِجَافٌ } عما تقترحه من التمييز بالوصف . والعجف : الهزال الذي ليس بعده ، والسبب في وقوع «عجاف» جمعا «لعجفاء» وأفعل وفعلاء لا يجمعان على فعال : حمله على سمان ، لأنه نقيضه ، ومن دأبهم حمل النظير على النظير ، والنقيض على النقيض . فإن قلت : هل في الآية دليل على أنّ السنبلات اليابسة كانت سبعاً كالخضر؟ قلت : الكلام مبني على انصبابه إلى هذا العدد في البقرات السمان والعجاف والسنابل الخضر ، فوجب أن يتناول معنى الأخر السبع ، ويكون قوله : { وَأُخَرَ يابسات } بمعنى وسبعاً أخر . فإن قلت : هل يجوز أن يعطف قوله { وَأُخَرَ يابسات } على { سنبلات خُضْرٍ } فيكون مجرور المحل؟ قلت : يؤدي إلى تدافع ، وهو أن عطفها على { سنبلات خُضْرٍ } يقتضي أن تدخل في حكمها فتكون معها مميزاً للسبع المذكورة ، ولفظ الأخر يقتضي أن تكون غير السبع ، بيانه : أنك تقول : عندي سبعة رجال قيام وقعود ، بالجرّ ، فيصح؛ لأنك ميزت السبعة برجال موصوفين بالقيام والقعود ، على أنّ بعضهم قيام وبعضهم قعود؛ فلو قلت : عنده سبعة رجال قيام وآخرين قعود ، تدافع ففسد { ياأيها الملا } كأنه أراد الأعيان من العلماء والحكماء .
واللام في قوله { لِلرُّؤْيَا } إما أن تكون للبيان ، كقوله { وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهِدِينَ } [ يوسف : 20 ] وإماأن تدخل؛ لأنّ العامل إذا تقدّم عليه معموله لم يكن في قوّته على العمل فيه مثله إذا تأخر عنه ، فعضد بها كما يعضد بها اسم الفاعل ، إذا قلت : هو عابر للرؤيا؛ لانحطاطه عن الفعل في القوة . ويجوز أن يكون للرؤيا خبر كان ، كما تقول : كان فلان لهذا الأمر إذا كان مستقلا به متمكنا منه . و { تَعْبُرُونَ } خبر آخر ، أو حال ، وأن يضمن { تَعْبُرُونَ } معنى فعل يتعدى باللام ، كأنه قيل : إن كنتم تنتدبون لعبارة الرؤيا . وحقيقة «عبرت الرؤيا» ذكرت عاقبتها وآخر أمرها ، كما تقول : عبرت النهر ، إذا قطعته حتى تبلغ آخر عرضه وهو عبره . ونحوه : أولت الرؤيا إذا ذكرت مآلها وهو مرجعها . وعبرت الرؤيا - بالتخفيف ، هو الذي اعتمده الأثبات ، ورأيتهم ينكرون «عبرت» بالتشديد والتعبير والمعبر . وقد عثرت على بيت أنشده المبرد في كتاب الكامل لبعض الأعراب :
رَأَيْتُ رُؤْيَا ثُمَّ عَبَّرْتُهَا ... وَكُنْتُ للأَحْلاَمِ عَبَّارَا
قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44)
{ أضغاث أَحْلاَمٍ } تخاليطها وأباطيلها ، وما يكون منها من حديث نفس أو وسوسة شيطان . وأصل الأضغاث : ما جمع من أخلاط النبات وحزم ، الواحد : ضغث ، فاستعيرت لذلك ، والإضافة بمعنى «من» أي أضغاث من أحلام والمعنى : هي أضغاث أحلام . فإن قلت : ما هو إلا حلم واحد ، فلم قالوا : أضغاث أحلام فجمعوا؟ قلت : هو كما تقول : فلان يركب الخيل ويلبس عمائم الخز ، لمن لا يركب إلا فرساً واحداً وما له إلا عمامة فردة ، تزيدا في الوصف ، فهؤلاء أيضاً تزيدوا في وصف الحلم بالبطلان ، فجعلوه أضغاث أحلام . ويجوز أن يكون قد قص عليهم مع هذه الرؤيا رؤيا غيرها { وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحلام بعالمين } إما أن يريدوا بالأحلام المنامات الباطلة خاصة ، فيقولوا : ليس لها عندنا تأويل ، فإن التأويل إنما هو للمنامات الصحيحة الصالحة ، وإما أن يعترفوا بقصور علمهم وأنهم ليسوا في تأويل الأحلام بنحارير .
وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45)
قرىء : «وادكر» بالدال وهو الفصيح . وعن الحسن : «واذكر» ، بالذال المعجمة . والأصل تذكر ، أي تذكر الذي نجا من الفتيين من القتل يوسف وما شاهد منه { بَعْدَ أُمَّةٍ } بعد مدّة طويلة ، وذلك أنه حين استفتى الملك في رؤياه وأعضل على الملأ تأويلها ، تذكر الناجي يوسف وتأويله رؤياه ورؤيا صاحبه ، وطلبه إليه أن يذكره عند الملك . وقرأ الأشهب العقيلي «بعد إمّة» بكسر الهمزة ، والإمّة النعمة . قال عدي :
ثُمَّ بَعْدَ الفَلاَحِ وَالْمُلْكِ وَالإِمَّ ... ةِ وَارَتْهُمُ هُنَاكَ القُبُورُ
أي بعد ما أنعم عليه بالنجاة . وقرىء : «بعد أمه» بعد نسيان . يقال : أمه يأمه أمها ، إذا نسي . ومن قرأ بسكون الميم فقد خطىء { أَنَاْ أُنَبّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ } أنا أخبركم به عمن عنده علمه . وفي قراءة الحسن : «أنا آتيكم بتأويله» { فَأَرْسِلُونِ } فابعثوني إليه لأسأله ، ومروني باستعباره وعن ابن عباس : لم يكن السجن في المدينة .
يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46)
المعنى فأرسلوه إلى يوسف ، فأتاه فقال { يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق } أيها البليغ في الصدق ، وإنما قال له ذلك لأنه ذاق أحواله وتعرف صدقه في تأويل رؤياه ورؤيا صاحبه حيث جاء كما أوّل ، ولذلك كلمه كلام محترز فقال { لَّعَلّى أَرْجِعُ إِلَى الناس لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ } لأنه ليس على يقين من الرجوع ، فربما اخترم دونه ولا من علمهم فربما لم يعلموا ، أو معنى { لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ } لعلهم يعلمون فضلك ومكانك من العلم ، فيطلبوك ويخلصوك من محنتك .
قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
{ تَزْرَعُونَ } خبر في معنى الأمر ، كقوله : { تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ وتجاهدون } [ الصف : 11 ] وإنما يخرج الأمر في صورة الخبر للمبالغة في إيجاب إيجاد المأمور به ، فيجعل كأنه يوجد ، فهو يخبر عنه . والدليل على كونه في معنى الأمر قوله : { فَذَرُوهُ فِى سُنبُلِهِ } . { دَأَبًا } بسكون الهمزة وتحريكها ، وهما مصدرا : دأب في العمل ، وهو حال من المأمورين ، أي دائبين : إمّا على تدأبون دأباً ، وإمّا على إيقاع المصدر حالاً ، بمعنى : ذوي دأب { فَذَرُوهُ فِى سُنبُلِهِ } لئلا يتسوس . و { يَأْكُلْنَ } من الإسناد المجازي : جعل أكل أهلهنّ مسنداً إليهنّ { تحصنون } تحرزون وتخبؤن { فِيهِ يُغَاثُ الناس } من الغوث أو من الغيث . يقال : غيثت البلاد ، إذا مطرت . ومنه قول الأعرابية : غثنا ماشئنا . { يَعْصِرُونَ } بالياء والتاء : يعصرون العنب والزيتون والسمسم . وقيل : يحلبون الضروع . وقرىء : «يعصرون» ، على البناء للمفعول ، من عصره إذا أنجاه ، وهو مطابق للإغاثة ويجوز أن يكون المبني للفاعل بمعنى ينجون ، كأنه قيل : فيه يغاث الناس وفيه يغيثون أنفسهم ، أي يغيثهم الله ويغيث بعضهم بعضاً وقيل { يَعْصِرُونَ } يمطرون ، من أعصرت السحابة . وفيه وجهان : إمّا أن يضمن أعصرت معنى مطرت ، فيعدّى تعديته . وإمّا أن يقال : الأصل أعصرت عليهم فحذف الجار وأوصل الفعل . تأوّل البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخاصيب ، والعجاف واليابسات بسنين مجدبة ، ثم بشرهم بعد الفراغ من تأويل الرؤيا بأنّ العام الثامن يجيء مباركاً خصيباً كثير الخير غزير النعم ، وذلك من جهة الوحي . وعن قتادة : زاده الله علم سنة . فإن قلت : معلوم أنّ السنين المجدبة إذا انتهت كان انتهاؤها بالخصب ، وإلا لم توصف بالانتهاء ، فلم قلت إنّ علم ذلك من جهة الوحي؟ قلت : ذلك معلوم علماً مطلقاً لا مفصلاً . وقوله { فِيهِ يُغَاثُ الناس وَفِيهِ يَعْصِرُونَ } تفصيل لحال العام ، وذلك لا يعلم إلا بالوحي .
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)
إنما تأنى وتثبت في إجابة الملك ، وقدّم سؤال النسوة ليظهر براءة ساحته عما قرف به وسجن فيه ، لئلا يتسلق به الحاسدون إلى تقبيح أمره عنده ، ويجعلوه سلماً إلى حط منزلته لديه ، ولئلا يقولوا ما خلد في السجن سبع سنين إلا لأمر عظيم وجرم كبير حق به أن يسجن ويعذب ويستكف شرّه . وفيه دليل على أنّ الاجتهاد في نفي التهم واجب وجوب اتقاء الوقوف في مواقفها ، قال عليه [ الصلاة و ] السلام :
( 547 ) " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفنّ مواقف التهم " ومنه .
( 548 ) " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمارّين به في معتكفه وعنده بعض نسائه - «هي فلانة» اتقاء للتهمة " ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 549 ) " لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره - والله يغفر له - حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ، ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى أشترط أن يخرجوني . ولقد عجبت منه حين أتاه الرسول فقال : ارجع إلى ربك . ولو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبث ، لأسرعت الإجابة وبادرتهم الباب ولما ابتغيت العذر ، إن كان لحليماً ذا أناة " وإنما قال : سل الملك عن حال النسوة ولم يقل سله أن يفتش عن شأنهن ، لأنّ السؤال مما يهيج الإنسان ويحركه للبحث عما سئل عنه ، فأراد أن يورد عليه السؤال ليجدّ في التفتيش عن حقيقة القصة وفصّ الحديث حتى يتبين له براءته بياناً مكشوفاً يتميز فيه الحق من الباطل . وقرىء : «النُسوة» بضم النون ومن كرمه وحسن أدبه : أنه لم يذكر سيدته مع ما صنعت به وتسببت فيه من السجن والعذاب ، واقتصر على ذكر المقطعات أيديهنّ { إِنَّ رَبّى } إنّ الله تعالى : { بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ } أراد أنه كيد عظيم لا يعلمه إلا الله ، لبعد غوره . أو استشهد بعلم الله على أنهنّ كدنه ، وأنه بريء مما قرف به ، أو أراد الوعيد لهنّ ، أي : هو عليم بكيدهنّ فمجازيهنّ عليه { مَا خَطْبُكُنَّ } ما شأنكنّ { إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ } هل وجدتنّ منه ميلا إليكنّ { قُلْنَ حاش لِلَّهِ } تعجباً من عفته وذهابه بنفسه عن شيء من الريبة ومن نزاهته عنها { قَالَتِ امرأت العزيز الأن حصحص الحق } أي ثبت واستقرّ وقرىء : «حُصْحِص» على البناء للمفعول ، وهو من حصحص البعير إذا ألقى ثفناته للإناخة . قال :
فَحَصْحَصَ في صُمِّ الصَّفَا ثَفَنَاتِه ... وَنَاءَ بِسَلْمَى نَوْءَةً ثُمَّ صَمَّمَا
ولا مزيد على شهادتهنّ له بالبراءة والنزاهة واعترافهنّ على أنفسهنّ بأنه لم يتعلق بشيء مما قرفنه به ، لأنهنّ خصومه . وإذا اعترف الخصم بأنّ صاحبه على الحق وهو على الباطل ، لم يبق لأحد مقال . وقالت المجبرة والحشوية نحن قد بقي لنا مقال ، ولا بدّ لنا من أن ندق في فروة من ثبتت نزاهته .
ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)
{ ذلك لِيَعْلَمَ } من كلام يوسف ، أي ذلك التثبت والتشمر لظهور البراءة ليعلم العزيز { أَنّى لَمْ أَخُنْهُ } بظهر الغيب في حرمته . ومحل { بالغيب } الحال من الفاعل أو المفعول ، على معنى : وأنا غائب عنه خفي عن عينه أو وهو غائب عني خفي عن عيني . ويجوز أن يكون ظرفاً ، أي بمكان الغيب ، وهو الخفاء والاستتار وراء الأبواب السبعة المغلقة { و } ليعلم { إِنَّ الله لاَ يَهْدِى كَيْدَ الخائنين } لا ينفذه ولا يسدّده ، وكأنه تعريض بامرأته في خيانتها أمانة زوجها ، وبه في خيانته أمانة الله حين ساعدها بعد ظهور الآيات على حبسه ، ويجوز أن يكون تأكيداً لأمانته ، وأنه لو كان خائناً لما هدى الله كيده ولا سدّده .
وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)
ثم أراد أن يتواضع لله ويهضم نفسه ، لئلا يكون لها مزكياً وبحالها في الأمانة معجباً ومفتخراً ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .
( 550 ) « أنا سيد ولد آدم ولا فخر » وليبين أنّ ما فيه من الأمانة ليس به وحده ، وإنما هو بتوفيق الله ولطفه وعصمته فقال { وَمَا أُبَرّىء نَفْسِى } من الزلل ، وما أشهد لها بالبراءة الكلية ولا أزكيها . ولا يخلو ، إمّا أن يريد في هذه الحادثة ، لما ذكرنا من الهمّ الذي هو ميل النفس عن طريق الشهوة البشرية لا عن طريق القصد والعزم . وإمّا أن يريد به عموم الأحوال { إِنَّ النفس لامَّارَةٌ بالسوء } أراد الجنس ، أي إنّ هذا الجنس يأمر بالسوء ويحمل عليه بما فيه من الشهوات { إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى } إلا البعض الذي رحمه ربي بالعصمة كالملائكة . ويجوز أن يكون { مَا رَحِمَ } في معنى الزمن ، أي : إلا وقت رحمة ربي ، يعني أنها أمّارة بالسوء في كل وقت وأوان ، إلا وقت العصمة . ويجوز أن يكون استثناء منقطعاً ، أي : ولكن رحمة ربي هي التي تصرف الإساءة ، كقوله : { وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ إِلاَّ رَحْمَةً } [ يس : 43 ] وقيل معناه : ذلك ليعلم أني لم أخنه لأنّ المعصية خيانة . وقيل : هو من كلام امرأة العزيز ، أي ذلك الذي قلت ليعلم يوسف أني لم أخنه ولم أكذب عليه في حال الغيبة وجئت بالصحيح والصدق فيما سئلت عنه وما أبريء نفسي مع ذلك من الخيانة ، فإني قد خنته حين قرفته وقلت ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يسجن وأودعته السجن - تريد الاعتذار مما كان منها - إنّ كل نفس لأمّارة بالسوء إلا ما رحم ربي : إلا نفساً رحمها الله بالعصمة كنفس يوسف { إِنَّ رَبّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ } استغفرت ربها واسترحمته مما ارتكبت . فإن قلت : كيف صح أن يجعل من كلام يوسف ولا دليل على ذلك؟ قلت : كفى بالمعنى دليلاً قائداً إلى أن يجعل من كلامه ونحوه قوله : { قَالَ الملا مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لساحر عَلِيمٌ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ } [ الشعراء : 35 ] ثم قال : { فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } [ الشعراء : 35 ] وهو من كلام فرعون يخاطبهم ويستشيرهم . وعن ابن جريج : هذا من تقديم القرآن وتأخيره ، ذهب إلى أن { ذلك لِيَعْلَمَ } [ يوسف : 52 ] متصل بقوله : { فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن } [ يوسف : 50 ] ولقد لفقت المبطلة روايات مصنوعة ، فزعموا أن يوسف حين قال : { أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بالغيب } [ يوسف : 52 ] قال له جبريل : ولا حين هممت بها ، وقالت له امرأة العزيز : ولا حين حللت تكة سراويلك يا يوسف ، وذلك لتهالكهم على بهت الله ورسله .
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)
يقال استخلصه واستخصه ، إذا جعله خالصاً لنفسه وخاصاً به { فَلَمَّا كَلَّمَهُ } وشاهد منه ما لم يحتسب { قَالَ } أيها الصديق { إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مِكِينٌ } ذو مكانة ومنزلة { أَمِينٌ } مؤتمن على كل شيء . روي أنّ الرسول جاءه فقال : أجب الملك ، فخرج من السجن ودعا لأهله : اللهم أعطف عليهم قلوب الأخيار ولا تعم عليهم الأخبار ، فهم أعلم الناس بالأخبار في الواقعات . وكتب على باب السجن : هذه منازل البلوى وقبور الأحياء وشماتة الأعداء وتجربة الأصدقاء ، ثم اغتسل وتنظف من درن السجن ، ولبس ثياباً جدداً فلما دخل على الملك قال : اللهمّ إني أسألك بخيرك من خيره ، وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره ، ثم سلم عليه ودعا له بالعبرانية ، فقال : ما هذا اللسان؟ قال لسان آبائي ، وكان الملك يتكلم بسبعين لساناً ، فكلمه بها فأجابه بجميعها ، فتعجب منه وقال : أيها الصدّيق ، إني أحب أن أسمع رؤياي منك . فقال : رأيت بقرات فوصف لونهنّ وأحوالهنّ ومكان خروجهنّ ، ووصف السنابل وما كان منها على الهيئة التي رآها الملك لا يخرم منها حرفاً ، وقال له : من حقك أن تجمع الطعام في الأهراء ، فيأتيك الخلق من النواحي يمتارون منك ، ويجتمع لك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد قبلك .
قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)
{ اجعلنى على خَزَائِنِ الأرض } ولني خزائن أرضك { إِنّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ } أمين أحفظ ما تستحفظنيه ، عالم بوجوه التصرف ، وصفا لنفسه بالأمانة والكفاية اللتين هما طلبة الملوك ممن يولونه ، وإنما قال ذلك ليتوصل إلى إمضاء أحكام الله تعالى وإقامة الحق وبسط العدل ، والتمكن مما لأجله تبعث الأنبياء إلى العباد ، ولعلمه أنّ أحداً غيره لا يقوم مقامه في ذلك ، فطلب التولية ابتغاء وجه الله لا لحب الملك والدنيا . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 551 ) « رحم الله أخي يوسف ، لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض ، لاستعمله من ساعته ، ولكنه أخر ذلك سنة » فإن قلت : كيف جاز أن يتولى عملا من يد كافر ويكون تبعاً له وتحت أمره وطاعته؟ قلت : روى مجاهد أنه كان قد أسلم : وعن قتادة . هو دليل على أنه يجوز أن يتولى الإنسان عملاً من يد سلطان جائر ، وقد كان السلف يتولون القضاء من جهة البغاة ويرونه . وإذا علم النبي أو العالم أنه لا سبيل إلى الحكم بأمر الله ودفع الظلم إلا بتمكين الملك الكافر أو الفاسق . فله أن يستظهر به . وقيل : كان الملك يصدر عن رأيه ولا يعترض عليه في كل ما رأى ، فكان في حكم التابع له والمطيع .
وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)
{ وكذلك } ومثل ذلك التمكين الظاهر { مَكَّنَّا لِيُوسُفَ } في أرض مصر . روي أنها كانت أربعين فرسخاً في أربعين { يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء } قرىء بالنون والياء ، أي : كل مكان أراد أن يتخذه منزلاً ومتبوّأ له ، لم يمنع منه لا ستيلائه على جميعها ودخوله تحت ملكته وسلطانه . روي : أنّ الملك توّجه ، وختمه بخاتمه ، ورداه بسيفه . ووضع له سريراً من ذهب مكللا بالدرّ والياقوت . روي أنه قال له : أمّا السرير فأشدّ به ملكك . وأمّا الخاتم فأدبر به أمرك ، وأمّا التاج فليس من لباسي ولا لباس آبائي . فقال : قد وضعته إجلالا لك وإقراراً بفضلك . فجلس على السرير ودانت له الملوك ، وفوّض الملك إليه أمره وعزل قطفير ، ثم مات بعده ، فزوّجه الملك امرأته زليخا ، فلما دخل عليها قال : أليس هذا خيراً مما طلبت؟ فوجدها عذراء ، فولدت له ولدين : إفراثيم وميشا ، وأقام العدل بمصر ، وأحبته الرجال والنساء ، وأسلم على يديه الملك وكثير من الناس ، وباع من أهل مصر في سني القحط الطعام بالدنانير والدراهم في السنة الأولى حتى لم يبق معهم شيء منها ، ثم بالحلي والجواهر ، ثم بالدواب ، ثم بالضياع والعقار ، ثم برقابهم حتى استرقهم جميعاً ، فقالوا : والله ما رأينا كاليوم ملكاً أجل ولا أعظم منه فقال الملك كيف رأيت صنع الله بي فيما خوَّلني فما ترى قال الرأي رأيك : قال : فإني أشهد الله وأشهدك أني أعتقت أهل مصر عن آخرهم ، ورددت عليهم أملاكهم ، وكان لا يبيع من أحد من الممتارين أكثر من حمل بعير ، تقسيطاً بين الناس . وأصاب أرض كنعان وبلاد الشام نحو ما أصاب أرض مصر ، فأرسل يعقوب بنيه ليمتاروا واحتبس بنيامين { بِرَحْمَتِنَا } بعطائنا في الدنيا من الملك والغنى وغيرهما من النعم { مَّن نَّشَاء } من اقتضت الحكمة أن نشاء له ذلك { وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المحسنين } أن نأجرهم في الدنيا .
وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)
{ ولأَجْرُ الأخرة خَيْرٌ } لهم . قال سفيان بن عيينة : المؤمن يثاب على حسناته في الدنيا والآخرة ، والفاجر يعجل له الخير في الدنيا ، وما له في الآخرة من خلاق ، وتلا هذه الآية .
وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58)
لم يعرفوه لطول العهد ومفارقته إياهم في سنّ الحداثة ، ولاعتقادهم أنه قد هلك ، ولذهابه عن أوهامهم لقلة فكرهم فيه واهتمامهم بشأنه ، ولبعد حاله التي بلغها من الملك والسلطان عن حاله التي فارقوه عليها طريحاً في البئر ، مشرياً بدراهم معدودة ، حتى لو تخيل لهم أنه هو لكذبوا أنفسهم وظنونهم ، ولأنّ الملك مما يبدّل الزيّ ويلبس صاحبه من التهيب والاستعظام ما ينكر له المعروف . وقيل : رأوه على زيّ فرعون عليه ثياب الحرير جالساً على سرير في عنقه طوق من ذهب وعلى رأسه تاج ، فما خطر ببالهم أنه هو . وقيل : ما رأوه إلا من بعيد بينهم وبينه مسافة وحجاب ، وما وقفوا إلا حيث يقف طلاب الحوائج ، وإنما عرفهم لأنه فارقهم وهم رجال ورأى زيهم قريباً من زيهم إذ ذاك ، ولأنّ همته كانت معقودة بهم وبمعرفتهم ، فكان يتأمّل ويتفطن . وعن الحسن : ما عرفهم حتى تعرّفوا له .
وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60)
{ وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ } أي أصلحهم بعدّتهم وهي عدّة السفر من الزاد وما يحتاج إليه المسافرون وأوقر ركائبهم بما جاؤا له من الميرة . وقرىء : «بجهازهم» بكسر الجيم { قَالَ ائتونى بِأَخٍ لَّكُمْ مّنْ أَبِيكُمْ } لا بد من مقدمة سبقت له معهم ، حتى اجتر القول هذه المسئلة . روي أنه لما رآهم وكلموه بالعبرانية قال لهم : أخبروني من أنتم وما شأنكم؟ فإني أنكركم . قالوا : نحن قوم من أهل الشام رعاة ، أصابنا الجهد فجئنا نمتار ، فقال؛ لعلكم جئتم عيونا تنظرون عورة بلادي؟ قالوا : معاذ الله ، نحن إخوة بنو أب واحد ، وهو شيخ صدّيق نبي من الأنبياء ، اسمه يعقوب . قال : كم أنتم؟ قالوا : كنا اثني عشر ، فهلك منا واحد . قال : فكم أنتم ههنا؟ قالوا : عشرة . قال : فأين الأخ الحادي عشر؟ قالوا : هو عند أبيه يتسلى به من الهالك . قال : فمن يشهد لكم أنكم لستم بعيون وأنّ الذي تقولون حق؟ قالوا : إنا ببلاد لا يعرفنا فيها أحد فيشهد لنا . قال : فدعوا بعضكم عندي رهينة وائتوني بأخيكم من أبيكم ، وهو يحمل رسالة من أبيكم حتى أصدقكم ، فاقترعوا بينهم فأصابت القرعة شمعون - وكان أحسنهم رأيا في يوسف - فخلفوه عنده ، وكان قد أحسن إنزالهم وضيافتهم { وَلاَ تَقْرَبُونِ } فيه وجهان ، أحدهما : أن يكون داخلاً في حكم الجزاء مجزوماً ، عطفاً على محل قوله : { فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ } كأنه قيل : فإن لم تأتوني به تحرموا ولا تقربوا ، وأن يكون بمعنى النهي .
قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61)
{ سنراود عَنْهُ أَبَاهُ } سنخادعه عنه ، وسنجتهد ونحتال حتى ننتزعه من يده { وَإِنَّا لفاعلون } وإنا لقادرون على ذلك لا نتعانى به ، أو وإنا لفاعلون ذلك لا محالة لا نفرط فيه ولا نتوانى .
وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)
{ لِفِتْيَانِهِ } وقرىء : «لفتيانه» وهما جمع فتى ، كإخوة وإخوان في أخ ، و «فعلة» للقلة . و «فعلان» للكثرة ، أي لغلمانه الكيالين { لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا } لعلهم يعرفون حق ردّها وحق التكرم بإعطاء البدلين { إِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمْ } وفرغوا ظروفهم { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } لعل معرفتهم بذلك تدعوهم إلى الرجوع إلينا ، وكانت بضاعتهم النعال والأدم . وقيل : تخوّف أن لا يكون عند أبيه من المتاع ما يرجعون به . وقيل : لم ير من الكرم أن يأخذ من أبيه وإخوته ثمناً ، وقيل : علم أن ديانتهم تحملهم على ردّ البضاعة لا يستحلون إمساكها فيرجعون لأجلها . وقيل : معنى { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } لعلهم يردّونها .
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63)
{ مُنِعَ مِنَّا الكيل } يريدون قول يوسف فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ، لأنهم إذا أنذروا بمنع الكيل فقد منع الكيل { نَكْتَلْ } نرفع المانع من الكيل ، ونكتل من الطعام ما نحتاج إليه . وقرىء : «يكتل» بمعنى يكتل أخوناً ، فينضم اكتياله إلى اكتيالنا . أو يكن سبباً للاكتيال فإن امتناعه بسببه .
قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)
{ هَلْ امَنُكُمْ عَلَيْهِ } يريد أنكم قلتم في يوسف { وَإِنَّا لَهُ لحافظون } [ يوسف : 12 63 ] كما تقولونه في أخيه ، ثم خنتم بضمانكم ، فما يؤمنني من مثل ذلك . ثم قال { فالله خَيْرٌ حافظا } فتوكل على الله فيه ودفعه إليهم . و { حافظا } تمييز ، كقولك : هو خيرهم رجلاً ، ولله درّه فارساً . ويجوز أن يكون حالاً وقرىء : «حفظاً» وقرأ الأعمش : «فالله خير حافظ» . وقرأ أبو هريرة : «خير الحافظين» { وَهُوَ أَرْحَمُ الراحمين } فأرجو أن ينعم عليّ بحفظه ولا يجمع عليّ مصيبتين .
وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65)
وقرىء : «ردت إلينا» بالكسر ، على أن كسرة الدال المدغمة نقلت إلى الراء ، كما في : قيل وبيع ، وحكى قطرب ضرب زيد . على نقل كسرة الراء فيمن سكنها إلى الضاد { مَا نَبْغِى } للنفي ، أي : ما نبغي في القول ، وما نتزيد فيما وصفنا لك من إحسان الملك وإكرامه ، وكانوا قالوا له : إنا قدمنا على خير رجل ، أنزلنا وأكرمنا كرامة لو كان رجلاً من آل يعقوب ما أكرمنا كرامته . أو ما نبتغي شيئاً وراء ما فعل بنا من الإحسان . أو على الاستفهام ، بمعنى أي شيء نطلب وراء هذا؟ وفي قراءة ابن مسعود «ما تبغي» ، بالتاء على مخاطبة يعقوب ، معناه : أي شيء تطلب وراء هذا من الإحسان ، أو من الشاهد على صدقنا؟ وقيل : معناه ما نريد منك بضاعة أخرى . وقوله { هذه بضاعتنا رُدَّتْ إِلَيْنَا } جملة مستأنفة موضحة لقوله : { مَا نَبْغِى } والجمل بعدها معطوفة عليها ، على معنى : إن بضاعتنا ردّت إلينا ، فنستظهر بها { وَنَمِيرُ أَهْلَنَا } في رجوعنا إلى الملك { وَنَحْفَظُ أَخَانَا } فما يصيبه شيء مما تخافه ، ونزداد باستصحاب أخينا وسق بعير زائداً على أوساق أباعرنا ، فأي شيء نبتغي وراء هذه المباغي التي نستصلح بها أحوالنا ونوسع ذات أيدينا : وإنما قالوا : { وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ } لما ذكرنا أنه كان لا يزيد للرجل على حمل بعير للتقسيط فإن قلت : هذا إذا فسرت البغي بالطلب ، فأما إذا فسرته بالكذب والتزيد في القول ، كانت الجملة الأولى وهي قوله : { هذه بضاعتنا رُدَّتْ إِلَيْنَا } بياناً لصدقهم وانتفاء التزيد عن قيلهم ، فما تصنع بالجمل البواقي؟ قلت : أعطفها على قوله : { مَا نَبْغِى } على معنى : لا نبغي فيما نقول { وَنَمِيرُ أَهْلَنَا } ونفعل كيت وكيت . ويجوز أن يكون كلاماً مبتدأ ، كقولك : وينبغي أن نمير أهلنا ، كما تقول : سعيت في حاجة فلان ، واجتهدت في تحصيل غرضه . ويجب أن أسعى ، وينبغي لي أن لا أقصر . ويجوز أن يراد : ما نبغي وما ننطق إلا بالصواب فيما نشير به عليك من تجهيزنا مع أخينا ، ثم قالوا : هذه بضاعتنا نستظهر بها ونمير أهلنا ونفعل ونصنع . بياناً لأنهم لا يبغون في رأيهم وأنهم مصيبون فيه ، وهو وجه حسن واضح { ذلك كَيْلٌ يَسِيرٌ } أي ذلك مكيل قليل لا يكفينا ، يعنون : ما يكال لهم . فأرادوا أن يزدادوا إليه ما يكال لأخيهم . أو يكون ذلك إشارة إلى كيل بعير ، أي ذلك الكيل شيء قليل يجيبنا إليه الملك ولا يضايقنا فيه ، أو سهل عليه متيسر لا يتعاظمه . ويجوز أن يكون من كلام يعقوب ، وأن حمل بعير واحد شيء يسير لا يخاطر لمثله بالولد ، كقوله { ذلك لِيَعْلَمَ } [ يوسف : 52 ] .
قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66)
{ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ } مناف لحالي وقد رأيت منكم ما رأيت - إرساله معكم { حتى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مّنَ الله } حتى تعطوني ما أتوثق به من عند الله ، أراد أن يحلفو له بالله : وإنما جعل الحلف بالله موثقاً منه لأن الحلف به مما تؤكد به العهود وتشدّد . وقد أذن الله في ذلك فهو إذن منه { لَتَأْتُنَّنِى بِهِ } جواب اليمين؛ لأن المعنى : حتى تحلفوا لتأتنني به { إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ } إلا أن تغلبوا فلم تطيقوا الإتيان به . أو إلا أن تهلكوا . فإن قلت : أخبرني عن حقيقة هذا الاستثناء ففيه إشكال؟ قلت : { أَن يُحَاطَ بِكُمْ } مفعول له ، والكلام المثبت الذي هو قوله { لَتَأْتُنَّنِى بِهِ } في تأويل النفي . معناه : لا تمتنعون من الإتيان به إلا للإحاطة بكم ، أي : لا تمتنعون منه لعلة من العلل إلا لعلة واحدة : وهي أن يحاط بكم ، فهو استثناء من أعم العام في المفعول له ، والاستثناء من أعم العام لا يكون إلا في النفي وحده ، فلا بد من تأويله بالنفي . ونظيره من الإثبات المتأوّل بمعنى النفي قولهم : أقسمت بالله لما فعلت وإلا فعلت ، تريد : ما أطلب منك إلا الفعل { على مَا نَقُولُ } من طلب الموثق وإعطائه { وَكِيلٌ } رقيب مطلع .
وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68)
وإنما نهاهم أن يدخلوا من باب واحد ، لأنهم كانوا ذوي بهاء وشارة حسنة ، اشتهرهم أهل مصر بالقربة عند الملك والتكرمة الخاصة التي لم تكن لغيرهم ، فكانوا مظنة لطموح الأبصار إليهم من بين الوفود ، وأن يشار إليهم بالأصابع . ويقال : هؤلاء أضياف الملك ، انظروا إليهم ما أحسنهم من فتيان ، وما أحقهم بالإكرام ، لأمر مّا أكرمهم الملك وقرّبهم وفضلهم على الوافدين عليه ، فخاف لذلك أن يدخلوا كوكبة واحدة ، فيعانوا لجمالهم وجلالة أمرهم في الصدور ، فيصيبهم ما يسوؤهم؛ ولذلك لم يوصهم بالتفرق في الكرّة الأولى ، لأنهم كانوا مجهولين مغمورين بين الناس . فإن قلت : هل للإصابة بالعين وجه تصحّ عليه؟ قلت : يجوز أن يحدث الله عز وجل عند النظر إلى الشيء والإعجاب به ، نقصاناً فيه وخللا من بعض الوجوه ، ويكون ذلك ابتلاء من الله وامتحاناً لعباده ، ليتميز المحققون من أهل الحشو فيقول المحقق : هذا فعل الله ، ويقول الحشوي : هو أثر العين ، كما قال تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ } [ المدثر : 31 ] الآية . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 552 ) « أنه كان يعوّذ الحسن والحسين فيقول : أعيذكما بكلمات الله التامّة ، من كل عين لامّة ، ومن كل شيطان وهّامة » { وَمَا أُغْنِى عَنكُمْ مّنَ الله مِن شَىْء } يعني إن أراد الله بكم سوءاً لم ينفعكم ولم يدفع عنكم ما أشرت به عليكم من التفرق ، وهو مصيبكم لا محالة { إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ } ثم قال : { وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم } أي متفرقين { مَّا كَانَ يُغْنِى عَنْهُمْ } رأي يعقوب ودخولهم متفرّقين شيئاً قط ، حيث أصابهم ما ساءهم مع تفرّقهم ، من إضافة السرقة إليهم وافتضاحهم بذلك ، وأخذ أخيهم بوجدان الصواع في رحله ، وتضاعف المصيبة على أبيهم { إِلاَّ حَاجَةً } استثناء منقطع . على معنى : ولكن حاجة { فِى نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا } وهي شفقته عليهم وإظهارها بما قاله لهم ووصاهم به { وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ } يعني قوله : { وَمَا أُغْنِى عَنكُمْ } وعلمه بأن القدر لا يغني عنه الحذر .
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69)
{ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ } ضم إليه بنيامين . وروي أنهم قالوا له : هذا أخونا قد جئناك به ، فقال لهم : أحسنتم وأصبتم ، وستجدون ذلك عندي ، فأنزلهم وأكرمهم ، ثم أضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة فبقي بنيامين وحده فبكى وقال : لو كان أخي يوسف حياً لأجلسني معه ، فقال يوسف : بقي أخوكم وحيداً ، فأجلسه معه على مائدته وجعل يواكله ، قال : أنتم عشرة فلينزل كل اثنين منكم بيتاً ، وهذا لا ثاني له فيكون معي ، فبات يوسف يضمه إليه ويشم رائحته حتى أصبح ، وسأله عن ولده فقال : لي عشرة بنين اشتققت أسماءهم من اسم أخ لي هلك ، فقال له : أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ قال : من يجد أخا مثلك ، ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل ، فبكى يوسف وقام إليه وعانقه وقال له { إِنّى أَنَاْ أَخُوكَ } يوسف { فَلاَ تَبْتَئِسْ } فلا تحزن { بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } بنا فيما مضى ، فإن الله قد أحسن إلينا وجمعنا على خير ، ولا تعلمهم بما أعلمتك . وعن ابن عباس : تعرّف إليه وعن وهب : إنما قال له : أنا أخوك بدل أخيك المفقود ، فلا تبتئس بما كنت تلقى منهم من الحسد والأذى فقد أمنتهم . وروي أنه قال له : أنا لا أفارقك . قال : قد علمت اغتمام والدي بي ، فإذا حبستك ازداد غمه ، ولا سبيل إلى ذلك إلا أن أنسبك إلى ما لا يجمل . قال : لا أبالي فافعل ما بدا لك . قال : فإني أدس صاعي في رحلك ، ثم أنادي عليك بأنك قد سرقته ، ليتهيأ لي ردّك بعد تسريحك معهم . قال : افعل .
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)
{ السقاية } مشربة يسقى بها وهي الصواع . قيل : كان يسقى بها الملك ، ثم جعلت صاعاً يكال به . وقيل : كانت الدواب تسقي بها ويكال بها . وقيل : كانت إناء مستطيلاً يشبه المكوك وقيل : هي المكوك الفارسي الذي يلتقي طرفاه تشرب به الأعاجم . وقيل : كانت من فضة مموّهة بالذهب ، وقيل كانت من ذهب . وقيل : كانت مرصعة بالجواهر { ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذّنٌ } ثم نادى مناد . يقال : آذنه أعلمه . وأذن : أكثر الإعلام . ومنه المؤذن ، لكثرة ذلك منه . روي : أنهم ارتحلوا وأمهلهم يوسف حتى انطلقوا ، ثم أمر بهم فأدركوا وحبسوا ، ثم قيل لهم ذلك . والعير : الإبل التي عليها الأحمال ، لأنها تعير : أي تذهب وتجيء . وقيل : هي قافلة الحمير ، ثم كثر حتى قيل لكل قافلة عير ، كأنها جمع عير ، وأصلها فعل كسقف وسقف ، فعل به ما فعل ببيض وعيد ، والمراد أصحاب العير كقوله :
( 553 ) «يا خيل الله اركبي» . وقرأ ابن مسعود : «وجعل السقاية» ، على حذف جواب لما ، كأنه قيل : فلما جهزهم بجهازهم وجعل السقاية في رحل أخيه ، أمهلهم حتى انطلقوا ، ثم أذن مؤذن . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي : «تفقدون» من أفقدته إذا وجدته فقيداً . وقرىء : «صواع» ، «وصاع» ، «وصوع» ، «وصُوع» بفتح الصاد وضمها ، والعين معجمة وغير معجمة { وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ } يقوله المؤذن ، يريد : وأنا بحمل البعير كفيل ، أُؤدّيه إلى من جاء به؛ وأراد وسق بعير من طعام جعلا لمن حصله .
قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73)
{ تالله } قسم فيه معنى التعجب مما أضيف إليهم ، وإنما قالوا { لَقَدْ عَلِمْتُمْ } فاستشهدوا بعلمهم . لما ثبت عندهم من دلائل دينهم وأمانتهم في كرّتي مجيئهم ومداخلتهم للملك ، ولأنهم دخلوا وأفواه رواحلهم مكعومة لئلا تتناول زرعاً أو طعاماً لأحد من أهل السوق . ولأنهم ردّوا بضاعتهم التي وجدوها في رحالهم { وَمَا كُنَّا سارقين } وما كنا قط نوصف بالسرقة وهي منافية لحالنا .
قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75)
{ فَمَا جَزَاؤُهُ } الضمير للصواع ، أي فما جزاء سرقته { إِن كُنتُمْ كاذبين } في جحودكم وادّعائكم البراءة منه { قَالُواْ جَزَاؤُهُ مَن وُجِدَ فِى رَحْلِهِ } أي جزاء سرقته أخذ من وجد في رحله ، وكان حكم السارق في آل يعقوب أن يسترقّ سنة ، فلذلك استفتوا في جزائه . وقولهم { فَهُوَ جَزَاؤُهُ } تقرير للحكم ، أي : فأخذ السارق نفسه وهو جزاؤه لا غير ، كقولك : حق زيد أن يكسى ويطعم وينعم عليه ، فذلك حقه ، أي : فهو حقه لتقرّر ما ذكرته من استحقاقه وتلزمه ويجوز أن يكون { جَزَاؤُهُ } مبتدأ ، والجملة الشرطية كما هي خبره ، على إقامة الظاهر فيها مقام المضمر . والأصل : جزاؤه من وجد في رحله فهو هو فوضع الجزاء موضع هو ، كما تقول لصاحبك : من أخو زيد فيقول لك أخوه من يقعد إلى جنبه فهو هو يرجع الضمير الأول إلى من والثاني إلى الأخ ، ثم تقول «فهو أخوه» مقيماً للمظهر مقام المضمر . ويحتمل أن يكون جزاؤه خبر مبتدأ محذوف ، أي : المسؤل عنه جزاؤه ، ثم أفتوا بقولهم : من وجد في رحله فهو جزاؤه ، كما يقول : من يستفتى في جزاء صيد المحرم جزاء صيد المحرم ، ثم يقول : { وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّداً فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم } [ المائدة : 95 ] .
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
{ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ } قيل : قال لهم من وكل بهم : لا بدّ من تفتيش أوعيتكم ، فانصرف بهم إلى يوسف ، فبدأ بتفتيش أوعيتهم قبل وعاء بنيامين لنفي التهمة حتى بلغ وعاءه فقال : ما أظنّ هذا أخذ شيئاً ، فقالوا : والله لا نتركه حتى تنظر في رحله ، فإنه أطيب لنفسك وأنفسنا ، فاستخرجوه منه وقرأ الحسن : «وُعاء أخيه» ، بضم الواو ، وهي لغة . وقرأ سعيد ابن جبير : «إعاء أخيه» ، بقلب الواو همزة . فإن قلت : لم ذكر ضمير الصواع مرّات ثم أنثه؟ قلت : قالوا رجع بالتأنيث على السقاية ، أو أنث الصواع لأنه يذكر ويؤنث ، ولعلّ يوسف كان يسميه سقاية وعبيده صواعاً ، فقد وقع فيما يتصل به من الكلام سقاية ، وفيما يتصل بهم منه صواعاً { كذلك كِدْنَا } مثل ذلك الكيد العظيم كدنا { لِيُوسُفَ } يعني علمناه إياه وأوحينا به إليه { مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ الملك } تفسير للكيد وبيان له ، لأنه كان في دين ملك مصر ، وما كان يحكم به في السارق أن يغرم مثلي ما أخذ ، لا أن يلزم ويستعبد { إِلاَّ أَن يَشَاء الله } أي ما كان يأخذه إلا بمشيئة الله وإذنه فيه { نَرْفَعُ درجات مَّن نَّشَاء } في العلم كما رفعنا درجة يوسف فيه . وقرىء : «يرفع» بالياء . ودرجات بالتنوين { وَفَوْقَ كُلّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ } فوقه أرفع درجة منه في علمه ، أو [ و ] فوق العلماء كلهم عليم هم دونه في العلم ، وهو الله عز وعلا . فإن قلت : ما أذن الله فيه يجب أن يكون حسناً ، فمن أي وجه حسن هذا الكيد؟ وما هو إلا بهتان ، وتسريق لمن لم يسرق ، وتكذيب لمن لم يكذب ، وهو قوله { إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } [ يوسف : 70 ] ، { فَمَا جَزَاؤُهُ إِن كُنتُمْ كاذبين } [ يوسف : 74 ] ؟ قلت : هو في صورة البهتان وليس ببهتان في الحقيقة؛ لأنّ قوله : { إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } [ يوسف : 70 ] تورية عما جرى مجرى السرقة من فعلهم بيوسف . وقيل : كان ذلك القول من المؤذن لا من يوسف ، وقوله : { إِن كُنتُمْ كاذبين } [ يوسف : 74 ] فرض لانتفاء براءتهم . وفرض التكذيب لا يكون تكذيباً ، على أنه لو صرَّح لهم بالتكذيب ، كما صرّح لهم بالتسريق . لكان له وجه؛ لأنهم كانوا كاذبين في قولهم : { وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ متاعنا فَأَكَلَهُ الذئب } [ يوسف : 17 ] هذا وحكم هذا الكيد حكم الحيل الشرعية التي يتوصل بها إلى مصالح ومنافع دينية ، كقوله تعالى لأيوب عليه السلام : { وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً } [ ص : 44 ] ليتخلص من جلدها ولا يحنث ، وكقول إبراهيم عليه السلام : هي أختي ، لتسلم من يد الكافر . وما الشرائع كلها إلا مصالح وطرق إلى التخلص من الوقوع في المفاسد ، وقد علم الله تعالى في هذه الحيلة التي لقنها يوسف مصالح عظيمة فجعلها سلماً وذريعة إليها ، فكانت حسنة جميلة وانزاحت عنها وجوه القبح لما ذكرنا .
قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77)
{ أَخٌ لَّهُ } أرادوا يوسف . روي أنهم لما استخرجوا الصاع من رحل بنيامين نكس إخوته رؤوسهم حياء ، وأقبلوا عليه وقالوا له : ما الذي صنعت؟ فضحتنا وسوّدت وجوهنا ، يا بني راحيل ما يزال لنا منكم بلاء ، متى أخذت هذا الصاع؟ فقال : بنو راحيل الذين لا يزال منكم عليهم البلاء ، ذهبتم بأخي فأهلكتموه ، ووضع هذا الصواع في رحلي الذي وضع البضاعة في رحالكم . واختلف فيما أضافوا إلى يوسف من السرقة ، فقيل : كان أخذ في صباه صنماً لجدّه أبي أمّه فكسره وألقاه بين الجيف في الطريق . وقيل : دخل كنيسة فأخذ تمثالاً صغيراً من ذهب كانوا يعبدونه فدفنه . وقيل : كان في المنزل عناق أو دجاجة فأعطاها السائل . وقيل كانت لإبراهيم عليه السلام منطقة يتوارثها أكابر ولده ، فورثها إسحاق ثم وقعت إلى ابنته وكانت أكبر أولاده ، فحضنت يوسف - وهي عمته - بعد وفاة أمّه وكانت لا تصبر عنه ، فلما شبّ أراد يعقوب أن ينتزعه منها ، فعمدت إلى المنطقة فحزمتها على يوسف تحت ثيابه وقالت : فقدت منطقة إسحاق ، فانظروا من أخذها ، فوجدوها محزومة على يوسف ، فقالت : إنه لي سلم أفعل به ما شئت ، فخلاه يعقوب عندها حتى ماتت { فَأَسَرَّهَا } إضمار على شريطة التفسير ، تفسيره { أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً } وإنما أنث لأنّ قوله : { أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً } جملة أو كلمة ، على تسميتهم الطائفة من الكلام كلمة ، كأنه قيل : فأسرّ الجملة أو الكلمة التي هي قوله : { أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً } والمعنى : قال في نفسه : أنتم شر مكاناً؛ لأنّ قوله : { قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً } بدل من أسرَّها . وفي قراءة ابن مسعود : «فأسرَّه» ، على التذكير ، يريد القول أو الكلام . ومعنى { أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً } أنتم شر منزلة في السرق؛ لأنكم سارقون بالصحة ، لسرقتكم أخاكم من أبيكم { والله أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ } يعلم أنه لم يصح لي ولا لأخي سرقة ، وليس الأمر كما تصفون .
قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)
استعطفوه بإذكارهم إياه حق أبيهم يعقوب ، وأنه شيخ كبير السنّ أو كبير القدر ، وأنّ بنيامين أحب إليه منهم ، وكانوا قد أخبروه بأن ولداً له قد هلك وهو عليه ثكلان ، وأنه مستأنس بأخيه { فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ } فخذه بدله على وجه الاسترهان أو الاستعباد { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين } إلينا فأتمم إحسانك . أو من عادتك الإحسان فاجْرِ على عادتك ولا تغيرها .
قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79)
{ مَعَاذَ الله } هو كلام موجه ، ظاهره : أنه وجب على قضية فتواكم أخذ من وجد الصواع في رحله واستعباده ، فلو أخذنا غيره كان ذلك ظلماً في مذهبكم ، فلم تطلبون ما عرفتم أنه ظلم ، وباطنه : إنّ الله أمرني وأوحى إليّ بأخذ بنيامين واحتباسه لمصلحة أو لمصالح جمة علمها في ذلك ، فلو أخذت غير من أمرني بأخذه كنت ظالماً وعاملاً على خلاف الوحي . ومعنى { مَعَاذَ الله أَن نَّأْخُذَ } نعوذ بالله معاذاً من أن نأخذ ، فأضيف المصدر إلى المفعول به وحذف من . و { إِذاً } جواب لهم وجزاء؛ لأن المعنى : إن أخذنا بدله ظلمنا .
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80)
{ استيأسوا } يئسوا . وزيادة السين والتاء في المبالغة نحو ما مرّ في استعصم . و النجي على معنيين : يكون بمعنى المناجي ، كالعشير والسمير بمعنى : المعاشر والمسامر ، ومنه قوله تعالى { وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً } [ مريم : 52 ] وبمعنى المصدر الذي هو التناجي ، كما قيل النجوى بمعناه . ومنه قيل : قوم نجى ، كما قيل { وَإِذْ هُمْ نجوى } [ الإسراء : 47 ] تنزيلا للمصدر منزلة الأوصاف . ويجوز أن يقال : هم نجى ، كما قيل : هم صديق ، لأنه بزنة المصادر وجمع أنجية . قال :
إنِّى إذَا مَا الْقَوْمُ كَانُوا أَنجِيَهْ ... ومعنى { خَلَصُواْ } اعتزلوا وانفردوا عن الناس خالصين لا يخالطهم سواهم { نَجِيّاً } ذوي نجوى أو فوجا نجياً ، أي مناجياً لمناجاة بعضهم بعضاً . وأحسن منه أنهم تمحضوا تناجياً؛ لاستجماعهم لذلك ، وإفاضتهم فيه بجدّ واهتمام ، كأنهم في أنفسهم صورة التناجي وحقيقته ، وكان تناجيهم في تدبير أمرهم ، على أيّ صفة يذهبون؟ وماذا يقولون لأبيهم في شأن أخيهم؟ كقوم تعايوا بما دهمهم من الخطب ، فاحتاجوا إلى التشاور { كَبِيرُهُمْ } في السنّ وهو روبيل . وقيل : رئيسهم وهو شمعون : وقيل كبيرهم في العقل والرأي وهو يهوذا { مَا فَرَّطتُمْ فِى يُوسُفَ } فيه وجوه : أن تكون «ما» صلة ، أي : ومن قبل هذا قصرتم في شأن يوسف ولم تحفظوا عهد أبيكم . وأن تكون مصدرية ، على أن محل المصدر الرفع على الابتداء وخبره الظرف ، وهو { مِن قَبْلُ } ومعناه : ووقع من قبل تفريطكم في يوسف . أو النصب عطفاً على مفعول { أَلَمْ تَعْلَمُواْ } وهو { أَنَّ أَبَاكُمْ } كأنه قيل : ألم تعلموا أخذ أبيكم عليكم موثقاً وتفريطكم من قبل في يوسف ، وأن تكون موصولة بمعنى : ومن قبل هذا ما فرطتموه ، أي قدّمتموه في حق يوسف من الجناية العظيمة ، ومحله الرفع أو النصب على الوجهين { فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض } فلن أفارق أرض مصر { حتى يَأْذَنَ لِى أَبِى } في الانصراف إليه { أَوْ يَحْكُمَ الله لِى } بالخروج منها ، أو بالانتصاف ممن أخذ أخي ، أو بخلاصه من يده بسبب من الأسباب { وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين } لأنه لا يحكم أبداً إلا بالعدل والحق .
ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81)
وقرىء : «سرِّق» أي نسب إلى السرقة { وَمَا شَهِدْنَا } عليه بالسرقة { إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا } من سرقته وتيقناه؛ لأنّ الصواع استخرج من وعائه ولا شيء أبين من هذا { وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافظين } وما علمنا أنه سيسرق حين أعطيناك الموثق . أو ما علمنا أنك تصاب به كما أصبت بيوسف . ومن قرأ : «سرِّق» فمعناه : وما شهدنا إلا بقدر ما علمنا من التسريق ، وما كنا للغيب : للأمر الخفي حافظين ، أسرق بالصحة أم دسّ الصاع في رحله ولم يشعر .
وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)
{ القرية التى كُنَّا فِيهَا } هي مصر ، أي أرسل إلى أهلها فسلهم عن كنه القصة { والعير التى أَقْبَلْنَا فِيهَا } وأصحاب العير ، وكانوا قوماً من كنعان من جيران يعقوب . وقيل من أهل صنعاء ، معناه : فرجعوا إلى أبيهم فقالوا له ما قال لهم أخوهم ف { قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا } أردتموه وإلا فما أدرى ذلك الرجل أنّ السارق يؤخذ بسرقته لولا فتواكم وتعليمكم { بِهِمْ جَمِيعًا } بيوسف وأخيه وروبيل أو غيره { إِنَّهُ هُوَ العليم } بحالي في الحزن والأسف { الحكيم } الذي لم يبتلني بذلك إلا لحكمة ومصلحة .
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)
{ وتولى عَنْهُمْ } وأعرض عنهم كراهة لما جاؤا به { يا أسفى } أضاف الأسف وهو أشدّ الحزن والحسرة إلى نفسه ، والألف بدل من ياء الإضافة ، والتجانس بين لفظتي الأسف ويوسف مما يقع مطبوعاً غير متعمل فيملح ويبدع ، ونحوه { اثاقلتم إِلَى الأرض أَرَضِيتُم } [ التوبة : 38 ] ، { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ } [ الأنعام : 26 ] . { يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ } [ الكهف : 104 ] ، { مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ } [ النمل : 22 ] وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 554 ) " لم تعط أمة من الأمم إنا لله وإنا إليه راجعون عند المصيبة إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم . ألا ترى إلى يعقوب حين أصابه ما أصابه لم يسترجع . وإنما قال يا أسفى "
فإن قلت : كيف تأسف على يوسف دون أخيه ودون الثالث ، والرزء الأحدث أشدّ على النفس وأظهر أثراً؟ قلت : هو دليل على تمادي أسفه على يوسف ، وأنه لم يقع فائت عنده موقعه ، وأنّ الرزء فيه مع تقادم عهده كان غضاً عنده طريا .
وَلَمْ تُنْسِنِي أَوْفَى الْمُصِيبَاتِ بَعْدَهُ ... ولأنّ الرزء في يوسف كان قاعدة مصيباته التي ترتبت عليها الرزايا في ولده ، فكان الأسف عليه أسفاً على من لحق به { وابيضت عَيْنَاهُ } إذا كثر الاستعبار محقت العبرة سواد العين وقلبته إلى بياض كدر . قيل : قد عمي بصره . وقيل : كان يدرك إدراكاً ضعيفاً . قرىء : «من الحزن» ومن الحزن ، الحزن كان سبب البكاء الذي حدث منه البياض ، فكأنه حدث من الحزن . قيل ما جفت عينا يعقوب من وقت فراق يوسف إلى حين لقائه ثمانين عاماً ، وما على وجه الأرض أكرم على الله من يعقوب . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 555 ) أنه سأل جبريل عليه السلام : " ما بلغ من وجد يعقوب على يوسف؟ قال : وجد سبعين ثكلى . قال : «فما كان له من الأجر»؟ قال : أجر مائة شهيد ، وما ساء ظنه بالله ساعة قط "
فإن قلت : كيف جاز لنبي الله أن يبلغ به الجزع ذلك المبلغ؟ قلت : الإنسان مجبول على أن لا يملك نفسه عند الشدائد من الحزن ، ولذلك حمد صبره وأن يضبط نفسه حتى لا يخرج إلى ما لا يحسن ، ولقد
( 556 ) بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ولده إبراهيم وقال : " القلب يجزع ، والعين تدمع ، ولا نقول ما يسخط الرب ، وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون " وإنما الجزع المذموم ما يقع من الجهلة من الصياح والنياحة ، ولطم الصدور والوجوه ، وتمزيق الثياب . وعن النبي صلى الله عليه وسلم .
( 557 ) أنه بكى على ولد بعض بناته وهو يجود بنفسه ، فقيل : يا رسول الله ، تبكي وقد نهيتنا عن البكاء؟ فقال : " ما نهيتكم عن البكاء وإنما نهيتكم عن صوتين أحمقين : صوت عند الفرح ، وصوت عند الترح " وعن الحسن أنه بكى على ولد أو غيره ، فقيل له في ذلك ، فقال : ما رأيت الله جعل الحزن عاراً على يعقوب { فَهُوَ كَظِيمٌ } فهو مملوء من الغيط على أولاده ولا يظهر ما يسوؤهم ، فعيل بمعنى مفعول ، بدليل قوله { وَهُوَ مَكْظُومٌ } [ القلم : 48 ] من كظم السقاء إذا شدّه على ملئه ، والكظم بفتح الظاء : مخرج النفس . يقال : أخذ بأكظامه .
قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85)
{ تفتؤا } أراد : لا تفتؤ ، فحذف حرف النفي لأنه لا يلتبس بالإثبات ، لأنه لو كان إثباتاً لم يكن بدّ من اللام والنون ونحوه :
فَقُلْتُ يَمِينَ اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِداً ... ومعنىلا تفتؤ : لا تزال . وعن مجاهد : لا تفتر من حبه ، كأنه جعل الفتوء والفتور أخوين يقال : ما فتىء يفعل . قال أوس :
فمَا فَتِئَتْ خَيْلٌ تَثُوبُ وَتَدَّعِي ... وَيَلْحَقُ مِنهَا لاَحِقٌ وتَقَطَّعُ
{ تَكُونَ حَرَضاً } مشفياً على الهلاك مرضاً ، وأحرضه المرض ، ويستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث ، لأنه مصدر . والصفة : حَرِض ، بكسر الراء ، ونحوهما : دنف ودنف ، وجاءت القراءة بهما جميعاً . وقرأ الحسن : «حُرُضاً» ، بضمتين ، ونحوه في الصفات : رجل جنب وغرب .
قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86)
البث : أصعب الهم الذي لا يصبر عليه صاحبه ، فيبثه إلى الناس أي ينشره . ومنه : باثه أمره ، وأبثه إياه . ومعنى { إِنَّمَا أَشْكُو } إني لا أشكو إلى أحد منكم ومن غيركم ، إنما أشكو إلى ربي داعياً له وملتجئاً إليه ، فخلوني وشكايتي . وهذا معنى توليه عنهم ، أي فتولى عنهم إلى الله والشكاية إليه . وقيل : دخل على يعقوب جارٌ له فقال : يا يعقوب ، قد تهشمت وفنيت وبلغت من السن ما بلغ أبوك! فقال : هشمني وأفناني ما ابتلاني الله به من همّ يوسف ، فأوحى الله إليه : يا يعقوب ، أتشكوني إلى خلقي؟ قال : يا رب خطيئة أخطأتها فاغفر لي ، فغفر له ، فكان بعد ذلك إذا سئل قال : إنما أشكو بثي وحزني إلى الله . وروي أنه أوحي إلى يعقوب : إنما وجدت عليكم لأنكم ذبحتم شاة فقام ببابكم مسكين فلم تطعموه ، وإن أحب خلقي إليّ الأنبياء ، ثم المساكين ، فاصنع طعاماً وادع عليه المساكين . وقيل : اشترى جارية مع ولدها ، فباع ولدها فبكت حتى عميت { وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أي أعلم من صنعه ورحمته وحسن ظني به أنه يأتيني بالفرج من حيث لا أحتسب . وروي أنه رأى ملك الموت في منامه فسأله : هل قبضت روح يوسف؟ فقال : لا والله هو حيّ فاطلبه . وقرأ الحسن : «وحزني» بفتحتين «وحزني» بضمتين : قتادة .
يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)
{ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ } فتعرّفوا منهما وتطلبوا خبرهما . وقرىء بالجيم ، كما قرىء بهما في الحجرات ، وهما تفعل من الإحساس وهو المعرفة { فَلَمَّا أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر } [ آل عمران : 52 ] ومن الجس ، وهو الطلب . ومنه قالوا لمشاعر الإنسان : الحواس ، والجواس { مِن رَّوْحِ الله } من فرجه وتنفيسه . وقرأ الحسن وقتادة : «من رُوح الله» ، بالضم : أي من رحمته التي يحيا بها العباد .
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)
{ الضر } الهزال من الشدّة والجوع { مُّزْجَاةٍ } مدفوعة يدفعها كل تاجر رغبة عنها واحتقاراً لها ، من أزجيته إذا دفعته وطردته ، والريح تزجي السحاب ، قيل : كانت من متاع الأعراب صوفاً وسمناً . وقيل : الصنوبر وحبة الخضراء ، وقيل : سويق المقل والأقط . وقيل : دراهم زيوفاً لا تؤخذ إلا بوضيعة { فَأَوْفِ لَنَا الكيل } الذي هو حقنا { وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا } وتفضل علينا بالمسامحة والإغماض عن رداءة البضاعة ، أو زدنا على حقنا ، فسموا ما هو فضل وزيادة لا تلزمه صدقة ، لأنّ الصدقات محظورة على الأنبياء ، وقيل كانت تحل لغير نبينا . وسئل ابن عيينة عن ذلك فقال : ألم تسمع { وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا } أراد أنها كانت حلالاً لهم . والظاهر أنهم تمسكنوا له وطلبوا إليه أن يتصدّق عليهم ، ومن ثم رق لهم وملكته الرحمة عليهم ، فلم يتمالك أن عرّفهم نفسه . وقوله : { إِنَّ الله يَجْزِى المتصدقين } شاهد لذلك لذكر الله وجزائه ، والصدقة العطية التي تبتغي بها المثوبة من الله ومنه قول : الحسن لمن سمعه يقول اللهم تصدق عليّ : - إن الله تعالى لا يتصدق ، إنما يتصدق الذي يبتغي الثواب ، قل : اللهم أعطني ، أو تفضل عليّ ، أو ارحمني .
قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89)
{ قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ } أتاهم من جهة الدين وكان حليماً موفقاً ، فكلمهم مستفهماً عن وجه القبح الذي يجب أن يراعيه التائب ، فقال : هل علمتم قبح { مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جاهلون } لا تعلمون قبحه ، فلذلك أقدمتم عليه ، يعني : هل علمتم قبحه فتبتم إلى الله منه ، لأنّ علم القبح يدعو إلى الاستقباح ، والاستقباح يجرّ إلى التوبة ، فكان كلامه شفقة عليهم وتنصحاً لهم في الدين ، لا معاتبة وتثريباً؛ إيثاراً لحق الله على حق نفسه ، في ذلك المقام الذي يتنفس فيه المكروب ، وينفث المصدور ، ويتشفى المغيظ المحنق ، ويدرك ثأره الموتور ، فلله أخلاق الأنبياء ما أوطأها وأسجحها ولله حصاً عقولهم ما أرزنها وأرجحها . وقيل لم يرد نفي العلم عنهم ، لأنهم كانوا علماء ، ولكنهم لما لم يفعلوا ما يقتضيه العلم ولا يقدم عليه إلا جاهل ، سماهم جاهلين . وقيل : معناه إذ أنتم صبيان في حد السفه والطيش قبل أن تبلغوا أوان الحلم والرزانة . روي أنهم لما قالوا : مسنا وأهلنا الضر ، وتضرعوا إليه : ارفضت عيناه ، ثم قال هذا القول . وقيل : أدوا إليه كتاب يعقوب : من يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله ، إلى عزيز مصر . أما بعد ، فإنا أهل بيت موكل بنا البلاء : أما جدّي فشدّت يداه ورجلاه ورمي به في النار ليحرق فنجاه الله وجعلت النار عليه برداً وسلاماً ، وأما أبي فوضع السكين على قفاه ليقتل ففداه الله . وأمّا أنا فكان لي ابن وكان أحبّ أولادي إليّ فذهب به إخوته إلى البرية ثم أتوني بقميصه ملطخاً بالدم وقالوا قد أكله الذئب ، فذهبت عيناي من بكائي عليه ، ثم كان لي ابن وكان أخاه من أمّه وكنت أتسلى به ، فذهبوا به ثم رجعوا وقالوا : إنه سرق ، وأنك حبسته لذلك ، وإنا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقاً ، فإن رددته عليّ وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك والسلام . فلما قرأ يوسف الكتاب لم يتمالك وعيل صبره ، فقال لهم ذلك وروي أنه لما قرأ الكتاب بكى وكتب الجواب : اصبر كما صبروا تظفر كما ظفروا . فإن قلت : ما فعلهم بأخيه؟ قلت : تعريضهم إياه للغم والثكل بإفراده عن أخيه لأبيه وأمّه ، وجفاؤهم به ، حتى كان لا يستطيع أن يكلم أحداًمنهم إلا كلام الذليل للعزيز ، وإيذاؤهم له بأنواع الأذى .
قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)
قرىء : «أئنك» على الاستفهام . وأنك ، على الإيجاب وفي قراءة أبيّ : «أئنك أو أنت يوسف» ، على معنى أئنك يوسف أو أنت يوسف ، فحذف الأوّل لدلالة الثاني عليه ، وهذا كلام متعجب مستغرب لما يسمع ، فهو يكرر الاستثبات فإن قلت : كيف عرفوه؟ قلت : رأوا في روائه وشمائله حين كلمهم بذلك ما شعروا به أنه هو ، مع علمهم بأنّ ما خاطبهم به لا يصدر مثله إلا عن حنيف مسلم من سنخ إبراهيم ، لا عن بعض أعزاء مصر . وقيل : تبسم عند ذلك فعرفوه بثناياه وكانت كاللؤلؤ المنظوم . وقيل : ما عرفوه حتى رفع التاج عن رأسه فنظروا إلى علامة بقرنه كانت ليعقوب وسارة مثلها ، تشبه الشامة البيضاء . فإن قلت : قد سألوه عن نفسه فلم أجابهم عنها وعن أخيه؟ عن أن أخاه كان معلوماً لهم . قلت : لأنه كان في ذكر أخيه بيان لما سألوه عنه { مَن يَتَّقِ } من يخف الله وعقابه { وَيِصْبِرْ } عن المعاصي وعلى الطاعات { فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ } أجرهم ، فوضع المحسنين موضع الضمير لاشتماله على المتقين والصابرين { لَقَدْ ءَاثَرَكَ الله عَلَيْنَا } أي فضلك علينا بالتقوى والصبر وسيرة المحسنين . وإنّ شأننا وحالنا أنا كنا خاطئين متعمدين للإثم ، لم نتق ولم نصبر ، لا جرم أنّ الله أعزّك بالملك وأذلنا بالتمسكن بين يديك { لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ } لا تأنيب عليكم ولا عتب . وأصل التثريب من الثرب وهو الشحم الذي هو غاشية الكرش . ومعناه : إزالة الثرب ، كما أن التجليد والتقريع إزالة الجلد والقرع ، لأنه إذا ذهب كان ذلك غاية الهزال والعجف الذي ليس بعده ، فضرب مثلا للتقريع الذي يمزق الأعراض ويذهب بماء الوجوه . فإن قلت بم تعلق اليوم؟ قلت : بالتثريب ، أو بالمقدر في { عَلَيْكُمْ } من معنى الاستقرار . أو بيغفر . والمعنى : لا أثر بكم اليوم ، وهو اليوم الذي هو مظنة التثريب ، فما ظنكم بغيره من الأيام ، ثم ابتدأ فقال { يَغْفِرُ الله لَكُمْ } فدعا لهم بمغفرة ما فرط منهم . يقال : غفر الله لك ، ويغفر الله لك ، على لفظ الماضي والمضارع جميعاً ، ومنه قول المشمت «يهديكم الله ويصلح بالكم» و { اليوم يَغْفِرُ الله لَكُمْ } بشارة بعاجل غفران الله ، لما تجدّد يومئذ من توبتهم وندمهم على خطيئتهم . وروي :
( 558 ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بعضادتي باب الكعبة يوم الفتح ، فقال لقريش : ما ترونني فاعلاً بكم؟ قالوا : نظن خيراً ، أخ كريم وابن أخ كريم؛ وقد قدرت فقال : أقول ما قال أخي يوسف : لا تثريب عليكم اليوم . وروي :
( 559 ) أنّ أبا سفيان لما جاء ليسلم قال له العباس : إذا أتيت الرسول فاتل عليه { لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ } ففعل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
« غفر الله لك ولمن علمك » ويروى أن إخوته لما عرفوه وأرسلوا إليه : إنك تدعونا إلى طعامك بكرة وعشية ، ونحن نستحي منك لما فرط منا فيك ، فقال يوسف : إنّ أهل مصر وإن ملكت فيهم ، فإنهم ينظرون إليّ بالعين الأولى ويقولون سبحان من بلغ عبداً بيع بعشرين درهماً ما بلغ ، ولقد شرفت الآن بكم وعظمت في العيون حيث علم الناس أنكم إخوتي . وأني من حفدة إبراهيم { اذهبوا بِقَمِيصِى هذا } قيل هو القميص المتوارث الذي كان في تعويذ يوسف وكان من الجنة ، أمره جبريل عليه السلام أن يرسله إليه فإنّ فيه ريح الجنة ، لا يقع على مبتلى ولا سقيم إلا عوفي { يَأْتِ بَصِيرًا } يصر بصيراً ، كقولك : جاء البناء محكماً ، بمعنى صار . ويشهد له { فارتد بَصِيرًا } [ يوسف : 96 ] أو يأت إليّ وهو بصير . وينصره قوله { وَأْتُونِى بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ } أي يأتني أبي ، ويأتني آله جميعاً وقيل : يهوذا هو الحامل ، قال : أنا أحزنته بحمل القميص ملطوخاً بالدم إليه ، فأفرّحه كما أحزنته ، وقيل : حمله وهو حاف حاسر من مصر إلى كنعان ، وبينهما مسيرة ثمانين فرسخاً .
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96)
{ فَصَلَتِ العير } خرجت من عريش مصر ، يقال : فصل من البلد فصولاً ، إذا انفصل منه وجاوز حيطانه . وقرأ ابن عباس : «فلما انفصل العير» { قَالَ } لولد ولده ومن حوله من قومه : { إِنِّى لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ } أوجده الله ريح القميص حين أقبل من مسيرة ثمان . والتفنيد : النسبة إلى الفند ، وهو الخرف وإنكار العقل من هرم . يقال : شيخ مفند ، ولا يقال عجوز مفندة؛ لأنها لم تكن في شبيبتها ذات رأي فتفند في كبرها . والمعنى : لولا تفنيدكم إياي لصدقتموني { لَفِى ضلالك القديم } لفي ذهابك عن الصواب قدما في إفراط محبتك ليوسف ، ولهجك بذكره ، ورجائك للقائه ، وكان عندهم أنه قد مات { ألقاه } طرح البشير القميص على وجه يعقوب . أو ألقاه يعقوب { فارتد بَصِيرًا } فرجع بصيراً . يقال : ردّه فارتد ، وارتده إذا ارتجعه { أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ } يعني قوله { إِنِّى لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ } أو قوله : { وَلاَ تيأَسُواْ مِن رَّوْحِ الله } [ يوسف : 87 ] وقوله : { إِنِي أَعْلَمُ } كلام مبتدأ لم يقع عليه القول ، ولك أن توقعه عليه وتريد قوله : { إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّى وَحُزْنِى إِلَى الله وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ يوسف : 86 ] وروي : أنه سأل البشير كيف يوسف؟ فقال : هو ملك مصر : فقال : ما أصنع بالملك؟ على أي دين تركته؟ قال : على دين الإسلام . قال : الآن تمت النعمة .
قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)
{ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ } قيل : أخر الاستغفار إلى وقت السحر . وقيل : إلى ليلة الجمعة ليتعمد به وقت الإجابة . وقيل : ليتعرّف حالهم . في صدق التوبة وإخلاصها . وقيل أراد الدوام على الاستغفار لهم . فقد روي أنه كان يستغفر لهم كل ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة . وقيل : قام إلى الصلاة في وقت السحر ، فلما فرغ رفع يديه وقال : اللهم اغفر لي جزعي على يوسف وقلة صبري عنه ، واغفر لولدي ما أتوا إلى أخيهم ، فأوحى إليه : إنّ الله قد غفر لك ولهم أجمعين . وروي أنهم قالوا له وقد علتهم الكآبة : ما يغني عنا عفوكما إن لم يعف عنا ربنا ، فإن لم يوح إليك بالعفو فلا قرّت لنا عين أبداً ، فاستقبل الشيخ القبلة قائماً يدعو ، وقام يوسف خلفه يؤمّن ، وقاموا خلفهما أذلة خاشعين عشرين سنة . حتى بلغ جهدهم وظنوا أنها الهلكة نزل جبريل عليه السلام فقال : إن الله قد أجاب دعوتك في ولدك ، وعقد مواثيقهم بعدك على النبوّة ، وقد اختلف في استنبائهم .
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
{ فَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ } قيل وجه يوسف إلى أبيه جهازاً ومائتي راحلة ليتجهز إليه بمن معه . وخرج يوسف والملك في أربعة آلاف من الجند والعظماء وأهل مصر بأجمعهم ، فتلقوا يعقوب وهو يمشي يتوكأ على يهوذا ، فنظر إلى الخيل والناس فقال : يا يهوذا ، أهذا فرعون مصر؟ قال لا ، هذا ولدك ، فلما لقيه قال يعقوب عليه السلام : السلام عليك يا مذهب الأحزان . وقيل : إن يوسف قال له لما التقيا : يا أبت ، بكيت عليّ حتى ذهب بصرك ، ألم تعلم أن القيامة تجمعنا؟ فقال : بلى ، ولكن خشيت أن تسلب دينك فيحال بيني وبينك ، وقيل : إنّ يعقوب وولده دخلوا مصر وهم اثنان وسبعون ، ما بين رجل وامرأة ، وخرجوا منها مع موسى ومقاتلتهم ستمائة ألف وخمسمائة وبضعة وسبعون رجلاً سوى الذرية والهرمى ، وكانت الذرّية ألف ألف ومائتي ألف { أَوَى إِلَيْه أَبَوَيْهِ } ضمهما إليه واعتنقهما . قال ابن أبي إسحاق : كانت أمّه تحيى ، وقيل : هما أبوه وخالته . ماتت أمّه فتزوّجها وجعلها أحد الأبوين؛ لأنّ الرابة تدعى أمّاً ، لقيامها مقام الأمّ ، أو لأنّ الخالة أمّ كما أنّ العم أب . ومنه قوله : { وإله آبَائِكَ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق } [ البقرة : 133 ] فإن قلت : ما معنى دخولهم عليه قبل دخولهم مصر؟ قلت : كأنه حين استقبلهم نزل لهم في مضرب أو بيت ثم ، فدخلوا عليه وضمّ إليه أبويه ، ثم قال لهم { ادخلوا مِصْرَ إِن شَآءَ الله ءَامِنِينَ } ولما دخل مصر وجلس في مجلسه مستوياً على سريره واجتمعوا إليه ، أكرم أبويه فرفعهما على السرير { وَخَرُّواْ لَهُ } يعني الإخوة الأحد عشر والأبوين { سُجَّدًا } ويجوز أن يكون قد خرج في قبة من قباب الملوك التي تحمل على البغال ، فأمر أن يرفع إليه أبواه ، فدخلا عليه القبة . فآواهما إليه بالضم والاعتناق وقرّبهما منه ، وقال بعد ذلك : ادخلوا مصر . فإن قلت : بم تعلقت المشيئة؟ قلت : بالدخول مكيفاً بالأمن ، لأن القصد إلى اتصافهم بالأمن في دخولهم ، فكأنه قيل لهم : اسلموا وأمنوا في دخولكم إن شاء الله . ونظيره قولك للغازي : ارجع سالماً غانماً إن شاء الله ، فلا تعلق المشيئة بالرجوع مطلقاً ، ولكن مقيداً بالسلامة والغنيمة ، مكيفاً بهما . والتقدير : ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله دخلتم آمنين ، ثم حذف الجزاء لدلالة الكلام عليه ، ثم اعترض بالجملة الجزائية بين الحال وذي الحال . ومن بدع التفاسير أن قوله { إِن شَاء الله } من باب التقديم والتأخير؛ وأن موضعها ما بعد قوله { سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبّى } [ يوسف : 98 ] في كلام يعقوب ، وما أدري ما أقول فيه وفي نظائره . فإن قلت : كيف جاز لهم أن يسجدوا لغير الله؟ قلت : كانت السجدة عندهم جارية مجرى التحية والتكرمة ، كالقيام ، والمصافحة وتقبيل اليد .
ونحوها مما جرت عليه عادة الناس ، من أفعال شهرت في التعظيم والتوقير . وقيل : ما كانت إلا انحناء دون تعفير الجباه ، وخرورهم سجداً يأباه . وقيل : معناه وخرّوا لأجل يوسف سجداً لله شكراً . وهذا أيضاً فيه نبوة . يقال : أحسن إليه وبه ، وكذلك أساء إليه وبه قال :
أَسِيئِي بَنَا أَوْ أَحْسِنِي لاَمَلُومَةً ... { مّنَ البدو } من البادية؛ لأنهم كانوا أهل عمد وأصحاب مواش ينتقلون في المياه والمناجع { نَّزغَ } أفسد بيننا وأغرى ، وأصله من نخس الرائض الدابة وحمله على الجري . يقال : نزغه ونسغه ، إذا نخسه { لَطِيفٌ لّمَا يَشَاء } لطيف التدبير لأجله ، رفيق حتى يجيء على وجه الحكمة والصواب . وروي أن يوسف أخذ بيد يعقوب فطاف به في خزائنه ، فأدخله خزائن الورق والذهب ، وخزائن الحليّ ، وخزائن الثياب ، وخزائن السلاح وغير ذلك ، فلما أدخله خزانة القراطيس قال : يا بنيّ ، ما أعقك : عندك هذه القراطيس وما كتبت إليّ على ثمان مراحل؟ قال : أمرني جبريل . قال أو ما تسأله؟ قال : أنت أبسط إليه مني فسله . قال جبريل عليه السلام : الله تعالى أمرني بذلك لقولك { وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب } [ يوسف : 13 ] قال : فهلا خفتني؟ وروي أن يعقوب أقام معه أربعاً وعشرين سنة ثم مات . وأوصى أن يدفه بالشام إلى جنب أبيه إسحاق فمضى بنفسه ودفنه ثمة ، ثم عاد إلى مصر ، وعاش بعدأبيه ثلاثاً وعشرين سنة ، فلما تم أمره وعلم أنه لا يدوم له ، طلبت نفسه الملك الدائم الخالد ، فتاقت نفسه إليه فتمنى الموت ، وقيل : ما تمناه نبي قبله ولا بعده ، فتوفاه الله طيباً طاهراً ، فتخاصم أهل مصر وتشاحوا في دفنه : كل يحب أن يدفن في محلتهم حتى هموا بالقتال ، فرأوا من الرأي أن عملوا له صندوقاً من مرمر وجعلوه فيه ، ودفنوه في النيل بمكان يمرّ عليه الماء ثم يصل إلى مصر ليكونوا كلهم فيه شرعاً واحداً ، وولد له : إفراثيم وميشاً ، وولد لإفراثيم نون؛ ولنون يوشع فتى موسى ، ولقد توارثت الفراعنة من العماليق بعده مصر ، ولم يزل بنو إسرائيل تحت أيديهم على بقايا دين يوسف وآبائه . إلى أن بعث الله موسى صلى الله عليه وسلم .
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
«من» في { مِنَ الملك } و { مِن تَأْوِيلِ الأحاديث } للتبعيض ، لأنه لم يعط إلا بعض ملك الدنيا ، أو بعض ملك مصر وبعض التأويل { أَنتَ وَلِىِّ } أنت الذي تتولاني بالنعمة في الدارين ، وبوصل الملك الفاني بالملك الباقي { تَوَفَّنِى مُسْلِمًا } طلب للوفاة على حال الإسلام ، ولأن يختم له بالخير والحسنى ، كما قال يعقوب لولده { وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } [ آل عمران : 102 ] ويجوز أن يكون تمنياً للموت على ما قيل { وَأَلْحِقْنِى بالصالحين } من آبائي أو على العموم . وعن عمر ابن عبد العزيز : أنّ ميمون بن مهران بات عنده فرآه كثير البكاء والمسألة للموت ، فقال له : صنع الله على يديك خيراً كثيراً : أحييت سنناً وأمت بدعا وفي حياتك خير وراحة للمسلمين ، فقال : أفلا أكون كالعبد الصالح لما أقرّ الله عينه وجمع له أمره قال : توفني مسلماً وألحقني بالصالحين . فإن قلت : علام انتصب فاطر السموات؟ قلت على أنه وصف لقوله { رَبِّ } كقولك : أخا زيد حسن الوجه . أو على النداء .
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)
{ ذلك } إشارة إلى ما سبق من نبأ يوسف ، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومحله الابتداء . وقوله : { مِنْ أَنبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيْكَ } خبر إنّ . ويجوز أن يكون اسماً موصولاً بمعنى الذي ، و { مِنْ أنبآءالغيب } صلته و { نُوحِيهِ } الخبر . والمعنى : أن هذا النبأ غيب لم يحصل لك إلا من جهة الوحي ، لأنك لم تحضر بني يعقوب حين أجمعوا أمرهم وهو إلقاؤهم أخاهم في البئر ، كقوله : { وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِى غَيَابَةِ الجب } [ يوسف : 15 ] ؛ وهذا تهكم بقريش وبمن كذبه؛ لأنه لم يخف على أحد من المكذبين أنه لم يكن من حملة هذا الحديث وأشباهه ، ولا لقي فيها أحداً ولا سمع منه . ولم يكن من علم قومه . فإذا أخبر به وقصَّ هذا القصص العجيب الذي أعجز حملته ورواته ، لم تقع شبهة في أنه ليس منه وأنه من جهة الوحي ، فإذا أنكروه تهكم بهم . وقيل لهم : قد علمتم يا مكابرة أنه لم يكن مشاهداً لمن مضى من القرون الخالية : ونحوه : { وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربى إِذْ قَضَيْنَا إلى مُوسَى الأمر } [ القصص : 44 ] ، { وَهُمْ يَمْكُرُونَ } بيوسف ويبغون له الغوائل .
وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104)
{ وَمَآ أَكْثَرُ الناس } يريد العموم ، كقوله : { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ } [ هود : 17 ] وعن ابن عباس رضي الله عنهما . أراد أهل مكة ، أي وما هم بمؤمنين { وَلَوْ حَرَصْتَ } وتهالكت على إيمانهم لتصميمهم على الكفر وعنادهم { وَمَا تَسْئَلُهُمْ } على ما تحدثهم به وتذكرهم أن ينيلوك منفعة وجدوى ، كما يعطى حملة الأحاديث والأخبار { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ } عظة من الله { للعالمين } عامة ، وحث على طلب النجاة على لسان رسول من رسله .
وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)
{ مِّنْ ءَايَةٍ } من علامة ودلالة على الخالق وعلى صفاته وتوحيده { يَمُرُّونَ عَلَيْهَا } ويشاهدونها وهم معرضون عنها لا يعتبرون بها . وقرىء : «والأرضُ» بالرفع على الابتداء ، ويمرون عليها : خبره ، وقرأ السدّي «والأرضَ» بالنصب على : ويطؤن الأرض يمرّون عليها . وفي مصحف عبد الله : والأرض يمشون عليها ، برفع الأرض ، والمراد ما يرون من آثار الأمم الهالكة وغير ذلك من العبر .
وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)
{ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم } في إقراره بالله وبأنه خلقه وخلق السموات والأرض ، إلا وهو مشرك بعبادته الوثن ، وعن الحسن : هم أهل الكتاب معهم شرك وإيمان . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هم الذين يشبهون الله بخلقه .
أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107)
{ غاشية } نقمة تغشاهم . وقيل : ما يغمرهم من العذاب ويجللهم وقيل : الصواعق .
قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)
{ هذه سبيلى } هذه السبيل التي هي الدعوة إلى الإيمان والتوحيد سبيلي . والسبيل والطريق : يذكران ويؤنثان ، ثم فسر سبيله بقوله : { ادعوا إِلَى الله على بَصِيرَةٍ } أي أدعو إلى دينه مع حجة واضحة غير عمياء . و { أَنَاْ } تأكيد للمستتر في { أدعوا } . { وَمَنِ اتبعنى } عطف عليه . يريد : أدعو إليها أنا ، ويدعو إليها من اتبعني ويجوز أن يكون { أَنَاْ } مبتدأ ، و { على بَصِيرَةٍ } خبراً مقدّماً ، { وَمَنِ اتبعنى } عطفاً على { أَنَاْ } إخباراً مبتدأ بأنه ومن اتبعه على حجة وبرهان ، لا على هوى ، ويجوز أن يكون { على بَصِيرَةٍ } حالاً من { أَدْعُو } عاملة الرفع في { أَنَاْ وَمَنِ اتبعنى } ، { وسبحان الله } وأنزهه من الشركاء .
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)
{ إِلاَّ رِجَالاً } لا ملائكة؛ لأنهم كانوا يقولون { لَوْ شآءَ رَبُّنَا لأَنزَلَ ملائكة } [ فصلت : 14 ] وعن ابن عباس رضي الله عنهما : يريد ليست فيهم امرأة . وقيل : في سجاح المتنبئة .
وَلَمْ تَزَلْ أَنْبِيَاءُ اللَّهِ ذُكْرَانَا ... وقرىء : «نوحي إليهم» ، بالنون . { مّنْ أَهْلِ القرى } لأنهم أعلم وأحلم ، وأهل البوادي فيهم الجهل والجفاء والقسوة { وَلَدَارُ الأخرة } ولدار الساعة ، أو الحال الآخرة { خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتقوا } للذين خافوا الله فلم يشركوا به ولم يعصوه . وقرىء : «أفلا تعقلون» ، بالتاء والياء .
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)
{ حتى } متعلقة بمحذوف دلّ عليه الكلام ، كأنه قيل : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً } فتراخى نصرهم حتى [ إذا ] استيأسوا عن النصر { وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ } أي كذبتهم أنفسهم حين حدّثتهم بأنهم ينصرون ، أو رجاؤهم لقولهم : رجاء صادق ، ورجاء كاذب . والمعنى أنّ مدّة التكذيب والعداوة من الكفار وانتظار النصر من الله وتأميله قد تطاولت عليهم وتمادت ، حتى استشعروا القنوط وتوهموا أن لا نصر لهم في الدنيا ، فجاءهم نصرنا فجأة من غير احتساب . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : وظنوا حين ضعفوا وغلبوا أنهم قد أخلفوا ما وعدهم الله من النصر وقال : كانوا بشراً ، وتلا قوله : { وَزُلْزِلُواْ حتى يَقُولَ الرسول والذين ءامَنُواْ مَعَهُ متى نَصْرُ الله } [ البقرة : 214 ] فإن صح هذا عن ابن عباس ، فقد أراد بالظنّ : ما يخطر بالبال ويهجس في القلب من شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشرية . وأمّا الظن الذي هو ترجح أحد الجائزين على الآخر ، فغير جائز على رجل من المسلمين ، فما بال رسل الله الذين هم أعرف الناس بربهم ، وأنه متعال عن خلف الميعاد ، منزه عن كل قبيح؟ وقيل : وظن المرسل إليهم أنّ الرسل قد كذبوا ، أي : أخلفوا . أو : وظنّ المرسل إليهم أنهم كذبوا من جهة الرسل ، أيّ : كذبتهم الرسل في أنهم ينصرون عليهم ولم يصدّقوهم فيه . وقرىء : «كذبوا» بالتشديد على وظن الرسل أنهم قد كذبتهم قومهم فيما وعدوهم من العذاب والنصرة عليهم . وقرأ مجاهد «كذبوا» بالتخفيف ، على البناء للفاعل ، على : وظن الرسل أنهم قد كذبوا فيما حدثوا به قومهم من النصرة ، إمّا على تأويل ابن عباس ، وإمّا على أنّ قومهم إذا لم يروا لموعدهم أثراً قالوا لهم : إنكم قد كذبتمونا فيكونون كاذبين عند قومهم . أو وظنّ المرسل إليهم أنّ الرسل قد كذبوا . ولو قرىء بهذا مشدّداً لكان معناه؛ وظنّ الرسل أن قومهم كذبوهم في موعدهم . وقرىء : «فننجى» بالتخفيف والتشديد ، من أنجاه ونجاه . وفنجى ، على لفظ الماضي المبني للمفعول ، وقرأ ابن محيصن «فنجا» والمراد ب { مَّن نَّشَاء } المؤمنون ، لأنهم الذين يستأهلون أن يشاء نجاتهم . وقد بين ذلك بقوله { وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القوم المجرمين } .
لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
الضمير في { قَصَصِهِمْ } للرسل ، وينصره قراءة من قرأ : «في قصصهم» بكسر القاف . وقيل : هو راجع إلى يوسف وإخوته . فإن قلت : فالإم يرجع الضمير في { مَا كَانَ حَدِيثًا يفترى } فيمن قرأ بالكسر؟ قلت : إلى القرآن ، أي : ما كان القرآن حديثاً يفترى { ولكن } كان { تَصْدِيقَ الذى بَيْنَ يَدَيْهِ } أي قبله من الكتب السماوية { وَتَفْصِيلَ كُلّ شَىْء } يحتاج إليه في الدين ، لأنه القانون الذي يستند إليه السنة والإجماع والقياس بعد أدلة العقل . وانتصاب ما نصب بعد { لَكِنِ } للعطف على خبر كان . وقرىء : ذلك بالرفع على «ولكن هو تصديق الذي بين يديه» عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 560 ) " علموا أرقاءكم سورة يوسف ، فإنه أيما مسلم تلاها وعلمها أهله وما ملكت يمينه هون الله عليه سكرات الموت ، وأعطاه القوّة أن لا يحسد مسلماً "
==============================================
ج9. كتاب : الكشاف أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1)
{ تِلْكَ } إشارة إلى آيات السورة . والمراد بالكتاب السورة ، أي : تلك الآيات آيات السورة الكاملة العجيبة في بابها ، ثم قال : { والذى أُنزِلَ إِلَيْكَ } من القرآن كله هو { الحق } الذي لا مزيد عليه ، لا هذه السور وحدها ، وفي أسلوب هذا الكلام قول الأنمارية : هم كالحلقة المفرعة ، لا يدرى أين طرفاها؟ تريد الكملة .
اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)
{ الله } مبتدأ ، و { الذى } خبره ، بدليل قوله : { وَهُوَ الذى مَدَّ الأرض } ويجوز أن يكون صفة . وقوله : { يُدَبّرُ الأمر يُفَصّلُ الآيات } خبر بعد خبر . وينصره ما تقدّمه من ذكر الآيات { رَفَعَ السموات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } كلام مستأنف استشهاد برؤيتهم لها كذلك . وقيل : هي صفة لعمد . ويعضده قراءة أبي «ترونه» . وقرىء : «عُمُد» ، بضمتين { يُدَبِّرُ الأمر } يدبر أمر ملكوته وربوبيته { يُفَصّلُ } آياته في كتبه المنزلة { لَعَلَّكُمْ بِلِقَاء رَبّكُمْ تُوقِنُونَ } بالجزاء وبأن هذا المدبر والمفصل لا بد لكم من الرجوع إليه . وقرأ الحسن : «ندبر» ، بالنون { جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثنين } خلق فيها من جميع أنواع الثمرات زوجين زوجين حين مدّها ، ثم تكاثرت بعد ذلك وتنوعت . وقيل : أراد بالزوجين : الأسود والأبيض ، والحلو والحامض ، والصغير والكبير ، وما أشبه ذلك من الأصناف المختلفة { يغشى الليل النهار } يلبسه مكانه ، فيصير أسود مظلماً بعد ما كان أبيض منيراً . وقرىء : «يغشّى» بالتشديد .
وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
{ قِطَعٌ متجاورات } بقاع مختلفة ، مع كونها متجاورة متلاصقة : طيبة إلى سبخة ، وكريمة إلى زهيدة ، وصلبة إلى رخوة ، وصالحة للزرع لا للشجر إلى أخرى على عكسها ، مع انتظامها جميعاً في جنس الأرضية . وذلك دليل على قادر مريد ، موقع لأفعاله على وجه دون وجه . وكذلك الزروع والكروم والنخيل النابتة في هذه القطع ، مختلفة الأجناس والأنواع ، وهي تسقى بماء واحد ، وتراها متغايرة الثمر في الأشكال والألوان والطعوم والروائح ، متفاضلة فيها . وفي بعض المصاحف : قطعاً متجاورات على : وجعل وقرىء : «وجناتٍ» ، بالنصب للعطف على زوجين . أو بالجرّ على كل الثمرات . وقرىء : «وزرعٍ ونخيلٍ» ، بالجرّ عطفاً على أعناب أو جنات والصنوان : جمع صنو ، وهي النخلة لها رأسان ، وأصلها واحد . وقرىء بالضم . والكسر : لغة أهل الحجاز ، والضم : لغة بني تميم وقيس { تَسْقِى } بالتاء والياء { وَنُفَضّلُ } بالنون وبالياء على البناء للفاعل والمفعول جميعاً { في الأكل } بضم الكاف وسكونها .
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5)
{ وَإِن تَعْجَبْ } يا محمد من قولهم في إنكار البعث ، فقولهم عجيب حقيق بأن يتعجب منه؛ لأن من قدر على إنشاء ما عدد عليك من الفطر العظيمة ولم يعي بخلقهنّ ، كانت الإعادة أهون شيء عليه وأيسره ، فكان إنكارهم أعجوبة من الأعاجيب { أَءِذَا كُنَّا } إلى آخر قولهم : يجوز أن يكون في محل الرفع بدلا من قولهم ، وأن يكون منصوباً بالقول . وإذا نصب بما دل عليه قوله : { إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ } ، { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ } أولئك الكاملون المتمادون في كفرهم { وَأُوْلَئِكَ الأغلال فِى أعناقهم } وصف بالإصرار ، كقوله : { إِنَّا جَعَلْنَا فِى أعناقهم أغلالا } [ يس : 8 ] ونحوه :
لَهُمْ عَنِ الرُّشْدِ أَغْلاَلٌ وَأَقْيَادُ ... أو هو من جملة الوعيد .
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6)
{ بالسيئة قَبْلَ الحسنة } بالنقمة قبل العافية ، والإحسان إليهم بالإمهال . وذلك أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالعذاب استهزاء منهم بإنذاره { وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المثلات } أي عقوبات أمثالهم من المكذبين ، فما لهم لم يعتبروا بها فلا يستهزءوا والمثلة : العقوبة ، بوزن السمرة . والمثلة لما بين العقاب والمعاقب عليه من المماثلة ، { وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] ويقال : أمثلت الرجل من صاحبه وأقصصته منه . والمثال : القصاص . وقرىء : «المُثُلات» بضمتين لإتباع الفاء العين . و «المَثْلات» ، بفتح الميم وسكون الثاء ، كما يقال : السمرة . و «المُثْلات» بضم الميم وسكون الثاء ، تخفيف «المُثُلات» بضمتين . والمثلات جمع مثلة كركبة وركبات { لَذُو مَغْفِرَةٍ لّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ } أي مع ظلمهم أنفسهم بالذنوب . ومحله الحال ، بمعنى ظالمين لأنفسهم وفيه أوجه . أن يريد السيئات المكفرة لمجتنب الكبائر . أو الكبائر بشرط التوبة . أو يريد بالمغفرة الستر والإمهال . وروي أنها لما نزلت قال النبي عليه الصلاة والسلام :
( 561 ) " لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحد العيش ، ولولا وعيده وعقابه لاتكل كل أحد " .
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)
{ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ } لم يعتدوا بالآيات المنزلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم عناداً ، فاقترحوا نحو آيات موسى وعيسى ، من انقلاب العصا حية ، وإحياء الموتى ، فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما أنت رجل أرسلت منذراً ومخوّفاً لهم من سوء العاقبة . وناصحاً كغيرك من الرسل ، وما عليك إلا الإتيان بما يصح به أنك رسول منذر ، وصحة ذلك حاصلة بأية آية كانت ، والآيات كلها سواء في حصول صحة الدعوة بها لا تفاوت بينها ، والذي عنده كل شيء بمقدار يعطي كل نبي آية على حسب ما اقتضاه علمه بالمصالح وتقديره لها { وَلِكُلّ قَوْمٍ هَادٍ } من الأنبياء يهديهم إلى الدين ، ويدعوهم إلى الله بوجه من الهداية ، وبآية خص بها ، ولم يجعل الأنبياء شرعاً واحداً في آيات مخصوصة . ووجه آخر : وهو أن يكون المعنى أنهم يجحدون كون ما أنزل عليك آيات ويعاندون ، فلا يهمنك ذلك ، إنما أنت منذر ، فما عليك إلا أن تنذر لا أن تثبت الإيمان في صدورهم ، ولست بقادر عليه ، ولكل قوم هاد قادر على هدايتهم بالإلجاء ، وهو الله تعالى . ولقد دل بما أردفه من ذكر آيات علمه وتقديره الأشياء على قضاء حكمته أن إعطاءه كل منذر آيات خلاف آيات غيره : أمر مدبر بالعلم النافذ مقدّر بالحكمة الربانية ، ولو علم في إجابتهم إلى مقترحهم خيراً ومصلحة ، لأجابهم إليه . وأما على الوجه الثاني ، فقد دل به على أن من هذه قدرته وهذا علمه ، هو القادر وحده على هدايتهم ، العالم بأي طريق يهديهم ، ولا سبيل إلى ذلك لغيره .
اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)
{ الله يَعْلَمُ } يحتمل أن يكون كلاماً مستأنفاً ، وأن يكون المعنى : هو الله ، تفسيراً لهاد على الوجه الأخير ، ثم ابتدىء فقيل : { يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى } «وما» في { مَا تَحْمِلُ } ، { وَمَا تَغِيضُ } ، { وَمَا تَزْدَادُ } إما موصولة ، وإما مصدرية . فإن كانت موصولة ، فالمعنى : أنه يعلم ما تحمله من الولد على أي حال هو . من ذكورة وأنوثة ، وتمام وخداج ، وحسن وقبح ، وطول وقصر ، وغير ذلك من الأحوال الحاضرة والمترقبة ، ويعلم ما تغيضه الأرحام : أي تنقصه . يقال : غاض الماء وغضته أنا . ومنه قوله تعالى : { وَغِيضَ الماء } [ هود : 44 ] وما تزداده : أي تأخذه زائداً ، تقول : أخذت منه حقي ، وازددت منه كذا ومنه قوله تعالى : { وازدادوا تِسْعًا } [ الكهف : 25 ] ويقال : زدته فزاد بنفسه وازداد ، ومما تنقصه الرحم وتزداده عدد الولد ، فإنها تشتمل على واحد ، وقد تشتمل على اثنين وثلاثة وأربعة . ويروى أن شريكاً كان رابع أربعة في بطن أمه . ومنه جسد الولد ، فإنه يكون تاما ومخدجاً . ومنه مدة ولادته ، فإنها تكون أقل من تسعة أشهر وأزيد عليها إلى سنتين عند أبي حنيفة ، وإلى أربع عند الشافعي ، وإلى خمس عند مالك ، وقيل : إنّ الضحاك ولد لسنتين ، وهرم بن حيان بقي في بطن أمّه أربع سنين ، ولذلك سمي هرماً . ومنه الدم ، فإنه يقل ويكثر . وإن كانت مصدرية ، فالمعنى أنه يعلم حمل كل أنثى ، ويعلم غيض الأرحام وازديادها ، لا يخفى عليه شيء من ذلك ، ومن أوقاته وأحواله . ويجوز أن يراد غيوض ما في الأرحام وزيادته ، فأسند الفعل إلى الأرحام وهو لما فيها ، على أنّ الفعلين غير متعدّيين ، ويعضده قول الحسن : الغيضوضة أن تضع لثمانية أشهر أو أقل من ذلك ، والازدياد أن تزيد على تسعة أشهر . وعنه الغيض الذي يكون سقطاً لغير تمام ، والازدياد ما ولد لتمام { بِمِقْدَارٍ } بقدر واحد لا يجاوزه ولا ينقص عنه ، كقوله { إِنَّا كُلَّ شَىْء خلقناه بِقَدَرٍ } [ القمر : 49 ] { الكبير } العظيم الشأن الذي كل شيء دونه { المتعال } المستعلي على كل شيء بقدرته ، أو الذي كبر عن صفات المخلوقين وتعالى عنها .
سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)
{ سارب } ذاهب في سربه - بالفتح - أي في طريقه ووجهه . يقال : سرب في الأرض سروباً . والمعنى : سواء عنده من استخفى : أي طلب الخفاء في مختبأ بالليل في ظلمته ، ومن يضطرب في الطرقات ظاهراً بالنهار يبصره كل أحد . فإن قلت : كان حق العبارة أن يقال : ومن هو مستخف بالليل ومن هو سارب بالنهار ، حتى يتناول معنى الاستواء المستخفي والسارب؛ وإلا فقد تناول واحداً هو مستخف وسارب قلت : فيه وجهان : أحدهما أنّ قوله { وَسَارِبٌ } عطف على من هو مستخف ، لا على مستخف ، والثاني أنه عطف على مستخف؛ إلا أن { مِنْ } في معنى الاثنين ، كقوله :
نَكُنْ مِثْلَ مَنْ يَاذِئْبُ يصْطَحِبَانِ ... كأنه قيل : سواء منكم اثنان : مستخف بالليل ، وسارب بالنهار . والضمير في { لَهُ } مردود على { مِنْ } كأنه قيل : لمن أسرّ ومن جهر ، ومن استخفى ومن سرب { معقبات } جماعات من الملائكة تعتقب في حفظه وكلاءته ، والأصل : معتقبات ، فأدغمت التاء في القاف ، كقوله { وَجَاء المعذرون } [ التوبة : 90 ] بمعنى المعتذرون . ويجوز معقبات ، بكسر العين ولم يقرأ به . أو هو مفعلات من عقبه إذا جاء على عقبه ، كما يقال : قفاه ، لأنّ بعضهم يعقب بعضاً أو لأنهم يعقبون ما يتكلم به فيكتبونه { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله } هما صفتان جميعاً وليس { مِنْ أَمْرِ الله } بصلة للحفظ ، كأنه قيل : له معقبات من أمر الله . أو يحفظونه من أجل أمر الله أي من أجل أنّ الله أمرهم بحفظه . والدليل عليه قراءة علي رضي الله عنه وابن عباس وزيد بن علي وجعفر بن محمد وعكرمة : «يحفظونه بأمر الله» . أو يحفظونه من بأس الله ونقمته إذا أذنب ، بدعائهم له ومسئلتهم ربهم أن يمهله رجاء أن يتوب وينيب ، كقوله : { قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم باليل والنهار مِنَ الرحمن } [ الأنبياء : 42 ] وقيل : المعقبات الحرس والجلاوزة حول السلطان ، يحفظونه في توهمه وتقديره من أمر الله أي من قضاياه ونوازله ، أو على التهكم به ، وقرىء : «له معاقيب» جمع معقب أو معقبة . والياء عوض من حذف إحدى القافين في التكسير { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ } من العافية والنعمة { حتى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ } من الحال الجميلة بكثرة المعاصي { مِن وَالٍ } ممن يلي أمرهم ويدفع عنهم .
