الأحد، 14 مايو 2023

ج15 وج16.الدر المصون في علم الكتاب المكنون السمين الحلبي

ج15. الدر المصون في علم الكتاب المكنون السمين الحلبي

فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13)

قوله : { فَإِنْ أَعْرَضُواْ } : التفاتٌ مِنْ خطابِهم بقولِه : « قل أئِنَّكم » إلى الغَيْبة لفِعْلهِم الإِعراضَ أعرضَ عن خطابِهم ، وهو تناسُبٌ حَسَنٌ . وقرأ الجمهورُ « صاعقَةً مثلَ صاعقةِ » بالألفِ فيهما . وابن الزبير والنخعي والسلمي وابن محيصن « صَعْقَةً مثلَ صَعْقة » بحَذْفِها وسكونِ العين . وقد تقدَّم الكلامُ في ذلك في أوائلِ البقرة . يقال : صَعَقَتْه الصاعقةُ فصَعِقَ ، وهذا مما جاء فيه فَعَلْته - بالفتح - ففَعِل بالكسر ، ومثله جَدَعْتُه فَجَدِعَ . والصَّعْقَةُ المَرَّة .

إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14)

قوله : { إِذْ جَآءَتْهُمُ } : فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه ظرفٌ ل « أَنْذَرْتُكم » نحو : لَقِيْتُك إذ كان كذا . الثاني : أنه منصوبٌ بصاعقةٍ لأنَّها بمعنى العذاب أي : أنذرتُكم العذابَ الواقعَ في وقتِ مجيْءِ رسُلِهم . الثالث : أنه صفةٌ ل « صاعِقَة » الأولى . الرابع : أنه حالٌ من « صاعقة » الثانية ، قالهما أبو البقاء وفيهما نظرٌ؛ إذ الظاهرُ أنَّ الصَّاعقةَ جثةٌ وهي قطعةُ نارٍ تَنْزِلُ من السماء فتحرقُ ، كما تقدَّمَ في تفسيرِها أولَ هذا التصنيفِ؛ فلا يقعُ الزمانُ صفةً لها ولا حالاً عنها ، وتأويلُها بمعنى العذابِ إخراجٌ لها عن مدلولِها مِنْ غيرِ ضرورةٍ ، وإنما جعلَها وَصْفاً للأولى لأنها نكرةٌ ، وحالاً مِن الثانية لأنها معرفةٌ لإِضافتها إلى عَلَم ، ولو جعلها حالاً من الأولى؛ لأنها تخَصَّصَتْ بالإِضافةِ لجاز/ فتعودُ الوجوهُ خمسةً .
قوله : { مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ } الظاهرُ أنَّ الضميرَيْن عائدان على عادٍ وثمود . وقيل : الضميرُ في « خَلْفِهم » يعودُ على الرسلِ . واسْتُبْعِد هذا من حيث المعنى؛ إذ يصير التقديرُ : جاءتهم الرسلُ مِنْ خَلْفِ الرسلِ ، أي : مِنْ خَلْفِ أنفسِهم . وقد يُجاب عنه : بأنَّه مِنْ باب « دِرْهمٌ ونصفُه » أي : ومن خَلْفِ رسُلٍ آخرين .
قوله : { أَلاَّ تعبدوا } يجوزُ في « أَنْ » ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أَنْ تكونَ المخففةَ من الثقيلة ، واسمُها ضميرُ الشأن محذوفٌ ، والجملةُ النَّهْيِيةُ بعدها خبرٌ ، كذا أعربه الشيخُ . وفيه نظرٌ مِنْ وجهين ، أحدهما : أنَّ المخففةَ لا تقع بعد فِعْل إلاَّ مِنْ أفعال اليقين . الثاني : أنَّ الخبرَ في بابِ « إنَّ » وأخواتِها لا يكون طلباً ، فإنْ وَرَدَ منه شيءٌ أُوِّلَ ولذلك تأوَّلوا [ قولَ الشاعرِ : ]
3950 إنَّ الذينَ قَتَلْتُمْ أمسِ سَيِّدَهُمْ ... لا تَحْسَبُوا ليلَهم عن ليلِكم ناما
وقول الآخر :
3951 ولو أصابَتْ لقالَتْ وَهْيَ صادِقةٌ ... إنَّ الرِّياضَةَ لا تُنْصِبْكَ للشِّيْبِ
على إضمارِ القولِ . الثاني : أنها الناصبةُ للمضارعِ ، والجملةُ النَّهْييةُ بعدها صلتُها وُصِلَتْ بالنهي كما تُوْصَلُ بالأمر في « كَتبتُ إليه بأنْ قُمْ » ، وقد مَرَّ في وَصْلِها بالأمرِ إشكالٌ يأتي مثلُه في النهي . الثالث : أَنْ تكونَ مفسِّرَةً لمجيئِهم لأنه يتضمَّنُ قولاً ، و « لا » في هذه الأوجهِ كلِّها ناهيةٌ ، ويجوزُ أَنْ تكونَ نافيةً على الوجهِ الثاني ، ويكون الفعلُ منصوباً ب « أنْ » بعد « لا » النافية ، فإنَّ « لا » النافيةَ لا تمنعُ العاملَ أَنْ يعملَ فيما بعدها نحو : « جئتُ بلا زيدٍ » ، ولم يذكرْ الحوفي غيرَه .
قوله : « لو شاءَ » قدَّر الزمخشريُّ مفعولَ « شاء » : لو شاءَ إرسالَ الرسلِ لأَنْزَلَ ملائكةً . قال الشيخ : « تَتَبَّعْتُ القرآنَ وكلامَ العربِ فلم أَجِدْ حَذْفَ مفعولِ » شاء « الواقع بعد » لو « إلاَّ مِنْ جنسِ جوابِها نحو :

{ وَلَوْ شَآءَ الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى } [ الأنعام : 35 ] أي : لو شاءَ جَمْعَهم على الهدى لجَمَعهم عليه ، { لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً } [ الواقعة : 65 ] { لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً } [ الواقعة : 70 ] { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ } [ يونس : 99 ] { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ } [ الأنعام : 112 ] { لَوْ شَآءَ الله مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ } [ النحل : 35 ] . وقال الشاعر :
3952 فلو شاءَ ربِّي كنتُ قيسَ بنَ خالدٍ ... ولو شاءَ ربي كنتُ قيسَ بنَ مَرْثدِ
وقال الراجز :
3953 واللذِ لو شاءَ لكنْتُ صَخْراً ... أو جَبَلاً أشمَّ مُشْمَخِرَّا
قال : « فعلَى ما تقرَّر لا يكونُ المحذوفُ ما قدَّره الزمخشريُّ ، وإنما التقديرُ : لو شاء ربُّنا إنزالَ ملائكةٍ بالرسالةِ منه إلى الإِنسِ لأَنْزَلهم بها إليهم ، وهذا أَبْلَغُ في الامتناع من إرسالِ البشرِ ، إذ عَلَّقوا ذلك بإنزال الملائكة ، وهو لم يَشَأْ ذلك فكيف يشاء ذلك في البشر؟ » قلت : وتقديرُ أبي القاسم أوقَعُ معنىً وأخلصُ من إيقاع الظاهرِ موقعَ المضمرِ؛ إذ يَصيرُ التقديرُ : لو شاءَ إنزالَ ملائكةٍ لأنزلَ ملائكةً .
قوله : { بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ } هذا خطابٌ لهودٍ وصالحٍ وغيرِهم مِن الأنبياءِ عليهم السلام ، وغَلَّب المخاطبَ على الغائبِ نحو : « أنت وزيدٌ تقومان » . و « ما » يجوزُ أَنْ تكونَ موصولةً بمعنى الذي وعائدُها به ، وأنْ تكونَ مصدريةً أي : بإرسالِكم ، فعلى هذا يكون « به » [ يعودُ ] على ذلك المصدرِ المؤولِ ، ويكون من بابِ التأكيد كأنه قيل : كافرون بإرسالِكم به .

فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16)

قوله : { صَرْصَراً } : الصَّرْصَرُ : الريحُ الشديدة فقيل : هي الباردةُ مِن الصِّرِّ ، وهو البردُ . وقيل : هي الشديدةُ السَّمومِ . وقيل هي المُصَوِّتَةُ ، مِنْ صَرَّ البابُ أي : سُمِع صريرُه . والصَّرَّة : الصَّيْحَةُ . ومنه : { فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ } [ الذاريات : 29 ] . قال ابن قتيبة : « صَرْصَر : يجوزُ أَنْ يكونَ من الصِّرِّ وهو البردُ ، وأَنْ يكونَ مِنْ صَرَّ البابُ ، وأَنْ تكونَ من الصَّرَّة ، وهي الصيحةُ ، ومنه : { فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ } [ الذاريات : 29 ] . وقال الراغب : » صَرْصَر لفظة من الصِّرِّ ، وذلك يرجِعُ إلى الشَّدِّ لِما في البرودة من التعقُّدِ « .
قوله : » نَحِساتٍ « قرأ الكوفيون وابن عامر بكسرِ الحاءِ ، والباقون بسكونِها . فأمَّا الكسرُ فهو صفةٌ على فَعِل ، وفعلُه فَعِل بكسرِ العين أيضاً كفِعْلِهِ يقال : نَحِس فهو نَحِسٌ كفَرِح فهو فَرِحٌ ، وأَشِرَ فهو أَشِرٌ . وأمال الليث/ عن الكسائي ألفَه لأجل الكسرةِ ، ولكنه غيرُ مشهورٍ عنه ، حتى نسبه الدانيُّ للوَهْم .
وأمَّا قراءةُ الإِسكانِ فتحتملُ ثلاثةَ أوجهٍ ، أحدُها : أَنْ يكونَ مخففاً مِنْ فَعِل في القراءةِ المتقدمةِ ، وفيه توافُقُ القراءتين . والثاني : أنَّه مصدرٌ وُصِفَ به كرجلٍ عَدْلٍ . إلاَّ أنَّ هذا يُضْعِفُه الجمعُ فإنَّ الفصيحَ في المصدرِ الموصوفِ أَنْ يُوَحَّدَ ، وكأنَّ المُسَوِّغَ للجمع اختلافُ أنواعِه في الأصل . والثالث : أنه صفةٌ مستقلةٌ على فَعْل بسكونِ العينِ . ولكن أهلَ التصريفِ لم يذكروا في الصفةِ الجائيةِ مِنْ فَعِلَ بكسرِ العين ، إلاَّ أوزاناً محصورةً ليس فيها فَعْل بالسكونِ فذكروا : فَرِحَ فهو فَرِحٌ ، وحَوِرَ فهو أحورُ ، وشَبعَ فهو شبعانُ ، وسَلِمَ فهو سالمٌ ، وبَلي فهو بالٍ .
وفي معنى » نَحِسات « قولان ، أحدهما : أنها مِن الشُّؤْم . قال السدِّي : أي : مشائيم مِن النَّحْسِ المعروف . والثاني : أنها شديدةُ البردِ . وأنشدوا على المعنى الأول قولَ الشاعرِ :
3954 يَوْمَيْنِ غَيْمَيْنِ ويوماً شَمْسا ... نَجْمَيْنِ سَعْدَيْنِ ونجماً نَحْسا
وعلى المعنى الثاني قولَ الآخرِ :
3955 كأنَّ سُلافَةً عُرِضَتْ لنَحْسٍ ... يُحِيْلُ شَفيفُها الماءَ الزُّلالا
ومنه :
3956 قد أَغْتدي قبلَ طُلوعِ الشمسِ ... للصيدِ في يومٍ قليلِ النَّحْسِ
وقيل : يُريدُ به في هذا البيت الغبارَ أي : قليلِ الغبار ، وقد قيل بذلك في الآيةِ أنها ذاتُ غُبارٍ . و » نَحِسات « نعتٌ لأيَّام ، والجمعُ بالألفِ والتاءِ مُطَّرِدٌ في صفةِ ما لا يَعْقِلُ كأيامٍ معدوداتٍ . وقد تقدَّم تحقيقُه في البقرة .
و » لِنُذِيْقَهُمْ « متعلِّقٌ ب » أَرْسَلْنا « . وقُرِئ » لِتُذِيقَهم « بالتاءِ مِنْ فوقُ . وفي الضمير قولان ، أحدهما : أنه الريحُ أي : لتذيقَهم الريحُ أو الأيَّامُ على سبيل المجاز . وعذاب الخِزْيِ من إضافةِ الموصوفِ لصفتِه ، ولذلك قال : { وَلَعَذَابُ الآخرة أخزى } فإنه يَقْتضِي المشاركةَ وزيادةً . وإسنادُ الخِزْيِ إلى العذابِ مجازٌ لأنه سَبُبه .

وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17)

قوله : { وَأَمَّا ثَمُودُ } : الجمهورُ على رَفْعِه ممنوعَ الصرفِ . والأعمشُ وابنُ وثَّاب مصروفاً ، وكذلك كلُّ ما في القرآن إلاَّ قولَه : { وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة } [ الإسراء : 59 ] قالوا : لأنَّ الرسم ثمود بغير ألفٍ . وقرأ ابنُ عباس وابنُ أبي إسحاق والأعمش في روايةٍ ، وعاصمٌ في رواية « ثمود » منصوباً مصروفاً . والحسن وابنُ هرمز وعاصمٌ أيضاً منصوباً غيرَ منصرفٍ . فأمَّا الصرفُ وعَدَمُه فقد تقدَّمَ توجيهُهُما في هود . وأمَّا الرفعُ فعلى الابتداء ، والجملةُ بعده الخبرُ ، وهو مُتَعَيّنٌ عند الجمهورِ؛ لأنَّ « أمَّا » لا يليها إلاَّ المبتدأُ فلا يجوزُ فيما بعدها الاشتغالُ إلاَّ في قليلٍ كهذه القراءةِ ، وإذا قَدَّرْتَ الفعلَ الناصبَ فقدِّرْه بعد الاسمِ المنصوبِ أي : وأمَّا ثمودَ هَدَيْناهم فهَدَيْناهم قالوا : لأنها لا يَليها الأفعالُ .

وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19)

قوله : { وَيَوْمَ يُحْشَرُ } : العاملُ في هذا الظرفِ فيه وجهان ، أحدُهما : محذوفٌ دَلَّ عليه ما بعدَه مِنْ قولِه : « فهم يُوْزَعُون » تقديره : يُسَاقُ الناسُ يومَ يُحْشَر . وقَدَّرَه أبو البقاء : يُمْنَعون يومَ الحَشْرِ . الثاني : أنه منصوبٌ ب اذْكُرْ أي : اذكُرْ يومَ . وقرأ نافع « نَحْشُرُ بنونِ العظمة وضمِّ الشين . » أعداءَ « نصباً أي : نَحْشُر نحن . والباقون بياءِ الغَيْبة مضمومةً ، والشينُ مفتوحةٌ على ما لم يُسَمَّ فاعلُه ، و » أعداءُ « رفعاً لقيامِه مقامَ الفاعلِ . وكَسَر الأعرجُ شين » نَحْشِر « و » حتى « غايةٌ ل » يُحْشَر « .

وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22)

قوله : { أَن يَشْهَدَ } : يجوزُ فيه أوجهٌ ، أحدها : مِنْ أَنْ يَشْهدَ . الثاني : خيفةَ أن يَشْهد . الثالث : لأَجْلِ أَنْ يَشْهد ، وكلاهما بمعنى المفعول له . الرابع : عن أَنْ تَشْهَدَ أي : ما كنتم تَمْتَنِعون ، ولا يُمْكِنُكم الاختفاءُ عن أعضائِكم والاستتارُ عنها . الخامس : أنه ضُمِّن معنى الظنِّ وفيه بُعْدٌ .

وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)

قوله : { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ } : فيه أوجهٌ ، أحدها : أنَّ « ظنُّكم » خبرُه ، و « الذي ظَنَنْتُمْ » نعتُه ، و « أَرْدَاكم » حالٌ و « قد » معه مقدرةٌ على رَأْيِ الجمهورِ خلافاً للأخفشِ . ومَنْعُ مكيّ الحاليةَ للخلوِّ مِنْ « قد » ممنوعٌ لِما ذكرْتُه . الثاني : أَنْ يكونَ « ظنُّكم » بدلاً والموصولُ خبرُه . و « أَرْدَاكم » حالٌ أيضاً . الثالث : أَنْ يكونَ الموصولُ خبراً ثانياً . الرابع : أَنْ يكونَ « ظَنُّكم » بدلاً أو بياناً ، والموصول هو الخبر ، و « أَرْداكم » خبرٌ ثانٍ . الخامس : أن يكون « ظَنُّكم » والموصولُ والجملةُ مِنْ « أَرْداكم » أخباراً . إلاَّ أنَّ الشيخ رَدَّ على الزمخشري قوله : « وظنُّكم وأَرْدَاكم خبران » . قال : « لأنَّ قوله : » وذلكم « إشارةٌ إلى ظَنِّهم السابقِ فيصير التقديرُ : وظَنُّكم بربكم أنه لا يعلم ظنُّكم بربكم ، فاسْتُفيد من الخبر ما اسْتُفيد من المبتدأ وهو لا يجوزُ ، وهذا نظيرُ ما منعه النحاةُ مِنْ قولك : » سَيِّدُ الجارية مالِكُها « . / وقد منع ابنُ عطية كونَ » أَرْداكم « حالاً لعدمِ وجودِ » قد « وقد تقدَّم الخلافُ في ذلك .

فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)

قوله : { يَسْتَعْتِبُواْ } : العامَّةُ على فَتْحِ الياءِ وكسرِ التاءِ الثانيةِ مبنيَّاً للفاعلِ . { فَمَا هُم مِّنَ المعتبين } بفتح التاء اسمَ مفعول ، ومعناه : وإنْ طَلبوا العُتْبى وهي الرِّضا فما هم مِمَّنْ يُعْطاها . وقيل : المعنى : وإنْ طَلَبوا زوالَ ما يُعْتَبُون فيه فما هم من المُجابين إلى إزالةِ العَتَبِ .
وأصلُ العَتَبِ : المكانُ النائِي بنازِلَةٍ ، ومنه قيل لأُسْكُفَّةِ الباب والمِرْقاة : عَتَبة ، ويُعَبَّر بالعَتَبِ عن الغِلْظَة التي يَجدها الإِنسانُ في صدرِه على صاحبِه . وعَتَبْتُ فلاناً : أبرزْتُ له الغِلْظَة . وأَعْتَبْتُه : أَزَلْتُ عُتْباه كأَشْكَيْتُه . وقيل : حَمَلْتُه على العَتَب .
وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد « وإن يُسْتَعْتَبوا » مبنيَّاً للمفعولِ . { فَمَا هُم مِّنَ المعتبين } اسمَ فاعلٍ بمعنى : إنْ يُطْلَبْ منهم أن يُرْضُوا فما هم فاعِلون ذلك ، لأنهم فارَقوا دارَ التكليف . وقيل معناه : إنْ يُطْلَبْ ما لا يُعْتَبُون عليه فما هم مِمَّنْ يُزيل العُتْبى . وقال أبو ذؤْيبٍ :
3957 أَمِنَ المَنُونِ ورَيْبِه تَتَوَجَّعُ ... والدهرُ ليسَ بمُعْتِبٍ مَنْ يَجْزَعُ

وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25)

قوله : { وَقَيَّضْنَا } : أصلُ التَّقْييضِ التيسيرُ والتهيئَةُ . قَيَّضْتُه له لكذا : هَيَّأْتُه ويَسَّرْتُه . وهذان ثوبان قَيْضان أي : كلٌّ منهما مكافِئٌ للآخَر في الثمن . والمقايَضَةُ : المعاوَضَةُ . وقوله : { نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً } [ الزخرف : 36 ] أي : نُسَهِّلْ ليَسْتوليَ عليه استيلاءَ القَيْضِ على البَيْض . والقَيْضُ في الأصلِ : قِشْرُ البيضِ الأعلى .
قوله : « في أُمَمٍ » في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الضمير في « عليهم » والمعنى : كائنين في جملةِ أمم ، وهذا كقولِه :
3958 إنْ تَكُ عَنْ أَحْسَنِ الصَّنيعةِ مَأْ ... فُوْكاً ففي آخَرين قد أَفِكُوا
أي : في جملة قومٍ آخرين . وقيل : إن « في » بمعنى مع .

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)

قوله : { والغوا } : العامَّةُ على فتحِ الغين . وهي تحتملُ وجهين ، أحدُهما : أَنْ يكون مِنْ لَغِي بالكسر يَلْغَى . وفيها معنيان ، أحدُهما : مِنْ لَغِيَ إذا تكلَّم باللَّغْوِ ، وهو ما لا فائدةَ فيه . والثاني : أنه مِنْ لَغِي بكذا ، أي : رَمى به فتكونُ « في » بمعنى الباء أي : ارْمُوا به وانبِذُوه . والثاني من الوجهين الأوَّلين : أَنْ تكونَ مِنْ لَغا بالفتح يَلْغَى بالفتحِ أيضاً ، حكاه الأخفش ، وكان قياسُه الضمَّ كغزا يَغْزو ، ولكنه فُتِح لأجلِ حَرْفِ الحلقِ . وقرأ قتادة وأبو حيوة وأبو السَّمَّالِ والزعفراني وابن أبي إسحاق وعيسى بضم الغين ، مِنْ لَغا بالفتحِ يَلْغُو كدَعا يَدْعُو . وفي الحديث : « فقد لَغَوْتَ » ، وهذا موافِقٌ لقراءةِ غيرِ الجمهور .

ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28)

قوله : { ذَلِكَ } : فيه وجهان ، أحدهما : أنه مبتدأٌ و « جزاءُ » خبره . والثاني : أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي : الأمرُ ذلك و { جَزَآءُ أَعْدَآءِ الله النار } جملةٌ مستقلةٌ مبيِّنَةٌ للجملةِ قبلَها .
قوله : « النارُ » فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنها بدلٌ مِنْ « جزاء » ، وفيه نظرٌ؛ إذ البدلُ يَحُلُّ مَحَلَّ المبدلِ منه ، فيصيرُ التقديرُ : ذلك النار . الثاني : أنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ . الثالث : أنها مبتدأٌ ، و { لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ } الخبر . و « دارُ » يجوز ارتفاعُها بالفاعليَّة أو الابتداءِ .
وقوله : { فِيهَا دَارُ الخُلْدِ } يقتضي أَنْ تكونَ « دارُ الخلد » غيرَ النارِ ، وليس الأمرُ كذلك ، بل النارُ هي نفسُ دارِ الخُلْدِ . وأُجيب عن ذلك : بأنَّه قد يُجْعَلُ الشيءُ ظَرْفاً لنفسِه باعتبارِ متعلَّقِه على سبيل المبالغةِ ، كأنَّ ذلك المتعلَّقَ صار مستقَراً له ، وهو أبلغُ مِنْ نسبةِ المتعلَّقِ إليه على سبيلِ الإِخبارِ به عنه ، ومثلُه قولُه :
3959 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وفي اللَّهِ إنْ لم يُنْصِفُوا حَكَمٌ عَدْلُ
وقوله تعالى : { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [ الأحزاب : 21 ] ، والرسولُ عليه السلام هو نفسُ الأُسْوةِ . كذا أجابوا . وفيه نظرٌ؛ إذ الظاهرُ - وهو معنىً صحيحٌ منقولٌ - أنَّ في النار داراً تُسَمَّى دارَ الخلدِ ، والنارُ مُحيطةٌ بها .
قوله : « جَزاءً » في نصبِه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنَّه منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ ، وهو مصدرٌ مؤكدٌ أي : يُجْزَوْن جزاءَ . الثاني : أَنْ يكونَ منصوباً بالمصدرِ الذي قبلَه ، وهو { جَزَآءُ أَعْدَآءِ الله } ، والمصدرُ يُنْصَبُ بمثلِه كقوله/ : { فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً } [ الإسراء : 63 ] . الثالث : أَنْ يَنْتَصِبَ على أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ ، و « بما » متعلِّقٌ ب « جَزاء » الثاني ، إنْ لم يكنْ مؤكِّداً ، وبالأول إن كان ، و « بآياتِنا » متعلِّقٌ ب « يَجْحَدون » .

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)

وتقدَّم الخلافُ في « أَرِنا » وفي نونِ « اللذَيْنِ » . قال الخليل : « إذا قلتَ : أَرِني ثوبَك بالكسرِ فمعناه بَصِّرْنِيْه ، وبالسكون أَعْطِنيه » . وقال الزمخشري : « أي : بما كانوا يَلْغَوْن » ، فذكر الجحودَ؛ لأنه سببُ اللغْوِ انتهى . يعني أنه مِنْ بابِ إقامةِ السببِ مُقامَ المُسَبَّبِ وهو مجازٌ سائغٌ .

إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)

قوله : { ثُمَّ استقاموا } : ثم لتراخي الرتبة في الفضيلة .
قوله : { أَلاَّ تَخَافُواْ } : يجوزُ في « أَنْ » أن تكونَ المخففةَ ، أو المفسِّرةَ ، أو الناصبةَ . و « لا » ناهيةٌ على الوجهين الأوَّلين ، ونافيةٌ على الثالث . وقد تقدَّم ما في ذلك من الإِشكالِ ، والتقديرُ : بأنْ لا تَخافوا أي : بانتفاءِ الخَوْفِ . وقال أبو البقاء : « التقديرُ بأَنْ لا تَخافوا ، أو قائلين : أن لا تخافوا ، فعلى الأولِ هو حالٌ أي : نَزَلوا بقولِهم : لا تخافوا ، وعلى الثاني الحالُ محذوفةٌ » . قلت يعني أنَّ الباءَ المقدرةَ حاليةٌ ، فالحالُ غيرُ محذوفةٍ ، وعلى الثاني الحالُ هو القولُ المقدَّر . وفيه تسامحٌ ، وإلاَّ فالحالُ محذوفةٌ في الموضعَيْن ، وكما قام المقولُ مَقامَ الحالِ كذلك قام الجارُّ مَقامَها .
وقرأ عبدُ الله « لا تَخافوا » بإسقاط « أنْ » ، وذلك على إضمارِ القول أي : يقولون : لا تَخافوا .

نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)

قوله : { نُزُلاً } : فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه منصوبٌ على الحالِ من الموصولِ ، أو من عائدِه . والمراد بالنُزُلِ الرزقُ المُعَدُّ للنازِل ، كأنه قيل : ولكم فيها الذي تَدَّعُونه حال كونِه مُعَدًّا . الثاني : أنَّه حالٌ مِنْ فاعل « تَدَّعُوْن » ، أو من الضمير في « لكم » على أَنْ يكونَ « نُزُلاً » جمعَ نازِل كصابِر وصُبُر ، وشارِف وشُرُف . الثالث : أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ . وفيه نظرٌ؛ لأنَّ مصدرَ نَزَل النزولُ لا النُّزُل . وقيل : هو مصدرُ أَنْزَل .
قوله : « مِنْ غَفَورٍ » يجوزُ تعلُّقه بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل « نُزُلاً » ، وأَنْ يتعلَّقَ بتَدَّعون ، أي : تَطْلبونه مِنْ جهةِ غفورٍ رحيمٍ ، وأَنْ يتعلَّقَ بما تعلَّقَ الظرفُ في « لكم » من الاستقرارِ أي : استقرَّ لكم مِنْ جهةِ غفورٍ رحيم . قال أبو البقاء : « فيكونُ حالاً مِنْ » ما « . قلت : وهذا البناءُ منه ليس بواضحٍ ، بل هو متعلِّقٌ بالاستقرارِ فَضْلةً كسائرِ الفضلاتِ ، وليس حالاً مِنْ » ما « .

وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)

قوله : { وَقَالَ إِنَّنِي } : العامَّةُ على « إنني » بنونين ، وابن أبي عبلةَ وابنُ نوح بنونٍ واحدةٍ .

وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)

قوله : { وَلاَ السيئة } : في « لا » هذه وجهان ، أحدهما ، أنها زائدةٌ للتوكيدِ ، كقوله : { وَلاَ الظل وَلاَ الحرور } [ فاطر : 21 ] وكقوله : { وَلاَ المسياء } [ غافر : 58 ] ؛ لأنَّ « استوى » لا يكتفي بواحدٍ . والثاني : أنها مؤسِّسَةٌ غيرُ مؤكِّدةٍ ، إذ المرادُ بالحسنةِ والسَّيئةِ الجنسُ أي : لا تَسْتوي الحسناتُ في أنفسِها ، فإنها متفاوتةٌ ولا تستوي السيئاتُ أيضاً فرُبَّ واحدةٍ أعظمُ مِنْ أخرى ، وهو مأخوذٌ من كلامِ الزمخشري . وقال الشيخُ : « فإنْ أَخَذْتَ الحسنةَ والسيئةَ جنساً لم تكنْ زيادتُها كزيادتِها في الوجهِ الذي قبلَ هذا » . قلت : فقد جَعَلها في المعنى الثاني زائدةً . وفيه نظرٌ لِما تَقَدَّم .
قوله : « كأنَّه وليٌّ » في هذه الجملةِ التشبيهيةِ وجهان ، أحدُهما : أنَّها في محلِّ نصبٍ على الحال ، والموصولُ مبتدأٌ ، و « إذا » التي للمفاجأةِ خبرُه . والعاملُ في هذا الظرفِ من الاستقرارِ هو العاملُ في هذه الحالِ ، ومَحَطُّ الفائدةِ في هذا الكلامِ هي الحالُ ، والتقدير : فبالحضرة المُعادي مُشْبِهاً القريبَ الشَّفوقَ . والثاني : أن الموصولَ مبتدأٌ أيضاً ، والجملةُ بعده خبرُه ، و « إذا » معمولةٌ لمعنى التشبيه ، والظرفُ يتقدَّمُ على عامِله المعنويِّ . هذا إن قيل : إنها ظرفٌ ، وإن قيل : إنها حرف فلا عاملَ .

وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)

قوله : { وَمَا يُلَقَّاهَا } : العامَّةُ على « يُلَقَّاها » من التَلْقِيَةِ . وابنُ كثيرٍ في روايةٍ وطلحة بن مصرف « يُلاقاها » مِن الملاقاةِ والضميرُ للخَصْلَة ، أو الكلمةِ أو الجنةِ أو لشهادةِ التوحيدِ .

وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37)

قوله : { خَلَقَهُنَّ } : في هذا الضميرِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : / أنه يعودُ على الأربعةِ المتعاطفةِ . وفي مجيءِ الضميرِ كضميرِ الإِناثِ - كما قال الزمخشري - هو أنَّ جَمْعَ ما لا يَعْقِلُ حكمُه حكمُ الأنثى أو الإِناث نحو : « الأقلامُ بَرَيْتُها وبَرَيْتُهنَّ » . وناقشه الشيخ من حيث إنه لم يُفَرِّقْ بين جمعِ القلةِ والكثرةِ في ذلك؛ لأنَّ الأفصحَ في جمعِ القلةِ أَنْ يُعامَلَ معاملةَ الإِناثِ ، وفي جمع الكثرةِ أَنْ يُعامَلَ معاملةَ الأنثى فالأفْصحُ أَنْ يُقال : الأجذاعُ كَسَرْتُهُنَّ ، والجذوعُ كَسَرْتُها . والذي تقدَّمَ في هذه الآيةِ ليس بجمعِ قلةٍ أعني بلفظٍ واحدٍ ، ولكنه ذكر أربعةً متعاطفةً فتنزَّلَتْ منزلَة الجمعِ المعبَّرِ به عنها بلفظٍ واحد . قلت : والزمخشري ليس في مقام بيانِ الفصيح والأفصح ، بل في مقامِ كيفيةِ مجيء الضميرِ ضميرَ إناث بعد تقدُّم ثلاثةِ أشياءَ مذكَّراتٍ وواحدٍ مؤنثٍ ، فالقاعدةُ تغليبُ المذكرِ على المؤنثِ ، أو لمَّا قال : « ومِنْ آياته » كُنَّ في معنى الآياتِ فقيل : خلقهنَّ ، ذكره الزمخشريُّ أيضاً أنه يعود على لفظ الآياتِ . الثالث : أنه يعودُ على الشمس والقمر؛ لأنَّ الاثنين جمعٌ ، والجمعُ مؤنثٌ ، ولقولهم : شموس وأقمار .

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41)

قوله : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ } : في خبرها ستةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه مذكورٌ وهو قولُه : « أولئك ينادَوْن » . وقد سُئِل بلال بن أبي بردة عن ذلك في مَحْكِيَّتِه فقال : لا أجدُ لها نفاذاً . فقال له أبو عمرو بن العلاء : إنَّه منك لقَريبٌ ، أولئك ينادَوْن . وقد اسْتُبْعِدَ هذا من وجهَيْن ، أحدُهما : كثرةُ الفواصلِ . والثاني : تقدُّمُ مَنْ تَصِحُّ الإِشارةُ إليه بقوله : « أولئك » ، وهو قولُه : { والذين لاَ يُؤْمِنُونَ } ، واسمُ الإِشارةِ يعودُ على أقربِ مذكورٍ .
والثاني : أنه محذوفٌ لفَهْمِ المعنى وقُدِّر : مُعَذَّبون ، أو مُهْلَكون ، أو معانِدون . وقال الكسائي : « سَدَّ مَسَدَّه ما تقدَّم من الكلامِ قبلَ » إنَّ « وهو قولُه : { أَفَمَن يلقى فِي النار } . قلت : يعني في الدلالةِ عليه والتقديرُ : يُخَلَّدون في النارِ . وسأل عيسى بن عمر عمرَو بن عبيدٍ عن ذلك فقال : معناه في التفسير : إنَّ الذين كفروا بالذكْرِ لَمَّا جاءهم كفروا به . فقدَّر الخبرَ مِنْ جنسِ الصلةِ . وفيه نظرٌ؛ من حيث اتحادُ الخبرِ والمخبرِ عنه في المعنى من غيرِ زيادةِ فائدةٍ نحو : » سيدُ الجاريةِ مالكُها « .
الثالث : أنَّ » الذين « الثانيةَ بدلٌ مِنْ » إنَّ الذين « الأولى ، والمحكومُ به على البدلِ محكومٌ به على المبدلِ منه فيلزَمُ أَنْ يكونَ الخبرُ { لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ } . وهو منتزَعٌ من كلامِ الزمخشري .
الرابع : أنَّ الخبرَ قولُه : { لاَّ يَأْتِيهِ الباطل } والعائدُ محذوفٌ تقديره : لا يأتيه الباطلُ منهم نحو : السَّمْنُ مَنَوان بدرهم أي : مَنَوان منه . أو تكون أل عوضاً من الضمير في رأيِ الكوفيين تقديرُه : إنَّ الذين كفروا بالذِّكر لا يأتيه باطلُهم .
الخامسُ : أنَّ الخبرَ قولُه : { مَّا يُقَالُ لَكَ } ، والعائدُ محذوفٌ أيضاً تقديرُه : إنَّ الذين كفروا بالذكرِ ما يُقال لك في شَأنِهم إلاَّ ما قد قيل للرسلِ مِنْ قبلِك . وهذان الوجهان ذهب إليهما الشيخُ .
السادس : ذهب إليه بعضُ الكوفيين أنه قولُه : { وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ } وهذا غيرُ متعقَّلٍ .
والجملةُ مِنْ قوله : » وإنَّه لكتابٌ « حاليةٌ ، و { لاَّ يَأْتِيهِ الباطل } صفةٌ ل » كتاب « . و » تنزيلٌ « خبرُ مبتدأ محذوفٍ ، أو صفةٌ ل » كتابٌ « على أنَّ » لا يأتيه « معترِضٌ أو صفةٌ كما تقدَّم على رأي مَنْ يجوِّزُ تقديمَ غيرِ الصريح من الصفاتِ على الصريح . وتقدَّم تحقيقُه في المائدة . و » مِنْ حكيمٍ « صفةٌ ل » تَنْزيلٌ « أو متعلقٌ به . و » الباطلُ « اسمُ فاعلٍ . وقيل : مصدرٌ كالعافية والعاقبة .

مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43)

قوله : { إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ } : قيل : هو مُفَسِّر للمقولِ كأنه قيل : قيل للرسل : إنَّ ربَّك لَذو/ . وقيل : هو مستأنفٌ .

وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44)

قوله : { ءَاعْجَمِيٌّ } : قرأ الأخوان وأبو بكر بتحقيقِ الهمزة ، وهشام بإسقاطِ الأولى . والباقون بتسهيلِ الثانية بينَ بينَ . وأمَّا المدُّ فقد عُرِف حكمُه مِنْ قولِه : « أأنذَرْتَهم » في أولِ هذا الموضوع . فمَنْ استفَهْم قال : معناه أكتابٌ أَعجميٌّ ورسولٌ عربيٌّ . وقيل : ومُرْسَلٌ إليه عَربيٌّ . وقيل : معناه أَبَعْضُهُ أعجميٌّ وبعضُه عربيٌّ . ومَنْ لم يُثْبِتْ همزةَ استفهامٍ فيُحتمل أنه حَذَفها لفظاً وأرادها معنًى . وفيه توافُقُ القراءتين . إلاَّ أنَّ ذلك لا يجوز عند الجمهور ، إلاَّ إنْ كان في الكلام « أم » نحو :
3960 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... بسَبْعٍ رَمَيْنَ الجَمْرَ أم بثمان
فإنْ لم تكنْ « أم » لم يَجُزْ إلاَّ عند الأخفش . وتقدَّم ما فيه ، ويحتمل أَنْ يكونَ جعله خبراً مَحْضاً ويكونُ معناه : هَلاَّ فُصِّلَتْ آياتُه فكان بعضُها أعجمياً تفهمُه العجمُ ، وبعضُها عربياً يفهمُه العربُ .
والأعجميُّ مَنْ لا يُفْصِحُ ، وإن كان مِنَ العرب ، وهو منسوبٌ إلى صفته كأحمرِيّ ودَوَّاريّ ، فالياءُ فيه للمبالغةِ في الوصفِ وليس النسبُ منه حقيقياً . وقال الرازيُّ في لوامحه : « فهو كياء كُرْسِيّ وبُخْتِيّ » . وفَرَّق الشيخُ بينهما فقال : « وليسَتْ كياءِ كُرْسِيّ فإن كرسيّ وبُخْتيّ بُنِيَتِ الكلمةُ عليها بخلافِ ياء » أعجميّ « فإنهم يقولون : رجل أَعْجم وأعْجميّ » .
وقرأ عمرو بن ميمون « أَعَجَمِيٌّ » بفتح العين وهو منسوبٌ إلى العجم ، والياءُ فيه للنسَبِ حقيقةً يُقال : رجل أعجميٌّ وإنْ كان فصيحاً . وقد تقدَّم الكلامُ في الفرقِ بينهما في سورةِ الشعراء .
وفي رفع « أَعْجميّ » ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه مبتدأٌ ، والخبرُ محذوف تقديرُه ، أعجميٌّ وعربيٌّ يَسْتويان . والثاني : أنه خبرُ مبتدأ محذوف أي : هو ، أي : القرآن أعجميٌّ والمرسلُ به عربيٌّ . والثالث : أنه فاعلُ فعلٍ مضمرٍ أي : أيَسْتوي أعجميٌّ وعربيٌّ . وهذا ضعيفٌ؛ إذ لا يُحذف الفعلُ إلاَّ في مواضعَ بَيَّنْتُها غيرَ مرةٍ .
قوله : { والذين لاَ يُؤْمِنُونَ } فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أَنْ يكونَ مبتدأً ، و « في آذانِهم » خبرُه و « وَقْرٌ » فاعلٌ ، أو « في آذانهم » خبرٌ مقدم « ووقرٌ » مبتدأٌ مؤخر ، والجملةُ خبرُ الأول . الثاني : أنَّ وَقْراً خبرُ مبتدأ مضمرٍ . والجملةُ خبرُ الأولِ والتقديرُ : والذين لا يُؤْمنون هو وَقْرٌ في آذانهم لَمَّا أَخْبر عنه بأنه هدىً لأولئك ، أخبر عنه أنه وَقْرٌ في آذان هؤلاءِ وَعَمَىً عليهم . قال معناه الزمخشري . ولا حاجةَ إلى الإِضمار مع تمام الكلامِ بدونه . الثالث : أن يكونَ { الذين لاَ يُؤْمِنُونَ } عطفاً على « الذين آمنوا » ، و « وَقْرٌ » عطفٌ على « هدىً » وهذا من بابِ العطفِ على معمولَيْ عامِلَيْنِ . وفيه مذاهبُ تقدَّم تحريرُها .
قوله : « عَمَىً » العامَّةُ على فتحِ الميم المنونةِ وهو مصدرٌ ل عَمِي يَعْمَى نحو : صَدِي يَصْدَى صَدَىً ، وهَوِي يَهْوَى هَوَىً .

وقرأ ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وجماعة « عَمٍ » بكسرِها منونةً اسماً منقوصاً وُصِفَ بذلك مجازاً . وقرأ عمرو بن دينار ورُوِيت عن ابن عباس « عَمِيَ » بكسر الميم وفتح الياء فعلاً ماضياً . وفي الضمير وجهان أظهرُهما : أنه للقرآن . والثاني : أنه للوَقْر والمعنى يأباه ، و « في آذانهم » - إنْ لم تجعَلْه خبراً - متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ منه؛ لأنه صفةٌ في الأصلِ ولا يتعلَّق به ، لأنَّه مصدرٌ ، فلا يتقدَّم معمولُه عليه وقوله : { وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } كذلك في قراءة العامَّةِ ، وأمَّا في القراءتين المتقدمتين فتتعلَّق « على » بما بعده؛ إذ ليس بمصدرٍ .

مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)

قوله : { فَلِنَفْسِهِ } : يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بفعلٍ مقدر أي : فلنفسِه عملُه ، وأَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي : فالعملُ الصالحُ لنفسِه . وقوله « فعليها » مثلُه . /

إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47)

قوله : { وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ } : « ما » هذه يجوزُ أَنْ تكونَ نافيةً وهو الظاهرُ ، وأَنْ تكونَ موصولةً ، جَوَّز ذلك أبو البقاء ، ولم يُبَيِّنْ وجهَه . وبيانُه أنها تكونُ مجرورةَ المحلِّ عطفاً على الساعة أي : عِلْمُ الساعةِ وعِلْمُ التي تخرج ، و « مِنْ ثمرات » على هذا حالٌ ، أو تكون « مِنْ » للبيان . و « مِنْ » الثانية لابتداء الغاية . وأما « ما » الثانيةُ فنافيةٌ فقط . قال أبو البقاء : « لأنَّه عَطَفَ عليها » ولا تَضَعُ « ، ثم نقض النفيَ ب » إلاَّ « ، ولو كانَتْ بمعنى الذي معطوفةً على » الساعة « لم يَجُز ذلك » .
وقرأ نافع وابن عامر « ثمرات » ويُقَوِّيه أنها رُسِمَتْ بالتاءِ الممطوطة . والباقون « ثمرة » بالإِفرادِ والمرادُ بها الجنسُ . فإنْ كانَتْ « ما » نافيةً كانَتْ « مِنْ » مزيدةً في الفاعلِ ، وإنْ كانَتْ موصولةً كانت للبيانِ كما تقدَّم .
والأَكْمام : جمع كِمّ بكسرِ الكاف ، كذا ضبطه الزمخشري ، وهو ما يُغَطِّي الثمرةَ كجُفِّ الطَّلْعِ . وقال الراغب : « الكمُّ ما يُغَطِّي اليدَ من القميصِ ، وما يغطي الثمرة ، وجمعُه أكْمام فهذا يدلُّ على أنه مضموم الكاف ، إذ جعله مشتركاً بين كُمِّ القيمصِ وكمِّ الثمرةِ . ولا خلافَ في كُمِّ القميصِ أنه بالضم ، فيجوزُ أَنْ يكونَ في وعاءِ الثمرةِ لغتان ، دون كُمِّ القميصِ ، جمعاً بين قولَيْهما . وأمَّا أَكِمَّة فواحدُه كِمام كأَزِمَّة وزِمام . وفتح ابن كثير ياءَ » شُركائيَ « .
قوله : { مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ } هذه الجملةُ المنفيةُ معلِّقَةٌ ل » آذنَّاك « لأنها بمعنى أَعْلَمْناك قال :
3961 آذَنَتْنا ببَيْنِها أسماءُ ... رُبَّ ثاوٍ يَمَلُّ منه الثَّواءُ
وتقدَّم لنا خلافٌ في تعليقِ أعلم . . . ، والصحيحُ وقوعُه سماعاً من العربِ . وجَوَّز أبو حاتمٍ أَنْ يوقف على » آذنَّاك « وعلى » ظنُّوا « ويُبتدأَ بالنفي بعدَهما على سبيلِ الاستئناف . و » مِنَّا « خبرٌ مقدمٌ . و » مِنْ شهيد « مبتدأٌ . ويجوزُ أَنْ يكونَ » مِنْ شهيد « فاعلاً بالجارِّ قبلَه لاعتمادِه على النفي .

وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48)

قوله : { مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ } : كقوله : { مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ } من غيرِ فرقٍ .

لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49)

قوله : { مِن دُعَآءِ الخير } : مصدرٌ مضافٌ لمفعولِه ، وفاعلُه محذوفٌ أي هو . وقرأ عبد الله « مِن دُعَآءِ بالخير » .

وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50)

قوله : { لَيَقُولَنَّ هذا لِي } : جوابُ القسمِ لسَبْقِهِ الشرطَ ، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ ، كما عُرِف تقريرُه . وقال أبو البقاء : « ليقولَنَّ » جوابُ الشرطِ ، والفاءُ محذوفةٌ « . قلت : وهذا لا يجوزُ إلاَّ في شعرٍ كقولِه :
3962 مَنْ يَفْعلِ الحسناتِ اللَّهُ يَشْكُرُها ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
حتى إنَّ المبردَ يمنعُه في الشعر . ويَرْوي البيت : » فالرحمن يشكرُه « .

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52)

قوله : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ } : قد تقدَّم الكلامُ عليها مراراً . ومفعولُها الأولُ هنا محذوفٌ تقديرُه : أرأيتم أنفسَكم ، والثاني : هو الجملةُ الاستفهامية .
والآفاق جمع أُفُق وهو الناحيةُ . قال الشاعر :
3963 لو نالَ حيٌّ مِن الدنيا بمنزلةٍ ... أفْقَ السماءِ لنالَتْ كفُّه الأُفُقا
وهو كأَعْناق في عُنُق ، أُبْدِلَتْ همزتُه ألفاً . ونقل الراغب أنه يقال : أَفَق بفتحِ الهمزةِ والفاءِ ، فيكون ك جَبَل وأَجْبال . وآفَقَ فلانٌ أي : ذهب في الآفاقِ . والآفِقُ : الذي بلغ نهايةَ الكرم تشبيهاً في ذلك بالذاهبِ في الآفاقِ . والنسَبُ إلى الأُفُقِ أَفَقيٌّ بفتحهما قلت : ويُحتمل أنه نسبه إلى المفتوح واسْتَغنوا بذلك عن النسبة إلى المضمومِ . وله نظائر .

سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)

قوله : { أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ } فيه وجهان ، أحدهما : أن الباءَ مزيدةٌ في الفاعلِ ، وهذا هو الراجحُ . والمفعولُ محذوفٌ أي : أو لم يَكْفِكَ ربُّكَ . وفي قوله : { أَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } وجهان ، أحدهما : أنه بدلٌ مِنْ « بربك » فيكون مرفوعَ المحلِّ مجرورَ اللفظِ كمتبوعِه . والثاني : أنَّ الأصلَ بأنَّه ، ثم حَذَفَ الجارَّ فجرى الخلافُ . الثاني من الوجهين الأولين : أَنْ يكون « بربك » هو المفعولَ ، وأنه وما بعده هو الفاعلُ أي : أو لم يكْفِ ربُّك شهادتَه . وقُرئ { أَنَّهُ على كُلِّ } بالكسر ، وهو على إضمارِ القولِ ، أو على الاستئناف .

أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)

وقرأ أبو عبد الرحمن والحسن « في مُرْيَة » بضم الميم ، وقد تقدم أنَّها لغةٌ في المكسورةِ الميم . والله أعلم .

كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)

بسم الله الرحمن الرحيم
قوله : { كَذَلِكَ يوحي } : القُراء على « يُوْحي » بالياء مِنْ أسفلَ مبنياً للفاعلِ ، وهو اللَّهُ تعالى . « والعزيزُ الحكيمُ » نعتان . والكافُ منصوبةُ المحلِّ : إمَّا نعتاً لمصدرٍ ، أو حالاً مِنْ ضميرِه أي : يوحي إيحاءً مثلَ ذلك الإِيحاءِ . وقرأ ابنُ كثير - وتُروى عن أبي عمروٍ - « يُوْحَى » بفتحِ الحاءِ مبنياً للمفعول . وفي القائمِ مَقامَ الفاعلِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : ضميرٌ مستترٌ يعود على « كذلك » لأنه مبتدأٌ ، والتقدير : مثلُ ذلك الإِيحاءِ يُوْحَى هو إليك . فمثلُ ذلك مبتدأٌ ، ويُوْحى هو إليك خبرُه . الثاني : أنَّ القائمَ مقامَ الفاعلِ « إليك » ، والكافُ منصوبُ المحلِّ على الوجهَيْن المتقدِّمَيْن . الثالث : أنَّ القائمَ [ مَقامَه ] الجملةُ مِنْ قولِه : « اللَّهُ العزيزُ » أي : يُوْحَى إليك هذا اللفظُ . وأصولُ البَصْريين لا تساعِدُ عليه؛ لأنَّ الجملةَ لا تكونُ فاعلةً ولا قائمةً مقامَه .
وقرأ أبو حيوةَ والأعمشُ وأبانٌ « نُوْحي » بالنون ، وهي موافقةٌ للعامَّةِ . ويُحتمل أَنْ تكونَ الجملةُ مِنْ قولِه : « اللَّهُ العزيزُ » منصوبةَ المحلِّ مفعولةً ب « نُوْحي » أي : نُوحي إليك هذا اللفظَ . إلاَّ أنَّ فيه حكايةَ الجملِ بغيرِ القولِ الصريحِ . و « نُوْحي » على اختلافِ قراءاتِه يجوزُ أَنْ يكونَ على بابه من الحالِ أو الاستقبالِ ، فيتعلَّقَ قولُه : { وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ } بمحذوفٍ لتعذُّرِ ذلك ، تقديرُه : وأوحَى إلى الذين ، وأَنْ يكونَ بمعنى الماضي . وجيْءَ به على صورةِ المضارعِ لغَرَضٍ وهو تصويرُ الحالِ .
قوله : « اللَّهُ العزيزُ » يجوزُ أَنْ يرتَفِعَ بالفاعليةِ في قراءةِ العامَّةِ ، وأَنْ يرتفعَ بفعلٍ مضمرٍ في قراءةِ ابنِ كثير ، كأنه قيل : مَنْ يُوْحيه؟ فقيل : اللَّه ، ك { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال } [ النور : 36 ] ، وقوله :
3964 لِيُبْكَ يزيدُ ضارِعٌ . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد مرَّ ، وأَنْ يرتفعَ بالابتداءِ ، وما بعدَه خبرُه ، والجملةُ قائمةٌ مَقامَ الفاعلِ على ما مَرَّ ، وأَنْ يكون « العزيزُ الحكيمُ » خبَريْن أو نعتَيْن . والجملةُ مِنْ قولِه : { لَهُ مَا فِي السماوات } خبرٌ أولُ أو ثانٍ على حَسَبِ ما تقدَّم في « العزيزُ الحكيمُ » .
وجوَّز أبو البقاءِ أَنْ يكونَ « العزيز » مبتدأً و « الحكيمُ » خبرَه ، أو نعتَه ، و { لَهُ مَا فِي السماوات } خبرَه . وفيه نظرٌ؛ إذ الظاهرُ تَبَعيَّتُهما للجلالة . وأنت إذا قلتَ : « جاء زيدٌ العاقلُ الفاضلُ » لا تجعلُ العاقل مرفوعاً على الابتداء .

تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5)

قوله : { تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ } : قد مَرَّ في مريم الخلافُ والكلامُ فيه مُشْبَعاً . إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ زاد هنا : « وروِيَ عن يونسَ عن أبي عمروٍ قراءةٌ غريبةٌ » تَتَفَطَّرْنَ « بتاءَيْن مع النونِ ، ونظيرُهما حرفٌ نادرٌ رُوي في نوادر ابنِ الأعرابي : » الإِبلُ تَتَشَمَّمْن « . قال الشيخ : » والظاهرُ أنَّ هذا وهمٌ منه؛ لأنَّ ابن خالويه قال في « شاذِّ القراءاتِ » ما نَصُّه : « تَنْفَطِرْنَ » بالتاء والنون ، يونس عن أبي عمروٍ « قال ابنُ خالَوَيْه : » وهذا حرفٌ نادرٌ لأنَّ العربَ لا تجمعُ بين علامَتَيْ التأنيثِ . لا يقال : النساءُ تَقُمْنَ ، ولكن يَقُمْنَ ، { والوالدات يُرْضِعْنَ } [ البقرة : 233 ] ولا يقال : تُرْضَعْنَ . وقد كان أبو عُمَرَ الزاهدُ رَوَى في نوادرِ ابن الأعرابي : « الإِبلُ تَتشمَّمْن » فأنكَرْنَاه ، فقد قَوَّاه الآن هذا « . قال الشيخ : » فإنْ كانَتْ نُسَخُ الزمخشريِّ متفقةً على قولِه : « بتاءَيْن مع النون » فهو وهمٌ ، وإنْ كان في بعضها « بتاءٍ مع النونِ » كان موافقاً لقولِ ابن خالَوَيْهِ ، وكان « بتاءَيْن » تحريفاً من النَّساخ . وكذلك كَتْبُهُم « تَتَفَطَّرْن » و « تَتَشَمَّمْنَ » بتاءَيْن « انتهى .
قلت : كيف يَسْتقيم أَنْ يكونَ كتْبُهم تَتَشَمَّمْن بتاءَيْن وهماً؟ وذلك لأنَّ ابنَ خالَوَيْهِ أورَدَه في مَعْرِضِ النُّدْرَةِ والإِنكارِ ، حتى تَقَوَّى عنده بهذه القراءةِ ، وإنما يكون نادراً مُنْكَراً بتاءَيْن فإنه حينئذٍ يكونُ مضارِعاً مُسْنَداً لضمير الإِبلِ ، فكان مِنْ حَقِّه أَنْ يكونَ حرفُ مضارَعَتِه ياءً منقوطةً مِنْ أسفلَ نحو : » النساءُ يَقُمْنَ « فكان يَنْبغي أَنْ يقال : الإِبلُ يَتَشَمَّمْنَ بالياء مِنْ تحتُ ثم بالتاءِ مِنْ فوقُ ، فلمَّا جاء بتاءَيْن كلاهما مِنْ فوقُ ظهرَ ندورُه وإنكارُه . ولو كان على ما قال الشيخُ : إنَّ كَتْبَهم بتاءَيْن وهمٌ ، بل كان ينبغي كَتْبُه بتاءٍ واحدةٍ لَما كان فيه شذوذٌ/ ولا إنكارٌ؛ لأنه نظيرُ » النسوةُ قد خَرَجْنَ « فإنَّه ماضٍ مسندٌ لضميرِ الإِناثِ ، وكذا لو كُتِب بياءٍ مِنْ تحتُ وتاءٍ مِنْ فوقُ لم يكنْ فيه شذوذٌ ولا إنكارٌ ، وإنما يجيْءُ الشذوذُ والإِنكارُ إذا كان بتاءَيْنِ منقوطتَيْن مِنْ فوقُ ، ثم إنَّه سواءٌ قُرِئَ » تَتَفَطَّرْنَ « بتاءَيْن أو بتاءٍ ونونٍ فإنه نادرٌ كما ذَكَرَ ابنُ خالوَيْه ، وهذه القراءةُ لم يُقْرَأ بها في نظيرتِها في سورةِ مريم .
قوله : » مِنْ فَوْقِهِنَّ « في هذا الضميرِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه عائدٌ على السماوات أي : يَبْتَدِئُ انفطارُهُنَّ مِنْ هذه الجهةِ ف » مِنْ « لابتداءِ الغايةِ متعلقةً بما قبلَها . الثاني : أنه [ عائد ] على الأرضين لتقدُّم ذِكْرِ الأرضِ قبلَ ذلك . الثالث : أنه يعودُ على فِرَقِ الكفَّارِ والجماعاتِ المُلْحِدين ، قاله الأخفش الصغير ، وأنكره مكي ، وقال : » لا يجوزُ ذلك في الذكور مِنْ بني آدم « . وهذا لا يُلْزِمُ الأخفشَ فإنَّه قال : على الفِرَقِ والجماعات ، فراعى ذلك المعنى .

وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7)

قوله : { قُرْآناً عَرَبِيّاً } : فيه وجهان ، أظهرُهما : أنه مفعولُ « أَوْحَيْنا » ، والكافُ للمصدرِ نعتاً أو حالاً . والثاني : أنَّه حالٌ من الكافِ ، والكافُ هي المفعولُ ل « أَوْحَيْنا » أي : أَوْحَيْنا مثلَ ذلك الإِيحاءِ ، وهو قرآنٌ عربيٌّ . وإليه نحا الزمخشريُّ ، وكونُ الكافِ اسماً في النَّثْر مذهبُ الأخفش .
قوله : « ومَنْ حَوْلها » عطفٌ على « أهل » المقدرِ قبل « أمَّ القرى » أي : لِتُنْذِرَ أهلَ أمِّ القرى ومَنْ حَوْلَها . والمفعولُ الثاني محذوفٌ أي : العذابَ . وقُرِئَ « لِيُنْذِرَ » بالياءِ مِنْ تحتُ أي : القرآن . وقولُه : { وَتُنذِرَ يَوْمَ الجمع } هو المفعولُ الثاني . والأولُ محذوفٌ أي : وتُنْذِرَ الناسَ عذابَ يومِ الجمع ، فحذفَ المفعولَ الأولَ من الإِنذار الثاني ، كما حَذَفَ المفعولَ الثاني مِنْ الإِنذار الأولِ .
قوله : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } إخبارٌ فهو مستأنَفٌ . ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنْ « يومَ الجمع » ، وجعلَه الزمخشريُّ اعتراضاً وهو غيرُ ظاهرٍ صناعةً؛ إذ لم يَقَعْ بين متلازِمَيْنِ .
قوله : « فَرِيقٌ » العامَّةُ على رَفْعِه بأحدِ وجهَيْنِ : إمَّا الابتداءِ ، وخبرُه الجارُّ بعدَه . وساغ هذا في النكرةِ لأنَّه مَقامُ تفصيلٍ كقولِه :
3965 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فثوبٌ لَبِسْتُ وثَوْبٌ أَجُرّْ
ويجوزُ أَنْ يكونَ الخبرُ مقدراً ، تقديرُه : منهم فريقٌ . وساغ الابتداءُ بالنكرةِ لشيْئَيْنِ : تقديمِ خبرِها جارًّا ومجروراً ، ووَصْفِها بالجارِّ بعدَها . والثاني : أنه خبرُ ابتداءٍ مضمرٍ أي : هم ، أي : المجموعون دَلَّ على ذلك قولُه : « يومَ الجَمْعِ » .
وقرأ زيدُ بن علي « فريقاً ، وفريقاً » نصباً على الحال مِنْ جملةٍ محذوفةٍ أي : افترقوا أي : المجموعون . وقال مكي : « وأجاز الكسائيُّ والفراءُ النصبَ في الكلام في » فريقاً « على معنى : تُنْذِرُ فريقاً في الجنة وفريقاً في السَّعير يومَ الجمع » . قلت : قد تقدَّم أنَّ زيدَ بن علي قرأ بذلك ، فكأنَّه لم يَطَّلِعْ على أنها قراءةٌ؛ بل ظاهرُ نَقْلِه عن هذَيْن الإِمامَيْن أنهما لَم يَطَّلعا عليها ، وجَعَل « فريقاً » مفعولاً أولَ ل « تُنْذِرَ » و « يومَ الجَمْعِ » مفعولاً ثانياً . وفي ظاهرِه إشكالٌ : وهو أنَّ الإِنذارَ لا يقعُ للفريقَيْنِ ، وهما في الجنة ، وفي السَّعير ، إنَّما يكونُ الإِنذارُ قبل استقرارِهما فيهما . ويمكنُ أَنْ يُجابَ عنه : بأنَّ المرادَ مَنْ هو مِنْ أهلِ الجنة ومِنْ أهلِ السَّعير ، وإنْ لم يكنْ حاصلاً فيهما وقتَ الإِنذارِ ، و « في الجنة » صفةٌ ل « فَريقاً » أو متعلِّقٌ بذلك المحذوفِ .

أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9)

قوله : { أَمِ اتخذوا } : هذه « أم » المنقطعةُ تتقَدَّر ب بل التي للانتقالِ وبهمزةِ الإِنكارِ ، أو بالهمزةِ فقط ، أو ب بل فقط .
قوله : { فالله هُوَ الولي } . الفاءُ عاطفةٌ ما بعدَها على ما قبلَها . وجعلها الزمخشريُّ جوابَ شرطٍ مقدرٍ . كأنَّه قيل : إنْ أرادوا أولياءَ بحقٍ فاللَّهُ هو الوليُّ .

فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)

قوله : { فَاطِرُ } : العامَّةُ على رفعِه خبراً ل « ذلكم » أو نعتاً ل « ربِّي » على تَمَحُّضِ إضافتِه . و « عليه توكَّلْتُ » معترضٌ على هذا ، أو مبتدأ ، وخبرُه « جَعَلَ لكم » أو خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : هو . وزيد بن علي : « فاطرِ » بالجرِّ نعتاً للجلالةِ في قوله : « إلى اللَّهِ » ، وما بينهما اعتراضٌ أو بدلاً مِن الهاء في « عليه » أو « إليه » .
وقال مكيٌّ : « وأجاز الكسائيُّ النصبَ على النداء » . وقال غيرُه : على المدح . ويجوزُ في الكلامِ الخفضُ على البدلِ من الهاءِ في « عليه » . قلت : قد قرأ بالخفضِ زيدُ بن علي . وأمَّا نصبُه فلم أحفَظْه قراءةً .
قوله : « يَذْرَؤُكُمْ فيه » يجوزُ أَنْ تكونَ « في » على بابِها . والمعنى : يُكَثِّرُكُمْ في هذا التدبير ، وهو أنْ جَعَلَ للناسِ والأنعام أزواجاً حتى كان بين ذُكورِهم وإناثِهم التوالُدُ . والضميرُ في « يَذرَؤُكم » للمخاطبين والأنعامِ . وغَلَّب العُقلاءَ على غيرِهم الغُيَّبِ . قال الزمخشري : « وهي/ من الأحكامِ ذاتِ العلَّتَيْن » . قال الشيخ : « وهو اصطلاحٌ غريبٌ ، ويعني : أنَّ الخطابَ يُغَلَّبُ على الغَيْبة إذا اجتمعا » . ثم قال الزمخشريُّ : « فإنْ قلت : ما معنى يَذْرَؤُكم في هذا التدبيرِ؟ وهلا قيل يَذْرَؤُكم به . قلت : جُعِل هذا التدبيرُ كالمَنْبَع والمَعدِنِ للبَثِّ والتكثيرِ . ألا تَراك تقول : للحَيَوان في خلق الأزواج تكثير ، كما قال تعالى : { وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ } [ البقرة : 179 ] . والثاني : أنها للسببية كالباء أي : يُكَثِّرُكم بسبِبه . والضميرُ يعودُ للجَعْلِ أو للمخلوقِ » .
قوله : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } في هذه الآيةِ أوجهٌ ، أحدُها - وهو المشهورُ عند المُعْرِبين - أنَّ الكافَ زائدةٌ في خبرِ ليس ، و « شيءٌ » اسمُها . والتقدير : ليس شيءٌ مثلَه . قالوا : ولولا ادِّعاءُ زيادتِها لَلَزِمَ أَنْ يكونَ له مِثْلٌ . وهو مُحالٌ؛ إذ يَصيرُ التقديرُ على أصالةِ الكاف : ليس مثلَ مثلِه شيءٌ ، فنفى المماثلةَ عن مثلِه ، فثبَتَ أنَّ له مثْلاً ، لا مثلَ لذلك المَثَلِ ، وهذا مُحالٌ تَعالى اللَّه عن ذلك .
وقال أبو البقاء : « ولو لم تكنْ زائدةً لأَفْضَى ذلك إلى المُحال؛ إذ كان يكونُ المعنى : أنَّ له مِثْلاً وليس لمثلِه مِثْلٌ . وفي ذلك تناقضٌ؛ لأنَّه إذا كان له مِثْلٌ فلِمِثْله مِثْلٌ وهو هو ، مع أنَّ إثباتَ المِثْلِ لله تعالى مُحالٌ » . قلت : وهذه طريقةٌ غريبةٌ في تقريرِ الزيادةِ ، وهي طريقةٌ حسنةٌ فيها حُسْنُ صناعةٍ .
والثاني : أنَّ مِثْلاً هي الزائدةُ كزيادتِها في قوله تعالى : { بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ } [ البقرة : 137 ] . قال الطبري : « كما زِيْدَتِ الكافُ في قوله :
3966 وصَالياتٍ كَكَما يُؤَثْفَيْنْ ...

وقولِ الآخر :
3967 - فصُيِّروا مثلَ كعَصْفٍ مَأْكُوْلْ ... وهذا ليس بجيدٍ؛ لأنَّ زيادةَ الأسماءِ ليسَتْ بجائزةٍ . وأيضاً يصيرُ التقديرُ ليس ك هو شيءٌ ، ودخولُ الكافِ على الضمائرِ لا يجوزُ إلاَّ في شعرٍ .
الثالث : أنَّ العربَ تقولُ « مثلُكَ لا يَفْعَلُ كذا » يعْنُون المخاطبَ نفسَه؛ لأنَّهم يُريدون المبالغةَ في نَفْيِ الوصفِ عن المخاطب ، فينفونَها في اللفظِ عن مثلِه ، فَيَثْبُتُ انتفاؤُها عنه بدليلِها . ومنه قول الشاعر :
3968 على مِثْلِ ليلى يَقْتُل المرءُ نفسَه ... وإنْ باتَ مِنْ ليلى على اليأس طاويا
وقال أوس بن حجر :
3969 ليس كمثلِ الفتى زُهَيْرٍ ... خَلْقٌ يُوازِيه في الفضائلِ
وقال آخر :
3970 سَعْدُ بنُ زيدٍ إذا أبصرْتَ فضلَهُمُ ... فما كمِثْلِهِمْ في الناسِ مِنْ أَحَدِ
قال ابن قتيبة : « العرب تُقيم المِثْلَ مُقامَ النفسِ فتقول : مثلي لا يُقال له هذا ، أي : أنا لا يُقال لي » . قيل : و [ نظيرُ ] نسبةُ المِثْل إلى مَنْ لا مِثْل له قولُك : فلانٌ يدُه مبسوطةٌ تريد أنه جَوادٌ ، ولا نَظَرَ في الحقيقة إلى اليد ، حتى تقولُ ذلك لمَنْ لا يَدَ له كقولِه تعالى : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } [ المائدة : 64 ] .
الرابع : أَنْ يُرادَ بالمِثْلِ الصفةُ ، وذلك أنَّ المِثْلَ بمعنى المَثَلَ والمَثَلُ الصفةُ ، كقولِه تعالى : { مَّثَلُ الجنة } [ الرعد : 35 ] فيكونُ المعنى : ليس مِثْلُ صفتِه تعالى شيءٌ من الصفات التي لغيرِه ، وهو مَحْمَلٌ سهلٌ .

شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)

قوله : { أَنْ أَقِيمُواْ } : يجوز فيها أوجهٌ ، أحدُها : أَنْ تكونَ مصدريةً في محلِّ رفعٍ على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ تقديرُه : هو أَنْ أَقيموا أي : الدينُ المشروعُ توحيدُ الله تعالى . الثاني : أنها في محلِّ نصبٍ بدلاً من الموصولِ كأنَّه قيل : شَرَعَ لكم توحيدَ الله تعالى . الثالث : أنَّها في محلِّ جرٍّ بدلاً من الدين . الرابع : أنَّها في محلِّ جَرٍّ أيضاً بدلاً من الهاء . الخامس : أَنْ تكونَ مُفَسِّرةً؛ لأنها قد تقدَّمها ما هو بمعنى القول .

وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)

قوله : { أُورِثُواْ } : قرأ زيد بن علي « وُرِّثوا » بالتشديد [ مِنْ ] وُرِّثَ مبنياً للمفعول .

فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)

قوله : { فَلِذَلِكَ فادع } : في اللامِ وجهان ، أحدهما : أَنْ تكونَ بمعنى إلى . والثاني : أنها للعلةِ أي : لأجلِ التفرُّقِ والاختلافِ ادْعُ للدِّين القيِّمِ .
قوله : « وأُمِرْتُ لأَعْدِلَ » يجوزُ أَنْ يكونَ التقديرُ : وأُمِرْت بذلك لأَعْدِلَ . وقيل : وأُمرت أَنْ أَعْدِلَ ، فاللامُ مزيدةٌ . وفيه نَظَرٌ؛ لأنَّك بعد زيادةِ اللام تحتاج إلى تقديرِ حرفِ جر أي : بأَنْ أَعْدِلَ .

وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16)

قوله : { والذين يُحَآجُّونَ } : مبتدأٌ و « حُجَّتُهم » مبتدأٌ ثانٍ ، و « داحِضَةٌ » خبرُ الثاني ، والثاني وخبرُه خبرٌ عن الأول . وأعربَ مكيٌّ « حُجَّتُهم » بدلاً/ من الموصول بدلَ اشتمال . والهاءُ في « له » تعودُ على الله أو على الرسول عليه السلام أي : مِنْ بعدِ ما استجاب الناسُ لله تعالى ، أو مِنْ بعدِما استجاب اللَّهُ لرسولِه حين دعا على قومِه .

اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17)

قوله : { لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ } : إنما ذَكَّر « قَريب » وإنْ كان صفةً لمؤنث لأنَّ الساعةَ في معنى الوقتِ ، أو البعثِ ، أو على معنى النَّسب أي : ذاتُ قُرْب ، أو على حَذْفِ مضافٍ أي : مجيء الساعةِ . وقيل : للفرق : بينها وبين قرابةِ النسَبِ . وقيل : لأنَّ تأنيثها مجازيٌّ ، نقله مكي ، وليس بشيءٍ؛ إذ لا يجوز : الشمسُ طالعٌ ولا القِدْرُ فائرٌ . وجملةُ الترجِّي أو الإِشفاقِ مُعَلِّقَةٌ للدرايةِ . وتقدَّم مثلُه آخرَ الأنبياء .

مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)

قوله : { نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ } : قد تَقَدَّم أنَّ كَوْنَ الشرطِ ماضياً والجزاءِ مضارعاً مجزوماً لا يختَصُّ مجيْئُه ب « كان » خلافاً لأبي الحكم مصنِّفِ « كتابِ الإِعراب » فإنَّه قال : « لا يجوز ذلك إلاَّ مع » كان « إلاَّ في ضرورةِ شعرٍ » . وأطلق النَّحْويون جوازَ ذلك ، وأنشدوا بيتَ الفرزدق :
3971 دَسَّتْ رسولاً بأنَّ القوم إنْ قَدِرُوا ... عليك يَشْفُوا صدوراً ذاتَ تَوْغيرِ
وقولَه أيضاً :
3972 تَعَشَّ فإنْ عاهَدْتَني لا تَخُونني ... نكنْ مِثْلَ مَنْ يا ذئبُ يصْطَحِبان
وقرأ ابن مقسم والزعفراني ومحبوب « يَزِدْ » و « يُؤْتِه » بالياء مِنْ تحتُ أي : الله تعالى . وقرأ سلام « نُؤْتِهُ » بضمِّ هاءِ الكناية وهو الأصلُ ، وهي لغةُ الحجاز . وتقدَّمَ خلافُ القُرَّاءِ في ذلك .

أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21)

قوله : { شَرَعُواْ لَهُمْ } : يجوزُ أَنْ يكونَ الضميرُ المرفوع عائداً على الشركاء ، والمجرورُ على الكفار . ويجوز العكسُ؛ لأنَّهم جَعَلوا لهم أنْصِباءَ .
قوله : « وإنَّ الظالمين » العامَّةُ بالكسر على الاستئناف . ومسلم ابن جندب والأعرج بفتحِها عطفاً على « كلمةُ » ، وفَصَلَ بين المتعاطفَيْن بجوابِ « لولا » تقديرُه : ولولا كلمةٌ واستقرارُ الظالمين في العذاب لقُضِيَ ، وهو نظيرُ : { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى } [ طه : 129 ] .

تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22)

قوله : { وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ } : أي : والإِشفاقُ أو والعذاب . و « روضاتُ الجنَّات » : قال الشيخ : « واللغةُ الكثيرةُ تسكينُ الواوِ ، ولغةُ هُذَيْلٍ فَتْحُ الواو ، إجراءً لها مُجْرى الصحيح نحو : جَفَنات ، ولم يقرأ أحد فيما عَلِمْناه بلغتِهم » . قلت : إن عَنى لم يَقْرأ أحدٌ بلغتهم في هذا البابِ من حيث هو هو فليس كذلك؛ لأني قد قَدَّمْتُ لك في سورة النور أنَّ الأعمشَ قرأ { ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ } [ النور : 58 ] بفتحِ الواو . وإنْ عنى أنَّه لم يُقْرأ في « رَوْضات » بخصوصِها - وليس بظاهرِ عبارته - فيُحْتمل ذلك .
قوله : « عندَ رَبِّهم » يجوزُ أَنْ يكونَ ظرفاً ل « يَشاؤُون » قاله الحوفي ، أو للاستقرارِ العاملِ في « لهم » قاله الزمخشريُّ ، والعِنْدِيَّةُ مجازٌ .

ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)

قوله : { يُبَشِّرُ الله عِبَادَهُ } : كقولِه : { كالذي خاضوا } [ التوبة : 69 ] وقد تقدَّم تحقيقُه ، وتقدَّمَتِ القراءاتُ في « يُبَشِّر » . وقرأ مجاهد وحميد بن قيس « يُبْشِرُ » بضمِّ الياءِ وسكونِ الباءِ وكسرِ الشينِ مِنْ أَبْشَر منقولاً مِنْ بَشِر بالكسر ، لا مِنْ بَشَر بالفتح ، لأنه متعدٍّ . والتشديدُ في « بَشَّر » للتكثيرِ لا للتعديةِ؛ لأنه متعدٍّ بدونها . ونقل الشيخ قراءةَ « يَبْشُرُ » بفتح الياء وضم الشين عن حمزةَ والكسائي من السبعة ، ولم يذكرْ غيرَهما من السبعةِ ، وقد وافَقَهما على ذلك ابن كثير وأبو عمرو . و « ذلك » مبتدأٌ والموصولُ بعده خبرُه ، وعائدُه محذوفٌ على التدريجِ المذكورِ في قولِه : { كالذي خاضوا } أي : يُبَشِّرُ به ، ثم يُبَشِّره على الاتِّساع . وأمَّا على رأي يونسَ فلا تحتاج إلى عائدٍ لأنها عنده مصدريَّةٌ ، وهو قول الفراء أيضاً . أي : ذلك تبشيرُ اللَّهِ عبادَه . و « ذلك » إشارةٌ إلى ما أَعَدَّه الله لهم من الكرامة .
وقال الزمخشري : « أو ذلك التبشيرَ الذي يُبَشِّره اللَّهُ عبادَه » . قال الشيخ : « وليس بظاهرٍ؛ إذ لم يتقدَّمْ في هذه السورةِ لفظُ البُشْرى ، ولا ما يَدُلُّ عليها مِنْ بَشَّر أو شبهِه » .
قوله « إلاَّ المودَّةَ » فيها قولان ، أحدهما : أنَّها استثناءٌ منقطعٌ؛ إذ ليسَتْ من جنسِ الأَجْرِ . والثاني : أنه متصلٌ أي : لا أسألُكم عليه أجراً إلاَّ هذا . وهو أَنْ تَوَدُّوا أهلَ قرابتي ولم يكنْ هذا أجراً في الحقيقةِ؛ لأنَّ قرابتَه قرابتُهم فكانت صلتُهم لازمةً لهم في المروءةِ ، قاله الزمخشري . وقال أيضاً : « فإنْ قلت : هلاَّ قيل : إلاَّ مودةَ القُرْبَى ، أو إلاَّ المودةَ للقُرْبى . قلت : جُعِلوا مكاناً للمودَّةِ ومَقَرًّا لها كقولِك : لي في آل فلان مَوَدَّة ، وليست » في « صلةً للمودةِ كاللامِ إذا قلتَ : إلاَّ المودةَ للقربى ، إنما هي متعلقةٌ بمحذوفٍ تَعَلُّقَ الظَرفِ به في قولك : » المالُ في الكيس « ، وتقديرُه : إلاَّ المودةَ ثابتةً في القُرْبَى ومتمكنةً فيها » . قلت : وأحسنُ ما سَمِعْتُ في معنى هذه الآيةِ حكايةُ الشعبيِّ قال : أَكْثَرَ الناسُ علينا في هذه الآيةِ فكتَبْنا إلى ابن عباس نسألُه عنها . فكتب : أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان أوسطَ الناسِ في قريش ، ليس بطنٌ مِنْ بطونهم إلاَّ قد وَلَدَه ، فقال الله تعالى : قل لا أسألُكم عليه أَجْراً إلاَّ أن تَوَدُّوني في قَرابتي منكم فارْعَوْا ما بيني وبينكم فصَدِّقوني .
وقال أبو البقاء : « وقيل : متصلٌ أي/ : لا أسألكم شيئاً إلاَّ المودةَ » . قلت : وفي تأويلِه متصلاً بما ذَكَر ، نظرٌ لمجيئه ب « شيء » الذي هو عامٌّ ، وما مِنْ استثناءٍ منقطع إلاَّ ويمكن تأويلُه بما ذَكَر ، ألا ترى إلى قولِك : « ما جاءني أحدٌ إلاَّ حمارٌ » أنه يَصِحُّ : ما جاءني شيءٌ إلاَّ حماراً .

وقرأ زيد بن علي « مَوَدَّة » دون ألفٍ ولام .
قوله : { نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً } العامَّةُ على « نَزِدْ » بالنون للعظمة . وزيد ابن علي وعبدُ الوارث عن أبي عمروٍ « يَزِدْ » بالياءِ مِنْ تحتُ أي : يَزِدِ اللَّهُ . والعامَّةُ على « حُسْناً » بالتنوين مصدراً على فُعْل نحو : شُكْر . وهو مفعولٌ به . وعبدُ الوارث عن أبي عمرو « حُسْنى » بألفِ التأنيث على وزنِ بُشْرَى ورُجْعَى وهو مفعولٌ به أيضاً . ويجوز أَنْ يكونَ صفةً ك فُضْلَى ، فيكونَ وصفاً لمحذوف أي خَصْلَةً حسنى .

أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24)

قوله : { وَيَمْحُ الله الباطل } : هذا مستأنَفٌ غيرُ داخلٍ في جزاءِ الشرطِ ، لأنه تعالى يمحو الباطلَ مطلقاً ، وسَقَطت الواوُ منه لفظاً لالتقاءِ الساكنين في الدَّرْج ، وخَطَّاً حَمْلاً للخط على اللفظِ كما كتبوا { سَنَدْعُ الزبانية } [ العلق : 18 ] عليه ولكن ينبغي أَنْ لا يجوزَ الوقفُ على هذا؛ لأنه إنْ وَقَفَ عليه بالأصلِ ، وهو الواوُ ، خالَفْنا خطَّ المصحفِ ، وإنْ وَقَفْنا بغيرها موافَقَةً للرسمِ خالَفْنا الأصلَ ، وقد مَرَّ لك بحثُ مثلِ هذا . وقد مَنَعَ مكي الوقفَ على نحوِ { وَمَن تَقِ السيئات } [ غافر : 9 ] وبابِه .
قوله : « ما تَفْعَلُون » قرأ الأخوَان وحفص « تَفْعلون » بالتاءِ مِنْ فوقُ نظراً إلى قولِه : « عن عبادِه » . والباقون بالخطاب إقبالاً على الناسِ عامَّة .

وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26)

قوله : { وَيَسْتَجِيبُ الذين آمَنُواْ } : يجوزُ أَنْ يكونَ الموصولُ فاعلاً أي : يُجيبون ربَّهم إذا دعاهُمْ كقولِه : { استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم } [ الأنفال : 24 ] . واستجابَ كأَجاب . ومنه :
3973 وداعٍ دَاع يا مَنْ يُجيب إلى النَّدى ... فلم يَسْتَجِبْه عند ذاكَ مُجيبُ
ويجوزُ أَنْ تكونَ السينُ للطلب على بابِها بمعنى : ويُسْتَدْعَى المؤمنون للإِجابة عن ربِّهم بالأعمالِ الصالحة . ويجوزُ أَنْ يكونَ الموصولُ مفعولاً به ، والفاعلُ مضمرٌ يعودُ على الله بمعنى : ويُجيب اللَّهُ الذين آمنوا أي : دعاهم . وقيل : ثَمَّ لامٌ مقدرةٌ أي : ويَسْتجيب الله للذين آمنوا فَحَذَفها للعِلْم بها .

وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)

قوله : { مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ } : « ما » مصدريَّةٌ أي : مِنْ قُنوطهم . والعامَّةُ على فتح النون . وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش بكسرِها وهي لغةٌ ، وعليها قُرِئ « يَقْنَطُ » { لاَ تَقْنَطُواْ } [ الزمر : 53 ] بفتحِ النونِ في المتواتر . ولم يُقْرَأ بالكسر في الماضي إلاَّ شاذاً .

وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29)

قوله : { وَمَا بَثَّ } : يجوزُ أَنْ تكونَ مجرورةَ المحلِّ عطفاً على « السماواتِ » أو مرفوعتَه عطفاً على « خَلْقُ » على حَذفِ مضافٍ أي : وخَلْقُ ما بَثَّ ، قاله الشيخ . وفيه نظر؛ لأنَّه يَؤُول إلى جَرِّه بالإِضافةِ ل خَلْق المقدَّرِ ، فلا يُعْدَلُ عنه .
قوله : « فيهما » أي : السماوات والأرض . والسماءُ لا ذَوات فيها فقيل : هو مثلُ قولِه : { نَسِيَا حُوتَهُمَا } ، [ الكهف : 61 ] { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } [ الرحمن : 22 ] . وقيل : بل خَلَقَ في السماء مَنْ يَدِبُّ . وقيل : مِن الملائكةِ مَنْ يمشي مع طَيَرانه . وقال الفارسي : « هو على حَذْفِ مضافٍ أي : وما بَثَّ في أحدِهما » وهذا إلغازٌ في الكلام .
قوله : « إذا يَشاء » « إذا » منصوبةٌ ب « جَمْعِهم » لا ب « قديرٌ » . قال أبو البقاء : « لأنَّ ذلك يُؤَدِّي إلى أَنْ يَصيرَ المعنى : وهو على جَمْعِهم قديرٌ إذا يشاء ، فتتعلَّقُ القدرةُ بالمشيئةِ وهو مُحالٌ » . قلت : ولا أَدْري ما وجهُ كونِه مُحالاً على مذهبِ أهلِ السُّنة؟ فإنْ كان يقولُ بقولِ المعتزلةِ : وهو أنَّ القدرةَ تتعلَّق بما لم يَشَأ الله يمشي كلامُه ، ولكنه مذهبٌ رديْءٌ لا يجوزُ اعتقادُه ، ونقول : يجوزُ تعلُّقُ الظرفِ به أيضاً .

وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)

قوله : { فَبِمَا } : قرأ نافعٌ وابنُ عامر « بما » دونَ فاءٍ . والباقون « فبما » بإثباتِها . ف « ما » في القراءةِ الأولى الظاهرُ أنَّها موصولةٌ بمعنى الذي ، والخبر الجارُّ مِنْ قولِه : « بما كَسَبَتْ » . وقال قومٌ منهم أبو البقاء : إنَّها شرطيةٌ حُذِفَتْ منها الفاءُ . قال أبو البقاء : « كقوله تعالى : { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } [ الأنعام : 121 ] . وقولِ الشاعر :
3974 مَنْ يَفْعَلِ الحسناتِ اللَّهُ يَشْكُرها ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهذا ليس مذهبَ الجمهورِ ، إنما قال به الأخفشُ وبعضُ البغداديين . وأما الآية ف » إنَّكم لَمُشْرِكون « ليس جواباً للشرط ، إنما هو جوابٌ لقَسمٍ مقدرٍ حُذِفَتْ لامُه الموطِّئَةُ قبل أداةِ الشرطِ .
وأمَّا القراءةُ الثانيةُ فالظاهرُ أنها فيها شرطيةٌ ، ولا يُلْتَفَتُ لقولِ أبي البقاء : » إنَّه ضعيفٌ « . ويجوزُ أَنْ تكونَ الموصولةَ ، والفاءُ داخلةٌ في الخبر تشبيهاً للموصولِ بالشرط ، بشروطٍ ذكَرْتُها مُسْتوفاةً في هذا الموضوعِ بحمدِ الله تعالى . وقد وافق نافعٌ وابنُ عامرٍ مصاحفَهما؛ فإنَّ الفاءَ ساقطةٌ من مصاحفِ المدينةِ والشامِ ، وكذلك الباقون فإنها ثابتةٌ في مصاحفِ مكةَ والعراقِ .

وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32)

قوله : { الجوار } : أي : السفنُ الجوارِي . فإن قلت : الصفةُ متى لم تكن خاصَّةً بموصوفِها امتنع حَذْفُ الموصوفِ . لا تقولُ : مررتُ بماشٍ؛ لأنَّ المَشْيَ عامٌّ . وتقول : مررتُ بمهندسٍ وكاتبٍ ، والجَرْيُ ليس من الصفاتِ الخاصةِ فما وجهُ ذلك؟ فالجوابُ : / أنَّ قولَه : « في البحر » قرينةٌ دالَّةٌ على الموصوفِ . ويجوزُ أَنْ تكونَ هذه صفةً غالبةً كالأَبْطَح والأَبْرَق ، فَوَلِيَتِ العواملَ دونَ موصوفِها .
و « في البحر » متعلقٌ ب « الجوَاري » إذا لم يَجْرِ مَجْرى الجوامدِ . فإنْ جَرَى مَجْراه كان حالاً منه ، وكذا قولُه : « كالأَعْلام » هو حالٌ أي : مُشْبهةً بالأعلام - وهي الجبالُ - كقول الخنساء :
3975 وإنَّ صَخْراً لَتَأْتَمُّ الهُداةُ به ... كأنَّه عَلَمٌ في رأسِه نارُ
وسُمِع : هذه الجَوارُ ، وركبْتُ الجوارَ ، وفي الجوارِ ، بالإِعراب على الراءِ تناسياً للمحذوفِ . وقد تقدَّم هذا في قولِه : { وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ } [ الأعراف : 41 ] في الأعراف .

إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33)

قوله : { فَيَظْلَلْنَ } : العامَّةُ على فتحِ اللامِ التي هي عينٌ ، وهو القياسُ؛ لأنَّ الماضيَ بكسرِها ، تقول : ظَلِلْتُ قائماً . وقرأ قتادةُ بكَسْرِها ، وهو شاذٌ نحو : حَسِب يَحْسِب وأخواتِه وقد تقدَّمَتْ . . . وقال الزمخشري : « مِنْ ظَلَّ يَظَلُّ ويَظِلُّ ، نحو : ضَلَّ يَضَلُّ ويَضِلُّ » . قال الشيخ : « وليس كما ذَكر؛ لأنَّ يَضَلُّ بفتح العين مِنْ ضَلِلْتُ بكسرِها في الماضي ، ويَضِلُّ بالكسر مِنْ ضَلَلْتُ بالفتحِ وكلاهما مَقيسٌ » يعني أنَّ كلاً منهما له أصلٌ يَرْجِعُ إليه بخلافِ « ظَلَّ » فإنَّ ماضيَه مكسورُ العينِ فقط .
والنون اسمُها ، « ورَواكدَ » خبرُها . ويجوزُ أَنْ تكونَ « ظَلَّ » هنا بمعنى صار؛ لأنَّ المعنى ليس على وقتِ الظُّلول وهو النهارُ فقط ، وهو نظيرُ : « أين باتَتْ يدُه » من هذه الحيثيَّةِ . والرُّكودُ : الثبوتُ والاستقرارُ قال :
3976 وقد رَكَدَتْ وسطَ السماءِ نجومُها ... رُكوداً بوادِي الرَّبْرَبِ المتفرِّقِ

أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34)

قوله : { أَوْ يُوبِقْهُنَّ } : عطفٌ على « يُسْكِنْ » قال الزمخشري : « لأنَّ المعنى : إنْ يَشَأْ يُسْكِن فيركَدْن . أو يَعْصِفْها فيَغْرَقْنَ بعَصْفِها » .
قال الشيخ : « ولا يَتَعَيَّنُ أَنْ يكونَ التقديرَ : أو يَعْصِفْها فيَغْرَقْنَ؛ لأنَّ إهْلاكَ السفنِ لا يَتَعَيَّنُ أَنْ يكونَ بعَصْفِ الريح ، بل قد يُهْلِكُها بقَلْعِ لوحٍ أو خَسْفٍ » . قلت : والزمخشريُّ لم يذكُرْ أنَّ ذلك مُتَعَيِّنٌ ، وإنما ذَكَرَ شيئاً مناسباً؛ لأنَّ قولَه : « يُسْكِنِ الريحَ » يقابِلُه « يعْصِفْها » فهو في غايةِ الحُسْنِ والطِّباق .
قوله : « ويَعْفُ » العامَّةُ على الجزمِ عطفاً على جزاءِ الشرط . واستشكلَه القُشَيْرِيُّ قال : « لأنَّ المعنَى : إن يَشَأ يُسْكِنِ الريحَ فتبقى تلك السفنُ رواكدَ ، أو يُهْلِكْها بذنوبِ أهلها فلا يَحْسنُ عَطْفُ » ويَعْفُ « على هذا؛ لأنَّ المعنى يَصير : إنْ يَشَأْ يَعْفُ ، وليس المعنى [ على ] ذلك بل المعنى : الإِخبارُ عن العفوِ مِنْ غير شرطِ المشيئةِ ، فهو عطفٌ على المجزومِ من حيث اللفظُ لا من حيث المعنى . وقد قرأ قومٌ » ويَعْفُو « بالرفع وهي جيدةٌ في المعنى » . قال الشيخ : وما قاله ليس بجيدٍ إذ لم يَفْهَمْ مدلولَ التركيبِ والمعنى ، إلاَّ أنَّه تعالى إنْ يَشَأْ أهلك ناساً وأَنْجَى ناساً على طريقِ العَفْوِ عنهم « .
وقرأ الأعمش » ويَعْفُوْ « بالواو . وهي تحتملُ أَنْ يكونَ كالمجزومِ ، وثَبَتَتِ الواوُ في الجزمِ كثبوتِ الياء في { مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ } [ يوسف : 90 ] . ويُحتمل أَنْ يكونَ الفعلُ مرفوعاً ، أخبر تعالى أنَّه يَعْفو عن كثيرٍ من السيئات . وقرأ بعضُ أهلِ المدينة بالنصب ، بإضمارِ » أَنْ « بعد الواوِ كنَصْبِه في قولِ النابغة :
3977 فإنْ يَهْلَكْ أبو قابوسَ يَهْلَكْ ... ربيعُ الناسِ والبلدُ الحرَامُ
ونأخذْ بعدَه بذِنابِ عَيْشٍ ... أجَبَّ الظهرِ ليس له سَنامُ
بنصبِ » ونَأْخُذ « ورفعِه وجَزْمِه . وهذا كما قُرِئ بالأوجه الثلاثة بعد الفاءِ في قولِه تعالى : { فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ } [ البقرة : 284 ] وقد تقدَّم تقريرُه آخرَ البقرةِ ، ويكونُ قد عَطَفَ هذا المصدرَ المؤولَ مِنْ » أَنْ « المضمرةِ والفعلِ على مصدرٍ مُتَوَهَّمٍ من الفعلِ قبلَه . تقديرُه : أو يقع إيباقٌ وعَفْوٌ عن كثيرٍ . فقراءةُ النصبِ كقراءة الجزم في المعنى ، إلاَّ أنَّ في هذه عَطْفَ مصدرٍ مؤولٍ على مصدرٍ مُتَوَهَّمٍ ، وفي تَيْكَ عطفَ فعلٍ على مثلِه .

وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35)

قوله : { وَيَعْلَمَ الذين يُجَادِلُونَ } : قرأ نافعٌ وابنُ عامر برفعِه . والباقون بنصبِه . وقُرِئ بجزمِه أيضاً . فأمَّا الرفعُ فهو واضحٌ جداً ، وهو يحتملُ وجهين : الاستئنافَ بجملةٍ فعليةٍ ، والاستئنافَ بجملةٍ اسميةٍ ، فتُقَدِّرُ قبل الفعل مبتدأً أي : وهو يعلمُ الذين ، فالذين على الأول فاعلٌ ، وعلى الثاني مفعولٌ . فأمَّا قراءةُ النصبِ ففيها أوجهٌ ، أحدُها : قال الزجَّاج : « على الصَّرْف » . قال : « ومعنى الصرفِ صَرْفُ العطف عن اللفظ إلى العطفِ على المعنى » . قال : « وذلك أنَّه لَمَّا لم يَحْسُنْ عطفُ » ويعلَمْ « مجزوماً على ما قبلَه إذ يكونُ المعنى : إنْ يَشَأْ/ يَعْلَمْ ، عُدِل إلى العطف على مصدرِ الفعلِ الذي قبلَه . ولا يتأتَّى ذلك إلاَّ بإضمار » أنْ « ليكونَ مع الفعلِ في تأويلِ اسم » .
الثاني : قولُ الكوفيين أنه منصوبٌ بواوِ الصرف . يَعْنُون أنَّ الواوَ نفسَها هي الناصبةُ لا بإضمارِ « أنْ » ، وتقدَّم معنى الصرف .
الثالث : قال الفارسيُّ - ونقله الزمخشري عن الزجاج - إن النصب على إضمار « أنْ »؛ لأنَّ قبلها جزاءً تقول : « ما تصنعْ أصنعْ وأكرمَك » وإنْ شِئْتَ : وأكرمُك ، على وأنا أكرِمُك ، وإنْ شِئْتَ « وأكرمْك » جزْماً . قال الزمخشري : « وفيه نظرٌ؛ لِما أَوْردَه سيبويه في كتابه » قال : « واعلَمْ أنَّ النصبَ بالواوِ والفاء في قوله : » إنْ تَأْتِني آتِك وأعطيكَ « ضعيفٌ ، وهو نحوٌ مِنْ قولِه :
3978 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وأَلْحَقُ بالحجازِ فَأَسْتريحا
فهذا لا يجوزُ ، لأنه ليس بحَدِّ الكلامِ ولا وجهِه ، إلاَّ أنه في الجزاء صار أقوى قليلاً؛ لأنه ليس بواجبٍ أنَّه يفعلُ ، إلاَّ أَنْ يكونَ من الأولِ فِعْلٌ ، فلمَّا ضارَعَ الذي لا يُوْجِبُهُ كالاستفهام ونحوِه أجازوا فيه هذا على ضَعْفِه » . قال الزمخشري : « ولا يجوزُ أَنْ تُحْمَلَ القراءةُ المستفيضةُ على وجهٍ ليس بحَدِّ الكلامِ ولا وجهِه ، ولو كانَتْ من هذا البابِ لَما أَخْلَى سيبويه منها كتابَه ، وقد ذَكَرَ نظائرَها مِن الآياتِ المُشْكِلة » .
الرابع : أَنْ ينتصِبَ عطفاً على تعليلٍ محذوفٍ تقديرُه : لينتقمَ منهم ويعلمَ الذين ، ونحوُه في العطفِ على التعليلِ المحذوفِ غيرُ عزيزٍ في القرآن . ومنه : { وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ } [ مريم : 21 ] وخَلَق اللَّهُ السماواتِ والأرضَ بالحقِّ ، ولِتُجْزَى « قاله الزمخشري . قال الشيخ : » ويَبْعُدُ تقديرُه : لِيَنْتَقِمَ منهم؛ لأنه تَرَتَّبَ على الشرطِ إهلاكُ قومٍ ونجاةُ قومٍ فلا يَحْسُنُ لينتَقِمَ منهم . وأمَّا الآيتان فيمكنُ أَنْ تكونَ اللامُ متعلقةً بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه : ولنجعلَه آيةً للناسِ فَعَلْنا ذلك ، ولُتْجزَى كلُّ نفسٍ فَعَلْنا ذلك ، وهو - كثيراً - يُقَدِّرُ هذا الفعل مع هذه اللامِ إذا لم يكنْ فعلٌ يتعلَّقُ به « . قلت : بل يَحْسُنُ تقديرُ » لينتقمَ « لأنَّه يعودُ في المعنى على إهلاكِ قومٍ المترتبِ على الشرط .
وأمَّا الجزمُ فقال الزمخشري : » فإنْ قلتَ : كيف يَصِحُّ المعنى على جزم « ويعلَمْ »؟ قلت : كأنه قيل : إنْ يَشَأْ يَجْمَعْ بين ثلاثةِ أمور : إهلاكِ قومٍ ، ونجاةِ قومٍ ، وتحذيرِ آخرين « . وإذا قُرِئَ بالجزم فتُكْسَرُ الميمُ لالتقاءِ الساكنين .
قوله : { مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ } في محلِّ نصبٍ لسَدِّها مَسَدَّ مفعولَيْ العِلْم .

فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36)

قوله : { فَمَآ أُوتِيتُمْ } : « ما » شرطيةٌ . وهي في محلِّ نصبٍ مفعولاً ثانياً ل « أُوْتِيتم » والأولُ هو ضميرُ المخاطبين قامَ مقامَ الفاعلِ ، وإنما قَدَّم الثاني لأنَّ له صَدْرَ الكلامِ .
قوله : « مِنْ شَيءٍ » بيانٌ ل « ما » الشرطيةِ لِما فيها من الإِبْهام .
قوله : « فمتاعُ » الفاءُ جوابُ الشرطِ ، و « متاعُ » خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : فهو متاع . قوله : { وَمَا عِندَ الله } « ما » موصولةٌ مبتدأةٌ ، و « خيرٌ » خبرها ، و « الذين » متعلِّقٌ ب « أَبْقَى » .

وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37)

قوله : { والذين يَجْتَنِبُونَ } : نَسَقٌ على « الذين » الأولى . وقال أبو البقاء : « الذين يَجْتَنبون في موضعِ جرّ بدلاً مِنْ » للذين آمنوا « . ويجوزُ أَنْ يكونَ في موضع نصبٍ بإضمار أعني ، أو في موضع رفعٍ على تقدير : هم » . وهذا وهمٌ منه في التلاوةِ كأنه اعتقد أنَّ القرآن { وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ، والذين يَجْتَنِبُونَ } فبنى عليه ثلاثةَ الأوجهِ بناءً فاسداً .
قوله : « كبائرَ » قرأ الأخوان هنا وفي النجم « كبيرَ الإِثم » بالإِفراد . والباقون « كبائرَ » بالجمع في السورتَيْن . والمفردُ هنا في معنى الجمع ، والرسمُ يحتمل القراءتَيْن .
قوله : { وَإِذَا مَا غَضِبُواْ } هذه « إذا » منصوبةٌ ب « يَغْفِرُون » ، و « يَغْفِرُون » خبرٌ ل « هم » ، والجملةُ بأَسْرِها عطفٌ على الصلة ، وهي « يَجْتَنِبون » والتقدير : والذين يَجْتَنِبون وهم يَغْفِرون ، عَطَفَ اسميةً على فعليةٍ . ويجوزُ أَنْ يكون « هم » توكيداً للفاعل في قوله : « غَضِبوا » ، وعلى هذا فيَغْفِرون جوابُ الشرطِ . وقال أبو البقاء : « هم مبتدأٌ ويَغْفِرون الخبرُ ، والجملةُ جوابُ إذا » وهذا غيرُ صحيحٍ؛ لأنَّه لو كان جواباً ل « إذا » لاقترن بالفاء . تقول : « إذا جاء زيدٌ فعمروٌ منطلق » ولا يجوز : « عمروٌ ينطلق » وقيل : « هم » مرفوع بفعلٍ مقدرٍ يُفَسِّره « يَغْفِرون » بعده ، ولَمَّا حُذِفَ الفعلُ انفصلَ الضميرُ ولم يَسْتَبْعِدْه الشيخُ . وقال : « ينبغي أَنْ يجوزَ ذلك في مذهبِ سيبويه؛ لأنه أجازَه في الأداةِ الجازمةِ ، تقول : » إنْ يَنْطَلِقْ ، زيدٌ يَنْطَلِق « تقديرُه : ينطلِقْ زيدٌ ينطلِقْ . ف » ينطلقْ « واقعٌ جواباً ، ومع ذلك فَسَّر الفعلَ فكذلك هذا ، وأيضاً فذلك/ جائزٌ في فعلِ الشرطِ بعدَها نحو : { إِذَا السمآء انشقت } [ الانشقاق : 1 ] فليَجُزْ في جوابِها أيضاً » .

وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)

قوله : { هُمْ يَنتَصِرُونَ } : كقولِه { وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ } سواءً ويجيْء فيه ما تقدَّم . إلاَّ أنَّه يزيدُ هنا أنه يجوزُ أَنْ يكونَ « هم » توكيداً للضميرِ المنصوبِ في « أصابَهم » أكَّد بالضميرِ المرفوعِ وليس فيه إلاَّ الفصلُ بين المؤكَّدِ والمؤكِّد بالفاعلِ . والظاهر أنَّه غيرُ ممنوعٍ .

وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41)

قوله : { وَلَمَنِ انتصر } : هذه لامُ الابتداءِ . وجعلها الحوفي وابنُ عطيَّة للقسم . وليس بجيدٍ إذا جَعَلْنا « مَنْ » شرطيةً كما سيأتي؛ لأنه كان ينبغي أَنْ يُجابَ السابِقُ ، وهنا لم يُجَبْ إلاَّ الشرطُ . و « مَنْ » يجوزُ أَنْ تكونَ شرطيةً ، وهو الظاهرُ ، والفاءُ في « فأولئك » جواب الشرطِ ، وأَنْ تكونَ موصولةً ، ودَخَلَتِ الفاءُ لِما عَرَفْتَ مِنْ شَبَهِ الموصولِ بالشرطِ . و « ظُلْمِه » مصدرٌ مضافٌ للمفعولِ . وأيَّدها الزمخشريُّ بقراءةِ مَنْ قرأ « بعدما ظُلِمَ » مبنياً للمفعول .

وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)

قوله : { وَلَمَن صَبَرَ } : الكلامُ في اللام بَيِّنٌ كما تقدَّم . فإنْ جَعَلْتَها شرطيةً ف « إنَّ » جوابُ القسمِ المقدَّر ، وحُذِفَ جوابُ الشرطِ للدلالةِ عليه . وإنْ كانَتْ موصولةً كان « إنَّ ذلك » هو الخبرُ . وجَوَّز الحوفي وغيرُه أن تكونَ « مَنْ » شرطيةً ، وأنَّ ذلك جوابُها على حَذْفِ الفاء على حَدِّ حَذْفِها في البيت المشهور :
3979 مَنْ يَفْعَلِ الحَسَناتِ . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وفي الرابط قولان ، أحدُهما : هو اسمُ الإِشارةِ إذا أُريد به المبتدأُ ، ويكون حينئذٍ على حَذْفِ مضافٍ ، تقديره : إنَّ ذلك لَمِنْ ذوي عَزْمِ الأمور والثاني : أنه ضميرٌ محذوفٌ تقديرُه : لمِنْ عَزْمِ الأمورِ منه ، أوله . وقولُه : « ولَمَنْ صَبَرَ » عطفٌ على قولِه : « ولَمَنِ انتصَرَ » . والجملةُ مِنْ قولِه : « إنما السبيلُ » اعتراضٌ .

وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45)

قوله : { يُعْرَضُونَ } : حالٌ لأنَّ الرؤيةَ بصريةٌ . « خاشعين » حالٌ . والضميرُ مِنْ عليها يعودُ على النار لدلالةِ « العذاب » عليها . وقرأ طلحةُ « من الذِّل » بكسر الذال . وقد تقدَّم الفرقُ بين الذُّل والذِّل . و « من الذُّل » يتعلَّقُ ب « خاشعين » أي : من أَجْل . وقيل : هو متعلقٌ ب « يَنْظُرون » . وقوله : « مِنْ طَرْفٍ » يجوزُ في « مِنْ » أَنْ تكونَ لابتداءِ الغاية ، وأَنْ تكونَ تبعيضيَّةً ، وأن تكونَ بمعنى الباء ، وبكلٍ قد قيل . والطرفُ قيل : يُراد به العُضْوُ . وقيل : يُراد به المصدرُ . يقال : طُرِفَتْ عَيْنُه تُطْرَفُ طَرْفاً أي : يَنْظُرون نَظَراً خَفِيًّا .
قوله : { وَقَالَ الذين آمنوا } يجوزُ أَنْ يَبْقَى على حقيقتِه ، ويكون « يومَ القيامة » معمولاً ل « خَسِروا » . ويجوزُ أَنْ يكونَ بمعنى : يقول ، فيكون « يوم القيامةِ » معمولاً له .

وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46)

قوله : { يَنصُرُونَهُم } : صفةٌ ل « أَوْلِياء » فيجوزُ أَنْ يُحْكَمَ على موضعِها بالجرِّ اعتباراً بلفظِ مَوْصوفِها ، وبالرفعِ اعتباراً بمحَلِّه فإنه اسمٌ ل « كان » .
قوله : « مِنْ سبيلٍ » إمَّا فاعلٌ ، وإمَّا مبتدأٌ .

اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47)

قوله : { مِنَ الله } : يجوزُ تعلُّقُه ب « يأتي » أي : يأتي من الله يومٌ لا مَرَدَّ له ، وأَنْ يتعلَّق بمحذوفٍ يَدُلُّ عليه لا مَرَدَّ له أي : لا يَرُدُّ ذلك اليومَ ممَّا حكم اللَّهُ به فيه . وجَوَّز الزمخشري أَنْ يتعلَّقَ ب « لا مَرَدَّ » . وردَّه الشيخُ : بأنه يكونُ مُطَوَّلاً فكان ينبغي أَنْ يُعْرَبَ فينصبَ منوَّناً .

فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48)

قوله : { فَإِنَّ الإنسان } : مِنْ وقوعِ الظاهرِ مَوْقِعَ المضمرِ أي : فإنَّه كفورٌ . وقَدَّر أبو البقاء ضميراً محذوفاً فقال : « فإنَّ الإِنسانَ منهم » .

أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)

قوله : { ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً } : حالٌ ، وهي حالٌ لازمةٌ ، وسَوَّغ مجيْئَها كذلك : أنَّها بعدما يجوزُ أَنْ يكونَ الأمرُ على خلافه؛ لأنَّ معنى « يُزَوِّجُهم » يَقْرِنُهم . قال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : لِمَ قَدَّم الإِناثَ أولاً على الذكورِ مع تقديمِهم عليهنَّ ، ثم رَجَعَ فقدَّمَهم؟ ولِمَ عَرَّف الذكورَ بعدما نَكَّر الإِناثَ؟ قلت : لأنَّه ذكر البلاءَ في آخر الآية الأولى ، وكفرانَ الإِنسان بنسيانِه الرحمةَ السابقةَ ، ثم عَقَّبَ بذِكْر مُلْكِه ومشيئتِه وذكرَ قسمةَ الأولادِ فقدَّم الإِناثَ؛ لأنَّ سياق الكلامِ أنه فاعلُ ما يشاءُ لا ما يشاؤه الإِنسانُ ، فكان ذِكْرُ الإِناثِ التي مِنْ جملة ما لا يَشاؤه الإِنسانُ أهمَّ ، والأهمُّ واجبُ التقديمِ ، ولِيَليَ الجنسَ الذي كانت العربُ تَعُدُّه بلاءً ، ذكر البلاء ، وأخَّر الذكورَ ، فلمَّا أَخّرهم تدارَك تأخيرَهم وهم أَحِقَّاءُ بالتقديم بتعريفَهم؛ لأنَّ تعريفَهم فيه تَنْويهٌ وتشهيرٌ ، كأنه قال : ويَهَبَ لمَنْ يشاءُ الفرسانَ الأعلامَ المذكورين الذين لا يَخْفَوْن عليكم ، ثم أعطى بعد ذلك كلا الجنسَيْن حقَّه من التقديمِ والتأخيرِ ، وعَرَّفَ أنَّ تقديمَهن لم يكُنْ لتقدُّمِهنَّ ولكنْ لمقتضٍ آخر ، فقال : ذُكْراناً وإناثاً ، كما قال : { إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى } [ الحجرات : 13 ] { فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والأنثى } [ القيامة : 39 ] .

وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)

قوله : / { أَن يُكَلِّمَهُ الله } : « أَنْ » ومنصوبُها اسمُ كان وليس « خبرَ » « ما » . وقال أبو البقاء : « أَنْ والفعلُ في موضع رفعٍ على الابتداءِ وما قبلَه الخبرُ ، أو فاعلٌ بالجارِّ لاعتمادِه على حرفِ النفي » وكأنه [ وَهِمَ في التلاوةِ ، فزعَم أنَّ القرآنَ : وما لبشَرٍ أَنْ يُكَلِّمه ] مع أنَّه يمكنُ الجوابُ عنه بتكلُّفٍ . و « إلاَّ وَحْياً » يجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً أي : إلاَّ كلامَ وَحْيٍ . وقال أبو البقاء : « استثناءٌ منقطعٌ؛ لأنَّ الوَحْيَ ليس من جنس الكلام » وفيه نظرٌ لأنَّ ظاهرَه أنه مُفرَّغٌ ، والمفرَّغُ لا يُوْصَفُ بذلك . ويجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً في موضعِ الحال .
قوله : « أو يُرْسِل » قرأ نافعٌ « يُرْسِلُ » برفع اللامِ ، وكذلك « فيوحِيْ » فسَكَنَتْ ياؤُه . والباقون بنصبهما . فأمَّا القراءةُ الأولى ففيها ثلاثة أوجهٍ ، أحدها : أنَّه رفعٌ على إضمارِ مبتدأ أي : أو هو يُرْسِلُ . الثاني : أنه عطفٌ على « وَحْياً » على أنَّه حالٌ؛ لأنَّ وَحْياً في تقديرِ الحال أيضاً ، فكأنه قال : إلاَّ مُوْحِياً أو مرسِلاً . الثالث : أَنْ يُعْطَفَ على ما يتعلَّقُ به « من وراءه » ، إذ تقديرُه : أو يُسْمِعُ مِنْ وراءِ حجاب ، و « وَحْياً » في موضعِ الحال ، عُطِف عليه ذلك المقدَّرُ المعطوفُ عليه « أَوْ يُرْسِلُ » . والتقدير : إلاَّ مُوْحِياً أو مُسْمِعاً مِنْ وراءِ حجابٍ ، أو مُرْسِلاً .
وأمَّا الثانيةُ ففيها ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أَنْ يُعْطَفَ على المضمرِ الذي يتعلَّقُ به { مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } إذ تقديرُه : أو يُكَلِّمه مِنْ وراءِ حجابٍ . وهذا الفعلُ المقدَّر معطوفٌ على « وَحْياً » والمعنى : إلاَّ بوَحْي أو إسماعٍ مِنْ وراءِ حجاب أو إرسالِ رسولٍ . ولا يجوزُ أَنْ يُعَطفَ على « يكلِّمَه » لفسادِ المعنى . قلت : إذ يَصيرُ التقديرُ : وما كان لبشَرٍ أن يُرْسِلَ اللَّهُ رسولاً ، فَيَفْسُدُ لَفْظاً ومعنى . وقال مكي : « لأنَّه يَلْزَم منه نَفْيُ الرسلِ ونفيُ المُرْسَلِ إليهم » .
الثاني : أَنْ يُنْصَبَ ب « أنْ » مضمرةً ، وتكونَ هي وما نَصَبَتْه معطوفَيْن على « وَحْياً » و « وَحْياً » حالٌ ، فيكونَ هنا أيضاً [ حالاً : والتقدير : إلاَّ مُوْحِياً أو مُرْسِلاً ] . وقال الزمخشري : « وَحْياً وأَنْ يُرْسِلَ مصدران واقعان موقعَ الحال؛ لأنَّ أَنْ يُرْسِلَ في معنى إرسالاً . و { مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } ظرفٌ واقعٌ موقعَ الحالِ أيضاً ، كقوله : { وعلى جُنُوبِهِمْ } [ آل عمران : 191 ] . والتقدير : وما صَحَّ أَنْ يُكَلَّم أحداً إلاَّ مُوْحياً أو مُسْمِعاً مِنْ وراءِ حجاب أو مُرسِلاً » . وقد رَدَّ عليه الشيخُ : بأنَّ وقوعَ المصدرِ موقعَ الحالِ غيرُ منقاسٍ ، وإنما قاسَ منه المبردُ ما كان نوعاً للفعلِ فيجوزُ : « أتيتُه رَكْضاً » ويمنعُ « أَتَيْتُه بكاءً » أي : باكياً .

وبأنَّ « أَنْ يُرْسِلَ » لا يقعُ حالاً لنصِّ سيبويه على أنَّ « أَنْ » والفعلَ لا يَقَعُ حالاً ، وإن كان المصدرُ الصريحُ يقع حالاً تقولُ : « جاء زيد ضَحِكاً » ، ولا يجوز « جاء أَنْ يضحكَ » .
الثالث : أنَّه عطفٌ على معنى « وَحْياً » فإنَّه مصدرٌ مقدَّرٌ ب « أنْ » والفعلِ . والتقديرُ : إلاَّ بأَنْ يوحيَ إليه أو بأَنْ يُرْسِلَ ، ذكره مكي وأبو البقاء .
وقوله : { أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } العامَّةُ على الإِفراد . وابنُ أبي عبلةَ « حُجُبٍ » جمعاً . وهذا الجارُّ يتعلَّقُ بمحذوفٍ تقديرُه : أو يُكَلِّمَه مِنْ وراء حجاب . وقد تقدَّم أن هذا الفعلَ معطوفٌ على معنى وَحْياً أي : إلاَّ أَنْ يوحيَ أو يكلِّمَه . قال أبو البقاء : « ولا يجوزُ أَنْ تتعلَّق » مِنْ « ب » يُكَلِّمَه « الموجودةِ في اللفظِ؛ لأنَّ ما قبل الاستثناءِ لا يعملُ فيما بعد إلاَّ » ، ثم قال : « وقيل : » مِنْ « متعلِّقةٌ ب » يُكلِّمه « لأنه ظرفٌ ، والظرفُ يُتَّسَعُ فيه » .

وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)

قوله : { مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب } : « ما » الأولى نافيةٌ ، والثانيةُ استفهاميةٌ . والجملةُ الاستفهامية معلِّقَةٌ للدِّراية فهي في محلِّ نصبٍ لسَدِّها مَسَدَّ مفعولَيْنِ . والجملةُ المنفيةُ بأَسْرِها في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الكافِ في « إليك » . قوله : « جَعَلْنَاه » الضميرُ يعودُ : إمَّا ل « رُوْحاً » وإمَّا ل « الكتاب » وإمَّا لهما؛ لأنَّهما مَقْصَدٌ واحدٌ فهو كقولِه : { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] .
وقرأ ابن حوشب « لتُهْدَى » مبنياً للمفعول . وابن السَّمَيْفَع « لتُهْدي » بضم التاء وكسر الدال مِنْ أهْدَى .
قوله : « نَهْدِي » يجوز أَنْ يكونَ مُسْتأنفاً ، وأن يكونَ مفعولاً مكرَّراً للجَعْل ، وأَنْ يكونَ صفةً ل « نُوْراً » .

صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)

قوله : { صِرَاطِ الله } : بدلٌ مِنْ « صراطٍ » قبلَه بدلُ كلٍ مِنْ كلٍ ، معرفةٍ مِنْ نكرة . والله أعلم .

وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)

بسم الله الرحمن الرحيم
قوله : { والكتاب } : إنْ جَعَلْتَ « حم » قَسَماً كانت الواوُ عاطفةً وإنْ لم ، كانت الواو للقسم ، وقد تقدَّم تحريرُ هذا .

إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3)

قوله : { إِنَّا جَعَلْنَاهُ } : جوابُ القَسَم ، وهذا عندهم من البلاغةِ : وهو كونُ القَسَمِ والمُقْسَمِ عليه مِنْ وادٍ واحد . كقول أبي تمام :
3980 وثناياك إنها إغريضُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
إنْ أُرِيد بالكتابِ القرآنُ ، وإنْ أُريد به جنسُ الكتبِ المنزَّلةِ غيرِ القرآنِ لم يكنْ مِنْ ذلك . والضميرُ في « جَعَلْناه » على الأولِ يعودُ على الكتاب . وعلى الثاني للقرآنِ ، وإنْ لم يُصَرَّحْ بذِكْرِه . والجَعْلُ هنا تصييرٌ . ولا يُلْتَفَتُ لخطأ الزمخشريِّ في تجويزه أَنْ يكونَ بمعنى : خَلَقْناه .

وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)

قوله : { في أُمِّ الكتاب لَدَيْنَا } : يتعلَّقان بما بعدهما . ولا تَمْنَعُ اللامُ من ذلك . ويجوز أَنْ يكونا حالَيْنِ ممَّا بعدهما لأنَّهما كانا وصفَيْن له في الأصل فيتعلَّقان بمحذوفٍ . ويجوزُ أَنْ [ يكون ] « لدينا » متعلِّقاً بما تعلَّق به الجارُّ قبله إذا جَعَلْناه حالاً مِنْ « لَعَلِيٌّ » ، وأَنْ يكونَ حالاً من الضميرِ المستترِ فيه ، وكذا يجوزُ في الجارِّ أَنْ يتعلَّقَ بما تَعَلَّق/ به الظرفُ ، وأَنْ يكونَ حالاً مِنْ ضميرِه عند مَنْ يُجَوِّزُ تقديمَها على العاملِ المعنويِّ . ويجوزُ أَنْ يكونَ الظرفُ بدلاً من الجارِّ قبلَه ، وأَنْ يكونا حالَيْنِ من « الكتاب » أو من « أُمِّ » ، ذَكَرَ هذه الأوجهَ الثلاثةَ أبو البقاء . وقال : « ولا يجوزُ أَنْ يكونَ واحدٌ من الظرفين خبراً؛ لأنَّ الخبرَ لَزِمَ أَنْ يكونَ » عَليٌّ « من أجلِ اللامِ » . قلت : وهذا يَمْنَعُ أَنْ تقولَ : إن زيداً كاتبٌ لَشاعرٌ؛ لأنه مَنَع أَنْ يكونَ غيرُ المقترنِ بها خبراً .

أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5)

قوله : { صَفْحاً } : فيه خمسةُ أوجهٍ ، أحدها : أنَّه مصدرٌ في معنى يَضْرِب؛ لأنه يُقال : ضَرَبَ عن كذا وأَضْرَبَ عنه ، بمعنى أعرض عنه ، وصَرَف وجهَه عنه . قال :
3981 اضْرِبَ عنكَ الهمومَ طارِقَها ... ضَرْبَك بالسيفِ قَوْنَسَ الفرسِ
والتقديرُ : أَفَنَصْفَحُ عنكم الذِّكْرَ أي : أفَنُزِيْلُ القرآنَ عنكم إزالةً ، يُنْكِرُ عليهم ذلك . الثاني : أنَّه منصوبٌ على الحالِ من الفاعل أي : صافِحين . الثالث : أَنْ ينتصِبَ على المصدرِ المؤكِّدِ لمضمونِ الجملةِ ، فيكونَ عاملُه محذوفاً ، نحو : { صُنْعَ الله } [ النمل : 88 ] قاله ابنُ عطية . الرابع : أن يكونَ مفعولاً من أجله . الخامس : أَنْ يكونَ منصوباً على الظرف . قال الزمخشري : « وصَفْحاً على وجهَيْن : إمَّا مصدرٍ مِنْ صَفَح عنه إذا أَعْرَضَ عنه ، منتصبٍ على أنَّه مفعولٌ له على معنى : أَفَنَعْزِلُ عنكم إنْزالَ القرآنِ وإلزامَ الحجةِ به إعراضاً عنكم . وإمَّا بمعنى الجانبِ مِنْ قولِهم : نَظَرَ إليه بصَفْحِ وَجْهِه . وصَفْحُ وَجْهِه بمعنى : أفَنُنَحِّيه عنكم جانباً ، فينتصبُ على الظرف نحو : ضَعْه جانباً وامْشِ جانباً . وتَعْضُدُه قراءةُ » صُفْحاً « بالضم » . قلت : يشيرُ إلى قراءةِ حسان ابن عبد الرحمن الضبعي وسميط بن عمير وشبيل بن عزرة قَرؤوا « صُفْحاً » بضم الصاد . وفيها احتمالان ، أحدهما : ما ذكره مِنْ كونِه لغةً في المفتوحِ ويكونُ ظرفاً . وظاهرُ عبارةِ أبي البقاء أنَّه يجوزُ فيه جميعُ ما جاز في المفتوح؛ لأنه جَعَله لغةً فيه كالسُّد والسَّد . والثاني : أنه جمعُ صَفُوح نحو : صَبور وصُبُر . فينتصبُ حالاً مِنْ فاعل نَضْرِب . وقَدَّر الزمخشري على عادته فِعْلاً بين الهمزةِ والفاءِ أي : أنُهمِلُكم فَنَضْرِب . وقد عَرَفْتَ ما فيه غيرَ مرةٍ .
قوله : « أنْ كُنتم » قرأ نافعٌ والأخَوان بالكسر على أنها شرطيةٌ ، وإسرافُهم كان متحققاً ، و « إنْ » إنما تدخلُ على غير المتحقِّق ، أو المتحقِّقِ المبهم الزمانِ . وأجاب الزمخشريُّ : « أنَّه من الشرط الذي يَصْدُر عن المُدِلِّ بصحةِ الأمرِ والتحقيق لثبوتِه ، كقول الأجير : » إنْ كنتُ عَمِلْتُ لك عملاً فَوَفِّني حقي « وهو عالمٌ بذلك ، ولكنه يُخَيَّلُ في كلامِه أَنَّ تفريطَك في إيصالِ حقي فِعْلُ مَنْ له شكٌّ في استحقاقِه إياه تجهيلاً له » . وقيل : المعنى على المجازاةِ والمعنى : أفنضرِبُ عنكم الذِّكر صَفْحاً متى أَسْرَفتم أي : إنكم غيرُ متروكين من الإِنذار متى كنتم قوماً مُسْرفين . وهذا أراد أبو البقاء بقولِه : « وقرئ إنْ بكسرِها على الشرط ، وما تقدَّم يدلُّ على الجواب » . والباقون بالفتحِ على العلَّة أي : لأَنْ كنتم ، كقول الشاعر :
3982 أتَجْزَعُ أنْ بانَ الخليطُ المُوَدَّعُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ومثله :
3983 أتَجْزَعُ أنْ أُذْنا قتيبةَ حُزَّتا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يُرْوَى بالكسر والفتح ، وقد تقدَّم نحوٌ من هذا أول المائدة ، وقرأ زيد بن علي « إذ » بذالٍ عوضَ النونِ ، وفيها معنى العلَّة .

وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6)

قوله : { وَكَمْ أَرْسَلْنَا } : « كم » خبريةٌ مفعولٌ مقدم . و « من نبيّ » تمييزٌ . و « في الأوَّلين » يتعلَّقُ بالإِرسالِ أو بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل نبي .

فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)

قوله : { بَطْشاً } : فيه وجهان ، أحدهما : أنه تمييزٌ ل « أشدَّ » . والثاني : أنه حالٌ مِن الفاعل أي : أهلكناهم باطِشين .

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9)

قوله : { خَلَقَهُنَّ العزيز } : كرَّرَ الفعلَ للتوكيد؛ إذ لو جاء « العزيزُ » بغير « خَلَقَهُنَّ » لكان كافياً ، كقولِك مَنْ قام؟ فيقال : زيد . وفيها دليلٌ على أنَّ الجلالةَ الكريمةَ مِنْ قوله : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله } [ الزخرف : 87 ] مرفوعةٌ بالفاعلية لا بالابتداء للتصريح بالفعل في نظيرتِها . وهذا الجوابُ مطابقٌ للسؤالِ من حيث المعنى ، إذ لو جاء على اللفظِ لجيْءَ/ فيه بجملةٍ ابتدائيةٍ كالسؤال .

وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11)

قوله : { بَلْدَةً مَّيْتاً } : قرأه العامَّةُ مخفَّفاً . وعيسى وأبو جعفر مثقلاً . وقد تقدَّم الكلامُ فيه في آل عمران . وتقدَّم في الأعراف الخلافُ في تُخْرَجُون وتَخْرُجُون .

وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12)

قوله : { مَا تَرْكَبُونَ } : « ما » موصولةٌ . وعائدُها محذوفٌ أي : ما تَرْكَبونه . و « ركب » بالنسبة إلى الفُلْك يتعدَّى بحرف الجر { فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك } [ العنكبوت : 65 ] وفي غيرِه بنفسه قال : { لِتَرْكَبُوهَا } [ النحل : 8 ] فغلَّبَ هنا المتعديَ بنفسه على المتعدي بواسِطة فلذلك حَذَفَ العائدَ .

لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13)

قوله : { لِتَسْتَوُواْ } : يجوزُ أَنْ تكونَ هذه لامَ العلة وهو الظاهرُ ، وأن تكونَ للصيرورة ، فتُعَلَّقَ في كليهما ب « جَعَل » . وجَوَّز ابنُ عطيةَ أَنْ تكونَ للأمر ، وفيه بُعْدٌ لقلَّة دخولها على أمر المخاطب . قُرِئ شاذاً « فَلْتَفْرحوا » وفي الحديث : « لِتَأْخُذوا مصافَّكم » وقال :
3984 لِتَقُمْ أنت يا بنَ خيرِ قُرَيْشٍ ... فَتُقَضَّى حوائجُ المُسْلمينا
نصَّ النحويون على قلِتَّها ، ما عدا أبا القاسِم الزجاجيَّ فإنه جَعَلها لغةً جيدة .
قوله : « على ظُهورِه » الضميرُ يعودُ على لفظِ « ما تَرْكَبون » ، فَجَمَعَ الظهورَ باعتبارِ معناها ، وأفرد الضميرَ باعتبار لفظِها .
قوله : « له مُقْرِنين » « له » متعلق ب « مُقْرِنين » قُدِّمَ للفواصل . والمُقْرِنُ : المُطيق للشيء الضابطُ له ، مِنْ أَقْرنه أي : أطاقه . والقَرَن الحَبْلُ . قال ابن هَرْمة :
3985 وأَقْرَنْتُ ما حَمَّلْتِني ولَقَلَّما ... يُطاق احتمالُ الصَّدِّ يا دعدُ والهَجْرِ
وقال عمرو بن معد يكرب :
3986 لقد عَلِمَ القبائلُ ما عُقَيْلٌ ... لنا في النائباتِ بمُقْرِنينا
وحقيقة أَقْرَنَه : وجده قَرينَه ، لأنَّ الصعب لا يكون قرينَةَ الضعيفِ . قال :
3987 وابنُ اللَّبونِ إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ ... لم يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ البُزْلِ القَناعيسِ
وقُرِئ « مُقْتَرنين » بالتاء قبل الراء .

وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15)

قوله : { جُزْءًا } : مفعولٌ أولُ للجَعْل ، والجَعْلُ تصييرٌ قوليٌّ . ويجوزُ أَنْ يكونَ بمعنى : سَمَّوا واعتقدوا . وأغربُ ما قيل هنا أنَّ الجُزْء الأنثى . وأنشَدوا :
3988 إنْ أَجْزَأَتْ حُرَّةٌ يوماً فلا عَجَبٌ ... قد تُجْزِئُ الحُرَّةُ المِذْكارُ أحياناً
وقال آخر :
3989 زُوِّجْتُها مِنْ بنات الأَوْسِ مُجْزِئَةً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قال الزمخشري : « وأثرُ الصنعةِ فيهما ظاهرٌ » .

أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16)

قوله : { وَأَصْفَاكُم } : يجوزُ أَنْ يكون داخلاً في حَيِّزِ الإِنكار معطوفاً على اتَّخذ . ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً أي : أم اتَّخذ في هذه الحالةِ و « قد » مقدرةٌ عند الجمهور . وقد تقدَّم نظيرُ :

وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17)

قَوْلِه : { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم } . وقرئ هنا « وجهُه مُسْوَدٌّ » برفع « مُسْوَدٌّ » على أنها جملةٌ في موضعِ خبرِ « ظَلَّ » . واسمُ « ظَلَّ » ضميرُ الشأن .

أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18)

قوله : { أَوَمَن يُنَشَّأُ } : يجوزُ في « مَنْ » وجهان ، أحدهما : أَنْ يكونَ في محلِّ نصبٍ مفعولاً بفعلٍ مقدر أي : أو يجعلون مَنْ يُنَشَّأُ في الحِلْية . والثاني : أنه مبتدأ وخبرُه محذوفٌ ، تقديره : أو من يُنَشَّأ جزءٌ أو ولدٌ؛ إذ جعلوه لله جزءاً . وقرأ العامَّةُ « يَنْشَأ » بفتح الياء وسكون النون مِنْ نَشَأَ في كذا يَنْشأ فيه . والأخوان وحفص بضم الياء وفتحِ النون وتشديدِ الشينِ مبنياً للمفعولِ أي : يُرَبَّى . وقرأ الجحدريُّ كذلك ، إلاَّ أنَّه خَفَّف الشينَ ، أَخَذَه مِنْ أنشأه . والحسن « يُناشَأُ » ك يُقاتَل مبنياً للمفعول . والمفاعَلَةُ تأتي بمعنى الإِفعال كالمُعالاة بمعنى الإِعلاء .
قوله : { وَهُوَ فِي الخصام غَيْرُ مُبِينٍ } الجملةُ حال . و « في الخصام » يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ يَدُلُّ عليه ما بعده . تقديره : وهو لا يَبين في الخصام . ويجوز أَنْ يتعلَّق ب « مُبين » وجاز للمضافِ إليه أن يعملَ فيما قبل المضافِ؛ لأن « غيرَ » بمعنى « لا » . وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في آخر الفاتحة وما أنشدْتُه عليه وما في المسألةِ من الخلاف .

وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19)

قوله : { عِبَادُ الرحمن } : قرأ نافع وابن كثير وابن عامر « عند الرحمن » ظرفاً . والباقون « عبادَ » جمع عَبْد ، والرسمُ يحتملهما . وقرأ الأعمش كذلك إلاَّ أنه نصبَ « عبادَ » على إضمارِ فعلٍ : الذين هم خُلِقوا عباداً ونحوِه . وقرأ عبدُ الله وكذلك هي في مصحفه « الملائكةَ عبادَ الرحمن » . وأُبَيٌّ وعبد الرحمن/ بالإِفراد . و « إناثاً » هو المفعولُ الثاني للجَعْلِ بمعنى الاعتقادِ أو التصيير القولي . وقرأ زيدُ بنُ علي « أُنُثا » جمعَ الجمع .
قوله : « أشَهِدُوا » قرأ نافعٌ بهمزةٍ مفتوحة ، ثم بأخرى مضمومةٍ مُسَهلةٍ بينها وبين الواو وسكونِ الشينِ . وقرأ قالون بالمدِّ يعني بإدخال ألفٍ بين الهمزتين والقصرِ ، يعني بعدمِ الألف . والباقون بفتح الشين بعد همزة واحدة . فنافع أدخل همزةَ التوبيخ على أُشْهِدوا [ فعلاً ] رباعياً مبنيَّاً للمفعول ، فسَهَّلَ همزتَه الثانيةَ ، وأدخل ألفاً بينهما كراهةً لاجتماعهما ، وتارة لم يُدْخِلْها ، اكتفاءً بتسهيل الثانية ، وهي أوجهُ . والباقون أدخلوا همزةَ الإِنكار على « شهدوا » ثلاثياً ، والشهادةُ هنا الحضورُ . ولم يَنْقُلِ الشيخُ عن نافع تسهيلَ الثانيةِ بل نَقَله عن علي بن أبي طالب .
وقرأ الزهريُّ « أُشْهِدُوا » رباعياً مبنياً للمفعول . وفيه وجهان ، أحدُهما : أَنْ يكونَ حَذَفَ الهمزةَ لدلالةِ القراءةِ الأخرى ، كما تقدَّم في قراءةِ « أعجميٌّ » . والثاني : أَنْ تكونَ الجملةُ خبريةً وقعَتْ صفةً ل « إناثاً » أي : أجعلوهم إناثاً مَشْهوداً خَلْقُهم كذلك؟
قوله : « سَتُكْتَبُ شهادتُهم » قرأ العامَّةُ « سَتُكْتَبُ » بالتاءِ مِنْ فوقُ مبنياً للمفعول ، « شهادتُهم » بالرفع لقيامه مَقامَ الفاعل . وقرأ الحسن « شهاداتُهم » بالجمع ، والزهري : « سَيَكتب » بالياء مِنْ تحت وهو في الباقي كالعامَّة . وابن عباس وزيد بن علي وأبو جعفر وأبو حيوةَ « سنكتبُ » بالنون للعظمة ، « شهادتَهم » بالنصب مفعولاً به .

بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)

قوله : { على أُمَّةٍ } : العامَّةُ على ضم الهمزة ، بمعنى الطريقة والدين . قال قيس بن الخطيم :
3990 كُنَّا على أمةِ آبائِنا ... ويَقْتدي بالأولِ الآخِرُ
أي : على طريقتهم . وقال آخر :
3991 وهل يَسْتوي ذو أُمَّةٍ وكَفورُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أي : ذو دين . وقرأ مجاهد وقتادة وعمر بن عبد العزيز بالكسر قال الجوهري : « هي الطريقةُ الحسنةُ لغةً في أُمَّة بالضم » . وابن عباس بالفتح ، وهي المَرَّةُ من الأَمّ ، والمرادُ بها القصدُ والحال .

قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24)

قوله : { قال } : قرأ ابن عامر وحفصٌ « قال » ماضياً مكان « قل » أمراً أي : قال النذير ، أو الرسول وهو النبي صلَّى الله عليه وسلَّم . والأمر في « قل » يجوز أَنْ يكونَ للنذير أو للرسول وهو الظاهر . وقرأ أبو جعفر وشيبة « جِئْناكم » بنون المتكلمين .

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26)

قوله : { بَرَآءٌ } : العامَّةُ على فتحِ الباءِ وألفٍ وهمزةٍ بعد الراء . وهو مصدرٌ في الأصل وقع موقعَ الصفةِ وهي بَريْء ، وبها قرأ الأعمش ولا يُثَنَّى « براء » ولا يُجْمع ولا يُؤَنث كالمصادر في الغالب . والزعفراني وابن المنادي عن نافع بضم الباء بزنة طُوال وكُرام . يقال : طَويل وطُوال وبَريء وبُراء . وقرأ الأعمش « إنِّي » بنونٍ واحدة .

إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27)

قوله : { إِلاَّ الذي فَطَرَنِي } : فيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه استثناءٌ منقطع؛ لأنَّهم كانوا عبدةَ أصنامٍ فقط . والثاني : أنه متصلٌ؛ لأنه رُوِي أنهم كانوا يُشْرِكون مع الباري غيرَه .
الثالث : أَنْ يكونَ مجروراً بدلاً مِنْ « ما » الموصولة في قولِه : « ممَّا تعبدُون » قاله الزمخشريُّ . ورَدَّه الشيخ : بأنه لا يجوزُ إلاَّ في نفيٍ أو شبهه قال : « وغَرَّه كونُ براء في معنى النفي ، ولا ينفعه ذلك لأنه موجَبٌ » . قلت : قد تأوَّل النحاةُ ذلك في مواضعَ من القرآن كقولِه تعالى : { ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ } [ التوبة : 32 ] { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين } [ البقرة : 45 ] والاستثناء المفرغُ لا يكونُ في إيجاب ، ولكن لَمَّا كان « يأبى » بمعنى : لا يفعلُ ، وإنها لكبيرة بمعنى : لا تَسْهُلُ ولا تَخِفُّ ساغ ذلك ، فهذا مثلُه .
الرابع : أَنْ تكونَ « إلاَّ » صفةً بمعنى « غير » على أن تكونَ « ما » نكرةً موصوفةً ، قاله الزمخشريُّ قال الشيخ : « وإنما أخرجها في هذا الوجهِ عن كونِها موصولةً؛ لأنَّه يرى أنَّ » إلاَّ « بمعنى » غير « لا يُوْصَفُ بها إلاَّ النكرة » وفيها خلافٌ . فعلى هذا يجوزُ أَنْ تكونَ « ما » موصولةً و « إلاَّ » بمعنى « غير » صفةً لها .

وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)

قوله : { وَجَعَلَهَا } : الضميرُ المرفوعُ لإِبراهيمَ عليه السلام - وهو الظاهرُ - أو لله . والمنصوبُ لكلمة التوحيد المفهومةِ مِنْ قولِه : « إنني بَراءٌ » إلى آخره ، أو لأنَّها بمنزلةِ الكلمة ، فعاد الضمير على ذلك اللفظِ لأجل المَعْنِيِّ به .
وقرئ « في عَقْبِه » بسكون القافِ . وقُرِئ « في عاقِبه » أي : وارِثه . وحميد بن قيس « كلمة » بكسر الكاف وسكون اللام .

بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29)

والجمهورُ على « مَتَّعْتُ » بتاء المتكلم . وقتادةُ/ والأعمشُ بفتحِها للمخاطبِ ، خاطبَ إبراهيمُ أو محمدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم ربَّه تعالى بذلك . وبها قرأ نافعٌ في روايةِ يعقوبَ . والأعمشُ أيضاً « بل مَتَّعْنا » بنون العظمة .

وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)

قوله : { مِّنَ القريتين } : فيه حَذْفُ مضافٍ فقدَّره بعضُهم : من رَجُلَيْ القريَتَيْن . وقيل : من إحدى القريَتَيْن . والرجلان : الوليد ابن المغيرة وكان بمكة ، وعروة بن مسعود الثقفي ، وكان بالطائف . وقيل : كان يتردَّدُ بين القريتين فنُسب إلى كلتيهما . وقُرئ « رَجْل » بسكون العين وهي تميمةٌ .
وقد مضى الكلامُ في « سُخْرِيَّا » في المؤمنين . وقرأ بالكسر هنا عمرو بن ميمون وابن محيصن وأبو رجاء وابن أبي ليلى والوليد بن مسلم وخلائق ، بمعنى المشهورة ، وهو الاستخدام . ويَبْعُدُ قولُ بعضِهم : إنه استهزاء الغني بالفقير .

وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33)

قوله : { لِبُيُوتِهِمْ } : بدلُ اشتمالٍ بإعادةِ العاملِ . واللامان للاختصاص . وقال ابنُ عطية : الأُوْلى للمِلْك ، والثانية للتخصيص . ورَدَّه الشيخ : بأنَّ الثاني بدلٌ فيُشترط أَنْ يكونَ الحرفُ متحدَ المعنى لا مختلفَه . وقال الزمخشري : « ويجوزُ أَنْ يكونا بمنزلة اللامَيْن في قولك : » وَهَبْتُ له ثوباً لقميصِه « . قال الشيخ » ولا أدري ما أراد بقولِه هذا «؟ قلت : أراد بذلك أن اللامَيْن للعلة أي : كانت الهِبَةُ لأجلك لأجلِ قميصِك ، ف » لقميصك « بدلُ اشتمالٍ بإعادة العاملِ بعينه ، وقد نُقِلَ أنَّ قولَه : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ } [ الأنعام : 84 ] أنها للعلة .
قوله : » سُقُفا « قرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح السين وسكون القاف بالإِفراد على إرادةِ الجنسِ . والباقون بضمتين على الجمعِ كرُهُن في جمع رَهْن . وفي » رُهُن « تأويلٌ لا يمكنُ هنا : وهو أَنْ يكونَ جَمْعَ » رِهان « جَمْعَ رَهْن؛ لأنه لم يُسْمَعْ سِقاف جمع سَقْف . وعن الفراء أنه جمع سقيفة فيكون كصحيفة وصُحُف . وقُرئ » سَقَفاً « بفتحتين لغةً في سَقْف ، وسُقوفاً بزنة فَلْس وفُلوس . وأبو رجاء بضمة وسكون .
و » مِنْ فِضَّة « يجوز أن يتعلَّق بالجعل ، وأن يتعلق بمحذوف صفة لسُقُف . وقرأ العامَّة » معارِجَ « جمع مَعْرَج وهو السُّلَّم . وطلحة » معاريج « جمع مِعْراج ، وهذا كمفاتِح لمَفْتَح ، ومفاتيح لمفتاح .

وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34)

قوله : { وَسُرُراً } : جمع سَرير . والعامَّةُ على ضم الراء . وقُرئ بفتحها وهي لغةُ بعض تميم وكلب . وقد تقدَّم أنَّ فعيلاً المضعَّفَ تفتحُ عينُه إذا كان اسماً أو صفةً نحو : ثوب جَديد وثياب جُدَد ، وفيه كلامٌ للنحاة . وهل قوله : « مِنْ فضة » شاملٌ للمعارج والأبواب والسُّرُر؟ فقال الزمخشري : نعم ، كأنه يرى تشريكَ المعطوف مع المعطوف عليه في قيودِه . و « عليها يَتَّكئون » و « عليها يَظْهَرون » صفتان لِما قَبْلَهما .

وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)

قوله : { وَزُخْرُفاً } : يجوز أَنْ يكونَ منصوباً ب جَعَلَ أي : وجَعَلْنا لهم زخرفا . وجوَّز الزمخشري أن ينتصبَ عطفاً على محلِّ « مِنْ فضة » كأنه قيل : سُقُفاً من فضةٍ وذَهَبٍ أي : بعضُها كذا ، وبعضها كذا .
وقد تقدَّم الخلافُ في « لَمَّا » تخفيفاً وتشديداً في سورة هود ، وقرأ أبو رجاء وأبو حيوةَ « لِما » بكسر اللام على أنها لامُ العلةِ دَخَلَتْ على « ما » الموصولة وحُذِفَ عائدُها ، وإنْ لم تَطُل الصلةُ . والأصل : الذي هو متاعٌ كقولِه : { تَمَاماً عَلَى الذي أَحْسَنَ } [ الأنعام : 154 ] برفع النون . و « إنْ » هي المخففةُ من الثقيلة ، و « كل » مبتدأ ، والجارُّ بعده خبرُه أي : وإن كل ما تقدَّم ذِكْرُه كائن للذي هو متاعُ الحياة ، وكان الوجهُ أن تدخُلَ اللامُ الفارقة لعدم إعمالِها ، إلاَّ أنَّها لما دَلَّ الدليلُ على الإِثباتِ جاز حَذْفُها كما حَذَفها الشاعرُ في قوله :
3992 أنا ابنُ أباةِ الضَّيْم مِنْ آلِ مالكٍ ... وإنْ مالكٌ كانَتْ كرامَ المعادنِ

وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36)

قوله : { وَمَن يَعْشُ } : العامَّة على ضم الشين مِن عشا يعشو أي : يتعامى ويتجاهل . وقتادة ويحيى بن سلام « يَعْشَ » بفتحها بمعنى يَعْمَ . وزيد بن علي « يَعْشو » بإثبات الواو . قال الزمخشري : « على أنّ » مَنْ « موصولة وحَقُّ هذا أن يقرأَ نقيضُ بالرفع » . قال الشيخ : « ولا تتعيَّنُ موصوليتُها بل تُخَرَّج على وجهين : إمَّا تقديرِ حذفِ حركةِ حرفِ العِلة ، وقد حكاها الأخفش لغةً ، وتقدَّم منه في سورةِ يوسفَ شواهدُ ، وإمَّا على أنه جزمٌ ب » مَنْ « الموصولة تشبيهاً لها ب » مَنْ « الشرطيةِ » . قال : « وإذا كانوا قد جَزَموا ب » الذي « ، وليس بشرطٍ قط فأَوْلَى بما اسْتُعْمِلَ شرطاً وغيرَ شرطٍ . وأنشد :
3993 ولا تَحْفِرَنْ بِئْراً تُريد أخاً بها ... فإنّك فيها أنت مِنْ دونِه تقَعْ
كذاكَ الذي يَبْغي على الناسِ ظالماً ... يُصِبْه على رَغْمٍ عواقبُ ما صَنَعْ
/قال : » وهو مذهبُ الكوفيين ، وله وَجْهٌ من القياسِ : وهو أنَّ « الذي » أَشْبَهَتْ اسمَ الشرطِ في دخولِ الفاءِ في خبرِها ، فتُشْبِهُ اسمَ الشرطِ في الجزم أيضاً . إلاَّ أنَّ دخولَ الفاءِ منقاسٌ بشرطِه ، وهذا لا ينقاسُ « .
ويقال : عَشا يَعْشُو ، وعَشِي يَعْشَى . فبعضُهم جعلهما بمعنىً ، وبعضُهم فَرَّقَ : بأنَّ عَشِيَ يَعْشَى إذا حَصَلَتْ الآفَةُ من بَصَرَه ، وأصلُه الواوُ وإنما قُلِبَتْ ياءً لانكسارِ ما قبلها كرضِيَ يَرْضى وعَشَا يَعْشُو أي : تفاعَل ذلك . ونَظَرَ نَظَرَ العَشِي ولا آفَةَ ببصرِه ، كما قالوا : عَرَجَ لمَنْ به آفةُ العَرَجِ ، وعَرُجَ لمَنْ تعارَجَ ، ومَشَى مِشْيَةَ العُرْجان . قال الشاعر :
3994 أَعْشُو إذا ما جارتي بَرَزَتْ ... حتى يُوارِيْ جارتي الخِدْرُ
أي : أنظرُ نَظَرَ الَعَشِي . وقال آخر :
3995 متى تَأْتِه تَعْشُوا إلى ضَوْءِ نارِه ... تَجِدْ خيرَ نارٍ عندها خيرُ مُوْقِدِ
أي : تَنْظُرُ نَظَرَ العشِي لضَعْفِ بصرِه مِنْ كثرةِ الوَقودِ . وفَرَّق بعضُهم : بأنَّ عَشَوْتُ إلى النارِ إذا اسْتَدْلَلْتَ عليها بنظرٍ ضعيفٍ وقيل : وقال الفراء : » عَشا يَعْشى يُعْرِض ، وعَشِي يَعْشَى عَمِيَ « . إلاَّ أنَّ ابن قتيبة قال : » لم نَرَ أحداً حكى عَشَوْتُ عن الشيء : أَعْرَضْتُ عنه ، وإنما يقال : تعاشَيْتُ عن كذا إذا تغافَلْتَ عنه وتعامَيْتَ « .
وقرأ العامَّةُ » نُقَيِّضْ « بنونِ العظمةِ . وعلي بن أبي طالب والأعمش ويعقوبُ والسلميُّ وأبو عمروٍ وعاصمٌ في روايةٍ عنهما » يُقَيِّضْ « بالياء من تحت أي : يُقَيِّض الرحمنُ . و » شيطاناً « نصبٌ في القراءتين . وابن عباس » يُقَيَّضْ « مبنياً للمفعول ، » شيطانٌ « بالرفع ، قائمٌ مقامَ الفاعلِ .

وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)

قوله : { وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ } : الظاهرُ أنَّ ضميرَيْ النصبِ عائدان على « مَنْ » مِنْ حيث معناها ، راعى لفظَها أولاً فأفردَ في « له » و « له » ، ثم راعى معناها ، فجَمع في قولِه : « وإنَّهم ليَصُدُّوْنَهم » . والضميرُ المرفوعُ على الشيطان؛ لأنَّ المرادَ به الجنسُ ، ولأنَّ كلَّ كافرٍ معه قَرِيْنٌ . وقال ابن عطية : « إنَّ الضميرَ الأولَ للشياطين ، والثاني للكفار . التقدير : وإنَّ الشياطين ليَصُدُّوْنَ الكفارَ العابثين » .

حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38)

قوله : { إِذَا جَآءَنَا } : قرأ أبو عمروٍ والأخوان وحفصٌ « جاءنا » بإسنادِ الفعلِ إلى ضميرٍ مفردٍ يعودُ على لفظ « مَنْ » وهو العاشي ، وحينئذٍ يكونُ هذا ممَّا حُمِل فيه على اللفظ ثم على المعنى ، ثم على اللفظ ، فإنَّه حُمِلَ أولاً على لفظِها في قوله : « نُقَيِّضْ له » « فهو له » ، ثم جُمِع على معناها في قوله : « وإنَّهم ليَصُدُّونهم » و « يَحْسَبون أنهم » ، ثم رَجَعَ إلى لفظِها في قوله : « جاءنا » ، والباقون « جاءانا » مُسْنداً إلى ضميرِ تثنيةٍ ، وهما العاشي وقَرينُه .
قوله : « بُعْدَ المَشْرِقَيْنِ » قيل : أراد المشرقَ والمغربَ ، فغلَّبَ كالعُمَرَيْن والقَمَرَيْن . وقيل : أراد بمَشْرِقَيْ الشمسِ مَشْرِقَها في أقصرِ يومٍ ومَشْرِقَها في أطولِ يومٍ . وقيل : بُعْدَ المَشْرِقَيْن من المَغْرِبَيْن .
قوله : « فبِئْسَ القَرينُ » مخصوصُه محذوفٌ أي : أنت .

وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39)

قوله : { وَلَن يَنفَعَكُمُ } : في فاعلِه قولان ، أحدهما : أنه ملفوظٌ به ، وهو « أنَّكم » وما في حَيِّزِها . التقدير : ولن يَنْفَعَكم اشتراكُكم في العذاب بالتأسِّي ، كما يَنْفَعُ الاشتراكُ في مصائب الدنيا فيتأسَّى المُصاب بمثلِه . ومنه قولُ الخنساء :
3996 ولولا كَثْرَةُ الباكِيْنَ حَوْلي ... على إخوانِهم لقَتَلْتُ نَفْسي
وما يَبْكُون مثلَ أخي ولكنْ ... أُعَزِّي النفسَ عنه بالتأسِّي
والثاني : أنّه مضمرٌ . فقدَّره بعضُهم ضميرَ التمنِّي المدلولَ عليه بقوله : { ياليت بَيْنِي } أي : لن يَنْفَعكم تَمَنِّيْكم البُعْدَ . وبعضُهم : لن ينفَعَكم اجتماعُكم . وبعضُهم : ظُلْمُكم وجَحْدُكم . وعبارةُ مَنْ عَبَّر بأنَّ الفاعلَ محذوفٌ مقصودُه الإِضمارُ المذكورُ لا الحذفُ؛ إذ الفاعلُ لا يُحْذَفُ إلاَّ في مواضعَ ليس هذا منها ، وعلى هذا الوجهِ يكونُ قوله : « أنَّكم » تعليلاً أي : لأنَّكم ، فحذفَ الخافضَ فجرى في مَحَلِّها الخلافُ : أهو نصبٌ أم جرٌّ؟ ويؤيِّد إضمارَ الفاعلِ ، لا أنَّه هو « أنَّكم » ، قراءةُ « إنكم » بالكسرِ فإنَّه/ استئنافٌ مفيدٌ للتعليلِ .
قوله : « إذْ ظَلَمْتُمْ » قد استشكل المُعْرِبون هذه الآيةَ . ووجهُه : أنَّ قولَه « اليومَ » ظرفٌ حالِيٌّ ، و « إذ » ظرفٌ ماضٍ ، و « يَنْفَعَكم » مستقبلٌ؛ لاقترانِه ب « لن » التي لنفي المستقبلِ . والظاهرُ أنه عاملٌ في الظرفَيْن ، وكيف يعملُ الحدثُ المستقبلُ الذي لم يقَعْ بعدُ في ظرفٍ حاضرٍ أو ماضٍ؟ هذا ما لا يجوزُ . فأُجيب عن إعماله في الظرفِ الحاليِّ على سبيلِ قُرْبِه منه؛ لأنَّ الحالَ قريبٌ من الاستقبالِ فيجوز في ذلك . قال تعالى : { فَمَن يَسْتَمِعِ الآن } [ الجن : 9 ] وقال الشاعر :
3997 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... سَأَسْعَى الآنَ إذ بَلَغَتْ أَناها
وهو إقناعيٌّ ، وإلاَّ فالمستقبلُ يَسْتحيلُ وقوعُه في الحالِ عقلاً . وأمَّا قولُه : « إذ » ففيها للناسِ أوجهٌ كثيرةٌ . قال ابن جني : « راجَعْتُ أبا عليّ فيها مِراراً فآخرُ ما حَصَّلْت منه : أنَّ الدنيا والآخرةَ متصلتان ، وهما سواءٌ في حُكْم اللَّهِ تعالى وعِلْمِه ، ف » إذ « بدلٌ من » اليوم « حتى كأنَّه مستقبلٌ أو كأنَّ اليومَ ماضٍ . وإلى هذا نحا الزمخشريُّ قال : » وإذْ بدلٌ من اليوم « وحَمَلَه الزمخشريُّ على معنى : إذْ تبيَّن وصَحَّ ظُلْمُكم ، ولم يَبْقَ لأحدٍ ولا لكم شبهةٌ في أنَّكم كنتم ظالمين . ونظيرُه :
3998 إذا ما انْتَسَبْنا لم تَلِدْني لئيمةٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أي : تَبَيَّن أني وَلَدُ كريمةٍ » . وقال الشيخ : « ولا يجوزُ البدلُ ما دامت » إذ « على موضوعِها من المُضِيِّ ، فإنْ جُعِلَتْ لمطلقِ الزمانِ جاز » . قلت : لم يُعْهَدْ في « إذ » أنها تكونُ لمطلقِ الزمان ، بل هي موضوعةٌ لزمانٍ خاصٍ بالماضي كأَمْسِ . الثاني : أنَّ في الكلام حَذْفَ مضافٍ تقديرُه : بعد إذ ظَلَمْتُمْ .

الثالث : أنها للتعليلِ . وحينئذٍ تكونُ حرفاً للتعليلِ كاللام . الرابعُ : أنَّ العاملَ في « إذ » هو ذلك الفاعلُ المقدَّرُ لا ضميرُه . والتقدير : ولن ينفعَكم ظلمُكم أو جَحْدُكم إذ ظَلَمْتم . الخامس : أنَّ العاملَ في « إذ » ما دَلَّ عليه المعنى . كأنه قال : ولكن لن ينفعَكم اجتماعُكم إذ ظَلَمْتُمْ . قاله الحوفي ، ثم قال : « وفاعلُ » يَنْفَعَكم « الاشتراكُ » انتهى . فظاهرُ هذا متناقضٌ؛ لأنَّه جَعَلَ الفاعلَ أولاً اجتماعَكم ، ثم جعلَه آخِراً الاشتراكَ . ومنع أَنْ تكونَ « إذ » بدلاً مِن اليوم لتغايُرِهما في الدلالة . وفي كتاب أبي البقاء « وقيل : إذْ بمعنى » أَنْ « أي : أَنْ ظَلَمْتُم » . ولم يُقَيِّدْها بكونِها أن بالفتح أو الكسر ، ولكن قال الشيخ : « وقيل : إذ للتعليلِ حرفاً بمعنى » أَنْ « يعني بالفتح؛ وكأنَّه أراد ما ذكره أبو البقاءِ ، إلاَّ أنَّ تَسْمِيَتَه » أنْ « للتعليل مجازٌ ، فإنها على حَذْفِ حرفِ العلةِ أي : لأَنْ ، فلمصاحبتِها لها ، والاستغناءِ بها عنها سَمَّاها باسمِها . ولا ينبغي أَنْ يُعْتَقَدَ أنَّها في كتابِ أبي البقاء بالكسرِ على الشرطية؛ لأنَّ معناه بعيدٌ .
وقُرِئ » إنكم « بالكسرِ على الاستئناف المفيدِ للعلةِ . وحينئذٍ يكونُ الفاعلُ مضمراً على أحدِ التقادير المذكورة .

فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41)

قوله : { فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ } : قد تقدَّم الكلامُ عليه قريباً .

أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42)

وقُرئ « نُرِيَنْكَ » : بالنونِ الخفيفة . والعامَّةُ على { أُوحِيَ } [ الزخرف : 43 ] مبنيًّا للمفعولِ مفتوحَ الياء ، وبعضُ قرَّاء الشام سَكَّنها تخفيفاً . والضحاك « أَوْحَى » مبنياً للفاعل وهو اللَّهُ تعالى .

وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)

قوله : { مَنْ أَرْسَلْنَا } : فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أظهرُها : أنَّ « مَنْ » موصولة ، وهي مفعولةٌ للسؤالِ . كأنه قيل : واسأل الذي أرْسَلْناه مِنْ قَبْلِك عَمَّا أُرْسِلوا به ، فإنَّهم لم يُرْسَلوا إلاَّ بالتوحيد . الثاني : أنَّه على حَذْفِ حَرْفِ الجرِّ على أنه المسؤولُ عنه . والمسؤولُ الذي هو المفعولُ الأولُ محذوفٌ ، تقديرُه : واسْأَلْنا عن مَنْ أَرْسَلْناه . الثالث : أنَّ « مَنْ » استفهاميةٌ مرفوعةٌ بالابتداء ، و « أَرْسَلَ » خبرُه . والجملةُ مُعَلِّقَةٌ للسؤالِ ، فتكونُ في محلِّ نصبٍ على إسقاطِ الخافضِ ، وهذا ليس بظاهرٍ ، بل الظاهرُ أنَّ المُعَلِّقَ للسؤال إنما هو الجملةُ الاستفهاميةُ مِنْ قولِه « أَجَعَلْنا » .

فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47)

قوله : { إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ } : قال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : كيف جازَ أَنْ تُجاب » لَمَّا « ب » إذا « المفاجأة؟ قلت : لأنَّ فِعْلَ المفاجأةِ معها مقدَّرٌ ، وهو عاملُ النصبِ في مَحَلِّها ، كأنه قيل : فلمَّا جاءهم بآياتنا فاجَؤُوا وقتَ ضَحِكهم » . قال الشيخ : « ولا نعلَمُ نحوَ ما ذهب إلى ما ذَهَب إليه مِنْ أنَّ » إذا « الفجائيةَ تكونُ منصوبةً بفعلٍ مقدرٍ تقديره : فاجأ ، بل المذاهبُ ثلاثةٌ : إمَّا حرفٌ فلا تحتاجُ إلى عاملٍ ، أو ظرفُ مكانٍ ، أو ظرفُ زمانِ . فإنْ ذُكِرَ بعد الاسمِ الواقع بعدها خبرٌ كانت منصوبةً على الظرفِ ، والعاملُ فيها ذلك الخبرُ نحوَ : » خرجتُ فإذا زيدٌ قائمٌ « تقديره : خرجتُ ففي المكان الذي خَرَجْتُ فيه زيدٌ قائمٌ ، أو ففي الوقتِ الذي خَرَجْتُ فيه زيدٌ قائمٌ ، وإنْ لم يُذْكَرْ بعد الاسمِ خبرٌ ، أو/ ذُكِرَ اسمٌ منصوبٌ على الحالِ : فإنْ كان الاسمُ جثةً وقُلنا : إنها ظرفُ مكانٍ كان الأمرُ واضحاً نحو : خرجْتُ فإذا الأسدُ أي : فبالحضرةِ الأسدُ ، أو فإذا الأسدُ رابضاً . وإنْ قلنا : إنها ظرفُ زمانٍ كان على حذفِ مضافٍ لئلا يُخْبَرَ بالزمانِ عن الجثةِ نحو : » خَرَجْتُ فإذا الأسدُ « أي : ففي الزمانِ حضورُ الأسدِ ، وإن كان الاسمُ حَدَثاً جازَ أن يكونَ مكاناً أو زماناً . ولا حاجةَ إلى تقديرِ مضافٍ نحو : » خرجْتُ فإذا القتالُ « إنْ شِئْتَ قَدَّرْتَ فبالحضرة القتالُ ، أو ففي الزمانِ القتالُ » . وفيه تلخيصٌ وزيادةٌ كبيرةٌ في الأمثلةِ رأيْتُ تَرْكَها مُخِلاًّ .

وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48)

قوله : { إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ } : جملةٌ واقعةٌ صفةً لقولِه : « مِنْ آية » فيُحْكَمُ على موضِعها بالجَرِّ اعتباراً باللفظِ ، وبالنصبِ اعتباراً بالمحلِّ ، وفي معنى قولِه : { أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا } أوجهٌ ، أحدها : - قاله ابنُ عطية - وهو أنهم يَسْتَعْظِمون الآيةَ التي تأتي ، لجِدَّةِ أَمْرِها وحُدوثِه؛ لأنهم أَنِسُوا بتلك الآيةِ السابقةِ فيَعْظُم أَمْرُ الثانيةِ ويَكْبرُ ، وهذا كما قال :
3999 على أنَّها تَعْفُو الكُلُوم ، وإنما ... نُوَكَّلُ بالأَدْنى وإنْ جَلَّ ما يَمْضي
الثاني : ما ذكرَه بعضُهم : مِنْ أنَّ المعنى : إلاَّ هي أكبرُ من أختها السابقةِ ، فحذَفَ الصفةَ للعِلْمِ بها . الثالث : قال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : هو كلامٌ متناقضٌ؛ لأنَّ معناه : ما مِنْ آيةٍ من التسعِ إلاَّ وهي أكبرُ مِنْ كلِّ واحدةٍ منها ، فتكونُ كلُّ واحدةٍ منها فاضلةً ومفضولةً في حالةٍ واحدة . قلت : الغرضُ بهذا الكلامِ وَصْفُهُنَّ بالكبرِ لا يَكَدْنَ يتفاوَتْنَ فيه ، وكذلك العادةُ في الأشياء التي تتقارَبُ في الفضلِ التقاربَ اليسيرَ ، تختلفُ آراءُ الناس في تفضيلِها ، فبعضُهم يفضِّل هذا ، وبعضُهم يفضِّل هذا ، وربما اختلفَتْ آراءُ الواحدِ فيها ، كقول الحماسيِّ :
4000 مَنْ تَلْقَ منهم تَقُلْ لاقَيْتُ سَيِّدَهُمْ ... مثلَ النجومِ التي يَهْدِي بها السَّاري
وقالت الأنمارية في الجُمْلة من أبنائها : ثَكِلْتُهُمْ إنْ كنتُ أعلمُ أيُّهم أفضلُ ، هم كالحَلْقَةِ المُفْرَغَةِ لا يُدْرى أين طرفاها » انتهى كلامُه . وأولُه فظيعٌ جداً كأن العباراتِ ضاقَتْ عليه حتى قال ما قال ، وإنْ كان جوابُه حَسَناً فسؤالُه فظيعٌ . وقد تقدَّم الخلافُ في { ياأيها الساحر } في النور .

فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)

وقرأ أبو حيوةَ « يَنْكِثُوْن » بكسرِ الكافِ . وهي لغةٌ .

وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)

قوله : { وهذه الأنهار } : يجوزُ في « وهذه » وجهان ، أحدهما : أَنْ تكونَ مبتدأةً ، والواوُ للحالِ . والأنهارُ صفةٌ لاسمِ الإِشارةِ ، أو عطفُ بيانٍ . و « تجري » الخبرُ . والجملةُ حالٌ مِنْ ياء « لي » . والثاني : أنَّ « هذه » معطوفةٌ على « مُلْك مِصْرَ » ، و « تَجْري » على هذا حالٌ أي : أليس مُلْكُ مِصْرَ وهذه الأنهارُ جاريةً أي : الشيئان .
قوله : « تُبْصِرونَ » العامَّةُ على الخطابِ لِمَنْ ناداه . وقرأ عيسى بكسر النون أي : تُبْصِروني . وفي قراءةِ العامَّةِ المفعولُ محذوفٌ أي : تُبْصِرون مُلْكي وعَظَمتي . وقرأ فهد بن الصقر « يُبْصِرون » بياء الغَيْبة : إمَّا على الالتفاتِ من الخطاب إلى الغَيْبة ، وإمَّا رَدًّا على قوم موسى .

أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52)

قوله : { أَمْ أَنَآ خَيْرٌ } : في « أم » أقوالٌ ، أحدها : أنها منقطعةٌ ، فتتقدَّرُ ب بل التي لإِضرابِ الانتقال ، وبالهمزة التي للإِنكار . والثاني : أنها بمعنى بل فقط ، كقوله :
4001 بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشَّمْسِ في رَوْنَق الضُّحى ... وصورتِها أم أنتِ في العينِ أَمْلَحُ
أي : بل أنتِ . الثالث : أنها منقطعةٌ لفظاً ، متصلةٌ معنىً . قال أبو البقاء : « أمْ هنا منقطعةٌ في اللفظ لوقوع الجملةِ بعدَها في اللفظ ، وهي في المعنى متصلةٌ معادِلةٌ؛ إذ المعنى : أنا خيرٌ منه أم لا ، وأيُّنا خيرٌ » وهذه عبارةٌ غريبةٌ : أن تكونَ منقطعةً لفظاً ، متصلةً معنى ، وذلك أنهما معنيان مختلفان؛ فإن الانقطاعَ يَقْتضي إضراباً : إمَّا إبطالاً ، وإمّا انتقالاً . الرابع : أنها متصلةٌ ، والمعادِلُ محذوفٌ تقديره : أم تُبْصِرون . وهذا لا يجوزُ إلاَّ إذا كانت « لا » بعد أم نحو : أتقومُ أم لا؟ أي : أم لا تقوم . وأزيدٌ عندك أم لا؟ أي : أم لا هو عندك . أمَّا حَذْفُه دون « لا » فلا يجوزُ ، وقد جاء حَذْفُ « أم » مع المعادِلِ وهو قليلٌ جداً . قال الشاعر :
4002 دعاني إليها القلبُ إني لأَمْرِها ... سميعٌ فلا أَدْري أَرُشْدٌ طِلابُها
أي : أم غَيٌّ . وكان الشيخ قد نقل عن سيبويه أنَّ هذه هي « أم » المعادِلَةُ أي : أم تُبْصِرُون الأمرَ الذي هو حقيقٌ أَنْ يُبْصَرَ عنده ، وهو أنَّه خيرٌ مِنْ موسى . قال : « وهذا القولُ بدأ به الزمخشريُّ فقال : » أم/ هذه متصلة لأنَّ المعنى : أفلا تُبْصِرون أم تُبْصرون ، إلاَّ أنه وَضَعَ قولَه : « أنا خيرٌ » موضعَ « تُبْصِرون »؛ لأنهم إذا قالوا : أنت خيرٌ ، فهم عنده بُصَراءُ ، وهذا من إنزالَ السببِ منزلةَ المسبب « . قال الشيخ : » وهذا متكلَّفٌ جداً؛ إذ المعادِلُ إنما يكونُ مقابلاً للسابقِ . فإن كان المعادِلُ جملةً فعليةً كان السابقُ جملةً فعليةً أو جملةً اسميةً يتقدَّر منها فعليةٌ ، كقوله : { أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ } [ الأعراف : 193 ] لأنَّ معناه : أم صَمَتُّم ، وهنا لا تتقدَّرُ منها جملةٌ فعليةٌ؛ لأنَّ قولَه : { أَمْ أَنَآ خَيْرٌ } ليس مقابلاً لقولِه : « أفلا تُبْصِرون » . وإن كان السابقُ اسماً كان المعادِلُ اسماً ، أو جملةً فعليةً يتقدَّر منها اسمٌ نحو قولِه :
4003 أمُخْدَجُ اليدَيْنِ أم أَتَمَّتِ ... ف « أتمَّت » معادِلٌ للاسم ، فالتقديرُ : أم مُتِمًّا « قلت : وهذا الذي رَدَّه على الزمخشريِّ رَدٌّ على سيبويه؛ لأنه هو السابقُ به ، وكذا قولُه أيضاً : إنه لا يُحْذَفُ المعادِلُ بعد » أم « إلاَّ وبعدها » لا « فيه نظرٌ؛ من حيث تجويزُ سيبويه حَذْفُ المعادِلِ دون » لا « فهو رَدٌّ على سيبويهِ أيضاً .
[ قوله : { وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ } هذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكونَ معطوفةً على الصلةِ ، وأَنْ تكونَ مستأنفةً ، وأن تكونَ حالاً ] . والعامَّة على » يُبين « مِنْ أبان ، والباقر » يَبين « بفتحِها مِنْ بان أي : ظهر .

فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53)

قوله : { أَسْوِرَةٌ } : قرأ حفص « أَسْوِرَة » كأَحْمِرَة . والباقون « أساوِرَة » . فأسْوِرَة جمع سِوار كحِمار وأَحْمِرَة ، وهو جمعُ قلةٍ ، وأساوِرَة جمعُ إسْوار بمعنى سِوار . يقال : سِوارُ المرأة وإسْوارُها ، والأصل : أساوير بالياء ، فَعُوِّضَ من حرف المدِّ تاءُ التأنيثِ كزَنادقة . وقيل : بل هي جمعُ أَسْوِرة فهي جمعُ الجمعِ . وقرأ أُبَيٌّ والأعمش - ويُرْوى عن أبي عمرو - « أساوِر » دونَ تاءٍ . ورُوِي عن أُبَيّ أيضاً وعبد الله أساْوِير . وقرأ الضحاك « أَلْقَى » مبنياً للفاعلِ أي الله . و « وأساوِرة » نصباً على المفعولية . و « مِنْ ذَهَبٍ » صفةٌ ل أَساورة . ويجوزُ أَنْ تكون « مِنْ » الداخلةَ على التمييز .

فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55)

قوله : { آسَفُونَا } : منقولٌ بهمزةِ التعديةِ مِنْ أسِفَ بمعنى غَضِبَ ، والمعنى : أَغْضَبونا بمخالَفَتِهم أمرَنا . وفي التفسيرِ : أحزنوا أولياءَنا يعني السَّحَرةَ .

فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56)

قوله : { سَلَفاً } : قرأ الأخَوان بضمتين ، والباقون بفتحتين . فأمَّا الأُولى فتحتمل ثلاثةَ أوجهٍ ، أحدُها : أنها جمعُ سَليف كرَغيف ورُغُف . وسمع القاسمُ بنُ مَعَن من العرب : « مضى سَليفٌ من الناس » . والسَّليفُ من الناس كالفريقِ منهم . والثاني : أنها جمعُ سالِف كصابِر وصُبُر . والثالث : أنها جمعُ سَلَف كأَسَد وأُسُد . والثانية تحتمل وجهين ، أحدهما : أَنْ يكونَ جمعاً لسالِف كحارس وحَرَس ، وخادِم وخَدَم . وهذا في الحقيقة اسمُ جمعٍ لا جمعُ تكسيرٍ؛ إذ ليس في أبنيةِ التكسير صيغةُ فَعَل . والثاني : أنه مصدرٌ يُطْلق على الجماعة تقول : سَلَفَ الرجلُ يَسْلُفُ سَلَفاً أي : تقدَّم . وسلَفُ الرجلِ آباؤه المتقدِّمون ، والجمع أَسْلافٌ وسُلاف . وقال طفيل :
4004 مَضَوْا سَلَفاً قَصْدُ السَّبيلِ عليهمُ ... صُروفُ المنايا بالرجالِ تَقَلَّبُ
وقرأ عليٌّ كَرَّم اللَّهُ وجهَه ومجاهد « سُلَفاً » بضم السين وفتح اللام . وفيها وجهان ، أشهرُهما : أنه جمعُ سُلْفَة كغُرْفَة وغُرَف ، والسُّلْفَةُ الأمة . وقيل : الأصل « سُلُفاً » بضمتين ، وإنما أَبْدل من الضمة فتحةً .

وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57)

قوله : { مَثَلاً } : إمَّا مفعولٌ ثانٍ إنْ كانت بمعنى صَيَّر ، وإلاَّ حالاً .
قوله : « يَصِدُّون » قرأ نافع وابن عامر والكسائي « يَصُدُّون » بضمِ الصادِ . والباقون بكسرِها . فقيل : هما بمعنىً واحدٍ ، وهو الصحيحُ ، واللفظُ يُقال : صَدَّ يَصِدُّ ويَصُدُّ كعَكَفَ يَعْكِفُ ويَعْكُفُ ، ويَعْرُشُ ويَعْرِشُ . وقيل : الضمُّ مِن الصُّدود ، وهو الإِعراضُ . وقد أنكر ابنُ عباسٍ الضمَّ ، وقد رُوِي له عن علي رضي الله عنهما - والله أعلم - قبل بلوغِه تواتُرُه .

وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58)

قوله : { وقالوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ } : قرأ أهلُ الكوفة بتحقيق الهمزةِ الثانيةِ ، والباقون بتسهيلِها بينَ بينَ ، ولم يُدْخِلْ أحدٌ مِنْ القرَّاء الذين مِنْ قاعدتِهم الفصلُ بين الهمزتين بألفٍ ، ألفاً ، كراهةً لتوالي أربعةِ مُتشابهات ، وأَبْدل الجميعُ الهمزةَ الثالثة ألفاً . ولا بُدَّ/ مِنْ زيادةِ بيان : وذلك أن « آلِهة » جمعُ إله كعِماد وأَعْمِدَة ، فالأصلُ أَأْلِهَة بهمزتين : الأولى زائدةٌ ، والثانيةُ فاء الكلمة وقعتِ الثانيةُ ساكنةً بعد مفتوحةٍ وَجَبَ قلْبُها ألفاً كأَمِن وبابِه ، ثم دَخَلَتْ همزةُ الاستفهامُ على الكلمةِ ، فالتقى همزتان في اللفظ : الأولى للاستفهامِ والثانيةُ همزةُ أَفْعِلة . والكوفيون لم يَعْتَدُّوا باجتماعِهما فأبْقَوْهما على حالِهما . وغيرُهم استثقَل فخفَّفَ الثانيةَ بالتسهيلِ بينَ بينَ ، والثالثةُ بألفٍ محضةٍ لم تُغَيَّرْ البتةَ . وأكثرُ أهلِ العصرِ يُقرُّونَ هذا الحرفَ بهمزةٍ واحدة بعدها ألفٌ على لفظِ الخبرِ ولم يقرأْ به أحدٌ من السبعة فيما قَرَأْتُ به ، إلاَّ أنَّه رُوِي أنَّ وَرْشاً قرأ كذلك في روايةِ أبي الأَزْهر ، وهي تحتملُ الاستفهامَ كالعامَّةِ ، وإنما حَذَفَ أداةَ الاستفهامِ لدلالة « أم » عليها وهو كثيرٌ ، وتَحْتمل أنَّه قرأه خبراً مَحْضاً وحينئذٍ تكون « أم » منقطعةً فتُقَدَّرُ ب بل والهمزة .
وأمَّا الجماعةُ فهي عندهم متصلةٌ . فقوله : « أم هو » على قراءةِ العامة عطفٌ على « آلهتنا » وهو من عطفِ المفرداتِ . التقدير : أآلهتُنا أم هو خيرٌ أي : أيُّهما خيرٌ . وعلى قراءةِ ورشٍ يكونُ « هو » مبتدأً ، وخبرُه محذوفٌ تقديرُه : بل أهو خيرٌ ، وليست « أم » حينئذٍ عاطفةً .
قوله : « جَدَلاً » مفعولٌ مِنْ أجله أي : لأجلِ الجدلِ والمِراءِ لا لإِظهارِ الحقِّ . وقيل : هو مصدرٌ في موضعِ الحال أي : إلاَّ مُجادِلين .
وقرأ ابنُ مقسم « جِدالاً » والوجهان جاريان فيه . والظاهر أنَّ « هو » لعيسى كغيره من الضمائر . وقيل : هو للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم .

وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60)

قوله : { لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً } : في « مِنْ » هذه أقوالٌ ، أحدها : أنها بمعنى بَدَل أي : لَجَعَلْنا بَدَلكم . ومنه أيضاً { أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة } [ التوبة : 38 ] أي بَدَلَها . وأنشد :
4005 أخَذُوا المَخاضَ من الفَصيل غُلُبَّةً ... ظُلْماً ويُكْتَبُ للأمير إفالا
وقال آخر :
4006 جارِيَةٌ لم تَأْكُلِ المُرَقَّقَا ... ولم تَذُقْ من البُقولِ الفُسْتقا
والثاني : - وهو المشهورُ - أنها تبعيضِيَّةٌ . وتأويلُ الآية عندهم : لَوَلَّدْنا منكم يا رجالُ ملائكةً في الأرض يَخْلُفونكم كما يَخْلُفكم أولادُكم ، كما وَلَّدْنا عيسى مِنْ أنثى دونَ ذكرٍ ، ذكره الزمخشري . والثالث : أنها تبعيضيَّةٌ . قال أبو البقاء : « وقيل : المعنى : لَحَوَّلْنا بعضَكم ملائكةً » . وقال ابن عطية : « لَجَعَلْنا بَدَلاً مِنْكم » .

وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)

قوله : { وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ } : المشهورُ أنَّ الضمير لعيسى ، يعني نزولَه آخر الزمان . وقيل الضميرُ للقرآن أي : فيه عِلْمُ الساعةِ وأهوالُها ، أو هو علامةٌ على قُرْبها . وفيه { اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ } [ الأنبياء : 1 ] { اقتربت الساعة } [ القمر : 1 ] . وقيل : للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم . ومنه « بُعِثْت أنا والساعةُ كهاتَيْن » .
والعامَّةُ على « عِلْم » مصدراً ، جُعِل عِلْماً مبالغَةً لَمَّا كان به يَحْصُلُ العِلْمُ ، أو لَمَّا كان شَرْطاً يُعْلَم به ذلك أُطْلِق عليه عِلْم . وابن عباس وأبو هُرَيْرَة وأبو مالكِ الغِفاري وزيد بن علي « لَعَلَمٌ » بفتح الفاءِ والعينِ أي : لَشَرْطُ وعَلامةٌ ، وقرأ أبو نضرة وعكرمةُ كذلك ، إلاَّ أنهما عَرَّفا باللام ، فقرآ « للعَلَمُ » أي : لَلْعلامَةُ المعروفةُ .

الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67)

قوله : { الأخلاء يَوْمَئِذٍ } : مبتدأ ، وخبرُه « عَدُوٌّ » . والتنوين في « يومئذٍ » عِوَضٌ عن جملة تقديرُه : يومَ إذْ تَأْتيهم الساعةُ . والعامل في « يَوْمئذ » لفظُ « عَدُوٌّ » أي : عداوتُهم في ذلك اليوم .

يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68)

قوله : { ياعبادي } : قرا أبو بكرٍ عن عاصمٍ « يا عبادِيَ ، لا خَوْفٌ » بفتح الياء . والأخوانَ وابن كثير وحفصٌ بحَذْفِها وصلاً ووقفاً . والباقون بإثباتها ساكنةً . وقرأ العامَّة « لا خوفٌ » بالرفع والتنوينِ : إمَّا مبتدأً ، وإمَّا اسماً لها ، وهو قليلٌ . وابن محيصن دونَ تنوينٍ على حَذْفِ مضافٍ وانتظارِه : لا خوفُ شيءٍ . والحسنُ وابن أبي إسحاق بالفتح على « لا » التبرئةِ ، وهي عندهم أَبْلَغُ .

الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69)

قوله : { الذين آمَنُواْ } : يجوزُ أَنْ يكونَ نعتاً ل « عبادي » أو بدلاً منه ، أو عطف بيانٍ له ، أو مقطوعاً منصوباً أو مرفوعاً .

يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71)

قوله : { يُطَافُ } : قبلَه محذوفٌ أي : يَدْخُلونُ يُطاف . والصِّحافُ : جمعُ صَحْفَة كجَفْنَة وجِفان . قال الجوهري : « الصَّحْفَةُ كالقَصْعَةِ . وقال الكسائيُّ : أعظمُ القَصاعِ الجَفْنةُ ، ثم القَصْعَةُ تُشْبِع العَشَرة ، ثم الصَّحْفَةُ تُشْبِعُ الخمسةَ ، ثم المِئْكَلَة تُشْبِعُ/ الرجلين والثلاثة » . والصَّحيفة : الكتابُ ، والجمعُ : صُحُف وصَحَائف . وأمال الكسائيُّ في روايةٍ « بِصحاف » . والأَكْواب جمعٌ . فقيل : هو كالإِبْريق إلاَّ أنه لا عُرْوَةَ له . وقيل : إلاَّ أنه لا خُرْطومَ له . وقيل : إلاَّ أنه لا عُرْوَةَ له ولا خُرْطومَ معاً . قال الجواليقي : « ليتمكَّنَ الشاربُ مِنْ أين شاءَ ، فإنَّ العُرْوَةَ تمنعُ من ذلك » .
وقال عَدِيّ :
4007 مُتَّكِئاً تَصْفِقُ أبْوابُه ... يَسْعَى عليه العبدُ بالكُوبِ
والتقدير : وأكواب مِنْ ذَهَب أو لم يُرِدْ تَقْييدَها .
قوله : { مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس } قرأ نافعٌ وابن عامرٍ وحفصٍ « تَشْتهيه » بإثباتِ العائدِ على الموصول كقوله : { الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان } [ البقرة : 275 ] والباقون بحَذْفِه كقوله : { أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً } [ الفرقان : 41 ] وهذه القراءةُ شبيهةٌ بقوله : { وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ } [ يس : 35 ] وتقدَّم ذلك في يس ،
وهذه الهاءُ في هذه السورةِ رُسِمَتْ في مصاحفِ المدينة والشام ، وحُذِفَتْ مِنْ غيرِها . وقد وقع لأبي عبد الله الفاسيِّ شارحِ القصيدِ وَهَمٌ فسَبَقَ قلمُه فكتب : « والهاءُ منه محذوفةٌ في مصاحفِ المدينةِ والشامِ ثابتةٌ في غيرِهما » . أراد أن يكتبَ « ثابتةٌ في مصاحف المدينة والشام محذوفةٌ من غيرِهما » فعكَسَ . وفي مصحفِ عبد الله { تَشْتَهِيهِ الأنفس وَتَلَذُّ الأعين } بالهاء فيهما .

لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73)

قوله : { مِّنْهَا تَأْكُلُونَ } : « مِنْ » تبعيضيةٌ أو ابتدائيةٌ ، وقُدِّم الجارُّ لأجلِ الفاصلةِ .

لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75)

قوله : { لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ } : جملةٌ حاليةٌ ، وكذلك { وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } : وقرأ عبد الله « وهُمْ فيها » أي : في النار لدلالةِ العذاب عليها .

وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76)

قوله : { ولكن كَانُواْ هُمُ الظالمين } : العامَّةُ على الياء خبراً ل « كان » ، و « هم » إمَّا فَصْلٌ وإمَّا توكيدٌ . وقرأ عبد الله وأبو زيدٍ النحويان « الظالمون » على أنَّ « هو » مبتدأٌ . و « الظالمون » خبرُه . والجملةُ خبر كان ، وهي لغةُ تميم . قال أبو زيد : « سَمِعْتُهم يَقْرؤون » تَجِدُوْه عند الله هو خيرٌ وأعظمُ أجراً « بالرفعِ . وقال قيس بن ذُرَيح :
4008 تَحِنُّ إلى ليلى وأنت تَرَكْتَها ... وكنتَ عليها بالمَلا أنتَ أقدرُ
برفع » أقدرُ « و » أنت « فصلٌ أو توكيدٌ . قال سيبويه : » بَلَغَنا أنَّ رؤبةَ كان يقولُ : أظنُّ زيداً هو خيرٌ منك « يعني بالرفع .

وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77)

قوله : { يامالك } : العامَّةُ مِنْ غير ترخيمٍ . وعلي بن أبي طالب وعبدُ الله وابنُ وثَّاب والأعمش « يا مالِ » مرخماً على لغة مَنْ ينتظر . وأبو السِّوار الغَنَويُّ « يا مالُ » مبنياً على الضم على لغةِ مَنْ لا يَنْوي .

أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79)

قوله : { أَمْ أبرموا } : أم منقطعةٌ . والإِبرام : الإِتقانُ ، وأصلُه في الفَتْلِ . يقال : أَبْرَمَ الحَبْلَ أي : أتقن فَتْلَه ، وهو الفَتْلُ الثاني ، والأولُ يُقال له : سَحِيل . قال زهير :
4009 لَعَمْرِي لَنِعْمَ السَّيِّدان وُجِدْتُما ... على كل حالٍ مِنْ سَحِيلٍ ومُبرَمِ

قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81)

قوله : { إِن كَانَ للرحمن } : قيل : هي شرطيةٌ على بابِها . واخْتُلِفَ في تأويلِه فقيل : إنْ صَحَّ ذلك فأنا أولُ مَنْ يَعْبُده لكنه لم يَصِحَّ البتةَ بالدليلِ القاطعِ ، وذلك أنَّه عَلَّق العبادةَ بكيْنونة الولدِ ، وهي مُحالٌ في نفسِها ، فكان المُعَلَّقُ بها مُحالاً مثلَها ، فهو في صورةِ إثباتِ الكينونةِ والعبادةِ ، وفي معنى نَفْيهِما على أَبْلغِ الوجوهِ وأَقْواها ، ذكره الزمخشريُّ . وقيل : إن كان له ولدٌ في زَعْمِكم . وقيل : العابدين بمعنى : الآنفين . مِنْ عَبِدَ يَعْبَدُ إذا اشْتَدَّ أَنَفَةً فهو عَبِدٌ وعابِدٌ . ويؤيِّدُه قراءةُ السُّلَميِّ واليماني « العَبِدين » دون ألفٍ . وحكى الخليل قراءةً غريبةً وهي « العَبْدِيْن » بسكون الباءِ ، وهي تخفيفُ قراءةِ السُّلَمي فأصلها الكسرُ . قال ابنُ عرفة : « يقال : عَبِدَ بالكسر يَعْبَد بالفتح فهو عَبِد ، وقلَّما يقال : عابِد ، والقرآن لا يجيْءُ على القليلِ ولا الشاذِّ » . قلتُ : يعني فتخريج مَنْ قال : إنَّ العابدين بمعنى الآنفين لا يَصِحُّ ، ثم قال كقول مجاهد . وقال الفرزدق :
4010 أولئك آبائي فجِئْني بمثْلِهم ... وأَعْبَدُ أنْ أَهْجُوْ كُلَيْباً بدارِمِ
أي : آنَفُ . وقال آخر :
4011 متى ما يَشَأْ ذو الوُدِّ يَصْرِمْ خليلَه ... ويُعْبَدْ عليه لا مَحالةَ ظالما
وقال أبو عبيدة : « معناه الجاحِدين » . يقال : عَبَدَني حَقِّي أي : جَحَدنيه . وقال أبو حاتم : « العَبِدُ بكسر الباءِ : الشديدُ الغَضَبِ » ، وهو معنى حسنٌ أي : إنْ كان له ولدٌ على زَعْمِكم فأنا أولُ مَنْ يَغْضَبُ لذلك .
وقيل : « إنْ » نافيةٌ أي : ما كان ، ثم أَخْبَرَ بقولِه : { فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين } وتكونُ الفاءُ سببيةً . ومنع مكي أَنْ تكونَ نافيةً قال : « لأنه يُوْهِمُ أنَّك إنما نَفَيْتَ عن الله الولدَ فيما مضى دونَ ما هو آتٍ ، وهذا مُحالٌ » .
وقد رَدَّ الناسُ على مكيّ ، وقالوا : كان قد تَدُلُّ على الدوامِ كقوله : { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } [ النساء : 96 ] إلى ما لا يُحْصَى ، والصحيحُ من مذاهبِ النحاةِ : أنها لا تدُلُّ على الانقطاعِ ، والقائلُ بذلك يقولُ : ما لم يكنْ قرينة كالآياتِ المذكورةِ . وتقدَّمَ الخلافُ في قراءَتَيْ : وَلَد ووُلْد في مريم .

فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83)

قوله : { يُلاَقُواْ } : العامَّةُ من المُلاقاةِ . وابنُ محيصن - وتُرْوى عن أبي عمروٍ - « يَلْقَوا » مِنْ لَقِيَ .

وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84)

قوله : { وَهُوَ الذي فِي السمآء إله } : « في السماء » متعلِّقٌ ب « إله » لأنه بمعنى معبودٌ أي : معبودٌ في السماء ومعبودٌ في الأرض ، وحينئذٍ فيقال : الصلة لا تكونُ إلاَّ جملةً أو ما في تقديرِها وهو الظرفُ وعديلُه ، ولا شيءَ منها هنا . والجوابُ : أنَّ المبتدأَ حُذِفَ لدلالة المعنى عليه ، وذلك المحذوفُ هو العائدُ تقديرُه : وهو الذي في السماءِ إلهٌ ، وهو في الأرض إلهٌ ، وإنما/ حُذِف لطولِ الصلةِ بالمعمولِ فإنَّ الجارَّ متعلِّقٌ ب إله . ومثلُه « ما أنا بالذي قائلٌ لك سوءاً » .
وقال الشيخ : « وحَسَّنه طولُه بالعطفِ عليه ، كما حَسَّنَ في قولِهم : قائل [ لك ] شيئاً طولُه بالمعمولِ » . قلت : حصولُه في الآيةِ وفيما حكاه سواءٌ؛ فإن الصلةَ طالَتْ بالمعمولِ في كلَيْهما ، والعطفُ أمرٌ زائدٌ على ذلك فهو زيادةٌ في تحسين الحَذْفِ . ولا يجوزُ أَنْ يكونَ الجارُّ خبراً مقدماً ، و « إله » مبتدأٌ مؤخرٌ لئلا تَعْرَى الجملةُ مِنْ رابطٍ ، إذ يصيرُ نظيرَ « جاء الذي في الدار زيد » . فإن جَعَلْتَ الجارَّ صلةً وفيه ضميرٌ عائدٌ على الموصولِ وجَعَلْتَ « إله » بدلاً منه . قال أبو البقاء : « جاز على ضَعْفٍ؛ لأن الغَرَض الكليَّ إثباتُ الإِلهيةِ لا كونُه في السماء والأرض ، فكان يَفْسُدُ أيضاً من وجهٍ آخرَ وهو قولُه : { وَفِي الأرض إله } لأنه معطوفٌ على ما قبلَه ، وإذا لم تُقَدِّرْ ما ذكرْنا صار منقطعاً عنه وكان المعنى : أنَّ في الأرض إلهاً » انتهى . وقال الشيخ : « ويجوزُ أَنْ تكونَ الصلةُ الجارَّ والمجرورَ ، والمعنى : أنه فيهما بألوهِيَّتِه وربُوبِيَّتِه ، إذ يَستحيل حَمْلُه على الاستقرار » .
وقرأ عمرُ وعلي وعبد الله في جماعة { وَهُوَ الذي فِي السمآء الله } ضُمِّن العَلَمُ أيضاً معنى المشتقِّ ، فيتعلَّقُ به الجارُّ . ومثله « هو حاتمٌ في طَيِّئ » أي : الجوادُ فيهم . ومثلُه : فرعون العذاب .

وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85)

قوله : { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } : الأخَوان وابن كثير بالياء مِنْ تحتُ ، والباقون بالتاء مِنْ فوقُ ، وهو في كلَيْهما مبني للمفعول . وقُرئ بالخطاب مبنياً للفاعل .
وقرأ العامَّةُ أيضاً « يَدْعُوْنَ » بياء الغَيْبة والضميرُ للموصل . والسلمي وابنُ وثابٍ بتاء الخطاب ، والأسود بن يزيد بتشديد الدالِ ، ونُقِل عنه القراءةُ مع ذلك بالتاء والياء .

وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86)

قوله : { إِلاَّ مَن شَهِدَ بالحق } : فيه قولان ، أحدهما : أنه متصلٌ والمعنى : إلاَّ مَنْ شهد بالحقِّ كعُزَيْرٍ والملائكةِ ، فإنهم يملكون الشفاعةَ بتمليك اللَّهِ إياهم لها . وقيل : هو منقطعٌ بمعنى : أنَّ هؤلاءِ لا يَشْفَعُون إلاَّ فيمَنْ شَهِد بالحقِّ ، أي : لكن مَنْ شَهِدَ بالحق يَشْفَعُ فيه هؤلاء ، كذا قَدَّروه . وهذا التقديرُ يجوزُ فيه أَنْ يكونَ الاستثناءُ متصلاً على حَذْفِ المفعولِ ، تقديرُه : ولا يملكون الذين يَدْعُون مِنْ دونه الشفاعةَ في أحدٍ إلاَّ فيمَنْ شَهِدَ .

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87)

وقرأ العامَّة « فأنَّى يُؤْفَكون » بالغَيْبة . ورُوي عن أبي عمروٍ بالخطاب .

وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88)

قوله : { وَقِيلِهِ } : قرأ حمزةُ وعاصمٌ بالجرِّ . والباقون بالنصب . فأمَّا الجرُّ فعلى وجهَيْن ، أحدهما : أنَّه عطفٌ على « الساعة » أي : عنده عِلْمُ قيلِه ، أي : قولِ محمدٍ أو عيسى عليهما السلام . والقَوْلُ والقالُ والقِيْلُ بمعنى واحد جاءَتْ المصادرُ على هذه الأوزانِ . والثاني : أنَّ الواوَ للقَسم . والجوابُ : إمَّا محذوفٌ تقديرُه : لتُنْصَرُنَّ أو لأَفْعَلَنَّ بهم ما أريد ، وإمَّا مذكورٌ وهو قولُه : { إِنَّ هؤلاء قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ } ذكره الزمخشريُّ .
وأمَّا قراءةُ النصبِ ففيها ثمانيةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنَّه منصوبٌ على محلِّ « الساعة » . كأنَّه قيل : إنه يَعْلَمُ الساعةَ ويعْلَمُ قِيْله كذا . الثاني : أنَّه معطوفٌ على « سِرَّهم ونجواهم » أي : لا نعلم سِرَّهم ونجواهم ولا نعلمُ قِيْلَه . الثالث : عطفٌ على مفعولِ « يكتُبون » المحذوفِ أي : يكتبون ذلك ويكتبون قيلَه كذا أيضاً . الرابع : أنَّه معطوفٌ على مفعولِ « يعلمون » المحذوفِ أي : يَعْلمون ذلك ويعلمون قيلَه . الخامس : أنه مصدرٌ أي : قالَ قيلَه . السادس : أَنْ ينتصِبَ بإضمارِ فعلٍ أي : اللَّهُ يعلمُ قيلَ رسولِه وهو محمدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم . السابع : أَنْ ينتصِبَ على محلِّ « بالحق » أي : شَهِدَ بالحقِّ وبِقيْلِه . الثامن : أَنْ ينتصِبَ على حَذْفِ حرفِ القسمِ كقوله :
4012 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فذاك أمانةَ اللَّهِ الثَّريدُ
وقرأ الأعرجُ وأبو قلابةَ ومجاهدٌ والحسنُ بالرفع ، وفيه أوجه [ أحدها : ] الرفعُ عطفاً على « علمُ الساعةِ » بتقديرِ مضافٍ أي : وعنده عِلْمُ قِيْلِه ، ثم حُذِفَ وأُقيم هذا مُقامَه . الثاني : أنَّه مرفوعٌ بالابتداءِ ، والجملةُ مِنْ قولِه : « يا رب » إلى آخره هي الخبر . الثالث : أنه مبتدأٌ وخبرُه محذوفٌ تقديرِه : وقيلُه كيتَ وكيتَ مَسْموعٌ أو مُتَقَبَّلٌ . الرابع : أنه مبتدأ وأصلُه القسمُ كقولِهم : « ايمُنُ الله » و « لَعَمْرُ الله » فيكونُ خبرُه محذوفاً . والجوابُ كما تقدَّم ، ذَكرَه الزمخشري أيضاً .
واختار القراءةَ بالنصب جماعةٌ . قال النحاس : « القراءةُ البَيِّنَةُ بالنصب من جهتَيْن ، إحداهما : أنَّ التفرقةَ بين المنصوبِ وما عُطِفَ عليه مُغْتَفَرَةٌ بخلافِها بين المخفوضِ وما عُطِفَ عليه . والثانيةُ تفسيرُ أهلِ التأويل بمعنى النصب » . قلت : وكأنَّه يُريدُ ما قال أبو عبيدة قال : « إنما هي في التفسيرِ : أم يَحْسَبون أنَّا لا نَسْمع سِرَّهم ونجواهم ولا نسمعُ قِيْلَه يا رب . ولم يَرْتَضِ الزمخشريُّ من الأوجهِ المتقدمةِ شيئاً ، وإنما اختار أَنْ تكونَ قَسَماً في القراءاتِ الثلاثِ ، وتقدَّم تحقيقُها .
وقرأ أبو قلابة » يا رَبَّ « بفتح الباءِ على قَلْب الياء ألفاً ثم حَذََفَها مُجْتَزِئاً عنها بالفتحة كقولِه :
4013 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... بلَهْفَ ولا بِلَيْتَ . . . . . . . . . . . . . . . . .
والأخفشُ يَطَّرِدُها .

فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)

قوله : { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } : قرأ نافعٌ وابنُ عامر « تَعْلمون » بالخطاب التفاتاً ، والباقون بالغَيْبة نظراً لِما تقدَّم .

إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3)

بسم الله الرحمن الرحيم
قوله : { إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ } : يجوزُ أن يكونَ جوابَ القسمِ ، وأَنْ يكونَ اعتراضاً ، والجوابُ قولُه : { إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ } ، واختاره ابنُ عطية . وقيل : « إنَّا كُنَّا » مستأنفٌ ، أو جوابٌ ثانٍ مِنْ غيرِ عاطِفٍ .

فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)

قوله : { فِيهَا يُفْرَقُ } : يجوزُ أَنْ تكونَ مُسْتَأْنَفَةً ، وأَنْ تكونَ صفةً ل « ليلة » وما بينهما اعتراضٌ . قال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : إنَّا كُنَّا مُنْذِرين ، فيها يُفْرَقُ ، ما موقعُ هاتين الجملتين؟ قلت : هما جملتان مستأنفتان مَلْفوفتان ، فَسَّر بهما جوابَ القسمِ الذي هو » أَنْزَلْناه « كأنه قيل : أَنْزَلْناه؛ لأنَّ مِنْ شَأْنِنا الإِنذارَ والتحذيرَ ، وكان إنزالُنا إياه في هذه الليلةِ خصوصاً؛ لأنَّ إنزالَ القرآنِ مِنَ الأمورِ الحكيمةِ ، وهذه الليلةُ يُفْرَقُ فيها كلُّ أمرٍ حكيم » . قلت : وهذا مِنْ محاسِنِ هذا الرجلِ .
وقرأ الحسن والأعرج والأعمش « يَفْرُقُ » بفتح الياء وضمِّ الراءِ ، « كلَّ » بالنصب أي : يَفْرُقُ اللَّهُ كلَّ أَمْرٍ . وزيد بن علي « نَفْرِقُ » بنونِ العظمةِ ، « كلَّ » بالنصبِ ، كذا نقله الزمخشريُّ ، ونَقَلَ عنه الأهوازي « يَفْرِق » بفتح الياء وكسرِ الراء ، « كلَّ » بالنصب ، « حكيمٌ » بالرفع على أنه فاعل « يَفْرِق » ، وعن الحسن والأعمش أيضاً « يُفَرَّقُ » كالعامَّةِ ، إلاَّ أنه بالتشديد .

أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5)

قوله : { أَمْراً } : فيه اثنا عشر وجهاً ، أحدُها : أَنْ ينتصِبَ حالاً مِنْ فاعل « أَنْزَلْناه » . الثاني : أنه حالٌ مِنْ مفعولِه أي : أنزلناه آمِرِيْن ، أو مَأْموراً به . الثالث : أَنْ يكونَ مفعولاً له ، وناصبُه : إمَّا « أَنْزَلْناه » وإمَّا « مُنْذرِين » وإمَّا « يُفْرَقُ » . الرابع : أنه مصدرٌ مِنْ معنى يُفْرَق أي : فَرْقاً . الخامس : أنه مصدرٌ ل « أَمَرْنا » محذوفاً . السادس : أَنْ يكونَ « يُفْرَقُ » بمعنى يَأْمُر . والفرقُ بين هذا وما تقدَّم : أنَّك رَدَدْتَ في هذا بالعاملِ إلى المصدرِ وفيما تقدَّم بالعكس . السابع : أنَّه حالٌ مِنْ « كُلُّ » . الثامن : أنه حالٌ مِنْ « أَمْرٍ » وجاز ذلك لأنه وُصِفَ . إلاَّ أنَّ فيه شيئين : مجيءَ الحالِ من المضاف إليه في غيرِ المواضع المذكورة . والثاني : أنها مؤكدةٌ . التاسع : أنه مصدرٌ ل « أَنْزَل » أي : إنَّا أَنْزَلْناه إنزالاً ، قاله الأخفش . العاشر : أنَّه مصدرٌ ، لكن بتأويل العاملِ فيه إلى معناه أي : أَمَرْنا به أَمْراً بسببِ الإِنزال ، كما قالوا ذلك في وَجْهي فيها يُفْرَقُ فَرْقاً أو يَنْزِل إنزالاً . الحادي عشر : أنه منصوبٌ على الاختصاص ، قاله الزمخشري ، ولا يَعْني بذلك الاختصاصَ الاصطلاحيَّ فإنه لا يكون نكرةً . الثاني عشر : أَنْ يكونَ حالاً من الضميرِ في « حكيم » . الثالث عشر : أَنْ ينتصِبَ مفعولاً به ب « مُنْذِرين » كقولِه : { لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً } [ الكهف : 2 ] ويكونُ المفعولُ الأول محذوفاً أي : مُنْذِرين الناسَ أمراً . والحاصلُ أنَّ انتصابَه يَرْجِعُ إلى أربعة أشياء : المفعولِ به ، والمفعولِ له ، والمصدريةِ ، والحاليةِ ، وإنما التكثيرُ بحَسبِ المحالِّ ، وقد عَرَفْتَها بما قَدَّمْتُه لك .
وقرأ زيد بن علي « أَمْرٌ » بالرفع . قال الزمخشري : « وهي تُقَوِّي النصبَ على الاختصاصِ » .
قوله : « مِنْ عِنْدِنا » يجوز أَنْ يتعلَّق ب « يُفْرَقُ » أي : مِنْ جهتِنا ، وهي لابتداءِ الغاية مجازاً . ويجوز أَنْ يكونَ صفةً ل أَمْراً .
قوله : { إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } جوابٌ ثالثٌ أو مستأنفٌ ، أو بدلٌ من قوله : { إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ } .

رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6)

قوله : { رَحْمَةً } : فيها خمسةُ أوجهٍ [ أحدها ] : المفعولُ له . والعاملُ فيه : إمَّا « أَنْزَلْناه » وإمَّا « أَمْراً » وإمَّا « يُفْرَقُ » وإمَّا « مُنْذِرين » . الثاني : مصدرٌ بفعلٍ مقدرٍ أي : رَحِمْنا رَحْمَةً . الثالث : مفعولٌ ب مُرْسِلين . الرابع : حالٌ من ضمير « مُرْسِلين » أي : ذوي رحمة . الخامس : أنها بدلٌ مِنْ « أَمْراً » فيجيءُ فيها ما تقدَّم ، وتكثرُ الأوجهُ فيها حينئذٍ .
و « مِنْ رَبِّك » يتعلَّقُ برَحْمة ، أو بمحذوفٍ على أنها صفةٌ . وفي « مِنْ ربِّك » التفاتٌ من التكلُّم إلى الغَيْبة ، ولو جَرَى على مِنْوالِ ما تقدَّمَ لقال : رحمةً منا .

رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7)

قوله : { رَبِّ السماوات } : قرأ الكوفيون بخفض « رَبّ » ، والباقون برفعِه . فالجرُّ على البدلَ ، أو البيانَ ، أو النعتِ . والرفعُ على إضمارِ مبتدأ ، أو على أنَّه مبتدأٌ ، خبرُه { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } .

لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8)

قوله : { رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ } : العامَّةُ على الرفع بدلاً أو بياناً أو نعتاً ل « ربُّ السماوات » فيمَنْ رَفَعه ، أو على أنَّه مبتدأٌ ، والخبرُ { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } أو خبرٌ بعد خبرٍ لقولِه : { إِنَّهُ هُوَ السميع } أو خبرُ مبتدأ مضمرٍ عند الجميعِ أعني قُرَّاءَ الجرِّ والرفع ، أو فاعلٌ لقولِه : « يُميت » . وفي « يُحْيي » ضميرٌ يَرْجِعُ إلى ما قبلَه أي : يُحْيي هو ، أي : ربُّ السماوات ويميتُ هو ، فأوقَعَ الظاهرَ مَوْقِعَ المضمرِ ، ويجوزُ أَنْ يكونَ « يُحيي ويُميت » من التنازع . ويجوزُ أَنْ يُنْسَبَ الرفعُ إلى الأول أو الثاني نحو : يَقُوم ويَقْعد زيد ، وهذا عَنَى أبو البقاء بقولِه : « أو على شريطةِ التفسير » .
وقرأ ابنُ محيصن وابنُ أبي إسحاق وأبو حيوة والحسن بالجرِّ/ على البدلِ أو البيانِ أو النعتِ ل « رب السماوات » ، وهذا يُوْجِبُ أَنْ يكونوا يَقْرؤون « رَبِّ السماوات » بالجرِّ . والأنطاكي بالنصب على المدحِ .

فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10)

قوله : { يَوْمَ تَأْتِي } : منصوبٌ ب « ارْتَقِبْ » على الظرفِ . والمفعولُ محذوفٌ أي : ارتقِبْ وَعْدَ الله في ذلك اليومِ . ويجوزُ أَنْ يكونَ هو المفعولَ المرتقبَ .

يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11)

قوله : { يَغْشَى الناس } : صفةٌ ثانيةٌ أي : بدُخان مُبين غاشٍ .
قوله : « هذا عَذابٌ » في محلِّ نصبٍ بالقول . وذلك القولُ حالٌ أي : قائلين ذلك ، ويجوزُ أَنْ لا يكونَ معمولاً لقولٍ البتةَ ، بل هو مجرَّدُ إخبارٍ .

أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13)

قوله : { أنى لَهُمُ الذكرى } : يجوزُ أَنْ يكونَ « أنَّى » خبراً ل « ذِكْرى » و « لهم » تبيينٌ . ويجوزُ أَنْ يكونَ « أنَّى » منصوباً على الظرفِ بالاستقرار في « لهم » ، فإن « لهم » وَقَعَ خبراً ل « ذِكْرى » .
قوله : « وقد جاءَهم » حال مِنْ « لهم » . وقرأ زيد بن علي « مُعَلِّم » بكسر اللام .

إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15)

قوله : { قَلِيلاً } : نعتٌ لزمانٍ أو مصدرٍ محذوف ، أي : كَشْفاً قليلاً أو زماناً قليلاً .

يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)

قوله : { يَوْمَ نَبْطِشُ } قيل : هو بدلٌ مِنْ « يَومَ تأتي » . وقيل : منصوبٌ بإضمارِ اذْكُر . وقيل : ب مُنْتَقِمون . وقيل : بما دَلَّ عليه « مُنْتَقِمون » وهو يَنْتقم . ورُدَّ هذا : بأنَّ ما بعد « إنَّ » لا يَعْمل فيما قبلها ، وبأنه لا يُفَسَّر إلاَّ ما يَصِحُّ أَنْ يَعْمَلَ .
قوله : « نَبْطِش » العامَّةُ على فتح النونِ وكسرِ الطاء أي : نَبْطِش بهم . وقرأ الحسن وأبو جعفر بضم الطاء ، وهي لغةٌ في مضارع بَطَشَ . والحسن وأبو رجاء وطلحة بضمِّ النونِ وكسرِ الطاءِ ، وهو منقولٌ مِنْ بَطَشَ أي : تَبْطِشُ بهم الملائكةُ . والبَطْشَةُ على هذا يجوز أن تكونَ منصوبةً ب نُبْطِشُ على حَذْفِ الزائد نحو : { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] وأَنْ يَنْتَصِبَ بفعلٍ مقدر أي : تَبْطِشُ الملائكةُ بهم فيَبْطِشُون البطشةَ .

وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17)

قوله : { وَلَقَدْ فَتَنَّا } : قُرِئ « فَتَّنَّا » بالتشديدِ على المبالغة أو التكثيرِ لكثرةِ متعلَّقِه . و « جاءهم رسولٌ » يحتمل الاستئنافَ والحالَ .

أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18)

قوله : { أَنْ أدوا } : يجوزُ أَنْ تكونَ المفسِّرَةَ؛ لتقدُّمِ ما هو بمعنى القول ، وأَنْ تكونَ المخفَّفَةَ ، وأَنْ تكونَ الناصبةَ للمضارع ، وهي تُوْصَلُ بالأمر . وفي جَعْلِها مخففةً إشكالٌ تَقَدَّم : وهو أنَّ الخبرَ في هذا البابِ لا يقع طلباً ، وعلى جَعْلِها مصدريَّةً تكون على حَذْفِ الجرِّ أي : جاءهم بأَنْ أَدُّوا . و « عبادَ الله » يُحتمل أَنْ يكونَ مفعولاً به . وفي التفسير : أنَّه طلبَ منهم أَنْ يُؤَدُّوا إليه بني إسرائيل ، ويَدُلُّ عليه { فَأَرْسِلْ مَعِيَ بني إِسْرَائِيلَ } ، وأَنْ يكونَ منادى ، والمفعولُ محذوفٌ أي : أَعْطوني الطاعةَ يا عبادَ الله .

وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19)

قوله : { وَأَن لاَّ تَعْلُواْ } : عطفٌ على « أَنْ » الأولى . والعامَّةُ على كسرِ الهمزةِ مِنْ قولِه : « إنِّي آتِيْكم » على الاستئنافِ . وقُرِئ بالفتح على تقديرِ اللامِ أي : وأَنْ لا تَعْلُوا لأنِّي آتِيْكم .

وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20)

قوله : { أَن تَرْجُمُونِ } : أي : مِنْ أَنْ تَرْجُمون .
وقوله : « إنِّي عُذْتُ » مستأنفٌ . وأدغم الذالَ في التاء أبو عمروٍ والأخَوان . وقد مَضَى توجيهُه في طه عند قوله : { فَنَبَذْتُهَا } [ طه : 96 ] .

فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22)

قوله : { أَنَّ هؤلاء } : العامَّةُ على الفتحِ بإضمارِ حرفِ الجرِّ أي : دعاه بأنَّ هؤلاء . وابنُ أبي إسحاق وعيسى والحسن بالكسرِ على إضمارِ القول عند البَصْرِيين ، وعلى إجراءِ « دَعا » مُجْرى القول عند الكوفيين .

فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23)

قوله : { فَأَسْرِ بِعِبَادِي } : قد تقدَّم قراءتا الوصل والقطع . وقال الزمخشري : « وفيه وجهان : إضمارُ القولِ بعد الفاء : فقال أَسْرِ بعبادي ، وجوابُ شرطٍ مقدرٍ ، كأنَّه قال : إن كان الأمرُ - كما تقول - فَأَسْرِ بعبادي » . قال الشيخ : « وكثيراً ما يَدَّعي حَذْفَ الشرطِ ولا يجوزُ إلاَّ لدليلٍ واضحٍ كأَنْ يتقدَّمَه الأمرُ أو ما أشبهه » .

وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24)

قوله : { رَهْواً } : يجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً ثانياً على أنَّ « تَرَكَ » بمعنى صَيَّر ، وأَنْ يكونَ حالاً على أنَّها ليسَتْ بمعناها . والرَّهْوُ قيل : السكونُ ، فالمعنى : اتْرُكْه ساكناً . يقال : رَهَا يَرْهُوا رَهْواً . ومنه جاءَتِ الخيلُ رَهْواً . قال النابغة :
4014 والخيلَ تَمْزَعُ رَهْواً في أَعِنَّتِها ... كالطيرِ تَنْجُوْ مِنَ الشُّؤْبوب ذي البَرَدِ
ورَهَا يَرْهُو في سيرِه . أي : تَرَفَّقَ . قال القطامي :
4015 يَمْشِيْنَ رَهْواً فلا الأَعْجازُ خاذِلَةٌ ... ولا الصدورُ على الأعجازِ تَتَّكِلُ
عن أبي عبيدةَ : رَهْواً : أي اتركْه مُنْفَتحاً فُرَجاً على ما تركْتَه .
وفي التفسير : أنَّه لَمَّا انْفَلَق البحرُ لموسى وطَلَعَ منه خاف أن يتبعَه فرعونُ فأراد أَنْ يَضْرِبَه ليعودَ حتى لا يَلحقوه . فأَمَرَ أَنْ يتركَه فُرَجاً . وأصلُه مِنْ قولِهم : / رَها الرجلُ يَرْهُو رَهْواً فتح ما بينَ رِجْلَيْه ، والرَّهْوُ والرَّهْوَةُ : المكانُ المرتفعُ والمنخفضُ يَجْتمع فيه فهو من الأضداد . والرَّهْوَةُ المرأةُ الواسعةُ الهَنِ . والرَّهْوُ : طائر يقال هو الكُرْكِيّ . وقد تقدَّم الكلامُ في الشعراء على نظير { كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ } .

وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26)

قوله : { وَمَقَامٍ } : العامَّةُ على فتح الميم وهو اسم مكان القيام . وابن هرمز وقتادة وابن السَّمَيْفع ونافعٌ في روايةِ خارجةَ بضمِّها اسمُ مكانٍ مِنْ أقام .

وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27)

والنَّعْمَةُ بالفتح : نَضارةُ العيشِ ولَذاذَتُه . والجمهور على جَرِّها . ونَصَبَها أبو رجاءٍ عَطْفاً على « كم » أي : تركوا كثيراً مِنْ كذا ، وتركوا نَعْمة .
قوله : « فاكِهين » العامَّةُ على الألف أي : طَيِّبي الأنفسِ أو أصحابُ فاكهة ك لابنِ وتامرِ . وقيل : فاكهين لاهين . وقرأ الحسن وأبو رجاء « فَكِهين » أي : مُسْتَخِفِّين مُسْتهزئين . قال الجوهري : « يُقال : فَكِهَ الرجلُ بالكسرِ فهو فَكِهٌ إذا كان مَزَّاحاً والفَكِهُ أيضاً : الأشِرُ » .

كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28)

قوله : { كَذَلِكَ } : يجوزُ أَنْ تكونَ الكافُ مرفوعةَ المحلِّ خبراً لمبتدأ مضمر أي : الأمرُ كذلك ، وإليه نحا الزجَّاج . ويجوزُ أَنْ تكون منصوبةَ المحلِّ ، فقَدَّرها الحوفيُّ : أَهْلكنا إهْلاكاً وانتقَمْنا انتقاماً كذلك . وقال الكلبيُّ : « كذلك أَفْعَلُ بمَنْ عَصاني » . وقيل : تقديرُه : يَفْعل فِعْلاً كذلك . وقال أبو البقاء : « تَرْكاً كذلك » فجعله نعتاً للتركِ المحذوفِ . وعلى هذه الأوجهِ كلِّها يُوْقَفُ على « كذلك » ويُبْتدأ « وأَوْرَثْناها » . وقال الزمخشري : « الكافُ منصوبةٌ على معنى : مثلَ ذلك الإِخراجِ أَخْرَجْناهم منها وأَوْرَثْناها قوماً آخرين ليسوا منهم » ، فعلى هذا يكون « وأَوْرَثْناها » معطوفاً على تلك الجملةِ الناصبةِ للكاف ، فلا يجوزُ الوقفُ على « كذلك » حينئذٍ .

فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29)

قوله : { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السمآء } : يجوزُ أَنْ تكونَ استعارةً كقولِ الفرزدق :
4016 الشمسُ طالِعَةٌ ليسَتْ بكاسِفَةٍ ... تَبْكي عليك نجومَ الليلِ والقمرا
وقال جرير :
4017 لَمَّا أتى خبرُ الزُّبَيْرِ تواضَعَتْ ... سُوْرُ المدينةِ والجبالُ الخُشَّعُ
وقال النابغة :
4018 بكى حارِثُ الجَوْلانِ مِنْ فَقْدِ رَبِّهِ ... وحَوْرَانُ منه خاشِعٌ مُتَضائِلُ

مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31)

قوله : { مِن فِرْعَوْنَ } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّه بدلٌ من العذاب : إمَّا على حَذْفِ مضافٍ أي : مِنْ عذابِ فرعونَ ، وإمَّا على المبالغةِ جعلَه نفسَ العذابِ فأبدله منه . والثاني : أنه حالٌ من العذابِ تقديرُه : صادراً مِنْ فرعونَ .
وقرأ عبد الله { مِنَ عَذَابِ المهين } وهي مِنْ إضافةِ الموصوفِ لصفتِه؛ إذ الأصلُ : العذابُ المُهين ، كالقراءةِ المشهورةِ .
وقرأ ابن عباس « مَنْ فرعونُ » بفتح ميم « مَنْ » ورفع « فرعونُ » على الابتداءِ والخبرِ ، وهو استفهامُ تحقيرٍ كقولِك : مَنْ أنتَ وزيداً . ثم بَيَّنَ حالَه بالجملة بعدُ في قوله : { إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ المسرفين } .

وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32)

قوله : { على عِلْمٍ عَلَى العالمين } : « على » الأولى متعلِّقةٌ بمحذوفٍ لأنَّها حالٌ من الفاعل في « اخْتَرْناهم » . والثانية متعلقةٌ ب « اخْتَرْناهم » . وفي عبارة الشيخ : أنَّه لَمَّا اختلفَ مدلولُها جاز تعلُّقُهما ب « اخْتَرْنا » . وأنشد الشيخُ نظيرَ ذلك :
4019 ويَوْماً على ظَهْر الكَثِيْبِ تَعَذَّرَتْ ... عليَّ وآلَتْ حَلْفَةً لم تَحَلَّلِ
ثم قال : « ف » على عِلْم « حالٌ : إمَّا من الفاعلِ أو من المفعول . و » على ظَهْر « حالٌ من الفاعل في » تَعَذَّرَتْ « . والعاملُ في الحال هو العاملُ في صاحبها » . وفيه نظرٌ؛ لأنَّ قولَه أولاً : « ولذلك تَعَلَّقا بفعلٍ واحدٍ لَمَّا اختلف المدلولُ » ينافي جَعْلَ الأولى حالاً؛ لأنَّها لم تتعلَّقْ به . وقولُه : « والعاملُ في الحالِ هو العاملُ في صاحبِها » لا يَنْفَعُ في ذلك .

أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37)

قوله : { والذين مِن قَبْلِهِمْ } : يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أَنْ يكونَ معطوفاً على « قومُ تُبَّع » . الثاني : أَنْ يكونَ مبتدأً ، وخبرُه ما بعده مِنْ « أَهْلَكْناهم » ، وأمَّا على الأول ف « أَهْلَكْناهم » : إمَّا مستأنفٌ ، وإمَّا حالٌ من الضمير الذي اسْتَكَنَّ في الصلة . الثالث : أَنْ يكونَ منصوباً بفعلٍ مقدرٍ يُفَسِّره « أَهْلَكْناهم » . ولا مَحَلَّ ل أَهْلكنا « حينئذٍ .

وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38)

قوله : { لاَعِبِينَ } : حال . وقرأ عمرو بن عبيد « وما بينَهُنَّ » لأنَّ السماواتِ والأرضَ جمعٌ . والعامَّةُ « بينَهما » باعتبار النَوْعين .

مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39)

قوله : { إِلاَّ بالحق } : حالٌ : إمَّا من الفاعلِ ، وهو الظاهرُ ، وإمَّا من المفعولِ أي : إلاَّ مُحِقِّين أو مُلْتَبِسين/ بالحق .

إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40)

قوله : { إِنَّ يَوْمَ الفصل مِيقَاتُهُمْ } : العامَّةُ على رَفْعِ « ميقاتُهم » خبراً ل « إنَّ » . وقُرِئ بنصبِه على أنه اسمُ « إنَّ » و « يومَ الفصلِ » خبرُه . و « أَجْمعين » تأكيدٌ للضميرِ المجرور .

يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41)

قوله : { يَوْمَ لاَ يُغْنِي } : يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً من « يومَ الفصل » أو بياناً عند مَنْ لا يَشْتَرِط المطابقةَ تعريفاً وتنكيراً ، وأَنْ يكونَ منصوباً بإضمار أَعْني . وأَنْ يكونَ صفةً ل « مِيقاتُهم » ولكنه بُنِي . قاله أبو البقاء . وهذا لا يتأتَّى عند البَصْريين لإِضافتِه إلى مُعْرَبٍ . وقد تقدَّمَ آخرَ المائدة ، وأَنْ يَنْتَصِبَ بفعلٍ يَدُلُّ عليه « يومَ الفَصْلِ » أي : يَفْصِلُ بينهم يومَ لا يُغْني . ولا يجوز أَنْ ينتصِبَ بالفصلِ نفسِه لِما يَلْزَمُ مِنْ الفَصْلِ بينهما بأجنبيّ وهو « ميقاتُهم » ، و « الفَصْل » مصدر لا يجوز فيه ذلك . وقال أبو البقاء : « لأنَّه قد أُخْبر عنه » ، وفيه تَجَوُّزٌ فإنَّ الإِخبارَ عَمَّا أُضِيْفَ إلى الفَصْلِ لاغي الفَصْلِ .
قوله : « ولا هم » جُمِع الضميرُ عائداً به على « مَوْلَى » ، وإنْ كان مفرداً لأنه قَصَدَ معناه فجُمِعَ ، وهو نكرةٌ في سِياق النفيِ فَعَمَّ .

إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42)

قوله : { إِلاَّ مَن رَّحِمَ الله } يجوزُ فيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدُها : - وهو قولُ الكسائيِّ - أنه منقطِعٌ . الثاني : أنه متصِلٌ تقديرُه : لا يُغْني قريبٌ عن قريبٍ إلاَّ المؤمنين فإنَّهم يُؤْذَنُ لهم في الشفاعةِ فيَشْفَعُون في بعضِهم . الثالث : أَنْ يكونَ مرفوعاً على البدليةِ مِنْ « مَوْلَى » الأول ، ويكونُ « يُغْني » بمعنى يَنْفَعُ ، قاله الحوفي . الرابع : أنه مرفوعُ المحلِّ أيضاً على البدلِ مِنْ واو « يُنْصَرُون » أي : لا يمنعُ من العذابِ إلاَّ مَنْ رحمه الله .

كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45)

قوله : { كالمهل } : يجوزُ أَنْ يكونَ خبراً ثانياً ، وأَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي : هو كالمُهْلِ . ولا يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنْ « طعام الأثيم » . قال أبو البقاء : « لأنَّه لا عاملَ إذ ذاك » . وفيه نظرٌ؛ لأنَّه يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً ، والعاملُ فيه معنى التشبيه ، كقولك : زيدٌ أخوك شجاعاً .
والأَثيم صفةُ مبالَغَةٍ . ويقال : الأَثُوم كالصَّبورِ والشَّكور . والمُهْل : قيل دُرْدِيُّ الزيت . وقيل عَكَر القَطِران . وقيل : ما أُذِيْبَ مِنْ ذَهَبٍ أو فضة . وقيل : ما أُذِيْبَ منهما ومِنْ كُلِّ ما في معناهما من المُنْطبعات كالحديدِ والنحاس والرَّصاص . والمَهْلُ بالفتح : التُّؤَدَةُ والرِّفْقُ . ومنه { فَمَهِّلِ الكافرين } [ الطارق : 17 ] . وقرأ الحسن « كالمَهْل » بفتح الميم فقط ، وهي لغةٌ في المُهْلِ بالضم .
قوله : « يَغْلي » قرأ ابن كثير وحفصٌ بالياءِ مِنْ تحتُ . والفاعلُ ضميرٌ يعود على طعام . وجَوَّز أبو البقاء أَنْ يعودَ على الزَّقُّوم . وقيل : يعود على المُهْلِ نفسِه ، و « يَغْلي » حالٌ من الضميرِ المستترِ في الجارِّ أي : مُشْبهاً المُهْلَ غالياً . ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنَ المُهْلِ نفسِه . وجَوَّزَ أبو البقاء أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ محذوفٍ أي : هو يَغْلي أي : الزقُّوم أو الطعامُ . والباقون « تَغْلي » بالتاء مِنْ فوقُ ، على أنَّ الفاعلَ ضميرُ الشجرةِ ، والجملةُ خبرٌ ثانٍ أو حالٌ على رَأْيٍ ، أو خبرُ مبتدأ مضمر أي : هي تَغْلي .

كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46)

قوله : { كَغَلْيِ الحميم } : نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ ، أو حالٌ مِنْ ضميرِه أي : تَغْلي غَلْياً مثلَ غَلْيِ الحميمِ أو يَغْليه مُشْبهاً غَلْيَ الحميمِ .

خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47)

قوله : { فاعتلوه } : قرأ نافعٌ وابنُ كثير وابن عامر بضمِّ عين « اعْتُلوه » . والباقون بكسرِها ، وهما لغتان في مضارع عَتَله أي : ساقَه بجفاءٍ وغِلْظَة ك عَرَش يَعْرِش ويَعْرُش . والعُتُلُّ : الجافي الغليظُ .

ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)

قوله : { إِنَّكَ أَنتَ } : قرأه الكسائيُّ بالفتحِ على معنى العلَّةِ أي : لأنَّك . وقيل : تقديرُه : ذُقْ عذابَ أنَّك أنت العزيزُ . والباقون بالكسرِ على الاستئنافِ المفيدِ للعلَّة ، فتتحدُ القراءاتان معنىً . وهذا الكلامُ على سبيلِ التهكمِ ، وهو أغيَظُ للمُسْتَهْزَأ به ، ومثلُه قولُ جريرٍ لشاعرٍ سَمَّى نفسه زهرةَ اليمن :
4020 ألَمْ يَكُنْ في وُسُومٍ قد وَسَمْتُ بها ... مَنْ كان موعظةً يا زهرةَ اليَمَنِ
وكان هذا الشاعرُ قد قال :
4021 أبْلِغْ كُلَيْباً وأَبْلِغْ عَنْك شاعرَها ... أنِّي الأَغَرُّ وأنِّي زهرةُ اليمنِ

فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52)

قوله : { فِي جَنَّاتٍ } : / يجوز أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ قولِه : « في مَقام » بتكرير العاملِ ، ويجوزُ أَنْ يكونَ خبراً ثانياً .

يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53)

قوله : { يَلْبَسُونَ } : يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من الضميرِ المستكِنِّ في الجارِّ ، وأَنْ يكونَ خبراً ل « إنَّ » فيتعلَّقَ الجارُّ به ، وأَنْ يكون مُسْتأنفاً .
قوله : « مُتقابلين » حالٌ مِنْ فاعلِ « يَلْبَسون » وقد تقدَّم تفسيرُ هذه الألفاظِ : السُّنْدس والإِستبرق والمقام .

كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54)

قوله : { كَذَلِكَ } : في هذه الكاف وجهان ، أحدُهما : النصبُ نعتاً لمصدرٍ أي : نفعلُ بالمتقين فعلاً كذلك أي : مِثْلَ ذلك الفعلِ . والثاني : الرفعُ على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ أي : الأمرُ كذلك . وقَدَّر أبو البقاء قبلَه جملةً حاليةً فقال : « تقديرُه : فَعَلْنا ذلك والأمرُ كذلك » ، ولا حاجةَ إليه . والوقفُ على « كذلك » ، والابتداءُ بقولِه « وزَوَّجْناهم » .
قوله : « بِحُوْرٍ عِيْنٍ » العامَّةُ على تنوين « حور » مَوْصوفين ب « عِيْن » . وعكرمة لم يُنَوِّن ، أضافهنَّ لأنهنَّ ينقسِمْنَ إلى عِيْنٍ وغيرِ عِيْنٍ . وتقدَّم تفسيرُ الحُور العين .

يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55)

قوله : { يَدْعُونَ } : حالٌ مِنْ مفعولِ « زَوَّجْناهم » ، ومفعولُه محذوفٌ أي : يَدْعُوْن الخَدَمَ بكلِّ فاكهةٍ .
قوله : « آمِنين » يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً ثانية ، وأَنْ يكونَ حالاً من فاعلِ « يَدْعُون » فتكونَ حالاً متداخلةً .

لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56)

قوله : { لاَ يَذُوقُونَ } : يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من الضميرِ في « آمِنين » ، وأَنْ يكونَ حالاً ثالثةً أو ثانيةً مِنْ مفعولِ « زَوَّجْناهم » و « آمنين » حالٌ مِنْ فاعلِ « يَدْعُون » كما تقدَّمَ ، أو صفةٌ ل « آمِنين » أو مستأنفٌ . وقرأ عمرو بن عبيد « لا يُذاقون » مبنياً للمفعول .
قوله : { إِلاَّ الموتة الأولى } فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنَّه منقطعٌ أي : لكنْ الموتةُ الأولى قد ذاقُوها . الثاني : أنه متصلٌ وتَأَوَّلوه : بأنَّ المؤمنَ عند موتِه في الدنيا بمنزلته في الجنة لمعاينة ما يُعْطاه منها ، أو لِما يَتَيَقَّنُه مِنْ نعيمِها . الثالث : أنَّ « إلاَّ » بمعنى سِوى نقله الطبريُّ وضَعَّفَه . قال ابن عطية : « وليس تَضْعيفُه بصحيحٍ ، بل هو كونُها بمعنى سِوى مستقيمٌ مُتَّسِقٌ » . الرابع : أن « إلاَّ » بمعنى بَعْد . واختاره الطبريُّ ، وأباه الجمهورُ؛ لأنَّ « إلاَّ » بمعنى بعد لم يَثْبُتْ . وقال الزمخشري : « فإنْ قلت : كيف اسْتُثْنِيَتِ الموتةُ الأُولى المَذُوْقَةُ قبلَ دخول الجنةِ مِنَ الموتِ المنفيِّ ذَوْقُه؟ قلت : أُريدَ أَنْ يُقالَ : لا يَذُوْقون فيها الموتَ البتةَ ، فوضع قولَه { إِلاَّ الموتة الأولى } مَوْضِعَ ذلك؛ لأنَّ الموتَةَ الماضيةَ مُحالٌ ذَوْقُها في المستقبل فهو من بابِ التعليقِ بالمُحال : كأنَّه قيل : إنْ كانت الموتةُ الاُولى يَسْتقيم ذَوْقُها في المستقبلِ؛ فإنَّهم يَذْوْقونها في الجنة » . قلت : وهذا عند علماءِ البيانِ يُسَمَّى نَفْيَ الشيء بدليلِه . ومثلُه قول النابغةِ :
4022 لا عَيْبَ فيهم غيرَ أنَّ سيوفَهُمْ ... بهنَّ فُلولٌ مِنْ قِراعِ الكتائبِ
يعني : إنْ كان أحدٌ يَعُدُّ فُلولَ السيوفِ مِنْ قِراع الكتائب عَيْباً فهذا عيبُهم ، لكنَّ عَدَّهُ من العيوبِ مُحالٌ ، فانتفى عنهم العيبُ بدليل تعلُّقِ الأمرِ على مُحال . وقال ابن عطية بعد ما قَدَّمْتُ حكايَته عن الطبريِّ : فَبيَّنَ أنه نَفَى عنهم ذَوْقَ الموتِ ، وأنه لا ينالُهم من ذلك غيرُ ما تقدَّم في الدنيا « . يعني أنه كلامٌ محمولٌ على معناه .
قوله : » ووَقاهم « الجمهورُ على التخفيف . وقرأ أبو حيوةَ » ووقَّاهم « بالتشديد على المبالغة ، ولا يكونُ للتعدية فإنَّه متعدٍّ إلى اثنين قبلَ ذلك .

فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57)

قوله : { فَضْلاً } : هذا مفعولٌ مِنْ أجلِه ، وهو مُرادُ مكي حيث قال : « مصدرٌ عَمِلَ فيه » يَدْعُون « . وقيل : العاملُ فيه » ووَقاهم « وقيل : آمِنين » فهذا إنما يظهر على كونِه مفعولاً مِنْ أجله . على أنَّه يجوزُ أن يكونَ مصدراً لأنَّ يَدْعُون وما بعده من باب التفضُّلِ ، فهو مصدرٌ مُلاقٍ لعاملِه في المعنى . وجَعَله أبو البقاء منصوباً بمقدر أي : تَفَضَّلْنا بذلك فَضْلاً أي : تَفَضُّلاً .

فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58)

قوله : { يَسَّرْنَاهُ } : أي : القرآن بلسانك أي بلغتك . والباءُ للمصاحبة/ .

فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)

قوله : { فارتقب إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ } : مفعولا الارتقاب محذوفان أي : فارتقب النصرَ مِنْ رَبِّك إنهم مُرْتَقِبون بك ما يتمنَّوْنَه من الدوائرِ والغوائلِ ولن يَضِيْرَك ذلك .

تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2)

بسم الله الرحمن الرحيم
قوله : { تَنزِيلُ } : قد تقدَّم مثلُه أولَ غافر . وقال أبو عبدِ الله الرازيُّ : « العزيزِ الحكيمِ إنْ كانا صفةً لله كان حقيقةً ، وإنْ كانا صفةً للكتاب كان مجازاً » . وقد رَدَّ عليه الشيخ جَعْلَه إياهما صفةً للكتاب قال : « إذ لو كان كذلك لَوَلِيَتِ الصفةُ موصوفَها فكان يُقال : تَنزيلُ الكتابِ العزيزِ الحكيمِ من الله » قال : « لأنَّ » من الله « إنْ تَعَلَّقَ ب » تَنْزيل « وتنزيل خبرٌ ل حم أو لمبتدأ محذوفٍ لَزِمَ الفَصْلُ به بين الصفة والموصوف ، ولا يجوزُ ، كما لا يجوزُ » أعجبني ضَرْبُ زيدٍ بسوطٍ الفاضلِ؛ أو في موضع الخبر ، و « تنزيلُ » مبتدأ ، فلا يجوز الفصْلُ به أيضاً لا يجوز : ضرْبُ زيدٍ شديدٌ الفاضلِ « .

وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)

قوله : { وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ } : فيه وجهان ، أظهرهما : أنه معطوفٌ على « خَلْقِكم » المجرورِ ب « في » والتقديرُ : وفي ما يَبُثُّ . والثاني : أنه معطوفٌ على الضميرِ المخفوضِ بالخَلْق ، وذلك على مذهبِ مَنْ يرى العطفَ على الضميرِ المجرورِ دونَ إعادةِ الجارِّ واستقبحه الزمخشريُّ وإنْ أُكِّد نحو : « مررتُ بك أنت وزيدٍ » يُشير بذلك إلى مذهب الجرميِّ فإنَّه يقول : إن أُكِّد جازَ ، وإلاَّ فلا ، فقولُه مذهبٌ ثالثٌ .
قوله : { آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } و { آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } قرأ « آياتٍ » بالكسر في الموضعَيْن الأخوَان ، والباقون برفعهما . ولا خلافَ في كسرِ الأولى لأنها اسمُ « إنَّ » . فأمَّا { آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } بالكسر فيجوزُ فيها وجهان ، أحدهما : أنها معطوفةٌ على اسم « إنَّ » ، والخبرُ قولُه : « وفي خَلْقِكم » . كأنه قيل : وإنَّ في خَلْقِكم وما يَبُثُّ مِنْ دابة آياتٍ . والثاني : أَنْ تكونَ كُرِّرَتْ تأكيداً لآيات الأُولى ، ويكونُ « في خَلْقكم » معطوفاً على « في السماوات » كُرِّر معه حرفُ الجَرِّ توكيداً . ونظيرُه أَنْ تقولَ : « إنَّ في بيتك زيداً وفي السوق زيداً » فزيداً الثاني تأكيدٌ للأول ، كأنك قلت : إنَّ زيداً زيداً في بيتك وفي السوق وليس في هذه عطفٌ على معمولَيْ عاملَيْن البتةَ .
وقد وَهِم أبو البقاء فجعلها مِنْ ذلك فقال : { آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } يُقرأ بكسر التاءِ ، وفيه وجهان ، أحدهما : أنَّ « إنَّ » مضمرةٌ حُذِفَتْ لدلالة « إنَّ » الأُولى عليها ، وليسَتْ « آيات » معطوفةً على « آيات » الأولى لِما فيه من العطفِ على معمولَيْ عامليْن . والثاني : أَنْ تكونَ كُرِّرَتْ للتأكيد لأنها مِنْ لفظ « آيات » الأُوْلى ، وإعرابُها كقولِك : « إن بثوبك دماً وبثوبِ زيد دماً » ف « دم » الثاني مكررٌ؛ لأنَّك مُسْتغنٍ عن ذِكْرِه « انتهى .
فقوله : » وليسَتْ معطوفةً على آياتِ الأولى لِما فيه من العطفِ على عامِلَيْن « وَهَمٌ؛ أين معمولُ العاملِ الآخر؟ وكأنه توهَّمَ أنَّ » في « ساقطةٌ مِنْ قولِه : » وفي خَلْقِكم « أو اختلطَتْ عليه { آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } بهذه؛ لأنَّ تَيْكَ فيها ما يُوْهِمُ العطفَ على عامِلَيْن وقد ذكره هو أيضاً .
وأمَّا الرفعُ فمِنْ وجهَيْن أيضاً ، أحدهما : أَنْ يكونَ » في خَلْقِكم « خبراً مقدَّماً ، و » آياتٌ « مبتدأً مؤخراً ، وهي جملةٌ معطوفةٌ على جملة مؤكدةٍ . ب » إنَّ « . والثاني : أَنْ تكون معطوفةً على » آيات « الأولى باعتبار المحلِّ عند مَنْ يُجيزُ ذلك ، لا سيما عند مَنْ يقولُ : إنه يجوز ذلك بعد الخبرِ بإجماعٍ .
وأمَّا قولُه : { واختلاف الليل والنهار } الآية فقد عَرَفْتَ أنَّ الأخَوَيْن يقرآن » آيات « بالكسرِ ، وهي تحتاج إلى إيضاحٍ ، فإن الناسَ قد تكلَّموا فيها كلاماً كثيراً ، وخرَّجوها على أوجهٍ مختلفةٍ ، وبها استدلَّ على جوازِ العطفِ على عاملين .

قلت : والعطفُ على عامِلَيْن لا يختصُّ بقراءةِ الأخوَيْن بل يجوز أَنْ يُسْتَدَلَّ عليه أيضاً بقراءة الباقين ، كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى . فأما قراءةُ الأخوين ففيها أوجهٌ ، أحدُها : أن يكونَ « اختلافِ الليلِ » مجروراً ب « في » مضمرةً ، وإنما حُذِفَتْ لتقدُّم ذكرِها مَرَّتَيْنِ ، وحرفُ الجرِّ إذا دَلَّ عليه دليلٌ/ جاز حَذْفُه وإبقاءُ عملِه . وأنشَدَ سيبويه :
4023 الآن قَرَّبْتَ تَهْجُونا وتَشْتِمُنا ... فاذهَبْ فما بك والأيامِ من عَجَبِ
تقديرُه : وبالأيام لتقدُّم الباءِ في « بك » ولا يجوزُ عَطْفُه على الكاف لأنه ليس مِنْ مذهبه - كما عَرَفْتَ - العطفُ على الضميرِ المجرورِ دونَ إعادةِ الجارِّ ، فالتقديرُ في هذه الآيةِ : « وفي اختلافِ آيات » ف « آيات » على ما تقدَّم من الوجهين في « آيات » قبلَها : العطفِ أو التأكيدِ . قالوا : ويَدُلُّ على ذلك قراءةُ عبد الله « وفي اختلافِ » تصريحاً ب « في » . فهذان وجهان .
الثالث : أَنْ يُعْطَفَ « اختلافِ » على المجرورِ ب « في » وآياتٍ على المنصوبِ ب « إنَّ » . وهذا هو العطفُ على عاملَيْنِ ، وتحقيقُه على معمولَيْ عاملين : وذلك أنَّك عَطَفْتَ « اختلاف » على خَلْق وهو مجرورٌ ب « في » فهو معمولُ عاملٍ ، وعَطَفْتَ « آياتٍ » على اسمِ « إنَّ » وهو معمولُ عاملٍ آخرَ ، فقد عَطَفْتَ بحرفٍ واحدٍ وهو الواوُ معمولين وهما « اختلاف » و « آيات » على معمولَيْن قبلَهما وهما : خَلْق وآيات . وبظاهرِها استدلَّ مَنْ جَوَّز ذلك كالأخفشِ . وفي المسألة أربعةُ مذاهب : المَنْعُ مطلقاً ، وهو مذهبُ سيبويه وجمهورِ البصريين . قالوا : لأنه يُؤَدِّي إلى إقامة حرفِ العطفِ مقامَ عاملين وهو لا يجوزُ؛ لأنه لو جاز في عامِلَيْن لجازَ في ثلاثةٍ ، ولا قائل به ، ولأنَّ حرفَ العطفِ ضعيفٌ فلا يَقْوَى أَنْ ينوبَ عن عاملَيْنِ ولأنَّ القائلَ بجوازِ ذلك يَسْتَضْعِفُه ، والأحسنُ عنده أن لا يجوزَ ، فلا ينبغي أَنْ يُحْمَلَ عليه كتابُ اللَّهِ ، ولأنه بمنزلةِ التعديتَيْنِ بمُعَدٍّ واحد ، وهو غيرُ جائزٍ .
قال ابن السراج : « العطفُ على عاملَيْن خطأٌ في القياسِ ، غيرُ مَسْموع من العرب » ثم حَمَل ما في هذه الآيةِ على التكرارِ للتأكيد . قال الرمَّاني : « هو كقولِك : » إنَّ في الدارِ زيداً والبيتِ زيداً « فهذا جائزٌ بإجماعٍ فتدبَّرْ هذا الوجهَ الذي ذكره ابنُ السراجِ فإنه حسنٌ جداً ، لا يجوزُ أَنْ يُحْمَلَ كتابُ اللَّهِ إلاَّ عليه . وقد بَيَّنْتُ القراءةَ بالكسرِ ولا عيبَ فيها في القرآن على وجهٍ ، والعطفُ على عاملَيْن عيبٌ عند مَنْ أجازه ومَنْ لم يُجِزْه ، فقد تناهى في العيب ، فلا يجوزُ حَمْلُ هذه الآيةِ إلاَّ على ما ذكره ابنُ السَّراج دون ما ذهبَ إليه غيرُه » .

قلت : وهذا الحَصْرُ منه غيرُ مُسَلَّمٍ فإنَّ في الآيةِ تخريجاتٍ أُخَرَ غيرَ ما ذكره ابن السراج يجوزُ الحَمْلُ عليها . وقال الزجاج : « ومثلُه في الشعر :
4024 أكلَّ امرِئٍ تَحْسَبين امْرَأً ... ونارٍ تَوَقَّدُ بالليلِ نارا
وأنشد الفارسيُّ للفرزدق :
4025 وباشَرَ راعيها الصَّلا بلَبانِه ... وجَنْبَيْه حَرَّ النارِ ما يتحرَّق
وقول الآخر :
4026 أَوْصَيْتُ مِنْ رُبْدَةَ قَلْباً حُرَّاً ... بالكلبِ خيراً والحَماةِ شَرا
قلت : أمَّا البيتُ الأولُ فظاهرُه أنه عَطَفَ و » نارٍ « على » امرئ « المخفوض ب » كل « و » ناراً « الثانية على » امرَأ « الثاني . والتقدير : وتحسبين كلَّ نارٍ ناراً ، فقد عطف على معمولَيْ عاملَيْن . والبيتُ الثاني عَطَفَ فيه » جَنْبَيْه « على » بلبانه « وعَطَفَ » حَرَّ النارِ « على » الصلا « ، والتقدير : وباشر بجَنْبَيْه حرَّ النار ، والبيتُ الثالث عَطَفَ فيه » الحَماة « على » الكلب « و » شَرًّا « على » خيراً « ، تقديرُه وأَوْصَيْتُ بالحَماة شراً . وسيبويه في جميع ذلك يرى الجرَّ بخافضٍ مقدرٍ لكنه عُورض : بأنَّ إعمال حرفِ الجرِّ مضمراً ضعيفٌ جداً ، ألا ترى أنَّه لا يجوزُ » مررتُ زيدٍ « بخفضِ » زيد « إلاَّ في ضرورةٍ كقولِه :
4027 إذا قيلَ أيُّ الناسِ شرُّ قبيلةٍ ... أشارَتْ كليبٍ بالأكفِّ الأصابعُ
يريد : إلى كليب ، وقولِ الآخر :
4028- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... حتى تَبَذَّخَ فارتقى الأعلامِ
أي إلى الأعلام ، فقد فَرَّ مِنْ شيءٍ فوقَع في أضعفَ منه . وأُجيب عن ذلك : بأنه لَمَّا تَقَدَّم ذِكْرُ الحرف في اللفظِ قَوِيَتِ الدلالةُ عليه ، فكأنَّه ملفوظٌ به بخلافِ ما أَوْرَدْتموه في المثالِ والشعر .
والمذهب الثاني : التفصيلُ - وهو مذهب الأخفش - وذلك أنَّه يجوز بشرطَيْنِ ، أحدُهما : أَنْ يكونَ أحدُ العاملَيْن جارًّا . والثاني : أن يتصلَ المعطوفُ بالعاطفِ أو يُفْصَلَ بلا ، مثالُ الأولِ الآيةُ الكريمةُ والأبياتُ التي قَدَّمْتُها . ولذلك استصوب المبردُ استشهادَه بالآيةِ . ومثالُ الفَصْل ب لا قولك : » ما في الدارِ زيدٌ ولا الحجرةِ عمروٌ « ، فلو فُقِدَ الشرطانِ نحو : إنَّ/ زيداً شَتَمَ بِشْراً ، وواللَّهِ خالداً هنداً ، أو فُقِدَ أحدُهما نحو : إنَّ زيداً ضربَ بَكْراً ، وخالداً بشراً . فقد نَقَلَ ابنُ مالكٍ الامتناعَ عند الجميعِ . وفيه نظرٌ لِما سَتَعْرِفُه من الخلافِ .
الثالث : أنَّه يجوزُ بشرطِ أَنْ يكونَ أحدُ العامِلَيْنِ جارَّاً ، وأَنْ يكونَ متقدماً ، نحوَ الآيةِ الكريمةِ ، فلو لم يتقدَّمْ نحوَ : » إنَّ زيداً في الدار ، وعمراً السوقِ « لم يَجُزْ ، وكذا لو لم يكنْ حرفَ جرٍّ كما تقدَّمَ تمثيلُه .
الرابع : الجوازُ ، ويُعْزَى للفَرَّاء .
الوجهُ الرابعِ من أوجهِ تخريجِ القراءةِ المذكورة : أَنْ تنتصِبَ » آيات « على الاختصاصِ .

قاله الزمخشريُّ ، وسيأتي فيما أَحْكيه عنه .
وأمَّا قراءةُ الرفعِ ففيها أوجهٌ ، أحدُها : أَنْ يكونَ الأولُ والثاني ما تقدَّم في { آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } . الثالث : أَنْ تكونَ تأكيداً لآيات التي قبلها ، كما كانَتْ كذلك في قراءةِ النصبِ . الرابع : أَنْ تكونَ المسألةُ من بابِ العطفِ على عامِلَيْن؛ وذلك أنَّ « اختلافِ » عطفٌ على « خَلْقِكم » وهو معمولٌ ل « في » و « آيات » معطوفةٌ على « آيات » قبلَها ، وهي معمولةٌ للابتداءِ فقد عَطَفَ على معمولَيْ عامِلَيْنِ في هذه القراءةِ أيضاً . قال الزمخشري : « قُرِئَ { آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } بالرفع والنصبِ على قولِك : » إنَّ زيداً في الدار وعمراً في السوقِ ، أو وعمروٌ في السوق « . وأمَّا قولُه : { آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } فمن العطفِ على عامِلَيْنِ سواءً نَصَبْتَ أم رَفَعْتَ فالعاملان في النصبِ هما : » إنَّ « ، و » في « أُقيمت الواوُ مُقامَهما فعَمِلَتْ الجرَّ في و { واختلاف اليل والنهار } والنصبَ في » آياتٍ « . وإذا رَفَعْتَ فالعاملانِ : الابتداءُ ، و » في « عملت الرفع في » آيات « والجرَّ في » اختلاف « » . ثم قال في توجيهِ النصبِ : « والثاني أَنْ ينتصِبَ على الاختصاصِ بعد انقضاءِ المجرور » .
الوجهُ الخامسُ أَنْ يرتفعَ « آياتٌ » على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ أي : هي آياتٌ . وناقَشَه الشيخُ فقال : « ونسبةُ الجرِّ والرفعِ ، والجرِّ والنصبِ للواوِ ليس بصحيحٍ؛ لأنَّ الصحيحَ من المذاهبِ أنَّ حرفَ العطفِ لا يعملُ » قلت : وقد ناقشه الشيخُ شهابُ الدين أبو شامةَ أيضاً فقال : « فمنهم مَنْ يقولُ : هو على هذه القراءةِ أيضاً - يعني قراءةَ الرفعِ - عطفٌ على عاملَيْنِ وهما حرفُ » في « ، والابتداءُ المقتضي للرفعِ . ومنهم مَنْ لا يُطْلِقُ هذه العبارةَ في هذه القراءةِ؛ لأنَّ الابتداءَ ليس بعاملٍ لفظي » .
وقُرئ « واختلافُ » بالرفعِ « آيةٌ » بالرفعِ والتوحيدِ على الابتداء والخبر ، وكذلك قُرئ { وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٌ آيةٌ } بالتوحيد . وقرأ زيد بن علي وطلحة وعيسى « وتصريف الريح » كذا قال الشيخ . قلت وقد قرأ بهذه القراءةِ حمزةُ والكسائيُّ أيضاً ، وقد تقدَّم ذلك في سورةِ البقرةِ .

تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)

قوله : { نَتْلُوهَا } : يجوز أَنْ يكونَ خبراً ل « تلك » و « آيات الله » بدلٌ أو عطفُ بيانٍ . ويجوزُ أَنْ تكونَ « تلك آيات » مبتدأً أو خبراً ، و « نَتْلُوها » حالٌ . قال الزمخشري : « والعاملُ ما دَلَّ عليه » تلك « مِنْ معنى الإِشارةِ ونحوُه : { وهذا بَعْلِي شَيْخاً } [ هود : 72 ] . قال الشيخ : » وليس نحوَه؛ لأنَّ في { وهذا بَعْلِي شَيْخاً } [ هود : 72 ] حرفَ تنبيه . وقيل : العاملُ في الحالِ ما دَل عليه حرفُ التنبيهِ أي : تَنَبَّهْ . وأمَّا « تلك » فليس فيها حرفُ تنبيهٍ؛ فإذا كان حرفُ التنبيهِ عاملاً بما فيه مِنْ معنى التنبيهِ ، لأنَّ الحرفَ قد يَعْمَلُ في الحال ، فالمعنى : تَنَبَّه لزيدٍ في حال شيخِه أو في حال قيامِه . وقيل : العاملُ في مثل هذا التركيبِ فعلٌ محذوفٌ يَدُلُّ عليه المعنى ، أي : انظرْ إليه في حالِ شيخه ، ولا يكون اسمُ الإِشارةِ عاملاً ولا حرفُ التنبيهِ إنْ كان هناك .
قلت : بل الآيةُ نحوَ { وهذا بَعْلِي شَيْخاً } [ هود : 72 ] من حيثيةِ نسبةِ العملِ لاسمِ الإِشارةِ . غايةُ ما ثَمَّ أنَّ في الآيةِ الأخرى ما يَصْلُحُ أَنْ يكونَ عاملاً ، وهذا لا يَقْدَحُ في التنظيرِ إذا قَصَدْتَ جهةً مشتركةً . وأمَّا إضمارُ الفعلِ فهو مشتركٌ في الموضعَيْن عند مَنْ يَرَى ذلك . قال ابنُ عطيَة : « وفي » نتْلوها « حَذْفُ مضافٍ أي : نَتْلُوْ شَأْنَها وشَرْحَ العِبْرَةِ فيها . ويُحتمل أَنْ يريدَ بآيات الله القرآنَ المنزَّلَ في هذا المعنى ، فلا يكونُ فيها حَذْفُ مضافٍ » / وقرأ بعضُهم « يَتْلوها » بياءِ الغَيْبةِ عائداً على الباري تعالى . و « بالحَقِّ » حالٌ من الفاعل أي : مُلْتَبسِينَ بالحق ، و من المفعولِ أي : مُلْتَبسةً بالحقِّ . ويجوزُ أَنْ تكونَ للسببيَّةِ فتتعلَّقَ بنفس « نَتْلوها » .
قوله : { بَعْدَ الله وَآيَاتِهِ } . قال الزمخشريُّ : « أي : بعد آياتِ اللَّهِ فهو كقولِكَ : أَعْجبني زيدٌ وكرمُه تريدُ كرمَ زيدٍ » . ورَدَّ عليه الشيخُ : بأنَّه ليس مُراداً ، بل المرادُ إعجابان ، وبأنَّ فيه إقحامَ الأسماءِ مِنْ غيرِ ضرورة . قال : « وهذا قَلْبٌ لحقائقِ النحو » .
وقرأ الحرميَّان وأبو عمروٍ وعاصمٌ في روايةٍ « يُؤْمنون » بياء الغيبة . والباقون بتاءِ الخطاب . وقوله : « فبأيِّ » متعلِّقٌ به ، قُدِّم لأنَّ له صدرَ الكلامِ .

يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8)

قوله : { يَسْمَعُ } : يجوزُ فيه أَنْ يكونَ مستأنفاً أي : هو يَسْمَعُ ، أو دونَ إضمارِ « هو » ، وأَنْ يكونَ حالاً من الضمير في « أثيم » وأَنْ يكونَ صفةً .
قوله : « تُتْلَى عليه » حالٌ مِنْ « آياتِ الله » ولا يَجيْءُ فيه الخلافُ : وهو أنه يجوزُ أَنْ يكونَ في محلِّ نصبٍ مفعولاً ثانياً؛ لأنَّ شرطَ ذلك أَنْ يقعَ بعدها ما لا يُسْمَعُ نحو : « سمعت زيداً يقرأ » . أمَّا إذا وقع بعدها ما يُسْمَعُ نحو : « سمعتُ قراءةَ زيدٍ يترنَّم بها » فهي متعدية لواحدٍ فقط ، والآياتُ مِمَّا يُسْمَعُ .
قوله : « ثم يُصِرُّ » قال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : ما معنى » ثم « في قوله : { ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً } ؟ قلت : كمعناه في قولِ القائل :
4029 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... يرى غَمَراتِ الموتِ ثم يزورُها
وذلك أنَّ غمراتِ الموتِ حقيقةٌ بأَنْ ينجوَ رائيها بنفسِه ويطلبَ الفِرارَ منها ، وأمَّا زَوْراتُها والإِقدامُ على مزاوَلَتِها فأمرٌ مُسْتَبْعَدٌ . فمعنى » ثم « الإِيذانُ بأنَّ فِعْلَ المُقْدِمِ عليها بعدما رآها وعاينها شيءٌ يُسْتَبْعَدُ في العاداتِ والطباعِ ، وكذلك آياتُ اللَّهِ الواضحةُ الناطقةُ بالحق . فَمَنْ تُلِيَتْ عليه وسَمِعها كان مُسْتَبْعَداً في القول إصرارُه على الضلالةِ عندها واستكبارُه عن الإِيمان بها » .
قوله : { كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا } هذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكون مستأنفةً ، وأَنْ تكونَ حالاً .

وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9)

قوله : { وَإِذَا عَلِمَ } : العامَّةُ على فتح العينِ وكسرِ اللامِ خفيفةً مبنياً للفاعلِ . وقتادة ومطر الوراق « عُلِّم » مبنياً للمفعول مشدَّداً .
قوله : « اتَّخَذها » الضميرُ المؤنث فيه وجهان ، أحدهما : أنه عائد على « آياتِنا » . والثاني : أنه يعودُ على « شيئاً » وإنْ كان مذكراً؛ لأنه بمعنى الآية كقول أبي العتاهية :
4030 نفْسي بشيءٍ من الدنيا مُعَلَّقَةٌ ... اللَّهُ والقائمُ المهدِيُّ يَقْضِيها
لأنه أراد ب « شيء » جاريةً يقال لها : عُتْبَة .
قوله : « أولئك » إشارةٌ إلى معنى « كلِّ أَفَّاكٍ » حُمِل أولاً على لفظها فَأُفْرِدَ ، ثم على معناها فَجُمِعَ كقولِه : { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } [ المؤمنون : 53 ] .
قوله : { وَلاَ مَا اتخذوا } عطف على « ما كَسَبوا » ، و « ما » فيهما : إمَّا مصدريةٌ أو بمعنى الذي أي : لا يُغْني كَسْبُهُمْ ولا اتِّخاذُهم ، أو الذي كَسَبُوه ولا الذي اتَّخذوه .

هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)

وقوله : { مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ } : قد ذُكِر في سبأ .

وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)

قوله : { جَمِيعاً مِّنْهُ } : « جميعاً » حالٌ مِنْ { مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } أو توكيدٌ . وقد عدَّها ابنُ مالكٍ في ألفاظِه . و « منه » يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ صفةً ل « جميعاً » ، وأَنْ يتعلَّقَ ب « سَخَّر » أي : هو صادرٌ مِنْ جهته ومِنْ عندِه . وجَوَّزَ الزمخشريُّ في « منه » أَنْ يكونَ خبرَ ابتداءٍ مضمرٍ أي : هي جميعاً منه ، وأَنْ تكونَ { وَمَا فِي الأرض } مبتدأً ، و « منه » خبرَه . قال الشيخ : « وهذان لا يجوزان إلاَّ على رَأْيِ الأخفش مِنْ حيث إنَّ الحالَ تَقدَّمَتْ بمعنى جميعاً ، فقُدِّمَتْ على عاملِها المعنويِّ ، يعني الجارَّ ، فهي نظيرُ : » زيد قائماً في الدار « . والعامَّةُ على » مِنْه « جارّاً ومجروراً . [ وقرأ ] ابن عباس بكسرِ الميمِ وتشديدِ النونِ ونصبِ التاءِ ، جعله مصدراً مِنْ : مَنَّ يَمُنَّ مِنَّةً ، فانتصابُه عنده على المصدرِ المؤكِّد : إمَّا بعاملٍ مضمرٍ ، وإمَّا بسَخَّر؛ لأنَّه بمعناه . قال أبو حاتم : » سَندُ هذه القراءةِ إلى ابنِ عباسِ مظلمٌ « . قلت : قد رُوِيَتْ أيضاً عن جماعة جِلَّةٍ غيرِ ابنِ عباس ، فنقلها ابنُ خالويه عنه وعن عبيد بن عمير ، ونقلها صاحبُ » اللوامح « وابنُ جني ، عن ابن عباس وعبد الله بن عمرو والجحدري وعبد الله بن عبيد بن عمير .
وقرأ مَسْلمة بن محارب كذلك ، إلاَّ أنَّه رفع التاءَ جَعَلَها خبرَ ابتداءٍ مضمرٍ أي : هي منه . وقرأ أيضاً في روايةٍ أخرى بفتحِ الميم وتشديدِ النون وهاءِ كنايةٍ مضمومة ، جعله مصدراً مضافاً لضمير الله تعالى .
ورَفْعُه من وجهين ، أحدهما بالفاعلية ب » سَخَّر « أي : سَخَّر لكم هذه الأشياءَ مَنُّه عليكم . والثاني : أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي : هو ، أو ذلك مَنُّه عليكم .

قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)

قوله : { قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ } : قد تقدَّم نظيرُه في سورة إبراهيم .
قوله : « ليَجْزِيَ » قرأ ابنُ عامر والأخَوان « لنجزيَ » بنونِ العظمةِ أي : لنجزيَ نحن . وباقي السبعة « ليجزِيَ » بالياء مِنْ تحتُ مبنياً للفاعلِ أي : ليجزيَ اللَّهُ . وأبو جعفر بخلافٍ عنه وشيبةُ وعاصم في روايةٍ كذلك ، إلاَّ أنه مبنيٌّ للمفعولِ . هذا مع نصبِ « قوماً » . / وفي القائمِ مَقامَ الفاعلِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : ضميرُ المفعولِ الثاني عادَ الضميرُ عليه لدلالةِ السِّياقِ تقديرُه : ليُجْزَى هو أي : الخيرُ قوماً . والمفعول الثاني مِنْ بابِ « أَعْطى » يقومُ مَقامَ الفاعلِ بلا خلافٍ . ونظيرُه : « الدرهمُ أُعْطي زيداً » . الثاني : أنَّ القائمَ مقامَه ضميرُ المصدرِ المدلولِ عليه بالفعلِ أي : ليُجْزَى الجزاءُ . وفيه نظر؛ لأنه لا يُتْرَكُ المفعول به ويُقام المصدرُ ولا سيما مع عَدَم التصريحِ به . الثالث : أنَّ القائمَ مَقامَه الجارُّ والمجرورُ . وفيه حُجَّةٌ للأخفشِ والكوفيين ، حيث يُجيزون نيابةَ غيرِ المفعولِ به مع وجودِه وأنشدوا :
4031 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... لَسُبَّ بذلك الجَرْوِ الكِلابا
[ وقوله ] :
4032 لم يُعْنَ بالعلياءِ إلاَّ سَيِّدا ... والبصريون لا يُجيزونه .

ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18)

قوله : { على شَرِيعَةٍ } : هو المفعولُ الثاني ل « جَعَلْناك » . والشريعةُ في الأصلِ : ما يَرِدُه الناسُ من المياهِ في الأنهارِ . يقال لذلك الموضع : شَرِيعة . والجمعُ شرائِع قال :
4033 وفي الشَّرائِع مِنْ جَيْلانَ مُقْتَنِصٌ ... رَثُّ الثيابِ خَفِيُّ الشخصِ مُنْسَرِبُ
فاسْتُعير ذلك للدين لأنَّ العبادَ يَرِدُوْن ما تَحْيا به نفوسُهم .

هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)

قوله : { هذا بَصَائِرُ } : أي : هذا القرآنُ . جمعُ « بَصيرة » باعتبارِ ما فيه . وقُرِئ « هذه » رُجوعاً إلى الآياتِ؛ ولأنَّ القرآنَ بمعناها كقولِه :
4034 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... سائِلْ بني أَسَدٍ ما هذه الصَّوْتُ
لأنه بمعنى الصيحة .

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)

قوله : { أَمْ حَسِبَ } : « أم » منقطعةٌ ، فَتُقَدَّر ب بل والهمزةِ ، أو ب بل وحدها ، أو بالهمزة وحدَها . وتقدم تحقيق هذا .
قوله : { كالذين آمَنُواْ } : هو المفعولُ الثاني للجَعْل أي : أَنْ نجعلَهم كائنين كالذين آمنوا أي : لا يَحْسَبُوْن ذلك ، وقد تَقَدَّمَ في سورة الحج : أنَّ الأخَوَيْن وحفصاً قرؤُوا هنا « سواءً » بالنصب ، والباقون بالرفع ، ووَعَدْتُ بالكلام عليه هنا ، فأقول وبالله التوفيق : أمَّا قراءةُ النصبِ ففيها ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أَنْ تَنْتَصِبَ على الحالِ من الضميرِ المستترِ في الجارِّ والمجرورِ وهما : « كالذين آمنوا » ، ويكونُ المفعولُ الثاني للجَعْل « كالذين آمنوا » أي : أحَسِبوا أَنْ نَجْعَلَهم مثلَهم في حالِ استواءِ مَحْياهم ومماتِهم ليس الأمرُ كذلك . الثاني : أَنْ يكونَ « سواءً » هو المفعولَ الثاني للجَعْل ، و « كالذين » في محلِّ نصبٍ على الحال أي : لن نجعلَهم حالَ كونِهم مثلَهم سواءً ، وليس معناه بذاك . الثالث : أَنْ يكونَ « سواءً » مفعولاً ثانياً ل « حَسِب » .
وهذا الوجهُ نحا إليه أبو البقاء ، وأظنُّه غَلَطاً لِما سَيَظْهَرُ لك فإنَّه قال : « ويُقْرأ بالنصب . وفيه وجهان ، أحدهما : هو حالٌ من الضميرِ في الكافِ أي : نجعلَهم مثلَ المؤمنين في هذه الحالِ . والثاني : أَنْ يكونَ مفعولاً ثانياً ل » حَسِب « والكافُ حالٌ ، وقد دَخَلَ استواءُ مَحْياهم وممَاتُهم في الحُسْبان ، وعلى هذا الوجهِ مَحْياهم ومماتُهم مرفوعان ب » سَواء «؛ لأنَّه قد قَوِيَ باعتمادِه » انتهى . فقد صَرَّح بأنه مفعولٌ ثانٍ للحُسْبان . وهذا لا يَصِحُّ البتةَ؛ لأنَّ « حَسِبَ » وأخواتِها إذا وَقَعَ بعدها « أنَّ » المشددةُ أو « أَنْ » المخففةُ أو الناصبةُ سَدَّتْ مَسَدَّ المفعولين ، وهنا قد وَقع بعد الحُسْبان « أنْ » الناصبةُ فهي سادَّةٌ مَسَدَّ المفعولَيْنِ ، فَمِنْ أين يكونُ « سواءً » مفعولاً ثانياً ل حَسِب؟
فإنْ قلتَ : هذا الذي قُلْتُه رأيُ الجمهورِ سيبويهِ وغيرِه ، وأمَّا غيرُهم كالأخفشِ فيدَّعي أنها تَسُدُّ مَسَدَّ واحدٍ . إذا تقرَّر هذا فقد يجوزُ أنَّ أبا البقاءِ ذَهَبَ هذا المذهبَ ، فأعرب « أَنْ نجعلَهم » مفعولاً أولَ و « سواءً » مفعولاً ثانياً . فالجواب : أنَّ الأخفشَ صَرَّحَ بأنَّ المفعولَ الثاني حينئذٍ يكونُ محذوفاً . ولَئِنْ سَلَّمْنا أنَّه لا يُحْذَفُ امتنع مِنْ وجهٍ آخرَ : وهو أنه قد رفع به « محياهُم ومماتُهم » لأنه بمعنى مُسْتَوٍ كما تقدَّم ، ولا ضميرَ يَرْجِعُ مِنْ مرفوعِه إلى المفعولِ الأولِ ، بل رَفَعَ أجنبياً من المفعولِ الأولِ . وهو نظيرُ : « حَسِبْتُ قيامَك مُسْتوياً ذهابُك وعَدَمُه » .
ومَنْ قرأ بالرفع فتحتمل قراءتُه وجهَيْن ، أحدهما : أَنْ يكونَ « سواءٌ » خبراً مقدماً . و « مَحْياهم » مبتدأً مؤخراً/ ويكون « سواء » مبتدأً و « مَحْياهم » خبرَه .

كذا أعربوه . وفيه نظرٌ تقدَّم في سورة الحج وهو : أنَّه نكرةٌ لا مُسَوِّغ فيها ، وأنه متى اجتمع معرفةٌ ونكرةٌ جَعَلْتَ النكرةَ خبراً لا مبتدأً . ثم في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنَّها استئنافية . والثاني : أنها بدلٌ من الكافِ الواقعةِ مفعولاً ثانياً . قال الزمخشري : « لأنَّ الجملةَ تقع مفعولاً ثانياً فكانَتْ في حكمِ المفردِ . ألا تراكَ لو قُلْتَ : أن نجعلَهم سواءٌ مَحْياهم ومماتُهم ، كان سديداً ، كما تقول : ظننتُ زيداً أبوه منطلقٌ » . قال الشيخ : « وهذا - أَعْني إبدالَ الجملة من المفرد - أجازه ابنُ جني وابنُ مالك ، ومنعَه ابنُ العِلْجِ » ، ثم ذكر عنه كلاماً كثيراً في تقرير ذلك ثم قال : « والذي يَظْهَرُ أنه لا يجوزُ » ، يعني ما جَوَّزه الزمخشريُّ قال : « لأنَّها بمعنى التصييرِ ولا يجوزُ : » صَيَّرْتُ زيداً أبوه قائمٌ « لأنَّ التصييرَ انتقالٌ من ذاتٍ إلى ذاتٍ ، أو من وصفٍ في الذاتِ إلى وصفٍ فيها . وتلك الجملةُ الواقعةُ بعد مفعولِ » صَيَّرْت « المقدرةُ مفعولاً ثانياً ليس فيها انتقالٌ مما ذكرْنا فلا يجوز » . قلت : ولِقائلٍ أَنْ يقولَ : بل فيها انتقالٌ مِنْ وصفٍ في الذاتِ إلى وصفٍ فيها؛ لأنَّ النحاة نَصُّوا على جوازِ وقوع الجملةِ صفةً وحالاً نحو : مررتُ برجلٍ أبوه قائمٌ ، وجاء زيدٌ أبوه قائم . فالذي حكموا عليه بالوصفيَّةِ والحاليةِ يجوزُ أَنْ يقعَ في حَيِّز التَّصْيير؛ إذ لا فَرْقَ بين صفةٍ وصفةٍ من هذه الحيثيَّة .
الثالث : أن تكونَ الجملةُ حالاً ، التقدير : أم حَسِبَ الكفار أَنْ نُصَيِّرهم مثلَ المؤمنين في حالِ استواءِ محياهم ومماتِهم ، ليسوا كذلك بل هم مُفْترقون . وهذا هو الظاهر عند الشيخِ . وعلى الوجهين الأخيرين تكونُ الجملةُ داخلةً في حَيِّز الحُسْبانِ . وإلى ذلك نحا ابن عطية فإنه قال : « يَقْتضي هذا الكلامُ أنَّ لفظَ الآية خبرٌ ، ويظهر أنَّ قولَه : { سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ } داخلٌ في المَحْسَبَةِ المُنْكَرَةِ السيئةِ ، وهذا احتمالٌ حسن والأولُ جيدٌ » انتهى . ولم يبين كيفيةَ دخولِه في الحُسْبانِ ، وكيفيَّةُ أحدِ الوجهين الأخيرَيْن : إما البدلِ وإمَّا الحاليةِ كما عَرَفْتَه .
وقرأ الأعمشُ « سواءً » نصباً « مَحْياهم ومَماتَهم » بالنصب أيضاً . فأمَّا « سواءً » فمفعولٌ ثانٍ أو حالٌ كما تقدَّم . وأمَّا نصب « مَحْياهم ومماتَهم » ففيه وجهان ، أحدهما : أَنْ يكونا ظَرْفَيْ زمانٍ ، وانتصبا على البدلِ مِنْ مفعولِ « نَجْعَلَهم » بدلِ اشتمال ، ويكون « سواءً » على هذا هو المفعولَ الثاني . والتقدير : أن نجعلَ محياهم ومماتَهم سواءً . والثاني : أَنْ ينتصِبا على الظرفِ الزمانيِّ . والعاملُ : إمَّا الجَعْلُ أو سواء . والتقدير : أَنْ نجعلَهم في هذَيْن الوقتَيْن سواءً ، أو نجعلَهم مُسْتَوِين في هذين الوقتين .
قال الزمخشري مقدِّراً لهذا الوجه : « ومَنْ قرأ بالنصبِ جَعَلَ » مَحْياهم ومماتَهم « ظَرْفَيْنِ كمَقْدَمِ الحاجِّ وخُفوقِ النجم » .

قال الشيخ : « وتمثيلُه بخُفوق النجم ليس بجيدٍ؛ لأنَّ » خُفوقَ « مصدرٌ ليس على مَفْعَل فهو في الحقيقةِ على حَذْفِ مضافٍ أي : وقتَ خُفوقِ بخلاف مَحْيا ومَمات ومَقْدَم فإنها موضوعةٌ على الاشتراك بين ثلاثةِ معانٍ : المصدريةِ والزمانيةِ والمكانيةِ . فإذا اسْتُعْملت مصدراً كان ذلك بطريق الوَضْعِ لا على حَذْفِ مضافٍ كخُفوق؛ فإنه لا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ لكونِه موضوعاً للمصدرية » . وهذا أمرٌ قريبٌ لأنَّه إنما أراد أنه وَقَع هذا اللفظُ مُراداً به الزمانُ . أمَّا كونُه بطريق الأصالةِ أو الفرعيةِ فلا يَضُرُّ ذلك .
والضميرُ في « مَحْياهم ومماتُهم » يجوزُ أَنْ يعودَ على القَبِيْلَيْنِ بمعنى : أنَّ مَحْيا المؤمنين ومماتَهم سواءٌ عند الله في الكرامةِ ، ومَحْيا المجترحين ومماتَهم سواءٌ في الإِهانةِ عنده ، فَلَفَّ الكلام اتِّكالاً على ذِهْنِ السَّامع وفهمِه . ويجوزُ أَنْ يعودَ على المُجْترحين فقط . أَخْبَرَ أَنَّ حالَهم في الزمانَيْن سواءٌ .
قال أبو البقاء : « ويُقْرَأُ » مَماتَهم « بالنصب أي : في مَحْياهم ومماتَهم . والعاملُ » نَجْعل « أو سواء . وقيل : هو ظرفٌ » . قلت : قوله : « وقيل » هو القولُ الأولُ بعينِه .
قوله : { سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } قد تقدَّم إعرابُه . وقال ابنُ عطيةَ هنا : « ما » مصدريةٌ أي : ساء الحكمُ حُكْمُهم .

وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22)

قوله : { بالحق } : فيه ثلاثةُ أوجهٍ : حالٌ من الفاعلِ أو من المفعول أو الباءُ للسببيَّة .
قوله : « ولِتُجْزَى » فيه ثلاثةُ أوجهٍ : أَنْ يكونَ عطفاً على « بالحق » في المعنى؛ لأنَّ كلاً منهما سببٌ/ فعطفَ العلَة على مثلها . الثاني : أنَّها معطوفةٌ على مُعَلَّلٍ محذوفٍ تقديرُه : لِيَدُلَّ بها على الدلالةِ على قُدْرَتِه « ولتُجْزَى . الثالث : أنْ تكونَ لامَ الصيرورةِ أي : وصار الأمرُ منها مِنْ حيث اهْتدى بها قومٌ وضَلَّ عنها آخرون .

أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)

قوله : { أَفَرَأَيْتَ } : بمعنى : أَخْبِرْني ، وتقدَّم حكمُها مشروحاً . والمفعولُ الأولُ « مَنْ اتَّخذ » ، والثاني محذوف ، تقديره بعد غشاوة : أيهتدي ، ودَلَّ عليه قولُه : « فَمَنْ يهْديه » وإنما قَدَّرْتَه بعد غشاوة لأجلِ صلاتِ الموصولِ .
قوله : « على عِلْمٌ » حالٌ من الجلالةِ أي : كائناً على علمٍ منه فيه أنَّه أهلٌ لذلك . وقيل : حالٌ من المفعول أي : أضلَّه وهو عالِمٌ ، وهذا أشنعُ له .
وقرأ الأعرجُ « آلهةً » على الجمع ، وعنه كذلك مضافة لضميره : « آلهتَه هواه » .
قوله : « غِشاوة » قرأ الأخَوان « غَشْوَة » بفتح الغين وسكونِ الشين . والأعمشُ وابن مصرف كذلك إلاَّ أنَّهما كسرا الغَيْنَ . وباقي السبعة « غِشاوة » بكسر الغين . وابنُ مسعود والأعمشُ أيضاً بفتحها ، وهي لغةُ ربيعةَ . والحسن وعكرمة وعبد الله أيضاً بضمِّها ، وهي لغةُ عُكْلية . وتقدَّم الكلامُ في ذلك أولَ البقرة ، وأنَّه قُرئ هناك بالعين المهملة . والعامَّةُ : « تَذَكَّرون » بالتشديد والجحدريُّ بتخفيفها . والأعمش بتاءَيْن « تَتَذَكَّرون » .
قوله : { مِن بَعْدِ الله } أي : مِنْ بعد إضلالِ الله إياه .

وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24)

قوله : { وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا } : تقدَّم نظيرُ هذه الآياتِ كلِّها . وقرأ زيد بن علي « نُحْيا » بضمِّ النون .

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25)

قوله : { مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ } : العامَّةُ على نصب الحجة . وزيد بن علي وعمرو بن عبيد وعبيد بن عمير بالرفع وتقدَّمَ تأويلُ ذلك ، و « ما كان » جوابُ « إذا » الشرطية . وجعله الشيخُ دليلاً على عدمِ إعمالِ جواب « إذا » فيها؛ لأن « ما » لا يعمل ما بعدها فيما قبلها قال : « وخالفَتْ غيرَها مِنْ أدواتِ الشرطِ ، حيث لم تقترنْ الفاءُ بجوابِها إذا نُفِي ب » ما « .

وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27)

قوله : { وَيَوْمَ تَقُومُ } : في عامِله وجهان ، أحدُهما : أنه « يَخْسَرُ » ويومئذٍ بدلٌ مِنْ « يومَ تَقومُ » ، التنوينُ على هذا تنوينُ عوضٍ من جملةٍ مقدرةٍ ، ولم يتقدَّم من الجمل إلاَّ « تقومُ الساعةُ » فيصير التقديرُ : ويومَ تقومُ الساعةُ يومئذٍ تقومُ الساعةُ . وهذا الذي قَدَّروه ليس فيه مزيدُ فائدةٍ ، فيكونُ بدلاً توكيدياً . والثاني : أن العاملَ فيه مقدرٌ . قالوا : لأنَّ يومَ القيامةِ حالةٌ ثالثةٌ ليسَتْ بالسماءِ ولا بالأرضِ؛ لأنهما يتبدَّلان فكأنه قيل : ولله مُلْكُ السماواتِ والأرضِ ، والمُلْكُ يومَ تقومُ . ويكون قولُه « يومئذ » معمولاً ليَخْسَرُ . والجملةُ مستأنفةٌ من حيث اللفظُ ، وإنْ كان لها تعلُّقٌ بما قبلَها مِنْ حيث المعنى .

وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)

قوله : { جَاثِيَةً } : حالٌ؛ لأنَّ الظاهرَ أنَّ الرؤيةَ بَصَرِيَّة . والجاثية أي : على الرُّكَبِ؛ لأنَّها خائفةٌ والمذنبُ مُسْتَوْفِزٌ . وقيل : مجتمعةً ، ومنه : الجُثْوَةُ للقَبْر لاجتماع الأحجارِ عليه . قال :
4035 تَرَى جُثْوَتَيْنِ مِنْ تُرابٍ عليهما ... صَفائِحٌ صُمٌّ مِنْ صَفِيْحٍ مُنَضَّدِ
وقُرِئ « جاذِيَةً » بالذال المعجمة ، وهو أشدُّ اسْتيفازاً من الجاثي .
قوله : « كلُّ أمةٍ » العامَّةُ على الرفعِ بالابتداءِ . و « تُدْعى » خبرُها . ويعقوب بالنصبِ على البدلِ مِنْ « كُلُّ أمة » الأولى بدلِ نكرةٍ موصوفةٍ مِنْ مِثْلها .
قوله : « اليومَ تُجْزَوْن » هذه الجملةُ معمولةٌ لقولٍ مضمرٍ التقديرُ : يُقال لهم : اليومَ تُجْزَوْن . واليومَ معمولٌ لِما بعدَه « وما كُنتم » هو المفعولُ الثاني .

هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29)

قوله : { يَنطِقُ } : يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً ، وأَنْ يكونَ خبراً ثانياً ، وأَنْ يكونَ « كتابُنا » بدلاً و « يَنْطِقُ » خبرٌ وحده . و « بالحق » حال .

وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31)

قوله : { أَفَلَمْ } : هو على إضمارِ القولِ أيضاً . وقدَّر الزمخشريُّ على عادتِه جملةً بين الهمزةِ والفاءِ أي : ألَمْ تَأْتِكم رُسُلي فلم تكنْ آياتي .

وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32)

قوله : { إِنَّ وعْدَ الله } : العامَّةُ على كسرِ الهمزةِ : لأنها مَحْكِيَّةٌ بالقولِ . والأعرج وعمرو بن فائد بفتحها . وذلك مُخَرَّجٌ على لغة سُلَيْمٍ : يُجْرُون القولَ مُجْرى الظنِّ مطلقاً . وفيه قولُه :
4036 إذا قلتُ أنِّي آيِبٌ أهلَ بلدةٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قوله : « والساعةُ » قرأ حمزة بنصبِها عطفاً على « وعدَ الله » . والباقون برفعها ، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ : الابتداءُ وما بعدها من الجملةِ المنفيَّة خبرُها . الثاني : العطفُ على محلِّ اسم « إنَّ » لأنَّه/ قبل دخولِها مرفوعٌ بالابتداءِ . الثالث : أنه عطفٌ على محلِّ « إنَّ » واسمِها معاً؛ لأنَّ بعضَهم كالفارسيِّ والزمخشريِّ يَرَوْنَ أنَّ ل « إنَّ » واسمِها موضعاً ، وهو الرفعُ بالابتداء .
قوله : « إلاَّ ظَنَّاً » هذه الآيةُ لا بُدَّ فيها مِنْ تأويلٍ : وذلك أنه يجوزُ تفريغُ العاملِ لِما بعده مِنْ جميعِ معمولاته ، مرفوعاً كان أو غيرَ مرفوعٍ ، إلاَّ المفعولَ المطلقَ فإنه لا يُفَرَّغُ له . لا يجوزُ « ما ضَرَبْتَ إلاَّ ضَرْباً » كأنه لا فائدةَ فيه؛ وذلك أنه بمنزلةِ تكريرِ الفعلِ فكأنَّه في قوةِ « ما ضرَبْتُ إلاَّ ضرَبْتُ » . وكانَتْ هذه العلةُ خَطَرَتْ لي حتى رأيتُ مكِّياً وأبا البقاءِ نَحَوا إليها فللَّه الحمدُ .
وقال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : ما معنى » إنْ نَظُنُّ إلاَّ ظَنًّا «؟ قلت : أصلُه نَظُنُّ ظنًّا . ومعناه إثباتُ الظنِّ فحسب . فأَدْخَلَ حرفَ النفي والاستثناءَ ليُفادَ إثباتُ الظنِّ ونفيُ ما سواه؛ وزِيْدَ نَفْيُ ما سوى الظنِّ توكيداً بقولِه : { وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ } . فظاهرُ كلامِه أنه لا يَتَأَوَّلُ الآيةَ بل حَمَلها على ظاهرِها؛ ولذلك قال الشيخ : » وهذا كلامُ مَنْ لا شعورَ له بالقاعدةِ النحوية : مِنْ أنَّ التفريغَ يكونُ في جميع المعمولاتِ مِنْ فاعلٍ ومفعولٍ وغيرِهما إلاَّ المصدرَ المؤكِّدَ فإنه لا يكونُ فيه « .
وقد اختلفَ الناسُ في تأويلِها على أوجهٍ ، أحدُها : ما قاله المبردُ وهو : أنَّ الأصلَ : إنْ نحن إلاَّ نظنُّ ظنَّاً . قال : » ونظيرُه ما حكاه أبو عمروٍ « ليس الطِّيْبُ إلاَّ المِسْكُ » تقديرُه : ليس إلاَّ الطيبُ المسكُ « قلتُ : يعني أن اسمَ » ليس « ضميرُ الشأنِ مستترٌ فيها ، وإلاَّ الطيبُ المسكُ في محل نصب خبرُها ، وكأنه خَفِيَ عليه أنَّ لغةَ تميمٍ إبطالُ عملِ » ليس « إذا انتقض نفيُها ب » إلاَّ « قياساً على » ما « الحجازيةِ ، والمسألةُ طويلةٌ مذكورةٌ في كتابي » شرح التسهيل « وعليها حكايةٌ جَرَتْ بين أبي عمروٍ وعيسى بن عمر . الثاني : أنَّ » ظنَّاً « له صفةٌ محذوفةٌ تقديره : إلاَّ ظناً بَيِّناً ، فهو مختصٌّ لا مؤكِّد . الثالث : أَنْ يُضَمَّنَ » نظنُّ « معنى نَعْتقد ، فينتصِبَ » ظَنَّاً « مفعولاً به لا مصدراً . الرابع : أنَّ الأصلَ : إنْ نظنُّ إلاَّ أنكم تظنون ظنَّاً ، فحذف هذا كلَّه ، وهو مَعْزُوٌّ للمبردِ أيضاً . وقد رَدُّوه عليه : من حيثُ إنَّه حَذَفَ أنَّ واسمَها وخبرَها وأبقى المصدرَ . وهذا لا يجوزُ . الخامس : أنَّ الظنَّ يكونُ بمعنى العِلْمِ والشكِّ فاستثنى الشكَّ كأنه قيل : ما لنا اعتقادٌ إلاَّ الشكَّ . ومثلُ الآية قولُ الأعشى :
4037 وحَلَّ به الشَّيْبُ أثقالَه ... وما اعْتَرَّه الشيبُ إلاَّ اعْتِرارا
يريد اعْتِراراً بَيِّناً .

وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34)

قوله : { لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا } : من التوسُّعِ في الظرف؛ حيث أضاف إليه ما هو واقعٌ فيه كقوله : { بَلْ مَكْرُ اليل والنهار } [ سبأ : 33 ] . وتقدَّم الخلافُ في قولِه : « لا يُخْرَجُون » في أولِ الأعراف . وتقدَّم معنى الاستعتاب .

فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36)

قوله : { رَبِّ السماوت وَرَبِّ الأرض رَبِّ العالمين } : قرأ العامَّةُ « ربِّ » في الثلاثة بالجرِّ تَبَعاً للجلالة بياناً أو بدلاً أو نعتاً . وابن محيصن برفع الثلاثةِ على المدح بإضمار « هو » .

وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)

قوله : { وَلَهُ الكبريآء فِي السماوات } : يجوزُ أَنْ يكونَ « في السماوات » متعلقاً بمحذوف حالاً مِنْ « الكبرياء » ، وأَنْ يتعلَّقَ بما تعلَّقَ به الظرفُ الأولُ لوقوعِه خبراً . ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بنفسِ « الكبرياء » لأنها مصدرٌ . وقال أبو البقاء : « وأَنْ يكونَ - يعني في السماوات - ظرفاً ، والعاملُ فيه الظرفُ الأولُ والكِبْرياء؛ لأنَّها بمعنى العظمة » ولا حاجةَ إلى تأويل الكبرياء بمعنى العظمة فإنها ثابتةُ المصدرية .

مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3)

بسم الله الرحمن الرحيم
قوله : { عَمَّآ أُنذِرُواْ } : يجوزُ أَنْ تكونَ « ما » مصدريةً أي : عن إنذارهم ، أو بمعنى الذي أي : عن الذي أُنْذِرُوْه . و « عن » متعلقةٌ بالإِعراض و « مُعْرِضون » خبرُ الموصول .

قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4)

قوله : { أَرَأَيْتُمْ } : تقدَّمَ حُكْمُها . ووقع بعدَها « أَرُوْني » فاحتملت وجهين ، أحدُهما : أَنْ تكونَ توكيداً لها لأنَّهما بمعنى أَخْبروني ، وعلى هذا يكونُ المفعولُ الثاني ل « أَرَأَيْتُمْ » قولَه : « ماذا خَلَقوا » لأنه استفهامٌ ، والمفعولُ الأولُ هو قولُه : « ما تَدْعُون » . والوجه الثاني : أنْ لا تكونَ مؤكِّدةً لها ، وعلى هذا تكون المسألةُ من بابِ التنازعِ لأنَّ « أَرَأَيْتُمْ » يطلب ثانياً ، و « أرُوْني » كذلك ، وقولُه : « ماذا خَلَقوا » هو المتنازَعُ فيه ، وتكون المسألةُ من إعمالِ الثاني والحذفِ من الأولِ . وجوَّزَ ابنُ عطية في « أَرَأَيْتُم » أنْ لا يتعدَّى . وجعل « ما تَدْعُوْن » استفهاماً معناه التوبيخُ . قال : « وتَدْعُوْنَ » معناه « تَعْبدون » قلت : وهذا رأيُ الأخفشِ وقد قال بذلك في قولِه : { قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة } [ الكهف : 63 ] وقد مضَى ذلك .
قوله : « من الأرض » هذا بيانُ الإِبهامِ الذي في قوله : « ماذا خَلَقُوا » .
قوله : « أَمْ لهم » هذه « أم » المنقطعةُ . والشِّرْكُ : المُشاركة .
قوله : { مِّن قَبْلِ هاذآ } صفةٌ ل « كتاب » أي : بكتابٍ مُنَزَّلٍ من قبل هذا . كذا قَدَّره أبو البقاء . والأحسنُ أَنْ يُقَدَّرَ/ كونٌ مطلقٌ أي : كائِن مِنْ قبلِ هذا .
قوله : « أَو أَثَارَةٍ » العامة على « أَثارة » وهي مصدرٌ على فَعالة كالسَّماحَة والغَواية والضَّلالة ، ومعناها البقيةُ مِنْ قولِهم : سَمِنَتِ الناقةُ على أثارةٍ مِنْ لحم ، إذا كانت سَمينةً ثم هَزَلَتْ ، وبقِيَتْ بقيةٌ مِنْ شَحْمِها ثم سَمِنَتْ . والأثارَةُ غَلَبَ استعمالُها في بقيةِ الشَّرَف . يقال : لفلانٍ أثارةٌ أي : بقيةٌ أشرافٌ ، ويُستعمل في غيرِ ذلك . قال الراعي :
وذاتِ أثارَةٍ أكلَتْ عليها ... نباتاً في أكِمَّتِهِ قِفارا
وقيل : اشتقاقها مِنْ أَثَر كذا أي : أَسْنَدَه . ومنه قول عمر : « ما حَلَفْتُ ذاكراً ولا آثِراً » أي : مُسْنِداً له عن غيري . وقال الأعشى :
4039أ إنَّ الذي فيه تَمارَيْتُما ... بُيِّنَ للسامعِ والآثِرِ
وقيل فيها غيرُ ذلك . وقرأ عليُّ وابنُ عباس وزيد بن علي وعكرمة في آخرين « أَثَرَة » دونَ ألفٍ ، وهي الواحدة . ويُجْمع على أثَر كقَتَرَة وقَتَر . وقرأ الكسائيُّ « أُثْرَة » و « إثْرَة » بضم الهمزة وكسرِها مع سكونِ الثاء . وقتادةُ والسُّلمي بالفتح والسكون . والمعنى : بما يُؤثَرُ ويُرْوى . أي : ايتوني بخبرٍ واحدٍ يَشْهَدُ بصحةِ قولِكم . وهذا على سبيلِ التنزُّلِ للعِلْمِ بكذِبِ المُدَّعي . و « مِنْ عِلْمٍ » صفةٌ لأَثارة .

وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5)

قوله : { وَمَنْ أَضَلُّ } : مبتدأ وخبرٌ .
قوله : { مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ } « مَنْ » نكرةٌ موصوفةٌ أو موصولةٌ ، وهي مفعولٌ بقولِه : « يَدْعُو » .
قوله : { وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ } يجوزُ أَنْ يكونَ الضميران عائدَيْنِ على « مَنْ » مِنْ قولِه : { مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ } وهم الأصنامُ وتُوْقَعُ عليهم « مَنْ » لمعاملتهم إياها معاملةَ العقلاءِ ، أو لأنَّه أراد جميعَ مَنْ عُبِدَ مِنْ دونِ الله . وغَلَّب العقلاءَ ، ويكون قد راعى معنى « مَنْ » فلذلك جَمَعَ في قوله : « وهم » بعدما راعى لفظَها فأفردَ في قولِه : « يَسْتَجيب » وقيل : يعود على « مَنْ » مِنْ قولِه « ومَنْ أضَلُّ » ، وحُمِلَ أولاً على لفظها فَأُفْرِدَ في قولِه : « يَدْعُو » ، وثانياً على معناها فجُمِعَ في قوله : { وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ } .

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)

قوله : { قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلْحَقِّ } : هنا أقام ظاهرَيْن مُقامَ مضمَريْنِ؛ إذ الأصلُ : قالوا لها ، أي للآياتِ ، ولكنه أبرزَهما ظاهرَيْن لأجلِ الوصفَيْن المذكورَيْن . واللام في « للحق » للعلةِ .

قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)

قوله : { بِدْعاً } : فيه وجهان ، أحدهما : على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه : ذا بِدْعٍ ، قاله أبو البقاء . وهذا على أَنْ يكونَ البِدْعُ مصدراً . والثاني : أَنَّ البِدْعَ بنفسِه صفةٌ على فِعْل بمعنى بديع كالخِفِّ والخَفيف . والبِدْعُ والبديعُ : ما لم يُرَ له مِثْلٌ ، وهو من الابتداع وهو الاختراعُ . أنشد قطرب :
4039ب فما أنا بِدْعٌ مِنْ حوادِثَ تَعْتَري ... رجالاً عَرَتْ مِنْ بعدِ بُؤْسَى بأَسْعُدِ
وقرأ عكرمة وأبو حيوةَ وابنُ أبي عبلة « بِدَعاً » بفتح الدال جمع بِدْعة أي : ما كنتَ ذا بِدَع . وجَوَّز الزمخشري أَنْ يكونَ صفةً على فِعَل ك « دِين قِيَم » و « لحم زِيَم » . قال الشيخ : « ولم يُثْبِتْ سيبويه صفةً على فِعَل إلاَّ قوماً عِدَا ، وقد اسْتُدْرِك عليه » لحم زِيَم « أي : متفرق ، وهو صحيحٌ . فأمَّا » قِيَم « فمقصورٌ مِنْ قيام ، ولولا ذلك لصَحَّتْ عينُه كما صَحَّتْ في حِوَل وعِوَض . وأمَّا قولُ العربِ : » مكان سِوَىً « و » ماء رِوَىً « ورجل رِضَا وماء صِرَىً فمتأوَّلَةٌ عند التَّصْريفيِّين » قلت : تأويلُها إمَّا بالمصدريَّة أو القَصْر كقِيَم في قيام .
وقرأ أبو حيوةَ أيضاً ومجاهد « بِدَع » بفتح الباء وكسر الدال وهو وصفٌ كحَذِر .
وقوله : « يُفْعَلُ » العامَّةُ على بنائه للمفعول . وابنُ أبي عبلة وزيد ابن علي مبنياً للفاعلِ أي : الله تعالى . والظاهرُ أنَّ « ما » في قولِه : { مَا يُفْعَلُ بِي } استفهاميةٌ مرفوعةٌ بالابتداءِ ، وما بعدها الخبرُ ، وهي معلِّقَةٌ لأَدْري عن العملِ ، فتكونُ سادَّةً مَسَدَّ مفعولَيْها . وجَوَّزَ الزمخشري أَنْ تكونَ موصولةً منصوبةً يعني أنها متعديةٌ لواحدٍ أي : لا أعْرِفُ الذي يفعلُه اللَّهُ تعالى .
قوله : { إِلاَّ مَا يوحى } العامَّةُ على بناء « يُوْحَى » للمفعول . وقرأ ابن عُمير بكسرِ الحاءِ على البناءِ للفاعلِ ، وهو اللَّهُ تعالى .

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)

قوله : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ } : مفعولاها محذوفان تقديره : أرأيتم حالَكم إنْ كان كذا ألَسْتُمْ ظالمين/ ، وجوابُ الشرطِ أيضاً محذوفٌ تقديره : فقد ظَلَمْتُمْ ، ولهذا أتى بفعل الشرط ماضياً . وقَدَّره الزمخشريُّ : ألستُمْ ظالمين . ورَدَّ عليه الشيخ : « بأنَّه لو كان كذلك لَوَجَبَتْ الفاءُ؛ لأنَّ الجملةَ الاستفهامية متى وقعت جواباً للشرط لَزِمَتِ الفاءُ . ثم إنْ كانت أداةُ الاستفهامِ همزةً تقدَّمَتْ على الفاء نحو : » إنْ تَزُرْنا أفما نُكْرِمُك « ، وإنْ كانت غيرَها تقدَّمَتِ الفاءُ عليها ، نحو : إنْ تَزُرْنا فهل تَرى إلاَّ خيراً » . قلت : والزمخشريُّ ذكر أمراً تقديريَّاً فَسَّر به المعنى لا الإِعرابَ .
وقال ابن عطية : « وأَرَأَيْتُمْ تَحْتمل أن تكون مُنَبِّهةً ، فهي لفظٌ موضوعٌ للسؤالِ لا يَقْتضي مفعولاً ، وتحتمل أن تكونَ الجملةُ كان وما عملتْ فيه سادَّةً مَسَدَّ مفعولَيْها » . قال الشيخ : « وهذا خلافُ ما قَرَّره النحاة » . قلت : قد تقدَّم تحقيقُ ما قَرَّره . وقيل : جوابُ الشرطِ هو قولُه : « فآمَن واستكْبَرْتُمْ » وقيل : هو محذوفٌ تقديرُه : فَمَنْ المُحِقُّ منَّا والمُبْطِلُ . وقيل : فَمَنْ أَضَلُّ .
قوله : « وكَفَرْتُمْ به » الجملةُ حاليةٌ أي : وقد كَفَرْتُمْ . ومنهم من لا يُضْمِرُ « قد » في مثلِه .

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11)

قوله : { لِلَّذِينَ آمَنُواْ } : يجوزُ أَنْ تكونَ لامَ العلة أي : لأجلِهم ، وأَنْ تكونَ للتبليغ ، ولو جَرَوْا على مقتضى الخطابِ لَقالوا : ما سَبَقْتُمونا ، ولكنهم التفَتُوا فقالوا : ما سَبَقُوْنا . والضميرُ في « كان » وإليه عائدان على القرآن ، أو ما جاء به الرسولُ .
قوله : { وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ } العامل في « إذْ » مقدرٌ أي : ظهر عِنادُهم وتَسَبَّب عنه قولُه : « فسَيقولون » . ولا يَعْمل في « إذ » « فسَيقولون » لتضادِّ الزمانَيْنِ ولأجل الفاءِ أيضاً .

وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12)

قوله : { وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى } : العامَّةُ على كسر ميم « مِنْ » حرفَ جرٍّ . وهي مع مجرورِها خبرٌ مقدَّمٌ . والجملةٌ حاليةٌ أو خبرٌ مستأنفٌ .
وقرأ الكلبيُّ بنصبِ « الكتابَ » تقديرُه : وأَنْزَلَ مِنْ قبلِه كتابَ موسى . وقُرِئ « ومَنْ » بفتح الميم « كتابَ موسى » بالنصبِ على أن « مَنْ » موصولةٌ ، وهي مفعولٌ أولُ لآتَيْنا مقدَّراً . وكتابَ موسى مفعولُه الثاني . أي : وآتَيْنا الذي قبلَه كتابَ موسى .
قوله : « إماماً ورَحْمَةً » حالان مِنْ « كتاب موسى » . وقيل : منصوبان بمقدرٍ أي : أنْزَلْناه إماماً . ولا حاجةَ إليه . وعلى كَوْنِهما حالَيْن هما منصوبان بما نُصِبَ به « مِنْ قبل » من الاستقرار .
قوله : « لِساناً » حالٌ مِن الضمير في « مُصَدِّقٌ » . ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنْ « كتاب » والعاملُ التنبيهُ ، أو معنى الإِشارةِ و « عربيَّاً » [ صفةٌ ] ل « لساناً » ، وهو المُسَوِّغُ لوقوع هذا الجامد حالاً . [ وجَوَّز أبو البقاء ] أَنْ يكونَ مفعولاً به ناصبُهُ « مُصَدِّقٌ » . وعلى هذا تكون الإِشارةُ إلى غيرِ القرآنِ؛ لأنَّ المرادَ باللسانِ العربيِّ القرآنُ وهو خلافُ الظاهر . وقيل : هو على حَذْفِ مضافٍ أي : مُصَدِّقٌ ذا لسانٍ عربي ، وهو النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم . وقيل : هو على إسقاطِ حرفِ الجرِّ أي : بلسانٍ . وهو ضعيفٌ .
قوله : « ليُنْذِرَ » متعلِّقٌ بمصدِّق . و « بُشْرَى » عطفٌ على محلِّه . تقديره : للإِنذار وللبشرى ، ولمَّا اختلف العلةُ والمعلولُ وَصَلَ العاملُ إليه باللامِ ، [ وهذا فيمَنْ قرأ بتاء الخطابِ . فأمَّا مَنْ قرأ بياءِ الغَيْبة . وقد تقدَّم ذلك في يس فإنهما مُتَّحدان . وقيل : بُشْرى ] عطفٌ على لفظ « لتنذِرَ » أي : فيكونُ مجروراً فقط . وقيل : هي مرفوعةٌ على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ . تقديرُه : هي بُشْرَى . وقيل : بل هي عطفٌ على « مُصَدِّقٌ » وقيل : هي منصوبةٌ بفعل مقدرٍ أي : وبَشِّر بُشْرى . ونقل الشيخُ وجهَ النصبِ عطفاً على محلِّ « لتنذِرَ » عن الزمخشري وأبي البقاء . ثم قال : « وهذا لا يَصِحُّ على الصحيح من مذاهبِ النحويين لأنهم يَشْتَرِطون في الحَمْلِ على المَحَلِّ أَنْ يكونَ بحقِّ الأصالة ، وأَنْ يكونَ للموضعِ مُحْرِزٌ ، وهنا المحلُّ ليسَ بحقِّ الأصالة ، إذ الأصلُ في المفعولِ [ له ] الجرُّ ، والنصبُ ناشِئ عنه ، لكن لَمَّا كَثُرَ بالشروط المذكورةِ وَصَلَ إليه الفعلُ فنصبَه » انتهى .
قوله : « الأصلُ في المفعول له الجرُّ بالحرفِ » ممنوعٌ بدليل قولِ النَّحْويين : إنَّه يَنْصِبُ بشروطٍ ذكروها . ثم يقولون : ويجوزُ جرُّه بلامٍ ، فقولُهم « ويجوز » ظاهرٌ في أنه فرعٌ لا أصلٌ .
و « للمُحْسِنين » متعلقٌ ب « بُشْرَى » أو بمحذوفٍ على أنَّه صفةٌ لها .

إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13)

قوله : { فَلاَ خَوْفٌ } : الفاءُ زائدةٌ في خبرِ الموصولِ لِما فيه من معنى الشرطِ ، ولم تمنَعْ « إنَّ » من ذلك لبقاءِ معنى الابتداء بخلاف « ليت » و « لعلَّ » و « كأن » .

أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14)

قوله : { خَالِدِينَ } : منصوبٌ على الحاليَّةِ . و « جزاءً » منصوب على المصدرِ : إمَّا بعاملٍ مضمرٍ أي : يُجْزَوْن جزاءً ، أو بما تقدَّم؛ لأنَّ معنى أولئك أصحاب الجنة معنى جازَيْناهم بذلك .

وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15)

قوله : { إِحْسَاناً } : قرأ الكوفيون « إحْساناً » وباقي السبعةِ « حُسْناً » بضمِّ الحاءِ وسكونِ السينِ ، فالقراءةُ الأولى يكون « إحساناً » فيها منصوباً بفعلٍ مقدَّرٍ أي : وَصَّيْناه أَنْ يُحْسِنَ إليهما إحساناً . وقيل : بل هو مفعولٌ به على تضمينِ وصَّيْنا معنى أَلْزَمْنا ، فيكونُ مفعولاً ثانياً . وقيل : بل هو منصوبٌ على المفعولِ به أي : وصَّيناه بهما إحساناً مِنَّا إليهما . وقيل : هو منصوبٌ على المصدرِ؛ لأنَّ معنى وصَّيْنا : أَحْسَنَّا فهو مصدرٌ صريحٌ . والمفعولُ الثاني/ هو المجرورُ بالباء . وقال ابن عطية : « إنها تتعلَّق : إمَّا بوَصَّيْنا ، وإمَّا بإحساناً » . ورَدَّ الشيخُ : هذا الثاني بأنَّه مصدرٌ مؤَوَّلٌ فلا يتقدَّم معمولُه عليه ، ولأن « أَحْسَنَ » لا يتعدَّى بالباء ، وإنما يتعدَّى باللامِ . لا تقول : « أحسَنْتُ بزيدٍ » على معنى وصول الإِحسان إليه . وقد رَدَّ بعضُهم هذا بقولِه : { وَقَدْ أَحْسَنَ بي إِذْ أَخْرَجَنِي } [ يوسف : 100 ] وقيل : هو بغير هذا المعنى . وقدَّر بعضُهم : ووَصَّيْنا الإِنسانَ بوالدَيْه ذا إحسانٍ ، يعني فيكونُ حالاً . وأمَّا « حُسْناً » فقيل فيه ما تقدَّم في إحسان .
وقرأ عيسى والسُّلَمي « حَسَناً » بفتحِهما . وقد تقدَّمَ معنى القراءتَيْنِ في البقرة وفي لقمان .
قوله : « كُرْهاً » قد تَقَدَّم الخلافُ فيه في النساء . وله هما بمعنىً واحد أم لا؟ وقال أبو حاتم : « الكَرْهُ بالفتح لا يَحْسُنُ لأنَّه بالفتح الغَصْبُ والغَلَبَةُ » . ولا يُلْتَفَتُ لِما قاله لتواتُرِ هذه القراءةِ . وانتصابُها : إمَّا على الحالِ من الفاعلِ أي : ذاتَ كُرْه . وإمَّا على النعت لمصدرٍ مقدرٍ أي : حَمْلاً كُرْهاً .
قوله : « وحَمْلُه » أي : مدةُ حَمْلِه . وقرأ العامَّةُ « فِصالُه » مصدر فاصَلَ ، كأنَّ الأمَّ فاصَلَتْهُ وهو فاصَلَها . والجحدري والحسن وقتادة « فَصْلُه » . قيل : والفَصْلُ والفِصال بمعنىً كالفَطْمِ والفِطام ، والقَطْفِ والقِطاف . ولو نَصَب « ثلاثين » على الظرفِ الواقعِ موقعَ الخبرِ جاز ، وهو الأصلُ . هذا إذا لم نُقَدِّر مضافاً ، فإنْ قَدَّرْنا أي : مدةُ حَمْلِه لم يَجُزْ ذلك وتعيَّن الرفعُ ، لتصادُقِ الخبرِ والمُخْبَرِ عنه .
قوله : { حتى إِذَا بَلَغَ } لا بُدَّ مِنْ جملةٍ محذوفةٍ تكونُ « حتى » غايةً لها أي : عاش واستمرَّتْ حياتُه حتى إذا .
قوله : « أربعين » أي : تمامَها ف « أربعين » مفعولٌ به .
قوله : { وَأَصْلِحْ لِي فِي ذريتي } أَصْلَحَ يتعدَّى بنفسِه لقولِه : { وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ } [ الأنبياء : 90 ] وإنما تعدَّى ب في لتضمُّنِه معنى الطُفْ بي في ذرِّيَّتي ، أو لأنه جَعَلَ الذرِّيَّة ظرفاً للصَّلاح كقولِه :
4040 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . يَجْرَحُ في عَراقيبها نَصْلي

أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)

قوله : { نَتَقَبَّلُ } : قرأ الأخوان وحفص « نَتَقَبَّلُ » بفتح النون مبنيَّاً للفاعلِ ونصبِ « أَحْسَنَ » على المفعول به ، وكذلك « ونتجاوَزُ » . والباقون ببنائِهما للمفعولِ ورفع « أحسنُ » لقيامِه مقام الفاعل ومكانَ النونِ ياءٌ مضمومةٌ في الفعلَيْن . والحسنُ والأعمش وعيسى بالياء منْ تحتُ ، والفاعلُ اللَّهُ تعالى .
قوله : { في أَصْحَابِ الجنة } فيه أوجه ، أحدُها : - وهو الظاهر - أنَّه في محلِّ حالٍ أي : كائنين في جملةِ أصحابِ الجنة كقولِك : أكرَمَني الأميرُ في أصحابِه ، أي : في جملتهم . والثاني : أن « في » بمعنى « مع » . والثالث : أنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : هم في أصحاب الجنة .
قوله : « وَعْدَ الصدقِ » مصدرٌ مؤكِّد لمضمونِ الجملةِ السابقة؛ لأنَّ قولَه { أولئك الذين نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ } في معنى الوعد .

وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17)

قوله : { أُفٍّ } : قد تقدَّم الكلامُ على « أُفّ » مستوفى و « لكما » بيانٌ أي : التأفيفُ لكما نحو : { هَيْتَ } [ يوسف : 23 ] .
قوله : « أَتَعِدانِني » العامَّةُ على نونَيْن مكسورتَيْن : الأولى للرفع والثانية للوقاية ، وهشام بالإِدغام ، ونافع في روايةٍ بنونٍ واحدة . وهذه مُشَبَّهةٌ بقوله : { تأمروني أَعْبُدُ } [ الزمر : 64 ] . وقرأ الحسن وشيبة وأبو جعفر وعبد الوارث عن أبي عمروٍ بفتح النونِ الأولى ، كأنَّهم فَرُّوا مِنْ توالي مِثْلَيْنِ مكسورَيْن بعدهما ياءٌ . وقال أبو البقاء : « وهي لغةٌ شاذَّةٌ في فتح نون الاثنين » قلت : إنْ عَنَى نونَ الاثنين في الأسماءِ نحو قولِه :
4041 على أَحْوَذِيَّيْنَ اسْتَقَلَّتْ . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فليس هذا منه . وإن عَنَى في الفعلِ فلم يَثْبُتْ ذلك لغةً ، وإنَّما الفتحُ هنا لِما ذكَرْتُ .
قوله : « أَنْ أُخْرَجَ » هو الموعودُ به ، فيجوزُ أَنْ تُقَدِّرَ الباءَ قبل « أَنْ » وأَنْ لا تُقَدِّرَها .
قوله : « وقد خَلَتْ » جملةٌ حاليةٌ . وكذلك { وَهُمَا يَسْتَغثِيَانِ الله } أي : يَسْألان اللَّهَ . واستغاث يتعدَّى بنفسِه تارةً وبالباء أخرى ، وإن كان ابنُ مالكٍ زعمَ أنَّه متعدٍّ بنفسِه فقط ، وعابَ قولَ النحاةِ « مستغاث به » قلت : لكنه لم يَرِدْ في القرآن إلاَّ متعدَّياً بنفسِه : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ } [ الأنفال : 9 ] { فاستغاثه الذي } [ القصص : 15 ] { وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ } [ الكهف : 29 ] قوله : « وَيْلَكَ » منصوبٌ على المصدرِ بفعلٍ مُلاقٍ له في المعنى دونَ الاشتقاقِ . ومثله : وَيْحَه ووَيْسَه ووَيْبَه ، وإمَّا على المفعولِ به بتقدير : ألزمَك الله وَيْلَكَ . وعلى كلا التقديرَيْن الجملةُ معمولةٌ لقولٍ مقدرٍ أي : يقولان وَيْلَكَ آمِنْ . والقولُ في محلِّ نصب على الحال أي : يَسْتغيثان اللَّهَ قائلين ذلك .
قوله : { إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ } العامةُ على كسرِ « إنَّ » / استئنافاً أو تعليلاً . وقرأ عمرو بن فائد والأعرج بفتحِها على أنها معمولةٌ ل آمِنْ على حَذْفِ الباءِ أي : آمِنْ بأنَّ وَعْدَ اللَّهِ حقٌّ .

أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18)

قوله : { في أُمَمٍ } : كقوله : { في أَصْحَابِ الجنة } [ الأحقاف : 16 ] .

وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19)

قوله : { وَلِيُوَفِّيَهُمْ } : مُعَلَّلهُ محذوفٌ تقديرُه : جازاهم بذلك . وقرأ ابن كثير وأبو عمروٍ وعاصمٌ وهشامٌ بالياء مِنْ تحتُ . وباقي السبعة بالنونِ . والسُّلمي بالتاءِ مِنْ فوقُ أَسْنَدَ التوفيةَ للدرجات مجازاً .
قوله : { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } : إمَّا استئنافٌ ، وإمَّا حالٌ مؤكِّدة .

وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)

قوله : { وَيَوْمَ يُعْرَضُ } : اليومَ منصوبٌ بقولٍ مقدرٍ أي : يُقال لهم : أَذْهَبْتُمْ في يومِ عَرْضِهم . وجَعَل الزمخشريُّ هذا مثل « عَرَضْتُ الناقةَ على الحوضِ » فيكونُ قَلْباً . ورَدَّه الشيخُ : بأنه ضرورةٌ . وأيضاً العَرْضُ أمرٌ نسبيٌّ فتصِحُّ نسبتُه إلى الناقةِ وإلى الحوضِ . وقد تقدَّم الكلامُ في القلبِ ، وأنَّ فيه ثلاثةَ مذاهبَ .
قوله : « أَذْهَبْتُم » قرأ ابن كثير « أَأَذْهَبْتُمْ » بهمزتَيْن : الأولى مخففةٌ ، والثانيةُ مُسَهَّلَةٌ بينَ بينَ ، ولم يُدْخِلْ بينهما ألفاً ، وهذا على قاعدتِه في { أَأَنذَرْتَهُمْ } [ البقرة : 6 ] ونحوِه . وابنُ عامرٍ قرأ أيضاً بهمزتَيْن ، لكن اختلفَ راوياه عنه : فهشام سَهَّل الثانيةَ وخَفَّفَها ، وأدخل ألفاً في الوجهيْن ، وليس على أصلِه فإنه من أهلِ التحقيق . وابنُ ذكوان بالتحقيقِ فقط دونَ إدخالِ ألفٍ . والباقون بهمزةٍ واحدةٍ فيكونُ : إمَّا خبراً ، وإمَّا استفهاماً ، فأُسْقِطَتْ أداتُه للدلالةِ عليها ، والاستفهامُ معناه التقريعُ والتوبيخُ .
قوله : « في حياتِكم » يجوزُ تَعَلُّقُه ب « أَذْهَبْتُمْ » ويجوزُ تعلُّقُه بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ مِنْ « طيباتكم » .

وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21)

قوله : { إِذْ أَنذَرَ } : بدلٌ مِنْ « أَخا » بدلُ اشتمالٍ ، وتقدَّم تحقيقُه . والأَحْقافُ : جمعُ حِقْف وهو الرَّمْلُ المستطيلُ المِعْوَجُّ ومنه « احْقَوْقَفَ الهِلالُ » قال امرؤ القيس :
4042 فلمَّا أَجَزْنا ساحةَ الحيِّ وانتحى ... بنا بَطْنُ حِقْفٍ ذي قِفافٍ عَقَنْقَلِ
قوله : « وقد خَلَتْ » يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِن الفاعل أو من المفعولِ ، والرابطُ الواوُ . والنُّذُر جمعُ نَذير . ويجوزُ أَنْ تكونَ معترضةً بين « أَنْذَرَ » وبين { أَلاَّ تعبدوا } أي : أَنْذَرهم بأَنْ لا .

فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24)

قوله : { فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً } : في هاء « رَأَوْه » قولان ، أحدهما : أنه عائدٌ على « ما تَعِدُنا » . والثاني : أنه ضميرٌ مُبْهَمٌ يُفَسِّرُه « عارضاً » : إمَّا تمييزاً أو حالاً ، قالهما الزمخشريُّ . ورَدَّه الشيخُ : بأنَّ التمييزَ المفسِّرَ للضميرِ محصورٌ في باب : رُبَّ وفي نِعْمَ وبِئْس ، وبأنَّ الحالَ لم يَعْهَدُوها أَنْ تُوَضِّحَ الضميرَ قبلها ، وأنَّ النَّحْويين لا يَعْرفون ذلك .
قوله : « مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهم » صفةٌ ل « عارِضاً » وإضافتُه غيرُ مَحْضةٍ ، فمِنْ ثَمَّ ساغ أَنْ يكونَ نعتاً لنكرةٍ وكذلك « مُمْطِرُنا » وقع نعتاً ل « عارِض » ومثله :
4043 يا رُبَّ غابِطِنا لو كان يَطْلُبُكُمْ ... لاقى مباعَدَةً منكم وحِرْمانا
والعارِضُ : المُعْتَرِضُ من السحاب في الجوِّ . قال :
4044 يا مَنْ رَأَى عارِضاً أَرِقْتُ له ... بين ذراعَيْ وجَبْهَةِ الأَسَدِ
وقد تقدَّم : أَنَّ أَوْدِيَة جمعُ « وادٍ » ، وأنَّ أَفْعِلة شذَّتْ جمعاً ل فاعِل في ألفاظٍ : كوادٍ وأَوْدِيَة ، ونادٍ وأَنْدِية ، وجائِز وأَجْوِزة .
قوله : « ريحٌ » يجوزُ أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي : هو ريحٌ . ويجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ « هو » . وقُرِئ « ما استُعْجِلْتُمْ » مبنياً للمفعول « وفيها عذابٌ » صفةٌ ل « ريحٌ » وكذلك « تُدَمِّرُ » . وقُرِئ { يَدْمُرُ كُلَّ شَيْءٍ } بالياءِ من تحتُ وسكونِ الدال وضمِّ الميم « كلُّ » بالرفع على الفاعلية أي : يهلك كلُّ شيء . وزيد بن علي كذلك إلاَّ أنه بالتاءِ مِنْ فوقُ ونصبِ « كلَّ » ، والفاعلُ ضميرُ الريح ، وعلى هذا فيكون دَمَّر الثلاثي لازِماً ومتعدياً .

تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)

قوله : { فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ } : قرأ حمزةُ وعاصم « لا يُرَى » بضمِّ الياءِ مِنْ تحتُ مبنياً للمفعولِ ، « مَسَاكنُهم » بالرفع لقيامِه مقامَ الفاعلِ . والباقون من السبعةِ بفتح تاءِ الخطاب « مَساكنَهم » بالنصب مفعولاً به . والجحدريُّ والأعمش وابنُ أبي إسحاقَ والسُّلميُّ وأبو رجاءٍ بضمِّ التاءِ مِنْ فوقُ مبنياً للمفعول . « مساكنُهم » بالرفع لقيامِه مقامَ الفاعل ، إلاَّ أنَّ هذا عند الجمهور لا يجوزُ ، أعني إذا كان الفاصلُ « إلاَّ » فإنه يمتنع لَحاقُ علامةِ التأنيثِ في الفعل إلاَّ في ضرورةٍ كقولِه : /
4045 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وما بَقِيَتْ إلاَّ الضلوعُ الجراشِعُ
وقول الآخر :
4046 كأنه جَمَلٌ هَمٌّ وما بَقِيَتْ ... إلاَّ النَّحِيزةُ والألواحُ والعَصَبُ
وعيسى الهمداني « لا يُرى » بالياء مِنْ تحتُ مبنياً للمفعول ، « مَسْكَنُهم » بالتوحيد . ونصر بن عاصم بتاء الخطاب « مَسْكَنَهم » بالتوحيد أيضاً منصوباً ، واجتُزِئ بالواحد عن الجمع .

وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26)

قوله : { مَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ } : « ما » موصولةٌ أو موصوفةٌ . وفي « إنْ » ثلاثةُ أوجهٍ : شرطية وجوابُها محذوفٌ . والجملةُ الشرطيةُ صلةُ ما والتقديرُ : في الذي إنْ مَكَّنَّاكم فيه طَغَيْتُم . والثاني : أنها مزيدةٌ تشبيهاً للموصولةِ ب « ما » النافيةِ والتوقيتيةِ . وهو كقوله :
4047 يُرَجِّي المرءُ ما إنْ لا يَراهُ ... وتَعرِضُ دونَ أَدْناه الخُطوبُ
والثالث : - وهو الصحيحُ - أنها نافيةٌ بمعنى : مَكَّنَّاهم في الذي ما مكَّنَّاكم فيه من القوةِ والبَسْطَةِ وسَعَةِ الأرزاق . ويدلُّ له قولُه تعالى في مواضعَ : { كانوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً } [ الروم : 9 ] وأمثالِه . وإنما عَدَلَ عن لفظِ « ما » النافية إلى « إنْ » كراهيةً لاجتماعِ متماثلَيْن لفظاً . قال الزمخشري : « وقد أَغَثَّ أبو الطيبِ في قولِه :
4048 لَعَمْرُك ما ما بان منك لِضاربٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وما ضَرَّه لو اقتدى بعُذوبة لفظِ التنزيل فقال : » ما إنْ بانَ منك « .
قوله : » فما أَغْنَى « يجوزُ أَنْ تكونَ » ما « نفياً ، وهو الظاهرُ أو استفهاماً للتقرير . واستبعده الشيخُ لأجْلِ قولِه : » مِنْ شيء « قال : » إذ يصيرُ التقديرُ : أيُّ شيء أغنى عنهم مِنْ شيءٍ ، فزاد « مِنْ » في الواجب ، وهو لا يجوزُ على الصحيح « . قلت : قالوا تجوزُ زيادُتها في غيرِ الموجَبِ وفََسَّروا غيرِ الموجَبِ بالنفيِ والنهيِ والاستفهامِ ، وهذا استفهامٌ .
قوله : » إذ كانوا « معمولٌ ل » أَغْنى « وهي مُشْرَبَةٌ معنى التعليلِ أي : لأنهم كانوا يَجْحَدُون .

فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)

قوله : { قُرْبَاناً آلِهَةَ } : فيه أربعةُ أوجهٍ ، أوجَهُها : أنَّ المفعولَ الأولَ ل « اتَّخذوا » محذوفٌ هو عائدُ الموصولِ . « وقُرْباناً » نُصِبَ على الحال و « آلهةً » هو المفعولُ الثاني للاتخاذ . والتقدير : فهَلاَّ نَصَرهم الذين اتَّخَذُوْهم مُتَقَرَّباً بهم آلهةً . الثاني : أنَّ المفعولَ الأولَ محذوفٌ ، كما تقدَّم تقريرُه ، و « قُرْباناً » مفعولاً ثانياً و « آلهةً » بدلٌ منه . وإليه نحا ابنُ عطية والحوفيُّ وأبو البقاء . إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ مَنَعَ هذا الوجهَ قال : « لفسادِ المعنى » ، ولم يُبَيِّنْ جهةَ الفساد . قال الشيخ : « ويَظْهَرُ أنَّ المعنى صحيحٌ على ذلك الإِعراب » قلت : ووجهُ الفسادِ - واللَّهُ أعلم - أنَّ القُرْبان اسمٌ لِما يُتَقَرَّبُ به إلى الإِله ، فلو جَعَلْناه مفعولاً ثانياً ، وآلهةً بدلاً منه لَزِمَ أَنْ يكونَ الشيءُ المتقرَّبُ به آلهةً ، والفَرَضُ أنه غيرُ الآلهةِ ، بل هو شيءٌ يُتَقَرَّب به إليها فهو غيرُها ، فكيف تكون الآلهةُ بدلاً منه؟ هذا ما لا يجوزُ . الثالثُ : أنَّ « قُرْباناً » مفعولٌ مِنْ أجلِه ، وعزاه الشيخُ للحوفيِّ . قلت : وإليه ذهب أبو البقاء أيضاً ، وعلى هذا ف « آلهةً » مفعول ثانٍ والأولُ محذوفٌ كما تقدَّم . الرابع : أَنْ يكونَ مصدراً ، نقله مكيٌّ . ولولا أنَّه ذكر وجهاً ثانياً وهو المفعولُ مِنْ أجلِه لأوَّلْتُ كلامَه : أنَّه أراد بالمصدرِ المفعولَ مِنْ أجلِهِ لبُعْدِ معنى المصدر .
قوله : « إفْكُهم » العامَّةُ على كسرِ الهمزةِ وسكونِ الفاءِ ، مصدرُ أَفَكَ يَأْفِك إفْكاً أي : كَذِبُهم . وابن عباس بالفتح وهو مصدرٌ له أيضاً . وابنُ عباس أيضاً وعكرمة والصباح بن العلاء « أَفَكَهُمْ » بثلاثِ فتحات فعلاً ماضياً . أي : صَرَفَهم . وأبو عياض وعكرمةُ أيضاً ، كذلك إلاَّ أنَّه بتشديد الفاءِ للتكثير . وابن الزبير وابن عباس أيضاً « آفَكَهم » بالمدِّ فعلاً ماضياً أيضاً ، وهو يحتملُ أَنْ يكونَ بزنةِ فاعَلَ ، فالهمزةُ أصليةٌ ، وأَنْ يكونَ بزنةِ أَفْعَل ، فالهمزةُ زائدةٌ والثانيةُ بدلٌ مِنْ همزةٍ . وإذا قلنا : إنه أَفْعَلَ فهمزتُه تحتملُ أَنْ تكونَ للتعديةِ ، وأَنْ يكونَ أَفْعَلَ بمعنى المجرد . وابنُ عباس أيضاً : « آفِكُهم » بالمدِّ وكسرِ الفاءِ ورَفْعِ الكافِ ، جعله اسمَ فاعلٍ بمعنى صارِفهم . وقُرِئ « أَفَكُهم » بفتحتين ورفعِ الكافِ على أنَّه مصدرٌ لأَفَكَ أيضاً فتكونُ له ثلاثةُ مصادرَ : الأَفْكُ والإِفْكُ بفتح الهمزة وكسرها مع سكون الفاء وفتح الهمزة والفاء . وزاد أبو البقاء أنه قُرِئ « آفَكُهم » بالمدِّ وفتحِ الفاءِ ورفعِ الكافِ . قال : « بمعنى أَكْذَبُهم » فجعله أفْعَلَ تفضيلٍ .
قوله : { وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } / يجوزُ أَنْ تكونَ « ما » مصدريةً وهو الأحسنُ ليُعْطَفَ على مثلِه ، وأَنْ تكونَ بمعنى الذي ، والعائدُ محذوفٌ أي : يَفْتَرُونه . والمصدرُ مِنْ قولِه : « إفْكُهم » يجوزُ أَنْ يكونَ مضافاً إلى الفاعلِ بمعنى كَذبِهم ، وإلى المفعول بمعنى صَرْفِهم .

وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)

قوله : { وَإِذْ صَرَفْنَآ } : منصوبٌ ب اذْكُرْ مقدَّراً . وقُرِئ « صَرَّفْنا » بالتشديدِ للتكثيرِ . « من الجنِّ » صفةٌ ل « نَفَراً » ، ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ ب « صَرَفْنا » ، و « مِنْ » لابتداءِ الغايةِ .
قوله : « يَسْتَمِعُون » صفةٌ أيضاً ل « نَفَراً » أو حالٌ لتخصُّصهِ بالصفةِ ، إنْ قلنا : إنَّ « مِنَ الجنِّ » صفةٌ له ، وراعى معنى النَّفر ، فأعاد عليه الضميرَ جمعاً ، ولو راعَى لفظَه وقال : « يَسْتمع » لَجاز .
قوله : « فلَمَّا حَضَرُوْه » يجوزُ أَنْ تكونَ الهاءُ للقرآنِ ، وهو الظاهرُ ، وأَنْ تكونَ للرسولِ عليه السلام ، وحينئذٍ يكونُ في الكلام التفاتٌ مِنْ قولِه : « إليك » إلى الغَيْبَةِ في قولِه : « حَضَرُوه » .
قوله : « قُضِي » العامَّةُ على بنائِه للمفعولِ أي : فَرَغَ [ مِنْ ] قراءةِ القرآنِ ، وهو يُؤَيِّدُ عَوْدَ هاء « حَضَروه » على القرآن . وأبو مجلز . وحبيب بن عبد الله « قَضَى » مبنياً للفاعلِ أي : أتَمَّ الرسولُ قراءتَه ، وهي تؤيِّدُ عَوْدَها على الرسولِ عليه السلام .

يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31)

قوله : { مِّن ذُنُوبِكُمْ } : يجوزُ أَنْ تكونَ تبعيضيَّةً ، وأن تكونَ مزيدةً عند مَنْ يرى ذلك .

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)

قوله : { وَلَمْ يَعْيَ } : العامَّةُ على سكونِ العينِ وفتحِ الياءِ مضارعَ عَيِيَ بالكسر يَعْيا بالفتحِ ، فلمَّا دَخَلَ الجازمُ حَذَفَ الألفَ . وقرأ الحسن « يَعِيْ » بكسر العين وسكون الياءِ . قالوا : وأصلُها عَيِيَ بالكسرِ ، فجعلَ الكسرةَ فتحةً على لغةِ طَيِّئ فصارَ « عَيا » كما قالوا في بَقِيَ : بَقَا . ولَمَّا بُني الماضي على فَعَلَ بالفتح جاء بمضارعِه على يَفْعِل بالكسرِ ، فصار يَعْيِي مثل : يَرْمي . فلمَّا دَخَلَ الجازمُ حَذَفَ الياءَ الثانيةَ فصار « لم يَعْيِ » بعين ساكنة وياء مكسورة ثم نَقَلَ حركةَ الياءِ إلى العينِ فصار اللفظُ كما ترى . وقد تَقَدَّم أن عَيِيَ وحَيِي فيهما لغتان : الفكُّ والإِدغامُ ، فأمَّا « حِيِي » فتقدَّمَ في الأنفال . وعَيَّ فكقولِه :
4049 عَيُّوا بأَمْرِهِمُ كما ... عَيَّتْ ببَيْضَتِها الحمَامَهْ
والعِيُّ : عَدَمُ الاهتداءِ إلى جهةٍ . ومنه العِيُّ في الكلامِ ، وعيِيَ بالأمرِ : إذا لم يَهْتَدِ لوَجْهه .
قوله : « بقادرٍ » الباءُ زائدةٌ . وحَسَّنَ زيادتَها كونُ الكلامِ في قوةِ « أليسَ اللَّهُ بقادرٍ » وقاس الزجَّاجُ « ما ظَنَنْتُ أنَّ أحداً بقائمٍ » عليها ، والصحيحُ التوقُّفُ . وقرأ عيسى وزيد بن علي والجحدريُّ « يَقْدِرُ » مضارعَ قَدَرَ ، والرسمُ يَحْتملُه . وقوله : « بلى » إيجابٌ لِما تضمَّنَه الكلامُ مِن النفي في قولِه : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ } .

وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34)

قوله : { أَلَيْسَ هذا } : معمولٌ لقولٍ مضمرٍ هو حالٌ ، كما تقدَّمَ في نظيرِه .

فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)

قوله : { فاصبر } : الفاءُ عاطفةٌ هذه الجملةَ على ما تقدَّمَ ، والسببيَّةُ فيها ظاهرةٌ .
قوله : « من الرسُل » يجوزُ أَنْ تكونَ تبعيضيَّةً ، وعلى هذا فالرسلُ أولو عَزْمٍ وغيرُ أُولي عَزْمٍ . ويجوز أَنْ تكونَ للبيانِ ، فكلُّهم على هذا أُوْلو عَزْم .
قوله : « بلاغٌ » العامَّةُ على رَفْعِه . وفيه وجهان ، أحدهما : أنَّه خبرُ مبتدأ محذوفٍ ، فقدَّره بعضُهم : تلك الساعةُ بلاغٌ ، لدلالةِ قولِه : { إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ } وقيل : تقديرُه هذا أي : القرآن والشرعُ بلاغٌ . والثاني : أنَّه مبتدأٌ ، والخبرُ قولُه : « لهم » الواقعُ بعد قولِه : « ولا تَسْتَعْجِلْ » أي : لهم بلاغٌ ، فيُوْقَفُ على « فلا تَسْتعجل » . وهو ضعيفٌ جداً للفصلِ بالجملةِ التشبيهية ، لأنَّ الظاهرَ تَعَلُّقُ « لهم » بالاستعجال ، فهو يُشْبِه التهيئةَ والقطعَ . وقرأ زيد بن علي والحسن وعيسى « بلاغاً » نصباً على المصدرِ أي : بَلَغَ بلاغاً ، ويؤيِّده قراءةُ أبي مجلز « بَلِّغْ » أمراً . وقرأ أيضاً « بَلَغَ » فعلاً ماضياً .
ويُؤْخَذُ مِنْ كلامِ مكيّ أنه يجوزُ نصبُه نعتاً ل « ساعةً » فإنه قال : « ولو قُرِئ » بلاغاً « بالنصبِ على المصدر أو على النعتِ ل » ساعةً « جاز » . قلت : قد قُرِئ به وكأنه لم يَطَّلِعْ على ذلك .
وقرأ « الحسن » أيضاً « بلاغ » بالجرِّ . وخُرِّجَ على الوصف ل « نهار » على حَذْفِ مضافٍ أي : مِنْ نَهارٍ ذي بلاغ ، أو وُصِف الزمانُ بالبلاغ مبالغةً .
قوله : « يُهْلَكُ » العامَّةُ على بنائِه للمفعولِ . وابن محيصن « يَهْلِك » بفتح الياء وكسرِ اللام مبنياً للفاعل . وعنه أيضاً فتحُ اللامِ وهي لغةٌ . والماضي هلِكَ بالكسر . قال ابن جني : « كلٌ مرغوبٌ عنها » . وزيد بن ثابت بضمِّ الياءِ وكسرِ اللام/ والفاعلُ اللَّهُ تعالى . « القومَ الفاسقين » نصباً على المفعولِ به . و « نُهْلك » بالنون ونصب « القوم » .

الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1)

بسم الله الرحمن الرحيم
قوله : { الذين كَفَرُواْ } : يجوزُ فيه الرفعُ على الابتداءِ . والخبرُ الجملةُ مِنْ قولِه : « أضَلَّ أعمالَهم » ، ويجوزُ نصبُه على الاشتغالِ بفعلٍ مقدرٍ يُفَسِّرُه « أضَلَّ » من حيثُ المعنى أي : خَيَّبَ الذين كفروا .

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2)

قوله : { والذين آمَنُواْ } : يجوز فيه الوجهان المتقدمان . وتقديرُ الفعلِ : « رَحِمَ الذين آمنوا » .
قوله : { بِمَا نُزِّلَ على مُحَمَّدٍ } العامَّةُ على بنائِه للمفعول مشدَّداً . وزيد ابن علي وابن مقسم « نَزَّل » مبنياً للفاعل ، وهو اللَّهُ تعالى . والأعمش « أُنْزِل » بهمزة التعدية مبنياً للمفعول . وقُرِئ « نَزَلَ » ثلاثياً مبنياً للفاعل .
قوله : « وهو الحقُّ » جملةٌ معترضةٌ بين المبتدأ والخبرِ ، أو بين المفسَّر والمفسِّر . وتقدَّم تفسيرُ البال في طه .

ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)

قوله : { ذَلِكَ } : فيه وجهان ، أظهرهما : أنه مبتدأٌ . والخبرُ الجارُّ بعدَه . والثاني : قاله الزمخشري أنَّه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : الأمرُ ذلك بسببِ كذا . فالجارُّ في محلِّ نصبٍ . قال الشيخ : « ولا حاجةَ إليه » .
قوله : « كذلك يَضْرِبُ » خرَّجَه الزمخشريُّ على : مِثْلَ ذلك الضربِ يَضْرِبُ اللَّهُ للناسِ أمثالَهم . والضميرُ راجعٌ إلى الفريقين أو إلى الناسِ ، على معنى : أنه يَضْرِبُ أمثالَهم لأجلِ الناس ليَعْتَبِروا .

فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4)

قوله : { فَإِذَا لَقِيتُمُ } : العاملُ في هذا الظرفِ فعلٌ مقدر هو العاملُ في « ضَرْبَ الرِّقاب » تقديرُه : فاضربوا الرقابَ وقتَ ملاقاتِكم العدوَّ . ومنع أبو البقاء أَنْ يكونَ المصدر نفسُه عاملاً قال : « لأنه مؤكَّدٌ » . وهذا أحدُ القولَيْن في المصدرِ النائبِ عن الفعل نحو : « ضَرْباً زيداً » هل العملُ منسوبٌ إليه أم إلى عامِله؟ ومنه :
4050 على حينَ أَلْهى الناسَ جُلُّ أمورِهمْ ... فنَدْلاً زُرَيْقُ المالَ نَدْلَ الثَّعالبِ
فالمالَ منصوبٌ : إمَّا ب « انْدُلْ » أو ب « نَدْلا » ، والمصدر هنا أُضيف إلى معمولِه . وبه اسْتُدِلَّ على أنَّ العملَ للمصدرِ لإِضافتِه إلى ما بعدَه ، ولو لم يكنْ عامِلاً لما أُضِيْفَ إلى ما بعده .
قوله : « حتى إذا » هذه غايةٌ للأمرِ بضَرْبِ الرقاب . وقرأ السُّلَمِيُّ « فَشِدُّوا » بكسر الشين . وهي ضعيفةٌ جداً . والوَثاق بالفتح - وفيه الكسر - اسمُ ما يُوْثَقُ به .
قوله : { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً } فيهما وجهان ، أشهرهما : أنهما منصوبان على المصدر بفعلٍ لا يجوزُ إظهارُه؛ لأنَّ المصدرَ متى سِيْقَ تفصيلاً لعاقبةِ جملةٍ وَجَبَ نصبُه بإضمارِ فِعْلٍ لا يجوزُ إظهارُه والتقديرُ : فإمَّا أَنْ تَمُنُّوا مَنًّا ، وإمَّا تُفادُوا فداءً . ومثله :
4051 لأَجْهَدَنَّ فإمَّا دَرْءُ واقِعَةٍ ... تُخْشَى وإمَّا بلوغُ السُّؤْلِ والأَمَلِ
والثاني : - قاله أبو البقاء - أنهما مفعولان بهما لعاملٍ مقدرٍ تقديره : « أَوْلُوْهُمْ مَنَّاً ، واقْبَلوا منهم فداءً » . قال الشيخ : « وليس بإعرابِ نحوي » . وقرأ ابن كثير « فِدَى » بالقصر . قال أبو حاتم : « لا يجوزُ؛ لأنه مصدرُ فادَيْتُه » ولا يُلْتَفت إليه؛ لأنَّ الفراءَ حكى فيه أربعَ لغاتٍ : المشهورةُ المدُّ والإِعرابُ : فداء لك ، وفداءٍ بالمد أيضاً والبناء على الكسر والتنوين ، وهو غريبٌ جداً . وهذا يُشْبه قولَ بعضِهم « هؤلاءٍ » بالتنوين ، وفِدى بالكسر مع القصر ، وفَدَى بالفتح مع القصرِ أيضاً .
والأَوْزارُ هنا : الأَثْقال ، وهو مجازٌ . قيل : هو مِنْ مجاز الحَذْف أي : أهل الحرب . والأَوْزار عبارةٌ عن آلاتِ الحرب . قال الشاعر :
4052 وأَعْدَدْت للحَرْبِ أوزارَها ... رِماحاً طِوالاً وخَيْلاً ذُكوراً
و « حتى » الأولى غايةٌ لضَرْبِ الرِّقاب ، والثانيةُ ل « شُدُّوا » . ويجوزُ أَنْ يكونا غايتين لضَرْبِ الرِّقابِ ، على أنَّ الثانيةَ توكيدٌ أو بدلٌ .
قوله : « ذلك » يجوزُ أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي : الأمرُ ذلك ، وأَنْ ينتصِبَ بإضمارِ افْعَلوا .
قوله : « ليَبْلُوَ بَعْضَكم » أي : ولكنْ أَمَرَكم بالقتال ليَبْلُوَ .
قوله : « قُتِلُوا » قرأ العامَّةُ « قاتلوا » وأبو عمروٍ وحفص « قُتِلوا » مبنياً للمفعولِ على معنى : أنَّهم قُتِلوا وماتوا ، أصاب القتلُ بعضَهم كقولِه : { قُتِل مَعَهُ رِبِّيُّونَ } . وقرأ الجحدري « قَتَلوا » بفتح القاف والتاءِ خفيفةً ، ومفعولُه محذوفٌ . وزيد بن ثابت والحسن وعيسى « قُتِّلوا » بتشديد التاء مبنياً للمفعول . /
وقرأ أمير المؤمنين علي « تُضَلَّ » مبنياً للمفعولِ « أعمالُهم » بالرفع لقيامِه مَقامَ الفاعلِ . وقُرِئَ « تَضِلَّ » بفتح التاء ، « أعمالُهم » بالرفع فاعلاً .

وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)

قوله : { عَرَّفَهَا } : يجوزُ فيها وجهان ، أحدهما : أَنْ تكونَ مستأنفةً . والثاني : أَنْ تكونَ حالاً فيجوزَ أَنْ تُضْمِرَ « قد » وأن لا تُضْمِرَ . و « عَرَّفها » : من التعريف الذي هو ضدُّ الجهل . وقيل : من الرَّفْع . وقيل : من العَرْف وهو الطِّيب . وقرأ أبو عمروٍ في رواية « ويُدْخِلْهم » بسكون اللامِ . وكذا ميمُ { نُطْعِمُكُمْ } [ الانسان : 9 ] وعين { يَجْمَعُكُمْ } [ التغابن : 9 ] كأنه يَسْتَثْقِلُ الحركاتِ . وقد قرأتُ له بذلك في { يُشْعِرُكُمْ } [ الأنعام : 109 ] و { يَنصُرُكُمْ } [ الملك : 20 ] وبابه .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)

قوله : { وَيُثَبِّتْ } : قرأه العامَّةُ مُشَدَّداً . ورُوي عن عاصم تخفيفُه مِنْ أَثْبَتَ .

وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8)

قوله : { والذين كَفَرُواْ } : يجوز أَنْ يكونَ مبتدأً ، والخبرُ محذوفٌ . تقديره : فَتَعِسُوا وأُتْعِسُوا ، يَدُلُّ عليه « فَتَعْساً » فتعساً منصوبٌ بالخبرِ . ودَخَلَتِ الفاءُ تشبيهاً للمبتدأ بالشرط . وقدَّرَ الزمخشري الفعلَ الناصبَ ل « تَعْساً » فقال : « لأنَّ المعنى : فقال تعساً أي : فقضى تَعْساً لهم » . قال الشيخ : « وإضمارُ ما هو من لفظِ المصدر أَوْلَى » . والثاني : أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدر يُفَسِّره « فتَعْساً لهم » كما تقول : زيداً جَدْعاً له ، كذا قال الشيخ تابِعاً للزمخشريِّ . وهذا لا يجوزُ لأنَّ « لهم » لا يتعلَّقُ ب « تَعْساً » ، إنما هو متعلقٌ بمحذوفٍ لأنَّه بيانٌ أي : أعني لهم : وقد تقدَّم تحقيقُ هذا والاستدلالُ عليه . فإنْ عَنَيا إضماراً مِنْ حيث مطلقُ الدلالةِ لا من جهةِ الاشتغالِ فَمُسَلَّمٌ ، ولكنْ تَأْباه عبارتُهما وهي قولُهما : منصوبٌ بفعلٍ مضمرٍ يُفَسره « فَتَعْساً لهم » ، و « أَضَلَّ » عطفٌ على ذلك الفعل المقدرِ أي : أتعسَهُم وأضلَّ أعمالهم . والتَّعْسُ : ضدُّ السَّعْدِ يقال : تَعَسَ الرجلُ بالفتح تَعْساً وأَتْعَسَهَ اللَّهُ . قال مجمِّع :
4053 تقولُ وقد أَفْرَدْتُها مِنْ حَليلِها ... تَعِسْتَ كما أَتْعَسْتَني يا مُجَمِّعُ
وقيل : تعِس بالكسرِ ، عن أبي الهيثم وشَمِر وغيرِهما . وعن أبي عبيدة : تَعَسَه وأَتْعَسَه متعدِّيان فهما مما اتَّفَق فيهما فَعَل وأَفْعَل وقيل : التَّعْسُ ضدُّ الانتعاش . قال الزمخشري : « وتَعْساً له نقيض لَعَا له » يعني أنَّ كلمةَ « لَعا » بمعنى انتعش . قال الأعشى :
4054 بذاتِ لَوْثٍ عَفَرْناةٍ ، إذا عَثَرَتْ ... فالتَّعْسُ أَدْنى لها مِنْ أَنْ أقولَ لَعَا
وقيل : التَّعْسُ الهَلاك . وقيل : التَّعْسُ الجَرُّ على الوجهِ ، والنَّكْسُ الجرُّ على الرأس .

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)

قوله : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ } : يجوزُ أَنْ يكونَ « ذلك » مبتدأً ، والخبرُ الجارُّ بعدَه ، أو خبرُ مبتدأ مضمرٍ . أي : الأمرُ ذلك بسبب أنهم كَرهوا ، أو منصوبٌ بإضمارِ فعلٍ أي : فَعَل بهم ذلك بسببِ أنَّهم كَرِهوا ، فالجارُّ في الوجهَيْن الأخيرَيْن منصوبُ المحلِّ .

أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10)

قوله : { دَمَّرَ الله عَلَيْهِمْ } : يجوزُ أَنْ يكونَ حَذَفَ مفعولَه أي : أهلك اللَّهُ بيوتَهم وخَرَّبها عليهم ، أو يُضَمَّنَ « دَمَّر » معنى : سَخِط اللَّهُ عليهم بالتدمير .
قوله : « أمثالُها » أي : أمثال العاقبةِ المتقدِّمة . وقيل : أمثال العقوبة . وقيل : التَّدْميرة . وقيل : الهَلَكة . والأولُ أَوْلَى لتقدُّم ما يعودُ عليه الضميرُ صريحاً مع صحةِ معناه .

ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11)

قوله : { ذَلِكَ بِأَنَّ } : كقولِه فيما تقدَّم . والوَلِيُّ هنا : الناصِرُ .

إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)

قوله : { كَمَا تَأْكُلُ الأنعام } : إمَّا حالٌ مِنْ ضميرِ المصدرِ أي : يأْكلوا الأكلَ مُشْبِهاً أَكْلَ الأنعام ، وإمَّا نعتٌ لمصدرٍ أي : أكلاً مثلَ أكلِ الأنعامِ .
قوله : { والنار مَثْوًى لَّهُمْ } يجوزُ أَنْ تكونَ هذه الجملةُ استئنافاً . ويجوزُ أَنْ تكونَ حالاً ، ولكنَّها مقدرةٌ أي : يأكلون مُقَدَّراً ثَوِيُّهم في النار .

وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13)

قوله : { وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ } يريد أهلَ قريةٍ ، ولذلك راعى هذا المقدَّرَ في « أَهْلَكْناهم » { فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ } بعد ما راعى المضافَ في قوله : « هي أشدُّ » والجملةُ مِنْ « هي أشدُّ » صفةٌ لقرية . وقال ابنُ عطية : « نَسَبَ الإِخراجَ للقرية ، حَمْلاً على اللفظِ ، وقال : » أهلكناهم « حَمْلاً على المعنى » . قال الشيخ : « وظاهرُ هذا الكلامِ لا يَصِحُّ؛ لأن الضميرَ في » أهلكناهم « ليس عائداً على المضافِ إلى القرية التي أَسْنَدَ إليها الإِخراجَ ، بل على أهلِ القرية ، في قوله : { وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ } [ فإنْ كان أرادَ بقولِه : » حَمْلاً على المعنى « أي : معنى القرية مِنْ قوله : { وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ } ] فهو صحيحٌ ، لكنَّ ظاهرَ/ قولِه : » حَمْلاً على اللفظِ « و » حَمْلاً على المعنى « أَنْ يكونَ في مدلولٍ واحدٍ ، وكان على هذا يَبْقى » كَأَيِّنْ « مُفْلَتاً غيرَ مُحَدَّثٍ عنه بشيء ، إلاَّ أَنْ يُتَخَيَّلَ أنَّ » هي أشدُّ « خبرٌ عنه ، والظاهرُ أنَّه صفةٌ ل قرية » . قلت : وابن عطيةَ إنما أراد لفظَ القريةِ مِنْ حيث الجملةُ لا من حيث التعيينُ .

أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14)

قوله : { أَفَمَن كَانَ } : مبتدأٌ ، والخبر « كَمَنْ زُيِّنَ » ، وحُمِل على لفظ « مَنْ » فأُفْرِدَ في قوله : { لَهُ سواء عَمَلِهِ } وعلى المعنى فجُمِعَ في قوله : { واتبعوا أَهْوَاءَهُمْ } ، والجملةُ مِنْ « اتَّبعوا » عطفٌ على « زُيِّنَ » فهو صلةٌ .

مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)

قوله : { مَّثَلُ الجنة } : فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه مبتدأٌ ، وخبرُه مقدرٌ . فقدَّره النضر بن شميل : مثلُ الجنةِ ما تَسْمعون ، ف « ما تَسْمعون » خبرُه ، و « فيها أنهارٌ » مُفَسِّرٌ له . وقَدَّره سيبويه : « فيما يُتْلَى عليكم مَثَلُ الجنة » ، والجملةُ بعدَها أيضاً مُفَسِّرةٌ للمَثل . الثاني : أن « مَثَل » زائدةٌ تقديرُه : الجنة التي وُعِدَ المتقون فيها أنهارٌ . ونظيرُ زيادةِ « مَثَل » هنا زيادةُ « اسم » في قولِه :
4055 إلى الحَوْلِ ثم اسْمُ السَّلامِ عليكما ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الثالث : أنَّ « مَثَل الجنة » مبتدأٌ ، والخبر قولُه : « فيها أنهارٌ » ، وهذا ينبغي أَنْ يمتنعَ؛ إذ لا عائدَ من الجملةِ إلى المبتدأ ، ولا ينْفَعُ كونُ الضميرِ عائداً على ما أُضيف إليه المبتدأ . الرابع : أنَّ « مَثَل الجنة » مبتدأٌ ، خبرُه « { كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النار } ، فقَدَّره ابنُ عطية : » أمَثَلُ أهلِ الجنة كمَنْ هو خالدٌ « ، فقدَّر حرفَ الإِنكارِ ومضافاً ليصِحَّ . وقدَّره الزمخشري : » أَمَثَلُ الجنةِ كمَثَلِ جزاءِ مَنْ هو خالدٌ « . والجملةُ مِنْ قولِه : » فيها أنهارٌ « على هذا فيها ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : هي حالٌ من الجنة أي : مستقرَّةٌ فيها أنهارٌ . الثاني : أنها خبرٌ لمبتدأ مضمرٍ أي : هي فيها أنهارٌ ، كأنَّ قائلاً قال : ما مَثَلُها؟ فقيل : فيها أنهار . الثالث : أَنْ تكونَ تكريراً للصلة؛ لأنَّها في حكمِها ألا ترى إلى أنَّه يَصِحُّ قولُك : التي فيها أنهار ، وإنما عَرِيَ قولُه : » مَثَلُ الجنةِ « من حرفِ الإِنكار تصويراً لمكابرةِ مَنْ يُسَوِّي بين المُسْتَمْسِكِ بالبيِّنَةِ وبين التابِع هواه كمَنْ يُسَوِّي بين الجنة التي صفتُها كيتَ وكيتَ ، وبين النارِ التي صفتُها أَنْ يُسْقَى أهلُها الحميمَ . ونظيرُه قولُ القائلِ :
4056 أَفْرَحُ أَنْ أُرْزَأَ الكرامَ وأَنْ ... أُوْرَثَ ذَوْداً شَصائِصاً نَبْلا
هو كلامٌ مُنْكِرٌ للفرح برُزْئِه الكرامَ ووِراثةِ الذَّوْدِ ، مع تَعَرِّيه من حرف الإِنكارِ ، ذكر ذلك كلَّه الزمخشريُّ بأطولَ مِنْ هذه العبارةِ .
وقرأ عليُّ بن أبي طالب » مثالَ الجنةِ « . وعنه أيضاً وعن ابن عباس وابن مسعود » أمثالُ « بالجمع .
قوله : » آسِنٍ « قرأ ابنُ كثير » أَسِنٍ « بزنة حَذِرٍ وهو اسمُ فاعلٍ مِنْ أَسِنَ بالكسرِ يَأْسَنُ ، فهو أَسِنٌ ك حَذِرَ يَحْذَر فهو حَذِرٌ . والباقون » آسِنٍ « بزنةِ ضارِب مِنْ أَسَنَ بالفتح يَأْسِن ، يقال : أَسَن الماءُ بالفتح يَأْسِن ويَأْسُن بالكسرِ والضمِّ أُسُوْناً ، كذا ذكره ثعلب في » فصيحه « . وقال اليزيدي : » يقال : أَسِن بالكسرِ يَأْسَنُ بالفتح أَسَناً أي : تَغَيَّر طعمُه . وأمَّا أسِن الرجلُ - إذا دَخَل بئراً فأصابه مِنْ ريحِها ما جعل في رأسِه دُواراً - فأَسِن بالكسرِ فقط .

قال الشاعر :
4057 قد أترُكُ القِرْن مُصْفَرَّاً أنامِلُه ... يَميد في الرُّمْح مَيْدَ المائِح الأَسِنِ
وقُرِئَ « يَسِنٍ » بالياء بدلَ الهمزةِ . قال أبو علي : « هو تَخفيفُ أَسِنٍ » وهو تخفيفٌ غريبٌ .
قوله : { لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ } صفةٌ ل « لبنٍ » . قوله : « لذة » يجوز أَنْ يكونَ تأنيثَ لَذّ ، ولَذٌّ بمعنى لذيذ ، ولا تأويلَ على هذا ، ويجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً وُصِفَ به . وفيه التأويلاتُ المشهورةُ . والعامَّةُ على جرِّ « لَذَّةٍ » صفةً ل « خَمْرٍ » وقُرِئ بالنصب على المفعولِ له ، وهي تؤيِّدُ المصدريةَ في قراءةِ العامَّةِ ، وبالرفع صفةً ل « أنهارٌ » ، ولم تُجْمَعْ لأنها مصدرٌ إنْ قيلَ به ، وإنْ لا فلأنَّها صفةٌ لجمعٍ غيرِ عاقلٍ ، وهو يُعامَلُ معاملةَ المؤنثةِ الواحدةِ .
قوله : « مِنْ عَسَلٍ » نقلوا في « عَسَل » التذكيرَ والتأنيثَ ، وجاء القرآنُ على التذكيرِ في قوله : « مُصَفَّى » . والعَسَلان : العَدْوُ . وأكثرُ استعمالِه في الذئبِ ، يقال : عَسَل الذئبُ والثعلبُ ، وأصلُه مِنْ عَسَلانِ الرُّمح وهو اهتزازُه ، فكأنَّ العادِيَ يهزُّ أعضاءَه ويُحَرِّكها قال الشاعر : /
4058 لَدْنٌ بِهَزِّ الكفِّ يَعْسِلُ مَتْنُه ... فيه كما عَسَل الطريقَ الثعلبُ
وكُنِي بالعُسَيْلة عن الجماعِ لِما بينهما . قال عليه السلام : « حتى تَذوقي عُسَيْلَتَه ويذوقَ عُسَيْلَتَك » . قوله : { مِن كُلِّ الثمرات } فيها وجهان ، أحدهما : أن هذا الجارَّ صفةٌ لمقدرٍ ، ذلك المقدَّرُ مبتدأٌ ، وخبرُه الجارُّ قبلَه وهو « لهم » . و « فيها » متعلِّقٌ بما تعلَّقَ به . والتقديرُ : ولهم فيها زوجان مِنْ كلِّ الثمراتِ ، كأنه انَتَزَعَه مِنْ قولِه تعالى : { فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ } [ الرحمن : 52 ] وقَدَّره بعضُهم : صِنْفٌ ، والأولُ أليقُ . والثاني : أن : « مِنْ » مزيدةٌ في المبتدأ .
قوله : « ومَغْفِرَةٌ » فيه وجهان ، أحدُهما : أنه عطفٌ على ذلك المقدر لا بقَيْدِ كونِه في الجنة أي : ولهم مغفرةٌ ، لأن المغفرةَ تكون قبلَ دخولِ الجنة أو بُعَيْدَ ذلك . ولا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ حينئذٍ أي : ونعيمُ مغفرةٍ؛ لأنه ناشِئٌ عن المغفرةِ ، وهو في الجنة .
والثاني : أن يُجْعَلَ خبرُها مقدَّراً أي : ولهم مغفرةٌ . والجملةُ مستأنفةٌ . والفرقُ بين الوجهَيْنِ : أنَّ الوجهَ الذي قبل هذا فيه الإِخبارُ ب « لهم » الملفوظِ به عن سَنَنِ ذلك المحذوف ، و « مغفرةٌ » ، وفي الوجه الآخر الخبر جارٌّ آخرُ ، حُذِفَ للدلالةِ عليه .
قوله : « كمَنْ هو » قد تقدَّم أنَّه يجوزُ أَنْ يكونَ خبراً عن « مَثَلُ الجنة » بالتأويلَيْن المذكورَيْن عن ابنِ عطيةَ والزمخشريِّ . وأمَّا إذا لم نجعَلْه خبراً عن « مَثَلُ » ففيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدها : أنَّه خبرُ مبتدأ محذوفٍ تقديرُه : أحال هؤلاء المتَّقين كحالِ مَنْ هو خالدٌ . وهذا تأويلٌ صحيحٌ . وذكر فيه أبو البقاء الأوجهَ الباقيةَ وقال : « وهو في موضعِ رفعٍ أي : حالُهم كحالِ مَنْ هو خالدٌ في النارِ .

وقيل : هو استهزاءٌ بهم . وقيل : هو على معنى الاستفهامِ ، أي : أكمَنْ هو خالدٌ . وقيل : في موضعِ نصبٍ أي : يُشْبِهون حالَ مَنْ هو خالدٌ في النار « انتهى . معنَى قولِه : » وقيل هو استهزاءٌ « أي : أن الإِخبار بقولِك : حالُهم كحالِ مَنْ ، على سبيلِ الاستهزاءِ والتهكُّمِ .
قوله : » وسُقُوا « عطفٌ على الصلةِ ، عَطَفَ فعليةً على اسمية ، لكنه راعى في الأولِ لفظ » مَنْ « فأَفْرَدَ ، وفي الثانيةِ معناها فجَمَعَ .
والأَمْعاءُ : جمع مِعىً بالقصرِ ، وهو المُصْرانُ الذي في البطن وقد وُصِفَ بالجمع في قوله :
4059 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . ومِعَىً جياعا
على إرادةِ الجنسِ . وألفُه عن ياءٍ بدليلِ قولهم : مِعَيان .

وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16)

قوله : { آنِفاً } : فيه وجهان ، أحدهما : أنه منصوبٌ على الحالِ ، فقدَّره أبو البقاء : « ماذا قال مُؤْتَنِفا » . وقَدَّره غيرُه : مُبْتَدِئاً أي : ما القولُ الذي ائْتَنَفه الآن قبلَ انفصالِه عنه . والثاني : أنه منصوبٌ على الظرفِ أي : ماذا قال الساعةَ ، قاله الزمخشري . وأنكره الشيخ قال : « لأنَّا لم نعلَمْ أحداً عَدَّه من الظروف » . واختلفَتْ عبارتُهم في معناه : فظاهرُ عبارةِ الزمخشري أنه ظرفٌ حاليٌّ ك الآن ، ولذلك فَسَّره بالساعة . وقال ابن عطية : « والمفسِّرون يقولون : آنِفاً معناه الساعةُ الماضيةُ القريبةُ منَّا وهذا تفسيرٌ بالمعنى » .
وقرأ البزيُّ بخلافٍ عنه « أَنِفاً » بالقصرِ . والباقون بالمدِّ ، وهما لغتان بمعنىً واحدٍ ، وهما اسما فاعِل ك حاذِر وحَذِر ، وآسِن وأَسِن ، إلاَّ أنَّه لم يُسْتعمل لهما فِعْلٌ مجردٌ ، بل المستعملُ ائْتَنَفَ يَأْتَنِفُ ، واسْتَأْنف يَسْتأنف . والائْتِنافُ والاسْتِئْناف : الابتداء . قال الزجَّاج : « هو مِنْ اسْتَأْنَفْتُ الشيءَ إذا ابتدَأْتَه أي : ماذا قال في أولِ وقتٍ يَقْرُب مِنَّا » .

وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)

قوله : { والذين اهتدوا } : يجوزُ فيه الرفعُ بالابتداءِ ، والنصبُ على الاشتغالِ . و « تَقْواهم » مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه . والضمير في « آتاهم » يعودُ على اللَّهِ أو على قولِ المنافقين؛ لأنَّ قولهم ذلك مِمَّا يزيدُ المؤمنينَ تقوى ، أو على الرسول .

فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18)

قوله : { أَن تَأْتِيَهُمْ } : بدلٌ من الساعة بدلُ اشتمالٍ . وقرأ أبو جعفر الرؤاسي : « إنْ تَأْتِهم » ب إنْ الشرطيةِ ، وجزمِ ما بعدها . وفي جوابِها وجهان ، أحدهما : أنَّه قولُه : « فأنَّى لهم » قاله الزمخشريُّ . ثم قال : « فإنْ قلت : بِمَ يتصلُ قولُه : { فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا } على القراءتَيْن؟ قلت : بإتيان السَّاعةِ ، اتصالَ العلةِ بالمعلولِ كقولك : إنْ أكرَمَني زيدٌ فأنا حقيقٌ بالإِكرامِ أُكْرِمْه » . والثاني : أنَّ الجوابَ قولُه : { فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا } ، وإتيانُ الساعةِ ، وإنْ كان متحققاً ، إلاَّ أنهم عُوْمِلوا مُعاملةَ الشاكِّ ، وحالُهم كانت كذا .
والأَشْراط : جمع شَرْط بسكونِ/ الراءِ وفتحِها . قال أبو الأسود :
4060 فإن كنتِ قد أَزْمَعْتِ بالصَّرْمِ بَيْنَنَا ... فقد جَعَلَتْ أَشْراطُ أَوَّلِه تَبْدو
والأشراطُ : العلاماتُ ، ومنه أَشْراط الساعةِ . وأَشْرَطَ الرجلُ نفسَه أي : ألزمها أموراً . قال أوس :
4061 فأَشْرَطَ فيها نَفْسَه وهو مُعْصِمٌ ... فأَلْقَى بأسبابٍ له وتَوَكَّلا
والشَّرْطُ : القَطْعُ أيضاً ، مصدرُ شَرَطَ الجلدَ يَشْرِطُه ( يَشْرُطُه ) شَرْطاً .
قوله : « فَأَنَّى لهم » « أنَّى » خبرٌ مقدمٌ و « ذِكْراهم » مبتدأٌ مؤخرٌ أي : أنَّى لهم التذكيرُ . وإذا وما بعدها معترضٌ وجوابُها محذوفٌ أي : كيف لهم التذكيرُ إذا جاءَتْهم الساعةُ؟ فيكف يتذكَّرون؟ ويجوز أن يكونَ المبتدأُ محذوفاً أي : أنَّى لهم الخَلاصُ ، ويكون « ذِكْراهم » فاعلاً ب « جاءَتْهم » .
وقرأ أبو عمروٍ في رواية « بَغَتَّةً » بفتح الغينِ وتشديدِ التاء ، وهي صفةٌ ، فنصبُها على الحال ، ولا نظيرَ لها في الصفات ولا في المصادر ، وإنما هي في الأسماء نحو : الجَرَبَّة للجماعةِ ، والشَّرَبَّة للمكان . قال الزمخشري : « ما أَخْوَفني أن تكونَ غَلْطَةً من الراوي عن أبي عمرو ، وأَنْ يكونَ الصوابُ » بَغَتَةً « بالفتح دون تشديد » .

وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21)

قوله : { لَوْلاَ نُزِّلَتْ } : هذه بمعنى : هَلاَّ ، ولا التفاتَ إلى قول بعضِهم : إنَّ « لا » زائدةٌ والأصلُ : لو نُزِّلَتْ . والعامَّةُ على رفع « سورةٌ مُحْكَمَةٌ » لقيامِها مقامَ الفاعل . وزيد بن علي بالنصبِ فيهما على الحالِ والقائمُ مَقامَ الفاعلِ ضميرُ السورة المتقدمةِ ، وسوَّغ وقوع الحال كذا وَصْفُها كقولك : الرجل جاءني رجلاً صالحاً . وقُرئ : { فَإِذَآ نَزَلَتْ سُورَةٌ } . وقرأ زيدُ بن علي وابن عمير « وذَكَرَ » مبنياً للفاعل أي : اللَّه تعالى . « القتالَ » نصباً .
قوله : « نَظَرَ المَغْشِيِّ » الأصلُ : نَظَراً مِثْلَ نَظَر المَغْشِيِّ .
قوله : { فأولى لَهُمْ طَاعَةٌ } اختلف اللغويون والمُعْربون في هذه اللفظةِ ، فقال الأصمعي : إنها فعلٌ ماضٍ بمعنى : قارَبَ ما يُهْلِكه وأنشد :
4062 فعادَى بينَ هادِيَتَيْنِ مِنْها ... وَأَوْلَى أَنْ يزيدَ على الثلاثِ
أي : قارَبَ أن يزيدَ . قال ثعلب : « لم يَقُلْ أحدٌ في » أَوْلَى « أحسنَ مِنْ قولِ الأصمعيِّ » ، ولكنْ الأكثرون على أنه اسمٌ . ثم اختلف هؤلاء فقيل : هو مشتقٌّ من الوَلْيِ وهو القُرْبُ كقوله :
4063 يُكَلِّفُني لَيْلَى وقد شَطَّ وَلْيُها ... وعادَتْ عَوادٍ بيننا وخُطُوْبُ
وقيل : هو مشتقُّ مِن الوَيْلِ . والأصلُ : فيه أَوْيَل فقُلبت العين إلى ما بعدَ اللام فصارَ وزنُه أَفْلَع . وإلى هذا نحا الجرجانيُّ . والأصلُ عدم القَلْبِ . وأمَّا معناها فقيل : هي تهديدٌ ووعيدٌ كقولِه :
4064 فأَوْلَى ثم أَوْلَى ثم أَوْلَى ... وهَلْ للدَرِّ يُحْلَبُ مِنْ مَرَدِّ
وقال المبرد : يُقال لمَنْ هَمَّ بالغضبِ : أَوْلَى لك ، كقولِ أعرابي كان يُوالي رَمْيَ الصيدِ فيَفْلَتُ منه فيقول : أَوْلى لك ، ثم رمى صيداً فقارَبَه فأفلتَ منه ، فقال :
4065 فلو كان أَوْلَى يُطْعِمُ القومَ صِدْتُهم ... ولكنَّ أَوْلى يَتْرُكُ القومَ جُوَّعا
هذا ما يتعلَّقُ باشتقاقِه ومعناه . أمَّا الإِعرابُ : فإن قلنا بقول الجمهور ففيه أوجهٌ ، أحدُها : أنَّ « أَوْلَى » مبتدأٌ ، و « لهم » خبرُه ، تقديرُه : فالهلاكُ لهم . وسَوَّغَ الابتداءَ بالنكرة كونُه دعاءً نحو : { ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ } [ الهمزة : 1 ] . الثاني : أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ تقديرُه العقابُ أو الهلاكُ أَوْلَى لهم ، أي : أقربُ وأَدْنى . ويجوز أن تكونَ اللامُ بمعنى الباءِ أي : أَوْلَى وأحَقُّ بهم . الثالث : أنه مبتدأٌ ، و « لهم » متعلِّقٌ به ، واللامُ بمعنى الباء . و « طاعةٌ » خبره ، والتقدير : أولَى بهم طاعةٌ دونَ غيرِها . وإنْ قلنا بقول الأصمعيِّ فيكون فعلاً ماضياً وفاعلُه مضمر ، يَدُلُّ عليه السِّياقُ كأنه قيل : فأَوْلَى هو أي : الهلاكُ ، وهذا ظاهرُ عبارةِ الزمخشري حيث قال : « ومعناه الدعاءُ عليهم بأَنْ يَلِيَهم المكروهُ » . وقال ابن عطية : / « المشهورُ من استعمالِ العرب أنك تقول : هذا أَوْلَى بك مِنْ هذا أي : أحقُّ . وقد تَسْتعملُ العربُ » أَوْلَى « فقط على جهةِ الحذفِ والاختصارِ لِما معها من القول فتقول : أَوْلَى لك يا فلانُ على جهةِ الزَّجْرِ والوعيد » انتهى .

وقال أبو البقاء : « أَوْلَى مؤنثة أَوْلات » وفيه نظر لأن ذلك إنما يكون في التذكير والتأنيث الحقيقيَيْن ، أمَّا التأنيثُ اللفظيُّ فلا يُقال فيه ذلك . وسيأتي له مزيدُ بيانٍ في سورة القيامة إنْ شاء الله .
قوله : { طَاعَةٌ } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه خبرُ « أَوْلَى لهم » على ما تقدَّم . الثاني : أنها صفةٌ ل « سورةٌ » أي : فإذا أُنْزِلَتْ سورةٌ مُحْكَمَةٌ طاعةٌ أي : ذاتُ طاعةٍ أو مُطاعةٌ . ذكره مكيٌّ وأبو البقاء وفيه بُعْدٌ لكثرةِ الفواصلِ . الثالث : أنها مبتدأٌ و « قولٌ » عطفٌ عليها ، والخبرُ محذوفٌ تقديرُه : أَمْثَلُ بكم مِنْ غيرِهما . وقَدَّره مكي : مِنَّا طاعةٌ ، فقدَّره مقدَّماً . الرابع : أن يكونَ خبرَ مبتدأ محذوفٍ أي : أَمْرُنا طاعةٌ . الخامس : أنَّ « لهم » خبرٌ مقدمٌ ، و « طاعةٌ » مبتدأٌ مؤخرٌ ، والوقف والابتداء يُعْرَفان مِمَّا قدَّمْتُه فتأمَّلْه .
قوله : « فإذا عَزَمَ » في جوابِها ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : قولُه : « فلو صَدَقُوا » نحو : « إذا جاءني طعامٌ فلو جِئْتَني أطعمتُك » . الثاني : أنه محذوفٌ تقديره : فاصْدُقْ ، كذا قَدَّره أبو البقاء . الثالث : أن تقديرَه : فاقْضُوا . وقيل : تقديره : كَرِهوا ذلك و « عَزَمَ الأمرُ » على سبيل الإِسنادِ المجازيِّ كقولِه :
4066 قد جَدَّتِ الحربُ بكم فَجُدُّوا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أو يكونُ على حَذْفِ مضافٍ أي : عَزَمَ أهلُ الأمرِ .

فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22)

قوله : { أَن تُفْسِدُواْ } : خبرُ « عسى » ، والشرطُ معترضٌ بينهما ، وجوابُه محذوفٌ لدلالةِ « فهل عَسَيْتُم » عليه أو هو يُفَسِّره « فهل عَسَيْتُمْ » عند مَنْ يرى تقديمَه . وقرأ عليٌّ « إنْ تُوُلِّيْتُمْ » بضم التاءِ والواوِ وكسرِ اللام مبنياً للمفعول مِن الوِلاية أي : إنْ وَلَّيْتُكم أمورَ الناس . وقُرئ « وُلِّيْتُمْ » من الوِلاية أيضاً . وهاتان تَدُلاَّن على أنَّ « تَوَلَّيْتُمْ » في العامَّةِ من ذلك . ويجوز أن يكونَ من الإِعراضِ وهو الظاهرُ . وفي قوله : « عَسَيْتُمْ » إلى آخره التفاتٌ مِنْ غَيْبة في قوله : { الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } إلى خطابِهم بذلك زيادةً في توبيخِهم .
وقرأ العامَّةُ « وتُقَطِّعوا » بالتشديد على التكثير . وأبو عمروٍ في روايةٍ وسلام ويعقوب بالتخفيف ، مضارعَ قَطَعَ . والحسن بفتح التاء والطاءِ مشددةً . وأصلُها تَتَقَطَّعوا بتاءَيْن حُذِفَتْ أحداهما . وانتصابُ « أرحامَكم » على هذا على إسقاط الخافض أي : في أرحامكم .

أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)

قوله : { أولئك } : مبتدأ ، والموصولُ خبرُه . والتقدير : أولئك المُفْسِدون ، يَدُلُّ عليه ما تقدَّم . وقوله : « فأَصَمَّهم » . ولم يَقُلْ : فَأَصَمَّ آذانَهم ، و « أَعْمى أَبْصَارهم » ولم يَقُلْ : أَعْماهم . قيل : لأنَّه لا يَلزَمُ مِنْ ذهابِ الأُذُنِ ذَهابُ السماع فلم يتعرَّضْ لها ، والأَبْصار - وهي الأعينُ - يَلْزَمُ مِنْ ذهابِها ذهابُ الإِبصارِ ولا يَرِد عليك { في آذَانِهِمْ وَقْرٌ } [ فصلت : 44 ] ونحوه لأنه دونَ الصَّمَمِ ، والصَّممُ أعظمُ منه .

أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)

قوله : { أَمْ على قُلُوبٍ } : أم منقطعةٌ . وقد عَرَفْتَ ما فيها . والعامَّةُ « على أَقْفالُها » بالجمع على أَفْعال . وقُرئ « أَقْفُلُها » على أَفْعُل . وقُرِئ « إقْفالُها » بكسرِ الهمزةِ مصدراً كالإِقبال . وهذا الكلامُ استعارةٌ بليغةٌ جُعِلَ ذلك عبارةً عن عَدَمِ وصولِ الحقِّ إليها .

إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25)

قوله : { الشيطان سَوَّلَ } : هذه الجملةُ خبرُ { إِنَّ الذين ارتدوا } . وقد تقدَّم الكلامُ على « سَوَّل » معنًى واشتقاقاً . وقال الزمخشري هنا : « وقد اشتقَّه من السُّؤْل مَنْ لا عِلْمَ له بالتصريفِ والاشتقاقِ جميعاً » كأنَّه يُشير إلى ما قاله ابن بحر : مِنْ أنَّ المعنى : أعطاهم سُؤْلَهم . ووجهُ الغلطِ فيه أنَّ مادةَ السُّؤْلِ من السؤال بالهمز ، ومادةَ هذا بالواوِ فافترقا ، فلو كان على ما قيل لقيل : سَأَّل بتشديد الهمزة لا بالواو . وفيما قاله الزمخشريُّ نَظَرٌ؛ لأن السؤالَ له مادتان : سَأَل بالهمز ، وسال بالألفِ المنقلبةِ عن واوٍ ، وعليه قراءةُ « سال سايل » وقوله :
4067 سالَتْ هُذَيْلٌ رسولَ الله فاحِشةً ... ضَلَّتْ هُذَيْلٌ بما سالَتْ ولم تُصِبِ
وقد تقدَّم هذا في البقرةِ مُسْتوفى .
قوله : « وأَمْلَى » العامَّةُ على « أَمْلَى » مبنياً للفاعل ، وهو ضمير الشيطان . وقيل : هو للباري تعالَى . قال أبو البقاء : « على الأول يكونُ معطوفاً على الخبر ، وعلى الثاني يكونُ مُسْتأنفاً » . ولا يَلْزَمُ ما قاله بل هو معطوفٌ على الخبر في كلا التقديرَيْن ، أخبر عنهم بهذا وبهذا . وقرأ أبو عمروٍ في آخرين « أُمْلِيَ » مبنياً للمفعول ، والقائمُ مَقامَ الفاعلِ الجارُّ . وقيل : القائم مَقامَه ضميرُ الشيطان ، ذكره أبو البقاء ، ولا معنى لذلك . وقرأ يَعْقُوبُ وسلام ومجاهد/ « وأُمْلِيْ » بضمِ الهمزةِ وكسرِ اللام وسكونِ الياءِ . فاحتملَتْ وجهَيْن ، أحدُهما : أَنْ يكونَ مضارعاً مُسْنداً لضمير المتكلم أي : وأُمْلِي أنا لهم ، وأَنْ يكونَ ماضياً كقراءة أبي عمروٍ سُكِّنَتْ ياؤه تخفيفاً . وقد مضى منه جملةٌ .

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26)

قوله : { إِسْرَارَهُمْ } : قرأ الأخَوان وحفصٌ بكسرِ الهمزة مصدراً ، والباقون بفتحها جمعَ « سِرّ » .

فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27)

قوله : { فَكَيْفَ } : إمَّا خبرٌ مقدمٌ أي : فكيف عِلْمُه بإسْرارِهم إذا تَوَفَّتْهم؟ وإمَّا منصوبٌ بفعلٍ محذوفٍ أي : فكيف يَصْنعون؟ وإمَّا خبرٌ ل « كان » مقدرةً أي : فكيف يكونون؟ والظرفُ معمولٌ لذلك المقدَّرِ . وقرأ الأعمش « تَوَفَّاهم » دونَ تاءٍ فاحتملَتْ وجهين : أن يكونَ ماضياً كالعامَّةِ ، وأن يكونَ مضارعاً حُذِفَت إحدى ياءَيْه .
قوله : « يَضْرِبُون » حالٌ : إمَّا من الفاعلِ ، وهو الأظهرُ ، أو مِن المفعولِ .

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29)

قوله : { أَن لَّن يُخْرِجَ } : « أنْ » هذه مخففةٌ و « لن » وما بعدها خبرُها ، واسمُها ضميرُ الشأن . والأَضْغان : جمعُ ضِغْن ، وهي الأحقاد والضَّغِينة كذلك قال :
4068 وذي ضِغْنٍ كَفَفْتُ الوُدَّ عنه ... وكنتُ على إساءَتِه مُقِيتا
وقال عمرو بن كلثوم :
4069 فإنَّ الضِّغْنَ بعد الضِّغْنِ يَغْشُو ... عليكَ ويُخْرِجُ الداء الدَّفينا
وقيل : الضِّغْنُ العداوةُ . وأُنْشِد :
4070 قُلْ لابنِ هندٍ ما أردْتَ بمنطقٍ ... ساء الصديقَ وشَيَّد الأضغانا
يقال : ضَغِنَ بالكسرِ يَضْغَنُ بالفتح وقد ضُغِنَ عليه . واضْطَغَنَ القومُ وتَضاغنوا ، وأصل المادة من الالتواءِ في قوائم الدابةِ والقناة قال :
4071 إنَّ قناتي مِنْ صَليباتِ القَنا ... ما زادَها التثقيفُ إلاَّ ضَغَنا
وقال آخر :
4072 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كذاتِ الضِّغْنِ تَمْشي في الرِّفاقِ
والاضْطِّغانُ : الاحتواءُ على الشيء أيضاً . ومنه قولُهم : اضْطَغَنْتُ الصبيَّ أي : اختصَصْتُه وأنشد :
4073 كأنه مُضْطَغِنٌ صَبِيَّا ... وقال آخر :
4074 وما اضْطَغَنْتُ سِلاحي عند مَغْرِضِها ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وفرسٌ ضاغِنٌ : لا يَجْري إلاَّ بالضرب .

وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30)

قوله : { لأَرَيْنَاكَهُمْ } : مِنْ رؤيةِ البصرِ . وجاء على الأفصح من اتصالِ الضميرَيْن ، ولو جاء على : أَرَيْناك إياهم جازَ .
قوله : « فَلَعَرَفْتَهُمْ » عطفٌ على جوابِ لو . وقوله : « ولَتَعْرِفَنَّهم » جواب قسمٍ محذوفٍ .
قوله : { فِي لَحْنِ القول } اللحن يُقال باعتبارَيْن ، أحدُهما : الكنايةُ بالكلامِ حتى لا يفهمَه غيرُ مخاطبَكِ . ومنه قولُ القَتَّالِ الكلابي في حكاية له :
4075 ولقد وَحَيْتُ لكم لكيما تَفْهموا ... ولَحَنْتُ لَحْناً ليس بالمُرْتابِ
وقال آخرُ :
4076 منطِقٌ صائبٌ وتَلْحَنُ أَحْيا ... ناً وخيرُ الحديثِ ما كان لَحْناً
واللَّحْنُ : صَرْفُ الكلامِ من الإِعراب إلى الخطأ . وقيل : يجمعُه هو والأولَ صَرْفُ الكلامِ عن وجهِه ، يقال من الأول : لَحَنْتُ بفتح الحاء أَلْحَنُ له فأنا لاحِنٌ ، وألحنتُه الكلامَ : أفهمتُه إياه فلَحِنَه بالكسر أي : فَهمه فهو لاحِنٌ . ويُقال من الثاني : لَحِن بالكسر إذا لم يُعْرِبْ فهو لَحِنٌ .

وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)

قوله : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى } : قرأ « ولَيَبْلوَنَّكم حتى يَعْلم ويبلوَ أخبارَكم » أبو بكر الثلاثةَ بالياءِ مِنْ أسفلَ يعني اللَّهَ تعالى . والأعمش كذلك وتسكين الواو والباقون بنون العظمةِ ، ورُوَيس كذلك وتسكينُ الواوِ . والظاهرُ قَطْعُه عن الأول في قراءةِ تسكينِ الواو . ويجوزُ أَنْ يكونَ سَكَّن الواوَ تخفيفاً كقراءةِ الحسن { أَوْ يَعْفُوْ الذي } بسكونِ الواو .

فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)

قوله : { وتدعوا إِلَى السلم } : يجوز جَزْمُه عطفاً على فعل النهيِ . ونصبُه بإضمار « أَنْ » في جواب النهي . وقرأ أبو عبد الرحمن بتشديدِ الدال . وقال الزمخشري : « مِنْ ادَّعَى القومُ وتداعَوْا مثلَ : ارتَمَوْا إلى الصيد وتَرَامَوْا » . وقال غيره : بمعنى تَغْتَرُّوا يعني تَنْتَسِبوا . وتقدَّم الخلافُ في « السّلم » .
قوله : « وأنتم الأَعْلَوْن » جملةٌ حاليةٌ . وكذلك « والله معكم » وأصل الأعْلَوْنَ : الأَعْلَيُون فأُعِلَّ .
قوله : « يَتِرَكُمْ » أي : يُنْقِصكم ، أو يُفْرِدكم عنها فهو مِنْ : وَتَرْتُ الرجلَ إذا قتلْتَ له قتيلاً ، أو نهبْتَ مالَه ، أو من الوِتْر وهو الانفرادُ . وقيل : كلا المعنيين يَرْجِعُ إلى الإِفراد؛ لأنَّ مَنْ قُتِل له قتيلُ أو نُهِبَ له مالٌ/ فقد أُفْرِد عنه .

إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37)

قوله : { فَيُحْفِكُمْ } : عطفٌ على الشرط و « تَبْخَلوا » جوابُ الشرط .
قوله : « ويُخْرِجْ أَضْغانَكم » العامَّةُ على إسنادِ الفعل إلى ضميرِ فاعلٍ : إمَّا اللَّهِ تعالى أو الرسولِ أو السؤالِ؛ لأنَّه سببٌ وهو مجزومٌ عَطْفاً على جوابِ الشرط . ورُوي عن أبي عمروٍ رفعُه على الاستئنافِ . وقرأ أيضاً بفتح الياء وضمِّ الراء ورفعِ « أَضْغانُكم » فاعلاً بفعله . وابن عباس في آخرين « وتَخْرُجْ » بالتاء مِنْ فوقُ وضم الراء « أضغانُكم » فاعلٌ به . ويعقوب « ونُخْرِجْ » بنون العظمة وكسرِ الراء « أضغانَكم » نصباً .
وقُرِئ « يُخْرَجْ » بالياء على البناء للمفعولِ « أَضْغانُكم » رفعاً به . وعيسى كذلك إلاَّ أنه نَصَبه بإضمار « أَنْ » عطفاً على مصدرٍ متوهَّمٍ أي : يَكُنْ بُخْلُكُمْ وإخراجُ أضغانِكم .

هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)

قوله : { هَا أَنتُمْ هؤلاء } : قال الزمخشري : « هؤلاء » موصولٌ صلتُه « تَدْعُوْن » أي : أنتم الذين تَدْعُون ، أو أنتم يا مخاطبون هؤلاء الموصوفون ، ثم استأنف وصفَهم كأنهم قالوا : وما وَصْفُنا؟ فقيل : تَدْعون « . قلت : قد تقدَّم الكلامُ على ذلك مُشْبَعاً في سورة آل عمران .
قوله : { يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ } بَخِلَ وضَنَّ يتعديَّان ب على تارةً وب عن أخرى . والأجودُ أَنْ يكونا حالَ تَعدِّيهما ب » عن « مضمَّنَيْن معنى الإِمْساك .
قوله : » وإنْ تَتَوَلَّوْا « هذه الشرطيةُ عطفٌ على الشرطية قبلها ، و { ثُمَّ لاَ يكونوا } عطفٌ على » يَسْتَبْدِلْ « .

لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2)

بسم الله الرحمن الرحيم
قوله : { لِّيَغْفِرَ لَكَ الله } : متعلقٌ بفَتَحْنا ، وهي لامُ العلةِ . وقال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : كيف جُعِل فتحُ مكةَ علةً للمغفرة؟ قلت : لم يُجْعَلْ علةً للمغفرةِ ، ولكن لِما عَدَّد من الأمور الأربعة وهي : المغفرةُ ، وإتمامُ النعمةِ ، وهدايةُ الصراطِ المستقيمِ ، والنصرُ العزيزُ؛ كأنه قال : يَسَّرْنا لك فتح مكة ونَصَرْناك على عدوِّك؛ لنجمعَ لك بين عِزِّ الدارَيْن وأغراضِ العاجلِ والآجل . ويجوزُ أَنْ يكونَ فَتْحُ مكةَ من حيث إنَّه جهادٌ للعدو سبباً للغفران والثواب » . وهذا الذي قاله مخالِفٌ لظاهرِ الآية؛ فإنَّ اللامَ داخلةٌ على المغفرة ، فتكونُ المغفرةُ علةً للفتح ، والفتحُ مُعَلَّلٌ بها ، فكان ينبغي أَنْ يقولَ : كيف جُعِل فتحُ مكةَ مُعَلَّلاً بالمغفرةِ؟ ثم يقول : لم يُجْعَلْ مُعَلَّلاً . وقال ابنُ عطية : « المرادُ هنا أنَّ اللَّهَ تعالى فَتَح لك لكي يجعلَ الفتح علامةً لغفرانه لك ، فكأنها لامُ صيرورة » وهذا كلامٌ ماشٍ على الظاهر . وقال بعضُهم : إنَّ هذه اللامُ لامُ القسمِ والأصلُ : لَيَغْفِرَنَّ فكُسِرَتْ اللامُ تشبيهاً ب لام كي ، وحُذِفَتْ النونُ . ورُدَّ هذا : بأنَّ اللامَ لا تُكْسَرُ . وبأنَّها لا تَنْصِبُ المضارعَ . وقد يقال : إنَّ هذا ليس بنصبٍ ، وإنما هو بقاءُ الفتحِ الذي كان قبل نونِ التوكيد ، بقي ليدُلَّ عليها ، ولكنه قولٌ مردودٌ .

لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5)

قوله : { لِّيُدْخِلَ } : في متعلَّق هذه اللامِ أربعةُ أوجهٍ ، أحدها : محذوفٌ تقديرُه : يَبْتَلي بتلك الجنود مَنْ شاء فيقبلُ الخيرَ مِمَّنْ أهَّله له ، والشرَّ مِمَّنْ قضى له به ليُدْخِلَ ويُعَذِّب . الثاني : أنها متعلقةٌ بقولِه : « إنَّا فَتَحْنا » . الثالث : أنَّها متعلقةٌ ب « يَنْصُرَك » . الرابع : أنها متعلقة ب « يَزْدادوا » . واسْتُشْكل هذا : بأنَّ قولَه تعالى : « ويُعَذِّبَ » عطفٌ عليه ، وازديادُهم الإِيمانَ ليس مُسَبَّباً عن تعذيبِ اللَّهِ الكفارَ . وأجيب : بأنَّ اعتقادَهم أنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الكفارَ يزيدُ في إيمانِهم لا محالة . وقال الشيخ : « والازديادُ لا يكونُ سبباً لتعذيب الكفارِ . وأُجيب : بأنَّه ذُكِر لكونِه مقصوداً للمؤمنِ . كأنه قيل : بسببِ ازديادِكم في الإِيمانُ يُدْخِلُكم الجنة ، ويُعَذِّبُ الكفار بأيديكم في الدنيا » . وفيه نظرٌ؛ كان ينبغي أن يقولَ : لا يكونُ مُسَبَّباً عن تعذيب الكفارِ ، وهذا يُشْبِهُ ما تقدَّم في { لِّيَغْفِرَ لَكَ الله } [ الفتح : 2 ] .
قوله : « عندَ الله » متعلقٌ بمحذوفٍ ، على أنه حال مِنْ « فوزاً » لأنَّه صفتُه في الأصل . وجَوَّز أبو البقاء أَنْ يكون ظرفاً لمكانٍ ، وفيه خلافٌ ، وأَنْ يكونَ ظرفاً لمحذوفٍ دَلَّ عليه الفوز أي : يفوزون عند اللَّهِ . ولا يتعلَّق ب « فَوْزاً » لأنَّه مصدرٌ؛ فلا يتقدَّم معمولُه عليه . ومَنْ اغْتَفَر ذلك في الظرفِ جَوَّزَه .

وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6)

قوله : { الظآنين بالله } : صفةٌ للفريقَيْن . وتقدَّم الخلافُ في « السوء » في التوبة . وقرأ الحسن « السُّوء » بالضم فيهما .

لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9)

قوله : { لِّتُؤْمِنُواْ } : قرأ « ليؤمنوا » وما بعده بالياء مِنْ تحت ابنُ كثير وأبو عمروٍ رُجوعاً إلى قولِه : « المؤمنين والمؤمنات » . والباقون بتاءِ الخطاب . وقرأ الجحدري « تَعْزُرُوْه » بفتح التاء وضمِّ الزاي . وهو أيضاً وجعفر بن محمد كذلك إلاَّ أنهما كسرا الزاي . وابنُ عباس واليماني « ويُعَزِّرُوه » كالعامَّةُ ، إلاَّ أنه بزاءَيْن من العزَّة . والضمائر المنصوبةُ راجعةٌ إلى الله تعالى . / وقيل : على الرسول إلاَّ الأخيرَ .

إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)

قوله : { إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } : خبرُ « إن الذين » . و { يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } جملةٌ حاليةٌ ، أو خبرٌ ثانٍ . وهو ترشيحٌ للمجازِ في مبايعةِ الله . وقرأ تمام بن العباس « يُبايعون الله » . والمفعولُ محذوفٌ أي : إنما يبايعونك لأجل الله .
قوله : يَنْكُثُ « قرأ زيد بن علي » يَنْكِثُ « بكسر الكاف . والعامَّةُ على نصب الجلالة المعظمة . ورَفَعَها ابنُ أبي إسحاق على أنَّه تعالى عاهدهم . وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر » فَسَنُؤْتيه « بنون العظمة . والباقون بالياءِ مِنْ تحت . وقرئ » عَهِد عليه « ثلاثياً .

سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11)

قوله : { شَغَلَتْنَآ } : حكى الكسائيُّ عن ابن نُوح أنه قرأ « شَغَّلَتْنا » بالتشديد .
قوله : « ضَرَّاً » قرأ الأخَوان بضم الضاد . والباقون بفتحها فقيل : لغتان بمعنى كالفُقْر والفَقْر ، والضُّعْف والضَّعْف . وقيل : بالفتح ضد النفع ، وبالضم سوءُ الحال .

بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12)

وقرأ عبد الله « إلى أهلِهم » دونَ ياءٍ ، بل أضاف الأهل مفرداً . وقُرِئ « وزَيَّنَ » مبنياً للفاعل أي : الشيطان أو فِعْلُكم . و { كُنتُمْ قَوْماً بُوراً } أي : صِرْتُم . وقيل : على بابها من الإِخبار بكونِهم في الماضي كذا . والبُوْرُ : الهَلاك . وهو يحتمل أن يكونَ هنا مصدراً أُخْبر به عن الجمع كقولِه :
4077 يا رسولَ الإِلهِ إنَّ لِساني ... راتِقٌ ما فَتَقْتُ إذ أنا بُوْرُ
ولذلك يَسْتوي فيه المفردُ والمذكرُ وضدُّهما . ويجوز أن يكون جمع بائرِ كحائل وحُوْل في المعتلِّ . وبازِل وبُزْل في الصحيح .

وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13)

قوله : { وَمَن لَّمْ يُؤْمِن } : يجوزُ أَنْ تكونَ شرطيةً أو موصولةً . والظاهرُ قائمٌ مقامَ العائدِ على كلا التقديرَيْن أي : فإنَّا أَعْتَدْنا لهم .

سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15)

قوله : { يُرِيدُونَ } : يجوز أَنْ يكونَ مستأنفاً ، وأَنْ يكونَ حالاً من « المخلَّفون » ، وأن يكونَ حالاً من مفعول « ذَرُوْنا » .
قوله : « كلامَ الله » قرأ الأخَوان « كَلِمَ » جمع كِلْمة . والباقون « كلامَ » . وقرأ أبو حيوة « تَحْسِدُوْننا » بكسرِ السين .

قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16)

قوله : { أَوْ يُسْلِمُونَ } : العامَّةُ على رَفْعِه بإثبات النون عطفاً على « تُقاتلونهم » أو على الاستئنافِ أي : أو هم يُسْلِمون . وقرأ أُبَيٌّ وزيد بن علي بحذفِ النون نَصَباه بحذِفها . والنصبُ بإضمارِ « أَنْ » عند جمهور البصريين وب « أو » نفسِها عند الجرميِّ والكسائي ، ويكون قد عَطَفَ مصدراً مؤولاً على مصدر متوهَّم . كأنه قيل : يكنْ قتال أو إسلامٌ . ومثلُه في النصبِ قولُ امرئ القيس :
4078 فقلتُ له لا تَبْكِ عَيْنُك إنما ... نُحاول مُلْكاً أو نموتَ فَنُعْذَرا
وقال أبو البقاء : « أو بمعنى : إلاَّ أَنْ ، أو حتى » .

لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)

قوله : { إِذْ يُبَايِعُونَكَ } : منصوبٌ ب « رَضي » و « تحت الشجرة » يجوزُ أَنْ يكونَ متعلِّقاً ب « يُبايعونك » ، وأنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من المفعول . وفي التفسيرِ : أنه عليه السلام كان جالساً تحتها .

وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19)

قوله : { وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً } : أي : وآتاكم مغانمَ ، أو آتاهم مغانمَ ، أو أثابَهم مغانم ، أو أثابكم مغانمَ ، وإنما قدَّرْتُ الخطابَ والغَيْبَة؛ لأنه يُقرأ « يَأْخُذونها » بالغيبة - وهي قراءة العامَّةِ - « وتَأْخُذونها » بالخطاب ، وهي قراءةُ الأعمشِ وطلحةَ ونافعٍ في رواية سقلاب .

وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20)

قوله : { وَلِتَكُونَ } : يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه متعلِّقٌ بفعلٍ مقدرٍ بعده ، تقديرُه : ولِتَكونَ فَعَلَ ذلك . الثاني : أنَّه معطوفٌ على علةٍ محذوفةٍ ، تقديرُه : وَعَدَ فعجَّل وكَفَّ لتنتَفِعوا ولتكونَ ، أو لتشكروه ولتكونَ . الثالث : أنَّ الواوَ مزيدةٌ ، والتعليلُ لِما قبلَه أي : وكَفَّ لتكونَ .

وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21)

قوله : { وأخرى } : يجوزُ فيها أوجهٌ ، أحدها : أَنْ تكونَ مرفوعةً بالابتداءِ ، و { لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا } صفتُها . و { قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا } خبرُها . الثاني : أنَّ الخبرَ محذوفٌ ، مقدَّرٌ قبلها أي : وثَمَّ أُخْرى لم تَقْدِروا عليها . الثالث : أَنْ تكونَ منصوبةً بفعلٍ مضمرٍ على شريطةِ التفسيرِ ، فيُقَدَّرُ الفعلُ مِنْ معنى المتأخِّر ، وهو قد أحاط اللَّهُ بها أي : وقَضى اللَّهُ أخرى . الرابع : أَنْ تكونَ منصوبةً بفعلٍ مضمرٍ لا على شريطةِ التفسير ، بل لدلالةِ السِّياقِ أي : ووعَد أخرى ، أو وآتاكم أخرى . الخامس : أنْ تكونَ مجرورةً ب « رُبَّ » مقدرةً ، وتكونَ الواوُ واوَ « رُبَّ » ، ذكره الزمخشريُّ . وفي المجرورِ بعد الواوِ المذكورة خلافٌ مشهورٌ : هو برُبَّ مضمرةً أم بنفسِ الواو . إلاَّ أنَّ الشيخ قال : « ولم تَأْتِ رُبَّ جارَّةً في القرآنِ على كثرةِ دَوْرِها » يعني جارَّةً لفظاً ، وإلاَّ فقد قيل : إنها جارَّةٌ تقديراً هنا وفي قولِه : « رُبَما » على قولنا : إنَّ « ما » نكرةٌ موصوفة .
قوله : { قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا } / يجوزُ أَنْ يكونَ خبراً ل « أُخْرى » كما تقدَّم ، أو صفةً ثانيةً إذا قيل : بأنَّ « أُخْرى » مبتدأٌ ، وخبرُها مضمرٌ أو حال أيضاً .

سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23)

قوله : { سُنَّةَ الله } : مصدرٌ مؤكِّد لمضمونِ الجملةِ المتقدمة أي : سَنَّ اللَّهُ ذلك سُنَّةَ .

وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)

قوله : { بِمَا تَعْمَلُونَ } : قرأ أبو عمروٍ « يَعْلمون » بالياء مِنْ تحتُ ، رجوعاً إلى الغَيْبة في « أيديهم » و « عنهم » والباقون بالخطاب ، رجوعاً إلى الخطاب في قوله : « أيديكم » و « عنكم » .

هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25)

قوله : { والهدي } : العامَّةُ على نصبِه . والمشهورُ أنَّه نسقٌ على الضميرِ المنصوبِ في « صَدُّوْكم » . وقيل : نُصِبَ على المعيَّةِ . وفيه ضَعْفٌ لإِمكان العطفِ . وقرأ أبو عمروٍ في روايةٍ بجرِّه عطفاً على « المسجد الحرام » ، ولا بُدَّ مِنْ حذفِ مضافٍ أي : وعن نَحْرِ الهَدْي . وقُرِئ برفعِه على أنه مرفوعٌ بفعلٍ مقدرٍ لم يُسَمَّ فاعلُه أي : وصُدَّ الهَدْيُ . والعامة على فتح الهاءِ وسكونِ الدالِ ورُوي عن أبي عمروٍ وعاصم وغيرِهما كسرُ الدالِ وتشديدُ الياء . وحكى ابن خالويه ثلاثَ لغاتٍ : الهَدْيُ وهي الشهيرةُ لغةُ قريشٍ والهَدِيُّ والهَدَى .
قوله : « مَعْكوفاً » حالٌ من الهدي أي : محبوساً يُقال : عَكَفْتُ الرجلَ عن حاجتِه . وأنكر الفارسيُّ تعديةَ « عَكَفَ » بنفسِه وأثبتَها ابنُ سيده والأزهريُّ وغيرُهما ، وهو ظاهرُ القرآنِ لبناء اسمِ المفعول منه .
قوله : « أَنْ يَبْلُغَ » فيه أوجهٌ ، أحدها : أنَّه على إسقاطِ الخافضِ أي : عَنْ أَنْ ، أو مِنْ أَنْ . وحينئذٍ يجوزُ في هذا الجارِّ المقدرِ أن يتعلَّقَ ب « صَدُّوكم » ، وأن يتعلَّقَ بمعكوفاً أي : مَحْبوساً عن بلوغِ محلِّه أو من بلوغِ مَحِلِّه . الثاني : أنه مفعولٌ مِنْ أجله ، وحينئذٍ يجوز أن يكونَ علة للصدِّ ، والتقدير : صَدُّوا الهَدْيَ كراهةَ أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّه ، وأن يكون علةً لمعكوفاً أي : لأجل أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّه ، ويكون الحبسُ من المسلمين . الثالث : أنه بدلٌ من الهَدْي بدلُ اشتمالٍ أي : صَدُّوا بلوغَ الهَدْيِ مَحِلَّه .
قوله : « لم تَعْلَموهم » صفةٌ للصِّنفَيْن وغَلَّب الذكورَ .
قوله : « أَنْ تَطَؤُوْهم » يجوز أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ رجال ونساء ، وغَلَّبَ الذكورَ كما تقدَّمَ ، وأن يكونَ بدلاً مِنْ مفعول « تَعْلَموهم » فالتقدير على الأول : ولولا وَطْءُ رجالٍ ونساءٍ غيرِ معلومين ، وتقدير الثاني : لم تعلموا وَطْأَهم ، والخبرُ محذوفٌ تقديره : ولولا رجالٌ ونساء موجودون أو بالحضرة . وأمَّا جوابُ « لولا » ففيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنَّه محذوفٌ لدلالةِ جواب لو عليه . والثاني : أنه مذكورٌ . وهو « لَعَذَّبْنا » ، وجوابُ « لو » هو المحذوفُ ، فَحَذَفَ من الأول لدلالةِ الثاني ، ومن الثاني لدلالةِ الأول . والثالث : أنَّ « لَعَذَّبْنا » جوابُهما معاً وهو بعيدٌ إن أرادَ حقيقة ذلك . وقال الزمخشري قريباً مِنْ هذا ، فإنَّه قال : « ويجوزُ أَنْ يكونَ » لو تَزَيَّلوا « كالتكرير ل { لَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ } لمَرْجِعِهما إلى معنىً واحدٍ ، ويكون » لَعَذَّبْنا « هو الجوابَ » . ومنع الشيخ مرجِعَهما لمعنى واحدٍ قال : « لأنَّ ما تعلَّق به الأولُ غيرُ ما تعلَّق به الثاني » .
قوله : « فتُصيبَكم » نَسَقٌ على « أَنْ تَطَؤُوهم » . وقرأ ابن أبي عبلةَ وأبو حيوة وابنُ عونٍ « لو تَزايَلوا » على تفاعَلوا .

والضمير في « تَزَيَّلوا » يجوز أَنْ يعودَ على المؤمنين فقط ، أو على الكافرين أو على الفريقين أي : لو تَمَيَّز هؤلاء مِنْ هؤلاء لَعَذَّبْنا .
والوَطْءُ هنا : عبارةٌ عن القتلِ والدَّوْسِ . قال عليه السلام : « اللَّهم اشدُدْ وَطْأتك على مُضَرَ » ، وأنشدوا :
4079 ووَطِئْتَنا وَطْئاً على حَنَق ... وَطْءَ المقيَّدِ ثابِتَ الهَرْمِ
والمَعَرَّة : الإِثم .
قوله : « بغيرِ عِلْمٍ » يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل « مَعَرَّةٍ » ، أو أَنْ يكونَ حالاً مِنْ مفعول « تُصيبكم » . وقال أبو البقاء : « من الضمير المجرورِ » يعني في « منهم » ولا يَظْهر معناه ، أو أن يتعلَّقَ ب « يُصيبكم » ، أو أن يتعلَّقَ ب « تَطَؤُوْهم » .
قوله : « لِيُدْخِلَ اللَّهُ » متعلقٌ بمقدرٍ أي : كان انتفاءُ التسليطِ على أهلِ مكةَ وانتفاءُ العذابِ ليُدْخِلَ اللَّهُ .

إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)

قوله : { إِذْ جَعَلَ } : العاملُ في الظرفِ : إما « لَعَذَّبْنا » أو « صَدُّوكم » أو اذكُرْ ، فيكونُ مفعولاً به .
قوله : « في قلوبهم » يجوز أَنْ يتعلَّقَ ب جَعَلَ على أنها بمعنى أَلْقى فتتعدَّى لواحدٍ أي : إذ ألقى الكافرونَ في قلوبِهم الحميةَ ، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّه مفعولٌ ثانٍ قُدِّمَ على أنها بمعنى صَيَّرَ .
قوله : « حَمِيَّةَ الجاهليةِ » بدلٌ مِنْ « الحميةَ » قبلها . والحميَّةُ : الأنَفَةُ من الشيءِ . وأنشد للمتلمِّس :
4080 ألا إنني منهمْ وعِرْضي عِرْضُهُمْ ... كذا الرأسُ يَحْمي أنفَه أَنْ يُهَشَّما
وهي المَنْعُ ، ووزنُها فعيلة ، وهي مصدرٌ يقال : حَمَيْتُ عن كذا حَمِيَّةً .
قوله : « وكانوا أحَقَّ » الضميرُ يجوزُ أَنْ يعودَ على المؤمنين ، وهو الظاهر أي : أحقَّ بكلمةِ التقوى من الكفار . وقيل : يعودُ على الكفار/ أي : كانت قُرَيْشٌ أَحَقَّ بها لولا حِرْمانُهم .

لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)

قوله : { لَّقَدْ صَدَقَ } : صَدَقَ يتعدَّى لاثنين ثانيهما بحرفِ الجرِّ يُقال : صَدَقْتُكَ في كذا . وقد يُحْذَفُ كهذه الآيةِ .
قوله : « بالحَقِّ » فيه أوجهٌ ، أحدُها : أَنْ يتعلَّق ب « صدق » . الثاني : أَنْ يكونَ صفةً لمصدرٍ محذوفٍ أي : صِدْقاً مُلْتَبساً بالحق . الثالث : أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من « الرؤيا » أي : مُلْتبسةً بالحق . الرابع : أنَّه قسمٌ وجوابُه « لَتَدْخُلُنَّ » فعلى هذا يُوقف على « الرؤيا » ويُبْتَدَأُ بما بعدَها .
قوله : « لَتَدْخُلُنَّ » جوابُ قسمٍ مضمرٍ ، أو لقوله : « بالحق » على ذلك القولِ . وقال أبو البقاء : « و » لَتَدْخُلُنَّ « تفسيرٌ للرؤيا أو مستأنَفٌ أي : والله لَتَدْخُلُنَّ » ، فجعل كونَه جوابَ قسمٍ قسيماً لكونِه تفسيراً للرؤيا . وهذا لا يَصِحُّ البتةَ ، وهو أَنْ يكونَ تفسيراً للرؤيا غيرَ جوابٍ لقسم ، إلاَّ أَنْ يريدَ أنه جوابُ قسمٍ ، لكنه يجوزُ أَنْ يكونَ هو مع القسم تفسيراً ، وأن يكونَ مستأنفاً غيرَ تفسيرٍ وهو بعيدٌ من عبارته .
قوله : « آمِنين » حالٌ مِنْ فاعل « لَتَدْخُلُنَّ » وكذا « مُحَلِّقين ومُقَصِّرِين » ، ويجوزُ أَنْ يكونَ « مُحَلِّقين » حالاً مِنْ « آمِنين » فتكونَ متداخلةً .
قوله : « لا تَخافون » يجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً ، وأنْ يكونَ حالاً ثالثةً ، وأَنْ يكونَ حالاً : إمَّا مِنْ فاعل « لَتَدْخُلُنَّ » أو مِنْ ضميرِ « آمنين » أو « مُحَلِّقين » أو « مقصِّرين » . فإن كانَتْ حالاً مِنْ « آمِنين » أو حالاً من فاعل « لَتَدْخُلُنَّ » فهي حالٌ للتوكيد و « آمنين » حالٌ مقاربةٌ ، وما بعدها حالٌ مقدرةٌ إلاَّ قولَه : « لا تَخافون » إذا جُعِل حالاً فإنها مقارنةٌ أيضاً .

مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)

قوله : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله } : يجوزُ أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ ، لأنه لَمَّا تقدَّمَ : { هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ } دَلَّ على ذلك المقدَّرِ أي : هو أي : الرسولُ بالهدى محمدٌ ، و « رسولُ » بدلٌ أو بيانٌ أو نعتٌ ، وأن يكونَ مبتدأً أو خبراً ، وأن يكونَ مبتدأً و « رسولُ اللَّهِ » على ما تقدَّم من البدلِ والبيانِ والنعتِ . و « الذين معه » عطفٌ على « محمدٌ » والخبرُ عنهم قوله : { أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار } . وابن عامر في روايةٍ « رسولَ الله » بالنصبِ على الاختصاصِ ، وهي تؤيِّدُ كونَه تابعاً لا خبراً حالةَ الرفعِ . ويجوزُ أَنْ يكونَ « والذين » على هذا الوجه مجروراً عطفاً على الجلالة أي : ورسولُ الذين آمنوا معه؛ لأنه لَمَّا أُرْسِل إليهم أُضيف إليهم فهو رسولُ اللَّهِ بمعنى : أنَّ اللَّهَ أرسله ، ورسولُ أمتِه بمعنى : أنه مُرْسَلٌ إليهم ، ويكون « أشدَّاءُ » حينئذٍ خبرَ مبتدأ مضمر أي : هم أشدَّاء . ويجوزُ أَنْ يكونَ تَمَّ الكلام على « رسولُ الله » و « الذين معه » مبتدأٌ و « أشدَّاءُ » خبره .
وقرأ الحسن « أشداءَ ، رحماءَ » بالنصبِ : إمَّا على المدحِ ، وإمَّا على الحال من الضميرِ المستكنِّ في « معه » لوقوعِه صلةً ، والخبرُ حينئذٍ عن المبتدأ .
قوله : { تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً } حالان؛ لأنَّ الرؤيةَ بَصَرِيَّةٌ ، وكذلك « يَبْتَغُون » يجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً ، وإذا كانَتْ حالاً فيجوزُ أَنْ تكونَ حالاً ثالثةً مِنْ مفعول « تَراهم » وأن تكونَ من الضمير المستترِ في « رُكَّعاً سجداً » . وجَوَّز أبو البقاء أَنْ يكونَ « سُجَّداً » حالاً مِنَ الضمير في « رُكَّعاً » حالاً مقدرة . فعلى هذا يكونُ « يَبْتَغون » حالاً من الضميرِ في « سُجَّداً » فتكونُ حالاً مِنْ حال ، وتلك الحالُ الأولى حالٌ مِنْ حال أخرى .
وقرأ ابن يعمر « أَشِدَّا » بالقصرِ ، والقصرُ مِنْ ضرائر الأشعار كقوله :
4081 لا بدَّ مِنْ صَنْعا وإنْ طالَ السَّفرْ ... فلذلك كانَتْ شاذَّةً . قال الشيخ : « وقرأ عمرو بن عبيد » ورُضوانا « بضم الراء » . قلت : هذه قراءةٌ متواترةٌ قرأها عاصمٌ في روايةِ أبي بكرٍ عنه قَدَّمْتها في سورة آل عمران ، واستثنيتُ له حرفاً واحداً وهو ثاني المائدة .
وقُرِئ « سِيْمِياؤهم » بياء بعد الميمِ والمدِّ ، وهي لغةٌ فصيحةٌ وأُنْشِد :
4082 غلامٌ رَماه اللَّهُ بالحُسْن يافعاً ... له سِيْمِياءُ لا تَشُقُّ على البصَرْ
وتقدَّم الكلامُ عليها وعلى اشتقاقِها في آخر البقرة . و « في وجوههِم » خبرُ « سِيماهم » .
قوله : { مِّنْ أَثَرِ السجود } حال من الضمير المستتر في الجارِّ ، وهو « في وجوههم » .

والعامَّةُ « مِنْ أَثَرِ » بفتحتين ، وابن هرمز بكسرٍ وسكون ، وقتادة « مِنْ آثارَ » جمعاً .
قوله : « ذلك مَثَلُهم » « ذلك » إشارةٌ إلى ما تقدَّم من وَصْفِهم بكونهم أَشِدَّاءَ رُحَماءَ لهم سِيما في وجوههم ، وهو مبتدأ خبرُه « مَثَلُهم » و « في التوراة » حالٌ مِنْ مَثَلُهم « والعاملُ معنى الإِشارة .
قوله : { وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل } يجوزُ فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّه مبتدأٌ وخبرُه » كزَرْعٍ « فيُوقَفُ على قولِه : » في التوراة « فهما مَثَلان . وإليه ذهب ابن عباس . والثاني : أنه معطوفٌ على » مَثَلُهم « الأولِ ، فيكونُ مَثَلاً/ واحداً في الكتابَيْن ، ويُوْقَفُ حينئذٍ على » الإِنجيل « وإليه نحا مجاهدٌ والفراء ، ويكون قولُه على هذا : » كزَرْع « فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : مَثَلُهم كزَرْعٍ ، فَسَّر بها المثل المذكور . الثاني : أنه حالٌ من الضمير في » مَثَلُهم « أي : مُماثِلين زَرْعاً هذه صفتُه . الثالث : أنها نعتُ مصدرٍ محذوفٍ أي : تمثيلاً كزرع ، ذكره أبو البقاء . وليس بذاك . وقال الزمخشريُّ : » ويجوزُ أَنْ يكونَ « ذلك » إشارةً مُبْهَمَةً أُوْضِحَتْ بقولِه : « كَزَرْع » كقوله : { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر أَنَّ دَابِرَ } « .
قوله : » أَخْرَجَ شَطْأَه « صفةٌ لزرع . وقرأ ابن كثير وابن ذكوان بفتح الطاء ، والباقون بإسكانها ، وهما لغتان . وفي الحرف لغاتٌ أخرى قُرِئَ بها في الشاذِّ : فقرأ أبو حيوةَ » شَطاءَه « بالمدِّ ، وزيد بن علي » شَطاه « بألفٍ صريحةٍ بعد الطاءِ ، فاحتملَتْ أَنْ تكونَ بدلاً من الهمزةِ بعد نقلِ حركتِها إلى الساكنِ قبلَها على لغةِ مَنْ يقولُ : المَراةُ والكَماةُ بعد النقلِ ، وهو مقيسٌ عند الكوفيين ، واحتملَ أَنْ يكونَ مقصوراً من الممدود . وأبو جعفر ونافعٌ في روايةٍ » شَطَه « بالنقل والحَذْفِ وهو القياسُ . والجحدري » شَطْوَه « أبدل الهمزة واواً ، إذ تكونُ لغةً مستقلةً . وهذه كلُّها لغاتٌ في فراخِ الزَّرْع . يقال : شَطَأَ الزَّرْعُ وأَشْطَأ أي : أخرجَ فِراخَه . وهل يختصُّ ذلك بالحِنْطة فقط ، أو بها وبالشعيرِ فقط ، أو لا يختصُّ؟ خلاف مشهور قال :
4083 أَخْرج الشَّطْءَ على وجهِ الثَّرى ... ومنَ الأشجارِ أفنانَ الثمرْ
قوله : » فآزَرَه « العامَّةُ على المدِّ وهو على أَفْعَل . وغَلَّطوا مَنْ قال : إنه فاعَلَ كمجاهدٍ وغيرِه بأنَّه لم يُسْمَعْ في مضارِعه يُؤَازِرُ بل يُؤْزِرُ . وقرأ ابن ذكوان » فَأَزَره « مقصوراً جعله ثلاثياً . وقُرِئ » فأَزَّرَه « بالتشديدِ والمعنى في الكلِّ : قَوَّاه .
وقيل : ساواه . وأُنْشد :
4084 بمَحْنِيَةٍ قد آزَرَ الضالُّ نَبْتَها ... مَجَرَّ جُيُوشٍ غانِميْنَ وخُيَّبِ
قوله : » على سُوْقِه « متعلِّقٌ ب » اسْتوى « ، ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً أي : كائناً على سُوْقِه أي : قائماً عليها . وقد تقدَّم في النمل أن قنبلاً يقرأ » سُؤْقِه « بالهمزةِ الساكنة كقولِه :

4085 أحَبُّ المُؤْقِدين إليَّ موسى ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وبهمزةٍ مضمومةٍ بعدها واوٌ كقُرُوْح ، وتوجيهُ ذلك . والسُّوْق : جمع ساق .
قوله : « يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ » حالٌ أي : مُعْجِباً ، وهنا تَمَّ المَثَلُ .
قوله : « ليَغيظَ » فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه متعلِّقٌ ب « وَعَدَ »؛ لأنَّ الكفارَ إذا سَمِعوا بعِزِّ المؤمنين في الدنيا وما أُعِدَّ لهم في الآخرة غاظَهم ذلك . الثاني : أَنْ يتعلَّق بمحذوفٍ دَلَّ عليه تشبيهُهم بالزَّرْعِ في نَمائِهم وتَقْويتِهم . قاله الزمخشري أي : شَبَّههم اللَّهُ بذلك ليَغيظَ . الثالث : أنه متعلِّقٌ بما دَلَّ عليه قولُه : { أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار } إلى آخره أي : جعلهم بهذه الصفاتِ ليَغيظَ .
قوله : « مِنْهم » « مِنْ » هذه للبيانِ لا للتبعيضِ؛ لأنَّ كلَّهم كذلك فهي كقولِه : { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } [ الحج : 30 ] . وقال الطبري : « منهم أي : من الشَّطْء الذي أخرجه الزرعُ ، وهم الداخلون في الإِسلامِ إلى يومِ القيامة » ، فأعاد الضميرَ على معنى الشَّطْءِ ، لا على لفظِه ، وهو معنى حسنٌ .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)

قوله : { لاَ تُقَدِّمُواْ } : العامَّةُ على ضمِّ التاءِ وفتح القافِ وتشديدِ الدالِ مكسورةً ، وفيها وجهان ، أحدُهما : أنَّه متعدٍّ ، وحُذِفَ مفعولُه : إمَّا اقتصاراً كقولهم : هو يعطي ويمنع ، { وَكُلُواْ واشربوا } [ البقرة : 187 ] ، وإمَّا اختصاراً للدلالةِ عليه أي : لا تُقَدِّموا ما لا يَصْلُحُ . والثاني : أنه لازمٌ نحو : وَجَّه وتَوَجَّه ، ويَعْضُدُه قراءةُ ابنِ عباس والضَّحَّاك « لا تَقَدَّمُوا » بالفتح في الثلاثة ، والأصلُ : لا تَتَقَدَّمُوْا فحذَف إحدى التاءَيْن . وبعضُ المكِّيين « لا تَّقَدَّمُوْا » كذلك ، / إلاَّ أنَّه بتشديد التاء كتاءات البزي . والمتوصَّلُ إليه بحرفِ الجرِّ في هاتَيْن القراءتَيْن أيضاً محذوفٌ أي : لا تَتَقَدَّموا إلى أمرٍ من الأمور . وقُرِىء « لا تُقْدِموا » بضمِّ التاءِ وكسرِ الدالِ مِنْ أَقْدَمَ أي : لا تُقْدِموا على شيءٍ .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)

قوله : { أَن تَحْبَطَ } : مفعولٌ من أجلِه . والمسألةُ من التنازعِ لأنَّ كُلاًّ مِنْ قولِه : « لا تَرْفَعوا » و { لاَ تَجْهَرُواْ لَهُ } يَطْلُبه من حيث المعنى ، فيكون معمولاً للثاني عند البصريين في اختيارِهم ، وللأولِ عند الكوفيين . والأولُ أَصَحُّ للحَذْفِ من الأولِ أي : لأَنْ تحبطَ . وقال أبو البقاء : « إنها لامُ الصيرورة » ولا حاجةَ إليه . { وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } حالٌ .

إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)

قوله : { أولئك } : يجوزُ أَنْ يكونَ « أولئك » مبتدأ ، و « الذين » خبرُه . والجملةُ خبر « إنَّ » ويكونُ « لهم مغفرةٌ » جملةً أخرى : إمَّا مستأنفةً وهو الظاهرُ ، وإمَّا حاليةً . ويجوزُ أَنْ يكونَ « الذين امتحنَ » صفةً ل « أولئك » أو بدلاً منه أو بياناً ، و « لهم مغفرةٌ » جملةٌ خبريةٌ . ويجوزُ أَنْ يكونَ « لهم » هو الخبرَ وحده ، و « مغفرةٌ » فاعلٌ به .

إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4)

قوله : { مِن وَرَآءِ } : « مِنْ » لابتداءِ الغايةِ . وفي كلامِ الزمخشريِّ ما يمنعُ أنَّ « مِنْ » تكونُ لابتداءِ الغاية وانتهائِها . قال : « لأنَّ الشيءَ الواحدَ لا يكونُ مَبْدَأً للفعلِ ومنتهىً له » وهذا أثبتَه بعضُ الناس ، وزعم أنَّها تَدُلُّ على ابتداءِ الفعلِ وانتهائِه في جهةٍ واحدةٍ نحو : « أَخَذْتُ الدرهمَ من الكيس » . والعامَّةُ على « الحُجُرات » بضمتين . وأبو جعفر وشَيْبَةُ بفتحها . وابنُ أبي عبلةَ بإسكانها وهي ثلاثُ لغاتٍ تقدَّم تحقيقُها في البقرة في قوله : { فِي ظُلُمَاتٍ } [ البقرة : 17 ] . والحُجْرَةُ فُعْلَة بمعنى مَفْعولة كغُرْفة بمعنى مَغْروفة .

وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)

قوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ } : قد تقدَّم مِثْلُه . وجعله الزمخشري فاعلاً بفعلٍ مقدرٍ أي : ولو ثَبَتَ صبرُهم ، وجعل اسمَ كان ضميراً عائداً على هذا الفاعلِ . وقد تقدَّم أنَّ مذهب سيبويهِ أنها في محلِّ رفع بالابتداءِ ، وحينئذٍ يكون اسمُ كان ضميراً عائداً على صبرِهم المفهومِ من الفعل .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)

قوله : { أَن تُصِيببُواْ } : مفعولٌ له ، كقولِه : { أَن تَحْبَطَ } [ الحجرات : 2 ] .

وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7)

قوله : { لَوْ يُطِيعُكُمْ } : يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً : إمَّا من الضميرِ المجرور مِنْ « فيكم » ، وإمَّا من المرفوعِ المستترِ في « فيكم » لأدائِه إلى تنافُرِ النَّظْمِ . ولا يَظْهر ما قاله بل الاستئناف واضحٌ أيضاً . وأتى بالمضارعِ بعد « لو » لدلالةً على أنه كان في إرادتِهم استمرارُ عملِه على ما يتقوَّلون .
قوله : { ولكن الله } الاستدراكُ هنا من حيث المعنى لا من حيث اللفظُ؛ لأنَّ مَنْ حُبِّبَ إليه الإِيمانُ غايَرَتْ صفتُه صفةَ مَنْ تقدَّم ذِكْرُه .
وقوله : { أولئك هُمُ } التفاتٌ من الخطاب إلى الغَيْبَةِ .

فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)

قوله : { فَضْلاً } : يجوز أَنْ ينتصِبَ على المفعولِ من أجله . وفيما ينصِبُه وجهان ، أحدهما : قوله : { ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ } ، وعلى هذا فما بينهما اعتراضٌ مِنْ قولِه : { أولئك هُمُ الراشدون } . والثاني : أنه الراشدون . وعلى هذا فكيف جازَ مع اختلاف الفاعلِ لأنَّ فاعلَ الرُّشدِ غيرُ فاعلِ الفضل؟ فأجاب الزمخشريُّ : بأنَّ الرُّشْدَ لَمَّا وقع عبارةً عن التحبيب والتزيين والتكريه مسندةً إلى أسمائِه صار الرُّشد كأنه فِعْلُه « . وجَوَّزَ أيضاً أَنْ ينتصِبَ بفعلٍ مقدرٍ أي : جرى ذلك أو كان ذلك . قال الشيخ : » وليس مِنْ مواضِع إضمارِ « كان » ، وجَعَلَ كلامَه الأولَ اعتزالاً . وليس كذلك؛ لأنه أراد الفعلَ المسندَ إلى فاعلِه لفظاً ، وإلاَّ فالتحقيقُ أنَّ الأفعالَ كلَّها مخلوقةٌ للَّهِ تعالى ، وإنْ كان الزمخشريُّ غيرَ موافقٍ عليه . ويجوزُ أَنْ ينتصِبَ على المصدرِ المؤكِّد لمضمونِ الجملة السابقةِ لأنها فضلٌ أيضاً . إلاَّ أنَّ ابنَ عطيةَ جعله من المصدرِ المؤكِّد لنفسه . وجَوَّزَ الحوفيُّ أن ينتصبَ على الحالِ وليسَ بظاهرٍ ، ويكون التقديرُ : مُتَفَضِّلاً مُنَعِّماً ، أو ذا فضلٍ ونِعْمة .

وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)

قوله : { اقتتلوا } : عائدٌ على أفراد الطائفتَيْن ، كقوله : { هذان خَصْمَانِ اختصموا } [ الحج : 19 ] وفي « بينهما » على اللفظ . وقرأ ابن أبي عبلة « اقْتتلَتا » مراعِياً لِلَّفْظ . وزيد بن علي وعبيد بن عمير « اقتتلا » أيضاً ، إلاَّ أنه ذَكَّر الفعلَ باعتبار الفريقَيْن ، أو لأنه تأنيثٌ مجازيٌّ .
قوله : { حتى تفياء } العامَّةُ على همزِه مِنْ فاء يَفيء أي : رَجَعَ كجاء يجيْء . والزهري بياءٍ مفتوحةٍ كمضارع وَفَى ، وهذا على لغةِ مَنْ يَقْصُرُ فيقول : جا ، يَجي ، دونَ همزٍ ، وحينئذ فَتَحَ الياءَ لأنها صارَتْ حرفَ الإِعراب . /

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)

قوله : { بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } : العامَّةُ على التثنيةِ ، وزيد بن ثابت وعبد الله والحسن وحماد بن سلمة وابن سيرين « إخوانِكم » جمعاً على فِعْلان . وقد تقدَّم أنَّ « الإِخوان » تَغْلِبُ في الصداقة ، والإِخْوَة في النَّسَب . وقد يُعْكس كهذه الآيةِ . ورُوي عن أبي عمروٍ وجماعةٍ « إخْوَتِكم » بالتاء مِنْ فوقُ . وقد رُوي عن أبي عمروٍ أيضاً القراءاتُ الثلاثُ .
وتقدَّم الخلاف في « القوم » . وجَعَله الزمخشريُّ هنا جمعاً ل « قائم » قال : « كصَوْمٍ وزَوْرٍ جمع صائم وزائر » وفَعْل ليس من أبنية التكسير إلاَّ عند الأخفش نحو : رَكْب وصَحْب .
وقرأ أُبَيٌّ وعبد الله « عَسَوْا » و « عَسَيْنَ » جعلاها ناقصةً وهي لغةُ تميمٍ . وقرأ العامَّةُ لغة الحجاز . وقرأ الحسن والأعرج « ولا تَلْمُزوا » بالضمِّ . واللَّمْزُ بالقول وغيرِه ، والهَمْزُ باللسانِ فقط .
قوله : { وَلاَ تَنَابَزُواْ } التنابُزُ : تفاعُلٌ من النَّبْزِ ، وهو التداعِي بالنَّبْزِ . والنَّزْبُ ، وهو مقلوبٌ منه لقلةِ هذا وكثرةِ ذاك ويُقال : تنابَزُوا وتنازَبُوا إذا دعا بعضُهم بعضاً بلقَبِ سُوْءٍ . وأصلُه من الرَّفْعِ كأنَّ النَّبْزَ يَرْفَعُ صاحبَه فيشاهَدُ ، واللَّقَبُ : ما أَشْعَرَ بضَعَة المُسَمَّى كقُفَّة وبَطَّة ، أو رِفْعَتِه كالصِّدِّيق وعتيق والفاروق وأسدِ الله وأسدِ رسوله ، وله مع الاسم والكنيةِ أحكامٌ ذكَرْتُها في النحو .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)

قوله : { إِثْمٌ } : جعلَ الزمخشريُّ همزه بدلاً من واوٍ . قال : « لأنه يَثِمُ الأعمال أي : يكسِرُها » وهذا غيرُ مُسَلَّمٍ بل تلك مادةٌ أخرى . ولا تَجَسَّسوا : التجسُّسُ : التتبُّع ، ومنه الجاسوسُ والجَسَّاسَةُ . وجَواسُّ الإِنسان وحواسُّه : مشاعِرُه : ، وقد قرأ هنا بالحاء الحسنُ وأبو رجاء وابن سيرين .
قوله : { مَيْتاً } نصبٌ على الحالِ من « لحم » أو « أخيه » وتقدَّم الخلافُ في « مَيْتا » .
قوله : { فَكَرِهْتُمُوهُ } قال الفراء : « تقديرُه : فقد كرهتموه فلا تَفْعَلُوه » . وقال أبو البقاء : « المعطوفُ عليه محذوفٌ تقديره : عَرَضَ عليكم ذلك فكرِهْتموه ، والمعنى : يُعْرَضُ عليكم فتكرهونه . وقيل : إنْ صَحَّ ذلك عندكم فأنتم تَكْرهونه » وقيل : هو خبرٌ بمعنى الأمرِ كقولهم : « اتقى اللَّهَ امرؤٌ فَعَلَ خيراً يُثَبْ عليه » . وقرأ أبو حيوةَ والجحدري « فَكُرِّهْتُموه » بضمِّ الكاف وتشديدِ الراءِ عُدِّيَ بالتضعيفِ إلى ثانٍ ، بخلافِ قولِه أولاً : { وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر } [ الآية : 7 ] ، فإنه وإنْ كان مُضَعَّفاً لم يَتَعَدَّ إلاَّ لواحدٍ لتضمُّنِه معنى بَغَّض .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)

قوله : { وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ } : الشُّعوب : جمع شَعْب وهو أعلى طبقاتِ الأنسابِ ، وذلك أن طبقاتِ النَّسَبِ التي عليها العربُ ستٌّ : الشَّعْبُ والقبيلة والعِمارة والبَطْنُ والفَخِذُ والفَصيلةُ ، وكلُّ واحدٍ يَدْخُل فيما قبله ، فالفصيلةُ تَدْخُلُ في الفَخِذ ، والفَخِذُ في البطن . وزاد بعضُ الناسِ بعد الفَخِذ العشيرة ، فجعلها سبعاً وسُمِّيَ الشَّعبُ شعباً لتشَعُّبِ القبائلِ منه ، والقبائل سُمِّيَتْ بذلك لتقابُلها ، شُبِّهَتْ بقبائلِ الرأسِ وهي قطعٌ متقابلةٌ . وقيل : الشُّعوب في العجم ، والقبائل في العرب ، والأسباطُ في بني إسرائيل . وقيل : الشعبُ النَسبُ الأبعدُ ، والقبيلةُ الأقربُ . وأنشد :
4086 قبائلُ مِنْ شُعوبٍ ليس فيهِمْ ... كريمٌ قد يُعَدُّ ولا نَجيبُ
والنسَبُ إلى الشَّعْب « شَعوبيَّة » بفتح الشين ، وهم جيلٌ يَبْغَضون العربَ .
قوله : { لتعارفوا } العامَّةُ على تخفيفِ التاء ، والأصلُ : لتتعارفوا فحذفَ إحدى التاءَيْن . والبزيُّ بتشديدِها . وقد تقدَّم ذلك في البقرة . واللام متعلقةٌ بجَعَلْناكم . وقرأ الأعمش بتاءَيْن وهو الأصلُ الذي أدغمه البزيُّ وحَذَفَ منه الجمهورُ . وابن عباس : « لِتَعْرِفُوا » مضارعَ عَرَفَ . والعامَّةُ على كسرِ « إنَّ أكْرَمَكم » . وابن عباس على فتحها : فإنْ جَعَلْتَ اللامَ لامَ الأمرِ وفيه بُعْدٌ اتَّضَحَ أَن يكونَ قولُه : « أنَّ أَكْرَمَكم » بالفتح مفعولَ العِرْفان ، أَمَرَهم أَنْ يَعْرِفوا ذلك ، وإنْ جَعَلْتَها للعلة لم يظهرْ أَنْ يكونَ مفعولاً؛ لأنه لم يَجْعَلْهم شعوباً وقبائلَ ليعرِفوا ذلك ، فينبغي أن يُجْعَلَ المفعولُ محذوفاً واللامُ للعلة أي : لِتَعْرِفوا الحقَّ؛ لأنَّ أكرمَكم .

قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)

قوله : { وَلَمَّا يَدْخُلِ } : هذه الجملةُ مستأنفةٌ أخبر تعالى بذلك . وجعلها الزمخشريُّ حالاً من الضميرِ في « قولوا » . وقد تقدَّم الكلامُ في « لَمَّا » وما تدلُّ عليه والفرقُ بينها وبينَ « لم » . وقال الزمخشري : « فإنْ قلت : هو بعدَ قولِه : » لم تؤمنوا « يُشْبِهُ التكريرَ من غير استقلالٍ بفائدةٍ مُتَجدِّدة . قلت : ليس كذلك فإنَّ فائدةَ قولِه : » لم تؤمنوا « هو تكذيبُ دَعْواهم . و » لَمَّا يَدْخُل « توقيتٌ لِما أُمِروا به أَنْ يقولوه » ثم قال : « وما في » لَمَّا « مِنْ معنى التوقع دليلٌ على أنَّ هؤلاء قد آمنوا فيما بعدُ » . قال الشيخ : « ولا أدري مِنْ أيِّ وجه يكونُ المنفيُّ ب » لَمَّا « يقعُ بعدُ »؟ قلت : لأنَّها لنفيِ قد فَعَلَ ، و « قد » للتوقع .
قوله : { لاَ يَلِتْكُمْ } قرأ أبو عمروٍ و « لا يَأْلِتْكُمْ » بالهمز مِنْ أَلَتَه يَأْلُتُهُ بالفتح في الماضي ، والكسرِ والضم في المضارع ، والسوسيُّ يُبْدل الهمزةَ ألفاً على أصلِه . والباقون « يَلِتْكم » مِنْ لاته يَليتُه كباعه يَبيعه ، وهي لغةُ الحجازِ ، والأولى لغة غطفانَ وأَسَدٍ . وقيل : هي مِنْ وَلَتَه يَلِتُه كوَعَده يَعِدُه ، فالمحذوفُ على القولِ الأول عينُ الكلمةِ ووزنُها يَفِلْكم ، وعلى الثاني فاؤُها ووزنها يَعِلْكم . ويقال أيضاً : ألاتَه يُليته/ كأَباعه يُبِيعه ، وآلتَهَ يُؤْلِتُه كآمَنَ يُؤْمِنُ . وكلُّها لغاتٌ في معنى : نَقَصَه حَقَّه . قال الحطيئة :
4087 أَبْلِغْ سَراةَ بني سعدٍ مُغَلْغَلَةً ... جَهْدَ الرسالةِ لا أَلْتاً ولا كَذِباً
وقال رؤبة :
4088 وليلةٍ ذاتِ ندىً سَرَيْتُ ... ولم يَلِتْني عن سُراها ليتُ
أي : لم يَمْنَعْني ويَحْبِسْني .

قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16)

قوله : { أَتُعَلِّمُونَ } : هذه منقولةٌ بالتضعيفِ مِنْ عَلِمْتُ به بمعنى شَعَرْتُ به ، فلذلك تَعَدَّتْ لواحدٍ بنفسِها ولآخرَ بالباء .

يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17)

قوله : { أَنْ أَسْلَمُواْ } : يجوز فيه وجهان ، أحدهما : أنَّه مفعولٌ به؛ لأنه ضُمِّن « يَمُنُّون » معنى يَعْتَدُّون « ، كأنه قيل : يَعْتَدُّون عليك إسلامَهم مانِّيْنَ به عليك؛ ولهذا صَرَّح بالمفعولِ به في قولِه : { لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ } أي : » لا تَعْتَدُّوا عليَّ إسلامَكم « كذا استدلَّ الشيخُ بهذا . وفيه نظرٌ؛ إذ لقائلٍ أَنْ يقولِ : لا نُسَلِّمُ انتصابَ » إسلامَكم « على المفعولِ به ، بل يجوزُ فيه المفعولُ مِنْ أجلِه ، كما يجوزُ في محلِّ » أَنْ أَسْلَموا « وهو الوجهُ الثاني فيه ، أي : يمنُّون عليك لأجلِ أَنْ أَسْلَمُوا ، فكذلك في قولِه : { لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ } وشروطُ النصبِ موجودةٌ ، والمفعولُ له متى كان مضافاً استوى جَرُّه بالحرفِ ونصبُه .
وقوله : { أَنْ هَداكُمْ } كقولِه : » أن أَسْلَموا « . وقرأ زيد بن علي » إذ هَداكم « ب » إذ « مكانَ » أَنْ « وهي تفيد التعليلَ . وجوابُ الشرطِ مقدرٌ أي : فهو المانُّ عليكم لا أنتم عليه وعليَّ .

إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)

قوله : { والله بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } : ابن كثير الغَيْبة نظراً لقولِه : « يَمُنُّون » وما بعده ، والباقون بالخطابِ نظراً إلى قولِه : { لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ } إلى آخره .

ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1)

قوله : { والقرآن } : قَسَمٌ . وفي جوابِه أوجهٌ ، أحدُها : أنَّه قولُه : { قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض } . الثاني : { مَا يُبَدَّلُ القول } الثالث : { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ } . الرابع : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى } . الخامس { بَلْ عجبوا } وهو قولٌ كوفيٌّ . قالوا : لأنَّه بمعنى « قد عَجِبوا » السادس : أنَّه محذوفٌ ، فقدَّره الزجَّاج والأخفشُ والمبردُ « لَتُبْعَثُنَّ » . وفَتَحَها عيسى ، وكَسَرها الحسنُ وابن أبي إسحاق ، وضمَّها هارونُ وابنُ السَّمَيْفَع . وقد مَضَى توجيهُ ذلك كلِّه . وهو أنَّ الفتحَ يحتمل البناءَ على الفتح للتخفيفِ ، أو يكونُ منصوباً بفعلٍ مقدرٍ ، ومُنِع الصرفَ ، أو مجرورٌ بحرفِ قسمٍ مقدرٌ ، وإنما مُنعَ الصرفَ أيضاً . والضمُّ على أنه مبتدأٌ أو خبرٌ ، ومُنع الصرف أيضاً .

أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3)

قوله : { أَإِذَا مِتْنَا } : قرأ العامَّةُ بالاستفهام ، وابنُ عامر في روايةٍ ، وأبو جعفر والأعمش والأعرج بهمزةٍ واحدةٍ ، فتحتملُ الاستفهامَ كالجمهورِ ، وإنما حَذَفَ الأداةَ للدلالةِ ، وتحتملُ الإِخبارَ بذلك . والناصبُ للظرفِ في قراءةِ الجمهورِ مقدرٌ أي : أنُبْعَثُ أو أَنَرْجِعُ إذا مِتْنا . وجوابُ « إذا » على قراءةِ الخبرِ محذوفٌ أي : رَجَعْنا . وقيل : قولُه : « ذلك رَجْعٌ » على حذفِ الفاءِ ، وهذا رأيُ بعضِهم . والجمهور لا يُجَوِّزُ ذلك إلاَّ في شعرٍ . وقال الزمخشريُّ : « ويجوزُ أَنْ يكونَ الرَّجْعُ بمعنى المَرْجوع هو الجوابَ ، ويكونَ مِنْ كلامِ اللَّهِ تعالى ، استبعاداً لإِنكارهم ما أُنْذِروا به من البَعْثِ . والوقفُ على ما قبلَه على هذا التفسيرِ حسنٌ » . فإنْ قلت : فما ناصبُ الظرفِ إذا كان الرَّجْعُ بمعنى المَرْجوع؟ قلت : ما دَلَّ عليه المنذِرُ من المنذَرِ به وهو البعثُ « وأَنْحَى عليه الشيخُ في فهمِه هذا الفهمَ .

بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)

قوله : { بَلْ كَذَّبُواْ } : هذا إضرابٌ ثانٍ . قال الزمخشري : « إضرابٌ أُتبع الإِضرابَ قبله للدلالةِ على أنَّهم جاؤُوا بما هو أفظعُ مِنْ تعجُّبهم ، وهو الكذيبُ بالحق » . وقال الشيخ : « وكأن هذا الإِضرابَ الثاني بدلُ بدَاءٍ من الأول » . قلت : وإطلاقُ مثلِ هذا في كتابِ الله لا يجوزُ البتةَ . وقيل : قبل هذه الآيةِ جملةٌ مُضْرَبٌ عنها . تقديرُها : ما أجادُوا النظرَ ، بل كَذَّبوا . وما قاله الزمخشريُّ أحسنُ .
والعامَّةُ على تشديد « لَمَّا » وهي : إمَّا حرفُ وجوبٍ لوجوب ، أو ظرفٌ بمعنى حين ، كما عَرَفْتَه . وقرأ الجحدريُّ بكسرِ اللام وتخفيفِ الميمِ على أنَّها لامُ الجرِّ دَخَلَت على « ما » المصدرية ، وهي نظيرُ قولِهم : « كتبْتُه لخمسٍ خَلَوْن » أي : عندها .
قوله : { مَّرِيجٍ } أي : مُخْتَلِط . قال أبو واقد :
4089 مَرِجَ الدِّيْنُ فأَعْدَدْتُ له ... مُشْرِفَ الأَقْطارِ مَحْبوكَ الكَتَدْ
وقال آخر :
4090 فجالَتْ والتمسْتُ به حَشاها ... فَخَرَّ كأنَّه خُوْطٌ مَرِيْجُ
وأصلُه من الحركةِ والاضطرابِ/ ومنه : مَرَجَ الخاتمُ في إصبعِه .

أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6)

قوله : { فَوْقَهُمْ } : حالٌ من « السماء » وهي مؤكِّدةٌ . و « كيف » منصوبةٌ بما بعجها وهي معلِّقَةٌ للنظرِ قبلها .

تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)

قوله : { تَبْصِرَةً } : العامَّةُ على نصبِها على المفعول مِنْ أجله أي : تبصيرَ أمثالِهم وتذكيراً مِنَّا لهم . وقيل : منصوبان بفعلٍ مِنْ لفظِهما مقدرٍ أي : بَصِّرْهم تَبْصِرةً وذكِّرْهم تَذْكرةً . وقيل : حالان أي : مُبَصَّرين مُذَكَّرين . وقيل : حالٌ من المفعول أي : ذاتَ تَبْصِيرٍ وتَذْكيرٍ لمَنْ يَراها . وزيد بن علي بالرفع . وقرأ « وذِكْرٌ » أي : هي تبصرةٌ وذِكْرٌ . و « لكلِّ » : إمَّا صفةٌ ، وإمَّا متعلِّقٌ بنفسِ المصدر .

وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9)

قوله : { وَحَبَّ الحصيد } : يجوزُ أَنْ يكونَ مِنْ بابِ حَذْفِ الموصوفِ للعِلْم به تقديرُه : وحَبَّ الزَرْع الحصيدِ نحو : مسجد الجامع وبابِه . وهذا مذهبُ البصريين؛ لئلا تَلْزَمَ إضافةُ الشيءِ إلى نفسِه . ويجوزُ أَنْ يكونَ من بابِ إضافةِ الموصوفِ إلى صفتِه؛ لأنَّ الأصلَ : والحَبَّ الحصيدَ أي : المحصود .

وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10)

قوله : { والنخل } : منصوبٌ عطفاً على مفعول « أَنْبَتْنا » أي : وأَنْبَتْنا النخلَ . و « باسِقاتٍ » حالٌ . وهي حالٌ مقدرةٌ؛ لأنَّها وقتَ الإِنباتِ لم تكن طِوالاً . والبُسُوْقُ : الطُّوْلُ . يُقال : بَسَقَ فلانٌ على أصحابِه أي : طالَ عليهم في الفَضْلِ . ومنه قولُ ابنِ نوفل في ابن هبيرة :
4091 يا بنَ الذين بمَجْدِهمْ ... بَسَقَتْ على قَيْسٍ فَزارَهْ
وهو استعارةٌ ، والأصلُ استعمالُه في : بَسَقَتِ النخلةُ تَبْسُق بُسُوْقاً أي : طالَتْ . قال الشاعر :
4092 لنا خَمْرٌ وليسَتْ خمرَ كَرْمٍ ... ولكنْ مِنْ نِتاجِ الباسِقاتِ
كِرامٌ في السماءِ ذَهَبْنَ طُوْلاً ... وفاتَ ثمارَها أيدي الجُناةِ
وبَسَقَتِ الشاةُ : وَلَدَتْ ، وأَبْسَقَت الناقةُ : وَقَع في ضَرْعِها اللِّبَأ قبل النِّتاج ، ونوقٌ مَباسِيْقُ من ذلك . والعامَّةُ على السين . وقرأ قطبة بن مالك ويَرْويها عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم « باصِقاتٍ » بالصاد ، وهي لغةٌ لبني العَنْبر ، يُبْدِلون السينَ صاداً قبل القافِ والغينِ والخاءِ والطاء إذا وَلِيَتْها ، أو فُصِلَتْ منها بحرفٍ أو حَرْفين .
قوله : { لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ } يجوزُ أَنْ تكونَ الجملةُ حالاً من النخل أو من الضمير في « باسِقاتٍ » ، ويجوزُ أَنْ يكونَ الحالُ وحدَه لها ، و « طَلْعٌ » فاعلٌ به ، ونَضِيْدٌ بمعنى مَنْضود .

رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)

قوله : { رِّزْقاً } : يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً أي : مرزوقاً للعباد أي : ذا رزقٍ ، وأَنْ يكونَ مصدراً مِنْ معنى أَنْبَتْنا؛ لأنَّ إنباتَ هذا رِزْقٌ ، ويجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً له . و « للعباد » إمَّا صفةٌ ، وإمَّا متعلِّقٌ بالمصدرِ ، وإمَّا مفعولٌ للمصدرِ ، واللامُ زائدةٌ أي : رزْقاً للعباد .
قوله : { بِهِ } أي : بالماءِ . و « مَيْتاً » صفةٌ ل « بَلْدة » . ولم يُؤَنَّثْ حَمْلاً على معنى المكانِ . والعامَّةُ على التخفيف . وأبو جعفر وخالد بالتثقيل .

وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14)

قوله : { الأيكة } : قد تقدَّم الكلامُ عليها في الشعراء . وقرأ ههنا « لَيْكَة » بزِنَةِ لَيْلَة أبو جعفر وشيبةٌ . وقال الشيخُ : « وقرأ أبو جعفرٍ وشيبةُ وطلحةُ ونافع » الأَيْكةِ « بلام التعريفِ ، والجمهور » لَيْكَة « وهذا الذي نقلَه غفلةٌ منه ، بل الخلافُ المشهورُ إنما هو في سورة الشعراء و ص كما حَقَّقْتُه ثَمَّةَ ، وأمَّا هنا فالجمهورُ على لامِ التعريفِ .
قوله : { كُلٌّ } التنوينُ عِوَضٌ من المضافِ إليه . وكان بعضُ النحاةِ يُجيز حَذْفَ تنوينِها وبناءَها على الضم كالعامَّةِ نحو : قبل وبعد .

أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)

قوله : { أَفَعَيِينَا } : العامَّةُ على ياءٍ مكسورةٍ بعدها ياءٌ ساكنةٌ . وقد مَضَى معناه في الأحقاف . وقرأ ابنُ أبي عبلة « أفَعَيِّنا » بتشديدِ الياءِ مِنْ غيرِ إشباعٍ . وهذه القراءةُ على إشكالِها قرأ بها الوليد بن مسلم وأبو جعفر وشيبةٌ ونافعٌ في روايةٍ ، وروى ابنُ خالويه عن ابن أبي عبلة « أفَعَيِّينا » كذلك لكنه أتى بعد الياء المشدَّدة بأخرى ساكنة . وخرَّجَها الشيخ على لغةِ مَنْ يقولُ عَيِيَ : عَيَّ ، وفي حَيِيَ : حَيَّ بالإِدغام . ثم لَمَّا أَسْنَدَ هذا الفعلَ وهو مُدْغَمٌ ، واعتبر لغةَ بكر بن وائلِ : وهو أنهم لا يَفُكُّون الإِدغامَ في مثلِ هذا إذا أَسْنَدوا ذلك الفعلَ المدغَم لتاءِ المتكلم ، ولا إحدى أخَواتها التي تُسَكَّنُ لها لامُ الفعل ، فيقولون في رَدَّ : رَدْتُ ورَدْنا ، قال : « وعلى هذه اللغةِ/ تكونُ الياءُ مفتوحةً » . قلت : « ولم يَذْكُرْ توجيهَ القراءةِ الأخرى . وتوجيهُها : أنها مِنْ عَيَّا يُعَيِّي كحَلَّى يُحَلِّي .

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)

قوله : { وَنَعْلَمُ } : خبرُ مبتدأ مضمرٍ . تقديرُه : ونحن نعلمُ . والجملةُ الاسميةُ حينئذٍ حالٌ . ولا يجوزُ أَنْ يكونَ هو حالاً بنفسه؛ لأنه مضارعٌ مثبتٌ باشَرَتْهُ الواو . وكذلك قولُه : « ونحن أقربُ » .
قوله : { مِنْ حَبْلِ الوريد } هذا كقولهم : مسجد الجامع أي : حبلِ العِرْقِ الوريد ، أو لأنَّ الحبلَ أعمُّ للبيان نحو : بعير سانية ، أو يراد حَبْلُ العاتق فأضيف إلى الوريد كما يضاف إلى العاتِق ، لأنهما في عضو واحد . والوريد : إمَّا بمعنى الوارد ، وإمَّا بمعنى المورود . والوريد : عِرْقٌ كبير في العنق يقال : إنهما وريدان . قال الزمخشري : « عِرْقان مُكْتنفان لصفحتَيْ العُنُق في مُقَدَّمِهما يتصلان بالوَتين ، يَرِدان من الرأس إليه . ويسمَّى وريداً؛ لأنَّ الروحَ تَرِدُ إليه » . وأنشد :
4093 كأنْ وَرِيْدَيْهِ رِشاءُ خُلْبِ ... وقال الأثرم : « هو نهرُ الجسدِ : هو في القلبِ الوَتينُ ، وفي الظهر الأَبْهَرِ ، وفي الذِّراعِ والفَخِذِ الأَكْحَلُ والنَّسا ، وفي الخِنْصِرِ الأَسْلَم » .

إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17)

قوله : { إِذْ يَتَلَقَّى } : ظرفٌ ل « أَقْرَبُ » . ويجوزُ أَنْ يكونَ منصوباً ب اذكُرْ .
قوله : { عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ } يجوز أَنْ يكونَ مفرداً على بابِه ، فيكون بمعنى مُفاعِل كخليط بمعنى مُخالِط ، أو يكونَ عَدَلَ مِنْ فاعِل إلى فعيل مبالغةً ك عليم . وجوَّز الكوفيون أَنْ يكونَ فعيل واقعاً مَوْقِعَ الاثنين . وقال المبرد : « والأصل : عن اليمين قعيدٌ وعن الشِّمال ، فأُخِّرَ عن موضعِه » وهذا لا يُنْجي مِنْ وقوعِ المفردِ موقعَ المثنى . والأَجْوَدُ أَنْ يُدَّعَى حَذْفٌ : إمَّا من الأول أي : عن اليمين قعيدٌ وعن الشِّمال قعيدٌ ، وإمَّا من الثاني ، فيكون قعيدٌ الملفوظُ به للأول ، ومثلُه قولُ الآخر :
4094 رَماني بأَمْرٍ كنتُ منه ووالدي ... بَريئاً ومِنْ أجل الطَّوِيِّ رَماني

مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)

قوله : { مَّا يَلْفِظُ } : العامَّةُ على كسرِ الفاء ومحمدُ بن أبي معدان على فتحِها . ورقيبٌ عتيدٌ قيل : هو بمعنى : رقيبان عتيدان .

وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)

قوله : { بالحق } : يجوزُ أَنْ تكونَ الباءُ للحال أي : ملتبسةً بالحقِّ ، ويجوزُ أَنْ تكونَ للتعديةِ . وقرأ عبد الله « سَكَراتُ » وتَحيد : تميلُ ، مِنْ حادَ عن الشيء يَحيد حُيُوداً وحُيُوْدَة وحَيْداً .

وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21)

قوله : { مَّعَهَا سَآئِقٌ } : جملةٌ في موضعِ جرّ صفةً ل « نَفْسٍ » أو رفعٍ صفةً ل « كل » ، أو نصبٍ حالاً مِنْ « كلُّ » . والعامَّةُ على عدمِ الإِدغام في « معها » ، وطلحة على الإِدغام « مَحَّا » بحاءٍ مشددةٍ؛ وذلكَ أنه أدغم العينَ في الهاء ، ولا يمكنُ ذلك ، فقَلَبَ الهاءَ حاءً ، ثم أدغم فيها العينَ فقلبها حاءً . وسُمِع « ذَهَبَ مَحُّمْ » أي : معهم . قال الزمخشري : « ومحلُّ » معها سائقٌ « النصبُ على الحال من » كلُّ « لتعرُّفِه بالإِضافة إلى ما هو في حكم المعرفة » . وأنحى عليه الشيخ مُتَحَمِّلاً على عادته ، وقال : « لا يقولُ هذا مبتدِىءٌ في النحوِ ، لأنه لو نُعِتَ » كلُّ نفسٍ « ما نُعِتَ إلاَّ بالنكرة » . وهذا منه غيرُ مَرْضيٍّ؛ إذ يَعْلم أنه لم يُرِدْ حقيقةً ما قاله .

لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)

قوله : { لَّقَدْ كُنتَ } : أي : يُقال له : لقد كنتَ ، والقولُ : إمَّا صفة أو حالٌ . والعامَّةُ على فتح التاءِ والكافِ في « كنتَ » و « غِطاءَكَ » و « فبصَرُك » حَمْلاً على لفظ « كلُّ » من التذكير . والجحدري « كنتِ » بالكسر مخاطبةً للنفس ، وهو وطلحة بن مصرف « عنكِ » ، « غطاءَكِ » ، « فبصَرُكِ » بالكسر مراعاةً للنفس أيضاً . ولم ينقل صاحبُ « اللوامح » الكسرَ في الكاف عن الجحدريِّ ، وعلى الجملة فيكونُ قد راعى اللفظَ والمعنى أخرى .

وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23)

قوله : { هذا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ } : يجوزُ أَنْ تكونَ « ما » نكرةً موصوفةً و « عتيدٌ » صفتُها و « لَدَيَّ » متعلقٌ ب « عتيدٌ » أي : هذا شيءٌ عَتيدٌ لديَّ أي : حاضرٌ عندي . ويجوزُ على هذا أَنْ يكونَ « لديَّ » وصفاً ل « ما » ، و « عتيدٌ » صفةٌ ثانيةٌ ، أو خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي : هو عتيدٌ . ويجوزُ أَنْ تكونَ موصولةً بمعنى الذي . و « لَدَيَّ » صلتُها و « عتيدٌ » خبرُ الموصولِ ، والموصولُ وصلتُها خبرُ الإِشارةِ . ويجوزُ أَنْ تكون « ما » بدلاً مِنْ « هذا » موصولةً كانت أو موصوفةً ب « لَدَيَّ » و « عتيدٌ » خبرُ « هذا » . وجَوَّز الزمخشريُّ في « عَتيدٌ » أَنْ يكونَ بدلاً أو خبراً بعد خبر أو خبرَ مبتدأ محذوفٍ . / والعامَّةُ على رفعِه ، وعبد الله نصبَه حالاً . والأجودُ حينئذٍ أَنْ تكونَ « ما » موصولةً؛ لأنها معرفةٌ ، والمعرفةُ يَكْثُرُ مجيءُ الحالِ منها . قال أبو البقاء : « ولو جاء ذلك في غيرِ القرآنِ لجاز نصبُه على الحالِ » . قلت : قد جاء ما وَدَّه ولله الحمدُ ، وكأنَّه لم يَطَّلعْ عليها قراءةً .

أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24)

قوله : { أَلْقِيَا } : اختلفوا : هل المأمورُ واحدٌ أم اثنان؟ فقال بعضُهم : واحد ، وإنما أتى بضميرِ اثنين ، دلالةً على تكرير الفعل كأنه قيل : أَلْقِ أَلْقِ . وقيل : أراد أَلْقِيَنْ بالنونِ الخفيفة فأبدلها ألفاً إجراءً للوَصْلِ مُجْرى الوقفِ ، ويؤيِّده قراءةُ الحسنِ « أَلْقِيَنْ » بالنونِ .
وقيل : العرب تخاطِبُ الواحدَ مخاطبةَ الاثنين تأكيداً كقولِه :
4095 فإن تَزْجُراني يا بنَ عَفَّانَ أَزْدَجِرْ ... وإنْ تَدَعاني أَحْمِ عِرْضاً مُمَنَّعا
وقال آخر :
4096 فقُلْتُ لصاحبي لا تَحْبِسانا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
البيت . وقال بعضُهم : المأمور مثنى . وهذا هو الحقُّ لأنَّ المرادَ مَلَكان يفعلان ذلك .

الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26)

قوله : { الذي جَعَلَ } : يجوزُ أَنْ يكونَ منصوباً على الذمِّ ، أو على البدلِ مِنْ « كل » ، وأَنْ يكونَ مجروراً بدلاً من « كَفَّار » ، أو مرفوعاً بالابتداء ، والخبرُ « فَأَلْقياه » . قيل : ودَخَلَتِ الفاءُ لشِبْهِه بالشرط . ويجوزُ أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي : هو الذي جَعَلَ ، ويكونُ « فَأَلْقِياه » تأكيداً . وجَوَّز ابنُ عطية أَنْ يكونَ صفةً للكَفَّار قال : « من حيثُ يختصُّ » كَفَّار « بالأوصافِ المذكورة ، فجاز وَصْفُه بهذه المعرفة » ، وهذا مردودٌ . وقُرىء بفتح التنوينِ فِراراً مِن توالي أربعة متجانساتٍ .

قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27)

قوله : { قَالَ قَرِينُهُ } : جاءَتْ هذه بلا واوٍ؛ لأنها قُصِدَ بها الاستئنافُ؛ كأنَّ الكافرَ قال : ربِّ هو أَطْغاني . فقال قَرينُه : ما أَطْغَيْتُه ، بخلاف التي قبلَها ، فإنها عُطِفَتْ على ما قبلَها للدلالة على الجمعِ بين معناها ومعنى ما قبلَها في الحصولِ ، أعني مجيْءَ « كلُّ نفس » مع المَلَكَيْن وقولَ قرينِه ما قاله له .

قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28)

قوله : { قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ } : استئنافٌ أيضاً ، كأن قائلاً قال : فماذا قال اللَّهُ له؟ فأُجيب ب « قال : لا تَخْتصموا » .
قوله : { وَقَدْ قَدَّمْتُ } جملةٌ حاليةٌ . ولا بُدَّ مِنْ تأويلِها . وذلك أنَّ النهيَ في الآخرةِ وتَقْدِمةَ الوعيدِ في الدنيا ، فاختلف الزمنان ، فكيف يَصِحُّ جَعْلُها حاليةً؟ وتأويلها : هو أن المعنى وقد صَحَّ أني قَدََّمْتُ ، وزمانُ الصحةِ وزمانُ النهيِ واحدٌ ، و « قَدَّمْتُ » يجوزُ أَنْ يكونَ بمعنى تَقَدَّمْتُ ، فتكون التاءُ للحال ، ولا بُدَّ من حَذْفِ مضافٍ أي : وقد تقدَّم قولي لكم مُلْتبساً بالوعيد . ويجوزُ أن يكونَ « قَدَّمْتُ » على حاله متعدِّياً ، والباءُ مزيدةٌ في المفعولِ أي : قَدَّمْتُ إليكم الوعيدَ .

يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)

قوله : { يَوْمَ نَقُولُ } : « يوم » منصوبٌ : إمَّا بظَلاَّم ، ولا مفهومَ لهذا؛ لأنه إذا لم يَظْلِمْ في هذا اليومِ فَنَفْيُ الظلمِ عنه في غيرِه أَحْرَى أو بقولِه : { وَنُفِخَ فِي الصور } [ ق : 20 ] والإِشارة بذلك إلى « يومَ نقول » قاله الزمخشري ، واستبعده الشيخُ بكثرةِ الفواصلِ ، أو ب « اذْكُرْ » مقدَّراً أو بأَنْذِرْ ، وهو على هذَيْن الأخيرَيْن مفعولٌ به لا ظرفٌ .
قوله : { هَلْ مِن مَّزِيدٍ } سؤالُ تقريرٍ وتوقيفٍ . وقيل : معناه النفيُ . وقيل : السؤالُ لخَزَنَتِها . والجوابُ منهم ، فلا بُدَّ مِنْ حذفِ مضافٍ أي : نقولُ لخزنةِ جهنمَ ويقولون ، ثم حَذَفَ . وقرأ نافع وأبو بكر « يقول لجهنمَ » بياء الغَيْبة ، والفاعلُ اللَّهُ تعالى لتقدُّم ذِكْرِه في قولِه : « مع الله » ، والباقون بنونِ المتكلِّمِ المعظِّم نفسَه لتقدُّم ذِكْرِه في قوله : « لديَّ » ، « وقد قَدَّمْتُ » . والأعمش « يُقال » مبنياً للمفعول . والمزيد يجوز أَنْ يكونَ مصدراً ، وأن يكونَ اسمَ مفعولٍ أي : مِنْ شيءٍ تَزيدونَنِيْه أَحْرقه .

وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31)

قوله : { غَيْرَ بَعِيدٍ } : يجوزُأَنْ تكونَ حالاً من الجنة ، ولم تُؤنَّثْ لأنها بمعنى البستان ، أو لأنَّ فعيلاً لا يُؤَنَّثُ لأنه بزنةِ المصادرِ ، قاله الزمخشري ، ولم يُسَلِّمْه الشيخُ ، وقد تقدَّم في قولِه : { إِنَّ رَحْمَتَ الله قَرِيبٌ } [ الأعراف : 56 ] ما يُغْنِيك عن هذا . ويجوزُ أَنْ يكونَ منصوباً على الظرفِ المكانيِّ أي : مكاناً غيرَ بعيدٍ . ويجوزُ أَنْ يكونَ نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ أي : إزْلافاً غيرَ بعيدٍ . وهو ظاهرُ عبارةِ الزمخشري فإنه قال : « أو شيئاً غيرَ بعيدٍ » .

هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32)

قوله : { هذا مَا تُوعَدُونَ } : هذه الجملةُ يجوزُ فيها وجهان ، أحدهما : أَنْ تكونَ معترضةً بين البدلِ والمبدلِ منه؛ ولذلك أنَّ « لكل أَوَّابٍ » بدلٌ من « للمتقين » بإعادةِ العامل . والثاني : أَنْ تكونَ مصنوبةً بقولٍ مضمرٍ ، ذلك القولُ منصوبٌ على الحالِ أي : مقولاً لهم . وقد تقدَّم في ص أنه قُرِىء « تُوْعَدون » بالتاء والياء . ونَسَبَ الشيخُ قراءةَ الياءِ مِنْ تحتُ هنا لابن كثيرٍ وأبي عمروٍ ، وإنما هي عن ابن كثير وحدَه .

مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33)

قوله : { مَّنْ خَشِيَ } : يجز أن يكونَ مجرورَ المحلِّ بدلاً أو بياناً ل « كل » . وقال الزمخشري : « إنه يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً بعد بدل تابعاً لكل » انتهى . يعني أنه بدلٌ مِنْ « كل » بعد أن أُبْدِلَتْ « لكل » مِنْ « للمتقين » ولم يَجْعَلْه بدلاً آخر من نفس « للمتقين » لأنَّه لا يتكرَّرُ البدلُ والمبدلُ منه واحدٌ/ . ويجوز أن يكونَ بدلاً عن موصوفِ أَوَّاب وحفيظ ، قاله الزمخشري ، يعني أن الأصلَ : لكل شخصٍ أوَّابٍ ، فيكون « مَنْ خَشِي » بدلاً مِنْ شخص المقدر قال : « ولا يجوزُ أَنْ يكونَ في حُكم أوَّاب وحفيظ لأنَّن » مَنْ « لا يُوْصَفُ بها ، ولا يُوْصَفُ مِنْ بين الموصولاتِ إلاَّ ب » الذي « . يعني بقولِه : » في حُكْمِ أوَّاب « أن يُجْعَل » مَنْ « صفةً ، وهذا كما قال لا يجوزُ . إلاَّ أنَّ الشيخَ اسْتَدْرَكَ عليه الحصرَ فقال : » بل يوصف بغير « الذي » من الموصولاتِ كوَصْفِهم بما فيه أل الموصولة نحو : الضارب والمضروب ، وكوَصْفِهم ب ذو وذات الطائيَّتين نحو قولهم : « بالفضل ذو فَضَّلكم اللَّهُ به والكرامةِ ذاتُ أكرمكم اللَّهُ بَهْ » .
وجَوَّز ابنُ عطية في « مَنْ خَشِي » أَنْ يكونَ نعتاً لِما تقدَّم ، وهو مردودٌ بما تقدَّم ، ويجوز أَنْ يكونَ يرتفع « مَنْ خَشِي » على خبر ابتداءٍ مضمرٍ ، أو يُنْصَبُ بفعلٍ مضمرٍ ، وكلاهما على القطع المُشْعِرِ بالمدح ، وأن يكونَ مبتدأ خبرُه قولٌ مضمرٌ ناصبٌ لقولِه : « ادْخُلوها » أي : مَنْ خَشِي الرحمنَ يُقال لهم : ادْخُلوها . وحُمِل أولاً على اللفظِ ، وفي الثاني على المعنى ، وقيل : « مَنْ خَشي » منادى حُذِفُ منه حرفُ النداءِ أي : يا مَنْ خَشِي ادْخلُوها باعتبار الحَمْلَيْن المتقدِّمَيْنِ ، وأَنْ تكونَ شرطيةً ، وجوابُها محذوفٌ وهو ذلك القولُ ، ولكن رُدَّ معه فاءٌ أي : فيقال لهم : و « بالغيب » حالٌ أي : غائباً عنه ، فيُحتمل أَنْ يكونَ حالاً من الفاعل أو المفعول أو منهما . وقيل : الباءُ للسببية أي : خَشْيةً بسببِ الغيب الذي أَوْعَدَه مِنْ عذابِه . ويجوزُ أَنْ تكونَ صفةً لمصدرِ خشي أي : خَشيَه خَشْيْةً ملتبسةً بالغيب .

ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34)

قوله : { بِسَلاَمٍ } : حالٌ من فاعل « ادْخلوها » ، أي : سالمين من الآفات ، فهي حالٌ مقارِنةٌ أو مُسَلَّماً عليكم ، فهي حالٌ مقدرةٌ كقوله : { فادخلوها خَالِدِينَ } [ الزمر : 73 ] كذا قيل . وفيه نظر؛ إذ لا مانعَ من مقارنة تسليم الملائكةِ عليهم حالَ الدخول بخِلافِ { فادخلوها خَالِدِينَ } [ الزمر : 73 ] فإنه لا يُعْقَلُ الخلودُ إلاَّ بعد الدخولِ .
قوله : { ذَلِكَ يَوْمُ الخلود } قال أبو البقاء : « أي زمنُ ذلك يومُ الخلود » كأنه جَعَلَ ذلك إشارةً إلى ما تقدَّم مِنْ إنعام اللَّهِ عليهم بما ذُكِرَ . ولا حاجةَ إلى ذلك؛ بل ذلك مُشارٌ به لما بعدَه من الزمانِ كقولك « هذا زيدٌ » .
قوله : { فِيهَا } يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ ب يَشاؤُون ، ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من الموصول ، أو مِنْ عائِده والأولُ أَوْلى .

وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36)

قوله : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا } : « كم » نُصِب بما بعده . وقُدِّم : إمَّا لأنه استفهامٌ ، وإمَّا لأنَّ الخبريَّة تَجْري مَجْرى الاستفهاميةِ في التصدير . و « مِنْ قَرْن » تمييزٌ ، و « هم أشدُّ » صفةٌ : إمَّا ل « لكم » وإمَّا ل « قرن » .
قوله : { فَنَقَّبُواْ } الفاءُ عاطفةٌ على المعنى كأنه قيل : اشتدَّ بَطْشُهم فنَقَّبوا . والضمير في « نَقَّبوا » : إما للقرونِ المقتدمةِ وهو الظاهرُ ، وإمَّا لقريش ، ويؤيِّده قراءةُ ابنِ عباس وابن يعمر وأبي العالية ونصر ابن سيَّار وأبي حيوةَ والأصمعيِّ عن أبي عمرو « فَنَقِّبوا » بكسر القاف أَمْراً لهم بذلك . والتنقيب : التنقير والتفتيش ، ومعناه التطوافُ في البلاد . قال الحارث بن حِلِّزة :
4097 نَقَّبوا في البلاد مِنْ حَذَرِ الموْ ... تِ وجالُوا في الأرض كلَّ مجَالِ
وقال امرؤ القيس :
4098 وقد نَقَّبْتُ في الآفاقِ حتى ... رَضِيْتُ مِن الغنيمة بالإِياب
وقرأ ابن عباس وأبو عمروٍ أيضاً في رواية « نَقَبوا » بفتح القاف خفيفةً . ومعناها ما تقدَّم . وقُرِىء « نَقِبوا » بكسرها خفيفةً أي : تَعِبَتْ أقدامُهم وأقدامُ إِبِلهم ودَمِيَتْ ، فَحُذِفَ المضافُ ، وذلك لكثرةِ تَطْوافِهم .
قوله : { هَلْ مِن مَّحِيصٍ } مبتدأٌ ، وخبرُه مضمرٌ تقديرُه : هل لِمَنْ سَلَكَ طريقتَهم ، أو هل لهم مِنْ مَحيصٍ ، وهذه الجملةُ تحتمل أن تكون إلى إضمارِ قولٍ ، وأَنْ لا تكونَ .

إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)

قوله : { أَوْ أَلْقَى } : العامَّةُ على « أَلْقى » مبنياً للفاعل . والسملي وطلحة والسُّدِّي وأبو البرهسم « أُلْقِي » مبنياً للمفعول « السَّمعُ » رُفِع به ، وذُكِرت هذه القراءةُ لعاصمٍ عن السُّدِّي فمقته وقال : أليس يقول : « يُلْقُوْن السَّمْعَ » .

وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38)

قوله : { وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } : يجوزُ أَنْ تكونَ حالاً ، وأن تكونَ مستأنفةً . والعامَّةُ على ضمِّ لام اللُّغوب . وعلي وطلحة والسلمي ويعقوبُ بفتحِها ، وهما مصدران بمعنىً . وينبغي أَنْ يُضَمَّ هذا إلى ما حكاه سيبويه من المصادر الجائيةِ على هذا الوزنِ وهي خمسة ، وإلى ما زاده الكسائي وهو الوَزُوعُ ، فتصير سبعةً . وقد أتقَنْتُ هذا في البقرة عند قوله : { وَقُودُهَا } [ الآية : 24 ] .

وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)

قوله : { وَأَدْبَارَ } : قرأ نافع وابن كثير وحمزة « إِدْبار » بكسر الهمزة ، على أنه مصدرٌ قام مَقامَ ظرفِ الزمان كقولهم : « آتيك خُفوقَ النجمِ وخلافة الحجَّاج » . والمعنى : وقتَ إدبار الصلاة أي : انقضائِها وتمامِها . والباقون بالفتح جمعَ « دُبُر » وهو آخرُ الصلاة وعَقِبُها ، ومنه قولُ أوس :
4099 على دُبُرِ الشهرِ الحَرامِ فأَرْضُنا ... وما حولَها جَدْبٌ سِنونَ تَلْمَعُ
ولم يختلفوا في { وَإِدْبَارَ النجوم } [ الطور : 49 ] .

وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41)

قوله : { واستمع } : هو استماعٌ على بابِه . وقيل : بمعنى الانتظارِ ، وهو بعيدٌ . فعلى الأولِ يجوزُ أَنْ يكونَ المفعولُ محذوفاً أي : استمعْ نداءَ المنادي أو نداءَ الكافر بالويلِ والثُّبور ، فعلى هذا يكون « يومَ ينادي » ظرفاً ل « استمتعْ » أي : استمعْ ذلك في يوم .
وقيل : استمعْ ما أقولُ لك . فعلى هذا يكون « يومَ يُنادي » . منصوباً ب « يَخْرجون » مقدَّراً مدلولاً عليه بقوله : { ذَلِكَ يَوْمُ الخروج } [ ق : 42 ] ، وعلى الثاني يكون « يومَ ينادي » مفعولاً به أي : انتظرْ ذلك اليومَ .
ووقف ابن كثير على « يُنادي » بالياء ، والباقون دونَها . ووجهُ إثباتِها أنه لا مُقْتضٍ لحذفِها ، ووجهُ حَذْفِها وَقْفاً اتِّباعُ الرسمِ ، وكان الوقفُ مَحَلَّ تخفيفٍ . وأمَّا « المنادي » فأثبتَ ابنُ كثير أيضاً ياءَه وصلاً ووقفاً ، ونافع وأبو عمروٍ بإثباتِها وصلاً وحَذْفِها وقفاً ، وباقي السبعةِ بحَذْفِها وَصْلاً ووقفاً . فمَنْ أثبت فلأنَّه الأصلُ ، ومَنْ حَذَفَ فلاتِّباع الرسمِ ، ومَنْ خَصَّ الوقفَ بالحذفِ فلأنَّه مَحَلُّ راحةٍ ومَحَلُّ تغييرٍ .

يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42)

قوله : { يَوْمَ يَسْمَعُونَ } : بدلٌ مِنْ « يومَ ينادي » و « بالحق » حالٌ من الصيحة أي : ملتسبةً بالحق ، أو من الفاعلِ أي : يَسْمعون مُلْتبسين بسماع حق .
قوله : { ذَلِكَ يَوْمُ الخروج } يجوز أَنْ يكونَ التقديرُ : ذلك الوقتُ أي : وقتُ النداءِ والسماع يومُ الخروجِ . ويجوز أَنْ يكونَ « ذلك » إشارةً إلى النداء ، ويكونُ قد اتُّسِع في الظرف فأُخْبِرَ به عن المصدر ، أو يُقَدَّرَ مضافٌ إلى ذلك النداءِ والاستماع : نداء يومِ الخروجِ واستماعِه .

يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44)

قوله : { يَوْمَ تَشَقَّقُ } : « يوم » يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ « يوم » قبله . وقال أبو البقاء : « إنه أُبْدِل مِنْ » يوم « الأول » وفيه نظرٌ مِنْ حيث تَعَدُّدُ البدلِ والمبدلُ منه واحدٌ . وقد تقدَّم أن الزمخشريَّ منعه . ويجوزُ أَنْ يكونَ اليوم ظرفاً للمصير . وقيل : ظرفٌ للخروج . وقيل : منصوبٌ ب « يَخْرُجون » مُقَدَّرا . وتقدَّمَ الخلافُ في « يَشَّقَّقُ » في الفرقان . وقرأ زيد « تَتَشَقَّق » بفكِّ الإِدغام .
قوله : { سِرَاعاً } حالٌ من الضمير في « عنهم » ، والعاملُ فيها « تَشَقَّقُ » . وقيل : عاملُها هو العامل في « يومَ تَشَقَّقُ » المقدر أي : يَخْرُجون سِراعاً يوم تَشَقَّقُ .
قوله : { عَلَيْنَا } متعلق ب « يَسير » ففَصَل بمعمولِ الصفة بينها وبين موصوفِها ، ولا يَضُرُّ ذلك . ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ منه . لأنه في الأصلِ يجوزُ أَنْ يكونَ نعتاً . وقال الزمخشري : « التقديمُ للاختصاصِ ، أي : لا يتيسَّر ذلك إلاَّ على الله وحده » . وقد تقدَّم الخلافُ في ياء « وعيد » إثباتاً وحَذْفاً .

وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1)

قوله : { ذَرْواً } : منصوبٌ على المصدرِ المؤكِّد ، العاملُ فيه فَرْعُه وهو اسمُ الفاعلِ . والمفعولُ محذوفٌ اقتصاراً؛ إذ لا نظيرَ لما يَذْرُوه هنا . وأدغم أبو عمروٍ وحمزةُ تاءَ « الذاريات » في ذال « ذَرْواً » .

فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2)

قوله : { وَقْراً } : مفعولٌ به بالحاملات . والوِقْر بالكسر : اسمُ ما يُوْقَر أي : يُحْمَلُ . وقُرِىء « وَقْراً » بالفتح ، وذلك على تسمية المفعول بالمصدر . ويجوز أن يكونَ مصدراً على حالِه ، والعاملُ فيه معنى الفعلِ قبله؛ لأنَّ الحَمْلَ والوَقْرَ بمعنىً واحد ، وإن كان بينهما عمومٌ وخصوصٌ/ .

فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3)

قوله : { يُسْراً } : يجوزُ أن يكونَ مصدراً مِنْ معنى ما قبلَه أي : جَرْياً يُسْراً ، وأَنْ تكونَ حالاً أي : ذات يُسْرٍ أو مَيْسَرة أو جُعِلَتْ نفسَ اليُسْرِ مبالغةً .

فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4)

قوله : { أَمْراً } : يجوزُ أن يكونَ مفعولاً به ، وهو الظاهر ، وأَنْ يكون حالاً أي : مأمورَه ، وعلى هذا فيحتاج إلى حَذْف مفعولِ « المُقَسِّمات » . وقد يقال : لا غرضَ لتقديرِه كما في « الذَّارِيات » . وهل هذه أشياءُ متختلفةٌ فتكونُ الواوُ على بابِها من عطفِ المتغايراتِ ، فإنَّ الذارياتِ هي الرياحُ ، والحاملاتِ الفلكُ ، والجارياتِ الكواكبُ ، والمُقَسِّماتِ الملائكةُ . وقال الزمخشري : « ويجوزُ أَنْ يُراد الريحُ وحدَها لأنها تُنْشِىءُ السحابَ وتُقِلُّه وتُصَرِّفُه ، وتجري في الجوِّ جَرْياً سهلاً » . قلت : فعلى هذا يكونُ مِنْ عطفِ الصفاتِ ، والمرادُ واحدٌ كقولِه :
4100 يا لَهْفَ زَيَّابَةَ للحارثِ الصَّا ... بِحِ فالغانِمِ فالآيِبِ
وقولِ الآخر :
4101 إلى المَلِك القَرْمِ وابْنِ الهُمامِ ... ولَيْثِ الكتيبةِ في المُزْدَحَمْ
وهذا قَسَمٌ جوابُه قولُه : « إنما تُوْعدون » .

إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5)

و « ما » يجوزُ أَنْ تكونَ اسميةً ، وعائدُها محذوفٌ أي : تُوْعَدونه ، ومصدريةً فلا عائدَ على المشهور ، وحينئذٍ يُحتمل أَنْ يكونَ « تُوْعدون » مبنياً من الوَعْدِ ، وأَنْ يكونَ مبنيَّاً من الوعيد لأنه صالحٌ أَنْ يُقال : أَوْعَدْتُه فهو يُوْعَد ، ووَعَدْتُه فهو يُوعَد لا يختلفُ ، فالتقدير : إنَّ وَعْدَكم ، أو إنَّ وَعيدكم . ولا حاجةَ إلى قولِ مَنْ قالَ : إن قولَه : « لَصادِقٌ » وقع فيه اسمُ الفاعلِ موقع المصدرِ أي : لصِدْقٌ؛ لأنَّ لفظَ اسمِ الفاعل أَبْلَغُ إذ جُعِل الوعدُ أو الوعيدُ صادقاً مبالغةً ، وإن كان الوصفُ إنما يقوم بمَنْ يَعِدُ أو يُوْعِدُ .

وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7)

قوله : { ذَاتِ الحبك } : العامَّةُ على « الحُبُك » بضمتين وهي الطرائقُ نحو : طرائق الرَّمْل والماءِ إذا صَفَقَتْه الريحُ ، وحُبُك الشَّعْر : آثارُ تَثَنِّيه وتَكَسُّرِه . قال زهير :
4102 مُكَلَِلٌ بأصولِ النجم تَنْسُجُه ... ريحُ حَريقٍ لضاحي مائِه حُبُكُ
والحُبُكُ : جمعٌ يُحتمل أَنْ يكونَ مفردُه « حَبيكة » كطريقةٍ وطُرُق أو حباكِ نحو : حِمار وحُمُر . قال الراجز :
4103 كأنَّما جَلَّلها الحُوَّاكُ ... طِنْفِسَةٌ في وَشْيِها حِباكُ
وأصلُ الحَبْكِ : إحكامُ الشيءِ وإتقانُه ، ومنه يقال للدِّرع : مَحْبوكة . وقيل : الحَبْكُ الشَّدُّ والتوثُّقُ . قال امرؤ القيس :
4104 قد غدا يَحْمِلُنِي في أَنْفِه ... لاحِقُ الإِطْلَيْنِ مَحْبوكٌ مُمَرّْ
وفي هذه اللفطةِ قراءاتٌ كثيرةٌ : فعن الحسن ستٌ : الحُبُك بالضم كالعامَّةِ ، الحُبْك بالضمِّ والسكون ، وتُروى عن ابن عباس وأبي عمروٍ ، الحِبِك بكسرهما ، الحِبْك بالكسر والسكون ، وهو تخفيف المكسور ، الحِبَك بالكسر والفتح ، الحِبُك بالكسر والضم . فهذه سِتٌّ أقلقُها الأخيرةُ؛ لأنَّ هذه الزِّنةَ مهملةٌ في أبنية العربِ ، قال ابنُ عطية وغيرُه : « هو من التداخُلِ » يعني : أن فيها لغتين : الكسرَ في الحاء والباء والضمَّ فيهما ، فأخذ هذا القارىءُ الكسرَ من لغةٍ والضمَّ مِنْ أخرى . واستبعدها الناسُ؛ لأن التداخُلَ إنما يكون في كلمتين . وخَرَّجها الشيخ على أن الحاءَ أُتْبِعَتْ لحركة التاءِ في « ذات » قال : « ولم يَعْتَدَّ باللام فاصلةً لأنها ساكنةٌ فهي حاجزٌ غيرُ حصينٍ » . وقد وافق الحسنَ على هذه القراءةِ أو مالك الغفاريُّ . وقرأ عكرمةُ بالضمِّ والفتح جمعَ « حُبْكَة » نحو : غُرْفة وغُرَف . وابن عباس وأبو مالك « الحَبَك » بفتحتين جمعُ « حَبَ‍كة » كعَقَبة وعَقَب ، فهذه ثمانِ قراءات .

إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8)

قوله : { إِنَّكُمْ } : هذا جوابُ القسم .

يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)

قوله : { يُؤْفَكُ عَنْهُ } : صفةٌ لقول . والضميرُ في « عنه » للقرآن ، أو للرسول ، أو للدِّين أو لِما تُوْعَدون أي : يُصْرَفُ عنه . وقيل : « عن » للسبب . والمأفوكُ عنه محذوفٌ ، والضميرُ في « عنه » على هذا ل « قولٍ مختلفٍ » أي : يُؤْفَكُ بسبب القولِ مَنْ أراد الإِسلام بأَنْ يقول/ : هو سحرٌ ، هو كِهانَةٌ . والعامَّةُ على بناء الفعلَيْن للمفعول . وقتادة وابن جبير « يُؤْفَكُ عنه مَنْ أَفَك » الأول للمفعول ، والثاني للفاعل أي : يُصْرَفُ عنه مَنْ صَرَف الناسَ عنه . وزيد بن علي يَأْفَكُ مبنياً للفاعل مِنْ أفك الشيء أي : يَصْرِف الناسَ عنه مَنْ هو مأفوك في نفسه . وعنه أيضاً : « يَأْفِكُ عنه مَنْ أَفَّك » بالتشديد أي : مَنْ هو أفَّاك في نفسِه . وقُرِىء « يُؤْفَنُ عنه مَنْ أُفِنَ » بالنون فيهما أي : يَحْرِمُه مَنْ حَرَمه ، مِنْ أَفِنَ الضَّرْعَ إذا نهكَه حَلْباً .

قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10)

وقُرِىءَ « قَتَل » مبنياً للفاعل هو اللَّهُ تعالى : « الخَرَّاصين » مفعولُه .

يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12)

قوله : { أَيَّانَ يَوْمُ الدين } : مبتدأٌ وخبرٌ . قيل : وهما ظرفان فكيف يقع أحدُ الظرفين في الآخر؟ وأُجيب : بأنه على حَذْفِ حَدَثٍ ، أي : أيَّان وقوعُ يومِ ، فأيَّان ظرفٌ للوقوع . وتقدَّم قراءة « إيَّان » بالكسر في الأعراف .

يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13)

قوله : { يَوْمَ هُمْ } : يجوز أَنْ يكونَ منصوباً بمضمرٍ أي : الجزاءُ كائنٌ يومَ هم . ويجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ « يومُ الدين » ، والفتحةُ للبناء على رأي مَنْ يُجيز بناءَ الظرفِ وإنْ أُضيفَ إلى جملةٍ اسميةٍ ، وعلى هذا فيكون حكايةً لمعنى كلامِهم قالوه على الاستهزاء ، ولو جاء على حكايةِ لفظِهم المتقدِّمِ لقيل : يومَ نحن على النار نُفْتَنُ . ويومَ منصوبٌ بالدين . وقيل : بمضمرٍ أي : يَحارون . وقيل : هو مفعولٌ ب أعني مقدراً . وعَدَّى « يُفْتَنون » ب على لأنه بمعنى يُخْتبرون . وقيل : على بمعنى في . وقيل « يومَ هم » خبرُ مبتدأ مضمر أي : هو يومَ هم . والفتحُ لِما تقدم ، ويؤيِّد ذلك قراءةُ ابن أبي عبلة والزعفراني « يومُ هم » بالرفع ، وكذلك يؤيِّد القولَ بالبدلِ . وتقدَّم الكلامُ في مثلِ هذا في غافر .

ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)

قوله : { ذُوقُواْ } : أي : يُقال لهم : ذُوقوا . و « هذا الذي كنتم » مبتدأٌ وخبر ، هذا هو الظاهرُ . وجَوَّز الزمخشريُّ أن يكونَ « هذا » بدلاً مِنْ « فِتْنتكم » لأنها بمعنى العذاب .

آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16)

قوله : { آخِذِينَ } : حالٌ من الضمير في قوله : « جناتٍ » . و « ما آتاهم » يعني من ما في الجنة فتكونُ حالاً حقيقية . وقيل : ما آتاهم مِنْ أوامِره ونواهيه في الدنيا ، فتكون حالاً محكيَّةً لاختلافِ الزمانين . وجعل الجارَّ هنا خبراً ، والصفةَ فضلةً ، وعَكَسَ هذا في قولِه : { إِنَّ المجرمين فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ } [ الزخرف : 74 ] . وقيل : لأن الخبرَ مقصودُ الجملة . والغرضُ هناك الإِخبارُ عن تخليدِهم؛ لأنَّ المؤمِنَ قد يَدْخُلُ النارَ ، ولكن لا بُدَّ مِنْ خروجِه . وأمَّا آيةُ المتقين فجعل الظرفَ فيها خبراً لأَمْنِهم الخروجَ منها ، فجعل لذلك مَحَطَّ الفائدةِ لتحصُل لهم الطمأنينةُ فانتصبَتْ الصفةُ حالاً .

كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17)

قوله : { كَانُواْ قَلِيلاً } : فيه أوجهٌ؛ أحدها : أنَّ الكلامَ تَمَّ على « قليلاً » ، ولهذا وَقَفَ بعضُهم على « قليلاً » ليُؤاخيَ بها قولَه تعالى : { وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ } [ ص : 24 ] { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور } [ سبأ : 13 ] ويَبْتدىء { مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ } . أي : ما يَهْجَعون من الليل ، وهذا لا يَظْهر من حيث المعنى ولا من حيث الصناعة : أمَّا الأول فلا بُدَّ أن يَهْجَعوا ولا يُتَصَوَّرُ نَفْيُ هجوعِهم . وأمَّا الصناعةُ فلأنَّ ما في حيِّز النفي لا يتقدَّم عليه عند البصريين ، هذا إنْ جَعَلْتَها نافيةً ، وإنْ جَعَلْتَها مصدريةً صار التقديرُ : من الليل هجوعُهم . ولا فائدةَ فيه لأنَّ غيرَهم من سائر الناس بهذه المَثابة .
الثاني : أَنْ تجعلَ « ما » مصدريةً في محلِّ رفع ب « قليلاً » . والتقدير : كانوا قليلاً هجوعُهم .
الثالث : أَنْ تجعلَ « ما » المصدريةَ بدلاً من اسمِ كان بدلَ اشتمال ، أي : كان هجوعُهم قليلاً ، و « من الليل » على هذين لا يتعلَّق ب « يَهْجَعون »؛ لأنَّ ما في حَيِّز المصدر لا يتقدَّم عليه على المشهورِ؛ وبعَضُ المانعين اغتفره في الظرفِ ، فيجوزُ هذا عنده ، والمانع يُقَدِّر فعلاً يدلُّ عليه « يَهْجَعون » أي : يهجعون من الليل .
الرابع : أن « ما » مزيدةٌ و « يَهْجَعون » خبرُ كان . والتقدير : كانوا يَهْجَعون من الليلِ هُجوعاً أو زمناً قليلاً؛ ف « قليلاً » نعتٌ لمصدرٍ أو ظرف . الخامس : أنها بمعنى الذي ، وعائدُها محذوفٌ تقديره : كانوا قليلاً من الليل الوقتَ الذي يَهْجَعونه ، وهذا فيه تكلُّفٌ .

وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)

قوله : { وبالأسحار } : متعلقٌ ب « يَسْتَغْفرون » . والباءُ بمعنى « في » ، قُدِّمَ متعلَّقُ الخبرِ على المبتدأ لجواز تقديمِ العامل .

وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)

قوله : { وفي أَنفُسِكُمْ } : نَسقٌ على « في الأرض » فهو خبر عن « آياتٌ » أيضاً . والتقدير : وفي الأرض وفي أنفسكم آياتٌ . وقال أبو البقاء : « ومَنْ رفع بالظرفِ جَعَل ضميرَ الآيات في الظرف » يعني مَنْ يرفعُ الفاعلَ بالظرفِ مطلقاً/ أي : وإنْ لم يَعْتَمِدْ يَرْفَعُ بهذا الجارِّ فاعلاً هو ضمير « آياتٌ » . وجَوَّز بعضُهم أَنْ يتعلَّقَ ب « تُبْصِرُون » وهو فاسدٌ؛ لأنَّ الاستفهامَ والفاء يمنعان جوازَه . وقرأ قتادة « آيَةٌ » [ الذاريات : 20 ] بالإِفراد .

وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)

قوله { رِزْقُكُمْ } : أي : سببُ رزقِكم . وقرأ حميد وابن محيصن « رازِقُكم » اسمَ فاعل ، واللَّهُ تعالى مُتَعالٍ عن الجهة .

فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)

والضميرُ في « إنَّه لحقٌّ » : إمَّا للقرآنِ ، وإمَّا للدينِ ، وإمَّا لليوم في قولِه : { وَإِنَّ الدين لَوَاقِعٌ } [ الذاريات : 6 ] { يَوْمَ هُم } [ الذاريات : 13 ] { يَوْمُ الدين } [ الذاريات : 12 ] وإمَّا للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم .
قوله { مِثْلَ مَا } الأخَوان وأبو بكر « مثلُ » بالرفع ، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه خبرٌ ثانٍ مستقلٌّ كالأولِ . والثاني : أنه مع ما قبله خبرٌ واحدٌ نحو : هذا حُلْوٌ حامِضٌ ، نقلهما أبو البقاء . والثالث : أنَّه نعتٌ ل « حق » و « ما » مزيدةٌ على ثلاثةِ الأوجهِ . و « أنَّكم » مضافٌ إليه أي : لَحَقٌّ مثلُ نُطْقِكم . ولا يَضُرُّ تقديرُ إضافتِها لمعرفةٍ لأنها لا تتعر‍َّفُ بذلك لإِبهامِها .
والباقون بالنصبِ وفيه أوجهٌ ، أشهرُها : أنه نعتٌ ل « حَقٌّ » كما في القراءةِ الأولى ، وإنما بُنِي الاسم لإِضافتِه إلى غيرِ متمكنٍ ، كما بناه الآخرُ في قولِه :
4105 فتَداعَى مَنْخِراه بدَمٍ ... مثلَ ما أثمرَ حَمَّاضُ الجَبَلْ
بفتح « مثلَ » مع أنها نعتٌ ل « دم » وكما بُنِيَتْ « غيرَ » في قوله :
4106 لم يَمْنَعِ الشُّرْبَ منها غيرَ أَن نَطَقَتْ ... حمامةٌ في غُصونٍ ذاتِ أَوْقالِ
« غيرَ » فاعلُ « يَمْنع » فبناها على الفتح لإِضافتِها إلى « أنْ نَطَقَتْ » وقد تقدَّم في قراءةِ { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 94 ] بالفتحِ ما يُغْني عن تقريرِ مثل هذا .
الثاني : أنَّ « مثلَ » رُكِّب مع « ما » حتى صارا شيئاً واحداً . قال المازني : « ومثلُه : وَيْحَما وهَيَّما وأَيْنَما » وأنشد لحميد بن ثور :
4107 ألا هَيَّما مِمَّا لَقِيْتُ وهَيَّما ... ووَيْحاً لِمَنْ لم يَدْرِ ما هُنَّ وَيْحَما
قال : فلولا البناءُ لكان منوَّناً . وأنشد أيضاً :
4108 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فأكْرِمْ بنا أُمَّاً وأكْرِمْ بنا ابْنَما
وهذا الذي ذكرَه ذهب إليه بعضُ النَّحْويين ، وأَنْشد :
4109 أثورَ ما أَصِيْدُكم أم ثورَيْنْ ... أم هذه الجَمَّاءَ ذاتَ القرنَيْنْ
وأمَّا ما أنشدَه مِنْ قولِه : « وأكرِمْ بنا ابنَما » فليس هذا من الباب لأنَّ هذا « ابن » زِيْدَتْ عليه الميم . وإذا زِيْدَتْ عليه الميمُ جُعِلَتِ النونُ تابعةً للميم في الحركاتِ على الفصيح ، فتقول : هذا ابنمٌ ، ورأيت ابنَماً ، ومررت بابنِم ، فتُجْري حركاتِ الإِعراب على الميم وتَتْبَعُها النونُ . « وابنما » في البيت منصوبٌ على التمييز ، فالفتحُ لأجلِ النصبِ لا للبناءِ ، وليس هذه « ما » الزائدةَ ، بل الميمُ وحدَها زائدةٌ ، والألفُ بدلٌ من التنوين .
الثالث : أنَّه منصوبٌ على الظرفِ ، وهو قولُ الكوفيين ، ويجيزون « زيدٌ مثلَك » بالفتح . ونقله أبو البقاء عن أبي الحسن ، ولكن بعبارةٍ مُشْكِلةٍ فقال : « ويُقْرَأ بالفتح ، وفيه وجهان ، أحدُهما : هو مُعْرَبٌ . ثم في نصبِه أوجهٌ » . ثم قال : « أو على أنه مرفوعُ الموضعِ ، ولكنَّه فُتحَ كما فُتح الظرفُ في قوله :

{ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 94 ] على قولِ الأخفَشِ « . ثم قال : » والوجه الثاني هو مبنيٌّ « . وقال أبو عبيد : » بعضُ العربِ يَجْعَلُ « مثلَ » نصباً أبداً فيقولون : هذا رجلٌ مثلَك « .
الرابع : أنه منصوب على إسقاطِ الجارِّ ، وهو كافُ التشبيهِ . وقال الفراء : » العربُ تَنْصِبُها إذا رُفِعَ بها الاسمُ ، يعني المبتدأ ، فيقولون : مثلَ مَنْ عبدُ الله؟ وعبدُ الله مثلَك ، وأنت مثلَه؛ لأنَّ الكافَ قد تكونُ داخلةً عليها فتُنْصَبُ إذا أَلْقَيْتَ الكافَ « . قلت : وفي هذا نظرٌ ، أيُّ حاجةٍ إلى تقدير دخولِ الكافِ و » مثْل « تفيدُ فائدتَها؟ وكأنه لمَّا رأى الكافَ قد دخلَتْ عليها في قوله : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] قال ذلك .
الخامس : أنَّه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أي : لحَقٌّ حقاً مثلَ نُطْقِكم . السادس : أنه حالٌ من الضميرِ في » لَحَقٌّ « لأنه قد كَثُرَ الوصفُ بهذا المصدرِ ، حتى جَرَى مَجْرى الأوصافِ المشتقةِ ، والعاملُ فيها » حَقٌّ « . السابع : أنه حالٌ من نفس » حقٌّ « وإن كان نكرةً . وقد نَصَّ سيبويه في مواضع من كتابه على جوازِه ، وتابعه أبو عمرَ على ذلك .
و » ما « هذه في مثلِ هذا التركيبِ نحو قولِهم : » هذا حَقٌّ كما أنَّك ههنا « لا يجوز حَذْفُها فلا يُقال : » هذا حَقٌّ كأنَّك هنا « . نَصَّ على ذلك الخليل رحمه الله تعالى فإذا جعلْتَ » مثلَ « معربةً كانت » ما « مزيدةً و » أنكم « في محلِّ خفضٍ بالإِضافةِ كما تقدَّم ، وإذا جَعَلْتَها مبنيَّة : إمَّا للتركيب ، وإمَّا لإِضافتِها إلى غيرِ متمكِّنٍ جاز في » ما « هذه وجهان الزيادةُ وأَنْ تكونَ نكرةً موصوفةً/ كذا قال أبو البقاء . وفيه نظرٌ لعدم الوصفِ هنا . فإنْ قال : هو محذوفٌ فالأصلُ عَدَمُه . وأيضاً فنصُّوا على أن هذه الصفةَ لا تُحْذَفُ لإِبهامِ موصوفِها ، وأمَّا » أنَّكم تَنْطِقون « فيجوز أَنْ يكونَ مجروراً بالإِضافةِ إنْ كانَتْ » ما « مزيدةً ، وإنْ كانت نكرةً كان في موضعِ نصبٍ بإِضمارِ أعني أو رفعٍ بإضمار مبتدأ .

إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25)

قوله : { إِذْ دَخَلُواْ } : في العاملِ في « إذ » أربعةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنَّه « حديثُ » أي : هل أتاك حديثُهم الواقعُ في وقت دخولِهم عليه . الثاني : أنه منصوبٌ بما في « ضَيْف » من معنى الفعل؛ لأنه في الأصلِ مصدرٌ ، ولذلك استوى فيه الواحدُ المذكرُ وغيره ، كأنه قيل : الذي أضافهم في وقتِ دخولِهم عليه . الثالث : أنَّه منصوبٌ ب « المُكْرَمين » إنْ أريد بإِكرامهِم أنَّ إبراهيمَ أكرمَهم بخدمتِه لهم . الرابع : أنه منصوبٌ بإضمارِ اذْكُر ، ولا يجوزُ نصبُه ب « أتاك » لاختلافِ الزمانَيْن .
وقرأ العامَّةُ « المُكْرَمين » بتخفيفِ الراءِ مِنْ أكرم . وعكرمة بالتشديد .
قوله : { سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ } : قد تقدَّم تحريرُ هذا في هود . وقال ابن عطية : « ويتجهُ أن يعملَ في » سَلاماً « » قالوا « على أَنْ يُجعل » سلاماً « في معنى قولاً ، ويكون المعنى حينئذٍ : أنهم قالوا تحية وقولاً معناه سلاماً . وهذا قولُ مجاهد » . قلت : ولو جُعِل التقدير أنَّهم قالوا هذا اللفظَ بعينِه لكان أَوْلى ، وتفسيرُ هذا اللفظِ هو التحيةُ المعهودةُ . وتقدَّم أيضاً خلافُ القرَّاءِ في « سلاماً » بالنسبة إلى فتحِ سِينه وكسرِها وإلى سكونِ لامِه وفتحِها .
والعامَّةُ على نصب « سلاماً » الأول ورفع الثاني ، وقُرئا مرفوعَيْن ، وقُرىء « سَلاماً قال : سِلْماً » بكسرِ سينِ الثاني ونصبِه ، ولا يَخْفَى توجيهُ ذلك كلِّه مِمَّا تقدَّمَ في هود .
قوله : { قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } خبرُ مبتدأ مضمرٍ فقدَّروه : أنتم قومٌ ، ولم يَسْتحسِنْه بعضُهم؛ لأنَّ فيه عَدَمَ أُنْسٍ فمثلُه لا يقعُ من إبراهيم عليه السلام ، فالأَوْلَى أَنْ يُقَدَّر : هؤلاء قومٌ أو هم قومٌ ، وتكون مقالتُه هذه مع أهلِ بيتِه وخاصَّتِه لا لنفسِ الضيفِ؛ لأنَّ ذلك يُوْحِشُهم .

فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26)

وقوله : { فَجَآءَ } : عطفٌ على « فراغَ » ، وتَسَبُّبُه عنه واضحٌ . والهمزةُ في « ألا تأكلون » للإِنكار عليهم في عَدَمِ أكلِهم ، أو للعَرْضِ أو للتحضيضِ .

فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29)

قوله : { فِي صَرَّةٍ } : يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من الفاعل أي : كائنةً في صَرَّة . والصَّرَّة قيل : الصيحة . قال امرؤ القيس :
4110 فَأَلْحَقَنا بالهادياتِ ودونَه ... جَواحِرُها في صَرَّةٍ لم تَزَيَّلِ
قال الزمخشري : « مِنْ صَرَّ الجُنْدُبُ والبابُ والقلمُ . ومحلُّه النصبُ على الحالِ أي : فجاءَتْ صارَّةً » ، ويجوزُ أَنْ يكونَ متعلقاً ب « أَقْبَلَتْ » أي : أقبلَتْ في جماعةِ نسوةٍ كُنَّ معها . والصَّرَّةُ : الجماعةُ من النساء .
قوله : { فَصَكَّتْ } أي : لَطَمَتْ : واخْتُلف فيه ، فقيل : هو الضَّرْبُ باليد مبسوطةً . وقيل : بل ضَرْبُ الوجهِ بأطرافِ الأصابعِ فِعْلَ المتعجِّبِ ، وهي عادةُ النساءِ .
قوله : « عجوزٌ » : خبرٌ مبتدأ مضمرٍ أي : أنا عجوزٌ عقيمٌ فكيف أَلِدُ؟ تفسِّرها الآيةُ الأخرى .

قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)

قوله : { كَذَلِكَ } : منصوبٌ على المصدرِ ب « قال » الثانية أي : مثلَ ذلك القولِ الذي أخبرناك به قال ربُّك أي : إنه من جهةِ اللَّهِ فلا تَتَعجَّبي منه .

مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34)

قوله : { مُّسَوَّمَةً } : فيه ثلاثةُ أوجه ، أحدها : أنه منصوبٌ على النعتِ لحجارة . والثاني : أنَّه حالٌ من الضمير المستكنِّ في الجارِّ قبله . الثالث : أنه حالٌ مِنْ « حجارة » وحَسَّن ذلك كونُ النكرةِ وُصِفَتْ بالجارِّ بعدها .
قوله : { عِندَ رَبِّكَ } ظرفٌ ل « مُسَوَّمةً » أي : مُعْلَمَةً عنده .

وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37)

قوله : { فِيهَآ آيَةً } : يجوز أن يعود الضمير على القرية أي : تَرَكْنا في القرية علامةً كالحجارةِ أو الماء المُنْتِنِ ، ويجوزُ أَنْ يعودَ على الإِهلاكةِ المفهومةِ/ من السِّياق .

وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38)

قوله : { وَفِي موسى } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : وهو الظاهر أنه عطفٌ على قولِه : « فيها » بإعادةِ الجارِّ؛ لأن المعطوفَ عليه ضميرٌ مجرورٌ فيتعلَّقُ ب « تَرَكْنا » من حيث المعنى ، ويكونُ التقديرُ : وتَرَكْنا في قصةِ موسى آيةً . هذا معنىً واضحٌ . والثاني : أنه معطوفٌ على قولِه : { وَفِي الأرض آيَاتٌ } [ الذاريات : 20 ] أي : وفي الأرضِ وفي موسى آياتٌ للموقِنين ، قاله الزمخشري وابنُ عطية . قال الشيخُ : « وهذا بعيدٌ جداً يُنَزَّه القرآنُ عن مثلِه » . قلت : ووجهُ استبعادِه له : بُعْدُ ما بينهما ، وقد فعل أهلُ العلمِ هذا في أكثرَ من ذلك . الثالث : أنه متعلقٌ ب « جَعَلْنا » مقدرةً لدلالةِ « وتَرَكْنا » . قال الزمخشري : « أو على قولِه يعني أو يُعْطَفُ على قولِ وترَكْنا فيها آيةً على معنى : وجَعَلْنا في موسى آيةً كقوله :
4111 فَعَلَفْتُها تِبْناً وماءً بارداً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قال الشيخ : » ولا حاجةَ إلى إضمار « وجَعَلْنا » لأنه قد أمكن أَنْ يكونَ العامل في المجرور « وتَرَكْنا » . قلت : والزمخشريُّ إنما أراد الوجهَ الأولَ بدليلِ قوله : « وفي موسى معطوفٌ على » وفي الأرض « أو على قوله : » وتركْنا فيها « . وإنما قال : » على معنى « من جهةِ تفسيرِ المعنى لا الإِعراب ، وإنما أظهر الفعلَ تنبيهاً على مغايرة الفعلَيْن . يعني : أن هذا التركَ غيرُ ذاك التركِ ، ولذلك أبرزَه بمادةِ الجَعْلِ دون مادة التركِ لتظهرَ المخالفةُ .
قوله : { إِذْ أَرْسَلْنَاهُ } يجوز في هذا الظرفِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أَنْ يكونَ منصوباً بآية على الوجهِ الأول أي : تركنا في قصة موسى علامةً في وقتِ إرْسالِنا إياه . والثاني : أنَّه متعلقٌ بمحذوفٍ لأنَّه نعتٌ لآية أي : آيةً كائنةً في وقتِ إرْسالِنا . الثالث : أنه منصوبٌ ب » تَرَكْنا « .
قوله : { بِسُلْطَانٍ } يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بنفس الإِرسال ، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ : إمَّا مِنْ موسى ، وإمَّا مِنْ ضميرِه أي : ملتبساً بسلطان ، وهي الحُجَّةُ .

فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39)

قوله : { بِرُكْنِهِ } : حالٌ من فاعل « تَوَلَّى » .
قوله : { سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } « أو » هنا على بابِها من الإِبهام على السامعِ أو للشكِّ ، نَزَّل نفسَه مع أنَّه يَعْرِفُه نبياً حقاً منزلةَ الشَّاكِّ في أمرِه تَمْويهاً على قومِه . وقال أبو عبيدة : « أو بمعنى الواو » . قال : « لأنه قد قالهما ، قال تعالى : { إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ } [ الأعراف : 109 ] . وقال في موضع آخرَ : { إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } [ الشعراء : 27 ] . وتجيْءُ » أو « بمعنى الواو كقولِه :
4112 أثَعْلَبَةَ الفوارِسَ أو رِياحا ... عَدَلْتَ بهم طُهَيَّةَ والخِشابا
وردَّ الناسُ عليه هذا وقالوا : لا ضرورةَ تَدْعُو إلى ذلك ، وأمَّا الآيتان فلا تَدُلاَّن على أنَّه قالهما معاً ، وإنما تفيدان أنه قالهما أعَمَّ مِنْ أَنْ يكونا معاً ، وهذه في وقت وهذه في آخرَ .

فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)

قوله : { وَجُنُودَهُ } : يجوزُ أَنْ يكونَ معطوفاً على مفعول « أَخَذْناه » وهو الظاهرُ ، وأَنْ يكونَ مفعولاً معه .
قوله : { وَهُوَ مُلِيمٌ } جملةٌ حاليةٌ ، فإن كانت حالاً من مفعول « نَبَذْناهم » فالواوُ لازمةٌ إذ ليسَ فيها ذِكْرٌ يعودُ على صاحب الحال ، وإن كانت حالاً من مفعول « أَخَذْناه » فالواوُ ليسَتْ واجبةٍ؛ إذ في الجملة ذِكْرٌ يعودُ عليه . وقد يُقال : إنَّ الضمير في « نَبَذْناهم » يعود على فرعون وعلى جنودِه ، فصار في الحال ذِكْرٌ يعودُ على بعض ما شَمَلَه الضميرُ الأول . وفيه نظرٌ؛ إذ يصيرُ نظيرَ قولِك : « جاء السلطانُ وجنوده فأكرمتُهم راكباً فرسَه » فتجعل « راكباً » حالاً من بعضِ ما اشتمل عليه ضميرُ « أكرمتُهم » .

وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41)

قوله : { وَفِي عَادٍ ، وَفِي ثَمُودَ ، وَفِي موسى } : تقدَّم مثلُه .

مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)

قوله : { إِلاَّ جَعَلَتْهُ كالرميم } : هذه الجملةُ في موضع المفعول الثاني ل « تَذَرُ » كأنه قيل : ما تَتْرك من شيءٍ إلاَّ مجعولاً نحو : ما تركتُ زيداً إلاَّ عالماً . وأعرَبها الشيخُ حالاً وليس بظاهرٍ .

فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44)

قوله : { الصاعقة } : هذه قراءةُ العامَّةِ . وقرأ الكسائي « الصَّعْقَة » ، والحسن « الصاقِعة » . وتقدَّم ذِكْرُ هذا كلِّه في البقرة .
قوله : { وَهُمْ يَنظُرُونَ } جملةٌ حاليةٌ من المفعول . و « ينظرون » قيل : من النظر . وقيل : من الانتظار أي : ينتظرون ما وُعِدوه من العذاب .

وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46)

قوله : { وَقَوْمَ نُوحٍ } : قرأ الأخَوان وأبو عمرو بجرِّ الميم ، والباقون/ بنصبها . وأبو السَّمَّال وابن مقسم وأبو عمرو في روايةِ الأصمعيِّ « وقومُ » بالرفع . فأمَّا الخفضُ ففيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه معطوفٌ على « وفي الأرض » . الثاني : أنه معطوفٌ على « وفي موسى » الثالث : أنه معطوفٌ على « وفي عاد » . الرابع : أنه معطوفٌ على « وفي ثمودَ » ، وهذا هو الظاهرُ لقُرْبِه وبُعْدِ غيرِه . ولم يذكرْ الزمخشريُّ غيرَه فإنه قال : « وقُرِىء بالجرِّ على معنى » وفي قوم نوح « . ويُقَوِّيه قراءةُ عبد الله » وفي قوم نوح « . ولم يَذْكُرْ أبو البقاء غيرَ الوجهِ الأخيرِ لظهورِه .
وأمّا النصبُ ففيه ستةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه منصوبٌ بفعلٍ مضمرٍ أي : وأهلَكْنا قومَ نوح؛ لأنَّ ما قبلَه يَدُلُّ عليه . الثاني : أنه منصوبٌ ب اذْكُرْ مقدراً ، ولم يَذْكُرْ الزمخشريُّ غيرَهما . الثالث : أنَّه منصوبٌ عطفاً على مفعول » فأَخَذْناه « . الرابع : أنه معطوفٌ على مفعول { فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليم } وناسَبَ ذلك أنَّ قومَ نوح مُغْرقون من قبلُ . لكنْ يُشْكِلُ أنَّهم لم يَغْرَقوا في اليمِّ . وأصلُ العطفِ أَنْ يقتضيَ التشريكَ في المتعلَّقات . الخامس : أنَّه معطوفٌ على مفعولِ » فَأَخَذَتْهم الصاعقةُ « . وفيه إشكالٌ؛ لأنهم لم تأخُذْهم الصاعقةُ ، وإنما أُهْلكوا بالغَرَقِ . إلاَّ أَنْ يُرادَ بالصاعقةِ الداهيةُ والنازلةُ العظيمة من أيِّ نوع كانت ، فيَقْرُبُ ذلك . السادس : أنه معطوفٌ على محلِّ » وفي موسى « ، نقله أبو البقاء وهو ضعيفٌ .
وأما الرفعُ على الابتداءِ والخبرُ مقدَّرٌ أي : أهلَكْناهم . وقال أبو البقاء : » والخبرُ ما بعدَه « يعني مِنْ قولِه : إنهم كانوا قوماً فاسقين . ولا يجوز أَنْ يكونَ مرادُه قولَه : » من قبلُ «؛ إذ الظرفُ ناقصٌ فلا يُخبَرُ به .

وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47)

قوله : { والسمآء بَنَيْنَاهَا } : العامة على النصب على الاشتغالِ ، وكذلك قولُه : { والأرضَ فَرَشْناها } والتقديرُ : وبَنَيْنا السماءَ بَنَيْناها . وقال أبو البقاء : « أي : ورفَعْنا السماءَ » فقدَّر الناصبَ مِنْ غير لفظ الظاهر ، وهذا إنما يُصار إليه عند تعذُّرِ التقديرِ الموافقِ لفظاً نحو : زيداً مررت به ، وزيداً ضربْتُ غلامَه . وأمَّا في نحو « زيداً ضربتُه » فلا يُقَدَّر : إلاَّ ضربْتُ زيداً . وقرأ أبو السَّمَّال وابن مقسم برفعِهما على الابتداء ، والخبرُ ما بعدهما . والنصبُ أرجحُ لعطفِ جملة الاشتغال على جملةٍ فعلية قبلَها .
قوله : { بِأَيْدٍ } يجوز أَنْ يتعلقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ . وفيها وجهان ، أحدهما : أنَّها حالٌ من فاعل « بَنَيْناها » أي : ملتبسين بقوةٍ : والثاني : أنها حالٌ مِنْ مفعولِه أي : ملتبسةً بقوةٍ . ويجوزُ أَنْ تكونَ الباءُ للسببِ أي : بسببِ قدرتِنا . ويجوزُ أَنْ تكون الباءُ مُعَدِّيَةً مجازاً ، على أن تجعلَ الأَيْدَ كالآلةِ المبنيِّ بها كقولك : بَنَيْتُ بيتَك بالآجُرِّ .
قوله : { وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } يجوز أَنْ تكونَ الجملةُ حالاً مِنْ فاعل « بَنَيْناها » ، ويجوزُ أَنْ تكونَ حالاً من مفعوله ، ومفعول « مُوْسِعون » محذوفٌ أي : موسِعون بناءَها . ويجوزُ أَنْ لا يُقَدَّر له مفعولٌ؛ لأنَّ معناه « لَقادِرون » ، مِنْ قولك : ما في وُسْعي كذا أي : ما في طاقتي وقوتي .

وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48)

قوله : { فَنِعْمَ الماهدون } : المخصوصُ بالمدحِ محذوفٌ لفهمِ المعنى أي : نحن كقوله : { نِعْمَ العبد } [ ص : 44 ] .

وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49)

قوله : { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ } : يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ ب « خَلَقْنا » أي : خَلَقْنا مِنْ كلِّ شيء زوجَيْن ، وأَنْ يتعلَّق بمحذوف على أنه حالٌ مِنْ « زوجَيْن »؛ لأنه في الأصل صفةٌ له؛ إذ التقديرُ : خَلَقْنا زوجَيْن كائنين من كلِّ شيءٍ ، والأولُ أقوى في المعنى .

كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52)

قوله : { كَذَلِكَ } : فيه وجهان ، أظهرُهما : أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي : الأمرُ مثلُ ذلك . والإِشارةُ ب « ذلك » قال الزمخشريُّ : « إلى تكذيبهِم الرسولَ وتسميتِه ساحراً ومجنوناً » ثم فَسَّر ما أَجْمل بقولِه : « ما أَتى » . والثاني : أن الكاف في محلِّ نصبٍ نعتاً لمصدر محذوف ، قاله مكي ، ولم يُبَيِّنْ تقديرَه/ ولا يَصِحُّ أَنْ ينتصِبَ بما بعده لأجل « ما » النافية . وأمَّا المعنى فلا يمتنعُ ، ولذلك قال الزمخشري : « ولا يَصِحُّ أن تكون الكافُ منصوبةً ب » أتى « لأنَّ » ما « النافيةَ لا يعمل ما بعدها فيما قبلها ، ولو قيل : لم يأتِ لكان صحيحاً » يعني لو أتى في موضع « ما » ب « لم » لجازَ أن تنتصِبَ الكافُ ب « أتى » لأن المعنى يَسُوغ عليه . والتقدير : كَذَّبَتْ قريشٌ تكذيباً مثلَ تكذيب الأمم السابقة رسلَهم . ويَدُلُّ عليه قولُه : { مَآ أَتَى الذين مِن قَبْلِهِمْ } الآية .
قوله : { إِلاَّ قَالُواْ } الجملةُ القوليةُ في محلِّ نصب على الحال من { الذين مِن قَبْلِهِمْ } ، و « من رسولٍ » فاعلُ « أتى » كأنه قيل : ما أتى الأوَّلين رسولٌ إلاَّ في حالِ قولهم : هو ساحرٌ . والضميرُ في « به » يعودُ على القولِ المدلولِ عليه ب « قالوا » أي : أتواصَى الأوَّلُوْن والآخرِون بهذا القولِ المتضمِّنِ لساحرٍ أو مجنونٍ ، والاستفهامُ للتعجب .

وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)

قوله : { إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } : متعلقٌ ب « خَلَقْتُ » . واخْتُلف في الجن والإِنس : هل المرادُ بهم العمومُ ، والمعنى : إلاَّ لأمْرِهم بالعبادة ، ولِيقِرُّوا بها؟ وهذا منقولٌ عن عليّ ، أو يكون المعنى : ليطيعونِ وينقادوا لقضائي ، فالمؤمنُ يفعل ذلك طَوْعاً والكافرُ كَرْهاً ، أو يكون المعنى : إلاَّ مُعَدِّين للعبادة . ثم منهم منْ يتأتَّى منه ذلك ، ومنهم مَنْ لا كقولك : هذا القلمُ بَرَيْتُه للكتابة ، ثم قد تكتب به وقد لا تكتب ، أو المرادُ بهم الخصوص . والمعنى : وما خلقتُ الجنَّ والإِنس المؤمنين . وقيل : الطائعين . والأولُ أحسن .

مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)

قوله : { أَن يُطْعِمُونِ } : قيل : فيه حَذْفُ مضافٍ ، أي : يُطعموا خَلْقي . وقيل : المعنى أَنْ ينفعونِ ، فعبَّر ببعضِ وجوه الانتفاعات؛ لأنَّ عادةَ السادة أَنْ ينتفعوا بعبيدِهم ، واللَّهُ سبحانه وتعالى مُسْتَغْنٍ عن ذلك .

إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)

قوله : { المتين } : العامَّةُ على رفعِه . وفيه أوجهٌ : إمَّا النعتُ للرزَّاق ، وإمَّا النعتُ ل « ذو » ، وإمَّا النعتُ لاسم « إنَّ » على الموضع ، وهو مذهبُ الجَرْميِّ والفراءِ وغيرِهما ، وإمَّا خبرٌ بعد خبرٍ ، وإمَّا خبرُ مبتدأ مضمرٍ . وعلى كل تقدير فهو تأكيدٌ لأن « ذو القوة » يُفيد فائدتَه . وقرأ ابن محيصن « الرازق » كما قرأ « وَفِي السمآء رازِقُكُمْ » كما تقدَّم . وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش « المتينِ » بالجر فقيل : صفة للقوة ، وإنما ذَكَّر وصفَها لكونِ تأنيثها غيرَ حقيقي . وقيل : لأنها في معنى الأَيْد . وقال ابن جني : « هو خفضٌ على الجوارِ كقولِهم : » هذا جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ « يعني أنه صفةٌ للمرفوع ، وإنما جُرَّ لَمَّا جاور مجروراً . وهذا مرجوحٌ لإِمكانِ غيرِه ، والجِوارُ لا يُصار إليه إلاَّ عند الحاجة .

فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59)

قوله : { ذَنُوباً } : الذَّنوبُ في الأصل : الدَّلْوُ المَلأَى ماءً . وفي الحديث : « فأتى بذَنوبٍ من ماءٍ » فإنْ لم تكن مَلأَى فهو دَلْوٌ ، ثم عُبِّر به عن النصيب . قال علقمة :
4113 وفي كلِّ حَيٍّ قد خبَطْتُ بنِعْمَةٍ ... فحُقَّ لشاسٍ مِنْ نَداكَ ذَنوبُ
ويُجْمع في القلةِ على : أَذْنِبة ، وفي الكثرةِ على : ذَنائب . وقال المَلِكُ لَمَّا أُنْشد هذا البيتَ : نعم ، وأَذْنِبَة . وقال الزمخشري : « الذَّنوبُ : الدَّلْوُ العظيمةُ . وهذا تمثيلٌ ، أصلُه في السُّقاةِ يَقْتسمون الماءَ ، فيكونُ لهذا ذَنُوب ، ولهذا ذَنوب . قال الراجز :
4114 لنا ذَنوبٌ ولكم ذَنُوبُ ... فإنْ أَبَيْتُمْ فلنا القَليبُ
وقال الراغبُ : » الذَّنوبُ : الدَّلْوُ الذي له ذَنَبٌ « انتهى . فراعى الاشتقاقَ ، والذَّنُوب أيضاً : الفرسُ الطويلُ الذَّنَبِ وهو صفةٌ على فَعُوْل ، والذَّنُوب : لحمُ أسفلِ المَتْن . ويُقال : يومٌ ذَنوبٌ أي : طويلُ الشَّرِّ استعارةً من ذلك .

فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)

قوله : { الذي يُوعَدُونَ } : حُذِفَ العائدُ لاستكمالِ شروطِه أي : يُوْعَدُونه/ .

وَالطُّورِ (1)

قوله : { والطور } : وما بعدَه أقسامٌ جوابُها : { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ } [ الطور : 7 ] والواواتُ التي بعد الأولى عواطفُ لا حروفُ قسمٍ لِما قَدَّمْتُه في أولِ هذا الموضوعِ عن الخليل . ونَكَّر الكتاب تفخيماً وتعظيماً .

فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3)

قوله : { فِي رَقٍّ } : يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بِمَسْطُور أي : مكتوبٍ في رَقّ . وجَوَّز أبو البقاء أَنْ يكونَ نعتاً آخرَ ل « كتابٍ » وفيه نظرٌ؛ لأنه يُشبه تهيئةَ العاملِ للعملِ وقَطْعَه عنه . والرَقُّ بالفتح : الجِلْدُ الرقيقُ يُكتب فيه . وقال الراغب : « الرَّقُّ ما يُكتب فيه شِبْهُ كاغَد » انتهى . فهو أعمُّ مِنْ كونِه جِلْداً وغيرَه . ويقال فيه « رِقٌّ » بالكسر ، فأمَّا المِلْكُ للعبيد فلا يُقال إلاَّ « رِقٌّ » بالكسر . وقال الزمخشري : « والرَّقُّ : الصحيفةُ . وقيل : الجِلْدُ الذي تُكتب فيه [ الأعمال ] » . انتهى . وقد غَلَّط بعضُهم مَنْ يقول : كتبْتُ في الرِّق بالكسر ، وليس بغلطٍ لثبوتِه لغةً بالكسر . وقد قرأ أبو السَّمَّال « في رِقّ » بالكسر .

وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6)

قوله : { المسجور } : قيل : هو من الأضدادِ . ويقال : بحر مَسْجور أي : مملوء ، وبحرٌ مَسْجور أي : فارغٌ . ورَوى ذو الرمة الشاعرُ عن ابنِ عباس أنه قال : خرَجَتْ أمَةٌ لتستقيَ فقالت : إن الحوضَ مَسْجور ، أي فارغ . ويؤيِّد هذا أنَّ البحارَ يذهبُ ماؤُها يومَ القيامة . وقيل : المسجورُ المَمْسوك ، ومنه ساجورُ الكلب لأنه يَمْسِكُه ويَحْبسه .

إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7)

وقرأ زيدُ بن علي « إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ وَاقِعٌ » بغيرِ لامٍ .

مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8)

قوله : { مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ } : يجوزُ أَنْ تكونَ الجملةُ خبراً ثانياً ، وأَنْ تكونَ صفةً ل « واقعٌ » أي : واقعٌ غيرُ مدفوعٍ ، قاله أبو البقاء . و « مِنْ دافِع » يجوزُ أَنْ يكونَ فاعلاً ، وأَنْ يكونَ مبتدأً ، و « مِنْ » مزيدةٌ على الوجهين .

يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9)

قوله : { يَوْمَ تَمُورُ } : يجوزُ أَنْ يكونَ العاملُ فيه « واقعٌ » أي : يقعُ في ذلك اليومِ ، وعلى هذا فتكونُ الجملةُ المنفيةُ معترضةً بين العاملِ ومعمولِه . ويجوزُ أَنْ يكونَ العاملُ فيه « دافعٌ » قاله الحوفي ، وأبو البقاء ومنعه مكي . قال الشيخ : « ولم يذكرْ دليلَ المنع » وقلت : قد ذَكَرَ دليلَ المنع في « الكشف » إلاَّ أنه ربما يكونُ غَلَطاً عليه ، فإنه وهمٌ وانا أذكُر لك عبارتَه . قال رحمه الله : « العامل فيه » واقعٌ « أي : إنَّ عذاب ربك لَواقعٌ في يومِ تمورُ السماءُ مَوْراً . ولا يَعْمل فيه » دافعٌ « لأنَّ المنفيَّ لا يعمل فيما قبل النافي . لا تقول : » طعامَك ما زيدٌ آكلاً « ، رفعْتَ » آكلاً « أو نَصَبْتَه أو أَدْخَلْتَ عليه الباءَ . فإن رَفَعْتَ الطعامَ بالابتداءِ وأوقَعْتَ » آكلاً « على هاءٍ جازَ ، وما بعد الطعام خبرٌ » انتهى . وهذا كلامٌ صحيح في نفسِه ، إلاَّ أنه ليس في الآية شيءٌ من ذلك؛ لأنَّ العاملَ وهو « دافعٌ » والمعمولُ وهو « يومَ » ، كلاهما بعد النافي وفي حَيِّزه . وقوله : « وأوقَعْتَ » آكلاً « على هاء » أي على ضميرٍ يعود على الطعامِ ، فتقول : طعامَك ما زيدٌ آكلَه .
وقد يقال : إنَّ وجهَ المنعِ مِنْ ذلك خَوْفُ الوهَمِ : أنه يُفْهَمُ أن أحداً يدفعُ العذاب في غيرِ ذلك اليومِ ، والفرضُ أنَّ عذابَ اللَّهِ لا يُدفع في كل وقت . وهذا أمرٌ مناسِبٌ قد ذُكِر مثلَه كثيرٌ؛ ولذلك مَنَعَ بعضُهم أن ينتصِبَ { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ } بقولِه : { والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ آل عمران : 29-30 ] لئلا يُفْهَمَ منه ما لا يَليق ، وهو أبعدُ من هذا في الوهمِ بكثيرٍ . وقال أبو البقاء : « وقيل : يجوزُ أَنْ يكونَ ظرفاً لِما دَلَّ عليه » فوَيْلٌ « . انتهى وهو بعيد .
والمَوْرُ : الاضطرابُ والحركةُ يقال : مار الشيءُ أي : ذهب وجاء . وقال الأخفش وأبو عبيدة : تَكَفَّأ . وأنشد للأعشى :
4115 كأن مِشْيتَها مِنْ بيتِ جارتِها ... مَوْرُ السَّحابةِ لا رَيْثٌ ولا عَجَلُ
وقال الزمخشري : » وقيل هو تحرُّكٌ في تموُّج ، وهو الشيءُ يتردَّدُ في عَرْضٍ كالداغِصة « . قلت : الداغِصَةُ : الجِلْدَةُ التي فوق قُفْل الرُّكْبةِ . وقال الراغب : » المَوْرُ : الجريان السريعُ . ومار الدمُ على وجهِه . والمُوْرُ بالضم : الترابُ المتردِّدُ به الريحُ « . وأكَّد بالمصدَرَيْن رفعاً للمجازِ أي : هذان الجُرْمان العظيمان مع كَثافتهما يقعُ ذلك منهما حقيقةً .

فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11)

قوله : { يَوْمَئِذٍ } : منصوبٌ ب « وَيْل » . والخبرُ « للمكذِّبين » . والفاءُ في « فوَيْلٌ » قال مكي : « جوابُ الجملةِ المتقدمة . وحَسُن ذلك لأن في الكلام معنى الشرطِ؛ لأنَّ المعنى : إذا كان ما ذُكِر فَوَيْلٌ » .

يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13)

قوله : { يَوْمَ يُدَعُّونَ } : يجوزُ أَنْ يكونَ ظرفاً ل « يُقال » المقدرةِ مع قولِه : « هذه النارُ » أي : يقال لهم هذه النارُ يوم يُدَعُّون . ويجوز أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ قولِه « يومَ تمور » أو مِنْ « يومئذٍ » قبلَه . والعامَّةُ على/ فتح الدال وتشديد العين مِنْ دَعَّه يَدُعُّه أي : دفعه في صدرهِ بعنفٍ وشدةٍ . قال الراغب : « وأصلُه أَنْ يُقالَ للعاثر : دَعْ دَعْ ، كما يقال له : لعَا » وهذا بعيدٌ من معنى هذه اللفظةِ .
وقرأ علي والسلمي وأبو رجاء وزيد بن علي بسكونِ الدالِ وتخفيفِ العينِ مفتوحةٍ من الدعاء أي : يُدْعَوْن إليها فيقال لهم : هلمُّوا فادْخُلوها . و « هذه النارُ » جملةٌ منصوبةٌ بقولٍ مضمرٍ أي : تقولُ لهم الخزنة : هذه النارُ .

أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15)

قوله : { أَفَسِحْرٌ } : خبرٌ مقدمٌ . و « هذا » مبتدأٌ مؤخرٌ . ودَخَلَتِ الفاءُ . قال الزمخشري : « يعني كنتمْ تقولون للوحي : هذا سحرٌ ، فسحر هذا ، يريد : أهذا المصداقُ أيضاً سِحْرٌ ، ودخَلَت الفاءُ لهذا المعنى » .

اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)

قوله : { سَوَآءٌ } : فيه وجهان ، أحدهما : أنه خبرٌ مبتدأ محذوفٍ أي : صبرُكم وتَرْكُه سواءٌ ، قاله أبو البقاء . والثاني : أنه مبتدأٌ ، والخبرُ محذوفٌ أي : سواءٌ الصبرُ والجَزَعُ ، قاله الشيخ : والأولُ أحسنُ لأنَّ جَعْلَ النكرةِ خبراً أَوْلَى مِنْ جَعْلِها مبتدأً وجَعلِ المعرفةِ خبراً . ونحا الزمخشريُّ مَنْحَى الوجهِ الثاني فقال : « سواء خبرُه محذوفٌ أي : سواءٌ عليكم الأمران : الصبرُ وعَدَمُه » .

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17)

قوله : { إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ } : يجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً ، أخبر تعالى بذلك بشارةً ، ويجوزُ أَنْ يكونَ من جملة المقول للكفار زيادةً في غَمِّهم وتَحَسُّرهم .

فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18)

قوله : { فَاكِهِينَ } : هذه قراءةُ العامَّةِ ، نُصِبَ على الحال ، والخبرُ الظرفُ . وصاحبُ الحالِ الضميرُ المستترُ في الظرف . وقرأ خالد « فاكهون » بالرفع ، فيجوزُ أن يكونَ الظرفُ لَغْواً متعلقاً بالخبر ، ويجوزُ أن يكونَ خبراً آخر عند مَنْ يُجيز تَعْدادَ الخبرِ . وقُرىء « فَكِهين » مقصوراً . وسيأتي أنه قَرَأ به في المطففين في المتواتر حفصٌ عن عاصم .
قوله : { بِمَآ آتَاهُمْ } يجوزُ أن تكونَ الباء على أصلها ، وتكونَ « ما » حينئذٍ واقعةً على الفواكه التي في الجنة أي : مُتَلَذِّذين بفاكهة الجنة . ويجوز أن تكونَ بمعنى « في » أي : فيما آتاهم من الثمارِ وغيرِ ذلك . ويجوزُ أَنْ تكونَ « ما » مصدريةً أيضاً .
قوله : { وَوَقَاهُمْ } يجوزُ فيه أوجهٌ ، أظهرها : أنَّه معطوفٌ على الصلة أي : فَكهين بإيتائِهم ربُّهم وبوقايتِه لهم عذابَ الجحيم . والثاني : أنَّ الجملةَ حالٌ ، فتكونُ « قد » مقدرةً عند مَنْ يشترطُ اقترانَها بالماضي الواقعِ حالاً . والثالث : أَنْ يكونَ معطوفاً على « في جنات » ، قاله الزمخشريُّ ، يعني فيكونُ مُخْبَراً به عن المتقين أيضاً . والعامَّةُ على تخفيفِ القاف من الوِقاية . وأبو حيوة بتشديدها .

كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19)

قوله : { كُلُواْ } : على إضمارِ القولِ كقوله : « هذه النار » وشَتَّان ما بين القَوْلين .
قوله : { هَنِيئَاً } قد تقدَّم القولُ فيه وفي « مريئاً » مُشْبَعاً في النساء . وقال الزمخشري هنا : « يُقال لهم : كُلوا واشربوا أَكْلاً وشُرْباً هنيئاً ، أو طعاماً وشَراباً هَنيئاً ، وهو الذي لا تَنْغيصَ فيه . ويجوز أَنْ يكونَ مثلُه في قوله :
4116 هَنِيئاً مَرِيئاً غيرَ داءٍ مُخامِرٍ ... لِعَزَّةَ من أعراضِنا ما اسْتَحلَّتِ
أعني صفةً اسْتُعْمِلَتْ استعمالَ المصدرِ القائم مقامَ الفعلِ مرتفعاً به » ما استحلَّت « كما يرتفع بالفعلِ كأنه قيل : هَنَأ عَزَّةَ المُسْتَحَلُّ من أعراضنا ، وكذلك معنى » هنيئاً « هنا : هَنَأَكم الأكلُ والشربُ ، أو هَنَأَكم ما كنتم تعملون ، أي : جزاءُ ما كنتم تعملون ، والباء مزيدةٌ كما في { وكفى بالله } [ النساء : 45 ] والباءُ متعلقةٌ ب » كلوا واشربوا « إذا جَعَلْتَ الفاعلَ الأكلَ والشربَ » . قلت : وهذا مِنْ محاسنِ كلامِه .
قال الشيخ : « أمَّا تجويزُه زيادةَ الباءِ فليسَتْ بمقيسةٍ في الفاعل إلاَّ في فاعلِ كفى على خلافٍ فيها ، فتجويزُها هنا لا يَسُوغُ . وأمَّا قولُه : إنها تتعلَّقُ ب » كُلوا واشربوا « فلا يَصِحُّ إلاَّ على الإِعمال فهي تتعلَّقُ بأحدهما » . انتى وهذا قريبٌ .

مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)

قوله : { مُتَّكِئِينَ } : فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه حالٌ من فاعلِ « كُلوا » الثاني : أنه حالٌ مِنْ مفعولِ « آتاهم » . الثالث : أنَّه حالٌ من مفعولِ « وَقَاهم » . الرابع : أنه حالٌ من الضميرِ المستكنِّ في الظرف . الخامس : أنه حالٌ من الضمير/ في « فاكهين » وأحسنُها أن يكونَ حالاً من ضميرِ الظرفِ لكونِه عمدةً . و « على سُرُر » متعلقٌ بمتكئين ، وقراءةُ العامَّةِ بضم الراءِ الأولى . وأبو السَّمَّال بفتحِها . وقد تقدَّم أنها لغةٌ لكَلْب في المضعَّف يَفِرُّون من توالي ضمتين في المضعَّفِ . وقرأ عكرمة « بحورِ عينٍ » بإضافةِ الموصوفِ إلى صفتِه على التأويل المشهور .

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21)

قوله : { والذين آمَنُواْ } : فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه مبتدأٌ ، والخبرُ الجملةُ من قولِه : { أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } والذُّرِّيَّةُ هنا تَصْدُق على الآباء وعلى الأبناء أي : إنَّ المؤمنَ إذا كان عملُه أكبرَ أُلْحِقَ به مَنْ دونَه في العمل ، ابناً كان أو أباً ، وهو منقولٌ عن ابن عباس وغيرِه . والثاني : أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ . قال أبو البقاء : « على تقدير وأكرَمْنا الذين آمنوا » . قلت : فيجوزُ أَنْ يريدَ أنه من باب الاشتغالِ وأنَّ قولَه : { أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } مُفَسِّر لذلك الفعلِ من حيث المعنى ، وأَنْ يريدَ أنه مضمرٌ لدلالةِ السياقِ عليه ، فلا تكونُ المسألةُ من الاشتغالِ في شيء .
والثالث : أنه مجرورٌ عطفاً على « حورٍ عينٍ » . قال الزمخشري : « والذين آمنوا معطوفٌ على » حورٍ عينٍ « أي : قَرَنَّاهم بالحورِ وبالذين آمنوا أي : بالرُّفَقاءِ والجُلَساءِ منهم ، كقوله : { إِخْوَاناً على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ } [ الحجر : 47 ] فيتمتَّعون تارةً بملاعبةِ الحُور ، وتارةً بمؤانسةِ الإِخوانِ » . ثم قال الزمخشري : « ثم قال تعالى : { بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } أي : بسببِ إيمانٍ عظيمٍ رفيعِ المحلِّ وهو إيمانُ الآباءِ أَلْحَقْنا بدَرَجَتِهم ذرِّيَّتَهم ، وإنْ كانوا لا يَسْتَأهِلُونها تَفَضُّلاً عليهم » .
قال الشيخ : « ولا يتخيَّلُ أحدٌ أنَّ » والذين آمنوا « معطوفٌ على » بحورٍ عينٍ « غيرُ هذا الرجلِ ، وهو تخيُّلُ أعجميٍّ مُخالفٍ لِفَهْمِ العربيِّ القُحِّ ابنِ عباسٍ وغيرِه » . قلت : أمَّا ما ذكره أبو القاسم من المعنى فلا شكَّ في حُسْنِه ونَضارَتِه ، وليس في كلامِ العربيِّ القُحِّ ما يَدْفَعُه ، بل لو عُرِض على ابنِ عباسٍ وغيرِه لأَعْجبهم . وأيُّ مانعٍ معنوي أو صناعي يمنعُه؟ .
وقوله : { واتبعتهم } يجوزُ أَنْ يكونَ عطفاً على الصلةِ ، ويكونَ « والذين » مبتدأً ، ويتعلقَ « بإيمان » بالاتِّباع بمعنى : أنَّ اللَّهَ تعالى يُلْحق الأولادَ الصغارَ ، وإن لم يَبْلغوا الإِيمانَ ، بأحكام الآباءِ المؤمنين . وهذا المعنى منقولٌ عن ابنِ عباس والضحاك . ويجوزُ أَنْ يكونَ معترضاً بين المبتدأ والخبر ، قاله الزمخشري . ويجوزُ أَنْ يتعلَّق « بإيمان » بألحَقْنا كما تقدَّم . فإنْ قيل : قولُه : « اتَّبَعتْهم ذُرِّيَّتَهم » يفيد فائدةَ قولِه : { أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } . فالجوابُ أنَّ قولَه : « أَلْحَقْنا بهم » أي : في الدرجات والاتِّباعُ إنما هو في حُكْمِ الإِيمان ، وإن لم يَبْلُغوه كما تقدَّم . وقرأ أبو عمرو و « وأَتْبَعْناهم » بإسناد الفعل إلى المتكلمٍ المعظِّمِ نفسَه . والباقون « واتَّبَعَتْهم » بإسنادِ الفعلِ إلى الذرِّيَّة وإلحاقِ تاء التأنيث . وقد تَقَدَّم الخلافُ في إفرادِ « ذُرِّيَّتهم » وجمعِه في سورة الأعرافِ محرراً بحمد الله تعالى .
قوله : { أَلَتْنَاهُمْ } قرأ ابن كثير « أَلِتْناهم » بكسر اللام ، والباقون بفتحِها . فأمَّا الأولى فَمِنْ أَلِتَ يَأْلَتُ بكسرِ العينِ في الماضي وفتحِها في المضارع كعَلِمَ يَعْلَمُ .

وأمَّا الثانيةُ فتحتمل أَنْ تكونَ مِنْ أَلَتَ يَأْلِتُ كضَربَ يَضْرِبُ ، وأَنْ تَكونَ مِنْ أَلات يُليت كأَماتَ يُميت ، فَأَلَتْناهم كأَمَتْناهم . وقرأ ابن هرمز « آلَتْناهم » بألفٍ بعد الهمزة ، على وزنِ أَفْعَلْناهم . يقال : آلَتَ يُؤْلِتُ كآمَنَ يُؤْمِنُ . وعبد الله وأُبَيٌّ والأعمش وطلحة ، وتُرْوى عن ابنِ كثير « لِتْناهم » بكسر اللام كبِعْناهم يُقال : لاتَه يَليته ، كباعه يَبيعه . /
وقرأ طلحة والأعمش أيضاً « لَتْناهم » بفتح اللام . قال سهل : « لا يجوز فتحُ اللامِ مِنْ غير ألفٍ بحالٍ » ولذلك أَنْكر « آلَتْناهم » بالمدِّ : وقال : « لا يَدُلُّ عليها لغةٌ ولا تفسيرٌ » . وليس كما زعم؛ بل نَقَلَ أهلُ اللغةِ : آلَتَ يُؤْلِتُ . وقُرِىء « وَلَتْناهم » بالواو ك « وَعَدْناهم » نَقَلها هارون . قال ابن خالويه : « فيكونُ هذا الحرفُ مِنْ لاتَ يَليت ، ووَلَتَ يَلِتَ ، وأَلِتَ يَأْلَت ، وأَلَت ، وأَلات يُليت . وكلُّها بمعنى نَقَص . ويقال : أَلَتَ بمعنى غَلَّظ . وقام رجلٌ إلى عمر يَعِظُه فقال له رجل : لا تَأْلِتْ أميرَ المؤمنين أي : لا تُغْلِظْ عليه » . قلت : ويجوزُ أَنْ يكونَ هذا الأثرُ على حالِه ، والمعنى : لا تُنْقِصْ أميرَ المؤمنين حَقَّه ، لأنه إذا أَغْلَظَ له القولَ نَقَصَه حَقَّه .
قوله : { مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ } « مِنْ شيءٍ » مفعولٌ ثانٍ ل « أَلَتْناهم » و « مِنْ » مزيدةٌ فيه . والأُولى في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ « شيء » لأنَّها في الأصلِ صفةٌ له ، فلَمَّا قُدِّمَتْ نُصِبَتْ حالاً . وجَوَّزَ أبو البقاء أَنْ يتعلَّقَ ب « أَلَتْناهم » وليس بظاهرٍ . وفي الضمير في « أَلَتْناهم » وجهان ، أظهرهما : أنَّه عائدٌ على المؤمنين . والثاني : أنَّه عائد على أبنائهم . قيل : ويُقَوِّيه قولُه : { كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ } .

يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23)

قوله : { يَتَنَازَعُونَ } : في موضع نصبٍ على الحال مِنْ مفعول « أَمَدَدْناهم » ، ويجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً . وتقدَّم الخلافُ في قولِه : { لاَّ لَغْوٌ فِيهَا } في البقرة . والجملةُ في موضع نصبٍ صفةً ل « كأس » وقوله : « فيها » أي : في شُرْبِها .

وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24)

والجملة مِنْ قولِه { كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ } صفةٌ ثانية لغِلمان .

وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25)

قوله : { يَتَسَآءَلُونَ } : جملةٌ حاليةٌ مِنْ « بعضُهم » ومعنى يتنازَعون : أي يتعاطَوْنها بتجاذُبٍ لأنه كمالُ اللذة قال :
4117 نازَعْتُه طَيِّبَ الراحِ الشَّمولِ وقد ... صاح الدَّجاجُ وحانَتْ وَقْعَةُ السَّاري

فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27)

قوله : { وَوَقَانَا } : العامَّةُ على التخفيفِ ، وأبو حيوةَ بالتشديد وقد تقدَّم . والسَّمُومُ في الأصل : الريحُ الحارةُ التي تَتَخَلَّلُ المَسامَّ ، والجمع سَمائِم . وسُمَّ يومُنا أي : اشتدَّ حَرُّه . وقال ثعلب : « السَّمومُ شدَّةُ الحرِّ أو شدَّةُ البردِ في النهار » . وقال أبو عبيدة : « السَّمومُ بالنهار ، وقد تكون بالليلِ ، والحَرور بالليل ، وقد تكون بالنهار ، وقد تُستعمل السَّموم في لَفْح البردِ ، وهو في لَفْحِ الحرِّ والشمسِ أكثرُ » . وقد تقدَّم شيءٌ من ذلك في سورة فاطر .

إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)

قوله : { إِنَّهُ هُوَ البر } : قرأ نافع والكسائي بفتح الهمزة على التعليل ، أي : لأنه . والباقون بالكسرِ على الاستئنافِ الذي فيه معنى العلةِ فيتحدُ معنى القراءتين .

فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29)

قوله : { بِنِعْمَةِ رَبِّكَ } : فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه مُقْسَمٌ به متوسطٌ بين اسم « ما » وخبرها ، ويكونُ الجوابُ حينئذٍ محذوفاً لدلالة هذا المذكورِ عليه ، التقدير : ونعمةِ ربِّك ما أنت بكاهنٍ ولا مجنونٍ . الثاني : أنَّ الباءَ في موضع نصبٍ على الحالِ ، والعامل فيها « بكاهن » أو « مجنون » والتقدير : ما أنت كاهناً ولا مجنوناً ملتبساً بنعمةِ ربِّك ، قاله أبو البقاء ، وعلى هذا فهي حالٌ لازمةٌ؛ لأنه عليه السلام لا يُفارِقْ هذه الحال . الثالث : أنَّ الباءَ متعلقةٌ بما دَلَّ عليه الكلامُ ، وهو اعتراضٌ بين اسم « ما » وخبرِها . والتقدير : ما أنت في حالِ إذكارِك بنعمةِ ربك بكاهنٍ ولا مجنون ، قاله الحوفي . ويظهر وجهٌ رابعٌ : وهو أَنْ تكونَ الباء سببيةً ، وتتعلَّقُ حينئذٍ بمضمون الجملةِ المنفيةِ ، وهذا هو مقصودُ الآيةِ الكريمةِ . والمعنى : انتفى عنك الكهانةُ والجنونُ بسبب نعمةِ اللَّهِ عليك ، كما تقول : ما أنا بمُعْسِر بحمد الله وغَنائه .

أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30)

قوله : { أَمْ يَقُولُونَ } : قال الثعلبي : « قال الخليل : كلُّ ما في سورة الطور/ مِنْ » أم « فاستفهامٌ وليس بعطفٍ » . وقال أبو البقاء : « أم في هذه الآياتِ منقطعةٌ » . قلت : وتقدَّم لك الخلافُ في المنقطعةِ : هل تتقدَّرُ ب بل وحدَها ، أو ب بل والهمزةِ ، أو بالهمزةِ وحدَها ، والصحيحُ الثاني . وقال مجاهد في قوله : « أم تأمرهم » تقديره : بل تأمرهم . وقرأ { بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونُ } بدلَ « أم هم » .
قوله : { نَّتَرَبَّصُ } في موضعِ رفعٍ صفةً لشاعر . والعامَّةُ على « نتربَّصُ » بإسنادِ الفعل لجماعة المتكلمين « ريبَ » بالنصب . وزيدُ بن علي « يتربَّص » بالياء مِنْ تحتُ على البناء للمفعولِ « ريبُ » بالرفع . وريبُ المنونِ : حوادثُ الدهرِ وتقلُّباتُ الزمانِ لأنها لا تدوم على حالٍ كالرَّيْبِ وهو الشَّكُّ ، فإنه لا يبقى ، بل هو متزلزِلٌ قال الشاعر :
4118 تَرَبَّصْ بها رَيْبَ المنونِ لَعَلَّها ... تُطَلَّقُ يوماً أو يموتُ حليلُها
وقال أبو ذُؤَيْب :
4119 أمِن المَنونِ ورَيْبِه تتَوَجَّعُ ... والدهرُ ليس بمُعْتِبٍ مَنْ يَجْزَعُ
والمنون في الأصل : الدهرُ . وقال الراغب : « المنون المنيَّة ، لأنها تَنْقُصُ العددَ وتَقْطَعُ المَدَدَ » ، وجَعَل مِنْ ذلك قولَ : { أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } [ فصلت : 8 ] أي : غيرُ مقطوع . وقال الزمخشري : « وهو في الأصلِ فَعُول مِنْ منَّه إذا قطعه لأنَّ الموتَ قَطوعٌ ولذلك سُمِّيت شَعُوب » . و « ريبَ » مفعولٌ به أي : نَنْتَظِرُ به حوادثَ الدهرِ أو المنيَّة .

فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34)

قوله : { بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ } : العامَّةُ على تنوين « حديث » ووصفِه بمثله . والجحدريُّ وأبو السَّمَّال « بحديثِ مثلِه » بإضافة « حديث » إلى « مثلِه » على حذفِ موصوفٍ أي : بحديثِ رجلٍ مثلِه مِنْ جنسه .

أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35)

قوله : { مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ } : يجوزُ أَنْ تكونَ « مِنْ » لابتداءِ الغاية على معنى : أم خُلِقوا مِنْ غير شيء حيّ كالجماد ، فهم لا يُؤْمَرون ولا يُنْهَوْن كما الجماداتُ . وقيل : هي للسببية على معنى : مِنْ غيرِ علةٍ ولا لغايةِ ثوابٍ ولا عقابٍ .

أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37)

قوله : { المصيطرون } : المُسَيْطِرُ : القاهرُ الغالِبُ . مِنْ سَيْطَرَ عليه إذا راقَبَه وحَفِظه أو قَهَرَه . ولم يَأْتِ على مُفَيْعِل إلاَّ خمسةُ ألفاظٍ ، أربعةٌ صفةٌ اسمُ فاعلٍ نحو : مُهَيْمِن ومُبَيْقِر ومُسَيْطِر ومُبَيطِر ، وواحدٌ اسمُ جبلٍ وهو المُجَيْمِر . قال امرؤ القيس :
4120 كأن ذُرا رأسِ المُجَيْمِرِ غُدْوَةً ... من السيلِ والغُثَّاءِ فَلْكَةُ مِغْزَلِ
والعامَّةُ « المُصَيْطِرون » بصادٍ خالصةٍ مِنْ غيرِ إشمامِها زاياً لأجلِ الطاءِ ، لِما تقدَّم في { صِرَاطَ } . وقرأ بالسين الخالصة التي هي الأصلُ هشام وقنبل من غير خلافٍ عنهما ، وحفص بخلافٍ عنه . وقرأ خلاَّد بصادٍ مُشَمَّةٍ زاياً من غير خلافٍ عنه . وقرأ خلاَّد بالوجهين ، أعني كخَلَفٍ وكالعامَّةِ . وتوجيهُ هذه القراءتِ كلِّها واضحةٌ مِمَّا تقدَّم لك أولَ الفاتحة .

أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38)

قوله : { يَسْتَمِعُونَ } : صفةٌ لسُلَّم . « وفيه » على بابِها من الظرفيةِ . وقيل : هي بمعنى « على » ولا حاجةَ إليه . وقَدَّره الزمخشري متعلقاً بحالٍ محذوفة تقديره : صاعدِين فيه . ومفعول « يَسْتَمعون » محذوفٌ ، فقدَّره الزمخشري : « يَسْتمعون ما يُوحي إلى الملائكةِ مِنْ عِلْمِ الغيب » . وقَدَّرَهُ غيرُه : يَسْتمعون الخبرَ بصحة ما يَدَّعُون . والظاهر أنه لا يُقدَّر له مفعولٌ بل المعنى : يُوْفِعون الاستماع .

أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42)

قوله : { فالذين كَفَرُواْ } : هذا مِنْ وقوعِ الظاهر موقعَ المضمر تنبيهاً على اتِّصافهِم بهذه الصفةِ القبيحة . والأَصلُ : أم يريدون كَيْداً فهم المَكيدون ، أو حَكَمَ على جنسٍ هم نوعٌ منه فيندرجون اندراجاً أوَّلياً لتوغُّلهم في هذه الصفةِ .

وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44)

قوله : { وَإِن يَرَوْاْ } : « إنْ » هذه شرطيةٌ على بابِها . وقيل : هي بمعنى « لو » وليس بشيءٍ .
قوله : { سَحَابٌ } خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : هذا سحابٌ . والجملةُ نصبٌ بالقول .

فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46)

قوله : { يُلاَقُواْ يَوْمَهُمْ } : « يَوْمَهم » مفعولٌ به لا ظرفٌ . وقرأ أبو حيوةَ « يَلْقَوْا » مضارعَ لَقِي . ويَضْعُفُ أَنْ يكونَ المفعولُ محذوفاً ، و « يَوْمَهم » ظرفٌ ، أي : يُلاقُوا أو يَلْقَوا جزاءَ أعمالِهم في يَوْمِهم .
/ قوله : { يُصْعَقُونَ } قرأ ابن عامر وعاصم بضم الياء مبنياً للمفعول . وباقي السبعةِ بفتحها مبنياً للفاعل . وقرأ أبو عبد الرحمن بضم الياء وكسر العين . فأمَّا الأُولى فيُحتمل أن تكونَ مِنْ صُعِقَ فهو مَصْعُوق مبنياً للمفعولِ ، وهو ثلاثي ، حكاه الأخفش ، فيكونُ مثلَ سُعِدوا ، وأَنْ يكونَ مِنْ أَصْعَقَ رباعياً . يقال : أَصْعَق فهو مُصْعَق ، قاله الفارسيُّ . والمعنى : أنَّ غيرَهم أَصْعَقَهم . وقراءةُ السلمي تُؤْذِنُ أنَّ أَفْعَلَ بمعنى فَعَل . وقوله : { يَوْمَ لاَ يُغْنِي } بدلٌ مِنْ « يومَهم » .

وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47)

قوله : { وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ } : يجوزُ أَنْ يكون مِنْ إيقاعِ الظاهر موقعَ المضمرِ ، وأَنْ لا يكونَ كما تقدَّم فيما قبلُ .

وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)

قوله : { بِأَعْيُنِنَا } : قراءةُ العامة بالفك . وأبو السَّمَّال بإدغامِ النونِ فيما بعدَها . وناسَبَ جمعَ الضميرِ هنا جمعُ العين . ألا تراه أفردَ حيث أفردَها في قوله : { وَلِتُصْنَعَ على عيني } [ طه : 39 ] قاله الزمخشري .

وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)

قوله : { وَإِدْبَارَ النجوم } : العامَّةُ على كسر الهمزة مصدراً بخلافِ التي في آخر قاف كما تقدَّم؛ فإن الفتحَ هناك لائقٌ لأنه يُراد به الجمعُ لدُبْرِ السجود أي : أعقابِه . على أنه قد قرأ سالم الجعدي ويعقوب والمنهال بن عمرو بفتحِها هنا أي : أعقابَ النجوم . وإدْبارُها : إذا غَرَبَتْ . والله أعلم .

وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1)

قوله : { إِذَا هوى } : في العاملِ في هذا الظرفِ أوجهٌ ، وعلى كلٍ فيها إشكال . أحدُ الأوجهِ : أنه منصوبٌ بفعل القسمِ المحذوفِ تقديرُه : أُقْسِمُ بالنجم وقتَ هُوِيِّه ، قاله أبو البقاء وغيرُه . وهو مُشْكِلٌ فإن فِعْلَ القسمِ إنشاءٌ ، والإِنشاءُ حالٌ ، و « إذا » لِما يُسْتقبل من الزمان فكيف يتلاقيان؟ الثاني : أنَّ العاملَ فيه مقدرٌ على أنَّه حالٌ من النجم أي : أُقْسِم به حالَ كونِه مستقراً في زمانِ هُوِيِّه . وهو مُشْكِلٌ مِنْ وجهين ، أحدهما : أن النجم جثةٌ ، والزمانُ لا يكونُ حالاً عنها كما لا يكونُ خبراً عنها . والثاني : أنَّ « إذا » للمستقبلِ فكيف يكونُ حالاً؟ وقد أُجيب عن الأول : بأنَّ المرادَ بالنجم القطعةُ من القرآن ، والقرآنُ قد نَزَلَ مُنَجَّماً في عشرين سنةً . وهذا تفسيرُ ابن عباس وغيرِه . وعن الثاني : بأنها حالٌ مقدرةٌ . الثالث : أنَّ العاملَ فيه نفسُ النجم إذا أُريد به القرآنُ ، قاله أبو البقاء . وفيه نظرٌ؛ لأنَّ القرآنَ لا يَعْمل في الظرف إذا أُريد به أنه اسمٌ لهذا الكتابِ المخصوص . وقد يُقال : إن النجمَ بمعنى المُنَجَّم كأنه قيل : والقرآنِ المنجَّمِ في هذا الوقتِ . وهذا البحثُ وارِدٌ في مواضعَ منها { والشمس وَضُحَاهَا } [ الشمس : 1 ] وما بعدَه ، وقولُه : { والليل إِذَا يغشى } [ الليل : 1 ] ، { والضحى والليل إِذَا سجى } [ الضحى : 1 ] . وسيأتي في الشمس بحثٌ أخصُّ مِنْ هذا تقف عليه إنْ شاء الله تعالى . وقيل : المراد بالنجم هنا الجنسُ وأُنْشد :
4121 فباتَتْ تَعُدُّ النجمَ في مُسْتَحيرةٍ ... سريعٍ بأيدي الآكلين جمودُها
أي : تَعُدُّ النجومَ ، وقيل : بل المرادُ نجمٌ معين . فقيل : الثُّريَّا . وقيل : الشِّعْرَى لذِكْرِها في قوله : { وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشعرى } [ النجم : 49 ] . وقيل : الزُّهْرة لأنها كانت تُعْبَدُ . والصحيح أنها الثريَّا ، لأنَّ هذا صار عَلَماً بالغَلَبة . ومنه قولُ العرب : « إذا طَلَعَ النجمُ عِشاءً ابتغى الراعي كِساءً » . وقالوا أيضاً : « طَلَعَ النجمُ غُدْيَة فابتغى الراعي كُسْيَة » . وهَوَى يَهْوي هُوِيّاً أي : سقط من علو ، وهَوِي يَهْوَى هَوَىً أي : صَبَا . وقال الراغب : « الهُوِيُّ سقوطٌ مِنْ عُلُوّ » . ثم قال : والهُوِيُّ : ذهابٌ في انحدارٍ . والهوى : ذهابٌ في ارتفاع وأَنْشد : /
4122 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... يَهْوي مخارِمَها هُوِيَّ الأجدَلِ
وقيل : هَوَى في اللغة خَرَقَ الهوى ، ومَقْصَدُه السُّفْلُ ، أو مصيرُه إليه وإن لم يَقْصِدْه . قال :
4123 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... هُوِيَّ الدَّلْوِ أسْلَمَها الرِّشاءُ
وقد تقدَّم الكلامُ في هذا مُشْبَعاً .

مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)

وقوله : { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ } : هذا جوابُ القسم . و « عن الهوى » أي ما يَصْدُرُ عن الهوى نُطْقُه ف « عن » على بابِها . وقيل : هي بمعنى الباء . وفي فاعِل « يَنْطِق » وجهان ، أحدُهما : هو ضميرُ النبيِّ عليه السلام ، وهو الظاهرُ . والثاني : أنه ضميرُ القرآنِ كقولِه : { هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق } [ الجاثية : 29 ] .

إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)

قوله : { إِنْ هُوَ } : أي : إنْ الذي يَنْطِق به ، أو إنْ القرآنُ .
قوله : { يوحى } صفةٌ ل « وَحْيٌ » . وفائدةُ المجيْءِ بهذا الوصفِ أنه يَنْفي المجازَ أي : هو وحيٌ حقيقةً لا بمجردِ تسميتِه ، كما تقول : هذا قولٌ يقال . وقيل : تقديرُه : يُوحى إليه ، وفيه مزيدُ فائدةٍ .

عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5)

قوله : { عَلَّمَهُ شَدِيدُ } : يجوز أَنْ تكونَ هذه الهاءُ للرسول ، وهو الظاهرُ ، فيكونَ المفعولُ الثاني محذوفاً أي : عَلَّم الرسولَ الوحيَ أي : المُوْحى ، وأن تكونَ للقرآنِ والوحيِ ، فيكونَ المفعولُ الأولُ محذوفاً أي : عَلَّمه الرسولَ . وشديدُ القُوى : قيل : جبريلُ وهو الظاهرُ . وقيل : الباري تعالى لقوله : { الرحمن عَلَّمَ القرآن } [ الرحمن : 1-2 ] وشديدُ القُوى : من إضافة الصفةِ المشبهة لمرفوعِها فهي غيرُ حقيقية .

ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6)

قوله : { مِرَّةٍ } : المِرَّةُ : القوةُ والشدةُ . ومنه « أَمْرَرْتُ الحَبْلَ » إذا أَحْكَمْتَ فَتْلَه ، والمَرِير : الحَبْلُ ، وكذلك المَمَرُّ ، كأنه كُرِّر فَتْلُه مرةً بعد أخرى . وقال قطرب : « العربُ تقول لكلِّ جَزْلِ الرأي حصيفِ العقلِ : ذو مِرَّة » وأنشد :
4124 وإني لَذو مِرَّةٍ مُرَّةٍ ... إذا رَكِبَتْ خالةٌ خالَها

وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7)

قوله : { وَهُوَ بالأفق } : فيه وجهان ، أظهرهما : أنه مبتدأٌ ، و « بالأفق » خبرُه ، والضميرُ لِجبريلَ أو للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم . ثم في هذه الجملةِ وجهان ، أحدُهما : أنَّ هذه الجملةَ حالٌ مِنْ فاعل « استوى » قاله مكي . والثاني : أنها مستأنفةٌ أخبر تعالى بذلك . والثاني : أنَّ « هو » معطوفٌ على الضميرِ المستترِ في « استوى » . وضميرُ « استوى » و « هو » : إمَّا أن يكونا لله تعالى ، وهو قولُ الحسنِ . وقيل : ضميرُ « استوى » لجبريل و « هو » لمحمد عليه السلام . وقيل : بالعكس . وهذا الوجهُ الثاني إنما يتمشَّى على قول الكوفيين؛ لأن فيه العطفَ على الضمير المرفوع المتصل مِنْ غيرِ تأكيدٍ ولا فاصلٍ . وهذا الوجهُ منقولٌ عن الفراء والطبريِّ .

ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8)

قوله : { فتدلى } : التدلِّي : الامتداد من عُلُوٍّ إلى سُفْل ، فَيُستعمل في القُرْب من العلوِّ ، قاله الفراء وابن الأعرابي . وقال الهُذلي :
4125 تَدَلَّى علينا وهو زَرْقُ حَمامةٍ ... له طِحْلِبٌ في مُنْتهى القَيْظِ هامِدُ
وقال آخر :
4126 تَدَلَّى عليها بين سِبٍّ وخَيْطَةٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ويقال : « هو كالقِرِلَّى ، إن رأى خيراً تدلَّى ، وإن لم يَرَه تولَّى » . واستوى قال مكي : « يقع للواحد ، وأكثرُ ما يقع من اثنين ، ولذلك جَعَل الفراء الضميرَ لاثنين » .

فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9)

قوله : { فَكَانَ قَابَ } : ههنا مضافاتٌ محذوفاتٌ يُضْطَرُّ لتقديرِها أي : فكان مقدارُ مسافةِ قُرْبِه منه مثلَ مقدارِ مسافةِ قابٍ . وقد فَعَلَ أبو علي هذا في قولِ الشاعر :
4127 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وقد جَعَلَتْني مِنْ حَزِيْمَةَ إصبعا
أي : ذا مقدارِ مسافةِ إصبع . والقابُ : القَدْرُ . تقول : هذا قابُ هذا أي : قَدْرُه . ومثلُه : القِيبُ والقادُ والقِيس قال الزمخشري : « وقد جاء التقديرُ بالقوس والرُّمْح والسَّوْط والذِّراع والباعِ والخُطْوة والشُّبر والفِتْر والإِصبع ، ومنه : لا صَلاةَ إلى أن ترتفعَ الشمسُ مِقدار رُمْحين . وفي الحديث : » لَقابُ قوس أحدِكم من الجنة وموضعُ قِدِّه خيرٌ من الدنيا وما فيها « ، والقِدُّ السَّوْط . وألفُ » قاب « عن واوٍ . نصَّ عليه أبو البقاء . وأمَّا » قِيْبٌ « فلا دَلالة فيه على كونِها ياءً؛ لأنَّ الواوَ إذا انكسر ما قبلها قُلِبت ياءً كدِيْمة وقِيمة ، وذكره الراغب أيضاً في مادة » قوب « إلاَّ أنه قال في تفسيره : » هو ما بين المَقْبَضَ والسِّيَةِ من القوس « فعلى هذا يكون مقدارَ نصفِ القوس؛ لأن المَقْبَضَ في نصفِه . والسِّيَةُ هي الفُرْضَة التي يُخَطُّ فيها الوَتَرُ . وفيما قاله نظرٌ لا يخفى . ويُرْوى عن مجاهد : أنه من الوَتَر إلى مَقْبَضِ القوس في وسَطه . وقيل : إنَّ القوسَ ذراعٌ يُقاس به ، نُقل ذلك عن ابن عباس وأنه لغةٌ للحجازيين .
والقَوْسُ معروفةٌ ، وهي مؤنثةٌ ، وشَذُّوا في تصغيرِها فقالوا : قُوَيْس من غيرِ تأنيثٍ كعُرَيْبٍ وحُرَيْبٍ ، ويُجْمع على قِسِيّ ، وهو مَقْلوب مِنْ قُوُوْس ، ولتصريفِه موضعٌ آخر . /
قوله : { أَوْ أدنى } هي كقوله : { أَوْ يَزِيدُونَ } [ الصافات : 147 ] لأنَّ المعنى : فكان بأحدِ هذين المقدارَيْنِ في رَأْيِ الرائي ، أي : لتقارُبِ ما بينهما يَشُكُّ الرائي في ذلك . وأَدْنى أفعلُ تفضيلٍ ، والمفضَّلُ عليه محذوفٌ أي : أو أدنى مِن قاب قوسين .

فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)

قوله : { فأوحى } : أي اللَّهُ ، وإنْ لم يَجْرِ له ذِكْرٌ لعدم اللَّبْس . وقوله : « ما أَوْحى » أُبْهِم تعظيماً له ورَفْعاً مِنْ شأنِه ، وبه استدلَّ جمال الدين ابن مالك على أنه لا يُشْتَرَطُ في الصلة أَنْ تكونَ معهودة عند المخاطبِ . ومثلُه { فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ } [ طه : 78 ] ، إلاَّ أنَّ هذا الشرطَ هو المشهورُ عند النَّحْوِيين .

مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)

قوله : { مَا كَذَبَ } : قرأ هشامٌ بتشديدِ الدال . والباقون بتخفيفها . فأمَّا [ القراءةُ ] الأولى فإنَّ معناها أنَّ ما رآه محمدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم بعينِه صَدَّقه قلبُه ، ولم يُنْكِرْه أي : لم يَقُلْ له : لم أَعْرِفْك و « ما » مفعولٌ به موصولةٌ ، والعائدُ محذوفٌ . ففاعِلُ « رأى » ضميرٌ يعودُ على النبي صلَّى الله عليه وسلَّم . وأمَّا قراءةُ التخفيفِ فقيل فيها كذلك . و « كذَبَ » يتعدى بنفسِه . وقيل : هو على إسقاطِ الخافضِ : أي : فيما رآه ، قاله مكي وغيرُه . وجوَّز في « ما » وجهين ، أحدُهما : أَنْ يكونَ بمعنى الذي . والثاني : أَنْ تكونَ مصدريةً ، ويجوزُ أَنْ يكونَ فاعلُ « رأى » ضميراً يعودُ على الفؤادِ أي : لم يَشُكَّ قلبُه فيما رآه بعينِه .

أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12)

قوله : { أَفَتُمَارُونَهُ } : قرأ الأخَوان « أَفَتَمْرُوْنَه » بفتح التاء وسكون الميمِ ، والباقون « تُمارونه » . وعبد الله بن مسعود والشعبي « أَفَتُمْرُوْنَه » بضمِّ التاءِ وسكون الميم . فأمَّا الأولى ففيها وجهان ، أحدهما : أنها مِنْ مَرَيْتُه حَقَّهُ إذا غَلَبْتَه وجَحَدْتَه إياه . وعُدِّي ب « على » لتضمُّنِه معنى الغَلَبة . وأُنشِد :
4128 لَئِن هَجَرْتَ أخا صدقٍ ومَكْرُمَةٍ ... لقد مَرَيْتَ أخاً ما كان يَمْرِيكا
لأنه إذا جَحَده حقَّه فقد غَلَبه عليه . والثاني : أنها مِنْ مَراه على كذا أي : غَلَبه عليه فهو مِن المِراء وهو الجِدالُ . وأمَّا الثانيةُ فهي مِنْ ماراه يُماريه مُراءاة أي : جادَلَه . واشتقاقُه مِنْ مَرْي الناقةِ؛ لأنَّ كلَّ واحد من المتجادِلِيْن يَمْري ما عند صاحبه . وكان مِنْ حَقِّه أن يتعدَّى ب « في » كقولك : جادَلْتُه في كذا ، وإنما ضُمِّن معنى الغَلَبة فعُدِّيَ تَعْدِيَتَها . وأمَّا قراءةُ عبد الله فمِنْ أمراه رباعياً .

وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)

قوله : { نَزْلَةً أخرى } : فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنها منصوبةٌ على الظرفِ . قال الزمخشري : « نَصْبَ الظرفِ الذي هو مَرَّة؛ لأنَّ الفَعْلَةَ اسمٌ للمَرَّة من الفعلِ فكانَتْ في حُكْمها » قلت : وهذا ليس مذهبَ البصريين ، وإنما هو مذهبُ الفرَّاء ، نقله عنه مكي . الثاني : أنها منصوبةٌ نَصْبَ المصدرِ الواقعِ موقعَ الحالِ . قال مكي : « أي : رآه نازلاً نَزْلة أخرى » ، وإليه ذهب الحوفيُّ وابنُ عطية . والثالث : أنه منصوبٌ على المصدرِ المؤكِّد ، فقدَّره أبو البقاء : « مرةً أخرى أو رُؤْيةٌ أخرى » . قلت : وفي تأويلِ « نَزْلَةً » برؤية نظرٌ . و « أخرى » تَدُلُّ على سَبْقِ رؤيةٍ قبلها .

عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15)

قوله : { عِندَ سِدْرَةِ } : ظرفٌ لِرَآه و « عندها جنةُ » جملةٌ ابتدائيةٌ في موضعِ الحالِ . والأحسنُ أَنْ يكونَ الحالُ الظرفَ ، و « جَنَّةُ المَأْوى » فاعلٌ به . والعامَّةُ على « جنَّة » اسمٌ مرفوعٌ . وقرأ أمير المؤمنين وأبو الدرداء وأبو هريرة وابن الزبير وأنس وزر بن حبيش ومحمد بن كعب « جَنَّة » فعلاً ماضياً . والهاء ضميرُ المفعول يعود للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم . والمَأْوَى فاعلٌ بمعنى : سَتَره إيواءُ اللَّهِ تعالى . وقيل : المعنى : ضَمَّه المبيتُ والليلُ . وقيل : جَنَّه بظلالِه ودَخَلَ فيه . وقد رَدَّت عائشةُ رضي الله عنها هذه القراءةَ وتبعها جماعةٌ وقالوا : « أجَنَّ اللَّهُ مَنْ قرأها » ، وإذا ثبتت قراءةً عن مثلِ هؤلاء فلا سبيلَ إلى رَدِّها ، ولكنِّ المستعملَ إنما/ هو أَجَنَّه رباعياً ، فإن استعمل ثلاثياً تَعَدَّى ب « على » كقولِه { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليل } [ الأنعام : 76 ] . وقال أبو البقاء : « وهو شاذٌّ والمستعملُ أجنَّه » . وقد تقدَّم الكلامُ على هذه المادةِ في الأنعام . و « إذ يَغْشَى » منصوبٌ ب رآه . وقولُه : « ما يَغْشَى » كقولِه : { مَآ أوحى } [ النجم : 10 ] .

لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)

قوله : { الكبرى } فيه وجهان ، أحدُهما : وهو الظاهرُ أنَّ « الكبرى » مفعولُ رأى ، و { مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ } حالٌ مقدمةٌ . والتقدير : لقد رأى الآياتِ الكبرى من آياتِ ربه . والثاني : أنَّ { مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ } وهو مفعولُ الرؤية والكُبْرى صفةٌ لآيات ربِّه . وهذا الجمعُ يجوزُ وَصْفُه بوَصْف المؤنثةِ الواحدةِ ، وحَسَّنه هنا كونُه فاصلةً . وقد تقدَّم مِثْلُه في طه [ الآية : 23 ] كقوله : { لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الكبرى }

أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19)

قوله : { اللات } : اسمُ صَنَمٍ . قيل : كان لثَقيفِ بالطائف ، قاله : قتادة . وقيل : بنخلة . وقيل : بعُكاظ . ورَجَّح ابنُ عطيةً الأولَ بقولِ الشاعر :
4129 وفَرَّتْ ثَقِيْفٌ إلى لاتِها ... بمُنْقَلَبِ الخائبِ الخاسرِ
والألف واللام في « اللات » زائدةٌ لازمةٌ . فأمَّا قولُه : « إلى لاتِها » فَحَذَفَ للإِضافة . وهل هي والعُزَّى عَلَمان بالوَضْع ، أو صفتان غالبتان؟ خلافٌ ويَتَرَتَّبُ على ذلك جوازُ حَذْفِ أل وعدمُه . فإنْ قلنا : إنهما ليسا وصفَيْن في الأصلِ فلا تُحْذَفُ منهما أل . وإنْ قلنا : إنهما صفتان ، وإنَّ أل لِلَمْحِ الصفةِ جاز ، وبالتقديرَيْن فأل زائدةٌ . وقال أبو البقاء : « وقيل : هما صفتان غالبتان مثلَ : الحارث والعباس فلا تكون أل زائدة » انتهى .
وهو غَلَطٌ لأن التي لِلَمْحِ الصفةِ منصوصٌ على زيادِتها ، بمعنى أنها لم تؤثِّرْ تعريفاً .
واخْتُلِف في تاء « اللات » فقيل : أصلٌ ، وأصلُه مِنْ لات يليتُ فألفُها عن ياءٍ ، فإنَّ مادةَ ل ي ت موجودةٌ . وقيل : زائدة ، وهي مِنْ لَوَى يَلْوي لأنهم كانوا يَلْوُوْن أعناقَهم إليها ، أو يَلْتَوون أي : يَعْتكِفُون عليها ، وأصلُها لَوَيَة فحُذِفت لأمُها ، فألفُها على هذا مِنْ واوٍ . وقد اختلف القراءُ في الوقف على تائِها . فوقف الكسائيُّ عليها بالهاء والباقون بالتاء ، وهو مبنيُّ على القولَيْن المتقدمَيْن : فَمَنْ اعتقدَ تاءَها أصليةً أقَرَّها في الوقف كتاء بَيْت ، ومَنْ اعتقد زيادتَها وَقَف عليها هاءً . والعامَّةُ على تخفيفِ تائِها . وقرأ ابن عباس ومجاهد ومنصور بن المعتمر وأبو الجوزاء وأبو صالح وابن كثير في روايةٍ بتشديدِ التاء . وقيل : هو رجلٌ كان يَلُتُّ السَّوِيْق ويُطْعِمُ الحاجَّ ، فهو اسمُ فاعلٍ في الأصل غَلَبَ على هذا الرجلِ ، وكان يجلسُ عند حَجَرٍ ، فلما مات سُمِّي الحَجَرُ باسمِه وعُبِدَ مِنْ دون الله تعالى .
والعُزَّى فُعْلى من العِزِّ ، وهي تأنيثُ الأَعَزِّ كالفُضْلى ، والأفضل ، وهي اسمُ صنمٍ . وقيل : شجرةٌ كانت تُعْبَدُ .

وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20)

قوله : { وَمَنَاةَ } : قرأ ابن كثير « مَناءَة » بهمزةٍ مفتوحةٍ بعد الألف ، والباقون بألفٍ وحدَها ، وهي صخرةٌ كانت تُعْبَدُ من دونِ اللَّه . فأمَّا قراءةُ ابنِ كثير فاشتقاقُها من النَّوْء ، وهو المطرُ لأنهم يَسْتَمطرون عندها الأَنْواء ، ووزنُها حينئذٍ مَفْعَلَة فألفُها عن واوٍ ، وهمزتُها أصليةٌ ، وميمُها زائدةٌ . وأنشدوا على ذلك :
4130 ألا هل أَتَى تَيْمَ بنَ عبدِ مَناءة ... علَى النَّأْيِ فيما بيننا ابنُ تميمِ
وقد أَنْكر أبو عبيد قراءةَ ابن كثير ، وقال : « لم أسمع الهمز » . قلت : قد سمعه غيرُه ، والبيتُ حُجَّةٌ عليه .
وأمَّا قراءةُ العامَّة فاشتقاقُها مِنْ مَنى يَمْني أي : صبَّ؛ لأن دماءَ النَّسائِكِ كانت تُصَبُّ عندها ، وأنشدوا لجرير :
4131 أزيدَ مَناةَ تُوْعِدُ يا بنَ تَيْمٍ ... تَأَمَّلْ أين تاهَ بك الوعيدُ
وقال أبو البقاء : « وألفه من ياءٍ لقولِك : مَنَى يَمْني إذا قدَّر ، ويجوز أَنْ تكونَ من الواو ، ومنه مَنَوان » فوزْنُها على قراءة القصر فَعْلة .
« والأُخْرى » صفةٌ لمَناة . قال أبو البقاء : « والأُخْرى توكيدٌ؛ لأنَّ الثالثةَ لا تكونُ إلاَّ أُخرَى » . وقال الزمخشري : « والأُخْرى ذَمٌ وهي المتأخرةُ الوضيعةُ المقدارِ ، كقولِه : { قَالَتْ أُخْرَاهُمْ } [ الأعراف : 38 ] أي : وُضَعاؤُهم لأَشْرافِهم ، ويجوزُ أَنْ تكونَ الأَوَّليةُ والتقدمُ عندهم لِلاَّت والعُزَّى » . انتهى . وفيه نظرٌ؛ لأنَّ الأخرى إنما تدلُّ على الغَيْرِيَّة وليس فيها تَعَرُّضٌ لمَدْح ولا ذَمٍّ ، فإن جاء شيءٌ مِنْ هذا فلقرينةٍ خارجيةٍ . وقيل : الأُخْرى صفةٌّ للعُزَّى؛ لأنَّ الثانيةَ أُخْرى بالنسبة إلى الأُوْلى . وقال الحسين ابن الفضل : « فيه تقديمٌ وتأخيرٌ » أي : العُزَّى الأخرى ومناةَ الثالثة ، ولا حاجةَ إلى ذلك لأنَّ الأصلَ عدمُه .
و « أرأيت » بمعنى أَخْبِرْني فيتعدَّى لاثنين ، أوَّلُهما : « اللات وما عُطِف عليها . والثاني : الجملةُ الاستفهاميةُ مِنْ قولِه : » أَلكُمُ الذَّكَرَ « فإنْ قيل : لم يَعُدْ من هذه الجملةِ ضميرٌ على المفعول الأولِ . فالجوابُ : أنَّ قولَه : » وله الأنثى « في قوةِ » وله هذه الأصنامُ « وإن كان أصلُ التركيبِ : ألكم الذَّكَر وله هُنَّ ، أي : تلك الأصنامُ ، وإنما أُوْثِرَ هذا الاسمُ الظاهرُ لوقوعِه رَأْسَ فاصلةٍ . /
وقد جَعَلَ الزجَّاجُ المفعولَ الثاني محذوفاً فإنَّه قال : » وجهُ تَلْفيقِ هذه الآيةِ مع ما قبلَها فيقول : أَخْبِروني عن آلهتِكم هل لها شيءٌ من القدرةِ والعظمة التي وُصِفَ بها ربُّ العزَّةُ في الآي السالفة « انتهى . فعلى هذا يكونُ قولُه : » ألكم الذَّكَرُ « متعلقاً بما قبلَه من حيث المعنى ، لا من حيث الإِعرابُ . وجَعَل ابنُ عطية الرؤية هنا بَصَريةً فقال : » وهي من رؤيةِ العين؛ لأنَّه أحال على أَجْرام مرئيةٍ ، ولو كانَتْ « أَرَأَيْتَ » التي هي استفتاءٌ لم تَتَعَدَّ « وهذا كلامٌ مُثْبَجٌ ، وقد تقدَّم لك الكلامُ عليها مُشْبَعاً في الأنعام وغيرها .

تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22)

قوله : { ضيزى } : قرأ ابنُ كثير « ضِئْزَى » بهمزةٍ ساكنةٍ ، والباقون بياءٍ مكانَها . وزيدُ علي « ضَيْزَى » بفتح الضادِ والياءِ الساكنة . فأمَّا قراءةُ العامَّةِ فيُحْتمل أَنْ تكونَ مِنْ ضازه يَضَيزه إذا ضامه وجارَ عليه . فمعنى ضِيْزَى أي : جائرة . قال الشاعر :
4132 ضازَتْ بنو أُسْدٍ بحُكْمِهِمُ ... إذ يَجْعلون الرأسَ كالذَّنَبِ
وعلى هذا فتحتملُ وجهين ، أحدُهما : أَنْ تكونَ صفةً على فُعْلى بضم الفاءِ ، وإنما كُسِرت الفاءُ لتصِحَّ الياءُ كبِيْض . فإنْ قيل : وأيُّ فالجوابُ أن سيبويه حكى أنه لم يَرِدْ في الصفاتِ فِعْلَى بكسر الفاء إنما وَرَدَ بضمِّها نحو : حُبْلى وأُنْثى ورُبَّى وما أشبهه . إلاَّ أنه قد حَكى غيرُه في الصفات ذلك ، حكى ثعلب : « مِشْية حِيْكى » ، ورجلٌ كِيْصَى . وحكى غيرُه : أمرأةٌ عِزْهى ، وامرأة سِعْلى ، وهذا لا يُنْقَضُ لأن سيبويه يقول : حِيْكى وكِيْصى كقولِه في « ضيزَى » لتَصِحَّ الياءُ ، وأما عِزْهَى وسِعْلى فالمشهورُ فيهما : سِعْلاة وعِزْهاة .
والوجه الثاني : أَنْ تكونَ مصدراً كذِكْرى ، قال الكسائي : يقال : ضازَ يَضيز ضِيْزَى ، كذَكَر يَذْكُر ذِكْرى . ويُحتمل أَنْ يكونَ مِنْ ضَأَزَه بالهمز كقراءةِ ابن كثير ، إلاَّ أنه خُفِّفَ همزُها ، وإن لم يكنْ من أصولِ القُرَّاءِ كلِّهم إبدالُ مثلِ هذه الهمزةِ ياءً لكنها لغةٌ التُزِمَتْ فقرؤُوا بها ، ومعنى ضَأَزَه يَضْأَزُه بالهمز : نَقَصه ظُلماً وجَوْراً ، وهو قريبٌ من الأول . ومِمَّن جَوَّز أَنْ تكونَ الياءُ بدلاً مِنْ همزة أبو عبيد ، وأَنْ يكونَ أصلُها ضُوْزَى بالواوِ لأنه سُمِع ضازَه يَضُوْزُه ضُوْزى ، وضازه يَضِيْزُه ضِيْزى ، وضَأَزه يَضْأَزُه ضَأْزاً ، حكى ذلك كلَّه الكسائيُّ ، وحكى أبو عبيد ضِزْتُه وضُزْته بكسرِ الفاء وضمِّها . وكُسِرت الضادُ مِنْ ضُوْزَى لأنَّ الضمةَ ثقيلةٌ مع الواو ، وفعلوا ذلك ليَتَوَصَّلوا به إلى قَلْب الواوِ ياءً ، وأنشد الأخفش على لغةِ الهمز :
4133 فإن تَنْأَ عَنَّا نَنْتَقِصْك وإن تَغِبْ ... فَسَهْمُكَ مَضْؤُوْزٌ وأَنْفُكَ راغِمُ
و « ضِئْزَى » في قراءةِ ابن كثير مصدرٌ وُصِفَ به ، ولا يكون وصفاً أصلياً لِما تقدَّم عن سيبويه . فإنْ قيل : لِم لا قيل في « ضِئْزى » بالكسر والهمز : إنَّ أصلَه ضُئْزَى بالضم فكُسِرَتِ الفاءُ كما قيل فيها مع الياء؟ فالجواب : أنه لا مُوْجِبَ هنا للتغيير؛ إذ الضمُّ مع الهمز لا يُسْتثقل استثقالَه مع الياء الساكنة ، وسُمع منهم « ضُوْزَى » بضم الضاد مع الواو أو الهمزة .
وأمَّا قراءةُ زيدٍ فَتَحْتمل أَنْ تكونَ مصدراً وُصِف به كدَعْوى ، وأَنْ تكونَ صفةً كسَكْرى وعَطْشَى .

إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23)

قوله : { إِنْ هِيَ } : في « هي » وجهان ، أحدهما : أنها ضميرٌ للأصنام أي : وما هي إلاَّ أسماءٌ ليس تحتها في الحقيقة مُسَمَّياتٌ في الحقيقة لأنكم تَدَّعُوْن الإِلهية لِما هو أبعدُ شيءٍ منها وأشدُّ منافاةً لها ، كقوله : { مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ } [ يوسف : 40 ] . والثاني : أن تكونَ ضميرَ الأسماءِ ، وهي اللاتُ والعُزَّى ومَناة ، وهم يَقْصِدُون بها أسماءَ الآلهة ، يعني : وما هذه الأسماءُ إلاَّ أسماءٌ سَمَّيْتموها بهواكم وشهواتِكم ليس لكم على صحةِ تَسْمِيَتِها بُرْهانٌ تتعلَّقون به ، قاله الزمخشري . وقال أبو البقاء : « أسماء » يجب أن يكون المعنى : ذواتُ أسماءٍ : لقوله « سَمَّيْتُموها » لأنَّ الاسمَ لا يُسَمَّى « .
قوله : { إِن يَتَّبِعُونَ } العامَّةُ على الغَيْبة التفاتاً من خطابهم إلى الغيبة عنهم تحقيراً لهم . وقرأ عبد الله/ وابن عباس وطلحة وعيسى بن عمر وابن وثاب بالخطاب ، وهو حسنٌ موافِقٌ .
قوله : { وَمَا تَهْوَى الأنفس } نَسَقٌ على الظنِّ ، و » ما « مصدريةٌ ، أو بمعنى الذي .
قوله : { وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهدى } يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من فاعلِ » يَتَّبعون « أي : يَتَّبعون الظنَّ وهَوَى النفس في حالِ تنافي ذلك وهي مجيْءُ الهدى مِنْ عند ربِّهم . ويجوزُ أَنْ يكونَ اعتراضاً فإنَّ قولَه : » أم للإِنسان « متصلٌ بقولِه : { وَمَا تَهْوَى الأنفس } وهي أم المنقطعةُ فتتقدَّر ب بل والهمزةِ على الصحيح . قال الزمخشري : » ومعنى الهمزةِ فيها الإِنكارُ أي : ليس للإنسانِ ما تَمَنَّى « .

وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)

قوله : { وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ } : كم هنا خبريةٌ تفيد التكثيرَ ، ومحلُّها الرفعُ على الابتداءِ « ولا تُغْني شفاعتُهم » هو الخبرُ . والعامَّةُ على إفراد الشفاعة وجُمِعَ الضميرِ اعتباراً بمعنى مَلَكَ وبمعنى « كم » . وزيد بن علي « شفاعتُه » بإفرادها اعتبر لفظ « كم » ، و « مَلَكَ » . وابن مقسم « شفاعاتُهم » بجمعها . و « شيئاً » مصدرٌ أي : شيئاً من الإِغناء .

وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28)

قوله : { وَمَا لَهُم بِهِ } : أي : بما يقولون أو بذلك . وقال مكي : « الهاءُ تعود على الاسمِ لأنَّ التسميةَ والاسمَ بمعنى » . وقرأ أُبي « بها » أي : بالملائكة أو بالتسمية ، وهذا يُقَوِّي قولَ مكي .

ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30)

قوله : { ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ } : قال الزمخشري : « هو اعتراض أي : فأَعْرِضْ عنه ولا تُقابِلْه ، إنَّ ربك هو أعلمُ [ بالضالِّ ] » . قال الشيخ : « كأنه يقول : هو اعتراضٌ بين » فأعرِضْ « وبين » إنَّ ربك « ، ولا يظهر هذا الذي يقولُه من الاعتراضِ » . قلت : كيف يقولُ : كأنه يقول هو اعتراضٌ وما بمعنى التشبيه ، وهو قد نَصَّ عليه وصرَّح به فقال : أي فأعرِضْ عنه ولا تقابِلْه ، إنَّ ربك؟ وقوله : « ولا يَظْهر » ، ما أدري عدمَ الظهورِ مع ظهور أنَّ هذا علةٌ لذاك ، أي : قوله : « إنَّ ربَّك » علةٌ لقولِه : « فأعْرِضْ » والاعتراضُ بين العلةِ والمعلولِ ظاهرٌ ، وإذا كانوا يقولون : هذا معترضٌ فيما يجيءُ في أثناء قصةٍ فكيف بما بين علةٍ ومعلول؟
وقوله : { أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ } جوَّزَ مكي أن يكونَ على بابِه من التفضيل أي : هو أعلمُ مِنْ كل أحد ، بهذين الوصفَيْن وبغيرِهما ، وأَنْ يكونَ بمعنى عالِم وتقدَّم نظيرُ ذلك مراراً .

وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31)

قوله : { لِيَجْزِيَ } : في هذه اللامِ أوجهٌ : أحدها : أَنْ تتعلَّقَ بقولِه : { لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ } ذكره مكي . وهو بعيدٌ من حيث اللفظُ ومن حيث المعنى . الثاني : أَنْ تتعلَّقَ بما دَلَّ عليه قولُه : { وَلِلَّهِ مَا فِي السماوات } أي : له مِلْكُهما يُضِلُّ مَنْ يشاء ويَهْدي مَنْ يشاء ليجزيَ المحسنَ والمسيءَ . الثالث : أَنْ تتعلَّق بقولِه : « بمنْ ضَلَّ وبمَنْ اهتدى » . واللام للصيرورةِ أي : عاقبة أمرهم جميعاً للجزاءِ بما عملوا ، قال معناه الزمخشري . الرابع : أن تتعلَّقَ بما دَلَّ عليه قولُه : { أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ } أي : حَفِظ ذلك ليجزيَ ، قاله أبو البقاء . وقرأ زيد بن علي « لنجزيَ ، ونجزيَ » بنونِ العظمة ، والباقون بياء الغَيْبَةِ .

الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)

قوله : { الذين يَجْتَنِبُونَ } : يجوزُ أَنْ يكونَ منصوباً بدلاً أو بياناً أو نعتاً للذين أحسنوا ، وبإضمار أَعْني ، وأن يكونَ خبر مبتدأ مضمرٍ أي : هم الذين ، وقد تقدَّم الخلاف في « كبائر » و « كبير الإِثم » .
قوله : { إِلاَّ اللمم } فيه أوجه ، أحدهما : أنه استثناءٌ منقطعٌ لأنَّ اللَّمَمَ الصغائرُ ، فلم تندرِجْ فيما قبلَها ، قاله جماعةٌ وهو المشهور . الثاني : أنه صفةٌ و « إلاَّ » بمنزلة « غير » كقولِه : { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله } [ الأنبياء : 22 ] أي : كبائرَ الإِثم والفواحش غيرِ اللمم . الثالث : أنه متصلٌ وهذا عند مَنْ يُفَسِّر اللممَ بغير الصغائرِ ، والخلاف مذكور في التفسير . وأصلُ اللَّمَم : ما قَلَّ وصَغُر ، ومنه اللَّمَمُ وهو المَسُّ من الجنون ، وألمَّ بالمكان قلَّ لُبْثُه به ، ألَمَّ بالطعام أي : قَلَّ أكلُه منه . وقال أبو العباس : « أًصلُ اللَّمم : أَنْ يُلِمَّ بالشيء من غير أن يركَبَه يقال : ألمَّ بكذا إذا قاربه ، ولم يُخالِطْه » . وقال الأزهري : « العربُ تستعمل الإِلمامَ في معنى الدُنوِّ والقُرْب » . وقال جرير :
4134 بنفسي مَنْ تجنُّبُه عزيزٌ ... عليَّ ومَنْ زيارَتُه لِمامُ
وقال آخر :
4135 متى تأتِنا تُلْمِمْ بنا في ديارِنا ... تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وناراً تَأجَّجا
وقال آخر :
4136 لقاءُ أخِلاَّءِ الصَّفاءِ لِمامُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ومنه لِمَّة الشَّعْرِ لِما دونَ الوَفْرةِ .
قوله : { أَجِنَّةٌ } جمع جَنين ، وهو الحَمْلُ في البطنِ لاستتارِه . وجنين وأَجِنَّةَ كسرير وأَسِرة .

وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34)

قوله : { وأكدى } : أصلُه مِنْ أكدى الحافرُ إذا حفر شيئاً فصادفَ كُدْيَةً مَنَعَتْه من الحفر ، ومثلُه أَجْبَلَ أي : صادف جبلاً منعه من الحفر ، وكُدِيَتْ أصابِعُه : كلَّتْ من الهزِّ ، ثم اسْتُعْمل في كلِّ مَنْ/ طلب شيئاً ، فلم يَصِلْ إليه أو لم يُتَمِّمْه . وأَرَأَيْتَ بمعنى أخبرني .

أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35)

و { أَعِندَهُ عِلْمُ } : هو المفعولُ الثاني . والمفعولُ الأولُ محذوفٌ اقتصاراً لأعطى .
قوله : « فهو يَرَى » هذه الجملةُ مترتبةٌ على ما قبلَها ترتُّباً ظاهراً . وقال أبو البقاء : « فهو يرى » جملةٌ اسميةٌ واقعةٌ موقعَ الفعليةِ . والأصل : أَعنده عِلْمُ الغيبِ فيَرى . ولو جاء على ذلك لكان نصباً على جوابِ الاستفهام « انتهى . وهذا لا حاجةَ إليه مع ظهورِ الترتُّبِ بالجملةِ الاسميةِ ، وقد تقدَّم له نظيرُ هذا الكلامِ في موضعٍ آخرَ وتقدَّمَ الردُّ عليه .

وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)

قوله : { وَإِبْرَاهِيمَ } : عطفٌ على « موسى » ، وإنما خَصَّ هذين النبيَّيْن عليهما السلامُ بالذِّكْر؛ لأنه كان بين إبراهيم وموسى يُؤْخَذُ الرجلُ بجَريرةِ غيره ، فأولُ مَنْ خالفهم إبراهيمُ عليه السلام . و « أم » منقطعةٌ أي : بل ألم يُنَبَّأ . والعامَّةُ على « وَفَّى » بالتشديد . وقرأ أبو أمامةَ الباهلي وسعيد بن جبير وابن السَّمَيْفع « وَفَى » مخففاً . وقد تقدَّم أنَّ فيه ثلاثَ لغاتٍ ، وأَطْلَقَ التوفيةَ والوفاءَ ليتناولا كلَّ ما وَفَى .

أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38)

قوله : { أَلاَّ تَزِرُ } : « أَنْ » مخففةٌ من الثقيلة ، واسمُها محذوفٌ هو ضميرُ الشأنِ . ولا تزرُ هو الخبرُ وجيْءَ بالنفيِ لكونِ الخبرِ جملةً فعليةً متصرفةً غيرَ مقرونةٍ ب « قد » ، كما تقدَّم تحريرُه في المائدة و « أنْ » و ما في حَيِّزها فيها قولان ، أظهرهُما : الجرُّ بدلاً مِنْ « ما » في قولِه : { بِمَا فِي صُحُفِ } . والثاني : الرفعُ خبراً لمبتدأ مضمر أي : ذلك أَنْ لا تَزِرُ أو هو أَنْ لا تَزِرُ ، وهو جوابٌ لسؤالٍ مقدر كأنَّ قائلاً قال : وما في صُحُفهما؟ فأجيب بذلك . قلت : ويجوزُ أَنْ يكونَ نصباً بإضمار أعني جواباً لذلك السَّائل . وكلُّ موضعٍ أُضْمِرَ فيه هذا المبتدأُ لهذا المعنى أُضْمِرَ فيه هذا الفعلُ .

وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40)

قوله : { وَأَن لَّيْسَ } : هي المخففةُ أيضاً . ولم يُفْصَلْ هنا بينها وبين الفعلِ لأنه لا يَتَصَرَّفُ . ومحلُّها الجرُّ أو الرفعُ أو النصبُ لعَطْفِها على أَنْ قبلَها ، وكذلك محلُّ « وأَنَّ سَعْيَه » و « يُرَى » مبني للمفعول فيجوزُ أَنْ يكونَ من البصرية أي : يُبْصَر ، وأن يكونَ من العِلميَّة ، فيكونُ الثاني محذوفاً أي : يُرى حاضراً ، والأولُ أوضحُ . وقال مكي : « وأجاز الزجَّاج » يَرى « بفتح الياء على إضمارِ الهاءِ أي : سوفَ يَراه ، ولم يُجِزْه الكوفيون لأنَّ سَعْيَه يَصير قد عملَ فيه » أنَّ « و » يَرى « وهو جائزٌ عند المبرد وغيرِه؛ لأن دخولَ » أنَّ « على » سَعْيَه « وعملَها يَدُلُّ على أن الهاء المحذوفة مِنْ » يَرَى « ، وعلى هذا جَوَّز البصريون : » إنَّ زيداً ضربْتُ « بغير هاء » . قلت : وهو خلافٌ ضعيفٌ؛ توهَّموا أن الاسمَ تَوَجَّه عليه عاملان مختلفان في الجنسيةِ ، وإنما قلتُ في الجنسية لأنَّ رأيَ بعضِهم أنه يُعْمِلُ فعلَيْن في معمولٍ واحدٍ ، ومنه بابُ التنازع في بعض صورِه نحو : قام وقعد زيدٌ ، وضربْتُ وأكرمْتُ عَمْراً ، وأن يعملَ عاملٌ واحدٌ في اسمٍ وفي ضميرِه معاً نحو : « زيداً ضربتُه » في باب الاشتغال ، وهذا توهُّمٌ باطلٌ لأنَّا نقولُ « سَعْيَه » منصوبٌ ب « أنَّ » ، و « يَرى » متسلِّطٌ على ضميره المقدر .
قلت : فظاهرُ هذا أنه لم يُقْرَأْ به ، وقد حكى أبو البقاء أنه قُرِىء به شاذَّاً ، ولكنه ضَعَّفه مِنْ جهةٍ أخرى فقال : « وقُرِىء بفتح الياء وهو ضعيفٌ؛ لأنه ليس فيه ضميرٌ يعودُ على اسم » أنَّ « وهو السَّعْي ، والضميرُ الذي فيه للهاءِ ، فيبقى الاسمُ بغير خبرٍ ، وهو كقولِك : » إنَّ غلامَ زيدٍ قامَ « وأنت تعني : قام زيدٌ ، فلا خبرَ لغلام . وقد وُجِّه على أن التقديرَ : سوف يَراه فتعودُ الهاءُ على السعي وفيه بُعْدٌ » انتهى . وليت شعري كيف توهَّم المانعَ المذكورَ ، وكيف نَظَّره بما ذكر؟ ثم أيُّ بُعْدٍ في تقدير : سوف يَرى سعي نفسِه؟ وكأنَّه اطلع على مذهبِ الكوفيين في المنعِ إلاَّ أنَّ المُدْرَك غيرُ المُدْرِك .

ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41)

قوله : { ثُمَّ يُجْزَاهُ } : يجوزُ فيه وجهان ، أظهرهما : أنَّ الضميرَ المرفوعَ عائدٌ على الإِنسان ، والمنصوبَ عائدٌ على سعيه . والجزاء مصدرٌ مبيِّنٌ للنوع . والثاني : قال الزمخشريُّ : « ويجوزُ أَنْ يكونَ الضميرُ للجزاء ، ثم فَسَّره بقولِه » الجزاءَ « ، أو أبدلَه عنه كقولِه : { وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ } [ الأنبياء : 3 ] . قال الشيخ : » وإذا كان تفسيراً للضميرِ المنصوبِ في « يُجْزاه » فعلى ماذا ينتصِبُ ، وأمَّا إذا كان بدلاً فهو مِنْ بدلِ الظاهرِ/ من المضمرِ ، وهي مسألةُ خلافٍ والصحيحُ المنعُ « .
قلت : العجبُ كيف يقولُ : فعلى ماذا ينتصِبُ؟ وانتصابُه من وجهَيْن ، أحدُهما : وهو الظاهرُ البيِّن - أنْ يكونَ عطفَ بيانٍ ، وعطفُ البيانِ يَصْدُقُ عليه أنه مُفَسِّرٌ ، وهي عبارةٌ سائغةٌ شائعةٌ . والثاني : أَنْ ينتصِبَ بإضمار أَعْني ، وهي عبارةٌ سائغةٌ أيضاً يُسَمُّون مثلَ ذلك تفسيراً . وقد مَنَعَ أبو البقاء أن ينتصِبَ الجزاء الأَوْفى على المصدرِ ، فقال : » الجزاءَ الأوفى هو مفعولُ « يُجْزاه » وليس بمصدرٍ لأنَّه وَصَفَه بالأَوْفى ، وذلك مِنْ صفةِ المَجْزِيِّ به لا من صفةِ الفعلِ « . قلت : وهذا لا يَبْعُدُ عن الغلطِ؛ لأنه يلزَمُ أَنْ يتعدَّى يُجْزى إلى ثلاثةِ مفاعيل . بيانه : أنَّ الأولَ قام مقامَ الفاعلِ ، والثاني : الهاءُ التي هي ضميرُ السعي ، والثالث : الجزاءَ الأوفى . وأيضاً فكيف يَنْتَظم المعنى؟ وقد يُجاب عنه : بأنه أراد أنه بدلٌ من الهاءِ كما تقدَّم نَقْلُه عن الزمخشريَّ فيَصِحُّ أَنْ يُقالَ : هو مفعولُ » يُجْزاه « ، فلا يتعدَّى لثلاثةٍ حينئذٍ ، إلاَّ أنه بعيدٌ مِنْ غَرَضِه ، ومثلُ هذا إلغازٌ . وأمَّا قولُه : » والأوفى ليس من صفات الفعل « ممنوعٌ ، بل هو من صفاتِه مجازٌ ، كما يُوْصف به المجزيُّ به مجازاً ، فإن الحقيقةَ في كليهما منتفيةٌ ، وإنما المُتَّصِفُ به حقيقةُ المُجازَى .

وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42)

قوله : { وَأَنَّ إلى رَبِّكَ } : العامَّةُ على فتح هذه الهمزةِ وما عُطِفَ عليها بمعنى : أن الجميعَ في صُحُفِ موسى وإبراهيم . وقرأ أبو السَّمَّال بالكسرِ في الجميع على الابتداءِ . وقولُه : « أَضْحك وأَبْكى » وما بعده : هذا يُسَمِّيه البيانيون الطباقَ والتضادَّ ، وهو نوعٌ من البديعِ ، وهو أَنْ يُذْكَرَ ضدان أو نَقْيضان أو متنافيان بوجهٍ من الوجوه .

وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48)

قوله : { أقنى } : قال الزمخشريُّ : « أعطى القُنْيَة وهي المالُ الذي تَأَثَّلْتَه وعَزَمْتَ أن لا يَخْرُج مِنْ يَدِك » . قال الجوهري : « قَنِيَ الرجلُ يَقْنَى قِنَىً ، مثلَ : غنِيَ يَغْنَى غِنَى » . ثم يتعدَّى بتغييرِ الحركة فيقال : قَنَيْتُ مالاً أي : كَسَبْتُه ، وهو نظير : شَتِرَتْ عينُه بالكسر وشَتَرَها اللَّهُ بالفتح ، فإذا دَخَلَتْ عليه الهمزةُ أو التضعيفُ اكتسب مفعولاً ثانياً فيقال : أَقْناه الله مالاً ، وقَنَّاه إياه أي : أَكْسَبه إياه ، قال الشاعر :
4137 كم مِنْ غنيٍّ أصاب الدهرُ ثَرْوَته ... ومِنْ فقيرٍ تَقَنَّى بعد إقْلالِ
أي : تقنَّى مالاً ، فحذف الثاني ، وحُذِفَ مفعولا أغْنى وأَقْنى؛ لأنَّ المرادَ نسبةُ هذين الفعلين إليه وحدَه وكذلك في باقيها .
وألفُ « أَقْنى » عن ياءٍ لأنه مِنَ القُنِيْةِ قال :
4138 ألا إنَّ بَعْد العُدْمِ للمَرْءِ قُنِيَةً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقيل : أقْنى أَرْضَى . قال الراغب : « وتحقيقُه : أنه جَعَلَ له قُنْية من الرضا وقَنَيْتُ كذا واقْتَنَيْتُه قال :
4139 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... قَنِيْتُ حَيائي عِفَّةً وتَكَرُّما

وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49)

قوله : { رَبُّ الشعرى } : الشِّعْرى في لسان العرب كوكبان يُسَمَّى أحدُهما : الشِّعْرى العَبُور ، وهو المرادُ في الآيةِ الكريمةِ فإنَّ خُزاعةَ كانت تَعْبُدها ، وسَنَّ عبادتَها أبو كبشةَ رجلٌ مِنْ ساداتِهم ، وكانت قريشٌ تقولُ لرسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم : أبو كبشَة تشبيهاً بذلك الرجل ، في أنه أَحْدَثَ ديناً غيرَ دينهم . والشِّعْرى العَبُور تَطْلُعُ بعد الجوزاءِ في شدَّةِ الحرِّ ، ويُقال لها : مِرْزَمُ الجَوْزاء ويُسَمَّى كلبَ الجبَّار . والثاني : / الشِّعْرَى الغُمَيْصاء ، وهي التي في الذِّراع . وسبب تَسْميتها بذلك ما زَعَمَتْه العربُ : مِنْ أنَّهما كانا أخْتَيْن أو زوجَيْن لسُهَيْل ، فانحدر سهيلٌ إلى اليمنِ ، فاتَّبَعْته الشِّعْرى العَبُوْر فعبَرَتْ المَجَرَّة فسُمِّيَتِ العَبورَ ، وأقامَتِ الغُمَيْصاءُ ، وبَكَتْ لفَقْدِه حتى غَمَصَتْ عَيْنُها ، ولذلك كانت أَخْفَى من العَبُوْر .

وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50)

قوله : { عَاداً الأولى } : اعلَمْ أنَّ هذه الآيةَ الكريمةَ مِنْ أشكلِ الآياتِ نَقْلاً وتوجيهاً ، وقد يَسَّر اللَّهُ تعالى تحريرَ ذلك كلِّه بحولِه وقوتِه فأقول : إنَّ القرَّاءَ اختلفوا في ذلك على أربعِ رُتَبٍ ، إحداها : قرأ ابن كثير وابن عامر والكوفيون « عادَاً الأُولى » بالتنوين مكسوراً وسكونِ اللام وتحقيقِ الهمزةِ بعدها ، هذا كلُّه في الوصلِ فإذا وقفوا على « عاداً » وابتدؤوا ب « الأُوْلى » فقياسُهم أَنْ يقولوا « الأولى » بهمزةِ الوصلِ وسكونِ اللامِ وتحقيقِ الهمزة .
الثانيةُ : قرأ قالون « عاداً لُّؤْلَى » بإدغامِ التنوين في اللامِ ، ونَقْلِ حركةِ الهمزةِ إلى لام التعريفِ ، وهمزِ الواوِ ، هذا في الوصل . وأمَّا في الابتداءِ بالأولى فله ثلاثةُ أوجهٍ ، الأولُ : « الُّؤْلَى » بهمزةِ وصل ، ثم بلامٍ مضمومة ، ثم بهمزةٍ ساكنة . الثاني : « لُؤْلَى » بلامٍ مضمومةٍ ثم بهمزةٍ ساكنةٍ . الثالث : كابتداءِ ابنِ كثير ومَنْ معه .
الثالثة : قرأ ورش « عاداً لُّوْلى » بإدغامِ التنوين في اللام ونَقْلِ حركةِ الهمزةِ إليها كقالون ، إلاَّ أنه أبقى الواوَ على حالِها غيرَ مبدلةٍ همزةً هذا في الوصل . وأمَّا في الابتداءِ بها فله وجهان : « ألُّوْلَى » بالهمزةِ والنقلِ ، و « لُوْلَى » بالنقلِ دونَ همزِ وصلٍ ، والواوُ ساكنةٌ على حالِها في هذَيْن الوجهَيْن .
الرابعة : قرأ أبو عمروٍ كوَرْشٍ وَصْلاً وابتداءً سواءً بسواءٍ ، إلاَّ أنه يزيدُ عليه في الابتداءِ بوجهٍ ثالثٍ ، وهو وجهُ ابنِ كثير ومَنْ ذُكِرَ معه ، فقد تحصَّل أنَّ لكلّ مِنْ قالون وأبي عمرو في الابتداء ثلاثةَ أوجهٍ ، وأنَّ لورشٍ وجهين . فتأمَّلْ ذلك فإنَّ تحريرَه صعبُ المأخذِ من كتب القراءات هذا ما يتعلَّقُ بالقراءات .
وأمَّا توجيهُها فيُوقف على معرفةِ ثلاثةِ أصولٍ ، الأول : حكمُ التنوينِ إذا وقع بعدَه ساكنٌ . الثاني : حكمُ حركةِ النقلِ . الثالث : أصلُ « أُوْلَى » ما هو؟ إمَّا الأولُ فحكمُ التنوينِ الملاقي أنْ يُكْسَرَ لالتقاءِ الساكنين نحو : { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ } [ الإِخلاص : 1 ] أو يُحْذَفَ تشبيهاً بحرفِ العلةِ كقراءةِ { أَحَدٌ الله الصمد } ، وكقولِ الشاعر :
4140 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا ذاكرَ اللَّهَ إلاَّ قليلاً
وهو قليلٌ جداً ، وقد مضى تحقيقُه . وأمَّا الثاني فإنَّ للعرب في الحركة المنقولةِ مذهبين : الاعتدادَ بالحركةِ ، وعدمَ الاعتدادِ بها ، وهي اللغةُ العالية . وأمَّا الثالثُ فأُوْلَى تأنيثُ أَوَّل ، وقد تقدَّم الخلافُ في أصلِه مستوفى في أولِ هذا التصنيفِ فعليك باعتبارِه . إذا تقرَّرَتْ هذه الأصولُ الثلاثةُ فأقولُ :
أمَّا قراءةُ ابنِ كثير ومَنْ معه فإنهم صرفوا « عاداً » : إمَّا لأنه اسمٌ للحيِّ أو الأبِ فليس فيه ما يمنعُه ، وإمَّا لأنَّه كان مؤنثاً اسماً للقبيلةِ أو الأمِّ ، إلاَّ أنَّه مثلُ هِنْد ودَعْد فيجوزُ فيه الصرفُ وعدمُه فيكونُ كقوله :
4141 لم تَتَلَفَّعْ بفَضْلِ مِئْزَرِها ... دَعْدٌ ولم تُسْقَ دعدُ في العُلَب

فصرفَها أولاً ومَنَعَها ثانياً ، ولَم يَنْقُلوا حركةَ الهمزةِ إلى لام التعريف فالتقى ساكنان ، فكسروا التنوينَ لالتقائِهما على ما هو المعروفُ من اللغتين وحذفوا همزةَ الوصلِ من « الأُوْلى » للاستغناءِ عنها بحركة التنوين وَصْلاً فإذا ابتدَؤوا بها احتاجُوا إلى همزة الوصل فأَتَوْا بها فقالوا : الأُوْلى كنظيرِها/ من هَمَزاتِ الوصلِ . وهذه قراءة واضحة لا إشكال فيها ومن ثم اختارها الجَمُّ الغَفيرُ .
وأمَّا قراءة مَنْ أدغم التنوينَ في لامِ التعريفِ وهما نافعٌ وأبو عمرو مع اختلافِهما في أشياءَ كما تقدَّم بيانُه فوجْهُه الاعتدادُ بحركةِ النقل؛ وذلك أنَّ مِنَ العربِ مَنْ إذا نَقَل حركة الهمزةِ إلى ساكنٍ قبلَها كلامِ التعريفِ عامَلَها معاملَتَها ساكنةً ، ولا يَعْتَدُّ بحركةِ النقلِ ، فيكسرُ الساكَنَ الواقعَ قبلَها ، ولا يُدْغِم فيها التنوينَ ، ويأتي قبلها بهمزةِ الوصلِ فيقول : لم يَذْهَبِ لَحْمَرُ ، ورأيت زياداً لَعْجَم ، من غيرِ إدغام التنوينِ ، والَحْمَرُ والَعْجَمُ بهمزة الوصلِ لأن اللامَ في حكمِ السكونِ ، وهذه هي اللغةُ المشهورة . ومنهم مَنْ يَعْتَدُّ بها ، فلا يكسِر الساكنَ الأولَ ، ولا يأتي بهمزةِ الوصلِ ، ويُدْغم التنوين في لام التعريف فيقولُ : لم يَذْهَبْ لَحْمر بسكون الباء ، ولَحْمَرُ ولَعْجَمُ من غيرِ همزٍ ، وزيادُ لّعجم بتشديدِ اللامِ ، وعلى هذه اللغةِ جاءَتْ هذه القراءةُ ، هذا من حيث الإِجمال .
وأمَّا من حيث التفصيلُ فأقول : أمَّا قالون فإنه نَقَلَ حركة الهمزةِ إلى لام التعريف ، وإنْ لم يكنْ من أصلِه النقلُ لأجل قَصْدِه التخفيفَ بالإِدغام ، ولَمَّا نقل الحركةَ اعْتَدَّ بها ، إذ لا يمكن الإِدغامُ في ساكنٍ ولا ما هو في حُكْمِه .
وأمَّا همزُه الواوُ ففيه وجهان منقولان ، أحدُهما : أَنْ تكونَ أُوْلى أصلُها عنده وُؤْلَى مِنْ وَأَل أي : نجا ، كما هو قولُ الكوفيين ، ثم أَبْدَلَ الواوَ همزةً لأنها واوٌ مضمومةٌ ، وقد تقدَّم لك أنها لغةٌ مطردةٌ ، فاجتمع همزتان ثانيتُهما ساكنةٌ فَوَجَبَ قلبُها واواً نحو : « أُوْمِنُ » ، فلمَّا حُذِفَتْ الهمزةُ الأولى بسببِ نَقْلِ حركتِها رَجَعَتْ الثانيةُ إلى أصلِها من الهمزةِ لأنَّها إنما قُلِبت واواً من أجلِ الأُولى ، وقد زالَتْ ، وهذا كما رأيتَ تكلُّفٌ لا دليلَ عليه . والثاني : أنَّه لَمَّا نَقَلَ الحركةَ إلى اللامِ صارَت الضمةُ قبل الواوِ كأنَّها عليها ، لأنَّ حركةَ الحرفِ بين يديه ، فأبدل الواوَ همزةً كقولِه :
4142 أَحَبُّ المُؤْقِدِيْنَ إليَّ موسى ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وكقراءةِ « يُؤْقنون » وهمزِ « السُّؤْقِ » و « سُؤْقِه » وقد تقدَّم تحريرُ ذلك ، وهذا بناءً منه على الاعتدادِ بالحركةِ أيضاً . وليس في هذا الوجهِ دليلٌ على أصلِ « أُوْلى » عنده ما هو؟ فيُحتمل الخلافُ المذكورُ جميعُه . وأمَّا ابتداؤُه الكلمةَ من غير نَقْلٍ فإنه الأصلُ ، ولأنه إنما نَقَلَ في الوصلِ لقَصْدِه التخفيفَ بالإِدغام ، ولا إدغامَ في الابتداءِ فلا حاجةَ إلى النقلِ . وأمَّا الابتداءُ له بالنقلِ فلأنه محمولٌ على الوصل ليجريَ اللفظُ فيهما على سَنَنٍ واحدٍ .

وعلةُ إثباتِ ألفِ الوصلِ مع النقلِ في أحدِ الوجهَينِ : تَرْكُ الاعتدادِ بحركةِ اللامِ على ما عليه القراءةُ في نظائرِه ممَّا وُجِدَ فيه النقلُ؛ إذ الغَرَضُ إنما هو جَرْيُ اللفظِ في الابتداءِ والوصلِ على سَنَنٍ واحدٍ ، وذلك يَحْصُل بمجرد النقلِ وإنْ اختلفا في تقديرِ الاعتدادِ بالحركةِ وتركِه . وعلةُ تَرْكِ الإِتيانِ بالألفِ في الوجهِ الثاني حَمْلُ الابتداءِ على الوصلِ في النقلِ والاعتدادِ بالحركةِ جميعاً . ويُقَوِّي هذا الوجهَ رسمُ « الأولى » في هذا الموضع بغيرِ ألفٍ . والكلامُ في همز الواوِ مع النقل في الابتداءِ كالكلامِ عليه في الوَصْل كما تقدَّم .
وأمَّا ورشٌ فإنَّ أصلَه أن ينقلَ حركةَ الهمزةِ على اللام في الوصلِ فنقل على أصلِه ، إلاَّ أنه اعتدَّ بالحركةِ ليصِحَّ ما قَصَدَه في التخفيفِ بالإِدغامِ ، وليس من أصله الاعتدادُ بالحركة في نحو ذلك . ألا ترى أنه يَحْذِفُ الألفَ في { سِيَرتَهَا الأولى } [ طه : 21 ] و { وَيَتَجَنَّبُهَا الأشقى } [ الأعلى : 11 ] ولو اعْتَدَّ بالحركةِ لم يَحْذِفْها . وأمَّا ما جاء عنه في بعضِ الرواياتِ : { قَالُواْ لآنَ جِئْتَ بالحق } [ البقرة : 71 ] فإنه وجهٌ نادرٌ مُعَلَّلٌ باتِّباعِ الأثرِ والجَمْعِ بين اللغتين . والابتداءُ له بالنَّقْلِ على أصلِه في ذلك أيضاً ، والابتداءُ له بألفِ الوصلِ على تَرْكِ الاعتدادِ بالحركةٍِ ، إذْ لا حاجةَ إلى قَصْد ذلك في/ الابتداءِ ، وتَرْكِ الإِتْيانِ له بالألف على الاعتدادِ له بالحركة حَمْلاً للابتداءِ على الوصل وموافقةَ الرسمِ أيضاً ، لا يُبْتَدأ له بالأصل ، إذ ليس مِنْ أصلِه ذلك ، و « الأُوْلَى » في قراءتِه تَحْتَمل الخلافَ المذكورَ في أصلِها .
وأمَّا أبو عمروٍ فالعلةُ له في قراءتِه في الوصلِ والابتداءِ كالعلةِ المتقدمةِ لقالون ، إلاَّ أنَّه يُخالفه في همزِ الواو لأنه لم يُعْطِها حكمَ ما جاوَرَها ، وليسَتْ عنده مِنْ وَأل بل مِنْ غيرِ هذا الوجهِ ، كما تقدَّم لكَ الخلافُ فيه أولَ هذا الموضوع ، ويجوز أَنْ يكونَ أصلُها عندَه مِنْ وَأَل أيضاً إلاَّ أنه أَبْدَلَ في حالِ النقلِ مبالغةً في التخفيف ، أو موافَقَةً لحالِ تَرْكِ النَّقلِ ، وقد عاب هذه القراءةَ أعني قراءةَ الإِدغامِ أبو عثمانَ ، وأبو العباس ، ذهاباً منهما إلى أنَّ اللغةَ الفَصيحة عدمُ الاعتدادِ بالعارِضِ ، ولكن لا التفاتَ إلى رَدِّهما لثبوتِ ذلك لغةً وقراءةً ، وإن كان غيرُها أَفْصَحَ منها . وقد ثَبَتَ عن العرب أنَّهم يقولون : الَحْمَر ولَحْمَر بهمزةِ الوصلِ وعَدَمِها مع النقل ، واللَّهُ أعلمُ .
وقرأ أُبَيٌّ وهي في حَرْفِه « عادَ الأُولى » ، غيرَ مصروفٍ ذهاباً إلى القبيلةِ أو الأمِّ كما تقدَّم ، ففيه العلَمِيَّةُ والتأنيثُ ، ويَدُلُّ على التأنيثِ قولُه : « الأُوْلَى » فوصَفَها بوَصْفِ المؤنث .

وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51)

وقد تقدَّمَ الخلافُ في « ثمود » بالنسبة للصَرْفِ وعَدَمِه في سورة هود ، وفي انتصابِه هنا وجهان ، أحدُهما : أنه معطوفٌ على « عاداً » . والثاني : أنَّه منصوبٌ بالفعلِ المقدَّرِ ، أي : وأهلَك ، قاله أبو البقاء ، وبه بَدَأ ، ولا حاجةَ إليه ، ولا يجوزُ أن ينتصِبَ ب « أَبْقَى » لأنَّ ما بعد « ما » النافيةِ لا يعملُ فيما قبلها ، والظاهرُ أنَّ متعلَّقَ « أَبْقَى » عائدٌ على مَنْ تقدَّم مِنْ عادٍ وثمودَ ، أي : فما أَبْقَى عليهم ، أي : على عادٍ وثمودَ ، أو يكونُ التقديرُ : فما أَبْقَى منهم أحداً ولا عَيْناً تَطْرُفُ .

وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52)

و { قَوْمَ نُوحٍ } : كالذي قبلَه . و « مِنْ قبلُ » ، أي : مِنْ قَبْلِ عادٍ وثمودَ .
وقوله : { إِنَّهُمْ } يُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ الضميرُ لقومِ نوحٍ خاصةً ، وأن يكونَ لجميعِ مَنْ تقدَّمَ مِن الأمم الثلاثةِ .
وقوله : { كَانُواْ هُمْ } يجوز في « هم » أَنْ يكون تأكيداً ، وأَنْ يكون فَصْلاً ، ويَضْعُفُ أَنْ يكونَ بدلاً ، والمفضَّل عليه محذوفٌ ، تقديرُه : مِنْ عادٍ وثمودَ ، على قولنا : إن الضميرَ لقومِ نوحٍ خاصةً ، وعلى القول بأنَّ الضميرَ للكلِّ يكون التقديرُ : مِنْ غيرهم . و « المُؤْتَفِكَة » منصوبٌ ب « أَهْوَى » وقُدِّمَ لأَجْلِ الفواصل .

فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54)

قوله : { مَا غشى } : كقولِه { مَآ أوحى } [ النجم : 10 ] في الإِبهام وهو المفعولُ الثاني ، إنْ قلنا : إنَّ التضعيفَ للتعديةِ ، وإن قُلْنا : إنه للمبالغةِ والتكثيرِ فتكونُ « ما » فاعلةً كقولِه : { فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ } [ طه : 78 ] .

فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55)

قوله : { فَبِأَيِّ } متعلقٌ ب « تَتَمارَى » والباءُ ظرفيةٌ بمعنى في . وقرأ ابنُ محيصن ويعقوبُ « تَمارى » بالحذف كقراءةِ « تَذَكَّرون » .

هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56)

و { هذا } : إشارةٌ إلى ما تقدَّم من الآي أو إلى القرآن ، وإلى الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم ، ونذير : يجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً ، وأَنْ يكونَ اسمَ فاعلٍ ، وكلاهما لا يَنْقاس ، بل القياسُ في مصدرِه إنذار ، وفي اسمِ فاعلِه مُنْذِر ، والنُّذُر يجوز أَنْ يكونَ جمعاً لنَذير بمعنَييْهِ المذكوريَنْ ، و « الأَُوْلَى » صفةٌ حملاً على معنى الجماعةِ كقولِه : { مَآرِبُ } ، [ طه : 18 ] والآزِفَةُ ، أي : الساعةُ الآزفة ، كقولِه : { اقتربت الساعة } [ القمر : 1 ] ، ويجوز أن تكونَ الآزفةُ عَلَماً للقيامة بالغَلَبة .

لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58)

قوله : { كَاشِفَةٌ } : يجوز أَنْ يكونَ وصفاً ، وأَنْ يكونَ مصدراً ، فإنْ كانَتْ وصفاً احتمل أَنْ يكونَ التأنيثُ/ لأجلِ أنَّه صفةٌ لمؤنثٍ محذوفٍ وقيل : تقديرُه : نفسٌ كاشفةٌ ، أو حالٌ كاشِفة ، واحتمل أَنْ تكونَ التاءُ للمبالغة كعلاَّمَة ونَسَّابة ، أي ليس لها إنسانٌ كاشفةٌ ، أي : كثيرُ الكشف ، وإن كان مصدراً فهو كالعافِية والعاقِبَة وخائِنَةِ الأَعْين ، ومعنى الكَشْفِ هنا : إمَّا مِنْ كَشَفَ الشيءَ ، أي : عَرَفَ حقيقتَه كقولِه : { لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ } ، وإمَّا مِنْ كَشَفَ الضُرَّ ، أي : أزاله ، أي : ليس لها مَنْ يُزيلها ويُنَجِّيها غيرُ اللَّهِ تعالى ، وقد تقدَّم الكلامُ على مادة « أزف » في سورة غافر .

أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59)

قوله : { أَفَمِنْ هذا الحديث } : متعلِّقٌ ب « تَعْجَبون » ولا يجيءُ فيه الإِعمالُ؛ لأنَّ مِنْ شرطِ الإِعمال تأخُّرَ المعمولِ عن العوامل ، هنا هو متقدِّمٌ . وفيه خلافٌ بعيدٌ ، وعليه تَتَخَرَّج الآيةُ الكريمةُ . فإنَّ كلاً مِنْ قولِه : تَعْجبون ، وتَضْحكون ولا تَبكون يَطْلُبُ هذا الجارَّ مِنْ حيث المعنى .
والعامَّةُ على فتح التاءِ والجيم والحاءِ مِنْ تَعْجَبون ، تَضْحكون . والحسن : بضم التاءَ وكسرِ الجيمِ والحاءِ مِنْ غيرِ واوٍ عاطفةٍ بين الفعلَيْن ، وهي أبْلَغُ : مِن حيث إنَّهم إذا أَضْحكوا غيرَهم كان تجرُّؤُهم أكثرَ . وقرأ أُبَيٌّ وعبد الله كالجماعةَ ، إلاَّ أنهما بلا واوٍ عاطفةٍ كالحسن ، فيُحتمل أَنْ تكونَ « تضحكون » حالاً ، وأَنْ تكونَ استئنافاً كالتي قبلها .

وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61)

قوله : { وَأَنتُمْ سَامِدُونَ } : هذه الجملةُ تَحْتمل أَن تكونَ مستأنفةً ، أخبرَ اللَّهُ تعالى عنهم بذلك ، وتَحْتمل أَنْ تكونَ حالاً أي : انتفى عنكم التباكي حالَ كونِكم « سامدونَ » . والسُّمُود قيل الإِعراضُ . وقيل : اللهوُ . وقيل : الجمود . وقيل : الاستكبار . قال الشاعر :
4143 رَمَى الحِدْثانُ نِسْوَةَ آلِ سَعْدٍ ... بمقدارٍ سَمَدْن له سُمودا
فرَدَّ شعرورَهن السودَ بِيْضاً ... ورَدَّ وجوهَهن البيضَ سُودا
فهذا بمعنى الجمود والخُشوع ، وقال آخر :
4144 ألا أيها الإِنسانُ إنَّك سامِدٌ ... كأنَّك لا تَفْنَى ولا أنت هالكُ
فهذا بمعنى لاهٍ لاعِبٌ ، وقال أبو عبيدة/ : « السُّمود » : الغناءُ بلغة حمير ، يقولون : يا جاريةُ اسْمُدي لنا ، أي : غَنِّي ، وقال الراغب : « السَّامِدُ : اللاهي الرافعُ رأسَه ، مِنْ قولهم : بعيرٌ سامِدٌ في سَيْرِه ، وقيل : سَمَّدَ رأسَه وسَبَّدَه ، أي : استأصلَ شَعْرَه » .

اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)

قوله : { وانشق القمر } : هذا ماضٍ على حقيقتِه وهو قولُ عامَّةِ المسلمين ، إلاَّ مَنْ لا يُلْتَفَتُ إلى قولِه ، وقد صَحَّ في الأخبار أنه انشقَّ على عهدَِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مرَّتين . وقيل : انشَقَّ بمعنى : سينشَقُّ يومَ القيامةِ ، فأوقع الماضيَ موضع المستقبلِ لتحقُّقِه ، وهو خلافُ الإِجماع . وقيل : انشَقَّ بمعنى انْفَلَقَ عنه الظلامُ عند طلوعِه ، كما يُسَمَّى الصبحُ فَلَقاً . وأنشد للنابغة :
4145 فلمَّا أَدْبَرُوا ولهُم دَوِيٌّ ... دعانا عند شَقِّ الصُّبْحِ داعي
وإنما ذَكَرْتُ لك تنبيهاً على ضَعْفِه وفسادِه .

وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2)

قوله : { مُّسْتَمِرٌّ } فيه أقوالٌ ، أحدها : أنَّ معناه : دائمٌ مُطَّرِدٌ . وكلُّ شيءٍ قد انقادَتْ طريقتُه ودامَتْ حالُه قيل فيه : استمرَّ . قاله الزمخشري . ومِنْه قولُه :
4146 ألا إنما الدنيا ليالٍ وأَعْصُرٌ ... وليسَ على شيءٍ قويمٍ بمُسْتَمِرّ
أي : بدائم باقٍ . الثاني : أنَّ معناه : مُوَثَّقٌ مُحْكَمٌ مِنْ قولِهم : أَمَرَّ الحبلَ ، أي : أَحْكَمَ فَتْلَه . قال :
4147 حتى اسْتَمَرَّتْ على شَزْرٍ مَريرتُه ... صِدْقُ العزيمةِ لا رثَّاً ولا ضَرَعا
الثالث : أنَّ معناه مارٌّ ذاهب مَنَّوْا أنفسَهم بذلك . الرابع : أنَّ معناه شديدُ المرارة . قال الزمشخري : « أي : مُسْتَبْشَعٌ عندنا ، مُرٌّ على لَهَواتنا ، ولا نَقْدِرُ أَنْ نَسِيْغَه كما لا نَسيغُ المُرَّ المَقِرَ » انتهى . يقال : مَرَّ الشيءُ بنفسِه ومَ‍رَّه غيرُه ، فيكون متعدياً ولازِماً ويقال : أَمَرَّه أيضاً . الخامس : أنَّ معناه/ مُشْبِهٌ بعضُه بعضاً ، أي : استمرَّتْ أفعالُه على هذا الحالِ . قاله الشيخ ، وهو راجِعٌ إلى المعنى الأول ، أعني الدوامَ والاطِّرادَ ، وكان هو قد حكاه قبل ذلك . وأتى بهذه الجملةِ الشرطيةِ تنبيهاً على أَنَّ حالَهم في المستقبلِ كحالِهم في الماضي . وقُرِىء « يُرَوْا » مبنياً للمفعول مِنْ أَرى .

وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3)

قوله : { وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ } : العامَّة على كسرِ القافِ ورفعِ الراءِ اسمَ فاعلٍ ورفعِه خبراً ل « كل » الواقعِ مبتدأً . وقرأ شَيْبَةُ بفتح القافِ ، وتُروَى عن نافعٍ . قال أبو حاتم : « لا وجهَ لها » وقد وَجَّهها غيرُه على حَذْفِ مضافٍ ، أي : وكلُّ أمرٍ ذو استقرار ، أو زمانَ استقرارٍ أو مكانَ استقرارٍ ، فجاز أن يكونَ مصدراً ، وأن يكون ظرفاً زمانياً أو مكانياً ، قال معناه الزمخشري .
وقرأ أبو جعفر وزيد بن علي بكسر القاف وجَرِّ الراء وفيها أوجهٌ ، أحدُها : ولم يَذْكُرْ الزمخشريُّ غيرَه أَنْ يكونَ صفةً لأمر . ويرتفعُ « كلُّ » حينئذٍ بالعطفِ على « الساعة » ، فيكونُ فاعلاً ، أي : اقتربَتِ الساعةُ وكلُّ أمرٍ مستقرٍ . قال الشيخ : « وهذا بعيدٌ لوجودِ الفصلِ بجملٍ ثلاثٍ ، وبعيدٌ أَنْ يوجدَ مثلُ هذا التركيبِ في كلام العربِ نحو : أكلتُ خبزاً ، وضربْتُ خالداً ، وإن يَجِىءْ زيدٌ أُكْرِمْه ، ورَحَل إلى بني فلان ، ولحماً ، فيكونُ » ولحماً « معطوفاً على » خبزاً « بل لا يوجَدُ مثلُه في كلام العربِ . انتهى » . قلت : وإذا دلَّ دليلٌ على المعنى فلا نبالي بالفواصلِ . وأين فصاحةُ القرآن من هذا التركيبِ الذي ركَّبه هو حتى يَقيسَه عليه في المنع؟
الثاني : أَنْ يكونَ « مُسْتقرٍ » خبراً ل « كلُّ أمرٍ » وهو مرفوعٌ ، إلاَّ أنه خُفِضَ على الجِوار ، قاله أبو الفضل الرازي . وهذا لا يجوزُ؛ لأن الجِوارَ إنما جاء في النعتِ أو العطفِ ، على خلافٍ في إثباته ، كما قدَّمْتُ لك الكلامَ فيه مستوفى في سورةِ المائدة . فكيف يُقال في خبر المبتدأ : هذا ما لا يجوزُ؟ الثالث : أنَّ خبرَ المبتدأ قولُه « حكمةٌ بالغةٌ » أخبر عن كلِّ أمرٍ مستقرٍ بأنَّه حكمةٌ بالغةٌ ، ويكون قولُه : « ولقد جاءهم من الأنباءِ ما فيه مُزْدَجَرٌ » جملةَ اعتراضٍ بين المبتدأ وخبرِه . الرابع : أنَّ الخبرَ مقدرٌ ، فقدَّره أبو البقاء : معمولٌ به ، أو أتى . وقدَّره غيرُه : بالغوه لأنَّ قبلَه { وَكَذَّبُواْ واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ } ، أي : وكلُّ أمرٍ مستقرٍّ لهم في القَدَر مِن خيرٍ أو شرٍّ بالغوه .

وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4)

قوله : { مُزْدَجَرٌ } : يجوزُ أَنْ يكونَ فاعِلاً ب « فيه »؛ لأنَّ « فيه » وقع صلةً ، وأَنْ يكونَ مبتدأ ، و « فيه » الخبرُ . والدال بدلٌ مِنْ تاءِ الافتعال . وقد تقدَّم أنَّ تاءَ الافتعال تُقْلَبُ دالاً بعد الزاي والدال والذال؛ لأنَّ الزايَ حرفٌ مجهورٌ ، والتاءَ حرفٌ مهموسٌ ، فأبدلوها إلى حرفٍ مجهورٍ قريبٍ من التاءِ ، وهو الدالُ . ومُزْدَجَر هنا اسمُ مصدرٍ ، أي : ازْدِجار ، أو اسمُ مكانٍ ، أي : موضعَ ازْدِجار . وقُرِىء « مُزَّجَر » بقَلْبِ تاءِ الافتعال زاياً ثم أُدْغِمَ . وزيد بن علي « مُزْجِر » اسمَ فاعلٍ من أَزْجر ، أي : صار ذا زَجْر كأَعْشَبَ ، أي : صار ذا عُشْبٍ .

حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5)

قوله : { حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّه بدلٌ من « ما فيه مُزْدَجر » كأنه قيل : ولقد جاءَهُمْ حكمةٌ بالغةٌ من الأنباء ، وحينئذٍ يكونُ بدلَ كلٍ مِنْ كلٍ ، أو بدلَ اشتمال . الثاني : أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ ، أي : هو حكمةٌ ، أي : ذلك الذي جاءهم . وقد تقدَّم أنه يجوزُ على قراءةِ أبي جعفرٍ وزيدٍ أَنْ يكونَ خبراً ل « كلُّ أمرٍ مستقرٍ » . وقُرِىء « حكمةً » بالنصب حالاً مِنْ « ما » قال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : إن كانَتْ » ما « موصولةً ساغ لك أَنْ تَنْصِبَ » حكمةً « حالاً ، فكيف تعمل إنْ كانت موصوفةً وهو الظاهرُ؟ قلت : تَخَصُّصُها بالصفةِ فيَحْسُنُ نَصْبُ الحالِ عنها » انتهى . وهو سؤال واضحٌ جداً .
قولَه : { فَمَا تُغْنِ النذر } يجوزُ في « ما » أَنْ تكونَ استفهاميةً ، وتكون في محلِّ نصبٍ مفعولاً مقدماً ، أي : أيُّ شيءٍ تُغْني النذرُ؟ وأن تكون نافيةً ، أي : لم تُغْنِ النذرُ شيئاً . والنُّذُرُ : جمعُ نذيرٍ المرادِ به المصدرُ أو اسمُ الفاعل ، كما تقدَّم في آخر النجم .
وكُتِب « تُغْنِ » إتباعاً لِلَفْظِ الوصلِ فإنَّها ساقطةٌ لالتقاء الساكنين : قال بعضُ النحويين : وإنما حُذِفَتْ الياءُ مِنْ « تُغْني » حَمْلاً ل « ما » على « لم » فجَزَمَتْ كما تَجْزِمُ « لم » . قال مكي : « وهذا خطأٌ؛ لأنَّ » لم « تَنْفي الماضيَ وتَرُدُّ المستقبلَ ماضياً ، و » ما « تنفي الحالَ ، فلا يجوزُ أَنْ تقعَ إحداهما موقع الأخرى لاختلافِ معنَيَيْهما » .

فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6)

قوله : { يَوْمَ يَدْعُ الداع } : منصوبٌ : إمَّا ب « اذْكُرْ » مضمرةً وهو أقربُها ، وإليه ذهب الرُّمَّاني والزمخشري ، وإمَّا ب « يَخْرُجون » بعده وإليه ذهب الزمخشريُّ أيضاً ، وإمَّا بقولِه « فما تُغْني » ، ويكون قولُه « فَتَوَلَّ عنهم » اعتراضاً ، وإمَّا منصوباً بقولِه { يَقُولُ الكافرون } [ القمر : 8 ] وفيه بُعْدٌ لبُعْدِه منه ، وإمَّا بقولِه « فَتَوَلَّ » وهو ضعيفٌ جداً؛ لأنَّ المعنى ليس أَمْرَه/ بالتوليةِ عنهم في يومِ النفخ في الصُّورِ ، وإمَّا بحذفِ الخافض ، أي فَتَوَلَّ عنهم إلى يوم؛ قاله الحسن . وضُعِّف من حيث اللفظُ ، ومن حيث المعنى . أمَّا اللفظُ : فلأنَّ إسقاطَ الخافضِ غيرُ مُنْقاسٍ . وأمَّا المعنى : فليس تَوَلِّيه عنهم مُغَيَّا بذلك الزمان ، وإمَّا ب انتظرْ مضمراً . فهذه سبعةُ أوجهٍ في ناصب « يومَ » . وحُذِفَتْ الواوُ مِنْ « يَدْعُ » خَطَّاً اتِّباعاً للِّفْظِ ، كما تقدَّم في { يُغْنِ } { وَيَمْحُ الله الباطل } [ الشورى : 24 ] وشبهِه ، والياءُ من « الداعِ » ، مبالغةً في التخفيف إجراءً لأل مُجْرى ما عاقبها وهو التنوينُ فكما تُحْذَفُ الياءُ مع التنوينِ كذلك مع ما عاقَبها .
قوله : { نُّكُرٍ } العامَّةُ على ضمِّ الكاف وهو صفةٌ على فُعُل ، وفُعُل في الصفات عزيزٌ ، منه : أمرٌ نُكُرٌ ، ورجلٌ شُلُل ، وناقةٌ أُجُد ، وروضةٌ أُنُفٌ ، ومِشْيَةٌ سُجُحٌ . وابن كثير بسكونِ الكافِ فيُحتمل أَنْ يكونَ أصلاً ، وأَنْ يكونَ مخفَّفاً مِنْ قراءةِ الجماعةِ . وقد تقدَّم لك هذا محرَّراً في اليُسْر والعُسْر في المائدة . وسُمِّي الشيءُ الشديدُ نُكُراً لأن النفوس تُنْكِره قال مالك بن عوف :
4148 اقْدُمْ مَحاجِ إنه يومٌ نُكُرْ ... مِثْلي على مِثْلِك يَحْمي ويَكُرّْ
وقرأ زيدُ بنُ علي والجحدري وأبو قلابة « نُكِرَ » فعلاً ماضياً مبنياً للمفعولِ؛ لأنَّ « نَكِرَ » يتعدى قال : { نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ } [ هود : 70 ] .

خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)

قوله : { خُشَّعاً } : قرأ أبو عمر والأخَوان « خاشِعاً » وباقي السبعة « خُشَّعاً » . فالقراءةُ الأولى جاريةٌ على اللغةِ الفُصْحى مِنْ حيث إن الفعلَ وما جرى مَجْراه إذا قُدِّمَ على الفاعلِ وُحِّد . تقول : تَخْشَع أبصارُهم ولا تقولُ : تَخْشَعْن أبصارُهم ، وأنشد قولَ الشاعر :
4149 وشَبابٍ حَسَنٍ أَوْجُهُهُمْ ... مِنْ إيادِ بنِ نزارِ بنِ مَعَدّْ
وقال آخر :
4150 يَرْمي الفِجاجَ بها الرُّكبانُ معْتَرِضاً ... أعناقَ بُزَّلِها مُرْخى لها الجُدُلُ
وأمَّا الثانيةُ فجاءَتْ على لغة طَيِّىء يقولون : أكلوني البراغيث . وقد تقدَّم القولُ في هذا مشبعاً في المائدة والأنبياء . ومثلُه قولُ الآخر :
4151 بمُطَّرِدٍ لَدْنٍ صِحاح كُعُوبُه ... وذي رَوْنَقٍ عَضْبٍ يَقُدُّ القَوانِسا
وقيل : وجمعُ التكسير في اللغة في مثل هذا أكثرُ من الإِفراد . وقرأ أُبَيٌّ وعبد الله « خاشعةً » على تَخْشَعُ هي . وقال الزمخشري : « وخُشَّعاً على : تخشَعْن أبصارهم ، وهي لغةُ مَنْ يقول : أكلوني البراغيث وهم طيىء » ، قال الشيخ : « ولا يَجْري جمعُ التكسيرِ مَجْرى جمعِ السلامةِ ، فيكون على تلك اللغةِ النادرِ القليلةِ . وقد نَصَّ سيبويه على أنَّ جمعَ التكسيرِ في كلام العربِ أكثرُ ، فكيف يكونُ أكثرَ ، ويكون على تلك اللغةِ النادرةِ القليلة؟ وكذا قال الفراء حين ذكر الإِفراد مذكراً ومؤنثاً وجمعَ التكسيرِ ، قال : » لأنَّ الصفةَ متى تَقَدَّمَتْ على الجماعة جاز فيها جميعُ ذلك ، والجمعُ موافِقٌ لِلَفْظِها فكان أشبهَ « قال الشيخ : » وإنما يُخَرَّجُ على تلك اللغةِ إذا كان الجمعُ جَمْعَ سلامةٍ نحو : « مَرَرْتُ بقومٍ كريمين آباؤُهم » والزمخشريُّ قاسَ جَمْعَ التكسيرِ على جَمْعِ السلامةِ وهو قياسٌ فاسدٌ يَرُدُّه النَّقْلُ عن العربِ : أنَّ جَمْعَ التكسيرِ أجودُ من الإِفرادِ ، كما ذكره سيبويهِ ، ودَلَّ عليه كلامُ الفراء « . قلت : قد خَرَّج الناسُ قولَ امرىء القيس :
4152 وُقوفاً بها صَحْبي عَلَيَّ مَطِيَّهُمْ ... يقولون : لا تَهْلِكْ أسىً وتَجَمَّلِ
على أنَّ » صحبي « فاعل ب » وقوفاً « وهو جمعُ واقِف في أحدِ القولين في » وقوفاً « . وفي انتصابِ خاشعاً وخُشَّعاً وخاشعةً أوجهٌ ، أحدُها : أنه مفعولٌ به وناصبُه » يَدْعُ الداعِ « وهو في الحقيقةِ لموصوفٍ محذوفٍ تقديرهُ : فريقاً خاشعاً ، أو فوجاً خاشعاً . والثاني : أنه حالٌ مِنْ فاعل » يَخْرُجون « المتأخرِ عنه . ولَمَّا كان العاملُ متصرِّفاً جاز تقدُّمُ الحالِ عليه ، وهو رَدٌّ على الجرميِّ حيث زعم أنه لا يجوزُ . ورُدَّ عليه أيضاً بقول العرب : » شَتَّى تَؤُوب الحَلَبَة « ، ف » شتى « حالٌ من » الحلَبَة « وقال الشاعر :
4153 سَريعاً يهون الصَّعْبُ عند أُولي النُّهى ... إذا برجاءٍ صادقٍ قابلوا البأسا
الثالث : أنه حالٌ من الضمير في » عنهم « ولم يذكر/ مكيٌّ غيره .

الرابع : أنه حالٌ مِنْ مفعولَ « يَدْعُو » المحذوفِ تقديره : يومَ يَدْعوهم الداعي خُشَّعاً ، فالعامل فيها « يَدْعو » ، قاله أبو البقاء . وهو تكلُّفُ ما لا حاجةَ إليه .
وارتفع « أبصارهم » على وجهين : إمَّا الفاعلية بالصفةِ قبلَه وهو الظاهرُ ، وإمَّا على البدلِ من الضمير المستتر في « خُشَّعاً » لأنَّ التقديرَ : خُشَّعاً هم . وهذا إنما يتأتَّى على قراءةِ « خُشَّعاً » فقط .
وقرِىء « خُشَّعٌ أبصارهم » على أنَّ خشعاً خبرٌ مقدمٌ و « أبصارُهُمْ » مبتدأ . والجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ وفيه الخلافُ المذكورُ مِنْ قبلُ كقوله :
4154 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وَجَدْتُه حاضِراه الجودُ والكرمُ
قوله : { يَخْرُجُونَ } يجوزُ أنْ يكونَ حالاً من الضمير في « أبصارُهم » ، وأنْ يكونَ مستأنفاً . والأَجْداث : القبورُ . وقد تقَدَّم ذكرُه في سورةِ يس .
قوله : { كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ } هذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكونَ حالاً مِنْ فاعلِ « يَخْرُجون » أو مستأنفةً . و « مُهْطِعين » حالٌ أيضاً مِنْ اسم كان أو مِنْ فاعلِ « يَخْرُجون » عند مَنْ يرى تعدُّدَ الحال . قال أبو البقاء : « ومُهْطِعين حالٌ من الضميرِ في » مُنْتَشِرٌ « عند قوم . وهو بعيدٌ؛ لأنَّ الضميرَ في » مُنتشِر « للجراد ، وإنما هو حالٌ مِنْ فاعل » يَخْرُجون « أو من الضمير المحذوف » انتهى . وهو اعتراضٌ حسنٌ على هذا القول .
والإِهْطاعُ : الإِسراعُ وأُنْشِد :
4155 بدِجلَةَ دارُهُمْ ولقد أَرَاهُمْ ... بدِجْلةَ مُهْطِعين إلى السَّماع
وقيل : الإِسراعُ مع مَدِّ العُنُق . وقيل : النظر . وأنشد :
4156 تَعَبَّدَني نِمْرُ بنُ سَعْدٍ وقد أُرَى ... ونِمْرُ بنُ سَعْدٍ لي مُطيعٌ ومُهْطِعُ
وقد تقدَّم الكلامُ على هذه المادةِ في سورة إبراهيم . قوله : { يَقُولُ الكافرون } قال أبو البقاء : « حالٌ من الضمير في » مُهْطعين « . وفيه نظرٌ من حيث خلوُّ الجملةِ مِنْ رابطٍ يَرْبُطُها بذي الحال . وقد يُجابُ عنه : بأنَّ » الكافرون « هم الضميرُ في المعنى ، فيكونُ من باب الربطِ بالاسمِ الظاهر عند مَنْ يرى ذلك ، كأنه قيل : يقولون هذا . وإنما أَبْرزهم تشنيعاً عليهم بهذه الصفةِ القبيحةِ .

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9)

قوله : { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ } : مفعولُه محذوفٌ ، أي : كَذَّبَتِ الرسلَ؛ لأنهم لَمَّا كذَّبوا نوحاً عليه السلام فقد كَذَّبوا جميعَ الرسل . ولا يجوزُ أَنْ تكونَ المسألةُ من باب التنازع؛ إذ لو كان منه لكان التقدير : كَذَّبَتْ قبلَهم قومُ نوحٍ عبدَنا فكذَّبوه ، ولو لُفِظ بهذا لكان تأكيداً ، إذ لم يُفِدْ غيرَ الأولِ . وشرطُ التنازعِ أَنْ لا يكونَ الثاني تأكيداً ، لذلك منعوا أَنْ يكونَ قولُه :
4175 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... أتاكِ أتاكِ اللاحقون احْبِسِ احبسِ
من ذلك . وفي كلامِ الزمخشريِّ ما يُجَوِّزُه فإنه أخرجه عن التأكيدِ فقال : « فإنْ قلتَ ما معنى قولِه » فكذَّبوا « بعد قولِه » كَذَّبَتْ «؟ قلت : معناه كذَّبوا فكذَّبوا عبَدنا أي : كذَّبوه تكذيباً عَقِبَ تكذيبٍ كلما مضى منهم قَرَنٌ مُكَذِّبٌ تَبِعه قرنٌ مكذبٌ » فهذا معنى حسن يسوغُ معه التنازعُ . و « مجنون » خبرُ ابتداءٍ مضمر أي : هو مجنون . والدالُ في « ازْدُجِر » بدلٌ مِنْ تاء كما تَقَدَّم . وهل هو مِنْ مَقولِهم ، أي : قالوا : إنه ازْدُجِرَ ، أي : ازْدَجَرَتَهُ الجنُّ ، وذهبَتْ بلُبِّه ، قاله مجاهد ، أو هو مِنْ كلام الله تعالى ، أخبر عنه : بأنه انْتُهِر وزُجِرَ بالسبِّ وأنواع الأذى .

فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10)

قوله : { أَنِّي مَغْلُوبٌ } : العامَّةُ على فتح الهمزة ، أي : دعاه بأني مغلوبٌ وجاء هذا على حكاية المعنى ولو جاء على حكاية اللفظِ لقال : إنه مغلوبٌ ، وهما جائزان . وقرأ ابنُ أبي إسحاق والأعمشُ ورُويت عن عاصمٍ بالكسر : إمَّا على إضمارِ القولِ ، أي : فقال ، فَسَّر به الدعاءَ ، وهو مذهبُ البصريين ، وإمَّا إجراءً للدعاءِ مُجْرى القولِ وهو مذهبُ الكوفيين . وقد تقدَّم الخلاف في « فَتَحْنا » في الأنعام ولله الحمد .

فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11)

قوله : { مُّنْهَمِرٍ } : المنهمر : الغزيرُ النازلُ بقوة . وأُنشد :
4158 راحَ تَمْرِيْه الصَّبا ثم انتحى ... فيه شُؤْبُوْبُ جَنوبٍ مُنْهَمِرْ
/ واسْتُعير ذلك في قولهم : هَمَر الرجلُ في كلامِه ، وفلانٌ يُهامِر الشيءَ ، أي : يَجْرُفُهُ ، وهَمَرَه مِنْ ماله : أعطاه بكثرةٍ .
وفي الباء في « بماء » وجهان ، أظهرهما : أنها للتعدية ويكونُ ذلك على المبالغة في أنه جَعَلَ الماءَ كالآلةِ المُفْتتحِ بها كما تقول : فَتَحْتُ بالمفتاح . والثاني : أنها للحال ، أي : فَتَحْناها ملتبسةً بهذا الماء . وقرأ عبد الله وأبو حيوة وعاصم في رواية « وفَجَرْنا » مخففاً ، والباقون مثقلاً .

وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12)

قوله : { عُيُوناً } : فيه أوجهٌ ، أشهرها : أنه تمييزٌ ، أي : فَجَّرْنا عيونَ الأرض فنَقله من المفعوليةِ إلى التمييز ، كما يُنقل من الفاعلية .
ومنعه بعضُهم ، وتأوَّل هذه الآية على ما سيأتي : { وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً } أبلغُ مِنْ « فَجَّرْنا عيونَ الأرض » لِما ذُكِر في نظيرِه غيرَه مرةٍ . الثاني : أنه منصوبٌ على البدلِ من « الأرض » . ويُضْعِفُ هذا خُلُوُّه من الضميرِ فإنه بدلُ بعضٍ مِنْ كل . ويُجاب عنه : بأنَّه محذوفٌ ، أي : عيوناً منها كقوله { الأخدود النار } [ البروج : 4-5 ] فالنار بدلُ اشتمالٍ . ولا ضميرَ فهو مقدرٌ . الثالث : أنه مفعولٌ ثانٍ لأنه ضُمِّن « فَجَّرنا » معنى صَيَّرْناها بالتفجير عيوناً . الرابع : أنها حالٌ . وفيه تَجَوُّزان : حَذْفُ مضافٍ ، أي : ذات عيون ، وكونُها حالاً مقدرة لا مقارنةً .
قوله : { فَالْتَقَى المآء } لَمَّا كان المرادُ بالماءِ الجنسَ صَحَّ أَنْ يُقالَ : فالتقى الماء ، كأنه : فالتقى ماءُ السماء وماءُ الأرض . وهذه قراءة العامَّة . وقرأ الحسن والجحدري ومحمد بن كعب ، وتُرْوَى عن أمير المؤمنين أيضاً « الماءان » يتثنيةٍ ، والهمزةُ سالمةٌ . وقرأ الحسن أيضاً « الماوان » بقَلْبها واواً . قال الزمخشري : « كقولهم : عِلْباوان يعني : أنه شَبَّه الهمزةَ المقلبةَ عن هاء بهمزةِ الإِلحاق . ورُوِي عنه أيضاً » المايان « بقَلْبها ياءً وهي أشدُّ مِمَّا قبلَها .
وقوله : { قَدْ قُدِرَ } العامَّةُ على التخفيفِ . وقرأ ابنُ مقسم وأبو حيوةَ بالتشديد ، وهما لغتان قُرِىء بهما : قولُه { قَدَّرَ فهدى } [ الأعلى : 3 ] ، { قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } [ الطلاق : 7 ] كما سيأتي .

وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13)

قوله : { ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ } : ، أي : سفينةٌ ذاتُ ألواحٍ قال الزمخشري : وهي من الصفات التي تقوم مَقام الموصوفات فتنوب مَنابها وتؤدي مُؤَدَّاها ، بحيث لا يُفْصَلُ بينها وبينها . ونحوه :
4159 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ولكنْ ... نَ قميصي مَسْرودةٌ مِنْ حديدِ
أراد : ولكنَّ قميصي دِرْع . وكذلك :
4160 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولو في عيونِ النازياتِ بأَكْرُعِ
أراد : ولو في عين الجَراد . ألا ترى أنَّك لو جَمَعْتَ بين السفينة وبين هذه الصفاتِ أو بين عيونِ الجراد والدِّرْع وهاتَيْن الصفتَيْن لم يَصِحَّ ، وهذا من فصيحِ الكلام وبديعِه « . والدُّسُرُ : فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه المساميرُ جمع دِسار نحو : كُتُب في جمع كِتاب . وقال الزمخشري : » جمعُ دِسار وهو المِسمارُ فِعال ، مِنْ دَسَره إذا دَفَعه؛ لأنه يُدْسَرُ به مَنْفَذُه « وقال الراغب : » الواحدُ دَسْر يعني فيكونُ مثلَ : سَقْف وسُقُف وأصل الدِّسْرِ الدَّفْعُ الشديدُ بقَهْر ، دَسَرَه بالرُّمْح ، ومِدْسَرٌ مثلُ مِطْعَنْ ورُوِي : « ليس في العَنْبَر زكاةٌ إنما هو شيءٌ دَسَرَه البحرُ » ، أي : دفعه . الثاني : أنها الخيوطُ التي تُشَدُّ بها السفنُ . الثالث : أنها عَوارِضُ السفينة . الرابع : أنها أضلاعُها .

تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14)

قوله : { بِأَعْيُنِنَا } : أي : مُلْتبسةً بحِفْظِنا وهو في المعنى كقولِه تعالى : { وَلِتُصْنَعَ على عيني } [ طه : 39 ] . وقرأ زيد بن علي وأبو السَّمَّال « بأَعْيُنَّا » بالإِدغام .
قوله : { جَزَآءً } منصوبٌ على المفعولِ له ناصبُه « فَفَتْحْنا » وما بعده . وقيل : منصوب على المصدرِ : إمَّا بفعلٍ مقدرٍ ، ي : جازَيْناهم جزاءً ، وإمَّا على التجوُّزِ : / بأنَّ معنى الأفعالِ المتقدِّمة : جازَيْناهم بها جزاءً .
قوله : { لِّمَن كَانَ كُفِرَ } العامَّةُ على « كُفِرَ » مبنياً للمفعول والمرادُ ب مَنْ كُفِر نوحٌ عليه السلام ، أو الباري تعالى . وقرأ مسلمة به محارب « كُفْر » بإسكان الفاء كقوله :
4161 لو عُصْرَ منه المِسْكُ والبانُ انعصَرْ ... وقرأ يزيد بن رومان وعيسى وقتادة « كَفَر » مبنياً للفاعل . والمرادُ ب « مَنْ » حينئذٍ قومُ نوحٍ . و « كُفِرَ » خبرُ كان . وفيه دليلُ على وقوع خبر كان ماضياً مِنْ غير « قد » وبعضُهم يقولُ : لا بُدَّ من « قَدْ » ظاهرةً أو مضمرةً . ويجوز أَنْ تكونَ « كان » مزيدةً . وضميرُ « تَرَكْناها » إمَّا للقصة . أو الفَعْلة ، أو السفينة ، وهو الظاهرُ .

وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15)

قوله : { مُّدَّكِرٍ } : أصلُه مُذْتَكِر ، فأُبْدِلت التاءُ دالاً مهملة ، ثم أُبْدِلت المعجمة مهملةً لمقاربتها وقد تَقَدَّم هذا في قوله : { وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ } [ يوسف : 45 ] . وقد قُرِىء « مُذْتكِر » بهذا الأصلِ وقرأ قتادة فيما نَقَل عنه أبو الفضل « مُذَكِّر » بفتح الذالِ مخففةً وتشديد القاف مِنْ ذَكَّر بالتشديد ، أي : ذكر نفسه أو غيره بما مضى مِنْ قَصَص الأولين . ونَقَلَ عنه ابنُ عطية كالجماعة ، إلاَّ أنَّه بالذال المعجمة وهو شاذٌّ ، لأنَّ الأولَ يُقْلَبُ للثاني ، لا الثاني للأولِ .

فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16)

قوله : { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي } : « كان » الظاهرُ فيها أنها ناقصةٌ ف « كيف » خبرٌ مقدمٌ . وقيل : يجوزُ أَنْ تكون تامة فتكون « كيف » في محلِّ نصبٍ : إمَّا على الظرف ، وإمَّا على الحال ، كما تقدَّم تحقيقُه في البقرة .

وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)

ومعنى يَسَّرْنا القرآن : هَيَّأْناه للذِّكْر مِنْ قولِهم : يَسَّر فَرَسَه ، أي : هَيَّأه للركوب بإلْجامِه . قال الشاعر :
4162 فَقُمتُ إليه باللِّجام مُيَسَّراً ... هنالك يَجْزِيني الذي كنتُ أصنع

إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19)

قوله : { صَرْصَراً } : أي الشديدةُ الصوتِ مِنْ صَرْصَرَ البابُ أو القلمُ إذا صوَّت ، أو الشديدة البرد مِنْ الصِّرِّ وهو البرد . وهو كله أصولٌ عند الجمهور . وقال مكي : أصلُه صَرَّر مِنْ صرَّ البابُ إذا صَوَّتَ لكنْ أبدلوا من الراء المشدة صاداً « . قلت : وهذا قول الكوفيين . ومثلُه : كَبْكَبَ وكَفْكَفَ ، وتقدَّم هذا في فُصِّلَتْ وغيرها .
قولُه : { يَوْمِ نَحْسٍ } العامّةُ على إضافة » يوم « إلى » نَحْس « بسكونِ الحاءِ . وفيه وجهان ، أحدهما : أنَّه من إضافة الموصوف إلى صفتِه . والثاني : وهو قَولُ البصريين أنه صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ ، أي : يوم عذابِ نحس ، وقرأ الحسن بتنوينه ووَصْفِه ب نَحْس ، ولم يُقَيِّدْه الزمخشريُّ بكسر الحاء . وقَيَّده الشيخ . وقد قُرِىء قولُه تعالى { في أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ } [ فصلت : 16 ] بسكونِ الحاءِ وكسرِها . وتنوين » أيام « عند الجميع كما تقدَّم تقريره » ومُسْتمر « صفةٌ ل » يوم « أو » نَحْسٍِ « ومعناه كما تَقدَّم ، أي : دامَ عليهم حتى أهلكهمِ أو مِنْ المرارة .

تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20)

و « تَنْزِعُ » في موضع نصبٍ إمَّا نعتاً ل « ريحاً » ، وإمَّا حالاً منها لتخصُّصِها بالصفةِ ويجوزُ أن تكون مستأنفةً . وقال « الناس » لتَضُمَّ ذَكَرهم وأُنثاهم ، فأوقع الظاهر موقعَ المضمرِ لذلك ، وإلاَّ فالأصلُ : تَنْزِعُهم .
قوله : { كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ } حالٌ من الناسِ مقدرةً . و « مُنْقَعِر » صفةً ل « نَخْلٍ » باعتبار الجنس ، ولو أَنَّثَ لاعتبر معنى الجماعة ، كقوله { نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } [ الخاقة : 7 ] وقد تقدَّم تحقيق اللغتين فيه ، وإنما ذَكَّر هنا وأَنَّثَ في الحاقةِ مراعاةً للفواصل في الموضعَيْن . وقرأ أبو نهيك « أَعْجُزُ » على وزن أَفْعُل نحو : ضَبُع وأضْبُع ، وقيل : الكاف في موضع نصبٍ بفعل مقدرٍ تقديرُه : فتركهم كأنهم أعجازٌ ، قاله مكي ، ولو جُعِلَ مفعولاً ثانياً على التضمين ، أي : يُصَيِّرهم بالنَّزْع كأنهم ، لكان أقربَ .
والأَعْجاز : جمعُ عَجُزٍ وهو مُؤَخَّرُ الشيءِ ومنه « العَجْزُ » لأنه يُؤَدِّي إلى تأخُّرِ الأمورِ . والمُنْقَعِرُ : المُنْقَلعُ مِنْ أصله ، قَعَرْتُ النخلةَ : قَلَعْتُها مِنْ أصلها فانقَعَرَتْ . وقَعَرْتُ البئر : وصَلْتُ إلى قعرها . وقَعَرْتُ الإِناء : شَربْتُ ما فيه حتى وَصَلْتُ إلى قَعْرِه ، وأَقْعَرْتُ البئر : ، أي : جعلتُ لها قَعْراً ، وقَعَرْتُها : وَصَلْتُ إلى قَعْرها .

فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24)

قوله : { أَبَشَراً } : منصوبٌ على الاشتغالِ ، وهو الراجحُ ، لتقدُّم أداةٍ هي بالفعل أَوْلَى ، « ومِنَّا » نعتٌ له . و « واحداً » فيه وجهان ، أظهرهما : أنه نعتٌ ل « بَشَراً » إلاَّ أنه يُشْكِلُ عليه تقديمُ الصفةِ المؤولة على الصريحة . ويُجاب : بأنَّ « مِنَّا » حينئذ ليس وَصْفاً بل حالٌ من « واحداً » قُدِّمَ عليه . والثاني : أنه نصبٌ على الحالِ من هاء « نَتَّبِعُه » وهو تخلُّصٌ من الإِعرابِ المتقدِّم . إلاَّ أنَّ المُرجِّحَ لكونه صفةً قراءتهما مرفوعَيْنِ : أبَشرٌ مِنا واحد نَتَّبِعُهُ على ما سيأتي فهذا يُرَجِّحُ كونَ/ « واحداً » نعتاً ل « بشراً » لا حالاً . وقرأ أبو السَّمَّال فيما نقل الهذلِيُّ والدانيُّ برفعِهما على الابتداء ، و « واحدٌ » صفتُه « ونَتَّبعهُ » خبرُه . وقرأ أبو السَّمَّال أيضاً ، فيما نَقَل ابن خالويه وأبو الفضل وابن عطية برفع « بَشَرٌ » ونصب « واحداً » وفيه أوجهٌ ، أحدُها : أن يكونَ « أبَشَرٌ » مبتدأًً ، وخبرُه مضمر ، تقديره : أَبَشَرٌ منا ، يُبْعَثُ إلينا أو يُرْسَلُ . وأمَّا انتصابُ « واحداً » ففيه وجهان ، أحدهما : أنَّه حالٌ من هاء بالابتداءِ أيضاً ، والخبر « نَتَّبِعُه » و « واحداً » حالٌ على الوجهَيْن المذكورَين آنفاً . الثالث : أنه مرفوعٌ بفعلٍ مضمر مبني للمفعول تقديره : أيُنَبَّأُ بَشَرٌ و « مِنَّا » نعتٌ و « واحداً » حالٌ أيضاً على الوجهَيْن المذكورَيْن آنفاً . وإليه ذهبَ ابنُ عطية .
قوله : { وَسُعُرٍ } يجوزُ أن يكون مفرداً ، أي : جنون . يقال : ناقةٌ مَسْعُورة ، أي : كالمجنونة في سَيْرها . قال الشاعر :
4163 كأنَّ بها سُعْراً إذا العِيْسُ هَزَّها ... ذَمِيْلٌ وإرْخاءٌ من السير متعبُ
وأَنْ يكونَ جمعَ سَعير ، وهو النار ، والاحتمالان منقولان .

أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25)

قوله : { مِن بَيْنِنَا } : حالٌ من هاء « عليه » ، أي : أَلْقى عليه منفرداً مِنْ بيننا .
قوله : { أَشِرٌ } الأَشِرُ : البَطِرُ . يقال : أَشِر يأْشَر أَشَراً فهو أشِرٌ كفَرِح ، وآشِر كضارب ، وأشْران كسَكران ، وأُشارى كسُكارى . وقرأ أبو قُلابةِ وجعلهما أَفْعَلَ تفضيلٍ تقول : زيدٌ خيرٌ مِنْ عمروٍ وشرٌّ مِنْ بكر . ولا نقول : أَخْبرُ ولا أَشَرُّ إلاَّ في نُدورٍ كهذه القراءة وكقول رُؤْبة :
4164 بِلالُ خيرُ الناسِ وابنُ الأَخْيَرِ ... وَثَبَتَتْ فيهما في التعجب نحو : ما أَخْيره وما أشَرَّه . ولا تُحْذَفُ إلاَّ في نُدورٍ عكسَ أفعل التفضيل . قالوا : « ما خيرَ اللبنِ للصحيح وما شَرَّه للمبطون » وهذا مِنْ محاسِن الصناعة . وقرأ أبو قيس الأوْدِيُّ ، ومجاهد الحرفَ الثاني « الأُشُرُ » ثلاث ضماتٍ . وتخريجها : على أنَّ فيه لغةَ « أَشُر » بضم الشين كحَذُر وحذِر ، ثم ضُمَّت الهمزة على أصلِ تيْكَ اللغةِ كحَذُر .

إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27)

قوله : { فِتْنَةً } : مفعولٌ له أو مصدرٌ من معنى الأول ، أو في موضع الحال .

وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28)

وقرأ العامة « قِسْمَةٌ » بكسر القاف . ورُوي عن أبي عمروٍ فتُحها وهو قياس المَرَّةِ . والضمير في « بَيْنَهم » لقوم صالحٍ والناقة ، فغلَّب العاقلَ .

فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29)

قوله : { فَنَادَوْاْ } : قبله محذوفٌ ، أي : فتمادَوْا على ذلك ثم مَلُّوْهُ فعزمُوا على عَقْرِها فنادَوْا صاحبَهم/ وتَعاطَى : مطاوعُ عاطَى ، كأنهم كانوا يتدافَعُونْ ذلك حتى تَوَلاَّه أَشْقاها .

إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31)

قوله : { كَهَشِيمِ المحتظر } : العامَّةُ على كسر الظاء اسمَ فَاعلٍ وهو الذي يَتَّخِذُ حَظيرةً مِنْ حَطَب وغيرِه . وقرأ أبو السَّمَّال وأبو حيوة وأبو رجاء وعمرو بن عبيد بفتحها . فقيل : هو مصدرٌ ، أي : كَهَشِيم الاحتظار وقيل : هو مكانٍ . وقيل هم اسمُ مفعولٍ وهو الهَشيمُ نفسهُ ، ويكون من بابِ إضافةِ الموصوفِ لصفتِه كمسجدِ الجامع . والحَظْرُ : المَنْعُ ، وقد تقدَّم تحريرُه في سبحان .

إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34)

قوله : { إِلاَّ آلَ لُوطٍ } : فيه وجهان ، أحدهما : أنه مُتصلٌ ويكون المعنى : أنه أرسل الحاصِبَ على الجميع إلاَّ أهلَه فإنه لم يرسِلْ عليهم . والثاني : أنه منقطعٌ ، ولا أدري ما وجهُه؟ فإنَّ الانقطاعَ وعدمَه عبارةٌ عن عدم دخولِ المستثنى في المستثنى منه ، وهذا داخلٌ ليس إلا . وقال أبو البقاء : « هو استثناءٌ منقطعٌ . وقيل : متصلٌ ، لأنَّ الجميع أُرْسِلَ عليهم الحاصبُ فهَلَكوا إلاَّ آل لوطٍ . وعلى الوجهِ الأولِ يكون الحاصِبُ لم يُرْسَلْ على آلِ لوطٍ » انتهى . وهو كلامٌ مُشْكِلٌ .
وقوله : { نَّجَّيْنَاهُم } تفسيرٌ وجوابٌ لقائلٍ يقولُ : فما كان مِنْ شأنِ آلِ لوطٍ؟ كقولِه « أبى » بعد قولِه { إِلاَّ إِبْلِيسَ } [ البقرة : 34 ] وقد تقدَّم في البقرة .
« وبسَحَرٍ » الباءُ حاليةٌ أو ظرفيةٌ . وانصرف « سَحَر » لأنه نكرةٌ ، ولو قُصِدَ به وقتٌ بعينِه لمُنعَ للتعريفِ والعَدْلِ عن أل ، هذا هو المشهورُ وزعم صدرُ الأفاضل أنه مبنيُّ على الفتح كأمسِ مبنياً على الكسر .

نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35)

قوله : { نِّعْمَةً } : إمَّا مفعولٌ به ، وإمَّا مصدرٌ بفعلٍ مِنْ لفظِها ، أو مِنْ معنى « نَجَّيْناهم » لأنَّ تَنْجِيَتَهم إنعامٌ ، فالتأويلُ : إمَّا في العامل ، وإمَّا في المصدر « ومِنْ عندِنا » : إمَّا متعلقٌ بنعمة ، وإمَّا بمحذوفٍ صفةً لها . والكاف في « كذلك » نعتُ مصدرٍ محذوفٍ ، أي : مثلَ ذلك الجزاء نَجْزِي . وقرأ العامَّةُ « فَطَمَسْنا » مخففاً . وابن مقسم مُشَدَّداً على التكثيرِ لأجلِ المتعلَّق أو لشِدَّة الفعلِ في نفسِه .

وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38)

قوله : { بُكْرَةً } : انصرفَ لأنه نكرةٌ ، ولو قُصِد به وقتٌ بعينه امتنع للتعريف والتأنيثِ . وهذا كما تقدَّم في « غُدْوة » ومَنَعَها زيد بن علي الصرفَ ، ذَهَب بها إلى وقتٍ بعينه .

كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42)

قوله : { أَخْذَ عَزِيزٍ } : مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه .

أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44)

و : { أَمْ يَقُولُونَ } : العامَّةُ على الغَيْبة التفاتاً . وأبو حيوة وأبو البرهسم وموسى الأسواري بالخطاب جَرْياً على ما تقدَّم مِنْ قوله « أكُفَّاركم » إلى آخره .

سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)

والعامَّةُ على « سَيُهْزَمُ » مبنياً للمفعول . « والجَمْعُ » مرفوعٌ به . وقُرِىء « ستَهْزِمُ » بفتح التاء خطاباً للرسول عليه السلام ، « الجمعَ » مفعولٌ به ، وأبو حيوة في روايةٍ ويعقوب « سَنَهْزِمُ » بنونِ المعظِّمِ نفسَه ، و « الجمعَ » منصوبٌ أيضاً ، ورُوِيَ عن أبي حيوة أيضاً وابن أبي عبلة « سَيَهْزِمُ » بياء الغَيْبة مبنياً للفاعل ، « الجمعَ » منصوبٌ ، أي : سَيَهْزِمُ اللهُ الجمعَ . « ويُوَلُّوْن » العامَّة على الغَيْبة . وأبو حيوة وأبو عمروٍ في روايةٍ « وتُوَلُّون » بتاء الخطاب ، وهي واضحةٌ .
والدُّبُرُ هنا : اسمُ جنسٍ . وحَسُنَ هنا لوقوعِه فاصلةً بخلافِ { لَيُوَلُّنَّ الأدبار } [ الحشر : 12 ] . وقال الزمشخري : « أي : الأدبار ، كما قال :
4166 كُلُوا في بَعْضِ بَطْنِكُمُ تَعِفُّوا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقُرىء » الإِدْبار « . قال الشيخ : » وليس مثل/ « بعضِ بَطْنكم » لأن الإِفراد هنا له مُحَسِّنٌ ولا مُحَسِّنٌ لإِفرادِ « بَطْنكم » .

يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48)

قوله : { ذُوقُواْ } : على إرادةِ القولِ ، وقرأ أبو عمروٍ وفي روايةِ محبوبٍ عنه « مَسَّقَر » وخَطَّأه ابن مجاهد . وهو معذورٌ لأنَّ السينَ الأخيرةَ مِنْ « مَسَّ » مُدْغَم فيها فلا تُدْغَمُ في غيرها لأنها متى أُدْغِم فيها لَزِم تحريكُها ، ومتى أُدْغمت هي لَزِم سكونُها فتنافس الجَمْعُ بينهما . قال الشيخ : « والظَّنُّ بأبي عمروٍ أنه لم يُدْغِمْ حتى حَذَفَ أحد الحرفينِ ، لاجتماع الأمثال ثم أَدْغم » قلت : كلامُ ابن مجاهد إنما هو فيما قالوه إنه أدغم ، أمَّا إذا حَذَفَ وأَدْغَمَ فلا إشكالَ .
« وسَقَر » عَلَمٌ لجهنم أعاذَنا اللَّهُ منها مشتقةٌ مِنْ سَقَرَتْه الشمسُ والنارُ ، أي : لَوَّحَتْه ويُقال : صَقَرَتْه بالصاد ، وهي مبدلَةٌ من السين لأجل القاف . قال ذو الرمة :
4167 إذا ذابتِ الشمسُ اتَّقى صَقَراتِها ... بأَفْنانِ مَرْبوع الصَّريمةِ مُعْبِلِ
« وسَقَر » متحتمُ المنعِ؛ لأن حركةَ الوسطِ تَنَزَّلَتْ مَنْزِلةَ الحرفِ الرابع كعَقْرب وزينب .

إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)

قوله : { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ } : العامَّةُ على نصب « كل » على الاشتغال وأبو السَّمَّال بالرفع . وقد رَجَّحَ الناسُ ، بل بعضُهم أوجبَ النصبَ قال : لأن الرفعَ يُوْهِمُ ما لا يجوزُ على قواعد أهل السُّنَّة . وذلك أنه إذا رُفع « كل شيء » كان مبتدأً « وخَلَقْناه » صفةٌ ل « كل » أو لشيء . و « بقَدَر » خبرهُ . وحينئذٍ يكون له مفهومٌ لا يَخْفَى على متأمِّله ، فيلزَمُ أن يكون الشيءُ الذي ليس مخلوقاً لله تعالى لا بَقَدَر ، كذا قَدَّره بعضُهم . وقال أبو البقاء : « وإنما كان النصبُ أَوْلى لدلالتِه على عموم الخَلْقِ ، والرفعُ لا يدلُّ على عمومِه ، بل يُفيد أنَّ كل شيءٍ مخلوقٌ فهو بقدر » . وقال مكي بن أبي طالب : « كان الاختيارُ على أصول البَصْريين رفع » كل « كما أن الاختيارَ عندهم في قولك » زيدٌ ضربْتُه « الرفعُ ، والاختيارُ عند الكوفيين النصبُ فيه بخلاف قولِنا » زيد أكرمتُه « لأنه قد تقدَّم في الآية شيءٌ عَمِل فيما بعده وهو » إنَّ « والاختيارُ عندهم النصبُ فيه . وقد أجمع القرّاءُ على النصبِ ف » كل « على الاختيار فيه عند الكوفيين لِيَدُلُّ ذلك على عموم الأشياء المخلوقاتِ أنها لله تعالى بخلافِ ما قاله أهلُ الزَيْغِ مِنْ أنَّ ثمَّ مخلوقاتٍ لغير الله تعالى ، وإنما دلَّ النصبُ في » كلَّ « على العموم؛ لأن التقديرَ : إنَّا خَلَقْنا كلَّ شيء خَلَقْناه بَقَدَر ، فَخَلَقْناه تأكيدٌ وتفسيرٌ ل » خَلَقْنا « المضمر الناصبِ ل » كلَّ « . وإذا حَذَفْتَه وأَظْهَرْت الأولَ صار التقديرُ : إنَّا خَلَقْناه كلَّ شيءٍ بَقدَر ، فهذا لفظٌ عامٌ يَعُمُّ جميع المخلوقاتِ . ولا يجوز أَنْ يكون » خَلَقْناه « صفةً ل » شيءٍ « لأنَّ الصفةَ والصلةَ لا يعملان فيما قبل الموصوفِ ولا الموصولِ ، ولا يكونان تفسيراً لِما يعملُ فيما قبلهما ، فإذا لم يَبْقَ » خَلَقْناه « صفةً لم يَبْقَ إلاَّ أنه تأكيدٌ وتفسيرٌ للمضمر النصب ، وذلك يَدُلُّ على العموم . وأيضاً فإن النصبَ هو الاختيارُ لأنَّ » إنَّا « عندهم يَطلبُ الفعلَ فهو أَوْلى به ، فالنصبُ عندهم في » كل « هو الاختيارُ ، فإذا انضاف إليه معنى العموم والخروج عن الشُبَهِ كان النصبُ أَوْلى من الرفع » .
وقال ابن عطية : / « وقومٌ من أهلِ السُّنَّة بالرفع » . وقال أبو الفتح : « هو الوجهُ في العربية ، وقراءتُنا بالنصب مع الجماعة » . وقال الزمخشري : « كلَّ شيء » منصوبٌ بفعلٍ مضمرٍ يُفَسِّره الظاهرُ . وقُرِىء « كلُّ شيءٍ » بالرفع . والقَدْر والقَدَر : التقديرُ ، وقُرِىء بهما ، أي : خَلَقْنا كلَّ شيء مُقَدَّراً مُحْكَماً مُرَتَّباً على حَسَبِ ما اقْتَضَتْه الحكمةُ أو مُقَدَّراً مكتوباً في اللوح ، معلوماً قبل كونِه قد عَلِمْنا حاله وزمانَه « انتهى .

وهو هنا لم يَتَعَصَّبْ للمعتزلةِ لضعفِ وجهِ الرفع .
وقال قومٌ : إذا كان الفعل يُتَوَهَّمُ فيه الوصفُ وأنَّ ما بعدَه يَصْلُحُ للخبر ، وكان المعنى على أن يكون الفعلُ هو الخبرَ اختير النصبُ في الاسمِ الأولِ حتى يتضحَ أنَّ الفعل ليس بوصفٍ ، ومنه هذا الموضعُ؛ لأنَّ قراءة الرفع تُخَيِّل أنَّ الفعلَ وصفٌ ، وأن الخبرَ « بقدَر » . وقد تنازع أهلُ السنة والقَدَرِيَّة الاستدلال بهذه الآية : فأهلُ السُّنَّة يقولون : كلُّ شيء مخلوقٌ لله تعالى بقَدَرٍ ، ودليلُهم قراءة النصبِ لأنه لا يُفَسَّر في هذا التركيب إلاَّ ما يَصِحُّ أن يكون خبراً لو رُفِع الأولُ على الابتداء . وقال القَدَرية : القَراءةُ برفع « كل » و « خَلَقْناه » في موضع الصفة ل « كل » ، أي : إنَّ أمْرَنا أو شأنَنا : كلُّ شيء خَلَقْناه فهو بَقَدر أو بمقدار ، وعلى حَدِّ ما في هيئتهِ وزمنِه .
وقال بعضُ العلماء : في القَدَر هنا وجوهٌ ، أحدها : أنه المقدارُ في ذاتِه وفي صفاته . والثاني : التقديرُ كقولِهِ { فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القادرون } [ المرسلات : 23 ] . وقال الشاعر :
4168 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وقَد قَدَّر الرحمنُ ما هو قادِرُ
أي : ما هو مُقَدَّر . والثالث : القَدَرُ الذي يُقال مع القضاء كقولِكَ : كان بقضاءِ اللهِ وقَدَرِه فقوله « بقَدَرٍ » على قراءة النصب متعلِّقٌ بالفعل الناصب وفي قراءةِ الرفع في محلِّ رفع ، لأنه خبرٌ ل « كل » و « كل » وخبرُها في محل رفع خبراً ل إنَّ .

وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52)

وسيأتي قريباً آيةٌ عكسَ هذه أعني في اختيار الرفع وهي قولُه { وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزبر } فإنَّه لم يختلف في رفعِه قالوا لأنَّ نصبَه يُؤدَّي إلى فسادِ المعنى لأنَّ الواقعَ خلافُه ، وذلك أنَّك لو نَصَبْتَه لكان التقديرُ : فعلوا كلَّ شيءٍ في الزبُر ، وهو خلافُ الواقع؛ إذ في الزُّبُر أشياءُ كثيرةٌ جداً لم يفعلوها . وأمَّا قراءةُ الرفعِ فتؤَدِّي أنَّ كلَّ شيءٍ فعلوه هم ، ثابتٌ في الزُبُر وهو المقصود فلذلك اتُّفِقَ على رفعِه ، وهذان الموضعان مِنْ نُكَتِ المسائلِ العربيةِ التي اتَّفق مجيئُها في سورةٍ واحدةٍ في مكانَيْن متقاربين ومما يَدُلُّ على جلالةِ علمِ الإِعراب وإفهامهِ المعانيَ الغامضةَ . والجاهلون لأهل العلم أعداءٌ .

وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53)

وقرأ العامَّةُ « مُسْتَطَرٌ » بتخفيف التاءِ من السَّطر وهو الكَتْبُ ، أي : مُكْتَتب . وقرأ الأعمش وعمران بن حدير وتُرْوَى عن عاصم بتشديدها . وفيه وجهان . أحدهما : أنه مشتقٌ مِنْ طَرَّ الشاربُ والنبات ، أي : ظهر ونَبَتَ ، بمعنى : أنَّ كلَّ شيءٍ قلَّ أو كثُر ظاهرٌ في اللوح غيرُ خفي ، فوزنُه مُسْتَفْعَل كمُسْتَخْرج . والثاني : أنَّه من الاستطار ، كالقراءة العامة وإنما شُدِّدَت الراءُ من أجل الوقفِ كقولهم : « هذا جَعْفَرّْ وفَرَجّْ » ثم أُجري الوصلُ مُجرى الوقف فوزنه مُفْتَعَلَ كقراءة الجمهور .

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54)

قوله : { نَهَرٍ } : العامةُ بالإِفرادِ وهو اسمُ جنسٍ بدليل مقارنتِه للجمع ، والهاء مفتوحةٌ كما هو الفصيح ، وسَكَّنها مجاهد والأعرج وأبو السَّمَّال والفياض وهي لُغَيَّةٌ . وقد تقدَّم الكلامُ عليها أولَ البقرة . وقيل ليس المرادُ هنا نهرَ الماءِ ، وإنما المرادُ به سَعَةُ الأرزاقِ لأنَّ المادةَ تَدُلُّ على ذلك كقول قيس بن الخطيم : /
4169 مَلَكْتُ بها كَفِّي فَأَنْهَرْتُ فَتْقَها ... يَرى قائمٌ مِنْ دونِها ما وراءَها
أي : وسَّعْتُ . وقرأ أبو نهيك وأبو مجلز والأعمش وزهير الفرقبي « ونُهُر » بضم النونِ والهاءِ ، وهي تحتمل وجهين ، أحدهما : أَنْ يكونَ جمعَ نَهَر بالتحريك وهو الأَوْلى نحو : أُسُد في أَسَد . والثاني : أن يكون جمعَ الساكنِ نحو : سُقُف في سَقْف ورُهُن في رَهْن ، والجمع مناسِبٌ للجمع قبلَه في « جنات » وقراءةُ العامة بإفرادِه أَبْلَغُ وقد تقدَّم كلامُ ابن عباس في قوله تعالى آخر البقرة { وملائكته وَكُتُبِهِ } [ البقرة : 285 ] بالإِفرادِ ، وأنه أكثرُ مِنْ « الكتب » . وتقدَّم أيضاً تقديرُ الزمخشري لذلك ، فعليك . . .
قوله تعالى { فِي مَقْعَدِ } يجوزُ أَنْ يكونَ خبراً ثانياً ، وهو الظاهرُ وأَنْ يكون حالاً من الضمير في الجارِّ لوقوعِه خبراً . وجَوَّز أبو البقاء أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ قولِه « في جنات » وحينئذٍ يجوزُ أَنْ يكونَ بدلَ بعضٍ ، لأن المقعدَ بعضُها ، وأَنْ يكون اشتمالاً أنها مشتمِلَةٌ ، والأولُ أظهرُ ، والعامَّةُ على إفراد « مَقْعَد » مُراداً به الجنس كما تقدَّم في « نَهَر » . وقرأ عثمان البتِّي « مقاعِدِ » وهو مناسبٌ للجمع قبلَه . ومَقْعَدُ صِدْقِ من بابِ رجلُ صدقٍ : في أنه يجوزُ أنْ يكون من إضافةِ الموصوف لصفتِه . والصدقُ يجوزُ أَنْ يُرادَ بهِ ضدُّ الكذبِ ، أي : صُدِّقوا في الإِخبار به ، وأَنْ يرادَ به الجَوْدَةُ والخيريَّةُ .
و « مليك » مثلُ مبالغةٍ وهو مناسِبٌ هنا ، ولا يُتَوهَّمُ أنَّ أصلَه مَلِك لأنه هو الوارِدُ في غيرِ موضعٍ ، وأنَّ الكسرةَ أُشْبِعَتْ فتولَّد منها ياءٌ؛ لأنَّ الإِشباعَ لم يَرِدْ إلاَّ ضرورةً أو قليلاً ، وإنْ كان قد وقع في قراءةِ هشام « أَفْئِيدَةً » في آخر إبراهيم ، وهناك يطالعَ ما ذكَرْتُه فيه .

الرَّحْمَنُ (1)

قوله : { الرحمن } فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ ، أي : اللَّهُ الرحمنُ . الثاني : أنه مبتدأٌ ، وخبرُه مضمرٌ ، أي : الرحمنُ ربُّنا . وهذان الوجهان عند مَنْ يرى أنَّ « الرحمن » آيةٌ مع هذا المضمرِ معه ، فإنهم عَدُّوا « الرحمن » آيةً ولا يُتَصَوَّرُ ذلك إلاَّ بانضمامِ خبرٍ أو مُخْبَرٍ عنه إليه ، إذ الآيةُ لا بُدَّ أَنْ تكونَ مفيدةً ، وسيأتي ذلك في قولِه « مُدْهامَّتان » . الثالث أنه ليس بآيةٍ ، وأنه مع ما بعده كلامٌ واحدٌ ، وهو مبتدأٌ خبرُه « عَلَّم القرآنَ » .

عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)

قوله : { عَلَّمَ القرآن } : فيه وجهان ، أظهرُهما : أنها عَلَّم المتعديةُ إلى اثنين أي : عَرَّف ، من التعليم ، فعلى هذا المفعولُ الأولُ محذوف فقيل : تقديره : عَلَّم جبريلَ القرآنَ . وقيل : علَّم محمداً . وقيل : عَلَّم الإِنسانَ . وهذا أَوْلَى لعُمومِه ، ولأنَّ قولَه « خَلَق الإِنسانَ » دالٌّ عليه . والثاني : أنها من العلامةِ . فالمعنى : جَعَله علامةً وآيةً يُعْتنى بها .
وهذه الجملُ التي جيْءَ بها من غيرِ عاطفٍ لأنها سِيْقَتْ لتعديدِ نعمةٍ كقولك : فلانٌ أَحْسَنَ إلى فلانٍ : أكرمه ، أشاد ذِكْرَه ، رَفَعَ مِنْ قَدْرِه ، فلشِدَّةِ الوصلِ تَرَكَ العاطفَ . والظاهر أنها أخبارٌ . وقال أبو البقاء : و « خَلَق الإِنسان » مستأنفٌ وكذلك « عَلَّمه » يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من الإِنسان مقدرةً و « قد » معها مرادةٌ « . انتهى . وهذا ليس بظاهرٍ بل الظاهرُ ما قدَّمتهُ ولم يذكُرْ الزمخشريُّ غيرَه . فإن قيل : لِمَ قَدَّم تعليمَ القرآنِ للإِنسان على خَلْقِه وهو متأخرٌ عنه في الوجودِ؟ قيل : لأنَّ التعليمَ هو السببُ في إيجادِه وخَلْقِه .

الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5)

قوله : { بِحُسْبَانٍ } : فيه ثلاثة أوجه ، أحدُها : أن « الشمس » مبتدأ و « بحُسْبان » خبرُها على حَذْفِ مضافٍ تقديره : جَرْيُ الشمس والقمر بحُسْبانٍ ، أي : كائن أو مستقر أو استقرَّ بحُسْبان . الثاني : أنَّ الخبرَ محذوفٌ يتعلَّق به هذا الجارُّ تقديره : يَجْريان بحسبان ، وعلى هذين القولَيْن فيجوز في الحُسْبان وجهان ، أحدهما : أنه مصدرٌ مفردٌ بمعنى الحُسْبان ، فيكونُ كالشُّكران والكُفْران . والثاني : أنه جمعُ حِساب كشِهاب وشُهْبان . / والثالث : أنَّ الحُسْبَانَ خبرُه ، والباءُ ظرفيةٌ بمعنى في ، أي : كائنان في حُسْبان ، وحُسْبان ، وحُسْبان على هذا اسمٌ مفرد ، اسمٌ للفَلَكِ المستدير ، شَبَّهه بحُسْبان الرَّحى الذي باستدارته تستدير الرحى ، قاله مجاهد .

وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7)

قوله : { والسمآء رَفَعَهَا } : العامَّةُ على النصب على الاشتغال مراعاً لعَجُزِ الجملةِ التي يُسَمِّيها النحاةُ ذاتَ وجهين . وفيها دليلٌ لسيبويه حيث يُجَوِّزُ النصبَ ، وإنْ لم يكنْ في جملةِ الاشتغالِ ضميرٌ عائدٌ على المبتدأ الذي تضمَّنَتْه الجملةُ ذاتُ الوجهين . والأخفشُ يقول : لا بُدَّ من ضميرٍ ، مثالُه : « هند قامَتْ وعمراً أكرمْتُه لأجلها » قال : « لأنك راعَيْتَ الخبرَ ، وعَطَفْتَ عليه ، والمعطوفُ على الخبرِ خبرٌ فيُشْترط فيه ما يُشْترط فيه ، ولم يَشْتَرِطِ الجمهورُ ذلك وهذا دليلُهم ، قال الفراء : » كلهم نَصَبُوا مع عدم الرابط إلاَّ مَنْ شذَّ منهم . وقد تقدَّمَ هذا محرراً في سورة يس عند قولِه تعالى : { والقمر قَدَّرْنَاهُ } [ يس : 39 ] فهناك اختلف السبعةُ في نَصْبِه ورفعِه ولله الحمدُ .
قوله : { وَوَضَعَ الميزان } العامَّةُ على « وَضَع » فعلاً ماضياً . و « الميزانَ » نُصِبَ على المفعولِ به . وقرأ إبراهيم . « ووَضْعَ الميزانِ » بسكون الضاد وخفض « الميزانِ » . وتخريجُها : على أنه معطوفٌ على مفعولِ « رَفَعَها » ، أي : وَرَفَعَ وَضْعَ الميزان ، أي : جَعَلَ له مكانةً ورِفْعَةً لأَخْذِ الحقوق به ، وهو مِنْ بديعِ اللفظِ ، حيث يصير التقديرُ : ورَفَعَ وَضْعَ الميزان .
وقال الزمخشري : « فإن قلتَ : كيف أَخَلَّ بالعاطف في الجمل الأُوَل وجِيْءَ به بعدُ؟ قلت : بَكَّتَ بالجملِ الأُوَلِ واردةً على سَنَنِ التعديد الذين أنكروا الرحمنَ وآلاءَه كما يُبَكَّتُ مُنْكِرُ أيادي المُنْعَمِ [ عليه ] من الناسِ بتعدُّدها عليه في المثالِ الذي قَدَّمْتُه ، ثم رَدَّ الكلامَ إلى منهاجِه بعد التبكيت في وَصْلِ ما يجب وَصْلُه للتناسُبِ والتقارُب بالعاطفِ . فإنْ قلت : أيُّ تناسُبٍ بين هاتَيْنِ الجملتَيْن حتى وَسَّط بينهما العاطفَ؟ قلت : إن الشمسَ والقمرَ سماويان ، والنجمَ والشجرَ أَرْضيان فبينهما تناسُبٌ من حيث التقابلُ ، وأن السماءَ والأرضَ لا تزالان قرينتَيْن ، وأنَّ جَرْيَ الشمسِ والقمرِ بحُسْبان مِنْ جنسِ الانقيادِ لأمرِ اللهِ ، فهو مناسِبٌ لسُجودِ النجمِ والشجرِ » .

أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8)

قوله : { أَلاَّ تَطْغَوْاْ } : في « أنْ » هذه وجهان ، أحدُهما : أنَّها الناصبةُ ، و « لا » بعدها نافيةٌ ، و « تَطْغَوْا » منصوبٌ ب « أنْ » ، وأنَّ قبلَها لامَ العلةِ مقدرةً ، تتعلَّقُ بقولِه : « ووَضَع الميزانَ » التقدير : لئلا تَطْغَوا ، وهذا بَيِّنٌ . وأجاز الزمخشريُّ وابنُ عطية أَنْ تكونَ المفسِّرَةَ ، وعلى هذا تكونُ « لا » ناهيةً والفعلُ مجزومٌ بها . إلاَّ أنَّ الشيخَ رَدَّه : بأنَّ شَرْطَها تقدُّمُ جملةٍ متضمنةٍ لمعنى القول ، وليسَتْ موجودةً . قلت : وإلى كونِها مفسِّرةً ذهبَ مكي وأبو البقاء : إلاَّ أنَّ أبا البقاءِ كأنَّه تَنَبَّه للاعتراضِ فقال : « وأَنْ بمعنى أَيْ ، والقولُ مقدَّرٌ » ، فجعل الشيءَ المفسَّرَ ب « أَنْ » مقدَّراً لا ملفوظاً بها ، إلاَّ أنه قد يُقال : قولُه/ « والقولُ مقدَّرٌ » ليس بجيدٍ ، لأنها لا تُفَسِّرُ القولَ الصريحَ ، فكيف يُقَدِّر ما لا يَصِحُّ تفسيرُه؟ فإِصْلاحُه أَنْ يقولَ : وما هو بمعنى القول مقدرٌ .

وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)

قوله : { وَلاَ تُخْسِرُواْ } : العامَّةُ على ضَمِّ التاءِ وكسرِ السينِ مِنْ أَخْسَرَ ، أي : نَقَصَ كقولِه : { وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } وقرأ زيد بن علي وبلال بن أبي بردة بفتح التاءِ وكسرِ السين فيكون فَعَلَ وأَفْعَلَ بمعنىً . يقال : خَسِر الميزانَ وأخسَره ، بمعنىً واحدٍ نحو : جَبَر وأَجْبَر . ونقل أبو الفتح وأبو الفضل عن بلال فتحَ التاءِ والسينِ . وفيها وجهان ، أحدُهما : أنه على حَذْفِ حرفِ الجر تقديره : ولا تَخْسَروا في الميزان . ذكره الزمخشري وأبو البقاء : إلاَّ أنَّ الشيخَ قال : « لا حاجةَ إلى ذلك؛ لأنَّ » خَسِرَ « جاء متعدياً . قال تعالى : َ { خسروا أَنْفُسَهُمْ } [ الأنعام : 12 ] . و { خَسِرَ الدنيا والآخرة } [ الحج : 11 ] . قلت : وهذا ليس مِنْ ذاك . ألا ترى أنّ { خَسِروا أنفسَهم } { وخَسِر الدنيا والآخرةَ } معناه : أنَّ الخُسْران واقعٌ بهما ، وأنَّهما معدومان . وهذا المعنى ليس مُراداً في الآيةِ قطعاً ، وإنما المرادُ : لا تُخْسِروا الموزونَ في الميزان . وقُرِىء » تَخْسُروا « بفتح التاء وضمِّ السينِ . قال الزمخشري : » وقُرِىء ولا تَخْسروا بفتح التاء وضم السين وكسرِها وفتحِها . يقال : خَسِر الميزانَ يَخْسِره ويَخْسُره . وأمَّا الفتحُ : فعلى أنَّ الأصلَ « في الميزان » فحذف الجارَّ ووصلَ الفعلَ إليه « وكَرَّر لفظ الميزان ، ولم يُضْمِرْه في الجملتَيْن بعده تقويةً لشَأْنِه وهذا كقولِه :
4170 لا أَرى الموتَ يَسْبِقُ الموتَ شيءٌ ... نَغَّصَ الموتُ ذا الغِنى والفقيرا

وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10)

قوله : { والأرض وَضَعَهَا } : كقولِه : { والسمآء رَفَعَهَا } [ الرحمن : 7 ] . وقرأ أبو السَّمَّال بالرفع مبتدأً . و « للأَنام » علةٌ للوَضْع . والأَنام . قيل : الحيوان . وقيل : بنوا آدمَ خاصةً . وقيل : هم الإِنسُ والجنُّ ، ووزنُه فَعال كقَذال ، فيُجْمع في القلة على آنِمَة بزنة : امرأةٌ آثِمة وفي الكثرة : على أُنُم ، كقَذال وأَقْذِلَة وقُذُل .

فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11)

قوله : { فِيهَا فَاكِهَةٌ } : يجوزُ أَنْ تكون هذه الجملةُ حالاً من الأرض ، إلاَّ أنَّها حالٌ مقدَّرَةٌ . ويجوزُ وهو الأحْسَنُ أَنْ يكونَ الجارُّ والمجرورُ هو الحالَ ، و « فاكهةٌ » رَفْعٌ بالفاعليَّةِ ، ونُكِّرَتْ؛ لأنَّ الانتفاعَ بها دونَ الانتفاعِ بما ذُكِرَ بعدها ، وهو من باب الترقِّي مِنْ الأَدْنى إلى الأعلَى ، والأَكْمام : جمعُ كِمّ بالكسر وهو وعاءُ الثمرة .

وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12)

قوله : { والحب ذُو العصف والريحان } : قرأ ابنُ عامر بنصب الثلاثة . وفيه ثلاثةُ أوجهٍ : النصبُ على الاختصاص ، أي : وأخُصُّ الحبَّ ، قاله الزمخشري . وفيه نظرٌ؛ لأنه لم يَدْخُلْ في مُسَمَّى الفاكهة والنخل حتى يَخُصَّه مِنْ بَيْنِها ، وإنما أراد إضمارَ فعلٍ وهو أَخَصُّ ، فليس هو الاختصاصَ الصناعيَّ . الثاني : أنَّه معطوفٌ على الأرض . قال مكي : « لأنَّ قولَه » والأرضَ وَضَعَها « ، أي : خلقها ، فعطف » الحَبَّ « على ذلك » . الثالث : أنَّه منصوبٌ ب « خَلَق » مضمراً ، أي : وخلق الحَبَّ . قال مكي : « أو وخَلَقَ الحَبَّ » وقرأ به موافقةً لرَسْم مصاحِف بلده ، فإنَّ مصاحفَ الشامِ « ذا » بالألف . وجَوَّزوا في « الرَّيْحان » أن يكونَ على حَذْفِ مضافٍ ، أي : وذا الريحان فحُذِفَ/ المضافُ ، وأٌقيم المضافُ إليه مُقامَه ك { وَسْئَلِ القرية } [ يوسف : 82 ] .
وقرأ الأخَوان برفع الأَوَّلين وجَرِّ « الرَّيْحان » عطفاً على « العَصْفِ » ، وهي تؤيِّدُ قولَ مَنْ حذفَ المضافَ في قراءةِ ابنِ عامرٍ . والباقون برفع الثلاثةِ عطفاً على فاكهة ، أي : وفيها أيضاً هذه الأشياءُ . ذكر أولاًّ ما يتلذَّذُون به من الفواكه ، وثانياً الشيءَ الجامعَ بين التلذُّذِ والتغذِّي وهو ثَمَرُ النَخْلِ ، وثالثاً ما يَتَغَذَّى به فقط ، وهو أعظمُها ، لأنه قُوْتُ غالبِ الناسِ . ويجوز في الرَّيْحان على هذه القراءةِ أَنْ يكونَ معطوفاً على ما قبلَه ، أي : وفيها الرَّيْحانُ أيضاً ، وأَنْ يكونَ مجروراً بالإِضافةِ في الأصلِ ، أي : وذو الرَّيحْان ففُعِلَ به ما تقدَّم .
والعَصْفُ : وَرَقُ الزَّرْعِ . وقيل : التِّبْنُ . وأصلُه كما قال الراغب : مِن « العَصْفِ والعَصِيْفة وهو ما يُعْصَفُ ، أي : يُقْطَعُ من الزَرْع » وقيل : هو حُطامُ النباتِ . والريحُ العاصف : التي تكسِرُ ما تمرُّ عليه وقد مَرَّ ذلك . والرَّيْحان في الأصل : مصدرٌ ثم أُطْلِقَ على الرزق كقولهم : « سُبْحانَ الله ورَيْحَانَه » ، أي : استِرْزاقُه وقيل : الرَّيْحان هنا هو المَشْمومُ .
وفي الرَّيْحان قولان ، أحدُهما : أنه على فَعْلان كاللَّيَّان مِنْ ذواتِ الواوِ . والأصلُ : رَوْحان . قال أبو علي : « فأُبْدِلَتْ الواوُ ياءً ، كما أَبْدَلوا الياءَ واواً في » أَشاوى « . والثاني : أن يكون أصلُه رَيْوِحان ، على وزن فَيْعِلان ، فأُبْدِلَتِ الواوُ ياءً ، وأُدْغِمَتْ فيها الياءُ ، ثم خُفِّفَ بحَذْفِ عينِ الكلمةِ كما قالوا : كَيْنُوْنة وبَيْنُونة . والأصلُ تشديدُ الياءِ فخفِّفَتْ كما خُفِّف هَين ومَيْت . قال مكي : » ولَزِم تَخْفِيْفُه لطولِه بلَحاق الزيادتَيْنِ « . ثم رَدَّ قولَ الفارسيِّ بأنه لا مُوْجبَ لقَلْبِها ياءً ثم قال : » وقال بعضُ الناسِ « فذكَر ما قَدَّمْتُه عن أبي علي إلى آخره .

فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)

قوله : { فَبِأَيِّ } : متعلقٌ ب « تُكذِّبان » والعامَّةُ على إضافة « أيّ » إلى الآلاء . وقُرِىء في جميع السورة بتنوينِ « أيّ » وتخريجُها : على أنه قَطَع أيَّاً عن الإِضافةِ إلى شيء مقدر ، ثم أَبْدَل منه « آلاء ربِّكما » بدلَ معرفةٍ مِنْ نكرةٍ . وتقدَّم الكلامُ في « الآلاء » وما مفردُها في الأعراف ولله الحمد . والخطابُ في « رَبِّكما » قيل : للثَّقَلَيْن من الإِنس والجنِّ ، لأنَّ الأنامَ يتضمَّنُهما على القول المشهور . وقيل : للذكر والأنثى . وقيل : هو مثنَّى مُرادٌ به الواحدُ ، كقولِه تعالى : { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ } [ ق : 24 ] وقولِ الخبيث الثقفي : « يا حَرَسيُّ اضْربا عُنُقَه » وقد تقدَّم ما فيه . و « كالفَخَّار » نعتٌ لصَلْصال وتقدَّم تفسيرُه .

وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15)

والجانُّ قيل : هو اسم جنس كالإِنسان . وقيل : هو أبو الجنِّ إبليسُ . وقيل : هو أبوهم وليس بإبليسَ .
قوله : { مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ } « مِنْ » الأولى لابتداء الغاية . وفي الثانيةِ وجهان ، أحدهما : أنها للبيانِ . والثاني : أنها للتبعيض . والمارِجُ قيل : ما اختْلَطَ مِنْ أحمرَ وأَصفَر وأخضرَ ، وهذا مُشاهَدٌ في النار ، تُرى الألوانُ الثلاثةُ مختلِطاً بعضُها ببعض . وقيل : الخالِصُ . وقيل : الأحمرُ . وقيل : الحُمْرَةُ في طرفِ النار . وقيل : المختلطُ بسواد . وقيل : الخالصُ . وقيل : اللهبُ المضطربُ . و « مِنْ نار » نعتٌ ل « مارج » . وقوله : فبأيِّ « إلى آخره . توكيدٌ وتكريرٌ ، كما تقدَّم في قوله : { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن } [ القمر : 21 ] وكقولِه فيما سيأتي : { َوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } [ المرسلات : 15 ] . وذهبَ جماعةٌ منهم ابنُ قتيبة إلى أنَّ التكريرَ لاختلافِ النِّعَم ، فلذلك كَرَّر التوقيفَ مع واحدةٍ واحدةٍ .

رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17)

قوله : { رَبُّ المشرقين } : العامَّةُ على رَفْعِه . وفيه وجهان ، أحدهما : أنه مبتدأٌ ، خبرُه « مَرَج البحرَيْن » وما بينهما/ اعتراضٌ . والثاني : أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : هوَ رَبُّ أي : ذلك الذي فَعَلَ هذه الأشياء . والثالث : أنه بدلٌ من الضمير في « خَلَق » . وابن أبي عبلة « ربِّ » بالجر بدلاً أو بياناً ل « ربِّكما » . قال مكي : « ويجوزُ في الكلام الخفضُ على البدلِ مِنْ » ربِّكما « كأنَّه لم يَطَّلعْ على أنها قراءةٌ منقولةٌ والمَشْرقان ، قيل : مَشرِقُ الشتاءِ والصيفِ ومَغْرباهما . وقيل : مَشْرقا الشمس والقمر ومَغْربهما . وقيل : مَشرقا الشمس فقط ومَغْرباها . قال الشيخ : » وعن عباس : للشمس مَشْرِقٌ في الصيفِ مُصْعِدٌ ، ومَشْرِقٌ في الشتاءِ مُنْحَدرٌ ، تنتقل فيهما مُصْعِدةً ومُنحَدرة « . وقال الشيخ : » فالمشرقان والمغربان للشمس « قلت : وهذا هو القولُ الذي يقول : مَشْرِقُ الصيفِ ومَشْرِقُ الشتاء فإنه إنَّما يعني بهما شُروق الشمسِ والقمرِ فيهما ، أو شروق الشمسِ وحدَها فيهما ، فهو داخلٌ في أحدِ القولَيْن المذكورَيْن ضرورةً .

مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20)

قوله : { يَلْتَقِيَانِ } : حالٌ من « البحرَيْنِ » وهي قريبةٌ من الحال المقدرةِ . ويجوز بتجوُّزِ أَنْ تكونَ مقارنَةً . و « بينهما بَرْزَخٌ » يجوز أن تكونَ جملةً مستأنفةً ، وأَنْ تكونَ حالاً ، وأَنْ يكونَ الظرفُ وحدَه هو الحالَ . والبَرْزَخ : فاعلٌ به وهو أحسنُ لقُرْبه من المفرد . وفي صاحبِ الحال وجهان ، أحدُهما : هو « البحرَيْن » ، والثاني : هو فاعلُ « يَلْتقيان » ولا « يَبْغِيان » حالٌ أخرى كالتي قبلَها أي : مَرَجَهما غيرَ باغيَيْن ، أو يلتقيان غيرَ باغيين ، أو بينهما بَرْزَخٌ في حالِ عَدَمِ بَغْيهما . وهذه الحالُ في قوة التعليل؛ إذ المعنى : لئلا يَبْغِيا . وقد تَمَحَّل بعضُهم وقال : أصلُ ذلك لئلا يَبْغِيا ، ثم حَذَفَ حرفَ العلة ، وهو مُطَّرِدٌ مع « أَنْ » و « أَنَّ » ، ثم حُذِفَتْ « أَنْ » أيضاً وهو حَذْفٌ مُطَّرِد كقولِه تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ } [ الروم : 24 ] فلمَّا حُذِفَتْ « أَنْ » ارتفع الفعلُ ، وهذا غيرُ ممنوعٍ ، إلاَّ أنه يتكرَّرُ فيه الحَذْفُ ، وله أَنْ يقولَ : قد جاء الحَذْفُ أكثرَ مِنْ ذلك فيما هو أَخْفَى من هذا ، كما تقدَّم في { قَابَ قَوْسَيْنِ } [ النجم : 9 ] ، وكما سيأتي في قولِه : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ } [ الواقعة : 82 ] .

يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22)

قوله : { يَخْرُجُ } : قرأ نافع وأبو عمرو « يُخْرَج » مبنياً للمفعول . والباقون مبنياً للفاعل على المجاز . قالوا : وثَمَّ مضافٌ محذوفٌ أي : مِنْ أحدِهما؛ لأنَّ ذلك لم يُؤْخَذْ من البحرِ العَذْبِ ، حتى عابُوا قولَه :
4171 فجاءَ بها ما شِئتَ مِنْ لَطَمِيَّةٍ ... على وَجْهِها ماءُ الفُراتِ يموجُ
قال مكي : « كما قال تعالى : { على رَجُلٍ مِّنَ القريتين } [ الزخرف : 31 ] أي : مِنْ إحدى القريَتيْن ، وحَذْفُ المضافِ كثيرٌ شائعٌ » وقيل : هو كقوله : { نَسِيَا حُوتَهُمَا } [ الكهف : 61 ] وإنما الناسِي فتاه ، ويُعْزَى هذا لأبي عبيدة . وقيل : يَخْرُجُ من أحدِهما اللؤلؤ ، ومن الآخر المَرْجانُ . وقيل : بل يَخْرجان منهما جميعاً ، ثم ذكروا تآويلَ منها : أنهما يَخْرُجان من المِلْح في الموضعِ الذي يقع فيه العَذْبُ ، وهذا مشاهَدٌ عند الغوَّاصين ، وهو قولُ الجمهورِ فناسَبَ ذلك إسنادَه إليهما . ومنها قولُ ابنِ عباس : تكون هذه الأشياءُ في البحرِ بنزول المطر ، والصَّدَفُ تفتح أفواهَها للمطر وقد شاهده الناسُ . ومنها : أنَّ العَذْبَ في المِلْح كاللِّقاح كما يُقال : الولدُ يخرُجُ من الذَّكر والأنثى . ومنها أنه قيل « منهما » من حيث هما نوعٌ واحدٌ ، فخروجُ هذه الأشياءِ إنما هي مِنْهما ، كما قال تعالى : { وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً } [ نوح : 16 ] وإنما هو في واحدةٍ منهن .
وقد الزمخشري : « فإنْ قلتَ : لِمَ قال » منهما « وإنما يَخْرجان من المِلْح؟ قلت : لَمَّا التَقَيا وصارا كالشيء الواحدِ جاز أَنْ يُقال : يَخْرجان منهما ، كما يقال : يَخْرجان من البحر ولا يَخْرجان من جميع البحر ، وإنما يخرجان مِنْ بعضِه . وتقول : خَرَجْتُ من البلد ، وإنما خَرَجْتُ مِنْ مَحَلَّةٍ مِنْ محالِّه ، مِنْ دارٍ واحدة من دُوْره . وقيل : لا يخرجان إلاَّ مِنْ ملتقى المِلْح والعَذْب » انتهى . وقال بعضُهم : كلامُ الله أَوْلى بالاعتبارِ من كلامِ بعض الناس فمن الجائز أنه يَسُوقُها من البحرِ العَذْب إلى المِلْحِ ، واتفق أنهم لم يُخْرجوها إلاَّ من المِلْح ، وإذا كان في البرِّ أشياءُ تَخْفَى على التجار المتردِّدين القاطعِين للمَفاوُز ، فكيف بما في قَعْر البحرِ؟ والجوابُ عن هذا : أنَّ اللَّهَ تعالى لا يُخاطِبُ الناسَ ولا يَمْتَنُّ عليهم إلاَّ بما يَأْلَفُون ويشاهِدُون .
واللؤلؤ قيل : / كبارُ الجوهر . والمَرْجانُ صغاره ، وقيل بالعكس ، وأنشدوا قولَ الأعشى :
4172 مِنْ كلِّ مَرْجانةٍ في البحرِ أَحْرَزها ... تَيَّارُها ووقاها طِيْنَها الصَّدَفُ
أراد اللؤلؤةَ الكبيرةَ . وقيل : المَرْجان حجرٌ أحمرُ . وقيل : حجرٌ شديد البياض ، والمَرْجانُ أعجميُّ . قال ابن دريرد : « لم أسمَعْ فيه فعلاً متصرفاً . واللؤلؤ بناءٌ غريبٌ ، لم يَرِدْ على هذه الصيغة إلاَّ خمسةُ ألفاظٍ : اللُّؤلُؤ ، والجُؤْجُؤ وهو الصَّدْر ، والدُّؤْدُؤُ ، واليُؤْيُؤُ لطائر ، والبُؤْبؤ بالموحَّدتين ، وهو الأصلُ . واللؤلؤُ بضمتين والهمز هو المشهورُ ، وإبدال الهمزةِ واواً شائعٌ فصيحٌ وقد تقدَّم ذلك .
وقرأ طلحة » اللُّؤْلِىءُ « بكسر اللام الثالثة ، وهي لغةٌ محفوظةٌ . ونَقَل عنه أبو الفضلِ » اللُّؤْلِيْ « بقَلْبِ الهمزة الأخيرة ياءً ساكنة كأنه لَمَّا كسَر ما قبل الهمزة قلبها ياءً استثقالاً . وقرأ أبو عمرو في رواية » يُخْرِجُ « أي الله تعالى . ورُوِي عنه أيضاً وعن ابن مقسم » نُخْرِجُ « بنون العظمة . واللؤلؤُ والمَرْجان في هاتين القراءتَيْن منصوبان .

وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24)

قوله : { الجوار } : العامَّة على كسرِ الراء لأنه منقوصٌ على مَفاعِل ، والياءُ محذوفةٌ لفظاً لالتقاءِ الساكنين . وقرأ عبد الله والحسن وتُروَى عن أبي عمروٍ « الجَوارُ » برفع الراء تناسياً للمحذوف ومنه :
4173 لها ثنايا أربعٌ حِسانُ ... وأربعٌ فثَغْرُها ثَمانُ
وهذا كما قالوا : « هذا شاكٌ » وقد تقدَّم تقريرُ هذا في الأعراف عند قولِه : { وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ } [ الأعراف : 41 ] .
قوله : { المنشئات } قرأ حمزةُ وأبو بكر بخلافٍ عنه بكسرِ الشينِ بمعنى : أنها تُنْشِىءُ الموجَ بجَرْيِها ، أو تُنْشِىء السيرَ إقبالاً وإدباراً ، أو التي رَفَعَتْ شُرُعَها أي : قِلاعَها . والشِّراع : القِلْع . وعن مجاهد : كلما رَفَعتْ قِلْعَها فهي من المُنْشَآت ، وإلاَّ فليسَتْ منها . ونسبةُ الرَّفْع إليها مجازٌ كما يقال : أنْشَأتِ السحابةُ المطرَ . والباقون بالفتح وهو اسمُ مفعول أي : أنشأها اللَّهُ أو الناسُ ، أو رفعوا شُرُعَها . وقرأ ابن أبي عبلة « المُنَشَّآت » بتشديد الشين مبالغةً . والحسنُ « المُنْشات » بالإِفراد ، وإبدالِ الهمزة ألفاً وتاءٍ مجذوبة خَطَّاً فأْفَردَ الصفةَ ثقةً بإفهام الموصوف الجمعيةَ ، كقولِه { أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } [ البقرة : 25 ] وأمَّا إبدالُه الهمزةَ ألفاً ، وإن كان قياسُها بينَ بينَ فمبالَغَةٌ في التخفيف ، كقوله :
4174 إنَّ السِّباعَ لَتَهْدَا في مَرابِضِها ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أي : لتهدَأ . وأمَّا كَتْبُها بالتاءِ المجذوبة فإتباعاً للفظها في الوصلِ . و « في البحر » متعلقٌ بالمُنْشِئات أو المنشَآت . ورسمُه بالياء بعد الشين في مصاحفِ العراقِ يُقَوِّي قراءةَ الكسرِ ورَسْمُه بدونِها يُقَوِّي قراءةَ الفتح ، وحَذَفُوا الألفَ كا تُحْذَفُ في سائر جمع المؤنث السالم . و « كالأَعْلام » حالٌ : إمَّا من الضميرِ المستكنِّ في « المُنْشَآت » ، وإمَّا مِنْ « الجوار » وكلاهما بمعنىً واحد . والأَعلام : الجبالُ جمعُ عَلَم . قال :
4175 رُبَّما أَوْفَيْتُ في عَلَم ... تَرْفَعَنْ ثوبي شَمالاتُ

كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26)

وقوله : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } : غَلَّبَ مَنْ يَعْقِلُ على غيره ، وجميعُهم مُرادٌ . والضميرُ في « عليها » للأرضِ . قال بعضُهم . « وإنْ لم يَجْرِ لها ذِكْرٌ كقولِه : { حتى تَوَارَتْ بالحجاب } [ ص : 32 ] . وقد رُدَّ على هذا القائلِ وقالوا : بل تَقَدَّم ذِكْرُها في قولِه : { والأرض وَضَعَهَا } [ الرحمن : 10 ] .

وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)

قوله : { ذُو الجلال } : العامَّةُ على « ذو » بالواو صفةً للوجه . وأبَيٌّ وعبدُ الله « ذي » بالياءِ صفةً ل « ربِّك » وسيأتي خلافٌ بين السبعةِ في آخر السورة إنْ شاءَ الله تعالى .

يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)

قوله : { يَسْأَلُهُ مَن فِي السماوات } : فيه وجهان : أحدهما : هو مستأنفٌ . والثاني : أنه حالٌ مِنْ « وَجْه » والعاملُ فيه « يَبْقَى أي : يَبْقَى مَسْؤولاً مِنْ أهلِ السماواتِ والأرضِ .
قوله : { كُلَّ يَوْمٍ } منصوبٌ بالاستقرارِ الذي تضمَّنه الخبرُ وهو قولُه » في شَأْنٍ « والشَّأْنُ : الأَمْرُ .

سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31)

قوله : { سَنَفْرُغُ } : قرأ سَيَفْرُغُ بالياءِ الأخَوان أي : سَيَفْرُغُ اللَّهُ تعالى . والباقون من السبعة بنون العظمة ، والراءُ مضمومةٌ في القراءتَيْن ، وهي اللغةُ الفُصْحى لغة الحجازِ . وقرأها مفتوحة الراء مع النونِ الأعرجُ ، وتحتمل وجهَيْن ، أحدهما : أَنْ تكونْ مِنْ فَزَغَ بفتحِ الراء في الماضي ، وفُتِحت في المضارع لأَجْلِ حرفِ الحَلْقِ . والثاني : أنه سُمِعَ فيه فَرِغَ بكسرِ العينِ ، فيكون هذا مضارعه/ وهذه لغةُ تميمٍ . وعيسى بن عمر وأبو السَّمَّال « سَنِفْرَغُ » بكسر حرفِ المضارعةِ وفتحِ الراءِ . وتوجيهُها واضحٌ مِمَّا تقدَّم في الفاتحة قال أبو حاتم : « وهي لُغَةُ سُفْلى مُضَرَ . والأعمش وأبو حيوةَ وإبراهيمُ » سَنِفْرَغُ « بضم الياء مِنْ تحتُ مبنياً للمفعولِ . وعيسى أيضاً بفتح نونِ العظمةِ وكسرِ الراء . والأعرجُ أيضاً بفتح الياء والراء . ورُوي عن أبي عمروٍ . وقد تقدَّم قراءةُ » أيها « في النور . والفَراغُ هنا استعارةٌ . وقيل : هو القَصْدُ . وأُنْشِد لجرير :
4176 ألانَ وقد فَرَغْتُ إلى نُمَيْرٍ ... فهذا حينَ كُنْتُ لهمُ عَذاباً
وأنشد الزجاج :
4177 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فَرَغْتُ إلى العبدِ المقيَّدِ في الحِجْلِ
ويَدُلُّ عليه قراءةُ أُبَيّ » سَنَفْرُغُ إليكم « أي : سَنَقْصِدُ إليكم . والثَّقَلان : الجن والإِنس لأنهما ثَقَلا الأرضِ . وقيل : لثِقَلِهم بالذنوب . وقيل : الثَّقَلُ : الإِنسُ لشَرَفَهم . وسُمِّيَ الجنُّ بذلك مجازاً للمجاورة . والثَّقَل . العظيم الشريف . وفي الحديث : » إني تاركٌ فيكم ثَقَلَيْن كتابَ الله وعِتْرتي «

يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33)

قوله : { فانفذوا } : أمرُ تعجيزٍ : والنُّفوذُ : الخروج بسرعة وقد تقدَّم في أولِ البقرة : أنَّ ما فاؤُه نونٌ وعينُه فاءٌ يَدُلُّ على الخروج كنَفَق ونَفَرَ . و « إلاَّ بسُلْطان » حالٌ أو متعلِّقٌ بالفعلِ قبلَه . وقرأ زيد بن علي « إنْ اسْتَطَعْتما » خطاباً للثَّقَلَيْن ، وحَقُّه أَنْ يمشيَ على سَنَنٍ واحدٍ فيَقْرأَ « أنْ تَنْفَذا ، لا تنفُذان » والعامَّةُ جعلوه كقولِه : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا } [ الحجرات : 9 ] إذ تحت كلِّ واحدٍ أفرادٌ كثيرةٌ وقد رُوْعي لفظُ التثنية في قوله بعدُ : « يُرْسَلُ عليكما » فلا تبعدُ قراءةُ زيدٍ .

يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35)

قوله : { شُوَاظٌ } : قرأ ابن كثير بكسر الشين . والباقون بضمِّها ، وهما لغتان بمعنىً واحدٍ . والشُواظُ : قيل : اللَّهَبُ معه دُخانٌ . وقيل : بل هو اللهبُ الخالِصُ . وقيل : اللَّهَبُ الأحمرُ . وقيل : هو الدخانُ الخارجُ مِن اللهَب . وقال رؤبة :
4178 ونارَ حَرْبٍ تُسْعِرُ الشُّواظا ... وقال حسان :
4179 هَجَوتُكَ فاخْتَضَعْتَ لها بذُلٍّ ... بقافِيَة تَأَجَّجُ كالشُّواظِ
و « يُرْسَلُ » مبنيٌّ للمفعولِ؛ وهو قراءةُ العامَّةِ . وزيد بن علي « نُرْسِلُ » بالنونِ ، « شواظاً ونُحاساً » بالنصب . و « مِنْ نار » صفةٌ لشواظ أو متعلِّقٌ ب « يُرْسَلُ » .
قوله : « ونُحاس » قرأ ابنُ كثير وأبو عمروٍ بجرِّه عطفاً على « نارٍ » ، والباقون برفعِه عطفاً على « شُواظ » . والنحاس قيل : هو الصُّفْرُ المعروفُ ، يذيبه اللَّهُ تعالى ويُعَذِّبهم به . وقيل : الدخان الذي لا لَهَبَ معه . قال الخليل : وهو معروفٌ في كلامِ العرب ، وأنشد للأعشى :
4180 يُضيْءُ كضَوْءِ سراجِ السَّلِيْ ... طِ لم يَجْعَلِ اللَّهُ فيه نُحاسا
وتُضَمُّ نونُه وتُكْسَرُ ، وبالكسرِ قرأ مجاهد وطلحة والكلبي . وقرأ ابن جندب « ونَحْسٌ » كقولِه : { فِي يَوْمِ نَحْسٍ } [ القمر : 19 ] وابن أبي بكرة وابن أبي إسحاق « ونَحُسُّ » بضم الحاء والسين مشددةً من قوله : { إِذْ تَحُسُّونَهُمْ } [ آل عمران : 152 ] أي : ونقتلُ بالعذاب . وقرأ ابن أبي إسحاق أيضاً « ونَحَُِسٍ » بضمِّ الحاء وفتحِها وكسرِها ، وجرِّ السين . والحسن والقاضي .
« ونُحُسٍ » بضمتين وجرِّ السين . وتقدَّمَتْ قراءةُ زيدٍ « ونُحاساً » بالنصبِ لِعَطْفِه على « شواظاً » في قراءته .

فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37)

قوله : { فَإِذَا انشقت } : جوابُه مقدرٌ أي : رأيت هَوْلاً عظيماً ، أو كان ما كان .
قوله : { وَرْدَةً } أي : مثلَ وَرْدَةٍ فقيل : هي الزهرة المعروفة التي تُشَمُّ ، شَبَّهها بها في الحُمْرة ، وأنشد :
4181 فلو كُنْتُ وَرْداً لَوْنُه لعَشِقْنَني ... ولكنَّ ربي شانَني بسَواديا
وقيل : هي من لَوْنِ الفَرَسِ الوَرْد ، وإنما أُنِّثَ لكونِ السماءِ مؤنثةً . وقال الفراء : « أراد لونَ الفرسِ الوَرْدِ ، يكون في الربيع إلى الصفرة ، وفي الشتاء إلى الحُمْرة ، وفي اشتدادِ البَرْدِ إلى الغُبْرة ، فشبَّه تلوُّنَ السماءِ بتلَوُّنِ الوَرْدَةِ من الخيل » . وقرأ عبيد بن عمير « وَرْدَةٌ » بالرفع . قال الزمخشري : « بمعنى : فَحَصَلَتْ سماءٌ وردةٌ ، وهو من الكلام الذي يُسَمَّى التجريدَ ، كقوله :
4182 فَلَئِنْ بَقِيْتُ لأَرْحَلَنَّ بِغَزْوةٍ ... تَحْوِي الغنائمَ أو يموتَُ كريمُ
قوله : { كالدهان } يجوز أن يكونَ خبراً ثانياً ، وأَنْ يكونَ نعتاً لوردة . وأَنْ يكونَ حالاً من اسم » كانت « . وفي » الدِّهان « قولان ، أحدُهما : أنه جمعُ دُهْن نحو : قُرْط وقِراط ، ورُمْح ورِماح ، وهو في معنى قوله : { يَوْمَ تَكُونُ السمآء كالمهل } [ المعارج : 8 ] .
وهو دُرْدِيُّ الزَّيْتِ . والثاني : أنه اسمٌ مفردٌ ، فقال الزمخشري : » اسمُ ما يُدْهَنُ به كالجِزام والإِدام وأنشد :
4183 كأنَّهما مَزادَتا مُتَعَجِّلٍ ... فَرِيَّانِ لَمَّا تُدْهَنا بدِهان
/ وقال غيرُه : هو الأديمُ الأحمرُ ، وأنشد للأعشى :
4184 وأَجْرَدَ مِنْ كِرامِ الخَيْلِ طِرْفٍ ... كأنَّ على شَواكِله دِهانا
أي : أديماً أحمرَ ، وهذا يَحْتمل أنْ يكونَ جمعاً . ويؤيِّده ما أنشده منذرُ بنُ سعيد :
4185 يَبِعْنَ الدِّهانَ الحُمْرَ كلَّ عَشِيَّةٍ ... بموسِمِ بَدْرٍ أو بسُوْقِ عُكاظِ
فقوله « الحُمْرَ » يؤيِّدُ كونَه جمعاً ، وقد يُقال : هو كقولِهم : « أهلك الناسَ الدينارُ الحُمْرُ والدرهمُ البِيْضُ » ، إلاَّ أنَّه خِلافُ الأصلِ . وقيل : شُبِّهَتْ بالدِّهانِ ، وهو الزَيْتُ لذَوْبِها ودَوَرانِها ، وقيل : لبَريقِها .

فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39)

قوله : { فَيَوْمَئِذٍ } : التنوينُ عِوَضٌ من الجملةِ ، أي : فيومَ إذ انشَقَّت السَّماءُ . والفاء في « فيومئذٍ » جوابُ الشرط . وقيل : هو محذوفٌ ، أي : فإذا انشَقَّتِ السماءُ رَأَيْتَ أَمْراً مَهُولاً ، ونحو ذلك . والهاءُ في « ذَنْبه » [ تعودُ على أحد المذكورِيْن ] . وضميرُ الآخرِ مقدرٌ ، أي : ولا يُسْأَل عن ذنبِه جانٌّ أيضاً . وناصبُ الظرفِ « لا يُسأَلُ » و « لا » غيرُ مانعةٍ . وقد تقدَّم خلافُ الناسِ فيها في الفاتحة . وتقَدَّمَتْ قراءة « جأَنّ » بالهمز فيها أيضاً .

يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41)

وقرأ حماد بن أبي سليمان « بسِيْمائِهم » بالمدِّ . وتقدَّم الكلامُ على ذلك في آخر البقرة .
قوله : { فَيُؤْخَذُ بالنواصي } « يُؤْخَذُ » متعدٍّ ، ومع ذلك تَعَدَّى بالباء؛ لأنه ضُمِّنَ معنى يُسْحَبُ ، قاله الشيخ . وسحب إنما يُعَدَّى ب « على » قال تعالى : { يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ } [ القمر : 48 ] فكان يَنْبغي أَنْ يقولَ : ضُمِّنَ معنى يُدَعُّوْن ، أي : يُدْفَعون . وقال مكي : « إنما يُقال : أَخَذْتُ الناصِيةَ وأخَذْتُ بالناصية . ولو قلت : أَخَذْتُ الدابَّةَ بالناصيةِ لم يَجُزْ . وحُكي عن العرب : أَخَذْتُ الخِطامَ ، وأَخَذْتُ بالخِطام بمعنى . وقد قيل : إنَّ تقديرَه : فيُؤْخَذُ كلُّ واحدٍ بالنَّواصي ، وليس بصوابٍ ، لأنه لا يَتَعَدَّى إلى مفعولَيْنِ أحدُهما بالباء ، لِما ذكَرْنا . وقد يجوز أَنْ يتعدَّى إلى مفعولَيْنِ أحدُهما بحرفِ جرّ غيرِ الباء نحو : أَخَذْتُ ثوباً من زيد .
فهذا المعنى غيرُ الأولِ ، فلا يَحْسُن مع الباء مفعولٌ آخرُ ، إلاَّ أَنْ تجعلَها بمعنى : مِنْ أَجْل ، فيجوزُ أن تقولَ : أَخَذْتُ زيداً بعمروٍ ، أي : مِنْ أجلِه وبذنبِه » انتهى . وفيما قاله نَظَرٌ ، لأنك تقولُ : أَخَذْتُ الثوبَ بدرهمٍ ، فقد تعدَّى بغير « مِنْ » أيضاً بغير المعنى الذي ذكره .
وأل في النواصي والأقدام ليسَتْ عِوَضاً مِنْ ضمير عند البَصْريين فالتقدير : بالنواصي منهم ، وهي عند الكوفيين عِوَضٌ . والنَّاصِيَةُ : مُقَدَّمُ الرأسِ . وقد تقدَّم هذا مستوفى في هود . وفي حديث عائشة رضي الله عنها : « ما لكم لا تَنْصُون مَيِّتكم » ، أي : لا تَمُدُّون ناصِيته . والنَّصِيُّ مَرْعى طيب . وقولهم : « فلانٌ ناصيةُ القوم » يُحتمل أن يكونَ من هذا ، يَعْنون أنه طيب مُنْتَفَعٌ به ، أو مثلَ قولِهم : هو رأسُ القوم .

هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44)

قوله : { هذه جَهَنَّمُ } : أي : يُقال لهم و « آن » بمعنى : حار متناهٍ في الحرارة ، وهو منقوصٌ كقاضٍ يُقال : أنى يَأْني فهو آن كقَضى يَقْضي فهو قاضٍ . وقد تَقَدَّمَ في الأحزاب . والعامَّةُ يَطوفون مِنْ طاف . وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وأبو عبد الرحمن « يُطافُون » مبنياً للمفعول ، مِنْ أطافهم غيرُهم . والأعمش وطلحة وابن مقسم « يُطَوِّفُون » بضمِّ الياء وفتح الطاءِ وكسرِ الواوِ مشددةً ، أي : يُطَوِّفُون أنفسَهم . وقرأت فرقةٌ « يَطَّوَّون » بتشديد الطاء والواو . والأصلُ : يتطَوَّفون .

وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)

قوله : { مَقَامَ رَبِّهِ } : يجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً ، وأَنْ يكونَ مكاناً . فإِنْ كان مصدراً ، فيُحْتمل أَنْ يكونَ مضافاً لفاعلِه ، أي : قيامَ ربِّه عليه وحِفْظَه لأعمالِه مِنْ قولِه : { أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } [ الرعد : 33 ] ويُرْوَى هذا المعنى عن مجاهد ، وأن يكونَ مضافاً لمفعولِه . والمعنى : القيام بحقوق الله فلا يُضَيِّعُها . وإنْ كان مكاناً فالإِضافةُ بأَدْنى مُلابسة لَمَّا كان الناسُ يقومون بين يَدَيِ اللّهِ تعالى للحاسب في عَرَصات القيامة . قيل : فيه مَقامُ الله . والظاهرُ أن الجنَّتَيْن لخائفٍ واحدٍ . وقيل : جنةٌ لخائفِ الناسِ ، وأُخرى لخائفِ الجنِّ ، فيكون من بابِ التوزيعِ . وقيل « مَقام » هنا مُقْحَمٌ والتقدير : ولِمَنْ خاف ربَّه وأنشد :
4186 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ونَفَيْتُ عنه ... مَقامَ الذِّئْبِ كالرَّجُلِ اللعينِ
أي : نَفَيْتُ الذئبَ ، وليس بجيدٍ؛ لأنَّ زيادةَ الاسمِ ليسَتْ بالسهلة .

ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48)

قوله : { ذَوَاتَآ } : صفةٌ ل جَنَّتان ، أو خبرُ مبتدأ محذوفٍ ، أي : هما ذواتا . وفي تثنية « ذات » لغتان : الردُّ إلى الأصلِ ، فإنَّ أصلَها « ذَوْيَة » فالعينُ واوٌ ، واللامُ ياءٌ ، لأنَّها مؤنثةُ ذو . والثانية : التثنيةُ على اللفظِ فيُقال : ذاتا .
والأَفْنان : فيه وجهان ، أحدُهما : أنه جمعُ فَنَن كطَلَل وهو الغُصْنُ . قال النابغة الذبياني :
4187 بكاءَ حمامةٍ تَدْعو هَدِيلاً ... مُفَجَّعةٍ على فَنَنٍ تُغَنِّي
وقال آخر :
4188 رُبَّ وَرْقاءَ هَتُوفٍ بالضُّحى ... ذاتِ شَجْوٍ صَدَحَتْ في فَنَنِ
وقال آخر :
4189 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... على كلِّ أفنانِ العِضاهِ تَرُوْقُ
والثاني : أنه جمعُ فَنّ كدَنّ ، وإليه أشار ابنُ عباس . والمعنى : ذواتا أنواعٍ وأشكالٍ . وأنشدوا :
4190 ومِنْ كلِّ أفنانِ اللَّذاذَةِ والصِّبا ... لَهَوْتُ به والعيشُ أخضرُ ناضِرُ
إلاَّ أنَّ الكثيرَ في « فَنّ » أَنْ يُجْمع على « فُنون » .

مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54)

قوله : { مُتَّكِئِينَ } : يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنْ « مَنَ » في قولِه : « ولِمَنْ خافَ » ، وإنَّما جُمعَ حَمْلاً على معنى « مَنْ » بعد الإِفراد حَمْلاً على لفظها . وقيل : حالٌ عامِلُها محذوفٌ أي : يَتَنَعَّمون مُتَّكئين . وقيل : منصوبٌ على الاختصاصِ . والعامَّةُ على « فُرُش » بضمَّتين . وأبو حيوة بضمةٍ وسكونٍ وهي تخفيفٌ منها . /
قوله : { بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } هذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكونَ مستأنفةً . والظاهر أنَّها صفةٌ ل « فُرُش » . و « مِنْ إستبرق » قد تَقَدَّم الكلام في الاستبرق وما قيل فيه في سورة الكهف . وقال أبو البقاء هنا : « أصلُ الكلمةِ فِعْلٌ على اسْتَفْعَلَ فلمَّا سُمِّي به قُطِعَتْ همزتُه . وقيل : هو أعجميُّ . وقرِىء بحَذْفِ الهمزةِ وكسر النونِ ، وهو سَهْوٌ؛ لأنَّ ذلك لا يكون في الأسماءِ بل في المصادرِ والأفعال » . انتهى . أمَّا قولُه « وهو سهوٌ لأن ذلك لا يكون » إلى آخرِه ، يَعْني أنَّ حَذْفِ الهمزةِ في الدَّرْجِ لا يكونُ إلاَّ في الأفْعال والمصادرِ ، وأمَّا الأسماءُ فلا تُحْذَفُ هَمَزاتُها لأنَّها هَمَزات قَطْعٍ . وهذا الكلامُ أحقُّ بأن يكونَ سَهْواً؛ لأنَّا أولاً لا نُسَلِّمُ أنَّ هذه القراءةَ مِنْ حَذْفِ همزةِ القطعِ إجراءً لها مُجْرى همزةِ الوَصْلِ . وإنَّما ذلك مِنْ بابِ نَقْلِ حركةِ الهمزةِ إلى الساكن قبلَها ، وحركةُ الهمزةِ كانَتْ كسرةً فحركةُ النونِ حركةُ نَقْلٍ لا حركةُ التقاءِ ساكنين . ثم قولُه : « إلاَّ في الأفعال والمصادرِ » ليس هذا الحصرُ بصحيح اتفاقاً لوجودِ ذلك في أسماءٍ عشرةٍ ليسَتْ بمصادرَ ، ذكرْتُها في أولِ هذا الموضوع .
قوله : { وَجَنَى الجنتين دَانٍ } مبتدأٌ وخبرٌ . ودانٍ أصلهُ دانِوٌ مثلَ غازٍ ، فأُعِلَّ كإِعلالِه . وقرأ عيسى بن عمر « وجَنِيَ » بكسر النون . وتوجيهُها : أن يكونَ أمال الفتحة لأجل الألف ، ثم حذف الألف لالتقاءِ السَّاكنين ، وأبقى إمالة النون فَظُنَّتْ كسرةً . وقُرِىء « وجِنَى » بكسر الجيم ، وهي لغة . والجَنى : ما يُقْطَفُ من الثمار . وهو فَعَل بمعنى مَفْعُول كالقَبَض والنَقَص .

فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56)

قوله : { فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ } : اختُلِفَ في هذا الضمير ، فقيل : يعود على الجنات ، فيقال : كيف تَقَدَّمَ تثنيةٌ ثم أُتِي بضمير جَمْع؟
فالجوابُ : أنَّ أقلَّ الجمعِ اثنان على قولٍ ، وله شواهدُ قد تقدَّم أكثرُها . وإمَّا أن يقالَ : عائدٌ على الجنات المدلولِ عليها بالجنتْين ، وإمَّا أَنْ يقالَ : إنَّ كل فردٍ فردٍ له جنتان فصَحَّ أنها جناتٌ كثيرة ، وإمَّا أنَّ الجنةَ تشتمل على مجالسَ وقصورٍ ومنازلَ فأطلقَ على كلِّ واحدٍ منها جنة . وقيل : يعودُ على الفُرُش . وهذا قولٌ حَسَنٌ قليلُ الكُلْفَةِ .
وقال الزمشخري : « فيهِنَّ : في هذه الآلاءِ المعدودة من الجنَّتَيْن والعينَيْن والفاكهةِ والفُرُشِ والجَنَى » . قال الشيخ : « وفيه بُعْدٌ » وكان قد اسْتَحْسَنَ الوجهَ الذي قبله . وفيه نظرٌ؛ لأنَّ الاستعمالَ أَنْ يُقال : على الفِراش كذا ، ولا يقال : في الفِراش كذا إلاَّ بتكلُّف؛ فلذلك جَمَعَ الزمخشريُّ مع الفُرُش غيرَها حتى صَحَّ له أَنْ يقولَ : « فيهن » بحرف الظرفيَّة ، ولأن الحقيقةَ أنَّ الفُرُشَ يكون الإِنسانُ عليها؛ لأنه مُستَعْلٍ عليها . وأمَّا كونُه فيها فلا يقال إلاَّ بمجازٍ . وقال الفراء : « كلُّ موضع في الجنةِ جنةٌ ، فلذلك صَحَّ أَنْ يُقالَ : فيهِنَّ ، والقاصِراتُ : الحابساتُ الطرفِ ، أي : أعينُهُنَّ عن غيرِ أَزْواجهن . ومعناه : قَصَرْنَ ألحاظَهُنَّ على أزواجِهنَّ . قال امرؤ القيس :
4191 مِن القاصِراتِ الطَّرْفِ لو دَبَّ مُحْوِلٌ ... من الذَّرِّ فوق الإِتْبِ منها لأَثَّرا
وقاصراتُ الطرفِ : مِنْ إضافةِ اسم الفاعلِ لمنصوبِه تخفيفاً إذ يقال : قَصَرَ طَرْفَه على كذا . وحُذِف متعلَّقُ القَصْرِ للعلمِ به ، أي : على أزواجِهِنَّ ، كما تقدَّم تقريرُه . وقيل : المعنى : قاصراتٌ طَرْفَ غيرِهن عليهنَّ ، أي : إذا رآهن أحدٌ لم يتجاوَزْ طرفُه إلى غيرِهنَّ .
قوله : { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ } هذه الجملةُ يجوز أَنْ تكونَ نعتاً لقاصِرات؛ لأن إضافتَها لفظيةٌ ، كقولِه { هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } [ الأحقاف : 24 ] و [ وقوله ] :
4192 يا رُبَّ غابطِنا لو كان يَطْلُبُكمْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وأَنْ تكونَ حالاً لتخصُّصِ النكرةِ بالإِضافة . واخْتُلِفَ في هذا الحرفِ والذي بعدَه عن الكسائيِّ : فنُقِل عنه أنَّه كان يُخَيِّرُ في ضَمِّ أيِّهما شاءَ القارىءَ . ونَقَل عنه الدُّوريُّ ضمَّ الأولِ فقط ونَقَل عنه أبو الحارث ضمَّ الثاني فقط ، وهما لغتان . يُقال : طَمَثَها يَطْمِثُها ويَطْمُثُها إذا جامَعَها . وأصلُ الطَّمْثِ : الجماعُ المؤدِّي إلى خروجِ دمِ البِكْرِ ، ثم أُطْلِقَ على كلِّ جِماع : طَمْثٌ ، وإنْ لم يَكُنْ معه دمٌ . وقيل : الطَمْثُ دَمُ الحَيْضِ أو دمُ الجِماع . وقيل : الطَمْثُ المَسُّ الخاص . وقرأ الجحدري » يَطْمَثْهُنَّ « بفتح الميم في الحرفَيْن ، وهو شاذٌّ إذ ليسَتُ عينُه ولا لامُه حرفَ حَلْقٍ . والضميرُ في » قبلَهُمْ « عائدٌ على الأزواجِ الدالِّ عليهم قولُه » قاصراتُ الطَّرْفِ « أو الدالِّ عليه » مُتَّكئين « .

كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58)

قوله : { كَأَنَّهُنَّ الياقوت } : هذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكون نعتاً لقاصِرات ، وأن تكونَ حالاً منها . ولم يَذْكُرْ مكيٌّ غيرَه . والمَرْجان تقدَّم ما هو؟ والياقوتُ : جوهرٌ نفيسٌ . يُقال : إن النارَ لم تُؤَثِّرْ فيه ، ولذلك قال الحريري :
4193 وطالما أُصْلِيَ اليقاوتُ جَمْرَ غَضَا ... ثم انْطفا الجمرُ والياقوتُ ياقوتُ
أي : باقٍ على حالِه لم يتأثَّرْ بها . ووجهُ التشبيهِ كما قال الحَسَنُ . في صفاءِ الياقوتِ/ وبياضِ المَرْجان . وهذا على القول بأنه أبيضُ وقد تقدَّم ، وقيل : الوجهُ في . . . ونفاسَتِهما ولذلك سَمَّوْا بمَرْجانة ودُرَّة وشبهِ ذلك .

هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)

وقرأ ابن أبي إسحاق « إلاَّ الحِسانُ » ، أي : إلاَّ الحُوْرُ الحِسان .

وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62)

قوله : { وَمِن دُونِهِمَا } : أي : مِنْ دونِ تَيْنَكَ الجَنَّتَيْن المتقدِّمتين : جَنَّتان في المنزلةِ وحُسْنِ المنظرِ . وهذا على الظاهر مِنْ أنَّ الأُوْلَيَيْنِ أفضلُ من الأُخْرَيَيْنِ . وقيل بالعكس ، ورَجَّحه الزمخشري .

فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66)

والنَّضْخُ : فوق النَّضْحِ بالحاءِ ، لأنَّ النَّضْحَ بالحاءِ : الرَّشُّ والرَّشْحُ ، والنَّضْخُ بالخاء : فَوَرانُ الماء . والادْهِيْمامُ : السَّوادُ وشدةُ الخضرةِ ، جُعِلا مُدْهامَّتيْن لشدَّة رِيِّهما ، وهذا مُشاهَدٌ بالنظر ، ولذلك قالوا : « سوادُ العراق » لكثرةِ شَجَره وزروعِه .

فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68)

قوله : { وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } : استدلَّ بعضُهم بها على أنهما ليسا من الفاكهة لاقتضاءِ العطفِ المغايرة . فلو حَلَفَ : « لا يأكلُ فاكهةً » لم يَحْنَثْ بأَكْلهما . وبعضُهم يقول : هو من باب ذِكْر الخاص بعد العام تفصيلاً له كقولِه : { وملائكته } [ البقرة : 97 ] ثم قال : « وجبريلَ وميكَال » وهو تَجَّوُّزٌ؛ لأنَّ فاكهة ليس عامَّاً؛ لأنه نكرةٌ في سياقِ الإِثْبات ، وإنما هو مُطْلَقٌ ، ولكنْ لَمَّا كان صادقاً على النخل والرمَّان قيل فيه ذلك .

فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70)

قوله : { خَيْرَاتٌ } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّه جمعُ « خَيْرَة » . بزِنةِ فَعْلَة بسكونِ العين . يقال : امرأةٌ خَيْرَةٌ وأخرى شَرَّةٌ . والثاني : أنه جمعُ خَيْرة المخففة مِنْ خَيِّرة . ويَدُلُّ على ذلك قراءةُ ابن مقسم واليزيدي وبكر بن حبيب « خَيِّرات » تشديد الياء . وقرأ أبو عمروٍ « خَيَرات » بفتح الياء جمع « خَيْرَة » وهي شاذَّةٌ ، لأن العين معتلةٌ؛ إلاَّ أن بني هُذَيلٍ تُعامِله معاملةَ الصحيح فيقولون ، جَوَزات وبَيَضات وأُنْشِد :
4194 أخو بَيَضاتٍ رائِحٌ مُتَأَوِّبُ ... رفيقٌ بمَسْحِ المَنْكِبَيْنِ سَبُوْحُ

حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72)

ومَقْصورات ، أي : مَحْبوسات ، ومنه « القَصْر » لأنه يَحْبِسُ مَنْ فيه ، ومنه قولُ النحاة « المقصور » لأنه حُبِس عن المدِّ أو حُبس عن الإِعراب ، أو حُبِس الإِعرابُ فيه ، والنساء تُمْدَحُ بملازَمَتِهِنَّ البيوتَ كما قال [ أبو ] قيس بن الأسلت :
4195 وتَكْسَلُ عن جيرانِها فيَزُرْنَها ... وتَعْتَلُّ عن إتْيانِهِنَّ فتُعْذَرُ
ويقال : امرأةٌ مَقْصورة وقَصيرة وقَصورة ، بمعنىً واحد . قال كثير عزة :
4196 وأنتِ التي حَبَّبْتِ كلَّ قصيرةٍ ... إليَّ ولم تَعْلَمْ بذاك القَصائرُ
عَنَيْتُ قصيراتِ الحِجالِ ولم أُرِدْ ... قِصارَ الخُطا شَرُّ النساءِ البَحاتِرُ
والخِيام : جمعُ خَيْمة وهي تكونُ مِنْ نَمَّام وسائرِ الحَشيش ، فإنْ كانَتْ مِنْ شَعْرٍ فلا يُقال لها : خَيْمةٌ بل بَيْتٌ . وقال جرير :
4197 متى كان الخيامُ بذي طُلوحٍ ... سُقِيْتِ الغَيْثَ أيتها الخيامُ

مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76)

قوله : { رَفْرَفٍ } : الرَّفْرَفُ جمع رَفْرَفَة فهو اسمُ جنسٍ . وقيل : بل هو اسمُ جمعٍ ، نقلهما معاً مكيٌّ ، وهي ما تَدَلَّى من الأسِرَّة مِنْ عالي الثياب . وقال الجوهريُّ : « ثيابٌ خُضْرٌ يُتَّخَذُ منها المجالِسُ ، الواحدةُ رَفْرَفة » واشتقاقُه مِنْ رَفَّ الطائرُ : أي : ارتفع في الهواء . ورَفْرَفَ بجناحَيْه : إذا نَشَرهما للطيران ورَفْرَفُ السَّحابِ هُبوبُه ، ويَدُلُّ على كونه جمعاً وصفُه بالجمع . وقال الراغب : « رفيفُ الشجر : انتشارُ أغصانِه . ورَفَّ الطائرُ : نَشَرَ جناحَه يَرِفُّ بالكسرِ . ورَفَّ فَرْخَه يَرُفُّه بالضم تَفَقَّده ، ثم اسْتُعير للتفَقُّدِ . ومنه » ماله حافٌّ ولا رافٌّ « ، أي : مالَه مَنْ يَحُفُّه ويتفقَّدُه . والرَّفْرَفُ : المنتشِرُ من الأوراقِ . وقولُه { على رَفْرَفٍ خُضْرٍ } : ضَرْبٌ من الثياب مُشَبَّه بالرياض . وقيل : الرَّفْرَفُ طرفُ الفُسْطاطِ والخِباءِ الواقعِ على الأرض دونَ الأَطنْابِ والأوتادِ . وذكر الحسن أنه المَخادُّ » انتهى . وقال ابن جُبير : « رياضُ الجنَّة ، مِنْ رَفَّ البيتُ إذا تَنَعَّمَ وحَسُن . وعن ابن عُيَيْنة هي الزَّرابِيُّ . ونُعِت هنا بخُضْر لأنَّ اسمَ الجنسِ يُنْعَتُ بالجمعِ كقولِه : { والنخل بَاسِقَاتٍ } [ ق : 10 ] وبالمفرِد . وحَسَّنَ جَمْعَه هنا جَمْعُ حِسان . وقرأ العامَّةُ » رَفْرَفٍ « وقرأ عثمان بن عفان ونصر ابن عاصم وعاصم والجحدري والفرقبي وغيرهم » رَفارِفَ خُضْرٍ « بالجمع وسكونِ الضاد . وعنهم أيضاً » خُضُرٍ « بضم الضاد وهو إتباعٌ للخاء . وقيل : هي لغةٌ في جمع أَفْعَلَ الصفةِ . وأُنْشد لطرفة :
4198 أيها الفتيانُ في مَجْلِسِنا ... جَرِّدُوا منها وِراداً وشُقُرْ
وقال آخر :
4199 وما انْتَمَيْتُ إلى خُوْرٍ ولا كُسُف ... ولا لئامٍ غداةَ الرَّوْع أَوْزاعِ
وقرؤوا » عباقِرِيَّ « بكسر القاف وفتحِها وتشديدِ الياءِ متوحةً/ على مَنْعِ الصرفِ . وهي مُشْكِلَةٌ؛ إذ لا مانعَ من تنوينِ ياءَيْ النسَبِ ، وكأنَّ هذا القارىءَ تَوَهَّمَ كَوْنَها في مَفاعِل فمنعَها من الصرفِ . وقد رَوَى عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وجماعةٍ » وعباقِرِيٍّ « منوناً ابنُ خالويه ورُوِي عن عاصمٍ » رَفارِفٍ « بالصرف . وقد يُقال في مَنْ مَنَعَ » عباقِرِيَّ « إنَّه لما جاوزَ » رفارِفَ « الممتنعَ امتنع مُشاكلةً . وفي مَنْ صَرَفَ رفارِفَ : إنَّه لما جاوَزَ عباقِريَّاً المنصرفَ صَرَفَه للتناسُب ك { سَلاسلاً وأَغْلالاً } [ الإِنسان : 4 ] كما سيأتي .
وقرأ أبو محمد المروزي وكان نَحْوياً » خَضَّارٍ « كضَرَّاب بالتشديد . وأَفْعَلُ وفَعَّالٌ لا يُعْرَفُ .
والجمهورُ » وعَبْقِرِيٍّ « منسوب إلى عَبْقَر ، تَزْعُم العربُ أنه بلدُ الجن فكلُّ ما عَظَّموه وتعجَّبوا منه قالوا : هذا عَبْقريٌّ . وفي الحديث : » فلم أرَ عَبْقَريَّاً يَفْري فَرِيَّه « والمرادُ به هنا قيل : البُسُط التي فيها صُوَرٌ وتماثيلُ . وقيل : هي الزَّرابِيُّ . وقيل : الطَّنافِسُ . وقيل : الدِّيباج . وعَبْقريّ جمع عَبْقَريَّة ، يعني فيكونُ اسمَ جنسٍ ، كما تقدَّم في رَفْرفَ . وقيل : هو واحدٌ دالٌّ على الجمع ، ولذلك وُصِف بحسان .

تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)

قوله : { ذِي الجلال } : قرأ ابن عامر « ذو الجَلال » بالواو ، وجَعَله تابعاً للاسم ، وهكذا هي مرسومةٌ في مصحف الشاميين . والباقون بالياء صفةً للرَّبِّ ، فإنه هو الموصوفُ بذلك ، وأَجْمَعوا على الواوِ في الأول إلاَّ مَنْ ذكَرْتُه فيما تقدَّم .

إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2)

قوله : { إِذَا وَقَعَتِ } : فيها أوجهٌ أحدها : أنها ظرفٌ محْضٌ ليس فيه معنى الشرط والعامل فيها « ليس » . والثاني : أنَّ العاملَ فيها اذْكُر مقدراً . قال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : بم انتصبت » إذا «؟ قلت : بليس ، كقولك : » يومَ الجمعة ليس لي شُغْلٌ « ثم قال : » أو بإضمارِ اذكُرْ « . قال الشيخ : » ولا يقول هذا نَحْوِيٌّ ، ولا مَنْ شدا شيئاً مِنْ صناعةِ النحوِ « . قال : » لأن « لَيْسَ » مثل « ما » النافية ، فلا حَدَثَ فيها ، فكيف يعملُ في الظرف مِنْ غير حَدَثٍ؟ وتَسْمِيتُها فِعْلاً مجازٌ . فإنَّ حَدَّ الفعل غير مُنْطَبِقٍ عليها « ، وكَثَّرَ الشيخُ عليه من هذا المعنى . ثم قال : » وأما المثال الذي نَظَّر به فالظرف ليس معمولاً ل « ليس » بل للخبر ، وتقَدَّمَ معمولُ خبرِها عليها ، وهي مسألةُ خلاف « انتهى . قلت : الظروفُ تعملُ فيها روائحُ الأفعالِ . ومعنى كلامِ الزمخشريِّ : أنَّ النفي المفهومَ مِنْ » ليس « هو العاملُ في » إذا « كأنه قيل : ينفي كَذِبُ وقوعِها إذا وَقَعَتْ . ويدلُّ على ما قُلْتُه قولُ أبي البقاء : » والثاني ظرفٌ لِما دَلَّ عليه { لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ } ، أي : إذا وقعت لم تكذبْ « فإنْ قيل فَلْيَجُزْ ذلك في » ما « النافية أيضاً ، فالجواب : أنَّ الفعلَ أقربُ إلى الدلالةِ على الحَدَثِ من الحرفِ .
الثالث : أنَّها شرطيةٌ . وجوابُها مقدرٌ ، أي : إذا وقعَتْ كان كيتَ وكيتَ ، وهو العاملُ فيها . والرابع : أنها شرطيةٌ ، والعاملُ فيها الفعلُ الذي بعدَها ويليها ، وهو اختيارُ الشيخ ، وتبَع في ذلك مكيَّاً . قال مكي : » والعاملُ فيها « وَقَعَتْ » لأنها قد يُجازى بها ، فعَمِل فيها الفعلُ الذي بعدها كما يَعْمل في « ما » و « مَنْ » اللتَيْن للشرط في قولك : ما تفعَلُ أفعَلْ ، ومَنْ تُكرِمْ أُكْرِمْ « ، ثم ذكر كلاماً كثيراً . الخامس : أنها مبتدأٌ ، و » إذا رُجَّتْ « خبرُها ، وهذا على قولِنا : إنها تَتَصرَّفُ ، وقد مَضَى القولُ فيه مُحرَّراً ، إلاَّ أن هذا الوجهَ إنما جَوَّزه الشيخُ ، جمالُ الدين ابن مالك وابن جني وأبو الفضل الرازي على قراءةِ مَنْ نصب » خافضةً رافعةً « على الحالِ . وحكاه بعضُهم عن الأخفش ، ولا أدري اختصاص ذلك يوجه النصب .
السادس : أنه ظرفٌ ل » خافضة « أو » رافعة « ، قاله أبو البقاء ، أي : إذا وَقَعَتْ خَفَضَتْ ورفعَتْ . السابع : أَنْ يكونَ ظرفاً ل » رُجَّتْ « » وإذا « الثانيةُ على هذا إمَّا بدلٌ من الأولى أو تكريرٌ لها . الثامن : أنَّ العاملَ فيه ما دلَّ عليه قوله : { فأصحابُ المَيْمَنَةِ } ، أي : إذا وَقَعَتْ باتَتْ أحوالُ الناسِ فيها .

التاسع : أنَّ جوابَ الشرطِ قولُه : { فأصحابُ المَيْمنةِ } إلى آخره .
و « لِوَقْعَتِها » خبرٌ مقدمٌ و « كاذبة » اسم مؤخرٌ . و « كاذبة » يجوزُ أَنْ يكونَ اسم فاعل وهو الظاهرُ ، وهو صفةٌ لمحذوف ، فقَدَّره الزمخشريُّ : « نفسٌ كاذبةٌ ، أي : إنه ذلك اليومَ لا يَكْذِبُ على الله أحدٌ ، ولا يُكَذِّبُ بيوم القيامةِ أحد » ثم قال : « واللامُ مثلُها في قولِه { قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي } [ الفجر : 24 ] إذ ليس لها نفسُ تُكَذِّبها وتقول : لم تكوني كما لها نفوسٌ كثيرةٌ يُكّذِّبْنَها اليومَ يَقُلْنَ لها : لم تكوني ، أو هو مِنْ قولهم : كَذَّبَتْ فلاناً نفسُه في الخطر العظيم إذا شَجَّعَتْهُ على مباشرته وقالَتْ له : إنَّك تُطيقه وما فوقه فَتَعَرَّضْ له ، ولا تبال به على معنى أنها وقعةٌ لا تُطاقُ شدةً وفظاعةً ، وأنْ لا نفس حينئذٍ تُحدِّث صاحبَها بما تُحَدِّثه به عند عظائمِ الأمورِ ، وتزيِّن له احتمالها وإطاقتها؛ لأنهم يومئذٍ أضعفُ مِنْ ذلكَ وأَذلُّ . ألا ترى إلى قولِه تعالى { كالفراش المبثوث } [ القارعة : 4 ] والفَراشُ مَثَلٌ في الضعف » . وقَدَّره ابن عطية : « حالٌ كاذبةٌ » قال : « وَيْحتمل الكلامُ على هذا معنيين ، أحدهما : كاذبة ، أي : مكذوبة فيما أَخْبر به عنها فسَمَّاها كاذبةً لهذا ، كما تقول : هذه قصةٌ كاذبةٌ ، أي : مكذوبٌ فيها . والثاني : أي : / لا يَمْضي وقوعُها كقولك : فلانٌ إذا حَلَّ لم يكذِبْ . والثاني : أن كاذبة مصدرٌ بمعنى التكذيب نحو : خائنة الأعين . قال الزمخشري : » مِنْ قولِك حَمَلَ فلانٌ على قرْنِه فما كَذَبَ ، أي : فما جَبُنَ ولا تَثَبَّط . وحقيقتهُ فما كَذَّب نفسَه فيما حَدَّثَتْه به من إطاقتِه له وإقدامهِ عليه وأنشد لزهير :
4200 لَيْثٌ بعَثَّرَ يَصْطادُ الرجالُ إذا ... ما الليثُ كَذَّب عن أقرانِه صَدَقا
أي : إذا وَقَعَتْ لم يكن لها رَجْعَةٌ ولا ارْتدادٌ « ، انتهى . وهو كلامٌ حسنٌ جداً .
ثم لك في هذه الجملةِ وجهان ، أحدُهما : أنها لا محلَّ لها من الإِعرابِ : إمَّا لأنَّها ابتدائيةٌ ولا سيما على رَأْيِ الزمخشري ، حيث جَعَلَ الظرفَ مُتَعَلِّقاً بها وإمَّا لأنَّها اعتراضيةٌ بين الشرطِ وجوابِه المحذوف . والثاني : أنَّ مَحَلَّها النصبُ على الحال ، قاله ابن عطية ، ولم يُبَيِّن صاحب الحال ماذا؟ وهو واضحٌ إذا لم يكُنْ هنا إلاَّ الواقعةُ ، وقد صَرَّحَ أبو الفضل بذلك .
وقرأ العامَّةُ برفعِ » خافضةٌ رافعةٌ « على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ ، أي : هي خافضةٌ قوماً إلى النار ورافعةٌ آخرين إلى الجنةِ ، فالمفعولُ محذوفٌ لفَهْمِ المعنى ، أو يكونُ المعنى : أنَّها ذاتُ خَفْضٍ ورَفْعٍ كقوله : { يُحْيِي وَيُمِيتُ } [ آل عمران : 156 ] { وكُلُواْ واشربوا } [ البقرة : 187 ] وقرأ زيد بن علي وعيسى والحسن وأبو حيوة وابن مقسم واليزيدي بنصِبها على الحالِ ، ويُروى عن الكسائيِّ أنه قال : » لولا أنَّ اليزيديَّ سَبَقني إليه لقَرَأْتُ به « انتهى . ولا أظنُّ مثلَ هذا يَصِحُّ عن مثل هذا .

واخْتُلف في ذي الحال ، فقال أبو البقاء : « من الضمير في » كاذبة « أو في » وَقَعَتْ « ، وإصلاحُه أن يقولَ : أو فاعل » وقعَتْ « إذ لا ضميرَ في » وقعَتْ « . وقال ابن عطية وأبو الفضل مِنْ » الواقعة « ، ثم قَرَّرا مجيءَ الحالِ متعددةً من ذي حالٍ واحدةٍ كما تجيءُ الأخبارُ متعددةً . وقد بَيَّنْتُ لك هذا فيما تقدَّم فاستغْنَيْت عن كلامِهما . قال أبو الفضل : » وإذا جُعِلَتْ هذه كلُّها أحوالاً كان العامل في « إذا وَقَعَتْ » محذوفاً يَدُلُّ عليه الفحوى ، أي : إذا وقعتْ يُحاسَبون .

إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4)

قوله : { إِذَا رُجَّتِ } : يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ « إذا » الأولى ، أو تأكيداً لها أو خبراً لها على أنها مبتدأةٌ كما تقدَّم تحريرُ هذا جميعِه ، وأَنْ يكونَ شرطاً ، والعامل فيها : إمَّا مقدَّرٌ وإمَّا فِعْلُها الذي يليها كما تقدَّم في نظيرتِها . وقال الزمشخري : « ويجوز أَنْ تنتصِب بخافضة رافعة ، أي : تَخْفِضُ وترفعُ وقتَ رَجِّ الأرض وبَسِّ الجبالِ ، لأنه عند ذلك ينخفضُ ما هو مرتفعٌ ويرتفعُ ما هو منخفضٌ » . قال الشيخ : « ولا يجوزُ أَنْ تنتصِبَ بهما معاً بل بأحدِهما ، لأنه لا يجتمعُ مؤثِّران على أثرٍ واحد » . قلت : معنى كلامِه أنَّ كلاً منهما متسلِّطٌ عليه من جهة المعنى ، وتكونُ المسألة من التنازع ، وحيئنذٍ تكون العبارةُ صحيحةً إذ يَصْدُقُ أنَّ كلاً منهما عاملٌ فيه ، وإن كان على التعاقُب .
والرَّجُّ : التحريكُ الشديدُ بمعنى زُلزلت . وبُسَّت الجبالُ : سُيِّرت مِنْ قولهم : بَسَّ الغنمَ ، أي : ساقَها أو بمعنى فُتِّتَتْ كقوله : { يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً } [ طه : 105 ] يدلُّ عليَه { فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً } . وقرأ زيد بن علي « رَجَّتْ » و « بَسِّتْ » مبنيين للفاعل على أنِّ رجَّ وبَسَّ يكونان لازمَيْن ومُتَعَدِّيَيْن ، أي : اُزِيحت وذهَبَتْ . وقرأ النخعي « مْنْبَتَّاً » بنقطتين مِنْ فوق ، أي : متقطعاً من البَتِّ . ومعنى الآية يَنْبو عنه .

فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8)

قوله : { فَأَصْحَابُ الميمنة مَآ أَصْحَابُ الميمنة } : « أصحاب » الأولى مبتدأٌ ، و « ما » استفهامٌ فيه تعظيمٌ مبتدأٌ ثانٍ ، و « أصحاب » الثاني خبرُه والجملةُ خبرُ الأولِ ، وتكرارُ المبتدأ هنا بلفظِه مُغْنٍ عن الضمير ومثلُه { الحاقة مَا الحآقة } [ الحاقة : 1-2 ] { القارعة مَا القارعة } [ القارعة : 1-2 ] ولا يكون ذلك إلاَّ في مواضعِ التعظيم . وهنا سؤالٌ : وهو أنَّ « ما » نكرةٌ وما بعده معرفةٌ ، فكان ينبغي أَنْ يقال « ما » خبر مقدمٌ ، « وأصحاب » الثاني وشبهُه مبتدأٌ؛ لأن المعرفة أحقٌّ بالابتداء من النكرةِ . وهذا السؤال واردٌ على سيبويه من مثل هذا ، وفي قولك : « كم مالُك » و « مَرَرْتُ برجل خيرٌ منه أبوه » ، فإنه يُعْرِبُ ما الاستفهامية و « كم » و « أَفْعَل » مبتدأ ، وما بعدها خبرُها . والجوابُ : أنه كَثُرَ وقوعُ النكرةِ خبراً عن هذه الأشياء كثرةً متزايدةً ، فاطَّردَ البابُ ليجريَ على سَننٍ واحدٍ . هكذا أجابوا ، وهذا لا ينهضُ مانعاً مِنْ جوازِ أَنْ تكونَ « ما » و « كم » وأفعلُ خبراً مقدماً . ولو قيل به لم يكنْ خطأ بل أقربُ إلى الصوابِ .
والمَيْمَنَةُ : مَفْعَلَةُ من لفظِ اليُمْن وكذلك المَشْأَمَة من اليدِ الشُّؤمى وهي الشِمالُ لتشاؤمِ العربِ بها ، أو من الشُّؤْم .

وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10)

قوله : { والسابقون السابقون } : فيه أوجهٌ : أحدُها : أنهما مبتدأٌ وخبرٌ . وفي ذلك تأويلان ، أحدهما : أنه بمعنى السابقون ، هم الذي اشْتُهِرَتْ حالُهم بذلك كقولِهم : أنت أنت ، والناسُ الناسُ ، وقولِه :
4201 أنا أبو النجمِ وشِعْري شِعْري ... وهذا يُقال في تعظيمِ الأمرِ وتفخيمهِ ، وهو مذهبُ سُيبويه .
التأويل الثاني : أنَّ مُتَعلَّقَ السَّبْقَتْينِ مختلفٌ ، إذ التقدير : والسابقونَ إلى الإِيمانِ السابقونَ إلى الجنة ، / أو السابقونَ إلى طاعةِ اللَّهِ السابقون إلى رحمتِه ، أو السابقون إلى الخيرِ السابقون إلى الجنة .
الوجه الثاني : أَنْ يكونَ « السابقون » الثاني تأكيداً للأول تأكيداً لفظيَّاً ، و « أولئك المقرَّبون » جملةٌ ابتدائيةٌ في موضوع خبرِ الأولِ ، والرابطُ اسمُ الإِشارةِ ، كقولِه تعالى : { وَلِبَاسُ التقوى ذلك خَيْرٌ } [ الأعراف : 26 ] في قراءة مَنْ قرأ برفع « لباسُ » في أحد الأُوجه .
الثالث : أَنْ يكونَ « السابقون » نعتاً للأول ، والخبرُ الجملةُ المذكورةُ . وهذا ينبغي أَنْ لا يُعَرَّجَ عليه ، كيف يُوْصَفُ الشيءُ بلفِظه وأيُّ فائدةٍ في ذلك؟ والأقربُ عندي إنْ وَرَدَتْ هذه العبارةُ مِمَّن يُعتبر أَنْ يكون سَمَّى التأكيدَ صفةً ، وقد فعل سيبويه قريباً من هذا .
الرابع : أَنْ يكونَ الوقفُ على قولِه « والسابقون » ويكونَ قولُه « السابقون ، أولئك المقرَّبون » ابتداءً وخبراً ، وهذا يقتضي أن يُعْطَفَ « والسابقون » على ما قبلَه ، لكنْ لا يليق عَطْفُه على ما قبلَه ويليه ، وإنما يليقُ عطفُه على « أصحابُ المَيْمنة » كأنه قيل : وأصحابُ الميمنة ما أصحابُ الميمنة ، والسابقون ، أي : ما السابقون تعظيماً لهم ، فيكون شركاءَ لأصحابِ الميمنة في التعظيم ، ويكون قولُه على هذا « وأصحابُ المَشْأمَةِ ، ما أصحابُ المشأمة » اعتراضاً بين المتعاطفَيْن . وفي هذا الوجهِ تكلُّفٌ كثير جداً .

فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)

قوله : { ثُلَّةٌ } : خبرُ مبتدأ مضمرٍ ، أي : هم . ويجوزُ أَنْ يكونَ مبتدأ خبرُه مضمرٌ ، أي : منهم ثُلَّةٌ ، أي : من السابقين يعني : أن التقسيمَ وقع في السابقين ، وأَنْ يكونَ مبتدأً خبرُه { فِي جَنَّاتِ النعيم } أو قولُه « على سُرُر » فهذه أربعةُ أوجهٍ .
والثُّلَّة : الجماعةُ من الناس . وقَيَّدها الزمخشريُّ بالكثيرة وأنشد :
4202 وجاءَتْ إليهم ثُلَّةٌ خِنْدِفِيَّةٌ ... بجيشٍ كتَيَّارٍ مِنْ البحرِ مُزْبِدِ
ولم يُقَيِّدْها غيرُه ، بل صَرَّح بأنها الجماعة قلَّت أو كَثُرَتْ . وقال الراغب : « الثُّلَّةُ قطعةٌ مجتمعةٌ من الصوف ، ولذلك قيل للغنم : ثَلَّة . قلت : يعني بفتح الثاء ، ومنه قولُه :
4203 أَمْرَعَتِ الأرضُ لَوَ أنَّ مالا ... لَوْ أن نُوْقاً لك أو جِمالا
أو ثَلَّةً مِنْ غنم إمَّا لا ... انتهى . ثم قال الراغب : » ولاعتبار الاجتماع قيل : « ثُلَّة من الأوَّلين ، وثُلَّة من الآخِرين » ، أي : جماعة وثَلَّلْتُ كذا : تناوَلْتُ ثُلَّةً منه . وثَلَّ عرشَه : أسقطَ ثُلَّة منه . والثَّلَلُ : قِصَرُ الأسنانِ لسُقوط ثُلَّةٍ منها . وأثَلَّ فَمُه سَقَطَتْ أسنانُه . وتَثَلَّلَتِ الرَّكِيَّةُ : تَهَدَّمَتْ « انتهى . فقد أطلق أنها الجماعة من غيرِ قَيْدٍ بقِلَّة ولا كثرةٍ ، والكثرةُ التي فهمها الزمخشريُّ قد تكونُ من السِّياق . و » مِنْ الأوَّلِين « صفةٌ لثُلَّة ، وكذلك » مِنْ الآخِرين « صفةٌ لقليل .

عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15)

وقرأ زيد بن علي وأبو السَّمَّال « سُرَر » بفتح الراء الأولى وقد تقدَّم أنها لغةٌ لبعضِ كلبٍ وتميم . والمَوْضونة : المَنْسوجة وأصلُه مِنْ : وضَّنْتُ الشيءَ ، أي : رَكَّبْتُ بعضَه على بعض . ومنه قيل للدِّرْعِ : مَوْضونة لتراكُبِ حِلَقِهِا . قال الأعشى :
4204 ومِن نَسْجِ داودَ مَوْضَوْنَةً ... تسيرُ مع الحيِّ عِيْراً فَعِيْرا
ومنه أيضاً « وَضِين الناقة ، وهو حِزامُها لتراكُبِ طاقاته قال الراجز :
4205 إليك تَعْدُو قِلقاً وضِيْنُها ... مُعْتَرضاً في بَطْنِها جنينُها
مُخالفاً دينَ النَّصارى دينُها ... وقال الراغب : » الوَضْنُ : نَسْيجُ الدِّرعِ . ويُسْتعار لكل نَسْجٍ مُحْكَم « ، فجعله أصلاً في نَسْج الدَّرْع . قال الشاعر :
4206 تقولُ وقد دَرَأْتُ لها وَضِيْني ... أهذا دينُه أبداً ودِيني
أي : حِزامي .

مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16)

قوله : { مُّتَّكِئِينَ ، مُتَقَابِلِينَ } : حالان من الضمير في « على سُرُر » ويجوز أَنْ تكونَ حالاً متداخلةً ، فيكون « متقابلين » حالاً من ضمير « متَّكئين » .

يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17)

قوله : { يَطُوفُ } : يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً ، وأنْ يكون استئنافاً .

بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18)

و « بأكْواب » متعلقٌ ب « يَطُوف » . والأباريق : / جمع إبْريق ، وهو مِنْ آنيةِ الخَمْر قال :
4207 أَفْنى تِلادي وما جَمَّعْتُ مِنْ نَشَبٍ ... قَرْعُ القواقيزِ أَفْواهَ الأباريقِ
وقال عدي بن زيد :
4208 وتداعَوا إلى الصَّبوحِ فجاءتْ ... قَيْنةٌ في يمينِها إبْريقُ
وقال آخر :
4209 كأن إبْريقَهم ظبيٌ على شَرَفٍ ... مُفَدَّمٍ بسَبا الكَتَّانِ مَلْثُوْمُ
ووزنُه إفْعيل لاشتقاقِه مِنْ البَريق والإِبريقُ ما له خُرطومٌ . قال بعضهم : وأُذُنٌ . وتقدَّم تفسيرُ الأكواب .

لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19)

قوله : { لاَّ يُصَدَّعُونَ } : يجوزُ أَنْ تكونَ مستأنفة أخبر عنهم بذلك ، وأن تكونَ حالاً من الضمير في « عليهم » ومعنى لا يُصَدَّعون عنها أي : بسببها . قال الزمخشري : « وحقيقتُه : لا يَصْدُرُ صُداعُهم عنها » والصُّداع : هو الداءُ المعروفُ الذي يَلْحَقُ الإِنسانَ في رأسِه ، والخمر تؤثِّر فيه . قال علقمة بن عبدة في وصف الخمر :
4210 تَشْفي الصُّداعَ ولا يُؤْذِيك صالبُها ... ولا يخالِطُها في الرأس تدويمُ
ولما قرأت هذا الديوان على الشيخ أثير الدين أبي حيان رحمه الله قال لي : هذه صفةُ خمر الجنة . وقال لي : لَمَّا قرأتُه على الشيخ أبي جعفر ابن الزبير قال لي : هذه صفةُ خمر الجنة . وقيل : لا يُصَدَّعون : لا يُفَرَّقون كما يتفرَّق الشَّربُ عن الشَّراب للعوارض الدنيوية . ومِنْ مجيء تَصَدَّعَ بمعنى تَفَرَّق قولُه : « فتصدَّع السحابُ عن المدينة » ، أي : تفرَّق . ويُرَجِّحه قراءةُ مجاهد « لا يَصَّدَّعون » بفتح الياءِ وتشديد الصادِ . والأصلُ : يَتَصَدَّعون ، أي : يتفرَّقون كقوله تعالى : { يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ } [ الروم : 43 ] . وحكى الزمخشري قراءةً وهي « لا يُصَدِّعون » بضم الياء وتخفيفِ الصادِ وكسرِ الدال مشددةً . قال : أي لا يُصَدِّعُ بعضُهم بعضاً ، أي : لا يُفَرِّقُونهم . وتقدَّم الخلافُ بين السبعة في « يُنزِفُونَ » وتفسيرُ ذلك .
وقرأ ابن أبي إسحاق بفتح الياء وكسر الزاي مِنْ نَزَفَ البِئْرُ ، أي : اسْتُقِيَ ما فيها . والمعنى : لا تَنْفَدُ خمرُهم . قال الشيخ : « وابن أبي إسحاق أيضاً ، وعبد الله والجحدريُّ والأعمش وطلحة وعيسى ، بضمِّ الياء وكسر الزاي أي : لا يَفْنى لهم شراب » . قلت : وهذا عجيبٌ منه فإنَّه قد تقدَّم في الصافات أن الكوفيين يَقْرَؤون في الواقعة بكسر الزاي ، وقد نقل هو هذه القراءة في قصيدته .

وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20)

قوله : { وَفَاكِهَةٍ } : العامَّةُ على جَرِّ « فاكهة ولحم » نَسَقاً على « أكواب » أي : يطوفون عليهم بهذه الأشياء : المأكول والمشروبِ والمتفكَّهِ به ، وهذا كمالُ العِيشةِ الراضيةِ . وقرأ زيد بن علي وأبو عبد الرحمن برفعهما ، على الابتداء ، والخبرُ مقدَّرٌ أي : ولهم كذا .

وَحُورٌ عِينٌ (22)

قوله : { وَحُورٌ } قرأ الأخَوان بجرِّ « حور عين » . والباقون برفعِهما . والنخعيُّ : « وحِيرٍ عين » بقلب الواو ياءً وجرِّهما ، وأُبَيٌّ وعبد الله « حُوْراً عيناً » بنصبهما . فأمَّا الجرُّ فمن أوجه ، أحدها : أنه عطفٌ على { جَنَّاتِ النعيم } [ الواقعة : 12 ] كأنه قيل : هم في جنات وفاكهة ولحمٍ وحورٍ ، قاله الزمخشري . قال الشيخ : « وهذا فيه بُعْدٌ وتفكيكُ كلامٍ مرتبطٍ بعضُه ببعض ، وهو فُهْمُ أعجمي » . قلت : والذي ذهب إليه معنى حسنٌ جداً ، وهو على حَذْفِ مضافٍ أي : وفي مقاربة حور ، وهذا هو الذي عناه الزمخشري . وقد صرَّح غيرُه بتقدير هذا المضاف . الثاني : أنه معطوفٌ على « بأكواب » وذلك بتجوُّزٍ في قوله : « يطُوفُ » إذ معناه : يُنَعَّموْن فيها باكواب وبكذا وبُحور ، قاله الزمخشري . الثالث : أنه معطوفٌ عليه حقيقةً ، وأن الوِلْدانَ يَطُوفون عليهم بالحور أيضاً ، فإن فيه لذةً لهم ، طافُوا عليهم بالمأكولِ والمشروبِ والمُتَفَكَّهِ بعد المنكوحِ ، وإلى هذا ذهب أبو عمرو بن العلاء وقطرب . ولا التفات إلى قولِ أبي البقاء : « عطفاً على أكواب في اللفظ دون المعنى؛ لأنَّ الحوَر لا يُطاف بها » .
وأمَّا الرفعُ فمِنْ أوجهٍ أيضاً ، عطفاً على « ولْدانٌ » ، أي : إنَّ الحورَ يَطُفْنَ عليهم بذلك ، كما الوَلائدُ في الدنيا . وقال أبو البقاء : « أي : يَطُفْنَ عليهم للتنعُّمِ لا للخدمة » قلت : / وهو للخدمةِ أبْلَغُ؛ لأنهم إذا خدمهم مثلُ أولئك ، فما الظنُّ بالمَوْطوءات؟ الثاني : أَنْ يُعطفَ على الضمير المستكنِّ في « مُتَّكِئين » وسَوَّغ ذلك الفصلُ بما بينهما . الثالث : أَنْ يُعْطفَ على مبتدأ وخبر حُذِفا معاً تقديرُه : لهم هذا كلُّه وحورٌ عين ، قاله الشيخ ، وفيه نظر؛ لأنَّه إنما عُطِف على المبتدأ وحدَهُ ، وذلك الخبرُ له ولِما عُطِف هو عليه .
الرابع : أَنْ يكونَ مبتدأً ، خبرُه مضمرٌ تقديرُه : ولهم ، أو فيها ، أو ثَمَّ حورٌ . وقال الزمخشري « على وفيها حُوْرٌ كبيت الكتاب :
4211 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... إلاَّ رَواكدَ جَمْرُهُنَّ هَباءُ
الخامس : أن يكونَ خبراً لمبتدأ مضمر ، أي : نساؤهم حورٌ ، قاله أبو البقاء . وأمَّا النصبُ ففيه وجهان ، أحدهما : أنه منصوبٌ بإضمارِ فِعْل ، أي : يَعْطَوْن ، أو يَرِثُون حُوْراً ، والثاني : أن يكونَ محمولاً على معنى : يَطوف عليهم؛ لأن معناه يُعْطَوْن كذا وكذا فعطف عليه هذا . وقال مكي : » ويجوز النصبُ على أَنْ يُحْمَلَ أيضاً على المعنى؛ لأنَّ معنى يَطوفُ وِلْدانٌ بكذا وكذا يُعْطَوْن كذا وكذا ، ثم عطف حوراً على معناه « فكأنه لم يَطَّلعْ عليها قراءةً .
وأمَّا قراءةُ » وحِيْرٍ « فلمجاورتها » عين « ولأنَّ الياءَ أخفُّ من الواو ، ونظيرهُ في التغيير للمجاورة : » أَخَذَه ما قَدُم وما حَدُث « بضم دال » حَدُث « لأجل » قَدُم « وإذا أُفْرِد منه فَتَحْتَ دالَه فقط ، وقوله عليه السلام :

« وربِّ السماوات ومَنْ أَظْلَلْنَ ورَبِّ الشياطين ومَنْ أَضْلَلْنَ » وقوله عليه السلام : « أيتكنَّ صاحبةُ الجمل الأَرْبَب تَنْبَحُها كلابُ الحَوْءَب » فَكَّ « الأَرْبَبَ » لأجل « الحَوْءَب » .
وقرأ قتادة « وحورُ عينٍ » بالرفع والإِضافة ل « عين » وابن مقسم بالنصب والإِضافةِ وقد تقدَّم توجيهُ الرفع والنصب . وأمَّا الإِضافةُ فمِنْ إضافة الموصوف لصفته مؤولاً . وقرأ عكرمةُ « وحَوْراءَ عَيْناءَ » بإفرادِهما على إرادةِ الجنس . وهذه القراءةُ تحتمل وجهَيْن : أحدهما : أَنْ تكونَ نصباً كقراءة أُبَيّ وعبد الله ، وأن تكونَ جرَّاً ، كقراءة الأخوَيْن؛ لأن هذين الاسمَيْن لا ينصرفان فهما محتملان للوجَهْين . وتقدَّم الكلام في اشتقاق العِين .

كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)

و { كَأَمْثَالِ } صفةٌ أو حالٌ . و « جزاءً » مفعول من أجله ، أو مصدر ، أي : يُجْزَوْن جزاءً .

إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)

قوله : { إِلاَّ قِيلاً } : فيه قولان ، أحدهما : أنه استثناءٌ منقطعٌ وهذا واضحٌ؛ لأنه لم يندَرِجْ تحت اللَّغْو والتأثيم . والثاني : أنه متصلٌ وفيه بُعْدٌ ، وكأن هذا رأى أن الأصلَ لا يَسْمعون فيها كلاماً فاندرَج عنده فيه . وقال مكي : « وقيل : منصوبٌ بيَسْمعون » وكأنه أرادَ هذا القول .
قوله : { سَلاَماً سَلاَماً } فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه بدلٌ مِنْ « قيلاً » أي : لا يسمعُون فيها إلاَّ سلاماً سلاماً . الثاني : أنه نعتٌ لقِيلا . الثالث : أنه منصوبٌ بنفس « قيلاً » أي : إلاَّ أَنْ يقولوا : سلاماً سلاماً ، هو قولُ الزجَّاج . الرابع : أَنْ يكونَ منصوباً بفعلٍ مقدرٍ ، ذلك الفعلُ مَحْكِيٌّ ب « قيلاً » تقديره : إلاَّ قيلاً اسْلَموا سَلاماً .
وقُرىء « سَلامٌ » بالرفع قال الزمخشري : « على الحكاية » . قال مكي : « ويجوزُ في الكلام الرفعُ على معنى : سلامٌ عليكم ، ابتداءٌ وخبرٌ » وكأنه لم يَعْرِفْها قراءةً .

فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28)

قوله : { مَّخْضُودٍ } : المخضودُ : الذي قُطِع شَوْكُه ، مِنْ خَضَدْتُه أي : قَطَعْتُه . وقيل المُوْقَرُ من الحَمْل حتى لا يَتَبَيَّن ساقُه وتَنْثَنِيَ أغصانُه مِنْ خَضَدْت الغصنَ أي ثنيْتُه . قال أمية بن أبي الصلت :
4212 إن الحَدائقَ في الجِنانِ ظليلةٌ ... فيها الكواعِبُ سِدْرُها مَخْضُوْدُ
والطَّلْحُ : جمع الطلحةُ وهي العظيمةُ من العِضاه . وقيل : هي أم غَيْلان . قال مجاهد : ولكنَّ ثمرَها أَحْلى من العسل . وقيل : هو المَوْزُ . ومعنى مَنْضود أي : متراكبٌ . وفي التفسير : لا يُرى له ساقٌ مِنْ كثرةِ ثمرِه . وقرأ علي رضي الله عنه وعبد الله وجعفر بن محمد « وطَلْع » بالعين ، ولمَّا قرأها علي رضي الله عنه قال : وما شَأْنُ الطَّلْح؟ واستدلَّ بقولِه : { لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ } [ ق : 10 ] فقيل له : أنُحَوِّلُها؟ فقال : آيُ القرآنِ لا تُهاجُ اليومَ ولا تُحَوَّلُ . ويُرْوى عن ابن عباس مثلُه . ومَسْكوب : أي مَصْبُوبٌ بكثرةٍ . وقُرِىءَ برفع « فاكهة » أي : وهناك ، أولهم ، أو فيها ، أو ثَمَّ فاكهة .

لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33)

قوله : { لاَّ مَقْطُوعَةٍ } : فيه وجهان ، أظهرهُما : أنه نعتٌ لفاكهة « ولا » للنفي ، كقولك : « مَرَرْتُ برجلٍ لا طويلٍ ولا قصير » ولذلك لزم تكرارُها . والثاني : هو معطوفٌ على فاكهة ، / و « لا » عاطفةٌ قاله أبو البقاء . وحينئذٍ لا بُدَّ مِنْ حَذْفِ موصوفٍ أي : لا فاكهةٍ مقطوعةٍ؛ لئلا تُعْطَفَ الصفةُ على موصوفِها .

وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34)

قوله : { وَفُرُشٍ } : العامَّةُ على ضمِّ الراء جمع فِراش . وأبو حيوة بسكونها وهي مخففةٌ من المشهورة . والفُرُشُ قيل : هي القماشُ المعهودُ . ومرفوعة على الأَسِرَّة . وقيل : هي كنايةٌ عن النساءِ ، كما كُنِي عنهنَّ باللِّباس ، قاله أبو عبيدة وغيرُه . قالوا : ولذلك أعاد الضميرَ عليهنَّ في قوله : « إنَّا أنشأناهنَّ » . وأجاب غيرُهم : بأنه عائدٌ على النساءِ الدالِّ عليهنَّ الفُرُشُ . وقيل : يعودُ على « حُور » المتقدمة . وعن الأخفش : هُنَّ ضميرٌ لمَنْ لم يَجْرِ له ذِكْرٌ ، يعني يدلُّ عليه السِّياقُ .

عُرُبًا أَتْرَابًا (37)

قوله : { عُرُباً } : جمع عَروب كصَبور وصُبُر . والعَرُوْب : المتحبِّبة إلى بَعْلِها . وقيل : الحسناءُ . وقيل : المُحْسِنة لكلامها . وقرأ حمزة وأبو بكر بسكونِ الراء ، وهذا كرسُل ورُسْل ، وفُرُش وفُرْش ، وقال ابن عباس : « هي العواتِقُ » . وأنشد للبيد :
4213 وفي الخُدورِ عَروبٌ غيرُ فاحِشةٍ ... رَيَّا الرَّوادِفِ يَعْشى دونَها البصَرُ
قوله : { أَتْرَاباً } جمع تِرْب وهو المساوي لك في سِنِّك؛ لأنَّه يَمَسُّ جِلْدَهما الترابُ في وقتٍ واحد ، وهو آكد في الائتلافِ ، وهو من الأسماءِ التي لا تتعرَّفُ بالإِضافةِ لأنه في معنى الصفةِ ، إذ معناه : مُساويك ، ومثلُه « خِدْنُك » لأنَّه في معنى صاحبك .

لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38)

قوله : { لأِّصْحَابِ اليمين } : في هذه اللامِ وجهان؛ أحدهما : أنها متعلِّقةٌ ب « أَنْشَأْنَاهُنَّ » أي : لأجل . والثاني : أنها متعلقةٌ ب « أَتْراباً » كقولك : هذا تِرْبٌ لهذا أي : مُساوٍ له .

وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43)

واليَحْموم وزنه فَيْعول . قال أبو البقاء : « مِنْ الحِمَم أو الحَميم » واليَحْموم قيل : هو الدُّخان الأسود البهيم . وقيل : وادٍ في جهنم . وقيل : اسمٌ من أسمائها ، والأولُ أظهرُ .

لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44)

قوله : { لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ } : صفتان للظلِّ كقولِه : « من يَحْموم » . وفيه أنه قد قَدَّم غيرَ الصريحة على الصريحة ، فالأَوْلَى أن يُجْعَلَ صفةً ليَحْموم ، وإن كان السياقُ يُرْشِدُ إلى الأول .
وقرأ ابنُ أبي عبلة « لا باردٌ ولا كريمٌ » برفعهما أي : هو لا باردٌ كقوله :
4214 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فأَبِيْتُ لا حَرِجٌ ولا مَحْرومُ

وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46)

قوله : { الحنث } : هو في أصلِ كلامهم العِدْلُ الثقيل ، وسُمِّي به الذنبُ والإِثم لثقلِهما ، قاله الخطابي : وفلانٌ حَنَثَ في يمينه أي : لم يَفِ بها؛ لأنه يَأْثَمُ غالباً ، ويُعَبَّرُ بالحِنْث عن البلوغِ ومنه « لم يَبْلُغوا الحنث » وإنما قيل ذلك لأنَّ الإِنسانَ عند بلوغِه إياه يُؤَاخذ بالحِنْث أي بالذنب . وتَحَنَّثَ فلانٌ أي : جانَبَ الحِنْثَ . وفي الحديث : « كان يَتَحَنَّثُ بغار حراء » أي يتعبَّد لمجانبته الإِثمَ نحو : تَحَرَّجَ ف تَفَعَّلَ في هذه كلِّها للسَلْب .

وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47)

قوله : { أَإِذَا مِتْنَا } : قد تقدَّم تقرير هذا كلِّه في الصافات . وتقدَّم الكلامُ على الاستفهامَيْن في سورة الرعد فأغنى ذلك عن إعادةِ كلِّ ذلك ولله الحمد .

لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52)

قوله : { مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ } : فيه أوجه ، أحدها : أَنْ تكونَ « مِنْ » الأولى لابتداء الغاية ، والثانية للبيان أي : مُبْتَدِئون الأكلَ من شجرٍ هو زَقُّوم . الثاني : أَنْ تكونَ « مِنْ » الثانيةُ صفةً لشجر ، فتتعلَّقَ بمحذوفٍ أي : مستقرٍ . والثالث : أَنْ تكونَ « مِنْ » الأولى مزيدةً أي : لآكلون شجراً ، و « مِنْ » الثانيةُ على ما تقدَّم فيها من الوجهَيْن . الرابع : عكسُ هذا ، وهو أَنْ تكونَ الثانيةُ مزيدةً أي : لآكلون زَقُّوماً ، و « مِنْ » الأُولى للابتداء ، أو في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ « زَقُّوم » أي : كائناً مِنْ شجرٍ ، ولو تأخَّر لكان صفةً . الخامس : أنَّ « مِنْ شجر » صفةٌ لمفعولٍ محذوفٍ أي : لآكلون شيئاً مِنْ شجرٍ ، « ومِنْ زَقُّوم » على هذا نعتٌ لشجر ، أو لشيء المحذوفِ . السادس : أنَّ الأولى للتبعيض ، والثانيةَ بدلٌ منها ، والضميرُ في « منها » عائدٌ على الشجر . وفي « عليه » للشجر أيضاً ، وقد تقدَّم أنه يجوزُ تذكيرُ اسم الجنس وتأنيثُه ، وأنهما لغتان . وقيل : في « عليه » عائدةٌ على الزقوم . وقال أبو البقاء : « للمأكول » . وقال ابن عطية : « للمأكول أو الأكل » . انتهى وفي قوله : « الأكل » بُعْدٌ . وقال الزمخشري : « وأنَّثَ ضميرَ الشجر على المعنى ، وذكَّره على اللفظ في » منها « و » عليه « . ومَنْ قرأ { مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ } فقد جعل الضميرين للشجرةِ ، وإنما ذكَّر الثاني على تأويلِ الزَّقُّوم لأنه تفسيرُها » .

فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55)

قوله : { شُرْبَ الهيم } : قرأ نافعٌ وعاصمٌ وحمزةُ بضم الشين ، وباقي السبعة بفتحِها ، ومجاهد وأبو عثمان النهدي بكسرِها فقيل : الثلاثُ لغاتٌ في مصدر شَرِب ، والمقيسُ منها إنما هو المفتوحُ . وقيل : المصدرُ هو المفتوحُ والمضموم والمكسورُ اسمان لِمَا يُشْرَبُ كالرِّعْي والطِّحْن . / وقال الكسائي : يُقالُ شرِبْتُ شُرباً وشَرْباً . ويروى قولُ جعفر : « أيامُ مِنى أيامُ أكلٍ وشُرْبٍ وبِعال » بفتح الشين . والشَّرْب في غيرِ هذا اسمٌ للجماعة الشاربين قال :
4215 كأنَّه خارِجٌ من جَنْبِ صَفْحَتِهِ ... سَفُّوْدُ شَرْبٍ نَسُوْهُ عند مُفْتَأَدِ
والمعنى : مثلَ شُرْبِ الهِيم . والهِيْمُ فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه جَمْعُ أَهْيمَ أو هَيْماء ، وهو الجَمَلَُ والناقةُ التي أصابها الهُيامُ وهو داءٌ مُعْطِشٌ تشرب الإِبلُ منه إلى أن تموتَ أو تَسْقُمُ سُقْماً شديداً ، والأصلُ : هُيْم بضمِّ الهاءِ كأَحْمر وحُمْراء وحُمْر ، فقُلِبت الضمةُ كسرةً لتصِحَّ الياءُ ، وذلك نحو : بِيْض في أبيض . وأُنْشد لذي الرمة :
4216 فأصبَحْتُ كالهَيْماءِ لا الماءُ مُبْرِدٌ ... صَداها ولا يَقْضي عليها هُيامُها
الثاني : أنه جمع هائِم وهائِمة من الهُيام أيضاً ، إلاَّ أنَّ جَمْعَ فاعِل وفاعِلة على فُعْل قليلٌ نادرٌ نحو : بازِل وبُزْل وعائِذ وعُوْذ ومنه : العُوْذُ المَطافيل . وقيل : هو من الهُيام وهو الذَّهابُ؛ لأنَّ الجملَ إذا أصابه ذلك هامَ على وَجْهه . الثالث : أنه جمع هَيام بفتح الهاء وهو الرَّمْلُ غيرُ المتماسكِ الذي لا يُرْوَى من الماء أصلاً ، فيكونُ مثلَ سَحاب وسُحُب بضمتين ، ثم خُفِّف بإسكان عينه ثم كُسِرَتْ فاؤه لتصِحَّ الياء ، كما فُعِلَ بالذي قبله . الرابع : أنَّه جمعُ « هُيام » بضم الهاء وهو الرَّمْل غيرُ المتماسكِ أيضاً لغةً في « الهَيام » بالفتح ، حكاها ثعلب ، إلاَّ أن المشهورَ الفتحُ ثم جُمع على فُعْل نحو : قُراد وقُرْد ، ثم خُفِّفَ وكُسِرَتْ فاؤُه لتصِحَّ الياء والمعنى : أنَّه يُصيبهم من الجوع ما يُلجِئُهم إلى أَكْلِ الزَّقُّوم ، ومن العطشِ ما يَضْطرُّهم إلى شُرْب الحميم مثلَ شُرْبِ الهِيْم . وقال الزمخشري : « فإن قلتَ : كيف صَحَّ عَطْفُ الشاربين على الشاربين ، وهما لذواتٍ واحدةٍ ، وصفتان متفقتان ، فكان عطفاً للشيء على نفسِه؟ قلت : لَيْستا بمتفقتَيْن من حيث إنَّ كونَهم شاربين على ما هو عليه مِنْ تناهي الحرارة وقَطْع الأمعاء أمرٌ عجيبٌ ، وشُرْبُهم له على ذلك كما تَشْرَب الهِيم أمرٌ عجيب أيضاً ، فكانتا صفتَيْن مختلفتَيْن » انتهى يعنى قولَه : « فشاربون عليه من الحميم ، فشاربون » وهو سؤالٌ حسنٌ ، وجوابُه مثلُه .
وأجاب بعضُهم عنه بجواب آخر : وهو أنَّ قولَه : { فَشَارِبُونَ شُرْبَ الهيم } تفسيرٌ للشُرْب قبلَه ، ألا ترى أنَّ ما قبلَه يَصْلُح أن يكونَ مثلَ شُرْبِ الهيمِ ومثلَ شُرْبِ غيرِها ففَسَّره بأنه مثلُ شُرْبِ هؤلاء البهائم أو الرِّمالِ .
وفي ذلك فائدتان ، إحداهما : التنبيهُ على كثرةِ شُرْبهم منه والثاني : عَدمُ جَدْوَى الشُّرْب ، وأن المشروبَ لا يَنْجَعُ فيهم كما لا يَنْجَعُ في الهِيْم على التفسيرَين .
وقال الشيخ : « والفاءُ تقتضي التعقيبَ في الشُّرْبَيْنِ ، وأنهم أولاً لمَّا عَطِشوا شَرِبوا من الحميم ، ظَنّاً منهم أنه يُسَكِّنُ عَطَشَهُم ، فازداد العطشُ بحرارةِ الحميمِ ، فشربوا بعده شُرْباً لا يقع بعدَه رِيٌّ أبداً . وهو مِثْلُ شُرْبِ الهيم فهما شُربان مِنَ الحَميم لا شُرْبٌ واحدٌ ، اختلفَتْ صفتاه فَعَطف . والمشروبُ مِنْه في { فَشَارِبُونَ شُرْبَ الهيم } محذوفٌ لفَهْمِ المعنى تقديرُه : فشاربون منه » انتهى . والظاهرُ أنه شُرْبٌ واحدٌ بل الذي نعتقدُ هذا فقط ، وكيف يُناسِبُ أَنْ تكونَ زيادتُهم العطشَ بشُرْبِه مقتضيةً لشُرْبِهم منه ثانياً؟

هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)

وقرأ العامَّةُ « نُزُلُهم » بضمتين . ورُوي عن أبي عمروٍ من طُرُق ، وعن نافعٍ وابنِ محيصنٍ بضمةٍ وسكونٍ ، وهو تخفيفٌ . وقد تقدَّم أن النُّزُلَ ما يُعَدُّ للضيفِ . وقيل : هو أولُ ما يأكلُه فسُمِّي به هذا تهكُّماً بمَنْ أُعِدَّ له ، وهو في المعنى كقولِ أبي السعر الضَّبِّي :
4217 وكُنَّا إذا الجبَّارُ أَنْزَلَ جَيْشَه ... جَعَلْنَا القَنا والمُرْهَفاتِ له نُزْلا

نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57)

قوله : { فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ } : تحضيضٌ . ومتعلَّقُ التصديقِ محذوفٌ تقديرُه : فلولا تُصَدِّقُون بخَلْقِنا .

أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58)

وقوله : { أَفَرَأَيْتُمْ } : هي بمعنى أَخْبِرْني . ومفعولُها الأولُ « ما تُمْنُوْن » ، والثاني : الجملةُ الاستفهاميةُ ، وقد تقدَّم تقريرُ هذا .

أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59)

و { أَأَنتُمْ } : يجوزُ فيه وجهان ، أحدُهما : أنه فاعل/ فعلٍ مقدرٍ أي : أتخلقونه ، فلَمَّا حُذِفَ الفعل لدلالةِ ما بعدَه عليه انفصل الضميرُ ، وهذا من بابِ الاشتغال . والثاني : أنَّ « أنتم » مبتدأٌ ، والجملةُ بعده خبرُه . والأولُ أرجحُ لأجلِ أداةِ الاستفهام .
وقوله : { أَم } يجوز فيها وجهان ، أحدهما : أنها منقطعةٌ؛ لأن بعدها جملةً ، وهي إنما تَعْطِفُ المفرداتِ . والثاني : أنها متصلةٌ . وأجابوا عن وقوعِ الجملةِ بعدها : بأنَّ مجيءَ الخبرِ بعد « نحن » أُتي به على سبيلِ التوكيدِ إذ لو قال : « أم نحنُ » لاكتُفِيَ به دونَ الخبرِ . ونظيرُ ذلك جوابُ مَنْ قال : [ مَنْ ] في الدار؟ زيدٌ في الدار ، أو زيدٌ فيها ، ولو اقْتُصِر على « زيد » لكان كافياً . قلت : ويؤيِّد كونَها متصلة أنَّ الكلامَ يَقْتَضي تأويلَه : أيُّ الأمرَيْن واقعٌ؟ وإذا صَلَحَ ذلك كانت متصلةً إذ الجملةُ بتأويلِ المفردِ .
ومفعولُ « الخالقون » محذوفٌ لفَهْم المعنى أي : الخالِقوه .
وقرأ العامَّةُ « تُمْنُوْن » بضمِّ التاء مِنْ أَمْنَى يُمْني . وابن عباس وأبو السَّمَّال بفتحِها مِنْ مَنَى يَمْنِي . وقال الزمخشري : يقال : « أمْنَى النُّطْفَةَ ومَناها . قال اللَّهُ تعالى : { مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تمنى } [ النجم : 46 ] انتهى . فظاهرُ هذا أنه استشهادٌ للثلاثي ، وليس فيه دليلٌ له؛ إذ يُقال من الرباعي أيضاً » تُمْنَى « كقول : » أنت تُكْرَم « وهو مِنْ أَكْرَم .

نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60)

وقرأ ابن كثير « قَدَرْنا » بتخفيفِ الدال . والباقون بالتشديد هنا ، وهما لغتان بمعنىً واحدٍ في التقدير الذي هو القضاءُ .

عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61)

قوله : { على أَن نُّبَدِّلَ } : يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ ب « مَسْبوقين » وهو الظاهرُ ، ولم يَسْبِقْنا أحدٌ على تبديلِنا أمثالَكم أي : يُعْجِزْنا يُقال : سبقَه على كذا أي : أَعْجَزه عنه وغَلَبه عليه . والثاني : أنه متعلِّقٌ بقوله : « قَدَّرنا » أي : قَدَّرْنا بينكم على أَنْ نُبَدِّلَ أي : نُمَوِّت طائفةً ونَخْلُقَها طائفةً أخرى ، قال معناه الطبري . فعلى هذا يكون قولُه : { وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } معترضاً ، وهو اعتراضٌ حسنٌ .
ويجوز في « أمثالَكم » وجهان ، أحدهما : أنه جمعُ « مِثْل » بكسر الميم وسكون الثاء ، أي : نحن قادرون على أن نُعدِمَكم ونَخْلُقَ قوماً آخرين أمثالَكم ، ويؤيِّده : « إنْ يَشَأْ يُذْهِبْكم أيها الناسُ ويَأْتِ بآخرين » والثاني : أنه جمع « مَثَل » بفتحتين ، وهو الصفةُ أي : نُغَيِّرُ صفاتِكم التي أنتم عليها خَلْقاً وخُلُقاً ، ونُنْشِئُكم في صفاتٍ غيرِها .

وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62)

وتقدَّم قراءتا « النشأة » في العنكبوت .

أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63)

قوله : { أَفَرَأَيْتُم } : وما بعده قد تَقَدَّم نظيرُه . وأُتي هنا بجواب « لو » مقروناً باللام وهو الأكثرُ؛ لأنه مُثْبَتٌ وحُذف في قولِه : « جَعَلْناه أُجاجاً » لأنَّ المِنَّةَ بالمأكولِ أعظمُ منها بالمشروب .
وقرأ طلحة « تَذْكُرُون » بسكون الذال وضمِّ الكاف .

لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65)

قوله : { فَظَلْتُمْ } : هذه قراءةُ العامَّةِ أعني فتحَ الظاء مع لامِ واحدة . وقد تقدَّم الكلامُ عليها مستوفى في طه . وأبو حيوة وأبو بكرٍ في روايةٍ بكسرِ الظاء . وعبد الله والجحدريُّ « فظَلِلْتُمْ » على الأصل بلامَيْن ، أُولاهما مكسورةٌ . ورُوي عن الجحدري فتحُها ، وهي لغةٌ أيضاً .
والعامةُ « تَفَكَّهون » بالهاء ، ومعناه : تَنْدَمون ، وحقيقتُه : تُلْقُون الفُكاهةَ عن أَنْفسِكم ، ولا تُلْقَى الفُكاهةُ إلاَّ من الخِزْيِ فهو من بابِ : تَحَرَّج وتَأَثَّم وتَحَوَّب . وقيل : تَفَكَّهون : تَعْجَبون . وقيل : تَلاومون ، وقيل : تَتَفَجَّعون ، وهذا تفسيرٌ باللازم .
وقرأ أبو حرام العكلي « تَفَكَّنون » بالنون مثل تَتَنَدَّمون . قال ابن خالويه : « تَفَكَّهَ تَعَجَّب ، وتَفَكَّن تندَّمَ » . وفي الحديث : « مَثَلُ العالِمِ مَثَلُ الحَمَّة يَأْتيها البُعَداء ويترُكها القُرَباء . فبيناهُمْ إذ غار ماؤها فانتفع بها قومٌ وبقي قومٌ يَتَفَكَّنون » أي : يَتَنَدَّمون .

إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66)

قوله : { إِنَّا لَمُغْرَمُونَ } : قرأ أبو بكر « أإنا » بالاستفهام وهو على أصلِه في تحقيقِ الهمزتَيْن وعَدَمِ إدْخال ألفٍ بينهما والباقون بالخبر . وقبلَ هذه الجملةِ قولٌ مقدرٌ على كلتا القراءتين . وذلك في محلِّ نصبٍ على الحالِ تقديرُه : فَظَلْتُم تَفَكَّهون قائلين أو تقولون : إنا لمُغْرَمون أي : لَمُلْزَمون غَرامةَ ما أَنْفَقْنا أو مُهْلَكون لهلاكِ رِزْقِنا ، من الغَرام وهو الهلاكُ . قاله الزمخشري . ومن الغَرام بمعنى الهَلاك قولُه :
4218 إن يُعَذِّبْ يَكُنْ غَراماً وإنْ يُعْ ... طِ جَزيلاً فإنَّه لا يُبالي

أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70)

قوله : { لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً } : / قد تقدَّم عدمُ دخولِ اللامِ في جواب « لو » هذه . وقال الزمشخري : « فإن قلتَ : لِمَ أُُدخِلَتِ اللامُ في جواب » لو « في قوله : { لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً } [ الواقعة : 65 ] ونُزِعَتْ منه ههنا؟ قلت : إنَّ » لو « لمَّا كانَتْ داخلةً على جملتَيْن ، مُعَلَّقةٍ ثانيتُهما بالأولى تعليقَ الجزاءِ بالشرط ، ولم تكن مُخَلِّصةً للشرط ك » إنْ « ولا عاملةً مثلَها ، وإنما سَرَى فيها معنى الشرطِ اتفاقاً ، من حيث إفادتُها في مضومونَيْ جملَتَيْها أنَّ الثاني امتنع لامتناع الأولِ ، افتقرَتْ في جوابِها إلى ما يَنْصَبُّ عَلَماً على هذا التعليقِ ، فزِيْدَتْ هذه اللامُ لتكونَ عَلَماً على ذلك ، فإذا حُذِفَتْ بعدما صارَتْ عَلَماً مشهوراً مكانُه فلأِنَّ الشيءَ إذا عُلِمَ وشُهِر مَوْقِعُه وصار مَأْلوفاً ومَأْنوساً به لم يُبالَ بإسقاطِه عن اللفظِ ، استغناءً بمعرفةِ السامع . ألا ترى إلى ما يُحْكى عن رؤبةَ أنه كان يقول : » خير « لمَنْ يقولُ له : كيف أصبحْتَ؟ فَحَذَفَ الجارَّ لِعِلْمِ كلِّ أحدٍ بمكانِه وتَساوي حالَيْ إثباتِه وحَذْفِه لشُهْرةِ أَمْرِه . وناهِيك بقولَ أوس :
4219 حتى إذا الكَلاَّبُ قال لها ... كاليومِ مَطْلوباً ولا طَلَبا
فحذفَ » لم أَرَ « حَذْفُها اختصارٌ لفظي ، وهي ثابتةٌ في المعنى فاستوى الموضعان بلا فرقٍ بينهما . على أن تَقَدُّمَ ذِكْرِها والمسافةُ قصيرةٌ مُغْنٍ عن ذِكْرِها ثانيةً . ويجوزُ أَنْ يُقال : إنَّ هذه اللامَ مفيدةٌ معنى التوكيدِ لا مَحالةَ ، فأُدْخِلَتْ في آيةِ المطعوم دونَ آيةِ المَشْروبِ ، للدلالةِ على أنَّ أَمْرَ المطعومِ مُقَدَّمٌ على أَمْرِ المشروبِ ، وأنَّ الوعيدَ بفَقْدِهِ أشدُّ وأصعبُ من قِبَلِ أنَّ المشروبَ إنما يُحتاجُ إليه تَبَعاً للمطعوم ، ألا ترى أنك إنما تَسْقي ضيفَك بعدما تُطْعِمُهُ ، ولو عَكَسْتَ قَعَدْتَ تحت قولِ أبي العلاءِ :
4220 إذا سُقِيَتْ ضُيوفُ الناس مَحْضاً ... سَقَوْا أضيافَهم شَبِماً زُلالا
وسُقِي بعضُ العربِ فقال : أنا لا أَشْرَبُ إلاَّ على ثميلة ، ولهذا قُدِّمَتْ آيةُ المطعومِ على آيةِ المشروب » انتهى .
قال الشيخ : « وقد طوَّل الزمخشريُّ » فلم يَذْكُرْ هذا الكلامَ الحسنَ ، ثم ذَكَر بعض كلامِه ، وواخَذَه في قولِه : « إنَّ الثاني امتنع لامتناعِ الأول » وجعلها عبارةَ بعض ضعفاءِ المُعْرِبين ، ثم ذكر عبارةَ سيبويه ، وهي : حرفٌ لِما كان سيقعُ لوقوعِ غيرِه ، وذكر أنَّ قولَ مَنْ قال : « امتناع لامتناع » فاسدٌ بقولك : لو كان هذا إنساناً لكان حيواناً ، يعني أنه لا يَلْزَمُ مِن امتناع الإِنسانية امتناعُ الحيوانية . ومِثْلُ هذه الإِيراداتِ سهلةٌ وإذا تَبِعَ الرجلُ الناسَ في عبارتهم لا عليه . على أنها عبارةُ المتقدِّمين من النحاة ، نَصَّ على ذلك غيرُ واحدٍ .
وقوله : { مِنَ المزن } : السحاب وهو اسم جنس واحدُه مُزْنة . قال الشاعر :
4221 فلا مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَها ... ولا أرضَ أَبْقَلَ إبْقالَها
وقال الآخر :
4222 ونحن كماءِ المُزْنِ ما في نِصابِنا ... كَهامٌ ولا فينا يُعَدُّ بخيلُ

أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71)

قوله : { تُورُونَ } : مِنْ أَوْرَيْتُ الزَّنْدَ أي : قَدَحْتَه فاستخرجتَ نارَه ، ووَرِي الزَّنْدُ يَرِي أي : خَرَجَتْ نارُه . وأصلُ تُوْرُوْن تُوْرِيُون .

نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73)

قوله : { لِّلْمُقْوِينَ } : يُقال : أَقْوَى الرجلُ : إذا حلَّ في الأرض القِواءِ ، وهي القَفْرُ ، كأصْحَرَ : دَخَلَ في الصحراء . وأَقْوَتِ الدار : خَلَتْ ، مِنْ ذلك لأنها تصير قَفْراً . قال النابغة :
4223 يا دارَميَّةَ بالعَلْياءِ فالسَّنَدِ ... أَقْوَتْ وطال عليها سالفُ الأبَدِ

فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75)

قوله : { فَلاَ أُقْسِمُ } : قرأه العامَّةُ « فلا » ، لامَ ألفٍ ، وفيها أوجهٌ ، أحدُها : أنها حرفُ نفي ، وأنَّ المنفيَّ بها محذوفٌ ، وهو كلامُ الكافرِ الجاحدِ تقديرُه : فلا حُجَّةَ لِما يقولُ الكافرُ ، ثم ابتدأ قَسَماً بما ذَكَر ، وإليه ذهب جماعةٌ من المفسِّرين والنَّحْويين . وضُعِّفَ هذا : بأنَّ فيه حَذْفَ اسمِ « لا » وخبرِها . قال الشيخ : « ولا يجوز » ولا ينبغي؛ فإن القائلَ بذلكَ مثلُ سعيدِ بنِ جُبير تلميذِ حَبْر القرآنِ وبحرِه عبدِ اللَّهِ ابن عباس رضي الله عنهما ، ويَبْعُدُ أَنْ يقولَه سعيدٌ إلاَّ بتوقيف .
الثاني : أنها زائدةٌ للتوكيدِ ، مِثْلُها في قولِه تعالى : { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ } [ الحديد : 29 ] والتقدير : فأُقْسِمُ ، وليَعْلَمَ ، وكقولِه :
4224 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فلا وأَبي أعدائِها لا أَخُوْنُها
الثالث : أنَّها لامُ الابتداءِ . والأصلُ : فَلأُقْسِمُ فأُشْبِعَتْ الفتحةُ فتولَّد منها ألفٌ ، كقولِه :
4225 أَعوذُ باللَّهِ من العَقْرابِ ... قاله الشيخُ ، واستشهدَ بقراءةِ هشام « أَفْئِيْدَة » . قلت . وهذا ضعيفٌ جداً ، واستند أيضاً لقراءةِ الحسن وعيسى/ « فَلأُقْسِمُ » بلامٍ واحدةٍ . قلت : وفي هذه القراءةِ تخريجان أحدُهما : أنَّ اللامَ لامُ الابتداءِ ، وبعدَها مبتدأٌ محذوفٌ ، والفعلُ خبرُه ، فلمَّا حُذِفَ المبتدأُ اتصلَتْ اللامُ بخبرِه وتقديرُه : فلأَنا أٌقْسِمُ نحو : لَزيدٌ منطلقٌ ، قاله الزمخشري وابن جني . والثاني : أنها لامُ القسمِ دخَلَتْ على الفعل الحالي . ويجوز أَنْ يكونَ القسم جواباً للقسمِ كقوله : { وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا } [ التوبة : 107 ] فنفسُ « ليَحْلِفُنَّ » قسمٌ جوابُه « إنْ أرَدْنَا » وهو جوابٌ لقسمٍ مقدرٍ ، كذلك هذا ، وهو قولُ الكوفيين : يُجيزون أَنْ يُقْسَم على فعلِ الحالِ . البصريُّون يَأْبَوْنه ويُخَرِّجون ما يُوهم ذلك على إضمار مبتدأ فيعود القسم على جملةٍ اسمية . ومنع الزمخشري أن تكونَ لامَ القسمِ قال : « لأمرَيْن ، أحدهما : أنَّ حَقَّها أَنْ تُقْرَنَ بالنونِ المؤكدةِ ، والإِخلالُ بها ضعيفٌ قبيحٌ . والثاني : أنَّ لأفعلنَّ في جواب القسم للاستقبالِ ، وفعلُ القسمِ يجب أَنْ يكونَ للحال » وهذا كما تقدَّم أنه يرى مذهبَ البَصرْيين ، ومعنى قولِه : « وفعلُ القَسَمِ يجبُ أنْ يكونَ للحال » يعني أنَّ فِعْلَ القسمِ إنشاءٌ والإِنشاءُ حالٌ . وإمَّا قولُه : « أَنْ يُقْرن بها النونُ » هذا مذهبُ البصريين . وأمَّا الكوفيون فيجيزون التعاقبَ بين اللام والنونِ نحو : واللَّهِ لأَضْرِبُ زيداً كقولِه :
4226 لَئِن تَكُ قد ضاقَتْ عليكم بيوتُكمْ ... لَيَعْلَمُ ربِّي أنَّ بيتيَ واسعُ
وواللَّهِ اضربَنَّ زيداً كقولِه :
4227 وقتيلُ مُرَّةَ أَثْأَرَنَّ . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد تقدَّم قريبٌ من هذه الآية في قولِه تعالى : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ } [ النساء : 65 ] ولكن هناك ما لا يُمْكن القولُ به هنا كما أنَّ هنا ما لا يمكن القولُ به هناك ، وسيأتي قريبٌ منه في القيامةِ في قراءةِ ابن كثير { لأُقْسِمُ بيوم القيامة } [ القيامة : 1 ] .
وقرأ العامَّة « بمواقِع » جمعاً ، والأخَوان « بموقع » مفرداً بمعنى الجمع لأنَّه مصدرٌ فوُحِّدَ ، ومواقعُها : مَساقِطُها ومَغارِبُها .==

ج16. الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي

وقيل : سُقوطُها يوم تَنْكَدِرُ . وقيل : النجومُ للقرآن ، ويؤيِّدُه « وإنَّه لَقَسَمٌ » ، و { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } والمُقْسَمُ عليه قولُه : { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } وعلى هذا فيكونُ في الكلام اعتراضان ، أحدُهما : الاعتراضُ بقوله : « وإنه لَقَسَمٌ » بين القسمِ والمُقْسَم عليه ، والثاني : الاعتراضُ بقولِه : « لو تعلمون » بين الصفةِ والموصوفِ . وأبى ابنُ عطية أَنْ يُجْعَلَ قولُه : « وإنَّه لَقَسَمٌ » اعتراضاً فقال : « وإنه لَقَسَمٌ » تأكيدٌ للأمرِ وتنبيهُ المُقْسَم به ، وليس هذا باعتراضٍ بين الكلامَيْن ، بل هذا معنىً قُصِدَ التَّهَمُّمُ به ، وإنما الاعتراضُ قولُه : « لو تعلمون » قلت : وكونُه تأكيداً ومُنَبِّهاً على تعظيمِ المُقْسَمِ به لا يُنافي الاعتراضَ بل هذا معنى الاعتراضِ وفائدتُه .

لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)

قوله : { لاَّ يَمَسُّهُ } : في « لا » هذه وجهان ، أحدهما : أنها نافيةٌ فالضمةُ في « لا يَمَسُّه » ضمةُ إعرابٍ ، وعلى هذا القولِ ففي الجملةِ وجهان ، أحدهما : أنَّ محلَّها الجرُّ صفةً ل « كتاب » والمرادُ ب « كتاب » : إمَّا اللوحُ المحفوظُ ، والمُطهَّرون حينئذٍ الملائكةُ أو المرادُ به المصاحف ، والمرادُ بالمُطهَّرين المكلَّفون كلُّهم . والثاني : أن محلَّها الرفعُ صفةً لقرآنِ ، والمرادُ بالمطهَّرينِ الملائكةُ فقط أي : لا يَطَّلع عليه أو لا يَمَسُّ لَوْحَه . لا بُدَّ من أحد هَذَيْن التجوُّزَيْن؛ لأن نسبةَ المسِّ إلى المعاني حقيقةً متعذَّرٌ . ويؤيِّد كونَ هذه نفياً قراءةُ عبد الله « ما يَمَسُّه » ب « ما » النافيةِ .
والثاني من الوجهين الأوَّلَيْن : أنها ناهيةٌ ، والفعلُ بعدها مجزومٌ؛ لأنه لو فُكَّ عن الإِدغامِ لظهر ذلك فيه كقولِه : { لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء } [ آل عمران : 174 ] ولكنه أَدْغم ، ولَمَّا أُدْغِمَ حُرِّك آخرُه بالضمِّ لأجلِ هاء ضميرِ المذكرِ الغائبِ ، ولم يَحْفَظْ سيبويه في نحوِ هذا إلاَّ الضمَّ . وفي الحديث : « إنَّا لم نَرُدُّه عليك إلاَّ أننا حُرُمٌ » وإن كان القياسُ يَقْتضي جوازَ فَتْحِه تخفيفاً ، وبهذا الذي ذكرْتُه يظهر فسادُ رَدِّ/ مَنْ رَدَّ : بأنَّ هذا لو كان نَهْياً لكان يُقال : « لا يَمَسَّه » بالفتح؛ لأنه خَفي عليه جوازُ ضَمِّ ما قبل الهاءِ في هذا النحوِ ، لا سيما على رأيِ سيبويه فإنه لا يُجيز غيرَه . وقد ضَعَّفَ ابنُ عطية كونَه نهياً : بأنه إذا كان خبراً فهو في موضعِ الصفةِ ، وقولُه بعد ذلك « تنْزيلٌ » صفةٌ فإذا جعلناه نَهْياً كان أجنبياً معترضاً بين الصفاتِ وذلك لا يَحْسُن في رَصْفِ الكلامِ فتدبَّرْه . وفي حرف ابن مسعود « ما يمسُّه » انتهى .
وليس فيما ذكرَه ضَعْفٌ لهذا القول؛ لأنَّا لا نُسَلِّم أنَّ « تنزيل » صفةٌ ، بل هو خبرُ مبتدأ محذوفٍ ، أي : هو تنزيلٌ فلا يَلْزَم ما ذَكرَه من الاعتراضِ . ولَئِنْ سَلَّمْنَا أنه صفةٌ ف « لا يَمَسُّه » صفةٌ أيضاً ، فيُعْترض علينا : بأنه طلبٌ . فيُجاب : بأنه على إضمارِ القولِ أي : مقولٌ فيه : لا يمسُّه ، كما قالوا ذلك في قوله : « فتنةً لا تصيبَنَّ » على أنَّ « لا تصيبنَّ » نَهْيٌ وهو كقولِه :
4228 جاؤوا بمَذْقٍ هل رأيْتَ الذئبَ قطّ ... وقد تقدَّم تحقيقُه في الأنفال ، وهذه المسألةُ يتعلَّقُ بها خلافُ العلماء في مَسِّ المُحْدِث المصحفَ ، وهو مبنيٌّ على هذا ، وسيأتي تحقيقُه بأشبعَ مِنْ هذا في كتاب « أحكام القرآن » إن شاء الله تعالى إتمامَه .
وقرأ العامَّةُ « المُطَهَّرون » بتخفيف الطاء وتشديد الهاء مفتوحةً اسمَ مفعول ، وعن سلمان الفارسي كذلك ، إلاَّ أنه بكسرِ الهاء اسمَ فاعلٍ أي : المُطَهِّرون أنفسَهم ، فحذف مفعولَه . ونافع وأبو عمروٍ في رواية عنهما وعيسى بسكون الطاء وفتح الهاء خفيفة اسم مَفعول من أطهر . وزيد والحسن وعبد الله بن عون وسلمان أيضاً « المُطَّهِّرُوْن » بتشديدِ الطاءِ والهاءِ المكسورةِ ، وأصلُه المتطهِّرون فأُدْغِم . وقد قُرىءَ بهذا الأصلِ أيضاً .

تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80)

وقرِىء « تنزيلاً » بالنصب على أنه حال من النكرة . وجاز ذلك لتخصُّصِها بالصفةِ ، أو أَنْ يكونَ مصدراً لعاملٍ مقدر أي : نُزِّل تنزيلاً ، وغَلَب التنزيلُ على القرآن .
و « من رَبِّ » يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ به على الأول لا الثاني؛ لأن المؤكَّد لا يعملُ ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ له ، وأمَّا على قراءةِ « تنزيل » بالرفعِ فيجوز الوجهان .

أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81)

قوله : { أفبهذا } : متعلِّقٌ بالخبر ، وجازَ تقديمُه على المبتدأ؛ لأنَّ عامله يجوزُ فيه ذلك . والأصل : أفأنتم مُدْهِنون بهذا الحديث وهو القرآنُ . ومعنى « مُدْهِنون » : مُتهاوِنون كمن يُدْهِنُ في الأمر أي : يُلَيِّنُ جانبَه ولا يتصلَّب فيه تهاوُناً به يقال : أَدْهَن فلانٌ أي : لايَنَ وهاوَدَ فيما لا يُحْمَلُ عند المُدْهَنِ . قال الشاعر :
4229 الحَزْمُ والقُوَّةُ خيرٌ من الْ ... إدْهانِ والفَهَّةِ والهاعِ
وقال الراغب : « والإِدهانُ في الأصل مثلُ التدهين لكن جُعِل عبارةً عن المُداراة والمُلاينة وتَرْكِ الجدِّ ، كما جُعِل التقريدُ وهو نَزْعُ القُراد ، عبارةً عن ذلك » .

وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)

قوله : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنَّه على التهكُّم بهم؛ لأنهم وَضَعوا الشيءَ غيرَ موضعِه كقولك : « شَتَمني حيث أَحْسَنْتُ إليه » أي : عَكَسَ قضيةَ الإِحسانِ ومنه :
4230 كأن شُكْرَ القَوْمِ عند المِنَنِ ... كيُّ الصَحيحاتِ وفَقْءُ الأعينِ
أي : شُكْرَ رِزْقِكم تكذيبَكم ، الثاني : أنَّ ثَمَّ مضافَيْنِ محذوفَيْنِ ، أي : بَدَل شُكْرِ رِزْقكم ليَصِحَّ المعنى قاله جمال الدين بن مالك ، وقد تقدَّم لك في قولِه : { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ } [ النجم : 9 ] أكثرُ من هذا . الثالث : أنَّ الرِّزْقَ هو الشُّكْرُ في لغةِ أزدِ شنوءة : ما رَزَقَ فلانٌ فلاناً أي : ما شكره ، فعلى هذا لا حَذْفَ البتةَ ، ويُؤَيِّدُهُ قراءةُ علي بنِ أبي طالب وتلميذِه عبد الله بن عباس رضي الله عنهم « وتَجْعَلون شُكْرَكم » مكان « رِزْقَكم » .
وقرأ العامَّةُ « تُكَذِّبون » من التكذيب . وعلي رضي الله عنه وعاصمٌ في رواية المفضل عنه « تَكْذِبون » مخففاً من الكَذِب .

فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83)

قوله : { فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم } : ترتيبُ الآيةِ/ الكريمة : فلولا تَرْجِعُونها أي النفسَ إذا بلغت الحلقومَ إن كنتم غيرَ مَدِيْنين . و « فلولا » الثانيةُ مكررةٌ للتوكيدِ . قاله الزمخشريُّ . قلت : فيكونُ التقدير : فلولا فلولا تَرْجِعونها ، من باب التوكيد اللفظي ، وتكون « إذا بَلَغَت » ظرفاً ل « تَرْجِعونها » مقدَّماً عليه؛ إذ لا مانعَ مِنْه ، أي : فلولا تَرْجِعون النفسَ في وقتِ بُلوغها الحلقومَ . وقوله : { وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ } جملةٌ حالية مِنْ فاعل بَلَغَتْ ، والتنوينُ في « حينئذٍ » عِوَضٌ من الجملة المضافِ إليها « إذا » ، أي : إذا بلغَتْ الحلقومَ خلافاً للأخفش حيث زعمَ أن التنوينَ للصَّرْفِ والكسرَ للإِعرابِ ، وقد مضى تحقيقُه .

وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84)

وقرأ العامَّةُ بفتحِ نونِ « حينئذٍ » لأنَّه منصوبٌ على الظرفِ ناصبُه « تَنْظُرون » وعيسى بكسرها ، وهي مُشْكِلَةٌ لا تَبْعُدُ عن الغَلَطِ عيله ، وخُرِّجَتْ على الإِتباع لحركة الهمزة ، ولا غَرْوَ في ذلك فليسَتْ بأبعدَ من قراءةِ « الحمد للَّهِ » [ الفاتحة : 1 ] بكسر الدال لتلازُمِ المتضايفَيْنِ ولكثرةِ دَوْرِهما على الخصوص .

وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85)

قوله : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ } : يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً أي : تَنْظُرون في هذه الحالِ التي تَخْفَى عليكم ، وأن تكونَ مستأنفةً ، فتكونَ اعتراضاً ، والاستدراكُ ظاهرٌ . والبَصَرُ : يجوز أَنْ يكونَ من البصيرة ، وأَنْ يكونَ من البَصَرِ أي : لا تَنْظُرون أعوانَ مَلَكِ الموتِ .

فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86)

و { إِن كُنتُمْ } : شرطٌ جوابُه محذوفٌ عند البَصْريين لدلالةِ « فلولا » عليه أو مقدَّمٌ عند مَنْ يرى ذلك ، كما تقدَّمَ تقريرُه . والحُلْقُوْمُ : مَجْرى الطعامِ . و « مَدِيْنين » أي : مَسُوسين ، أو محاسَبين ، أو مجازِين . وقد تقدَّم ذلك أولَ الفاتحة ولله الحمدُ . وهذا ما تلخص في الآية الكريمة محرَّراً . وقال أبو البقاء : « وتَرْجِعونها جوابُ » لولا « الأولى ، وأغنى ذلك عن جوابِ الثانية وقيل عكسُ ذلك . وقيل : لولا الثانيةُ تكريرٌ » انتهى . وتسميةُ مثلِ هذا جواباً ليس بصحيح البتَة؛ لأنَّ هذه تحضيضيةٌ لا جوابَ لها ، إنما الجوابُ للامتناعيةِ لوجودٍ نحو : { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله } [ النساء : 83 ] .
وقال ابن عطية : « وقولُه : » تَرْجِعونها « سَدَّ مَسَدَّ الأجوبةِ والبياناتِ التي تَقْتَضيها التَّحْضيضاتُ ، و » إذا « مِنْ قولِه : » فلولا إذا « و » إنْ « المكررة ، وحَمَلَ بعضُ القولِ بعضاً إيجازاً » واقتضاباً « انتهى . فجعل » إذا « شرطيةً . وقولُه : » الأجوبة « يعني ل » إذا « ول » إنْ « ول » إنْ « في قولِه : { إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ } ، { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } . والبياناتُ يعني الأفعالَ التي حَضَّض عليها ، وهي عبارةٌ قَلِقَةٌ ، ولذلك فَسَّرْتُها .
قال الشيخ : » وإذا ليسَتْ شرطاً؛ بل ظرفاً يعمل فيها « تَرْجعونها » المحذوفُ بعد « لولا » لدلالةِ « تَرْجِعونها » في التحضيض الثاني عليه ، فجاء التحضيضُ الأولُ مقيَّداً بوقتِ بلوغِ الحُلْقومِ . وجاء التحضيضُ الثاني مُعَلَّقاً على انتفاء مَرْبُوْبيَّتهم وهم لا يَقْدرون على رَجْعِها إذ مَرْبُوبِيَّتُهم موجودةٌ ، فهم مقْهورون لا قُدْرَةَ لهم « انتهى . فجعل » تَرْجِعونها « المذكورَ ل » لولا « الثانية ، وهو دالٌّ على محذوفٍ بعد الأولى ، وهو أحد الأقوالِ التي نَقَلها أبو البقاء فيما تقدم .

تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88)

قوله : { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } : شرطٌ آخرُ ، وليس هذا من اعتراضِ الشرطِ على الشرطِ نحو : « إنْ ركبتِ إنْ لَبِسْتِ فأنتِ طالق » حتى يجيءَ فيه ما قَدَّمْتُه في هذه المسألةِ؛ لأنَّ المرادَ هنا : إنْ وُجِد الشرطان كيف كانا فهلا رَجَعْتُمْ بنفِس الميتِ .
قوله : { فَأَمَّآ إِن كَانَ } قد تقدَّم الكلامُ في « إمَّا » في أولِ هذا الموضوعِ مستوفىً ولله الحمدُ . وهنا أمرٌ زائدٌ وهو وقوعُ شرطٍ آخرَ بعدها . واختلف النحاةُ في الجوابِ المذكورِ بعدها : هل هو ل « أمَّا » أو ل « إنْ » ، وجوابُ الأخرى محذوفٌ لدلالةِ المنطوقِ عليه ، أو الجوابُ لهما معاً؟ ثلاثةُ أقوالٍ ، الأولُ لسيبويه والثاني للفارسيِّ في أحدِ قولَيْه ، وله قولٌ آخرُ كسيبويهِ ، والثالث للأخفش ، وهذا كما تقدَّم في الجوابِ بعد الشرطَيْن المتواردَيْن . وقال مكي : « ومعنى » أمَّا « عند أبي إسحاقَ الخروجُ مِنْ شيءٍ إلى شيءٍ ، أي : دَعْ ما كُنَّا فيه وخُذْ في غيره » . قلت : وعلى هذا فيكونُ الجوابُ ل « إنْ » فقط لأنَّ « أمَّا » ليسَتْ شرطاً . ورجَّح بعضُهم أنَّ الجوابَ ل « أمَّا »؛ لأنَّ « إنْ » كَثُرَ حَذْفُ جوابِها/ منفردةً ، فادِّعاءُ ذلك مع شرطٍ آخرَ أَوْلَى . والضميرُ في « كان » و « كان » للمتوفَّى لدلالةِ قولِه : « فلولا تَرْجِعُونَها » .

فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89)

والرَّوْحُ : الاستراحةُ ، وقد تقدَّم ذلك في يوسف . وقرأ ابن عباس وعائشة والحسن وقتادة في جماعةٍ كثيرة بضمِّ الراءِ ، وتُرْوَى عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم . قال الحسن : الرَّوْحُ : الرحمةُ؛ لأنها كالحياة للمرحومِ . وعنه أيضاً : رُوْحُه تَخْرُج في رَيْحان . وقد تقدَّم الكلامُ على { رَيْحَانٌ } والخلافُ فيه وكيفيةُ تصريفِه في السورةِ قبلها .
و [ قوله ] : { فَرَوْحٌ } مبتدأٌ ، خبرُه مقدَّر قبلَه أي : فله رَوْحٌ . ويجوزُ أَنْ يُقَدَّر بعدَه لاعتمادِه على فاءِ الجزاءِ .

فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91)

قوله : { فَسَلاَمٌ لَّكَ } : مبتدأٌ وخبرٌ . و « مِنْ أصحاب » . قال الزمخشري : « فسلامٌ لك يا صاحبَ اليمين من إخوانك إصحابِ اليمينِ ، أي : يُسَلِّمون عليك » . وقال ابن جرير : « معناه فسلامٌ لكَ أنت مِنْ أصحابِ » . وهذا يَحْتمل أَنْ يكونَ كقولِ الزمخشريِّ ، ويكونَ « أنت » تأكيداً للكافِ في « لك » ، ويَحْتمل أَنْ يكونَ أراد أنَّ « أنت » مبتدأٌ و « من أصحابِ » خبرُه ، ويؤيِّدُ هذا ما حكاه قومٌ مِنْ أنَّ المعنى : فيُقال لهم : سلامٌ لك إنَّك من أصحاب اليمين . وأولُ هذه الأقوالِ هو الواضحُ البيِّن؛ ولذلك لم يُعرِّجْ أبو القاسمِ على غيرِه .

وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94)

قوله : { وَتَصْلِيَةُ } : عطفٌ على « فُنُزُل » أي : فله نُزُلٌ وتَصْلِيَةٌ . وقرأ أبو عمروٍ في روايةِ اللُّؤْلؤي عنه وأحمد بن موسى والمنقري بجرِّ التاءِ عَطْفاً على « مِنْ حميمٍ » .

إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95)

قوله : { حَقُّ اليقين } : فيه وجهان ، أحدهما : هو من إضافةِ الموصوفِ لصفتِه . والثاني : أنه من باب إضافةِ المترادَفَيْن على سبيل المبالغةِ . وسهَّلَ ذلك تخالُفُ لفظِهما . وإذا كانوا فعلوا ذلك في اللفظِ الواحدِ فقالوا : صوابُ الصوابِ ، ونفس النفس ، مبالغةً فَلأَنْ يَفْعلوه عند اختلافِ اللفظِ أَوْلَى .

فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)

قوله : { باسم رَبِّكَ } : يجوزُ أَنْ تكونَ الباءُ للحال أي : فسَبِّحْ مُلْتَبِساً باسمِ ربك على سبيلِ التبرُّكِ كقوله : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ } [ البقرة : 30 ] ، وأَنْ تكونَ للتعديةِ ، على أنَّ « سَبَّح » يتعدَّى بنفسه تارةً كقولِه : { سَبِّحِ اسم رَبِّكَ } [ الأعلى : 1 ] وبحرفِ الجرِّ تارةً كهذه الآيةِ ، وادعاءُ زيادتها خلافُ الأصلِ .
و « العظيم » يجوزُ أَنْ يكونَ صفةً للاسم ، وأَنْ يكونَ لربك؛ لأنَّ كلاً منهما مجرورٌ . وقد وُصِفَ كلٌّ منهما في قوله : « تَبَارَكَ اسم رَبِّكَ ذُو الجلال » [ الرحمن : 78 ] و { ذي الجلال } . ولتغايُرِ المتضايفَيْن في الإِعراب ظهر الفرقُ في الوصف .

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)

قوله : { للَّهِ } : يجوزُ في هذه اللامِ وجهان ، أحدهما : أنها مزيدةٌ كهي في « نَصَحْتُ لزيدٍ » و « شكرْتُ له » إذ يقال : سَبَّحْت الله تعالى . قال تعالى : { وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ } [ الأعراف : 206 ] . والثاني : أَنْ تكونَ للتعليلِ ، أي : أَحْدَثَ التسبيحَ لأجلِ الله تعالى .

لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2)

قوله : { لَهُ مُلْكُ } : جملةٌ مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإِعرابِ .
قوله : { يُحْيِي وَيُمِيتُ } يجوزُ في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنها لا مَحَلَّ لها كالتي قبلها . والثاني : أنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ ، أي : هو له مُلك . والثالث : أنها حالٌ من الضمير في « له » فالعامل فيها الاستقرارُ ، ولم يُذْكَرْ مفعولا الإِحياءِ والإِماتةِ؛ إذ الغَرَضُ ذِكْرُ الفعلَيْنِ فقط .

هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)

قوله : { هُوَ الأول والآخر } : قال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : ما معنى الواوِ؟ قلت : الواوُ الأولى معناها الدلالةُ على أنه الجامعُ بين الصفَتَيْن الأوَّليَّةِ والآخِريَّةِ ، والثالثةُ على أنه الجامعُ بين الظهورِ والخَفاءِ ، وأمَّا الوُسْطى فعلى أنه الجامعُ بين مجموع الصفَتَيْن الأُوْلَيَيْن ومجموعِ الصفَتَيْن الأُخْرَيين » .

لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5)

قوله : { تُرْجَعُ الأمور } : قد تقدَّم في البقرة أن الأخَوَين وابنَ عامر يقرؤون بفتح التاء وكسر الجيم مبنياً للفاعل ، والباقون مبنياً للمفعول في جميع القرآن . وقال الشيخ هنا : « وقرأ الجمهور » تُرْجَعُ « مبنياً للمفعول . والحسن وابن أبي إسحاق والأعرج مبنياً للفاعل » وهذا عجيبٌ منه ، وقد وقع له مِثْلُ ذلك كما نَبَّهْتُ عليه . /
وقوله : { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ } قد تقدَّم مثلُه في سورة سبأ .

وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8)

قوله : { وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ } : مبتدأ وخبرٌ ، وحالٌ ، أي : أيُّ شيءٍ استقر لكم غيرَ مؤمنين؟
وقوله : { والرسول يَدْعُوكُمْ } جملةٌ حاليةٌ من « يُؤمِنون » . قال الزمخشري : « فهما حالان متداخلان و » لِتُؤْمنوا « متعلِّقٌ ب » يَدْعو « أي : يدعوكم للإِيمان كقولك : دَعَوْتُه لكذا . ويجوزُ أَنْ تكونَ اللامُ للعلةِ ، أي : يدعوكم إلى الجنةِ وغفرانِ اللهِ لأجلِ الإِيمانِ . وفيه بُعْدٌ .
قوله : { وَقَدْ أَخَذَ } حالٌ أيضاً . وقرأ العامَّةُ » أَخَذَ « مبنياً للفاعلِ ، وهو اللّهُ تعالى لتقدُّم ذِكْرِه . وأبو عمرو » أُخِذ « مبنياً للمفعول ، حُذِفَ الفاعلُ للعِلْم به . و » ميثاقَكم « منصوبٌ في قراءة العامةِ ، مرفوعٌ في قراءة أبي عمروٍ . و » إنْ كنتم « جوابُه محذوفٌ تقديرُه : فما يَمْنَعُكم من الإِيمانِ . وقيل : تقديرُه : إنْ كنتم مؤمنين لموجِبٍ ما ، فهذا هو الموجِبُ . وقدَّره ابنُ عطية : » إنْ كنتم مؤمنين فأنتم في رتبةٍ شريفةٍ . وقد تقدَّمَتْ قراءتا « يُنَزَّل » تخفيفاً وتشديداً في البقرة . وزيد بن علي « أَنْزَل » ماضياً .

وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)

قوله : { أَلاَّ تُنفِقُواْ } كقوله { وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ } [ البقرة : 246 ] فالأصلُ : في أن لا تُنْفِقُوا ، فلمَّا حُذِف حرفُ الجرِّ جَرى الخلافُ المشهورُ . وأبو الحسن يرى زيادتَها كما تقدَّم تقريرُه في البقرة .
قوله : { وَللَّهِ مِيرَاثُ } جملةٌ حاليةٌ مِنْ فاعل الاستقرار ومفعولِه ، أي : وأيُّ شيءٍ يمنعُكم من الإِنفاقِ في سبيلِ اللهِ والحالُ أنَّ ميراثَ السماواتِ والأرضِ له ، فهذه حالٌ منافيةٌ لبُخْلِكم .
قوله : { لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَق } في فاعل « يَسْتوي » وجهان ، أظهرُهما : أنه مِنْ أَنْفَق ، وعلى هذا فلا بُدَّ مِنْ حذفِ معطوفٍ يتمُّ به الكلامُ ، فقدَّره الزمخشري : « لا يَسْتوي منكم مَنْ أنفقَ قبلَ فتحِ مكةَ وقوةِ الإِسلام ومَنْ أنفق مِنْ بعدِ الفتح ، فَحَذَفَ لوضوحِ الدلالة » وقَدَّره أبو البقاء « ومَنْ لم يُنْفِق » قال : « ودلَّ على المحذوفِ قولُه : { مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح } والأول أحسنُ لأنَّ السِّيَاقَ إنما جيء بالآية ليُفرِّق بين المُنْفِقين في زمانَيْنِ . والثاني : أنَّ فاعلَه ضميرٌ يعود على الإِنفاقِ ، أي : لا يَسْتوي جنسُ الإِنفاقِ إذ منه ما وَقَعَ قبل الفتح ، ومنه ما وَقَعَ بعدَه ، فهذان النوعان متفاوتان . وعلى هذا فتكون » مَنْ « مبتدأ و » أولئك « مبتدأٌ ثانٍ و » أَعظَمُ « خبرُه ، والجملةُ خبرُ » مَنْ « وهذا ينبغي أن لا يجوزَ البتةَ ، وكأنَّ هذا المُعْرِبَ غَفَل عن قولِه : » منكم « ولو أعربَ هذا القائلُ » منكم « خبراً مقدماً ، و » مَنْ « مبتدأ مؤخراً . والتقدير : مِنْكم مَنْ أنفق من قبلِ الفتحِ ، ومنكم مَنْ لم يُنْفِقْ قبلَه ولم يقاتِلْ ، وحُذِف هذا لدلالةِ الكلامِ عليه لكان سديداً ، ولكنه سها عن لفظةِ » منكم « .
قوله : { وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى } قراءةُ العامَّةِ بالنصبِ على أنه مفعولُ مقدمٌ ، وهي مرسومةٌ في مصاحفِهم » وكلاً « بألفٍ ، وابنُ عامر برفعِه ، وفيه وجهان ، أظهرُهما : أنه ارتفعَ على الابتداءِ ، والجملة بعدَه خبرٌ ، والعائدُ محذوفٌ ، أي : وعده اللهُ . ومثلُه :
4231 قد أصبحَتْ أمُّ الخِيار تَدَّعِي ... عليَّ ذَنْباً كلُّه لم أَصْنَعِ
برفع » كلُّه « ، أي : لم أَصْنَعْه . والبصريُّون لا يُجيزون هذا إلاَّ في شعرٍ كقولِه :
4232 وخالِدٌ يَحْمَدُ ساداتُنا ... بالحقِّ لا يُحْمَدُ بالباطلِ
وقد نقل ابن مالك الإِجماعَ من البصريين والكوفيين على جواز ذلك إنْ كان المبتدأ » كلاً « أو ما أشبهَها في الافتقار والعمومِ ، وهذا لم أَرَه لغيره . وقد تقدَّم نحوٌ مِنْ ذلك في سورة المائدةِ عند قولِه : { أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ } [ المائدة : 50 ] ولم يُرْوَ قولُه : » كلُّه لم أصنَع « إلاَّ بالرفعِ مع إمكانِ أَنْ ينصبَه فيقول : » كلَّه لم أصنعِ « مفعولاً مقدَّماً . قال أهل البيان : لأنه قصد عمومَ السلبِ لا سَلْبَ العمومِ ، فإن الأولَ أبلغُ ، وجعلوا من ذلك قولَه عليه السلام :

« كل ذلك لم يكنْ » ولو قال : « لم يكن كلُّ ذلك » لكان سَلْباً للعُموم ، والمقصودُ عمومُ السَّلْب .
والثاني : أن يكونَ « كل » خبَر مبتدأ محذوفٍ ، و { وَعَدَ الله الحسنى } صفةٌ لما قبله ، والعائدُ محذوف ، أي : وأولئك كلٌّ وعدَه اللهُ الحسنى . فإن قيل : الحذفُ موجودٌ أيضاً وقد عُدْتم لِما فرَرْتُمْ منه . فالجوابُ : أنَّ حَذْفَ العائدِ من الصفة كثيرٌ بخلاف حَذْفِه من الخبرِ . ومِنْ حَذْفِه من الصفة قولُه :
4233 وما أَدْري أغَيَّرهم تَناءٍ ... وطولُ العَهْدِ أم مالٌ أصابوا
أي أصابوه ، ومثله كثيرٌ . وهي في مصاحفِ الشامِ مرسومةٌ « وكلٌّ » بدون ألف ، فقد وافق كلٌّ مصحفَه . و « الحُسْنى » مفعولٌ ثانٍ ، والأولُ محذوفٌ على قراءةِ الرفعِ ، وأمَّا النصبُ فالأولُ مقدَّمٌ/ على عامِله .

مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)

قوله : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ } : قد تقدَّم بحمدِ الله هذا وما بعده مستوفىً ، واختلافُ القرَّاءِ فيه في سورةِ البقرة . وقال ابن عطية هنا : « الرفعُ على العطفِ أو القطعِ والاستئنافِ » . وقرأ عاصم « فيضاعِفَه » بالنصب بالفاء على جواب الاستفهام . وفي ذلك قَلَقٌ ، قال أبو علي : « لأنَّ السؤالَ لم يقَعْ عن القَرْضِ ، وإنما وقع عن فاعلِ القَرْضِ ، وإنما تَنْصِبُ الفاءُ فعلاً مردوداً على فعلِ مُسْتَفْهَمٍ عنه ، لكن هذه الفِرْقَةَ حَمَلَتْ ذلك على المعنى ، كأنَّ قولَه { مَّن ذَا الذي يُقْرِض } بمنزلةِ قولِه أيقرِضُ اللَّهَ أحدٌ » انتهى . وهذا الذي قالَه أبو علي ممنوعٌ ، ألا ترى أنه يُنْصَبُ بعد الفاءِ في جواب الاستفهام بالأسماءِ ، وإن لم يتقدَّم فعلٌ نحو : « أين بيتُك فأزورَك » ومثلُ ذلك : « مَنْ يَدْعوني فأستجيبَ له » و « متى تسير فأرافِقك » و « كيف تكونُ فأصْحَبَكَ » فالاستفهام إنما وقع عن ذاتِ الداعي وعن ظرفِ الزمان وعن الحال ، لا عن الفعل . وقد حكى ابنُ كيسانُ عن العرب : أين ذَهَبَ زيدٌ فَنَتْبَعَه ، ومَنْ أبوك فنُكْرِمَه .

يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)

قوله : { يَوْمَ تَرَى } : فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه معمولٌ للاستقرار العاملِ في « لهم أجرٌ » ، أي : استقرَّ لهم أجرٌ في ذلك اليوم . الثاني : أنه مضمرٌ ، أي : اذكرْ فيكون مفعولاً به . الثالث : أنه يُؤْجَرون يومَ ترى فهو ظرفٌ على أصلِه . الرابع : أنَّ العاملَ فيه « يَسْعى » ، أي : يَسْعى نورُ المؤمنين والمؤمناتِ يومَ تراهم ، هذا أصلُه . الخامس : أنَّ العاملَ فيه « فيضاعفَه » قالهما أبو البقاء .
قوله : { يسعى } حالٌ ، لأنَّ الرؤيةَ بَصَرِيَّة ، وهذا إذا لم يَجْعَلْه عامِلاً في « يوم » و « بين أيديهم » ظرفٌ للسَّعْي ، ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنْ « نورُهم » .
قوله : { وَبِأَيْمَانِهِم } ، أي : وفي جهةِ أيمانهم . وهذه قراءةُ العامَّةِ أعني بفتح الهمزةِ جمع يَمين . وقيل : الباءُ بمعنى « عن » ، أي : عن جميعِ جهاتِهم ، وإنما خَصَّ الأَيمانَ لأنها أشرفُ الجهاتِ . وقرأ أبو حيوة وسهلُ بن شعيب بكسرِها . وهذا المصدرُ معطوفٌ على الظرفِ قبلَه .
والباءُ سببيةٌ ، أي : يسعى كائناً وكائناً بسبب إيمانهم . وقال أبو البقاء تقديرُه : وبإيمانِهم استحقُّوه ، أو بإيمانهم يُقال لهم : بُشْراكم .
قوله : { بُشْرَاكُمُ } مبتدأٌ ، و « اليومَ » ظرفٌ . و « جناتٌ » خبرهُ على حذفِ مضافٍ ، أي : دخولُ جناتٍ . وهذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ بقولٍ مقدر ، وهو العاملُ في الظرفِ كما تقدَّم . وقال مكي : « وأجاز الفراءُ نصبَ » جنات « على الحال ويكون » اليومَ « خبرَ » بُشْراكم « قال : وكونُ » جنات « حالاً لا معنى له؛ إذ ليس فيها معنى فِعْل . وأجاز أَنْ يكونَ » بُشْراكم « في موضع نصبٍ على : يُبَشِّرونهم بالبُشرى ، وتُنْصَبُ » جنات « بالبُشْرى . وكلُّه بعيدٌ لأنه لا يُفْصَلُ بين الصلةِ والموصولِ باليوم » انتهى . وعجيبٌ من الفراء كيف يَصْدُرُ عنه ما لا يُتَعَقَّل ، ولا يجوزُ صناعةً ، كيف تكون « جنات » حالاً وماذا صاحبُ الحال؟ .

يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13)

وقوله : { يَوْمَ يَقُولُ } : بدلٌ مِنْ « يومَ ترى » أو معمولٌ ل « اذْكُر » . وقال ابن عطية : « ويظهرُ لي أنَّ العاملَ فيه { ذلك هُوَ الفوز العظيم } ويجيء معنى الفوز أفخم ، كأنه يقول : إن المؤمنين يفوزون بالرحمةِ يومَ يَعْتري المنافقين كذا وكذا؛ لأنَّ ظهورَ المرءِ يومَ خمولِ عَدُوِّه ومُضادِّه أبدعُ وأفخمُ » . قال الشيخ : « وظاهرُ كلامِه وتقديرِه أنَّ » يومَ « معمولٌ للفوز . وهو لا يجوزُ ، لأنه مصدرٌ قد وُصِفَ قبلَ أَخْذِ متعلَّقاته فلا يجوزُ إعمالُه ، فلو أُعْمِل وصفُه لجاز ، أي : الذي عَظُمَ قَدْرُه يومَ » . قلت : وهذا الذي قاله ابنُ عطية صَرَّح به مكي فقال : « ويومَ ظرفٌ العاملُ فيه ذلك الفوزُ ، أو هو بدلٌ من » اليوم « الأول » .
قوله : { خَالِدِينَ } [ الحديد : 12 ] نصبٌ على الحالِ العاملُ فيها المضافُ المحذوف إذ التقديرُ : بُشْراكم دخولُكم جناتٍ خالدين فيها ، فحذف الفاعلَ وهو ضميرُ المخاطبِ ، وأُضيف المصدرُ لمفعولِه فصار : دخولُ جنات ، ثم حُذِف المضافُ وقام المضافُ إليه مَقَامَه في الإِعراب ، ولا يجوزُ أَنْ يكونَ « بُشْراكم » هو العاملَ فيها؛ لأنه مصدرٌ قد أُخْبر عنه قبل ذِكْرِ متعلَّقاتِه ، فيلزَمُ الفصلُ بأجنبي . وظاهرُ كلامِ مكي أنه عاملٌ في الحالِ فإنَّه قال : « خالدين نصبٌ على الحالِ من الكاف والميم » والعاملُ في الحالِ هو العاملُ في صاحِبها فَلَزِمَ أَنْ يكونَ « بُشْراكم » هو العاملَ ، وفيه ما تقدَّمَ من الفصلِ بينَ المصدرِ ومعمولِه .
قوله : { لِلَّذِينَ آمَنُواْ } اللامُ للتبليغ . و « انْظُرونا » قراءةُ العامَّةِ « انظرونا » أَمْراً من النظر . وحمزة « أَنْظِرونا » بقطع الهمزة وكَسْر الظاء من الإِنْظار بمعنى الانتظار ، أي : انتظرونا لِنَلْحَقَ بكم فنستضيْءَ بنورِكم . والقراءةُ الأولى يجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى هذه إذ يقال : نَظَره بمعنى انتظره ، وذلك أنه يُسْرَعُ بالخُلَّصِ إلى الجنَّة على نُجُبٍ ، فيقول المنافقون : انتظرونا لأنَّا مُشاة لا نَسْتطيع لُحوقَكم . ويجوزُ أَنْ يكونَ مِنْ النظر وهو الإِبصارُ لأنَّهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوهِهم فيضيءُ لهم المكانُ ، وهذا أليقُ بقولِه { نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ } قال معناه الزمخشري . إلاَّ أنَّ الشيخ قال : إنَّ النظرَ بمعنى الإِبْصار لا يتعدَّى بنفسِه إلاَّ في الشعر ، إنما يتعدَّى بنفسِه إلاَّ في الشعر ، إنما يتعدَّى ب « إلى » / .
قوله : { وَرَآءَكُمْ } فيه وجان ، أظهرُهما : أنه منصوبٌ ب ارْجِعوا على معنى : ارْجِعوا إلى الموقفِ ، إلى حيث أُعطِينا هذا النورَ فالتمِسوه هناك ممَّنْ نقتبس ، أو ارْجِعوا إلى الدنيا فالتمِسوا نوراً بتحصيلِ سببِه وهو الإِيمانُ ، أو فارْجِعوا خائبين وتَنَحَّوْا عنا فالتمسُوا نوراً آخرَ ، فلا سبيلَ لكم إلى هذا النورِ . والثاني : أنَّ « وراءكم » اسمٌ للفعلِ فيه ضميرُ فاعلٍ ، أي : ارْجِعوا ارْجعوا ، قاله أبو البقاء ، ومنع أَنْ يكونَ ظَرْفاً ل ارْجِعوا قال : لقلةِ فائدتِه لأنَّ الرجوعَ لا يكونُ إلاَّ إلى وراء .

وهذا فاسدٌ؛ لأنَّ الفائدةَ جليلةٌ كما تقدَّم شَرْحُها .
قوله : { فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ } العامَّةُ على بنائِه للمفعول . والقائمُ مَقامَ الفاعلِ يجوزُ أَنْ يكونَ « بسورٍ » وهو الظاهرُ ، وأَنْ يكونَ الظرفَ . وقال مكي : « الباءُ مزيدةٌ ، أي : ضُرِب سورٌ » ثم قال : « والباءُ متعلِّقةٌ بالمصدر ، أي : ضرباً بسُور » وهذا متناقضٌ ، إلاَّ أَنْ يكونَ قد غُلِط عليه من النُّسَّاخ ، والأصل « أو الباءُ متعلقةٌ بالمصدر » ، والقائمُ مقامَ الفاعلِ الظرفُ . وعلى الجملةِ هو ضعيفٌ .
والسُّور : البناءُ المحيطُ . وتقدَّمَ اشتقاقُه أولَ البقرةِ .
قوله : { لَّهُ بَابٌ } مبتدأ وخبرٌ في موضع جرٍّ صفةً ل سُوْر .
قوله : { بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة } هذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكونَ في موضعِ جرٍّ صفةً ثانيةً ل « سُوْر » ، ويجوز أن تكونَ في موضع رفعٍ صفةً ل « بابٌ » ، وهو أَوْلَى لقُرْبِه . والضميرُ إنما يعود على الأَقْرب إلاَّ بقرينةٍ .
وقرأ زيد بن علي وعبيد بن عمير « فَضَرَبَ » مبنياً للفاعل وهو اللهُ أو المَلَكَ .

يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14)

قوله : { يُنَادُونَهُمْ } : يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من الضميرِ في « بَيْنهم » قاله أبو البقاء ، وهو ضعيفٌ لمجيءِ الحالِ من المضافِ إليه في غيرِ المواضعِ المستثناةِ ، وأَنْ تكونَ مستأنفةً ، وهو الظاهرُ .
قوله : { أَلَمْ نَكُن } يجوزُ أَنْ يكونَ تفسيراً للنداءِ ، وأَنْ يكونَ منصوباً بقولٍ مقدرٍ .
قوله : { الغرور } قراءةُ العامَّة بفتح الغَيْن ، وهو صفةٌ على فَعول ، والمرادُ به الشيطانُ . وقرأ سماك بن حرب « الغُرور » بالضم ، وهو مصدرٌ ، وتقدَّم نظيرُه .

فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)

قوله : { فاليوم } : منصوبٌ ب « يُؤْخَذُ » . ولا يُبالَى ب « لا » النافيةِ ، وهو قولُ الجمهورِ . وقد تقدَّم أولَ هذا الموضوعَ أخرَ الفاتحةِ أنَّ فيها ثلاثةَ أقوالٍ . وقرأ ابن عامر « تُؤْخَذُ » بالتأنيثِ للفظِ الفِدْية . والباقون بالياء مِنْ تحت؛ لأنَّ التأنيثَ مجازيٌّ وللفَصْلِ .
قوله : { هِيَ مَوْلاَكُمْ } يجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً ، أي : ولايتكم ، أي : ذاتُ وِلايتكم . وأَنْ يكونَ مكاناً ، أي : مكانَ ولايتكم ، وأَنْ يكونَ بمعنى أَوْلَى بكم ، كقولك : هو مَوْلاه . وبئس المصيرُ ، أي : هي .

أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)

قوله : { أَن تَخْشَعَ } : فاعلُ « يَأْنِ » ، أي : ألم يَقْرُبْ خشوعُ قلوبِهم . واللامُ قال أبو البقاء : « للتبيين » فعلى هذا تتعلَّق بمحذوفٍ ، أي : أَعْني الذينَ ، ولا حاجةَ إليه . والعامة « أَلَمْ » . والحسن وأبو السَّمَّال « ألَمَّا » وقد عَرَفْتَ الفرقَ بين الحرفين ممَّا تقدَّم . والعامَّةُ أيضاً « يَأْنِ » مضارعَ أنَى ، أي : حان وقَرُبَ مثل : رمى يَرْمي . والحسن « يَئِنْ » مضارع آن بمعنى حانَ أيضاً مثل : باع يبيع .
قوله : { وَمَا نَزَلَ } قرأ نافع وحفص « نَزَل » مخففاً مبنياً للفاعلِ . وباقي السبعةِ كذلك إلاَّ أنه مشدَّدٌ . والجحدري وأبو جعفر والأعمش وأبو عمروٍ في روايةٍ « نُزِّلَ » مشدَّداً مبنياً للمفعولِ . وعبد الله « أَنْزَل » مبنياً للفاعلِ هو الله تعالى . و « ما » في « ما نَزَلَ » مخففاً يتعيَّنُ أَنْ تكونَ اسميةً . ولا يجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً؛ لئلا يَخْلو الفعلُ من الفاعل ، وما عداها يجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً ، وأَنْ تكونَ بمعنى الذي . فإن قلتَ : وقراءةُ الجحدريِّ ومَنْ معه ينبغي أَنْ تكونَ فيها اسميةً ، لئلا يخلوَ الفعلُ مِنْ مرفوعٍ . فالجواب : أنَّ الجارَّ وهو قولُه « من الحق » يقوم مَقامَ الفاعل .
والعامَّةُ على الغيبة في « ولا يَكونوا » جَرْياً على ما تقدَّم . وأبو حيوة وابنُ أبي عبلة بالتاء مِنْ فوقُ على سبيل الالتفات . ثم هذا يُحْتمل أَنْ يكونَ منصوباً عطفاً على « تَخْشَعَ » كما في قراءةِ الغَيْبة وأَنْ يكونَ نهياً ، فتكونَ « لا » ناهيةً والفعلُ مجزومٌ بها . ويجوزُ أَنْ يكونَ نهياً في قراءة الغَيْبة أيضاً ، ويكونُ ذلك انتقالاً إلى نهيِ أولئك المؤمنين عن كونِهم مُشْبِهين لمَنْ تَقَدَّمهم نحو : لا يَقُمْ زيدٌ .
قوله : { الأمد } العامَّةُ على تخفيف الدال بمعنى العامَّة كقولك : أَمَدُ فلانٍ ، أي : غايتُه . وابن كثير في روايةٍ بتشديدِها وهو الزمنُ الطويلُ .

إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18)

قوله : { المصدقين والمصدقات } : خَفَّفَ الصاد منها ابنُ كثير وأبو بكر ، وثَقَّلها باقي السبعة . فقراءةُ ابنِ كثيرٍ من التصديق ، أي : صَدَّقوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به كقولِه تعالى : { والذي جَآءَ بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ } [ الزمر : 33 ] ، وقراءةُ الباقين من الصدقة وهو مناسِبٌ لقولِه « وأَقْرَضوا » والأصل : المُتَصَدِّقين والمتُصدِّقات فَأَدْغَمَ ، وبها قرأ أُبَيٌ . وقد يُرَجَّحُ الأولُ . بأنَّ الإِقراضَ مُغْنٍ عن ذِكْرِ الصدقة .
قوله { وَأَقْرَضُواْ } فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه معطوفٌ على اسم الفاعلِ في « المُصَّدِّقين » لأنَّه لمَّا وقع صلةً لأل حَلَّ مَحَلَّ الفعلِ ، فكَأنَّه قيل : إن الذين صَدَّقوا وأَقْرضوا ، وعليه جمهورُ المُعربين . وإليه ذهب الفارِسيُّ والزمخشري وأبو البقاء . وهو فاسدٌ لأنه يَلْزَمُ الفصلُ بين أَبْعاضِ الصلة بأجنبي . ألا ترى أنَّ « المُصَّدِّقات » عطفٌ على « المصَّدِّقين » قبل تمام الصلةِ ، ولا يجوز أن يكونَ عطفاً على المُصَّدِّقاتِ لتغايُرِ الضمائرِ تذكيراً وتأنيثاً .
الثاني : أنه معترضٌ بين اسم « إنَّّ » وخبرها وهو « يُضاعَفُ » . قال أبو البقاء : « وإنما قيل ذلك لئلاَّ يُعْطفَ الماضي على اسم الفاعل » ولا أَدْري ما هذا المانعُ؟ لأنَّ اسمَ الفاعلِ متى وقع صلةً لأل صَلَحَ للأزمنةِ الثلاثة ، ولو مَنَع بما ذكَرْتُه من الفصلِ بالأجنبي لأصابَ ، ولكن خَفي عليه كما خَفي على مَنْ هو أكبرُ منه : الفارسيُّ والزمخشريُّ .
الثالث : أنه صلةٌ لموصولٍ محذوفٍ لدلالةِ الأول عليه كأنه قيل : والذين أَقْرضوا كقولِه :
4234 أَمَنْ يَهْجُو رسولَ اللَّهِ مِنْكُمْ ... ويَمْدَحُه ويَنْصُرُه سَواءُ
أي : ومَنْ ينصُرُه واختاره الشيخ : وهذا قد عَرَفْتَ ما فيه في أوائلِ هذا التصنيفِ .
قوله { يُضَاعَفُ لَهُمْ } القائم مقامَ الفاعلِ فيه وجهان ، أحدهما : وهو الظاهرُ أنَّه الجارُّ بعده . والثاني : أنَّه ضميرُ التصديقِ ، ولا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ ، أي : ثوابُ التصديق .

وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)

قوله : { والذين آمَنُوا } : [ مبتدأ ] و « أولئك » مبتدأ ثان و « هم » يجوز أَنْ يكونَ مبتدأ ثالثاً و « الصِّدِّيقون » خبرُه ، وهو مع خبرِه خبرُ الثاني ، والثاني وخبرُهُ خبرُ الأول . ويجوزُ أَنْ يكون « هم » فصلاً فأولئك وخبرُه خبرُ الأول .
قوله { والشهدآء } يجوز فيه وجهان : أنه معطوفٌ على ما قبلَه ، ويكون الوقفُ على الشهداء تاماً . أخبر عن الذين آمنوا أنهم صِدِّيقون شهداءُ . فإنْ قيل : الشهداءُ مخصوصون بأوصافٍ أُخَرَ زائدةٍ على ذلك كالسبعَةِ المذكورين . أجيب : بأنَّ تَخْصِيصَهم بالذِّكْر لشَرَفِهم على غيرِهم لا للحَصْر .
والثاني : أنه مبتدأٌ ، وفي خبرِه وجهان ، أحدهما : أنه الظرفُ بعده . والثاني : أنه قولُه « لهم أَجْرهُم » إمَّا الجملةُ ، وإمَّا الجارُّ وحدَه ، والمرفوع فاعلٌ به . والوقفُ لا يَخْفَى على ما ذكَرْتُه من الإِعراب .
والصِّدِّيقُ : مثالُ مبالغةٍ ، ولا يجيءُ إلاَّ من ثلاثيٍ غالباً . قال بعضُهم : وقد جاء « مِسِّيك » مِنْ أمَسْك . وهو غَلَطٌ لأنه يقال : مَسَك ثلاثياً فمِسِّيك منه .

اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)

قوله : { وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ } : العامَّةُ على تنوين « تَفاخُرٌ » موصوفٌ بالظرفِ أو عاملٌ فيه ، والسُّلميُّ أضافه إليه .
قوله : { كَمَثَلِ غَيْثٍ } يجوزُ أنَّ يكونَ في موضعِ نصبٍ حالاً من الضمير في « لَعِبٌ » لأنه بمعنى الوصفِ ، وأَنْ يكونَ خبراً لمبتدأ محذوف ، أي : ذلك كمثَل . وجَوَّزَ ابن عطية أَنْ يكونَ في موضعِ رفع صفةً لِما تقدَّم . ولم يُبَيِّنْه مكي فقال : « نعت ل تَفاخُر » . وفيه نظرٌ لتخصيصه له مِنْ بين ما تقدَّم . وجَوَّزَ أَنْ يكون خبراً بعد خبر للحياة الدنيا .
وقُرِىء « مُصْفارَّاً » مِنْ اصفارَّ وهي أبلغُ مِنْ اصْفَرَّ .
قوله : { وَفِي الآخرة } خبرٌ مقدمٌ وما بعده مبتدأ . أخبر أنَّ في الآخرةِ عذاباً شديداً ، ومغفرةً منه ورضواناً ، وهذا معنىً حسنٌ ، وهو أنه قابل العذابَ بشيئين : بالمغفرة والرضوان فهو من باب « لن يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَين » .

سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)

قوله : { عَرْضُهَا كَعَرْضِ } : مبتدأٌ وخبرٌ . والجملةُ صفةٌ لجنة وكذلك « أُعِدَّتْ » . ويجوزُ أَنْ يكونَ « أَعِدَّتْ » مستأنفةٌ .

مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22)

قوله : { مِن مُّصِيبَةٍ } : فاعلُ « أصاب » . و « مِنْ » مزيدةٌ لوجودِ/ الشرطين . وذَكَّر فعلَها لأنَّ التأنيث مجازيُّ .
قوله { فِي الأرض } يجوزُ أَنْ يتعلَّق ب أصاب ، وأَنْ يتَعلَّقَ بنفسِ « مصيبةٍ » ، وأَنْ يتَعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لمصيبة وعلى هذا فيَصْلُح أَنْ يُحْكَمَ على موضِعه بالجرِّ نظراً إلى لفظِ موصوفِه وبالرفعِ نظراً إلى مَحَلِّه ، إذ هو فاعلٌ . والمُصيبة غَلَبَتْ في الشر . وقيل : المرادُ بها جميعُ الحوادثِ مِنْ خيرٍ وشرٍ ، وعلى الأول يُقال : لِمَ ذُكِرَتْ دون الخير؟ وأجيب : بأنه إنَّما خَصَّصها بالذِّكْرِ لأنها أهمُّ على البشر .
قوله { إِلاَّ فِي كِتَابٍ } حال مِنْ « مصيبة » ، وجاز ذلك وإنْ كانت نكرةً لتخصُّصِها : إمَّا بالعملِ أو بالصفةِ ، أي : إلاَّ مكتوبةً .
قوله { مِّن قَبْلِ } نعتٌ ل كتاب ، ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ به قاله أبو البقاء؛ لأنه هنا اسمٌ للمكتوبِ ، وليس بمصدرٍ . والضمير في « نَبْرَأَها » الظاهرُ عَوْدُه على المصيبة . وقيل : على الأنفس . وقيل : على الأرض أو على جميع ذلك ، قاله المهدويُّ ، وهو حسنٌ .

لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)

قوله : { لِّكَيْلاَ } : هذه اللامُ متعلقةٌ بقولِه « ما أصابَ » ، أي : أَخبْرَناكم بذلك لكيلاَ يَحْصُلَ لكم الحزنُ المُقْنِط أو الفرحُ المُطْغي ، فأمَّا دون ذلك فالإِنسانُ غيرُ مؤاخذٍ به . و « كي » هنا ناصبةٌ بنفسِها فهي مصدريةٌ فقط لدخولِ لام الجرِّ عليها ، وقرأ أبو عمرو « بما أتاكم » مقصوراً من الإِتْيان ، أي : بما جاءكم . وباقي السبعة « آتاكم » ممدوداً من الإِيتاء أي : بما أعطاكم اللَّهُ إياه . وقرأ عبد الله « أُوْتيتم » .

الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)

قوله : { الذين يَبْخَلُونَ } : قد تقدَّم مثلُ هذا في سورة النساء ، وتكلمتُ عليه بما يَكْفي ، فلا معنى لإِعادته .
قوله { فَإِنَّ الله هُوَ الغني } قرأ نافع وابن عامر « فإن الله الغنيُّ » بإسقاطِ « هو » وهو ساقطٌ في مصاحف المدينةِ والشام . والباقون بإثباتِه وهو ثابتٌ في مصاحفِهم ، فقد وافق كلٌّ مصحَفه . قال أبو علي : « مَنْ أثبت » هو « يَحْسُنْ أَنْ يكونَ فصلاً ، ولا يَحْسُنُ أن يكونَ ابتداءً؛ لأنَّ الابتداءَ لا يَسُوغ حَذْفُه » يعني أنه تُرَجَّحُ فصليَّتُه بحذفه في القراءةِ الأخرى ، إذ لو كان مبتدأً لضَعُف حَذْفُه ، لا سيما إذا صَلَحَ ما بعده أَنْ يكونَ خبراً لِما قبله ، ألا تراك لو قلت : « إنَّ زيداً هو القائمُ » لم يَحْسُنْ حَذْفُ « هو » لصلاحيةِ « القائمُ » خبراً ل « إنَّ » : وهذا كما قالوا في الصلة : إنه يُحْذَفُ العائدُ المرفوعُ بالابتداء بشروطٍ منها : أن لا يكونَ ما بعدَه صالحاً للصلة نحو : « جاء الذي هو في الدار » أو « هو قائم أبوه » لعدمِ الدلالةِ . إلاَّ أنَّ للمنازعِ أن ينازعَ أبا عليٍ ويقول : لا ألتزم تركيب إحدى القراءتين على الأخرى ، وكم مِنْ قراءتَيْنِ تغاير معناهما كقراءتَيْ : { والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } [ آل عمران : 36 ] و « وضَعَتْ » ، إلاَّ أنَّ توافُقَ القراءتَيْن في معنىً واحدٍ أَوْلى ، هذا ما لا نزاعَ فيه .

لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)

قوله : { فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } : جملةٌ حاليةٌ من « الحديد » .
قوله : { مَّعَهُمُ } حالٌ مقدرة ، أي : صائراً معهم ، وإنَّما احتَجْنا إلى ذلك لأنَّ الرسلَ لم يُنْزَلوا ، ومقتضى الكلامِ أن يَصْحبوا الكتابَ في النزولِ . وأمَّا الزمخشريُّ فإنه فَسَّرَ الرسلَ بالملائكةِ الذين يَجيئون بالوحيِ إلى الأنبياءِ فالمعيَّةُ متحققةٌ .
قوله : { وَلِيَعْلَمَ } عطفٌ على قولِه « ليقومَ الناسُ » ، أي : لقد أَرْسَلْنَا رُسُلَنا وفَعَلْنا كيتَ وكيتَ ليقومَ الناسُ وليعلَمَ اللَّهُ . وقال الشيخ : « علةٌ لإِنزالِ الكتابِ والميزانِ والحديدِ » ، والأول أظهرُ لأنَّ نصرةَ اللَّهِ ورسلِه مناسبة للإِرسال .
قوله { وَرُسُلَهُ } عطفٌ على مفعولِ « يَنْصُرُه » ، أي : وينصُرُ رسُلَه . قال أبو البقاء : « ولا يجوزُ أَنْ يكونَ معطوفاً على » مَنْ « لئلا يُفْصَلَ به بين الجارِّ وهو » بالغَيْب « وبينَ ما يتعلَّق به وهو » يَنْصُرُ « . قلت : وجَعْلُه العلةَ ما ذكرَه مِنْ الفصلِ بين الجارِّ وما يتعلَّق به مَنْ يُوْهِمُ أَنَّ معناه صحيحٌ لولا هذا المانعُ ، وليسَ كذلك إذ يصيرُ التقديرُ : وليعلمَ اللَّهُ مَنْ ينصرُه بالغيبِ . ولِيَعْلَمَ رَسُلَه . وهذا معنىً لا يَصِحُّ البتة فلا حاجةَ إلى ذِكْرِ ذلك . و » بالغيب « حالٌ وقد تقدم مثلُه أولَ البقرة .

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26)

قوله : { فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ } : الضميرُ يجوزُ عَوْدُه على الذُّرِّيَّة ، وهو أَوْلَى لتقدُّم ذِكْرِه لفظاً . وقيل : يعودُ على المُرْسَل إليهم لدلالة « أَرْسَلْنا » والمرسلين عليهم .

ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)

قوله : { الإنجيل } : قد تقدَّم أنَّ الحسنَ قرأه بفتح الهمزة في أول آل عمران . قال الزمخشري : « أَمْرُه أهونُ/ مِنْ أَمْرِ البِرْطيل والسِّكِّين فيمن رَواهما بفتح الفاء لأنَّ الكلمةَ أعجمية لا يلزَمُ فيها حِفْظُ أبنية العرب » . وقال أبو الفتح : « هو مثالٌ لا نظيرَ له » .
قوله : { وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها } في انتصابِها وجهان ، أحدهما : أنها معطوفةٌ على « رأْفَةً ورحمةً » . و « جَعَلَ » إمَّا بمعنى خَلق أو بمعنى صيَّر ، و « ابْتدعوها » على هذا صفةٌ ل « رَهْبانية » وإنما خُصَّتْ بذِكر الابتداعِ لأنَّ الرأَفةَ والرحمةَ في القلب أمرُ غريزةٍ لا تَكَسُّبَ للإِنسانِ فيها بخلافِ الرهبانية فإنها أفعالُ البدن ، وللإِنسانِ فيها تكسُّبٌ . إلاَّ أنَّ أبا البقاء منعَ هذا الوجهَ بأنَّ ما جعله اللَّهُ لا يَبْتدعونه . وجوابُه ما تَقَدَّم : مِنْ أنَّه لَمَّا كانت مكتسبةً صَحَّ ذلك فيها . وقال أيضاً : « وقيل : هو معطوفٌ عليها ، وابتدعوها نعتٌ له . والمعنى : فَرَضَ عليهم لزومَ رهبانيةٍ ابتدعوها ، ولهذا قال : { مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابتغآء رِضْوَانِ الله } .
والوجه الثاني : أنه منصوبةٌ بفعلٍ مقدرٍ يُفَسِّره الظاهرُ وتكون المسألةُ من الاشتغالِ . وإليه نحا الفارسيُّ والزمخشريُّ وأبو البقاء وجماعةٌ إلاَّ أنَّ هذا يقولون إنه إعرابُ المعتزلة؛ وذلك أنَّهم يقولون : ما كانَ مِنْ فِعْلِ الإِنسانِ فهو مخلوقٌ له ، فالرحمةُ والرأفة لَمَّا كانتْ من فِعْلِ اللَّهِ تعالى نَسَبَ خَلْقَهما إليه . والرَّهْبانِيَّة لَمَّا لم تكنْ من فِعْلِ اللَّهِ تعالى بل مِنْ فعل العبدِ يَسْتَقِلُّ بفعلِها نَسَب ابتداعَها إليه ، وللردِّ عليهم موضعٌ آخرُ هو أليقُ به من هذا الموضعِ ، وسأبِّينُه إنْ شاء الله في » الأحكام « .
ورَدَّ الشيخُ عليهم هذا الإِعرابَ من حيث الصناعةُ وذلك أنَّه مِنْ حَقِّ اسمِ المُشْتَغَلِ عنه أن يَصْلُح للرفع بالابتداءِ و » رهبانيةً « نكرةٌ لا مُسَوِّغ للابتداء بها ، فلا يصلُحُ نصبُها على الاشتغال . وفيه نظرٌ؛ لأنَّا لا نُسَلِّمُ أولاً اشتراطَ ذلك ، ويَدُلُّ عليه قراءةُ مَنْ قرأ » سورةً أنزَلْناها « بالنصب على الاشتغالِ كما قَدَّمْتُ تحقيقه في موضعه . ولئِنْ سَلَّمْنا ذلك فثَمَّ مُسَوِّغٌ وهو العطفُ . ومِنْ ذلك قولُه :
4235 عندي اصْطِبارٌ وشكْوى عند قاتلتي ... فهل بأعجبَ مِنْ هذا امرؤٌ سَمِعا
وقوله :
4236 تَعَشَّى ونجمٌ قد أضاء فَمُذْ بدا ... مُحَيَّاكَ أَخْفَى ضوْءُه كلَّ شارقِ
ذكر ذلك الشيخُ جمال الدين بن مالك . و قرأ الحسن » رَآفة « بزنة فَعالة . والرَّهْبانيةُ منسوبةٌ إلى الرَهْبان فهو فَعْلان مِنْ رَهِب كقولِهم : » الخَشْيان « مِنْ خَشِي . وقد تقدَّم معنى هذه المادةِ في المائدة مستوفى وقُرِىء بضمِّ الراء . قال الزمخشري : » كأنَّها نِسْبةُ إلى الرُّهْبان وهو جمعُ راهبٍ كراكبِ ورُكْبان « .

قال الشيخ : « والأَوْلَى أََنْ يكونَ منسوباً إلى رَهْبان يعني بالفتح وغُيِّر؛ لأنَّ النسبَ بابُ تغيير ، ولو كان منسوباً لرُهبان الجمع لرُدَّ إلى مفردِه ، إلاَّ إنْ كان قد صار كالعَلَم فإنه يُنْسَبُ إليه كالأَنْصار » .
قوله : { مَا كَتَبْنَاهَا } صفةٌ ل « رَهْبانيةً » ، ويجوزُ أَنْ يكونَ استئناف إخبارٍ بذلك .
قوله : { إِلاَّ ابتغآء رِضْوَانِ الله } فيه أوجه ، أحدها : أنه استثناء متصلٌ ممَّا هو مفعولٌ من أجلِه . والمعنى : ما كَتَبْناها عليهم لشيءٍ من الأشياءِ إلاَّ لابتغاءِ مَرْضاتِ اللَّهِ ، ويكون « كتب » بمعنى قضى ، فصار : كَتَبْناها عليهم ابتغاءَ مرضاةِ اللَّهِ ، وهذا قولُ مجاهد . والثاني : أنه منقطعٌ . قال الزمخشري : ولم يذكُرْ غيرَه ، أي : ولكنهم ابْتَدعوها . وإلى هذا ذهبَ قتادةُ وجماعةٌ ، قالوا : معناه لم يَفْرِضْها عليهم ولكنهم ابتدعوها . الثالث : أنه بدلٌ من الضميرِ المنصوبِ في « كَتَبْنَاها » قاله مكيُّ وهو مُشْكِلٌ : كيف يكونُ بدلاً ، وليس هو الأولَ ولا بعضَه ولا مشتملاً عليه؟ وقد يُقال : إنه بدلُ اشتمالٍ ، لأن الرهبانيةَ الخالصةَ المَرْعِيَّةَ حَقَّ الرِّعاية قد يكون فيها ابتغاءَ رضوانِ اللَّهِ ، ويصير نظيرَ قولِك « الجاريةُ ما أحببتها إلاَّ أدبَها » فإلاَّ أدبَها بدلٌ من الضمير في « أَحْبَبْتُها » بدلُ اشتمالٍ ، وهذا نهايةُ التمحُّلِ لصحةِ هذا القولِ واللَّهُ أعلمُ .
والضميرُ المرفوعُ في « رَعَوْها » عائدٌ على مَنْ تَقَدَّمَ . والمعنى : أنهم لم يَدُوموا كلُّهم على رعايتها ، وإنْ كان وُجِدَ هذا في بعضِهم . وقيل : يعودُ على الملوكِ الذين حاربوهم . وقيل : على أحلافِهِم . و « حَقَّ » نصبٌ على المصدر .

لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)

قوله : { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ } : هذه اللامُ متعلقةٌ بمعنى الجملة الطلبية المتضمنةِ لمعنى الشرطِ ، إذ التقدير : إنْ تتقوا اللَّهَ وآمنتم برسلِه يُؤْتِكم كذا وكذا ، لئلا يعلمَ . وفي « لا » هذه وجهان ، أحدهما : / وهو المشهورُ عند النحاةِ والمفسِّرين والمُعْرِبين أنها مزيدةٌ كهي في { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } [ الأعراف : 12 ] ، و { أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ } [ يس : 31 ] على خِلافٍ في هاتين الآيتين . والتقدير : أَعْلَمَكم اللَّهُ بذلك ، ليعلمَ أهلُ الكتابِ عدمَ قدرتِهم على شيءٍ مِنْ فضلِ اللَّهِ وثبوتَ أنَّ الفَضْل بيدِ الله ، وهذا واضح بَيَّنٌ ، وليس فيه إلاَّ زيادةُ ما ثبتَتْ زيادتُه شائِعاً ذائعاً .
والثاني : أنها غيرُ مزيدةٍ . والمعنى لئلا يعلمَ أهلُ الكتابِ عَجْزَ المؤمنين ، نقل ذلك أبو البقاء وهذا لفظُهُ ، وكان قد قال قبلَ ذلك : « لا » زائدة والمعنى : ليعلمَ أهلُ الكتابِ عَجْزَهم « وهذا غيرُ مستقيم؛ لأنَّ المؤمنين عاجزون أيضاً عن شيءٍ مِنْ فضل اللَّهِ وكيف يعملُ هذا القائلُ بقولِه { وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله } ؛ فإنه معطوفٌ على مفعولِ العِلْمِ المنفيِّ فيصيرُ التقدير : ولئلا يعلمَ أهلُ الكتاب أنَّ الفضلَ بيد الله؟ هذا لا يستقيمُ نَفْيُ العِلْمِ به البتة ، فلا جرم كان قولاً مُطَّرحاً ذكَرْتُه تنبيهاً على فسادِه .
وقراءةُ العامَّةِ » لئلا « بكسر لام كي وبعدها همزةٌ مفتوحةٌ مخففةٌ . وورش يُبْدِلها ياءً مَحْضَة وهو تخفيفٌ قياسيٌّ نحو : مِيَة وفِيَة ، في : مئة وفئة . ويدلُّ على زيادتِها قراءةُ عبد الله وابن عباس وعكرمةَ والجحدري وعبد الله بن سلمة » لِيَعْلَم « بإسقاطِها ، وقراءةُ حطان ابن عبد الله » لأَنْ يعلمَ « بإظهار » أَنْ « . والجحدري أيضاً والحسن » لِيَنَّعَلَمَ « وأصلُها كالتي قبلها لأَنْ يعلم ، فأبدل الهمزةَ ياءً لانفتاحِها بعد كسرة ، وقد تقدم أنه قياسٌ كقراءة ورش » لِيَلاَّ « ثم أَدْغَمَ النون في الياء . قال الشيخ : » بغير غُنَّة كقراءة خلف { أَن يَضْرِبَ } [ البقرة : 26 ] بغيرِ غُنَّة « انتهى . فصار اللفظ لِيَنَّعْلَمَ . وقوله : » بغير غنَّة « ليس عَدَمُ الغنَّةِ شرطاً في صحة هذه المسألةِ ، بل جاء على سبيل الاتفاقِ ولو أَدْغَمَ بُغنَّةٍ لجاز ذلك فسقوطُها في هذه القراءاتِ يؤيِّد زيادتها في المشهورةِ .
وقرأ الحسن أيضاً فيما رَوَى عنه أبو بكر ابن مجاهد » لَيْلاً يَعْلَمَ « بلام مفتوحةٍ وياءٍ ساكنةٍ كاسم المرأة ورفعِ الفعلِ بعدها . وتخريجُها : على أنَّ أصلَها : لأَنْ لا ، على أنها لامُ الجرِّ ولكنْ فُتِحَتْ على لغةٍ معروفة ، وأنشدوا :
4237 أُريدُ لأَنْسَى ذِكْرَها . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بفتح اللام ، وحُذِفَت الهمزةُ اعتباطاً ، وأُدْغمت النونُ في اللام فاجتمع ثلاثة أمثالٍ فثَقُلَ النطقُ به فأبدلَ الوسطَ ياءً تخفيفاً ، فصار اللفظُ » لَيْلا « كما ترى ورُفِع الفعل؛ لأنَّ » أَنْ « هي المخففةُ لا الناصبةُ ، واسمُها على ما تقرَّر ضميرُ الشأنِ ، وفُصِل بينها وبين الفعلِ الذي هو خبرُها بحرفِ النفي .

وقرأ الحسن أيضاً فيما روى عنه قطرب « لِيْلا » بلام مكسورة وياءٍ ساكنةٍ ورفع الفعل ، وهي كالتي قبلها في التخريج . غايةُ ما في الباب أنه جاء بلامٍ مكسورةٍ كما في اللغة الشهيرة . ورُوي عن ابن عباس « لكي يعلَمَ » ، و « كي يعلم » وعن عبد الله « لكيلا » وهذه كلُّها مخالِفةٌ للسوادِ الأعظمِ ولسوادِ المصحف .
وقرأ العامَّةُ { أَنْ لا يَقْدِرُون } بثوبت النون على أنَّ « أَنْ » هي المخففة وعبد الله بحَذْفِها على أَنَّ « أَنْ » هي الناصبة وهذا شاذٌّ جداً؛ لأنَّ العِلْمَ لا تقع بعده الناصبةُ .
وقوله : { يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } الظاهرُ أنه مستأنف . وقيل : هو خبرٌ ثانٍ عن الفضل . وقيل : هو الخبرُ وحدَه ، والجارُّ قبله حالٌ وهي حالٌ لازِمةٌ؛ لأنَّ كونَه بيدِ الله تعالى لا ينتقِلُ البتة .

قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)

قوله : { قَدْ سَمِعَ } : « قد » هنا للتوقُّع . قال الزمخشري : « لأنه عليه السلام والمجادِلَةَ كانا يتوقعان أن يَسمعَ الله مجادلتَها وشكواها ، ويُنَزِّلَ في ذلك ما يُفَرِّجُ عنها . وإظهارُ الدالِ عند السينِ قراءةُ الجماعة إلاَّ أبا عمروٍ والأخوين . ويُنْقَلُ عن الكسائي أنه قال : » مَنْ بَيَّنَ الدالَ عند السين فلسانُه أعجميٌّ وليس بعربي « وهذا غيرُ مُعَرَّجٍ عليه . و » في زَوْجِها « أي في شأنِه من ظِهارِه إياها .
قوله : { وتشتكي إِلَى الله } يجوزُ فيه وجهان ، أظهرُهما : أنها عطفٌ على » تُجادِلُك « فهي صلةٌ أيضاً . والثاني : أنَّها في موضع نصبٍ على الحالِ أي : تجادِلُك شاكيةً حالَها إلى اللَّهِ ، وكذا الجملةُ مِنْ قولِه : { والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ } والحاليةُ فيما أَبْعَدُ . /

الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)

قوله : { الذين يُظَاهِرُونَ } : قد تقدَّم الخلافُ في « يُظاهِرون » في سورةِ الأحزاب وكذا في « اللائي » فأَغْنَى عن إعادتِه هنا وأُبي هنا « يَتَظاهَرُون » وعنه أيضاً « يَتَظَهَّرُوْن » . وفي « الذين » وجهان ، أحدهما : أنه مبتدأٌ ، وخبرُه قولُه : { مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ } . والثاني : أنَّه منصوبٌ ب « بصير » على مذهبِ سيبويهِ في جوازِ إعمالِ فَعيل ، قاله مكي ، يعني أنَّ سيبويه يُعْمل فعيلاً من أمثلةِ المبالغةِ ، وهو مذهبٌ مَطْعونٌ فيه على سيبويِهِ؛ لأنه استدلَّ على إعمالِه بقولِ الشاعر :
4238 حتى شآها كَليلٌ مَوْهِناً عَمِلٌ ... باتَتْ طِراباً وبات الليلَ لم يَنَمِ
ورُدَّ عليه : بأنَّ « مَوْهِناً » ظرفُ زمانٍ ، والظروفُ تعملُ فيها روائحُ الأفعالِ . وللكلامِ في المسألةِ موضعٌ هو أليقُ به مِنْ هنا ولكنَّ المعنى يَأْبى ما قاله مكيٌّ .
وقرأ العامَّةُ « أمَّهاتِهم » بالنصب على اللغة الحجازية الفصحى كقولِه : { مَا هذا بَشَراً } [ يوسف : 31 ] وعاصم في روايةٍ بالرفعِ على اللغةِ التميميةِ ، وإنْ كانَتْ هي القياسَ لعدمِ اختصاصِ الحرفِ . وقرأ عبدُ الله « بأمَّهاتهم » بزيادة الباءِ ، وهي تحتمل اللغتين . وقال الزمخشري : « وزيادةُ الباء في لغة مَنْ ينصِبُ » . قلت : هذا هو مذهبُ أبي علي ، يرى أنَّ الباءَ لا تُزاد إلاَّ إذا كانَتْ « ما » عاملةً فلا تُزاد في التميمية ولا في الحجازيةِ إذا مَنَعَ مِنْ عملها مانعٌ نحو : « ما إنْ زيدٌ بقائمٍ » . وهذا مردودٌ بقولِ الفرزدق وهو تميمي :
4239 لَعَمْرُك ما مَعْنٌ بتارِكِ حقِّه ... ولا مُنْسِىءٌ مَعْنٌ ولا مُتَيَسِّرُ
وبقول الآخر :
4240 لَعَمْرُك ما إنْ أبو مالكٍ ... بواهٍ ولا بضعيفٍ قِواهْ
فزادها مع « ما » الواقع بعدها « إنْ » .
قوله : { مُنكَراً مِّنَ القول وَزُوراً } نعتان لمصدر محذوف أي : قولاً منكراً ، وزوراً أي : كذباً وبُهْتاناً قاله مكي وفيه نظرٌ؛ إذ يصيرُ التقدير : ليقولون قولاً منكراً من القول ، فيصير قولُه « من القول » لا فائدةً فيه . والأَوْلَى أَنْ يُقال : نعتان لمعفولٍ محذوفٍ لفهم المعنى أي : ليقولونَ شيئاً مُنْكراً من القولِ لتفيدَ الصفة غيرَ ما أفاده الموصوفُ .

وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3)

قوله : { والذين يُظَاهِرُونَ } : مبتدأٌ . وقولُه : « فتحريرُ رقبةٍ » مبتدأٌ ، وخبرُه مقدرٌ أي : فعليهم . أو فاعلٌ بفعلٍ مقدرٍ أي : فيلزَمُهم تحريرُ ، أو خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : فالواجبُ عليهم تحريرُ . وعلى التقادير الثلاثةِ فالجملةُ خبرُ المبتدأ ، ودخلَتِ الفاءُ لِما تضَمَّنه المبتدأُ مِنْ معنى الشرط .
قوله : { لِمَا قَالُواْ } في هذه اللامِ أوجهٌ ، أحدُها : أنَّها متعلقةٌ ب « يعودون » . وفيه معانٍ ، أحدُها : والذين مِنْ عادتِهم أنهم كانوا يقولون هذا القولَ في الجاهليةِ ، ثم يعودُون لمثلِه في الإِسلام . الثاني : ثم يتداركون ما قالوا؛ لأن المتدارِكَ للأمرِ عائدٌ إليه ومنه : « عادَ غيثٌ على ما أفسَد » أي : تداركه بالإِصلاح والمعنى : أنَّ تدارُكَ هذا القولِ وتلافيَه ، بأَنْ يكفِّر حتى ترجعَ حالُهما كما كانت قبل الظِّهار . الثالث : أَنْ يُرادَ بما قالوا ما حَرَّموه على أنفسِهم بلفظِ الظِّهار ، تنزيلاً للقولِ منزلةَ المقولِ فيه نحو ما ذُكِر في قولِه تعالى : { وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ } [ مريم : 80 ] والمعنى : ثم يريدون العَوْدَ للتَّماسِّ ، قال ذلك الزمخشريُّ . قلت : وهذا الثالثُ هو معنى ما رُوِي عن مالك والحسن والزهري : ثم يعودون للوَطْء أي : يعودون لِما قالوا إنهم لا يعودون إليه ، فإذا ظاهَرَ ثم وَطِىء لَزِمَتْه الكفارةُ عند هؤلاء . الرابع : « لما قالوا » أي : يقولونه ثانياً فلو قال : « أنتِ عليَّ كظهر أمِّي » مرةًَ واحدةً كفَّارةٌ؛ لأنه لم يَعُدْ لِما قال . وهذا منقولٌ عن بُكَيْرِ بنِ عبد الله الأشجِّ وأبي حنيفةَ وأبي العالية والفراء في آخرين ، وهو مذهبُ الفقهاءِ الظاهريين . الخامس : أن المعنى : أَنْ يَعْزِمَ على إمساكِها فلا يُطَلِّقَها بعد الظِّهار ، حتى يمضيَ زمنٌ يمكنُ أَنْ يطلِّقَها فيه ، فهذا هو العوْدَ لِما قال ، وهو مذهبُ الشافعيِّ ومالك وأبي حنيفةَ أيضاً . وقال : / العَوْدُ هنا ليس تكريرَ القولِ ، بل بمعنى العَزْمِ على الوَطْءِ .
وقال مكي : « اللامُ متعلقةٌ ب » يعودون « أي : يعودون لوَطْءِ المقولِ فيه الظهارُ ، وهُنَّ الأزواجُ ، ف » ما « والفعلُ مصدرٌ أي : لمقولِهم ، والمصدرُ في موضعِ المفعولِ به نحو : » هذا دِرْهَمٌ ضَرْبُ الأمير « أي : مَضْرُوبُه ، فيصير معنى » لقولهم « للمقولِ فيه الظِّهارُ أي : » لوَطْئِه « . قلت : وهذا معنى قولِ الزمخشريِّ في الوجه الثالث الذي تَقَدَّم تقريرُه عن الحسنِ والزهري ومالك ، إلاَّ أنَّ مكيَّاً قَيَّد ذلك بكونِ » ما « مصدريةً حتى يقعَ المصدرُ الموؤلُ موضعَ اسمِ مفعول .
وفيه نظرٌ؛ إذ يجوز ذلك ، وإنْ كانت » ما « غيرَ مصدرية ، لكونِها بمعنى الذي أو نكرةً موصوفةً ، بل جَعْلُها غيرَ مصدريةٍ أَوْلَى؛ لأن المصدرَ المؤولَ فرعُ المصدرِ الصريحِ ، إذ الصريحُ أصلٌ للمؤول به ووَضْعُ المصدرِ موضعَ اسم المفعولِ خلافُ الأصلِ ، فيلزمُ الخروجُ عن الأصل بشيئين : بالمصدرِ المؤولِ .

ثم وقوعِه موقعَ اسمِ المفعول ، والمحفوظُ من لسانِهم إنما هو وَضْعُ المصدرِ الصريح موضعَ المفعولِ لا المصدرِ المؤولِ فاعرِفْه . لا يُقال : إنَّ جَعْلَها غيرَ مصدريةٍ يُحْوِجُ إلى تقديرِ حذفِ مضافٍ ليصِحَّ المعنى به أي : يعودون لوَطْءِ التي ظاهَرَ منها ، أو امرأةٍ ظاهَرَ منها ، أو يعودون لإِمساكِها ، والأصلُ عدمُ الحذفِ؛ لأن هذا مشتركُ الإِلزام لنا ولكم ، فإنكم تقولون أيضاً : لا بُدَّ مِنْ تقديرِ مضافٍ أي : يعودون لوَطْءِ أو لإِمساكِ المقولِ فيه الظِّهارُ . ويدل على جوازِ كَوْنِ « ما » في هذا الوجهِ غيرَ مصدريةٍ ما أشار إليه أبو البقاء ، فإنه قال : « يتعلَّقُ ب » يعودون « بمعنى : يعودون للمقول فيه . هذا إنْ جَعَلْتَ » ما « مصدريةً ، ويجوز أَنْ تجعلَها بمعنى الذي ونكرةً موصوفةً » .
الثاني : أنَّ اللامَ تتعلَّقُ ب « تحرير » . وفي الكلامَ تقديمٌ وتأخيرٌ . والتقدير : والذين يُظاهرون مِنْ نِسائِهم فعليهم تحريرُ رقبةٍ؛ لِما نَطقوا به من الظِّهار ثم يعودُون للوَطْءِ بعد ذلك . وهذا ما نقله مكيٌّ وغيرُه عن أبي الحسن الأخفش . قال الشيخ : « وليس بشيءٍ لأنه يُفْسِدُ نَظْمَ الآية » . وفيه نظرٌ . لا نُسَلِّم فسادَ النظمِ مع دلالةِ المعنى على التقديمِ والتأخير ، ولكنْ نُسَلِّم أنَّ ادعاءَ التقديمِ والتأخيرِ لا حاجةَ إليه؛ لأنه خلافُ الأصل .
الثالث : أن اللامَ بمعنى « إلى » . الرابع : أنها بمعنى « في » نَقَلهما أبو البقاء ، وهما ضعيفان جداً ، ومع ذلك فهي متعلِّقَةٌ ب « يَعُودون » . الخامس : أنها متعلِّقةٌ ب « يقولون » . قال مكي : « وقال قتادةُ : ثم يعودون لِما قالوا من التحريمِ فيُحِلُّونه ، فاللامُ على هذا تتعلَّقُ ب » يقولون « . قلتُ : ولا أدري ما هذا الذي قاله مكي ، وكيف فَهم تعلُّقَها ب » يقولون « على تفسيرِ قتادةَ ، بل تفسيرُ قتادةَ نصٌّ في تعلُّقِها ب » يَعودون « ، وليس لتعلُّقِها ب » يقولون « وجهٌ .

فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)

قوله : { فَصِيَامُ } و « فإِطعامُ » كقولِه : { فَتَحْرِيرُ } في ثلاثة الأوجهِ المتقدمةِ . و « مِنْ قبلِ » متعلِّقٌ بالفعل أو الاستقرارِ المتقدِّمِ أي : فيلزَمُه تحريرُ أو صيام ، أو فعليه كذا مِنْ قبلِ تَماسِّهما . والضميرُ في « يتماسَّا » للمُظاهِرِ والمُظاهَرِ منها لدلالةِ ما تقدَّم عليهما .

يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)

قوله : { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه منصوبٌ ب « عذابٌ مُهينٌ » . الثاني : أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ . فقدَّره أبو البقاء « يُهانون أو يُعَذَّبون » ، أو استقرَّ لهم ذلك يومَ يَبْعَثهم « وقَدَّره الزمخشري ب اذْكُرْ قال : » تعظيماً لليوم « . الثالث : أنه منصوبٌ ب » لهم « ، قاله الزمخشري . أي : بالاستقرار الذي تَضَمَّنه لوقوعِه خبراً . الرابع : أنه منصوبٌ ب » أَحْصاه « قاله أبو البقاء . وفيه قَلَقٌ؛ لأنَّ الضميرَ في » أحْصاه « يعود على ما عَمِلوا .

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)

قوله : { مَا يَكُونُ مِن نجوى } : « يكونُ » تامةٌ و « من نَجْوى » فاعلُها . و « مِنْ » مزيدةٌ فيه . ونجوى في الأصل مصدرٌ فيجوزُ أَنْ يكونَ باقياً على أصلِه ، ويكون مضافاً لفاعِله ، أي : ما يوجَدُ مِنْ تناجي ثلاثةٍ . ويجوز أَنْ يكونَ على حَذْفِ مضافٍ أي : مِنْ ذوي نَجْوى . ويجوزُ أَنْ يكونَ أطلق على الأشخاصِ المتناجينِ مبالغةً ، فعلى هذَيْن الوجهَيْن ينخفضُ « ثلاثة » على أحدِ وجْهَين : إمَّا البدلِ مِنْ ذوي المحذوفة ، وإمَّا الوصفِ لها على التقدير الثاني ، وإمَّا البدلِ أو الصفةِ ل « نَجْوَى » على التقدير الثالث .
وقرأ ابن أبي عبلة « ثلاثةً » و « خمسةً » نصباً على الحال . وفي صاحبها وجهان ، أحدهما : أنه محذوفٌ مع رافعِه ، تقديرُه : يتناجَوْن ثلاثةً ، وحُذف لدلالةِ « نجوى » عليه . والثاني : أنه الضمير المستكِنُّ/ في « نجوى » إذا جَعَلْناها بمعنى المتناجِين ، قاله الزمخشريُّ . قال مكي : « ويجوز في الكلام رَفْعُ » ثلاثة « على البدل مِنْ موضع » نَجْوى « ، لأنَّ موضعَها رفعٌ و » مِنْ « زائدةٌ ، ولو نصَبْتَ » ثلاثة « على الحال من الضمير المرفوع إذا جَعَلْتَ » نجوى « بمعنى المتناجين جازَ في الكلام » . قلت : أمَّا الرفعُ فلم يُقْرَأْ به فيما عَلِمْتُ ، وهو جائزٌ في غير القرآن كما قال . وأمَّا النصبُّ فقد عَرَفْتَ مَنْ قرأ به فكأنَّه لم يَطَّلعْ عليه .
قوله : { إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ } « إلاَّ هو خامسُهم » { إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ } كلُّ هذه الجملِ بعد « إلاَّ » في موضعِ نصبٍ على الحالِ أي : ما يوجَدُ شَيْءٌ من هذه الأشياءِ إلاَّ في حالٍ مِنْ هذه الأحوالِ ، فالاستثناءُ مفرَّغٌ من الأحوال العامة .
وقرأ أبو جعفر : « ما تكونُ » بتاءِ التأنيث لتأنيث النجوى . قال أبو الفضل : إلاَّ أنَّ الأكثرَ في هذا البابِ التذكيرُ على ما في العامة؛ لأنه مُسْنَدٌ إلى « مِنْ نجوى » ، وهو اسمُ جنسٍ مذكرٌ .
قوله : { وَلاَ أَكْثَرَ } العامَّةُ على الجرِّ عطفاً على لفظ « نجوى » . وقرأ الحسن والأعمش وابن أبي إسحاق وأبو حيوة ويعقوبُ « ولا أكثرُ » بالرفع . وفيه وجهان ، أحدُهما : أنه معطوفٌ على موضع « نَجْوى » لأنه مرفوعٌ ، و « مِنْ » مزيدةٌ فيه . فإن كان مصدراً كان على حَذْفِ مضافٍ كما تقدَّم أي : مِنْ ذوي نجوى ، وإن كان بمعنى المتناجِين فلا حاجةَ إلى ذلك . والثاني : أن يكونَ « أَدْنى » مبتدأ ، و { إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ } خبرُه ، فيكون « ولا أكثرُ » عطفاً على المبتدأ ، وحينئذ يكون « ولا أَدْنَى » من باب عطفِ الجملِ لا المفرداتِ .
وقرأ الحسن ويعقوب أيضاً ومجاهد والخليل « ولا أكبرُ » بالباء الموحدة والرفعِ على ما تقدَّم . وزيد بن علي « يُنْبِهِمْ » مِنْ أَنْبأ؛ إلاَّ أنه حذف الهمزةَ وكسرَ الهاءَ ، وقُرِىء كذلك ، إلاَّ أنَّه بإثباتِ الهمزةِ وضمِّ الهاءِ . والعامَّةُ بالتشديد مِنْ نَبَّأ .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)

قوله : { وَيَتَنَاجَوْنَ } : قرأ حمزة « يَنْتَجُوْنَ » من الانتجاء من النجوى . والباقون « يتناجَوْن » من التناجي مِن النجوى أيضاً . قال أبو علي : « والافتعال والتفاعُلُ يجريان مَجْرىً واحداً ، ومِنْ ثَمَّ صَحَّحوا : ازدَوَجُوا واعْتَوَرَوا لَمَّا كانا في معنى : تزاوَجُوا وتعاوَنوا . وجاء { حتى إِذَا اداركوا } و { ادركوا } [ الأعراف : 38 ] قلت : ويؤيِّد قراءةَ العامة الإِجماعُ على » تناجَيْتُمْ « و » فلا تَتَناجوا « ، و » وتناجَوْا « ، فهذه مِن التفاعُل لا غيرُ ، إلا ما روي عن عبد الله أنه قرأ » إذا انْتَجَيْتُم فلا تَنْتَجُوا « ونقل الشيخُ عن الكوفيين والأعمش » فلا تَنْتَجُوا « كقراءةِ عبدِ الله . وأصل تَنْتَجُون : تَنْتَجِيُوْن » . ويتَناجَوْن يتناجَيُون فاسْتُثْقِلَتِ الضمةُ على الياء فحُذِفَت ، فالتقى ساكنان فحذفت الياءُ لالتقائِهما . أو نقول : تحرَّك حرفُ العلةِ وانفتح ما قبله فَقُلِبَ ألفاً ، فالتقى ساكنان فحذِف أوَّلهما وبقيت الفتحةُ دالةً على الألف .
[ وقرأ ] أبو حيوة « بالعِدْوان » بكسرِ العين .

إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)

وقد تقدَّم قراءتا « ليحزنَ » بالضم والفتح في آل عمران . وقُرِىء بفتح الياءِ والزاي على أنه مسندٌ إلى الموصولِ بعده فيكونُ فاعلاً .
وقوله : { وَلَيْسَ بِضَآرِّهِمْ } يجوزُ أَنْ يكونَ اسمُ « ليس » ضميراً عائداً على الشيطان ، وأَنْ يكونَ عائداً على الحزنِ المفهومِ مِنْ « ليحزنَ » قاله الزمخشري . والأولُ أَوْلَى للتصريحِ بما يعود عليه . [ وقرأ ] الضحاك « ومعصيات » جمعاً .
قوله : { لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا } [ المجادلة : 8 ] هذه الجملةُ التحضيضيةُ في موضع نصبٍ بالقول .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)

وقرأ نافع وابن عامر وحفص وأبو بكرٍ بخلافٍ عنه بضم شين « انشُزوا » في الحرفَيْن ، والباقون بكسرِها ، وهما لغتان بمعنىً واحد . يُقال : نَشَزَ أي ارتفع يَنْشِز ويَنْشُزُ كعَرَش يَعْرِش ويَعْرُش ، وعَكَفَ يَعْكِف ويَعْكُف . وقد تقدَّم الكلامُ على هذه المادة في البقرة .
قوله : { فِي المجالس } قرأ عاصم « المجالس » جمعاً اعتباراً بأنَّ لكلِّ واحدٍ منهم مجلساً . والباقون بالإِفراد ، إذ المرادُ مجلسُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم ، وهو أحسنُ مِنْ كونِه واحداً أريد به الجمعُ . وقُرىء « في المجلَس » بفتح اللام وهو المصدرُ أي : تَفَسَّحوا في جلوسِكم ولا تتضايَقوا . وقرأ الحسن وداود بن أبي هند وعيسى وقتادة « تَفاسَحُوا » والفُسْحَةُ : السَّعَةُ . وفَسَح له أي : وسَّعَ له .
قوله : { والذين أُوتُواْ } يجوز أَنْ يكونَ معطوفاً على « الذين آمنوا » فهو مِنْ عطفِ الخاصِّ على العامِّ؛ لأن الذين أُوْتوا العلمَ بعضُ المؤمنين منهم . ويجوزُ أَنْ يكونَ « والذين أُوْتُوا » مِنْ عطفِ الصفاتِ أي : تكونُ الصفاتُ لذاتٍ واحدةٍ ، كأنه قيل : يرفعُ الله المؤمنين العلماءَ . و « دَرَجاتٍ » مفعولٌ ثانٍ ، وقد تقدَّم الكلامُ على نحوِ ذلك في الأنعام . وقال ابنُ عباس : تمَّ الكلامُ عند قولِه « منكم » وينتصِبُ « الذين أُوْتُوا » بفعلٍ مضمرٍ أي : ويَخُصُّ الذين أوتوا اللمَ بدرجات/ ، أو ويرْفعُهم درجاتٍ .

أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)

قوله : { فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ } في « إذْ » هذه ثلاثة أقوالٍ ، أحدها : أنها على بابِها من المُضِيِّ . والمعنى : أنكم تركتم ذلك فيما مضى فتداركوه بإقامةِ الصلاةِ ، قاله أبو البقاء . الثاني : أنَّها بمعنى « إذا » كقولِه : { إِذِ الأغلال } [ غافر : 71 ] وقد تقدَّم الكلامُ فيه . الثالث : أنها بمعنى « إنْ » الشرطيةِ وهو قريبٌ مِمَّا قبلَه ، إلاَّ أنَّ الفرقَ بين « إنْ » و « إذا » معروفٌ . ورُوي عن أبي عمرو « خَبِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ » بالياءِ مِنْ تحتُ . والمشهورُ عنه بتاءِ الخطاب كالجماعة .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14)

قوله : { مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ } : يجوزُ في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنها مستأنفةٌ لا موضعَ لها من الإِعراب . أخبر عنهم بأنهم ليسوا من المؤمنين الخُلَّصِ . ولا من الكافرين الخلَّصِ ، بل كقولِه : { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هؤلاء وَلاَ إِلَى هؤلاء } [ النساء : 143 ] . فالضميرُ في « ما هم » عائدٌ على الذين تَوَلَّوا ، وهم المنافقون . وفي « منهم » عائدٌ على اليهود أي : الكافرين الخُلَّص . والثاني : أنها حالٌ مِنْ فاعل « تَوَلَّوا » والمعنى : على ما تقدَّم أيضاً . والثالث : أنها صفةٌ ثانيةً ل « قوماً » ، فعلى هذا يكون الضميرُ في « ما هم » عائداً على « قوماً » ، وهم اليهودُ . والضميرُ في « منهم » عائدٌ على الذين تَوَلَّوا يعني : اليهودُ ليسوا منكم أيها المؤمنون ، ولا من المنافقين ، ومع ذلك تولاَّهم المنافقون ، قاله ابن عطية . إلاَّ أنَّ فيه تنافُرَ الضمائرِ؛ فإن الضميرَ في « ويَحْلِفون » عائدٌ على الذين تَوَلَّوْا ، فعلى الوجهين الأوَّلَيْن تتحد الضمائرُ لعَوْدِها على الذين تَوَلَّوا ، وعلى الثالث تختلفُ كما عَرَفْتَ تحقيقَه .
قوله : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } جملةٌ حاليةٌ أي : يعلمون أنه كذِبٌ فيَمينُهم يمينٌ غموسٌ لا عُذْرَ لهم فيها .

اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17)

قوله : { أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً } : مفعولان ل « اتَّخذوا » . وقرأ العامَّةُ « أَيْمانَهم » بفتحِ الهمزةِ جمع يمين . والحسن بكسرِها مصدراً . وقوله : { لَّن تُغْنِيَ عَنْهُمْ } قد تقدَّمَ في آل عمران .

اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19)

قوله : { استحوذ } : جاءَ به على الأصلِ ، وهو فصيحٌ استعمالاً ، وإنْ شَذَّ قياساً . وقد أَخْرجه عمرُ رضيَ اللَّهُ عنه على القياس فقرأ « استحاذ » كاستقام ، وتقدَّمَتْ هذه المادةُ في سورةِ النساءِ عند قولِه : { أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ } [ النساء : 141 ] .

كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)

قوله : { كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ } : يجوز أَنْ يكونَ « كَتَبَ » جرى مَجْرَى القَسَم فأُجيبَ بما يُجاب به . وقال أبو البقاء : « وقيل : هي جوابُ » كَتَبَ « لأنَّه بمعنى قال » . وهذا ليس بشيءٍ لأنَّ « قال » لا يَقْتضِي جواباً فصوابُه ما قَدَّمْتُه . ويجوزُ أَنْ يَكون « لأَغْلِبَنَّ » جوابَ قسمٍ مقدرٍ ، وليس بظاهر .

لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)

قوله : { يُوَآدُّونَ } : هو المفعولُ الثاني ل « تَجِدُ » ويجُوز أَنْ تكونَ المتعديةَ لواحدٍ بمعنى صادَفَ ولقي ، فيكون « يوادُّون » . حالاً أو صفةً ل « قوماً » . والواوُ في « ولو كانوا » حاليةٌ وتقدم تحريرُه غيرَ مرة . وقدَّم أولاً الآباءَ لأنهم تجبُ طاعتُهم على أبناءِهم ، ثم ثّنَّى بالأبناءِ لأنهم أَعْلَقُ بالقلوب وهم حَبَّاتُها :
4241 فإنما أَوْلادُنا بَيْنَا ... أكبادُنا تَمْشِي على الأرضِ
الأبياتُ المشهورة في الحماسةِ ، ثَلَّثَ بالإِخوان لأنهم هم الناصرُون بمنزلة العَضُدِ من الذِّراع . قال :
4242 أخاك أخاك إنَّ مِنْ لا أخا له ... كساعٍ إلى الهَيْجا بغيرِ سلاحِ
وإنَّ ابنَ عمِّ المَرْءِ فاعْلَمْ جناحُه ... وهل ينهَضُ البازي بغير جَناح؟
ثم رَبَّع بالعشيرةِ ، لأنَّ بها يسْتغاثُ ، وعليها يُعْتمد . قال :
4243 لا يَسْألون أخاهم حين يَنْدُبُهُم ... في النائباتِ على ما قال بُرْهانا
وقرأ أبو رجاء « عشيراتِهم » بالجمع ، كما قرأها أبو بكر في التوبة كذلك . وقرأ العامَّةُ « كَتَبَ » مبنياً للفاعل وهو اللَّهُ تعالى ، « الإِيمانَ » نصباً وأبو حيوةَ وعاصمٌ في رواية المفضل « كُتِبَ » مبنياً للمفعول ، « الإِيمانُ » رفعٌ به . والضميرُ في « منه » للَّهِ تعالى . وقيل : يعودُ على الإِيمان؛ لأنه رُوحٌ يَحْيا به المؤمنون في الدارَيْنِ .

هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2)

قوله : { مِنْ أَهْلِ الكتاب } : « مِنْ » يجوزُ أَنْ تكونَ للبيانِ ، فتتعلَّق بمحذوفٍ ، أي : أعني من أهل الكتاب . والثاني : أنها حالٌ من « الذين كفروا » .
قوله : { مِن دِيَارِهِمْ } متعلق ب « أَخْرَجَ » ومعناها ابتداءُ الغايةِ . وصَحَّتْ إضافةُ الديارِ إليهم لأنهم أَنْشَؤُوها .
قوله : { لأَوَّلِ الحشر } هذه/ اللامُ تتعلقُ ب « أَخْرَجَ » وهي لامُ التوقيتِ كقولِه : { لِدُلُوكِ الشمس } [ الإسراء : 78 ] ، أي : عند أول الحشر . قال الزمخشري : « وهي اللامُ في قولِه تعالى : { ياليتني قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي } [ الفجر : 24 ] وقولِك » جئتُ لوقْتِ كذا « . قلت : سيأتي الكلامُ على هذه اللامِ في الفجرِ ، إنْ شاءَ الله تعالى .
قوله : { مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم } فيه وجهان ، أحدهما : أَنْ يكونَ » حصونُهم « مبتدأً ، و » مانِعَتُهم « خبرٌ مقدمٌ . والجملةُ خبر » أنهم « لا يُقال : لم لا يُقال : » مانِعَتُهم « مبتدأٌ؛ لأنه معرفةٌ و » حصونُهم « خبرُه . ولا حاجةَ لتقديمٍ ولا تأخيرٍ؛ لأنَّ القصدَ الإِخبارُ عن الحصون ، ولأنَّ الإِضافةَ غيرُ مَحْضَةٍ ، فهي نكرةٌ . والثاني : أَنْ يكونَ » مانِعَتُهم « خبرَ » أنهم « وحصونُهم » فاعلٌ به . نحو : إنَّ زيداً قائمٌ أبوه ، وإنَّ عَمْراً قائمةٌ جاريتُه . وجعله الشيخ أَوْلى؛ لأنَّ في نحو : قائمٌ زيد على أَنْ يكونَ خبراً مقدماً ومبتدأً مؤخراً خلافاً والكوفيون يمنعونَه فمحلُّ الوِفاق أَوْلى .
وقال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : أيُّ فَرْقٍ بين قولِك » وظنُّوا أنَّ حصونَهم تمنعُهم ، أو مانِعَتُهم ، وبين النظم الذي جاء عليه؟ قلت : [ في ] تقديمِ الخبرِ على المبتدأ دليلٌ على فَرْطِ وُثوقِهم بحَصانتِها ومَنْعِها إياهم ، وفي تصييرِ ضميرِهم اسماً ل « أنَّ » وإسناد الجملةِ إليه دليلٌ على اعتقادِهم في أنفسِهم أنَّهم في عِزَّةٍ ومَنَعَة لا يُبالى معها بأحد يَتَعرَّضُ لَهم ، وليس ذلك في قولك « حُصُونهم تَمْنعهم » انتهى . وهذا الذي ذكره إنما يَتأتَّى على الإِعرابِ الأولِ ، وقد تقدَّم أنه مَرْجوحٌ ، وتَسَلَّطَ الظنُّ هنا على « أنَّ » المشددةِ ، والقاعدةُ أنه لا يعملُ فيها ولا في المخففةِ منها إلاَّ فعلُ عِلْمٍ ويقينٍ ، إجراءً له مُجْرى اليقين لشدَّتِه وقوتِه وأنَّه بمنزلةِ العلم .
قوله : { يُخْرِبُونَ } يجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً للإِخبار به ، وأن يكونَ حالاً مِنْ ضميرِ « قلوبِهم » وليس بذاك . وقرأ أبو عمرو « يُخَرِّبون » بالتشديد وباقيهم بالتخفيفِ وهما بمعنى واحدٍ؛ لأن خرَّب عَدَّاه أبو عمروٍ بالتضعيف ، وهم بالهمزة . وعن أبي عمروٍ أنه فَرَّق بمعنىً آخرَ فقال : « خرَّب بالتشديد : هَدَم وأَفْسد ، وأَخْرَبَ بالهمزة : تَرَكَ الموضعَ خراباً وذهَب عنه . واختار الهذليُّ قراءةَ أبي عمروٍ لأجل التكثير . ويجوزُ أَنْ يكونَ » يُخْرِبون « تفسيراً للرعب فلا مَحَلَّ له أيضاً .

وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3)

قوله : { الجلاء } : العامَّةُ على مَدَّة وهو الإِخراجُ ، أَجْلَيْتُ القومَ إجلاءً ، وجلا هو جلاءً . وقال الماوردي : « الجَلاءُ أخصُّ من الخروجِ؛ لأنه لا يُقال إلاَّ لجماعةٍ ، والإِخراجُ يكون للجماعةِ والواحد » وقال غيرُه : الفرقُ بينهما أنَّ الجلاءَ ما كان مع الأهلِ والولدِ بخلاف الإِخراجِ فإنه لا يَسْتلزِمُ ذلك .
وقرأ الحسن وعلي ابنا صالح « الجَلا » بألفٍ فقط . وطلحة مهموزاً من غيرِ ألفٍ كالنبأ . وقرأ طلحة « ومَنْ يُشاقِقْ » بالفكِّ كالمتفق عليه في الأنفال .

مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)

قوله : { مَا قَطَعْتُمْ } : « ما » شرطيةٌ في موضع نصب ب « قَطَعْتم » و « مِنْ لينةٍ » بيانٌ له . و « فبإِذنِ اللهِ » جزاء الشرطِ . ولا بُدَّ مِنْ حذفٍ ، أي : فقَطْعُها بإذنِ الله ، فيكون « بإذنِ الله » الخبرَ لذلك المبتدأ . واللينةُ فيها خلافٌ كثير ، قيل : هي النخلةُ مطلقاً ، وأُنْشِد :
4244 كأن قُتودي فوقها عُشُّ طائرٍ ... على لِيْنَةٍ سَوْقاءَ تَهْفوا جُنوبها
وقال آخر :
4245 طِراقُ الخوافِي واقعٌ فوقَ لِينة ... نَدَى لَيْلهِ في ريشه يَتَرَقْرَقُ
وقيل : هي النخلة ما لم تكن عجوةً . وقيل : ما لم تكن عَجْوةً ولا بَرْنِيَّة . وقيل : هي النخلةُ الكريمة . وقيل : ما تَمْرُها لُوْنٌ ، وهو نوعٌ من التمر ، قال سفيان : هو شديدُ الصُّفْرة يَشِفُّ عن نواةٍ . وقيل : هي العَجْوة . وقيل : هي الفُسْلان وأنشد :
4246 غَرَسوا لينةً بمَجرى مَعِيْنِ ... ثم حُفَّ النخيلُ بالآجامِ
وقال آخر :
4247 قد جَفاني الأَحْبابُ حين تَغَنَّوا ... بفراقِ الأحبابِ مِنْ فوقِ ليْنَهْ
وقيل : هي أغصان الشجر للينِها .
وفي عين « لِينة » قولان ، أحدهما : أنها واوٌ لأنه من اللون ، وإنما قُلِبَتْ ياءً لسكونِها وانكسارِ ما قبلَها كدِيْمة وقيمة . الثاني : أنها ياءٌ لأنها من اللِّين . وجَمْعُ اللِّينة لِيْن لأنه من بابِ اسم الجنس كتَمْرة وتَمْر . وقد كُسِّر على « لِيان » وهو شاذٌّ؛ لأنَّ تكسيرَ ما يُفَرَّقُ بتاءِ التأنيث شاذٌّ كرُطَبَة ورُطَب وأَرْطاب . وأُنْشد :
4248 وسالفةٌ كسَحُوْقِ اللِّيا ... ن أَضْرَمَ فيه الغَوِيُّ السُّعُرْ
/ والضميرُ في « تَرَكْتموها » عائدٌ على معنى « ما » وقرأ عبدُ الله والأعمش وزيدُ بن علي « قُوَّماً » على وزنِ ضُرَّب؛ جمعَ « قائم » مراعاةً لمعنى « ما » فإنه جمعٌ . وقُرِىءَ « قائماً » مفرداً مذكراً . وقُرِىء « أُصُلِها » بغير واو . وفيه وجهان ، أحدهما : أنه جمعُ « أَصْلٍ » ، نحو : رَهْن ورُهُن . والثاني : أن يكونَ حَذَفَ الواوَ استثقالاً لها .
قوله : { وَلِيُخْزِيَ } اللامُ متعلقةٌ بمحذوفٍ ، أي : ولِيُخْزِيَ أَذِنَ في قَطْعِها ، أو ليُسِرَّ المؤمنين ويُعِزَّهم ولِيُخْزِيَ .

وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)

قوله : { فَمَآ أَوْجَفْتُمْ } : الفاءُ جوابُ الشرطِ ، أو زائدةٌ ، على أنها موصولةٌ مضمَّنَةٌ معنى الشرط . و « ما » نافيةٌ . والإِيجافُ : حَمْلُ البعيرِ على السيرِ السريع يقال : وَجَفَ البعير يَجِفُ وَجْفاً ووَجِيْفاً ووَجَفاناً . وأَوْجفْتُه أنا إيجافاً . قال العَجَّاج :
4249 ناجٍ طواه الأَيْنُ مِمَّا وَجَفا ... وقال نُصَيب :
4250 ألا رُبَّ رَكْبٍ قد قَطَعْتُ وجيفَهم ... إليك ولولا أنت لم تُوجِفِ الرَّكْبُ
قوله : { مِنْ خَيْلٍ } « مِنْ » زائدةٌ ، أي : خَيْلاً . والرِّكاب : الإِبلُ .

مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)

قوله : { مَّآ أَفَآءَ الله } : قال الزمخشري : « لم يُدْخِلِ العاطفَ على هذه الجلمةِ لأنها بيانٌ للأولى ، فهي منها غيرُ أجنبيةٍ » .
قوله : { يَكُونَ دُولَةً } قرأ هشام « تكون » بالتاء والياء « دُوْلةٌ » بالرفع فقط ، والباقون بالياء مِنْ تحتُ ونصب دُوْلَةً . فأمَّا الرفعُ فعلى أنَّ « كان » التامَّةُ . وأمَّا التذكيرُ والتأنيثُ فواضحان لأنه تأنيثٌ مجازيٌّ . وأمَّا النصبُ فعلى أنها الناقصةُ . واسمُها ضميرٌ عائدٌ على الفَيْءِ ، والتذكيرُ واجبٌ لتذكيرِ المرفوع . و « دُولة » خبرها . وقيل : عائد على « ما » اعتباراً بلفظِها . وقرأ العامَّةُ « دُوْلة » بضم الدال . وعلي بن أبي طالب والسُّلميُّ بفتحِها . فقيل : هما بمعنىً وهما ما يَدُول للإِنسان ، أي : يدور من الجِدِّ والعَناء والغَلَبة . وقال الحُذَّاقُ من البصريين والكسائيُّ : الدَّوْلة بالفتح : من المُلك بضم الميم ، وبالضم من المِلْكِ بكسرِها ، أو بالضمِّ في المال ، وبالفتح في النُّصْرة وهذا يَرُدُّه القراءة المرويَّةُ عن علي والسلمي؛ فإنَّ النصرةَ غيرُ مرادةٌ هنا قطعاً . و « كيلا » علةٌ لقولِه : « فللَّهِ وللرسول » ، أي : استقرارُه لكذا لهذه العلَّةِ .

لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)

قوله : { لِلْفُقَرَآءِ } : فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه بدلٌ مِنْ « لذي القُرْبى » قاله أبو البقاء والزمخشري . قال أبو البقاء : « قيل هو بدلٌ مِنْ » لذي القُربى « وما بعده » وقال الزمخشري : « بدلٌ مِنْ قوله » ولذي القُربى « وما عُطِف عليه . والذي مَنَعَ الإِبدالَ مِنْ » لله وللرسول « والمعطوفِ عليهما وإنْ كان المعنى لرسول الله أن اللّهَ عزَّ وجلَّ أخرجَ رسوله من الفقراءِ في قولِه : { وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ } وأنه تعالى يترفَّعُ برسوله عن تسميته بالفقير ، وأنَّ الإِبدالَ على ظاهرِ اللفظ من خلافِ الواجب في تعظيمِ اللهِ عزَّ وجلَّ » يعني لو قيل : بأنَّه بَدَلٌ مِنْ « لله » وما بعدَه لَزِمَ فيه ما ذُكِرَ : مِنْ أنَّ البدلَ على ظاهرِ اللفظِ يكونُ من الجلالةِ فيُقال : « للفقراء » بدلٌ مِنْ « لله » ومِنْ « رسولِه » وهو قبيحٌ لفظاٌ ، وإن كان المعنى على خلافِ هذا الظاهرِ ، كما قال : إن معناه لرسولِ الله ، وإنما ذُكر اللهُ عزَّ وجلَّ تفخيماً ، وإلاَّ فاللهُ تعالى غنيٌّ عن الفَيْءِ وغيره ، وإنما جعله بدلاً مِنْ « لذي القُرْبى » لأنه حنفيٌّ ، والحنفية يشترطون الفقرَ في إعطاءِ ذوي القُربى مِنَ الفَيْءِ .
الثاني : أنه بيانٌ لقولِه { والمساكين وابن السبيل } وكُرِّرتُ لامُ الجر لَمَّا كانت الأُولى مجرورةً باللام؛ ليُبَيِّنَ أنَّ البدلَ إنما هو منها ، قاله ابنُ عطية ، وهي عبارةٌ قَلِقَةٌ جداً . الثالث : أن « للفقراء » خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ ، أي : ولكنَّ الفَيْءَ للفقراء . وقيل : تقديرُه : ولكن يكونُ « للفقراء » . وقيل : تقديرُه : اعجَبوا للفقراء .
قوله : { يَبْتَغُونَ } يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً . في صاحبِها قولان ، أحدهما : للفقراء . والثاني : واو « أُخْرِجوا » قالهما مكي .

وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)

قوله : { والذين تَبَوَّءُوا } : يجوزُ فيه وجهان ، أحدهما : أنه عطفٌ على الفقراء ، فيكونُ مجروراً ، ويكونُ من عَطْفِ المفرداتِ ، ويكون « يُحبُّون » حالاً . والثاني : أَنْ يكونَ مبتدأ ، خبرُه « يُحِبُّون » ، ويكون حينئذٍ مِنْ عطفِ الجُمل .
قوله : { والإيمان } فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه ضُمِّنَ « تَبَوَّؤوا » معنى لزِموا ، فيَصِحُّ عَطْفُ الإِيمان عليه؛ إذ الإيمانُ لا يُتَبَوَّأ . والثاني : أنه منصوبٌ بمقدرٍ ، أي : واعتقدوا ، أو وأَلِفوا ، أو وأحَبُّوا . الثالث : أن يُتَجَوَّز في الإِيمان فيُجْعَلَ لاختلاطِه بهم وثباتِهم عليه كالمكانِ المُحيطِ بهم ، فكأنَّهم نَزَلوه ، وعلى هذا فيكونُ جَمَعَ بين الحقيقةِ والمجازِ في كلمةٍ واحدةٍ ، وفيه خلافٌ مشهورٌ . الرابع : أَنْ يكونَ الأصلُ : / دارَ الهجرة ودارَ الإِيمان ، فأقامَ لامَ التعريفِ في الدار مُقام المضافِ إليه ، وحَذَفَ المضافَ مِنْ دار الإِيمان ، ووَضَعَ المضافَ إليه مَقامه . الخامسُ . أَنْ يكونَ سَمَّى المدينة لأنَّها دارُ الهجرة ومكانُ ظهورِ الإِيمان بالإِيمان ، قال هذين الوجهَيْنِ الزمخشريُّ ، وليس فيه إلاَّ قيامُ أل مَقامَ المضافِ إليه ، وهو مَحَلُّ نَظَر ، وإنما يُعْرَفُ الخلافُ : هل تقوم أل مَقامَ الضميرِ المضاف إليه؟ الكوفيون يُجيزونه كقولِه تعالى : { فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى } [ النازعات : 39 ] ، أي : مَأْواه ، والبصريون يمنعونه ويقولون : الضميرُ محذوفٌ ، أي : المَأْوى له وقد تقدَّمَ تحريرُ هذا . أمَّا كونُها عِوَضاً من المضاف إليه فلا نَعْرِفُ فيه خلافاً .
السادس : أنَّه مصنوبٌ على المفعولِ معه ، أي : مع الإِيمان معاً ، قاله ابن عطية ، وقال : « وبهذا الاقترانِ يَصِحُّ معنى قولِه » مِنْ قبلهم « فتأمَّلْه » قلت : وقد شَرَطوا في المفعول معه أنَّه يجوز عَطْفُه على ما قبلَه حتى جَعَلوا قولَه { فأجمعوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ } مِنْ بابِ إضمار الفعل لأنَّه لا يُقال : أجمعتُ شركائي إنما يقال جَمَعْتُ ، وقد تقدَّم القولُ في ذلك ولله الحمد مشبعاً .
قوله : { حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ } فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّ الحاجةَ هنا على بابِها من الاحتياج ، إلاَّ أنها واقعةٌ مَوْقعَ المحتاجِ إليه ، والمعنَى : ولا يجدون طَلَبَ محتاجٍ إليه ممَّا أُوْتي المهاجرون من الفيء وغيِره ، والمُحتاج إليه يُسَمَّى حاجةً تقول : خُذْ منه حاجتَك ، وأعطاه مِنْ مالِه حاجتَه ، قاله الزمشخري . فعلى هذا يكون الضميرُ الأول للجائين مِنْ بعدِ المهاجرين ، وفي « أُوْتوا » للمهاجرين . والثاني : أنَّ الحاجةَ هنا مِنْ الحَسَدِ ، قاله بعضُهم ، والضميران على ما تقدَّم قبل . وقال أبو البقاء : مَسَّ حاجةٍ ، أي : إنه حُذِف المضافُ للعلم به ، وعلى هذا فالضميران للذين تبوَّؤوا الدارَ والإِيمان .
قوله : { وَلَوْ كَانَ بِهِمْ } واوُ الحال وقد تقدَّم الكلامُ عليها .
والخَصاصَةُ : الحاجةُ ، وأصلُها مِنْ خَصاصِ البيت ، وهي فُروجهُ ، وحالُ الفقير يتخَلَّلُها النَّقْصُ ، فاسْتُعير لها ذلك .
قوله : { وَمَن يُوقَ } العامَّةُ على سكون الواو وتخفيفِ القافِ مِنْ الوِقاية . وابنُ أبي عبلة وأبو حيوة بفتحِ الواو وشدِّ القافِ . والعامَّةُ بضمِّ الشينِ مِنْ « شُحَّ » وابنُ أبي عبلة وابنُ عمر بكسرها .

وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)

قوله : { والذين جَآءُوا } : يحتمل الوجهَيْن المتقدمَيْن في « الذين » قبلَه ، فإن كان معطوفاً على المهاجرين ف « يقولون » حالٌ ك « يُحِبُّون » أو مستأنف ، وإنْ كان مبتدأً ف « يقولون » خبرُه .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11)

قوله : { لإِخْوَانِهِمُ } : اللامُ هنا للتبليغ فقط بخلافِ قولِه : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ } فإنَّها تحتملُ ذلك وتحتمل العلةَ ، وقوله : { وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ } ، أي : في قتالِكم ، أو في خِذْلانكم .
وقوله : { وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ } أُجيب القسمُ المقدرُ لأنَّ قبل « إنْ » لاماً موطِّئة حُذِفَتْ للعِلْم بمكانِها ، فإنَّ الأكثرَ الإِتيانُ بها . ومثلُه قولُه : { وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ } [ المائدة : 73 ] وقد تقدَّم .

لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12)

قوله : { لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ } : إلى آخره أُجيب القسمُ لسَبْقِه ، ولذلك رُفِعَتِ الأفعالُ ولم تُجْزَمْ ، وحُذِفَ جوابُ الشرطِ لدلالةِ جوابِ القسمِ عليه ، ولذلك كان فِعلُ الشرطِ ماضياً . وقال أبو البقاء : « قولُه : » لا يَنْصُرُوْنَهم « لَمَّا كان الشرطُ ماضياً تُرِكَ جَزْمُ الجوابِ » انتهى . وهو غَلَطٌ؛ لأنَّ « لا يَنْصُرونهم » ليس جواباً للشرطِ ، بل هو جوابٌ للقسم ، وجواب الشرطِ محذوفٌ كما تقدَّمَ تقريرُه ، وكأنه توهَّم أنه من بابِ قوله :
4251 وإن أتاه خليلٌ يومَ مَسْأَلَةٍ ... يقولُ لا غائبٌ مالي ولا حَرِمُ
وقد سبق أبا البقاء ابنُ عيطة إلى ما يُوْهِم شيئاً من ذلك ، ولكنه صرَّح بأنه جوابُ القسم ، وقال : « جاءت الأفعالُ غير مجزومةٍ في » لا يَخْرجون « ولا » يَنْصُرون « لأنها راجعةٌ على حكم القسم لا على حكمِ الشرط . وفي هذا نظرٌ » وقوله : « وفي هذا نظر » مُوْهِمٌ أنه جاء على خلافِ ما يقتضيه القياسُ ، وليس كذلك ، بل جاء على ما يَقْتضيه القياسُ . وفي هذه الضمائرِ قولان ، أحدهما : أنها كلَّها للمنافقين . والثاني : أنها مختلفةٌ ، بعضُها لهؤلاء وبعضُها لهؤلاء .

لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13)

قوله : { لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً } : « رهبةً » مصدرٌ مِنْ رُهِبَ المبنيِّ للمفعولِ ، فالرهبةُ واقعةٌ من المنافقين لا مِنْ المخاطبين ، كأنه قيل : لأنتم أشدُّ مرهوبيَّةً في صدورِهم من اللهِ فالمخاطبون مَهوبون ، وهو كقولِ كعبِ بن زهير رضي الله عنه في مَدْح رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم :
4252 فَلَهْوَ أَخْوَفُ عندي إذا أُكَلِّمُهُ ... وقيل : إنك محبوسٌ ومقتولُ
مِنْ ضَيْغَمٍ بثَراءِ الأرضِ مُخْدَرُه ... ببَطْنِ عَثَّر غِيْلٌ دونَه غِيْلُ
و « رُهْبةً » تمييز .

لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14)

قوله : { جَمِيعاً } : حالٌ و { إِلاَّ فِي قُرًى } متعلقٌ ب « يُقاتِلونكم » .
وقوله : { جُدُرٍ } قرأ ابنُ كثير وأبو عمرو « جدار » بالإِفرادِ . وفيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه أرادَ به السُّوْرَ ، والسُّوْرُ الواحد يَعُمُّ الجميعَ من المقاتِلةِ ويَسْتُرهم . والثاني : أنه واحدٌ في معنى الجمع لدلالة السِّياقِ عليه . والثالث : أنَّ كلَّ فِرْقة منهم وراءَ جدار ، لا أنَّهم كلَّهم وراءَ جدار . والباقون قَرَؤُوا جُدُر بضمتين/ اعتباراً بأنَّ كلَّ فِرْقةٍ وراءَ جدار ، فجُمِعَ لذلك . وقرأ الحسن وأبو رجاء وابن وثاب والأعمش ، ويُرْوى عن ابن كثير وعاصمٍ بضمةٍ وسكونٍ ، وهي تخفيفُ الأُولى . وقرأ ابن كثير أيضاً في وراية هارونَ عنه ، وهي قراءةُ كثيرٍ من المكيين « جَدْرٍ » بفتحة وسكون فقيل : هي لغةٌ في الجِدار . وقال ابن عطية : « معناه أصلُ بنيانٍ كالسُّور ونحوه » قال : « ويُحتمل أَنْ يكونَ مِنْ جَدْر النخيل ، أي : أو مِنْ وراءِ نخيلهم . وقُرِىء » جَدَر « بفتحتين حكاها الزمخشريُّ ، وهي لغةٌ في الجِدار أيضاً .
قوله : { بَيْنَهُمْ } متعلِّقٌ بشديد و » جميعاً « مفعولٌ ثانٍ ، أي : مجتمعين و » قلوبُهم شَتَّى « جملةٌ حاليةٌ أو مستأنفةٌ للإِخبار بذلك . والعامَّةُ على » شتى « بلا تنوينٍ لأنَّها ألفُ تأنيثٍ . ومِنْ كلامهم : » شتى تَؤُوب الحَلَبةُ « ، أي : متفرِّقين . وقال آخر :
4253 إلى اللهِ أَشْكو فِتْنَةً شَقَّت العِصا ... هي اليومَ شَتَّى وهْي أَمْسِ جميعُ
وقرأ مبشر بن عبيد » شتىً « منونة ، كأنه جعلها ألفَ الإِلحاق .

كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15)

قوله : { كَمَثَلِ الذين } : خبرُ مبتدأ مضمرٍ ، أي : مثلُهم مثلُ هؤلاء . و « قريباً » فيه وجهان ، أحدهما : أنَّه منصوبٌ بالتشبيه المتقدم ، أي : يُشَبِّهونهم في زمنٍ قريب سيقع لا يتأخر ، ثم بَيَّنَ ذلك بقوله : { ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ } . والثاني : أنه منصوبٌ ب « ذاقوا » ، أي : ذاقوه في زمنٍ قريب سيقع ولم يتأخَّرْ . وانتصابُه في وجهَيْه على ظرف الزمان . وقوله : { كَمَثَلِ الشيطان } [ الحشر : 16 ] كالبيان لقولِه : { كَمَثَلِ الذين مِن قَبْلِهِمْ } .

فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17)

قوله : { فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ } : العامَّةُ على نصب « عاقَبَتَهُما » بجَعْلِه خبراً ، والاسمُ « أنَّ » وما في حَيَّزها؛ لأنَّ الاسمَ أَعْرَفُ مِنْ « عاقبتَهُما » . وقد تقدَّم تحريرُ هذا في آل عمران والأنعام . وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وابن أرقم برفعِها على جَعْلِها اسماً ، و « أنَّ » وما في حَيِّزها خبراً كقراءةِ { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ } [ الأنعام : 23 ] .
قوله : { خَالِدَينَ } العامَّةُ على نَصْبِه حالاً من الضمير المستكنِّ في الجارِّ لوقوعِه خبراً . وعبد الله وزيد بن علي والأعمش وابن أبي عبلة برفعِه خبراً ، والظرفُ مُلْغَى فيتعلَّق بالخبر ، وعلى هذا فيكون تأكيداً لفظياً للحرفِ وأُعيد معه ضميرُ ما دَلَّ عليه كقولِه : { فَفِي الجنة خَالِدِينَ فِيهَا } [ هود : 108 ] وهذا على مذهب سيبويه فإنه يُجيز إلغاءَ الظرفِ وإنْ أُكِّدَ ، والكوفيون يَمْنَعونَه وهذا حُجَّةٌ عليهم . وقد يُجيبون : بأنَّا لا نُسَلِّمُ أَنَّ الظرفَ في هذه القراءةِ مُلْغَى ، بل نجعلُه خبراً ل « أنَّ » وخالدان خبرٌ ثانٍ ، وهو مُحْتمِلٌ لِما قالوه إلاَّ أنَّ الظاهرَ خلافُه .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)

قوله : { وَلْتَنظُرْ } : العامَّةُ على سكونِ لامِ الأمرِ . وأبو حيوة ويحيى بنُ الحارث بكسرِها على الأصل . والحسنُ بكسرها ونصبِ الفعل ، جَعَلَها لامَ كي ، ويكونُ المُعَلَّلُ مقدراً ، أي : ولْتنظر نفسٌ حَذَّركم وأَعْلمكم . وتنكيرُ النفسِ والغدِ . قال الزمخشري : « أمَّا تَنْكيرُ النفسِ فلاستقلالِ الأنفسِ النواظرِ فيما قَدَّمْنَ للآخرةِ ، كأنه قيل : لتنظرْ نفسٌ واحدةٌ . وأمَّا تنكيرُ الغد فلتعظيمِه وإبهامِ أَمْرِه كأنه قيل : لِغدٍ لا يُعْرَفُ كُنْهُهُ لعِظَمِه » .
وقوله : { واتقوا الله } تأكيدٌ : وقيل : كُرِّر لتغايُرِ متعلَّق التَّقْوَيَيْنِ فمتعلَّقُ الأولى أداءُ الفرائضِ لاقترانِه بالعمل ، والثانيةِ تَرْكُ المعاصي لاقترانِه بالتهديد والوعيدِ ، قال معناه الزمخشري .

وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)

قوله : { وَلاَ تَكُونُواْ } : العامَّةُ على الخطابِ . وأبو حيوة بالغَيْبة على الالتفاتِ .

لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)

قوله : { أَصْحَابُ الجنة هُمُ الفآئزون } : كالتفسير لنفي تساوِيْهما . و « هم » يجوزُ أَنْ يكونَ فَصْلاً ، وأَنْ يكونَ مبتدأ ، فعلى الأول الإِخبارُ بمفردٍ ، وعلى الثاني بجملةٍ .

لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)

قوله : { خَاشِعاً } : حالٌ؛ لأن الرؤيةَ بَصَرية . وقرأ طلحة « مُصَّدِّعاً » بإدغام التاء في الصاد .
وأبو ذر وأبو السَّمَّال « القَدُّوس » بفتح القاف . وقرأ العامَّةُ « المُؤْمِنُ » بكسر الميم اسمَ فاعل مِنْ آمَن بمعنى أَمَّن . وأبو جعفر محمد بن الحسين وقيل ابن القعقاع : بفتحها . فقال الزمخشري : « بمعنى المُؤْمَنِ به على حَذْفِ حرف الجر ، كما تقول في قومَ موسى مِنْ قولِه { واختار موسى قَوْمَهُ } [ الأعراف : 155 ] المختارون » . وقال أبو حاتم : « لا يجوزُ ذلك ، أي : هذه القراءة؛ لأنه لو كان كذلك لكان » المؤمَنُ به « وكان جارَّاً ، لكن المؤمَنَ المطلقَ بلا حرفِ جر/ يكون مَنْ كان خائفاً فأُمِّنَ » فقد رَدَّ ما قاله الزمخشريُّ .

هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)

قوله : { الجبار } : اسْتَدَلَّ به مَنْ يقول : إن أمثلةَ المبالغةِ تأتي من المزيدِ على الثلاثةِ ، فإنه مِنْ أَجْبَرَه على كذا ، أي : قهره . قال الفراء : « ولم أسمع فعَّالاً مِنْ أَفْعلَ إلاَّ في جَبَّار وَدَّراك مِنْ أدرك » انتهى . واسْتُدْرك عليه : أَسْأَر فهو سَأر . وقيل : هو من الجَبْر وهو الإِصلاحُ . وقيل : مِنْ قولِهم نَخْلَةٌ جَبَّارة ، إذ لم تَنَلْها الجُناةُ . قال امرؤ القيس :
4254 سَوامِقُ جَبَّارٍ أثيثٍ فُروعُه ... وعالَيْنَ قِنْواناً مِن البُسْر أَحْمرا

هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)

قوله : { المصور } : العامَّةُ على كسرِ الواوِ ورفعِ الراءِ : إمَّا صفةً ، وإمَّا خبراً . وقرأ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والحسن وابن السَّمَيْفَع وحاطب بن أبي بَلْتعة بفتح الواو ونصب الراء . وتخريجُها : على أن يكونَ منصوباً بالباري والمُصَوَّر هو الإِنسانُ : إمَّا آدمُ ، وإمَّا هو وبنوه . وعلى هذه القراءةِ يَحْرُم الوقفُ على « المصوَّر » بل يجب الوصلُ ليظهرَ النصبُ في الراء ، وإلاَّ فقد يُتَوَهَّمُ منه في الوقفِ ما لا يجوزُ . ورُوي عن أمير المؤمنين أيضاً فَتْحُ الواوِ وجَرُّ الراءِ . وهي كالأُولى في المعنى ، إلاَّ أنه أضاف اسمَ الفاعل لمعمولِه تخفيفاً نحو : الضاربُ الرجلِ . والوقف على المصوَّر في هذه القراءةِ أيضاً حرامٌ . وقد نَبَّه عليه بعضُهم . وقال مكي : « ويجوز نصبُه في الكلام ، ولا بُدَّ مِنْ فتح الواوِ ، فتنصبُه بالباري ، أي : هو اللهُ الخالقُ المصوَّر ، يعني آدمَ عليه السلام وبنيه » انتهى . قلت : قد قُرِىء بذلك كما تقدَّم ، وكأنه لم يَطَّلِعْ عليه . وقال أيضاً : « ولا يجوز نصبُه مع كسرِ الواوِ ، ويُرْوى عن علي رضي الله عنه » يعني أنه إذا كُسِرَت الواوُ كان من صفاتِ اللهِ تعالى ، وحينئذٍ لا يَسْتقيم نصبُه عنده؛ لأنَّ نَصْبَه باسمِ الفاعلِ قبلَه . وقوله : « ويُروى » ، أي : كسرُ الواوِ ونصبُ الراء . وإذا صَحَّ هذا عن أمير المؤمنين فيتخرَّج على أنه من القطع . كأنه قيل : أَمْدَحُ المصوِّر كقولِهم : « الحمدُ لله أهلَ الحمد » بنصب أهلَ ، وقراءةِ مَنْ قرأ { للَّهِ رَبَّ العالمين } [ الفاتحة : 1 ] بنصب « ربَّ » قال مكي : « والمصوِّر : مُفَعِّل مِنْ صَوَّر يُصَوِّرُ ، ولا يحسُنُ أَنْ يكونَ مِنْ صار يَصير؛ لأنه يلزمُ منه أَنْ يقال : المُصَيِّر بالياء » ومثلُ هذا من الواضحات ولا يقبله المعنى أيضاً .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1)

قوله : { عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ } : هذان مفعولا الاتخاذ . والعدوُّ لَمَّا كان بزنةِ المصادِر وقعَ على الواحدِ فما فوقَه ، وأضاف العدوَّ لنفسه تعالى تغليظاً في جُرْمِهم .
قوله : { تُلْقُونَ } فيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه تفسيرٌ لموالاتِهم إياهم . الثاني : أنه استئنافُ إخبارٍ بذلك فلا يكون للجلمة على هذين الوجهَين محلٌّ من الإِعراب . الثالث : أنها حالٌ مِنْ فاعل « تَتَّخِذوا » أي : لا تتخذوا مُلْقِين المودةَ . الرابع : أنها صفة ل « أولياءَ » . قال الزمخشري : « فإن قلتَ : إذا جَعَلْتَه صفةً لأولياء ، وقد جَرَى على غير مَنْ هوله ، فأين الضميرُ البارزُ ، وهو قولُك : تُلْقُون إليهم أنتم بالمودة؟ قلت : ذاك إنما اشترطوه في الأسماءِ دونَ الأفعالِ لو قيل : أولياءَ مُلْقِين إليهم بالمودَّة على الوصف لَما كان بُدٌّ مِن الضميرِ البارزِ » قلت : قد تقدَّمَتْ هذه المسألةُ مستوفاةً ، وفيها كلامٌ لمكي وغيرِه . إلاَّ أن الشيخَ اعترضَ على كونِها صفةً أو حالاً بأنهم نُهُوا عن اتخاذِهم أولياءً مطلقاً في قولِه : { لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ } [ المائدة : 51 ] والتقييدُ بالحالِ والوصفِ يُوهم جوازَ اتِّخاذهم أولياءَ إذا انتفى الحالُ أو الوصفُ . ولا يَلْزَمُ ما قال لأنه معلومٌ من القواعدِ الشرعيةِ فلا مفهومَ لهما البتةَ . وقال الفراء : « تُلْقون من صلةِ أولياء » وهذا على أصولِهم مِنْ أنَّ النكرةَ تُوْصَلُ كغيرها من الموصولات .
قوله : { بالمودة } في الباء ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أن الباءَ مزيدةٌ في المفعولِ به كقولِه : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ } [ البقرة : 195 ] . والثاني : أنها غيرُ مزيدةٍ والمفعولُ محذوفٌ ، ويكون معنى الباءِ السببَ . كأنه قيل : تُلْقُوْن إليهم أسرارَ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأخبارَه بسبب المودةِ التي بينكم . / والثالث : أنها متعلقةٌ بالمصدرِ الدالِّ عليه « تُلْقُون » أي : إلقاؤُهم بالمودَّةِ ، نقله الحوفيُّ عن البصريين ، وجَعَلَ القولَ بزيادةِ الباءِ قولَ الكوفيين . إلاَّ أن هذا الذي نَقَله عن البصريين لا يُوافقُ أصولَهم؛ إذ يَلْزَمُ منه حَذْفُ المصدرِ وإبقاءُ معموله ، وهو لا يجوزُ عندَهم . وأيضاً فإنَّ فيه حَذْفَ الجملةِ برأسِها ، فإنَّ « إلقاءَهم » مبتدأ و « بالمودة » متعلقٌ به ، والخبرُ أيضاً محذوفٌ . وهذا إجحافٌ .
قوله : { وَقَدْ كَفَرُواْ } فيه أوجهٌ : الاستئناف ، والحالُ مِنْ فاعِل « تتَّخذوا » والحالُ مِنْ فاعلِ « تُلْقُون » أي : لا تتولَّوْهم ولا توادُّوهم وهذه حالُهم . والعامَّةُ « بما » بالباء ، والجحدري وعاصمٌ في روايةٍ « لِما » باللام أي : لأجلِ ما جاءكم ، فعلى هذا الشيءِ المكفورِ غيرُ مذكور ، تقديره : كفروا باللَّهِ ورسولِه .
قوله : { يُخْرِجُونَ الرسول } يجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً ، وأن يكونَ تفسيراً لكُفْرِهم ، فلا مَحَلَّ له على هذَيْن ، وأَنْ يكونَ حالاً مِنْ فاعل « كفروا » .
قوله : { وَإِيَّاكُمْ } عطفٌ على الرسول . وقُدِّم عليهم تَشريفاً له .

وقد استَدَلَّ به مَن يُجَوِّزُ انفصالَ الضميرِ مع القدرةِ على اتصالِه ، إذ كان يجوز أَنْ يُقال : يُخْرجونكم والرسولَ ، فيجوز : « يُخْرجون إياكم والرَّسولَ » في غيرِ القرآنِ وهو ضعيفٌ؛ لأنَّ حالةَ تقديمِ الرسولِ دلالةٌ على شَرَفِه . لا نُسَلِّمُ أنه يُقَدَرُ على اتِّصاله . وقد تقدَّم لك الكلامُ على هذه الآيةِ عند قولِه تعالى : { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ } في سورةِ النساء فعليك باعتباره .
قوله : { أَن تُؤْمِنُواْ } مفعولٌ له . وناصبُه : « يُخْرِجون » أي : يُخْرجونكم لإِيمانِكم أو كراهةَ إيمانِكم .
قوله : { إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ } جوابُه محذوفٌ عند الجمهور لتقدُّمِ « لا تتَّخذوا » ، ومقدم وهو « لا تتخذوا » عند الكوفيين ومَنْ تابعهم . وقد تقدَّم تحريرُه . وقال الزمخشري : و { إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ } متعلِّقٌ ب « لا تَتَّخذوا » . يعين : لا تتولَّوْا أعدائي إنْ كنتم أوليائي . وقولُ النحويين في مثلِه : هو شرطٌ ، جوابُه محذوفٌ لدلالةِ ما قبله عليه « انتهى . يريد أنَّه متعلِّقٌ به من حيث المعنى . وأمَّا من حيث الإِعراب فكما قال جمهورُ النَّحْويين .
قوله : » جِهَاداً وابتغآء « يجوزُ أَنْ يُنْصَبا على المفعول له أي : خَرَجْتُمْ لأجلِ هذَيْن ، أو على المصدرِ بفعلٍ مقدرٍ أي : تُجاهِدون ، وتبتَغُون ، أو على أنهما في موضع الحال .
قوله : { تُسِرُّونَ } يجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً ، ولم يذكُر الزمخشريُّ غيرَه ، وأن يكونَ حالاً ثانية مِنْ ما انتصب عنه » تُلْقُون « حالاً ، وأَنْ يكونَ بدلاً مِنْ » تُلْقُون « ، قاله ابن عطية . ويُشْبه أَنْ يكونَ بدلَ اشتمالٍ لأنَّ إلقاءَ المودةِ يكون سرّاً وجَهْراً ، فَأَبْدَل منه هذا للبيانِ بأيِّ نوعٍ وقع الإِلقاء ، وأن يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي : أنتم تُسِرُّون ، قاله ابن عطية ، ولا يَخْرجُ عن معنى الاستئناف . وقال أبو البقاء : » هو توكيدٌ ل « تُلْقُون » بتكريرِ معناه « وفيه نظرٌ؛ لأنَّ الإِلقاءَ أعمُّ مِنْ أَنْ يكونَ سِرَّاً أو جَهْراً .
وقوله : { بالمودة } الكلامُ في الباء هنا كالكلامِ عليها بعد » تُلْقُون « .
قوله : { وَأَنَاْ أَعْلَمُ } هذه الجملةُ حالٌ مِنْ فاعل » تُسِرُّون « أي : وأيُّ طائلٍ لكم في إسْراركم وقد عَلِمتم أن الإِسرارَ والإِعلان سيَّانِ في علمي؟ و » أعلمُ « يجوز أن يكونَ أفعلَ تفضيل وهو الظاهرُ ، وأَنْ يكون فعلاً مضارعاً . قال ابن عطية : » وعُدِّي بالباء لأنك تقول : علمتُ بكذا « .
قوله : { وَمَن يَفْعَلْهُ } في الضمير وجهان ، أظهرهما : أنه يعود على الإِسرار؛ لأنه أقربُ مذكورٍ . والثاني : أنه يعودُ على الاتخاذ ، قاله ابنُ عطية .
قوله : { سَوَآءَ السبيل } يجوزُ أَنْ يكونَ منصوباً على الظَّرْفِ إنْ قلنا : » ضَلَّ « قاصرٌ ، وأَنْ يكونَ مفعولاً به إنْ قلنا : هو متعدٍّ .

إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2)

قوله : { وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ } : في « وَدُّوا » وجهان ، أحدهما : أنه معطوفٌ على جواب الشرطِ وهو قوله : « يكونوا » و « يَبْسُطوا » قاله الزمخشري . ثم رتَّب عليه سؤالاً وجواباً فقال : « فإنْ قلتَ : كيف أورَدَ جوابَ الشرط مضارعاً مثلَه ثم قال : » وَدُّوا « بلفظ الماضي؟ قلت : الماضي وإنْ كان يجري في باب الشرط مَجْرى المضارع في علم الإِعراب ، فإن فيه نكتةً ، كأنه قيل : وودُّوا قبل كلِّ شيءٍ كُفْرَكم وارتدادَكم ، يعني : أنهم يريدون أن يُلْحِقوا بكم مَضارَّ الدنيا والآخرةِ جميعاً » . والثاني : أنه معطوفٌ على جملةِ الشرط والجزاء ، ويكون تعالى قد أخبر بخبَرَيْن : بما تَضَمَّنَتْه الجملةُ الشرطيةُ ، وبودادتهم كُفْرَ المؤمنين . وجعل الشيخُ هذا راجحاً ، وأسقط به سؤالَ الزمخشريِّ وجوابَه فقال : « وكان الزمخشريُّ فَهِمَ مِنْ قولِه : » وَوَدُّوا « أنه معطوفٌ على جوابِ الشرطِ . والذي يظهرُ أنه ليس معطوفاً عليه لأنَّ/ ودادتَهم كفرَهم ليسَتْ مترتبةً على الظفر بهم والتسليطِ عليهم ، بل هم وادُّون كفرَهم على كلِّ حالٍ ، سواءً ظَفِروا بهم أم لم يظفروا بهم » . انتهى .
قلت : والظاهرُ أنه عطفٌ على الجواب . وقوله : هم وادُّون ذلك مُطلقاً مُسَلَّمٌ ، ولكن ودادتَهم له عند الظفرِ والتسليطِ أقربُ وأطمعُ لهم فيه .
وقوله : { لَوْ تَكْفُرُونَ } يجوزُ أَنْ تكونَ لما سيقعُ لوقوع [ غيرِه ] ، وأَنْ تكونَ المصدريةَ عند مَنْ يرى ذلك ، وقد تقدَّم تحريرهما في البقرة .

لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)

قوله : { يَوْمَ القيامة } : يجوز فيه وجهان ، أحدهما : أَنْ يتعلَّقَ بما قبلَه أي : لن ينفعَكم يومَ القيامة فَيُوقَفُ عليه ويُبْتدأ « يَفْصِلُ بينكم » . والثاني : أَنْ يتعلَّقُ بما بعده أي : يَفْصِلُ بينكم يومَ القيامة ، فيوقف على « أولادكم » ويُبتدأ « يوم القيامة » .
والقُرَّاء في « يَفْصِلُ » بينكم على أربعِ مراتبَ ، الأولى : لابن عامر بضم الياءِ وفتح الفاءِ والصادُ مثقَّلةٌ . الثانية : كذلك إلاَّ أنَّه بكسرِ الصاد للأخوَيْن . الثالثة : بفتح الياء وسكونِ الفاءِ وكسرِ الصاد مخففةً لعاصم . الرابعة : بضمِّ الياء وسكونِ الفاءِ وفتح الصادِ مخففةً للباقين ، وهم نافعٌ وابنُ كثير وأبو عمروٍ هذا في السَبعة . وقرأ ابنُ أبي عبلةٍ وأبو حيوةَ بضم الياء وسكون الفاء وكسرِ الصادِ مخففةً ، مِنْ أَفْصَلَ . وأبو حيوة أيضاً « نُفْصِلُ » بضمِّ النونِ مِنْ أَفْصَلَ . والنخعيُّ وطلحة « نُفَصِّلُ » بضم النون وفتح الفاء وكسر الصاد مشددةً . وقرأ أيضاً وزيد بن علي « نَفْصِلُ » بفتح النون وسكون الفاء وكسرِ الصاد مخففةً . فهذه أربعٌ فصارت ثمانِ قراءاتٍ .
فمَنْ بناه للمفعولِ فالقائمُ مقام الفاعلِ : إمَّا ضميرُ المصدرِ أي : يُفْصَل الفصلُ أو الظرف ، وبُني على الفتح لإِضافته إلى غير متمكن كقوله : { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 94 ] في أحدِ الأوجه ، أو الظرفُ وهو باقٍ على نصبِه كقولك : « جُلس عندَك » .

قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4)

قوله : { في إِبْرَاهِيمَ } : فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه متعلقٌ ب « أُسوة » تقول : « لي أُسْوَة في فلان » . وقد منع أبو البقاء أَنْ يتعلَّقَ بها . قال : « لأنها قد وُصِفَتْ » وهذا لا يُبالى به لأنه يُغتفر في الظرفِ ما لا يُغتَفر في غيره . الثاني : أنه متعلق بحسنة تعلُّقَ الظرفِ بالعامل . الثالث : أنَّه نعتٌ ثانٍ لأُسْوَة . الرابع : أنه حالٌ من الضمير المستترِ في « حسنةٌ » . الخامس : أن يكونَ خبرَ كان ، و « لكم » تبيينٌ . وقد تقدَّم لك قراءتا « أسْوة » في الأحزاب ، والكلامُ على مادتِها .
قوله : { إِذْ قَالُواْ } فيه وجهان ، : أحدهما : أنَّه خبرُ كان . والثاني : أنه متعلقٌ بخبرها ، قالهما أبو البقاء . ومَنْ جَوَّزَ في « كان » أَنْ تعملَ في الظرف عَلَّقه بها .
قوله : { بُرَآءُ } هذه قراءةُ العامَّةِ بضمِّ الباءِ وفتح الراءِ وألفٍ بين همزتَيْن ، جمعَ بريء ، نحو : كُرَماء في جمع كريم . وَعيسى الهمذاني بكسرِ الباء وهمزةٍ واحدةٍ بعد ألف نحو : كرام في جمع كريم . وعيسى أيضاً ، وأبو جعفر ، بضم الباءِ وهمزةٍ بعد ألف . وفيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه جمعُ بَرِيْء أيضاً ، والأصلُ كسرُ الباءِ ، وإنما أبدل من الكسرةِ ضمةً ، ك رُخال ورُباب قاله الزمخشري . الثاني : أنه جمعٌ أيضاً ل بَرِيء ، وأصلُه برَآء كالقراءةِ المشهورة ، إلاَّ أنه حَذَفَ الهمزة الأولى تخفيفاً ، قاله أبو البقاء . الثالث : أنه اسمُ جمعٍ ل بريء نحو : تُؤَام وظُؤَار اسْمَيْ جمعٍ لتَوْءَم وظِئْر . وقرأ عيسى أيضاً : « بَراء » بفتح الباء . وهمزة بعد ألف كالتي في الزخرف ، وصَحَّ ذلك لأنه مصدرٌ والمصدرُ يقع على الجمع كوقوعِه على الواحد . قال الزمخشري : « والبَراء والبراءةُ كالظَّماء والظَّماءة » . وقال مكي : « وأجاز أبو عمروٍ وعيسى ابن عمر » بِراء « بكسر الباء جعله ككريم وكِرام . وأجاز الفراء » بَراء « بفتح الباء » ثم قال : « وبَراء في الأصلِ مصدرٌ » كأنه لم يَطَّلِعْ عليها قراءةً منقولةً .
قوله : { إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ } فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه استثناءٌ متصلٌ مِنْ قولِه : « في إبراهيم » ولكنْ لا بُدَّ مِنْ حذفِ مضافٍ ليصِحَّ الكلامُ ، تقديرُه : في مقالات إبراهيم/ إلاَّ قولَه كيت وكيت . الثاني : أنه مستثنى مِنْ « أسوةٌ حسنةٌ » وجاز ذلك لأن القولَ أيضاً من جملة الأُسْوة؛ لأن الأسوةَ الاقتداءُ بالشخص في أقوالِه وأفعالِه ، فكأنه قيل لكم : فيه أُسْوة في جميع أحوالِه من قَوْلٍ وفِعْلٍ إلاَّ قولَه كذا . وهذا عندي واضحٌ غيرُ مُحْوِجٍ إلى تقديرِ مضافٍ وغيرُ مُخْرِجِ الاستثناءِ من الاتصالِ الذي هو أصلُه إلى الانقطاع ، ولذلك لم يذكُر الزمخشريُّ غيرَه قال : « فإنْ قلتَ مِمَّ استثنى قَولَه : { إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ } ؟ قلت مِنْ قولِه : » أُسْوَةٌ حسنةٌ « لأنه أرادَ بالأُسوةِ الحسنةِ قولهم الذي حَقَّ عليهم أَنْ يَأْتَسُوا به ويتخذوه سنةً يَسْتَنُّون بها .

فإنْ قلت : فإنْ كانَ قولُه : « لأستغفرَنَّ لك » مستثنى من القولِ الذي هو أُسْوَةٌ حسنةٌ فما بالُ قولِه : { وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله مِن شَيْءٍ } ، وهو غيرُ حقيقٍ بالاستثناء . ألا ترى إلى قولِه : { قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ الله شَيْئاً } [ الفتح : 11 ] قلت : أرادَ استثناءَ جملةِ قولِه لأبيه ، والقصدُ إلى موعدِ الاستغفارِ له وما بعده مبنيٌّ عليه وتابعٌ له . كأنه قال : أنا أستغفر لك وما في طاقتي إلاَّ الاستغفارُ « . الثالث : قال ابن عطية : » ويحتمل أن يكون الاستثناءُ من التبرُّؤِ والقطيعة التي ذُكِرت أي : لم تُبْقِ صلةً إلاَّ كذا « . الرابع : أنه استثناءٌ منقطع أي : لكنْ قولُ إبراهيم . وهذا بناءً مِنْ قائليه على أنَّ القولَ لم يَنْدَرِجْ تحت قولِه : » أُسْوة « وهو ممنوعٌ .

رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)

قوله : { رَبَّنَا } : يجوز أنْ يكونَ مِنْ مقولِ إبراهيمَ والذين معه فهو من جملةِ الأُسْوَةِ الحسنةِ ، وفَصَلَ بينهما بالاستثناءِ ويجوز أَنْ يكونَ منقطعاً ممَّا قبله على إضمارِ قولٍ ، وهو تعليمٌ من الله تعالى لعبادِه كأنَّه قال لهم : قولوا ربَّنا عليك تَوَكَّلْنا . والأولُ أظهرُ .

لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6)

قوله : { لِّمَن كَانَ يَرْجُو } : بدلٌ من الضمير في « لكم » بدلُ بعضٍ مِنْ كل . وقد تقدَّم مثلُه في الأحزاب . والضميرُ في « فيهم » عائدٌ على إبراهيم ومَنْ معه وكُرِّرَتْ الأُسْوةُ تأكيداً .

لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)

قوله : { أَن تَبَرُّوهُمْ } ، { أَن تَوَلَّوْهُمْ } : بدلان من « الذين » قبلَهما بدلُ اشتمالٍ . والمعنى : لا يَنهاكم اللَّهُ تعالى عن مَبَرَّةِ هؤلاء ، إنما يَنْهاكم عن تَوَلِّي هؤلاء .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)

قوله : { وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } : قيل : هو تأكيد للأول لتلازُمِهِا . وقيل : أراد استمرارَ الحكم بينهم فيما يَسْتقبِلُ ، كما هو في الحال ما داموا مشركين وهُنَّ مؤمناتٌ . وقوله : « المؤمنات » تسميةٌ للشيء بما يقارِبُه ويُشارِفُه أو في الظاهر . وقُرِىء « مُهاجراتٌ » بالرفع وخُرِّجَتْ على البدلِ . الجملةُ مِنْ قولِه : { الله أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ } فائدتُها : بيان أنَّه لا سبيلَ لكم إلى ما تطمئنُّ به النفس ويُثلج الصدرَ من الإِحاطة بحقيقةِ إيمانهنَّ ، فإنَّ ذلك ممَّا استأثر اللهُ به . قاله الزمخشري : وسُمِّي الظنُّ الغالِبُ في قولِه : « عَلِمْتُموهُنَّ » عِلْماً لما بينهما من القُرْب ، كما يقع الظنُّ موقعَه . وتقدَّم ذلك في البقرة .
وقوله : { أَن تَنكِحُوهُنَّ } أي : في أَنْ . وقوله : « إذا آتيْتُمُوهُنَّ » يجوزُ أَنْ يكونَ ظرفاً مَحْضاً ، وأَنْ يكونَ شرطاً ، جوابُه مقدَّرٌ أي : فلا جُناحَ عليكم .
قوله : { وَلاَ تُمْسِكُواْ } قرأ أبو عمرو في آخرين بضم التاء وفتح الميم وشدِّ السين ، وباقي السبعة بتخفيفها مِنْ مَسَّك وأَمْسَك بمعنىً واحد . ويقال : أَمْسَكْتُ الحَبْل إمساكاً ومَسَّكْتُه تَمْسكياً . وفي التشديد مبالغةٌ ، والمخفَّفُ صالحٌ لها أيضاً . وقرأ الحسن وابنُ أبي ليلى وأبو عمروٍ وابنُ عامرٍ في روايةٍ عنهما « تَمَسَّكُوا » بالفتح في الجميعِ وتشديدِ السينِ . والأصلُ : تَتَمسَّكوا بتاءين ، فحُذِفَتْ إحداهما . وعن الحسن أيضاً « تَمْسِكوا » مضارع مَسَكَ ثلاثياً . والعِصَمُ : جمع عِصْمة ، والكوافر : جمع كافرة كضَوارب في ضاربة . ويُحكى عن الكَرْخِيِّ الفقيهِ المعتزليِّ أنه قال : الكوافِرُ يشملُ الرجالَ والنساءَ . قال الفارسي : / « فقلت له : النَّحْويون لا يَرَوْن هذا إلاَّ في النساءِ جمعَ » كافرة « فقال : أليس يُقال : طائفة كافرة ، وفِرْقَةٌ كافرة . قال أبو علي : فبُهِتُّ وقلتُ : هذا تأييدٌ إلهيٌّ » قلت : وإنما أُعْجِبَ بقولِه لكونِه معتزليّاً مثلَه . والحقُّ أنه لا يجوز « كافِرة » وصفاً للرجال ، إلاَّ أن يكونَ الموصوفُ مذكوراً نحو : هذه طائفة كافرة ، أو في قوةِ المذكور . أمَّا أنه يقال : « كافرة » باعتبارِ الطائفة غير المذكورة ، ولا في قوةِ المذكورة بل لمجردِ الاحتمالِ ، ويُجمع جَمْعَ فاعِلة ، فهذا لا يجوزُ . وقولُ الفارسي : « لا يَرَوْنَ هذا إلاَّ في النساء » صحيحٌ ولكنه الغالِبُ . وقد يُجْمَعُ فاعِل وصفُ المذكرِ العاقلِ على فواعِل وهو محفوظٌ نحو : فوارِس ونواكِس .
قوله : { يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } فيه وجهان ، أحدُهما : أنه مستأنفٌ لا محلَّ له . والثاني : أنه حالٌ مِنْ « حُكْمُ » . والراجعُ : إمَّا مستترٌ أي : يحكم هو أي : الحكم على المبالغةِ ، وإمَّا محذوفٌ أي : يحكمُه . وهو الظاهرُ .

وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)

قوله : { شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ } : يجوز أَنْ يتعلَّقَ « مِنْ أزواجِكم » ب « فاتَكم » أي : مِنْ جهةِ أزواجِكم ، ويُراد بالشيء المَهْرُ الذي غُرِّمَه الزوجُ؛ لأنَّ التفسيرَ وَرَدَ : أنَّ الرجلَ المسلمَ إذا فَرَّتْ زوجتُه إلى الكفار أَمَرَ اللَّهُ تعالى المؤمنين أَنْ يُعْطُوْه ما غُرِّمَه ، وفَعَله النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم مع جمعٍ مِن الصحابة ، مذكورون في التفسير ، ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوف على أنَّه صفةٌ لشيء ، ثم يجوز في « شيء » أَنْ يُرادَ به ما تقدَّم من المُهورِ ، ولكن على هذا لا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ أي : مِنْ مُهورِ أزواجِكم ليتطابقَ الموصوفُ وصفتُه ، ويجوزُ أَنْ يُرادَ بشيء النساءُ أي : شيءٌ من النساء أي : نوعٌ وصنفٌ منهنَّ ، وهو ظاهرٌ ، وصَفَه بقولِه : « مِن أزواجِكم » .
وقد صرَّح الزمخشري بذلك فإنه قال : « وإنْ سبقكم وانفَلَت منكم شيءٌ مِنْ أزواجكم ، أحدٌ منهن إلى الكفار وفي قراءة ابنِ مسعود » أحد « فهذا تصريحٌ بأنَّ المرادَ بشيء النساءُ الفارَّاتُ . ثم قال : » فإنْ قلتَ : هل لإِيقاع « شيء » في هذا الموقعِ فائدةٌ؟ قلت : نعم الفائدةُ فيه : أن لا يُغادِرَ شيئاً من هذا الجنسِ ، وإنْ قَلَّ وحَقُر ، غيرَ مُعَوَّضٍ منه ، تَغْليظاً في هذا الحكم وتشديداً فيه « ولولا نَصُّهُ على أنَّ المرادَ ب » شيء « » أحد « كما تقدَّم لكَان قولُه : » أن لا يغادِرَ شيئاً من هذا الجنس وإن قَلَّ وحَقُر « ظاهراً في أنَّ المرادَ ب » شيء « المَهْرُ؛ لأنه يُوْصَفُ بالقلة والحَقارة وصفاً شائعاً . وقوله : » تغليظاً وتشديداً « فيه نظرٌ؛ لأنَّ المسلمين ليس [ لهم ] تَسَبُّبٌ في فِرار النساءِ إلى الكفار ، حتى يُغَلَّظَ عليهم الحكمُ بذلك . وعَدَّى » فات « ب » إلى « لأنه ضُمِّن معنى الفِرار والذَّهابِ والسَّبْقِ ونحوِ ذلك .
قوله : { فَعَاقَبْتُمْ } عطفٌ على » فاتَكم « . وقرأ العامَّةُ » عاقَبْتُم « وفيه وجهان ، أحدهما : أنَّه من العقوبة . قال الزجاج : » فعاقبْتُم : فَأَصَبْتُموهم في القتالِ بعقوبةٍ حتى غَنِمْتُم « . الثاني : أنه من العُقْبة وهي النَّوْبَةُ ، شبَّه ما حَكَم به على المسلمين والكافرين مِنْ أداءِ هؤلاء مهورَ نساءِ أولئك تارةً ، وأولئك مهورَ نساءِ هؤلاء أخرى ، بأَمْرٍ يتعاقبون فيه كما يُتعاقَبُ في الرُّكوب وغيرِه ، ومعناه : فجاءَتْ عُقْبَتُكم مِنْ أداء المَهْر » انتهى .
وقرأ مجاهدٌ والأعرجُ والزهريُّ وأبو حيوةَ وعكرمةُ وحميدٌ بشَدِّ القاف ، دون ألفٍ ، ففَسَّرها الزمخشريُّ على أصلِه بعَقَّبه إذا قفَاه؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ من المتعاقِبَيْن يَقْفي صاحبه وكذلك « عَقَبْتُم » بالتخفيف يقال : « عَقَبه يَعْقُبُه » انتهى . قلت : والذي قرأه بالتخفيف وفتحِ القافِ النخعيُّ وابن وثاب والزهري والأعرج أيضاً ، وبالتخفيف وكسر القافِ مَسْروقٌ والزهريُّ والنخعي أيضاً .
وقرأ مجاهد « أَعْقَبْتُمْ » . قال الزمخشريُّ معناه : « دَخَلْتُم في العُقْبة » .
وأمَّا الزجَّاجُ ففَسَّر القراءاتِ الباقيةَ : فكانت العُقْبى لكم أي : كانت الغلبةُ لكم حتى غَنِمْتُم . والظاهرُ أنه كما قال الزمخشريُّ من المعاقبة بمعنى المناوَبة . يقال : عاقَبَ الرجلُ صاحبَه في كذا أي : جاء فِعْلُ كلِّ واحد منهما بعَقِبِ فِعْلِ الآخرِ ويُقال : أَعْقَبَ أيضاً ، وأُنشِد :
4255 وحارَدَتِ النُّكْدُ الجِلادُ ولم يكُنْ ... لعُقْبَةِ قِدْرِ المُسْتعيرينَ مُعقِبُ

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)

قوله : { يُبَايِعْنَكَ } : حالٌ . وشيئاً مصدرٌ أي : شيئاً من الإِشراك . وقرأ علي والسُّلمي والحسن « يُقَتِّلْن » بالتشديد و « يَفْتَرِيْنَه » صفةٌ لبُهتان ، أو حالٌ مِنْ فاعل « يَأْتين » .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)

وقوله : { غَضِبَ الله } : صفةٌ ل « قَوْماً وكذلك » قد يَئِسُوا « .
قوله : { مِنَ الآخرة } » مِنْ « لابتداء الغاية أي : إنهم لا يُوقنون بالآخرةِ البتةَ . و { مِنْ أَصْحَابِ القبور } فيه وجهان ، أحدُهما : أنها لابتداء الغايةِ أيضاً ، كالأولى ، والمعنى أنهم لا يُوقنون ببَعْثِ الموتى البتَةَ ، فيَأْسُهم من الآخرةِ كيأسِهم مِنْ مَوْتاهم لاعتقادِهم عَدَم بَعْثِهم . والثاني : أنَّها لبيانِ الجنس ، يعني/ أنَّ الكفارَ هم أصحابُ القبورِ . والمعنى : أن هؤلاء يئسوا من الآخرة كما يَئِس الكفارُ ، الذين هم أصحابُ القبور ، مِنْ خيرِ الآخرة ، فيكون متعلَّقُ » يَئِس « الثاني محذوفاً . وقرأ ابنُ أبي الزناد » الكافرُ « بالإِفراد . والله أعلمُ .

كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)

قوله : { كَبُرَ مَقْتاً } : فيه أوجهٌ ، أحدها : أَنْ يكونَ مِنْ باب نِعْم وبِئْسَ ، فيكون في « كَبُرَ » ضميرٌ مبهمٌ مفسَّرٌ بالنكرة بعدَه . « وأَنْ تقولوا » هو المخصوصُ بالذمِّ فيجيء فيه الخلافُ المشهورُ : هل رَفْعُه بالابتداء ، وخبرُه الجملة مقدمةً عليه ، أو خبرُه محذوفٌ ، أو هو خبرُ مبتدأ محذوفٍ ، كما تقدَّم تحريرُه . هذه قاعدةٌ مُطَّردةٌ : كلُّ فعلٍ يجوز التعجبُ منه يجوزُ أَنْ يُبْنَى على فَعُلَ بضم العين ويَجْري مَجْرى نِعْم وبئس في جميعِ الأحكام . والثاني : أنه من أمثلةِ التعجبِ . وقد عدَّه ابنُ عصفور في التعجبِ المبوبِ له في النحو فقال : « صيغة ما أفْعَلَه وأَفْعِلْ به ولَفَعُل نحو : لَرَمُوَ الرجل » . وإليه نحا الزمخشري فقال : « هذا مِنْ أفصحِ كلامٍ وأبلغِه في معناه . قَصَدَ في » كَبُرَ « التعجَب من غير لفظه كقوله :
4256 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . غلَتْ نابٌ كُلَيْبٌ بَواؤُها
ثم قال : » وأَسْند إلى « أَنْ تقولوا » ونَصَبَ « مَقْتاً » على تفسيره دلالةً على أنَّ قولَهم ما لا يفعلون مَقْتٌ خالِصٌ لا شَوْبَ فيه « . الثالث : أنَّ كَبُرَ ليس للتعجبِ ولا للذَّمِّ ، بل هو مُسْنَدٌ إلى » أَنْ تقولوا « و » مَقْتاً « تمييزٌ محولٌ من الفاعلية ، والأصل : كَبُرَ مَقْتُ أَنْ يقولوا أي : مَقْتُ قَوْلِكم . ويجوز أن يكونَ الفاعلُ مضمراً عائداً على المصدرِ المفهومِ مِنْ قولِه : » لِم تقولونَ « أي : كَبُر هو أي : القولُ مَقْتاً ، و » أَنْ تقولوا « على هذا : إما بدلٌ من ذلك الضميرِ ، أو خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي : هو أن تقولوا . وقرأ زيد بن علي » يُقاتَلون « بفتح التاءِ على ما لم يُسَمَّ فاعلُه . وقُرِىء » يُقَتَّلون « بالتشديد .

إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)

قوله : { صَفّاً } : نصبٌ على الحال أي : صافِّين ، أو مَصْفُوفين .
قوله : { كَأَنَّهُم } يجوزَ أَنْ يكونَ حالاً ثانيةً مِنْ فاعل « يُقاتِلون » ، وأنْ يكونَ حالاً من الضمير في « صَفّاً » ، فتكونَ حالاً متداخلةً ، قاله الزمخشريُّ ، وأن يكونَ نعتاً لصَفَّاً ، قاله الحوفيُّ : وعاد الضميرُ على « صَفّاً » جمعاً لأنه جمعٌ في المعنى كقولِه : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا } [ الحجرات : 9 ] والمَرْصُوصُ قيل : المتلائمُ الأجزاءِ المُسْتَويها . وقيل : المعقود بالرَّصاص . وقيل : هو من التضامِّ ، مِنْ تراصِّ الأسنان . وقال الراعي :
4257 ما لَقِيَ البيضُ من الحُرْقوصِ ... يَفْتَحُ بابَ المُغْلَقِ المَرْصوصِ
الحُرْقوص : دُوَيِبَّةٌ تُولَعُ بالنساءِ الأَبْكار .

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)

قوله : و { وَقَد تَّعْلَمُونَ } : جملةٌ حالية .

وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)

قوله : { مُّصَدِّقاً } : حالٌ وكذلك « مُبَشِّراً » والعاملُ « رسول » لأنَّه بمعنى المُرْسَل . قال الزمخشري : « فإنْ قلتَ بِمَ انتصَبَ مُصَدِّقاً مُبَشِّراً ، أبما في الرسول مِنْ معنى الإِرسال أم بإليكم؟ قلت : بمعنى الإِرسال؛ لأنَّ » إليكم « صلةٌ للرسول ، فلا يجوزُ أن تعملَ شيئاً ، لأنَّ حروفَ الجرِّ لا تعملُ بأنفسِها ، ولكنْ بما فيها مِنْ معنى الفعل ، فإذا وقعَتْ صِلاتٍ لم تتضمَّنْ معنى فعلٍ فمِنْ أين تعملُ » انتهى . يعني بقوله : « صلات » أنها متعلقةٌ برسول صلةً له ، أي : متصلٌ معناها به ، لا الصلةُ الصناعيةُ . و « يأتي مِنْ بعدي » و « اسمُه أحمدُ » جملتان في موضعِ جرٍّ نعتاً لرسول أو « اسمُه أحمدُ » في موضعِ نصبٍ على الحالِ مِنْ فاعل « يَأْتي » أو تكونُ الأولى نعتاً ، والثانيةُ حالاً . وكونُهما حالَيْن ضعْيفٌ لإِتيانِهما من النكرة ، وإنْ كان سيبويه يُجَوِّزه . و « أحمدُ » يَحْتمل النقلَ من الفعل المضارع ، أو من أفعلِ التفضيل ، والظاهرُ الثاني ، وعلى كلا الوجهَين فمنعُه من الصَرفِ للعلميةِ والوزنِ الغالبِ ، إلاَّ أنه على الأول يمتنعُ معرفةً وينصرف نكرةً ، وعلى الثاني يمتنع تعريفاً وتنكيراً ، لأنه تَخْلُفُ العلميةَ الصفةُ . وإذا نُكِّر بعد كونِه عَلَماً جَرى فيه خلافُ سيبويه والأخفشِ ، وهي مسألةٌ مشهورة بين النحاة . وأنشد حسان رضي الله عنه يمدح النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وصَرَفَه :
4258 صلَّى الإِلهُ ومَنْ يَحُفُّ بعرشِه ... والطيبونَ على المباركِ أحمدِ
« أحمد » بدل أو بيان للمبارك .
قوله : { هذا سِحْرٌ } قد تقدَّم خلافُ القراء فيها في المائدة .
وقال الشيخ هنا : « وقرأ الجمهور » سِحْرٌ « وعبد الله وطلحة والأعمش وابن وثاب » ساحر « ، وترك ذِكْرَ الأخوَيْن .

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7)

قوله : { وَهُوَ يدعى إِلَى الإسلام } : جملةٌ حاليةٌ مِنْ فاعلِ « افترى » ، وهذه قراءةُ العامَّةِ . وقرأ طلحة « يَدَّعي » بفتح الياء والدال مشددة مبنياً للفاعل ، وفيها تأويلان ، أحدهما قاله الزمخشري وهو أن يكونَ يَفْتَعِل بمعنى يَفْعَلُ نحو : لَمَسَه والتمَسه . والضميران أعني « هو » والمستتر في « يَدَّعي » لله تعالى ، وحينئذٍ تكون القراءتان/ بمعنى واحدٍ ، كأنَّه قيل : واللَّهُ يدعو إلى الإِسلام . وفي القراءة الأولى يكون الضميران عائدَيْن على « مَنْ » . والثاني : أنه مِنْ ادَّعى كذا دَعْوَى ، ولكنه لَمَّا ضُمِّن « يَدَّعي » معنى يَنْتَمي وينتسبُ عُدِّي ب « إلى » وإلاَّ فهو متعدٍّ بنفسه ، وعلى هذا الوجهِ فالضميران ل « مَنْ » أيضاً ، كما هي في القراءةِ المشهورة .
وعن طلحة أيضاً « يُدَّعى » مشددَ الدال مبنياً للمفعولِ . وخَرَّجَها الزمخشريُّ على ما تقدَّم مِنْ : ادَّعاه ودَعاه بمعنىً نحو : لَمَسه والتمسه . والضميران عائدان على « مَنْ » عكسَ ما تقدَّم عنده في تخريج القراءة الأولى فإنَّ الضميرَيْن لله تعالى ، كما تقدَّم تحريرُه .

يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8)

قوله : { لِيُطْفِئُواْ } : في هذه اللامِ أوجهٌ ، أحدُها : أنها مزيدةٌ في مفعولِ الإِرادةِ . قال الزمخشريُّ : « أصلُه : يُريدون أَنْ يُطْفِئوا ، كما جاء في سورة التوبة . وكأنَّ هذه اللامَ زِيْدَتْ مع فعل الإِرادة توكيداً له لِما فيها من معنى الإِرادة في قولِك : » جِئتُ لأكرمَك « كما زِيْدَت اللامُ في » لا أبالك « تأكيداً لمعنى الإِضافةِ في » لا أباك « . وقال ابن عطية : » واللامُ في « لِيُطْفِئوا » لامٌ مؤكِّدة دخلَتْ على المفعول لأنَّ التقديرَ : يُريدون أَنْ يُطْفئوا . وأكثر ما تَلْزَمُ هذه اللامُ المفعولَ إذا تقدَّمَ . تقول : « لزيدٍ ضَرَبْتُ ، ولِرؤيتِك قصَدْتُ » انتهى . وهذا ليس مذهبَ سيبويه وجمهورِ الناس . ثم قولُ أبي محمد : « وأكثرُ ما تَلْزَمُ » إلى آخره ليس بظاهرٍ لأنه لا قولَ بلزومِها البتةَ ، بل هي جائزةُ الزيادةِ ، وليس الأكثرُ أيضاً زيادتَها جوازاً ، بل الأكثرُ عَدَمُها .
الثاني : أنَّها لامُ العلة والمفعولُ محذوفٌ أي : يُريدون إبطالَ القرآنِ أو دَفْعَ الإِسلام أو هلاكَ الرسولِ عليه السلام لِيُطْفِئوا .
الثالث : أنها بمعنى « أَنْ » الناصبةِ ، وأنها ناصبةٌ للفعل بنفسِها . قال الفراء : « العربُ تجعلُ لامَ كي في موضع » أَنْ « في أرادَ وأمر » وإليه ذهب الكسائيٌّ أيضاً . وقد تقدَّم لك نحوٌ مِنْ هذا في قوله : { يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ } في سورة النساء [ الآية : 26 ] .
قوله : { مُتِمُّ نُورِهِ } قرأ الأخَوان وحفص وابن كثير بإضافة « مُتِمُّ » ل « نورِه » والباقون بتنوينه ونصبِ « نورَه » فالإِضافةُ تخفيفٌ ، والتنوينُ هو الأصلُ . والشيخُ ينازعُ في كونِه الأصلَ وقد تقدَّم . وقوله : « واللَّهُ متمُّ » جملةٌ حالية مِنْ فاعلِ « يريدون » أو « يُطفئوا » وقوله : « ولو كَرِه » حالٌ من هذه الحالِ فهما متداخلان . وجوابُ « لو » محذوفٌ أي : أتَمَّه وأظهرَه ، وكذلك { وَلَوْ كَرِهَ الكافرون } .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10)

قوله : { تُنجِيكُم } : الجملةُ صفةٌ ل « تجارة » . وقرأ ابن عامر « تُنْجِّيكم » بالتشديد . والباقون بالتخفيف . مِنْ أَنْجى ، وهما بمعنىً واحدٍ؛ لأن التضعيفَ والهمزةَ مُعَدِّيان .

تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11)

قوله : { تُؤْمِنُونَ } : لا محلَّ له لأنه تفسير لتجارة . ويجوز أَنْ يكونَ محلُّها الرفعَ خبراً لمبتدأ مضمرٍ أي : تلك التجارةُ تؤُمنون ، والخبرُ نفسُ المبتدأ فلا حاجةَ إلى رابطٍ ، وأَنْ تكونَ منصوبةَ المحلِّ بإضمارِ فعلٍ أي : أعني تؤْمنون . وجاز ذلك على تقديرِ « أَنْ » وفيه تَعَسُّفٌ . والعامَّةٌ على « تُؤْمنون » خبراً لفظاً ثابتَ النون . وعبد الله « آمِنوا » و « جاهِدوا » أمرَيْن . وزيد بن علي « تؤمنوا » و « تجاهِدوا » بحذف نونِ الرفع . فأمَّا قراءةُ العامَّة فالخبرُ بمعنى الأمرِ يَدُلُّ عليه القراءتان الشاذَّتان؛ فإن قراءةَ زيدِ بنِ علي على حَذْفِ لام الأمر أي : لِتؤمنوا ولتجاهِدوا كقوله :
4259 محمدُ تَفْدِ نَفْسَك كلُّ نفسٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقوله : { قُل لِّعِبَادِيَ الذين آمَنُواْ يُقِيمُواْ } [ إبراهيم : 31 ] في وجهٍ أي : لِتَفْدِ ، وليقيموا ، ولذلك جُزِمَ الفعلُ في جوابِه في قولِه : « يَغْفِرْ » وكذلك قولُهم : « اتقى اللَّهَ امرؤ فَعَلَ خيراً يُثَبْ عليه » تقديرُه : ليتقِ اللهَ . وقال الأخفش : « إنَّ » تؤمنون « عطفُ بيان لتجارة » وهذا لا يُتَخَيَّلُ إلاَّ بتأويل أن يكونَ الأصلُ : أنْ تؤمنوا فلمَّا حَذَفَ « أن » ارتفع الفعلُ كقوله :
4260 ألا أيُّهذا الزَّاجِريْ أَحْضُرُ الوغَى ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الأصل : أن أَحْضُرَ . وكأنه قيل : هل أدلُّكم على تجارة مُنْجية : إيمانٍ وجهاد . وهو معنى حسنٌ لولا ما فيه من التأويل . وعلى هذا فيجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ تجارة . وقال الفراء : هو مجزومٌ على جوابِ الاستفهام وهو قولُه : « هل أدلُّكم » واختلف الناسُ في تصحيح هذا القولِ : فبعضُهم/ غلَّطه . قال الزجاج : ليسُوا إذا دَلَّهم على ما ينفعهم يَغْفِرُ لهم ، إنما يغفر لهم إذا آمنوا وجاهدوا « يعني أنه ليس مرتَّباً على مجرد الاستفهام ولا على مجرَّدِ الدلالة . وقال المهدوي : » إنما يَصِحُّ حَمْلاً على المعنى : وهو أَنْ يكونَ « يؤمنون » ويُجاهدون عطفَ بيان على قولِه : « هل أدلُّكم » كأنَّ التجارةَ لم يُدْرَ ما هي؟ فبُيِّنَتْ بالإِيمان والجهاد ، فهي هما في المعنى فكأنه قيل : هل تُؤْمنون وتجاهدون؟ قال : فإنْ لم تقدِّر هذا التقديرَ لم يَصِحَّ؛ لأنه يَصيرُ : إنْ دُلِلْتُمْ يَغْفِرْ لكم . والغُفْرانُ إنما يجبُ بالقَبولِ والإِيمانِ لا بالدَّلالةِ . وقال الزمخشري قريباً منه أيضاً . وقال أيضاً : « إنَّ » تُؤْمنون « استئنافٌ ، كأنهم قالوا : كيف نعملُ؟ فقال : تؤْمنون » . وقال ابن عطية : « تُؤْمنون فعلٌ مرفوعٌ ، تقديرُه : ذلك أنَّه تُؤْمنون » ، فجعله خبراً ل « أَنَّ » ، وهي وما في حَيِّزها خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ . وهذا محمولٌ على تفسيرِ المعنى لا تفسيرِ الإِعرابِ ، فإنَّه لا حاجةَ إليه .

يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)

قوله : { يَغْفِرْ } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه مجزومٌ على جوابِ الخبرِ بمعنى الأمر ، كما تقدَّم تقريرُه . والثاني : أنه مجزومٌ على جواب الاستفهامِ ، كما قاله الفراءُ ، وتقدَّم تأويلُه . الثالث : أنه مجزومٌ بشرطٍ مقدَّرٍ أي : إنْ تُؤْمنوا يَغْفِرْ لكم .

وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)

قوله : { وأخرى } : فيها خمسةُ أوجهٍ ، أحدُها ، أنَّها في موضِع رفعٍ على الابتداءِ ، وخبرُها مقدَّر أي : ولكم أو ثَمَّ ، أو عنده خَصْلَةٌ أخرى ، أو مَثُوْبةٌ أخرى . و « تُحبُّونها » نعتٌ لها . الثاني : أن الخبرَ جملةٌ حُذِفَ مبتدَؤُها تقديرُه : هي نصرٌ ، والجملةُ خبرُ « أُخْرى » ، قاله أبو البقاء ، وفيه بُعْدٌ كثيرٌ؛ لأنه تقديرٌ لا حاجةَ إليه . والثالث : أنها منصوبةٌ بفعلٍ محذوفٍ للدلالةِ عليه بالسِّياق ، أي ويُعْطِكُمْ ، أو يَمْنَحْكم مَثوبةً أخرى . و « تُحبونها » نعتٌ لها أيضاً .
والرابع : أنها منصوبةٌ بفعلٍ مضمرٍ يُفَسِّره « تُحبُّونها » فيكونُ من الاشتغالِ ، وحينئذٍ لا يكون « تُحِبُّونها » نعتاً؛ لأنه مفسِّرٌ للعاملِ قبله . الخامس : أنها مجرورةٌ عطفاً على « تجارة » . وضُعِّفَ هذا : بأنها ليسَتْ مِمَّا دَلَّ عليه ، إنما هي ثوابٌ مِنْ عندِ الله . وهذا الوجهُ منقولٌ عن الأخفش .
قوله : { نَصْرٌ مِّن الله } خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : « تلك النعمةُ أو الخَلَّةُ الأُخْرى نَصْرٌ . و » من الله « نعتٌ له ، أو متعلِّقٌ به ، أي : ابتداؤه منه . ورَفْعُ » نصرٌ وفَتْحٌ « قراءةُ العامَّةِ ، ونَصَبَ ابنُ أبي عبلةَ الثلاثةَ . وفيه أوجهٌ ، ذكرها الزمخشريُّ ، أحدُها : أنها منصوبةٌ على الاختصاصِ . الثاني : أن ينتصِبْنَ على المصدريَّة أي : يُنْصَرون نَصْراً ، ويُفتح لهم فتحاً قريباً . الثالث : أن ينتَصِبْنَ على البدلِ مِنْ » أُخْرى « و » أُخْرى « منصوبٌ بمقدَّرٍ كما تقدَّم أي : يَغْفِرْ لكم ، ويُدْخِلْكم جناتٍ ، ويؤْتِكم أُخْرى ، ثم أبدل منها » نَصْراً وفَتْحاً قريباً « .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)

قوله : { أَنصَارَ الله } : قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو « أنصاراً » منوناً ، « لله » جارَّاً ومجروراً . والباقون « أنصارَ » غيرَ منونٍ بل مضافاً للجلالة الكريمة ، والرسمُ يحتمل القراءتَيْن معاً . واللامُ يُحتمل أَنْ تكونَ مزيدةً في المفعولِ للتقوية لكونِ العاملِ فَرْعاً ، إذ الأصلُ : أنصاراً اللَّهَ ، وأَنْ تكون غيرَ مزيدةٍ ، ويكونَ الجارُّ والمجرورُ نعتاً ل « أَنْصاراً » والأولُ أظهرُ . وأمَّا قراءةُ الإِضافةِ ففرعُ الأصلِ المذكورِ . ويؤيِّدُ قراءةَ الإِضافةِ الإِجماعُ عليها في قوله : { نَحْنُ أَنصَارُ الله } . ولم يُتَصَوَّرْ جَرَيانُ الخلافِ هنا لأنه مرسومٌ بالألفِ .
قوله : { كَمَا قَالَ عِيسَى } فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنَّ الكافَ في موضع نصبٍ على إضمارِ القولِ أي : قُلْنا لهم ذلك ، كما قال عيسى . الثاني : أنها نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ تقديرُه : كونوا كَوْناً ، قاله مكي وفيه نظرٌ؛ إذ لا يُؤْمَرُون بأن يكونوا كَوْناً . الثالث : أنه كلامٌ محمولٌ على معناه دون لفظِه ، وإليه نحا الزمخشريُّ ، فإنه قال : « فإنْ قلتَ ما وجهُ صحةِ التشبيهِ ، وظاهرُه تشبيهُ كونِهم أنصاراً بقولِ عيسى صلوات الله عليه مَنْ أنصاري؟ قلت : التشبيهُ محمولٌ على المعنى ، وعليه يَصِحُّ ، والمرادُ : كونوا أنصارَ الله كما كان الحواريُّون/ أنصارَ عيسى . حين قال لهم : { مَنْ أنصاري إِلَى الله } .
وتقدَّم في آل عمران تَعَدِّي » أَنْصَاري « ب » إلى « ، واختلافُ الناسِ في ذلك . وقال الزمخشري هنا : » فإنْ قلتَ : ما معنى قولِه : { مَنْ أنصاري إِلَى الله } قلت : يجبُ أَنْ يكونَ معناه مطابقاً لجوابِ الحواريين : نحن أنصارُ الله . والذي يطابِقُه أَنْ يكونَ المعنى : مَنْ جُنْدِيٌّ متوجِّهاً إلى نصرةِ الله؟ وإضافةُ « أَنْصاري » خلافُ إضافةِ « أنصار الله »؛ فإنَّ معنى « نحن أنصارُ الله » : نحن الذين يَنْصُرون الله ، ومعنى « مَنْ أنصاري » : مَنْ الأنصارُ الذين يختصُّون بي ، ويكونون معي في نُصْرَةِ اللَّهِ . ولا يَصِحُّ أَنْ يكونَ معناه مَنْ يَنْصُرني مع الله؛ لأنه لا يطابِقُ الجوابَ . والدليل عليه قراءةُ مَنْ قرأ « أنصارَ الله » انتهى . قلت : يعني أنَّ بعضَهم يَدَّعي أنَّ « إلى » بمعنى مع أي : مَنْ أنصاري مع الله؟ وقولُه : « قراءةُ مَنْ قرأ أنصارَ الله » أي : لو كانت بمعنى « مع » لَما صَحَّ سُقوطُها في هذه القراءةِ . وهذا غيرُ لازمٍ؛ لأنَّ كلَّ قراءةٍ لها معنىً يَخُصُّها ، إلاَّ أن الأَوْلَى توافُقُ القراءتَيْن .
قوله : { فَأَيَّدْنَا الذين آمَنُواْ على عَدُوِّهِمْ } مِنْ إيقاع الظاهرِ موقعَ المضمرِ فيهما ، تَنْبيهاً على عداوةِ الكافرِ للمؤمن؛ إذ الأصلُ : فأيَّدْناهم عليهم ، أي : أيَّدْنا المؤمنين على الكافرين من الطائفتَيْن المذكورتَيْن .

يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)

قوله : { الملك } : هذه قراءةُ العامَّة أعني جرَّ « الملِكِ » وما بعده نعتاً له والبدلُ ضعيفٌ لاشتقاقِها . وقرأ أبو وائل ومسلمة ابن محارب ورؤبةُ بالرفعِ على إضمار مبتدأ مُقْتَضٍ للمدح . قال الزمخشريُّ : « ولو قُرِىء بالنصب على قولهم » الحمدُ الله أهلَ الحَمْد « لكان وجهاً » . وقرأ زيد بن علي « القَدُّوس » بفتح القاف . وتقدَّم الكلامُ عليه وعلى الأمِّيِّ والأمِّيِّين جَمْعِه . و « يَتْلُوا » وما بعده صفاتٌ لرسول .

وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)

قوله : { وَآخَرِينَ } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنه مجرورٌ عطفاً على الأمِّيِّيْنَ ، أي : وبَعَثَ في آخرين من الأمِّيِّيْنَ . و { لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ } صفةٌ ل « آخرين » قبلُ . والثاني : أنه منصوبٌ عَطْفاً على الضمير المنصوبِ في « يَعَلِّمُهم » ، أي : ويُعَلِّمُ آخرين لم يَلْحقوا بهم وسيَلْحقون ، وكلُّ مَنْ يَعْلَم شريعةَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم إلى آخرِ الزمان فرسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُعَلِّمه بالقوة؛ لأنه أصلُ ذلك الخيرِ العظيمِ والفَضْل الجَسيمِ .

مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)

قوله : { حُمِّلُواْ التوراة } : هذه قراءةُ العامَّةِ . وقرأ زيد بن علي ويحيى بن يعمر « حَمَلوا » مخففاً مبنياً للفاعل .
قوله { كَمَثَلِ الحمار } هذه قراءةُ العامَّةِ . وقرأ عبدُ الله « حِمارٍ » منكَّراً . وهو في قوة قراءةِ الباقين؛ لأنَّ المراد بالحمارِ الجنسُ . ولهذا وُصِفَ بالجملةِ بعده كما سيأتي . وقرأ المأمون ابن هارون الرشيد « يُحَمَّلُ » مشدَّداً مبنياً للمفعول . والجملة مِنْ « يَحْمِلُ » أو « يُحْمَّلُ » فيها وجهان ، أحدُهما : وهو المشهورُ أنَّها في موضع الحال من « الحمار » والثاني : أنَّها في موضع الصفةِ للحمار لجريانِه مَجْرى النكرة؛ إذ المُرادِ به الجنسُ . قال الزمخشري : « أو الجرِّ على الوصفِ؛ لأنَّ الحمارَ كاللئيمِ في قوله :
4261 ولَقد أَمُرُّ على اللئيمِ يَسُبُّني ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد تقدَّم تحريرُ هذا ، وأنَّ منه عند بعضِهم { وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ } [ يس : 37 ] وأنَّ » نَسْلَخُ « نعتٌ ل الليل . والجمهورُ يَجْعَلونه حالاً للتعريف اللفظي . وأمَّا على قراءةِ عبد الله فالجملةُ وصفٌ فقط ، ولا يمتنعُ أَنْ تكونَ حالاً عند سيبويه .
والأَسْفار : جمعُ سِفْرٍ ، وهو الكتابُ المجتمعُ الأوراقِ .
قوله { بِئْسَ مَثَلُ القوم } فيه أوجهٌ ، أحدها : وهو الظاهرُ المشهور أنَّ » مَثَلُ القوم « فاعلُ » بِئْس « . والمخصوصُ بالذَّمِّ الموصولُ بعده فَيُشْكِلُ؛ لأنه/ لا بُدَّ مِنْ تصادُقِ فاعلِ نِعْم وبِئْسَ والمخصوصِ ، وهنا المَثَلُ ليس القومَ المكذِّبين . والجواب : أنَّه على حَذْفِ مضافٍ ، أي : بِئْسَ مَثَلُ القومِ مَثَلُ الذين كَذَّبوا . الثاني : أنَّ » الذين « صفةٌ للقوم فيكونُ مجرورَ المحلِّ ، والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ لِفَهْمِ المعنى تقديره : بِئْس مَثَلُ القومِ المكذِّبين مَثَلُ هؤلاء ، وهو قريبٌ من الأولِ . الثالث : أنَّ الفاعلَ محذوفٌ ، وأنَّ مَثَلَ القومِ هو المخصوصُ بالذِّم ، تقديرُه : بِئْسَ المَثَلُ مَثَلُ القوم ، ويكونُ الموصولُ نعتاً للقوم أيضاً ، وإليه يَنْحو كلامُ ابنِ عطيةً ، فإنه قال : » والتقديرُ : بِئْسَ المَثَلُ مَثَلُ القومِ . وهذا فاسدٌ؛ لأنَّه لا يُحْذَفُ الفاعلُ عند البَصْريين ، إلاَّ في مواضعَ ثلاثةٍ ، ليس هذا منها ، اللهم إلاَّ أَنْ يقولَ بقولِ الكوفيين . الرابع : أَنْ يكونَ التمييزُ محذوفاً ، والفاعل المُفَسَّرُ به مستترٌ تقديرُه : بئس مَثَلاً مَثَلُ القوم ، وإليه يَنْحو كلامُ الزمخشريِّ فإنه قال : « بئْسَ مَثَلاً مَثَلُ القوم » فيكونُ الفاعلُ مستتراً ، مُفَسَّرٌ ب « مَثَلاً » ، و « مَثَلُ القومِ » هو المخصوصُ بالذمِّ والموصولُ صفةٌ له ، وحُذِفَ التمييزُ ، وهذا لا يُجيزه سيبويهِ وأصحابُه البتةَ ، نَصُّوا على امتناعِ حَذْفِ التمييزِ ، وكيف يُحْذَفُ وهو مُبَيِّنٌ؟

قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6)

قوله : { أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ } : سادٌّ مَسَد المفعولَيْنِ ، أو المفعولِ ، على الخلافِ . و « لله » متعلِّقٌ ب « أَوْلياء » أو بمحذوف نعتاً ل أولياء و { مِن دُونِ الناس } كذلك .
وقوله { فَتَمَنَّوُاْ الموت } جوابُ الشرطِ . والعامَّةُ بضمِّ الواوِ ، وهو الأصلُ في واو الضميرِ . وابن السَّمَيْفع وابن يعمر وابن أبي إسحاق بكسرها ، وهو أصلُ التقاءِ الساكنين . وابن السَّميفع أيضاً بفتحها ، وهذا طَلَبٌ للتخفيف ، وتقدَّم نحوُه في قولِه { اشتروا الضلالة } [ البقرة : 16 ] وحكى الكسائيُّ إبدالَ الواوِ همزةً .

وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7)

قوله : { وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ } : وقال في البقرة « ولن يتمنَّوْه » قال الزمشخري : « لا فرقَ بين » لا « و » لن « في أنَّ كلَّ واحدٍ منهما نفيٌ للمستقبل ، إلاَّ أنَّ في » لن « تأكيداً وتشديداً ليس في » لا « ، فأتى مرةً بلفظ التأكيد » ولن يتمنَّوْه « ، ومرةً بغير لفظِه » ولا يتمنَّوْنه « . قال الشيخ : » وهذا رجوعٌ منه عن مذهبِه : وهو أنَّ « لن » تَقْتَضي النفي على التأبيد إلى مذهبِ الجماعة وهو أنَّها لا تَقْتَضْيه « قلت : وليس فيه رجوعٌ ، غايةُ ما فيه أنه سكَتَ عنه ، وتشريكُه بين » لا « و » لن « في نفي المستقبل لا يَنْفي اختصاصَ » لن « بمعنى آخرَ . وقد تقدَّم الكلامُ على هذا بأشبعَ منه هنا في البقرة .

قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)

قوله : { فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ } : في الفاءِ وجهان أحدُهما : أنها داخلةٌ لِما تَضَمَّنه الاسمُ مِنْ معنى الشرطِ ، وحُكْمُ الموصوفِ بالموصول حكمُ الموصولِ في ذلك . والثاني : أنَّها مزيدةٌ مَحْضَةٌ لا للتضمين المذكور . وأفسدَ هؤلاء القولَ الأول بوجهَيْن ، أحدُهما أنَّ ذلك إنَّما يجوز إذا كان المبتدأُ أو اسمُ « إنَّ » موصولاً ، واسمُ « إنَّ » هنا ليس بموصولٍ ، بل موصوفٌ بالموصول . والثاني : أنَّ الفِرارَ مِنْ الموتِ لا يُنْجَي منه ، فلم يُشْبِهِ الشرطَ ، يعنى أنه متحققٌ فلم يُشْبه الشرطَ الذي هو مِنْ شأنِه الاحتمالُ .
وأُجيب عن الأول : بأنَّ الموصوفَ مع صفتِه كالشيءِ الواحدِ ، ولأن « الذي » لا يكونَ إلاَّ صفةً . فإذا لم يُذْكَرِ الموصوفُ دخلَتِ الفاءُ ، والموصوفُ مرادٌ ، فكذلك إذا صَرَّح بها . وعن الثاني : بأنَّ خَلْقاً كثيراً يَظُنُّونَ أنَّ الفِرارَ مِنْ أسبابِ الموتِ يُنَجِّيهم إلى وقتٍ آخر . وجوزَّ مكي أَنْ يكونَ الخبرُ قولَه { الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ } ، وتكون الفاءُ جوابَ الجملة . قال : « كما تقول : زيدٌ منطلقٌ فقُمْ إليه » وفيه نظر؛ لأنه لا تَرَتُّبَ بين قولِه : { إِنَّ المَوْتَ الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ } وبين قولِه : { فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ } فليس نظيراً لِما مَثَّله .
وقرأ زيد بن علي « إنه » دونَ فاء وفيها أوجه ، أحدُها : أنَّه مستأنفٌ ، وحينئذٍ يكونُ الخبرُ نفسَ الموصولِ كأنه قيلَ : إنَّ الموتَ هو الشيءُ الذي تَفِرُّونَ منه ، قاله الزمخشري . الثاني : أنَّ الخبرَ الجملةُ : « إنَّه مُلاقيكم » . وحينئذٍ يكونُ الموصولُ نعتاً للموت . الثالث : أَنْ يكونَ « إنَّه » تأكيداً؛ لأنَّ الموتَ لَمَّا طال الكلامُ أُكِّدَ الحرفُ توكيداً لفظيَّاً ، وقد عَرَفْتَ أنه لا يُؤَكَّدُ كذلك إلاَّ بإعادةِ ما دَخَلَ عليه . أو بإعادةِ ضميرِه ، فأُكِّد بإعادةِ ضمير ما دَخَلَتْ عليه « إنَّ » وحينئذٍ يكون الموصولُ نعتاً للموتِ ، و « مُلاقِيكم » خبرُه كأنه قيل : إنَّ الموتَ إنَّه مُلاقيكم .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9)

قوله : { مِن يَوْمِ الجمعة } : « مِنْ » هذه بيانٌ ل « إذا » وتفسيرٌ لها قاله الزمخشريُّ . وقال أبو البقاء : إنَّها بمعنى « في » ، أي : في يوم . وقرأ العامَّةُ « الجمعة » بضمَّتَيْن . وقرأ ابن الزبير وزيد ابن علي وأبو حيوة وأبو حيوة وأبو عمروٍ في روايةٍ بسكونِ الميم . فقيل : هي لغةٌ في الأولى وسُكِّنَتْ تخفيفاً ، وهي لغةُ تميم . وقيل : / هو مصدرٌ بمعنى الاجتماع . وقيل : لَمَّا كان بمعنى الفعل صار كرجل هُزْأَة ، أي : يُهْزَأ به ، فلمَّا كان في الجمعة معنى التجمُّع أُسْكِن؛ لأنه مفعولٌ به في المعنى ، أو يُشْبهه فصارَ كهُزْأَة الذي يُهْزأ به . قاله مكي ، وكذا قال أبو البقاء : « هو بمعنى المُجْتَمَع فيه مثلَ : رجل ضُحْكَة ، أي : يُضْحك منه » وقال مكي : « يجوزُ إسكان الميم استخفافاً . وقيل : هي لغةٌ » . قلت : قد تقدَّم أنها قراءةٌ ، وأنها لغةُ تميم . وقال الشيخ : « ولغةٌ بفتحِها لم يُقْرَأ بها » قلت : قد نقلها قراءةً أبو البقاء فقال : « ويقرأ بفتح الميم بمعنى الفاعِل ، أي : يومَ المكان الجامع . مثلَ : رجلٌ ضُحْكَة ، أي : كثيرُ الضَّحِك » وقال مكي قريباً منه ، فإنه قال : « وفيه لغةٌ ثالثةٌ بفتح الميم على نسبةِ الفعل إليها ، كأنَّها تَجْمع الناسَ كما يُقال : رجلٌ لُحَنَة ، إذا كان يُلَحِّن الناس ، وقُرَأَة ، إذا كان يُقْرِىءُ الناس » ، ونقلها قراءةً أيضاً الزمخشري ، إلاَّ أنه جعلَ الجُمْعةَ بالسكون هو الأصلَ ، وبالمضموم مخفَّفاً منه فقال : « يوم الجُمعة : يوم الفوجِ المجموعِ كقولهم : ضُحْكَة للمضحوك منه . ويومُ الجُمعة بفتح الميم : يومُ الوقتِ الجامعِ كقولهم : ضُحَكة ولُعَبة ، ويومُ الجُمُعة تثقيلٌ للجُمْعَة كما قيل : عُسُرة في عُسْرة وقُرِىء بهن جميعاً » وتقديرُه : يوم الوقتِ الجامعِ أحسنُ من تقدير أبي البقاءِ : يوم المكانِ الجامعِ؛ لأنَّ نسبةَ الجمعِ إلى الظرفَيْن مجازٌ فالأَوْلى إبقاؤُه زماناً على حالِه .

وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)

قوله : { انفضوا إِلَيْهَا } : أعاد الضمير على التجارة دونَ اللهو؛ لأنها الأهمُّ في السبب . قال ابن عطية : « وقال : إليها ولم يقل : إليهما تَهَمُّماً بالأهمِّ ، إذ كانَتْ هي سببَ اللهوِ ولم يكن اللهوُ . سبَبَها . وتأمَّلْ أنْ قُدِّمِتْ التجارةُ على اللهو في الرؤية؛ لأنها أهمُّ وأُخِّرت مع التفضيل ، لتقعَ النفسُ أولاً على الأَبْيَن » انتهى . وفي قولِه « لم يَقُلْ إليهما » ثم أَجابَ بما ذكَرَ نَظَرٌ لا يَخْفَى؛ لأنَّ العطفَ ب « أو » لا يُثنَّى معه الضميرُ ولا الخبرُ ولا الحالُ ولا الوصف؛ لأنها لأحدِ الشيئَيْن ، ولذلك تأوَّل الناسُ « إنْ يكُنْ غنياً أو فقيراً فاللَّهُ أَوْلى بهما » كما قَدَّمتهُ في موضعِه ، وإنما الجوابُ عنه : أنه وَحَدَّ الضميرَ لأنَّ العطفَ ب « أو » وإنما جيْءَ بضميرِ التجارة دونَ ضمير اللهوِ وإن كان جائزاً لِما ذكَره ابنُ عطيةَ مِنْ الجوابِ ، وهو الاختمام كما قاله غيرُ واحدٍ . وقد قال الزمخشريُّ قريباً ممَّا قاله ابنُ عطية فإنه قال : « كيف قال : إليها ، وقد ذكرَ شيئَيْن؟ قلت : تقديرُه : إذ رأوا تجارةً انفَضُّوا إليها أو لَهْواً انفَضُّوا إليه ، فحذف أحدهما لدلالة المذكورِ عليه ، وكذلك قراءةُ مَنْ قرأ » انفَضُّوا إليه « انتهى . قوله : قلتُ تقديرُه إلى آخره ، يُشْعِرُ ، بأنَّه كان حقُّ الكلام أَنْ يُثَنَّى الضمير ، ولكنه حُذِف . وفيه ما قَدَّمتُه لك : مِنْ أنَّ المانعَ مِن ذَلك أمرٌ صناعيٌ وهو العطفُ ب » أو « .
وقرأ ابن أبي عبلةَ » إليه « أعاد الضميرَ إلى اللهو وقد نَصَّ على جوازِ ذلك الأخفش سَماعاً من العرب نحو : » إذا جاءك زيد أو هند فأَكْرِمه « وإن شئْتَ » فأكرِمْها « . وقرأ بعضهُم » إليهما « بالتثنية . وتخريجُها كتخريجِ { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً } [ النساء : 135 ] وقد تقدَّم تحريرُه .
قوله : { وَتَرَكُوكَ } جملةٌ حاليةٌ مِنْ فاعل » انفَضُّوا « و » قد « مقدرةٌ عند بعضِهم وقولِه { مَا عِندَ الله خَيْرٌ } » ما « موصولَةٌ مبتدأ ، و » خيرٌ « خبرُها .

إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)

قوله : { إِذَا جَآءَكَ } : شرطٌ . قيل : جوابُه قالوا . وقيل : محذوفٌ . و « قالوا » حالٌ ، أي : جاؤوك قائلين كيتَ وكيتَ ، فلا تقبَلْ منهم . وقيل : الجوابُ { اتخذوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً } وهو بعيدٌ ، و « قالوا » أيضاً حالٌ .
قوله : { قَالُواْ نَشْهَدُ } جرى مَجْرى القسمِ كفعل العِلْم واليقين ، ولذلك تُلُقِّيَتْ بما يُتَلَقَّى به القسمُ في قوله : { إِنَّكَ لَرَسُولُ الله } وفي قوله :
4262 ولقد عَلِمْتُ لَتَأْتِيَنَّ مَنِيَّتي ... إنَّ المنايا لا تَطيشُ سِهامُها
وقد تقدَّم خلافُ الناسِ في الصدق والكذبِ واستدلالُهم بهذه الآيةِ ، والجوابُ عنها ، أولَ البقرة .
قوله : { والله يَعْلَمُ } جملةٌ معترضةٌ بين قوله : { نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ } وبين قولِه : { والله يَشْهَدُ } لفائدةٍ ، قال الزمخشري : « لو قال : قالوا نشهد إنَّك لرسول الله ، واللَّهُ يَشْهد إنَّهم لكاذبون ، لكان يُوْهِم أنَّ قولَهم هذا كذبٌ ، فوَسَّط بينهما قولَه : { والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ } ليُميط هذا الإِبْهام » .

اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2)

قوله : { اتخذوا } : قد تقدَّم أنه يجوزُ أَنْ يكونَ جواباً للشرط ، ويجوز أَنْ يكون مستأنفاً ، جيْءَ به لبيانِ كذبِهم وحَلْفِهم عليه ، أي : إنَّ الحاملَ لهم على الإِيمان/ اتِّقاؤهم بها عن أنفسِهم . والعامَّةُ على فتح الهمزة جمعَ « يمين » والحسن بكسرِها مصدراً . وتقدَّم مثله في المجادلة . والجُنَّةُ : التُّرْسُ ونحوُه ، وكلُّ ما يَقيك سوءاً . ومن كلامِ الفصحاء : « جُبَّةُ البُرْدِ جُنَّةُ البَرْدِ » وقال أعشى همدان :
4263 إذا أنتَ لم تجعلْ لِعرْضِكَ جُنَّةً ... من المالِ سار الذَّمُّ كلَّ مَسِيرِ
قوله : { سَآءَ مَا كَانُواْ } يجوز أن تكونَ الجاريةَ مَجْرَى بئْسَ ، وأَنْ تكونَ على بابها ، والأولُ أظهرُ ، وقد تقدَّم حكمُ كلٍ منهما ولله الحمد ، وقوله : « فطُبِعَ » هذه قراءةُ العامَّة أعني بناءَه للمفعول . والقائمُ مقامَ الفاعلِ الجارُّ بعدَه . وزيد بن علي « وطَبَعَ » مبنياً للفاعل . وفي الفاعلِ وجهان ، أحدهما : أنه ضميرٌ عائدٌ على الله تعالى ، ويَدُلُّ عليه قراءةُ الأعمشِ ، وقراءتُه هو في روايةٍ عند « فَطَبَعَ اللَّهُ » مُصَرَّحاً بالجلالةِ . والثاني : أنَّ الفاعلَ ضميرٌ يعودُ على المصدرِ المفهومِ مِمَّا قبلَه ، أي : فطَبَعَ هو ، أي : تَلْعابُهم بالدين .

وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)

قوله : { تَسْمَعْ } : العامَّةُ بالخطاب ، و « لِقولهم » متعلِّقٌ به وضُمِّنَ « تَسْمَعْ » معنى تُصْغي وتميلُ ، فلِذلك عُدِّيَ باللام . وقيل : بل هي مزيدةٌ ، أي : تسمعُ قولَهم . وليس بشيءٍ؛ لنَصاعةِ معنى الأول . وقرأ عطيةُ العَوْفيُّ وعكرمةُ بالياء مِنْ تحت مبنياً للمفعول ، والقائم مَقامَ الفاعلِ الجارُّ لأجلِ التضمينِ المتقدِّمِ . ومَنْ اعتقد زيادةَ اللامِ أولاً لم يَجُزْ أَنْ يعتقدَها هنا ، أي : تَسمعْ قَوْلَهم؛ لأنَّ اللامَ لا تُزادُ في الفاعلِ ولا فيما أشبهه .
قوله : { كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ } في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنَّها مستأنفةٌ . والثاني : أنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ ، أي : هم كأنَّهم ، قالهما الزمخشري . والثالث : أنها في محلِّ نصبٍ على الحال ، وصاحبُ الحالِ الضميرُ في « قولِهم » قاله أبو البقاء . وقرأ أبو عمروٍ والكسائيُّ وقنبلٌ « خُشْب » بضمٍ وسكونٍ ، وباقي السبعةِ بضمتين . وقرأ السعيدان : ابنُ جبير وابنُ المسيَّب بفتحتين ، ونسبها الزمخشريُّ لابن عباس ولم يذكُرْ غيرَه . فأمَّا القراءةُ بضمتَيْن فقيل : يجوزُ أَنْ تكونَ جمع خشَبَة نحو : ثَمَرَة وثُمُر ، قاله الزمشخريُّ ، وفيه نظرٌ؛ لأن هذه الصيغةَ محفوظةٌ في فَعَلَة لا تَنْقاس نحو : ثَمَرَة وثُمُر . ونقل الفاسيُّ عن الزبيدي أنه جمعُ خَشْباء ، وأَحْسَبُه غَلِطَ عليه لأنه قد يكون قال « خُشْب » بالسكون جمع خَشْباء نحو : حَمْراء وحُمْر؛ لأنَّ فَعْلاء الصفةَ لا تُجْمع على فُعُل بضمتين بل بضمةٍ وسكونٍ . وقوله « الزبيدي » تصحيفٌ : إمَّا منه وإمَّا من الناسخِ ، إنما هو اليزيديُّ تلميذُ أبي عمرو بن العلاء ، نقل ذلك الزمخشري . وقال أبو البقاء : « وخُشْب بالضمِّ والإِسكان جمعُ خَشَب مثل : أَسَد وأُسْد » انتهى . فهذا يُوهم أنه يقال : أُسُد بضمتين وليس كذلك .
وأمَّا القراءةُ بضمةٍ وسكونٍ فقيل : هي تخفيفُ الأُولى . وقيل : هي جمعُ خَشْباء وهي الخَشَبةُ التي نُخِر جَوْفُها ، أي : فُرِّغَ ، شُبِّهوا بها لفراغِ بَواطنِهم مِمَّا يُنْتَفَعُ به . وقيل : هي جمعُ خَشَبة نحو بَدَنَة وبُدْن ، قاله الزمخشري .
وأمَّا القراءةُ بفتحتَيْن فهو اسمُ جنسٍ ، وأُنِّثَتْ صفتُه كقولِه : { نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } [ الحاقة : 7 ] وهو أحدُ الجائزَين .
وقوله : { مُّسَنَّدَةٌ } تنبيهٌ على أنها لا يُنْتَفَعُ بها ، كما يُنتفع بالخَشَبِ في سَقْفٍ وغيرِه ، أو شبهوا بالأصنامِ؛ لأنهم كانوا يُسْنِدونها إلى الحِيطان .
قوله : { يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ } فيه وجهان ، أظهرهما : أنَّ « عليهم » هو المفعولُ الثاني للحُسْبان ، أي : واقعةً وكائنةً عليهم ، ويكون قولُه : « هم العدوُّ » جملةً مستأنفةً ، أخبر تعالى بذلك . والثاني : أَنْ يكونَ « عليهم » متعلقاً بصيحة ، و « هم العدوُّ » الجملةُ في موضعِ المفعول الثاني للحُسبان . قال الزمخشري : « ويجوزُ أَنْ يكونَ » هم العدوُّ « هو المفعولَ الثاني : كما لو طَرَحْتَ الضميرَ . فإنْ قلتَ : فحقُّه أن يُقالَ : هي العدو قلت : منظورٌ فيه إلى الخبر ، كما ذُكِر في قوله :

{ هذا رَبِّي } [ الأنعام : 77 ] ، وأَنْ يُقَدَّرَ مضافٌ محذوفٌ على « يَحْسَبُون كلَّ أهلِ صحيةٍ » انتهى . وفي الثاني بُعْدٌ بعيدٌ .
قوله : { أَنَّى يُؤْفَكُونَ } « أنَّى » بمعنى كيف . وقال ابن عطية : ويُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ « أنَّى » ظرفاً ل « قاتَلَهم » كأنَّه قال : قاتلهم اللهُ كيف انصَرفوا ، أو صُرِفوا؟ فلا يكونُ في القولِ استفهامٌ على هذا « انتهى . وهذا لا يجوزُ؛ لأنَّ » أنَّى « إنما هي بمعنى كيف ، أو بمعنى أين الشرطيةِ أو الاستفهاميةِ ، وعلى التقادير الثلاثةِ فلا تَتَمَحَّضُ للظرفِ فلا يعملُ فيها ما قبلَها البتةَ ، كما لا تعمل في أسماءِ الشرطِ والاستفهامِ .

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5)

قوله : { يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله } : هذه المسألةُ عَدَّها النحاةُ من الإِعمالِ ، وذلك أنَّ « تعالَوا » يطلبُ « رسولُ الله » مجروراً ب إلى ، أي : تعالَوا إلى رسولِ الله ، و « يَسْتغفر » يَطْلبه فاعلاً ، فأعمل الثاني ، ولذلك رفعَه ، وحَذَف من الأول؛ إذ التقدير : تعالَوْا إليه ، ولو أَعْمل الأولَ لقيل : إلى رسولِ الله/ يَسْتغفر ، فيُضمر في « يَسْتغفر » فاعلٌ ويمكن أَنْ يقال : ليَستْ هذه من الإِعمال في شيء لأنَّ قولَه : « تعالَوْا » أمرٌ بالإِقبال من حيث هو ، لا بالنَّظر إلى مُقْبَلٍ عليه .
قوله : { لَوَّوْا } هذا جوابُ « إذا » . وقرأ نافع « لَوَوْا » مخففاً ، والباقون مشدَّداً على التكثير و « يَصُدُّون » حال لأنَّ الرؤيةَ بَصَريَّةٌ ، وكذا قولُه « وهم مُستكبرون » حالٌ أيضاً : إمَّا من صاحب الحالِ الأولى ، وإمَّا مِنْ فاعل « يَصُدُّون » فتكونُ متداخلةً . وأتى ب « يَصُدُّون » مضارعاً دلالةً على التجدُّدِ والاستمرار . وقرِىء « يَصِدُّون » بالكسر وقد تقدَّمنا في الزخرف .

سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6)

قوله : { أَسْتَغْفَرْتَ } : قراءةُ العامَّةُ بهمزةٍ مفتوحةٍ مِنْ غير مَدّ ، وهي همزةُ التسويةِ التي أصلُها الاستفهامُ . وقرأ يزيد ابن القعقاع « آسْتَغْفَرْت » . بهمزةٍ ثم ألفٍ ، فاختلف الناس في تأويلِها ، فقال الزمخشري : « إشْباعاً لهمزة الاستفهام للإِظهارِ والبيان ، لا قَلْباً لهمزة الوصل كما في » آلسحرُ « و » آللهُ « يعني أنه أشبع فتحةَ همزةِ التسويةِ فتولَّد منها ألفٌ ، وقَصْدُه بذلِك إظهارُ الهمزةِ وبيانُها ، لا أنه قَلَبَ الوصَل ألفاً كما قَلَبها في قولِه : » آلسحرُ « » آللهُ أَذِنَ لكم « لأنَّ هذه الهمزةَ للوَصْلَ ، فهي تَسْقُط في الدَّرْج . وأيضاً فهي مكسورةٌ فلا يَلْتبسُ معها الاستفهامُ بالخبر : بخلاف » آلسحر « و » آلله « . وقال آخرون : هي عِوَضٌ من همزةِ الوصلِ . كما في » آلذَّاكَرَيْن « وهذا ليس بشيءٍ؛ لأنَّ هذه مكسورةٌ فكيف تُبْدَلُ ألفاً؟ وأيضاً فإنما قَلَبْناها هناك ألفاً ولم نحذِفْها ، وإن كان حَذْفُها مُسْتحقاً ، لئلا يلتبسَ الاستفهامُ بالخبر ، وهنا لا لَبْسَ .
وقال ابن عطية : » قرأ أبو جعفر يعني يزيد بن القعقاع « آستغفرْتَ » بمَدَّة على الهمزةِ . وهي ألفُ التسوية . وقرأ أيضاً بوَصْلِ الألف دون همز على الخبر ، وفي هذا كلِّه ضَعْفٌ؛ لأنه في الأولى أثبت هَمزةَ الوصلِ ، وقد أغنتْ عنها همزةُ الاستفهام ، وفي الثانية حَذَفَ همزةَ الاستفهام ، وهو يُريدها ، وهذا ممَّا لا يُسْتعملُ إلاَّ في الشعر « . قلت : أمَّا قراءتُه » استغفرْتَ « بوَصْلِ الهمزة فرُوِيَتْ أيضاً عن أبي عمروٍ ، إلاَّ أنه هو يضُمُّ ميم » عليهم « عند وَصْلِه الهمزةَ؛ لأن أصلَها الضمُّ ، وأبو عمرو يكسِرُها على أصلِ التقاء الساكنين . وأمَّا قولُه : » وهذا ممَّا لا يُسْتعمل إلاَّ في شعرٍ « فإنْ أراد بهذا مَدَّ هذه الهمزةِ في هذا المكانِ فصحيحٌ ، بل لا نجده أيضاً ، وإن أرادَ حَذْفَ همزةَ الاستفهام فليس بصحيحٍ لأنَّه يجوزُ حَذْفُها إجماعاً قبل » أم « نثراً ونَظْماً ، وأمَّا دونَ » أم « ففيه خلافٌ ، والأخفشُ يُجَوِّزُهُ ويجعلُ منه { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ } [ الشعراء : 22 ] وقولَه :
4264 طَرِبْتُ وما شَوْقاً إلى البيضِ أَطْرَبُ ... ولا لَعِباً مني وذو الشَّيْبِ يَلْعَبُ
وقول الآخر :
4265 أَفْرَحُ أَنْ أُرْزَأَ الكرامَ وأَنْ ... أُوْرَثَ ذَوْداً شصائِصاً نَبْلا
وأمَّأ قبل » أم « فكثير كقولِه :
4266 لَعَمْرُكَ ما أَدْري وإنْ كنتُ داريا ... بسَبْعٍ رَمَيْنَ الجَمْر أم بثمانٍ
وقد مَرَّتْ هذه المسألةُ مستوفاةً ولله الحمدُ

هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7)

قوله : { يَنفَضُّواْ } : قرأ العامَّةُ من الانْفِضاض وهو التفرُّقُ . وقرأ الفضل بن عيسى الرقاشي « يُنْفِضُوا » مِنْ أَنْفَضَ القومُ : فَنِيَ زادُهم . ويقال : نَفَضَ الرجلُ وعاءَه من الزاد ، فأَنْفَضَ ، فيتعدَّى دونَ الهمزةِ ولا يتعدَّى معها ، فهو من بابِ : كَبَبْتُه فأَكَبَّ . قال الزمخشري : « وحقيقتُه : حانَ لهم أَنْ يَنْفُضُوا مَزاوِدَهُم » .

يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)

قوله : { لَيُخْرِجَنَّ الأعز } : قراءةُ العامَّةُ بضمِّ الياءِ وكسرِ الراءِ ، مسْنداً إلى « الأعزُّ » ، و « الأذلَّ » مفعولٌ به ، والأعزُّ بعض المنافقين على زعمه . وقرأ الحسن وابن أبي عبلة والمسيبيُّ « لَنُخْرِجَنَّ » بنون العظمة وبنصبِ « الأعَزَّ » على المفعول به ونصبِ الأذلّ على الحالِ ، وبه استشهد مَنْ جَوَّز تعريفَها . والجمهورُ جَعلوا أل مزيدةً على حَدِّ :
4267 فَأَرْسَلَها العِراكَ . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وادخلوا الأَوَّلَ فالأَوَّلَ . وجَوَّز أبو البقاء أَنْ يكونَ منصوباً على المفعول به ، وناصبُه حالٌ محذوفةٌ ، أي : مُشْبِهاً الأذلَّ . وقد خَرَّجَه الزمخشريُّ على حَذْفِ مضافٍ ، أي : خروجَ الأذلِّ ، أو إخراجَ الأذَلِّ ، يعني بحسَبِ القراءتَيْن : مِنْ خَرَجَ وأَخْرَجَ . فعلى هذا ينتصبُ على المصدرِ لا على الحالِ . ونَقَلَ الدانيُّ عن الحسن أيضاً/ « لنَخْرُجَنَّ » بفتح نونِ العظمة وضمِّ الراء ونصبِ « الأعزَّ » على الاختصاصِ كقولهم : « نحن العربَ أَقْرى الناس للضيفِ » ، و « الأذلَّ » نصبٌ على الحالِ أيضاً ، قاله الشيخ ، وفيه نظرٌ كيف يُخْبرون عن أنفسِهم : بأنهم يَخْرُجون في حالِ الذُّلِّ مع قولهم الأعزّ ، أي : أخصُّ الأعزَّ ، ويَعْنُون بالأعزِّ أنفسَهم؟ وقد حكى هذه القراءةَ أيضاً أبو حاتمٍ ، وحكى الكسائي والفراء أنَّ قوماً قرؤوا « ليَخْرُجَنَّ » بفتح الياء وضم الراء ورفع « الأعزُّ » فاعلاً ونصب الأول حالاً وهي واضحةٌ . وقُرِىء ليُخْرَجَنَّ بالياء مبنياً للمفعول « الأعزُّ » قائماً مَقام الفاعل ، « الأذلَّ » حالٌ أيضاً .

وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10)

قوله : { وَأَكُن } : قرأ أبو عمروٍ « وأكونَ » بنصب الفعل عطفاً على « فأصَّدَّقَ » و « فأصَّدَّقَ » منصوبٌ على جوابِ التمني في قوله : « لولا أَخَّرتني » والباقون « وأكُنْ » مجزوماً ، وحُذِفَتِ الواوُ لالتقاء الساكنين . واختلفت عبارات الناس في ذلك ، فقال الزمخشري : « عطفاً على محلِّ » فأصَّدَّقَ « كأنه قيل : إنْ أخَّرْتَني أصَّدَّقْ وأكنْ » . وقال ابنُ عطية : « عطفاً على الموضع؛ لأنَّ التقديرَ : إنْ أخَّرتني أصَّدَّقْ وأكن ، هذا مذهب أبي علي الفارسي : فأمَّا ما حكاه سيبويه عن الخليلِ فهو غيرُ هذا وهو أنه جزمٌ على توهُّمِ الشرطِ الذي يَدُلُّ عليه التمني ، ولا موضعَ هنا لأن الشرطَ ليسَ بظاهرٍ ، وإنما يُعْطَفُ على الموضع حيث يَظْهَرُ الشرطُ كقولِه : { مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ } [ الأعراف : 186 ] فمَنْ جَزَمَ عَطَفه على موضع { فَلاَ هَادِيَ لَهُ } لأنه لو وقع موقعَه فِعْلٌ لانجزم » انتهى . وهذا الذي نَقَله عن سيبويهِ هو المشهورُ عند النَّحويين . ونَظَّر سيبويه ذلك بقول زهير :
4268 بَداليَ أني لَسْتُ مُدْرِكَ ما مَضَى ... ولا سابقٍ شيئاً إذا كان جائيا
فخفضَ « ولا سابقٍ » عطفاً على « مُدْرِكَ » الذي هو خبر ليس على توهُّمِ زيادةِ الباء فيه؛ لأنه قد كَثُرَ جَرُّ خبرِها بالباء المزيدة ، وهو عكسُ الآيةِ الكريمةِ؛ لأنه في الآية جُزِمَ على توهُّمِ سقوط الفاء ، وهنا خُفِضَ على تَوَهُّمِ وجودِ الباءِ ، ولكنَّ الجامعَ توهُّمُ ما يَقْتضي جوازَ ذلك ، ولكني لا أُحِبُّ هذا اللفظَ مستعملاً في القرآن ، فلا يُقال : جُزم على التوهُّم ، لقُبْحه لفظاً . وقال أبو عبيد : « رأيتهُ في مصحف عثمان » وأكُنْ « بغير واوٍ . وقد فَرَّق الشيخ بين العطفِ على الموضعِ والعطفِ على التوهُّمِ بشيءٍ فقال : » الفرقُ بينهما : أنَّ العاملَ في العطف على الموضع موجودٌ ، وأثرُه مفقودٌ ، والعاملُ في العطفِ على التوهُّمِ مفقودٌ ، وأثرُه موجودٌ « انتهى . قلت : مثالُ الأول : » هذا ضاربُ زيدٍ وعمراً « فهذا من العطفِ على الموضع ، فالعاملُ وهو » ضارب « موجودٌ ، وأثرُه وهو النصبُ مفقودٌ . ومثالُ الثاني ما نحن فيه؛ فإنَّ العاملَ للجزمِ مفقودٌ ، وأثُره موجودٌ . وأَصْرَحُ منه بيتُ زهير فإنَّ الباءَ مفقودةٌ وأثُرها موجودٌ ، ولكن أثرَها إنما ظهر في المعطوفِ لا في المعطوفِ عليه ، وكذلك في الآية الكريمة . ومن ذلك بيتُ امرىء القيس :
4269 فظلَّ طُهاةُ اللحمِ مِنْ بينِ مُنْضِجٍ ... صَفيفِ شِواءٍ قَديرٍ مُعَجَّلِ
فإنهم جعلوه مِن العطفِ على التوهُّم؛ وذلك : أنه توهَّم أنه أضاف » منضج « إلى » صَفيف « ، وهو لو أضافَه إليه لَجَرَّه فعطفَ » قدير « على » صفيف « بالجرِّ تَوَهماً لجرِّه بالإِضافة . /
وقرأ عبيد بن عمير » وأكونُ « برفع الفعل على الاستئناف ، أي : وأنا أكونُ ، وهذا عِدَةٌ منه بالصَّلاح .

وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)

وقرأ أبو بكر « بما يعملون » بالغَيْبة ، والباقون بالخطاب ، وهما واضحتان . وقرأ أُبَي وعبد الله وابن جبير « فأَتَصَدَّقَ » وهي أصلُ قراءةِ العامةِ ولكنْ أُدْغِمَتْ التاءُ في الصاد .

يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)

قوله : { لَهُ الملك } : مبتدأٌ وخبرٌ . وقدَّمَ الخبر ليفِيد اختصاصَ المُلْكِ والحمدِ بالله ، إذ المُلْكُ والحمدُ لله حقيقةٌ .

خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)

قوله : { صُوَرَكُمْ } : قرأه العامَّةُ بضم الصادِ ، وهو القياسُ في فُعْلَة . وقرأ زيدُ بن علي والأعمش وأبو زيد بكسرِها ، وليس بقياسٍ ، وهو عكسُ « لُحَى » بالضمِّ ، والقياسُ لِحى بالكسر .

يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4)

قوله : { مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } : العامَّةُ على الخطابِ في الحرفَيْن . ورُوِي عن أبي عمروٍ وعاصمٍ بياء الغَيْبةِ ، فتحتملُ الالتفاتَ وتحتملُ الإِخبارَ عن الغائبين .

ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)

قوله : { بِأَنَّهُ } : الهاءُ للشأنِ والحديثِ ، و { كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم } خبرُها و « استغنى » بمعنى المجرَّد . وقال الزمخشري : « ظَهَر غِناه فالسين ليسَتْ للطلبِ » .
قوله : { أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا } يجوزُ أَنْ يرتفعَ على الفاعلية ، ويكونَ من الاشتغال ، وهو الأرجحُ لأنَّ الأداةَ تطلبُ الفعلَ ، وأن يكونَ مبتدأً وخبراً . وجُمع الضميرُ في « يَهْدوننا » إذ البشرُ اسمُ جنسٍ .

زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7)

قوله : { أَن لَّن يُبْعَثُواْ } : « أنْ » مخففةٌ ، لا ناصبةٌ لئلا يَدْخُلَ ناصبٌ على مثلِه ، و « أنْ » وما في حَيِّزها سادَّةٌ مَسَدّ المفعولَيْنِ للزعمِ أو المفعول . و « بلى » إيجابٌ للنفي ، و « لَتُبْعَثُنَّ » . جوابُ قسم مقدرٍ .

يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)

قوله : { يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ } : منصوبٌ بقولِه : « لَتُنَبَّؤُنَّ » عند النحاس و ب « خَبيرٌ » عند الحوفي ، و ب « اذكُر » مضمراً عند الزمخشري ، فيكون مفعولاً به ، وبما دَلَّ عليه الكلامُ ، أي : تتفاوتون يومَ يجمعُكم ، قاله أبو البقاء . والعامَّةُ بفتح الياءِ وضمِّ العين . ورُوِي سكونُها وإشمامُها عن أبي عمروٍ . وهذا منقولٌ عنه في الراء نحو { يَنصُرُكُمْ } [ الملك : 20 ] وبابِه كما تقدَّم في البقرة . وقرأ يعقوب وسلام وزيد بن علي والشعبي « نجمعكم » بنونِ العظمة .
والتَّغابُنُ : تفاعُلٌ من الغَبْن في البيعِ والشراءِ على الاستعارة وهو أَخْذُ الشيءِ بدون قيمتِه . وقيل : الغَبْنُ : الإِخفَاءُ ومنه : غَبْنُ البيعِ لاستخفائِه . والتفاعُل هنا من واحدٍ لا من اثنين ويقال : غَبَنْتُ الثوبَ وخَبَنْتُه ، أي : أخَذْتُ ما طالَ منه مقدارِك فهو نقصٌ وإخفاءٌ . وفي التفسير : هو أن يكتسبَ الرجلُ مالاً مِنْ غيرِ وجهه ، فَيَرِثَه غيرُه فيعملَ فيه بطاعةِ اللهِ ، فيَدْخلَ الأولُ النارَ والثاني الجنةَ بذلك المالِ ، فذلك هو الغَبْنُ البيِّنُ .

مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)

قوله : { يَهْدِ قَلْبَهُ } : بالياءِ مجزوماً جواباً للشرط قراءة العامَّة . وابن جبير وابن هرمز وطلحة والأزرق بالنون والضحاك وأبو جعفر وأبو عبد الرحمن « يُهْدَ » مبنياً للمفعولِ « قلبُه » قائم مقامَ الفاعلِ . ومالك بن دينار وعمرو بن دينار « يَهْدَأْ » بهمزة ساكنة ، « قلبُه » فاعلٌ به بمعنى يطمئنُّ ويَسْكُن . وعمرو بن فائد « يَهْدا » بألفٍ مبدلة من الهمزة كالتي قبلَها ، ولم يَحْذِفْها نظراً إلى الأصل وهي أفصح اللغتين . وعكرمة ومالك بن دينار أيضاً يَهْدَ بحذفِ هذه الألفِ إجراءً لها مُجرى الألفِ الأصليةِ كقولِ زهير :
4270 جَريءٌ متى يُظْلَمْ يُعاقِبْ بِظُلْمِه ... سريعاً وإنْ لا يُبْدَ بالظلمِ يُظْلَمِ
وقد تقدَّم إعرابُ ما قبلَ هذه الآيةِ وما بعدها .

فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)

قوله : { خَيْراً لأَنفُسِكُمْ } : فيه أوجهٌ ، أحدها : وهو قولُ سيبويه أنه مفعولٌ بفعل مقدرٍ ، أي : وَأْتُوا خيراً كقولِه : { انتهوا خَيْراً لَّكُمْ } [ النساء : 171 ] . الثاني : تقديرُه : يكنِ الإِنفاقُ خيراً ، فهو خبرُ كان المضمرة ، وهو قولُ أبي عبيد . الثالث : أنه نعتُ مصدرٍ محذوفٍ ، وهو قولُ الكسائيِّ والفراء ، أي : إنفاقاً خيراً . الرابع : أنه حالٌ وهو قولُ الكوفيين . الخامس : أنه مفعولٌ بقولِه : « أَنْفِقوا » ، أي : أَنْفقوا مالاً خيراً . وقد تقدَّم الخلافُ في قراءةِ { يُضَاعِفَهُ } [ الحديد : 11 ] و { يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ } [ الحشر : 9 ] .

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)

قوله : { إِذَا طَلَّقْتُمُ } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه خطابٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظ الجمع تعظيماً كقوله :
4271 فإنْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النساءَ سواكمُ ... وإن شِئْتِ لم أَطْعَمْ نُقاخاً ولا بَرْدا
/ الثاني : أنه خطابٌ له ولأمَّته والتقدير : يا أيها النبيُّ وأمَّتَه إذا طلَّقْتُمْ فحذف المعطوفَ لدلالةِ ما بعده عليه ، كقوله :
4272 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... إذا حَذْفَتْه رِجْلُها . . . . . . . . . . . . . . . .
أي ، ويَدُها ، وتقدَّم هذا في سورة النحل عند { تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] . الثالث : أنه خطابٌ لأمَّتِه فقط بعد ندائِه عليه السلام ، وهو مِنْ تلوينِ الخطابِ خاطبَ أمتَه بعد أَنْ خاطبه . الرابع : أنَّه على إضمارِ قول ، أي : يا أيها النبيُّ قُلْ لأمتك : إذا طلَّقتْم . الخامس : قال الزمخشري : « خصَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بالنداء وعَمَّ بالخطابِ؛ لأنَّ النبيَّ إمامُ أمَّتِه وقُدْوَتُهم ، كما يُقال لرئيس القومِ وكبيرِهم : يا فلانُ افعلوا كيتَ وكيتَ اعتباراً بتقدُّمِه وإظهاراً لترؤُّسه » في كلامٍ حسنٍ ، وهذا هو معنى القولِ الثالثِ الذي قَدَّمْتُه .
وقوله : { إِذَا طَلَّقْتُمُ } ، أي : إذا أَرَدْتُمْ كقولِه : { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة } [ المائدة : 6 ] { فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن } [ النحل : 98 ] وتقدَّم تحقيقُ ذلك .
قوله : { لِعِدَّتِهِنَّ } قال الزمخشري : « مُسْتَقْبِلاتٍ لِعِدَّتهن ، كقولِك : » أتيتُه لِلَيْلَةٍ بَقِيَتْ من المحرَّم « ، أي : مُسْتقبلاً لها ، وفي قراءةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم » في قُبُل عِدَّتِهِنَّ « انتهى . وناقشه الشيخ في تقديره الحالَ التي تَعلَّق بها الجارُّ كوناً خاصاً . وقال : » الجارُّ إذا وقع حالاً إنما يتعلَّق بكونٍ مطلقٍ « وفي مناقَشَتِه نظرٌ لأنَّ الزمخشري لم يَجْعَل الجارَّ حالاً بل جَعَلَه متعلِّقَاً بمحذوف دَلَّ عليه معنى الكلامِ . وقال أبو البقاء : » لِعِدَّتِهِنَّ ، أي : عند أول ما يُعْتَدُّ لهنَّ به ، وهُنَّ في قُبُل الطُّهْر « وهذا منه تفسيرُ معنى لا تفسيرُ إعرابٍ . وقال الشيخ : » هو على حَذْفِ مضاف ، أي : لاستقبالٍ عِدَّتِهِن ، واللامُ للتوقيت نحو : لَقِيْتُه لِلَيْلَةٍ بَقِيْتَ مِنْ شهرِ كذا « انتهى . فعلى هذا تتعلَّقُ اللامُ ب » طَلِّقُوهن « .
قولِه : { لَعَلَّ الله } هذه الجملةُ مستأنفةٌ لا تعلُّقَ بما لها بما قبلَها؛ لأنَّ النحاةَ لم يَعُدُّوها في المُعلِّقات . وقد جَعَلَها الشيخ . مِمَّا يَنْبغي أَنْ يُعَدَّ فيهنَّ ، وقَرَّر ذلك في قوله : { وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ } [ الأنبياء : 111 ] فهناك يُطْلَبُ تحريرُه .

فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2)

وقرأ العامَّةُ : { أَجَلَهُنَّ } : لأنَّ الأجلَ من حيث هو واحدٌ وإنْ اختلفَتْ أنواعُهُ بالنسبةِ إلى المعتدَّات . والضحاك وابن سيرين « آجالَهُنَّ » جمعَ تكسير ، اعتباراً بأنَّ أَجَلَ هذه غيرُ أجلِ تَيْكَ .

وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)

قوله : { بَالِغُ أَمْرِهِ } : قرأ حفص « بالغُ » مِنْ غير تنوين ، « أمرِه » مضافٌ إليه على التخفيفِ . والباقون بالتنوينِ والنصبِ وهو الأصلُ خلافاً للشيخ . وقرأ ابن أبي عبلة وداود بن أبي هند وأبو عمروٍ في روايةٍ « بالغٌ أمرُه » بتنوين « بالغٌ » ورفْع « أَمْرُه » وفيه وجهان ، أحدُهما : أَنْ يكونَ « بالغٌ » خبراً مقدماً ، و « أمْرُه » مبتدأٌ مؤخرٌ . والجملة خبرُ « إنَّ » والثاني : أَنْ يكونَ « بالغٌ » خبرَ « إنَّ » و « أَمْرُه » فاعلٌ به . وقرأ المفضَّلُ « بالغاً » بالنصب ، « أَمْرُه » بالرفع . وفيه وجهان ، أظهرهما : وهو تخريج الزمخشري أَنْ يكونَ « بالغاً » نصباً على الحال ، و { قَدْ جَعَلَ الله } هو خبرُ « إنَّ » تقديرُه : إن اللَّهَ قد جعل لكلِّ شيءٍ قَدْراً بالغاً أمْرُه . والثاني : أَنْ يكونَ على لغةِ مَنْ ينْصِبُ الاسمَ والخبرَ بها ، كقولِه :
4273 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . إنَّ حُرَّاسَنا أُسْدا
ويكون « قد جَعَل » مستأنفاً كما في القراءةِ الشهيرةِ . ومَنْ رفع « أَمْرُه » فمفعولُ « بالغ » محذوفٌ تقديره : ما شاء . وجناح بن حبيش « قَدَرا » بفتح الدال .

وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4)

قوله : { واللائي يَئِسْنَ } : قد تقدَّم الخلافُ فيه ، وأبو عمروٍ يقرأ هنا « واللايْ يَئِسْنَ » بالإِظهار ، وقاعدتُه في مثلِه الإِدغامُ ، إلاَّ أنَّ الياء لَمَّا كانَتْ عنده عارضةً لكونِها بدلاً مِنْ همزةٍ ، فكأنه لم يجتمعْ مِثلان . وأيضاً فإنَّ سكونَها عارضٌ ، فكأنَّ ياء « اللاي » محرَّكةٌ ، والحرف ما دام متحركاً لا يُدْغَمُ في غيرِه/ وقرأ « يَئِسْنَ » فعلاً ماضياً ، وقُرِىء « يَيْئَسْنَ » مضارعاً . و « مِنْ المحيض مِنْ نسائكم » « مِنْ » الأولى لابتداءِ الغاية ، وهي متعلِّقةٌ بالفعل قبلَها ، والثانيةُ للبيان ، متعلِّقةً بمحذوف و « اللائي » مبتدأ ، و « فعِدَّتُهُنَّ » مبتدأ ثانٍ ، « وثلاثةُ أشهر » خبرُه ، والجملةُ خبرُ الأولِ ، والشرطُ معترضٌ ، وجوابُه محذوف . ويجوزُ أَنْ يكونَ « إنِ ارْتَبْتُم » جوابُه { فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ } ، والجملةُ الشرطيةُ خبرُ المبتدأِ ، ومتعلَّقُ الارتيابِ محذوفٌ فقيل : تقديرُه : إنِ ارْتَبْتُمْ في أنها يَئِسَتْ أم لا لإِمكانِ ظهورِ حَمْلٍ . وإن كان انقطع دَمُها . وقيل : إنِ ارتَبْتُمْ في دَمِ البالغاتِ مَبْلَغَ اليأسِ : أهو دَمُ حيضٍ أم استحاضةٍ؟ وإذا كان هذا عِدَّةَ المرتابِ فيها فغيرُ المرتابِ فيها أَوْلَى ، وأغربُ ما قيل : إنَّ « إنْ ارتَبْتُمْ » بمعنى تَيَقَّنْتُم فهو من الأضداد .
قوله : { واللائي لَمْ يَحِضْنَ } مبتدأٌ ، خبرُه محذوفٌ . فقدَّروه جملةً كالأول ، أي : فعدَّتُهنَّ ثلاثةُ أشهرٍ أيضاً ، والأَوْلَى أن يقدَّرَ مفرداً ، أي : فكذلك ، أو مِثْلهنَّ ولو قيل : بأنَّه معطوفٌ على « اللائي يَئِسْنَ » عَطْفَ المفرداتِ ، وأخبر عن الجميع بقولِه « فعِدَّتُهنَّ » لكان وجهاً حسناً . وأكثرُ ما فيه توسُّطُ الخبرِ بين المبتدأ وما عُطِف عليه ، وهذا ظاهرُ قولِ الشيخ : { واللائي لَمْ يَحِضْنَ } معطوفٌ على قولِه « واللائي يَئِسْن » فإعرابُه مبتدأ كإعراب « واللائي » .
قوله : { وَأُوْلاَتُ الأحمال } متبدأ و « أَجَلُهُنَّ » مبتدأ ثانٍ و « أن يَضَعْن » خبره والجملة خبر الأول ، أي : وَضْع حَمْلهن . ويجوز أَنْ يكونَ « أَجلُهنَّ » بدلَ اشتمال مِنْ أُولات و « أنْ يضعن » خبرَ المبتدأ . والعامَّةُ على إفرادِ « حَمْلهنَّ » والضحاك « آجالُهُنَّ » جمع تكسير .

ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)

قوله : { وَيُعْظِمْ } : هذه قراءةُ العامَّةِ مضارعَ أَعْظَمَ ، وابن مقسم « يُعَظِّمْ » بالتشديد مضارعَ عَظَّم مشدداً . والأعمش « نُعْظِم » مضارعَ أَعْظم ، وهو التفاتٌ مِنْ غَيْبةٍ إلى تكلُّمٍ .

أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6)

قوله : { مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّ « منْ » للتبعيض . قال الزمخشري : « مُبَعَّضُها محذوفٌ معناه : أَسْكنوهنَّ مكاناً مِنْ حيث سَكَنْتُمْ ، أي : بعضَ مكانِ سُكْناكم ، كقولهِ تعالى : { يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ } [ النور : 30 ] ، أي : بعضَ أبصارِهم . قال قتادة : » إن لم يكنْ إلاَّ بيتٌ واحدٌ أسْكنها في بعضِ جوانبه « . والثاني : أنها لابتداء الغاية قاله الحوفي وأبو البقاء . قال أبو البقاء : » والمعنى : تَسَبَّبُوا إلى إسكانِهِنَّ من الوجه الذي تُسْكِنون أنفسَكم . ودلَّ عليه قولُه مِنْ وُجْدِكم ، والوُجْدُ : الغِنى « .
قوله : { مِّن وُجْدِكُمْ } فيه وجهان ، أحدُهما : أنه بدلٌ مِنْ قولِه » مِنْ حيثُ « بتكريرِ العاملِ ، وإليه ذهب أبو البقاء كأنه قيل : أسْكنوهن مِنْ سَعَتكم . والثاني : أنه عطف بيان لقوله { مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم } ، وإليه ذهب الزمشخري ، فإنه قال بعد أن أعربَ » مِنْ حيث « تبعيضيةً كما تقدَّم : » فإن قلتَ : وقولُه « مِنْ وُجْدِكم »؟ قلت : هو عطفُ بيانٍ لقولِه : { مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم } ومُفَسِّرٌ له كأنه قيل : أَسْكِنوهنَّ مكاناً مِنْ مَساكنكم مِمَّا تُطيقونه .
والوُجْدُ الوُسْع والطاقَةُ « . وناقشه الشيخ : بأنَّه لم يُعْهَدْ في عطفِ البيان إعادةُ العاملِ ، إنما عُهد هذا في البدلِ ، ولذلك أعربه أبو البقاء بدلاً . والعامَّة » وُجْدِكم « بضمِّ الواو ، والحسن والأعرج وأبو حيوةَ بفتحِها ، والفياضُ بن غزوان وعمرو بن ميمون ويعقوب بكسرِها ، وهي لغاتٌ بمعنىً . والوَجْدُ بفتح الواو : الحُزْنُ أيضاً ، والحُبُّ ، والغَضَب .
قوله : { وَأْتَمِرُواْ } افْتَعِلوا مِنْ الأَمْر يقال : ايتَمَرَ القومُ وتآمروا ، أي : أمَر بعضُهم بعضاً . وقال الكسائيُّ : ائتمروا : تَشاوروا وتلا قولَه تعالى : { إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ } [ القصص : 20 ] وأنشد قولَ امرِىءِ القيس :
4274 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ويَعْدُوْ على المَرْءِ ما يَأَتْمِرْ
/ قوله : { فَسَتُرْضِعُ } قيل : هو خبرٌ في معنى الأَمْر . والضمير في » له « للأبِ كقولِه : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ } ، والمفعولُ محذوفٌ للعِلْمِ به ، أي : فسترضعُ الولدَ لوالدِه امرأةٌ أخرى . والظاهرُ أنه خبرٌ على بابِه .

لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)

قوله : { لِيُنفِقْ } هذه قراءةُ العامَّةِ ، أعني كَسْرَ اللامِ وجزمَ المضارعِ بِها . وحكى أبو معاذ القارىء « لِيُنْفِقَ » بنصب الفعل على أنها لامُ كي نَصَبَ الفعلَ بعدَها بإضمار « أَنْ » ويتعلَّقُ الحرفُ حينئذٍ بمحذوفٍ ، أي : شَرَعْنا ذلك لِيُنْفِقَ . وقرأ العامَّة « قُدِر » مخففاً . وابن أبي عبلة « قَدَّر » مشدداً .

وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8)

قوله : { عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا } : ضُمِّن معنى أَعْرَضَ ، كأنه قيل : أَعْرَضَتْ بسببِ عُتُوِّها . وقولِه « فحاسَبْناها » إلى آخره كلُّه في الآخرة ، وأتى به على لفظِ المُضِيِّ لتحقُّقِه . وقيل : العذاب في الدنيا فيكونُ على حقيقتِه و « أعدَّ الله » تكريرٌ للوعيدِ وتوكيداً . وجَوَّزَ الزمخشري أَنْ يكونَ « عَتَتْ » وما عُطِفَ عليه صفةً ل « قريةٍ » ويكونُ الخبرُ ل « كأيِّنْ » الجملةَ مِنْ قولِه « أعدَّ اللَّهُ » فعلى الأول يكونُ الخبرُ « عَتَتْ » وما عُطِفَ عليه .

أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10)

قوله : { الذين آمَنُواْ } : منصوبٌ بإضمار أَعْني بياناً للمنادي ، أو يكون عطفَ بيان للمنادِي أو نعتاً له ، ويَضْعُفُ كونُه بدلاً لعدمِ حُلولِه المبدلِ منه .

رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)

قوله : { رَّسُولاً } : فيه أوجهٌ ، أحدُها وإليه ذهب الزجَّاج والفارسي أنه منصوبٌ بالمصدرِ المنونِ قبلَه؛ لأنه يَنْحَلُّ لحرفٍ مصدري وفعلٍ ، كأنه قيل : أن ذَكرَ رسولاً ، والمصدرُ المنوَّنُ عاملٌ كقولِه تعالى : { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً } [ البلد : 14 ] وقولِه :
4275 بضَرْبٍ بالسيوفِ رؤوسَ قَوْمٍ ... أَزَلْنا هامَهُنَّ عن المَقيلِ
الثاني : أنَّه جُعِل نفسُ الذِّكْرِ مبالغةً فأُبْدِل منه . الثالث : أنَّه بدلٌ منه على حَذْفِ مضافٍ مِنْ الأول تقديرُه : أنزل ذا ذكرٍ رسولاً . الرابع : كذلك ، إلاَّ أنَّ « رسولاً » نعت لذلك المحذوف . الخامس : أنه بدلٌ منه على حَذْفِ مضافٍ مِنْ الثاني ، أي : ذِكْراً ذِكْرَ رسول . السادس : أَنْ يكونَ « رسولاً » نعتاً ل ذِكْراً على حَذْفِ مضاف ، أي : ذِكْراً ذا رسولٍ ، ف « ذا رسول » نعتٌ لذِكْر . السابع : أَنْ يكونَ « رسولاً » بمعنى رسالة ، فيكونَ « رسولاً » بدلاً صريحاً مِنْ غير تأويل ، أو بياناً عند مَنْ يرى جَرَيانه في النكراتِ كالفارسيِّ ، إلاَّ أنَّ هذا يُبْعِدُه قولُه : « يَتْلُو عليكم » ، لأنَّ الرسالةَ لا تَتْلوا إلاَّ بمجازٍ ، الثامن ، أَنْ يكونَ « رسولاً » منصوباً بفعلٍ مقدر ، أي : أرسل رسولاً لدلالةِ ما تقدَّمَ عليه . التاسع : أَنْ يكونَ منصوباً على الإِغراء ، أي : اتبِعوا والزَمُوا رسولاً هذه صفتُه .
واختلف الناس في « رسولاً » هل هو النبيُّ صلى الله عليه وسلم ، أو القرآنُ نفسُه ، أو جبريلُ؟ قال الزمخشري : « هو جبريلُ عليه السلام » أُبْدِل مِنْ « ذِكْراً » لأنه وُصِف بتلاوةِ آياتِ اللَّهِ ، فكأنَّ إنزالَه في معنى إنزالِ الذِّكْرِ فصَحَّ إبدالُه منه « . قال الشيخ : » ولا يَصِحُّ لتبايُنِ المدلولَيْنِ بالحقيقة ، ولكونِه لا يكونَ بدلَ بعضٍ ولا بدلَ اشتمال « انتهى . وهذا الذي قاله الزمخشريُّ سبقه إليه الكلبيُّ . وأمَّا اعتراضُه عليه فغيرُ لازمٍ لأنه إذا بُوْلِغَ فيه حتى جُعِل نفسَ الذِّكْر كما تقدَّم بيانُه . وقُرىء » رسولٌ « على إضمار مبتدأ ، أي : هو رسول .
قوله : { لِّيُخْرِجَ } متعلِّقٌ إمَّا ب » أَنْزَل « ، وإمَّا ب » يَتْلو « وفاعِلُ يُخْرِج : إمَّا ضميرُ الباري تعالى المنَزِّل ، أو ضميرُ الرسولِ ، أو الذِّكرِ ، و » مَنْ يُؤْمِنْ « هذا أحدُ المواضعِ التي رُوْعي فيها اللفظُ أولاً ، ثم المعنى ثانياً ، ثم اللفظُ آخِراً ، وقد تقدَّم ذلك في المائِدة . وقد تأوَّلَ بعضُهم هذه الآية [ وقال : ليس قولُه » خالدين « فيه ضميرٌ عائدٌ على » مَنْ « إنما يعود على مفعولِ » يُدْخِلْه « ، و » خالدين « حالٌ منه ، والعاملُ فيها » يُدْخِلْه « لا فِعْلُ الشرطِ ] . هذه عبارةُ الشيخِ ، وفيها نظرٌ؛ لأنَّ » خالدين « حالٌ مِنْ مفعول » يُدْخِلْه « عند القائلين بالقول الأول ، وكأنَّ إصلاحَ العبارة أَنْ يقالَ : حالٌ مِنْ مفعولِ » يُدْخِلْه « الثاني ، وهو » جناتٍ « والخلودُ في الحقيقةِ لأصحابِها ، وكان ينبغي على رأي البصريين أن يقال : خالدين هم فيها ، لجريان الوصفِ على غير مَنْ هو له .
قوله : { قَدْ أَحْسَنَ الله } حالٌ ثانيةٌ ، أو حال مِنْ الضمير في » خالدين « فتكونُ متداخلةً . /

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)

قوله : { مِثْلَهُنَّ } : العامَّةُ بالنصب ، وفيه وجهان ، أحدُهما : أنه عطفٌ على « سَبْعَ سماواتٍ » قاله الزمخشري . واعترض الشيخُ بلزومِ الفَصْلِ بين حرفِ العطفِ ، وهو على حرفٍ واحدٍ ، وبين المعطوفِ بالجارِّ والمجرورِ ، وهو مختصٌّ بالضرورةِ عند أبي عليّ . قلت : وهذا نظيرُ قولِه : { آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً } [ البقرة : 201 ] عند ابنِ مالك ، وقد تقدَّم تحريرُ هذا الخلافِ في البقرة والنساء وهود عند قولِه : { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس } [ النساء : 58 ] ، { وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [ هود : 71 ] .
والثاني : أنه منصوبٌ بمقدَّر بعد الواوِ ، أي : وخَلَق مثلَهُنَّ من الأرضِ . واختلف الناس في المِثْلِيَّة ، فقيل : مِثْلُها في العدد . وقيل : في بعض الأوصاف فإنَّ المِثْلِيَّةَ تَصْدُقُ بذلك ، والأول هو المشهورُ . وقرأ عاصم في رواية « مثلُهُنَّ » بالرفع على الابتداء والجارُّ قبلَه خبرُه .
قوله { يَتَنَزَّلُ } يجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً ، وأن يكونَ نعتاً لِما قبله ، وقاله أبو البقاء . وقرأ أبو عمروٍ في روايةٍ وعيسى « يُنَزِّل » بالتشديد ، أي : الله ، « الأمر » مفعولٌ به ، والضميرُ في « بينهنَّ » عائد على السماوات والأرضين عند الجمهور ، أو على السماوات والأرض عند مَنْ يقولُ : إنها أرضٌ واحد .
قوله : { لتعلموا } متعلقٌ ب « خَلَقَ » أو ب « يَتنزَّل » والعامَّةُ « لتعلَموا » خطاباً ، وبعضُهم بياء الغَيْبة .

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1)

قوله : { تَبْتَغِي } : يجوز أن يكونَ حالاً مِنْ فاعل « تُحَرِّم » أي : لِمَ تُحَرِّمُ مُبْتَغياً به مَرْضاتَ أزواجِك . ويجوز أَنْ يكون تفسيراً ل تُحَرِّمُ ، ويجوز أن يكونَ مستأنفاً ، فهو جوابٌ للسؤال . و « مَرْضاة » اسمُ مصدرٍ ، وهو الرِّضا ، وأصلُه مَرْضَوَة ، وقد تَقَدَّم ذلك والمصدرُ هنا مضافٌ : إمَّا للمفعولِ أو للفاعل أي : أن تُرْضِيَ أنت أزواجَك ، أو أَنْ يَرْضَيْنَ .

قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2)

قوله : { تَحِلَّةَ } : مصدر تَحَلَّل مضعَّفاً وهو نحو ، تَكْرِمَة ، وهذان ليسا مقيسَيْن؛ فإنَّ قياسَ مصدرِ فَعَّل : التفعيل ، إذا كان صحيحاً غيرَ مهموزٍ ، فأما المعتلُّ اللام نحو : زَكَّى ، والمهموزُها نحو : نَبَّأ فمصدرُهما تَفْعِلة نحو : تَزْكية وتَنْبِئة ، على أنه قد جاء التفعيلُ كاملاً في المعتلِّ نحو قولِه :
4276 باتَتْ تُنَزِّي دَلْوَها تَنْزِيَّا ... وأصلُها تَحْلِلَه كتكْرِمة فأُدغِمَتْ ، وانتصابُها على المفعول به .

وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3)

قوله : { وَإِذَ أَسَرَّ } : العاملُ فيه اذكُرْ ، فهو مفعولٌ به لا ظرفٌ .
قوله : { فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ } أصلُ نَبَّأ وأنبأ وأخبر وخبَّر وحَدَّث أَنْ يتعدَّى لاثنين إلى الأول بنفسِها ، والثاني بحرف الجر ، وقد يُحْذَفُ الجارُّ تخفيفاً ، وقد يُحْذَفُ الأول للدلالة عليه . وقد جاءت الاستعمالاتُ الثلاثةُ في هذه الآياتِ ، فقولُه : { فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ } تعدَّ لاثنين حُذِفَ أوَّلُهما ، والثاني مجرورٌ بالباء ، أي : نَبَّأت به غيرَها ، وقوله : { فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ } ذكرهما ، وقولُه : { مَنْ أَنبَأَكَ هذا } ذَكَرهما وحَذَفَ الجارَّ .
قوله : { عَرَّفَ بَعْضَهُ } قرأ الكسائي بتخفيف الراء ، والباقون بتثقيلِها . فالتثقيلُ يكون المفعولُ الأول معه محذوفاً أي : عَرَّفها بعضَه أي : وقَّفها عليه على سبيل الغَيْبِ ، وأعرضَ عن بعضٍ تكرُّماً منه وحِلْماً . وأمَّا التخفيفُ فمعناه : جازَى على بعضِه ، وأعرضَ عن بعضٍ . وفي التفسير : أنَّه أسَرَّ إلى حفصةَ شيئاً فحدَّثَتْ به غيرَها فطلَّقَها ، مجازاةً على بعضِه ، ولم يُؤَاخِذْها بالباقي ، وهو من قبيل قولِه : { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله } [ البقرة : 197 ] أي : يُجازيكم عليه ، وقولِه : { أولئك الذين يَعْلَمُ الله مَا فِي قُلُوبِهِمْ } [ النساء : 63 ] وإنما اضْطُررنا إلى هذا التأويلِ لأنَّ اللَّهَ تعالى أَطْلَعَهُ على جميعِ ما أنبأَتْ به غيرَها لقولِه تعالى : { وَأَظْهَرَهُ الله عَلَيْهِ } وقرأ عكرمة « عَرَّاف » بألفٍ بعد الراء ، وخُرِّجَتْ على الإِشباعِ كقولِه :
4277 . . . . . . . . . . . . . من العَقْرابِ ... الشائلاتِ عُقَدَ الأذْنَابِ
وقيل : هي لغةٌ يمانيةٌ ، يقولون : « عَرَافَ زيدٌ عمراً » أي : عَرَفه . وإذا ضُمِّنت هذه الأفعالُ الخمسةُ معنى أَعْلَم تعدَّتْ لثلاثةٍ . وقال الفارسي : « تَعدَّتْ بالهمزةِ أو التضعيف ، وهو غَلَطٌ؛ إذ يقتضي ذلك أنها قبل التضعيفِ والهمزةِ كانَتْ متعدِّيةً لاثنين ، فاكتسَبَتْ بالهمزةِ أو التضعيفِ ثالثاً ، والأمرُ ليس كذلك اتفاقاً .

إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4)

قوله : { إِن تَتُوبَآ } : شرطٌ وفي جوابِه وجهان ، أحدهما : هو قولُه « فقد صَغَتْ » والمعنى : إن تتوبا فقد وُجِدَ منكم ما يُوْجِبُ التوبةَ ، وهو مَيْلُ قلوبِكما عن الواجبِ في مخالفةِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم في حُبِّ ما يُحِبُّه وكراهةِ/ ما يكرهه . وصَغَتْ : مالَتْ ، ويَدُلُّ له قراءةُ ابنِ مسعودٍ « فقد راغَتْ » . والثاني : أن الجوابَ محذوفٌ تقديرُه : فذلك واجبٌ عليكما ، أو فتابَ اللَّهُ عليكما ، قاله أبو البقاء . وقال : « ودَلَّ على المحذوفِ فقد صَغَتْ؛ لأن إصغاءَ القلبِ إلى ذلك ذنبٌ » . وهذا الذي قاله لا حاجةَ إليه ، وكأَنَّه زَعَمَ أنَّ مَيْلَ القلبِ ذنبٌ فكيف يَحْسُنُ أَنْ يكونَ جواباً؟ وغَفَلَ عن المعنى الذي ذكرْتُه في صحةِ كَوْنِه جواباً . و « قلوبُكما » مِنْ أفصحِ الكلامِ حيث أوقه الجمعَ موقعَ المثنى ، استثقالاً لمجيءِ تثنيتَيْن لو قيل : قلباكما . وقد تقدَّم تحريرُ هذا في آيةِ السَّرِقةِ في المائدة ، وشروطُ المسألةِ وما اختلف الناس فيه . ومِنْ مجيءِ التثنيةِ قولُه :
4278 فتخالَسا نَفْسَيْهما بنوافِذٍ ... كنوافِذِ العُبْطِ التي لا تُرْقَعُ
والأحسنُ في هذا البابِ الجمعُ ، ثم الإِفرادُ ، ثم التثنيةُ ، وقال ابن عصفور : « لا يجوز الإِفراد إلاَّ في ضرورة كقوله :
4279 حمامةَ بَطْنِ الواديَيْنِ تَرَنَّمي ... سَقاكِ مِنْ الغُرِّ الغوادِي مَطيرُها
وتبعه الشيخُ ، وغلَّط ابنَ مالك في كونِه جَعَلَه أحسن من التثنيةِ . وليس بغلطٍ للعلة التي ذكرها ، وهي كراهةُ توالي تثنيتَيْن مع أَمْنِ اللَّبْس .
وقوله : { إِن تَتُوبَآ } فيه التفاتٌ من الغيبة إلى الخطابِ ، والمرادُ أُمَّا المؤمنين بنتا الشيخَيْن عائشةُ وحفصةُ رضي الله عنهما وعن أبوَيْهما .
قوله : { وَإِن تَظَاهَرَا } أصلُه تتظاهرا فأَدْغَمَ ، وهذه قراءة العامَّةِ ، وعكرمةُ » تتظاهرا « على الأصل ، والحسن وأبو رجاء ونافع وعاصم في روايةٍ عنهما بتشديد الظاء والهاء دون ألف وأبو عمروٍ في روايةٍ » تظاهرا « بتخفيف الطاء والهاء ، حَذَفَ إحدى التاءَيْن وكلُّها بمعنىً المعاونة مِن الظهر لأنه أقوى أعضاءِ الإِنسانِ وأجلُّها .
قوله : { هُوَ مَوْلاَهُ } يجوزُ أَنْ يكونَ » هو « فصلاً ، و » مَوْلاه « الخبرَ ، وأن يكونَ مبتدأً ، و » مَوْلاه « خبرُه ، والجملةُ خبرُ » إنَّ « .
قوله : { وَجِبْرِيلُ } يجوزُ أَنْ يكون عطفاً على اسمِ الله تعالى ورُفِعَ نظراً إلى محلِّ اسمِها ، وذلكَ بعد استكمالِها خبرَها ، وقد عَرَفْتَ مذاهبَ الناسِ فيه ، ويكونَ » جبريلُ « وما بعده داخلَيْن في الولايةِ لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ، ويكونَ جبريلُ ظهيراً له بدخولِه في عمومِ الملائكةِ ، ويكونَ » الملائكة « مبتدأً و » ظهيرٌ « خبرَه ، أُفْرِدَ لأنه بزنةِ فَعيل . ويجوزُ أَنْ يكونَ الكلامُ تمَّ عند قولِه : » مَوْلاه « ويكونُ » جبريل « مبتدأ ، وما بعده عَطْفٌ عليه .

و « ظهيرٌ » خبرُ الجميع ، فتختصُّ الولايةُ بالله ، ويكون « جبريل » قد ذُكر في المعاونةِ مرَّتين : مرةً بالتنصيصِ عليه ، ومرةً بدخولِه في عموم الملائكةِ ، وهذا عكس ما في البقرة مِنْ قوله : { مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ } فإنه ذكر الخاصَّ بعد العامِّ تشريفاً له ، وهنا ذُكِر العامُّ بعد الخاصِّ ، لم يَذْكُرِ الناسُ إلاَّ القسمَ الأول .
وقوله : { وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } الظاهرُ أنه مفردٌ ، ولذلك كُتب بالحاء دونَ واوِ الجمع . وجَوَّزوا أن يكونَ جمعاً بالواو والنون ، حُذِفَتْ النونُ للإِضافة ، وكُتِبَ دون واوٍ اعتباراً بلفظه لأنَّ الواوَ ساقطةٌ لالتقاء الساكنين نحو : { وَيَمْحُ الله الباطل } بالشورى : 24 ] و { يَدْعُ الداع } { سَنَدْعُ الزبانية } [ العلق : 18 ] إلى غيرِ ذلك ، ومثل هذا ما جاء في الحديثِ : « أهلُ القرآن أهلُ الله وخاصَّتُه » قالوا : يجوز أن يكونَ مفرداً ، وأن يكونَ جمعاً كقولِه : { شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا } [ الفتح : 11 ] وحُذِفَتِ الواوُ لالتقاء الساكنين لفظاً ، فإذا كُتِب هذا فالأحسنُ أَنْ يُكتبَ بالواوِ لهذا الغرضِ ، وليس ثَمَّ ضرورةٌ لحَذْفِها كما مَرَّ في مرسوم الخط .
وجَوَّزَ أبو البقاء في « جبريلُ » أن يكونَ معطوفاً على الضمير في « مَوْلاه » يعني المستتَر ، وحينئذ يكون الفصلُ بالضميرِ المجرورِ كافياً في تجويزِ العطفِ عليه . وجوَّز أيضاً أَنْ يكونَ مبتدأ و « صالحُ » عطفٌ عليه . والخبرُ محذوفٌ أي : مَواليه .

عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)

قوله : { إِن طَلَّقَكُنَّ } : شرطٌ معترضٌ بين اسم عَسَى وخبرِها ، وجوابُه محذوفٌ أو متقدمٌ/ أي : إنْ طَلَّقَكُنْ فعسَى . وأدغم أبو عمروٍ القافَ في الكاف على رأيِ بعضِهم قال : « وهو أَوْلَى مِنْ » يَرْزُقكم « ونحوِه لِثِقَلِ التأنيث » .
« مُسْلماتٍ » إلى آخره : إمَّا نعتٌ أو حالٌ أو منصوبٌ على الاختصاص ، وتقدَّمَتْ قراءتا { يُبْدِلَهُ } تخفيفاً وتشديداً في الكهف . وقرأ عمرو بن فائد « سَيِّحاتٍ » ، وإنما وُسِّطَتِ الواوُ بين « ثَيِّبات وأَبْكاراً » لتنافي الوصفَيْن دون سائر الصفات . وثَيِّبات ونحوه لا ينقاسُ لأنه اسمُ جنسٍ مؤنثٍ فلا يُقال : نساء خَوْدات ، ولا رأيت عِيْنات .
والثَّيِّبُ : وزنُها فَيْعل مِن ثاب يثوب أي : رَجَعَ كأنها ثابَتْ بعد زوالِ عُذْرَتِها ، وأصلها ثَيْوِب كسَيِّد ومَيِّت ، أصلُهما سَيْوِد ومَيْوِت فأُعِلَّ الإِعلالَ المشهورَ .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)

قوله : { قوا أَنفُسَكُمْ } : أمرٌ من الوِقايةِ فوزنُه « عُوا » لأن الفاءَ حُذِفَتْ لوقوعِها في المضارع بين ياءٍ وكسرةٍ ، وهذا محمولٌ عليه ، واللامُ حُذِفَتْ حَمْلاً له على المجزوم ، بيانه أنَّ أصلَه اِوْقِيُوا كاضْرِبوا فحُذِفَتِ الواوُ التي هي فاءٌ لِما تقدَّمَ ، واستثْقِلَتِ الضمةُ على الياء فحُذِفَتْ ، فالتقى ساكنان ، فحُذِفَتْ الياءُ وضُمَّ ما قبل الواوِ لتصِحَّ . وهذا تعليلُ البَصْريين . ونقل مكيٌّ عن الكوفيين : أنَّ الحذفَ عندهم فرقاً بين المتعدي والقاصر فحُذِفت الواوُ التي هي فاءٌ في يَقي ويَعِدُ لتعدِّيهما ، ولم تُحْذَفْ من يَوْجَل لقُصوره . قال : « ويَرِدُ عليهم نحو : يَرِمُ فإنه قاصرٌ ومع ذلك فقد حذفوا فاءَه » . قلت : وفي هذا نظرٌ؛ لأنَّ يَوْجَل لم تَقَعْ فيه الواوُ بين ياءٍ وكسرةٍ لا ظاهرةٍ ولا مضمرةٍ . فقلت : « ولا مضمرة » تحرُّزاً مِنْ يَضَعُ ويَسَعُ ويَهَبُ .
و « ناراً » مفعولٌ ثانٍ . و { وَقُودُهَا الناس } صفةٌ ل « ناراً » وكذلك « عليها ملائكةٌ » . ويجوزُ أَنْ يكونَ الوصفُ وحدَه عليها و « ملائكةٌ » فاعلٌ به . ويجوزُ أَنْ تكونَ حالاً لتخصُّصِها بالصفة الأولى وكذلك { لاَّ يَعْصُونَ الله } .
وقرأ بعضُهم « وأَهْلوكم » وخُرِّجَتْ على العطفِ على الضمير المرفوع ب « قُوا » وجَوَّزَ ذلك الفصلُ بالمفعولِ . قال الزمخشري بعد ذِكْرِهِ القراءةَ وتخريجَها : « فإنْ قلتَ : أليس التقديرُ : قُوا أنفسَكم ، ولْيَقِ أَهْلوكم أنفسكم؟ قلت : لا . ولكن المعطوفَ في التقديرِ مقارنٌ للواو ، و » أنفسَكم « واقعٌ بعده كأنَّه قيل : قُوا أنتم وأهلوكم أنفسَكم لمَّا جَمَعْتَ مع المخاطبِ الغائبَ غَلَّبْته [ عليه ] فجعَلْتَ ضميرَهما معاً على لفظِ المخاطبِ » . وتقدَّم الخلافُ في واو « وقود » ضماً وفتحاً في البقرة .
قوله : { مَآ أَمَرَهُمْ } يجوز أَنْ تكونَ « ما » بمعنى الذي ، والعائدُ محذوفٌ أي ما أَمَرَهموه ، والأصلُ : به . لا يُقال : كيف حَذَفَ العائدَ المجرورَ ولم يَجُرَّ الموصولَ بمثله؟ لأنه يَطَّردُ حَذْفُ هذا الحرفِ فلم يُحْذَفْ إلاَّ منصوباً ، وأن تكونَ مصدريةً ، ويكونَ مَحَلُّها بدلاً من اسمِ الله بدلَ اشتمالٍ ، كأنه قيل : لا يَعْصُون أَمْرَه .
وقوله : { وَيَفْعَلُونَ } قال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : أليسَتْ الجملتان في معنى واحدٍ؟ قلت : لا؛ لأن الأولى معناها : أنهم يتقبَّلون أوامرَه ويلتزمونها ، والثانيةَ معناها : أنهم يُؤَدُّون ما يؤمرون به ، لا يتثاقلون عنه ولا يَتَوانَوْن فيه » .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)

قوله : { نَّصُوحاً } : قرأ الجمهور بفتحِ النونِ ، وهي صيغةُ مبالغةٍ ، أسند النصحَ إليها مجازاً ، وهي مِنْ نَصَح الثوبَ أي : خاطه ، وكأنَّ التائبَ يُرَقِّع ما خرقه بالمعصية . وقيل : مِنْ قولِهم : « عسلٌ ناصِح » أي خالص . وأبو بكر بضم النون وهو مصدرٌ ل نَصَحَ يقال : نَصَحَ نُصْحاً ونُصوحاً نحو : كَفَرَ كُفْراً وكُفوراً ، وشَكَر شُكراً وشُكوراً . وفي انتصابِه أوجهٌ ، أحدُها : أنه مفعولٌ له أي : لأجلِ النصحِ الحاصلِ نفعُه عليكم . والثاني : أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ لفعلٍ محذوفٍ أي : ينصحُهم نُصْحاً . الثالث : أنه صفةٌ لها : إمَّا على المبالغةِ على أنها نفسُ المصدرِ أو على حَذْفِ مضافٍ أي ذاتَ نَصوحٍ .
وقرأ زيد بن علي « تَوْباً » دونَ تاءٍ .
قوله : { وَيُدْخِلَكُمْ } قراءةُ العامةِ بالنصبِ عطفاً على « يُكَفِّر » وابنُ أبي عبلة بسكون الراء ، فاحتمل أَنْ يكونَ من إجراء المنفصل مُجْرَى المتصل ، فسَكَنَتِ الكسرةُ؛ لأنه يُتَخيل من مجموع « يُكَفِّرَ عنكم » مثل : نِطَع وقِمَع فيقال فيهما : نِطْع وقِمْع . ويُحتمل أَنْ يكونَ عطفاً على محلِّ « عسى أَنْ يُكَفِّر » كأنه قيل : تُوبوا يُوْجبْ تكفيرَ سيئاتِكم ويُدْخِلْكم ، قاله الزمخشري ، يعني أنَّ « عسى » في محلِّ جزم جواباً للأمر؛ لأنه لو وقع موقعَها مضارع لا نجزم كما مَثَّل به الزمخشري ، وفيه نظرٌ؛ لأنَّا لا نُسَلِّمُ أنَّ « عسى » جوابٌ ، ولا تقع جواباً لأنها للإِنشاء .
قوله : { يَوْمَ لاَ يُخْزِى } منصوبٌ ب « يُدْخلكم » أو بإضمار اذكُرْ .
قوله : { والذين آمَنُواْ } يجوز فيه وجهان أحدُهما : / أن يكونَ مَنْسوقاً على النبيِّ [ أي ] : ولا يُخْزي الذين آمنوا . فعلى هذا يكون « نُورُهم يسعى » مستأنفاً أو حالاً . والثاني : أن يكونَ مبتدأ ، وخبره « نورُهم يَسْعى » و « يقولون » خبرٌ ثانٍ أو حال . وتقدَّم إعرابُ مثلِ هذه الجملِ في الحديد فعليك باعتبارِه . وتقدَّمَ إعرابُ ما بعدَها في براءة .
وقرأ أبو حَيْوَةَ وسهل الفهمي « وبإيمانهم » بكسر الهمزة ، وتقدَّم ذلك في الحديد .

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)

قوله : { ضَرَبَ الله مَثَلاً } : إلى آخره قد تَقَدَّم الكلامُ على « ضَرَبَ » مع المثل . وهل هي بمعنى صَيَّر أم لا؟ وكيف ينتصِبُ ما بعدها؟ في سورةِ النحلِ فأغنى ذلك عن إعادتِه هنا .
قوله : { كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ } جملةٌ مستأنفة كأنها مفسِّرةٌ لضَرْبِ المَثَلِ ، ولم يأتِ بضميرِها ، فيُقال : تحتَهما أي : تحتَ نوحٍ ولوطٍ ، لِما قُصِدَ مِنْ تَشْريفِهما بهذه الأوصافِ الشريفةِ :
4280 لا تَدْعُني إلاَّ ب « يا عبدَها » ... فإنَّه أشرفُ أسمائي
وليصِفَها بأجلِّ الصفاتِ وهو الصَّلاحُ .
قوله : { فَلَمْ يُغْنِيا } العامَّةُ بالياء مِنْ تحتُ أي : لم يُغْن نوحٌ ولوطٌ عن امرأتيهما شيئاً مِنْ الإِغناءِ مِنْ عذابِ الله .
وقرأ مبشر بن عبيد « تُغْنِيا » بالتاءِ مِنْ فوقُ أي : فلم تُغْنِ المرأتان عن أنفسِهما . وفيها إشكالٌ : إذ يلزمُ من ذلك تعدِّي فعل المضمرِ المتصل إلى ضميره المتصل في غيرِ المواضعِ المستثناةِ وجوابُه : أنَّ « عَنْ » هنا اسم كهي في قوله :
4281 دَعْ عنك نَهْباً صِيْحَ في حَجَراتِهِ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد تقدَّم لك هذا والاعتراضُ عليه بقوله : { وهزى إِلَيْكِ } [ مريم : 25 ] { واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ } [ القصص : 32 ] وما أُجيب به ثَمَّة .

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11)

قوله : { إِذْ قَالَتْ } : منصوبٌ ب « ضَرَبَ » وإنْ تأخر ظهورُ الضَّرْبِ ، ويجوز أَنْ ينتصِبَ بالمَثَل .
قوله : { عِندَكَ } يجوز تعلُّقُه ب ابنِ ، وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ « بيتاً » ، كان نعتَه ، فلما قُدِّم نُصِبَ حالاً . و « في الجنة » : إمَّا متعلِّقٌ ب « ابْنِ » وإمَّا بمحذوفٍ على أنه نعتٌ ل بيتاً .

وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)

قوله : { وَمَرْيَمَ } : عطفٌ على « امرأةَ فرعونَ » ضَرَب الله تعالى المَثَل للكافرين بامرأتَيْن وللمؤمنين بامرأتَيْن . وقال أبو البقاء : « ومريم أي : واذكر مريمَ . وقيل : ومَثَل مريمَ » انتهى . وهذا لا حاجةَ إليه مع ظهور المعنى الذي ذكرْتُه .
وقرأ العامَّةُ « ابنةَ » بنصب التاء . وأيوب السُّخْتياني بسكون الهاء وَصْلاً ، أَجْرى الوصلَ مُجْرى الوقفِ . والعامَّةُ أيضاً « فَنَفَخْنا فيه » أي : في الفَرْج . وعبد الله « فيها » أي : في الجُملة . وتقدَّم في الأنبياء مثله .
والعامَّةُ أيضاً « وصَدَّقَتْ » بتشديد الدال . ويعقوبُ وقتادةُ وأبو مجلز وعاصمٌ في روايةٍ بتخفيفِها أي : صَدَقَتْ فيما أخبرَتْ به من أمرِ عيسى عليه السلام . والعامَّة على « بكلمات » جمعاً . والحسن ومجاهد والجحدري « بكلمة » بالإِفراد . فقيل : المرادُ بها عيسى لأنه كلمة الله . وتقدَّم الخلافُ في كتابة « وكتبه » في أواخر البقرة . وقرأ أبو رجاء « وكُتْبِه » بسكون التاء وهو تخفيفٌ حسنٌ ، ورُوي عنه « وكَتْبِه » بفتح الكاف . قال أبو الفضل : مصدرٌ وُضِع مَوْضِعَ الاسمِ يعني : ومكتوبِه .
قوله : { مِنَ القانتين } يجوزُ في « مِن » وجهان ، أحدهما : أنها لابتداء الغاية . والثاني : أنها للتبعيضِ ، وقد ذكرهما الزمخشريُّ فقال : « ومِنْ للتبعيض . ويجوزُ أَنْ تكونَ لابتداء الغاية ، على أنَّها وُلِدَتْ من القانتين؛ لأنها من أعقابِ هارونَ أخي موسى عليهما السلام » . قال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : لِم قيل : » من القانتين « على التذكير؟ قلت : لأنَّ القُنوتَ صفةٌ تَشْمل منْ قَنَتَتْ من القبيلَيْن ، فغلَّب ذكورَه على إناثِه .

الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)

قوله : { لِيَبْلُوَكُمْ } : متعلِّقٌ ب « خَلَقَ » وقوله : « أيُّكم أحسنُ » قد تقدَّم مثلُه في أول هود . وقال الزمخشري هنا : « فإنْ قلتَ : مِن أين تعلَّقَ قولُه : { أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } بفعلِ البَلْوى؟ قلت : من حيث إنَّه تضمَّن معنى العلمِ ، فكأنه قيل : ليُعْلمَكم أيُّكم أحسنُ عملاً . وإذا قلتَ : عَلِمْتُه : أزيدٌ أحسن عملاً أم هو؟ كانت هذه الجملةُ واقعةً موقعَ الثاني مِنْ مفعولَيْه ، كما تقول : عَلِمْتُه هو أحسن عملاً . فإنْ قلتَ : أتُسَمِّي هذا تعليقاً؟ قلت : لا ، إنما/ التعليقُ ، أَنْ يقعَ بعده ما يَسُدُّ مَسَدَّ المفعولَيْن جميعاً ، كقولك : عَلِمْتُ أيُّهما عمروٌ ، وعلِمْتُ أزيدٌ منطلق؟ . ألا ترى أنه لا فَصْلَ بعد سَبْقِ أحدِ المفعولَيْن بين أَنْ يقَع ما بعده مُصَدَّراً بحرف الاستفهامِ وغيرَ مصدَّرٍ به . ولو كان تعليقاً لافترقَتِ الحالتان كما افترقتا في قولِك : عَلِمْتُ أزيد منطلِقٌ ، وعلمْتُ زيداً منطلقاً » .
قلت : وهذا الذي مَنَعَ تسميتَه تعليقاً سَمَّاه به غيرُه ، ويجعلون تلك الجملةَ في محلِّ ذلك الاسمِ الذي يتعدَّى إليه ذلك الفعلُ ، فيقولون في « عَرَفْت أيُّهم منطلقٌ » : إنَّ الجملةَ الاستفهاميةَ في محلِّ نصبٍ لسَدِّها مَسَدَّ مفعولِ « عَرَفْتُ » وفي « نَظَرْتُ أيُّهم منطلقٌ » : إن الجملةَ في محلِّ نصبٍ على إسقاطِ الخافض؛ لأنَّ « نظر » يتعدَّى به .

الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3)

قوله : { الذي خَلَقَ } : يجوزُ أَنْ يكونَ تابعاً للعزيز الغفور نعتاً أو بياناً أو بدلاً ، وأَنْ يكونَ منقطِعاً عنه خبرَ مبتدأ ، أو مفعولَ فعلٍ مقدرٍ .
قوله : { طِبَاقاً } صفةٌ ل « سبعَ » وفيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه جمعُ طَبَق نحو : جَبَل وجِبال . والثاني : أنه جمعُ طَبَقة نحو : رَقَبة ورِقاب . والثالث : أنه مصدرُ طابَقَ يقال : طابقَ مُطابقة وطِباقاً . ثم : إمَّا أَنْ يجعلَ نفسَ المصدرِ مبالغةً ، وإمَّا على حَذْفِ مضافٍ أي : ذاتَ طباق ، وإمَّا أَنْ ينتصِبَ على المصدرِ بفعلٍ مقدرٍ أي : طُوْبِقَتْ طباقاً مِنْ قولِهم : طابَقَ النعلَ أي : جعله طبقةً فوق أخرى .
قوله : { مِن تَفَاوُتٍ } هو مفعولُ « تَرَى » و « مِنْ » مزيدةٌ فيه . وقرأ الأخَوان « تَفَوُّتٍ » بتشديدِ الواوِ دون ألفٍ . والباقون بتخفيفها بعد ألفٍ ، وهما لغتان بمعنىً واحدٍ كالتعهُّد والتعاهد ، والتظهُّر والتظاهُر . وحكى أبو زيد « تفاوَتَ الشيءُ تفاوُتاً بضم الواو وفتْحِها وكسرِها ، والقياسُ الضمّ كالتقابُل ، والفتحُ والكسرُ شاذان . والتفاوُت : عدمُ التناسُبِ؛ لأنَّ بعض الأجزاءِ يَفُوت الآخَرَ . وهذه الجملةُ المنفيةُ صفةٌ مُشايعةٌ لقولِه : » طباقاً « وأصلُها : ما ترى فيهنَّ ، فوضَع مكانَ الضميرِ قوله : { خَلْقِ الرحمن } تعظيماً لخلقِهنَّ وتنبيهاً على سببِ سلامَتهن ، وهو أنه خَلْقُ الرحمن ، قاله الزمخشريُّ ، وظاهر هذا : أنه صفةٌ ل » طباقاً « ، وقام الظاهرُ فيها مَقامَ المضمرِ ، وهذا إنما نعرِفُه في خبرِ المبتدأ ، وفي الصلةِ ، على خلافٍ فيهما وتفصيلٍ .
وقال الشيخ : » الظاهرُ أنه مستأنَفٌ « وليس بظاهرٍ لانفلاتِ الكلامِ بعضِه من بعض .
و » خَلْق « مصدرٌ مضافٌ لفاعِله ، والمفعولُ محذوفٌ أي : في خَلْقِ الرحمنِ السماواتِ ، أو كلَّ مخلوقٍ ، وهو أَوْلى ليعُمَّ ، وإن كان السياقُ مُرْشِداً للأول .
قوله : { فارجع } مُتَسَبِّبٌ عن قولِه : » ما تَرَى « و » كرَّتَيْن « نصبٌ على المصدرِ كمرَّتَيْن ، وهو مثنى لا يُراد به حقيقتُه ، بل التكثيرُ ، بدليلِ قولِه : { يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ } أي : مُزْدجراً وهو كليلٌ ، وهذان الوصفان لا يأتيان بنظرتَيْن ولا ثلاثٍ ، وإنما المعنى كرَّات ، وهذا كقولهم : » لَبَّيْك وسَعْديك وحنانَيْك ودَواليك وهذاذَيْك لا يُريدون بهذه التثنيةِ شَفْعَ الواحدِ ، إنما يريدون التكثيرَ أي : إجابةً لك بعد أخرى ، وإلاَّ تناقَضَ الغرضُ ، والتثنيةُ تفيدُ التكثيرَ لقرينةٍ كما يُفيده أصلُها ، وهو العطفُ لقرينةٍ كقولِه :
4282 لو عُدَّ قبرٌ كنتَ أكرَمَهم ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أي : قبول كثيرة ليتِمَّ المَدْحُ . وقال ابن عطية : « كَرَّتَيْن معناه مَرَّتَيِن ، ونصبُها على المصدرِ » . وقيل : الأُوْلى ليُرى حُسْنُها واستواؤُها ، والثانية لتُبْصَرَ كواكبُها في سَيْرها وانتهائِها ، وهذا تظاهُرٌ يُفْهِمُ التثنية فقط .
قوله : { هَلْ ترى مِن فُطُورٍ } هذه الجملةُ يجوز أن تكونَ مُعَلِّقَةً لفعلٍ محذوفٍ يَدُلُّ عليه « فارْجِعِ البصر » أي : فارْجِعِ البصرَ فانظر : هل ترى ، وأَنْ يكونَ « فارجعِ البصر » مضمَّناً معنى انظر؛ لأنه بمعناه ، فيكونُ هو المعلَّق . وأدغَم أبو عمرو لامَ « هل » في التاء هنا ، وفي الحاقة وأَظْهرها الباقون ، وهو المشهورُ في اللغة .
والفُطور : الصُّدوع والشُّقوق قال :
4283 شَقَقْتُ القلب ثم ذَرَرْتُ فيه ... هواكِ فَلِيْطَ فالتأَمَ الفُطورُ

ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)

قوله : { يَنْقَلِبْ } : العامَّةُ بجزمِه على جوابِ الأمر ، والكسائي/ في روايةٍ برفعِه ، وفيه وجهان ، أحدهما : أَنْ تكونَ حالاً مقدرة . والثاني : أنه على حذفِ الفاءِ أي : فينقلِبْ . وخاسِئاً . حال وقوله : « وهو حسيرٌ » حال : إمَّا مِنْ صاحبِ الأولى ، وإمَّا من الضمير المستتر في الحالِ قبلَها ، فتكونُ متداخلةٌ . وقد تقدَّم مادتا « خاسئاً » و « حسيراً » في المؤمنين والأنبياء .

وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5)

قوله : { الدنيا } : [ يعني ] منكم؛ لأنَّها فُعْلَى تأنيثُ أَفْعَلِ التفضيلِ . و « جَعَلْناها » يجوزُ في الضميرِ وجهان ، أحدُهما : أنه عائدٌ على « مَصابيحَ » وهو الظاهر . قيل : وكيفيةُ الرَّجْم : أَنْ يُؤْخَذَ نارٌ من ضوءِ الكوكبِ ، يُرْمى به الشيطانُ والكوكبُ في مكانِه لا يُرْجَمُ به . والثاني : أنَّ الضميرَ يعودُ على السماء والمعنى : منها ، لأنَّ السماءَ ذاتَها ليست للرُّجوم ، قاله الشيخ . وفيه نظرٌ لعدمِ ظهورِ عَوْدِ الضميرِ على السماءِ . والرُّجوم : جمعُ رَجْم وهو مصدرٌ في الأصل ، أُطْلِقَ على المَرْجوم به كضَرْبِ الأميرِ ، ويجوزُ أَنْ يكونَ باقياً على مصدريتِه ، ويُقَدَّرُ مُضافٌ أي : ذاتُ رُجوم . وجَمْعُ المصدرِ باعتبارِ أنواعِه ، فعلى الأولِ يتعلَّقُ قولُه : « للشياطين » بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل رُجوماً ، وعلى الثاني لا تعلُّقَ له لأنَّ اللامَ مزيدةٌ في المفعول به ، وفيه دلالةٌ حينئذٍ على إعمالِ المصدرِ منوناً مجموعاً . ويجوزُ أَنْ يكونَ صفةً له أيضاً كالأولِ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ . وقيل : الرُّجومُ هنا : الظنونُ والشياطينُ شياطينُ الإِنْسِ ، كما قال :
4283 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وما هو عنها بالحديثِ المُرَجَّمِ

وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6)

قوله : { وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ } : خبرٌ مقدَّمٌ في قراءةِ العامَّةِ ، و « عذابُ جهنَم » مبتدَؤُه . وفي قراءةِ الحسن والضحاك والأعرج بنصبهِ متعلِّقٌ ب « أَعْتَدْنا » عطفاً على « لهم » ، و « عذابَ جهنمَ » عطفٌ على « عذابَ السعير » فعطَفَ منصوباً على منصوب ، ومجروراً على مجرورٍ ، وأعاد الخافضَ؛ لأنَّ المعطوفَ عليه ضميرٌ . والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ أي : وبئسَ المصيرُ مَصيرُهم ، أو عذابُ جهنم ، أو عذابُ السعير .

إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7)

قوله : { لَهَا } : متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ « شهيقاً » لأنه في الأصلِ صفتُه . ويجوزُ أَنْ يكونَ على حَذْفِ مضافٍ أي : سمعوا لأهلها . و « وهي تفور » جملةٌ حاليةٌ .

تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8)

قوله : { تَمَيَّزُ } : هذه قراءةُ العامَّةِ بتاءٍ واحدةٍ مخففةٍ . والأصلُ : تتميَّزُ بتاءَيْن وبها قرأ طلحةُ والبزيُّ عن ابنِ كثير بتشديدها ، أدغم إحدى التاءَيْن في الأخرى ، وهي قراءةٌ حسنةٌ لعدمِ التقاء ساكنين ، بخلافِ قراءتِه { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ } [ النور : 15 ] و { نَاراً تلظى } [ الليل : 14 ] وبابِه . وأبو عمرو يُدْغِمُ الدالَ في التاءِ على أصلِه في المتقارَبيْنِ . وقرأ الضحاك « تمايَزُ » والأصل : تتمايَزُ بتاءَيْن فَحَذَفَ إحداهما . وزيد بن علي « تَمِيْزُ » مِنْ ماز ، وهذا كلُّهُ استعارةٌ مِنْ قولِهم : تميَّز فلان من الغيظِ أي : انفصلَ بعضُه من بعض من الغيظ ف « مِنْ » سببيَّةٌ أي : بسببِ الغَيْظِ . ومثلُه [ قولُ الراجزِ ] في وصف كَلْبٍ اشتدَّ عَدْوُه :
4285 يكادُ أَنْ يخرجَ مِنْ إهابِهْ ... قوله : { كُلَّمَا أُلْقِيَ } قد تقدَّم الكلامُ على « كلما » وهذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكونَ حالاً مِنْ ضميرِ جهنَّم .

قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9)

قوله : { بلى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ } : فيه دليلٌ على جوازِ الجمعِ بين حرفِ الجوابِ ونفسِ الجملةِ المجابِ بها ، إذ لو قالوا : بلى لَفُهِمَ المعنى ، ولكنهم أظهروه تَحَسُّراً وزيادةً في تَغَمُّمِهم على تفريطهِم في قبولِ قولِ النذيرِ ولِيَعْطِفوا عليه قولهم : « فكذَّبْنا » إلى آخره .
وقوله : { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ } ظاهرُه أنه مِنْ مقولِ الكفارِ للنذير . وجوَّزَ الزمخشريُّ أَنْ يكونَ مِنْ كلامِ الرسلِ للكفرةِ ، وحكاه الكفرةُ للخَزَنَةِ أي : قالوا لنا هذا فلم نَقْبَلْه .

فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)

وقوله : { بِذَنبِهِمْ } : وحدَه لأنه مصدرٌ في الأصلِ ، ولم يَقْصِدِ التنويعَ بخلافِ « بذنوبهم » في مواضعَ .
قوله : { فَسُحْقاً } فيه وجهان أحدُهما : أنَّه منصوبٌ على المفعولِ به أي : ألزَمَهم اللَّهُ سُحْقاً . والثاني : أنَّه منصوبٌ على المصدرِ تقديرُه : سَحَقَهم اللَّهُ سُحْقاً ، فناب المصدرُ عن عامِله في الدُّعاءِ نحو : جَدْعاً له وعَقْراً ، فلا يجوزُ إظهارُ عامِلِه . / واختلف النحاة : هل هو مصدرٌ لفعلٍ ثلاثيّ أم لفعلٍ رباعي فجاء على حَذْفِ الزوائدِ؟ فذهب الفارسيُّ والزجَّاجُ إلى أنه مصدرُ أسْحَقَه اللَّهُ أي : أبعَدَه . قال الفارسي : « فكان القياسُ إسْحاقاً ، فجاء المصدرُ على الحَذْفِ كقوله :
4286 فإن أَهْلِكْ فذلك كان قَدْري ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أي تقديري . والظاهرُ أنه لا يُحتاج لذلك؛ لأنه سُمع : سَحَقه اللَّهُ ثلاثياً . وفيه قولُ الشاعر :
4287 يجولُ بأطرافِ البلادِ مُغَرِّباً ... وتَسْحَقُه ريحُ الصَّبا كلَّ مَسْحَقِ
والذي يظهرُ أنَّ الزجَّاج والفارسيَّ إنما قالا ذلك فيَمْن يقولُ مِن العربِ أَسْحقه الله سُحْقاً .
وقرأ العامَّةُ بضمةٍ وسكونٍ ، والكسائيُّ في آخرَين بضمتين ، وهما لغتان . والأحسنُ أَنْ يكونَ المثقَّلُ أصلاً للخفيفِ . و [ قوله ] » لأصحاب « بيانٌ ك { هَيْتَ لَكَ } [ يوسف : 23 ] وسَقْياً لك . وقال مكي : » والرفعُ يجوز في الكلامِ على الابتداء « أي : لو قيل : » فَسُحْقٌ « جاز لا على أنه تلاوةٌ بل من حيث الصناعةُ ، إلاَّ أنَّ ابنَ عطيةَ قد قال ما يُضَعِّفُه ، فإنه قال : » فسُحْقاً نصباً على جهةِ الدعاءِ عليهم ، وجازَ ذلك فيه وهو مِنْ قِبل اللَّهِ تعالى من حيثُ هذا القولُ ، فيهم مستقرٌ أَوَّلاً ، ووجودُه لم يَقَعْ ، ولا يَقَعُ إلاَّ في الآخِرة ، فكأنه لذلك في حَيِّز المتوقَّع الذي يُدَّعَى فيه كما تقول : « سُحْقاً لزيدٍ ، وبُعْداً له » والنصبُ في هذا كلِّه بإضمار فعلٍ ، وأما ما وَقَعَ وثَبَتَ فالوجهُ فيه الرفعُ ، كما قال تعالى : { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ } [ المطففين : 1 ] { سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [ الرعد : 24 ] وغيرُ هذا مِن الأمثلة « انتهى . فضعَّفَ الرفعَ كما ترى لأنه لم يَقَعْ بل هو متوقَّعٌ في الآخرةِ .

إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)

قوله : { لَهُم مَّغْفِرَةٌ } : الأحسنُ أَنْ يكونَ الخبر « لهم » و « مغفرةٌ » فاعلٌ به؛ لأن الخبرَ المفرد أصلٌ ، والجارُّ من قبيل المفرداتِ أو أقربُ إليها .

أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)

قوله : { مَنْ خَلَقَ } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنه فاعلُ « يَعْلَمُ » والمفعول محذوفٌ تقديرُه : ألا يعلم الخالقُ خَلْقَه ، وهذا هو الذي عليه جمهورُ الناسِ وبه بدأ الزمخشريُّ . والثاني : أنَّ الفاعلَ مضمرٌ يعود على الباري سبحانه وتعالى ، و « مَنْ » مفعولٌ به أي : ألا يعلمُ اللَّهُ مَنْ خَلَقَه . قال الشيخ : « والظاهر أن » مَنْ « مفعولٌ ، والمعنى : أينتفي علمُه بمَنْ خَلَقَه ، وهو الذي لَطَفَ عِلْمُه ودَقَّ » ثم قال : « وأجاز بعضُ النَّحْويين أَنْ يكون » مَنْ « فاعلاً والمفعولُ محذوفٌ ، كأنه قال : ألا يعلَم الخالقُ سِرَّكم وجهرَكم ، وهو استفهامٌ ، معناه الإِنكار » . قلت : وهذا الوجهُ الذي جَعَلَه هو الظاهر يَعْزِيه الناسُ لأهلِ الزَّيْعِ والبِدَعِ الدافِعين لعمومِ الخَلْق لله تعالى .
وقد أَطْنَبَ مكي في ذلك ، وأنكر على القائلِ به ونسبه إلى ما ذكرتُ فقال : « وقد قال بعضُ أهلِ الزَّيْغِ : إن » مَنْ « في موضع نصبٍ اسمٌ للمُسِرِّين والجاهرين لَيُخْرَجَ الكلامُ عن عمومِه ويُدْفَعَ عمومُ الخَلْقِ عن الله تعالى ، ولو كان كما زعم لقال : ألا يعلمُ ما خلق لأنه إنما تقدَّم ذِكْرُ ما تُكِنُّ الصدورُ فهو في موضعِ » ما « ولو أَتَتْ » ما « في موضعِ » مَنْ « لكان فيه أيضاً بيانُ العموم : أنَّ اللَّهَ خالقُ كلِّ شيءٍ مِنْ أقوال الخلقِ أَسَرُّوها أو أظهرُها خيراً كانَتْ أو شرّاً ، ويُقَوِّي ذلك { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } ، ولم يقلْ : عليمٌ بالمُسِرِّين والمجاهرين وتكون » ما « في موضع نصب ، وإنما يُخْرِجُ الآيةَ مِنْ هذا العموم إذا جَعَلْتَ » مَنْ « في موضعِ نصبٍ اسماً للأُناسِ المخاطبين قَبْلَ هذه الآيةِ ، وقوله : » بذات الصدورِ « يمنعُ مِنْ ذلك » انتهى . ولا أَدْري كيف يَلْزَمُ ما قاله مكيٌّ بالإِعرابِ الذي ذكره والمعنى الذي أبداه؟ وقد قال بهذا القولِ أعني الإِعرابَ الثاني جماعةٌ من المحققين ولم يُبالوا بما ذكرَه لعَدَمِ إفهامِ الآية إياه .
وقال الزمخشري بعد كلامٍ ذكرَه : « ثم أنكر ألاَّ يُحيط علماً بالمُضْمَر والمُسَرِّ والمُجْهَرِ مَنْ خلق الأشياء ، وحالُه أنه/ اللطيفُ الخبيرُ المتوصِّلُ عِلْمُه إلى ما ظَهَر وما بَطَن . ويجوز أَنْ يكون » مَنْ خَلَقَ « منصوباً بمعنى : ألا يعلَمُ مَخْلوقَه ، وهذه حالُه » ثم قال : « فإنْ قلتَ : قَدَّرْتَ في » ألا يَعْلَمُ « مفعولاً على معنى : ألا يعلمُ ذلك المذكورَ مِمَّا أُضْمِر في القلب وأُظْهِر باللسان مَنْ خلق؟ فهلا جَعَلْتَه مثلَ قولِهم : » هو يُعْطي ويمنع « ، وهلا كان المعنى : ألا يكونُ عالماً مَنْ هو خالقٌ لأن الخالقَ لا يَصِحُّ إلاَّ مع العِلْم؟ قلت : أبَتْ ذلك الحالُ التي هي قولُه : { وَهُوَ اللطيف الخبير } لأنَّك لو قلتَ : ألا يكون عالماً مَنْ هو خالقٌ وهو اللطيفُ الخبيرُ لم يكن معنى صحيحاً؛ لأنَّ » ألا يَعْلَمُ « معتمِدٌ على الحالِ والشيءُ لا يُوَقَّتُ بنفسِهِ ، فلا يقال : » ألا يعلَمُ وهو عالمٌ ، ولكن ألا يعلم كذا ، وهو عالمٌ بكلِّ شيءٍ « .

هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)

قوله : { ذَلُولاً } : مفعولٌ ثانٍ ، أو حالٌ . وذَلول فَعُول للمبالغةِ مِنْ ذَلَّ يَذِلُّ فهو ذالٌّ كقوله : دابَّةٌ ذَلولٌ بَيِّنَةُ الذَّلِّ بالكسرِ ، ورجلٌ ذَلُولٌ بَيِّنُ الذُّلِّ بالضم . وقال ابن عطية : « ذلول فَعُول بمعنى مَفْعول أي : مَذْلولة ، فهي ك رَكوب وحَلوب » . قال الشيخ : « وليس بمعنى مَفْعول لأنَّ فِعْلَه قاصِرٌ ، وإنما يُعَدَّى بالهمزةِ كقوله تعالى : { وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ } [ آل عمران : 26 ] أو بالتضعيفِ كقولِه : { وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ } [ يس : 72 ] ، وقولُه : » أي مَذْلولة « يظهر أنَّه خطأٌ » . انتهى يعني : حيث استعمل اسمَ المفعولِ تامَّاً مِنْ فِعْلٍ قاصرٍ ، وهي مناقشةٌ لفظيةٌ .
قوله : { مَنَاكِبِهَا } استعارةٌ حسنة جداً . وقال الزمخشري : « مَثَلٌ لِفَرْطِ التذليل ومجاوَزَتِهِ الغايةَ؛ لأن المَنْكِبَيْن وملتقاهما من الغارِبِ أرقُّ شيءٍ مِن البعير وأَنْبأه عن أَنْ يطأَه الراكبُ بقدمِه ويَعْتمد عليه ، فإذا جعلها في الذُّلِّ بحيث يُمشَى في مناكبها لم يَتْرُكْ » .

أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16)

قوله : { أَأَمِنتُمْ } : قد تقدَّم اختلافُ القراءِ في الهمزَتَيْن المفتوحتين نحو { أَأَنذَرْتَهُمْ } [ البقرة : 6 ] تحقيقاً وتخفيفاً وإدخالِ ألفٍ بينهما وعَدَمِه في البقرة ، وأن قُنْبلاً يَقرأ هنا بإبدالِ الهمزة الأولى واواً في الوصل . فيقول : { وَإِلَيْهِ النشور } و { أَمِنْتُمْ } وهو على صلِه مِنْ تسهيلِ الثانيةِ بينَ بينَ وعَدَمِ ألفٍ بينهما ، وأمَّا إذا ابتدأ فيُحقِّق الأولى ويُسَهِّلُ الثانيةَ بينَ بينَ على ما تقدَّم ، ولم يُبْدل الأولى واواً لزوالِ مُوجِبه وهو انضمامُ ما قبلها وهي مفتوحةٌ نحو : مُوَجَّل ويُواخِذُكم ، وهذا قد مضى في سورة الأعراف عند قولِه : { قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ } [ الأعراف : 123 ] وإنما أَعَدْتُه بياناً وتذكيراً .
قوله : { مَّن فِي السمآء } ، مفعولُ « أَمِنْتُم » ، وفي الكلامِ حَذْفُ مضافٍ أي : أمِنْتُمْ خالقَ مَنْ في السماوات . وقيل : « في » بمعنى على أي : على السماء ، وإنما احتاج القائلُ بهذَيْن إلى ذلك لأنه اعتقد أن « مَنْ » واقعةٌ على الباري تعالى وهو الظاهرُ ، وثَبَتَ بالدليل القطعيِّ أنه ليس بمتحيِّزٍ لئلا يلزَمَ التجسيمُ . ولا حاجةَ إلى ذلك فإن « مَنْ » هنا المرادُ بها الملائكةُ سكانُ السماء ، وهم الذين يَتَوَلَّوْن الرحمة والنِّقْمة . وقيل : خُوطبوا بذلك على اعتقادِهم ، فإنَّ القومَ كانوا مُجَسِّمة مشبِّهَةً ، والذي تقدَّم أحسنُ .
وقوله : { أَن يَخْسِفَ } و « أَنْ يرسلَ » فيه وجهان ، أحدُهما : أنهما بدلان مِنْ « مَنْ في السماء » بَدلُ اشتمال ، أي : أَمِنْتُمْ خَسْفَه وإرسالَه ، كذا قاله أبو البقاء . والثاني : أَنْ يكونَ على حَذْفِ « مِنْ » أي : أَمِنْتُم مِنَ الخَسْفِ والإِرسالِ ، والأولُ أظهرُ . وقد تقدَّم أنَّ « نذير » « ونكير » مصدران بمعنى الإِنكار والإِنذار . وأثبت ورش يا « نَذيري » وَقْفاً وحذَفَها وَصْلاً ، وحَذَفَها الباقون في الحالَيْن .

أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)

قوله : { صَافَّاتٍ } : يجوز أَنْ يكونَ حالاً مِن « الطير » وأَنْ يكونَ حالاً مِن ضمير « فوقَهم » إذا جَعَلْناه حالاً فتكونُ متداخِلةً . و « فوقَهم » ظرفٌ لصافَّات على الأولى أو ل « يَرَوْا » .
قوله : { وَيَقْبِضْنَ } عَطَفَ الفعلَ على الاسمِ لأنَّه بمعناه أي : وقابضاتٍ ، فالفعلُ هنا مؤولٌ بالاسمِ عكسَ قولِه : { إِنَّ المصدقين والمصدقات وَأَقْرَضُواْ } [ الحديد : 18 ] فإن الاسمَ هناك مؤولٌ بالفعلِ . وقد تقدَّم الاعتراضُ على ذلك . وقولُ أبي البقاء : « معطوفٌ على اسم الفاعل ، حَمْلاً على المعنى أي : يَصْفِفْنَ ويَقْبِضْنَ أي : صافَّاتٍ وقابِضاتٍ » لا حاجةَ إلى تقديره : يَصْفِفْنَ ويَقْبَضْنَ؛ لأن الموضعَ للاسمِ فلا نُؤَوِّلُه بالفعل . وقال الشيخ : « وعَطَفَ الفعلَ على الاسم/ لمَّا كان في معناه ، ومثلُه قولُه تعالى : { فالمغيرات صُبْحاً فَأَثَرْنَ } [ العاديات : 3-4 ] عطفَ الفعلَ على الاسم لمَّا كان المعنى : فاللاتي أغَرْنَ فأَثَرْنَ ، ومثلُ هذا العطفِ فصيحٌ وكذا عكسُه ، إلاَّ عند السهيليِّ فإنه قبيحٌ نحو قوله :
4288 بات يُغَشِّيها بعَضْبٍ باترٍ ... يَقْصِدُ في أسْوُقِها وجائِرُ
أي : قاصدٌ في أَسْوُقِها وجائر » انتهى ، هو مثلُه في عطفِ الفعلِ على اسمٍ ، إلاَّ أنَّ الاسمَ فيه مؤولٌ بالفعلِ عكسَ هذه الآيةِ . ومفعولُ « يَقْبِضْنَ » محذوفٌ أي : ويَقْبِضْنِ أجنحتَهُنَّ ، قاله أبو البقاء ولم يُقَدِّرْ ل « صافَّاتٍ » مفعولاً كأنه زَعَمَ أنَّ الاصطفافَ في أنفسِها أي : مصطفَّةً . والظاهرُ أنَّ المعنى : صافَّاتٍ أجنحتَها وقابضَتَها ، فالصَّفُّ والقَبْضُ منها لأجنحتِها .
وكذلك قال الزمخشريُّ : « صافَّاتٍ باسِطاتٍ أجنحتَهن » ثم قال : « فإنْ قلتَ لِمَ قال : ويقبضْنَ ولم يَقُلْ : وقابضاتٍ؟ قلت : لأنَّ الطيرانَ هو صَفُّ الأجنحةِ؛ لأنَّ الطيرانَ في الهواءِ كالسِّباحةِ في الماءِ ، والأصلُ في السباحةِ مَدُّ الأطرافِ وبَسْطُها ، وأمَّا القَبْضُ فطارِىءٌ على البَسْطِ للاستظهارِ به على التحرُّكِ ، فجيء بما هو طارِىءٌ غيرُ أصلٍ بلفظِ الفعلِ على معنى أنَّهن صافاتٌ ، ويكونُ منهنَّ القَبْضُ تارةً بعد تارةً ، كما يكون من السَّابح » .
قوله : { مَا يُمْسِكُهُنَّ } يجوزُ أَنْ تكونَ الجملةُ مستأنفةً ، وأن تكونَ حالاً من الضمير في « يَقْبِضْنَ » قاله أبو البقاء ، والأولُ هو الظاهرُ . وقرأ الزهري بتشديدِ السينِ .

أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20)

قوله : { أَمَّن } : العامَّةُ بتشديد الميمِ على إدغامِ ميم « أم » في ميم « مَنْ » ، و « أم » بمعنى بل؛ لأنَّ بعدها اسمَ استفهامٍ ، وهو مبتدأٌ ، خبرُه اسمُ الإِشارة . وقرأ طلحة بتخفيفِ الأولِ وتثقيل الثاني قال أبو الفضل : « معناه أهذا الذي هو جندٌ لكم أم الذي يَرْزُقكم » . و « يَنْصُرُكم » صفةٌ لجند .

أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21)

قوله : { إِنْ أَمْسَكَ } : شرطٌ جوابُه محذوفٌ للدلالةِ عليه أي : فَمَنْ يَرْزُقكم غيرُه؟ وقدَّر الزمخشريُّ شرطاً بعد قولِه : « أمَّن هذا الذي هو جندٌ لكم ، تقديرُه : إنْ أَرْسَلَ عليكم عذابَه . ولا حاجةَ له صناعةً .

أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)

قوله : { مُكِبّاً } : حالِ مِنْ فاعلِ « يَمْشي » . و « أَكَبَّ » مطاوعُ كَبَّه يقال : كَبَبتُه فَأَكَبَّ . قال الزمخشري : « هو من الغرائبِ والشواذ ونحوُه : قَشَعَتِ الريحُ السَّحابَ فأَقْشَع ، ولا شيءَ من بناءِ أَفْعلَ مطاوعاً ، ولا يُتْقِنُ نحو هذا إلاَّ حَمَلَةُ كتابِ سيبويهِ ، وإنما أكَبَّ ، مِنْ بابِ أَنْفَضَ وأَلام ، ومعناه : دَخَلَ في الكَبِّ وصار ذا كبٍّ ، وكذلك أقْشَعَ السحابُ : دَخَلَ في القَشْعِ ، ومطاوعُ كَبَّ وقَشَع انكبَّ وانْقَشَعَ » .
قال الشيخ « : » ومُكِبّاً « حالٌ مِنْ » أكبَّ « وهو لا يتعدَّى ، وكَبَّ متعدٍ قال تعالى : { فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار } [ النمل : 90 ] والهمزةُ للدخولِ في الشيءِ أو للصيرورةِ ومطاوعُ كَبَّ : انْكَبَّ . تقول : كَبَبْتُه فانكَبَّ . قال الزمخشري : » ولا شيءَ مِنْ بناءِ أَفْعَل « إلى قوله : كتاب سيبويه » انتهى ، وهذا الرجلُ كثيرُ التبجُّح بكتاب سيبويهِ ، وكم مِنْ نَصٍّ في كتابِ سيبويه عَمي بَصَرُه وبصيرتُه عنه ، حتى إن الإِمامَ أبا الحجاج يوسفَ بن معزوزٍ صَنَّف كتاباً ، يذكر فيه ما غَلِطَ الزمخشريُّ فيه وما جَهِله من كتاب سيبويه « . انتهى ما قاله الشيخُ .
وانظر إلى هذا الرجلِ : كيف أخَذَ كلامَه الذي أَسْلَفْتُه عنه ، طَرَّزَ به عبارتَه حرفاً بحرف ، ثم أخذ يُنْحي عليه بإساءةِ الأدب ، جزاءَ ما لَقَّنه تِلك الكلماتِ الرائعةَ وجعله يقول : إن مطاوِعَ كَبَّ انْكَبَّ لا أكَبَّ وإن الهمزةَ في أكَبَّ للصيرورةِ ، أو للدخولِ في الشيء ، وبالله لو بَقِي دهرَه غيرَ مُلَقَّنٍ إياها لما قالها أبداً ، ثم أخذ يذكُر عن إنسانٍ مع أبي القاسم كالسُّها مع القمر أنَّه غَلَّطه في نصوصِ كتابِ سيبويه ، اللَّهُ أعلمُ بصحتِها . [ قال الشاعر : ]
4289 وكم مِنْ عائبٍ قولاً صحيحاً ... وآفَتُهُ من الفَهْمِ السَّقيمِ
وعلى تقديرِ التسليمِ فالفاضلُ مَنْ عدَّتْ سَقَطاتُه .
وقوله : { أَمَّن يَمْشِي } هو المعادِلُ ل { أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً } . وقال أبو البقاء : و » أَهْدَى « خبرُ » مَنْ يمشي « ، وخبرُ » مَنْ « الثانيةِ محذوفٌ » يعني : أنَّ الأصلَ : أمَّنْ يمشي سويَّاً أَهْدى ، ولا حاجة إلى ذلك ، لأنَّ قولَه : « أزيدٌ قائمٌ أم عمروٌ » لا يُحتاج فيه من حيث الصناعةُ إلى حَذْفِ الخبرِ ، بل تقولُ : هو معطوفٌ على « زيد » عَطْفَ المفرداتِ ، ووحَّد الخبرَ لأنَّ « أم » لأحدِ الشيئين .

قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23)

قوله : { قَلِيلاً } : نعتُ مصدرٍ محذوفٍ أو حالٌ من ضميرِ المصدرِ كما هو رَأْيُ سيبويه و « ما » مزيدةٌ أي : تَشْكرون قليلاً . والجملةُ من « تَشْكرون » : إمَّا مستأنفةٌ ، وهو الظاهرُ ، وإمَّا حالٌ مقدرةٌ لأنهم حالَ الجَعْلِ غيرُ شاكرين . والمرادُ بالقِلَّة/ العَدَمُ أو حقيقتُها .

فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)

قوله : { رَأَوْهُ } : أي : الموعودَ أو العذابَ زُلْفَةً أي : قريباً ، فهو حالٌ ولا بُدَّ مِن حَذْفِ مضافٍ أي : ذا زُلْفَةٍ ، أو جُعِل نفسَ الزُّلْفَةِ مبالغةً . وقيل : « زُلْفَةً » تقديرُه : مكاناً ذا زُلْفَةٍ فينتصِبُ انتصابَ المصدرِ .
قوله : { سِيئَتْ } الأصلُ : ساء أي : أحزنَ وجوهَهم العذابُ ورؤيتُه . ثم بُنِي للمفعول . و « ساء » هنا ليسَتْ المرادِفَةَ ل « بِئْسَ » كما عَرَفْتَه فميا تقدَّم غيرَ مرةٍ . وأَشَمَّ كسرةَ السينِ الضمَّ نافعٌ وابنُ عامرٍ والكسائيُّ ، كما فعلوا ذلك في { سياء بِهِمْ } [ هود : 77 ] في هود ، وقد تقدَّم ، والباقون بإخلاصِ الكسرِ ، وقد تقدَّم في أولِ البقرةِ تحقيقُ هذا وتصريفُه ، وأنَّ فيه لغاتٍ ، عند قوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } [ البقرة : 11 ] .
قوله : { تَدَّعُونَ } العامَّةُ على تشديدِ الدالِ مفتوحةً . فقيل : من الدَّعْوى أي : تَدَّعُون أنه لا جنةَ ولا نارَ ، قاله الحسن . وقيل : من الدعاءِ أي : تَطْلبونه وتستعجلونه . وقرأ الحسن وقتادة وأبو رجاء والضحاك ويعقوبُ وأبو زيدٍ وابنُ أبي عبلةَ ونافعٌ في روايةِ الأصمعيِّ بسكونِ الدالِ ، وهي مؤيِّدَةٌ للقولِ : إنَّها من الدعاء في قراءةِ العامَّة .

قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29)

قوله : { آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا } : تقدَّم : لِمَ أُخِّر متعلَّقُ الإِيمانِ ، وقُدِّمَ مُتَعَلَّقُ التوكلِ؟ وأنَّ التقديمَ يُفيدُ الاختصاصَ . وقرأ الكسائيُّ « فسيَعْلمون » بياءِ الغَيْبة نظراً إلى قَولِه : « الكافرين » . والباقون بالخطاب : إمَّا على الوعيدِ ، وإمَّا على الالتفاتِ من الغَيْبة المرادةِ في قراءةِ الكسائيِّ .

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)

قوله : { غَوْراً } : خبرُ « أصبح » وجَوَّز أبو البقاء أَنْ يكونَ حالاً على تمامِ « أصبح » ، ولكنه استبعَده ، وحكى أنه قُرىء « غُؤْوْراً » بضم الغينِ وهمزةٍ مضمومةٍ ، ثم واوٍ ساكنةٍ على فُعُول ، وجَعَلَ الهمزةَ منقبلةَ عن واوٍ مضمومةٍ .

ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1)

قوله : { ن } : كقوله : { ص والقرآن } [ ص : 1 ] وجوابُ القسمِ الجملةُ المنفيةُ بعدَها . وزعم قومٌ أنه اسمٌ لحُوتٍ وأنه واحد النِّينان . وقومٌ أنه اسمُ الدَّواةِ ، وقومٌ أنه اسمٌ لوحٍ مكتوبٍ فيه . قال الزمخشري : « وأمَّا قولُهم هو الدَّواةُ فما أدري : أهو وَضْعٌ لغويٌّ أم شرعيٌّ ، ولا يَخْلو إذا كان اسماً للدَّواةِ مِنْ أنْ يكونَ جنساً أو عَلَماً ، فإن كان جنساً فأين الإِعرابُ والتنوينُ؟ وإن كان عَلَماً فأين الإِعراب؟ وأيهما كان فلا بُدَّ له مِنْ مَوْقِع في تأليفِ الكلامِ؛ لأنَّك إذا جَعَلْتَه مُقْسَماً به وَجَبَ إنْ كان جنساً أَنْ تَجُرَّه وتُنَوِّنَه ، ويكونُ القَسَم بدَواة مُنكَّرةٍ مجهولةٍ ، كأنه قيل : ودَواةٍ والقلم ، وإنْ كان عَلَمَاً أَنْ تَصْرِفَه وتَجرَّه ، أو لا تصرِفه وتفتحَه للعلميِّةِ والتأنيثِ ، وكذلك التفسيرُ بالحوتِ : إمَّا أَنْ يُرادَ به نونٌ من النينانِ ، أو يُجْعَلَ عَلَماً للبَهَموتِ الذي يَزْعُمون ، والتفسيرُ باللَّوْح مِنْ نورٍ أو ذَهَبٍ والنهر في الجنةِ نحوُ ذلكَ » . وهذا الذي أَوْرَده أبو القاسم مِنْ محاسِنِ علمِ الإِعرابِ ، وقَلَّ مَنْ يُتْقِنُه .
وقرأ العامَّةُ : « ن » ساكنَ النونِ كنظائرِه . وأدغم ابنُ عامر والكسائيُّ وأبو بكرٍ عن عاصمٍ بلا خلافٍ ، وورش بخلافٍ عنه النونَ في الواو ، وأظهرها الباقون ، ونُقِلُ عَمَّنْ أدغمَ الغُنَّةُ وعَدَمُها . وقرأ ابن عباس والحسن وأبو السَّمَّال وابنُ أبي إسحاق بكسرِ النونِ وسعيد بن جبير وعيسى بخلافٍ عنه بفتحِها ، فالأُولى على التقاءِ الساكنين . ولا يجوزُ أَنْ يكونَ مجروراً على القَسَم ، حَذَفَ حرفَ الجرِّ وبقي علمُه كقولِهم : « اللَّهِ لأفعلَنَّ » لوجهَيْن ، أحدُهما : أنَّه مختصُّ بالجلالةِ المعظَّمة ، نادرٌ فيما عداها . والثاني : أنه كان ينبغي أَنْ يُنَوِّنَ . ولا يَحْسُنُ أَنْ يُقال : هو ممنوعُ الصَّرْفِ اعتباراً بتأنيث السورة ، لأنه كان ينبغي أَنْ لا يَظْهَرَ فيه الجرُّ بالكسرة البتةَ .
وأمَّا الفتحُ فيحتمل ثلاثةَ أوجهٍ ، أحدها : أَنْ يكونَ بناءً ، وأُوْثِر على الأصلِ للخفَّةِ كأينَ وكيفَ . الثاني : أَنْ يكونَ مجروراً بحرف القسمِ المقدَّرِ/ على لغةٍ ضعيفة . وقد تقدَّم ذلك في قراءةِ « فالحقِّ والحقِّ » [ ص : 84 ] . بجرِّ « الحقِّ » ، ومُنِعَتِ الصَّرْفَ ، اعتبارٌ بالسورة ، والثالث : أَنْ يكونَ منصوباً بفعلٍ محذوفٍ ، أي : اقرؤوا نونَ ، ثم ابتدأ قَسَماً بقولِه « والقلمِ » ، أو يكونَ منصوباً بعد حَذْفِ حرفِ القسم كقولِه :
4290 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فذاكَ أمانةَ اللَّهِ الثِّريدُ
ومُنعَ الصَّرْفَ لِما تقدَّم ، وهذا أحسنُ لعَطْفِ « والقلمِ » على مَحَلِّه .
قوله : { وَمَا يَسْطُرُونَ } « ما » موصولةٌ اسميةٌ أو حرفية ، أي : والذي يَسْطُرونه مِنَ الكُتُب ، وهم : الكُتَّابُ أو الحَفَظُة من الملائكة وسَطْرِهم . والضميرُ عائدٌ على مَنْ يُسَطِّرُ لدلالةِ السياقِ عليه . ولذِكْرِ الآلةِ المُكْتَتَبِ بها . وقال الزمخشري : « ويجوزُ أَنْ يُرادَ بالقلمِ أصحابُه ، فيكون الضميرُ في » يَسْطُرون « لهم » يعني فيصيرُ كقولِه : { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ } [ النور : 40 ] تقديرُه : أو كذي ظُلُماتٍ ، فالضميرُ في « يَغْشاه » يعود على « ذي » المحذوف .

مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)

قوله : { بِنِعْمَةِ رَبِّكَ } : قد تقدَّم نظيرُ هذا في الطور في قولِه { فَذَكِّرْ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ } [ الطور : 29 ] وتقدَّم تحقيقُه . إلاَّ أن الزمخشريَّ قال هنا : « فإنْ قلتَ : بِمَ تتعلَّقُ الباءُ في » بنعمة ربك « وما محلُّه؟ قلت : تتعلَّق بمجنون منفياً ، كما تتعلَّقُ بعاقل مثبتاً كقولك : » أنت بنعمةِ اللِّهِ عاقلٌ « ، مستوياً في ذلك الإِثباتُ والنفيُ استواءَهما في قولِك : » ضَرَبَ زيدٌ عَمْراً « و » ما ضَرَبَ زيدٌ عمراً « تُعْمِلُ الفعلَ منفياً ومثبتاً إعمالاً واحداً . ومحلُّه النصبُ على الحالِ ، كأنه قال : ما أنت مجنونٌ مُنْعِماً عليكَ بذلك ، ولم تَمْنَع الباءُ أَنْ يعملَ » مجنون « فيما قبلَه لأنها زائدةٌ لتأكيدِ النفي » .
قال الشيخ : « وما ذهب إليه الزمخشريُّ مِنْ أنَّ الباءَ تتعلَّقُ بمجنون ، وأنه في موضعِ الحالِ يحتاج إلى تأمُّلِ ، وذلك أنَّه إذا تَسَلَّطُ النفي على محكوم به ، وذلك له معمولٌ ، ففي ذلك طريقان ، أحدهما : أنَّ النفيَ تَسَلَّطَ على ذلك المعمولِ فقط ، والآخر : أَنْ يُسَلَّط النفيُ على المحكوم به ، فينتفيَ مَعمولُه لانتفائه . بيان ذلك : تقولُ : » ما زيدٌ قائمٌ مُسْرعاً « فالمتبادَرُ إلى الذهن أنَّه مُنْتَفٍ إسراعُه دونَ قيامِه فيكونُ قد قامَ غيرَ مُسْرِع . والوجهُ الآخَرُ : أنَّه انتفَى قيامُه فانتفى إسراعُه ، أي : لا قيامَ فلا إسراعَ . وهذا الذي قَرَّرْناه لا يتأتَّى معه قولُ الزمخشريِّ بوجهٍ ، بل يؤديِّ إلى ما لا يجوزُ النطقُ به في حَقِّ المعصوم » انتهى .
واختار الشيخ أنْ يكونَ « بنعمة » قَسَماً مُعْتَرِضاً به بين المحكوم عليه والحُكم على سبيلِ التأكيدِ والتشديدِ والمبالغةِ في انتفاءِ الوصفِ الذمَّيم . وقال ابن عطية : « بنعمةِ ربِّك » اعتراضٌ كما تقول للإِنسان : « أنت بحمد اللَّهِ فاضلٌ » قال : « ولم يُبَيِّنْ ما تتعلَّقُ به الباءُ في » بنعمة « . قلت : والذي تتعلَّق به الباءُ في هذا النحو معنى مضمونِ الجملةِ نفياً وإثباتاً ، كأنه قيل : انتفى عنك ذلك بحمد اللَّهِ ، والباءُ سببيةٌ ، وثَبَتَ لك الفَضْلُ بحمدِ اللَّهِ تعالى ، وأمَّا المثالُ الذي ذكرَه فالباءُ تتعلَّق فيه بلفظ » فاضل « . وقد نحا صاحب » المنتخب « إلى هذا فقال : » المعنى : انتفى عنك الجنونُ بنعمةِ ربك . وقيل : معناه : ما أنت بمجنونٍ ، والنعمة لربِّك ، كقولِهم : « سبحانَك اللهمَّ وبحمدِك » ، أي : والحمدُ لله . ومنه قولُ لبيدٍ :
4291 وأُفْرِدْتُ في الدنيا بفَقْدِ عشيرتي ... وفارقني جارٌ بأَرْبَدَ نافِعُ
أي : وهو أَرْبَدُ « . وهذا ليس بتفسير إعرابٍ بل تفسيرُ معنى .

بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6)

قوله : { بِأَيِّكُمُ المفتون } : فيه أربع أوجه ، أحدُها : أنَّ الباءَ مزيدةٌ في المبتدأ ، والتقديرُ : أيُّكم المَفْتون فزِيدَتْ كزيادِتها ، في نحو : بحَسْبك زيدٌ ، وإلى هذا ذهب قتادةُ وأبو عبيدة معمرُ بن المثنى ، إلاَّ أنَّه ضعيفٌ مِنْ حيث إنَّ الباءَ لا تُزاد في المبتدأ إلاَّ في « حَسْبُك » فقط . الثاني : أنَّ الباءَ بمعنى « في » ، فهي ظرفيةٌ ، كقولك : « زيدٌ بالبصرة » ، أي : فيها ، والمعنى : في أيِّ فرقةٍ وطائفةٍ منكم المفتونُ . وإليه ذهب مجاهدٌ والفراء ، وتؤيِّدُه قراءةُ ابن أبي عبلةَ « في أيِّكم » . الثالث : أنَّه على حَذْفِ مضافٍ ، أي : بأيكم فَتْنُ المَفْتونِ فَحُذِفَ المضافُ ، وأقيم المضافُ إليه مُقامَه ، وإليه ذهب الأخفش ، وتكونُ الباءُ سببيَّةً ، والرابع أنَّ « المفتون » مصدرٌ جاء على مَفْعول كالمَعْقول والمسيور والتقدير : بأيكم الفُتون . فعلى القول الأولِ يكونُ الكلامُ تامَّاً عند قولِه « ويُبْصِرون » ويُبْتَدأُ قولُه « بأيِّكم المفْتون » وعلى الأوجهِ بعدَه/ تكونُ الباءُ متعلِّقَةً بما قبلَها ، ولا يُوْقَفُ على « يُبْصِرون » وعلى الأوجُهِ الأُوَلِ الثلاثةِ يكونُ « المفتون » اسمَ مفعولٍ على أصلِه ، وعلى الوجهِ الرابعِ يكونُ مصدراً . وينبغي أَنْ يُقالَ : إنَّ الكلامَ إنما يَتِمُّ على قولِه « المفتون » سواءً قيل بأنَّ الباءَ مزيدةٌ أم لا؛ لأنَّ قولَه « فَسَتُبْصِرُ ويُبْصرون » مُعَلَّقٌ بالاستفهامِ بعدَه؛ لأنه فِعْلٌ بمعنى الرؤية ، والرؤيةُ البصريةُ تُعَلَّقُ على الصحيح بدليلِ قولِهم : « أما ترى أيُّ بَرْقٍ ههنا » ، فكذلك الإِبصارُ لأنه هو الرؤيةُ بالعينِ . فعلى القولِ بزيادةِ الباءِ تكونُ الجملةُ الاستفهاميةُ في محلِّ نَصْبٍ لأنها واقعةٌ موقعَ مفعولِ الإِبصار .

وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)

قوله : { فَيُدْهِنُونَ } : المشهورُ في قراءةِ الناس ومصاحفِهم « فيُدْهِنون » بثبوتِ نونِ الرفع . وفيه وجهان ، أحدُهما : أنه عطفٌ على « تُدْهِنُ » فيكونُ داخلاً في حَيِّزِ « لو » . والثاني : انه خبرٌ مبتدأ مضمرٍ ، أي : فهم يُدْهِنون . وقال الزمخشري : « فإنْ قَلَتَ : لِم رُفِعَ » فَيُدْهِنون « ولم يُنْصَبْ بإضمارِ » أَنْ « وهو جوابُ التمني؟ قلت : قد عُدِل به إلى طريقٍ آخر : وهو أنْ جُعِل خبرَ مبتدأ محذوف ، أي : فهم يُدْهِنون كقوله : { فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً } على معنى : وَدُّوا لو تُدْهِنُ فهم يُدْهنون حينئذٍ ، أو وَدُّوا إدهانَك فهم الآن يُدْهِنون لطَمَعِهم في إدْهانِك : قال سيبويه : » وزعم هارونُ أنها في بعضِ المصاحفِ : « وَدُّوا لو تُدْهِنُ فيُدِهنوا » انتهى .
وفي نصبه على ما وُجد في بعضِ المصاحفِ وجهان ، أحدهما : أنه عطفٌ على التوهُّمِ ، كأنه تَوَهَّم أَنْ نَطَقَ ب « أَنْ » فَنَصَبَ الفعلَ على هذا التوهُّم ، وهذا إنما يجيءُ على القولِ بمصدرية « لو » وفيه خلافٌ مرَّ محققاً في البقرة . والثاني : أنه نُصِبَ على جواب التمني المفهومِ مِنْ « وَدَّ » والظاهرُ أنَّ « لو » هنا حرفٌ لِما كان سيقعُ لوقوعِ غيرِه ، وأن جوابَها محذوفٌ ، ومفعولُ الوَدادةِ أيضاً محذوفٌ تقديرُه : وَدُّوا إدهانَك ، فحُذِفَ « إدْهانَك » لدلالةِ « لو » وما بعدها عليه . وتقديرُ الجوابِ لسُرُّوا بذلك .

وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11)

قوله : { مَّهِينٍ هَمَّازٍ } : تقدَّم تفسيرُ مهين في الزخرف . والهمَّازُ : مثالُ مبالغةٍ مِنْ الهَمْزِ وهو في اللغةِ الضَرْبُ طعناً باليدِ والعَصا ونحوِها ، واسْتُعير للعَيَّاب الذي يَعيب على الناسِ كأنه يَضْرِبُهم . والنَّميم قيل : مصدرٌ كالنميمة . وقيل : هو جَمْعُها ، أي : اسمُ جنسٍ كتمرة وتَمر . وهو نَقْلُ الكلامِ الذي يسوء سامعَه ويُحَرِّشُ بين الناس . وقال الزمخشري : « والنميمُ والنَّميمة السِّعايةُ وأنشدني بعضُ العرب :
4292 تَشَبَّبي تَشَبُّبَ النَّميمهْ ... تَمشْي بها زَهْراً إلى تميمهْ
والمَشَّاء : مثالُ مبالغةٍ مِنْ المَشْيِ ، أي : يُكْثِرُ السِّعايةَ بين الناس . والعُتُلُّ : الذي يَعْتِلُ الناسَ ، أي : يَحْملهم ويَجُرُّهم إلى ما يَكْرهون مِنْ حبسٍ وضَرْبٍ . ومنه { خُذُوهُ فاعتلوه } [ الدخان : 47 ] . وقيل : العُتُلُّ : الشديد الخُصومة . وقال أبو عبيدة : » هو الفاحِشُ اللئيم ، وأنشد :
4293 بعُتُلٍّ مِنْ الرِّجالِ زَنِيمٍ ... غيرِ ذي نَجْدةٍ وغيرِ كريمِ
وقيل « : الغليظُ الجافي . ويقال : عَتَلْتُه وعَتَنْتُه باللام والنونِ ، نَقَله يعقوب . والزنيم : الدَّعِيُّ يُنْسَبُ إلى قومٍ ليس منهم . قال حسان :
4294 زَنيمٌ تَداعاه الرجالُ زيادةً ... كما زِيْدَ في عَرْضِ الأديمِ الأكارِعُ
وقال أيضاً :
4295 وأنتَ زَنيمٌ نِيْطَ في آل هاشمٍ ... كما نِيْطَ خلفَ الرَّاكبِ القَدَحُ الفَرْدُ
وأصلُه مِنْ الزَّنَمَةِ : وهي ما بقي مِنْ جلْدِ الماعز مُعَلَّقاً في حِلَقِها يُتْرَكُ عند القَطْع فاستعير للدَّعِيِّ لأنه كالمُعَلَّقِ بما ليس منه . وقرأ الحسنُ » عُتُلٌّ « بالرفع على : هو عُتُلٌّ . وحقُّه أَنْ يُقْرَأَ ما بعدَه بالرفع أيضاً ، لأنهم قالوا في القَطْع : إنه يبدأ بالإِتباع ثم بالقطع مِنْ غير عكسٍ . وقوله » بعد ذلك « ، أي : بعدما وَصَفْناه به . قال ابن عطية : » فهذا الترتيبُ إنما هو في قولِ الواصفِ لا في حصولِ تلك الصفاتِ في المصوفِ ، وإلاَّ فكونُ عُتُلاً هو قبل/ كونِه صاحبَ خير يمنعُه « . وقال الزمخشري : » بعد ذلك ، بعد ما عُدَّ له مِنْ المثالبِ والنقائصِ « ، ثم قال : » جَعَلَ جفاءَه ودَعْوَتَه أشدَّ مُعايَبةً؛ لأنه إذا غَلُظَ وجفا طَبْعُه قسَا قلبُه واجْتَرَأَ على كلِّ معصيةٍ « .

أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14)

قوله : { أَن كَانَ } : العامَّةُ على فتح همزةِ « أنْ » ثم اختلفوا بعدُ : فقرأ ابنُ عامرٍ وحمزةُ وأبو بكر بالاستفهام ، وباقي السبعةِ بالخبر . والقارئون بالاستفهامِ على أصولِهم : مِنْ تحقيقٍ وتسهيلٍ وإدخالِ ألفٍ بين الهمزتَينْ وعدمِه . ولا بُدَّ مِنْ بيانِه لك تَسهيلاً للأمر عليك فأقول وبالله التوفيق : قرأ حمزةُ وأبو بكرٍ بتحقيق الهمزتَيْن وعدم إدْخالِ ألفٍ بينهما ، وهذا وهو أصلُهما .
وقرأ ابنُ ذكوانَ بتسهيلِ الثانيةِ وعدمِ إدخال ألفٍ ، وهشامٌ بالتسهيلِ المذكور ، إلاَّ أنَّه أدخل ألفاً بينهما فقد خالَفَ كلٌّ منهما أصلَه : أمَّا ابنُ ذكوان فإنه يُحَقِّقُ الهمزتَيْنِ فقد سَهَّل الثانية هنا . وأمَّا هشامٌ : فإنَّ أصلَه أن يُجْري في الثانية مِنْ هذا النحوِ وجهَيْنِ : التحقيقَ كرفيقِه ، والتسهيلَ . وقد التَزَمَ التسهيلَ هنا . وأمَّا إدخالُ الألفِ فإنه فيه على أصلِه كما تقدَّم أول البقرة .
وقرأ نافع في رواية الزبيدي عنه : « إنْ كان » بكسر الهمزة على الشرط .
فأمَّا قراءةُ « أَنْ كان » بالفتحِ على الخبرِ ففيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدها : أنها « أنْ » المصدريةُ في موضع المفعولِ له مجرورةٌ بلامٍ مقدرة . واللامُ متعلِّقةٌ بفعلِ النهي ، أي : ولا تُطِعْ مَنْ هذه صفاتُه؛ لأنْ كان مُتَموِّلاً وصاحبَ بنين . الثاني : أنها متعلقةٌ ب « عُتُلّ » ، وإن كان قد وُصِفَ ، قاله الفارسي ، وهذا لا يجوزُ عند البصريين ، وكأن الفارسيَّ اغتفَره في الجارِّ . الثالث : أنْ يتعلَّق ب « زنيم » ولا سيما عند مَنْ يُفَسِّره بقبيح الأفعالِ . الرابع : أَنْ يتعلِّقَ بمحذوف يَدُلُّ عليه ما بعدَه مِنْ الجملةِ الشرطيةِ ، تقديره : لكونِه متموِّلاً مُسْتَظْهِراً بالبنين كَذَّب بآياتِنا ، قاله الزمخشري ، قال : « ولا يَعْمَلُ فيه » قال « الذي هو جوابُ » إذا « لأنَّ ما بعد الشرطِ لا يعملُ فيما قبلَه ، ولكن ما دَلَّتْ عليه الجملةُ مِنْ معنى التكذيب » . وقال مكي وتبعه أبو البقاء : « لا يجوزُ أَنْ يكونَ العاملُ » تُتْلى « لأنَّ ما بعد » إذا « لا يعملُ فيما قبلها؛ لأنه » إذا تُضاف إلى الجمل ، ولا يعملُ المضافُ إليه فيما قبل المضاف « انتهى . وهذا يُوهمُ أنَّ المانعَ من ذلك ما ذكره فقط ، والمانعُ أمرٌ معنويٌّ ، حتى لو فُقِدَ هذا المانعُ الذي ذكره لامتنعَ مِنْ جهةِ المعنى : وهو أنه لا يَصْلُحُ أَنْ يُعَلِّلَ تلاوةَ آياتِ اللَّهِ عليه بكونِه ذا مالٍ وبنين .
وأمَّا قراءةُ » أَأَنْ كان « على الاستفهام ، ففيها وجهان ، أحدُهما : أَنْ يتعلَّقَ بمقدَّر يَدُلُّ عليه ما قبلَه ، أي : أَتُطيعه لأَنْ كان أو أتكونُ طواعيةً لأَنْ كان . والثاني : أنْ يتعلَّقَ بمقدَّرٍ عليه ما بعده أي : لأَنْ كان كذا كَذَّبَ وجَحَدَ .

وأمَّا قراءةُ إنْ بالكسر فعلى الشرطِ ، وجوابُه مقدرٌ . تقديرُه : إن كان كذا يَكْفُرْ ويَجْحَدْ . دَلَّ عليه ما بعده . وقال الزمخشري : « والشرطُ للمخاطبِ ، أي : لا تُطِعْ كلَّ حَلاَّفٍ شارطاً يسارَه ، لأنه إذا أطاع الكافرَ لِغِناهُ فكأنه اشترط في الطاعة الغنى ، ونحوُ صرفِ الشرطِ للمخاطب صَرْفُ الترجِّي إليه في قولِه : { لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ } [ طه : 44 ] . وجَعَله الشيخُ مِنْ دخولِ شرطٍ على شرطٍ ، يعني إنْ وإذا؛ إلاَّ أنه قال : » ليسا من الشروط المترتبةِ الوقوع ، وجعله نظيرَ قولِ ابنِ دريدٍ :
4296 فإنْ عَثَرْتُ بعدَها إنْ وَأَلَتْ ... نفسيَ مِنْ هاتا فقولا لا لَعا
قال : « لأنَّ الحامِلَ على تدبُّرِ آياتِ اللهِ كونُه ذا مالٍ وبنين ، وهو مشغولُ القلبِ بذلك غافلٌ عن النظرِ قد استولَتْ عليه الدنيا وأَبْطَرَتْه .
وقرأ الحسن بالاستفهام وهو استفهامُ تَقْريعٍ وتوبيخٍ على قولِه : » القرآنُ أساطيرُ الأوَّلين لَمَّا تُلِيَتْ عليه آياتُ الله .

سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)

قوله : { سَنَسِمُهُ } : أي : نجعل له سِمَةً ، أي : علامة يُعْرَفُ بها . قال جرير :
4297 لَمَّا وَضَعْتُ على الفرزدقِ مِيْسَمي ... وعلى البَعيثِ جَدَعْتُ أَنْفَ الأخطلِ
/ والخُرْطُومُ : الأَنْفُ ، وهو هنا عبارةٌ عن الوجهِ كلِّه من [ باب ] التعبيرِ عن الكلِّ بالجزءِ؛ لأنه أظهرُ ما فيه وأَعلاه . والخُرْطومِ أيضاً : الخمرُ وكأنه استعارةٌ لها؛ لأنَّ الشنتمَريَّ قال : « هي الخمرُ أول ما تَخْرُجُ من الدِّنِّ » ، فجُعِلَتْ كالأَنفِ؛ لأنه أولُ ما يَبْدُو مِنْ الوجهِ ، فليسَتْ الخرطومُ الخمرَ مطلقاً . ومِنْ مجيءِ الخُرْطومِ بمعنى الخمرِ قولُ علقمةَ ابنِ عبدة :
4298 قد أَشْهَدُ الشَّرْبَ ، فيهم مُزْهِرٌ زَئِمٌ ... والقومُ تصرَعُهمْ صَهْباءُ خُرْطومُ
وأنشد النضر بن شميل :
4299 تَظَلُّ يومَك في لهو وفي لَعِبٍ ... وأنتَ بالليل شَرَّابُ الخَراطيمِ
قال النَّضِرُ : « والخُرطومُ في الآية : هي الخَمْرُ ، والمرادُ : سَنَحُدُّه على شُربِها . وقد استبعدَ الناسُ هذا التفسيرَ .

إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17)

قوله : { مُصْبِحِينَ } : هذا حالٌ مِنْ فاعلِ « لَيَصْرِمُنَّها » وهو مِنْ « أصبح » التامَّةِ ، أي : داخلين في الصَّباح . كقولِ تعالى : { وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ } [ الصافات : 137 ] وقولِهم : « إذا سَمِعْتَ بسُرَى القَيْنِ فاعلَمْ أنه مُصْبِحٌ » . والكاف في « كما » في موضع نصبٍ نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ ، أي : بَلَوْناهم ابتلاءً كما بَلَوْنا . و « ما » مصدريةٌ أو بمعنى الذين . و « إذ » منصوبةٌ ب « بَلَوْنا » و « لَيَصْرِمنُّها » جوابٌ للقسم ، وجاء على خلافِ مَنْطوقِهم ، ولو جاء عليه لقيل : لَنَصْرِمُنَّها بنونِ التكلم .

وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18)

قوله : { وَلاَ يَسْتَثْنُونَ } : هذه مستأنفةٌ . ويَضْعُفُ كونُها حالاً من حيث إنَّ المضارعَ المنفيَّ ب « لا » كالمثبتِ في عَدَم دخولِ الواوِ عليه ، وإضمارُ مبتدأ قبلَه ، كقولِهم : « قمتُ وأَصُكُّ عينَه » مُسْتغنى عنه . ومعنى « لا يَسْتَثْنُون » لا يَثنون عزمَهم على الحِرْمانِ ، وقيل : لا يقولون : إن شاءَ الله . وسُمِّي استثناءً ، وهو شرطٌ؛ لأنَّ معنى « لأَخْرُجَنَّ إنْ شاءَ الله » « ولا أخرجُ إلاَ أَنْ يشاءَ اللهُ » واحدٌ ، قاله الزمخشري .

فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19)

قوله : { طَآئِفٌ } : أي هَلاكٌ ، أو بلاءٌ ، طائفٌ . والطائفُ غَلَبَ في الشرِّ . قال الفراء : « هو الأمرُ الذي يأتي ليلاً . ورُدَّ عليه بقولِه : { إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشيطان } [ الأعراف : 201 ] ، وذلك لا يختصُّ بلَيْلٍ ولا نهارٍ . وقرأ النخعي » طَيْفٌ « . وقد تقدَّم في الأعراف الكلامُ على هذينِ الوصفَيْن . و » منْ رَبِّك « يجوزُ أن يتعلَّقَ ب » طاف « ، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ صفةً ل طائف . والصِّرامُ : جُذاذُ النخلِ . وأصلُ المادةِ الدلالةُ على القَطْعِ ، ومنه الصُرْمُ والصَّرْمُ بالضم والفتح ، وهو القَطيعةُ . قال امرؤُ القيس :
4300 أفاطمُ مَهْلاً بعضَ هذا التدلُّلِ ... وإن كُنْتِ قد أَزْمَعْتِ صَرْمي فأَجْملي
ومنه الصَّريمةُ ، وهي قطعةٌ مَنْصَرمةٌ عن الرمل . قال :
4301 وبالصَّرِيْمَةِ منهم مَنْزِلٌ خَلِقٌ ... عافٍ تَغَيَّرِ إلاَّ النؤيُ والوَتِدُ
والصَّارم : القاطِعُ الماضي ، وناقة مُصَرَّمَةٌ ، أي : انقطع لبنُها . وانْصَرَمَ الشهرُ والسَّنَةُ ، أي : قَرُبَ انفصالُهما . وأَصْرَمَ : ساءَتْ حالُه ، كأنه انقطعَ سَعْدُه . وقوله » كالصريم « قيل : هي الأشجارُ المُنْصَرِمُ حَمْلُها . وقيل : كالليلِ لأنه يُقال له الصَّريمُ لسَوادِه . والصَّريمُ أيضاً : النهارُ . وقيل : الصبحُ ، فهو من الأضدادِ . وقال شَمِر : الصَّريم الليلُ ، والصَّريم النهار؛ لانصرامِ هذا عن ذاك وذاك عن هذا . وقيل : هو الرَّمادُ بلغة خُزَيْمَةَ ، قاله ابنُ عباس . وقيل : الصَّريمُ رَمْلَةٌ معروفةً باليمن لا تُنْبِتُ شيئاً . وفي التفسير : أنَّ جَنَّتَهم صارت كذلك . ويُرْوَى أنها اقْتُلِعَتْ ووُضِعتْ حيث الطائفُ اليوم؛ ولذلك سُمِّي به » الطائفُ « الذي هو بالحجازِ اليومَ .

أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22)

قوله : { أَنِ اغدوا } : يجوزُ أَنْ تكونَ المصدريَّةَ ، أي : تنادَوْا بهذا الكلامِ ، وأَنْ تكونَ المفسِّرة؛ لأنَّه تقدَّمها ما هو بمعنى القولِ . قال الزمخشريُّ : « فإنْ قلتَ : هلا قيل : اغْدُوا إلى حَرْثِكم وما معنى » على «؟ قلت : لَمَّا كان الغُدُوُّ إليهِ ليَصْرِمُوه ويَقْطعوه كان غُدُوَّا عليه ، كما تقول : غدا عليهم العدوُّ . ويجوزُ أن يُضَمَّنَ الغُدُوُّ معنى الإِقبالِ كقولِهم : » يُغْدَى عليهم بالجَفْنَة ويُراحُ « انتهى . فجعل » غدا « متعدياً في الأصل ب » إلى « فاحتاج إلى تأويل تعدِّيه ب » على « . وفيه نظرٌ لورود تَعَدِّيه ب » على « في غير موضع كقولِه :
4302 وقد أَغْدُو على ثُبَةٍ كِرامٍ ... نَشاوى واجِدين لِما نشاءُ
/ وإذا كانوا قد عَدَّوْا مرادِفَه ب » على « فَلْيُعَدُّوه بها ، ومرادِفُهُ » بَكَرَ « تقول : بَكَرْتُ عليه ، وغَدَوْتُ عليه بمعنىً واحدٍ . قال :
4303 بَكَرْتُ عليه غُدْوَةً فَرَأَيْتُه ... قُعُوداً لديهِ بالصَّريمِ عَواذِلُهْ
و { إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ } جوابُه محذوفٌ ، أي : فاغدُوْا . وصارمين : قاطعين جاذِّين . وقيل : ماضِين في العَزْمِ ، مِنْ قولِك : سيفٌ صارِمٌ .

فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23)

قوله : { وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ } : جملةٌ حاليةٌ مِنْ فاعلِ « انطلَقُوا » .

أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24)

قوله : { أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا } : يجوزُ أَنْ تكونَ المصدريَّة ، أي : يتخافَتُون بهذا الكلامِ ، أي : يقولُه بعضُهم لبعضٍ ، وأَنْ تكونَ المفسِّرَةَ . وقرأ عبد الله وابنُ أبي عبلةَ « لا يَدْخُلُها » بإسقاطِ « أَنْ » إمَّا على إضمارِ القولِ ، كما هو مذهبُ البَصْريين ، وإمَّا على إجراءِ « يتخافتون » مُجراه كما هو قولُ الكوفيين .

وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25)

قوله : { على حَرْدٍ قَادِرِينَ } : يجوزُ أَنْ يكونَ « قادرين » حالاً من فاعل « غَدَوْا » . و « على حَرْدٍ » متعلِّقٌ به ، وأَن يكونَ « على حَرْدٍ » هو الحالَ ، و « قادرين » : إمَّا حالٌ ثانيةٌ ، وإمَّا حالٌ مِنْ ضميرِ الحالِ الأولى .
والحَرْدُ فيه أقوال كثيرة ، قيل : الغضبُ والحَنَقُ . وأُنْشد للأشهب ابن رُمَيْلة :
4304 أُسُوْدُ شَرىً لاقَتْ أُسُودَ خَفِيَّةٍ ... تَساقَوْا على حَرْدٍ دماءَ الأساوِدِ
قيل : ومثلُه قولُ الآخرِ :
4305 إذا جِيادُ الخيل جاءتَ تَرْدي ... مملوءَةً مِنْ غَضَبٍ وحَرْد
عَطَفَ لَمَّا تغايرَ اللفظان كقولِه :
4306 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وأَلْفى قولَها كَذِباً ومَيْنا
وقيل : المَنْعُ . مِنْ حارَدَتِ الإِبلُ : قَلَّ لَبَنُها ، والسَّنَةُ : قَلَّ مَطَرُها ، قاله أبو عبيد والقُتبيُّ . ويقال : حَرِدَ بالكسر يَحْرَدُ حَرْداً ، وقد تُفْتح فيقال : حَرَداً ، فهو حَرْدانُ وحارِدٌ . يقال : أسدٌ حارِدٌ ، ولُيوث حَوارِدُ . وقيل : الحَرْدُ والحَرَدُ الانفرادُ . يُقال : حَرَدَ بالفتح ، يَحْرُد بالضم ، حُروداً وحَرْداً وحَرَداً : انعزل ، ومنه كوكبٌ حارِدٌ ، أي : منفردٌ . قال الأصمعي : « هي لغةُ هُذَيْل » . وقيل : الحَرْدُ القَصْدُ . يقال : حَرَد يَحْرِدُ حَرْدَك ، أي : قَصَدَ قَصْدَك ، ومنه :
4307 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... يَحْرِدُ حَرْدَ الجنَّةِ المُغِلَّهْ
وقد فُسِّرت الآيةُ الكريمةُ بجميعِ ما ذَكَرَتْ . وقيل : الحَرْدُ اسمُ جنَّتِهم بعينِها ، قاله السُّدي . وقيل : اسم قَرْيتِهم ، قاله الأزهري . وفيهما بُعْدٌ بعيدٌ . و « قادرين » : إمَّا مِنْ القُدْرَةِ ، وهو الظاهرُ ، وإمَّا مِن التقدير وهو التضييقُ ، أي : مُضَيِّقين على المساكينِ . وفي التفسيرِ قصةٌ توضِّحُ ما ذكرْتُ « .

كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)

قوله : { كَذَلِكَ العذاب } : مبتدأٌ ، وخبرُه مقدم ، أي : مثلُ ذلك العذابِ عذابُ الدنيا ، وأمَّا عذابُ الآخرةِ فأكبرُ منها .

إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34)

قوله : { عِنْدَ رَبِّهِمْ } : يجوز أَنْ يكونَ منصوباً بالاستقرار ، وأن يكون حالاً مِنْ « جَنَّات » .

إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38)

قوله : { إِنَّ لَكُمْ فِيهِ } : العامَّةُ على كسرِ الهمزةِ . وفيها ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنها معمولةٌ ل « تَدْرُسون » ، أي : تدرسون في الكتابِ أنَّ لكم ما تختارونه ، فلمَّا دخلت اللامُ كُسِرت الهمزةُ . والثاني : أَنْ تكونَ على الحكايةِ للمدروسِ كما هو ، كقوله : { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين سَلاَمٌ على نُوحٍ فِي العالمين } [ الصافات : 78 - 79 ] قالهما الزمخشري ، وفي الفرقِ بين الوجهين عُسْرٌ قال : « وتَخَيَّر الشيءَ واختاره : أَخَذَ خيرَه كتنخَّله وانتخَلَه أَخَذَ منخولَه » . والثالث : أنها على الاستئنافِ على معنى : إنْ كان لكم كتابٌ فلكم فيه مُتَخَيَّرٌ . وقرأ طلحةُ والضحاك « أنَّ لكم » بفتح الهمزةِ ، وهو منصوبٌ ب « تَدْرُسُون » ، إلاَّ أنَّ فيه زيادةَ لامِ التأكيدِ ، وهي نظيرُ قراءة { إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ } [ الفرقان : 20 ] بالفتح . وقرأ الأعرج « أإنَّ لكم » في الموضعين بالاستفهام .

أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39)

قوله : { بَالِغَةٌ } : العامَّةُ على رفعِها نعتاً ل « أَيْمانٌ » و « إلى يوم » متعلِّق بما تَعَلَّقَ به « لكم » . من الاستقرار ، أي : ثابتةٌ لكم إلى يومِ ، أو ببالغة ، أي : تَبْلُغُ إلى ذلك اليومِ وتنتهي إليه .
وقرأ زيد بن علي والحسن بنصبِها فقيل : على الحال من « أيمان » لأنها تخصَّصَتْ بالعملِ أو بالوصفِ . وقيل : من الضمير في « علينا » إنْ جَعَلْناه صفةً ل « أَيْمان » .
وقوله : { إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ } جوابُ القسمِ في قوله : « أَيْمان » لأنها بمعنى أقسام . و « أيُّهم » معلِّقٌ لِسَلْهُمْ و « بذلك » متعلق ب « زعيمٌ » ، أي : ضمينٌ وكفيل . وقد تقدَّم أنَّ « سألَ » يُعَلَّقُ لكونِه سبباً في العِلم . وأصلُه أن يتعدَّى ب عن أو بالباء ، كقولِه : { فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً } [ الفرقان : 59 ] [ وقولِه : ]
4308 فإنْ تَسْألوني بالنساء . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فالجملةُ في موضعِ نصبٍ بعد إسقاطِ الخافضِ ، كما عَرَفْت تقريرَه غيرَ مرةٍ . وقرأ عبد الله : « أم لهم شِركٌ ، فليَأْتوا بشِرْكِهم » . بلفظِ المصدرِ .

يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42)

قوله : { يَوْمَ يُكْشَفُ } : منصوبٌ بقولِه « فَلْيَأْتُوا » أو بإضمار اذْكُرْ ، فيكونُ مفعولاً به أو بمحذوفٍ ، وهو ظرفٌ ، أي : يومَ يُكْشَف يكونُ كَيْتَ وكَيْتَ ، أو بخاشعة ، قاله أبو البقاء . وفيه بَعْدٌ و « عن ساقٍ » قائمٌ مَقامَ الفاعلِ ، وابنُ مسعود وابن أبي عبلة « يَكْشِفُ » بالياءِ مِنْ تحتُ مبنياً للفاعلِ وهو اللهُ . وقرأ ابنُ عباس وعبد الله أيضاً « نكشِفُ » بكسر النون . وعن ابن عباس « تَكْشِفُ » بالتاء من فوق مبنياً للفاعل ، أي : الشدَّةُ والساعةُ . وعنه كذلك أيضاً مبنياً للمفعول وهي/ مُشْكِلَةٌ؛ لأنَّ التأنيثَ لا معنى له هنا ، إلاَّ أَنْ يُقالَ : إن المفعولَ مستترٌ ، أي : تُكْشَفُ هي ، أي : الشِّدَّةُ .
قوله : { عَن سَاقٍ } ، أي : تَكْشِفُ عن ساقِها؛ ولذلك قال الزمخشري : « وتكشِفُ بالتاء مبنياً للفاعلِ والمفعولِ جميعاً . والفعلُ للساعةِ ، أو للحال ، أي : تَشْتَدُّ الحالُ أو الساعةُ » . وقُرِىء « يُكْشِفُ » بضمِّ الياء أو التاء وكسرِ الشين ، مِنْ « أَكْشَفَ » إذا دَخَلَ في الكَشْفِ . وأَكْشَفَ الرجلُ : إذا انقلَبَتْ شَفَتُهُ العليا لانكشافِ ما تحتَها . وكَشْفُ الساقِ كنايةٌ عن الشِّدَّةِ ، لا يَمْتري في ذلك مَنْ ذاق طعم الكلامِ ، وسَمعَ قولَ العربِ في نَظْمها ونثرها . قال الراجزُ :
4309 عَجِبْتُ مِنْ نفسي ومن إشفاقِها ... ومِنْ طِرادي الطيرَ عن أَرْزاقِها
في سَنَةٍ قد كَشَفَتْ عن ساقِها ... حمراءَ تَبْرِي اللحمَ عَنْ عُراقها
وقال حاتم الطائي :
4310 أخو الحربِ إنْ عَضَّتْ به الحربُ عَضَّها ... وإن شَمَّرَتْ عن ساقِها الحربُ شَمَّرا
وقال آخر :
4311 كَشَفَتْ لهم عن ساقِها ... وبدا من الشَّرِّ الصُّراحُ
وقال آخر :
4312 قد شَمَّرَتْ عن ساقِها فَشُدُّوا ... وجَدَّت الحربُ بكم فَجُدُّوا
وقال آخر :
4313 صبراً أُمامُ إنَّه شرٌّ باقِ ... وقامَتِ الحربُ بنا على ساقِ
قال الزمخشري : « الكَشْفُ عن الساق والإِبداء عن الخِدام مَثَلٌ في شدةِ الأمرِ وصُعوبةِ الخَطْبِ . وأصلُه في الرَّوْعِ والهزيمةِ وتشميرِ المُخَدَّرات عن سُوْقِهِنَّ في الحرب ، وإبداءِ خِدامِهِنَّ عند ذلك .
وقال ابن قيس الرقياتِ :
4314 تُذْهِلُ الشيخَ عن بنيه وتُبْدي ... عن خِدام العَقِليةُ العَذْراءُ
انتهى وما أحسنُ ما أَبْدَى أبو القاسمِ وجهَ علاقةِ هذا المجازِ فللَّه دَرُّه . وما أَوْرَدَه أهلُ التفسير فإنَّه مؤولٌ وكذلك حديثُ ابنِ مسعود ونحوه . قال الزمخشري : » ومَنْ أَحَسَّ بمضارِّ فَقْدِ هذا العِلْمِ عَلِمَ مقدارَ عِظَمِ منافعِه « انتهى . ويعني عِلْمَ البيان .

خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)

قوله : { خَاشِعَةً } : حالٌ مِنْ مرفوع « يُدْعَوْن » و « أبصارُهم » فاعلٌ به ونَسَب الخشوعَ للأبصارِ ، وإنْ كانت الأعضاءُ كلُّها كذلك لظهورِ أَثَرِه فيها .
وقوله : { وَهُمْ سَالِمُونَ } حالٌ مِنْ مرفوع « يُدْعَوْن » الثانيةِ .

فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44)

قوله : { وَمَن يُكَذِّبُ } : منصوب : إمَّا نَسَقاً على الياء ، وإمَّا على المفعولِ معه وهو مرجوحٌ لإِمكانِ النَّسَقِ مِنْ غيرِ ضعفٍ . وما بعدها تقدَّم إعرابُ مِثْلِه .

فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48)

قوله : { إِذْ نادى } « إذا » منصوبٌ بمضافٍ محذوفٍ ، أي : ولا تكُنْ حالُك كحالِه ، أو قصتُك كقصتِه ، في وقتِ ندائِه . ويَدُلُّ على المحذوفِ أنَّ الذواتِ لا يَنْصَبُّ عليها النهيُ ، إنما ينصَبُّ على أحوالِها وصفاتِها .
قوله : { وَهُوَ مَكْظُومٌ } جملةٌ حاليةٌ من الضمير في « نادى » والمَكْظومُ : المُمْتَلِىءُ حُزْناً وغَيْظاً . قال ذو الرمة :
4315 وأنتَ مِنْ حُبِّ مَيٍّ مُضْمِرٌ حُزْناً ... عاني الفؤادِ قريحُ القلبِ مكظومُ
وتقدَّمت مادتُه في آل عمران .

لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49)

قوله : { تَدَارَكَهُ } : قرأ أُبي وعبدُ الله وابنُ عباس « تدارَكَتْه » بتاء التأنيث لأجلِ اللفظِ به ، والحسنُ وابنُ هرمز والأعمش « تَدَّارَكُه » بتشديدِ الدالِ وخُرِّجَتْ على أنَّ الأصلَ « تَتَدارَكُه » بتَاءَيْن مضارعاً فأدغم ، وهو شاذٌّ؛ لأنَّ الساكنَ الأولَ غيرُ حرفِ لينٍ وهي كقراءةِ البزي { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ } [ النور : 15 ] { نَاراً تلظى } [ الليل : 14 ] وهذا على حكايةِ الحالِ؛ لأنَّ القصةَ ماضيةٌ فإيقاعُ المضارعِ هنا للحكاية .

وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51)

قوله : { لَيُزْلِقُونَكَ } : قرأها نافعٌ بفتح الياءِ ، والباقون بضمِّها . فأمَّا قراءةُ الجماعةِ فمِنْ أَزْلَقَه ، أي : أَزَلَّ رِجْلَه ، فالتعديةُ بالهمزةِ مِنْ زَلَق يَزْلِقُ . وأمَّا قراءةُ نافع فالتعديةُ بالحركةِ يقال : زَلِقَ بالكسر وزَلَقْتُه بالفتح . ونظيرُه : شَتِرَتْ عَيْنُه بالكسرِ ، وشَتَرها اللَّهُ بالفتح ، وقد تقدَّم لذلك أخواتٌ . وقيل : زَلَقه وأَزْلَقه بمعنى واحدٍ . ومعنى الآية في الاصابةِ بالعينِ . وفي التفسير قصةٌ . والباءُ : إمَّا للتعديةِ كالداخلةِ على الآلةِ ، أي : جعلوا أبصارهم كالآلةِ المُزْلِقَةِ لك ، كعَمِلْتُ بالقَدوم ، وإمَّا للسببيةِ ، أي : بسبب عيونِهم . /
قوله : { لَمَّا سَمِعُواْ الذكر } مَنْ جَعَلْها ظرفيةً جَعَلها منصوبةً ب « يُزْلِقُونك » ، ومَنْ جعلها حرفاً جَعَلَ جوابَها محذوفاً للدلالةِ ، أي : لَمَّا سَمِعوا الذِّكْرَ كادوا يُزْلِقونك ، ومَنْ جَوَّزَ تقديمَ الجوابِ قال : هو هنا متقدِّمٌ .

الْحَاقَّةُ (1)

قوله : { الحاقة } : مبتدأٌ و « ما » مبتدأٌ ثانٍ ، و « الحاقَّةُ » خبرُه ، والجملةُ خبرُ الأوِل ، وقد تَقَدَّم تحريرُ هذا في الواقعة . وهناك سؤالٌ حسنٌ وجوابٌ مثلُه فعليك باعتبارِه . والحاقَّةُ فيها وجهان ، أحدهما : أنَّه وصفٌ اسمُ فاعلٍ بمعنى : أنها تُبْدِي حقائق الأشياءِ . وقيل : لأنَّ الأمرَ يَحِقُّ فيها فهي من باب : ليلٌ نائمٌ ونهارٌ صائمٌ . وقيل : مِنْ حَقَّ الشيءُ : ثَبَتَ فهي ثابتةٌ كائنةٌ . وقيل : لأنها تَحُقُّ كلَّ مُحاقٍّ في دينِ اللَّهِ ، أي : تَغْلِبُه . مِنْ حاقَقْتُه فحقَقْتُه أحُقُّه ، أي : غَلَبْتُه . والثاني : أنها مصدرٌ كالعاقبةِ والعافيةِ .

مَا الْحَاقَّةُ (2)

قوله : { مَا الحاقة } : في موضعِ نصبٍ على إسقاطِ الخافض؛ لأنَّ أَدْرَى بالهمزةِ ، ويتعدَّى لاثنينِ ، الأَولُ بنفسه . والثاني : بالباءِ ، قال تعالى : { وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ } [ يونس : 16 ] فلَمَّا وَقَعَتْ جملةُ الاستفهامِ مُعَلِّقَةً لها كانَتْ في موضوع المفعولِ الثاني ، ودونَ الهمزة تَتَعْدَّى لواحدٍ بالباء نحو : دَرَيْتُ بكذا ، ويكونَ بمعنى عَلِمَ فيتعدَّى لاثنين .

فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5)

قوله : { فَأُهْلِكُواْ } : هذه قراءةُ العامَّةِ . وقرأ زيدُ ابن علي « فَهَلَكوا » مبنياً للفاعلِ مِنْ هَلَكَ ثلاثياً .
قوله : { بالطاغية } ، أي : بالصيحةِ المتجاوزةِ للحدِّ . وقيل : بالفَعْلةِ الطاغيةِ . وقيل : بالرجلِ الطاغيةِ ، وهو عاقِرُ الناقةِ ، والهاء للمبالغةِ ، فالطاغيةُ على هذه الأوجه صفةٌ . وقيل : الطاغيةُ مصدرٌ ويُوَضِّحُه { كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ } [ الشمس : 11 ] والباءُ للسببيةِ على الأقوالِ كلِّها ، إلاَّ القولَ الأولَ فإنها للاستعانةِ ك « عَمِلْتُ بالقَدُوم » .

سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7)

قوله : { حُسُوماً } : فيه أوجهٌ ، أحدها : أَنْ ينتصِبَ نعتاً لِما قبلها . والثاني : أَنْ ينتصِبَ على المصدرِ بفعلٍ مِنْ لفظِها ، أي : تَحْسِمْهم حُسوماً . الثالث : أَنْ ينتصِبَ على الحالِ ، أي : ذاتَ حُسوم . الرابع : أَنْ يكونَ مفعولاً له ، ويَتَّضِحُ ذلك بقول الزمخشري : « الحُسوم : لا يَخْلو مِنْ أَنْ يكونَ جمعَ حاسِم كشاهِد وشُهود ، أو مصدراً كالشُّكور والكُفور . فإنْ كانَتْ جمعاً فمعنى قولِه » حُسوماً « : نَحِسات حَسَمَتْ كلَّ خيرٍ ، واستأصَلَتْ كلَّ بركةٍ ، أو متتابعةً هبوبَ الريح ، ما خَفَتَتْ ساعةً ، تمثيلاً لتتابُعِها بتتابُعِ فِعْلِ الحاسمِ في إعادة الكيِّ على الدَّاء كَرَّةً بعد أخرى حتى يَنْحَسِمَ . وإن كان مصدراً : فإمَّا أَنْ ينتصِبَ بفعلِه مضمراً ، أي : تَحْسِم حُسوماً ، بمعنى : تَسْتأصِلُ استئصالاً ، أو يكونُ صفةً كقولِ : ذاتَ حُسومٍ ، أو يكونُ مفعولاً له ، أي : سَخَّرها عليهم للاستئصالِ . وقال عبد العزيز بن زُرارة الكلابي :
4316 ففرَّق بين بَيْنِهُمُ زمانٌ ... تتابَعَ فيه أعوامٌ حُسومُ
انتهى . قال المبرد : الحُسوم : الفَصْلُ حَسَمْتُ الشيء من الشيء فَصَلْتُه منه ومنه الحُسام . وقال الشاعر :
4317 فأرسَلْتَ ريحاً دَبُوراً عقيماً ... فدارَتْ عليهمْ فكانَتْ حُسُوماً
وقال الليث : » هي الشُّؤْمُ : يقال : هذه ليالي الحُسومِ ، أي : تَحْسِم الخيرَ عن أهلِها . وعندي أنَّ هذين القولَيْن يَرْجِعان إلى القول الأول؛ لأنَّ الفصلَ قَطْعٌ ، وكذلك الشُّؤْمُ لأنَّه يقطعُ الخيرَ . والجملةُ مِنْ قولِه « سَخَّرها » يجوزُ أَنْ تكونَ صفةً ل « ريح » ، وأَنْ تَكونَ حالاً منها لتخصُّصها بالصفةِ ، أو من الضميرِ في « عاتية » ، وأَنْ تكون مستأنفةً .
قوله : { فِيهَا صرعى } صَرْعَى حالٌ ، جمعُ صَريع نحو : قتيل وقَتْلى ، وجريح وجَرْحى ، والضمير في « فيها » للأيام والليالي ، أو للبيوت ، أو للرِيح ، أظهرُها الأولُ لقُرْبِه ، ولأنَّه مذكورٌ .
وقوله : { كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ } حالٌ من القوم ، أو مستأنفةٌ . وقرأ أبو نهيك « أَعْجُزُ » على أَفْعُل نحو : ضَبُع وأَضْبُع . وقُرِىء « نخيل » حكاه الأخفشُ ، وقد تقدَّم أنَّ اسم الجنس يُذَكَّرُ ويؤنَّثُ ، واختير هنا تأنيثهُ للفواصلِ ، كما اخْتِير تذكيرُه لها في سورةِ القمر كما تقدَّم التنبيهُ عليه .

فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)

قوله : { فَهَلْ ترى } : أدغم اللامَ في التاءِ أبو عمروٍ وحَده ، وتقدم في الملك . و « مِنْ باقية » مفعولُه و « مِنْ » مزيدةٌ ، والتاءُ في « باقية » قيل : للمبالغةِ ، أي : مِنْ باقٍ ، والأحسنُ أَنْ تكونَ صفةً لفرقةٍ أو طائفة ونحو ذلك .

وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9)

قوله : { وَمَن قَبْلَهُ } : قرأ بكسر القاف وفتح الباء أبو عمروٍ والكسائي ، أي : ومَنْ هو في جهتِه ، ويؤيِّدُه قراءةُ أبي موسى و « مَنْ تِلْقَاءَه » وقرأه أُبَيٌّ « ومَنْ تبعه » ، والباقون بالفتحِ والسكونِ على أنَّه ظرفٌ ، أي : ومَنْ تقدَّمه .
قوله : { بِالْخَاطِئَةِ } إمَّا أَنْ يكونَ صفةً/ ، أي : بالفَعْلَةِ أو الفَعَلات الخاطئة ، وإمَّا أن يكون مصدراً كالخَطَأ فيكون كالعافية والكاذبة .

إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11)

قوله : { فِي الجارية } : غَلَبَ استعمالُ « الجارية » في السفينة كقولِه :
4318 تِسْعُونَ جاريةً في بطنِ جاريةٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
هو من الألغاز ، قال تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ الجوار } [ الشورى : 32 ] .

لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12)

قوله : { وَتَعِيَهَآ } : العامَّة على كسرِ العينِ وتخفيفِ الياءِ ، وهو مضارعٌ وَعى منصوبٌ عطفاً على « لِنَجْعَلَها » . وابن مصرف وأبو عمروٍ في رواية هارونَ عنه وقنبلَ بإسكانها تشبيهاً له ب « رَحْم » و « شَهْد » ، وإنْ لم يكُنْ منه ، ولكنْ صارَ في اللفظِ بمنزلة فَعِل الحلقيِّ العينِ . ورُوِيَ عن حمزةَ إخفاءُ الكسرةِ . ورُوِي عن عاصمٍ وحمزةَ أيضاً تشديدُ الياءِ . وهو غَلَطٌ عليها ، وإنما سَمِعهما الراوي يُبَيِّنان حركةَ الياءِ فظنَّها شَدَّةً . وقيل : أَجْرَيا الوصلَ مُجْرى الوقفِ فَضَعَّفا الحرفَ وهذا لا ينبغي أَنْ يُلْتَفَتَ إليه . ورُوِيَ عن حمزةَ أيضاً وموسى بن عبد الله العبسيِّ « وتَعِيْها » بسكونِ الياءِ ، وفيها وجهان : الاستئنافُ والعطفُ على المنصوبِ ، وإنما سَكَّنا الياءَ استثقالاً للحركةِ على حرفِ العلةِ كقراءةِ { تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } [ المائدة : 89 ] وقد مَرَّ .

فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13)

قوله : { وَاحِدَةٌ } : تأكيدٌ ونَفْخَةٌ مصدرٌ قام مقامَ الفاعلِ . وقال ابن عطية : « لَمَّا نُعِتَ صَحَّ رَفْعُهُ » انتهى . ولو لم يُنْعَت لصَحَّ رفعُه لأنه مصدرٌ مختصٌ لدلالتِه على الوَحْدة ، والممنوعُ عند البصريين إنما هو إقامةُ المبهمِ نحو : ضُرِب ضَرْبٌ . والعامَّةُ على الرفعِ فيهما ، وقرأ أبو السَّمَّال بنصبِهما كأنه أقام الجارَّ مُقامَ الفاعلِ ، فترك المصدرَ على أصله ، ولم يؤنِّثِ الفعلَ وهو « نُفخَ » لأنَّ التأنيثَ مجازيٌ ، وحَسَّنه الفَصْلُ .

وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14)

[ قوله : ] { وَحُمِلَتِ الأرض } : قرأه العامَّةُ بتخفيف الميمِ ، أي : وحَمَلَتْها الريحُ أو الملائكةُ أو القُدرة ثم بُني . وقرأ ابنُ عامرٍ في روايةٍ والأعمش وابن أبي عبلة وابن مقسم بتشدِيدِها ، فجازَ أَنْ يكونَ التشديدُ للتكثير ، فلم يُكْسِبِ الفعلَ مفعولاً آخرَ ، وجازَ أَنْ يكونَ للتعدية ، فيُكْسِبَه مفعولاً آخرَ ، فيُحْتمل أَنْ يكونَ الثاني محذوفاً ، والأولُ هو القائمُ مقامَ الفاعلِ تقديرُه : وحُمِّلَتِ الأرضُ والجبالُ ريحاً تُفَتِّتُها؛ لقوله { فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً } [ طه : 105 ] . وقيل : التقدير حُمِّلَتا ملائكةً . ويُحْتَمَل أَنْ يكونَ الأولُ هو المحذوفَ ، والثاني هو القائمُ مقامَ الفاعلِ .
قوله : { فَدُكَّتَا } : أي : الأرضُ والجبالُ؛ لأنَّ المرادَ الشيئان المتقدِّمان كقوله : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا } [ الحجرات : 9 ] .

فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15)

قوله : { فَيَوْمَئِذٍ } : منصوبٌ ب « وَقَعَتْ » . و « وقعتِ الواقعةُ » لا بُدَّ فيه مِنْ تأويلٍ : وهو أَنْ تكونَ « الواقعةُ » صارَتْ عَلَمَاً بالغَلَبة على القيامة أو الواقعةِ العظيمة ، وإلاَّ ف « قام القائم » لا يجوزُ؛ إذ لا فائدةَ فيه ، وتقدَّم هذا في قوله { إِذَا وَقَعَتِ الواقعة } [ الواقعة : 1 ] . والتنوين في « يومئذٍ » للعوضِ مِنْ الجملةِ ، تقديره : يوم إذ نُفِخَ في الصُّور .

وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17)

قوله : { على أَرْجَآئِهَآ } : خبرُ المبتدأ . والضميرُ للسماء . وقيل : للأرض . قال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : ما الفرقُ بين قولِه » والمَلَكُ « وبين أنْ يقال : والملائكة؟ قلت : المَلَكُ أعَمُّ مِنْ الملائكةِ؛ ألا ترى أنَّ قولَك » ما مِنْ مَلَكٍ إلاَّ وهو شاهِدٌ « أعمُّ من قولِك : » ما مِنْ ملائكة « انتهى . قال الشيخ : » ولا يَظْهر أنَّ المَلَكَ أعَمُّ مِنْ الملائكةِ؛ لأنَّ المفردَ المحلَّى بالألف واللام [ الجنسية ] قُصاره أَنْ يكونَ مُراداً به الجمعُ المُحلَّى [ بهما ] ولذلك صَحَّ الاستثناءُ منه ، فقصاراه أن يكونَ كالجمعِ المُحَلَّى بهما ، وأمَّا دَعْواه أنه أعَمُّ منه بقوله : « ألا ترى إلى آخره » فليس دليلاً على دَعْواه؛ لأنَّ « مِنْ مَلَكٍ » نكرةٌ مفردةٌ في سياقِ النفيِ قد دَخَلَتْ عليها « مِنْ » المُخَلِّصةُ للاستغفارق . فَشَمَلَتْ كلَّ مَلَكٍ ، فاندرج تحتها الجمعُ لوجود الفردِ فيه ، فانتفى كلُّ فردٍ بخلافِ « مِنْ ملائكة » فإنَّ « مِنْ » دَخَلَتْ على جمع مُنكَّرٍ ، فَعَمَّ في كلِّ جمعٍ جمعٍ من الملائكة ، ولا يلزَمُ مِنْ ذلك انتفاءُ كلِّ فردٍ مَنْ الملائكة . لو قلت : « ما في الدارِ مِنْ رجال » جاز أَنْ يكونَ فيها واحدٌ؛ لأنَّ النفيَ إنما انسحب على جمعٍ ، ولا يَلْزَمُ مِنْ انتفاءِ الجمعِ أَنْ ينتفيَ المفرد ، والمَلَكُ في الآية ليس في سياقِ نفيٍ دَخَلَتْ عليه « مِنْ » وإنما جيء به مفرداً لأنه أَخفُّ ، ولأنَّ قولَه « على أَرْجائِها » يَدُلُّ على الجَمْعِ؛ لأنَّ الواحدَ بما هو واحدٌ لا يمكنُ أَنْ يكونَ « على أرجائها » في وقتٍ واحدٍ ، بل في أوقاتٍ . والمرادُ واللَّهُ أعلَمُ أنَّ الملائكةَ على أرجائها ، لا أنه مَلَكٌ/ واحدٌ ينتقِلُ على أرجائها في أوقات « .
قلت : الزمخشريُّ مَنْزَعُه في هذا ما قدَّمْتُه عنه في أواخرِ سورةِ البقرة عند قوله { وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } فليُراجَعْ ثمة . وأمَّا قولُ الشيخ : » ما [ في الدار ] مِنْ رجال ، إنَّ النفي مَنسَحِبٌ على رُتَبِ الجمعِ « ففيه خلافٌ للناسِ ونَظَرٌ . والتحقيقُ ما ذكره . والضمير في » فوقهم « يجوزُ أَنْ يعودَ على المَلَك؛ لأنه بمعنى الجمع كما تقدَّم ، وأَنْ يعودَ على الحامِلينَ الثمانيةِ . وقيل : يعود على جمع العالَمِ ، أي : إن الملائكةَ تحملُ عَرْشَ اللَّهِ تعالى فوق العالَمِ كلِّه .
قوله : { ثمانيةٌ } أَبْهم اللهُ تعالى هذا العددَ ، فلم يَذْكُرْ له تمييزاً فقيل : تقديرُه ثمانية أشخاصٍ . وقيل : ثمانيةُ صُنوفٍ .

يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)

قوله : { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ } : « تُعْرَضُون » هو جوابُ « إذا » مِنْ قولِه « فإذا نُفِخَ » ، قاله الشيخ . وفيه نظرٌ ، بل جوابُها ما تقدَّم مِنْ قولِه « وقَعَتِ الواقعة » و « تُعْرَضُون » على هذا مستأنفٌ .
قوله : { لاَ تخفى } قرأ الأخَوان بالياءِ مِنْ تحتُ؛ لأن التأنيثَ مجازيٌّ ، وللفصل أيضاً ، وهما على أصلِهما في إمالةِ الألفِ . والباقون « لا تَخْفى » بالتاءِ مِنْ فوقُ للتأنيثِ اللفظيِّ ، والفتحُ وهو الأصلُ .
قوله : { وَاهِيَةٌ } ، أي : ضعيفة . يقال : وَهَى الشيءُ يَهِي وَهْياً ، أي : ضَعُف ووهَى السِّقاءُ : انخرق . قال :
4319 خَلِّ سبيلَ مَنْ وَهَى سِقاؤُهُ ... ومَنْ هُرِيْقَ بالفَلاةِ ماؤُه
وقوله : { أَرْجَآئِهَآ } ، أي : جوانُبها ونواحيها . واحِدُها : رَجا بالقصر ، يُكتب الألف عكسَ رمى ، لقولهم رَجَوان قال :
4320 فلا يُرْمَى بِيَ الرَّجَوانِ أني ... أقَلُّ القومِ ، مَنْ يُغْني مكاني
وقال الآخر :
4321 كأَنْ لم تَرَيْ قبلي أسيراً مُقَيدَّاً ... ولا رجلاً يُرْمى به الرَّجَوانِ

فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19)

قوله : { هَآؤُمُ } : أي : خُذُوا . وفيها لغاتٌ ، وذلك أنَّها تكونُ فِعْلاً صريحاً ، وتكونُ اسمَ فعلٍ ، ومعناها في الحالَيْنِ خُذْ . فإن كانَتْ اسمَ فعلٍ وهي المذكورةُ في الآيةِ الكريمةِ ففيها لغتان : المدُّ والقَصْرُ تقول : ها درهماً يا زيدُ ، وهاءَ درهماً . ويكونان كذلك في الأحوالِ كلِّها مِنْ إفرادٍ وتثنيةٍ وجمعٍ وتذكيرٍ وتأنيثٍ ، وتتصلُ بهما كافُ الخطابِ اتصالَها باسمِ الإِشارةِ ، فَتُطابِقُ مخاطبَك بحسب الواقع ، مطابَقَتَها وهي ضميرُهُ ، نحو : هاكَ هاءكَ ، هاكِ هاءَكِ إلى آخرِه ، وتَخْلُفُ كافَ الخطابِ همزةُ « هاء » مُصَرَّفةً تَصَرُّفَ كافِ الخطابِ ، فتقول : هاءَ يا زيدُ ، وهاءِ يا هندُ ، هاؤُما ، هاؤُم ، هاؤُنَّ ، وهي لغةُ القرآن .
وإذا كانت فِعْلاً صريحاً لاتصالِ الضمائر البارزةِ المرفوعةِ بها كان فيها ثلاثُ لغاتٍ ، إحداها : أَنْ تكونَ مثلَ : عاطى يُعاطي . فيُقال : هاءِ يا زيدُ ، هائِي يا هندُ ، هائِيا يا زيدان ، أو يا هندان ، هاؤُوا يا زيدون ، هائِيْنَ يا هنداتُ . الثانية : أَنْ تكونَ مثلَ « هَبْ » فتقول : هَأْ ، هَئِي ، هَآ ، هَؤُوا ، هَأْنَ . مثلَ : هَبْ ، هَبِي ، هَبا ، هَبُوا ، هَبْنَ .
الثالثة : أَنْ يكونَ مثلَ : خَفْ أمراً مِنَ الخوفِ فيقال : هَأْ ، هائي ، هاءا ، هاؤوا ، هَأْنَ ، مثلَ : خَفْ ، خافِي ، خافا ، خافُوا ، خَفْنَ .
واختُلِفَ في مَدْلولِها : فالمشهورُ أنَّها بمعنى خُذوا . وقيل : معناها تعالوا ، فيتعدَّى ب « إلى » . وقيل : هي كلمةٌ وُضِعَتْ لإِجابةِ الداعي عند الفرحِ والنشاطِ . وفي الحديث : « أنه ناداه أعرابيٌّ بصوتٍ عالٍ ، فجاوبَه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم : هاؤُم بصَوْلةِ صَوْتِه » ومِنْ كوْنِها بمعنى « خُذْ » الحديث في الرِّبا : « إلاَّ هاءَ وهاء » أي : يقول كلُّ واحدٍ من المتبايعَيْن . خذ . وقيل معناها اقصِدوا . وزعم هؤلاء أنها مركبةٌ مِنْ ها التنبيه وأمُوا من الأَمِّ ، وهو القَصْدُ فصَيَّره التخفيفُ والاستعمالُ إلى هاؤم . وقيل الميم ضميرُ جماعةِ الذكورِ . وزَعَم القُتَبيُّ أنَّ الهمزةَ بدلٌ من الكافِ ، فإنْ عَنَى أنَّها تَحُلُّ مَحَلَّها فصحيحٌ . وإنْ عَنَى البدَل الصناعيَّ فليس بصحيح .
وقوله : { هَآؤُمُ } يطلبُ مفعولاً يتعدَّى إليه بنفسِه ، إنْ كان بمعنى خُذْ أو اقْصِدْ ، وب « إلى » إنْ كان بمعنى تعالَوا . و « اقْرؤُوا » يَطْلُبُه أيضاً فقد تنازَعا في « كتابِيَهْ » وأعملَ الثاني للحَذْفِ من الأولِ . وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في سورة الكهفِ وفي غيرِها . والهاءُ في « كتابِيَهْ وحِسابِيَهْ وسُلْطانِيَهْ ومالِيَهْ » للسَّكْت ، وكان حقُّها أَنْ تُحْذَفَ وَصْلاً ، وتَثْبُتَ وَقْفاً ، وإنما أُجْرِيَ الوَصْلُ مُجْرَى الوقفِ ، أو وُصِلَ بنيَّة الوقفِ في « كتابِيَهْ وحِسابِيَهْ » اتفاقاً فأَثْبَتَ الهاء ، وكذلك في « مالِيه وسُلْطانِيَهْ » ، و « ما هِيَهْ » في { القارعة } [ القارعة : 10 ] عند القُرَّاءِ كلِّهم إلاَّ حمزةَ رحمه الله فإنه حَذَفَ الهاءَ مِنْ هذه الكَلِمِ الثلاثِ وَصْلاً وأَثْبَتَها وقفاً؛ لأنَّها في الوقفِ يُحْتاج إليها لتحصينِ حركةِ الموقوفِ عليه ، وفي الوصلِ يُسْتَغْنَى عنها .

فإنْ قيل : فلِمَ لَمْ يَفْعَلْ ذلك في « كِتَابِيَهْ/ وحسابِيَهْ » فالجوابُ : أنه جَمْعٌ بني اللغتين ، هذا في القراءاتِ السبعِ . وقرأ ابنُ محيصن بحَذْفِها في الكَلِم كلِّها وَصْلاً ووَقْفاً ، إلاَّ في « القارعة » ، فإنه لم يَتَحَقَّقْ عنه فيها نَقْلٌ . وقرأ الأعمشُ وابنُ أبي إسحاق بحَذْفِها فيهنَّ وَصْلاً ، وإثباتِها وَقْفاً . وابن محيصن يُسَكِّنُ الياءَ في الكَلِمِ المذكورةِ وَصْلاً . والحقُّ أنها قراءةٌ صحيحةٌ أعني ثبوتَ هاءِ السكتِ وَصْلاً ، لثبوتِها في خَطِّ المصحفِ الكريمِ ، فلا يُلْتَفَتُ إلى قولِ الزهراوي : « إنَّ إثباتَها في الوصلِ لَحْنٌ ، لا أعلَمُ أحداً يُجيزه » . وقد تقدَّم الكلامُ على هاءِ السكتِ في البقرة . والأنعام بأشبعَ مِنْ هذا فعليك باعتبارِه .

فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21)

قوله : { رَّاضِيَةٍ } : فيها ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه على المجازِ ، جُعِلَتِ العِيشةُ راضيةً لمحَلِّها وحُصولِها في مُسْتحقِّيها ، أو أنها لا حالَ أكملُ مِنْ حالِها . الثاني : أنَّه على النَّسَبِ أي : ذاتِ رِضا نحو : لابِن وتامِر . الثالث : أنها ممَّا جاء فيه فاعِل بمعنى مَفْعول نحو : { مِن مَّآءٍ دَافِقٍ } [ الطارق : 6 ] أي : مَدْفوق ، كما جاء مَفْعول بمعنى فاعِل كقولِه : { حِجَاباً مَّسْتُوراً } [ الإِسراء : 45 ] أي : ساتِراً ، وقد تقدَّم ذلك .

قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23)

والقُطوف : جمعُ قِطْفٍ ، وهو فِعْل بمعنى مَفْعول كالرِّعْي والذِّبْح وهو ما يَجْتَنيه الجاني مِن الثمار .

كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)

قوله : { كُلُواْ } : أي : يُقال لهم : كُلوا : و « هَنيئاً » قد تقدَّم في أولِ النساء . وجَوَّز الزمخشريُّ فيه هنا أن ينتصِبَ نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ أي : أَكْلاً هَنيئاً ، وشُرْباً هنيئاً ، وأَنْ ينتصِبَ على المصدرِ بعاملٍ مِنْ لفظِه مقدرٍ أي : هَنِئْتُمْ بذلك هَنيئاً . و « بما أَسْلَفْتُم » الباءُ سببيةٌ ، و « ما » مصدريةٌ أو اسميةٌ .

مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28)

قوله : { مَآ أغنى } : يجوز أَنْ يكونَ نفياً ، وأَنْ يكونَ استفهامَ توبيخٍ لنفسِه .

خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30)

وقوله : { خُذُوهُ } كقولِه : { كُلُواْ } [ الحاقة : 24 ] في إضمار القولِ . وقوله : { ثُمَّ الجحيم صَلُّوهُ } تقديمُ المفعولِ يُفيد الاختصاصَ عند بعضهم؛ ولذلك قال الزمخشري : « ثم لا تَصْلُوه إلاَّ الجحيمَ » . قال الشيخ : « وليس ما قاله مَذْهَباً لسيبويه ولا لحُذَّاقِ النحاة » . قلت : قد تقدَّمَتْ هذه المسألةُ مُتْقَنَةً ، وأنَّ كلامَ النحاةِ لا يأبى ما قاله .

ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32)

قوله : { ذَرْعُهَا سَبْعُونَ } : في محلِّ جر صفةً ل « سِلْسِلَةٍ » و « في سِلْسِلَة » متعلِّقٌ ب « اسْلُكوه » والفاءُ لا تَمْنع من ذلك . والذِّراعُ مؤنثٌ ، ولذلك يُجْمَعُ على أفْعُل وسَقَطَتْ التاءُ مِنْ عددِه قال :
4322- أَرْمي عليها وهي فَرْعٌ أَجْمَعُ ... وهي ثلاثُ أَذْرُعٍ وإصبعُ
وزعم بعضُم أنَّ في قولِه : « في سِلْسلة » « فاسلكوه » قلباً ، قال : لأنه نُقِلَ في التفسير أنَّ السِّلسلةَ تَدْخُل مِنْ فيه ، وتخرجُ مِنْ دُبُرِه ، فهي المَسْلُوْكة فيه ، لا هو مَسْلوكٌ فيها . والظاهرُ أنه لا يُحتاج إلى ذلك لأنه رُوي أنَّها لطولِها تُجْعَلُ في عنقِه وتَلتَوي عليه ، حتى تُحيطَ به مِنْ جميعِ جهاتِه ، فهو المَسْلوكُ فيها لإِحاطتِها به .
وقال الزمخشري : « والمعنى في تقديم السِّلسلةِ على السَّلْك مثلُه في تقديمِ الجحيمِ على التَّصْليةِ أي : لا تَسْلُكوه إلاَّ في هذه السلسلةِ و » ثُمَّ « للدلالةِ على التفاوُتِ لِما بين الغَلِّ والتَّصْليةِ بالجَحيم ، وما قبلَها ، وبينَ السَّلْكِ في السِّلسلة لا على تراخي المُدَّة » . ونازعه الشيخُ في إفادةِ التقديم الاختصاصَ كعادتِه ، وجوابُه ما تقدَّم ، ونازَعه أيضاً في أنَّ « ثُمَّ » للدلالة على تراخي الرتبة . وقال : « يمكنُ التراخي الزماني : بأَنْ يَصْلَى بعد أن يُسْلَكَ ، ويُسْلَكَ بعد أَنْ يُؤْخَذَ ويُغَلَّ بمهلةٍ بين هذه الأشياءِ » . انتهى . وفيه نظرٌ : من حيث إن التوعُّدَ بتوالي العذابِ آكَدُ وأقطعُ مِنْ التوعُّدِ بتَفْريقه .

وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34)

وقله : { وَلاَ يَحُضُّ } : الحضُّ : البَعْثُ على الفعلِ والحِرْصُ على وقوعِه ، ومنه حروفُ التحضيض المُبَوَّبُ لها في النحوِ؛ لأنه يُطْلَبُ بها وقوعُ الفعلِ وإيجادُه .

فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35)

قوله : { فَلَيْسَ لَهُ اليوم هَا هُنَا حَمِيمٌ } : في خبرِ « ليس » وجهان ، أحدهما : « له » ، والثاني : « ههنا » ، وأيُّهما كان خبراً تعلَّق به الآخَرُ ، أو كان حالاً مِنْ « حميمٌ » . ولا يجوزُ أَنْ يكونَ « اليومَ » خبراً البتة لأنه زمانٌ ، والمُخْبَرُ عنه جثةٌ . ومنع المهدويُّ أَنْ يكونَ « ههنا » خبراً ، ولم يَذْكُرِ المانعَ . وقد ذكره القرطبي فقال : « لأنه يَصيرُ المعنى : ليس ههنا طعامٌ إلاَّ مِنْ غسْلين/ ولا يَصِحُّ ذلك لأنَّ ثَمَّ طعاماً غيرَه » . انتهى . وفي هذا نظرِ؛ لأنَّا لا نُسَلِّم أولاً أنَّ ثَمَّ طعاماً غيرَه . فإنْ أَْرَدَ قولَه : { لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ } [ الغاشية : 6 ] فهذا طعامٌ آخرُ غيرُ الغِسْلين . فالجوابُ : أنَّ بعضَهم ذهب إلى أن الغِسْلينَ هو الضَّريعُ بعينِه فسمَّاه في آيةٍ غِسْليناً ، وفي أخرى ضَريعاً . ولَئِنْ سَلَّمْنا أنهما طعامان فالحَصْرُ باعتبارِ الآكلين . يعني أنَّ هذا الآكلَ انحصَر طعامُه في الغِسْلِيْنِ ، فلا يُنافي أَنْ يكونَ في النار طعامٌ آخر . وإذا قُلْنا : إنَّ « له » الخبر ، وإن « اليوم » و « ههنا » متعلِّقان بما تعلَّقَ هو به فلا إشكال . وكذاك إذا جَعَلْنا « ههنا » هو الخبرَ ، وعَلَّقْنا به الجارَّ والظرفَ ولا يَضُرُّ كونُ العاملِ معنوياً للاتساع في الظروفِ وحروف الجرِّ .

وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36)

قوله : { إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ } : صفةٌ ل « طعامٌ » دَخَلَ الحصرُ على الصفةِ ، كقولك : « ليس عندي رجلٌ إلاَّ من بني تميمٍ » والمرادُ بالحميم الصديقُ ، فعلى هذا الصفةُ مختصَّةٌ بالطعامِ أي : ليس له صديق ينفعُه ولا طعامٌ إلاَّ مِنْ كذا . وقيل : التقديرُ : ليس له حميمٌ إلاَّ مِنْ غِسْلين ولا طعامٌ ، قاله أبو البقاء ، فجعل « مِنْ غِسْلين » صفةً للحميم ، كأنَّه أرادَ به الشيءَ الذي يُحَمُّ به البدنُ مِن صديدِ النارِ . ثم قال : « وقيل : من الطعامِ والشرابِ؛ لأنَّ الجميعَ يُطْعَمُ بدليله قولِه : { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ } [ البقرة : 249 ] فعلى هذا يكونُ { إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ } صفةً ل » حميم « ول » طعام « ، والمرادُ بالحَميم ما يُشْرَبُ . والظاهرُ أنَّ خبرَ » ليس « هو قوله : » مِنْ غِسْلين « إذا أُرِيد بالحميم ما يُشْرَبُ أي : ليس له شرابٌ ولا طعامٌ إلاَّ غِسْليناً . أمَّا إذا أُريد بالحميمِ الصديقُ فلا يتأتَّى ذلك . وعلى هذا الذي ذكَرْتُه فيُسْألُ عمَّا يُعَلَّقُ به الجارُّ والظرفان؟ والجوابُ : أنها تتعلَّقُ بما تعلَّقَ به الخبرُ ، أو يُجْعَلُ » له « أو » ههنا « حالاً مِنْ » حميم « ، ويتعلَّقُ » اليوم « بما تَعَلَّق به الحالُ . ولا يجوزُ أَنْ يكونَ » اليومَ « حالاً مِنْ » حميم « ، و » له « و » ههنا « متعلِّقان بما تعلَّق به الحالُ؛ لأنه ظرفُ زمانٍ ، وصاحبُ الحالِ جثةٌ . وهذا الموضِعُ موضِعٌ حَسَنٌ مفيدٌ فتأمّلْه .
والغِسْلِين : فِعْلِيْن مِن الغُسالةِ ، فنونُه وياؤُه زائدتان . قال أهلُ اللغة : هو ما يَجْري من الجِراح إذا غُسِلَتْ . وفي التفسير : هو صَديدُ أهلِ النار . وقيل : شجرٌ يأكلونه .

لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)

قوله : { لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الخاطئون } : صفةٌ ل « غِسْلين » . والعامَّةُ يَهْمِزُون « الخاطِئُون » وهو اسمُ فاعلٍ مِنْ خَطِىءَ يَخْطأ ، إذا فَعَلَ غيرَ الصوابِ متعمِّداً ، والمُخْطِىءُ مَنْ يفعلُه غيرَ متعمِّدٍ .
وقرأ الزُّهريُّ والعَتكِيُّ وطلحة والحسن « الخاطِيُون » بياءٍ مضمومةٍ بدلَ الهمزة . وقد تقدَّم مثلُه في « مُسْتَهْزِيُون » أولَ هذا الموضوع . وقرأ نافعٌ في روايةٍ ، وشيخُه وشَيْبَةُ بطاءٍ مضمومةٍ دونَ همزِ . وفيها وجهان ، أحدُهما : أنَّه كقراءةِ الجماعةِ ، إلاَّ أنه خُفِّفَ بالحَذْفِ . والثاني : أنه اسمُ فاعلٍ مِن خطا يخطو إذا اتَّبع خطواتِ غيرِه . فيكونُ مِنْ قولِه : { لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان } [ النور : 21 ] قاله الزمخشري ، وقد مَرَّ في أول هذا الموضوع أنَّ نافعاً يَقْرأ « الصابِييْنَ » بدونِ همزٍ ، وتقدَّم ما نَقَلَ الناسُ فيها ، وعن ابن عباس : ما الخاطُون كلُّنا نَخْطُو . ورَوى عنه أبو الأسودِ الدؤليُّ : « ما الخاطُون ، إنما هو الخاطئُون وما الصابُون ، إنما هو الصابِئُون » .

فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38)

وقوله : { فَلاَ أُقْسِمُ } : قد تقدَّم مثلُه في آخرِ الواقعة ، وأَشْبَعْتُ القولَ ثَمَّةَ إلاَّ أنَّه قيل ههنا : إنَّ « لا » نافيةٌ لفعلِ القسم ، وكأنَّه قيل : لا أَحْتاجُ أَنْ أُقْسِمَ على هذا؛ لأنه حقٌّ ظاهرٌ مُسْتَغْنٍ عن القسمِ ، ولو قيل به في الواقعة لكان حَسَناً .

إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40)

قوله : { إِنَّهُ لَقَوْلُ } : هو جواب القسمِ .

وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41)

قوله : { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ } : معطوفٌ على الجوابِ فهو جواب . أَقْسَمَ على شيئين ، أحدُهما مُثْبَتٌ ، والآخرُ منفيٌّ وهو من البلاغةِ الرائعة .
قوله : { قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ } { قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } انتصبَ « قليلاً » في الموضعَيْنِ نعتاً لمصدرٍ أو زمانٍ محذوفٍ أي : إيماناً قليلاً أو زماناً قليلاً . والناصب تُؤْمِنون وتَذَكَّرون ، و « ما » مزيدةٌ/ للتوكيدِ . وقال ابنُ عطيةَ : « ونُصِبَ » قليلاً « بفعلٍ مضمرٍ ، يَدُلُّ عليه » تُؤْمِنون « . وما يُحتمل أَنْ تكونَ نافيةً فيَنْتَفِيَ إيمانُهم البتةَ ، ويُحتمل أَنْ تكونَ مصدريةً ، ويتصفَ بالقلَّةِ ، فهو الإِيمانُ اللغويُّ؛ لأنَّهم قد صَدَّقوا بأشياءَ يسيرةٍ ، لا تُغْني عنهم شيئاً؛ إذ كانوا يُصَدِّقون بأنَّ الخيرَ والصِّلةَ والعفافَ الذي يأمرُ به رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم هو حقٌّ وصوابٌ » . قال الشيخ : « أمَّا قولُه : » قليلاً « نُصِبَ بفعلٍ إلى آخره فلا يَصِحُّ؛ لأن ذلك الفعلَ الدالَّ عليه » تُؤْمنون « : إمَّا أن تكونَ » ما « نافيةً [ أو مصدريةً ] كما ذَهَب إليه . فإنْ كانَتْ نافيةً فذلك الفعلُ المضمرُ الدالُّ عليه » تُؤْمِنون « المنفيُّ ب » ما « يكونُ منفيّاً ، فيكون التقدير : ما تُؤْمِنون قليلاً ما تؤمنون ، والفعلُ المنفيُّ ب » ما « لا يجوزُ حَذْفُه ولا حَذْفُ » ما « ، لا يجوز : » زيداً ما أَضْرِبُه « على تقدير : ما أضربُ زيداً ما أَضْرِبُه . وإنْ كانَتْ مصدريةً كانَتْ : إمَّا في موضع رفعٍ ب » قليلاً « على الفاعلية ، أي : قليلاً إيمانُكم ، ويبقى » قليلاً « لا يتقدَّمه مَا يَعْتمد عليه حتى يعملَ ، ولا ناصبَ له ، وإمَّا في موضعِ رفعٍ على الابتداءِ فيكونُ مبتدأً لا خبرَ له ، لأنَّ ما قبلَه منصوبٌ » .
قلت : لا يريدُ ابنُ عطيةَ بدلالةِ « تُؤْمنون » على الفعلِ المحذوفِ الدلالةَ المذكورةَ في بابِ الاشتغالِ ، حتى يكونَ العاملُ الظاهر مفسِّراً للعاملِ المضمرِ ، بل يريدُ مجرَّدَ الدلالةِ اللفظيةِ ، فليس ما أوردَه الشيخُ عليه مِنْ تمثيلِه بقولِه : « زيداً ما أَضْرِبُه » أي : ما أضربُ زيداً ما أضربه بواردٍ .
وأمَّا الردُّ الثاني فظاهرٌ . وقد تقدَّم لابنِ عطيةَ هذا القولُ في أول سورةِ الأعراف وتكلَّمْتُ معه ثَمَّة . وقال الزمشخريُّ : « والقلَّةُ في معنى العَدَمِ أي : لا تُؤْمنون ولا تَذَكَّرون البتة » . قال الشيخ : « ولا يُرادُ ب » قليلاً « هنا النفيُ المَحْض ، كما زعم ، وذلك لا يكونُ إلاَّ في » أقَلَّ « نحو : » أقَلُّ رجلٍ يقولُ ذلك إلاَّ زيدٌ « وفي » قَلَّ « نحو : » قَلَّ رجلٌ يقولُ ذلك إلاَّ زيدٌ « وقد يُستعمل في قليل وقليلة ، أمَّا إذا كانا مرفوعَيْنِ ، نحوُ ما جَوَّزوا في قولِه :

4323 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... قليلٌ بها الأصواتُ إلاَّ بُغامُها
أمَّا إذا كان منصوباً نحو : « قليلاً ضَرَبْتُ » أو « قليلاً ما ضَرَبْتُ » على أَنْ تكونَ « ما » مصدريةً فإنَّ ذلك لا يجوزُ؛ لأنَّه في « قليلاً ضربْتُ » منصوبٌ ب « ضربْتُ » . ولم تَستعمل العربُ « قليلاً » إذا انتصَبَ بالفعلِ نفياً ، بل مقابلاً لكثير ، وأمَّا في « قليلاً ما ضربْتُ » على أَنْ تكونَ « ما » مصدريةً فتحتاج إلى رفع « قليل » لأنَّ « ما » المصدريةَ في موضعِ رفع على الابتداء « انتهى ما رَدَّ به ، وهو مجردُ دَعْوى .
وقرأ ابن كثير وابن عامر بخلافٍ عن ابن ذكوان بالغَيْبة في » يؤمنون « و » يَذَّكَّرون « حَمْلاً على قولِه : » الخاطِئون « ، والباقون بالخطاب حَمْلاً على » بما تُبْصِرون وما لا تُبْصرون « . وأُبَيٌّ » تتذكَّرون « بتاءين .

تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43)

قوله : { تَنزِيلٌ } : هذه قراءةُ العامَّة ، أعني الرفعَ على إضمارِ مبتدأ ، أي : هو تنزيلٌ ، وتقدَّم مثلُه . وأبو السَّمَّال « تَنْزيلاً » بالنصبِ على إضمارِ فعل أي : نَزَّل تنزيلاً .

وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44)

قوله : { وَلَوْ تَقَوَّلَ } : هذه قراءةُ العامَّةِ . تَفَعَّل من القولِ مبنيّاً للفاعلِ . وقال الزمخشري : « التقوُّلُ افعتالُ القولِ؛ لأن فيه تكلُّفاً من المُفْتَعِل » . وقرأ بعضُهم « تُقُوِّل » مبنياً للمفعول . فإن كان هذا القارىءُ رفع « بعضُ الأقاويل » فذاك ، وإلاَّ فالقائمُ مَقامَ الفاعلِ الجارُّ ، وهذا عند مَنْ يرى قيامَ غيرِ المفعول به مع وجودِه . وقرأ ذكوان وابنه محمد « يقولُ » مضارعُ « قال » . والأقاويلُ : جمعُ أقوالٍ ، وأقوالٌ جمع قَوْل ، فهو نظير « أباييت » جمعُ أَبْيات جمعُ بَيْت . وقال الزمخشري : « وسَمَّى الأقوالَ المتقوَّلةَ أقاويلَ تصغيراً لها وتحقيراً ، كقولك : أعاجيب ، وأضاحيك ، كأنها جمع أُفْعُولة من القَوْل » .

لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45)

قوله : { باليمين } : يجوزُ أَنْ تكونَ الباءُ على أصلِها غيرَ مزيدةٍ والمعنى : لأَخَذْناه بقوةٍ مِنَّا ، فالباءُ حاليةٌ ، والحالُ من الفاعلِ ، وتكون في حكم الزائدةِ . واليمينُ هنا مَجازٌ عن القوةِ والغَلَبة ، وأَنْ تكونَ مزيدةً ، والمعنى : لأَخَذْنا منه يمينَه ، والمرادُ باليمين الجارِحَةُ ، كما يُفْعَلُ بالمقتول صَبْراً يُؤْخَذُ بيميِنه ، ويُضرب بالسيفِ في جيده مواجهةً ، وهو أشَدُّ عليه . والوتينُ نِياطُ القلبِ ، إذا انقطعَ ماتَ صاحبُه . وقال الكلبي : « هو عِرْقٌ بين العِلْباء والحُلْقوم ، وهما عِلْباوان ، بينهما العِرْقُ ، والعِلْباءُ : / عَصَبُ العُنُق » . وقيل : عِرْقٌ غليظٌ تصادِفُه شَفْرة الناحِرِ . قال الشمّاخ :
4324 إذا بَلَّغْتِني وحَملْتِ رَحْلِي ... عَرابةَ فاشْرَقي بدمِ الوتينِ

فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)

قوله : { حَاجِزِينَ } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنه نعتٌ ل « أحد » على اللفظِ ، وإنما جُمع على المعنى؛ لأنَّ « أحداً » يَعُمُّ في سياقِ النفي كسائرِ النكراتِ الواقعة في سياقِ النفي ، قاله الزمخشريُّ والحوفيُّ ، وعلى هذا فيكون « منكم » خبراً للمبتدأ ، والمبتدأ « مِنْ أحدٍ » زِيْدَتْ فيه « مِنْ » لوجود شرطَيْها . وضَعَّفه الشيخُ : بأنَّ النفيَ يتسَلَّطُ على كَيْنونتِه منكم ، والمعنى إنما هو على نفي الحَجْزِ عَمَّا يُراد به . والثاني : أَنْ يكونَ خبراً ل « ما » الحجازية و « مِنْ أحد » اسمُها ، وإنما جُمعَ الخبرُ لِما تقدَّم ، و « منكم » على هذا حالٌ؛ لأنه في الأصلِ صفةٌ ل « أحد » أو يتعلَّقُ ب « حاجِزين » . ولا يَضُرُّ ذلك؛ لكونِ معمولِ الخبرِ جارّاً ، ولو كان مفعولاً صريحاً لامتنع . لا يجوز : « ما طعامَك زيدٌ آكلاً » أو يتعلَّقُ بمحذوفٍ على سبيل البيان . و « عنه » متعلِّقٌ ب « حاجزين » على القولَيْن ، والضميرُ للمتقوِّلِ أو للقَتْلِ المدلولِ عليه بقولِه : « لأَخَذْنا » ، « لَقَطَعْنا » .

وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48)

قوله : { وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ } : أي : القرآن ، وكذلك « إنه لحَسْرة » . وقيل : إنَّ التكذيبَ به ، لدلالةِ « مكذِّبين » على المصدرِ دلالةَ السَّفيه عليه في قولِه :
4325 إذا نُهِي السَّفيهُ جرى إليه ... وحالفَ والسَّفيهُ إلى خِلافِ
أي إلى السَّفَهِ .

سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1)

قوله : { سَأَلَ } : قرأ نافع وابنُ عامر بألفٍ مَحْضَةٍ . والباقون بهمزةٍ مُحَقَّقةٍ ، وهي الأصلُ ، وهي اللغةُ الفاشيةُ . ثم لك في « سأل » وجهان أحدُهما : أنْ يكونَ قد ضُمِّنَ معنى دعا؛ فلذلك تعدَّى بالباء ، كما تقول : دعوت بكذا . والمعنى : دعا داعٍ بعذابٍ . والثاني : أَنْ يكونَ على أصلِه . والباءُ بمعنى عن ، كقوله :
4326 فإن تَسْألوني بالنساء . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
« فأسْأل بن خبيرا » ، وقد تقدَّم تحقيقُه . والأولُ أَوْلَى؛ لأن التجوُّزَ في الفعل أَوْلَى منه في الحرف لقوتِه .
وأمَّا القراءةُ بالألفِ ففيها ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنها بمعنى قراءةِ الهمزة ، وإنما خُفِّفَتْ بقَلْبِها ألفاً ، وليس بقياسِ تخفيفِ مثِلها ، بل قياسُ تخفيفِها جَعْلُها بينَ بينَ . والباءُ على هذا الوجهِ كما في الوجهِ الذي تقدَّم . الثاني : أنها مِنْ سال يَسال مثلُ خاف يَخاف . وعينُ الكلمةِ واوٌ . قال الزمخشري : « وهي لغةُ قريش يقولون : سِلْتَ تَسالُ ، وهما يتسايلان » . قال الشيخ : « وينبغي أَنْ يُتَثَبَّتَ في قوله : » إنها لغةُ قريشٍ ، لأنَّ ما جاء في القرآنِ من باب السؤالِ هو مهموزٌ ، أو أصلُه الهمزُ ، كقراءةِ مَنْ قرأ « وسَلُوا اللهُ مِنْ فضلِه » [ النساء : 32 ] إذ لا جائزٌ أَنْ يكونَ مِنْ « سال » التي عينُها واوٌ ، إذ كان يكون ذلك « وسَالوا اللهَ » مثلَ « خافوا » ، فيَبْعُدُ أن يجيءَ ذلك كلُّه على لغةِ غيرِ قريشٍ ، وهم الذين نَزَل القرآنُ بلغتِهم إلاَّ يسيراً ، فيه لغةُ غيرِهم . ثم في كلامِ الزمخشريِّ « وهما يتسايَلان » بالياء ، وهو وهمٌ من النسَّاخ ، إنما الصوابُ : يتساوَلان بالواو ، لأنه صَرَّحَ أولاً أنه من السُوال يعني بالواو الصريحةِ ، وقد حكى أبو زيدٍ عن العربِ : « هما يتساولان » . الثالث : أنَّها مِنْ السَّيَلان . والمعنى : سالَ وادٍ في جهنم بعذابٍ ، فالعينُ ياءٌ ، ويؤيِّدُه قراءةُ ابن عباس « سالَ سَيْلٌ » . قال الزمخشريُّ : « والسَّيْلُ مصدرٌ في معنى السائلِ كالغَوْر بمعنى الغائر . والمعنى : اندفع عليهم وادي عذابٍ » انتهى . والظاهرُ الوجهُ الأولُ لثبوتِ ذلك لغةً مشهورةً قال :
4327 سالَتْ هُذَيْلٌ رسولَ اللهِ فاحشةً ... ضَلَّتْ هُذَيلٌ بما سالَتْ ولم تُصِبِ
وقرأ أُبَيٌّ وعبد الله « سال سالٌ » مثلَ « مال » وتخريجُها : أنَّ الأصلَ « سائلٌ » فحُذِفَتْ عينُ الكلمةِ وهي الهمزةُ ، واللامُ محلُّ الإِعرابِ وهذا كما قيل : « هذا شاكٌ » في شائِكِ السِّلاح وقد تقدَّم الكلامُ على مادةِ السؤالِ في أول البقرة ، / فعليك باعتبارِه .
والباءُ تتعلَّق ب « سال » من السَّيَلان تعلُّقَها ب « سال الماءُ بزيدٍ » . وجَعَلَ بعضُهم الباءَ متعلقةً بمصدرٍ دَلَّ عليه فِعْلُ السؤال ، كأنه قيل : ما سؤالُهم؟ فقيل : سؤالُهم بعذابٍ ، كذا حكاهُ الشيخ عن الإِمام فخر الدين ، ولم يَعْتَرِضْه . وهذا عَجَبٌ؛ فإنَّ قولَه أولاً « إنه متعلِّقٌ بمصدرٍ دَلَّ عليه فِعْلُ السؤال » يُنافي تقديرَه بقولِه : « سؤالُهم بعذاب »؛ لأنَّ الباءَ في هذا التركيبِ المقدَّرِ تتعلَّق بمحذوفٍ لأنها خبرُ المبتدأ ، لا بالسؤال .
وقال الزمخشري : « وعن قتادةَ : سأل سائلٌ عن عذابِ الله بمَنْ يَنْزِلُ وعلى مَنْ يقعُ؟ فَنَزَلَتْ ، و » سأَل « على هذا الوجهِ مُضَمَّنٌ معنى عُنِيَ واهتمَّ » .

لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2)

قوله : { لِلْكَافِرِينَ } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أَنْ يتعلَّقَ ب « سأل » مضمَّناً معنى « دَعا » كما تقدَّم ، أي : دعا لهم بعذابٍ واقع . الثاني : أَنْ يتعلَّقَ ب « واقعٍ » واللامُ للعلةِ ، أي : نازلٌ لأجلِهم . الثالث : أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ صفةً ثانيةً ل « عذابٍ » ، أي : كائنٍ للكافرين . الرابع : أَنْ يكونَ جواباً للسائلِ ، فيكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ ، أي : هو للكافرين . الخامس : أَنْ تكونَ اللامُ بمعنى على ، أي : واقعٍ على الكافرين ، ويؤيِّده قراءةُ أُبَيّ « على الكافرين » ، وعلى هذا فهي متعلِّقةٌ ب « واقعٍ » لا على الوجهِ الذي تقدَّم قبلَه .
وقال الزمخشريُّ : « فإنْ قلتَ : بم يتصِلُ قولُه » للكافرين «؟ قلت : هو على القولِ الأولِ متصلٌ بعذاب صفةً له ، أي : بعذابٍ واقعٍ كائنٍ للكافرين ، أو بالفعل ، أي : دعا للكافرين بعذابٍ واقعٍ ، أو بواقع ، أي : بعذابٍ نازلٍ لأَجْلِهم . وعلى الثاني : هو كلامٌ مبتدأٌ ، جواباً للسائل ، أي : هو للكافرين » انتهى .
قال الشيخ : « وقال الزمشخريُّ : » أو بالفعلِ ، أي : دعا للكافرين ، ثم قال : وعلى الثاني وهو ثاني ما ذَكَرَ في توجيهِه للكافرين قال : هو كلامٌ مبتدأٌ جواباً للسائلِ ، أي : هو للكافرين . وكان قد قَرَّر أنَّ « سَأَلَ » ضُمِّن معنى « دعا » فعُدِّيَ تعديتَه ، كأنه قال : دعا داعٍ بعذابٍ ، مِنْ قولِك : دعا بكذا إذا استدعاه وطَلَبه ، ومنه قولُه تعالى : { يَدْعُونَ فِيهَا بِكلِّ فَاكِهَةٍ } [ الدخان : 55 ] انتهى . فعلى ما قَرَّره أنه متعلِّقٌ ب « دعا » يعني ب « سأل » ، فكيف يكونُ كلاماً مبتدأ جواباً للسائلِ ، أي : هو للكافرين؟ هذا لا يَصِحُّ « .
هذا كلامُ الشيخِ برُمَّتِه ، وقد غَلِط على أبي القاسم في فَهْمِه عنه قولَه : » وعلى الثاني إلى آخره « فمِنْ ثَمَّ جاء التَّخْبيطُ الذي ذكرَه . والزمخشريُّ إنما عنى بالثاني قولَه : » وعن قتادةَ سأل سائلٌ عن عذابِ الله على مَنْ يَنْزِلُ وبمَنْ يقع ، فنزلَتْ ، وسأَلَ على هذا الوجهِ مُضَمَّنٌ معنى عُنِيَ واهتم « فهذا هو الوجهُ الثاني المقابِلُ للوجهِ الأولِ : وهو أنَّ » سأَلَ « مضمَّنٌ معنى » دعا « ، ولا أدري كيف تَخَبَّط على الشيخِ حتى وقع فيما وَقَعَ ، ونَسَبَ الزمخشريَّ إلى الغَلَطِ ، وأنه أخذ قولَ قتادةَ والحسنِ وأفسَده؟ والترتيبُ الذي رتَّبه الزمخشريُّ في تعلُّقِ اللامِ مِنْ أحسنِ ما يكونُ صناعةً ومعنى .
قوله : { لَيْسَ لهُ دافِعٌ } يجوزُ أَنْ يكونَ نعتاً آخر ل » عذابٍ « ، وأَنْ يكونَ مستأنفاً ، والأولُ أظهرُ ، وأَنْ يكونَ حالاً مِنْ » عذاب « لتخصُّصه : إمَّا بالعملِ ، وإمَّا بالصفة ، وأَنْ يكونَ حالاً من الضميرِ في » للكافرين « إنْ جَعَلْناه نعتاً ل » عذابٍ « .

مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3)

قوله : { مِّنَ الله } : يجوزُ أَنْ يتعلَّق ب « دافعٌ » بمعنى : ليس له دافعٌ مِنْ جهته إذا جاء وقتُه ، وأَنْ يتعلَّقَ ب « واقع » وبه بَدَأَ الزمخشريُّ ، أي : واقعٌ من عندِه . وقال أبو البقاء : « ولم يَمْنَعِ النفيُ من ذلك؛ لأنَّ » ليس « فعلٌ » ، كأنه استشعرَ أنَّ ما قبلَ النفيِ لاَ يعملُ فيما بعدَه ، فأجاب : بأنَّ النفيَ لَمَّا كان فِعْلاً ساغ ذلك .
وقال الشيخ : « والأجودُ أَنْ يكونَ » من الله « متعلقاً ب » واقعٍ « ، و » ليس له دافعٌ « جملةُ اعتراضٍ بين العاملِ ومعمولِه » انتهى . وهذا إنما يأتي على القولِ بأنَّ الجملةَ مستأنفةٌ ، لا صفةٌ ل « عذاب » وهو غيرُ الظاهرِ ، كما تقدَّم لأَخْذِ الكلامِ بعضِه بحُجْزَةِ بعضٍ .
قوله : { ذِي } صفقةٌ ل « الله » . والعامَّةُ « تَعْرُج » بالتاء « منْ فوقُ . والكسائيُّ بالياءِ مِنْ تحتُ وهما كقراءتَيْ » فناداه الملائكةُ « ، التاءِ ، واسْتَضْعَفَها بعضهُم : من حيث إنَّ مَخْرَج الجيمَ بعيدٌ/ مِنْ مَخْرَجِ التاءِ . وأُجيب عن ذلك : بأنَّها قريبةٌ من الشينِ؛ لأنَّ النَّفَس الذي في الشينِ يُقَرِّبُها مِنْ مَخْرَجِ التاءِ ، الجيمُ تُدْغَمُ في الشين لِما بينهما من التقاربِ في المَخْرَجِ والصفةِ ، كما تقدَّم في { أَخْرَجَ شَطْأَهُ } [ الفتح : 29 ] فَحُمِل الإِدغامُ في التاءِ على الإِدغامِ في الشينِ؛ لِما بينَ الشينِ والتاءِ من التقاربِ . وأُجيب أيضاً : بأنَّ الإِدغامَ يكونُ لمجرَّدِ الصفاتِ ، وإنْ لم يتقارَبَا في المَخْرَجِ ، والجيمُ تُشارِكُ التاءَ في الاستفالِ والانفتاحِ والشِّدَّةِ . وتقدَّم الكلامُ على المعارجِ في الزخرف .

تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)

قوله : { والروح } : مِنْ بابِ عطفِ الخاصِّ على العامِّ ، إنْ أُريد بالروح جبريلُ عليه السلام ، أَو مَلَكٌ آخرُ مِنْ جِنسِهم ، وأُخِّر هنا ، وقُّدِّم في قولِه : { يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً } [ النبأ : 38 ] لأنَّ المَقَامَ هنا يَقْتَضي تَقَدُّمَ الجمع على الواحدِ من حيث إنه مَقامُ تَخْويفٍ وتهويلٍ . و « وكان مِقْدارُه » صفةٌ ل « يومَ » ، والجملةُ مِنْ « تَعْرُجُ » مستأنفةٌ .
قوله : { فِي يَوْمٍ } فيه وجهان ، أظهرُهما : تَعلُّقُه ب « تُعْرُجُ » . والثاني : أنه يتعلَّقُ ب « دافعٌ » وعلى هذا فالجملةُ مِنْ قولِه « تَعْرُجُ الملائكةُ » معترضةٌ ، والضميرُ في « إليه » الظاهرُ عَوْدُه على الله تعالى . قيل : يعودُ على المكانِ لدلالةِ الحالِ والسياقِ عليه . والضميرُ في « يَرَوْنه » و « نَراه » لليومِ إنْ أُريد به يومُ القيامة . وقيل : للعذاب .

يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8)

قوله : { يَوْمَ تَكُونُ } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أَنَّه متعلِّقٌ ب « قريباً » ، وهذا إذا كان الضميرُ في « نراه » للعذاب ظاهرٌ . الثاني : أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ يَدُلُّ عليه « واقع » ، أي : يقعُ يومَ يكونُ . الثالث : [ أن يتعلَّقَ ] بمحذوفٍ مقدَّرٍ بعده ، أي : يومَ يكونُ كان كيتَ وكيتَ . الرابع : أنه بدلٌ من الضميرِ في « نَراه » إذا كان عائداً على يومِ القيامة . الخامس : أنه بدلٌ مِنْ « في يومٍ » فيمَنْ عَلَّق ب « واقع » . قاله الزمخشريُّ . وإنما قال فيمَنْ عَلَّقَهُ ب « واقع » لأنه إذا عُلِّق ب « تَعْرُج » كما تقدَّم في أحدِ الوجَهْين استحال أَنْ يُبْدَلَ عنه هذا؛ لأنَّ عُروجَ الملائكةِ ليس هو في هذا اليومِ الذي تكونُ السماءُ فيه كالمُهْلِ والجِبالُ كالعِهْنِ ، ويَشْتَغِلُ كلُّ حميمٍ عن حميمِه . قال الشيخ : « ولا يجوزُ هذا » يعني إبداله مِنْ « في يوم » . قال : « لأنَّ في يوم » وإنْ كان في موضعِ نصبٍ لا يُبْدَلُ منه منصوبٌ؛ لأنَّ مثلَ هذا ليس بزائدٍ ولا محكومٍ له بحكمِ الزائدِ ك « رُبَّ » ، وإنما يجوزُ مراعاةُ الموضعِ في حرفِ الجرِّ الزائدِ كقولِه :
4328 أبَني لُبَيْنَى لَسْتُما بِيَدٍ ... إلاَّ يَداً ليسَتْ لها عَضُدُ
وكذلك لا يجوزُ « مَرَرْتُ بزيدٍ الخياطَ » على موضع « بزيدٍ » ولا « مَرَرْتُ بزيدٍ وعمراً » ولا « غَضِبْتُ على زيد وجعفراً » ولا « مَرَرْتُ بعمروٍ أخاك » على مراعاةِ الموضع « . قلت : قد تقدَّم أنَّ قراءةَ { وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ } [ المائدة : 4 ] من هذا البابِ فيمَنْ نصبَ الأرجل فيكُنْ هذا مثلَه ، وقد تقدَّم فلا نُعيده .
ثم قال الشيخ : » فإنْ قلتَ : الحركةُ في « يومَ تكون » حركةُ بناءٍ لا حركةُ إعرابٍ فهو مجرورٌ مثلُ « في يومٍ » قلت : لا يجوزُ بِناؤُه على مذهبِ البَصْريين؛ لأنه أُضيفَ إلى مُعْرَبٍ ، لكنه يجوزُ على مذهب الكوفيين ، فيتمشَّى كلامُ الزمخشريِّ على مذهبِهم إنْ كان استَحْضَره وقَصَده « . انتهى . قولُه : » إنْ كان اسْتَحْضره « فيه تحامُلٌ على الرجلِ . وأيُّ كبيرِ أَمرٍ في هذا حتى لا يَسْتَحْضِرَ مثلَ هذا؟ والتبجُّحُ بمثلِ هذا لا يليق ببعضِ الطلبةِ ، فإنها من الخلافِيَّاتِ المشهورة شُهْرَةَ :
قِفا نَبْكِ . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وتقدَّم الكلامُ على المُهْل في الدخان . وأمَّا العِهْنُ فقيل : الصوفُ مطلقاً . وقيل : بقَيْدِ كونِه أحمر . وقيل : بِقَيْدِ كونِه مَصْبوغاً . وقيل : بقَيْدِ كونِه مَصْبوغاً ألواناً ، وهذا أَلْيَقُ بالتشبيه؛ لأنَّ الجبالَ متلوِّنةٌ ، كما قال تعالى : { جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ } [ فاطر : 27 ] .

وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9)

قوله : { وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ } : قرأ العامَّةُ « يَسْأَلُ » مبنياً للفاعل . والمفعولُ الثاني محذوفٌ فقيل : تقديرُه لا يَسْألُه نَصْرَهُ ولا شفاعتَه لعِلْمِه أنَّ ذلك مفقودٌ . وقيل : لا يَسْأله شيئاً مِنْ حَمْل أَوْزارِه . وقيل : « حميماً » منصوبٌ على إسقاطِ الخافض ، أي : عن حميمٍ لشُغْلِهِ عنه . وقرأ أبو جعفر وأبو حيوة وشيبةٌ وابنُ كثير في روايةٍ « يُسْأل » مبنياً للمفعول . فقيل : « حميماً » مفعولٌ ثانٍ ، لا على إسقاطِ حرفٍ ، والمعنى : لا يُسألُ إحضارَه . وقيل : بل هو على إسقاطِ « عن » ، أي : عن حميم .

يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11)

قوله : { يُبَصَّرُونَهُمْ } : عُدِّي بالتضعيفِ إلى ثانٍ وقام الأولُ مَقامَ الفاعلِ . وفي محلِّ هذه الجملةِ وجهان ، / أحدُهما : أنَّها في موضعِ الصفةِ لحَميم . والثاني : أنها مستأنفةٌ . قال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : ما موقعُ » يُبَصَّرُونْهم «؟ قلت : هو كلامٌ مستأنفٌ ، كأنَّه لَمَّا قال : لا يَسْأل حَميمٌ حَميماً قيل : لعلَّه لا يُبَصَّرُه . فقيل : يُبَصَّرُونهم » . ثم قال : « ويجوزُ أَنْ يكونَ » يُبَصَّرُونهم « صفةً ، أي : حميماً مُبَصَّرين مُعَرِّفين إياهم » انتهى . وإنما جُمِع الضميران في « يُبَصَّرُونهم » وهما للحميمَيْن حَمْلاً على معنى العموم لأنهما نكرتان في سياقِ نَفْي . وقرأ قتادةُ « يُبْصِرُونهم » مبنياً للفاعل مِنْ أَبْصَرَ ، أي : يُبْصِرُ المؤمنُ الكافرَ في النار . وتقدَّمَتْ القراءةُ في « يومئذٍ » فتحاً وجَرَّاً في هود . والعامَّةُ على إضافة « عذاب » ل « يَوْمِئذ » ، وأبو حيوةَ بتنوينِ العذاب ، ونَصْبِ « يَوْمئذٍ » على الظرف . وقال الشيخ هنا : « الجمهورُ بكسرِها ، أي : ميم يومِئذ ، والأعرج وأبو حيوة بفتحِها » انتهى . وقد تقدَّم أنَّ الفتح قراءةُ نافعٍ والكسائيِّ .

وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14)

قوله : { وَفَصِيلَتِهِ } : قال ثعلب : « الفَصيلةُ : الآباء الأَدْنَوْن » . وقال أبو عبيدة : « الفَخِذُ » . وقيل : عشيرتُه الأقربون . وقد تقدَّم ذِكْر ذلك عند قولِه : { شُعُوباً وَقَبَآئِلَ } [ الحجرات : 13 ] . و « تُؤْويه » لم يُبْدِلْه السوسيُّ عن أبي عمروٍ قالوا : لأنَّه يُؤَدِّي إلى لفظٍ هو أثقلُ منه ، والإِبدالُ للتخفيفِ . وقرأ الزُّهريُّ « تُؤْوِيْهُ » و « تُنْجِيْهُ » بضمِّ هاءِ الكنايةِ ، وهو الأصلُ و « ثم يُنْجِيه » عطفٌ على « يَفْتدي » فهو داخِلٌ في حَيِّز « لو » وتقدَّمَ الكلامُ فيها : هل هي مصدريةٌ أم شرطيةٌ في الماضي؟ ومفعولُ « يَوَدُّ » محذوفٌ ، أي : يَوَدُّ النجاةَ . وقيل : إنها هنا بمعنى « إنْ » ، وليس بشيءٍ . وفاعلُ « يُنْجِيه » : إمَّا ضميرُ الافتداءِ الدالُّ عليه « يَفْتدي » ، أو ضميرُ مَنْ تقدَّم ذِكْرُهم ، وهو قولُه { وَمَن فِي الأرض } . و « مَنْ [ في الأرض ] » مجرورٌ عطفاً على « بنيه » وما بعدَه ، أي : يَوَدُّ الافتداءَ ب { مَن في الأرض } أيضاً . و « جميعاً » إمَّا حالٌ ، وإمَّا تأكيدٌ ، ووُحِّد باعتبارِ اللفظِ . و « كَلاَّ » رَدْعٌ وزَجْرٌ عن اعتقادِ ذلك .

كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15)

قوله : { إِنَّهَا لظى نَزَّاعَةً } : في الضميرِ ثلاثةُ أوجُهٍ ، أحدُها : أنه ضميرُ النار ، وإنْ لم يَجْرِ لها ذِكْرٌ لدلالةِ لفظِ « عذاب » عليها . والثاني : أنه ضميرُ القصةِ . الثالث : أنه ضميرٌ مبهمٌ يُتَرْجِمُ عنه الخبرُ ، قاله الزمخشري . وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في قوله تعالى : { إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا } . فعلى الأولِ يجوزُ في { لظى نَزَّاعَةً } أوجهٌ : أَنْ يكونَ « لَظى » خبرَ « إنَّ » ، أي : إنَّ النارَ لَظى ، و « نَزَّاعةٌ » خبرٌ ثانٍ ، أو خبرُ مبتدأ مضمرٍ ، أي : هي نَزَّاعةٌ ، أو يكونُ « لَظَى » بدلاً من الضميرِ المنصوبِ ، و « نَزَّاعةٌ » خبرُ إنَّ ، وعلى الثاني يكونُ « لَظى نَزَّاعةٌ » جملةً من مبتدأ وخبرٍ ، في محلِّ الرفعِ خبراً ل « إنَّ » مفسِّرةً لضمير القصة ، وكذا على الوجهِ الثالثِ . ويجوزُ أَنْ يكونَ « نَزَّاعةٌ » صفةً ل « لَظى » إذا لم تجعَلْها عَلَماً؛ بل بمعنى اللَّهَبِ ، وإنما أُنِّث النعتُ فقيل : « نَزَّاعةٌ » لأنَّ اللهَبَ بمعنى النار ، قاله الزمخشريُّ وفيه نظرٌ لأنَّ « لظى » ممنوعةٌ من الصَّرْفِ اتفاقاً .
قال الشيخ بعد حكايته الثالثَ عن الزمخشري : « ولا أدري ما هذا المضمرُ الذي تَرْجَمَ عنه الخبرُ؟ وليس هذا من المواضعِ التي يُفَسِّرُ فيها المفردُ الضميرَ ، ولولا أنه ذَكَرَ بعد هذا » أو ضمير القصة « لَحَمَلْتُ كلامَه عليه » . قلت : متى جعله ضميراً مُبْهماً لَزِمَ أنَنْ يكونَ مفسَّراً بمفرد ، وهو إمَّا « لظى » ، على أَنْ يكونَ « نزاعةٌ » خبرَ مبتدأ مضمرٍ ، وإمَّا « نزاعةٌ » على أَنْ يكونَ « لظى » بدلاً من الضميرِ ، وهذا أقربُ . ولا يجوزُ أَنْ يكونَ « لظى نَزَّاعةٌ » مبتدأ وخبراً ، والجملةُ خبرٌ ل « إنَّ » على أَنْ يكونَ الضميرُ مبهماً لئلا يَتَّحِدَ القولان ، أعني هذا القولَ وقولَ إنها ضميرُ القصة ، ولم يُعْهَدُ ضميرٌ مُفَسَّرٌ بجملةٍ إلاَّ ضميرُ الشأنِ والقصةِ .
وقراءةُ الرفعِ في « نَزَّاعَةٌ » هي قراءةُ العامَّةِ . وقرأ حفص وأبو حيوة والزعفَرانيُّ واليزيديُّ وابنُ مقسم « نَزَّاعَةً » بالنصب . وفيها وجهان ، أحدُهما : أَنْ ينتصبَ على الحالِ . وفي صاحبِها أوجهٌ ، أحدُهما : أنه الضميرُ المُسْتَكِنُّ في « لَظَى » لأنَّها ، وإنْ كانَتْ عَلَماً ، فهي جارِيَةٌ مَجْرَى المشتقات كالحارثِ والعَبَّاس ، وذلك لأنها بمعنى التَّلَظِّي « ، وإذا عَمِلَ العَلَمُ الصريحُ والكُنْيَةُ في الظروف فلأَنْ يعملَ العَلَمُ الجاري مَجْرى المشتقاتِ في الأحوالِ أَوْلَى وأَحْرى . ومِنْ مجيء ذلك قولُه :
4330 أنا أبو المِنْهالِ بعضَ الأَحْيانْ ... ضَمَّنه معنى » أنا المشهورُ في بعض الأحيان « . الثاني : أنه فاعلُ » تَدْعو « وقُدِّمَتْ حالُه عليه ، أي : تدعو/ حالَ كونِها نَزَّاعةً .

ويجوز أَنْ تكونَ هذه الحالُ مؤكِّدةً ، لأنَّ « لظى » هذا شأنُها ، وهو معروفٌ مِنْ أمرِها ، وأَنْ تكونَ منتقِلَةً؛ لأنه أمرٌ توقيفيٌّ . الثالث : أنه محذوفٌ هو والعاملُ ، تقديرُه : تتلَظَّى نَزَّاعَةً . ودَلَّ عليه « لَظَى » .
الثاني من الوجهَيْن الأَوَّلَيْن : أنَّها منصوبةٌ على الاختصاصِ . وعَبَّر عنه الزمخشريُّ بالتَّهْويل ، كما عَبَّر عن وجهِ رَفْعِها على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ ، والتقدير : أعني نَزَّاعةً ، وأخصُّها . وقد مَنَعَ المبِّردُ نصبَ « نَزَّاعة » قال : « لأنَّ الحالَ إنما يكونُ فيما يجوزُ أَنْ يكونَ وأَنْ لا يكونَ ، و » لَظى « لا تكونُ إلاَّ نَزَّاعةً ، قاله عند مكي ، ورَدَّ عليه بقولِه تعالى : { وَهُوَ الحق مُصَدِّقاً } [ البقرة : 91 ] ، { وهذا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً } [ الأنعام : 126 ] قال : » فالحقُّ لا يكونُ إلاّ مصدِّقاً ، وصراطُ ربِّكَ لا يكونُ إلاَّ مُسْتقيماً « . قلت : المبردُ بنى الأمرَ على الحالِ المبيِّنة ، وليس ذلك بلازم؛ إذ قد وَرَدَتِ الحالُ مؤكِّدةً ، كما أورده مكيٌّ وإنْ كان خلافَ الأصلِ .
واللَّظى في الأصلِ : اللَّهَبُ . ونُقل عَلَماً لجهنمَ ، ولذلك مُنِعَ من الصَّرْفِ . والشَّوَى : الأطرافُ جمع شَواة كنَوى ونَواة . وقيل : الشَّوى : الأعضاءُ التي ليسَتْ بمَقْتَل ، ومنه : رماه فأَشْواه ، أي : لم يُصِبْ مَقْتَلَه . وقيل : الشَّوى : جمعُ شَواة ، وهي جِلْدَةُ الرأسِ ، وأُنْشد للأعشى :
4331- قالت قُتَيْلَةُ مالَهُ ... قد جُلِّلَتْ شَيْباً شَواتُهْ
وقيل : هو جِلْدُ الإِنسانِ . والشَّوى أيضاً : رُذالُ المالِ ، والشيءُ اليسيرُ . و » تَدْعُو « يجوزُ أَنْ يكونَ خبراً لإِنَّ ، أو خبراً لمبتدأ محذوفٍ ، أو حالٌ من » لَظى « ، أو مِنْ » نَزَّاعة « على القراءَتَيْن فيها؛ لأنها تتحمَّلُ ضميراً .

إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19)

قوله : { هَلُوعاً } : حالٌ مقدرةٌ . والهَلَعُ مُفَسَّر بما بعده ، وهو قولُه : « إذا » و « إذا » قال ثعلب : « سألني محمد بنُ عبد الله ابن طاهر ما الهَلَعُ؟ فقلت : قد فسَّره اللهُ ، ولا يكون أَبْيَنَ مِنْ تفسيرِه ، وهو الذي إذا نالَه شرٌ أظهرَ شِدَّةَ الجَزَعِ ، وإذا ناله خيرٌ بَخِلَ به ومَنَعَه الناس » انتهى . وأصلُه في اللغةِ على ما قال أبو عبيد أَشَدُّ الحِرْصِ وأسْوَأُ الجَزَع . وقيل : هو الفَزَعُ والاضطرابُ السريعُ عند مَسِّ المكروهِ ، والمَنعُ السريعُ عند مَسِّ الخيرِ ، مِنْ قولِهم : ناقةٌ هِلْواع ، أي : سريعةُ السَّيْرِ .

إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21)

قوله : { جَزُوعاً } : و « مَنوعاً » فيهما ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنهما منصوبان على الحال من الضمير في « هلُوعا » وهو العاملُ فيهما ، والتقدير : هَلُوعاً حالَ كونِه جَزُوعاً وقتَ مَسِّ الشرِّ ، ومنوعاً وقتَ مسِّ الخيرِ . والظرفان معمولان لهاتَيْنِ الحالَيْنِ . وعَبَّر أبو البقاء عن هذا الوجهِ بعبارةٍ مُوْهِمَةٍ . وهو يريدُ ما ذكَرْتُه فقال : « جَزوعاً حالٌ أخرى ، والعاملُ فيها هَلُوعا » . فقولُه : « أخرى » يُوهم أنها حالٌ ثانية وليسَتْ متداخِلَةً ، لولا قولُه : « والعاملُ فيها هَلُوعا » . الثاني : أَنْ يكونا خبَرَيْن ل كان أو صار مضمرةً ، أي : إذا مَسَّه الشرُّ كان أو صار جزوعا ، وإذا مَسَّه الخيرُ كان أو صار منوعاً قاله مكي . وعلى هذا فإذا شرطيةٌ ، وعلى الأولِ ظرفٌ مَحْضٌ ، العاملُ فيه ما بعدَه ، كما تقدَّم . الثالث : أنهما نعتٌ ل « هَلُوعا » قاله مكي . إلاَّ أنَّه قال : « وفيه بُعْدٌ؛ لأنك تَنْوي به التقديمَ قبل » إذا « انتهى . وهذا الاستبعادُ ليس بشيءٍ ، فإنه غايةُ ما فيه تقديمُ الظرفِ على عاملِه ، وإنما المحذورُ تقديمُ معمولِ النعتِ على المنعوتِ .

إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22)

قوله : { إِلاَّ المصلين } : استثناءٌ من « الإِنسان » إذ المرادُ به الجنسُ . ومثلُه : { إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ } [ العصر : 2-3 ] .
وقرأ حفص : « بشهاداتِهم » جمعاً ، اعتباراً بتعدُّدِ الأنواعِ . والباقون بالإِفرادِ ، إذ المرادُ الجنسُ .

عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37)

قوله : { عِزِينَ } : حالٌ من « للذين كفروا » وقيل : حالٌ من الضمير في « مُهْطِعين » ، فتكون حالاً متداخلةً . و « عن اليمين » يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ ب « عِزين » لأنه بمعنى متفرِّقين ، قاله أبو البقاء ، وأَنْ يتعلَّقُ بمُهْطِعين ، أي : مُسْرِعِين عن هاتَيْن الجهتَين ، وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ ، أي : كائنين عن اليمين ، قاله أبو البقاء . وعِزِيْن جمعُ « عِزَة » والعِزَةُ : الجماعة ، قال مكي : « وإنما جُمِع بالواوِ/ والنونِ لأنه مؤنثٌ لا يَعْقِلُ؛ لكونَ ذلك عِوَضاً مِمَّا حُذِفَ منه . قيل : إنَّ أصلَه عِزْهَة ، كما أنَّ أصلَ سَنَةَ سَنْهَة ثم حُذِفَتِ الهاءُ » انتهى . قوله : « لا يَعْقِلُ » سهوٌ لأنَّ الاعتبارَ بالمدلولِ ، ومدلولُه بلا شك عقلاءُ .
واختلفوا في لام « عِزَة » على ثلاثةِ أقوالٍ ، أحدُها : أنَّها واوٌ مِنْ عَزَوْتُه أَعْزُوْه ، أي : نَسَبْتُه؛ وذلك أنَّ المنسوبَ مضمومٌ إلى المنسوبِ إليه ، كما أنَّ كلَّ جماعةٍ مضمومٌ بعضُها إلى بعضٍ . الثاني : أنَّها ياءٌ ، إذ يُقال : عَزَيْتُه بالياء ، أَعْزِيْهِ بمعنى : عَزَوْته ، فعلى هذا في لامِها لغتان ، الثالث : أنها هاءٌ ، ويُجْمَعُ تكسيراً على عِزَىً نحو : كِسْرة وكِسَر ، واسْتُغْنِي بهذا التكسيرِ عن جمعِها بالألفِ والتاءِ ، فلم يقولوا : عِزات كما لم يقولوا في شَفَة وأَمَة : شِفات ولا إمات استغناءً بشِفاهٍ وإماءٍ ، وقد كَثُرَ ورودُه مجموعاً بالواوِ والنون . قال الراعي :
4332 أخليفةَ الرحمنِ إنَّ عَشيرتي ... أَمسَوْا سَوامُهُمُ عِزِيْنَ فُلُوْلا
وقال الكميت :
4333 ونحن وجَنْدَلٌ باغٍ تَرَكْنا ... كتائبَ جَنْدَلٍ شَتَّى عِزِيْنا
وقال عنترة :
4334 وقِرنٍ قد تَرَكْتُ لِذي وَلِيٍّ ... عليه الطيرُ كالعُصَبِ العِزِيْن
وقال آخر :
4335 ترانا عنده والليلُ داجٍ ... على أبوابِه حِلَقاً عِزِيْنا
وقال آخر :
4336 فلما أَنْ أَتَيْنَ على أُضاخٍ ... تَرَكْنَ حَصاه أَشْتاتاً عِزينا
والعِزَةُ لغةً : الجماعةُ في تَفْرِقَةً . هذا قولُ أبي عبيدة . وقال الأصمعيُّ : « العِزُون : الأصناف . يقال : في الدار عِزُون ، أي : أصناف » وقال غيرُه : الجماعةُ اليسيرةُ كالثلاثةِ والأربعةِ . وقال الراغب : « وقيل : هو مِنْ قولِهم : عَزِيَ عَزاءً فهو عَزٍ إذا صَبَرَ ، وتَعَزَّى : تَصَبَّر ، فكأنها اسمٌ للجماعة التي يتأسَّى بعضُهم ببعض .

أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38)

قوله : { أَن يُدْخَلَ } : العامَّةُ على بنائِه للمفعول . وزيدُ بن علي والحسن وابن يعمر وأبو رجاء وعاصمٌ في روايةٍ على بنائِه للفاعلِ .

فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40)

قوله : { فَلاَ أُقْسِمُ } : قد تقدَّم غيرَ مرةٍ . وقرأ جماعة « فلأُقْسِمُ » دون ألفٍ . والعامَّةُ على جمعِ المَشارق والمغارب . والجحدريُّ وابنُ محيصن بإفرادِهِما .
و « إنَّا لَقادِرون » جوابُ القسمِ . وقرأ العامَّةُ « يُلاقُوا » ، وأبو جعفر وابن محيصن « يَلْقَوْا » مضارع لَقِيَ .

يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43)

قوله : { يَوْمَ يَخْرُجُونَ } : يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ « يَوْمَهم » أو منصوباً بإضمار أَعني . ويجوزُ على رَأْيِ الكوفيين أن يكون خبرَ ابتداءٍ مضمرٍ ، وبُنِي على الفتحِ ، وإنْ أُضيفَ إلى مُعْربٍ ، أي : هو يومَ يَخْرُجون ، كقولِه : { هذا يَوْمُ يَنفَعُ } وقد مَرَّ الكلامُ فيه مُشْبعاً . والعامَّةُ على بناءِ « يَخْرُجون » للفاعلِ ، ورُوي عن عاصمٍ بناؤُه للمفعولِ .
قوله : { سِرَاعاً } حالٌ مِنْ فاعل « يَخْرُجون » جمعَ سريع كظِراف في ظَريف . و « كأنَّهم » حالٌ مِنْ ضميرِ الحالِ فتكونُ متداخلةً .
قوله : { إلى نُصُبٍ } متعلِّقٌ بالخبرِ . والعامَّةُ على « نَصْبٍ » بالفتح والإِسكان ، وابنُ عامر وحفصٌ بضمتين ، وأبو عمران الجوني ومجاهد بفتحتَيْن ، والحسنُ وقتادةُ بضمةٍ وسكون . فالأُولى هو اسمٌ مفردٌ بمعنى العَلَم المنصوبِ الذي يُسْرِع الشخصُ نحوَه . وقال أبو عمروٍ : « هو شَبَكَةُ الصائدِ يُسْرِع إليها عند وقوعِِ الصيدِ فيها مخافةَ انفلاتِه » . وأمَّا الثانيةُ فتحتمل ثلاثَة أوجهٍ . أحدها : / أنه اسمٌ مفردٌ بمعنى الصَّنَمِ المنصوبِ للعبادة ، وأنشد للأعشى :
4337 وذا النُّصُبَ المَنْصُوبَ لا تَعْبُدَنَّه ... لعاقبةٍ واللَّهَ ربَّك فاعْبُدَا
الثاني : أنه جمعُ نِصاب ككُتُب في كِتاب . الثالث : أنه جمعُ نَصْبٍ نحو : رَهْن في رُهُن ، وسَقْف في سُقُف ، وهذا قولُ أبي الحسن . وجَمْعُ الجمعِ أَنْصاب . وأمَّا الثالثةُ فَفَعَل بمعنى مَفْعول ، أي : مَنْصوب كالقَبَضِ والنَّقَضِ . والرابعةُ تخفيفٌ من الثانية
ويُوْفِضونَ ، أي : يُسْرعون . وقيل : يَسْتَبْقون . وقيل : يَسْعَوْن . وقيل : يَنْطَلقون . وهي متقاربَةٌ . وأنشد :
4338 فوارِسُ ذُبْيانَ تحت الحَدِيْ ... دِ كالجِنِّ تُوْفِضُ مِنْ عَبْقَرِ
وقال آخر :
4339 لأَنعتَنْ نَعامةً مِيفاضا ... خَرْجاءَ [ تَعْدُو ] تَطْلُبُ الإِضاضا
أي مُسْرِعة .

خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)

قوله : { خَاشِعَةً } : حالٌ : إمَّا مِنْ فاعلِ « يُوْفِضون » ، وهو أقربُ أو مِنْ فاعل « يَخْرجُون » ، وفيه بُعْدٌ منه ، وفيه تعدُّدُ الحالِ لذي حالٍ واحدة وفيه الخلافُ . و « أبْصارُهم » فاعلٌ . وقراءةُ العامَّةِ على تنوينِ « ذِلَّةٌ » والابتداءُ ب « ذلك اليومُ » ، وخبرُه « الذي كانوا » . وقرأ يعقوب والتمار بإضافة « ذِلَّةُ » إلى « ذلك » وجَرِّ « اليوم » لأنه صفةٌ ل « ذلك » . و « الذي » نعتٌ ل « اليوم » . و « تَرْهَقُهُم » : يجوزُ أَنْ يكونَ استئنافاً ، وأَنْ يكونَ حالاً مِنْ فاعل « يُوْفِضون » ، أو « يَخْرُجون » ، ولم يَذْكُرْ مكيٌّ غيرَه .

إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1)

قوله : { أَنْ أَنذِرْ } : يجوزُ أَنْ تكونَ المفسِّرَةَ ، وأَنْ تكونَ المصدريةَ أي : أَرْسَلْناه بالإِنذار . وقال الزمخشري : « والمعنى : أَرْسَلْناه بأَنْ قُلْنا له : أَنْذِرْ أي : أَرْسَلْناه بالأمرِ بالإِنذار » انتهى . وهذا الذي قَدَّره حسنٌ جداً ، وهو جوابٌ عن سؤالٍ قدَّمْتُه في هذا الموضوع : وهو أنَّ قولَهم : « إنَّ » أَنْ « المصدريةَ يجوزُ أَنْ تتوصَّلَ بالأمرِ » مُشْكِلٌ؛ لأنه يَنْسَبِكُ منها وممَّا بعدَها مصدرٌ ، وحينئذٍ فتفوتُ الدلالةُ على الأمرِ . ألا ترى أنك إذا قَدَّرْت [ في ] كَتَبْتُ إليه بأَنْ قُمْ : كَتَبْتُ إليه القيامَ ، تفوتُ الدلالةُ على الأمرِ حالَ التصريحِ بالأمر ، فينبغي أَنْ يُقَدَّرَ كما قاله الزمخشريُّ أي : كتبتُ إليه بأَنْ قلتُ له : قُمْ ، أي : كتبتُ إليه بالأمرِ بالقيام .

أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3)

قوله : { أَنِ اعبدوا } : إمَّا أَنْ تكونَ تفسيريةً ل « نذير » ، أو مصدريةً ، والكلامُ فيها كما تقدَّم في أختها .

يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)

قوله : { مِّن ذُنُوبِكُمْ } : في « مِنْ » هذه أوجهٌ ، أحدُها : أنَّها تبعيضيةٌ . والثاني : أنها لابتداءِ الغايةِ . والثالث : أنها لبيانِ الجنسِ وهو مردودٌ لعَدَمِ تَقَدُّمِ ما تبيِّنُه . الرابع : أنها مزيدةٌ . قال ابن عطية : « وهو مذهبٌ كوفيٌّ » قلت : ليس مذهبُهم ذلك؛ لأنهم يَشْتَرطون تنكيرَ مَجْرورِها ولا يَشْترطون غيرَه . والأخفشُ لا يَشْترط شيئاً ، فزيادتُها هنا ماشٍ على قولِه ، لا على قولِهم .
قوله : { وَيُؤَخِّرْكُمْ إلى أَجَلٍ } قال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : كيف قال : » ويُؤَخِّرْكم « مع إخبارِه بامتناعِ تأخيرِه؟ قلت : قضى اللَّهُ أنَّ قوم نوحٍ إنْ آمنوا عَمَّرَهم ألفَ سنةٍ ، وإن بَقُوا على كُفْرِهم أَهْلكهم على رأس تسعمِئة . فقيل لهم : إن آمنتم أُخِّرْتم إلى الأجلِ الأطولِ ، ثم أخبرهم أنَّه إذا جاء ذلك الأجلُ الأمَدُّ لا يُؤَخَّرُ » انتهى . وقد تَعَلَّق بهذه الآيةِ مَنْ يقولُ بالأَجَلَيْنِ . وتقدَّم جوابُه . وقوله : { لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } جوابُها محذوفٌ أي : لبادَرْتُمْ إلى ما أَمَرَكم به .

وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7)

قوله : { لِتَغْفِرَ } : يجوزُ أَنْ تكونَ للتعليل ، والمدعُوُّ إليه محذوفٌ أي : دَعَوْتُهم للإِيمان بك لأجلِ مغفرتِك لهم ، وأَنْ تكونَ لامُ التعديةِ ويكونُ قد عبَّر عن السببِ بالمُسَبَّبِ الذين هو جَعْلُهم . والأصلُ : دَعَوْتُهم للتَّوْبةِ التي هي سبَبٌ في الغُفْران . و « جعلوا » هو العاملُ في « كلما » وهو خبر « إنِّي » .
قوله : { لَيْلاً وَنَهَاراً } ظرفان ل « دَعَوْت » والمرادُ الإِخبارُ باتصالِ الدعاءِ ، وأنه/ لا يَفْتُرُ عن ذلك . و « إلاَّ فِراراً » مفعولٌ ثانٍ وهو استثناءٌ مُفَرَّغٌ .

ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8)

قوله : { جِهَاراً } : يجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً من المعنى؛ لأنَّ الدعاءَ يكونُ جهاراً وغيرَه ، فهو من باب : قَعَدَ القُرْفُصاءَ ، وأَنْ يكونَ المرادُ ب « دَعَوْتُهم » : جاهَرْتُهم ، وأَنْ يكونَ نعتَ مصدرٍ محذوفٍ أي : دعاءً جِهاراً ، وأَنْ يكونَ مصدراً في موضعِ الحالِ أي : مُجاهِراً ، أو ذا جِهارٍ ، أو جُعِل نفسَ المصدرِ مبالغةً . قال الزمخشريُّ : « فإنْ قلتَ : ذَكَرَ أنَّه دعاهم ليلاً ونهاراً ، ثم دعاهم جِهاراً ، ثم دعاهم في السِّرِّ والعَلَنِ فيجب أَنْ تكونَ ثلاثَ دَعَوات مختلفات حتى يَصِحَّ العطفُ » قلت : قد فَعَلَ عليه السلام كما يَفْعَلُ الذي يَأْمُرُ بالمعروفِ ويَنْهى عن المنكر في الابتداءِ بالأَهْوَنِ ، والترقِّي في الأشَدِّ فالأشُدِّ ، فافتتح في المناصحةِ بالسِّرِّ ، فلمَّا لم يَقْبلوا ثَنَّى بالمجاهرة ، فلمَّا لم يَقْبلوا ثَلَّثَ بالجَمْعِ بين الإسرار والإِعلان . ومعنى « ثم » الدلالةُ على تباعُدِ الأحوالِ ، لأنَ الجِهارَ أغلظُ من الإِسرارِ ، والجمعُ بين الأمرَيْن أغلظُ مِنْ إفرادِ أحدِهما « . قال الشيخ : » وتكرَّرَ كثيراً له أنَّ « ثُمَّ » للاستبعادِ ولا نَعْلَمُه لغيرِه « . قلت : هذا القول بعدما سَمِعْتَ من ألفاظِ الزمخشريِّ تحامُلٌ عليه .

يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11)

قوله : { مِّدْرَاراً } : يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من « السماء » ، ولم يؤنَّثْ لأنَّ مِفْعالاً لا يُؤَنَّثُ . تقول : امرأةٌ مئِنْاثٌ ومِذْكار ، ولا يُؤَنَّثُ بالتاءِ إلاَّ نادراً ، وحينئذٍ يَستوي فيه المذكرُ والمؤنثُ فتقول : رجلٌ مِجْذامَةٌ ومِطْرابَةٌ ، وامرأة مِجْذامَةٌ ومِطْرابَةٌ ، وأَنْ تكونَ نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ أي : إرسالاً مِدْراراً . وتقدَّم الكلامُ عليه في الأنعام .

مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13)

قوله : { وَقَاراً } : يجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً به على معانٍ ، منها : ما لكم لا تَأْمُلُوْنَ له تَوْقيراً أي : تعظيماً . قال الزمخشري : « والمعنى : ما لكم لا تكونون على حال تأمُلُون فيها تعظيمَ اللَّهِ إياكم في دارِ الثواب؟ و » لله « بيانٌ للموَقَّرِ ، ولو تأخَّر لكان صلةً » انتهى . أي : لو تأخِّر « لله » عن « وَقارا » لكان متعلِّقاً به ، فيكونُ التوقيرُ منهم للَّهِ تعالى ، وهو عكسُ المعنى الذي قصده . ومنها : لا تخافون للَّهِ حِلْماً وتَرْكَ معاجلةٍ بالعقابِ فتؤمنوا . ومنها : لا تخافون لله عظمةً . وعلى الأولِ يكون الرجاءُ على بابه ، وقد تقدَّم أنَّ استعمالَه بمعنى الخوفِ مجازٌ أو مشتركٌ . وأن يكونَ حالاً مِنْ فاعل « تَرْجُون » أي : موقِّرين اللَّهَ تعالى ، أي تُعَظِّمونه ، ف « للَّهِ » متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ « وَقارا » ، أو تكون اللامُ زائدةً في المفعول به ، وحَسَّنه هنا أمران : كوْنُ العاملِ فَرْعاً ، وكونُ المعمولِ مقدَّماً ، و « لا تَرْجُون » حالٌ وتقدَّم نظيرُه في المائدة .

وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14)

قوله : { وَقَدْ خَلَقَكُمْ } : جملةٌ حاليةٌ مِنْ فاعلِ « تَرْجُون » . والأَطْوارُ : الأحوالُ المختلفةُ . قال الشاعر :
4340 فإنْ أفاقَ قد طارَتْ عَمَايَتُه ... والمَرْءُ يُخْلَقُ طَوْراً بعد أطوارِ
وانتصابُه على الحالِ أي : مُتَنَقِّلين من حالٍ إلى حالٍ ، أو مختلِفين مِنْ بينِ مُسِيْءٍ ومُحْسِنٍ ، وصالحٍ وطالحٍ .

أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15)

قوله : { طِبَاقاً } : تقدَّم الكلامُ عليه في سورة المُلك . وقال مكي : « وأجاز الفراء في غيرِ القرآنِ جَرَّ » طباق « على النعت ل » سماوات « ، يعني أنه يجوزُ أَنْ يكونَ صفةً للعددِ تارةً وللمعدودِ أخرى .

وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16)

قوله : { فِيهِنَّ } : أي : في السماواتِ ، والقمرُ إنما هو في سماءٍ واحدةٍ منهنَّ . قيل : هو في السماءِ الدنيا ، وإنَّما جازَ ذلك؛ لأن بين السماواتِ ملابَسةً فصَحَّ ذلك . وتقولُ : « زيدٌ في المدينةِ » وإنما هو في زاويةٍ من زواياها .
وقوله : { وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً } يُحتمل أَنْ يكونَ التقديرُ : وجعل الشمسَ فيهِنَّ ، كما تقدَّم . والشمس قيل : في الرابعةِ . وقيل : في الخامسةِ . وقيل : في الشتاءِ في الرابعة ، وفي الصيف في السابعةِ . واللَّهُ أعلمُ : أيُّ ذلك صحيحٌ .

وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17)

قوله : { نَبَاتاً } : إمَّا أَنْ يكونَ مصدراً ل أَنْبَتَ على حَذْفِ الزوائِد ، ويُسَمَّى اسمَ/ مصدرٍ ، وإمَّا ب « نَبَتُّمْ » مقدَّراً : أي : فَنَبَتُّمْ نباتاً فيكونُ منصوباً بالمُطاوِعِ المقدَّرِ . قال الزمخشري : « أو نُصِبَ ب » أَنْبَتكم « لتضمُّنِه معنى نَبَتُّمْ » قال الشيخ : « ولا أَعْقِلُ معنى هذا الوجهِ الثاني » . قلت : هذا الوجهُ هو الذي قدَّمْتُه . وهو أنه منصوبٌ ب « أَنْبَتكم » على حَذْفِ الزوائد . ومعنى قولِه : « لتضمُّنِه معنى نَبَتُّمْ » أي : إنه مُشتملٌ عليه ، غايةُ ما فيه أنه حُذِفت زوائدُه ، والإِنباتُ هنا استعارةٌ بليغةٌ .

لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)

قوله : { سُبُلاً فِجَاجاً } وفي الأنبياء تقدَّم الفِجاجُ لِتَناسُبِ الفواصِلِ هنا . وقد تقدَّم نَحْوٌ مِنْ هذا .

قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21)

قوله : { وَوَلَدُهُ } : قد تقدَّم خِلافُ القُراء في « وَلَدِه » وتقدَّم أنهما لغتان كبُخْل وبَخَلَ . قال أبو حاتم : يمكن أَنْ يكونَ المضمومُ جمعَ المفتوحِ كخَشَبٍ وخُشْبِ . وأنشد لحسَّانَ رضي الله عنه :
4341 يا بِكرَ آمنةَ المباركَ وِلْدُها ... مِنْ وُلْدِ مُحْصَنَةٍ بسَعْدٍ الأَسْعُدِ

وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22)

قوله : { وَمَكَرُواْ } : عطفٌ على صلةِ « مَنْ » وإنما جُمِعَ الضميرُ حَمْلاً على المعنى ، بعد حَمْلِه على لفظِها في { لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ } ، ويجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً إخباراً عن الكفارِ .
قوله : { كُبَّاراً } العامَّةُ على ضَمِّ الكافِ وتشديدِ الباء ، وهو بناءُ مبالغةٍ أبلغُ مِنْ « كُبار » بالضمِّ والتخفيف ، قال عيسى : هي لغةٌ يمانيةٌ ، وأنشد :
4342 والمرءُ يُلْحِقُه بفِتيان النَّدى ... خُلُقُ الكريمِ وليس بالوُضَّاء
وقول الآخر :
4343 بَيْضاءُ تصطادُ القلوبَ وتَسْتَبي ... بالحسنِ قلبَ المسلمِ القُرَّاء
يقال : رجلٌ طُوَّالٌ وحُمَّالٌ وحُسَّانٌ . وقرأ عيسى وأبو السمال وابن محيصن بالضمِّ والتخفيف ، وهو بناءُ مبالغةٍ أيضاً دونَ الأولِ ، وقرأ زيدُ بنُ علي وابن محيصن أيضاً بكسر الكاف وتخفيفِ الباء . قال أبو بكر : وهو جمعُ « كبير » ، كأنه جعل « مَكْراً » مكانَ « ذنوب » أو « أفاعيل » يعني فلذلك وصفَه بالجمع .

وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23)

قوله : { وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً } : يجوزُ أَنْ يكونَ مِنْ عَطْفِ الخاص على العام إنْ قيل : إنَّ هذه الأسماءَ لأصنامٍ ، وأن لا يكونَ إنْ قيل : إنها أسماءُ رجالٍ صالحينَ على ما ذُكر في التفسير . وقرأ نافع « وُدّاً » بضم الواوِ ، والباقون بفتحها ، وأُنْشِدَ بالوَجْهَيْن قولُ الشاعر :
4344 حَيَّاكَ وَدٌّ فإنَّا لا يَحِلُّ لنا ... لَهْوُ النساءِ وإنَّ الدين قد عزما
وقول الآخر :
4345 فحيَّاكِ وَدٌّ مِنْ هُداكِ لفِتْيَةٍ ... وخُوْصٍ بأعلى ذي فُضالةَ مُنْجِدِ
قوله : { وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ } قرأهما العامَّةُ بغير تنوين . فإن كانا عربيَّيْن فالمنعُ من الصَرْف للعلميَّةِ والوزن ، وإن كانا أعجميَّيْن فللعلميَّةِ والعُجْمة . وقرأ الأعمش : « ولا يَغُوْثاً ويَعُوْقاً » مصورفَيْن . قال ابن عطية : « وذلك وهمٌ : لأنَّ التعريفَ لازمٌ ووزنَ الفعل » انتهى . وليس بوهمٍ لأمرَيْن ، أحدهما : أنه صَرَفَهما للتناسُبِ ، إذ قبله اسمان منصرفان ، وبعده اسمٌ منصرفٌ ، كما صُرِفَ « سلاسل » . والثاني : أنه جاء على لغةِ مَنْ يَصْرِفُ غيرَ المنصرِف مطلقاً . وهي لغةٌ حكاها الكسائيُّ .
ونقل أبو الفضل الصَّرْفَ فيهما عن الأشهبِ العُقَيْليِّ ثم قال : « جَعَلهما فَعُولاً؛ فلذلك صرفهما ، فأمَّا في العامَّة فإنهما صفتان من الغَوْث والعَوْق » . قلت : وهذا كلامٌ مُشْكِلٌ . أمَّا قولُه : « فَعُولاً » فليس بصحيحٍ ، إذ مادةُ « يغث » و « يعق » مفقودةٌ . وأمَّا قولُه : « صفتان من الغَوْث والعَوْق » فليس في الصفاتِ ولا في الأسماءِ « يَفْعُل » والصحيحُ ما قَدَّمْتُه . وقال الزمخشري : « وهذه قراءةٌ مُشْكِلة؛ لأنهما إنْ كانا عربيَّيْنِ أو أعجميَّيْنِ ففيهما مَنْعُ الصَّرْفِ ، ولعله قَصَدَ الازدواجَ فصرَفهما . لمصادفتِه أخواتِهما منصرفاتٍ : وَدَّاً وسُوعاً ونَسْراً » . قال الشيخ : « كأنه لم يَطَّلعْ على أنَّ صَرْفَ ما لا ينصرفُ لغةٌ » .

وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24)

قوله : { وَقَدْ أَضَلُّواْ } : أي الرؤساءُ أو الأصنامُ ، / وجَمَعَهم جَمْعَ العقلاءِ معاملةً لهم معاملةً العقلاء .
قوله : { وَلاَ تَزِدِ } عطفٌ على قولِه : { رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي } [ نوح : 21 ] على حكايةِ كلامِ نوحٍ بعدَ « قال » وبعد الواوِ النائبةِ عنه ، أي : قال : إنهم عَصَوْني ، وقال : لا تَزِدْ ، أي : قال هذَيْن القولَيْن ، فهما في محلِّ النصب ، قاله الزمخشريُّ . قال : « كقولك : قال زيدٌ : نوديَ للصلاة وصَلِّ في المسجدِ ، تحكي قولَيْه معطوفاً أحدُهما على صاحبِه » . وقال الشيخ : « ولا تَزِدْ » معطوفٌ على « قد أَضَلُّوا » لأنها محكيَّةٌ ب « قال » مضمرةً ، ولا يُشْترط التناسُبُ في الجملِ المتعاطفةِ ، بل تَعْطِفُ خبراً على طلبٍ ، وبالعكس ، خلافاً لمَنْ اشترطه .

مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25)

قوله : { مِّمَّا خطيائاتهم } : « ما » مزيدةٌ بين الجارِّ ومجرورِه توكيداً . ومَنْ لم يَرَ زيادتَها جَعَلها نكرةً ، وجَعَلَ « خطيئاتِهم » بدلاً ، وفيه تعسُّفٌ . وتقدَّم الخلافُ في قراءةِ « خَطِيْئاتِهم » في الأعراف . وقرأ أبو رجاء « خَطِيَّاتهم » جمعَ سلامةٍ ، إلاَّ أنَّه أَدْغَمَ الياءَ في الياءِ المنقلبةِ عن الهمزةِ . والجحدريُّ وتُرْوى عن أُبَيّ « خطيئتِهم » بالإِفراد والهمز . وقرأ عبد الله « مِنْ خطيئاتِهم ما أُغْرِقوا » فجعلَ « ما » المزيدةَ بين الفعلِ وما يتعلَّق به . و « مِنْ » للسببيَّةِ تتعلَّقُ ب « أُغْرِقوا » . قال ابن عطية : « لابتداء الغاية » ، وليس بواضح . وقرأ العامَّةُ « أُغرِقوا » مِنْ أَغْرق . وزيد بن علي « غُرِّقوا » بالتشديدِ ، وكلاهما للنَّقْلِ . تقول : أغرَقْتُ زيداً في الماء ، وغَرَّقْتُه فيه .
قوله : { فَأُدْخِلُواْ } يجوز أَنْ يكونَ من التعبيرِ عن المستقبلِ بالماضي ، لتحقُّقِ وقوعِه ، نحو : { أتى أَمْرُ الله } [ النحل : 1 ] وأَنْ يكونَ على بابِه ، والمرادُ عَرْضُهم على النار في قبورِهم ، كقولِه في آلِ فرعونَ : { النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } [ غافر : 46 ] .

وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26)

قوله : { دَيَّاراً } : قال الزمخشري : « دَيَّار من الأسماءِ المستعملةِ في النفيِ العامِّ . يقال : » ما بالدار دَيَّارٌ ودَيُّورٌ « ، كقَيَّام وقَيُّوم . وهو فَيْعال من الدُّور أو مِنْ الدار . أصلُه دَيْوار ففُعِل به ما يُفْعَلُ بأصلِ سَيِّد ومَيَّت ، ولو كان فَعَّالاً لكان دَوَّاراً » انتهى . يعني أنه كان ينبغي أَنْ تَصِحَّ واوُه ولا تُقْلَبَ ياءً . وهذا نظيرُ ما تقدَّم له من البحثِ في « متحيِّز » ، وأنَّ أصلَه مُتَحَيْوِز مُتَفَيْعِل ، لا مُتَفَعِّل ، إذ كان يلزمُ أَنْ يكونَ مُتَحَوِّزاً ، لأنه من الحَوْز . ويقال أيضاً . فيه دَوَّار نحو : قَيَّام وقَوَّام .
وقال مكي : « وأصلُه دَيْوار ، ثم أَدْغَموا الواوَ في الياءِ مثلَ » مَيِّت « أصلُه مَيْوِت ، ثم أَدْغموا الثاني في الأولِ . ويجوز أَنْ يكونَ أَبْدلوا من الواوِ ياءً ، ثم أدغموا الياءَ الأولى في الثانية » . قلت : قولُه : « أدغموا الثاني في الأول » هذا لا يجوزُ؛ إذ القاعدةُ المستقرةُ في المتقارَبَيْنِ قَلْبُ الأولِ للثاني ، ولا يجوزُ العكسُ إلاَّ شذوذاً ، أو لضرورةٍ صناعيةٍ . أمَّا الشذوذُ فكقراءةِ : « واذكر » [ يوسف : 45 ] بالذالِ المعجمةِ و « فَهَلْ مِن مُّذَّكِرٍ » [ القمر : 15 ] بالمعجمةِ أيضاً . وقد مَضَى تحقيقُه . وأمَّا الضرورةُ الصناعيةُ فنحو : « امدحْ هِلالاً » بقَلْبِ الهاءِ حاءً؛ لئلا يُدْغَمَ الأقوى في الأضعفِ ، وهذا يَعْرِفُه مَنْ عانى التصريفَ .

رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)

قوله : { رَّبِّ اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ } : العامَّةُ على فتحِ الدال على أنه تثنيةُ « والِد » يريد أبوَيْه . وقرأ الحسن بن علي رضي الله عنهما ويحيى بن يعمر والنخعي « ولوَلَدَيَّ » تثنيةَ « وَلَد » يعني ابنَيْه ساماً وحاماً . وقرأ ابن جبير والجحدريُّ « ولوالِدِيْ » بكسر الدال يعني أباه ، فيجوزُ أن يكونَ أرادَ أباه الأقربَ الذي وَلَدَه ، وخصَّه بالذِّكْر لأنه أشرفُ من الأم ، وأَنْ يريدَ جميعَ مَنْ وَلَدَه مِنْ لَدُنْ آدمَ عليه السلام إلى مَنْ وَلده . و « مؤمناً » حالٌ و « تَباراً » مفعولٌ ثانٍ ، والاستثناءُ مفرغٌ . والتبار : الهَلاكُ ، وأصلُه من التكسُّر والتفتُّتِ . وقد تقدَّم تحقيق ذلك وللَّهِ الحمدُ والمِنَّةُ . /

قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1)

قوله : { أُوحِيَ } : هذه قراءةُ العامةِ أعني كونَها مِنْ أَوْحَى رباعياً . وقرأ العَتكِيُّ عن أبي عمروٍ وابنُ أبي عبلة وأبو إياس « وُحِيَ » ثلاثياً ، وهما لغتان ، يقال : وحى إليه كذا ، وأَوْحاه إليه بمعنى واحدٍ . وأُنْشِد للعجاج :
4346 وَحَى لها القرارَ فاسْتَقَرَّت ... وقرأ زيدُ بن علي والكسائيُّ في روايةٍ وابنُ أبي عبلةَ أيضاً « أُحِي » بهمزةٍ مضومة ولا واوَ بعدها . وخُرِّجَتْ على أنَّ الهمزةَ بدلٌ من الواوِ المضمومةِ نحو : « أُعِدَ » في « وُعِدَ » فهذه فَرْعُ قراءةِ « وُحِيَ » ثلاثياً . قال الزمخشري : « وهو من القَلْبِ المطلقِ جوازُه في كلِّ واوٍ مضمومةٍ ، وقد أطلقَه المازنيُّ في المكسورةِ أيضاً كإشاح وإسادة و » إعَآءِ أَخِيهِ « [ يوسف : 76 ] ، قال الشيخ : » وليس كما ذَكَرَ ، بل في ذلك تفصيلٌ . وذلك أنَّ الواوَ المضمومةَ قد تكونُ أولاً وحَشْواً وآخِراً ، ولكلٍ منها أحكام . وفي بعضِ ذلك خلافٌ وتفصيلٌ مذكورٌ في النحو « . قلت : قد تقدَّم القولُ في ذلك مُشْبَعَاً في أولِ هذا الموضوعِ ولله الحمدُ . ثم قال الشيخ : بعد أن حكى عنه ما قَدَّمْتُه عن المازني » وهذا تكثيرٌ وتبجُّحٌ . وكان يَذْكُرُ ذلك في سورة يوسف عند قوله { وِعَآءِ أَخِيهِ } [ يوسف : 76 ] . وعن المازنيِّ في ذلك قولان ، أحدُهما : القياسُ كما ذكر ، والثاني : قَصْرُ ذلك على السَّماع « . قلت : لم يَبْرَحِ العلماءُ يَذْكرون النظيرَ مع نظيرِه ، ولَمَّا ذَكَرَ قَلْبَ الهمزةِ بأطِّرادٍ عند الجميعِ ذَكَرَ قَلْبَها بخلافٍ .
قوله : { أَنَّهُ استمع } هذا هو القائمُ مَقَامَ الفاعل؛ لأنَّه هو المفعولُ الصريحُ ، وعند الكوفيين والأخفش يجوزُ أَنْ يكونَ القائمُ مَقامَه الجارَّ والمجرورَ ، فيكونَ هذا باقياً على نصبِه . والتقدير : أُوْحي إليَّ استماعَ نَفَرٍ . و » مِنْ الجنِّ « صفةٌ ل » نَفَرٌ « ووَصْفُ القرآنِ بعَجَب : إمَّا على المبالغةِ ، وإمَّا على حَذْفِ مضافٍ ، أي : ذا عَجَبٍ ، وأمَّا بمعنى اسم الفاعلِ ، أي : مُعْجِب : و » يَهْدِي « صفةٌ أخرى .

يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2)

وقرأ العامَّةُ : { الرشد } : بضمة وسكونٍ وابن عمر بضمِّهما ، وعنه أيضاً فَتْحُهما ، وتَقَدَّم هذا في الأعراف .

وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3)

قوله : { وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبِّنَا } : قرأ الأخَوان وابن عامر وحفص بفتح « أنَّ » وما عُطِف عليها بالواو في اثنتي عشرة كلمةً ، والباقون بالكسرة . وقرأ ابنُ عامر وأبو بكرٍ « وإنه لَمَّا قام » بالكسرة ، والباقون بالفتح ، واتفقوا على الفتحِ في قوله : { وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ } وتلخيص هذا : أن « أنَّ » المشددةَ في هذه السورةِ على ثلاثةِ أقسامٍ : قسمٍ ليس معه واوُ العطفِ ، فهذا لا خلاف بين القُرَّاءِ في فتحِه أو كسرِه . على حسبِ ما جاءَتْ به التلاوةُ واقْتَضَتْه العربيةُ ، كقولِه : { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع } لا خلافَ في فتحِه لوقوعِه موقعَ المصدرِ وكقوله : { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً } [ الجن : 1 ] لا خلافَ في كسرِه لأنه محكيٌّ بالقول .
القسم الثاني أَن يقترنَ بالواوِ ، وهو أربعَ عشرةَ كلمةً ، إحداها : لا خلاف في فتحِها وهي : قولُه تعالى : { وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ } [ الجن : 18 ] وهذا هو القسم الثالث والثانية : { وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ } [ الجن : 19 ] كَسَرَها ابنُ عامرٍ وأبو بكر ، وفتحها الباقون . والاثنتا عشرةَ الباقيةُ : فَتَحها الأخوان وابن عامرٍ وحفص ، وكسرها الباقون ، كما تقدَّم تحريرُ ذلك كلِّه . والاثنتا عشرةَ هي قولُه : { وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبِّنَا } ، { وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ } [ الجن : 4 ] { وَأَنَّا ظَنَنَّآ } [ الجن : 5 ] { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ } [ الجن : 6 ] { وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ } [ الجن : 7 ] { وَأَنَّا لَمَسْنَا } [ الجن : 8 ] { وَأَنَّا كُنَّا } [ الجن : 9 ] { وَأَنَّا لاَ ندري } [ الجن : 10 ] { وَأَنَّا مِنَّا الصالحون } [ الجن : 11 ] { وَأَنَّا ظَنَنَّآ } [ الجن : 12 ] { وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا } [ الجن : 13 ] { وَأَنَّا مِنَّا المسلمون } [ الجن : 14 ] . وإذا عَرَفْتَ ضَبْطَها من حيث القراءاتُ فالتفِتْ إلى توجيهِ ذلك .
وقد اختلف الناسُ/ في ذلك فقال أبو حاتم في الفتح : « هو معطوفٌ على مرفوعِ » أُوْحِيَ « فتكونُ كلُّها في موضعِ رفعٍ لِما لم يُسَمَّ فاعِلُه » . وهذا الذي قاله قد رَدَّه الناسُ عليه : مِنْ حيث إنَّ أَكثرَها لا يَصِحُّ دخولُه تحت معمولِ « أُوْحِي » ألا ترى أنه لو قيل : أوُحي إليِّ أنَّا لَمَسْنا السماءَ ، وأنَّا كُنَّا ، وأنَّا لا نَدْري ، وأنَّا منَّا الصالحون ، وأنَّا لمَّا سَمِعْنا ، وأنَّا مِنَّا المسلمون لم يَسْتَقِمْ معناه . وقال مكي : « وعَطْفُ » أنَّ « على { آمَنَّا بِهِ } [ الجن : 2 ] أتَمُّ في المعنى مِنْ العطفِ على » أنَّه استمعَ « لأنك لو عَطَفْتَ { وَأَنَّا ظَنَنَّآ } [ الجن : 5 ] { وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا } [ الجن : 13 ] { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس } [ الجن : 6 ] { وَأَنَّا لَمَسْنَا } [ الجن : 8 ] ، وشِبْهَ ذلك على { أَنَّهُ استمع } [ الجن : 1 ] لم يَجُزْ؛ لأنه ليس مِمَّا أُوْحِي ، إليه ، إنما هو أمرٌ أو خبر ، وأنه عن أنفسهم ، والكسرُ في هذا أَبْينُ ، وعليه جماعة مِنْ القُراءِ .
الثاني : أنَّ الفتحَ في ذلك عَطْفٌ على مَحَلِّ » به « مِنْ » آمَنَّا به « . قال الزمخشري : » كأنه قال : صَدَّقْناه وصَدَّقْناه أنه تعالى جَدُّ رَبَّنا ، وأنَّه كان يقولُ سفيهُنا ، وكذلك البواقي « ، إلاَّ أنَّ مكيَّاً ضَعَّفَ هذا الوجهَ فقال : والفتحُ في ذلك على الحَمْلِ على معنى » آمَنَّا به « وفيه بُعْدٌ في المعنى؛ لأنهم لم يُخْبِروا أنهم آمنوا بأنَّهم لَمَّا سَمِعوا الهدى آمنوا به ، ولم يُخْبِروا أنهم آمنوا أنه كان رجالٌ ، إنما حكى اللَّهُ عنهم أنهم قالوا ذلك مُخْبِرين به عن أنفسِهم لأصحابِهم ، فالكسرُ أَوْلى بذلك » وهذا الذي قاله غيرُ لازمٍ؛ فإنَّ المعنى على ذلك صحيحٌ .

وقد سَبَق الزمخشريَّ إلى هذا التخريجِ الفَرَّاءُ والزجَّاجُ . إلاَّ أنَّ الفَرَّاء استشعر إشكالاً وانفصل عنه ، فإنه قال : « فُتِحَتْ » أنَّ « لوقوع الإِيمانِ عليها ، وأنت تجدُ الإِيمانَ يَحْسُنُ في بعضِ ما فُتحَ دونَ بعضٍ ، فلا يُمْنَعُ من إمضائِهنَّ على الفتح ، فإنه يَحْسُنُ فيه ما يُوْجِبُ فَتْحَ » أنَّ « نحو : صَدَقْنا وشَهِدْنا ، كما قالت العربُ :
4347 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وزَجَّجْنَ الحواجبَ والعُيونا
فنصَبَ » العيونَ « لإِتباعِها الحواجبَ ، وهي لا تُزَجَّجُ . إنما تُكَحَّلُ ، فأضمر لها الكُحْلَ » انتهى . فأشار إلى شيءٍ مِمَّا ذكرَه مكيٌّ وأجاب عنه . وقال الزجَّاج : « لكنَّ وجهَه أَنْ يكونَ محمولاً على معنى » آمنَّا به «؛ لأنَّ معنى » آمَنَّا به « صَدَّقْناه وعَلِمْناه ، فيكون المعنى : صَدَّقْنا أنه تعالى جَدُّ ربِّنا » .
الثالث : أنه معطوفٌ على الهاء به « به » ، أي : آمنَّا به وبأنه تعالى جَدُّ ربِّنا ، وبأنه كان يقولُ ، إلى آخره ، وهو مذهب الكوفيين . وهو وإن كان قوياً من حيث المعنى إلاَّ أنَّه ممنوعٌ مِنْ حيث الصناعةُ ، لِما عَرَفْتَ مِنْ أنَّه لا يُعْطَفُ على الضميرِ المجرورِ إلاَّ بإعادةِ الجارِّ . وقد تقدَّم تحقيقُ هذَيْن القولَيْن مستوفىً في سورةِ البقرة عند قولِه : { وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام } [ البقرة : 217 ] على أنَّ مكِّيَّاً قد قَوَّى هذا لمَدْرَكٍ آخرَ وهو حَسَنٌ جداً ، قال رحمه الله : « وهو يعني العطفَ على الضميرِ المجرورِ دونَ إعادةِ الجارِّ في » أنَّ « أجوَدُ منه في غيرها ، لكثرةِ حَذْفِ حرفِ الجرِّ مع » أنَّ « .
ووجهُ الكسرِ العطفُ على قوله : { إِنَّا سَمِعْنَا } [ الجن : 1 ] فيكون الجميعُ معمولاً للقولِ ، أي : فقالوا : إنَّا سَمِعْنا ، وقالوا : إنَّه تعالى جَدُّ ربِّنا إلى آخرِه . وقال بعضُهم : الجملتان مِنْ قولِه تعالى : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ } [ الجن : 6 ] { وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ } [ الجن : 7 ] معترضتان بين قولِ الجنِّ ، وهما مِنْ كلامِ الباري تعالى ، والظاهرُ أنَّهما مِنْ كلامِهم ، قاله بعضُهم لبعضٍ . ووجهُ الكسرِ والفتحِ في قولِه : { وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله } [ الجن : 19 ] ما تقدَّم . ووَجْهُ إجماعِهم على فتح { وَأَنَّ المساجد } [ الجن : 18 ] وجهان ، أحدُهما : أنَّه معطوفٌ على { أَنَّهُ استمع } [ الجن : 1 ] فيكونُ مُوْحى أيضاً . والثاني : أنه على حَذْفِ حرفِ الجرِّ ، وذلك الحرفُ متعلِّقٌ بفعل النهي ، أي : فلا تَدْعوا مع اللَّهِ أحداً؛ لأنَّ المساجدَ للَّهِ ، ذكرهما أبو البقاء .
قال الزمخشري : » أنه استمع « بالفتح؛ لأنَّه فاعلُ » أُوْحي « و

{ إِنَّا سَمِعْنَا } [ الجن : 1 ] بالكسرِ؛ لأنَّه مبتدأٌ مَحْكِيٌّ بعد القولِ ، ثم تحملُ عليهما البواقي ، فما كان مِنَ الوحي فُتِحَ ، وما كان مِنْ قَوْل الجِنِّ كُسِرَ ، وكلُّهُنَّ مِنْ قولِهم إلاَّ/ الثِّنْتَيْنِ الأُخْرَيَيْنِ وهما : { وَأَنَّ المساجد } [ الجن : 18 ] { وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله } [ الجن : 19 ] . ومَنْ فتح كلَّهن فعَطْفاً على مَحَلِّ الجارِّ والمجرور في { آمَنَّا بِهِ } [ الجن : 2 ] ، أي : صَدَّقْناه ، وصَدَّقْنا أنه « .
وقرأ العامَّةُ : { جَدُّ رَبِّنَا } بالفتح مضافاً ل » رَبِّنا « ، والمرادُ به هنا العظمةُ . وقيل : قُدْرتُه وأمرُه . وقيل : ذِكْرُه . والجَدُّ أيضاً : الحَظُّ ، ومنه قولُه عليه السلام : » ولا يَنْفَعُ ذا الجَدِّ منك الجَدُّ « والجَدُّ أيضاً : أبو الأبِ ، والجِدُّ بالكسرِ ضِدُّ التَّواني في الأمر .
وقرأ عكرمةُ بضمِّ باءِ » رَبُّنا « وتنوينِ » جَدٌّ « على أَنْ يكون » ربُّنا « بدلاً مِنْ » جَدٌّ « ، والجَدُّ : العظيم . كأنه قيل : وأنَّه تعالى عظيمٌ ربُّنا ، فأبدل المعرفة من النكرةِ ، وعنه أيضاً » جَدَّاً « منصوباً منوَّناً ، » رَبُّنا « مرفوعٌ . ووجْهُ ذلك أَنْ ينتصِبَ » جَدَّاً « على التمييز ، و » ورَبُّنا « فاعلٌ ب » تعالى « وهو المنقولُ مِنْ الفاعليةِ ، إذ التقديرُ : تعالى جَدُّ رَبِّنا ، ثم صار تعالى ربُّنا جَدَّاً ، أي : عَظَمةً نحو : تَصَبَّبَ زيدٌ عَرَقاً ، أي : عَرَقُ زيدٍ . وعنه أيضاً وعن قتادةَ كذلك ، إلاَّ أنَّه بكسرِ الجيم ، وفيه وجهان ، أحدُهما : أنَّه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ ، و » رَبُّنا « فاعلٌ ب » تعالى « والتقدير : تعالى ربُّنا تعالِياً جدَّاً ، أي : حقاً لا باطلاً . والثاني : أنَّه مصنوبٌ على الحالِ ، أي : تعالى ربُّنا حقيقةً ومتمكِّناً قاله ابنُ عطية .
وقرأ حميد بن قيس » جُدُّ ربِّنا « بضم الجيم مضافاً ل » ربِّنا « وهو بمعنى العظيم ، حكاه سيبويه ، وهو في الأصل من إضافةِ الصفةِ لموصوفِها؛ إذ الأصلُ : ربُّنا العظيمُ نحو : » جَرْدُ قَطِيفة « الأصل قطيفة جَرْدٌ ، وهو مُؤَول عند البَصْريين وقرأ ابن السَّمَيْفَع » جَدَى رَبِّنا « بألفٍ بعد الدال مضافاً ل » ربِّنا « . والجَدى والجَدْوى : النَّفْعُ والعَطاء ، أي : تعالى عَطاءُ ربِّنا ونَفْعُه .
والهاءُ في » أنَّه استمعَ « » وأنَّه تعالى « وما بعد ذلك ضميرُ الأمرِ والشأنِ ، وما بعده خبرُ » أنَّ « وقوله { مَا اتخذ صَاحِبَةً } مستأنَفٌ فيه تقريرٌ لتعالِي جَدِّه .

وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4)

قوله : { سَفِيهُنَا } : يجوزُ أَنْ يكونَ اسمَ كان ، « ويقول » الخبرُ ، ولو كان مثلُ هذه الجملةِ غيرَ واقعةٍ خبراً ل « كان » لامتنع تقديمُ حينئذٍ نحو : سفيهُنا يقول ، لو قلت : « يقولُ سفيهُنا » على التقديمِ والتأخيرِ لم يَجُزْ . والفرقُ : أنه في غيرِ بابِ « كان » يُلْبَسُ بالفعلِ والفاعلِ ، وفي باب « كان » يُؤْمَنُ ذلك . والثاني : أنَّ « سَفيهُنا » فاعلُ « يقولُ » والجملةُ خبرُ « كان » واسمُها ضميرُ الأمرِ مستترٌ فيها . وقد تقدَّم هذا في قولِه : { مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ } وقوله « شَطَطاً » تقدَّم مثلُه في الكهف .

وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5)

قوله : { ظَنَنَّآ أَن لَّن } : مخففةٌ ، واسمُها مضمرٌ ، والجملةُ المنفيةُ خبرُها ، والفاصلُ هنا حَرْفُ النفيِ . و « كَذِباً » مفعولٌ به ، أو نعتُ مصدرٍ محذوفٍ . وقرأ الحسنُ والجحدريُّ وأبو عبد الرحمن ويعقوبُ « تَقَوَّلَ » بفتح القافِ والواوِ المشدَّدةِ ، وهو مضارع « تَقوَّلَ » ، أي : كَذَّب . والأصلُ تتَقَوَّل ، فحذف إحدى التاءَيْن نحو : { تَذَكَّرُونَ } [ الأنعام : 152 ] وانتصب « كَذِباً » في هذه القراءةِ على المصدرِ؛ لأنَّ التقوُّلَ كَذِبٌ نحو قولِهم : قعدْتُ جُلوساً .

وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6)

قوله : { مِّنَ الإنس } : صفةٌ لرجال ، وكذلك قولُه « من الجنِّ » .

وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7)

قوله : { أَن لَّن يَبْعَثَ } : كقولِه : { أَن لَّن تَقُولَ } [ الجن : 5 ] وأَنْ وما في حَيِّزها سادَّةٌ مَسَدَّ مفعولَيْ الظَّنِّ ، والمسألةُ من بابِ الإِعمال لأنَّ « ظنُّوا » يَطْلُبُ مفعولَيْن ، و « ظَنَنْتُم » كذلك ، وهو إعمال الثاني للحذفِ مِنْ الأولِ ، والضمير في « أنهم ظَنُّوا » للإِنسِ ، وفي « ظَنَنْتُم » للجنِّ ، ويجوزُ العكسُ . وبكلٍ قد قيل .

وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8)

قوله : { فَوَجَدْنَاهَا } : فيها وجهان ، أظهرُهما : أنَّها متعدِّيَةٌ لواحدٍ؛ لأنَّ معناها أصَبْنا ، وصادَفْنا ، وعلى هذا فالجملةُ مِنْ قولِه « مُلِئَتْ » في موضعِ نصبٍ على الحال . والثاني : أنَّها متعدِّيةٌ لاثنينِ ، فتكونُ الجملةُ في موضعِ المفعولِ الثاني .
« وحَرَساً » منصوبٌ على التمييزِ نحو : « امتلأ الإِناءُ ماءً » . والحَرَسُ اسمُ جمع ل حارِس نحو : خَدَم لخادِم ، وغَيَب/ لغائِب ، ويُجْمَعُ تكسيراً على أحْراس ، كقولِ امرىء القيس :
4348 تجاوَزْتُ أَحْراساً وأهوالَ مَعْشَرٍ ... عليَّ حِراصٍ لو يُشِرُّون مَقْتلي
والحارس : الحافظُ الرقيبُ ، والمصدرُ الحِراسةُ . و « شديداً » صفةٌ ل حَرَس على اللفظِ ، كقوله :
4349 أخشى رُجَيْلاً ورُكَيْباً عادِياً ... ولو جاءَ على المعنى لقيل : شِداداً بالجمع .
وقوله : { وَشُهُباً } جمعُ شِهاب ك كِتاب وكُتُب . وهل المرادُ النجومُ أو الحَرَسُ أنفسُهم؟ وإنما عَطَفَ بعضَ الصفاتِ على بعضٍ عند تغايُرِ اللفظِ كقولِه :
4350 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . أتى مِنْ دُونِها النَّأْيُ والبُعْدُ
وقرأ الأعرج « مُلِيَتْ » بياءٍ صريحةٍ دونَ همزةٍ . ومقاعِد جمعُ مَقْعَد اسمَ مكان .

وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9)

قوله : { الآن } : هو ظرفٌ حاليٌّ . واستعير هنا للاستقبال كقوله :
4351 . . . . . . . . . . . . . . . . . . ولكنْ ... سأسْعى الآن إذ بلغَتْ أناها
فاقترنَ بحرفِ التنفيس ، وقد تقدَّم هذا في البقرة عند قوله { فالآن بَاشِرُوهُنَّ } [ البقرة : 187 ] ورَصَداً : إمَّا مفعولٌ له ، وإمَّا صفة لشِهاباً ، أي : ذا رَصَد . وجعل الزمخشريُّ الرَّصَد اسمَ جمعٍ كَحَرَس ، فقال : « والرَّصدُ : اسمُ جَمْعٍ للراصِد ك حَرَس على معنى : ذوي شِهابٍ راصِدين بالرَّجْم ، وهم الملائكةُ . ويجوزُ أَنْ يكونَ صفةً للشِّهاب ، بمعنى الراصِد ، أو كقولِه :
4352 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ومِعَىً جِياعاً

وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)

قوله : { أَشَرٌّ أُرِيدَ } : يجوزُ فيه وجهان ، أحسنُهما ، الرفعُ بفعلٍ مضمرٍ على الاشتغالِ ، وإنما كان أحسنَ لتقدُّمِ طالبِ الفعلِ ، وهو أداةُ الاستفهامِ . والثاني : الرفعُ على الابتداءِ . ولقائلٍ أَنْ يقولَ : يتعيَّنُ هنا الرفعُ بإضمارِ فعلٍ لمَدْركٍ آخر : وهو أنَّه قد عُطِفَ ب « أم » فِعْلٌ ، فإذا أَضْمَرْنا الفعلَ رافِعاً كُنَّا قد عَطَفْنا جملةً فعليةً على مِثْلِها بخلافِ رفعِه بالابتداءِ ، فإنَّه حينئذٍ يُخْرِجُ « أم » عن كونِها عاطفةً إلى كونِها منقطعةً ، إلاَّ بتأويلٍ بعيدٍ : وهو أنَّ الأصلَ : أشرٌّ أُريد بهم أم خيرٌ ، فوَضَعَ قولَه { أَمْ أَرَادَ بِهِمْ } موضعَ « خيرٌ » وقولَه « أشرٌ » سادٌّ مَسَدَّ مفعولَيْ « ندري » بمعنى أنه مُعَلِّقٌ له ، وراعى معنى « مَنْ » في قولِه { بِهِمْ رَبُّهُمْ } فجَمَعَ .

وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11)

قوله : { وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّ « دونَ » بمعنى « غير » ، أي : ومِنَّا غيرُ الصالحين ، وهو مبتدأٌ ، وإنما فُتِحَ لإِضافتِه إلى غيرِ متمكِّنٍِ ، كقوله : { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 94 ] فيمَنْ نَصَبَ على أحدِ الأقوالِ ، وإلى هذا نحا الأخفشُ . والثاني : أنَّ « دونَ » على بابِها من الظرفية ، وأنها صفةٌ لمحذوفٍ تقديرُه : ومنا فريقٌ أو فوجٌ دونَ ذلك وحَذْفُ الموصوفِ مع « مِنْ » التبعيضيَّةِ يَكْثرُ كقولِهم : منا ظَعَنَ ومنَّا أقام ، أي : مِنَّا فريقٌ . والمعنى : ومِنَّا صالحون دونَ أولئك في الصَّلاح .
قوله : { كُنَّا طَرَآئِقَ } فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنَّ التقديرَ : كنَّا ذوي طرائقَ ، أي : ذوي مذاهبَ مختلفةٍ . الثاني : أنَّ التقدير : كُنَّا في اختلاف أحوالِنا مثلَ الطرائقِ المختلفةِ . الثالث : أنَّ التقدير : كُنَّا في طرائقَ مختلفةٍ كقولِه :
4353 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كما عَسَل الطريقَ الثَّعْلَبُ
الرابع : أنَّ التقديرَ : كانَتْ طرائقُنا قِدَداً ، على حَذْفِ المضاف الذي هو الطرائقُ ، وإقامةِ الضميرِ المضافِ إليه مُقامَه ، قاله الزمخشري ، فقد جَعَلَ في ثلاثة أوجهٍ مضافاً محذوفاً؛ لأنَّه قَدَّرَ في الأول : ذوي ، وفي الثاني : مِثْلَ ، وفي الثالث : طرائقنا . ورَدَّ عليه الشيخ قولَه : كُنَّا في طرائق كقولِه :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كما عَسَلَ الطريقَ الثعلبُ
بأنَّ هذا لا يجوزُ إلاَّ في ضرورةٍ أو نُدورٍ ، فلا يُخْرَّج القرآن عليه ، يعني تَعَدِّيَ الفعلِ بنفسِه إلى ظرفِ المكانِ المختصِّ .
والقِدَدُ : جمعُ قِدَّة ، والمرادُ بها الطريقة ، وأصلُها السيرةُ يقال : قِدَّةُ فلانٍ حسنةٌ أي : سِيرتُه وهو مِنْ قَدَّ السَّيْرَ أي : قَطَعَه على استواءٍ/ فاسْتُعير للسِّيرةِ المعتدلةِ قال :
4354 القابِضُ الباسِطُ الهادِيْ بطاعتِه ... في فِتْنة الناسِ إذا أهواؤُهم قِدَدُ
وقال آخر :
4355 جَمَعْتَ بالرأيِ مِنهم كلَّ رافضةٍ ... إذ هم طرائقُ في أهوائِهم قِدَدُ

وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12)

قوله : { فِي الأرض } : حالٌ ، وكذلك « هَرَباً » مصدرٌ في موضع الحال تقديرُه : لن نُعْجِزه كائنين في الأرض أينما كُنَّا فيها ، ولن نُعْجزه هاربين منها إلى السماءِ .

وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13)

قوله : { فَلاَ يَخَافُ } : أي : فهو لا يخافُ ، أي فهو غيرُ خائف؛ ولأنَّ الكلامَ في تقديرِ مبتدأٍ وخبرٍ ، دَخَلَتِ الفاءُ ، ولولا ذلك لقيلَ : لا يَخَفْ ، قاله الزمخشري ، ثم قال : « فإنْ قلتَ : أيُّ فائدةٍ في رفعِ الفعلِ وتقديرِ مبتدأ قبلَه ، حتى يقعَ خبراً له ، ووجوبِ إدخالِ الفاءِ ، وكان كلُّ لك مستغنىً عنه بأَنْ يُقالَ لا يَخَفْ؟ قلت : الفائدةُ أنه إذا فَعَلَ ذلك فكأنَّه قيل : فهو لا يَخافُ ، فكان دالاًّ على تحقيقِ أنَّ المؤمِنَ ناجٍ لا مَحالةَ ، وأنه هو المختصُّ بذلك دونَ غيره » . قلت : سببُ ذلك أنَّ الجملةَ تكونُ اسميةً حينئذٍ ، والاسميةُ أدلُّ على التحقيقِ والثبوتِ من الفعلِيَّةِ . وقرأ ابن وثاب والأعمش « فلا يَخَفْ » بالجزمِ ، وفيها وجهان ، أحدُهما : ولم يَذْكُرِ الزمخشريُّ غيرَه أنَّ « لا » ناهيةٌ ، والفاءُ حينئذٍ واجبةٌ . والثاني : أنها نافيةٌ ، والفاءُ حينئذٍ زائدةٍ ، وهذا ضعيفٌ .
وقوله : { بَخْساً } فيه حَذْفُ مضافٍ أي : جزاءُ بَخْسٍ ، كذا قدَّره الزمخشريُّ ، وهو مُسْتَغْنَى عنه . وقرأ ابن وثاب « بَخَساً » بفتح الخاء .

وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14)

قوله : { القاسطون } : قد تقدَّم في أول النساء : أنَّ قَسَط الثلاثيَّ بمعنى جار ، وأَقْسَط الرباعيَّ بمعنى عَدَل ، وأنَّ الحَجَّاجَ قال لسعيد بن جبير : ما تقولُ فِيّ قال : إنك قاسِطٌ عادِلٌ . فقال الحاضرون : ما أحسنَ ما قال!! فقال : يا جهلةُ جَعَلني جائراً كافراً ، وتلا { وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } [ الجن : 15 ] { ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } [ الأنعام : 1 ] .
قوله : { تَحَرَّوْاْ رَشَداً } أي : قَصَدوا ذلك ، وطَلَبوه باجتهادٍ ، ومنه : التحرِّي في الشيءِ . قال الراغب : « حَرَى الشيءَ يَحْريه أي : قَصَدَ حَراه أي جانبَه ، وتَحَرَّاه كذلك ، وحَرَى الشيءُ يَحْرِي : نَقَصَ ، كأنه لَزِمَ الحَرَى ولم يَمْتَدَّ قال :
4356 . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... والمَرْءُ بعد تَمامِه يَحْرِي
ويقال : رَماه الله بأفعى حارِيةٍ أي : [ ناقصةٍ ] شديدةٍ » انتهى ، وكأنَّ أصلَه مِنْ قولِهم : هو حَرٍ بكذا أي : حَقيقٌ به قَمِنٌ . و « رَشَداً » مفعولٌ به . والعامَّةُ « رَشَداً » بفتحتين . والأعرج بضمةٍ وسكونٍ .

وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16)

قوله : { وَأَلَّوِ استقاموا } : « أنْ » هي المخففةُ . وقد تقدَّم أنه يُكتفى ب « لو » فاصلةً بين « أَنْ » الخفيفةِ وخبرِها ، إذا كان جملةً فعلية في سورة سبأ . وقال أبو البقاء هنا : و « لو » عوضٌ كالسين وسوف . وقيل : « لو » بمعنى « إنْ » و « أنْ » بمعنى اللامِ ، وليسَتْ بلازمةٍ كقوله : { لَئِن لَّمْ تَنتَهِ } [ الشعراء : 16 ] وقال في موضعٍ آخرَ : { وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ } [ المائدة : 73 ] ذكره ابن فَضَّال في « البرهان » . قلت : هذا شاذٌّ لا يُلتفت إليه البتَةَ؛ لأنه خلافُ النَّحْوِيين . وقرأ العامَّةُ بكسر واو « لو » على الأًصلِ . وابن وثاب والأعمشُ بضمِّها تشبيهاً بواوِ الضمير ، وقد تقدم تحقيقُه في البقرة .
وقوله : { غَدَقاً } الغَدَقُ بفتح الدال وكسرِها : لغتان في الماءِ الغزيرِ ، ومنه الغَيْداقُ : الماءُ الكثيرُ ، وللرجلِ الكثيرِ العَدْوِ ، والكثيرِ النطقِ . ويقال : غَدِقَتْ عينُه تَغْدَقُ أي : هَطَلَ دَمْعُها غَدَقاً . وقرأ العامَّةُ « غَدقاً » بفتحتَيْن . وعاصم فيما رَوَى عنه الأعشى بفتحِ الغينِ وكَسْرِ الدالِ ، وتقدَّم أنهما لغتان .

لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)

قوله : { يَسْلُكْهُ } : الكوفيون بياءِ الغَيْبة ، وهي واضحةٌ ، لإِعادةِ الضميرِ على الربِّ تعالى . وباقي السبعةِ بنونِ العظمة على الالتفات ، هذا كما تقدَّم في قولِه : { سُبْحَانَ الذي أسرى } [ الإِسراء : 1 ] ثم قال : { بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ } . وقرأ ابن جندب « نُسْلِكْه » بنونٍ مضمومة مِنْ أَسْلَكه . وبعضُهم بالياء مِنْ تحتُ مضمومةً ، وهما لغتان . يُقال : سَلَكه وأسلكه . وأُنْشِدَ :
3457 حتى إذا أَسْلكوهم في قُتائِدَةٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وسَلَكَ وأَسْلك يجوزُ فيهما أَنْ يكونا ضُمِّنا معنى/ الإِدخالِ فكذلك يتعدَّيان لاثنين . ويجُوز أَنْ يقالَ : يتعدَّيان إلى أحدِ المفعولَيْن بإسقاطِ الخافضِ ، كقولِه : { واختار موسى قَوْمَهُ } [ الأعراف : 155 ] ، فالمعنى : يُدْخِلْه عذاباً ، أو يَسْلُكْه في عذاب ، هذا إذا قلنا : إنَّ « صَعَداً » مصدرٌ . قال الزمخشري : « يقال : صَعِدَ صَعَداً وصُعوداً ، فوصف به العذاب؛ لأنه يَتَصَعَّدُ المُعَذَّب أي يَعْلُوه ويَغْلِبُه ، فلا يُطيقه . ومنه قولُ عمرَ رضي الله عنه : » ما تَصَعَّدني شيءٌ ما تَصَعَّدَتْني خطبةُ النكاحِ « يريد : ما شقَّ عليَّ ولا غَلَبَني » . وأمَّا إذاجَعَلْناه اسماً لصَخْرةٍ في جهنمَ ، كما قاله ابنُ عباسٍ وغيرُه ، فيجوزُ فيه وجهان ، أحدهما : أَنْ يكونَ « صَعَداً » مفعولاً به أي : يَسْلُكْه في هذا الموضع ، ويكون « عذاباً » مفعولاً مِنْ أَجْلِه . والثاني : أَنْ يكونَ « عذاباً » مفعولاً ثانياً ، كما تَقَدَّم ، و « صَعَداً » بدلاً مِنْ عذاب ، ولكنْ على حَذْفِ مضافٍ أي : عذابَ صَعَدٍ .
و « صَعَداً » بفتحتَيْن هو قراءةُ العامَّة . وقرأ ابن عباس والحسنُ بضمِّ الصاد وفتح العين ، وهو صفةٌ تقتضي المبالغة ك حُطَمٍ ولُبَدٍ ، وقُرِىءَ بضمَّتين وهو وصفٌ أيضاً ك جُنُب وشُلُل .

وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18)

قوله : { وَأَنَّ المساجد } : قد تقدَّم أنَّ السبعةَ أجمعَتْ على الفتح ، وأنَّ فيه وجهَيْنِ : حَذْفَ الجارِّ ويتعلَّقُ بقولِه : « فلا تَدْعُوا » وهو رأَيُ الخليلِ ، وجَعَله كقولِه : { لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ } [ قريش : 1 ] فإنَّه متعلِّقٌ بقولِه : { فَلْيَعْبُدُواْ } [ قريش : 2 ] وكقولِه : { وَإِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ } [ المؤمنون : 52 ] أي : ولأنَّ . والثاني : أنَّه عطفٌ على « أنَّه استمع » فيكون مُوْحَى . وقرأ ابن هرمز . وطلحة « وإنَّ المساجدَ » بالكسرِ ، وهو مُحْتَمِلٌ للاستئنافِ وللتعليلِ ، فيكونُ في المعنى كتقديرِ الخليلِ . والمساجد قيل : هي جَمْعُ « مَسْجِد » بالكسر وهو مَوْضِعُ السجُّودِ ، وتَقَدَّم أنَّ قياسَه الفتحُ . وقيل : هو جمع مَسْجَد بالفتح مُراداً به الآرابُ الورادةُ في الحديث : « الجبهةُ والأنفُ والركبتانِ واليدانِ والقَدَمان . وقيل : بل جمعُ مَسْجَد ، وهو مصدرٌ بمعنى السُّجود ، ويكون الجمعُ لاختلافِ الأنواعِ .

وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19)

قوله : { يَدْعُوهُ } : في موضع الحالِ أي : داعياً ، أي : مُوَحِّداً له .
قوله : { لِبَداً } قرأ هشام بضمِّ اللامِ ، والباقون بكسرِها . فالأولى . جمعُ لُبْدَة بضمِّ اللامِ نحو : غُرْفة وغُرَف . وقيل : بل هو اسمٌ مفردٌ صفةٌ من الصفاتِ نحو : « حُطَم » ، وعليه قولُه تعالى : { مَالاً لُّبَداً } [ البلد : 6 ] . وأمَّا الثانيةُ : فجمعُ « لِبْدَة » بالكسر نحو : قِرْبَة وقِرَب . واللِّبْدَة واللُّبْدة . الشيءُ المتلبِّدُ أي : المتراكبُ بعضُه على بعضٍ ، ومنه لِبْدَة الأسد كقولِه :
4358 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... له لِبْدَةٌ أظفارُه لم تُقَلَّم
ومنه « اللِّبْدُ » لتَلَبُّدِ بعضِه فوق بعض ، ولُبَدٌ : اسمُ نَسْرِ لُقمانَ ابنِ عادٍ ، عاش مِئَتي سنةٍ حتى قالوا : « طال الأمَدُ على لُبَدٍ » والمعنى : كادَتِ الجِنُّ يكونون عليه جماعاتٍ متراكمةً مُزْدَحمِيْن عليه كاللَّبِدِ .
وقرأ الحسنُ والجحدريُّ « لُبُداً » بضمتين ، ورواها جماعةٌ عن أبي عمروٍ ، وهي تحتملُ وجهَيْنِ ، أحدُهما : أَنْ يكونَ جمعَ لَبْد نحو : « رُهُن » جمعَ « رَهْن » . والثاني : أنَّه جمعُ « لَبُود » نحو : صَبورُ وصُبُر ، وهو بناءُ مبالغةٍ أيضاً . وقرأ ابن مُحَيْصن بضمةٍ وسكونٍ ، فيجوزُ أَنْ تكونَ هذه مخففةً من القراءةِ التي قبلها ، ويجوزُ أن تكونَ وَصْفاً برأسِه . وقرأ الحسن والجحدريُّ أيضاً « لُبَّداً » بضم اللام وتشديد الباء ، وهو جمعُ « لابِد » كساجِد وسُجَّد ، وراكع ورُكَّع . وقرأ أبو رجاء بكسرِ/ اللامِ وتشديدِ الباءِ وهي غريبةٌ جداً .

قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20)

قوله : { قُلْ إِنَّمَآ أَدْعُو } : قرأ عاصمٌ وحمزةُ « قُلْ » بلفظِ الأمرِ التفاتاً أي : قُلْ يا محمدُ . والباقون « قال » إخباراً عن عبدِ الله وهو محمدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم . قال الجحدري : وهي في المصحفِ كذلك ، وقد تقدَّمَ لذلك نظائرُ في { قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي } [ الإِسراء : 93 ] آخرَ الإِسراء ، وكذا في أولِ الأنبياءِ [ الآية : 4 ] ، وآخر « المؤمنون » .

قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21)

قوله : { ضَرّاً وَلاَ رَشَداً } : قرأ الأعرجُ « رُشُداً » بضمَتْينِ . وجعل الضَّرَّ عبارةً عن الغَيِّ؛ لأنَّ الضَرَّ سببٌ عن الغَيِّ وثمرتُه ، فأقام المسبَّبَ مُقامَ سببِه . والأصلُ : لا أَمْلِكُ غَيَّاً ولا رَشَداً ، فذكر الأهمَّ . وقيل : بل في الكلامِ حَذْفان ، والأصل : لا أَمْلِكُ لكم ضَرَّاً ولا نَفْعاً ولا غَيَّاً ولا رَشَداً ، فحذفَ مِنْ كلِّ واحدٍ ما يَدُلُّ مقابِلُه عليه .

قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22)

قوله : { مُلْتَحَداً } : مفعولُ « أَجِدُ » لأنَّها بمعنى : أُصيبُ وأَلْقَى . والمُلْتَحَدُ هنا : المَسْلَكُ والمَذْهَبُ قال :
4359 يا لَهْفَ نفسي ولَهْفي غيرُ مُجْديَةٍ ... عَنِّي وما مِنْ قضاءِ الله مُلْتَحَدُ
أي : مَهْرَبٌ ومَذْهَبٌ .

إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23)

قوله : { إِلاَّ بَلاَغاً } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه استثناءٌ منقطعٌ . أي : لكنْ إنْ بَلَّغْتُ عن اللَّهِ رَحِمني؛ لأنَّ البلاغَ من الله لا يكونُ داخلاً تحت قولِه : { وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً } ، لأنه لا يكونُ مِنْ دونِ اللَّهِ ، بل يكونُ من اللَّهِ وبإعانتِه وتوفيقِه . الثاني : أنه متصلٌ . وتأويلُه : أنَّ الإِجارةَ مستعارةٌ للبلاغِ ، إذ هو سببُها ، وسببُ رحمتِه تعالى ، والمعنى : لن أجِدَ سبباً أميلُ إليه وأعتصمُ به ، إلاَّ أَنْ أُبَلِّغَ وأُطيعَ ، فيُجيرَني . وإذا كان متصلاً جاز نصبُه من وجهين ، أحدهما : وهو الأرجح أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ « مُلْتحداً »؛ لأنَّ الكلامَ غيرُ موجَبٍ . والثاني : أنه منصوبٌ على الاستثناءِ ، وإلى البدليةِ ذهب أبو إسحاق . الثالث : أنه مستثنى مِنْ قولِه : { لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً } قال قتادة : أي لا أَمْلِكُ لكم إلاَّ بلاغاً إليكم .
وقرَّره الزمخشريُّ فقال : « أي : لا أَمْلِكُ إلاَّ بلاغاً من اللَّهِ ، و { قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي } جملةٌ معترضةٌ اعترضَ بها لتأكيدِ نَفْيِ الاستطاعة » . قال الشيخ : « وفيه بُعْدٌ لطولِ الفَصْلِ بينهما » . قلت : وأين الطولُ وقد وقع الفَصْلُ بأكثرَ مِنْ هذا؟ وعلى هذا فالاستثناءُ منقطعٌ . الرابع : أنَّ الكلامَ ليس استثناءً بل شرطاً . والأصل : إنْ لا فأدغم ف « إنْ » شرطيةٌ ، وفعلُها محذوفٌ لدلالةِ مصدرِه والكلامِ الأولِ عليه ، و « لا » نافيةٌ والتقدير : إن لا أُبَلِّغْ بلاغاً من اللَّهِ فلن يُجيرَني منه أحدٌ . وجَعَلوا هذا كقولِ الشاعر :
4360 فطَلِّقْها فَلَسْتَ لها بكُفْءٍ ... وإلاَّ يَعْلُ مَفْرِقَكَ الحُسامُ
أي : وإنْ لا تُطَلِّقْها يَعْلُ ، حَذَفَ الشرطَ وأبقى الجوابَ . وفي هذا الوجهِ ضَعْفٌ من وجهَيْن ، أحدهما : أنَّ حَذْفَ الشرطِ دونَ أداتِه قليلٌ جداً . والثاني : أنَّه حُذِفَ الجزآن معاً أعني الشرطَ والجزاءَ ، فيكونُ كقولِه :
4361 قالَتْ بناتُ العَمِّ يا سَلْمى وإنْ ... كان فقيراً مُعْدَماً قالت : وإِنْ
أي : قالَتْ : وإنْ كان فقيراً فقد رَضِيْتُه . وقد يُقال : إنَّ الجوابَ إمَّا مذكورٌ عند من يرى جوازَ تقديمِه ، وإمَّا في قوةِ المنطوق به لدلالةِ ما قبلَه عليه .
قوله : { مِّنَ الله } فيه وجهان ، أحدهما : أنَّ « مِنْ » بمعنى عَنْ؛ لأنَّ بَلِّغ يتعدَّى بها ، ومنه قولُه عليه السلام : « ألا بَلِّغوا عني » والثاني : أنَّه متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل « بلاغ » . قال الزمخشري : « مِن » ليسَتْ صلةً للتبليغ ، إنما هي بمنزلةِ « مِنْ » في قوله : { بَرَآءَةٌ مِّنَ الله } [ التوبة : 1 ] بمعنى : بلاغاً كائناً من الله « .
قوله : { وَرِسَالاَتِهِ } فيه وجهان ، أحدُهما : أنها منصوبةٌ نَسَقاً على » بلاغاً « كأنه قيل : لا أَمْلِكُ لكم إلاَّ التبليغَ والرسالاتِ ، ولم يَقُلِ الزمخشريُّ غيرَه . والثاني : أنها مجرورةٌ نَسَقاً على الجلالةِ أي : إلاَّ بلاغاً/ عن اللَّهِ وعن رسالاتِه ، كذا قَدَّره الشيخُ .

وجَعَلَه هو الظاهرَ . وتجوَّز في جَعْلِه « مِنْ » بمعنى عن ، والتجوُّزُ في الحروفِ رأيٌ كوفيٌّ ، ومع ذلك فغيرُ منقاسٍ عندَهم .
قوله : { فَإِنَّ لَهُ نَارَ } العامَّة على كسرِها ، جَعَلوها جملةً مستقلة بعد فاءِ الجزاءِ . وقرأ طلحةُ بفَتْحِها ، على أنَّها مع ما في حَيِّزِها في تأويلِ مصدرٍ واقعٍ خبراً لمبتدأ مضمرٍ تقديرُه : فجزاؤهُ أنَّ له نارَ جهنمَ ، أو فحُكْمُه : أنَّ له نارَ جهنَم . قال ابن خالويه : « سَمِعْتُ ابنَ مجاهدٍ يقول : لم يَقْرَأْ به أحدٌ ، وهو لحنٌ؛ لأنه بعد فاءِ الشرط » . قال : « وسمعتُ ابنَ الأنباريِّ يقول : هو صوابٌ ومعناه ، فجزاؤُه أنَّ له نارَ جهنم » . قلت : ابنُ مجاهدٍ وإنْ كان إماماً في القراءاتِ ، إلاَّ أنَّه خَفِيَ عليه وجهُها ، وهو عجيبٌ جداً . كيف غَفَلَ عن قراءتَيْ { فَأنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } في الأنعام [ الآية : 54 ] ، لا جرم أنَّ ابنَ الأنباريِّ اسْتَصْوَبَ القراءةَ لِطُولِ باعِه في العربية .
قوله : { خَالِدِينَ } حالٌ من الهاء في « له » ، والعاملُ الاستقرارُ الذي تَعَلَّقَ به هذا الجارُّ ، وحَمَلَ على معنى « مَنْ » فلذلك جَمَعَ .

حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24)

قوله : { حتى إِذَا } : قال الزمخشري : « فإنْ قُلْتَ : بِمَ تَعَلَّق » حتى « وجُعِلَ ما بعدَه غاية له؟ قلت : بقولِه : { يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } [ الجن : 19 ] على أنهم يتظاهرون عليه بالعَداوةِ ، ويَسْتَضْعِفون أنصارَه ، ويَسْتَقِلُّون عَددَه ، حتى إذا رَأَوْا ما يُوْعَدون مِنْ يوم بدرٍ ، وإظهارِ اللَّهِ عليهم ، أو مِنْ يومِ القيامةِ فسَيَعْلمونَ حينئذٍ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً . قال : » ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ دَلَّتْ عليه الحالُ : مِن استضعافِ الكفارِ واستقلالِهم فعددِه ، كأنه [ قال : ] لا يزالون على ما هم عليه ، حتى إذا رَأَوْا ما يُوْعَدون قال المشركون : متى هذا الموعدُ؟ إنكاراً له : فقال : قُلْ إنه كائنٌ لا ريبَ فيه . قال الشيخ : « قولُه : بِمَ تَعَلَّق؟ إن عَنَى تعلُّقَ حرفِ الجرِّ فليس بصحيح لأنَّها حرفُ ابتداءٍ فما بعدها ليس في موضعِ جرٍ خلافاً للزجَّاجِ وابنِ دُرُسْتَوَيْه فإنهما زعما أنها إذا كانَتْ حرفَ ابتداءٍ فالجملةُ الابتدائيةُ بعدها في موضع جرِّ . وإنْ عَنَى بالتعلُّقِ اتصالَ ما بعدَها بما قبلَها وكونَ ما بعدَها غايَةً لِما قبلَها فهو صحيحٌ . وأمَّا تقديرُه أنها تتعلَّقُ بقولِه : { يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } فهو بعيدٌ جداً لطولِ الفَصْلِ بينهما بالجملِ الكثيرةِ . وقدَّر بعضُهم ذلك المحذوفَ المُغَيَّا ، فقال : تقديرُه : دَعْهم حتى إذا . وقال التبريزي : » جازَ أَنْ تكونَ غايةً لمحذوفٍ « ولم يُبَيِّن ما هو؟ وقال الشيخ : » والذي يَظْهَرُ أنها غايةٌ لِما تَضَمَّنْتْه الجملةُ التي قبلَها مِنْ الحُكْم بكينونةِ النارِ لهم . كأنَّه قيل : إنَّ العاصِيَ يُحْكَمُ له بكَيْنونةِ النارِ ، والحُكْمُ بذلك هو وعيدٌ ، حتى إذا رَأَوْا ما حَكَم بكينونتِه لهم فسَيَعْلمون « .
قوله : { مَنْ أَضْعَفُ } يجوزُ في » مَنْ « أن تكونَ استفهاميةً فترتفعَ بالابتداء ، و » أضعفُ « خبرُه . والجملةُ في موضعِ نصبٍ سادَّةً مَسَدَّ المفعولَيْن لأنها مُعَلِّقَةٌ للعلمِ قبلَها ، وأَنْ تكونَ موصولةً ، و » أَضْعَفْ « خبرُ مبتدأ مضمرٍ . أي : هو أَضْعَفُ . والجملةُ صلةٌ وعائدٌ . وحَسَّن الحَذْفَ طولُ الصلةِ بالتمييزِ . والموصولُ مفعولٌ للعِلْم بمعنى العِرْفان .

قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25)

قوله : { أَقَرِيبٌ } : خبرٌ مقدَّمٌ و « ما تُوعَدون » [ مبتدأ ] . ويجوز أن يكون « قريبٌ » مبتدأً لاعتماده على الاستفهام . و « ما تُوعَدون » فاعلٌ به أي : أقربُ الذي تُوْعَدون ، نحو : أقائمٌ أبواك . و « ما » يجوزُ أَنْ تكونَ موصولةً ، فالعائدُ محذوفٌ ، وأَنْ تكونَ مصدريةً فلا عائدَ/ و « أم » : الظاهرُ أنها متصلةٌ . وقال الزمخشري : « فإنْ قلتَ ما معنى { أَمْ يَجْعَلُ لَهُ ربي أَمَداً } والأمدُ يكونُ قريباً وبعيداً؟ ألا ترى إلى قولِه { تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً } [ آل عمران : 30 ] قلت : كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يَستَقْرِبُ المَوْعِدَ فكأنه قال : » ما أَدْري أهو حالٌ متوقَّعٌ في كلِّ ساعةٍ أم مُؤَجَّلٌ ضُرِبَتْ له غايةٌ « .

عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26)

قوله : { عَالِمُ الغيب } : العامَّةُ على رفعِهِ : إمَّا بدلاً مِنْ « ربي » ، وإمَّا بياناً له ، وإمَّا خبراً لمبتدأ مضمرٍ أي : هو عالِمُ . و قُرِىء بالنصبِ على المدحِ . وقرأ السُّدِّي « عَلِمَ الغيبَ » فعلاً ماضياً ناصباً للغيب .
قوله : { فَلاَ يُظْهِرُ } العامَّةُ على كونِه مِنْ أظْهر . و « أحَداً » مفعولٌ به . وقرأ الحسن « يَظْهَرُ » بفتحِ الياءِ والهاءِ ، مِنْ ظَهَر ثلاثياً . « أحَدٌ » فاعلٌ به .

إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)

قوله : { إِلاَّ مَنِ ارتضى } : يجوزُ أَنْ يكونَ منقطعاً أي : لكن مَنْ ارتضاه فإنه يُظْهِرُه على ما يشاءُ مِنْ غَيْبِه بالوَحْيِ . وقولُه : « مِنْ رسولٍ » بيانٌ للمُرْتَضِيْنَ .
وقوله : { فَإِنَّهُ يَسْلُكُ } بيانٌ لذلك . وقيل : هو متصلٌ . و « رَصَداً » قد تقدَّم الكلامُ عليه . ويجوزُ أَنْ تكونَ « مَنْ » شرطيةً أو موصولةً متضمِّنَةً معنى الشرط . وقوله : « فإنَّه » خبرُ المبتدأ على القولَيْنِ . وهو من الاستثناءِ المنقطعِ أيضاً ، أي : لكن . والمعنى : لكنْ مَنْ ارتضاه من الرُّسُلِ فإنه يَجْعَلُ له ملائكةً رَصَداً يَحْفظونه .

لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)

قوله : { لِّيَعْلَمَ } : متعلقٌ ب « يَسْلُكُ » . والعامَّةُ على بنائه للفاعلِ . وفيه خلافٌ أي : لِيَعْلَمَ محمدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم . وقيل : لِيَعْلَمَ أي : ليَظْهَرَ عِلْمُه للناس . وقيل : ليَعْلَمَ إبليسُ . وقيل : ليَعْلَمَ المشركون . وقيل : لِيَعْلَمَ الملائكةُ ، وهما ضعيفان لإِفرادِ الضميرِ . والضميرُ في « أَبْلَغُوا » عائدٌ على « مَنْ » مِنْ قولِه : « مَنْ ارتَضَى » راعى لفظَها أولاً ، فأفردَ في قولِه : { مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } ، ومعناها ثانياً فَجَمَعَ في قولِه : « أَبْلَغُوا » إلى آخرِه .
وقرأ ابنُ عباس وزيدُ علي « لِيُعْلَمَ » مبنياً للمفعول . وقرأ ابن أبي عبلةَ والزُّهْري « لِيُعْلِمَ » بضمِّ الياءِ وكسرِ اللامِ أي : لِيُعْلِمَ اللَّهُ ورسولُه بذلك . وقرأ أبو حيوة « رسالة » بالإِفرادِ ، والمرادُ الجمعُ . وابن أبي عبلة « وأُحِيْط وأُحْصِيَ » مبنيين للمفعول ، « كلُّ » رفعٌ بأُحْصِي .
قوله : { عَدَداً } يجوزُ أَنْ يكونَ تمييزاً منقولاً من المفعولِ به . والأصل : أحصى عددَ كلِّ شيءٍ كقولِه تعالى : { وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً } [ القمر : 12 ] أي : عيونَ الأرض ، على خلافٍ سَبَقَ في ذلك . ويجوزُ أَنْ يكونَ منصوباً على المصدرِ من المعنى؛ لأنَّ « أحصَى » بمعنى عَدَّ ، فكأنه قيل : وعَدَّ كلَّ الفعل ، والفعلُ إلى المصدر . ومَنَعَ مكي كونَه مصدراً للإِظهار فقال : « عَدَداً » نَصْبٌ على البيانِ ، ولو كان مصدراً لأدغم « قلت : يعني : أنَّ قياسَه أَنْ يكونَ على فَعْل بسكونِ العين ، لكنه غيرُ لازمٍ فجاء مصدرُه بفتح العين . ولمَّا كان » لِيَعْلَمَ « مضمَّناً معنى : قد عَلِمَ ذلك ، جازَ عَطْفُ » وأحاط « على ذلك المقدَّرِ .

يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1)

قوله : { المزمل } : أصلُه المتزَمِّلُ ، فأُدْغِمَت التاءُ في الزاي يقال : تَزَمَّل يتزَمَّلُ تَزَمُّلاً . فإذا أُريد الإِدغامُ اجْتُلِبَتْ همزةُ الوصلِ ، وبهذا الأصلِ قرأ أُبيُّ بن كعب . وقرأ عكرمةُ « المُزَمِّل » بتخفيفِ الزايِ وتشديدِ الميمِ ، اسمَ فاعلٍ ، على هذا فيكونُ فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّ أصلَه المُزْتَمِلُ على مُفْتَعِل فأُبْدِلَتِ التاءُ ميماً وأُدْغِمَتْ ، قاله أبو البقاء ، وهو ضعيفٌ . والثاني : أنَّه اسمُ فاعلٍ مِنْ زَمَّل مشدداً ، وعلى هذا فيكون المفعولُ محذوفاً ، أي : المُزَمِّل جِسْمَه . وقُرِىء كذلك ، إلاَّ أنَّه بفتحِ الميمِ اسمَ مفعولٍ منه ، أي : المُلَفَّف . والتَّزَمُّلُ : التَّلَفُّفُ . يقال : تَزَمَّلَ زيدٌ بكساءٍ ، أي : التفَّ به قال ذو الرَّمة :
4362 وكائِنْ تَخَطَّتْ ناقتي مِنْ مَفازةٍ ... ومِنْ نائمٍ عن ليلِها مُتَزَمِّلِ
وقال امرؤ القيس :
4363 كأنَّ ثبيراً في أفانينِ وَدْقِه ... كبيرُ أُناسٍ في بِجادٍ مُزَمَّلِ
وهو كقراءةِ بعضِهم المتقدِّمة . وفي التفسير : أنه نُودي بذلك لالتفافِه في كِساء .

قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2)

قوله : { قُمِ الليل } : العامَّةُ على كسر الميمِ لالتقاءِ السَّاكنَيْن . وأبو السَّمَّال بضمها إتباعاً لحركةِ القاف . وقُرِىءَ بفَتحِها طَلَباً للخِفَّةِ . قال أبو الفتح : « الغَرَضُ الهَرَبُ من التقاءِ الساكنَيْن ، فبأيِّ حركةٍ حُرِّك الأولُ حَصَلَ الغَرَضُ » . قلت : إلاَّ أنَّ الأصلَ الكسرُ لدليلٍ ذكره النحويون . و « الليلَ » ظرفٌ للقيامِ ، وإن استغرقه الحَدَثُ الواقعُ فيه . هذا قولُ البصريين ، وإمَّا الكوفيُّون فيجعلون هذا النوعَ مفعولاً به . /

نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3)

قوله : { إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ } : للناس في هذا كلامٌ كثيرٌ ، واستدلالٌ على جوازِ استثناءِ الأكثرِ والنصفِ ، واعتراضاتٌ وأجوبةٌ عنها . وها أنا أذكرُ ذلك مُحَرِّراً له بعون اللهِ تعالى .
اعلم أنَّ في هذه الآيةِ ثمانيةَ أوجهٍ أحدُها : أنَّ « نصفَه » بدلٌ من « الليلَ » بدلُ بعضٍ من كلٍ . و « إلاَّ قليلاً » استثناءٌ من النصفِ كأنه قيل : قُمْ أقلَّ مِنْ نصفِ الليلِ . والضميرُ في « مِنْه » و « عليه » عائدٌ على النصفِ .
والمعنى : التخييرُ بين أمرَيْنِ : بينَ أَنْ يقومَ أقلَّ مِنْ نصفِ الليلِ على البَتِّ ، وبين أَنْ يَخْتارَ أحدَ الأمرَيْن ، وهما : النُّقْصانُ من النصفِ والزيادةُ عليه ، قاله الزمخشريُّ : وقد ناقَشَه الشيخ : بأنه يَلْزَمُه تكرارٌ في اللفظِ؛ إذ يَصير التقديرُ : قُم نِصفَ الليلِ إلاَّ قليلاً مِنْ نِصْفِ الليل ، أو انقُصْ مِنْ نصفِ الليل . قال : « وهذا تركيبٌ يُنَزَّهُ القرآنُ عنه » . قلت : الوجهُ فيه إشكالٌ ، لا من هذه الحيثية فإنَّ الأمرَ فيها سهلٌ ، بل لمعنىً آخرَ [ سأَذْكرهُ قريباً إنْ شاء الله ] .
وقد جعل أبو البقاءِ هذا الوجهَ مرجوحاً فإنه قال : « والثاني هو بدلٌ مِنْ قليلاً يعني النصف قال : » وهو أَشبهُ بظاهرِ الآية لأنه قال : « أو انقُصْ منه أو زِدْ عليه » ، والهاءُ فيهما للنِّصْفِ . فلو كان الاستثناءُ من النصف لصار التقديرُ : قُم نصفَ الليل إلاَّ قليلاً أو انقُصْ منه قليلاً ، والقليلُ المستثنى غيرُ مقدَّر ، فالنقصانُ منه لا يُعْقَلُ « . قلت : الجوابُ عنه : أنَّ بعضَهم قد عَيَّنَ هذا القليلَ : فعن الكلبيِّ ومقاتلٍ : هو الثلثُ ، فلم يكن القليلُ غيرَ مقدَّرٍ . ثم إنَّ في قولِه تناقضاً لأنه قال : » والقليلُ المستثنى غيرُ مقدَّرٍ ، فالنقصانُ منه [ لا يُعْقَل « ] فأعاد الضميرَ على القليل ، وفي الأولِ أعادَه على النصفِ .
ولقائلٍ أن يقولَ : قد يَنْقَدحُ هذا الوجهُ بإشكالٍ قويٍّ : وهو أنَّه يَلْزَمُ منه تكرارُ المعنى الواحدِ : وذلك أنَّ قولَه : » قُمْ نِصْف الليلِ إلاَّ قليلاً « بمعنى : انقُصْ مِنْ الليل؛ لأنَّ ذلك القليل هو بمعنى النقصانِ ، وأنت إذا قلت : قُمْ نصفَ الليلِ إلاَّ القليلَ مِن النصفِ ، وقُمْ نصفَ الليل ، أو انقُصْ من النصفِ ، وجدتَهما بمعنىً . وفيه دقةٌ فتأمَّلْه ، ولم يَذْكُرِ الحوفيُّ غيرَ هذا الوجهِ المتقدِّمِ ، فقد عَرَفْتَ ما فيه .
ومِمَّنْ ذَهَبَ إليه أبو إسحاقَ فإنه قال : » نصفَه « بدلٌ من » الليل « و » إلاَّ قليلاً « استثناءٌ من النصفِ . والضميرُ في » منه « و » عليه « عائدٌ للنصف . المعنى : قُمْ نصفَ الليل أو انقُصْ من النصفِ قليلاً إلى الثلثِ ، أو زِدْ عليه قليلاً إلى الثلثِ ، أو زِد عليه قليلاً إلى الثلثَيْن ، فكأنَّه قال : قُمْ ثلثَيْ الليلِ أو نصفَه أو ثلثَه » .

قلت : والتقديراتُ التي يُبْرزونها ظاهرةٌ حسنةٌ ، إلاَّ أنَّ التركيبَ لا يُساعِدُ عليها ، لِما عَرَفْتَ من الإِشكال الذي ذكَرْتُه لك آنفاً .
الثاني : أَنْ يكونَ « نصفَه » بدلاً مِنْ « قليلاً » ، وإليه ذهب الزمخشريُّ وأبو البقاء وابنُ عطية . قال الزمخشريُّ : « وإنْ شِئْتَ جَعَلْتَ » نصفَه « بدلاً مِنْ » قليلاً « ، وكان تخييراً بين ثلاثٍ : بين قيامِ النصفِ بتمامِه ، وبين قيامِ الناقصِ منه ، وبين قيامِ الزائدِ عليه ، وإنما وَصَفَ النصفَ بالقِلَّةِ بالنسبة إلى الكلِّ » . قلت : وهذا هو الذي جعله أبو البقاء أَشْبَهَ مِنْ جَعْلِه بدلاً من « الليل » كما تقدَّمَ .
إلاَّ أنَّ الشيخ اعترض هذا فقال : « وإذا كان » نصفَه « بدلاً مِنْ » إلاَّ قليلاً « فالضميرُ في » نصفَه « : إمَّا أَنْ يعودَ على المبدلِ منه أو على المستثنى منه ، وهو » الليلَ « ، لا جائِزٌ أَنْ يعودَ على المبدلِ منه؛ لأنه يَصيرُ استثناءَ مجهولٍ مِنْ مجهولٍ؛ إذ التقديرُ : إلاَّ قليلاً نصفَ القليل ، وهذا لا يَصِحُّ له معنىً البتةَ ، وإن عاد الضميرُ على الليل فلا فائدةَ في الاستثناءِ من » الليل « ، إذ كان يكونُ أَخْصَرَ وأوضحَ وأَبْعَدَ عن الإِلباس : قُمِ الليلَ نصفَه . وقد أَبْطَلْنا قولَ مَنْ قال : » إلاَّ قليلاً « استثناءٌ من البدلِ ، وهو » نصفَه « ، وأنَّ التقديرَ : قُم الليلَ نصفَه إلاَّ قليلاً منه ، أي : من النصفِ . وأيضاً : ففي دَعْوى أنَّ » نصفَه « بدلٌ مِنْ » إلاَّ قليلاً « والضميرُ في » نِصفَه « عائدٌ على » الليل « ، إطلاقُ القليلِ على النصفِ ، ويَلْزَمُ أيضاً أَنْ يصيرَ التقديرُ : إلاَّ نصفَه فلا تَقُمْه/ ، أو انقُصْ من النصفِ الذي لا تقومه وهذا معنىً لا يَصِحُّ وليس المرادَ من الآيةِ قطعاً » .
قلت : نقولُ بجواز عَوْدِه على كلٍ منهما ، ولا يَلْزَمُ محذورٌ . أمَّا ما ذكره : مِنْ أنه يكونُ استثناءَ مجهولٍ مِنْ مجهولٍ فممنوعٌ ، بل هو استثناءُ معلومٍ من معلومٍ ، لأنَّا قد بَيَّنَّا أنَّ القليل قَدْرٌ معيَّنٌ وهو الثلثُ ، والليل ، فليس بمجهولٍ . وأيضاً فاستثناءُ المُبْهَمِ قد وَرَدَ . قال تعالى : { مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ } [ النساء : 66 ] . وقال تعالى : { فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ } [ البقرة : 249 ] وكان حقُّه أَنْ يقولَ : لأنه بدلُ مجهولٍ مِن مجهولٍ . وأمَّا ما ذكره مِنْ أَنَّ أَخْصَرَ منه وأَوْضَحَ كيتَ وكيت : أمَّا الأخْصَرُ فمُسَلَّمٌ . وأمَّا أنه مُلْبِس فممنوعٌ ، وإنما عَدَلَ عن اللفظِ الذي ذكَرَه لأنه أَبْلَغ .
وبهذا الوجهِ اسْتَدَلَّ مَنْ قال بجوازِ استثناءِ النصفِ والأكثرِ . ووجهُ الدلالةِ على الأولِ : أنَّه جَعَلَ « قليلاً » مستثنى من « الليل » ، ثم فَسَّر ذلك القليلَ بالنصفِ فكأنه قيل : قُمِ الليلَ إلاَّ نصفَه .

ووَجْهُ الدلالةِ على الثاني : أنَّه عَطَفَ « أو زِدْ عليه » على « انقُصْ منه » فيكونُ قد استثنى الزائدَ على النصفِ؛ لأنَّ الضميرَ في « مِنْه » ، وفي « عليه » عائدٌ على النصفِ . وهو استدلالٌ ضعيفٌ؛ لأنَّ الكثرة إنما جاءَتْ بالعطفِ ، وهو نظيرُ أَنْ تقول : « له عندي عشرةٌ إلاَّ خمسةً ودرهماً ودرهماً » فالزيادةُ على النصفِ بطريقِ العطفِ لا بطريقِ أن الاستثناءِ أخرجَ الأكثرَ بنفسِه .
الثالث : أنَّ « نصفَه » بدلٌ من « الليلَ » أيضاً كما تقدَّم في الوجه الأولِ ، إلاَّ أنَّ الضميرَ في « منه » و « عليه » عائدٌ على الأقلِّ من النصف . وإليه ذهب الزمخشري فإنه قال : « وإنْ شِئْتَ قلت : لَمَّا كان معنى { قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ } إذا أَبْدَلْتَ النصفَ من » الليل « : قُمْ أقلَّ مِنْ نصفِ الليل ، رَجَعَ الضميرُ في » منه « و » عليه « إلى الأقلِّ من النصفِ ، فكأنه قيل : قُمْ أقلَّ مِنْ نصفِ الليلِ أو قُمْ أنقصَ مِنْ ذلك الأقلِّ أو أزيدَ مِنْه قليلاً ، فيكون التخييرُ فيما وراءَ النصفِ بينه وبينَ الثُّلُثِ » .
الرابع : أَنْ يكونَ « نصفَه » بدلاً مِنْ « قليلاً » كما تقدَّمَ ، إلاَّ أنَّك تجعلُ القليلَ الثاني رُبْعَ الليلِ . وقد أوضح الزمخشريُّ هذا أيضاً فقال : « ويجوز إذا أَبْدَلْتَ » نصفَه « مِنْ » قليلاً « وفَسَّرْتَه به أَنْ تجعلَ » قليلاً « الثاني بمعنى نصفِ النصفِ ، بمعنى الربع ، كأنه قيل : أو انقص منه قليلاً نصفَه ، وتجعلَ المزيدَ على هذا القليل أعني الربعَ نصفَ الربع ، كأنه قيل : أو زِدْ عليه قليلاً نصفَه . ويجوزُ أَنْ تجعلَ الزيادةَ لكونِها مُطْلَقَةً تتمَّةَ الثلثِ فيكون تخييراً بين النصفِ والثلثِ والرُّبُع » انتهى . وهذه الأوجهُ التي حَكَيْتُها عن أبي القاسم مِمَّا يَشْهدُ له باتِّساعِ عِلْمِه في كتاب الله . ولَمَّا اتسَعَتْ عبارتُه على الشيخ قال : « وما أوسعَ خيالَ هذا الرجلِ!! فإنه يُجَوِّزُ ما يَقْرُبُ وما يَبْعُدُ » . قلت : وما ضَرَّ الشيخَ لو قال : وما أوسعَ عِلْمَ هذا الرجلِ!! .
الخامس : أَنْ يكونَ « إلاَّ قليلاً » استثناءً مِنْ القيامِ ، فتجعلَ الليلَ اسم جنسٍ ثم قال : « إلاَّ قليلاً » أي : إلاَّ اللياليَ التي تترُكُ قيامَها عند العُذْرِ البيِّن ونحوِه : وهذا النَّظر يَحْسُنُ مع القولِ بالنَّدْبِ ، قاله ابنُ عطية ، احتمالاً مِنْ عندِه . وفي عبارته : « التي تُخِلُّ بقيامِها » فأَبْدَلْتُها : « التي تَتْرُكُ قيامَها » . وفي الجملة فهذا خلافُ الظاهرِ ، وتأويلٌ بعيدٌ .
السادس : قال الأخفش : « إنَّ الأصل : قُم الليلَ إلاَّ قليلاً أو نصفَه ، قال : » كقولك : أَعْطِه درهماً درهَمْين ثلاثةً « .

أي : أو درهمَيْن أو ثلاثةً « . وهذا ضعيفٌ جداً؛ لأن فيه حَذْفَ حرفِ العطفِ ، وهو ممنوعٌ لم يَرِدْ منه إلاَّ شَيْءٌ شاذٌّ يمكن تأويلُه كقولِهم : » أكلْتُ لحماً سَمَكاً تَمْراً « . وقول الآخر :
4364 كيف أَصْبَحْتَ كيف أَمْسَيْتَ مِمَّا ... يَزْرَعُ الوُدَّ في فؤادِ الكريم
أي : لحماً وسمكاً وتمراً ، وكذا كيف أصبَحْتَ وكيف أمسَيْتَ . وقد خَرَّجَ الناس هذا على بَدَلِ البَداء .
السابع : قال التبريزيُّ : » الأمرُ بالقيام والتخييرُ في الزيادةِ والنقصان ، وقعَ على الثلثَيْن مِنْ آخرِ الليلِ؛ لأنَّ الثلثَ الأولَ وقتُ العَتَمَةِ ، والاستثناءُ واردٌ على المأمورِ به ، فكأنه قال : قُمْ ثُلُثي الليلِ إلاَّ قليلاً ، أي : ما دونَ نصفِه ، أو زِدْ عليه ، أي : على الثلثَيْنِ ، فكان التخيير في الزيادةِ والنقصانِ واقعاً على الثلثَيْن « وهو كلامٌ غريبٌ لا يَظْهَرُ من هذا التركيبِ .
الثامن : أنَّ » نصفَه « منصوبٌ على إضمارِ فِعْلٍ/ ، أي : قُمْ نصفَه ، حكاه مكيٌّ عن غيرِه ، فإنَّه قال : » نصفَه بدلٌ من « الليل » وقيل : انتصبَ على إضمارِ : قُمْ نصفَه « . قلت : وهذا في التحقيقِ هو وجهُ البدلِ الذي ذكرَه أولاً؛ لأنَّ البدلَ على نيةِ تَكْرارِ العاملِ .

إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)

قوله : { إِنَّا سَنُلْقِي } : هذه الجملةُ مستأنفةٌ . وقال الزمخشري : « وهذه الآيةُ اعتراضٌ » . ثم قال : « وأراد بهذا الاعتراضِ أنَّ ما كُلِّفَهُ مِنْ قيامِ الليلِ مِنْ جُملةِ التكاليفِ الثقيلةِ الصعبةِ التي وَرَدَ بها القرآنُ؛ لأنَّ الليلَ وقتُ السُّباتِ والراحةِ والهدوءِ ، فلا بُدَّ لِمَنْ أحياه مِنْ مُضادَّةٍ لطَبْعِه ومجاهدةٍ لنَفْسِه » . انتهى . يعني بالاعتراضِ من حيث المعنى لا من حيث الصناعةُ؛ وذلك أنَّ قولَه : { إِنَّ نَاشِئَةَ الليل هِيَ أَشَدُّ } مطابِقٌ لقولِه : { قُمِ الليل } فكأنه شابَهَ الاعتراضَ من حيث دُخولُه بين هذَيْن المتناسِبَيْنِ .

إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6)

قوله : { إِنَّ نَاشِئَةَ الليل } : في الناشئةِ أوجهٌ ، أحدها : أنها صفةٌ لمحذوفٍ ، أي : النفسَ الناشئةَ بالليلِ التي تَنْشَأُ مِنْ مَضْجَعِها ، للعبادة ، أي : تَنْهَضُ وترتفعُ . مِنْ نَشَأَتِ السحابةُ : إذا ارتفعَتْ . ونَشَأ مِنْ مكانِه ونَشَز : إذا نَهَضَ قال :
4365 نَشَأْنا إلى خُوْصٍ بَرَى نَيَّها السُّرى ... وأَشْرَف منها مُشْرِفاتِ القَماحِدِ
والثاني : أنَّها مصدرٌ بمعنى قيامِ الليل ، على أنها مصدرٌ مِنْ نَشَأَ ، إذا قام ونَهَضَ ، فتكونُ كالعافية ، قالهما الزمخشري .
الثالث : أنها بلغةِ الحبشةِ ، نَشَأَ الرجلُ : أي قامَ من الليل . قال الشيخ : « فعلى هذا هي جمعُ ناشِىء ، أي : قائِم » ، أي : قائِم « . قلت : يعني أنها صفةٌ . لشيءٍ يُفْهِمُ الجَمْعُ ، أي : طائفةً أو فِرْقةً ناشئِةً ، وإلاَّ ففاعلٌ لا يُجْمَعُ على فاعِلة .
الرابع : أنَّ » ناشئة الليل « ساعاتُه؛ لأنها تَنْشَأ شيئاً بعد شيء . وقَيَّدها ابنُ عباس والحسنُ بما كان بعد العِشاء ، وما كان قبلَها فليسَ بناشئةٍ . وخَصَّصَتْها عائشةُ رضي الله عنها بمعنىً آخرَ : وهو أَنْ يكونَ بعد النومِ ، فلو لم يتقدَّمْها نومٌ لم تكُنْ ناشئةً .
قوله : { وَطْأً } قرأ أبو عمروٍ وابنُ عامر بكسرِ الواو وفتح الطاءِ بعدَها ألفٌ . والباقون بفتح الواو وسكون الطاء . وقرأ قتادةُ وشبلٌ عن أهل مكة » وِطْئاً « . وظاهرُ كلامِ أبي البقاءِ يُؤْذِنُ أنه قُرِىء بفتحِ الواو مع المدِّ فإنه قال : » وِطاء بكسرِ الواو بمعنى : مُواطَأَة ، وبفتحها اسمٌ للمصدر ، و « وَطْئاً » على فَعْل ، وهو مصدرٌ وَطِىءَ « فالوِطاءُ مصدرُ واطَأَ كقِتال مصدرِ قاتَل . والمعنى : أنها أشدُّ مواطَأةً ، أي : يُواطِىءُ قلبُها لسانَها ، إنْ أَرَدْتَ النفسَ ، أو يُواطىء فيها قَلْبُ القائمِ لسانَه ، إنْ أَرَدْتَ القيامَ أو العبادةَ أو الساعاتِ ، أو أشدُّ موافقةً لِما يُراد من الخُشوعِ والإِخلاصِ ، والوَطْءُ بالفتح أو الكسرِ على معنى : أشدُّ ثَباتَ قَدَمٍ وأَبْعدُ مِن الزّلَلِ ، أو أثقلُ وأغلظُ مِنْ صلاةِ النهارِ على المصلِّي ، من قولِه عليه السلام : » اللهم اشْدُدْ وَطْأَتَكَ على مُضَرَ « وعلى كلِّ تقدير فانتصابُه على التمييز .
قوله : { وَأَقْوَمُ } حكى الزمخشري : » أنَّ أَنَساً قرأ « وأَصْوَبُ قِيلاً » فقيل له : يا أبا حمزةَ إنما هي : وأقومُ!! « فقال : » إِنَّ أَقْوَمَ وأَصْوَبَ وأَهْيَأ واحدٌ « وأنَّ أبا سرار الغَنَوِيَّ قرأ » فحاسُوا خلالَ الديارِ « بالحاءِ المهمةِ فقيل له : هي بالجيم . فقال : حاسُوا وجاسُوا واحدٌ » . قلت : له غَرَضٌ في هاتَيْن الحكايَتَيْن ، وهو جوازُ قراءةِ القرآنِ بالمعنى ، وليس في هذا دليلٌ؛ لأنه تفسيرُ معنىً . وأيضاً فما بَيْنَ أيدينا قرآنٌ متواترٌ ، وهذه الحكايةُ آحادٌ . وقد تقدَّم أنَّ أبا الدرداءِ كان يُقرِىءُ رجالاً { إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم طَعَامُ الأثيم } [ الدخان : 44 ] فجعل الرجلُ يقول : اليتيم . فلمَّا تَبَرَّم به قال : طعامُ الفاجرِ يا هذا . فاستَدَلَّ به على ذلك مَنْ يَرَى جوازَه . وليس فيه دليلٌ؛ لأنَّ مقصودَ/ أبي الدرداءِ بيانُ المعنى ، فجاء بلفظٍ مبينٍ .

إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7)

قوله : { سَبْحَاً } : العامَّةُ على الحاء المهملة وهو مصدرُ سَبَحَ ، وهو استعارةٌ ، استعارَ للتصرُّفِ في الحوائجِ السِّباحةَ في الماءِ ، وهي البُعْدُ فيه . وقرأ يحيى بن يعمر وعكرمة وابنُ أبي عبلة سَبْخاً « بالخاء المعجمةِ . واختلفوا في تفسيرِها ، فقال الزمخشري : » استعارةً مِنْ سَبْخِ الصُّوفِ : وهو نَفْشُه ونَشْرُ أجزائِه لانتشارِ الهَمِّ وتفرُّقِ القلبِ بالشواغل . وقيل : التَّسبيخُ : التخفيفُ ، حكى الأصمعيُّ : سَبَخَ الله عَنَك الحُمَّى ، أي : خَفَّفَها عنك . قال الشاعر :
4366 فَسَبِّخْ عليكَ الهَمَّ واعلمْ بأنَّه ... إذا قَدَّرَ الرحمنُ شيئاً فكائِنُ
أي : خَفِّفَ . ومنه « لا تُسَبِّخي بدُعائِك » ، أي : لا تُخَفِّفي . وقيل : التَّسْبيخ : المَدُّ . يقال : سَبِّخي قُطْنَكِ ، أي : مُدِّيه ، والسَّبيخة : قطعة من القطن . والجمعُ سبائخُ . قال الأخطل يصف صائِداً وكلاباً :
4367 فأَرْسَلوهُنَّ يُذْرِيْنَ الترابَ كما ... يُذْرِيْ سبائخَ قُطْنٍ نَدْفُ أوتارِ
وقال أبو الفضل الرازي : « وقرأ ابن يعمرَ وعكرمة » سَبْخاً « بالخاء معجمةَ وقالا : معناه نَوْماً ، أي : يَنامُ بالنهار ليَسْتعينَ به على قيام الليل . وقد تحتمِلُ هذه القراءةُ غيرَ هذا المعنى ، لكنهما فَسَّراها فلا تَجاوُزَ عنه » . قلت : في هذا نظرٌ؛ لأنهما غايةُ ما في البابِ أنَّهما نقلا هذه القراءةَ ، وظَهَرَ لهما تفسيرُها بما ذكرا ، ولا يَلْزَمُ مِنْ ذلك أنَّه لا يجوزُ غيرُ ما ذَكَرا مِنْ تفسيرِ اللفظة .

وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8)

قوله : { تَبْتِيلاً } : مصدرٌ على غير الصدرِ وهو واقعٌ موقعَ التَّبَتُّل؛ لأنَّ مصدرَ تَفَعَّل نحو : تَصَرَّفَ تَصَرُّفاً ، وتكرَّمَّ تكرُّماً . وأمَّا التفعيلُ فمصدرُ فَعَّل نحو : صَرَّف تَصْرِيفاً . ومثلُه قولُ الشاعر :
4367 وقد تَطَوَّيْتُ انْطِواءَ الحِضْبِ ... فأوقعَ الانفعالَ مَوْقِعَ التَّفَعُّل . قال الزمخشري : « لأنَّ معنى تَبَتَّل : » بَتَّلَ نفسَه ، فجيْءَ به على معناه مراعاةً لحَقِّ الفواصِل « . والتبتُّل : الانقطاعُ . ومنه » امرأة بتولٌ « ، أي : انقطَعَتْ عن النِّكاحِ ، وبَتَلْتُ الحَبْلَ : قَطَعْتُه . قال الليث : البَتْلُ : تمييزُ الشيءِ من الشيءِ . وقالوا : » طَلْقَةٌ بَتْلَةٌ « ، و » هِبَةٌ بَتْلَةٌ « يعنونَ انقطاعها عن صاحبِها ، فالتبتيلُ تَرْكُ النِّكاحِ ، والزهدُ فيه . والمرادُ به في الآيةِ الكريمة الانقطاعُ إلى عبادةِ اللهِ تعالى دونَ تَرْكِ النكاحِ ، وفي الحديث : » أنَّه نَهَى عن التبتُّل « ، أي : الانقطاع عن النِّكاح ، ومنه سُمِّي الراهبُ » مُتَبتِّلاً « لانقطاعِه عن النكاحِ . قال امرؤ القيس :
4368 تُضِيْءُ الظلامَ بالعَشِيِّ كأنَّها ... منارةُ مُمْسَى راهِبٍ مُتَبَتِّلِ

رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)

قوله : { رَّبُّ المشرق } : قرأ الأخَوان وأبو بكر وابن عامر بجرِّ « ربِّ المشرق » على النعت ل « ربِّك » أو البدلِ منه أو البيانِ له . وقال الزمخشري : « وعن ابن عباس على القَسَم بإضمارِ حرفِ القسمِ كقولك : » اللَّهِ لأفعلَنَّ « ، وجوابُه { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } كما تقول : » واللَّهِ لا أحدَ في الدار إلاَّ زيدٌ « قال الشيخ : » لعلَّ هذا التخريجَ لا يَصِحُّ عن ابن عباس؛ لأنَّ فيه إضمارَ الجارِّ ، ولا يُجيزه البصريون إلاَّ مع لفظِ الجلالةِ المعظمةِ خاصةً ، ولأن الجملةَ المنفيَّة في جوابِ القسم إذا كانَتْ اسميةً فإنما تُنْفَى ب « ما » وحدَها ، ولا تُنْفَى ب « لا » إلاَّ الجملةُ المصدرةُ بمضارعٍ كثيراً ، أو بماضٍ في معناه قليلاً ، نحو قولِه :
4369 رِدُوا فواللَّهِ لا ذُذْناكُمُ أبداً ... ما دام في مائنا وِرْدٌ لوُرَّادِ
والزمخشريُّ أورد ذلك على سبيلِ التجويزِ والتسليمِ ، والذي ذكره النحويُّون هو نفيُها ب « ما » كقوله :
4370 لَعَمْرُك ما سَعْدٌ بخُلَّةِ آثمٍ ... ولا نَأْنَأٍ يومَ الحِفاظِ ولا حَصِرْ
قلت : قد أطلق الشيخ جمالُ الدين بن مالك أنَّ الجملةَ المنفيَّةَ سواءً كانَتْ اسميةً أم فعلية تُتَلَقَّى ب « ما » أو « لا » أو « إنْ » بمعنى « ما » ، وهذا هو الظاهر .
وباقي السبعةِ برفعِه على الابتداءِ ، وخبرُه الجملةُ مِنْ قولِه : { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } أو على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ ، أي : وهو رَبُّ . وهذا أحسنُ لارتباطِ الكلامِ بعضِه ببعضٍ . / وقرأ زيدُ بن عليٍّ « رَبَّ » بالنصبِ على المدحِ . وقرأ العامَّةُ « المَشْرِقِ والمغربِ » موحَّدتَيْن . وعبدُ الله وابن عباس « المشارِقِ والمغارِبِ » ويجوزُ أَنْ ينتصِبَ « ربَّ » في قراءةِ زيد مِنْ وجَهْينِ آخرَيْنِ ، أحدُهما : أنَّه بدلٌ مِنْ « اسمَ ربِّك » أو بيانٌ له ، أو نعتٌ له ، قاله أبو البقاء ، وهذا يَجِيءُ على أن الاسمَ هو المُسمَّى . والثاني : أنه منصوبٌ على الاشتغالِ بفعلٍ مقدَّرٍِ ، أي : فاتَّخِذْ ربَّ المشرِقِ فاتَّخِذْه ، وما بينهما اعتراضٌ .

وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11)

قوله : { والمكذبين } يجوزُ نصبُه على المعيَّةِ ، وهو الظاهرُ ، ويجوزُ على النَّسَقِ ، وهو أوفقُ للصِّناعةِ .
قول : { أُوْلِي النعمة } نعتٌ للمكَذِّبين . والنَّعْمَةُ بالفتح : التنعمُ ، وبالكسرِ : الإِنعام ، وبالضمِّ : المَسَرَّةُ . يقال : نُعْمُ ونُعْمَةُ عَيْنٍ .
قوله : { قَلِيلاً } نعتٌ لمصدرٍ ، أي : تَمْهيلاً ، أو لظرفِ زمانٍ محذوفٍ ، أي : زماناً قليلاً .

إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12)

قوله : { أَنكَالاً } : جمعُ نِكْلٍ . وفيه قولان ، أشهرُهما : أنه القَيْدُ . وقيل : الغُلُّ ، والأولُ أَعْرَفُ . وقالت الخنساء :
4371 دَعاكَ فَقَطَّعْتُ أنكالَهُ ... وقد كُنَّ مِنْ قبلُ لا تُقْطَعُ

وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13)

قوله : { ذَا غُصَّةٍ } : الغُصَّةُ : الشَّجَى ، وهو ما يَنْشَبُ في الحَلْقِ فلا يَنْساغُ . ويُقال : غَصَصْتَ بالكسرِ ، فأنتَ غاصٌّ وغَصَّانُ قال :
4372 لو بغيرِ الماءِ حَلْقي شَرِقٌ ... كنتُ كالغَصَّانِ بالماءِ اعتصاري

يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14)

قوله : { يَوْمَ تَرْجُفُ } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه منصوبٌ ب « ذَرْني » ، وفيه بُعْدٌ . والثاني : أنه منصوبٌ بالاستقرارِ المتعلِّقِ به « لَدَيْنا » . والثالث : أنه صفةٌ ل « عذاباً » فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، أي : عذاباً واقعاً يومَ تَرْجُفُ . والرابع : أنه منصوبٌ ب « أليم » . والعامَّةُ « تَرْجُفُ » بفتح التاءِ وضمِّ الجيمِ مبنياً للفاعلِ ، وزيدُ بن علي يقرؤُه مبنياً للمفعولِ مِنْ أَرْجَفَها .
قوله : { مَّهِيلاً } أصلُه مَهْيُول كمَضْروب ، فاستُثْقِلَتِ الضمةُ على الياءِ فنُقِلَتْ إلى الساكن قبلَها ، وهو الهاءُ ، فالتقى ساكنان . فاختلف النحاةُ في العمل في ذلك : فسيبويه وأتباعُه حذفوا الواوَ ، وكانَتْ أَوْلى بالحَذْفِ؛ لأنها زائدةٌ ، وإنْ كانَتْ القاعدةُ أنَّ ما يُحْذَفُ لالتقاءِ الساكنَيْن الأولُ ، ثم كَسَرُوا الهاءَ لتَصِحَّ الياءُ ، ووزنُه حينئذٍ مَفِعْل . والكسائيُّ والفراء والأخفش حذفوا الياءَ؛ لأنَّ القاعدةَ في التقاءِ الساكنَيْنِ إذا احْتِيج إلى حَذْفِ أحدِهما حُذِفَ الأولُ وكان ينبغي على قولِهم أَنْ يُقال : فيه : مَهُوْل ، إلاَّ أنَّهَم كَسَروا الهاءَ لأجلِ الياءِ التي كانَتْ ، فقُلِبت الواوُ ياءً ، ووزنُه حينئذٍ مَفُوْلاً على الأصلِ ، ومَفِيلاً بعد القلب .
قال مكي : « وقد أجازوا كلُّهم أَنْ يأتيَ على أصلِه في الكلامِ فتقول : مَهْيُوْل ومَبْيُوْع ، وما أشبه ذلك مِنْ ذواتِ الياءِ . فإنْ كان مِنْ ذواتِ الواوِ لم يَجُزْ أَنْ يأتيَ على أصلِه عند البصريين ، وأجازه الكوفيون نحو : مَقْوُوْل ومَصْوُوْغ ، وأجازوا كلُّهم مَهُوْل ومَبُوْع على لغةِ مَنْ قال : بُوع المتاعُ ، وقوُل القولُ ، ويكونُ الاختلافُ في المحذوفِ منه على ما تقدَّم » . قلت : التتميمُ في مَبْيُوع ومَهْيُوْل وبابِه لغةُ تميم ، والحَذْفُ لغةُ سائرِ العربِ . ويُقال : هِلْتُ الترابَ أَهيلُه هَيْلاً فهو مَهِيل . وفيه لغةٌ : أَهْلتُه رباعياً إهالةً فهو مُهال نحو : أبَعْتُه إباعَةً فهو مُباعٌ .
والكثيبُ : ما اجتمع من الرَّمْل/ والجمعُ في القلَّة : أَكْثِبَة ، وفي الكثرة : كُثْبان وكُثُب ، كرَغِيف وأرْغِفَة ورُغْفان ورُغُفُ . قال ذو الرمة :
4373 فقلت لها : لا إنَّ أهليَ جيرةٌ ... لأكثبةِ الدَّهْنا جميعاً وماليا
والمَهيلُ : ما انهالَ تحت القَدَمَ ، أي : انصَبَّ ، مِنْ هِلْتُ الترابَ ، أي : طَرَحْتُه ، قال الزمخشري : « مِنْ كَثَبْتُ الشيءَ إذا جَمَعْتَه ، ومنه الكُثْبةُ من اللبن . قالت الضائنة : أُجَزُّ جُفالاً وأُحْلَبُ كُثَباً عِجالاً » .

فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16)

قوله : { فعصى فِرْعَوْنُ الرسول } : إنما عَرَّفه لتقدُّمِ ذِكْرِه ، وهذه أل العهديةُ ، والعربُ إذا قَدَّمَتْ اسماً ثم حَكَتْ عنه ثانياً أَتَوْا به مُعَرَّفاً بأل ، أو أَتَوْا بضميرِه لئلا يُلْبَسَ بغيرِه نحو : « رأيتُ رجلاً فأكرَمْت الرجلَ » أو فأَكْرَمْتُه ، ولو قُلْتَ : « فأكرَمْتُ رجلاً » لَتَوَهَّمَ أنه غيرُ الأولِ ، وسيأتي تحقيقُ هذا عند قولِه تعالى : { إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً } [ الشرح : 6 ] وقولِه عليه السلام : « لن يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْن » .

فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17)

قوله : { يَوْماً } : منصوبٌ إمَّا ب « تَتَّقُون » على سبيلِ المفعولِ به تجوَّزاً . وقال الزمخشري : « يوماً » مفعولٌ به ، أي : فكيف تَقُوْنَ أنفسَكم يومَ القيامةِ وهَوْلَه إنْ بَقِيْتُمْ على الكفرِ؟ « . وناقشه الشيخُ فقال : » وتَتَّقون مضارعُ اتَّقى ، واتَّقى ليس بمعنى وَقَى حتى يُفَسِّرَه به ، واتقَّى يتعدَّى إلى واحدٍ ، ووَقَى يتعدَّى إلى اثنين . قال تعالى : { وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الجحيم } [ الدخان : 56 ] . ولذلك قَدَّره الزمخشريُّ ب تَقُون أنفسَكم ، لكنه ليس « تَتَّقون » بمعنى يَقُوْن ، فلا يُعَدَّى تَعْديَتَه « انتهى .
ويجوزُ أَنْ ينتصِبَ على الظرفِ ، أي : فكيف لكم بالتقوى يومَ القيامة ، إنْ كَفَرْتُمْ في الدنيا؟ قاله الزمخشريُّ . ويجوزُ أَنْ ينتصِبَ مفعولاً به ب » كَفَرْتُمْ « إذا جُعِل » كَفَرْتُمْ « بمعنى جَحَدْتُم ، أي فكيف تَتَّقون اللَّهَ وتَخْشَوْنه إنْ جَحَدْتُمْ يومَ القيامةِ؟ ولا يجوزُ أن ينتصِبَ ظرفاً ، لأنهم لا يكفرون ذلك اليومَ؛ بل يُؤْمِنون لا محالةَ . ويجوزُ أَنْ ينتصِبَ على إسقاطِ الجارِّ ، أي : إن كفرتُمْ بيومِ القيامةِ . والعامَّةُ على تنوين » يوماً‌ « وجَعْلِ الجملةِ بعده نعتاً له . والعائدُ محذوفٌ ، أي : يَجْعل الوِلْدانَ فيه . قاله أبو البقاء ولم يتعرَّضْ للفاعلِ في » يَجْعَلُ « ، وهو على هذا ضميرُ الباري تعالى ، أي : يوماً يجعلُ اللَّهُ فيه . وأحسنُ مِنْ هذا أَنْ يُجْعَلَ العائدُ مضمراً في » يَجْعَلُ « هو فاعلَه ، وتكون نسبةُ الجَعْلِ إلى اليومِ من بابِ المبالغةِ ، أي : نفسُ اليوم يَجْعَلُ الوِلْدانَ شِيْبا .
وقرأ زيدُ بنُ عليّ » يومَ يَجْعَلُ « بإضافةِ الظرفِ للجملة . والفاعلُ على هذا هو ضميرُ الباري تعالى . والجَعْلُ هنا بمعنى التصيير ف » شِيْباً « مفعولٌ ثانٍ ، وهو جمعُ أَشْيَب . وأصلُ الشينِ الضمُّ فكُسِرَتْ لتصِحَّ الياءُ نحو : أحمر وحُمْر . قال الشاعر :
4374 مِنَّا الذي هُوَ ما إنْ طُرَّ شارِبُه ... والعانِسُون ومنا المُرْدُ والشِّيْبُ
وقال آخر :
4375 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... لَعِبْنَ بنا شِيْباً وشَيَّبْنَنا مُرْدا

السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18)

قوله : { السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ } : صفةٌ أخرى ، أي : مُتَشَقِّقة بسبب هَوْلِه : وإنما لم تُؤَنَّثِ الصفةُ لأحدِ وجوهٍ منها : تأويلُها بمعنى السَّقْفِ . ومنها : أنها على النَّسَبِ أي : ذات انفطارٍ نحو : مُرْضِعٍ وحائضٍ . ومنها : أنها تُذَكَّر وتؤنَّثُ : أنشد الفراء :
4376 ولو رَفَعَ السَّماء إليه قوماً ... لَحِقْنا بالسَّماءِ وبالسَّحابِ
ومنها : أنَّها اسمُ جنسٍ يُفْرَّقُ بينه وبين واحدِه بالتاءِ فيقال : سَماءة وقد تقدَّم أنَّ في اسم/ الجنسِ والتذكيرَ والتأنيثَ؛ ولهذا قال الفارسي : « هو كقولِه : { جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ } [ القمر : 7 ] { الشجر الأخضر } [ يس : 80 ] و { أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } [ القمر : 20 ] يعني فجاء على أحد الجائزَيْن . والباءُ فيه سببيَّةٌ كما تقدَّم . وجَوَّز الزمخشريُّ أَنْ تكونَ للاستعانةِ ، فإنه قال : » والباءُ في « به » مِثْلُها في قولِك : « فَطَرْتُ العُوْدَ بالقَدُومِ فانْفَطر به » .
قوله : { وَعْدُهُ } يجوزُ أَنْ يكونَ الضميرُ لله تعالى ، وإنْ لم يَجْرِ له ذِكْرٌ للعِلْمِ به ، فيكونُ المصدرُ مضافاً لفاعلِه . ويجوزُ أَنْ يكونَ لليومِ ، فيكونَ مضافاً لمفعولِه . والفاعلُ وهو اللَّهُ تعالى مُقَدَّرٌ .

إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)

قوله : { مِن ثُلُثَيِ الليل } : العامَّةُ على ضَمِّ اللامِ ، وهو الأصلُ كالرُّبُعِ والسُّدُسِ ، وقرأ هشام بإسكانِها تخفيفاً .
قوله : { وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ } قرأ الكوفيون وابن كثير بنصبِهما ، والباقون بجرِّهما . وفي الجرِّ إشكالٌ كما سيأتي . فالنصبُ نَسَقٌ على « أَدْنى » لأنه بمعنى : وَقْتٌ أَدْنى ، أي : أقربُ . اسْتُعير الدنُوُّ لقُرْبِ المسافةِ في الزمانِ وهذا مطابقٌ لِما في أولِ السورةِ من التقسيمِ : وذلك أنَّه إذا قام أَدْنَى مِنْ ثُلُثي الليلِ صَدَقَ عليه أنه قام الليلَ إلاَّ قليلاً؛ لأنَّ الزمانَ الذي لم يَقُمْ فيه يكون الثلث وشيئاً من الثلثَيْن ، فيَصْدُقُ عليه قولُه : « إلاَّ قليلاً » . وأمَّا قولُه « ونِصْفَه » فهو مطابقٌ لقولِه أولاً « نِصْفَه » وأمَّا قولُه : « وثُلُثَه » فإنَّ قولَه : { أَوِ انقص مِنْهُ } قد ينتهي النَّقْصُ في القليل إلى أن يكونَ الوقتُ ثلثي الليلِ . وأمَّا قولُه : { أَوْ زِدْ عَلَيْهِ } فإنَّه إذا زاد على النصفِ قليلاً كان الوقتُ أقلَّ مِنَ الثلثَيْن . فيكونُ قد طابق أدْنى مِنْ ثلثي الليل ، ويكون قولُه تعالى : { نِّصْفَهُ أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً } شَرْحاً لمُبْهَمِ ما دَلَّ عليه قولُه : { قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلاً } . وعلى قراءةِ النصبِ فَسَّر الحسنُ « تُحْصُوه » بمعنى تُطيقوه .
وأمَّا قراءةُ الجرِّ فمعناها : أنه قيامٌ مُخْتَلِفٌ : مرةً أدنى من الثلثين ، ومرةً أَدْنى من النصفِ ، ومرةً أَدْنى من الثلثِ؛ وذلك لتعذُّرِ معرفةِ البشرِ بمقدارِ الزمانِ مع عُذْر النومِ . وقد أوضح هذا كلَّه الزمخشريُّ فقال : « وقُرِىء نصفَه وثلثَه بالنصبِ على أنك تقومُ أقلَّ من الثلثين ، وتقومُ النصفَ والثلثَ وهذا مطابِقٌ لِما مَرَّ في أولِ السورةِ من التخيير : بين قيامِ النصفِ بتامِه ، وين قيام الناقصِ منه ، وهو الثلثُ ، وبين قيامِ الزائدِ عليه ، وهو الأَدْنَى من الثلثَيْن . وقُرِىء بالجرِّ ، أي : تقومُ أقلَّ من الثلثَيْن وأقلَّ من النصفِ والثلثِ ، وهو مطابقٌ للتخييرِ بين النَّصْفِ وهو أَدْنى من الثلثين والثلثِ وهو أَدْنى من النصفِ والرُّبُع وهو أَدْنى من الثلثين والثلثِ وهو أَدْنى من النصفِ والرُّبُع وهو أدنى من الثلث وهو الوجهُ الأخيرُ » انتهى . يعني بالوجهِ الأخير ما قَدَّمه أولَ السورة من التأويلات .
وقال أبو عبد الله الفاسي : « وفي قراءةِ النصب إشكالٌ ، إلاَّ أَنْ يُقَدَّر : نصفَه تارةً ، وثلثَه تارةً ، وأقلَّ من النصفِ والثلثِ تارةً ، فيَصِحَّ المعنى » .
قوله : { وَطَآئِفَةٌ } رُفع بالعطفِ على الضميرِ في « يقومُ » ، وجَوَّزَ ذلك الفصلُ بالظرفِ وما عُطِفَ عليه .
قوله : { والله يُقَدِّرُ الليل } . قال الزمخشري : « وتقديمُ اسمِه عزَّ وجلَّ مبتدأً مبنيَّاً عليه » يُقَدِّرُ « هو الدالُّ على معنى الاختصاصِ بالتقديرِ » .

ونازعه الشيخُ في ذلك فقال : « لو قيل : » زيدٌ يحفظُ القرآن « لم يَدُلَّ ذلك على اختصاصِه » . وجَعَلَ الاختصاصَ في الآيةِ مفهوماً من السِّياقِ لا ممَّا ذكره .
قوله : { أَنْ لَنْ } و « أَنْ سيكونُ » كلاهما مخففةٌ من الثقيلة ، والفاصلُ النفيُ وحرفُ التنفيسِ .
قوله : { وَآخَرُونَ } / عطفٌ على « مَرْضَى » ، أي : عَلِم أَنْ سيوجَدُ منكم قومٌ مَرْضى وقومٌ آخرون مسافرون . ف « يَضْرِبون » نعتٌ ل « آخرون » وكذلك « يَبْتَغون » . ويجوزُ أَنْ يكونَ « يَبْتَغون » حالاً مِنْ فاعل « يَضْرِبون » ، و « آخرون » عطفٌ على « آخرون » و « يقاتِلون » صفتُه .
قوله : { هُوَ خَيْراً } العامَّةُ على نصب الخير ، مفعولاً ثانياً . وهو : إمَّا تأكيدٌ للمفعولِ الأولِ أو فَصْلٌ . وجَوَّزَ أبو البقاء أن يكونَ بدلاً ، وهو غَلَطٌ؛ لأنَّه كان يَلْزَمُ أن يطابقَ ما قبلَه في الإِعرابِ فيقال : إياه . وقرأ أبو السَّمَّال وابن السَّمَيْفَع « خيرٌ » على أن يكونَ « هو » مبتدأً ، و « خيرٌ » خبرُه . والجملةُ مفعولٌ ثانٍ ل « تَجِدوه » . قال أبو زيد : « هي لغةُ تميم ، يرفعون ما بعد الفصل » وأنشد سيبويه :
4377 تَحِنُّ إلى ليلى وأنتَ تركتَها ... وكنتَ عليها بالمَلا أنتَ أَقْدَرُ
والقوافي مرفوعةٌ . ويُرْوَى « أقْدَارا » بالنصب . قال الزمخشري : و « هو فصْلٌ » وجاز وإنْ لم يَقَعْ بينَ معرفتَيْن لأنَّ « أَفْعَلَ مِنْ » أشْبَهَ في امتناعِه من حرفِ التعريف المعرفةَ « . قلت : هذا هو المشهورُ . وبعضُهم يُجَوِّزه في غيرِ أفعلَ من النكراتِ .

يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)

قوله : { المدثر } : العامَّةُ على تشديدِ الدالِ وكسرِ الثاءِ ، اسمَ فاعلٍ من تَدَثَّر . وأصلُه المُتَدَثِّر ، فأُدْغِم كالمُزَّمِّل . وفي حرفِ أُبَيّ « المُتَدثِّرُ » على الأصل المُشارِ إليه . وقرأ عكرمةُ بتخفيفِ الدالِ اسمَ فاعلٍ ، مِنْ دَثَّر بالتشديد ، ويكون المفعولُ محذوفاً أي : المُدَثِّر نفسَه كما تقدَّمَ في « المُزَمِّل » . وعنه أيضاً فَتْحُ الثاءِ لأنه اسمُ مفعولٍ . قال الزمخشري : « مِنْ دَثَّره . يُقال : دُثِّرْتُ هذا الأمرَ ، وعُصِبَ بك كما قال في المُزَمَّل » انتهى . ومعنى « تَدَثَّر » لَبِسَ الدَّثارَ ، وهو الثوبُ الذي فوق الشِّعار ، والشِّعارُ ما يلي الجسَدَ . وفي الحديث : « الأَنْصارُ شِعارٌ والناسُ دِثارٌ » وسيفٌ داثِرٌ : بعيد العَهْدِ بالصِّقال . ومنه : قيل للمنزلِ الدارسِ : « داثِر » لِذَهابِ أعلامِه . وفلانٌ دَثْرُ المالِ أي : حَسَنُ القيام به .

قُمْ فَأَنْذِرْ (2)

قوله : { قُمْ } : إمَّا أَنْ يكونَ من القيامِ المعهودِ ، وإمَّا مِنْ قام بمعنى : الأَخْذِ في القيام ، كقولِه :
4378 فقام يَذُوْدُ الناسَ عنها بسَيْفِه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقول الآخر :
4379 على ما قام يَشْتِمُني لَئيمٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
في أحدِ القولَيْنِ . والقولُ الآخرَ : أن « قام » مزيدةٌ وفي جَعْلِها بمعنى الأخذ في القيامِ نظرٌ؛ لأنه حينئذٍ يَصيرُ مِنْ أخوات « عَسَى » فلا بُدَّ له مِنْ خبرٍ يكونُ فعلاً مضارعاً مجرَّداً مِنْ « أَنْ » .
قوله : { فَأَنذِرْ } مفعولُه محذوفٌ . أي : أنذِرْ قومَك عذابَ اللَّهِ . والأحسنُ أَنْ لا يُقَدَّرَ له مفعولٌ أي : أَوْقعْ الإِنذارَ .

وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)

قوله : { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } : قَدَّم المفعولَ وكذا ما بعده إيذاناً بالاختصاص عندَ مَنْ يرى ذلك ، أو للاهتمام به ، قال الزمخشري : « واختُصَّ » ربَّك « بالتكبير » ثم قال : ودَخَلَتِ الفاءُ لمعنى الشرطِ . كأنه قيل : وما كان فلا تَدَعْ تكبيرَه « . قلت : قد تقدَّم الكلامُ في مثلِ هذه الفاءِ عند قولِه : { وَإِيَّايَ فارهبون } [ البقرة : 40 ] أولَ البقرة . قال الشيخ : » وهو قريبٌ مِمَّا قَدَّره النحاةُ في قولِك : « زيداً فاضْرِب » قالوا : تقديرُه : تنبَّهْ فاضرِبْ زيداً . والفاءُ هي جوابُ الأمرِ . وهذا الأمرُ : إمَّا مُضَمَّنٌ معنى الشرط ، وإمَّا الشرطُ محذوفٌ على الخلافِ الذي فيه عند النحاة « .

وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)

وقرأ حفص « والرُّجْزَ » بضمِّ الراء ، والباقون بكسرِها ، فقيل : لغتان بمعنىً . وعن أبي عبيدةَ : « الضمُّ أفشَى اللغتَيْن ، وأكثرُهما » . وقال مجاهد : « هو بالضمِّ اسمُ صَنَمٍ ، ويُعزَى للحسنِ البصري أيضاً ، وبالكسر اسمٌ للعذابِ . وعلى تقديرِ كونِه العذابَ فلا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ أي : اهُجرْ أسبابَ العذابِ المؤدِّيةِ إليه ، أو لإِقامةِ المُسَبَّبِ مُقامَ سببِه ، وهو مجازٌ شائع .

وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6)

قوله : { وَلاَ تَمْنُن } : العامَّةُ على فَكِّ الإِدغام . والحسن وأبو السَّمَّال بالإِدغام . قد تَقَدَّم أنَّ المجزومَ/ والموقوفَ من هذا النوع يجوزُ فيهما الوجهانِ ، وقد تقدَّم تحقيقُه في المائدة عند { مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ } [ المائدة : 54 ] . والمشهور أنه من المَنِّ ، وهو الاعتدادُ على المُعْطي بما أعطاه . وقيل : « لا تَضْعُفْ » مِنْ قولِهم : حبلٌ مَنينٌ أي : ضعيفٌ .
قوله : { تَسْتَكْثِرُ } العامَّةُ على رفعِه ، وفيه وجهان ، أحدهما : أنه في موضع الحالِ أي : لا تَمْنُنْ مُسْتَكْثِراً ما أعطَيْتَ . وقيل : معناه : لِتَأْخُذْ أكثرَ مِمَّا أَعْطَيْتَ . والثاني : أنَّه على حَذْفِ « أَنْ » يعني أنَّ الأصلَ : ولا تَمْنُنْ أَنْ تستكثرَ ، فلمَّأ حُذِفَتْ « أَنْ » ارتفع الفعلُ كقولِه :
4380 ألا أيُّهذا الزَّاجري أَحْضُرُ الوغى ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
في إحدى الروايَتَيْن ، قاله الزمخشري ، ولم يُبَيِّنْ : ما محلُّ « أَنْ » وما في حَيِّزها . وفيه وجهان ، أظهرهما وهو الذي يُريده هو أنَّها في محلِّ نصبٍ أو جرٍّ على الخلافِ فيها بعد حَذْفِ حرف الجر ، وهو هنا لامُ العلة تقديرُه : ولا تَمْنُنْ لأَنْ تَسْتكْثِرَ . والثاني : أنَّها في محلِّ نصبٍ فقط مفعولاً بها أي : لا تَضْعُفْ أَنْ تَسْتكْثِرَ . من الخير ، قاله مكي ، وقد تَقَدَّم لك أنَّ « تَمْنُنْ » بمعنى تَضْعُف ، وهو قولُ مجاهدٍ ، إلاَّ أنَّ الشيخَ قال بعد كلامِ الزمخشريِّ : « وهذا لا يجوزُ أن يُحملَ القرآنُ عليه؛ لأنَّ ذلك لا يجوزُ إلاَّ في الشعرِ ، ولنا مَنْدوحة عنه مع صحةِ معنى الحالِ » قلت : قد سبقه مكيٌّ وغيرُه إلى هذا . وأيضاً فقولُه : « في الشعر » ممنوعٌ؛ هؤلاء الكوفيون يُجيزون ذلك وأيضاً فقد قرأ الحسن والأعمش « تَسْتَكْثِرَ » نصباً ، وهو على إضمار « أَنْ » كقولهم : « مُرْهُ يَحْفِرَها » وأَبلَغُ مِنْ ذلك التصريحُ بأنْ في قراءةِ عبد الله : « ولا تَمْنُنْ أَنْ تستكثرَ » .
وقرأ الحسنُ أيضاً وبانُ أبي عبلة « تستكثِرْ » جزماً ، وفيه ثلاثةُ أوجه ، أحدُها : أَنْ يكونَ بدلاً من الفعلِ قبله ، كقولِه تعالى : { يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ } [ الفرقان : 68 - 69 ] ف « يُضاعَفْ » بدلٌ مِنْ « يَلْقَ » وكقولِه :
4381 مَتى تَأْتِنا تُلْمِمْ بنا في ديارِنا ... تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وناراً تَأجَّجا
ويكونُ من المَنِّ الذي في قولِه : { لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى } [ البقرة : 264 ] الثاني : أن يُشَبَّه ( ثِرْوَ ) ب « عَضُد » فيُسَكَّنَ تخفيفاً ، قاله الزمخشري ، يعني أنه تَأْخُذُ من مجموعِ « تَسْتكثر » ومن الكلمةِ بعده وهو الواوُ ما يكون فيه شبيهاً ب « عَضُد » . ألا ترى أنه قال : « أنْ يُشَبَّه ثِرْوَ » فأخذ بعضَ « تَسْتكثر » وهو الثاءُ والراءُ وحرفَ العطفِ مِنْ قولِه : { ولربِّك فاصبِرْ } .

وهذا كما قالوا في قولِ امرِىء القيس :
4382 فاليومَ أشرَبْ غيرَ مُسْتَحْقِبٍ ... إثماً من الله ولا واغلِ
بتسكين « أَشْرَبْ » : إنهم أخذوا من الكلمتين ( رَبْغ ) ك عَضُد ، ثَم سُكِّن . وقد تقدَّم في سورةِ يوسف في قراءة قنبل { مَن يَتَّقِي } [ يوسف : 90 ] بثبوت الياءِ أنَّ « مَنْ » موصولةٌ ، فاعْتُرِض بجزم « يَصْبِرْ » فأجيب : بأنه شبه ( بِرُف ) أخذوا الباءَ والراءَ مِنْ « يَصْبر » ، والفاءَ مِنْ « فإنَّ » وهذا نظيرُ تيْكَ سواءً . الوجه الثالث أَنْ يُعْتَبَرَ حالُ الوقفِ ويُجْرَى الوصلُ مُجْراه ، قاله الزمخشريُّ أيضاً ، يعني أنه مرفوعٌ ، وإنما سُكِّن تخفيفاً ، أو أُجْري الوصلُ مُجْرى الوقف . قال الشيخ : « وهذان لا يجوزُ أَنْ يُحْمَلَ عليهما مع وجودِ أرجحَ منهما ، وهو البدل » . قلت : الحقُّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ ، كيف يُعْدَلُ إلى هذَيْن الوجهَيْن مع ظهورِ البدلِ معنىً وصحةً وصناعةً؟

وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)

قوله : { وَلِرَبِّكَ فاصبر } : التقديمُ على ما تَقَدَّم ، وحَسَّنه كونُه رأسَ فاصلةٍ مُؤاخياً لِما تقدَّمه . و « لربِّك » يجوز فيه وجهان ، أحدُهما : أَنْ تكونَ لامَ العلةِ أي : لوجهِ ربِّك فاصبِرْ على أذى الكفارِ وعلى عبادةِ ربِّك ، وعن كلِّ ما لا يَليقُ ، فتُرِك المصبورُ عليه والمصبورُ عنه للعلم بهما . والأحسنُ أَنْ لا يُقَدَّرَ شيءٌ خاصٌّ بل شيءٌ عامٌّ . والثاني : أن يُضَمَّنَ « اصْبِرْ » معنى : اذْعَنْ لربِّك وسَلِّمْ له أمرَك صابراً ، كقوله : { فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ } [ القلم : 48 ] .

فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9)

قوله : { فَإِذَا نُقِرَ } : قال الزمخشريُّ : « والفاءُ/ في قولِه : » فإذا نُقِرَ « للتسبيب ، كأنه قيل : اصبِرْ على أَذاهم ، فبينَ أيديهم يومٌ عَسيرٌ يَلْقَوْن فيه [ عاقبةَ ] أذاهم ، وتَلْقَى فيه عاقبةَ صبرِك عليه . والفاء في » فذلك « للجزاء » . قلت : يعني أنَّ الفاءَ في « فذلك » جزاءٌ للشرطِ في قولِه : « فإذا نُقِرَ » . وفي العامل في « إذا » أوجهٌ ، أحدُها : أنَّها متعلِّقةٌ ب « أَنْذِرْ » أي : أَنْذِرْهم إذا نُقِر في النَّاقور ، قاله الحوفيُّ . وفيه نظرٌ : من حيث إنَّ الفاءَ تمنعُ مِنْ ذلك ، ولو أرادَ تفسيرَ المعنى لكان سهلاً ، لكنه في مَعْرِضِ تفسيرِ الإِعراب لا تفسيرِ المعنى .
الثاني : أن ينتصِبَ بما دَلَّ عليه قولُه : { فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ } . قال الزمخشري : « فإنْ قلت : بم انتصَبَ » إذا « ، وكيف صَحَّ أَنْ يقع » يومئذٍ « ظرفاً ل » يومٌ عَسير «؟ قلت : انتصَبَ » إذا « بما دَلَّ عليه الجزاءُ؛ لأنَّ المعنى : فإذا نُقِر في النَّاقور عَسُرَ الأمرُ على الكافرين . والذي أجاز وقوعَ يومئذٍ ظرفاً ل » يومٌ عسيرٌ « أنَّ المعنى : فذلك يومَ النَّقْرِ وقوعُ يوم عسيرٍ؛ لأنَّ يومَ القيامةِ يقعُ ويأتي حين يُنْقَرُ في الناقور » انتهى . ولا يجوزُ أَنْ يعملَ فيه نفسُ « عَسير »؛ لأنَّ الصفةَ لا تعملُ فيما قبلَ موصوفِها عند البصريين؛ ولذلك رُدَّ على الزمخشريِّ قولُه : إنَّ في أنفسِهم « متعلِّق ب » بلغياً « في قولِه تعالى في سورةِ النساءِ [ الآية : 63 ] { وَقُل لَّهُمْ في أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً } والكوفيون يُجَوِّزون ذلك وتقدَّم تحريرُه .
الثالث : أَنْ ينتصِبَ بما دَلَّ عليه » فذلك « لأنه إشارةٌ إلى النَّقْر ، قاله أبو البقاء . ثم قال : » ويومَئذٍ بدلٌ مِنْ « إذا » و « ذلك مبتدأٌ » والخبرُ « يومٌ عسيرٌ » أي : نُقِر يوم . الرابع : أَنْ يكونَ « إذا » مبتدأً ، و « فذلك » خبرُه . والفاءُ مزيدةٌ فيه ، وهو رأيُ الأخفشِ .
وأمَّا « يومَئِذٍ » ففيه أوجهٌ ، أحدها : أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ « إذا » وقد تقدَّم ذلك في الوجهِ الثالث . والثاني : أَنْ يكونَ ظرفاً ل « يومٌ عسيرٌ » كما تقدَّم في الوجهِ الثاني . الثالث : أَنْ يكونَ ظرفاً ل « ذلك » لأنَّه مُشارٌ به إلى النَّقْر . الرابع : أنَّه بدلٌ مِنْ « فذلك » ، ولكنه مبنيٌّ لإِضافتِه إلى غيرِ متمكِّنٍ . الخامس : أَنْ يكونَ مبتدأً « ويومٌ عسيرٌ » خبرَه ، والجملةُ خبرَ « فذلك » .

عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)

قوله : { عَلَى الكافرين } : فيه خمسةُ أوجهٍ ، أحدُها : أَنْ يتعلَّق ب « عسير » . الثاني : أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه نعتٌ ل عسير . الثالث : أنه في موضع نصبٍ على الحالِ من الضميرِ المستكنِّ في « عسير » . الرابع : أن يتعلَّقَ ب « يَسير » أي : غيرُ يسيرٍ على الكافرين ، قاله أبو البقاء ، إلاَّ أنَّ فيه تقديمَ معمولِ المضافِ إليه على المضافِ ، وهو ممنوعٌ ، وقد جَوَّز ذلك بعضُهم إذا كان المضاف « غيرَ » بمعنى النفي كقولِه :
4383 إنَّ امرَأً خَصَّني عمْداً مَوَدَّتَه ... على التنائي لَعِنْدي غيرُ مَكْفورِ
وتقدَّم تحريرُ هذا آخرَ الفاتحةِ مُشْبَعاً ، فعليكَ باعتبارِه ثَمَّة . الخامس : أن يتعلَّق بما دَلَّ عليه « غيرُ يسير » أي : لا يَسْهُلُ على الكافرين . قال الزمخشري : « فإنْ قلتَ فما فائدةُ قولِه : » غيرُ يسير « و » عَسير « مُغْنٍ عنه؟ قلت : لَمَّا قال » على الكافرين « فقَصَرَ العُسْرَ عليهم قال : » غيرُ يَسير « لِيُؤْذَنَ بأنه لا يكونُ عليهم كما يكون على المؤمنين يَسيراً هَيِّناً ليجمعَ بين وعيدِ الكافرين وزيادةِ غَيْظهم وتبشير المؤمنين وتَسْلِيتهم . ويجوز أن يُراد : عسيرٌ لا يُرْجَى أن يَرْجِعَ يسيراً ، كما يُرْجى تيسيرُ العسيرِ من أمورِ الدنيا » .
وقوله : { نُقِرَ فِي الناقور } أي صُوِّتَ يقال : نَقَرْتُ الرجلَ إذا صَوَّتَّ له بلسانِك وذلك بأَنْ تُلْصِقَ لسانَك بنُقْرَة حَنكِكَ . ونَقَرْتُ الرجلَ : إذا خَصَصْتَه بالدعوة ، كأنك نَقَرْتَ له بلسانِك مُشيراً إليه ، وتلك الدعوةُ يقال لها النَّقَرى ، وهي ضدُّ الدعوةِ الجَفَلَى . قال الشاعر :
4384 نحن في المَشْتاةِ نَدْعُو الجَفَلَى ... لا تَرَى الآدِبَ فينا يَنْتَقِرْ
/ وقال امرؤ القيس :
4385 أنا ابنُ ماوِيَّةَ إذْ جَدَّ النُّقُرْ ... يريد : « النَّقْرُ » أي : الصوتُ . وقال أيضاً :
4386 أُخَفِّضُه بالنَّقْرِ لَمَّا عَلَوْتُه ... ويَرْفَعُ طَرْفاً غيرَ جافٍ غَضِيضٍ
والنَّاقُور : فاعُوْل منه كالجاسوسِ مِنَ التَجَسُّسِ ، وهو الشيءُ المُصوَّتُ فيه : وفي التفسير : إنَّه الصُّورُ الذي يَنْفَخُ فيه المَلَكُ . والنَّقْرُ أيضاً : قَرْعُ الشيءِ الصُّلْبِ . والمِنْقارُ : الحَديدةُ التي يُنْقَرُ بها . ونَقَرْتُ عنه : بَحَثْتُ عن أخبارِه ، استعارةً من ذلك . ونَقَرْتُه : أَعبْتُه ، ومنه قولُ امرأةٍ لزَوْجِها : « مُرَّ بي على بني نَظَرٍ ، ولا تَمرَّ بي على بناتِ نَقَرٍ » أرادت ببنين نَظَرٍ الرجالُ؛ لأنهم ينظرون إليها ، وببنات نَقَرٍ النساءَ لأنهنَّ يُعِبْنها ويَنْقُرْنَ عن أحوالِها .

ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11)

قوله : { وَمَنْ خَلَقْتُ } : كقولِه : { والمكذبين } [ المزمِّل : 11 ] في الوجهَيْنِ المتقدمَيْنِ في السورةِ قبلها .
قولِه : { وَحِيداً } فيه أوجه ، أحدها : أنه حالٌ من الياء في « ذَرْني » أي : ذَرْنِي وَحْدي معه فأنا أَكْفِيْكَ في الانتقام منه . الثاني : أنه حالٌ مِنَ التاء في « خَلَقْتُ » أي : خَلَقْتُه وَحْدي لم يُشْرِكْني في خَلْقِه أحدٌ ، فأنا أَمْلِكُه . الثالث : أنَّه حالٌ مِنْ « مَنْ » . الرابع : أنه حالٌ من عائدِ المحذوفِ أي : خَلَقْتُه وحيداً . الخامس : أن ينتصِبَ على الذمِّ . و « وحيد » كان لَقَباً للوليدِ بن المُغِيرة . ومعنى « وحيداً » : ذليلاً قليلاً . وقيل : كان يَزْعُمُ أنه وحيدٌ في فَضْلِه ومالِه . وليس في ذلك ما يَقْتَضي صِدْقَ مقالتِه؛ لأنَّ هذا لَقَبٌ له شُهِر به ، وقد يُلَقَّبُ الإِنسانُ بما لا يَتَّصِفُ به ، وإذا كان لَقَباً تَعَيَّنَ نصبُه على الذمِّ .

كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16)

قوله : { إِنَّهُ كان لآيَاتِنَا عَنِيداً } : استئنافٌ ، جوابٌ لسائلِ سأل : لِمَ لا يزدادُ مالاً؟ وما بالُه رُدِعَ عن طَمعِه في ذلك؟ فأُجيب بقولِه : { إِنَّهُ كان لآيَتِنَا عَنِيداً } .

إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18)

قوله : { إِنَّهُ فَكَّرَ } : يجوزُ أنْ يكونَ استئنافَ تعليلٍ لقولِه « سَأُرْهِقُه » . ويجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ { إِنَّهُ كان لآيَتِنَا عَنِيداً } .

ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22)

قوله : { ثُمَّ عَبَسَ } : يُقال : عَبَسَ يَعْبِسُ عَبْساً وعُبُوساً أي : قَطَّبَ وجهَه . والعَبَسُ : ما يَبِسَ في أذنابِ الإِبلِ من البعر والبَوْل . قال أبو النجم :
4387 كأن في أَذْنابِهِنَّ الشُّوَّلِ ... مِنْ عَبَسِ الصَّيْفِ قُرونَ الأُيَّلِ
قوله { وَبَسَر } يُقال : بَسَرَ يَبْسُر بَسْراً وبُسُوراً : إذا قَبَضَ ما بين عَيْنَيْه كراهةً للشَيْءِ ، واسْوَدَّ وجهُه مِنْه . يقال : وَجْهٌ باسِرٌ أي : مُنْقَبِضٌ أسودُ .
قال :
4388 صَبَحْنا تميماً غَداةَ الجِفارِ ... بشَهْباءَ مَلْمومَةٍ باسِرَةْ
وأهل اليمن يقولون : بَسَرَ المَرْكَبُ وأَبْسَر : إذا وَقَفَ . وأَبْسَرْنا أي : صِرْنا إلى البُسُور . وقال الراغب : « البَسْرُ : البَسْرُ : الاستعجالُ بالشيء قبل أَوانِه نحو : بَسَرَ الرجلُ الحاجةَ : طَلَبها في غيرِ أوانِها ، وبَسَرَ الفَحْلُ الناقةَ : ضَرَبها قبل الضَّبَعَةِ . وماء بَسْرٌ : مُتناوَلٌ مِنْ غَدِيرِه قبلَ سُكونه ، ومنه قيل للذين لم يُدْرَك من التَّمر : بُسْر . وقولُه تعالى : { ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ } أي : أظهرَ العُبوس قبل أَوانِه ، وفي غيرِ وقتِه . فإنْ قيلَ : فقولُه عَزَّ وجَلَّ : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ } [ القيامة : 24 ] ليس يَفْعلون ذلك قبلَ الوقتِ . وقد قلت : إنَّ ذلك يُقال فيما كان قبلَ وَقْتِه . قلتُ : إنَّ ذلك إشارةٌ إلى حالِهم قبلَ الانتهاءِ بهم إلى النارِ فخُصَّ لفظُ البُسْرِ تنبيهاً أنَّ ذلك مع ما ينالهم مِنْ بُعْدٍ يَجْري مَجْرى التكلُّفِ ، ومَجْرى ما يُفْعَلُ قبلَ وَقْتِه . ويَدُلُّ على ذلك قولُه : { تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } [ القيامة : 25 ] انتهى كلامُ الراغب .
وقد عُطِفَ في هذه الجملِ بحروفٍ مختلفةٍ ولكلٍ منها مناسَبَةٌ . أمَّا ما عُطِفَ ب » ثُمَّ « فلأنَّ بين الأفعالِ مهلةً ، وثانياً لأنَّ بين النَّظَر والعُبوس وبين العُبوسِ والإِدْبار تراخياً . قال الزمخشري/ : و » ثُمَّ نظر « عَطْفٌ على » فَكَّر وقَدَّر « والدعاءُ اعتراضٌ بينهما » . قلت : يعني بالدعاءِ قولَه : « فقُتِلَ » . ثم قال : « فإنْ قُلْتَ ما معنى » ثم « الداخلةِ على تكريرِ الدعاء؟ قلت : الدلالة على أنَّ الكرَّة الثانية أَبْلَغُ من الأولى ، ونحوُه قولُه :
4389 ألا يا اسْلمي ثُمَّ اسْلمي ثُمَّت اسْلمي ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فإنْ قلت : فما معنى المتوسِّطةِ بين الأفعالِ التي بعدها؟ قلت : للدلالة على أنه تأنَّى في التأمُّل ، وتمهَّل ، وكان بين الأفعالِ المتناسِقةِ تراخٍ وبُعْدٌ . فإن قلت : فلِمَ قال : » فقال « بالفاءِ بعد عطفِ ما قبلَه ب ثم؟
قلت : لأنَّ الكلمةَ لَمَّا خَطَرَتْ ببالِه بعد التطلُّب لِم يتمالَكْ أَنْ نَطقَ بها مِنْ غيرِ تَثَبُّتٍ . فإنْ قلتَ : فلِمَ لَمْ يَتَوَ‍سَّطْ حرفُ العطفِ بين الجملتَيْن؟ قلت : لأنَّ الأخرى جَرَ‍تْ مِن الأولى مَجْرى التوكيدِ من المؤكَّد .

سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26)

قوله : { سَأُصْلِيهِ سَقَرَ } : هذا بدلٌ مِنْ قولِه : { سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً } قاله الزمخشري . فإنْ كان المرادُ بالصَّعودِ المشقةَ فالبدلُ واضحٌ ، وإنْ كان المرادُ صخرةً في جهنَم ، كما جاء في بعضِ التفاسير ، فيَعْسُرُ البدلُ ، ويكون فيه شَبَهٌ مِنْ بَدَلِ الاشتمالِ؛ لأنَّ جهنمَ مُشْتَمِلةٌ على تلك الصخرةِ .

لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28)

قوله : { لاَ تُبْقِي } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنها في محلِّ نصبٍ على الحال ، والعامل فيها معنى التعظيمِ ، قاله أبو البقاء ، يعني أنَّ الاستفهامَ في قولِه ما سَقَرُ؟ للتعظيم فالمعنى : استعظموا سَقَرَ في هذه الحال . ومفعول « تُبْقي » و « تَذَرُ » محذوفٌ ، أي : لا تُبقي ما أُلْقي فيها ، ولا تَذَرُهُ ، بل تُهْلِكُه . وقيل : تقديرُه لا تُبْقي على مَنْ أُلْقي فيها ، ولا تَذَرُ غايةَ العذابِ إلاَّ وَصَلَتْه إليه . والثاني : أنها مستأنفةٌ .

لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29)

قوله : { لَوَّاحَةٌ } : قرأ العامَّةُ بالرفع خبرَ مبتدأ مضمر ، أي : هي لَوَّاحَةٌ . وهذه مُقَوِّيةٌ للاستئنافِ في « لا تُبْقي » . وقرأ الحسن وابنُ أبي عبلة وزيدُ بن علي وعطيةُ العَوْفي بنَصْبِها على الحال ، وفيها ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنها حالٌ مِنْ « سقرُ » والعاملُ معنى التعظيمِ كما تقدَّم . والثاني : أنها حالٌ مِنْ « لا تُبْقي » . والثالث : مِنْ « لا تذرُ » . وجَعَلَ الزمخشري نَصْبَها على الاختصاصِ للتهويل ، وجعلها الشيخ حالاً مؤكدة قال : « لأنَّ النارَ التي لا تُبْقي ولا تَذَرُ لا تكونُ إلاَّ مُغَيِّرةً للإِبشارِ » « ولَوَّاحَةٌ » بناءُ مبالغةٍ ، وفيها معنيان ، أحدهما : مِنْ لاح يَلُوح ، أي : ظهر ، أي : إنها تظهر للبَشَرِ وهم الناسُ ، وإليه ذهب الحسن وابن كَيْسان . والثاني : - وإليه ذهبَ جمهورُ الناس أنها مِنْ لوَّحه ، أي : غَيَّره وسَوَّده . قال الشاعر :
4390 وتعجَبُ هندٌ أَنْ رَأَتْنِيَ شاحباً ... تقول : لَشَيءٌ لوَّحَتْه السَّمائِمُ
ويقال : لاحَه يَلُوْحه : إذا غَيَّر حِلْيَتَيْه ، وأُنْشِد :
4391 تقول : ما لاحك يا مسافِرُ ... يا بنةَ عمِّي لاحَني الهواجِرُ
وقيل : اللَّوحُ شِدَّةُ العَطَشِ . يقال : لاحَه العطشَ ولَوَّحَه ، أي : غَيَّره ، وأُنْشدِ :
4392 سَقَتْني على لَوْحٍ مِنْ الماءِ شَرْبَةً ... سَقاها به اللَّهُ الرِّهامَ الغَواديا
واللُّوْحُ بالضمِّ : الهواءُ بين السماءِ والأرضِ ، والبَشَرُ : إمَّا جَمْعُ بَشَرَة ، أي : مُغَيِّرة للجُلود ، [ وإمَّا المُرادُ به الإِنْسُ ] واللامُ في « للبَشَرِ » مُقَوِّيَةٌ كهي في { لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } [ يوسف : 43 ] ، وقراءةُ النصبِ في « لَوَّاحَةً » مقوِّيَةٌ لكونِ « لا تُبْقي » في محلِّ الحالِ .

عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)

قوله : { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } : هذه الجملةُ فيها وجهان أعني : الحاليةَ والاستئنافَ وفي هذه الكلمةِ قراءاتٌ شاذةٌ ، وتوجيهاتٌ تُشاكِلُها . وقرأ أبو جعفر وطلحةُ « تسعَة عْشَر » بسكون العين مِنْ « عَشر » تخفيفاً لتوالي خمسِ حركاتٍ مِنْ جنسٍ واحدٍ/ وهذه كقراءةِ { أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً } [ يوسف : 4 ] ، وقد تقدَّمَتْ .
وقرأ أنسٌ وابنُ عباس « تسعةُ » بضمِّ التاء ، « عَشَرَ » بالفتح ، وهذه حركةُ بناءٍ ، ولا يجوزُ أَنْ يُتَوَهَّمَ كونُها إعراباً؛ إذا لو كانَتْ للإِعرابِ لَجُعِلَتْ في الاسمِ الأخيرِ لِتَنَزُّلِ الكلمتَيْن منزلةَ الكلمةِ الواحدةِ ، وإنما عُدِل إلى الضمة كراهةَ توالي خمسِ حركاتٍ . وعن المهدويِّ . « مَنْ قرأ » تسعةُ عَشَر « فكأنه من التداخُلِ كأنه أراد العطفَ فتركَ التركيبَ ورَفَعَ هاءَ التأنيث ، ثم راجَعَ البناءَ وأسكنَ » انتهى . فَجَعَلَ الحركةَ للإِعرابِ . ويعني بقولِه « أسكنَ » ، أي : أسكنَ راءَ « عشر » فإنه هذ القراءة كذلك .
وعن أنس أيضاً « تسعةُ أَعْشُرَ » بضم « تسعةُ » وأَعْشُرَ بهمزةٍ مفتوحةٍ ثم عينٍ ساكنةٍ ثم شين مضمومة . وفيها وجهان ، قال أبو الفضل : « يجوزُ أَنْ يكونَ جَمعَ العَشَرةَ على أَعْشُر ثم أجراه مُجْرى تسعة عشر » . وقال الزمخشري : « جمع عَشير ، مثل يَمين وأَيْمُن . وعن أنسٍ أيضاً » تسعَةُ وَعْشُرَ « بضم التاءِ وسكونِ العينِ وضمِّ الشين وواوٍ مفتوحةٍ بدلَ الهمزةِ . وتخريجُها كتخريجِ ما قبلَها ، إلاَّ أنَّه قَلَبَ الهمزةَ واواً مبالغةً في التخفيفِ ، والضمةُ كما تقدَّم للبناءِ لا للإِعرابِ . ونقل المهدويُّ أنه قُرِىءَ » تسعةُ وَعَشَرْ « قال : » فجاء به على الأصلِ قبلَ التركِيبِ وعَطَفَ « عشراً على تسعة » وحَذَفَ التنوينَ لكثرةِ الاستعمالِ ، وسَكَّنَ الراءَ مِنْ عشر على نيةِ الوقفِ .
وقرأ سليمان بن قتة بضمِّ التاءِ ، وهمزةٍ مفتوحةٍ ، وسكونِ العين ، وضم الشين وجرِّ الراءِ مِنْ أَعْشُرٍ ، والضمةُ على هذا ضمةُ إعرابٍ ، لأنه أضاف الاسمَ لِما بعده ، فأعربَهما إعرابَ المتضايفَيْنِ ، وهي لغةٌ لبعضِ العربِ يَفُك‍ُّون تركيبَ الأعدادِ ويُعْرِبُونهما كالمتضايفَيْنِ كقول الراجز :
4393 كُلِّفَ مِنْ عَنائِه وشِقْوَتِهْ ... بنتَ ثماني عَشْرَةٍ مِنْ حَجَّتِهْ
قال أبو الفضل : « ويُخْبَرُ على هذه القراةِ وهي قراءةُ مَنْ قرأ » أَعْشُر « مبنياً أو معرباً من حيث هو جمعٌ أنَّ الملائكةَ الذين هم على سَقَرَ تسعون مَلَكاً .

وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31)

قوله : { إِلاَّ فِتْنَةً } : مفعولٌ ثانٍ على حذفِ مضافٍ ، أي : إلاَّ سببَ فتنةٍ ، و « للذين » صفةٌ ل « فِتْنة » وليسَتْ « فتنةً » مفعولاً له .
قوله : { لِيَسْتَيْقِنَ الذين } متعلِّقٌ ب « جَعَلْنا » لا ب « فتنة » . وقيل : بفعلٍ مضمرٍ ، أي : فَعَلْنا ذلك ليسْتَيْقِنَ . وللزمخشري هنا كلامٌ متعلِّقٌ بالإِعرابِ ليجُرَّه إلى غرضِه مِنْ الاعتزال .
قوله : { كَذَلِكَ } نعتٌ لمصدرٍ أو حالٍ منه على ما عُرِفَ غيرَ مرةٍ . و « ذلك » إشارةٌ إلى ما تقدَّم مِنْ الإِضلالِ والهدى ، أي : مثلَ ذلك الإِضلالِ والهدى يُضِلُّ ويَهْدي . و « مثلاً » تمييزاً أو حالٌ . وتسميةُ هذا مثلاً على سبيل الاستعارةِ لغرابتِه .
قوله : { جُنُودَ رَبِّكَ } مفعولٌ واجبُ التقديمِ لحَصْرِ فاعلِه ، ولعَوْدِ الضميرِ على ما اتَّصل بالمفعول .
قوله : { وَمَا هِيَ } يجوزُ أَنْ يعودَ الضميرُ على « سقر » ، أي : وما سَقَرُ إلاَّ تذكرةٌ . وأَنْ يعودَ على الآياتِ المذكورةِ فيها ، أو النارِ لتقدُّمِها أو الجنودِ ، أو نارِ الدنيا ، وإن لم يَجْرِ لها ذِكْرٌ أو العُدَّة . و « للبشر » مفعولٌ ب « ذِكْرى » واللامُ فيه مزيدةٌ .

وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34)

قوله : { إِذْ أَدْبَرَ } : قرأ نافعٌ وحمزةُ وحفصٌ « إذ » ظرفاً لِما مضى مِنْ الزمانِ ، « أَدْبَرَ » بزنةِ أَكْرَمَ . والباقون « إذا » ظرفاً لِما يُسْتقبل ، « دَبَرَ » بزنةِ ضَرَبَ ، والرسمُ محتملٌ لكلتَيْهما ، فالصورةُ الخطيَّةُ لا تختلفُ . واختار أبو عبيد قراءةَ « إذا » قال : لأنَّ بعدَه « إذا أَسْفَرَ » قال : « وكذلك هي في حرفِ عبدِ الله » قلت : يعني أنَّه مكتوبٌ بألفَيْنِ بعد الذالِ أحدُهما ألفُ « إذا » والأخرى همزةُ « أَدْبَرَ » . واختار ابنُ عباس أيضاً « إذا » ويُحْكى أنَّه لَمَّا سَمِعَ « أَدْبَرَ » قال : « إنما يُدْبِر ظهرُ البعير » .
واختلفوا : هل دَبَر وأَدْبَر ، بمعنى أم لا؟ فقيل : هما بمعنىً واحدٍ/ يقال : دَبَر الليلُ والنهارُ وأَدْبَرَ ، وقَبَلَ وأَقْبل . ومنه قولُهم « أمسٌ الدابرُ » فهذا مِنْ دَبَرَ ، وأمسٌ المُدْبر قال :
4394 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . ذهبوا كأمس الدابِر
وأمَّا أَدْبَرَ الراكبُ وأَقْبل فرباعيٌّ لا غيرُ . هذا قولُ الفراء والزجاج . وقال يونس : « دَبَرَ انقضى ، وأَدْبَرَ تَوَلَّى ففرَّق بينهما . وقال الزمخشري : » ودَبَرَ بمعنى أَدْبَرَ كقَبَل بمعنى أَقْبَلَ . قيل : ومنه صاروا كأمسٍ الدابرِ ، وقيل : هو من دَبَرَ الليلُ النهارَ إذا خَلَفَه « .
وقرأ العامَّةُ » أسْفَرَ « بالألف ، وعيسى بنُ الفضل وابن السَّمَيْفَع » سَفَرَ « ثلاثياً » . والمعنى : طَرَحَ الظلمةَ عن وجهِه ، على وجهِ الاستعارةِ .

إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35)

قوله : { إِنَّهَا } : أي : إنَّ النارَ . وقيل : إنَّ قيامَ الساعةِ كذا حكاه الشيخ ، وفيه شيئان : عَوْدُه على غير مذكورٍ ، وكونُ المضافِ اكتسَبَ تأنيثاً . وقيل : إن النِّذارة . وقيل : هيَ ضميرُ القصةِ . وقرأ العامَّةُ « لإِحْدى » بهمزةٍ مفتوحةٍ ، وأصلُها واوٌ ، من الوَحْدَة . وقرأ نصرُ بنُ عاصمٍ وابنُ محيصن ، وتُرْوى عن ابنِ كثيرٍ « لَحْدَى » بحذفِ الهمزةِ ، وهذا من الشُّذوذِ بحيثُ لا يُقاسُ عليه . وتوجيهُه : أَنْ يكونَ أَبْدلها ألفاً ، ثم حُذِفَتِ الألفُ لالتقاءِ الساكنَيْن ، وقياسُ تخفيفِ مثلِ هذه بينها وبين الألفِ . ومعنى « إحْدَى الكُبَرِ » ، أي : إحْدَى الدَّواهي قال :
4395 يا بنَ المُعَلَّى نَزَلَتْ إحدى الكُبَرْ ... داهيةُ الدهرِ وصَمَّاءُ الغِيَرْ
ومثلُه : هو أَحَدُ الرجالِ و [ هي ] إحدى النساءِ لِمَنْ يَسْتعظمونه . والكُبَرُ : جمعُ كُبْرى كالفُضَل جمع فُضْلى . وقال ابن عطية : « جمع كبيرة » وأظنُّه وهماً عليه . وفي هذه الجملة وجهان ، أحدُهما : أنها جوابُ القسمِ في قوله : « والقمرِ » . والثاني : أنها تعليلٌ ل « كَلاَّ » والقسمٌ معترضٌ للتوكيدِ ، قاله الزمخشري . قلت : وحينئذٍ فيحتاجُ إلى تقديرِ جوابٍ ، وفيه تكَلُّفٌ وخروجٌ عن الظاهر .

نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36)

قوله : { نَذِيراً } : فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه تمييزٌ عن « إحدى » ، كمَّا ضُمِّنَتْ معنى التعظيم ، كأنه قيل : أعظم الكُبَر إنذاراً ، ف « نذير » بمعنى الإِنذارِ كالنَّكير بمعنى الإِنكار ، ومثلُه « هي إحدى النساءِ عَفافاً » . الثاني : أنه مصدرٌ بمعنى الإِنذار أيضاً ، ولكنه نُصِب بفعلِ مقدَّرٍ ، قاله الفراء . الثالث : أنه فعيلٌ بمعنى مُفْعِل ، وهو حالٌ من الضميرِ في « إنَّها » قاله الزجاج . الرابع : أنه حالٌ من الضمير في « إحدى » لتأوُّلها بمعنى العظيم . الخامس : أنَّه حالٌ من فاعلِ « قم » أولَ السورةِ . السادس : أنَّه مصدرٌ منصوبٌ ب أَنْذِرْ أولَ السورةِ . السابع : هو حالٌ مِنْ « الكُبَر » . الثامن : حالٌ من ضميرِ الكُبَر . التاسع : هو حالٌ مِنْ « لإِحدى » ، قاله ابن عطية . العاشر : أنَّه منصوبٌ بإضمار أَعْني . الحادي عشر : أنَّه منصوبٌ ب ادْعُ مُقَدَّراً؛ إذ المُراد به اللَّهُ تعالى . الثاني عشر : أنَّه منصوبٌ ب « نادِ أو ب بَلِّغ؛ إذ المرادُ به الرسولُ صلى الله عليه وسلم . الثالثَ عشرَ : أنه منصوبٌ بما دَلَّتْ عليه الجملةُ ، تقديره : عَظُمْتَ نذيراً . الرابعَ عشرَ : هو حالٌ من الضميرِ في » الكُبَرِ « . الخامسَ عشرَ : أنها حالٌ مِنْ » هو « في قولِه وما يعلَمُ جنودَ ربِّك إلاَّ هو . السادسَ عشرَ : أنها مفعولٌ مِنْ أجلِه ، الناصبُ لها ما في » الكُبَر « ، مِنْ معنى الفعل . قال أبو البقاء : » أو إنَّها لإِحدى الكُبر لإِنذارِ البشر « فظاهرُ هذا أنه مفعولٌ مِنْ أجلِه . وفيه بُعْدٌ وإذا جُعِلَتْ حالاً مِنْ مؤنثٍ فإنَّما لم تُؤَنَّثْ لأنَّها بمعنى ذاتِ إنذارٍ على معنى النَّسَب . قال معناه أبو جعفر .
والنصبُ قراءةُ العامَّةِ ، وابن أبي عبلة وأُبَيُّ بنُ كعبٍ بالرفع . فإنْ كان المرادُ النارَ جاز لك وجهان : أَنْ يكونَ خبراً بعد خبر ، وأَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ ، أي : هي نذيرٌ ، والتذكيرُ لِما تقدَّم مِنْ معنى النَّسَبِ ، وإنْ كان المرادُ الباريَ تعالى أو رسولَه عليه السلام كان على خبر مبتدأ مضمرٍ ، أي : هو نذيرٌ . » وللبشر « إمَّا صفةٌ . وإمَّأ مفعولٌ لنذير ، واللامُ مزيدةٌ لتقويةِ العامل .

لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)

قوله : { لِمَن شَآءَ } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنه بدلٌ من « للبشر » بإعادة العامل كقولِه : { لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ } [ الزخرف : 33 ] و { لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ آمَنَ } [ الأعراف : 75 ] . وأَنْ يتقدَّمَ مفعولُ « شاء » ، أي : نذيرٌ لمَنْ شاءَ التقدُّمَ أو التأخُّرَ ، وفيه ذُكِرَ مفعولُ « شاء » وقد تقدَّم أنَّه لا يُذْكَرُ إلاَّ إذا كان فيه غَرابَةٌ . والثاني : وإليه نحا الزمخشري وبه بدأ أَنْ يكونَ « لمَنْ شاءَ » خبراً مقدَّماً ، و « أَنْ يتقدَّم » مبتدأ مؤخراً قال : « كقولِك : لِمَنْ توضَّأَ أَنْ يُصَلِّي ، ومعناه مطلقٌ لمَنْ شاء التقدُّمَ أو التأخُّرَ أَنْ يتقدَّم أو يتأخَّرَ » انتهى . فقوله « التقدُّمَ والتأخُّرَ » هو مفعولُ « شاء » المقدَّرِ ، وقولُه « أَنْ يتقدَّمَ » هو المبتدأ . قال الشيخ : « وهو معنىً لا يتبادَرٌ الذِّهْنُ إليه وفيه حَذْفٌ » .

كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38)

قوله : { رَهِينَةٌ } : فيه أوجهٌ ، أحدها : أنَّ « رهينة » بمعنى « رَهْن » كالشتيمة بمعنى الشَّتْم . قال الزمخشري : « ليسَتْ بتأنيثِ » رهين « في قوله » كلُّ امرىء « / لتَأنيثِ النفسِ؛ لأنَّه لو قُصِدَتِ الصفةُ لقيل : » رِهين «؛ لأنَّ فَعيلاً بمعنى مَفْعول يَسْتوي فيه المذكرُ والمؤنثُ ، وإنما هي اسمٌ بمعنى الرَّهْن كالشَّتيمة بمعنى الشَّتْم ، كأنه قيل : كلُّ نفسٍ بما كَسَبَتْ رَهْنٌ ، ومنه بيتُ الحماسة :
4396 أبعدَ الذي بالنّعْفِ نَعْفِ كُوَيْكِبٍ ... رَهينةٍ رَمْسٍ ذي تُرابٍ وجَنْدلِ
كأنه قال : رَهْنِ رَمْسٍ . الثاني : أنَّ الهاءَ للمبالغةِ . والثالث : أنَّ التأنيثَ لأجلِ اللفظ . واختار الشيخُ أنَّها بمعنى مَفْعول وأنها كالنَّطيحة . قال : » ويَدُلُّ على ذلك : أنَّه لَمَّا كان خبراً عن المذكر كان بغيرِ هاءٍ ، قال تعالى : { كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ } [ الطور : 21 ] فأنت ترى حيث كان خبراً عن المذكر أتى بغيرِ تاءٍ ، وحيث كان خبراً عن المؤنثٍ أتى بالتاء . فأمَّا الذي في البيت فأُنِّث على معنى النفس «

إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39)

قوله : { إِلاَّ أَصْحَابَ اليمين } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنها استثناءٌ متصلٌ؛ إذ المرادُ بهم المسلمون الخالِصون الصالحون . والثاني : أنه منقطعٌ؛ إذ المرادُ بهم الأطفالُ أو الملائكةُ .

فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40)

قوله : { فِي جَنَّاتٍ } : يجوزُ أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ ، أي : هم في جناتٍ ، وأن يكونَ حالاً مِنْ « أصحابَ اليمين » ، وأَنْ يكونَ حالاً من فاعل « يَتَساءلون » ذكرهما أبو البقاء . ويجوزُ أَنْ يكونَ ظرفاً ل « يتساءلون » وهو أظهرُ من الحالية مِنْ فاعِله . و « يتساءلون » يجوزُ أَنْ يكونَ على بابِه ، أي : يَسْألون غيرَهم ، نحو : دَعَوْتُه وتَداعيْتُه .

قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43)

قوله : { لَمْ نَكُ مِنَ المصلين } : هذا هو الدالُّ على فاعلِ سَلَكَنا كذا الواقعِ جواباً لقولِ المؤمنين لهم : ما سلككم؟ التقدير : سَلَكَنا عدمُ صَلاتِنا وكذا وكذا . وقال أبو البقاء : « هذه الجملةُ سَدَّتْ مَسَدَّ الفاعلِ وهو جوابُ ما سَلَككم » ومرادُه ما قَدَّمْتُه . وإنْ كانَ في عبارتِه عُسْرٌ .
وأدغم أبو عمروٍ « سَلَككم » وهو نظيرُ { مَّنَاسِكَكُمْ } [ البقرة : 200 ] وقد تقدَّم ذلك في البقرة . وقوله « ما سَلَكَكُم » يجوزُ أَنْ يكونَ على إضمار القولِ ، وذلك القولُ في موضع الحال ، أي : يتساءَلون عنهم ، قائلين لهم : ما سلككم؟ وقال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : كيف طابَقَ قولُه » ما سلككُمْ « وهو سؤالُ المجرمين قولَه » يتساءَلون عن المجرمين « وهو سؤالٌ عنهم ، وإنما كان يتطابق ذلك لو قيل : يتساءلون المجرمين ما سلككم؟ قلت : قولُه » ما سلككم « ليس ببيانٍ للتساؤلِ عنهم ، وإنما هي حكايةُ قولِ المسؤولين عنهم؛ لأن المسؤولين يُلْقُون إلى السَّائلين ما جرى بينهم وبين المجرمين فيقولون : قلنا لهم ما سلككم؟

فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)

قوله : { فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ } : كقولِه :
4397 على لاحِبٍ لا يُهْتَدَى بمنارِه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
في أحدِ وجهَيْه ، أي : لا شفاعةَ لهم ، فلا انتفاعَ بها ، وليس المرادُ أنَّ ثَمَّ شفاعةً غيرَ نافعةٍ كقولِه : { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى } [ الأنبياء : 28 ] .

فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49)

قوله : { مُعْرِضِينَ } : حالٌ من الضمير في الجارِّ الواقع خبراً عن « ما » الاستفهاميةِ ، وقد تقدَّم أنَّ مِثْلَ هذه الحالِ تُسَمَّى حالاً لازِمَةً وقد تقدَّم فيها بحثٌ حسنٌ . « وعن التذكرة » متعلِّقٌ به .

كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50)

قوله : { كَأَنَّهُمْ } هذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكونَ حالاً من الضمير في الجارِّ ، وتكون بدلاً مِنْ « مُعْرِضِيْنَ » قاله أبو البقاء ، يعني أنَّها كالمشتملة عيلها ، وأنْ تكونَ حالاً من الضميرِ في « مُعْرِضِين » ، فتكونَ حالاً متداخلةً .
وقرأ العامَّةُ « حُمُرٌ » بضمِّ الميم ، والأعمش بإسكانِها . وقرأ نافعٌ وابنُ عامر بفتح الفاء مِنْ « مُسْتَنْفَرة » على أنه اسمُ مفعولٍ ، أي : نَفَّرها القُنَّاص . والباقون بالكسرِ بمعنى : نافِرة : يُقال : استنفر ونَفَر بمعنى نحو : عَجِب واستعجب ، وسخِر واسْتَسْخر . قال الشاعر :
4398 أَمْسِكْ حِمارَكَ إنَّه مُسْتَنْفِرُ ... في إثْرِ أَحْمِرَةٍ عَمَدْنَ لغُرَّبِ
وقال الزمخشري : « كأنها تطلُبُ النِّفار مِنْ نفوسِها في جَمْعِها له وحَمْلِها عليه » انتهى . فأبقى السينَ على بابِها من الطَّلَبِ ، وهو معنى حسن .
ورجَّحَ بعضُهم الكسرَ لقولِه « فَرَّتْ » للتناسُبِ . وحكى محمدُ ابنُ سَلاَّم قال : « سألتُ أبا سَوَّار الغَنَويَّ وكان عربياً فصيحاً ، فقلت : كأنهم/ حُمُرٌ ماذا؟ فقال : مُسْتَنْفَرَة طَرَدَها قَسْورة . فقلت : إنما هو { فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ } فقال : أفرَّتْ؟ قلت : نعم . قال : » فمُسْتَنْفِرة إذن « انتهى . يعني أنها مع قولِه » طَرَدها « تُناسِبُ الفتحَ لأنَّها اسمُ مفعولٍ فلما أُخْبر بأنَّ التلاوةَ { فَرَّتْ مِن قسْورة } رَجَعَ إلى الكسرِ للتناسُبِ ، إلاَّ أنَ بمثلِ هذه الحكاية لا تُرَدُّ القراءةُ المتواترةُ .
والقَسْوَرَةُ : قيل : الصائِدُ . وقيل : ظلمةُ الليل . وقيل : الأسد ، ومنه قولُ الشاعر :
4399 مُضَمَّرٌ تَحْذَرُه الأبطالُ ... كأنه القَسْوَرَةُ الرِّئْبالُ
أي : الأسد ، إلاَّ إنَّ ابن عباس أنكرَه ، وقال : لا أعرفُ القَسْوَرَةَ : الأسدَ في لغة العرب ، وإنما القَسْوَرَةُ : عَصَبُ الرجال ، وأنشد :
4400 يا بنتُ ، كثوني خَيْرَةً لخَيِّرَهْ ... أخوالُها الجِنُّ وأهلُ القَسْوَرَهْ
وقيل : هم الرُّماةُ ، وأنشدوا للبيد بن ربيعة :
4401 إذا ما هَتَفْنا هَتْفَةً في نَدِيِّنا ... أتانا الرجالُ العانِدون القساوِرُ
والجملةُ مِنْ قولِه » فَرَّتْ « يجوزُ أَنْ تكونَ صفةً ل » حُمُر « مثلَ » مُسْتَنْفرة « ، وأنْ تكونَ حالاً ، قاله أبو البقاء .

بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52)

قوله : { مُّنَشَّرَةً } : العامَّةُ على التشديد مِنْ « نَشَّره » بالتضعيف . وابن جبير « مُنْشَرَة » بالتخفيف . ونَشَر وأَنْشَرَ مثل : نَزَل وأَنْزَل . والعامَّةُ أيضاً على ضَمِّ الحاءِ مِنْ « صُحُف » ، وابن جبير على تكسينها ، قال الشيخ : « والمحفوظ في الصحيفة والثوب نَشَرَ مخففاً ثلاثياً » قلت : وهذا مردودٌ بالقرآن المتواتر . وقال أبو البقاء في قراءةِ ابن جُبير : « مِنْ أَنْشَرْتُ : إمَّا بمعنى أَمَرَ بنَشْرِها مثلَ : » أَلْحَمْتُك عِرْضَ فلانٍ « ، أو بمعنى مَنْشورة مثل : أَحْمَدْتُ الرجلَ أو بمعنى : أَنْشَر اللَّهُ الميِّتَ ، أي : أحياه ، فكأنه أحيا ما فيها بذكْرِه .

وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)

قوله : { وَمَا يَذْكُرُونَ } : قرأ نافعٌ بالخطاب ، وهو التفاتٌ من الغَيْبة إلى الخطاب ، والباقون بالغَيْبة حَملاً على ما تقدَّم مِنْ قولِه { كُلُّ امرىء مِّنْهُمْ } [ المدثر : 52 ] ولم يُؤْثِروا الالتفاتَ ، والهاءُ في « إنَّه » للقرآن أو للوعيد .
قوله : { إِلاَّ أَن يَشَآءَ } بمعنى : إلاَّ وقتَ مشيئتِه لا على أنَّ « أنْ » تنوبُ عن الزمانِ بل على حَذْفِ مضاف .

لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1)

قوله : { لاَ أُقْسِمُ } : العامَّةُ على « لا » النافيةِ . واختلفوا حينئذٍ فيها على أوجهٍ ، أحدُها : أنها نافيةٌ لكلامٍ متقدِّمٍ ، كأنَّ الكفارَ ذَكروا شيئاً . فقيل لهم : لا ، ثم ابتدأ اللَّهُ تعالى قَسَماً . الثاني : أنها مزيدةٌ . قال الزمخشري : « وقالوا إنها مزيدةٌ ، مِثْلُها في : { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب } [ الحديد : 29 ] وفي قولِه :
4402 في بِئْرِ لاحُورٍ سَرَى وما شَعَرْ ... واعترضوا عليه : بأنها إنما تُزاد في وسط الكلام لا في أولِه . وأجابوا : بأنَّ القرآنَ في حُكْمِ سورةٍ واحدةٍ متصلٍ بعضُه ببعضٍ . والاعتراضُ صحيحٌ؛ لأنها لم تقَعْ مزيدةً إلاَّ في وسط الكلامِ ، لكن الجوابَ غيرُ سديدٍ . ألا ترى إلى امرىء القيسِ كيف زادَها في مستهلِّ قصيدتِه؟ قلت : يعني قولَه :
4403 لا وأبيك ابنةَ العامرِيْ ... يِ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
كما سيأتي ، وهذا الوجهُ والاعتراضُ عليه والجوابُ نقله مكي وغيرُه . الوجه الثالث : قال الزمخشري : » إدخالُ « » لا « النافيةِ على فعلِ القسمِ مستفيضٌ في كلامِهم وأشعارِهم . قال امرؤ القيس :
لا وأبيك ابنةَ العامرِيْ ... يِ لا يَدَّعِي القومُ أنِّي أفِرّْ
وقال غُوَيَّةُ بن سُلْميٍّ :
4404 ألا نادَتْ أُمامةُ باحْتمالِ ... لِتَحْزُنَني فلابِك ما أُبالي
وفائدتُها توكيدُ القسم » ثم قال بعد أَنْ حكى وجهَ الزيادةِ والاعتراضَ والجوابَ كما تقدَّمَ « والوَجهُ أَنْ يُقال : هي للنفي ، والمعنى في ذلك : أنه لا يُقْسِمُ بالشيءِ إلاَّ إعظاماً له يَدُلَّكَ عليه قولُه تعالى : { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } [ الواقعة : 75-76 ] فكأنه بإدخالِ حرفِ النفي يقول : إنَّ إعظامي له بإقسامي به كلا إعظامٍ ، يعني أنه يَسْتَأْهِلُ فوق ذلك . وقيل : » إنَّ « لا » نفيٌ لكلامٍ وَرَدَ قبل ذلك « . انتهى . فقولُه : » والوجهُ أَنْ يُقال « إلى قولِه : » يعني أنه يستأهِلُ فوق ذلك « تقريرٌ لقولِه : » إدخالُ « لا » النافيةِ على فعلِ/ القسمِ مستفيضٌ « إلى آخره . وحاصلُ كلامِه يَرْجِعُ إلا أَنَّها نافيةٌ ، وأنَّ النفيَ مُتَسَلِّطٌ على فعل القسمِ بالمعنى الذي شَرَحَه ، وليس فيه مَنْعٌ لفظاً ولا معنىً ثم قال : فإن قلتَ : قولُه تعالى : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ النساء : 65 ] والأبياتُ التي أَنْشَدْتُها المُقْسَمُ عليه فيها منفيٌّ ، فهلا زَعَمْتَ أنَّ » لا « التي قبلَ القسمِ زِيْدَتْ موطئةً للنفيِ بعدَه ومؤكِّدةً له ، وقَدَّرْتَ المقسم عليه المحذوفَ ههنا منفيَّاً ، كقولِك : لا أُقْسم بيومِ القيامةِ لا تُتركون سُدى؟ قلت : لو قَصَروا الأمرَ على النفيِ دونَ الإِثباتِ لكان لهذا القول مَساغٌ ، ولكنه لم يُقْصَرْ . ألا ترى كيف لُقِيَ { لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد } [ البلد : 1 ] بقولِه : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان } وكذلك قولُه : { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم } [ الواقعة : 75 ] بقوله : { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } وهذا من محاسنِ كلامِه فتأمَّلْه . وقد تقدَّم الكلامُ على هذا النحوِ في سورة النساءِ ، وفي آخر الواقعة ، ولكنْ هنا مزيدُ هذه الفوائدِ .

وقرأ قنبل والبزي بخلافٍ عنه « لأُقْسِمُ بيوم » بلامٍ بعدَها همزةٌ دونَ ألفٍ . وفيها أربعةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنها جوابٌ لقسمٍ مقدرٍ ، تقديرُه : واللَّهِ لأُقْسِمُ ، والفعلُ للحالِ؛ فلذلك لم تَأْتِ نونُ التوكيدِ ، وهذا مذهبُ الكوفيين . وأمَّا البصريُّون فلا يُجيزون أَنْ يقعَ فعلُ الحالِ جواباً للقسم ، فإنْ وَرَدَ ما ظاهرُه ذلك جُعل الفعل خبراً لمبتدأ مضمرٍ ، فيعودُ الجوابُ جملةً اسميةً قُدِّرَ أحدُ جزأَيْها ، وهذا عند بعضِهم من ذلك ، التقديرُ واللَّهِ لأنا أُقْسِمُ . الثاني : أنه فعلٌ مستقبلٌ ، وإنما لم يُؤْتَ بنونِ التوكيدِ؛ لأنَّ أفعالَ اللَّهِ حقٌّ وصدقٌ فهي غنية عن التأكيدِ بخلاف أفعالِ غيره . على أنَّ سيبويهِ حكى حَذْفَ النونِ إلاَّ أنَّه قليلٌ ، والكوفيون يُجيزون ذلك مِنْ غير قلةٍ إذ مِنْ مذهبهم جوازُ تعاقُبِ اللامِ والنونِ فمِنْ حَذْفِ اللامِ قولُ الشاعر :
4405 وقتيلِ مَرَّةَ أَثْأَرَنَّ فإنَّه ... فَرْغٌ وإنَّ أخاكم لم يُثْأَرِ
أي : لأَثْأَرَنَّ . ومِنْ حَذْفِ النونِ وهو نظيرُ الآية قولُه :
4406 لَئِنْ تَكُ قد ضاقَتْ عليكم بيوتُكُمْ ... لَيَعْلَمُ ربي أنَّ بيتيَ واسعٌ
الثالث : أنها لامُ الابتداءِ ، وليسَتْ بلامِ القسمِ . قال أبو البقاء : « نحو : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ } [ النحل : 124 ] والمعروفُ أنَّ لامَ الابتداءِ لا تَدْخُل على المضارع إلاَّ في خبر » إنَّ « نحو : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ } وهذه الآيةُ نظيرُ الآيةِ التي في يونس [ الآية : 16 ] { وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ } فإنهما قرآها . بقصر الألف ، والكلامُ فيها قد تقدَّم . ولم يُخْتَلَفْ في قولِه : » ولا أُقْسِم « أنه بألفٍ بعد » لا «؛ لأنه لم يُرْسَمْ إلاَّ كذا ، بخلاف الأولِ فإنه رُسِمَ بدون ألفٍ بعد » لا « ، وكذلك في قولِه : { لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد } لم يُختلَفْ فيه أنَّه بألفٍ بعد » لا « .
وجوابُ القسمِ محذوفٌ تقديرُه : لتُبْعَثُنَّ ، دلَّ عليه قولُه : » أيحسَبُ الإِنسانُ « . وقيل : الجوابُ أَيَحْسَبُ . وقيل : هو » بلى قادِرين « ويُرْوَى عن الحسن البصري . وقيل : المعنى على نَفْيِ القسم ، والمعنى : إني لا أُقْسِم على شيء ، ولكن أسألُك : أيحسَبُ الإِنسانُ . وهذه الأقوالُ شاذَّةٌ مُنْكَرةٌ لا تَصِحُّ عن قائليها لخروجِها عن لسانِ العرب ، وإنما ذكرْتُها للتنبيهِ على ضَعْفها كعادتي .

أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3)

قوله : { أَلَّن } : هذه هي المخففةُ ، وحكمُها معروفٌ ممَّا تقدَّم في المائدةِ وغيرِها . و « لن » وما في حَيِّزها في موضع الخبرِ ، والفاصلُ هنا حرفُ النفيِ ، وهي وما في حَيِّزها سادَّةٌ مَسَدَّ مفعولَيْ « حَسِبَ » أو مفعولِه على الخلافِ . والعامَّةُ على « نجمعُ » بنونِ العظمة/ و « عظامَه » نصبٌ مفعولاً به . وقتادة « تُجْمع » بتاءٍ مِنْ فوقُ مضمومةٍ على ما لم يُسَمَّ فاعلُه ، « عظامُه » رفعٌ لقيامِه مَقامَ الفاعلِ .

بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4)

قوله : { بلى } إيجابٌ لِما بعد النفيِ المنسَحِب عليه الاستفهامُ . والعامَّة على نصبِ « قادِرين » . وفيه قولان ، أشهرُهما : أنَّه منصوبٌ على الحالِ مِنْ فاعلِ الفعلِ المقدَّرِ المدلولِ عليه بحرفِ الجواب ، أي : بلى نجمعُها قادرِين ، والثاني : أنه منصوبٌ على خبرِ « كان » مضمرةً أي : بلى كُنَّا قادرين في الابتداءِ ، وهذا ليس بواضح . وقرأ ابن أبي عبلة وابن السَّمَيْفَع « قادرون » رفعاً على خبر ابتداءٍ مضمر أي : بلى نحن قادرون .

بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5)

قوله : { بَلْ يُرِيدُ } : فيه وجهان ، أحدُهما : أَنْ تكونَ « بلى » لمجردِ الإضرابِ الانتقالي مِنْ غيرِ عطفٍ ، أَضْرَبَ عن الكلامِ الأولِ وأخذ في آخرَ . والثاني : أنها عاطفةٌ . قال الزمخشريُّ : « بل يريد » عطفٌ على « أَيَحْسَبُ » فيجوز أَنْ يكونَ مثلَه استفهاماً ، وأن يكونَ إيجاباً على أَنْ يَضْرِبَ عن مُسْتَفْهَمٍ عنه إلى آخرَ ، أو يَضْرِبَ عن مستفهمٍ عنه إلى مُوْجَبٍ « . قال الشيخ بعد ما حَكَى عن الزمخشري : » وهذه التقاديرُ الثلاثةُ متكلفةٌ لا تظهر « . قلت : وليس هنا إلا تقديران .
ومفعولُ » يريد « محذوفٌ يَدُلُّ عليه التعليلُ في قوله : » ليَفْجُرَ أمامَه « والتقدير : يريد شَهَواتِه ومعاصِيَه ليمضيَ فيها أبداً دائماً و » أمامَه « منصوبٌ على الظرفِ ، وأصلُه مكانٌ فاسْتُعير هذا للزمان . والضميرُ في » أمامَه « الظاهر عَوْدُه على الإِنسان . وقال ابن عباس : » يعودُ على يوم القيامة بمعنى : أنه يريد شهواتِه ليَفْجُرَ في تكذيبِه بالبعث بين يَدَيْ يومِ القيامة « .

يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6)

قوله : { يَسْأَلُ } : هذه جملةٌ مستأنفةٌ . وقال أبو البقاء : « تفسيرٌ لِيَفْجُرَ » فيُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ مستأنفاً مُفَسِّراً ، وأَنْ يكونَ بدلاً من الجلمةِ قبلَها؛ لأنَّ التفسيرَ يكون بالاستئنافِ وبالبدلِ ، إلاَّ أنَّ الثاني منع منه رَفْعُ الفعلِ ، ولو كان بدلاً لنُصِبَ . وقد يُقال : إنه أبدلَ الجملةَ من الجملةِ لا خصوصيةَ الفعلِ من الفعلِ وحدَه . وفيه بحثٌ وتقدَّم نظيرُ هذا في الذاريات وغيرها .

فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7)

قوله : { بَرِقَ } : قرأ نافِع « بَرَقَ » بفتحِ الراء ، والباقون بالكسرِ فقيل : لغتان في التحيُّرِ والدَّهْشة . وقيل : بَرِقَ بالكسر تَحَيَّر فَزِعاً . قال الزمخشري : « وأصلُه مِنْ بَرِقَ الرجلُ : إذا نَظَر إلى البَرْقِ فَدُهِشَ بَصَرُه » . قال غيرُه : كما يقال : أَسِدَ وبَقِرَ ، إذا رأى أُسْداً وبَقَراً كثيرةً فتحيَّر من ذلك . قال ذو الرمَّة :
4407 ولو أنَّ لُقْمانَ الحكيمَ تَعَر‍َّضَتْ ... لعينَيْهِ مَيٌّ سافِراً كاد يَبْرِقُ
وقال الأعشى :
4408 وكنتُ أَرَى في وجهِ مَيَّةَ لَمْحَةً ... فأَبْرَقُ مغشِيَّاً عليَّ مكانيا
وأنشد الفراء :
4409 فنَفْسَك فانْعَ ولا تَنْعَني ... وداوِ الكُلومَ ولا تَبْرَقِ
وبَرَق بالفتح مِن البريق أي : لَمَعَ من شدةِ شخوصه . وقرأ أبو السَّمَّال « بَلَقَ » باللام . قال أهلُ اللغة إلاَّ الفراء . معناه فَتَحَ . يقال : بَلَقْتُ البابَ وأَبْلَقْتُه أي : فتحتُه وفَرجْتُه . وقال الفراء : « بمعنى أَغْلَقْتُه » . قال ثعلب : « أخطأ الفراءُ في ذلك » ثم يجوز أَنْ يكونَ « بَلَقَ » غيرَ مادةِ بَرَقَ ، ويجوزُ أَنْ يكونَ مادةً واحدةً ، أُبْدِل فيها حرفٌ مِنْ آخرَ ، وقد جاء إبدالُ اللامِ من الراءِ في أحرف ، قالوا : نَثَرَ كِنانته ونَثَلَها . وقالوا : وَجِلَ ووَجِرَ ، فيمكن أن يكونَ هذا منه ، ويؤيِّدُه أَنَّ بَرَقَ قد أتى بمعنى : شَقَّ عيْنيْه وفَتَحَها ، قاله أبو عبيدة . وأنشد :
4410 لَمَّا أتاني مِنْ عُمَيْرٍ راغباً ... أَعْطَيْتُه عِيساً صِهاباً فبرَقْ
أي : ففتح عينيْه ، فهذا مناسِبٌ ل « بَلَقَ » في المعنى « .

وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8)

قوله : { وَخَسَفَ } : العامةُ على بنائِه للفاعلِ . وأبو حيوة وابن أبي عبلة ويزيد بن قطيب « خُسِفَ » مبنياً للمفعول؛ وهذا لأن خَسَفَ يُستعمل لازماً ومتعدياً يقال : خَسَفَ القمرُ وخَسَفه الله ، وقد اشْتُهر أن الخُسوفَ للقمرِ والكُسوفَ للشمسِ . وقال بعضهم : بل يكونان فيهما ، يُقال : خَسَفَتِ الشمسُ وكَسَفَتْ ، وخَسَفَ القمرُ وكَسَفَ . وتأيَّد بعضُهم بالحديث : « إنَّ الشمسَ والقمرَ/ آيتان مِنْ آياتِ اللَّهِ لا يُخْسَفان لموتِ أحدٍ » فاستعملَ الخُسُوْفَ فيهما . وعندي فيه نَظَرٌ؛ لاحتمالِ التغليبِ وهل هما بمعنىً واحدٍ أم لا؟ فقال أبو عبيدٍ وجماعةٌ : هما بمعنىً واحدٍ . وقال ابن أبي أويس : « الخُسوفُ ذهابُ كلِّ ضَوْئِهما ، والكُسوفُ ذهابُ بَعْضِه » .

وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10)

قوله : { وَجُمِعَ الشمس والقمر } : لم تَلْحَقْ علامةُ تأنيثٍ؛ لأنَّ التأنيثَ مجازيٌّ . وقيل : لتغليبِ التذكيرِ . وفيه نظرٌ؛ لو قلت : « قام هندٌ وزيدٌ » لم يَجُزْ عند الجمهورِ من العربِ . وقال الكسائيُّ : « حُمِل على معنى : جُمِعَ » النَّيِّران « . و » يقولُ الإِنسانُ « جوابٌ » إذا « مِنْ قولِه : { فَإِذَا بَرِقَ البصر } . و » أينَ المفرُّ « منصوبُ المحلِّ بالقولِ : والمَفَرُّ : مصدرٌ بمعنى الفِرار . وهذه هي القراءةُ المشهورة .
وقرأ الحَسَنان ابنا علي رضي الله عنهم وابنُ عباس والحسن ابن زيد في آخرين بفتح الميمِ وكسرِ الفاءِ ، وهو اسمُ مكانِ الفرارِ أي : أين مكانُ الفِرار؟ وجَوَّزَ الزمخشريُّ أَنْ يكونَ مصدراً . قال : » كالمَرْجِعِ . وقرأ الحسنُ عكسَ هذا أي : بكسرِ الميمِ وفَتْحِ الفاءِ ، وهو الرجلُ الكثيرُ الفِرارِ ، وهذا كقولِ امرىءِ القَيْسِ يَصِف جَوادَه :
4411 مِكَّرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ معاً ... كجُلْمودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السيلُ مِنْ عَلِ
وأكثرُ استعمالِ هذا الوزنِ في الآلاتِ .

كَلَّا لَا وَزَرَ (11)

قوله : { كَلاَّ لاَ وَزَرَ } : تقدَّم الكلامُ في « كلا » وخبر « لا » محذوفٌ أي لا وَزَرَ له . وهل هذه الجملةُ مَحْكِيَّةٌ بقولِ الإِنسان فتكونُ منصوبةٌ المحلِّ ، أو هي مستأنفةٌ إخباراً من الله تعالى بذلك؟ والوَزَرُ : المَلْجأ مِنْ حِصْنٍ أو جَبَلٍ أو سلاحٍ . قال :
4412 لَعَمرُكَ ما للفتى مِنْ وَزَرْ ... من الموتِ يُدْرِكُه والكِبَرْ

إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12)

قوله : { المستقر } : مبتدأٌ ، خبرُه الجارُّ قبلَه . ويجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً بمعنى الاستقرارِ ، وأَنْ يكونَ مكانَ الاستقرارِ . « ويومَئذٍ » منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ ، ولا ينْتَصِبُ بمُسْتقر؛ لأنَّه إنْ كان مصدراً فلتقدُّمِه عليه ، وإنْ كان مكاناً فلا عَمَلَ له البتةَ .

بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14)

قوله : { بَصِيرَةٌ } : يجوزُ فيها أوجهٌ ، أحدُها : أنَّها خبرٌ عن « الإِنسانُ » و « على نفسِه » متعلِّقٌ ب « بَصيرةٌ » والمعنى : بل الإِنسانُ بَصيرةٌ على نفسِه ، وعلى هذا فلأيِّ شيءٍ أُنِّث الخبرُ؟ وقد اختلف النَّحْويون في ذلك ، فقال بعضهم : الهاءُ فيه للمبالغةِ . وقال الأخفش : « هو كقولِك : فلانٌ عِبْرَةٌ وحُجَّةٌ » . وقيل : المرادُ بالإِنسان الجوارِحُ ، فكأنَّه قال : بل جوارِحُه بصيرة أي : شاهدةٌ . والثاني : أنها مبتدأٌ ، و « على نفسِه » خبرُها . والجملةُ خبرٌ عن « الإِنسانُ » ، وعلى هذا ففيها تأويلاتٌ أحدُها : أنْ يكونَ « بصيرةٌ » صفةً لمحذوفٍ أي : عينٌ بصيرةٌ ، قاله الفراء . وأنشد :
4413 كأن على ذي العقْل عَيْناً بَصيرةً ... بمَقْعَدِه أو مَنْظَرٍ هو ناظرُهْ
يُحاذِرُ حتى يَحْسَبَ الناسَ كلَّهمْ ... من الخوف لا تَخْفَى عليهمْ سرائِرُهْ
الثاني : أنَّ المعنى : جوارح بَصيرة . الثالث : أنَّ المعنى : ملائكةٌ بصيرة ، والتاءُ على هذا للتأنيثِ . وقال الزمخشري : « بَصيرة : حُجَّةٌ بَيِّنة ، وُصِفَتْ بالبِصارة على المجازِ كما وُصِفَتْ الآياتُ بالإِبصار في قولِه : { فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً } [ النمل : 13 ] . قلت : هذا إذا لم تَجْعَلِ الحُجَّة عبارةً عن الإِنسانِ ، أو تَجْعَلْ دخولَ التاء للمبالغةِ . أمَّا إذا كانَتْ للمبالغةِ فنسبةُ الإِبصارِ إليها حقيقةٌ . الثالث من الأوجه السابقة : أَنْ يكونَ الخبرُ الجارَّ والمجرورَ ، و » بصيرةٌ « فاعلٌ به ، وهو أرجحُ مِمَّا قبلَه لأنَّ الأصلَ في الإِخبارِ الإِفرادُ .

وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)

قوله : { وَلَوْ ألقى } : هذه الجملةُ حاليةٌ . وقد تقدَّم نظيرُها غيرَ مرةٍ . والمعاذير/ : جمع مَعْذِرة على غيرِ قياس ، كمَلاقيح ومَذاكير جمع لَقْحَة وذَكَر . وللنَّحويين في مثلِ هذا قولان ، أحدهما : أنه جمعٌ لملفوظٍ به ، وهو لَقْحَة وذَكَر . والثاني : أنه جمعٌ لغيرِ ملفوظٍ به بل لمقدرٍ أي : مَلْقَحَة ومِذْكار . وقال الزمخشري : « فإن قلتَ : أليسَ قياسُ المَعْذِرَة أَنْ يُجْمَعَ معاذِرَ لا معاذير؟ قلت : المعاذيرُ ليسَتْ بجمع مَعْذِرة ، بل اسمُ جمعٍ لها ، ونحوُه : المَناكير في المُنْكر » . قال الشيخ : « وليسَ هذا البناءُ من أبنيةِ أسماءِ الجُموع ، وإنما هو مِنْ أبنيةِ جموعِ التكسيرِ » انتهى ، وهو صحيحٌ . وقيل : مَعاذير : جمعُ مِعْذار ، وهو السِّتْرُ ، فالمعنى : ولو أرخى سُتورَه . والمعاذِيْرُ : السُّتور بلغةِ اليمن ، قاله الضحاك والسُّدِّي وأُنشد على ذلك :
4414 ولكنَّها ضَنَّتْ بمَنْزلِ ساعةٍ ... علينا وأَطَّتَ فوقَها بالمعَاذِرِ
وقد حَذَفَ الياءَ من « المعاذير » ضرورةً . وقال الزمخشري : « فإنْ صَحَّ يعني أنَّ المعاذير السُّتور فلأنَّه يَمْنَعُ رؤيةَ المُحْتَجِبِ كما تَمْنَعُ المعذرةُ عقوبةَ المُذْنِبِ » . قلت : هذا القولُ منه يُحتمل أَنْ يكونَ بياناً للمعنى الجامع بين كَوْنِ السُّتورَ ، أو الاعتذاراتِ ، وأَنْ يكونَ بياناً للعلاقةِ المُسَوِّغةِ في التجوُّز .

إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17)

قوله : { وَقُرْآنَهُ } : أي : قراءَتَه ، فهو مصدرٌ مضافٌ للمفعولِ . وأمَّا الفاعلُ فمحذوف . والأصلُ : وقراءَتَك إياه ، والقرآن : مصدرٌ بمعنى القراءة . قال حَسَّان رضي الله عنه :
4415 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... يُقَطِّعُ الليلَ تَسْبيحاً وقُرآناً
وقال ابن عطية : « قال أبو العالية : » إنَّ علينا جَمْعَه وقُرَانَه . فإذا قَرَتَه فاتَّبِعْ قُرانَه « بفتح القافِ والراء والتاءِ ، مِنْ غيرِ همزٍ ولا ألفٍ » . قلت : ولم يَذْكُرْ توجيهاً . فأمَّا توجيهُ قولِه : « جَمْعَه وقُرانَه » ، وقوله : « فاتَّبِعْ قُرانَه » فواضحٌ مِمَّا تقدَّمَ في قراءةِ ابن كثير في البقرة ، وأنه هل هو نَقْلٌ ، أو مِنْ مادةِ قَرَن ، وتحقيقُ القولَيْن مذكورٌ ثَمَّةَ فعليك بالالتفاتِ إليه . وأمَّا قولُه : « بفتحِ القافِ والراءِ والتاء » فيعني في قولِه : « فإذا قَرَتَه » يُشير إلى أنه قُرىء شاذاً هكذا ، وتوجيهُها : أنَّ الأصلَ : « قَرَأْتَه » فعلاً ماضياً مُسْنداً لضمير المخاطبِ أي : فإذا أَرَدْتَ قراءتَه ، ثم أبدلَ الهمزةَ ألفاً لسكونِها بعد فتحةٍ ، ثم حَذَفَ الألفَ تخفيفاً كقولِهم : « ولو تَرَ ما الصبيانَ » أي : ولو تَرَى الصبيانَ و « ما » مزيدة ، فصار اللفظُ « قَرَتَه » كما ترى .

كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20)

قوله : { بَلْ تُحِبُّونَ } : قرأ ابن كثير وأبو عمروٍ و « يُحِبُّون » و « يَذَرون » بياءِ الغَيْبة حملاً على لفظِ الإِنسانِ المذكور . أولاً؛ لأنَّ المرادَ به الجنسُ ، والباقون بالخطابِ فيهما : إمَّا خِطاباً لكفارِ قريش ، وإمَّا التفاتاً عن الإخبار عن الجنسِ المتقدِّم والإِقبالِ عليه بالخطاب .

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22)

قوله : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ } : فيه أوجهٌ أحدُها : أَنْ يكون « وجوهٌ » مبتدأً ، و « ناضِرةٌ » نعتٌ له ، و « يومَئذٍ » منصوبٌ ب « ناضِرة » و « ناظرةٌ » خبرُه ، و « إلى ربِّها » متعلِّقٌ بالخبرِ ، والمعنى : أنَّ الوجوهَ الحسنة يومَ القيامة ناظرةٌ إلى اللَّهِ تعالى ، وهذا معنىً صحيحٌ وتخريجٌ سَهْلٌ . والنَّاضرَةُ : من النُّضْرَةِ وهي : التنعُّمُ ، ومنه غُصْنٌ ناضِر . الثاني : أَنْ يكونَ « وجوهٌ » مبتدأً أيضاً ، و « ناضِرَةٌ » خبرُه ، و « يومَئذٍ » منصوبٌ بالخبرِ كما تقدَّم . وسَوَّغَ الابتداءَ هنا بالنكرةِ كَوْنُ الموضعِ موضعَ تفصيلٍ كقولِه :
4416 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فثوبٌ لَبِسْتُ وثوبٌ أَجُرّْ
ويكون « ناظرةٌ » نعتاً لوجوه ، أو خبراً ثانياً ، أو خبراً لمبتدأ محذوفٍ . و « إلى ربِّها » متعلقٌ ب « ناظرة » كما تقدَّم . وقال ابنُ عطية : « وابتدأ بالنكرة/ لأنها تخصَّصَتْ بقوله » يومئذٍ « . وقال أبو البقاء : » وجاز الابتداءُ هنا بالنكرةِ لحصول الفائدةِ « . قلت : أمَّا قولُ ابنِ عطيِّةَ ففيه نظرٌ؛ لأنَّ قولَه : » تخصَّصَتْ بقولِه : « يومئذٍ » هذا التخصيصُ : إمَّا لكونِها عاملةً فيه ، وهو مُحالٌ؛ لأنها جامدةٌ ، وإمَّا لأنَّها موصوفةٌ به وهو مُحال أيضاً؛ لأنَّ الجُثَثَ لا تُوْصَفُ بالزمان كما لا يُخْبَرُ به عنها . وأمَّا قولُ أبي البقاءِ فإنْ أرادَ بحصولِ الفائدةِ ما قدَّمْتُه من التفصيل فصحيحٌ ، وإنْ عَنَى ما عناه ابنُ عطيةَ فليس بصحيحٍ لِما عَرَفْتَه .
الثالث : أَنْ يكونَ « وجوهٌ » مبتدأً ، و « يومئذٍ » خبرَه ، قاله أبو البقاء . وهذا غَلَطٌ مَحْضٌ من حيث المعنى ، ومِنْ حيثُ الصناعةُ . أمَّا المعنى فلا فائدةَ في الإِخبارِ عنها بذلك . وأمَّا الصناعةُ فلأنَّه لا يُخْبَرُ بالزمانِ عن الجُثَثِ ، وإنْ وَرَدَ ما ظاهرهُ ذلك تُؤُوِّل نحو : « الليلةَ الهلالُ » الرابع : أَنْ يكونَ « وجوهٌ » مبتدأً و « ناضرةٌ » خبرَه ، و { إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } جملةً في موضعِ خبرٍ ثانٍ ، قاله ابن عطية . وفيه نظرٌ؛ لأنَّه لا يَنْعَقِدُ منهما كلامٌ ، إذ الظاهرُ تعلُّقُ « إلى » ب « ناظرة » ، اللهمَّ إلاَّ أَنْ يعنيَ أنَّ « ناظرةٌ » خبرٌ لمبتدأ مضمرٍ ، أي : هي ناظرةٌ إلى ربِّها ، وهذه الجملةُ خبرٌ ثانٍ . وفيه تَعَسُّفٌ .
الخامس : أَنْ يكونَ الخبرُ لوجوه مقدراً ، أي : وجوهٌ يومئذٍ ثَمَّ ، و « ناضرةٌ » صفةٌ ، وكذلك « ناظرةٌ » ، قاله أبو البقاء . وهو بعيدٌ لعدمِ الحاجةِ إلى ذلك . ولا أدري ما الذي حَمَلهم على هذا مع ظهورِ الوجهِ الأولِ وخُلُوصِه من هذه التعسُّفاتِ؟ وكونُ « إلى » حرفَ جرّ ، و « ربِّها » مجروراً بها هو المتبادَرُ للذِّهْنِ .

وقد خَرَّجه بعضُ المعتزلةِ : على أَنْ تكونَ « إلى » اسماً مفرداً بمعنى النِّعْمَةِ مضافاً إلى الرَّبِّ ، ويُجمع على « آلاء » نحو : { فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 13 ] وقد تقدَّم أنَّ فيه لغاتٍ أربعاً ، و « ربِّها » خفضٌ بالإِضافةِ ، و « إلى » مفعولٌ مقدمٌ ناصبُه « ناظرةٌ » بمعنى مُنْتَظرة . والتقدير : وجوهٌ ناضِرَةٌ منتظرةٌ نعمةَ ربِّها . وهذا فِرارٌ من إثباتِ النظر للَّهِ تعالى على مُعْتَقَدِهم .
والزمخشريُّ تمحَّل لمذهب المعتزلة بطريق أخرى من جهةِ الصناعةِ النحويةِ فقال بعد أن جَعَلَ التقديمِ في « إلى ربها » مُؤْذِناً بالاختصاص « والذي يَصِحُّ معه أَنْ يكونَ مِنْ قولِ الناس : » أنا إلى فلانٍ ناظرٌ ما يَصْنَعُ بي « يريد معنى التوقعِ والرجاءِ . ومنه قولُ القائل :
4417 وإذا نَظَرْتُ إليك مِنْ ملكٍ ... والبحرُ دونَك زِدْتَني نِعَما
وسمعتُ سَرَوِيَّةً مُسْتجديَةً بمكة وقت الظهرِ حين يُغْلِقُ الناسُ أبوابَهم ويَأْوُوْن إلى مقايِلهم تقول : » عُيَيْنتي ناظِرَةٌ إلى اللَّهِ وإليكم « والمعنى : أنهم لا يتوقعون النعمةَ والكرامةَ إلاَّ مِنْ ربِّهم » قلت : وهذا كالحَوْمِ على قولِ مَنْ يقولُ : إنَّ « ناظرة » بمعنى مُنْتظرة . إلاَّ أنَّ مكيَّاً قد رَدَّ هذا القولَ فقال : « ودخولُ » إلى « مع النظر يَدُلُّ على أنه نَظَرُ العَيْنِ ، وليس من الانتظار ، ولو كان من الانتظارِ لم تَدْخُلْ معه » إلى «؛ ألا ترى أنَّك لا تقول : انتظرتُ إلى زيدٍ ، وتقول : نظرْتُ إلى زيد ، ف » إلى « تَصْحَبُ نظرَ العينِ لا تصحَبُ نَظَرَ الانتظار ، فَمَنْ قال : إن » ناظرة « بمعنى مُنتظرة فقد أخطأ في المعنى وفي الإِعراب ، ووَضَعَ الكلامَ في غيرِ موضعِه » .
والنُّضْرَةُ : طَراوةُ البَشَرةِ وجمالُها ، وذلك مِنْ أثرِ النُّعمةِ يُقال : نَضِر وَجْهُه فهو/ ناضِرٌ . وقال بعضهم : مُسَلَّمٌ أنه مِنْ نَظِرِ العينِ ، إلاَّ أنَّ ذلك على حَذْفِ مضافٍ ، أي : ثوابَ ربِّها ، ونحوُه . قال مكي : « لو جاز هذا لجازَ : نَظَرْتُ إلى زيد ، أي : إلى عطاءِ زيدٍ . وفي هذا نَقْضٌ لكلامِ العربِ وتَخْليطٌ في المعاني » . ونَضَره الله ونَضَّره مخففاً ومثقلاً ، أي : حَسَّنه ونَعَّمه ، وفي الحديث : « نضرَ اللَّهُ امرَأً سَمِع مقالتي فوَعَاها ، فأدَّاها كما سَمِعَها » يُرْوَى بالوجهَيْنِ . وقيل للذهب : « نُضار » من ذلك . ويُقال له : النَّضْرُ أيضاً ، وأخضرُ ناضِرُ ، ك أسودُ حالكٌ ، وقَدَحٌ نُضارٌ ونُضارٍ ، يُرْوَى بالإِتباع والإِضافة .
والعامَّة على « ناضِرَة » بألفٍ . وقرأ زيدُ بن علي « نَضِرَة » بدونِها ، كفَرِحَ فهو فَرِحٌ .

تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25)

قوله : { فَاقِرَةٌ } : هي الداهيةُ العظيمةُ ، سُمِّيَتْ بذلك لأنها تكسِرُ فَقارَ الظَّهْرِ . قال النابغة :
4418 أَبَى لِيَ قَبْرٌ لا يزالُ مُقابِليْ ... وضَرْبَةُ فَأْسٍ فوقَ رَأْسيَ فاقِرَهْ
أي : داهِيَةٌ مُؤَثِّرَةٌ ، ومنه سُمِّي الفقيرُ لانكسارِ فَقارِه من القُلِّ ، وقد تقدَّم في البقرة .

كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26)

قوله : { التراقي } : مفعولُ « بَلَغَتْ » ، والفاعلُ مضمرٌ [ يعود ] على النفسِ ، وإنْ لم يَجْرِ لها ذِكْرٌ ، كقولِ حاتم :
4419 أماوِيَّ ما يُغْنِي الثَّراءُ عن الفتى ... إذا حَشْرَجَتْ يوماً وضاقَ بها الصدرُ
أي : حَشْرَجَتِ النفسُ . وقيل في البيت : إنَّ الدالَّ على النفس ذِكْرُ جُمْلَةِ ما اشتملَ عليها ، وهو الغِنى ، فكذلك هنا ذِكْرُ الإِنسانِ دالٌّ على النفسِ . والتَّراقِي : جمع تَرْقُوَة ، أصلُها تَراقِوُ ، قُلِبَتْ واوُها ياءً لانكسار ما قبلها . والتَّرْقُوَة إحدى عِظامِ الصدرِ ، كذا قال الشيخ ، والمعروفُ غيرُ ذلك . قال الزمخشري : « ولكلِّ إنسانٍ تَرْقُوَتان » فعلى هذا تكونُ مِنْ باب : غليظِ الحواجب وعريضِ المناكب . والتراقِي : موضِعُ الحَشْرَجَةِ . قال :
4420 ورُبَّ عظيمةٍ دافَعتُ عنها ... وقد بلغَتْ نفوسُهُمُ التراقِيْ
وقال الراغب : « التَّرْقُوَةُ عَظْمٌ وُصِلَ ما بين ثُغْرَةِ النحرِ والعاتِق » انتهى . وقال الزمخشري : « العِظامُ المكتنِفةُ لثُغْرَةِ النَّحْرِ عن يمينٍ وشِمالٍ » ووزنها فَعْلُوة ، فالتاءُ أصلٌ والواوُ زائدةٌ ، يَدُلُّ عليه إدخالُ أهل اللغةِ إياها في مادة « تَرَق » . وقال أبو البقاء : « والتراقي : جمع تَرْقُوَة » وهي فَعْلُوة ، وليست تَفْعُلَة ، إذ ليس في الكلام « رقو » ، وقُرِىء « التراقي » بسكونِ الياء ، وهي كقراءةِ زيدٍ « تُطْعِمون أهالِيْكم » [ المائدة : 89 ] وقد تقدَّم توجيهُها .

وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27)

قوله : { مَنْ رَاقٍ } : مبتدأٌ وخبرٌ . وهذ الجملةُ هي القائمةُ مَقامَ الفاعلِ ، وأصولُ البَصْريين تَقْتَضي أَنْ لا تكونَ؛ لأنَّ الفاعلَ عندهم لا يكونُ جملةً؛ بل القائمُ مَقامَه ضميرُ المصدرِ ، وقد تقدَّمَ تحقيقُ هذا أولَ البقرة ، وهذا الاستفهامُ يجوزُ أن يكونَ على بابِه ، وأَنْ يكونَ استبعاداً وإنكاراً . وراقٍ اسمُ فاعلٍ : إمَّا من رَقَى يَرْقَى من الرُقية وهو كلامٌ مُعَدٌّ للاستشفاء ، يُرْقَى به المريضُ لِيُشْفَى . وفي الحديث : « وما أدراكَ أنها رُقْيَةٌ » ؟ يعني الفاتحةَ وهو مِنْ أسمائِها ، وإمَّا مِنْ رَقِيَ يَرْقَى ، من الرُّقِيِّ وهو الصعودُ ، أي : إنَّ الملائكةَ لِكراهتِها في رُوْحِه تقول : مَنْ يَصْعَد بهذه الروح؟ يقال : رَقَى بالفتحِ من الرُّقْيَةِ ، وبالكسرِ من الرُّقِيِّ . ووقف حفَص على نون « مَنْ » سكتَةً لطيفةً ، وتقدَّم هذا في أولِ الكهف وتحقيقُه . وذكرَ سيبويه إنَّ النونَ تُدْغَمُ في الراءِ وجوباً بغُنَّةٍ وبغيرِها نحو : مَنْ راشِدٌ .
والعاملُ في « إذا بلغَت » معنى قولِه : { إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المساق } أي : إذا بلغَتِ الحُلْقومَ رُفِعَتْ إلى الله « ويكونُ قولُه : » وقيل : مَنْ راقٍ « معطوفاً على » بَلَغَت « .
والمِساقُ : مَفْعَل من السَّوْقِ وهو اسمُ مصدرٍ .

فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31)

قوله : { فَلاَ صَدَّقَ } : « لا » هنا دَخَلَتْ على الماضي ، وهو مُسْتفيضٌ في كلامِهم بمعنى : لم يُصَدِّق ولم يُصَلِّ . قال :
4421 إنْ تَغْفِر اللهمَّ تَغْفِرْ جَمَّا ... وأيُّ عبدٍ لكَ لا ألَمَّا
وقال آخر :
4422 وأيُّ خَميسٍ لا أَفَأْنا نِهابَه ... وأسيافُنا مِنْ كَبْشِه تَقْطُر الدِّما
واستدلَّ بعضُهم أيضاً على ذلك بقولِ امرِىء القيس :
4423 كأنَّ دِثاراً حَلَّقَتْ بلَبُوْنِه ... عُقابُ تَنُوْفَى لا عُقابُ القواعِلِ
/ فقوله : « لا عُقابُ » عطفٌ على « عُقابُ تَنُوفَى » وهو مرفوعٌ بحلَّقَتْ ، وفي البيتَيْنِ الأَوَّلَيْنِ غُنْيَةٌ عن هذا .
وقال مكي : « لا » الثانيةُ نفيٌ ، وليسَتْ بعاطفةٍ ، ومعناه : فلم يُصَدِّقْ ولم يُصَلِّ « . قلت : كيف يُتَوَهَّمُ العطفُ حتى يَنْفِيَه؟ وجعل الزمخشريُّ { فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى } عطفاً على الجملة مِنْ قولِه : { يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ القيامة } قال : » وهو معطوفٌ على قوله : « يَسْأل أيَّان » ، أي : لا يُؤْمِنُ بالبعثِ فلا صَدَّقَ بالرسول والقرآن « ، واستبعده الشيخ .

وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32)

قوله : { ولكن كَذَّبَ } : الاستدراكُ هنا واضحٌ؛ لأنَّه لا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ التصدُّقِ والصلاةِ التكذيبُ والتولِّي؛ لأنَّ كثيراً من المسلمين كذلك ، فاسْتَدْرَكَ ذلك : بأنَّ سببَه التكذيبُ والتولِّي ، ولهذا يَضْعُفُ أَنْ يُحْمَلَ نَفْيُ التصديقِ على نَفْيِ تصديقِ الرسولِ؛ لئلا يَلْزَمَ التكرارُ ، فتقعَ « لكنْ » بين متوافقَيْن ، وهو لا يجوزُ .

ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33)

قوله : { يتمطى } : جملةٌ حاليةٌ مِنْ فاعل « ذَهَبَ » ، وقد يجوز أَنْ يكونَ بمعنى : شرع في التمطي كقوله :
4424 فقامَ يَذُوْدُ الناسُ عنها . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وتمطَّى فيه قولان ، أحدُهما : أنَّه مِنْ المَطا ، والمطا : الظهرُ ، ومعناه : يَتَبَخْتَرُ ، أي : يَمُدُّ مَطاه ويَلْويه تَبَخْتُراً في مِشْيته . والثاني : أنَّ أصلَه : يَتَمَطَّطُ ، مِنْ تَمَطَّط ، أي : تَمَدَّد ، ومعناه : أنَّه يتمدَّدُ في مِشْيَتِه تَبَخْتُراً ، ومِنْ لازِمِ التبختُرِ ذلك ، فهو يَقْرُبُ مِنْ معنى الأول ويفارِقُه في مادتِه؛ إذ مادةُ المَطا : م ط و ، ومادةُ الثاني : م ط ط ، وإنما أُبْدِلَتِ الطاءُ الثالةُ ياءً كراهةَ احتمالِ الأمثالِ نحو : تَظَنَّيْت وقَصَّيْتُ أظفاري ، وقولِه :
4425 تَقَضِّيَ البازِيْ إذا البازِيْ كَسرْ ... والمُطَيْطاء : التَّبَخْتُرُ ومَدُّ اليَديْن في المَشْيِ ، والمَطيطة : الماء الخاثِرُ أسفلَ الحوضِ؛ لأنه يتمطَّطُ ، أي : يمتَدُّ فيه .

أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34)

وتقدَّم الكلامُ على قوله : { أولى لَكَ فأولى } في آخر سورة القتال مُشبعاً ، وإنما كُرِّرَ هنا مبالغةً في التهديد والوعيد . وقالت الخنساء :
4426 هَمَمْتُ بنفسِيَ كلَّ الهمومِ ... فأَوْلَى لنفسِيَ أَوْلَى لها
وقال أبو البقاء هنا : « وزنُ أَوْلَى فيه قولان ، أحدُهما : فَعْلَى ، والألفُ فيه للإِلحاقِ لا للتأنيثِ ، والثاني : هو أَفْعَلُ ، وهو على القولَيْن هنا [ عَلَم ] ولذلك لم يُنَوَّنْ ، ويَدُلُّ عليه ما حكى أبو زيدٍ في » النوادر « : » هي أَوْلاةُ « بالتاءِ غيرَ مَصْروفٍ ، فعلى هذا يكونُ » أَوْلى « مبتدأً ، و » لك « الخبرُ . والثاني : أَنْ يكونَ اسماً للفعل مبنياً ومعناه : وَلِيَكَ شَرٌّ بعد شَرّ ، و » لك « تبيينٌ » .

أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)

قوله : { سُدًى } : حالٌ مِنْ فاعلِ « يُتْرَكُ » ومعناه : مُهْمَلاً يقال : إبلٌ سُدَى ، أي : مُهْملة . قال الشاعر :
4427 وأُقْسِمُ بالله جَهْدَ اليمينِ ... ما خَلَقَ اللَّهُ شيئاً سُدَى
أي : مُهْملاً . وأَسْدَيْتُ حاجتي ، أي : ضيَّعْتُها . ومعنى « أَسْدَى إليه معروفاً » ، أي : جعله بمنزلةِ الضَّائع عند المُسْدى إليه لا يذكره ولا يَمُنُّ به عليه .

أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37)

قوله : { أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً } : العامَّةُ على الياءِ مِنْ تحتُ في « يك » رجوعاً للإِنسان . والحسن بتاءِ الخطابِ على الالتفاتِ إليه توبيخاً له .
قوله : { يمنى } قرأ حفص « يُمْنى » بالياء مِنْ تحتُ ، وفيه وجهان : أحدُهما : أنَّ الضميرَ عائدٌ على المنيِّ ، أي : يُصَبُّ ، فتكونُ الجملةُ في محلِّ جر . والثاني : أنه يعودُ للنُّطفةِ؛ لأنَّ تأنيثَها مجازيُّ ، ولأنَّها في معنى الماءِ ، قاله أبو البقاء ، وهذا إنما يتمشَّى على قولِ ابنِ كيسان . وأمَّا النحاةُ فيجعلونه ضرورةً كقوله :
4428 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا أرضَ أبْقَلَ إبْقالَها
وقرأ الباقون « تُمْنَى » بالتاءِ مِنْ فوقُ على أنَّ الضميرَ للنُّطفة . فعلى هذه القراءةِ وعلى الوجهِ المذكورِ قبلَها تكونُ الجملةُ في محلِّ نصبٍ؛ لأنها صفةٌ لمنصوبٍ . /

فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39)

قوله : { الذكر والأنثى } : يجوزُ أَنْ يكونا بَدَلَيْنِ مِنْ « الزَّوْجَيْن » ، وأَنْ يكونا منصوبَيْن بإضمارِ « أعني » على القطع ، والأصلُ عَدَمُه . وقرأ العامَّةُ « الزوجَيْن » وزيدٌ بن علي « الزوجان » على لغة مَنْ يُجْري المثنى إجراءَ المقصورِ ، وقد تقدَّم تحقيقُه في طه ، ومَنْ تُنْسَبُ إليه هذه اللغةُ ، والاستشهادُ على ذلك .

أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)

وقرأ العامَّةُ أيضاً « بقادرٍ » اسمَ فاعلٍ مجروراً بباءٍ زائدةٍ في خبرِ « ليس » . وزيدُ بن علي « يَقْدِرُ » فعلاً مضارعاً . والعامَّةُ على نصب « يُحْيِيَ » ب « أَنْ » لأنَّ الفتحةَ خفيفةٌ على حرفِ العلةِ . وقرأ طلحةُ بن سليمان والفياض بن غزوان بسكونها : فإمَّا أَنْ يكونَ خَفَّفَ حرفَ العلةِ بحَذْفِ حركةِ الإِعرابِ ، وإمَّا أَنْ يكونَ أجرى الوصلَ مُجْرى الوقفِ .
وجمهورُ الناسِ على وجوبِ فَكِّ الإِدغامِ . قال أبو البقاء : « لئلا يُجْمَعَ بين ساكنَيْن لفظاً أو تقديراً » . قلت : يعني أنَّ الحاءَ ساكنةٌ ، فلو أَدْغَمْنا لسَكَنَّا الياءَ الأولى أيضاً للإِدغام فيَلْتقي ساكنان لفظاً ، وهو مُتَعَذَّرُ النطقِ ، فهذان ساكنان لفظاً . وأمَّا قولُه : « تقديراً » فإنَّ بعضَ الناسِ جوَّز الإِدغامَ في ذلك ، وقراءتُه « أَنْ يُحِيَّ » وذلك أنه لَمَّا أراد الإِدغامَ نَقَلَ حركةَ الياءِ الأولى إلى الحاء ، وأدغمها ، فالتقى ساكنان : الحاءُ لأنها ساكنةٌ في التقدير قبل النقلِ إليها والياءُ؛ لأنَّ حركتَها نُقِلَتْ مِنْ عليها إلى الحاءِ ، واستشهد الفراءُ لهذه القراءةِ : بقوله :
4429 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... تَمْشِي لسُدَّةِ بيتها فَتُعِيُّ
وأمَّا أهلُ البصرةِ فلا يُدْغِمونه البتةَ ، قالوا : لأنَّ حركةَ الياءِ عارضةٌ؛ إذ هي للإِعرابِ . وقال مكي : « وقد أجمعوا على عَدَمِ الإِدغامِ في حالِ الرفع . فأمَّا في حالِ النصبِ فقد أجازه الفراءُ لأجلِ تحرُّك الياء الثانيةِ ، وهو لا يجوزُ عند البَصْريين؛ لأنَّ الحركةَ عارضةٌ » قلت : ادعاؤُه الإِجماعَ مردودٌ بالبيتِ الذي قَدَّمْتُ إنشاده عن الفراءِ ، وهو قوله : « فَتُعِيُّ » فهذا مرفوعٌ وقد أُدْغِمَ . ولا يَبْعُدُ ذلك؛ لأنَّه لَمَّا أُدْغِم ظهرَتْ تلك الحركةُ لسكونِ ما قبل الياءِ بالإِدغام .

هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1)

قوله : { هَلْ أتى } : في « هل » هذه وجهان ، أحدُهما : أنَّها على بابِها من الاستفهامِ المَحْضِ ، أي : هو مِمَّنْ يُسْأَلُ عنه لغرابتِه : أأتى عليه حينٌ من الدهرِ لَم يكنْ كذا ، فإنه يكونُ الجوابُ : أتى عليه ذلك ، وهو بالحالِ المذكورةِ ، كذا قاله الشيخ ، وهو مدخولٌ كما ستعرِفُه قريباً . وقال مكي في تقرير كونها على بابِها من الاستفهام . « والأحسنُ أَنْ تكونَ على بابِها للاستفهام الذي معناه التقريرُ ، وإنما هو تقرير لمَنْ أنكر البعثَ ، فلا بُدَّ أَنْ يقولَ : نعم قد مضى دهر طويل لا إنسانَ فيه . فيقال له : مَنْ أَحْدَثَه بعد أن لم يكُنْ وكَوَّنه بعد عَدَمِه كيف يمتنع عليه بَعْثُه وإحياؤه بعد مَوْتِه؟ وهو معنى قولِه : { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النشأة الأولى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ } [ الواقعة : 62 ] ، أي : فهلاَّ تَذَكَّرون فتعلَمون أنَّ مَنْ أَنْشأ شيئاً بعد أن لم يكُنْ قادرٌ على إعادتِه بعد مَوْتِه و عَدَمِه » انتهى . فقد جَعَلها لاستفهامِ التقريرِ لا للاستفهامِ المَحْضِ ، وهذا هو الذي يجبُ أَنْ يكونَ؛ لأنَّ الاستفهامَ لا يَرِدُ مِنَ الباري تعالى لاَّ على هذا النحوِ وما أشبهه . والثاني : أنها بمعنى « قد » قال الزمخشري : « هل بمعنى » قد « في الاستفهام خاصة . والأصل : أهل بدليلِ قولِه :
4430 سائِلْ فوارسَ يَرْبوعٍ بشَدَّتِنا ... أهَلْ رَأَوْنا بوادي القُفِّ ذي الأَكَمِ
فالمعنى : أقد أتى ، على التقريرِ والتقريبِ جميعاً ، أي : أتى على الإِنسان قبلَ زمانٍ قريبٍ حينٌ من الدهرِ لم يكنْ فيه شيئاً مذكوراً ، أي : كان شيئاً مَنْسِيَّاً غير مذكور » انتهى . فقولُه : « على التقريرِ » يعني المفهومَ من الاستفهامِ ، وهو الذي فهم مكيٌّ مِنْ نفسِ « هل » . وقوله : « والتقريب » يعني المفهومَ مِنْ « قد » التي وقع مَوْقِعَها « هل » . ومعنى قولِه « في الاستفهام خاصةً » أنَّ « هل » لا تكونُ بمعنى « قد » إلاَّ ومعها استفهامٌ/ لفظاً كالبيتِ المتقدِّم ، أو تقديراً كالآية الكريمةِ . فلو قلتَ : « هل جاء زيدٌ » تعني : قد جاء ، من غيرِ استفهامٍ لم يَجُزْ ، وغيرُه جَعَلَها بمعنى « قد » من غيرِ هذا القيدِ . وبعضُهم لا يُجيزه البتةَ ، ويَتَأّوَّل البيتَ : على أنَّ مِمَّا جُمِعَ فيه بين حرفَيْ معنىً للتأكيدِ ، وحَسَّن ذلك اختلافُ لفظِهما كقولِ الشاعِرِ :
4331 فأَصْبَحْنَ لا يَسْأَلنْنَي عَنْ بِما به ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فالباءُ بمعنى « عن » ، وهي مؤكِّدةٌ لها ، وإذا كانوا قد أَكَّدوا مع اتفاقِ اللفظِ كقولِه :
4432 فَلا واللَّهِ لا يُلْفَى لِما بي ... ولا لِلِما بهمْ أبداً دَواءُ
فَلأَنْ يُؤَكِّدوا مع اختلافهِ أَحْرى . ولم يَذْكُرِ الزمخشريُّ غيرَ كونِها بمعنى « قد » ، وبقي على الزمخشريِّ قيدٌ آخر : وهو أَنْ يقولَ : في الجملِ الفعليةِ؛ لأنَّه متى دخلَتْ « هل » على جملةٍ اسميةٍ استحالَ كونُها بمعنى « قد » لأنَّ « قد » مختصَّةٌ بالأفعالِ . وعندي أنَّ هذا لا يَرِدُ؛ لأنَّه تقرَّر أنَّ « قد » لا تباشِرُ الأسماءَ .
قوله : { لَمْ يَكُن } في هذه الجملة وجهان ، أحدُهما : أنَّها في موضعِ نصبٍ على الحالِ من « الإِنسان » ، أي : هل أتى عليه حينٌ في هذه الحالةِ . والثاني : أنها في موضعِ رفع نعتاً ل « حينٌ » بعد نعتٍ . وعلى هذا فالعائدُ تقديرُه : حينٌ لم يكُنْ فيه شيئا مذكوراً ، والأول أظهرُ لفظاً ومعنىً .

إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)

قوله : { أَمْشَاجٍ } : نعتٌ ل « نُطْفة » ووَقَعَ الجمعُ صفةً لمفردٍ؛ لأنَّه في معنى الجمع ، كقولِه تعالى : { رَفْرَفٍ خُضْرٍ } أو جُعِل كلُّ جزءٍ من النُّطفةِ نُطفةً ، فاعتبر ذلك فوُصِفَ بالجمع ، وقال الزمخشري : « أََمْشاج كبْرْمَةٍ أَعْشار ، وبُرْدٍ أَكْياشٌ وهي ألفاظٌ مفردةٌ غيرُ جموعٍ؛ ولذلك تقع صفاتٍ للأفرادِ » ويقال : نُطْفَةٌ مَشَجٌ ، قال الشماخ :
4433 طَوَتْ أَحْشاءَ مُرْتِجَةٍ لوَقْتٍ ... على مَشَجٍ سُلالتُه مَهِينُ
ولا يَصِح « أَمْشاج » أَنْ يكونَ تكسيراً له ، بل هما مِثْلان في الإِفرادِ لوصف المفرد بهما « . فقد مَنَعَ أَنْ يكونَ أَمْشاجاً جمعَ » مِشْجٍ « بالكسر . قال الشيخ : » وقوله مخالفٌ لنصِّ سيبويهِ والنَّحْويين على أَنْ أَفعالاً لا يكون مفرداً . قال سيبويه : « وليس في الكلامِ » أَفْعال « إلاَّ أَنْ يُكَسَّرَ عليه اسماً للجميع ، وما وَرَدَ مِنْ وصفِ المفردِ بأَفْعال تَأَوَّلوه » انتهى . قلت : هو لم يَجْعل أَفْعالاً مفرداً ، إنما قال : يُوْصف به المفردُ ، يعني بالتأويلِ الذي ذَكَرْتُه مِنْ أنَّهم جَعَلُوا كلَّ قِطعةٍ من البُرْمَة بُرْمَةً ، وكلَّ قطعةٍ من البُرْد بُرْداً ، فوصفوهما بالجمع . وقال الشيخ : « الأمْشاج » الأخلاط ، واحدُها مَشَج بفتحتين ، أو مِشْج كعِدْل وأَعْدال أو مَشِيج كشريف وأَشْراف ، قاله ابنُ الأعرابي . وقال رؤبة :
4434 يَطْرَحْن كلَّ مُعْجَلٍ نَشَّاجٍ ... لم يُكْسَ جِلْداً مِنْ دمٍ أَمْشاجِ
وقال الهذلي :
4435 كأن الرِّيْشَ والفُوْقَيْنِ منها ... خِلافَ النَّصْلِ سِيْطَ به مَشِيْجُ
وقال الشماخ :
4436 طَوَتْ أحشاءَ مُرْتِجَةٍ . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
البيت . ويقال : « مَشَج يَمْشُجُ مَشْجاً إذا خَلَط ، ومَشيج كخليط ومَمْشوج كمخلوط » انتهى . فجوَّزَ أَنْ يكونَ جَمْعاً ل مِشْج كعِدْل ، وقد تقدَّم أنَّ الزمخشريَّ : مَنَعَ ذلك . وقال الزمخشريُّ : « ومَشَجَه ومَزَجَه بمعنىً ، والمعنى : مِنْ نُطْفة امتزَجَ فيها الماءان .
قوله : { نَّبْتَلِيهِ } يجوزُ في هذه الجملة وجهان ، أحدهما : أنها حالٌ مِنْ فاعل » خَلَقْنا « ، أي : خَلَقْنا حالَ كونِنا مُبْتَلِين له . والثاني : أنَّها حالٌ من » الإنسان « ، وصَحَّ ذلك لأنَّ في الجملة ضميرَيْن كلٌّ منهما يعودُ على ذي الحال . ثم هذه الحالُ يجوزُ أَنْ تكونَ مقارِنَةً إنْ كان المعنى ب » نَبْتَليه « : نُصَرِّفُه في بطنِ أمِّه نُطْفَةً ثم عَلَقَةً . وهو قولُ ابن عباس ، وأَنْ تكونَ مقدرةً إنْ كان المعنى ب » نَبْتَليه « : نَخْتَبره بالتكليفِ؛ لأنَّه وقتَ خَلْقِهِ غيرُ مكلَّفٍ . وقال الزمخشري : » ويجوزُ أَنْ يكونَ المرادُ : ناقلين له مِنْ حالٍ إلى حالٍ ، فُسُمِّي ذلك ابتلاءً على طريق الاستعارةِ « . قلت : هذا هو معنى قولِ ابنِ عباس المتقدَّمِ . وقال بعضُهم : » في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ . والأصلُ : إنَّا جَعَلْناه سميعاً بصيراً نَبْتَليه ، أي : جَعَلْنا/ له ذلك للابْتلاءِ « وهذا لا حاجةَ إليه .

إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)

قوله : { إِمَّا شَاكِراً } : « شاكراً » نصبٌ على الحال ، وفيه وجهان ، أحدُهما : أنه حالٌ مِنْ مفعولِ « هَدَيْناه » ، أي : هَدَيْناه مُبَيَّناً له كلتا حالتيه . قال أبو البقاء : « وقيل : هي حالٌ مقدرةٌ » . قلت : لأنه حَمَلَ الهدايةَ على أولِ البيانِ له ، و [ هو ] في ذلك الوقتِ غيرُ مُتَّصِفٍ بإحدى الصفتَيْنِ . والثاني : أنه حالٌ من « السبيل » على المجاز . قال الزمخشري : « ويجوزُ أن يكونا حالَيْن من » السبيل « ، أي : عَرَّفْناه السبيلَ إمَّا سبيلاً شاكِراً ، وإمَّا سبيلاً كَفُوراً كقوله : { وَهَدَيْنَاهُ النجدين } [ البلد : 10 ] فوصفَ السبيلَ بالشُّكْرِ والكُفْر مجازاً .
والعامَّةُ على كسر همزة » إمَّا « وهي المرادِفَةُ ل » أو « وتقدَّم خلافُ النَّحْويين فيها . ونقل مكيٌّ عن الكوفيين أنها هنا » إنْ « الشرطيةُ زِيْدَتْ بعدها » ما « ثم قال : » وهذا لا يُجيزه البَصْريُّون؛ لأن « إن » الشرطيةَ لا تَدْخُلُ على الأسماءِ ، إلاَّ أَنْ يُضْمَرَ فعلٌ نحو : { وَإِنْ أَحَدٌ } [ التوبة : 6 ] . ولا يَصِحُّ إضمارُ الفعلِ هنا؛ لأنه كان يلزَمُ رَفْعُ « شاكراً » وأيضاً فإنَّه لا دليلَ على الفعلِ « انتهى . قلت : لا نُسَلِّمُ أنه يَلْزَمُ رَفْعُ » شاكراً « مع إضمار الفعلِ ، ويُمْكِنُ أَنْ يُضْمَرَ فعلٌ يَنْصِبُ » شاكراً « تقديرُه : » إن خَلَقْناهُ شاكراً فشكورٌ ، وإنْ خَلَقْناه كافراً فكفُوْرٌ .
وقرأ أبو السَّمَّال وأبو العجاج بفتحها . وفيها وجهان ، أحدُهما : أنَّها العاطفةُ ، وإنما لغةُ بعضِهم فَتْحُ همزتها ، وأنشدوا على ذلك :
4437 يَلْفَحُها أمَّا شمالٌ عَرِيَّةٌ ... وأمَّا صَباً جِنْحَ العَشِيِّ هَبوبُ
بفتحِ الهمزةِ . ويجوزُ مع فتحِ الهمزةِ إبدالُ ميمِها الأولى ياءً . قال :
4438 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... أَيْما إلى جَنَّةٍ أَيْما إلى النارِ
وحَذَفَ الواوَ بينهما . والثاني : أنها أمَّا التفصيليةُ ، وجوابُها مقدرٌ . قال الزمخشري : « وهي قراءةٌ حسنةٌ والمعنى : أمَّا شاكِراً فَبِتَوْفِيْقِنا ، وأمَّا كفُوراً فبِسُوءِ اختيارِه » انتهى . ولم يذكُرْ غيرَه .

إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4)

قوله : { سَلاَسِلَ } : قرأ نافعٌ والكسائيُّ وهشام وأبو بكر بالتنوين ، والباقون بغيرِ تنوينٍ ، ووقَفَ هؤلاءِ وحمزةُ وقنبلٌ عليه بالألفِ بلا خلافٍ . وابنُ ذكوانَ والبزيُّ وحفصٌ بالألفِ وبدونِها ، فعَنْ ثلاثتِهم الخلافُ ، والباقون وقَفوا بدون ألفٍ بلا خلافٍ . فقد تَحَصَّل لك من هذا أن القُرَّاءَ على [ أربع ] مراتبَ : منهم مَنْ يُنَوِّنُ وصْلاً ، ويقفُ بالألفِ وَقْفاً بلا خلافٍ وهم نافعٌ والكسائيُّ وهشامٌ وأبو بكر ، ومنهم مِنْ لا يُنَوِّنُ ولا يأتي بالألفِ وقفاً بلا خلافٍ ، وهما حمزةُ وقنبلٌ ، ومنهم مَنْ لم يُنَوِّنْ ، ويقف بالألفِ بلا خلافٍ ، وهو أبو عمروٍ وحدَه ، ومنهم مَنْ لم يُنَوِّنْ ، ويقفُ بالألف تارةٍ وبدونِها أخرى ، وهم ابنُ ذكوانَ وحفصٌ والبزيُّ ، فهذا نهايةُ الضبطِ في ذلك .
فأمَّا التنوينُ في « سلاسل » فذكَرُوا له أوجهاً منها : أنه قَصَد بذلك التناسُبَ؛ لأنَّ ما قبلَه وما بعده منونٌ منصوبٌ . ومنها : أن الكسائيَّ وغيرَه مِنْ أهلِ الكوفةِ حَكَوا عن بعض العربِ أنهم يَصْرِفُون جميعَ ما لا ينصَرِفُ ، إلاَّ أفعلَ منك . قال الأخفش : « سَمِعْنا من العربِ مَنْ يَصْرِفُ كلَّ ما لا يَنْصَرِف؛ لأنَّ الأصل في الأسماء الصرفُ ، وتُرِك الصرفُ لعارضٍ فيها ، وأنَّ الجمعَ قد جُمِع وإنْ كان قليلاً . قالوا : صواحِب وصواحبات . وفي الحديث : » إنكن لصَواحِبات يوسف « وقال الشعر :
4439 قد جَرَتِ الطيرُ أيامِنينا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فجمع » أيامِن « جَمْعَ تصحيحِ المذكر . وأنشدوا :
4440 وإذا الرجالُ رأوا يزيدَ رأيتَهمْ ... خُضُعَ الرِّقابِ نواكِسي الأبصارِ
بكسرِ السينِ مِنْ نواكِس ، وبعدَها ياءٌ تَظهرُ خطاً لا لفظاً لذهابِها لالتقاءِ الساكنين ، والأصلُ : » نواكِسِين « فحُذِفَتِ النونُ للإِضافةِ ، والياءُ لالتقاءِ الساكَنيْن . وهذا على رواية كسرِ السينِ ، والأشهرُ فيها نصبُ السينِ فلمَّا جُمِع شابَهَ المفرداتِ فانصَرَفَ . ومنها أنه مرسومٌ في إمامِ الحجازِ والكوفةِ بالألفِ ، رواه أبو عبيدٍ ، ورواه قالون عن نافعٍ . وروى بعضُهم ذلك عن مصاحفِ البصرةِ أيضاً ،
وقال الزمخِشريُّ : » وفيه وجهان ، أحدُهما : أَنْ تكونَ هذه النونُ بدلاً من حرفِ الإِطلاقِ ويَجْري الوصل مَجْرى الوقفِ . والثاني : أَنْ يكونَ صاحبُ هذه القراءةِ مِمَّنْ ضَرِيَ بروايةِ الشِّعْر ، ومَرَنَ لسانُه على صَرْفِ ما لا ينصرف « . قلت : وفي هذه العبارةِ فَظاظةٌ وغِلْظة ، لا سيما على مَشْيَخَةِ الإِسلام وأئمةِ العلماءِ الأعلامِ .
ووَقَفَ هؤلاء بالألفِ ظاهراً . وأمَّا مَنْ لم يُنَوِّنْه/ فظاهرٌ؛ لأنَّه على صيغةِ منتهى الجموع . وقولهم : قد جُمِع ، نحو : صَواحبات وأيامِنين لا يَقْدَحُ؛ لأنَّ المَحْذورَ جمعُ التكسيرِ ، وهذا جمعُ تصحيحٍ ، وعَدَمُ وقوفِهم بالألفِ واضحٌ أيضاً . وأمَّا مَنْ لم يُنَوِّنْ ووقفَ بالألفِ فإتْباعاً للرَّسمِ الكريمِ كما تقدَّمَ ، وأيضاً فإنَّ الرَّوْمَ في المفتوحِ لا يُجَوِّزُه القُرَّاءُ ، والقارىءُ قد يُبَيِّنُ الحركةَ في وَقْفِه فأَتَوْا بالألفِ لَتَتَبيَّنَ بها الفتحةُ . ورُوِيَ عن بعضٍ أنه يقول : » رَأَيْتُ عُمَرا « بالألف يعني عُمَرَ بن الخطاب . والسَّلاسِلُ : جمع سِلْسلة ، وقد تقدَّم الكلامُ فيها .

عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6)

قوله : { عَيْناً } في نَصْبِها أوجهٌ ، أحدُها : أنه بدلٌ مِنْ « كافوراً » لأنَّ ماءَها في بياضِ الكافور ، وفي رائحتِه وبَرْدِه . والثاني : أنَّها بدلٌ مِنْ محل « مِنْ كأسٍ » ، قاله مكي ، ولم يُقَدِّرْ حَذْفَ مضافٍ . وقَدَّر الزمخشريُّ على هذا الوجهِ حَذْفَ مضافٍ . قال : « كأنه قيل : يَشْرَبون خَمْراً خَمْرَ عَيْنٍ » وأمَّا أبو البقاءِ فجعل المضافَ مقدراًعلى وجهِ البدلِ مِنْ « كافوراً » فقال : « والثاني : بدلٌ مِنْ » كافوراً « ، أي : ماءَ عَيْنٍ أو خَمْرَ عَيْن » وهو معنىً حَسَنٌ . الثالث : أنَّها مفعولٌ ب « يَشْرَبون » ، أي : يَشْرَبون عَيْناً مِنْ كأس . الرابع : أنَّ يَنْتصِبَ على الاختصاص . الخامس : بإضمارِ « يَشْربون » يُفَسِّرُه ما بعده ، قاله أبو البقاء . وفيه نظرٌ؛ لأنَّ الظاهر أنه صفةٌ لعَيْن ، فلا يَصِحُّ أَنْ يُفَسِّر . السادس : بإضمار « يُعْطَوْن » . السابع : على الحالِ من الضمير في « مِزاجُها » ، قاله مكي .
والمِزاج : ما يُمْزَجُ به ، أي : يُخْلَطُ . يقال : مَزَجَه يَمْزُجه مَزْجاً ، أي : خَلَطَهُ يَخلِطُه خَلْطاً . قال حسان :
4441 كأنَّ سَبِيْئَةً مِنْ بيتِ رَأْسٍ ... يكونُ مِزاجَها عَسَلٌ وماءُ
فالمِزاج كالقِوامِ ، اسمٌ لما يقام به الشيءُ . والكافورُ : طِيْبٌ معروفٌ ، وكأنَّ اشتقاقه من الكَفْرِ وهو السَّتْرُ؛ لأنه يُغَطِّي الأشياءَ برائحتِه . والكافور أيضاً : كِمام الشجرِ التي تُغَطِّي ثمرتَها . ومفعولُ « يَشْربون » : إمَّا محذوفٌ ، أي : يعني : يَشْرَبون ماءً أو خمراً من كأسٍ ، وإمَّا مذكورٌ وهو « عَيْناً » كما تقدَّم ، وإمَّا « مِنْ كأسٍ » و « مِنْ » مزيدةٌ فيه ، وهذا يَتَمشَّى عند الكوفيين والأخفش .
وقال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : لِمَ وُصِل فِعْلُ الشُّرْب بحرفِ الابتداءِ أولاً وبحرف الإِلصاقِ آخراً؟ قلت : لأنَّ الكأسَ مبدأ شُرْبهِ وأولُ غايتِه ، وأمَّا العَيْنُ فبها يَمْزُجون شرابَهم ، فكأنَّ المعنى : يشْرَبُ عبادُ اللَّهِ بها الخمرَ كما تقول : شَرِبْتُ الماءَ بالعَسل » .
قوله : { يَشْرَبُ بِهَا } في الباءِ أوجهٌ ، أحدُها : أنَّها مزيدةٌ ، أي : يَشْرَبُها ، ويَدُلُّ له قراءةُ ابنُ أبي عبلةَ « يَشْرَبُها » مُعَدَّى إلى الضمير بنفسِه . الثاني : أنها بمعنى « مِنْ » . الثالث : أنها حاليةٌ ، أي : مَمْزوجةٌ بها . الرابع : أنها متعلقَةٌ ب « يَشْرَبُ » . والضميرُ يعودُعلى الكأس ، أي : يَشْرَبون العَيْنَ بتلك الكأسِ ، والباءُ للإِلصاق ، كما تقدَّم في قولِ الزمخشري . الخامس : أنه على تَضْمين « يَشْرَبُون » معنى : يَلْتَذُّون بها شاربين . السادس : على تَضْمينِه معنى « يَرْوَى » ، أي يَرْوَى بها عبادُ اللَّهِ . وكهذه الآية في بعضِ الأوجهِ قولُ الهُذَلي :
4442 شَرِبْنَ بماءِ البحرِ ثم تَرَفَّعَتْ ... متى لُجَجٍ خُضْرٍ لهنَّ نَئيجُ
فهذه تحتملُ الزيادةَ ، وتحتملُ أَنْ تكونَ بمعنى « مِنْ » . والجملةُ مِنْ قولِه « يَشْرَبُ بها » في محلِّ نصبٍ صفةٍ ل « عَيْناً » إنْ جَعَلْنا الضميرَ في « بها » عائداً على « عَيْناً » ولم نجعَلْه مُفَسِّراً لناصبٍ ، كما قاله أبو البقاء . وقرأ عبد الله « قافوراً » بالقاف بدلَ الكافِ ، وهذا مِنْ التعاقُبِ بين الحرفَيْنِ كقولهم : « عربيٌّ قُحٌّ وكُحّ . و » يُفَجِّرونها « في موضع الحال .

يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7)

قوله : { يُوفُونَ } : يجوز أَنْ يكونَ مستأنفاً لا محلَّ له البتةَ ، ويجوزُ أَنْ يكونَ خبراً لكان مضمرةً ، قال الفراء : « التقديرُ : كانوا يُوْفُوْن بالنَّذْر في الدنيا ، وكانوا يخَافون » انتهى . وهذا ما لا حاجةَ إليه . الثالث : أنه جوابٌ لمَنْ قال : ما لم يُرْزَقون ذلك؟ . قال الزمخشري : « يُوْفُوْن » جوابُ مَنْ عَسَى يقول : ما لم يُرْزَقون ذلك «؟ قال الشيخ : » واستعمل « عَسَى » صلةً لمَنْ وهو لا يجوزُ ، وأتى بالمضارع بعد « عَسَى » غيرَ مقرونٍ ب « أَنْ » / وهو قليلٌ أو في الشعر « .
قوله : { كَانَ شَرُّهُ } في موضع نصبٍ صفةً ل » يَومْ « . والمُسْتَطِير : المنتشر يُقال : استطار يَسْتطير اسْتِطارَةً فهو مُسْتَطير ، وهو استفعل من الطَّيران قال الشاعر :
4443 فباتَتْ وقد أسْأَرَتْ في الفؤا ... دِصَدْعاً عل نَأْيِها مُسْتطيرا
وقال الفراء : » المُسْتطير : المُسْتطيل « . قلت كأنه يريدُ أنه مِثْلُه في المعنى ، لا أنه أَبْدَل من اللامِ راءً . والفجرُ فجران : مستطيلٌ كذَنَبِ السِّرحان وهو الكاذِبُ ، ومُسْتطيرٌ وهو الصادِقٌ لانتشارِه في الأُفُق .

وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)

قوله : { حُبِّهِ } : حالٌ : إمَّأ من الطعامِ ، أي : كائنين حلى حُبَّهم الطعامَ ، وإمَّا من الفاعلِ . والضمير في « حُبِّه » لله تعالى ، أي : على حُبِّ اللهِ . وعلى التقديرَيْن فهو مصدرٌ مضافٌ للمفعول .

إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10)

قوله : { قَمْطَرِيراً } : القَمْطَرير : الشديدُ . وأصلُه كما قال الزجاج : « مُشتقٌّ من اقْمَطَرَّت الناقةُ : إذا رفعَتْ ذَنَبها ، وجمعَتْ قُطْرَيْها ، وزَمَّتْ بأَنْفِها . قال الزمخشري : » فاشتقَّه من القَطْر ، وجعل الميمَ مزيدةً . قال أسد بن ناعصة :
4444 واصْطَلَيْتُ الحروبُ في كلِّ يومٍ ... باسِلِ الشَّرِّ قَمْطَرِيرِ الصَّباحِ
قال الشيخ : « واختلف النحاةُ في هذا الوزن ، والأكثرُ لا يُثْبِتُ افْمَعَلَّ في أوزان الأفعالِ » ويقال : اقْمَطَرَّ يَقْمَطِرُّ فهو مُقْمَطِرٌّ ، قال الشاعر :
4445 تَلْزُبُ العقربُ تَزْبَئِرُّ ... تكسو استَها لحماً وتَقْمَطِرُّ
ويومٌ قَمْطرير وقُماطر بمعنى : شديد . قال الشاعر :
4446 فَفِرُّوا إذا ما الحربُ ثارَ غبارُها ... ولَجَّ بها اليومُ الشديدُ القُماطِرُ
وقال الزجَّاج : « القَمْطَرِيرْ » الذي يَعْبَسُ حتى يجتمعَ ما بين عينَيْه « انتهى . فعلى هذا استعمالُه في اليومِ مجازاً . وفي بعض كلامِ الزمخشري أنه جَعَلَه من القَمْط ، فعلى هذا تكون الراءان فيه مزيدتَيْن .

وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12)

قوله : { بِمَا صَبَرُواْ } : « ما » مصدريةٌ . و « جنةٌ » مفعولٌ ثانٍ أي : جَزاهم جنةً بصَبْرهم . وقدَّر مكي مضافاً فقال : « تقديرُه : دخولَ جنة ولِبْسَ حرير » .

مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13)

قوله : { مُّتَّكِئِينَ } : حال مِنْ مفعول « جَزاهم » .
وقرأ علي رضي الله عنه « وجازاهم » وجوَّز أبو البقاء أَنْ يكونَ « مُتَّكئين » صفةً ل « جَنَّةً » . وهذا لا يجوزُ عند البَصْريين؛ لأنَّه كان يلزَم بروزُ الضميرِ فيقال : مُتَّكئين هم فيها ، لجريانِ الصفةِ على غير مَنْ هي له . وقد مَنَعَ مكي أن يكونَ « مُتَّكئين » صفةً ل « جنةً » لِما ذكرْتُه مِنْ عَدَمِ بُروزِ الضمير . وممَّنْ ذَهَبَ إلى كونِ « مُتَّكئين » صفةً ل « جَنَّةً » الزمخشريُّ فإنه قال : « ويجوزُ أَنْ تكونَ » مُتَّكئين « . و » لا يَرَوْن « و » دانيةً « كلُّها صفاتٍ ل » جنةٌ « وهو مردودٌ بما ذكرْتُه . ولا يجوزُ أَنْ يكونُ » مُتَّكئين « حالاً مِنْ فاعل » صَبَروا «؛ لأنَّ الصَّبْرَ كان في الدنيا واتِّكاءَهم إنما هو في الآخرة ، قال معناه مكي . ولقائلٍ أَنْ يقول : إن لم يكنِ المانعُ إلاَّ هذا فاجْعَلْها حالاً مقدرةً؛ لأن مآلهم بسبب صَبْرهم إلى هذه الحالِ . وله نظائرُ .
وقوله : { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ } إمَّا على إضمارِ القولِ أي : قائلين ذلك . وقرأ أبو جعفر » فَوَقَّاهم « بتشديد القافِ على المبالغةِ .
قوله : { لاَ يَرَوْنَ فِيهَا } فيه أوجهٌ ، أحدها : أنَّها حالٌ ثانيةٌ مِنْ مَفْعولِ » جزاهم « . الثاني : أنها حالٌ من الضميرِ المرفوعِ المستكنِّ في » مُتَّكئين « ، فتكونُ حالاً متداخلةً . الثالث : أَنْ تكونَ صفةً ل جنة كمتَّكئين عند مَنْ يرى ذلك وقد تقدَّم أنه قولُ الزمخشريِّ .
والزَّمْهَرير : أشدُّ البردِ . هذا هو المعروفُ . وقال ثعلب : هو القمرُ بلغة طيِّىء وأنشد :
4447 في ليلةٍ ظلامُها قد اعتكَرْ ... قَطَعْتُها والزَّمْهريرُ ما زَهَرْ
والمعنى : أنَّ الجنةَ لا تحتاجُ إلى شمسٍ ولا إلى قمرٍ ووزنُه فَعْلَلِيل .

وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14)

قوله : { وَدَانِيَةً } : العامة على نصبِها وفيها أوجهٌ ، أحدُها : أنها عطفُ على محلِّ « لا يَرَوْن » . الثاني : أنها معطوفة على « مُتَّكئين » ، فيكونُ فيها ما فيها . قال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : ودانيةً عليهم ظلالُها علامَ عُطِف؟ قلت : على الجملةِ التي قبلها ، لأنَّها في موضع الحال من المَجْزِيِّيْنَ ، وهذه حالٌ مثلُها عنهم ، لرجوعِ الضميرِ منها إليهم في » عليهم « إلاَّ أنَّها اسمٌ مفردٌ ، وتلك جماعةٌ في حكمِ مفردٍ ، تقديره : غيرَ رائين فيها شَمْساً ولا زَمْهريراً ودانية . ودخلت الواوُ للدَّلالة على أن الأمرَيْن مجتمعان لهم . كأنَّه قيل : وجَزاهم/ جنةً جامِعِيْنَ فيها : بين البُعْدِ عن الحَرِّ والقُرِّ ودُنُوِّ الظِّلالِ عليهم . الثالث : أنها صفةٌ لمحذوفٍ أي : وجنةً دانِيَةً ، قاله أبو البقاء . الرابع : أنها صفةٌ ل » جنةٌ « الملفوظِ بها ، قاله الزجَّاج .
وقرأ أبو حيوةَ » ودانِيَةٌ « بالرفع . وفيها وجهان ، أظهرهما : أَنْ يكونَ » ظلالُها « مبتدأ و » دانيةٌ « خبرٌ مقدمٌ . والجملةُ في موضعِ الحال . قال الزمخشري : » والمعنى : لا يَرَوْنَ فيها شَمْساً ولا زَمْهريراً ، والحالُ أنَّ ظلالَها دانِيَةٌ عليهم « . والثاني : أَنْ ترتفعَ » دانيةٌ « بالابتداء ، و » ظلالُها « فاعلٌ به ، وبها استدلَّ الأخفشُ على جوازِ إعمالِ اسمِ الفاعلِ ، وإنْ لم يَعْتَمِدْ نحو : » قائمٌ الزيدون « ، فإنَّ » دانية « لم يعتمِدْ على شيءٍ مِمَّا ذكره النَّحْويُّون ، ومع ذلك فقد رُفِعَتْ » ظلالُها « وهذا لا حُجَّة له فيه؛ لجوازِ أَنْ يكونَ مبتدأً وخبراً مقدَّماً كما تقدَّم .
وقال أبو البقاء : » وحُكِيَ بالجَرِّ أي : في جنَّةٍ دانية . وهو ضعيفٌ؛ لأنه عُطِفَ على الضميرِ المجرورِ من غيرِ إعادةِ الجارِّ « . قلت : يعني أنَّه قُرِىء شاذاً » ودانِيَةٍ « بالجَرِّ على أنها صفةٌ لمحذوفٍ ، ويكونُ حينئذٍ نَسَقاً على الضميرِ المجرورِ بالجَرِّ مِنْ قولِه : » لا يَرَوْنَ فيها « أي : ولا في جنةٍ دانيةٍ . وهو رَأْيُ الكوفيين : حيث يُجَوِّزون العطفَ على الضميرِ المجرورِ مِنْ غيرِ إعادةِ الجارِّ؛ ولذلك ضَعَّفَه ، وقد تقدَّم الكلامُ في ذلك مُشْبعاً في البقرة .
وأمَّا رَفْعُ » ظلالُها « فيجوزُ أَنْ يكونَ مبتدأً و » عليهم « خبرٌ مقدمٌ ، ولا يرتفع ب » دانية «؛ لأنَّ » دنا « يتعدَّى ب » إلى « لا ب » على « . والثاني : أنها مرفوعةٌ ب » دانية « على أَنْ تُضَمَّن معنى » مُشْرِفَة « لأنَّ » دنا « و » أَشْرَفَ « يتقاربان ، قال معناه أبو البقاء ، وهذان الوجهان جاريان في قراءةِ مَنْ نصبَ » دانيةً « أيضاً .
وقرأ الأعمش » ودانِياً « بالتذكير للفَصْلِ بين الوَصْفِ وبين مرفوعِه ب » عليهم « ، أو لأنَّ الجمعَ مذكرٌ .

وقرأ أُبَيٌّ « ودانٍ عليهم » بالتذكير مرفوعاً ، وهي شاهدةٌ لمذهبِ الأخفشِ ، حيث يرفع باسمِ الفاعلِ . وإنْ لم يَعْتَمِد . ولا جائزٌ أَنْ يُعْرَبا مبتدأً وخبراً مقدَّماً لعدمِ المطابقةِ . وقال مكي : « وقُرِىء » دانِياً « ثم قال : » ويجوزُ « ودانيةٌ » بالرفعِ ، ويجوزُ « دانٍ » بالرفعِ والتذكيرِ « ولم يُصَرِّح بأنهما قُرِئا ، وقد تقدَّم أنهما مقروءٌ بهما فكأنَّه لم يَطَّلِعْ على ذلك .
قوله : { وَذُلِّلَتْ } يجوزُ أَنْ يكونَ في موضع نصبٍ على الحال عطفاً على » دانِيَةً « فيمَنْ نَصَبَها أي : ومُذَلَّلةً . ويجوزُ أَنْ تكونَ حالاً من الضميرِ في » عليهم « سواءً نَصَبْتَ » دانِيَةً « أو رَفَعْتَها ، أم جَرَرْتَها . ويجوزُ أَنْ تكونَ مستأنفةً . وأمَّا على قراءةِ رفعِ » ودانيةٌ « فتكونُ جملةً فعليةً عُطِفَتْ على اسميَّةٍ . ويجوز أَنْ تكونَ حالاً كما تقدَّمَ .

وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15)

قوله : { بِآنِيَةٍ } : هذا هو القائمُ مقامَ الفاعلِ ، لأنَّه هو المفعولُ به في المعنى . ويجوزُ أَنْ يكون « عليهم » . وآنِيَة : جمعُ « إناء » والأصلُ : أَأْنِيَة بهمزتَيْنِ الأُولى مزيدةٌ للجمع ، والثانيةُ فاءُ الكلمة فقُلِبَتِ الثانية ألفاً وُجوباً ، وهذا نظيرُ : كِساءٍ وأَكْسِيَة وغِطاءٍ وأَغْطِيَة ، ونظيرُه في الصحيح اللامِ : حِمار وأَحْمِرة . و « مِنْ فضةٍ » نعتٌ ل « آنية » .

قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16)

قوله : { قَوَارِيرَاْ قَوَارِيرَاْ } : اختلف القُراء في هذَين الحرفَيْن بالنسبة إلى التنوين وعَدَمِهِ ، وفي الوقوفِ بالألفِ وعَدَمِها كما تقدَّم خلافُهم في { سَلاَسِلَ } . واعلَمْ أنَّ القُرَّاء فيهما على خمسِ مراتبَ ، إحداها : تنوينُهما معاً ، والوقفُ عليهما : بالألفِ ، لنافعٍ والكسائيِّ وأبي بكر . الثانيةُ : مقابِلَةُ هذه ، وهي عَدَمُ تنوينِهما وعَدَمُ الوقفِ عليهما بالألفِ ، لحمزةَ وحدَه . الثالثة : عَدَمُ تنوينِهما ، والوقفُ عليهما بالألف ، لهشامٍ وحدَه . الرابعة : تنوينُ الأولِ دونَ الثاني ، والوقفُ على الأولِ بالألفِ ، وعلى الثاني بدونِها ، لابنِ كثيرٍ وحدَه . الخامسةُ : عَدَم تنوينِهما معاً ، والوقفُ على الأولِ بالألفِ ، وعلى الثاني بدونِها : لأبي عمروٍ وابن ذكوانَ وحفصٍ .
فأمَّا مَنْ نَوَّنَهما فلِما مَرَّ في تنوينِ سلاسل؛ لأنَّهما صيغَةُ منتهى الجمع ، ذاك على مَفاعلِ ، وذا على مَفاعيل . والوقفُ بالألفِ التي هي بدلٌ من التنوين ، وفيه موافقةُ المصاحفِ المذكورةِ فإنَّهما مَرْسومان فيها بالألفِ على ما نَقَلَ أبو عبيد . وأمَّا عَدَمُ تنوينِهما وعَدَمُ الوقفِ بالألف فظاهرٌ جداً . وأمَّا مَنْ نَوَّنَ الأولَ دونَ الثاني ، فإنَّه/ ناسَبَ بين الأولِ وبين رؤوسِ الآيِ . ولم يناسِبْ بينَ الثاني وبين الأولِ . والوجهُ في وَقْفِه على الأولِ بالألفِ وعلى الثاني بغيرِ ألفٍ ظاهرٌ . وقد رَوَى أبو عُبيد أنه كذلك في مصاحِف أهلِ البصرة .
وأمَّا مَنْ لم يُنَوِّنْهما ، ووقف على الأولِ بالألفِ ، وعلى الثاني بدونِها؛ فلأنَّ الأولَ رأسُ آيةٍ فناسَبَ بينه وبين رؤوس الآيِ في الوقفِ بالألفِ . وفَرَّق بينه وبين الثاني؛ لأنه ليسَ برأس آيةٍ . وأمَّا مَنْ لم يُنَوِّنْهما ووقف عليهما بالألفِ فلأنَّه ناسَبَ بين الأول وبين رؤوس الآيِ وناسَبَ بين الثاني وبين الأولِ . وحَصَل مِمَّا تقدَّم في « سلاسل » وفي هذَيْن الحرفَيْنِ أنَّ القُرَّاءَ منهم مَنْ وافَقَ مصحَفَه ، ومنهم مَنْ خالفَه لاتِّباع الأثَرِ . وتقدَّم الكلامُ على « قوارير » في سورةِ النمل ولله الحمدُ .
وقال الزمخشري : « وهذا التنوين بدلٌ مِنْ حرفِ الإِطلاقِ لأنَّه فاصلةٌ ، وفي الثاني لإِتباعِه الأولَ » يعني أنَّهم يَأْتُون بالتنوينِ بدلاً مِنْ حرفِ الإِطلاق الذي للترنم ، كقولِه :
4448 يا صاحِ ما هاجَ الدُّموعَ الذُّرَّفَنْ ... وفي انتصابِ « قوارير » وجهان ، أحدُهما وهو الظاهرُ أنَّه خبرُ كان . والثاني : أنها حالٌ ، و « كان » تامةٌ أي : كُوِّنَتْ فكانَتْ . قال أبو البقاء : « وحَسُن التكريرُ لِما اتَّصل به مِنْ بيانِ أصلِها ، ولولا التكريرُ لم يَحْسُنْ أَنْ يكونَ الأولُ رأسَ آيةٍ لشدَّةِ اتصالِ الصفةِ بالموصوفِ . وقرأ الأعمش » قواريرُ « بالرفع على إضمارِ مبتدأ أي : هي قوارير . و » مِنْ فضة « صفةٌ ل » قوارير « .
قوله : { قَدَّرُوهَا } صفةٌ ل » قواريرَ « . والواو في » قَدَّروها « فيه وجهان ، أحدهما : أنَّه للمُطافِ عليهم . ومعنى تقديرهم إياها : أنهم قَدَّروها في أنفسِهم أَنْ تكونَ على مقاديرَ وأشكالٍ على حَسَبِ شَهَواتِهم ، فجاءَتْ كما قَدَّروا .

والثاني : أنَّ الواو للطائفين للدلالةِ عليهم ، مِنْ قولِه تعالى : « ويُطافُ » والمعنى : أنهم قَدَّروا شرابَها على قَدْر رِيِّ الشَّارِب ، وهو ألذُّ الشرابِ لكونِه على مِقْدارِ حاجتِه لا يَفْضُل عنها ولا يَعْجِزُ ، قاله الزمخشري . وجَوَّزَ أبو البقاء أَنْ تكونَ الجملةُ مستأنفةً .
وقرأ عليٌّ وابنُ عباس والسُّلميُّ والشعبيُّ وزيدُ بن علي وأبو عمروٍ في روايةِ الأصمعيِّ « قُدِّرُوْها » مبنياً للمفعول . وجَعَله الفارسِيُّ مِنْ بابِ المَقْلوبِ قال : « كأنَّ اللفظ : قُدِّروا عليها . وفي المعنى قَلْبٌ؛ لأنَّ حقيقةَ المعنى أن يقال : قُدِّرَتْ عليهم ، فهي مثلُ قولِه : { لَتَنُوءُ بالعصبة أُوْلِي القوة } [ القصص : 76 ] ومثلُ قولِ العرب : » إذا طَلَعَتِ الجَوْزاءُ أُلْقِيَ العُوْدُ على الحِرْباء « . وقال الزمخشري : » ووجهُه أَنْ يكونَ مِنْ قُدِّر منقولاً مِنْ قَدَرَ . تقول : قَدَرْتُ [ الشيءَ ] وقَدَرَنيه فلان ، إذا جعلك قادراً له ومعناه : جُعلوا قادرين لها كما شاؤوا ، وأُطْلِق لهم أَنْ يُقَدِّروا على حَسَبِ ما اشْتَهَوْا « . وقال أبو حاتم : » قُدِّرَتْ الأواني على قَدْرِ رِيِّهم « ففَسَّر بعضُهم قولَ أبي حاتمٍ هذا قال : » فيه حَذْفٌ على حَذْفٍ : وهو أنه كان : « قُدِّرَ على قَدْرِ ريِّهم إياها » ثم حُذِفَ « على » فصار : « قَدْرُ رِيِّهم » على ما لم يُسَمَّ فاعِلُه ، ثم حُذِف « قَدْرُ » فصار « رِيُّهم » ما لم يُسَمَّ فاعلُه ، فحُذِفَ الرِّيُّ فصارَتِ الواوُ مكانَ الهاءِ والميمِ ، لَمَّا حُذِفَ المضافُ مِمَّا قبلَها ، وصارَتِ الواوُ مفعولَ ما لم يُسَمَّ فاعلُه ، واتصلَ ضميرُ المفعولِ الثاني في تقديرِ النصبِ بالفعلِ بعدَ الواوِ التي تَحَوَّلَتْ من الهاءِ والميم ، حتى أُقيمَتْ مُقامَ الفاعل « . قلت : وفي هذا التخريجِ من التكلُّف ما لا يَخْفَى مع عَجْرَفَةِ ألفاظِه .
وقال الشيخ : » والأقربُ في تخريج هذه القراءةِ الشاذَّة : « قُدِّرَ رِيُّهم منها تقديراً » فحُذِف المضافُ وهو الرِّيُّ ، وأُقيم الضميرُ مُقامَه ، فصار التقديرُ : قُدِّروا مِنْها ، ثم اتُّسِع في الفعل فحُذِفَتْ « مِنْ » ووصَلَ الفعلُ إلى الضميرِ بنفسِه فصار : « قُدِّرُوْها » فلم يكن فيه إلاَّ حَذْفُ مضافٍ واتِّساعٌ في الفعل « . قلت : وهذا مُنْتَزَعٌ من تفسيرِ كلامِ أبي حاتم .

وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17)

قوله : { زَنجَبِيلاً } : الزَّنجبيل : نَبْتٌ معروفٌ ، وسُمِّيَتْ الكأسُ بذلك لوجودِ طَعْم الزَّنْجبيل فيها . والعربُ تَستَلِذُّه . وأنشد الزمخشريُّ للأعشى :
4449 كأنَّ القُرُنْفُلَ والزَّنْجَبِيْ ... لَ باتا بفِيْها وأَرْياً مَشُورا
/ وأنشد للمسيَّب بن عَلَس :
4450 وكأن طَعْمَ الزَّنْجبيلِ به ... إذا ذُقْتَه وسُلافةَ الخمرِ
و « عَيْناً » فيها من الوجوه ما تقدَّمَ .

عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18)

قوله : { سَلْسَبِيلاً } : السَّلْسَبيل : ما سَهُل انحدارُه في الحَلْف . قال الزجاج : « هو في اللغة صفةٌ لِما كان في غايةِ السَّلاسَة » . وقال الزمخشري : « يقال : شَرابٌ سَلْسَلٌ وسَلْسالٌ وسَلْسبيل ، وقد زِيْدت الباءُ في التركيبِ حتى صارَتِ الكلمةُ خماسيَّةً ، ودَلَّتْ على غايةِ السَّلاسَةِ » . قال الشيخ : « فإنْ كان عَنى أنَّه زِيْدت حقيقةً فليس بجيدٍ؛ لأنَّ الباءَ ليسَتْ من حروف الزيادةِ المعهودةِ في علمِ النحوِ ، وإنْ عَنَى أنها حرفٌ جاء في سِنْخِ الكلمةِ ، وليس في سَلْسَل ولا سَلْسال فَيَصِحُّ ، ويكون مما اتَّفَقَ معناه ، وكان مختلفاً في المادة » . وقال ابن الأعرابي : « لم أسمَعْ السَّلْسبيلَ إلاَّ في القرآنِ » . وقال مكي : « هو اسمٌ أعجميُّ نكرةٌ ، فلذلك صُرِفَ » .
ووزن سَلْسَبيل : فَعْلَلِيْل مثلَ « دَرْدَبيس » . وقيل : فَعْفَليل؛ لأنَّ الفاءَ مكررةٌ . وقرأ طلحةُ « سَلْسَبيلَ » دونَ تنوينٍ ومُنِعَتْ من الصرف للعلميَّةِ والتأنيث؛ لأنها اسمٌ لعَيْنٍ بعينها ، وعلى هذا فكيف صُرِفَتْ في قراءةِ العامَّةِ؟ فيُجاب : بأنُّه سُمِّيَتْ بذلك لا على جهة العَلَمِيَّة بل على جهة الإطلاقِ المجرَّدِ ، أو يكونُ مِنْ بابِ تنوين { سَلاَسِلَ } [ الإِنسان : 4 ] { قَوَارِيرَاْ } [ الإِنسان : 15 ] وقد تقدَّمَ . وأغربُ ما قيل في هذا الحرف أنه مركبٌ من كلمَتَيْن : مِنْ فعلِ أمرٍ وفاعلٍ مستترٍ ومفعولٍ . والتقدير : سَلْ أنت سَبيلا إليها . قال الزمخشري : « وقد عَزَوْا إلى عليٍّ رضي الله عنه أنَّ معناه : سَلْ سبيلاً إليها » . قال : « وهذا غيرُ مستقيمٍ على ظاهِره ، إلاَّ أنْ يُرادَ أنَّ جملةَ قولِ القائلِ » سَلْ سبيلاً « جَعِلَتْ عَلَماً للعين ، كما قيل : تأبَّط شَرَّاً وذَرَّى حبَّا . وسُمِّيت بذلك لأنه لا يَشْرَبُ منها إلاَّ مَنْ سأل سبيلاً إليها بالعمل الصالِح ، وهو مع استقامتِه في العربية تكلُّفٌ وابتداعٌ وعَزْوُه إلى مثلِ عليّ عليه السلام أَبْدَعُ . وفي شعرِ بعضِ المُحْدَثين :
4451 سَلْ سبيلاً فيها إلى راحةِ النَّفْ ... سِ براحٍ كأنَّها سَلْسَبيلُ
قال الشيخ بعد تعجُّبِه مِنْ هذا القول : » وأَعْجَبُ مِنْ ذلك توجيهُ الزمخشريِّ له واشتغالُه بحكايتِه « . قلت : ولو تأمَّل ما قاله الزمخشريُّ لم يَلُمْه ، ولم يتعجَّبْ منه؛ لأنَّ الزمخشري هو الذي شَنَّعَ على هذا القولِ غاية التشنيع . وقال أبو البقاء : » والسلسبيلُ كلمةٌ واحدةٌ « . وفي قوله : » كلمة واحدة « تلويحٌ وإيماءٌ إلى هذا الوجهِ المذكور .

وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20)

قوله : { ثَمَّ } هذا ظرفُ مكانٍ وهو مختصٌّ بالبُعْدِ . وفي انتصابِه هنا وجهان ، أظهرُهما : أنه منصوبٌ على الظرفِ . ومعفولُ الرؤيةِ غيرُ مذكورٍ؛ لأنَّ القصد : وإذا صَدَرَتْ منك رؤيةٌ في ذلك المكانِ رَأَيْتَ كيتَ وكيتَ ، ف « رَأَيْتَ » الثاني جوابٌ ل « إذا » . وقال الفراء : « ثَمَّ » مفعولٌ به ل « رَأَيْتَ » . وقال الفراء أيضاً : « وإذا رَأَيْتَ تقديره : » ما ثَمَّ « ، ف » ما « مفعولٌ فحُذِفَتْ » ما « وقامت » ثَمَّ « مَقام » ما « . قال الزمخشري تابعا لأبي إسحاق : » ومَنْ قال : معناه « ما ثَمَّ » فقد أخطأ؛ لأنَّ « ثَمَّ » صلةٌ ل « ما » ، ولا يجوزُ إسقاطُ الموصولِ وتَرْكُ الصلةِ « وفي هذا نظرٌ؛ لأنَّ الكوفيين يُجَوِّزُون مثلَ هذا ، واستدلُّوا عليه بأبياتٍ وآياتٍ ، تقدَّم الكلامُ عليها مُسْتوفى في أوائل هذا الموضوع .
وقال ابن عطية : » وثَمَّ ظرفٌ . والعاملُ فيه « رَأَيْتَ » أو معناه ، والتقديرُ : رأيتَ ما ثَمَّ ، فحُذِفَتْ ما « . قال الشيخ : » وهو فاسِدٌ؛ لأنَّه مِنْ حيثُ جَعَلَه معمولاً ل « رَأَيْتَ » لا يكونُ صلةً ل « ما »؛ لأنَّ العاملَ فيه إذ ذاك محذوفٌ أي : ما استقرَّ ثَمَّ « . قلت : ويمكنُ أَنْ يُجاب عنه : بأنَّ قولَه : » أو معناه « هو القولُ بأنَّه صلةٌ لموصول ، فيكونان وجهَيْن لا وجهاً واحداً ، حتى يَلْزَمَهَ الفسادُ ، ولولا ذلك لكان قولُه : » أو معناه « لا معنى له . ويعني بمعناه أي : معنى الفعلِ مِنْ حيث الجملةُ ، وهو الاستقرارُ المقدَّرُ .
والعامَّةُ على فتحِ الثاءِ مِنْ » ثَمَّ « كما تقدَّم . وقرأ حميد الأعرج بضمِّها على أنَّها العاطَفَةُ ، وتكونُ قد عَطَفَتْ » رأَيْتَ « الثاني على الأول ، ويكون فعلُ الجوابِ محذوفاً ، ويكونُ فعلُ الجوابِ المحذوفِ هو الناصبَ لقولِه : » نعيماً « ، والتقدير : وإذا صَدَرَ منك رؤيةٌ ، ثم صَدَرَتْ رؤيةٌ/ أخرى رَأَيْتَ نعيماً ومُلْكاً . فَرَأَيْتَ هذا هو الجوابُ .

عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21)

قوله : { عَالِيَهُمْ } : قرأ نافعٌ وحمزةٌ بسكونِ الياءِ وكسرِ الهاء ، والباقون بفتح الياءِ وضَمِّ الهاء . لَمَّا سَكَنَتِ الياءُ كُسِرَتْ الهاءُ ، ولَمَّا تَحَرَّكَتْ ضُمَّت على ما تَقَرَّرَ في هاءِ الكنايةِ أولَ هذا الموضوعِ . فإمَّا قراءةُ نافعٍ وحمزةَ ففيها أوجهٌ ، أظهرُها : أَنْ تكونَ خبراً مقدَّماً . و « ثيابُ » مبتدأٌ مؤخرٌ ، والثاني : أنَّ « عالِيْهم » مبتدأ و « ثيابُ » مرفوعٌ على جهةِ الفاعلية ، وإنْ لم يعتمد الوصفُ ، وهذا قولُ الأخفشِ .
والثالث : أنَّ « عالِيْهم » منصوبٌ ، وإنما سُكِّن تخفيفاً ، قاله أبو البقاء . وإذا كان منصوباً فسيأتي فيه أوجهٌ ، وهي وارِدَة هنا؛ إلاَّ أنَّ تقديرَ الفتحةِ من المنقوصِ لا يجوزُ إلاَّ في ضرورةٍ أو شذوذٍ ، وهذه القراءةُ متواترةٌ فلا ينبغي أَنْ يُقالَ به فيها .
وأمَّا قراءةُ مَنْ نَصَبَ ففيه أوجهٌ ، أحدُها : أنَّه ظرفٌ خبراً مقدماً ، و « ثيابُ » مبتدأٌ مؤخرٌ كأنه قيل : فوقَهم ثيابُ . قال أبو البقاء : « لأنَّ عالِيَهم بمعنى فَوْقَهم . وقال ابن عطية : » ويجوز في النصبِ أَنْ تكونَ على الظرف لأنَّه بمعنى فوقهم « . قال الشيخ : » وعالٍ وعالية اسمُ فاعلٍ ، فيحتاج في [ إثبات ] كونِهما ظرفَيْن إلى أَنْ يكونَ منقولاً مِنْ كلامِ العرب : عالِيَك أو عاليتُك ثوبُ « . قلت : قد وَرَدَتْ ألفاظٌ مِنْ صيغةِ أسماءِ الفاعِلِيْن ظروفاً نحو : خارجَ الدار وداخلَها وباطنَها وظاهرَها . تقول : جلَسْتُ خارج الدارِ ، وكذلك البواقي فكذلك هذا .
الثاني : أنَّه حالٌ من الضمير في { عَلَيْهِمْ } [ الإِنسان : 19 ] . الثالث : أنه حالٌ مِنْ مفعولِ { حَسِبْتَهُمْ } [ الإِنسان : 19 ] . الرابع : أنه حالٌ مِنْ مضافٍ مقدرٍ ، أي : رَأَيْتَ أهلَ نعيم ومُلكٍ كبير عالَيهم . ف » عاليَهم « حالٌ مِنْ » أهل « المقدرِ . ذكرَ هذه الأجهَ الثلاثةَ الزمخشريُّ فإنه قال : » وعاليَهم بالنصبِ على أنَّه حالٌ من الضميرِ في « يَطوف عليهم » أو في « حَسِبْتَهم » ، أي : يطوفُ عليهم وِلْدانٌ عالياً للمَطوفِ عليهم ثيابٌ ، أو حَسِبْتَهم لؤلؤاً عاليَهم ثيابٌ . ويجوزُ أَنْ يراد : [ رأيت ] أهلَ نعيم « . قال الشيخ : » أمَّأ أَنْ يكونَ حالاً من الضمير في « حَسِبْتَهم » فإنه لا يعني إلاَّ ضمير المفعول ، وهو لا يعودُ إلاَّ على « وِلدانٌ » ولذلك قدَّر « عاليَهم » بقوله : « عالياً لهم » ، أي : للوِلْدان . وهذا لا يَصْلُحُ؛ لأنَّ الضمائر الآتية بعد ذلك تَدُلُّ على أنها للمَطوفِ عليهم مِنْ قوله : « وحُلُّوا » و « سَقاهم » و { إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً } وفَكُّ الضمائر وَجَعْلُ هذا لذا ، وهذا لذا ، مع عدمِ الاحتياجِ والاضطرارِ إلى ذلك ، لا يجوزُ . وأمَّا جَعْلُه حالاً مِنْ محذوفٍ وتقديرُه : أهلَ نعيم فلا حاجةَ إلى ادِّعاء الحَذْفِ مع صحةِ الكلامِ وبراعتِه دونَ تقديرِ ذلك المحذوفِ « .

قلت : جَعْلُ أحَدِ الضمائر لشيءٍ والآخرِ لشيءٍ آخرَ لا يمنعُ صحةَ ذلك مع ما يميِّزُ عَوْدَ كلِّ واحدٍ إلى ما يليقُ به ، وكذلك تقديرُ المحذوفِ غيرُ ممنوعٍ أيضاً ، وإنْ كان الأحسنُ أَنْ تتفقَ الضمائرُ ، وأن لا يُقَدَّرَ محذوفٌ ، والزمخشريُّ إنما ذَكَرَ ذلك على سبيل التجويزِ ، لا على أنَّه أَوْلى أو مساوٍ ، فَيُرَدُّ عليه بما ذكره .
الخامس : أنه حالٌ مِنْ مفعول « لَقَّاهم » . السادس : أنه حال مِنْ مفعول « جَزاهُمْ » ذكرهما مكي . وعلى هذه الأوجهِ التي انتصبَ فيها على الحالِ يرتفعُ به « ثيابُ » على الفاعلية ، ولا تَضُرُّ إضافتُه إلى معرفةٍ في وقوعِه حالاً؛ لأنَّ الإِضافةَ لفظيةٌ ، كقولِه تعالى : { عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } [ الأحقاف : 24 ] [ وقولِه : ]
4452 يا رُبَّ غابِطِنا . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ولم يؤنَّثْ « عالياً » لأنَّ مرفوعَه غير حقيقيِّ التأنيثِ . السابع : أَنْ ينتصِبَ « عاليَهم » على الظرفيةِ ، ويرتفع « ثيابُ » به على جهة الفاعلية . وهذا ماشٍ على قولِ الأخفش والكوفيين حيث يُعملون الظرفَ وعديلَه وإنْ لم يَعْتمد ، كما تقدَّم ذلك في الوصفِ . وإذا رُفعَ « عاليَهم » بالابتداء و « ثيابُ » على أنه فاعلٌ به كان مفرداً على بابِه لوقوعِه موقعَ الفعلِ ، وإذا جُعل خبراً مقدَّماً كان مفرداً مُراداً به الجمعُ ، فيكونُ كقولِه تعالى : { فَقُطِعَ دَابِرُ القوم } [ الأنعام : 45 ] ، أي : أدبار ، قاله مكي .
وقرأ ابن مسعود وزيد بن علي « عاليتُهم » مؤنثاً بالتاء مرفوعاً . والأعمش وأبان عن عاصم كذلك ، إلاَّ أنه منصوبٌ ، وقد عَرَفْتَ الرفعَ والنصبَ ممَّا تقدَّم ، فلا حاجةَ لإِعادتهما . وقرأَتْ عائشة رضي الله عنها « عَلِيَتْهم » فعلاً ماضياً متصلاً بتاء التأنيث الساكنة ، و « ثيابُ » فاعلٌ به ، وهي مقوِّيَةٌ للأوجه المذكورة في رفع « ثياب » بالصفةِ في قراءة الباقين كما تقدَّم تفصيلُه .
وقرأ ابنُ سيرين ومجاهد وأبو حيوة وابن أبي عبلة وخلائق « عليهم » ، جارَّاً ومجروراً ، وإعرابُه كإعرابِ « عاليَهم » ظرفاً في جوازِ كونِه خبراً مقدَّماً ، أو حالاً ممَّا تقدَّم ، وارتفاعُ « ثيابُ » به على التفصيلِ المذكورِ آنفاً .
وقرأ العامَّةُ/ « ثيابُ سُنْدُسٍ » بإضافةِ الثيابِ لِما بعدها . وأبو حيوةَ وابنُ أبي عبلةَ « ثيابٌ » منونةً « سُندُسٌ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ » برفعِ الجميعِ ، ف « سندسٌ » نعتٌ ل « ثيابٌ » لأنَّ السُّنْدسَ نوعٌ ، و « خُضْرٌ » نعتٌ ل « سندس »؛ إذ السندسُ يكونُ أخضرَ وغيرَ أخضرَ ، كما أنَّ الثيابَ يكونُ سُنْدُساً وغيرَه . و « إستبرقٌ » نَسَقٌ على ما قبلَه ، أي : وثياب استبرق .
واعلَمْ أنَّ القرَّاءَ السبعةَ في « خُضْر وإستبرق » على أربع مراتبَ ، الأولى : رَفْعُهما ، لنافعٍ وحفصٍ فقط . الثانية : خَفْضُهما ، للأخوَيْن فقط .

الثالثة : رَفْعُ الأولِ وخفضُ الثاني لأبي عمروٍ وابنِ عامرٍ فقط . الرابعةُ عكسُ الثالثةِ ، لابنِ كثيرٍ وأبي بكرٍ فقط . فأمَّا القراءةُ الأولى : فإنَّ رَفْعَ « خُضْرٌ » على النعتِ ل ثياب ، ورَفْعَ « إستبرقٌ » نَسَقاً على الثياب ، ولكن على حَذْفِ مضافٍ ، أي : وثيابُ إستبرقٍ . ومثلُه : « على زيدٍ ثوبُ خَزٍّ وكتَّانٌ » أي : وثوبُ كُتَّانٍ . وأمَّا القراءةُ الثانية فيكونُ جَرُّ « خُضْرٍ » على النعتِ لسُنْدسٍ . ثم اسْتُشْكِل على هذا وَصْفُ المفردِ بالجمعِ فقال مكي : « هو اسمٌ للجمع . وقيل : هو جمعُ سُنْدُسَة » كتَمْر وتَمْرة ، واسمُ الجنسِ وَصْفُه بالجمع سائغٌ فصيحٌ . قال تعالى : { وَيُنْشِىءُ السحاب الثقال } [ الرعد : 12 ] . وإذا كانوا قد وَصَفوا المفردَ المُحَلَّى لكونِه مُراداً به الجنسُ بالجمعِ في قولِهم : « أَهْلَكَ الناسَ الدِّينارُ الحُمْرُ والدِّرْهَمُ البيضُ » ، وفي التنزيل : { أَوِ الطفل الذين } [ النور : 31 ] فَلأَنْ يُوْجَدَ ذلك في أسماءِ الجموعِ أو أسماءِ الأجناسِ الفارقِ بينها وبين واحدِها تاءُ التأنيثِ بطريقِ الأَوْلى . وجَرُّ « إستبرق » نَسَقاً على « سندسٍ » لأنَّ المعنى : ثيابٌ مِنْ سُندسٍ وثيابٌ مِنْ إستبرق .
وأمَّا القراءةُ الثالثةُ فرَفْعُ « خُضْرٌ » نعتاً ل « ثيابٌ » وجَرُّ « إستبرقٍ » نَسَقاً على « سُنْدُسٍ » ، أي : ثيابٌ خضرٌ مِنْ سُندسٍ ومِنْ إستبرقٍ ، فعلى هذا يكون الإِستبرقُ أيضاً أخضرَ .
وأمَّا القراءةُ الرابعة فجَرُّ « خُضْرٍ » على أنه نعتٌ لسُنْدس ، ورَفْعُ « إستبرقٌ » على النَّسَقِ على « ثياب » بحَذْفِ مضافٍ ، أي : وثيابُ إستبرق . وتقدَّم الكلامُ على مادةِ السُّنْدُس والإِستبرق وما قيل فيهما في سورة الكهف .
وقرأ ابنُ مُحيصنٍ « وإستبرقَ » بفتحِ القافِ . ثم اضطرب النَّقْلُ عنه في الهمزة : فبعضُهم يَنْقُل عنه أنه قَطَعها ، وبعضهم ينقُلُ عنه أنه وَصَلَها .
فقال الزمخشري : « وقُرِىءَ » وإسْتبرقَ « نصباً في موضعِ الجرِّ على مَنْعِ الصرفِ؛ لأنَّه أعجميٌّ وهو غَلَطٌ؛ لأنَّه نكرةٌ يَدْخُلُهُ حرفُ التعريف . تقول : » الإِستبرق « إلاَّ أَنْ يَزْعُمَ ابن مُحيصن أنه يُجْعَلُ عَلَماً لهذا الضَّرْبِ من الثيابِ . وقُرِىءَ » واستبرقَ « بوصْل الهمزةِ والفتح ، على أنَّه مُسَمَّى باسْتَفْعل من البَريق ، ليس بصحيحٍ أيضاً؛ لأنَّه مُعَرَّب مشهورٌ تعريبُه ، وأنَّ أصلَه اسْتَبْرَه . وقال الشيخ : » ودلَّ قولُه « إلاَّ أَنْ يزعمَ ابنُ محيصن » وقولُه بعدُ : « وقُرىء » واسْتبرق « بوَصْلِ الألفِ والفتح أنَّ قراءةَ ابنِ محيصن هي بقَطْعِ الهمزةِ مع فتحِ القافِ . والمنقولُ عنه في كتبِ القراءاتِ أنَّه قرأ بوَصْل الألفِ وفتح القافِ » . قلت : قد سَبَقَ الزمخشريُّ إلى هذا مكيٌّ فقال : « وقد قرأ ابنُ محيصن بغيرِ صَرْفٍ ، وهو وهمٌ إنْ جعلَه اسماً لأنه نكرةٌ منصرفةٌ . وقيل : بل جَعَله فعلاً ماضياً مِنْ بَرِقَ فهو جائزٌ في اللفظِ ، بعيدٌ في المعنى .

وقيل : إنَّه في الأصلِ فعلٌ ماضٍ على اسْتَفْعل مِنْ بَرِقَ ، فهو عربيٌّ من البريق ، لمَّا سُمِّي به قُطِعَتْ ألفُه؛ لأنه ليس مِنْ أصلِ الأسماءِ أَنْ يدخلَها ألفُ الوصلِ ، وإنما دَخَلَتْ في أسماءٍ معتلةٍ مُغَيَّرَةٍ عن أصلِها معدودةٍ لا يُقاسُ عليها « انتهى . فدلَّ قولُه : » قُطِعَتْ ألفُه « / إلى آخرِه أنه قرأ بقطعِ الهمزةِ وفتحِ القافِ . ودلَّ قولُه أولاً : » وقيل : بل جعله فعلاً ماضياً مِنْ بَرِقَ « أنه قرأ بوَصْلِ الألفِ؛ لأنَّه لا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُحْكَمَ عليه بالفعليةِ غيرَ منقولٍ إلى الأسماءِ ، وبتَرْكِ ألفِه ألفَ قطع البتةَ ، فهذا جَهْلٌ باللغةِ ، فيكونُ قد رُوِي عنه قراءتان : قَطْعُ الألفِ ووَصْلُها . فظهر أنَّ الزمخشريَّ لم ينفَرِدْ بالنقل عن ابنِ محصين بقَطْع الهمزة .
وقال أبو حاتم في قراءة ابن محيصن : » لا يجوز . والصوابُ أنه اسمُ جنسٍ لا ينبغي أَنْ يَحْمِلَ ضميراً ، ويؤيِّد ذلك دخولُ المعرفةِ عليه . والثوابُ قَطْعُ الألفِ وإجراؤُه على قراءةِ الجماعةِ « . قال الشيخ : » ونقولُ : إنَّ ابن محيصن قارىءٌ جليلٌ مشهورٌ بمعرفةِ العربيةِ ، وقد أَخَذَ عن أكابرِ العلماءِ فيُتَطَلَّبُ لقراءته وَجْهٌ ، وذلك أنه يَجْعَلُ استفعل من البريق تقول : بَرِقَ واسْتَبْرَق كعَجِبَ واستعجب ، ولمَّا كان قولُه : « خُضْر » يدل على الخُضْرة ، وهي لَوْنُ ذلك السُّنْدُسِ ، وكانت الخُضْرَةُ مِمَّا يكونُ فيها لشدتها دُهْمة وغَبَش أخبرَ أنَّ في ذلك بَريقاً وحُسْناً يُزيل غُبْشَتَه فاستبرق فعلٌ ماضٍ ، والضميرُ فيه عائدٌ على السندسِ ، أو على الأخضرِ الدالِّ عليه « خُضْر » . وهذا التخريجُ أَوْلَى مِنْ تَلْحين مَنْ يعرِفُ العربية وتوهيمِ ضابطٍ ثقةٍ « . قلت : هذا هو الذي ذكره مكيٌّ كما حَكَيْتُه عنه ، وهذه القراءةُ قد تقدَّمَتْ في سورة الكهف ، وإنما أَعَدْتُ ذلك لزيادةِ هذه الفائدةِ .
قوله : { وحلوا } عطفٌ على » ويَطوف « ، عَطَفَ ماضياً لفظاً ، مستقبلاً معنىً ، وأَبْرَزه بلفظِ الماضي لتحقُّقه . وقال الزمخشري بعد سؤالٍ وجوابٍ مِنْ حيث المعنى : » وما أحسنَ بالمِعْصَمِ أَنْ يكونَ فيه سِواران : سِوارٌ مِنْ ذهبٍ وسِوارٌ مِنْ فضةٍ « ، فناقَشَه الشيخ في قولِه » بالمِعْصم « فقال : » قولُه بالمِعْصم : إمَّا أَنْ يكونَ مفعولَ « أَحْسن » ، و « أَنْ يكونَ » بدلاً منه ، وأمَّا « أنْ يكونَ » مفعولَ أَحْسن وقد فُصِلَ بينهما بالجارِّ والمجرور : فإنْ كان الأولَ فلا يجوزُ؛ لأنَّه لم تُعْهَدْ زيادةُ الباءِ في مفعولِ أَفْعَلِ التعجبِ . لا تقول : ما أحسنَ بزيدٍ تريدُ : « ما أحسن زيداً » . وإن كان الثاني ففي مثلِ هذا الفصل خلافٌ ، والمنقولُ عن بعضهِم لا يجوزُ ، والمُوَلَّدُ مِنَّا ينبغي إذا تكلَّم أن يَتَحَرَّزَ في كلامِه ممَّا فيه خلافٌ « . قلت : وأيُّ غَرَضٍ له في تتبُّعٍ كلامِ هذا الرجل ، حتى في هذا الشيءِ اليسيرِ؟ على أنَّ الصحيحَ جوازُه ، وهو المسموعُ من العربِ نثراً . قال عمروُ ابن معديكرب : » للَّهِ دَرُّ بني فلانٍ ما أشَدَّ في الهيجاءِ لقاءَها ، وأَثْبَتَ في المَكْرُمات بقاءَها ، وأحسنَ في اللَّزَبات عطاءَها « والتشاغلُ بغير هذا أَوْلى .

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23)

قوله : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا } : يجوزُ أَنْ يكونَ « نحن » توكيداً لاسم « إنَّ » ، وأَنْ يكونَ فَصْلاً و « نَزَّلْنا » على هَذَيْن الوجهَيْن هو خبرُ « إنَّ » ، ويجوزُ أَنْ يكونَ « نحن » مبتدأً و « نَزَّلْنا » خبرُه ، والجملةُ خبرُ « إنَّ » . وقال مكي : « نحنُ » في موضع نصبٍ على الصفةِ لاسم « إنَّ » ، لأنَّ المضمرَ يُوصَفُ بالمضمر؛ إذ هو بمعنى التأكيدِ لا بمعنى التَّحْلية ، ولا يُوْصَفُ بالمُظْهَرِ؛ لأنه بمعنى التَّحْلية ، والمضمرُ مُسْتَغْنٍ عن التَّحْلية؛ لأنَّه لم يُضْمَرْ إلاَّ بعد أن عُرِفَ تَحْلِيَتُه وعينُه فهو محتاجٌ إلى التأكيدِ لتأكُّدِ الخبرِ عنه « . قلت : وهذه عبارةٌ غريبةٌ جداً؛ كيف يُجْعَلُ المضمرُ موصوفاً بمثلِه؟ ولا نعلمُ خلافاً في عدمِ جوازِ وصفِ المضمرِ إلاَّ ما نُقِل عن الكسائيِّ أنه جوَّزَ وَصْفَ ضميرِ الغائبِ بالمُظْهَرِ . تقول : » مَرَرْتُ به العاقل « على أَنْ يكونَ » العاقِل « نعتاً . أمَّا وَصْفُ ضميرِ غير الغائبِ بضميرٍ آخرَ فلا خلافَ في عَدَمِ جوازِه ، ثم كلامُه يَؤُول إلى التأكيدِ فلا حاجةَ إلى العُدول عنه .

فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24)

قوله : { أَوْ كَفُوراً } : في « أو » هذه أوجهٌ ، أحدُها : أنَّها على بابها ، وهو قولُ سيبويهِ . قال أبو البقاء : « وتُفيد في النهي [ المنعَ ] عن الجميع؛ لأنَّك إذا قلت في الإِباحة : » جالِسِ الحسنَ أو ابنَ سِيرين « كان التقديرُ : جالِسْ أحدَهما . فإذا نهى فقال : » لا تُكَلِّمْ زيداً أو عَمْراً « فالتقدير : لا تُكَلِّمْ أحدَها ، فأيُّهما/ كلَّمَهُ كان أحدَهما ، فيكونُ ممنوعاً منه ، فكذلك في الآية ، ويَؤُول المعنى : إلى تقديرِ : ولا تُطِعْ منهما آثِماً ولا كفوراً » . وقال الزمخشريُّ : « فإنْ قلتَ : معنى » أو « : ولا تُطِعْ أحدَهما ، فهلا جيْءَ بالواو ليكونَ نَهْياً عن طاعتِهما جميعاً . قلت : لو قيل : » لا تُطِعْهما « لجازَ أَنْ يُطيعَ أحدَهما . وإذا قيل : لا تُطعْ أحدَهما عُلِم أنَّ الناهيَ عن طاعةِ أحدِهما ، عن طاعتِهما جميعاً أَنْهَى ، كما إذا نُهِيَ أَنْ يقولَ لأبَويْه : » أفّ « عُلِم أنه مَنْهِيٌّ عن ضَربْهما على طريق الأَوْلَى » . الثاني : أنَّها بمعنى « لا » ، أي : لا تُطِعْ مَنْ أَثِم ولا مَنْ كَفَر . قال مكي : « وهو قولُ الفراء ، وهو بمعنى الإِباحة التي ذكَرْنا » . الثالث : أنها بمعنى الواو ، وقد تقدَّم أنَّ ذلك قولُ الكوفيين وتقدَّمَتْ أدلَّتُهم .
والكَفور ، وإنْ كان يَسْتَلْزِمُ الإِثمَ ، إلاَّ أنه عُطِفَ لأحدِ شيئَيْن : إمَّا أَنْ يكونا شخصَين بعينهِما . وفي التفسير : الآثمُ عُتبةُ ، والكَفورُ الوليدُ ، وإمَّا لِما قاله الزمخشري قال : « فإنْ قلتَ : كانوا كلُّهم كفرةً فما معنى القِسْمَةِ في قولِه آثماً أو كفوراً؟ قلت : معناه لا تُطعْ منهم راكباً لِما هو إثمٌ داعياً لك إليه ، أو فاعلاً لِما هو كفرٌ داعياً لك إليه؛ لأنهم إمَّا أَنْ يَدْعُوْه إلى مساعَدَتِهم على فعلٍ هو إثمٌ أو كفرٌ ، أو غيرُ إثمٍ ولا كفرٍ ، فنُهي أَنْ يساعدَهم على الاثنين دونَ الثالث » .

وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26)

قوله : { وَسَبِّحْهُ } : فيه دليلٌ على عَدَمِ ما قال بعضُ أهلِ علمِ المعاني والبيان : إنَّ الجمعَ بين الحاءِ والهاءِ مثلاً يُخْرِجُ الكلمةَ عن فصاحتِها وجَعَلُوا من ذلك قولَ الشاعر :
4453 كريمٌ متى أَمْدَحْه أَمْدَحْه والوَرَى ... معي وإذا ما لُمْتُه لُمْتُه وَحْدي
البيت لأبي تمام . ويُمكن أَنْ يُفَرَّقَ بين ما أنشدوه وبين الآيةِ الكريمة بأن التكرارَ في البيتِ هو المُخْرِجُ له عن الفصاحة بخلافِ الآيةِ الكريمةِ فإنه لا تَكْرارَ فيها .

إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27)

قوله : { يَوْماً } : مفعولٌ ب « يَذَرُون » لا ظرفٌ ، ووَصْفُه بالثِّقَلِ على المجازِ؛ لأنه مِنْ صفات الأعيانِ لا المعاني . ووراء هنا بمعنى قُدَّام . قال مكي : « سُمِّي وراء لتوارِيْه عنك » فظاهرُ هذا أنه حقيقةٌ ، والصحيحُ أنه اسْتُعير ل قُدَّام . وقيل : بل هو على بابِه ، أي : وراءَ ظهورِهم لا يَعْبَؤُون به . وفيه تجوُّزٌ .

نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28)

قوله : { وَإِذَا شِئْنَا } : قال الزمخشري : « وحَقُّه أَنْ يجيءَ ب » إنْ « لا ب » إذا « كقولِه : { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } [ محمد : 38 ] { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ } [ النساء : 133 ] يعني أنَّ » إذا « للمحقَّقِ ، و » إنْ « للمحتملِ ، وهو تعالى لم يَشَأْ ذلك . وجوابُه أنَّ » إذا « قد تقع موقعَ » إنْ « كالعكسِ .

وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30)

قوله : { إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّه حالٌ ، أي : إلاَّ في حالِ مشيئِة اللَّهِ ، قاله أبو البقاء . وفيه نظرٌ؛ لأنَّ هذا مقدَّرٌ بالمعرفة . إلاَّ أَنْ يريدَ تفسير المعنى . والثاني : أنه ظرفٌ . قال الزمخشري : « فإنْ قلت : ما محلُّ { أَن يَشَآءَ الله } ؟ قلت : النصبُ على الظرف ، وأصلُه إلاَّ وقتَ مشيئةِ اللَّهِ ، وكذلك قرأ ابنُ مسعود » إِلاَّ مَا يشَآءُ الله « لأنَّ » ما « مع الفعلِ ك » أَنْ « . ورَدَّه الشيخُ : بأنه لا يقومُ مَقامَ الظرفِ إلاَّ المصدرُ الصريحُ . لو قلت : » أجيئُك أَنْ يَصيحَ الديكُ « أو » ما يصيحُ « لم يَجُزْ » . قلت : وقد تقدَّم الكلامُ معه في ذلك غيرَ مرةٍ .
وقرأ نافعٌ والكوفيون « تَشاؤُون » خطاباً لسائر الخَلْقِ أو على الالتفاتِ من الغَيْبة في قولِه : « نحن خَلَقْناهم » . والباقون بالغَيبة جَرْياً على قولِه : « خَلَقْناهم » وما بعدَه .

يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)

قوله : { والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ } : منصوبٌ على الاشتغال بفعلٍ يُفَسِّرُه « أعدَّ لهم » من حيث المعنى لا من حيث اللفظُ ، تقديرُه : وعَذَّبَ الظالمين ، ونحوُه : « زيداً مَرَرْتُ به » ، أي : جاوَزْتُ ولابَسْتُ . وكان النصبُ هنا مُختاراً لِعَطْف جملةِ الاشتغالِ على جملةٍ فعليةٍ قبلَها ، وهي قولُه : « يُدْخِلُ » . وقرأ الزبير وأبان بن عثمان وابن أبي عبلة « والظَّالمون » رَفْعاً على الابتداءِ ، وما بعده الخبرُ ، وهو مرجوحٌ لعدم المناسبةِ . وقرأ ابنُ مسعودٍ « وللظالمين » بلام الجرِّ . وفيه وجهان ، المشهورُ : أَنْ يكونَ « للظَّالمين » متعلِّقاً ب « أَعَدَّ » بعده/ ويكونَ « لهم » تأكيداً . الثاني : وهو ضعيفٌ جداً أَنْ يكونَ مِنْ بابِ الاشغال ، على أَنْ تُقَدِّر فعلاً مثلَ الظاهرِ ، ويُجَرَّ الاسمُ بحرفِ جرٍّ . فنقول : « بزيدٍ مررتُ به » ، أي : مررتُ بزيدٍ مررتُ به . والمعروفُ في لغة العربِ مذهبُ الجمهورِ ، وهو إضمارُ فِعْلٍ ناصبٍ موافقٍ للفعل الظاهرِ في المعنى . فإنْ وَرَدَ نحوُ « بزيدٍ مَرَرْتُ به » عُدَّ من التوكيدِ ، لا من الاشتغالِ .

وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1)

قوله : { عُرْفاً } : فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنَّه مفعولٌ مِنْ أجلِه ، أي : لأجلِ العُرْفِ وهو ضِدُّ النُّكْرِ . والمرادُ بالمُرْسَلاتِ : إمَّا الملائكةُ ، وإمَّا الأنبياءُ ، وإمَّا الرِّياحُ أي : والملائكةُ المُرْسَلاتُ ، أو والأنبياء المُرْسَلات ، أو والرياحُ المُرْسَلات . والعُرْفُ : المعروفُ والإِحسانُ . قال الشاعر :
4454 مَنْ يَفْعَلِ الخيرَ لا يَعْدَمْ جَوازِيَهُ ... لا يَذْهَبُ العُرْفُ بينَ اللَّهِ والناسِ
وقد يُقال : كيف جَمَعَ صفةَ المذكرِ العاقلِ بالألفِ والتاءِ ، وحقُّه أَنْ يُجْمَعَ بالواوِ والنونِ؟ تقول : الأنبياءُ المُرْسَلونَ ، ولا تقولُ : المُرْسَلات . والجوابُ : أنَّ المُرْسَلات جَمْعُ مُرْسَلة ، ومُرْسَلة صفةٌ لجماعةٍ من الأنبياء ، فالمُرْسَلات جمعُ « مُرْسَلة » الواقعةِ صفةً لجماعة ، لا جمعُ « مُرْسَل » المفردِ . الثاني : أَنْ ينتصِبَ على الحالِ بمعنى : متتابعة ، مِنْ قولِهم : جاؤوا كعُرْفِ الفَرَس ، وهم على فلانٍ كعُرْف الضَّبُع ، إذا تألَّبوا عليه . الثالث : أَنْ ينتصِبَ على إسقاطِ الخافضِ أي : المُرْسَلاتِ بالعُرْفِ . وفيه ضَعْفٌ ، وقد تقدَّمَ الكلامُ على العُرْف في الأعراف . والعامَّةُ على تسكينِ رائِه ، وعيسى بضمِّها ، وهو على تثقيلِ المخففِ نحو : « بَكُر » في بَكْر . ويُحتمل أَنْ يكونَ هو الأصلَ ، والمشهورةُ مخففةٌ منه ، ويُحْتَمَلُ أَنْ يكونا وزنَيْنِ مستقلَّيْن .

فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2)

قوله : { عَصْفاً } : مصدرٌ مؤكِّدٌ لاسمِ الفاعلِ ، والمرادُ بالعاصفات : الرياحُ أو الملائكةُ ، شُبِّهَتْ بسُرْعة جَرْيِها في أمرِ الله تعالى بالرياحِ ، وكذلك « نَشْراً » و « فَرْقاً » انتصبا على المصدرِ أيضاً .

فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5)

قوله : { ذِكْراً } : مفعولٌ به ، ناصبُه « المُلْقِيات » . وقرأ العامَّةُ « فالمُلْقِياتِ » بسكون اللامِ وتخفيفِ القافِ اسمَ فاعلٍ . وابن عباس بفتحِ اللامِ وتشديدِ القافِ ، من التَّلْقِية ، وهي إيصالُ الكلامِ إلى المخاطبِ . ورَوَى عنه المهدويُّ أيضاً فتحَ القافِ اسمَ مفعولٍ أي : مُلْقَيَةٌ مِنْ قِبَل اللَّهِ تعالى .

عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6)

قوله : { عُذْراً أَوْ نُذْراً } : فيهما أوجهٌ ، أحدُها : أنَّهما بدلانِ مِنْ « ذِكْراً » . الثاني : أنهما منصوبان به على المفعوليةِ ، وإعمالُ المصدرِ المنوَّنِ جائزٌ . ومنه { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً } [ البلد : 14 - 15 ] . الثالث : أنَّهما مفعولان مِنْ أجلِهما ، والعاملُ فيه : إمَّا « المُلْقِيات » ، وإمَّا « ذِكْراً »؛ لأنَّ كُلاًّ منهما يَصْلُحُ أَنْ يكونَ مَعْلولاً بأحدِهما ، وحينئذٍ يجوزُ في « عُذْراً » و « نُذْراً » وجهان ، أحدُهما : أَنْ يكونا مصدرَيْنِ بسكونِ العينِ كالشُّكر والكُفْر . والثاني : أَنْ يكونا جمعَ عَذِير ونَذِير ، المرادِ بهما المصدرُ بمعنى : الإِعذارِ والإِنذارِ ، كالنَّكير بمعنى الإِنكار . الرابع : أنَّهما منصوبان على الحالِ من « المُلْقِيات » ، أو من الضمير فيها ، وحينئذٍ يجوزُ أَنْ يكونا مصدرَيْنِ واقعَيْنِ مَوْقِعَ الحالِ بالتأويلِ المعروفِ في أمثاله ، وأَنْ يكونا جمعَ عذيرٍ ونذيرٍ مُراداً بهما المصدرُ ، أو مراداً بهما اسمُ الفاعلِ بمعنى : المُعْذِر والمُنْذِر ، أي : مُعْذِرين أو مُنْذِرين .
وقرأ العامَّةُ بسكونِ الذالِ مِنْ « عُذْراً » و « نُذْراً » . وقرأ زيدُ ابن ثابت وابن خارجة وطلحةُ بضمِّها والحَرَميَّان وابنُ عامر وأبو بكر بسكونِها في « عُذْراً » وضمِّها في « نُذُراً » . والسكونُ والضمُّ كما تقدَّمَ في أنَّه يجوزُ أَنْ يكونَ كلُّ منهما أصلاً للآخرِ ، وأَنْ يكونا أصلَيْنِ ، ويجوز في كلٍ من المثقَّلِ والمخفَّفِ أن يكونَ مصدراً ، وأَنْ يكونَ جمعاً سَكَنَتْ عينُه تخفيفاً . وقرأ إبراهيم التيمي « عُذْراً ونُذْراً » بواو العطفِ موضعَ « أو » ، وهي تدلُّ على أنَّ « أو » بمعنى الواو .

إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7)

قوله : { إِنَّ مَا تُوعَدُونَ } : هذا جوابُ القسمِ في قولِه والمُرْسَلاتِ « ، وما بعده معطوفٌ عليه ، وليس قَسَماً مستقلاً ، لِما تقدَّم في أولِ هذا الموضوع ، ولوقوعِ الفاءِ عاطفةً؛ لأنها لا تكونُ للقَسَم ، و » ما « موصولةٌ بمعنى الذي هي اسمُ » إنَّ « و » تُوْعَدون « صلَتُها ، والعائدُ محذوفٌ أي : إنَّ الذي تُوْعَدُونه . و » لَواقعٌ « خبرُها . وكان مِنْ حَقِّ » إنَّ « أَنْ تُكْتَبَ منفصلةً من » ما « الموصولةِ ، ولكنهم كتبوها متصلةً بها .

فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8)

قوله : { فَإِذَا النجوم طُمِسَتْ } : « النجومُ » مرتفعةٌ بفعلٍ مضمرٍ يُفَسِّره ما بعده عند البصريين غيرَ الأخفشِ ، وبالابتداء عند الكوفيين والأخفشِ . وفي جواب « إذا » قولان : أحدُهما محذوفٌ تقديرُه : / فإذا طُمِسَت النجومُ وَقَعَ ما تُوْعَدون ، لدلالةِ قولِه : « إنَّ ما تُوْعَدُوْن لَواقعٌ » ، أو بَانَ الأمرُ . والثاني : أنَّه { لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ } على إضمارِ القولِ ، أي : يُقال : لأيِّ يومٍ ، فالفعلُ في الحقيقةِ هو الجوابُ . وقيل : الجوابُ : « ويلٌ يومئذٍ » نقله مكي ، وهو غَلَطٌ؛ لأنَّه لو كان جواباً لَزِمَتْه الفاءُ لكونِه جملةً اسميةً .

وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11)

قوله : { أُقِّتَتْ } : قرأ أبو عمروٍ « وُقِّتَتْ » بالواوِ ، والباقون « أُقِّتَتْ » بهمزةٍ بدلَ الواوِ . قالوا : وهي الأصلُ؛ لأنَّه من الوَقْتِ ، والهمزةُ بدلٌ منها؛ لأنَّها مضمومةٌ ضمةً لازِمَةً . وقد تقدَّم ذِكْرُ ذلك في أولِ هذا الموضوع .

لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12)

قوله : { لأَيِّ يَوْمٍ } : متعلِّقٌ ب « أُجِّلَتْ » وهذه الجملةُ معمولةٌ لقولٍ مضمرٍ . أي : يُقال . وهذا القولُ المضمرُ يجوزُ أَنْ يكونَ جواباً ل « إذا » ، كما تقدَّم ، وأَنْ يكونَ حالاً مِنْ مرفوعِ « أُقِّتَتْ » أي : مَقُولاً فيها : لأيِّ يومٍ أُجِّلَتْ .

لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13)

قوله : { لِيَوْمِ الفصل } : بدلٌ مِنْ « لأيِّ يومٍ » بإعادةِ العاملِ . وقيل : بل تتعلَّق بفعلٍ مقدَّرٍ أي : أُجِّلَتْ ليومِ الفَصْل . وقيل : اللامُ بمعنى « إلى » ذكرهما مكيٌّ .

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)

قوله : { وَيْلٌ } : مبتدأٌ ، سَوَّغ الابتداءَ به كونُه دعاءً . وقال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : كيف وقعَتِ النكرةُ مبتدأً في قولِه : » ويَلٌ «؟ قلت : هو في أَصْلِهِ مصدرٌ منصوبٌ سادٌّ مَسَدَّ فِعْلِه ، ولكنه عُدِل به إلى الرفعِ للدلالةِ على ثباتِ معنى الهلاكِ ودوامِه للمدعُوِّ عليهم . ونحوُه { سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ } [ الأنعام : 54 ] ويجوز : وَيْلاً له بالنصبِ ، ولكن لم يُقْرَأْ به » . قلت : هذا الذي ذكره ليس من المُسَوِّغاتِ التي عَدَّها النَّحْويون ، وإنما المُسَوِّغُ ما ذكرْتُه لك مِنْ كونه دعاءً . وفائدةُ العدولِ إلى الرفع ما ذكره . و « يومئذٍ » ظرفٌ للوَيْل . وجَوَّز أبو البقاء أَنْ يكونَ صفةً ل « وَيْلٌ » و « للمُكَذِّبين » خبرُه .

أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16)

قوله : { أَلَمْ نُهْلِكِ } : العامَّةُ على ضَمِّ حرفِ المضارعةِ مِنْ « أَهْلَكَ » رباعياً . وقتادة بفتحِه . قال الزمخشري : « مَنْ هَلَكه بمعنى : أَهْلكه . قال العجَّاج :
4455 ومَهْمَهٍ هالكِ مَنْ تعرَّجا ... قلت : ف » مَنْ « معمولٌ ل » هالك « ، وهو مِنْ هَلَكَ . إلاَّ أنَّ بعضَ الناسِ جَعَلَ هذا دليلاً على إعمالِ الصفةِ المشبهةِ في الموصولِ ، وجَعَلَها مِن اللازمِ؛ لأنَّ شرطَ الصفةِ المشبهةِ أَنْ تكونَ مِنْ فِعْلٍ لازم ، فعلى هذا لا دليلَ فيه .

ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17)

قوله : { ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ } : العامَّةُ على رَفْعِ العينِ استئنافاً أي : ثم نحن نُتْبِعُهم ، كذا قَدَّره أبو البقاء . وقال : « وليس بمعطوفٍ؛ لأنَّ العَطْفَ يوجِبُ أَنْ يكونَ المعنى : أَهْلَكْنا الأوَّلِيْن ، ثم أَتْبَعْناهم الآخِرين في الهلاكِ . وليس كذلكَ؛ لأنَّ هلاكَ الآخرين لم يَقَعْ بعدُ » . قلت : ولا حاجةَ في وجهِ الاستئنافِ إلى تقديرِ مبتدأ قبلَ الفعل ، بل يُجْعَلُ الفعلُ معطوفاً على مجموع الجملةِ من قولِه : « ألم نُهْلِك » ويَدُّلُّ على هذا الاستئنافِ قراءةُ عبدِ الله « ثم سَنُتْبِعُهم » بسينِ التنفيسِ . وقرأ الأعرجُ والعباسُ عن أبي عمروٍ بتكسيِنها . وفيها وجهان ، أحدُهما : أنه تسكينٌ للمرفوعِ فهو مستأنف كالمرفوعِ لفظاً . والثاني : أنَّه معطوفٌ على مجزومٍ . والمَعْنِيُّ بالآخِرين حينئذٍ قومُ شُعَيْبٍ ولوطٍ وموسى ، وبالأوَّلِيْنَ قومُ نوحٍ وعادٍ وثمودَ .

كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18)

قوله : { كَذَلِكَ نَفْعَلُ } : أي : مثلَ ذلك الفعلِ الشَّنيعِ نَفْعَلُ بكلَّ مَنْ أَجْرَمَ .

فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23)

قوله : { فَقَدَرْنَا } : قرأ نافعٌ والكسائيُّ بالتشديد من التقدير ، وهو موافِقٌ لقولِه : { مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ } [ عبس : 19 ] والباقون بالتخفيف من القُدْرة . ويَدُلُّ عليه قولُه : « فنِعْمَ القادِرون » . ويجوز أَنْ يكونَ المعنى على القراءة الأولى : فنِعْمَ القادِرون على تقديرِه ، وإن جُعِلت « القادِرون » بمعنى « المُقَدِّرُون » كان جَمْعاً بين اللفظَيْنِ ، ومعناهما واحدٌ ، ومنه قولُه تعالى : { فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً } [ الطارق : 17 ] وقولُ الأعشى :
4456 وأَنْكَرَتْني وما كان الذي نَكِرَتْ ... من الحوادِث إلاَّ الشَّيْبَ والصَّلعَا

أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25)

قوله : { كِفَاتاً } : الكِفاتُ : اسمٌ للوِعاءِ الذي يُكْفَتُ فيه أي : يُجْمَعُ ، قاله أبو عبيدة . يقال : كَفَتَه يَكْفِتُه أي : جَمَعَه وضَمَّه . وفي الحديث « اكْفِتُوا صِبْيانَكم » وقال الصمصامة بن الطِّرِمَّاح :
4457 وأنتَ اليوم فوقَ الأرضِ حَيّاً ... وأنتَ غداً تَضُمُّك في كِفاتِ
وقيل : الكِفاتُ اسمٌ لِمَا يَكْفِتُ كالضِّمام والجِماع . يقال : هذا البابُ جِماعُ الأبوابِ . وفي انتصابِه وجهان ، أحدُهما : أنه مفعولٌ ثانٍ ل « نَجْعَلْ » لأنَّها للتصيير . والثاني : أنَّه منصوبٌ على الحالِ من « الأرضَ » ، والمفعولُ الثاني « أحياءً وأمواتاً » بمعنى : ألم نُصَيِّرْها/ أحياءً بالنَّبات وأمواتاً بغير نباتٍ أي : بعضُها كذا ، وبعضُها كذا . وقيل : كِفاتٌ جمعُ كافِتٍ كصِيامٍ وقِيامٍ في جمعِ صائمٍ وقائمٍ . وقيل : بل هو مصدرٌ كالكتابِ والحسابِ .

أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26)

قوله : { أَحْيَآءً } : فيه أوجهٌ ، أحدها : أنَّه منصوبٌ ب كِفات ، قاله مكي ، والزمخشريُّ وبدأ به ، بعد أن جَعلَ « كِفاتاً » اسمَ ما يَكْفِتُ كقولِهم : الضِّمام والجِماع ، هذا يمنعُ أَنْ يكونَ « كِفاتاً » ناصباً ل « أحياءً » لأنه ليس من الأسماءِ العاملةِ ، وكذلك إذا جَعَلْناه بمعنى الوِعاء ، على قول أبي عبيدةَ ، فإنه لا يعملُ أيضاً ، وقد نصَّ النحاةُ على أنَّ أسماءَ الأمكنةِ والأزمنةِ والآلات ، وإنْ كانَتْ مشتقةً جاريةً على الأفعالِ لا تعملُ ، نحو : مَرْمى ومِنْجل ، وفي اسم المصدرِ خلافٌ مشهورٌ ، ولكنْ إنما يتمشَّى نصبُهما بكِفات على قولِ أبي البقاء ، فإنَّه لم يُجَوِّزْ إلاَّ أَنْ يكونَ جمعاً لاسمِ فاعلٍ ، أو مصدراً ، وكلاهما من الأسماءِ العاملة .
الوجه الثاني : أَنْ ينتصِبَ بفعلٍ مقدرٍ يَدُلُّ عليه « كِفات » أي : يَكْفِتُهم أحياءً على ظهرِها ، وأمواتاً في بَطْنِها ، وبه ثنَّى الزمخشري .
الثالث : أن يَنْتَصِبا على الحالِ من « الأرضَ » على حَذْفِ مضافٍ أي : ذاتَ أحياءٍ وأموات .
الرابع : أَنْ يَنْتَصِبا على الحالِ مِنْ محذوفٍ أي : تَكْفِتُكم أحياءً وأمواتاً؛ لأنَّه قد عُلِمَ أنَّها كِفاتٌ للإِنسِ ، قاله الزمخشريُّ ، وإليه نحا مكيٌّ؛ إلاَّ أنَّه قَدَّره غائباً أي : تَجْمعهم الأرضُ في هاتَيْن الحالتَيْن .
الخامس : أَنْ ينتصِبا مفعولاً ثانياً ل « نَجْعل » وكِفاتاً حالٌ كما تقدَّم تقريرُه : وتنكيرُ « أحياءً وأمواتاً » : إمَّا للتَّفْخيمِ أي : تَجْمَعُ أحياءً لا يُقَدَّرُوْن وأمواتاً لا يُحْصَوْن ، وإمَّا للتبعيضِ؛ لأنَّ أَحياءَ الإِنس وأمواتَهم ليسوا بجميع الأحياءِ ولا الأمواتِ ، وكذلك التنكيرُ في « ماءً فُراتاً » يحتمل المعنَيْيْنِ أيضاً : أمَّا التفخيم فواضِحٌ لعِظَمِ المِنَّةِ به عليهم ، وأمَّا التبعيضُ فكقولِه تعالى : { وَيُنَزِّلُ مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ } [ النور : 43 ] فهذا مُفْهِمٌ للتبعيضِ ، والقرآنُ يُفَسِّرُ بعضُه بعضاً .
والشَّامخاتُ : جمعُ « شامِخ » ، وهو المرتفعُ جداً ومنه : « شَمَخَ بأَنْفِه » إذا تكبَّر ، جُعِل كِنايةً عن ذلك كثَنْي العِطْفِ وصَعْر الخَدِّ ، وإنْ لم يَحْصُلْ شيءٌ من ذلك .

انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29)

قوله : { انطلقوا } : أي : يُقال لهم ذلك . وقرأ العامَّةُ « انطَلِقوا » الثاني كالأول بصيغةِ الأمرِ على التأكيد . ورُوَيْسٌ عن يعقوب « انطلَقوا » بفتح اللام فعلاً ماضياً على الخبرِ أي : لَمَّا أُمِرُوا امْتَثَلوا ذلك . وهذا موضعُ الفاءِ فكان يَنْبعي أَنْ يكونَ التركيبُ : فانطَلَقوا نحو قولِك : قلت اذهب فذهب ، وعَدَمُ الفاءِ هنا ليس بالواضحِ .

لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31)

قوله : { لاَّ ظَلِيلٍ } : صفةٌ ل « ظلٍّ » و « لا » تتوسَّطُ بين الصفةِ والموصوفِ لإِفادةِ النفي ، وجيْءَ بالصفةِ الأولى اسماً ، وبالثانية فعلاً ، دلالةً على نَفْيِ ثبوتِ هذه الصفةِ واستقرارِها للظلِّ ، ونَفْيِ التجدُّدِ والحدوثِ للإِغْناءِ عن اللهب .

إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32)

قوله : { إِنَّهَا } : أي : إنَّ جهنَّم؛ لأنَّ السياقَ كلَّه لأجلها . وقرأ العامَّةُ : « بَشرَرٍ » بفتح الشينِ وعَدَمِ الألفِ بين الراءَيْن . وورش يُرَقِّقُ الراءَ الأولى لكسرِ التي بعدها . وقرأ ابن عباس وابن مقسم بكسرِ الشين وألفٍ بين الراءَيْنِ . وعيسى كذلك ، إلاَّ أنَّه فتح الشين . فقراءةُ ابنِ عباس يجوزُ أَنْ تكونَ جمعاً لشَرَرَة ، وفَعَلة تُجْمَعُ على فِعال نحو : رَقَبة ورِقاب ورَحَبة ورِحاب ، وأَنْ تكونَ جمعاً لشَرِّ ، لا يُراد به أَفْعَلُ التفضيلِ . يقال : رجلٌ شَرٌّ ورجالٌ شِرارٌ ، ورجلٌ خيرٌ ورجالٌ خِيار ، ويؤنثان فيقال : امرأة شَرَّةٌ ، وامرأةٌ خَيْرةٌ . فإن أُريد بهما التفضيلُ امتنعَ ذلك فيهما ، واختصَّا بأحكامٍ مذكورةٍ في كتبِ النحْويين أي : تَرمي بشِرارٍ من العذابِ أو بشِرار من الخَلْق .
وأمَّا قراءةُ عيسى/ فهي جمعُ شَرارَةٍ بالألفِ وهي لغةُ تميمٍ . والشَّرَرَةُ والشَّرارَة : ما تطايَرَ من النارِ متفرِّقاً .
قوله : { كالقصر } العامَّةُ على فتح القافِ وسكونِ الصادِ ، وهو القَصْرُ المعروف ، شُبِّهَتْ به في كِبَرِه وعِظَمِه . وابن عباس وتلميذاه ابن جُبَيْر وابنُ جَبْر ، والحسن ، بفتحِ القافِ والصادِ ، وهي جمعُ قَصَرة بالفتح والقَصَرَةُ : أَعْناقُ الإِبلِ والنخلِ ، وأصولُ الشجرِ . وقرأ ابن جبير والحسن أيضاً بكسرِ القافِ وفتحِ الصاد جمع « قَصَرة » يعني بفتح القافِ . قال الزمخشريُّ : « كحاجةٍ وحِوَج » وقال الشيخ : « كحَلَقة من الحديدِ وحِلَق » . وقُرىء « كالقَصِرِ » بفتح القاف وكسرِ الصادِ ، ولم أَرَ لها توجيهاً . ويظهرُ أنَّ ذلك مِنْ بابِ الإِتباعِ ، والأصلُ : كالقَصْرِ بسكونِ الصادِ ، ثم أتبعَ الصادَ حركةَ الراءِ فكسَرها ، وإذا كانوا قد فَعَلُوا ذلك في المشغولِ بحركة نحو : كَتِف وكَبِد ، فلأَنْ يَفْعلوه في الخالي منها أَوْلَى . ويجوزُ أَنْ يكون ذلك للنقل بمعنى : أنه وَقَفَ على الكلمةِ فَنَقَل كسرةَ الراءِ إلى الساكنِ قبلَها . ثم أَجْرَى الوَصْلَ مُجْرَى الوقفِ ، وهو بابٌ شائِعٌ عند القُرَّاءِ والنحاة . وقرأ عبدُ الله بضمِّهما . وفيها وجهان ، أحدُهما : أنَّه جمعُ قَصْرٍ كرَهْن وَرُهُن ، قاله الزمخشريُّ . والثاني : أنَّه مقصورٌ من قُصور كقولِه :
4458 فيها عيايِيْلُ أُسودٍ ونُمُرْ ... يريد : ونُمور . فقصَر وكقوله : « النُّجُم » يريد النجوم . وتخريجُ الزمخشريِّ أَوْلَى؛ لأنَّ محلَّ الثاني : إمَّا الضرورةُ ، وإمَّا النُّدُور .

كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33)

قوله : { جِمَالَةٌ } : قرأ الأخَوان وحَفْصٌ « جِمالَةٌ » . والباقون « جِمالات » . فالجِمالَةُ فيها وجهان ، أحدُهما : أنَّها جمعٌ صريحٌ ، والتاءُ لتأنيثِ الجمعِ . يُقال : جَمَلٌ وجِمال وجِمالَة نحو : ذَكَر وذِكار وذِكارة ، وحَجَر وحِجارة . والثاني : أنه اسمُ جمعٍ كالذِّكارة والحِجارة ، قاله أبو البقاء ، والأولُ قولُ النُّحاةِ . وأمَّا جِمالات فيجوزُ أَنْ يكونَ جمعاً ل « جِمالة » هذه ، وأَنْ يكونَ جمعاً ل جِمال ، فيكون جمعَ الجمعِ . ويجوزُ أَنْ يكونَ جمعاً ل جَمَل المفردِ كقولهم : « رجِالات قريش » كذا قالوه . وفيه نظرٌ؛ لأنَّهم نَصُّوا على أنَّ الأسماءَ الجامدةَ غيرَ العاقلةِ لا تُجْمَعُ بالألفِ والتاءِ ، إلاَّ إذا لم تُكَسَّرْ . فإنْ كُسِّرَْتْ لَم تُجْمَعْ . قالوا : ولذلك لُحِّن المتنبيُّ في قولِه :
4459 إذا كان بعضُ الناسِ سَيْفاً لدولةٍ ... ففي الناسِ بُوْقاتٌ لها وطُبولُ
فجمع « بُوقاً » على « بُوقات » مع قولِهم : « أَبْواق » ، فكذلك جِمالات مع قولهم : جَمَل وجِمال . على أنَّ بعضَهم لا يُجيزُ ذلك ، ويَجْعَلُ نحو « : حَمَّامات وسِجلاَّت شاذَّاً ، وإنْ لم يُكَسَّرْ .
وقرأ ابنُ عباس والحسنُ وابن جبير وقتادةُ وأبو رجاء ، بخلافٍ عنهم ، كذلك ، إلاَّ أنَّهم ضَمُّوا الجيمَ وهي حِبالُ السفنِ . وقيل : قُلوس الجسورِ ، الواحدةِ » جُمْلة « لاشتمالِها على طاقاتِ الحِبال . وفيها وجهان ، أحدهما : أَنْ تكونَ » جُمالات « جمعَ جُمال ، وجُمال جَمْعَ جُمْلة ، كذا قال الشيخ ، ويَحْتاجُ في إثباتِ أنَّ جُمالاً بالضمِّ جمعُ جُمْلة بالضمِّ إلى نَقْلٍ . والثاني : أنَّ » جُمالات « جمعُ جُمالة قاله الزمخشري ، وهو ظاهرٌ . وقرأ ابنُ عباس والسُّلَمِيُّ وأبو حيوةَ » جُمالة « بضمِّ الجيم ، وهي دالَّةٌ لِما قاله الزمخشريُّ آنِفاً .
قوله : { صُفْرٌ } صفةٌ لجِمالات أو لِجمالة؛ لأنَّه : إمَّا جمعٌ أو اسمُ جمعٍ . والعامَّة على سكونِ الفاءِ جمعَ صفْراء . والحسنُ بضمِّها ، وكأنَّه إتْباعٌ . وَوَقَعَ التشبيهُ هنا في غايةِ الفصاحةِ . قال الزمخشريُّ : » وقيل : صُفْرٌ سُوْدٌ تَضْرِبُ إلى الصُّفرة . وفي شعرِ عمرانَ بنِ حِطَّانَ الخارجيِّ :
4460 دَعَتْهُمْ بأعلَى صوتِها ورَمَتْهُمُ ... بمثل الجِمال الصفر نَزَّاعةِ الشَّوى
وقال أبو العلاء المعري :
4461 حمراءُ ساطِعَةُ الذوائب في الدُّجَى ... تَرْمي بكل شَرارةٍ كطِرافٍ
فشبَّهها/ بالطِّراف ، وهو بيت الأُدَم في العِظَمِ والحُمْرَةِ ، وكأنه قَصَدَ بخُبْثِه أَنْ يزيدَ على تشبيهِ القرآن . ولتبجُّحه بما سُوِّل له مِنْ تَوَهُّم الزيادة جاءَ في صَدْرِ بيتِه بقولِه : « حمراءُ » توطئةً لها ومناداةً عليها ، وتَنْبيهاً للسامِعين على مكانِها . ولقد عَمِيَ جمع الله له عَمى الدَّارَيْن عن قولِه عزَّ وجلَّ : « كأنه جِمالةٌ صُفْرٌ » فإنه بمنزلةِ قولِه كبيتٍ أحمر . وعلى أنَّ في التشبيهِ بالقَصْر وهو الحِصْنُ تشبيهاً مِنْ جهتَين : مِنْ جهةِ العِظَمِ ، ومن جهةِ الطولِ في الهواءِ ، وفي التشبيه بالجِمالات وهي القُلُوسُ تشبيهٌ مِنْ ثلاثِ جهاتٍ : الطُّولِ والعِظَمِ والصُّفْرةِ « انتهى . وكان قد قال قبلَ ذلك بقليلٍ : » شُبِّهَتْ بالقُصورِ ثم بالجِمال لبيانِ التشبيهِ ، ألا ترى أنَّهم يُشَبِّهون الإِبلَ بالأَفْدان « قلت : الأَفْدانُ : القصورُ ، وكأنه يُشيرُ إلى قولِ عنترة :
4462 فوقَفْتُ فيها ناقتي وكأنَّها ... فَدَنٌ لأَقْضِيَ حاجةَ المُتَلَوِّمِ

هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35)

قوله : { هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ } : العامَّةُ على رفعٍ « يومُ » خبراً ل « هذا » . وزيد بنُ عليّ والأعرجُ والأعمشُ وأبو حيوةً وعاصمٌ في بعضِ طرقِه بالفتح . وفيه وجهان ، أحدُهما : أنَّ الفتحةِ فتحةُ بناءٍ وهو خبرٌ ل « هذا » كما تقدَّم . والثاني : أنَّه منصوبٌ على الظرفِ واقعاً خبراً ل « هذا » على أَنْ يُشارَ به لِما تقدَّم من الوعيدِ كأنه قيل : هذا العذابُ المذكورُ كائنٌ يومَ لا يَنْطِقون . وقد تقدَّم آخِرَ المائدة ما يُشْبه هذا في قوله : { هذا يَوْمُ يَنفَعُ } إلاَّ أنَّ النصبَ هناك متواترٌ .

وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36)

قوله : { وَلاَ يُؤْذَنُ } : العامَّةُ على عَدَمِ تَسْمِيَةِ الفاعِل . وحكى الأهوازِيُّ عن زيدِ بن علي « ولا يَأْذَنُ » سَمَّى الفاعلِ ، وهو اللَّهُ تعالى . « فيعتذرون » في رفعِه وجهان ، أحدُهما : أنه مستأنفٌ أي : فهم يَعْتَذِرون . قال أبو البقاء : « ويكون المعنى : أنَّهم لا يَنْطِقُون نُطْقاً ينفَعُهم ، أو يَنْطقون في بعضِ المواقفِ ولا يَنْطِقُون في بعضها » . والثاني : أنه معطوفٌ على « يُؤْذن » فيكون مَنْفِيّاً . ولو نُصِبَ لكان مُتَسَبَّباً عنه « . وقال ابن عطية : » ولم يُنْصَبْ في جوابِ النفيِ لتشابُهِ رؤوسِ الآي ، والوجهان جائزان « . انتهى فقد جَعَلَ امتناعَ النصبِ مجردَ المناسبةِ اللفظيةِ ، وظاهرُ هذا مع قولِه : » والوجهان جائزان « أنهما بمعنىً واحدٍ ، وليس كذلك ، بل المرفوعُ له معنىً غيرُ معنى المنصوبِ . وإلى مثلِ هذا ذهبَ الأعلمُ فيُرفع الفعلُ ، ويكونُ معناه النصبَ ، ورَدَ عليه ابنُ عصفور .

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41)

قوله : { فِي ظِلاَلٍ } : هذه قراءةُ العامَّةِ ، جمعُ ظِلّ . والأعمش « ظُلَلٍ » جمعُ ظُلَّة . وتقدَّم في يس مثلُه ، إلاَّ أنهما متواتران .

كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)

قوله : { كُلُواْ } : معمولاً لقولٍ ، ذلك القولُ منصوبٌ على الحالِ من الضميرِ المستكنِّ في الظرفِ أي : كائِنْين في ظلال ، مَقُولاً لهم ذلك ، وكذلك { كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً } فإنْ كان ذلك مقولاً لهم في الدنيا فواضحٌ ، وإن كان مَقولاً في الآخرة فيكون تذكيراً بحالِهم أي : هم أحِقَّاءُ بأَنْ يُقال لهم في دنياهم كذا . ومثله :
4463 إخْوَتي لا تَبْعَدُوا أبداً ... وبَلَى واللَّهِ قد بَعِدُوا
أي : هم أهلٌ أَنْ يَدَّعَى لهم بذلك .

فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)

قوله : { فَبِأَيِّ حَدِيثٍ } : متعلقٌ بقولِه : « يُؤمنون » أي : إنْ لم يُؤمنوا بهذا القرآنِ فبأيِّ شيءٍ يُؤْمنون؟ والعامَّةُ على الغَيْبة . وقرأ ابن عامر في روايةٍ ويعقوبُ بالخطاب على الالتفات أو على الانتقال .

عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1)

قوله : { عَمَّ } : قد تقدَّم أن البزيَّ يُدخل هاءَ السكتِ عوضاً من ألف « ما » الاستفهاميةِ في الوقف . ونُقِلَ عن ابن كثير أنه يَقرأ « عَمَّه » بالهاء وَصْلاً ، أجرى الوصل مُجرى الوقف . وقرأ عبد الله وأُبَيّ وعكرمة « عَمَّا » بإثبات الألفِ . وقد تقدَّم أنه يجوزُ ضرورةً أو في قليلٍ من الكلام . ومنه :
4464 على ما قامَ يَشْتِمُني لَئيمٌ ... كخِنْزيرٍ تَمَرَّغَ في رَمادِ
/ وتقدم أنَّ الزمخشريَّ جَعَلَ منه { بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي } في يس [ الآية : 27 ] . و « عَمَّ » فيه قولان ، أحدُهما : وهو الظاهرُ أنَّه متعلِّقٌ ب « يتساءلون » هذا الظاهرِ . قال أبو إسحاق : « الكلامُ تامٌّ في قوله : » عَمَّ يتساءلون « ، ثم كان مقتضى القول أن يُجيبَ مُجيبٌ ، فيقولَ : يتساءلون عن النبأ العظيم ، فاقتضى إيجازُ القرآنِ وبلاغتُه أَنْ يبادِرَ المحتَجُّ بالجوابِ التذي تقتضيه الحالُ والمحاورةُ اقتضاباً للحُجَّة ، وإسراعاً إلى مَوْضِعِ قَطْعِهم » . والثاني : أنَّه متعلِّقٌ بفعلٍ مقدرٍ ويتعلَّقُ { عَنِ النبإ العظيم } بهذا الفعلِ الظاهرِ . قال الزمخشري : « وعن ابن كثيرٍ أنه قرأ » عَمَّهْ « بهاءِ السَّكْتِ . ولا يَخْلو : إمَّا أَنْ يجريَ الوصلُ مَجْرى الوقفِ ، وإمَّا أَنْ يقفَ ويَبْتَدِىءَ { يَتَسَآءَلُونَ عَنِ النبإ العظيم } على أَنْ يُضْمَرَ » يتساءلون «؛ لأنَّ ما بعده يُفَسِّرُه كشيءٍ يُبْهَمُ ثم يُفَسَّرُ » .

عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2)

قوله : { عَنِ النبإ } : يجوزُ فيه ما جازَ في قولِه { لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ } [ المرسلات : 13 ] في البدليةِ والتعلُّقِ بفعلٍ مقدَّرٍ . ويَزيد عليه هنا أنَّه يتعلَّقُ بالفعل الظاهرِ ، ويتعلَّقُ ما قبلَه بمضمرٍ ، كما تقدَّم عن الزمخشريِّ . وقال ابن عطية : « قال أكثرُ النحاة : قوله : { عَنِ النبإ العظيم } متعلِّقٌ ب » يتساءلون « الظاهرِ ، كأنَّه قال : لِمَ يتساءلون عن النبأ »؟ وقوله : « عَمَّ » هو استفهامُ تفخيمٍ وتعظيمٍ .

الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3)

قوله : { الذي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ } : « مُخْتلفون » خبرُ « هم » والجارُّ متعلِّقٌ به . والموصولُ يحتملُ الحركاتِ الثلاثَ إتْباعاً وقَطْعاً رفعاً ونصباً .

كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4)

قوله : { كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ، ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ } : التكرارُ للتوكيد . وقد زَعَمَ الشيخُ جمالُ الدين ابنُ مالك أنَّه مِنْ بابِ التوكيدِ اللفظيِّ . ولا يَضُرُّ توسُّطُ حرفِ العطفِ . والنَّحْوِيُّون يَأَبَوْن هذا . ولا يُسَمُّونه إلاَّ عَطْفاً . وإنْ أفادَ التأكيدَ . والعامَّةُ على الغَيْبة في الفعلَيْن . والحسنُ وابنُ دينار وابن عامر بخلافٍ عنه بتاءِ الخطاب فيهما . والضحاك : الأولُ كالحسن ، والثاني كالعامَّةِ . والغَيْبَةُ والخطابُ واضحان .

أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6)

قوله : { مِهَاداً } : مفعولٌ ثانٍ لأنَّ الجَعْلَ بمعنى التصييرِ . ويجوزُ أَنْ يكونَ بمعنى الخَلْق ، فيكونَ « مِهادا » حالاً مقدرة ، و « أوتاداً » كذلك ولا بُدَّ مِنْ تأويلِها بمشتق أيضاً ، أي : مُثَبَّتاتٍ . وأمَّا « سُباتاً » فالظاهر كونُه مفعولاً ثانياً . و « لباساً » فيه استعارةٌ حسنةٌ وعليه قولُه :
4465 وكم لِظَلامِ الليلِ عندك مِنْ يدٍ ... تُخَبِّرُ أنَّ المانَوِيَّةَ تَكْذِبُ
وقرأ العامَّةُ « مِهاداً » ، ومجاهد وعيسى وبعضُ الكوفيين « مَهْداً » وقد تقدَّم هاتان القراءتان في سورة طه ، وأنَّ الكوفيين قَرؤوا « مَهْداً » في طه والزخرف فقط . وتقدَّم الفرقُ بينهما ثَمَّةَ .

وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13)

قوله : { وَهَّاجاً } : الوَهَّاجُ : المُضِيءُ المُتلألىءُ ، مِنْ قولِهم : وَهَجَ الجَوْهَرُ ، أي : تلألأ . ويُقال : وَهِجَ يَوْهَجُ كوَجِلَ يَوْجَلُ ، ووَهَجَ يَهِجُ كوَعَدَ يَعِدُ .

وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14)

قوله : { مِنَ المعصرات } : يجوزُ في « مِنْ » أَنْ تكونَ على بابِها من ابتداءِ الغاية ، وأَنْ تكونَ للسببية . ويَدُلُّ قراءةُ عبدِ الله بنِ يزيد وعكرمة وقتادة « بالمُعْصِرات » بالباءِ بدلَ « مِنْ » وهذا على خلافٍ في « المُعْصِرات » ما المرادُ بها؟ فقيل : السحاب . يقال : أَعْصَرَتْ السَّحائِبُ ، أي : شارَفَتْ أَنْ تُعْصِرَها الرياحُ فتُمْطِرَ كقولك : « أجَزَّ الزرعُ » إذا حان له أن يُجَزَّ . ومنه « أَعْصَرَتِ الجارِيَةُ » إذا حان لها أَنْ تحيضَ . قاله الزمخشريُّ . وأنشد ابنُ قتيبة لأبي النجم :
4466 تَمْشي الهُوَيْنَى ساقِطاً خِمارُها ... قد أَعْصَرَتْ أو قَدْ دَنَا إعْصارُها
قلت : ولولا تأويلُ « أَعْصَرَتْ » بذلك لكان ينبغي أَنْ تكونَ المُعْصَرات بفتح الصادِ اسمَ مفعول؛ لأنَّ الرياحَ تُعْصِرُها .
وقال الزمخشري : « وقرأ عكرمةُ » بالمُعْصِرات « . وفيه وجهان : أَنْ يُراد الرياحُ التي حانَ لها أَنْ تُعْصِرَ السحابَ ، وأَنْ يُرادَ السحائبُ؛ لأنَّه إذا كان الإِنزالُ منها فهو بها/ كما تقول : أَعْطى مِنْ يدِه درهماً ، وأَعْطى بيدِه . وعن مجاهد : المُعْصِرات : الرياحُ ذواتُ الأعاصيرِ . وعن الحسن وقتادة : هي السماواتُ . وتأويلُه : أنَّ الماءَ يَنْزِلَ من السماءِ إلى السحاب فكأنَّ السماواتِ يَعْصِرْنَ ، أي : يَحْمِلْنَ على العَصْر ويُمَكِّنَّ منه . فإنْ قلتَ : فما وَجْهُ مَنْ قرأ » من المُعْصِرات « وفسَّرها بالرياح ذواتِ الأعاصيرِ ، والمطرُ لا يَنْزِلُ من الرياح؟ قلت : الرياحُ هي التي تُنْشِىءُ السحابَ وتَدِرُّ أخلافَه ، فيَصِحُّ أَنْ تُجْعَلَ مَبْدأً للإِنزال . وقد جاء : إنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ الرياحَ فتحملُ الماءَ من السماء ، فإنْ صَحَّ ذلك فالإِنْزالُ منها ظاهرٌ . فإنْ قلت : ذكر ابن كَيْسانَ : أنه جَعَلَ المُعْصِرات بمعنى المُغِيثات ، والعاصِرُ هو المُغيث لا المُعْصِر . يقال : عَصَرَهُ فاعْتَصَرَ . قلت : وَجْهُه أَنْ يُرادَ : اللاتي أَعْصَرْن ، أي : حان لها أَنْ تُعْصِرَ ، أي : تُغيث » . قلت : يعني أنَّ « عَصَرَ » بمعنى الإِغاثةِ ثلاثيٌّ ، فكيف قيل هنا : مُعْصِرات بهذا المعنى ، وهو من الرُّباعي؟ فأجاب عنه بما تقدَّم ، يعني أنَّ الهمزةَ بمعنى الدُّخولِ في الشيء .
قوله : { ثَجَّاجاً } الثَّجُّ : الانصِبابُ بكثرةٍ وشِدَّةٍ . وفي الحديث : « أحَبُّ العملِ إلى اللَّهِ العَجُّ والثَّجُّ » فالعَجُّ : رَفْعُ الصوتِ بالتلبيةِ ، والثَّجُّ : إراقةُ دماءِ الهَدْيِ . يقال : ثَجَّ الماءُ بنفسِه ، أي : انصَبَّ وثَجَجْتُه أنا ، أي : صَبَبْتُه ثَجّاً وثُجوجاً ، فيكونُ لازماً ومتعدياً . وقال الشاعر :
4467 إذا رَجَفَتْ فيها رَحَىً مُرْجَحِنَّةٌ ... تَبَعَّجَّ ثَجَّاجاً غَزيرَ الحوافِلِ
وقرأ الأعرج « ثجَّاحاً » بالحاءِ المهملةِ أخيراً . وقال الزمخشري : « ومَثاجِحُ الماءِ مَصابُّه ، والماءُ يَنْثَجِحُ في الوادي » .

وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16)

قوله : { أَلْفَافاً } : فيه أوجهٌ : أحدُها : أنَّه لا واحدَ له . قال الزمخشري : « ألفافاً » : ملتفَّةٌ لا واحدَ له كالأوْزَاعِ والأَخْيافِ « . والثاني : أنه جمعُ » لِفّ « بكسرِ اللام ، فيكونُ نحو : سِرّ وأَسْرار . وأنشد أبو علي الطوسي :
4468 جَنَّةٌ لِفٌّ وعَيْشٌ مُغْدِقُ ... ونَدامى كلُّهم بِيْضٌ زُهُرْ
وهذا قولُ أكثرِ أهلِ اللغة . الثالث : أنه جمعُ لفيف ، قاله الكسائي .
ومثلُه : شريف وأَشْراف ، وشهيد وأشهاد . وقال الشاعر :
4469 أحابِيْشُ أَلفْافٌ تبايَنَ فَرْعُهُمْ ... وجِذْمُهُمُ عن نسبةِ المتعرّفِ
الرابع : أنه جمعُ الجمعِ؛ وذلك أنَّ الأصلَ » ألَفُّ « في المذكر ، و » لَفَّاءُ « في المؤنث كَأْحمر وحمراء ، ثم جُمِعا على لُفّ كحُمْر ، ثم جُمع لُفّ على أَلْفاف ، إذا صار لُفٌّ بزنة قُفْلٍ فجُمع جَمْعَه ، قاله ابن قتيبة . إلا أن الزمخشري ، قال : » وما أظنُّه واجداً له نظيراً مِن نحو : خُضْر وأَخْضار ، وحُمْر وأَحْمار « . قلت كأنّه يَسْتَبْعِدُ هذا القولَ من حيث إن نَظَائِرَه لا تُجْمَعُ على أَفْعال؛ إذ لا يُقال : خُضْر وأخْضار ، ولا حُمْر وأَحْمار ، وإن كانا جمعَيْنِ لأَخْضَر وخَضْراء ، وأَحْمر وحَمْراء ، وهذا غيرُ لازمٍ؛ لأنَّ جمعَ الجمعِ لا يَنْقاسُ ، ويكفي أَنْ يكونَ له نظيرٌ في المفردات كما رأيتَ مِنْ أنَّ لُفّاً صارَ يضارِعُ قُفْلاً؛ ولهذا امتنعوا مِنْ تكسيرِ مَفاعل ومَفاعيل لعدمِ نظيرٍ في المفرداتِ يُحْمَلان عليه . الخامس : قال الزمخشري : » ولو قيل : هو جمعُ مُلْتَفَّة بتقدير حَذْفِ الزوائد لكان قولاً وجيهاً « . قلت : وفيه تكلُّفُ لا حاجةَ إليه ، وأيضاً فغالبُ عباراتِ النحاة في حَذْف الزوائِد إنما هو في التصغير . تقول : تصغيرُ الترخيم بحذفِ الزوائد ، وفي المصادر يقولون : هذا المصدرُ على حَذْفِ الزوائِد .

يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18)

قوله : { يَوْمَ يُنفَخُ } : يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ « يومَ الفَصْل » أو عطفَ بيانٍ له ، أو منصوباً بإضمار « أعني » و « أفْواجاً » حالٌ مِنْ فاعل « تأْتون » . وتقدَّمَ « فُرَاتاً » [ الفرقان : 53 ] . و « فُتِحَتْ » بالتخفيف والتشديد في الزُّمَر .

لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22)

قوله : { لِّلطَّاغِينَ } : يجوزُ أَنْ يكونَ صفةً لِمْرصاداً ، وأنْ يكونَ حالاً مِنْ « مآباً » كان صفتَه فلَّما تقدَّم نُصِب على الحال . وعلى هذَيْن الوجهَيْنِ فيتعلَّق بمحذوفٍ . ويجوزُ أَنْ يكونَ متعلقاً بنفسِ « مِرْصاداً » أو بنفسِ « مآباً » لأنه بمعنى مَرْجِع . وقرأ ابن يَعمر وأبو عمرو المنقري « أنَّ جهنمَ » بفتح « أنَّ » . قال الزمخشري : « على تعليل قيامِ السَّاعةِ بأنَّ جهنمَ كانت مِرْصاداً للطاغين ، كأنه قيل : كان ذلك لإِقامةِ الجزاءِ » . قلت : يعني أنَّه علةٌ لقولِه « يومَ يُنْفَخُ » إلى آخره .
وقرأ أبو عياض « في الصُّوَر » بفتحِ الواو . وتقدَّمَ مثلُه .

لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)

قوله : { لاَّبِثِينَ } : منصوبٌ على الحالِ من الضميرِ المستترِ في « للطَّاغِين » وهي حالٌ مقدرةٌ . وقرأ حمزةُ « لَبِثِيْنَ » دونَ ألفٍ ، والباقون « لابِثين » بها . وضَعَّفَ مكيٌّ قراءةَ حمزةَ ، قال : « ومَنْ قرأ » لبِثين « ، شَبَّهه بما هو خِلْقَةٌ في الإِنسان نحو : حَذِر وفَرِق ، وهو بعيدٌ؛ لأنَّ اللُّبْثَ ليس مِمَّا يكونُ خِلْقَةً في الإِنسان ، وبابُ فَعِل إنما هو لِما يكونُ خِلْقَةً في الإِنسانِ ، وليس اللُّبْثُ بخِلْقةٍ » . ورَجَّح الزمخشريُّ قراءةَ حمزةَ فقال : « قُرِىءَ : لابِثين ولَبِثين . والَّلبِثُ أَقْوى »؛ لأنَّ اللابِثَ يُقال لِمَنْ وجِدَ منه الُّلبْثُ ، ولا يُقال : لِبثٌ إلاَّ لمَنْ شأنُه الُّلبْثُ كالذي يَجْثُمُ بالمكانِ ، لا يكاد يَنْفَكُّ منه « . قلت : وما قاله الزمخشريُّ أَصْوَبُ . وأمَّا قولُ مكيّ : الُّلبْثُ ليس خِلْقَةً فمُسَلَّمٌ؛ لكنه بُوْلِغَ في ذلك فجُعِلَ بمنزلةِ الأشياءِ الخِلْقيَّة .
قوله : { أَحْقَاباً } منصوبٌ على الظرفِ ، وناصبهُ » لا بثين « ، هذا هو المشهورُ . وقيل : هو منصوبٌ بقولِه » لا يَذُوقون « وهذا عند مَنْ يرى تقديمَ معمولِ ما بعد » لا « عليها ، وهو أحدُ الأوجه ، وقد تقدَّم هذا مستوفىً في أواخر الفاتحة . وجَوَّز الزمخشريُّ أَنْ ينتصِبَ على الحالِ ، قال : » وفيه وجهٌ آخر : وهو أَنْ يكونَ مِنْ حَقِبَ عامُنا : إذا قَلَّ مطرُه وخيرُه ، وحَقِبَ فلانٌ : إذا أَخْطَأَهُ الرِّزْقُ فهو حَقِبٌ ، وجمعهُ أَحْقاب ، فينتصِبُ حالاً عنهم بمعنى : لابثين فيها حَقِبين جَحِدين « . وقد تقدَّم الكلامُ على » الحُقُب « ، وما قيل فيه في سورة الكهف .

لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24)

قوله : { لاَّ يَذُوقُونَ } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه متسأنفٌ أخبر عنهم بذلك . الثاني : أنه حالٌ من الضمير في « لابثين » أي : لابِثين غيرَ ذائقين ، فهي حالٌ متداخلةٌ . الثالث : أنه صفةٌ لأَحْقاب . قال مكي : « واحتمل الضميرَ لأنه فِعْلٌ ، فلم يجبْ إظهارُه ، وإن كان قد جَرَى صفةً على غير مَنْ هُوَ له ، وإنما جاز أَنْ يكونَ نعتاً ل » أحقاب « لأجْل الضميرِ العائدِ على الأَحْقاب في » فيها « ولو كان في موضع » يَذُوْقون « اسمُ فاعلٍ لكان لا بُدَّ مِنْ إظهارِ الضميرِ إذا جَعَلْتَه وصفاً لأَحْقاب » . الرابع : أنه تفسيرٌ لقولِه « أحقاباً » إذا جَعَلْتَه منصوباً على الحالِ بالتأويلِ الذي تقدَّم ذِكْرُه عن الزمخشريِّ فإنه قال : « وقولُه : لا يَذوقون فيها بَرْداً ولا شَراباً تفسيرٌ له . الخامس : أنه حالٌ أخرى مِنْ » للطَّاغين « ك » لابِثين « .

إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25)

قوله : { إِلاَّ حَمِيماً } : يجوزُ أَنْ يكونَ استثناءً متصلاً من قولِه « شَراباً » وهذا واضِحٌ . والثاني : أنَّه منقطعٌ . قال الزمخشري : « يعني لا يذُوقون فيها بَرْداً ولا رَوْحاً يُنَفِس عنهم حَرَّ النارِ ، ولا شَراباً يُسَكِّن مِنْ عَطَشِهم ، ولكنْ يَذُوقون فيها حميماً وغَسَّاقاً » .
قلت : ومكيٌّ لَمَّا جَعَله منقطعاً جعل البَرْدَ عبارةً عن النومِ ، قال : « فإن جَعَلْتَه النومَ كان » حميماً « استثاءً ليس من الأول » . وإنما الذي حَمَلَ الزمخشريُّ على الانقطاع مع صِدْقِ اسم الشرابِ على الحميمِ والغَسَّاقِ وَصْفُه له بقولِه « ولا شَراباً يُسَكِّنُ مِنْ عَطَشِهم » فبهذا القَيْدِ صار الحميمُ ليس من جنسِ هذا الشراب . وإطلاقُ البَرْدِ على النوم لغةُ هُذَيْلٍ . وأنشد :
4470 فإن شِئْتِ حَرَّمْتُ النِّساءَ سواكمُ ... وإنْ شِئْتِ لم أَطْعَمْ نُقاخاً ولا بَرْداً
وفي كلامِ بعضِ الأعراب « مَنَعَ البَرْدُ البَرْدَ » قيل : وسُمِّي بذلك لأنه يقطعُ سَوْرةَ العطشِ . والذَّوْقُ على هذين القولين أعني كونَه رَوْحاً يُنَفِّسُ عنهم الحَرَّ ، وكونَه النومَ مجازٌ . وأمَّا على قولِ مَنْ جعله اسماً للشرابِ الباردِ المُسْتَلَذُّ ، ويُعْزَى لابنِ عباس ، وأنشد قولَ حَسَّانَ رضي الله عنه :
4471 يَسْقُونَ مْن وَرَدَ البَرِيصَ عليهمُ ... بَرْداً يُصَفِّقُ بالرَّحيقِ السَّلْسَلِ
وقول الآخر :
4472 أَمانِيُّ مِنْ سُعْدَى حِسانٌ كأنَّما ... سَقَتكَ بها سُعْدى على ظَمَأ بَرْدا
فالذَّوْقُ حقيقةٌ ، إلاَّ أنه يصير فيه تَكْرارٌ بقولِه بعد ذلك : « ولا شراباً » .
الثالث : أنه بدلٌ مِنْ قولِه « ولا شراباً » ، وهو الأحسنُ لأنَّ الكلامَ غيرُ موجَبٍ . وتقدَّم خلافُ القُراء في { وَغَسَّاقاً } تخفيفاً وتثقيلاً ، والكلامُ عليه وعلى حميم .

جَزَاءً وِفَاقًا (26)

قوله : { جَزَآءً } : منصوبٌ على المصدر/ وعاملُه : إمَّا قولُه « لا يذوقون » إلى آخرِه : لأنَّه في قوةِ : جُوزوا بذلك ، وإمَّا محذوفٌ . ووِفاقاً نعتٌ له على المبالغةِ ، أو على حَذْفِ مضافٍ ، أي : ذا موافقة . وقرأ أبو حيوة وابنُ أبي عبلة بتشديد الفاء مِنْ وفَّقه لكذا .

وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28)

قوله : { كِذَّاباً } : قرأ العامَّةُ كِذَّاباً بتشديدِ الذَّالِ . وكان مِنْ حَقِّ مصدرِ فَعَّل أَنْ يأتيَ على التفعيل نحو : صَرَّف تَصْريفاً . قال الزمخشري : « وفِعَّال في باب فَعَّلَ كلِّه فاشٍ في كلامِ فصحاءَ مِنْ العرب ، لا يقولون غيرَه . وسَمِعَني بعضُهم أُفَسِّرُ آية ، فقال : » لقد فَسَّرْتَها فِسَّاراً ما سُمِعَ بمثِله « . قال غيرُه : وهي لغةُ بعضِ العرب يمانيةٌ ، وأنشد :
4473 لقد طالَ ما ثَبَّطْتَني عن صَحابتي ... وعن حاجةٍ قِضَّاؤُها مِنْ شِفائِيا
يريد : تَقَضِّيْها . والأصلُ على التَّفْعيل ، وإنَّما هو مثلُ : زَكَّى تَزْكِية . وسُمع بعضُهم يَسْتَفْتي في حَجِّه ، فقال : » آلحَلْقُ أحَبُّ إليك أم القِصَّار « يريد التقصيرَ » .
وقرأ علي رضي الله عنه والأعمش وأبو رجاء وعيسى البصرة بالتخفيف ، وهو مصدرٌ : إمَّا لهذا الفعل الظاهرِ على حَذْفِ الزوائِد ، وإمَّا لفعلٍ مقدَّرٍ ك { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] . قال الزمخشري : وهو مثلُ قولِه : { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } يعني : وكَذَّبوا بآياتِنا فكَذَبوا كِذاباً ، أو تَنْصِبُه ب « كَذَّبوا »؛ لأنَّه يتضمَّنُ معنى كَذَبوا؛ لنَّ كلَّ مُكَذِّبٍ بالحقِّ كاذبٌ ، وإنْ جَعَلْتَه بمعنى المكاذَبَةِ فمعناه : وكذَّبوا بآياتِنا فكاذَبوا مُكاذَبَةً ، أو كَذَّبوا بها مُكاذِبين؛ لأنَّهم إذا كانوا عند المسلمين كاذبين ، وكان المسلمون عندهم كاذبين ، فبَينهم مكاذَبَةٌ ، أو لأنهم يتكلَّمون بما هو إفراطٌ في الكذبِ ، فِعْلَ مَنْ يغالِبُ في أمرٍ فيَبْلُغُ فيه أقصى جُهْدِه « . وقال أبو الفضل : » وذلك لغةٌ لليمينِ ، وذلك بأَنْ يَجعلوا مصدرَ « كَذَب » مخففاً « كِذاباً » . بالتخفيف ، مثل : كَتَبَ كِتاباً ، فصار المصدرُ هنا مِنْ معنى الفِعْلٍ دونَ لفظِه مثلَ : أَعْطَيْته عَطاءً . قلت : أمَّا كَذَبَ كِذاباً بالتخفيف فيهما فمشهورٌ ، ومنه قولُ الأعشى :
4474 فَصَدَقْتُها وكَذَبْتُها ... والمَرْءُ يَنْفَعُه كِذابُه
وقرأ عمر بن عبد العزيز والماجشون « كُذَّاباً » بضمِّ الكاف وشدِّ الذال ، وفيها وجهان ، أحدُها : أنه جمع كاذِب نحر : ضُرَّاب في ضارب . وانتصابُه على هذا على الحالِ المؤكِّدة ، أي : وكَذَّبوا في حالِ كونِهم كاذبين . والثاني : أنَّ الكُذَّاب بمعنى الواحدِ البليع في الكذب . يقال : رجلٌ كُذَّاب كقولِك : « حُسَّان » فيُجْعَلُ وصفاً لمصدر كَذَّبوا ، أي : تَكْذيباً كُذَّاباً مُفْرِطاً كَذِبُه ، قالهما الزمخشري .

وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29)

قوله : { وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ } : العامَّةُ على النصبِ على الاشتغال ، وهذا الراجحُ لتقدُّمِ جملةٍ فعليةٍ . وقرأ أبو السَّمَّال برفعِه على الابتداء وما بعدَه الخبرُ . وهذه الجملةُ مُعْتَرَضٌ بها بين السبب والمُسَبَّب؛ لأنَّ الأَصل : وكَذَّبوا بآياتنا كِذَّاباً فذوقوا . فقوله « فذوقوا » مُتَسَبِّبٌ عن تكذيبهم .
قوله : { كِتَاباً } فيه أوجهٌ : أحدُها : أنه مصدرٌ مِنْ معنى « أَحْصَيْنا » ، أي : إحصاءً . فالتجوُّزُ في نفسِ المصدرِ . الثاني : أنَّه مصدرٌ ل « أَحْصَيْنا » لأنَّه في معنى « كَتَبْنا » فالتجوُّزُ في نفسِ الفعلِ . قال الزمخشري : « لالتقاءِ الإِحصاء والكَتْبِ في معنى الضَّبْطِ والتحصيل » . الثالث : أَنْ يكونَ منصوباً على الحالِ بمعنى : مكتوباً في اللوح .

حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32)

قوله : { حَدَآئِقَ } : يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ « مَفازاً » بدلَ اشتمال ، أو بدلَ كل مِنْ كل مبالغةً : في أَنْ جُعِلَتْ نفسُ هذه الأشياء مفازاً . ويجوز أَنْ يكونَ منصوباً بإضمار « أَعْني » . وقيل : « مَفازاً » بمعنى الفوز فيقدَّرُ مضافٌ ، أي : فوزَ حدائق .

وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33)

قوله : { وَكَوَاعِبَ } : الكواعب : جمع كاعِب ، وهي مَنْ كَعَبَ ثَدْيُها ، أي : استدارَ . قال :
4475 وكان مِجَنِّي دونَ مَنْ كَنْتُ أتَّقي ... ثلاثُ شُخوصٍ كاعِبانِ ومُعْصِرُ
وقال قيس بن عاصم المِنْقَري :
4476 وكم مِنْ حَصانٍ قد حَوَيْنا كَريمةٍ ... ومِنْ كاعبٍ لم تَدْرِما البؤسُ مُعْصِرِ
والأَتراب تقدَّم ذكرُهن :

وَكَأْسًا دِهَاقًا (34)

قوله : { دِهَاقاً } : صفةٌ ل كأس . والدِّهاقُ : المَلأَى المُتْرَعَةُ . قيل : هو مأخوذٌ مِنْ دَهَقَه ، أي : ضَغَطَهُ وشَدَّه بيدِه ، كأنه ملأ اليدَ فانضغطَ . قال الشاعر :
4477 لأَنْتِ إلى الفؤادِ أحَبُّ قُرْباً ... من الصَّادي إلى الكأسِ الدهاق
/ وقيل : الدِّهاقُ : المتتابِعة . وأُنْشِد :
4478 أتانا عامِرٌ يَبْغي قِراناً ... فأتْرَعْنا له كأساً دِهاقا

لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35)

قوله : { وَلاَ كِذَّاباً } : الكسائيُّ بالتخفيف . والباقون بالتثقيلِ ، وإنما وافق الكسائيُّ الجماعةَ في الأولِ للتصريحِ بفعلِه المشدَّدِ المقتضي لعدمِ التخفيفِ في « كِذّاباً » وهذا ما تقدَّم في قولِه { فَتُفَجِّرَ الأنهار } [ الإِسراء : 91 ] حيث لم يُخْتَلَفْ فيه ، للتصريح معه بفعلهِ ، بخلافِ الأول . وقال مكيٌّ « مَنْ شَدَّد جَعَلَه مصدرَ » كَذَّبَ « زِيْدَتْ فيه الألفُ كما زِيْدَتْ في » إكراماً « ، وقولُهم » تَكْذيباً « جعلوا التاءَ عوضاً مِنْ تشديدِ العينِ ، والياءَ بدلاً من الألف ، غيَّروا أوَّلَه كما غيَّروا آخره . وأصلُ مصدر الرباعيِّ أَنْ يأتيَ على عَدَدِ حروفِ الماضي بزيادة ألفٍ ، مع تغييرِ الحركات . وقد قالوا » تَكَلُّماً « فأتى المصدرُ على عددِ حروفِ الماضي بغير زيادةِ ألفٍ؛ لكثرة حروفِه ، وضُمَّت اللامُ ، ولم تُكْسَرْ لأنَّه ليسَ اسمٌ على تَفَعِّل ، ولم تُفْتَحْ لئلا يَشْتَبِهَ بالماضي » وقراءةُ الكسائيِّ « كِذاباً » بالتخفيفِ ، جعله مصدرَ : كَذَّبِ كِذاباً . وقيل : هو مصدرُ « كَذَب » كقولِك : كَتَبَ كِتاباً .

جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36)

قوله : { جَزَآءً } : مصدرٌ مؤكِّدٌ منصوبٌ بمعنى : إنَّ للمتقين مَفازاً ، كأنه قيل : جازى المتقين بمَفازٍ .
قوله : « عَطاءً » بدلٌ مِنْ « جَزاءً » وهو اسمُ مصدرٍ . قال :
4479 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وبعدَ عَطائِك المِئةَ الرِّتاعا
وجعله الزمخشريُّ منصوباً ب « جزاءً » نَصْبَ المفعولِ به . ورَدَّه الشيخُ : بأنَّه جَعَلَ « جزاءً » مصدراً مؤكداً لمضمونِ الجملةِ التي هي « إنَّ للمتقين [ مفازاً ] » . قال : « والمصدرُ المؤكِّد لا يعملُ؛ لأنه لا ينحلُّ لحرفٍ مصدريِ والفعلِ ، ولا نعلَمُ في ذلك خلافاً » .
قوله : { حِسَاباً } صفةٌ ل « عطاءً » والمعنى : كافياً ، فهو مصدرٌ أقيم مُقامَ الوصفِ ، أو بُوْلغ فيه ، أو على حَذْفِ مضافٍ مِنْ قولِهم : أَحْسَبَنِي الشيءُ ، أي : كفاني . وقرأ أبو البرهسم وشُرَيْح بن يزيد الحمصي بتشديد السينِ مع بقاءِ الحاءِ على كسرِها . وتخريجُها أنه مصدرٌ مثلُ كِذَّاب ، أقيم مُقامَ الوصفِ ، أي : عطاءً مُحْسِباً ، أي : كافياً . وابن قطيب كذلك إلاَّ أنَّه فتح الحاءَ ، قال أبو الفتح : « بنى فَعَّالاً مِنْ أَفْعَلَ كدَرَّاك مِنْ أَدْرَك » يعني أنه صفةٌ مبالغةٍ ، مِنْ أَحْسَبَ بمعنى كافي كذا . وابنُ عباس « حَسَنَا » بالنون من الحُسن . وسِراج « حَسْباً » بفتحِ الحاء وسكونِ السينِ والباءِ الموحَّدة ، أي : عطاءً كافياً ، مِنْ قولِك : حَسْبُك كذا ، أي : كافيك .

رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37)

قوله : { رَّبِّ السماوات } : قرأ نافع وابن كثير وأبو عمروٍ برفع « ربُّ السماواتِ » و « الرحمنُ » . وابن عامر وعاصم بخفضِها ، والأخَوان بخفض الأولِ ورَفْعِ الثاني . فأمَّا رَفْعُهما فيجوزُ مِنْ أوجهٍ ، أحدها : أَنْ يكونَ « ربُّ » خبرَ مبتدأ مضمرٍ ، أي : هو ربُّ . و « الرحمنُ » كذلك ، أو مبتدأٌ خبرُه « لا يَمْلِكون » . الثاني : أَنْ يُجْعَلَ « ربُّ » مبتدأً ، و « الرحمنُ » خبرُه ، و « لا يَمْلِكون » خبرٌ ثانٍ ، أو مستأنفٌ . الثالث : أَنْ يكونَ « ربُّ » مبتدأً أيضاً و « الرحمنُ » نعتُه ، و « لا يَمْلِكون » خبرُ « رَبُّ » . الرابع : أنْ يكونَ « رَبُّ » مبتدأ ، و « الرحمنُ » مبتدأٌ ثانٍ ، و « لا يَمْلِكون » خبرُه ، والجملةُ خبرُ الأولِ . وحَصَلَ الرَّبْطُ بتكريرِ المبتدأ بمعناه ، وهو رأيُ الأخفش . ويجوزُ أَنْ يكونَ « لا يَمْلكون » حالاً ، وتكونُ لازمةً .
وأمَّا جَرُّهما فعلى البدل ، أو البيانِ ، أو النعتِ ، كلاهما للأول ، إلاَّ أنَّ تكريرَ البدلِ فيه نظرٌ ، وقد نَبَّهْتُ على ذلك في أواخر هذا الموضوع ، آخرِ الفاتحةِ ، أو يُجْعَلُ « ربِّ السماواتِ » تابعاً للأولِ ، و « الرحمن » تابعاً للثاني على ما تقدَّم . وأمَّا جَرُّ الأولِ فعلى التبعيَّةِ للأولِ ، ورفعُ الثاني فعلى الابتداءِ ، والخبرُ الجملةُ الفعليةُ ، أو على أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ ، و « لا يَمْلِكون » على ما تقدَّم من الاستئنافِ ، أو الخبرِ الثاني ، أو الحالِ اللازمةِ .

يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38)

قوله : { يَوْمَ يَقُومُ } : منصوبٌ : إمَّا ب « لا يتكلَّمون » بعدَه ، وإمَّا ب « لا يَمْلِكون » و « صَفَّا » حالٌ ، أي : مُصْطَفِّيْنَ ، و « لا يتكلَّمون » : إمَّا حالٌ وإمَّا مستأنفٌ .
قوله : { إِلاَّ مَنْ أَذِنَ } يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ واو « يتكلمون » ، وهو الأَرْجَحُ لكونِه غيرَ موجَبٍ ، وأَنْ يكونَ منصوباً على أصلِ الاستثناء .

إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)

قوله : { يَوْمَ يَنظُرُ } : يجوزُ أَنْ يكونَ/ بدلاً مِنْ « يَومَ » قبلَه ، وأنْ يكونَ منصوباً ب « عذاباً » ، أي : العذابُ واقعٌ في ذلك اليوم . وجَوَّزَ أبو البقاء أَنْ يكونَ نعتاً ل « قريباً » ، ولو جعله نعتاً ل « عذاباً » لكان أَوْلى ، والعامَّةُ بفتح ميم « المَرْءُ » ، وهي العاليةُ . وابنُ أبي إسحاق بضَمِّها وهي لغةٌ : يُتْبِعون الفاءَ اللامَ . وخَطَّأَ أبو حاتمٍ هذه القراءةَ ، وليس بصوابٍ لثبوتِها لغةً .
قوله : { مَا قَدَّمَتْ } يجوزُ أَنْ تكونَ استفهاميةً مُعلِّقَةً ل « يَنْظُرُ » على أنَّه من النظر ، فتكونُ الجملةُ في موضعِ نصبٍ على إسقاط الخافضِ ، وأَنْ تكونَ موصولةً مفعولاً بها ، والنظرُ بمعنى الانتظار ، أي : ينتظرُ الذي قَدَّمَتْه يداه . والعامَّةُ لا يُدْغِمون تاءَ « كنتُ » في « تُراباً » قالوا : لأنَّ الفاعلَ لا يُحْذَفُ ، والإِدغامُ يُشْبه الحذفَ . وفي قولِه « ويقولُ الكافرُ » وَضْعُ ظاهرٍ موضعَ مضمرٍ شهادةً عليه بذلك .

وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1)

قوله : { غَرْقاً } : يجوزُ فيه أَنْ يكونَ مصدراً على حَذْفِ الزوائد بمعنى : إغْراقاً ، وانتصابُه بما قبلَه لملاقاتِه له في المعنى ، وإمَّا على الحالِ ، أي : ذواتَ إغْراقٍ . يُقال : أَغْرَقَ في الشيءِ يُغْرِقُ فيه إذا أَوْغَلَ وبَلَغَ أقصى غايتِه . ومنه : أغرقَ النازعُ في القَوْسِ ، أي : بلغَ غايةَ المَدِّ .

وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4)

ونَشْطاً وسَبْحاً وسَبْقاً كلُّها مصادرُ . والنَّشْطُ : الرَّبْطُ ، والإِنْشاطُ : الحَلُّ . يقال : نَشَطَ البعيرَ : رَبَطه ، وأَنْشَطَه : حَلَّه ، ومنه : « كأنما أنشط مِنْ عقال » . فالهمزةُ للسَّلْبِ . ونَشِطَ : ذَهَبَ بسُرْعَةٍ . ومنه قيل لبقر الوَحْش : نَواشِط . قال هِمْيان بن قُحافة :
4480 أرى همومي تَنْشِطُ المَناشِطا ... الشَّامَ بي طَوْراً وطَوْراً واسِطا
وَنَشَطْتُ الحَبْلَ أَنْشِطُه أُنْشُوْطَة : عَقَدْتُه ، وأَنْشَطْتُه مَدَدْتُه ، ونَشَطَ كأَنْشَط . قال الزمخشري : « تُنْشِطُ الأرواحَ ، أي : تُخْرِجُها ، مِنْ نَشَطَ الدَّلْوَ مِنْ البئرِ إذا أَخْرجَها » .
و « أَمْراً » مفعولٌ بالمُدَبِّراتِ . وقيل : حال : تُدَبِّرُهُ مَأْموراتٍ ، وهو بعيدٌ . والمرادُ بهؤلاء : إمَّا طوائِفُ الملائكةِ ، وإمَّا طوائِفُ خَيْلِ الغُزاةِ ، وإمَّا النجومُ ، وإمَّا المنايا ، وإمَّا بَقَرُ الوَحْشِ ، وما جَرَى مَجْراها لسُرْعَتِها ، وإمَّا أرواحُ المؤمنين .

يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6)

قوله : { يَوْمَ تَرْجُفُ } : منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ ، هو جوابُ القسم تقديره : لَتْبُعَثُنَّ ، لدلالةِ ما بعدَه عليه ، قال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : كيف جَعَلْتَ » يومَ تَرْجُفُ « ظرفاً للمُضْمرِ الذي هو لَتُبْعَثُنَّ ، ولا يُبْعَثُون عند النَّفْخَةِ الأولى؟ قلت : المعنى : لتُبْعَثُنَّ في الوقتِ الواسعِ الذي تقع فيه النَّفْختان ، وهم يُبْعَثُون في بعض ذلك الوقتِ الواسعِ ، وهو وقتُ النَّفْخَةِ الأخرى ، ودلَّ على ذلك أنَّ قولَه : » تَتْبَعُها الرَّادِفَةُ « جُعِل حالاً عن » الراجفة « . وقيل : العاملُ مقدَّرٌ غيرُ جوابٍ ، أي : اذكُرْ يومَ تَرْجُفُ . وفي الجوابِ على هذا أوجهٌ ، أحدُها : أنَّه قولُه : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً } [ النازعات : 26 ] . واستقبحه أبو بكر بن الأنباريِّ لطولِ الفَصْل . الثاني : أنه قولُه : { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى } [ النازعات : 15 ] لأنَّ » هل « بمعنى » قد « . وهذا غَلَطٌ؛ لأنَّه كما قدَّمْتُ لك في { هَلْ أتى } [ الإنسان : 1 ] أنها لا تكونُ بمعنى » قد « ، إلاَّ في الاستفهام ، على ما قال الزمخشري . الثالث : أنَّ الجواب { تَتْبَعُهَا } [ النازعات : 7 ] وإنما حُذِفَتِ اللامُ ، والأصلُ : لَيَوْمَ تَرْجُفُ الراجفةُ تَتْبَعُها ، فحُذِفَتِ اللامُ ، ولم تَدْخُلْ نونُ التوكيدِ على » تَتْبَعُها « للفَصْلِ بين اللامِ المقدَّرَةِ وبين الفعلِ المُقْسَمِ عليه بالظرفِ . ومثلُه { لإِلَى الله تُحْشَرُونَ } [ آل عمران : 158 ] . وقيل : في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ ، أي : يومَ تَرْجُفُ الراجِفَةُ تَتْبَعُها الرادِفَةُ والنازعاتِ .
وقال أبو حاتم : » هو على التقديم والتأخيرِ كأنه قال : فإذا هُمْ بالسَّاهِرَةِ والنَّازعاتِ « . قال ابن الأنباري : » هذا خطأٌ؛ لأنَّ الفاءَ لا يُفْتَتَحُ بها الكلامُ « . وقيل : » يومَ « منصوبٌ بما دَلَّ عليه » واجِفَةٌ « ، أي : يومَ تَرْجُفُ وَجِفَت . وقيل : بما دَلَّ عليه خاشع ، أي : يومَ تَرْجُفُ خَشَعَتْ .

تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7)

قوله : { تَتْبَعُهَا الرادفة } : يجوزُ أَنْ تكونَ حالاً من الراجفة ، وأَنْ تكونَ مستأنفةً .

قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8)

قوله : { قُلُوبٌ } : مبتدأٌ ، و « يومئذٍ » منصوبٌ ب « واجفةٌ » ، وواجفة صفةُ القلوبِ ، وهو المُسَوِّغُ للابتداءِ بالنكرةِ و « أَبْصارُها » مبتدأٌ ثانٍ ، و « خاشِعة » خبرُه ، وهو وخبرُ الأولِ . وفي الكلامِ حَذْفُ مُضافٍ تقديرُه : أبصارُ أصحابِ القلوب . وقال ابنُ عطية : « وجاز ذلك ، أي : الابتداءُ بقلوب لأنَّها تخصَّصَتْ بقولِه : » يومئذٍ « . ورَدَّ عليه الشيخُ : بأنَّ ظرفَ الزمانِ لا يُخَصِّصُ الجثثَ ، يعني لا تُوصف به الجثثُ . والواجفةُ : الخائفةُ . يقال : وَجَفَ يَجِفُ وَجيفاً ، وأصلُه اضطرابُ القَلْبِ وقَلَقُه . قال قيسُ بن الخطيم :
4481 إنَّ بني جَحْجَبَى وأُسْرَتَهُمْ ... أكبادُنا مِنْ ورائِهم تَجِفُ
/وعن ابن عباس : واجِفَةٌ : خائفةٌ ، بلغة هَمْدان . ويُقال : وَجَبَ وَجيباً ، بالباءِ الموحدةِ بدلَ الفاءِ .

يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10)

قوله : { فِي الحافرة } : الحافِرَة : الطريقةُ التي يَرْجِعُ الإِنسانُ فيها من حيث جاء . يقال : رَجَعَ في حافرتِه ، وعلى حافرته . ثم يُعَبَّرُ بها عن الرجوعِ بالأحوال مِنْ آخرِ الأمرِ إلى أوَّلِه . قال :
4482 أحافِرَةً على صَلَعٍ وشَيْبٍ ... معاذَ اللَّهِ مِنْ سَفَهٍ وعارِ
وأصلُه : أنَّ الإِنسان إذا رَجَعَ في طريقِه أثَّرَتْ قدماه فيها حَفْراً . وقال الراغب : « وقولُه في الحافرة مَثَلٌ لمَنْ يُرَدُّ مِنْ حيث جاء ، أي : أنَحْيا بعد أن نموتَ؟ وقيل : الحافرةُ : الأرضُ التي [ جُعِلَتْ ] قبورُهم فيها ومعناه : أإنَّا لَمَرْدُودون ونحن في الحافِرة؟ أي : في القبور . وقولُه : » في الحافرة « على هذا في موضعِ الحال . وقيل : رَجَع فلانٌ على حافِرَتِه ، ورَجَع الشيخُ إلى حافرته ، أي : هَرِمَ ، كقولِه : { وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر } [ النحل : 70 ] . وقولُهم : » النَّقْدُ عند الحافِرة « لِما يُباع نَقْداً . وأصلُه في الفرس إذا بِيْع ، فيُقال : لا يَزُول حافِرُه أو يُنْقَدَ ثمنُه . والحَفْرُ : تَأَكُّلُ الأسنانِ . وقد حَفَر فُوه ، وقد أَحْفَر المُهْرُ للإِثْناءِ والإِرْباع ، أي : دنا لأن يكونَ ثَنِيَّاً أو رُباعياً » انتهى . والحافِرَةُ قيل : فاعِلَة بمعنى مَفْعُولة . وقيل : على النَّسَب ، أي : ذات حَفْرٍ ، والمراد : الأرضُ . والمعنى : إنَّا لمَرْدُودون في قبورنا أحياءً . وقيل : الحافرة : جَمْعُ حافِر بمعنى القَدَم ، أي : نمشي أحياءً على أقدامِنا ، وَنَطَأُ بها الأرضَ . وقيل : هي أولُ الأمرِ . وتقولُ التجَّار : « النَّقْدُ في الحافِرة » ، أي : أوَّلُ السَّوْمِ . وقال الشاعر :
4483 آلَيْتُ لا أَنْساكُمُ فاعْلَموا ... حتى تُرَدَّ الناسُ في الحافِرَهْ
وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة « في الحَفِرَة » بدون ألف . فقيل : هما بمعنى . وقيل : هي الأرض التي تَغَيَّرَتْ وأنْتَنَتْ بموتاها وأجسادِهم ، مِنْ قولِهم : حَفِرت أسنانُه ، أي : تَأَكَّلَتْ وتَغَيَّرَتْ . وقد تقدَّم خلافُ القراءِ في هذَيْن الاستفهامَيْنِ في سورةِ الرعد . وقوله : « في الحافِرَة » يجوزُ تعلُّقُه بمَرْدُوْدون ، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ كما تقدَّم .

أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11)

قوله : { نَّخِرَةً } : قرأ الأخَوان وأبو بكر « ناخِرَة » بألفٍ ، والباقون « نَخِرَة » بدونِها وهما كحاذِر وحَذِر ، فاعِل لمَنْ صَدرَ منه الفِعْلُ ، وفَعِل لِمَنْ كان فيه غَريزةً ، أو كالغَريزة . وقيل : ناخِرة ونَخِرة بمعنى بالية . وقيل : ناخِرَة ، أي : صارَتِ الريحُ تَنْخِرُ فيها ، أي : تُصَوِّتُ ، ونَخِرَة ، أي : تَنْخِرُ فيها دائماً . وقيل : ناخِرَة : بالِية ، ونَخِرَة : متآكلة . وعن أبي عمروٍ : الناخِرة : التي لم تَنْخَرْ بعدُ ، والنَّخِرَةُ : البالية . وقيل : الناخِرَةُ : المُصَوِّتَةُ فيها الريحُ ، والنَّخِرةُ : الباليةُ التي تَعَفَّنَتْ . قال الزمخشري : « يُقال : نَخِر العظمُ ، فهو نَخِرٌ وناخِرٌ ، كقولِك : طَمِعَ فهو طَمعٌ وطامعٌ ، وفَعِل أَبْلَغُ مِنْ فاعِل ، وقد قُرِىء بها ، وهو البالي الأجوفُ الذي تَمُرُّ فيه الرِّيحُ فيُسْمَعُ له نَخِير » . قلت : ومنه قولُه :
4484 وأَخْلَيْتُها مِنْ مُخِّها فكأنَّها ... قواريرُ في أجوافِها الريحُ تَنْخِرُ
وقال الراجزُ لفَرَسه :
4485 أَقْدِمْ نَجاحُ إنها الأَساوِرَهْ ... ولا يَهْوْلَنَّكَ رَحْلٌ نادِرَهْ
فإنما قَصْرُك تُرْبُ السَّاهِرَهْ ... ثم تعودُ بعدها في الحافِرَهْ
مِنْ بعدِ ما كنتَ عِظاماً ناخِرَهْ ... ونُخْرَةُ الرِّيْح بضمِّ النون : شِدَّةُ هبوبِها ، والنُّخْرَةُ أيضاً : مُقَدَّمُ أَنْفِ الفَرَسِ والحمارِ والخِنْزير . يقال : هَشَم نُخْرَتَه ، أي : مُقَدَّمَ أَنْفِه . و « إذا » منصوبٌ بمضمرٍ ، أي : إذا كُنَّا كذا نُرَدُّ ونُبْعَثُ .

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

دليلك إلى المواقع الإسلامية المنتقاة بأكثر من ( 42 ) لغة !!

دليلك إلى المواقع الإسلامية المنتقاة بأكثر من ( 42 ) لغة !! اللغة الرابط اللغة الأذرية http://www.islamhouse.com/s/9357 ...