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13)
{ خَوْفًا وَطَمَعًا } لا يصح أن يكونا مفعولاً لهما لأنهما ليسا بفعل فاعل الفعل المعلل إلا على تقدير حذف المضاف ، أي : إرادة خوف وطمع . أو على معنى إخافة وإطماعاً ، ويجوز أن يكونا منتصبين على الحال من البرق ، كأنه في نفسه خوف وطمع . أو على : ذا خوف وذا طمع . أو من المخاطبين ، أي : خائفين وطامعين . ومعنى الخوف والطمع : أنّ وقوع الصواعق يخاف عند لمع البرق ، ويطمع في الغيث . قال أبو الطيب :
فَتَى كالسَّحَابِ الْجُونِ تُخْشَى وَتُرْتَجَى ... يُرْجَى الْحَيَاء مِنْهَا وَيُخْشَى الصَّوَاعِقُ
وقيل : يخاف المطر من له فيه ضرر ، كالمسافر ، ومن له في جرينه التمر والزبيب ، ومن له بيت يكف ، ومن البلاد ما لا ينتفع أهله بالمطر كأهل مصر ، ويطمع فيه من له فيه نفع ، ويحيا به { السحاب } اسم الجنس ، والواحدة سحابة . و { الثقال } جمع ثقيلة؛ لأنك تقول سحابة ثقيلة ، وسحاب ثقال ، كما تقول : امرأة كريمة ونساء كرام ، وهي الثقال بالماء { وَيُسَبّحُ الرعد بِحَمْدِهِ } ويسبح سامع الرعد من العباد الراجين للمطر حامدين له . أي يضجون بسبحان الله والحمد لله . وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول :
( 562 ) « سبحان من يسبح الرعد بحمده » وعن علي رضي الله عنه : سبحان من سبحت له .
وإذا اشتدّ الرعد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 563 ) « اللهمّ لا تقتلنا بغضبك ، ولا تهلكنا بعذابك ، وعافنا قبل ذلك » وعن ابن عباس .
( 564 ) أنّ اليهود سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الرعد ما هو؟ فقال : « ملك من الملائكة موكل بالسحاب ، معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب » وعن الحسن : خلق من خلق الله ليس بملك . ومن بدع المتصوّفة . الرعد صعقات الملائكة ، والبرق زفرات أفئدتهم ، والمطر بكاؤهم { والملائكة مِنْ خِيفَتِهِ } ويسبح الملائكة من هيبته وإجلاله ذكر علمه النافذ في كل شيء واستواء الظاهر والخفي عنده ، وما دلّ على قدرته الباهرة ووحدانيته ثم قال { وَهُمْ } يعني الذين كفروا وكذّبوا رسول الله وأنكروا آياته { يجادلون فِى الله } حيث ينكرون على رسوله ما يصفه به من القدرة على البعث وإعاد ، الخلائق بقولهم { مِنْ يحيى العظام وَهِىَ رَمِيمٌ } [ يس : 78 ] ويردّون الوحدانية باتخاذ الشركاء والأنداد ، ويجعلونه بعض الأجسام المتوالدة بقولهم { الملائكة * بَنَات الله } فهذا جدالهم بالباطل ، كقولهم { وجادلوا بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق } [ غافر : 5 ] وقيل : الواو للحال . أي : فيصيب بها من يشاء في حال جدالهم . وذلك .
( 565 ) أنّ أربد أخا لبيد ابن ربيعة العامري قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم - حين وفد عليه مع عامر بن الطفيل قاصدين لقتله فرمى الله عامراً بغدّة كغدّة البعير وموت في بيت سلولية ، وأرسل على أربد صاعقة فقتلته - أخبرنا عن ربنا أمن نحاس هو أم من حديد؟ { المحال } المماحلة ، وهي شدّة المماكرة والمكايدة .
ومنه : تمحل لكذا ، إذا تكلف استعمال الحيلة واجتهد فيه ، ومحل بفلان إذا كاده وسعى به إلى السلطان . ومنه الحديث :
( 566 ) « ولا تجعله علينا ما حلا مصدّقاً » وقال الأعشى :
فَرْعُ نَبْعٍ يَهَشُّ في غُصُنِ الْمَجْ ... دِ غَزِيرُ النّدَى شَدِيدُ الْمِحَالِ
والمعنى أنه شديد المكر والكيد لأعدائه ، يأتيهم بالهلكة من حيث لا يحتسبون . وقرأ الأعرج بفتح الميم ، على أنه مفعل ، من حال يحول محالا إذا احتال . ومنه : أحول من ذئب ، أي أشدّ حيلة . ويجوز أن يكون المعنى : شديد الفقار ، ويكون مثلا في القوة والقدرة كما جاء : فساعد الله أشدّ ، وموساه أحدّ؛ لأن الحيوان إذا اشتدّ محاله ، كان منعوتاً بشدّة القوّة والاضطلاع بما يعجز عنه غيره . ألا ترى إلى قولهم : فقرته الفواقر؟ وذلك أن الفقار عمود الظهر وقوامه .
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14)
{ دَعْوَةُ الحق } فيه وجهان أحدهما : أن تضاف الدعوة إلى الحق الذي هو نقيض الباطل ، كما تضاف الكلمة إليه في قولك : كلمة الحق ، للدلالة على أن الدعوة ملابسة للحق مختصة به ، وأنها بمعزل من الباطل . والمعنى أن الله سبحانه يدعى فيستجيب الدعوة ، ويعطي الداعي سؤاله إن كان مصلحة له ، فكانت دعوة ملابسة للحق ، لكونه حقيقاً بأن يوجه إليه الدعاء ، لما في دعوته من الجدوى والنفع ، بخلاف ما لا ينفع ولا يجدي دعاؤه . والثاني : أن تضاف إلى الحق الذي هو الله عز وعلا ، على معنى : دعوة المدعوّ الحق الذي يسمع فيجيب . وعن الحسن : الحق هو الله ، وكلّ دعاء إليه دعوة الحق . فإن قلت : ما وجه اتصال هذين الوصفين بما قبله؟ قلت أما على قصة أربد فظاهر؛ لأن إصابته بالصاعقة محال من الله ومكرٌ به من حيث لم يشعر . وقد
( 567 ) دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وعلى صاحبه بقوله : ( اللهمّ اخسفهما بما شئت ) ، فأجيب فيهما ، فكانت الدعوة دعوة حق . وأما على الأوّل فوعيد للكفرة على مجادلتهم رسول الله بحلول محاله بهم ، وإجابة دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن دعا عليهم فيهم { والذين يَدْعُونَ } والآلهة الذين يدعوهم الكفار { مِنْ } دون الله { لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَىْء } من طلباتهم { إِلاَّ كباسط كَفَّيْهِ } إلا استجابة كاستجابة باسط كفيه ، أي كاستجابة الماء من بسط كفيه إليه يطلب منه أن يبلغ فاه ، والماء جماد لا يشعر ببسط كفيه ولا بعطشه وحاجته إليه ، ولا يقدر أن يجيب دعاءه ويبلغ فاه ، وكذلك ما يدعونه جماد لا يحس بدعائهم ولا يستطيع إجابتهم ولا يقدر على نفعهم . وقيل : شبهوا في قلة جدوى دعائهم لآلهتهم بمن أراد أن يغرف الماء بيديه ليشربه ، فبسطهما ناشراً أصابعه ، فلم تلق كفاه منه شيئاً ولم يبلغ طلبته من شربه . وقرىء : «تدعون» بالتاء . كباسط كفيه ، بالتنوين { إِلاَّ فِى ضلال } إلا في ضياع لا منفعة فيه؛ لأنهم إن دعوا الله لم يجبهم ، وإن دعوا الآلهة لم تستطع إجابتهم .
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15)
{ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ } أي ينقادون لإحداث ما أراده فيهم من أفعاله ، شاؤا أو أبوا . لا يقدرون أن يمتنعوا عليه ، وتنقاد له { ظلالهم } أيضاً حيث تتصرف على مشيئته في الامتداد والتقلص ، والفيء والزوال . وقرىء : «بالغدو والإيصال» ، من آصلوا : إذا دخلوا في الأصيل .
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)
{ قُلِ الله } حكاية لاعترافهم وتأكيد له عليهم؛ لأنه إذا قال لهم : من رب السموات والأرض ، لم يكن لهم بدّ من أن يقولوا الله . كقوله : { قُلْ مَن رَّبُّ السموات السبع وَرَبُّ العرش العظيم سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } [ المؤمنون : 86 ] وهذا كما يقول المناظر لصاحبه : أهذا قولك فإذا قال : هذا قولي قال : هذا قولك ، فيحكي إقراره تقريراً له عليه واستيثاقاً منه ، ثم يقول له : فيلزمك على هذا القول كيت وكيت . ويجوز أن يكون تلقيناً ، أي : إن كعوا عن الجواب فلقنهم ، فإنهم يتلقنونه ولا يقدرون أن ينكروه { أفاتخذتم مّن دُونِهِ أَوْلِيَاء } أبعد أن علمتموه رب السموات والأرض اتخذتم من دونه أولياء ، فجعلتم ما كان يجب أن يكون سبب التوحيد من علمكم وإقراركم سبب الإشراك { لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرّا } لا يستطيعون لأنفسهم أن ينفعوها أو يدفعوا عنها ضرراً ، فكيف يستطيعونه لغيرهم وقد آثرتموهم على الخالق الرازق المثيب المعاقب ، فما أبين ضلالتكما { أَمْ جَعَلُواْ } بل أجعلوا . ومعنى الهمزة الإنكار و { خَلَقُواْ } صفة لشركاء ، يعني أنهم لم يتخذوا لله شركاء خالقين قد خلقوا مثل خلق الله { فَتَشَابَهَ } عليهم خلق الله وخلقهم ، حتى يقولوا : قدر هؤلاء على الخلق كما قدر الله عليه ، فاستحقوا العبادة ، فنتخذهم له شركاء ونعبدهم كما يعبد ، إذ لا فرق بين خالق وخالق؛ ولكنهم اتخذوا له شركاه عاجزين لا يقدرون على ما يقدر عليه الخلق ، فضلاً أن يقدروا على ما يقدر عليه الخالق { قُلِ الله خالق كُلّ شَىْء } لا خالق غير الله ، ولا يستقيم أن يكون له شريك في الخلق ، فلا يكون له شريك في العبادة { وَهُوَ الواحد } المتوحد بالربوبية { القهار } لا يغالب ، وما عداه مربوب ومقهور .
أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)
هذا مثل ضربه الله للحق وأهله والباطل وحزبه ، كما ضرب الأعمى والبصير والظلمات والنور مثلاً لهما ، فمثل الحق وأهله بالماء الذي ينزله من السماء فتسيل به أودية الناس فيحيون به وينفعهم أنواع المنافع ، وبالفلز الذي ينتفعون به في صوغ الحليّ منه واتخاذ الأواني والآلات المختلفة ، ولو لم يكن إلا الحديد الذي فيه البأس الشديد لكفي به ، وأن ذلك ماكث في الأرض باق بقاء ظاهراً ، يثبت الماء في منافعه . وتبقى آثاره في العيون والبئار والجبوب ، والثمار التي تنبت به مما يدّخر ويكنز ، وكذلك الجواهر تبقى أزمنة متطاولة . وشبه الباطل في سرعة اضمحلاله ووشك زواله وانسلاخه عن المنفعة ، بزبد السيل الذي يرمي به ، وبزبد الفلز الذي يطفو فوقه إذا أذيب . فإن قلت : لم نكرت الأودية؟ قلت : لأن المطر لا يأتي إلا على طريق المناوبة بين البقاع ، فيسيل بعض أودية الأرض دون بعض . فإن قلت : فما معنى قوله : { بِقَدَرِهَا } ؟ قلت : بمقدارها الذي عرف الله أنه نافع للممطور عليهم غير ضارّ . ألا ترى إلى قوله : { وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس } لأنه ضرب المطر مثلا للحق ، فوجب أن يكون مطراً خالصاً للنفع خالياً من المضرة ، ولا يكون كبعض الأمطار والسيول الجواحف . فإن قلت : فما فائدة قوله : { ابتغاء حِلْيَةٍ أَوْ متاع } ؟ قلت : الفائدة فيه كالفائدة في قوله : { بِقَدَرِهَا } لأنه جمع الماء والفلز في النفع في قوله : { وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس } لأنّ المعنى : وأما ما ينفعهم من الماء والفلز فذكر وجه الانتفاع مما يوقد عليه منه ويذاب ، وهو الحلية والمتاع . وقوله : { وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِى النار ابتغاء حِلْيَةٍ أَوْ متاع } عبارة جامعة لأنواع الفلز ، مع إظهار الكبرياء في ذكره على وجه التهاون به كما هو هجيرى الملوك ، نحو ما جاء في ذكر الآجر { أوْقِدْ لِى ياهامان عَلَى الطين } [ القصص : 38 ] و «من» لابتداء الغاية . أي : ومنه ينشأ زبد مثل زبد الماء . أو للتبعيض بمعنى وبعضه زبداً رابياً منفخاً مرتفعاً على وجه السيل [ { جُفَآءً } يجفؤه السيل : ] ، أي يرمي به . وجفأت القدر بزبدها ، وأجفأ السيل وأجفل . وفي قراءة رؤبة ابن العجاج : جفالا وعن أبي حاتم : لا يقرأ بقراءة رؤبة ، لأنه كان يأكل الفأر . وقرىء : «يوقدون» ، بالياء : أي يوقد الناس .
لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)
{ لِلَّذِينَ استجابوا } اللام متعلقة بيضرب ، أي كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين الذين استجابوا ، وللكافرين الذين لم يستجيبوا ، أي : هما مثلا الفريقين . و { الحسنى } صفة لمصدر استجابوا ، أي : استجابوا الاستجابة الحسنى . وقوله { لَوْ أَنَّ لَهُمْ } كلام مبتدأ في ذكر ما أعدّ لغير المستجيبين . وقيل : قد تم الكلام عند قوله : { كذلك يَضْرِبُ الله الامثال } [ الرعد : 17 ] وما بعده كلام مستأنف . والحسنى : مبتدأ ، خبره { لِلَّذِينَ استجابوا } والمعنى : لهم المثوبة الحسنى ، وهي الجنة { والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ } مبتدأ خبره ، «لو» مع ما في حيزه و { سُوء الحِسَابِ } المناقشة فيه . وعن النخعي : أن يحاسب الرجل بذنبه كله لا يغفر منه شيء .
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)
دخلت همزة الإنكار على الفاء في قوله { أَفَمَن يَعْلَمُ } لإنكار أن تقع شبهة بعد ما ضرب من المثل في أنّ حال من علم { أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ الحق } فاستجاب ، بمعزل من حال الجاهل الذي لم يستبصر فيستجيب : كبعد ما بين الزبد والماء والخبث والإبريز { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الألباب } أي الذين عملوا على قضيات عقولهم ، فنظروا واستبصروا .
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)
{ والذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله } مبتدأ . و { أُوْلَئِكَ لَهُمْ عقبى الدار } خبره كقوله : والذين ينقضون عهد الله أولئك لهم اللعنة . ويجوز أن يكون صفة لأولي الألباب ، والأوّل أوجه . وعهد الله : ما عقدوه على أنفسهم من الشهادة بربوبيته { وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بلى } [ الأعراف : 172 ] { وَلاَ يِنقُضُونَ الميثاق } ولا ينقضون كل ما وثقوه على أنفسهم وقبلوه : من الإيمان بالله وغيره من المواثيق بينهم وبين الله وبين العباد ، تعميم بعد تخصيص { مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ } من الأرحام والقرابات ، ويدخل فيه وصل قرابة رسول الله وقرابة المؤمنين الثابتة بسبب الإيمان { إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ } [ الحجرات : 10 ] بالإحسان إليهم على حسب الطاقة ، ونصرتهم ، والذب عنهم ، والشفقة عليهم ، والنصيحة لهم ، وطرح التفرقة بين أنفسهم وبينهم ، وإفشاء السلام عليهم ، وعيادة مرضاهم ، وشهود جنائزهم . ومنه مراعاة حق الأصحاب والخدم والجيران والرفقاء في السفر ، وكل ما تعلق منهم بسبب ، حتى الهرة والدجاجة . وعن الفضيل بن عياض أنّ جماعة دخلوا عليه بمكة فقال : من أين أنتم؟ قالوا : من أهل خراسان . قال : اتقوا الله وكونوا من حيث شئتم ، واعلموا أنّ العبد لو أحسن الإحسان كله وكانت له دجاجة فأساء إليها لم يكن من المحسنين { وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } أي يخشون وعيده كله { وَيَخَافُونَ } خصوصاً { سُوء الحِسَابِ } فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا { صَبَرُواْ } مطلق فيما يصبر عليه من المصائب في النفوس والأموال ومشاق التكليف { ابتغاء وَجْهِ } الله ، لا ليقال : ما أصبره وأحمله للنوازل ، وأوقره عند الزلازل ، ولا لئلا يعاب بالجزع ولئلا يشمت به الأعداء كقوله :
وَتَجَلُّدِي لِلشّامِتِينَ أُرِيِهمُ ... ولا لأنه لا طائل تحت الهلع ولا مردّ فيه للفائت ، كقوله :
مَا أنْ جَزعْتُ وَلاَ هَلَعْ ... تُ وَلاَ يَرُدُّ بُكاي زَنْدَا
وكل عمل له وجوه يعمل عليها ، فعلى المؤمن أن ينوي منها ما به كان حسناً عند الله ، وإلا لم يستحق به ثواباً ، وكان فعلا كلا فعل { مّمّا رزقناهم } من الحلال؛ لأنّ الحرام لا يكون رزقاً ولا يسند إلى الله { سِرّا وَعَلاَنِيَةً } يتناول النوافل ، لأنها في السر أفضل والفرائض ، لوجوب المجاهرة بها نفياً للتهمة { وَيَدْرَءونَ بالحسنة السيئة } ويدفعونها عن ابن عباس : يدفعون بالحسن من الكلام ما يرد عليهم من سيء غيرهم . وعن الحسن : إذا حرموا أعطوا ، وإذا ظلموا عفوا ، وإذا قطعوا وصلوا . وعن ابن كيسان : إذا أذنبوا تابوا . وقيل : إذا رأوا منكراً أمروا بتغييره { عقبى الدار } عاقبة الدنيا وهي الجنة ، لأنها التي أراد الله أن تكون عاقبة الدنيا ومرجع أهلها و { جنات عَدْنٍ } بدل من عقبى الدار . وقرىء «فنعم» بفتح النون . والأصل : نعم فمن كسر النون فلنقل كسرة العين إليها ، ومن فتح فقد سكن العين ولم ينقل وقرىء : «يدخلونها» على البناء للمفعول .
وقرأ ابن أبي عبلة «صلُح» بضم اللام ، والفتح أفصح ، أعلم أنّ الأنساب لا تنفع إذا تجردت من الأعمال الصالحة . وآباؤهم جمع أبوي كل واحد منهم ، فكأنه قيل من آبائهم وأمهاتهم { سلام عَلَيْكُمُ } في موضع الحال ، لأنّ المعنى : قائلين سلام عليكم أو مسلمين ، فإن قلت : بم تعلق قوله { بِمَا صَبَرْتُمْ } ؟ قلت : بمحذوف تقديره : هذا بما صبرتم ، يعنون هذا الثواب بسبب صبركم ، أو بدل ما احتملتم من مشاق الصبر ومتاعبه هذه الملاذ والنعم والمعنى : لئن تعبتم في الدنيا لقد استرحتم الساعة ، كقوله :
بِمَا قَدْ أرَى فِيهَا أوَانِسَ بُدَّنَا ... وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 568 ) أنه كان يأتي قبور الشهداء على رأس كل حول فيقول " السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار " ويجوز أن يتعلق بسلام ، أي نسلم عليكم ونكرمكم بصبركم .
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)
{ مِن بَعْدِ ميثاقه } من بعد ما أوثقوه به من الاعتراف والقبول { سُوء الدار } يحتمل أن يراد سوء عاقبة الدنيا ، لأنه في مقابلة عقبى الدار ، ويجوز أن يراد بالدار جهنم ، وبسوئها عذابها .
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26)
{ الله يَبْسُطُ الرزق } أي الله وحده هو يبسط الرزق ويقدره دون غيره ، وهو الذي بسط رزق أهل مكة ووسعه عليهم { وَفَرِحُواْ } بما بسط لهم من الدنيا فرح بطر وأشر لافرح سرور بفضل الله وإنعامه عليهم ، ولم يقابلوه بالشكر حتى يستوجبوا نعيم الآخرة ، وخفي عليهم أن نعيم الدنيا في جنب نعيم الآخرة ليس إلا شيئاً نزرا يتمتع به كعجالة الراكب ، وهو ما يتعجله من تميرات أو شربة سويق أو نحو ذلك .
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)
فإن قلت : كيف طابق قولهم { لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ } قوله : { قُلْ إِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَاء } ؟ قلت : هو كلام يجري مجرى التعجب من قولهم ، وذلك أن الآيات الباهرة المتكاثرة التي أوتيها رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤتها نبيّ قبله ، وكفى بالقرآن وحده آية وراء كل آية ، فإذا جحدوها ولم يعتدّوا بها وجعلوه كأن آية لم تنزل عليه قط ، كان موضعاً للتعجب والاستنكار ، فكأنه قيل لهم : ما أعظم عنادكم وما أشد تصميمكم على كفركم : إن الله يضل من يشاء ممن كان على صفتكم من التصميم وشدّة الشكيمة في الكفر ، فلا سبيل إلى اهتدائهم وإن أنزلت كل آية { وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ } كان على خلاف صفتكم { أَنَابَ } أقبل إلى الحق ، وحقيقته دخل في نوبة الخير ، و { الذين ءَامَنُواْ } بدل من { مَنْ أَنَابَ } { وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله } بذكر رحمته ومغفرته بعد القلق والاضطراب من خشيته ، كقوله : { ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله } [ الزمر : 23 ] أو تطمئن بذكر دلائله الدالة على وحدانيته ، أو تطمئن بالقرآن لأنه معجزة بينة تسكن القلوب وتثبت اليقين فيها { الذين ءَامَنُواْ } مبتدأ ، و { طوبى لَهُمْ } خبره . ويجوز أن يكون بدلاً من القلوب ، على تقدير حذف المضاف ، أي : تطمئن القلوب قلوب الذين آمنوا ، وطوبى مصدر من طاب ، كبشرى وزلفى ، ومعنى «طوبى لك» أصبت خيراً وطيباً ، ومحلها النصب أو الرفع ، كقولك : طيباً لك ، وطيب لك ، وسلاماً لك ، وسلام لك ، والقراءة في قوله «وحسن مآب» بالرفع والنصب ، تدلك على محليها . واللام في { لَهُمْ } للبيان مثلها في سقيا لك ، والواو في طوبى منقلبة عن ياء لضمة ما قبلها ، كموقن وموسر وقرأ مكوزة الأعرابي : «طيبى لهم» ، فكسر الطاء لتسلم الياء ، كما قيل : بيض ومعيشة .
كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)
{ كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ } مثل ذلك الإرسال أرسلناك ، يعني : أرسلناك إرسالاً له شأن وفضل على سائر الإرسالات ، ثم فسر كيف أرسله فقال : { فِى أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ } أي أرسلناك في أمة قد تقدمتها أمم كثيرة فهي آخر الأمم وأنت خاتم الأنبياء { لّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } لتقرأ عليهم الكتاب العظيم الذي أوحينا إليك { وَهُمْ يَكْفُرُونَ } وحال هؤلاء أنهم يكفرون { بالرحمن } بالبليغ الرحمة الذي وسعت رحمته كل شيء ، وما بهم من نعمة فمنه ، فكفروا بنعمته في إرسال مثلك إليهم وإنزال هذا القرآن المعجز المصدق لسائر الكتب عليهم { قُلْ هُوَ رَبّى } الواحد المتعالي عن الشركاء { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } في نصرتي عليكم { وَإِلَيْهِ مَتَابِ } فيثيبني على مصابرتكم ومجاهدتكم .
وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)
{ وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا } جوابه محذوف ، كما تقول لغلامك : لو أني قمت إليك ، وتترك الجواب والمعنى : ولو أن قرآنا { سُيّرَتْ بِهِ الجبال } عن مقارّها ، وزعزعت عن مضاجعها { أَوْ قُطّعَتْ بِهِ الأرض } حتى تتصدع وتتزايل قطعاً { أَوْ كُلّمَ بِهِ الموتى } فتسمع وتجيب ، لكان هذا القرآن لكونه غاية في التذكير ونهاية في الإنذار والتخويف ، كما قال : { لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرءان على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خاشعا مُّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَةِ الله } [ الحشر : 21 ] هذا يعضد ما فسرت به قوله : { لّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } [ الرعد : 30 ] من إرادة تعظيم ما أوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن . وقيل : معناه ولو أن قرآناً وقع به تسيير الجبال وتقطيع الأرض وتكليم الموتى وتنبيههم ، لما آمنوا به ولما تنبهوا عليه كقوله : { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الملائكة } [ الأنعام : 111 ] الآية . وقيل : إن أبا جهل بن هشام قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : سيِّر بقرآنك الجبال عن مكة حتى تتسع لنا فنتخذ فيها البساتين والقطائع ، كما سخرت لداود عليه السلام إن كنت نبياً كما تزعم ، فلست بأهون على الله من داود . وسخر لنا به الريح لنركبها ونتجر إلى الشام ثم نرجع في يومنا ، فقد شق علينا قطع المسافة البعيدة كما سخرت لسليمان عليه السلام . أو ابعث لنا به رجلين أو ثلاثة ممن مات من آبائنا : منهم قصي بن كلاب فنزلت ومعنى تقطيع الأرض على هذا : قطعها بالسير ومجاوزتها . وعن الفراء : هو متعلق بما قبله . والمعنى : وهم يكفرون بالرحمن { وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الجبال } وما بينهما اعتراض ، وليس ببعيد من السداد . وقيل { قُطّعَتْ بِهِ الارض } شققت فجعلت أنهاراً وعيوناً { بَل للَّهِ الأمر جَمِيعًا } على معنيين ، أحدهما : بل لله القدرة على كل شيء ، وهو قادر على الآيات التي اقترحوها؛ إلا أنّ علمه بأنّ إظهارها مفسدة يصرفه . والثاني : بل لله أن يلجئهم إلى الإيمان ، وهو قادر على الالجاء لولا أنه بنى أمر التكليف على الاختيار . ويعضده قوله : { أَفَلَمْ يَاْيْئَسِ الذين ءامَنُواْ أَن لَّوْ يَشَاء الله } يعني مشيئة الإلجاء والقسر { لَهَدَى الناس جَمِيعًا } ومعنى { أَفَلَمْ يَاْيْئَسِ } أفلم يعلم . قيل : هي لغة قوم من النخع . وقيل إنما استعمل اليأس بمعنى العلم لتضمنه معناه؛ لأنّ اليائس عن الشيء عالم بأنه لا يكون ، كما استعمل الرجاء في معنى الخوف ، والنسيان في معنى الترك لتضمن ذلك . قال سحيم بن وثيل الرياحي :
أَقُولُ لَهُمْ بالشِّعْبِ إذْ يَيْسُرُونَنِي ... أَلَمْ تَيْأَسُوا أَنِّي ابْنُ فَارِسِ زَهْدَمِ
ويدل عليه أن علياً وابن عباس وجماعة من الصحابة والتابعين قرؤا : «أفلم يتبين» وهو تفسير ( أفلم ييئس ) وقيل : إنما كتبه الكاتب وهو ناعس مستوى السينات ، وهذا ونحوه مما لا يصدق في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وكيف يخفى مثل هذا حتى يبقى ثابتاً بين دفتي الإمام .
وكان متقلباً في أيدي أولئك الأعلام المحتاطين في دين الله المهيمنين عليه لا يغفلون عن جلائله ودقائقه ، خصوصاً عن القانون الذي إليه المرجع ، والقاعدة التي عليها البناء ، وهذه والله فرية ما فيها مرية . ويجوز أن يتعلق { أَن لَّوْ يَشَاء } بآمنوا ، على أو لم يقنط عن إيمان هؤلاء الكفرة الذين آمنوا بأن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً ولهداهم { تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ } من كفرهم وسوء أعمالهم { قَارِعَةٌ } داهية تقرعهم بما يحل الله بهم في كل وقت من صنوف البلايا والمصائب في نفوسهم وأولادهم وأموالهم { أَوْ تَحُلُّ } القارعة { قَرِيبًا } منهم فيفزعون ويضطربون ويتطاير إليهم شرارها ، ويتعدى إليهم شرورها { حتى يَأْتِىَ وَعْدُ الله } وهو موتهم ، أو القيامة . وقيل : ولا يزال كفار مكة تصيبهم بما صنعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم من العداوة والتكذيب قارعة؛ لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يزال يبعث السرايا فتغير حول مكة وتختطف منهم ، وتصيب من مواشيهم . أو تحل أنت يا محمد قريباً من دارهم بجيشك ، كما حل بالحديبية ، حتى يأتي وعد الله وهو فتح مكة ، وكان الله قد وعده ذلك .
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32)
الإملاء : الإمهال ، وأن يترك ملاوة من الزمان في خفض وأمن ، كالبهيمة يملي لها في المرعى وهذا وعيد لهم وجواب عن اقتراحهم الآيات على رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاء به وتسلية له .
أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)
{ أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ } احتجاج عليهم في إشراكهم بالله ، يعني أفا الله الذي هو قائم رقيب { على كُلّ نَفْسٍ } صالحة أو طالحة { بِمَا كَسَبَتْ } يعلم خيره وشره ، ويعدّ لكل جزاءه ، كمن ليس كذلك . ويجوز أن يقدّر ما يقع خبراً للمبتدأ ويعطف عليه وجعلوا ، وتمثيله : أفمن هو بهذه الصفة لم يوحدوه { وَجَعَلُواْ } له وهو الله الذي يستحق العبادة وحده { شُرَكَاء قُلْ سَمُّوهُمْ } أي جعلتم له شركاء فسموهم له من هم ونبئوه بأسمائهم ، ثم قال : { أَمْ تُنَبِّئُونَهُ } على أم المنقطعة ، كقولك للرجل : قل لي من زيد أم هو أقل من أن يعرف ، ومعناه : بل أتنبؤونه بشركاء لا يعلمهم في الأرض وهو العالم بما في السموات والأرض ، فإذا لم يعلمهم علم أنهم ليسوا بشيء يتعلق به العلم ، والمراد نفي أن يكون له شركاء . ونحو : { قُلْ أَتُنَبّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى السموات وَلاَ فِى الأرض } [ يونس : 18 ] ، { أَم بظاهر مّنَ القول } بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير أن يكون لذلك حقيقة ، { ذلك قَوْلُهُم بأفواههم } [ التوبة : 30 ] ، { مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا } [ يوسف : 40 ] وهذا الاحتجاج وأساليبه العجيبة التي ورد عليها مناد على نفسه بلسان طلق ذلق : أنه ليس من كلام البشر لمن عرف وأنصف من نفسه ، فتبارك الله أحسن الخالقين . وقرىء : «أتنبئونه» بالتخفيف { مَكْرِهِمْ } كيدهم للإسلام بشركهم { وَصُدُّواْ } قرىء بالحركات الثلاث . وقرأ ابن أبي إسحاق : «وصدّ» بالتنوين { وَمَن يُضْلِلِ الله } ومن يخذله لعلمه أنه لا يهتدي { فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } فما له من أحد يقدر على هدايته { لَّهُمْ عَذَابٌ فِى الحياة الدنيا } وهو ما ينالهم من القتل والأسر وسائر المحن ، ولا يلحقهم إلا عقوبة لهم على الكفر ، ولذلك سماه عذاباً { وَمَا لَهُم مّنَ الله مِن وَاقٍ } وما لهم من حافظ من عذابه . أو ما لهم من جهته واق من رحمته .
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)
{ مَّثَلُ الجنة } صفتها التي هي في غرابة المثل ، وارتفاعه بالابتداء والخبر محذوف على مذهب سيبويه ، أي فيما قصصناه عليكم مثل الجنة . وقال غيره : الخبر { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار } كما تقول : صفة زيد أسمر ، وقال الزجاج : معناه مثل الجنة جنة تجري من تحتها الأنهار ، على حذف الموصوف تمثيلاً لما غاب عنا بما نشاهد . وقرأ علي رضي الله عنه «أمثال الجنة» على الجمع أي صفاتها { أُكُلُهَا دَائِمٌ } كقوله { لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ } [ الواقعة : 33 ] { وِظِلُّهَا } دائم لا ينسخ ، كما ينسخ في الدنيا بالشمس .
وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36)
{ والذين ءاتيناهم الكتاب } يريد من أسلم من اليهود ، كعبد الله بن سلام وكعب وأصحابهما ، ومن أسلم من النصارى وهم ثمانون رجلاً : أربعون بنجران ، واثنان وثلاثون بأرض الحبشة ، وثمانية من أهل اليمن ، هؤلاء { يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأحزاب } يعني ومن أحزابهم وهم كفرتهم الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة نحو كعب بن الأشرف وأصحابه ، والسيد والعاقب أسقفي نجران وأشياعهما { مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ } لأنهم كانوا لا ينكرون الأقاصيص وبعض الأحكام والمعاني [ مما ] هو ثابت في كتبهم غير محرف ، وكانوا ينكرون ما هو نعت الإسلام ونعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وغير ذلك مما حرّفوه وبدّلوه من الشرائع . فإن قلت : كيف اتصل قوله : { قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله } بما قبله؟ قلت : هو جواب للمنكرين معناه : قل إنما أمرت فيما أنزل إليّ بأن أعبد الله ولا أشرك به . فإنكاركم له إنكار لعبادة الله وتوحيده فانظروا ماذا تنكرون مع ادعائكم وجوب عبادة الله وأن لا يشرك به { قُلْ ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَن لا نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً } [ آل عمران : 64 ] وقرأ نافع في رواية أبي خليد : «ولا أشرك» بالرفع على الاستئناف كأنه قال : وأنا [ لا ] أشرك به ويجوز أن يكون في موضع الحال على معنى : أمرت أن أعبد الله غير مشرك به { إِلَيْهِ أَدْعُو } خصوصاً لا أدعو إلى غيره { وَإِلَيْهِ } لا إلى غيره مرجعي ، وأنتم تقولون مثل ذلك ، فلا معنى لإنكاركم .
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37)
{ وكذلك أنزلناه } ومثل ذلك الإنزال أنزلناه مأموراً فيه بعبادة الله وتوحيده والدعوة إليه وإلى دينه ، والإنذار بدار الجزاء { حُكْمًا عَرَبِيّا } حكمة عربية مترجمة بلسان العرب ، وانتصابه على الحال . كانوا يدعون رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمور يوافقهم عليها منها أن يصلي إلى قبلتهم بعد ما حوّله الله عنها ، فقيل له : لئن تابعتهم على دين ما هو إلا أهواء وشبه بعد ثبوت العلم عندك بالبراهين والحجج القاطعة ، خذلك الله فلا ينصرك ناصر ، وأهلكك فلا يقيك منه واق ، وهذا من باب الإلهاب والتهييج ، والبعث للسامعين على الثبات في الدين والتصلب فيه ، وأن لا يزلّ زالّ عند الشبهة بعد استمساكه بالحجة ، وإلا فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من شدّة الشكيمة بمكان .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)
كانوا يعيبونه بالزواج والولاد ، كما كانوا يقولون : ما لهذا الرسول يأكل الطعام ، وكانوا يقترحون عليه الآيات ، وينكرون النسخ فقيل : كان الرسل قبله بشراً مثله ذوي أزواج وذرية . وما كان لهم أن يأتوا بآيات برأيهم ولا يأتون بما يقترح عليهم ، والشرائع مصالح تختلف باختلاف الأحوال والأوقات؛ فلكل وقت حكم يكتب على العباد ، أي : يفرض عليهم على ما يقتضيه استصلاحهم { يَمْحُواْ الله مَا يَشَاء } ينسخ ما يستصوب نسخه ، ويثبت بدله ما يرى المصلحة في إثباته ، أو يتركه غير منسوخ ، وقيل : يمحو من ديوان الحفظة ما ليس بحسنة ولا سيئة؛ لأنهم مأمورون بكتبة كل قول وفعل { وَيُثَبّتْ } غيره . وقيل يمحو كفر التائبين ومعاصيهم بالتوبة ، ويثبت إيمانهم وطاعتهم . وقيل : يمحو بعض الخلائق ويثبت بعضاً من الأناسي وسائر الحيوان والنبات والأشجار وصفاتها وأحوالها ، والكلام في نحو هذا واسع المجال { وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب } أصل كل كتاب وهو اللوح المحفوظ ، لأنّ كل كائن مكتوب فيه . وقرىء : «ويثبت» .
وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40)
{ وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ } وكيفما دارت الحال أريناك مصارعهم وما وعدناهم من إنزال العذاب عليهم . أو توفيناك قبل ذلك ، فما يجب عليك إلا تبليغ الرسالة فحسب ، وعلينا لا عليك حسابهم وجزاؤهم على أعمالهم ، فلا يهمنك إعراضهم ، ولا تستعجل بعذابهم .
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41)
{ أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِى الأرض } أرض الكفر { نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } بما نفتح على المسلمين من بلادهم ، فننقص دار الحرب ونزيد في دار الإسلام ، وذلك من آيات النصرة والغلبة ونحوه { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِى الارض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } [ الأنبياء : 44 ] ، { أَفَهُمُ الغالبون } [ الأنبياء : 44 ] ، { سَنُرِيهِمْ ءاياتنا فِى الافاق } [ فصلت : 53 ] والمعنى : عليك بالبلاغ الذي حملته؛ ولا تهتم بما وراء ذلك فنحن نكفيكه ونتم ما وعدناك من الظفر ، ولا يضجرك تأخره؛ فإن ذلك لما نعلم من المصالح التي لا تعلمها ثم طيب نفسه ونفس عنها بما ذكر من طلوع تباشير الظفر . وقرىء «ننقصها» بالتشديد { لاَ مُعَقّبَ لِحُكْمِهِ } لا رادّ لحكمه . والمعقب : الذي يكرّ على الشيء فيبطله ، وحقيقته : الذي يعقبه أي يقفيه بالردّ والإبطال . ومنه قيل لصاحب الحق : معقب؛ لأنه يقفي غريمه بالاقتضاء والطلب . قال لبيد :
طَلَبُ الْمُعَقِّبِ حَقَّهُ الْمَظْلُومُ ... والمعنى : أنه حكم للإسلام بالغلبة والإقبال ، وعلى الكفر بالإدبار والانتكاس { وَهُوَ سَرِيعُ الحساب } فعما قليل يحاسبهم في الآخرة بعد عذاب الدنيا . فإن قلت : ما محل قوله لا معقب لحكمه؟ قلت : هو جملة محلها النصب على الحال ، كأنه قيل : والله يحكم نافذاً حكمه ، كما تقول جاءني زيد لا عمامة على رأسه ولا قلنسوة ، تريد حاسراً .
وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42)
{ وَقَدْ مَكَرَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } وصفهم بالمكر ، ثم جعل مكرهم كلا مكر بالإضافة إلى مكره فقال { فَلِلَّهِ المكر جَمِيعًا } ثم فسر ذلك بقوله : { يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الكافر لِمَنْ عُقْبَى الدار } لأنّ من علم ما تكسب كل نفس ، وأعدّ لها جزاءها فهو المكر كله؛ لأنه يأتيهم من حيث لا يعلمون . وهم في غفلة مما يراد بهم . وقرىء : «الكفار» ، و «الكافرون» . و «الذين كفروا» . والكفر : أي أهله . والمراد بالكافر الجنس : وقرأ جناح بن حبيش ، و «سَيُعلم الكافر» ، من أعلمه أي سيخبر .
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
{ كفى بالله شَهِيدًا } لما أظهر من الأدلة على رسالتي { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب } والذي عنده علم القرآن وما ألف عليه من النظم المعجز الفائت لقوى البشر . وقيل : ومن هو من علماء أهل الكتاب الذين أسلموا . لأنهم يشهدون بنعته في كتبهم : وقيل : هو الله عز وعلا والكتاب : اللوح المحفوظ وعن الحسن : لا والله ما يعني إلا الله . والمعنى : كفى بالذي يستحق العبادة وبالذي لا يعلم علم ما في اللوح إلا هو ، شهيداً بيني وبينكم . وتعضده قراءة من قرأ : «ومن عنده علم الكتاب» على من الجارّة ، أي ومن لدنه علم الكتاب ، لأن علم من علمه من فضله ولطفه . وقرىء : «ومن عنده علم الكتاب» على من الجارّة ، وعلم ، على البناء للمفعول وقرىء : «وبمن عنده علم الكتاب» . فإن قلت : بم ارتفع علم الكتاب؟ قلت : في القراءة التي وقع فيها عنده صلة يرتفع العلم بالمقدّر في الظرف ، فيكون فاعلاً؛ لأنّ الظرف إذا وقع صلة أوغل في شبه الفعل لاعتماده على الموصول ، فعمل عمل الفعل ، كقولك ، مررت بالذي في الدار أخوه ، فأخوه فاعل ، كما تقول : بالذي استقرّ في الدار أخوه . وفي القراءة التي لم يقع فيها عنده صلة يرتفع العلم بالإبتداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 569 ) " من قرأ سورة الرعد أعطي من الأجر عشر حسنات بوزن كل سحاب مضى وكل سحاب يكون إلى يوم القيامة ، وبعث يوم القيامة من الموفين بعهد الله "
الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3)
{ كتاب } هو كتاب ، يعني السورة . وقرىء : «ليخرج الناس» . والظلمات والنور : استعارتان للضلال والهدى { بِإِذْنِ رَبِّهِمْ } بتسهيله وتيسيره ، مستعار من الإذن الذي هو تسهيل للحجاب ، وذلك ما يمنحهم من اللطف والتوفيق { إلى صِرَاطِ العزيز الحميد } بدل من قوله إلى النور بتكرير العامل ، كقوله : { لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ ءامَنَ مِنْهُمْ } [ الأعراف : 75 ] ويجوز أن يكون على وجه الاستئناف ، كأنه قيل : إلى أي نور؟ فقيل : إلى صراط العزيز الحميد . وقوله : { الله } عطف بيان للعزيز الحميد؛ لأنه جرى مجرى الأسماء الأعلام لغلبته واختصاصه بالمعبود الذي تحق له العبادة كما غلب النجم في الثريا . وقرىء بالرفع على : «هو الله» . الويل : نقيض الوأل ، وهو النجاة اسم معنى ، كالهلاك؛ إلا أنه لا يشتق منه فعل ، إنما يقال : ويلاً له ، فينصب نصب المصادر ، ثم يرفع رفعها لإفادة معنى الثبات ، فيقال : ويل له ، كقوله سلام عليك . ولما ذكر الخارجين من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان توعد الكافرين بالويل . فإن قلت : ما وجه اتصال قوله : { مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } بالويل؟ قلت : لأنّ المعنى أنهم يولولون من عذاب شديد ، ويضجون منه ، ويقولون : يا ويلاه ، كقوله : { دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً } [ الفرقان : 13 ] { الذين يَسْتَحِبُّونَ } مبتدأ خبره : أولئك في ضلال بعيد ويجوز أن يكون مجروراً صفة للكافرين ، ومنصوباً على الذمّ . أو مرفوعاً على أعني الذين يستحبون أو هم الذين يستحبون ، والاستحباب : الإيثار والاختيار ، وهو استفعال من المحبة؛ لأنّ المؤثر للشيء على غيره كأنه يطلب من نفسه أن يكون أحبّ إِليه وأفضل عندها من الآخر . وقرأ الحسن «ويصِدّون» ، بضم الياء وكسر الصاد . يقال : صدّه عن كذا ، وأصدّه ، قال :
أُنَاسٌ اصَدُّوا النَّاسَ بِالسَّيْفِ عَنْهُمُ ... والهمزة فيه داخلة على صدّ صدوداً ، لتنقله من غير التعدّي إلى التعدّي . وأما صدّه ، فموضوع على التعدية كمنعه ، وليست بفصيحة كأوقفه؛ لأنّ الفصحاء استغنوا بصدّه ووقفه عن تكلف التعدية بالهمزة { وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا } ويطلبون لسبيل الله زيغاً واعوجاجاً ، وأن يدلوا الناس على أنها سبيل ناكبة عن الحق غير مستوية ، والأصل : ويبغون لها ، فحذف الجار وأوصل الفعل { فِى ضلال بَعِيدٍ } أي ضلوا عن طريق الحق ، ووقفوا دونه بمراحل . فإن قلت : فما معنى وصف الضلال بالبعد . قلت : هو من الإسناد المجازي ، والبعد في الحقيقة للضالّ؛ لأنه هو الذي يتباعد عن الطريق ، فوصف به فعله ، كما تقول : جدّ جدّه ، ويجوز أن يراد : في ضلال ذي بعد . أو فيه بعد : لأنّ الضالّ قد يضلّ عن الطريق مكاناً قريباً وبعيداً .
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)
{ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } أي ليفقهوا عنه ما يدعوهم إليه ، فلا يكون لهم حجة على الله ولا يقولوا : لم نفهم ما خوطبنا به ، كما قال : { وَلَوْ جعلناه قُرْءاناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصّلَتْ ءاياته } [ فصلت : 44 ] فإن قلت : لم يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العرب وحدهم ، وإنما بعث إلى الناس جميعاً { قل يا أَيُّهَا النَّاس إِنّى رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } [ الأعراف : 158 ] بل إلى الثقلين ، وهم على ألسنة مختلفة ، فإن لم تكن للعرب حجة فلغيرهم الحجة وإن لم تكن لغيرهم حجة فلو نزل بالعجمية ، لم تكن للعرب حجة أيضاً . قلت : لا يخلو إمّا أن ينزل بجميع الألسنة أو بواحد منها ، فلا حاجة إلى نزوله بجميع الألسنة ، لأن الترجمة تنوب عن ذلك وتكفي التطويل فبقي أن ينزل بلسان واحد ، فكان أولى الألسنة لسان قوم الرسول؛ لأنهم أقرب إليه ، فإذا فهموا عنه وتبينوه وتنوقل عنهم وانتشر . قامت التراجم ببيانه وتفهيمه ، كما ترى الحال وتشاهدها من نيابة التراجم في كل أمّة من أمم العجم ، مع ما في ذلك من اتفاق أهل البلاد المتباعدة ، والأقطار المتنازحة والأمم المختلفة والأجيال المتفاوتة ، على كتاب واحد ، واجتهادهم في تعلم لفظه وتعلم معانيه ، وما يتشعب من ذلك من جلائل الفوائد ، وما يتكاثر في إتعاب النفوس وكدّ القرائح فيه ، من القرب والطاعات المفضية إلى جزيل الثواب ، ولأنه أبعد من التحريف والتبديل ، وأسلم من التنازع والاختلاف ، ولأنه لو نزل بألسنة الثقلين كلها - مع اختلافها وكثرتها ، وكان مستقلاً بصفة الإعجاز في كل واحد منها ، وكلم الرسول العربي كل أمّة بلسانها كما كلم أمّته التي هو منها يتلوه عليهم معجزاً - لكان ذلك أمراً قريباً من الإلجاء . ومعنى { بِلِسَانِ قَوْمِهِ } بلغة قومه . وقرىء : «بلسن قومه» . واللسن واللسان : كالريش والرياش ، بمعنى اللغة . وقرىء : «بلُسن قومه» بضم اللام والسين مضمومة أو ساكنة ، وهو جمع لسان ، كعماد وعمد وعمد على التخفيف . وقيل : الضمير في قومه لمحمد صلى الله عليه وسلم ، ورووه عن الضحاك . وأن الكتب كلها نزلت بالعربية ، ثم أدّاها كل نبيّ بلغة قومه ، وليس بصحيح؛ لأنّ قوله ليبين لهم ضمير القوم وهم العرب ، فيؤدّي إلى أن الله أنزل التوراة من السماء بالعربية ليبين للعرب ، وهذا معنى فاسد { فَيُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآء } كقوله { فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ } [ التغابن : 2 ] لأنّ الله لا يضلّ إلا من يعلم أنه لن يؤمن . ولا يهدي إلا من يعلم أنه يؤمن . والمراد بالإضلال التخلية ومنع الألطاف ، وبالهداية : التوفيق واللطف ، فكان ذلك كناية عن الكفر والإيمان { وَهُوَ العزيز } فلا يغلب على مشيئته { الحكيم } فلا يخذل إلا أهل الخذلان ، ولا يلطف إلا بأهل اللطف .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)
{ أَنْ أَخْرِجْ } بمعنى أي أخرج؛ لأنّ الإرسال فيه معنى القول ، كأنه قيل : أرسلناه وقلنا له أخرج . ويجوز أن تكون أن الناصبة للفعل ، وإنما صلح أن توصل بفعل الأمر ، لأنّ الغرض وصلها بما تكون معه في تأويل المصدر وهو الفعل والأمر ، وغيره سواء في الفعلية . والدليل على جواز أن تكون الناصبة للفعل : قولهم أوعز إليه بأن أفعل ، فأدخلوا عليها حرف الجر . وكذلك التقدير بأن أخرج قومك { وَذَكِّرْهُمْ بأيام الله } وأنذرهم بوقائعه التي وقعت على الأمم قبلهم : قوم نوح وعاد وثمود . ومنه أيام العرب لحروبها وملاحمها ، كيوم ذي قار ، ويوم الفجار ، ويوم قضة وغيرها ، وهو الظاهر ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : نعماؤه وبلاؤه . فأمّا نعماؤه ، فإنه ظلل عليهم الغمام ، وأنزل عليهم المنّ والسلوى . وفلق لهم البحر . وأمّا بلاؤه فإهلاك القرون { لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } يصبر على بلاء الله ويشكر نعماءه ، فإذا سمع بما أنزل الله من البلاء على الأمم ، أو أفاض عليهم من النعم ، تنبه على ما يجب عليه من الصبر والشكر واعتبر وقيل : أراد لكل مؤمن ، لأنّ الشكر والصبر من سجاياهم ، تنبيهاً عليهم .
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)
{ إِذْ أَنجَاكُمْ } ظرف للنعمة بمعنى الإنعام ، أي إنعامه عليكم ذلك الوقت . فإن قلت : هل يجوز أن ينتصب بعليكم؟ قلت : لا يخلو من أن يكون صلة للنعمة بمعنى الإنعام ، أو غير صلة إذا أردت بالنعمة العطية ، فإذا كان صلة لم يعمل فيه ، وإذا كان غير صلة بمعنى اذكروا نعمة الله مستقرّة عليكم عمل فيه ، ويتبين الفرق بين الوجهين أنك إذا قلت : نعمة الله عليكم ، فإن جعلته صلة لم يكن كلاماً حتى تقول فائضة أو نحوها ، وإلا كان كلاماً ، ويجوز أن يكون «إذ» بدلا من نعمة الله ، أي : اذكروا وقت إنجائكم ، وهو من بدل الاشتمال . فإن قلت : في سورة البقرة { يُذَبّحُونَ } وفي الأعراف { يَقْتُلُونَ } وههنا { وَيُذَبِّحُونَ } مع الواو ، فما الفرق؟ قلت : الفرق أنّ التذبيح حيث طرح الواو جعل تفسيراً للعذاب وبياناً له ، وحيث أثبت جعل التذبيح لأنه أوفى على جنس العذاب ، وزاد عليه زيادة ظاهرة كأنه جنس آخر . فإن قلت : كيف كان فعل آل فرعون بلاء من ربهم؟ قلت : تمكينهم وإمهالهم ، حتى فعلوا ما فعلوا ابتلاء من الله . ووجه آخر وهو أن ذلك إشارة إلى الإنجاء وهو بلاء عظيم ، والبلاء يكون ابتلاء بالنعمة والمحنة جميعاً ، قال تعالى { وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً } [ الأنبياء : 35 ] وقال زهير :
فَأَبْلاَهُمَا خَيرَ البَلاَءِ الذي يَبْلُوا ...
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)
{ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ } من جملة ما قال موسى لقومه ، وانتصابه للعطف على قوله : { نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } [ البقرة : 231 ] كأنه قيل : وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم ، واذكروا حين تأذن ربكم . ومعنى تأذن ربكم : أذن ربكم . ونظير تأذن وأذن : توعد وأوعد ، تفضل وأفضل . ولا بدّ في تفعل من زيادة معنى ليس في أفعل ، كأنه قيل : وإذ أذن ربكم إيذاناً بليغاً تنتفي عنده الشكوك وتنزاح الشبه . والمعنى : وإذ تأذن ربكم فقال : { لَئِن شَكَرْتُمْ } أو أجرى { تَأَذَّنَ } مجرى ، قال : لأنه ضرب من القول . وفي قراءة ابن مسعود : «وإذ قال ربكم لئن شكرتم» ، أي لئن شكرتم يا بني إسرائيل ما خولتكم من نعمة الإنجاء وغيرها من النعم بالإيمان الخالص والعمل الصالح { لأَزِيدَنَّكُمْ } نعمة إلى نعمة ، ولأضاعفن لكم ما آتيتكم { وَلَئِن كَفَرْتُمْ } وغمطتم ما أنعمت به عليكم { إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ } لمن كفر نعمتي .
وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)
{ وَقَالَ موسى } إن كفرتم أنتم يا بني إسرائيل والناس كلهم ، فإنما ضررتم أنفسكم وحرمتموها الخير الذي لا بدّ لكم منه وأنتم إليه محاويج ، والله غني عن شكركم { حَمِيدٌ } مستوجب للحمد بكثرة أنعمه وأياديه ، وإن لم يحمده الحامدون .
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)
{ والذين مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله } جملة من مبتدأ وخبر ، وقعت اعتراضاً : أو عطف الذين من بعدهم على قوم نوح . و { لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله } اعتراض . والمعنى : أنهم من الكثرة بحيث لا يعلم عددهم إلا الله . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أبا لا يعرفون ، وكان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية قال : كذب النسابون ، يعني أنهم يدّعون علم الأنساب ، وقد نفي الله علمها عن العباد { فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَاهِهِمْ } فعضوها غيظاً وضجراً مما جاءت به الرسل ، كقوله : { عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الانامل مِنَ الغيظ } [ آل عمران : 119 ] أو ضحكاً واستهزاء كمن غلبه الضحك فوضع يده على فيه . أو وأشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وما نطقت به من قولهم { إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ } أي هذا جوابنا لكم ليس عندنا غيره ، إقناطاً لهم من التصديق . ألا ترى إلى قوله : { فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ } وهذا قول قوي . أو وضعوها على أفواههم يقولون للأنبياء : أطبقوا أفواهكم واسكتوا . أو ردّوها في أفواه الأنبياء يشيرون لهم إلى السكوت . أو وضعوها على أفواههم يسكتونهم ولا يذرونهم يتكلمون . وقيل : الأيدي ، جمع يد وهي النعمة بمعنى الأيادي ، أي : ردوا نعم الأنبياء التي هي أجل النعم من مواعظهم ونصائحهم وما أوحي إليهم من الشرائع والآيات في أفواههم ، لأنهم إذا كذبوها ولم يقبلوها ، فكأنهم ردوها في أفواههم ورجعوها [ إلى حيثُ جاءت ] منه على طريق المثل { مّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ } من الإيمان بالله . وقرىء : «تدعونا» بإدغام النون { مُرِيبٍ } موقع في الريبة أو ذي ريبة ، من أرابه ، وأراب الرجل ، وهي قلق النفس وأن لا تطمئن إلى الأمر .
قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10)
{ أَفِى الله شَكٌّ } أدخلت همزة الإنكار على الظرف ، لأن الكلام ليس في الشك ، إنما هو في المشكوك فيه ، وأنه لا يحتمل الشك لظهور الأدلة وشهادتها عليه { يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ } أي يدعوكم إلى الإيمان ليغفر لكم أو يدعوكم لأجل المغفرة كقوله : دعوته لينصرني ، ودعوته ليأكل معي ، وقال :
دَعَوْتُ لِمَا نَابنِي مِسْوَرا ... فَلَبَّى فَلَبَّى يَدَيْ مِسْوَرِ
فإن قلت : ما معنى التبعيض في قوله : من ذنوبكم؟ قلت : ما علمته جاء هكذا إلا في خطاب الكافرين ، كقوله : { واتقوه وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ } [ نوح : 3 - 4 ] ، { ياقومنا أَجِيبُواْ دَاعِىَ الله وَءامِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذنوبكم } [ الأحقاف : 31 ] وقال في خطاب المؤمنين : { هَلْ أَدُلُّكمْ على تجارة تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الصف : 10 ] إلى أن قال { يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } [ الصف : 12 ] وغير ذلك مما يقفك عليه الاستقراء ، وكان ذلك للتفرقة بين الخطابين ، ولئلا يسوي بين الفريقين في الميعاد ، وقيل : أريد أنه يغفر لهم ما بينهم وبين الله ، بخلاف ما بينهم وبين العباد من المظالم ونحوها { وَيُؤَخّرْكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } إلى وقت قد سماه الله وبين مقداره ، يبلغكموه إن آمنتم ، وإلا عاجلكم بالهلاك قبل ذلك الوقت { إِنْ أَنتُمْ } ما أنتم { إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا } لا فضل بيننا وبينكم ، ولا فضل لكم علينا ، فلم تخصون بالنبوّة دوننا ، ولو أرسل الله إلى البشر رسلاً لجعلهم من جنس أفضل منهم وهم الملائكة { بسلطان مُّبِينٍ } بحجة بينة ، وقد جاءتهم رسلهم بالبينات والحجج ، وإنما أرادوا بالسلطان المبين آية قد اقترحوها تعنتاً ولجاجاً .
قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)
{ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ } تسليم لقولهم ، وأنهم بشر مثلهم ، يعنون أنهم مثلهم في البشرية وحدها ، فأما ما وراء ذلك فما كانوا مثلهم ، ولكنهم لم يذكروا فضلهم تواضعاً منهم ، واقتصروا على قولهم { ولكن الله يَمُنُّ على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } بالنبوّة ، لأنه قد علم أنه لا يختصهم بتلك الكرامة إلا وهم أهل لاختصاصهم بها ، لخصائص فيهم قد استؤثروا بها على أبناء جنسهم { إِلاَّ بِإِذْنِ الله } أرادوا أن الإتيان بالآية التي اقترحتموها ليس إلينا ولا في استطاعتنا ، وما هو إلا أمر يتعلق بمشيئة الله { وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } أمر منهم للمؤمنين كافة بالتوكل ، وقصدوا به أنفسهم قصداً أولياً وأمروها به ، كأنهم قالوا : ومن حقنا أن نتوكل على الله في الصبر على معاندتكم ومعاداتكم وما يجري علينا منكم . ألا ترى إلى قوله : { وَمَا لَنَا أَن لا نَتَوَكَّلَ عَلَى الله } ومعناه : وأيّ عذر لنا في أن لا نتوكل عليه { وَقَدْ هَدَانَا } وقد فعل بنا ما يوجب توكلنا عليه ، وهو التوفيق لهداية كل واحد منا سبيله الذي يجب عليه سلوكه في الدين ، فإن قلت : كيف كرّر الأمر بالتوكل؟ قلت : الأول لاستحداث التوكل ، وقوله : { فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون } معناه فليثبت المتوكلون على ما استحدثوا من توكلهم وقصدهم إلى أنفسهم على ما تقدّم .
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)
{ لَنُخْرِجَنَّكُمْ } ، { أَوْ لَتَعُودُنَّ } ليكونن أحد الأمرين لا محالة ، إما إخراجكم إما عودكم حالفين على ذلك . فإن قلت : كأنهم كانوا على ملتهم حتى يعودوا فيها . قلت : معاذ الله ، ولكن العود بمعنى الصيرورة ، وهو كثير في كلام العرب كثرة فاشية لا تكاد تسمعهم يستعملون صار ، ولكن عاد ، ما عدت أراه ، عاد لا يكلمني ، ما عاد لفلان مال . أو خاطبوا به كل رسول ومن آمن به ، فغلبوا في الخطاب الجماعة على الواحد { لَنُهْلِكَنَّ الظالمين } حكاية تقتضي إضمار القول ، أو إجراء الإيجاء مجرى القول ، لأنه ضرب منه . وقرأ أبو حيوة : «ليهلكنّ» ، «وليسكننكم» بالياء اعتباراً لأوحى ، وأن لفظه لفظ الغيبة ، ونحوه قولك : أقسم زيد ليخرجن ولأخرجن . والمراد بالأرض . أرض الظالمين وديارهم ، ونحوه { وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها } [ الأعراف : 127 ] ، { وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وديارهم } [ الأحزاب : 27 ] . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 570 ) " من آذى جاره ورثه الله داره " ولقد عاينت هذا في مدة قريبة : كان لي خال يظلمه عظيم القرية التي أنا منها ويؤذيني فيه ، فمات ذلك العظيم وملكني الله ضيعته ، فنظرت يوماً إلى أبناء خالي يتردّدون فيها ويدخلون في دورها ويخرجون ويأمرون وينهون فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحدّثتهم به ، وسجدنا شكراً لله { ذلك } إشارة إلى ما قضى به الله من إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين ديارهم ، أي ذلك الأمر حق { لِمَنْ خَافَ مَقَامِى } موقفي وهو موقف الحساب ، لأنه موقف الله الذي يقف فيه عباده يوم القيامة ، أو على إقحام المقام . وقيل : خاف قيامي عليه وحفظي لأعماله . والمعنى أنّ ذلك حق للمتقين ، كقوله : { والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ } [ الأعراف : 128 ] .
وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)
{ واستفتحوا } واستنصروا الله على أعدائهم { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الفتح } [ الأنفال : 19 ] أو استحكموا الله وسألوه القضاء بينهم من الفتاحة وهي الحكومة ، كقوله تعالى : { رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق } [ الأعراف : 89 ] وهو معطوف على { أوحي إليهم } وقرىء : «واستفتحوا» بلفظ الأمر . وعطفه على { لتهلكنّ } أي : أوحى إليهم ربهم وقال لهم لنهلكنّ وقال لهم استفتحوا { وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } معناه فنصروا وظفروا وأفلحوا ، وخاب كل جبار عنيد ، وهم قومهم . وقيل : واستفتح الكفار على الرسل ، ظنا منهم بأنهم على الحق والرسل على الباطل ، وخاب كل جبار عنيد منهم ولم يفلح باستفتاحه { مِّن وَرَآئِهِ } من بين يديه . قال :
عَسَى الْكَرْبُ الَّذِي أَمْسَيْتَ فِيهِ ... يَكُونُ وَرَاءَهُ فَرَجٌ قَرِيبُ
وهذا وصف حاله وهو في الدنيا ، لأنه مرصد لجهنم ، فكأنها بين يديه وهو على شفيرها أو وصف حاله في الآخرة حين يبعث ويوقف ، فإن قلت : علام عطف { ويسقى } ؟ قلت : على محذوف تقديره : من ورائه جهنم يلقى فيها ما يلقى ويسقي من ماء صديد ، كأنه أشد عذابها فخصص بالذكر مع قوله : { وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيّتٍ } . فإن قلت : ما وجه قوله تعالى { مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ } ؟ قلت : صديد عطف بيان لماء ، قال : { ويسقى مِن مَّآءٍ } فأبهمه إبهاماً ثم بينه بقوله { صَدِيدٍ } وهو ما يسيل من جلود أهل النار { يَتَجَرَّعُهُ } يتكلف جرعه { وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ } دخل كاد للمبالغة . يعني : ولا يقارب أن يسيغه ، فكيف تكون الإساغة ، كقوله : { لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } [ النور : 40 ] أي لم يقرب من رؤيتها فكيف يراها { وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ } كأنّ أسباب الموت وأصنافه كلها قد تألبت عليه وأحاطت به من جميع الجهات ، تفظيعاً لما يصيبه من الآلام . وقيل : { مِّن كُلِّ مَكَانٍ } من جسده حتى من إبهام رجله . وقيل : من أصل كل شعرة { وَمِن وَرَآئِهِ } ومن بين يديه { عَذَابٌ غَلِيظٌ } أي في كل وقت يستقبله يتلقى عذاباً أشدّ مما قبله وأغلظ . وعن الفضيل : هو قطع الأنفاس وحبسها في الأجساد . ويحتمل أن يكون أهل مكة قد استفتحوا أي استمطروا - والفتح المطر - في سني القحط التي أرسلت عليهم بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يسقوا ، فذكر سبحانه ذلك ، وأنه خيب رجاء كل جبار عنيد وأنه يسقى في جهنم بدل سقياه ماء آخر ، وهو صديد أهل النار . واستفتحوا - على هذا التفسير - : كلام مستأنف منقطع عن حديث الرسل وأممهم .
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)
هو مبتدأ محذوف الخبر عند سيبويه ، تقديره : وفيما يقص عليك { مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ } والمثل مستعار للصفة التي فيها غرابة وقوله : { أعمالهم كَرَمَادٍ } جملة مستأنفة على تقدير سؤال سائل يقول : كيف مثلهم؟ فقيل : أعمالهم كرماد . ويجوز أن يكون المعنى : مثل أعمال الذين كفروا بربهم . أو هذه الجملة خبراً للمبتدأ ، أي صفة الذين كفروا أعمالهم كرماد ، كقولك صفة زيد عرضه مصون وما له مبذول ، أو يكون أعمالهم بدلاً من { مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ } على تقدير : مثل أعمالهم ، وكرماد : الخبر وقرىء : «الرياح» { فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ } جعل العصف لليوم ، وهو لما فيه ، وهو الريح أو الرياح ، كقولك : يوم ماطر وليلة ساكرة . وإنما السكور لريحها وقرىء : «في يوم عاصف» ، بالإضافة وأعمال الكفرة المكارم التي كانت لهم ، من صلة الأرحام وعتق الرقاب ، وفداء الأسارى ، وعقر الإبل للأضياف ، وإغاثة الملهوفين ، والإجازة ، وغير ذلك من صنائعهم ، شبهها في حبوطها وذهابها هباء منثوراً لبنائها على غير أساس من معرفة الله والإيمان به ، وكونها لوجهه : برماد طيرته الريح العاصف { لاَّ يَقْدِرُونَ } يوم القيامة { مِمَّا كَسَبُواْ } من أعمالهم { على شَىْءٍ } أي لا يرون له أثراً من ثواب ، كما لا يقدر من الرماد المطير في الريح على شيء { ذلك هُوَ الضلال البعيد } إشارة إلى بعد ضلالهم عن طريق الحق أو عن الثواب { بالحق } بالحكمة والغرض الصحيح والأمر العظيم ، ولم يخلقها عبثاً ولا شهوة .
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)
وقرىء : «خالق السموات والأرض» { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ } أي هو قادر على أن يعدم الناس ويخلق مكانهم خلقاً آخر على شكلهم أو على خلاف شكلهم ، إعلاماً منه باقتداره على إعدام الموجود وإيجاد المعدوم ، يقدر على الشيء وجنس ضده { وَمَا ذلك عَلَى الله بِعَزِيزٍ } بمتعذر ، بل هو هين عليه يسير ، لأنه قادر الذات لا اختصاص له بمقدور دون مقدور ، فإذا خلص له الداعي إلى شيء وانتفى الصارف ، تكوّن من غير توقف : كتحريك أصبعك إذا دعاك إليه داع ولم يعترض دونه صارف ، وهذه الآيات بيان لإبعادهم في الضلال وعظيم خطئهم في الكفر بالله ، لوضوح آياته الشاهدة له الدالة على قدرته الباهرة وحكمته البالغة وأنه هو الحقيق بأن يعبد ، ويخاف عقابه ويرجىثوابه في دار الجزاء .
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21)
{ وَبَرَزُواْ للَّهِ } ويبرزون يوم القيامة . وإنما جيء به بلفظ الماضي ، لأنّ ما أخبر به عزّ وعلا لصدقه كأنه قد كان ووجد ، ونحوه : { وَنَادَى أصحاب الجنة } [ الأعراف : 44 ] ، { ونادى أصحاب النار } [ الأعراف : 50 ] ونظائر له . ومعنى بروزهم لله - والله تعالى لا يتوارى عنه شيء حتى يبرز له - أنهم كانوا يستترون من العيون عند ارتكاب الفواحش ، ويظنون أن ذلك خاف على الله ، فإذا كان يوم القيامة انكشفوا لله عند أنفسهم وعلموا أنّ الله لا يخفى عليه خافية . أو خرجوا من قبورهم فبرزوا لحساب الله وحكمه . فإن قلت : لما كتب { الضعفؤا } بواو قبل الهمزة؟ قلت : كتب على لفظ من يفخم الألف قبل الهمزة فيميلها إلى الواو . ونظيره { علمؤا بَنِى إسراءيل } [ الشعراء : 197 ] والضعفاء : الأتباع والعوام والذين استكبروا : ساداتهم وكبراؤهم ، الذين استتبعوهم واستغووهم وصدوهم عن الاستماع إلى الأنبياء وأتباعهم { تَبَعًا } تابعين : جمع تابع على تبع ، كقولهم : خادم وخدم وغائب وغيب أو ذوي تبع . والتبع : الأتباع ، يقال : تبعه تبعاً . فإن قلت : أي فرق بين من في { مّنْ عَذَابِ الله } وبينه في { مِن شَىْء } ؟ قلت : الأولى للتبيين ، والثانية للتبعيض ، كأنه قيل : هل أنتم مغنون عنا بعض الشيء الذي هو عذاب الله . ويجوز أن تكونا للتبعيض معاً ، بمعنى هل أنتم مغنون عنا بعض شيء هو بعض عذاب الله ، أي : بعض بعض عذاب الله فإن قلت : فما معنى قوله : { لَوْ هَدَانَا الله لَهَدَيْنَاكُمْ } ؟ قلت : الذي قال لهم الضعفاء كان توبيخا لهم وعتاباً على استتباعهم واستغوائهم . وقولهم : { فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا } من باب التبكيت؛ لأنهم قد علموا أنهم لا يقدرون على الإغناء عنهم ، فأجابوهم معتذرين عما كان منهم إليهم : بأن الله لو هداهم إلى الإيمان لهدوهم ولم يضلوهم ، إما موركين الذنب في ضلالهم وإضلالهم على الله ، كما حكى الله عنهم وقالوا { لَوْ شَاء الله مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا } [ الأنعام : 148 ] ، { لَوْ شَآء الله مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْء } [ النحل : 35 ] يقولون ذلك في الآخرة كما كانوا يقولونه في الدنيا . ويدل عليه قوله حكاية عن المنافقين { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ على شَىْء } [ المجادلة : 18 ] . وإما أن يكون المعنى : لو كنا من أهل اللطف فلطف بنا ربنا واهتدينا لهديناكم إلى الإيمان . وقيل : معناه لو هدانا الله طريق النجاة من العذاب لهديناكم ، أي : لأغنينا عنكم وسلكنا بكم طريق النجاة كما سلكنا بكم طريق الهلكة { سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا } مستويان علينا الجزع والصبر . والهمزة وأم للتسوية . ونحوه : { فاصبروا أو لا تصبروا سواءٌ عليكم } [ الطور : 16 ] وروي أنهم يقولون : تعالوا نجزع ، فيجزعون خمسمائة عام فلا ينفعهم ، فيقولون : تعالوا نصبر ، فيصبرون كذلك ثم يقولون : سواء علينا .
فإن قلت : كيف اتصل قوله سواء علينا بما قبله؟ اتصاله من حيث أنّ عتابهم لهم كان جزعاً مما هم فيه ، فقالوا : سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ، يريدون أنفسهم وإياهم ، لاجتماعهم في عقاب الضلالة التي كانوا مجتمعين فيها ، يقولون : ما هذا الجزع والتوبيخ ، ولا فائدة في الجزع كما لا فائدة في الصبر والأمر من ذلك أطمّ . أو لما قالوا لو هدانا الله طريق النجاة لأغنينا عنكم وأنجيناكم ، أتبعوه الإقناط من النجاة فقالوا : { مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ } أي منجى ومهرب ، جزعنا أم صبرنا ، ويجوز أن يكون من كلام الضعفاء والمستكبرين جميعاً ، كأنه قيل : قالوا جميعاً سواء علينا ، كقوله : { ذلك لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أخنه } [ يوسف : 52 ] والمحيص يكون مصدراً كالمغيب والمشيب . ومكاناً كالمبيت والمصيف . ويقال : حاص عنه وجاض ، بمعنى واحد .
وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)
{ لَمَّا قُضِىَ الأمر } لما قطع الأمر وفرغ منه ، وهو الحساب ، وتصادر الفريقين ودخول أحدهما الجنة ودخول الآخر النار . وروي أنّ الشيطان يقوم عند ذلك خطيباً في الأشقياء من الجنّ والإنس فيقول ذلك { إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق } وهو البعث والجزاء على الأعمال فوفى لكم بما وعدكم { وَوَعَدتُّكُمْ } خلاف ذلك { فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان } من تسلط وقهر فأقسركم على الكفر والمعاصي وألجئكم إليها { إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ } إلا دعائي إياكم إلى الضلالة بوسوستي وتزييني ، وليس الدعاء من جنس السلطان ، ولكنه كقولك : ما تحيتهم إلا الضرب . { فَلاَ تَلُومُونِى وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ } حيث اغتررتم بي وأطعتموني إذ دعوتكم ، ولم تطيعوا ربكم إذ دعاكم ، وهذا دليل على أنّ الإنسان هو الذي يختار الشقاوة أو السعادة ويحصلها لنفسه ، وليس من الله إلا التمكين ، ولا من الشيطان إلا التزيين . ولو كان الأمر كما تزعم المجبرة لقال : فلا تلوموني ولا أنفسكم ، فإنّ الله قضى عليكم الكفر وأجبركم عليه . فإن قلت : قول الشيطان باطل لا يصح التعلق به . قلت : لو كان هذا القول منه باطلاً لبين الله بطلانه وأظهر إنكاره ، على أنه لا طائل له في النطق بالباطل في ذلك المقام : ألا ترى إلى قوله : { إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ } كيف أتى فيه بالحق والصدق ، وفي قوله : { وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان } وهو مثل قول الله تعالى : { إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين } [ الحجر : 42 ] ، { مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِىَّ } لا ينجي بعضنا بعضاً من عذاب الله ولا يغيثه . والإصراخ : الإغاثة . وقرىء : «بمصرخي» بكسر الياء وهي ضعيفة ، واستشهدوا لها ببيت مجهول :
قَالَ لَهَا هَلْ لَكِ يَاتَا في ... قَالَتْ لَهُ مَا أنْتَ بِالمَرْضِي
وكأنه قدّر ياء الإضافة ساكنة وقبلها ياء ساكنة ، فحرّكها بالكسر لما عليه أصل التقاء الساكنين ، ولكنه غير صحيح ، لأنَّ ياء الإضافة لا تكون إلا مفتوحة ، حيث قبلها ألف في نحو عصاي ، فما بالها وقبلها ياء؟ فإن قلت : جرت الياء الأولى مجرى الحرف الصحيح لأجل الإدغام ، فكأنها ياء وقعت ساكنة بعد حرف صحيح ساكن ، فحرّكت بالكسر على الأصل . قلت : هذا قياس حسن ، ولكن الاستعمال المستفيض الذي هو بمنزلة الخبر المتواتر تتضاءل إليه القياسات . «ما» في { بِمَا أشركتموني } مصدرية ، و { مِن قَبْلُ } متعلقة بأشركتموني ، يعني : كفرت اليوم بإشراككم إياي من قبل هذا اليوم ، أي في الدنيا ، كقوله تعالى : { وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ } [ فاطر : 14 ] ومعنى كفره بإشراكهم إياه : تبرؤه منه واستنكاره له ، كقوله تعالى : { إِنَّا بُرَءاء مّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله كَفَرْنَا بِكُمْ }
[ الممتحنة : 4 ] وقيل : { مِن قَبْلُ } يتعلق بكفرت . وما موصولة ، أي : كفرت من قبل حين أبيت السجود لآدم بالذي أشركتمونيه وهو الله عز وجل ، تقول : شركت زيداً ، فإذا نقلت بالهمزة قلت : أشركنيه فلان ، أي : جعلني له شريكاً . ونحو «ما» هذه «ما» في قولهم : سبحان ما سخركنّ لنا . ومعنى إشراكهم الشيطان بالله : طاعتهم له فيما كان يزينه لهم من عبادة الأوثان وغيرها ، وهذا آخر قول إبليس ، وقوله : { إِنَّ الظالمين } قول الله عزّ وجلّ ، ويحتمل أن يكون من جملة قول إبليس ، وإنما حكى الله عز وعلا ما سيقوله في ذلك الوقت ، ليكون لطفاً للسامعين في النظر لعاقبتهم والاستعداد لما لا بدّ لهم من الوصول إليه ، وأن يتصوّروا في أنفسهم ذلك المقام الذي يقول الشيطان فيه ما يقول ، فيخافوا ويعملوا ما يخلصهم منه وينجهم . وقرىء : «فلا يلوموني» ، بالياء على طريقة الالتفات ، كقوله تعالى : { حتى إِذَا كُنتُمْ فِى الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم } [ يونس : 22 ] .
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23)
وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد : «وأدخل الذين آمنوا» على فعل المتكلم ، بمعنى : وأدخل أنا وهذا دليل على أنه من قول الله ، لا من قول إبليس { بِإِذْنِ رَبّهِمْ } متعلق بأدخل ، أي : أدخلتهم الملائكة الجنة بإذن الله وأمره . فإن قلت : فبم يتعلق في القراءة الأخرى ، وقولك : وأدخلهم أنا بإذن ربهم ، كلام غير ملتئم؟ قلت : الوجه في هذه القراءة أن يتعلق قوله : { بِإِذْنِ رَبّهِمْ } بما بعده ، أي { تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سلام } بإذن ربهم ، يعني : أن الملائكة يحيونهم بإذن ربهم .
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)
قرىء : «ألم تر» ساكنة الراء ، كما قرىء : «من يتق» ، وفيه ضعف { ضَرَبَ الله مَثَلاً } اعتمد مثلاً ووضعه . و { كَلِمَةً طَيّبَةً } نصب بمضمر ، أي : جعل كلمة طيبة { كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ } وهو تفسير لقوله : { ضَرَبَ الله مَثَلاً } كقولك : شرّف الأمير زيداً : كساه حلة ، وحمله على فرس . ويجوز أن ينتصب { مثل الذين } و { كَلِمةًَ } بضرب ، أي : ضرب كلمة طيبة مثلاً ، بمعنى جعلها مثلاً ثم قال : { كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ } على أنها خبر مبتدأ محذوف ، بمعنى هي كشجرة طيبة { أَصْلُهَا ثَابِتٌ } يعني في الأرض ضارب بعروقه فيها { وَفَرْعُهَا } وأعلاها ورأسها { فِى السماء } ويجوز أن يريد : وفروعها ، على الاكتفاء بلفظ الجنس . وقرأ أنس بن مالك «كشجرة طيبة ثابت» أصلها فإن قلت : أيّ فرق بين القراءتين؟ قلت : قراءة الجماعة أقوى معنى؛ لأنّ في قراءة أنس أجريت الصفة على الشجرة ، وإذا قلت : مررت برجل أبوه قائم ، فهو أقوى معنى من قولك : مررت برجل قائم أبوه؛ لأنّ المخبر عنه إنما هو الأب لا رجل . والكلمة الطيبة : كلمة التوحيد . وقيل : كل كلمة حسنة كالتسبيحة والتحميدة والاستغفار والتوبة والدعوة . وعن ابن عباس : شهادة أن لا إله إلا الله . وأما الشجرة فكل شجرة مثمرة طيبة الثمار ، كالنخلة وشجرة التين والعنب والرمّان وغير ذلك وعن ابن عمر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم :
( 571 ) " إن الله ضرب مثل المؤمن شجرة فأخبروني ما هي " فوقع الناس في شجر البوادي ، وكنت صبياً ، فوقع في قلبي أنها النخلة ، فهبت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقولها وأنا أصغر القوم . وروي : فمنعني مكان عمر واستحييت ، فقال لي عمر : يا بنيّ لو كنت قلتها لكانت أحبّ إليّ من حمر النعم ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا إنها النخلة "
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : شجرة في الجنة وقوله : { فِى السماء } معناه في جهة العلوّ والصعود ، ولم يرد المظلة ، كقولك في الجبل : طويل في السماء تريد ارتفاعه وشموخه { تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ } تعطي ثمرها كل وقت وقته الله لإثمارها { بِإِذْنِ رَبّهَا } بتيسير خالقها وتكوينه { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } لأن في ضرب الأمثال زيادة إفهام وتذكير وتصوير للمعاني .
وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26)
{ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ } كمثل شجرة خبيثة ، أي : صفتها كصفتها . وقرىء : «ومثل كلمة» بالنصب ، عطفاً على كلمة طيبة ، والكلمة الخبيثة : كلمة الشرك . وقيل : كل كلمة قبيحة . وأمّا الشجرة الخبيثة فكل شجرة لا يطيب ثمرها كشجرة الحنظل والكشوث ونحو ذلك . وقوله : { اجتثت مِن فَوْقِ الأرض } في مقابلة قوله : { أَصْلُهَا ثَابِتٌ } [ إبراهيم : 24 ] ومعنى { اجتثت } استؤصلت ، وحقيقة الاجتثاث أخذ الجثة كلها { مَا لَهَا مِن قَرَارٍ } أي استقرار . يقال : قرّ الشيء قراراً ، كقولك : ثبت ثباتاً شبه بها القول الذي لم يعضد بحجة ، فهو داحض غير ثابت والذي لا يبقى إنما يضمحل عن قريب لبطلانه ، من قولهم : الباطل لجلج . وعن قتادة أنه قيل لبعض العلماء : ما تقول في كلمة خبيثة؟ فقال : ما أعلم لها في الأرض مستقراً ، ولا في السماء مصعداً ، إلا أن تلزم عنق صاحبها حتى يوافي بها القيامة .
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)
{ القول الثابت } الذي ثبت بالحجة والبرهان في قلب صاحبه وتمكن فيه ، فاعتقده واطمأنت إليه نفسه ، وتثبيتهم به في الدنيا : أنهم إذا فتنوا في دينهم لم يزلوا ، كما ثبت الذين فتنهم أصحاب الأخدود ، والذين نشروا بالمناشير ومشطت لحومهم بأمشاط الحديد ، وكما ثبت جرجيس وشمسون وغيرهما . وتثبيتهم في الآخرة . أنهم إذا سئلوا عند تواقف الأشهاد عن معتقدهم ودينهم ، لم يتلعثموا ولم يبهتوا ، ولم تحيرهم أهوال الحشر . وقيل معناه الثبات عند سؤال القبر . وعن البراء ابن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 572 ) ذكر قبض روح المؤمن فقال « ثم يعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه في قبره ويقولان له : من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيقول : ربي الله ، وديني الإسلام ، ونبيي محمد ، فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي فذلك قوله : » يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت « { وَيُضِلُّ الله الظالمين } الذين لم يتمسكوا بحجة في دينهم ، وإنما اقتصروا على تقليد كبارهم وشيوخهم ، كما قلد المشركون آباءهم فقالوا : { إِنَّا وَجَدْنآ ءابآءَنَا } [ الزخرف : 22 - 23 ] وإضلالهم في الدنيا أنهم لا يثبتون في مواقف الفتن وتزل أقدامهم أوّل شيء ، وهم في الآخرة أضل وأذل { وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَآء } أي ما توجبه الحكمة؛ لأن مشيئة الله تابعة للحكمة ، من تثبيت المؤمنين وتأييدهم ، وعصمتهم عند ثباتهم وعزمهم ، ومن إضلال الظالمين وخذلانهم ، والتخلية بينهم وبين شأنهم عند زللهم .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)
{ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ الله } أي شكر نعمة الله { كُفْراً } لأن شكرها الذي وجب عليهم وضعوا مكانه كفراً ، فكأنهم غيروا الشكر إلى الكفر وبدلوه تبديلاً ، ونحوه : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ } [ الواقعة : 82 ] أي شكر رزقكم حيث وضعتم التكذيب موضعه . ووجه آخر : وهو أنهم بدلوا نفس النعمة كفراً على أنهم لما كفروها سلبوها فبقوا مسلوبي النعمة موصوفين بالكفر ، حاصلاً لهم الكفر بدل النعمة . وهم أهل مكة : أسكنهم الله حرمه ، وجعلهم قوّام بيته ، وأكرمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فكفروا نعمة الله بدل ما لزمهم من الشكر العظيم . أو أصابهم الله بالنعمة في الرخاء والسعة لإيلافهم الرحلتين ، فكفروا نعمته ، فضربهم بالقحط سبع سنين ، فحصل لهم الكفر بدل النعمة ، كذلك حين أسروا وقتلوا يوم بدر وقد ذهبت عنهم النعمة وبقي الكفر طوقاً في أعناقهم ، وعن عمر رضي الله عنه : هم الأفجران من قريش : بنو المغيرة وبنو أمية ، فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر . وأما بنو أمية فمتعوا حتى حين . وقيل : هم متنصرة العرب : جبلة بن الأيهم وأصحابه { وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ } ممن تابعهم على الكفر { دَارَ البوار } دار الهلاك . وعطف { جَهَنَّمَ } على دار البوار عطف بيان قرىء : «ليضلوا» بفتح الياء وضمها . فإن قلت : الضلال والإضلال لم يكن غرضهم في اتخاذ الأنداد فما معنى اللام قلت : لما كان الضلال والإضلال نتيجة اتخاذ الأنداد ، كما كان الإكرام في قولك : جئتك لتكرمني ، نتيجة المجيء ، دخلته اللام وإن لم يكن غرضاً ، على طريق التشبيه والتقريب { تَمَتَّعُواْ } إيذان بأنهم لانغماسهم في التمتع بالحاضر ، وأنهم لا يعرفون غيره ولا يريدونه ، مأمورون به ، قد أمرهم آمر مطاع لا يسعهم أن يخالفوه ولا يملكون لأنفسهم أمراً دونه ، وهو أمر الشهوة . والمعنى : إن دمتم على ما أنتم عليه من الامتثال لأمر الشهوة { فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار } ويجوز أن يراد الخذلان والتخلية ونحوه { قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أصحاب النار } [ الزمر : 8 ] .
قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31)
المقول محذوف ، لأن جواب { قُل } يدل عليه ، وتقديره { قُل لّعِبَادِىَ الذين ءامَنُواْ } أقيموا الصلاة وأنفقوا { يُقِيمُواْ الصلاوة وَيُنْفِقُواْ } وجوزوا أن يكون يقيموا وينفقوا ، بمعنى : ليقيموا ولينفقوا ، ويكون هذا هو المقول ، قالوا : وإنما جاز حذف اللام ، لأنّ الأمر الذي هو { قُل } عوض منه ، ولو قيل : يقيموا الصلاة وينفقوا ابتداء بحذف اللام ، لم يجز فإن قلت : علام انتصب { سِرّا وَعَلاَنِيَةً } ؟ قلت : على الحال ، أي : ذوي سرّ وعلانية ، بمعنى : مسرين ومعلنين . أو على الظرف ، أي وقتي سر وعلانية ، أو على المصدر ، أي : إنفاق سر وإنفاق علانية ، [ و ] المعنى : إخفاء المتطوع به من الصدقات والإعلان بالواجب . والخلال : المخالة . فإن قلت : كيف طابق الأمر بالإنفاق وصف اليوم بأنه { لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خلال } قلت : من قبل أنّ الناس يخرجون أموالهم في عقود المعاوضات ، فيعطون بدلاً ليأخذوا مثله ، وفي المكارمات ومهاداة الأصدقاء ليستجروا بهداياهم أمثالها أو خيراً منها . وأمّا الإنفاق لوجه الله خالصاً كقوله تعالى : { وَمَا لأحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَةٍ تَجْزِى إِلاَّ ابتغاء وَجْهِ رَبّهِ الاعلى } [ الليل : 19-20 ] فلا يفعله إلا المؤمنون الخلص ، فبعثوا عليه ليأخذوا بدله في يوم لا بيع فيه ولا خلال ، أي : لا انتفاع فيه بمبايعة ولا بمخالة ، ولا بما ينفقون به أموالهم من المعاوضات والمكارمات ، وإنما ينتفع فيه بالإنفاق لوجه الله ، وقرىء : «لا بيع فيه ولا خلالُ» بالرفع .
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
{ الله } مبتدأ ، و { الذى خَلَقَ } خبره ، و { مِنَ الثمرات } بيان للرزق ، أي : أخرج به رزقاً هو ثمرات . ويجوز أن يكون { مِنَ الثمرات } مفعول أخرج ، و { رِزْقاً } حالاً من المفعول ، أو نصباً على المصدر من أخرج ، لأنه في معنى رزق { بِأَمْرِهِ } بقوله كن { دآئِبَينَ } يدأبان في سيرهما وإنارتهما ودرئهما الظلمات ، وإصلاحهما ما يصلحان من الأرض والأبدان والنبات { وَسَخَّر لَكُمُ الَّيْلَ والنَّهَارَ } يتعاقبان خلفة لمعاشكم وسباتكم { وءاتاكم مِّن كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ } من للتبعيض ، أي آتاكم بعض جميع ما سألتموه ، نظراً في مصالحكم . وقرىء : «من كلّ» بالتنوين ، وما سألتموه نفي ومحله النصب على الحال أي : آتاكم من جميع ذلك غير سائليه ، ويجوز أن تكون { مَا } موصولة ، على : وآتاكم من كل ذلك ما احتجتم إليه ولم تصلح أَحوالكم ومعايشكم إلا به ، فكأنكم سألتموه أو طلبتموه بلسان الحال { لاَ تُحْصُوهَا } لا تحصروها ولا تطيقوا عدها وبلوغ آخرها ، هذا إذا أرادوا أن يعدوها على الإجمال . وأمّا التفصيل فلا يقدر عليه ولا يعلمه إلا الله { لَظَلُومٌ } يظلم النعمة بإغفال شكرها { كَفَّارٌ } شديد الكفران لها . وقيل ظلوم في الشدّة يشكو ويجزع ، كفار في النعمة يجمع ويمنع . والإنسان للجنس ، فيتناول الإخبار بالظلم والكفران من يوجدان منه .
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36)
{ هذا البلد } يعني البلد الحرام ، زاده الله أمناً ، وكفاه كل باغ وظالم ، وأجاب فيه دعوة خليله إبراهيم عليه السلام { ءَامِناً } ذا أمن . فإن قلت : أي فرق بين قوله : { اجعل هذا بَلَدًا آمِنًا } [ البقرة : 126 ] وبين قوله : { اجعل هذا البلد ءَامِنًا } ؟ قلت : قد سأل في الأوّل أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها ولا يخافون ، وفي الثاني أن يخرجه من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدها من الأمن ، كأنه قال : هو بلد مخوف ، فاجعله آمناً { واجنبنى } وقرىء : «وأجنبني» ، وفيه ثلاث لغات : جنبه الشر ، وجنبه ، وأجنبه؛ فأهل الحجاز يقولون : جنبني شره بالتشديد ، وأهل نجد جنبني وأجنبني ، والمعنى : ثبتنا وأدمنا على اجتناب عبادتها { وَبَنِىَّ } أراد بنيه من صلبه وسئل ابن عيينة : كيف عبدت العرب الأصنام؟ فقال : ما عبد أحد من ولد إسماعيل صنماً ، واحتج بقوله : { واجنبني وبني } { أَن نَّعْبُدَ الأصنام } إنما كانت أنصاب حجارة لكل قوم ، قالوا : البيت حجر ، فحيثما نصبنا حجراً فهو بمنزلة البيت ، فكانوا يدورون بذلك الحجر ويسمونه الدوار ، فاستحب أن يقال : طاف بالبيت ، ولا يقال : دار بالبيت { إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ الناس } فأعوذ بك أن تعصمني وبنيَّ من ذلك ، وإنما جعلن مضلات؛ لأنّ الناس ضلوا بسببهنّ ، فكأنهنّ أضللنهم ، كما تقول : فتنتهم الدنيا وغرّتهم ، أي افتتنوا بها واغتروا بسببها { فَمَن تَبِعَنِى } على ملتي وكان حنيفاً مسلماً مثلي { فَإِنَّهُ مِنِّى } أي هو بعضي لفرط اختصاصه بي وملابسته لي ، وكذلك قوله :
( 573 ) " من غشنا فليس منا " أي ليس بعض المؤمنين ، على أنّ الغش ليس من أفعالهم وأوصافهم { وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } تغفر له ما سلف منه من عصياني إذا بدا له فيه واستحدث الطاعة لي . وقيل : معناه ومن عصاني فيما دون الشرك .
رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)
{ مِن ذُرّيَّتِى } بعض أولادي وهم إسماعيل ومن ولد منه { بِوَادٍ } هو وادي مكة { غَيْرِ ذِى زَرْعٍ } لا يكون فيه شيء من زرع قط ، كقوله : { قُرْءَاناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِى عِوَجٍ } [ الزمر : 28 ] بمعنى لا يوجد فيه اعوجاج ، ما فيه إلا الاستقامة لا غير . وقيل للبيت المحرم ، لأنّ الله حرم التعرض له والتهاون به ، وجعل ما حوله حرماً لمكانه ، أو لأنه لم يزل ممنعاً عزيزاً يهابه كل جبار ، كالشيء المحرم الذي حقه أن يجتنب ، أو لأنه محترم عظيم الحرمة لا يحل انتهاكها ، أو لأنه حرّم على الطوفان أي منع منه ، كما سُمي عتيقاً لأنه أعتق منه فلم يستول عليه { لِيُقِيمُواْ الصلاة } اللام متعلقة بأسكنت ، أي : ما أسكنتهم هذا الوادي الخلاء البلقع من كل مرتفق ومرتزق ، إلا ليقيموا الصلاة عند بيتك المحرم ، ويعمروه بذكرك وعبادتك وما تعمر به مساجدك ومتعبداتك ، متبركين بالبقعة التي شرفتها على البقاع ، مستسعدين بجوارك الكريم ، متقربين إليك بالعكوف عند بيتك ، والطواف به ، والركوع والسجود حوله ، مستنزلين الرحمة التي آثرت بها سكان حرمك { أَفْئِدَةً مِّنَ الناس } أفئدة من أفئدة الناس ، ومن للتبعيض ، ويدل عليه ما روي عن مجاهد : لو قال أفئدة الناس لزحمتكم عليه فارس والروم ، وقيل : لو لم يقل { مِّنَ } لازدحموا عليه حتى الروم والترك والهند ويجوز أن يكون { مِّنَ } للابتداء ، كقولك : القلب مني سقيم ، تريد قلبي ، فكأنه قيل : أفئدة ناس ، وإنما نكرت المضاف إليه في هذا التمثيل لتنكير أفئدة ، لأنها في الآية نكرة ليتناول بعض الأفئدة . وقرىء : «آفدة» ، بوزن عاقدة . وفيه وجهان ، أحدهما : أن يكون من القلب كقولك : آدر ، في أدؤر . والثاني : أن يكون اسم فاعلة من أفدت الرحلة إذا عجلت ، أي جماعة أو جماعات يرتحلون إليهم ويعجلون نحوهم . وقرىء : «أفدة» ، وفيه وجهان : أن تطرح الهمزة للتخفيف ، وإن كان الوجه أن تخفف بإخراجها بين بين . وأن يكون من أفد { تَهْوِى إِلَيْهِمْ } تسرع إليهم وتطير نحوهم شوقاً ونزاعاً من قوله :
يَهْوِي مَخَارِمَهَا هُوِىَّ الأَجْدَلِ ... وقرىء : «تُهْوَى إليهم» ، على البناء للمفعول ، من هوى إليه وأهواه غيره . وتهوى إليهم ، من هوى يهوي إذا أحب ، ضمن معنى تنزع فعدّى تعديته { وارزقهم مّنَ الثمرات } مع سكناهم وادياً ما فيه شيء منها ، بأن تجلب إليهم من البلاد { لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } النعمة في أن يرزقوا أنواع الثمرات حاضرة في واد يباب ليس فيه نجم ولا شجر ولا ماء لا جرم أن الله عز وجلّ أجاب دعوته فجعله حرماً آمناً تجبى إليه . ثمرات كل شيء رزقاً من لدنه ، ثم فضله في وجود أصناف الثمار فيه على كل ريف وعلى أخصب البلاد وأكثرها ثماراً ، وفي أي بلد من بلاد الشرق والغرب ترى الأعجوبة التي يريكها الله بواد غير ذي زرع ، وهي اجتماع البواكير والفواكه المختلفة الأزمان من الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد ، وليس ذلك من آياته بعجيب ، متعنا الله بسكنى حرمه ، ووفقنا لشكر نعمه ، وأدام لنا التشرف بالدخول تحت دعوة إبراهيم عليه السلام ، ورزقنا طرفاً من سلامة ذلك القلب السليم .
رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39)
النداء المكرر دليل التضرع واللجأ إلى الله تعالى { إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ } تعلم السرَّ كما تعلم العلن علماً لا تفاوت فيه ، لأنّ غيباً من الغيوب لا يحتجب عنك . والمعنى : أنك أعلم بأحوالنا وما يصلحنا وما يفسدنا منا ، وأنت أرحم بنا وأنصح لنا منا بأنفسنا ولها ، فلا حاجة إلى الدعاء والطلب ، وإنما ندعوك إظهاراً للعبودية لك ، وتخشعاً لعظمتك ، وتذللا لعزتك ، وافتقاراً إلى ما عندك ، واستعجالاً لنيل أياديك ، وولهاً إلى رحمتك ، وكما يتملق العبد بين يدي سيده ، رغبة في إصابة معروفه ، مع توفر السيد على حسن الملكة . وعن بعضهم : أنه رفع حاجته إلى كريم فأبطأ عليه النجح ، فأراد أن يذكره فقال : مثلك لا يذكر استقصاراً ولا توهما للغفلة عن حوائج السائلين ، ولكن ذا الحاجة لا تدعه حاجته أن لا يتكلم فيها . وقيل : ما تخفي من الوجد لما وقع بيننا من الفرقة ، وما نعلن من البكاء والدعاء . وقيل : ما نخفي من كآبة الافتراق ، وما نعلن : يريد ما جرى بينه وبين هاجر حين قالت له عند الوداع : إلى من تكلنا؟ قال : إلى الله أكلكم . قالت : الله أمرك بهذا؟ قال : نعم . قالت : إذن لا نخشى ، تركتنا إلى كاف { وَمَا يخفى عَلَى الله مِن شَىْءٍ } من كلام الله عز وجل تصديقاً لإبراهيم عليه السلام ، كقوله : { وكذلك يَفْعَلُونَ } [ النمل : 34 ] أو من كلام إبراهيم ، يعني : وما يخفى على الله الذي هو عالم الغيب من شيء في كل مكان . «ومن» للاستغراق ، كأنه قيل : وما يخفى عليه شيء ما . { عَلَى } في قوله : { عَلَى الكبر } بمعنى مع كقوله :
إنِّي عَلَى مَا تَرَيْنَ مِنْ كِبَرِى ... أَعْلَمُ مِنْ حَيْثُ تُؤْكَلُ الْكَتِفُ
وهو في موضع الحال ، معناه : وهب لي وأنا كبير وفي حال الكبر . روي أنّ إسماعيل ولد له وهو ابن تسع وتسعين سنة ، وولد له إسحاق وهو ابن مائة وثنتي عشرة سنة ، وقد روي أنه ولد له إسماعيل لأربع وستين . وإسحاق لتسعين . وعن سعيد بن جبير : لم يولد لإبراهيم إلا بعد مائة وسبع عشرة سنة ، وإنما ذكر حال الكبر لأنّ المنة بهبة الولد فيها أعظم ، من حيث أنها حال وقوع اليأس من الولادة . والظفر بالحاجة على عقب اليأس من أجلّ النعم وأحلاها في نفس الظافر ، ولأنّ الولادة في تلك السنّ العالية كانت آية لإبراهيم { إِنَّ رَبِّى لَسَمِيعُ الدعاء } كان قد دعا ربه وسأله الولد ، فقال : رب هب لي من الصالحين ، فشكر لله ما أكرمه به من إجابته فإن قلت : الله تعالى يسمع كل دعاء ، أجابه أو لم يجبه . قلت : هو من قولك : سمع الملك كلام فلان إذا اعتد به وقبله ومنه : سمع الله لمن حمده وفي الحديث .
( 574 ) " ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن " فإن قلت : ما هذه الإضافة إضافة السميع إلى الدعاء؟ قلت : إضافة الصفة إلى مفعولها ، وأصله لسميع الدعاء . وقد ذكر سيبويه فعيلاً في جملة أبنية المبالغة العاملة عمل الفعل ، كقولك : هذا ضروب زيداً ، وضراب أخاه ، ومنحار إبله ، وحذر أموراً ، ورحيم أباه ويجوز أن يكون من إضافة فعيل إلى فاعله ، ويجعل دعاء الله سميعاً على الإسناد المجازي . والمراد سماع الله .
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)
{ وَمِن ذُرّيَّتِى } وبعض ذرّيتي ، عطفاً على المنصوب في اجعلني ، وإنما بعض لأنه علم بإعلام الله أنه يكون في ذرّيته كفار ، وذلك قوله : { اَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين } [ البقرة : 124 ] . { وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ } أي عبادتي { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله } [ مريم : 48 ] في قراءة أبيّ «ولأبويّ» . وقرأ سعيد بن جبير : «ولو الدي» ، على الإفراد ، يعني أباه ، وقرأ الحسن بن علي رضي الله عنهما : «ولولديّ» يعني إسماعيل وإسحاق . وقرىء : «لولدي» بضم الواو . والولد بمعنى الولد ، كالعدم والعدم . وقيل : جمع ولد ، كأسد في أسد . وفي بعض المصاحف : ولذرّيتي . فإن قلت : كيف جاز له أن يستغفر لأبويه وكانا كافرين؟ قلت : هو من مجوّزات العقل لا يعلم امتناع جوازه إلا بالتوقيف . وقيل : أراد بوالديه آدم وحواء وقيل : بشرط الإسلام . ويأباه قوله { إِلاَّ قَوْلَ إبراهيم لاِبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } [ الممتحنة : 4 ] لأنه لو شرط الإسلام لكان استغفاراً صحيحاً لا مقال فيه ، فكيف يستثني الاستغفار الصحيح من جملة ما يؤتسى فيه بإبراهيم { يَوْمَ يَقُومُ الحساب } أي يثبت ، وهو مستعار من قيام القائم على الرجل ، والدليل عليه قولهم : قامت الحرب على ساقها . ونحوه قولهم : ترجلت الشمس : إذا أشرقت وثبت ضوؤها ، كأنها قامت على رجل . ويجوز أن يسند إلى الحساب قيام أهله إسناداً مجازياً ، أو يكون مثل { واسئل القرية } [ يوسف : 82 ] وعن مجاهد : قد استجاب الله له فيما سأل ، فلم يعبد أحد من ولده صنماً بعد دعوته ، وجعل البلد آمناً ، ورزق أهله من الثمرات . وجعله إماماً ، وجعل في ذريته من يقيم الصلاة ، وأراه مناسكه ، وتاب عليه ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : كانت الطائف من أرض فلسطين ، فلما قال إبراهيم { ربنا إني أسكنت } الآية [ إبراهيم : 37 ] ، رفعها الله فوضعها حيث وضعها رزقاً للحرم .
وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)
فإن قلت : يتعالى الله عن السهو والغفلة ، فكيف يحسبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أعلم الناس به غافلاً حتى قيل { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غافلا } ؟ قلت : إن كان خطابا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ففيه وجهان . أحدهما التثبيت على ما كان عليه من أنه لا يحسب الله غافلاً ، كقوله : { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين } [ الأنعام : 14 ] ، { وَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها ءاخَرَ } [ الشعراء : 213 ] ، كما جاء في الأمر { يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله } [ النساء : 136 ] والثاني : أنّ المراد بالنهي عن حسبانه غافلاً ، الإيذان بأنه عالم بما يفعل الظالمون ، لا يخفى عليه منه شيء ، وأنه معاقبهم على قليله وكثيره على سبيل الوعيد والتهديد كقوله : { والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } [ البقرة : 283 ] يريد الوعيد . ويجوز أن يراد : ولا تحسبنه يعاملهم معاملة الغافل عما يعملون ، ولكن معاملة الرقيب عليهم ، المحاسب على النقير والقطمير ، وإن كان خطابا لغيره ممن يجوز أن يحسبه غافلاً ، لجهله بصفاته ، فلا سؤال فيه ، وعن ابن عيينة : تسلية للمظلوم وتهديد للظالم ، فقيل له من قال هذا؟ فغضب وقال : إنما قاله من علمه وقرىء : «يؤخرهم» بالنون والياء { تَشْخَصُ فِيهِ الابصار } أي أبصارهم لا تقرّ في أماكنها من هول ما ترى { مُهْطِعِينَ } مسرعين إلى الداعي . وقيل : الإهطاع أن تقبل ببصرك على المرئي تديم النظر إليه لا تطرف { مُقْنِعِى رُؤُوسِهِمْ } رافعيها { لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ } لا يرجع إليهم أن يطرفوا بعيونهم ، أي : لا يطرفون ، ولكن عيونهم مفتوحة ممدودة من غير تحريك للأجفان . أو لا يرجع إليهم نظرهم فينظروا إلى أنفسهم . الهواء : الخلاء الذي لم تشغله الأجرام ، فوصف به فقيل : قلب فلان هواء إذا كان جباناً لا قوّة في قلبه ولا جرأة . ويقال للأحمق أيضاً : قلبه هواء . قال زهير :
مِنَ الظُّلْمَانِ جُؤْجُؤُهُ هَوَاءُ ... لأنّ النعام مثل في الجبن والحمق . وقال حسان :
فَأَنْتَ مُجَوَّفٌ نَخْبٌ هَوَاءُ ... وعن ابن جريج { وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوآءُ } صفر من الخير خاوية منه ، وقال أبو عبيدة : جوف لا عقول لهم .
وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47)
{ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب } مفعول ثان لأنذر وهو يوم القيامة . ومعنى { أَخّرْنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ } ردّنا إلى الدنيا وأمهلنا إلى أمد وحدّ من الزمان قريب ، نتدارك ما فرطنا فيه من إجابة دعوتك واتباع رسلك . أو أريد باليوم : يوم هلاكهم بالعذاب العاجل ، أو يوم موتهم معذبين بشدّة السكرات ولقاء الملائكة بلا بشرى ، وأنهم يسألون يومئذ أن يؤخرهم ربهم إلى أجل قريب ، كقوله : { لَوْلا أَخَّرْتَنِى إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ } [ المنافقون : 10 ] { أَوَ لَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ } على إرادة القول ، وفيه وجهان : أن يقولوا ذلك بطرا وأشراً ، ولما استولى عليهم من عادة الجهل والسفه ، وأن يقولوه بلسان الحال حيث بنوا شديداً وأمّلوا بعيداً و { مَا لَكُمْ } جواب القسم ، وإنما جاء بلفظ الخطاب لقوله { أَقْسَمْتُمْ } ولو حكى لفظ المقسمين لقيل : ما لنا { مّن زَوَالٍ } والمعنى أقسمتم أنكم باقون في الدنيا لا تزالون بالموت والفناء ، وقيل : لا تنتقلون إلى دار أخرى يعني كفرهم بالبعث ، كقوله : { وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ } [ النحل : 38 ] يقال : سكن الدار وسكن فيها . ومنه قوله تعالى : { وَسَكَنتُمْ فِى مساكن الذين ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } لأنّ السكنى من السكون الذي هو اللبث ، والأصل تعدّيه بفي ، كقولك : قرّ في الدار وغنى فيها وأقام فيها ، ولكنه لما نقل إلى سكون خاص تصرف فيه فقيل : سكن الدار كما قيل : تبوأها وأوطنها . ويجوز أن يكون : سكنوا من السكون ، أي : قرّوا فيها واطمأنوا طيبي النفوس ، سائرين سيرة من قبلهم في الظلم والفساد ، لا يحدّثونها بما لقي الأوّلون من أيام الله وكيف كان عاقبة ظلمهم ، فيعتبروا ويرتدعوا { وَتَبَيَّنَ لَكُمْ } بالإخبار والمشاهدة { كَيْفَ } أهلكناهم وانتقمنا منهم . وقرىء : «ونبين لكم» ، بالنون { وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمثال } أي صفات ما فعلوا وما فعل بهم ، وهي في الغرابة كالأمثال المضروبة لكل ظالم { وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ } أي مكرهم العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم { وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ } لا يخلو إمّا أن يكون مضافاً إلى الفاعل كالأوّل ، على معنى : ومكتوب عند الله مكرهم ، فهو مجازيهم عليه بمكر هو أعظم منه ، أو يكون مضافاً إلى المفعول على معنى : { وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ } الذي يمكرهم به ، وهو عذابهم الذي يستحقونه يأتيهم به من حيث لا يشعرون ولا يحتسبون { وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال } وإن عظم مكرهم وتبالغ في الشدة ، فضرب زوال الجبال منه مثلاً لتفاقمه وشدته ، أي : وإن كان مكرهم مسوى لإزالة الجبال ، معداً لذلك ، وقد جعلت إن نافية واللام مؤكدة لها ، كقوله تعالى : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إيمانكم } [ البقرة : 143 ] والمعنى : ومحال أن تزول الجبال بمكرهم ، على أنّ الجبال مثل لآيات الله وشرائعه ، لأنها بمنزلة الجبال الراسية ثباتاً وتمكناً .
وتنصره قراءة ابن مسعود : «وما كان مكرهم» . وقرىء : «لتزول» ، بلام الابتداء ، على : { وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ } من الشدّة بحيث تزول منه الجبال وتنقلع من أماكنها . وقرأ علي وعمر رضي الله عنهما : «وإن كاد مكرهم» { مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ } يعني قوله : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا } [ غافر : 51 ] ، { كَتَبَ الله لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى } [ المجادلة : 21 ] ، فإن قلت : هلا قيل : مخلف رسله وعده؟ ولم قدم المعفول الثاني على الأول؟ قلت : قدم الوعد ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلاً ، كقوله : { إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد } [ آل عمران : 9 ] ثم قال : { رُسُلَهُ } ليؤذن أنه إذا لم يخلف وعده أحداً - وليس من شأنه إخلاف المواعيد - كيف يخلفه رسله الذين هم خيرته وصفوته؟ وقرىء : «مخلف وعدَه رسلهِ» ، بحرّ الرسل ونصب الوعد . وهذه في الضعف كمن قرأ { قَتْلَ أولادهم شُرَكَائِهِمْ } [ الأنعام : 137 ] . { العزيز } غالب لا يماكر { ذُو انتقام } لأوليائه من أعدائه .
يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51)
{ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض } انتصابه على البدل من يوم يأتيهم . أو على الظرف للانتقام . والمعنى : يوم تبدّل هذه الأرض التي تعرفونها أرضاً أخرى غير هذه المعروفة ، وكذلك السموات . والتبديل : التغيير ، وقد يكون في الذوات كقولك : بدّلت الدراهم دنانير ومنه { بدلناهم جُلُوداً غَيْرَهَا } [ النساء : 56 ] و { بدّلناهم بجنتيهم جنتين } [ سبأ : 16 ] وفي الأوصاف ، كقولك : بذلت الحلقة خاتماً ، إذا أذبتها وسويتها خاتماً ، فنقلتها من شكل إلى شكل ، ومنه قوله تعالى : { فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ الله سَيّئَاتِهِمْ حسنات } [ الفرقان : 70 ] واختلف في تبديل الأرض والسموات ، فقيل : تبدّل أوصافها فتسير عن الأرض جبالها وتفجر بحارها . وتسوّى فلا يرى فيها عوج ولا أمت وعن ابن عباس : هي تلك الأرض وإنما تغير ، وأنشد :
وَمَا النَّاسُ بِالنَّاسِ عَهِدْتَهُم ... وَلاَ الدَّارُ بِالدَّارِ الّتِي كُنْتَ تَعْلَم
وتبدّل السماء بانتثار كواكبها ، وكسوف شمسها ، وخسوف قمرها ، وانشقاقها ، وكونها أبواباً . وقيل : يخلق بدلها أرض وسموات أخر . وعن ابن مسعود وأنس : يحشر الناس على أرض بيضاء لم يخطىء عليها أحد خطيئة . وعن علي رضي الله عنه تبدّل أرضاً من فضة ، وسموات من ذهب . وعن الضحاك : أرضاً من فضة بيضاء كالصحائف . وقرىء : «يوم نبدّل الأرض» ، بالنون . فإن قلت : كيف قال { الواحد القهار } ؟ قلت : هو كقوله { لّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار } [ غافر : 16 ] لأنّ الملك إذا كان لواحد غلاب لا يغالب ولا يعازّ فلا مستغاث لأحد إلى غيره ولا مستجار ، كان الأمر في غاية الصعوبة والشدّة { مُقْرِنِينَ } قرن بعضهم مع بعض . أو مع الشياطين . أو قرنت أيديهم إلى أرجلهم مغللين . وقوله : { فِى الأصفاد } إمّا أن يتعلق بمقرّنين ، أي : يقرنون في الأصفاد . وإمّا أن لا يتعلق به ، فيكون المعنى : مقرّنين مصفدين . والأصفاد : القيود وقيل الأغلال ، وأنشد لسلامة بن جندل :
وَزَيْدُ الْخَيْلِ قَدْ لاَقَى صِفَادا ... يَعَضُّ بِسَاعِدٍ وَبِعَظْمِ سَاقِ
القطران : فيه ثلاث لغات : قطران ، وقطران وقطران : بفتح القاف وكسرها مع سكون الطاء ، وهو ما يتحلب من شجر يسمى الأبهل فيطبخ ، فتهنأ به الإبل الجربى ، فيحرق الجرب بحرّه وحدّته ، والجلد ، وقد تبلغ حرارته الجوف ، ومن شأنه أن يسرع في اشتغال النار ، وقد يستسرج به ، وهو أسود اللون منتن الريح ، فتطلى به جلود أهل النار حتى يعود طلاؤه لهم كالسرابيل وهي القمص ، لتجتمع عليهم الأربع : لذع القطران . وحرقته ، وإسراع النار في جلودهم ، واللون الوحش ، ونتن الريح . على أن التفاوت بين القطرانين كالتفاوت بين النارين ، وكل ما وعده الله أو وعد به في الآخرة ، فبينه وبين ما نشاهد من جنسه ما لا يقادر قدره ، وكأنه ما عندنا منه إلا الأسامي والمسميات ثمة ، فبكرمه الواسع نعوذ من سخطه ، ونسأله التوفيق فيما ينجينا من عذابه ، وقرىء : «من قطران» والقطر : النحاس أو الصفر المذاب . والآني : المتناهي حرّه { وتغشى وُجُوهَهُمْ النار } كقوله تعالى : { أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوء العذاب } [ الزمر : 24 ] ، { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النار على وُجُوهِهِمْ } [ القمر : 48 ] لأن الوجه أعز موضع في ظاهر البدن وأشرفه ، كالقلب في باطنه ، ولذلك قال : { تَطَّلِعُ عَلَى الافئدة } [ الهمزة : 7 ] وقرىء : «وتغشى وجوههم» ، بمعنى تتغشى : أي يفعل بالمجرمين ما يفعل { لِيَجْزِىَ الله كُلَّ نَفْسٍ } مجرمة { مَّا كَسَبَتْ } أو كل نفس من مجرمة ومطيعة لأنه إذا عاقب المجرمين لإجرامهم علم أنه يثيب المطيعين لطاعتهم .
هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)
{ هذا بلاغ لّلنَّاسِ } كفاية في التذكير والموعظة ، يعني بهذا ما وصفه من قوله { وَلاَ تَحْسَبَنَّ } إلى قوله : { سَرِيعُ الحساب } [ آل عمران : 169 ] . { وَلِيُنذَرُواْ } معطوف على محذوف ، أي لينصحوا ولينذروا { بِهِ } بهذا البلاغ . وقرىء : «ولينذروا» بفتح الياء من نذر به إذا علمه واستعدّ له { وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ } لأنهم إذا خافوا ما أنذروا به ، دعتهم المخافة إلى النظر حتى يتوصلوا إلى التوحيد ، لأنّ الخشية أمّ الخير كله . عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 575 ) " من قرأ سورة إبراهيم أُعطى من الأجر عشر حسنات بعدد كل من عبد الأصنام وعدد من لم يعبد " .
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1)
{ تِلْكَ } إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات . والكتاب ، والقرآن المبين : السورة وتنكير القرآن للتفخيم . والمعنى : تلك آيات الكتاب الكامل في كونه كتاباً وأي قرآن مبين؟ كأنه قيل : الكتاب الجامع للكمال والغرابة في البيان .
رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)
قرىء : «ربّما» و «ربّتما» بالتشديد . و «ربما» ، «وربَما» بالضم والفتح مع التخفيف . فإن قلت : لم دخلت على المضارع وقد أبوا دخولها إلا على الماضي؟ قلت : لأن المترقب في إخبار الله تعالى بمنزلة الماضي المقطوع به في تحققه ، فكأنه قيل : ربما ودّ . فإن قلت : متى تكون ودادتهم؟ قلت : عند الموت ، أو يوم القيامة إذا عاينوا حالهم وحال المسلمين . وقيل : إذا رأوا المسلمين يخرجون من النار ، وهذا أيضاً باب من الودادة . فإن قلت : فما معنى التقليل؟ قلت : هو وارد على مذهب العرب في قولهم : لعلك ستندم على فعلك ، وربما ندم الإنسان على ما فعل ، ولا يشكون في تندمه ، ولا يقصدون تقليله ، ولكنهم أرادوا : ولو كان الندم مشكوكاً فيه أو كان قليلاً لحق عليك أن لاتفعل هذا الفعل ، لأنّ العقلاء يتحرّزون من التعرّض للغم المظنون ، كما يتحرّزون من المتيقن ومن القليل منه ، كما من الكثير ، وكذلك المعنى في الآية : لو كانوا يودّون الإسلام مرة واحدة ، فبالحري أن يسارعوا إليه ، فكيف وهم يودّونه في كل ساعة { لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ } حكاية ودادتهم ، وإنما جيء بها على لفظ الغيبة لأنهم مخبر عنهم ، كقولك : حلف بالله ليفعلنّ . ولو قيل : حلف بالله لأفعلن ولو كنا مسلمين لكان حسناً سديداً وقيل : تدهشهم أهوال ذلك اليوم فيبقون مبهوتين ، فإن حانت منهم إفاقة في بعض الأوقات من سكرتهم تمنوا ، فلذلك قلل { ذَرْهُمْ } يعني اقطع طمعك من ارعوائهم ، ودعهم عن النهي عما هم عليه والصدّ عنه بالتذكرة والنصيحة ، وخلهم { يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ } بدنياهم وتنفيذ شهواتهم ، ويشغلهم أملهم وتوقعهم لطول الأعمار واستقامة الأحوال ، وأن لا يلقوا في العاقبة إلا خيراً { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } سوء صنيعهم . والغرض الإيذان بأنهم من أهل الخذلان ، وأنهم لا يجيء منهم إلا ما هم فيه ، وأنه لا زاجر لهم ولا واعظ إلا معاينة ما ينذرون به حين لا ينفعهم الوعظ ، ولا سبيل إلى اتعاظهم قبل ذلك فأمر رسوله بأن يخليهم وشأنهم ولا يشتغل بما لا طائل تحته ، وأن يبالغ في تخليتهم حتى يأمرهم بما لا يزيدهم إلا ندماً في العاقبة . وفيه إلزام للحجة ومبالغة في الإنذار وإعذار فيه . وفيه تنبيه على أن إيثار التلذذ والتنعم وما يؤدّي إليه طول الأمل . وهذه هجيرى أكثر الناس ليس من أخلاق المؤمنين ، وعن بعضهم : التمرغ في الدنيا من أخلاق الهالكين .
وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)
{ وَلَهَا كتاب } جملة واقعة صفة لقرية ، والقياس أن لا يتوسط الواو بينهما كما في قوله تعالى : { وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُّنذِرِينَ } [ الشعراء : 208 ] وإنما توسطت لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف ، كما يقال في الحال : جاءني زيد عليه ثوب ، وجاءني وعليه ثوب . كتاب { مَّعْلُومٌ } مكتوب معلوم ، وهو أجلها الذي كتب في اللوح وبين ، ألا ترى إلى قوله { مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا } في موضع كتابها ، وأنث الأمة أوّلا ثم ذكرها آخراً حملا على اللفظ والمعنى وقال : { وَمَا يَسْتَأخِرُونَ } بحذف «عنه» لأنه معلوم .
وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6)
قرأ الأعمش : «يا أيها الذي ألقي عليه الذكر» ، وكأن هذا النداء منهم على وجه الاستهزاء ، كما قال فرعون { إِنَّ رَسُولَكُمُ الذى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } [ الشعراء : 27 ] وكيف يقرّون بنزول الذكر عليه وينسبونه إلى الجنون . والتعكيس في كلامهم للاستهزاء والتهكم مذهب واسع . وقد جاء في كتاب الله في مواضع ، منها { فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عمران : 21 ] ، { إِنَّك لأَنت الحليم الرشيد } [ هود : 87 ] وقد يوجد كثيراً في كلام العجم ، والمعنى : إنك لتقول قول المجانين حين تدعي أنّ الله نزل عليك الذكر .
لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7)
{ لَّوْ } ركبت مع «لا» و «لا» لمعنيين : معنى امتناع الشيء لوجود غيره ، ومعنى التحضيض ، وأما «هل» فلم تركب إلا مع «لا» وحدها للتحضيض : قال ابن مقبل :
لَوْمَالْحَيَاءُ وَلَوْمَا الدِّينُ عِبْتُكُمَا ... بِبَعْضِ مَا فِيكُمَا إذْ عِبْتُمَا عَوَرِى
والمعنى : هلا تأتينا بالملائكة يشهدون بصدقك ويعضدونك على إنذارك ، كقوله تعالى { لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً } [ الفرقان : 7 ] أو : هلا تأتينا بالملائكة للعقاب على تكذيبنا لك إن كنت صادقاً كما كانت تاتي الأمم المكذبة برسلها؟
مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8)
قرىء : «تنزل» ، بمعنى تتنزل «وتنزل» على البناء للمفعول من نزل ، و { نُنَزّلُ الملائكة } : بالنون ونصب الملائكة { إِلاَّ بالحق } إلا تنزلا ملتبساً بالحكمة والمصلحة ، ولا حكمة في أن تأتيكم عياناً تشاهدونهم ويشهدون لكم بصدق النبي صلى الله عليه وسلم ، لأنكم حينئذ مصدّقون عن اضطرار ومثله قوله تعالى { وَمَا خَلَقْنَا السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بالحق } [ الحجر : 85 ] وقيل : الحق الوحي أو العذاب . و { إِذَا } جواب وجزاء ، لأنه جواب لهم وجزاء لشرط مقدر تقديره : ولو نزلنا الملائكة ما كانوا منظرين وما أخر عذابهم .
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)
{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر } رد لإنكارهم واستهزائهم في قولهم : { يأَيُّهَا الذى نُزّلَ عَلَيْهِ الذكر } [ الحجر : 6 ] ولذلك قال : إنا نحن ، فأكد عليهم أنه هو المنزل على القطع والبتات ، وأنه هو الذي بعث به جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم وبين يديه ومن خلفه رصد ، حتى نزل وبلغ محفوظاً من الشياطين وهو حافظه في كل وقت من كل زيادة ونقصان وتحريف وتبدبل ، بخلاف الكتب المتقدمة؛ فإنه لم يتول حفظها . وإنما استحفظها الربانيين والأحبار فاختلفوا فيما بينهم بغيا فكان التحريف ولم يكل القرآن إلى غير حفظه . فإن قلت : فحين كان قوله { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر } رداً لإنكارهم واستهزائهم ، فكيف اتصل به قوله { وَإِنَّا لَهُ لحافظون } ؟ قلت : قد جعل ذلك دليلاً على أنه منزل من عنده آية؛ لأنه لو كان من قول البشر أو غير آية لتطرق عليه الزيادة والنقصان كما يتطرق على كل كلام سواه . وقيل : الضمير في { لَهُ } لرسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى { والله يَعْصِمُكَ } [ المائدة : 67 ] .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11)
{ فِى شِيَعِ الأولين } في فرقهم وطوائفهم . والشيعة : الفرقة إذا اتفقوا على مذهب وطريقة . ومعنى أرسلناه فيهم : نبأناه فيهم وجعلناه رسولاً فيما بينهم { وَمَا يَأْتِيهِم } حكاية حال ماضية ، لأنّ «ما» لا تدخل على مضارع إلا وهو في معنى الحال ، ولا على ماض إلا وهو قريب من الحال .
كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13)
يقال : سلكت الخيط في الإبرة ، وأسلكته إذا أدخلته فيها ونظمته . وقرىء : «نسلكه» ، [ والضمير ] للذكر ، أي : مثل ذلك السلك ، ونحوه : نسلك الذكر في { قُلُوبِ المجرمين } على معنى أنه يلقيه في قلوبهم مكذباً مستهزءاً به غير مقبول ، كما لو أنزلت بلئيم حاجة فلم يجبك إليها فقلت : كذلك أنزلها باللئام ، تعني مثل هذا الإنزال أنزلناها بهم مردودة غير مقضية . ومحل قوله { لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } النصب على الحال ، أي غير مؤمن به ، أو هو بيان لقوله : { كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ } . { سُنَّةُ الأوّلِينَ } طريقتهم التي سنها الله في إهلاكهم حين كذبوا برسلهم وبالذكر المنزل عليهم ، وهو وعيد لأهل مكة على تكذيبهم .
وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
قرىء : «يعرجون» بالضم والكسر . و { سُكّرَتْ } حيرت أو حبست من الإبصار ، من السكر أو السكر . وقرىء : «سُكِرَت» بالتخفيف أي حبست كما يحبس النهر من الجري . وقرىء : «سَكِرَت» من السكر ، أي حارت كما يحار السكران . والمعنى أنّ هؤلاء المشركين بلغ من غلوهم في العناد : أن لو فتح لهم باب من أبواب السماء ، ويسر لهم معراج يصعدون فيه إليها ، ورأوا من العيان ما رأوا ، لقالوا : هو شيء نتخايله لا حقيقة له ، ولقالوا قد سحرنا محمد بذلك . وقيل : الضمير للملائكة ، أي : لو أريناهم الملائكة يصعدون في السماء عياناً لقالوا ذلك . وذكر الظلول ليجعل عروجهم بالنهار ليكونوا مستوضحين لما يرون . وقال : إنما ، ليدل على أنهم يبتون القول بأنّ ذلك ليس إلا تسكيراً للأبصار .
وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20)
{ مَنِ استرق } في محل النصب على الاستثناء . وعن ابن عباس : أنهم كانوا لا يحجبون عن السموات ، فلما ولد عيسى منعوا من ثلاث سموات ، فلما ولد محمد منعوا من السموات كلها { شِهَابٌ مُّبِينٌ } ظاهر للمبصرين { مَّوْزُونٍ } وزن بميزان الحكمة ، وقدّر بمقدار تقتضيه ، لا يصلح فيه زيادة ولا نقصان ، أو له وزن وقدر في أبواب النعمة والمنفعة ، وقيل : ما يوزن من نحو الذهب والفضة والنحاس والحديد وغيرها { معايش } بياء صريحة ، بخلاف الشمائل والخبائث ونحوهما ، فإن تصريح الياء فيها خطأ ، والصواب الهمزة ، أو إخراج الياء بين بين . وقد قرىء : «معائش» بالهمزة على التشبيه { وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ برازقين } عطف على معايش ، أو على محل لكم ، كأنه قيل : وجعلنا لكم فيها معايش ، وجعلنا لكم من لستم له برازقين ، أو : وجعلنا لكم معايش ولمن لستم له برازقين . وأراد بهم العيال والمماليك والخدم الذين يحسبون أنهم يرزقونهم ويخطئون ، فإنّ الله هو الرزاق ، يرزقهم وإياهم ، ويدخل فيه الأنعام والدواب وكل ما بتلك المثابة ، مما الله رازقه ، وقد سبق إلى ظنهم أنهم هم الرزاقون . ولا يجوز أن يكون مجروراً عطفاً على الضمير المجرور في { لَكُمْ } لأنه لا يعطف على الضمير المجرور .
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)
ذكر الخزائن تمثيل . والمعنى : وما من شيء ينتفع به العباد إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه والإنعام به ، وما نعطيه إلا بمقدار معلوم نعلم أنه مصلحة له ، فضرب الخزائن مثلاً لاقتداره على كل مقدور .
وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)
{ لَوَاقِحَ } فيه قولان ، أحدهما : أنّ الريح لاقح إذا جاءت بخير ، من إنشاء سحاب ماطر كما قيل للتي لا تأتي بخير : ريح عقيم . والثاني : أن اللواقح بمعنى الملاقح ، كما قال :
وَمُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطِيحُ الطَّوَائِحُ ... يريد المطاوح جمع مطيحة . وقرىء : «وأرسلنا الريح» ، على تأويل الجنس { فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ } فجعلناه لكم سقيا { وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بخازنين } نفى عنهم ما أثبته لنفسه في قوله : { وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ } كأنه قال : نحن الخازنون للماء ، على معنى نحن القادرون على خلقه في السماء وإنزاله منها ، وما أنتم عليه بقادرين : دلالة على عظيم قدرته وإظهاراً لعجزهم .
وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)
{ وَنَحْنُ الوارثون } أي الباقون بعد هلاك الخلق كله . وقيل للباقي «وارث» استعارة من وارث الميت ، لأنه يبقى بعد فنائه . ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في دعائه :
( 576 ) " اجعله الوارث منا " { وَلَقَدْ عَلِمْنَا } من استقدم ولادة وموتاً ، ومن تأخر من الأوّلين والآخرين . أو من خرج من أصلاب الرجال ومن لم يخرج بعد . أو من تقدم في الإسلام وسبق إلى الطاعة ومن تأخر . وقيل : المستقدمين في صفوف الجماعة والمتسأخرين . وروي
( 577 ) أن امرأة حسناء كانت في المصليات خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان بعض القوم يستقدم لئلا ينظر إليها ، وبعض يستأخر ليبصرها فنزلت { هُوَ يَحْشُرُهُمْ } أي هو وحده القادر على حشرهم ، والعالم بحصرهم مع إفراط كثرتهم وتباعد أطراف عددهم { إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } باهر الحكمة واسع العلم ، يفعل كل ما يفعل على مقتضى الحكمة والصواب ، وقد أحاط علماً بكل شيء .
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27)
الصلصال : الطين اليابس الذي يصلصل وهو غير مطبوخ ، وإذا طبخ فهو فخار . قالوا : إذا توهمت في صوته مدّا فهو صليل ، وإن توهمت فيه ترجيعاً فهو صلصلة . وقيل : هو تضعيف «صل» إذا أنتن . والحمأ : الطين الأسود المتغير . والمسنون : المصوّر ، من سنة الوجه ، وقيل : المصبوب المفرغ ، أي : أفرغ صورة إنسان كما تفرغ الصور من الجواهر المذوبة في أمثلتها . وقيل : المنتن ، من سننت الحجرعلى الحجر إذا حككته به ، فالذي يسيل بينهما سنين ، ولا يكون إلا منتنا { مّنْ حَمَإٍ } صفة لصلصال ، أي : خلقه من صلصال كائن من حمأ وحق { مَّسْنُونٍ } بمعنى مصور ، أن يكون صفة لصلصال ، كأنه أفرغ الحمأ فصور منها تمثال إنسان أجوف ، فيبس حتى إذا نقر صلصل ، ثم غيره بعد ذلك إلى جوهر آخر { والجآن } للجن كآدم للناس . وقيل : هو إبليس . وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد : «والجأن» ، بالهمزة { مِن نَّارِ السموم } من نار الحرّ الشديد النافذ في المسام . قيل : هذه السموم جزء من سبعين جزأ من سموم النار التي خلق الله منها الجانّ .
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)
{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ } واذكر وقت قوله { سَوَّيْتُهُ } عدلت خلقته وأكملتها وهيأتها لنفخ الروح فيها . ومعنى { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى } وأحييته ، وليس ثمة نفخ ولا منفوخ ، وإنما هو تمثيل لتحصيل ما يحيا به فيه . واستثنى إبليس من الملائكة؛ لأنه كان بينهم مأموراً معهم بالسجود ، فغلب اسم الملائكة ، ثم استثنى بعد التغليب كقولك : رأيتهم إلا هنداً . و { أبى } استئناف على تقدير قول قائل بقول : هلا سجد؟ فقيل : أبى ذلك واستكبر عنه . وقيل : معناه ولكن إبليس أبى . حرف الجر مع «أن» محذوف . وتقديره { مَا لَكَ } في { أَلاَّ تَكُونَ مَعَ الساجدين } بمعنى أيّ غرض لك في إبائك السجود . وأي داع لك إليه . اللام في { لأسْجُدَ } لتأكيد النفي . ومعناه : لا يصحّ مني وينافي حالي . ويستحيل أن أسجد لبشر { رَّجِيمٍ } شيطان من الذين يرجمون بالشهب ، أو مطرود من رحمة الله؛ لأن من يطرد يرجم بالحجارة . ومعناه : ملعون؛ لأن اللعن هو الطرد من الرحمة والإبعاد منها . والضمير في { مِنْهَا } راجع إلى الجنة أو السماء ، أو إلى جملة الملائكة . وضرب يوم الدين حداً للعنة ، إما لأنه [ أبعد ] غاية يضربها الناس في كلامهم ، كقوله { مَا دَامَتِ السموات والأرض } [ هود : 107 ] في التأبيد . وإما أن يراد أنك مذموم مدعوّ عليك باللعن في السموات والأرض إلى يوم الدين ، من غير أن تعذب ، فإذا جاء ذلك اليوم عذبت بما يُنسى اللعن معه . و { يَوْمِ الدين } و { يَوْمِ يُبْعَثُونَ } و { يَوْمِ الوقت المعلوم } [ الحجر : 38 ] في معنى واحد ، ولكن خولف بين العبارات سلوكاً بالكلام طريقة البلاغة . وقيل : إنما سأل الإنظار إلى اليوم الذي فيه يبعثون لئلا يموت؛ لأنه لا يموت يوم البعث أحد ، فلم يجب إلى ذلك ، وأُنظر إلى آخر أيام التكليف { بِمَا أغويتني } الباء للقسم . و «ما» مصدرية وجواب القسم { لأُزَيِّنَنَّ } المعنى : أقسم بإغوائك إياي لأزينن لهم . ومعنى إغوائه إياه : تسبيبه لغيه ، بأن أمره بالسجود لآدم عليه السلام ، فأفضى ذلك إلى غيه . وما الأمر بالسجود إلا حسن وتعريض للثواب بالتواضع والخضوع لأمر الله ، ولكن إبليس اختار الإباء والاستكبار فهلك ، والله تعالى بريء من غيه ومن إرادته والرضا به ، ونحو قوله { بِمَآ أَغْوَيْتَنِى لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ } قوله : { فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ ص : 82 ] في أنه إقسام ، إلا أن أحدهما إقسام بصفته والثاني إقسام بفعله ، وقد فرق الفقهاء بينهما . ويجوز أن لا يكون قسماً ، ويقدر قسم محذوف ، ويكون المعنى : بسبب تسبيبك لإغوائي أقسم لأفعلنّ بهم نحو ما فعلت بي من التسبيب لإغوائهم ، بأن أزين لهم المعاصي وأوسوس إليهم ما يكون سبب هلاكهم { فِى الأرض } في الدنيا التي هي دار الغرور ، كقوله تعالى
{ أَخْلَدَ إِلَى الأرض واتبع هَوَاهُ } [ الأعراف : 176 ] أو أراد أني أقدر على الاحتيال لآدم والتزيين له الأكل من الشجرة وهو في السماء ، فأنا على التزيين لأولاده في الأرض أقدر . أو أراد : لأجعلنّ مكان التزيين عندهم الأرض ، ولأوقعن تزييني فيها ، أي : لأزيننها في أعينهم ولأحدّثنهم بأنّ الزينة في الدنيا وحدها ، حتى يستحبوها على الآخرة ويطمئنوا إليها دونها . ونحوه :
يَجْرَحْ فِي عَرَاقِيبِهَا نَصْلِي ... استثنى المخلصين؛ لأنه علم أنّ كيده لا يعمل فيهم ولا يقبلون منه . أي { هذا } طريق حق { عَلَىَّ } أن أراعيه ، وهو أن لا يكون لك سلطان على عبادي ، إلا من اختار اتباعك منهم لغوايته : وقرىء : «عليّ» وهو من علو الشرف والفضل { لَمَوْعِدُهُمْ } الضمير للغاوين . وقيل : أبواب النار أطباقها وأدراكها ، فأعلاها للموحدين ، والثاني لليهود ، والثالث للنصارى ، والرابع للصابئين ، والخامس للمجوس ، والسادس للمشركين ، والسابع للمنافقين ، وعن ابن عباس رضي الله عنه : إن جهنم لمن ادعى الربوبية ، ولظى لعبدة النار ، والحطمة لعبدة الأصنام وسقر لليهود ، والسعير للنصارى ، والجحيم للصابئين ، والهاوية للموحدين . وقرىء : «جزء» ، بالتخفيف والتثقيل . وقرأ الزهري : «جزّ» ، بالتشديد؛ كأنه حذف الهمزة وألقى حركتها على الزاي ، كقولك : خبّ في خبء ، ثم وقف عليه بالتشديد ، كقولهم : الرجل ، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف .
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)
المتقي على الإطلاق : من يتقي ما يجب اتقاؤه مما نهى عنه . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : اتقوا الكفر والفواحش ، ولهم ذنوب تكفرها الصلوات وغيرها { ادخلوها } على إرادة القول . وقرأ الحسن : «أدخلوها» { بِسَلامٍ } سالمين أو مسلماً عليكم : تسلم عليكم الملائكة . الغل : الحقد الكامن في القلب ، من انغل في جوفه وتغلغل ، أي : إن كان لأحدهم في الدنيا غلّ على آخر . نزع الله ذلك من قلوبهم وطيب نفوسهم . وعن عليّ رضي الله عنه : أرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم . وعن الحرث الأعور : كنت جالساً عنده إذ جاء ابن طلحة فقال له عليّ : مرحباً بك يا ابن أخي . أما والله إني لأرجو أن أكون أنا وأبوك ممن قال الله تعالى { وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ } فقال له قائل : كلا ، الله أعدل من أن يجمعك وطلحة في مكان واحد ، فقال : فلمن هذه الآية لا أمّ لك؟ وقيل : معناه طهر الله قلوبهم من أن يتحاسدوا على الدرجات في الجنة ، ونزع منها كل غل ، وألقى فيها التوادّ والتحاب . و { إِخْوَانًا } نصب على الحال . و { على سُرُرٍ متقابلين } كذلك . وعن مجاهد . تدور بهم الأسرة حيثما داروا ، فيكونون في جميع أحوالهم متقابلين .
نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)
لما أتم ذكر الوعد والوعيد أتبعه { فِى عِبَادِى } تقريراً لما ذكر وتمكيناً له في النفوس . وعن ابن عباس رضي الله عنه : غفور لمن تاب ، وعذابه لمن لم يتب . وعطف { وَنَبّئْهُمْ } على نبىء عبادي ، ليتخذوا ما أحل من العذاب يوم لوط عبرة يعتبرون بها سخط الله وانتقامه من المجرمين ، ويتحققوا عنده أنّ عذابه هو العذاب الأليم .
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)
{ سَلاَماً } أي نسلم عليك سلاماً ، أو سلمت سلاماً { وَجِلُونَ } خائفون ، وكان خوفه لامتناعهم من الأكل . وقيل : لأنهم دخلوا بغير إذن وبغير وقت . وقرأ الحسن : «لا توجل» بضم التاء من أوجله يوجله إذا أخافه . وقرىء : «لا تأجل» . «ولا تواجل» ، من واجله بمعنى أوجله . وقرىء : «نبشرك» بفتح النون والتخفيف { إِنَّا نُبَشّرُكَ } استئناف في معنى التعليل للنهي عن الوجل : أرادوا أنك بمثابة الآمن المبشر فلا توجل . يعني { أَبَشَّرْتُمُونِى } مع مس الكبر ، بأن يولد لي . أي : أن الولادة أمر عجيب مستنكر في العادة مع الكبر { فَبِمَ تُبَشّرُونَ } هي ما الاستفهامية دخلها معنى التعجب ، كأنه قال : فبأي أعجوبة تبشرونني أو أراد أنكم تبشرونني بما هو غير مقصور في العادة فبأي شيء تبشرون يعني لا تبشرونني في الحقيقة بشيء؛ لأنّ البشارة بمثل هذا بشارة بغير شيء . ويجوز أن لا يكون صلة لبشر ، ويكون سؤالاً عن الوجه والطريقة يعني : بأي طريقة تبشرونني بالولد ، والبشارة لا طريقة لها في العادة . وقوله { بشرناك بالحق } يحتمل أن تكون الباء فيه صلة ، أي : بشرناك باليقين الذي لا لبس فيه ، أو بشرناك بطريقة هي حق وهي قول الله ووعده ، وأنه قادر على أن يوجد ولداً من غير أبوين ، فكيف من شيخ فان وعجوز عاقر . وقرىء : «تبشرونَ» ، بفتح النون وبكسرها على حذف نون الجمع ، والأصل تبشرونن ، «وتبشرونِّ» بإدغام نون الجمع في نون العماد . وقرىء : «من القنطين» من قنط يقنط ، وقرىء : و «من يقنط» ، بالحركات الثلاث في النون ، أراد : ومن يقنط من رحمة ربه إلا المخطئون طريق الصواب ، أو إلا الكافرون ، كقوله : { لا يَيْئَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ القوم الكافرون } [ يوسف : 87 ] يعني : لم أستنكر ذلك قنوطاً من رحمته ، ولكن استبعاداً له في العادة التي أجراها الله .
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)
فإن قلت قوله تعالى : { إِلا ءالَ لُوطٍ } استثناء متصل أو منقطع؟ قلت ، لا يخلو من أن يكون استثناء من قوم ، فيكون منقطعاً؛ لأنّ القوم موصوفون بالإجرام ، فاختلف لذلك الجنسان وأن يكون استثناء من الضمير في مجرمين ، فيكون متصلاً ، كأنه قيل : إلى قوم قد أجرموا كلهم إلا آل لوط وحدهم ، كما قال { فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مّنَ المسلمين } [ الذاريات : 36 ] . فإن قلت : فهل يختلف المعنى لاختلاف الاستثناءين؟ قلت : نعم ، وذلك أنّ آل لوط مخرجون في المنقطع من حكم الإرسال ، وعلى أنهم أرسلوا إلى القوم المجرمين خاصة ، ولم يرسلوا إلى آل لوط أصلاً . ومعنى إرسالهم إلى القوم المجرمين ، كإرسال الحجر أو السهم إلى المرميّ . في أنه في معنى التعذيب والإهلاك ، كأنه قيل : إنا أهلكنا قوماً مجرمين ، ولكن آل لوط أنجيناهم . وأمّا في المتصل فهم داخلون في حكم الإرسال ، وعلى أن الملائكة أرسلوا إليهم جميعاً ليهلكوا هؤلاء وينجوا هؤلاء ، فلا يكون الإرسال مخلصاً بمعنى الإهلاك والتعذيب كما في الوجه الأوّل . فإن قلت : فقوله { إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ } بم يتعلق على الوجهين؟ قلت : إذا انقطع الاستثناء جرى مجرى خبر «لكنّ» في الاتصال بآل لوط ، لأنّ المعنى . لكن آل لوط منجون ، وإذا اتصل كان كلاماً مستأنفاً ، كأنّ إبراهيم عليه السلام قال لهم فما حال آل لوط ، فقالوا : إنا لمنجوهم . فإن قلت : فقوله : { إِلاَّ امرأته } ممّ استثني؛ وهل هو استثناء من استثناء؟ قلت : استثنى من الضمير المجرور في قوله { لَمُنَجُّوهُمْ } وليس من الاستثاء في شيء؛ لأنّ الاستثناء من الاستثناء إنما يكون فيما اتحد الحكم فيه ، وأن يقال : أهلكناهم إلا آل لوط ، إلا امرأته ، كما اتحد الحكم في قول المطلق : أنت طالق ثلاثاً ، إلا اثنتين ، إلا واحدة . وفي قول المقرّ : لفلان عليّ عشرة دراهم ، إلا ثلاثة ، إلا درهما . فأمّا في الآية فقد اختلف الحكمان ، لأنّ { إِلا ءالَ لُوطٍ } متعلق بأرسلنا ، أو بمجرمين ، و { إِلاَّ امرأته } قد تعلق بمنجوهم ، فأنى يكون استثناء من استثناء . وقرىء : «لمنجوهم» بالتخفيف والتثقيل . فإن قلت : لم جاز تعليق فعل التقدير في قوله { قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الغابرين } والتعليق من خصائص أفعال القلوب؟ قلت : لتضمن فعل التقدير معنى العلم ، ولذلك فسر العلماء تقدير الله أعمال العباد بالعلم . فإن قلت : فلم أسند الملائكة فعل التقدير- وهو لله وحده - إلى أنفسهم ، ولم يقولوا : قدّر الله؟ قلت : لما لهم من القرب والاختصاص بالله الذي ليس لأحد غيرهم ، كما يقول خاصة الملك : دبرنا كذا وأمرنا بكذا ، والمدبر والآمر هو الملك لا هم ، وإنما يظهرون بذلك اختصاصهم وأنهم لا يتميزون عنه . وقرىء : «قدرنا» ، بالتخفيف .
فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66)
{ مُنكِرُونَ } أي تنكركم نفسي وتنفر منكم ، فأخاف أن تطرقوني بشرّ ، بدليل قوله : { بَلْ جئناك بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ } أي ما جئناك بما تنكرنا لأجله ، بل جئناك بما فيه فرحك وسرورك وتشفيك من عدوّك ، وهو العذاب الذي كنت تتوعدهم بنزوله ، فيمترون فيه ويكذبونك { بالحق } باليقين من عذابهم { وِإِنَّا لصادقون } في الإخبار بنزوله بهم . وقرىء : «فأسر» بقطع الهمزة ووصلها ، من أسرى وسرى . وروى صاحب الإقليد : فسر ، من السير والقطع في آخر الليل . قال :
افْتَحِى الْبَابَ وانْظُرِي في النُّجُوم ... كَمْ عَلَيْنَا من قِطعِ لَيْلٍ بَهِيم
وقيل : هو بعد ما يمضي شيء صالح من الليل . فإن قلت : ما معنى أمره باتباع أدبارهم ونهيهم عن الالتفات؟ قلت قد بعث الله الهلاك على قومه ، ونجاه وأهله إجابة لدعوته عليهم ، وخرج مهاجراً فلم يكن له بدّ من الاجتهاد في شكر الله وإدامة ذكره وتفريغ باله لذلك ، فأمر بأن يقدّمهم لئلا يشتغل بمن خلفه قلبه ، وليكون مطلعاً عليهم وعلى أحوالهم ، فلا تفرط منهم التفاتة احتشاماً منه ولا غيرها من الهفوات في تلك الحال المهولة المحذورة ، ولئلا يتخلف منهم أحد لغرض له فيصيبه العذاب ، وليكون مسيره مسير الهارب الذي يقدّم سربه ويفوت به ، ونهوا عن الالتفات لئلا يروا ما ينزل بقومهم من العذاب فيرقوا لهم ، وليوطنوا نفوسهم على المهاجرة ويطيبوها عن مساكنهم ، ويمضوا قدماً غير ملتفتين إلى ما وراءهم كالذي يتحسر على مفارقة وطنه فلا يزال يلوي إليه أخادعه ، كما قال :
تَلَفَّتُّ نَحْوَ حَييِّ حتى وَجَدتُنِي ... وَجِعْتُ مِنَ الإِصْغَاءِ لِيتاً وَأَخْدَعَا
أو جعل النهي عن الالتفات كناية عن مواصلة السير وترك التواني والتوقف ، لأنّ من يلتفت لا بدّ له في ذلك من أدنى وقفة { حَيْثُ تُؤْمَرُونَ } قيل هو مصر وعدي { وامضوا } الى { حيث } تعديته الى الظرف المبهم لأن { حَيْثُ } مبهم في الأمكنة ، وكذلك الضمير في { تَأْمُرُونَ } وعدي { قَضَيْنَا } بإلى لأنه ضمن معنى : أوحينا ، كأنه قيل : وأوحينا إليه مقضياً مبتوتاً . وفسر { ذَلِكَ الأمر } بقوله { أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْء مَقْطُوعٌ } وفي إبهامه وتفسيره تفخيم للأمر وتعظيم له . وقرأ الأعمش : «إن» ، بالكسر على الاستئناف كأن قائلاً قال : أخبرنا عن ذلك الأمر ، فقال : إنّ دابر هؤلاء . وفي قراءة ابن مسعود : «وقلنا إنّ دابر هؤلاء» . ودابرهم : آخرهم ، يعني : يستأصلون عن آخرهم حتى لا يبقى منهم أحد .
وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)
{ أَهْلِ المدينة } أهل سدوم التي ضرب بقاضيها المثل في الجور ، مستبشرين بالملائكة { فلا تَفْضَحُونِ } بفضيحة ضيفي ، لأنّ من أسيء إلى ضيفه أو جاره فقد أسيء إليه ، كما أن من أُكرم من يتصل به فقد أُكرم { وَلاَ تُخْزُونِ } ولا تذلونِ بإذلال ضيفي ، من الخزي وهو الهوان . أو ولا تشوّروا بي ، من الخزاية وهي الحياء { عَنِ العالمين } عن أن تجير منهم أحداً ، أو تدفع عنهم ، أو تمنع بيننا وبينهم ، فإنهم كانوا يتعرّضون لكل أحد ، وكان يقوم صلى الله عليه وسلم بالنهي عن المنكر ، والحجر بينهم وبين المتعرّض له ، فأوعدوه وقالوا : لئن لم تنته يا لوط لتكوننّ من المخرجين . وقيل : عن ضيافة الناس وإنزالهم ، وكانوا نهوه أن يضيف أحداً قط { هؤلاءآء بَنَاتِى } إشارة إلى النساء؛ لأنّ كل أمّة أولاد نبيها رجالهم بنوه ونساؤهم بناته ، فكأنه قال لهم : هؤلاء بناتي فانكحوهنّ ، وخلوا بنيّ فلا تتعرضوا لهم { إِن كُنتُمْ فاعلين } شك في قبولهم لقوله ، كأنه قال : إن فعلتم ما أقول لكم وما أظنكم تفعلون . وقيل : إن كنتم تريدون قضاء الشهوة فيما أحل الله دون ما حرّم { لَعَمْرُكَ } على إرادة القول ، أي قالت الملائكة للوط عليه السلام : لعمرك { إِنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ } أي غوايتهم التي أذهبت عقولهم وتمييزهم بين الخطأ الذي هم عليه وبين الصواب الذي تشير به عليهم ، من ترك البنين إلى البنات { يَعْمَهُونَ } يتحيرون ، فكيف يقبلون قولك ويصغون إلى نصيحتك ، وقيل : الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنه أقسم بحياته وما أقسم بحياة أحد قط كرامة له ، والعمر والعمر واحد ، إلا أنهم خصوا القسم بالمفتوح لإيثار الأخف فيه ، وذلك لأن الحلف كثير الدور على ألسنتهم ، ولذلك حذفوا الخبر ، وتقديره : لعمرك مما أقسم به ، كما حذفوا الفعل في قولك : بالله . وقرىء : «في سكرهم وفي سكراتهم» { الصيحة } صيحة جبريل عليه السلام { مُشْرِقِينَ } داخلين في الشروق وهو بزوع الشمس { مّن سِجّيلٍ } قيل : من طين ، عليه كتاب من السجل ، ودليله قوله تعالى : { حِجَارَةً مّن طِينٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبّكَ } [ الذاريات : 33 - 34 ] أي معلمة بكتاب { لِلْمُتَوَسّمِينَ } للمتفرّسين المتأملين . وحقيقة المتوسمين النظار المتثبتون في نظرهم حتى يعرفوا حقيقة سمة الشيء . يقال : توسمت في فلان كذا ، أي عرفت وسمه فيه . والضمير في { عاليها سَافِلَهَا } لقرى قوم لوط { وَإِنَّهَا } وإنّ هذه القرى يعني آثارها { لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ } ثابت يسلكه الناس لم يندرس بعد ، وهم يبصرون تلك الآثار ، وهو تنبيه لقريش كقوله : { وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ } [ الصافات : 137 ] .
وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79)
{ أصحاب الأيكة } قوم شعيب { وَإِنَّهُمَا } يعني قرى قوم لوط والأيكة . وقيل : الضمير للأيكة ومدين ، لأنّ شعيباً كان مبعوثاً إليهما فلما ذكر الأيكة دل بذكرها على مدين فجاء بضميرهما { لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ } لبطريق واضح ، والإمام اسم لما يؤتم به ، فسمي به الطريق ومطمر البناء واللوح الذي يكتب فيه ، لأنها مما يؤتم به .
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84)
{ أصحاب الحجر } ثمود ، والحجر واديهم ، وهو بين المدينة والشأم { المرسلين } يعني بتكذيبهم صالحاً ، لأنّ من كذب واحداً منهم فكأنما كذبهم جميعاً ، أو أراد صالحاً ومن معه من المؤمنين كما قيل : الخبيبون في ابن الزبير وأصحابه . وعن جابر :
( 578 ) ( مررنا مع النبي صلى الله عليه وسلم على الحجر فقال لنا " «لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين ، حذراً أن يصيبكم مثل ما أصاب هؤلاء " ثم زجر النبي صلى الله عليه وسلم راحلته فأسرع حتى خلفها ) { ءامِنِينَ } لوثاقة البيوت واستحكامها من أن تتهدم ويتداعى بنيانها ، ومن نقب اللصوص ومن الأعداء وحوادث الدهر . أو آمنين من عذاب الله يحسبون أنّ الجبال تحميهم منه { مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } من بناء البيوت الوثيقة والأموال والعدد .
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)
{ إِلاَّ بالحق } إلا خلقاً ملتبساً بالحق والحكمة ، لا باطلا وعبثاً . أو بسبب العدل والإنصاف يوم الجزاء على الأعمال { وَإِنَّ الساعة لآتِيَةٌ } وإنّ الله ينتقم لك فيها من أعدائك ، ويجازيك وإياهم على حسناتك وسيآتهم؛ فإنه ما خلق السموات والأرض وما بينهما إلا لذلك { فاصفح } فأعرض عنهم واحتمل ما تلقى منهم إعراضاً جميلاً بحلم وإغضاء . وقيل : هو منسوخ بآية السيف . ويجوز أن يراد به المخالقة فلا يكون منسوخاً .
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86)
{ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الخلاق } الذي خلقك وخلقهم ، وهو { العليم } بحالك وحالهم ، فلا يخفى عليه ما يجري بينكم وهو يحكم بينكم . أو إن ربك هو الذي خلقكم وعلم ما هو الأصلح لكم ، وقد علم أنَّ الصفح اليوم أصلح إلى أن يكون السيف أصلح . وفي مصحف أُبيّ وعثمان : إن ربك هو الخالق وهو يصلح للقليل والكثير ، والخلاق للكثير لا غير ، كقولك : قطع الثياب . وقطع الثوب والثياب .
وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)
{ سَبْعاً } سبع آيات وهي الفاتحة . أو سبع سور وهي الطوال ، واختلف في السابعة فقيل : الأنفال وبراءة ، لأنهما في حكم سورة واحدة ، ولذلك لم يفصل بينهما بآية التسمية . وقيل سورة يونس . وقيل : هي آل حم ، أو سبع صحائف وهي الأسباع . و { المثاني } من التثنية وهي التكرير؛ لأن الفاتحة مما تكرر قراءتها في الصلاة وغيرها ، أو من الثناء لاشتمالها على ما هو ثناء على الله ، الواحدة مثناة أو مثنية صفة للآية . وأمّا السور أو الأسباع فلما وقع فيها من تكرير القصص والمواعظ والوعد والوعيد وغير ذلك ، ولما فيها من الثناء ، كأنها تثني على الله تعالى بأفعاله العظمى وصفاته الحسنى . و «من» إما للبيان أو للتبعيض إذا أردت بالسبع الفاتحة أو الطوال ، وللبيان إذا أردت الأسباع . ويجوز أن يكون كتب الله كلها مثاني ، لأنها تثني عليه ، ولما فيها من المواعظ المكررة ، ويكون القرآن بعضها ، فإن قلت : كيف صح عطف القرآن العظيم على السبع ، وهل هو إلا عطف الشيء على نفسه؟ قلت : إذا عنى بالسبع الفاتحة أو الطوال ، فما وراءهنّ ينطلق عليه اسم القرآن ، لأنه اسم يقع على البعض كما يقع على الكل . ألا ترى إلى قوله : { بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هذا القرءان } يعني سورة يوسف : وإذا عنيت الأسباع فالمعنى : ولقد آتيناك ما يقال له السبع المثاني والقرآن العظيم ، أي : الجامع لهذين النعتين ، وهو الثناء أو التثنية والعظم .
لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89)
أي : لا تطمح ببصرك طموح راغب فيه متمنّ له { إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مّنْهُمْ } أصنافاً من الكفار . فإن قلت : كيف وصل هذا بما قبله؟ قلت : يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم : قد أوتيت النعمة العظمى التي كل نعمة وإن عظمت فهي إليها حقيرة ضئيلة ، وهي القرآن العظيم؛ فعليك أن تستغني به ، ولا تمدن عينيك إلى متاع الدنيا . ومنه الحديث :
( 579 ) « ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن » ، وحديث أبي بكر
( 580 ) « من أوتي القرآن فرأى أن أحداً أوتي من الدنيا أفضل مما أوتي ، فقد صغر عظيماً وعظم صغيراً » وقيل : وافت من بصرى وأذرعات : سبع قوافل ليهود بني قريظة والنضير ، فيها أنواع البز والطيب والجوهر وسائر الأمتعة ، فقال المسلمون : لو كانت هذه الأموال لنا لتقوّينا بها ، ولأنفقناها في سبيل الله ، فقال لهم الله عز وعلا : لقد أعطيتكم سبع آيات هي خير من هذه القوافل السبع { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } أي لا تتمنّ أموالهم ولا تحزن عليهم أنهم لم يؤمنوا فيتقوّى بمكانهم الإسلام وينتعش بهم المؤمنون ، وتواضع لمن معك من فقراء المؤمنين وضعفائهم ، وطب نفساً عن إيمان الأغنياء والأقوياء { وَقُلْ } لهم { إِنّى أَنَا النذير المبين } أنذركم ببيان وبرهان أنّ عذاب الله نازل بكم .
كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)
فإن قلت : بم تعلق قوله : { كَمَآ أَنْزَلْنَا } ؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما ، أن يتعلق بقوله : { وَلَقَدْ ءاتيناك } [ الحجر : 87 ] أي أنزلنا عليك مثل ما أنزلنا على أهل الكتاب وهم المقتسمون { الذين جَعَلُواْ القرءان عِضِينَ } حيث قالوا بعنادهم وعدوانهم بعضه حق موافق للتوراة والإنجيل ، وبعضه باطل مخالف لهما ، فاقتسموه إلى حق وباطل ، وعضوه . وقيل : كانوا يستهزؤن به فيقول بعضهم : سورة البقرة لي ، ويقول الآخر : سورة آل عمران لي ، ويجوز أن يراد بالقرآن : ما يقرؤنه من كتبهم ، وقد اقتسموه بتحريفهم ، وبأنّ اليهود أقرّت ببعض التوراة وكذبت ببعض ، والنصارى أقرت ببعض الإنجيل وكذبت ببعض ، وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن صنيع قومه بالقرآن وتكذيبهم ، وقولهم سحر وشعر وأساطير ، بأن غيرهم من الكفرة فعلوا بغيره من الكتب نحو فعلهم . والثاني أن يتعلق بقوله : { وَقُلْ إِنّى أَنَا النذير المبين } [ الحجر : 89 ] أي : وأنذر قريشاً مثل ما أنزلنا من العذاب على المقتسمين ، يعني اليهود ، وهو ما جرى على قريظة والنضير ، جعل المتوقع بمنزلة الواقع ، وهو من الإعجاز؛ لأنه إخبار بما سيكون وقد كان . ويجوز أن يكون الذين جعلوا القرآن عضين منصوباً بالنذير ، أي : أنذر المعضين الذين يجزؤن القرآن إلى سحر وشعر وأساطير ، مثل ما أنزلنا على المقتسمين وهم الاثنا عشر الذين اقتسموا مداخل مكة أيام الموسم ، فقعدوا في كل مدخل متفرّقين لينفروا الناس عن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول بعضهم : لا تغتروا بالخارج منا فإنه ساحر . ويقول الآخر : كذاب ، والآخر : شاعر ، فأهلكهم الله يوم بدر وقبله بآفات ، كالوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، والأسود بن المطلب وغيرهم ، أو مثل ما أنزلنا على الرهط الذين تقاسموا على أن يبيتوا صالحاً عليه السلام ، والاقتسام بمعنى التقاسم . فإن قلت : إذا علقت قوله : { كَمَآ أَنْزَلْنَا } بقوله : { وَلَقَدْ ءاتيناك } [ الحجر : 87 ] فما معنى توسط { لاَ تَمُدَّنَّ } [ الحجر : 88 ] إلى آخره بينهما؟ قلت : لما كان ذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن تكذيبهم وعداوتهم ، اعترض بما هو مدد لمعنى التسلية من النهي عن الالتفات إلى دنياهم والتأسف على كفرهم ، ومن الأمر بأن يقبل بمجامعه على المؤمنين { عِضِينَ } أجزاء ، جمع عضة ، وأصلها عضوة فعلة من عضى الشاة إذا جعلها أعضاء . قال رؤبة :
وَلَيْسَ دينُ اللَّهِ بِالْمَعْضِيِّ ... وقيل : هي فعلة ، من عضهته إذا بهته . وعن عكرمة : العضة السحر ، بلغة قريش ، يقولون للساحر عاضهة .
( 581 ) ولعن النبي صلى الله عليه وسلم العاضهة والمستعضهة ، نقصانها على الأوّل واو ، وعلى الثاني هاء .
فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)
{ لَنَسْئَلَنَّهُمْ } عبارة عن الوعيد . وقيل يسألهم سؤال تقريع . وعن أبي العالية : يسأل العباد عن خلتين : عما كانوا يعبدون وماذا أجابوا المرسلين .
فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)
{ فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ } فاجهر به وأظهره . يقال : صدع بالحجة إذا تكلم بها جهاراً ، كقولك : صرح بها ، من الصديع وهو الفجر ، والصدع في الزجاجة : الإبانة . وقيل : { فاصدع } فافرق بين الحق والباطل بما تؤمر ، والمعنى بما تؤمر به من الشرائع فحذف الجارّ ، كقوله :
أَمَرْتُكَ الْخَيْرَ فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ ... ويجوز أن تكون ( ما ) مصدرية ، أي بأمرك مصدر من المبني للمفعول .
إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96)
عن عروة بن الزبير في المستهزئين : هم خمسة نفر ذوو أسنان وشرف : الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، والأسود بن عبد يغوث ، والأسود بن المطلب ، والحرث بن الطلاطلة . وعن ابن عباس رضي الله عنه : ماتوا كلهم قبل بدر
( 582 ) قال جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم : أمرت أن أكفيكهم ، فأومأ إلى ساق الوليد فمرّ بنبال فتعلق بثوبه سهم ، فلم ينعطف تعظَّماً لأخذه ، فأصاب عرقاً في عقبه فقطعه فمات ، وأومأ إلى أخمص العاص بن وائل ، فدخلت فيها شوكة ، فقال : لدغت لدغت وانتفخت رجله ، حتى صارت كالرحى ومات ، وأشار إلى عيني الأسود بن المطلب ، فعمى وأشار إلى أنف الحرث بن قيس ، فامتخط قيحاً فمات ، وإلى الأسود بن عبد يغوث وهو قاعد في أصل شجرة ، فجعل ينطح رأسه بالشجرة ويضرب وجهه بالشوك حتى مات .
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
{ بِمَا يَقُولُونَ } من أقاويل الطاعنين فيك وفي القرآن { فَسَبّحْ } فافزع فيما نابك إلى الله ، والفزع إلى الله : هو الذكر الدائم وكثرة السجود ، يكفك ويكشف عنك الغم . ودم على عبادة ربك { حتى يَأْتِيَكَ اليقين } أي الموت ، أي ما دمت حياً فلا تخل بالعبادة . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 583 ) « أنه كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة » عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 584 ) « من قرأ سورة الحجر كان له من الأجر عشر حسنات بعدد المهاجرين والأنصار ، والمستهزئين بمحمد صلى الله عليه وسلم »
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)
كانوا يستعجلون ما وعدوا من قيام الساعة أو نزول العذاب بهم يوم بدر ، استهزاء وتكذيباً بالوعد ، فقيل لهم { أتى أَمْرُ الله } الذي هو بمنزلة الآتي الواقع وإن كان منتظراً لقرب وقوعه { فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } روي أنه لما نزلت { اقتربت الساعة } [ القمر : 1 ] قال الكفار فيما بينهم إن هذا يزعم أن القيامة قد قربت ، فأمسكوا عن بعض ما تعملون حتى ننظر ما هو كائن ، فلما تأخرت قالوا : ما نرى شيئاً ، فنزلت { اقترب لِلنَّاسِ حسابهم } [ الأنبياء : 1 ] فأشفقوا وانتظروا قربها ، فلما امتدت الأيام قالوا : يا محمد ، ما نرى شيئاً مما تخوفنا به ، فنزلت { أتى أَمْرُ الله } فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفع الناس رؤوسهم ، فنزلت { فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } فاطمأنوا وقرىء : «تستعجلوه» بالتاء والياء { سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } تبرأ عز وجل عن أن يكون له شريك ، وأن تكون آلهتهم له شركاء ، أو عن إشراكهم . على أنّ «ما» موصولة أو مصدرية ، فإن قلت : كيف اتصل هذا باستعجالهم؟ قلت : لأنّ استعجالهم استهزاء وتكذيب وذلك من الشرك . وقرىء : «تشركون» ، بالتاء والياء .
يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)
قرىء : «ينزل» بالتخفيف والتشديد وقرىء : «تنزل الملائكة» أي تتنزل { بالروح مِنْ أَمْرِهِ } بما يحيي القلوب الميتة بالجهل من وحيه ، أو بما يقوم في الدين مقام الروح في الجسد ، و { أَنْ أَنْذِرُواْ } بدل من الروح ، أي ينزلهم بأن أنذروا . وتقديره : بأنه أنذروا ، أي : بأن الشأن أقول لكم أنذروا . أو تكون «أن» مفسرة؛ لأنّ تنزيل الملائكة بالوحي فيه معنى القول . ومعنى أنذروا { أَنَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ } أعلموا بأنّ الأمر ذلك ، من نذرت بكذا إذا علمته . والمعنى : يقول لهم أعلموا الناس قولي لا إله إلا أنا { فاتقون } .
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)
ثم دلّ على وحدانيته وأنه لا إله إلا هو بما ذكر ، مما لا يقدر عليه غيره من خلق السموات والأرض وخلق الإنسان وما يصلحه ، ومالا بدّ له من خلق البهائم لأكله وركوبه وجرّ أثقاله وسائر حاجاته ، وخلق ما لا يعلمون من أصناف خلائقه ، ومثله متعال عن أن يشرك به غيره . وقرىء : «تشركون» ، بالتاء والياء { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } فيه معنيان ، أحدهما : فإذا هو منطيق مجادل عن نفسه مكافح للخصوم مبين للحجة ، بعد ما كان نطفة من منيّ جماداً لا حس به ولا حركة ، دلالة على قدرته . والثاني : فإذا هو خصيم لربه ، منكر على خالقه ، قائل : من يحيي العظام وهي رميم ، وصفاً للإنسان بالإفراط في الوقاحة والجهل ، والتمادي في كفران النعمة . وقيل نزلت في أبيّ بن خلف الجمحي حين جاء بالعظم الرميم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد ، أترى الله يحيي هذا بعدما قد رمّ؟
وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5)
{ الانعام } الأزواج الثمانية ، وأكثر ما تقع على الإبل ، وانتصابها بمضمر يفسره الظاهر ، كقوله : { والقمر قدرناه } [ يس : 39 ] ويجوز أن يعطف على الإنسان ، أي : خلق الإنسان والأنعام ، ثم قال : { خَلَقَهَا لَكُمْ } أي ما خلقها إلا لكم ولمصالحكم يا جنس الإنسان والدفء : اسم ما يدفأ به ، كما أنّ الملء اسم ما يملأ به ، وهو الدفاء من لباس معمول من صوف أو وبر أو شعر . وقرىء : «دفّ» ، بطرح الهمزة وإلقاء حركتها على الفاء { ومنافع } هي نسلها ودرّها وغير ذلك . فإن قلت : تقديم الظرف في قوله { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } مؤذن بالاختصاص ، وقد يؤكل من غيرها . قلت : الأكل منها هو الأصل الذي يعتمده الناس في معايشهم . وأما الأكل من غيرها من الدجاج والبط وصيد البر والبحر فكغير المعتدّ به وكالجاري مجرى التفكه ، ويحتمل أن طعمتكم منها ، لأنكم تحرثون بالبقر فالحبّ والثمار التي تأكلونها منها وتكتسبون بإكراء الإبل وتبيعون نتاجها وألبانها وجلودها .
وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6)
منّ اللَّه بالتجمل بها كما منّ بالانتفاع بها ، لأنه من أغراض أصحاب المواشي ، بل هو من معاظمها؛ لأنّ الرعيان إذا روّحوها بالعشي وسرحوها بالغداة - فزينت بإراحتها وتسريحها الأفنية وتجاوب فيها الثغاء والرغاء - أنست أهلها وفرحت أربابها ، وأجلتهم في عيون الناظرين إليها ، وكسبتهم الجاه والحرمة عند الناس . ونحوه { لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } [ النحل : 8 ] ، { يُواري سَوآتِكُمْ وَرِيشًا } [ الأعراف : 26 ] . فإن قلت : لم قدّمت الإراحة على التسريح؟ قلت : لأنّ الجمال في الإراحة أظهر ، إذا أقبلت ملأى البطون حافلة الضروع ، ثم أوت إلى الحظائر حاضرة لأهلها . وقرأ عكرمة : «حينا تريحون وحينا تسرحون» على أن { تُرِيحُونَ وتسرحون } وصف للحين . والمعنى : تريحون فيه وتسرحون فيه ، كقوله تعالى : { واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِى وَالِدٌ } [ لقمان : 33 ] .
وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7)
قرىء : «بشق الأنفس» ، بكسر الشين وفتحها . وقيل : هما لغتان في معنى المشقة ، وبينهما فرق : وهي أن المفتوح مصدر شق الأمر عليه شقا ، وحقيقته راجعة إلى الشق الذي هو الصدع . وأما الشق فالنصف ، كأنه يذهب نصف قوته لما يناله من الجهد . فإن قلت : ما معنى قوله : { لَّمْ تَكُونُواْ بالغيه } كأنهم كانوا زماناً يتحملون المشاق في بلوغه حتى حملت الإبل أثقالهم . قلت : معناه وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه في التقدير لو لم تخلق الإبل إلا بجهد أنفسكم ، لا أنهم لم يكونوا بالغيه في الحقيقة . فإن قلت : كيف طابق قوله : { لَّمْ تَكُونُواْ بالغيه } قوله : { وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ } وهلا قيل : لم تكونوا حامليها إليه؟ قلت : طباقه من حيث أن معناه : وتحمل أثقالكم إلى بلد بعيد قد علمتم أنكم لا تبلغونه بأنفسكم إلا بجهد ومشقة ، فضلاً أن تحملوا على ظهوركم أثقالكم . ويجوز أن يكون المعنى : لم تكونوا بالغيه بها إلا بشق الأنفس . وقيل : أثقالكم أجرامكم . وعن عكرمة البلد مكة { لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } حيث رحمكم بخلق هذه الحوامل وتيسير هذه المصالح .
وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)
{ والخيل والبغال والحمير } عطف على الأنعام ، أي : وخلق هؤلاء للركوب والزينة ، وقد احتج على حرمة أكل لحومهن بأن علل خلقها بالركوب والزينة ، ولم يذكر الأكل بعد ما ذكره في الأنعام . فإن قلت : لم انتصب { وَزِينَةً } ؟ قلت : لأنه مفعول له ، وهو معطوف على محل لتركبوها . فإن قلت : فهلا ورد المعطوف والمعطوف عليه على سنن واحد؟ قلت : لأنّ الركوب فعل المخاطبين ، وأما الزينة ففعل الزائن وهو الخالق . وقرىء : «لتركبوها زينة» ، بغير واو ، أي : وخلقها زينة لتركبوها . أو تجعل زينة حالا منها ، أي : وخلقها لتركبوها وهي زينة وجمال { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } يجوز أن يريد به : ما يخلق فينا ولنا مما لا نعلم كنهه وتفاصيله ويمنّ علينا بذكره كما منّ بالأشياء المعلومة مع الدلالة على قدرته . ويجوز أن يخبرنا بأن له من الخلائق ما لا علم لنا به ، ليزيدنا دلالة على اقتداره بالإخبار بذلك ، وإن طوى عنا علمه لحكمة له في طيه ، وقد حمل على ما خلق في الجنة والنار ، مما لم يبلغه وهم أحد ، ولا خطر على قلبه .
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)
المراد بالسبيل : الجنس ، ولذلك أضاف إليها القصد وقال { وَمِنْهَا جَائِرٌ } والقصد مصدر بمعنى الفاعل وهو القاصد . يقال : سبيل قصد وقاصد ، أي : مستقيم ، كأنه يقصد الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه . ومعنى قوله { وَعَلَى الله قَصْدُ السبيل } أن هداية الطريق الموصل إلى الحق واجبة عليه ، كقوله : { إِنَّ عَلَيْنَا للهدى } [ الليل : 12 ] . فإن قلت : لم غير أسلوب الكلام في قوله { وَمِنْهَا جَائِرٌ } ؟ قلت : ليعلم ما يجوز إضافته إليه من السبيلين وما لا يجوز ، ولو كان الأمر كما تزعم المجبرة لقيل : وعلى الله قصد السبيل وعليه جائرها أو وعليه الجائر . وقرأ عبد الله : «ومنكم جائر» يعني : ومنكم جائر جار عن القصد بسوء اختياره ، والله بريء منه { وَلَوْ شَآء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } قسراً وإلجاء .
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)
{ لَّكُم } متعلق بأنزل ، أو بشراب ، خبراً له . والشراب ما يشرب { شَجَرٌ } يعني الشجر الذي ترعاه المواشي . وفي حديث عكرمة : لا تأكلوا ثمن الشجر فإنه سحت . يعني الكلأ { تُسِيمُونَ } من سامت الماشية إذا رعت ، فهي سائمة ، وأسامها صاحبها ، وهو من السومة وهي العلامة ، لأنها تؤثر بالرعي علامات في الأرض . وقرىء : ««ينبت» ، بالياء والنون . فإن قلت : لم قيل { وَمِن كُلّ الثمرات } ؟ قلت : لأنّ كل الثمرات لا تكون إلا في الجنة ، وإنما أنبت في الأرض بعض من كلها للتذكرة { يَتَفَكَّرُونَ } ينظرون فيستدلون بها عليه وعلى قدرته وحكمته . والآية : الدلالة الواضحة . وعن بعضهم : ينبت بالتشديد . وقرأ أبيّ بن كعب : «ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب» ، بالرفع .
وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12)
قرئت كلها بالنصب على وجعل النجوم مسخرات أو على أن معنى تسخيرها للناس : تصييرها نافعة لهم ، حيث يسكنون بالليل ، ويبتغون من فضله بالنهار ، ويعلمون عدد السنين والحساب بمسير الشمس والقمر ، ويهتدون بالنجوم . فكأنه قيل : ونفعكم بها في حال كونها مسخرات لما خلقن له بأمره . ويجوز أن يكون المعنى : أنه سخرها أنواعاً من التسخير جمع مسخر ، بمعنى تسخير ، من قولك : سخره الله مسخراً ، كقولك : سرحه مسرحاً ، كأنه قيل : وسخرها لكم تسخيرات بأمره . وقرىء بنصب «الليل والنهار» وحدهما ، ورفع ما بعدهما على الابتداء والخبر . وقرىء : «والنجوم مسخرات» ، بالرفع ، وما قبله بالنصب ، وقال { إِنَّ فِى ذلك لآيات لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } فجمع الآية . وذكر العقل؛ لأنّ الآثار العلوية أظهر دلالة على القدرة الباهرة ، وأبين شهادة للكبرياء والعظمة .
وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)
{ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ } معطوف على الليل والنهار يعني : ما خلق فيها من حيوان وشجر وثمر وغير ذلك مختلف الهيآت والمناطر .
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)
{ لَحْمًا طَرِيّا } هو السمك ، ووصفه بالطراوة؛ لأنّ الفساد يسرع إليه ، فيسارع إلى أكله خيفة للفساد عليه . فإن قلت : ما بال الفقهاء قالوا : إذا حلف الرجل لا يأكل لحماً ، فأكل سمكاً ، لم يحنث . والله تعالى سماه لحماً كما ترى؟ قلت : مبنى الأيمان على العادة ، وعادة الناس إذا ذكر اللحم على الإطلاق أن لا يفهم منه السمك ، وإذا قال الرجل لغلامه : اشتر بهذه الدراهم لحماً فجاء بالسمك ، كان حقيقاً بالإنكار . ومثاله أن الله تعالى سمى الكافر دابة في قوله : إنّ شرّ الدواب عند الله الذين كفروا ، فلو حلف حالف لا يركب دابة فركب كافراً لم يحنث . { حِلْيَةً } هي اللؤلؤ والمرجان . والمراد بلبسهم : لبس نسائهم ، لأنهنّ من جملتهم ، ولأنهنّ إنما يتزينّ بها من أجلهم ، فكأنها زينتهم ولباسهم . المخر : شق الماء بحيزومها . وعن الفراء : هو صوت جري الفلك بالرياح . وابتغاء الفضل : التجارة .
وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)
{ أَن تَمِيدَ بِكُمْ } كراهة أن يميل بكم وتضطرب والمائد : الذي يدار به إذا ركب البحر . قيل : خلق الله الأرض فجعلت تمور ، فقالت الملائكة : ما هي بمقرّ أحد على ظهرها ، فأصبحت وقد أرسيت بالجبال ، لم تدر الملائكة ممّ خلقت { وأنهارا } وجعل فيها أنهاراً ، لأن { وألقى } فيه معنى : جعل ألا ترى إلى قوله { أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض مهادا والجبال أَوْتَاداً } [ النبأ : 6 ] . { وعلامات } هي معالم الطرق وكل ما تستدل به السابلة من جبل ومنهل وغير ذلك . والمراد بالنجم : الجنس ، كقولك : كثر الدرهم في أيدي الناس . وعن السديّ : هو الثريا ، والفرقدان؛ وبنات نعش ، والجدي . وقرأ الحسن : «وبالنجم» ، بضمتين ، وبضمة وسكون ، وهو جمع نجم ، كرهن ورهن ، والسكون تخفيف . وقيل حذف الواو من النجوم تخفيفاً . فإن قلت : قوله { وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ } مخرج عن سنن الخطاب ، مقدم فيه «النجم» ، مقحم فيه «هم» ، كأنه قيل : وبالنجم خصوصاً هؤلاء خصوصاً يهتدون ، فمن المراد ب { هُمْ } ؟ قلت : كأنه أراد قريشاً : كان لهم اهتداء بالنجوم في مسايرهم ، وكان لهم بذلك علم لم يكن مثله لغيرهم ، فكان الشكر أوجب عليهم ، والاعتبار ألزم لهم ، فخصصوا .
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17)
فإن قلت : { مَّن لاَّ يَخْلُقُ } أريد به الأصنام ، فلم جيء بمن الذي هو لأولي العلم؟ قلت : فيه أوجه ، أحدها : أنهم سموها آلهة وعبدوها ، فأجروها مجرى أولي العلم . ألا ترى إلى قوله على أثره { والذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ } [ النحل : 20 ] والثاني : المشاكلة بينه وبين من يخلق . والثالث : أن يكون المعنى أنّ من يخلق ليس كمن لا يخلق من أولي العلم ، فكيف بما لا علم عنده كقوله : { أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا } [ الأعراف : 195 ] يعني أنّ الآلهة حالهم منحطة عن حال من لهم أرجل وأيد وآذان وقلوب ، لأنّ هؤلاء أَحياء وهم أموات ، فكيف تصح لهم العبادة؟ لا أنها لو صحت لهم هذه الأعضاء لصحّ أن يعبدوا . فإن قلت : هو إلزام للذين عبدوا الأوثان وسموها آلهة تشبيهاً بالله ، فقد جعلوا غير الخالق مثل الخالق ، فكان حق الإلزام أن يقال لهم : أفمن لا يخلق كمن يخلق؟ قلت : حين جعلوا غير الله مثل الله في تسميته باسمه والعبادة له وسوّوا بينه وبينه ، فقد جعلوا الله تعالى من جنس المخلوقات وشبيهاً بها ، فأنكر عليهم ذلك بقوله : { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } .
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19)
{ لاَ تُحْصُوهَا } لا تضبطوا عددها ولا تبلغه طاقتكم ، فضلاً أن تطيقوا القيام بحقها من أداء الشكر ، أتبع ذلك ما عدّد من نعمه تنبيهاً على أنّ وراءها ما لا ينحصر ولا ينعدّ { إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } حيث يتجاوز عن تقصيركم في أداء شكر النعمة ، ولا يقطعها عنكم لتفريطكم ، ولا يعاجلكم بالعقوبة على كفرانها { والله يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } من أعمالكم ، وهو وعيد .
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)
{ والذين يَدْعُونَ } والآلهة الذين يدعوهم الكفار { مِن دُونِ الله } وقرىء بالتاء . وقرىء : «يُدْعَون» ، على البناء للمفعول ، نفى عنهم خصائص الإلهية بنفي كونهم خالقين وأحياء لا يموتون وعالمين بوقت البعث ، وأثبت لهم صفات الخلق بأنهم مخلوقون وأنهم أموات وأنهم جاهلون بالغيب . ومعنى : { أموات غَيْرُ أَحْيَاء } أنهم لو كانوا آلهة على الحقيقة لكانوا أحياء غير أموات ، أي غير جائز عليها الموت كالحيّ الذي لا يموت وأمرهم على العكس من ذلك . والضمير في { يُبْعَثُونَ } للداعين ، أي لا يشعرون متى تبعث عبدتهم . وفيه تهكم بالمشركين وأنّ آلهتهم لا يعلمون وقت بعثهم ، فكيف يكون لهم وقت جزاء منهم على عبادتهم . وفيه دلالة على أنه لا بدّ من البعث وأنه من لوازم التكليف . ووجه آخر : وهو أن يكون المعنى أن الناس يخلقونهم بالنحت والتصوير ، وهم لا يقدرون على نحو ذلك ، فهم أعجز من عبدتهم أموات جمادات لا حياة فيها ، غير أحياء يعني أنَّ من الأموات ما يعقب موته حياة ، كالنطف التي ينشئها الله حيواناً وأجساد الحيوان التي تبعث بعد موتها . وأمّا الحجارة فأموات لا يعقب موتها حياة ، وذلك أعرق في موتها { وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } أي وما يعلم هؤلاء الآلهة متى تبعث الأحياء تهكم بحالها ، لأنّ شعور الجماد محال ، فكيف بشعور ما لا يعلمه حي إلا الحيّ القيوم سبحانه . ووجه ثالث : وهو أن يراد بالذين يدعون الملائكة ، وكان ناس منهم يعبدونهم ، وأنهم أموات : أي لا بدّ لهم من الموت ، غير أحياء : غير باقية حياتهم . وما يشعرون : ولا علم لهم بوقت بعثهم . وقرىء : «إيان» ، بكسر الهمزة .
إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)
{ إلهكم إله واحد } يعني أنه قد ثبت بما تقدّم من إبطال أن تكون الإلهية لغيره ، وأنها له وحده لا شريك له فيها ، فكان من نتيجة ثبات الوحدانية ووضوح دليلها : استمرارهم على شركهم ، وأنّ قلوبهم منكرة للوحدانية ، وهم مستكبرون عنها وعن الإقرار بها { لاَ جَرَمَ } حقاً { أَنَّ الله يَعْلَمُ } سرّهم وعلانيتهم فيجازيهم ، وهو وعيد { أَنَّهُ لا يُجِبُّ1649;لْمُسْتَكْبِرِينَ } يجوز أن يريد المستكبرين عن التوحيد يعني المشركين . ويجوز أن يعمّ كل مستكبر . ويدخل هؤلاء تحت عمومه .
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)
{ مَّاذَآ } منصوب بأنزل ، بمعنى : أي شيء { أَنزَلَ رَبُّكُمْ } أو مرفوع بالابتداء بمعنى : أي شيء أنزله ربكم ، فإذا نصبت فمعنى { أساطير الأولين } ما يدّعون نزوله أساطير الأوّلين ، وإذا رفعته فالمعنى : المنزل أساطير الأوّلين ، كقوله : { مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو } [ البقرة : 219 ] فيمن رفع . فإن قلت : هو كلام متناقض ، لأنه لا يكون منزل ربهم وأساطير؟ قلت : هو على السخرية كقوله : { إِنَّ رَسُولَكُمُ } [ الشعراء : 27 ] وهو كلام بعضهم لبعض ، أو قول المسلمين لهم ، وقيل : هو قول المقتسمين : الذين اقتسموا مداخل مكة ينفرون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا سألهم وفود الحاج عما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالوا أحاديث الأوّلين وأباطيلهم { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ } أي قالوا ذلك إضلالا للناس وصدّاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحملوا أو زاد ضلالهم { كَامِلَةٌ } وبعض أوزار من ضلّ بضلالهم ، وهو وزر الإضلال ، لأن المضلّ والضال شريكان : هذا يضله ، وهذا يطاوعه على إضلاله ، فيتحاملان الوزر ، ومعنى اللام التعليل من غير أن يكون غرضاً ، كقولك : خرجت من البلد مخافة الشر { بِغَيْرِ عِلْمٍ } حال من المعفول أي يضلون من لا يعلم أنهم ضلال وإنما وصف بالضلال واحتمال الوزر من أضلوه وإن لم يعلم لأنه كان عليه أن يبحث وينظر بعقله حتى يميز المحق والمبطل .
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)
القواعد : أساطين البناء التي تعمده . وقيل : الأساس وهذا تمثيل ، يعني : أنهم سووا منصوبات ليمكروا بها الله ورسوله ، فجعل الله هلاكهم في تلك المنصوبات ، كحال قوم بنوا بنياناً وعمدوه بالأساطين فأتى البنيان من الأساطين بأن ضعضعت فسقط عليهم السقف وهلكوا . ونحوه : من حفر لأخيه جباً وقع فيه منكباً . وقيل : هو نمرود بن كنعان حين بنى الصرح ببابل طوله خمسة آلاف ذراع . وقيل فرسخان ، فأهب الله الريح فخر عليه وعلى قومه فهلكوا . ومعنى إتيان الله : إتيان أمره { مّنَ القواعد } من جهة القواعد { مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } من حيث لا يحتسبون ولا يتوقعون . وقرىء : «فأتى الله بيتهم» . «فخرّ عليهم السقُفُ» ، بضمتين { يُخْزِيهِمْ } يذلهم بعذاب الخزي { رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } [ آل عمران : 192 ] يعني هذا لهم في الدنيا ، ثم العذاب في الآخرة { شُرَكَائِىَ } على الإضافة إلى نفسه حكاية لإضافتهم ، ليوبخهم بها على طريق الاستهزاء بهم { تشاقون فِيهِمْ } تعادون وتخاصمون المؤمنين في شأنهم ومعناهم . وقرىء : «تشاقونِ» ، بكسر النون ، بمعنى : تشاقونني؛ لأنّ مشاقة المؤمنين كأنها مشاقة الله { قَالَ الذين أُوتُواْ العلم } هم الأنبياء والعلماء من أممهم الذين كانوا يدعونهم إلى الإيمان ويعظونهم ، فلا يلتفتون إليهم ويتكبرون عليهم ويشاقونهم ، يقولون ذلك شماتة بهم وحكى الله ذلك من قولهم ليكون لطفاً لمن سمعه . وقيل : هم الملائكة قرىء : «تتوفاهم» ، بالتاء والياء . وقرىء : «الذين توفاهم» ، بإدغام التاء في التاء { فَأَلْقَوُاْ السلم } فسالموا وأخبتوا ، وجاءوا بخلاف ما كانوا عليه في الدنيا من الشقاق والكبر ، وقالوا : { مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوء } وجحدوا ما وجد منهم من الكفر والعدوان ، فردّ عليهم أولو العلم { إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } فهو يجازيكم عليه ، وهذا أيضاً من الشماتة وكذلك { فادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ } .
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)
{ خَيْرًا } أنزل خيراً فإن قلت : لم نصب هذا ورفع الأول؟ قلت : فصلا بين جواب المقرّ وجواب الجاحد ، يعني أن هؤلاء لما سئلوا لم يتلعثموا ، وأطبقوا الجواب على السؤال بينا مكشوفاً مفعولاً للإنزال ، فقالوا خيراً : أي أنزل خيراً ، وأولئك عدلوا بالجواب عن السؤال فقالوا : هو أساطير الأوّلين ، وليس من الإنزال في شيء . وروي أن أحياء العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا جاء الوافد كفه المقتسمون وأمروه بالانصراف وقالوا : إن لم تلقه كان خيراً لك ، فيقول : أنا شرّ وافد إن رجعت إلى قومي دون أن أستطلع أمر محمد وأراه ، فيلقى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخبرونه بصدقه ، وأنه نبيّ مبعوث ، فهم الذين قالوا خيراً . وقوله : { لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ } وما بعده بدل من خيراً ، حكاية لقوله : { لّلَّذِينَ اتقوا } أي : قالوا هذا القول ، فقدّم عليه تسميته خيراً ثم حكاه . ويجوز أن يكون كلاماً مبتدأ عدة للقائلين ، ويجعل قولهم من جملة إحسانهم ويحمدوه عليه { حَسَنَةٌ } مكافأة في الدنيا بإحسانهم ، ولهم في الآخرة ما هو خير منها ، كقوله { فاتاهم الله ثَوَابَ الدنيا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة } [ آل عمران : 148 ] { وَلَنِعْمَ دَارُ المتقين } دار الآخرة ، فحذف المخصوص بالمدح لتقدّم ذكره . و { جنات عَدْنٍ } خبر مبتدأ محذوف ويجوز أن يكون المخصوص بالمدح { طَيّبِينَ } طاهرين من ظلم أنفسهم بالكفر والمعاصي . لأنه في مقابلة ظالمي أنفسهم { يَقُولُونَ سلام عَلَيْكُمُ } قيل : إذا أشرف العبد المؤمن على الموت جاءه ملك فقال : السلام عليك يا وليّ الله ، الله يقرأ عليك السلام ، وبشره بالجنة .
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34)
{ تَأْتِيَهُمُ الملائكة } قرىء بالتاء والياء ، يعني : أن تأتيهم لقبض الأرواح . و { أَمْرُ رَبّكَ } العذاب المستأصل ، أو القيامة { كذلك } أي مثل ذلك الفعل من الشرك والتكذيب { فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ الله } بتدميرهم { ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } لأنهم فعلوا ما استوجبوا به التدمير { سَيّئَاتُ مَا عَلِمُواْ } جزاء سيئات أعمالهم . أو هم كقوله { وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] .
وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35)
هذا من جملة ما عدّد من أصناف كفرهم وعنادهم ، من شركهم بالله وإنكار وحدانيته بعد قيام الحجج وإنكار البعث واستعجاله ، استهزاء منهم به وتكذيبهم الرسول ، وشقاقهم ، واستكبارهم عن قبول الحق ، يعني : أنهم أشركوا بالله وحرّموا ما أحل الله ، من البحيرة والسائبة وغيرهما ، ثم نسبوا فعلهم إلى الله وقالوا : لو شاء لم نفعل ، وهذا مذهب المجبرة بعينه { كَذَلِكَ فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } أي أشركوا وحرموا حلال الله فلما نبهوا على قبح فعلهم ورّكوه على ربهم { فَهَلْ عَلَى الرسل } إلا أن يبلغوا الحق ، وأن الله لا يشاء الشرك والمعاصي بالبيان والبرهان ، ويطلعوا على بطلان الشرك وقبحه وبراءة الله تعالى من أفعال العباد ، وأنهم فاعلوها بقصدهم وإرادتهم واختيارهم والله تعالى باعثهم على جميلها وموفقهم له ، وزاجرهم عن قبيحها وموعدهم عليه .
وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)
ولقد أمدّ إبطال قدر السوء ومشيئة الشر بأنه ما من أمة إلا وقد بعث فيهم رسولاً يأمرهم بالخير الذي هو الإيمان وعبادة الله ، وباجتناب الشر الذي هو طاعة الطاغوت { فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى الله } أي لطف به لأنه عرفه من أهل اللطف { وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضلالة } أي ثبت عليه الخذلان والترك من اللطف ، لأنه عرفه مصمما على الكفر لا يأتي منه خير { فَسِيرُواْ فِى الأرض فانظروا } ما فعلت بالمكذبين حتى لا يبقى لكم شبهة في أني لا أقدّر الشر ولا أشاؤه ، حيث أفعل ما أفعل بالأشرار .
إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)
ثم ذكر عناد قريش وحرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على إيمانهم ، وعرّفه أنهم من قسم من حقت عليه الضلالة ، وأنه { لاَ يَهْدِى مَن يُضِلُّ } أي لا يلطف بمن يخذل ، لأنه عبث ، والله تعالى متعال عن العبث؛ لأنه من قبيل القبائح التي لا تجوز عليه . وقرىء : «لا يُهدَى» أي : لا تقدر أنت ولا أحد على هدايته وقد خذله الله . وقوله { وَمَا لَهُم مّن ناصرين } دليل على أنّ المراد بالإضلال الخذلان الذي هو نقيض النصرة . ويجوز أن يكون { لاَّ يَهِدِّى } بمعنى لا يهتدي . يقال : هداه الله فهدى . وفي قراءة أبيّ «فإنّ الله لا هادي لمن يضل ، ولمن أضلّ» ، وهي معاضدة لمن قرأ «لا يهدي» على البناء للمفعول . وفي قراءة عبد الله : «يهدي» ، بإدغام تاء يهتدي ، وهي معاضدة للأولى . وقرىء «يضل» بالفتح . وقرأ النخعي : «إن تحرص» ، بفتح الراء ، وهي لغية .
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39)
{ وَأَقْسَمُواْ بالله } معطوف على { وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ } [ النحل : 35 ] إيذاناً بأنهما كفرتان عظيمتان موصوفتان ، حقيقتان بأن تحكيا وتدوّنا : توريك ذنوبهم على مشيئة الله ، وإنكارهم البعث مقسمين عليه . و { بلى } إثبات لما بعد النفي ، أي : بلى يبعثهم . ووعد الله : مصدر مؤكد لما دلّ عليه بلى ، لأن يبعث موعد من الله ، وبين أنّ الوفاء بهذا الموعد حق واجب عليه في الحكمة { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } أنهم يبعثون أو أنه وعد واجب على الله؛ لأنهم يقولون : لا يجب على الله شيء ، لا ثواب عامل ولا غيره من مواجب الحكمة { لِيُبَيّنَ لَهُمُ } متعلق بما دل عليه «بلى» أي يبعثهم ليبين لهم . والضمير لمن يموت ، وهو عام للمؤمنين والكافرين ، والذين اختلفوا فيه هو الحق { وَلِيَعْلَمَ الذين كَفَرُواْ أَنَّهُمْ } كذبوا في قولهم : لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء ، وفي قولهم : لا يبعث الله من يموت . وقيل : يجوز أن يتعلق بقوله : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً } [ النحل : 36 ] أي بعثناه ليبين لهم ما اختلفوا فيه ، وأنهم كانوا على الضلالة قبله ، مفترين على الله الكذب .
إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)
{ قَوْلُنَا } مبتدأ ، و { إِن نَّقُولُ } خبره . { كُنْ فَيَكُونُ } من كان التامة التي بمعنى الحدوث والوجود ، أي : إذا أردنا وجود شيء فليس إلا أن نقول له : احدث ، فهو يحدث عقيب ذلك لا يتوقف ، وهذا مثل لأنّ مراداً لا يمتنع عليه ، وأنّ وجوده عند إرادته تعالى غير متوقف ، كوجود المأمور به عند أمر الآمر المطاع إذا ورد على المأمور المطيع الممتثل ، ولا قول ثم . والمعنى : أنّ إيجاد كل مقدور على الله تعالى بهذه السهولة ، فكيف يمتنع عليه البعث الذي هو من شق المقدورات . وقرىء : «فيكون» ، عطفاً على { نَّقُولَ } .
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)
{ والذين هاجروا } هم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ظلمهم أهل مكة ففرّوا بدينهم إلى الله ، منهم من هاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة فجمع بين الهجرتين . ومنهم من هاجر إلى المدينة . وقيل : هم الذين كانوا محبوسين معذبين بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكلما خرجوا تبعوهم فردّوهم : منهم بلال ، وصهيب ، وخباب ، وعمار . وعن صهيب أنه قال لهم : أنا رجل كبير ، إن كنت معكم لم أنفعكم ، وإن كنت عليكم لم أضرّكم ، فافتدى منهم بماله وهاجر ، فلما رآه أبو بكر رضي الله عنه قال له : ربح البيع يا صهيب . وقال له عمر : نعم الرجل صهيب ، لو لم يخف الله لم يعصه ، وهو ثناء عظيم : يريد لو لم يخلق الله ناراً لأطاعه ، فكيف { فِى الله } في حقه ولوجهه { حَسَنَةٌ } صفة للمصدر ، أي لنبوأنهم تبوئة حسنة . وفي قراءة علي رضي الله عنه . «لنثوّينهم» ومعناه : أثوأة حسنة . وقيل : لننزلهم في الدنيا منزلة حسنة ، وهي الغلبة على أهل مكة الذين ظلموهم ، وعلى العرب قاطبة ، وعلى أهل المشرق والمغرب . وعن عمر رضي الله عنه أنه كان إذاً أعطى رجلاً من المهاجرين عطاء قال : خذ بارك الله لك فيه ، هذا ما وعدك ربك في الدنيا . وما ذخر لك في الآخرة أكثر وقيل : لنبوّأنهم مباءة حسنة وهي المدينة ، حيث آواهم أهلها ونصروهم { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } الضمير للكفار ، أي : لو علموا أنّ الله يجمع لهؤلاء المستضعفين في أيديهم الدنيا والآخرة ، لرغبوا في دينهم . ويجوز أن يرجع الضمير إلى المهاجرين ، أي : لو كانوا يعلمون ذلك لزادوا في اجتهادهم وصبرهم { الذين صَبَرُواْ } على هم الذين صبروا . أو أعني الذين صبروا ، وكلاهما مدح ، أي : صبروا على العذاب وعلى مفارقة الوطن الذي هو حرم الله المحبوب في كل قلب ، فكيف بقلوب قوم هو مسقط رؤسهم ، وعلى المجاهدة وبذل الأرواح في سبيل الله .
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
قالت قريش : الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً ، فقيل { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ } على ألسنة الملائكة { فَاسْئَلُواْ أَهْلَ الذكر } وهم أهل الكتاب ، ليعلموكم أن الله لم يبعث إلى الأمم السالفة إلا بشراً . فإن قلت : بم تعلق قوله { بالبينات } ؟ قلت : له متعلقات شتى ، فأما أن يتعلق بما أرسلنا داخلاً تحت حكم الاستثناء مع رجالاً أي : وما أرسلنا إلا رجالاً بالبينات ، كقولك : ما ضربت إلا زيداً بالسوط؛ لأن أصله : ضربت زيداً بالسوط وإما برجالا ، صفة له : أي رجالاً ملتبسين بالبينات . وإما بأرسلنا مضمراً ، كأنما قيل : بما أرسلوا؟ فقلت بالبينات ، فهو على كلامين ، والأوّل على كلام واحد ، وإما بيوحي ، أي : يوحي إليهم بالبينات . وإما بلا تعلمون ، على أن الشرط في معنى التبكيت والإلزام ، كقول الأجير : إن كنت عملت لك فأعطني حقي . وقوله : { فَاسْئَلُواْ أَهْلَ الذكر } اعتراض على الوجوه المتقدّمة ، وأهل الذكر : أهل الكتاب . وقيل للكتاب الذكر؛ لأنه موعظة وتنبيه للغافلين { مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } يعني ما نزل الله إليهم في الذكر مما أمروا به ونهوا عنه ووعدوا وأوعدوا { وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } وإرادة أن يصغوا إلى تنبيهاته فيتنبهوا ويتأملوا .
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)
{ مَكَرُواْ السيئات } أي المكرات السيئات ، وهم أهل مكة ، وما مكروا به رسول الله صلى الله عليه وسلم { فِى تَقَلُّبِهِمْ } متقلبين في مسايرهم ومتاجرهم وأسباب دنياهم { على تَخَوُّفٍ } متخوفين ، وهو أن يهلك قوماً قبلهم فيتخوّفوا فيأخذهم بالعذاب وهم متخوفون متوقعون ، وهو خلاف قوله { مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } وقيل : هو من قولك : تخوفنه وتخونته ، إذا تنقصته قال زهير :
تَخَوَّفَ الرَّحْلُ مِنْهَا تَامِكاً قَرِدا ... كَمَا تَخَوَّفَ عُودَ النّبْعةِ السَّفَنُ
أي يأخذهم على أن يتنقصهم شيئاً بعد شيء في أنفسهم وأموالهم حتى يهلكوا . وعن عمر رضي الله عنه . أنه قال على المنبر : ما تقولون فيها؟ فسكتوا فقام شيخ من هذيل فقال : هذه لغتنا : التخوّف التنقص . قال : فهل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال : نعم ، قال شاعرنا . وأنشد البيت . فقال عمر : أيها الناس ، عليكم بديوانكم لا يضل . قالوا : وما ديواننا؟ قال : شعر الجاهلية فإن فيه تفسير كتابكم { فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ } حيث يحلم عنكم ، ولا يعاجلكم مع استحقاقكم .
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48)
قرىء : «أو لم يروا» و «يتفيؤا» بالياء والتاء . و { مَا } موصولة بخلق الله ، وهو مبهم بيانه { مِن شَىْء يَتَفَيَّؤُاْ ظلاله } واليمين ، بمعنى الأيمان . و { سُجَّدًا } حال من الظلال . { وَهُمْ داخرون } حال من الضمير في ظلاله ، لأنه في معنى الجمع وهو ما خلق الله من كل شيء له ظل ، وجمع بالواو ، لأن الدخور من أوصاف العقلاء ، أو لأن في جملة ذلك من يعقل فغلب . والمعنى : أو لم يروا إلى ما خلق الله من الأجرام التي لها ظلال متفيئة عن إيمانها وشمائلها ، أي عن جانبي كل واحد منها . وشقيه استعارة من يمين الإنسان وشماله لجانبي الشيء ، أي : ترجع الظلال من جانب إلى جانب منقادة لله ، غير ممتنعة عليه فيما سخرها له من التفيؤ ، والأجرام في أنفسها داخرة أيضاً ، صاغرة منقادة لأفعال الله فيها ، لا تمتنع .
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)
{ مِن دَابَّةٍ } يجوز أن يكون بياناً لما في السموات وما في الأرض جميعاً ، على أنّ في السموات خلقاً لله يدبون فيها كما يدب الأناسي في الأرض ، وأن يكون بياناً لما في الأرض وحده ، ويراد بما في السموات : الخلق الذي يقال له الروح ، وأن يكون بياناً لما في الأرض وحده ، ويراد بما في السموات : الملائكة وكرّر ذكرهم على معنى : والملائكة خصوصاً من بين الساجدين؛ لأنهم أطوع الخلق وأعبدهم . ويجوز أن يراد بما في السموات : ملائكتهنّ . وبقوله والملائكة : ملائكة الأرض من الحفظة وغيرهم ، فإن قلت : سجود المكلفين مما انتظمه هذا الكلام خلاف سجود غيرهم ، فكيف عبر عن النوعين بلفظ واحد؟ قلت : المراد بسجود المكلفين : طاعتهم وعبادتهم ، وبسجود غيرهم : انقياده لإرادة الله وأنها غير ممتنعة عليها ، وكلا السجودين يجمعها معنى الانقياد فلم يختلفا ، فلذلك جاز أن يعبر عنهما بلفظ واحد . فإن قلت : فهلا جيء بمن دون «ما» تغليبا للعقلاء من الدواب على غيرهم؟ قلت : لأنه لوجيء بمن لم يكن فيه دليل على التغليب ، فكان متناولاً للعقلاء خاصة ، فجيء بما هو صالح للعقلاء وغيرهم ، إرادة العموم { يَخَافُونَ } يجوز أن يكون حالاً من الضمير في { لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } أي : لا يستكبرون خائفين ، وأن يكون بياناً لنفي الاستكبار وتأكيداً له ، لأنّ من خاف الله لم يستبكر عن عبادته { مّن فَوْقِهِمْ } إن علقته بيخافون ، فمعناه : يخافونه أن يرسل عليهم عذاباً من فوقهم ، وإن علقته بربهم حالا منه فمعناه : يخافون ربهم عالياً لهم قاهراً ، كقوله { وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ } [ الأنعام : 18 ، 61 ] ، { وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهرون } [ الأعراف : 127 ] وفيه دليل على أنّ الملائكة مكلفون مدارون على الأمر والنهي والوعد والوعيد كسائر المكلفين ، وأنهم بين الخوف والرجاء .
وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)
فإن قلت : إنما جمعوا بين العدد والمعدود فيما وراء الواحد والاثنين ، فقالوا عندي رجال ثلاثة وأفراس أربعة؛ لأن المعدود عار عن الدلالة على العدد الخاص . وأما رجل ورجلان وفرس وفرسان ، فمعدودان فيهما دلالة على العدد ، فلا حاجة إلى أن يقال : رجل واحد ورجلان اثنان ، فما وجه قوله إلهين اثنين؟ قلت : الاسم الحامل لمعنى الإفراد والتثنية دال على شيئين : على الجنسية والعدد المخصوص ، فإذا أريدت الدلالة على أنّ المعنىّ به منهما ، والذي يساق إليه الحديث هو العدد شفع بما يؤكده ، فدل به على القصد إليه والعناية به . ألا ترى أنك لو قلت : إنما هو إله ، ولم تؤكده بواحد : لم يحسن ، وخيل أنك تثبت الإلهية لا الوحدانية { فإياي فارهبون } نقل للكلام عن الغيبة إلى التكلم ، وجاز لأنّ الغالب هو المتكلم ، وهو من طريقة الالتفات ، وهو أبلغ في الترهيب من قوله : وإياه فارهبوه ، ومن أن يجيء ما قبله على لفظ المتكلم .
وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52)
{ الدين } الطاعة { وَاصِبًا } حال عمل فيه الظرف . والواصب : الواجب الثابت؛ لأنّ كل نعمة منه فالطاعة واجبة له على كل منعم عليه . ويجوز أن يكون من الوصب ، أي : وله الدين ذا كلفة ومشقة ، ولذلك سمي تكليفاً . أو : وله الجزاء ثابتاً دائماً سرمداً لا يزول ، يعني الثواب والعقاب .
وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)
{ وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ } وأيّ شيء حل بكم ، أو اتصل بكم من نعمة ، فهو من الله { فإلَيْهِ تَجْئَرُونَ } فما تتضرعون إلا إليه ، والجؤار : رفع الصوت بالدعاء والاستغاثة . قال الأعشى يصف راهبا :
يُرَاوِحُ مِنْ صَلَوَاتِ الْمَلِي ... كِ طَوْراً سُجُوداً وَطَوْراً جُؤَارَا
وقرىء : «تجرون» ، بطرح الهمزة وإلقاء حركتها على الجيم . وقرأ قتادة «كاشف الضر» على : فاعل بمعنى فعل ، وهو أقوى من كشف؛ لأن بناء المغالبة يدل على المبالغة . فإن قلت : فما معنى قوله : { إِذَا فَرِيقٌ مّنْكُم بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ } ؟ قلت : يجوز أن يكون الخطاب في قوله : { وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ الله } عاماً ، ويريد بالفريق : فريق الكفرة وأن يكون الخطاب للمشركين ومنكم للبيان ، لا للتبعيض ، كأنه قال فإذا فريق كافر ، وهم أنتم . ويجوز أن يكون فيهم من اعتبر ، كقوله { فَلَمَّا نجاهم إِلَى البر فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ } [ لقمان : 32 ] { لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءاتيناهم } من نعمة الكشف عنهم ، كأنهم جعلوا غرضهم في الشرك كفران النعمة { فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } تخلية ووعيد . وقرىء : «فيُمَتَّعوا» ، بالياء مبنيا للمفعول ، عطفا على { لِيَكْفُرُواْ } ويجوز أن يكون : ليكفروا فيمتعوا ، من الأمر الوارد في معنى الخذلان والتخلية ، واللام لام الأمر .
وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56)
{ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ } أي لآلهتهم . ومعنى لا يعلمونها : أنه يسمونها آلهة ، ويعتقدون فيها أنها تضر وتنفع وتشفع عند الله ، وليس كذلك . وحقيقتها أنها جماد لا يضر ولا ينفع ، فهم إذاً جاهلون بها ، وقيل : الضمير في { لاَّ يَعْلَمُونَ } للآلهة . أي : لأشياء غير موصوفة بالعلم ، ولا تشعر أجعلوا لها نصيباً في أنعامهم وزروعهم أم لا؟ وكانوا يجعلون لهم ذلك تقرباً إليهم { لَتُسْئَلُنَّ } وعيد { عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ } من الإفك في زعمكم أنها آلهة ، وأنها أهل للتقرب إليها .
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59)
كانت خزاعة وكنانة تقول : الملائكة بنات الله { سبحانه } تنزيه لذاته من نسبة الوالد إليه . أو تعجب من قولهم { وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ } يعني البنين . ويجوز في { مَّا يَشْتَهُونَ } الرفع على الابتداء ، والنصب على أن يكون معطوفاً على البنات ، أي : وجعلوا لأنفسهم ما يشتهون من الذكور . و { ظَلَّ } بمعنى صار كما يستعمل بات وأصبح وأمسى بمعنى الصيرورة . ويجوز أن يجيء ظل؛ لأن أكثر الوضع يتفق بالليل ، فيظل نهاره مغتما مربد الوجه من الكآبة والحياء من الناس { وَهُوَ كَظِيمٌ } مملوء حنقاً على المرأة { يتوارى مِنَ القوم } يستخفي منهم { مِنْ } أجل { سُوء } المبشر به ، ومن أجل تعييرهم ، ويحدث نفسه وينظر أيمسك ما بشر به { على هُونٍ } على هوان وذل { أَمْ يَدُسُّهُ فِى التراب } أم يئده . وقرىء : «أيمسكها على هون أم يدسها» ، على التأنيث . وقرىء : «على هوان» { أَلاَ سَآء مَا يَحْكُمُونَ } حيث يجعلون الولد الذي هذا محله عندهم لله ، ويجعلون لأنفسهم من هو على عكس هذا الوصف .
لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)
{ مَثَلُ السوء } صفة السوء : وهي الحاجة إلى الأولاد الذكور وكرهة الإناث ووأدهن خشية الإملاق ، وإقرارهم على أنفسهم بالشح البالغ { وَلِلَّهِ المثل الأعلى } وهو الغني عن العالمين ، والنزاهة عن صفات المخلوقين وهو الجواد الكريم .
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61)
{ بِظُلْمِهِمْ } بكفرهم ومعاصيهم { مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا } أي على الأرض { مِن دَابَّةٍ } قط ولأهلكها كلها بشؤم ظلم الظالمين . وعن أبي هريرة : أنه سمع رجلاً يقول : إن الظالم لا يضرّ إلا نفسه ، فقال : بلى والله ، حتى أنّ الحباري لتموت في وكرها بظلم الظالم . وعن ابن مسعود : كاد الجعل يهلك في جحره بذنب ابن آدم . أو من دابة ظالمة . وعن ابن عباس { مِن دَابَّةٍ } من مشرك يدب عليها . وقيل : لو أهلك الآباء بكفرهم لم تكن الأبناء .
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)
{ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ } لأنفسهم من البنات ومن شركاء في رياستهم ، ومن الاستخفاف برسلهم والتهاون برسالاتهم . ويجعلون له أرذل أموالهم ولأصنامهم أكرمها { وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ } مع ذلك { أَنَّ لَهُمُ الحسنى } عند الله كقوله { وَلَئِن رُّجّعْتُ إلى رَبّى إِنَّ لِى عِندَهُ للحسنى } [ فصلت : 50 ] . وعن بعضهم أنه قال لرجل من ذوي اليسار : كيف تكون يوم القيامة إذا قال الله تعالى : هاتوا ما دفع إلى السلاطين وأعوانهم ، فيؤتى بالدواب والثياب وأنواع الأموال الفاخرة . وإذا قال : هاتوا ما دفع إليّ فيؤتى بالكسر والخرق وما لا يؤبه له ، أما تستحي من ذلك الموقف؟ وقرأ هذه الآية وعن مجاهد : «أنّ لهم الحسنى» . هو قول قريش : لنا البنون ، وأن لهم الحسنى : بدل من الكذب . وقرىء «الكذب» جمع كذوب ، صفة للألسنة { مُّفْرَطُونَ } قرىء مفتوح الراء ومكسورها مخففاً ومشدّداً ، فالمفتوح بمعنى مقدّمون إلى النار معجلون إليها ، من أفرطت فلاناً ، وفرّطته في طلب الماء ، إذا قدمته . وقيل منسيون متروكون ، من أفرطت فلاناً خلفي إذا خلفته ونسيته . والمكسور المخفف ، من الإفراط في المعاصي . والمشدّد . من التفريط في الطاعات وما يلزمهم .
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)
{ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليوم } حكاية الحال الماضية التي كان يزين لهم الشيطان أعمالهم فيها . أو فهو وليهم في الدنيا فجعل اليوم عبارة عن زمان الدنيا . ومعنى { وَلِيُّهُمُ } قرينهم وبئس القرين . أو يجعل { فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليوم } حكاية للحال الآتية ، وهي حال كونهم معذبين في النار ، أي فهو ناصرهم اليوم لا ناصر لهم غيره نفياً للناصر لهم على أبلغ الوجوه ويجوز أن يرجع الضمير إلى مشركي قريش ، [ و ] أنه زين للكفار قبلهم أعمالهم ، فهو ولي وهؤلاء : لأنهم منهم . ويجوز أن يكون على حذف المضاف ، أي : فهو ولي أمثالهم اليوم .
وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)
{ وَهَدَىً و رَحْمَةً } معطوفان على محل { لِتُبَيّنَ } إلا أنهما انتصبا على أنهما مفعول لهما؛ لأنهما فعلا الذي أنزل الكتاب . ودخل اللام على لتبين : لأنه فعل المخاطب لا فعل المنزل . وإنما ينتصب مفعولاً له ما كان فعل فاعل الفعل المعل . والذي اختلفوا فيه : البعث؛ لأنه كان فيهم من يؤمن به ، ومنهم عبد المطلب ، وأشياء من التحريم والإنكار والإقرار { لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } سماع إنصاف وتدبر؛ لأنّ من لم يسمع بقلبه ، فكأنه أصم لا يسمع .
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)
ذكر سيبويه الأنعام في باب ما لا ينصرف في الأسماء المفردة الواردة على أفعال ، كقولهم : ثوب أكياش؛ ولذلك رجع الضمير إليه مفرداً . وأمّا { فِى بُطُونِهَا } [ المؤمنون : 21 ] في سورة المؤمنين : فلأنّ معناه الجمع . ويجوز أن يقال في الأنعام وجهان ، أحدهما : أن يكون تكسير نعم كأجبال في جبل ، وأن يكون اسماً مفرداً مقتضياً لمعنى الجمع كنعم ، فإذا ذكر فكما يذكر «نعم» في قوله :
في كُلِّ عَامٍ نَعَمٌ تَحْوُونَه ... يُلْقِحُهُ قَوْمٌ وَتَنْتِجُونَهْ
وإذا أنث ففيه وجهان : أنه تكسير نعم . وأنه في معنى الجمع . وقرىء : «نَسقيكم» بالفتح والضم ، وهو استئناف ، كأنه قيل : كيف العبرة ، فقيل نسقيكم { مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ } أي يخلق الله اللبن وسيطاً بين الفرث والدم يكتنفانه ، وبينه وبينهما برزخ من قدرة الله لا يبغي أحدهما عليه بلون ولا طعم ولا رائحة ، بل هو خالص من ذلك كله . قيل : إذا أكلت البهيمة العلف فاستقرّ في كرشها طبخته ، فكان أسفله فرثاً ، وأوسطه لبناً ، وأعلاه دماً . والكبد مسلطة على هذه الأصناف الثلاثة تقسمها ، فتجري الدم في العروق ، واللبن في الضرع ، وتبقى الفرث في الكرش . فسبحان الله ما أعظم قدرته وألطف حكمته لمن تفكر وتأمّل . وسئل شقيق عن الإخلاص فقال : تمييز العمل من العيوب ، كتمييز اللبن من بين فرث ودم { سَآئِغًا } سهل المرور في الحلق ويقال : لم يغص أحد باللبن قط . وقرىء : «سيغاً» ، بالتشديد . و «سيغاً» ، بالتخفيف . كهين ولين . فإن قلت : أي فرق بين «من» الأولى والثانية؟ قلت : الأولى للتبعيض؛ لأن اللبن بعض ما في بطونها ، كقولك : أخذت من مال زيد ثوباً . والثانية : لابتداء الغاية؛ لأنّ بين الفرث والدم مكان الإسقاء الذي منه يبتدأ ، فهو صلة لنسقيكم ، كقولك : سقيته من الحوض ، ويجوز أن يكون حالا من قوله { لَّبَنًا } مقدماً عليه ، فيتعلق بمحذوف ، أي : كائناً من بين فرث ودم . ألا ترى أنه لو تأخر فقيل : لبناً من بين فرث ودم كان صفة له ، وإنما قدم لأنه موضع العبرة ، فهو قمن بالتقديم . وقد احتج بعض من يرى أن المني طاهر على من جعله نجساً ، لجريه في مسلك البول بهذه الآية ، وأنه ليس بمستنكر أن يسلك مسلك البول وهو طاهر ، كما خرج اللبن من بين فرث ودم طاهراً .
وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)
فإن قلت : بم تعلق قوله { وَمِن ثمرات النخيل والأعناب } ؟ قلت : بمحذوف تقديره : ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب ، أي : من عصيرها وحذف لدلالة نسقيكم قبله عليه ، وقوله : { تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا } بيان وكشف عن كنه الإسقاء . أو يتعلق بتتخذون ، ومنه من تكرير الظرف للتوكيد ، كقولك : زيد في الدار فيها ، ويجوز أن يكون { تَتَّخِذُونَ } صفة موصوف محذوف ، كقوله :
جادت بِكَفّى كَانَ مِنْ أَرْمَى الْبَشَرْ ... تقديره : ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً؛ لأنهم يأكلون بعضها ويتخذون من بعضها السكر . فإن قلت : فالإم يرجع الضمير في منه إذا جعلته ظرفاً مكرّراً؟ قلت : إلى المضاف المحذوف الذي هو العصير كما رجع في قوله تعالى { أَوْ هُمْ قَائِلُونَ } [ الأعراف : 4 ] إلى الأهل المحذوف ، والسكر : الخمر ، سميت بالمصدر من سكر سكراً وسكراً . نحو رشد رشداً ورشداً . قال :
وَجَاؤُنَا بهِمْ سَكَرٌ عَلَيْنَا ... فَأَجْلَى اليَوْمُ والسَّكْرَانُ صَاحِى
وفيه وجهان : أحدهما أن تكون منسوخة . وممن قال بنسخها : الشعبي والنخعي . والثاني : أن يجمع بين العتاب والمنة . وقيل : السكر النبيذ . وهو عصير العنب والزبيب والتمر إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه ، ثم يترك حتى يشتدّ ، وهو حلال عند أبي حنيفة إلى حدّ السكر ويحتج بهذه الآية وبقوله صلى الله عليه وسلم .
( 586 ) « الخمر حرام لعينها والسكر من كل شراب » وبأخبار جمة . ولقد صنف شيخنا أبو علي الجبائي قدّس الله روحه غير كتاب في تحليل النبيذ ، فلما شيخ وأخذت منه السنّ العالية قيل له : لو شربت منه ما تتقوى به ، فأبى . فقيل له : فقد صنفت في تحليله ، فقال : تناولته الدعارة فسمج في المروءة . وقيل : السكر الطُعم وأنشد :
جَعَلْتُ أَعْرَاضَ الكِرَامِ سَكَرَاً ... أي تنقلت بأعراضهم . وقيل هو من الخمر ، وإنه إذا ابترك في أعراض الناس ، فكأنه تخمر بها . والرزق الحسن : الخل والرب والتمر والزبيب وغير ذلك . ويجوز أن يجعل السكر رزقاً حسناً ، كأنه قيل : تتخذون منه ما هو سكر ورزق حسن .
وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
الإيحاء إلى النحل : إلهامها والقذف في قلوبها وتعليمها على وجه هو أعلم به ، لا سبيل لأحد إلى الوقوف عليه ، وإلا فنيَّقتها في صنعتها ، ولطفها في تدبير أمرها ، وإصابتها فيما يصلحها ، دلائل بينة شاهدة على أنّ الله أودعها علماً بذلك وفطنها ، كما أولى أولي العقول عقولهم . وقرأ يحيى بن وثاب { إلى النحل } بفتحتين . وهو مذكر كالنحل ، وتأنيثه على المعنى { أَنِ اتخذى } هي أن المفسرة؛ لأنّ الإيحاء فيه معنى القول . وقرىء : «بيوتاً» بكسر الباء لأجل الياء . و { يَعْرِشُونَ } بكسر الراء وضمها : يرفعون من سقوف البيوت . وقيل : ما يبنون للنحل في الجبال والشجر والبيوت من الأماكن التي تتعسل فيها . والضمير في { يعرشون } للناس فإن قلت : ما معنى «من» في قوله { أَنِ اتخذى مِنَ الجبال بُيُوتًا وَمِنَ الشجر وَمِمَّا يَعْرِشُونَ } وهلا قيل في الجبال وفي الشجر؟ قلت : أريد معنى البعضية ، وأن لا تبني بيوتها في كل جبل وكل شجر وكل ما يعرش ولا في كل مكان منها { مِن كُلّ الثمرات } إحاطة بالثمرات التي تجرسها النحل وتعتاد أكلها ، أي ابني البيوت ، ثم كلي من كل ثمرة تشتهينها ، فإذا أكلتها { فاسلكى سُبُلَ رَبّكِ } أي الطرق التي ألهمك وأفهمك في عمل العسل . أو فاسلكي ما أكلت في سبل ربك ، أي في مسالكه التي يحيل فيها بقدرته النور المرّ عسلا من أجوافك ومنافذ مآكلك . أو إذا أكلت الثمار في المواضع البعيدة من بيوتك ، فاسلكي إلى بيوتك راجعة سبل ربك ، لا تتوعر عليك ولا تضلين فيها ، فقد بلغني أنها ربما أجدب عليها ما حولها فتسافر إلى البلد البعيد في طلب النجعة . أو أراد بقوله : { ثُمَّ كُلِى } ثم اقصدي أكل الثمرات فاسلكلي في طلبها في مظانها سبل ربك { ذُلُلاً } جمع ذلول ، وهي حال من السبل؛ لأنّ الله ذللها لها ووطأها وسهلها ، كقوله : { هُوَ الذى جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولاً } [ الملك : 15 ] أو من الضمير في { فاسلكى } أي : وأنت ذلل منقادة لما أمرت به غير ممتنعة { شَرَابٌ } يريد العسل ، لأنه مما يشرب { مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } منه أبيض وأسود وأصفر وأحمر { فِيهِ شِفَآء لِلنَّاسِ } لأنه من جملة الأشفية والأدوية المشهورة النافعة ، وقل معجون من المعاجين لم يذكر الأطباء فيه العسل ، وليس الغرض أنه شفاء لكل مريض ، كما أن كل دواء كذلك . وتنكيره إمّا لتعظيم الشفاء الذي فيه ، أو لأن فيه بعض الشفاء ، وكلاهما محتمل . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 587 ) أن رجلاً جاء إليه فقال : إن أخي يشتكي بطنه ، فقال : " اذهب واسقه العسل " فذهب ثم رجع فقال : قد سقيته فما نفع ، فقال : " اذهب واسقه عسلاً» فقد صدق الله وكذب بطن أخيك ، فسقاه فشفاه الله فبرأ ، كأنما أنشط من عقال " وعن عبد الله بن مسعود :
( 588 ) " العسل شفاء من كل داء ، والقرآن شفاء لما في الصدور ، فعليكم بالشفاءين : القرآن والعسل " ومن بدع التأويلات الرافضة : أن المراد بالنحل علي وقومه : وعن بعضهم أنه قال عند المهدي : إنما النحل بنو هاشم ، يخرج من بطونهم العلم ، فقال له رجل : جعل الله طعامك وشرابك مما يخرج من بطونهم فضحك المهدي وحدث به المنصور ، فاتخذوه أضحوكة من أضاحيكهم .
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)
{ إلى أَرْذَلِ العمر } إلى أخسه وأحقره وهو خمس وسبعون سنة عن عليّ رضي الله عنه وتسعون سنة عن قتادة : لأنه لا عمر أسوأ حالا من عمر الهرم { لِكَيْلاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا } ليصير إلى حالة شبيهة بحال الطفولة في النسيان ، وأن يعلم شيئاً ثم يسرع في نسيانه فلا يعلمه إن سئل عنه . وقيل : لئلا يعقل من بعد عقله الأوّل شيئاً : وقيل : لئلا يعلم زيادة علم على علمه .
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)
أي : جعلكم متفاوتين في الرزق ، فرزقكم أفضل مما رزق مماليككم وهم بشر مثلكم وإخوانكم فكان ينبغي أن تردوا فضل ما رزقتموه عليهم ، حتى تتساووا في الملبس والمطعم ، كما يحكي عن أبي ذرّ أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول :
( 589 ) " إنما هم إخوانكم فاكسوهم مما تلبسون ، وأطعموهم مما تطعمون " فما رؤي عبده بعد ذلك إلا ورداؤه رداؤه وإزاره إزاره من غير تفاوت { أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ } فجعل ذلك من جملة جحود النعمة . وقيل : هو مثل ضربه الله للذين جعلوا له شركاء ، فقال لهم : أنتم لا تسوّون بينكم وبين عبيدكم فيما أنعمت به عليكم ، ولا تجعلونهم فيه شركاء ، ولا ترضون ذلك لأنفسكم فكيف رضيتم أن تجعلوا عبيدي لي شركاء . وقيل المعنى أنّ الموالي والمماليك أنا رازقهم جميعاً ، فهم في رزقي سواء ، فلا تحسبن الموالي أنهم يردون على مماليكهم من عندهم شيئاً من الرزق . فإنما ذلك رزقي أجريه إليهم على أيديهم . وقرىء : «يجحدون» ، بالتاء والياء .
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)
{ مّنْ أَنفُسِكُمْ } من جنسكم . وقيل : هو خلق حواء من ضلع آدم . والحفدة : جمع حافد ، وهو الذي يحفد ، أي يسرع في الطاعة والخدمة . ومنه قول القانت . وإليك نسعى ونحفد وقال :
حَفَدَ الْوَلاَئِدَ بَيْنَهُنَّ وَأُسْلِمَت ... بِأَكُفِّهِنَّ أزِمَّةَ الأَجْمَالِ
واختلف فيهم فقيل : هم الأختان على البنات وقيل : أولاد الأولاد ، وقيل : أولاد المرأة من الزوج الأوّل ، وقيل : المعنى وجعل لكم حفدة ، أي خدما يحفدون في مصالحكم ويعينونكم ويجوز أن يراد بالحفدة : البنون أنفسهم؛ كقوله : { سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا } [ النحل : 67 ] كأنه قيل : وجعل لكم منهنّ أولاداً هم بنون وهم حافدون ، أي جامعون بين الأمرين { مّنَ الطيبات } يريد بعضها؛ لأنّ كل الطيبات في الجنة ، وما طيبات الدنيا إلا أنموذج منها { أفبالباطل يُؤْمِنُونَ } وهو ما يعتقدون من منفعة الأصنام وبركتها وشفاعتها . وما هو إلا وهم باطل لم يتوصلوا إليه بدليل ولا أمارة ، فليس لهم إيمان إلا به ، كأنه شيء معلوم مستيقن . ونعمة الله المشاهدة المعاينة التي لا شبهة فيها لذي عقل وتمييز : هم كافرون بها منكرون لها كما ينكر المحال الذي لا يتصوره العقول . وقيل : الباطل يسوّل لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة وغيرهما . ونعمة الله : ما أحل لهم .
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73)
الرزق يكون بمعنى المصدر ، وبمعنى ما يرزق ، فإن أردت المصدر نصبت به { شَيْئاً } كقوله { أَوْ إِطْعَامٌ . . . . يَتِيماً } [ البلد : 14 ] على لا يملك أن يرزق شيئاً . وإن أردت المرزوق كان شيئاً بدلاً منه بمعنى قليلاً ويجوز أن يكون تأكيداً للا يملك : أي لا يملك شيئاً من الملك . و { مّنَ السماوات والأرض } صلة للرزق إن كان مصدراً بمعنى : لا يرزق من السموات مطراً ، ولا من الأرض نباتاً . أو صفة إن كان اسماً لما يرزق . والضمير في { وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ } لما؛ لأنه في معنى الآلهة ، بعد ما قيل { لاَ يَمْلِكُ } على اللفظ . ويجوز أن يكون للكفار ، يعني : ولا يستطيع هؤلاء - مع أنهم أحياء متصرفون أولو ألباب - من ذلك شيئاً ، فكيف بالجماد الذي لا حس به . فإن قلت : ما معنى قوله : ( ولا يستطيعون ) بعد قوله { لاَ يَمْلِكُ } ؟ وهل هما إلا شيء واحد؟ قلت : ليس في { لاَ يَسْتَطِيعُونَ } تقدير راجع ، وإنما المعنى : لا يملكون أن يرزقوا ، والاستطاعة منفية عنهم أصلا؛ لأنهم موات ، إلا أن يقدر الراجع ويراد بالجمع بين نفي الملك والاستطاعة للتوكيد أو يراد : أنهم لا يملكون الرزق ولا يمكنهم أن يملكوه ، ولا يتأتى ذلك منهم ولا يستقيم .
فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)
{ فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأمثال } تمثيل للإشراك بالله والتشبيه به ، لأنّ من يضرب الأمثال مشبه حالا بحال وقصة بقصة { أَنَّ الله يَعْلَمُ } كنه ما تفعلون وعظمه ، وهو معاقبكم عليه بما يوازيه في العظم؛ لأنّ العقاب على مقدار الإثم { وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } كنهه وكنه عقابه ، فذاك هو الذي جرّكم إليه وجرأكم عليه ، فهو تعليل للنهي عن الشرك . ويجوز أن يراد : فلا تضربوا لله الأمثال ، إنّ الله يعلم كيف يضرب الأمثال ، وأنتم لا تعلمون .
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75)
ثم علمهم كيف تضرب فقال : مثلكم في إشراككم بالله الأوثان : مثل من سوّى بين عبد مملوك عاجز عن التصرف ، وبين حرّ مالك قد رزقه الله مالاً فهو يتصرف فيه وينفق منه كيف شاء . فإن قلت : لم قال { مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ على شَىْء } وكل عبد مملوك ، وغير قادر على التصرف؟ قلت : أما ذكر المملوك فليميز من الحرّ؛ لأن اسم العبد يقع عليهما جميعاً ، لأنهما من عباد الله . وأما { لاَّ يَقْدِرُ على شَىْء } فليجعل غير مكاتب ولا مأذون له؛ لأنهما يقدران على التصرف . واختلفوا في العبد هل يصح له ملك؟ والمذهب الظاهر أنه لا يصحّ له . فإن قلت : { من } في قوله { وَمَن رزقناه } ما هي؟ قلت : الظاهر أنها موصوفة ، كأنه قيل : وحراً رزقناه؛ ليطابق عبداً . ولا يمتنع أن تكون موصولة . فإن قلت : لم قيل { يَسْتَوُونَ } على الجمع؟ قلت : معناه : هل يستوي الأحرار والعبيد؟
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)
الأبكم الذي ولد أخرس ، فلا يَفهم ولا يُفهم { وَهُوَ كَلٌّ على مَوْلاهُ } أي ثقل وعيال على من يلي أمره ويعوله { أَيْنَمَا يُوَجّههُّ } حيثما يرسله ويصرفه في مطلب حاجة أو كفاية مهم ، لم ينفع ولم يأت بنجح { هَلْ يَسْتَوِى هُوَ وَمَن } هو سليم الحواس نفاعاً ذو كفايات ، مع رشد وديانة ، فهو { يَأْمُرُ } الناس { بالعدل } والخير { وَهُوَ } في نفسه { على صراط مُّسْتَقِيمٍ } على سيرة صالحة ودين قويم . وهذا مثل ثان ضربه الله لنفسه ولما يفيض على عباده ويشملهم من آثار رحمته وألطافه ونعمه الدينية والدنيوية ، وللأصنام التي هي أموات لا تضر ولا تنفع وقرىء : «أينما يوجه» ، بمعنى أينما يتوجه ، من قولهم : أينما أوجه ألق سعداً : وقرأ ابن مسعود : «أينما يُوَجَّهَ» ، على البناء للمفعول .
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)
{ وَللَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض } أي يختصّ به علم ما غاب فيهما عن العباد وخفي عليهم علمه . أو أراد بغيب السموات والأرض : يوم القيامة ، على أن علمه غائب عن أهل السموات والأرض لم يطلع عليه أحد منهم { إِلاَّ كَلَمْحِ البصر أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } أي هو عند الله وإن تراخى ، كما تقولون أنتم في الشيء الذي تستقربونه : هو كلمح البصر أو هو أقرب ، إذا بالغتم في استقرابه . ونحوه قوله : { ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون } [ الحج : 47 ] أي هو عنده دان وهو عندكم بعيد . وقيل : المعنى أن إقامة الساعة وإماتة الأحياء وإحياء الأموات من الأولين والآخرين ، يكون في أقرب وقت وأوحاه ، { إِنَّ الله على كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ } فهو يقدر على أن يقيم الساعة ويبعث الخلق ، لأنه بعض المقدورات . ثم دل على قدرته بما بعده .
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)
قرىء «أمهاتكم» بضم الهمزة وكسرها ، والهاء مزيدة في أمات ، كما زيدت في أراق ، فقيل : أهراق . وشذت زيادتها في الواحدة قال :
أُمَّهَتِي خِنْدِفٌ وَإلْيَاسُ أبي ... { لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا } في موضع الحال . ومعناه : غير عالمين شيئاً من حق المنعم الذي خلقكم في البطون ، وسوّاكم وصوّركم ، ثم أخرجكم من الضيق إلى السعة . وقوله : { وَجَعَلَ لَكُمُ } معناه : وما ركب فيكم هذه الأشياء إلا آلات لإزالة الجهل الذي ولدتم عليه واجتلاب العلم والعمل به ، من شكر المنعم ، وعبادته ، والقيام بحقوقه ، والترقي إلى ما يسعدكم . والأفئدة في فؤاد ، كالأغربة في غراب ، وهو من جموع القلة التي جرت مجرى جموع الكثرة ، والقلة إذا لم يرد في السماع غيرها ، كما جاء شسوع في جمع شسع لا غير ، فجرت ذلك المجرى .
أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)
قرىء : «ألم يروا» ، بالتاء والياء { مسخرات } مذللات للطيران بما خلق لها من الأجنحة والأسباب المواتية لذلك . والجوّ : الهواء المتباعد من الأرض في سمت العلوّ والسكاك أبعد منه ، واللوح مثله { مَا يُمْسِكُهُنَّ } في قبضهن وبسطهن ووقوفهن { إِلاَّ الله } بقدرته .
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80)
{ مِن بُيُوتِكُمْ } التي تسكنونها من الحجر والمدر والأخبية وغيرها . والسكن : فعل بمعنى مفعول ، وهو ما يسكن إليه وينقطع إليه من بيت أو إلف { بُيُوتًا } هي القباب والأبنية من الأدم والأنطاع { تَسْتَخِفُّونَهَا } ترونها خفيفة المحمل في الضرب والنقض والنقل { يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إقامتكم } أي يوم ترحلون خف عليكم حملها وثقلها ، ويوم تنزلون وتقيمون في مكان لم يثقل عليكم ضربها . أو هي خفيفة عليكم في أوقات السفر والحضر جيمعاً ، على أنّ اليوم بمعنى الوقت { ومتاعا } وشيئاً ينتفع به { إلى حِينٍ } إلى أن تقضوا منه أوطاركم . أو إلى أن يبلى ويفنى أو إلى أن تموتوا . وقرىء : «يوم ظعنكم» ، بالسكون .
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)
{ مّمَّا خَلَقَ } من الشجر وسائر المستظلات { أكنانا } جمع كنّ ، وهو ما يستكنّ به من البيوت المنحوتة في الجبال والغيران والكهوف { سَرَابِيلَ } هي القمصان والثياب من الصوف والكتان والقطن وغيرها { تَقِيكُمُ الحر } لم يذكر البرد؛ لأنّ الوقاية من الحرّ أهمّ عندهم ، وقلما يهمهم البرد لكونه يسيراً محتملاً . وقيل : ما يقي من الحرّ يقي من البرد فدل ذكر الحرّ على البرد { وسرابيل تَقِيكُم بَأْسَكُمْ } يريد الدروع والجواشن والسربال عامّ يقع على كل ما كان من حديد وغيره { لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } أي تنظرون في نعمه الفائضة فتؤمنون به وتنقادون له . وقرىء : «تسلمون» ، من السلامة : أي تشكرون فتسلمون من العذاب . أو تسلم قلوبكم من الشرك . وقيل : تسلمون من الجراح بلبس الدروع .
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)
{ فَإِن تَوَلَّوْاْ } فلم يقبلوا منك فقد تمهد عذرك بعدما أدّيت ما وجب عليك من التبليغ ، فذكر سبب العذر وهو البلاغ ليدل على المسبب { يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ الله } التي عددناها حيث يعترفون بها وأنها من الله { ثُمَّ يُنكِرُونَهَا } بعبادتهم غير المنعم بها وقولهم : هي من الله ولكنها بشفاعة آلهتنا . وقيل : إنكارهم قولهم ورثناها من آبائنا . وقيل : قولهم لولا فلان ما أصبت كذا لبعض نعم الله . وإنما لا يجوز التكلم بنحو هذا إذا لم يعتقد أنها من الله وأنه أجراها على يد فلان وجعله سبباً في نيلها { وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون } أي الجاحدون غير المعترفين . وقيل : «نعمة الله» نبوّة محمد عليه الصلاة والسلام ، كانوا يعرفونها ثم ينكرونها عناداً ، وأكثرهم الجاحدون المنكرون بقلوبهم . فإن قلت : ما معنى ثم؟ قلت : الدلالة على أن إنكارهم أمر مستبعد بعد حصول المعرفة؛ لأنّ حق من عرف النعمة أن يعترف لا أن ينكر .
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85)
{ شَهِيداً } نبيهاً يشهد لهم وعليهم بالإيمان والتصديق ، والكفر والتكذيب { ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } في الاعتذار . والمعنى لا حجة لهم ، فدل بترك الإذن على أن لا حجة لهم ولا عذر ، وكذا عن الحسن { وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } ولا هم يسترضون ، أي : لا يقال لهم أرضوا ربكم؛ لأن الآخرة ليست بدار عمل . فإن قلت : فما معنى ثم هذه؟ قلت : معناها أنهم يمنون بعد شهادة الأنبياء بما هو أطم منها ، وهو أنهم يمنعون الكلام فلا يؤذن لهم في إلقاء معذرة ولا إدلاء بحجة . وانتصاب اليوم بمحذوف تقديره : واذكر يوم نبعث ، أو يوم نبعث وقعوا فيما وقعوا فيه ، وكذلك إذا رأوا العذاب بغتهم وثقل عليهم { فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } كقوله { بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ } [ الأنبياء : 40 ] الآية .
وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87)
إن أرادوا بالشركاء آلهتهم ، فمعنى { شُرَكَآؤُنَا } آلهتنا التي دعوناها شركاء . وإن أرادوا الشياطين ، فلأنهم شركاؤهم في الكفر وقرناؤهم في الغيّ : و { ندعو } بمعنى نعبد . فإن قلت : لم قالوا : { إِنَّكُمْ لكاذبون } وكانوا يعبدونهم على الصحة؟ قلت : لما كانوا غير راضين بعبادتهم فكأن عبادتهم لم تكن عبادة . والدليل عليه قول الملائكة { كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن } [ سبأ : 41 ] يعنون أن الجن كانوا راضين بعبادتهم لا نحن ، فهم المعبودون دوننا . أو كذبوهم في تسميتهم شركاء وآلهة تنزيها لله من الشريك . وإن أريد بالشركاء الشياطين ، جاز أن يكون «كاذبين» في قولهم { إِنَّكُمْ لكاذبون } كما يقول الشيطان : إني كفرت بما أشركتموني من قبل { وَأَلْقَوْاْ } يعني الذين ظلموا . وإلقاء السلم : الاستسلام لأمر الله وحكمه بعد الإباء والاستكبار في الدنيا { وَضَلَّ عَنْهُم } وبطل عنهم { مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } من أن لله شركاء ، وأنهم ينصرونهم ويشفعون لهم حين كذبوهم وتبرؤا منهم .
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)
{ الذين كَفَرُواْ } في أنفسهم ، وحملوا غيرهم على الكفر : يضاعف الله عقابهم كما ضاعفوا كفرهم . وقيل في زيادة عذابهم حيات أمثال البخت وعقارب أمثال البغال تلسع إحداهن اللسعة فيجد صاحبها حمتها أربعين خريفاً . وقيل : يخرجون من النار إلى الزمهرير فيبادرون من شدة برده إلى النار { بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ } بكونهم مفسدين الناس بصدّهم عن سبيل الله .
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
{ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مّنْ أَنفُسِهِمْ } يعني نبيهم؛ لأنه كان يبعث أنبياء الأمم فيهم منهم { وَجِئْنَا بِكَ } يا محمد { شَهِيدًا على هَؤُلآء } على أمتك { تِبْيَانًا } بياناً بليغاً ونظير «تبيان» «تلقاء» في كسر أوله ، وقد جوز الزجاج فتحه في غير القرآن . فإن قلت : كيف كان القرآن تبياناً { لّكُلّ شَىْء } ؟ قلت : المعنى أنه بين كل شيء من أمور الدين ، حيث كان نصاً على بعضها وإحالة على السنة ، حيث أمر فيه باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاعته . وقيل : وما ينطق عن الهوى . وحثاً على الإجماع في قوله : { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين } [ النساء : 115 ] وقد رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته اتباع أصحابه والاقتداء بآثارهم في قوله صلى الله عليه وسلم :
( 590 ) " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهديتم " وقد اجتهدوا وقاسوا ووطؤا طرق القياس والاجتهاد ، فكانت السنة والإجماع والقياس والاجتهاد ، مستندة إلى تبيان الكتاب ، فمن ثمّ كان تبياناً لكل شيء .
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
العدل هو الواجب؛ لأن الله تعالى عدل فيه على عباده فجعل ما فرضه عليهم واقعاً تحت طاقتهم { والإحسان } الندب؛ وإنما علق أمره بهما جميعاً؛ لأنّ الفرض لا بدّ من أن يقع فيه تفريط فيجبره الندب ، ولذلك
( 591 ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لمن علمه الفرائض فقال : والله لازدت فيها ولا نقصت - : " أفلح إن صدق " فعقد الفلاح بشرط الصدق والسلامة من التفريط وقال صلى الله عليه وسلم
( 592 ) " استقيموا ولن تحصوا " فما ينبغي أن يترك ما يجبر كسر التفريط من النوافل . والفواحش : ما جاوز حدود الله { والمنكر } ما تنكره العقول { والبغى } طلب التطاول بالظلم ، وحين أسقطت من الخطب لعنة الملاعين على أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه ، أقيمت هذه الآية مقامها . ولعمري إنها كانت فاحشة ومنكراً وبغياً ، ضاعف الله لمن سنها غضباً ونكالاً وخزياً ، إجابة لدعوة نبيه :
( 593 ) «وعاد من عاداه» وكانت سبب إسلام عثمان بن مظعون .
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)
عهد الله : هي البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام { إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } [ الفتح : 10 ] . { وَلاَ تَنقُضُواْ } إيمان البيعة { بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } أي بعد توثيقها باسم الله . وأكد ووكد : لغتان فصيحتان ، والأصل الواو ، والهمزة بدل { كَفِيلاً } شاهداً ورقيباً؛ لأن الكفيل مراع لحال المكفول به مهيمن عليه { وَلاَ تَكُونُواْ } في نقض الأيمان كالمرأة التي أنحت على غزلها بعد أن أحكمته وأبرمته فجعلته { أنكاثا } جمع نكث وهو ما ينكث فتله . قيل : هي ريطة بنت سعد بن تيم وكانت خرقاء ، اتخذت مغزلاً قدر ذراع وصنارة مثل أصبع وفلكة عظيمة على قدرها ، فكانت تغزل هي وجواريها من الغداة إلى الظهر ، ثم تأمرهنّ فينقضن ماغزلن { تَتَّخِذُونَ } حال و { دَخَلاً } أحد مفعولي اتخذ . يعني : ولا تنقضوا أيمانكم متخذيها دخلاً { بَيْنِكُمْ } أي مفسدة ودغلا { أَن تَكُونَ أُمَّةٌ } بسبب أن تكون أمة يعني جماعة قريش { هِىَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ } هي أزيد عدداً وأوفر مالاً . من أمة من جماعة المؤمنين { إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ الله بِهِ } الضمير لقوله : أن تكون أمة؛ لأنه في معنى المصدر ، أي : إنما يختبركم بكونهم أربى ، لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله وما عقدتم على أنفسكم ووكدتم من أيمان البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أم تغترون بكثرة قريش وثروتهم وقوّتهم وقلة المؤمنين وفقرهم وضعفهم؟ { وَلَيُبَيّنَنَّ لَكُمْ } إنذار وتحذير من مخالفة ملة الإسلام .
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)
{ وَلَوْ شَاء الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحدة } حنيفة مسلمة على طريق الإلجاء والاضطرار ، وهو قادر على ذلك { ولكن } الحكمة اقتضت أن يضلّ { مَن يَشَآء } وهو أن يخذل من علم أنه يختار الكفر ويصمم عليه { وَيَهْدِى مَن يَشَاء } وهو أن يلطف بمن علم أنه يختار الإيمان . يعني : أنه بنى الأمر على الاختيار وعلى ما يستحق به اللطف والخذلان والثواب والعقاب ولم يبنه على الإجبار الذي لا يستحق به شيء من ذلك ، وحققه بقوله : { وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } ولو كان هو المضطرّ إلى الضلال والاهتداء ، لما أثبت لهم عملا يسئلون عنه .
وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94)
ثم كرر النهي عن اتخاذ الأيمان دخلا بينهم ، تأكيداً عليهم وإظهاراً لعظم ما يركب منه { فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا } فتزلّ أقدامكم عن محجة الإسلام بعد ثبوتها عليها { وَتَذُوقُواْ السوء } في الدنيا بصدودكم { عَن سَبِيلِ الله } وخروجكم من الدين . أو بصدّكم غيركم؛ لأنهم لو نقضوا أيمان البيعة وارتدّوا ، لا تخذوا نقضها سنة لغيرهم يستنون بها { وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } في الآخرة .
وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95)
كان قوماً ممن أسلم بمكة زين لهم الشيطان - لجزعهم مما رأوا من غلبة قريش واستضعافهم المسلمين ، وإيذائهم لهم ، ولما كانوا يعدونهم إن رجعوا من المواعيد - أن ينقضوا ما بايعوا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فثبتهم الله ، { وَلاَ تَشْتَرُواْ } ولا تستبدلوا { بِعَهْدِ الله } وبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم { ثَمَناً قَلِيلاً } عرضاً من الدنيا يسيراً ، وهو ما كانت قريش يعدونهم ويمنونهم إن رجعوا { إِنَّمَا عِنْدَ الله } من إظهاركم وتغنيمكم ، ومن ثواب الآخرة { خَيْرٌ لَّكُمْ } .
مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96)
{ مَا عِندَكُمْ } من أعراض الدنيا { يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله } من خزائن رحمته { بَاقٍ } لا ينفد وقرىء : «لنجزين» بالنون والياء { الذين صَبَرُواْ } على أذى المشركين ومشاقّ الإسلام . فإن قلت : لم وحدت القدم ونكرت؟ قلت : لاستعظام أن تزلّ قدم واحدة عن طريق الحق بعد أن ثبتت عليه ، فكيف بأقدام كثيرة؟
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)
فإن قلت : { مِنْ } متناول في نفسه للذكر والأنثى ، فما معنى تبيينه بهما؟ قلت : هو مبهم صالح على الإطلاق للنوعين إلا أنه إذا ذكر كان الظاهر تناوله للذكور ، فقيل { مّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى } على التبيين ، ليعمّ الموعد النوعين جميعاً { حياوة طَيِّبَةً } يعني في الدنيا وهو الظاهر ، لقوله { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ } وعده الله ثواب الدنيا والآخرة ، كقوله { فاتاهم الله ثَوَابَ الدنيا وَحُسْنَ ثَوَابِ الأخرة } [ آل عمران : 148 ] وذلك أنّ المؤمن مع العمل الصالح موسراً كان أو معسراً يعيش عيشاً طيباً إن كان موسراً ، فلا مقال فيه . وإن كان معسراً ، فمعه ما يطيب عيشه وهو القناعة والرضا بقسمة الله . وأمّا الفاجر فأمره على العكس : إن كان معسراً فلا إشكال في أمره ، وإن كان موسراً فالحرص لا يدعه أن يتهنأ بعيشه . وعن ابن عباس رضي الله عنه : الحياة الطيبة : الرزق الحلال . وعن الحسن : القناعة . وعن قتادة : يعني في الجنة . وقيل : هي حلاوة الطاعة والتوفيق في قلبه .
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)
لما ذكر العمل الصالح ووعد عليه ، وصل به قوله { فَإِذَا قَرَأْتَ القرءان فاستعذ بالله } إيذاناً بأن الاستعاذة من جمله الأعمال الصالحة التي يجزل الله عليها الثواب . والمعنى : فإذا أردت قراءة القرآن فاستعذ كقوله { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } [ المائدة : 6 ] وكقولك : إذا أكلت فسمّ الله . فإن قلت : لم عبر عن إرادة الفعل بلفظ الفعل؟ قلت : لأن الفعل يوجد عند القصد والإرادة بغير فاصل وعلى حسبه ، فكان منه بسبب قويّ وملابسة ظاهرة . وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه :
( 594 ) قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم ، فقال لي : « يا ابن أمّ عبد ، قل : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، هكذا أقرأنيه جبريل عليه السلام عن القلم عن اللوح المحفوظ » { لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ } أي تسلط وولاية على أولياء الله ، يعني : أنهم لا يقبلون منه ولا يطيعونه فيما يريد منهم من اتباع خطواته { إِنَّمَا سلطانه } على من يتولاه ويطيعه { بِهِ مُشْرِكُونَ } الضمير يرجع إلى ربهم . ويجوز أن يرجع إلى الشيطان ، على معنى : بسببه وغروره ووسوسته .
وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
تبديل الآية مكان الآية : هو النسخ ، والله تعالى ينسخ الشرائع بالشرائع لأنها مصالح ، وما كان مصلحة أمس يجوز أن يكون مفسدة اليوم ، وخلافه مصلحة . والله تعالى عالم بالمصالح والمفاسد ، فيثبت ما يشاء وينسخ ما يشاء بحكمته . وهذا معنى قوله { والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قالوا إِنَّمآ أَنتَ مُفْتَرٍ } وجدوا مدخلاً للطعن فطعنوا ، وذلك لجهلهم وبعدهم عن العلم بالناسخ والمنسوخ وكانوا يقولون : إن محمداً يسخر من أصحابه : يأمرهم اليوم بأمر وينهاهم عنه غداً ، فيأتيهم بما هو أهون؛ ولقد افتروا ، فقد كان ينسخ الأشق بالأهون ، والأهون بالأشق ، والأهون بالأهون ، والأشق بالأشق ، لأنّ الغرض المصلحة ، لا الهوان والمشقة . فإن قلت : هل في ذكر تبديل الآية بالآية دليل على أن القرآن إنما ينسخ بمثله ، ولا يصح بغيره من السنة والإجماع والقياس؟ قلت : فيه أن قرآناً ينسخ بمثله وليس فيه نفي نسخه بغيره ، على أن السنة المكشوفة المتواترة مثل القرآن في إيجاب العلم ، فنسخه بها كنسخه بمثله ، وأمّا الإجماع والقياس والسنة غير المقطوع بها فلا يصح نسخ القرآن بها .
قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)
في { يُنَزّلٍ } و { نَزَّلَهُ } وما فيهما من التنزيل شيئاً على حسب الحوادث والمصالح : إشارة إلى أن التبديل من باب المصالح كالتنزيل ، وأن ترك النسخ بمنزلة إنزاله دفعة واحدة في خروجه عن الحكمة . و { رُوحُ القدس } جبريل عليه السلام ، أضيف إلى القدس وهو الطهر ، كما يقال : حاتم الجود وزيد الخير ، والمراد الروح المقدّس ، وحاتم الجواد ، وزيد الخير . والمقدّس المطهر من المآثم . وقرىء : بضم الدال وسكونها { بالحق } في موضع الحال ، أي نزله ملتبساً بالحكمة ، يعني أن النسخ من جملة الحق { لِيُثَبِّتَ الذين ءَامَنُواْ } ليبلوهم بالنسخ ، حتى إذا قالوا فيه : هو الحق من ربنا والحكمة ، حكم لهم بثبات القدم وصحة اليقين وطمأنينة القلوب ، على أن الله حكيم فلا يفعل إلا ما هو حكمة وصواب { وَهدىً وبشرى } مفعول لهما معطوفان على محل ليثبت . والتقدير : تثبيتاً لهم وإرشاداً وبشارة ، وفيه تعريض بحصول أضداد هذه الخصال لغيرهم . وقرىء : «ليثبت» ، بالتخفيف .
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)
أرادوا بالبشر : غلاماً كان لحويطب بن عبد العزى قد أسلم وحسن إسلامه اسمه عائش أو يعيش وكان صاحب كتب . وقيل : هو جبر ، غلام رومي كان لعامر بن الحضرمي . وقيل عبدان : جبر ويسار ، كانا يصنعان السيوف بمكة ويقرآن التوراة والإنجيل ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرّ وقف عليهما يسمع ما يقرآن ، فقالوا : يعلمانه ، فقيل لأحدهما ، فقال : بل هو يعلمني . وقيل : هو سلمان الفارسي . واللسان : اللغة . ويقال : ألحد القبر ولحده ، وهو ملحد وملحود ، إذا أمال حفره عن الاستقامة ، فحفر في شق منه ثم استعير لكل إمالة عن استقامة ، فقالوا : ألحد فلان في قوله ، وألحد في دينه . ومنه الملحد؛ لأنه أمال مذهبه عن الأديان كلها ، لم يمله عن دين إلى دين . والمعنى : لسان الرجل الذي يميلون قولهم عن الاستقامة إليه لسان { أَعْجَمِىٌّ } غير بين { وهذا } القرآن { لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُّبِينٌ } ذو بيان وفصاحة ردّاً لقولهم وإبطالاً لطعنهم وقرىء : «يلحدون» بفتح الياء والحاء . وفي قراءة الحسن : «اللسان الذي يلحدون إليه» بتعريف اللسان . فإن قلت : الجملة التي هي قوله : { لّسَانُ الذى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌّ } ما محلها؟ قلت : لا محل لها؛ لأنها مستأنفة جواب لقولهم . ومثله قوله { الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124 ] بعد قوله { وَإِذَا جَاءتْهُمْ ءايَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَا أُوتِىَ رُسُلُ الله } [ الأنعام : 124 ] .
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)
{ إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَات الله } أي يعلم الله منهم أنهم لا يؤمنون { لاَ يهابهم الله } لا يلطف بهم؛ لأنهم من أهل الخذلان في الدنيا والعذاب في الآخرة ، لا من أهل اللطف والثواب { إِنَّمَا يَفْتَرِى الْكَذِبَ } ردّ لقولهم { إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ } [ النحل : 101 ] يعني : إنما يليق افتراء الكذب بمن لا يؤمن ، لأنه لا يترقب عقاباً عليه { وَأُوْلئِكَ } إشارة إلى قريش { هُمُ الكاذبون } أي هم الذين لا يؤمنون فهم الكاذبون ، أو إلى الذين لا يؤمنون . أي أولئك هم الكاذبون على الحقيقة الكاملون في الكذب؛ لأنّ تكذيب آيات الله أعظم الكذب : أو أولئك هم الذين عادتهم الكذب لا يبالون به في كل شيء ، لا تحجبهم عنه مروءة ولا دين . أو أولئك هم الكاذبون في قولهم : { إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ } [ النحل : 101 ] .
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109)
{ مَن كَفَرَ } بدل من الذين لا يؤمنون بآيات الله ، على أن يجعل { وَأُوْلئِكَ هُمُ الكاذبون } [ النحل : 105 ] اعتراضاً بين البدل والمبدل منه . والمعنى : إنما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه واستثنى منهم المكره فلم يدخل تحت حكم الافتراء ، ثم قال : { ولكن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا } أي طاب به نفساً واعتقده { فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مّنَ الله } ويجوز أن يكون بدلاً من المبتدأ الذي هو { أولئك } على : ومن كفر بالله من بعد إيمانه هم الكاذبون . أو من الخبر الذي هو الكاذبون ، على : وأولئك هم من كفر بالله من بعد إيمانه . ويجوز أن ينتصب على الذمّ . وقد جوّزوا أن يكون { مَن كَفَرَ بالله } شرطاً مبتدأ ، ويحذف جوابه؛ لأن جواب { مَّن شَرَحَ } دال عليه ، كأنه قيل : من كفر بالله فعليهم غضب ، إلا من أكره ، ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب ، روي
( 595 ) أنّ ناساً من أهل مكة فتنوا فارتدوا عن الإسلام بعد دخولهم فيه ، وكان فيهم من أكره فأجرى كلمة الكفر على لسانه وهو معتقد للإيمان ، منهم عمار ، وأبواه - ياسر وسمية - وصهيب ، وبلال ، وخباب ، وسالم : عذبوا ، فأمّا سمية فقد ربطت بين بعيرين ووجىء في قبلها بحربة ، وقالوا : إنك أسلمت من أجل الرجال فقتلت ، وقتل ياسر وهما أول قتيلين في الإسلام ، وأما عمار فقد أعطاهم ما أرادوا بلسانه مُكرهاً . فقيل يا رسول الله ، إن عماراً كفر ، فقال : «كلا ، إنّ عماراً مليء إيماناً من قرنه إلى قدمه ، واختلط الإيمان بلحمه ودمه» فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه وقال : «مالكا إن عادوا لك فعد لهم بما قلت» ومنهم جبر مولى الحضرمي . أكرهه سيده فكفر ثم أسلم مولاه وأسلم ، وحسن إسلامهما ، وهاجرا فإن قلت : أي الأمرين أفضل ، أفعل عمار أم فعل أبويه؟ قلت : بل فعل أبويه؛ لأنّ في ترك التقية والصبر على القتل إعزازاً للإسلام . وقد روي :
( 596 ) أنّ مسيلمة أخذ رجلين فقال لأحدهما : ما تقول في محمد؟ قال : رسول الله . قال : فما تقول فيّ؟ قال أنت أيضاً ، فخلاه . وقال للآخر : ما تقول في محمد؟ قال : رسول الله . قال : فما تقول فيّ؟ قال أنا أصمّ . فأعاد عليه ثلاثاً ، فأعاد جوابه ، فقتله ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أما الأوّل فقد أخذ برخصة الله . وأمّا الثاني فقد صدع بالحق فهنيئاً له " { ذلك } إشارة إلى الوعيد ، وأنّ الغضب والعذاب يلحقانهم بسبب استحبابهم الدنيا على الآخرة ، واستحقاقهم خذلان الله بكفرهم { وأولئك هُمُ الغافلون } الكاملون في الغفلة الذين لا أحد أغفل منهم؛ لأنّ الغفلة عن تدبر العواقب هي غاية الغفلة ومنتهاها .
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)
{ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ } دلالة على تباعد حال هؤلاء من حال أولئك ، وهم عمار وأصحابه . ومعنى : إنّ ربك لهم ، أنه لهم لا عليهم ، بمعنى أنه وليهم وناصرهم لا عدوّهم وخاذلهم ، كما يكون الملك للرجل لا عليه ، فيكون محمياً منفوعاً غير مضرور { مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ } بالعذاب والإكراه على الكفر . وقرىء : «فتنوا» على البناء للفاعل ، أي : بعد ما عذبوا المؤمنين كالحضرمي وأشباهه { مِن بَعْدِهَا } من بعد هذه الأفعال وهي الهجرة والجهاد والصبر { يَوْمَ تَأْتِى } منصوب برحيم . أو بإضمار اذكر . فإن قلت : ما معنى النفس المضافة إلى النفس؟ قلت : يقال لعين الشيء وذاته نفسه ، وفي نقيضه غيره ، والنفس الجملة كما هي ، فالنفس الأولى هي الجملة ، والثانية عينها وذاتها ، فكأنه قيل : يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته لا يهمه شأن غيره ، كل يقول : نفسي نفسي . ومعنى المجادلة عنها : الاعتذار عنها كقوله : { هَؤُلاء أَضَلُّونَا } [ الأعراف : 38 ] ، { مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] ونحو ذلك .
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)
{ وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً } أي جعل القرية التي هذه حالها مثلا لكل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة ، فكفروا وتولوا ، فأنزل الله بهم نقمته . فيجوز أن تراد قرية مقدرة على هذه الصفة ، وأن تكون في قرى الأوّلين قرية كانت هذه حالها ، فضربها الله مثلا لمكة إنذاراً من مثل عاقبتها { مُّطْمَئِنَّةً } لا يزعجها خوف ، لأن الطمأنينة مع الأمن ، والانزعاج والقلق مع الخوف { رَغَدًا } واسعاً . والأنعم : جمع نعمة ، على ترك الاعتداد بالتاء ، كدرع وأدرع . أو جمع نعم ، كبؤس وأبؤس . وفي الحديث :
( 597 ) نادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم بالموسم بمنى : " إنها أيام طعم ونعم فلا تصوموا " فإن قلت : الإذاقة واللباس استعارتان ، فما وجه صحتهما؟ والإذاقة المستعارة موقعة على اللباس المستعار ، فما وجه صحة إيقاعها عليه؟ قلت : أما الإذاقة فقد جرت عندهم مجرى الحقيقة لشيوعها في البلايا والشدائد وما يمسّ الناس منها ، فيقولون : ذاق فلان البؤس والضر ، وأذاقه العذاب : شبه ما يدرك من أثر الضرر والألم بما يدرك من طعم المرّ والبشع . وأما اللباس فقد شبه به لاشتماله على اللابس : ما غشي الإنسان والتبس به من بعض الحوادث . وأما إيقاع الإذاقة على لباس الجوع والخوف ، فلأنه لما وقع عبارة عما يغشى منهما ويلابس ، فكأنه قيل : فأذاقه ما غشيهم من الجوع والخوف ، ولهم في نحو هذا طريقان لا بد من الإحاطة بهما ، فإن الاستنكار لا يقع إلا لمن فقدهما ، أحدهما : أن ينظروا فيه إلى المستعار له ، كما نظر إليه ههنا . ونحوه قول كثير :
غَمْرُ الرِّدَاءِ إذَا تَبَسَّمَ ضَاحِكا ... غَلِقَتْ لِضِحْكَتِهِ رِقَابُ المَالِ
استعارة الرداء للمعروف ، لأنه يصون عرض صاحبه صون الرداء لما يلقى عليه . ووصفه بالغمر الذي هو وصف المعروف والنوال ، لا صفة الرداء ، نظر إلى المستعار له . والثاني : أن ينظروا فيه إلى المستعار ، كقوله :
يُنَازِعُنِي رِدَائِي عَبْدُ عَمْرو ... رُوَيْدَكَ يَا أَخَا عَمْرو بْنِ بَكْر
ليَ الشطْرُ الَّذِي مَلَكَتْ يَمِيِني ... وَدُونَكَ فَاعْتَجِرْ مِنْهُ بِشَطْرِ
أراد بردائه سيفه ، ثم قال : فاعتجر منه بشطر ، فنظر إلى المستعار في لفظ الاعتجار ، ولو نظر إليه فيما نحن فيه لقيل : فكساهم لباس الجوع والخوف ، ولقال كثير : ضافي الرداء إذا تبسم ضاحكاً { وَهُمْ ظالمون } في حال التباسهم بالظلم ، كقوله : ( الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ) نعوذ بالله من مفاجأة النقمة والموت على الغفلة . وقرىء : «والخوف» عطفاً على اللباس ، أو على تقدير حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه . أصله : ولباس الخوف . وقرىء : «لباس الخوف والجوع» .
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115)
لما وعظهم بما ذكر من حال القرية وما أوتيت به من كفرها وسوء صنيعها ، وصل بذلك بالفاء في قوله { فَكُلُواْ } صدّهم عن أفعال الجاهلية ومذاهبهم الفاسدة التي كانوا عليها ، بأن أمرهم بأكل ما رزقهم الله من الحلال الطيب ، وشكر إنعامه بذلك ، وقال : { إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } يعني تطيعون . أو إن صحّ زعمكم أنكم تعبدون الله بعبادة الآلهة ، لأنها شفعاؤكم عنده . ثم عدد عليهم محرمات الله ، ونهاهم عن تحريمهم وتحليلهم بأهوائهم وجهالاتهم ، دون اتباع ما شرع الله على لسان أنبيائه .
وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)
وانتصاب { الكذب } بلا تقولوا ، على : ولا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم من البهائم بالحل والحرمة في قولكم { مَا فِى بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا } [ الأنعام : 139 ] من غير استناد ذلك الوصف إلى وحي من الله أو إلى قياس مستند إليه ، واللام مثلهافي قولك : ولا تقولوا لما أحل الله هو حرام . وقوله : { هذا حلال وهذا حَرَامٌ } بدل من الكذب . ويجوز أن يتعلق بتصف على إرادة القول ، أي : ولا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم ، فتقول هذا حلال وهذا حرام . ولك أن تنصب الكذب بتصف ، وتجعل «ما» مصدرية ، وتعلق { هذا حلال وهذا حَرَامٌ } بلا تقولوا : على ولا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لوصف ألسنتكم الكذب ، أي : لا تحرموا ولا تحللوا لأجل قول تنطق به ألسنتكم ويجول في أفواهكم ، لا لأجل حجة وبينة ، ولكن قول ساذج ودعوى فارغة . فإن قلت : ما معنى وصف ألسنتهم الكذب؟ قلت : هو من فصيح الكلام وبليغه ، جعل قولهم كأنه عين الكذب ومحضه ، فإذا نطقت به ألسنتهم فقد حلت الكذب بحليته وصوّرته بصورته ، كقولهم : وجهها يصف الجمال . وعينها تصف السحر . وقرىء : «الكذب» بالجرّ صفة لما المصدرية ، كأنه قيل : لوصفها الكذب ، بمعنى الكاذب ، كقوله تعالى { بِدَمٍ كَذِبٍ } [ يوسف : 18 ] والمراد بالوصف : وصفها البهائم بالحل والحرمة . وقرىء : «الكذب» جمع كذوب بالرفع ، صفة للألسنة ، وبالنصب على الشتم . أو بمعنى : الكلم الكواذب ، أو هو جمع الكذاب من قولك : كذب كذاباً ، ذكره ابن جني . واللام في { لّتَفْتَرُواْ } من التعليل الذي لا يتضمن معنى الغرض { متاع قَلِيلٌ } خبر مبتدأ محذوف ، أي منفعتهم فيما هم عليه من أفعال الجاهلية منفعة قليلة وعقابها عظيم .
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)
{ مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ } يعني في سورة الأنعام .
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)
{ بِجَهَالَةٍ } في موضع الحال ، أي : عملوا السوء جاهلين غير عارفين بالله وبعقابه ، أو غير متدبرين للعاقبة لغلبة الشهوة عليهم { مِن بَعْدِهَا } من بعد التوبة .
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122)
{ كَانَ أُمَّةً } فيه وجهان ، أحدهما : أنه كان وحده أمّة من الأمم لكماله في جميع صفات الخير كقوله :
وَلَيْسَ عَلَى اللَّهِ بِمُسْتَنْكَرٍ ... أنْ يَجْمَع الْعَالَمَ في وَاحِدِ
وعن مجاهد : كان مؤمناً وحده والناس كلهم كفار . والثاني : أن يكون أمّة بمعنى مأموم ، أي : يؤمّه الناس ليأخذوا منه الخير ، أو بمعنى مؤتم به كالرحلة والنخبة ، وما أشبه ذلك مما جاء من فعلة بمعنى مفعول ، فيكون مثل قوله { قَالَ إِنّى جاعلك لِلنَّاسِ إِمَامًا } [ البقرة : 124 ] وروى الشعبي عن فروة بن نوفل الأشجعي عن ابن مسعود أنه قال : إنّ معاذاً كان أمّة قانتاً لله ، فقلت : غلطت ، إنما هو إبراهيم . فقال : الأمّة الذي يعلم الخير . والقانت المطيع لله ورسوله ، وكان معاذ كذلك . وعن عمر رضي الله عنه أنه قال - حين قيل له : ألا تستخلف؟- : لو كان أبو عبيدة حياً لاستخلفته : ولو كان معاذ حياً لاستخلفته . ولو كان سالم حياً لاستخلفته فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
( 598 ) « أبو عبيدة أمين هذه الأمّة ، ومعاذ أمّة قانت لله ، ليس بينه وبين الله يوم القيامة إلا المرسلون ، وسالم شديد الحب لله ، لو كان لا يخاف الله لم يعصه » وهو ذلك المعنى ، أي : كان إماماً في الدين؛ لأنّ الأئمة معلموا الخير . والقانت : القائم بما أمره الله . والحنيف : المائل إلى ملة الإسلام غير الزائل عنه . ونفى عنه الشرك تكذيباً لكفار قريش في زعمهم أنهم على ملة أبيهم إبراهيم { شَاكِراً لأنْعُمِهِ } روي أنه كان لا يتغدّى إلا مع ضيف ، فلم يجد ذات يوم ضيفاً ، فأخر غداءه ، فإذا هو بفوج من الملائكة في صورة البشر ، فدعاهم إلى الطعام فخيلوا له أنّ بهم جذاماً؟ فقال : الآن وجبت مواكلتكم شكراً لله على أنه عافاني وابتلاكم { اجتباه } اختصه واصطفاه للنبوّة { وَهَدَاهُ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ } إلى ملة الإسلام { حَسَنَةٌ } عن قتادة : هي تنويه الله بذكره ، حتى ليس من أهل دين إلا وهم يتولونه . وقيل : الأموال والأولاد ، وقيل : قول المصلي منا : كما صليت على إبراهيم { لَمِنَ الصالحين } لمن أهل الجنة .
ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)
{ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } في «ثم» هذه ما فيها من تعظيم منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإجلال محله ، والإيذان بأنّ أشرف ما أوتي خليل الله إبراهيم من الكرامة ، وأجلّ ما أولي من النعمة : اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ملته . من قبل أنها دلت على تباعد هذا النعت في المرتبة من بين سائر النعوت التي أثنى الله عليه بها .
إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)
{ السبت } مصدر سبتت اليهود إذا عظمت سبتها . إنما جعل وبال السبت وهو المسخ { على الذين اختلفوا فِيهِ } واختلافهم فيه أنهم أحلوا الصيد فية تارة وحرّموه تارة ، وكان الواجب عليهم أن يتفقوا في تحريمه على كلمة واحدة بعد ما حتم الله عليهم الصبر عن الصيد فيه وتعظيمه . والمعنى في ذكر ذلك ، نحو المعنى في ضرب القرية التي كفرت بأنعم الله مثلاً ، وغير ما ذكر ، وهو الإنذار من سخط الله على العصاة والمخالفين لأوامره والخالعين ربقة طاعته . فإن قلت : ما معنى الحكم بينهم إذا كانوا جميعاً محلين أو محرّمين؟ قلت : معناه أنه يجازيهم جزاء اختلاف فعلهم في كونهم محلين تارة ومحرّمين أخرى ووجه آخر : وهو أنّ موسى عليه السلام أمرهم أن يجعلوا في الأسبوع يوماً للعبادة وأن يكون يوم الجمعة ، فأبوا عليه وقالوا : نريد اليوم الذي فرغ الله فيه من خلق السموات والأرض وهو السبت ، إلا شرذمة منهم قد رضوا بالجمعة ، فهذا اختلافهم في السبت لأن بعضهم اختاره وبعضهم اختار عليه الجمعة ، فأذن الله لهم في السبت وابتلاهم بتحريم الصيد فيه ، فأطاع أمر الله الراضون بالجمعة ، فكانوا لا يصيدون فيه ، وأعقابهم لم يصبروا عن الصيد فمسخهم الله دون أولئك ، وهو يحكم { بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة } فيجازي كل واحد من الفريقين بما يستوجبه . ومعنى جعل السبت : فرض عليهم تعظيمه وترك الاصطياد فيه . وقرىء : «إنما جعل السبت» ، على البناء للفاعل وقرأ عبد الله : «إنا أنزلنا السبت» .
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)
{ إلى سَبِيلِ رَبّكَ } إلى الإسلام { بالحكمة } بالمقالة المحكمة الصحيحة ، وهي الدليل الموضح للحق المزيل للشبهة { والموعظة الحسنة } وهي التي لا يخفى عليهم أنك تناصحهم بها وتقصد ما ينفعهم فيها . ويجوزأن يريد القرآن ، أي : ادعهم بالكتاب الذي هو حكمة وموعظة حسنة { وجادلهم بالتى هِىَ أَحْسَنُ } بالطريقة التي هي أحسن طرق المجادلة من الرفق واللين ، من غير فظاظة ولا تعنيف { إِنَّ رَّبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ } بهم فمن كان فيه خير كفاه الوعظ القليل والنصيحة اليسيرة ، ومن لا خير فيه عجزت عنه الحيل ، وكأنك تضرب منه في حديد بارد .
وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
سمي الفعل الأول باسم الثاني للمزاوجة . والمعنى : إن صنع بكم صنيع سوء من قتل أو نحوه ، فقابلوه بمثله ولا تزيدوا عليه . وقرىء : «وإن عقبتم فعقبوا» ، أي : وإن قفيتم بالانتصار فقفوا بمثل ما فعل بكم . روي
( 599 ) أن المشركين مثلوا بالمسلمين يوم أحد : بقروا بطونهم وقطعوا مذاكيرهم ، ما تركوا أحداً غير ممثول به إلا حنظلة بن الراهب ، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمزة وقد مثل به ، وروي : فرآه مبقور البطن فقال : " أما والذي أحلف به ، لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين مكانك " فنزلت ، فكفر عن يمينه وكفّ عما أراده ، ولا خلاف في تحريم المثلة . وقد وردت الأخبار بالنهي عنها حتى بالكلب العقور . إما أن يرجع الضمير في { لَهُوَ } إلى صبرهم وهو مصدر صبرتم . ويراد بالصابرين : المخاطبون ، أي : ولئن صبرتم لصبركم خير لكم ، فوضع الصابرون موضع الضمير ثناء من الله عليهم بأنهم صابرون على الشدائد . أو وصفهم بالصفة التي تحصل لهم إذا صبروا عن المعاقبة . وإما أن يرجع إلى جنس الصبر - وقد دل عليه صبرتم - ويراد بالصابرين جنسهم ، كأنه قيل : وللصبر خير وللصابرين ونحوه قوله تعالى { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله } [ الشورى : 40 ] . { وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ للتقوى } [ البقرة : 237 ] ثم قال لرسوله صلى الله عليه وسلم { واصبر } أنت فعزم عليه بالصبر { وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله } أي بتوفيقه وتثبيته وربطه على قلبك { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } أي على الكافرين ، كقوله { فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الكافرين } [ المائدة : 68 ] أو على المؤمنين وما فعل بهم الكافرون { وَلاَ تَكُ فِى ضَيْقٍ } وقرىء : «ولا تكن في ضيق» أي : ولا يضيقن صدرك من مكرهم والضيق : تخفيف الضيق ، أي في أمر ضيق . ويجوز أن يكون الضيق والضيق مصدرين ، كالقيل والقول { إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا } أي هو وليّ الذين اجتنبوا المعاصي { و } ولي { الذين هُمْ مُّحْسِنُونَ } في أعمالهم . وعن هرم ابن حيان أنه قيل له حين احتضر : أوص . فقال : إنما الوصية من المال ولا مال لي ، وأوصيكم بخواتم سورة النحل . عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 600 ) " من قرأ سورة النحل لم يحاسبه الله بما أنعم عليه في دار الدنيا وإن مات في يوم تلاها أو ليلته ، كان له من الأجر كالذي مات وأحسن الوصية " .
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
{ سُبْحَانَ } علم للتسبيح كعثمان للرجل ، وانتصابه بفعل مضمر متروك إظهاره ، تقديره : أسبح الله سبحان ، ثم نزل سبحان منزلة الفعل فسد مسدّه ، ودل على التنزيه البليغ من جميع القبائح التي يضيفها إليه أعداء الله . و { أسرى } وسرى لغتان . و { لَيْلاً } نصب على الظرف فإن قلت : الإسراء لا يكون إلا بالليل ، فما معنى ذكر الليل؟ قلت : أراد بقوله { لَيْلاً } بلفظ التنكير : تقليل مدّة الإسراء ، وأنه أسرى به في بعض الليل من مكة إلى الشأم مسيرة أربعين ليلة ، وذلك أنّ التنكير فيه قد دلّ على معنى البعضية . ويشهد لذلك قراءة عبد الله وحذيفة : «من الليل» ، أي بعض الليل ، كقوله { وَمِنَ اليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً } [ الإسراء : 79 ] يعني الأمر بالقيام في بعض الليل . واختلف في المكان الذي أسرى منه فقيل : هو المسجد الحرام بعينه ، وهو الظاهر . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم .
( 601 ) " بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل عليه السلام بالبراق " وقيل : أسري به من دار أم هانىء بنت أبي طالب والمراد بالمسجد الحرام : الحرم ، لإحاطته بالمسجد والتباسه به . وعن ابن عباس : الحرم كله مسجد وروي :
( 602 ) ( أنه كان نائماً في بيت أم هانىء بعد صلاة العشاء فأسرى به ورجع من ليلته ، وقص القصة على أم هانيء . وقال : مثل لي النبيون فصليت بهم وقام ليخرج إلى المسجد فتشبثت أم هانىء بثوبه فقال : مالك؟ قالت : أخشى أن يكذبك قومك إن أخبرتهم ، قال : وإن كذبوني ، فخرج فجلس إليه أبو جهل فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث الإسراء ، فقال أبو جهل : يا معشر بني كعب بن لؤي ، هلم فحدّثهم ، فمن بين مصفق وواضع يده على رأسه تعجباً وإنكاراً . وارتد ناس ممن كان قد آمن به ، وسعى رجال إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال : إن كان قال ذلك لقد صدق . قالوا : أتصدقه على ذلك؟ قال : إني لأصدقه على أبعد من ذلك ، فسمي الصدّيق . وفيهم من سافر إلى ماثمّ ، فاستنعتوه المسجد فجلى له بيت المقدس ، فطفق ينظر إليه وينعته لهم ، فقالوا : أمّا النعت فقد أصاب ، فقالوا : أخبرنا عن عيرنا ، فأخبرهم بعدد جمالها وأحوالها ، وقال : تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس ، يقدمها جمل أورق ، فخرجوا يشتدون ذلك اليوم نحو الثنية ، فقال قائل منهم : هذه والله الشمس قد شرقت ، فقال آخر : وهذه والله العير قد أقبلت يقدمها جمل أورق كما قال محمد ) .
ثم لم يؤمنوا وقالوا : ما هذا إلا سحر مبين ، وقد عرج به إلى السماء في تلك الليلة ، وكان العروج به من بيت المقدس وأخبر قريشاً أيضاً بما رأى في السماء من العجائب وأنه لقي الأنبياء وبلغ البيت المعمور وسدرة المنتهى واختلفوا في وقت الإسراء فقيل كان قبل الهجرة بسنة .
وعن أنس والحسن أنه كان قبل البعث واختلف في أنه كان في اليقظة أم في المنام فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت «والله ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن عرج بروحه» وعن معاوية : إنما عرج بروحه . وعن الحسن . كان في المنام رؤيا رآها . وأكثر الأقاويل بخلاف ذلك . والمسجد الأقصى : بيت المقدس ، لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد { بَارَكْنَا حَوْلَهُ } يريد بركات الدين والدنيا ، لأنه متعبد الأنبياء من وقت موسى ومهبط الوحي ، وهو محفوف بالأنهار الجارية والأشجار المثمرة . وقرأ الحسن : «ليريه» بالياء ، ولقد تصرف الكلام على لفظ الغائب والمتكلم فقيل : أسرى به ثم باركنا ليريه ، على قراءة الحسن ، ثم من آياتنا ، ثم إنه هو ، وهي طريقة الالتفات التي هي من طرق البلاغة { إِنَّهُ هُوَ السميع } لأقوال محمد { البصير } بأفعاله ، العالم بتهذبها وخلوصها ، فيكرمه ويقرّبه على حسب ذلك .
وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)
{ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ } قرىء بالياء على : «لئلا يتخذوا» ، وبالتاء على : أي «لا تتخذوا» كقولك : كتبت إليه أن أفعل كذا { وَكِيلاً } ربا تكلون إليه أموركم { ذُرّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا } نصب على الاختصاص . وقيل : على النداء فيمن قرأ «لا تتخذوا» بالتاء على النهي ، يعني : قلنا لهم لا تتخذوا من دوني وكيلا يا ذرية من حملنا { مَعَ نُوحٍ } وقد يجعل { وَكِيلاً ذُرّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا } مفعولي تتخذوا ، أي لا تجعلوهم أرباباً كقوله { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة والنبيين أَرْبَابًا } ومن ذرية المحمولين مع نوح عيسى وعزير عليهم السلام وقرىء : «ذرية من حملنا» بالرفع بدلا من واو { تَتَّخِذُواْ } وقرأ زيد بن ثابت : «ذِرية» ، بكسر الذال . وروي عنه أنه قد فسرها بولد الولد ، ذكرهم الله النعمة في إنجاء آبائهم من الغرق { إِنَّهُ } إن نوحاً { كَانَ عَبْدًا شَكُورًا } قيل : كان إذا أكل قال : الحمد لله الذي أطعمني ، ولو شاء أجاعني . وإذا شرب قال : الحمد لله الذي سقاني ، ولو شاء أظمأني . وإذا اكتسى قال : الحمد لله الذي كساني ، ولو شاء أعراني . وإذا احتذى قال : الحمد لله الذي حذاني ، ولو شاء أحفاني . وإذا قضى حاجته قال : الحمد لله الذي أخرج عني أذاه في عافية ، ولو شاء حبسه . وروي أنه كان إذا أراد الإفطار عرض طعامه على من آمن به ، فإن وجده محتاجاً آثره به . فإن قلت : قوله إنه كان عبداً شكوراً ما وجه ملاءمته لما قبله؟ قلت : كأنه قيل : لا تتخذوا من دوني وكيلاً ، ولا تشركوا بي ، لأنّ نوحاً عليه السلام كان عبداً شكوراً ، وأنتم ذرية من آمن به وحمل معه ، فاجعلوه أسوتكم كما جعله آباؤكم أسوتهم . ويجوز أن يكون تعليلاً لاختصاصهم والثناء عليهم بأنهم أولاد المحمولين مع نوح ، فهم متصلون به ، فاستأهلوا لذلك الاختصاص . ويجوز أن يقال ذلك عند ذكره على سبيل الاستطراد .
وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)
{ وَقَضَيْنآ إلى بنى إسراءيل } وأوحينا إليهم وحياً مقضيا ، أي مقطوعاً مبتوتاً بأنهم يفسدون في الأرض لا محالة ، ويعلون ، أي : يتعظمون ويبغون { فِى الكتاب } في التوراة ، و { لَتُفْسِدُنَّ } جواب قسم محذوف . ويجوز أن يجري القضاء المبتوت مجرى القسم ، فيكون { لَتُفْسِدُنَّ } جواباً له ، كأنه قال : وأقسمنا لتفسدن . وقرىء : «لتفسدّن» ، على البناء للمفعول . «ولتفسدن» بفتح التاء من فسد { مَّرَّتَيْنِ } أولاهما : قتل زكريا وحبس أرميا حين أنذرهم سخط الله ، والآخرة : قتل يحيى بن زكريا وقصد قتل عيسى ابن مريم { عِبَادًا لَّنآ } وقرىء : «عبيداً لنا» وأكثر ما يقال : عباد الله وعبيد الناس : سنحاريب وجنوده وقيل بختنصر . وعن ابن عباس : جالوت . قتلوا علماءهم وأحرقوا التوراة ، وخربوا المسجد ، وسبوا منهم سبعين ألفاً . فإن قلت : كيف جاز أن يبعث الله الكفرة على ذلك ويسلطهم عليه ، قلت : معناه خلينا بينهم وبين ما فعلوا ولم نمنعهم ، على أنّ الله عزّ وعلا أسند بعث الكفرة عليهم إلى نفسه ، فهو كقوله تعالى { وكذلك نُوَلّى بَعْضَ الظالمين بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [ الأنعام : 129 ] وكقول الداعي . وخالف بين كلمهم . وأسند الجوس وهو التردّد خلال الديار بالفساد إليهم ، فتخريب المسجد وإحراق التوراة من جملة الجوس المسند إليهم . وقرأ طلحة «فحاسوا» بالحاء . وقرىء : «فجوّسو» ، و «خلل الديار» . فإن قلت : ما معنى { وَعْدُ أولاهما } ؟ قلت : معناه وعد عقاب أولاهما { وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً } يعني : وكان وعد العقاب وعدا لا بد أن يفعل { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة } أي الدولة والغلبة على الذين بعثوا عليكم حين تبتم ورجعتم عن الفساد والعلو . قيل : هي قتل بختنصر واستنقاذ بني إسرائيل أسراهم وأموالهم ورجوع الملك إليهم ، وقيل : هي قتل داود جالوت { أَكْثَرَ نَفِيرًا } مما كنتم . والنفير ، من ينفر مع الرجل من قومه ، وقيل : جمع نفر كالعبيد والمعيز .
إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)
أي الإحسان والإساءة : كلاهما مختص بأنفسكم ، لا يتعدى النفع والضرر إلى غيركم . وعن عليّ رضي الله عنه : ما أحسنت إلى أحد ولا أسأت إليه ، وتلاها { فَإِذَا جَآء وَعْدُ } المرّة { الأخرة } بعثناهم { ليسائوا وُجُوهَكُمْ } حذف لدلالة ذكره أوّلا عليه . ومعنى { ليسائوا وُجُوهَكُمْ } ليجعلوها بادية آثار المساءة والكآبة فيها ، كقوله : { سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ } [ الملك : 27 ] وقرىء : «ليسوء» والضمير لله تعالى ، أو للوعد ، أو للبعث «ولنسوء» بالنون . وفي قراءة عليّ : «لنسوأنّ» «وليسوأنّ» وقرىء : «لنسوأن» ، بالنون الخفيفة . واللام في { ليدخلوا } على هذا متعلق بمحذوف وهو : وبعثناهم ليدخلوا ولنسو أن : جواب إذا جاء { مَا عَلَوْاْ } مفعول ليتبروا ، أي ليهلكوا كل شيء غلبوه واستولوا عليه . أو بمعنى : مدة علوّهم .
عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)
{ عسى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ } بعد المرة الثانية إن تبتم توبة أخرى وانزجرتم عن المعاصي { وَإِنْ عُدتُّمْ } مرة ثالثة { عُدْنَا } إلى عقوبتكم وقد عادوا ، فأعاد الله إليهم النقمة بتسليط الأكاسرة وضرب الأتاوة عليهم وعن الحسن : عادوا فبعث الله محمداً ، فهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون وعن قتادة : ثم كان آخر ذلك أن بعث الله عليهم هذا الحيّ من العرب ، فهم منهم في عذاب إلى يوم القيامة { حَصِيرًا } محبساً يقال للسجن محصر وحصير . وعن الحسن : بساطاً كما يبسط الحصير المرمول .
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)
{ لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ } للحالة التي هي أقوم الحالات وأسدّها . أو للملة . أو للطريقة . وأينما قدرت لم تجد مع الإثبات ذوق البلاغة الذي تجده مع الحذف ، لما في إبهام الموصوف بحذفه من فخامة تفقد مع إيضاحه . وقرىء : «ويبشر» ، بالتخفيف ، فإن قلت : كيف ذكر المؤمنين الأبرار والكفار ولم يذكر الفسقة؟ قلت : كان الناس حينئذ إما مؤمن تقي ، وإما مشرك ، وإنما حدث أصحاب المنزلة بين المنزلتين بعد ذلك . فإن قلت : علام عطف { وأَنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ } ؟ قلت : على { أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا } على معنى : أنه بشر المؤمنين ببشارتين اثنتين : بثوابهم ، وبعقاب أعدائهم ويجوز أن يراد : ويخبر بأن الذين لا يؤمنون معذبون .
وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)
أي : ويدعو الله عند غضبه بالشر على نفسه وأهله وماله ، كما يدعوه لهم بالخير ، كقوله : { وَلَوْ يُعَجّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير } [ يونس : 11 ] . { وَكَانَ الإنسان عَجُولاً } يتسرع إلى طلب كل ما يقع في قلبه ويخطر بباله ، لا يتأنى فيه تأني المتبصر . وعن النبي صلى الله عليه وسلم .
( 603 ) أنه دفع إلى سودة بنت زمعة أسيراً ، فأقبل يئن بالليل ، فقالت له : مالك تئن؟ فشكا ألم القدّ ، فأرخت من كتافه ، فلما نامت أخرج يده وهرب ، فلما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم دعا به فأعلم بشأنه ، فقال صلى الله عليه وسلم «اللهم اقطع يديها» فرفعت سودة يديها تتوقع الإجابة ، وأن يقطع الله يديها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إني سألت الله أن يجعل لعنتي ودعائي على من لا يستحق من أهلي رحمة لأني بشر أغضب كما يغضب البشر فلتردّ سودة يديها " ويجوز أن يريد بالإنسان الكافر ، وأنه يدعو بالعذاب استهزاء ويستعجل به ، كما يدعو بالخير إذا مسته الشدّة . { وكان الإنسان عجولاً } : يعني أن العذاب آتيه لا محالة ، فما هذا الاستعجال ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هو النضر بن الحرث قال : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك الآية ، فأجيب له ، فضربت عنقه صبراً .
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)
فيه وجهان ، أحدهما : أن يراد أن الليل والنهار آيتان في أنفسهما ، فتكون الإضافة في آية الليل وآية النهار للتبيين ، كإضافة العدد إلى المعدود ، أي : فمحونا الآية التي هي الليل وجعلنا الآية التي هي النهار مبصرة . والثاني : أن يراد : وجعلنا نيري الليل والنهار آيتين ، يريد الشمس والقمر . { فمحونا آية الليل } : أي جعلنا الليل ممحوّ الضوء مطموسه مظلماً ، لا يستبان فيه شيء كما لا يستبان ما في اللوح الممحوّ ، وجعلنا النهار مبصراً أي تبصر فيه الأشياء وتستبان . أو فمحونا آية الليل التي هي القمر حيث لم يخلق لها شعاعاً كشعاع الشمس ، فترى به الأشياء رؤية بينة ، وجعلنا الشمس ذات شعاع يبصر في ضوئها كل شيء { لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبّكُمْ } لتتوصلوا ببياض النهار إلى استبانة أعمالكم والتصرف في معايشكم { وَلِتَعْلَمُواْ } باختلاف الجديدين { عَدَدَ السنين و } جنس { الحساب } وما يحتاجون إليه منه ولولا ذلك لما علم أحد حسبان الأوقات ، ولتعطلت الأمور { وَكُلَّ شىْءٍ } مما تفتقرون إليه في دينكم ودنياكم { فصلناه } بيناه بياناً غير ملتبس ، فأزحنا عللكم ، وما تركنا لكم حجة علينا .
وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)
{ طائره } عمله وقد حققنا القول فيه في سورة النمل . وعن ابن عيينة : هو من قولك : طار له سهم ، إذا خرج ، يعني : ألزمناه ما طار من عمله . والمعنى أنّ عمله لازم له لزوم القلادة أو الغل لا يفك عنه ، ومنه مثل العرب : تقلدها طوق الحمامة . وقولهم : الموت في الرقاب . وهذا وبقة في رقبته . عن الحسن : يا ابن آدم بسطت لك صحيفة إذا بعثت قلدتها في عنقك . وقرىء : «في عنقه» بسكون النون . وقرىء : «نخرج» بالنون . «ويخرج» بالياء ، والضمير لله عز وجل «ويخرج» ، على البناء للمفعول . ويخرج من خرج ، والضمير للطائر . أي : يخرج الطائر كتاباً ، وانتصاب { كتابا } على الحال . وقرىء : «يلقَّاه» ، بالتشديد مبنيا للمفعول . و { يلقاه مَنْشُوراً } صفتان للكتاب . أو { يلقاه } صفة و { مَنْشُوراً } حالٌ من يلقاه { اقرأ } على إرادة القول . وعن قتادة : يقرأ ذلك اليوم من لم يكن في الدنيا قارئاً . و { بِنَفْسِكَ } فاعل كفى . و { حَسِيباً } تمييز وهو بمعنى حاسب كضريب القداح بمعنى ضاربها وصريم بمعنى صارم ذكرهما سيبويه . وعلى متعلق به من قولك حسب عليه كذا . ويجوز أن يكون بمعنى الكافي وضع موضع الشهيد فعدّي بعلى لأنّ الشاهد يكفي المدعي ما أهمه . فإن قلت : لم ذكر حسيباً؟ قلت : لأنه بمنزلة الشهيد والقاضي والأمير؛ لأنّ الغالب أنّ هذه الأمور يتولاها الرجال ، فكأنه قيل : كفى بنفسك رجلاً حسيباً . ويجوز أن يتأوّل النفس بالشخص ، كما يقال : ثلاثة أنفس . وكان الحسن إذا قرأها قال : يا ابن آدم ، أنصفك والله من جعلك حسيب نفسك .
مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)
أي : كل نفس حاملة وزراً ، فإنما تحمل وزرها لا وزر نفس أخرى { وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ } وما صحّ منا صحة تدعو إليها الحكمة أن نعذب قوماً إلا بعد أن { نَبْعَثَ } إليهم { رَسُولاً } فتلزمهم الحجة . فإن قلت : الحجة لازمة لهم قبل بعثة الرسل ، لأنّ معهم أدلة العقل التي بها يعرف الله ، وقد أغفلوا النظر وهم متمكنون منه ، واستيجابهم العذاب لإغفالهم النظر فيما معهم ، وكفرهم لذلك ، لا لإغفال الشرائع التي لا سبيل إليها إلا بالتوقيف ، والعمل بها لا يصح إلا بعد الإيمان . قلت : بعثة الرسل من جملة التنبيه على النظر والإيقاظ من رقدة الغفلة ، لئلا يقولوا : كنا غافلين فلو لا بعث إلينا رسولاً ينبهنا على النظر في أدلة العقل .
وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)
{ وَإِذَا أَرَدْنَا } وإذا دنا وقت إهلاك قوم ولم يبق من زمان إمهالهم إلا قليل ، أمرناهم { فَفَسَقُواْ } أي أمرناهم بالفسق ففعلوا ، والأمر مجاز : لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم : افسقوا ، وهذا لا يكون فبقي أن يكون مجازاً ، ووجه المجاز أنه صب عليهم النعمة صباً ، فجعلوها ذريعة إلى المعاصي واتباع الشهوات ، فكأنهم مأمورون بذلك لتسبب إيلاء النعمة فيه ، وإنما خولهم إياها ليشكروا ويعملوا فيها الخير ويتمكنوا من الإحسان والبرّ ، كما خلقهم أصحاء أقوياء ، وأقدرهم على الخير والشرّ ، وطلب منهم إيثار الطاعة على المعصية فآثروا الفسوق ، فلما فسقوا حق عليهم القول وهو كلمة العذاب فدمّرهم . فإن قلت : هلا زعمت أن معناه أمرناهم بالطاعة ففسقوا؟ قلت : لأن حذف ما لا دليل عليه غير جائز ، فكيف يحذف ما الدليل قائم على نقيضه ، وذلك أن المأمور به إنما حذف لأن فسقوا يدل عليه ، وهو كلام مستفيض ، يقال : أمرته فقام؛ وأمرته فقرأ لا يفهم منه إلا أن المأمور به قيام أو قراءة ، ولو ذهبت تقدّر غيره فقد رمت من مخاطبك علم الغيب ، ولا يلزم على هذا قولهم : أمرته فعصاني ، أو فلم يمتثل أمري . لأنّ ذلك مناف للأمر مناقض له ، ولا يكون ما يناقض الأمر مأموراً به ، فكان محالاً أن يقصد أصلاً حتى يجعل دالاً على المأمور به ، فكان المأمور به في هذا الكلام غير مدلول عليه ولا منوي؛ لأن من يتكلم بهذا الكلام فإنه لا ينوي لأمره مأموراً به ، وكأنه يقول : كان مني أمر فلم تكن منه طاعة ، كما أن من يقول : فلان يعطي ويمنع ، ويأمر وينهى ، غير قاصد إلى مفعول . فإن قلت : هلا كان ثبوت العلم بأن الله لا يأمر بالفحشاء وإنما يأمر بالقصد والخير ، دليلاً على أن المراد أمرناهم بالخير ففسقوا؟ قلت : لا يصحّ ذلك؛ لأن قوله { فَفَسَقُواْ } يدافعه ، فكأنك أظهرت شيئاً وأنت تدعي إضمار خلافه ، فكان صرف الأمر إلى المجاز هو الوجه ، ونظير { أَمْرٍ } شاء : في أن مفعوله استفاض فيه الحذف ، لدلالة ما بعده عليه ، تقول : لو شاء لأحسن إليك ، ولو شاء لأساء إليك . تريد : لو شاء الإحسان ولو شاء الإساءة ، فلو ذهبت تضمر خلاف ما أظهرت وقلت : قد دلت حال من أسندت إليه المشيئة أنه من أهل الإحسان أو من أهل الإساءة ، فاترك الظاهر المنطوق به وأضمر ما دلت عليه حال صاحب المشيئة - لم تكن على سداد . وقد فسر بعضهم { أَمْرُنَا } بكثرنا ، وجعل أمرته فأمر من باب فعلته ففعل . كثبرته فثبر . وفي الحديث :
( 604 ) « خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة » أي كثيرة النتاج وروي :
( 605 ) أن رجلاً من المشركين قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إني أرى أمرك هذا حقيراً فقال صلى الله عليه وسلم : إنه سيأمر . أي سيكثر وسيكبر .
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)
وقرىء : «آمرنا» من أمر وأمره غيره . «وأمّرنا» بمعنى أمرنا . أو من أمر إمارة ، وأمره الله . أي : جعلناهم أمراء وسلطناهم { كَمْ } مفعول { أَهْلَكْنَا } و { مّنَ القرون } بيان لكم وتمييز له ، كما يميز العدد بالجنس . يعني عادا وثموداً وقرونا بين ذلك كثيراً . ونبه بقوله { وكفى بِرَبّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَا بَصِيرًا } على أن الذنوب هي أسباب الهلكة لا غير ، وأنه عالم بها ومعاقب عليها .
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)
من كانت العاجلة همه ولم يرد غيرها كالكفرة وأكثر الفسقة ، تفضلنا عليه من منافعها بما نشاء لمن نريد ، فقيد الأمر تقييدين ، أحدهما : تقييد المعجل بمشيئته . والثاني : تقييد المعجل له بإرادته ، وهكذا الحال : ترى كثيراً من هؤلاء يتمنون ما يتمنون ولا يعطون إلا بعضاً منه وكثيراً منهم يتمنون ذلك البعض وقد حرموه ، فاجتمع عليهم فقر الدنيا وفقر الآخرة ، وأمّا المؤمن التقي فقد اختار مراده وهو غنى الآخرة ، فما يبالي : أوتي حظاً من الدنيا أو لم يؤت فإن أوتي فبها وإلا فربما كان الفقر خيراً له وأعون على مراده . وقوله { لِمَن نُّرِيدُ } بدل من له ، وهو بدل البعض من الكل : لأن الضمير يرجع إلى «من» وهو في معنى الكثرة . وقرىء : «يشاء» وقيل : الضمير لله تعالى ، فلا فرق إذاً بين القراءتين في المعنى ويجوز أن يكون للعبد ، على أنّ للعبد ما يشاء من الدنيا . وأن ذلك لواحد من الدهماء يريد به الله ذلك . وقيل : هو من يريد الدنيا بعمل الآخرة ، كالمنافق ، والمرائي ، والمهاجر للدنيا ، والمجاهد للغنيمة والذكر ، كما قال صلى الله عليه وسلم :
( 606 ) " فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه " { مَّدْحُورًا } مطروداً من رحمة الله { سَعْيَهَا } حقها من السعي وكفاءها من الأعمال الصالحة . اشترط ثلاث شرائط في كون السعي مشكوراً : إرادة الآخرة بأن يعقد بها همه ويتجافى عن دار الغرور ، والسعي فيما كلف من الفعل والترك . والإيمان الصحيح الثابت . وعن بعض المتقدّمين : من لم يكن معه ثلاث لم ينفعه عمله : إيمان ثابت ، ونية صادقة ، وعمل مصيب . وتلا هذه الآية . وشكر الله : الثواب على الطاعة .
كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)
{ كُلاًّ } كل واحد من الفريقين ، والتنوين عوض من المضاف إليه { نُّمِدُّ } هم : نزيدهم من عطائنا ، ونجعل الآنف منه مدداً للسالف لا نقطعه . فنرزق المطيع والعاصي جميعاً على وجه التفضل { وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبّكَ } وفضله { مَحْظُورًا } أي ممنوعاً ، لا يمنعه من عاص لعصيانه .
انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)
{ انظر } بعين الاعتبار { كَيْفَ } جعلناهم متفاوتين في التفضل . وفي الآخرة التفاوت أكبر ، لأنها ثواب وأعواض وتفضل ، وكلها متفاوتة . وروي أن قوماً من الأشراف فمن دونهم اجتمعوا بباب عمر رضي الله عنه ، فخرج الإذن لبلال وصهيب ، فشق على أبي سفيان ، فقال سهيل بن عمرو : إنما أتينا من قبلنا أنهم دعوا ودعينا يعني إلى الإسلام فأسرعوا وأبطأنا وهذا باب عمر فكيف التفاوت في الآخرة . ولئن حسدتموهم على باب عمر لما أعدّ الله لهم في الجنة أكثر . وقرىء : «وأكثر تفضيلاً» ، وعن بعضهم : «أيها المباهي» بالرفع منك في مجالس الدنيا «أما ترغب في المباهاة» بالرفع في مجالس الآخرة وهي أكبر وأفضل؟
لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)
{ فَتَقْعُدَ } من قولهم شحذ الشفرة حتى قعدت ، كأنها حربة بمعنى صارت ، يعني : فتصير جامعاً على نفسك الذم وما يتبعه من الهلاك من إلهك ، والخذلان والعجز عن النصرة ممن جعلته شريكاً له .
وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)
{ وقضى رَبُّكَ } وأمر أمراً مقطوعاً به { أَلاَّ تَعْبُدُواْ } أن مفسرة ولا تعبدوا نهي . أو بأن لا تعبدوا { وبالوالدين إحسانا } وأحسنوا بالوالدين إحساناً . أو بأن تحسنوا بالوالدين إحساناً وقرىء : «وأوصى» وعن ابن عباس رضي الله عنهما : «ووصى» . وعن بعض ولد معاذ بن جبل : وقضاء ربك . ولا يجوز أن يتعلق الباء في بالوالدين بالإحسان : لأن المصدر لا يتقدّم عليه صلته { إِمَّا } هي «إن» الشرطية زيدت عليها «ما» تأكيداً لها ، ولذلك دخلت النون المؤكدة في الفعل ، ولو أفردت «إن» لم يصح دخولها ، لا تقول : إن تكرمن زيداً يكرمك ، ولكن إما تكرمنه . و { أَحَدُهُمَا } فاعل يبلغنّ ، وهو فيمن قرأ «يبلغان» بدل من ألف الضمير الراجع إلى الوالدين و { كِلاَهُمَا } عطف على أحدهما فاعلاً وبدلاً . فإن قلت : لو قيل إما يبلغان كلاهما ، كان كلاهما توكيداً لا بدلا ، فمالك زعمت أنه بدل؟ قلت : لأنه معطوف على ما لا يصح أن يكون توكيداً للاثنين ، فانتظم في حكمه ، فوجب أن يكون مثله . فإن قلت : ما ضرّك لو جعلته توكيداً مع كون المعطوف عليه بدلاً ، وعطفت التوكيد على البدل؟ قلت : لو أريد توكيد التثنية لقيل : كلاهما ، فحسب ، فلما قيل : أحدهما أو كلاهما ، علم أنّ التوكيد غير مراد ، فكان بدلاً مثل الأول { أُفٍّ } صوت يدل على تضجر . وقرىء : «أف» بالحركات الثلاث منوناً وغير منون : الكسر على أصل البناء ، والفتح تخفيف للضمة والتشديد كثم ، والضم إتباع كمنذ . فإن قلت : ما معنى عندك؟ قلت : هو أن يكبرا ويعجزا ، وكانا كلا على ولدهما لا كافل لهما غيره ، فهما عنده في بيته وكنفه ، وذلك أشق عليه وأشدّ احتمالاً وصبراً ، وربما تولى منهما ما كانا يتوليان منه في حال الطفولة ، فهو مأمور بأن يستعمل معهما وطأة الخلق ولين الجانب والاحتمال ، حتى لا يقول لهما إذا أضجره ما يستقذر منهما أو يستثقل من مؤنهما : أف ، فضلاً عما يزيد عليه . ولقد بالغ سبحانه في التوصية بهما حيث افتتحها بأن شفع الإحسان إليهما بتوحيده ، ونظمهما في سلك القضاء بهما معاً ، ثم ضيق الأمر في مراعاتهما حتى لم يرخص في أدنى كلمة تنفلت من المتضجر مع موجبات الضجر ومقتضياته ، ومع أحوال لا يكاد يدخل صبر الإنسان معها في استطاعة { وَلاَ تَنْهَرْهُمَا } ولا تزجرهما عما يتعاطيانه مما لا يعجبك . والنهي والنهر والنهم : أخوات { وَقُل لَّهُمَا } بدل التأفيف والنهر { قَوْلاً كَرِيمًا } جميلاً ، كما يقتضيه حسن الأدب والنزول على المروءة . وقيل : هو أن يقول : يا أبتاه ، يا أماه ، كما قال إبراهيم لأبيه : ياأبت ، مع كفره ، ولا يدعوهما بأسمائهما فإنه من الجفا وسوء الأدب وعادة الدعار . قالوا : ولا بأس به في غير وجهه ، كما قالت عائشة رضي الله عنها : نحلني أبو بكر كذا .==
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق