.

Translate ابودي

الأحد، 14 مايو 2023

ج7وج8. الدر المصون في علم الكتاب المكنون المؤلف : السمين الحلبي

ج7. الدر المصون في علم الكتاب المكنون


المؤلف : السمين الحلبي

والثاني : فاءُ الجزاءِ أي : جوابُ شرطٍ مقدرٍ . قال الفارسي : « وإنْ شئتَ لم تَجْعَلِ الفاءَ لعطفِ جملة ، بل تجعلُه جزاءً كقوله ذي الرمة :
1827- وإنسانٌ عيني يَحْسِر الماءُ تارةً ... فيبدو ، وتاراتٍ يَجُمُّ فيَغْرَقُ
تقديرُه عندهم : إذا حَسَرَ بدا ، وكذا في الآية : إذا حَبَسْتموهما أقسما . وقال مكي نحوه ، فإنه قال : و » يجوزُ اَنْ تكونَ الفاءُ جوابَ جزاءٍ لأن « تحسبونهما » معناه الأمر بذلك ، وهو جواب الأمر الذي دلَّ عليه الكلامُ كأنه قل : إذا حبستموهما أَقْسَما « قلت : ولا حاجةَ داعية إلى شيء من تقديرِ شرطٍ محذوفٍ ، وأيضاً فإنه يحوج إلى حذفِ مبتدأ قبل قولِه { فَيُقْسِمَانِ } أي : فهما يُقْسمان ، وأيضاً ف » إنْ تحبسوهما « تقدَّم أنها صفةٌ فكيف يَجْعَلُها بمعنى الأمر ، والطلب لا يقع وصفاً؟ وأمَّا البيتُ الذي أنشده أبو عليّ فَخَرَّجَه النحويون على ان » يَحْسِر الماءُ تارة « جملةٌ خبرية ، وهي إن لم يكن فيها رابط فقد عُطِف عليها جملةٌ فيها رابط بالفاء السببية ، وفاءُ السببية جَعَلَتِ الجملتين شيئاً واحداً .
و » بالله « متعلِّقٌ بفعلِ القسم ، وقد تقدَّم أنه لا يجوز إظهار فعل القسمِ إلا معها لأنها أمُّ . الباب . وقوله : { لاَ نَشْتَرِي بِهِ } جواب القسمِ المضمرِ في » يُقْسِمان « فتُلُقِّي بما يُتَلَقَّى به . وقوله : { إِنِ ارتبتم } شرطٌ/ وجوابُه محذوفٌ تقديرُه : إن ارتبتم فيهما فحلِّفوهما ، وهذا الشرط وجوابُه المقدَّرُ معترضٌ بين القسمِ وجوابِه ، وليس هذه الآيةُ مِمَّا اجتمع فيه شرطٌ وقسمٌ فأُجيب سابقُهما ، وحُذِفَ جوابُ الآخرِ لدلالةِ جوابه عليه؛ لأنَّ تلكَ المسألةَ شرطُها أن يكونَ جوابُ القسمِ صالحاً لأن يكون جوابَ الشرط حتى يَسُدَّ مسدَّ جوابه نحو : » واللّهِ إن تقم لأكرمنَّك « لأنك لو قَدَّرْتَ » إن تقم أكرمتك « صَحَّ ، وهنا لا يُقَدَّر جوابُ الشرط ما هو جوابٌ للقسم ، بل يُقَدَّر جوابُه قِسْماً برأسِه ، ألا ترى أنَّ تقديره هنا : » إن ارتبتم حَلِّفوهما « ولو قَدًّرْته : إن ارتبتم فلا نشتري لم يَصِحَّ ، فقد اتفق هنا أنه اجتمع شرطٌ وقسمٌ وقد أُجيب سابقهما ، وحُذِفَ جواب الآخر وليس من تيك القاعدةِ . وقال الجرجان : » إنَّ ثم قولاً محذوفاً تقديرُه يٌقْسِمان بالله ويقولان هذا القولَ في أيمانِهما ، والعرب تُضْمِرُ القولَ كثيراً ، كقوله تعالى : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [ الرعد : 2324 ] أي : يقولون سلام عليكم « . ولا أدري ما حمله على إضمارِ هذا القولِ؟
قوله : » به « في هذه الهاءِ ثلاثةُ أقوالٍ ، إحدُهما : أنها تعودُ على الله تعالى الثاني : أنها تعودُ على القسمِ . الثالث : - وهو قول أبي علي - أنها تعودُ على تحريفِ الشهادةِ ، وهذا قَويٌّ من حيث المعنى . وقال أبو البقاء » تعودُ على اللّهِ أو القسمِ أو الحَلْفِ أو اليمينِ أو تحريفِ الشهادةِ أو على الشهادِة لأنها قولٌ .

قلت : قوله « أو الحَلْف أو اليمين » لا فائدةٌ فيه إذ هما شيءٌ واحدٌ ، وكذلك قولُ مَنْ قال : إنه تعودُ على الله تعالى ، لا بد أن يقدِّر مضافاً محذوفاً أي : لا نشتري بيمينِ الله أو قسمِه ونحوِه ، لأن الذاتَ المقدسة لا يُقال فيها ذلك . وقال مكي : « وقيل : الهاءُ تعودُ على الشهادة لكن ذُكِّرَتْ لأنها قولُ كما قال : { فارزقوهم مِّنْهُ } [ النساء : 8 ] فردَّ الهاءَ على المقسومِ لدلالة القسمة على ذلك » . والاشتراءُ هنا هل باقٍ على حقيقتِه أو يُراد به البيع؟ قولان ، أظهرُهما الأولُ ، وبيانُ ذلك مبنيٌّ على نصبِ « ثمناً » وهو منصوبٌ على المفعولية ، قال الفارسيّ : وتقديره : لا نشتري به ذا ثمن ، ألا ترى انَّ الثمن لا يُشْترى ، وإنما يُشْترى ذو الثمن ، قال : « وليس الاشراءُ هنا بمعنى البيع وإنْ جاء لغةً ، لأنَّ البيعَ إبعادٌ عن البائعِ ، وليس المعنى عليه ، إنما معناه التمسُّكُ به والإِيثارُ له على الحقِّ » . وقد نَقَل الشيخُ هذا الكلامَ بعينِه ولم يَعْزُه لأبي علي .
وقال مكي : « معناه ذا ثمن ، لأنَّ الثمن لا يُشْترى ، وإنما يُشْتَرى ذو الثمن ، وهو كقوله : { اشتروا بِآيَاتِ الله ثَمَناً } [ التوبة : 9 ] أي ذا ثمن » . وقال غيرُه : « إنه لا يَحْتاج إلى حذف مضاف » قال أبو البقاء : « ولا حَذْفَ فيه لأنَّ الثمنَ يُشْترى كما يُشْتَرَى به ، وقيل : التقدير : ذا ثمن » ، وقال بعضُهم : « لا نَشْتري : لا نبيعُ بعهدِ الله بغرضٍ ناخذُه ، كقولِه تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً } [ آل عمران : 77 ] ، فمعنى { لاَ نَشْتَرِي بِهِ } لا نأخذُ ولا نستبدِلُ ، ومَنْ باع شيئاً فقد اشترى ، ومعنى الآية : لا نأخذُ بعهدِ الله ثمناً بأن نبيعَه بعَرَضٍ من الدنيا . قال الواحدي : » ويُستغنى بهذا عن كثيرٍ من تكلُّفِ أبي علي ، وهذا معنى قولِ القتيبي والجرجاني « .
قوله : { وَلَوْ كَانَ ذَا قربى } الواوُ هنا كالتي سَبَقَتْ في قولِه : { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } [ الآية : 170 ] في البقرة من أنها يحتمل أن يقال عاطفةٌ أو حاليةٌ ، وانَّ جملةَ الامتناعِ حالٌ معطوفةٌ على حالٍ مقدرةٍ كقوله : » أعطُوا السائلَ ولو على فَرَسٍ « فكذا هنا تقديرُه : لا نَشْتري به ثمناً في كل حال ولو كانَ الحالُ كذا ، واسمُ » كان « مضمرٌ فيها يعودُ على المشهودِ له : أي : ولو كانَ المشهودُ له ذا قرابةٍ .
قوله : { وَلاَ نَكْتُمُ } الجمهورُ على رفعِ ميم » نكتُم « على أنَّ » لا « نافية ، والجملةُ تحتمل وجهين ، أحدُهما : - وهو الظاهرُ- كونُها نسقاً على جواب القسمِ فتكونُ ايضاً مقسماً عليها . والثاني : أنه إخبارٌ من أنفسهم بأنهم لا يكتُمون الشهادة ، ويتأيَّدُ بقراءة الحسن والشعبي : » ولا نَكْتُمْ « على النهي ، وهذه القراءةُ جاءت على القليل من حيث إنَّ دخولَ » لا « الناهية على فعلِ المتكلم قليلٌ ، ومنه .

1828- إذا ما خَرَجْنا مِنْ دمشقَ فلا نَعُدْ ... بها أبداً ما دامَ فيها الجَراضِمُ
والجمهورُ على « شهادة الله » بالإِضافة ، وهي مفعولٌ بها ، وأُضيفت إليه تعالى لأنه هو الآمرُ بها وبحفظِها وأَنْ لا تُكْتَمَ ولا تُضَيِّعَ . وقرأ عليُّ أميرُ المؤمنين ونعيم بن ميسرة والشعبي في رواية : « شهادة الله » بتنوين شهادة ونصبِها ونصبِ الجلالة ، وهي واضحةٌ ، ف « شهادة » مفعول ثان ، والجلالةُ نصبٌ على التعظيمِ وهي الأول . والأصلُ : ولا نكتُم اللّهَ شهادةً ، وهو كقولِه : { وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً } [ النساء : 42 ] وإنما قُدَِّمَتْ هنا للاهتمامِ بها ، فإنها المحدِّثُ عنها . وفيها وجهٌ ثانٍ - نقله الزهراوي - وهو أن تكون الجلالةُ نصباً على إسقاطِ حرفِ القسم ، والتقديرُ : ولا نكتمُ شهادةً واللّهِ ، فلمَّا حُذِف حرفُ الجر نُصِب المقسُم به ، ولا حاجةَ إليه لأنه يَسْتدعي حذفَ المفعولِ الأولِ للكتمان ، أي : ولا نكتمُ أحداً شهادةً والله ، وفيه تكلفٌ ، وإليه ذهبَ أبو البقاء أيضاً قال : « على أنه منصوبٌ بفعلِ القسم محذوفاً » .
وقرأ عليٌّ أمير المؤمنين والسلمي والحسن البصري : « شهادةً » بالتنوين والنصب ، « الله » بمدِّ الألفِ التي للاستفهام دَخَلَتْ للتقرير وتوقيف نفوسِ الحالفين ، وهي عوضٌ من حرفِ القسمِ المقدَّرِ ، وهل الجرُّ بها أم بالحرف المحذوف خلافٌ؟ وقرأ الشعبي في رواية وغيره : « شهادة » بالهاء ويقف عليها ، ثم يَبْتدئ « آللّهِ » بقطع همزة الوصل وبمدِّ الهمزة على أنها للاستفهام بالمعنى المتقدم ، وجَرِّ الجلالة ، وهمزةً القطعِ تكون عوضاً من حرف القسم في هذا الاسم الشريف خاصة ، تقول : « يا زيدُ آللّهِ لأفعلن » ، والذي يُعَوَّض من حرف القسم في هذا الاسم الشريف خاصة ثلاثةٌ : ألفُ الاستفهامِ وقطعُ همزةِ الوصلِ وها التي لتنبيه ، نحو : « ها اللَّهِ » ويجوزُ مع « ها » قطعُ همزةِ الجلالة ووصلُها . وهل الجرُّ بالحرف المقدر أو بالعوض؟ تقدَّم أنَّ فيه خلافاً ، ولو قال قائل : إن قولَهم « أللّهِ لأفعلنَّ » بالجر وقطع الهمزة بأنها همزة استفهام لم يُرَدَّ قولُه . فإن قيل : همزةُ الاستفهام إذا دخلت على همزة الوصل التي مع لام التعريف أو ايمن في القسم وجب ثبوت همزة الوصل ، وحينئذ إمَّا : أَنْ تُسَهَّلَ وإمَّا أَنْ تُبْدَلَ الفاً ، وهذه لم تَثْبُتْ بعدَها همزةُ وصل فتعيَّن أن تكونَ همزةَ وصل قُطِعَتْ عوضاً عن حرف القسم . فالجواب : أنهم إنما أَبْدلوا ألفَ الوصلِ أو سَهَّلوها بعد همزةِ الاستفهام فرقاً بين الاستفهام والخبر ، وهنا اللَّبْسُ مأمونٌ فإنَّ الجر في الجلالة يؤذن بذلك فلا حاجةَ إلى بقاءِ همزةِ الوصلِ مُبْدَلةً أو مُسَهَّلَةً ، فعلى هذا قراءة : الله وآلله بالقصر والمد تحتمل الاستفهامَ ، وهو تخريجٌ حسن .

قال ابن جني في هذه القراءة : « الوقفُ على » شهادة « بسكون الهاء واستئنافُ القسم ، حسن ، لأنَّ استئنافَه في أولِ الكلام أَوْجَهُ له وأشدُّ هيبةً مِنْ يدخُلَ في عَرَضِ القول » ورُوِيَتْ هذه القراءةُ - أعني ألله بقطع الألفِ من غير مَدِّ وجرِ الجلالة - عن أبي بكر عن عاصم وقرئ : شهادةً اللّهِ « بنصب الشهادة منونة وجر الجلالة موصولة الهمزةِ ، على أن الجر بحرفِ القسمِ المقدِّرِ من غير عوضٍ منه بقطعٍ ولا همزةِ استفهام ، وهو مختصٌّ بذلك .
وقوله تعالى : { إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الآثمين } هذه الجملةُ لا محلَّ لها لأنها استئنافيةٌ ، أخبروا عن أنفسِهم بأنهم من الآثمين إنْ كتموا الشهادة ، ولذلك أتوا ب » إذَنْ « المؤذنة بالجزاء والجواب . وقرأ الجمهور : { لمن الآثمين } من غير نقل ولا إدغام . وقرأ ابن محيصن والأعمش : { لَمِلاَّثِمين } بإدغام نون » من « في لام التعريف بعد أن نقل إليها حركة الهمزة في » آثمين « فاعتدَّ بحركة النقل فأدغم ، وهي نظيرُ قراءةِ مَنْ قرأ : { عَاداً الأولى } بالإِدغام ، وهناك إن شاء الله يأتي تحقيق ذلك وبه القوة .

فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107)

قوله تعالى : { فَإِنْ عُثِرَ } : مبني للمفعول ، والقائمُ مقامَ فاعِله الجارُّ بعدَه ، أي : فإنِ اطُّلِعَ على استحقاقِهما الإِثمَ يقال : [ عَثَر الرجلُ يعثُر ] عُثوراً : إذا هَجَم على شيء لم يَطَّلِعْ عليه غيرُه ، وأعثرتُه على كذا : أطلعتُه عليه ، ومنه قولُه تعالى : { أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ } [ الكهف : 21 ] . قال أهلُ اللغة : « وأصلُه من » عَثْرة الرجل « وهي الوقوع ، وذلك أن العاثِرَ إنما يَعْثُر بشي كان لا يَراه ، فإن عَثَر به اطِّلع عليه ونَظَر ما هو ، فقيل لكل أمر كان خَفِيّاً ثم اطُّلِع عليه : » عُثِر عليه « وقال الليث : » عَثَر يَعْثُر عُثوراً هجم على أمرٍ لم يهجم عليه غيرُه ، وعَثَر يَعْثُر عَثْرَةً وقع على شيء ، ففرَّق بين الفعلين بمصدريهما . وفَرَّق أبو البقاء بينهما بغير ذلك فقال : « عَثَر مصدرُه العُثور ، ومعناه اطَّلع ، فأمَّا » عَثَر « في مَشْيِة ومنطقه ورأيه فالعِثارُ » والراغب جَعَل المصدرين على حَدِّ سواء فإنه قال : « عَثَر الرجلُ بالشيء يَعْثُر عُثوراً وعِيثاراً : إذا سَقَط عليه ، ويُتَجَوًَّزُ به فيمن يَطِّلِعُ على أمرٍ من غيرِ طلبه ، يقال : » عَثَرْتُ على كذا « وقوله : { وكذلك أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ } [ الكهف : 21 ] أي : وَقَّفْناهم عليهم من غير أَنْ طَلَبوا » .
قوله تعالى : { فَآخَرَانِ } فيه أربعةُ أوجه ، [ الأول ] : أن يرتفع على أنه خبر مبتدأ مضمر تقديره : فالشاهدان آخران ، والفاء جواب الشرط ، دَخَلَتْ على الجملة الاسمية ، والجملةُ من قوله : { يقومان } محلِّ رفعٍ صفةً ل آخران . الثاني : أنه مرفوعٌ بفعلٍ مضمرٍ تقديرُه : فليشهد آخران ، ذكره مكي وأبو البقاء وقد تَقَدَّم أن الفعلَ لا يُحْذَفُ وحدَه إلا في مواضعَ ذكرتُها عند قوله : { حِينَ الوصية اثنان } [ المائدة : 106 ] . الثالث : أنه خبرٌ مقدم ، و « الأَوْلَيان » مبتدأٌ مؤخرٌ ، والتقدير : فالأَوْلَيان بأمر الميت آخران يَقُومان مقامَهان ذكر ذلك أبو عليّ . قال : « ويكونُ كقولك : » تميمي أنا « الرابع : أنه متبدأٌ ، وفي الخبرِ حينئذٍ احتمالات ، أحدُها : قولُه : { مِنَ الذين استحق } وجاز الابتداءُ به لتخصُّصِه بالوصف وهو الجملة من » يَقُومان « ، والثاني : أنَّ الخبرَ » يَقُومان « و » من الذين استحَقَّ « صفةُ المتبدأ ، ولا يَضُرُّ الفصلُ بالخبر بين الصفة وموصوفها ، والمسوِّغُ أيضاً للابتداء به اعتمادُه على فاءِ الجزاء . وقال أبو البقاء لَمَّا حَكَى رفعَه بالابتداء : » وجازَ الابتداءَ هنا بالنكرةِ لحصولِ « الفائدةِ » فإنْ عَنَى أنَّ المسوِّغَ مجردُ الفائدةِ من غيرِ اعتبارِ مسوِّغٍ من المُسَوِّغات التي ذكرتُها فغيرُ مُسَلَّم الثالث : أنَّ الخبرَ قولُه : « الأَوْليَان » نقله أبو البقاء ، وقوله « يَقُومان » و « مِن الذين استَحَقَّ » كلاهما في محلِّ رفعٍ صفةً ل « آخران » ويجوزُ ان يكونَ أحدُهما صفةً والآخرُ حالاً ، وجاءَتِ الحالُ من النكرةِ لتخصُّصِها بالوصفِ .

وفي هذا الوجهِ ضعفٌ من حيث إنه إذا اجتمع معرفةٌ ونكرةٌ جَعَلْتَ المعرفةَ محدِّثاً عنها والنكرةَ حديثاً ، وعكسُ ذلك قليلٌ جداً أو ضرروةٌ كقوله :
1829- . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... يكونُ مزاجَها عسلٌ وماءُ
[ وكقوله ] :
1830- وإنَّ حراماً أَنْ أسُبَّ مجاشِعاً ... بآبائي الشمِّ الكرامِ الخَضارمِ
وقد فَهِمْتَ مِمَّا تقدَّم أنَّ الجملةَ من قوله « يقومان » والجارَّ من قوله : { مِنَ الَّذينَ } : إمَّا مرفوعٌ المحلِّ صفةً ل « آخَران » أو خبرٌ عنه ، وإمَّا منصوبة على الحالِ : إمَّا من نفس « آخران » ، أو مِنَ الضمير المستكنِّ في « آخران » ويجوزُ في قولِه { مِنَ الذين } أَنْ يكونَ حالاً من فاعلِ « يَقُومان » .
قوله : { استحق } قرأ الجمهورُ : « استُحِقَّ » مبنياً للمفعول ، « الأَوْليان » رفعاً ، وحفص عن عاصم : « اسْتَحَقَّ » مبنياً للفاعل ، « الأوليان » كالجماعة ، وهي قراءة عبد الله بن عباس وأمير المؤمنين علي رضي الله عنهم ، ورُوِيَتْ عن ابن كثير أيضاً ، وحمزة وأبو بكر عن عاصم : « استُحِقَّ » مبنياً للمفعول كالجماعة ، « الأَوَّلِين » جمعَ « أَوَّل » جمعَ المذكرِ السالم ، والحسن البصري : « اسْتَحَقَّ » مبنياً للفاعل ، « الأوَّلان » مرفوعاً تثنية « أَوَّل » وابن سيرين كالجماعة ، إلا أنه نصب الأوْلَيَيْن تثنيةَ « أَوْلى » وقرئ : « الأَوْلَيْنَ » بسكون الواو وفتح اللام وهو جمع « أَوْلى » كالأعلَيْنَ في جمعِ « أَعْلى » ولما وصل أبو إسحاق الزجاج إلى هذا الموضوع : قال : « هذا موضع من أصعب ما في القرآن إعراباً » قلت : ولَعَمْري إنّ القول ما قالت حَذامِ ، فإن الناس قد دارَتْ رؤوسُهم في فَكِّ هذا التركيب ، وقد اجتهدْتُ - بحمد الله تعالى - فلخَّصْتُ الكلام فيها أحسنَ تلخيصٍ ، ولا بد من ذِكْرِ شيءٍ من معاني الآية لنستضيء به على الإِعراب فإنه خادِمٌ لها .
فأمَّا قراءةُ الجمهورِ فرفُع « الأَوْلَيان » فيها من اوجه ، أحدها : أنه مبتدأ ، وخبره « آخران » تقديره : فالأَوْلَيان بأمر الميت آخران ، وقد تقدَّم شرحُ هذا . الثاني : أنه خبر مبتدأ مضمر أي : هما الأَوْلَيان ، كأنَّ سائلاً سأل فقال : « مَنِ الآخران »؟ فقيل : هما الأَوْلَيان . الثالث : أنه بدلٌ من « آخران » وهو بدلٌ في معنى البيان للمبدلِ منه ، نحو : « جاء زيدٌ أخوك » وهذا عندهمْ ضعيفٌ لأنَّ الإِبدالَ بالمشتقاتِ يَقِلُّ . الرابع : أنه عطفُ بيان ل « آخران » بَيَّن الآخَرَيْن بالأَوْلَيَيْنِ . فإن قلت : شرطُ عطفِ البيان أن يكونَ التابعُ والمتبوعُ متفقين في التعرفِ والتنكيرِ ، على أنَّ الجمهورَ على عدمِ جريانِه في النكرةِ خلافاً أبي علي ، و « آخران » نكرةٌ ، و « الأَوْلَيَان » معرفةٌ . قلت : هذا سؤال صحيح ، ولكنْ يَلْزَمُ الأخفشَ ويلزم الزمخشريَّ جوازُه : أمَّا الأخفش فإنه يُجيز اَنْ يكونَ « الأَوْلَيان » صفةً ل « آخران » بما سأقرره عنه عند تعرُّضي لهذا الوجهِ ، والنعت المنعوت يُشترط فيهما التوافقُ ، فإذا جاز في النعت فَلْيَجُزْ فيما هو شبيه به ، إذ لا فرق بينهما إلا اشتراطُ الاشتقاقِ في النعت .

وأمَّا الزمخشري فإنه لا يشترط ذلك - أعني التوافق - وقد نَصَّ هو في سورة آل عمران على أن قوله تعالى : { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } [ الآية : 97 ] عطفُ بيان لقوله { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ } و { آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ } نكرةٌ لكنها لَم‍َّا تخصَّصَتْ بالوصفِ قَرُبَتْ من المعرفة ، كما قَدَّمْتُه عنه في موضعِه ، وكذا « آخَران » قد وُصِف بصفتين فَقَرُب من المعرفة أشدَّ من « آياتٌ بيناتٌ » من حيث وُصِفَتْ بصفةٍ واحدة . الخامس : أنه بدلٌ من فاعلِ « يَقُومان » .
السادس : أنه صفةٌ ل « آخران » ، أجازَ ذلك الأخفشُ قال أبو عليّ : « وأجازَ أبو الحسن فيها شيئاً آخرَ ، وهو أن يكونَ » الأَوْلَيان « صفةً ل » آخران « لأنه لَمَّا وُصِفَ تخصَّص ، فَمِنْ أجلِ وصفِه وتخصيصِه وُصِفَ بوصف المعارف » قال الشيخ : « وهذا ضعيفٌ لاستلزامِه هَدْمَ ما كادوا أن يُجْمعوا عليه من أنَّ النكرةَ لا تُوصف بالمعرفةِ ، ولا العكسِ » قلت : لا شكَّ أنَّ تخالفَهما في التعريفِ والتنكيرِ ضعيفٌ ، وقد ارتكبوا ذلك في مواضعَ ، فمنها محكاه الخليل : « مَرَرْتُ بالرجلِ خيرٍ منك » في أحدِ الأوجه في هذه المسألةِ ومنها { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم } [ الفاتحة : 7 ] على القولِ بأنَّ « غير » صفةُ « الذين أنعمت عليهم » وقوله :
1831- ولقد أَمُرُّ على اللئيمِ يَسُبُّني ... فَمَضَيْتُ ثُمًّتَ قُلْتُ لا يَعْنيني
وقولُه تعالى : { وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار } [ يس : 37 ] ، على أنَّ « يَسُبُّني » و « نَسْلَخُ » صفتان لِما قبلَها فإنَّ الجملَ نكراتٌ ، وهذه المُثُلُ التي أوردتها عكسُ ما نحن فيه ، فإنها تُؤَوَّلُ فيها المعرفةُ بالنكرة ، وما نحن فيه جعلنا النكرةَ فيه كالمعرفةِ ، إلاَّ أنَّ الجامعَ بينهما التخالفُ ، ويجوز أن يكون ما نحن فيه من هذه المُثُلِ باعتبار أنَّ « الأَوْلَيَيْنِ » لَمَّا لم يُقْصَدْ بهما شخصان معينان قَرُبا من النكرةِ فوقعا صفةً لها مع تخصُّصِها هي ، فصار في ذلك مسوِّغان : قربُ النكرةِ من المعرفة بالتخصيصِ ، وقربُ المعرفةِ من النكرة بالإِبهام ، ويدلُّ لِما قلتُه ما قال أبو البقاء : « والخامسُ أن يكون صفة ل » آخران « لأنه وإنْ كان نكرةً قد وُصِفَ والأَوْلَيان لم يَقْصِدْ بهما قصدَ اثنين بأعيانِهما » .
السابع : أنه مرفوعٌ على ما لم يُسَمَّ فاعلُه ب « استُحِقَّ » إلاَّ أنَّ كلَّ مَنْ أعربه كذا قَدَّره قبلَه مضافاً محذوفاً . واختلفت تقديراتُ المُعْرِبين ، فقال : مكي : « تقديرُه : استُحِقَ عليهم إثمُ الأَوْلَيَيْن » وكذا أبو البقاء وقد سبَقَهما إلى هذا التقديرِ ابنُ جرير الطبري وقَدَّره الزمخشري فقال : « مِن الذين استُحِقَّ عليهم انتداب الأَوْلَيَيْن منهم للشهادةِ لاطِّلاعِهم على حقيقةِ الحال » ، ومِمَّن ذهبَ إلى ارتفاع « الأَوْلَيَيْنِ » ب « استُحِقَّ » أبو علي الفارسي ثم منَعه ، قال : « لأنَّ المُسْتَحَقَّ إنما يكون الوصية أو شيئاً منها ، وأمَّا الأَوْلَيان بالميتِ فلا يجوزُ أَنْ يُسْتَحَقَّا فيُسْنَدَ استُحِقَّ إليهما » قلت : إنما منع أبو عليّ ذلك على ظاهرِ اللفظِ فإنَّ الأَوْلَيَيْنِ لم يستحقَهما أحدٌ كما ذكر ، ولكنْ يجوزُ أَنْ يُسْنَدَ « استُحِقَّ » إليهما بتأويلِ حذفِ المضافِ المتقدم .

وهذا الذي منعه الفارسي ظاهراً هو الذي حَمَل الناسَ على إضمار ذلك المضافِ ، وتقديرُه الزمخشري ب « انتداب الأوليين » أحسنُ من تقدير غيرِه ، فإنَ المعنى يُساعِدُه ، وأمَّا إضمارُ « الإِثم » فلا يَظْهر أصلاً إلا بتأويل بعيدٍ .
وأجازَ ابن عطية أن يرتفعَ « الأَوْلَيان » ب « استُحِقَّ » أيضاً ، ولكنْ ظاهرُ عبارتِه أنه لم يُقَدِّر مضافاً فإنه استشعر باستشكالِ الفارسي المتقدم فاحتالَ في الجوابِ عنه وهذا نَصُّه ، قال ما ملخصُه : إنه « حُمِل » استُحِقَّ « هنا على الاستعارة فإنه ليس استحقاقاً حقيقةً لقوله : { استحقآ إِثْماً } وإنما معناه أنَهم غَلَبوا على المالِ بحكمِ انفرادِ هذا الميت وعدمِه لقرابته أو أهلِ دينهِ فَجَعَل تسوُّرَهم عليه استحقاقاً مجازاً ، والمعنى : من الجماعة التي غابت وكان مِنْ حَقِّها أَنْ تُحْضِرَ وليِّها ، فلمَّا غابَتْ وانفرد هذا الموصي استحقَت هذه الحال ، وهذان الشاهدان من غير أهل الدين والولاية وأَمْرِ الأَوْلَيَيْنِ على هذه الجماعة ، فبُنِي الفعلُ للمفعولِ على هذا المعنى إيجازاً ، ويُقَوِّي هذا الفرضَ تعدِّي الفعلِ ب » على « لَمَّا كان باقتدارٍ وحَمْلٍ هَيَّأَتْه الحالُ ، ولا يُقال : استحَقَّ منه أو فيه إلا في الاستحقاقِ الحقيقي على وجههِ ، وأمَّا » استحَقَّ عليه « فبالحملِ والغلَبِة والاستحقاقِ المستعارِ » انتهى ، فقد أسند « استحق » إلى الأوْليان « من غيرِ تقديرِ مضافٍ متأوِّلاً له بما ذَكَر ، واحتملتُ طولَ عبارتِه لتتَّضحَ .
واعلم أنَّ مرفوعَ » استُحِقَّ « في الأوجهِ المتقدِّمة - أعني غير هذا الوجهِ وهو إسنادُه إلى » الأَوْلَيان « - ضميرٌ يعودُ على ما تقدَّم لفظاً أوسياقاً ، واختلفت عباراتُهم ، فيه ، فقال الفارسي والحوفي وأبو البقاء والزمخشري : أنه ضميرُ الإِثم ، والإِثمُ قد تقدَّم في قوله : { استحقآ إِثْماً } وقال الفارسي والحوفي ايضاً : » استحق هو الإِيصاءُ أو الوصيةُ « قالت : إضمارُ الوصية مُشْكِلٌ؛ لأنه إذا أُسْنِد الفعلُ إلى ضميرِ المؤنثِ مطلقاً وَجَبَتِ التاءُ إلا في ضرورة ، ويونس لا يَخُصُّه بها ، ولا جائز أَنْ يقال أَضْمرا لفظَ الوصية لأنَّ ذلك حُذِفَ ، والفاعلُ عندهما لا يُحْذَفُ . وقال النحاس مستحسناً لإِضمارِ الإِيصاء : » وهذا أحسنُ ما قيل فيه؛ لأنه لم يُجْعل حرفٌ بدلاً من حرفٍ « يعني أنه لا يقولُ إنَّ » على « بمعنى » في « ، ولا بمعنى » مِنْ « كما قيل بهما ، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى .

وقد جَمَع الزمخشري غالبَ ما قُلْتُه وحَكَيْتُه من الإِعرابِ والمعنى بأوجزِ عبارةٍ فقال : « ف » آخران « أي : فشاهدان آخَران يَقُومان مقامَهما من الذين استُحِقَّ عليهم أي : [ من الذين ] استُحِقَّ عليهم الإِثمُ ، ومعناه : من الذين جُنِي عليهم وهم أهلُ الميتِ وعشيرتُه والأَوْلَيان الأَحقَّان بالشهادة لقرابتِهما ومعرفتِهما ، وارتفاعُهما على : » هما الأَوْلَيان « كأنه قيل : ومَنْ هما؟ فقيل : والأَوْلَيان ، وقيل : هما بدلٌ من الضميرِ في » يَقُومان « أو من » آخران « ويجوزُ أَنْ يرتفِعَا ب » استُحِقَّ « أي : من الذين استُحِقَّ عليهم انتدابُ الأَوْلَيَيْنِ منهم للشهادة لاطّلاعهم على حقيقة الحال » .
وقوله { عَلَيْهِمُ } : في « على » ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنها على بابها ، قال ابو البقاء : « كقولك : » وَجَبَ عليه الاثمُ « وقد تقدَّم عن النحاس أنه لَمَّا أَضْمر الإِيصاء بَقَّاها على بابها ، واستحسن ذلك . والثاني : أنها بمعنى » في « أي : استُحِقَّ فيهم الإِثمُ فوقَعَتْ » على « موقعَ » في « كما تقعُ » في « موقعَها كقوله تعالى : { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل } [ طه : 71 ] أي : على جذوعِ ، وكقولِه :
1832- بَطَلٌ كأنَّ ثيابَه في سَرْحَةٍ ... يُحْذَى نِعالَ السِّبْتِ ليس بتوءمِ
أي : على سَرْحةٍ . وقَدَّره أبو البقاء فقال : » أي استُحِقَّ فيهم الوصية « والثالث : أنها بمعنى » من « أي : استُحِقَّ منهم الإِثمُ ، ومثلُه قولُه تعالى : { إِذَا اكتالوا عَلَى الناس } [ المطففين : 2 ] أي : من الناسِ . وقَدَّره أبو البقاء فقال : » اي استُحِقَّ منهما الأوْلَيان ، فحين جَعَلها بمعنى « في » قَدَّر « استُحِقَّ » مسنداً للوصية ، وحين جعلها بمعنى « من » قَدَّره مُسْنداً ل « الأَوْلَيان » وكان لَمَّا ذَكَر القائمَ مقامَ الفاعلِ لم يذكر إلا ضميرَ الإِثم والأوليان . وأجاز بعضُهم أَنْ يُسْندَ « استُحِقَّ » إلى ضمير المال أي : استُحِقَّ عليهم المالُ الموروث ، وهو قريبٌ .
فقد تقرَّر أنَّ في مرفوع « استُحِقَّ خمسةَ أوجه ، أحدُها : » الأَوْلَيان « ، الثاني : ضميرُ الإِيصاء ، الثالث : ضيرُ الوصية ، وهو في المعنى كالذي قبلَه وتقدَّم إشكالُه ، الرابع : أنه ضميرُ الإِثمِ ، الخامس : انه ضميرُ المال ، ولم أَرَهم أجازوا أن يكونَ » عليهم « هو القائمَ مقامَ الفاعلِ نحو : { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم } [ الفاتحة : 7 ] كأنهم لم يَرَوْا فيه فائدةً .
وأمَّا قراءةُ حفص ف { الأَوْلَيان } مرفوعٌ ب » استُحَقَّ « ومفعولُه محذوفٌ ، قَدَّره بعضهم » وصيتَهما « وقَدَّره الزمخشري ب » أن يجرِّدوهما للقيام بالشهادة « فإنه قال : » معناه من الورثة الذين استَحَقَّ عليهم الأَوْلَيان من بينهم بالشهادة أن يُجَرِّدوهما للقيام بالشهادة ، ويُظْهِروا بها كذبَ الكاذبين « وقال ابنُ عطية : » الأَوْلَيان « رفعٌ ب » اسَتَحَقَّ « وذلك أن يكون المعنى : من الذين استَحَقَّ عليهم مالَهم وتَرِكَتهم شاهدا الزور فسُمِّيا أَوْلَيَيْنِ أي : صَيَّرهما عدمُ الناس أَوْلَيَيْنِ بالميتِ وتَرِكَتِه فخانا وجارا فيها ، أو يكونُ المعنى : مِن الذين حَقَّ عليهم أَنْ يكونَ الأَوْلَيان منهم ، فاستَحَقَّ بمعنى حَقَّ كاستعجب وعجب ، أو يكون استحقَّ بمعنى سعى واستوجب فالمعنى : من القوم الذين حَضَر أَوْلَيان منهم فاستَحَقَّا عليهم أي : استحقا لهم وسَعَيا فيه واستوجباه بأيمانهما وقُرْبانهما » قال الشيخ - بعد أَنْ حكى عن الزمخشري وأبي محمد ما قَدَّمْتُه عنهما - : « وقال بعضُهم : المفعولُ محذوفٌ تقديرُه : الذين استَحَقَّ عليهم الأَوْلَيان وصيتَهما » قلت : وكذا هو محذوفٌ أيضاً في قولَي أبي القاسم وأبي محمد وقد بَيَّنْتُهما ما هما فهو عند الزمخشري قولُه : « أَنْ يُجَرِّدُوهما للقيامِ بالشهادة » وعند ابن عطية هو قولُه : { ما لَهم وتَرِكَتَهم } ، فقولُه : « وقال بعضهم : المفعولُ محذوفٌ » يُوهِمُ أنه لم يَدْرِ أنَّه محذوفٌ فيما تقدَّم أيضاً .

وممن ذهبَ إلى أن « استَحَقَّ » بمعنى « حَقَّ » المجردِ الواحدي فإنه قال : واستحقَّ هنا بمعنى حَقَّ ، أي وَجَبَ ، والمعنى : فآخران من الذين وَجَبَ عليهم الإِيصاءُ بتوصيته بينهم وهم وَرَثَتُه « وهذا التفسير الذي ذكره الواحدي أوضحُ من المعنى الذي ذكره ابو محمد على هذا الوجهِ وهو ظاهرٌ .
وأمَّا قراءةُ حمزة وأبي بكر فمرفوعُ » استُحِقَّ « ضميرُ الإِيصاء أو الوصية أو المال أو الإِثم حَسْبما تقدَّم ، وأمَّا » الأَوَّلين « فجمعُ » أوّل « المقابِل ل » آخِر « وفيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه مجرورٌ صفةً ل » الذين « . الثاني : أنه بدلٌ منه وهو قليلٌ لكونِه مشتقاً . الثالث : أنه بدلٌ من الضميرِ في » عليهم « ، وحَسَّنَه هنا وإنْ كان مشتقاً عدمُ صلاحية ما قبلَه للوصف ، نَقَل هذين الوجهين الأخيرين مكي الرابع : أنه منصوبٌ على المدح ، ذكره الزمخشري ، قال : » ومعنى الأوَّلِيَّة التقدُّمُ على الأجانب في الشهادة لكونِهم أحقَّ بها « ، وإنما فَسَّر الأوَّلِيَّة بالتقدُّمِ على الأجابِ جَرْياً على ما مَرَّ في تفسيره : أو آخرَان مِنْ غيرِكم أنَّهما من الأجانبِ لا من الكفارِ . وقال الواحدي : » وتقديرُه مِنَ الأَوَّلين الذين استُحِقَّ عليهم الإِيصاءُ أو الإِثم ، وإنما قيل لهم « الأَوَّلين » من حيث كانوا أَوَّلِين في الذِّكْرِ ، ألا ترى أنه قد تقدَّم : { يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } وكذلك { اثنان ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ } ذُكِرا في اللفظ قبل قوله : { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } وكان ابنُ عباس يختارُ هذه القراءةَ ويقول : « أرأيت إن كان الأَوْلَيان صغيرين كيف يَقُومان مقامَهما »؟ أراد أنهما إذا كانا صغيرين لم يقوما في اليمين مقامَ الحانثين .

ونحا ابن عطية هذا المنحى قال : « معناه من القوم الذين استُحِقَّ عليهم أمرُهم أي : غُلِبوا عليه ، ثم وصفَهم بأنهم أَوَّلون أي : في الذكر في هذه الآية » .
وأمَّا قراءة الحسن فالأولان مرفوعان ب « استَحَقَّ » فإنه يقرؤه مبنياً للفاعل . قال الزمخشري : و « يَحْتَجُّ به مَنْ يرى ردَّ اليمين على المُدِّعي » ، ولم يبيِّن مَنْ هما الأوَّلان ، والمرادُ بهما الاثنان المتقدِّمان في الذكر . وهذه القراءةُ كقراءةِ حفص ، فيُقَدَّر فيها ما ذُكِر ، ثم مما يليقُ من تقديرِ المفعولِ .
وأما قراءة ابن سيرين فانتصابُها على المَدْحِ ولا يجوزُ فيها الجر ، لأنه : إمَّا على البدل وإمَّا على الوصف بجمع ، والأَوْلَيَن في قراءته مثنى فتعذر فيها ذلك . وأمَّا قراءة « الأَوْلَيْن » كالأعلَيْن فحكاها أبو البقاء قراءةً شاذة لم يَعْزُها ، قال : « ويُقْرأ » الأَوْلَين « جمعَ الأَوْلَى ، وإعرابه كإعراب الأَوْلَين » يعني في قراءة حمزة ، وقد تقدَّم أنّ فيها أربعةَ أوجه وهي جارية هنا .
قوله : « فيُقْسِمان » نسقٌ على « يَقُومان » والسبيَّةُ فيها ظاهرةٌ . و « لَشهادتُنا أحقُّ » : هذه الجملة جوابُ القسمِ في قوله : « فيُقْسِمان » و « ذلك أَدْنَى » لامحلَّ لهذه الجملةِ لاستئنافِها ، والمشارُ إليه الحكمُ السابقُ بتفصيلِه ، أي : ما تقدَّم ذكرُه من الأحكام أقربُ إلى حصول إقامة الشهادة على ما ينبغي . وقيل المشارُ إليه الحَبْس بعد الصلاة ، وقيل : تحليفُ الشاهدين . و « أَنْ يأتوا » أصلُه إلى أن يأتوا . وقَدَّره أبو البقاء ب « من » أيضاً ، أي : أَدْنَى مَنْ أَنْ يأتُوا . وقَدَّره مكي بالباء أي : بأَنْ يأتُوا ، وليسا بواضحين ، ثم حَذَفَ حرفَ الجر فَنَشَأ الخلافُ المشهور . و « على وجهها » متعلقٌ ب « يأتُوا » . وقيل : في محلِّ نصبٍ على الحال منها ، وقَدَّره أبو البقاء ب « محقّقة وصحيحة » وهو تفسيرُ معنى؛ لِما عرفت غير مرة من أنّ الأكوانَ المقيدة لا تُقَدَّر في مثله .
قوله : { أَوْ يخافوا } في نصبه وجهان ، أحدهما : أنه منصوب عطفاً على « يَأْتوا » وفي « أو » على هذا تأويلان ، أحدُهما : أنها على بابِها من كونِها لأحدِ الشيئين ، والمعنى : ذلك الحكمُ أقربُ إلى حصول الشهادة على ما ينبغي أو خوفِ رَدِّ الأيمان إلى غيرِهم فتسقطُ أَيْمانهم . والتأويلُ الآخر : أن تكونَ بمعنى الواو ، أي : ذلك الحكم كله أقربُ إلى أَنْ يأتُوا ، وأقربُ إلى أن يَخافوا ، وهذا مفهومٌ من قول ابن عباس . الثاني من وجهي النصب : أنه منصوبٌ بإضمار « أَنْ » بعد « أو » ومعناها « إلا » كقولهم : « لألزمنَّك أو تقضيَني حَقِّي » تقديره : إلاَّ أَنْ تقضِيني ، ف « أو » حرفُ عطفٍ على بابها ، والفعلُ بعدَها منصوبٌ بإضمار « أَنْ » وجوباً ، و « أَنْ » وما في حَيِّزها مؤولةٌ بمصدرٍ ، ذلك المصدرُ معطوفٌ على مصدر متوهَّم من الفعل قبله ، فمعنى : لألزمنَّك أو تقضيَني حقي : ليكوننَّ مني لزومٌ لك أو قضاؤك لحقي ، وكذا المعنى هنا أي : ذلك أدنى بأن يأتوا بالشهادة على وجهها؛ وإلاَّ خافوا ردَّ الأَيْمان ، كذا قَدَّره ابن عطية بواوٍ قبل « إلا » وهو خلافٌ تقدير النحاة ، فإنهم لا يقدِّرون « أو » إلا بلفظ « إلا » وحدها دون واو .

وكأن « إلا » في عبارته على ما فهمه الشيخ ليسَتْ « إلا » الاستثنائيةَ ، بل أصلُها « إنْ » شرطيةً دَخَلَتْ على « لا » النافيةِ فأُدغمت فيها ، فإنه قال : « أو تكون » أو « بمعنى » إلاَّ إنْ « ، وهي التي عَبَّر عنها ابن عطية بتلك العبارةِ من تقديرِها بشرطٍ - محذوفٍ فعلُه - وجزاء انتهى . وفيه نظرٌ من وجهين ، أحدُهما : أنه لم يَقُلْ بذلك أحدٌ ، أعني كونَ » أو « بمعنى الشرط . والثاني : انه بعد أَنْ حَكَم عليها بأنها بمعنى » إلاَّ إنْ « جَعَلها بمعنى شرطٍ حُذِفَ فعلُه .
و { أَن تُرَدَّ } في محلِّ نصبٍ على المفعولِ به اي : أو يَخافُوا رَدَّ أَيْمانهم . و » بعد أَيْمانهم « إمَّا ظرفٌ ل » تُرَدَّ « أو متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنها صفةٌ ل » أَيْمان « وجُمِع الضميرُ في قولِه » يَأْتُوا « وما بعده وإنْ كان عائداً في المعنى على مثَّنى وهو الشاهدان ، فقيل : هو عائدٌ على صنفي الشاهدين . وقيل : بل عائدٌ على الشهودِ من الناسِ كلِّهم ، معناه : ذلك أَوْلى وأجدرُ أَنْ يحذرَ الناسُ الخيانةَ فيَتَحَرَّوا في شهادتِهم خوفَ الشناعةِ عليهم والفضحيةِ في رَدِّ اليمين على المُدَّعي . وقوله : { واتقوا الله } لم يذكرْ معلِّق التقوى : إمَّا للعلمِ به أي : واتقوا اللَّهَ في شهادتِكم وفي الموصِين عليهم بأن لا تَخْتَلِسوا لهم شيئاً؛ لأن القصةَ كانت بهذا السببِ ، وإمَّا قصداً لإِيقاعِ التقوى ، فيتناولُ كلَّ ما يُتَّقى منه . وكذا مفعولُ » اسمعوا « إنْ شئتَ حذفتَه اقتصاراً أو اختصاراً أي : اسمعوا أوامَره ونواهَيه من الأحكام المتقدمة ، وما أفصحَ ما جيء بهاتين الجملتين الأمريتين ، فتباركَ اللَّهُ أصدقُ القائلين .

يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)

قوله تعالى : { يَوْمَ يَجْمَعُ } : في نصبِه أحدَ عشرَ وجهاً ، أحدها : أنه منصوبٌ ب « اتقوا » أي : اتقوا اللَّهَ في يومِ جَمْعِه الرسلَ قاله الحوفي ، وهذا ينبغي ألاَّ يجوزَ لأنَّ أمرَهم بالتقوى في يوم القيامة لا يكون ، إذ ليس بيومِ تكليفٍ وابتلاء ، ولذلك قال الواحدي : ولم « يُنْصَب اليوم الظرفِ للاتقاء ، لأنهم لم يُؤْمَروا بالتقوى في ذلك اليوم ، ولكن على المفعول به كقوله : { واتقوا يَوْماً } [ البقرة : 48 ] . الثاني : أنه منصوب ب » اتقوا « مضمراً يدل عليه » واتقوا الله « قال الزجاج : » هو محمول على قوله : « واتقوا الله » ثم قال : « يوم يجمع » أي : واتقوا ذلك اليوم « ، فدلَّ ذِكْرُ الاتقاء في الأول على الاتقاء في هذه الآية ، ولا يكون منصوباً على الظرف للاتقاء لأنهم لم يُؤْمروا بالاتقاء في ذلك اليوم ، ولكن على المفعول به كقوله تعالى : { واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً } [ البقرة : 48 ] . الثالث : أنه منصوب بإضمار » اذكروا « الرابع : بإضمار » احذروا « الخامس : أنه بدل اشتمال من الجلالة . قال الزمخشري : » يوم يجمع « بدلٌ من المنصوب في » واتقوا الله « وهو من بدلِ الاشتمال كأنه قيل : واتقوا الله يوم جَمْعِه » انتهى ، ولا بد من حذفِ مضافٍ على هذا الوجهِ حتى تَصِحَّ له هذه العبارةُ التي ظاهرها ليس بجيدٍ ، لأنَّ الاشتمالَ لا يُوصَفُ به الباري تعالى أيِّ مذهبٍ فَسَّرناه من مذاهبِ النحويين في الاشتمالَ ، والتقديرُ : واتقوا عقابَ الله يومَ يجمعُ رسلَه ، فإنَّ العقابَ مشتملٌ على زمانِه ، أو زمانه مشتملٌ عليه ، أو عاملُها مشتملٌ عليهما على حَسَبِ الخلافِ في تفسيرِ البدلِ الاشتمالي ، فقد تبيَّن لك امتناعُ هذه العباراتِ بالنسبةِ إلى الجلالةِ الشريفة . واستبعد الشيخ هذا الوجهَ بطولِ الفصلِ بجملتين ، ولا بُعْدَ فإنَّ هاتين الجملتين من تمامِ معنى الجملةِ الأولى . السادسُ : أنَّه منصوبٌ ب « لا يَهْدي » قال الزمخشري وأبو البقاء . قال الزمخشري : « أي : لا يهديهم طريقَ الجنة يومئذ كما يُفْعَلُ بغيرهم » . وقال أبو البقاء : « أي : لا يهديهم في ذلك اليومِ إلى حُجَّة أو إلى طريق الجنة » .
السابع : أنه مفعولٌ به وناصبُه « اسمعوا » ولا بد من حذف مضاف حينئذ لأنَّ الزمان لا يسمع ، فقدَّره أبو البقاء : « واسمعوا خبر يوم يجمع » ولم يذكر أبو البقاء غيرَ هذين الوجهين وبدأ بأولهما . وفي نصبِه ب « لا يَهْدي » نظر من حيث إنه لا يهديهم مطلقاً لا في ذلك اليوم ولا في الدنيا ، أعني المحكومَ عليهم بالفسق ، وفي تقدير الزمخشري « لايهديهم إلى طريق الجنة » نُحُوٌّ إلى مذهبه من أنّ نَفْي الهداية المطلقة لا يجوز على الله تعالى ، ولذلك خَصَّص المُهْدَى إليه ولم يذكر غيره ، والذي سَهَّل ذلك عنده أيضاً كونُه في يومٍ لا تكليفَ فيه ، وأما في دار التكليف فلا يُجيز المعتزلي أن يُنْسَبَ إلى الله تعالى نَفْيُ الهدايةِ مطلقاً البتة .

الثامن : أنه منصوبٌ ب « اسمعوا » قاله الحوفي ، وفيه نظرٌ لأنهم ليسوا مكلِّفين بالسماعِ في ذلك اليومِ ، إذ المرادُ بالسماع السماعُ التكليفي . التاسع : أنه منصوبٌ بإضمارِ فعلٍ متأخرٍ أي : يوم يَجْمَعُ اللَّهُ الرسلَ كان كيتَ وكاتَ ، قاله الزمخشري . العاشر : قلت : يجوز أن تكونَ المسألة من باب الإِعمال ، فإنَّ كُلاً من هذه العوامل الثلاثة المتقدمة يَصِحُّ تسلُّطُه عليه بدليل أنَّ العلماء جَوَّزوا فيه ذلك ، وتكون المسألةُ مِمَّا تنازع فيها ثلاثةُ عواملَ وهي « اتقوا » و « اسمعوا » و « لا يَهْدي » ، ويكون من إعمال الأخير لأنه قد حُذِفَ من الأَوَّلِين ولا مانع يمنع من الصناعة ، وأمَّا المعنى فقد قَدَّمْتُ أنه لا يظهر نصب « يوم » بشيء من الثلاثة لأنَّ المعنى يأباه ، وإنما أجَزْتُ ذلك جرياً على ما قالوه وجَوَّزوه ، لاسيما أبو البقاء فإنه لم يذكر غيرَ كونِه منصوباً ب « اسمعوا » أو ب « لايهدي » ، و كذا الحوفي جَوَّز أن ينتصب ب « اتقوا » وب « اسمعوا » الحادي عشر : أنه منصوب ب « اقولوا : لا علمَ لنا » أي : قال الرسل يوم جمعهم وقول الله لهم ماذا أُجبتم . واختاره الشيخ على جميع ما تقدم ، قال : « وهو نظيرُ ما قلناه في قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ } [ البقرة : 30 ] وهو وجه حسن .
قوله : { مَاذَآ أُجِبْتُمْ } فيه أربعةُ أقوال ، أحُدها : أنَّ » ماذا « بمنزلةِ اسمٍ واحدٍ ، فَغَلَب فيه جانبُ الاستفهام ومحلُّه النصبُ على المصدرِ بما بعده ، والتقديرُ : أيَّ إجابةٍ أُجِبْتُم . قال الزمشخري : » ماذا أُجِبْتُم « منتصبٌ انتصابَ مصدرهِ على معنى : أيَّ إجابة أُجِبْتُم ، ولو أُريد الجوابُ لقيل : بماذا أُجبتم » أي : لو أُريد الكلامُ المجابُ لقيل : بماذا . ومِنْ مجيء « ماذا » كلِّه مصدراً قوله :
1833- ماذا يَغِيرُ ابنَتَيْ ربعٍ عويلُهما ... لا تَرْقُدانِ ولا بُؤْسَ لِمَنْ رَقَدا
الثاني : أن « ما » استفهاميةٌ في محل رفع بالابتداء و « ذا » خبره ، وهي موصولةٌ بمعنى الذي لاستكمال الشرطين المذكورين ، و « أُجِبْتُم » صلتُها ، والعائدُ محذوفٌ أي : ما الذي أُجِبْتم به ، فَحَذَف العائدَ ، قاله الحوفي . وهذا لايجوزُ ، لأنه لا يجوزُ حَذْفُ العائدِ المجرورِ إلا إذا جُرَّ الموصولُ بحرف مثلِ ذلك الحرفِ الجارِّ للعائدِ ، وأَنْ يَتَّحِدَ متعلَّقاهما : نحو : « مررتُ بالذي مررتَ » أي به ، وهذا الموصولُ غير مجرورٍ ، لو قلت : « رأيت الذي مررتَ » أي : مررتَ به لم يجز ، اللهم إلا أَنْ يُدَّعى حَذْفُه على التدريج بأن يُحَذَفَ حرفُ الجر فيصلَ الفعل إلى الضمير فيحذفَ كقوله :

{ وَخُضْتُمْ كالذي خاضوا } [ التوبة : 69 ] أي : في أحد أوجهه ، وقوله : { فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ } [ الحجر : 94 ] في أحد وجهيه ، وعلى الجملةِ فهو ضعيف . الثالث : أنَّ « ما » مجرورةٌ بحرفِ جَرٍّ مقدَّرٍ ، لَمَّا حُذِف بقيت في محل نصب ، ذكره أبو البقاء وضَعَّف الوجه الذي قبله - أي كونَ ذا موصولةً - فإنه قال : « ماذا » في موضعِ نصبٍ ب « أُجِبْتُم » وحرفُ الجرِّ محذوفٌ ، و « ما » و « ذا » هنا بمنزلةِ اسمٍ واحدٍ ، ويَضْعُفُ أَنْ تُجْعَلَ « ما » بمعنى الذي لأنه لا عائدَ هنا ، وحذفُ العائدِ مع حرفِ الجَرِّ ضعيفٌ « قلت : أمَّا جَعْلُه حذفَ العائدِ المجرورِ ضعيفاً فصحيحٌ تقدَّم شرحُه والتنبيهُ عليه ، وأمَّا حذفُ حرفِ الجر وانتصابُ مجرورِه فهو ضعيفٌ أيضاً ، لا يجوزُ إلا في ضرورة كقولِه :
1834- فَبِتُّ كأنَّ العائداتِ فَرَشْنَنِي ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقوله :
1835- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وأُخْفي الذي لولا الأَسَى لقَضاني
وقوله :
1836- تَمُرُّون الديارَ ولم تَعُوجُوا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد تقدَّم تحقيق ذلك واستنثاءُ المطَّرِد منه ، فقد فَرَّ من ضعيفٍ ووقع في أضعفَ منه . الرابع : قال ابن عطية » « معناه : ماذا أجابت به الأمم » فَجَعَل « ماذا » كنايةً عن المجابِ به لا المصدرٍ ، وبعد ذلك ، فهذا الكلامُ منه محتملٌ أَنْ يكونَ مثلَ ما تقدَّم حكايتُه عن الحوفي في جَعْلِه « ما » مبتدأً استفهاميةً ، و « ذا » خبره على أنها موصولةٌ ، وقد تقدَّم التنبيه على ضعفه ، ويُحْتمل أن يكون « ماذا » كلُّه بمنزلة اسمِ استفهام في محلِّ رفع بالابتداء ، وأُجِبْتُم « خبرُه ، والعائدُ محذوفٌ كما قَدَّره هو ، وهو أيضاً ضعيفٌ ، لأنه لا يُحْذَفُ عائدُ المبتدأِ وهو مجرورٌ إلا في مواضعَ ليس هذا منها ، لو قلت : » زيدٌ مررتُ « لم يجز ، وإذا تبيَّن ضعفُ هذه الأوجهِ رُجِّح الأول .
والجمهور على » أُجِبْتم « مبنياً للمفعول ، وفي حذف الفاعل هنا ما لا يُبْلَغُ كُنهُه من الفصاحة والبلاغة حيث اقتصر على خطاب رسله غيرَ مذكورٍ معهم غيرُهم ، رفعاً من شأنهم وتشريفاً واختصاصاً . وقرأ ابن عباس وأبو حيوة » أَجَبْتم « مبنياً للفاعل والمفعول محذوف أي : مذا أَجَبْتم أممكم حين كَذَّبوكم وآذَوْكم ، وفيه توبيخٌ للأمم ، وليست في البلاغةِ كالأولى .
وقوله : { إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب } كقوله : { إِنَّكَ أَنْتَ العليم الحكيم } [ الآية : 32 ] في البقرة . والجمهورُ على رفع » عَلاَّمُ الغيوب « وقرئ بنصبِه وفيه أوجهٌ ذَكَرها أبو القاسم وهي : الاختصاصُ والنداءُ وصفةٌ لاسم » إنَّ « قال : » وقُرئ بالنصب على أنّ الكلامَ تَمَّ عند قوله « إنك أنت » أي : إنك الموصوف بأوصافِك المعروفة من العلم وغيرِه ، ثم انتصَبَ « عَلاَّم الغيوب » على الاختصاصِ أو على النداء أو هو صفةٌ لاسم « إنَّ » قال الشيخ : « وهو على حَذْفِ الخبر لفهم المعنى ، فَتَمَّ الكلامُ بالمقدَّرِ في قوله » إنك أنتَ « اي : إنَّك الموصوفُ بأوصافِك المعروفةِ من العلم وغيره » ثم قال : « قال الزمخشري : ثم انتصب فذكره إلى آخره » فزعم أنَّ الزمخشري قَدَّر ل « إنك » خبراً محذوفاً ، والزمخشري لا يريد ذلك البتةَ ولا يَرْتضيه ، وإنما يريد أنَّ هذا الضمير بكونه لله تعالى هو الدالُّ على تلك الصفات المذكورة لا انفكاكَ لها عنه ، وهذا المعنى هو الذي تقضيه البلاغةُ والذي غاص [ عليه أبو القاسم ، لا ماقدَّره ] الشيخُ مُوِهماً أنه أتى به من عنده .

ويعني بالاختصاص النصبَ على المدحِ لا الاختصاصَ الذي هو شبيه بالنداء ، فإنَّ شرطه ان يكون حشواً ، ولكنَّ الشيخَ قد رَدَّ على أبي القاسم قوله « إنه يجوز أن يكون صفةً لاسم » إنَّ « بأنَ اسمها هنا ضمير مخاطب ، والضمير لا يوصف مطلقاً عند البصريين ، ولا يوصَف منه عند الكسائي إلا ضميرُ الغائبِ لإِبهامه في قولهم » مررت به المسكينِ « مع إمكان تأويله بالبدل وهو ردٌّ واضح ، على أنه يمكن أن يقال أرادَ بالصفةِ البدلَ وهي عبارة سيبويه ، يُطْلِقُ الصفةَ ويريد البدل فله أُسْوَةٌ بإمامه واللازم مشترك ، فما كان جواباً عن سيبويه كان جواباً له ، ولكن يبْقَى فيه البدلُ بالمشتق وهو اسهلُ من الأول . ولم أَرَهُم خرَّجُوها على لغة مَنْ ينصِبُ الجزأين ب » إنَّ « وأخواتِها كقولِه :
1837 إنَّ العجوزَ خَبَّةً جَرُوزاً ... [ وقوله ] :
1838- . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . إنَّ حُرَّا سَنا أُسْدا
[ وقوله ] :
1839- ليتَ الشبابَ هو الرَّجِيعُ على الفتى ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
[ وقوله ] :
1840- كأنَّ أُذْنيه إذا تَشَوَّفا ... قادِمةً أو قَلَماً مُحْرَّفا
ولو قيل به لكان صواباً
و » عَلاَّمُ « مثالُ مبالغة فهو ناصب لما بعده تقديراً ، وبهذا ايضاً يُرَدُّ على الزمخشري على تقدير تسليم صحة وصف الضمير من حيث إنه نكرة؛ لأن إضافَته غيرُ محضة وموصوفَه معرفةٌ . والجمهور على ضمِّ العين من » الغيوب « وهو الأصل ، وقرأ حمزة وأبو بكر بكسرها ، والخلافُ جارٍ في ألفاظٍ أُخَرَ نحو : » البيوت والجيوب والعيون والشيوخ « وقد تقدَّم تحرير هذا كله في البقرة عند ذكر { البيوت } [ الآية : 189 ] ، وستأتي كلٌّ لفظةٍ من هذه الألفاظِ مَعْزُوَّةً لقارئِها في سورها إن شاء الله تعالى . وجُمِع الغيبُ هنا وإنْ كان مصدراً لاختلافِ أنواعِه ، وإن أريد به الشيء الغائب ، أو قلنا إنه مخففٌ من فَيْعِل كما تقدم تحقيقه في البقرة فواضح .

إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)

قوله تعالى : { إِذْ قَالَ الله } : فيها أوجه ، أحدها : أنه بدل من « يوم يجمع » قال الزمخشري : « والمعنى : أنه يوبخ الكافرين بسؤال الرسل عن إجابتهم ، وبتعديد ما أَظْهر على أيديهم من الآيات العِظام فكذَّبهم بعضُهم وسَمَّوهم سحرةً ، وتجاوزَ بعضُهم الحَدَّ فجعله وأمه إليهن » . ولمَّا ذَكَر ابو البقاء هذا الوجهَ تأوَّلَ فيه « قال » ب « يقول » وأنَّ « إذ » وإنْ كانت للماضي فإنما وَقَعَتْ هنا على حكاية الحالِ . الثاني : أنه منصوبٌ ب « اذكر » مقدراً ، قال أبو البقاء : « ويجوزُ أن يكونَ التقديرُ : إذ يقول » ، يعني أنه لا بد من تأويل الماضي بالمستقبلِ ، وهذا كما تقدَّم له في الوجهِ قبله ، وكذا ابن عطية تأوَّله ب « يقول » فإنه قال : « تقديرُه : اذكر يا محمد إذ » و « قال » هنا بمعنى « يقول » لأنَّ ظاهرَ هذا القولِ إنما هو في يوم القيامة تقدمه لقوله : { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ } الثالث : أنه في محل رفعٍ خبراً لمتبدأ مضمر ، أي : ذلك إذ قال ، ذكره الواحدي وهذا ضعيفٌ ، لأن « إذ » لا يُتَصَرَّف فيها ، وكذلك القولُ بأنها مفعول بها بإضمار « اذكر » وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك ، اللهم إلا أَنْ يريدَ الواحدي بكونِه خبراً أنه ظرفٌ قائمٌ مقامَ خبرٍ نحو : « زيدٌ عندك » فيجوز .
قوله : { ياعيسى ابن مَرْيَمَ } تقدَّم الكلام في اشتقاق هذه المفردات ومعانيها و « ابن » صفة ل « عيسى » نُصِب لأنه مضاف ، وهذه قاعدةٌ كلية مفيدة ، وذلك أنَّ المنادى المفردَ المعرفة الظاهرَ الضمةِ إذا وُصف ب « ابن » أو ابنة ووقع الابن أو الابنة بين علمين أو اسمين متفقين في اللفظ ولم يُفْصَل بين الابن وبين موصوفه بشيء تثبت له أجكامٌ منها : أنه يجوزُ إتباعُ المنادى المضمومِ لحركةِ نون « ابن » فيُفتح نحو : « يا زيدَ بن عمرو ، ويا هندَ ابنة بكر » بفتح الدال من « زيد » و « هند » وضمِّها ، فلو كانت الضمةُ مقدرةً نحو ما نحن فيه ، فإنَّ الضمة مقدرة على ألف « عيسى » فهل يُقَدَّر بناؤه على الفتح إتباعاً كما في الضمة الظاهرة؟ خلاف : الجمهورُ على عَدَمِ جوازِه ، إذ لا فائدة في ذلك ، فإنه إنما كان للإِتباع وهذا المعنى مفقود في الضمة المقدرة . وأجاز الفراء ذلك إجراءً للمقدر مُجْرى الظاهر ، وتبعه أبو البقاء فإنه قال : « يجوز أن يكونَ على الألف من » عيسى « فتحةٌ ، لأنه قد وُصِف ب » ابن « وهو بين عَلَمين ، وأن يكونَ علهيا ضمةٌ ، وهو مثلُ قولِك : » يا زيد بن عمرو « بفتح الدال وضمها » .

وهذا الذي قالاه غيرُ بعيدٍ ، ويَشْهَدُ له مسألة عند الجميعِ : وهو ما إذا كان المنادى مبنياً على الكسرِ مثلاً نحو : « يا هؤلاء » فإنهم أجازوا في صفتِه الوجهين : الرفعَ والنصبَ فيقولون : « يا هؤلاء العقلاءِ والعقلاءُ » بنصب العقلاء ورفعها ، قالوا : والرفعُ مراعاةً لتلك الضمة المقدرة على « هؤلاء » فإنه مفرد معرفة ، والنصب على محله ، فقد اعتبروا الضمةَ المقدرةَ في الإِتباع ، وإنْ كان ذلك فائتاً ، في اللفظ . وقد يُفَرَّقُ بأنَّ « هؤلاء » نحن مضطرون فيه إلى تقدير تلك الحركةِ لأنه مفرد معرفةٌ ، فكأنها ملفوظٌ بها بخلافِ تقديرِ الفتحة هنا .
وقال الواحدي في « يا عيسى » : ويجوزُ أن يكونَ في محل النصب [ لأنه في نية الإِضافة ، ثم جَعَلَ الابنَ توكيداً له ، وكل ما كان ] مثلَ هذا جاز فيه الوجهان نحو : « يا زيد بن عمرو » وأنشد :
1841- يا حَكَمُ بنُ المنذرِ بن الجارودُ ... أنتَ الجوادُ بنُ الجوادِ بنُ الجودْ
سُرادِقُ المجدِ عليك ممدودْ ... بنصب الأول ورفعه على ما بَيَّنَّا . وقال التبريزي : « الأظهر عندي أنَّ موضع » عيسى « نصب؛ لأنك [ تجعلُ الاسم مع نعتِه إذا أضفته إلى العلم ] كالشيء الواحد المضافِ ، وهذا الذي قالاه لا يُشْبِهُ كلامَ النحاةِ أصلاً ، بل يقولون : الفتحةُ للإِتباع ولم يُعْتَدَّ بالساكن لأنه حاجزٌ غيرُ حصينٍ ، كذا قال الشيخ . قلت : قد قال الزمخشري - وكونه ليس من النحاة مكابرةٌ في الضروريات - عند قوله : { إِذْ قَالَ الحواريون ياعيسى ابن مَرْيَمَ } [ المائدة : 112 ] : » عيسى في محل النصب على إتباع حركته حركةَ الابن كقولك : « يا زيدَ بنَ عمرو » وهي اللغة الفاشية ، ويجوزُ أن يكونَ مضموماً كقولِك « يا زيدُ بنَ عمرو » والدليل عليه قوله :
1842- أحارِ بن عمروٍ كأني خَمِرْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
لأنَّ الترخيم لا يكونُ إلا في المضمومِ انتهى . فاحتاج إلى الاعتذار عن تقديرِ الضمة ، واستشهد لها بالبيتِ لمخالفتِها اللغةَ الشيهرة .
وقولي : « المفرد » تحرُّزٌ من المُطَوَّل . وقولي « المعرفة » تحرز من النكرة نحو : « يا رجلاً ابن رجل » إذا لم تَقْصِدْ به واحداً بعينه . وقولي : « الظاهرَ الضمةِ » تحرُّزٌ من نحو : « يا موسى بن فلان » وكالآية الكريمة . وقولي : ب « ابن » تحرُّزٌ من الوصف بغيرِه نحو : « يا زيدُ صاحبَنا » وقولي : « بين علمين أو متفقين لفظاً » تحرُّزٌ من نحو : « يا زيد بن أخينا » وقولي : « غيرَ مفصولٍ » تحرُّزٌ من نحو : « يا زيدُ العاقلُ ابنَ عمرو » فإنه لا يجوز في جميع ذلك إلا الضم . وقولي : « أحكام » قد تقدَّمتْ منها ما ذكرتُه من جوازِ فتحِه إتباعاً ، ومنها : حَذْفُ ألفِه خطاً ، ومنها : حَذْفُ تنويِنه في غيرِ النداء؛ لأنَّ المنادَى لا تنوينَ فيه .

وقولي : « وصفٌ » تحرُّزٌ من أن يكون الابن خبراً لا صفة نحو : « زيدٌ ابنُ عمرو » وهل يجوزُ إتباعُ « ابن » فيُضمَّ نحو : « يا زيد بن ُ عمرو » بضم « ابن »؟ فيه خلافٌ .
وفي قوله : { ابن مَرْيَمَ } ثلاثةُ أوجه ، أحدُها : أنه صفةٌ كما تقدم ، والثاني : أنه بدلٌ والثالث : أنه بيانٌ ، وعلى الوجهين الأخيرين لا يجوزُ تقديرُ التفحةِ إتباعاً إجماعاً ، لأنّ الابنَ لم يَقَعْ صفةً ، وقد تقدم أنَّ ذلك شرطٌ .
قوله : { إِذْ أَيَّدتُّكَ } في « إذ » أوجهٌ ، أحدُها : أنه منصوبٌ ب « نعمتي » كأنه قيل : اذكرُ إذ أنعمتُ عليك وعلى أمِّك في وقت تأييدي لك . والثاني : أنه بدلٌ من « نعمتي » بدلُ اشتمال ، وكأنه في المعنى تفسيرٌ للنعمة . والثالث : أنه حالٌ من « نعمتي » قاله أبوالبقاء والرابع : أن يكون مفعولاً به على السِّعَة قاله أبو البقاء أيضاً . قلت : هذا هو الوجهُ الثاني - أعني البدليةَ - وقرأ الجمهور « أيَّدتك » بتشديد الياء ، وغيرهم « آيَدْتُك » وقد تقدَّم الكلام على ذلك وعلى مَنْ قرأ بها وما قاله الزمخشري وابن عطية والشيخ في سورة البقرة فليُنْظر ثَمَّ .
قوله : { تُكَلِّمُ الناس فِي المهد } إلى آخرها : تقدَّم ايضاً في آل عمران ، وما فائدةُ قوله : { فِي المهد وَكَهْلاً } إلا أنَّ هنا بعضَ زياداتٍ لابدَّ من التعرض لها . قرأ ابن عباس : « فتنفخُها » بحذف حرف الجر اتساعاً . والجمهور : « فتكونُ » بالتاء منقوطةً فوق ، وأبو جعفر منقوطةً تحتُ ، أي : فيكونُ المنفوخ فيه . والضمير في « فيها » قال ابن عطية : « اضطربت فيه أقوال المفسرين » قال مكي : « هو في آل عمران عائدةٌ على الطائر ، وفي المائدة عائدٌ على الهيئة » قال : « وَيصِحُّ عكس هذا » . وقال غير مكي : « الضمير المذكور عائد على الطين » . قال ابن عطية : « ولا يَصِحُّ عودُ هذا الضمير على الطير ولا على الطين ولا على الهيئة ، لأنَّ الطير أو الطائر الذي يَجِيء الطين على هيئته لا يُنْفَخُ فيه البتةَ ، وكذلك لا نفخَ في هيئته الخاصة به ، وكذلك الطينُ إنما هو الطينُ العام ولا نفخَ في ذلك » . وقال الزمخشري : « ولا يَرْجِعُ الضميرُ إلى الهيئةِ المضافِ إليها لأنها ليست مِنْ خَلْقِه ولا مِنْ نفخِه في شيء ، وكذلك الضميرُ في » فتكون « . ثم قال ابن عطية : » والوجهُ عودُ ضمير المؤنث على ما تقتضيه الآيةُ ضرورةً أي : صوراً أو أشكالاً أو اجساماً ، وعودُ الضميرِ المذكِّر على المخلوقِ المدلولِ عليه ب « تخلقُ » ثم قال : « ولك أن تعيدَه على ما تَدُلُّ عليه الكاف من معنى المثل لأنَّ المعنى : وإذ تَخْلُق من الطينِ مثلَ هيئِته ، ولك أن تعيدَه على الكاف نفسِها فتكونَ اسماً في غيرِ الشعر » انتهى .

وهذا القولُ هو عينُ ما قبله ، فإنَّ الكافَ أيضاً بمعنى مِثْل ، وكونُها اسماً في غير الشعرِ لم يَقُلْ به غيرُ الأخفش .
استشكل الناسُ قولَ مكي المتقدم كما قَدَّمْتُ حكايتَه عن ابن عطية ، ويمكنُ أَنْ يُجابَ عنه بأنَّ قولَه « عائدٌ على الطائر » لا يريدُ به الطائر الذي أُضيفت إليه الهيئةُ بل الطائرُ المُصَوَّرُ ، والتقدير : وإذ تخلق من الطين طائراً صورةَ الطائرِ الحقيقي فتنفخُ فيه فيكونُ طائراً حقيقياً ، وأنَّ قوله « عائدٌ على الهيئة » لا يريدُ الهيئةَ المجرورةَ بالكاف ، بل الموصوفةَ بالكاف ، والتقدير : وإذ تخلُق من الطينِ هيئةً مثلَ هيئة الطائر فتنفخُ فيها أي : في الموصوفة بالكافِ التي نُسِب خَلْقُها إلى عيسى . وأمَّا كونُه كيف يعودُ ضميرٌ مذكر على هيئةٍ وضميرٌ مؤنثٌ عل الطائرِ لأنَّ قوله : « ويجوز عكسُ هذا » يؤدي إلى ذلك « فجوابُه أنه جازَ بالتأويل ، لأنه تُؤَوَّلُ الهيئةُ بالشكل ويُؤَوَّل الطائرُ بالهيئةِ فاستقام ، وهو موضعُ تأولٍ وتأنٍ . وقال هنا » بإذني « أربعَ مراتٍ عَقِيب أربع جمل ، وفي آل عمران » بإذن الله « مرتين؛ لأنَّ هناك موضعَ إخبارٍ فناسَبَ الإِيجازَ ، وهنا مقامُ تذكيرٍ بالنعمةِ والامتنانِ فناسبَ الإِسهابَ؛ وقوله : » بإذني « حالٌ : إمَّا من الفاعلِ أو من المفعول .
قوله : { إِلاَّ سِحْرٌ } قرأ الأخَوان هنا وفي هود وفي الصف » إلا ساحر « اسم فاعل ، والباقون : » إلا سحرٌ « مصدراً في الجميع ، والرسمُ يحتمل القراءتين ، فأمَّا قراءةُ الجماعةِ فتحتمل أن تكون الإِشارة إلى ما جاءَ به من البينات أي : ما هذا الذي جاء به من الآيات الخوارقِ إلى سحرٌ ، ويُحْتمل ان تكونَ الإِشارةُ إلى عيسى ، جَعَلُوه نفسَ السحر مبالغةً نحو : » رجلٌ عدلٌ « ، أو على حَذْفِ مضافٍ أي : إلا ذو سحر . وخَصَّ مكي هذا الوجهَ بكون المرادِ بالمشارِ إليه محمداً صلى الله عليه وسلم فقال : » ويجوزُ أن تكونَ إشارةً إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم على تقدير حَذْفِ مضافٍ أي : إنْ هذا إلا ذو سحر « . قلت : وهذا جائزٌ ، والمرادُ بالمشار إليه عيسى عليه السلام ، وكيف يكونُ المرادُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو لم يكن في زمنِ عيسى والحواريين حتى يشيروا إليه إلا بتأويلٍ بعيد » وأمَّا قراءةُ الأخوين فتحتمل أن يكون « ساحر » اسم فاعل والمشارُ إليه « عيسى » ، ويُحتمل أن يكون المرادُ به المصدرَ كقولهم : « عائذاً بك وعائذاً بالله مِنْ شَرِّها ، والمشارُ إليه ما جاء به عيسى من البيِّنات والإِنجيل ، ذَكَر ذلك مكي ، وتَبِعه أبو البقاء ، إلا أنَّ الواحدي مَنَع مِنْ ذلك فقال - بعد أَنْ حَكى القراءتين - » وكلاهما حَسَنٌ لاستواءِ كلِّ واحدٍ منهما في أنَّ ذِكْرَه قد تقدَّم ، غير أَنَّ الاختيار « سحر » لجوازِ وقوعِه على الحَدِثِ والشخص ، وأمَّا وقوُعه على الحدث فسهلٌ كثير ، ووقُوعه على الشخصِ يريدُ ذو سحر كقوله :

{ ولكن البر مَنْ آمَنَ } [ البقرة : 177 ] وقالوا : « إنما أنت سيرٌ » و « ما أنت إلا سيرٌ » و :
1843- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فإنما هي إقبالٌ وإدبارُ
قلت : وهذا يرجِّحُ ما قَدَّمْتُه من أنه أَطْلق المصدر على الشخص مبالغةً نحو : « رجل عدل » ثم قال : « ولا يجوزُ أَنْ يُراد بساحر السحر ، وقد جاء فاعِل يراد به المصدرُ في حروفٍ ليست بالكثير نحو : » عائذاً بالله من شره « أي : عياذاً ، ونحو » العافِية « ولم تَصِرْ هذه الحروفُ من الكثرة بحيث يسوغُ القياس عليها »

وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)

قوله تعالى : { أَنْ آمِنُواْ } : في « أَنْ » وجهان ، أظهرهما : أنها تفسيرية لأنها وردت بعدما هو بمعنى القول لا حروفِه . والثاني : انها مصدرية بتأويلٍ متكلف أي : أَوْجَبْتُ إليهم الأمر بالإِيمان ، وهنا قالوا « آمنَّا » ولم يُذْكر المُؤْمَنْ به ، وهناك { آمَنَّا بالله } [ آل عمران : 52 ] فذكره ، والفرق أنَّ هناك تقدَّم ذِكْرُ الله تعالى فقط فأُعيدَ المؤمَنْ به فقيل : « بالله » وهنا ذُكِر شيئان قبل ذلك وهما : { أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي } فلم يُذْكَر ليشمل المذكورين ، وفيه نظرٌ . وهنا « بأنَّنا » وهناك « بأنَّا » بالحذف ، وقد تقدَّم غيرَ مرة أنَّ هذا هو الأصل ، وإنما جِيء هنا بالأصل لأنَّ المُؤْمَنَ به متعدِّدٌ فناسَبَه التأكيد .
قوله : { هَلْ يَسْتَطِيعُ } قرأ الجمهورُ « يَسْتَطيع » بياء الغيبة « ربك » مرفوعاً بالفاعلية ، والكسائي : « تَسْتَطيع » بتاء الخطاب لعيسى ، و « ربَّك » بالنصب على التعظيم ، وقاعدتُه أنه يُدْغِم لام « هل » في أحرف منها هذا المكان ، وبقراءة الكسائي قرأت عائشة ، وكانت تقول : « الحواريُّونَ أعرفُ بالله من أن يقولوا : هل يستطيع ربك » كأنها - رضي الله عنها - نَزَّهَتْهم عن هذه المقالةِ الشنيعة أَنْ تُنْسَبَ إليهم ، وبها قرأ معاذ أيضاً وعلي وابن عباس وسعيد بن جبير في آخرين ، وحينئذ فقد اختلفوا في هذه القراءة : هل تحتاجُ إلى حَذْفِ مضاف أم لا؟ فجمهورالمُعْربين / يقدِّرون : هل تستطيعُ سؤالَ ربك ، وقال الفارسي : « وقد يمكن أَنْ يُسْتغنى عن تقدير » سؤالَ « على أن يكون المعنى : هل تستطيع أن يُنَزَّل ربُّك بدعائك ، فيُرَدُّ المعنى - ولا بد - إلى مقدَّر يدل عليه ما ذُكِر من اللفظ » قال الشيخ : « وما قاله غيرُ ظاهرٍ لأنَّ فعلَه تعالى وإنْ كان مسبباً عن الدعاءِ فهو غيرُ مقدورٍ لعيسى » واختار أبو عبيد هذه القراءةَ قال : « لأنَّ القراءةَ الأخرى تُشْبه أن يكونَ الحواريُّون شاكِّين ، وهذه لا تُوهِمُ ذلك » . قلت : وهذا بناء من الناسِ على أنهم كانوا مؤمنين ، وهذا هو الحقُّ .
قال ابن الأنباري : « لا يجوزُ لأحد أن يتَوَهَّم على الحواريين أنهم شَكُّوا في قدرة الله تعالى » وبهذا يَظْهَرُ أنَّ قول الزمخشري أنهم ليسا مؤمنين ليس بجيدٍ وكأنه خارقٌ للإِجماع . قال ابن عطية : « ولا خلاف أحفظُه أنهم كانوا مؤمنين » . وأمَّا القراءةُ الأولى فلا تَدُلُّ له لأن الناس أجابوا عن ذلك باجوبةٍ منها : أنَّ معناه : هل يَسْهُل عليك أن تسأل ربَّك ، كقولِك لآخر : هل تستطيع أن تقومَ؟ وأنت تعلم استطاعته لذلك . ومنها : أنهم سألوه سؤالَ مستخبرٍ : هل يُنَزَّل أم لا ، فإن كان يُنَزِّلُ فاسأله لنا .

ومنها : أن المعنى هل يفعلُ ذلك وهل يقع منه إجابةٌ لذلك؟ ومنه ما قيل لعبد الله بن زيد : هل تستطيعُ أن تُرَيَني كيف كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ؟ أي هل تُحِبُّ ذلك؟ وقيل : المعنى : هل يطلب ربُّك الطاعة من نزول المائدة؟ قال أبو شامة : « مثلُ ذلك في الإِشكال ما رواه الهيثم - وإن كان ضعيفاً - عن ثابت عن أنس » أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عادَ أبا طالب في مرض فقال : يا بنَ أخي ادعُ ربَّك الذي تعبده فيعافيَني . قال : اللهم اشفِ عمي ، فقام أبو طالب كأنما نَشِط من عِقال . فقال : يابنَ أخي إنّ ربك الذي تعبدُ لَيطيعُك . قال : وأنت يا عَمَّاه لو أَطَعْتَه ، أو : لئن أطعتَ اللّهَ ليطيعَنَّك اي : لَيجيبَنَّك إلى مقصودك « . قلت : والذي حَسَّن ذلك المقابلةُ منه صلى الله عليه وسلم للفظِ عَمِّه كقوله : { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله } [ آل عمران : 54 ] وقيل : التقدير : هل يُطيع؟ فالسينُ زائدة كقولهم : استجاب وأجاب ، قال :
1844- وداعٍ دعا يا مَنْ يُجيب إلى النَّدى ... فلم يَسْتِجَبْه عند ذاك مُجيبُ
وبهذه الأجوبةِ يُستغنى عن قولِ مَنْ قال : » إنَّ يستطيع زائدةٌ « والمعنى : هل يُنَزَّل ربُّك ، لأنه لا يُزال من الأفعال إلا » كان « بشرطينِ وشَذَّ زيادةُ غيرِها في مواضعَ عَدَدْتُها في غيرِ هذا الكتاب ، على أنَّ الكوفيين يُجيزون زيادةَ بعض الأفعال مطلقاً ، حَكَوْا : قَعَدَ فلانٌ يتهكَّم بي » ، وأنشدوا :
1845- على ما قام يَشْتِمُني لئيمٌ ... كخنزيرٍ تَمَرَّغَ في رَمادِ
وحكى البصريون على وجه الشذوذ : « ما اصبحَ أبردَها وما أمسى أدفأَها » يعنون الدنيا .
قوله { أَن يُنَزِّلَ } في قراءةِ الجماعة في محل نصب مفعولاً به أي : الإِنزالَ . وقال أبو البقاء : « والتقدير : على أن ينزَّل ، أو في أن ينزَّل ، ويجوز ألاَّ يُحتاجَ إلى حرف جر على أن يكون » يَسْتطيع « بمعنى » يُطيق « . قلت : إنما احتاج إلى تقديرِ حَرْفَي الجرِّ في الأول لأنه حَمَل الاستطاعةَ على الإِجابة ، وأمَّا قولُه أخيراً » إنَّ يستطيع بمعنى يُطِيق « فإنما يَظْهَرُ كلَّ الظهورِ على رأي الزمخشري من كونهم ليسوا بمؤمنين . وأمَّا في قراءةِ الكسائي فقالوا : هي في محلِّ نصبٍ على المفعولية بالسؤالِ المقدَّر أي : هل يستطيع أنت أن تسألَ ربَّك الإِنزالَ ، فيكون المصدرُ المقدرُ مضافاً لمفعوله الأول وهو » ربّك « فلمَّا حُذِفَ المصدرُ انتصب . وفيه نظرٌ من أنهم أعملوا المصدرَ مضمراً ، وهو لا يجوزُ عند البصريين ، يُؤَوِّلون ما ورد ظاهرُه ذلك . ويجوز أن يكونَ » أن ينزَّل « بدلاً من » ربك « بدلَ اشتمالٍ ، والتقدير : هل تستطيع أي : هل تُطيق إنزالَ الله تعالى مائدةً بسبب دعائك؟ وهو وجهٌ حسن .
و » مائدة « مفعول » يُنَزِّلُ « والمائدة : الخِوُان عليه طعامٌ ، فإن لم يكن عليه طعامٌ فليست بمائدةٍ ، هذا هو المشهور ، إلا أن الراغب قال : » والمائدةُ : الطبقُ الذي عليه طعام ، ويقال لكل واحدٍ منها مائدةٌ « وهو مخالِفٌ لما عليه المُعْظَمُ ، وهذه المسألة لها نظائرٌ في اللغة ، لا يقال للخِوان مائدةٌ إلا وعليه طعامٌ وإلا فهو خِوان ، ولا يقال كأسٌ إلا وفيها خَمْرٌ وإلا فهي قَدَحٌ ، ولا يقال ذَنوب وسَجْل إلا وفيه ماء ، وإلا فهو دَلْو ، ولا يقال جِراب إلا وهو مدبوعٌ وإلا فهو إهاب ، ولا قَلَمٌ إلا وهو مَبْرِيٌّ وإلا فهو أنبوب .

واختلف اللغويون في اشتقاقها فقال الزجاج : « هي من مادَ يَميدُ إذ تحرك ، ومنه قوله : { رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ } [ الأنبياء : 31 ] ومنه : مَيْدُ البحر » وهو ما يُصيب راكبَه ، فكأنها تَميد بما عليها من الطعام ، قال : « وهي فاعِله على الأصل » وقال أبو عبيد : « هي فاعلة بمعنى مَفْعولة مشتقةٌ من مادَهُ بمعنى أعطاه ، وامتادَهُ بمعنى استعطاهُ فهي بمعنى مَفْعولة » قال : « كعِيشة راضِية » وأصلُها أنها مِيدَ بها صاحبُها أي : أُعْطِيها ، والعربُ تقول : ما دَني فلان يَميدني إذا أحسنَ إليَّ وأعطاني « وقال أبو بكر بن الأنباري : » سُمِّيت مائدةً لأنها غياثٌ وعطاءٌ ، من قولِ العرب : مادَ فلانٌ فلاناً إذا أَحْسَنَ إليه ، وأنشدَ :
1846- إلى أميرِ المؤمنين المُمْتادْ ... أي : المُحْسِنُ لرعيَّته ، وهي فاعِلَة من المَيْد بمعنى مُعْطِية فهو قريب من قولِ أبي عبيد في الاشتقاق ، إلا أنَّ‍ها عنده بمعنى فاعِله على بابها . وابنُ قتيبة وافق أبا عبيد في كونها بمعنى مفعولة ، قال : « لأنها يُمادُ بها الآكلون أي يُعْطَوْنها » . وقيل : هي من المَيْد وهو الميل ، وهذا هو معنى قول الزجاج . قوله : « من السماء » يجوز أَنْ يتعلَّقَ بالفعلِ قبلَه ، وأَنْ يتعلَّق بمحذوف على أنه صفةٌ ل « مائدة » أي : مائدةً كائنةً من السماء أي : نازلةً منها .

قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113)

وقرأ الجمهور : { ونَعْلَمَ } : و « نكون » بنون المتكلم مبنياً للفاعل ، و قرأ ابن جبير - فيما نقله عنه ابن عطية - « وتُعْلَم » بضم التاء على أنه مبني للمفعول ، والضميرُ عائدٌ على القلوب أي : وتُعْلَمَ قلوبُنا ، ونُقل عنه « ونُعْلَم » بالنون مبنياً للمفعول ، وقرئ : « يُعْلم » بالياء مبنياً للمفعول ، والقائمُ مقام الفاعل : « أَنْ قد صدقتنا » أي : ويُعْلَمَ صِدْقُك لنا ، ولا يجوز أن يكونَ الفعلُ في هذه القراءةِ مسنداً لضميرِ القلوب لأنه جارٍ مَجْرى المؤنثِ المجازي ، ولا يجوزُ تذكيرُ فعلِ ضميرِه . وقرأ الأعمش : و « تَعْلَم » بتاء والفعل مبني للفاعل ، وهو ضمير القلوب ، ولا يجوزُ أن تكونَ التاءُ للخطاب لفسادِ المعنى ، ورُوي : « وتِعْلَم » بكسر حرف المضارعة ، والمعنى على ما تقدَّم وقُرئ : و « تَكون » بالتاء والضمير للقلوب .
وأَنْ « في » أَنْ قد صَدَقْتَنا « مخففةٌ واسمُها محذوفٌ ، و » قد « فاصلةٌ لأنَّ الجملة الواقعةَ خبراً لها فعليةٌ متصرفةٌ غيرُ دعاءٍ ، وقد عَرَفْتَ ذلك مما تقدم في قوله : { أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ } [ المائدة : 71 ] ، و » أن « وما بعده سادَّةٌ مسدَّ المفعولين أو مسدَّ الأول فقد والثاني محذوف . و » عليها « متعلقٌ بمحذوف يَدُلُّ عليه » الشاهدين « ولا يتعلَّقُ بما بعده لأن » أل « لا يَعْمل ما بعدَها فيما قبلَها عند الجمهورِ ، ومَنْ يُجيز ذلك يقول : » هو متعلقٌ بالشاهدين ، قُدِّم للفواصل « . وأجاز الزمخشري أن تكونَ » عليها « حالاً فإنه قال : » أو نكونُ من الشاهدين لله بالواحدنية ولك بالنبوةِ عاكفين عليها ، على أن « عليها » في موضع الحال « قلت : قوله » عاكفين « تفسيرُ معنىً؛ لأنه لا يُضْمر في هذه الأماكن إلا الأكوانُ المطلقة ، وبهذا الذي قلته لا يَرد عليه ما قاله الشيخ فإنه غاب عليه ذلك ، وجعله متناقضاً من حيث إنه لَمَّا علَّقه ب » عاكفين « كان غير حال؛ لأنه إذا كان حالاً تعلَّق بكون مطلق ، ولا أدري ما معنى التناقض وكيف يَتَحَمَّلُ عليه إلى هذا الحَدِّ؟

قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114)

قوله تعالى : { تَكُونُ لَنَا عِيداً } : في « تكون » ضمير يعود على « مائدة » هو اسمُها ، وفي الخبرِ احتمالان ، أظهرُهما : أنه عيد ، و « لنا » فيه وجهان أحدهما : أنه حال من « عيدا » لأنها صفة له في الأصل ، والثاني : أنها حال من ضمير « تكون » عند مَنْ يُجَوِّزُ إعمالَها في الحال . والوجه الثاني : أنَّ « لنا » هو الخبر ، و « عيداً » حال : إمَّا من ضمير « تكونُ » عند مَنْ يرى ذلك ، وإمَّا من الضمير في « لنا » لأنه وقعَ خبراً فتحمَّل ضميراً ، والجملةُ في محلِّ نصبٍ صفةً لمائدة .
وقرأ عبد الله : { تَكُنْ } بالجزم على جواب الأمر في قوله : « أَنْزل » قال الزمخشري : « وهما نظير { يَرِثُنِي وَيَرِثُ } [ مريم : 6 ] يريد قوله تعالى : { فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي } بالرفع صفةً ، وبالجزم جواباً ، ولكنْ القراءتان هناك متواترتان ، والجزمُ هنا في الشاذ .
والعِيد مشتق من العَوْد لأنه يعود كل سنة ، قاله ثعلب عن ابن الأعرابي . وقال ابن الأنباري : » النحويون يقولون : يوم العيد ، لأنه يعود بالفرح والسرور ، وعند العرب لأنه يعد بالفرح والحزن ، وكل ما عاد إليه في وقت فهو عِيد ، حتى قالوا للطَّيْفِ عيد « قال الأعشى :
1847- فواكبدي من لاعجِ الحُبِّ والهَوى ... إذا اعتاد قَلْبي من أُمَيْمَة عيدُها
أي : طيفُها ، وقال تأبَّط شراً :
1848- يا عيدُ ما لكَ مِنْ شوقٍ وإيراقِ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقال :
1849- عادَ قلبي من الطويلةِ عيدُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقال الراغب : » والعيديُ حالةٌ تعاوِدُ الإِنسانَ ، والعائدة : كل نفع يرجع إلى الإِنسان بشيء ، ومنه « العَوْدُ » للبعيرِ المسنِّ : إمَّا لمعاودته السيرَ والعملَ فهو بمعنى فاعِل ، وإمَّا لمعاودةِ السنين وإياه ومَرِّها عليه فهو بمعنى مفعول ، قال : امرؤ القيس :
1850- على لاحِبٍ لا يُهْتَدى بمنارِه ... إذا سافَه العَوْدُ النباطِيُّ جَرْجَرا
وصَغَّره على « عُيَيْد » وكَسَّروه على « أعياد » وكانَ القياسُ عُوَيْد وأَعْود ، لزوالِ موجبِ قَلْبِ الواوِ ياءً ، لأنها إنما قُلِبت لسكونِها بعد كسرةٍ ك « ميزان » ، وإنما فَعَلوا ذلك قالوا : فرقاً بينه وبين عودِ الخشب .
قوله : { لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا } فيه وجهان أحدُهما : أنه متعلقٌ بمحذوف لأنه وقعَ صفةً ل « عيداً » الثاني : أنه بدلٌ من « ن » في « لنا » قال الزمخشري : « لأولنا وآخرنا » بدلٌ من « لنا » بتكرير العاملِ « ثم قال : » وقرأ زيد بن ثابت والجحدري لأَولانا وأُخْرانا والتأنيثُ على معنى الأمة . « وخَصَّص أبو البقاء كلَّ وجه بشيء وذلك أنه قال : » فأمَّا « لأولنا وآخرنا » فإذا جعلت « لنا » خبراً وحالاً من فاعل « تكون » فهو صفةٌ ل « عيداً » ، وإن جعلت « لنا » صفة ل « عيد » كان « لأولنا » بدلاً من الضمير المجرور بإعادة الجارِّ « .

قلت : إنما فعل ذلك لأنه إذا جعل « لنا » خبراً كان « عيداً » حالاً ، وإن جعله حالاً كان « عيداً » خبراً ، فعلى التقديرين لا يمكنُه جَعْلُ « لأولنا » بدلاً من « لنا » لئلا يلزَم الفصلُ بين البدلِ والمبدلِ منه : إمَّا بالحال وإما بالخبر وهو « عيد » بخلافِ ما إذا جُعِل « لنا » صفةً ل « عيد » ، هذا الذي يظهر في تخصيصِه ذلك بذلك ، ولكن يُقال : قولُه « فإنْ جعلت لنا صفة لعيداً كان لأولنا بدلاً » مُشْكل أيضاً ، لأنَّ الفصلَ فيه موجود ، لا سيما أنَّ قولَه لا يُحْمل على ظاهره لأنَّ « لنا » ليس صفةً بل هو حالٌ مقدمة ، ولكنه نظر إلى الأصل ، وأنَّ التقدير : عيداً لنا لأوَّلنا ، فكأنه لا فصلَ ، والظاهرُ جوازُ البدل ، والفصلُ بالخبر أو الحال لا يَضُرُّ لأنه من تمامِه فليس بأجنبي .
واعلم أن البدلَ من ضميرِ الحاضر سواءً كان متكلماً أم مخاطباً لا يجوز عند جمهورِ البصريين من بدلِ الكل من الكلّ لو قلت : « قمتُ زيدٌ » يعني نفسَك ، و « ضربتُك عَمْراً » لم يَجُزْ ، قالوا : لأنَّ البدلَ إنما يؤتي به للبيانِ غالباً ، والحاضرُ متميِّزٌ بنفسِه فلا فائدةَ في البدلِ منه ، وهذا يَقْرُبُ من تعليلِهم في منعِ وصفِه . وأجازَ الأخفشُ ذلك مطلقاً مستدِلاً بظاهر هذه الآية وبقوله :
1851- أنا سيفُ العشيرةِ فاعرِفوني ... حُمَيْداً قد تَذَرَّيْتُ السِّناما
ف « حُمَيْداً » بدل من ياء اعرفوني ، وقولِ الآخر :
1852- وشوهاءَ تَغْدو بي إلى صارخ الوغى ... بمُسْتَلْئِمٍ مثلِ الفنيق المُدَجَّلِ
وقوله :
1853- بكم قريشٍ كُفينا كُلَّ مُعْضِلَةٍ ... وأَمَّ نهج الهُدى مَنْ كان ضِلِّيلا
وفي الحديث : « أتينا النبيَّ صلى الله عليه وسلم نفرٌ من الأشعريين » والبصريون يُؤَوِّلون جميع ذلك ، أمَّا الآية الكريمة فعلى ما تقدم في الوجه الأول ، وأما « حُمَيْداً » فمنصوب على الاختصاص ، وأمَّا « بمُسْتلئم » فمن باب التجريد وهو شيءٌ يعرفه أهلُ البيان ، يعني أنه جَرَّد من نفسه ذاتاً متصفةً بكذا ، وأمَّا « قريش » فالروايةُ بالرفعِ على أنه منادى نُوِّن ضرورةً كقولِه :
1854- سلامُ اللَّهِ يا مطرٌ عليها ... وليسَ عليك يا مطرُ السَّلامُ
وأمَّا « نفرٌ » فخبر مبتدأ مضمر أي : نحن ، ومنع ذلك بعضُهم إلا أَنْ يُفيدَ البدلُ توكيداً وإحاطةَ شمولٍ فيجوزُ ، واستدلَّ بهذه الآية وبقول الآخر :
1855- فما بَرِحَتْ أقدامُنا في مقامِنا ... ثلاثتِنا حتى أُزيروا المَنائِيَا
بجر « ثلاثتنا » بدلاً من « ن » ، ولا حُجَّة فيه لأنَّ « ثلاثتنا » توكيدٌ جارٍ مَجْرى « كل » .
قوله تعالى : { وَآيَةً } : عطف على « عيداً » ، و « منك » صفتها . وقرأ اليماني : « وإنَّه » ب « إنَّ » المشددة ، والضمير : إما للعيد وإما للإِنزال .

قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)

وقرأ نافع وابن عامر وعاصم : { مُنَزِّلُهَا } : بالتشديد ، فقيل : إنَّ أَنْزَل ونَزَّل بمعنى ، وقد تقدم تحقيق ذلك . وقيل : التشديد للتكثير ، ففي التفسير أنها نَزَلت مراتٍ متعددة ، وأما نُنَزِّلُ فقُدِّم تحقيق الخلاف فيه .
قوله تعالى : { بَعْدُ } : متعلق ب « يكفر » ، وبُني لقَطْعِه عن الإِضافة ، إذ الأصل : بعد الإِنزالِ . و « منكم » متعلقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه حال من فاعل « يَكْفُرْ » وقوله : { عَذَاباً } فيه وجهان ، أظهرهما : أنه اسمُ مصدرٍ بمعنى التعذيب ، أو مصدرٌ على حَذْفَِ الزوائد نحو : « عطاء ونبات » ل « أعطى » وأنبت « ، وانتصابُه على المصدرية بالتقديرين المذكورين . والثاني - أجازه أبو البقاء - أن يكون مفعولاً به على السِّعَة ، يعني جَعَلَ الحَدَثَ مفعولاً به مبالغةً ، وحينئذ يكون نصبه على التشبيه بالمفعول به ، والمنصوبُ على التشبيه بالمفعولِ به عند النحاة ثلاثةُ أنواع : معمولُ الصفةِ المشبهة ، والمصدرُ ، والظرفُ المتسع فيهما ، أمَّا المصدرُ فكما تقدَّم ، وأمَّا الظرفُ فنحو : » يوم الجمعة صُمتُه « ، ومنه قوله :
1856- ويومٍ شَهِدْناه سُلَيْماً وعامراً ... قليلٌ سوى الطعنِ النِّهالِ نوافِلُهْ
قال الزمخشري : » ولو أُريد بالعذاب ما يُعَذَّب به لكان لا بد من الباء « قلت : إنما قال ذلك لأنَّ إطلاقَ العذاب على ما يُعَذَّب به كثير ، فخاف أن يُتَوهَّم ذلك ، وليس لقائلٍ أن يقولَ : كان الأصلُ : بعذاب ، ثم حَذَفَ الحرف فانتصب المجرورُ به ، لأنَّ ذلكَ لم يَطَّرِدْ إلاَّ مع » أَنْ « بشرطِ أَمْنِ الَّبْسِ .
قوله : { لاَّ أُعَذِّبُهُ } الهاءُ فيها ثلاثة أوجه ، أظهرها : أنها عائدة على » عذاب « الذي تقدم أنه بمعنى التعذيب ، التقدير : فإني أعذَّبه تعذيباً لا أعذِّبُ مثلَ ذلك التعذيب أحداً ، والجملة في محلِّ نصب صفة ل » عذاباً « وهذا وجه سالم من تَكَلُّفٍ ستراه في غيره . ولَمَّا ذكره أبو البقاء هذا الوجه - أعني عودَها على » عذاباً « المتقدم - قال : » وفيه على هذا وجهان ، أحدُهما : على حَذْفِ حرف الجر ، أي : لا أعذب به أحداً ، والثاني : أنه مفعولٌ به على السَّعة . قلت : أمَّا قوله « حُذِف الحرف » فقد عرفت أنه لا يجوز إلا فيما استثني . الثاني من أوجه الهاء : أنها تعود على « مَن » المتقدمة في قوله : { فَمَن يَكْفُرْ } والمعنى : لا أعذَّبُ مثلَ عذاب الكافر أحداً ، ولا بد من تقدير هذين المضافين ليصِحَّ المعنى . قال أبو البقاء في هذا الوجه : « وفي الكلام حذفٌ أي : لا أعذب الكافر أي : مثل الكافر ، أي : مثل عذاب الكافر » الثالث : أنها ضمير المصدر المؤكد نحو : « ظَنَنْتُهُ زيداً قائماً » ولَمَّا ذكر أبو البقاء هذا الوجهَ اعترض على نفسِه فقال : « فإنْ قلت : » لا أعذِّبه « صفةٌ ل » عذاب « وعلى هذا التقدير لا يعودُ من الصفة على الموصوف شيءٌ .

قيل : إنَّ الثاني لما كان واقعاً موقعَ المصدرِ والمصدرُ جنس و « عذاباً » نكرةٌ كان الأول داخلاً في الثاني ، والثاني مشتملٌ على الأول وهو مثل : « زيد نعم الرجل » انتهى ، فجعل الرابطَ العمومَ ، وهذا الذي ذكره من أنَّ الربط بالعموم إنما ذكره النحويون في الجملةِ الواقعةِ خبراً لمبتدأ ، ولذلك نَظَّره أبو البقاء ب « زيد نِعْم الرجل » وهذا لا ينبغي أن يُقاسَ عليه ، لأن الربطَ يحصُل في الخبر بأشياءَ لا تجوز في الجملة الواقعةِ صفةً ، وهذا منها ، ثم هذا الاعتراضُ الذي ذَكَره واردٌ عليه في الوجه الثاني؛ فإنَّ الجملة صفة ل « عذاباً » وليس فيها ضميرٌ ، فإنْ قيل : ليست هناك بصفةٌ ، قيل : يفسد المعنى بتقدير الاستئناف ، وعلى تقديرِ صحته فلتكنْ هنا أيضاً مستأنفةً . « وأحداً » منصوبٌ على المفعول الصريحِ . و « من العالمين » صفةٌ ل « أحداً فيتعلَّق بمحذوف .

وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)

قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ الله } هل هذا القولُ وقعَ وانقضَى أو سيقع يومَ القيامة؟ قولان للناس ، فقال بعضُم : لَمَّا رفعه إليه قال له ذلك ، وعلى هذا ف « إذ » و « قال » على موضوعهما من المُضِيِّ وهو الظاهر . وقال بعضُهم : سيقولُه له يوم القيامة وعلى هذا ف « إذا » بمعنى « إذا » ، « وقال » بمعنى « يقول » وكونُها بمعنى « إذا » أهونُ من قول أبي عُبيد إنها زائدة؛ لأنَّ زيادةَ الأسماء ليست بالسهلة .
قوله : { أَأَنتَ قُلتَ } دَخَلَتِ الهمزةُ على المبتدأ فائدةٍ ذكرها أهل البيان وهو : أن الفعلَ إذا عُلِم وجودُه وشُكَّ / في نسبته إلى شخص أُولِي الاسمُ المشكوكُ في نسبة الفعل إليه للهمزة فيقال : « أأنت ضرب زيداً » فَضَرْبُ زيدٍ قد صدر في الوجود وإنما شُكَّ في نسبته إلى المخاطب ، وإنْ شُكَّ في اصل وقوع الفعل أُولِي الفعلُ للهمزة فيقال : « أضربْتَ زيداً » لم تَقْطَعْ بوقوعِ الضرب بل شَكَكْتَ فيه ، والحاصل : أنَّ الهمزةَ يليها المشكوك فيه ، جئنا إلى الآية الكريمة فالاستفهامُ فيها يُراد به التقريعُ والتوبيخُ بغيرِ عيسى عليه السلام وهم المتَّخذون له ولأمة الهين ، دَخَل على المبتدأ لهذا المعنى الذي قد ذكرته ، لأن الاتخاذَ قد وقع لا بد . واللام في « للناس » للتبليغ فقط ، و « اتخذوني » يجوز أن تكون بمعنى « صَيَّر » فتتعدَّى لاثنين ثانيهما « إلهين » وأن تكونَ المتعدية لواحد ف « إلهين » حالٌ . و « من دون الله » فيه وجهان ، أظهرهما : أنه متعلقٌ بالاتخاذ وأجاز أبو البقاء - وبه بدأ - أن يكون متعلقاً بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل « آلهين » .
قوله : { سُبْحَانَكَ } أي : تنزيهاً ، وتقدَّم الكلامُ عليه في البقرة مشبعاً ، ومتعلَّقُه هنا محذوفٌ فقدَّره الزمخشري : سبحانك من أن يكونَ لك شريكٌ « وقَدَّره ابن عطية : » عن أَنْ يُقال هذا وينطق به « ورجَّحه الشيخ لقوله بعد : { مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ } قوله : { أَنْ أَقُول } في محلِّ رفع لأنه اسمُ » يكون « ، والخبرُ في الجار قبله ، أي : ما ينبغي لي قولُ كذا . و » ما « يجوزُ أن تكونَ موصولةً أن نكرةً موصوفة . والجملةُ بعدها صلةٌ فلا محلَّ لها ، أو صفةٌ فمحلُّها النصبُ ، فإنّ » ما « منصوبةٌ ب » اقول « نصبَ المفعول به لأنها متضمنةٌ لجملة فهو نظيرُ » قلت كلاماً « ، وعلى هذا فلا يُحتاج أن يُؤَوَّل » أقول « بمعنى أَدَّعِي أو أذكر ، كما فعله أبو البقاء . وفي » ليس « ضميرٌ يعودُ على ما هو اسمُها ، وفي خبرِها وجهان ، أحدهما : أنه » لي « أي : ما ليس مستقراً لي وثابتاً ، وأمَّا » بحق « على هذا ففيه ثلاثةُ أوجه ، ذكر أبو البقاء منها وجهين ، احدُهما أنه حالٌ من الضمير في » لي « قال : والثاني : أن يكونَ مفعولاً به تقديره : ما ليسَ يَثْبُتُ ليس بسببِ حق ، فالباءُ متعلقةٌ بالفعلِ المحذوف لا بنفسِ الجارِّ ، لأنَّ المعاني لا تعمل في المفعول به » .

قلت : وهذا ليس بجيدٍ لأنه قَدَّر متعلَّق الخبرِ كوناً مقيداً ثم حَذَفه وأبقى معموله . الوجه الثالث : أنَّ قوله « بحق » متعلقٌ بقوله : « عَلِمْتَه » ويكون الوقف على هذا على قوله « لي » والمعنى : فقد عَلِمْتَه بحق . وقد رُدَّ هذا بأن الأصل عدم التقديم والتأخير ، وهذا لاينبغي أن يُكتفى به في ردِّ هذا ، بل الذي منع من ذلك أنَّ معمولَ الشرطِ أو جوابِه لا يتقدَّم على أداة الشرط لا سيما المرويُّ عن الأئمة القُرَّاء الوقفُ على « بحق » ، ويَبْتدئون ب « إنْ كنت قلتُه » وهذا مَرِويٌّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ فوجَبَ اتِّباعه ] والوجهُ الثاني في خبرِ « ليس » أنه « بحق » ، وعلى هذا ففي « لي » ثلاثةُ أوجه ، أحدُها : أنه « يتبين » كما في قولهم : « سُقْياً له » أي : فيتعلَّقُ بمحذوف ، والثاني : أنه حال من « بحق » لأنه لو تأخَّر لكانَ صفةً له ، قال أبو البقاء : « وهذا يُخَرَّج على قولِ مَنْ يجوِّزُ تقديمَ حالِ المجرور عليه » قلت : قد تقدم لك خلافُ الناسِ فيه وما أوردوه من الشواهِد ، وفيه أيضاً تقديمُ الحال على عامِلها المعنوي : فإنَّ « بحق » هو العاملُ إذ « ليس » لا يجوز أن تعملَ في شيء ، وإنْ قلنا : إنَّ « كان » أختها قد تعمل لأن « ليس » لا حدَثَ لها بالإِجماع . والثالث : أنه متعلِّقٌ بنفسِ « حق » لأنَّ الباءَ زائدةٌ ، وحَقّ بمعنى مُسْتحق أي : ما ليس مستحِقَّاً لي .
قوله : { إِن كُنتُ } : « كنت » وإن كانت ماضية اللفظ فهي مستقبلة في المعنى ، والتقدير : إن تَصِحَّ دعواي لِما ذُكر ، وقَدَّره الفارسي بقوله : « إن أكن الآن قلتُه فيما مضى » لأنَّ الشرطَ والجزاء لايقعان إلا في المستقبل « وقولُه : { فَقَدْ عَلِمْتَهُ } أي : فقد تبيَّن وظهرَ عِلمُك به كقوله : { فَصَدَقَتْ } [ يوسف : 26 ] و { فَكَذَبَتْ } [ يوسف : 27 ] و { فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار } [ النمل : 90 ] .
قوله : { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي } هذه لا يجوزُ أن تكونَ عرفانيةً ، لأنَّ العرفان كما قَدَّمْتُه يستدعي سَبْقَ جهل ، او يُقْتَصَرُ به على معرفةِ الذات دونَ أحوالها حَسْبَ ما قاله الناس ، فالمفعولُ الثاني محذوفٌ ، أي : تعلمُ ما في نفسي كائناً وموجَداً على حقيقتِه لا يَخْفَى عليك منه شيءٌ ، وأمَّا : » ولا أعلم « فيه وإنْ كان يجوزُ أن تكونَ عرفانيةً ، إلا أنها لَمَّا صارَتْ مقابلةً لما قبلها ينبغي أن يكونَ مثلَها ، والمرادُ بالنفسِ هنا على ما قاله الزجاج » انها تُطْلَقُ ويُراد بها حيققةُ الشي ، والمعنى في قوله { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي } إلى آخره واضحٌ ، وقال : « المعنى : تعلمُ ما أُخْفيه من سِرِّي وغيبي ، أي : ما غابَ ولم أُظْهِرْه ، ولا أعلمُ ما تُخفِيه أنت ولا تُطْلِعُنا عليه ، فذكرالنفس مقابلةً وازداجاً ، وهذا منتزع من قول ابن عباس ، وعليه حام الزمخشري فإنه قال : » تعلمُ معلومي ولا أعلمُ معلومَك « ، وأتى بقوله : { مَا فِي نَفْسِكَ } على جهةِ المقابلةِ والتشاكلِ لقوله : { مَا فِي نَفْسِي } فهو كقوله :

{ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله } [ آل عمران : 54 ] ، وكقوله : { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } [ البقرة : 1415 ] .

مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)

قوله تعالى : { إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي } : هذا استثناءٌ مفرغ فإنَّ « ما » منصوبةٌ بالقول؛ لأنها وما في حَيِّزها في تأويلِ مقول . وقَدَّر ابو البقاء القولَ بمعنى الذكرِ والتأديةِ . و « ما » يجوزُ أن تكونَ موصولةً أو نكرةً موصوفةً .
قوله : { أَنِ اعبدوا } في « أَنْ » سبعةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنها مصدرية في محلِّ جر على البدل من الهاء في « به » والتقديرُ : ما قلتُ إلا ما أمرتَني بأن اعبدوا ، وهذا الوجهُ سيأتي عليه اعتراض . والثاني : أنها في محلِّ نصبٍ بإضمار « أعني » ، أي : إنه فَسَّر ذلك المأمورَ به . والثالث : أنه في محلِّ نصب على البدل من محلِّ « به » في « ما أمرتني به » لأن محلِّ المجرور نصب . والرابع : أن موضعَها رفعٌ على إضمار مبتدأ وهو قريبٌ في المعنى من النصب على البدلِ الخامس : أنها في محل جر لأنها عطف بيان على الهاء في به ، السادس : أنها بدلٌ من « ما » نفسِها أي : ما قلت لهم إلا أن اعبدوا . السابع : أنَّ « أَنْ » تفسيرية ، أجازه ابن عطية والحوفي ومكي . وممن ذهب إلى جوز أَنَّ « أَنْ » بدلٌ مِنْ « ما » فتكونُ منصوبةَ المحلِّ أو مِن الهاء فتكونُ مجرورتَه أبو إسحق الزجاج ، وأجاز أيضاً أن تكونَ تفسيريةً لا محلَّ لها . وهذه الأوجهُ قد منع بعضَها الزمخشري ، وأبو البقاء منع منها وجهاً واحداً وهو أن تكون تفسيرية ، أما الزمخشري فإنه منع أن تكون تفسيرية إلا بتأويل ذكره وسيأتي ، وبدلاً من « ما » أو من الهاء في « به » . قال - رحمه الله - : « أنْ » في قوله : { أَنِ اعبدوا الله } إنْ جَعَلْتَها مفسرةً لم يكن لها بُدٌّ من مفسِّر ، والمفسِّر : إما أن يكون فعل القول أو فعل الأمر ، وكلاهما لا وجهَ له : أما فعل القول فلأنه يُحْكى بعده الجمل ولا يَتَوسَّط بينه وبين محكيَّه حرفُ تفسير ، وأما فعل الأمر فمستنِدٌ إلى ضمير الله عز وجل ، فلو فِسَّرْتَه ب « اعبدوا الله ربي وربكم » لم يستقم لأن الله لا يقول : « اعبدوا الله ربي وربكم ، وإنْ جَعَلْتَها بدلاً لم يخلُ مِنْ أَنْ تجعلَها بدلاً من » ما « في » ما أمرتني به « أو من الهاء في » به « وكلاهُما غيرُ مستقيم؛ لأنَّ البدلَ هو الذي يقوم مقامَ المبدلِ منه ، ولا يُقال : ما قلتُ لهم إلا أَنِ اعبدوا الله ، أي : ما قلتُ لهم إلا عبادتَه لأنَّ العبادةَ لا تقال ، وكذلك لو جَعَلْتَها بدلاً من الهاء ، لأنك لو أَقَمْتَ » أن اعبدوا « مُقامَ الهاء فقلت : إلا ما أمرتني بأن اعبدوا الله لبقي الموصولُ بغير راجعٍ إليه من صلتِه ، فإن قلت : كيف تصنع؟ قلت : يُحْمل فعلُ القول على معناه ، لأنَّ معنى » ما قلت لهم إلا ما أمرتني به « : ما أمرتُهم إلا بما أمرتني به ، حتى يستقيمَ تفسيره ب » أن اعبدوا الله ربي وربكم « ، ويجوزُ أن تكونَ » أَنْ « موصولةً عطفاً على بيانِ الهاء لا بدلاً .

وتعقَّب عليه الشيخ كلامَه فقال : « أمَّا قولَه » وأمَّا فعلُ الأمر إلى آخر المنع وقوله : « لأنَّ الله لا يقول اعبدوا الله ربي وربكم » فإنما لم يستقمْ لأنه جَعَلَ الجملةَ وما بعدها مضمومةً إلى فعلِ الأمر ، ويستقيم أن يكونَ فعلُ الأمر مفسَّراً بقوله : « اعبدوا الله » ويكون « ربي وربكم » من كلام عيسى على إضمار « أعني » أي : « أعني ربي وربكم » ، لا على الصفة التي فَهمها الزمخشري فلم يستقم ذلك عندَه ، وأمَّا قولُه : « لأنّ العبادة لا تُقال » فصحيحٌ ، لكن يَصِحُّ ذلك على حَذْفِ مضاف أي : ما قلت لهم إلا القولَ الذي امرتني به قولَ عبادة الله أي : القولَ المتضمن عبادة الله ، وأمَّا قوله « لبقي الموصول بغير راجع إليه من صلته » فلا يلزمُ في كل بدل أن يَحُلَّ المبدل منه ، « ألا ترى إلى تجويز النحويين : » زيد مررت به أبي عبدِ الله « ولو قلت : » زيدٌ مررت بأبي عبد الله « لم يجز إلا على رأي الأخفش . وأما قولُه » عطفاً على بيان الهاء « ففيه بُعْد ، لأن عطفَ البيان أكثرُه بالجوامدِ الأعلامِ . وما اختاره الزمخشري وجَوَّزه غيرُه لا يَصِحُّ ، لأنها جاءت بعد » إلا « ، وكلُّ ما كان بعد » إلا « المستثنى بها فلا بُدَّ أن يكونَ له موضعٌ من الإِعراب ، و » أن « التفسيرية لا موضعَ لها من الإِعراب » . انتهى .
قلت : أمَّا قوله : « إنّ ربي وربكم من كلام عيسى » ففي غايةِ ما يكون من البُعْد عن الأفهام ، وكيف يَفْهم ذلك الزمخشري والسياق والمعنى يقودان إلى أنَّ « ربي » تابعٌ للجلالة؟ لا يتبادر للذهن - بل لا يُقْبل - إلا ذلك ، وهذا أشدٌّ من قولهم « يؤدي إلى تهيئة العامل للعمل وقطع عنه » فآل قولُ الشيخ إلى أنَّ « اعبدوا الله » من كلام الله تعالى و « ربي وربكم » من كلام عيسى ، وكلاهما مفسِّرٌ ل « أمرتَ » المسند للباري تعالى . وأمَّا قولُه « يَصِحُّ ذلك على حَذْف مضاف » ففيه بعض جودة ، وأما قولُه : « إنَّ حلولَ البدل محلَّ المبدل منه غيرُ لازم » واستشهاده بما ذكر فغيرُ مُسَلِّم ، لأنَّ هذا معارَضٌ بنصِّهم ، على أنه لا يجوز « جاء الذي مررت به أبي عبد الله » بجرِّ « عبد الله » بدلاً من الهاء ، وعَلَّلوه بأنه يلزمُ بقاءُ الموصول بلا عائدٍ ، مع أنَّ لنا أيضاً في الربط بالظاهر في الصلة خلافاً قَدَّمْتُ التنبيه عليه ، ويكفينا كثرةُ قولهم في مسائل : « لا يجوزُ هذا لأنّ البدل يَحُلُّ محل المبدل منه » فيجعلون ذلك علةً مانعةً ، يَعْرف ذلك مَنْ عانى كلامَهم ، ولولا خوفُ الإِطالة لأوردْتُ منه مسائل شتى .

وأمَّا قوله : « وكلُّ ما كان بعد » إلا « المستثنى به إلى آخره » فكلامٌ صحيح لأنها إيجابٌ بعد نفي فيستدعى تسلُّط ما قبلها على ما بعدها .
ويجوز في « أَنْ » الكسرُ على أصل التقاء الساكنين والضمُّ على الإِتباع ، وقد تقدَّم تحقيقُه ونسبتُه إلى مَنْ قرأ به في قوله : { فَمَنِ اضطر } [ الآية : 173 ] في البقرة . و « ربي » نعت أو بدل أو بيان مقطوعٌ عن الإِتباع رفعاً أو نصباً ، فهذه خمسةٌ أوجهٍ تقدَّم إيضاحُها .
قوله : { شَهِيداً } خبر « كان » و « عليهم » متعلق به ، و « ما » مصدريةٌ ظرفيةٌ أي : تتقدَّر بمصدر مضاف إليه زمان ، و « دام » صلتها ، ويجوز فيها التمامُ والنقصان ، فإنْ كانت تامةً كان معناها الإِقامةَ ، ويكون « فيهم » متعلقاً بها ، ويجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوف على أنه حال ، والمعنى : وكنتُ عليهم شهيداً مدة إقامتي فيهم ، فلم يُحْتج هنا إلى منصوب ، وتكون حينئذٍ متصرفةً ، وإنْ كانت الناقصةَ لزمت لفظ المضيِّ ولم تكتفِ بمرفوع ، فيكون « فيهم » في محلِّ نصب خبراً لها ، والتقديرُ : مدةَ دوامي مستقراً فيهم ، وقد تقدم أنه يقال : « دِمْتَ تَدام » كخِفْتَ تَخاف . قوله : { كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ } يجوز في « أنت » أن تكون فصلاً وأن تكونَ تأكيداً . وقرئ « الرقيب » بالرفع على أنه خبر ل « أنت » والجملةُ خبرٌ « ل كان » ، كقوله :
1857- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وكنتَ عليها بالمَلا أنْتَ أَقْدَرُ
وقد تقدَّم اشتقاقُ { الرقيب } و « عليهم » متعلِّق به . و « على كلِّ شيء » متعلِّق ب « شهيد » قُدِّم للفاصلة .

إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)

قوله تعالى : { فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم } : تقدَّم نظيره ، وهي في قراءةِ الناس ومصاحفِهم « العزيزُ الحكيم » وفي مصحف ابن مسعود - وقرأ بها جماعة - : « الغفورُ الرحيم » ، وقد عبِث بعض مَنْ لا يفهم كلامَ العرب بهذه الآيةِ ، وقال : « إنما كان المناسب ما في مصحف ابن مسعود » وخَفِي عليه أنَّ المعنى متعلق بالشرطين جميعاً ، ويوضِّح هذا ما قاله أبو بكر بن الأنباري ، فإن نَقَل هذه القراءة عن بعض الطاعنين ثم قال : « ومتى نُقِل ما قاله هذا الطاعن ضَعُفَ معناه ، فإنه ينفرد » الغفور الرحيم « بالشرط الثاني ولا يكون له بالشرط الأول تعلُّقٌ ، وهو على ما أنزل الله وعلى ما أجمع على قراءته المسلمون معروف بالشرطين كليهما : أولهما وآخرهما ، إذ تلخيصه : إنْ تعذبهم فأنت العزيز الحكيم ، وإن تغفرْ لهم فأنتَ العزيزُ الحكيم في الأمرين كليهما من التعذيب والغفران ، فكأنَّ » العزيز الحكيم « أليقُ بهذا المكان لعمومه وأنه يجمع الشرطين ، ولم يصلُحْ » الغفور الرحيم « أَنْ يحتمل من العموم ما احتمله » العزيز الحكيم « قلت : » وكلامُه فيه دقةٌ ، وذلك أنه لا يريد بقوله « إنه معروف بالشرطين إلى آخره » أنه جوابٌ لهما صناعةً ، لأنَّ ذلك فاسدٌ من حيث الصناعةُ العربية؛ فإنَّ الأول قد أخذ جوابَه وهو « فإنهم عبادُك » وهو جوابٌ مطابِقٌ فإنَّ العبدَ قابل ليصرّفه سيدُه كيف شاء ، وإنما يريد بذلك أنه متعلق بهما من جهة المعنى . وقد أكثر الناسُ في الكلامِ على هذه الآية بما لا يحتمله هذا الموضوع ، وإنما تعرَّضْتُ لبعضِها لتعلُّقِه بالقراءة الشاذة والرسم الشاذ .

قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)

قوله تعالى : { يَوْمُ يَنفَعُ } : الجمهور على رفعه من غير تنوين ، ونافع على نصبه من غير تنوين ، ونقل الزمخشري عن الأعمش « يوماً » بنصبه منوناً ، وابن عطية عن الحسن بن عياش الشامي : « يوم » برفعه منوناً ، فهذه أربع قراءات . فأما قراءة الجمهور فواضحةٌ على المبتدأ والخبر ، والجملةُ في محل نصب بالقول . وأمَّا قراءة نافع ففيها أوجه ، أحدها : أنَّ « هذا » مبتدأ ، و « يوم » خبره كالقراءة الأولى ، وإنما بُنِي الظرفُ لإِضافتِه إلى الجملة الفعلية وإن كانت معربةً ، وهذا مذهب الكوفيين ، واستدلُّوا عليه بهذه القراءةِ ، وأمَّا البصريون فلا يجيزون البناء إلا إذا صُدِّرت الجملةُ المضافُ إليها بفعلٍ ماض ، وعليه قولُ النابغة :
1858- على حينَ عاتبتُ المشيبَ على الصِّبا ... فقلتُ : أَلمَّا أًصْحُ والشيبُ وازعُ
وخَرَّجوا هذه القراءةَ على أن « يوم » منصوبٌ على الظرف ، وهو متعلق في الحقيقةِ بخبر المبتدأ أي : واقعٌ أو يقع في يوم ينفع ، فيستوي هذا مع تخريج القراءة الأولى والثانية أيضاً في المعنى ، ومنهم مَنْ خَرَّجه على أنَّ « هذا » منصوبٌ ب « قال » وأُشير به إلى المصدرِ فنصبُه على المصدر ، وقيل : بل أُشير به إلى الخبر والقِصَص المتقدمةِ فيجري في نصبه خلافٌ : هل هو منصوبٌ نصبَ المفعول به أو نصبَ المصادر؟ لأنه متى وقع بعد القول ما يُفْهم كلاماً نحو : « قلت شهراً وخطبة » جَرَى فيه هذا الخلاف ، وعلى كلِّ تقدير ف « يوم » منصوبٌ على الظرف ب « قال » أي : قال الله هذا القولَ أو هذه الأخبارَ في وقتِ نفع الصادقين ، و « ينفع » في محلِّ خفضٍ بالإِضافة ، وقد تقدَّم ما يجوزُ إضافتُه إلى الجمل ، وأنه أحد ثلاثةِ أشياء ، وأمَّا قراءةُ التنوين فرفعُه على الخبريةِ كقراءة الجماعة ، ونصبُه على الظرفِ كقراءة نافع ، إلا أنَّ الجملةَ بعده في القراءتين في محل الوصفِ لِما قبلها ، والعائدُ محذوفٌ ، وهي نظيرَةُ قولِه تعالى : { يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً } [ البقرة : 48 ] ، فيكونُ محلُّ هذه الجملةُ إما رفعاً أو نصباً .
قوله : { صِدْقُهُمْ } مرفوع بالفاعلية ، وهذه قراءة العامة ، وقُرِئ شاذاً بنصبه وفيه أربعة أوجه ، أحدها : أنه منصوب على المفعول من أجله ، أي : ينفعهم لأجلِ صِدْقِهم ، ذكر ذلك أبو البقاء وتبعه الشيخ وهذا لا يجوزُ لأنه فاتَ شرطٌ من شروط النصب ، وهو اتحاد الفاعل ، فإنَّ فاعلَ النفعِ غيرُ فاعلِ الصدقِ ، وليس لقائلٍ أن يقولَ : « يُنْصب بالصادقين فكأنه قيل : الذين يَصْدُقون لأجل صدقهم فيلزمُ اتحادُ الفاعل » لأنه يؤدي إلى أنَّ الشيء علة لنفسِه ، وللقولِ فيه مجال . الثاني : على إسقاطِ حرف الجر أي : بصدقِهم ، وهذا قد عَرَفْتَ ما فيه أيضاً من أنّ حَذْف الحرفَ لا يطَّرد . الثالث : أنه منصوب على المفعول به ، والناصب له اسم الفاعل في « الصادقين » أي : الذين صَدَقوا صدقهم ، مبالغةً نحو : « صَدَقْت القتال » كأنك وَعَدْتَ القتالَ فلم تَكْذِبْه ، وقد يُقَوِّي هذا نصبُه على المفعول له ، والعامل فيه اسم الفاعل قبله . الرابع : أنه مصدرٌ مؤكد كأنه قيل : الذين يَصْدُقون الصدقَ كما تقول : « صَدَق الصدقَ » وعلى هذه الأوجه كلِّها ففاعلُ « ينفع » ضميرٌ يعود على الله تعالى وقوله تعالى : { رَّضِيَ الله عَنْهُمْ } معناه الدعاءُ وباقي السورة ظاهرُ الإِعراب مِمَّا تقدَّم مِنْ نظائرِه ولله الحمدُ .

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)

قوله تعالى : { وَجَعَلَ الظلمات } : « جعل » هنا تتعدى لمفعول واحد لأنها بمعنى خلق ، هكذا عبارة النحويين ، ظاهرها أنهما مترادفان . إلا أن الزمخشري فرَّق بينهما فقال : « الفرق بين الخَلْق والجَعْل أنَّ الخَلْق فيه معنى التقدير و [ في ] الجعل معنى التصيير كإنشاء شيء من شيء ، أو تصييرِ شيءٍ شيئاً ، أو نقلِه من كان إلى مكان ، ومن ذلك : { وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [ الأعراف : 189 ] { وَجَعَلَ الظلمات والنور } لأنَّ الظلمات من الأجرام المتكاثفة والنور من النار » انتهى . وقال الطبري : « جَعَل » هنا هي التي تتصرف في طَرَف الكلام كما تقول : جعلت أفعل كذا ، فكأنه : « وجعل إظلامَها وإنارتَها » وهذا لا يشبه كلام أهل اللسان . ولكونها عند أبي القاسم ليست بمعنى « خلق » فسَّرها هنا بمعنى أحدث وأنشأ . وكذا الراغب جعلها بمعنى أوجد .
ثم إن الشيخ اعترض عليه هنا لمَّا استطرد ، وذكر أنها تكون بمعنى صَيَّر ، ومثَّل بقوله : { وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً } [ الزخرف : 19 ] فقال : « وما ذَكَره من أنَّ » جَعَل « بمعنى صَيَّر في قوله : { وَجَعَلُواْ الملائكة } لا يَصِحُّ لأنهم لا يُصَيِّرهم إناثاً ، وإنما ذكر بعض النحويين أنها هنا بمعنى سمَّى » قلت : ليس المرادُ بالتصيير التصييرَ بالفعل ، بل المراد التصيير بالقول ، وقد نصَّ الزمخشري على ذلك ، وسيأتي لهذا - إن شاء الله - مزيدُ بيان في موضعه . وقد ظهر الفرق بين تخصيص السماوات والأرض بالخَلْق والظلمات والنور بالجَعْل بما ذكره الزمخشري . وإنما وَحَّد النور وجَمَع الظلمات لأن النورَ مِنْ جنس واحد وهو النار ، والظلمات كثيرة ، فإنَّ ما من جِرْمٍ إلا وله ظلُّ ، وظلُّه هو الظلمة ، وحَسَّن هذا أيضاً أن الصلةَ التي قبلها تقدَّم فيها جَمْعٌ ثم مفردٌ فعطفْتَ هذه عليها كذلك وقد تقدَّم في البقرة الحكمة في جمع السماوات وإفراد الأرض . وقُدِّمت « الظلمات » في الذِّكر لأنه مُوافِقٌ في الوجود؛ إذ الظلمة قبل النور عند الجمهور .
قوله : { ثْمَّ الذين كَفَرُواْ } « ثم » هذه ليست للترتيب الزماني ، وإنما هي للتراخي بين الرتبتين ، والمراد اسبتعادُ أن يَعْدِلوا به غيرَه مع ما أوضح من الدلالات . وهذه عطفٌ : إمَّا على قوله « الحمد لله » وإما على قوله : « خلق السماوات » قال الزمخشري : « فإن قلت : فما معنى » ثم «؟ قلت : استبعاد أن يَمْتَرُوا فيه بعد ما ثبت أنه محييهم وميتهم وباعثهم » وقال ابن عطية : « ثم » دالة على ما قُبْح فِعْل الذين كفروا؛ فإنَّ خَلْقه للسماوات والأرض وغيرهما قد تَقَّرر ، وآياتِه قد سَطَعَتْ ، وإنعامه بذلك قد تبيَّن ، ثم مع هذا كله يَعْدِلون به غيره « .

قال الشيخ : « ما قالاه من انها للتوبيخ والاستبعاد ليس بصحيح ، لأنها لم تُوضَعْ لذلك ، والاستبعادُ والتوبيخُ مستفادٌ من السياق لا من » ثم « ، ولم أعلم أحداً من النحويين ذكر ذلك ، بل » ثم « هنا للمُهْلة في الزمان ، وهي عاطفةٌ جملةً اسمية على جملة اسمية » . يعني على « الحمد لله » . ثم اعترض على الزمخشري في تجويزه أن تكون معطوفةً على « خَلَق » بأنَّ « خَلَق » صلة ، فالمعطوفُ عليها يُعطى حكمَها ، ولكن ليس ثَمَّ رابطٌ يعود منها على الموصول . ثم قال : « إلا أن يكون على رأيِ مَنْ يَرى الرَّبْطَ بالظاهر كقولهم : أبو سعيدٍ الذي رَوَيْتُ عن الخدري » وهو قليلٌ جداً لا ينبغي أن يُحملَ عليه كتابُ الله « . قلت : الزمخشري إنما يريد العطف ب » ثم « لتراخي ما بين الرتبتين ، ولا يريد التراخي في الزمان كما قد صرَّح به هو فيكف يَلْزمُه ما ذَكَرَ مِنَ الخلوِّ عن الرابط ، وكيف يَتَخيَّل كونَها للمهلة في الزمان كما ذكر الشيخ؟
قوله : { بِرَبِّهِمْ } يجوز أن يتعلَّق ب » كفروا « فيكون » يُعْدِلون « بمعنى يَميلون عنه ، من العُدول ، ولا مفعولَ له حينئذ ، ويجوز أن يتعلَّ ب » يعدِلون « وقُدِّم للفواصل ، وفي الباء حينئذ احتمالان ، أحدهما : ان تكون بمعنى عن ، و » يَعْدِلون « من العُدول وأيضاً ، أي يعدِلون عن ربهم إلى غيره . والثاني : أنها للتعدية ، ويَعْدِلون من العَدْل وهو التسوية بين الشيئين ، أي : ثم الذين كفروا يُسَوُّوْن بربهم غيرَه من المخلوقين ، فيكون المفعول محذوفاً .

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)

قوله تعالى : { مِّن طِينٍ } : فيه وجهان ، أظهرهما : أنه متعلِّقٌ ب « خَلَقكم » و « مِنْ » لابتداء الغاية . والثاني : أنه متعلِّق بمحذوف على أنه حال ، وهل يُحتاج في هذا الكلام إلى حَذْفِ مضاف أم لا؟ خلاف : ذهب جماعة كالمهدويِّ ومكي وجماعة إلى أنه لا حَذْفَ ، وأن الإِنسان مخلوقٌ من الطين ، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما من مولودٍ يولد إلا ويُذَرُّ على النطفة من تراب حفرته » . وقيل : إن النطفة أصلها الطين . وقال غالب المفسرين : ثمَّ محذوفٌ أي : خَلَقَ أَصْلَكم أو أباكم من طينٍ ، يعنون آدم وقصته المشهورة . وقال امرؤ القيس :
1859- إلى عِرْقِ الثَّرى رَسَخَتْ عُروقي ... وهذا الموتُ يَسْلُبُني شبابي
قالوا : أراد بعِرقْ الثرى آدم عليه السلام لأنه أصلُه .
قوله : { ثُمَّ قضى } إن كان « قضى » بمعنى أظهر ف « ثُمَّ » للترتيب الزماني على أصلها؛ لأنَّ ذلك متأخرٌ عن خَلْقِنا وهي صفة فعل ، وإن كان بمعنى كَتَب وقَد‍َّر فهي للترتيب في الذِّكْر؛ لأنها صفة ذات ، وذلك مُقَدَّم على خَلْقِنا .
قوله : { وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ } مبتدأ وخبر ، وسوَّغ الابتداء هنا شيئان ، أحدهما : وَصْفُه ، والثاني : عَطْفُه ، ومجرَّدُ العطف من المسوغات ، قال :
1860- عندي اصْطِبارٌ وشَكْوى عند قاتلتي ... فهل بأعجبَ مِنْ هذا امرؤٌ سَمِعا
والتنكير في الأجلين للإِبهام . وهنا مُسَوِّغٌ آخر وهو التفصيل كقوله :
1861- إذا ما بكى مِنْ خلفِها انصرفَتْ له ... بشِقٍ وشِقٌ عندنا لم يُحَوَّلِ
ولم يَجِبْ هنا تقديمُ الخبر وإن كان المبتدأ نكرةً والخبر ظرفاً؛ قال الزمخشري : لأنه تخصَّص بالصفةِ فقارَبَ « المعرفةَ ، قال الشيخ : » وهذا الذي ذكره من كَوْنِه مُسَوِّغاً للابتداء بالنكرة لكونها وُصِفَتْ لا يتعيَّن ، لجواز أن يكون المسوِّغُ التفصيلَ ، ثم أنشد البيت : إذا ما بكى « قلت : الزمخشري لم يقلْ إنه تعيَّن ذلك حتى يُلْزِمَه به ، وإنما ذكر أشهرَ المسوِّغات فإنَّ العطفَ والتفصيل قَلَّ مَنْ يذكرُهما في المسوِّغات .
قال الزمخشري : » فإن قلت : الكلامُ السائرُ أن يُقال : « عندي ثوب جيِّدٌ ، ولي عبدٌ كيِّس » فما أوجب التقديم؟ قلت : أوجبه أن المعنى : وأيُّ أجل مسمَّى عنده ، تعظيماً لشأن الساعة ، فلمَّا جرى فيه هذا المعنى أوجب التقديم « . قال الشيخ : وهذا لا يجوز؛ لأنه إذا كان التقدير : وأيُّ أجل مسمى عنده كانت » أيّ « صفةً لموصوف محذوف تقديره : وأجلٌ أيُّ أجلٍ مسمَّى عنده ، ولا يجوز حَذْفُ الصفةِ إذا كانت » أيَّاً « ولا حَذْفُ موصوفِها وإبقاؤها لو قلت : مررت بأيِّ رجل ، تريد برجلٍ أيِّ رجل لم يَجُزْ » قلت : ولم أَدْرِ كيف يُؤاخَذُ مَنْ فسَّر معنى بلفظٍ لم يَدَّعِ أن ذلك اللفظَ هو أصل الكلام المفسَّر ، بل قال : معناه كيت وكيت ، فكيف يَلزمه أن يكون ذلك الكلام الذي فسَّر به هو أصل ذلك المفسَّر؟ على أنه قد وَرَدَ حذفُ موصوفِ « أيّ » وإبقاؤها كقوله :

1862- إذا حارب الحَجَّاجُ أيَّ منافقٍ ... عَلاه بسيفٍ كلما هَزَّ يقطعُ
قوله : { ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ } قد تقدَّم الكلامُ على « ثم » هذه . وتمترون تَفْتَعُون من المِرْيَة ، وتقدَّم معناها في البقرة عند قوله : { مِنَ الممترين } [ الآية : 147 ] وجَعَلَ الشيخ هذا من باب الالتفات ، أعني قوله : « خَلَقَكم ثم أنتم تَمْتَرون » يعني أن قوله { ثْمَّ الذين كَفَرُواْ } غائبٌ ، فالتفت عنه إلى قوله : « خلقكم ثم أنتم » . ثم كأنه اعترض على نفسه بأنَّ خَلْقَكم وقضاءَ الأجلِ لا يختصُّ به الكفار ، بل المؤمنون مثلُهم في ذلك . وأجاب بأنه إنما قصد الكفار تنبيهاً لهم على خَلْقِه لهم وقدرتَه وقضائه لأجالهم . قال : « وإنما جَعَلْتُه من الالتفات؛ لأن هذا الخطابَ وهو { ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ } لايمكن أن يندرجَ فيه مَنْ اصطفاه الله بالنبوَّة والإِيمان » .
وأصل مُسَمَّى : مُسَمَّوٌ لأنه من مادة الاسم ، وقد تقدَّم ذلك فقلبت الواو ياءً ، ثم الياء ألفاً . وتمترون أصله تَمْتَرِيُون فأُعِلَّ كنظائر له تقدَّمَتْ .

وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3)

قوله تعالى : { وَهُوَ الله فِي السموات } : في هذه الآية أقوالٌ كثيرة لخَّصْتُ جميعها في اثني عشر وجهاً؛ وذلك أن « هو » فيه قولان ، أحدهما : هو ضمير اسم الله تعالى يعود على ما عادت عليه الضمائر قبله والثاني : أنه ضمير القصة ، قال أبو عليّ . قال الشيخ : « وإنما فَرَّ إلى هذا لأنه لو أعاده على الله لصار التقدير : الله الله ، فتركَّب الكلام من اسمين متَّحِدَيْن لفظاً ومعنًى لا نسبةَ بينهما إسنادية » قلت : الضمير إنما هو عائد على ما تقدَّم من الموصوف بتلك الصفاتِ الجليلة وهي خَلْقُ السماوات والأرض ، وجَعْلُ الظلمات والنور ، وخَلْق الناس من طين إلى آخرها ، فصار في الإِخبار بذلك ، فائدةٌ من غير شك ، فعلى قول الجمهور يكون « هو » مبتدأ و « الله » خبره ، و « في السماوات » متعلق بنفس الجلالة لما تَضَمَّنَتْه من معنى العبادة كأنه قيل : وهو المعبود في السماوات ، وهذا قول الزجاج وابن عطية والزمخشري .
قال الزمخشري : « في السماوات » متعلق بمعنى اسم الله كأنه قيل : وهو المعبود فيها - ومنه : { وَهُوَ الذي فِي السمآء إله } [ الزخرف : 84 ] - أو هو المعروف بالإِلهيَّة والمتوحِّد بالإِلهيَّة فيها ، أو هو الذي يقال له « الله » لا يَشْرَكُه في هذا الاسمِ غيره « . قلت : إنما قال : » أو هو المعروف أو هو الذي يقال له الله « لأن هذا الاسم الشريف تقدَّم لك فيه خلاف : هل هو مشتق أو لا؟ فإن كان مشتقاً ظهر تعلُّق الجار به ، وإن كان ليس بمشتق : فإمَّا أن يكون منقولاً أو مرتجلاً ، وعلى كلا التقديرين فلا يعمل؛ لأن الأعلام لا تعمل فاحتاج أنْ يَتَأوَّل ذلك على كل قول من هذه الأقوال الثلاثة ، فقوله » المعبود « راجع للاشتقاق ، وقوله » المعروف « راجع لكونه عَلَماً منقولاً ، وقوله » الذي يقال له اللهُ « راجع إلى كونه مرتجلاً ، وكأنه -رَحِمه الله - استشعر بالاعتراض المذكور . والاعتراضُ منقولٌ عن الفارسي ، قال : » وإذا جَعَلْتَ الظرف متعلقاً باسم الله جاز عندي على قياس مَنْ يقول إن الله أصله الإِله ، ومن ذهب بهذا الاسم مذهب الأعلام وجب أن لا يتعلق به عنده إلا ان تُقَدِّر فيه ضرباً من معنى الفعل « فكأن الزمخشري - والله أعلم - أخذ هذا من قول الفارسيِّ وبَسَطه . إلا أن أبا البقاء نقل عن أبي علي أنه لا يتعلَّق » في « باسم الله لأنه صار بدخول الألف واللام ، والتغييرِ الذي دخله كالعلمَ ، ولهذا قال تعالى : { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } [ مريم : 65 ] . فظاهرُ هذا النقلِ أنه يمنع التعلُّق به وإن كان في الأصل مشتقاً .

وقال الزجاجُ : « هو متعلِّقٌ بما تضمَّنه اسم الله من لمعاني كقولك » أميرُ المؤمنين الخليفة في المشرق والمغرب « . قال ابن عطية : » هذا عندي أفضل الأقوال وأكثرُها إحرازاً لفصاحة اللفظ ، وجزالة المعنى . وإيضاحُه أنه أراد أن يَدَلَّ على خَلْقه وآثارِ قدرته وإحاطته واستيلائه نحو هذه الصفات ، فَجَمع هذه كلِّها في قوله : { وَهُوَ الله } أي : الذي له هذه كلُّها في السماوات وفي الأرض ، كأنه قال : وهو الخالق والرازق والمُحْيي والمحيط في السماوت والأرض ، كما تقول : « زيد السلطان في الشام والعراق » فلو قصدت ذات زيد لكان محالاً ، فإذ كان مقصدُ قولك : [ زيد ] الآمرُ الناهي الذي يولِّي ويَعْزِل كان فصيحاً صحيحاً ، فأقمت السلطنة مُقامَ هذه الصفات ، كذلك في الآية الكريمة أقمت « الله » مقام تلك الصفات « .
قال الشيخ : » ما ذكره الزجاج ، وأوضحه ابن عطية صحيح من حيث المعنى ، لكن صناعة النحو تساعد عليه؛ لأنهما زعما أن « في السماوات » متعلق باسم الله لِما تَضَمَّنه من تلك المعاني ، ولو صرح بتلك المعاني لم تعمل فيه جميعها ، بل العمل من حيث اللفظُ لواحدٍ منها ، وإن كان « في السماوات » متعلقاً بجميعها من حيث المعنى ، بل الأوْلى أن يتعلَّق بلفظ « الله » لِما تضمَّنه من معنى الألوهية ، وإن كان عَلَماً لأن العلمَ يَعْمَلُ في الظرف لِما يتضمنه من المعنى كقوله :
1863- أنا أبو المِنْهالِ بعضَ الأحيانْ ... ف « بعضَ » نصب بالعلمَ لأنه في معنى أنا المشهور « . قلت : قوله » لو صُرِّح بها لم تعمل « ممنوعٌ ، بل تعمل ويكون عملُها على سبيل التنازع ، مع أنه لو سكت عن الجواب لكان واضحاً ، ولما ذكر الشيخ ما قاله الزمخشري قال : » فانظر كيف قَدَّر العاملَ فيها واحداً لا جميعَها « يعني أنه استنصر به فيما رَدَّ به على الزجاج وابن عطية .
الوجه الثاني : أن » في السموات « معلِّقٌ بمحذوف هو صفة لله تعالى حُذِفَتْ لفَهْمِ المعنى ، فقدَّرها بعضهم ، وهو الله المعبود ، وبعضهم : وهو الله المدبِّر ، وحَذْفُ الصفة قليلٌ جداً لم يَرِدْ منه إلا موضعُ يسيرةٌ على نَظَرٍ فيها ، فمنها { وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ } [ الأنعام : 66 ] أي المعانِدون ، { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } [ هود : 46 ] أي الناجين فلا ينبغي أن يُحْمَلَ هذا عليه .
الوجه الثالث : قال النحاس : » وهو أحسنُ ما قيل فيه - إن الكلام تمَّ عند قوله : { وَهُوَ الله } والمجرور متعلِّقٌ بمفعول « يَعْلَم » وهو « سِرَّكم وجَهْرَكم » [ أي : ] يَعْلَم سِرَّكم وجَهْركم فيهما « وهذا ضعيفٌ جداً لِما فيه من تقديم معمول المصدر عليه وقد عرف ما فيه .
الوجه الرابع : أن الكلام تمَّ أيضاً عند الجلالة ، ويتعلق الظرف بنفس » يعلم « وهذا ظاهر ، و » يعلم « على هذين الوجهين مستأنف .

الوجه الخامس : أن الكلام تمَّ عند قوله { فِي السموات } فيتعلق { فِي السموات } باسم الله ، على ما تقدَّم ، ويتعلَّق « في الأرض » ب « يعلم » . وهو قول الطبري قال أبو البقاء « وهو ضعيفٌ؛ لأن الله تعالى معبود في السماوات وفي الأرض ، ويعلم ما في السماوات وما في الأرض ، فلا تتخصَّص إحدى الصفتين بأحد الظرفين » وهو رَدٌّ جميل .
الوجه السادس : أنَّ « في السماوات » متعلِّقٌ بمحذوف على أنه حال من « سرَّكم » ثم قُدِّمَت الحالُ على صاحبها وعلى عاملها .
السابع : أنه متعلق ب « يَكْسِبون » وهذا فاسد من جهة أنه يلزم منه تقديمُ معمولِ الصلةِ على الموصول؛ لأن « ما » موصولة اسمية أو حرفية ، وأيضاً فالمخاطبون كيف يكسِبون في السماوات؟ ولو ذهب هذا القائل إلى أن الكلام تمَّ عند قوله « في السماوات » وعلَّق « في الأرض » ب « يَكْسِبون » لسَهُلَ الأمرُ من حيث المعنى لا من حيث الصناعةُ .
الثامن : أن « الله » خبر أول ، و « في السماوات » خبر ثان . قال الزمخشري : « على معنى : أنَّه الله وأنه في السماوات وفي الأرض ، وعلى معنى : أنه عالمٌ بما فيها لا يخفى عليه شيء ، كأنه ذاته فيهما » قال الشيخ : « وهذا ضعيفٌ لأن المجرور ب » في « لا يدل على كون مقيد ، إنما يدل على كونٍ مُطْلَق » وهذا سهلُ الجواب لتقدُّمِه مراراً .
التاسع : أن يكون « هو » مبتدأ و « الله » بدل منه ، و « يَعْلَمُ » خبره ، و « في السماوات » على ما تقدَّم .
العاشر : أن يكون « الله » بدلاً أيضاً ، و « في السماوات » الخبرُ بالمعنى الذي قال الزمخشري .
الحادي عشر : أن « هو » ضمير الشأن في محل رفع بالابتداء ، والجلالة مبتدأ ثان ، وخبرها « في السماوات » بالمعنى المتقدَّم أو « يَعْلَمُ » والجملة خبر الأول - وهو الثاني عشر - مفسرةً له .
وأمَّا « يَعْلَمُ » فقد عَرَفْت تفاصيل ما تقدَّم أنه يجوز أن يكون مستأنفاً ، فلا محلَّ [ له ] ، أو في محل رفع خبراً ، أو في محل نصب على الحال ، و « سِرَّكم وجهرَكم » : يجوز أن يكونا على بابهما من المصدرية ويكونان مضافين للفاعل . وأجاز أبو البقاء أن يكونا واقعين موقع المفعول به أي مُسَرَّكم ومَجْهوركم ، واستدل بقوله تعالى : { يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } [ البقرة : 77 ] ولا دليلَ [ فيه ] لأنه يجوز أن تكون « ما » مصدرية . و « ما » في « ما تكسبون » يحتمل أن تكون مصدريةً - وهو الأليق لمناسبة المصدَرَيْن قبلها - وأن تكون بمعنى الذي .

وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4)

قوله تعالى : { وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ } : « مِنْ آية » فاعل زيدت فيه « مِنْ » لوجود الشرطين فلا تَعَلُّق لها . و « من آيات » صفة ل « آية » فهي في محل جرٍّ على اللفظ أو رفعٍ على الموضع . ومعنى « مِنْ » التبعيض .
قوله : { إِلاَّ كَانُواْ } هذه الجملةُ الكونيَّةُ في محل نصب على الحال ، وفي صاحبها وجهان ، أحدهما : أنه الضمير في « تأتيهم » والثاني : أنه « من آية » وذلك لتخصُّصِها بالوصف . « وتأتيهم » يحتمل أن يكون ماضيَ المعنى لقوله « كانوا » ويحتمل أن يكون « كانوا » مستقبلَ المعنى لقوله « تأتيهمْ » . واعلمْ أن الفعل الماضي لا يقع بعد « إلا » إلا بأحد شرطين : إمَّا وقوعِه بعد فعلٍ كهذه الآية الكريمة ، أو يقترن ب « قد » نحو : ما زيدٌ إلا قد قام « . وهنا التفات من خطابه بقوله : » خلقكم « إلى آخره إلى الغَيْبة بقوله : » وما تأتيهم « .

فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5)

قوله تعالى : { فَقَدْ كَذَّبُواْ } : الفاء هنا للتعقيب ، يعني أن الإِعراض عن الآيات أعقبه التكذيب . وقال الزمخشري : « فقد كذَّبوا » مردودٌ على كلامٍ محذوف ، كأنه قيل : إن كانوا مُعْرِضين عن الآيات فقد كذبوا بما هو أعظمُ آيةٍ وأكبرها « . قال الشيخ : » ولا ضرورةَ تدعو إلى هذا مع انتظام الكلام « ، وقوله » بالحق « من إقامة الظاهر مُقام المضمر ، إذ الأصل : فقد كذَّبوا بها ، أي بالآية . والأنباء جمع نبأ ، وهو ما يَعْظُم وَقْعُه من الأخبار . وفي الكلام حذف ، أي يأتيهم مضمون الأنباء . و » به « متعلق بخبر » كانوا « و » لمَّا « حرفُ وجوب أو ظرف زمان ، والعامل فيه » كَذَّبوا « .
» وما يجوز أن تكون موصولة اسمية ، والضمير في « به » عائدٌ عليها ، ويجوز أن تكونَ مصدرية ، قال ابن عطية ، أي أنباء كونهم مستهزئين ، وعلى هذا فالضمير لا يعود عليها لأنها حرفية ، بل يعود على الحق ، وعند الأخفش يعود عليها لأنها اسم عنده .

أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6)

قوله تعالى : { كَمْ أَهْلَكْنَا } : يجوز في « كم » أن تكون استفهامية وخبرية ، وعلى كلا التقديرين فهي مُعَلِّقةٌ للرؤية عن العمل ، لأن الخبرية تجري مجرى الاستفهامية في ذلك ، ولذلك أُعْطِيت أحكامَها من وجوب التصدير وغيره . والرؤيةُ هنا عِلْميَّة ، ويَضْعُفُ كونها بصرية ، وعلى كلا التقديرين فهي معلَّقة عن العمل ، لأنَّ البَصَرية تجري مجراها ، فإن كانت عِلْميَّةً ف « كم » وما في حيِّزها سادَّةٌ مَسدَّ مفعولين ، وإن كانت بصرية فمسدَّ واحد .
و « كم » يجوز أن تكون عبارة عن الأشخاص فتكونَ معفولاً بها ناصبها « أَهْلَكْنا » و « مِنْ قَرْنٍ » على هذا تمييز لها ، وأن تكون عبارةً عن المصدر فتنتصبَ انتصابَه بأهْلَكْنا ، أي إهلاكاً ، و « مِنْ قرن » على هذا صفةٌ لمفعول « أَهْلَكْنا » أي أهلكنا قوماً أو فوجاً من القرون؛ لأنَّ قرناً يراد به الجمع ، و « مِنْ » تبعيضية ، والأُولى لابتداء الغاية . وقال الحوفي : « من » الثانية بدل من « مِنْ » الأولى وهذا لا يُعْقل فهو وَهْمٌ بَيِّنٌ ، ويجوز أن تكون « كم » عبارة عن الزمان فتنتصب على الظرف . قال أبو البقاء : « تقديره : كم أزمنةٍ أهلكنا فيها » وجعل أبو البقاء على هذا الوجه « من قرن » هو المفعول به و « مِنْ » مزيدة فيه وجاز ذلك لأن الكلام غير موجب والمجرور نكرة . إلا أن الشيخ منع ذلك بأنه لا يقع إذ ذاك المفردُ موقعَ الجمع لو قلت : [ « كم أزماناً ضربتُ رجلاً ، أو كم مرةً ضربتُ رجلاً » لم يكن مدلولُ رجل رجالاً ] ، لأن السؤال إنما يقع عن عدد الأزمنة أو المرات التي ضربت فيها ، وبأن هذا ليس [ موضعَ زيادة « مِنْ » لأنها لا تُزاد في الاستفهام ] ، إلا وهو استفهام مَحْضٌ أو يكونُ بمعنى النفي ، والاستفهام هنا ليس مَحْظَاً ولا مُراداً به النفيُ . [ انتهى . والجواب عمَّا قاله : لا نُسَلِّم ذلك ] .
قوله : { مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض } في موضع جر صفةً ل « قَرْن » وعاد الضميرُ عليه جمعاً باعتبار معناه ، قاله أبو البقاء والحوفي ، وضَعَّفه الشيخ بأنَّ « مِنْ قرن » تمييز ل « كم » ف « كم » هي المحدِّث عنها بالإِهلاك ، فهي المُحَدَّثُ عنها بالتمكين لا ما بعدها ، إذ « من قرن » يجري مجرى التبيين ، ولم يُحَدَّثْ عنه . وجَوَّز الشيخ أن تكون هذه الجملة استنئافاً جواباً لسؤالٍ مقدَّر ، قال كأنه قيل : ما كان من حالهم؟ فقيل : مكَّنَّاهم ، وجعله هو الظاهر . وفي نظر ، فإن النكرة مفتقرةٌ للصفة فَجَعْلُها صفةً أَلْيَق .
والفرق بين قوله { مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض } [ وقوله ] : « ما لم نمكِّن لكم » أنَّ « مَكَّنه في كذا » : أَثْبته فيها ، ومنه :

{ وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ } [ الأحقاف : 26 ] وأمَّا مكَّن له فمعناه جعل له مكاناً ومنه ، { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرض } [ الكهف : 84 ] { أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ } [ القصص : 57 ] ، ومثله : « أَرَضَ له » أي جعل له أرضاً ، هذا قول الزمخشري . وأمَّا الشيخ فإنه يظهر من كلامه التسوية بينهما فإن قال : « وتَعَدِّي مَكَّن هنا للذوات بنفسه وبحرف الجر ، والأكثرُ تعديتُه باللام : { مَكَّنَّا لِيُوسُفَ } [ يوسف : 21 ] { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ } [ الكهف : 84 ] { أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ } [ القصص : 57 ] . وقال أبو عبيدة : » مكَّنَّاهم ومكَّنَّاهم لهم : لغتان فصيحتان نحو : نَصَحْتُه ونَصَحْتُ له « . [ قلت : وبهذا قال ] أبو علي والجرجاني .
قوله : { مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ } في » ما « هذه خمسة أوجه ، أحدها : أن تكون موصولةً بمعنى الذي ، وهي حينئذ صفة لموصوف محذوف ، والتقدير : التمكين الذي لم نمكِّن لكم ، والعائد محذوف أي : الذي لم نمكَّنه لكم . الثاني : أنها نكرةٌ صفةٌ لمصدر محذوف تقديره : تمكيناً ما لم نمكِّنه لكم ، ذكرهما الحوفي . وردَّ الشيخ الأول بأن » ما « بمعنى الذي لا تكون صفةً لمعرفة وإن كان » الذي « يقع صفة لها ، ولو قلت : » ضربت الضرب ما ضَرَبَ زيدٌ « تريد الضربَ الذي ضربه زيد ، لم يجز ، فإن قلت : » الضرب الذي ضربه زيد « جاز . ورَدَّ الثاني بأن » ما « النكرة التي تقع صفةً لا يجوز حَذْفُ موصوفِها ، لو قلت : » قمت ما وضربت ما « وأنت تعني : قمت قياماً ما ، وضرباً ما ، لم يجز » .
الثالث : أن تكون مفعولاً بها ل « مَكَّن » على المعنى ، لأن معنى مكَّنَّاهم : أعطيناهم ما لم نُعْطِكُمْ ، ذكره أبو البقاء قال الشيخ : « هذا تضمينٌ ، والتضمين لا ينقاس » الرابع : أن تكون « ما » مصدريةً ، والزمان محذوف ، أي : مدةَ ما لم نمكِّن لكم ، والمعنى : مدة انتفاء التمكين لكم . الخامس : أن تكون نكرةً موصوفة بالجملة المنفيَّة بعدها والعائد محذوف ، أي : شيئاً لم نمكِّنْه لكم ، ذكرهما أيضاً أبو البقاء قال الشيخ في الأخير : « وهذا أقرب إلى الصواب » قلت : ولو قدَّره أبو البقاء بخاص لكان أحسن من تقديره بلفظ شيء فكان يقول : مكنَّاهم تمكيناً لم نمكنه لكم .
والضمير في « يروا » قيل : عائد على المستهزئين ، والخطاب في « لكم » راجع إليهم أيضاً فيكون على هذا التفاتاً فائدتُه التعريض بقلَّة تمكُّن هؤلاء ونَقْصِ أحوالهم عن حال أولئك ، ومع تمكينهم وكثرتهم فقد حَلَّ بهم الهلاك فكيف وأنتم أقلُّ منهم تمكيناً وعَدَداً؟ وقال ابن عطية : « والمخاطبة في » لكم « هي للمؤمنين ولجميع المعاصرين لهم ولسائر الناس كافة ، كأنه قيل : ما لم نمكِّن يا أهل هذا العصر لكم ، ويحتمل أن يُقَدِّر معنى القول لهؤلاء الكفرة ، كأنه قال : يا محمد قل لهم : ألم يروا كم أهلكنا الآية ، فإذا أخبرت أنك قُلْتَ - أو أَمَرْتَ أن يقال - فَلَكَ في فصيح كلام العرب أن تحكي الألفاظ المقولة بعينها فتجيءَ بلفظ المخاطبة ، ولك أن تجيء بالمعنى في الألفاظ بالغيبة دون الخطاب » .

انتهى ومثاله : « قلت لزيد : ما أكرمك ، أو ما أكرمه » .
والقَرْن : لفظ يقع على معانٍ كثيرة ، فالقرن : الأمَّة من الناس ، سمُّوا بذلك لاقترانهم في مدة من الزمان ، ومنه قوله عليه السلام : « خيرُ القرون قرني » . وقال الشاعر :
1864- أُخَبِّرُ أخبارَ القُرونِ التي مَضَتْ ... أَدِبُّ كاني كلما قُمْتُ راكِعُ
وقال قس بن ساعدة :
1865- في الذاهبين الأوَّلِي ... نَ من القرون لنا بصائِرْ
وقيل : أصله الارتفاع ، ومنه قَرْنُ الثور وغيره ، فَسُمُّوا بذلك لارتفاع السنِّ . وقيل : لأن بعضهم يُقْرَن ببعض ويُجعل مجتمعاً معه ، ومنه القَرَن للحَبْلِ يُجمع به بين البعيرين ، ويُطلق على المدة من الزمان أيضاً .
وهل إطلاقه على الناس والزمان بطريق الاشتراك أو الحقيقة والمجاز؟ الراجح الثاني؛ لأن المجازَ خيرٌ من الاشتراك . وإذا قلنا بالراجح فإنها الحقيقة ، الظاهر أنه القوم لأنَّ غالبَ ما يُطلق عليهم ، والغَلَبة مؤذنةٌ بالأصالة غالباً . وقال ابن عطية : « القرن أن يكون وفاة الأشياخ وولادة الأطفال ، ويَظْهر ذلك من قوله تعالى : { وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ } فجعله معنى ، وليس بواضح . وقيل : القرن : الناس المجتمعون ، قلَّت السنون أو كَثُرت ، واستدلوا بقوله عليه السلام : » خيرُ القرونِ قَرْني « وبقوله :
1866- في الذاهبين الأوَّلي ... نَ من القرون لنا بصائرْ
وبقوله :
1867- إذا ذَهَبَ القومُ الذي كنتَ فيهمُ ... وخُلِّفْتَ في قَرْن فأنت غريبُ
فأطلقوه على الناس بقيد الاجتماع . ثم اختلف الناس في كمية القرن حالة إطلاقه على الزمان فالجمهور أنه مئة سنة ، واستدلوا له بقوله عليه السلام : » يعيش قرناً « فعاش مائة سنة . وقيل : مئة وعشرون قاله إياس بن معاوية وزارة بن أبي أوفى . وقيل : ثمانون نقله صالح عن ابن عباس : وقيل : سبعون قاله الفراء . وقيل : ستون لقوله عليه السلام : » معترك المنايا ما بين الستين إلى السبعين « وقيل : أربعون ، حكاه محمد بن سيرين ، يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذلك الزهراوي أيضاً يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم . وقيل : ثلاثون حكان النقاش عن أبي عبيدة ، كانوا يرون أن ما بين القرنين ثلاثون سنة . وقيل : عشرون ، وهو رأي الحسن البصري . وقيل : ثمانية عشر عاماً . وقيل : هو المقدار الوسط من أعمار أهل ذلك الزمان ، واستحسن هذا بأنَّ أهل الزمن القديم كانوا يعيشون أربع مئة سنة وثلاث مائه وألفاً وأكثر وأقل .
وقدَّر بعض الناس في قوله تعالى : { كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ } أهلاً ، أي : أهل قرن؛ لأنَّ القرنَ الزمانُ ، ولا حاجة إلى ذلك إلا على اعتقاد أنه حقيقةٌ فيه ، مجاز في الناس ، وقد قدَّمْتُ أن الراجحَ خلافُه .

قوله : { مَّدْرَاراً } حال من « السماء » إن أريد بها السحابُ ، فإنَّ السحابَ يوصفُ بكثرة التتابع أيضاً ، وإن أريد به الماء فكذلك . ويدلُّ على أنه يراد به الماءُ قولُه في الحديث « في أثر سماء كانت من الليل » ويقولون : ما نزلنا نطأ السماء حتى أتيناكم ، ومنه :
1868- إذا نَزَل السماءُ بأرضِ قومٍ ... رَعَيْناه وإن كانوا غضابا
أي : رَعَيْنا ما ينشأ عنه . وإن أريد بها هذه المِظَلَّةُ فلا بد من حذف مضافٍ حينئذ أي : مطر السماء ، ويكون « مدراراً » حالاً منه . ومدرار مِفْعال وهو للمبالغة كامرأة مِذْكار ومِئْناث . قالوا : وأصله مِن « دَرِّ اللبن » وهو كثرةُ ورودِه على الحالِب ومنه : « لا درَّ درُّه » في الدعاء عليه بقلة الخير . وفي المثل : « سبقَتْ دِرَّتُ غِرارَه » وهي مثلُ قولهم : « سبقَ سيلُه مَطَرَه » . واستدَّرت المِعْزى كناية عن طلبها الفحل ، قالوا : لأنَّها إذا طَلَبَتْه حَمَلَتْ فَوَلَدَتْ فَدَرَّت .
قوله : { تَجْرِي } إنْ جعلنا « جَعَلَ » تصييرية كان « تجري » مفعولاً ثانياً ، وإن جعلناها إيجادية كان حالاً . و « من تحتهم » يجوز فيه أوجه : أن يكون متعلقاً ب « تجري » ، وهذا هو الذي ينبغي أن لا يُعْدَلَ عنه ، وأن يكون حالاً : إمَّا من فاعل « تجري » أو من « الأنهار » وأن يكون مفعولاً ثانياً ل « جعلنا » ، و « تجري » على هذا حال من الضمير في الجار ، وفيه ضعف لتقدُّمها على العامل المعنوي ، ويجوز أن يكون « من تحتهم » حالاً من « الأنهار » كما تقدَّم ، و « تجري » حال من الضمير المستكنِّ فيه ، وفيه الضعف المتقدم .
قوله : { مِن بَعْدِهِمْ } متعلق ب « أنشأنا » قال أبو البقاء : « ولا يجوز أن يكون حالاً من » قرن « لأنه ظرف زمان » يعني أنه لو تأخر عن قرن لكان يُتَوَهَّم جوازُ كونه صفةً له ، فلما قُدِّم عليه قد يوهم أن يكون حالاً منه ، لكنه منع ذلك كونُه ظرفَ زمان ، والزمان لا يُخبر به عن الجثث ولا يوصف به ، وقد تقدم لك أنه يصِحُّ ذلك بتأويلٍ ذكرته في البقرة عند قوله : { والذين مِن قَبْلِكُمْ } [ الآية : 21 ] . و « آخرين » صفة ل « قَرْن » لأنه اسم جمعٍ كقوم ورهط ، فلذلك اعتُبر معناه ، ومن قال : إنه الزمان قَدَّر مضافاً أي : أهل قرن آخرين ، وقد قَدَّمْتُ أنَّه مرجوح .

وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)

قوله تعالى : { فِي قِرْطَاسٍ } : يجوز أن يتعلق بمحذوف على انه صفة لكتاب ، سواء أريد بكتاب المصدرُ أم الشيء المكتوب . ويجوز أن يتعلَّق بنفس « كتاباً » سواء أريد به المصدر أم الشيء المكتوب . ومن مجيء الكتاب بمعنى مكتوب قوله :
1869- . . . . . . . . . . . . . . . صحيفةً ... أَتَتْكَ من الحَجَّاج يُتْلى كتابُها
وفي النفس مِنْ جَعْلِ « كتاباً » في الآية الكريمة مصدراً شيء؛ لأن نفس الكتاب لا تُوصف بالإِنزال إلا بتجوُّز بعيد ، ولكنهم قد قالوه هنا ، ويجوز أن يتعلَّق « في قرطاس » ب « نَزَّلْنا » .
والقِرْطاس : الصحيفة يُكتب فيها تكون من رَقَّ وكاغد ، بكسر القاف وضمها ، والفصيح الكسر ، وقرئ بالضم شاذاً نقله أبو البقاء والقِرْطاس : اسم أعجمي معرَّب ، ولا يقال قرطاس إلا إذا كان مكتوباً وإلا فهو طِرْس وكاغَد ، وقال زهير :
1870- لها أخاديدُ مِنْ آثارِ ساكنها ... كما تردَّدَ في قِرْطاسِه القلمُ
قوله : { فَلَمَسُوهُ } الضمير المنصوب يجوز أن يعود على القِرْطاس ، وان يعود على « كتاب » بمعنى مكتوب . و « بأيديهم » متعلق ب « لَمَسَ » . والباء للاستعانة كعملت بالقَدُوم . و « لقال » جواب لو ، جاء على الأفصح من اقتران جوابها المثبت باللام .
قوله : { إِنْ هاذآ } « إنْ » نافية ، و « هذا » مبتدأ ، و « إلا سحرٌ » خبره فهو استثناء مفرغ ، والجملةُ المنفيَّة في محل نصب بالقول ، وأوقع الظاهرَ موقع المضمر في قوله « لقال الذين كفروا » شهادةً عليهم « بالكفر . والجملة الامتناعية لا محلَّ لها من الإِعراب لاستئنافها .

وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8)

قوله تعالى : { وَقَالُواْ لولا } : الظاهر أن هذه الجملة مستأنفة سِيْقَتْ للإِخبار عنهم بفرط تعنُّتِهم وتصلُّبهم في كفرهم . قيل : ويجوز أن تكون معطوفةً على جواب « لو » أي : لو نَزَّلْنا عليك كتاباً لقالو كذا ، ولقالوا : لولا أُنْزِل عليه مَلَك . وجيء بالجواب على أحد الجائزين ، أعني حذف اللام من المثبت . وفيه بُعْدٌ؛ لأن قولهم « لولا أُنْزل » ليس مترتباً على قوله : { وَلَوْ أَنزَلْنَا } و « لولا » هنا تحضيضية . والضمير في « عليه » الظاهر عودُه على النبي صلى الله عليه وسلم . وقيل : يجوز أن يعود على الكتاب أو القرطاس ، والمعنى : لولا أُنْزل على الكتاب مَلَك لشهد بصحته ، كما يُرْوى في القصة أنه قيل : له لن نؤمن حتى تعرجَ فتأتي بكتاب ، ومعه أربعة ملائكة يشهدون ، وهذا يَظْهر على رأي مَنْ يقول : إن الجملة من قوله : { وقالوا : لولا أُنْزل } معطوفةٌ على جواب لو ، فإنه يتعلق به من حيث المعنى حينئذ .

وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)

قوله تعالى : { مَّا يَلْبِسُونَ } : في « ما » قولان ، أحدهما : أنها موصولة بمعنى الذي أي : ولَخَلَطْنَا عليهم ما يخلطون على أنفسهم أو على غيرهم ، قاله أبو البقاء وتكون « ما » حينئذ مفعولاً بها . الثاني : أنها مصدرية أي : ولَلَبَسْنا عليهم مثل ما يلبسون على غيرهم ويسلكونهم . وقرأ ابن محيصن : « ولَبَسْنا » بلام واحدة هي فاء الفعل ، ولم يأت بلام في الجواب اكتفاءً بها في المعطوف عليه . وقرأ الزُّهري « ولَلَبَّسْنا » بلامين وتشديد الفعل على التكثير .

وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10)

قوله تعالى : { وَلَقَدِ استهزىء } : قرأ حمزة وعاصم وأبو عمرو بكسر الذال على أصل التقاء الساكنين ، والباقون بالضم على الإِتباع ، ولم يبالَ بالساكن لأنه حاجزٌ غيرُ حصين ، وقد قرَّرْتُ هذه القاعدة بدلائلها في البقرة عند قوله : { فَمَنِ اضطر } [ الآية : 173 ] . و « برسلٍ » متعلق ب « استهزئ » . و « مِنْ قبلك » صفة لرسل ، وتأويلُه ما تقدَّم في وقوع « من قبل » صلة .
قوله : { فَحَاقَ بالذين سَخِرُواْ } فاعل حاق : « ما كانوا » و « ما » يجوز أن تكون موصولةً اسمية ، والعائد الهاء في « به » و « به » يتعلق ب « يستهزئون » و « يستهزئون » خبر ل « كان » ، و « منهم » متعلق بسخروا ، على أنَّ الضمير يعود على الرسل ، قال تعالى : { إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ } [ هود : 38 ] ، ويجوز أن يتعدَّى بالباء نحو : سَخِرْت به ، ويجوز أن يتعلَّق « منهم » بمحذوف أنَّه حال من فاعل « سَخِروا » ، والضمير في « منهم » يعود على الساخرين . وقال أبو البقاء : « على المستهزئين » وقال الحوفي : « على أُمَمِ الرسلِ » .
وقد رَدَّ الشيخ على الحوفي بأنه يلزم إعادته على غير مذكور وجوابُه أنه في قوة المذكور ، وردَّ على أبي البقاء بأنه يصير المعنى : فحاق بالذين سخروا كائنين من المستهزئين ، فلا حاجةَ إلى هذه الحال لأنها مفهومةٌ من قوله « سخروا » وجوَّزوا أن تكون « ما » مصدرية ، ذكره الشيخ ، ولم يتعرَّض للضمير في « به » والذي يظهر أنه يعود على الرسل الذي يتضمَّنه الجمع ، فكأنه قيل : فحاق بهم عاقبةُ استهزائهم بالرسول المندرج في جملة الرسل ، وأمَّا على رأي الأخفش وابن السراج فتعود على « ما » مصدرية لأنها اسم عندهما .
وحاق ألفه منقلبة عن ياء بدليل يَحِيق ، كباع يبيع ، والمصدر حَيْق وحُيُوق وحَيَقان كالغَلَيان والنَّزَوان . وزعم بعضهم أنه من الحَوْق ، وهو المستدير بالشيء ، وبعضهم أنه من الحقّ ، فأُبْدِلت إحدى القافين ياءً كتظنَّنْتُ ، وهذان ليسا بشيء ، أمَّا الأول فلاختلاف المادة إلا أن يريدوا الاشتقاق الأكبر ، وأما الثاني فلأنها دعوى مجردة من غير دليل . ومعنى حاق أحاط ، وقيل : عاد عليه وبالُ مَكْرِه ، قال الفراء . وقيل : دار ، والمعنى يدور على الإِحاطة والشمول ، ولا تستعمل إلا في الشر . قال الشاعر :
1871- فأوطأ جُرْدُ الخيلِ عُقْرَ ديارهمْ ... وحاقَ بهم من بأسِ ضَبَّةَ حائقُ
وقال الراغب : « قيل وأصله حَقَّ ، فقلب نحو : زلَّ وزال ، وقد قرئ : » فأزلَّهما وأزلَهما « وعلى هذا ذمَّة وذامه » وقال الأزهري : « جعل أبو إسحاق » « حاق » بمعنى أحاط ، وكأن مأخذه من الحَوْق وهو ما استدار بالكَمَرَة « قال : » وجائز أن يكون الحَوْق فعلاً من حاق يحيق ، كأنه في الأصل : حُيْق ، فقلبت الياء واواً لانضمام ما قبلها « وهل يحتاج إلى تقدير مضاف قبل » ما كانوا «؟ نقل الواحدي عن أكثر المفسرين ذلك أي : عقوبة ما كانوا ، أو جزاء ما كانوا ، ثم قال : » وهذا إذا جعلت « ما » عبارة عن القرآن والشريعة وما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن جعلْتَ « ما » عبارةً عن العذاب الذي كان صلى الله عليه وسلم يُوعدهم به إن لم يؤمنوا استغْنَيْتَ عن تقدير المضاف ، والمعنى : فحاق بهم العذابُ الذي يستهزئون به وينكرونه .

والسُّخْرِيَّة : الاستهزاء والتهكم ، يقال : سَخِر منه وبه ، ولا يقال إلا استهزاءً به فلا يتعدَّى ب « مِنْ » وقال الراغب : « سَخَرْتُهُ إذا سَخَّرْتَه للهُزْء منه ، يقال : رجل سُخَرَة بفتح الخاء إذا كان يَسْخَر من غيره ، وسُخْرة بسكونها إذا كان يُسْخر منه ، ومثله : ضُحَكة وضُحْكة ، ولا ينقاس . وقوله : { فاتخذتموهم سِخْرِيّاً } [ المؤمنون : 110 ] يحتمل أن يكون من التسخير ، وأن يكون من السُّخْرية » . وقد قرئ سُخرياً وسِخرياً بضمِّ السين وكسرها . وسيأتي له مزيد بيان في موضعه إن شاء الله تعالى .

قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)

قوله تعالى : { ثُمَّ انظروا } : عطف على « سيروا » ولم يجئ في القرآن العطفُ في مثل هذا الموضع إلا بالفاء ، وهنا جاء ب « ثم » فيحتاج إلى فرق ، فذكر الزمخشري الفرق وهو : أَنْ جَعَل النظر مسبِّباً عن السير في قوله : { انظروا } كأنه قيل : « سيروا لأجل النظر ، ولا تسيروا سيرَ الغافلين » وهنا معناه إباحةُ السَّيْر في الأرض للتجارة وغيرها من المنافع وإيجاب النظر في آثار الهالكين ، ونبَّه على ذلك ب « ثم » لتباعد ما بين الواجب « والمباح » .
قال الشيخ : « وما ذكره أولاً متناقض لأنه جعل النظر مُتَسَبِّباً عن السير ، فكان السير سبباً للنظر ، ثم قال : فكأنه قيل : سيروا لأجلِ النظر ، فجعل السيرَ معلولاً بالنظر ، والنظرُ سببٌ له فتناقضا ، ودعوى أن الفاء سببية دعوى لا دليلَ عليها ، وإنما معناها التعقيب فقط ، وأمَّا : » زنى ماعِزٌ فَرُجم « ففَهْمُ السببية من قرينةٍ غيرِها » قال : « وعلى تقدير تسليم إفادتها السببَ فلِمَ كان السيرُ هنا سيرَ إباحة وفي غيره سيرَ إيجاب؟ قلت : هذا اعتراضٌ صحيح إلا قولَه » إن الفاء لا تفيد السببية « فإنه غير مُرْضٍ ، ودليلُه في غير هذا الموضوع . ومثل هذا المكان في كون الزمخشري جعل شيئاً علة ثم جعله معلولاً ما سيأتي إن شاء الله في أول الفتح ويأتي هناك جوابه .
قوله : { كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ } » كيف « خبر مقدَّم و » عاقبة « اسمها ، ولم يُؤَنَّثْ فعلُها لأن تأنيثها غير حقيقي ، ولأنها بتأويل المآل والمنتهى ، فإنَّ العاقبة مصدرٌ على وزن فاعِله ، وهو محفوظ في ألفاظ تقدَّم ذِكْرُها وهي منتهى الشيء وما يصير إليه . والعاقبة إذا أُطْلِقَتْ اختصت بالثواب . قال تعالى : { والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ } [ الأعراف : 128 ] ، وبالإِضافة قد تستعمل في العقوبة كقوله تعالى : { ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الذين أَسَاءُواْ السواأى } [ الروم : 10 ] { فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِي النار } [ الحشر : 17 ] فصَحَّ أن تكون استعارة مِنْ ضدِّه كقوله تعالى : { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عمران : 21 ] . و » كيف « معلِّقة للنظر فيه في محل نصب على إسقاط الخافض؛ لأنَّ معناه هنا التفكُّر والتدبُّر .

قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12)

قوله تعالى : { لِّمَن مَّا فِي السموات } : « لمَنْ » خبرٌ مقدَّمٌ واجبُ التقديم؛ لاشتماله على ما له صدرُ الكلام فإنَّ « مَنْ » استفهامية والمبتدأ « ما » وهي بمعنى الذي ، والمعنى : لمن استقر الذي في السماوات . وقوله : { قُل للَّهِ } قيل : إنما أمَرَه أن يجيب وإن كان المقصود أن يُجيب غيرُه؛ ليكون أولَ مَنْ بادر الاعتراف بذلك ، وقيل : لمَّا سألهم كأنهم قالوا : لمن هو؟ فقال الله : قل لله ، ذكره الجرجاني . فعلى هذا قوله : « قل لله » جواب للسؤال المضمر الصادر من جهة الكفار ، وهذا بعيدٌ ، لأنهم لم يكونوا يشكُّون في أنه لله ، وإنما هذا سؤال تبكيت وتوبيخ ، ولو أجابوا لم يَسَعْهم أن يُجيبوا إلا بذلك . وقوله « لله » خبر مبتدأ محذوف ، أي هو أو ذلك لله .
قوله : { كَتَبَ على نَفْسِهِ } أي قضى وأوجب إيجابَ تَفَضُّلٍ لا أنه مستحق عليه تعالى . وقيل : معناه القسم ، وعلى هذا فقوله : { لَيَجْمَعَنَّكُمْ } جوابُه؛ لِما تضمن من معنى القسم ، وعلى هذا فلا توقُّفَ على قوله « الرحمة » قال الزجاج : « إن الجملة من قوله : { لَيَجْمَعَنَّكُمْ } في محل النصب على أنها بدل من » الرحمة « ، لأن فَسَّر قوله { لَيَجْمَعَنَّكُمْ } بأنه أمهلكم وأمدَّ لكم في العمر والرزق مع كفركم ، فهو تفسير للرحمة . وقد ذكر الفراء هذين الوجهين : أعني أن الجملة تَمَّتْ عند قوله » الرحمة « أو أن » ليجمعنكم « بدلٌ منها فقال : » إن شئت جعلت الرحمة غايةَ الكلام ثم استأنفت بعدها « ليجمعنكم » وإن شِئْتَ جَعَلْتَها في موضع نصب كما قال : { كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ } [ الأنعام : 54 ] . قلت : واستشهاده بهذه الآيةِ حسن جداً .
ورَدَّ ابن عطية هذا بأنه يلزم دخولُ نونِ التوكيد في الإِيجاب قال : « وإنما تدخل على الأمر والنهي وجواب القسم » . ورَدَّ الشيخ حصر ابن عطية وردَ نون التوكيد فيما ذكر . وهو صحيح ، وردَّ كونَ « ليجمعنَّكم » بدلاً من الرحمة بوجه آخر ، وهو أنَّ « ليجمعنَّكم » جوابُ قسمٍ ، وجملة الجواب وحدها لا موضع لها من الإِعراب ، إنما يُحْكَمُ على موضع جملتي القسم والجواب بمحلِّ الإِعراب « . قلت : وقد خلط مكي المذهبين وجعلهما مذهباً واحداً فقال : » ليجمعنَّكم « في موضع نصبٍ على البدل من » الرحمة « واللام لام القسم . فهي جواب » كتب « لأنه بمعنى : أوجب ذلك على نفسه ، ففيه معنى القسم ، وقد يظهر جوابٌ عما أورده الشيخ على غير مكي ، وذلك أنهم جعلوا » ليجمعنَّكم « بدلاً من » الرحمة « ، يعني هي وقسيمها المحذوف ، واستغنوا عن ذكر القسم بها؛ لأنها مذكورةٌ في اللفظ ، فكأنهم قالوا : وجملة القسم في محل نصب بدلاً من الرحمة ، وكما يقولون جملة القسم ويستغنون به عن ذِكْرِهم جملةَ الجواب كذلك يستغنون بالجواب عن ذكر القسم لاسيما وهو غير مذكور .

وأمَّا مكي فلا يظهر هذا جواباً له؛ لأنه نصَّ على أنه جوابٌ ل « كَتَبَ » فَمِنْ حيث جعله جواباً لكَتَبَ لا محلَّ له ، ومن حيث جَعَلَه بدلاً كان مَحَلُّه النصب فتنافيا . والذي ينبغي في هذه الآية أن يكون الوقفُ عند قوله « الرحمة ، وقوله » ليجمعنَّكم « جواب قسم محذوف ، اي : والله ليجمعنكم ، والجملة القسمية لا تعلُّق لها بما قبلها من حيث الإِعراب ، وإن تعلَّقَتْ به من حيث المعنى .
و » إلى « على بابها أي : ليجمعنَّكم منتهين إلى يوم القيامة . وقيل : هي بمعنى اللام كقوله : { إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ } [ آل عمران : 9 ] وقيل : بمعنى » في « أي : ليجمعنَّكم في يوم القيامة . وقيل : هي زائدة أي : ليجمعنكم يوم القيامة ، وقد يشهد له قراءة من قرأ { تهوى إليهم } بفتح الواو أنه ضرورةَ هنا إلى ذلك .
قوله : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } تقدم نظيره في أول البقرة . والجملة حال من » يوم « ، والضمير في » فيه « يعود على اليوم ، وقيل : يعود على الجمع المدلول عليه بالفعل لأنه رَدٌّ على منكري الحشر .
قوله : { الذين خسروا } فيه ستة أوجه ، أحدها : أنه منصوبٌ بإضمار » أذمُّ « وقدَّره الزمخشري ب أريد ، وليس بظاهر . الثاني : أنه مبتدأ أخبر عنه بقوله { فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } وزيدت الفاءُ في خبره لِما تضمَّن من معنى الشرط ، قاله الزجاج كأنه قيل : مَنْ يخسرْ نفسه فهو لا يؤمن . الثالث : أنه مجرور على أنه نعت للمكذبين . الرابع : أنه بدل منهم ، وهذان الوجهان بعيدان . الخامس : أنه منصوبٌ على البدل من ضمير المخاطب ، وهذا قد عَرْفْتَ ما فيه غيرَ مرَّةٍ ، وهو أنه هل يُبْدَل من ضمير الحاضر بدلُ كل من كل في غير إحاطة ولا شمول أم لا؟ ومذهب الأخفش جوازه ، وقد ذكرْنا دليل الجمهور ودلائله وما أُجيب عنها فأغنى عن إعادتها . وردَّ المبرد عليه مذهبه بأنه البدل من ضمير الخطاب لا يجوز ، كما لا يجوز : » مررت بك زيدٍ « وهذا عجيب؛ لأنه استشهد بمحل النزاع وهو : مررت بك زيدٍ . ورَدَّ ابنُ عطية ردَّه فقال : » ما في الآية مخالفٌ للمثال؛لأن الفائدة في البدل مترتبة من الثاني ، فإذا قلت : « مررت بك زيدٍ » فلا فائدة في الثاني ، وقوله { لَيَجْمَعَنَّكُمْ } يصلح لمخاطبة الناس كافةً فيفيدنا إبدال « الذين » من الضمير أنهم هم المختصُّون بالخطاب ، وخُصُّوا على جهة الوعيد ، ويجيء هذا إبدالَ البعض من الكل « .
قال الشيخ : » هذا الردُّ ليس بجيد لأنه إذا جَعَلْنا « ليجمعنَّكم » صالحاً لخطاب جميع الناس كان « الذين » بدل بعض ، ويحتاج إذ ذاك إلى ضميرٍ ، تقديره : خسروا أنفسهم منهم .

وقوله « فيفيدنا إبدال الذين من الضمير أنهم هم المختصون بالخطاب وخُصُّوا على جهة الوعيد » وهذا يقتضي أن يكون بدل كل من كل ، فتناقض أول كلامه مع آخره؛ لأنه من حيث الصلاحيةُ بدل بعض ، ومن حيث اختصاص الخطاب بهم يكون بدلَ كل فتناقضا « . قلت : ما أبعدَه عن التناقض ، لأن بدل البعض من الكل من جملة المخصِّصات كالتخصُّص بالصفة والغاية والشرط ، نصَّ أهل العلم على ذلك ، فإذا تقرر هذا فالمبدل منه بالنسبة إلى اللفظ في الظاهر عام ، وفي المعنى ليس المراد به إلا ما أراده المتكلم فإذا ورد : » اقتلوا المشركين بني فلان « مثلاً فالمشركون صالح لكل مشرك من حيث اللفظ ، ولكنَّ المراد به بنو فلان ، فالعموم في اللفظ والخصوص في المعنى ، فكذا قول أبي محمد يَصْلُح لمخاطبة الناس ، معناه أنه يَعُمُّهم لفظاً . وقوله » فيفيدنا إبدال الضمير إلى آخره « هذا هو المخصِّص فلا يجيء تناقضٌ البتةَ ، وهذا مقرر في علم أصول الفقه .
السادس : أنه مرفوع على الذمِّ ، قاله الزمخشري ، وعبارته فيه وفي الوجه الأول : » نصبٌ على الذمِّ أو رفعٌ ، أي : أريد الذين خسروا أنفسهم ، أو أنتم خسروا أنفسهم « انتهى . قلت : إنما قَدَّر المبتدأ » أنتم « ليرتبط مع قوله » ليجمعنَّكم « وقوله » خسروا أنفسهم « من مراعاة الموصول ، ولو قال : » أنتم الذين خسروا أنفسهم « مراعاةً للخطاب لجاز ، تقول : أنت الذي قعد ، وإن شئت : قَعَدْت .

وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)

قوله تعالى : { وَلَهُ مَا سَكَنَ } : جملة من مبتدأ وخبر ، وفيها قولان ، أظهرهما : أنها استئناف إخبار بذلك . والثاني : أنها في محل نصب نسقاً على قوله « لله » أي على الجملة المحكية ب قل أي : قل : هو لله وقل : له ما سكن . و « ما » موصولة بمعنى الذي ، ولا يجوز غيرُ / ذلك . و « سَكَنْ » قيل : معناه ثبت واستقر ، ولم يذكر الزمخشري غيره . وقيل : هو مِنْ سَكَن مقابل تَحَرَّك ، فعلى الأول لا حَذْفَ في الآية الكريمة ، قال الزمخشري : « وتَعَدِّيه ب في كما في قوله : { وَسَكَنتُمْ فِي مساكن الذين ظلموا أَنفُسَهُمْ } [ إبراهيم : 45 ] . ورجَّح هذا التفسيرَ ابن عطية . وعلى الثاني اختلفوا ، فمنهم مَنْ قال : لا بد من محذوفٍ لفهم المعنى ، وقدَّر ذلك المحذوفَ معطوفاً فقال : تقديره : وله ما سكن وما تحرك ، كقوله في موضع آخر : { تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] أي : والبرد ، وحَذْفُ المعطوف فاشٍ في كلامهم ، وأنشد :
1872- كأنَّ الحصى مِنْ خلفِها وأمامِها ... إذا نَجَلَتْهُ رِجْلُها خَذْفُ أَعْسَرا
1873- فما كان بين الخيرِ لو جاء سالماً ... أبو حُجُرٍ إلا ليلٍ قلائلُ
يريد : رجلها ويدها ، وبين الخير وبيني . ومنهم مَنْ قال : لا حَذْفَ؛ لأنَّ كل متحرك قد يُسَكَّن . وقيل : لأن المتحرك أقلُّ والساكن أكثر ، فلذلك أوثر بالذكر .

قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14)

قوله تعالى : { أَغَيْرَ الله } : مفعول أول ل « أتَّخِذُ » و « وليَّاً » مفعولٌ ثاني ، وإنما قَدَّم المفعول الأول على فعله لمعنى : وهو إنكار أن يُتَّخَذَ غيرُ اللَّهِ ولياً لا اتخاذ الوليّ ، ونحوُه قولك لمن يهين زيداً وهو مستحقٌّ للإِكرام : « أزيداً أهنت » ، أَنْكَرْتَ أن يكون مثله مُهاناً . وقد تقدَّم هذا موضحاً في قوله : { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ } [ المائدة : 116 ] ومثله : { أَغَيْرَ الله أَبْغِي رَبّاً } [ الأنعام : 114 ] { أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ } [ الزمر : 64 ] { ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ } [ يونس : 59 ] { ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ } [ الأنعام : 13 ] وهو كثير . ويجوز أن يكون « أتخذ » متعدياً لواحد فيكون « غيرَ » منصوباً على الحال من « وليَّاً » لأنه في الأصل صفة له ، ولا يجوز أن يكون استثناءً البتة ، كذا منعه أبو البقاء ، ولم يُبَيِّنْ وجهَه . والذي يظهر أنَّ المانع تقدُّمه على المستثنى منه في لامعنى وهو « وليَّاً » ، وأما المعنى فلا يأبى الاستثناء ، لأن الاستفهام لا يُراد به حقيقته ، بل يُراد به الإِنكار ، فكأنه قيل : لا أتَّخذ ولياً غير الله ، ولو قيل كذا لكان صحيحاً ، فظهر أن المانع عنده إنما هو التقديم على المستثنى منه ، لكن ذلك جائز ، وإن كان قليلاً ومنه :
1874- وما ليَ آل أحمدَ شيعةٌ ... وما لي إلا مَشْعبَ الحقِّ مَشْعَبُ
وقرأ الجمهور « فاطرِ » بالجر ، وفيها تخريجان ، أحدهما - وبه قال الزمخشري والحوفي وابن عطية - صفة للجلالة المجرورة ب « غير » ، ولا يَضُرُّ الفصل بين الصفة والموصوف بهذه الجملة الفعلية ومفعولها؛ لأنها ليست بأجنبية ، إذ هي عاملة في عامل الموصوف . والثاني - وإليه نحا أبو البقاء - أنه بدلٌ من اسمِ الله ، وكأنه فرَّ من الفصل بين الصفة وموصوفها ، فإن قيل : هذا لازمٌ له في البدل ، فإنه فَصَل بين التابع ومتبوعِه أيضاً . فيقال : إن الفصل بين البدلِ والمبدلِ أسهلُ؛ لأنَّ البدل على نية تكرار العامل فهو أقرب إلى الفصل ، وقد ترجَّح تخريجُه بوجهٍ آخرَ : وهو أنَّ « فاطر » اسم فاعل ، والمعنى ليس على المضيِّ حتى تكون إضافتُه غيرَ محضة فيلزم وَصْفُ المعرفة بالنكرة لأنه في نية الانفصال من الإِضافة ، ولا يقال : الله فاطر السماوات والأرض فيما مضى ، فلا يُراد حال ولا استقبال؛ لأن كلام الله تعالى قديم متقدِّمٌ على خلق السماوات ، فيكون المراد به الاستقبال قطعاً ، ويدلُّ على جواز كونه في نية التنوين ما سأذكره عن أبي البقاء قريباً .
وقرأ ابن أبي عبلة برفعه ، وتخريجه سهل ، وهو أنه خبر مبتدأ محذوف . وخَرَّجه ابن عطية على أنه مبتدأ فيحتاج إلى تقدير خبر ، الدلالةُ عليه خفيةٌ بخلاف تقدير المبتدأ فإنه ضمير الأول أي : هو فاطر : وقرئ شاذاً بنصبه ، وخرَّجه أبو البقاء على وجهين ، أحدهما : أنه بدل من « وليَّاً » قال : « والمعنى على هذا أجعلُ فاطر السماوات والأرض غيرَ الله » كذا قدَّر وفيه نظر؛ فإنه جعل المفعول الأول وهو « غير الله » مفعولاً ثانياً ، وجعل البدل المفعول الثاني مفعولاً أول ، فالتقدير عكسُ التركيب الأصلي .

والثاني : أنه صفةٌ ل « وليَّاً » قال : « ويجوز أن يكون صفة ل » وليَّاً « والتنوينُ مرادٌ » قلت : يعني بقوله : « التنوين مراد » أن اسم الفاعل عامل تقديراً / فهو في نية الانفصال ، ولذلك وقع وصفاً للنكرة كقوله : { هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } [ الأحقاف : 24 ] .
وهذا الوجه لا يكاد يَصِحُّ إذ يصير المعنى : أأتخذ غيرَ الله وليَّاً فاطر السماوات إلى آخره ، فيصفُ ذلك الولي بأنه فاطر السماوات . وقرأ الزهري : « فَطَر » على أنه فعل ماضٍ وهي جملة في محل نصب على الحال من الجلالة كما كان « فاطر » صفتها في قراءة الجمهور . ويجوز على رأي أبي البقاء أن تكون صفة ل « ولياً . ولا يجوز أن تكون صفةً للجلالة ، لأن الجملة نكرة .
والفَطْر : الشَّقُّ مطلقاً ، وقيَّده الراغب بالشق وقيَّده الواحدي بشَقِّ الشي عند ابتدائه . والفَطْر : الإِبداع والاتخاذ على غير مثال ، ومنه » فاطر السماوات « أي أوجدها على غير مثالٍ يُحتذى . وعن ابن عباس : » ما كنت أدري ما معنى فَطَر وفاطِر ، حتى اختصم إليَّ أعرابيان في بئر فقال أحدهما : « أنا فَطَرْتُها » أي : أنشأتها وابتدأتها . ويقال : فَطَرْتُ كذا فَطْر هو فُطوراً ، وانفطر انفطاراً وفَطَرْتُ الشاة : حَلَبْتُها بأصبعين ، وفَطَرْت العجين : خبزته مِنْ وقته ، وقوله تعالى : { فِطْرَتَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا } [ الروم : 30 ] إشارةً منه إلى ما فَطَر أي أبدع وركَّز في الناس من معرفته ، ففطرةُ الله ما رُكِّز من القوة المُدْرِكة لمعرفته ، وهو المشار إليه بقوله تعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله } [ الزخرف : 87 ] ، وعليه : « كلُّ مولودٍ يَوْلَدُ على الفطرة . . . » الحديث ، وهذا أحسنُ ما سمعت في تفسير « فطرة الله » في الكتاب والسنة .
قوله : { وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ } القراءة المشهورة ببناء الأول للفاعل والثاني للمفعول ، والضمير لله تعالى ، والمعنى : وهو يَرْزق ولا يُرْزَق ، وهو موافقٌ لقوله تعالى : { مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ } [ الذاريات : 57 ] . وقرأ سعيد بن جبير ومجاهد بن جبر والأعمش وأبو حيوة وعمرو بن عبيد وأبو عمرو بن العلاء في رواية عنه : « ولا يَطْعَمُ » بفتح الياء والعين بمعنى ولا يأكل ، والضمير لله تعالى .
وقرأ ابن أبي عبلة ويمان العماني : ولا يُطْعِم ، بضم الياء وكسر العين كالأول ، فالضميران - أعني هو والمستكنُّ في « يطعم » - عائدان على الله تعالى ، والضمير في ولا يُطْعِم للوليّ . وقرأ يعقوب في رواية ابن المأمون .

« وهو يُطْعَمُ ولا يُطْعِم » ببناء الأول للمفعول ، والثاني للفاعل ، على عكس القراءة المشهورة ، والضمائر الثلاثة أعني هو والمستترَيْنِ في الفعلين للولي فقط ، أي : وذلك الوليُّ يُطْعمه غيره ولا يُطْعِمُ هو أحداً لعَجْزه .
وقرأ الأشهب : { وهو يُطْعِمُ ولا يُطْعِم } ببنائهما للفاعل . وذكر الزمخشري فيها تخريجين ثانيهما لنفسه ، فإنه قال - بعد أن حكى القراءة - : « وفُسِّر بأن معناه وهو يُطْعِم ولا يَسْتَطْعِم » . وحكى الأزهري : أطعمت بمعنى استطعمت ، ونحوه : أَفَدْت ، ويجوز أن يكون المعنى : وهو يُطْعِم تارة ولا يُطْعم أخرى على حسب المصالح كقولك : هو يعطي ويمنع ويَقْدِر ويبسط ويغني ويفقر « قلت : [ هكذا ذكر الشيخ هذه القراءة ، وقراءةُ الأشهب هي ] كقراءة ابن أبي عبلة والعماني سواء ، لا تخالُفَ بينهما ، فكان ينبغي أن يذكر هذه القراءة لهؤلاء كلِّهم ، وإلاَّ يوهمْ هذا أنهما قراءتان متغايرتان وليس كذلك .
وقرئ شاذاً : { يَطْعَم } بفتح الياء والعين ، ولا يُطْعِم بضم الياء وكسر العين أي : وهو يأكل ولا يُطْعِم غيره ، ذكر هذه القراءةَ أبو البقاء وقال : » والضمير راجع على الولي الذي هو غير الله . فهذه ست قراءات وفي بعضها - وهي تَخَالُفُ الفعلين - من صناعة البديع تجنيس التشكيل : وهو أن يكون الشكل فارقاً بين الكلمتين ، وسمَّاه أسامة بن منقذ تجنيس التحريف ، وهو تسمية فظيعة ، فتسميتُه بتجنيس التشكيل أَوْلى .
قوله : { مَنْ أَسْلَمَ } « مَنْ » يجوز أن تكون نكرةً موصوفة واقعةً موقعَ اسمِ جمع ، أي : أول فريق أسلم ، وأن تكون موصولة أي : أول الفريق الذي أسلم . وأفرد الضمير في « اسلم » إمَّا باعتبار لفظ « فريق » المقدَّر ، وإمَّا باعتبار لفظ « مَنْ » وقد تقدَّم الكلام على « أول » وكيف يُضاف إلى مفرد بالتأويل المذكور في البقرة .
قوله : { وَلاَ تَكُونَنَّ } فيه تأويلان ، أحدهما على إضمار القول أي : وقيل لي : لا تكونَنَّ ، قال أبو البقاء : « ولو كان معطوفاً على ما قبله لفظاً لقال : و » أنْ لا أكون « وإليه نحا أبو القاسم الزمخشري فإنه قال : » ولا تكونَنَّ : وقيل لي لا تكونَنَّ ومعناه : وأُمرت بالإِسلام ونُهيت عن الشرك « والثاني : أنه معطوف على معمول » قل « حملاً على المعنى ، والمعنى : قل إني قيل لي : كن أولَ مَنْ أسلم ولا تكونن من المشركين [ فهما ] جميعاً محملان على القول ، لكن أتى الأول بغير لفظ القول وفيه معناه ، فحمل الثاني على المعنى . وقيل ] : هو عطف على » قل « أُمِرَ بأن يقول كذا ونهى عن كذا .

قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)

قوله تعالى : { إِنْ عَصَيْتُ } : شرط حُذِفَ جوابه لدلالة ما قبله عليه ، ولذلك جيء بفعل الشرط ماضياً ، وهذه الجملة الشرطية فيها وجهان ، أحدهما : أنه معترضٌ بين الفعل وهو « أخاف » وبين مفعوله وهو « عذاب » . والثاني : أنها في محلِّ نصب على الحال . قال الشيخ : « كأنه قيل : إني أخاف عاصياً ربِّي » وفيه نظرٌ ، إذ المعنى يأباه . و « أخاف » وما في حَيِّزه . خبر ل « إنَّ » وما في حيزها في محل نصب ب « قل » .

مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)

قوله تعالى : { مَّن يُصْرَفْ } : « مَنْ » شرطية ، ومحلُّها يحتمل الرفع والنصب كما سيأتي بيانه بعد ذِكْر القراءتين فنقول : قرأ الأخوان وأبو بكر عن عاصم : « يَصْرِف » بفتح الياء وكسر الراء على تسمية الفاعل . والباقون بضمِّ الياء وفتح الراء على ما لم يُسَمَّ فاعله .
فأمَّا القراءة الأولى ف « مَنْ » فيها تحتمل الرفع والنصب : فالرفع من وجه واحد وهو الابتداء ، وخبرها فعل الشرط أو الجواب أو هما ، على حسب الخلاف ، وفي مفعول « يَصْرِف » حينئذ احتمالان ، أحدهما : أنه مذكور وهو « يومئذ » ، ولا بد من حذف مضاف أي : يَصْرِف الله عنه هَوْل يؤمئذ - أو عذاب يومئذ - فقد رحمه ، فالضمير في « يَصْرِف » يعود على الله تعالى ، ويدلُّ عليه قارءة أُبَيّ بن كعب « مَنْ يَصْرِف اللَّهُ » بالتصريح به . والضميران في « عنه » و « رَحِمَة » ل « مَنْ » والثاني : أنه محذوف لدلالة ما ذكر عليه قبل ذلك أي : مَنْ يَصْرف اللَّهُ عنه العذابَ . و « يومئذ » منصوبٌ على الظرف . وقال مكي : « ولا يَحْسُن أن تقدَّرَ هاءً؛ لأن الهاء إنما تُحْذف من الصلات » . قلت : يعني أنه لا يُقَدَّرُ المفعولُ ضميراً عائداً على عذاب يوم؛ لأن الجملة الشرطية عنده صفةٌ ل « عذاب » والعائد منها محذوف ، لكنَّ الحذف إنما يكون من الصلة لا من الصفة ، وهذا معنى قول الواحدي أيضاً ، إلا أنَّ قولَ مكيّ « إنما يُحْذف من الصلات » يريد في الأحسن ، وإلاَّ فيحذف من الصفات والأخبار والأحوال ، ولكنه دون الصلة .
والنصب من وجهين أحدهما : أنه مفعول مقدَّمٌ ل « يَصْرِف » والضمير في « عنه » على هذا يتعيَّن عَوْدُه على العذاب المتقدم ، والتقدير : أيَّ شخص يَصْرِف اللَّهُ عن العذاب . والثاني : أنه منصوب على الاشتغال بفعل مضمر لا يبرز ، يفسره هذا الظاهر من معناه لا من لفظه ، والتقدير : مَنْ نُكْرِمْ أو مَنْ نُنَجِّ يَصْرِفِ الله . والضمير في « عنه » للشرطية . وأمَّا مفعول « يَصْرِفْ » على هذا فيحتمل الوجهين المتقدمين ، أعني كونه مذكوراً وهو « يومئذ » على حذفِ مضاف ، أو محذوفاً اختصاراً .
وأمَّا القراءة الثانية ف « مَنْ » تحتمل وجهين ، أحدهما : أنها في محل رفعٍ بالابتداء ، وخبره ما بعده على ما تقدَّم ، والفاعل المحذوف هو الله تعالى ، يدلُّ عليه قراءة أبي المتقدمة ، وفي القائمِ مَقامَه أربعةُ أوجه ، أحدهما : أنه ضمير العذاب ، والضمير في « عنه » يعود على « مَنْ » فقط ، والظرف فيه حينئذ ثلاثة أوجه ، أحدها : أنه منصوب ب « يُصْرَف » الثاني : أنه منصوب بالعذاب أي : الذي قام ضميره مقام الفاعل ، قاله أبو البقاء ، ويلزم منه إعمال المصدر مضمراً ، وقد يقال : يُغْتفر ذلك في الظروف .

الثالث : قال أبو البقاء : « إنه حال من الضمير » قلت : يعني الضمير الذي قام مقام الفاعل ، وجاز وقوعُ الحال ظرف زمان لأنها عن معنًى لا عن جثة .
الثاني من الأوجه الأربعة : أن القائم الفاعل ضمير « مَنْ » والضمير في « عنه » يعود على العذاب ، والظرف منصوب : إمَّا ب « يُصْرف » ، وإمَّا على الحال من هاء « عنه » . والثالث من أوجه العامل في « يومئذ » متعذ‍َّر هنا وهو واضح ، والتقدير : أي شخصٍ يُصْرف هو عن العذاب . الثالث : أن القائم مقام الفاعل « يومئذ » إمَّا على حذف مضاف أي : من يُصرف عنه فَزَعُ يومئذ أو هول يومئذ ، وإمَّا على قيام الظرف دون مضاف كقولك : « سير يوم الجمعة » وإنما بُني « يومئذ » على الفتح لإِضافته إلى غير متمكن ، ولو قرئ بالرفع لكان جائزاً في الكلام ، وقد قرئ : { ومِنْ خزي يؤمئذ } فتحاً وجراً بلاعتبارين ، وهما اعتباران متعايران ، فإن قيل : يلزمُ على عدم تقدير حذف المضاف إقامةُ الظرف غير التام مقامَ الفاعل ، وقد نصُّوا على أن الظرف المقطوع عن الإِضافة لا يُخبر به ولا يقوم مقام فاعل ، لو قلت : « ضُرب قبلُ » لم يجز ، والظرف هنا في حكم المقطوع عن الإِضافة فلا يجوز قيامه مقام / الفاعل إلا على حذف مضاف ، فالجواب أن هذا في قوة الظرف المضاف ، إذ التنوين عوضٌ عنه ، وهذا ينتهض على رأي الجمهور ، أما الأخفش فلا ، لأن التنوين عنده تنوين صَرْفٍ والكسر كسر إعراب ، وقد أوضحت ذلك إيضاحاً شافياً في غير هذا الموضوع .
الرابع : أن القائم مَقامَه « عنه » والضمير في « عنه » يعود على « مَنْ » و « يومئذ » منصوب على الظرف ، والعامل فيه « يُصْرَفْ » ولا يجوز الوجهان الأخيران ، أعني نصبَه على الحال؛ لأنَّ الضميرَ للجُثَّة ، والزمانُ لا يقع حالاً عنهما كما لا يقع خبراً ، وأعني كونَه معمولاً للعذاب ، إذ ليس هو قائماً مقام الفاعل .
والثاني من وجهي « مَنْ » : أنها في محل نصب بفعل مضمر يفسره الظاهر بعده ، وهذا إذا جعلنا « عنه » في محل نصب بأَنْ يُجْعَلَ القائم مقام الفاعل : إمَّا ضميرَ العذاب وإمَّا « يومئذ » والتقدير : مَنْ يكرم اللَّهُ أو من يُنَجِّ يُصْرف عنه العذابُ أو هولُ يومئذ ، ونظيره : « زيدٌ مُرَّ به مرورٌ حسن » ، أقمت المصدر فبقي « عنه » منصوب المحل ، والتقدير : جاوزت زيداً مُرَّ به مرورٌ حسن . وأمَّا إذا جُعل « عنه » قائماً مقام الفاعل تعيَّن رَفْعُه بالابتداء .

واعلم أنه متى قلت : منصوب على الاشتغال فإنما يُقَدَّر بعد « مَنْ » لأنَّ لها صدر الكلام ، ولذلك لم أُظْهِره إلا مؤخراً ، ولهذه العلَّةِ منه بعضهم الاشتغالَ فيما له صدر الكلام كالاستفهام والشرط . والتنوين في « يومئذ » عوض عن جملة محذوفة تضمَّنها الكلام السابق ، التقدير : يوم إذ يكون الجزاء ، وإنما قلت كذلك لأنه لم يتقدَّم في الكلام جملةٌ مُصَرَّحٌ بها يكون التنوين عوضاً منها ، وقد تقدَّم خلاف الأخفش .
وهذه الجملة الشرطية يجوز فيها وجهان : الاستئناف والوصف ل « عذاب يوم » ، فحيث جعلنا فيها ضميراً يعود على عذاب يوم إمَّا مِنْ « يُصْرف » وإمَّا مِنْ « عنه » جاز أن تكونَ صفةً وهو الظاهر ، وأن تكونَ مستأنفةً ، وحيث لم نجعلْ فيها ضميراً يعود عليه - وقد عرفت كيفية ذلك - تَعَيَّن أن تكون مستأنفة ، ولا يجوز أن تكون صفةً لخلوِّها من الضمير .
وقد تكلَّم الناس في ترجيح إحدى هاتين القراءتين على الأخرى ، وذلك على عادتهم ، فقال أبو علي الفارسي : « قراءة » يَصْرِفْ « يعني المبنيَّ للفاعل أحسن لمناسبة قوله » رحمه « . يعني أن كلاً منهما مبني للفاعل ولم يقل » فقط رُحِمَ « . واختارها أبو حاتم وأبو عبيد ، ورجَّح بعضهم قراءة المبني للمفعول بإجماعهم على قراءة قوله : { ليس مصروفاً عنهم } يعني في كونه أتى بصيغة اسم المفعول المسند إلى ضمير العذاب المذكور أولاً . ورجَّحها محمد بن جرير بأنها أقلُّ إضماراً ومكي - رحمه الله - تلعثهم في كلامه في ترجيحه لقراءة الأخوين وأتى بأمثلةٍ فاسدةٍ في كتاب » الهداية « له ، قاله ابن عطية . وقد قدَّمْتُ أول الكتاب عن العلماء ثعلب وغيره أن ذلك - أعني ترجيحَ إحدى القراءات المتواترة على الأخرى بحيث تُضَعَّفُ الأخرى - ولا يجوز . والجملة من قوله : { يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ } في محل جزم على جواب الشرط ، والفاء واجبة .
قوله : { وَذَلِكَ الفوز } مبتدأ وخبر جيء بهذه الجملة مقرِّره لما تقدَّم من مضمون الجملةِ قبلها ، والإِشارة ب » ذلك « إلى المصدر المفهوم من قوله » يُصْرف « أي ذلك الصرف . و » المبين « يحتمل أن يكون متعدِّياً فيكون المفعول محذوفاً أي : المبين غيرَه ، وأن يكون قاصراً بمعنى يبين ، وقد تقدَّم أن » أبان « يكون قاصراً بمعنى ظهر ، ومتعدياً بمعنى أظهر .

وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)

قوله تعالى : { بِضُرٍّ } : الباء هنا للتعدية وكذا في « بخير » والمعنى : وإن يمسسك الله الضرَّ أي : يجعلك ماسَّاً له ، وإذا مسست الضر فقد مَسَّك ، إلا أنَّ التعدية بالباء في الفعل المتعدي قليلة جداً ، ومنه قولهم : صَكَكْتُ أحد الحجرين بالآخر . وقال الشيخ : « ومنها قوله : » ومنها قوله : { وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ } [ البقرة : 251 ] . وقال الواحدي : « إن قيل : إنَّ المسَّ من صفة الأجسام فكيف قال : وإن يمسَسْك الله؟ فالجواب أن الباء للتعدية والباء والألف يتعاقبان في التعدية ، والمعنى : إن أَمَسَّك الله ضراً أي : جعله ماسَّك فالفعل للضرّ وإن كان في الظاهر قد أسند إلى اسم الله تعالى كقولك : » ذهب زيد بعمرو « وكان الذهاب فعلاً لعمرو ، غير أنَّ زيداً هو المسبب له والحامل عليه ، كذلك ههنا المسُّ للضرِّ والله تعالى جعله ماسَّاً .
قوله : { فَلاَ كَاشِفَ لَهُ } » له « : خبر لا ، وثَمَّ محذوف تقديره : فلا كاشفَ له عنك ، وهذا المحذوفُ ليس متعلقاً ب » كاشف « إذ كان يلزم تنوينه وإعرابه بل يتعلق بمحذوف أي : أعني عنه .
و » إلا هو « فيه وجهان : أحدهما : أنه بدل من محل » لاكاشف « فإن محله الرفع على الابتداء ، والثاني : أنه بدل من الضمير المستكنِّ في الخبر ، ولا يجوز أن/ يرتفع باسم الفاعل وهو » كاشف « لأنه يصير مطولاً ومتى كان مطوَّلاً أُعْرب نصباً ، وكذلك لا يجوزُ أن يكونَ بدلاً من الضمير المستكنِّ في » كاشف « للعلة المتقدمة ، إذ البدل يحلُّ محل المبدل منه .
فإن قيل : المقابل للخير هو الشر فكيف عَدَلَ عن لفظ الشر؟ والجواب أنه أراد تغليب الرحمة على ضدها فأتى في جانب الشر بأخص منه وهو الضرُّ ، وفي جانب بالعام الذي هو الخير تغليباً لهذا الجانب . قال ابن عطية : » ناب الضرُّ هنا مناب الشرُّ وإن كان الشر أعمَّ منه فقابل الخير ، وهذا من الفصاحة عدول عن [ قانون التكليف والصيغة ، فإن باب التكليف وصيغ الكلام ] أن يكون الشيء مقترناً بالذي يختص به بنوع من أنواع الاختصاص موافقةً أو مضاهاة ، فمن ذلك : { إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تعرى وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تضحى } [ طه : 118119 ] فجاء بالجوع مع العري وبابه أن يكون مع الظمأ ومنه قول امرئ القيس :
1875- كأنّيَ لم أركبْ جواداً لِلَّذةٍ ... ولم أَتَبَطَّنْ كاعِباً ذاتَ خَلْخال
ولم أَسْبَأ الزِّقَّ الرَّويَّ ولم أقْلْ ... لخيلي كُرِّي كَرَّةً بعد إجْفالِ
ولم يوضح ابن عطية ذلك . وإيضاحه في آية طه اشتراك الجوع والعري في شيء خاص وهو الخلوُّ ، فالجوع خلوٌّ وفراغ في الباطن ، والعريُّ خلوٌّ وفراغ في الظاهر ، واشتراك الظمأ والضحى في الاحتراق ، فالظمأ احتراق في الباطن ولذلك تقول : « بَرَّد الماء حرارة كبدي وأوام عطشي » ، والضحى : احتراق الظاهر .

وأمَّا البيتان فالجماع بين الركوب للَّذة وهو الصيد وتبطُّن الكاعب اشتراكهما في لذة الاستعلاء والقهر والاقتناص والظفر بمثل هذا المركوب ، ألا ترى تسميتهم هَنَ المرأة « رَكَباً » بفتح الراء والكاف وهو فَعَل بمعنى مَفْعول كقوله :
1876- إنَّ لها لَرَكَباً إرْزَبَّا ... كأنه جبهةُ ذَرَّى حَبَّا
وأما البيت الثاني فالجامعُ بين سبأ الخمر والرجوع بعد الهزيمة اشتراكهما في البذل ، فشراء الخمر بَذْل المال ، والرجوع بعد الانهزام بذل الروح . وقدَّم تبارك وتعالى مَسَّ الضرِّ على مسِّ الخير لمناسبة اتصال مسِّ الضر بما قبله من الترهيب المدلول عليه بقوله : إن أخاف . وجاء جواب الشرط الأول بالحصر إشارةً إلى استقلاله بكشف الضر دون غيره ، وجاء الثاني بقوله { فَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ } إشارةً إلى قدرته الباهرة فيندرجُ فيها المَسُّ بخير وغيره ، على أنه لو قيل : إن جواب الثاني محذوف لكان وجهاً أي : وإنْ يَمْسَسْك فلا رادَّ لفضله للتصريح بمثله في موضع آخرَ .

وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)

قوله : { فَوْقَ } : فيه أوجه أظهرها : أنه منصوب باسم الفاعل قبله . والفوقيَّةُ هنا عبارة عن الاستعلاء والغلبة . والثاني : أنه مرفوع على أنه خبر ثان ، أخبر عنه بشيئين أحدهما : أنه قاهرٌ ، والثاني : أنه فوق عباده بالغلبة والقهر . الثالث : أنه بدلٌ من الخبر . الرابع : أنه منصوبٌ على الحالِ من الضمير في « القاهر » كأنه قيل : وهو القاهرُ مُسْتعلياً أو غالباً ، ذكره المهدوي وأبو البقاء الخامس : أنها زائدةٌ ، والتقدير وهو : القاهر عباده ، ومثلُه : { فاضربوا فَوْقَ الأعناق } [ الأنفال : 12 ] وهذا مردودٌ ، لأن الأسماء لا تُزاد .

قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)

قوله تعالى : { أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ } : مبتدأ وخبر ، وقد عَرَفْتَ مما مرَّ « أيَّاً » بعضُ ما تضاف إليه ، فإذا كانت استفهاميةً اقتضى الظاهرُ أن تكون مسمَّى باسم ما أضيفت إليه . قال أبو البقاء : « وهذا يوجب أن يُسَمَّى الله تعالى » شيئاً « فعلى هذا تكون الجلالةُ خبرَ مبتدأ محذوف أي : ذلك الشيء هو الله تعالى . ويجوز أن تكون الجلالة مبتدأ خبره محذوف ، والتقدير : الله أكبر شهادة . و » شهيد « على هذين القولين خبرُ مبتدأ محذوف أي : هو شهيد بيني وبينكم . والجملة من قوله : { قُلِ الله } على الوجهين المتقدمين جواب ل » أيّ « من حيث اللفظ والمعنى . ويجوز أن تكون الجلالة مبتدأ ، و » شهيد « خبرها ، والجملة على هذا جوابٌ ل » أيّ « من حيث المعنى أي : إنها دالة على الجواب وليست به .
قوله : { شَهَادةً } نصبٌ على التمييز ، وهذا هو الذي لا يَعْرِفُ النحاةُ غيرَه . وقال ابن عطية : » ويَصِحُّ على المفعول بأن يُحْمَلَ « أكبر » على التشبيه بالصفة المشبهة باسم الفاعل « . وهذا ساقطٌ جداً . إذ نصَّ النحويون على أن معنى شبهها باسم الفاعل في كونها تؤنث وتثنَّى وتجمع ، وأفعلُ مِنْ لا يؤنَّثُ ولا يُثَنَّى ولا يُجْمع فلم يُشْبِه اسم الفاعل ، حتى إن الشيخ نسب هذا الخِباط إلى الناسخ دون أبي محمد .
قوله : { بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ } متعلِّقٌ ب » شيهد « وكان الأصل : قل الله شهيد بيننا فكُرِّرَتْ » بين « توكيداً ، وهو نظير قوله :
1877- فأيِّي ما وأيُّك كان شراً ... فَسِيقَ إلى المَقامةِ لا يراها
وقوله :
1878- يا ربَّ موسَى أظلمي وأَظْلَمُهْ ... فاصْبُبْ عليه ملِكاً لا يَرْحَمُهْ
وقوله :
1879- فلئِنْ لَقِيْتُك خالِيَيْنِ لَتَعْلَمَنْ ... أيِّي وأيُّك فارسُ الأحزابِ
والجامع بينها أنه لَمَّا أضاف إلى الياء وحدها احتاج إلى تكرير ذلك المضاف . وجَوَّز أبو البقاء أن يكون » بيني « متعلقاً بمحذوفٍ على أنه صفة لشهيد فيكون في محل رفع ، والظاهر خلافه .
قوله : { وَأُوحِيَ } الجمهور على بنائه للمفعول وحُذِف الفاعلُ للعِلْمِ به وهو الله تعالى . » والقرآن « رفع به . وقرأ أبو نهيك والجحدري وعكرمة وابن السَّمَيْفَع . » وأَوْحَى « ببنائه للفاعل ، » القرآن « نصباً على المفعول به . و » لأنذركم « متعلِّقٌ ب » أُوحِي « قيل : وثَمَّ معطوف حُذف لدلالة الكلام عليه أي : لأنذركم به وأبَشِّركم به ، كقوله : { تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] وتقدَّم منه جملةٌ صالحة . وقيل : لا حاجة إليه لأن المَقام مَقامُ تخويف .
قوله : { وَمَن بَلَغَ } فيه ثلاثة أقوال ، أحدها : أنه في محل نصب عطفاً على المنصوب في » لأُنْذِرَكم « وتكون » مَنْ « موصولة والعائدُ عليها مِنْ صلتها محذوف أي : ولأنذَر الذي بلغه القرآن .

والثاني : أنَّ في « بَلَغ » ضميراً مرفوعاً يعود على « مَنْ » ويكون المفعولُ محذوفاً ، وهو منصوب المحل أيضاً نسقاً على مفعول « لأنذركم » ، والتقدير : ولأنذر الذي بَلَغ الحُلُمَ ، فالعائد هنا مستتر في الفعل . والثالث : أن « مَنْ » مرفوعةُ المحلِّ نَسَقاً على الضمير المرفوع في « لأنذرَكم » وجاز ذلك لأنَّ الفصلَ بالمفعول والجارِّ والمجرور أغنى عن تأكيده ، والتقدير : لأنذركم به ولينذركم الذي بلغه القرآن .
قوله : { أَئِنَّكُمْ } الجمهور على القراءة بهمزتين أولاهما للاستفهام ، وهو استفهام تقريعٍ وتوبيخ ، وقد تقدَّم الكلام في قراءاتٍ مثلِ هذا . قال الشيخ : « وبتسهيل الثانية وبإدخال ألفٍ بين الهمزة الأولى والهمزةِ المُسَهَّلَة ، روى هذا الأخيرةَ الأصمعيُّ عن أبي عمرو ونافع » . انتهى . وهذا الكلام يُؤذن بأنها قراءة مستغربة وليس كذلك ، بل المرويُّ عن أبي عمرو المدُّ بين الهمزتين ، ولم يُخْتَلَفْ عن قالون في ذلك . وقرئ بهمزة واحدة وهي محتملة للاستفهام وإنما حُذفت لفهم المعنى ، ودلالة القراءة الشهيرة عليها ، وتحتمل الخبر المحض .
ثم هذه الجملة الاستفهامية يحتمل أن تكون منصوبةَ المحلِّ لكونها في حيز القول وهو الظاهر ، كأنه أُمِرَ أن يقول : أيُّ شيء أكبرُ شهادةً ، وأن يقول : أإنكم لتشهدون . ويحتمل أن لا تكونَ داخلةً في حيِّزه فلا محلَّ لها حينئذ . و « أخرى » صفةٌ ل « آلهة » لأنَّ ما لا يَعْقِل يُعامَل جمعُه معاملةَ الواحدةِ المؤنثة كقوله : { مَآرِبُ أخرى } [ طه : 18 ] و { الأسمآء الحسنى } [ الأعراف : 180 ] .
قوله : { إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ } يجوز في « ما » هذه وجهان ، أظهرهما : أنها كافة ل « إنَّ » عن عملها ، و « هو » مبتدأ ، و « إله » خبر و « واحد » صفته . والثاني : أنها موصولة بمعنى الذي و « هو » مبتدأ « وإليه » خبره ، وهذه الجملةُ صلةٌ وعائد ، والموصول في محل نصب اسماً ل « إن » ، و « واحد » خبرها . والتقدير : إن الذي هو إله واحد ، ذكره أبو البقاء ، وهو ضعيفٌ ، ويدلُّ على صحة الوجه الأولِ تعيُّنُه في قوله تعالى : { إِنَّمَا الله إله وَاحِدٌ } [ النساء : 171 ] ، إذ لا يجوز فيه أن تكون موصولة لخلوِّ الجملة من ضمير الموصول . وقال أبو البقاء : - في هذا الوجه - « وهو أليقُ مما قبله » ولا أدري ما وجه ذلك؟ .

الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)

قوله تعالى : { الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب } : الموصول مبتدأ ، و « يَعْرِفونه » خبره والضميرُ المنصوبُ يجوز عَوْدُه على / الرسول أو على القرآن لتقدُّمه في قوله : { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذا القرآن } أو على التوحيد لدلالة قوله : { إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ } أو على كتابهم أو على جميع ذلك . وأَفْرد الضمير باعتبار المعنى كأنه قيل : يعرفون ما ذَكَرْنا وقصصنا . وقد تقدَّم إعراب هذه الجملة في البقرة .
قوله : { الذين خسروا } في محله أربعة أوجه ، أظهرها : أنه مبتدأ ، وخبره الجملة من قوله : { فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } ودخلت الفاء لما عَرَفْتَ من شبه الموصول بالشرط . الثاني : أنه نعت للذين آتيناهم الكتاب . قال الزجاج الثالث : أنه خبر مبتدأ محذوف أي : هم الذين خسروا . الرابع : أنه منصوبٌ على الذم ، وهذان الوجهان فرعان على النعت لأنهما مقطوعان عنه ، وعلى الأقوال الثلاثة الأخيرة يكون { فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } من باب عَطْفِ جملة اسمية على مثلها ، ويجوز أن يكونَ عطفاً على « خسروا » وفيه نظرٌ من حيث إنَّه يؤدِّي إلى ترتُّب عدم الإِيمان على خسرانهم . والظاهر أن الخُسْران هو المترتِّبُ على عدم الإِيمان ، وعلى الوجه الأول يكون الذين خسروا أعمَّ من أهل الجاحدين من المشركين ، وعلى غيره خاصاً بأهل الكتاب ، والتقدير : الذين خسروا أنفسهم منهم أي : من أهل الكتاب .
واسْتُشْكِل على كونه نعتاً الاستشهادُ بهم على كفار قريش وغيرهم من العرب ، يعني كيف يُسْتشهد بهم ويُذَمُّون في آية واحدة؟ فقيل : إن هذا سِيق للذمِّ لا للاستشهاد . وقيل : بل سيق للاستشهاد وإن كان في بعض الكلام ذمٌّ لهم ، لأن ذلك بوجيهن واعتبارين . قال ابن عطية : « فصَحَّ ذلك لاختلاف ما استشهد بهم فيه وما ذُمُّوا فيه ، وأنَّ الذمَّ والاستشهاد ليسا من جهة واحدة » .

وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22)

قوله تعالى : { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ } فيه خمسة أوجه ، احدها : أنه منصوبٌ بفعلٍ مضمرٍ بعده ، وهو على ظرفيَّته ، أي : ويوم نحشرهم كان كيت وكيت ، وحُذِفَ ليكونَ أبلغَ في التخويف . والثاني : أنه معطوف على ظرفٍ محذوف ، وذلك الظرف معمول لقوله : { لاَ يُفْلِحُ الظالمون } والتقدير : إنه لا يفلح الظالمون اليوم في الدنيا ويوم نحشرهم ، قاله محمد بن جرير . الثالث : أنه منصوب بقوله : { انظر كَيْفَ كَذَبُواْ } وفيه بُعْدٌ لعبده من عامله بكثرة الفواصل . الرابع : أنه مفعول به باذكر مقدراً . الخامس . أنه مفعول به أيضاً ، وناصبه احذروا أو اتقوا يوم نحشرهم ، كقوله : { واخشوا يَوْماً } [ لقمان : 33 ] وهو كالذي قبله فلا يُعَدُّ خامساً .
وقرأ الجمهور « نَحْشرهم » بنون العظمة وكذا « ثم نقول » وقرأ حميد ويعقوب بياء الغيبة فيهما وهو الله تعالى . والجمهور على ضم الشين من « نَحْشُرهم » وأبو هريرة بكسرها ، وهما لغتان في المضارع . والضمير المنصوب في « نحشرهم » يعود على المفترين الكذب ، وقيل : على الناس كلهم فيندرج هؤلاء فيهم ، والتوبيخ مختص بهم . وقيل : يعود على المشركين وأصنامهم ، ويدل عليه قوله : { احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ } [ الصافات : 22 ] . و « جميعاً » حال من مفعول « نحشُرهم » . ويجوز أن يكونَ توكيداً عند مَنْ أثبته من النحويين كأجمعين . وعطف هنا ب « ثُمَّ » للتراخي الحاصل بين الحشر والقول . ومفعولا « تَزْعُمون » محذوفان للعِلْمِ بهما أي : تزعمونهم شركاء أو تزعمون أنهما شفعاؤكم .
وقوله : { ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ } إن جَعَلْنا الضمير في « نحشرهم » عائداً على المفترين الكذبَ كان ذلك من باب إقامة الظاهرِ مُقام المضمر ، إذ الأصل : ثم نقول لهم وإنما أُظِهِرَ تنبيهاً على قبح الشرك .

ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)

قوله تعالى : { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ } : قرأ حمزة والكسائي : « يكن » بالياء من تحت ، « فتنتهم » نصباً ، وابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم : « تكن » بالتاء من فوق ، « فتنتُهم » رفعاً . والباقون بالتاء من فوق أيضاً ، « فتنتهم » نصباً . فأمَّا قراءة الأخوين فهي أفصحُ هذه القراءات لإِجرائها على القواعد من غير تأويل ، وستعرفه في القراءتين الأُخْرَيَيْن ، وإعرابها ظاهر . وذلك أن « فتنتهم » خبر مقدم ، و « أَنْ قالوا » بتأويل اسم مؤخر ، والتقدير : ثم لم تكن فتنتهم إلا قولُهم ، وإنما كانت أفصحَ لأنه إذا اجتمع اسمان ، أحدهما : أعرفُ ، فالأحسنُ جَعْلُه اسماً مُحَدَّثاً عنه والآخر خبراً حديثاً عنه ، و « أَنْ قالوا » يشبه المضمر ، والمضمر أعرف المعارف ، وهذه القراءة جُعِل الأعرفُ/ فيها اسماً ل « كان » وغيرُ الأعرف خبرَها ، ولم يؤنَّث الفعل لإِسناده إلى مذكر . وأما قراءة ابن كثير ومَنْ تبعه ف « فتنتُهم » اسمها ، ولذلك أُنِّثَ الفعلُ لإِسناده إلى مؤنث . و « إلا أَنْ قالوا » خبرها ، وفيه أنك جعلت غير الأعرف اسماً والأعرفَ خبراً ، فليست في قوة الأولى .
وأمَّا قراءةُ الباقين ف « فتنتَهم » خبر مقدم ، و « إلا أن قالوا » اسمٌ مؤخَّرٌ ، وهذه القراءةُ - وإن كان فيها جَعْلُ الأعرفِ اسماً - كالقراءة الأولى ، إلا أن فيها لَحاقَ علامة تأنيث في الفعل مع تذكير الفاعل ولكنه بتأويل . فقيل : لأن قوله : { إِلاَّ أَن قَالُواْ } في قوة مقالتهم . وقيل : لأنه هو الفتنة في المعنى ، وإذا أخبر عن الشيء بمؤنَّثٍ اكتسب تأنيثاً فعومل معاملته ، وجعل أبو علي منه { فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } [ الأنعام : 160 ] لما كانت الأمثال هي الحسنات في المعنى عومل معاملةَ المؤنث فسقطت التاء من عدده . ومثلُ الآيةِ قولُه :
1880- ألم يكُ غَدْراً ما فَعَلْتُم بسَمْعَلٍ ... وقد خاب مَنْ كانَتْ سريرتَه الغَدْرُ
ف « كانت » مسند إلى الغدر وهو مذكَّر ، لكن لما أخبر عنه بمؤنث أنَّث فِعْلَه ، ومثله قول لبيد :
1881- فمضى وقدَّمها وكانت عادةً ... إذا هي عَرَّدَتْ إقدامُها
قال أبو علي : « فأنَّث الإِقدام لما كان العادة في المعنى » قال : « وقد جاء في الكلام : » ما جاءت حاجتَك « فأنّث ضمير » ما « حيث كانت الحاجة في المعنى ، ولذلك نصب » حاجتك « . وقال الزمشخري : » وإنما أنَّث « أن قالوا » لوقوع الخبر مؤنثاً كقولهم : من كانت أمَّك « .
وقال الشيخ : » وكلام الزمخشري مُلَفَّقٌ من كلام أبي علي ، وأمَّا « من كانت أمَّك » فإنه حَمَلَ اسمَ « كان » على معنى « مَنْ » فإن لها لفظاً مفرداً مذكراً ، ولها معنى بحسب ما تريد من إفارد وتثنية وجمع وتذكير وتأنيث ، وليس الحَمْلُ على المعنى لمراعاة الخبر ، ألا ترى أنه يجيء حيث لا خبر ، كقوله :

{ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } [ يونس : 42 ] [ وقوله ] :
1882- . . . . . . . . . . . . . . . ... نكن مثلَ مَنْ يا ذئب يَصْطحبان
قلت : ليت شعري ولأي معنى خصَّ الزمخشريَّ بهذا الاعتراض فإنه وارد على أبي علي أيضاً؟ إذ لقائلٍ أن يقول : التأنيث في « جاءت » للحمل على معنى « ما » فإن لها هي أيضاً لفظاً ومعنى مثل « مَنْ » على أنه يقال : للتأنيث علَّتان ، فذكرا إحداهما .
ورجَّح أبو عبيد قراءَة الأخوين بقراءة أُبَيّ وبان مسعود : « وما كان فتنتُهم إلا أن قالوا » فلم يُلْحِقْ الفعلَ علامةَ تأنيث . ورجَّحها غيره بإجماعهم على نصب « حُجَّتَهم » من قوله تعالى : { مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ } [ الجاثية : 25 ] . وقرئ شاذاً : { ثم لم يكنْ فتنتُهم إلا أن قالوا « بتذكير » يكنْ « ورفع » فتنتهم « ووجهُ شذوذِها سقوطُ علامةِ التأنيثِ والفاعلُ مؤنثٌ لفظاً وإن كان غيرَ حقيقي ، وجَعْلُ غير الأعرف اسماً والأعرفِ خبراً ، فهي عكس القراءة الأولى من الطرفين ، و » أن قالوا « ممَّا يجب تأخيرُه لحَصْره سواء أجُعِلَ اسماً أم خبراً .
قوله : { رَبِّنَا } قرأ الأخَوان : { ربَّنا } نصباً والباقون جراً . ونصبه : إمَّا على النداء وإمَّا على المدح ، قاله ابن عطية ، وإمَّا على إضمار » أعني « قاله أبو البقاء والتقدير : يا ربنا . وعلى كلِّ تقديرٍ فالجملة معترضةٌ بين القسم وجوابه وهو قوله { مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } وخفضُه في ثلاثةِ أوجهٍ : النعتِ والبدلِ وعطفِ البيان . وقرأ عكرمة وسلام بن مسكين : { واللَّهُ ربُّنا } برفعهما على المبتدأ والخبر . قال ابن عطية : » وهذا على تقديمٍ وتأخير ، كأنهم قالوا : واللَّهِ ما كنَّا مشركين واللَّهُ ربُّنا « قلت : يعني أن ثَمَّ قَسَماً مضمراً .

انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)

قوله تعالى : { كَيْفَ كَذَبُواْ } : « كيف » منصوب على حدِّ نَصْبها في قوله : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله } [ البقرة : 28 ] وقد تقدَّم بيانه . و « كيف » وما بعدها في محل نصب ب « انظر » لأنها معلِّقة بها عن العمل . و « كَذَبوا » وإن كان معناه مستقبلاً لأنه في يوم القيامة ، فهو لتحقُّقِه أبرزه في صورة الماضي . وقوله : « وضَلَّ » يجوز أن يكونَ نَسَقاً على « كَذَبوا » فيكون داخلاً في حَيِّز النظر ، ويجوز أن يكونَ استئنافَ إخبارٍ فلا يندرجُ في حَيِّزِ المنظور إليه ، وقوله : « ما كانوا » يجوز في « ما » أن تكون مصدرية أي : وضلَّ عنهم افتراؤهم ، وهو قولُ ابن عطية . ويجوز أن تكونَ موصولةً اسمية ، أي : وضَلَّ عنهم الذين كانوا يفترونه ، فعلى الأول لا يُحْتاج إلى ضمير عائد على « ما » عند الجمهور ، وعلى الثاني لا بد من ضمير عند الجميع .

وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25)

قوله تعالى : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ } : راعى لفظَ « مَنْ » فأفردَ ، ولو راعى المعنى لَجَمَع كقوله في موضع آخر : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ } [ يونس : 42 ] وقوله : { وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ } إلى آخره ، حُمِل على معناها .
قوله : { وَجَعَلْنَا } « جَعَلَ » هنا يحتمل أن يكونَ للتصيير فيتعدى لاثنين ، أَوَّلُهما « أكنَّةً » ، والثاني الجار قبله ، فيتعلَّق بمحذوف ، أي : صَيَّرنا الأكِنَّةَ مستقرَّةً على قلوبهم . ويحتمل أن يكون بمعنى خلق فيتعدَّى لواحد ، ويكون الجارُّ قبله حالاً فيتعلَّق بمحذوف ، لأنه لو تأخر لوقع صفةً ل « أَكِنَّة » ويُحتمل أن يكونَ بمعنى « ألقى » فتتعلق « على » بها كقولك : « ألقيت على زيدٍ كذا » وقوله : { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي } [ طه : 39 ] .
وهذه الجملةُ تحتمل وجهين ، أظهرهما : أنها مستأنفة سيقت للإِخبار بما تضمَّنَتْه من الخَتْم على قلوبهم وسمعهم . ويُحْتمل أن تكون في محلِّ نصب على الحال ، والتقدير : مَنْ يستمع في حال كونه مجعولاً على قلبه كِنانٌ وفي أذنه وَقْرٌ ، فعلى الأول يكون قد عطف جملةً فعلية على اسمية ، وعلى الثاني تكون الواو للحال ، و « قد » مضمرة ، بعدها عند مَنْ يقدِّرها قبل الماضي الواقع حالاً .
والأَكِنَّة : جمع كِنان وهو الوعاء الجامع . قال :
1883- إذا ما انْتَضْوها في الوغَى مِنْ أكنَّةٍ ... حَسِبْتَ بروقَ الغيث تأتي غيومُها
وقال بعضهم : « الكِنُّ - بالكسر - ما يُحْفَظُ فيه الشي ، وبالفتح المصدر . يقال : كنَّنْتُه كِنَّاً أي : جعلتُه في كِنّ ، وجُمِعَ على أَكْنان قال تعالى : { مِّنَ الجبال أَكْنَاناً } [ النحل : 81 ] . والكِنانُ : الغِطاء الساتر ، والفعل من هذه المادة يُستعمل ثلاثياً ورباعياً ، يقال : كَنَنْتُ الشيء وأكنَنْتُه كِنَّاً وأكناناً ، إلا أنَّ الراغبَ فرَّقَ بين فَعَل وأَفْعل فقال : » وخُصَّ كَنَنْتُ بما يَسْتُرُ من بيتٍ أو ثوب أو غير ذلك من الأجسام ، قال تعالى : { كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ } [ الصافات : 49 ] وأكنَنْتُ بما يُسْتَرُ في النفس ، قال تعالى : { أَوْ أَكْنَنتُمْ في أَنْفُسِكُمْ } [ البقرة : 235 ] . قلت : ويَشْهد لما قال قوله أيضاً : { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ } [ الواقعة : 7778 ] وقوله تعالى : { مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ } [ القصص : 69 ] . وكِنانُ يُجْمع على أكِنَّة في القلة والكثرة لتضعيفه ، وذلك أن فَعالاً وفِعالاً بفتح الفاء وكسرها يُجْمع في القلة على أَفْعِله كأَحْمِرَة واقْذِلة وفي الكثرة على فُعُل كحُمُر وقُذُل ، إلا أن يكونَ مضاعفاً ك « بَتَات » و « كِنان » أو معتلَّ اللام كخِباء وقَباء فيُلْتَزَمَ جَمْعُه على أَفْعِلة ، ولا يجوز على فُعُل إلا في قليلٍ من الكلام كقولهم عُنُن وحُجُج في جمع عِنان وحِجاج .
قوله : { أَن يَفْقَهُوهُ } في محلِّ نصب على المفعول من أجله ، وفيه تأويلان سَبَقا ، أحدهما : كراهةَ أن يفقهوه ، وهو رأيُ البصريين ، والثاني : حَذْفُ « لا » أي : أن لا يفقهوه ، وهو رأيُ الكوفيين .

قوله : { وَقْراً } عطفٌ على « أَكِنَّة » فينصبُ انتصابَه ، أي : وجَعَلْنا في آذانهم وقراً . و « في آذانهم » كقوله « على قلوبهم » وقد تقدَّم أنَّ « جَعَل » يَحْتمل معانيَ ثلاثةً فيكونُ هذا الجار مبنيَّاً عليها مِنْ كونه مفعولاً ثانياً قُدِّمَ ، أو متعلقاً بها نفسِها أو حالاً .
والجمهور على فتح الواو من « وَقْراً » وقرأ طلحة بن مصرف بكسرها والفرق بين الوَقْر والوِقْر أنَّ المفتوح هو الثِّقل في الأذن ، يُقال منه : وَقَرِتْ أذنه بفتح القاف وكَسْرِها ، والمضارع تَقِر وتَوْقَر بحسب الفعلين ك تَعِد وتَوْجَل . وحكى أبو زيد : أذنٌ مَوْقورة ، وهو جارٍ على القياس ، ويكون فيه دليلٌ على أن وَقَر الثلاثي يكون متعدِّياً ، وسُمِع « أذن مُوْقَرَة » والفعل على هذا أَوْقَرْتُ رباعياً كأكرم . والوِقْر - بالكسر - الحِمْل للحمار والبغل ونحوهما ، كالوسَق للبعير ، قال تعالى : { فالحاملات وِقْراً } [ الذاريات : 2 ] فعلى هذا قراءةُ الجمهور واضحة أي : وجَعَلْنا في آذانهم ثِقَلاً أي : صَمَماً . وأمَّا قراءةُ طلحة فكأنه جَعَلَ آذانهم وَقِرت من/ الصَّمَم كما تُوْقَرُ الدابة بالحِمْل ، والحاصل أن المادَّة تدلُّ على الثِّقَل والرِّزانة ، ومنه الوَقار للتُّؤَدة والسَّكينة ، وقوله تعالى : { وفي آذَانِهِمْ وَقْراً } فيه الفصلُ بين حَرْفِ العطف وما عَطَفه بالجار مع كونِ العاطف على حرفٍ واحد وهي مسألة خلافٍ تقدَّم تحقيقُها في قوله : { أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا } [ النساء : 58 ] والظاهر أن هذه الآيةَ ونظائرها مثلُ قوله : { آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً } [ البقرة : 201 ] ليس مما فُصِل فيه بين العاطِف ومعطوفِه . وقد حقَّقْتُ جميع ذلك في الموضعِ المُشارِ إليه .
قوله : { حتى إِذَا جَآءُوكَ } قد تقدَّم الكلام في « حتى » الداخلة على « إذا » في أول النساء . وقال أبو البقاء هنا : « إذا » في موضع نصب بجوابها وهو « يقول » وليس ل « حتى » هنا عملٌ وإنما أفادَتْ معنى الغاية كما لا تعمل في الجمل « . وقال الحوفي : » حتى « غاية ، و » يُجادلونك « حال ، و » تقولُ « جوابُ » إذا « وهو العامل في » إذا « وقال الزمخشري : » هي « حتى » التي تقع بعدها الجمل ، والجملةُ قولُه : { حتى إِذَا جَآءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ } ، و « يجادلونك » في موضع الحال ، ويجوزُ أن تكونَ الجارَّةَ ، ويكون « إذا جاؤوك » في محل الجَرِّ بمعنى : حتى وقت مجيئهم ، ويجادلونك حال ، وقوله : { يَقُولُ الذين كفروا } تفسير له ، والمعنى : أنه بلغ تكذيبُهم الآياتِ إلى أنهم يجادلونك ويناكرونك ، وفسَّر مجادلتهم بأنهم يقولون : إنْ هذا إلا أساطير الأولين .
قال الشيخ : « وقد وُفِّق الحوفي وأبو البقاء وغيرُهما للصواب في ذلك ، ثم ذكر عبارة أبي البقاء والحوفي . وقال أيضاً : » و « حتى » إذا وقع بعدها « إذا » يُحْتمل أن تكونَ بمعنى الفاء ، ويُحتمل أن تكون بمعنى إلى أن ، فيكون التقدير : فإذا جاؤوك يجادلونك يقول ، أو يكون التقدير : وجَعَلْنا على قلوبهم أَكِنَّة ، وكذا إلى أَنْ قالوا : إنْ هذا إلا أساطير الأولين ، وقد تقدَّم أن « يُجادِلونك » حالٌ من فاعل « جاؤوك » و « يقول » : إمَّا جواب « إذا » وإمَّا مفسِّرةٌ للمجيء كما تقدَّم تقريره .

و « أساطير » فيه أقوال ، أحدها : أنه جمع لواحد مقدر ، واختُلِفَ في ذلك المقدَّر فقيل : أُسْطورة ، وقيل : أَسْطارة ، وقيل : أُسْطور ، وقيل : أَسْطار ، وقيل : إسْطير وقال بعضهم : بل لُفِظَ بهذه المفردات . والثاني : أنه جمعُ جمعٍ ، فأساطير جمع أَسْطار ، وأَسْطار جمع سطَر بفتح الطاء ، وأما سَطْر بسكونها فجمعُه في القلة على أَسْطُر ، وفي الكثرة على سُطور كفَلْس وأَفْلُس وفُلوس . والثالث : أنه جَمْعُ جَمْعِ الجمع ، فأساطير جمع أَسْطار ، وأَسْطار جمع أَسْطُر ، وأَسْطُر جمع سَطْر . وهذا مرويٌّ عن الزجاج . وهذا ليس بشيء ، فإنَّ « أَسْطار » ليس جمعَ أَسْطُر ، بل هما مثالا جمع قلة . الرابع : أنه اسم جمع ، قال ابن عطية : « وقيل : هو اسم جمعٍ لا واحد له من لفظه » وهذا ليس بشيء؛ لأنَّ النحويين قد نصُّوا على أذا كان على صيغة تَخُصُّ الجموعَ لم يُسمُّوه اسم جمع بل يقولون هو جمعٌ كعباديد وشماطيط . وظاهر كلام الراغب أن أساطير جمع سَطَر بفتح الطاءِ فإنه قال : « وجمعُ سَطَر - يعني بالفتح - أسطار وأساطير » ووقال المبرد : « هي جمع أُسْطورة نحو أُرْجوحة وأراجيح وأُحْدُوثه وأحاديث » ومعنى الأساطير الأحاديث الباطلة والتُرَّهات ممَّا لا حقيقةَ له .

وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)

قوله تعالى : { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ } : في الضميرين - أعني هم وهاء « عنه » - أوجه ، أحدها : أن المرفوع يعود على الكفار ، والمجرور يعود على القرآن ، وهو أيضاً الذي عاد عليه الضميرُ المنصوب من « يَفْقهوه » ، والمشارُ إليه بقولهم : « إنْ هذا » والثاني : أنَّ « هم » يعود على مَنْ تقدَّم ذِكْرُهم مِن الكفار ، وفي « عنه » يعود على الرسول ، وعلى هذا فقيه التفاتٌ من الخطاب إلى الغَيْبة ، فإن قوله : { جَآءُوكَ يُجَادِلُونَكَ } خطاب للرسول ، فخرج من هذا الخطاب إلى الغَيْبة . وقيل : يعود على المرفوع على أبي طالب وأتباعه .
وفي قوله { يَنْهَوْنَ } و { وَيَنْأَوْنَ } تجنيس التصريف ، وهو عبارة عن انفراد كل كلمة عن الأخرى بحرف فينهَوْن انفردت بالهاء ، ويَنْأَوْن بالهمزة ، ومثله قوله تعالى : { وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ } [ الكهف : 104 ] { بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ . . . . . . وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ } [ غافر : 75 ] وقوله عليه السلام : « الخيلُ معقودٌ في نواصيها الخيرُ » وبعضهم يسمِّيه « تجنيس التحريف » وهو الفرق بين كلمتين بحرف ، وأنشدوا :
1884- إنْ لم أشُنَّ على أبن حرب غارةً ... لم تَخْلُ يوماً من نِهاب نفوسِ
وذكر غيره أن تجنيسَ التحريف هو أن يكون الشكل فرقاً بين كلمتين ، وجعل منه « اللُّهى تفتح اللَّهى » وقد تقدم تحقيق ذلك . وقرأ الحسن البصري « ويَنَوْن » بإلقاء حركة الهمزة على النون وحذفها ، وهو تخفيف قياسي . والنَّأيُ : البُعْد ، قال :
1885- إذا غيَّر النأيُ المُحِبِّين لم يَزَلْ ... رَسِيسُ الهوى مِنْ حُبِّ مَيَّةَ يبرحُ
وقال آخر :
1886- ألا حَبَّذا هندٌ وأرضٌ بها هندُ ... وهندٌ أتى مِنْ دونها النأيُ البعدُ
عطف الشيء على نفسه للمغايرة اللفظية ، يقال : نأى زيد يَنْأى نأياً ، ويتعدَّى بالهمزة فيقال : أَنْأيْتُه ، ولا يُعَدَّى بالتضعيف ، وكذا كلُّ ما كان عينه همزة . ونقل الواحدي أنه يقال : نَأَيْتُه بمعنى نَأَيْتُ عنه ، أنشد المبردِ :
1887- أعاذِلُ إن يُصْبحْ صَداي بقَفْرَةٍ ... بعيداً نآني صاحبي وقريبي
أي : نأى عني . وحكى اللَّيث : « نَأَيْت الشيء » أي : أبعدته ، وأنشد :
1888- إذا ما التَقَيْنا سالَ من عَبَراتنا ... شآبيب يُنْآى سَيْلُها بالأصابع
فبناه للمفعول أي : يُنَحَّى ويُبْعَد . والحاصلُ أن هذه المادةَ تدلُّ على البُعْد ، ومنه : أَتَنَأَّى أي : أفتعلُ النَّأيَ . والمَنْأى : الموضع البعيد ، قال النابغة :
1889- فإنَّك كالموتِ الذي هو مُدْرِكي ... وإنْ خِلْتُ أنَّ المُنْتأى عنك واسعُ
وتناءَى : تباعَدَ ، ومنه النُّؤيُ للحُفَيْرة التي حول الخِباء لتُبْعِدَ عنه الماء . وقُرِئ : { وناءَ بجانبه } وهو مقلوبٌ مِنْ نأى ، ويدل على ذلك أن الأصلَ هو المصدرُ وهو النَّأْيُ بتقديم الهمزة على حرف العلة .
قوله : { وَإِن يُهْلِكُونَ } « إنْ » نافيةٌ كالتي في قوله : { إِنْ هاذآ } [ الأنعام : 25 ] ، و « أنفسهم » مفعولٌ ، وهو استثناء مفرغ ، ومفعول « يَشْعرون » محذوف : إمَّا اقتصاراً وإمَّا اختصاراً ، أي : وما يشعرون أنهم يُهْلكون أنفسَهم .

وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27)

قوله تعالى : { وَلَوْ ترى } : جوابها محذوف لفَهْمِ المعنى ، التقدير : لرأيت شيئاً عظيماً وهَوْلاً مُفْظِعاً . وحَذْفُ الجواب كثيرٌ في التنزيل وفي النظم ، كقوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً } [ الرعد : 31 ] وقول الآخر :
1890- وجَدِّك لو شيءٌ أتانا رسولُه ... سِواك ولكن لم نَجِدْ لك مَدْفَعا
وقوله :
1891- فلو أنها نفسٌ تموتُ جميعةً ... ولكنها نفسٌ تساقَطُ أنفُسَا
وقوله :
1892- كَذَبَ الغواذِلُ لو رَأَيْنَ مُنَاخَنَا ... بحَزيزِ رامةَ والمَطِيُّ سَوَامي
وحَذْفُ الجواب أبلغُ : قالوا : لأنَّ السَّامع تَذْهَبُ نفسُه كلَّ مذهب ، فلو صُرِّح له بالجواب وَطَّن نفسَه عليه فلم يَخْشَ منه [ كثيراً ، ولذلك قال كثير :
1893- فقلتُ لها يا عَزُّ كلُّ مصيبةٍ ... إذا وُطِّنَتْ لها النفسُ ذَلَّتِ ]
و « ترى » يجوز أن تكونَ بَصَريةً ومفعولُها محذوف ، أي : ولو ترى حالَهم ، ويجوز أن تكونَ القلبيةَ ، والمعنى : ولو صَرَفْتَ فكرَك الصحيح لأن تَتَدبَّر حالَهم لازْدَدْتَ يقيناً .
وفي « لو » هذه وجهان ، أظهرهما : أنها الامتناعية فينصرف المضارع بعدها للمضيِّ ، ف « إذ » باقية على أصلها من دلالتها على الزمن الماضي ، وهذا وإن كان لم يقعْ بعدُ لأنه سيأتي يوم القيامة إلا أنه أُبْرِزَ في صورة الماضي لتحَقُّقِ الوعد . والثاني : أنها بمعنى « إنْ » الشرطية « و » إنْ « هنا تكون بمعنى » إذا « والذي حَمَلَ هذا القائلَ على ذلك كونُه لم يقعْ بعدُ ، وقد تقدَّم تأويله .
وقرأ الجمهور : { وُقِفُوا } مبنياً للمفعول من وقف ثلاثياً . و » على « يُحْتمل أن تكونَ على بابها وهو الظاهر أي : حُبِسوا عليها ، وقيل : يجوز أن تكون بمعنى في ، وليس بذاك . وقرأ ابن السَّمَيْفَع وزيد بن علي : » وَقَفوا « مبنياً للفاعل . و » وقف « يتعدَّى ولا يتعدَّى ، وفرَّقَتِ العرب بينهما بالمصدر ، فمصدرُ اللازم على فُعول ، ومصدرُ المتعدِّي على فَعْل ، ولا يقال : أَوْقَفْتُ . قال أبو عمرو بن العلاء : » لم أسمعْ شيئاً في كلام العرب : أوقفت فلاناً ، إلا أَنِّي لو رأيت رجلاً واقفاً فقلت : له : « ما أوقفك ههنا » لكان عندي حسناً « وإنما قال كذلك لأنَّ تعدِّيَ الفعل بالهمزة مقيس نحو : ضحك زيد وأضحكته أنا ، ولكن سَمِعَ غيره في » وقف « المتعدي أوقفته . قال الراغب : » ومنه - يعني من لفظِ وَقَفْتُ القومَ - استُعير وَقَفْتُ الدابة إذا سَبَلْتُها « فَجَعَل الوقفَ حقيقةً في مَنْع المشي وفي التسبيل مجازاً على سبيل الاستعارة ، وذلك أن الشيء المُسْبَل كأنه ممنوع من الحركة ، والوَقْفُ لفظُ مشترك بين ما تقدَّم وبين سِوار من عاج ، ومنه : » حمار مُوَقَّفٌ بأرساغه مِثْلُ الوَقْف من البياض « .
قوله : { ياليتنا } قد تقدَّم الكلام في » يا « المباشِرة للحرف والفعل .

وقرأ : « ولا نُكَذِّبُ » و « نكونُ » برفعهما نافع وأبو عمرو وابن كثير والكسائي ، وبنصبهما حمزةُ عن عاصم ، وبرفع الأول ونصب الثاني ابن عامر وأبو بكر . ونقل الشيخ عن ابن عامر أنه نصبَ الفعلين ، ثم قال بعد كلام طويل « قال ابن عطية : وقرأ ابن عامر/ في رواية هشام بن عمار عن أصحابه عن ابن عامر : { ولا نكذِّبُ } بالرفع ، و » نكون « بالنصب » . فأما قراءة الرفع فيهما ففيها ثلاثة أوجه ، أحدها : أن الرفع فيهما على العطف على الفعل قبلهما وهو « نُرَدُّ » ، ويكونون قد تمنَّوا ثلاثة اشياء : الردَّ إلى دار الدنيا ، وعدمَ تكذيبهم بآيات ربهم ، وكونَهم من المؤمنين . والثاني : أن الواو واو الحال ، والمضارع خبر مبتدأ مضمر ، والجملة الاسمية في محصل نصب على الحال من مرفوع « نُرَدُّ » ، والتقدير : يا ليتنا نُرَدُّ غيرَ مكذِّبين وكائنين من المؤمنين ، فيكونُ تمنِّي الرد مقيَّداً بهاتين الحالَيْن ، فيكونُ الفعلان أيضاً داخلَيْن في التمني .
وقد استشكل الناسُ هذين الوجهين : بأن التمني إنشاء ، والإِنشاء لا يدخله الصدق ولا الكذب ، وإنما يدخلان في الإِخبار ، وهذا قد دخله الكذبُ لقوله تعالى : { وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } وقد أجابوا عن ذلك بثلاثة أوجه أحدها - ذكره الزمشخري - قال : « هذا تمنِّ تضمَّنَ معنى العِدَة فجاز أن يدخلَه التكذيبُ كما يقول الرجل : » ليت اللَّهَ يرزقني مالاً فأُحْسِنَ إليك ، وأكافئَك على صنيعك « فهذا مَتَمَنِّ في معنى الواعد ، فلو رُزِق مالاً ولم يُحْسِنْ إلى صاحبه ولم يكافئه كذَّبَ ، وصَحَّ أن يقال له كاذب ، كأنه قال : إن رزقني الله مالاً أحسنت إليك .
والثاني : أن قوله تعالى : { وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } ليس متعلِّقاً بالمتمنَّى ، بل هو مَحْضُ إخبار من الله تعالى بأنهم دَيْدَنهم الكذب وهِجِّيراهم ذلك ، فلم يدخل الكذب في التمني . وهذان الجوابان واضحان ، وثانيهما أوضح .
والثالث : أنَّا لا نُسَلِّم أن التمنِّي لا يَدْخُله الصدق والا الكذب ، بل يدخلانه ، وعُزِي ذلك إلى عيسى بن عمر . واحتجَّ على ذلك بقول الشاعر :
1894- مُنَىً إن تكن حقاً يكنْ أحسنَ المنى ... وإلاَّ فقد عِشنا بها زمناً رغْدا
قال : » وإذا جاز أن توصف المنى بكونها حقاً بجاز أن توصف بكونها باطلاً وكذباً « وهذا الجواب ساقط جداً ، فإن الذي وُصِفَ بالحق إنما هو المنى ، والمُنى جمع مُنْيَة والمُنْيَةُ توصف بالصدق والكذب مجازاً؛ لأنها كأنها تَعِد النفس بوقوعها فيُقال لِما وقع منها صادق ولِما لم يقع منها كاذب ، فالصدق والكذب إنما دخلا في المُنْيَةِ لا في التمني .
والثالث من الأوجه المتقدمة ان قوله » ولا نكذِّبُ « خبر لمبتدأ محذوف ، والجملة استنافية لا تعلُّقَ لها بما قبلها ، وإنما عُطِفَتْ هاتان الجملتان الفعليَّتان على الجملة المشتملة على أداة التمني وما في حَيِّزها فليسَتْ داخلةً في التمني أصلاً ، وإنما أخبر الله تعالى عنهم أنهم أَخْبروا عن أنفسهم بأنهم لا يُكَذِّبون بآيات ربهم ، وأنَّهم يكونون من المؤمنين ، فتكون هذه الجملة وما عُطِف عليها في محل نصبٍ بالقول ، كأنَّ التقديرَ : فقالوا : يا ليتنا نُرَدُّ وقالوا : نحن لا نُكَذِّبُ ونكونُ من المؤمنين واختار سيبويه هذا الوجه ، وشبَّهه بقولهم : » دعني ولا أعودُ « أي وأنا لا أعود تركتني أو لم تتركني ، أي : لا أعود على كل حال ، كذلك معنى الآية أَخْبروا أنهم لا يُكَذِّبون بآيات ربهم وأنهم يكونون من المؤمنين على كل حال ، رُدُّوا أو لم يُرَدوا .

وهذا الوجه وإن كان الناسُ قد ذكروه ورجَّحوه واختار سيبويه - كما مرَّ - فن بعضهم استشكل عليه إشكالاً وهو : أنَّ الكذبَ لا يقع في الآخرة فكيف وُصِفوا بأنهم كاذبون في الآخرة في قولهم « ولا نكذِّب ونكون »؟ وقد أُجيب عنه بوجهين ، أحدهما : أن قوله { وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } استيثاقٌ لذَمِّهم بالكذب ، وأن ذلك شأنهم كما تقدَّم ذلك آنفاً . والثاني : أنهم صَمَّموا في تلك الحال على أنهم لو رُدُّوا لَمَا عادوا إلى الكفر لِما شاهدوا من الأهوال والعقوبات ، فأخبر الله تعالى أنَّ قولَهم في تلك الحال : « ولا نكذِّبُ » وإن كان عن اعتقاد وتصميم يتغيَّر على تقدير الرد ووقوع العَوْد ، فيصير قولهم : « ولا نكذب » كذباً ، كما يقول اللص عند ألم العقوبة : « لا أعود » ، ويعتقد ذلك ويصمم عليه ، فإذا خُلِّص وعادَ كان كاذباً .
[ وقد أجاب مكي أيضاً بجوابين ، أحدهما ] قريبٌ مما تقدَّم ، والثاني لغيره ، فقال : « أي : لكاذبون في الدنيا في تكذيبهم الرسل وإنكارهم البعثَ للحال التي كانوا عليها وقد أجاز أبو عمرو وغيره وقوعَ التكذيب في الآخرة لأنهم ادَّعَوا أنهم لو رُدُّوا لم يكذِّبوا بآيات الله ، فعلمَ اللَّهُ ما لا يكون لو كان كيف يكون ، وأنهم لو رُدُّوا لم يؤمنوا ولكذَّبوا بآيات الله ، فأكذبهم الله في دعواهم » .
وأمَّا نَصْبُهما فبإضمار « أَنْ » بعد الواو التي بمعنى مع ، كقولك : « ليت لي مالاً وأنفقَ منه » فالفعل منصوب بإضمار « أن » و « أنْ » مصدرية ينسبك منها ومن الفعل بعدها مصدرٌ ، والواوُ حرف عطف فيستدعى معطوفاً عليه ، وليس قبلها في الآية إلا فعلٌ فكيف يُعْطَفُ اسمٌ على فعل؟ فلا جَرَمَ أنَّا نقدِّر مصدراً متوهماً يُعْطَفُ هذا المصدر المنسبك من « أَنْ » وما بعدها عليه ، والتقدير : يا ليتنا لنا رَدُّ وانتفاءُ تكذيب بآيات ربنا وكون من المؤمنين ، أي : ليتنا لنا ردُّ مع هذين الشيئين ، فيكون عدمُ التكذيب والكونُ من المؤمنين مُتَمَنَّيَيْنِ أيضاً ، فهذه الثلاثةُ الأشياءِ : أعني الردَّ وعدمَ التكذيب والكونَ من المؤمنين متمنَّاةٌ بقيد الاجتماع ، لا أنَّ كلَّ واحدٍ متمنَّى وحدَه؛ لأنه كما قَدَّمْتُ لك : هذه الواوُ شرطُ إضمار « أنْ » بعدها : أن تصلح « مع » في مكانها ، فالنصبُ يُعَيِّنُ أحدَ محتملاِتها في قولك « لا تأكلِ السمك وتشرب اللبن » وشبهه ، والإِشكالُ المتقدم وهو إدخال التكذيب على التمني واردٌ هنا ، وقد تقدم جواب ذلك ، إلا أن بعضَه يتعذَّر ههنا : وهو كون لا نكذِّبُ ، ونكونُ « متسأنَفَيْن سِيقا لمجرد الإِخبار ، فبقي : إمَّا لكون التمني دخله معنى الوعد ، وإمَّا أن قوله تعالى : { وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } ليس راجعاً إلى تمنِّيهم ، وإمَّا لأنَّ التمنِّي يدخله التكذيب ، وقد تقدَّم فساده .

وقال ابن الأنباري : « أَكْذَبَهم في معنى التمني؛ لأن تمنِّيَهم راجعٌ إلى معنى : » نحن لا نكذِّب إذا رُدِدْنا « فغلَّب عزَّ وجل تأويلَ الكلام فأكذبهم ، ولم يُسْتعمل لفظ التمني » وهذا الذي قاله ابن الأنباري تقدَّم معناه بأوضح من هذا . قال الشيخ : « وكثيراً ما يوجد في كتب النحو أنَّ هذه الواوَ المنصوبُ بعدها هو على جواب التمني ، كما قال الزمخشري : » وقرئ : ولا نكذِّبَ ونكونَ بالنصب بإضمار أَنْ على جواب التمني ، ومعناه : إنْ رُدِدْنا لم نكذِّبْ ونكنْ من المؤمنين « . قال : » وليس كما ذكر ، فإنَّ نَصْبَ الفعل بعد الواو ليس على جهة الجواب؛ لأنَّ الواوَ لا تقع [ في ] جواب الشرط فلا ينعقد ممَّا قبلها ولا ممَّا بعدها شرط وجواب ، وإنما هي واو « مع » يُعْطَفُ ما بعدها على المصدر المتوهَّم قبلها ، وهي واو العطف يتعيَّنُ مع النصب أحدُ محامِلها الثلاثة : وهي المعيَّةُ ويُمَيِّزها من الفاء تقديرُ « مع » موضعها ، كما أن فاء الجواب إذا كان بعدها فعلٌ منصوب ميِّزها تقدير شرطٍ قبلها أو حال مكانها . وشُبْهَةُ مَنْ قال إنها جواب أنها تنصب في المواضع التي تنصب فيها الفاء فتوهَّم أنها جواب . وقال سيبويه : « والواو تنصب ما بعدها في غير الواجب من حيث انتصب ما بعد الفاء ، والواو والفاء معناهما مختلفان ، ألا ترى :
1895- لا تَنْهَ عن خلق وتأتيَ مثله ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
لو دخلت الفاءُ هنا لأفسدت المعنى ، وإنما أراد : لا تجمع النهيَ والإِتيان وتقول : » لا تأكلِ السمكَ وتشربَ اللبن « لو أَدْخَلْتَ الفاء فَسَدَ المعنى » قال الشيخ : « ويوضِّح لك أنها ليست بجوابٍ انفرادُ الفاءِ دونها بأنها إذا حُذِفت انجزم الفعلُ بعدها بما قبلها لِما تضمَّنه من معنى الشرط إلا في النفي ، فإن ذلك لا يجوز » . قلت : قد سبق الزمخشري إلى هذه العبارة أبو إسحاق الزجاج شيخُ الجماعة . قال أبو إسحاق : « نصبٌ على الجواب بالواو في التمني كما تقول : » ليتك تصير إلينا ونكرمَك « المعنى : ليت مصيرَك يقع وإكرامَنا ، ويكون المعنى : ليت ردَّنا وقع وأن لا نكذِّب » .

وأمَّا كونُ الواو ليست بمعنى الفاء فصحيحٌ ، على ذلك جمهورُ النحاة . إلى أني رأيت أبا بكر ابن الأنباري خرَّج النصب على وجهين ، أحدهما : أن الواو بمعنى الفاء . قال أبو بكر : « في نصب » نكذِّبَ « وجهان ، أحدهما : أن الواو مُبْدَلةٌ من الفاء ، والتقدير : يا ليتنا نُرَدُّ فلا نكذِّبَ ونكونَ ، فتكون الواو هنا بمنزلة الفاء في قوله : { لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ المحسنين } [ الزمر : 58 ] يؤكد هذا قراءةُ ابنِ مسعود وابن أبي إسحاق : » يا ليتنا نردُّ فلا نكذبَ « بالفاء منصوباً . والوجه الآخر : النصب على الصرف ومعناه الحال ، أي : يا ليتنا نُرَدُّ غيرَ مكذِّبين/ .
وأمَّا قراءة ابن عامر - برفع الأول ونصب الثاني - فظاهرةٌ بما تقدَّم؛ لأنَّ الأولَ يرتفع على حدِّ ما تقدَّم من التأويلات ، وكذلك نصبُ الثاني يتخرَّج على ما تقدَّم ، ويكون قد أدخل عدم التكذيب في التمني أو استأنفه ، إلا أنَّ المنصوبَ يحتمل أن يكون من تمام قوله » نُرَدُّ « أي : تَمَنَّوا الردَّ مع كونهم من المؤمنين ، وهذا ظاهر إذا جَعَلْنا » ولا نكذِّب « معطوفاً على » نردُّ « أو حالاً منه . وأما إذا جَعَلْنا » ولا نكذِّبُ « مستأنفاً فيجوز ذلك أيضاً ولكن على سبيل الاعتراض ، ويحتمل أن يكونَ من تمامِ » ولا نكذِّب « أي : لا يكونُ منا تكذيب مع كوننا من المؤمنين ، ويكون قوله » ولا نكذب « حينئذ على حاله ، أعني مِنْ احتماله العطفَ على » نُرَدُّ « أو الحالية أو الاستئناف ، ولا يخفى حينئذٍ دخولُ كونِهم مع المؤمنين في التمني وخروجُه منه بما قرَّرْتُه لك .
وقُرئ شاذاً عكسَ قراءة ابن عامر ، أي : بنصب » نكذبَ « ورفع » نكون « وتخريجها على ما تقدم ، إلا أنها يضعف فيها جَعْلُ » ونكونُ من المؤمنين « حالاً لكونه مضارعاً مُثْبَتاً إلا بتأويل بعيد كقوله :
1896- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... نَجَوْتُ وأَرْهَنُهم مالكاً
أي : وأنا أَرْهَنُهم ، وقولهم : » قمتُ وأصكُّ عينه « ، ويدل على حذف هذا المبتدأ قراءةُ أُبيٍّ : » ونحن نكونُ من المؤمنين « .

بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)

قوله تعالى : { بَلْ بَدَا } : « بل » هنا لانتقالٍ من قصة إلى أخرى وليست للإِبطالِ ، وعبارةُ بعضهم توهم أن فيها إبطالاً لكلام الكفرة فإنه قال : « بل » رَدٌّ لِما تمنَّوه ، أي : ليس الأمر على ما قالوه لأنهم لم يقولوا ذلك رغبةً في الإِيمان ، بل قالوه إشفاقاً من العذاب وطمعاً في الرحمة . قال الشيخ : « ولا أدري ما هذا الكلام؟ » . قلت : ولا أدري ما وَجْهُ عدمِ الدراية منه؟ وهو كلام صحيح في نفسه ، فإنهم لمَّا قالوا : يا ليتنا كأنهم قالوا تمنَّيْنا ، ولكن هذا التمنِّيَ ليس بصحيح ، لأنهم إنما قالوه تقيَّةً ، فقد يتمنى الإِنسان شيئاً بلسانه وقلبه فارغ منه . وقال الزجَّاج « بل » هنا استدراكٌ وإيجابُ نفي كقولهم : ما قام زيد بل قام عمرو « . قال الشيخ : » ولا أدري ما النفيُ الذي سَبَق حتى توجَبه « بل »؟ قلت : الظاهرُ أنَّ النفي الذي أراده الزجاج هو الذي في قوله : { وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا } إذا جعلناه مستأنفاً على تقدير : ونحن لا نكذِّبُ ، والمعنى : بل إنهم مُكَذِّبون .
وفاعلُ « بدا » قوله : { مَّا كَانُواْ } و « ما » يجوز أن تكونَ موصولةً اسميةً وهو الظاهر ، أي : ظهر لهم الذي كانوا يُخْفونه . والعائد محذوف . ويجوز أن تكونَ مصدريةً ، أي ظهر لهم إخفاؤهم ، أي : عاقبته ، أو أُطْلِق المصدرُ على اسم المفعول ، وهو بعيد ، والظاهر أن الضميرين : أعني المجرورَ والمرفوعَ في قوله { بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ } عائدان على شيء واحد ، وهم الكفار أو اليهود والنصارى خاصة ، وقيل : المجرورُ للأتباع والمرفوعُ للرؤساء ، أي : بل بدا للأتباع ما كان الوجهاء المتبعون يُخْفُونه .
قوله : { وَلَوْ رُدُّواْ } قرأ الجمهور بضم الراء خالصاً . وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وإبراهيم : « رِدُّوا » بكسرها خالصاً . وقد عَرَفْتَ أن الفعلَ الثلاثي المضاعف العين واللام يجوز في فائه إذا بُني للمفعول ثلاثة الأوجه المذكورة في فاء المعتل العين إذا بُني للمفعول نحو : قيل وبيع ، وقد تقدَّم ذلك . وقال الشاعر :
1897- وما حِلَّ مِنْ جهلٍ حُبا حُلمائِنا ... ولا قائلُ المعروف فينا يُعَنَّفُ
بكسر الحاء .
قوله : { وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } تقدَّم الكلام على هذه الجملة : هل هي مستأنفة أو راجعة إلى قوله { يا ليتنا } ؟

وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29)

قوله تعالى : { وقالوا } : هل هذه الجملة معطوفة على جواب « لو » والتقدير : ولو رُدُّوا لعادوا ولقالوا ، أو هي مستأنفة ليست داخلةً في حَيِّز « لو » ، / أو هي معطوفةٌ على قوله : { وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } ؟ ثلاثة أوجه ، ذكر الزمخشري الوجهين الأول والآخِر فإنه قال : « وقالوا عطف على » لعادوا « أي : لو رُدُّوا لكفروا ولقالوا : إنْ هي إلا حياتنا الدنيا ، كما كانوا يقولون قبل معاينة القيامة ، ويجوز أن يُعْطف على قوله : { وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } على معنى : وإنهم لقوم كاذبون في كل شيء » . والوجهُ الأولُ منقول عن ابن زيد ، إلا أن ابن عطية ردَّه فقال : « وتوقيفُ اللَّهِ لهم في الآية بعدها على البعث والإِشارة إليه في قوله { أَلَيْسَ هذا بالحق } [ آل عمران : 30 ] يردُّ على هذا التأويل » . وقد يُجاب عن هذا باختلاف حالين : فإنَّ إقرارَهم بالبعث حقيقةً إنما هو في الآخرة ، وإنكارَهم ذلك إنما هو الدنيا بتقدير عَوْدِهم إلى الدنيا ، فاعترافهم به في الدار الآخرة غيرُ منافٍ لإِنكارهم إياه في الدنيا .
قوله : { إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا } « إنْ » نافية و « هي » مبتدأ ، و « حياتُنا » خبرها ، ولم يكتفُوا بمجرَّد الإِخبار بذلك حتى أبرزوها محصورةً في نفيٍ وإثبات ، و « هي » ضمير مُبْهَم يفسِّره خبره ، أي : ولا نعلم ما يُراد به إلا بذكر خبره ، وهو من الضمائر التي يفسِّرها ما بعدها لفظاً ورتبة ، وقد قَدَّمْتُ ذلك عند قوله : { فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } [ البقرة : 29 ] ، وكونُ هذا ممَّا يفسِّره ما بعده لفظاً ورتبةً فيه نظرٌ ، إذ لقائل أن يقول « هي » تعود على شيء دلَّ عليه سياقُ الكلام ، كأنهم قالوا : إنَّ العادةَ المستمرة أو إن حالتنا وما عَهِدْنا إلا حياتنا الدنيا ، واستند هذا القائل إلى قولِ الزمخشري : « هذا ضميرٌ لا يُعْلَمُ ما يُراد به إلا بِذِكْر ما بعده » ومثَّل الزمخشري بقول العرب : « هي النفس تتحمَّل ما حَمَلَتْ » و « هي العرب تقول ما شاءت » .
وليس فيما قاله الزمخشري دليل له؛ لأنه يعني أنه لا يُعلم ما يعود عليه الضمير إلا بذكر ما بعده ، وليس في هذا ما يدلُّ على أن الخبر مفسِّرٌ للضمير ، ويجوز أن يكون المعنى : إنِ الحياة إلا حياتنا الدنيا ، فقوله { إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا } دالٌّ على ما يفسِّر الضمير وهو الحياة مطلقاً ، فَصَدَقَ عليه أنه لا يعمل ما يُراد به إلا بذكر ما بعده من هذه الحيثية لا من حيثيَّة التفسيرِ ، ويدلُّ على ما قلتُه قولُ أبي البقاء : « هي كنايةٌ عن الحياة ، ويجوز أن يكون ضميرَ القصة » .

قلت : أمَّا أولُ كلامِه فصحيحٌ ، وأمَّا آخرُه وهو قوله : « إن هي ضمير القصة » فليس بشيء؛ لأن ضمير القصة لا يفسِّر إلا بجملةٍ مصرَّحٍ بجزْأَيْها . فإن قلت : الكوفي يجوِّزُ تفسيره بالمفرد فيكون نحا نحوَهم . فالجوابُ أن الكوفيَّ إنما يُجَوِّزه بمفرد عامل عملَ الفعل نحو : « إنه قائم زيد » « وظنتُه قائِماً زيدٌ » لأنه في صورة الجملة ، إذ في الكلام مسندٌ ومسندٌ إليه . أما نحو « هو زيد » فلا يُجيزه أحدٌ ، على أن يكونَ « هو » ضميرَ شأنٍ ولا قصة ، والدنيا صفة الحياة ، وليست صفةً مزيلةً اشتراكاً عارضاً ، يعني أن ثَمَّ حياةً غيرَ دنيا يُقِرُّون بها ، لأنهم لا يَعْرفون إلا هذه ، فهي صفةٌ لمجرد التوكيد ، كذا قيل ، ويَعْنون بذلك أنها لا مفهومَ لها ، وإلاَّ فحقيقةُ التوكيد غير ظاهرةٍ بخلاف { نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ } [ الحاقة : 13 ] . والباء في قوله « بمبعوثين » زائدةٌ لتأكيد الخبر المنفي ، ويحتمل مجرورها أن يكونَ منصوبً المحلِّ على أنَّ « ما » حجازيةٌ ، أو مرفوعةٌ على أنها تميمية .

وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)

قوله تعالى : { على رَبِّهِمْ } : فيه وجهان ، أحدهما : أنه من باب الحذف ، تقديره : على سؤال ربهم أو ملك ربهم أو جزاء ربهم . والثاني : أنه من باب المجاز؛ لأنه كنايةٌ عن الحَبْسِ للتوبيخ ، كما يوقَفُ العبدُ بين يدي سيِّده ليعاتبَه ، ذكر ذلك الزمخشري ، ورجَّح المجاز على الحذف لأنه بدأ بالمجاز ، ثم قال : « وقيل [ وقُفوا ] على جزاء ربهم » . وللناس خلافٌ في ترجيح أحدهما على الآخر . وجملة القول فيه أن فيه ثلاثةَ مذاهب ، أشهرُها : ترجيحُ المجاز على الإِضمار ، والثاني عكسُه ، والثالث : هما سواء .
قوله : { قَالَ أَلَيْسَ } في هذه الجملة وجهان ، أحدهما : أنها استفهاميةٌ أي : جواب سؤال مقدر ، قال الزمشخري : « قال » مردودٌ على قولِ قائلٍ قال : ماذا قال لهم ربُّهم إذا وُقِفوا عليه؟ فقيل : قال لهم : أليس هذا بالحق « . والثاني : أن تكون الجملة حالية ، وصاحبُ الحال » ربُّهم « كأنه قيل : وُقِفوا عليه قائلاً : أليس هذا بالحق . والمشارُ إليه قيل : هو ما كانوا يكذِّبون به من البعث . وقيل : هو العذاب يدلُّ عليه { فَذُوقُواْ العذاب } .
وقوله : { بِمَا كُنتُمْ } يجوز أن تكونَ » ما « موصولةً اسميةً والتقدير : تكفرونه ، والأصل : تكفرون به ، فاتصل الضمير بالفعل بعد حذف الواسطةِ ، ولا جائزٌ أن يُحْذَف وهو مجرور بحاله ، وإن كان مجروراً بحرفٍ جُرَّ بمثله الموصولُ لاختلاف المتعلَّق ، وقد تقدَّم إيضاحُه غيرَ مرة . والأَوْلَى أن تُجْعَلَ » ما « مصدرية ويكون متعلَّق الكفر محذوفاً ، والتقدير : بما كنتم تكفرون بالعبث أو بالعذاب أي بملاقاته أي بكفركم بذلك .

قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31)

قوله تعالى : { بَغْتَةً } : في نصبها أربعة أوجه ، أحدها : أنها مصدرٌ في موضع الحال من فاعل « جاءَتْهم » أي : مباغتةً ، وإمَّا من مفعوله أي : مَبْغوتين . الثاني : أنها مصدرٌ على غير الصدر؛ لأنَّ معنى « جاءتهم » بَغَتَتْهُمْ بغتة ، فهو كقولهم : « أتيته رَكْضاً » . الثالث : أنَّها منصوبةٌ بفعلٍ محذوف من لفظها ، أي : تَبْغَتُهم بَغْتة . الرابع : بفعلٍ من غير لفظها ، أي : أتتهم بغتة .
والبَغْتُ والبَغْتةُ مفاجأة الشيء بسرعة من غير اعتدادٍ به ولا جَعْلِ بالٍ منه حتى لو استشعر الإِنسانُ به ثم جاءه بسرعةٍ لا يُقال فيه بَغْتَة ، ولذلك قال الشاعر :
1898- إذا بَغَتَتْ أشياءُ قد كان قبلها ... قديماً فلا تَعْتَدَّها بَغَتَاتِ
والألف واللام في « الساعة » للغلبة كالنجم والثريا ، لأنها غلبت على يوم القيامة ، وسمِّيَتِ القيامةُ ساعةً لسرعة الحساب فيها على الباري تعالى . وقوله « قالوا » هو جواب « إذا » .
قوله : { ياحسرتنا } هذا مجازٌ ، لأنَّ الحسرةَ لا يتأتَّى منها الإِقبال ، وإنَّما المعنى على المبالغة في شدة التحرُّ ، وكأنهم نادوا التحسُّر ، وقالوا : إن كان لكِ وقتٌ فهذا أوان حضورك . ومثله : « يا ويلتا » ، والمقصودُ التنبيهُ على خطأ المنادي حيث ترك ما أحوجه تركه إلى نداء هذه الأشياء .
قوله : { على مَا فَرَّطْنَا } متعلقٌ بالحَسْرة ، و « ما » مصدريةٌ ، أي : على تفريطنا . والضمير في « فيها » يجوز أن يعود على الساعة ، ولا بد من مضاف أي : في شأنها والإِيمان بها ، وأن يعود على الصفقة المتضمَّنة في قوله : { قَدْ خَسِرَ الذين } قاله الحسن ، أو يعود على الحياة الدنيا وإن لم [ يَجْرِ ] لها ذِكْرٌ لكونها مَعْلومةً ، قاله الزمخشري . وقيل : يعود على مازلهم في الجنة إذا رأَوْها . وهو بعيدٌ .
والتفريطُ : التقصيرُ في الشيء مع القدرة على فعله . وقال أبو عبيد : « هو التضييع » وقال ابن بحر : « هو السَّبْق ، منه الفارط أي السابق للقوم ، فمعنى فرَّط بالتشديد خلَّى السبق لغيره ، فالتضعيف فيه للسَّلْب كجلَّدْتُ البعير ومنه { فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً } [ الإِسراء : 79 ] .
قوله : { وَهُمْ يَحْمِلُونَ } الواو للحال ، وصاحب الحال الواو في » قالوا « أي : قالوا : يا حَسْرَتَنا في حالةِ حَمْلِهم أوزارَهم . وصُدِّرت هذه الجملة بضمير مبتدأ ليكون ذِكْرُه مرتين فهو أبلغُ ، والحَمْلُ هنا قيل : مجازٌ عن مقاساتهم العذابَ الذي سببُّه الأوزارُ ، وقيل : هو حقيقةٌ . وفي الحديث : » إنه يُمَثَّل له عملُه بصورةٍ قبيحةٍ مُنْتِنَةِ الريح فيحملها « وخُصَّ الظهرُ لأنه يُطِيق من الحمل ما لا يُطِيقه غيره من الأعضاء كالرأس والكاهل ، وهذا كما تقدَّم في { فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ } [ الأنعام : 7 ] ؛ لأن اليدَ أقوى في الإِدراك اللمسي من غيرها .
الأوزار : جمع وِزْر كحِمْل وأَحْمال وعِدْل وأعدال .

والوِزْر في الأصل الثقل ، ومنه : وَزِرْتُهُ أي : حَمَّلْته شيئاً ثقيلاً ، ووزير المَلِك من هذا لأنه يتحمَّل أعباءَ ما قلَّده الملك من مؤونة رعيتَّه وحَشَمَتِه ، ومنه أوزار الحرب لسلاحها وآلاتها ، قال :
1899- وأعدَدْتُ للحرب أوزارَها ... رماحاً طِوالاً وخيلاً ذُكروا
وقيل : الأصل في ذلك الوَزَر بفتح الواو الزاي ، وهو الملجأ الذي يُلْتجأ إليه من الجبل ، قال تعالى : { كَلاَّ لاَ وَزَرَ } [ القيامة : 11 ] ثم قيل للثقل وِزْرٌ تشبيهاً بالجبل ، ثم استُعير الوِزْرُ للذَّنبِ تشبيهاً به في ملاقاة المشقة منه ، والحاصل أنَّ هذه المادة تَدُلُّ على الرَّزانةِ والعِصْمة .
قوله : { أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ } « ساء » هنا تحتمل أوجهاً ثلاثة ، أحدُها : أنها « ساء » المتصرفةُ المتعدِّية ، ووزنها حينئذ فَعَل فتح العين ، ومفعولُها حينئذ محذوف ، وفاعلها « ما » ، و « ما » تحتمل ثلاثة أوجه : أن تكونَ موصلةً اسمية أو حرفية أو نكرة موصوفة وهو بعيدٌ ، وعلى جَعْلِها اسميةً أو نكرة موصوفة تُقَدِّر لها عائداً ، والحرفية غير محتاجة إليه عند الجمهور . والتقدير : ألا ساءَهم الذي يَزِرُونه أو شيء يزرونه أو وِزْرُهم . وبدأ ابن عطية بهذا الوجه قال : « كما تقول : ساءني هذا الأمر ، والكلام خبر مجرد كقوله :
1900- رَضِيْتَ خِطَّةَ خَسْفٍ غيرَ طائلةٍ ... فساءَ هذا رِضَىً يا قيسَ عيلانا
قال الشيخ : » ولا يتعيَّن أن تكون « ما » في البيت خبراً مجرداً بل تحتمل الأوجهَ الثلالثة « انتهى وهو ظاهر .
الثاني : أن تكون للتعجُّبِ فتنتقل من فَعَل بفتح العين إلى فَعُل بضمها ، فتُعْطى حكمَ فعل التعجب : من عدم التصرُّفِ والخروج من الخبر المحض إلا الإِنشاء ، إن قلنا : إن التعجب إنشاءٌ وهو الصحيح ، والمعنى : ما أسوأ - أي أقبح- الذي يَزِرُونه أو شيئاً يَزِرُونه أو وِزْرُهم ، الثالث : أنها بمعنى بئس فتكون للمبالغةِ في الذم فتُعْطى أحكامَها أيضاً ، ويجري الخلاف في » ما « الواقعةِ بعدها حَسْبما ذكر في { بِئْسَمَا اشتروا } [ البقرة : 90 ] . وقد ظهرالفرقُ بين هذه الأوجه الثلاثة فإنها في الأول متعدية متصرفة والكلام معها خبرٌ محض ، وفي الأخيرين قاصرة جامدة إنشائية . والفرق بين الوجهين الأخيرين أنَّ التعجبيَّة لا يُشْترط في فاعلها ما يشترط في فاعل بئس . وقال الشيخ : » والفرقُ بين هذا الوجهِ - يعني كونها بمعنى بئس - والوجه الذي قبله - يعني كونَها تعجبيَّةً - أنه لا يُشترط فيه ما يُشترط في فاعل « بئس » من الأحكام ولا هو جملةٌ منعقدةٌ من مبتدأ وخبر ، وإنما هو منعقدٌ من فعل وفاعل « . انتهى .
وظاهرهُ لا يَظْهر إلا بتأويل وهو أن الذمَّ لا بد فيه من مخصوصٍ بالذم وهو مبتدأ ، والجملة الفعلية قبله خبره فانعقدَ من هذه الجملةِ متبدأٌ وخبر ، إلا أنَّ لقائلٍ أن يقول : إنما يتأتَّى هذا على أحد الأعاريب في المخصوص ، وعلى تقدير التسليم فلا مَدْخَل للمخصوص بالذم في جملة الذم بالنسبة إلى كونها فعليةً فحينئذ لا يظهر فرقٌ بينهم وبين التعجبية في أنَّ كلاً منها منعقدة في فعلٍ وفاعل .

وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32)

قوله تعالى : { وَمَا الحياة الدنيآ إِلاَّ لَعِبٌ } : يجوز أن يَكون من المبالغة جَعْلُ الحياة نفس اللعب واللهو كقولها :
1901- . . . . . . . . . . . . . . ... فإنما هي إقبالٌ وإدبار
وهذا أحسن ، ويجوز أن يكون في الكلام حذف أي : وما أعمال الحياة ، وقال الحسن البصري : « وما أهل الحياة الدنيا إلا أهل لعب » فقدَّر شيئين محذوفين .
واللَّهْو : صَرْفُ النفس عن الجدِّ إلى الهزل . ومنه لو يلهو . وأمَّا لَهِي عن كذا فمعناه صَرَفَ نفسَه ، والمادةُ واحدةٌ انقلبت الواو ياءً لانكسار ما قبلها نحو : شَقِي ورضي . وقال المهدوي : « الذي معناه الصرفُ لامُه ياء بدليل قولهم لَهْيان ، ولام الأول واو » . قال الشيخ : « وليس بشيء؛ لأن الواو في التثنية انقلبت ياءً فليس أصلها الياء ، ألا ترى إلى تثنية شَجٍ : شَجِيان وهو مِن الشَّجْوِ » انتهى . يعني أنهم يقولون في اسم فاعله : لَهٍ كشجٍ ، والتثنيةُ مبنيَّةٌ على المفرد ، وقد أنقلبت في المفرد فَلْتنقلب في المثنى [ ولنا فيه بحثٌ أَوْدَعْناه في « التفسير الكبير » ولله الحمد ] وبهذا يَظْهَرُ فسادُ رَدِّ المهدوي على الرماني ، فإنَّ الرماني قال : « اللعب عَمَلٌ يُشْغِلُ النفسَ عما تنتفعُ به ، واللَّهْوُ صَرْفُ النفسِ من الجدِّ إلى الهزل ، يقال : لَهَيْتُ عنه أي صرفْتُ نفسي عنه » قال المهدوي : « وفيه ضعفٌ وبُعْدٌ؛ لأنَّ الذي فيه معنى الصرف لامه ياء ، بدليل قولهم في التثنية ليهان » انتهى . وقد تقدَّم فسادُ هذا الردِّ وقال الراغب : « اللَّهْوُ ما يَشْغَلُ الإِنسانَ عما يَعْنيه ويَهُمُّه ، يقال : لَهَوْتُ بكذا أو لهيت عن كذا اشتغلْتُ عنه بلَهْوٍ » وهذا الذي ذكره الراغب هو الذي حَمَلَ المهدوي على التفرقة بين المادتين .
قوله : { وَلَلدَّارُ الآخرة } قرأ الجمهور بلامَيْن ، الأُوْلى لام الابتداء ، والثانية للتعريفِ ، وقرؤوا « الآخرةُ » رفعاً على أنها صفةٌ للدار ، و « خيرٌ » خبرُها . وقرأ ابن عامر : « ولَدارُ » بلامٍ واحدة هي لامُ الابتداء ، و « الآخرةِ » جرٌّ بالإِضافة . وفي هذه القراءة تأويلان أحدُهما قولُ البصريين وهو انه من باب حَذْف الموصوف وإقامةِ الصفةِ مُقامه ، والتقدير : ولَدارُ الساعةِ الآخرة ، أو لَدار الحياة الآخرة ، يدلُّ عليه « وما الحياة الدنيا » ومثله قولهم : « حبة الحمقاء ومسجد الجامع وصلاة الأولى ومكان الغربي » التقدير : حبة البقلة الحمقاء ، ومسجد المكان الجامع ، وصلاة الساعة الأولى ، ومكان الجانب الغربي . وحَسَّن ذلك أيضاً في الآية كونُ هذه الصفةِ جَرَتْ مَجْرى الجوامد في إيلائِها العواملَ كثيراً ، وكذلك كلُّ ما جاء مما تُوُهِّم فيه إضافةُ الموصوفِ إلى صفته ، وإنما احتاجوا إلى ذلك لِئلاً يَلْزَمَ إضافةُ الشيء إلى نفسه وهو ممتنع؛ لأن الإِضافة : إمَّا للتعريف أو للتخصيص ، والشيء لا يُعْرِّف نفسه ولا يخصِّصُها .

والثاني : وهو قول الكوفيين - أنه إذا اختلف لفظ الموصوف وصفته جازت إضافته إليها ، وأوردوا ما قدَّمْته من الأمثلة قال الفراء : « هي إضافةُ الشيء إلى نفسِه كقولك : بارحة الأولى ويوم الخميس وحق اليقين ، وإنما يجوز عند اختلاف اللفظين » . وقراءةُ ابن عامر موافقةٌ لمصحفه؛ فإنها رُسِمَتْ في مصاحف الشاميين بلامٍ واحدة ، واختارها بعضُهم لموافقتها لما أُجْمِع عليه في يوسف : { وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ } [ يوسف : 109 ] ، وفي مصاحف الناسِ بلامَيْنِ .
و « خيرٌ » يجوز أن يكون للتفضيل ، وحُذِف المفضَّلُ عليه للعلم به أي : خيرٌ من الحياة الدنيا ، ويجوز أن يكونَ لمجرَّدِ الوَصْف بالخَيْرية كقوله تعالى : { أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً } [ الفرقان : 24 ] . و { لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } متعلِّقٌ بمحذوف؛ لأنه صفةٌ ل « خير » والذي ينبغي - أو يتعيَّن- أن تكونَ اللامُ للبيان ، أي : أعني للذين ، وكذا كلُّ ما جاء مِنْ نحوه ، نحو : { خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى } [ الضحى : 4 ] .
قوله : { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } قد تقدَّم الكلامُ في مثل هذه الهمزةِ الداخلةِ على الفاء وأختِها الواوِ وثم وقرأ ابن عامر ونافع وحفص عن عاصم : { تَعْقِلُون } خطاباً لمن كان بحضرته عليه السلام وفي زمانه . والباقون بياء الغيبة رَدَّاً على ما تقدَّم من الأسماء الغائبة ، وحُذِفَ مفعول « تَعْقِلون » للعلمِ به ، أي : فلا تَعْقلون أنَّ الأمرَ كما ذكر فتزهَّدوا في الدنيا ، أو أنها خير من الدنيا .

قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)

قوله تعالى : { قَدْ نَعْلَمُ } : « قد » هنا حرف تحقيق . وقال الزمخشري والتبريزي : « قد نعلم : بمعنى ربما التي تجيء لزيادة الفعل وكثرته نحو قوله :
1902- . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . قد يُهْلِكُ المالَ نائِلُهْ
قال الشيخ : » وهذا القول غير مشهور للنحاة ، وإن قال به بعضهم مستدلاً بقوله :
1903- قد أَتْرُكُ القِرْن مُصْفرَّاً أناملُه ... كأنَّ أثوابه مُجَّتْ بفِرصادِ
وقول الآخر :
أخي ثقةٍ لا تُتْلِفُ الخمرُ مالَه ... ولكنه قد يُهْلك المالَ نائلُه
والذي يَظْهر أن التكثيرَ لا يُفْهَمُ من « قد » إنما فُهم من سياق الكلام؛ إذ التمدُّحُ بقتل قِرْن واحد غيرُ طائل ، وعلى تقدير ذلك هو متعذِّر في الآية؛ لأنَّ علمه تعالى لا يقبل التكثير « . قلت : قد يُجاب عنه بأنَّ التكثير في متعلَّقات العلم لا في العلم ، ثم قال : » وقولُه بمعنى « ربما » التي تجيء لزيادة الفعل وكثرته المشهورُ أنَّ « رُبَّ » للتقليل لا للتكثير ، وزيادةُ « ما » عليها لا يُخْرجها عن ذلك بل هي مهيِّئة لدخولِها على الفعل ، و « ما » المهيِّئة لا تزيلُ الكلمة عن معناها الأصلي ، كما لا تزيل « لعلَّ » عن الترجِّي ولا « كأنَّ » عن التشبيه ولا « ليت » عن التمني . وقال ابن مالك « » قد « ك » ربما « في التقليل والصَّرف إلى معنى المضيّ ، وتكون حينئذ للتحقيق والتوكيد نحو : { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ } { وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ الله } [ الصف : 5 ] وقوله :
1904- وقد تُدْرِكُ الإِنسانَ رحمةُ ربِّه ... ولو كان تحت الأرض سبعين واديا
/ وقد تخلُو من التقليل وهي صارفةٌ لمعنى المضيِّ نحو قوله : { قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ } [ البقرة : 144 ] .
وقال مكي : » قد « هنا وشبهه تأتي لتأكيد الشيء وإيجابه وتصديقه . و » نعلم « بمعنى عَلِمْنا ، وقد تقدَّم الكلام في هذا الحرف وأنها متردِّدةٌ بين الحرفيةِ والاسميةِ . وقال الشيخ هنا : » قد حرف توقع ، إذا دخلت على مستقبلِ الزمان كان التوقُّعُ من المتكلم كقولك : « قد ينزل المطرُ شهرَ كذا » ، وإذا كان ماضياً أو فعل حال بمعنى المضيِّ كان التوقُّع عند السامع ، وأمَّا المتكلمُ فهو موجِبُ ما أخبر به ، وعَبَّر هنا بالمضارع إذا المرادُ الاتِّصافُ بالعلم واستمراره ، ولم يَلْحَظْ فيه الزمانَ كقولهم : « هو يعطي ويمنع » .
و { إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ } سادٌّ مَسَدَّ المفعولين فإنها معلِّقة عن العمل ، وكُسِرت لدخول اللام في خبرها . وتقدَّم الكلامُ في « لَيَحْزُنك » وأنه قرئ بفتح الياء وضمِّها من حَزَنه وأَحْزنه في آل عمران . « والذي يقولون » فاعلٌ وعائده محذوف ، أي : الذي يقولونه مِنْ نسبتهم إلى ما لا يليق به ، والضمير في « إنه » ضمير الشأن والحديث ، والجملة بعده خبر مفسِّرةً له ، ولا يجوزُ في هذا المضارعِ أن يُقَدَّر باسم فاعلٍ رافعٍ لفاعلٍ كما يُقَدَّرُ في قولك : « إنَّ زيداً يقوم أبوه » لئلا يلزمَ تفسير ضمير الشأن بمفرد ، وقد تقدَّم أنَّه ممنوعٌ عند البصريين .

قوله : { لاَ يُكَذِّبُونَكَ } قرأ نافع والكسائي : { لا يَكْذِبُونك } مخففاً من أَكْذَبَ ، والباقون مثقَّلاً مِنْ كذَّب ، وهي قراءة علي وابن عباس . واختلف الناس في ذلك ، فقيل : هما بمعنى واحد مثل : أَكْثَر وكثَّر ونَزَّل وأنزل ، وقيل : بينهما فرق ، قال الكسائي : العرب تقول « كذَّبْتُ الرجلَ » بالتشديد ، إذا نَسَبْتَ الكذبَ إليه ، و « أَكْذَبْتُه » إذا نسبْتَ الكذبَ إلى ما جاء به دون أن تنسبه إليه ، ويقولون أيضاً : أَكْذَبْتُ الرجل إذا وجدْتُه كاذباً كأَحْمَدْتُه إذا وجدته محموداً ، فمعنى « لا يُكْذِبونك » مخفَّفاً : لا يَنْسِبون الكذبَ إليك ولا يجدونك كاذباً ، وهو واضحٌ .
وأمَّا التشديدُ فيكونُ خبراً محضاً عن عدم تكذيبهم إياه . فإن قيل : هذا مُحالٌ؛ لأنَّ بعضهم قد وُجِد منه تكذيبٌ ضرورةً . فالجاب أن هذا وإن كان منسوباً إلى جمعيهم ، أعني عدمَ التكذيب فهو إنما يراد به بعضُهم مجازاً كقوله : { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ } [ الشعراء : 105 ] { كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ } [ الشعراء : 16 ] وإن كان فيهم مَنْ لم يُكَذِّبْه فهو عامٌّ يُرادُ به الخاص . والثاني : أنه نفى التكذيب لانتقاء ما يترتَّب عليه من المَضَارِّ ، فكأنه قيل : فإنهم لا يُكَذِّبونك تكذيباً يُبالى به ويَضُرَّك لأنك لست بكاذب ، فتكذيبُهم كلا تكذيب ، فهو مِنْ نفي السبب لانتفاءِ مُسَبِّبه . وقال الزمخشري : « والمعنى أنَّ تَكْذيبَك أمرٌ راجع إلى الله لأنك رسولُه المصدَّق ، فهم لا يكذِّبونك في الحقيقة ، إنما يكذبون الله بجحود آياته فانْتَهِ عن حزنك كقول السيدِ لغلامه : - وقد أهانه بعض الناس - لن يُهِينُوك وإنما أهانوني ، وعلى هذه الطريقة : { إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } [ الفتح : 10 ] .
قوله : { بِآيَاتِ الله } يجوز في هذا الجارِّ وجهان ، أحدهما : أنه متعلِّقٌ ب » يَجْحَدون « ، وهو الظاهرُ الذي لاينبغي أن يُعْدَلَ عنه وجَوَّز أبو البقاء أن يتعلَّق بالظالمين ، قال : » كقوله تعالى : { وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا } [ الإِسراء : 59 ] وهذا الذي قاله ليس بجيد ، لأن الباءَ هناك سببيةٌ ، أي : ظلموا بسببها ، والباء هنا معناها التعدية ، وهنا شيءٌ يتعلق به تعلُّقاً واضحاً ، فلا ضرورة تدعو إلى الخروج عنه . وفي هذه الآية إقامةُ الظاهرِ مُقامَ المضمر ، إذ الأصل : ولكنهم يَجْحدون بآيات الله ، ولكنه نَبَّه على أن الظلمَ هو الحاملُ لهم على الجُحود .
والجُحود والجَحْد نَفْيُ ما في القلب ثباتُه أو إثباتُ ما في القلب نفيُه . وقيل : الجَحْد : إنكار المعرفة فليس مرادفاً للنفي من كل وجه .

وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)

قوله تعالى : { مِّن قَبْلِكَ } : متعلَّقٌ ب « كَذَّبَتْ » ومنع أبو البقاء أن يكون صفةً لرسل لأنه زمانٌ ، والزمان لا يُوصف به الجثث ، وقد تقدَّم البحث في ذلك غيرَ مرةٍ وأَتْقَنْتُه في البقرة وذكرته قريباً هنا في قوله : { وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً } [ الأنعام : 6 ] .
قوله : { وَأُوذُواْ } يجوز/ فيه أربعة أوجه أظهرها : أنه عطفٌ على قوله « كُذِّبَتْ » أي : كُذِّبَت الرسلُ وأُوْذُوا فصبروا على كل ذلك . والثاني : أنه معطوفٌ على « صَبَروا » أي : فصبروا وأُوْذُوا . والثالث : - وهو بعيدٌ- أن يكونَ معطوفاً على « كُذِّبوا » فيكون داخلاً في صلة الحرف المصدري والتقدير : فصَبروا على تكذيبهم وإيذائهم . والرابع : أن يكون مستأنفاً قال أبو البقاء : « ويجوز أن يكون القف تَمَّ على قوله » كُذِّبوا « ثم استأنف فقال : » أُوْذوا « .
وقرأ الجمهور : { وأُوْذُوا } بواو بعدَ الهمزةِ من آذى يؤذي رباعياً . وقرأ ابن عامر في روايةٍ شاذةٍ : » وأُذوا « من غير واو بعد الهمزة ، وهو من أَذَيْتُ الرجل ثلاثياً لا من » آذيت « رباعياً .
قوله : { حتى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا } الظاهر أن هذه الغايةَ متعلقةٌ بقوله : » فصبروا « أي : كان غايةُ صبرهم نَصْرَ الله إياهم ، وإن جَعَلْنا » وأوذوا « عطفاً عليه كانت غايةً لهما ، وهو واضح جداً . وإن جعلناه مستأنفاً كانت غايةً له فقط ، وإن جَعَلْناه معطوفاً على » كُذِّبَتْ « فتكون الغاية للثلاثة . والنصر مضافٌ لفاعله ومفعوله محذوف ، أي : نَصْرُنا إياهم . وفيه التفاتٌ من ضمير الغيبة إلى التكلُّم ، إذ قلبه » بآيات الله « فلو جاء على ذلك لقيل : نَصْرُه . وفائدةُ الالتفات إسناد النصر إلى ضمير المتكلم المُشْعر بالعظمة .
قوله : { وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِ المرسلين } في فاعل » جاء « وجهان ، أحدهما : هو مضمر ، واختلفوا فيما يعود عليه هذا الضمير ، فقال ابن عطية : » الصواب عندي أن يقدر : « جَلاء ، و بيان » . وقال الرماني : « تقديره : ولقد جاءك نبأ » وقال الشيخ : « الذي يظهر لي أنه يعود على ما دل عليه المعنى من الجملة السابقة ، أي : ولقد جاءك هذا الخبرُ من تكذيبِ أَتْباع الرسل للرسل والصبر والإِيذاء إلى أن نُصِروا » . وعلى هذه الأقوال يكون « من نبأ المرسلين » في محل نصب على الحال من ذلك الضمير ، وعاملها هو « جاء » لأنه عاملٌ في صاحبها . والثاني : أنَّ « من نبأ » هو الفاعل ، ذكره الفارسي ، وهذا إنما يتمشَّى له على رأي الأخفش؛ لأنه لا يَشْترط في زيادتها شيئاً وهذا - كما رأيت - كلامٌ موجَبْ ، والمجرور ب « مِنْ » معرفة . وضُعِّفَ أيضاً من جهة المعنى بأنه لم يَجِئْه كلُّ نبأ للمرسلين لقوله :

{ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ } [ غافر : 78 ] ، وزيادة « مِنْ » تؤدي إلى أنه جاءه جميع الأنباء؛ لأنه اسم جنس مضاف ، والأمر بخلافِه .
ولم يتعرَّض الزمخشري للفاعل إلا أنه قال : « ولقد جاءك من نبأ المرسلين بعضُ أبنائهم وقصصهم » وهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب ، إذ « مِنْ » لا تكون فاعلة ، ولا يجوز أن يكون « من نبأ » صفةً لمحذوف هو الفاعل ، أي : ولقد جاءك نبأ من نبأ المرسلين ، لأن الفاعلَ لا يُحْذَفُ بحالٍ إلا في مواضع ذُكِرت ، كذا قالوا . قال أبو البقاء : « ولا يجوز عند الجميع أن تكون » مِنْ « صفةً لمحذوف ، لأن الفاعلَ لا يُحْذف ، وحرف الجر إذا لم يكن زائداً لم يصحِّ أن يكون فاعلاً لأنَّ حرف لاجر يُعَدِّي ، وكل فعل يعمل في الفاعل من غير تعدٍّ » يعني بقولِهِ « لم يصحَّ أن يكونَ فاعلاً » لم يَصِحَّ أن يكون المجرور بذلك الحرف ، وإلاَّ فالحرفُ لا يكونُ فاعلاً البتة .

وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)

قوله تعالى : { وَإِن كَانَ كَبُرَ } : هذا شرطٌ ، جوابه الفاء الداخلة على الشرط الثاني ، وجواب الثاني محذوف تقديره : فإن استطعت أن تبتغي فافعلْ ، ثم جُعِل الشرطُ الثاني وجوابُه جواباً للشرط الأول ، وقد تقدَّم مِثْلُ ذلك في قوله : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم . . . . . فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ } [ البقرة : 38 ] . وتقدَّم تحرير القول فيه ، إلا أن جواب الثاني هناك مُظْهَرٌ . و « كان » في اسمها وجهان ، أحدهما : أنه « إعراضهم » و « كَبُرَ » جملة فعلية في محل نصب خبراً مقدماً على الاسم ، وهي مسألة خلاف : هل يجوزُ تقديمُ خبرِ كان على اسمها إذا كان فعلاً رافعاً لضمير مستتر أم لا؟ وأمَّا إذا كان خبراً للمبتدأ فلا يجوزُ البتةَ ، لئلا يلتبسَ بباب الفاعل واللَّبْسُ هنا مَأْمون . وَوَجْهُ المَنْع استصحابُ الأصل . و « كَبُر » إذا قيل : إنه خبر « كان » فهل يُحتاج إلى إضمار « قد » أم لا؟ والظاهر أنه لا يحتاج ، لأنه كثر وقع الماضي خبراً لها من غير « قد » نظماً ونثراً بعضهم يَخُصُّ ذلك ب « كان » ويمنعه في غيرها من أخواتها إلا ب « قد » ظاهرةً أو مضمرةً ومن مجيء ذلك في خبر أخواتها قولُ النابغة :
1905- أمسَتْ خَلاءً وأمسى أهلُها احَتَمَلُوا ... أَخْنى عليها الذي أخنى على لُبَدِ
والثاني : أن يكونَ اسمُها ضميرَ الأمر والشأن ، والجملة الفعلية مفسِّرةٌ له في محل نصب على الخبر ، فإعراضُهم مرفوعٌ ب « كَبُر » وفي الوجه الأول ب « كان » ، ولا ضمير في « كَبُر » على الثاني ، وفيه ضمير على الأول . ومثلُ ذلك في جواز هذين الوجهين قوله تعالى : { وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ } [ الأعراف : 137 ] { وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا } [ الجن : 4 ] ، ففرعون يحتمل أن يكون اسماً ، وأن يكون فاعلاً وكذلك « سفيهُنا » ومثلُه أيضاً قولُ امرئ القيس .
1906- وإنْ تَكُ قد ساءَتْكِ مني خَليقةٌ ... فَسُلِّي ثيابي مِنْ ثيابك تَنْسُلِ
فخليقة يحتمل الأمرين . وإظهار « قد » هنا يرجَّح قولَ مَنْ يشترطها ، وهل يجوز في مثل هذا التركيب التنازعُ؟ وذلك أن كلاً من « كان » وما بعدها من الأفعال المذكورة في هذه الأمثلةِ يطلب المرفوع من جهة المعنى ، وشروط الإِعمال موجودة . وكنت قديماً سألت الشيخ عن ذلك فأجابَ بالمنع ، محتَّجاً بأنَّ شرط الإِعمال أن لا يكونَ أحدُ المتنازعين مفتقراً إلى الآخر ، وأن يكونَ من تمام معناه ، و « كان » مفتقرةٌ إلى خبرها وهو من تمام معناها . وهذا الذي ذكره من المنع وترجيحِه ظاهرٌ ، إلا أن النَّحْويين لم يذكروه في شروط الإِعمال .
وقوله : { وَإِن كَانَ كَبُرَ } مؤولٌ بالاستقبال وهو التَبيُّن والظهور فهو كقوله :

{ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ } [ يوسف : 26 ] أي : إنْ تبيَّن وظَهَر ، وإلاَّ فهذه الأفعالُ قد وقعتْ وانقضتْ فكيف تقع شرطاً؟ وقد تقدَّم أنَّ المبردَ يُبْقي « كان » خاصةً على مضيِِّها في المعنى مع أدوات الشرط ، وليس بشيء . وأمَّا : « فإن استطعتَ » فهو مستقبلٌ معنى لأنه لم يقعْ بخلافِ كونه كَبُر عليه إعراضُهم وقَدِّ القميص « وأن تبتغي » مفعولُ الاستطاعة . « ونَفَقاً » مفعول الابتغاء .
والنَّفَقُ : السَّرَب النافذ في الأرض وأصله في جُحْرة اليربوع ومنه النافقاء والقاصِعاء ، وذلك أن اليربوعَ يَحْفِر [ في ] الأرض سَرَباً ويجعل له بابين ، وقيل : ثلاثة؛ النَّافِقاء والقاصعاء والدَّابِقاء ، ثم يَرِقُّ بالحفر ما تقارب وجه الأرض ، فإذا نابه أمرٌ دفع تلك القشرةَ الرقيقةَ وخرجَ ، وقد تقدَّم لك استيفاء هذه المادة عند ذكر { يُنْفِقُونَ } [ البقرة : 3 ] و { المنافقين } [ النساء : 61 ] .
وقوله { فِي الأرض } ظاهرُه أنه متعلقٌ بالفعل قبله ، ويجوز أن يكون صفةً ل « نَفَقاً » فيتعلَّقَ بمحذوف ، وهي صفة لمجرد التوكيد إذ النفق لا يكون إلا في الأرض . وجوَّز أبو البقاء مع هذين الوجهين أن يكونَ حالاً من فاعل « تَبْتغي » أي : وأنت في الأرض ، قال : « وكذلك في السماء » يعني مِنْ جوازِ الأوجه الثلاثة ، وهذا الوجهُ الثالث ينبغي أن لا يجوز لخُلُوِّه عن الفائدة .
والسُّلَّم : قيل : المِصْعَد ، وقيل : الدَّرَج ، وقيل : السبب ، تقول العرب : اتَّخِذْني سُلَّماً لحاجتك أي : سبباً ، قال كعب بن زهير :
1907- ولا لكما مَنْجَىً من الأرض فابغِيا ... بها نَفَقاً أو في السماوات سُلَّماً
وهو مشتقٌّ من السَّلامة ، قالوا : لأنه يُسْلَمُ به إلى المصعد . والسُّلَّم مذكر ، وحكى الفراء تأنيثه ، قال بعضهم ، ليس ذلك بالوضع ، بل لأنه بمعنى المِرْقاة كما أنَّث بعضهم الصوت في قوله :
1908- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... سائِلْ بني أَسَدٍ ما هذه الصَّوْتُ
لمَّا كان في معنى الصرخة .

إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)

قوله تعالى : { والموتى يَبْعَثُهُمُ الله } : فيه ثلاثةُ أوجه ، أظهرها : أنها جملة من مبتدأ وخبر سِيْقَتْ للإِخبار بقدرته ، وأنَّ مَنْ قَدَرَ على بعث الموتى يَقِدْرُ على إحياء قلوب الكفرة بالإِيمان فلا تتأسَّفْ على مَنْ كفر . والثاني : أن « الموتى » منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر بعده ، ورُجِّح هذا الوجهُ على الرفع بالابتداء لعطف جملة الاشتغال على جملةٍ فعلية قبلها فو نظير : { والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [ الإِنسان : 31 ] بعد قوله : { يُدْخِل } والثالث : أنه مرفوع نسقاً على الموصول قبله ، والمراد بالموتى الكفار أي : إنما يَسْتجيب المؤمنون السامعون من أول وهلة ، والكافرون الذين يُجيبهم الله تعالى بالإِيمان ويوفقهم له ، وعلى هذا فتكون الجملة من قوله : { يَبْعَثُهُمُ الله } في محل نصب على الحال ، إلا أن هذا القولَ يُبْعده قوله تعالى : { ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } إلا أن يكون من ترشيح المجاز . وتقدَّمت له نظائر .
وقرئ { يَرْجِعون } مِنْ رَجَع اللازم .

وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37)

قوله تعالى : { مِّن رَّبِّهِ } : فيها وجهان ، أحدهما : أنها متعلقة ب « نُزِّل » والثاني : أنها متعلِّقةٌ بمحذوفٍ لأنها صفةٌ ل « آية » أي : آية كائنة من ربه . وتقدَّم الكلام على « لولا » وأنها تحضيضية .

وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)

قوله تعالى : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ } : « مِنْ » زائدة لوجود الشرطين وهي مبتدأ ، و « إلا أممٌ » خَبُروها مع ما عُطِفَ عليها . وقوله « في الأرض » صفةٌ لدابَّة ، فيجوز لك أن تجعلَها في محلِّ جر باعتبار اللفظ ، وأن تجعلها في محصل رفع باعتبار الموضع .
قوله : { وَلاَ طَائِرٍ } الجمهور على جرِّه نسقاً على لفظ « دابة » ، وقرأ ابن أبي عبلة برفعه نسقاً على موضعها . وقرأ ابن عباس : « ولا طيرٍ » من غير ألف . وقد تقدَّم الكلامُ فيه : هل هو جمع أو اسم جمع؟ وقوله : { يطير } في قراءة الجمهور يحتمل أن يكون في محلِّ جر باعتبار لفظه ، ويحتمل أن يكون في محل رفع باعتبار موضعه . وأمَّا على قراءة ابن أبي عبلة ففي محل رفع ليس إلا . وفي قوله « ولا طائر » ذكرُ خاصٍ بعد عام ، لأنَّ الدابَّةَ تَشْمل كلَّ ما دَبَّ من طائرٍ وغيره فهو كقوله : { وملائكته . . . . . وَجِبْرِيلَ } [ البقرة : 98 ] وفيه نظر إذ المقابلة هنا تنفي أن تكون الدابة تشمل الطائر .
قوله : { بِجَنَاحَيْهِ } فيه قولان ، أحدهما : أن الباء متعلقة ب « يطير » وتكونُ الباءُ للاستعانة . والثاني : أن تتعلَّقَ بمحذوف على أنها حال وهي حال مؤكدة ، وفيها رفعُ مَجازٍ يُتَوَهَّم؛ لأنَّ الطيران يُستعار في السرعة قال :
1909- قومٌ إذا الشرُّ أبدَى ناجِذَيْه لهم ... طاروا إليه زَرافاتٍ ووِحْدانا
ويُطلق الطيرُ على العمل ، قال تعالى : { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ } [ الإِسراء : 13 ] .
وقوله : { إِلاَّ أُمَمٌ } خبر المبتدأ ، وجُمع وإن لم يتقدَّمْهُ إلا شيئان ، لأن المراد بها الجنس . و « أمثالكم » صفة لأُمَم ، يعني أمثالهم في الأرزاق والآجال والموت والحياة والحشر والاقتصاص لمظلومها من ظالمها . وقيل : في معرفة الله وعبادته .
قوله : { مِن شَيْءٍ } فيه ثلاثة أوجه ، أحدها : أن « مِنْ » زائدة في المفعول به والتقدير : ما فرَّطْنا شيئاً ، وتضمَّنه « فرَّطنا » معنى تركنا وأغفلنا ، والمعنى : ما أَغْفَلْنا ولا تَرَكْنا شيئاً . ثم اختلفوا في الكتاب : ما المراد به؟ فقيل : اللوح المحفوظ ، وعلى هذا فالعموم ظاهر لأن الله تعالى أثبت ما كان وما يكون فيه . وقيل : القرآن ، وعلى هذا فهل العمومُ باقٍ؟ منهم من قال : نعم ، وأن جميع الأشياء مثبتة في القرآن . إمَّا بالصريح وإمَّا بالإِيماء ، ومنهم من قال : إنه يُراد به الخصوص ، والمعنى : من شيءٍ يحتاج إليه المُكَلَّفون . والثاني : أن « مِنْ » تبعيضيةٌ أي : ما تركْنا ولا أَغْفَلْنا في الكتاب بعضَ شيء يَحْتاج إليه المكلَّف . الثالث : أنَّ « من شيء » في محل نصب على المصدر و « من » زائدة فيه أيضاً . ولم يُجِزْ أبو البقاء غيره ، فإنه قال : « مِنْ » زائدة ، و « شيء » هنا واقع موقع المصدر أي تفريطاً .

وعلى هذا التأويل لا يَبْقى في الآية حجةٌ لمن ظنَّ أن الكتابَ يَحْتوي على ذِكْر كل شيء صريحاً . ونظير ذلك : { لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً } [ آل عمران : 120 ] ، ولا يجوز أن يكون مفعولاً به لأنَّ « فرَّطْنا » لا يتعدى بنفسه بل بحرف الجر ، وقد عُدِّيَتْ إلى الكتاب ب « في » فلا يتعدَّى بحرف آخر ، ولا يَصِحُّ أن يكون المعنى : ما تركنا في الكتاب من شيء ، لأن المعنى على خلاف فبان التأويل بما ذكرنا « انتهى . قوله : » يحتوي على ذِكْر كل شيء صريحاً « لم يَقُلْ به أحدٌ لأنَّه مكابرة في الضروريات . وقرأ الأعرج وعلقمة : » فَرَطْنا « مخفَّفاً ، فقيل : هما بمعنى . وعن النقاش : فَرَطْنا : أخَّرْنا كما قالوا : » فَرَط الله عنك المرض « أي : أزاله .

وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)

قوله تعالى : { والذين كَذَّبُواْ } : مبتدأٌ وما بعده الخبرُ . ويجوز أن يكون « صمٌّ » خبرَ مبتدأ محذوف ، والجملة خبر الأول ، والتقدير : والذين كذَّبوا بعضُهم صمٌّ وبعضُهم بُكْمٌ ، وقال أبو البقاء : « صمٌّ وبُكْمٌ الخبرُ ، مثل حلو حامض ، والواو لا تمنع من ذلك » . قلت : هذا الذي قاله لا يجوزُ مِنْ وجهين ، أحدهما : أنَّ ذلك إنما يكون إذا كان الخبران في معنى خبر واحد لأنهما في معنى مُزّ ، وهو أَعْسَرُ يَسَرٌ بمعنى أضبط ، وأمَّا هذان الخبران فكلُّ منهما مستقلٌّ بالفائدة . والثاني : أن الواو لا تجوز في مثل هذا إلا عند أبي علي الفارسي وهو وجه ضعيف .
قوله : { فِي الظلمات } فيه أوجهٌ ، أحدها : أن يكون خبراً ثانياً لقوله : { والذين كَذَّبُواْ } ويكون ذلك عبارةً عن العَمَى ، ويصير نظيرَ الآيةِ الأخرى : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } [ البقرة : 18 ] فَعَبَّر عن العمى بلازمه ، والمراد بذلك عَمَى البصيرة . والثاني : أنه متعلِّقٌ بمحذوف على أنه حال من الضمير المستكنِّ في الخبر تقديرُه : ضالُّون حال كونهم مستقرين في الظلمات . الثالث : أنه صفةٌ ل « بُكْم » فيتعلَّق أيضاً بمحذوف أي بُكم كائنون في الظلمات . الرابع : أن يكون ظرفاً على حقيقته وهو ظرف ل « صُمُّ » أو ل « بُكْم » قال أبو البقاء : « أو لِما ينوبُ عنهما في الفعل » أي : لأن الصفتين في قوة التصريح بالفعل .
قوله : { مَن يَشَإِ الله يُضْلِلْهُ } في « مَنْ » وجهان ، أحدهما : أنها مبتدأ وخبرها ما بعدها ، وقد عُرِف غير مرة . ومفعول « يشأ » محذوف أي : مَنْ يشأ الله إضلاله . والثاني : أنه منصوب بفعل مضمر يفسِّره ما بعده من حيث المعنى ، ويقدِّر ذلك الفعل متأخراً عن اسم الشرط لئلا يلزمَ خروجه عن الصدر ، وقد تقدَّم التنبيهُ على ذلك وأن فيه خلافاً ، والتقدير : مَنْ يُشْقِ اللهُ يَشَأْ إضلاله ومن يُسْعِدْ يَشَأ هدايته . فإن قلت : هل يجوز أن تكون « مَنْ » مفعولاً مقدَّماً ل « يشأ »؟ فالجواب أن ذلك لا يجوز لفساد المعنى . فإن قلت : أُقَدِّرُ مضافاً هو المفعول حُذِفَ وأقيمت « مَنْ » مُقامه تقديره : إضلال مَنْ يشاء وهداية من يشاء ، ودلَّ على هذا المضاف جوابُ الشرط . فالجوابُ أنَّ الأخفشَ حكى عن العرب أنَّ اسم الشرط غير الظرف والمضاف إلى سام الشرط لا بد أن يكون في الجزاء ضمير يعود عليه أو على ما أُضيف إليه ، فالضمير في « يُضْلِلْه » و « يِجْعَلُه » إمَّا أن يعود على المضاف المحذوف ويكونَ كقوله : { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ } [ النور : 40 ] فالهاء في « يغشاه » تعود على المضاف أي : كذي ظلمات يَغْشاه ، وإمَّا أن يعود على اسم الشرط ، والأول ممتنع ، إذ يصير التقدير : إضلال مَنْ يشأ الله يُضْلِلْه أي : يُضِلُّ الإِضلال ، وهو فاسدٌ .

والثاني : أيضاً ممتنعٌ لخلوِّ الجوابِ من ضمير يعود على المضاف إلى اسم الشرط . فإن قيل : يجوز أن يكون المعنى : مَنْ يشأ الله بالإِضلال وتكون « مَنْ » مفعولاً مقدماً؛ لأنَّ « شاء » بمعنى أراد ، و « أراد » يتعدى بالباء قال :
1910- أرادَتْ عَراراً بالهَوانِ ومَنْ يُرِدْ ... عَراراً لعَمْري بالهَوان فقد ظَلَمْ
قيل : لا يلزم من كون « شاء » بمعنى « أراد » أن يتعدَّى تعديته ، ولذلك نجد اللفظ الواحد تختلف تعديتُه باختلافِ متعلَّقِه تقول : دخلت الدار ودخلت في الأمر ، ولا تقول : دخلتُ الأمرَ ، فإذا كان ذلك في اللفظ الواحد فما بالك بلفظين؟ ولم يُحفظ عن العرب تعديةُ « شاء » بالباء وإن كانت في معنى أراد .

قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40)

قوله تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُكُم } : يجوز نَقْلُ حركة همزة الاستفهام إلى لام « قُلْ » وتحذف الهمزة تخفيفاً وهي قراءة ورش ، وهو تسهيل مطرَّد ، وأرأيتكم هذه بمعنى أَخْبِرْني ، ولها أحكام تختص بها ، اضطربت أقوال الناس فيها ، وانتشر خلافهم فلا بد من التعرُّض لذلك فأقول :
« أرأيْتَ » إن كانت البصَريَة أو العِلْميةَ الباقيةَ على معناها أو التي لإِصابة الرئة كقولهم : « رَأَيْتُ الطائر » أي : أصبت رِئَته ، لم يَجُزْ فها تخفيفُ الهمزةِ التي هي عينُها ، بل تُحَقَّق ليس إلا ، أو تُسَهَّل بينَ بينَ من غير إبدال ولا حذف ، ولا يجوز أن تَلْحَقَها كافٌ على أنها حرف خطاب ، بل إن لحقها كاف كانت ضميراً مفعولاً أولَ ويكون مطابقاً لما يُراد به من تذكير وتأنيثٍ وإفراد وتثنية وجمع ، وإذا اتَّصَل‍َتْ بها تاءُ خطاب لَزِم مطابقتُها لما يُراد بها ممَّا ذُكِر ، ويكون ضميراً فاعلاً نحو : أرأيتم ، أرأيتما أرأيتنَّ ، ويدخلها التعليق والإِلغاء .
وإن كانت العِلْميَّةَ التي ضُمِّنَتْ معنى « أخبرني » اختصَّتْ بأحكامٍ أُخَرَ منها : أنه يجوز تسهيل همزتها بإبدالها ألفاً ، وهي مَرْوِيَّةٌ عن نافع من طريق ورش ، والنحاةُ يَسْتَضْعِفُون إبدالَ هذه الهمزةِ ألفاً ، بل المشهورُ عندهم تسهيلُها بين بين ، وهي الرواية المشهورة عن نافع ، لكنه قد نَقَل الإِبدالَ المحض قطربٌ وغيرُه من اللغويين . قال بعضهم : « هذا غَلَطٌ غُلِطَ عليه » أي على نافع . وسببُ ذلك أن يؤدِّي إلى الجمع بين ساكنين فإن الياء بعدها ساكنة . ونقل أبو عبيد القاسم بن سلام عن أبي جعفر ونافع وغيرهما من أهل المدينة أنهم يُسْقطون الهمزة ، ويَدِّعون أن الألف خَلَفٌ منها . قلت : وهذه العبارة تُشْعر أن هذه الألف ليست بدلاً عن الهمزة ، بل جيء بها عوضاً عن الهمزة الساقطة .
وقال مكي ، بن أبي طالب : « وقد رُوي عن ورش إبدالُ الهمزة ألفاً ، لأن الرواية عنه أنه يَمُدُّ الثانية ، والمدُّ لا يتمكَّن ، إلا مع البدل ، وحسَّن جوازُ البدلِ في الهمزة وبعدها ساكنٌ أنَّ الأولَ حرفُ مَدٍّ ولين ، فإن هذا الذي يحدث مع السكون يقومُ مقامَ حركةٍ يُتَوَصَّلُ بها إلى النطق بالساكن » وقد تقدَّم لك شيءٌ من هذا عند قوله « أأنذرتهم » . ومنها : أن تُخْذَفَ الهمزة التي هي عين الكلمة ، وبها قرأ الكسائي ، وهي فاشيةٌ نظماً ونثراً ، فَمِنَ النظم قوله :
1911- أرَيْتَ ما جاءت به أُمْلُودا ... مُرَجَّلاً ويلبسُ البُرودا
أقائِلُنَّ أحضِروا الشهودا ... وقال آخر :
1912- أرَيْتُكَ إذ هُنَّا عليك الم تَخَفْ ... رقيباً وحولي مِنْ عَدُوِّك حُضَّرُ
وأنشد الكسائي لأبي الأسود :
1913- أَرَيْتَ امرَأً كنت لم أَبْلُهُ ... أتاني فقال اتَّخِذْني خليلا
وزعم الفراء أن هذه اللغة لغة أكثر العرب ، قال : « في أَرَأيْتَ لغتان ومعنيان ، أحدهما : أن يسأل الرجل : أرأيت زيداً ، أي : أعلمت ، فهذه مهموزة ، وثانيهما : أن تقول : أرأيت بمعنى أَخْبِرْني ، فههنا تُتْرك الهمزة إن شِئْتَ وهو اكثرُ كلامِ العرب ، تُوْمِئ إلى تَرْك الهمزِ للفرق بين المعنيين » انتهى .

وفي كيفيَّةِ حَذْفِ هذه الهمزة ثلاثةُ أوجه ، أحدها : - وهو الظاهر - أنه اسْتُثْقِلَ الجمعُ بين همزتين في فِعْلٍ اتصل به ضمير ، فَخَفَّفَه بإسقاط إحدى الهمزتين ، وكانت الثانيةُ أَوْلى لأنها حَصَل بها الثقلُ ، ولأنَّ حَذْفَها ثابتٌ في مضارع هذا الفعل نحو أرى ، ويرى ، ونرى ، وترى ، ولأنَّ حذف الأولى يُخلُّ بالتفاهم إذ هي للاستفهام والثاني : أنه أبدل الهمزة ألفاً كما فَعَلأ نافعٌ في رواية ورش فالتقى ساكنان فحذف أولهما وهو الألف ، والثالث : أنه أبدلها ياءً ثم سكَّنها ثم حَذَفَها لالتقاء الساكنين ، قاله أبو البقاء ، وفيه بُعْدٌ ، ثم قال : « وقَرَّب ذلك فيها حَذْفُها في مستقبل هذا الفعل » يعني في يرى وبابه . ورجَّح بعضُهم مذهبَ الكسائيّ بأن الهمزة قد اجتُرِئ عليها بالحذف ، وأنشد :
1914- إنْ لم أُقاتِلْ فالبِسَوني بُرْقُعا ... وأنشد لأبي الأسود :
1915- يابا المُغِيرةِ رُبَّ أمرٍ مُعْضِلٍ ... فرَّجْتُه بالمَكْرِ مني والدَّها
وقولهم : { وَيْلُمِّه } وقوله :
1916- وَيْلُمِّها خُلَّةً قد سِيْطَ مِنْ دَمِها ... فَجْعٌ وَوَلْعٌ وأخلافٌ وتَبْديلُ
وأنشد أيضاً :
1917- ومَنْ رَاْ مثلَ مَعْدانَ بِن سعدٍ ... إذا ما النِّسْعُ طال على المَطِيَّةْ
أي : ومن رأى
ومنها : أنه لا يدخلها تعليقٌ ولا إلغاء لأنها بمعنى أخبرني ، و « أخبرني » لا يُعَلَّقُ عند الجمهور . قال سيبويه : « وتقول : أَرَأَيْتَك زيداً أو مَنْ هو؟ لا يَحْسُنُ فيه إلا النصبُ في » زيد « ألا ترى أنك لو قلت : » أرأيت أو مَنْ انت؟ « لم يحسن ، لأن فيه معنى أخبرني عن زيد ، وصار الاستفهامُ في موضع المفعول الثاني » وقد خالف سيبويه غيرَه من النحويين وقالوا : كثيراً ما تُعَلَّق « أرأيت » وفي القرآن من ذلك كثيرٌ ، واستدلُّوا بهذه الآيةِ التي نحن فيها ، وبقوله : { أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وتولى أَلَمْ يَعْلَم } [ العلق : 1314 ] ، وبقوله :
1918- أرَيْتَ ما جاءَتْ به أملودا ... وهذا لا يَرِد على سيبويه ، وسيأتي تأويل ذلك قريباً .
ومنها : أنها تَلْحَقُها التاءُ فَيُلْتَزَمُ إفرادها وتذكيرها ويستغنى عن لحاق علامة الفروع بها بلحاقها بالكاف بخلاف التي لم تُضَمَّن معنى « أخبرني » فإنها تطابق فيها - كما تقدَّم - ما يُراد بها .
ومنها : أنه يَلْحَقُها كافٌ هي حرفُ خطاب تطابق ما يُراد بها من إفراد وتذكير وضدَّيهما . وهل هذه التاء فاعل والكاف حرف خطاب تُبَيِّن أحوالَ التاء ، كما تُبَيِّنه إذا كانت ضميراً ، أو التاء حرف خطاب والكاف هي الفاعل ، واستعير ضميرُ النصبِ في مكان ضمير الرفع ، أو التاءُ فاعلٌ أيضاً ، والكاف ضمير في مضوع المفعول الأول؟ ثلاثة مذاهبَ مشهورة ، الأولُ قولُ البصريِّين ، والثاني قول الفراء ، والثالثُ قولُ الكسائي .

ولنقتصر على بعضِ أدلةِ كلِّ فريق .
قال أبو علي : « قولهم » : « أَرَأَيْتَكَ زيداً ما فعل » بفتح التاء في جميع الأحوال ، فالكافُ لا يَخْلو أن يكون للخطاب مجرداً ، ومعنى الاسميةِ مخلوعٌ منه ، أو يكون دالاً على الاسم مع دلالته على الخطاب ، ولو كان اسماً لوجبَ أن يكونَ الاسمُ الذي بعده هو هو ، لأن هذه الأفعالَ مفعولُها الثاني هو الأول في المعنى ، لكنه ليس به ، فتعيَّنَ أن يكون مخلوعاً منه الاسميةُ ، وإذا ثبت أنه للخطاب مُعرَّى من الاسمية ثبت أن التاء لا تكون لمجرَّد الخطاب . ألا ترى أنه ينبغي أن يَلْحق الكلمةَ علامتا خطاب ، كما لا يلحقها علامتا تأنيث ولا علامتا استفهام ، فلمَّا لم يَجُز ذلك أُفْرِدَت التاء في جميع الأحوال لَمَّا كان الفعل لا بد له من فاعل ، وجُعِل في جميع الأحوال على لفظ واحد استغناءً بما يلحق الكاف ، ولو لحق التاءَ علامةُ الفروع لاجتمع علامتان للخطاب مما كان يلحق التاء ، وممَّا كان يلحق الكاف ، فلما كان ذلك يؤدِّي إلى ما لا نظيرَ له رُفِضَ وأُجْري على ما عليه سائر كلامهم « .
وقال الزجاج عبد حكايته مذهبَ الفراء : » وهذا القول لم يَقْبله النحويون القدماء وهو خطأٌ؛ لأنَّ قولَك : « أرأيتك زيداً ما شأنه » لو تَعَدَّت الرؤية إلى الكاف وإلى زيد لصار المعنى : أَرَأَتْ نَفْسُك زيداً ما شأنُه ، وهذا مُحالٌ « ثم ذكر مذهبَ البصريين . وقال مكي بن أبي طالب بعد حكايته مذهبَ الفراء : » وهذا مُحالٌ؛ لأنَّ التاءَ هي الكاف في أرأيتكم ، فكان يجب أن تَظْهر علامةُ جمع التاء ، وكان يجب أن يكون فاعلاً لفعلٍ واحد وهما لشيء واحد ، ويجب أن يكون معنى قولك أرأيتَك زيداً ما صنع : أرأيْتَ نفسَك زيداً ما صنع ، لأن الكاف هو المخاطب ، وهذا مُحَالٌ في المعنى ومتناقض في الإِعراب والمعنى ، لأنك تستفهم عن نفسه في صدر السؤال ، ثم تَرُدُّ السؤالَ إلى غيره في آخره وتخاطبه أولاً ، ثم تأتي بغائب آخر ، أو لأنه يصير ثلاثة مفعولين لرأيت ، وهذا كلُّه لا يجوزُ ، ولو قلت : « أرأيتك عالماً بزيد » لكان كلاماً صحيحاً وقد تعدَّى « رأى » إلى مفعولين « .
وقال ابو البقاء بعدما حكى مذهب البصريين : » والدليل على ذلك أنها - أي الكاف - لو كانت اسماً لكانت : إمَّا مجرورةً - وهو باطل ، إذ لا جارَّ هنا - وإمَّا مرفوعةً ، وهو باطلٌ أيضاً لأمرين ، أحدهما : أن الكافَ ليسَتْ من ضمائرِ الرفع ، والثاني : أنها لا رافعَ لها ، إذ ليست فاعلاً لأن التاء فاعل ، ولا يكون لفعلٍ واحد فاعلان ، وإمَّا أن تكون منصوبةً وذلك باطلٌ لثلاثة أوجه ، أحدُها : أن هذا الفعلَ يتعدَّى إلى مفعولين كقولك : « أرأيت زيداً ما فعلَ » فلو جُعِلَت الكافُ مفعولاً لكان ثالثاً .

والثاني : أنه لو كان مفعولاً لكان هو الفاعل في المعنى ، وليس المعنى على ذلك ، إذ ليس الغرضُ أرأيت نفسك ، بل أرأيت غيرك . ولذلك قلت : أرأيت زيداً ، وزيداً غير المخاطب ولا هو بدل منه . والثالث : أنه لو كان منصوباً على أنه مفعول لظهرَتْ علامةُ التثنية والجمعِ والتأنيث في التاء فكنت تقول : أرأيتماكما ، أرأيتموكم ، أرأيتكنَّ « ثم ذكر مذهبَ الفراء ثم قال : » وفيما ذَكَرْنا إبطالٌ لمذهبه « .
وقد انتصر أبو بكر بن الأنباري لمذهب الفراء بأن قال : » لو كانت الكاف توكيداً لوقعت التثنية والجمع بالتاء ، كما يقعان بها عند عدم الكاف ، فلمَّا فُتِحت التاءُ في خطاب الجمع ووقع مِيْسَم الجمع لغيرها كان ذلك دليلاً على أن الكافَ غيرُ توكيد . ألا ترى أن الكاف لو سَقَطَت لم يَصْلُحْ أن يُقال لجماعة : أرأيت ، فوضح بهذا انصرافُ الفعلِ إلى الكاف وأنها واجبةٌ لازمةٌ مفتقر إليها « . وهذا الذي قاله أبو بكر باطل بالكاف اللاحقةِ لاسمِ الإِشارة ، فإنها يقع عليها مِيْسَمُ الجمعِ ، ومع ذلك هي حرف .
وقال الفراء : » موضعُ الكاف نصب ، وتأويلها رفع؛ لأن الفعل يتحول عن التاء إليها ، وهي بمنزلة الكاف في « دونك » إذا أغري بها ، كما تقول : « دونكَ زيداً » فتجد الكاف في اللفظ خَفْضاً وفي المعنى رفعاً ، لأنها مأمورةٌ ، فكذلك هذه الكافُ موضعُها نصبٌ وتأويلها رفع « . قلت : وهذه الشبهةُ باطلةُ مما تقدم ، والخلاف في » دونك « و » إليك « وبابِهما مشهورٌ تقدَّم التنبيهُ عليه غيرَ مرة .
وقال الفراء أيضاً كلاماً حسناً رأيت أن أذكره فإنه مُبين نافع ، قال : » للعرب في « أرأيْتَ » لغتان ومعنيان ، أحدُهما رؤيةُ العين ، فإذا أردت هذا عَدَّيْتَ الرؤية بالضمير إلى المخطاب ويتصرَّف تصرُّفَ سائرِ الأفعال ، تقول للرجل : « أرأيتك على غير هذه الحال » تريد : هل رأيتَ نفسَك ، ثم تثنِّي وتجمع فتقول : أرأيتماكما ، أرأيتموكم ، أرأيتكنَّ ، والمعنى الآخر : أن تقول « أرأيتك » وأنت تريد معنى أخبرني ، كقولك : أرأيتك إنْ فَعَلْتَ كذا ماذا تفعل أي : أخبرني ، وتترك التاء - إذا أردت هذا المعنى - موحدةً على كل حال تقول : أرأيتكما ، أرأيتكم ، أرأيتكنَّ ، وإنما تركَتِ العربُ التاءَ واحدةً؛ لأنهم لم يريدوا أن يكون الفعل واقعاً من المخاطب على نفسه فاكتفوا من علامة المخاطب بذكره في المكان ، وتركوا التاء على التذكير والتوحيد إذا لم يكن الفعل واقعاً «؟
قال : والرؤيةُ من الأفعال الناقصة التي يُعَدِّيها المخاطبُ إلى نفسه بالمكنى مثل : ظنتُني وأريتُني ، ولا يقولون ذلك في الأفعال التامة ، لا يقولون للرجل : قتلتَك بمعنى : قتلتَ نفسَك ، ولا أحسنتَ إليك ، كما يقولون : متى تظنُّك خارجاً؟ وذلك أنَّهم أرادوا الفصلَ بين الفعل الذي قد يُلغى وبين الفعلِ الذي لا يجوزُ إلغاؤه ، ألا ترى أنك تقول : » أنا أظنُّ خارجٌ « فتلغي » أظن « وقال الله تعالى :

{ أَن رَّآهُ استغنى } [ العلق : 7 ] ولم يَقُلْ : رأى نفسه . وقد جاء في ضرورة الشعر إجراءُ الأفعال التامة مُجْرى النواقص :
قال جران العود :
1919- لقد كان لي عن ضَرَّتَيْنِ عَدِمْتُني ... وعَمَّا أُلاقي منهما مُتَزَحْزِحُ
والعرب تقول : عَدِمْتني ووَجَدْتُني وفَقَدْتُني وليس بوجه الكلام « انتهى .
واعلم أن الناس اختلفوا في الجملة الاستفهامية الواقعة بعد المنصوب بأرأيتك نحو : أرأيتك زيداً ما صنع؟ فالجمهور على أن » زيداً « مفعول أول ، والجملة بعده في محصل نصب سادَّةً مَسَدَّ المفعول الثاني . وقد تقدم أنه لا يجوز التعليق فيه هذه وإن جاز في غيرها من أخواتها نحو : علمت زيداً أبو مَنْ هو؟ وقال ابن كَيْسان : » إن الجملة الاستفهامية في رأيتك زيداً ما صنع بدل من أرأيتك « وقال الأخفش : » إن لا بد بعد « أرأيت » التي بمعنى أخبرني من الاسم المستَخْبَرِ عنه ، ويلزمُ الجملةَ التي بعده الاستفهامُ لأن « أخبرني » موافق لمعنى الاستفهام « وزعم أيضاً أنها تخرج عن بابها فتكون بمعنى » أما « أو » تنبَّه « ، وحينئذ لا يكون لها مفعولان ولا مفعول واحد ، وجعل من ذلك : { أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة فَإِنِّي نَسِيتُ الحوت } [ الكهف : 63 ] . وهذا ينبغي أن لا يجوز لأنه إخراج للَّفْظَة عن موضوعها من غير داعٍ إلى ذلك .
إذا تقرَّر هذا فليُرْجع إلى الآية الكريمة فنقول وبالله التوفيق : اختلف الناس في هذه الآية على ثلاثة أقوال ، أحدُها : أن المفعولَ الأولَ والجملةَ الاستفهامية التي سَدَّت مَسَدَّ الثاني محذوفان لفهم المعنى ، والتقدير : أرأيتكم عبادتكم الأصنام هل تنفعُكم » أو اتِّخاذَكم غيرَ الله إلهاً هل يَكْشِفُ ضُرَّكم؟ ونحو ذلك : فعبادَتَكُمْ أو اتِّخاذَكم مفعول أول ، والجملة الاستفهامية سادَّةٌ مَسَدَّ الثاني : والتاء هي الفاعل ، والكاف حرف خطاب .
الثاني : أن الشرط وجوابه - سيأتي بيانه - قد سَدَّا مَسَدَّ المعفولين لأنهما قد حَصَّلا المعنى المقصود ، فلم يَحْتج هذا الفعل إلى مفعولٍ ، وليس بشيء؛ لأن الشرط وجوابه لم يُعْهد فيهما أن يَسُدَّا مَسَدَّ مفعولي ظن ، وكونُ الفعلِ غيرَ محتاجٍ لمفعولٍ إخراجٌ له عن وضعه ، فإنْ عَنَى بقوله : « سَدَّا مَسَدَّه » أنَّهما دالاَّن عليه فهو المدَّعى .
والثالث : أن المفعول الأول محذوفٌ ، والمسألةُ من باب التنازع بين أرأيتكم وأتاكم ، والمتنازَعُ فيه هو لفظُ « العذاب » . وهذا اختيار الشيخ ، ولنوردْ كلامه ليظهرَ فإنَّه كلامٌ حسن قال : « فنقول : الذي نختاره : أنها باقية على حكمها في التعدِّي إلى اثنين ، فالأول منصوب والثاني لم نجده بالاستقراء إلا جلمة استفهامية أو قسمية .

فإذا تقرَّر هذا فنقول : المفعول الأول في هذه الآية محذوف ، والمسألة من باب التنازع ، تنازع « أرأيتكم » والشرط على « عذاب الله » ، فأعمل الثاني وهو « أتاكم » فارتفع « عذاب » به ، ولو أعمل الأول لكان التركيب : « عذاب » بالنصب ، ونظير ذلك : « اضرب إنْ جاءك زيد » على إعمال « جاءك » ولو نصب لجاز ، وكان من إعمال الأول . وأمَّا المفعول الثاني فهو الجملة من الاستفهام : « أغيرَ الله تَدْعُون » والرابط لهذه الجملة بالمفعول الأول المحذوف محذوف تقديره : أغيرَ الله تَدْعُنن لكَشْفِه ، والمعنى : قل أرأيتكم عذابَ الله إنْ أتاكم - أو الساعة إن أتتكم - أغيرَ الله تَدْعُون لكشفه أو لكشف نوازلها « انتها . والتقدير الإِعرابيُّ الذي ذكره يحتاج إلى بعض إيضاح ، وتقديره : قل أرأيتَكموه أو أرأيتَكم إياه إن أتاكم عذاب الله ، فلذلك الضمير هو ضمير العذاب لمَّا عمل الثاني في ظاهره أُعطي المُلْغَى ضميرَه ، وإذا أُضْمِرَ في الأول حُذِف ما لم يكن مرفوعاً أو خبراً في الأصل ، وهذا الضمير ليس مرفوعاً ولا خبراً في الأصل ، فلأجل ذلك حُذِف ولا يَثْبُتُ إلا ضرورةً .
وأمَّا جوابُ الشرط ففيه خمسةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه محذوفٌ ، فقدَّره الزمخشري : » إن أتاكم عذابُ الله مَنْ تدعون « قال الشيخ : » وإصلاحُه أن يقول : « فَمَنْ تدعون » بالفاء ، لأن جوابَ الشرطِ إذا وقع جملةً استفهاميةً فلا بتد فيه من الفاء . الثاني : أنه « أرأيتكم » ، قاله الحوفي ، وهو فاسِدٌ لوجهين ، أحدهما : أن جوابَ الشرط لا يتقدَّمُ عند جمهور البصريين ، إنما جوَّزَه الكوفيون وأبو زيدٍ والمبردُ والثاني : أن الجملةَ المصدَّرَةَ بالهمزة لا تقع جواباً للشرط البتة ، إنما يقع من الاستفهام ما كان ب « هل » أو اسمٍ من أسماء الاستفهام ، وإنما لم تقع الجملة المصدرة بالهمزة جوباً لأنه لا يخلو : أن تأتي معها بالفاء أو لا تأتي بها ، لا جائز أن لا تأتي بها؛ لأنَّ كلَّ ما لا يَصْلح شرطاً يجب اقترانه بالفاء إذا وقع جواباً ، ولا جائز أن تأتي بها لأنك : إمَّا أن تأتي بها قبل الهمزة نحو : إن قمت فأزيد منطلق « ، أو بعدها نحو : » أفزيد منطلق « ، وكلاهما ممتنعٌ ، أمَّا الأول فلتصدُّر الفاء على الهمزة ، وأما الثاني فلأنه يؤدي إلى عدم الجواب بالفاء في موضع كان يجب فيه الإِتيانُ بها ، وهذا بخلاف » هل « فإنك تأتي بالفاء قبلها فتقول : إن قمت فهل زيد قائم ، لأنه ليس لها تامُ التصدير الذي تستحقُّه الهمزةُ ، ولذلك تَصَدَّرَتْ على بعضِ حروف العطف وقد تقدَّم مشروحاً غير مرة .
الثالث : أنه » أغير الله « وهو ظاهر عبارة الزمخشري فإنه قال : » ويجوز أن يتعلَّق الشرطُ بقولِه : { أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ } كأنه قيل : أغير الله تَدْعُون إن أتاكم عذاب الله « قال الشيخ : » ولا يجوز أن يتعلَّق الشرط بقوله : « أغير الله »؛ لأنه لو تعلَّق به لكان جواباً له ، لكنه لا يقع جواباً؛ لأنَّ جواب الشرط إذا كان استفهاماً بالحرف لا يقع إلا ب « هل » وذَكَر ما قدَّمْتُه إلى آخره ، وعزاه الأخفش عن العرب ثم قال : « ولا يجوز أيضاً من وجه آخر ، لأنَّا قد قَرَّرْنا أنَّ » أرأيتك « متعدِّية إلى اثنين ، أحدهما في هذه الاية محذوفٌ ، وأنه من باب التنازع ، والآخر وقعت الجملة الاستفهامية موقعَة ، فلو جَعَلْتها جواب الشرط لبقيَتْ » أرأيتَكم « متعدية إلى واحد وذلك لا يجوز » قلت : وهذا لا يلزم الزمخشري فإنه لا يرتضى ما قاله من الإِعراب المشار إليه .

قوله « يلزم تعدِّيها لواحد » قلنا : لا نسلِّم بل يتعدَّى لاثنين محذوفين ثانيهما جملة استفهام ، كما قدَّره غيرُه : بأرأيتكم عبادتَكم هل تنفعكم ، ثم قال : « وأيضاً التزامُ العرب في الشرط الجائي بعد » أرأيت « مُضِيَّ الفعل دليلٌ على أن جواب الشرط محذوف ، لأنه لا يُحْذَفُ جوابُ الشرط إلا عند مُضِيِّ فِعْلِه ، قال تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ الله } [ الأنعام : 47 ] { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله } [ الأنعام : 46 ] { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله } [ القصص : 71 ] { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله } [ القصص : 72 ] { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ } [ يونس : 50 ] { أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ } [ الشعراء : 205 ] { أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وتولى } [ العلق : 13 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقال الشاعر :
1920- أَرَيْتَ إنْ جاءت به أمْلودا ... وأيضاً مجيءُ الجملة الاستفهامية مُصَدَّرةً بهمزة الاستفهام دليل على أنها ليست جوابَ الشرط ، إذ لا يَصحُّ وقوعُها جواباً للشرط » . انتهى .
ولما جَوَّزَ الزمخشري أن الشرطَ متعلِّقٌ بقوله : { أغير الله } سأل سؤالاً وأجابَ عنه ، قال : « فإنْ قلت : إنْ عَلَّقْتَ الشرطَ بِه فما تصنعُ بقوله : » فيكشِفُ ما تَدْعُون إليه « مع قوله : { أَوْ أَتَتْكُمْ الساعة } وقوارع الساعة لا تكشف عن المشركين؟ قلت : قد اشترط في الكشفِ المشيئةَ وهو قوله » إنْ شاء « إيذاناً بأنه إنْ فَعَلَ كان له وجهٌ من الحكمة ، إلا أنه لا يَفْعلُ لوجهٍ آخرَ من الحكمةِ أرجحَ منه » قال الشيخ : « وهذا مبنيٌّ على أن الشرط متعلقٌ ب » أغير الله « . وقد استَدْلَلْنا على أنه لا يجوز » قلت : تَرَك الشيخُ التبنيهَ على ماهو أهمُّ من ذلك وهو قوله : « إلا أنه لا يفعل لوجهٍ آخر من الحكمة أرجحَ منه » وهذا أصل فاسد من أصول المعتزلة يزعمون أن أفعاله تعالى تابعةٌ لمصالحَ وحِكمٍ يترجَّح مع بعضها الفعلُ ومع بعضها التركُ ، ومع بعضها يجب الفعل أو الترك ، تعالى الله عن ذلك بل أفعاله لا تُعَلَّلُ بغرضٍ من الأغراض ، لا يُسأل عما يَفعل ، وموضوع هذه المسألةِ غيرُ هذا الموضوع ، ولكني نبَّهْتُك علهيا إجمالاً .

الرابع : أنَّ جواب الشرط محذوف تقديره : إن أتاكم عذابُ الله أو أَتَتْكم الساعةُ دَعَوْتم ، ودَلَّ عليه قوله : { أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ } الخامس : أن محذوف أيضاً ، ولكنه مقدَّرٌ من جنس ما تقدَّم في المعنى ، تقديرُه : إنْ أتاكم عذاب الله أو أَتَتْكم الساعة فأخبروني عنه أَتَدْعُون غير الله لكشفِه كما تقول : « أخبرني عن زيدٍ إن جاءك ما تصنعُ به » أي : إن جاءَك فأخبرني عنه ، فحُذِفَ الجوابُ لدلالة « أخبرني » عليه ، ونظيرُه : أنت ظالمُ إن فعلت ، أي : فأنت ظالم ، فحذف « فأنت ظالمٌ » لدلالةِ ما تقدَّم عليه . وهذا ما اختاره الشيخ . قال : « وهو جارٍ على قواعد العربية » وادَّعى أنه لم يَرَه لغيره .
قوله : { أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ } « غيرَ » مفعول مقدم ل « تَدْعون » وتقديمُه : إمَّا للاختصاص كما قال الزمشخري : « بَكَّتهم بقوله : أغير الله تَدْعُون ، بمعنى ، أَتَخُصُّون آلهتَكم بالدعوة فيما هو عادتكم إذا أصابكم ضرٌّ أم تدعون اللَّهَ دونها ، وإمَّا للإِنكارِ عليهم في دعائهم للأصنام؛ لأن المُنْكَرَ إنما هو دعاءُ الأصنامِ لا نفسُ الدعاء ، ألا ترى أنك إذا قلت » أزيداً تضربُ « إنما تُنْكِرُ كونَ » زيد « مَحَلاً للضرب ولا تُنْكر نفسَ الضرب ، وهذا من قاعدةٍ بيانية قَدَّمْتُ التنبيهَ عليها عند قوله تعالى : { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني } [ المائدة : 116 ] .
قوله : { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } جوابُه محذوف لدلالة الكلام عليه وكذلك معمولُ » صادقين « والتقدير : إن كنتم صادقين في دعواكم أنَّ غيرَ الله إلهٌ فهل تَدْعُونه لكشْف ما يَحُلُّ بكم من العذاب؟

بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41)

قوله تعالى : { بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ } : « بل » حرفُ إضرابٍ وانتقال لا إبطالٍ ، لِما عَرَفْتَ غيرَ مرة من أنها في كلام الله كذلك . و « إياه » مفعول مقدَّم للاختصاص عند الزمخشري ، ولذلك قال : « بل تَخُصُّونه بالدعاء ، وعند غيره للاعتناء ، وإن كان ثَمَّ حَصْرٌ واختصاص فِمِنْ قرينة أخرى . » وإياه « ضمير منصوب منفصل تقدَّم الكلامُ عليه مشبعاً في الفاتحة وقال ابن عطية : » هنا « إيَّا » اسم مضمر أُجري مُجرى المظهرات في أنه مضاف أبداً « قال الشيخ : » وهذا خلافُ مذهبِ سيبويه ، فإنَّ مذهب سيبويه أن ما بعد « إيَّا » حرفٌ يُبَيِّن أحوال الضمير ، وليس مضافاً لما بعده ، لئلاَّ يلزمَ تعريفُ الإِضافةِ ، وذلك يستدعي تنكيره ، والضمائر لا تَقْبَلُ التنكير فلا تقبل الإِضافة .
قوله : { مَا تَدْعُونَ } يجوز في « ما » أربعةُ أوجه ، أظهرها : أنها موصولة بمعنى الذي أي : فتكشف الذي تَدْعون ، والعائد محذوف لاستكمال الشروط أي : تَدْعونه . الثاني : أنها ظرفية ، قال ابن عطية . وعلى هذا فيكون مفعول « يكشفُ » محذوفاً تقديره : فيكشف العذاب مدةَ دعائكم أي : ما دُمْتُمْ داعِيه .
قال الشيخ : « وهذا ما لا حاجةَ إليه مع أنَّ فيه وَصْلَها بمضارعٍ ، وهو قليلٌ جداً تقولُ : » لا أُكَلِّمك ما طلَعت الشمس « ويضعف : ما تطلع الشمس » قلت : قوله بمضارع « كان ينبغي أن يقول مثبت؛ لأنه متى كان منفياً ب » لم « كَثُر وَصْلُها به نحو قوله :
1921- ولَنْ يَلْبَثَ الجُهَّالُ أن يَتَهَضَّموا ... أخا الحلم ما لم يَسْتَعِنْ بجَهول
ومِنْ وَصْلها بمضارعٍ مثبت قولُه :
1922- أُطَوِّفُ ما أُطَوِّفُ ثم آوي ... إلى أمَّا ويَرْويني النقيعُ
وقول الآخر :
1923- أُطَوِّفُ ما أُطّوِّفُ ثم أوي ... إلى بيتٍ قعيدَتُهُ لَكاعِ
ف » أُطَوِّفُ « صلةُ ل » ما « الظرفية .
الثالث : أنها نكرة موصوفة ذكره أبو البقاء ، والعائد أيضاً محذوف أي : فيكشفُ شيئاً تَدْعونه أي : تَدْعون كَشْفَه ، والحذفُ من الصفةِ أقلُّ منه من الصلة . الرابع : أنها مصدرية ، قال ابن عطية : » ويَصِحُّ أن تكون مصدرية على حذف في الكلام « قال الزجاج : » وهو مثل : { وَسْئَلِ القرية } [ يوسف : 82 ] . قلت : والتقدير : فيكشف سبب دعائكم وموجبه قال الشيخ « وهذه دعوى محذوف غيرِ معين وهو خلاف الظاهر » وقال أبو البقاء : « وليست مصدرية إلا أَنْ تجعلَها مصدراً بمعنى المفعول » يعني يصير تقديره : فيكشف مَدْعُوَّكم أي : الذي تَدْعُون لأجله ، وهو الضُّرُّ ونحوه .
قوله : { إِلَيْهِ } فيما يتعلق به وجهان ، أحدهما : أن يتعلق ب « تَدْعون » ، والضمير حينئذ يعود على « ما » الموصولة أي : الذي تدعون إلى كَشْفِه ، و « دعا » بالنسبة إلى متعلِّق الدعاء يتعدى ب « إلى » أو اللام .

قال تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله } [ فصلت : 33 ] { وَإِذَا دعوا إِلَى الله } [ النور : 48 ] وقال :
1924- وإن أُدْعَ للجُلَّى أكنْ مِنْ حُماتها ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقال :
1925- وإنْ دَعَوْتِ إلى جُلَّى ومَكْرُمَةٍ ... يوماً سَراةَ كرامِ الناس فادْعِينا
وقال :
1926- دعوتُ لِما نابني مِسْوَراً ... فَلَب‍ِّيْ فَلَبَّيْ يَدَيْ مِسْوَرِ
والثاني : أن يتلعَّق ب « يَكْشِفُ » قال أبو البقاء : « أي : يرفعه إليه » انتهى . والضميرُ على هذا عائد على الله تعالى ، وذكر ابو البقاء وجهَي التعلق ولم يَتَعرَّضْ للضمير وقد عَرَفْتَه . وقال ابن عطية : « والضمير في » إليه « يُحتمل أن يعودَ إلى الله بتقدير : فيكشف ما تدعون فيه إليه » قال الشيخ : « وهذا ليس بجيد؛ لأنَّ » دعا « يتعدى لمفعول به دون حرف جر : { ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [ غافر : 60 ] { إِذَا دَعَانِ } [ البقرة : 186 ] ومن كلام العرب : » دعوتُ الله سميعاً « قلت : ومثلُه : { قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن أَيّاً مَّا تَدْعُواْ } [ الإِسراء : 110 ] { ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً } [ الأعراف : 55 ] قال : ولا تقول بهذا المعنى : » دعوت إلى الله « بمعنى : دعوت الله ، إلا أنه يمكن أن يُصَحَّح كلامُه بمعنى التضمين ، ضمَّن » تدعون « معنى » تلجَؤون فيه إلى الله « إلا أنَّ التضمين ليس بقياس ، لا يُصارُ إليه إلا عند الضرورة ، ولا ضرورةَ تدعو إليه هنا » .
قلت : ليس التضمين مقصوراً على الضرورة ، وهو في القرآن أكثر من أن يُحْصَر ، تقدَّم لك منه جملةٌ صالحة ، وسيأتي لك إن شاء الله مثلُها ، على أنه قد يقال تجويزُ أبي محمد عَوْدَ الضمير إلى الله تعالى محمولٌ على أن « إليه » متعلق بيكشف ، كما تقدَّم نَقْلُه عن أبي البقاء وأن معناه « يرفعه » فلا يلزم المحذورُ المذكور ، لولا أنه يُعَكِّر عليه تقديرُه بقوله « تدعون فيه إليه » فتقديره « فيه » ظاهره أنه يزعمُ تعلُّقَه ب « تَدْعُون » .
قوله : { إِنْ شَآءَ } جوابه محذوف لفهم المعنى ، ودلالة ما قبله عليه ، أي : إنْ شاء أن يكشِفَ كشف ، وادِّعاءُ تقديمِ جواب الشرط هنا واضحٌ لاقترانه بالفاء ، فهو أحسنُ مِنْ قوله : « أنت ظالم إن فعلت » لكن يمنع مِنْ كونها جواباً هنا أنها سببيَّةٌ مرتبة أي : أنها أفادَتْ ترتُّبَ الكشفِ على الدعاء ، وأن الدعاءَ سببٌ فيه ، على أن لنا خلافاً في فاء الجزاء : هل تفي السببيَّة أو لا؟
قوله : { وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ } الظاهر في « ما » أن تكون موصولةً اسمية ، والمرادُ بها ما عُبِد مِنْ دون الله مطلقاً : العقلاءُ وغيرُهم ، إلا أنه غَلَّب غيرَ العقلاء عليهم كقوله : { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السموات } [ النحل : 49 ] والعائدُ محذوفٌ أي ما تُشْركونه مع الله في العبادة . وقال الفارسي : « الأصلُ : وتَنْسَون دعاءَ ما تشركون ، فحذف المضاف » ويجوز أن تكونَ مصدريةً ، وحينئذ لا تحتاج إلى عائد عند الجمهور . ثم هل هذا المصدر باق على حقيقته؟ أي : تَنْسَون الإِشراكَ نفسَه لِما يلحقُكم من الدَّهْشَة والحَيْرة ، أو هو واقعٌ موقعَ المعفول به ، أي : وتنسَوْن المُشْرَك به وهي الأصنام وغيرها ، وعلى هذا فمعناه كالأول وحينئذٍ يحتمل السياقُ أن يكون على بابه من الغفلة ، وأن يكون بمعنى الترك ، وإن كانوا ذاكرين لها أي للأصنام وغيرها .

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42)

وقوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إلى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ } : في الكلام حَذْفٌ تقديره : أَرْسَلْنا رسلاً إلى أمم فكذَّبوا فأخذناهم ، وهذا الحذفُ ظاهرٌ جداً ، و « مِنْ قبلك » متعلِّق بأَرْسلنا ، وفي جعله صفةً لأمم كلامٌ تقدَّم غير مرة ، وتقدَّم تفسيرُ البأساء والضرَّاء ، ولم يُلْفَظْ لهما بمذكَّر على أَفْعَل .

فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43)

قوله تعالى : { فلولا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ } : « إذ » منصوب ب « تَضرَّعوا » فَصَلَ به بين حرف التحضيض وما دخل عليه ، وهو جائز حتى في المفعول به ، تقول : « لولا زيداً ضَرَبْتَ » وتقدَّم أن حرف التحضيض مع الماضي يكون معناه التوبيخ .
والتضرُّع : تفعُّل من الض‍‍َّراعة ، وهي الذِّلَّة والهيئة المسبِّبة عن الانقياد إلى الطاعة يقال : ضَرَع يَضْرَعُ ضَراعة فهو ضارعٌ وضَرِع قال :
1927- لِيُبْكَ يزيدُ ضارعٌ لخصومَةٍ ... ومختبطٌ ممَّا تُطيح الطوائِحُ
وللسهولة والتذلُّل المفهومة من هذه المادة اشتقُّوا منها للثدي اسماً فقالوا له « ضَرْعاً »
قوله : { ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ } « لكنْ » هنا واقعة بين ضدين ، وهما اللين والقسوة؛ وذلك أن قولَه « تَضَرَّعوا » مُشْعِرٌ باللين والسهولة ، وكذلك إذا جَعَلْتَ الضراعةَ عبارة عن الإِيمان ، والقسوة عبارة عن الكفر ، وعَبَّرت عن السبب بالمسبِّب وعن المسبِّب بالسبب ، ألا ترى أنك تقول : « آمَنَ قلبُه فتضرَّع ، وقسا قلبه فكفر » وهذا أحسن من قول أبي البقاء : « ولكن » استدراك على المعنى ، أي ما تضرَّعوا ولكن « يعني أن التحضيض في معنى النفي ، وقد يترجَّح هذا بما قاله الزمخشري فإنه قال : » معناه نَفْيُ التضرُّعِ كأنه قيل : لم يتضرعوا إذ جاءهم بأْسُنا ، ولكنه جاء ب « لولا » ليفيد أنه لم يكنْ لهم عذرٌ في ترْك التضرُّع إلا قسوةُ قلوبِهم وإعجابُهم بأعمالهم التي زيَّنها الشيطان لهم « .
قوله : { وَزَيَّنَ لَهُمُ } هذه الجملة تحتمل وجهين ، أحدهما : أن تكون استنافيةً ، أخبر تعالى عنهم بذلك . » والثاني : وهو الظاهر - : أنها داخلةٌ في حَيِّز الاستدارك فهي نسقٌ على قوله : { قَسَتْ قُلُوبُهُمْ } وهذا رأيُ الزمخشري فإنه قال : « لم يكن لهم عُذْرٌ في ترك التضرع إلا قسوةُ قلوبهم وإعجابُهم بأعمالهم » وقد تقدَّم ذلك . و « ما » في قوله : { مَا كَانُواّ } يحتمل أن تكونَ موصولةً اسمية أي : الذي كانوا يعملونه وأن تكونَ مصدرية ، أي : زَيَّن لهم عملَهم ، كقوله : { زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ } [ النمل : 4 ] ويَبْعُد جَعْلُها نكرةً موصوفة .

فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)

قوله تعالى : { فَتَحْنَا } : قرأ الجمهور « فَتَحْنا » مخفَّفاً ، وابن عامر « فتَّحنا » مثقلاً ، والتثقيلُ مُؤْذِنٌ بالتكثير؛ لأنَّ بعده « أبواب » فناسب التكثير ، والتخفيف هو الأصل . وقرأ ابنُ عامر أيضاً في الأعراف : { لَفَتَحْنَا } [ الآية : 96 ] وفي القمر : { فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ } [ الآية : 11 ] بالتشديد أيضاً ، وشدَّد أيضاً { فُتِحَتْ يَأْجُوجُ } [ الأنبياء : 96 ] والخلاف أيضاً في { فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } [ الآيتين : 71 ، 73 ] في الزمر في الموضعين ، { وَفُتِحَتِ السمآء } [ الآية : 19 ] في النبأ ، فإن الجماعة وافقوا ابن عامر على تشديدها ، ولم يَقْرَأْها بالتخفيف إلا الكوفيون ، فقد جرى ابن عامر على نمطٍ واحد في هذا الفعل ، والباقون شدَّدوا في المواضع الثلاثة المشارِ إليها ، وخفَّفوا في الباقي جَمْعاً بين اللغتين .
قوله : { فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ } « إذا » هي الفجائية وفيها ثلاثة مذاهب مذهب سيبويه أنها ظرف مكان ، ومذهب جماعة منهم والرياشي أنها ظرفُ زمانٍ ، ومذهب الكوفيين أنها حرف . فعلى تقدير كونها ظرفاً مكاناً أو زماناً الناصبُ لها خبر المبتدأ ، أي أُبْلِسوا في مكان إقامتهم أو في زمانها .
والإِبلاسُ : الإِطراق ، وقيل : هو الحُزْن المعترض من شدة البأس ، ومنه اشْتُقَّ « إبليس » وقد تقدَّم في موضعه وأنه هل هو أعجمي أم لا؟
قوله : { فَقُطِعَ دَابِرُ } الجمهور على « فَقُطِع » مبنيّاً للمفعول . « دابر » مرفوع به . وقرأ عكرمة : « قطع » مبنياً للفاعل وهو الله تعالى ، « دابر » مفعول به ، وفيه التفاتٌ ، إذ هو خروج من تكلم في قوله : « أخذناهم » إلى غيبة . والدابِرُ : التابع من خلف ، يقال : دَبَر الولدُ والدَه ، ودَبَر فلان القوم يَدْبُرُهم دُبُوراً ودَبْراً . وقيل : الدابِر : الأصل ، يقال : قطع الله دابِرَه أي : أصله ، قال الأصمعي . وقال أبو عبيد : « دابرُ القوم آخرُهم » ، وأنشدوا لأميَّة بن ابي الصلت :
1928- فاستُؤْصِلوا بعذابٍ حَصَّ دابِرَهُمْ ... فما استطاعوا له صَرْفاً ولا انتصروا
ومنه : دَبَر السهمُ الهدفَ أي : سقَط خلفَه .

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46)

قوله تعالى : { أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله } : المفعول الأول محذوف تقديره : أرأيتم سَمْعَكم وأبصاركم إن أخذها الله ، والجملة الاستفهامية في موضع الثاني ، وقد تقدم أنَّ الشيخ يجعلُه من التنازع ، وجواب الشرط محذوف على نحو ما مرَّ . وقال الحوفي : « وحرفُ الشرط وما اتصل به في موضع نصبٍ على الحال ، والعالمُ في الحال » أرأيتم « كقولك : » اضربه إن خرج « أي خارجاً ، وجواب الشرط ما تقدَّم مِمَّا دخلَتْ عليه همزة الاستفهام » وهذا إعرابٌ لا يَظْهر . ولم يُؤْتَ هنا بكاف الخطاب وأُتي به هناك؛ لأنَّ التهديدَ هناك أعظم فناسب التأكيد بالإِتيان بكاف الخطاب ، ولمَّا لم يُؤْتَ بالكافِ وجب بروزُ علامةِ الجمع في التاء لئلا يلتبسَ ، ولو جيء معها بالكاف لا ستُغْنِي بها كما تقدَّم ، وتوحيد السمع وجَمْعُ الأبصارِ مفهومٌ ممَّا تقدَّم في البقرة .
قوله : { مَّنْ إله } مبتدأ وخبر ، و « مَنْ » استفهامية ، « وغيرُ الله » صفةٌ ب « إلهٌ » و « يأتيكم » صفةٌ ثانية ، والهاء في « به » على سمعكم . وقيل : تعود على الجميع . وَوُحِّد ذهاباً به مذهب اسم الإِشارة وقيل : تعود على الهَدْي المدلول عليه بالمعنى . وقيل : يَعودُ على المأخوذ والمختوم المدلول عليهما بالأَخْذ والخَتْم . والاستفهام هنا للإِنكار .
قوله : { انظر كَيْفَ نُصَرِّفُ } « كيف » معمولةٌ لنصرِّف ، ونصبُها : إمَّا على التشبيه بالحال أو التشبيه بالظرف ، وهي مُعَلِّقةٌ ل « انظر » فهي في محل نصب بإسقاط حرف الجر ، وهذا كله ظاهر مِمَّا تقدم . « ويَصْدِفون » معناه يُعْرِضُون ، يقال : صَدَف عن الشيء صَدْفاً وصُدُوفاً وصدافِيَةً قال عدي بن الرقاع :
1929- إذا ذكرْنَ حديثاً قُلْنَ أحسنَه ... وهُنَّ عن كل سوءٍ يُتَّقى صُدُفُ
« صُدُف » جمع صَدُوف ك صُبُر في جمع صبور ، وقيل : معنى صدف : مالَ ، مأخوذ من الصَّدَف في البعير وهو أن يَميل خِفُّه من اليد إلى الرِّجْل من الجانب الوحشي . والصَّدَف جمع صَدَفة وهي المَحارة التي تكون فيها الدُّرَّة قال :
1930- وزادَها عَجَباً أَنْ رُحْتُ في سُبُلٍ ... وما دَرَتْ دَوَرَان الدُّرِّ في الصَّدَفِ
والصَّدَف والصُّدُف بفتح الصاد والدال وضمهما ، وضم الصاد وسكون الدال ناحية الجبل المرتفع ، وسيأتي لهذا مزيدُ بيان .
والجمهور : « به انظر » بكسر الهاءِ على الاصل ، وروى المُسَيِّبي عن نافع : « بهُ انظر » بضمها نظراً إلى الأصل : وقرأ الجمهور أيضاً : { نُصَرِّف } مضعَّفاً ، وقُرِئ شاذاً : « نَصْرِف » بكسر الراء من صرف ثلاثياً .
قوله : { هَلْ يُهْلَكُ } هذا استفهامٌ بمعنى النفي؛ ولذلك دخلت « إلاَّ » ، وهو استثناءٌ مفرَّغٌ ، والتقدير : ما يُهْلك إلا القوم الظالمون . وهذه الجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني ل « أرأيتكم » والأولُ محذوفٌ ، وهذا من التنازع على رأي الشيخ كما تقدَّم تقريره . وقال أبو البقاء : « الاستفهامُ ههنا بمعنى التقرير ، فلذلك ناب عن جواب الشرط أي : إن أتاكمْ هَلَكْتم ، والظاهرُ ما قَدَّمْتُه ، ويجيء هنا قول الحوفي المتقدم في الآية قبلها من كون الشرط حالاً . وقرأ ابن محيصن : { هل يَهْلَكُ } مبنياً للفاعل . وتَقَدَّم الكلام أيضاً على » بَغْتة « اشتقاقاً وإعراباً » .

وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48)

قوله تعالى : { إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ } : حال من « المرسلين » وفي هذه الحال معنى الغَلَبة أي : لم نُرْسِلْهم لأن تُقْتَرَحَ عليهم الآيات ، بل لأن يُبَشِّروا ويُنْذِرُوا . وقرأ إبراهيم ويحيى : « مُبْشِرين » بالتخفيف وقد تقدَّم أن « أَبْشَر » لغةٌ في « بَشَّر » .
قوله : { فَمَنْ آمَنَ } يجوز في « مَنْ » أن تكون شرطية ، وأن تكونَ موصولةً ، وعلى كلا التقديرين فمحلُّها رفعٌ بالابتداء والخبر : « فلا خوف » : فإن كانت شرطية فالفاء جواب الشرط ، وإن كانت موصولة فالفاء زائدة لشبه الموصول بالشرط ، وعلى الأول يكون محلُّ الجملتين الجزمَ ، وعلى الثاني لا محلَّ للأولى ، ومحلُّ الثانية الرفع ، وحُمِل على اللفظ فأفردَ في « آمن » و « اصلَح » ، وعلى المعنى فجمع في { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } ويُقَوِّي كونَها موصولةً مقابلتُها بالموصول بعدها في قوله : { والذين كَذَّبوا } .

وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49)

وقرأ علقمة : { نُمسُّهم } : بنونٍ مضمومة من « أَمَسَّه كذا » « العذابَ » نصباً ، والأعمش ويحيى بن وثاب : « يَفْسِقون » بكسر السين ، وقد تقدَّم أنها لغة . و « ما » مصدريةٌ على الأظهر ، أي : بفِسْقِهم .

قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)

قوله : { ولا أَعْلَمُ الغيب } في محلِّ هذه الجملة وجهان ، أحدهما : النصب عطفاً على قوله « عندي خزائنُ الله » لأنه من جملة المقول ، كأنه قال : لا أقول لكم هذا القولَ ولا هذا القولَ ، قاله الزمشخري ، وفيه نظرٌ من حيث إنه يؤدي إلى أنه يصير التقدير : ولا أقول لكم لا أَعْلَمُ الغيب ، وليس بصحيحٍ . والثاني : أنه معطوف على « لا أقول » لا معمولٌ له ، فهو أمَرَ أن يُخْبِرَ عن نفسه بهذه الجمل الثلاث فهي معمولة للأمر الذي هو « قل » ، وهذا تخريجُ الشيخ ، قال بعد أن حكى قول الزمخشري : « ولا يتعيَّنُ ما قاله ، بل الظاهرُ أنه معطوفٌ على » ألاَّ أقول « إلى آخره » .

وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)

قوله : { بالغداة } : قرأ الجمهور : « بالغداة » هنا وفي الكهف وابن عامر : { بالغُدْوة } بضم الغين وسكون الدال وفتح الواو في الموضعين ، وهي قراءة أبي عبد الرحمن السلمي والحسن البصري ومالك بن دينار وأبو رجاء العطاردي ونصر بن عاصم الليثي . والأشهر في « الغُدْوة » أنها معرفة بالعلمية ، وهي علميَّة الجنس كأسامة في الأشخاص ولذلك مُنِعت من الصرف قال الفراء : « سمعت أبا الجراح يقول : ما رأيت كغدوة قط ، يريد : غداة يومه » قال : « ألا ترى أن العرب لا تضيفها ، فكذا لا يدخلها الألف واللام ، إنما يقولون : جئتك غداة الخميس » وقال الفراء في كتاب « المعاني » في سورة الكهف : « قرأ عبد الرحمن السلمي : { بالغُدْوَة والعَشِي } ولا أعلم أحداً قرأ بها غيره ، والعرب لا تُدْخل الألف واللام في » الغدوة « لأنها معرفة بغير ألف ولام » فذكره إلى آخره .
وقد طعن أبو عبيد القاسم بن سلام على هذه القراءة فقال : « إنما نرى ابن عامر والسلمي قرآ تلك القراءة إتباعاً للخط ، وليس في إثبات الواو في الكتاب دليل على القراءة بها ، لأنهم كتبوا الصلاة والزكاة بالواو ولفظُهما على تَرْكها ، وكذلك الغداة ، على هذا وجدنا العرب » . وقال الفارسيُّ : « الوجه قراءة العامة بالغداة ، لأنها تستعمل نكرة ومعرفة بالام ، فأمَّا » غُدْوَة « فمعرفة وهو عَلَمٌ وُضِع للتعريف ، وإذا كان كذلك فلا ينبغي أن تدخل عليه الألف واللام للتعريف ، كما لا تَدْخُل على سائر الأعلام ، وإن كانت قد كُتِبَتْ بالواو لأنها لا تدلُّ على ذلك . ألا ترى الصلاة والزكاة بالواو ولا تُقرآن بها ، فكذلك الغداة . قال سيبويه : » غُدْوة وبُكْرة جُعِل كلُّ واحد منهما اسماً للحين ، كما جعلوا « أم حُبَيْن » اسماً لدابَّةٍ معروفة « . إلا أنَّ هذا الطعنَ لا يُلتفت إليه ، وكيف يُظَنُّ بمَنْ تَقَدَّم أنهم يَلْحنون ، والحسن البصري ممن يُسْتَشْهد بكلامِه فضلاً عن قراءته ، نصر بن عاصم شيخ النحاة أخذ هذا العلمَ عن أبي الأسود ينبوعِ الصناعة ، وابن عامر لا يَعْرف اللحن لأنه عربي ، وقرأ على عثمان بن عفان وغيره من الصحابة ، ولكن أبا عبيد - رحمه الله - لم يعرف أن تنكير » غدوة « لغةُ ثانية عن العرب حكاها سيبويه والخليل .
قال سيبويه : » زعم الخيل أنه يجوز أن تقول : « أَتيتُكَ اليوم غُدْوةً وبُكْرة » فجعلها مثل ضَحْوة ، قال المهدوي : « حكى سيبويه والخليل أنَّ بعضَهم يُنَكِّر فيقول » غُدْوةً « بالتنوين ، وبذلك قرأه ابن عامر ، كأنه جعله نكرة ، فأدخل عليها الألف واللام » وقال أبو علي الفارسي : « وجه دخول الألف واللام عليها أنه يجوز وإن كانت معرفةً أن تُنَكِّر ، كما حكى أبو زيد » لقيته فَيْنَةَ « غير مصروفة » والفَيْنَةَ بعد الفينة « أي : الحين بعد الحين ، فألحق لام التعريف ما استعمل معرفة ، ووجه ذلك أنه يُقَدَّر فيه التنكير والشيوع كما يُقَدَّر فيه ذلك إذا بني » .

وقال أبو جعفر النحاس : « قرأ أبو عبد الرحمن ومالك بن دينار وابن عامر : » بالغُدْوة « قال : » وباب غُدْوة أن يكون معرفة إلا أنه يجوز تنكيرها كما تُنَكَّر الأسماءُ الأعلام ، فإذا نُكِّرَتْ دَخَلَتْها الألف واللام للتعريف « وقال مكي بن أبي طالب : » إنما دَخَلَت الألف واللام على « غداة » لأنها نكرة ، وأكثر العرب يَجْعل « غُدوة » معرفةً فلا ينوِّنها ، وكلهم يجعل « غداة » نكرةً فينوِّنها ، ومنهم مَنْ يجعل « غُدْوة » نكرة وهم الأقل « فثبت بهذه النقولِ التي ذكرْتُها عن هؤلاء الأئمةِ أن قراءة ابن عامر سالمةٌ من طعن أبي عبيد ، وكأنه - رحمه الله - لم يحفظها لغةً .
وأما » العَشِيُّ « فنكرةٌ وكذلك » عَشِيَّة « وهل العَشِيُّ مرادِفٌ لعِشِيَّة؟ أي : إن هذا اللفظَ فيه لغتان : التذكير والتأنيث أو أن عَشِيّاً جمعُ عَشِيَّة في المعنى على حدِّ قمح وقمحة وشعير وشعيرة ، فيكون اسم جنس ، خلاف مشهور ، والظاهر الأول لقوله تعالى : { إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بالعشي الصافنات } [ ص : 31 ] ، إذ المرادُ هنا عشيَّة واحدة ، واتفقت مصاحف الأمصار على رسم هذه اللفظة » الغدوة « بالواو وقد تقدَّم لك أن قراءة ابن عامر ليست مستندة إلى مجرد الرسم بل إلى النقل ، وثَمَّ ألفاظ اتُّفِقَ ايضاً على رسمها بالواو ، واتُّفق على قراءتها بالألف وهي : الصلاة والزكاة ومَنَاة ومِشْكاة والربا والنجاة والحياة ، وحرفٌ اتٌّفِق على رسمه بالواو واختلف في قراءة بالألف والواو وهو » الغداة « . وأصل غداة : غَدَوَة ، تحرَّكَت الواو وانفتح ما قبلها فقُلِبَتْ ألفاً . وقرأ ابن أبي عبلة » بالغَدَوات والعَشِيَّات « جمع غداة وعشية ، ورُوي عن أبي عبد الرحمن أيضاً » بالغدوِّ « بتشديد الواو من غير هاء .
قوله : { يُرِيدُونَ } هذه الجملةُ في محلِّ نصب على الحال من فاعل » يَدْعون « أو مِنْ مفعلوله ، والأول هو الصحيح ، وفي الكلام حَذْفٌ أي : يريدون بدعائهم في هذين الوقتين وجهَه .
قوله : { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ } » ما « هذه يجوز أن تكونَ الحجازيةَ الناصبة للخبر فيكون » عليك « في محل النصب على أنه خبرها ، عند مَنْ يُجَوِّزُ إعمالَها في الخبر المقدَّم إذا كان ظرفاً أو حرف جر ، وأمَّا إذا كانت تميميةً أو متعيَّناً إهمالُه في الخبر المقدم مطلقاً كان » عليك « في محل رفع خبراً مقدماً ، والمبتدأ هو » مِنْ شيء « زِيْدت فيه » مِنْ « .

وقوله : { مِنْ حِسَابِهِم } قالوا : « مِنْ » بتعيضية وهي في محلِّ نصب على الحال ، وصاحبُ الحال هو « مِنْ شيء » لأنها لو تأخرت عنه لكانت صفةً له ، وصفةُ النكرة متى قُدِّمَتْ انتصبت على الحال ، فعلى هذا تتعلَّق بمحذوفٍ ، والعامل في الحال الاستقرار في « عليك » ، ويجوز أن يكون « من شيء » في محلِّ رفعٍ بالفاعلية ورافعُه « عليك » لاعتماده على النفي ، و « مِنْ حسابهم » حالٌ أيضاً من « شيء » العمل فيها الاستقرار ، والتقدير : ما استقرَّ عليك شيء من حسابهم . وأُجيز أن يكون « من حسابهم » هو الخبر : إمَّا ل « ما » وإمَّا للمبتدأ ، « وعليك » حال من « شيء » ، والعامل فيها الاستقرار ، وعلى هذا فيجوز أن يكون « من حسابهم » هو الرافع للفاعل على ذاك الوجه ، و « عليك » حال أيضاً كما تقدم تقريره ، وكون « من حسابهم » هو الخبر ، و « عليك » هو الحال غيرُ واضح لأنَّ مَحَطَّ الفائدة إنما هو « عليك » .
وقوله : { وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ } كالذي قبله ، إلا أنَّ هنا يمتنع بعض ما كان جائزاً هناك ، وذلك أن قوله « من حسابك » لا يجوز أن يُنْصَبَ على الحال لأنه يلزمُ تقدُّمه على عامله المعنوي ، وهو ضعيفٌ أو ممتنع ، لا سيما وقد تقدَّمَتْ هنا على العامل فيها وعلى صاحبها ، وقد تقدَّم لك أن الحال إذا كانت ظرفاً أو حرفَ جر كان تقديمُها على العامل المعنويِّ أحسنَ منه إذا لم يكن كذلك ، فحينئذ لك أن تجعل قوله « مِنْ حسابك » بياناً لا حالاً ولا خبراً حتى تخرجَ من هذا المحذورِ ، وكَوْنُ « مِنْ » هذه تبعيضيةً غيرُ ظاهر ، وقدَّم خطابَه عليه السلام في الجملتين تشريفاً له ، ولو جاءت الجملة الثانية على نَمَط الأولى لكان التركيب : « وما عليهم مِنْ حسابك من شيء » فتقدَّم المجرور ب « على » كما قَدَّمه في الأولى ، لكنه عَدَل عن ذلك لما تقدم .
وفي هاتين الجملتين ما يُسَمِّيه أهل البديع : ردَّ الأعجاز على الصدور ، كقولهم : « عادات السادات سادات العادات » ، ومثله في المعنى قول الشاعر :
1931- وليس الذي حَلَّلْتَه بمُحَلَّلٍ ... وليس الذي حَرَّمْتَه بمُحَرَّم
وقال الزمخشري : - بعد كلامٍ قَدَّمَه في معنى التفسير - « فإن قلت أما كفى قولُه : { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ } حتى ضمَّ إليه { وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيءٍ } قلت : قد جُعِلَتِ الجملتان بمنزلة جملة واحدة وقُصِد بهما مُؤدَّىً واحدٌ وهو المَعْنِيُّ بقوله : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } [ الأنعام : 164 ] ، ولا يَسْتَقِلُّ بهذا المعنى إلا الجملتان جميعاً كأنه قيل : لا تُؤاخَدُ أنت ولا هم بحسابِ صاحبه » .

قال الشيخ : « قوله : لا تُؤاخَذُ أنت إلى آخره » تركيبٌ غير عربي ، لا يجوزُ عَوْدُ الضمير هنا غائباً ولا مخاطباً ، لأنه إنْ عاد غائباً فلم يتقدَّمْ له اسمٌ مفرد غائب يعود عليه ، إنما تقدَّم قوله « هم » ولا يمكن العَوْدُ عليه على اعتقادِ الاستغناء بالمفرد عن الجمع ، لأنه يصير التركيب بحساب صاحبهم ، وإنْ أُعيد مخاطباً فلم يتقدم مخاطب يعود عليه ، إنما تقدَّم قولُه « لا تُؤاخذ أنت » ولا يمكن العَوْدُ إليه ، فإنه ضميرٌ مخاطب فلا يعودُ عليه غائباً ، ولو أَبْرَزْته مخاطباً لم يَصِحَّ التركيب ايضاً ، فإصلاحُ التركيبِ أن يقال : « لا يُؤاخذُ كلُّ واحدٍ منك ولا منهم بحسابِ صاحبه ، أو لا تؤاخذ أنت بحسابهم ولا هم بحسابك ، أو لا تؤاخذ أنت ولا هم بحسابكم » فتُغَلِّب الخطابَ على الغيبة كما تقول : « أنت وزيد تضربان » والذي يظهر أن كلامَ الزمخشري صحيحٌ ، ولكنْ فيه حذفٌ وتقديره : لا يؤاخذ كل واحد : أنت ولا هم بحساب صاحبه ، وتكون « انت ولا هم » بدلاً من كل واحد ، والضمير ، في « صاحبه » عائد على قوله « كل واحد » ، ثم إنه وقع في محذور آخر مما أَصْلَحَ به كلام أبي القاسم ، وذلك أنه قال : « أولا تؤاخذ أنت ولا هم بحسابكم » وهذا التركيبُ يُحتمل أن يكونَ المرادُ - بل هو الظاهر - نفيَ المؤاخذة بحساب كل واحد بالنسبة إلى نفسه هو ، لا أن كلَّ واحد غير مؤاخذ بحساب غيره ، والمعنى الثاني هو المقصود .
والضمائر الثلاثة ، أعني التي في قوله : { مِنْ حِسَابِهِم } و « عليهم » و « فتطردهم » الظاهر عَوْدُها على نوعٍ واحد وهم الذين يَدْعُون ربهم ، وبه قال الطبري ، إلا أنه فسَّر الحساب بالرزقِ الدنيويِّ . وقال الزمخشريّ وبان عطية : « إن الضميرَيْن الأوَّلَيْن يعودان على المشركين ، والثالث يعود على الداعين » . قال الشيخ : « وقيل : الضميرُ في » حسابهم « و » عليهم « عائد على المشركين وتكون الجملتان اعتراضاً بين النهي وجوابه » ، وظاهر عبارته أن الجملتين لا تكونان اعتراضاً إلا على اعتقاد كون الضميرين « في حسابهم » و « عليهم » عائدَيْن على المشركين ، وليس الأمرُ كذلك ، بل هما اعتراضٌ بين النهي وهو « لا تَطْرُدِ » وبين جوابِه وهو فتكونَ « وإن كانت الضمائر كلها للمؤمنين ، ويدل على ذلك أنه قال بعد ذلك في » فتكون « : » وجوَّزوا أن يكون جواباً للنهي في قوله { وَلاَ تَطْرُدِ } وتكون الجملتان وجوابُ الأول اعتراضاً بين النهي وجوابه « فجعلهما اعتراضاً مطلقاً من غير نظر إلى الضميرين .

ويعني بالجملتين « وما عليك من حسابهم مِنْ شيء » و « ما من حسابك عليهم من شيء » وبجواب الأول قوله { فَتَطْرُدَهُمْ } .
قوله تعالى : { فَتَطْرُدَهُمْ } فيه وجهان ، أحدهما : منصوب على جواب النهي بأحد معنيين فقط ، وهو انتفاءُ الطَّرْدِ لانتفاء كون حسابهم عليه وحسابه عليهم ، لأنه ينتفي المُسَبِّب بانتفاء سببه ، ويتوضَّح ذلك في مثال وهو « ما تأتينا فتحدِّثنا » بنصب « فتحدِّثَنا » وهو يحتمل معنيين ، أحدُهما : انتفاءُ الإِتيان وانتفاء الحديث ، كأنه قيل : ما يكون منك إتيانٌ فكيف يقع منك حديث؟ وهذا المعنى هو مقصود الآية الكريمة أي : ما يكون مؤاخذةٌ كلِ واحدٍ بحساب صاحبه فيكف يقع طرد؟ والمعنى الثاني : انتفاء الحديث وثبوت الإِتيان كأنه قيل : ما تأتينا مُحَدِّثاً بل تأتينا غيرَ محدِّث . وهذا المعنى لا يليق بالآية الكريمة ، والعلماء - رحمهم الله - وإن أطلقوا قولهم إنه منصوبٌ على جواب النفي ، فإنما يريدون المعنى الأول دون الثاني : والثاني : أن يكون منصوباً على جواب النهي .
وأما قوله « فتكونَ » ففي نصبه وجهان ، أظهرهما : أنه منصوب عطفاً على « فتطردَهم » والمعنى : الإِخبار بانتفاء حسابهم ، والطرد والظلم المسبب عن الطرد . قال الزمخشري : « ويجوز أن تكون عطفاً على » فتطردَهم « على وجه السبب ، لأنَّ كونَه ظالماً مُسَبِّبٌ عن طردهم » .
والثاني من وجهي النصب : أنه منصوب على جواب النهي في قوله : « ولا تَطْرد » ولم يذكر مكي ولا الواحدي ولا أبو البقاء غيره . قال الشيخ : « وجوَّزوا أن يكون » فتكونَ « جواباً للنهي في قوله » لا تَطْرِدِ « كقوله : { لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى الله كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ } [ طه : 61 ] ، وتكون الجملتان وجوابُ الأول اعتراضاً بين النهي وجوابه » قلت : قد تقدَّم أن كونَهما اعتراضاً لا يتوقف على عَوْد الضميرين في قوله « مِنْ حسابهم » و « عليهم » على المشركين كما هو المفهوم من قوله ههنا ، وإن كان كلامه قبل ذلك كما حَكَيْتُه عنه يُشْعر بذلك .

وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)

قوله تعالى : { وكذلك فَتَنَّا } : الكاف في محصل نصب على أنها نعت لمصدر محذوف والتقدير : ومثل ذلك الفُتُون المتقدِّم الذي فُهم من سِياق أخبار الأمم الماضية فَتَنَّا بعضَ هذه الأمةِ ببعض ، فالإِشارةُ بذلك إلى الفتون المدلول عليه بقوله : { فَتَنَّا } ولذلك قال الزمخشري : « ومِثْل ذلك الفَتْن العظيم فُتِن بعض الناس ببعض » فجعلَ الإِشارة لمصدر « فتنَّا » ، وانظر كيف لم يتلفظ هو بإسناد الفتنة إلى الله تعالى في كلامه ، وإن كان الباري تعالى قد أَسْندها ، بل قال : « فُتِن بعضُ الناس » فبناه للمفعول على قاعدة المعتزلة .
وجعل ابنُ عطية الإِشارةَ إلى طلب الطرد فإنه قال بعد كلام يتعلق بالتفسير : « والإِشارة بذلك إلا ما ذُكِرَ مِنْ طلبهم أنْ يطرد الضعفة » . قال الشيخ : « ولا ينتظم هذا التشبيه ، إذ يصير التقدير : مثل طلب الطرف فتنَّا بعضهم [ ببعض ] ، والمتبادر إلى الذهن من قولك : » ضربْتُ مثل ذلك « المماثلةُ في الضرب ، أي : مثل ذلك الضرب لا أن تقع المماثلة في غير الضرب ، وقد تقدم غير مرة أن سيبويه يجعل مثل ذلك حالاً من ضمير المصدر المقدر .
قوله : { ليقولوا } في هذه اللام وجهان ، أظهرهما : - وعليه أكثر المعربين والمفسِّرين - أنها لام كي ، والتقدير : ومثل ذلك الفُتُون فَتَنَّا ليقولوا هذه المقالة ابتلاءً منا وامتحانا . والثاني : أنها لام الصيرورة أي العاقبة كقوله :
1932- لِدُوا للموتِ وابنُوا للخراب ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
{ فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً } [ القصص : 8 ] ويكونُ قولهم » أهؤلاء « إلى آخره ، صادراً على سبيل الاستخفاف .
قوله : { أهؤلاء } يجوز في وجهان ، أظهرهما : أنه منصوب المحل على الاشتغال بفعلٍ محذوفٍ يُفَسِّره الفعل الظاهر ، العامل في ضميره بوساطة » على « ، ويكون المفسِّر من حيث المعنى لا من حيث اللفظ ، والتقدير : أفَضَّلَ الله هؤلاء منَّ عليهم ، أو اختار هؤلاء مَنَّ عليهم ، ولا محلَّ لقوله : { مَنَّ الله عَلَيْهِم } لكونها مفسرة ، وإنما رجَّح هنا إضمار الفعل لأنه وقع بعد أداةٍ يغلب إيلاءُ الفعلِ لها . والثاني : أنَّه مرفوع لامحل على أنه مبتدأ والخبر : مَنَّ الله عليهم ، وهذا وإن كان سالماً من الإِضمار الموجود في الوجه الذي قبله ، إلا أنه مرجوحٌ لما تقدم ، و » عليهم « متعلِّقٌ ب » مَنَّ « .
و { مِّن بَيْنِنَآ } يجوز أن يتعلَّق به أيضاً ، قال أبو البقاء : » أي : ميَّزهم علينا ، ويجوز أن يكون حالاً « قال أبو البقاء أيضاً : » أي : مَنَّ عليهم منفردين ، وهذان التفسيران تفسيرا معنى لا تفسيرا إعراب ، إلا أنه لم يَسُقْهما إلا تفسيرَيْ إعراب ، والجملة من قوله : { أهؤلاء مَنَّ الله } في محلِّ نصب بالقول .
وقوله : { بِأَعْلَمَ بالشاكرين } الفرق بين التاءين أو الأولى لا تعلُّق لها لكونها زائدةً في خبر ليس ، والثانية متعلقة بأعلم ، وتَعدِّي العِلْم بها لِما ضُمِّن من معنى الإِحاطة ، وكثيراً ما يقع ذلك في عبارة العلماء فيقولون : عَلِم بكذا ، والعِلْم بكذا ، لما تقدم .

وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)

قوله تعالى : { وَإِذَا جَآءَكَ } : « إذا » منصوب بجوابه أي : فقلْ : سَلامٌ عليكم وقتَ مجيئهم أي : أوقع هذا القول كلَّه في وقت مجيئهم إليك ، وهذا معنى واضح . وقال أبو البقاء : « العامل في » إذا « معنى الجواب أي : إذا جاؤوك سلِّمْ عليهم » ولا حاجةَ تدعو إلى ذلك مع فوات قوة المعنى ، لأن كونه يبلَّغهم السلام والإِخبارَ بأنه كتب على نفسه الرحمة ، وأنه من عَمِل سوءاً بجهالة غفر له ، لا يقوم مقامَه السَّلامُ فقط ، وتقديره يُفْضي إلى ذلك .
وقوله : { سَلاَمٌ } مبتدأ وجاز الابتداء به وإن كان نكرةً لأنه دعاءٌ ، والدعاء من المسوِّغات . وقال أبو البقاء : « لما فيه من معنى الفعل » وهذا ليس من مذهب جمهور البصريين إنما هو شيء نُقل عن الأخفش : أنه إذا كانت النكرة في معنى الفعل جاز الابتداء بها ورَفْعُها الفاعل وذلك نحو : قائمٌ أبواك ، ونَقَل ابن مالك أن سيبويه أومأ إلى جوازه ، واستدل الأخفش بقوله :
1933- خبيرٌ بنو لِهْبٍ فلاتك مُلْغِياً ... مقالةَ لِهْبِيِّ إذا الطيرُ مَرَّتِ
ولا دليلَ فيه؛ لأنَّ فَعيلاً يقع بلفظ واحد للمفرد وغيره ، ف « خبير » خبرٌ مقدَّمٌ ، واستدلَّ له أيضاً بقول الآخر :
1934- فخيرٌ نحنُ عند الناسِ منكمْ ... إذا الداعي المثوِّبُ قال يالا
فخير مبتدأ ، و « نحن » فاعل سدَّ مَسَدَّ الخبر ،
فإن قيل : لِمَ لا يجوز أن يكون « خير » خبراً مقدماً ، « ونحن » مبتدأ مؤخر؟ قيل : لئلا يلزم الفصلُ بين أفعل و « مِنْ » بأجنبي بخلاف جَعْلِه فاعلاً ، فإن الفاعلَ كالخبر بخلاف المبتدأ ، وهذا القدرُ في هذا الموضع كافٍ والمسألةُ قد قرَّرتُها في غير هذا الموضوع ، و « عليكم » خبرُه ، و « سلام عليكم » أبلغُ من « سلاماً عليكم » . بالنصب ، وقد تقرَّر هذا في أول الفاتحة عند قراءة « الحمدُ » و « الحمدَ » .
وقوله : { كَتَبَ رَبُّكُمْ } في محل نصب بالقول لأنه كالتفسير لقوله { سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ } .
قوله { أنَّه ، فأنَّه } قرأ ابن عامر وعاصم بالفتح فيهما ، وابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي بالكسر فيهما ، ونافع بفتح الأولى وكسر الثاينة ، وهذه القاراءتُ الثلاثُ في المتواتر ، والأعرج بكسر الأولى وفتح الثانية عكسَ قراءة نافع ، هذه رواية الزهراوي عنه وكذا الداني . وأمَّا سيبويه فروى قراءته كقراءة نافع ، فيحتمل أن يكون عن روايتان . فأمَّا القراءة الأولى فَفَتْحُ الأولى فيها مِنْ أربعة أوجه ، أحدها : أنها بدل من الرحمة بدل شيء من شيء والتقدير : كتب على نفسه أنه من عمل إلى آخره ، فإنَّ نفس هذه الجملِ المتضمنةِ للإِخبار بذلك رحمة . والثاني : أنها في محل رفع على أنها مبتدأ ، والخبر محذوف أي : عليه أنه من عمل إلى آخره .

والثالث : أنها فتحت على تقدير حذف حرف الجر ، والتقدير : لأنه مَنْ عمل ، فلما حُذِفت اللامُ جرى في محلها الخلاف المشهور . الرابع : أنها مفول ب « كتب » و « الرحمة » مفعول من أجله ، أي : كتب أنه مَنْ عَمِل لأجل رحمته إياكم . قال الشيخ : « وينبغي أن لا يجوز لأن فيه تهيئة العامل للعمل وقَطْعَه منه » .
وأمَّا فَتْحُ الثانية فمن خمسة أوجه ، أحدها : أنها في محل رفع على أنها مبتدأ والخبر محذوف أي : فغفرانُه ورحمتُه حاصلان أو كائنان ، أو فعليه غفرانه ورحمته . وقد أجمع القرَّاء على فتح ما بعد فاء الجزاء في قوله : { أَلَمْ يعلموا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ الله وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ } [ التوبة : 63 ] { كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّه } [ الحج : 4 ] كما أجمعوا على كسرها في قوله : { وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ } [ الجن : 23 ] الثاني : أنها في محل رفعٍ على أنها خبر مبتدأ محذوف أي : فأمرُه أو شأنه أنه غفور رحيم . الثالث : أنها تكريرٌ للأولى كُرِّرت لمَّا طال الكلام وعُطِفت عليها بالفاء ، وهذا منقولٌ عن أبي جعفر النحاس . وهذا وهمٌ فاحش لأنه يلزم منه أحد محذورين : إمَّا بقاءُ مبتدأ بلا خير أو شرط بلا جواب ، وبيان ذلك أن « مِنْ » في قوله : { أَنَّهُ مَن عَمِلَ } لا تخلو : إمَّا أن تكون موصولةً أو شرطية ، وعلى كلا التقديرين فهي في محل رفع بالابتداء ، فلو جعلنا « أن » الثانية ، معطوفة على الأولى لزم عدم خبر المبتدأ وجواب الشرط ، وهو لا يجوز .
قد ذكر هذا الاعتراضَ وأجاب عنه الشيخ شهاب الدين أو شامة فقال : « ومنهم مَنْ جعل الثانيةَ تكريراً للأولى لأجل طول الكلام على حد قوله : { أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ } [ المؤمنون : 35 ] ودخلت الفاء في » فأنه غفورٌ « على حَدِّ دخولها في { فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ } [ آل عمران : 188 ] على قول مَنْ جعله تكريراً لقولَه : { لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ } [ آل عمران : 188 ] إلا أن هذا ليس مثلَ » أيعدكم أنَّكم «؛ لأنَّ هذه لا شرطَ فيها وهذه فيها شرط ، فيبقى بغير جواب . فقيل : الجواب محذوف لدلالة الكلام عليه تقديره : غفر لهم » انتهى . وفيه بُعْدٌ ، وسيأتي هذا الجواب أيضاً في القراءة الثانية منقولاً عن أبي البقاء ، وكان ينبغي أن يجيب به هنا لكنه لم يفعلْ ، ولم يظهرْ فرقٌ في ذلك .
الرابع : أنها بدل من « أنَّ » الأولى ، وهو قول الفراء والزجاج وهذا مردودٌ بشيئين ، أحدهما : أنَّ البدلَ لا يَدْخُل فيه حرفُ عطف ، وهذا مقترنٌ بحرفِ العطف ، فامتنع أن يكون بدلاً . فإن قيل : نجعل الفاء زائدةً . فالجواب أن زيادتها غيرُ جائزة ، وهي شيء قال به الأخفش ، وعلى تقدير التسليم فلا يجوز ذلك من وجهٍ آخر : وهو خلوٌّ المبتدأ أو الشرط عن خبر أو جواب .

والثاني من الشيئين : خلوُّ المبتدأ أو الشرط عن الخبر أو الجواب ، كما تقدَّم تقريره : فإن قيل : نجعل الجوابَ محذوفاً - كما تقدَّم نَقْلُه عن أبي شامة - قيل : هذا بعيدٌ عن الفَهْم .
الخامس : أنها مرفوعةٌ بالفاعلية ، تقديره : فاستقرَّ له أنه غفورٌ أي : استقرَّ له وثَبَتَ غُفرانه ، ويجوز أن نُقَدِّر في هذا الوجه جارَّاً رافعاً لهذا الفاعلِ عند الأخفش تقديره : فعليه أنه غفور ، لأنه يُرْفَعُ به وإن لم يَعْتمد ، وقد تقدَّم تحقيقهُ غيرَ مرَّة .
وأما القراءة الثانية : فكسْرُ الأولى من ثلاثة أوجه ، أحدها : أنها مستأنفة وأن الكلام تام قبلها ، وجيء بها وبما بعدها كالتفسير لقوله : { كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة } والثاني : أنها كُسِرَتْ بعد قولٍ مقدَّر أي : قال الله ذلك ، وهذا في المعنى كالذي قبله . والثالث : أنه أجرى « كتب » مُجْرى « قال » فكُسِرَتْ بعده كما تُكْسرُ بعد القول الصريح ، وهذا لا يتمشَّى على أصول البصريين . وأمَّا كَسْرُ الثانية فمن وجهين ، أحدهما : أنها على الاستئناف ، بمعنى أنها في صدر جملة وقعت خبراً ل « مَنْ » الموصولة ، أو جواباً لها إن كانت شرطاً . والثاني : أنها عطفٌ على الأولى وتكرير لها ، ويُعْترض على هذا بأنه يلزم بقاءُ المبتدأ بلا خبر أو الشرط بلا جزاء ، كما تقدَّم ذلك في المفتوحتين .
وأجاب أبو البقاء هنا عن ذلك بأن خبر « مَنْ » محذوفٌ دلَّ عليه الكلام ، وقد قدَّمْتُ لك أنه كان ينبغي أن يُجيب بهذا الجواب في المفتوحتين عند مَنْ جعل الثانية تكريراً للأولى أو بدلاً منها ، ثم قال : « ويجوزُ أن يكونَ العائدُ محذوفاً أي : فإنه غفورٌ له » قلت : قوله « ويجوز » ليس بجيدٍ ، بل كان ينبغي أن يقول ويجب ، لأنه لا بد من ضمير عائد على المبتدأ من الجملة الخبرية ، أو ما يقوم مقامه إن لم يكنْ نفسَ المبتدأ .
وأمَّا القراءةُ الثالثة : فيؤخذُ فتحُ الأولى وكَسْرُ الثانية مما تقدَّم مِنْ كسرِها وفتحها بما يليق من ذلك ، وهو ظاهر .
وأمَّا القراءة الرابعة فكذلك وقال أبو شامة : « وأجاز الزجاجُ كَسْرَ الأولى وفَتْحَ الثانية وإن لم يُقرأ به » قلت : قد قدَّمْتُ أن هذه قراءةُ الأعرج وأن الزهراوي وأبا عمرو الداني نقلاها ، عنه فكأن الشيخ لم يَطِّلِعْ عليها وقَدَّمْتُ لك أيضاً أنَّ سيبويه لم يَرْوِ عن الأعرج إلا كقراءة نافع ، فهذا ممَّا يصلح أن يكون عذراً للزجاج ، وأما أبو شامة فإنه متأخر ، فعدمُ اطِّلاعِه عجيب .
والهاء في « أنَّه » ضمير الأمر والقصة . و « مَنْ » يجوز أن تكون شرطيةً وأن تكون موصولة ، وعلى كل تقدير فهي مبتدأَةٌ ، والفاءُ وما بعدها في محل جزم جواباً إن كانت شرطاً ، وإلاَّ ففي محلِّ رفعٍ خبراً إن كانت موصولة ، والعائد محذوف أي : غفول له .

والهاء في « بعده » يجوز أن تعود على « السوء » وأن تعود على العمل المفهوم من الفعل كقوله : { اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ } [ المائدة : 8 ] ، والأولى أولى لأنه أصرح ، و « منكم » متعلِّقٌ بمحذوف إذ هو حالٌ من فاعل « عمل » ، ويجوز أن تكون « مِنْ » للبيان فيعمل فيها « أعني » مقدراً .
وقوله { بِجَهَالَةٍ } فيه وجهان ، أحدهما : أنه يتعلَّق ب « عمل » على أن الباءَ للسببيةِ أي : عملُه بسبب الجهل . وعَبَّر أبو البقاء في هذا الوجه عن ذلك بالمفعول به وليس بواضح . والثاني - وهو الظاهر - أنها للحال أي : عملُه مصاحباً للجهالة . « ومِنْ » في « مِنْ بعده » لابتداء الغاية .

وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)

قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ } : الكاف أمرُها واضحٌ من كونها نعتاً لمصدر محذوف أو حالاً من ضمير ذلك المصدر كما هو رأي سيبويه ، والإِشارة ب « ذلك » إلى التفصيل السابق ، تقديره : مثل ذلك التفصيل البيِّنِ ، وهو ما سَبَقَ من أحوال الأمم نفصِّل آيات القرآن . وقال ابن عطية : « والإِشارة بقوله » وكذلك « إلى ما تقدَّم ، من النَّهْي عن طَرْد المؤمنين وبيان فساد منزع المعارضين لذلك ، وتفصيل الآ يات تبيينُها وشَرْحُها » . وهذا شبيهٌ بما تقدم له في قوله : { وكذلك فَتَنَّا } [ الأنعام : 53 ] وتقدَّم أنه غير ظاهر .
قوله : { وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ } قرأ الأخوان وأبو بكر : « وليستبين » بالياء من تحت ، « سبيلُ » بالرفع ونافع : « ولتستبين » بالتاء من فوق ، « سبيلَ » بالنصب ، والباقون : بالتاء من فوق ، « سبيل » بالرفع . وهذه القراءات دائرة على تذكير « السبيل » وتأنيثه وتَعَدَّي « استبان » ولُزِومه . وإيضاح هذا أن لغة نجد وتميم تذكير « السبيل » وعليه قوله تعالى : { وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرشد لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الغي يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً } [ الأعراف : 146 ] ، لغةُ الحجاز التأنيث ، وعليه : { قُلْ هذه سبيلي } [ يوسف : 108 ] وقوله :
1935- خَلِّ السبيل لمَنْ يبني المنار بها ... . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وأمَّا « استبانَ » فيكونُ متعدِّياً نحو : استَبَنْتُ الشيءَ « ويكون لازماً نحو : » استبان الصبح « بمعنى بأن ، فَمَنْ قرأ بالياء من تحت ورَفَع فإنه أسند الفعل إلى » السبيل « فرفْعُه على أنه مذكَّرٌ وعلى أن الفعل لازم ، ومن قرأ بالتاء من فوق فكذلك ولكن على لغة التأنيث . ومن قرأ بالتاء من فوق ونصب » السبيلَ « فإنه أسند الفعلَ إلى المخاطب ونصب » السبيل « على المفعولية وذلك على تعدية الفعل أي : ولتستبين أنت سبيل المجرمين ، فالتاء في » لتستبينَ « مختلفةُ المعنى ، فإنها في إحدى القراءتين للخطاب وفي الأخرى للتأنيث ، وهي في كلا الحالين للمضارعة ، و » تستبين « منصوب بإضمار » أن « بعد لام كي ، وفيما تتعلَّق به هذه اللام وجهان ، أحدهما : أنها معطوفة على علة محذوفة ، وتلك العلة معمولةٌ لقوله : { نفَصِّلُ } والمعنى : وكذلك نفصل الآيات لتستبين لكم ولتستبين .
والثاني : أنها متعلقة بمحذوف مقدر بعدها أي : ولتستبين سبيل المجرمين فصَّلناها ذلك التفصيل . وفي الكلام حذفُ معطوف على رأيٍ ، أي : وسبيل المؤمنين ، كقوله تعالى : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] . وقيل : لا يُحتاج إلى ذلك ، لأن المقام إنما يقتضي ذِكْرَ المجرمين فقط ، إذ هم الذين أثاروا ما تقدَّم ذِكْره .

قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56)

قوله تعالى : { أَنْ أَعْبُدَ } : في محل « أَنْ » الخلاف المشهور ، إذ هي على حَذْفِ حرف تقديره : نُهِيْتُ عن أن أعبدَ . وقوله : { قَدْ ضَلَلْتُ } « إذن » حرف جواب وجزاء لا عمل لها هنا لعدم فعلٍ تعمل فيه ، والمعنى : « إن اتَّبَعْتُ أهواءَكم ضَللْت وما اهتدَيْت » فهي في قوة شرط وجزاء .
والجمهور : { ضَلَلْتَ } بفتح اللام الأولى . وقرأ أبو عبد الرحمن ويحيى وطلحة بكسرها ، وقد تقدَّم أنها لغة . ونقل صاحب التحرير [ عن يحيى وابن أبي ليلى أنها قرآ ] هنا وفي ألم السجدة : { أَإِذَا ضَلَلْنَا } بصاد غير معجمة . يقال : صَلَّ اللحمُ أي : أنتن ، وهذا له بعض مناسبة في آية السجدة ، وأما هنا فمعناه بعيدٌ أو ممتنعٌ . وروى العباس عن ابن مجاهد في « الشواذ » له : « صُلِلْنا في الأرض » أي دُفِنَّا في الصَّلَّة وهي الأرضُ الصُلْبة . وقوله : { وَمَآ أَنَاْ مِنَ المهتدين } تأكيد لقوله : { قَدْ ضَلَلْتُ } وأتى بالأولى جملةً فعلية ليدلَّ على تجدد الفعل وحُدوثهِ ، وبالثانية اسميةً ليدلَّ على الثبوت .

قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57)

قوله تعالى : { وَكَذَّبْتُم بِهِ } : في هذه الجملة وجهان ، أحدهما : أنها مستأنفةٌ سيقت للإِخبار بذلك . والثاني : أنها في محصل نصب على الحال ، وحينئذ هل يُحتاج إلى إضمار « قد » أم لا؟ والهاء في « به » يجوز أن تعود على « ربي » وهو الظاهر . وقيل : على القرآن لأنه كالمذكور . وقيل على « بَيِّنَة » لأنها في معنى البيان . وقيل : لأن التاء فيها للمبالغة ، والمعنى : على أمرٍ بَيِّنٍ من ربي ، و « من ربي » في محل جر صفة ل « بينة »
قوله : { يَقُصُّ الحق } قرأ نافع وابن كثير وعاصم : « يقص » بصاد مهملة مشددة مرفوعة ، وهي قراءة ابن عباس ، والباقون بضاد معجمة مخففة مكسورة ، وهاتان في المتواتر . وقرأ عبد الله وأُبَيّ ويحيى بن وثاب والنخعي والأعمش وطلحة : « يقضي بالحق » من القضاء . وقرأ سعيد بن جبير ومجاهد : « يقضي بالحق وهو خير القاضين » فأمَّا قراءة « يقضي » فمِن القضاء . ويؤيده قوله : « وهو خير الفاصلين » فإنَّ الفصل يناسب القضاء ، ولم يُرْسَم إلا بضاد ، كأن الباء حُذِفَتْ خَطَّاً كما حذفت لفظاً لالتقاء الساكنين ، كما حذفت من نحو : { فَمَا تُغْنِ النذر } [ القمر : 5 ] ، وكما حُذِفَتْ الواو في { سَنَدْعُ الزبانية } [ العلق : 18 ] { وَيَمْحُ الله الباطل } [ الشورى : 24 ] لما تقدم .
وأمَّا نصب « الحق » بعده ففيه أربعة أوجه ، أحدها : أنه منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف أي : يقضي القضاء الحق . والثاني : أنه ضمَّن « يقضي » معنى يُنْفِذ ، فلذلك عدَّاه إلى المفعول به ، الثالث : أن « قضى » بمعنى صنع فيتعدَّى بنفسه من غير تضمين ، ويدل على ذلك قوله :
1936- وعليهما مَسْرُودتان قضاهُما ... داودُ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أي : صَنَعَهما . الرابع : أنه على إسقاط حرف الجر أي : يقضي بالحق ، فلما حذف انتصب مجروره على حَدِّ قوله :
1937- تمرُّون الدِّيار فلم تَعْوجوا ... . . . . . . . . . . . . . . . . .
ويؤيد ذلك : القراءةُ بهذا الأصل .
وأما قراءة « يَقُصُّ » فمِنْ « قَصَّ الحديث » أو مِنْ « قصَّ الأثر » أي : تَتَبَّعه . وقال تعالى : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص } [ يوسف : 3 ] . ورجحَّ أبو عمرو بن العلاء القراءة الأولى بقوله : « الفاصلين » ، وحُكي عنه أنَّه قال : « أهو يَقُصُّ الحقَّ أو يقضي الحقَّ أو يقضي الحق » فقالوا : « يقصُّ » فقال : « لو كان » يقص « لقال : » وهو خير القاصِّين « اقرأ أحدٌ بهذا؟ وحيث قال : { وَهُوَ خَيْرُ الفاصلين } فالفصل إنما يكون في القضاء » وكأن أبا عمرو لم يَبْلُغْه « وهو خير القاصِّين » قراءةً . وقد أجاب أبو علي الفارسي عما ذكره ابن العلاء فقال : « القصصُ هنا بمعنى القول ، وقد جاء الفصل في القول أيضاً قال تعالى : { إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ } [ طارق : 13 ] وقال تعالى : { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ } [ هود : 1 ] . وقال تعالى : { وَنُفَصِّلُ الآيات } [ التوبة : 11 ] فقد حمل الفَصْل على القول ، واستُعمل معه كما جاء مع القضاء فلا يلزم » من الفاصلين « أن يكون مُعَيِّناً ليقضي .

قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)

وقوله تعالى : { والله أَعْلَمُ بالظالمين } : من باب إقامة الظاهر مقام المضمر تنبيهاً على استحقاقهم ذلك بصفةِ الظلم ، إذا لو جاء على الأصل لقال : « والله أعملُ بكم » .

وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)

قوله تعالى : { مَفَاتِحُ } : فيه ثلاثة أقوال ، أحدها : أنه جمعُ مِفْتح بكسر الميم والقصر ، وهو الآلة التي يُفتح بها نحو : مُنْخُل ومَنَاخل . والثاني : أنه جمع مَفْتَح بفتح الميم ، وهو المكان ، ويؤيده تفسير ابن عباس هي خزائن المطر . والثالث : أنه جمع مِفتاح بكسر الميم والألف ، وهو الآلة أيضاً ، إلا أنَّ هذا فيه ضعفٌ من حيث إنه كان ينبغي أن تُقلب ألف المفرد ياء فيقال : مفاتيح كدنانير ، ولكنه قد نُقِل في جمع مصباح مصابح ، وفي جمع مِحْراب مَحارِب ، وفي جمع قُرْقُرر قراقِر ، وهذا كما أتوا بالياء في جمع ما لا مَدَّةَ في مفرده كقولهم : دراهيم وصياريف في جمع دِرْهَم وصَيْرَف ، قال :
1938- تَنْفي يداها الحصى في كل هاجِرَةٍ ... نَفْيَ الدارهيمِ تَنْقادُ الصَّياريفِ
وقالوا : عيِّل وعَياييل . قال :
1939- فيها عياييلُ أُسودٌ ونُمُرْ ... الأصل : عيايل ونمور ، فزاد في ذلك ونَقَّصَ مِنْ هذا .
وقد قُرِئ « مفاتيح » بالياء وهي تؤيد أنَّ مفاتح جمع مفتاح ، وإنما حُذِفَتْ مدَّتْه . وجَوَّز الواحدي أن يكون مفاتح جمع مَفْتَح بفتح الميم على أنه مصدر ، قال بعد كلام حكاه عن أبي إسحاق : « فعلى هذا مفاتح جمع المَفْتح بمعنى الفتح » ، كأن المعنى : « وعنده فتوح الغيب » أي : هو يفتح الغيب على مَنْ يشاء من عباده . وقال أبو البقاء : « مفاتح جمع مَفْتَح ، والمَفْتَحُ الخزانة ، فأمَّا ما يُفتح به فهو المفتاحُ ، وجمعه مفاتيح وقد قيل مَفْتح أيضاً » انتهى . يريد جمع مَفتح أي بفتح الميم . وقوله : « وقد قيل : مَفْتَح يعني أنها لغة قليلة في الآلة والكثير فيها المدُّ ، وكان ينبغي أن يوضِّح عبارته فإنها موهمة ولذلك شرحتها .
قوله : { لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ } في محل نصب على الحال من » مفاتح « ، والعامل فيها الاستقرار الذي تضمَّنه حرف الجر لوقوعه خبراً . وقال أبو البقاء : » نفسُ الظرف إنْ رَفَعْتَ به مفاتح « أي : إنْ رفعته به فاعلاً ، وذلك على رأي الأخفش ، وتضمُّنه للاستقرار لا بد منه على كل قول ، فلا فرق بين أن ترفعَ به الفاعل أو تجعله خبراً .
قوله : { مِن وَرَقَةٍ } فاعل » تَسْقُط « و » مِنْ « زائدة لاستغراق الجنس ، وقوله : { إِلاَّ يَعْلَمُهَا } حالٌ من » ورقة « وجاءت الحال من النكرة لاعتمادِها على النفي ، والتقدير : ما تسقط من ورقة إلا عالماً هو بها كقولك : » ما أكرمْتُ أحداً إلا صالحاً « ويجوز عندي أن تكونَ الجملة نعتاً ل » ورقة « وإذا كانوا أجازوا في قوله { إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ } [ الحجر : 4 ] أن تكون نعتاً لقرية في قوله : { وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ } [ الحجر : 4 ] مع كونها بالواو ويعتذرون عن زيادة الواو ، فأَنْ يجيزوا ذلك هنا أولى ، وحينئذ فيجوز أن تكون في موضع جر على اللفظ أو رفع على المَحَلَّ .

قوله : { وَلاَ حَبَّةٍ } عطفٌ على لفظ « ورقةٍ » ولو قُرِئ بالرفع لكان على الموضع . و « في ظلمات » صفة لحبة . وقوله : { وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ } معطوفان أيضاً على لفظ « ورقة » وقرأهما ابن السميفع والحسن وابن أبي إسحاق بالرفع على المحل ، وهذا هو الظاهر ، ويجوز أن يكونا مبتدأين ، والخبر قوله { إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } ونقل الزمخشري أن الرفع في الثلاثة أعني قوله : « ولا حبةٍ ولا رطبٍ ولا يابسٍ » وذكر وجهي الرفع المتقدِّمين ، ونظَّر الوجه الثاني بقولك : « لا رجلٌ منهم ولا امرأة إلا في الدار » .
قوله : { إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } في هذا الاستثناء غموض ، فقال الزمخشري : « وقوله : { إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } كالتكرير لقوله : { إِلاَّ يَعْلَمُهَا } لأن معنى » إلاَّ يعلمها « ومعنى » إلا في كتاب مبين « واحد ، والكتاب علم الله أو اللوح » وأبرزه الشيخ في عبارة قريبة من هذه فقال : « وهذا الاستثناء جارٍ مجرى التوكيد لأن قوله : » ولا حبةٍ ولا رطب ولا يابس « معطوف على » مِنْ ورقة « والاستثناءُ الأولُ منسحبٌ عليها كما تقول : » ماجاءني من رجلٍ إلا أكرمته ولا أمرأةٍ « فالمعنى : إلا أكرمتها ، ولكنه لَمَّا طال الكلام أعيد الاستثناء على سبيل التوكيد ، وحَسَّنه كونُه فاصلة » انتهى . وجعل صاحب « النظم » الكلامَ تاماً عند قوله : { ولا يابس } ثم استأنف خبراً آخر بقوله { إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } بمعنى : وهو في كتاب مبين أيضاً . قال : « لأنك لو جَعَلْتَ قوله { إِلاَّ فِي كِتَابٍ } متصلاً بالكلام الأول لفسَدَ المعنى ، وبيان فساده في فصل طويل ذكرناه في سورة يونس في قوله : » ولا أصغرَ من ذلك ولا أكبرَ إلا في كتاب مبين « انتهى . قلت : إنما كان فاسدَ المعنى من حيث اعتقد أنه استثناءٌ آخرُ مستقلٌّ ، وسيأتي كيف فسادُه ، أمَّا لو جعله استثناء مؤكداً للأول كما قاله أبو القاسم لم يفسد المعنى ، وكيف يُتَصَوَّرُ تمام الكلام على قوله تعالى : { وَلاَ يَابِسٍ } ويُبْتَدَأ ب » إلا « وكيف تقع » إلا « هكذا؟
وقد نحا أبو البقاء لشيءٍ مِمَّا قاله الجرجاني فقال : » إلا في كتاب مبين « أي : إلا هو في كتاب مبين ، ولا يجوز أن يكون استثناء يعمل فيه » يَعْلمها «؛ لأنَّ المعنى يصير : وما تسقط من ورقة إلا يعلمها إلا في كتاب ، فينقلب معناه إلى الإِثبات أي : لا يعلمها في كتاب ، وإذا لم يكن إلا في كتاب وجب أن يعلمها في الكتاب ، فإذن يكون الاستثاءُ الثاني بدلاً من الأول أي : وما تسقط من ورقة إلا هي في كتاب وما يَعْلَمُها » انتهى . وجوابه ما تقدم من جَعْلِ الاستثناء تأكيداً ، وسيأتي هذا مقرَّراً إن شاء الله في سورة يونس لأنَّ له بحثاً يخصُّه .

وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)

قوله تعالى : { بالليل } : متعلق بما قبله على أنه ظرف له ، والباء تأتي بمعنى « في ، وقد قدَّمْتُ منه جملةً صالحة . وقال أبو البقاء هنا : » وجاز ذلك لأنَّ الباء للإِلصاق ، والملاصِقُ للزمان والمكان حاصل فيهما « يعني فهذه العلاقَةُ المجوِّزةُ للتجوُّز ، وعلى هذا فلا حاجة إلى أن ينوبَ حرفٌ مكان آخر ، بل نقول : هي هنا للإِلصاق مجازاً نحو ما قالوه في » مررت بزيد « وأسند التوفِّيَ هنا إلى ذاته المقدسة لأنه لا يُنْفَرُ منه هنا ، إذ المرادُ به الدَّعة والراحة ، وأسنده إلى غيره في قوله تعالى : { تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا } [ الأنعام : 61 ] { يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت } [ السجدة : 11 ] لأنه يُنْفَرُ منه ، إذ المرادُ به الموت .
وقوله : { مَا جَرَحْتُم } الظاهر أنها مصدريةٌ ، وإن كان كونُها موصولةً اسميةً أكثرَ ، ويجوز أن تكونَ نكرةً موصوفةً بما بعدها ، والعائد على كلا التقديرين الآخرين محذوف ، وكذا عند الأخفش وابن السراج على القول الأول . و » بالنهار « كقوله : { بالليل } والضمير في » فيه « عائد على النهار . هذا هو الظاهر قال الشيخ : » عاد عليه لفظاً « والمعنى : في يوم آخر ، كما تقول : عندي درهم ونصفه » قلت : ولا حاجةَ في الظاهر إلى عوده على نظير المذكور ، إذ عَوْدُه على المذكور لا محذورَ فيه ، وأمَّا من نحو : « درهم ونصفه » فلضرورة انتفاء العيِّ من الكلام ، قالوا : لأنك إذا قلت : « عندي درهم » عُلِمَ أن عندك نصفَه ضرورةً ، فقولك بعد ذلك : « ونصفه » تضطر إلى عَوْدِه إلى نظير ما عندك بخلاف ما نحن فيه . وقيل : يعود على الليل . وقيل : يعود على التوفِّي وهو النوم أي : يُوقظكم في خلال النوم . وقال الزمخشري : « ثم يَبْعثكم مِن القبور في شأن الذي قطعتم به أعماركم من النوم بالليل وكَسْبِ الآثام بالنهار » انتهى . وهو حسن .
وخصَّ الليل بالتوفي والنهار بالكسب وإن كان قد يُنام في هذا ، ويُكسَبُ في الآخر اعتباراً بالحال الأغلب . وقَدَّم التوفِّيَ بالليل لأنه أبلغ في المِنَّة عليهم ، ولا سيما عند مَنْ يَخُصُّ الجَرْحَ بكَسْب الشر دون الخير .
قوله : { ليقضى أَجَلٌ } الجمهور على « لِيُقْضَى » مبنياً للمفعول و « أجلٌ » رفع به ، وفي الفاعل المحذوف احتمالان ، أحدهما : أنه ضمير الباري تعالى . والثاني : أنه ضمير المخاطبين ، أي : لتقضوا أي : لتستوفوا آجالكم . وقرأ أبو رجاء وطلحة : « ليقضي » مبنياً للفاعل وهو الله تعالى ، « أجلاً » مفعول به ، و « مُسَمَّى » صفة ، فهو مرفوع على الأول ومنصوب على الثاني ، ويترتب على ذلك خلافٌ للقراء في إمالة ألفهِ قد أوضحته في « شرح القصيد » واللام في « لِيُقْضَى » متعلقةٌ بما قبلها من مجموعِ الفعلين أي : يتوفَّاكم ثم يبعثكم لأجل ذلك .

وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61)

قوله تعالى : { وَيُرْسِلُ } : فيه خمسة أوجه ، أحدها : أنه عطفٌ على اسم الفاعل الواقع صلة لأل ، لأنه في معنى يفعل ، والتقدير : وهو الذي يقهر عباده ويرسل ، فعطف الفعل على الاسم لأنه في تأويله ، ومثلُه عند بعضهم : { إِنَّ المصدقين والمصدقات وَأَقْرَضُواْ } [ الحديد : 18 ] قالوا : فأقرضوا عطف على « مصدقين » الواقعِ صلةً لأل ، لأنه في معنى : إنَّ الذين صدَّقوا وأقرضوا ، وهذا ليس بشيء ، لأنه يلزم من ذلك الفصلُ بين أبعاض الصلة بأجنبيّ وذلك أن « وأقرضوا » من تمام صلة أل في « المصِّدِّقين » وقد عطف على الموصول قوله « المصدقات » وهو أجنبي ، وقد تقرر غيرَ مرة أنه لا يُتْبَعُ الموصول إلا بعد تمام صلته . وأمَّا قوله تعالى : { فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ } [ الملك : 19 ] فيقبضن في تأويل اسم أي : وقابضات . ومن عطف الاسم على الفعل لكونه في تأويل الاسم قولُه تعالى : { يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَمُخْرِجُ الميت } [ الأنعام : 95 ] وقوله :
1940- فأَلْفَيْتُه يوماً يُبيرُ عدوَّهُ ... ومُجْرٍ عطاءً يستخفُّ المعابرا
والثاني : أنها جملة فعلية عُطِفَتْ على جملة اسمية وهي قوله : { وَهُوَ القاهر } والثالث : أنها معطوفة على الصلة وما عُطِف عليها وهو قوله : يتوفَّاكم ويعلم ، وما بعده ، أي : وهو الذي يتوفَّاكم ويرسل . الرابع : أنه خبر مبتدأ محذوف ، والجملة في محل نصب على الحال . وفي صاحبها وجهان ، أظهرهما : أنه الضميرُ المستكنُّ في « القاهر » والثاني : أنها حال من الضمير المستكنِّ في الظرف ، كذا قال أبو البقاء ، ونقله عن الشيخ وقال : « وهذا الوجهُ أضعفُ الأعاريب » وقولهما « الضمير الذي في الظرف » ليس هنا ظرفٌ يُتَوهَّم كونُ هذه الحالِ من ضميرٍ فيه إلا قولَه « فوق عباده » ولكن بأي طريق يَتَحَمَّل هذا الظرفُ ضميراً؟
والجواب أنه قد تقدم في الاية المشبهة لهذه أن « فوق عباده » فيه خمسة أوجه ، ثلاثة منها تَتَحَمَّلُ فيها ضميراً وهي : كونه خبراً ثانياً أو بدلاً من الخبر أو حالاً ، وإنما اضطررنا إلى تقدير مبتدأ قبل « يُرْسِلُ » لأن المضارعَ المثبتَ إذا وقع حالاً لم يقترنْ بالواو ، وقد تقدَّم إيضاحُ هذا غيرَ مرة . والخامس : أنها مستأنفةٌ سِيقت للإِخبار بذلك ، وهذا الوجهُ هو في المعنى كالثاني .
وقوله : { عَلَيْكُم } يحتمل ثلاثة أوجه ، أظهرها : أنه متعلق بيرسل ، ومنه : { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا } [ الرحمن : 35 ] { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ } [ الأعراف : 133 ] { وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً } [ الفيل : 3 ] إلى غير ذلك . والثاني : أنه متعلق ب « حَفَظَة » . يقال : حَفِظْتُ عليه عمله ، فالتقدير : ويُرْسل حَفَظَة عليكم . قال الشيخ : « أي يحفظون عليكم أعمالهم كما قال : { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ } [ الانفطار : 10 ] كما تقول : حَفِظْتُ عليك ما تعمل » فقوله : « كما قال : إن عليكم لحافظين » تشبيه من حيث المعنى لا أن « عليكم » تعلق بحافظين؛ لأن « عليكم » هو الخبر ل « إن » فيتعلق بمحذوف .

والثالث : أنه متعلِّقٌ بمحذوف على أنه حال من « حفظة » إذ لو تأخَّر لجاز أن يكون صفةً لها .
قال أبو البقاء : « عليكم » فيه وجهان أحدهما : هو متعلِّق بيرسل ، والثاني : أن يكون في نية التأخير وفيه وجهان ، أحدهما : أن يتعلَّقَ بنفس « حَفَظة » والمفعول محذوف أي : يرسل عليكم مَنْ يحفظ أعمالكم . والثاني : أن يكون صفةً ل « حَفَظة » قُدِّمَتْ فصارت حالاً « انتهى . قوله : » المفعول محذوف « يعني مفعول » حفظة « إلا أنه يُوهم أنَّ تقديرَ المفعول خاصٌّ بالوجه الذي ذكره ، وليس كذلك بل لا بد من تقديره على كل وجه ، و » حَفَظَة « إنما عمل في ذلك المقدَّر لكونه صفةً لمحذوف ، تقديره : ويرسل عليكم ملائكة حفظة ، لأنه لا يعمل إلا بشروطٍ هذا منها ، أعني كونه معتمداً على موصوف .
و » حَفَظَة « جمع حافظ ، وهو منقاسٌ في كل وصف على فاعِل صحيح اللام ، لعاقل مذكر ك » بارّ « و » بَرَة « و » فاجِر « و » فَجَرة « و » كامل « و » كَمَلة « ، ويَقِلُّ في غير العاقل كقولهم : غراب ناعق وغربان نَعَقَه . وتقدَّم مثل قوله : » حتى إذا جاء «
قوله : { تَوَفَّتْهُ } قرأ الجمهور : { توفَّتْه } ماضياً بتاء التأنيث لتأنيث الجمع . وقرأ حمزة : { توفَّاه } من غير تاء تأنيث ، وهي تحتمل وجهين أظهرهما : أنه ماضٍ وإنما حَذَفَ تاء التأنيث لوجهين ، أحدهما : كونه تأنيثاً مجازياً ، والثاني : الفصلُ بين الفعل وفاعله بالمفعول . والثاني : أنه مضارع ، وأصله : تتوفاه بتاءين ، فحذفت إحداهما على خلاف في ايتهما ك » تَنَزَّلُ « وبابه . وحمزةُ على بابه في إمالة مثل هذه الألف . وقرأ الأعمش : { يتوفَّاه } مضارعاً بياء الغَيْبة ، اعتباراً بكونه مؤنثاً مجازياً أو للفصل ، فهي كقراءة حمزة في الوجه الأول من حيث تذكيرُ الفعل ، وكقراءته في الوجه الثاني من حيث إنه أتى به مضارعاً . وقال أبو البقاء : » وقرئ شاذاً : { تتوفَّاه } على الاستقبال ولم يذكر بياء ولا تاء .
قوله : { وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ } هذه الجملة تحتمل وجهين ، أظهرهما : أنها حال من « رسلنا » والثاني : أنها استئنافية سيقت للإِخبار عنهم بهذه الصفة ، والجمهور على التشديد في « يُفْرِّطون » ومعناه لا يُقَصِّرون . وقرأ عمرو بن عبيد والأعرج : « يُفْرِطون » مخففاً من أفرط ، وفيها تأويلان أحدهما : أنها بمعنى لا يجاوزون الحدَّ فيما أُمِروا به . قال الزمخشري : « فالتفريط : التواني والتأخير عن الحدِّ ، و الإِفراط : مجاوزة الحدِّ أي : لا يُنْقصون ممَّا أمروا به ولا يَزيدون » والثاني : أن معناه لا يتقدمون على أمر الله ، وهذا يحتاج إلى نَقْلِ أنَّ أفرط بمعنى فَرَّط أي تَقَدَّم . وقال الجاحظ قريباً من هذا فإنه قال : « معنى لا يُفْرِطون : لا يَدَعون أحداً يفرُط عنهم أي : يَسْبقهم ويفوتهم » وقال أبو البقاء : « ويُقرأ بالتخفيف أي : لا يزيدون على ما أُمِروا به » وهو قريب مِمَّا تقدم .

ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)

قوله تعالى : { مَوْلاَهُمُ الحق } : صفتان لله . وقرأ الحسن والأعمش : « الحقَّ » نصباً ، وفيه تاويلان ، أظهرهما : أنه نعت مقطوع . والثاني : أنه نعتُ مصدرٍ محذوف أي : رَدُّوا الردَّ الحقَّ لا الباطل . وقرئ : { رِدُّوا } بكسر الراء ، وتقدَّم تخريجها مستوفى . والضمير في « مولاهم » فيه ثلاثة أوجه ، أظهرهما : أنه للعباد في قوله { فَوْقَ عِبَادِهِ } فقوله : { وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم } التفاتٌ ، إذا الأصل : ويرسل عليهم وفائدة هذا الالتفات التنبيهُ والإِيقاظ . والثاني : أنه يعود على الملائكة المعنيِّين بقوله : « رسلنا » ، يعني أنهم يموتون كما يموت بنو آدم ويُرَدُّون إلى ربهم . والثالث : أنه يعود على « أحد » في قوله : { إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت } إذ المراد به الجمع لا الإِفراد .

قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63)

قوله تعالى : { قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ } : قرأ السبعة هذه مشددة ، { قل الله ينجيكم } : قرأها الكوفيون وهشام بن عمار عن ابن عامر مشددة كالأولى ، وقرأ الثِّنتين بالتخفيف من « أنجى » حميدُ بن قيس ويعقوب وعلي بن نصر عن أبي عمرو ، وتحصَّل من ذلك أن الكوفيين وهشاماً يثقِّلون في الموضعين وأن حميداً ومَنْ معه يُخَففون فيهما ، وأن نافعاً وابن كثير وأبا عمرو وأبن ذكوان عن ابن عامر يُثْقِّون الأولى ويُخَفِّفون الثانية ، والقراءاتُ واضحة فإنها من نجَّى وأَنْجى ، فالتضعيف والهمزة كلاهما للتعدية ، فالكوفيون وهشام التزموا التعدية بالتضعيف ، وحميد وجماعته التزموها بالهمزة ، والباقون جمعوا بين التعديتين جمعاً بين اللغتين كقوله تعالى : { فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً } [ الطارق : 17 ] . والاستفهام للتقرير والتوبيخ ، وفي الكلام حذف مضاف أي : مِنْ مَهالِك ظلمات أو من مخاوفها ، والظلمات كناية عن الشدائد .
قوله : { تَدْعُونَهُ } في محل نصب على الحال : إمَّا من مفعول « ينجيكم » وهو الظاهر ، أي : يُنَجيكم داعين إياه ، وإمَّا من فاعله أي : مَدْعُوَّاً مِنْ جتهكم .
قوله : { تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } يجوز فيهما وجهان ، أحدهما : أنها مصدران في موضع الحال أي : تَدْعُونه متضرِّعين ومُخْفِين . والثاني : أنهما مصدران من معنى العامل لا من لفظه كقوله : قَعَدْتُ جلوساً . وقرأ الجمهور : { خُفْية } بضم الخاء . وقرأ أبو بكر بكسرها وهما لغتان كالعُدوة والعِدوة ، والأُسوة والإِسوة . وقرأ الأعمش : { وخيفة } كالتي في الأعراف وهي من الخوف ، قُلِبَتْ الواو ياء لانكسار ما قبلها وسكونها ، ويظهر على هذه القراءة أن يكون مفعولاً من أجله لولا ما يأباه « تضرُّعاً » من المعنى .
قوله : { لَّئِنْ أَنجَانَا } الظاهر أن هذه الجملةَ القسمية تفسير للدعاء قبلها ، ويجوز أن تكون منصوبةَ المحلِّ على إضمار القول ، ويكونه ذلك القول في محل نصب على الحال من فاعل « تَدْعُونه » أي : تدعونه قائلين ذلك ، وقد عرفت ممَّا تقدَّم غيرَ مرة كيفيةَ اجتماع الشرط والقسم . وقرأ الكوفيون : « أَنْجانا » بلفظ الغيبة مراعاةً لقوله : { تَدْعُونَهُ } والباقون « » أَنْجَيْتنا « بالخطاب حكايةً لخطابهم في حالة الدعاء ، وقد قرأ كلُّ بما رُسِم في مصحفه ، فإنَّ في مصاحف الكوفة : » أنجانا « ، وفي غيرِها : » أَنْجَيْتنا « .
قوله : { مِنْ هذه } متعلِّقٌ بالفعل قبله ، و » مِنْ « لابتداء الغاية ، و » هذه « إشارةٌ إلى الظلمات؛ لأنها تجري مَجْرى المؤنثة الواحدة ، وكذلك في » منها « تعود على الظلمات لِما تقدم .

قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)

وقوله : { وَمِن كُلِّ كَرْبٍ } : عطف على الضمير المجرور بإعادة حرف الجر وهو واجبٌ عند البصريين وقد تقدم .

قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)

قوله : { عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ } : يجوز أن يكون الظرف متعلقاً ب « نبعث » ، وأن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه صفة ل « عذاباً » أي : عذاباً كائناً من هاتين الجهيتن .
قوله : { أَوْ يَلْبِسَكُمْ } عطف على « يَبْعَث » والجمهور على فتح الياء من « يَلْبسكم » وفيه وجهان ، أحدهما : أنه بمعنى يخلطكم فِرَقاً مختلفين على أهواء شتى ، كل فرقة مشايعة لإِمام ، ومعنى خَلْطِهم إنشابُ القتال بينهم فيختلطوا في ملاحكم القتال كقول الحماسي :
1941- وكتيبةٍ لَبَّسْتُها بكتيبةٍ ... حتى إذا التبسَتْ نَفَضْتُ لها يدي
فَتَرَكْتُهمْ تَقِصُ الرماحُ ظهورَهم ... ما بين مُنْعَفِرٍ وآخرَ مُسْنَدِ
وهذه عبارة الزمخشري ، فجعله من اللَّبس الذي هو الخلط ، وبهذا التفسير الحسن ظهر تعدِّي « يلبس » إلى المفعول . و « شيعاً » نصب على الحال . وهي جمع شِيْعة كسِدْرة وسِدَر . وقيل : « شيعاً » منصوب على المصدر من معنى الفعل الأول أي : إنه مصدر على غير الصدر كقعدت جلوساً . قال الشيخ : « ويحتاج في جعله مصدراً إلى نَقْلٍ من اللغة » . ويجوز على هذا أيضاً أن يكونَ حالاً كأتيته ركضاً أي : راكضاً أو ذا ركض . وقال أبو البقاء : « والجمهور على فتح الياء أي : يلبس عليكم أموركم ، فحذف حرف الجر والمفعول ، والأجودُ أن يكون التقدير : أو يلبس أموركم ، فحُذِف المضاف وأُقيم المضاف إليه مُقامه » ، وهذا كلُّه لاحاجةَ إليه لِما عَرَفْتَ من كلام الزمخشري .
وقرأ ابو عبد الله المدني : « يُلبسكم » بضم الياء من « ألبس » رباعياً ، وفيه وجهان ، أحدهما : أن يكون المفعول الثاني محذوفاً تقديره : أو يلبسكم الفتنة . و « شيعاً » على هذا حال أي : يُلْبِسكم الفتنة في حال تفرُّقكم وشتاتكم . والثاني : أن يكون « شِيعاً » هو المفعولُ الثاني كأنه جعل الناسَ يلبسون بعضَهم مجازاً كقوله :
1942- لَبِسْتُ أناساً فَأَفْنَيْتُهمْ ... وأَفْنَيْتُ بعد أُناسٍ أُناسا
والشيعة : مَنْ يتقوَّى بهم الإِنسان ، والجمع : « شِيَع » كما تقدم ، وأشياع كذا قاله الراغب ، والظاهر أن أشياعاً جمع شِيَع كعِنَب وأعناب وضِلَع وأضلاع ، وشِيَع جمع شِيْعة ، فهو جمع الجمع .
قوله : { وَيُذِيقَ } نسق على « يَبْعَث » والإِذاقة : استعارة ، وهي فاشية : { ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ } [ القمر : 48 ] { ذُقْ إِنَّكَ } [ الدخان : 49 ] { فَذُوقُواْ العذاب } [ الأنعام : 30 ] ، وقال :
1943- أَذَقْناهُمْ كؤوسَ الموت صِرْفاً ... وذاقوا من أَسِنَّتنا كؤوسا
وقرأ الأعمش : { ونذيق } بنون العظمة ، وهو التفاتٌ فائدتُه تعظيم الأمر والتحذير من سطوته .

وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66)

قوله : { وَكَذَّبَ بِهِ } : الهاء في « به » تعود على العذاب المتقدم في قوله { عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ } قاله الزمخشري ، وقيل : تعود على القرآن ، وقيل : تعود على الوعيد المتضمن في هذه الآيات المتقدمة . وقيل : على النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا بعيدٌ لأنه خوطب بالكاف عَقِيبَه ، فلو كان كذلك لقال : « وكذَّب به قومك ، وادِّعاء الالتفات فيه أبعدُ وقيل : لا بد من حذف صفة هنا أي : وكذَّب به قومك المعاندون ، أو الكافرون ، لأن قومه كلهم لم يكذِّبوه كقوله : { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } [ هود : 46 ] ، أي : الناجين . وحَذْفُ الصفة وبقاءُ الموصوف قليل جداً بخلاف العكس . وقرأ ابن عبلة .
{ وكَذِّبَتْ } بتاء التأنيث ، كقوله تعالى : { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ } [ الشعراء : 105 ] { كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ } [ القمر : 33 ] . باعتبار الجماعمة
قوله : { وَهُوَ الحق } في هذه الجملةِ وجهان ، الظاهر منهما : أنها استئناف ، والثاني : أنها حال من الهاء في » به « أي : كذَّبوا به في حال كونه حقاً ، وهو أعزم في القبح .
قوله : { عَلَيْكُمْ } متعلق بما بعده وهو توكيد وقدَّم لأجل الفواصل ، ويجوز أن يكون حالاً من قوله » بوكيل «؛ لأنه لو تأخر لجاز أن يكون صفةً له ، وهذا عند مَنْ يُجيز تقديمَ الحال على صاحبها المجرور بالحرف وهو اختيار جماعة ، وأنشدوا عليه :
1944- غافلاً تُعْرَضُ المَنِيَّةُ للمَرْ ... ءِ فيُدْعَى ولات حين إباءُ
فقدَّم » غافلاً « على صاحبها وهو » المرء « وعلى عاملها وهو » تُعرض « فهذا أَوْلى . ومنه :
1945- لَئِنْ كان بَرْدُ الماءِ هَيْمانَ صادياً ... إليَّ حبيباً إنها لحبيبُ
أي : إليَّ هيمان صادِياً ، ومثله :
1946- فإن يك أذوادٌ أُصِبْنَ ونسوةٌ ... فَلَنْ يذهبوا فَرْغاً بقتل حبالِ
» فرغاً « حال من » بقتل « و » حبال « بالمهملة اسم رجل ، مع أن حرف الجر هنا زائدة فجوازه أولى من ما ذكرنا .

لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)

قوله تعالى : { لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ } : يجوز رفع « نبأ » بالابتدائية وخبرُه الجارُّ قبله ، وبالفاعلية عند الأخفش بالجار قبله ، ويجوز أن يكونَ « مستقر » اسمَ مصدرٍ أي استقرار ، أو مكان أو زمان .

وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)

قوله تعالى : { وَإِذَا رَأَيْتَ } : « إذا » منصوب بجوابها وهو « فأعرضْ » أي : أعرضْ عنهم في هذا الوقت ، و « رأيت » هنا تحتمل أن تكون البَصرية وهو الظاهر ولذلك تعدَّت لواحد . قال الشيخ : « ولا بد من تقدير حالٍ محذوفة أي : رأيت الذين يخوضون في آياتنا وهم خائضون فيها ، أي : وإذا رأيتم ملتبسين بالخوض فيها » انتهى . قلت : ولا حاجةَ إلى ذلك لأنَّ قوله « يخوضون » مضارع والراجح حاليَّتُه ، وأيضاً فإن « الذين يخوضون » في قوة الخائضين ، واسم الفاعل حقيقةٌ في الحال بلا خلاف ، فيُحمل هذا على حقيقته ، فيُستغنى عن حذف هذه الحال التي قَدَّرها وهي حال مؤكدة . ويحتمل أن تكون عِلْميَّة ، وضعَّفه الشيخ بأنه يلزم منه ح‍َذْفُ المفعول الثاني ، وحذفه : إمَّا اقتصارٌ وإمَّا اختصار ، فإن كان الأول فممنوعٌ انفاقاً ، وإن كان الثاني فالصحيح المنع حتى منع ذلك بعض النحويين .
قوله : { غَيْرِهِ } الهاء فيها وجهان ، أحدهما : أنه تعود على الآيات ، وعاد مفرداً مذكراً؛ لأن الآيات في معنى الحديث والقرآن . وقيل : إنها تعود على الخوض أي : المدلول عليه بالفعل كقوله :
1947- إذا نُهِي السَّفيهُ جرى إليه ... وخالف والسفيهُ إلى خلافِ
أي : جرى إلى السَّفه ، دل عليه الصفة كما دل الفعل على مصدره أي : حتى يخوضوا في حديث غيرِ الخوض .
قوله : { يُنسِيَنَّكَ } قراءة العامة : « يُنْسِيَنَّك » بتخفيف السين من « أنساه » كقوله : { وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان } [ الكهف : 63 ] { فَأَنْسَاهُ الشيطان } [ يوسف : 42 ] . وقرأ ابن عامر بتشديدها مِنْ « نَسَّاه » والتعدّي جاء في هذا الفعلِ بالهمزة مرةً وبالتضعيف أخرى كما تقدم في أنجى ونجَّى ، وأمهل ومهَّل . والمفعول الثاني محذوف في القراءتين ، تقديره : وإمَّا يُنْسِيَنَّك الشيطان الذكرَ أو الحق . والأحسنُ أن تقدِّر ما يليق بالمعنى أي : وإمَّا يُنْسِيَنَّك الشيطان ما أُمِرْت به من تَرْك مجالسه الخائضين بعد تذكيرك فلا تقعد بعد ذلك معهم ، وإنما أبرازهم ظاهرين تسجيلاً عليهم بصفة الظلم ، وجاء الشرط الأول ب « إذا » لأنَّ خوضهم في الآيات محقق ، وفي الشرط الثاني ب « إنْ » لأنَّ إنساءَ الشيطان له ليس أمراً محققاً بل قد يقع وقد لا يقع وهو معصومٌ منه .
ولم يَجِيءْ مصدرٌ على فِعْلى غيرُ « ذكرى » وقال ابن عطية : « وإمَّا » شرط ، ويلزمُها في الأغلب النون الثقيلة ، وقد لا تلزم ، كقوله :
1948- إمَّا يُصيبْكَ عدوٌّ في مُنَاوَأَةٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهذا الذي ذكره مِنْ لزوم التوكيد هو مذهب الزجاج ، والناس على خلافه وأنشدوا ما أنشده ابن عطية وأبياتاً أُخَرَ ذكرتها في « شرح التسهيل » كقوله :
1949- إمَّا تَرَيْني اليومَ أمَّ حَمْزِ ... على أني قد ضممت كثيراً من أطراف هذه المسألة في أوائل البقرة ، إلا أن أحداً لم يقل يلزم توكيده بالثقيلة دون الخفيفة ، وإن كان ظاهر عبارة أبي محمد ذلك .

وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)

قوله تعالى : { وَمَا عَلَى الذين } : يجوز أن تقدِّر « ما » حجازية فيكون « من شيء » اسمَها ، و « من » مزيدة فيه لتأكيد الاستغراق ، و { عَلَى الذين يَتَّقُونَ } خبرها عند مَنْ يُجيز إعمالَها مقدَّمَةَ الخبر مطلقاً أو يرى ذلك في الظرف وعديله . و { مِنْ حِسَابِهِم } حال من « شيء »؛ لأنه لو تأخر لكان صفة له ، ويجوز أن تكون مهملةً : إمَّا على لغة تميم وإمَّا على لغة الحجاز لفواتِ شرطٍ وهو تقديم خبرها وإن كان ظرفاً ، وتحقيق ذلك ممَّا تقدم في قوله : { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ } [ الأنعام : 52 ] .
قوله : { ولكن ذكرى } فيه أربعة أوجه ، أحدها : أنها منصوبةٌ على المصدر بفعلٍ مضمر ، فقدَّره بعضهم أمراً أي : ولكن ذكِّروهم ذكرى ، وبعضهم قدَّره خبراً أي : ولكن يذكرونهم ذكرى . الثاني : أنه مبتدأ خبره محذوف اي : ولكن عليهم ذكرى ، أو عليكم ذكرى أي : تذكيرهم . الثالث : أنه خبر لمبتدأ محذوف أي : هو ذكرى اي : النهي عن مجالستهم والامتناع منها ذكرى الرابع : أنه عطف على موضع « شيء » المجرور ب « مِنْ » أي : ما على المتِّقين من حسابهم شيء ولكن عليهم ذكرى فيكون من عطف المفردات ، وأما على الأوجه السابقة فمن عطف الجمل ، وقد رَدَّ الزمخشري هذا الوجهَ الرابعَ ، وردَّه عليه الشيخ ، فلا بد من إيراد قولهما . قال أبو القاسم : « ولا يجوز أن يكون عطفاً على محل » من شيء « كقولك : » ما في الدار من أحد ولكن زيد « لأن قوله » من حسابهم « يأبى ذلك .
قال الشيخ : » كأنه تخيَّل أن في العطف يلزم القيد الذي في المعطوف عليه وهو « من حسابهم » فهو قيد في « شيء » ، فلا يجوز عنده أن يكون من عطف المفردات عطفاً على « من شيء » على الموضع؛ لأنه يصير التقدير عنده : ولكن ذكرى من حسابهم ، وليس المعنى على هذا ، وهذا الذي تخيَّله ليس بشيء ، لا يلزم في العطف ب « ولكن » ما ذكر ، تقول : ما عندنا رجل سوء ولكن رجلُ صدق ، وما عندنا رجل من تميم ولكن رجل من قريش ، وما قام من رجل عالم ولكن رجل جاهل ، فعلى هذا الذي قَرَّرناه يجوز أن يكون من عطف الجمل كما تقدَّم ، وأن يكون من عطف المفردات ، والعطف بالواو ، و « لكن » جيء بها للاستدراك « .
قلت : قوله » تقول : ما عندنا رجل سوء ولكن رجل صدق « إلى آخر الأمثلة التي ذكرَها لا يَرُدُّ على الزمخشري؛ لأنَّ الزمخشري وغيرَه من أهل اللسان والأصوليين يقولون : إن العطف ظاهر في التشريك ، فإن كان في المعطوف عليه قيدٌ فالظاهر تقيُّد المعطوف بذلك القيد ، إلا أن تجيء قرينةٌ صارفة فيُحال الأمر عليها .

فإذا قلت : ضربت زيداً يوم الجمعة وعمراً ، فالظاهر اشتراك عمرو مع زيد في الضرب مقيداً بيوم الجمعة فإن قلت : « وعمرا يوم السبت » لم يشاركه في قيده ، والآية الكريمة من قبيل النوع الأول أي : لم يؤت مع المعطوف بقرينةٍ تُخْرِجه؛ فالظاهر مشاركته للأول في قيده ، ولو شاركه في قيده لزم منه ما ذكر الزمخشري ، وأمَّا الأمثلةُ التي أوردها فالمعطوف مقيد بغير القيد الذي قُيِّد به الأول ، وإنما كان ينبغي أن يأتي بأمثلةٍ هكذا فيقول : ما عندما رجل سوء ولكن امرأة ، وماعندنا رجل من تميم ولكن صبيُّ ، فالظاهر من هذا أن المعنى : ولكنْ امرأة سوء ، ولكن صبي من قريش ، وقول الزمخشري « عطفاً على محل » من شيء « ولم يقل عطفاً على لفظه لفائدة حسنة يَعْسُر معرفتها : وهو أن » لكن « حرف إيجاب ، فلو عطف ما بعدها على المجرور ب » مِنْ « لفظاً لزم زيادة » من « في الواجب ، وجمهورُ البصريين على عدم زيادتها فيه ، ويدلُّ على اعتبار الإِيجاب في » لكن « أنهم إذا عطفوا بعد خبر ما الحجازية ، أبطلوا النصب؛ لأنها لا تعمل في المنتقض النفي ، و » بل « ك » لكن « فيما ذكرت لك .

وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)

قوله تعالى : { اتخذوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً } : « اتخذوا » يجوز فيها وجهان ، أحدهما : أنها متعدية لواحد على أنها بمعنى اكتسبوا وعملوا ، و « لهواً ولعباً » على هذا مفعول من أجله أي : اكتسبوه لأجل اللهو واللعب . والثاني : أنها المتعدية إلى اثنين أوَّلُهما « دينهم » وثانيهما « لعباً ولهواً » قال الشيخ : « ويظهر من بعض كلام الزمخشري وكلام ابن عطية أن » لعباً ولهواً « هو المفعول الأول ، و » دينهم « هو المفعول الثاني . قال الزمخشري : » أي : دينهم الذي كان يجب أن يأخذوا به لعباً ولهواً ، وذلك أن عبادتهم وما كانوا عليه من تبحير البحائر وتسويب السوائب من باب اللهو واللعب واتِّباع هوى النفس وما هو من جنس الهَزْل لا الجد ، وأو اتخذوا ما هو لعبٌ ولهو من عبادة الأصنام ديناً لهم ، أو اتخذوا دينهم الذي كُلِّفوه وهو دين الإِسلام لَعِباً ولهواً حيث سخروا به قال : « فظاهرُ تقديرِه الثاني يدلُّ على ما ذكرنا » .
وقال ابن عطية : « وأضاف الدين إليهم على معنى أنهم جعلوا اللعب واللهو ديناً ، ويحتمل أن يكون المعنى : اتخذوا دينهم الذي كان ينبغي لهم لعباً ولهواً ، فتفسيره الأول هو ما ذكرناه عنه » انتهى . قلت : وهذا الذي ذكراه إنما ذكراه تفسيرَ معنى لا إعراب ، وكيف يَجْعلان النكرةَ مفعولاً أولَ والمعرفةَ معفولاً ثانياً من غير داعية إلى ذلك مع أنهما من أكابر أهل هذا الشأن ، وانظر كيف أبرزا ما جعلاه مفعولاً أولَ معرفةً وما جعلاه ثانياً نكرة في تركيب كلامهما ليَخِدوا على كلام العرب فكيف يُظَنُّ بهما أن يجعلا النكر محدَّثاً عنها والمعرفة حديثاً في كلام الله تعالى؟
وقوله : { وَذَكِّرْ بِهِ } أي بالقرآن ، يدلُّ له قوله : { فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ } [ ق : 45 ] وقيل : يعود على حسابهم . وقيل : على الذين وقيل : هذا ضميرٌ يُفسِّره ما بعده وسيأتي إيضاحُه .
وقوله : { وَغَرَّتْهُمُ الحياوة } تحتمل وجهين . أحدهما : أنها مستأنفةٌ والثاني : أنها عطفٌ على صلةِ الذين أي : الذي اتخذوا وغَرَّتْهُم وقد تقدم معنى الغرور في آخر آل عمران وقيل : هنا غَرَّتهم من « الغَرّ » بفتح العين أي : ملأت أفواههم وأشبعتهم ، وعليه قول الشاعر :
1950- ولمَّا التَقَيْنا بالحُلَيْبَةِ غَرَّني ... بمعروفِهِ حتى خرجْتُ أفوقُ
قوله : { أَن تُبْسَلَ } : في هذا وجهان ، المشهور- بل الإِجماع - على أنه مفعول من أجله وتقديره : مخافة أن تُبْسَل ، أو كراهة أن تُبْسَلَ ، أو أن لا تبسل والثاني : قال الشيخ : - بعد أن نقل الاتفاق على المفعول من أجله - « ويجوز عندي أن يكون في موضعِ جرِّ على البدل من الضمير ، والضميرُ مفسَّرٌ بالبدل ، ويُضْمر الإِبسالُ لما في الإِضمار من التفخيم ، كما أضمروا ضمير الأمر والشأن ، والتقدير : وذكِّرْ بارتهان النفوس وحبسها بما كسبت كما قالوا : » اللهم صلِّ عليه الرؤوفِ الرحيمِ « وقد أجاز ذلك سيبويه قال : » فإن قلت : « ضربت وضربوني قومك » نصبت ، إلا في قول مَنْ قال : أكلوني البراغيث ، أوتحملُه على البدل من المضمر .

وقال أيضاً : « فإن قلتَ : » ضربني وضربتُهم قومُك « رَفَعْتَ على التقديم والتأخير ، إلا أن تَجْعَلَ ههنا البدل كم جعلته في الرفع » انتهى . وقد روي قوله :
1951- . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . فاستاكَتْ به عُودِ إسْحِلِ
بجر « عُود » على البدل من الضمير . قلت : أمَّا تفسيرُ الضميرِ غيرِ المرفوع بالبدل فهو قول الأخفش وأنشد عليه هذا العجز وأوله :
إذا هي لم تَسْتَكْ بعودِ أراكةٍ ... تُنُخَّلَ فاستاكَتْ به عودِ إسحلِ
والبيتُ لطُفَيل الغَنَويّ ، يُروى برَفْع « عود » وهذا هو المشهور عند النحاة ، ورفعُهُ على إعمالِ الأولِ وهو « تُنُخِّل » وإهمال الثاني وهو « فاستاكَتْ » فأعطاه ضميرَه ، ولو أَعْمَلَه لقال : « فاستاكَتْ بعود إسحل » ولا يمكن لانكسار البيت ، والروايةُ الأخرى التي استشهد بها ضعيفةٌ جداً لا يعرفها أكثر المُعْربين ، ولو استشهد بما لا خلاف فيه كقوله :
1952- على حالةٍ لو أن في القوم حاتِماً ... على جوده لضَنَّ بالماءِ حاتمِ
بجرِّ « حاتم » بدلاً من الهاء في « بجوده » والقوافي مجورة لكان أَوْلَى والإِبسال : الارتهان ، ويقال : أَبْسَلْتُ ولدي وأهلي أي ارْتَهَنْتُهُمْ قال :
1953- وإبسالي بَنِيَّ بغير جُرْمٍ بَعَوْناه ولا بدمٍ مُراق ... بَعَوْنا : جَنَيْناَ ، والبَعْوُ : الجناية . وقيل : الإِبسال : أن يُسْلِمَ الرجل نفسه للهلكة .
وقال الراغب : « البَسْلُ : ضَمُّ الشيء ومَنْعُه ، ولتضمُّنهِ معنى الضمِّ استُعير لتقطُّب الوجه فقيل : هو : باسل ومُتْبَسِلُ الوجه ، ولتضمينه معنى المنع قيل للمُحَرَّم والمرتَهَن : » بَسْلٌ « ثم قال : » والفرقُ بين الحرام والبَسْل أنَّ الحرامَ عامٌ فيما كان ممنوعاً منه بالقهر والحكم ، والبَسْلُ هو الممنوع بالقهر ، وقيل للشجاعة بسالة : إمَّا لِما يُوْصَفُ به الشجاع من عُبوسِ وجهه أو لكونه مُحَرَّماً على أقرانه أو لأنه يمنع ما في حوزته وما تحت يده من أعدائه ، والبُسْلَةُ أجرة الراقي ، مأخوذة من قول الراقي : أَبْسَلْتُ زيداً أي : جَعَلْتُه محرَّماً على الشيطان أو جَعَلْتُه شجاعاً قوياً على مدافعته ، وبَسَل في معنى أَجَلْ وبَسْ « أي : فيكون حرفَ جواب كأجل ، واسمَ فعل بمعنى اكتف ك » بس « .
وقوله : { بِمَا } متعلّقٌ ب » تُبْسَل « أي : بسبب ، و » ما « مصدرية أو بمعنى الذي ، او نكرة ، وأمرها واضح .
قوله : { لَيْسَ لَهَا } هذه الجملة فيها ثلاثة أوجه ، أحدها : وهوالظاهر أنها مستأنفةٌ سِيقَتْ للإِخبار بذلك . والثاني : أنها في محل رفع صفة ل » نفس « والثالث : أنها في محل نصب حالاً من الضمير في » كسبت « .

قوله : { مِن دُونِ } في « مِنْ » وجهان ، أظهرهما : أنها لابتداء الغاية ، والثاني : أنها زائدةٌ ، نقله ابن عطية بشيء؛ وإذا كانت لابتداء الغاية ففي ما يتعلَّق به وجهان ، أحدهما : أنها حال مِنْ « وليّ » لأنها لو تأخَّرَتْ لكانَتْ صفةً له ، فتتعلَّقُ بمحذوف هو حال . والثاني : أنها خبر « ليس » فتتعلق بمحذوف أيضاً هو خبر ل « ليس » وعلى هذا فيكون « لها » متعلقاً بمحذوف على البيان . وقد مرَّ نظائره ، و { مِن دُونِ الله } فيه حذفُ مضافٍ أي : من دون عذابِهِ وجزائه .
قوله : { كُلَّ عَدْلٍ } منصوبٌ على المصدرية لأنَّ « كل » بحسب ما تُضاف إليه ، هذا هو المشهور ، ويجوز نصبُه على المفعول به أي : وإن تَفْدِ يداها كلَّ ما تَفْدِي به لا يُؤخَذُ ، فالضميرُ في « لا يُؤْخَذُ » على الأول : قال الشيخ : « عائد على المعدول به المفهوم من سياق الكلام ، ولا يعود إلى المصدر ، لأنه لا يُسْنَدُ إليه الأخذ ، وأمَّا في { وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } [ البقرة : 48 ] فمعنى المَفْدِيِّ به فيصح » انتهى .
أي : إنه إنما أَسْنَدَ الأخْذَ إلى العدل صريحاً في البقرة ، لأنه ليس المرادُ المصدرَ بل الشيءُ المَفْدِيُّ به ، وعلى الثاني يعود على « كل عدل » لأنه ليس مصدراً فهو كآية البقرة «
قوله : { أولئك الذين أُبْسِلُواْ } يجوز أن يكون » الذين « خبراً » ولهم شراب « خبراً ثانياً ، وأن يكون » لهم شراب « حالاً : إمَّا من الضمير في » أُبْسِلوا « وإمَّا من الموصول نفسه ، و » شرابٌ « فاعل لاعتماد الجارِّ قبله على ذي الحال ، ويجوز أن يكون » لهم شراب « مستأنفاً فهذه ثلاثة أوجه في » لهم شراب « ويجوز أن يكون » الذين « بدلاً من » أولئك « أو نعتاً لهم فيتعيَّنُ أن تكون الجملة من » لهم شرابٌ « خيراً للمبتدأ ، فتحصَّل في الموصول أيضاً ثلاثة أوجه : كونه خبراً أو بدلاً أو نعتاً ، فجاءت مع ما قبلها ستة أوجه في هذه الآية .
و » شراب « يجوز رفعُه مِنْ وجهين : الابتدائية والفاعلية عند الأخفش ، وعند سيبويه أيضاً على أن يكون » لهم « هو خبر المبتدأ أو حالاً حيث جعلناه حالاً ، و » شراب « مرتفعٌ به لاعتماده على ما تقدَّم ، و » من حميمٍ « صفةٌ ل » شراب « فهو في محلِّ رفع ويتعلق بمحذوف .
و » شراب « فَعَال بمعنى مَفْعول ، وفَعال بمعنى مفعول كطعام بمعنى مطعوم وشراب بمعنى مشروب لا ينقاس لا يقال : أَكال بمعنى مأكول ، ولا ضَراب بمعنى مضروب . والإِشارة ب » ذلك « في قول الزمخشري والحوفي إلى الذين اتخذوا ، فلذلك أتى بصيغة الجمع ، وفي قول ابن عطية وأبي البقاء إلى الحبس المفهوم من قوله » أن تُبْسَلَ نَفْسٌ « إذ المرادُ به عمومُ الأنفسِ فلذلك أُشير إليه بالجمع .

قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)

قول تعالى : { أَنَدْعُواْ } : استفهام توبيخ وإنكار ، والجملة في محل نصب بالقول ، و « ما » مفعولةٌ ب « ندعو » وهي موصولةٌ أو نكرةٌ موصوفة ، و « مِنْ دون الله » متعلِّقٌ ب « ندعو » قال أبو البقاء : « ولا يجوز أن يكونَ حالاً من الضمير في » يَنْفَعنا « ولا معمولاً ل » ينفعنا « لتقدُّمِه على » ما « والصلةُ والصفةُ لا تعمل فيما قبل الموصول والموصوف ، » قوله « من الضمير في يَنْفعنا » يعني به المرفوعَ العائدَ على « ما » وقوله : « لا تعمل فيما قبل الموصول والموصوف » يعني أن « ما » لا تخرج عن هذين القسمين ، ولكن يجوز أن يكون « من دون » حالاً من « ما » نفسها على قوله : إذ لم يجعل المانعَ من جَعْلِه حالاً من ضميره الذي في « ينفعنا » إلا صناعياً لا معنوياً ، ولا فرق بين الظاهر وضميره بمعنى أنه إذا جاز أن يكون حالاً من ظاهر جاز أن يكون حالاً من ضميره ، إلا أن يمنع مانع .
قوله : { وَنُرَدُّ } فيه وجهان أظهرهما : أنه نسقٌ على « ندعو » فهو داخلٌ في حيِّز الاستفهام المتسلط عليه القول . والثاني : أنه حال على إضمار مبتدأ أي : ونحن نُرَدُّ . قال الشيخ بعد نقله عن أبي البقاء : « وهو ضعيفٌ لإِضمار المبتدأ ، ولأنها تكون حالاً مؤكدة » وفي كونها مؤكِّدةً نظر ، لأنَّ المؤكِّدةَ ، ما فُهِم معناها من الأول وكأنه يقول مِنْ لازم الدعاء « من دون الله » الارتداد على العَقِب .
قوله : { على أَعْقَابِنَا } فيه وجهان ، أحدهما : أنه متعلقٌ ب « نُرَدٌّ » والثاني : أنَّه متعلِّقٌ بمحذوف على أنه حال من مرفوع « نُرَدُّ » أي : نُرَدٌّ راجعين على أَعقابنا أو منقلبين أو متأخرين ، كذا قدَّره وهو تفسيرُ معنى ، إذ المقدَّر في مثله كون مطلق ، وهذا يحتمل أن يُقال فيه إنه حال مؤكدة ، و « بعد إذ » متعلق ب « نُرَدٌّ » .
قوله : { كالذي استهوته } في هذه الكاف وجهان ، أحدهما : أنه نعت مصدر محذوف أي : نُرَدٌّ رَدَّاً مثل ردِّ الذين . والثاني : أنها في محل نصب على الحال من مرفوع « نرد » أي : نُرَدُّ مشبهين الذي استهوته الشياطين ، فمَنْ جوَّز تعدُّدَ الحال جَعَلَها حالاً ثانية إن جعل « على أعقابنا » حالاً ، ومَنْ لم يُجَوِّزْ ذلك جَعَلَ هذه الحالَ بدلاً من الحالِ الأولى ، ألم يجعل « على أعقابنا » حالاً بل متعلقاً ب « نُرَدٌّ »
والجمهورُ على « اسْتَهْوَتْهُ » بتاء التأنيث وحمزة « استهواه » وهو على قاعدِته من الإِمالة ، الوجهان معروفان ممَّا تقدَّم في :

{ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا } [ الأنعام : 61 ] . وقرأ ابو عبد الرحمن والأعمش : « استهوَتْه الشيطان » بتأنيث الفعل والشيطان مفردٌ قال الكسائي : « وهي كذلك في مصحف ابن مسعود » وتوجيهُ هذه القراءة أنها نُؤوِّل المذكر بمؤنث كقولهم : « أتته كتابي فاحترقها » أي : صحيفتي ، وتقدم له نظائر . وقرأ الحسن البصري : « الشياطون » وجعلوها لحناً ولا تصل إلى اللحن ، إلا أنها لُغَيَّةٌ رديئةٌ ، سُمِع : حول بستان فلانٍ بساتون ، وله سَلاطون ، ويحكى أنه لمَّا حُكِيَتْ قراءة الحسن لحَّنه بعضهم ، فقال الفراء : « أَيْ والله يُلحِّنون الشيخ ، ويستشدون بقول رؤبة » ولعمري لقد صدق الفراء في إنكار ذلك . والمراد بالذي الجنس ، ويحتمل أن يُراد به الواحدُ الفذُّ .
قوله : { فِي الأرض } فيه أربعةُ أوجه ، أحدها : أنه متعلقٌ بقوله : { استهوته } الثاني : أنه حال من مفعول « استهوته » الثالث : أنه حال من « حَيْران » الرابع : أنه حال من الضمير المستكنّ في « حيران » و « حَيْران » حال : إمَّا من هاء « اسْتَهْوَتْه » على أنها بدل من الأولى أو عند مَنْ يُجيز تَعَدُّدها ، وإمَّا من « الذي » وإمَّا من الضمير المستكنِّ في الظرف ، وحيران مؤنَّثُه حَيْرى ، ولذلك لم ينصرف والفعل حار يحار حَيْرةً وحَيَراناً وحَيْرورة .
قوله : { لَهُ أَصْحَابٌ } جملة في محصل نصب صفة لحيران ، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في حيران وأن تكون مستأنفةً و « إلى الهدى » متعلِّقٌ ب « يَدْعُونه » وفي مصحف ابن مسعود وقراءته : « أتينا » بصيغة الماضي ، و « إلى الهدى » على هذه القراءة متعلِّقٌ به ، وعلى قراءة الجمهورِ : الجملة الأمريَّة في محل نصب بقول مضمر اي : يقولون ائتنا ، والقول المضمر في محلِّ صفةٍ لأصحاب وكذلك « يدعونه » .
قوله : { لِنُسْلِمَ } في هذه اللام أقوال ، أحدها : - وهو مذهب سيبويه - أن هذه اللامَ بعد الإِرادة والأمر وشبهِهِما متعلقة بمحذوف على أنه خبر للمبتدأ وذلك المبتدأ هو مصدر من ذلك الفعل المتقدم ، فإذا قلت : أردْتَ لتقوم ، وأمرت زيداً ليذهب كان التقدير : الإِرادة للقيام والأمر للذهاب ، كذا نقل الشيخ ذلك عن سيبويه وأصحابه وفيه ضعفٌ قد قَد‍َّمْتُه في سورة النساء عند قوله : { يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ } [ الآية : 26 ] . الثاني : أن مفعول الأمر والإِرادة محذوف ، وتقديره : وأُمِرْنا بالإِخلاص لنُسْلِمَ
الثالث : قال الزمخشري : « هي تعليل للأمر بمعنى : أُمِرْنا وقيل لنا أسلموا لأجل أن نُسْلم » الرابع : أن اللام زائدة أي : أُمِرْنا أن نُسِلمَ الخامس : أنها معنى الباء أي : بأَنْ نُسْلِمَ . السادس : أن اللام وما بعدها مفعول الأمر واقعة موقع « أن » أي أنهما يتعاقبان فتقول : أمرتُك لتقومَ وأن تقوم ، وهذا مذهب الكوفيين . وقال ابن عطية : « ومذهبُ سيبويه أنَّ » لنُسْلِمَ « في موضع المفعول وأنَّ قولك : » أُمِرْت لأقومَ وأَنْ أقومَ « يجريان سواء وقال الشاعر :
1954- أُريد لأَنْسى حبَّها فكأنَّما ... تَمثَّلُ لي ليلى بكل طريقِ
وهذا ليس مَذْهَبَ سيبويه إنما مذهبُه ما تقدَّم ، وقد تقدَّم تحقيق هذه المسألة في السورةِ المشارِ إليها قبلُ .

وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72)

قوله تعالى : { وَأَنْ أَقِيمُواْ } : فيه أقوال أحدها : أنها في محل نصب بالقول نسقاً على قوله : إنَّ هُدَى الله هو الهدى أي : قل هذين الشيئين . والثاني : أنه نسقٌ على « لِنُسْلَم » والتقدير : وأمرنا بكذا للإِسلام ولنقيم الصلاة ، و « أن » توصل بالأمر كقولهم : « كتبت إليه بأن قم » حكاه سيبويه وهذا رأي الزجاج ، والثالث : أنه نسق على « ائتنا » قال مكي : « لأن معناه أن ائتنا » وهو غير ظاهر . والرابع : أنه معطوف على مفعول الأمر المقدَّر والتقدير : وأُمِرْنا بالإِيمان وبإقامة الصلاة ، قاله ابن عيطة .
قال الشيخ : « وهذا لا بأسَ به إذ لا بد من التقدير المفعول الثاني ل » أُمِرْنا « ويجوز حَذْفُ المعطوف عليه لفهم المعنى ، تقول : أضربت زيداً؟ فيجيب : نعم وعمراً ، التقدير : ضربته وعمراً . وقد أجاز الفراء : » جاءني الذي وزيد قائمان « التقدير : الذي هو وزيدٌ قائمان ، فحذف » هو « لدلالة المعنى عليه » وهذا الذي قال إنه لا بأس به ليس من أصول البصريين . وأمَّا « نَعَمْ وعَمْراً » فلا دلالة فيه لأنَّ « نَعَمْ » قامَتْ مقامَ الجملة المحذوفة . وقال مكي قريباً من هذا القول إلا أنه لم يُصَرِّحْ بحذف المعطوف عليه فإنه قال : « وأن في موضع نصب بحذفِ الجارِّ تقديرُه : وبأَنْ أَقيموا » فقوله : وبأن أقيموا هو معنى قول ابنِ عطية ، إلا أن ذاك أوضحه بحذف المعطوف عليه .
وقال الزمخشري : « فإن قلت : علام عطف قوله { وَأَنْ أَقِيمُواْ } ؟ قلت : على موضع » لِنُسْلِمَ « كأنه قيل : وأُمِرْنا أن نسلم وأن أقيموا » قال الشيخ : « وظاهر هذا التقدير أنَّ » لنسلم « في موضع المفعول الثاني ل » أُمِرْنا « وعُطِفَ عليه » وأَنْ أقيموا « فتكون اللام على هذا زائدة وكان قد قدَّم قبل هذا أن اللام تعليل للأمر فتناقض كلامه ، لأن ما يكون علةً يستحيل أن يكون مفعولاً ويدل على أنه أراد بقوله : » أن نسلَم في موضع المفعول الثاني « قوله بعد ذلك » ويجوز أن يكونَ التقديرُ : وأُمِرْنا لأن نسلم ولأن أقيموا أي للإِسلام ولإِقامة الصلاة ، وهذا قول الزجاج ، فلو لم يكن هذا القول مغايراً لقوله الأول لاتَّحد قولاه وذلك خُلْف « .
وقال الزجاج : » أن أقيموا عطف على قوله « لِنُسْلِمَ » تقديره : وأُمِرْنا لأن نُسْلِمَ وأن أقيموا « قال ابن عطية : » واللفظ يمانعه لأنَّ « نُسْلِمَ » مُعْربٌ و « أقيموا » مبني وعطف المبنيِّ على المعرب لا يجوز؛ لأنَّ العطفَ يقتضي التشريك في العامل « .
قال الشيخ » وما ذُكِرَ من أنه لا يُعْطف المبني على المعرب ليس كما ذكر ، بل يجوز ذلك نحو : « قام زيد وهذا » وقال تعالى :

{ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النار } [ هود : 98 ] ، غاية ما في الباب أنَّ العمل يؤثر في المعرب ولا يؤثر في المبني ، وتقول : « إنْ قام زيد ويقصدْني أُكرمه » ف « إن » لم تؤثر في « قام » لأنه مبنيٌّ وأثَّرت في « يقصِدْني » لأنه معرب « ثم قال ابن عطية : » اللَّهم إلا أن تجعل العطف في « إنْ » وحدها ، وذلك قلق ، وإنما يتخرَّج على أن يقدَّر قوله « وأن أقيموا » بمعنى « ولنقم » ثم خرجَتْ بلفظ الأمرِ لما في ذلك جزالةِ اللفظ ، فجاز العطف على أن يُلغى حكم اللفظ ويُعَوَّلَ على المعنى ، ويُشْبه هذا من جهةِ ماحكاه يونس عن العرب : « ادخلوا الأول فالأول » وإلاَّ فلا يجوز إلا : الأولَ فالأولَ بالنصب «
قال الشيخ : » وهذا الذي استدركه بقوله « اللهم إلا » إلى آخره هو الذي أراده الزجاج بعينه ، وهو أنَّ « أَنْ أقيموا » معطوفٌ على « أن نُسْلِمَ » وأنَّ كليهما علة للمأمور به المحذوف؛ وإنما قلق عند ابن عطية لأنه أراد بقاء « أن أقيموا » على معناها من موضوع الأمر وليس كذلك ، لأنَّ « أَنْ » إذا دخلت على فعل الأمر وكانت المصدرية انسبك منها ومن الأمر مصدر ، وإذا انسبك منهما مصدر زال معنى الأمر ، وقد أجاز النحويون سيبوبه وغيره أن تُوْصَلَ أَنْ المصدرية الناصبةُ للمضارع بالماضي والأمر . قال سيبويه : « وتقول : كتبت إليه بأَنْ قم ، أي بالقيام » فإذا كان الحكم كذا كان قوله « لنُسْلِمَ و » أَنْ أقيموا « في تقدير : للإِسلام ولإِقامة الصلاة ، وأمَّا تشبيه ابن عطية له بقوله : » ادخلوا الأولُ فالأولُ « بالرفع فليس بشبيهٍ لأن » ادخلوا « لا يمكن لو أزيل عنه الضمير أن يتسلط على ما بعده بخلاف » أَنْ « فإنها توصلُ بالأمر فإذن لا شبه بينهما » انتهى .
أمَّا قولُ الشيخ « وإنما قَلِقَ عند ابن عطية لأنه أراد بقاء » أَنْ أقيموا « على معناها من موضوع الأمر » فليس القلقُ عنده لذلك فقط كما حصره الشيخ ، بل لأمرٍ آخر من جهة اللفظ وهو أنَّ السِّياقَ التركيبي يقتضي على ما قاله الزجاج أن يكون « لنسلم » وأن نقيم ، فتأتي في الفعل الثاني بضمير فلما لم يقل ذلك قلق عنده ، ويدلُّ على ما ذكرته قول ابن عطية « بمعنى ولنقم ، ثم خرجت بلفظ الأمر » إلا آخره .
والخامس : أنه محمول على المعنى ، إذ المعنى : قيل لنا : أسْلِموا وأن أقيموا .

وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)

قوله تعالى : { وَيَوْمَ يَقُولُ كُن } : في « يوم » ثمانية أوجه أحدها - وهو قول الزجاج - أنه مفعول به لا ظرف وهو معطوف على الهاء في « اتقوه » أي : واتقوا يومَ أي عقابَ يومِ يقول أو هَوْلَه أو فَزَعَه ، فهو كقوله تعالى في موضع آخر : { واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي } [ البقرة : 48 ] على المشهور في إعرابه . الثاني : أنه مفعول به أيضاً ولكنه نسق على « السماوات والأرض » أي : وهو الذي خلق يوم يقول . الثالث : أنه مفعولٌ لا ذكْرُ مقدراً . الرابع : أنه منصوبٌ بعامل مقدَّرٍ ، وذلك العامل المقدر مفعول فعل مقدر أيضاً ، والتقدير : واذكروا الإِعادة يوم يقول : كن أي : يوم يقول الله للأجساد كوني معادةً . الخامس : أنه عطف على موضع قوله « بالحق » فإنَّ موضعه نصب ويكون « يقول » بمعنى « قال » ماضياً كأنه قيل : وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم قال لها : كن .
السادس : أن يكون « يوم يقول » خبراً مقدماً ، والمبتدأ « قوله » و « الحق » صفته ، أي : قوله الحق في يوم يقول كن فيكون ، وإليه نحا الزمخشري فإنه قال : « قوله الحق مبتدأ ويوم يقول خبره مقدماً عليه ، وانتصابه بمعنى الاستقرار كقولك » يوم الجمعة القتال « واليوم بمعنى الحين ، والمعنى : أنه خلق السماوات والأرض قائماً بالحكم وحين يقول لشيء من الأشياء كن ، فيكون ذلك الشيء قوله الحق والحكمة . السابع : أنه منصوب على الظرف ، والناصب له معنى الجملة التي هي » قوله الحق « أي : حق قوله في يوم يقول كن الثامن : أنه منصوب بمحذوف دلَّ عليه » بالحق «
قال الزمخشري : » وانتصابُ اليوم بمحذوف دلَّ عليه قوله « بالحق » كأنه قيل : وحين يكونّ ويقدّر يقوم بالحق « قال الشيخ : » وهذا إعراب متكلف « .
قوله : { فَيَكُونُ } هي هنا تامة ، وكذلك قوله : { كن } فتكتفي بمرفوع ولا تحتاج إلى منصوب ، وفي فاعلها أربعة أوجه ، أحدها : أنه ضمير جميع ما يخلقه الله تعالى يوم القيامة ، كذا قَيَّده أبو البقاء بيوم القيامة . وقال مكي : » وقيل : تقدير المضمر في « فيكون » جميع ما أراد « فأطلق ولم يقيِّدْه ، وهذا أولى وكأن أبا البقاء أخذ ذلك من قرينة الحال . الثاني : أنه ضمير الصور المنفوخ فيها ، ودلَّ عليه قوله : { يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور } الثالث : هو ضمير اليوم أي : فيكون ذلك اليوم العظيم . الرابع : أن الفاعل هو » قولُه « و » الحق « صفته أي : فيوجَدُ قوله الحق ، ويكون الكلام على هذا تاماً على » الحق « .
قوله : { قَوْلُهُ الحق } فيه أربعةُ أوجه ، أحدها : أنه مبتدأ و » الحق « نعته ، وخبره قوله » يوم يقول « والثاني : أنه فاعل لقوله » فيكون « » والحق « نعته أيضاً ، وقد تقدَّم هذان الوجهان ، .

الثالث : أنَّ « قولُه » مبتدأ ، و « الحقٌّ » خبره ، أَخْبَرَ عن قوله بأنه لا يكون إلا حقاً . الرابع : أنه مبتدأ أيضاً و « ألحق » نعته ، و « يوم يُنْفخ » خبره ، وعلى هذا ففي قوله « وله الملك » ثلاثة أوجه أحدها : أن تكونَ جملةً من مبتدأ وخبر معترضة بين المبتدأ وخبره فلا محلَّ لها حينئذ من الإِعراب . والثاني : ان يكون « الملك » عطفاً على « قوله » وأل فيه عوضٌ عن الضمير ، « وله » في محل نصب على الحال من « الملك » العامل فيه الاستقرار والتقدير : قولُه الحقُّ وملكه كائناً له يوم يُنفخ ، فأخبرت عن القول الحق والملك الذي لله بأنهما كائنان في يوم ينفخ في الصور . الثالث : أنَّ الجملة من « وله الملك » في محل نصب على الحال ، وهذا الوجه ضعيف لشيئين ، أحدهما : أنها تكون حالاً مؤكدة ، والأصل : أن تكون مؤسسةً . الثاني : أن العاملَ فيها معنويٌّ؛ لأنه الاستقرار المقدَّر في الظرف الواقع خبراً ، ولا يجيزه إلا الأخفشُ ومَنْ تابعه . وقد تقرَّر مذهبُه غيرَ مرة بدلائله .
قوله : { يَوْمَ يُنفَخُ } فيه ثمانية أوجه ، أحدها : أنه خبر لقوله « قول الحق » وقد تقدَّم هذا بتحقيقه ، الثاني : أنه بدل من « يوم يقول » فيكون حكمه حكمَ ذاك . الثالث : أنه ظرف ل « تُحْشَرون » أي : وهو الذي إليه تُحشرون في يوم ينفخ في الصور . الرابع : أنه منصوب بنفس الملك أي : وله الملك في ذلك اليوم فإن قلت : يلزم من ذلك تقيُّد الملك بيوم النفخ والملك له كل وقت . فالجواب ما أُجيب به في قوله { لِّمَنِ الملك اليوم؟لله } [ غافر : 16 ] وقوله : { والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [ الانفطار : 19 ] وهو أن فائدةَ الإِخبار بذلك أنه أَثْبَتَ المُلْك والأمر في يوم لا يمكن أحد أن يدِّعي فيه شيئاً من ذلك فكذلك هذا . الخامس : أنه حال من الملك ، والعامل فيه « له » تضمَّنه من معنى الفعل . السادس : انه منصوبٌ بقوله « يقول » السابع : أنه منصوب بعالم الغيب بعده . الثامن : أنه منصوب بقوله « قول الحق » فقد تحصَّل في كل من اليومين ثمانيةُ أوجه ، ولله الحمد .
والجمهور على « يُنْفَخُ » مبنيَّاً للمفعول بياء الغيبة ، والقائم مقام الفاعل الجارُّ بعده . وقرأ أبو عمرو في رواية عبد الوراث : « ننفخ » بنون العظمة مبنياً للفاعل . والصُّور : الجمهورُ على قراءته ساكنَ [ العين ] وقرأه الحسن البصري بفتحها ، فأمَّا قراءة الجمهور فاختلفوا في معنى الصُّور فيها ، فقال جماعة : الصُّور جمع صُورة كالصُّوف جمع صُوفة ، والثُّوم جمع ثومة ، وهذا ليس جمعاً صناعياً وإنا هو اسم جنس ، إذ يُفَرَّق بينه وبين واحده بتاء التأنيث ، وأيَّدوا هذا القولَ بقراءة الحسنِ المتقدمة .

وقال جماعةٌ : إن الصُّور هو القَرْن ، قال بعضهم : هي لغة اليمنِ وأنشد :
1955- نحن نَطَحْناهُمْ غَداة الجَمْعَيْنْ ... بالشامخات في غبار النَّقْعَيْنْ
نَطْحاً شديداً لا كنطح الصُّوْرَيْن ... وأيَّدوا ذلك بما ورد الأحاديث الصحيحة ، قال عليه السلام : « كيف أَنْعَمُ وصاحبُ القَرْن قد التقمه » وقيل : في صفته إنه قَرْنٌ مستطيل فيه أبخاش ، وأن أرواحَ الناس كلهم فيه ، فإذا نفخ فيه إسرافيل خرجَتْ روحُ كلِّ جسدٍ من بخش من تلك الأبخاش . وأنحى أبو الهيثم على مَنْ ادَّعى أن الصُّور جمع صُوره فقال : « وقد اعترض قومٌ فأنكروا أن يكون الصُّور قرناً كما أنكروا العرش والميزان والصراط ، وادَّعَوا أن الصور جمع الصورة كالصوف جمع الصوفة ، ورَوَوْا ذلك عن أبي عبيدة ، وهذا خطأٌ فاحشٌ وتحريفٌ لكلام الله عز وجل عن مواضعه لأن الله قال : { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } [ غافر : 64 ] { وَنُفِخَ فِي الصور } [ الكهف : 99 ] فَمَنْ قرأها : » ونُفِخ في الصُّوَرِ « أي بالفتح ، وقرأ » فَأَحْسَنَ صُوْرَكم « أي بالسكون فقد افترى الكذبَ على الله ، وكان أبو عبيد صاحبَ أخبارٍ وغريب ولم يكن له معرفة بالنحو » قال الأزهري : « قد احتجَّ أبو الهيثم فأحسن الاحتجاج ، ولا يجوز عندي غيرُ ما ذهب إليه وهو قول أهل السنة والجماعة » أنتهى ، ولا ينبغي أن ينسب ذلك إلى هذه الغاية التي ذكرها أبو الهيثم . وقال الفراء : « يُقال : نَفَخ في الصور ونَفَخَ الصورَ » وأنشد :
1956- لولا ابنُ جَعْدَةَ لم يُفْتَح قُهَنْدُزُكُمْ ... ولا خراسانُ حتى يُنْفَخَ الصُّورُ
وفي المسألة كلامٌ أكثرُ من هذا تركتُه إيثاراً للاختصار .
قوله : { عَالِمُ الغيب } في رفعه أربعةُ أوجه ، أحدها : أن يكون صفةً للذي في قوله : { وَهُوَ الذي خَلَقَ } وفيه بُعْدٌ لطول الفصل بأجنبيٍّ . الثاني : أنه خبر مبتدأ مضمر أي : هو عالم . الثالث : أنه فاعلٌ لقوله : { يقول } أي : يوم يقول عالم الغيب . الرابع : أنه فاعل بفعلٍ محذوف يدل عليه الفعلُ المبنيُّ للمفعول؛ لأنه لمَّا قال « يُنفخ في الصور » سأل سائِلٌ فقال : من الذي يَنْفُخ؟ فقيل : « عالم الغيب » أي : « يُنْفخ فيه عالمُ الغيب أي : يأمر بالنفخ فيه ، كقوله : { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال رِجَالٌ } [ النور : 3637 ] أي يُسَبِّحُه ، ومثله أيضاً قول الآخر :
1957- ليُبْكَ يزيدُ ضارعٌ لخصومةٍ ... ومختبطٌ ممَّا تُطيح الطوائح
أي : مَنْ يَبْكيه؟ فقيل : ضارع ، أي : يبكيه ضارع ومثله : » وكذلك زُيِّن لكثير من المشركين قَتْلُ أولادِهم شركاؤُهم « في قراءة مَنْ بني » زُيِّن « للمفعول ورفع » قَتْلُ « و » شركاؤهم « كأنه قيل : مَنْ زيَّنه لهم؟ فقيل : زيَّنه شركاؤهم . والرفع على ما تقدَّم قراءة الجمهور ، وقرأ الحسن البصري والأعمش : » عالمِ « بالجر وفيها ثلاثة أوجه ، أحسنها : أنه بدل من الهاء في » له « الثاني : أنه بدل من » رب العالمين « وفيه بُعْدٌ لطول الفصل بين البدل والمبدل منه . الثالث : أنه نعت للهاء في » له « وهذا إنما يتمشَّى على رأي الكسائيّ حيث يجيز نعت المضمر بالغائب وهو ضعيفٌ عند البصريين والكوفيين غيرَ الكسائي .

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74)

قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ } : « إذ » منصوبٌ بفعل محذوف أي : اذكر ، وهو معطوفٌ على « أقيموا » قاله أبو البقاء . و « قال » في محل خفض بالظرف « .
قوله : { آزَرَ } الجمهور : آزرَ بزنة آدم ، مفتوح الزاي والراء ، وإعرابه حينئذ على أوجه ، أحدها : أنه بدل من » أبيه « أو عطف بيان له إن كان آزر لقباً له ، وإن كان صفةً بمعنى المخطئ كما قال الزجاج ، أو المعوجّ كما قاله الفراء ، أو الشيخ الهرم كما قاله الضحاك ، فيكون نعتاً ل » ابيه « أو حالاً منه بمعنى : وهو في حالة اعوجاج أو خطأ ، ويُنْسَبُ للزجاج . وإن قيل : إن آزر اسم صنم كان يعبده أبوه ، فيكون إذ ذاك عطفَ بيان لأبيه أو بدلاً منه ، ووجهُ ذلك أنه لما لازم عبادته نُبِزَ وصار لَقَباً له كما قال بعض المُحْدَثين .
1958- أُدْعى بأسماءَ نَبْزاً في قبائِلها ... كأنَّ أسماءَ أَضْحَتْ بعضَ أسمائي
كذا نسبه الزمخشري : إلى بعض المُحْدَثين ، ونسبه الشيخ لبعض النحويين ، قال الزمخشري : » كما نُبِزَ ابن قيس بالرُّقَيَّات اللاتي كان يشبِّبُ بهنَّ فقيل : ابن قيس الرُّقَيَّات « أو يكون على حذف مضاف أي : لأبيه عابد آزر ، ثم حُذِفَ المضاف وأُقيم المضاف إليه مُقامَه ، وعلى هذا فيكون عابد صفة لأبيه أُعْرِبَ هذا بإعرابه أو يكون منصوباً على الذمّ .
وآزر ممنوع الصرف واختلف في علةِ مَنْعِه فقال الزمخشري : » والأقربُ أن يكون وزن آزر فاعَل كعابَر وشالَخ وفالَغ ، فعلى هذا هو ممنوع للعلمية والعجمة . وقال أبو البقاء : « ووزنه أفعل ولم ينصرف للعجمة والتعريف على قول من لم يشتقَّه من الأزر أو الوزر ، ومَن اشتقَّه من واحدٍ منهما قال : هو عربيٌّ ولم يَصْرِفْه للتعريف ووزن الفعل » وهذا الخلاف يشبه الخلاف في آدم ، وقد تقدم ذلك وأن اختيار الزمخشري فيه أنه فاعلَ كعابَر ، وما جرى على ذاك ، وإذا قلنا بكونِه صفةً على ما قاله الزجاج بمنى المخطئ أو بمعنى المعوجّ أو بمعنى الهَرِم ، كما قاله الفراء والضحاك فَيُشْكل مَنْعُ صرفِه ، ويَشْكل ايضاً وقوعُه صفة للمعرفة .
وقد يُجاب عن الأول بأن الإِشكال يندفع بادِّعاء وزنه على أَفْعَل فيمتنع حينئذ للوزن والصفة كأحمر وبابه ، وأمَّا على قول الزمخشري فلا يتمشَّى ذلك ، وعن الثاني بأنه لا نُسَلِّم أنه نعت ل « أبيه » حتى يلزم وصفُ المعارف بالنكرات بل هو منصوبٌ على الذم أو أنه على نية الألف واللام ، قالهما الزجاج والثاني ضعيف ، لأنَّ حذف أل وإرادة معناها إمَّا أن يؤثر مَنْعَ صرف [ كما ] في « سحر » ليوم بعينه ويسمَّى عَدْلاً ، وإمَّا أن يؤثر بناءً ويسمى تضمُّناً كأمس ، وفي سحر وأمس كلامٌ طويلٌ ليس هذا مقامه ، ولا يمكن أن يقال إن « آزَر » امتنع من الصرف كما امتنع « سحر » أي للعدل عن أل ، لأن العدلَ يُمْنع فيه مع التعريف ، فإنه لوقتٍ بعينه ، بخلاف هذا فإنه وصفٌ كما قرضتم .

وقرأ أُبَيُّ بنُ كعب وعبد الله بن عباس والحسن ومجاهد في آخرين بضمِّ الراء على أنه منادى حُذِفَ حرفُ ندائِه كقوله تعالى : { يُوسُفُ أَعْرِضْ } [ يوسف : 29 ] وكقوله :
1959- ليُبْك يزيدُ ضارعٌ لخصومةٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
في أحد الوجهين أي : يا يزيد ، ويؤيِّده ما في مصحف أُبَيّ : يا آزر بإثبات حرفه ، وهذا إنما يَتَمشَّى على دعوى أنه عَلَم ، وأمَّا على دعوى وصفيَِّتِه فيضعف؛ لأنَّ حَذْفَ حرفِ النداء يَقِلُّ فيها كقولهم : « افتدِ مخنوقُ » و « صاحِ شَمِّرْ »
وقرأ ابن عباس في روايةٍ : « أَأَزْراً تتخذ » بهمزتين مفتوحتين وزاي ساكنة وراء منونة منصوبة ، « تتخذ » بدون همزة استفهام ، ولمَّا حكى الزمخشري هذه القراءة لم يُسْقط همزة الاستفهام من « أتتخذ » فأم‍َّا على القراءة الأولى فقال ابن عطية مفسراً لمعناها : « أعضداً وقوة ومظاهرةً على الله تتخذ ، وهو من قوله { اشدد بِهِ أَزْرِي } [ طه : 31 ] انتهى . وعلى هذا فيحتمل » أزراً « أن ينتصب من ثلاثة اوجه ، أحدها : أنه مفعول من أجله ، و » اصناماً آلهة « منصوب بتتخذ على ما سيأتي بيانه ، والمعنى أتَّتخذ أصناماً آلهةً لأجل القوة والمظاهرة . والثاني : أن ينتصبَ على الحال لأنها في الأصل صفةُ لأصناماً ، فلما قُدِّمَتْ عليها وعلى عاملها انتصَبْت على الحال . والثالث : أنْ ينتصب على أنه مفعول ثان قُدِّم على عامله ، والأصل : أتتخذ أصناماً آلهة أزْراً أي قوة ومظاهرة .
وأمَّا القراءةُ الثانيةُ فقال الزمخشري : » هو اسم صنم ومعناه : أتعبد أزْراً ، على الإِنكار ، ثم قال : تتخذ أصناماً آلهة تثبيتاً لذلك وتقريراً ، وهو داخلٌ في حكم الإِنكارِ لأنه كالبيان له « فعلى هذا » أزْراً « منصوب بفعل محذوف يدل عليه المعنى ، ولكن قوله » وهو داخلٌ في حكم الإِنكار « يقوِّي أنه لم يُقرأ : » أَتَتَّخِذُ « بهمزة الاستفهام لأنه لو كان معه همزة استفهام لكان مستقلاً بالإِنكار ، ولم يحتج أن يقول : هو داخلٌ في حكمِ الإِنكارِ لأنه كالبيان له .
وقرأ ابن عباس ايضاً وأبو إسماعيل الشامي : » أَإزراً « بهمزة استفهام بعدها همزةٌ مكسورة ونصب الراء منونةً ، فجعلها ابن عطية بدلاً من واو اشتقاقاً من الوزر كإسادة وإشاح في : وسادة ووشاح . وقال أبو البقاء : » وفيه وجهان ، أحدهما : أن الهمزة الثانية فاء الكلمة وليست بدلاً من شيء ومعناه الثقل « وجعله الزمخشري اسمَ صنم ، والكلامُ فيه كالكلام في » أزراً « المفتوح الهمزة وقد تقدم .
وقرأ الأعمش : » إزْراً تَتَّخِذُ « بدون همزةِ استفهام ، ولكن بكسر الهمزة وسكونِ الزاي ونصب الراء منونة ، ونصبُه واضح مما تقدم ، و » تتخذ « يُحتمل أن تكونَ المتعدية لاثنين بمعنى التصييرية ، وأن تكون المتعديةَ لواحدٍ لأنَّها بمعنى عمل ، ويحكى في التفسير أن أباه كان ينحتها ويصنعها ، والجملة الاستفهامية في محل نصب بالقول ، وكذلك قوله { إني أَرَاكَ } و » أراك « يحتمل أن تكون العِلْميَّة وهو الظاهر فتتعدَّى لاثنين وأن تكون بصرية وليس بذاك ، ف » في ضلال « حالٌ ، وعلى كلا التقديرين يتعلَّق بمحذف إلا أنه في الأول أحدُ جُزْأَي الكلام ، وفي الثاني فَضْلة .

و « مبين » اسم فاعل من « أبان » لازماً بمعنى ظهر ، ويجوز أن يكون من المتعدِّي والمفعول محذوف ، أي : مبين كفرُكم بخالقكم ، وعلى هذا فقولُ ابن عطية « وليس بالفعلِ المتعدِّي المنقول من بان يبين » غيرُ مُسَلَّم ، وجعلَ الضلالَ ظرفاً محيطاً بهم مبالغةً في اتِّصافهم به فهو أبلغُ مِنْ قوله « أراكم ضالين » .

وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)

قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ } : في هذه الكاف ثلاثة أوجه ، أظهرها : أنها للتشبيه ، وهي في محل نصب نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ ، فقَدَّره الزمخشري : « ومثل ذلك التعريف والتبصير نعرِّفُ إبراهيم ونبصره ملكوت » وقدَّره المهدوي : « وكما هديناك يا محمد أرينا إبراهيم » . قال الشيخ : « وهذا بعيد من دلالة اللفظ » قلت : إنما كان بعيداً لأن المحذوف من غير الملفوظ به ولو قدَّره بقوله : « وكما أَرَيْناك يا محمد الهداية » لكان قريباً لدلالة اللفظ والمعنى معاً عليه . وقدَّره أبو البقاء بوجهين ، أحدهما : قال « هو نصب على إضمار أريناه ، تقديرُه : وكما رأى أباه وقومه في ضلال مبينٍ أريناه ذلك ، أي : ما رآه صواباً بإطلاعنا إياه عليه . والثاني قال : » ويجوز أن يكون منصوباً ب « نُري » التي بعده على أنه صفةٌ لمصدرٍ محذوف تقديره : نريه ملكوت السماوات والأرض رؤية كرؤية ضلال أبيه « انتهى . قلت : فقوله » على إضمار أريناه « لا حاجةَ إليه البتة ولأنَّه يقتضي عدمَ ارتباط قوله » نُري إبراهيم ملكوت « بما قبله .
الثاني : أنها للتعليل بمعنى اللام أي : ولذلك الإِنكارِ الصادرِ منه عليهم ، والدعاءِ إلى الله في زمن كان يُدْعَى فيه غير الله آلهة نريه ملكوت . الثالث : أن الكاف في محل رفع على خبر ابتداء مضمر أي : والأمر كذلك أي : ما رآه من ضلالتهم ، نقل الوجهين الأخيرين أبو البقاء وغيره .
» ونُري « هذا مضارعٌ ، والمراد به حكاية حال ماضية ، ونري يحتمل أن تكون المتعدِّية لاثنين ، لأنها في الأصل بَصَريَّة ، فأكسَبَتْها همزةُ النقل معفولاً ثانياً ، وجعلها ابن عطية منقولة مِنْ رأى بمعنى عرف ، وكذلك الزمخشري فإنه قال فيما قدَّمت/ حكايته عنه » ومثل ذلك التعريف نعرِّف « . قال الشيخ بعد حكايته كلام ابن عطية : » ويَحْتاج كونُ « رأى » بمعنى عرف ثم يتعدى بالهمزة إلى مفعولين إلى نَقْلِ ذلك عن العرب ، والذي نقل النحويون أن « رأى » إذا كانت بصَرية تعدَّتْ لمفعول ، وإذا كانت بمعنى « علم » الناصبة لمفعولين تَعَدَّتْ إلى مفعولين « قلت : العجبُ كيف خَصَّ بالاعتراضِ ابنَ عطية دون أبي القاسم . وهذه الجملةُ المشتملةُ على التشبيه أو التعليل معترضة بين قوله » وإذ قال إبراهيم « مُنْكِراً على أبيه وقومه عبادة الأصنام وبين الاستدلال عليهم بوحدانية الله تعالى ، ويجوز أن لا تكون معترضة إن قلنا إنَّ قولَه » فلمَّا « عطف على ما قبله وسيأتي .
والمَلَكوت مصدر على فَعَلوت بمعنى الملك ، وبُني على هذه الزنة ، والزيادة للمبالغة وقد تقدَّم ذلك عند ذكر الطاغوت . والجمهور على مَلَكوت بفتح اللام ، وقرأ أبو السَّمَّال بسكونها وهي لغةٌ .

فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76)

قوله تعالى : { فَلَمَّا جَنَّ } : يجوز أن تكون هذه الجملة نسقاً على قوله { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ } عطفاً للتدليل على مدلوله ، فيكون { وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ } معترضاً كما تقدم ، ويجوز أن تكونَ معطوفةً على الجملة من قوله { وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ } قال ابن عطية : « الفاءُ في قوله : » فلمَّا « رابطةٌ جملةَ ما بعدها بما قبلها ، وهي ترجِّحُ أن المرادَ بالملكوت التفصيل المذكور في هذه الآية » والأولُ أحسنُ وإليه نحا الزمخشري .
وجَنَّ : سَتَر ، وقد تقدَّم اشتقاقُ هذه المادةِ عند ذِكْر { الجنة } [ البقرة : 35 ] . وهنا خصوصيةٌ لذِكْر الفعل المسند إلى الليل يقال : جَنَّ عليه الليل وأجنّ عليه ، بمعنى أظلم ، فيُستعمل قاصراً ، وجنَّه وأجنّه فيُستعمل متعدياً فهذا مما اتَّفق فيه فَعَل وأَفْعَل لزوماً وتعدِّياً ، إلا أن الأجود في الاستعمال : جنَّ عليه الليل وأجنَّه الليل فيكون الثلاثي لازماً ، وأفعل متعدياً ، ومن مجيء الثلاثي متعدياً قوله :
1961 ... وماءٍ وَرَدَتْ قُبَيْلَ الكَرَى
وقد جَنَّه السَّدَفُ الأدهَمُ ... ومصدره جَنٌّ وجَنان وجُنون ، وفرَّق الراغب بين جَنَّه وأَجَنَّه ، فقال : « جنَّه إذا ستره ، وأجنَّه جعل له ما يَجُنُّه كقولك : قَبَرْتُه وأقبرته وسَقَيْتُه وأَسْقَيْتُه » وقد تقدَّم لك شيء من هذا عند ذِكْرِ حزن وأحزن ، ويُحتمل أن يكون « جنَّ » في الآية الكريمة متعدياً حذف المفعول منه تقديره : جنَّ عليه الأشياءَ والمبصرات .
قوله : « رأى كوكباً » هذا جواب « لمَّا » ، وللقراء فيه وفيما بعده من الفعلين خلاف كبير بالنسبة إلى الإِمالة وعدمها فلأذكرْ ذلك ملخِّصاً له وذاكراً لعلله فأقول : أمَّا « رأى » الثابت الألف فأمال راءه وهمزته إمالةً محضة الأخوان وأبو بكر عن عاصم وابن ذكوان عن ابن عامر ، وأمال الهمزةَ منه فقط دون الراءِ أبو عمرو بكماله ، وأمال السُّوسي بخلاف عنه عن أبي عمرو الراء أيضاً ، فالسوسي في أحد وجهيه يوافق الجماعة المتقدمين ، وأمال ورش الراء والهمزة بين بين من هذا الحرفِ حيث وقع هذا كلُّه ما لم يتصل به ضمير نحو ما تقدم ، فأمَّا إذا/ اتصل به ضمير نحو { فَرَآهُ فِي سَوَآءِ } [ الصافات : 55 ] { فَلَمَّا رَآهَا } [ النمل : 10 ] { وَإِذَا رَآكَ الذين } [ الأنبياء : 36 ] فابن ذكوان عنه وجهان ، والباقون على أصولهم المتقدمة .
وأما « رأى » إذا حذفت ألفه فهو على قسمين : قسمٍ لا تعود فيه البتةَ لا وَصْلاً ولا وقفاً نحو : { رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ } [ الفرقان : 12 ] { رَأَوُاْ العذاب } [ يونس : 54 ] فلا إمالة في شيء منه ، وكذا ما انقلبت ألفه ياءً نحو : { رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ } [ الإِنسان : 20 ] ، وقسمٍ حُذِفَتْ ألفُه لالتقاء السَّاكنين وَصْلاً ، وتعود وقفاً نحو : { رَأَى القمر } [ الأنعام : 77 ] { رَأَى الشمس } [ الأنعام : 78 ] { وَرَأَى المجرمون النار } [ الكهف : 53 ] { وَإِذَا رَأى الذين ظَلَمُواْ } [ النحل : 85 ] فهذا فيه خلافٌ أيضاً بين أهلِ الإِمالة اعتباراً باللفظ تارةً وبالأصل أخرى ، فأمال الراء وحدها من غير خلاف حمزة وأبو بكر عن عاصم والسوسي بخلافٍ عنه وحده .

وأمَّا الهمزة فأمالها مع الراء أبو بكر والسوسي بخلافٍ عنهما . هذا كله إذا وصلْتَ ، أمَّا إذا وَقَفْتَ فإنَّ الألفَ ترجع لعدم المقتضي لحَذْفِها ، وحكمُ هذا الفعلِ حينئذٍ حكمُ ما لم يتصل به ساكن فيعود فيه التفصيل المتقدم ، كما إذا وقفت على رأى مِنْ نحو : { رَأَى القمر } [ الأنعام : 77 ] . فأمَّا إمالة الراء من « رأى » فلإٍِتباعها لإِمالةِ الهمزة ، هكذا عبارتهم ، وفي الحقيقة الإِمالة إنما هي للألف لانقلابها عن الياء ، والإِمالة كما عَرَفْتَ أن تنحى بالألف نحو الياء ، وبالفتحة قبلها نحو الكسرة ، فمن ثَمَّ صَحَّ أن يقال : أُميلَتْ الراءُ لإِمالة الهمزة .
وأمَّا تفصيل ابنِ ذكوان بالنسبة إلى اتصاله بالضمير وعدمه فوجهُه أنَّ الفعلَ لمَّا اتصل بالضمير بَعُدَتْ ألفُه مِنَ الطرف فلم تُمَلْ ، ووجهُ مَنْ أمال الهمزةَ في « رأى القمرَ » مراعاةُ الألف وإن كانت محذوفةً إذ حَذْفُها عارضٌ ، ثم منهم مَنْ اقتصر على إمالة الهمزة لأنَّ اعتبارَ وجودِها ضعيف ، ومنهم مَنْ لم يَقْتصر إعطاءً لها حكمَ الموجودةِ حقيقةً فأتبع الراء للهمزة في ذلك .
والكَوْكَبُ : النجم ، ويقال فيه كَوْكبة ، وقال الراغب : « لا يقال فيه أي في النجم كوكب إلا عند ظهوره » . وفي اشتقاقه ثلاثة أوجه ، أحدها : أنه من مادة « وكب » فتكون الكافُ زائدة ، وهذا القول قاله الشيخ رضي الدين الصَّغاني ، قال رحمه الله : « حَقُّ كوكب أن يُذكر في مادة » وَكب « عند حُذَّاق النحويين فإنها وَرَدَتْ بكافٍ زائدة عندهم ، إلا أنَّ الجوهريَّ أوردها في تركيب ك و ك ب ، ولعله تبع في ذلك الليثَ فإنه ذكره في الرباعي ، ذاهباً إلى أن الواو أصلية ، فهذا تصريحٌ من الصَّغاني بزيادة الكاف ، وزيادةُ الكاف عند النحويين لا تجوز ، وحروفُ الزيادة محصورةٌ في تلك العشرة . فأمَّا قولُهم » هِنْدِيٌّ وهِنْدِكيّ « بمعنى واحد وهو المنسوبُ إلى الهند ، وقول الشاعر :
1962 ومُقْرَبةٍ دُهْمٍ وكُمْتٍ كأنَّها ... طَماطِمُ من فوق الوفازِ هَنادِكُ
فظاهره زيادة الكاف ، ولكن خَرَّجها النحويون على أنه من باب سَبْط وسِبَطْر أي مما جاء فيه لفظان أحدهما أطول من الآخر وليس بأصلٍ له ، فكما لا يقال الراء زائدة باتفاق ، كذلك هذه الكاف ، ولذلك قال الشيخ ، » وليت شعري : مِنْ حُذَّاق النحويين الذين يرون زيادتها لا سيما أول الكلمة « والثاني : أن الكلمة كلها أصول رباعية ، مما كُرِّرَتْ فيها الفاء فوزنها فَعْفَل ك » فَوْفَل « وهو بناءٌ قليل . والثالث : ساق الراغب أنه من مادة : كبَّ وكَبْكب فإنه قال : » والكَبْكَبَةُ تدهور الشيء في هُوَّة يقال : كَبَّ وكَبْكَبَ نحو : كفَّ وكَفْكَفَ ، وصَرَّ الريحُ وصرصر ، والكواكب النجوم البادية « فظاهر هذا السياق أن الواو زائدة والكاف بدل من إحدى الياءين وهذا غريبُ جداً .

قوله : « قال هذا ربِّي » في « قال » ثلاثةُ أوجه ، أظهرُها : أنه استئنافٌ أخبر بذلك القولِ أو استفهم عنه على حسب الخلاف . والثاني : أنه نعت ل « كوكباً » فيكون في محل نصب ، وكيف يكون نعتاً ل « كوكباً » ولا يساعد من حيث الصناعةُ ولا من حيث المعنى؟ أمَّا الصناعةُ فلعدمِ الضميرِ العائد من الجملة الواقعة صفةً إلى موصوفها ، ولا يقال : إن الرابطَ حصل باسم الإِشارة لأنَّ ذلك خاص بباب المبتدأ والخبر ، ولذلك يكثر حذف العائد من الصفة ويقلُّ من الخبر ، فلا يلزمُ مِنْ جواز شيء في هذا جوازُه في ذلك ، وادِّعاء حذفِ ضميرٍ بعيدٌ ، أي : قال فيه : هذا ربي . وأمَّا المعنى فلا يؤدي إلى أن التقدير : رأى كوكباً متصفاً بهذا القول ، وذلك غير مراد قطعاً . والثالث : أنه جواب « فلما جَنَّ ، وعلى هذا فيكون قوله » رأى كوكباً « في محلِّ نصب على الحال أي : فلمَّا جَنَّ عليه الليل رائياً كوكباً .
و » هذا ربي « محكيٌّ بالقول ، فقيل : هو خبرٌ مَحْضٌ بتأويلٍ ذكره أهل التفسير ، وقيل : بل هو على حذف همزة الاستفهام أي : أهذا ربي ، وأنشدوا :
1963 لعَمْرَك ما أدري وإن كنتُ داريا ... بسبعٍ رَمَيْنَ الجمرَ أم بثمان
وقوله :
1964 أفرحُ أن أُرْزَأ الكرامَ وأَنْ ... أُوْرَثَ ذَوْداً شصائِصاً نَبْلا
وقوله :
1975 ... طَرِبْتُ وما شوقاً إلى البيض أطربُ
ولا لَعِباً مني وذو الشيب يلعبُ ... وقوله تعالى : { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيّ } [ الشعراء : 13 ] قالوا : تقديره : أبسبع ، وأأفرح ، وأذو ، وأتلك . قال ابن الأنباري : » وهذا لا يجوز إلا حيث يكون ثَمَّ فاصلٌ بين الخبر والاستفهام ، يعني إنْ دلَّ دليل لفظي كوجود « أم » في البيت الأول بخلاف ما بعده . والأًُفول : الغَيْبَةُ والذهاب ، يقال : أَفَلَ يأفُل أُفولاً ، قال ذو الرمَّة :
1966 ... مصابيحُ ليسَتْ باللواتي تقودُها
نجومٌ ولا بالآفلاتِ شُموسُها ... والإِفَالُ : صغارُ الغنم ، والأَفيل : الفصيل الضئيل .

فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77)

قوله تعالى : { بَازِغاً } : حال من القمر . والبزوغ : الطلوع ، يقال : بَزَغَ بفتح الزاي يبزُغ بضمِّها بُزوغاً ، ويستعمل قاصراً ومتعدياً ، يقال : بَزَغ البَيْطار الدابَّة أي : أسال دَمَهَا فَبَزَغ هو أي : سال ، هذا هو الأصل ، ثم قيل لكل طُلوع : بُزوغ ، ومنه : بَزَغَ ناب الصبي والبعير تشبيهاً بذلك ، والقمرُ معروفٌ ، سُمِّي بذلك لبياضه وانتشار ضوئه ، والأقمر : الحمار الذي على لون الليلة القمراء ، والقَمْراء ضوء القمر ، وقيل : سُمِّي قمراً لأنه يَقْمُر ضوء الكواكب ويفوز به ، والليالي القُمْر : ليالي تَدَوُّرِ القمر وهي الليالي البيض ، لأن ضوء القمر يستمرُّ فيها إلى الصباح ، قيل : ولا يُقال له قمر إلا بعد امتلائه في ثالث ليلة وقبلها هلال ، على خلاف بين أهل اللغة قَدَّمُتْه في البقرة عند قوله { عَنِ الأهلة } [ البقرة : 189 ] ، فإذا بلغ بعد العشر ثالثَ ليلةٍ قيل له « بدر » إلى خامسَ عشر ، ويقال : قَمِرْتُ فلاناً كذا اي خَدَعته عنه ، وكأنه مأخوذ من قَمِرَتْ القِرْبَةُ فَسَدَت بالقَمْراء .

فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78)

قوله تعالى : { هذا رَبِّي } : إنما ذكَّر اسم الإِشارة والمشار إليه مؤنث لأحد وجوه : إمَّا ذهاباً بها مذهب الكوكب ، وإمَّا ذهابها مذهب الضوء والنور ، وإمَّا بتأويل الطالع أو الشخص أو الشيء ، أو لأنه لمَّا أخبر عنها بمذكر أُعْطِيَتْ حكمه ، تقول : هند ذاك الإِنسان وتِيْكَ الإِنسان ، قال :
1967 تبيت نُعْمَى على الهِجْران غائبةً ... سُقْياً ورُعْياً لذاك الغائبِ الزاري
فأشار إلى « نُعمى » وهي مؤنث إشارةَ المذكر لوَصْفِها بوَصْف الذكور أو لأن فيها لغتين التذكير والتأنيث ، وإنْ كان الأكثرُ التأنيثَ فقد جمع بينهما في الآية الكريمة فأنَّثَ في قوله « بازغة » وذكَّر في قوله « هذا » . وقال الزمخشري : « جَعَل المبتدأَ مثلَ الخبر لكونهما عبارة عن شيء واحد كقولهم : ما جاءت حاجتك ، ومَنْ كانت أمك ، و { لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ } [ الأنعام : 23 ] وكان اختيارُ هذه الطريقة واجباً لصيانة الربِّ عن شبهة التأنيث ، ألا تراهم قالوا في صفة الله : عَلاَّم ، ولم يقولوا عَلاَّمة ، وإن كان أبلغَ ، احترازاً من علامة التأنيث » . قلت : هذا قريبٌ مما تقدَّم في قولي : إن المؤنث إذا أُخبر عنه بمذكر عومل معاملة المذكر نحو : « هند ذاك الإِنسان » . وقيل : لأنها بمعنى هذا النيِّر أو المرئيُّ .
قال الشيخ : « ويمكن أن يُقال : إن أكثر لغةِ الأعاجم لا يُفَرِّقون في الضمائر ولا في الإِشارة بين المذكر والمؤنث ولا علامة عندهم للتأنيث ، بل المذكر والمؤنث سواء ، فلذلك أشار إلى المؤنث عندنا حين حكى كلامَ إبراهيم بما يُشار به إلى المذكر ، بل لو كان المؤنث بفَرْجٍ لم يكن له عَلامَةٌ تَدُلُّ عليه في كلامهم ، وحين أخبر تعالى عنهم بقوله » بازغة « و » أَفَلتْ « أَتَتْ على مقتضى العربية إذ ليس ذلك بحكاية » انتهى . وهذا إنما يظهر أن لو حكى كلامهم بعينه في لغتهم ، أمَّا شيءٌ يُعَبَّر عنه بلغة العرب ويُعطَى حكمَه في لغة العجم فهو محلُّ نظر .
قوله : « مِمَّا يُشْرِكون » « ما » مصدرية أي : بريء من إشراككم أو موصولةٌ أي : من الذين يشركونه مع الله في عبادته ، فحذف العائد ، ويجوز أن تكونَ الموصوفة ، والعائدُ أيضاً محذوف ، إلا أنَّ حذف عائد الصفة أقلُّ من حذف عائد الصلة ، فالجملةُ بعدها لا محلَّ لها على القولين الأوَّلَيْن ، ومحلُّها الجر على الثالث .

إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)

قوله تعالى : { لِلَّذِي فَطَرَ } : قدَّروا قبله مضافاً أي : وجَّهْتُ وجهي لعبادته ولرضاه ، كأنهم نَفَوْا بذلك وَهْمَ مَنْ يَتَوَهَّم الجهة . و « حنيفاً » حال من فاعل « وَجَّهْتُ » ، وقد تقدَّم تفسيرُ هذه الألفاظِ ، و « ما » يُحتمل أن تكون الحجازيةَ ، وأن تكون التميمية .

وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80)

قوله تعالى : { أتحاجواني } : قرأ نافع وابن ذكوان وهشام بخلافٍ عنه بنون خفيفة ، والباقون بنون ثقيلة ، والتثقيلُ هو الأصل؛ لأن النون الأولى نون الرفع في الأمثلة الخمسة ، والثانية نون الوقاية ، فاسْتُثْقِل اجتماعهما ، وفيها لغات ثلاث : الفكُّ وتركهما على حالهما ، والإِدغام ، والحذف ، وقد قرء بهذه اللغات كلها في قوله تعالى : { أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ } [ الزمر : 64 ] ، وهنا لم تقرأ إلا بالحذف أو الإِدغام ، وفي سورة الحجر : { فَبِمَ تُبَشِّرُونَ } [ الحجر : 54 ] ، كذلك ، فقراءة ابن كثير بالإِدغام ونافع بالحذف ، والباقون يفتحون النون لأنها عندهم نون رفع ، وفي سورة النحل : { تُشَاقُّونَ فِيهِمْ } [ النحل : 27 ] ، يُقرأ بفتح النون عند الجمهور لأنها نونُ رفع ، ويقرؤه نافع بنونٍ خفيفة مكسورةٍ على الحذف ، فنافعٌ حَذَفَ إحدى النونين في جميع هذه المواضع التي ذكرتها لك ، فإنه/ يقرأ في الزمر أيضاً بحذف إحداهما ، وقوله تعالى : { أتعدانني } [ الأحقاف : 17 ] ، قرأه هشام بالإِدغام ، والباقون بالإِظهار دون الحذف .
واختلف النحاةُ في أيَّتهما المحذوفة : فمذهب سيبويه ومَنْ تبعه أن المحذوفةَ هي الأُولى ، ومذهب الأخفش ومَنْ تبعه أن المحذوفة هي الثانية ، استدلَّ سيبويه على ذلك بأنَّ نونَ الرفع قد عُهِد حَذْفُها دون ملاقاة مِثْلٍ رفعاً ، وأُنْشِد :
1968 فإنْ يكُ قومٌ سَرَّهمْ ما صنعتُمُ ... سَتَحْتَلبوها لاقِحاً غير باهِلِ
أي : فستحتلبونها ، لا يقال إن النون حُذِفَتْ جزماً في جواب الشرط؛ لأنَّ الفاء هنا واجبة الدخول لعدم صلاحية الجملة الجزائية شرطاً ، وإذا تقرَّر وجوبُ الفاء ، وإنما حُذِفت ضرورةً ثبت أن نون الرفع كان مِنْ حقها الثبوت إلا أنها حُذِفَتْ ضرورة ، وأنشدوا أيضاً قوله :
1969 أبيتُ أَسْرِي وتَبِيتي تَدْلُكي ... وجهكِ بالعنبرِ والمِسْك الذكي
أي : تبيتين وتَدْلُكين ، وفي الحديث : « والذي نفسي بيده لا تَدْخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا » ف « لا » الداخلة على « تدخلوا » و « تؤمنوا » نافية لا ناهية ، لفساد المعنى عليه ، وإذا ثَبَتَ حَذْفُها دون ملاقاةِ « مثل » رَفْعاً فلأنْ تُحْذَفَ مع ملاقاة « مثل » استثقالاً بطريق الأَوْلى والأحرى ، وأيضاً فإن النون نائبة عن الضمة ، والضمةُ قد عُهِد حَذْفُها في فصيح الكلام كقراءةِ أبي عمرو : { يَنصُرْكُمُ } [ آل عمران : 160 ] و { يُشْعِرُكُمْ } [ الأنعام : 109 ] و { يَأْمُرُكُمْ } [ البقرة : 67 ] وبابِه بسكون آخر الفعل ، وقوله :
1970 فاليومَ أشربْ غيرَ مُسْتَحقِبٍ ... إثماً من اللهِ ولا واغِلِ
وإذا ثبت حَذْفُ الأصلِ فَلْيَثْبُتْ حَذْفُ الفرع لئلا يلزمَ تفضيل فرع على أصله ، وأيضاً فإنَّ ادَّعاء حذف نون الرفع لا يُحْوِج إلى حذف آخر ، وحذف نون الوقاية قد يحوج إلى ذلك ، وبيانه أنه إذا دخل جازم أو ناصب على أحد هذه الأمثلة فلو كان المحذوف نون الوقاية لكان ينبغي أن تُحْذَفَ هذه النونُ لأنها نون رفع وهي تسقط للناصب والجازم ، بخلاف ادِّعاءِ حَذْفِ نون الرفع ، فإنه لا يحوج إلى ذلك لأنه لا عملَ له في التي للوقاية .

ولقائلٍ أن يقول : لا يلزم من جواز حَذْفَ الأصل حَذْفُ الفرع ، لأنَّ في الأصل قوةً تقتضي جواز حذفه بخلاف الفرع ، وعلى الآخر له أن يقول : هذا مُعارَضٌ بإلغاء العامل : وذلك أنه لو كان المحذوفُ نونَ الرفع لأجل نون الوقاية ودخل الجازم والناصب لم يجد له شيئاً يحذفه؛ لأن النون حُذِفت لعارض آخر . واستدلوا لسيبويه أيضاً بأن نون الوقاية مكسورة ، فبقاؤها على حالها لا يلزم منه تغييرٌ بخلاف ما لو ادَّعَيْنا حَذْفها فإنَّا يلزمنا تغييرُ نون الرفع من فتح إلى كسر ، وتقليلُ العمل أولى ، واستدلوا أيضاً بأنها قد حذفت مع مثلها وإن لم يكن نون وقاية كقوله :
1971 كل له نِيَّةٌ في بُغْضِ صاحبِهِ ... بنعمةِ الله نَقْلِيْكُمْ وتَقْلُونا
أي : وتَقْلُوننا ، فالمحذوفُ نونُ الرفع لا نونُ « ن » لأنها بعض ضمير ، وعُورض هذا بأن نون الرفع أيضاً لها قوةٌ لدلالتها على الإِعراب ، فَحَذْفُها أيضاً لا يجوز ، وجعل سيبويه المحذوفةَ من قول الشاعر :
1972 تراه كالثَّغامِ يُعَلُّ مِسْكاً ... يَسُوءُ الفالِياتِ إذا فَلَيْني
نونَ الفاعل لا نونَ الوقاية ، واستدلَّ الأخفش بأنَّ الثقل إنما حصل بالثانية ، ولأنه قد اسْتُغْنِي عنها ، فإنه إنما أُتِيَ بها لتقِيَ الفعلَ من الكسر ، وهو مأمونٌ لوقوع الكسر على نون الرفع ، ولأنها لا تدلُّ على معنى بخلاف نون الرفع ، وأيضاً فإنها تُحْذَفُ في نحو : ليتني فيقال : ليتي ، كقوله :
1973 كمُنْيَةِ جابر إذ قال ليتي ... أُصادِفُه وأُتْلِفُ بعضَ مالي
واعلم أن حذف النون في هذا النحو جائز فصيح ، ولا يُلتفت إلى قول مَنْ مَنَع ذلك إلا في ضرورةٍ أو قليلٍ من الكلام ، ولهذا عِيْبَ على مكي ابن أبي طالب حيث قال : « الحَذْفُ بعيدٌ في العربية قبيح مكروه ، وإنما يجوز في الشعر للوزن ، والقرآن لا يُحتمل ذلك فيه إذ لا ضرورة تدعو إليه » . وتجاسر بعضهم فقال : « هذه القراءة أعني تخفيف النون لحنٌ » وهذان القولان مردودان عليهما لتواتر ذلك ، وقد قَدَّمْتُ الدليل على صحته لغةً ، وأيضاً فإن الثقاتِ نقلوا أنها لغةٌ ثابتةٌ للعرب وهم غطفان فلا معنى لإِنكارها .
و « في الله » متعلِّقٌ ب « أتحاجُّوني » لا ب « حاجَّه » ، والمسألةُ من باب التنازع ، وأعمل الثاني لأنه لما أضمر في الأول حذف ، ولو أَعْمل الأول لأضْمر في الثاني من غير حذفٍ ، ومثله : { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة } [ النساء : 176 ] ، كذا قال الشيخ ، وفيه نظر ، من حيث/ إن المعنى ليس على تَسَلُّط « وَحَاجَّهُ » على قوله « في الله »؛ إذ الظاهر انقطاعُ الجملة القولية ممَّا قبلها . وقوله « في الله » أي في شأنه ووحدانيته .
قوله : « وَقَدْ هَدَاني » في محلِّ نصب على الحال ، وفي صاحبها وجهان أظهرهما : أنه التاء في « أتحاجونني » أي : أتجادلونني فيه حال كوني مَهْدِيّاً مِنْ عنده .

والثاني : أنه حال من « الله » أي : أتخاصمونني فيه حال كونه هادياً لي ، فحجَّتكم لا تُجْدي شيئاً لأنها داحضة .
قوله : { وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ } هذه الجملة يجوز أن تكونَ مستأنفة ، أخبر عليه السلام بأنه لا يخاف ما تشركون به ربَّه ثقةً به ، وكانوا قد خوَّفوه مِنْ ضررٍ يحصُل له بسبب سَبِّ آلهتهم ، ويحتمل أن تكون في مَحَلِّ نصبٍ على الحال باعتبارين أحدهما : أن تكونَ ثانيةً عطفاً على الأولى ، فتكون الحالان من الياء في « أتحاجونِّي » . والثاني : أنها حال من الياء في « هداني » فتكون جملةً حالية من بعض جملة حالية فهي قريبة من الحال المتداخلة ، إلا أنه لا بد من إضمار مبتدأ على هذا الوجه قبل الفعل المضارع ، لما تقدَّم من أن الفعل المضارع ب « لا » حكمُه حكمُ المثبت من حيث إنه لا تباشره الواو .
و « ما » يجوز فيها الأوجه الثلاثة : أن تكونَ مصدريةً ، وعلى هذا فالهاء في « به » لا تعود على « ما » عند الجمهور ، بل تعود على الله تعالى ، والتقدير : ولا أخاف إشراكَكم بالله ، والمفعول محذوف أي : ما تشركون غير الله به ، وأن تكون بمعنى الذي ، وأن تكون نكرةً موصوفة ، والهاء في « به » على هذين الوجهين تعود على « ما » ، والمعنى : ولا أخاف الذي تشركون الله به ، فحذف المفعول أيضاً كما حذفه في الوجه الأول ، وقدَّر أبو البقاء قبل الضمير مضافاً فقال : « ويجوز أن تكون الهاءُ عائدة على » ما « أي : ولا أخاف الذي تشركون بسببه » ، ولا حاجةَ إلى ذلك .
قوله : « إلا أَنْ يشاء » في هذا الاستثناء قَوْلان ، أظهرهما : أنه متصل ، والثاني : أنه منقطع ، والقائلون بالاتصال : اختلفوا في المستثنى منه ، فجعله الزمخشري زماناً فقال : « إلا وقت مشيئة ربي شيئاً يخاف ، فحذف الوقت ، يعني : لا أخاف معبوداتِكم في وقتٍ قط؛ لأنها لا تقدر على منفعةٍ ولا مَضَرَّة إلا إذا شاء ربي » . وجَعَلَه أبو البقاء حالاً فقال : تقديره إلا في حال مشيئة ربي أي : لا أخافها في كل حال إلا في هذه الحال . وممَّن ذهب إلى انقطاعه ابن عطية والحوفي وأبو البقاء في أحد الوجهين ، فقال الحوفي : « تقديره : لكن مشيئة الله إياي بضرٍّ أخاف » ، وقال ابن عطية : « استثناء ليس من الأول ولما كانت قوة الكلام أنه لا يخاف ضراً استثنى مشيئة ربه في أن يريده بضر .
قوله : » شيئاً « يجوز فيه وجهان ، أظهرهما : أنه منصوب على المصدر تقديره : إلا أن يشاء ربي شيئاً من المشيئة ، والثاني : أنه مفعول به ليشاء ، وإنما كان الأولُ أظهرَ لوجهين ، أحدهما : أن الكلام المؤكد أقوى وأثبتُ في النفس من غير المؤكد .

والثاني : أنه قد تقدم أن مفعول المشيئة والإِرادة لا يُذْكران إلا إذا كان فيهما غرابة كقوله :
1974 ولو شِئْتُ أَنْ أبكي دماً لبَكَيْتُه ... . . . . . . . . . . . . . .
قوله : « عِلْماً » فيه وجهان ، أظهرهما : أنه منصوب على التمييز ، وهو مُحَوَّلٌ عن الفاعل تقديره : وَسِع علمُ ربي كلَّ شيء ، كقوله : { واشتعل الرأس شَيْباً } [ مريم : 4 ] . والثاني : أنه منصوبٌ على المفعول المطلق؛ لأن معنى وَسِعَ عَلِم . قال أبو البقاء : « لأنَّ ما يَسَعُ الشيء فقد أحاط به ، والعالم بالشيء محيطٌ بعلمه » وهذا الذي ادَّعاه من المجاز بعيد . و « كل شيء » مفعول لوسع على كلا التقديرين . و « أفلا تتذكرون » جملة تقرير وتوبيخ ، ولا محلَّ لها لاستئنافها .

وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81)

قوله تعالى : { وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ } : قد تقدَّم الكلام على « كيف » في أول البقرة ، وهذه نظيرتها . و « ما » يجوز فيها ثلاثة الأوجه ، أعني كونها موصولةً اسميةً أو نكرة موصوفة أو مصدرية ، والعائد على الأوَّلين محذوف أي : ما أشركتموه بالله أو إشراككم بالله غيره .
وقوله : « ولا تخافون » يجوز في هذه الجملة أن تكون نسقاً على « أخاف » فتكون داخلةً في حَيِّز التعجب والإِنكار ، وأن تكون حالية أي : وكيف أخاف الذي تشركون حال كونكم أنتم غير خائفين عاقبة إشراككم ، / ولا بد من إضمارِ مبتدأ قبل المضارع المنفيِّ ب لا ، لِما تقدم غيرَ مرة أي : كيف أخاف الذي تُشْركون أو يُخاف إشراككم حال كونكم آمنين مِنْ مَكْرِ الله الذي أَشْركتم به غيره . وهذه الجملةُ وإن لم يكن فيها رابطٌ يعود على ذي الحال لا يضرُّ ذلك لأن الواو بنفسها رابطةٌ ، وانظر إلى حسن هذا النظم السويّ حيث جعل متعلق الخوف الواقع منه بالأصنام ، ومُتَعَلَّق الخوف الواقع منهم إشراكهم بالله غيرَه تَرْكاً لأن يعادَلَ الباري تعالى بأصنامهم ، لو أبرز التركيب على هذا فقال : « ولا تخافون الله » مقابلةً لقوله « وكيف أخاف معبودتكم » . وأتى ب « ما » في قوله « ما أشركتم » وفي قوله { مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً } لأنهم غير عقلاء ، إذ هي جمادٌ أحجارٌ ، وحيث كانوا ينحتونها ويعبدونها .
قوله : « ما لم يُنَزِّلْ » مفعول ل « أَشْرَكْتُم » وهي موصولة اسمية أو نكرة ، ولا تكون مصدرية لفساد المعنى ، و « به » و « عليكم » متعلقان ب « يُنَزِّل » ، ويجوز في « عليكم » وجهٌ آخر : وهو أن يكون حالاً من « سلطاناً » لأنه لو تأخَّر عنه لجاز أن يكونَ صفةً . وقرأ الجمهور « سُلْطاناً » ساكنَ اللام حيث وقع . وقرئ بضمها ، وقيل : هي لغة مستقلة فيثبت بها بناء « فُعُل » بضم الفاء والعين ، أو هي إتباع حركةٍ لأخرى .
وقوله : « فأيُّ الفريقين أحقُّ » لم يقل : أيُّنا أحقُّ نحن أم أنتم إلزاماً لخصمه بما يدَّعيه عليه ، ولأنه لا يزكِّي القائلُ نفسه ، وهذا بخلاف قول الآخر :
1975 فلئِنْ لقيتُكَ خالِيَيْنِ لتعلمَنْ ... أيّي وأيُّك فارسُ الأحزابِ
فللَّهِ فصاحةُ القرآن وآدابه . وقوله : « إن كنتم » جوابه محذوف ، أي : فأخبروني ، ومُتَعَلَّقُ العلم محذوف ، ويجوز أَنْ لا يُرادَ له مفعولٌ أي : إن كنتم من ذوي العلم .

الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)

قوله تعالى : { الذين آمَنُواْ } : هل هو من كلام إبراهيم أو من كلام قومه أو من كلام الله تعالى؟ ثلاثة أقوال للعلماء وعليها يترتب الإِعراب ، فإن قلنا : إنها من كلام إبراهيم جواباً عن السؤال في قوله : « فأيُّ الفريقين » وكذا إن قلنا : إنها من كلام قومه ، وأنهم أجابوا بما هو حجةٌ عليهم ، كأن الموصولَ خبرُ مبتدأ محذوف ، أي : هم الذين آمنوا ، وإن جَعَلْنَاهُ من كلام الله تعالى وأنه أَمَرَ نبيه بأن يجيب به السؤال المتقدم فكذلك أيضاً ، وإنْ جَعَلْنَاهُ لمجرد الإِخبار من الباري تعالى كان الموصول مبتدأ ، وفي خبره أوجه أحدها : أنه الجملة بعده فإن « أولئك » مبتدأ ثان ، و « الأمن » مبتدأ ثالث ، و « لهم » خبره ، والجملة خبر « أولئك » و « أولئك » وخبره خبر الأول .
الثاني : أن يكون « أولئك » بدلاً أو عطف بيان ، و « لهم » خبر الموصول ، و « الأمنُ » فاعلٌ به لاعتماده . الثالث : كذلك ، إلا أنَّ « لهم » خبرٌ مقدم ، و « الأمن » مبتدأ مؤخر ، والجملة خبر الموصول . الرابع : أن يكون « أولئك » مبتدأ ثانياً ، و « لهم » خبره و « الأمن » فاعل به ، والجملة خبر الموصول . الخامس : وإليه ذهب أبو جعفر النحاس والحوفي أن « لهم الأمن » خبر الموصول ، وأن « أولئك » فاصلة وهو غريب ، لأن الفصل من شأن الضمائر لا من شأن أسماء الإِشارة ، وأمَّا على قولنا بأن « الذين » خبر مبتدأ محذوف فيكون « أولئك » مبتدأً فقط ، وخبره الجملة بعده أو الجارُّ وحده ، و « الأمنُ » فاعلٌ به ، والجملة الأولى على هذا منصوبة بقول مضمر أي : قل هم الذين آمنوا إن كانت من كلام الخليل ، أو قالوا هم الذين إن كانت من كلام قومه . وقوله « ولم يَلْبسوا » يجوز فيه وجهان ، أحدهما : أنها معطوفة على الصلة فلا محلَّ لها حينئذٍ ، والثاني : أن تكون الواو للحال ، والجملة بعدها في محل نصب على الحال أي : آمنوا غير مُلْبِسين إيمانهم/ بظلم وهو كقوله تعالى : { أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } [ مريم : 20 ] ولا يُلتفت إلى قول ابن عصفور حيث جعل وقوع الجملة المنفيَّة حالاً قليلاً ، ولا إلى قول ابن خروف حيث جعل الواو واجبة الدخول على هذه الجملة وإن كان فيها ضمير يعود على ذي الحال .
والجمهور على « يَلْبِسُوا » بفتح الياء بمعنى يَخْلطونه ، وقرأ عكرمة بضمها من الإِلباس . « وهم مهتدون » يجوز استئنافها وحاليتها .

وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)

قوله تعالى : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ } : « تلك » إشارة إلى الدلائل المتقدمة في قوله : { وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ } [ الأنعام : 75 ] إلى قوله : { وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين } [ الأنعام : 79 ] . ويجوز في « حُجَّتنا » وجهان ، أحدهما : أن يكون خبر المبتدأ وفي « آتيناها » حينئذٍ وجهان ، أحدهما : أنه في محل نصب على الحال والعامل فيها معنى الإِشارة ، ويدل على ذلك التصريحُ بوقوع الحال في نظيرتها كقوله تعالى : { فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً } [ النمل : 52 ] . والثاني : أنه في محل رفع على أنه خبرٌ ثانٍ أخبر عنها بخبرين ، أحدهما مفرد والآخر جملة . والثاني من الوجهين الأولين : أن تكون « حُجَّتنا » بدلاً أو بياناً لتلك ، والخبر الجملة الفعلية .
وقال الحوفي : « إن الجملة مِنْ » آتَيْناها « في موضع النعت ل » حُجَّتنا « على نية الانفصال ، إذ التقدير : حجة لنا » ، يعني الانفصال من الإِضافة ليحصُلَ التنكيرُ المسوِّغُ لوقوعِ الجملة صفةً لحُجَّتنا ، وهذا لا ينبغي أن يقال ، وقال أيضاً : « إن » إبراهيم « مفعول ثان لآتيناها ، والمفعول الأول هو » ها « ، وقد قدَّمْتُ لك في أوائل البقرة أن هذا مذهب السهيلي عند قوله { آتَيْنَا مُوسَى الكتاب } [ البقرة : 53 ] ، وأنَّ مذهبَ الجمهورِ أن تَجْعل الأولَ ما كان عاقلاً والثاني غيرَه ، ولا تبالي بتقديمٍ ولا تأخير .
قوله : » على قومه « فيه وجهان أحدهما : أنه متعلقٌ ب » آتينا « قاله ابن عطية والحوفي أي : أظهرناها لإِبراهيم على قومه . والثاني : أنها متعلقة بمحذوف على أنها حال أي : آتيناها إبراهيم حجةً على قومه أو دليلاً على قومه ، كذا قدَّره أبو البقاء ، ويلزم من هذا التقدير أن تكون حالاً مؤكدة ، إذ التقدير : وتلك حُجَّتنا آتيناها له حجةً .
وقدَّرها الشيخ على حذف مضاف فقال : » أي آتيناها إبراهيم مستعليةً على حجج قومه قاهرة لها « وهذا حسن . ومنع أبو البقاء أن تكون متعلِّقةً بحجتنا قال : » لأنها مصدر ، وآتيناها خبر أو حال ، وكلاهما لا يُفْصل به بين الموصول وصلته « . ومنع الشيخ ذلك أيضاً ، ولكن لكون الحجَّة ليست مصدراً قال : » إنما هو الكلام المُؤَلَّفُ للاستدلال على الشيء « ثم قال : » ولو جعلناها مصدراً لم يجز ذلك أيضاً ، لأنه لا يفصل بالخبر ولا بمثل هذه الحال بين المصدر ومطلوبه . وفي مَنْعِهِ ومَنْع أبي البقاء ذلك نظرٌ ، لأنَّ الحال وإن كانَتْ جملةً ليسَتْ أجنبيةً حتى يُمْنَعَ الفصل بها لأنها من جملة مطلوبات المصدر ، وقد تقدَّم لي نظيرُ ذلك بأشبع من هذا .
قوله : « نرفع » فيه وجهان الظاهر منهما : أنها مستأنفة لا محل لها من الإِعراب . الثاني : جوَّزه أبو البقاء وبدأ به أنها في موضع الحال من « آتيناها » يعني من فاعل « آتيناها » ، أي : في حال كوننا رافعين ، ولا تكون حالاً من المفعول إذ لا ضمير فيها يعود إليه .

ويُقْرأ « نرفع » بنون العظمة وبياء الغيبة ، وكذلك « يشاء » . وقرأ أهل الكوفة « درجات » بالتنوين وكذا التي في يوسف ، والباقون بالإِضافة فيهما ، فقراءة الكوفيين يحتمل نَصْبُ « درجات » فيها من خمسة أوجه أحدها : أنها منصوبةٌ على الظرف و « مَنْ » مفعول « نرفع » أي : نرفع مَنْ نشاء مراتب ومنازل . والثاني : أن ينتصبَ على أنه مفعول ثان قُدِّم على الأول ، وذلك يحتاج إلى تضمين « نرفع » معنى فعلٍ يتعدَّى لاثنين وهو « يُعْطي » مثلاً ، أي : نعطي بالرفع مَنْ نشاء درجات أي : رُتَباً ، والدرجات هي المرفوعة كقوله : { رَفِيعُ الدرجات } [ غافر : 15 ] وفي الحديث : « اللهم ارفع درجته في عليين » فإذا رُفعت الدرجةُ فقد رُفِعَ صاحبها . والثالث : أن ينتصب على حذف حرف الجر أي : إلى منازل وإلى درجات . الرابع : أن ينتصبَ على التمييز ، ويكون منقولاً من المفعولية ، فيؤول إلى قراءة الجماعة إذ الأصل : { نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ } بالإِضافة ثم حُوِّل كقوله : { وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً } [ القمر : 12 ] أي : عيون الأرض . الخامس : أنها منتصبةٌ على الحال وذلك على حذف مضاف أي : ذوي درجات . ويشهد لهذه القراءةِ قولُه تعالى : { وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } [ الأنعام : 165 ] { وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ } [ الزخرف : 32 ] { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى } [ البقرة : 253 ] .
وأمَّا قراءة الجماعة : فدرجات مفعول « نرفع » ، والخطاب في « إنَّ ربك » للرسول محمد عليه السلام ، وقيل : لإِبراهيم الخليل ، فعلى هذا يكون فيه التفات من الغَيْبة إلى الخطاب مُنَبِّهاً بذلك على تشريفه له .

وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84)

قوله تعالى : { وَوَهَبْنَا } : فيها وجهان ، الصحيح منهما : أنها معطوفة على الجملة الاسمية من قوله/ « وتلك حُجَّتنا » وعَطْفُ الاسمية على الفعلية وعكسه جائز . والثاني : أجازه ابن عطية وهو أن يكون نسقاً على « آتيناها » ، ورَدَّهُ الشيخ بأنَّ « آتيناها » لها محل من الإِعراب : إما الخبر ، وإمَّا الحال ، وهذه لا محل لها لأنها لو كانَتْ معطوفةً على الخبر أو الحال لاشترط فيها رابط . و « كلاً » منصوب ب « هَدَيْنا » بعده ، والتقدير : وكل واحد من هؤلاء المذكورين . قوله : « ومن ذريَّته » الهاء في « ذريته » فيها وجهان ، أحدهما : أنها تعود على نوح لأنه أقرب مذكور ، ولأن إبراهيم ومَنْ بعده من الأنبياء كلِّهم منسوبون إليه . والثاني أنه يعود على إبراهيم لأنه المحدَّث عنه والقصة مسوقة لذكره وخبره ، ولكن رُدَّ هذا القول بكون لوطٍ ليس من ذريته إنما هو ابن أخيه أو أخته ، ذكر ذلك مكي وغيره .
وقد أجيب عن ذلك فقال ابن عباس : « هؤلاء الأنبياء كلهم مضافون إلى ذرية إبراهيم وإن كان فيهم مَنْ لم يلحقه بولادةٍ من قبِل أمٍّ ولا أبٍ لأن لوطاً ابن أخي إبراهيم ، والعرب تجعل العم أباً » . وقال أبو سليمان الدمشقي : « ووهبنا له لوطاً » في المعاضدة والمناصرة « فعلى هذا يكون » لوطاً « منصوباً ب » وهبنا « من غير قيد بكونه مِنْ ذريته ، وقوله » داود « وما عُطِفَ عليه منصوب : إمَّا بفعل الهبة وإمَّا بفعل الهداية . و » مِنْ ذريته « يجوز فيه وجهان ، أحدهما : أنه متعلق بذلك الفعل المحذوف ، وتكون » مِنْ « لابتداء الغاية . والثاني : أنها حال أي : حال كونِ هؤلاء الأنبياء منسوبين إليه . » وكذلك نجزي « [ الكاف في محل نصب نعتاً لمصدر محذوف أي : نجزيهم جزاء مثل ذلك الجزاء ، ويجوز أن يكون في محل رفع أي : الأمر كذلك ] ، وقد تقدَّم ذلك في قوله { وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ } [ الأنعام : 75 ] .

وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86)

قوله : « واليَسَع » قرأ الجمهور : « الْيَسَعَ » بلام واحدة وفتح الياء بعدها ، وقرأ الأخوان : اللَّيْسَع ، بلامٍ مشدَّدة وياء ساكنة بعدها ، فقراءةُ الجمهور فيها تأويلان ، أحدهما : أنه منقولٌ من فعل مضارع ، والأصل : يَوْسَع كيَوْعِد ، فوقعت الواو بين ياء وكسرة تقديرية ، لأن الفتحة إنما جيء بها لأجل حرف الحلق فحُذِفَتْ لحَذْفها في يَضَع ويَدَع ويَهَب وبابه ، ثم سُمِّي به مجرداً عن ضمير ، وزيدت فيه الألف واللام على حَدِّ زيادتها في قوله :
1976 رأيت الوليدَ بنَ اليزيد مبارَكاً ... شديداً بأعباءِ الخلافةِ كاهِلُهْ
وكقوله :
1977 باعَدَ أمَّ العمروِ من أسيرِها ... حُرَّاسُ أبوابٍ على قصورِها
وقيل : الألف واللام فيه للتعريف كأنه قدَّر تنكيره . والثاني : أنه اسمٌ أعجمي لا اشتقاق له ، لأن اليسع يقال له يوشع بن نون فتى موسى ، فالألفُ واللام فيه زائدتان أو مُعَرِّفتان كما تقدَّم قبل ذلك ، وهل « أل » لازمةٌ له على تقدير زيادتها؟ فقال الفارسي : إنها لازمة شذوذاً كلزومها في « الآن » وقال ابن مالك : « ما قارنت الأداة نَقْلَه كالنصر والنعمان ، أو ارتجاله كاليسع والسموءل فإنَّ الأغلب ثبوتُ أل فيه ، وقد تُحْذف » .
وأمَّا قراءةُ الأخوين فأصله لَيْسَع ك ضَيْغَم وَصَيْرَف وهو اسم أعجمي ، ودخولُ الألفِ واللام فيه على الوجهين المتقدمين . واختار أبو عبيد قراءة التخفيف فقال : « سمعنا اسم هذا النبيّ في جميع الأحاديث : اليسع ، ولم يُسَمِّه أحدٌ منهم اللَّيْسع » وهذا لا حجةَ فيه لأنه روي اللفظ بأحد لغتيه ، وإنما آثروا الرواة هذه اللفظة لخفتها لا لعدم صحة الأخرى . وقال الفراء في قراءة التشديد : « هي أشبه بأسماء العجم » . وقد تَقَدَّم أنَّ في نون « يونس » ثلاثَ لغات وكذلك في سين يوسف .
قوله : « وكلاَّ فَضَّلْنا » كقوله : « كلاًّ هَدَيْنَا » .

وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87)

قوله تعالى : { وَمِنْ آبَائِهِمْ } : فيه وجهان ، أحدهما : أنه متعلق بذلك الفعلِ المقدَّر أي : وهَدَيْنا من آبائهم ، أو فَضَّلْنا من آبائهم ، و « مِنْ » تبعيضية . قال ابن عطية : « وهدينا من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم جماعات » . ف « مِنْ » للتبعيض والمفعول محذوف . الثاني : أنه معطوف على « كلاًّ » أي : وفضَّلنا بعض آبائهم . وقَدَّر أبو البقاء هذا الوجهَ بقوله : « وفَضَّلنا كلاً من آبائهم [ أو ] وهَدَيْنا كلاً مِنْ آبائهم » .
وقوله : « واجتَبَيْناهم » يجوز أن يعطف على « فَضَّلنا » ، ويجوز أن يكون مستأنفاً وكرَّر لفظ الهداية توكيداً ، ولأن/ الهداية أصل كلِّ خبر .

ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88)

قوله تعالى : { ذلك هُدَى الله } : المشار إليه هو المصدر المفهوم من الفعل قبله : إمَّا الاجتباء ، وإمَّا الهداية ، أي : ذلك الاجتباء هدى ، أو ذلك الهدى إلى الطريق المستقيم هدى الله . ويجوز أن يكون « هدى الله » خبراً ، وأن يكون بدلاً من « ذلك » ، والخبر « يهدي به » ، وعلى الأول يكون « يهدي » حالاً والعاملُ فيه اسمُ الإِشارة ، ويجوز أن يكونَ خبراً ثانياً . و « مِنْ عبادِه » تبيينٌ أو حالٌ : إمَّا مِنْ « مَنْ » وإمَّا من عائده المحذوف .

أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89)

والهاء في « بها » تعود على الثلاثة الأشياء وهي : الكتابُ والحكمُ والنبوة ، وهو قول الزمخشري . وقيل : تعودُ على النبوَّة فقط لأنها أقرب مذكور . والباءُ في « بها » متعلقةٌ بخبر ليس ، وقُدِّم على عاملها للفواصل . والباء في « بكافرين » زائدةً توكيداً .

أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)

وأولئك مفعولٌ مقدم ل { هَدَى الله } ، ويَضْعُفُ جَعْلُه مبتدأً على حذف العائد أي : هداهم الله كقوله : { أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ } [ المائدة : 50 ] برفع « حكم » . قوله : « اقتدِهْ » قرأ الأخوان بحذف هذه الهاء في الوصل ، والباقون أثبتوها وصلاً ووقفاً ، إلا ابنَ عامر بكَسْرها ، ونَقَل ابنُ ذكوان عنه وجهين ، أحدهما : الكسر من غير وصل بمدَّة . والثاني وصلُه بمدَّة ، والباقون يسكنونها ، أمَّا في الوقف فإن القراء اتفقوا على إثباتها ساكنة ، وقد اختلفوا أيضاً في { مَالِيَهْ } [ الحاقة : 28 ] و { سُلْطَانِيَهْ } [ الحاقة : 29 ] في الحاقة ، وفي { مَاهِيَهْ } [ القارعة : 10 ] في القارعة بالنسبة إلى الحذف والإِثبات ، واتفقوا على إثباتها في { كِتَابيَهْ } [ الحاقة : 19 ] و { حِسَابِيَهْ } [ الحاقة : 20 ]
فأمَّا قراءةُ الأخوين فالهاءُ عندهما للسكتِ فلذلك حَذَفاها وَصْلاً إذ مَحَلُّها الوقفُ ، وأَثْبتاها وقفاً إتباعاً لرسم المصحف ، وأمَّا مَنْ أثبتها ساكنةً فتحتمل عنده وجهين أحدهما : هي هاء سكت ، ولكنها ثبتت وصلاً إجراءً للوصل مجرى الوقف كقوله : { لَمْ يَتَسَنَّهْ وانظر } [ البقرة : 259 ] في أحد الأقوال كما تقدم . والثاني : أنها ضمير المصدر سُكِّنَتْ وصلاً إجراءً للوصل أيضاً مجرى الوقف نحو : { نُؤْتِهِ } [ آل عمران : 145 ] و { فَأَلْقَهِ } [ النمل : 28 ] و { أَرْجِهْ } [ الأعراف : 111 ] { نُوَلِّهِ } [ النساء : 115 ] { وَنُصْلِهِ } [ النساء : 115 ] .
واختُلِفَ في المصدر الذي تعود عليه هذه الهاء فقيل : الهدى أي : اقتد الهدى ، والمعنى : اقتد اقتداءَ الهدى ، ويجوز أن يكون « الهدى » مفعولاً من أجله أي : فبهداهم اقتد لأجل الهدى ، وقيل : الاقتداء أي : اقتدِ الاقتداء . ومن إضمار المصدر قوله :
1978 هذا سُراقةُ للقرآنِ يدرسُه ... والمرءُ عند الرُّشا إن يَلْقَها ذيبُ
أي : يَدْرُسُ الدَّرْسَ ، ولا يجوز أن تكون الهاء ضمير القرآن ، لأن الفعل قد تعدَّى له ، وإنما زِيْدت اللام تقويةً له حيث تقدَّم معموله ولذلك جعل النحاة نصب « زيداً » مِنْ « زيداً ضربته » بفعل مقدر خلافاً للفراء . وقال ابن الأنباري : « إنها ضمير المصدر المؤكد النائب عن الفعل ، وإن الأصل : اقتد اقتد ، ثم جعل المصدر بدلاً من الفعل الثاني ثم أضمر فاتصل بالأول .
وأمَّا قراءة ابن عامر فالظاهر فيها أنها ضمير وحُرِّكَتْ بالكسر مِنْ غير وصل ، وهو الذي يُسَمِّيه القرَّاء الاختلاس تارةً ، وبالصلة وهو المسمَّى إشباعاً أخرى كما قرئ : » أَرْجِهِ « ونحوه ، وإذا تقرَّر هذا فقول ابن مجاهد عن ابن عامر » يُشِمُّ الهاء [ الكسر ] من غير بلوغ ياء ، وهذا غلط؛ لأن هذه الهاءَ هاءُ وقف لا تُعْرَبُ في حال من الأحوال أي لا تُحَرَّك وإنما تدخل لِتَبِيْنَ بها حركة ما قبلها « ليس بجيدٍ لِما قَرَّرت لك من أنها ضمير المصدر . وقد رَدَّ الفارسي قول ابن مجاهد بما تقدم . والوجه الثاني : أنها هاء سكت أُجْرِيَتْ مجرى هاء الضمير ، كما أجريت هاء الضمير مجراها في السكون ، وهذا ليس بجيد ، ويُرْوى قول المتنبي :

1979 واحرَّ قلباه ممَّن قلبُه شَبِمُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بضم الهاء وكسرها على أنها هاءُ السكت شُبِّهَتْ بهاء الضمير فحركت والأحسن أن تجعل الكسر لالتقاء الساكنين لا لشبهها بالضمير ، لأن هاء الضمير لا تكسر بعد الألف فكيف بما يشبهها؟
والاقتداء في الأصل : طلبُ الموافقةِ ، قاله الليث . ويقال : قُدْوَة [ وقِدْوٌ ، وأصله من القِدْو ] وهو أصل البناء الذي يتشعَّبُ منه تصريف الاقتداء . و « بهداهم » متعلق ب « اقتد » . وجعل الزمخشري تقديمَه مفيداً للاختصاص على قاعدته . والهاءُ في « عليه » تعود على القرآن أو التبليغ ، أُضْمرا وإن لم يَجْرِ لهما ذِكْرٌ لدلالة السياق عليهما . و « إنْ » نافية ولا عملَ لها على المشهور ، ولو كانت عاملةً لبَطَلَ عملها ب « إلاَّ » . و « للعالمين » متعلق ب « ذكرى » واللام مُعَدِّية ، أي : إنْ القرآن إلا تذكير العالمين . ويجوز أن تكون متعلقةً بمحذوف على أنها صفة ل « ذكرى » / .

وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)

قوله تعالى : { حَقَّ قَدْرِهِ } : منصوبٌ على المصدر وهو في الأصل صفة للمصدر ، فلما أُضيف الوصف إلى موصوفه انتصب على ما كان ينتصب عليه موصوفه ، والأصل : قَدْره الحق كقولهم : جَرْدُ قطيفة وسحق عمامة . وقرأ الحسن البصري وعيسى الثقفي : جَرْد قطيفة وسحق عمامة . وقرأ الحسن البصري وعيسى الثقفي : « قدَّروا » بتشديد الدال ، « قَدَره » بتحريكها ، وقد تقدَّم أنهما لغتان .
وقوله : « إذ قالوا » منصوب ب « قَدَروا » وجعله ابن عطية منصوباً بقَدْره ، وفي كلام ابن عطية ما يُشْعر بأنها للتعليل . و « من شيء » مفعول به زيدت فيه « مِنْ » لوجودِ شَرْطي الزيادة . قوله : « نوراً » منصوب على الحال وفي صاحبه وجهان ، أحدهما : أنه الهاء في « به » فالعامل فيها « جاء » . والثاني : أنه الكتاب ، فالعامل فيه « أنزل » و « للناس » صفة ل « هدى » .
قوله : « تَجْعلونه » يقرؤه ابن كثير وأبو عمرو بياء الغيبة ، وكذلك « يُبْدونها » و « يُخْفون » ، والباقون بتاء الخطاب في ثلاثة الأفعال ، فأمَّا الغيبةُ فللحَمْل على ما تقدَّم من الغيبة في قوله : « وما قدروا » إلى آخره ، وعلى هذا فيكون في قوله : « وعُلِّمْتُم » تأويلان أحدهما : أنه خطاب لهم أيضاً وإنما جاء به على طريقة الالتفات . والثاني : أنه خطاب للمؤمنين اعترض به بين الأمر بقوله : { قُلْ مَنْ أَنزَلَ } وبين قوله { قُلِ الله } .
وأمَّا قراءةُ تاءِ الخطاب ففيها مناسبةٌ لقوله { وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تعلموا أَنتُمْ } ورجَّحها مكي وجماعةٌ لذلك ، قال مكي : « وذلك أحسن في المشاكلة والمطابقة واتصال بعض الكلام ببعض ، وهو الاختيار لذلك ، ولأنَّ أكثر القراء عليه » . قال الشيخ : « ومن قال إن المنكرين العربُ أو كفار قريش لم يمكن جَعْلُ الخطاب لهم بل يكون قد اعترض ببني إسرائيل فقال خلال السؤال والجواب : تَجْعَلُونها قراطيس ، ومثل هذا يَبْعُدُ وقوعُه؛ لأنَّ فيه تفكيكاً للنظم حيث جَعَلَ أولَ الكلام خطاباً للكفار وآخره خطاباً لليهود . قال : » وقد أُجيب بأنَّ الجميع لَمَّا اشتركوا في إنكار نبوَّة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم جاء بعضُ الكلام خطاباً للعرب وبعضه خطاباً لبني إسرائيل « .
قوله : » تَجْعلونه قراطيس « يجوز أن تكون » جعل « بمعنى صيَّر ، وأن تكون بمعنى ألقى أي : تضعونه في كاغد . وهذه الجملة في محل نصب على الحال : إمَّا من » الكتاب « ، وإمَّا من الهاء في » به « ، كما تقدم في » نوراً وهدى « .
قوله » قراطيس « فيه ثلاثة [ أوجه ] ، أحدها : أنه على حذف حرف الجر أي : في قراطيس وورق ، فهو شبيه بالظرف المبهم فلذلك تَعَدَّى إليه الفعل بنفسه .

والثاني : أنه على حذف مضاف أي : تجعلونه ذا قراطيس . والثالث : أنهم نَزَّلوه منزلة القراطيس . وقد تقدم تفسير القراطيس ، والجملة من قوله « تبدونها » في محل نصب نعت لقراطيس ، وأمَّا « تُخْفون » فقال أبو البقاء : « إنها صفة أيضاً لها ، وقدَّر ضميراً محذوفاً أي : وتُخْفون منها كثيراً » . وأمَّا مكي فقال : « وتُخْفون » مبتدأٌ لا موضعَ له من الإِعراب « انتهى ، كأنه لمَّا رأى خُلُوَّ [ هذه الجملةِ من ضمير ] يعود على » قراطيس « منع كونه صفة ، وقد تقدَّم أنه مقدر أي : منها ، وهو أولى . قد جوَّز الواحدي في » تبدون « أن يكون حالاً من ضمير » الكتاب « من قوله » تجعلونه قراطيس « على أن تجعل الكتاب القراطيس في المعنى لأنه مكتتبٌ فيها » انتهى . قوله : « على أن تَجْعل » اعتذارٌ عن مجيء ضميره مؤنثاً ، وفي الجملة فهو بعيد أو ممتنع .
وقوله : « وعُلِّمْتُمْ » يجوز أن يكون على قراءة الغيبة في « يجعلونه » وما عُطِفَ عليه مستأنفاً ، وأن يكون حالاً ، وإنما أتى به مخاطباً لأجل الالتفات ، وأمَّا على قراءة تاء الخطاب فهو حالٌ ، ومَن اشترط « قد » في الماضي الواقع حالاً أضمرها هنا أي : وقد عُلِّمْتُمْ .
قوله : « قلِ اللهُ » الجلالة يجوز فيها وجهان أحدهما : أن تكونَ فاعلةً بفعلٍ محذوف أي : قل أَنْزله ، وهذا هو الصحيح للتصريح بالفعل في قوله { لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز } [ الزخرف : 9 ] . والثاني : أنه مبتدأٌ والخبرُ محذوفٌ تقديرُه : الله أنزله ، ووجه مناسبتِه مطابقةُ الجوابِ للسؤال ، وذلك أن جملة السؤال اسمية فلتكنْ جملةُ الجوابِ كذلك .
قوله : { فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ } يجوز أن يكون « في خوضهم » متعلقاً ب « ذرْهُم » ، وأن يتعلَّق ب « يَلْعبون » ، وأن يكونَ حالاً من مفعول « ذَرْهم » ، وأن يكونَ حالاً من فاعل « يَلْعبون » فهذه أربعة أوجه ، وأمَّا « يلعبون » فيجوز أن يكون حالاً مِنْ مفعول « ذرهم » ، ومَنْ مَنَع أن تتعدَّد الحال لواحدٍ لم يُجِزْ حينئذ أن يكون « في خوضهم » حالاً مِنْ مفعول « ذرهم » بل يجعله : إمَّا متعلقاً ب « ذَرْهُمْ » كما تقدم أو ب « يَلْعبون » أو حالاً من فاعله ، ويجوز أن يكون « يلعبون » حالاً من ضمير « خَوْضهم » ، وجاز ذلك لأنه في قوة الفاعل لأنَّ المصدرَ مضاف لفاعله؛ لأن التقدير : ذرهم يخوضوا لاعبين ، وأن يكونَ حالاً من الضمير في « خوضهم » إذا جعلناه حالاً لأنَّه تضمَّن معنى الاستقرار فتكون حالاً متداخلة .

وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)

قوله تعالى : { وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ } : فيه دليل على/ تقدُّم الصفة غير الصريحة على الصريحة . وأجيب عنه بأن « مبارك » خبر مبتدأ مضمر ، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في قوله { بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ } [ المائدة : 54 ] ، وقال مكي ، « مصدِّقُ الذي » نعت للكتاب على حذف التنوين لالتقاء الساكنين ، و « الذي » في موضع نصب ، وإن لم يُقَدَّرْ حذفُ التنوين كان « مصدق » خبراً بعد خبر ، و « الذي » في موضع خفض « . وهذا الذي قاله غلطٌ فاحش ، لأن حذف التنوين إنما هو للإِضافة اللفظية وإن كان اسم الفاعل في نيَّة الانفصال ، وحَذْفُ التنوين لالتقاء الساكنين إنما يكون في ضرورة أو ندور كقوله :
1980 . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا ذاكرَ اللهَ إلا قليلا
والنحويون كلُّهم يقولون في » هذا ضاربُ الرجلِ « : إن حذف التنوين للإِضافة تخفيفاً ، ولا يقول أحدٌ منهم في مثل هذا : إنه حُذِفَ التنوين لالتقاء الساكنين . وقَدَّم وَصْفَه بالإِنزال على وَصْفِه بالبركة بخلاف قوله { وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ } [ الأنبياء : 50 ] قالوا : لأن الأهمَّ هنا وصفُه بالإِنزال إذ جاء عقيب إنكارهم أن يُنَزِّل الله على بشر مِنْ شيء بخلاف هناك ، ووقعت الصفة الأولى جملةً فعلية ، لأن الإِنزال يتجدَّد وقتاً فوقتاً والثانية اسماً صريحاً ، لأنَّ الاسمَ يدلُّ على الثبوت والاستقرار ، وهو مقصود هنا أي : بركته ثابتة مستقرة ، و » مصدِّق « صفة أيضاً أو خبر بعد خبر على القول بأن مبارك خبر لمبتدأ مضمر ، ووقع صفةً للنكرة لأنه في نيَّة الانفصال كقوله : { هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } [ الأحقاف : 24 ] [ وقوله ] :
1981 يا رُبَّ غابِطنا لو كان يعرِفُكم ... . . . . . . . . . . . . . .
وقال الواحدي : » ومبارك « خبر الابتداء فُصِل بينهما بالجملة ، والتقدير : وهذا كتاب مبارك أنزلناه ، كقوله : { وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ } [ الأنبياء : 50 ] وهذا الذي ذكره لا يَتَمشَّى إلا على أنَّ قولَه » مبارك « خبر ثانٍ ل » هذا « ، وهذا بعيدٌ جداً ، وإذا سُلِّم ذلك فيكون » أنزلناه « عنده اعتراضاً على ظاهر عبارته ، ولكن لا يُحتاج إلى ذلك ، بل يجعل » أنزلناه « صفة ل » كتاب « ، ولا محذورَ حينئذٍ على هذا التقدير ، وفي الجملة فالوجهُ ما قَدَّمْتُه لك من الإِعراب .
قوله : » ولتنذرَ « قرأ الجمهور بتاء الخطاب للرسول عليه السلام ، وأبو بكر عن عاصم بياء الغيبة والضمير للقرآن ، وهو الظاهر أي : ينذر بمواعظه وزواجره ، ويجوز أن يعود على الرسول عليه السلام للعلمِ به . وهذه اللام فيها وجهان ، أحدهما : هي متعلقة ب » أنزلنا « عطفاً على مقدر ، فقدَّره أبو البقاء : » ليؤمنوا ولتنذر « ، وقدره الزمخشري فقال : » ولتنذر « معطوف على ما دلَّ عليه صفةُ الكتاب كأنه قيل : أنزلناه للبركات ولتصديق ما تَقَدَّمه من الكتب والإِنذار » .

والثاني : أنها متعلقة بمحذوف متأخر أي : ولتنذر أنزلناه .
وقوله : « أمَّ القرى » يجوز أن يكون من باب الحذف أي : أهل أمّ القرى ، وأن يكون من باب المجاز إطلاقاً للمحلّ على الحالِّ ، وأيُّهما أَوْلى؟ أعني المجاز والإِضمار ، للناس في المسألة ثلاثة أقوال ، تقدَّم بيانها وهذا كقوله : { وَسْئَلِ القرية } [ يوسف : 82 ] . وهناك وجهٌ لا يمكن هنا : وهو أنه يمكن أن يكون السؤال للقرية حقيقةً ويكون ذلك معجزةً لنبي ، وهنا لا يتأتَّى ذلك وإن كانت القرية أيضاً نفسها هنا تتكلم ، إلا أن الإِنذار لا يقع لعدم فائدته .
وقوله : « ومَنْ حولها » عطف على « أهل » المحذوف أي : ولتنذر مَنْ حول أم القرى ، ولا يجوز أن يُعْطف على « أم القرى » إذ يلزم أن يكون المعنى : ولتنذر أهل مَنْ حولها ، ولا حاجة تدعو إلى ذلك لأنَّ « مَنْ حولها » يقبلون الإِنذار . قال الشيخ : « ولم يحذف » مَنْ « فيعطف » حول « على » أمّ القرى « وإن كان يَصِحُّ من حيث المعنى لأنَّ » حول « ظرفٌ لا يتصرف ، فلو عطف على » أم القرى « لكان مفعولاً به لعطفه على المفعول به وذلك لا يجوزُ؛ لأنَّ العربَ لم تستعمله إلا ظرفاً » .
قوله : « والذين يؤمنون بالآخرة » يجوز فيه وجهان ، أحدهما : أنه مرفوعٌ بالابتداء ، وخبره « يؤمنون » ولم يتَّحد المبتدأ والخبر لتغاير مُتَعَلَّقيهما ، فلذلك جاز أن يقع الخبر بلفظ المبتدأ ، وإلاَّ فيمتنعُ أن تقول : « الذي يقوم يقوم » ، و « الذين يؤمنون يؤمنون » ، وعلى هذا فَذِكْرُ الفضلة هنا واجب ، ولم يتعرض النحويون لذلك ولكن تعرَّضوا لنظائره . والثاني : أنه منصوب عطفاً على أم القرى أي : ولتنذر الذين آمنوا ، فيكون « يؤمنون » حالاً من الموصول ، وليست حالاً مؤكدة لما تقدم لك مِنْ تسويغ وقوعه خبراً وهو اختلاف المتعلق ، والهاء في « به » تعود على القرآن أو على الرسول . { وَهُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ } حال ، وقدَّم « على صَلاتهم » لأجل الفاصلة . وذكر أبو علي في « الروضة » أن أبا بكر قرأ « على صلواتهم » جمعاً .

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)

قوله تعالى : { كَذِباً } : فيه أربعة أوجه ، أحدها : أنه مفعول « افترى » أي : اختلقَ كَذِباً وافتعله . الثاني : أنه مصدرٌ له على المعنى أي : افترى افتراءً ، وفي هذا نظر؛ لأنَّ المعهود في مثل ذلك إنما هو فيما كان المصدر فيه نوعاً من الفعل نحو : « قعد القرفصاء » أو مرادفاً له ك « قعدت جلوساً » أمَّا/ ما كان المصدر فيه أعمَّ من فعله نحو : افترى كذباً وَتَقَرْفَصَ قعوداً ، فهذا غيرُ معهود إذ لا فائدة فيه ، والكذبُ أعمُّ من الافتراء ، وقد تقدم تحقيقه . الثالث : أنه مفعول من أجله أي : افترى لأجل الكذب . الرابع : أنه مصدر واقع موقع الحال أي : افترى حال كونه كاذباً وهي حال مؤكدة . وقوله « أو قال » عطف على افترى ، و « إلى » في محل رفع لقيامه مقام الفاعل . وجَوَّز أبو البقاء أن يكون القائم مقام الفاعل ضمير المصدر قال : « تقديره : أُوحي إليَّ الوحيُ أو الإِيحاء » ، والأول أولى؛ لأن فيه فائدةً جديدة بخلاف الثاني فإن معنى المصدر مفهوم من الفعل قبله .
قوله : { وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ } جملة حالية ، وحُذِف الفاعل هنا تعظيماً له لأنَّ الموحي هو الله تعالى . وقوله : « ومن قال » مجرور المحل لأنه نَسَقٌ على « مَنْ » المجرور ب مِنْ أي : وممَّن قال . وقد تقدَّم نظير هذا الاستفهام في البقرة ، وهناك سؤال وجوابه . وقرأ أبو حيوة : « سَأُنَزِّل » مضعفاً . وقوله : « مثلَ » يجوز فيه وجهان أحدهما : أنه منصوبٌ على المفعول به أي : سأنزل قرآناً مثل ما أنزل الله ، و « ما » على هذا موصولة اسمية أو نكرة موصوفة أي : مثل الذي أنزله أو مثل شيء أنزله . والثاني : أن يكون نعتاً لمصدر محذوف تقديره : سأنزل إنزالاً مثل ما أنزل الله ، و « ما » على هذا مصدرية أي : مثل إنزال الله ، و « إذ » منصوبٌ ب « ترى » ، ومفعول الرؤية محذوف أي : ولو ترى الكفار أو الكذَبة ، ويجوز أن لا يُقَدَّر لها مفعول أي : ولو كنت من أهل الرؤية في هذا الوقت ، وجواب « لو » محذوف أي : لَرَأَيْتَ أمراً عظيماً . و « الظالمون » يجوز أن تكون فيه أل للجنس ، وأن تكون للعهدِ ، والمراد بهم مَنْ تقدَّم ذكرُه من المشركين واليهود والكذَبَة المفترين .
و { فِي غَمَرَاتِ الموت } خبر المبتدأ ، والجملة في محل خفض بالظرف . والغَمَرات : جمع غَمْرة وهي الشدة المفظعة ، وأصلها مِنْ غَمَرَهُ الماء إذا ستره ، كأنها تستر بغمِّها وتنزل به ، قال :
1982 ولا يُنْجي من الغَمَراتِ إلاَّ ... بَرَاكاءُ القتالِ أو الفرارُ
وتجمع على غُمَر كعَمْرة وعُمَر ، قال :

1983 . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وحان لتالِكَ الغُمَرِ انقشاعُ
ويروى « انحسار » . وقال الراغب : « أصل الغَمْر إزالة أثر الشيء ، ومنه قيل للماء الكثير الذي يزيل أثر سيله غَمْر وغامِر ، وأنشد غيرُ الراغب على غامر :
1984 نصفَ النهارُ الماءُ غامِرُه ... ورفيقُه بالغيب لا يدري
ثم قال : » والغَمْرَة معظمُ الماء لسَتْرها مقرَّها ، وجُعِلت مثلاً للجهالة التي تغمر صاحبها « . والغَمْر : الذي لم يجرِّبْ الأمور وجمعه أغمار ، والغِمْر : بالكسر الحقد ، والغَمْر بالفتح الماء الكثير ، والغَمَر بفتح الغين والميم ما يغمر من رائحة الدسم سائرَ الروائح ، ومنه الحديث : » من بات وفي يديه غَمَر « ، وغَمِرَت يده وغَمِر عرضَه دنسٌ ، ودخلوا في غُمار الناس وخمارهم ، والغُمْرَة ما يُطْلَى به من الزَّعْفَران ، ومنه قيل للقَدَح الذي يُتناول به الماء : غُمَرٌ ، وفلان مغامِرٌ : إذا رَمى بنفسه في الحرب : إمَّا لتوغُّله وخوضه فيه ، وإمَّا لتصور الغَمارة منه .
قوله : { والملائكة باسطوا } جملة في محل نصب على الحال من الضمير المستكنِّ في قوله » في غَمَرات « و » أيديهم « خفض لفظاً وموضعه نصب ، وإنما سقطت النون تخفيفاً .
قوله : { أخرجوا } منصوب المحل بقول مضمر ، والقول يُضْمر كثيراً تقديره : يقولون : أخرجوا ، كقوله : { يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ } [ الرعد : 23 ] أي يقولون : سلامٌ عليكم ، وذلك القول المضمر في محلِّ نصبٍ على الحال من الضمير في » باسطو « .
قوله : { اليوم تُجْزَوْنَ } في هذا الظرف وجهان ، أحدهما : أنه منصوب ب » أخْرِجوا « بمعنى أخرجوها من أبدانكم ، فهذا القول في الدنيا ، ويجوز أن يكونَ في يوم القيامة ، والمعنى : خلِّصوا أنفسكم من العذاب ، فالوقف على قوله » اليوم « . والابتداءُ بقوله { تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون } . والثاني : أنه/ منصوب بتُجْزون ، والوقف حينئذ على » أنفسَكم « ، والابتداء بقوله » اليوم « والمراد باليوم يحتمل أن يكون وقت الاحتضار وأن يكون يوم القيامة ، و » عذابَ « مفعول ثان والأول قائم مقام الفاعل ، والهُون : الهَوان ، قال تعالى : { أَيُمْسِكُهُ على هُون } [ النحل : 59 ] وقال ذو الإِصبع :
1985 اذهَبْ إليك فيما أمي براعيةٍ ... ترعى المَخَاضَ ولا أُغْضي على الهُون
وقالت الخنساء :
1986 يُهينُ النفوسَ وهُونُ النفو ... سِ يومَ الكريهة أَبْقَى لها
وأضاف العذابَ إلى الهُون إيذاناً بأنه متمكن فيه ، وذلك أنه ليس كلُّ عذابٍ يكون فيه هُون ، لأنه قد يكون على سبيل الزجر والتأديب ، ويجوز أن يكون من باب إضافةِ الموصوفِ الى صفته ، وذلك أن الأصل : العذاب الهون ، وصفَه به مبالغةً ثم أضافه إليه على حدِّ إضافته في قولهم : بقلة الحمقاء ونحوه . ويدل على أن الهُون بمعنى الهوان قراءة عبد الله وعكرمة له كذلك .
قوله : { بِمَا كُنتُمْ } » ما « مصدريةٌ أي : بكونكم قائلين غير الحق وكونكم مستكبرين . والباء متعلقة بتُجْزون أي بسببه . و » غير الحق « نصبُه من وجهين ، أحدهما : أنه مفعول به أي : تذكرون غير الحق . والثاني : أنه نعت مصدرٍ محذوفٍ أي : تقولون القول غير الحق . وقوله : » وكنتم « يجوز فيه وجهان ، أحدهما : وهو الظاهر أنه عطف على » كنتم « الأولى فتكون صلةً ل » ما « كما تقدم . والثاني : أنها جملة مستأنفة سِيقت للإِخبار بذلك . و » عن آياته « متعلق بخبر كان ، وقُدِّم لأجل الفواصل .

وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)

قوله تعالى : { فرادى } : منصوب على الحال من فاعل « جئتمونا » ، وجئتمونا فيه وجهان ، أحدهما : أنه بمعنى المستقبَل أي : تجيئوننا ، وإنما أبرزه في صورة الماضي لتحقُّقه كقوله تعالى : { أتى أَمْرُ الله } [ النحل : 1 ] { ونادى أَصْحَابُ الجنة } [ الأعراف : 44 ] والثاني : أنه ماضٍ والمراد به حكاية الحال بين يدي الله تعالى يوم يقال لهم ذلك ، فذلك اليوم يكون مجيئهم ماضياً بالنسبة إلى ذلك اليوم .
واختلف الناس في « فُرادى » هل هو جمع أم لا؟ والقائلون بأنه جمع اختلفوا في مفرده ، فقال الفراء : « فُرادى جمع فَرْد وفريد وفَرِد وفَرْدان » فجوَّز أن يكون جمعاً لهذه الأشياء . وقال ابن قتيبة : « هو جمع فَرْدان ك سَكْران وسُكارى ، وعَجلان وعُجالى » . وقال قوم : هو جمع فريد كرديف ورُدَافى ، وأسير وأُسارى ، قاله الراغب ، وقيل : هو جمع فَرَد بفتح الراء ، وقيل بسكونها ، وعلى هذا فألفُه للتأنيث كألف سُكارى وأُسارى ، فَمِنْ ثَمَّ لم ينصرف ، وقيل : هو اسم جمع؛ لأنَّ فَرْداً لا يجمع على فُرادى ، وقول من قال : إنه جمع له فإنما يريد في المعنى ، ومعنى فُرادى : فرداً فرداً ، فإذا قلت : جاء القوم فُرادى فمعناه واحداً واحداً ، قال الشاعر :
1987 ترى النَُعَراتِ الزُّرْقَ تحت لَبانِه ... فُرادى ومثنى أَثْقَلَتْهَا صواهِلُهْ
ويقال : فَرِد يَفْرُد فُروداً فهو فارِدٌ وأفردته أنا ، ورجل أفرد وامرأة فرداء كأحمر وحمراء ، والجمع على هذا فُرْد كحُمْر ، ويقال في فرادى : فُراد على زِنَةِ فُعال فينصرف ، وهي لغة تميم ، وبها قرأ عيسى بن عمر وأبو حيوة : { ولقد جِئْتُمونا فُرَاداً } وقال أبو البقاء « وقرئ في الشاذ بالتنوين على أنه اسم صحيح ، يقال في الرفع فُراد مثل نُوام ورُجال وهو جمع قليل » انتهى ، ويقال أيضاً : « جاء القوم فُرادَ » غير منصرف فهو كأُحاد ورُباع في كونه معدولاً صفة ، وهي قراءة شاذة هنا . وروى خارجة عن نافع وأبي عمرو كليهما أنهما قرآ « فَرْدى » مثل سَكْرى اعتباراً بتأنيث الجماعة كقوله تعالى : { وَتَرَى الناس سكرى وَمَا هُم بسكرى } [ الحج : 2 ] فهذه أربع قراءات : المشهورة فرادى ، وثلاث في الشاذ : فُراداً كرُجال ، فُرادَ كأُحادَ ، وفَرْدَى كسكرى .
قوله : { كَمَا خَلَقْنَاكُمْ } في هذه الكاف أوجه ، أحدها : أنها منصوبةُ المحل على الحال من فاعل « جئتمونا » ، فَمَنْ أجاز تعدد الحال أجاز ذلك من غير تأويل ، ومَنْ منع ذلك جَعَلَ الكافَ بدلاً من « فُرادى » . الثاني : أنها في محل نصب نعتاً لمصدرٍ محذوف أي : مجيْئُنا مثل مجيئكم يوم خلقناكم ، وقدّره مكي : « منفردين انفراداً/ مثل حالكم أول مرة » والأول أحسن لأن دلالة الفعل على المصدر أقوى من دلالة الوصف عليه . الثالث : أن الكاف في محل نصب على الحال من الضمير المستكن في فرادى أي : مشبهين ابتداء خلقكم ، كذا قدَّره أبو البقاء ، وفيه نظر؛ لأنهم لم يُشَبَّهوا بابتداء خلقهم ، وصوابه أن تقدر مضافاً أي : مُشْبِهةً حالُكم حال ابتداء خلقكم .

قوله { أَوَّلَ مَرَّةٍ } منصوب على ظرف الزمان والعامل فيه : خلقناكم ، و « مرة » في الأصل مصدر ل : مرَّ يَمُرُّ مَرَّة ، ثم اتُّسع فيها فصارت زماناً ، قال أبو البقاء : « وهذا يدلُّ على قوة شبه الزمان ، بالفعل » . وقال الشيخ : « وانتصب » أول مرة « على الظرف أي : أول زمان ، ولا يتقدَّر أول خلق ، لأنَّ أولَ خَلْقٍ يَسْتدعي خلقاً ثانياً ، ولا يخلق ثانياً إنما ذلك إعادة لا خَلْقٌ » . يعني أنه لا يجوز أن تكون المَرَّة على بابها من المصدرية ، ويقدر أولَ مرةٍ من الخلق لما ذكر .
قوله : { وَتَرَكْتُمْ } فيها وجهان ، أحدهما : أنها في محل نصب على الحال من فاعل « جِئْتُمونا » ، و « قد » مضمرة على رأيٍ ، أي : وقد تركتم . والثاني : أنها لا محلَّ لها لاستئنافها ، و « ما » مفعولة ب « ترك » ، و « مَنْ » موصولة اسمية ، ويضعفُ جَعْلُها نكرة موصوفة والعائد محذوف أي : ما خوَّلْناكموه ، و « ترك » هنا متعدية لواجد لأنها بمعنى التخلية ، ولو ضُمِّنَتْ معنى صيَّر تَعَدَّت لاثنين ، و « خَوَّل » يتعدى لاثنين لأنه بمعنى أعطى ومَلَّك .
والخَوَل : ما أعطاه الله من النِّعَمِ ، قال أبو النجم :
1988 كُومُ الذُّرَى من خَوَلِ المُخَوَّلِ ... فمعنى خَوَّلْته كذا : مَلَّكته الخَوَل فيه ، كقولهم : مَوَّلته أي : مَلَّكته المال ، وقال الراغب : « والتخويل في الأصل : إعطاء الخَوَل ، وقيل : إعطاء ما يصير له خَوَلاً ، وقيل : إعطاء ما يَحتاج أن يتعهده ، من قولهم : فلانٌ خالُ مالٍ وخائل مال ، أي : حسن القيام عليه » .
وقوله : { وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ } متعلق « بتَرَكْتُم » ويجوز أن يضمَّن « ترك » هنا معنى صَيَّر فيتعدَّى لاثنين أولهما الموصول ، والثاني : هذا الظرف فيتعلَّق بمحذوف أي : وصيَّرتم الترك الذي خوَّلناكموه كائناً وراء ظهوركم .
قوله : { وَمَا نرى } الظاهر أنها المتعدية لواحد فهي بصرية ، فعلى هذا يكون « معكم » متعلقاً بنرى ، ويجوز أن يكون بمعنى علم ، فيتعدَّى لاثنين ، ثانيهما هو الظرف فيتعلَّق بمحذوف أي : ما نراهم كائنين معكم أي : مصاحبيكم ، إلا أن أبا البقاء استضعف هذا الوجهَ وهو كما قال؛ إذ يصير المعنى : وما يعلم شفعاؤكم معكم ، وليس المعنى عليه قطعاً . وقال أبو البقاء : « ولا يجوز أن يكون أي معكم حالاً من الشفعاء ، إذ المعنى يصير أن شفعاءهم معهم ولا نراهم » وفيما قاله نظر لا يَخْفى : وذلك أن النفي إذا دخل على ذات بقيد ففيه وجهان أحدهما : نفي تلك الذات بقيدها ، والثاني نفي القيد فقط دون نفي الذات ، فإذا قلت : « ما رأيت زيداً ضاحكاً » فيجوز أنك لم تَرَ زيداً البتة ، ويجوز أنك رأيته من غير ضحك فكذا هنا ، إذ التقدير : وما نرى شفعاءكم مصاحبيكم ، يجوز أن لم يروا الشفعاء البتة ويجوز أن يَرَوْهم دون مصاحبيهم لهم ، فمن أين يلزم أنهم يكونون معهم ولا يرونهم من هذا التركيب؟ وقد تقدَّم تحقيق هذه القاعدة في أوائل البقرة وفي قوله

{ لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً } [ البقرة : 273 ] .
و « أنهم » سادٌّ مَسَدَّ المفعولين ل « زعم » ، و « فيكم » متعلق بنفس شركاء ، والمعنى : الذين زعمتم أنهم شركاء لله فيكم أي : في عبادتكم أو في خلقكم لأنكم أشركتموهم/ مع الله في عبادتكم وخلقكم . وقيل « في » بمعنى « عند » ولا حاجة إليه . وقيل : المعنى أنهم يتحملون عنكم نصيباً من العذاب أي : شركاء في عذابكم إن كنتم تعتقدون فيهم أنكم إذا أصابكم نائبةٌ شاركوكم فيها .
قوله : « بينكم » قرأ نافع والكسائي وعاصم في رواية حفص عنه : « بينكم » نصباً ، والباقون : « بينُكم » رفعاً . فأمَّا القراءة الأولى ففيها سبعة أوجه ، أحسنها : أن الفاعل مضمر يعود على الاتصال ، والاتصال وإن لم يكن مذكوراً حتى يعود عليه ضمير لكنه تقدَّم ما يدل عليه وهو لفظة « شركاء » ، فإن الشركة تُشْعر بالاتصال ، والمعنى : لقد تقطع الاتصال بينكم فانتصب « بينكم » على الظرفية . الثاني : أن الفاعل هو « بينكم » وإنما بقي على حاله منصوباً حَمْلاً له على أغلب أحواله وهو مذهب الأخفش ، وجعلوا من ذلك أيضاً قوله { يُفَصَلُ بَيْنَكُمْ } [ الممتحنة : 3 ] فيمن بناه للمفعول ، وكذا قوله تعالى : { وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ } [ الجن : 11 ] قال الواحدي : « كما جرى في كلامهم منصوباً ظرفاً ، تركوه على ما يكون عليه في أكثر الكلام » ثم قال : في قوله ومنَّا دون ذلك فدون في موضع رفع عنده ، وإن كان منصوب اللفظ ، ألا ترى أنك تقول : منا الصالحون ومنا الطالحون « .
إلا أن الناس لما حَكَوا هذا المذهب لم يتعرَّضوا لبناء هذا الظرف بل صَرَّحوا بأنه معرب منصوب ، وهو مرفوعُ المحل ، قالوا : وإنما بقي على نصبه اعتباراً بأغلب أحواله . وفي كلام الشيخ لَمَّا حكى مذهب الأخفش ما يصرح بأنه مبنيٌّ فإنه قال : » وخرَّجه الأخفش على أنه فاعل ولكنه مبني حملاً على أكثر أحوال هذا الظرف . وفيه نظر لأن ذلك لا يصلح أن يكون علة للبناء ، وعللُ البناء محصورة ليس هذا منها ، ثم قال الشيخ : « وقد يقال لإِضافته إلى مبني كقوله : { وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ } [ الجن : 11 ] وهذا ظاهر في أنه جَعَل حَمْله على أكثرِ أحواله علةً لبنائه كما تقدم .
الثالث : أن الفاعل محذوف ، و » بينكم « صفة له قامت مقامه ، تقديره : لقد تقطَّع وصلٌ بينكم ، قاله أبو البقاء ، ورَدَّه الشيخ بأنَّ الفاعل لا يُحذف ، وهذا غيرُ ردٍّ عليه ، فإنه يعني بالحذف عدمَ ذكره لفظاً ، وأن شيئاً قام مقامه فكأنه لم يُحْذَفْ .

وقال ابن عطية : « ويكون الفعل مسنداً إلى شيء محذوف ، أي : لقد تقطع الاتصال بينكم والارتباط ونحو هذا » ، وهذا وجهٌ واضح ، وعليه فَسَّر الناس . وردَّه الشيخ بما تقدَّم . ويُجاب عنه بأنه عبر بالحذف عن الإِضمار لأن كلاً منهما غير موجود لفظاً . الرابع : أنَّ « بينَكم » هو الفاعل ، وإنما بُني لإِضافته إلى غير متمكن كقوله تعالى : { إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } [ الذاريات : 23 ] ففتح « مثل » وهو تابع ل « حق » المرفوع ، ولكنه بُني لإِضافته إلى غير متمكن ، وسيأتي في مكانه . ومثله قولُ الآخر :
1989 تَتَداعى مَنْخِراه بدَمٍ ... مثلَ ما أثمرَ حُمَّاضُ الجَبَلْ
بفتح « مثل » مع أنها تابعة ل « دمٍ » ، ومثله قول الآخر :
1990 لم يمنعِ الشُّربَ منها غيرَ أَنْ نطقَتْ ... حمامةٌ في غصونٍ ذاتِ أوقال
بفتح « غير » وهي فاعل « يمنع » ، ومثله قول النابغة :
1991 أتاني أبيتَ اللعنَ أنك لُمْتني ... وتلك التي تَسْتَكُّ منها المسامعُ
مقالةَ أَنْ قد قلتَ سوف أنالُه ... وذلك مِنْ تلقاء مثلِك رائِعُ
فمقالة بدل من « أنك لمتني » وهو فاعل ، والرواية بفتح تاء « مقالة » لإِضافتها إلى أَنْ وما في حيِّزها .
الخامس : أن المسألة من باب الإِعمال ، وذلك أن « تَقَطَّع » و « ضَلَّ » كلاهما يتوجَّهان على « ما كنتمْ تزعُمون » كلٌّ منهما يطلبه فاعلاً ، فيجوز أن تكون المسألة من باب إعمال الثاني ، وأن تكون من إعمال الأول ، لأنه ليس هنا قرينة تُعَيِّن ذلك ، إلا أنك قد عرفت مما تقدَّم أن مذهب البصريين اختيار إعمال الثاني ، ومذهب الكوفيين بالعكس ، وقد تقدَّم تقرير ذلك في البقرة ، فعلى اختيار البصريين يكون « ضَلَّ » هو الرفع ل « ما كنتم تزعمون » واحتاج الأول لفاعل فأعطيناه ضميرَه فاستتر فيه ، وعلى اختيار الكوفيين يكون « تقطَّع » هو الرافع ل « ما كنتم تزعمون » ، وفي « ضلَّ » ضميره فاعلاً به ، وعلى كلا القولين ف « بينكم » منصوبٌ على الظرف وناصبه « تقطَّع » .
السادس : أن الظرف صلة لموصول محذوف تقديره : تقطع ما بينكم ، فحذف الموصول وهو « ما » وقد تقدَّم أن ذلك رأي الكوفيين ، وتقدَّم ما استشهدوا به عليه من القرآن وأبيات العرب ، واستدل القائلُ/ بذلك بقول الشاعر :
1992 يُدِيرونني عن سالمٍ وأُديرُهمْ ... وجِلْدَةُ بين الأنف والعينِ سالمُ
وبقول الآخر :
1993 ما بين عَوْفٍ وإبراهيمَ مِنْ نَسَبٍ ... إلا قرابةُ بين الزنج والرومِ

تقديره : وجلدة ما بين ، وإلا قرابة ما بين ، ويدل على ذلك قراءة عبد الله ومجاهد والأعمش : { لقد تقطَّع ما بينكم } .
السابع : قال الزمخشري : « لقد تقطع بينكم : لقد وقع التقطع بينكم ، كما تقول : جمع بين الشيئين ، تريد أوقع الجمع بينهما على إسناد الفعل إلى مصدره بهذا التأويل » انتهى . قوله : « بهذا التأويل » قولٌ حسن : وذلك أنه لو أضمر في « تقطع » ضمير المصدر المفهوم منه لصار التقدير : تقطع التقطع بينكم ، وإذا تقطع التقطُّع بينهم حَصَل الوصل ، وهو ضد المقصود فاحتاج أن قال : إن الفعل أسند إلى مصدره بالتأويل المذكور . إلا أن الشيخ اعترض فقال : « وظاهره أنه ليس بجيد ، وتحريره أنه أسند الفعل إلى ضمير مصدره فأضمره فيه ، لأنه إن أسنده إلى صريح المصدر فهو محذوف ، ولا يجوز حذف الفاعل ، ومع هذا التقدير فليس بصحيح؛ لأن شرط الإِسناد مفقود فيه وهو تغايُر الحكم والمحكوم عليه » يعني أنه لا يجوز أن يتحد الفعل والفاعل في لفظ واحد من غير فائدة لا تقول : قام القائم ولا قعد القاعد فتقول : إذا أسند الفعل إلى مصدره : فأمَّا إلى مصدره الصريح من غير إضمار فيلزم حذف الفاعل ، وأمَّا إلى ضميره فيبقى تقطَّع التقطع ، وهو مثل : قام القائم ، وذلك لا يجوز مع أنه يلزم عليه أيضاً فساد المعنى كما تقدم من أنه يلزم ما يحصل لهم الوصل « وهذا الذي أورده الشيخُ وقرَّرته مِنْ كلامه حتى فُهِم لا يَرِدُ؛ لِما تقدم من قول الزمخشري على إسناد الفعل إلى مصدره بهذا التاويل ، وقد تقدم ذلك التأويل .
وأما القراءة الثانية ففيها ثلاثة أوجه ، أحدها : أنه اتُّسع في هذا الظرفِ ، فأُسند الفعل إليه فصار اسماً كسائر الأسماء المتصرف فيها ، ويدل على ذلك قوله تعالى : { وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } [ فصلت : 5 ] فاستعمله مجروراً ب » مِنْ « وقوله تعالى { فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ } [ الكهف : 78 ] { مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا } [ الكهف : 61 ] { شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } [ المائدة : 106 ] . وحكى سيبويه : » هو أحمر بين العينين « وقال عنترة :
1994 وكأنما أَقِصُ الإِكامَ عشيةً ... بقريب بينِ المَنْسِمَيْنِ مُصَلَّمِ
وقال مهلهل :
1995 كأنَّ رماحَنا أشطانُ بئرٍ ... بعيدةِ بين جالَيْها جَرُورِ
فقد اسْتُعْمِلَ في هذه المواضع كلها مضافاً إليه متصرَّفاً فيه فكذا هنا ، ومثله قوله :
1996 . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وجِلْدَةُ بين الأنف والعين سالم
وقوله :
1997 . . . . . . . . . . . . . . ... إلا قرابةُ بين الزنج والروم
وقوله :
1998 ولم يَتْرك النبلُ المُخالِفُ بينها ... أخاً لاح [ قد ] يُرْجى وما ثورةُ الهندِ
يروى برفع » بينها « وفتحه على أنه فاعل ل » مخالف « ، وإنما بني لإِضافته إلى مبنيّ ، ومثلُه في ذلك : أمام ودون كقوله :
1999 فَغَدَتْ كلا الفَرْجَيْنِ تحسب أنَّه ... مَوْلَى المخافةِ خَلْفُها وأمامُها
برفع أمام ، وقوله :
2000 ألم تَرَ أني قد حَمَيْتُ حقيقي ... وباشَرْتُ حدَّ الموتِ والموتُ دونُها
برفع » دون « .

الثاني : أن « بين » اسمٌ غير ظرف ، وإنما معناها الوصل أي : لقد تَقَطَّع وصلكم . ثم للناس بعد ذلك عبارتان تؤذن بأن « بين » مصدر بان يبين بَيْناً بمعنى بَعُد ، فيكون من الأضداد أي إنه مشترك اشتراكاً لفظياً يُستعمل للوصل والفراق كالجَوْن للأسود والأبيض ، ويُعْزى هذا لأبي عمرو وابن جني والمهدوي والزهراوي ، وقال أبو عبيد : / « وكان أبو عمرو يقول : معنى تقطَّع بينكم : تقطَّع وصلكم ، فصارت هنا اسماً من غير أن يكون معها » ما « . وقال الزجاج : » والرفع أجود ، ومعناه : لقد تقطَّع وَصْلُكم « ، فقد أطلقوا هؤلاء أنَّ » بَيْن « بمعنى الوصل ، والأصل في الإطلاق الحقيقة .
إلا أنَّ ابن عطية طعن فيه وزعم أنه لم يُسْمع من العرب » البين « بمعنى الوصل ، وإنما انتزع ذلك من هذه الآية ، أو أنه أُريد بالبَيْن الافتراقُ ، وذلك مجازٌ عن الأمر البعيد ، والمعنى : لقد تقطَّعت المسافة بينكم لطولها فعبَّر عن ذلك بالبين . قلت : فظاهر كلام ابن عطية يؤذن بأنه فَهِمَ أنها بمعنى الوصل حقيقةً ، ثم رَدَّه بكونِه لم يُسْمع من العرب ، وهذا منه غير مُرْضٍ ، لأنَّ أبا عمروٍ وأبا عبيد وابن جني والزهراوي والمهدوي والزجاج أئمة يُقبل قولُهم . وقوله : » وإنما انتُزِع من هذه الآية « ممنوعٌ بل ذلك مفهوم من لغة العرب ، ولو لم يكن ممَّن نقلها إلا أبو عمرو لكفى به ، وعبارته تؤذن بأنه مجاز ، ووجه المجاز كما قاله الفارسي : أنه لمَّا استعمل » بين « مع الشيئين المتلابسين في نحو : » بيني وبينك شركَةٌ ، وبيني وبينك رحم وصداقة « صارت لاستعمالها في هذه المواضع بمعنى الوصلة ، وعلى خلاف الفرقة ، فلهذا جاء لقد تقطَّع وصلكم » . وإذا تقرَّر هذا فالقول بكونه مجازاً أولى من القول بكونه مشتركاً ، لأنه متى تعارض الاشتراك والمجاز فالمجاز خير منه عند الجمهور .
وقال أبو علي أيضاً : « ويدل على أن هذا المرفوع هو الذي استُعمل ظرفاً أنه لا يخلو من أن يكون الذي هو ظرف اتُّسِع فيه ، أو يكون الذي هو مصدر ، فلا يجوز أن يكونَ هذا القسمَ لأن التقدير يصير : لقد تقطع افتراقكم ، وهذا خلاف القصد والمعنى ، ألا ترى أن المراد : وصلكم وما كنتم تتألفون عليه . فإن قلت : كيف جاز أن يكون بمعنى الوصل وأصله الافتراق والتباين؟ قيل : إنه لما استعمل مع الشيئين المتلابسين في نحو : » بيني وبينك شركة « ، فذكر ما قدَّمْتُه عنه من وجه المجاز إلى آخره .
وأجاز أبو عبيد والزجاج وجماعة قراءة الرفع . قال أبو عبيد : » وكذلك نقرؤها بالرفع لأنَّا قد وَجَدْنا العرب تجعل « بين » اسماً من غير ما ، ويُصَدِّق ذلك قولُه تعالى : { بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا } [ الكهف : 61 ] فجعل « بين » اسماً من غير ما ، وكذلك قوله :

{ هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ } [ الكهف : 78 ] قال : « وقد سمعناه في غير موضع من أشعارها » ثم ذكر ما ذَكَرْتُه عن أبي عمرو بن العلاء ، ثم قال : « وقرأها الكسائي نصباً ، وكان يعتبرها بحرف عبد الله » لقد تقطع ما بينكم « . وقال الزجاج : » والرفعُ أجودُ والنصب جائز ، والمعنى : لقد تقطع ما كان من الشركة بينكم « . الثالث : أن هذا كلام محمول على معناه إذ المعنى : لقد تفرق جمعكم وتشتَّت ، وهذا لا يصلح أن يكون تفسير إعراب .
قوله : { مَّا كُنتُمْ } » ما « يجوز أن تكون موصولةً اسمية أو نكرة موصوفة أو مصدرية ، والعائد على الوجهين الأولين محذوف بخلاف الثالث ، والتقدير : تزعمونهم شركاء أو شفعاء ، فالعائد هو المفعول الأول و » شركاء « هو الثاني ، فالمفعولان محذوفان اختصاراً للدلالة عليهما إن قلنا : إن » ما « موصولةٌ اسمية أو نكرة موصوفة . ويجوز أن يكون الحذف حَذْفَ اقتصار إن قلنا إنها مصدرية ، لأن المصدرية لا تحتاج إلى عائد بخلاف غيرها ، فإنها تفتقر إلى عائد فلا بد من الالتفات إليه وحينئذ يلزم تقدير المفعول الثاني ، ومن الحذف اختصاراً قوله :
2001 بأيِّ كتابٍ أم بأية سنةٍ ... ترى حبَّهم عاراً علي وتحسبُ
أي : وتحسب حبهم عاراً علي .

إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)

قوله تعالى : { فَالِقُ الحب } : يجوز/ أن تكون الإِضافة محضةً على أنه اسم فاعل بمعنى الماضي لأن ذلك قد كان ، ويدل عليه قراءة عبد الله « فلق » فعلاً ماضياً ، ويجوز أن تكون الإِضافةُ غيرَ محضة على أنه بمعنى الحال أو الاستقبال ، وذلك على حكاية الحال ، فيكون « الحَبِّ » مجرورَ اللفظ منصوب المحل . والفِلْق : هو شِقُّ الشيء ، وقيده الراغب بإبانة بعضِه من بعض ، والفَلَق : المطمئنُّ مِنَ الأرض بين الرَّبْوَتين ، والفلَق من قوله { أَعُوذُ بِرَبِّ الفلق } [ الفلق : 1 ] ما علَّمه لموسى عليه السلام حتى فلق به البحر . وقيل : الصبح . وقيل : هي الأنهار المشارُ إليها بقوله : { وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً } [ النمل : 61 ] والفِلْق بالكسر بمعنى المفلوق كالنِّكث والنِّقض ، ومنه : « سمعته من فِلْق منه » وقيل : الفِلْق العَجَبُ ، والفَليق والفالِقُ ما بين الجبلين وما بين السنامين من البعير ، وفسَّر بعضهم « فالق » هنا بمعنى خالق ، قيل : ولا يُعرفُ هذا لغةً ، وهذا لا يُلتفت إليه لأن هذا منقول عن ابن عباس والضحاك أيضاً ، لا يقال ذلك على جهة التفسير للتقريب ، لأن الفراء نَقَل في اللغة أن فَطَر وخلق وفلق بمعنى واحد .
[ والنَّوى اسم جنسٍ مفرده نواة على حدّ ] قمح وقمحة . والنوى : البعد أيضاً ، ويقال : نوت البُسْرة وأنْوَتْ : اشتدَّت نواتها ، ولام « النواة » ياء لأنَّ عينَها واو ، والأكثر التغاير .
قوله : « يُخْرج » يجوز فيه وجهان أحدهما : أنها جملة مستأنفة فلا محل لها . والثاني : أنها في موضع رفع خبراً ثانياً ل إنَّ ، وقوله « ومُخْرِج » يجوز فيه وجهان أيضاً ، أحدهما : أنه معطوف على فالق - ولم يذكر الزمخشري غيره - أي : الله فالق ومخرج ، أخبر عنه بهذين الخبرين ، وعلى هذا فيكون « يخرج » على وجهه ، وعلى كونه مستأنفاً يكون معترضاً على جهة البيان لِما قبله من معنى الجملة . والثاني : أن يكون معطوفاً على « يخرج » ، وهل يُجعل الفعل في تأويل اسم ليصح عَطْفُ الاسم عليه ، أو يُجعل الاسم بتأويل الفعل ليصحَّ عطفه عليه؟ احتمالان مبنيان على ما تقدم في « يخرج » : إن قلنا إنه مستأنف فهو فعل غير مؤول باسم ، فيُرَدُّ الاسم إلى معنى الفعل ، فكأن مُخْرِجاً في قوة يُخْرج ، وإن قلنا : إنه خبر ثان ل « إنَّ » فهو بتأويل اسم واقعٍ موقع خبر ثان ، فلذلك عُطِفَ عليه اسم صريح ، ومِنْ عَطْفِ الاسم على الفعل لكون الفعل بتأويل اسم قولُ الشاعر :
2002 فألفيتُه يوماً يُبير عدوَّه ... ومُجْرٍ عطاءً يَسْتَخِفُّ المعابرا
وقوله :
2003 يا رُبَّ بيضاءَ من العواهجِ ... أمِّ صبيّ قد حَبَا أو دارج
وقوله :
2004 بات يُغَشِّيها بعَضْبٍ باترٍ ... يَقْصِدُ في أَسْوُقِها وجائِرُ
أي : مبيراً ، أو أمِّ صبي حابٍ ، وقاصِدٍ .

فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)

وقوله تعالى : { فَالِقُ الإصباح } : كقوله : « فالق الحب » فيما تقدم . والجمهور على كسر الهمزة وهو المصدر ، يقال : أصبح يصبح إصباحاً ، وقال الليث والزجاج : إن الصبح والصباح والإِصباح واحد ، وهما أول النهار ، وكذا الفراء . وقيل : الإِصباح ضوء الشمس بالنهار وضوء القمر بالليل ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس . وقيل : هو إضاءة الفجر ، نُقل ذلك عن مجاهد ، والظاهر أن الإِصباح في الأصل مصدر سُمِّي به الصبح وكذا الإِمساء ، قال امرؤ القيس :
2005 ألا أيها الليلُ الطويلُ ألا انْجَلِ ... بصبحٍ وما الإِصباح منك بأمثلِ
وقرأ الحسن وأبو رجاء وعيسى بن عمر : الأصباح : بفتح الهمزة وهو جمع صُبْح نحو : قُفْل وأقفال وبُرْد وأبراد ، وينشد قوله :
2006 أفنى رياحاً وبني رياحِ ... تناسخُ الأمساءِ والأصباح
بفتح الهمزة من الأمساء والأصباح على أنهما جمع مُسْي وصُبْح ، وبكسرها على أنهما مصدران . وقرئ/ « فالقُ الإِصباحَ » بنصب الإِصباح وذلك على حذف التنوين لالتقاء الساكنين كقوله :
2007 . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا ذاكرَ اللهَ إلا قليلا
وقرئ : { والمقيمي الصلاة } [ الحج : 35 ] و { لَذَآئِقُو العذاب } [ الصافات : 38 ] بالنصب حملاً للنون على التنوين ، إلا أن سيبويه لا يجيز حذف التنوين لالتقاء الساكنين إلا في شعر ، وقد أجازه المبرد في السَّعة . وقرأ يحيى والنخعي وأبو حيوة : « فلق » فعلاً ماضياً ، وقد تقدم أن عبد الله قرأ الأولى كذلك ، وهذا أدلُّ دليلٍ على أن القراءة عندهم سنة متبعة ، ألا ترى أن عبد الله كيف قرأ « فلق الحب » فعلاً ماضياً ، وقرأ « فالق الأَصباح » ، اسمَ فاعل ، والثلاثة المذكورون بعكسه . قال الزمخشري : « فإن قلت : فما معنى فَلَق الصبح ، والظلمة هي التي تنفلق عن الصبح كما قال :
2008 . . . . . . . . . . . . . . . ... تَفَرِّيَ ليلٍ عن بياض نهار
قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن يُراد : فالق ظلمة الإِصباح ، يعني أنه على حذف مضاف . والثاني : أن يراد فالق الإِصباح الذي هو عمود الفجر عن بياض النهار وإسفاره ، وقالوا : انشق عمود الفجر وانصدع ، وسَمَّوا الفجرَ فَلَقاً بمعنى مفلوق ، قال الطائيُ :
2009 وأزرقُ الفجر يبدو قبل أبيضه ... . . . . . . . . . . . . . . . .
وقرئ : فالق وجاعل بالنصب على المدح » . انتهى . وأنشد غيره :
2010 فانشقَّ عنها عمودُ الفَجْرِ جافلةً ... عَدْوَ النَّحوص تخافُ القانِصَ اللَّحِما
قوله : { وَجَاعِلَ الليل } قرأ الكوفيون : « جعل » فعلاً ماضياً ، والباقون بصيغة اسم الفاعل ، والرسم يحتملهما ، والليل منصوب عند الكوفيين بمقتضى قراءتهم ، ومجرور عند غيرهم ، ووجه قراءتهم له فعلاً مناسبته ما بعده فإن بعده أفعالاً ماضية نحو : { جَعَلَ لَكُمُ النجوم } [ الأنعام : 97 ] { وَهُوَ الذي أَنشَأَكُم } [ الأنعام : 98 ] إلى آخر الآيات ، ويكون « سكناً » : إما مفعولاً ثانياً على أن الجعل بمعنى التصيير ، وإمَّا حالاً على أنه بمعنى الخلق ، وتكون الحال مقدرة .

وأمَّا قراءة غيرهم فجاعل يحتمل أن يكون بمعنى المضيِّ ، وهو الظاهر ، ويؤيده قراءة الكوفيين ، والماضي عند البصريين لا يعمل إلا مع أل خلافاً لبعضهم في منَعِ إعمال المعرَّف بها ، وللكسائي في إعماله مطلقاً ، وإذا تقرر ذلك ف « سَكَناً » منصوب بفعل مضمر عند البصريين ، وعلى مقتضى مذهب الكسائي ينصبه به . وقد زعم أبو سعيد السيرافي أن اسم الفاعل المتعدي إلى اثنين يجوز أن يعمل في الثاني وإن كان ماضياً ، قال : « لأنه لَمَّا أضيف إلى الأول تعذَّرت إضافته للثاني فتعيَّن نصبُه له » . وقال بعضهم : « لأنه بالإِضافة أشبه المعرف بأل فعمل مطلقاً » فعلى هذا « سكناً » منصوب به أيضاً ، وأما إذا قلنا إنه بمعنى الحال والاستقبال فنصبُه به . و « سَكَنٌ » فَعَل بمعنى مفعول كالقبض بمعنى مقبوض .
قوله : { والشمس والقمر حُسْبَاناً } الجمهور بنصب « الشمس » و « القمر » وهي واضحة على قراءة الكوفيين أي : بعطف هذين المنصوبين على المنصوبين ب « جعل » ، و « حُسْباناً » فيه الوجهان في « سكناً » من المفعول الثاني والحال ، وأمَّا على قراءة الجماعة فإن اعتقدنا كونه ماضياً فلا بد من إضمار فعلٍ ينصبُهما أي : وجعل الشمس ، وإن قلنا إنه غير ماض فمذهب سيبويه أيضاً أن النصب بإضمار فعل ، تقول : « هذا ضاربُ زيدٍ الآن أو غداً أو عمراً » بنصب عمرو ، وبفعل مقدر لا على موضع المجرور باسم الفاعل ، وعلى رأي غيره يكون النصبُ على محل المجرور ، وينشدون قوله : /
2011 هل أنت باعثُ دينارٍ لحاجتنا ... أو عبدَ رَبٍّ أخاعَوْن بن مِخْراقِ
بنصب « عبد » وهو محتمل للمذهبين . وقال الزمخشري : « أو يعطفان على محل » الليل « . فإن قلت : كيف يكون ل » الليل « محلٌّ والإِضافة حقيقة لأن اسم الفاعل المضاف إليه في معنى المضيّ ولا تقول : زيدٌ ضاربٌ عمراً أمس؟ قلت : ما هو بمعنى الماضي ، وإنما هو دالٌّ على فعل مستمر في الأزمنة .
قال الشيخ : » أمَّا قوله إنما هو دالٌّ على فعل مستمر في الأزمنة ، يعني فيكون عاملاً ويكون للمجرور إذ ذاك بعده موضع فيعطف عليه « الشمس والقمر » . قال : « وهذا ليس بصحيح ، إذا كان لا يتقيد بزمن خاص ، وإنما هو للاستمرار ، فلا يجوز له أن يعمل ، ولا لمجروره مَحَلٌّ ، وقد نَصُّوا على ذلك وأنشدوا على ذلك :
2012 أَلْقَيْتَ كاسبهم في قَعْرِ مُظْلِمَةٍ ... . . . . . . . . . . . . . .
فليس الكاسب هنا مقيداً بزمان ، وإذا تقيد بزمان : فإما أن يكون ماضياً دون أل فلا يعمل عند البصريين ، أو بأل أو حالاً أو مستقبلاً فيعمل ويضاف على ما أُحْكِمَ في النحو . ثم قال : » وعلى تقدير تسليم أن الذي للاستمرار يعمل فلا يجوز العطف على محل مجروره ، بل مذهبُ سيبويه في الذي بمعنى الحال والاستقبال أن لا يجوز العطف على محل مجروره ، بل النصبُ بفعل مقدر ، لو قلت : هذا ضارب زيدٍ وعمراً لم يكن نصب « عمراً » على المحلّ على الصحيح وهو مذهب سيبويه؛ لأن شرط العطف على الموضع مفقود وهو أن يكون للموضع مُحْرِزٌ لا يتغير ، وهذا موضحٌ في علم النحو « .

قلت : وقد ذكر الزمخشري في أول الفاتحة في { مالك يَوْمِ الدين } [ الفاتحة : 4 ] أنه لمَّا لم يُقْصد به زمانٌ صارت إضافته محضةً فلذلك وقع صفةً للمعارف ، فمِنْ لازم قوله إنه يتعرَّف بالإِضافة أن لا يعمل ، لأن العامل في نية الانفصال عن الإِضافة ، ومتى كان في نية الانفصال كان نكرة ، ومتى كان نكرة فلا يقع صفة للمعرفة . وهذا حسن حيث يَرُدُّ عليه بقوله ، وقد تقدم تحقيق هذا في الفاتحة .
وقرأ أبو حيوة : { وَالشَّمْسِ والقَمَرِ } جراً نسقاً على اللفظ . وقرئ شاذاً { والشَّمْسُ والقَمَرُ } رفعاً على الابتداء ، وكان مِنْ حقه أن يقرأ « حسبانٌ » رفعاً على الخبر ، وإنما قرأه نصباً ، فالخبر حينئذ محذوف تقديره : مجعولان حُسْباناً أو مخلوقان حُسْباناً . فإن قلت : لا يمكن في هذه القراءة رفع « حسبان » حتى نُلْزِمَ القارئ بذلك؛ لأن الشمس والقمر ليسا نفس الحسبان . فالجواب : أنهما في قراءة النصب : إمَّا مفعولان أولان و « حسْباناً » ثانٍ ، وإمَّا صاحبا حال وحسباناً حال ، والمفعول الثاني هو الأول ، والحال لا بد وأن تكون صادقة على ذي الحال ، فمهما كان الجواب لكم كان لنا والجواب ظاهر مما تقدم .
والحُسبان فيه قولان ، أحدهما : أنه جمع ، فقيل : جمع حِساب كرِكاب ورُكبان وشِهاب وشُهبان ، وهذا قول أبي عبيد والأخفش وأبي الهيثم والمبرد . وقال أبو البقاء : « هو جمع حُسْبانة » وهو غلط؛ لأن الحُسْبانة القطعة من النار ، وليس المراد ذلك قطعاً . وقيل : بل هو مصدر كالرُّجْحان والنُّقْصان والخُسْران ، وأما الحساب فهو اسمٌ لا مصدرٌ ، وهذا قول ابن السكيت . وقال الزمخشري : « والحُسْبان بالضم مصدرُ حَسَبت يعني بالفتح كما أن الحِسبان بالكسر يعني مصدر حَسِبْتُ بالكسر ، ونظيره الكُفران والشُّكْران » وقيل : بل الحُسبان والحِساب مصدران وهو قول أحمد بن يحيى .
وأنشد أبو عبيد عن أبي زيد في مجيء الحسبان مصدراً قوله :
2013 على الله حُسْباني إذا النفسُ أشرفَتْ ... على طمعٍ أو خاف شيئاً ضميرُها
وانتصاب « حسباناً » على ما تقدم من المفعولية أو الحالية . وقال ثعلب عن الأخفش : إنه منصوبٌ على إسقاط الخافض والتقدير : يجريان بحسبان كقوله { لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً } / أي : من طين . وقوله : « ذلك » إشارةً إلى ما تقدم من الفَلْق أو الجعل أو جميعِ ما تقدَّم من الأخبار في قوله « فالق الحَبِّ » إلى « حُسْبانا » .

وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97)

وقوله تعالى : { جَعَلَ لَكُمُ النجوم } : الظاهر أن « جعل » بمعنى خلق فتكون متعديةً لواحد ، و « لكم » متعلق ب « جَعَلَ » وكذا « لتهتدوا » . فإن قيل : كيف يتعلَّق حرفا جر متَّحدان في اللفظ والمعنى؟ فالجواب أن الثاني بدلٌ من الأول بدلُ اشتمال بإعادة العامل ، فإن « ليهتدوا » جار ومجرور ، إذ اللام لام كي ، والفعل بعدها منصوب بإضمار « أن » عند البصريين وقد تقدَّم تقريره . والتقدير : جعل لكم النجوم لاهتدائكم ، ونظيره في القرآن { لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ } [ الزخرف : 33 ] ف « لبيوتهم » بدلٌ من « لمن يكفر » بإعادة العامل ، وقال ابن عطية : « وقد يمكن أن يكون بمعنى » صيَّر « ويقدَّر المفعول الثاني من لتَهْتدوا ، أي : جعل لكم النجوم هداية » .
قال الشيخ : « وهو ضعيفٌ لندور حَذْفِ أحد مفعولي ظنَّ وأخواتها » قلت : لم يَدَّع ابنُ عطيَّة حذف المفعول الثاني حتى يجعله ضعيفاً إنما قال : إنه مِنْ « لتهتدوا » أي : فيُقَدَّر متعلق الجار الذي وقع مفعولاً ثانياً كما يُقدَّر في نظائره والتقدير : جعل لكم النجوم مستقرة أو كائنة لاهتدائكم . وأمَّا قوله : « أي جَعَل لكم النجومَ هدايةً » فلإِيضاح المعنى وبيانه .
والنجوم معروفة وهي جمع نجم ، والنجم في الأصل مصدر يقال : نَجَم الكوكبُ ينجُمُ نَجْماً ونُجوماً فهو ناجم ، ثم أُطلق على الكوكب مجازاً ، فالنجم يستعمل مرة اسماً للكوكب ومرة مصدراً ، والنجوم تستعمل مرة للكواكب وتارة مصدراً ومنه : نَجَمَ النبت أي : طَلَع ، ونَجَم قرن الشاة وغيرها ، والنجم من النبات ما لا ساق له ، والشجرُ ما له ساق ، والتنجيم : التفريق ، ومنه نجوم الكنانة تشبيهاً بتفرق الكواكب .

وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)

قوله تعالى : { فَمُسْتَقَرٌّ } : قرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر القاف ، والباقون بفتحها ، وأمَّا « مُسْتَوْدَع » فالكلُّ قرأه مفتوحَ الدال ، وقد روى الأعور عن أبي عمرو بن العلاء كسرها . فَمَنْ كسر القاف جعل « مستقرَّاً » اسم فاعل ، والمراد به الأشخاص وهو مبتدأ محذوف الخبر أي : فمنكم مستقر : إمَّا في الأصلاب أو البطون أو القبور ، وعلى هذه القراءة تتناسق « ومستودَع » بفتح الدال .
وجوَّز أبو البقاء في « مستقِر » بكسر القاف أن يكون مكاناً وبه بدأ قال : « فيكون مكاناً يستقر لكم » انتهى ، يعني : والتقدير : ولكم مكان يستقر . وهذا ليس بظاهرٍ البتةَ ، إذ المكان لا يوصف بكونه مستقراً بكسر القاف بل بكونه مُسْتَقَرَّاً فيه . وأمَّا مستودَع بفتحها فيجوز أن يكون اسم مفعول ، وأن يكون مكاناً ، وأن يكون مصدراً ، فيقدر الأول : فمنكم مستقر في الأصلاب ومستودع في الأرحام ، أو مستقر في الأرض ظاهراً ومستودع فيها باطناً ، ويقدر للثاني : فمنكم مستقر ولكم مكان تستودعون فيه ، ويقدر للثالث : فمنكم مستقر ولكم استيداع .
وأمّا مَنْ فتح القاف فيجوز فيه وجهان فقط : أن يكون مكاناً ، وأن يكون مصدراً أي : فلكم مكان تستقرون فيه وهو الصُّلب أو الرحم أو الأرض ، أو لكم استقرار فيما تقدم ، وينقص أن يكون اسم مفعول لأن فعله قاصر لا يُبنى منه اسم مفعول بخلاف مستودع حيث جاز فيه الأوجه الثلاثة .
وتوجيه قراءة أبي عمرو في رواية الأعور عنه في « مستودِع » بالكسر على أن يُجعل الإِنسانُ كأنه مُسْتَوْدِعُ رزقِه وأجَله ، حتى إذا نَفِدا كأنه ردَّهما وهو مجاز حسن ، ويقوِّي ما قلته قولُ الشاعر :
2014 وما المالُ والأهلون إلا وديعةٌ ... ولا بُدَّ يوماً أن تُرَدَّ الودائعُ
/ والإِنشاء : الإِحداث والتربية ، ومنه : إنشاء السحاب ، وقال تعالى : { أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الحلية } [ الزخرف : 18 ] فهذا يُراد به التربية ، وأكثر ما يستعمل الإِنشاء في إحداث الحيوان ، وقد جاء في غيره ، قال تعالى : { وَيُنْشِىءُ السحاب الثقال } [ الرعد : 12 ] . والإِنشاءُ : قسيمُ الخبر ، وهو ما لم يكن له خارجٌ ، وهل هو مندرجٌ في الطلب أو بالعكس أو قسم برأسه؟ خلافٌ ، وقيل : على سبيل التقريب مقارنة اللفظ لمعناه . وقال الزمخشري : « فإن قلت : فَلِمَ قيل » يعلمون « مع ذكر النجوم ، و » يفقهون « مع ذِكْرِ إنشاء بني آدم؟ قلت : كأن إنشاء الإِنس من نفس واحدة وتصريفهم على أحوال مختلفة ألطف وأدق صنعةً وتدبيراً ، فكان ذِكْرُ الفقه الذي هو استعمال فطنة وتدقيقُ نظر مطابقاً له » .

وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)

قوله تعالى : { فَأَخْرَجْنَا } : فيه التفاتٌ من غَيْبة إلى تكلم بنون العظمة ، والباء في « به » للسببية ، وقوله { نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ } قيل : المراد كل ما تسمَّى نباتاً في اللغة . وقال الفراء : « رزق كل شيء أي : ما يصلحُ أن يكون غذاءً لكل شيء فيكون مخصوصاً بالمتغذَّى به » . وقال الطبري : « هو جميع ما ينمو من الحيوان والنبات والمعادن؛ لأنَّ كل ذلك يتغذَّى بالماء » ويترتب على ذلك صناعة إعرابية ، وذلك أنَّا إذا قلنا بقولٍ غيرِ الفراء كانت الإضافة راجعةً في المعنى إلى إضافة شبه الصفة لموصوفها ، إذ يصير المعنى على ذلك : فأخرَجْنا به كلَّ شيء منبَت فإن النبات بمعنى المُنْبَت ، وليس مصدراً كهو في { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] وإذا قلنا بقول الفراء كانت الإِضافة إضافةً بين متباينين ، إذ يصير المعنى : غذاء كل شيء أو رزقه ، ولم ينقل الشيخ عن الفراء غيرَ هذا القول ، والفراء له في هذه الآية القولان المتقدمان فإنه قال : « رزق كل شيء » قال : « وكذا جاء في التفسير وهو وجه الكلام ، وقد يجوز في العربيَّة أن تضيف النبات إلى كل شيء ، وأنت تريد بكل شيء النبات أيضاً ، فيكون مثل قوله { حَقُّ اليقين } [ الواقعة : 95 ] واليقين هو الحق » .
قوله : { فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ } في الهاء وجهان أحدهما : أن تعود على النبات وهذا هو الظاهر ولم يذكر الزمخشري غيره ، وتكون « مِنْ » على بابها مِنْ كونها لابتداء الغاية أو تكون للتبعيض ، وليس بذلك . والثاني : أن تعود على الماء وتكون « مِنْ » سببية ، وذكر أبو البقاء الوجهين فقال : « وأخرجنا منه أي : بسببه . ويجوز أن تكون الهاء في » منه « راجعة على النبات وهو الأشبه ، وعلى الأول يكون » فأخرجنا « بدلاً من » أخرجنا « الأول » . أي إنه يُكتفى في المعنى بالإِخبار بهذه الجملة الثانية وإلا فالبدل الصناعي لا يظهر ، والظاهر أنَّ « فأخرجنا » عطف على « فأخرجنا » الأول . وقال الشيخ : « وأجاز أبو البقاء أن يكون بدلاً مِنْ فأخرجنا » . قلت : إنما جعله بدلاً بناء على عود الضمير في « منه » على الماء فلا يصحُّ أن يحكى عنه أنه جعله بدلاً مطلقاً؛ لأن البدلية لا تُتَصَوَّرُ على جعل الهاء في « منه » عائدة على النبات .
والخَضِر بمعنى الأخضر كَعَوِر وأعور . قال أبو إسحاق « يقال اخضَرَّ يخضرُّ فهو خَضِر وأخضر كاعوَّر فهو عَوِرٌ وأعورُ » والخُضْرة أحدُ الألوان وهي بين البياض والسواد لكنها إلى السواد أقرب ، ولذلك أُطلق الأسود على الأخضر وبالعكس ، ومنه « سَواد العراق » لخضرة أرضه بالشجر .

وقال تعالى : { مُدْهَآمَّتَانِ } [ الرحمن : 64 ] أي : شديدتا السواد لريِّهما . والمخاضرة : مبايَعَةُ الخُضَر والثمار قبل بلوغها ، والخَضِيرة نخلةٌ ينتثر بُسْرُها أخضرَ . وقوله عليه السلام : « إياكم وخضراءَ الدِّمَن » فقد فسَّره هو عليه السلام بقوله : « المرأة الحسناء في المنبت السوء » و الدِّمَن : مطارحُ الزِّبالة وما يُسْتَقْذر ، فقد ينبُت فيها ما يستحسنه الرائي .
قوله : { نُّخْرِجُ مِنْهُ } أي : من الخَضِر . والجمهور على « نُخْرج » مسنداً إلى ضمير المعظم نفسه . وقرأ ابن محيصن والأعمش « يخرج » بياء الغيبة مبنياً للمفعول ، « حَبٌّ » قائم مقام فاعله ، وعلى كلتا القراءتين تكون الجملة صفة ل « خَضِراً » وهذا هو الظاهر ، وجوَّزوا فيها أن تكون مستأنفةً ، ومتراكب رفعاً ونصباً صفة ل « حَبّ » بالاعتبارين .
قوله : { وَمِنَ النخل مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ } يجوز في هذه الجملة أوجه ، أحدها : وهو أحسنها أن يكون « من النخل » خبراً مقدماً ، و « من طَلْعِها » بدل بعض من كل بإعادة العامل فهو كقوله : { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله } [ الممتحنة : 6 ] و « قِنْوان » مبتدأ مؤخر ، وهذه جملةٌ ابتدائية عُطِفَتْ على الفعلية قبلها . والثاني : أن يكونَ « قِنْوان » فاعلاً بالجار قبله وهو من النخل ، و « من طلعها » على ما تقدم من البدلية ، وذلك على رأي الأخفش . الثالث : أن تكون المسألة من باب التنازع ، يعني أن كلاً من الجارَّيْن يطلب قنواناً على أنه فاعل على رأي الأخفش : فإن أعملت الثاني وهو مختار قول البصريين أضمرت في الأول ، وإن أَعْمَلْتَ الأول كما هو مختار قول الكوفيين أضمرت في الثاني ، قال أبو البقاء : « والوجه الآخر أن يرتفع » قِنْوان « على أنه فاعل » من طلعها « فيكون في » من النخل « [ ضميرٌ يفسره قنوان ] وإن رفعت » قنوان « بقوله » ومن النخل « على قول مَنْ أعمل أول الفعلين جاز ، وكان في » من طلعها « ضمير مرفوع » . قلت : فقد أشار بقوله « على أنه فاعل » من طلعها « إلى إعمال الثاني .
الرابع : أن يكون » قنوان « مبتدأ و » من طلعها « الخبر ، وفي » من النخل « ضمير تقديره : ونبت من النخل شيء أو ثمر فيكون » من طلعها « بدلاً منه . قاله أبو البقاء ، وهذا كلامٌ لا يَصِحُّ لأنه بعد أن جعل » مِنْ طلعها « الخبر فكيف يُجْعل بدلاً؟ فإن قيل : يجعله بدلاً منه لأن » من النخل « خبر للمبتدأ . فالجواب أنه قد قَدَّم هذا الوجه وجعله مقابلاً لهذا فلا بد أن يكون هذا غيرَه ، فإنه قال قبل ذلك : » وفي رفعه وجهان أحدهما : هو مبتدأ وفي خبره وجهان ، أحدهما هو « من النخل » وم نطَلْعِها بدل بإعادة الجار « .

قال الشيخ : « وهذا إعراب فيه تخليط » .
الخامس : أن يكون مبتدأ محذوف الخبر لدلالة « أخرجنا » عليه تقديره : ومخرجةٌ من طلع النخل قنوان « هذا نص الزمخشري ، وهو كما قال الشيخ لا حاجة إليه؛ لأن الجملة مستقلة في الإِخبار بدونه .
السادس : أن يكون » من النخل « متعلقاً بفعل مقدر ، ويكون { مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ } جملة ابتدائية في موضع المفعول ب » نخرج « . وإليه ذهب ابن عطية فإنه قال : » ومن النخل تقديره : « ونُخْرِجُ من النخل » و « من طلعها قنوان » ابتداء خبره مقدم ، والجملة في موضع المفعول ب « نخرج » قال الشيخ : « وهذا خطأ لأنَّ ما يتعدَّى إلى مفعول واحد لا تقع الجملة في موضع مفعوله ، إلا إذا كان الفعل مما يُعَلَّق ، وكان في الجملة مانعٌ يمنع من العمل في شيء من مفرداتها على ما شُرِحَ في النحو ، و » نُخْرج « ليس ممَّا يُعَلَّق ، وليس في الجملة ما يمنع من العمل في مفرداتها ، إذ لو سُلِّط الفعلُ على شيء من مفردات الجملة لكان التركيب » ونخرج من النخل مِنْ طَلْعِها قنواناً « بالنصب مفعولاً به .
وقال الشيخ : » ومن قرأ : « يُخْرَج منه حب متراكب » جاز أن يكون قوله { وَمِنَ النخل مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ } معطوفاً عليه نحو : « يُضرب في الدار زيد وفي السوق عمرو » أي أنه يُعطف « قنوان » على « حب » ، و « من النخل » معطوف على « منه » ثم قال : « وجاز أن يكون مبتدأ وخبراً وهو الأوجه » والقِنْوان : جمع ل « قِنْو » كالصِنْوان جمع لصِنْو ، والقِنْوُ : العِذْق بكسر العين وهو عنقودُ النخلة ، ويقال له الكِباسة ، قال امرؤ القيس :
2015 وفَرْعٍ يُغَشِّي المَتْنَ أسودَ فاحِمٍ ... أثيثٍ كقِنْو النخلة المُتَعَثْكِل
وقال أيضاً :
2016 سوامِقُ جَبَّارٍ أَثِيثٍ فروعُه ... وعالَيْنَ قِنْواناً من البُسْر أحمرا
والقنوان : جمع تكسير قال أبو علي : « الكسرة التي في قِنْوان ليست التي كانت في قِنْو لأن تلك حذفت في التكسير وعاقبتها كسرة أخرى كما قُدِّر تغيير كسرة » هِجان « جمعاً عن كسرته مفرداً ، فكسرة هِجان جمعاً ككسرة ظِراف » . قال الواحدي : « وهذا مما توضحه الضمة في آخر » منصور « على قولِ مَنْ قال » يا حارُ « يعني بالضمة ليست التي كانت فيه/ في قول مَنْ قال » يا حارِ « يعني بالكسر » . وفيه لغات : فلغةُ الحجاز « قِنْوان » بكسر القاف ، وهي قراءة الجمهور . وقرأ الأعمش والحباب عن أبي عمرو والأعرج بضمِّها ، ورواها السلمي عن علي بن أبي طالب ، وهي لغة قيس ، ونقل ابن عطية عكس هذا فجعل الضمَّ لغةَ الحجاز فإنه قال : « وروي عن الأعرج ضم القاف على أنه جمع » قُنو « بضمِّ القاف » ، قال الفراء : « وهي لغة قيس وأهل الحجاز ، والكسرُ أشهر في العرب » .

واللغة الثالثة : قَنْوان بفتح القاف وهي قراءة أبي عمرو في رواية هارون عنه . وخرَّجها ابن جني على أنها اسم جمع لِقنْو لا جمعاً إذ ليس في صيغ الجموع ما هو على وزن فَعْلان بفتح الفاء ، ونظَّره الزمخشري برَكْب ، وأبو البقاء بالباقر ، وتنظير أبي البقاء أولى لأنه لا خلاف في الباقر أنه اسم جمع ، وأمَّا رَكْب ففيه خلاف لأبي الحسن مشهور ، ويدل على ذلك أيضاً شيء آخر وهو أنه قد سُمِعَ في المفرد كَسْرُ القاف وضمها فجاء الجمع عليهما . وأمَّا الفتح فلم يَرِدْ في المفرد .
واللغة الرابعة قُنْيان بضم القاف مع الياء دون الواو . والخامسة : قِنْيان بكسر القاف مع الباء أيضاً ، وهاتان لغتا تميم وربيعة . وأما المفرد فلا يقولونه بالياء أصلاً بل بالواو سواء كسروا القاف أم ضمُّوها ، فلا يقولون إلا قِنواً وقُنوا ، ولا يقولون قِنيا ولا قُنيا ، فخالف الجمعُ مفرده في المادة وهو غريب .
واختُلف في مدلول « القِنْو » فقيل : هو الجُمَّار وهذا يكاد يكون غلطاً ، وكيف يُوْصَفُ بكونه دانياً أي : قريب الجنى ، والجُمَّار إنما هو في قلب النخلة ، والمشهور أنه العِذْق كما تقدم ذلك . قال أبو عبيد : « وإذا ثَنَّيْتَ قِنْواً قلت : قِنوان بكسر النون ، ثم جاء جمعه على لفظ الاثنين مثل : صِنْوٌ وصنوان ، والإِعراب على النون في الجمع ، وليس لهما في كلام العرب نظير » قال :
2017 . . . . . . . . . . . . . . ... ومالَ بقِنْوانٍ مِنَ البُسْرِ أحمرا
قلت : إذا وُقف على « قنوان » المثنى رفعاً وعلى « قنوان » جمعاً وقع الاشتراك اللفظي ، ألا ترى أنك إذا قلت : « عندي قنوان » وقفاً احتمل ما ذكرته من التثنية والجمع ، فإذا وصلت وقع الفرق فإنك تجعل الإِعراب على النون حالَ جمعه كغِربان وصِرْدان بكسر النون في التثنية .
ويقع الفرق أيضاً بوجوهٍ أُخَرَ منها : انقلاب الألف ياءً نصباً وجراً في التثنية نحو : رأيت قِنْوَيْك وصِنْويك ومررت بقنويك وصنويك ، ومنها : حذف نون التثنية إضافةً وثبوت النون في الجمع نحو : جاء قنواك وصنواك وقنوانك وصنوانك ، ومنها : في النسب فإنك تحذف علامتي التثنية فتقول : قِنْوَيّ وصِنْوَي ، ولا تحذف الألف ولا النون إذا أردت الجمع بل تقول : قِنْوانيّ وصِنْواني ، وهذان اللفظان في الجمع تكسيراً يشبهان الجمع تصحيحاً وذلك أن كلاً منهما لحق آخره علامتان في حال الجمع مزيدتان ولم يتغيَّرْ معها بناء الواحد ، والفرق ما قدَّمْتُه لك ، وأيضاً فإن الجمع مِنْ قنوان وصنوان ، إنَّما فهمناه من صيغة فِعْلان لا من الزيادتين ، بخلاف الزيدين ، فإن الجمع فهمناه منهما ، وهذا الفصل الذي ذكرْتُه مِنْ محاسن علم الإِعراب والتصريف واللغة .

وقال الراغب بعد أن ذَكَرَ أنه العِذْق : « والقَناةُ تشبه القِنْوَ في كونهما غصنين ، وأما القناة التي يجري فيها الماء قيل لها ذلك لأنها تشبه القناة في الخط والامتداد ، وقيل : أصلها مِنْ قَنَيْتُ الشيء إذا ادَّخَرْتَه لأنها مُدَّخِرَةٌ للماء . وقيل : هو مِنْ قاناه أي : خالطه ، قال - يعني امرأ القيس -/ :
2018 كبِكْرِ مُقاناةِ البياضِ بصُفْرةٍ ... غَذَاها نُمَيْرُ الماءِ غيرَ مُحَلَّلِ
وأمَّا » القنا « الذي هو الاحْدِيْداب في الأنف فيشبَّه في الهيئة بالقنا يقال : رجل أقنى وامرأة قَنْواء كأحمر وحمراء » . والطَّلع : أول ما يخرج من النخلة في أكمامه . قال أبو عبيد : « الطَّلْعُ : الكُفُرَّى قبل أن تنشقَّ عن الإغريض والإِغريض يسمى طَلْعاً يقال : أطلعت النخلة إذا أخرجت طَلْعَها ، تطلُع إطلاعاً وطلع الطلع يَطْلُع طلوعاً ففرقوا بين الإِسنادين . وأنشدني بعضهم في مراتب ما تثمره النخلة قول الشاعر :
2019 إن شِئْتَ أن تَضْبِطَ يا خَليلُ ... أسماءَ ما تُثْمِرُه النخيلُ
فاسمَعْه مَوْصوفاً على ما أذكرُ ... طَلْعٌ وبعده خَلال يظهر
وبَلَحٌ ثم يليه بُسْرُ ... ورُطَب تجنيه ثم تَمْرُ
فهذه أنواعُها يا صاحِ ... مضبوطةً عن صاحب الصِّحاح
قوله : » وجنَّات « الجمهور على كسر التاء من » جنات « لأنها منصوبة نسقاً على نبات أي : فأخرجنا بالماء النبات وجنات ، وهو من عطف الخاص على العام تشريفاً لهذين الجنسين على غيرهما كقوله تعالى : { وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] وعلى هذا فقوله { وَمِنَ النخل مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ } جملةٌ معترضة وإنما جيء بهذه الجملة معترضة ، وأبرزت في صورة المبتدأ والخبر تعظيماً للمِنَّة به؛ لأنه من أعظم قوت العرب؛ لأنه جامع بين التفكُّه والقوت ، ويجوز أن ينتصب » جنات « نسقاً على » خضراً « . وجوَّز الزمخشري - وَجَعَلَهُ الأحسنَ - أن ينتصب على الاختصاص كقوله » والمقيمي الصلاة « قال : » بفضلِ هذين الصنفين « وكلامُهُ يُفْهم أن القراءة الشهيرة عنده برفع » جنات « ، والقراءة بنصبها شاذة ، فإنه أولُ ما ذكر توجيهُ الرفع كما سيأتي ، ثم قال : » وقرئ « وجنات » بالنصب « فذكر الوجهين المتقدمين .
وقرأ الأعمش ومحمد بن أبي ليلى وأبو بكر في رواية عنه عن عاصم » وجنات « بالرفع وفيها ثلاثة أوجه ، أحدها : أنها مرفوعة بالابتداء ، والخبر محذوف . واختلفت عبارة المعربين في تقديره : فمنهم مَنْ قَدَّره متقدِّماً ، ومنهم من قَدَّره متأخراً ، فقدَّره الزمخشري متقدماً أي : وثَمَّ جنات ، وقدَّره أبو البقاء » ومن الكرم جنات « ، وهذا تقدير حسن لمقابلة قوله » ومن النخل « أي : من النخل كذا ومن الكرم كذا ، وقَدَّره النحاس » ولهم جنَّات « ، وقدَّره ابن عطية : » ولكم جنات « ، ونظيره قراءة { وَحُورٌ عِينٌ } [ الواقعة : 22 ] بعد قوله : { يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ بِأَكوابٍ } أي : ولهم حورٌ عين ، ومثل هذا اتَّفَقَ على جوازه سيبويهِ والكسائي والفراء .

وقدَّره متأخراً فقال : أي وجنات من أعناب أخرجناها . قال الشيخ : « ودل على تقديره [ قوله ] قبلُ » فأخرجنا « كما تقول : أكرمت عبد الله وأخوه أي : وأخوه أكرمته » . قلت : وهذا التقدير سبقه إليه ابن الأنباري ، فإنه قال : « الجناتُ » رُفِعت بمضمر بعدها تأويلها : وجناتٌ من أعناب أخرجناها ، فجرى مَجْرَى قول العرب : « أكرمت عبدَ الله وأخوه » تريد : وأخوه أكرمته . قال الفرزدق :
2020 غداةَ أحلَّتْ لابنِ أَصْرَمَ طَعْنَةٌ ... حصينٍ عَبيطاتِ السَّدائِفِ والخمرُ
فرفع « الخمر » وهي مفعولة ، على معنى : والخمر أَحَلَّها الطعنة . الوجه الثاني : أن يرتفع عطفاً على « قنوان » ، تغليباً للجوار ، كما قال الشاعر :
2021 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وزجَّجْنَ الحواجبَ والعيونا
فنسق « العيون » على « الحواجب » تغليباً للمجاورة ، والعيونُ لا تُزَجَّج ، كما أن الجنات من الأعناب لا يَكُنَّ من الطَّلْع ، هذا نصُّ مذهب ابن الأنباري أيضاً ، فتحصَّل له في الآية مذهبان ، وفي الجملة فالجواب ضعيف ، وقد تقدم أنه من خصائص النعت .
والثالث : أن يعطف على « قنوان » . قال الزمخشري : « على معنى : محاطة أو مُخْرجة من النخل قنوان ، وجنات من أعناب أي : من نبات أعناب . قال الشيخ : » وهذا العطفُ هو على أن لا يُلْحَظَ فيه قيدٌ من النخل فكأنه قال : ومن النخل قنوان دانية وجنات من أعناب حاصلة كما تقول : « من بني تميم رجل عاقل ورجل من قريش منطلقان » . قلت : وقد ذكر الطبري أيضاً هذا الوجه أعني عطفها على « قنوان » ، وضعَّفه ابن عطية ، كأنه لم يظهر له ما ظهر لأبي القاسم من المعنى المشار إليه ، ومنع أبو البقاء عطفه على « قنوان » قال : « لأن العنب لا يخرج من النخل » . وأنكر أبو عبيد وأبو حاتم هذه القراءة . قال أبو حاتم : « هذه القراءة محال؛ لأن الجنات من الأعناب . لا تكون من النخل » . قلت : أمَّا جواب أبي البقاء فيما قاله الزمخشري ، وأمَّا جوابُ أبي عبيد وأبي حاتم فيما تقدم من توجيه الرفع . و « من أعناب » صفة لجنات فتكون في محل رفع ونصب بحسب القراءتين ، وتتعلق بمحذوف .
قوله : { والزيتون والرمان } لم يقرأهما أحد إلا منصوبين ، ونصبهما : إمَّا عطفٌ على جنات وإمَّا على نبات ، وهذا ظاهر قول الزمخشري ، فإنه قال : « وقرئ » وجنات « بالنصب عطفاً على » نباتَ كل شيء « أي : وَأَخْرَجْنا به جناتٍ من أعناب ، / وكذلك قوله : والزيتونَ والرُّمَّان » .

ونصَّ أبو البقاء على ذلك فقال : « وجنات بالنصب عطفاً على نبات ، ومثله : الزيتونَ والرمانَ » . وقال ابن عطية : « عطفاً على » حَبَّاً « . وقيل على » نبات « وقد تقدم لك أن في المعطوف الثالث فصاعداً احتمالين ، أحدهما : عطفه على ما يليه ، والثاني : عطفه على الأول نحو : مررت بزيدٍ وعمروٍ وخالد ، فخالد يحتمل عطفه على زيد أو عمرو ، وقد تقدم أن فائدة الخلاف تظهر في نحو : » مررت بك وبزيد وبعمرو « فإن جعلته عطفاً على الأول لَزِمَت الباء وإلاَّ جازت .
والزيتون وزنه فَيْعُول فالتاءُ مزيدةٌ ، والنون أصلية لسقوط ذيك في الاشتقاق وثبوت ذي ، قالوا : أرض زَتِنَة أي كثيرة الزيتون ، فهو نظير قيصوم ، ولأنَّ فَعْلولاً مفقودٌ أو نادر ، ولا يُتَوَهَّم أن تاءَه أصلية ونونَه مزيدة بدلالة الزيت فإنهما مادتان متغايرتان ، وإن كان الزيت معتصراً منه ، ويقال : زات طعامه أي : جعل فيما زيتاً ، وزاتَ رأسَه أي : دَهَنَه به ، وازْدات : أي ادَّهن أُبْدلت تاء الافتعال دالاً بعد الزاي كازدجر وازدان . والرُّمَّان وزنه فُعَّال نونه أصلية فهو نظير عُنَّاب وحُمَّاض لقولهم : أرض رَمِنَةٌ أي : كثيرتُه .
قوله : { مُشْتَبِهاً } حال : إمَّا من » الرمان « لقربه ، وحذفت الحال من الأول تقديره : والرمان مشتبهاً ، ومعنى التشابه أي في اللون ، وعدم التشابه أي في الطعم . وقيل : هي حال من الأول وحذفت حال الثاني ، وهذا كما تقدم لك في الخبر المحذوف ، نحو : { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] وإلى هذا نحا الزمخشري فإنه قال : » والزيتون مشتبهاً وغير مشتبه والرمان كذلك كقوله :
2022 رماني بأمرٍ كنت منه ووالدي ... بريئاً . . . . . . . . . . . . . . . . .
قال الشيخ : « فعلى قوله يكون تقدير البيت : كنت منه بريئاً ووالدي كذلك أي : بريئاً ، والبيت لا يتعين فيه ما ذَكَرَ؛ لأن بريئاً على وزن فعيل كصديق ورفيق ، فيصحُّ أن يُخْبَرَ به عن المفرد والمثنى والمجموع ، فيحتمل أن يكون » بريئاً « خبر » كان « على اشتراك الضمير والظاهر المعطوف عليه فيه ، إذ يجوز أن يكون خبراً عنهما ، ولا يجوز أن يكون حالاً منهما ، إذ لو كان لكان التركيب مشتبهين وغير مشتبهين » . قال أبو البقاء : « حال من الرمان ومن الجميع » ، فإن عنى في المعنى فصحيح ويكون على الحذف كما تقدَّم ، وإن أراد في الصناعة فليس بشيء لأنه كان يلزم المطابقة .
والجمهور على « مشتبهاً » وقرئ شاذاً متشابهاً وغير متشابه كالثانية ، وهما بمعنى واحد . قال الزمخشري : « كقولك : اشتبه الشيئان وتشابها كاستويا وتساويا . والافتعال والتفاعل يشتركان كثيراً » . انتهى . وأيضاً فقد جَمَعَ بينهما في هذه الآية في قوله « مشتبهاً وغير متشابه » .
قوله : { إلى ثَمَرِهِ } متعلِّق ب « انظروا » وهي بمعنى الرؤية ، وإنما تَعَدَّتْ ب إلى لِما تَتَضَمَّنه من التفكر .

وقرأ الأخوان « ثُمُرِه » بضمتين ، والباقون : بفتحتين ، وقُرِئَ شاذاً بضم الأول وسكون الثاني .
فأمَّا قراءة الأخوين فتحتمل أربعة أوجه ، أحدها : أن تكون اسماً مفرداً كطُنُب وعُنُق . والثاني : أنه جمع الجمع فَثُمُر جمع ثِمار وثمار جمع ثَمَرة وذلك نحو : أُكُم جمع إكام وإكام جمع أَكَمَة فهو نظير كُثْبان وكُثُب . والثالث : أنه جمع ثَمَرَ كما قالوا : أسَد وأُسُد . والرابع : أنه جمع ثمرة ، قال الفارسي : « والأحسن أن يكون جمع ثَمَرَة كخشبة وخُشُب ، وأكمة وأُكُم ونظيره في المعتل : لابة ولُوْب ، وناقة ونوق ، وساحة وسوح .
وأما قراءة الجماعة فالثَمَر اسم جنس مفرده ثمرة كشجر وشجرة ، وبقر وبقرة ، وجزر وجزرة . وأما قراءة التسكين فهي تخفيف قراءة الأخوين ، وقيل : بل هي جمع ثَمَرَة كبُدْن جمع بَدَنَة ، ونقل بعضهم أنه يقال ثَمُرَة بزنة سَمُرة ، وقياسها على هذا ثَمُر كسَمُر بحذف التاء إذا قُصِدَ جمعُه ، وقياسُ تكسيرِه أثمار كعَضُد وأعضاد ، وقد قرأ أبو عمرو الذي في سورة الكهف بالضم وسكون الميم ، فهذه القراءة التي هنا فصيحة كان قياس أبي عمرو أن يقرأهما شيئاً واحداً لولا أن القراءة مستندها النقل . وقرأ أبو عمرو والكسائي وقنبل » خُشْب « . والباقون بالضم ، فهذه القراءة نظير تِيك . وهذا الخلاف أعني في » ثَمَرِه « والتوجيه بعينه جارٍ في سورة يس . وأما الذي في سورة الكهف ففيه ثلاث قراءات : فعاصم يقرؤه بفتحتين كما يقرؤه في هذه السورة ، وفي يس ، فاستمرَّ على عمل واحد ، والأخوان يقرآنه بضمتين في السور الثلاث/ فاستمرا على عمل واحد ، وأمَّا نافع وابن كثير وابن عامر فقرؤوا ما في الأنعام ويس بفتحتين وقرؤوا ما في الكهف بضمتين ، وأمَّا أبو عمرو فقرأ ما في الأنعام ويس بفتحتين وما في الكهف بضمة وسكون . وقد ذكروا في توجيه الضمتين في الكهف ما لا يمكن أن يأتي في السورتين ، وذلك أنهم قالوا في الكهف : الثُّمُر بالضم المال ، وبالفتح المأكول .
وقوله : { إِذَآ أَثْمَرَ } ظرق لقوله : » انظروا « ، وهو يحتمل أن يكون متمحضاً للظرف ، وأن يكون شرطاً ، وجوابه محذوف أو متقدم عند من يرى ذلك أي : إذا أثمر فانظروا إليه .
قوله : { وَيَنْعِهِ } الجمهور على فتح الياء مِنْ » ينعه « وسكون النون . وقرأ ابن محيصن بضم الياء وهي قراءة قتادة والضحاك . وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة واليماني : يانعة ، ونسبها الزمخشري لابن محيصن ، فيجوز أن يكون عنه قراءتان . والينع بالفتح والضم مصدر : يَنَعَتِ الثمرة أي : نضجت ، والفتح لغة الحجاز ، والضم لغة بعض نجد ، ويقال أيضاً يُنُع ويُنُوع بواو بعد ضمتين . وقيل : اليَنْع بالفتح جمع يانِع كتاجِر وتَجْر وصاحِب وصَحْب ، ويقال : يَنَعَت الثمرة وأينعت ثلاثياً ورباعياً بمعنى . وقال الحَجَّاج : » أرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها « .

ويانع اسم فاعل وقيل : أينعت الثمرة وينعت احمرَّت ، قاله الفراء ، ومنه الحديث في الملاعنة : « إنْ وَلَدَتْهُ أحمرَ مثلَ اليَنَعَة » وهي خَرَزَةٌ حمراء ، قيل : هي العقيق أو نوع منه . ويقال : يَنَعَتْ تَيْنِع بفتح العين في الماضي وكسرها في المستقبل هذا قول أبي عبيد وأنشد :
2023 . . . . . . . . . . . . . . . . . ... حولها الزيتونُ قد يَنَعَا
وقال الليث بعكس هذا : أي بكسرها في الماضي وبفتحها في المستقبل . وناسب ختامَ هذه الآية بقوله « لقوم يؤمنون » كونُ ما تقدَّم دالاً على وحدانيته وإيجاده المصنوعات المختلفة ، فلا بُدَّ لها مِنْ مدبِّر مع أنها نابتةٌ من أرضٍ واحدةٍ وتُسْقَى بماءٍ واحد ، وهذه الدلائل إنما تنفع المؤمنين المتدبِّرين دون غيرهم .

وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100)

قوله تعالى : { شُرَكَآءَ الجن } : الجمهور على نصب « الجن » وفيه خمسة أوجه ، أحدها : وهو الظاهر أنَّ « الجن » هو المفعول الأول ، والثاني هو « شركاء » قُدِّم ، و « لله » متعلِّق بشركاء . والجَعْل هنا بمعنى التصيير ، وفائدةُ التقديم كما قالَه الزمخشري استعظامُ أن يُتَّخَذَ لله شريكٌ مَنْ كان مَلَكاً أو جنِّيَّاً أو إِنسِيَّاً ولذلك قُدِّم اسم الله على الشركاء « انتهى . ومعنى كونهم جعلوا الجن شركاء لله هو أنهم يعتقدون أنهم يخلقون من المضارِّ والحيَّات والسباع كما جاء في التفسير . وقيل : ثم طائفة من الملائكة يسمَّون الجن كان بعض العرب يعبدها .
الثاني : أن يكون » شركاء « مفعولاً أول و » لله « متعلقٌ بمحذوف على أنه المفعول الثاني ، و » الجنّ « بدل من » شركاء « ، أجاز ذلك الزمخشري وابن عطية والحوفي وأبو البقاء ومكي بن أبي طالب ، إلا أنَّ مكِّيَّاً لمَّا ذَكَرَ هذا الوجهَ جَعَلَ اللامَ مِنْ » لله « متعلقةً بجَعَلَ فإنه قال : » الجنَّ مفعولٌ أولُ لَجَعَلَ و « شركاءَ » مفعولٌ ثانٍ مقدَّم ، واللام في « لله » متعلقة بشركاء ، وإن شِئْتَ جَعَلْتَ « شركاء » مفعولاً أول ، والجن بدلاً من شركاء ، و « لله » في موضع المفعول الثاني ، واللام متعلقة بجعل « . قلت : بعد أن جعل » لله « مفعولاً ثانياً كيف يُتَصَوَّر أن يَجْعَلَ اللامَ متعلقةً بالجعلِ؟ هذا ما لا يجوز لأنَّه لما صار مفعولاً ثانياً تعيَّنَ تعلُّقُهُ بمحذوف على ما عرفته غيرَ مرة . قال الشيخ : » وما أجاوزه - يعني الزمخشري ومن ذُكِرَ معه - لا يجوز؛ لأنه يصِحُّ للبدل أن يحلَّ محلَّ المبدل منه فيكونَ الكلام منتظماً ، لو قلت : وجعلوا لله الجنَّ لم يَصِحَّ ، وشرطُ البدل أن يكون على نية تكرار العامل على أشهر القولين أو معمولاً للعامل في المبدل منه على قول ، وهذا لا يَصِحُّ هنا البتَةَ لِما ذكرنا « قلت : هذا القول المنسوب للزمخشري ومَنْ ذُكِرَ معه سبقهم إليه الفراء وأبو إسحاق فإنهما أجازا أن يكونا مفعولين قُدِّم ثانيهما على الأول وأجازا أن يكون » الجن « بدلاً من » الشركاء « ومفسِّراً للشركاء هذا نصُّ عبارتهم ، وهو معنى صحيح أعني كونَ البدل مفسراً ، فلا معنى لردِّ هذا القول ، وأيضاً فقد رَدَّ هو على الزمخشري عند قوله تعالى { إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعبدوا } [ المائدة : 117 ] فإنه لا يلزم في كل بدلٍ أن يحل مَحَلَّ المبدلِ منه ، قال : » ألا ترى إلى تجويز النحويين « زيد مررت به أبي عبد الله » ولو قلت : « زيد مررت بأبي عبد الله » لم يجز إلا على رأي الأخفش « وقد سبق هذا في المائدة ، فقد قرر/ هو أنه لا يلزم حلول البدل محلَّ المبدل منه فكيف يَرُدُّ به هنا؟
الثالث : أن يكون » شركاء « هو المفعول الأول و » الجن « هو المفعول الثاني ، قاله الحوفي ، وهذا لا يَصِحُّ لِما عرفت أن الأول في هذا الباب مبتدأ في الأصل والثاني خبر في الأصل ، وتقرَّر أنه إذا اجتمع معرفة ونكرة جَعَلْتَ المعرفة مبتدأ والنكرة خبراً ، من غير عكس إلا في ضرورة ، تقدَّم التنبيه على الوارد منها .

الرابع : أن يكون « شركاء الجن » مفعولين على ما تقدَّم بيانه . و « لله » متعلق بمحذوف على أنه حال من « شركاء »؛ لأنه لو تأخر عنها لجاز أن يكون صفة لها قاله أبو البقاء ، وهذا لا يَصِحُّ؛ لأنه يصير المعنى : جعلوهم شركاء في حال كونهم لله أي : مملوكين ، وهذه حال لازمة لا تنفك ، ولا يجوز أن يقال إنها غير منتقلة لأنها مؤكدة إذ لا تأكيدَ فيها هنا ، وأيضاً فإنَّ فيه تهيئةَ العامل في معمول وقَطْعَه عنه؛ فإن « شركاء » يطلب هذا الجارَّ ليعمل فيه والمعنى منصبٌّ على ذلك .
الخامس : أن يكون « الجنَّ » منصوباً بفعل مضمر جواب لسؤال مقدَّر ، كأن سائلاً سأل فقال بعد قوله تعالى { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ } : مَنْ جعلوا لله شركاء؟ فقيل : الجنَّ ، أي : جعلوا الجن ، نقله الشيخ عن شيخه أبي جعفر بن الزبير ، وجعله أحسن مما تقدَّم قال : « ويُؤَيِّد ذلك قراءةُ أبي حيوة ويزيد بن قطيب » الجنُّ « رفعاً على تقدير : هم الجن ، جواباً لمن قال : [ من ] جعلوا لله شركاء؟ فقيل : هم الجن ، ويكون ذلك على سبيل الاستعظام لما فعلوه والاستنقاص بمن جعلوه شريكاً لله تعالى . وقال مكي : » وأجاز الكسائي رفع « الجن » على معنى هم الجن « ، فلم يَرْوِها عنه قراءةً ، وكأنه لم يطَّلع على أن غيرَه قرأها كذلك .
وقرأ شعيب بن أبي حمزة ويزيد بن قطيب وأبو حيوة في رواية عنهما أيضاً » شركاءَ الجنِّ « بخفض » الجن « ، قال الزمخشري : » وقرئ بالجر على الإِضافة التي للتبيين فالمعنى : أشركوهم في عبادتهم لأنهم أطاعوهم كما أطاعوا الله « . قال الشيخ : » ولا يتضح معنى هذه القراءة ، إذ التقدير : وجعلوا شركاء الجن لله « . قلت : معناها واضح بما فسَّره الزمخشري في قوله ، والمعنى : أَشْرَكوهم في عبادتهم إلى آخره ولذلك سَمَّاها إضافة تبيين ، أي إنه بيَّن الشركاء كأنه قيل : الشركاء المطيعين للجن .
قوله : { وَخَلَقَهُمْ } الجمهور على » خَلَقَهم « بفتح اللام فعلاً ماضياً ، وفي هذه الجملة احتمالان ، أحدهما : أنها حالية ف » قد « مضمرةٌ عند قومٍ وغير مضمرة عند آخرين .

والثاني : أنها مستأنفة لا محَلَّ لها ، والضمير في « خلقهم » فيه وجهان ، أحدهما : أنه يعود على الجاعلين أي : جعلوا له شركاء مع أنه خلقهم وأوجدهم منفرداً بذلك من غير مشاركة له في خلقهم فكيف يشركون به غيره ممَّن لا تأثيرَ له في خلقهم؟ والثاني : أنه يعود على الجن أي : والحال أنه خلق الشركاء فكيف يجعلون مخلوقه شريكاً له؟
وقرأ يحيى بن يعمر : « وَخَلْقهم » بسكون اللام . قال الشيخ : « وكذا في مصحف عبد الله » . قلت : قوله « وكذا في مصحف عبد الله » فيه نظر من حيث إن الشكل الاصطلاحي أعني ما يدل على الحركات الثلاث وما يدل على السكون كالجزء منه كانت مصاحفُ السَّلفِ منها مجردة ، والضبط الموجود بين أيدينا اليوم أمرٌ حادث ، يقال : إن أول مَنْ أحدثه يحيى بن يعمر ، فكيف يُنسب ذلك لمصحف عبد الله بن مسعود؟ وفي هذه القراءة تأويلان أحدهما : أن يكون « خَلْقهم » مصدراً بمعنى اختلاقهم . قال الزمخشري : أي اختلاقهم للإِفك يعني : وجعلوا لله خَلْقَهم حيث نسبوا قبائحهم إلى الله في قولهم « والله أمَرَنا بها » انتهى . فيكون « لله » هو المفعول الثاني قُدِّم على الأول . والتأويل الثاني : أن يكون « خَلْقهم » مصدراً بمعنى مخلوقهم . فيكون عطفاً على « الجن » ، ومفعوله الثاني محذوف تقديره : وجعلوا مخلوقَهم وهو ما ينحِتون من الأصنام كقوله تعالى : { قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ } شركاءَ لله تعالى .
قوله تعالى : « وخَرَقوا » قرأ الجمهور « خَرَقوا » بتخفيف الراء ونافع بتشديدها . وقرأ ابن عباس بالحاء المهملة والفاء وتخفيف الراء ، وابن عمر كذلك أيضاً إلا أنه شدد الراء ، والتخفيف في قراءة الجماعة بمعنى الاختلاق . قال الفراء : « يقال خلق الإِفك وخَرَقه واختلقه وافتراه وافتعله وخَرَصَه بمعنى كَذَب فيه » ، والتشديد للتكثير لأن القائلين بذلك خلق كثير وجمٌّ غفير ، وقيل : هما لغتان ، والتخفيف هو الأصل . وقال الزمخشري : « ويجوز/ أن يكون مِنْ خرق الثوب إذا شقَّه أي : اشتقُّوا له بنين وبنات » . وأمَّا قراءة الحاء المهملة فمعناها التزوير أي : زوَّروا له أولاداً لأن المزوِّر محرِّف ومغيِّرٌ الحقَّ إلى الباطل .
وقوله { بِغَيْرِ عِلْمٍ } فيه وجهان . أحدهما : أنه نعت لمصدر محذوف أي : خَرَقُوا له خَرْقاً بغير علم قاله أبو البقاء وهو ضعيفُ المعنى ، والثاني : وهو الأحسنُ أن يكونَ منصوباً على الحال من فاعل « خرقوا » أي : افتعلوا الكذبَ مصاحبين للجهل وهو عدم العلم .

بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101)

قوله تعالى : { بَدِيعُ } : قرأ الجمهور برفع العين ، وفيها ثلاثةُ أوجهٍ ، أظهرُها : أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي : هو بديعُ ، فيكون الوقفُ على قوله « والأرض » فهي جملة مستقلة بنفسها . الثاني : أنه فاعلٌ بقوله « تعالى » ، أي تعالى بديع السماوات ، وتكون هذه الجملةُ الفعليةُ معطوفةٌ على الفعلِ المقدَّرِ قبلَها وهو الناصبُ لسبحان فإنَّ « سبحان » كما تقدَّم من المصادر اللازم إضمارُ ناصبِها . الثالث : أنه مبتدأ وخبرُه ما بعده من قوله { أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ } . وقرأ المنصور « بديعِ » بالجر ، قال الزمخشري : « رداً على قوله وجعلوا لله أو على سبحانه » كذا قاله ، ولم يُبَيِّنْ على أيِّ وجهٍ من وجوهِ الإِعراب هو ، وكذا الشيخُ حكاه عنه ومرَّ عليه ، ويريد بالردّ كونَه تابعاً إمَّا : لله ، أو للضمير المجرور في « سبحانه » ، وتبعيَّتُه له على كونه بدلاً من « لله » أو من الهاء في « سبحانه » ، ويجوز أن يكون نعتاً لله على أن تكون إضافةُ « بديع » محضةً كما ستعرفه ، وأما تبعيَّتُه للهاءِ فيتعيَّنُ أن يكونَ بدلاً ، ويمتنعُ أن يكون نعتاً وإن اعتقَدْنا تعريفَه بالإِضافة لمعارِضٍ آخر : وهو أن الضميرَ لا يُنعت ، إلا ضميرَ الغائب على رأيِ الكسائي ، فعلى رأيه قد يجوز ذلك .
وقرأ أبو صالح الشامي « بديعَ » نصباً ، ونصبه على المدح وهي تؤيد قراءةَ الجر . وقراءةُ الرفع المتقدمة يحتمل أن يكون أصلها الإِتباعُ بالجرَّ على البدل ثم قطع التابع رفعاً . وبديع يجوز أن يكونَ بمعنى مُبْدِع ، وقد سَبَقَ معناه ، أو يكونَ صفةً مشبهة أضيفت لمرفوعها كقولك : فلان بديع الشعر أي : بديعٌ شعرُهُ ، وعلى هذين القولين فإضافته لفظية لأنه في الأول من بابِ إضافة اسم الفاعل لمنصوبه ، وفي الثاني من بابِ إضافةِ الصفة المشبهة لمرفوعها ، ويجوز أن يكونَ بمعنى عديم النظير والمِثْل فيهما ، كأنه قيل : البديع في السماوات والأرض ، فالإِضافةُ على هذا إضافةٌ مَحْضَةٌ .
قوله : { أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ } أنَّى بمعنى كيف أو مِنْ أين ، وفيها وجهان أحدهما : أنها خبر كان الناقصة و « له » في محل نصب على الحال ، و « ولد » اسمُها ، ويجوز أن تكون منصوبةً على التشبيه بالحالِ أو الظرفِ كقوله « كيف تكفرون بالله » والعاملُ فيها قال أبو البقاء : « يكون » ، وهذا على رأي مَنْ يُجيز في « كان » أن تعمل في الأحوال والظروف وشبههما ، و « له » خبر يكون و « ولد » اسمها . ويجوز في « يكون » أن تكونَ تامةً ، وهذا أحسنُ ، أي : كيف يُوْجَدُ له ولدٌ وأسباب الوَلَدِيَّةِ منتفيةٌ؟
قوله : « ولم تكنْ له صاحبةٌ » هذه الواو للحال ، والجملةُ بعدها في محل نصب على الحال من مضمون الجملة المتقدمة أي : كيف يوجد له ولد والحال أنه لم يكن له زوج ، وقد عُلِمَ أن الولد إنما يكون من بين ذكر وأنثى وهو مُنَزَّهٌ عن ذلك .

والجمهور على « تكن » بالتاء من فوق . وقرأ النخعي بالياء من تحت وفيه أربعة أوجه ، أحدها : أن الفعل مسند إلى « صاحبة » أيضاً كالقراءة المشهورة ، وإنما جاز التذكير للفصل كقوله :
2024 لقد وَلَدَ الأخيطِلَ أمُّ سوءٍ ... . . . . . . . . . . . . .
وقوله :
2025 إنَّ امرَأً غَرَّه في الدنيا واحدةٌ ... بعدي وبعدك في الدنيا لمغرور
وقال ابن عطية : « وتذكيرُ كان وأخواتها مع تأنيث اسمِها أسهلُ من ذلك في سائر الأفعال » . قال الشيخ : « ولا أعرفُ هذا عن النحويين ولم يُفَرِّقوا بين كان وغيرها » . قلت : هذا كلام صحيح ، ويؤيده أن الفارسي وإن كان يقول بحرفية بعضها ك ليس فإنه لا يُجيز حَذْفَ التاء منها ، لو قلت : « ليس هند قائمة » لم يجز . الثاني : أن في « يكون » ضميراً يعود على الله تعالى ، و « له » خبر مقدم ، و « صاحبة » مبتدأ مؤخر ، والجملة خبر « يكون » . الثالث أن يكون « له » وحدَه هو الخبر ، و « صاحبةٌ » فاعل به لاعتماده/ وهذا أَوْلَى ممَّا قبله؛ لأنَّ الجارَّ أقربُ إلى المفرد ، والأصل في الأخبار الإِفراد . الرابع : أنَّ في « يكون » ضميرَ الأمر والشأن و « له » خبرٌ مقدَّمٌ ، و « صاحبةٌ » مبتدأ مؤخر ، والجملة خبر « يكون » مفسِّرة لضمير الشأن ، ولا يجوزُ في هذا أن يكون « له » هو الخبر وحده و « صاحبةٌ » فاعلٌ به كما جاز في الوجه قبله . والفرق أنَّ ضمير الشأنِ لا يُفَسَّر إلا بجملةٍ صريحة ، وقد تقدَّم أنَّ هذا النوعَ من قبيل المفردات . و « تكن » يجوز أن تكونَ الناقصة أو التامة حسبما تقدَّم فيما قبلها .
وقوله : { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ } هذه جملة إخبارية مستأنفة ، ويجوز أن تكون حالاً ، وهي حال لازمة .

ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)

قوله تعالى : { ذلكم } : أي : ذلكم الموصوفُ بتلك الصفاتِ المتقدمةِ اللهُ ، فاسم الإِشارة مبتدأ و « الله » خبره ، وكذا « ربكم » وكذا الجملةُ من قوله { لا إله إِلاَّ هُوَ } ، وكذا « خالق » . قال الزمخشري : « وهو مبتدأ وما بعده أخبار مترادفة » . قلت : هذا عند مَنْ يجيز تَعَدُّد الخبرِ مطلقاً ، ويجوز أن يكون « الله » وحده هو الخبر ما بعده أبدال ، كذا قال أبو البقاء ، وفيه نظر من حيث إنَّ بعضها مشتقٌّ والبدلُ يَقِلُّ بالمشتقات ، وقد يقال إن هذه ، وإن كانت مشتقة ، ولكنها بالنسبة إلى الله تعالى من حيث اختصاصُها به صارت كالجوامد ، ويجوز أن يكون « الله » هو البدل ، وما بعده أخبارٌ أيضاً ، ومَنْ منع تعدُّدَ الخبرِ قَدَّر قبلَ كل خبرٍ مبتدأ ، أو يجعلها كلَّها بمنزلة اسم واحد كأنه قيل : ذلكم الموصوفُ هو الجامعُ بين هذه الصفات .

قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)

قوله تعالى : { قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ } : إنما ذَكَّر الفعلَ لشيئين : أحدهما الفصلُ بالمفعول ، والثاني كون التأنيث مجازياً . والبصائر جمع البصيرة ، وهي الدلالة التي توجب إبصار النفوس للشيء ، ومنه قيل للدم الدالِّ على القتيل بصرة . والبصيرة مختصة بالقلب كالبصر للعين ، هذا قول بعضهم . وقال الراغب : « ويقال لقوة القلب المُدْرِكة بَصيرة وبَصَر ، قال تعالى : { مَا زَاغَ البصر وَمَا طغى } [ النجم : 17 ] وقد تقدَّم تحقيق هذا في أوائل البقرة .
و { مِن رَّبِّكُمْ } يجوز أن يتعلَّق بالفعل قبله ، وأن يتعلق بمحذوفٍ على أنه صفة لما قبله ، أي : بصائر كائنة من ربكم ، و » مِنْ « في الوجهين لابتداء الغاية مجازاً .
قوله : { فَمَنْ أَبْصَرَ } يجوز أن تكون شرطية ، وأن تكون موصولة ، فالفاء جوابُ الشرط على الأول ، ومزيدة في الخبر لشبه الموصول باسم الشرط على الثاني ، ولا بد قبل لام الجر مِنْ محذوف يَصِحُّ به الكلامُ ، والتقدير : فالإِبصار لنفسه ومَنْ عَمِي فالعَمَى عليها . والإِبصار والعَمَى مبتدآن ، والجارُّ بعدهما هو الخبر ، والفاء داخلة على هذه الجملةِ الواقعة جواباً أو خبراً ، وإنما حُذِف مُبْتَدَؤُها للعلم به ، وقدَّر الزجاج قريباً من هذا فقال : » فلنفسه نَفْع ذلك ، ومَنْ عمي فعليها ضررُ ذلك « . وقال الزمخشري : » فَمَنْ أبصر الحقَّ وآمن فلنفسه أبصر وإياها نَفَعَ ، ومَنْ عمي فعليها أي : فعلى نفسه عَمِي ، وإياها ضَرَّ « . قال الشيخ : » وما قَدَّرناه من المصدر أَوْلى ، وهو فالإِبصار والعمى ، لوجهين ، أحدهما : أن المحذوف يكون مفرداً لا جملة ، والجار يكون عمدةً لا فَضْلة ، وفي تقديره هو المحذوفُ جملةٌ والجارُّ والمجرورُ فضلةٌ . والثاني : وهو أقوى وذلك أنه لو كان التقدير فعلاً لم تدخل الفاء سواء كانت « مَنْ » شرطيةً أم موصولة مشبهة بالشرط؛ لأن الفعل الماضي إذا لم يكن دعاءً ولا جامداً ، ووقع جوابَ شرط أو خبرَ مبتدأ مشبه بالشرط لم تدخل الفاء في جواب الشرط ولا في خبر المبتدأ ، لو قلت : « مَنْ جاءني فأكرمتُه » لم يَجُزْ بخلافِ تقديرنا فإنه لا بد فيه من الفاء ، ولا يجوز حَذْفُها إلا في الشعر « . قلت : هذا التقدير الذي قدَّره الزمخشري مسبوقٌ إليه سبقه إليه الكلبي فإنه قال : » فَمَنْ أبصر صَدَّق وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فلنفسه عمل ومَنْ عمي فلم يُصَدِّق فعلى نفسه جَنَى العذاب « . وقوله » إن الفاء لا تدخل فيما ذكر « قد يُنازَعُ فيه ، وإذا كانوا فيما يَصْلُحُ أن يكون جواباً صريحاً ويظهر/ فيه أثر الجازم كالمضارع يجوز فيه دخول الفاء نحو : { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ } [ المائدة : 95 ] فالماضي بدخولها أَوْلى وأَحْرى .

وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)

قوله تعالى : { وكذلك } : الكاف في محل نصب نعتاً لمصدر محذوف ، فقدَّره الزجاج : « ونُصَرِّفُ الآياتِ مثلَ ما صَرَّفناها فيما تُلي عليكم » ، وقدَّره غيرُه : نُصَرِّف الآيات في غير هذه السورة تصريفاً مثل التصريف في هذه السورة .
قوله : « ولِيقولوا » الجمهور على كسرِ اللامِ ، وهي لام كي ، والفعلُ بعدها منصوب بإضمار « أَنْ » فهو في تأويل مصدر مجرور بها على ما عُرِف غيرَ مرة ، وسمَّاها أبو البقاء وابن عطية لام الصيرورة كقوله تعالى : { فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] وكقوله :
2026 لِدُوا للموتِ وابنُوا للخَراب ... . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أي : لمَّا صار أمرُهم إلى ذلك عبَّر بهذه العبارة ، والعلة غير مرادة في هذه الأمثلة ، والمحققون يأبَوْن جَعْلَها للعاقبة والصيرورة ، ويُؤَوِّلون ما وَرَدَ من ذلك على المجاز . وجَوَّز أبو البقاء فيها الوجهين : أعني كونَها لامَ العاقبة أو العلة حقيقةً فإنه قال : « واللام لام العاقبة أي : إن أمرَهم يَصير إلى هذا » وقيل : إنه قصد بالتصريف أن يقولوا دَرَسَتْ عقوبةً لهم « يعني فهذه علة صريحة وقد أوضح بعضهم هذا فقال : » المعنى : يُصَرِّف هذه الدلائل حالاً بعد حال ليقولَ بعضُهم دارَسَتْ فيزدادوا كفراً ، وتنبيهٌ لبعضهم فيزدادوا إيماناً ، ونحو : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً } [ البقرة : 2 ] . وأبو علي جعلها في بعض القراءات لام الصيرورة ، وفي بعضها لام العلة فقال : « واللام في ليقولوا في قراءة ابن عامر ومَنْ وافقه بمعنى : لئلا يقولوا أي : صُرِفَت الآيات وأُحْكِمَتْ لئلا يقولوا هذه أساطير الأولين قديمة قد بَلِيَتْ وتكرَّرَتْ على الأسماع ، واللام على سائر القراءات لام الصيرورة » . قلت : قراءة ابن عامر دَرَسَتْ بوزن أَكَلَتْ وسَرَقتْ فعلاً ماضياً مسنداً لضمير الآيات ، وسيأتي تحقيق القراءات في هذه الكلمة متواتِرها وشاذِّها . قال الشيخ « وما أجازه من إضمارِ » لا « بعد اللام المضمر بعدها » أَنْ « هو مذهب لبعض الكوفيين كما أضمروها بعد » أَنْ « المظهرة في { أَن تَضِلُّواْ } [ النساء : 176 ] ، ولا يجيز البصريون إضمار » لا « إلا في القسم على ما تبيَّن فيه » .
ثم هذه اللام لا بدَّ لها من مُتَعَلَّق ، فقدَّره الزمخشري وغيره متأخراً . قال الزمخشري : « وليقولوا جوابه محذوف تقديره : وليقولوا دَرَسَتْ نُصَرِّفها . فإن قلت : أيُّ فرق بين اللامين في لِيَقُولوا ولنبيِّنه؟ قلت : الفرق بينهما أن الأولى مجاز والثانية حقيقة ، وذلك أن الآيات صُرِفَت للتبيين ، ولم تُصْرَفْ ليقولوا دارست ، ولكن لأنه لمَّا حصل هذا القولُ بتصريف الآيات كما حصل للتبيين شَبَّهَ به فَسِيْق مَساقَه ، وقيل : ليقولوا كما قيل لنبيِّه » . قلت : فقد نص هنا على أن لام « ليقولوا » علة مجازية .

وجَوَّز بعضهم أن تكون هذه اللام نسقاً على علةٍ محذوفة . قال ابن الأنباري : « دخلت الواو في » وليقولوا « عطفاً على مضمر ، التقدير : وكذلك نصرف الآيات لنُلْزِمَهم الحجةَ وليقولوا » . قلت : وعلى هذا فاللامُ متعلقةٌ بفعلِ التصريف من حيث المعنى ولذلك قَدَّره مَنْ قدَّره متأخراً ب « نُصَرِّف » . وقال الشيخ : « ولا يتعيَّن ما ذكره المُعْرِبون والمفسِّرون من أن اللامَ لامُ كي أو لامُ الصيرورة ، بل الظاهر أنها لام الأمر والفعل مجزوم بها ، ويؤيده قراءة مَنْ سكن اللام ، والمعنى عليه يتمكن ، كأنه قيل : وكذلك نُصَرِّف الآياتِ وليقولوا هم ما يقولون مِنْ كونها دَرَسْتَها وَتَعَلَّمتها أو دَرَسَت هي أي : بَلِيَتْ وقَدُمَتْ ، فإنه لا يُحْتَفَلُ بهم ولا يُلْتفت إلى قولهم ، وهو أمرٌ معناه الوعيدُ والتهديدُ وعدمُ الاكتراث بقولهم أي : نُصَرِّفها وليدَّعُوا فيها ما شاؤوا ، فإنه لا اكتراث بدعواهم » .
وفيه نظر من حيث إن المعنى على ما قاله الناس وفهموه ، وأيضاً فإنَّ بعده/ ولنبيِّنَه وهو نصٌّ في لام كي ، وأمَّا تسكين اللام في القراءة الشاذة فلا يدلُّ لاحتمال أن تكون لام كي سُكِّنت إجراءً للكلمة مُجْرى كَتِف وكَبِد . وقد ردَّ الشيخ على الزمخشري حيث قال : « وليقولوا جوابه محذوف » فقال : « وتسميتُه ما يتعلَّق به قوله » وليقولوا « جواباً اصطلاحٌ غريب ، لا يقال في » جئتَ « من قولك » جئت لتقوم « إنه جواب » . قلت : هذه العبارة قد تكررت للزمخشري وسيأتي ذلك في قوله { ولتصغى } [ الأنعام : 113 ] أيضاً . وقال الشيخ هناك : « وهذا اصطلاحٌ غريب » ، والذي يظهر أنه إنما يُسَمِّي هذا النحوَ جواباً لأنه يقع جواباً لسائل . تقول : أين الذي يتعلَّق به هذا الجارُّ؟ فيُجاب به ، فسُمِّي جواباً بهذا الاعتبار ، وأضيف إلى الجارِّ في قوله « وليقولوا » جوابه ، لأن الإِضافة [ تقع ] بأدنى ملابسة وإلا فكلامُ إمامٍ يتكرَّر لا يُحمل على فساد .
وأمَّا القراءات التي في « دَرَسَتْ » فثلاث في المتواتر : فقرأ ابن عامر « دَرَسَتْ » بزنة ضَرَبَتْ ، وابن كثير وأبو عمرو « دارَسْتَ » بزنة قابلْتَ أنت ، والباقون « درسْتَ » بزنة ضربْت أنت . فأمَّا قراءة ابن عامر فمعناها بَلِيَتْ وقَدُمَتْ وتكرَّرَتْ على الأسماع يُشيرون إلى أنها من أحاديث الأولين كما قالوا أساطير الأولين .
وأمَّا قراءة ابن كثير أبي عمرو فمعناها دارسْتَ يا محمدُ غيرَك من أهل الأخبار الماضية والقرون الخالية حتى حفظتها فقلتَها ، كما حَكى عنهم فقال : { إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ } [ النحل : 103 ] وفي التفسير : أنهم كانوا يقولون : هو يدارس سَلْمَان وعَدَّاساً . وأمَّا قراءة الباقين فمعناها حَفِظْتَ وأَتْقَنْتَ بالدرس أخبارَ الأولين كما حكى عنهم { وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين اكتتبها فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً }

[ الفرقان : 5 ] أي تكرَّر عليها بالدَّرْس ليحفظها . وقرئ هذا الحرف في الشاذ عشر قراءاتٍ أُخَرَ فاجتمع فيه ثلاثَ عشرةَ قراءة : فقرأ ابن عباس بخلاف عنه وزيد بن علي والحسن البصري وقتادة « دُرِسَتْ » فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول مسنداً لضمير الآيات ، وفَسَّرها ابن جني والزمخشري بمعنيين ، في أحدهما إشكال . قال أبو الفتح : « يُحتمل أن يراد عَفَتْ أو بَلِيَتْ » . وقال أبو القاسم : « بمعنى قُرِئت أو عُفِيَتْ » . قال الشيخ : « أما معنى قُرِئَتْ وبَلِيَتْ فظاهرٌ؛ لأن دَرَسَ بمعنى كرَّر القراءة متعدٍّ ، وأمَّا » دَرَس « بمعنى بَلِي وانمحى فلا أحفظه متعدياً ولا وَجَدْنا فيمن وَقَفْنا على شعره من العرب إلا لازماً » . قلت : لا يحتاج هذا إلى استقراء فإن معناه [ لا ] يحتمل أن يكون متعدِّياً إذ حَدَثُه لا يتعدَّى فاعلُه فهو كقام وقعد ، فكما أنَّا لا نحتاج في معرفة قصور قام وقعد إلى استقراء بل نَعْرِفُه بالمعنى فكذا هذا .
وقرئ « دَرَّسْتَ » فعلاً ماضياً مشدداً مبنياً للفاعل المخاطب ، فيحتمل أن يكون للتكثير أي : دَرَّسْتَ الكتب الكثيرة كذبَّحْتُ الغنم وقَطَّعْتُ الأثواب ، وأن تكون للتعدية ، والمفعولان محذوفان أي : دَرَّسْتَ غيرَك الكتب وليس بظاهر ، إذ التفسير على خلافه . وقُرِئ دُرِّسْتَ كالذي قبله إلا أنه مبني للمفعول أي : دَرَّسك غيرُك الكتبَ ، فالتضعيف للتعدية لا غير . وقرئ « دُوْرِسْتَ » مسنداً لتاء المخاطب مِنْ دارَسَ كقاتل ، إلا أنه بني للمفعول فقلبت ألفه الزائدة واواً ، والمعنى : دارَسَكَ غيرك .
وقرئ « دارسَتْ » بتاء ساكنة للتأنيث لحقت آخر الفعل ، وفي فاعله احتمالان ، أحدهما : أنه ضمير الجماعة أُضْمِرَتْ وإن لم يَجْرِ لها ذِكْرٌ لدلالة السياق عليها أي : دارستك الجماعة ، يُشيرون لأبي فكيهة وسلمان ، وقد تقدم ذلك في قراءة ابن كثير وأبي عمرو ، والثاني : ضمير الإِناث على سبيل المبالغة أي : إن الآيات نفسها دارَسَتْكَ وإن كان المراد أهلها .
وقرئ « دَرُسَتْ » بفتح الدال وضم الراء مسنداً إلى ضمير الآيات وهو مبالغة في دَرَسَتْ بمعنى بَلِيَتْ وقَدُمَتْ وانمحت أي اشتد دُروسُها وبِلاها . وقرأ أُبَيّ/ « دَرَسَ » وفاعله ضمير النبي صلى الله عليه وسلم أو ضمير الكتاب بمعنى قرأه النبي وتلاه وكُرِّرَ عليه ، أو بمعنى بلي الكتاب وامَّحى ، وهكذا في مصحف عبد الله درس .
وقرأ الحسن في رواية « دَرَسْنَ » فعلاً ماضياً مسنداً لنون الإِناث هي ضمير الآيات ، وكذا هي في بعض مصاحف ابن مسعود . وقرئ « دَرَّسْنَ » الذي قبله إلا أنه بالتشديد بمعنى اشتد دُروسها وبِلاها كما تقدَّم . وقرئ « دارسات » جمع دارسة بمعنى قديمات ، أو بمعنى ذات دُروس نحو : عيشة راضية ، وماء دافق ، وارتفاعُها على خبر ابتداء مضمر أي : هنَّ دارسات ، والجملة في محلّ نصب بالقول قبلها .
وقوله { وَلِنُبَيِّنَهُ } تقدَّم أن هذا عطفٌ على ما قبله فحكمه حكمه . وفي الضمير المنصوب أربعةُ احتمالات ، أحدها : أنه يعود على الآيات ، وجاز ذلك وإن كانت مؤنثة لأنها بمعنى القرآن . الثاني : أنه يعود على الكتاب لدلالة السياق عليه ، ويُقَوِّي هذا أنه فاعل لدَرَسَ في قراءةِ مَنْ قرأه كذلك . الثالث : أنه يعود على المصدر المفهوم مِنْ نُصَرِّف أي نبيِّن التصريف . الرابع : أن يعود على المصدر المفهوم من « لنبينه » أي : نبيِّن التبيين نحو : ضَرَبْتُه زيداً أي ضربت الضرب زيداً . و « لقوم » متعلق بالفعلِ قبلَه . و « يَعْلَمُون » في محل جر صفة للنكرة قبلها .

اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106)

وقوله تعالى : { مَآ أُوحِيَ } : يجوز أن تكون اسمية ، والعائد هو القائم مقام الفاعل . و « إليك » فضلةٌ ، وأجازوا أن تكون مصدريةً والقائمُ مقامَ الفاعل حينئذ الجار والمجرور أي : الإِيحاء الجائي مِنْ ربك ، و « مِنْ » لابتداء الغاية مجازاً ف « مِنْ ربك » متعلِّقٌ بأُوْحِي . وقيل : بل هو حال من « ما » نفسها . وقيل : بل هو حال من الضمير المستتر في « أوحي » وهو بمعنى ما قبله .
قوله : { لا إله إِلاَّ هُوَ } جملة معترضة بين هاتين الجملتين الأمريتين ، هذا هو الأحسن . وجَوَّز أبو البقاء أن تكون حالاً من « ربك » وهي حال مؤكدة تقديره : من ربك منفرداً .

وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)

وقوله تعالى : { وَلَوْ شَآءَ الله } : مفعولُ المشيئة محذوف أي : لو شاء الله إيمانهم ، وقد تقدَّم أنه لا يُذْكر إلا لغرابته . وقوله : « جَعَلْناك » هي بمعنى صيَّر ، فالكاف مفعول أول و « حفيظاً » هو الثاني ، و « عليهم » متعلق به قُدِّم للاهتمام أو للفواصل . ومفعول « حفيظ » محذوف أي : حفيظاً عليهم أعمالَهم . قال أبو البقاء : « هذا يؤيد قول سيبويه في إعمال فعيل » يعني أنه مثالُ مبالغة ، وللناس في إعماله وإعمال فَعِل خلاف أثبته سيبويه ونفاه غيره ، وكيف يؤيده وليس شيء في اللفظ يَشْهد له؟
وقوله : { وَمَآ أَنتَ } يجوز أن تكون الحجازية ، فيكون « أنت » اسمها و « بوكيل » خبرها في محل نصب ، ويجوز أن تكون التميميةَ فيكون « أنت » مبتدأ و « بوكيل » خبره في محل رفع ، والباء زائدة على كلا التقديرين ، و « عليهم » متعلِّقٌ بوكيل قُدِّم لِما تقدَّم فيما قبله . وهذه الجملة هي في معنى الجملة قبلها؛ لأنَّ معنى ما أنت وكيل عليهم هو بمعنى ما جعلناك حفيظاً عليهم أي : رقيباً .

وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)

وقوله تعالى : { مِن دُونِ الله } : يجوز أن يتعلَّق ب « يَدْعُون » وأن يتعلَّق بمحذوف على أنه حال : إمَّا من الموصول ، وإمَّا مِنْ عائده المحذوف أي : يَدْعُونهم حالَ كونهم مستقرِّين من دون الله .
قوله : { فَيَسُبُّواْ } الظاهر أنه منصوب على جواب النهي بإضمار أن بعد الفاء أي : لا تَسُبُّوا آلهتَهم؛ فقد يترتب عليه ما يكرهون مِنْ سَبِّ الله ، ويجوز أن يكون مجزوماً نسقاً على فعل النهي قبله كقولهم « لا تَمْدُدْها فتشقَّها » وجاز وقوع « الذين » وإن كان مختصَّاً بالعقلاء على الأصنامِ التي لا تَعْقِلُ معاملةً لها معاملةَ العقلاء كما أوقع عليها « مَنْ » في قوله : { كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } [ النحل : 17 ] ويجوز أن يكون ذلك للتغليب لأن المعبود من دون الله عقلاء كالمسيح وعُزَيْر والملائكة وغيرهم ، فغلَّب العاقل ، ويجوز أن يراد بالذين يَدْعون المشركون أي : لا تَسُبُّوا الكَفَرة الذين يَدْعون غير الله من دونه . وهو وجه واضح .
قوله { عَدْواً } الجمهور على فتح العين وسكون الدال وتخفيف الواو ، ونصبه من ثلاثة أوجه أحدها : أنه منصوب على المصدر لأنه نوعُ من العامل فيه ، لأن السَّبَّ من جنس العَدْوِ . والثاني : أنه مفعول من أجله أي لأجل العدو ، وظاهر كلام الزجاج أنه خلط القولين فجعلهما قولاً واحداً ، فإنه قال : « وعَدْواً منصوبٌ على المصدر لأن المعنى : فَتَعْدُوا/ عَدْواً » قال : « ويكون بإرادة اللام والمعنى : فيسُبُّوا الله للظلم . والثالث : أنه منصوب على أنه واقع موقع الحال المؤكدة لأن السَّبَّ لا يكون إلا عَدْواً . وقرأ الحسن وأبو رجاء ويعقوب وقتادة وسلام وعبد الله بن زيد » عُدُوَّاً « بضم العين والدال وتشديد الواو ، وهو مصدرُ أيضاً ل » عدا « وانتصابُه على ما تقدَّم من ثلاثة الأوجه . وقرأ ابن كثير في رواية - وهي قراءة أهل مكة فيما نقله النحاس - » عَدُوَّا « بفتح العين وضم الدال وتشديد الواو بمعنى أعداء ، ونصبه على الحال المؤكدة و » عدوّ « يجوز أن يقع خبراً عن الجمع ، قال تعالى : { هُمُ العدو } [ المنافقون : 4 ] وقال تعالى { إِنَّ الكافرين كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً } [ النساء : 101 ] . ويقال : عَدا يَعْدُوا عَدْواً وعُدُوَّاً وعُدْواناً وعَداءً . و » بغير عِلْم « حالٌ أي : يَسُبُّونه غير عالمين أي : مصاحبين للجهل؛ لأنه لو قَدَّره حَقَّ قَدْره لما أَقْدَموا عليه . وقوله » كذلك « نعتٌ لمصدر محذوف أي : زَيَّنَّا لهؤلاء أعمالَهم تزييناً مثلَ تزيينِنا لكلِّ أمةٍ عَمَلَهم ، وقيل : تقديره : مثلَ تزيينِ عبادةِ الأصنام للمشركين زَيَّنَّا لكلِّ أمة عَمَلَهم وهو قريب من الأول .

وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109)

وقوله تعالى : { جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } : قد تقدَّم الكلام عليه في المائدة . وقرأ طلحة بن مصرف : « لَيُؤْمَنَنْ » مبنياً للمفعول مؤكداً بالنون الخفيفة . قوله « وما يُشْعِركم » : « ما » استفهامية مبتدأة ، والجملة بعدها خبرها ، وفاعلُ « يشعر » يعود عليها ، وهي تتعدى لاثنين الأول ضمير الخطاب ، والثاني محذوف ، أي : وأي شيء يُدْريكم إيمانُهم إذا جاءتهم الآيات التي اقترحوها؟
وقرأ العامَّة « أنها » بفتح الهمزة ، وابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر بخلاف عنه بكسرها . فأمَّا على قراءةِ الكسر فواضحةٌ استجودها الناس : الخليل وغيره؛ لأن معناها استئناف إخبار بعدم إيمان مَنْ طُبع على قلبه ولو جاءتهم كلُّ آية . قال سيبويه : « سألْتُ الخليل عن هذه القراءة يعني قراءة الفتح فقلت : ما منع أن يكون كقولك : ما يدريك أنه لا يفعل؟ فقال : لا يَحْسُن ذلك في هذا الموضع ، إنما قال » وما يُشْعركم « ، ثم ابتدأ فأوجب فقال { إِنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ } ولو فَتَح فقال : { وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ } لكان عُذْراً لهم » . وقد شرح الناس قولَ الخليل وأوضحوه فقال الواحدي وغيره : « لأنك لو فتحت » أنَّ « وجعلتها التي في نحو » بلغني أن زيداً منطلق « لكان عذراً لمن أخبر عنهم أنهم لا يؤمنون ، لأنه إذا قال القائل : » إن زيداً لا يؤمن « فقلت : وما يدريك أن لا يؤمن ، كان المعنى أنَّه يؤمن ، وإذا كان كذلك كان عذراً لمَنْ نفى عنه الإِيمان ، وليس مرادُ الآية الكريمة إقامةَ عُذْرِهم ووجودَ إيمانهم . وقال الزمخشري » وقرئ « إنها » بالكسر ، على أن الكلام قد تمَّ قبله بمعنى : وما يشعركم ما يكون منهم ، ثم أخبرهم بعلمه فيهم فقال : إنها إذا جاءت لا يؤمنون « .
وأمَّا قراءة الفتح فقد وجَّهها الناس على ستة أوجه ، أظهرها : أنها بمعنى لعلَّ ، حكى الخليل » أتيت السوق أنك تشتري لنا منه شيئاً « أي : لعلك ، فهذا من كلام العرب كما حكاه الخليل شاهد على كون » أنَّ « بمعنى لعلَّ ، وأنشد أبو جعفر النحاس :
2027 أريني جواداً مات هُزْلاً لأَنَّني ... أرى ما تَرَيْنَ أو بخيلاً مُخَلَّدا
قال امرؤ القيس : أنشده الزمخشري
2028 عُوجا على الطلل المُحيلِ لأنَّنا ... نبكي الديار كما بكى ابنُ حِذامِ
وقال جرير :
2029 هلَ أنتمْ عائجون بنا لَعَنَّا ... نرى العَرَصاتِ أو أثرَ الخيام
وقال عدي بن زيد :
2030 أعاذلَ ما يُدْرِيكَ أن منيَّتي ... إلى ساعةٍ في اليوم أو في ضحى الغد
وقال آخر :
2032 قلت لشيبانَ ادنُ مِنْ لِقائِهْ ... أنَّا نُغَذِّي الناسَ مِنْ شوائِهْ

ف « أنَّ » في هذه المواضع كلها بمعنى لعلَّ ، قالوا : ويدل على ذلك أنها في مصحف أُبَيّ وقراءته « وما أدراكم لعلَّها إذا جاءت لا يؤمنون » ونُقِلَ عنه : { وَمَا يُشْعِرُكُمْ لعلها إِذَا جَآءَتْ } ، ذكر ذلك أبو عبيد ، وغيره ، ورجَّحوا ذلك أيضاً بأنَّ « لعل » قد كَثُرَ ورودها في مثل هذا التركيب كقوله تعالى : { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ } [ الشورى : 17 ] { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى } [ عبس : 3 ] وممَّنْ جعل « أنَّ » بمعنى « لعل » أيضاً يحيى بن زياد الفراء .
ورجَّح الزجاج ذلك ، فقال : « زعم سيبويه عن الخليل أن معناها » لعلها « قال : » وهذا الوجه أقوى في العربية وأجود « ، / ونسب القراءة لأهل المدينة ، وكذا أبو جعفر . قلت : وقراءة الكوفيين والشاميين أيضاً ، إلا أن أبا علي الفارسي ضعَّف هذا القول الذي استجوده الناس وقوَّوه تخريجاً لهذه القراءة فقال : » التوقع الذي تدل عليه « لعلَّ » لا يناسب قراءة الكسر لأنها تدل على حكمه تعالى عليهم بأنهم لا يؤمنون « ولكنه لمَّا منع كونها بمعنى » لعل « لم يجعلها معمولة ل » يُشْعِركم « بل جعلها على حذف لام العلة أي لأنها ، والتقدير عنده : قل إنما الآيات عند الله لأنها إذا جاءت لا يؤمنون ، فهو لا يأتي بها لإِصْرارهم على كفرهم ، فيكون نظير { وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون } [ الإِسراء : 59 ] أي بالآيات المقترحة ، وعلى هذا فيكون قوله » وما يُشْعركم « اعتراضاً بين العلة والمعلول .
الثاني : أن تكون » لا « مزيدةً ، وهذا رأيُ الفراء وشيخه قال : » ومثله { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } [ الأعراف : 12 ] أي : أن تسجد ، فيكون التقدير : وما يشعركم أنها إذا جاءت يؤمنون ، والمعنى على هذا : أنها لو جاءت لم يؤمنوا ، وإنما حملها على زيادتها ما تقدَّم من أنها لو تُقَدَّر زائدةً لكان ظاهرُ الكلام عذراً للكفار وأنهم يُؤْمنون ، كما عرَفْتَ تحقيقَه أولاً . إلا أن الزجاج نسب ذلك إلى الغلط فقال « والذي ذكر أن » لا « لغوٌ غالط ، لأنَّ ما يكون لغواً لا يكون غيرَ لغو ، ومَنْ قرأ بالكسر فالإِجماع على أن » لا « غير لغو » فليس يجوز أن يكون معنى لفظة مرةً النفيَ ومرةً الإِيجابَ في سياق واحد .
وانتصر الفارسي لقول الفراء ونفى عنه الغلط ، فإنه قال : « يجوز أن تكون » لا « في تأويلٍ زائدةً ، وفي تأويلٍ غيرَ زائدة كقول الشاعر :
2032 أبى جودُه لا البخلَ واستعجلَتْ نَعَمْ ... به مِنْ فتى لا يمنع الجودَ نائِلُهْ
يُنشد بالوجهين أي بنصب » البخل « وجرِّه ، فَمَنْ نَصَبَه كانت زائدة أي : أبى جوده البخل ، ومَنْ خفض كانت غيرَ زائدة وأضاف » لا « إلى البخل قلت : وعلى تقدير النصب لا يلزم زيادتها لجواز أن تكون » لا « مفعولاً بها والبخل بدل منها أي : أبى جوده لفظ » لا « ، ولفظ » لا « هو بخل .

وقد تقدَّم لك طرفٌ من هذا محققاً عند قوله تعالى { وَلاَ الضآلين } [ الفاتحة : 7 ] في أوائل هذا الموضوع ، وسيمر بك مواضعُ منها ، كقوله تعالى : { وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } [ الأنبياء : 95 ] قالوا : تحتمل الزيادةَ وعَدَمَها ، وكذا { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } [ الأعراف : 12 ] { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب } [ الحديد : 29 ] .
الثالث : أن الفتح على تقديرِ لامِ العلة ، والتقدير : إنما الآيات التي يقترحونها عند الله لأنها إذا جاءت لا يؤمنون ، وما يُشْعركم اعتراض ، كما تقدَّم تحقيق ذلك عن أبي علي فأغنى عن إعادته ، وصار المعنى : إنما الآيات عند الله أي المقترحة لا يأتي بها لانتفاء إيمانهم وإصرارهم على كفرهم .
الرابع : أنَّ في الكلام حذفَ معطوفٍ على ما تقدَّم . قال أبو جعفر في معانيه : « وقيل في الكلام حذف ، المعنى : وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون أو يؤمنون » فحذف هذا لعلم السامع ، وقَدَّره غيره : ما يشعركم بانتفاء الإِيمان أو وقوعه .
الخامس : أنَّ « لا » غير مزيدة ، وليس في الكلام حَذْفٌ بل المعنى : وما يدريكم انتفاء إيمانهم ، ويكون هذا جواباً لمن حكم عليهم بالكفر أبداً ويئس من إيمانهم . وقال الزمخشري : « وما يشعركم وما يدريكم أنها - أن الآيات التي يقترحونها - إذا جاءت لا يؤمنون بها ، يعني : أنا أعلم أنها إذا جاءت لا يؤمنون بها وأنتم لا تَدْرُون بذلك ، وذلك أن المؤمنين كانوا حريصين على إيمانهم وطامعين فيه إذا جاءت تلك الآية ويتمنَّون مجيئها فقال عز وجل : » وما يدريكم أنهم لا يؤمنون « على معنى : أنكم لا تَدْرُوْنَ ما سَبَقَ علمي بهم أنهم لا يؤمنون ، ألا ترى إلى قوله : { كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ الأنعام : 110 ] انتهى . قلت بَسْطُ قولِه إنهم كانوا يطمعون في إيمانهم ما جاء في التفسير أن المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أنزل علينا الآية التي قال الله فيها { إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } ونحن والله نؤمن فأنزل الله تعالى : وما يُشْعركم إلى آخرها/ . وهذا الوجه هو اختيار الشيخ فإنه قال : » ولا يحتاج الكلام إلى زيادة « لا » ولا إلى هذا الإِضمار « - يعني حَذْفَ المعطوف - » ولا إلى « أنَّ » بمعنى لعلَّ ، وهذا كله خروج عن الظاهر لغير ضرورةٍ ، بل حَمْلُه على الظاهر أَوْلى وهو واضح سائغ أي : وما يشعركم ويدريكم بمعرفة انتفاء إيمانهم لا سبيل لكم إلى الشعور بها « .
السادس : أنَّ » ما « حرف نفي ، يعني أنه نَفَى شعورَهم بذلك ، وعلى هذا فيُطْلَبُ ل » يُشْعركم « فاعلٌ .

فقيل : هو ضمير الله تعالى أُضْمر للدلالة عليه ، وفيه تكلُّفٌ بعيد أي : وما يُشْعِرُكم الله أنها إذا جاءت الآيات المقترحة لا يؤمنون . وقد تقدَّم في البقرة كيفيةُ قراءةِ أبي عمرو ل { يُشْعِرُكُمْ } [ الأنعام : 109 ] و { يَنصُرْكُمُ } [ آل عمران : 160 ] ونحوِهما عند قوله { إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ } [ البقرة : 67 ] ، وحاصلها ثلاثة أوجه : الضم الخالص ، والاختلاس ، والسكون المحض .
وقرأ الجمهور : « لا يؤمنون » بياء الغيبة ، وابن عامر وحمزة بتاء الخطاب ، وقرآ أيضاً في الجاثية [ الآية : 6 ] { فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ الله وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ } بالخطاب ، وافقهما عليها الكسائي وأبو بكر عن عاصم ، والباقون بالياء للغيبة ، فَتَحَصَّل من ذلك أنَّ ابن عامر وحمزة يقرآن بالخطاب في الموضعين ، وأنَّ نافعاً وابن كثير وأبا عمرو وحفصاً عن عاصم بالغيبة في الموضعين ، وأن الكسائي وأبا بكر عن عاصم بالغيبة هنا وبالخطاب في الجاثية ، فقد وافقا أحد الفريقين في إحدى السورتين والآخر في أخرى .
فأما قراءة الخطاب هنا فيكون الظاهر من الخطاب في قوله « وما يشعركم » أنه للكفار ، ويتضح معنى هذه القراءة على زيادة « لا » أي : وما يُشْعركم أنكم تؤمنون إذا جاءت الآيات التي طلبتموها كما أَقْسَمْتُمْ عليه ويتضح أيضاً على كونِ « أنَّ » بمعنى لعلَّ مع كون « لا » نافيةً ، وعلى كونِها علةً بتقديرِ حَذْفِ اللامِ أي : إنما الآيات عند الله فلا يأتيكم بها؛ لأنها إذا جاءت لا يؤمنون بها ، ويتضح أيضاً على كون المعطوف محذوفاً أي : وما يدريكم بعدم إيمانكم إذا جاءت الآيات أو وقوعه ، لأنَّ مآل أمرِكم مُغَيَّبٌ عنكم فكيف تُقْسِمون على الإِيمان عند مجيء الآيات؟ وإنما يُشْكل إذا جَعَلْنا « أنَّ » معمولةً ل « يُشْعركم » وجَعَلْنَا « لا » نافيةً غير زائدة ، إذ يكون المعنى : وما يدريكم أيها المشركون بانتفاء إيمانكم إذا جاءتكم ، ويزول هذا الإِشكال بأنَّ المعنى : أيُّ شيء يدريكم بعدم إيمانكم إذا جاءتكم الآيات التي اقترحتموها؟ يعني لا يمرُّ هذا بخواطركم ، بل أنتم جازِمُون بالإِيمان عند مجيئها لا يَصُدُّكم عنه صادٌّ ، وأنا أعلم أنكم لا تؤمنون وقت مجيئها لأنكم مطبوعٌ على قلوبكم .
وأمَّا على قراءة الغَيْبة فتكون الهمزةُ معها مكسورةً ، وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وأبي بكر عن عاصم ، ومفتوحة وهي قراءة نافع والكسائي وحفص عن عاصم .
فعلى قراءة ابن كثير ومَنْ معه يكون الخطاب في « وما يشعركم » جائزاً فيه وجهان ، أحدهما : أنه خطاب للمؤمنين أي : وما يشعركم أيها المؤمنون إيمانهم ، ثم استأنف إخباراً عنهم بأنهم لا يؤمنون فلا تَطْمعوا في إيمانهم والثاني : أنه للكفار أي : وما يُشْعركم أيُّها المشركون ما يكون منكم ، ثم استأنف إخباراً عنهم بعدم الإِيمان لعلمه السابق فيهم ، وعلى هذا ففي الكلام التفاتٌ من خطاب إلى غيبة .
وعلى قراءة نافع يكون الخطابُ للكفار ، وتكون « أنَّ » بمنى لعلَّ ، كذا قاله أبو شامة وغيره .

وقال الشيخ في هذه القراءة : « الظاهر أن الخطاب للمؤمنين ، والمعنى : وما يدريكم أيها المؤمنون أن الآية التي تقترحونها إذا جاءت لا يؤمنون » يعني أنا أعلم أنها إذا جاءت لا يؤمنون بها ، ثم ساق كلام الزمخشري بعينه الذي قَدَّمْتُ ذِكْرَه عنه في الوجه الخامس قال : « ويبعد جداً أن يكون الخطاب في » وما يشعركم « للكفار » . قلت : إنما استبعده لأنه لم يَرَ في « أنَّ » هذه أنها بمعنى لعل كما حكيتُه عنه . وقد جعل الشيخُ في مجموع { أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ } بالنسبة إلى كسر الهمزة وفتحِها والخطاب والغَيْبة أربع قراءات قال : « وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والعليمي والأعشى عن أبي بكر ، وقال ابن/ عطية : » ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية داود الإِيادي : إنها بكسر الهمزة ، وقرأ باقي السبعة بفتحها ، وقرأ ابن عامر وحمزة « لا تؤمنون » بتاء الخطاب والباقون بياء الغيبة ، فترتَّب أربع قراءات : الأولى : كَسْرُ الهمزة والياء وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وأبي بكر بخلاف عنه في كسر الهمزة « ثم قال : » القراءة الثانية : كَسْرُ الهمزة والتاء وهي رواية العليمي والأعشى عن أبي بكر عن عاصم ، والمناسب أن يكون الخطاب للكفار في هذه القراءة كأنه قيل : وما يدريكم أيها الكفار ما يكون منكم؟ ثم أخبرهم على جهة الجزم أنهم لا يؤمنون على تقدير مجيئها ، ويبعد جداً أن يكون الخطاب في « وما يُشْعركم » للمؤمنين وفي « تؤمنون » للكفار . ثم ذكر القراءة الثالثة نظرٌ لا يخفى : وذلك أنه لَمَّا حكى قراءة الخطاب في « تؤمنون » لم يحكها إلا عن حمزة وابنِ عامر فقط ، ولم يدخل معهما أبو بكر لا من طريق العليمي والأعشى ولا من طريق غيرهما ، والفرض أن حمزة وابن عامر يفتحان همزة « أنها » ، وأبو بكر يكسرها ويفتحها ، ولكنه لا يقرأ « يؤمنون » إلا بياء الغيبة فمن أين تجيء لنا قراءةٌ بكسر الهمزة والخطاب؟ وإنما أتيتُ بكلامه برُمَّته ليُعْرَفَ المأخذ عليه ثم إني جَوَّزْتُ أن تكون هذه روايةً رواها فكشفتُ كتابه في القراءات ، وكان قد أفرد فيه فصلاً انفرد به العليمي في روايته ، فلم يذكر أنه قرأ « تؤمنون » بالخطاب البتة ، ثم كشفت كتباً في القراءات عديدةً فلم أرهم ذكروا ذلك فعرفتُ أنه لَمَّا رأى للهمزة حالتين ولحرف المضارعة في « يؤمنون » حالتين ضرب اثنين في اثنين فجاء من ذلك أربعُ قراءات ولكن إحداهما مهملة .
وقوله « لا يُؤْمنون » متعلَّقُه محذوف للعلم به أي : لا يؤمنون بها .
قوله : { ونُقَلِّب } في هذه الجملة وجهان ، أحدهما ولم يقل الزمخشري غيره أنها وما عطف عليها من قوله « وَيذَرُهم » عطف على « يُؤْمنون » داخلٌ في حكم وما يُشْعركم ، بمعنى : وما يشعركم أنهم لا يؤمنون ، وما يُشْعركم أنَّا نقلِّب أفئدتَهم وأبصارَهم ، وما يُشْعركم أنَّا نَذَرَهم « وهذا يساعده ما جاء في التفسير عن ابن عباس ومجاهد وابن زيد ، والثاني : أنها استئناف إخبار ، وجعله الشيخُ الظاهرَ ، والظاهرُ ما تقدَّم .

وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)

والأفْئِدة : جمع فؤاد وهو القلب ، ويُطلق على العقل . وقال الراغب : « الفؤاد كالقلب لكن يقال له فؤاد إذا اعتُبِرَ به معنى التَّفَؤُّد أي التوقُّد يقال : فَأَدْتُ اللحم : شَوَيْتُه ومنه لحم فئيد أي مَشْويٌّ ، وظاهر هذا أن الفؤاد غير القلب ويقال له فُؤاد بالواو الصريحة ، وهي بدلٌ من الهمزة لأنه تخفيفٌ قياسيٌّ وبه يَقْرأ ورش فيه وفي نظائره ، وصلاً ووقفاً ، وحمزة وقفاً ، ويُجْمع على أفئدة ، وهو جمعٌ منقاس نحو غُراب وأغْرِبة ، ويجوز أفْيدة بياء بعد الهمزة ، وقرأ بها هشام في سورة إبراهيم وسيأتي .
قوله : { كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ } الكافُ في محل نصب نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ و » ما « مصدرية ، والتقدير : كما قال أبو البقاء تقليباً ككفرهم عقوبةً مساوية لمعصيتهم ، وقَدَّره الحوفي بلا يُؤْمنون به إيماناً ثابتاً كما لم يؤمنوا به أول مرة . وقيل : الكاف هنا للتعليل أي : نقلِّبُ أفئدتهم وأبصارهم لعدم إيمانهم به أولَ مرة . وقيل : في الكلام حَذْفٌ تقديره : فلا يؤمنون به ثاني مرة كما لم يؤمنوا به أول مرة . وقال بعضُ المفسِّرين : » الكافُ هنا معناها المجازاة أي : لمَّا لم يؤمنوا به أولَ مرة نجازيهم بأَنْ نُقَلِّب أفئدتهم عن الهدى ونطبع على قلوبهم ، فكأنه قيل : ونحن نقلِّب أفئدتهم جزاءً لما لم يؤمنوا به أول مرة قاله ابن عطية . قال الشيخ : « وهو معنى التعليل الذي ذكرناه ، إلا أن تسميتَه ذلك بالمجازاة غريبة لا تُعْهَدُ في كلام النحويين » . قلت : قد سُبِقَ ابن عطية إلى هذه العبارة ، قال الواحدي : « وقال بعضهم : معنى الكاف في { كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ } معنى الجزاءِ ، ومعنى الآية : ونقلِّب أفئدتَهم وأبصارهم عقوبةً لهم على تَرْك الإِيمان في المرة الأولى ، والهاء في » به « تعود على الله تعالى أو على رسوله أو على القرآن ، أو على القلب المدلول عليه بالفعل ، وهو أبعدها/ و » أول مرة « نصبٌ على ظرف الزمان وقد تقدَّم تحقيقه .
وقرأ إبراهيم النخعي » ويُقَلِّب ويَذَرُهم « بالياء ، والفاعلُ ضمير الباري تعالى . وقرأ الأعمش : » وتُقَلَّبُ أفئدتهم وأبصارهم « على البناء للمفعول ورفعِ ما بعده على قيامه مَقامَ الفاعل ، كذا رواها الزمخشري عنه ، والمشهورُ بهذه القراءةِ إنما هو النخعي أيضاً ، ورُوي عنه » ويذرهم « بياء الغَيْبة كما تقدم وسكون الراء . وخَرَّج أبو البقاء هذا التسكينَ على وجهين : أحدهما : التسكين لتوالي الحركات . والثاني : أنه مجزوم عطفاً على » يؤمنوا « ، والمعنى : جزاء على كفرهم ، وأنه لم يذرْهم في طغيانهم بل بَيَّنَ لهم » . وهذا الثاني ليس بظاهر . و « يَعْمَهون » في محلِّ حال أو مفعول ثان؛ لأن الترك بمعنى التصيير .

وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)

قوله تعالى : { قُبُلاً } : قرأ نافع وابن عامر « قِبَلاً » هنا وفي الكهف بكسر القاف وفتح الباء ، والكوفيون هنا وفي الكهف بضمها ، وأبو عمرو وابن كثير بضمها هنا وكسر القاف وفتح الباء في الكهف ، وقرأ الحسن البصري وأبو حَيْوة وأبو رجاء بالضم والسكون . وقرأ أُبَيّ والأعمش « قبيلاً » بياء مثناة من تحت بعد باء موحدة مكسورة . وقرأ طلحة بن مصرف « قَبْلا » بفتح القاف وسكون الباء .
فأمَّا قراءة نافع وابن عامر ففيها وجهان ، أحدهما : أنها بمعنى مُقَابلة أي : معايَنَةً ومُشَاهَدَةً ، وانتصابه على هذا على الحال ، قاله أبو عبيدة والفراء والزجاج ، ونقله الواحدي أيضاً عن جميع أهل اللغة يقال : « لَقِيته قِبَلاً » أي عِياناً . وقال ابن الأنباري : « قال أبو ذر : قلت للنبي صلى الله عليه وسلم أنبيَّاً كان آدم؟ فقال : نعم كان نبياً ، كلَّمه الله قِبَلاً » وبذلك فَسَّرها ابن عباس وقتادة وابن زيد ، ولم يَحْكِ الزمخشري غيره فهو مصدر في موضع الحال كما تقدَّم . والثاني : أنها بمعنى ناحية وجهه ، قاله المبرد وجماعة من أهل اللغة كأبي زيد ، وانتصابه حينئذٍ على الظرف كقولهم : لي قِبَلُ فلان دَيْنٌ ، وما قِبَلك حق . ويقال : لَقِيْتُ فلاناً قِبَلاً ومُقابلةً وقُبُلاً وقُبَلاً وقَبْلِيَّاً وقبيلاً ، كلُّه بمعنى واحد ، ذكر ذلك أبو زيد وأتبعه بكلام طويلٍ مفيد فَرَحِمَه الله تعالى وجزاه خيراً .
وأمَّا قراءة الباقين هنا ففيها أوجه أحدها : أن يكون « قُبُلاً » جمع قبيل بمعنى كفيل كرَغيف ورُغُف وقضيب وقُضُب ونَصِيب ونُصُب . وانتصابه حالاً قال الفراء والزجاج : « جمع قبيل بمعنى كفيل أي : كفيلاً بصدق محمد عليه السلام » ، ويُقال : قَبَلْتُ الرجل أَقبَلُه قَبالة بفتح الباء في الماضي والقاف في المصدر أي : تكفَّلْت به والقبيل والكفيل والزعيم والأَذِين والضمين والحَمِيل بمعنى واحد ، وإنما سُمِّيت الكفالة قَبالة لأنها أوكد تَقَبُّل ، وباعتبار معنى الكَفالة سُمِّي العهدُ المكتوب قَبالة . وقال الفراء في سورة الأنعام : « قُبُلاً » جمع « قبيل » وهو الكفيل « . قال : » وإنما اخترت هنا أن يكون القُبُل في معنى الكفالة لقولهم { أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً } [ الإِسراء : 92 ] يَضْمَنُون ذلك .
الثاني : أن يكون جمع قبيل بمعنى جماعةً جماعةً أو صنفاً صنفاً ، والمعنى : وحَشَرْنا عليهم كلَّ شيء فَوْجاً فوجاً ونوعاً نوعاً من سائر المخلوقات .
الثالث : أن يكون « قُبْلاً » بمعنى قِبَلاً كالقراءة الأولى في أحد وجهيها وهو المواجهة أي : مواجهةً ومعاينةً ، ومنه « آتيك قُبُلاً لا دُبُراً » أي : آتيك من قِبَل وجهك ، وقال تعالى : { إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ } [ يوسف : 26 ] وقُرِئ « لقُبُل عِدَّتِهِنَّ » أي : لاستقبالها . وقال الفراء : « وقد يكون قُبُلاً : من قِبَل وجوههم » .

وأمَّا الذي في الكهف فإنه يَصِحُّ فيه معنى المواجهة والمعاينة والجماعة صنفاً صنفاً؛ لأن المراد بالعذاب الجنس وسيأتي له مزيد بيان .
و « قُبُلاً » نصب على الحال كما مَرَّ مِنْ « كلَّ » وإن كان نكرةً لعمومه وإضافته ، وتقدَّم أنه في أحد أوجهه يُنْصَبُ على الظرف عند المبرد . وأمَّا قراءة الحسن فمخفَّفةٌ من المضموم ، وقرأه أُبَيٌّ بالأصل وهو المفرد . وأمَّا قراءة طلحة فهو ظرفٌ مقطوعٌ عن الإِضافة معناه : أو يأتيَ بالله والملائكة قَبْلَه ، ولكن كان ينبغي أن يُبْنَى لأن الإِضافة مُرادة .
وقوله : { مَّا كَانُواْ } جواب « لو » وقد تقدَّم أنه إذا كان منفيَّاً امتنعَتِ اللام . وقال الحوفي : « التقدير لَمَا كانوا ، حُذِفَتْ اللام وهي مرادةٌ » ، وهذا ليس بجيد لأن الجوابَ المنفيَّ ب « ما » يَقِلُّ دخولُها بل لا يجوز عند بعضهم ، والمنفيُّ ب « لم » ممتنع البتة . وهذه اللام لام الجحود جارَّةٌ للمصدر المؤول من « أَنْ » والمنصوب بها ، وقد تقدَّم تحقيق هذا كلِّه بعَوْن الله تعالى .
قوله : { إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } يجوز أن يكون متصلاً أي : ما كانوا ليؤمنوا في سائرِ الأحوال إلا في حال مشيئة الله أو في سائر الأزمان إلا في زمان مشيئته . وقيل : إنه استثناء من علة عامة أي : ما كانوا ليؤمنوا لشيء من الأشياء إلا لمشيئة الله تعالى . والثاني : أن يكون منقطعاً ، نقل ذلك الحوفي وأبو البقاء واستبعده الشيخ .

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)

قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ } : الكافُ في محل نصب نعتاً لمصدر محذوف ، فقدَّره الزمخشري/ كما خَلَّيْنا بينك وبين أعدائك كذلك فَعَلْنا بمَنْ قَبْلك « ، وقال الواحدي : » وكذلك « منسوقٌ على قوله { كَذَلِكَ زَيَّنَّا } [ الأنعام : 108 ] أي : » كما فَعَلْنا ذلك كذلك جَعَلْنا لكلِّ نبيٍّ عدوَّاً « . ثم قال : » وقيل : معناه جَعَلْنا لك عدواً كما جعلنا لمن قبلك من الأنبياء ، فيكون قولُه « وكذلك » عَطْفاً على معنى ما تَقَدَّم من الكلام ، وما تقدَّم يدلُّ على معناه على أنه جعل له أعداءً و « جَعَل » يتعدَّى لاثنين بمعنى صَيَّر . وأعرب الزمخشري وأبو البقاء والحوفي هنا نحوَ إعرابِهم في قوله تعالى : { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الجن } [ الأنعام : 100 ] فيكونُ المفعول الأول « شياطين الإِنس » والثاني « عَدُوَّا » ، و « لكلِّ » حال من « عدوَّاً » لأنه صفتُه في الأصل ، أو متعلِّق بالجَعْل قبلَه ، ويجوز أن يكون المفعول الأول « عدوَّاً » و « لكلِّ » هو الثاني قُدِّم ، و « شياطين » بدل من المفعول الأول .
والإِضافة في { شَيَاطِينَ الإنس } يُحتمل أن تكونَ من باب إضافة الصفة لموصوفها ، والأصل : الإِنس والجن الشياطين نحو : جَرْد قطيفة ، ورجَّحْتُه بأنَّ المقصودَ التَّسَلِّي والاتِّساء بمن سَبَق من الأنبياء إذ كان في أممهم مَنْ يُعادلهم كما في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، ويحتمل أن تكون من الإِضافة التي بمعنى اللام ، وليست من باب إضافة صفة لموصوف ، والمعنى : الشياطين التي للإِنس ، والشياطين التي للجن ، فإنَّ إبليس قسَّم جنده قسمين : قسمٌ مُتَسَلِّط على الإِنس ، وآخر على الجن كذا جاء في التفسير ، ووقع « عَدُوَّاً » مفعولاً ثانياً لشياطين على أحد الإِعرابين بلفظ الإِفراد لأنه يكتفي به في ذلك ، وتقدَّم شواهده ومنه :
2033 إذا أنا لم أَنْفَعْ صديقي بودِّه ... فإنَّ عدوِّي لن يَضُرَّهُمُ بُغْضي
فأعاد الضمير مِنْ « يَضُرَّهُم » على « عدّو » فدلَّ على جمعيته .
قوله { يُوحِي } يحتمل أن يكون مستأنفاً أخبر عنهم بذلك ، وأن يكون حالاً من « شياطين » وأن يكون وصفاً لعدو ، وقد تقدَّم أنه واقع موقع أعداء ، فلذلك عاد الضمير عليه جمعاً في قوله « بعضهم » .
قوله { غُرُوراً } قيل : نصبٌ على المفعول له أي : لأَنْ يَغُرُّوا غيرهم وقيل : هو مصدرٌ في موضع الحال أي غارِّين ، وأن يكون منصوباً على المصدر ، لأن العاملَ فيه بمعناه كأنه قيل : يَغُرُّون غُروراً بالوحي . والزخرف : الزينة ، وكلامٌ مُزَخْرَف مُنَمَّق ، وأصلُه الذَّهب ، ولمَّا كان الذهب مُعْجِباً لكل أحد قيل لكل مُسْتَحْسَن مزيَّن : زخرف . وقال أبو عبيدة « كلُّ ما حَسَّنْتَه وزَيَّنْتَه وهو باطل فهو زُخْرف » وهذا لا يلزم إذ قد يُطْلق على ما هو زينةٌ حَقٌّ ، وبيت مزخرف أي : مُزَيَّنُ بالنقش ، ومنه الحديث :

« إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدخل الكعبة حتى أَمَرَ بالزخرف فَنُجِّي » يعني أنهم كانوا يزينون الكعبة بنقوش وتصاوير مُمَوَّهة بالذهب فأُمِرْنا بإخراجها .
قوله : { وَمَا يَفْتَرُونَ } « ما » موصولةٌ اسميةٌ أو نكرةٌ موصوفة ، والعائدُ على كِلا هذين القولين محذوف ، أي : وما يفترُونه ، أو مصدرية ، وعلى كلِّ قول فمحلُّها نصبٌ ، وفيه وجهان أحدهما : أنها نسقٌ على المفعول في « فَذَرْهُمْ » أي : اتركهمْ واتركْ افتراءهم . والثاني : أنها مفعول معه ، وهو مرجوحٌ لأنه متى أَمْكَنَ العطفُ من غير ضعف في التركيب أو في المعنى كان أَوْلَى من المفعول معه .

وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)

قوله تعالى : { ولتصغى } : في هذهِ اللامِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنها لامُ كي والفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمار أَنْ . وفيما يتعلَّق به احتمالان : الاحتمال الأول أن يتعلق بيُوحي على أنها نَسَقٌ على « غروراً » ، وغروراً مفعول له والتقدير : يُوحي بعضُهم إلى بعضٍ للغرور وللصَّغْو ، ولكن لمَّا كان المفعول له الأول مستكمِلاً لشروط النصب نُصِب ، ولما كان هذا غيرَ مستكملٍ للشروط وَصَلَ الفعلُ إليه بحرف العلة ، وقد فاته من الشروط كونُه لم يتَّحد فيه الفاعل ، فإنَّ فاعلَ الوحي « بعضهم » وفاعلَ الصَّغْو الأفئدة ، وفات أيضاً من الشروط صريحُ المصدرية . والاحتمالُ الثاني : أن يتعلَّق بمحذوف متأخرٍ بعدها ، فقدَّره الزجاج : ولتَصْغى إليه فَعَلُوا ذلك ، وكذا قدَّرَه الزمخشري فقال : « ولتصغى جوابُه محذوف تقديره : وليكونَ ذلك جَعَلْنا الزمخشري فقال : » ولتصغى جوابُه محذوف تقديره : وليكونَ ذلك جَعَلْنا لكلِّ نبيّ عدُوَّاً ، على أن اللام لام الصيرورة « .
الوجه الثاني : / أن اللام لام الصيرورة وهي التي يعبرون عنها بلام العاقبة ، وهو رأيُ الزمخشري كما تقدَّم حكايته عنه أيضاً .
الوجه الثالث : أنها لامُ القسم . قال أبو البقاء : » إلا أنها كُسِرَتْ لمَّا لم يؤكِّد الفعل بالنون « وما قاله غيرُ معروفٍ ، بل المعروفُ في هذا القول أنَّ هذه لامُ كي ، وهي جواب قسم محذوف تقديره : والله لَتَصْغَى فوضع » لِتَصْغَى « موضع لَتَصْغَيَنَّ ، فصار جواب القسم من قبيل المفرد كقولك : » واللهِ لَيقومُ زيدٌ « أي : أحلفُ بالله لَقيامُ زيد ، هذا مذهبُ الأخفش وأنشد :
2034 إذا قلتُ قَدْني قال بالله حَلْفَةً ... لِتُغْنِيَ عني ذا إنائك أجمعا
فقوْله » لتُغْني « جوابُ القسم ، فقد ظهر أن هذا القائل يقول بكونها لامَ كي ، غايةُ ما في الباب أنها وقعت موقع جواب القسم لا أنها جواب بنفسها ، وكُسِرَتْ لَمَّا حَذَفَتْ منها نون التوكيد ، ويدلُّ على فساد ذلك أن النونَ قد حُذِفَتْ ، ولامَ الجواب باقيةٌ على فتحها قال :
2035 لَئِنْ تَكُ قد ضاقَتْ عليكم بيوتُكُمْ ... لَيَعْلَمُ ربِّي أنَّ بيتيَ واسعُ
فقوله » لَيَعْلَمُ « جوابُ القسم الموطَّأ له باللام في » لِئنْ « ، ومع ذلك فهي مفتوحةٌ مع حَذْفِ نون التوكيد ، ولتحقيقِ هذه المسألةِ مع الأخفش موضوعٌ غيرُ هذا .
والضمير في قوله » ما فعلوه « وفي » إليه « يعود : إمَّا على الوحي ، وإمَّا على الزخرف ، وإمَّا على القول ، وإمَّا على الغرور ، وإمَّا على العداوة لأنها بمعنى التعادي . ولتصغى أي تميل ، وهذه المادة تدل على الميل ومنه قولُه تعالى { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [ التحريم : 5 ] وفي الحديث : » فأصغى لها الإِناء « ، وصاغِيَةُ الرجل قرابتُه الذين يميلون إليه ، وعين صَغْوى أي : مائلة ، قال الأعشى :

2036 ترى عينها صَغْواءَ في جَنْبِ مُؤْقِها ... تُراقب في كَفِّي القطيعَ المحرَّما
والصَّغا : مَيْلٌ في الحَنَك والعين ، وصَغَت الشمس والنجوم : أي مالت للغروب . ويقال : صَغَوْتُ وصَغِيْتُ وصَغَيْتُ ، فاللام واو أو ياء ، ومع الياءِ تُكْسَرُ غين الماضي وتُفْتَحُ . قال الشيخ : « فمصدرُ الأول صَغْوٌ ، والثاني صُغِيٌّ ، والثالث صَغَاً ، ومضارِعُها يَصْغَى بفتح العين » قلت : قد حكى الأصمعي في مصدر صَغَا يَصْغُو صَغَاً ، فليس « صَغَاً » مختصاً بكونِه مصدراً ل « صَغِي » بالكسر . وزاد الفراء « صُغِيَّاً » و « صُغُوَّاً » بالياء والواو مُشَدَّدتين . وأمَّا قولُه « ومضارعُها أي مضارع الأفعال الثلاثة يَصْغَى بفتح العين ، فقد حكى أبو عبيد عن الكسائي صَغَوْتُ أصغو ، وكذا ابن السكيت حكى : صَغَوْتُ أَصْغُو ، فقد خالفوا بين مضارعِها ، وصَغَوْت أَصْغُو هو القياس الفاشي ، فإنَّ فَعَل المعتل اللام بالواو قياسُ مضارعِه يَفْعُل بضم العين . وقال الشيخ أيضاً : » وهي يعني الأفعال الثلاثة لازمة « أي؛ لا تتعدَّى ، وأصغى مثلُها لازم ، ويأتي متعدِّياً فتكون الهمزة للنقل ، وأنشد على » أَصْغَى « اللازم قول الشاعر :
2037 ترى السَّفيهَ به عن كل مُحْكِمَةٍ ... زَيْغٌ وفيه إلى التشبيه إصغاء
قلت : ومثلُه قول الآخر :
2038 تُصْغِي إذا شدَّها بالرَّحْلِ جانحةً ... حتى إذا ما استوى في غَرْزِها تَثِبُ
وتقول : أصغى فلانٌ بأذنه إلى فلان . وأنشد على » أصغى « المتعدي قول الآخر :
2039 أَصاخَ مِنْ نَبْأَةٍ أَصْغى لها أُذُنَاً ... صِماخُها بدخيس الذوق مستور
قلت : وفي الحديث » فأصغى لها الإِناء « ، وهذا الذي زعمه مِنْ كون صغَى أو صَغِيَ أو صَغَا يكون لازماً غير موافق عليه ، بل قد حكى الراغب أنه يقال : صَغَيْتُ الإِناء وأصغيتُه ، وصَغِيت بكسر الغين يحتمل أن يكون من ذوات الياء ، ويحتمل أن يكون من ذوات الواو ، وإنما قُلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها كقَوِي وهو من القوة . وقراءة النخعي والجراح بن عبد الله : » ولِتُصْغَى « من أصغى رباعياً وهو هنا لازم .
وقرأ الحسن : » وَلْتَصْغى ولْيَرْضَوْه/ ولْيقترفوا « بسكون اللام في الثلاثة . وقال أبو عمر الداني : » قراءة الحسن إنما هو « ولِتَصْغِي » بكسر الغين « قلت : فتكون كقراءة النخعي . وقيل : قرأ الحسن » ولِتصغى « بكسر اللام كالعامة ، ولْيرضوه ولْيقترفوا بسكون اللام ، وخَرَّجوا تسكين اللام على أحد وجهين : إمَّا أنها لام كي وإنما سُكِّنَتْ إجراءً لها مع ما بعدها مُجْرى كَبِد ونَمِر ، قال ابن جني : » وهو قويٌّ في القياس شاذٌّ في السماع « . والثاني : أنها لام الأمر ، وهذا وإن تَمَشَّى في ليرضوه وليقترفوا فلا يتمشَّى في » ولتصْغَى « إذ حرفُ العلة يحذف جزماً . قال أبو البقاء : » وليست لامَ الأمر لأنه لم يُجْزم الفعل « . قلت قد ثبت حرفُ العلَّة جزماً في المتواتر فمنها : » أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً نَرْتَعي وَيَلْعَبْ « { إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ الله } [ يوسف : 90 ]

{ سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى } [ الأعلى : 6 ] { لاَّ تَخَفْ دَرَكاً وَلاَ تخشى } [ طه : 77 ] ، وفي كل ذلك تأويلاتٌ ستقفُ عليها إن شاء الله تعالى فلتكنْ هذه القراءة الشاذة مثل هذه المواضع ، والقولُ بكون لامِ « لتصغى » لام كي سُكِّنت لتوالي الحركات واللامين بعدها لامَيْ أمرٍ بعيدٌ وتَشَهٍّ . وقال النحاس : « ويُقْرأ ولْيقترفوا » يعني بالسكون قال : « وفيه معنى التهدد » . قلت يريد أنه أَمْرُ تهديد كقوله : { اعملوا مَا شِئْتُمْ } [ فصلت : 40 ] ولم يَحْكِ التسكينَ في « لتصْغَى » ولا في « ليرضوه » .
و « ما » في ماهم مُقْتَرِفون موصولةً اسمية أو نكرة موصوفة أو نكرة موصوفة أو مصدرية ، والعائد على كلا القولين الأولين محذوفٌ أي : ما هم مقترفوه . وقال أبو البقاء : « وأثبت النونَ لَمَّا حُذِفَتْ الهاء » يريد أن الضميرَ المتصل باسم الفاعل المثنى والمجموع على حَدِّه تُحْذَفُ له نون التثنية والجمع نحو : هذان ضارباه وهؤلاء ضاربوه ، فإذا حذف الضمير زال الموجب فتعود النون ، وهذا هو الأكثر أعني حذف النون مع اتصال الضمير وقد ثبتت قال :
2040 ولم يَرْتَفِقْ والناسُ مُحْتَضِرُونه ... جميعاً وأيدي المعتفين رواهقهْ
وقال :
2041- هم الفاعلونَ الخيرَ والآمرونهُ ... . . . . . . . . . . . .
والاقتراف : الاكتساب ، واقترف فلان لأهله أي : اكتسب ، وأكثر ما يقال في الشر والذنب ، ويطلق في الخير قال تعالى : { وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً } [ الشورى : 23 ] وقال ابن الأنباري : « قَرَف واقْتَرَف اكتسب . وأنشد :
2042 وإني لآتٍ ما أَتَيْتُ وإنني ... لِمَا اقترفَتْ نفسي عَليَّ لَراهِبُ
وأصلُ القِرْف والاقتراف قِشْرُ لِحاء الشجر ، والجِلْدَةُ من أعلى الحَرَج وما يُؤْخذ منه قِرْف ، ثم استعير الاقترافُ للاكتساب حسناً كان أو سيئاً وفي السَّيِّء أكثر استعمالاً ، وقارف فلان أمراً : تعاطَى ما يُعاب به . وقيل : الاعتراف يزيل الاقتراف ، ورجل مُقْرِف أي هجين قال :
2043 كم بجودٍ مُقْرِفٍ نال العُلى ... وشريفٍ بُخْلُه قد وضَعَهْ
وقَرَفْتُه بكذا اتهمته أو عبته به .

أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)

قوله تعالى : { أَفَغَيْرَ الله } : يجوز نصب « غير » من وجهين أحدهما : أنه مفعولٌ لأبتغي عليه وَوَلِيَ الهمزة لِما تقدم في قوله { أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً } [ الأنعام : 14 ] ويكون « حكماً » حينئذ : إمَّا حالاً وإمَّا تمييزاً ل « غير » ذكره الحوفي وأبو البقاء وابن عطية كقولهم : « إن لنا غيرها إبلاً » . والثاني : أن ينتصب « غير » على الحال مِنْ « حَكَماً » لأنه في الأصل يجوز أن يكون وصفاً له ، و « حَكَماً » هو المفعول به فتحصَّل في نصب « غير » وجهان .
وفي نصب « حكماً » ثلاثة أوجه : كونه حالاً أو مفعولاً أو تمييزاً . والحَكَمُ أبلغُ من الحاكم قيل : لأنَّ الحَكَم مَنْ تكرَّر منه الحُكْمُ بخلاف الحاكم فإنه يُصَدِّق غيره . وقيل : لأن الحَكَم لا يَحْكمُ إلا بالعدل والحاكم قد يجور . وقوله « وهو الذي أنزل » هذه الجملة في محل نصب على الحال مِنْ فاعل « أبتغي » ، و « مفصلاً » حال من « الكتاب » .
وقوله : { والذين آتَيْنَاهُمُ } مبتدأ و « يعلمون » خبره ، والجملة مستأنفة ، و « من ربك » لابتداء الغاية مجازاً ، و « بالحق » خال من الضمير المستكنّ في « مُنَزَّل » أي : ملتبساً بالحق فالباء للمصاحبة . وقرأ ابن عامر وحفص عن عاصم « مُنَزَّل » بتشديد الزاي ، والباقون بتخفيفها . وقد تقدَّم أن أنزل ونزَّل لغتان أو بينهما فرقٌ .

وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)

قوله تعالى : { صِدْقاً وَعَدْلاً } : في نصبهما ثلاثة أوجه أحدها : أن يكونا مصدرين في موضع الحال أي : تَمَّتِ الكلمات صادقاتٍ في الوعد عادلاتٍ في الوعيد . الثاني : أنهما نصب على التمييز ، قال ابن عطية : « وهو غير صواب » وممن قال بكونه تمييزاً الطبري وأبو البقاء . الثالث : أنهما نصب على المفعول من أجله أي : تَمَّتْ لأجل الصدق والعدل الواقعين منهما ، وهو محلُّ نظر ، ذكر هذا الوجهَ أبو البقاء .
وقرأ الكوفيون هنا وفي يونس في قوله { كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الذين فسقوا } [ يونس : 33 ] { إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ } [ يونس : 96 ] موضعان ، وفي غافر : { وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ } [ الآية : 6 ] « كلمة » بالإِفراد ، وافقهم ابن كثير وأبو عمرو على ما في يونس وغافر دون هذه السورة ، والباقون بالجمع في المواضع الثلاثة . قال الشيخ : « قرأ الكوفيون هنا وفي يونس في الموضعين وفي المؤمن » كلمة « بالإِفراد ، ونافع جميع ذلك » كلمات « بالجمع ، تابعه أبو عمرو وابن كثير هنا » قلت : كيف نسي ابن عامر؟ لا يقال إنه قد أسقطه الناسخ وكان الأصل « ونافع وابن عامر » لأنه قال « تابعه » ولو كان كذلك لقال « تابعهما » . ووجه الإِفراد إرادة الجنس وهو نظير : رسالته ورسالاته . وقراءةُ الجمع ظاهرةٌ لأنَّ كلماته تعالى متبوعة بالنسبة إلى الأمرِ و النهي والوعد والوعيد ، وقد أُجْمع على الجمع في قوله { لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } { وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ الله } [ الأنعام : 34 ] .
وقوله { لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } : يحتمل أن لا يكونَ لها محلٌّ من الإِعراب لأنها مستأنفة ، وأن تكونَ جملةً حالية من فاعل « تَمَّتْ » . فإن قلت : فأين الرابط بين ذي الحال والحال؟ فالجواب أن الرَّبْطَ حصل بالظاهر ، والأصل : لا مبدِّل لها ، وإنما أُبْرزت ظاهرة تعظيماً لها ولإِضافتها إلى لفظ الجلالة الشريفة . قال أبو البقاء : « ولا يجوز أَنْ يكونَ حالاً من » ربك « لئلا يُفْصَلَ بين الحال وصاحبها بالأجنبي وهو » صدقاً وعدلاً « إلا أن يُجْعَلَ » صدقاً وعدلاً « حالاً من » ربك « لا من » الكلمات « . قلت : فإنه إذا جعل » صدقاً وعدلاً « حالاً من » ربك « لم يَلْزَمْ منه فَصْلٌ لأنهما حالان لذي حال ، ولكنه قاعدته تمنع تعدُّدَ الحال لذي حال واحدة ، وتمنع أيضاً مجيء الحال من المضاف إليه ، وإن كان المضاف بعض الثاني ، ولم يمنع هنا بشيء من ذلك . والرسم في » كلمات « في المواضع التي أشرْتُ إلى اختلاف القراء فيها مُحْتَمِلٌ لخلافهم ، فإنه في المصحف الكريم مِنْ غير ألفٍ بعد الميم .

وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)

وقوله تعالى : { إِن يَتَّبِعُونَ } : و { إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } « إنْ » نافية بمعنى ما في الموضعين . والخَرْص : الحَزْرُ ، ويُعَبَّر به عن الكذب والافتراء ، وأصله من التظنّي وهو قولُ ما لم يستيقن ويتحقق قاله الأزهري ، ومنه خَرَص النخل يقال : خَرَصها الخارص خَرْصاً فهي خِرْص فالمفتوحُ مصدرٌ ، والمكسور بمعنى مفعول كالنَّقض والنِّقض والذَّبح والذِّبْح .

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)

قوله تعالى : { هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ } : في « أعلم » هذه قولان أحدهما : أنها ليست للتفضيل بل بمعنى اسم فاعل في قوته كأنه قيل : إن ربك هو يعلم . قال الواحدي : « ولا يجوز ذلك لأنه لا يطابِقُ { وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين } . والثاني : أنها على بابها من التفضيل . ثم اختلف هؤلاء في محلِّ » مَنْ « : فقال بعض البصريين : هو جرٌّ بحرفٍ مقدَّرٌ حُذِف وبقي عملُه لقوة الدلالة عليه بقوله { وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين } وهذا ليس بشيء لأنه لا يُحْذَفُ الجارُّ ويبقى أثرُه إلا في مواضعَ تقدَّمَ التنبيهُ عليها ، وما وَرَدَ بخلافها فضرورةٌ كقوله :
2044 . . . . . . . . . . . . . . . ... أشارت كليبٍ بالأكف الأصابعُ
[ وقوله ] :
2045 ... حتى تبذَّخ فارتقى الأعلامِ
الثاني : أنها في محل نصب على إسقاط الخافض كقوله :
2046 تمرُّون الديار ولم تعوجوا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قاله أبو الفتح . وهو مردود من وجهين : أحدهما : أن ذلك لا يطَّرد . والثاني : أن أَفْعلَ التفضيل لا تَنْصِبُ بنفسها لضعفها . الثالث : وهو قول الكوفيين أنه نُصِب بنفس أفعل فإنها عندهم تعمل عمل الفعل . الرابع : أنها منصوبةٌ بفعل مقدَّر يدل عليه أفعل ، قاله الفارسي ، وعليه خَرَّج قول الشاعر :
2047 أكَرَّ وأَحْمَى للحقيقةِ منهمُ ... وأَضْرَبَ منا بالسيوف القوانِسا
فالقوانِس نُصِبَ بإضمار فعلٍ ، أي : يَضْرِبُ القوانس ، لأن أفعل ضعيفة كما تقرر . الخامس : أنها مرفوعةُ المحلِّ بالابتداء ، و » يضلُّ « خبره ، والجملة مُعَلِّقة لأفعل التفضيل فهي في محل نصبٍ بها ، كأنه قيل : أعلمُ أيُّ الناس يضلُّ كقوله : { لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أحصى } [ الكهف : 12 ] وهذا رأي الكسائي والزجاج والمبرد ومكي . إلا أن الشيخ رَدّ هذا بأن التعليق فرع ثبوت العمل في المفعول به/ وأفعل لا يعمل فيه فلا يُعَلَّق » . والراجح من هذه الأقوال نَصْبُها بمضمر وهو قول الفارسي ، وقواعد البصريين موافقة له ، ولا يجوز أن تكون « مَنْ » في محل جر بإضافة أفعل إليها؛ لئلا يلزم محذور عظيم : وذلك أن أفعل التفضيل لا تُضاف إلا إلى جنسها فإذا قلت : « زيد أعلمُ الضالين » لزم أن يكون « زيد » بعضَ الضالين أي متَّصِفٌ بالضلال ، فهذا الوجهُ مستحيل في هذه الآية الكريمة . هذا عند مَنْ قرأ « يَضِلُّ » بفتح حرف المضارعة .
أمَّا مَنْ قرأ بضمِّه : « يُضِلّ » وهو الحسن وأحمد بن أبي سريج فقال أبو البقاء : « يجوز أن تكون » مَنْ « في موضع جر بإضافة » أفعل « إليها . قال : » إمَّا على معنى هو أعلم المضلين أي : مَنْ يجد الضلال ، وهو مَنْ أضللته أي : وجدته ضالاًّ مثل أَحْمَدْتُه أي : وجدتُه محموداً أو بمعنى أنه يضلُّ عن الهدى « . قلت : ولا حاجة إلى ارتكاب مثل هذا في مثل هذه الأماكن الحرجة ، وكان قد عَبَّر قبل ذلك بعبارات استعظمْتُ النطق بها فضربت عنها إلى أمثلةٍ من قولي .

والذي تُحْمَلُ عليه هذه القراءة ما تقدَّم من المختار وهو النصب بمضمر . وفاعل « يُضِلّ » على هذه القراءة ضمير يعود على الله تعالى على معنى يجده ضالاً أو يخلُق فيه الضلال ، لا يُسأل عما يَفعل . ويجوز أن يكون ضمير « مَنْ » أي : أعلم مَنْ يضلُّ الناس . والمفعول محذوف . وأمَّا على القراءة الشهيرة فالفاعل ضمير « مَنْ » فقط . و « مَنْ » يجوز أن تكون موصولةً وهو الظاهر ، وأن تكون نكرةً موصوفة ، ذكره أبو البقاء .

فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)

وقوله تعالى : { فَكُلُواْ } : في هذه الفاءِ وجهان أحدهما : أنها جوابُ شرطٍ مقدر . قال الزمخشري بعد كلام : « فقيل للمسلمين : إن كنتم متحققين بالإِيمان فكُلوا » . والثاني : أنها عاطفة على محذوف قال الواحدي : « ودخلت الفاءُ للعطف على ما دلَّ عليه أولُ الكلام كأنه قيل : كونوا على الهدى فكلوا ، والظاهر أنها عاطفة على ما تقدَّم من مضمون الجمل المتقدمة كأنه قيل : اتَّبِعوا ما أمركم الله مِنْ أكل المُذَكَّى دون الميتة فكُلوا .

وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)

قوله تعالى : { وَمَا لَكُمْ } : مبتدأ وخبر ، وقوله « أن لا تأكلوا » فيه قولان أحدهما : هو على حذف حرف الجر أي : أيُّ شيء استقر في منع الآكل ممَّا ذُكِرَ اسم الله عليه ، وهو قول أبي إسحاق الزجاج ، فلمَّا حُذِفَتْ « في » جرى القولان المشهوران ، ولم يذكر الزمخشري غير هذا الوجه . والثاني : أنها في محل نصب على الحال والتقدير : وأيُّ شيءٍ لكم تاركين للأكل ، ويؤيد ذلك وقوعُ الحال الصريحة في مثل هذا التركيب كثيراً نحو : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ } [ المدثر : 49 ] إلا أن هذا مردود بوجهين أحدهما : أنَّ « أنْ » تُخَلِّص الفعلَ للاستقبال فكيف يقع ما بعدها حالاً؟ والثاني : أنها مع ما بعدها مؤولة بالمصدر وهو أشبه بالمضمرات كما تقدم تحريره ، والحال إنما تكون نكرة . قال أبو البقاء : « إلا أن يُقَدَّر حَذْفُ مضاف فيجوز أي : » وما لكم ذوي أن لا تأكلوا « وفيه تكلف ، ومفعول » تأكلوا « محذوف بقيت صفته ، تقديره : شيئاً مما ذُكِرَ اسم الله ، ويجوز أن لا يُراد مفعول ، بل المراد وما لكم أن لا يقع منكم الأكل ، وتكون » مِنْ « لابتداء الغاية أي : أن لا تبتدئوا بالأكل من المذكور عليه اسمُ الله ، وزُعِم أن » لا « مزيدةٌ ، وهذا فاسد إذ لا داعي لزيادتها .
قوله : { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ } قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ببنائهما للمفعول ، ونافع وحفص عن عاصم ببنائهما للفاعل ، وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ببناء الأول للفاعل وبناء الثاني للمفعول ، ولم يأت عكس هذه . وقرأ عطية العوفي كقراءة الأخوين ، إلا أنه خَفَّف الصاد من » فصل « ، والقائم مقام الفاعل هو الموصول ، وعائده من قوله » حَرَّم عليكم « . والفاعلُ في قراءة مَنْ بنى للفاعل ضميرُ الله تعالى ، والجملة في محل نصب على الحال .
قوله : { إِلاَّ مَا اضطررتم } فيه وجهان أحدهما : أنه استثناء منقطع ، قاله ابن عطية والحوفي . والثاني : أنه استثناء متصل قال أبو البقاء : » ما « في موضع نصب على الاستثناء من الجنس من طريق المعنى لأنه وبَّخهم بترك الأكل مما سُمِّي عليه ، وذلك يتضمن الإِباحة مطلقاً » . قلت : الأول أوضح والاتصال قلق المعنى . ثم قال : « وقوله وقد فصَّل لكم ما حَرَّم عليكم أي : في حال الاختيار وذلك/ حلال حالَ الاضطرار » .
قوله { لَّيُضِلُّونَ } قرأ الكوفيون بضم الياء ، وكذا التي في يونس [ الآية : 88 ] { رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ } والباقون بالفتح ، وسيأتي لذلك نظائر في إبراهيم وغيرها ، و القراءتان واضحتان فإنه يقال : ضَلَّ في نفسه وأضلَّ غيره ، فالمفعول محذوف على قراءة الكوفيين ، وهي أبلغُ في الذمِّ فإنها تتضمَّن قُبْحَ فِعْلهم حيث ضلَّوا في أنفسهم وأَضَلُّوا غيرهم كقوله تعالى : { وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السبيل } [ المائدة : 77 ] وقراءةُ الفتح لا تحوج إلى حذف فرجَّحها بعضهم بهذا ، وأيضاً فإنهم أجمعوا على الفتح في ص عند قوله { إِنَّ الذين يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ الله } [ الآية : 26 ] .
وقوله : { بِأَهْوَائِهِم } متعلق بيضلون ، والباء سببيَّة أي : بسبب اتِّباعهم أهواءهم وشهواتهم . وقوله « بغير علم » متعلق بمحذوف لأنه حال أي : يضلُّون مصاحبين للجهل أي : ملتبسين بغير علم .

وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)

قوله تعالى : { وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } : هذه الجملة فيها أوجه ، أحدهما : أنها مستأنفة قالوا : ولا يجوز أن تكون منسوقةً على ما قبلها ، لأن الأولى طلبية وهذه خبرية ، وتُسَمَّى هذه الواوُ واوَ الاستئناف . والثاني : أنها منسوقةٌ على ما قبلها ولا يُبالى بتخالفهما وهو مذهب سيبويه ، وقد تقدَّم تحقيق ذلك ، وقد أَوْرَدْتُ من ذلك شواهد صالحة من شعر وغيره . والثالث : أنها حالية أي : لا تأكلوه والحال أنه فسق . وقد تبجَّح الإِمام الرازي بهذا الوجه على الحنفيَّة حيث قَلَبَ دليلهم عليهم بهذا الوجه ، وذلك أنهم يمنعون مِنْ أَكْلِ متروك التسمية ، والشافعية لا يمنعون منه ، استدلَّ عليهم الحنفية بظاهر هذه الآية فقال الرازي : « هذه الجملة حالية ، ولا يجوز أن تكون معطوفة لتخالفهما طلباً وخبراً فتعيَّن أن تكون حالية ، وإذا كانت حالية كان المعنى : لا تأكلوه حال كونه فسقاً ، ثم هذا الفسق مجمل قد فسَّره الله تعالى في موضع آخر فقال : { أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ } [ الأنعام : 145 ] يعني أنه إذا ذُكر على الذبيحة غيرُ اسم الله فإنه لا يجوز أكلُها لأنه فسقٌ » ونحن نقول به ، ولا يلزم من ذلك أنه إذا لم يُذْكَر اسمُ الله ولا اسمُ غيره أن تكون حراماً لأنه ليس بالتفسير الذي ذكرناه . وللنزاع فيه مجال من وجوه ، منها : أنها لا نُسَلِّم امتناع عطف الخبر على الطلب والعكس كما قدَّمْتُه عن سيبويه ، وإن سُلِّم فالواو للاستئناف كما تقدَّم وما بعدها مستأنف ، وإن سُلِّم أيضاً فلا نُسَلِّم أنَّ « فسقاً » في الآية الأخرى مُبَيِّن للفسق في هذه الآية ، فإنَّ هذا ليس من باب المجمل والمبيِّن لأن له شروطاً ليست موجودةً هنا .
وهذا الذي قاله مستمد من كلام الزمخشري فإنه قال « فإن قلت : قد ذهب جماعة من المجتهدين إلى جواز أَكْلِ ما لم يُذْكَرِ اسم الله عليه بنسيانٍ أو عَمْد . قلت : قد تأوَّله هؤلاء بالميتة وبما ذُكر غيرُ اسمِ الله عليه كقوله : { أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ } [ الأنعام : 145 ] فهذا أصل ما ذكره ابن الخطيب وتبجَّح به .
والضمير في » إنَّه « يحتمل أن يعود على الأكل المدلول عليه ب » لا تأكلوا « وأن يعود على الموصول ، وفيه حينئذ تأويلان : أن تجعل الموصول نفس الفسق مبالغةً أو على حذف مضاف أي : وإن أكله لفسق ، أو على الذِّكْرِ المفهوم من قوله » ذُكر « . قال الشيخ : » والضمير في « إنه » يعود على الأكل قاله الزمخشري واقتصر عليه « . قلت : لم يَقْتَصِرْ عليه بل ذكر أنه يجوز أن يعود على الموصول ، وذكر التأويلين المتقدمين فقال : » الضمير راجع على مصدر الفعل الداخل عليه حرفُ النهي بمعنى : وإن الأكل منه لفسق ، أو على الموصول على أن أكلَه لفِسْق ، أو جَعَلَ ما لم يُذكر اسمُ الله عليه [ في ] نفسه فسقاً « .

قوله : { لِيُجَادِلُوكُمْ } متعلقٌ ب « يُوحُون » أي : يوحون لأجل مجادلتكم . وأصل « يُوحون » : يُوحِيُون فأُعِلّ . « وإن أَطَعْتموهم » قيل : إنَّ لام التوطئة للقسم فلذلك أجيب القسم المقدَّر بقوله « إنكم لمشركون » وحُذِف جواب الشرط لسدّ جواب القسم مَسَدَّه ، وجاز الحذف لأنَّ فعل الشرط ماض . وقال أبو البقاء : « حَذَفَ الفاء من جواب الشرط ، وهو حسن إذا كان الشرط بلفظ الماضي ، وهو ههنا كذلك وهو قوله وإن أَطَعْتموهم » . قلت : كأنه زعم أن جواب الشرط هو الجملة من قوله « إنكم لمشركون » ، والأصل « فإنكم » بالفاء لأنها جملة اسمية ، ثم حُذِفت الفاءُ لكونِ فعل الشرط بلفظ المُضيّ ، وهذا ليس بشيء فإن القَسَمَ مقدر قبل الشرط ، ويدل على ذلك حذفُ اللام الموطئة قبل « إن » الشرطية وليس فعل الشرط ماضياً كقوله تعالى : { وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ } [ الأعراف : 23 ] فههنا لا يُمْكنه أن يقول : إن الفاء محذوفة لأن فعل الشرط مضارع ، وكأن أبا البقاء والله أعلم أخذ هذا من الحوفي فإني رأيته فيه كما ذكره أبو البقاء ، وردَّه الشيخ بنحوٍ مما تقدم .

أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)

قوله تعالى : { أَوَ مَن كَانَ } : « أو مَنْ كان » قد تقدَّم أن هذه الهمزة يجوز أن تكونَ مقدَّمةً على حرفِ العطف وهو رأي الجمهور ، وأن تكونَ على حالها وبينها وبين الواو فعل مضمر . و « مَنْ » في محلِّ رفع بالابتداء و « كمَنْ » خبره وهي موصولة ، و « يمشي » في محلِّ نصب صفةً ل « نوراً » و « مَثَلُه » مبتدأ ، وفي الظلمات خبره/ والجملةُ صلةُ « مَنْ » و « مَنْ » مجرورة بالكاف والكافُ ومجرورها كما تقدَّم في محل رفع خبراً ل مَنْ الأولى ، و « ليس بخارج » في محلِّ نصب على الحال من الموصول أي : مثل الذي استقر في الظلمات حال كونه مقيماً فيها . وقال أبو البقاء : « ليس بخارجٍ في موضع الحال من الضمير في » منها « ، ولا يجوز أن يكون حالاً من الهاء في » مَثَلُه « للفصل بينه وبين الحال بالخبر » . وجعل مكي الجملة حالاً من الضمير المستكنِّ في « الظلمات » . وقرأ طلحة بن مصرف « أَفَمَنْ كان » بالفاء بدل الواو .
قوله : { كَذَلِكَ زُيِّنَ } نعتٌ لمصدر فقدَّره بعضهم : زُيِّن للكافرين تزييناً كما أحيينا المؤمنين ، وقدَّره آخرون : زُيّن للكافرين تزييناً لكونِ الكافرين في ظلمات مقيمين فيها ، والفاعل المحذوف مِنْ « زُيِّن » المنوبُ عنه هو الله تعالى ، ويجوز أن يكون الشيطان ، وقد صَرَّح بكل من الفاعلين مع لفظ « زَيَّن » قال تعالى : { زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ } [ النمل : 4 ] وقال تعالى : { وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ } [ العنكبوت : 38 ] و { مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } هو القائمُ مقامَ الفاعل ، و « ما » يجوز أن تكون موصولة اسميةً أو حرفيةً أو نكرة موصوفة ، والعائد على القول الأول والثالث محذوف دون الثاني عند الجمهور ، على ما عُرِفَ غيرَ مرة . وقال الزجاج : « موضع الكاف رفعٌ ، و المعنى : مثل ذلك الذي قَصَصْنا عليك زُيِّن للكافرين أعمالهم » .

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123)

قوله تعالى : { وكذلك جَعَلْنَا } قيل : « كذلك » نَسَقٌ على « كذلك » قبلها ففيها ما فيها ، وقَدَّره الزمخشري بأن معناه : وكما جعلنا في مكة صناديدَها ليمكروا فيها ، كذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها « واللام في » ليمكروا « يجوز أن تكون للعاقبة وأن تكون للعلةِ مجازاً ، و » جَعَلَ « تصييريةٌ فتتعدَّى لاثنين ، واختُلف في تقديرهما ، والصحيح أن تكون { فِي كُلِّ قَرْيَةٍ } مفعولاً ثانياً قُدِّم على الأول ، والأول » أكابرَ « مضافاً لمجرميها . والثاني : أن { فِي كُلِّ قَرْيَةٍ } مفعول أيضاً مقدم ، » أكابر « هو الأول و » مجرميها « بدلٌ من » أكابر « ذكر ذلك أبو البقاء . الثالث : أن يكون » أكابر « مفعولاً ثانياً قُدِّم و » مجرميها « مفعول أول أُخِّرَ ، والتقدير : جَعَلْنا في كل قرية مجرميها أكابر ، فيتعلق الجار بنفس الفعل قبله ، ذكر ذلك ابن عطية .
قال الشيخ : » وما أجازاه يعني أبا البقاء وابن عطية خطأ وذهول عن قاعدة نحوية وهي : أن أفعل التفضيل إذا كانت ب « مِنْ » ملفوظاً بها أو مقدَّرة أو مضافة إلى نكرة كانت مفردة مذكرة على كل حال سواء كانت لمذكر أم مؤنث مفرد أم مثنى أم مجموع ، وإذا ثُنِّيَتْ أو جُمِعت أو أُنِّثَتْ طابقت ما هي له ولَزِمَها أحد أمرين : إمَّا الألفُ واللامُ وإمَّا الإِضافةُ لمعرفة ، وإذا تقرر ذلك فالقول بكون « مجرميها » بدلاً أو يكون مفعولاً أول و « أكابر » مفعولٌ ثانٍ خطأ لاستلزام أن يبقى « أكابر » مجموعاً وليست فيه ألف ولام ولا هي مضافة لمعرفة « قال : » وقد تنبَّه الكرماني إلى هذه القاعدة فقال : « أضاف » أكابر « إلى » مجرميها « لأن أفعل لا يُجْمَعُ إلا مع الألف واللام أو مع الإِضافة » . قال الشيخ : « وكان ينبغي أن يُقَيَّد بالإِضَافة إلى معرفة » .
قلت : أمَّا هذه القاعدة فمُسَلَّمة ، ولكن قد ذكر مكي مثل ما ذكر ابن عطية سواء وما أظنه أخذ إلا منه ، وكذلك الواحدي أيضاً ومنع أن تُجَوَّز إضافة « أكابر » إلى مجرميها « قال رحمه الله : » والآية على التقديم والتأخير تقديره : جَعَلْنا مجرميها أكابر ، ولا يجوز أن تكون الأكابر مضافة لأنه لا يتمُّ المعنى ، ويحتاج إلى إضمار المفعول الثاني للجعل لأنك إذا قلت : « جعلت زيداً » وسكتَّ لم يُفِد الكلام حتى تقول : رئيساً أو دليلاً أو ما أشبه ذلك ، ولأنك إذا أَضَفْتَ الأكابر فقد أضفت النعت إلى المنعوت ، وذلك لا يجوز عند البصريين « . قلت : هذان الوجهان اللذان ردَّ بهما الواحدي ليسا بشيء ، أمَّا الأول فلا نسلِّم أنَّا نُضْمِرُ المفعول الثاني ، وأنه يصير الكلام غير مفيد ، وأمَّا ما أورده من الأمثلة فليس مطابقاً لأنَّا نقول : إن المفعول الثاني هنا مذكور مُصَرَّح [ به ] / وهو الجار والمجرور السابق .

وأمَّا الثاني فلا نُسَلِّم أنه من باب إضافة الصفة لموصوفها لأن المجرمين أكابر وأصاغر ، فأضاف للبيان لا لقصد الوصف .
الرابع : أن المفعول الثاني محذوف قالوا : وتقديره : جَعَلْنا في كل قرية أكابر مجرميها فُسَّاقاً ليمكروا ، وهذا ليس بشيء ، لأنه لا يُحذف شيء إلا لدليل ، والدليل على ما ذكروه غير واضح . وقال ابن عطية : « ويقال أكابِرَة كما يقال أحمر وأحامرة » . قال الشاعر :
2048 إن الأحامرة الثلاثة أتلفتْ ... ما لي وكنت بهنَّ قِدْماً مُوْلَعا
قال الشيخ : « ولا أعلم أحداً أجاز في جمع أفضل أفاضلة ، بل نصَّ النحويون على أن أَفْعَل التفضيل يُجْمع للمذكر على الأَفْضَلِين أو على الأفاضل » . قلت : وهذه التاء يذكرها النحويون [ على ] أنها تكون دالة على النسب في مثل هذه البِنْية قالوا : الأزارقة والأشاعثة في الأزرق ورَهطه والأشعث وبنيه ، وليس بقياس ، وليس هذا من ذلك في شيء . والجمهور على « أكابر » جمعاً . وقرأ ابن مسلم : « أكبر مجرميها » بالإِفراد ، وهو جائز وذلك أن أفعل التفضيل إذا أضيفت لمعرفة وأريد بها غير الإِفراد والتذكير جاز أن يطابق كالقراءة المشهور هنا ، وفي الحديث : « أحاسنكم أخلاقا » وجاز أن يفرد ، وقد أُجْمِعَ على ذلك في قوله : { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس } [ البقرة : 96 ] .

وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)

قوله تعالى : { حَيْثُ يَجْعَلُ } : في « حيث » هذه وجهان أحدهما : أنها خرجت عن الظرفية ، وصارت مفعولاً بها على السعة ، وليس العاملُ « أعلم » هذه لما تقدم من أنَّ أفعل لا ينصب المفعول به . قال أبو علي : « لا يجوز أن يكون العامل في » حيث « : » أعلم « هذه الظاهرة ، ولا يجوز أن تكون » حيث « ظرفاً لأنه يصير التقدير : الله أعلمُ في هذا الموضع ، ولا يوصف الله تعالى بأنه أعلم في مواضع وأوقات ، لأنَّ عِلْمَه لا يختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة ، وإذا كان كذلك كان العامل في » حيث « فعلاً يدلُّ عليه » أعلم « ، و » حيث « لا يكون ظرفاً بل يكون اسماً ، وانتصابه على المفعول به على الاتساع ، ومثل ذلك في انتصاب » حيث « على المفعول به اتساعاً قول الشماخ :
2049 وحَلأَّها عن ذي الأراكةِ عامرٌ ... أخو الخُضْرِ يَرْمي حيث تُكْوى النواحِزُ
ف » حيث « مفعولة لأنه ليس يريد أنه يرمي شيئاً حيث تكون النواحز إنما يريد أنه يرمي ذلك الموضع » . وتبع الناس الفارسيَّ على هذا القول فقال الحوفي : « ليست ظرفاً لأنه تعالى لا يكون في مكانٍ أعلم منه في مكان آخر ، وإذا لم تكن ظرفاً كانت مفعولاً بها على السعة ، وإذا كانت مفعولاً لم يعمل فيها » أعلم « لأنَّ » أعلم « لا يعمل في المفعول به فيقدَّر لها فعل » ، وعبارة ابن عطية وأبي البقاء نحوٌ من هذا . وأخذ التبريزيُّ كلامَ الفارسي فنقله وأنشد البيت المتقدم .
والثاني : أنها باقية على ظرفيتها بطريق المجاز ، وهذا القول ليس بشيء ، ولكنْ أجازه الشيخ مختاراً له على ما تَقَدَّم فقال : « وما أجازوه من أنه مفعول به على السَّعة أو مفعول به على غير السعة تأباه قواعد النحو ، لأنَّ النحويين نصُّوا على أن » حيث « من الظروف التي لا تتصرَّف ، وشذَّ إضافةُ » لدى « إليها وجرُّها بالباء و ب » في « ، ونصُّوا على أن الظرف المتوسَّع فيه لا يكون إلا متصرِّفاً ، وإذا كان كذلك امتنع نصب » حيث « على المفعول به لا على السَّعة ولا على غيرها .
والذي يظهر لي إقرارُ » حيث « على الظرفية المجازية على أن يُضَمَّن » أعلم « معنى ما يتعدَّى إلى الظرف فيكون التقدير : الله أنفذ علماً حيث يجعل رسالاته أي : هو نافذٌ العلمَ في الموضع الذي يَجْعل فيه رسالاته ، والظرف هنا مجاز كما قلنا » . قلت : قد ترك ما قاله الجمهور وتتابعوا عليه وتأوَّل شيئاً هو أعظمُ مما فرَّ منه الجمهورُ ، وذلك أنه يلزمه على ما قَدَّر أنَّ عِلْمَ الله في نفسه يتفاوت بالنسبة إلى الأمكنة فيكون في مكانٍ أبعدَ منه في مكان ، ودعواه مجازَ الظرفية لا ينفعه فيما ذكرته من الإِشكال ، وكيف يُقال مثلُ هذا؟ وقوله « نَصَّ النحاة على عدمِ تصرُّفها » هذا معارض أيضاً بأنهم نصُّوا على أنها قد تتصرف بغير ما ذَكَرَ هو مِنْ كونها مجرورةً ب « لدى » أو إلى أو في ، فمنه : أنها جاءت اسماً لإِنَّ في قول الشاعر :

2050 إنَّ حيث استقرَّ مَنْ أنت راجي ... هِ حِمَىً فيه عزةٌ وأمانُ
فحيث اسم « إنّ » و « حمى » خبرها أي : إن مكاناً استقرَّ مَنْ أنت راعيه مكانٌ يُحمى فيه العزُّ والأمان . ومِنْ مجيئها مجرورةً بإلى قوله :
2051 فشدَّ ولم يَنْظر بيوتاً كثيرة ... إلى حيث أَلْقَتْ رَحْلَها أَمُّ قَشْعَمِ
وقد يُجاب عن الإِشكال الذي أَوْرَدْتُه عليه بأنه لم يُرِدْ بقوله « أنفذ علماً » التفضيل وإن كان هو الظاهر ، بل يريد مجردَ الوصف ، ويدل على ذلك قوله : أي هو نافذٌ العلمَ في الموضع الذي يجعل فيه رسالاته ، ولكن كان ينبغي أن يصرِّح بذلك فيقول : وليس المرادُ التفضيلَ . ورُوِي « حيثَ يجعل » بفتح الثاء ، وفيها احتمالان أحدهما : أنها فتحةُ بناءٍ طَرْداً للباب . والثاني : أنها فتحةُ إعرابٍ لأنها معربة في لغة بني فَقْعس حكاها الكسائي .
وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم « رسالته » بالإِفراد ، والباقون : رسالاته بالجمع ، وقد تقدَّم توجيه ذلك في المائدة ، إلا أنَّ بعض مَنْ قرأ هناك بالجمع وهو حفصٌ قرأ هنا بالإِفراد ، وبعض مَنْ قرأ هناك بالإِفراد - وهو أبو عمروَ والأخوان وأبو بكر عن عاصم قرأ هنا بالجمع .
قوله : { عِندَ الله } يجوز أن ينتصبَ ب « يصيب » ، ويجوز أن ينتصب بصَغار لأنه مصدر ، وأجازوا أن يكون صفة لصَغار فيتعلَّق بمحذوف ، وقَدَّره الزجاج فقال : « ثابت عند الله » . والصَّغار : الذلُّ والهوان يقال منه : صَغُر يَصْغُر صُغْراً وصَغْراً وصَغاراً فهو صاغر ، وأمَّا ضدُّ الكِبَر فيقال منه : صَغَر يَصْغَر صِغْراً فهو صغير ، هذا قول الليث ، فوقع الفرق بين المعنيين بالمصدر والفعل . وقال غيره : إنه يقال صَغُر وصغَر مِنَ الذل .
والعنديَّة هنا مجازٌ عن حَشْرهم يوم القيامة أو عن حكمه وقضائه بذلك كقولك : ثبت عند فلان القاضي أي : في حكمه ، ولذلك قَدَّم الصَّغار على العذاب لأنه يصيبهم في الدنيا . و « بما كانوا » الباء للسببية و « ما » مصدرية . ويجوز أن تكون بمعنى الذي .

فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)

وقوله تعالى : { فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ } : كقوله : { مَن يَشَإِ الله يُضْلِلْهُ } [ الأنعام : 39 ] و « مَنْ » يجوز أن تكون مرفوعة بالابتداء ، وأن تكون منصوبةً بمقدَّر بعدها على الاشتغال أي : مَنْ يوفق الله يُرِدْ أن يهديه ، و « أن يهديه » مفعول الإِرادة . والشرح : البسط والسَّعة قاله الليث ، وقال ابن قتيبة : « هو الفتحُ ومنه : شَرَحْتُ اللحم أي فتحته » وشرحَ الكلامَ بسطه وفتح مغلقه وهو استعارة في المعاني حقيقة في الأعيان . و « للإِسلام » أي : لقبوله .
وقوله : « يَجْعَلْ » يجوز أن تكون التصييريةَ وأن تكون الخَلْقية ، وأن تكون بمعنى سمَّى ، وهذا الثالث يفرُّ إليه المعتزلة كالفارسي وغيره من معتزلة النحاة ، لأن الله لا يُصَيِّر ولا يخلق أحداً كذا ، فعلى الأول يكون « ضيقاً » مفعولاً عند مَنْ شدَّد ياءه وهم العامَّة غيرَ ابنِ كثير وكذلك عند مَنْ خففها ساكنة ويكون فيه لغتان : التثقيل والتخفيف كميِّت ومَيْت وهيِّن وهين . وقيل : المخفف مصدر ضاق يضيق ضَِيقاً كقوله تعالى : { وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ } [ النحل : 27 ] يقال : ضاق يضيق ضَيقاً وضِيقاً بفتح الضاد وكسرها ، وبالكسر قرأ ابن كثير في النحل والنمل ، فعلى جَعْلِه مصدراً يجيء فيه الأوجه الثلاثة في المصدر الواقع وصفاً لجثة نحو : رجل عدل ، وهي حذف مضاف أو المبالغة أو وقوعه موقعَ اسم الفاعل أي : يجعل صدره ذا ضيق أو ضائقاً أو نفس الضيق مبالغةً ، والذي يظهر من قراءة ابن كثير أنه عنده اسمٌ صفةٌ مخفف من فَيْعِل وذلك أنه استغرب قراءته في مصدرِ هذا الفعلِ دونَ الفتح في سورة النحل والنمل ، فلو كان هذا عنده مصدراً لكان الظاهرُ في قراءته الكسرَ كالموضعين المشارِ إليهما ، وهذا من محاسنِ علم النحو والقراءات ، والخلافُ الجاري هنا جارٍ في الفرقان . وقال الكسائي : / « الضَّيِّق بالتشديد في الأجرام ، وبالتخفيف في المعاني » .
ووزن ضيّق فَيْعلِ كميّت وسيّد عند جمهور النحويين ثم أدغم ، ويجوز تخفيفه كما تقدم تحريره . قال الفارسي : « والياء مثل الواو في الحذف وإن لم تعتلَّ بالقلب كما اعتلَّت الواو ، أُتْبِعَت الياءُ الواوَ في هذا كما أتبعت في قولهم » اتَّسر « من اليسر فجعلت بمنزلة اتَّعد » . وقال ابن الأنباري : « الذي يثقِّل الياء يقول وزنه من الفعل فَعِيل ، والأصل فيه ضَييق على مثال كريم ونبيل ، فجعلوا الياءَ الأولى ألفاً لتحرُّكها وانفتاح ما قبلها من حيث أعلُّوا ضاق يضيق ، ثم أسقطوا الألفَ لسكونِها وسكونِ ياء فَعِيل فأشفقوا مِن أن يلتبس فعيل ب » فَعْل ، فزادوا ياء على الياء يكمل بها بناء الحرف ويقع بها فرق بين فعيل وفَعْل . والذين خَفَّفُوا الياء قالوا : أُمِن اللبس لأنه قد عُرِف أصلُ هذا الحرف ، فالثقة بمعرفته مانعة من اللبس .

وقال البصريون : وزنه من الفعل فَيْعِل فأدغمت الياء في التي بعدها فشُدِّد ثم جاء التخفيف . قال : « وقد ردَّ الفراء وأصحابُه هذا على البصريين ، وقالوا : لا يُعرف في كلام العرب اسم على وزن فيعِل يَعْنُون بكسر العين إنما يُعرف فيعَل يعنون بفتحها نحو صيقَل وهيكل ، فمتى ادّعى مُدَّعٍ في اسمٍ معتلّ ما لا يُعرف في السالم كانت دعواه مردودةً » قلت : قد تقدَّم تحرير هذه الأقوال عند قوله : { أَوْ كَصَيِّبٍ } [ البقرة : 19 ] فليُراجَعْ ثَمة . وإذا قلنا إنه مخفف من المشدد فهل المحذوفُ الياءُ الأولى أو الثانية؟ خلاف مرَّت له نظائره .
وإذا كانت « يَجْعَل » بمعنى يخلق فيكون « ضيقاً » حالاً ، وإن كانت بمعنى « سَمَّى » كانت مفعولاً ثانياً ، والكلام عليه بالنسبة إلى التشديد والتخفيف وتقدير المعاني كالكلام عليه أولاً .
وحَرَجاً وحَرِجاً بفتح الراء وكسرها : هو المتزايد في الضيق فهو أخصُّ من الأول ، فكلُّ حَرَج ضيق من غير عكسٍ ، وعلى هذا فالمفتوح والمكسور بمعنى واحد يقال : رجل حَرِج وحَرَج قال الشاعر :
2052 لا حَرِجُ الصدرِ ولا عنيفُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قال الفراء : « هو في كسره ونصبه بمنزلة الوحَد والوِحد والفرَد والفرِد والدَّنَف والدَّنِف » . وفرَّق الزجاج والفارسي بينهما فقالا : المفتوح مصدر والمكسور اسم فاعل . قال الزجاج : « الحَرَج أضيق الضيق ، فَمَنْ قال : رجل حرَج يعني بالفتح فمعناه ذو حَرَج في صدره ، ومن قال حرِج يعني بالكسر جعله فاعلاً وكذلك دنَف ودنِف » . وقال الفارسي : « مَنْ فتح الراء كان وصفاً بالمصدر نحو : فَمَن وحَرَىً ودنَف ونحو ذلك من المصادر التي يوصف بها ، ولا تكون كبطل لأن اسم الفاعل في الأمر العام إنما يجيء على فَعِل ، ومن قرأ حَرِجاً - يعني بكسر الراء - فهو مثل دنِف وفَرِق بكسر العين » . وقيل : الحَرَج بالفتح جمع حَرَجَة كقصبة وقصب ، والمكسور صفة كدَنِف ، وأصل المادة من التشابك وشدة التضايق فإنَّ الحَرَجة غَيْضة من شجر السَّلَم ملتفَّةٌ لا يَقْدِرُ أحدٌ أن يصل إليها قال العجاج :
2053 عايَنَ حَيَّاً كالحِراج نَعَمُهْ ... الحِراج : جمع حِرْج ، وحِرْج جمع حَرَجة . ومن غريب ما يُحكى أن ابن عباس قرأ هذه الآية فقال : هل هنا أحد من بني بكر؟ فقال رجل : نعم . قال : ما الحَرَجة فيكم؟ قال : الوادي الكثير الشجر المستمسك الذي لا طريق فيه . فقال ابن عباس : فهكذا قلب الكافر ، هذه رواية عبيد بن عمير . وقد حكى أبو الصلت الثقفي هذه الحكاية بأطولَ من هذا عن عمر بن الخطاب فقال : « قرأ عمر بن الخطاب هذه الآية فقال : ابغوني رجلاً من بني كنانة واجعلوه راعياً ، فأتَوْه به فقال له عمر : يا فتى ما الحَرَجَةُ فيكم؟ قال : الحَرَجَةُ فينا الشجرة تُحْدِق بها الأشجار فلا تصل إليها/ راعيةٌ ولا وحشية .

فقال عمر : « وكذلك قلبُ الكافر لا يصل إليه شيء من الخير » .
وبعضهم يحكي هذه الحكاية عن عمر رضي الله عنه كالمنتصر لمن قرأ بالكسر قال : « قرأها بعض أصحاب عُمَر له بالكسر فقال : ابغوني رجلاً من كنانة راعياً وليكن من بني مُدْلج فَأَتَوْه به فقال : يا فتى ما الحَرَجَةُ تكون عندكم؟ فقال : شجرةٌ تكون بين الأشجار لا يصل إليها راعيةٌ ولا وحشية فقال : كذلك قلب الكافر لا يصل إليه شيٌ من الخير . قال الشيخ : » وهذا تنبيه والله أعلم على اشتقاق الفعل من اسم العين كاستنوق واستحجر « قلت : ليس هذا من باب التنوق واستحجر في شيء ، لأن هذا معنى مستقل ومادة مستقلة متصرفة نحو : حَرِجَ يَحْرَج فهو حَرِج وحارج بخلاف تِيْكَ الألفاظ فإن معناها يُضطر فيه إلى الأخذ من الأسماء الجامدة ، فإنَّ معنى قولك استنوق الجمل أي : صار كالناقة ، واستحجر الطين أي : صار كالحجر ، وليس لنا مادةٌ متصرفة إلى صيغ الأفعال من لفظ الحجر والناقة ، وأنت إذا قلت : حَرِج صدرُه ليس بك ضرورة أن تقول : صار كالحَرَجة ، بل معناه تزايدَ ضيقُه ، وأمَّا تشبيهُ عمر بن الخطاب فلإِبرازه المعاني في قوالبِ الأعيان مبالغةً في البيان .
وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم » حَرِجاً « بكسر الراء ، والباقون بتفحها ، وقد عُرِفا . فأمَّا على قراءة الفتح فإن كان مصدراً جاءت فيه الأوجه الثلاثة المتقدمة في نظائره ، وإن جُعِلَ صفة فلا تأويل .
ونصبه على القراءتين : إمَّا على كونه نعتاً لضيقاً ، وإمَّا على كونِهِ مفعولاً به تعدَّد ، وذلك أن الأفعالَ النواسخَ إذا دخلت على مبتدأ وخبر كان الخبران على حالهما فكما يجوز تعدُّدُ الخبر مطلقاً أو بتأويل في المبتدأ والخبر الصريحين كذلك في المنسوخين حين تقول : » زيدٌ كاتب شاعر فقيه « ثم تقول : ظننتُ زيداً كاتباً شاعراً فقيهاً ، فتقول : » زيداً « مفعول أول » كاتباً « مفعول ثان » شاعراً « مفعول ثالث » فقيهاً « مفعول رابع ، كما تقول : خبر ثان وثالث ورابع ، ولا يلزم من هذا أن يتعدَّى الفعل لثلاثة ولا أربعة لأن ذلك بالنسبة إلى تعدُّد الألفاظ ، فليس هذا كقولك في : أعلمْتُ زيداً عمراً فاضلاً ، إذ المفعولُ الثالثُ هناك ليس متكرراً لشيء واحد ، وإنما بَيَّنْتُ هذا لأنَّ بعض الناس وَهِمَ في فهمه ، وقد ظهر لك ممَّا تَقَدَّم أنَّ قوله » ضيقاً حَرَجاً « ليس فيه تكرار . وقال مكي : » ومعنى حَرِج يعني بالكسر كمعنى ضيق كرِّر لاختلاف لفظه للتأكيد « قلت : إنما يكون للتأكيد حيث لم يظهر بينها فارق فتقول : كُرِّر لاختلاف اللفظ كقوله : { صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ }

[ البقرة : 157 ] [ وقوله ] :
2054 . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وألفَى قولَها كَذِباً ومَيْنا
[ وقوله ] :
2055 . . . . . . . . . . . . . . . ... وهندٌ أتى مِنْ دونها النَّأْيُ والبُعْدُ
وأما هنا فقد تقدَّم الفرق بينهما بالعموم والخصوص أو غير ذلك . وقال أبو البقاء : « وقيل هو جمع » حَرَجَة « مثل قَصَبَة وقَصَب والهاءُ فيه للمبالغة » ولا أدري كيف تَوَهَّم كونَ هذه الهاءِ الدالَّةِ على الوَحْدة في مفرد أسماء الأجناس كثمرة وبُرّة ونَبِقة للمبالغة كهي في راوية ونَسَّابة وفَرُوْقة؟
وقوله : « كأنما » « ما » هذه مهيِّئة لدخول كان على الجمل الفعلية كهي في { وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ } [ آل عمران : 185 ] .
وقرأ ابن كثير : « يَصْعَد » ساكنَ الصاد مخفَّف العين ، مضارع صَعِد أي ارتفع ، وأبو بكر عن عاصم يصَّاعد بتشديد الصاد بعدها ألف ، وأصلها يتصاعد أي : يتعاطى الصُّعود ويتكلَّفه ، فأدغم التاء في الصاد تخفيفاً ، والباقون يَصَّعَّد بتشديد الصاد والعين دون ألفٍ بينهما ، مِنْ يصَّعَّد أي يفعل الصعود ويُكَلَّفه والأصل : يتصعَّد فأدغم كما في قراءة شعبة ، وهذه الجملة التشبيهية يحتمل أن تكون مستأنفة شبَّه فيها حال مَنْ جعل الله صدره ضيقاً حَرَجاً بأنه بمنزلة مَنْ يطلب الصُّعود إلى السماء المُظِلة ، أو إلى مكان مرتفع وَعْرٍ كالعقبة الكَؤُود .
وجَوَّزوا فيها وجهين آخرين أحدهما : أن يكون مفعولاً آخر تعدَّد كما تَعَدَّد ما قبلها ، والثاني : أن يكون حالاً ، وفي صاحبها احتمالان ، أحدهما : هو الضميرُ المستكنُّ في « ضيِّقا » ، والثاني : هو الضمير في « حَرَجا » و « في السماء » متعلِّق بما قبله .
قوله : { كذلك يَجْعَلُ } هو كنظائِرِه ، وقدَّره الزجاج : مثل ما قَصَصْنا عليك يَجْعل ، أي : فيكون مبتدأ وخبراً أو نعت مصدر محذوف ، فلك أن ترفعَ « مثل » وأن تنصِبَها بالاعتبارين عنده ، والأحسن أن يُقَدَّر لها مصدرٌ مناسب كما قدَّره الناس وهو : مثل ذلك الجَعْل أي جَعْلِ الصدرِ ضيقاً حرجاً يجعل اللهُ الرجس ، كذا قدَّره مكي وغيره ، و « يجعل » يُحتمل أن تكونَ بمعنى « ألقى » وهو الظاهر فتتعدَّى لواحد بنفسها وللآخر بحرف جر ، ولذلك تَعدَّتْ هنا ب على ، و المعنى : كذلك يلقي اللهُ العذاب على الذين لا يؤمنون ، ويجوز أن يكون بمعنى صَيَّر أي : يُصَيِّره مُسْتعلياً عليهم محيطاً بهم ، والتقدير الصناعي : مستقراً عليهم .

وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126)

وقوله تعالى : { مُسْتَقِيماً } : حال من « صراط » ، والعامل فيه أحد شيئين : إمَّا « ها » لِما فيها من معنى التنبيه ، وإمَّا « ذا » لما فيه من معنى الإِشارة وهي حال مؤكدة لا مبيِّنة ، لأنَّ صراط الله لا يكون إلا كذلك .

لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)

قوله تعالى : { لَهُمْ دَارُ } : يحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفة فلا محلَّ لها كأن سائلاً سأل عَمَّا أعدَّ الله لهم فقيل له ذلك ، ويحتمل أن يكون حالاً من فاعل « يَذَّكَّرون » ويحتمل أن يكون وصفاً لقوم ، وعلى هذين الوجهين فيجوز أن تكون الحال أو الوصف الجارَّ والمجرور فقط ويرتفع « دار السلام » بالفاعلية ، وهذا عندهم أولى؛ لأنه أقرب إلى المفرد من الجملة ، والأصل في الوصف والحال والخبر الإِفراد فما قَرُبَ إليه فهو أَوْلَى
و { عِندَ رَبِّهِمْ } حال من « دار » ، والعامل فيها الاستقرار في « لهم » . والسلامُ والسَّلامة بمعنى ، كاللَّداد واللَّدادة ، ويجوز أن ينتصب « عند » بنفس السلام لأنه مصدر أي : يُسَلِّم عليهم عند ربهم أي : في جنته ، ويجوز أن ينتصب بالاستقرار في « لهم » . وقوله « وهو وليُّهم » يحتمل أيضاً الاسنئناف ، وأن يكون حالاً أي : لهم دار السلام ، والحال أن الله وليُّهم وناصرهم . و « بما كانوا » الباء سببية و « ما » بمعنى الذي أو نكرةٌ أو مصدريَّة .

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)

قوله تعالى : { وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ } : يجوزُ أن ينتصب بفعل مقدَّر فقدَّره أبو البقاء تارةً ب « اذكر » وتارةً بالقول المحذوف العامل في جملة النداء من قوله « يا مَعْشَر » أي : ويقول : يا معشرَ يوم نحشرهم ، وقَدَّره الزمخشري : « ويوم يَحشرهم وقلنا كان ما لا يوصف لفظاعته » . قال الشيخ : « وما قلناه أَوْلَى » يعني مِنْ كونه منصوباً ب « يقول » المحكي به جملة النداء « قال : » لاستلزامه حذفَ جملتين إحداهما جملة « وقلنا » والأخرى العاملة في الظرف « . وقَدَّره الزجاج بفعل قول مبني للمفعول : يُقال لهم يا معشر يوم نحشرهم ، وهو معنى حسن ، كأنه نظر إلى معنى قوله » ولا يُكَلِّمهم ولا يزكِّيهم « فبناه للمفعول ، ويجوز أن ينتصب » يوم « بقوله » وليُّهم « لما فيه من معنى الفعل أي : وهو يتولاَّهم بما كانوا يعملون ويتولاَّهم يوم يحشرهم . و » جميعاً « حال أو توكيد على قول بعض النحويين . وقرأ حفص » يحشرهم « بياء الغيبة ردَّاً على قوله » ربهم « أي : ويوم يحشرهم ربُّهم .
قوله : { يَا مَعْشَرَ } في محلِّ نصب بذلك القول المضمرِ أي : يقول أو قلنا ، وعلى تقدير الزجاج يكون في محل رفعٍ لقيامِه مَقام الفاعل المنوب عنه . والمعشرُ : الجماعة قال :
2056 وأبغضُ مَنْ وضعتُ إليَّ فيه ... لساني معشرٌ عنهم أذودُ
والجمع : معاشر ، كقوله عليه السلام : » نحن معاشرَ الأنبياء لا نورث « وقال الأودي :
2057 فينا معاشرُ لن يَبْنوا لقومِهمُ ... وإن بَنى قومُهمْ ما أفسدوا عادوا
وقوله { مِّنَ الإنس } في محلّ نصب على الحال أي : أولياءهم حال كونهم من الإِنس ، ويجوز أن تكون » مِنْ « لبيانِ الجنس؛ لأنَّ أولياءهم كانوا إنساً وجِنَّاً والتقدير : أولياؤهم الذين هم الإِنس . وربَّنا حُذِفَ منه حرف النداء . والجمهور على » أَجَلَنا « بالإِفراد لقوله » الذي « . وقرئ » آجالنا « بالجمع على أفعال ، » الذي « بالإِفراد/ والتذكير ، وهو نعت للجمع ، فقال أبو علي : » هو جنس أوقع الذي موقع التي « . قال الشيخ : » وإعرابه عندي بدل كأنه قيل : الوقت الذي ، وحينئذٍ يكون جنساً ولا يكون إعرابُه نعتاً لعدم المطابقة بينهما « .
قوله » خَالِدِينَ « منصوبٌ على الحال وهي حالٌ مقدرة . وفي العامل فيها ثلاثة أوجه أحدها : أنه » مثواكم « لأنه هنا اسمُ مصدر لا اسم مكان ، والمعنى : النار ذات ثوائكم ، أي إقامتكم في هذه الحال ، ولذلك ردَّ الفارسي على الزجاج حيث قال : المثوى المقام أي : النار مكان ثوائكم أي إقامتكم . قال الفارسي : » المَثْوى عندي في الآية اسم المصدر دون المكان لحصول الحال معملاً فيها ، واسم المكان لا يعمل عملَ الفعل لأنه لا معنى للفعل فيه ، وإذا لم يكن مكاناً ثبت أنه مصدر ، والمعنى : النار ذات إقامتكم فيها خالدين ، فالكاف والميم في المعنى فاعلون وإن كان في اللفظ خفضاً بالإِضافة ، ومثلُ هذا قولُ الشاعر :

2058 وما هي إلا في إزارٍ وعِلْقَةٍ ... مُغَارَ ابنِ هَمَّامٍ على حَيّ خَثْعما
وهذا يَدُلُّ على حَذْفِ المضاف ، المعنى : وما هي إلا إزارٌ وعِلْقة وقت إغارة ابن همام ، ولذلك عدَّاه بعلى ، ولو كان مكاناً لَمَا عدَّاه فثبت أنه اسم مصدر لا مكان فهو كقولك : « آتيك خفوقَ النجم ومقدَمَ الحاج » ثم قال : « وإنما حَسُن ذلك في المصادر لمطابقتها الزمان ، ألا ترى أنه مُتَقَضٍّ غيرُ باقٍ كما أن الزمان كذلك » وذكر كلاماً كثيراً اختصرتُه .
والثاني : أن العامل فيها فعلٌ محذوف ، أي : يَثْوُون فيها خالدين ، ويدلُّ على هذا الفعلِ المقدر « مثواكم » ويراد بمثواكم مكان الثواء . وهذا جواب عن قول الفارسي المعترض به على الزجاج . الثالث : قاله أبو البقاء أن العامل معنى الإِضافة ، ومعنى الإِضافة لا يصلُح أن يكون عاملاً البتةَ فليس بشيء .
قوله : { إِلاَّ مَا شَآءَ الله } اختلفوا في المستثنى منه : فقال الجمهور : هو الجملة التي تليها وهي قوله { النار مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَآ } وسيأتي بيانه عن قرب . وقال أبو مسلم : « هو مستثنى من قوله » وبلغْنا أجَلَنا الذي أجَّلْتَ لنا « أي : إلا مَنْ أهلكته واخترمْتَه قبل الأجل الذي سَمَّيْته لكفرِه وضلاله .
وقد ردَّ الناس عنه هذا المذهبَ من حيث الصناعة ومن حيث المعنى : أمَّا الصناعة فَمِنْ وجهين أحدهما : أنه لو كان الأمر كذلك لكان التركيب إلا ما شئت ، ليطابق قوله » أجَّلْتَ « ، والثاني : أنه قد فَصَل بين المستثنى والمستثنى منه بقوله » قال النار مثواكم خالدين فيها ، ومثل ذلك لا يجوز . وأمَّا المعنى فلأن القول بالأجلين : أجل الاخترام والأجل المسمَّى باطل لدلائل مقررة في غير هذا الموضوع .
ثم اختلفوا في هذا الاستثناء : هل هو متصل أو منقطع؟ على قولين فذهب مكي بن أبي طالب وأبو البقاء في أحد قوليهما إلى أنه منقطع والمعنى : قال النار مثواكم إلا مَنْ آمن منكم في الدنيا كقوله : { لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى } [ الدخان : 56 ] أي : لكن الموتة الأولى فإنهم قد ذاقوها في الدنيا ، كذلك هذا ، لكن الذين شاءهم الله أن يؤمنوا منكم في الدنيا . وفيه بُعْدٌ ، وذهب آخرون إلى أنه متصل ، ثم اختلفوا في المستثنى منه ما هو؟ فقال قوم : هو ضمير المخاطبين في قوله « مَثْواكم » أي إلا مَنْ آمن في الدنيا بعد أن كان مِنْ هؤلاء الكفرة . و « ما » هنا بمعنى « مَنْ » التي للعقلاء ، وساغ وقوعُها هنا لأن المراد بالمستثنى نوعٌ وصنف ، و « ما » تقع على أنواع مَنْ يعقل وقد تقدَّم تحقيق هذا في قوله

{ فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } [ النساء : 3 ] .
ولكن قد اسْتُبعِد هذا من حيث إن المستثنى مخالفٌ للمستثنى منه في زمان الحكم عليهما ، ولا بد أن يشتركا/ في الزمان لو قلت : « قام القوم إلا زيداً » كان معناه إلا زيداً فإنَّه لم يقم ، ولا يَصحُّ أن يكون المعنى : فإنه سيقوم في المستقبل ، ولو قلت : « سأضرب القوم إلا زيداً » كان معناه : فإنِّي لا أضربه في المستقبل ، ولا يَصِحُّ أن يكون المعنى : فإني ضربته فيما مضى ، اللهم إلا أن يُجْعَلَ استثناء منقطعاً كما تقدَّم تفسيره .
وذهب قوم إلى أنَّ المستثنى منه زمان ، ثم اختلف القائلون بذلك ، فمنهم من قال : ذلك الزمانُ هو مدةُ إقامتهم في البَرْزَخ أي : القبور . وقيل : هو المدة التي بين حشرِهم إلى دخولهم النار ، وهذا قولُ الطبري قال : « وساغ ذلك من حيث العبارةُ بقوله » النار مَثْواكم « لا يَخُصُّ بها مستقبلَ الزمان دون غيره » . وقال الزجاج : « هو مجموع الزمانين أي : مدةَ إقامتهم في القبور ومدة حشرهم إلى دخولهم النار » . وقال الزمخشري : « إلا ما شاء الله أي : يُخَلَّدون في عذاب النار الأبد كله إلا ما شاء الله إلا الأوقات التي يُنقلون فيها من عذاب النار إلى عذاب الزمهرير ، فقد رُوِيَ أنهم يدخلون وادياً فيه من الزمهرير ما يقطع أوصالَهم فيتعاوَوْن ويطلبون الرَّدَّ إلى الجحيم » وقال قوم : « إلا ما شاء الله هم العصاة الذين يدخلون النار من أهل التوحيد ، ووقعت » ما « عليهم لأنهم نوع كأنه قيل : إلا النوعَ الذي دخلها من العصاة فإنهم لا يُخَلَّدون فيها . والظاهر أن هذا استثناءٌ حقيقةً ، بل يجب أن يكون كذلك . وزعم الزمخشري أنه يكون من باب قول الموتور الذي ظفر بواتره ولم يَزَلْ يُحَرِّق عليه أنيابه وقد طلب أن يُنَفِّسَ عن خناقه : » أهلكني الله إن نَفَّسْتُ عنك إلا إذا شئت « وقد عَلِمَ أنه لا يشاء ذلك إلا التشفِّي منه بأقصى ما يقدر عليه من التشديد والتعنيف ، فيكون قوله » إلا إذا شئت « من أشدِّ الوعيد مع تهكم » . قلت : ولا حاجة إلى ادِّعاء ذلك مع ظهور معنى الاستثناء فيه وارتكاب المجاز وإبراز ما لم يقع في صورة الواقع . وقال الحسن البصريُّ : « إلا ما شاء الله أي : مِنْ كونهم في الدنيا بغير عذاب » ، فجعل المستثنى زمن حياتهم وهو أبعدُ ممَّا تقدَّم .
وقال الفراء : وإليه نحا الزجاج « المعنى إلا ما شاء الله من زياةٍ في العذاب » . وقال غيره : إلا ما شاء الله من النَّكال ، وكل هذا إنما يتمشَّى على الاستثناء المنقطع .

قال الشيخ : « وهذا راجعٌ إلى الاستثناء من المصدر الذي يدل عليه معنى الكلام؛ إذ المعنى : يُعَذَّبون في النار خالدين فيها إلا ما شاء الله من العذاب الزائد على النار فإنه يُعَذِّبهم به ، ويكون إذ ذاك استثناءً منقطعاً إذ العذابُ الزائد على عذاب النار لم يندرجْ تحت عذاب النار » . وقال ابن عطية : « ويتجه عندي في هذا الاستثناء أن يكون مخاطبةً للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته ، وليس مما يُقال يومَ القيامة ، والمستثنى هو مَنْ كان مِنَ الكفرة يومئذٍ يؤمن في علم الله ، كأنه لمَّا أخبرهم أنه يقال للكفار : النار مثواكم استثنى لهم مَنْ يمكن أن يُؤْمن ممَّن يَرَوْنه يومئذٍ كافراً ، وتقع » ما « على صفة مَنْ يعقل ، ويؤيد هذا التأويلَ أيضاً قوله { إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ } أي : بمن يمكن أن يؤمن منهم » . قال الشيخ : « وهو تأويلٌ حسن وكان قد قال قبل ذلك : » والظاهر أن هذا الاستثناء هو مِنْ كلام الله تعالى للمخاطبين وعليه جاءت تفاسيرُ الاستثناء ، وقال ابن عطية ، « ثم ساقه إلى آخره ، فكيف يَسْتَحْسن شيئاً حكم عليه بأنه خلاف الظاهر من غير قرينة قوية مُخْرِجَةٍ للَّفظ عن ظاهره؟

وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)

قوله تعالى : { وكذلك نُوَلِّي } : أي : كما خَذَلْنا عصاةَ الإِنس والجن حتى استمتع بعضُهم ببعض كذلك نَكِلُ بعضَهم إلى بعض في النصرة والمعونة ، فهي نعت لمصدر محذوف ، أو في محل رفع أي : الأمرُ مثل تولية بعض/ الظالمين ، وهو رأي الزجاج في غير موضع . و { بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } ظاهر كنظائره .

يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)

قوله تعالى : { مِّنْكُمْ } : في محل رفعٍ صفةً لرسل فيتعلَّق بمحذوف وقوله « يَقُصُّون » يحتمل أن يكون صفةً ثانية ، وجاءت كذا مجيئاً حسناً حيث تقدَّم ما هو قريبٌ من المفرد على الجملة ، ويحتمل أن يكون في محل نصب على الحال ، وفي صاحبها وجهان ، أحدهما : هو « رسل » وجاز ذلك وإن كان مكرةً لتخصُّصِه بالوصف . والثاني : أنه الضمير المستتر في « منكم » . وقوله { رُسُلٌ مِّنْكُمْ } زعم الفراء أن في الآية حَذْفَ مضاف أي : ألم يَأتِكم رسلٌ من أحدكم يعني من جنس الإِنس « قال : كقوله : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } [ الرحمن : 22 ] وإنما يَخْرجان من الملح ، { وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً } [ نوح : 16 ] وإنما هو في بعضها ، فالتقدير : يخرج مِنْ أحدهما وجعل القمر في إحداهن ، فحُذِفَ للعلم به » ، وإنما احتاج الفراء إلى ذلك لأن الرسل عنده مختصةٌ بالإِنس ، يعني أنه لم يعتقد أن الله أَرْسَل للجن رسولاً منهم ، بل إنما أرسل إليهم الإِنس كما يُرْوى في التفسير وعليه قام الإِجماع أنَّ النبي محمداً صلى الله عليه وسلم مُرْسَلٌ للإِنس والجن وهذا هو الحق ، أعني أنَّ الجنَّ لم يُرْسَلْ منهم إلا بواسطة رسالة الإِنس ، كما جاء في الحديث مع الجن الذين لمَّا سَمِعُوا القرآن وَلَّوْا إلى قومهم ، ولكن لا يُحْتاجُ إلى تقدير مضاف وإن قلنا إنَّ رسل الجن من الإِنس ، للمعنى الذي ذكرتُه وهو أنه يُطْلق عليهم رسل مجازاً لكونهم رسلاً بواسطة رسالة الإِنس ، وقد زعمَ قومٌ أن الله أرسل للجن رسولاً منهم يُسَمَّى يوسف .

ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131)

قوله تعالى : { ذلك أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ } : فيه ثلاثة أوجه أحدها : أنه مبتدأٌ محذوف الخبرِ أي : ذلك الأمر . الثاني : عكسه أي الأمر ذلك . الثالث : أنه منصوبٌ بإضمار فعل أي : فَعَلْنا ذلك ، وإنما يظهر المعنى إذا عُرِفَ المشار إليه ، وهو يحتمل أن يكون إتيان الرسل قاصِّين الآيات ومنذرين بالحشر والجزاء ، وأن يكون ذلك الذي قَصَصْنا مِنْ أَمْرِ الرسل ، وأَمْر مَنْ كَذَّب ويحتمل أن يكون إشارةً إلى السؤال المفهوم من قوله « ألم يأتكم » .
وقوله « أن لم يكن » يجوز فيه وجهان ، أحدهما : أنه على حذف لام العلة أي : ذلك الأمر الذي قَصَصْنا ، أو ذلك الإِتيان أو ذلك السؤال لأجل أن لم يكن ، فلمَّا حُذِفَت اللامُ احتمل موضعُها الجرَّ والنصبَ كما عُرِفَ غير مرة . والثاني : أن يكون بدلاً من « ذلك » .
قال الزمخشري : « ولك أَنْ تجعلَه بدلاً من » ذلك « كقوله : { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ } [ الحجر : 22 ] انتهى . فيجوز أن يكون في محلِّ رفعٍ أو نصب على ما تقدم في ذلك ، إلا أن الزمخشري القائل بالبدلية لم يذكر في محل ذلك إلا الرفعَ على خبر مبتدأ مضمر ، و » أَنْ « يجوز أن تكونَ الناصبة للمضارع ، وأن تكون المخففة واسمها ضمير الشأن ، و » لم يكن « في محل رفع خبرها ، وهي نظير قوله { أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً } [ طه : 89 ] وقوله :
2059 في فتيةٍ كسيوف الهند قد عَلِمُوا ... أنْ هالكٌ كلُّ مَنْ يَحْفَى ويَنْتَعِلُ
و » بظلمٍ « يجوز فيه وجهان ، أظهرهُما : أنه متعلق بمحذوف على أنه حال من » ربك « أو من الضمير في » مُهْلِكَ « أي : لم يكن مهلك القرى ملتبساً بظلم ، ويجوز أن يكون حالاً من القرى أي : ملتبسة بذنوبها ، والمعنيان منقولان في التفسير . والثاني : أنه يتعلق بمُهْلِك على أنه مفعول وهو بعيد ، وقد ذكره أبو البقاء . وقوله : » وأهلُها غافلون « جملة حالية .

وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)

وقوله تعالى : { وَلِكُلٍّ } : حُذِف المضاف إليه للعلم به أي : ولكلِّ فريق من الجن والإِنس . وقوله : « مما عملوا » في محل رفع نعتاً لدرجات وقيل : ولكل من المؤمنين خاصة . وقيل : ولكل من الكفار خاصة ، لأنها جاءت عقيب خطاب الكفار ، إلا أنه يبعده قوله « درجاتٌ » وقد يُقال إنَّ المراد بها هنا المراتب وإن غلب استعمالها في الخير . وقوله « عمَّا يعملون » قرأ العامة بالغيبة ردَّاً على قوله « ولكل درجات » . وقرأ ابن عامر بالخطاب مراعاةً لما بعده في قوله « يُذْهِبْكم » ، « من بعدكم » ، « أنشأكم » .

وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133)

قوله تعالى : { وَرَبُّكَ الغني } : يجوز أن يكون « الغنيُّ » ذو الرحمة خبرين أو وصفين ، و « إن يشأ » وما بعده خبر الأول أو يكون الغنيّ وصفاً ، و « ذو الرحمة » خبر ، والجملة الشرطية خبر ثان أو مستأنف . وقوله « ما يشاء » يجوز أن تكون « ما » واقعةً على ما هو من جنس الآدميِّين ، وإنما أتى ب « ما » وهي لغير العاقل للإِبهام الحاصل . ويجوز أن تكون واقعة على غير العاقل وأنه يأتي بجنس آخر ، ويجوز أن تكون واقعة على النوع من العقلاء كما تقدم .
قوله { كَمَآ أَنشَأَكُمْ } فيه وجهان أحدهما : أنه مصدر على غير الصدر لقوله « ويَسْتخلف » ، لأنَّ معنى يستخلف يُنْشئْ . والثاني : أنها نعت مصدر محذوف تقديره : استخلافاً مثل ما أنشأكم . وقوله { مِنْ ذرِّيَّة } متعلق بأنشأكم . وفي « مِنْ » هذه أوجه أحدها : أنها لابتداء الغاية أي : ابتدأ إنشاءكم من ذرية قوم . والثاني : أنها تبعيضية قاله ابن عطية . الثالث : بمعنى البدل ، قال الطبري وتبعه مكي بن أبي طالب « هي كقولك : » أخذت من ثوبي درهماً « أي : بدله وعوضه ، وكون » مِنْ « بمعنى البدل قليل أو ممتنع ، وما ورد منه مؤولٌ كقوله تعالى : { لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً } [ الزخرف : 60 ] وقوله :
2060 جاريةٌ لم تَأْكُلِ المرقَّقَا ... ولم تَذُقْ من البقول الفُسْتُقا
أي : بدلكم وبدل البقول ، والمعنى : من أولاد قوم متقدمين أصلهم آدم . وقال الزمخشري : » من أولاد قوم آخرين لم يكونوا على مثلِ صفتكم وهم أهل سفينة نوح « . وقرأ أُبَيّ بن كعب » ذَرِّيَّة « بفتح الذال ، وأبان بن عثمان » ذَرِيَّة « بتخفيف الراء مكسورة ، ويروى عنه أيضاً » ذَرْية « بوزن ضَرْبَة وقد تقدَّم تحقيق ذلك .==

ج8. الدر المصون في علم الكتاب المكنون


المؤلف : السمين الحلبي

إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134)

قوله تعالى : { إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ } : « ما » بمعنى الذي وليست الكافة ، و « توعدون » صلتها ، والعائد محذوف أي : إنَّ ما توعدونه ، و « لآتٍ » الخبر مؤكَّد باللام . وقرأ الأخَوان هنا « مَنْ يكون له عاقبة الدار » ، وفي القصص ، بالياء ، والباقون بالتاء من فوق . وهما واضحتان فإنَّ تأنيثها غير حقيقي ، وقد تقدَّم ذلك في قوله : { وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ } [ البقرة : 123 ] .

قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)

وقرأ العامَّة { على مَكَانَتِكُمْ } هنا وفي جميع القرآن بالإِفراد ، وأبو بكر عن عاصم : « مكاناتكم » بالجمع في الجميع ، فَمَنْ أفرد فلإِرادة الجنس ومَنْ جمع فليطابق ما بعدها فإن المخاطبين جماعة وقد أضيفت إليهم ، وقد علم أنَّ لكل واحد مكانه . واختلف في ميم « مكان ومكانة » فقيل : هي أصلية وهما مِنْ مكن يمكن ، وقيل : هما من الكون فالميم زائدة ، فيكون المعنى على الأول : اعملوا على تمكُّنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم ، قال معناه أبو إسحاق ، وعلى الثاني : اعملوا على جهتكم وحالكم التي أنتم عليها .
وقوله : { مَن تَكُونُ لَهُ } يجوز في « مَنْ » هذه وجهان أحدهما : أن تكون موصولةً وهو الظاهر ، فهي في محل نصب مفعولاً به ، و « علم » هنا متعديةٌ لواحد لأنها بمعنى العرفان . والثاني : أن تكون استفهامية فتكون في محل رفع بالابتداء . و { تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدار } تكون واسمها وخبرها في محل رفع خبراً لها ، وهي وخبرها في محل نصب : إمَّا لسدِّها مَسَدَّ مفعول واحدٍ إن كانت « علم » عرفانية ، وإمَّا لسدِّها مَسَدَّ اثنين إن كانت يقينية .

وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136)

قوله تعالى : { وَجَعَلُواْ للَّهِ } : « جعل » هنا بمعنى صيَّر فيتعدى لاثنين أوَّلُهما قوله « نصيباً » ، والثاني قوله « لله » ، و « ممَّا ذَرَأ » يجوز أن يتعلق بالجعل ، وأن يتعلق بمحذوف لأنه كان في الأصل صفة ل « نصيباً » فلما قُدِّم عليه انتصب حالاً ، والتقدير : وجعلوا نصيباً ممَّا ذَرَأ لله ، و « من الحَرْث » يجوز أن يكون بدلاً مِنْ « ممَّا ذرأ » بإعادة العامل كأنه قيل : وجعلوا لله من الحرث والأنعام نصيباً . ويجوز أن يتعلق ب « ذرأ » ، وأن يتعلَّق بمحذوف على أنه حال : إمَّا من ما الموصولة أو من عائدها المحذوف ، وفي الكلام حذفُ مفعول اقتضاه التقسيم والتقدير : وجعلوا لله نصيباً من كذا ولشركائهم نصيباً منه ، يدلُّ عليه ما بعده مِنْ قوله : { فَقَالُواْ هذا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وهذا } و « هذا لله » جملةٌ منصوبةُ المحل بالقول ، وكذلك قوله « وهذا لشركائنا » .
وقوله : { بِزَعْمِهِمْ } فيه وجهان أحدهما : أن يتعلَّق ب « قالوا » أي : فقالوا ذلك القولَ بزعم لا بيقين واستبصار . وقيل : هو متعلِّق بما تعلَّق به الاستقرار من قوله « لله » . وقرأ العامة بفتح الزاي من « زَعمهم » في الموضعين ، وهذه لغة الحداز وهي الفصحى . وقرأ الكسائي « بزُعمهم » بالضم/ وهو لغة بني أسد ، وهل الفتح والضم بمعنى واحد ، أو المفتوح مصدر والمضموم ا سم؟ خلاف مشهور . وقرأ ابن أبي عبلة « بزَعَمهم » بفتح الزاي والعين . وفيه لغة رابعة لبعض قيس وبني تميم وهي كسر الزاي ، ولم يُقْرأ بهذه اللغة فيما علمت . وقد تقدم تحقيق الزعم .
وقوله { لِشُرَكَآئِنَا } يجوز فيه وجهان أحدهما : أن الشركاء من الشرك ، ويعنون بهم آلهتهم التي أشركوا بينها وبين الباري تعالى في العبادة ، وليست الإِضافة إلى فاعل ولا إلى مفعول ، بل هي إضافة تخصيص والمعنى : الشركاء الذين أشركوا بينهم وبين الله في العبادة . والثاني : أن الشركاء من الشركة ، ومعنى كونهم سَمُّوا آلهتهم شركاءهم أنهم جعلوهم شركاء في أموالهم وزروعهم وأنعامهم ومتاجرهم وغير ذلك ، فتكون الإِضافة إضافةً لفظيةً : إمَّا إلى المفعول أي : شركائنا الذين شاركونا في أموالنا ، وإمَّا إلى الفاعل أي : الذين أشركناهم في أموالنا .
وقوله : { سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } قد تقدم نظيرها غير مرة ، وقد أعربها الحوفي هنا فقال : « ما » بمعنى الذي والتقدير : ساء الذي يحكمون حكمُهم فيكون « حكمُهم » مبتدأ وما قبله الخبر وحُذِف لدلالة « يحكمون » عليه ، ويجوز أن تكون « ما » تمييزاً على مذهب مَنْ يجيز ذلك في « بئسما » فتكون في موضع نصب ، التقدير : ساء حكماً حكمهم ، ولا يكون « يحكمون » صفة ل « ما » لأن الغرض الإِبهام ، ولكنْ في الكلام حذفٌ يدل عليه « ما » والتقدير : ساء ما ما يحكمون ، فحذف « ما » الثانية « قلت : و » ما « هذه إن كانت موصولة فمذهب البصريين أنَّ حَذْفَ الموصول لا يجوز ، وقد عرف ذلك ، وإن كانت نكرة موصوفة ففيه نظر ، لأنه لم يُعْهَدْ حَذْفُ » ما « نكرةً موصوفة .

وقال ابن عطية : « وما » في موضع رفع كأنه قال : ساء الذي يحكمون ، ولا يتجه عندي أن تجري « ساء » هنا مجرى نِعْم وبئس؛ لأن المفسَّر هنا مضمر ولا بد من إظهاره باتفاق من النحاة ، وإنما اتجه أن يجري مجرى بئس في قوله { سَآءَ مَثَلاً القوم } [ الأعراف : 177 ] لأن المفسَّر ظاهر في الكلام « . قال الشيخ : » وهذا كلامُ مَنْ لم ترسخ قدمه في العربية بل شدا فيها شيئاً يسيراً؛ لأنها إذا جرت « ساء » مجرى بئس كان حكمها كحكمها سواء لا يختلف في شيء البتة مِنْ فاعل ظاهر أو مضمر وتمييز ، ولا خلاف في جواز حذف المخصوص بالمدح أو الذم والتمييز بها لدلالة الكلام عليه . فقوله « لأن المفسَّر هنا مضمرٌ ولا بد من إظهاره باتفاق » قوله ساقط ، ودعواه الاتفاق على ذلك مع أن الاتفاق على خلافه عجب عُجاب « .

وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)

قوله تعالى : { وكذلك زَيَّنَ } : هذا في محل نصب نعتاً لمصدر محذوف كنظائره ، فقدّره الزمخشري تقديرين فقال : « ومثل ذلك التزيين وهو تزيينُ الشرك في قسمة القربان بين الله والآلهة ، أو : ومثل ذلك التزيينِ البليغ الذي عُلِم من الشياطين » . قال الشيخ : « قال ابن الأنباري : ويجوز أن يكون » كذلك « مستأنفاً غير مشار به إلى ما قبله فيكون المعنى : وهكذا زَيَّن » قلت : والمنقول عن ابن الأنباري أنه مشار به إلى ما قبله ، نقل الواحدي عنه أنه قال : « ذلك إشارة إلى ما نعاه الله عليهم مِنْ قَسْمهم ما قسموا بالجهل فكأنه قيل : ومثل ذلك الذي أَتوه في القَسْم جهلاً وخطأً زَيَّن لكثير من المشركين فشبَّه تزيين الشركاء بخطابهم في القسم ، وهذا معنى قول الزجاج .
وفي هذه الآية قراءات كثيرة ، والمتواتر منها ثنتان ، الأولى : قرأ العامة » زَيَّنَ « مبنياً للفاعل و » قَتْلَ « نصب على المفعولية و » أولادهم « خفض بالإِضافة ، و » شركاؤهم « رفع على الفاعلية وهي قراءة واضحة المعنى والتركيب . وقرأ ابن عامر : » زُيِّن « مبنياً للمفعول ، » قَتْلُ « رفعاً على ما لم يُسَمَّ فاعله ، » أولادَهم « نصباً على المفعول بالمصدر ، » شركائهم « خفضاً على إضافة المصدر إليه فاعلاً . وهذه القراءة متواترة صحيحة ، وقد تجرَّأ كثير من الناس على قارئها بما لا ينبغي ، وهو أعلى القراء السبعة سنداً وأقدمهم هجرة : أمَّا علوُّ سندِه فإنه قرأ على أبي الدرداء وواثلة بن الأسقع وفضالة بن عبيد ومعاوية بن أبي سفيان والمغيرة المخزومي ، ونقل يحيى الذماري أنه قرأ على عثمان نفسه ، وأمَّا قِدَمُ هجرته فإنه وُلِد في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وناهيك به أن هشام بن عمار أحد شيوخ البخاري أخذ عن أصحاب أصحابه ، وترجمته متسعة ذكرتها في » شرح القصيد « ، وإنما ذكرت هنا هذه العُجالة تنبيهاً على خطأ مَنْ ردَّ قراءته ونسبه إلى لَحْنٍ أو اتباع مجرد المرسوم فقط .
قال أبو جعفر النحاس : » وهذا يعني الفصلَ بين المضاف والمضاف إليه بالظرف أو غيره ، ولا يجوز في شعرٍ ولا غيره « . وهذا خطأ من أبي جعفر لِمَا سنذكره من لسان العرب ، وقال أبو علي الفارسي : » هذا قبيح قليل في الاستعمال ولو عدل عنها يعني ابن عامر كان أَوْلى لأنهم لم يفصلوا بين المضاف والمضاف إليه بالظرف في الكلام مع اتساعهم في الظروف ، وإنما أجازوه في الشعر « قال : » وقد فصلوا به أي بالظرف في كثير من المواضع نحو قوله تعالى : { إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ }

[ المائدة : 22 ] وقولِ الشاعر :
2061 على أنني بعدما قد مَضَى ... ثلاثون للهَجر حَوْلاً كميلا
وقول الآخر :
2062 فلا تَلْحَنِي فيها فإنَّ بحبِّها ... أخاك مصابُ القلب جَمٌّ بلابلُه
ففصل بين إنَّ واسمها بما يتعلَّق بخبرها ، ولو كان بغير الظرف لم يَجُزْ ، ألا ترى أنك لو قلت : « إن زيداً عمراً ضارب » على أن يكون « زيداً » منصوباً بضارب لم يَجُز ، فإذا لم يجيزوا الفصل بين المضاف والمضاف إليه في الكلام بالظرف مع اتساعهم فيه في الكلام ، وإنما يجوز في الشعر كقوله :
2063 كما خُطَّ الكتابُ بكفِّ يوماً ... يهوديٍ يقارِبُ أو يُزيلُ
فأن لا يجوز بالمفعول به الذي لم يُتَّسعْ فيه بالفصل أجدر ، ووجه ذلك على ضَعْفه وقلة الاستعمال أنه قد جاء في الشعر على حَدِّ ما قرأه . قال الطرماح :
2064 يَطُفْنَ بحوزيِّ المراتعِ لم تَرُعْ ... بواديه مِنْ قَرْعِ القِسِيَّ الكنائِنِ
وأنشد أبو الحسن :
2065 . . . . . . . . . . . . . . . ... زجَّ القَلوصَ أبي مزادَهْ
وقال أبو عبيد : « وكان عبد الله بن عامر وأهل الشام يقرؤونها » زُيِّن « بضم الزاي ، » قتلُ « بالرفع ، » أولادَهم « بالنصب ، » شركائهم « بالخفض ، ويتأوّلون » قتل شركائهم أولادَهم « فيفرقون بين الفعل وفاعله » . قال أبو عبيد : « ولا أحب هذه القراءة لما فيها من الاستكراه ، والقراءة عندنا هي الأَوْلَى لصحتها في العربية مع إجماع أهل الحرمين والمِصْرَين بالعراق عليها » وقال سيبويه في قولهم « » يا سارق الليلةِ أهلَ الدار « بخفض » الليلة « على التجوز وبنصب الأهل على المفعولية ، ولا يجوز » يا سارقَ الليلةَ أهلِ الدار « إلا في شعر كراهةَ أن يفصلوا بين الجار والمجرور . ثم قال : » وممَّا جاء في الشعر قد فُصل بينه وبين المجرور قولُ عمرو بن قميئة :
2066 لمَّا رأت ساتيدَ ما استعبرتْ ... لله درُّ اليومَ مَنْ لامها
وذكر أبياتاً أخر ستأتي . ثم قال : « وهذا قبيح ، ويجوز في الشعر على هذا : » مررت بخيرِ وأفضلِ مَنْ ثَمَّ « . وقال أبو الفتح ابن جني : » الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالظرف والجار والمجرور كثير لكنه من ضرورة الشاعر « . وقال مكي بن أبي طالب : » ومن قرأ هذه القراءة ونصب « الأولاد » وخفض « الشركاء » فهي قراءة بعيدة ، وقد رُوِيَتْ عن ابن عامر ، ومجازها على التفرقة بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول ، وذلك إنما يجوز عند النحويين في الشعر ، وأكثر ما يكون بالظرف « . وقال ابن عطية رحمه الله : » وهذه قراءة ضعيفة في استعمال العرب وذلك أنه أضاف الفعل إلى الفاعل وهو الشركاء ، ثم فصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول ، ورؤساء العربية لا يُجيزون الفصل بالظروف في مثل هذا إلا في شعر كما قال :

2067 كما خُطَّ الكتابُ بكفِّ يوماً ... يهوديٍ . . . . . . . . . . . . .
/ البيت فكيف بالمفعول في أفصح كلام؟ ولكنْ وجهُها على ضعفها أنها وردت في بيت شاذ أنشده أبو الحسن الأخفش :
2068 فَزَجَجْتها بمَزَجَّةٍ ... زجَّ القَلوصَ أبي مزادَهْ
وفي بيت الطرماح وهو قوله :
2069 يَطُفْنَ بحُوزِيِّ المراتع لم تَرُعْ ... بواديه من قَرْع القِسيَّ الكنائِنِ
وقال الزمخشري فأغلظ وأساء في عبارته « وأمَّا قراءة ابن عامر فذكرها فشيءٌ لو كان في مكان الضرورة وهو الشعر لكان سَمِيحاً مردوداً كما سَمُج ورُدَّ :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... زجَّ القَلوصَ أبي مزادَهْ
فكيف به في الكلام المنثور؟ فكيف به في القرآن المُعْجِز بحسن نظمه وجزالته »؟ الذي حمله على ذلك أن رأى في بعض المصاحف « شركائهم » مكتوباً بالياء ، ولو قرأ بجر « الأولاد » و « الشركاء » لأن الأولاد شركاؤهم في أموالهم لوَجَدَ في ذلك مندوحة عن هذا الارتكاب « قلت : سيأتي بيان ما تمنَّى أبو القاسم أن يقرأه ابن عامر ، وأنه قد قرأ به ، فكأن الزمخشري لم يَطَّلِعْ على ذلك فلهذا تمنَّاه .
وهذه الأقوال التي ذكرتُها جميعاً لا ينبغي أن يُلْتفت إليها لأنها طَعْنٌ في المتواتر ، وإن كانت صادرةً على أئمةٍ أكابرَ ، وأيضاً فقد انتصر لها مَنْ يقابلهم ، وأورد من لسانِ العرب نظمِه ونثره ما يشهد لصحة هذه القراءة لغةً : قال أبو بكر ابن الأنباري : » هذه قراءة صحيحة ، وإذا كانت العرب قد فَصَلَتْ بين المتضايفين بالجملة في قولهم : « هو غلامُ إن شاء الله أخيك » يريدون : هو غلام أخيك فأنْ يُفْصَل بالمفرد أسهل « انتهى . وسمع الكسائي قول بعضهم : » إن الشاةَ لتجترُّ فتسمع صوتَ واللهِ ربِّها « أي : صوت ربها والله ، ففصل بالقسم وهو في قوة الجملة ، وقرأ بعض السلف : { فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدَه رُسُلِهُ } [ إبراهيم : 47 ] بنصب » وعدَه « وخفض » رسله « ، وفي الحديث عنه عليه السلام : » هل أنتم تاركو لي صاحبي ، تاركو لي امرأتي « أي : تاركو صاحبي لي ، تاركو امرأتي لي .
وقال ابن جني في الخصائص : » باب ما يَرِد عن العربي مخالفاً للجمهور ، إذا اتفق شيء من ذلك : نُظِر في ذلك العربي وفيما جاء به : فإن كان فصيحاً وكان ما جاء به يقبله القياس فَيَحْسُن الظنُّ به؛ لأنه يمكن أن يكون قد وقع إليه ذلك مِنْ لغةٍ قديمة قد طال عهدها وعفا رسمها . أخبرنا أبو بكر جعفر بن محمد بن أبي الحجاج عن أبي خليفة الفضل بن الحباب قال : قال ابن عوف عن ابن سيرين : قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : « كان الشعر عِلْمَ قوم لم يكن لهم عِلْمٌ أصحُّ منه ، فجاء الإِسلام فتشاغلت عنه العرب بالجهاد وغَزْوِ فارس والروم ولَهَت عن الشعر وروايتِه ، فلمَّا كثُر الإِسلام وجاءت الفتوح واطمأنَّت العرب في الأمصار راجعوا رواية الشعر فلم يَؤُولوا إلى ديوانٍ مُدَوَّنٍ ولا إلى كتاب مكتوب ، وأَلِفُوا ذلك وقد هلك مَنْ هلك من العرب بالموت والقتل فحفظوا أقلَّ ذلك وذهب عنهم كثيره .

قال : وحدثنا أبو بكر عن أبي خليفة عن يونس بن حبيب عن أبي عمرو بن العلاء : قال : « ما انتهى إليكم ممَّا قالت العرب إلا أقلُّه ولو جاءكم وافراً لجاءكم علمٌ وشعر كثير » . قال أبو الفتح : « فإذا كان الأمر كذلك لم نقطع على الفصيح [ إذا ] سُمِع منه ما يخالف الجمهورَ بالخطأ ما وُجِد طريق إلى تقبُّل ما يورده إلا إذا كان القياس يعاضده » . قلت : وقراءة هذا الإِمام بهذه الحيثيَّة بل بطريق الأولى والأحرى لو لم تكن متواترةً فكيف وهي متواترة؟ وقال ابن ذكوان : « سألني الكسائي عن هذا الحرف وما بلغه من قراءتنا فرأيته كأنه أعجبه وترنَّم بهذا البيت :
2070 تَنْفي يداها الحصَى في كل هاجرة ... نَفْيَ الدَّراهيمَ تَنْقادِ الصيارِيف
بنصب » الدراهيم « وجرّ » تنقاد « ، وقد روي بخفض » الدراهيم « ورفع » تنقاد « وهو الأصل وهو المشهور في الرواية . وقال/ الكرماني : » قراءة ابن عامر وإن ضَعُفَتْ في العربية للإِحالة بين المضاف والمضاف إليه فقويَّةٌ في الرواية عالية « انتهى . وقد سُمِعَ ممَّنْ يُوثق بعربيته : » تَرْكُ يوماً نفسِك وهواها سَعْيٌ في رَداها « أي : تَرْكُ نفسِك يوماً مع هواها سَعْيٌ في هَلاكها ، وأمَّا ما ورد في النظم من الفصل بين المتضايفين بالظرف وحرف الجر وبالمفعول فكثير وبغير ذلك قليلٌ ، فمِن الفصلِ بالظرف قولُ الشاعر :
2071 فَرِشْني بخيرٍ لا أكونَنْ ومِدْحتي ... كناحتِ يوماً صخرةٍ بعسيل
تقديره : كناحت صخرةٍ يوماً ، ومثله قول الآخر :
2072 كما خُطَّ الكتابُ بكف يوماً ... يهوديٍّ . . . . . . . . . . . . . . . .
وقول الآخر :
2073 قد سَأَلَتْني أمُّ عمروٍ عن ال ... أرضِ التي تجهل أَعْلامَها
لَمَّا رَأَتْ ساتِيْدَ ما اسْتَعْبَرَتْ ... للهِ دَرُّ اليومَ مَنْ لامها
تَذَكَّرَتْ أرضاً بها أهلَها ... أخوالَها فيها وأعمامَها
يريد : لله دَرُّ مَنْ لامَها اليوم . و » ساتيد ما « قيل : هو مركب والأصل : ساتي دما ، ثم سُمِّي به هذا الجبلُ لأنه قُتِل عنده . قيل : ولا تبرح القتلى عنده . وقيل : » ساتيد « كلُّه اسمٌ و » ما « مزيدةٌ . ومثالُ الفصل بالجارِّ قولُه :
2074 هما أخوا في الحرب مَنْ لا أخاله ... إذا خافَ يوماً نَبْوَةً فدعاهما
وقوله :
2075 لأنتَ مُعْتادُ في الهيجا مصابَرَةٍ ... يَصْلى بها كلُّ مَنْ عاداك نيرانا
وقوله :
2076 كأنَّ أصواتَ مِنْ إيغالِهِنَّ بنا ... أواخِرِ المَيْسِ أصواتُ الفراريج
وقوله :
2077 تَمُرُّ على ما تَسْتَمِرُّ وقد شَفَتْ ... غلائلَ عبدُ القيسِ منها صدورِها
يريد : هما أخوا مَنْ لا أخاله في الحرب ، ولأنت معتاد مصابرة في الهجاء ، وكأن أصواتَ أواخر الميس ، وغلائل صدورِها .

ومن الفصل بالمفعول قول الشاعر :
2078 فَزَجَجْتُها بمَزَجَّةٍ ... زجَّ القَلوصَ أبي مزادَه
ويروى : فَزَجَجْتها فتدافعَتْ ، ويُروى : فزجَجْتها متمكناً ، وهذا البيت كما تقدَّم أنشده الأخفش بنصب « القلوص » فاصلاً بين المصدر وفاعله المعنوي ، إلا أن الفراء قال بعد إنشاده لهذا البيت : « ونحويُّو أهل المدينة ينشدون هذا البيت يعني بنصب القلوص » قال : « والصواب : زَجَّ القلوصِ بالخفض » قلت : قوله « والصوابُ يحتمل أن يكون من حيث الرواية ، أي : إن الصوابَ خَفْضُه على الرواية الصحيحة ، وأن يكون من حيث القياس ، وإن لم يُرْوَ إلا بالنصب . وقال في موضع آخر من كتابه » معاني القرآن « : » وهذا مما كان يقوله نحويُّو أهلِ الحجاز ولم نجد مثله في العربية « وقال أبو الفتح : » فُصل بينهما بالمفعول به هذا مع قدرته على أن يقول : زج القلوصِ أبو مزادة كقولك : « سَرَّني أكلُ الخبزِ زيدٌ » بمعنى أنه كان ينبغي أن يضيف المصدر إلى مفعوله فيبقى الفاعل مرفوعاً على أصله ، وهذا معنى قول الفراء الأول « والصواب جر القلوص » يعني ورفع الفاعل . ثم قال ابن جني : « وفي هذا البيت عندي دليلٌ على قوة إضافة المصدر إلى الفاعل عندهم ، وأنه في نفوسهم أقوى من إضافته إلى المفعول ، ألا تراه ارتكب هذه الضرورةَ مع تمكُّنِه مِنْ تَرْكِها لا لشيء غيرَ الرغبة في إضافة المصدر إلى الفاعل دون المفعول ، ومن الفصل بالمفعول به أيضاً قولُ الآخر :
2079 وحِلَقِ الماذيِّ والقوانِسِ ... فداسَهم دونسَ الحصادَ الدائِسِ
أي : دوس الدائس الحصادَ . ومثله أيضاً :
2080 يَفْرُك حَبَّ السنبلِ الكُنَافِجِ ... بالقاع فَرْكَ القطنَ المحالجِ
يريد : فَرْك المحالجِ القطنَ ، وقول الطرماح :
2081 . . . . . . . . . . . . . . . . . ... بواديه من قَرْع القِسِيَّ الكنائنِ
يريد : قرع الكنائنِ القسيَّ ، قال ابن جني في هذا البيت : » لم نجد فيه بُدَّاً من الفصل لأن القوافي مجرورة « وقال في » زجَّ القلوصَ « : فصل بينهما بالمفعول به/ هذا مع قدرته إلى آخر كلامه المتقدم . يعني أنه لو أنشد بيت الطرماح بخفض » القسيّ « ورفع الكنائن لم يَجُز لأن القوافي مجرورة بخلاف بيت الأخفش ، فإنه لو خفض » القلوص « ورفع » أبو مزادة « لم تختلف فيه قافيته ولم ينكسر وزنُه . قلت : ولو رفع » الكنائن « في البيت لكان جائزاً وإن كانت القوافي مجرورةً ويكون ذلك إقواء ، وهو أن تكونَ بعضُ القوافي مجرورة وبعضها مرفوعة كقول امرئ القيس :
2082 تَخْدي على العِلاَّتِ سامٍ رأسُها ... رَوْعاءُ مَنْسِمُها رثيمٌ دامِ
ثم قال :
جالَتْ لتصرَعني فقلت لها اقصِري ... إني امرؤٌ صَرْعي عليك حرامُ
فالميمُ مخفوضةٌ في الأول مرفوعة في الثاني ، فإن قيل : هذا عيبٌ في الشعر .

قيل : لا يتقاعد ذلك عن أن يكونَ مثلُ هذه للضرورة ، والحق إن الإِقواء أفحشُ وأكثر عيباً من الفصل المذكور ، ومن ذلك أيضاً :
2083 فإن يكنِ النِّكاحُ أَحَلَّ شيءٍ ... فإنَّ نكاحها مطرٍ حرامُ
أي : فإن نكاحِ مطرٍ إيَّاها ، فلمَّا قُدِّم المفعول فاصلاً بين المصدر وفاعله اتصل بعامله لأنه قَدِر عليه متصلاً فلا يَعْدِلُ إليه منفصلاً . وقد وقع في شعر أبي الطيب الفصلُ بين المصدر المضاف إلى فاعله بالمفعول كقوله :
2084 بعثتُ إليه من لساني حديقة ... سقاها الحيا سَقْيَ الرياضَ السحائبِ
أي : سقي السحائبِ الرياضَ . وأمَّا الفصلُ بغير ما تقدَّم فهو قليل ، فمنه الفصلُ بالفاعل كقوله :
2085 . . . . . . . . . . . . . . . . ... غلائلَ عبدُ القيس منها صدورِها
ففُصِل بين « غلائل » وبين « صدورها » بالفاعل وهو « عبد القيس » وبالجار وهو « منها » كما تقدم بيانه ، ومثلُه قول الآخر :
2086 نرى أسهماً للموت تُصْمي ولا تُنْمي ... ولا تَرْعوي عن نقضِ أهواؤنا العزمِ
فأهواؤنا فاعلٌ بالمصدر وهو « نَقْض » وقد فُصِل به بين المصدر وبين المضاف إليه وهو العزم ، ومثله قول الآخر :
2087 أَنْجَبَ أيام والداهُ به ... إذ نَجَلاه فنِعْمَ ما نَجَلا
يريد : أيام إذ نجلاه ، ففصل بالفاعل وهو « والداه » المرفوع ب « أنجب » بين المتضايفين وهما « أيام إذ ولداه » . قال ابن خروف : « يجوز الفصلُ بين المصدر والمضاف إليه بالمفعول لكونه في غير محله ، ولا يجوز بالفاعل لكونه في محله ، وعليه قراءة ابن عامر » . قلت : هذا فرق بين الفاعل والمفعول حيث استُحْسِن الفصل بالمفعول دون الفاعل . ومن الفصل بغير ما تقدَّم أيضاً الفصلُ بالنداء كقوله :
2088 وفاقُ كعبُ بُجَيْرٍ منقِذٌ لك من ... تعجيل مُهْلِكَةٍ والخلدِ في سَقَرَ
وقول الآخر :
2089 إذا ما أبا حفصٍ أَتَتْكَ رَأَيْتَها ... على شعراء الناس يعلو قصيدها
وقول الآخر :
2090 كأنَّ بِرْذَوْنَ أبا عصامِ ... زيدٍ حمارٌ دُقَّ باللِّجامِ
يريد : وفاق بجيرٍ يا كعب ، وإذا ما أتتك يا أبا حفص ، وكأن بِرْذون زيدٍ يا أبا عصام . ومن الفصل أيضاً الفصلُ بالنعت كقول معاوية يخاطب به عمرو بن العاص :
2091 نَجَوْتَ وقد بَلَّ المُراديُّ سيفَه ... من ابن أبي شيخ الأباطح طالبِ
وقول الآخر :
2092 ولئن حَلَفْتُ على يديكَ لأحْلِفَنْ ... بيمينِ أصدقَ مِنْ يمينك مُقْسِمِ
يريد : من ابن أبي طالب شيخ الأباطح ، فشيخ الأباطح نعت لأبي طالب ، فَصَلَ به بين أبي وبين طالب ، ويريد : لأحلفن بيمينٍ مقسم أصدقَ مِنْ يمينك ، فأصدق نعت لقوله بيمين ، فصل به بين « يمين » وبين « مقسم » . ومن الفصل أيضاً الفصل بالفعل الملغى :
2093 ألا يا صاحِبَيَّ قِفا المَهارى ... نسائلْ حيَّ بثنةَ أين سارا
بأيِّ تَرَاهُمُ الأرَضينَ حَلُّوا ... أالدبران أم عَسَفُوا الكِفارا
يريد : بأي الأرضين تراهم حلُّوا ، فَفَصَلَ بقوله « تراهم » بين « أيّ » وبين « الأرضين » .

ومن الفصلِ أيضاً الفصلُ بمفعولٍ ليس معمولاً للمصدر المضاف إلى فاعل كقول الشاعر :
2094 تَسْقي امتياحاً ندى المسواكَ ريقتِها ... كما تَضَمَّن ماءَ المُزْنَةِ الرَصفُ
أي : تسقي ندى ريقتها المسواكَ فالمسواك مفعول به ناصبه « تسقي » فَصَل به بين/ « ندى » وبين « ريقتها » ، وإذ قد عرفت هذا فاعلم أن قراءة ابن عامر صحيحة من حيث اللغة كما هي صحيحة من حيث النقل ، ولا التفات إلى قول مَنْ قال : إنه اعتمد في ذلك على رسم مصحف الشام الذي أرسله عثمان بن عفان رضي الله عنه ، لأنه لم يوجد فيه إلا كتابة « شركائهم » بالياء « ، وهذا وإن كان كافياً في الدلالة على جَرِّ » شركائهم « فليس فيه ما يدل على نصب » أولادهم « إذ المصحفُ مهملٌ من شكل ونقط فلم يبقَ له حجةٌ في نصب الأولاد إلا النَّقْلُ المحض .
وقد نُقِل عن ابن عامر أنه قرأ بجرَِّ » الأولاد « كما سيأتي بيانُه وتخريجهُ ، وأيضاً فليس رسمها » شركائهم « بالياء مختصَّاً بمصحف الشام بل هي كذلك أيضاً في مصحف أهل الحجاز . قال أبو البرهسم : » في سورة الأنعام في إمام أهل الشام وأهل الحجاز « أولادهم شركائهم » بالياء ، وفي إمام أهل العراق « شركاؤهم » ولم يَقْرأ أهل الحجاز بالخفض في « شركائهم » لأنَّ الرسمَ سُنَّةٌ مُتَّبعة قد توافقها التلاوة وقد لا توافق « . إلا أن الشيخ أبا شامة قال : » قلت ولم تُرْسَمُ كذلك إلا باعتبار قراءتين : فالمضموم عليه قراءة معظم القراء « ثم قال : » وأما شركائهم بالخفض فيحتمل قراءة ابن عامر « وسيأتي كلام أبي شامة هذا بتمامه في موضعه ، وإنما أَخَذْتُ منه [ بقدر ] الحاجة هنا . فقوله » إن كل قراءة تابعةٌ لرسم مصحفها « تُشْكِلُ بما ذكرت لك من أن مصحف الحجازيين بالياء مع أنهم لم يقرؤوا بذلك . وقد نقل أبو عمرو الداني أن » شركائهم « بالياء إنما هو في مصحف الشام دون مصاحف الأمصار فقال : » في مصاحف أهل الشام « أولادهم شركائهم » بالياء وفي سائر المصاحف شركاؤهم بالواو « . قلت : هذا هو المشهور عند الناس أعني اختصاص الياء بمصاحف الضام ، ولكنْ أبو البرهسم ثقة أيضاً فنقبل ما ينقله . وقد تقدَّم قولُ الزمخشري : » والذي حمله على ذلك أن رأى في بعض المصاحف شركائهم مكتوباً بالياء « .
وقال الشيخ شهاب الدين أبو شامة : » ولا بُعْدَ فيما استبعده أهل النحو من جهة المعنى وذلك أنه قد عُهد تقدُّمُ المفعول على الفاعل المرفوع لفظاً فاستمرت له هذه المرتبةُ مع الفاعل المرفوع تقديراً فإن المصدر لو كان منوناً لجاز تقديم المفعول على فاعله نحو : « أعجبني ضربٌ عمراً زيدٌ » فكذا في الإِضافة وقد ثَبَتَ جوازُ الفصل بين حرف الجر ومجروره مع شدة الاتصال بينهما أكثرَ من شدته بين المضاف والمضاف إليه كقوله تعالى :

{ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَاقَهُمْ } [ النساء : 155 ] { فَبِمَا رَحْمَةٍ } [ آل عمران : 159 ] ف « ما » زائدة في اللفظ فكأنها ساقطة فيه لسقوطها في المعنى ، والمفعول المقدم هو غير موضعه معنى فكأنه مؤخر لفظاً ، ولا التفات إلى قول مَنْ زعم أنه لم يأت في الكلام المنثور مِثْلُه لأنه نافٍ ، ومَنْ أسند هذه القراءة مُثْبِت ، والإِثبات مُرَجَّح على النفي بإجماع ، ولو نُقِل إلى هذا الزاعم عن بعض العرب أنه استعمله في النثر لرجع إليه فما باله لا يكتفي بناقل القراءة من التابعين عن الصحابة؟ ثم الذي حكاه ابن الأنباري يعني مما تقدَّم حكايته من قولهم « هو غلامُ إن شاء الله أخيك » فيه الفصلُ في غير الشعر بجملة .
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي والحسن البصري وعبد الملك قاضي الجند صاحب ابن عامر : « زُيِّن » مبنياً للمفعول ، « قَتْلُ » رفعاً على ما تقدم ، « أولادِهم » خفضاً بالإِضافة ، « شركاؤهم » رفعاً ، وفي رفعه تخريجان أحدهما : وهو تخريج سيبويه أنه مرفوع بفعل مقدر تقديره : زَيَّنه شركاؤهم ، فهو جواب لسؤال مقدر كأنه قيل : مَنْ زَيَّنه لهم؟ فقيل : شركاؤهم ، وهذا كقوله تعالى : « يُسَبَّح له فيها بالغدوّ والآصال رجال » أي : يُسَبِّحه رجال ، وقول الآخر :
2095 ليُبْكَ يزيدٌ ضارعٌ لخصومةٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . .
والثاني : وهو تخريج قطرب أن يكون « شركاؤهم » رفعاً على الفاعلية بالمصدر ، والتقدير : زُيّن للمشركين أنْ قَتَلَ أولادَهم شركاؤهم كما تقول : / « حُبِّب لي ركوبُ الفرسِ زيدٌ » تقديره : حبب لي أَنْ ركب الفرس زيد . والفرق بين التخريجين أن التخريج الأول يؤدي إلى أن تكون هذه القراءة في المعنى كالقراءة المنسوبة للعامَّة في كون الشركاء مُزَيِّنين للقتل وليسوا قاتلين ، والثاني : [ أن ] يكون الشركاء قاتلين ، ولكن ذلك على سبيل المجاز؛ لأنهم لَمَّا زيَّنُوا قَتْلَهم لآبائهم وكانوا سبباً فيه نُسِبَ إليهم القتل مجازاً . وقال أبو البقاء : « ويمكن أن يقعَ القَتْلُ منهم حقيقةً » ، وفيه نظرٌ لقوله « زُيّن » والإِنسان إنما يُزَيَّن له فِعْلُ نفسه كقوله تعالى : { أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً } [ فاطر : 8 ] .
وقال غير أبي عبيد : « وقرأ أهل الشام كقراءة ابن عامر إلا أنهم خَفَضُوا » الأولاد « أيضاً ، وتخريجُها سَهْلٌ : وهو أن تجعلَ » شركائهم « بدلاً من » أولادهم « بمعنى أنهم يُشْركونهم في النسب والمالِ وغير ذلك . قال الزجاج : » وقد رُوِيت « شركايهم » بالياء في بعض المصاحف ، ولكن لا يجوزُ إلا على أن يكونَ « شركاؤهم » من نعتِ الأولاد لأنَّ أولادَهم شركاؤهم في أموالهم .

وقال الفراء : بعد أن ذكر قراءة العامة وهي « زَيَّن » مبنياً للفاعل ، « شركاؤهم » مرفوعاً على أنه فاعل « وقراءة » زُيِّن « مبنياً للمفعول » شركاؤهم « رفعاً على ما تقدم من أنه بإضمار فعل ، وفي مصحف أهل الشام شركايهم بالياء ، فإن تكنْ مثبتةً عن الأولين فينبغي أن تقرأ » زُين « ويكون الشركاء هم الأولاد ، لأنهم منهم في النسب والميراث ، وإن كانوا يقرؤون » زَيَّن « يعني بفتح الزاي فلست أعرفُ جهتَها ، إلا أن يكونوا فيها آخذين بلغة قوم يقولون : أتيتها عشايا ، ويقولون في تثنية حمراء : حمرايان ، فهذا وجه أن يكونوا أرادوا : زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركايُهم ، يعني بياء مضمومة لأن » شركاؤهم « فاعل كما مر في القراءة العامة » قال : « وإن شئت جعلت زين فعلاً إذا فتحته لا يُلبس ، ثم تخفض الشركاء بإتباع الأولاد » . قال أبو شامة : « قلت : يعني تقدير الكلامِ زَيَّن بزُين ، فقد اتجه » شركائهم « بالجر أن يكون نعتاً للأولاد سواءٌ قُرئ زين بالفتح أو الضم » .
وقرأت فرقة من أهل الشام ورُوِيَتْ عن ابن عامر أيضاً - « زِيْنَ » بكسر الزاي بعدها ياء ساكنة على أنه فعل ماض مبني للمفعول على حَدّ قيل وبيع . وقيل : مرفوعٌ على ما لم يُسَمَّ فاعله ، وأولادَهم بالنصب ، وشركائِهم بالخفض ، والتوجيه واضح مما تقدم فهي [ و ] القراءة الأولى سواء ، غاية ما في الباب أنه أُخذ مِنْ زان الثلاثي وبُني للمفعول فأُعِلَّ بما قد عرفته في أول البقرة .
واللام من قوله « لكثير من المشركين » متعلقة بزين ، وكذلك اللام في قوله « ليُرْدُوهم » . فإن قيل : كيف تُعَلِّق حرفَيْ جر بلفظ واحد وبمعنى واحد بعامل واحد من غير بدلية ولا عطف؟ فالجواب : أن معناهما مختلف فإنَّ الأولى للتعدية والثانية للعِلِّيَّة . وقال الزمخشري « إن كان التزيين من الشياطين فهي على حقيقة التعليل ، وإن كان من السَّدَنة فهي للصيرورة » يعني أن الشيطانَ يفعل التزيين ، وغرضه بذلك الإِرداء ، فالتعليل فيه واضح ، وأمَّا السَّدَنةُ فإنهم لم يزيِّنوا لهم ذلك وغرضُهم إهلاكهم ، ولكن لمَّا كان مآل حالهم إلى الإِرداء أتى باللام الدالَّة على العاقبة والمآل .
قوله « وليَلْبِسوا » عطف على « ليُرْدوا » ، عَلَّلَ التزيين بشيئين : بالإِرداء وبالتخليط وإدخال الشبهة عليهم في دينهم . والجمهورُ على « وليَلْبِسوا » بكسر الباء مِنْ لبَسْت عليه الأمر ألبِسُه بفتح العين في الماضي وكسرها في المضارع إذا أدْخَلْتَ عليه فيه الشبهة وخلطته فيه . وقد تقدم بيانه في قوله { ولَلَبَسْنا عليهم ما يَلْبِسون } [ الأنعام : 9 ] . وقرأ النخعي : « وليلبَسوا » بفتح الباء فقيل : هي لغة في المعنى المذكور تقول : « لَبَِسْتُ عليه الأمر بفتح الباء وكسرها ألبِسه وألبَسه ، والصحيح أن لَبِس بالكسر بمعنى/ لبس الثياب ، وبالفتح بمعنى الخلط ، فالصحيح أنه استعار اللباس لشدة المخالطة الحاصلة بينهم وبين التخليط حتى كأنهم لبسوها كالثياب وصارت محيطةً بهم .

وقوله : « ما فعلوه » الضمير المرفوع للكثير والمنصوب للقتل للتصريح به ولأنه المسوقُ للحديث عنه . وقيل : المرفوع للشركاء والمنصوب للتزيين ، وقيل : المنصوب لِلَّبْسِ المفهوم من الفعل قبله وهو بعيد . وقال الزمخشري : « لما فعل المشركون ما زُيِّن لهم من القتل ، أو لما فعل الشياطين أو السَّدَنَة التزيين أو الإِرداء أو اللبس ، أو جميع ذلك إن جَعَلْتَ الضمير جارياً مَجْرى اسم الإِشارة » .
وقوله { فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } [ الأنعام : 112 ] تقدَّم نظيره .

وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138)

قوله تعالى : { أَنْعَامٌ } : قرأها الجمهور كذلك على صيغة الجمع ، وأبان بن عثمان « نَعَمٌ » بالإِفراد وهو قريب ، لأن اسم الجنس يقوم مقام الجمع . وقرأ الجمهور « حِجْر » بكسر الحاء المهملة وسكون الجيم . وقرأ الحسن وقتادة والأعرج بضم الحاء وسكون الجيم . ونُقل عن الحسن وقتادة أيضاً فتحُ الحاء وسكون الجيم . ونُقِل عن أبان بن عثمان ضَمُّ الحاءِ والجيم معاً . وقال هارون : « كان الحسن يضمُّ الحاء من » حجر « حيث وقع في القرآن إلا موضعاً واحداً [ وهو ] : { وَحِجْراً مَّحْجُوراً } [ الفرقان : 53 ] والحاصل أن هذه المادة تدل على المنع والحصر ومنه : فلانٌ في حِجْر القاضي أي : في مَنْعه ، وفي حِجْري أي : ما يمنع من الثوب أن ينفلتَ منه شيء ، وقد تقدم تحقيق ذلك في النساء فقوله تعالى { وَحَرْثٌ حِجْرٌ } أي ممنوع ، ف » فِعْل « بمعنى مفعول كالذِّبْح والنِّطْح بمعنى مذبوح ومنطوح . فإن قيل : قد تقدم شيئان : وهما أنعام وحرث وجيء بالصفة مفردة فالجواب أنه في الأصل مصدر والمصدر يُذَكَّر ويُوَحَّد مطلقاً . وقال الزمخشري : » ويستوي في الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والجمع؛ لأنَّ حكمَه حكم الأسماء غير الصفات « قلت : يعني بكونه حكمه حكم الأسماء أنه في الأصل مصدرٌ لا صفةٌ ، فالاسم هنا يُراد به المصدرُ وهو مقابل الصفة .
وأمَّا بقيَّةُ القراءات فقال أبو البقاء : » إنها لغات تفي الكلمة « وفَسَّر معناها بالممنوع . قلت : ويجوز أن يكون المضمومُ الحاء والجيم مصدراً وقد جاء من المصادر للثلاثي ما هو على وزن فُعُل بضم الفاء والعين نحو : حُلُم . ويجوز أن يكون جمع » حَجْر « بفتح الحاء وسكون الجيم ، وفُعُل قد جاء قليلاً جمعاً لفَعْل نحو : سَقْف وسُقُف ورَهْن ورُهُن ، وأن يكونَ جمعاً لفِعْل بكسر الفاء ، وفُعُل أيضاً قد جاء جمعاً لفِعْل بكسر الفاء وسكون العين نحو حِدْج وحُدُج . وأما حُجْر بضم الحاء وسكون الجيم فهو مخفف من المضمومِها فيجوز أن يكون مصدراً ، وأن يكون جمعاً لحَجْر أو حِجْر . وقرأ أبيّ بن كعب وعبد الله بن العباس وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن الزبير وعكرمة وعمرو ابن دينار والأعمش : حِرْج بكسر الحاء وراء ساكنة مقدمة على الجيم ، وفيها تأويلان ، أحدهما : أنها من مادة الحَرَج وهو التضييق ، قال أبو البقاء : » وأصلُه حَرِج بفتح الحاء وكسر الراء ولكنه خُفِّف ونُقِل مثل فَخْذ في فخِذ « . قلت : ولا حاجةَ إلى ادِّعاء ذلك ، بل هذا جاء بطريق الأصالة على وزن فِعْل . والثاني : أنه مقلوبٌ مِنْ حجر قُدِّمَتْ لام الكلمة على عينها ووزنه فِلْع كقولهم ناء في نأى ومعيق في عميق ، والقلب قليل في لسانهم .

وقد قدَّمْتُ منه جملة صالحة عند قوله تعالى : « أشياء » في المائدة/ .
قوله : { لاَّ يَطْعَمُهَآ إِلاَّ مَن نَّشَآءُ } هذه الجملة في محل رفع نعتاً لأنعام ، وَصَفوه بوصفين أحدهما : أنه حجر ، والثاني : أنه لا يأكله إلا من شاؤوا ، وهم الرجال دون النساء أو سَدَنة الأصنام . و « من يشاء » فاعل ب « يَطْعَمُها » وهو استثناء مفرغ و « بزعمهم » حال كما تقدم في نظيره .
قوله : « افتراءً » فيه أربعة أوجه أحدها : وهو مذهب سيبويه أنه مفعول من أجله أي : قالوا ما تقدَّم لأجل الافتراء على الباري تعالى . الثاني : مصدر على غير الصدر لأن قولهم المحكيَّ عنهم افتراء ، فهو نظير « قعد القرفصاء » وهو قول الزجاج . الثالث : أنه مصدرٌ عاملُه من لفظه مقدر أي : افْتَرَوا ذلك افتراءً . الرابع : أنه مصدر في موضع الحال أي : قالوا ذلك حالَ افترائهم ، وهي تشبه الحال المؤكدة؛ لأن هذا القولَ المخصوصَ لا يكون قائله إلا مفترياً . وقوله « على الله » يجوز تعلُّقه ب « افتراء » على القول الأول والرابع ، وعلى الثاني والثالث بقالوا لا بافتراء؛ لأنَّ المصدر المؤكِّد لا يعمل ، ويجوز أن يتعلَّق بمحذوفٍ صفةً لافتراء ، وهذا جائز على كل قولٍ من الأقوال السابقة . وقوله « بما كانوا » الباء سببية ، و « ما » مصدرية أو موصوفةٌ أو بمعنى الذي .

وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)

قوله تعالى : { خَالِصَةٌ } : الجمهور على « خالصة » بالتأنيث مرفوعاً على أنه خبر « ما » الموصولة ، والتأنيث : إمَّا حَمْلاً على المعنى؛ لأن الذي في بطون الأنعام أنعام ، ثم حُمِلَ على لفظها في قوله « ومحرَّم » ، وإمَّا لأنَّ التأنيث للمبالغة كهو في عَلاَّمة ونسَّابة وراوية ، وإمَّا لأن « خالصة » مصدر على وزن فاعلة كالعاقبة والعافية . وقال تعالى : { بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدار } [ ص : 46 ] وهذا القول قول الفراء ، والأول له أيضاً ولأبي إسحاق الزجاج ، والثاني للكسائي ، وإذا قيل : إنها مصدر كان ذلك على حذف مضاف أي : ذو خلوصٍ أو على المبالغةِ ، أو على وقوع المصدر موقع اسم الفاعل كنظائره . وقال الشاعر :
2096 وكنتِ أُمْنِيَّتي وكنتِ خالصتي ... وليس كلُّ امرِئٍ بمؤتمنِ
وهذا مستفيضٌ في لسانهم : فلان خالصتي أي ذو خلوصي . و « لذكورنا » متعلِّقٌ به ، ويجوز أن يتعلَّق بمحذوف على أنه وصف لخالصة وليس بالقوي .
وقرأ عبد الله وابن جبير وأبو العالية والضحاك وابن أبي عبلة « خالص » مرفوعاً على ما تقدَّم من غير هاء . و « لذكورنا » متعلق به أو بمحذوف كما تقدَّم . وقرأ ابن جبير أيضاً فيما نقله عنه ابن جني « خالصاً » نصباً من غير تاء ، ونصبُه على الحال ، وفي صاحبه وجهان أظهرهما : أنه الضمير المستتر في الصلة . الثاني : أنه الضمير المستتر في « لذكورنا » فإنَّ « لذكورنا » على هذه القراءة خبر المبتدأ ، وهذا إنما يجوز على مذهب أبي الحسن لأنه يجيز تقديم الحال على عاملها المعنوي نحو : « زيد مستقراً في الدار » ، والجمهور يمنعونه ، وقد تقدَّم تحقيق هذه المسألة بتفصيلها ودلائلها .
وقرأ ابن عباس أيضاً والأعرج وقتادة : « خالصةً » نصباً بالتأنيث ، والكلام في نصبه وتأنيثه كما تقدم في نظيره ، وخرَّجه الزمخشري على أنه مصدر مؤكد كالعاقبة . وقرأ ابن عباس أيضاً وأبو رزين وعكرمة وأبو حيوة : « خالصُه » برفع « خالص » مضافاً إلى ضمير « ما » . ورفعه على أحد وجهين : إمَّا على البدل من الموصول ، بدلِ بعض من كل ، و « لذكورنا » خبر الموصول ، وإمَّا على أنه مبتدأ ، و « لذكورنا » خبره والجملة خبر الموصول ، وقد عَرَفْتَ ممَّا تقدَّم أنه حيث قلنا : إن « خالصة » مصدر أو هي للمبالغة فليس في الكلام حَمْلٌ على معنى ثم على لفظ ، وإن قلنا : إن التأنيث فيها لأجل تأنيث ما في البطون كان في الكلام الحَمْلُ على المعنى أولاً ثم على اللفظ في قوله « مُحَرَّمٌ » ثانياً ، وليس لذلك في القرآن نظير ، أعني الحمل على المعنى أولاً ثم على اللفظ ثانياً .

إلا أن مكِّيَّاً زعم في غير « إعراب القرآن » له أن لهذه الآية نظائر فذكرها ، وأما في إعرابه فلم يذكر أن غيرها في القرآن شاركها في ذلك ، فقال في إعرابه « وإنما أَنَّث الخبر/ لأنَّ ما في بطون الأنعام أنعامٌ فحمل التأنيث على المعنى ، ثم قال : » ومُحَرَّمٌ « فذكَّر حَمْلاً على لفظِ » ما « ، وهذا نادرٌ لا نظير له ، وإنما يأتي في » مَنْ « و » ما « حَمْلُ الكلام أولاً على اللفظ ثم على المعنى بعد ذلك فاعرفه فإنه قليل » . وقال في غير « الإِعراب » : « هذه الآية في قراءة الجماعة أَتَتْ على خلاف نظائرها في القرآن؛ لأنَّ كلَّ ما يُحْمل على اللفظ مرةً وعلى المعنى مرة إنما يتبدئ أولاً بالحمل على اللفظ ثم يليه الحَمْل على المعنى نحو : { مَنْ آمَنَ بالله } [ البقرة : 62 ] ثم قال : » فلهم أجرُهم « ، هكذا يأتي في القرآن وكلام العرب ، وهذه الآية تَقَدَّم فيها الحَمْلُ على المعنى فقال » خالصة « ، ثم حُمِلَ على اللفظ فقال : » ومُحرَّمٌ « ، ومثله { كُلُّ ذلك كَانَ سَيِّئُةً } [ الإسراء : 38 ] في قراءة نافع ومَنْ تابعه فأنَّث على معنى » كل « لأنها اسم لجميع ما تقدَّم ممَّا نهى عنه من الخطايا ثم قال : » عند ربك مكروهاً « فذكَّر على لفظ » كل « وكذلك { مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُواْ على ظُهُورِهِ } [ الزخرف : 13 ] جَمَعَ الظهور حملاً على معنى » ما « ووحَّد الهاءَ حَمْلاً على لفظ » ما « ، وحُكي عن العرب : » هذا الجرادُ قد ذهب فأراحنا مِنْ أَنْفُسِه « جمع الأنفس ووحَّد الهاء وذكَّرها .
قلت : أمَّا قوله » هكذا أتى في القرآن « فصحيح ، وأمَّا قوله » وكلام العرب « فليس ذلك بمُسَلَّم؛ إذ في كلام العرب البداية بالحَمْلِ على المعنى ، ثم على اللفظ ، وإن كان عكسُه هو الكثير ، وأمَّا ما جعله نظيرَ هذه الآية في الحَمْل على المعنى أولاً ثم على اللفظ ثانياً فليس بمُسَلَّم أيضاً ، وكذلك لا نُسَلِّم أن هذه الآية ممَّا حُمِلَ فيها على المعنى أولاً ، ثم على اللفظ ثانياً . وبيان ذلك أنَّ لقائلٍ أن يقول : صلة » ما « جار ومجرور ، وهو متعلق بمحذوف فتقدره مسنداً لضمير مذكَّر أي : ما استقرَّ في بطون هذه الأنعام ، ويبعد تقديره باستقرَّت ، إذا عُرِف هذا فيكون قد حَمَل أولاً على اللفظ في الصلة المقدرة ثم على المعنى ثانياً . وأمَّا » كل ذلك كان سَيِّئةً « فبدأ فيه أيضاً بالحَمْل على اللفظ في قوله » كان « فإنه ذكَّر ضميره المستتر في » كان « ثم حمل على المعنى في قوله » سيِّئة « فأنَّث .

وكذلك « لتَسْتَووا » فإنَّ قبله « ما تركبون » ، والتقدير : ما تركبونه ، فحمل العائد المحذوف على اللفظ أولاً ثم حُمِلَ على المعنى ثانياً ، وكذلك في قولهم « هذا الجراد قد ذهب » حُمِلَ على اللفظ فأفرد الضمير في « ذهب » ، ثم حُمِلَ على المعنى ثانياً فجمع في قوله « أنفسه » ، وفي هذه المواضع يكون قد حمل فيها أولاً على اللفظ ، ثم على المعنى ، ثم على اللفظ ، وكنتُ قد قَدَّمْتُ أن في القرآن من ذلك أيضاً ثلاثة مواضع : آية المائدة [ الآية : 60 ] : { وَعَبَدَ الطاغوت } ولقمان [ الآية : 6 ] : { وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث } والطلاق [ الآية : 11 ] : { وَمَن يُؤْمِن بالله } قوله : { وَإِن يَكُن مَّيْتَةً } قرأ ابن كثير « يكن » بياء الغيبة مَيْتَةٌ رفعاً ، وابن عامر : « تكن » بتاء التأنيث ، ميتة رفعاً ، وعاصم في رواية أبي بكر « تكن » بتاء التأنيث « ميتةً » نصباً ، والباقون « تكن » كابن كثير ، « ميتةً » كأبي بكر . والتذكير والتأنيث واضحان لأن الميتة تأنيث مجازي لأنها تقع على الذكر والأنثى من الحيوان فَمَنْ أنَّث فباعتبار اللفظ ، ومَنْ ذكَّر فباعتبار المعنى ، هذا عند مَنْ يرفع « ميتة » ب « تكن » ، أمَّا من ينصبها فإنه يسند الفعل حينئذٍ إلى ضميرٍ فيذكِّر باعتبار لفظ « ما » في قوله « ما في بطون » ويؤنث باعتبار معناها . ومن نصب « ميتة » فعلى خبر « كان » الناقصة . ومَنْ رفع فيحتمل وجهين ، أحدهما : أن تكون التامة ، وهذا هو الظاهر أي : وإن وجد ميتة أو حَدَثَتْ ، وأن تكون الناقصة ، وحينئذٍ يكون خبرُها محذوفاً أي : وإن يكن هناك أو في البطون ميتة وهذا رأي الأخفش ، فيكون تقدير قراءة ابن كثير : وإن يَحْدُثْ حيوان ميتة أو : وإن يكن في البطون ميتة ، على حسب التقديرين تماماً ونقصاناً ، وتقدير قراءة ابن عامر كتقدير قراءته ، إلا أنه أنَّث الفعل باعتبار لفظ مرفوعه ، وتقدير قراءة أبي بكر : وإن تكنِ الأنعامُ أو الأجنَّة ميتةً ، فأنَّث حَمْلاً على المعنى ، وقراءة الباقين كتقدير قراءته إلا أنهم ذكَّروا باعتبار اللفظ ، قال أبو عمرو بن العلاء : « ويُقَوِّي هذه القراءةَ يعني قراءة التذكير والنصب قوله » فهم فيه « ولم يقل فيها » . ورُدَّ هذا/ على أبي عمرو بأن الميتة لكل ميت ذكراً كان أو أنثى فكأنه قيل : وإن يكن ميتاً فهم فيه ، يعني فلم يَصِرْ له في تذكير الضمير في « فيه » حُجَّةٌ .
ونقل الزمخشري قراءة ابن عامر عن أهل مكة فقال : « قرأ أهل مكة » وإن تكنْ ميتةٌ « بالتأنيث والرفع » فإن عنى بأهل مكة ابن كثير ولا أظنه عناه فليس كذلك وإن عنى غيره فيجوز ، على أنه يجوز أن يكون ابن كثير قرأ بالتأنيث أيضاً ، لكن لم يُشْتهر عنه اشتهارَ التذكير . وقرأ يزيد « مَيِّتة » بالتشديد . وقرأ عبد الله : « فهم فيه سواء » وأظنها تفسيراً لا قراءةً لمخالفتها السواد .

قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)

قوله تعالى : { قَدْ خَسِرَ الذين قتلوا } : هذا جواب قسم محذوف . وقرأ ابن كثير وابن عامر وهي قراءة الحسن وأبي عبد الرحمن « قَتَّلوا » بالتشديد مبالغة وتكثيراً ، والباقون بالتخفيف ، و « سفهاً » نصب على الحال أي : ذوي سَفَهٍ ، أو على المفعول من أجله وفيه بُعْدٌ ، لأنه ليس علة باعثة أو على أنه مصدر لفعل مقدر أي سفهوا سفهاً ، أو على أنه مصدر على غير الصدر؛ لأن هذا القتل سَفَهٌ . وقرأ اليماني « سُفَهاء » على الجمع وهي حال ، وهذه تقوِّي كونَ قراءةِ العامة مصدراً في موضع الحال حيث صرَّح بها . و « بغير علم » : إمَّا حال أيضاً ، وإمَّا صفةٌ لسفهاً وليس بذاك .

وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)

قوله تعالى : { مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ } : منصوب على الحال ، وفيها قولان أحدهما : أنها حال مقدرة لأن النخل والزرع وقت خروجِهما لا أَكْلَ فيهما حتى يقال فيه متفق أو مختلف ، فهو كقوله { فادخلوها خَالِدِينَ } [ الزمر : 73 ] وكقولهم : « مررتُ برجلٍ معه صقرٌ صائداً به غداً » أي : مقدِّراً الاصطياد به . والثاني : أنها حال مقارنة وذلك على حذف مضاف أي : وثمر النخل وحَبّ الزرع . و « أُكُلُه » مرفوع ب « مختلفاً » لأنه اسم فاعل ، وشروط الإِعمال موجودة . والأُكُل : الشيء المأكول ، وقد تقدَّم أنه يُقْرأ بضم الكاف وسكونها ومضى تحقيقه في البقرة .
والضمير في « أُكُله » : الظاهر أنه يعود على الزرع فقط : إمَّا لأنه حذف حالاً من النخل لدلالة هذه عليها تقديره : والنخل مختلفاً أكله ، والزرع مختلفاً أكله ، وإمَّا لأن الزرع هو الظاهر فيه الاختلافُ بالنسبة إلى المأكول منه كالقمح والشعير والفول والحمص والعََدس وغير ذلك . وقيل إنها تعود عليهما ، قال الزمخشري : « والضمير للنخل ، والزرعُ داخلٌ في حكمه لكونه معطوفاً عليه » . قال الشيخ : « وليس بجيد ، لأن العطفَ بالواو لا يُجَوِّزُ إفراد ضمير المتعاطفين » . وقال الحوفي : « والهاء في » أكلُه « عائدةٌ على ذِكْرِ ما تقدَّم من هذه الأشياء المنشآت » ، وعلى هذا الذي ذكره الحوفي لا تختص الحال بالنخل والزرع بل يكون لِما تقدَّم جميعه .
قال الشيخ : « ولو كان كما زعم لكان التركيب » أكلها « ، إلا إنْ أُخذ ذلك على حذف مضاف أي : ثمر جنات ، وروعي هذا المحذوفُ فقيل : » أُكُلُه « بالإِفراد على مراعاته ، فيكون ذلك كقوله : » أو كظلمات في بحر لُجِّيٍّ يغشاه موج « أي : أو كذي ظلمات؛ ولذلك أعاد الضمير في يغشاه عليه » . قلت : فيبقى التقدير : مختلفاً أكل ثمر الجنات وما بعدها ، وهذا يلزم منه إضافة الشيء إلى نفسه ، لأن الأُكُل كما تقدم غير مرة أنه الثمر المأكول . قال الزمخشري في الأكل : « وهو ثمره الذي يؤكل » . وقال ابن الأنباري : « إن مختلفاً نُصب على القطع فكأنه قال : والنخل والزرع المختلف أُكُلُهما » وهذا رأي الكوفيين وقد تقدم إيضاحه غير مرة .
وقوله : { والزيتون والرمان } إلى قوله : { إِذَآ أَثْمَرَ } قد تقدم إيضاحه .
قوله « حصادِه » قرأ أبو عمرو وابن عامر وعاصم بفتح الحاء ، والباقون بكسرها ، وهما لغتان في المصدر لقولهم جَداد وجِداد ، وقَطاف وقِطاف ، وحَران وحِران . قال سيبويه : « جاؤوا بالمصدر حين أرادوا انتهاء الزمان على مثالِ فِعال ، وربما قالوا فيه فَعال » يعني أن هذا مصدر خاص دال على معنى زائد على مطلق المصدر فإن المصدر الأصلي إنما هو الحصد ، فالحصدُ ليس فيه دلالةٌ على انتهاء زمان ولا عدمها بخلاف الحَصاد والحِصاد .

ونسب الفراء الكَسْرَ لأهل الحجاز/ والفتح لتميم ونجد . واختار أبو عبيد الفتح قال : « للفخامة ، وإن كانت الأخرى فاشية غير مدفوعة » ، ومكي الكسرَ قال : « لأنه الأصل وعليه أكثر الجماعة » .
وقوله { يَوْمَ حَصَادِهِ } فيه وجهان أحدهما : أنه منصوب ب « آتوا » أي : أعطوا واجبه يوم الحصاد . واستشكل بعض الناس ذلك بأن الإِيتاء إنما يكون بعد التصفية فكيف يوجب الإِيتار في يوم الحصيد؟ وأجيب بأن ثَمَّ محذوفاً والتقدير : إلى تصفيته قالوا : فيكون الحصاد سبباً للوجوب المُوَسَّع والتصفية سبب للأداء ، وأحسنُ من هذا أن يكون المعنى : واهتموا بإيتاء الزكاة الواجبة فيه واقصدوه في ذلك اليوم .
والثاني : أنه منصوب بلفظ « حقه » على معنى : وأعطوا ما استحق منه يوم حصاده ، فيكون الاستحقاق ثابتاً يوم الحصاد والأداء بعد التصفية ، ويؤيد ذلك تقديرُ المحذوف عند بعضهم كما قَدَّمْتُه ، وقال في نظير هذه الآية : { انظروا إلى ثَمَرِهِ } [ الأنعام : 99 ] وفي هذه « كُلُوا » قيل : لأن الأولى سِيْقَتْ للدلالة على كمال قدرته وعلى إعادة الأجسام من عُجْب الذَّنَب فأمر بالنظر والتفكُّر في البداية والنهاية ، وهذه سِيْقَت في مَعْرِض كمال الامتنان فناسب الأمر بالأكل ، وتحصَّل من مجموع الآيتين الانتفاعُ الأخروي والدنيوي ، وهذا هو السبب لتقدم النظر على الأمر بالأكل .

وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142)

قوله تعالى : { حَمُولَةً وَفَرْشاً } : منصوبان على أنهما نُسِقا على جنات أي : وأنشأ من الأنعام حمولة . والحَمولة : ما أطاق الحملَ عليه من الإِبل . والفَرْش صغارُها ، هذا هو المشهورُ في اللغة . وقيل : الحَمولة كبارُ الأنعام أعني الإِبل والبقر والغنم ، والفَرْش صغارها قال : « ويدل له أنه أبدل منه قولَه بعد ذلك ثمانية أزواج من الضأن » كما سيأتي . وقال الزجاج : « أجمع أهل اللغة على أن الفَرْشَ صغار الإبل ، وأنشد :
2097 أَوْرَثَني حَمولةً وفَرْشاً ... أَمُشُّها في كل يومٍ مَشَّا
وقال الآخر :
2098 وَحَوَيْنا الفَرْشَ مِنْ أنعامكم ... والحَمُولاتِ وربَّاتِ الحجالْ
قال أبو زيد : » يحتمل أن يكون سُمِّيَتْ بالمصدر لأنَّ الفَرْشَ في الأًصل مصدر « . والفَرْش لفظٌ مشترك بين معانٍ كثيرة منها ما تقدَّم ، ومنها متاع البيت ، والفضاء الواسع ، واتساع خفِّ البعيرِ قليلاً ، والأرض الملساء ، عن أبي عمرو بن العلاء ، ونباتٌ يلتصق بالأرض ، ومنه قول الشاعر :
2099 كمِشْفَر الناب تلوك الفَرْشا ... وقيل : الحَمُولة : كلُّ ما حُمِل عليه ، من إبل وبقر وبغل وحمار ، والفَرْشُ هنا ما اتُّخِذَ من صوفه ووبره وشعره ما يفترش ، وأنشدوا للنابغة :
2100 وحَلَّتْ بيوتي في يَفاعٍ مُمَنَّعٍ ... تَخَالُ به راعي الحَمولَةِ طائرا
وقال عنترة :
2101 وما راعني إلا حَمُولة أهلها وسطَ الديارِ تَسُفُّ حب الخِمْخِمِ ...

ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143)

قوله تعالى : { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } : في نصبه ستةُ أوجه ، أحسنُها : أن يكونَ بدلاً من « حَمولة وفرشاً » لولا ما نقله الزجاج من الإِجماع المتقدم ، ولكن ليس فيه أن ذلك محصورٌ في الإِبل ، والقول بالبدل هو قول الزجاج والفراء . والثاني : أنه منصوب ب « كلوا » الذي قبله أي : كلوا ثمانيةَ أزواج ، ويكون قوله « ولا تَتَّبِعُوا » إلى آخره كالمعترض بين الفعل ومنصوبه وهو قول علي بن سليمان وقَدَّره : كُلوا لحمَ ثمانية . وقال أبو البقاء : « هو منصوب ب » كلوا « تقديره : كُلوا مما رزقكم الله ثمانية أزواج ، ولا تُسْرفوا معترض بينهما » . قلت : صوابه أن يقول : « ولا تتَّبعوا » بدلَ « ولا تسرفوا » لأنَّ « كُلوا » الذي يليه « ولا تسرفوا » ليس منصبّاً على هذا لأنه بعيد منه ، ولأنَّ بعده ما هو أَوْلَى منه بالعمل ، ويُحتمل أن يكون الناسخ غلط عليه ، وإنما قال هو « ولا تَتَّبعوا » ويدل على ذلك أنه قال « تقديره : كلوا ممَّا رزقكم الله » ، وكلوا الأولُ ليس بعده « مما رزقكم » إنما هو بعد الثاني . الثالث : أنه عطف على « جنات » أي : أنشأ جنات وأنشأ ثمانية أزواج ، ثم حُذِفَ الفعل وحرف العطف وهو مذهب الكسائي . قال أبو البقاء : « وهو ضعيف » قلت : الأمر كذلك ، وقد سُمِع ذلك في كلامهم نثراً ونظماً ، ففي النثر قولهم : « أكلت لحماً سمكاً تمراً » وفي نظمهم قول الشاعر :
2102 ... كيف أصبحتَ كيف أَمْسَيْتَ مِمَّا
يزرَعُ الودَّ في فؤاد الكريمِ ... أي : أكلت لحماً وسمكاً وتمراً ، وكيف أصبحت وكيف أمسيت ، وهذا على أحد القولين في ذلك . والقول الثاني أنه بدل بداء . ومنه الحديث : « إن الرجلَ ليصلِّي الصلاة ، وما كُتِبَ له نصفُها ثلثُها ربعُها إلى أن وصل إلى العَشْر » الرابع : أنه منصوب بفعل محذوف مدلولٍ عليه بما في اللفظ تقديره : كلوا ثمانيةَ أزواج ، وهذا أضعفُ ممَّا قبله . الخامس : أنه منصوبٌ على الحال ، تقديره : / مختلفةً أو متعددة ، وصاحب الحال « الأنعام » فالعامل في الحال ما تعلَّق به الجار وهو « مِنْ » . السادس : أنه منصوب على البدل مِنْ محلِّ « ممَّا رزقكم الله » .
قوله : { مَّنَ الضأن اثنين } في نصب « اثنين » وجهان أحدهما : أنه بدلٌ من « ثمانية أزواج » وهو ظاهرُ قولِ الزمخشري فإنه قال : « والدليل عليه » ثمانية أزواج « ثم فَسَّرها بقوله » من الضأن اثنين « الآية . وبه صَرَّح أبو البقاء فقال : » واثنين بدل من الثمانية وقد عُطِفَ عليه بقية الثمانية « .

والثاني : أنه منصوبٌ بأنشأ مقدَّراً ، وهو قول الفارسي ، و « مِنْ » تتعلَّق بما نصب « اثنين » .
والجمهور على تسكين همزة « الضأن » وهو جمع ضائن وضائنة كتاجِر وتاجرة وتَجْر ، وصاحب وصاحبة وصَحْب ، وراكب وراكبة ورَكْب . وقرأ الحسن وطلحة بن مصرف وعيسى بن عمر « الضَّأَن » بفتحها ، وهو إمَّا جمع تكسير لضائن كما يقال خادم وخدم وحارس وحرس وطالب وطَلَب ، وإمَّا اسم جمع . ويُجْمع على ضَئين كما يقال : كلب وكليب ، قال :
2103 . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . فبذَّتْ نَبْلَهمْ وكليبُ
وقيل : الضَّئين والكليب اسما جمع ، ويقال ضِئين بكسر الضاد ، وكأنها إتباع لكسر الهمزة نحو : بِعير وشِعير بكسر الباء والشين لكسر العين . والضأن معروفٌ وهو ذو الصوف من الغنم ، والمعز ذو الشعر منها . وقرأ أبان بن عثمان « اثنان » بالرفع على الابتداء والخبر الجار قبله . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر المَعَز بفتح العين ، والباقون بسكونها ، وهما لغتان في جمع ماعِز ، وقد تقدَّم أن فاعِلاً يُجمع على فَعْل تارة وعلى فَعَل أخرى كتاجر وتَجْر وخادِم وخَدَم ، وقد تقدَّم تحقيقُه ، ويُجْمع أيضاً على مِعْزى ، وبها قرأ أُبَيّ ، قال امرؤ القيس :
1104 ألا إنْ لا تكن إِبِلٌ فمِعْزَى ... كأنَّ قُروْنَ جِلَّتِها العِصِيُّ
وقال أبو زيد : إنه يُجْمع على أُمْعوز ، وأنشد :
2105 . . . . . . . . . . . . . . ... كالتَّيْبسِ في أُمْعوِزهِ المُتَرَبِّلِ
ويجمع أيضاً على مَعِيز ، وأنشدوا لامرئ القيس :
1106 ويمنحها بنو شَمَجَى بنِ جَرْمٍ ... معيزَهُمُ حنَانكَ ذا الحَنانِ
والإِبل : اسم جمع لا واحد له من لفظه ، بل واحدُه جمل وناقة وبعير ، ولم يجئ اسم على فِعِل عند سيبويه غيره ، وزاد غير سيبويه بِكِراً وإِطِلاً ووِتِداً ومِشِطاً ، وسيأتي لهذا مزيد بيان في الغاشية إن شاء الله ، والنسبة إليه إبَلي بفتح الباء لئلاَّ يتوالَى كسرتان مع ياءين .
قوله : { ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ } الذَّكَرَيْن منصوب بما بعده ، وسببُ إيلائه الهمزةَ ما تقدم في قوله « أأنت قلتَ للناس » و « أم » عاطفة للأُنْثَيَيْن على الذكرين ، وكذلك أم الثانية عاطفة ما الموصولة على ما قبلها فمحلُّها نصبٌ تقديره : أم الذي اشتملت عليه أرحام ، فلما التقت الميم ساكنة مع ما بعدها وجَب الإِدغامُ .

وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)

و « أم » في قوله تعالى : { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ } : منقطعة ليست عاطفةً؛ لأن بعدها جملةً مستقلة بنفسها فتُقَدَّر ب بل والهمزة والتقدير : بل أكنتم شهداء . و « إذ » منصوب بشهداء أنكر عليهم ما ادَّعَوْه ، وتهكَّم بهم في نسبتهم إلى الحضور في وقتِ الإِيصاء بذلك . و « بهذا » إشارة إلى جميع ما تقدَّم ذِكْرُه من المحرَّمات عندهم .

قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)

قوله تعالى : { مُحَرَّماً } : منصوبٌ بقوله « لا أَجِدُ » وهو صفة لموصوف محذوف حُذِفَ لدلالة قوله على « طاعم يَطْعَمُه » والتقدير : لا أجد طعاماً محرَّماً . و « على طاعم » متعلق بمحرَّماً و « يَطْعَمُه » في محل جرّ صفةً لطاعم . وقرأ الباقر ونقلها مكي عن أبي جعفر « يَطَّعِمُه » بتشديد الطاء وأصلها يَطْتَعِمه افتعالاً من الطعم ، فأبدلت التاء طاء لوقوعها بعد طاء للتقارب فوجب الإِدغام . وقرأت عائشة ومحمد بن الحنفية وأصحاب عبد الله بن مسعود « تَطَعَّمه » بالتاء من فوق وتشديد العين فعلاً ماضياً .
قوله { إِلاَّ أَن يَكُونَ } منصوبٌ على الاستثناء وفيه وجهان ، أحدهما : أنه متصل قال أبو البقاء : « استثناء من الجنس ، وموضعه نصب ، أي : لا أجد مُحَرَّماً إلا الميتة » والثاني : أنه منقطع ، قال مكي : « وأن يكون في موضع نصب على الاستثناء المنقطع » . وقال الشيخ : « وإلا أن يكون » استثناء منقطع لأنه كون وما قبله عين ، ويجوز أن يكون موضعه نصباً بدلاً على لغة تميم ونصباً على الاستثناء على لغة الحجاز « يعني أن الاستثناء/ المنقطع فيه لغتان إحداهما لغة الحجاز وهو وجوبُ النصبِ مطلقاً ، ولغة التميميين يجعلونه كالمتصل ، فإن كان في الكلام نفي أو شبهه رُجِّح البدلُ ، وهنا الكلام نفي فيترجَّح نصبُه عند التميميين على البدل دون النصب على الاستثناء فنصبُه من وجهين ، وأمَّا الحجاز فنصبُه عندهم مِنْ وجهٍ واحد ، وظاهر كلام أبي القاسم الزمخشري أنه متصل فإنه قال : » محرماً أي : طعاماً محرماً من المطاعم التي حَرَّمتموها ، إلا أن يكون ميتة « إلا أن يكون الشيء المحرم ميتة » وقرأ ابن عامر في رواية : « أوحَى » بفتح الهمزة والحاء مبنياً للفاعل .
وقوله تعالى : { قُلْ آلذَّكَرَيْنِ } وقوله « نَبِّئوني » ، وقوله أيضاً « آلذكرين » ثانياً وقوله « أم كنتم شهداء » جمل اعتراضٍ بين المعدودات التي وقعَتْ تفصيلاً لثمانية أزواج . قال الزمخشري : « فإن قلت : كيف فصل بين المعدود وبين بعضه ولم يُوالِ بينه؟ قلت : قد وقع الفاصل بينهما اعتراضاً غيرَ أجنبي من المعدود ، وذلك أن الله عز وجل مَنَّ على عباده بإنشاء الإِنعام لمنافعهم وبإباحتها لهم ، فاعترض بالاحتجاج على مَنْ حرَّمها ، والاحتجاج على مَنْ حرَّمها تأكيد وتسديد للتحليل ، والاعتراضات في الكلام لا تُساق إلا للتوكيد » .
وقرأ ابن عامر « إلا أَنْ تكونَ ميتةٌ » بالتأنيث ورفع ميتة يعني : إلا أن يوجدَ ميتة ، فتكون تامة عنده ، ويجوز أن تكون الناقصة والخبرُ محذوفٌ تقديره : إلا أن يكون هناك ميتة ، وقد تقدَّم أن هذا منقولٌ عن الأخفش في قوله مثل ذلك { وَإِن يَكُن مَّيْتَةً } .

وقال أبو البقاء : « ويُقْرأ برفع » ميتة « على أنَّ » تكون « تامة ، وهو ضعيف لأن المعطوف منصوب » . قلت : كيف يُضَعِّف قراءة متواترة؟ وأما قوله « لأن المعطوف منصوب » فذلك غير لازم؛ لأن النصب على قراءة مَنْ رفع « ميتة » يكون نَسَقَاً على محلِّ « أن تكون » الواقعة مستثناةً تقديره : إلا أن يكون ميتة ، وإلا دماً مسفوحاً ، وإلا لحم خنزير . وقال مكي ابن أبي طالب « وقرأ أبو جعفر » إلا أن تكون « بالتاء ، ميتةٌ بالرفع » ، ثم قال : « وكان يلزم أبا جعفر أن يقرأ » أو دمٌ « بالرفع وكذلك ما بعده » . قلت : هذه هي قراءة ابن عامر نسبها لأبي جعفر يزيد بن القعقاع المدني شيخ نافع وهو محتمل ، وقوله « كان يلزمه » إلى آخره هو معنى ما ضَعَّف به أبو البقاء هذه القراءةَ ، وقد تقدَّم جوابُ ذلك ، واتفق أن ابن عامر يقرأ « وإن تكنْ ميتةٌ » بالتأنيث والرفع وهنا كذلك .
وقرأ ابن كثير وحمزة « تكون » بالتأنيث ، « ميتةً » بالنصب على أن اسم « تكون » مضمر عائد على مؤنث أي : إلا أن يكون المأكول ، ويجوز أن يعودَ الضميرُ مِنْ « تكون » على « محرَّماً » ، وإنما أنَّث الفعلَ لتأنيث الخبر كقوله { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن } [ الأنعام : 23 ] ينصب « فتنتهم » وتأنيث « تكن » . وقرأ الباقون « يكون » بالتذكير ، « ميتة » نصباً ، واسم « يكون » يعود على قوله « مُحَرَّماً » أي : إلا أن يكون ذلك المحرَّم . وقدَّره أبو البقاء ومكي وغيرهما : « إلا أن يكون المأكولُ » أو « ذلك ميتة » .
قوله : « أو دماً » « دماً » على قراءةِ العامة معطوفٌ على خبر « يكون » وهو « ميتة » ، وعلى قراءة ابن عامر وأبي جعفر معطوفٌ على المستثنى وهو « أن يكون » وقد تقدم تحرير ذلك . ومسفوحاً صفة ل « دماً » . والسَّفْحُ : « الصَّبُّ . وقيل : السَّيَلان وهو قريب من الأول ، وسفح يُستعمل قاصراً ومتعدِّياً يقال : سَفَحَ زيدٌ دمعه ودمه أي : أهراقَه وسفح هو ، إلا أن الفرق بينهما وقع باختلاف المصدر ففي المتعدي يقال : سَفْح ، وفي اللازم يقال سُفُوح ، ومن التعدِّي قوله تعالى : { أو دماً مسفوحاً } فإن اسم المفعول التام لا يُبْنى إلا مِنْ متعدٍّ ، ومن اللزوم ما أنشده أبو عبيدة لكثير عزة :
2107 أقول ودَمْعي واكفٌ عند رسمها ... عليك سلامُ الله والدمعُ يَسْفَح
قوله : » أو فِسْقاً « فيه ثلاثة أوجه أحدها : أنه عطف على خبر يكون أيضاً أي : إلا أن يكون فسقاً .

و « أُهِلَّ » في محل نصب لأنه صفة له كأنه قيل : أو فِسْقاً مُهَلاًّ به لغير الله ، جعل العينَ المحرَّمة نفسَ الفسق مبالغة ، أو على حذف مضاف ويُفَسِّره ما تقدَّم من قوله : / { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } [ الأنعام : 121 ] . الثاني : أنه منصوب عطفاً على محل المستثنى أي : إلا أن يكون ميتة أو إلا فسقاً . وقوله « فإنه رجْسٌ » اعتراض بين المتعاطفين . والثالث : أن يكون مفعولاً من أجله ، والعامل فيه قوله « أُهِلَّ » مقدَّم عليه ، ويكون قد فصل بين حرف العطف وهو « أو » وبين المعطوف وهو الجملة من قوله « أُهِلَّ » بهذا المفعول من أجله ، ونظيره في تقديم المفعول له على عامله قوله :
2108 طَرِبْتُ وما شوقاً إلى البيض أطربُ ... ولا لَعِباً مني وذو الشيب يَلْعَبُ
و « أُهِلَّ » على هذا الإِعراب عَطْفٌ على « يكون » ، والضمير في « به » عائد على ما عاد عليه الضمير المستتر في « يكون » ، وقد تقدَّم تحقيقُه ، قاله الزمخشري . إلا أن الشيخ تَعَقَّب عليه ذلك فقال : « وهذا إعرابٌ متكلَّف جداً وتركيب على هذا الإِعراب خارج عن الفصاحة وغيرُ جائزٍ على قراءةِ مَنْ قرأ { إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً } بالرفع ، فيبقى الضمير في » به « ليس له ما يعود عليه ، ولا يجوز أن يُتكلَّفَ محذوفٌ حتى يعود الضمير عليه ، فيكون التقدير : أو شيء أهِلَّ لغير الله به؛ لأنَّ مثل هذا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر » . قلت : يعني بذلك أنه لا يُحذف الموصوف والصفة جملة إلا إذا كان في الكلام « مِنْ » التبعيضية كقولهم : « منا ظَعَنَ ومنا أقام » أي : منا فريق ظعن ومنا فريق أقام ، فإن لم يكن فيه « مِنْ » كان ضرورة كقوله :
2109 تَرْمي بكفَّيْ كان مِنْ أرمى البشَرْ ... أي : بكفَّيْ رجل ، وهذا رأي بعضهم ، وأمَّا غيره فيقول : متى دل دليل على الموصوف حذف مطلقاً ، فقد يجوز أن يرى الزمخشري هذا الرأي .
وقوله : « فإنه » الهاء فيها خلاف ، والظاهر عَوْدُها على « لحم » المضاف لخنزير . وقال ابن حزم : « إنها تعود على خنزير لأنه أقرب مذكور » ورُجِّح الأول بأن اللحم هو المحدِّث عنه ، والخنزير جاء بعرَضيَّة الإِضافة إليه ، ألا ترى أنك إذا قلت : « رأيت غلام زيد فأكرمته » أن الهاء تعود على الغلام لأنه المحدَّث عنه المقصودُ بالإِخبار عنه ، لا على زيد؛ لأنه غير مقصود . ورُجِّح الثاني بأن التحريم المضاف للخنزير ليس مختصاً بلحمه بل شحمُه وشعره وعظمه وظِلْفُه كذلك ، فإذا أعدنا الضمير على خنزير كان وافياً بهذا المقصود ، وإذا أَعَدْنا على « لحم » لم يكن في الآية تعرُّضٌ لتحريم ما عدا اللحمَ مما ذكر . وقد أُجيب عنه بأنه إنما ذُكِر اللحم دون غيره ، وإن كان غيرُه مقصوداً بالتحريم؛ لأنه أهمُّ ما فيه وأكثر ما يُقصد منه اللحم ، كما ذلك في غيره من الحيوانات ، وعلى هذا فلا مفهوم لتخصيص اللحم بالذِّكر ، ولو سُلِّم فإنه يكون من باب مفهوم اللقب وهو ضعيف جداً . وقوله « فإنه رِجْسٌ » : إمَّا على المبالغة بأَنْ جُعل نفس الرجس ، أو على حَذْفِ مضاف وله نظائر .

وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)

قوله تعالى : { وَعَلَى الذين هَادُواْ } : متعلق بحرَّمْنا ، وهو يُفيد الاختصاص عند بعضهم كالزمخشري والرازي ، وقد صَرَّح به الرازي هنا أعني تقديمَ المعمول على عامله .
وفي « الظفر » لغات خمس ، أعلاها : ظُفُر وهي قراءة العامة ، وظُفْر بسكون العين وهي تخفيف المضمومها ، وبها قرأ الحسن في روايةٍ وأبي بن كعب والأعرج ، وظِفِر بكسر الظاء والفاء ، ونسبها الواحدي لأبي السمَّال قراءةً ، وظِفْر بكسر الظاء وسكون الفاء وهي تخفيف المكسورها ، ونسبها الناس للحسن أيضاً قراءة ، واللغة الخامسة أُظْفور ولم يُقرأ بها فيما علمت ، وأنشدوا على ذلك قول الشاعر :
2110 ما بين لُقْمَتِها الأولى إذا انحدَرَتْ ... وبين أخرى تليها قِيْدُ أُظْفورِ
وجمع الثلاثي أظفار ، وجمع أظفور أظافير وهو القياس ، وأظافر من غير مدّ وليس بقياس ، وهذا كقوله :
2111 . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . العينين والعواوِرِ
وقد تقدَّم تحقيق ذلك في قوله مفاتح الغيب .
قوله : « ومن البقر » فيه وجهان أحدهما : أنه معطوف على « كل ذي » فتتعلق « مِنْ » بحرَّمنا الأولى لا الثانية ، وإنما جيء بالجملة الثانية مفسرة لما أبهم في « من » التبعيضية مِن المحرم فقال : « حَرَّمْنا عليهم شحومهما » والثاني : أن يتعلق بحرَّمْنا المتأخرة والتقدير : / وحرَّمنا على الذين هادوا من البقر والغنم شحومهما ، فلا يجب هنا تقديم المجرور بها على الفعل ، بل يجوز تأخيره كما تقدَّم ، ولكن لا يجوز تأخيره عن المنصوب بالفعل فيقال : حرَّمنا عليهم شحومَهما من البقر والغنم لئلا يعود الضمير على متأخر لفظاً ورتبة . وقال أبو البقاء : « ولا يجوز أن يكون » مِن البقر « متعلقاً ب » حَرَّمنا « الثانية » . قال الشيخ : « وكأنه توهَّم أنَّ عَوْد الضمير مانع من التعلق ، إذ رتبةُ المجرور ب مِنْ التأخير لكن عَمَّاذا؟ أما عن الفعل فمسلَّم ، وأما عن المفعول فغير مُسَلَّم » يعني أنه إن أراد أنَّ رتبة قوله « من البقر » التأخير عن شحومهما فيصير التقدير : حرَّمْنا عليهم شحومهما من البقر فغير مُسَلَّم . ثم قال الشيخ : « وإن سَلَّمنا أنَّ رُتْبَتَه التأخير عن الفعل والمفعول فليس بممنوع بل يجوز ذلك كما جاز : » ضرب غلامَ المرأة أبوها « و » غلامَ المرأة ضرب أبوها « ، وإن كانت رتبة المفعول التأخير ، لكنه وجب هنا تقديمه لعود الضمير الذي في الفاعل الذي رتبتُه التقديم عليه فكيف بالمفعول الذي هو والمجرور في رتبة واحدة؟ أعني في كونِهما فضلةً فلا يُبالى فيهما بتقديم أيِّهما شِئْتَ على الآخر ، قال الشاعر :
2112 . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وقد رَكَدَتْ وسطَ السماء نجومُها
فقدَّم الظرفَ وجوباً لعود الضمير الذي اتصل بالفاعل على المجرور بالظرف » . قلت : لقائلٍ أن يقول لا نُسَلِّم أن أبا البقاء إنما مَنَعَ ذلك لِما ذكره حتى يُلْزَمَ بما ألزمته بل قد يكون منعه لأمر معنوي .

والإِضافة في قوله « شحومهما » تفيد الدلالة على تأكيد التخصيص والربط ، إذ لو أتى في الكلام « من البقر والغنم حرَّمْنا عليهم الشحوم » لكان كافياً في الدلالة على أنه لا يُراد إلا شحومُ البقر والغنم ، هذا كلام الشيخ وهو بَسْطُ ما قاله الزمخشري فإنه قال : « ومن البقر والغنم حَرَّمْنا عليهم شحومهما كقولك : » مِنْ زيد أخذت ماله « تريد بالإِضافة زيادة الربط .
قوله : { إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا } » ما « موصولة في محل نصب على الاستثناء المتصل من الشحوم أي : إنه لم يُحَرِّم الشحم المحمول على الظهر ، ثم إن شئت جعلت هذا الموصول نعتاً لمحذوف أي : إلا الشحم الذي حملته ظهورهما ، كذا قدَّره الشيخ ، وفيه نظر ، لأنه هو قد نَصَّ على أنه لا يُوصف ب » ما « الموصولة وإن كان يُوصف بالذي ، وقد ردَّ هو على غيره بذلك في مثل هذا التقدير ، وإن شِئْتَ جَعَلْته موصوفاً بشيء محذوف أي : إلا الذي حملته ظهورهما من الشحم ، وهذا الجارُّ هو وصف معنوي لا صناعي فإنه لو أظهر كذا لكان إعرابه حالاً .
وقوله » ظهورهما « يحتمل أن يكون من باب { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [ التحريم : 4 ] بالنسبة إلى ضمير البقر والغنم من غير نظر إلى جمعيتهما في المعنى ، ويحتمل أن يكون جَمَعَ » الظهور « لأن المضاف إليه جمع في المعنى ، فهو مثل » قَطَعْت رؤوس الكبشين « فالتثنية في مثل هذا ممتنعة .
قوله : { أَوِ الحوايآ } في موضعها من الإِعراب ثلاثة أوجه ، أحدها : وهو قول الكسائي أنها في موضع رفع عطفاً على » ظهورهما « أي : وإلا الذي حَمَلَتْه الحوايا من الشحم فإنه أيضاً غير محرَّم ، وهذا هو الظاهر . الثاني : أنها في محل نصب نسقاً على » شحومهما « أي : حَرَّمْنا عليهم الحوايا أيضاً أو ما اختلط بعظم فتكون الحوايا والمختلط مُحَرَّمَيْن ، وسيأتي تفسيرهما ، وإلى هذا ذهب جماعة قليلة ، وتكون » أو « فيه كالتي في قوله تعالى : { وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً } يُراد بها نفي ما يدخل عليه بطريق الانفراد كما تقول : » هؤلاء أهلٌ أن يُعْصَوا فاعصِ هذا أو هذا « فالمعنى : حَرَّم عليهم هذا وهذا . وقال الزمخشري : » أو بمنزلتها في قولهم : « جالس الحسن أو ابن سيرين » .
قال الشيخ : « وقال النحويون » أو « في هذا المثال للإِباحة فيجوز له أن يجالسهما وأن يجالس أحدهما ، والأحسن في الآية إذا قلنا إن » الحوايا « معطوف على » شحومهما « أن تكون » أو « / فيه للتفصيل فصَّل بها ما حَرَّم عليهم من البقر والغنم » .

قلت : هذه العبارة التي ذكرها الزمخشري سبقه إليها أبو إسحاق فإنه قال : « وقال قوم : حُرِّمت عليهم الثُروب وأُحِلَّ لهم ما حملت الظهور ، وصارت الحوايا أو ما اختلط بعظم نسقاً على ما حرَّم لا على الاستثناء ، والمعنى على هذا القول : حُرِّمَتْ عليهم شحومهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم إلا ما حملت الظهور فإنه غير مُحَرَّم ، وأدخلت » أو « على سبيل الإِباحة كما قال تعالى { وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً } [ الإِنسان : 24 ] ، والمعنى : كل هؤلاء أهلٌ أن يُعْصَى فاعصِ هذا أو اعص هذا ، و » أو « بليغةٌ في هذا المعنى لأنك إذا قلت : » لا تُطع زيداً وعمراً « فجائز أن تكون نَهَيْتَني عن طاعتهما معاً في حالة ، فإذا أطعتُ زيداً على حِدَته لم أكن عاصياً ، وإذا قلت : لا تُطع زيداً أو عمراً أو خالداً فالمعنى : أن كل هؤلاء أهل أن لا يُطاع فلا تُطِع واحداً منهم ولا تطع الجماعة ، ومثلُه : جالس الحسن أو ابن سيرين أو الشعبي ، فليس المعنى : أني آمرك بمجالسةِ واحدٍ منهم ، فإنْ جالَسْتَ واحداً منهم فأنت مصيب ، وإن جالَسْتَ الجماعة فأنت مصيب . وأمَّا قوله » فالأحسن أن تكون « أو » فيه للتفصيل « فقد سَبَقه إلى ذلك أبو البقاء فإنه قال : و » أو « هنا بمعنى الواو لتفصيل مذاهبهم أو لاختلاف أماكنها ، وقد ذكرناه في قوله { كُونُواْ هُوداً أَوْ نصارى } [ البقرة : 135 ] . وقال ابن عطية ردَّاً على هذا القول أعني كون الحوايا نسقاً على شحومهما : » وعلى هذا تدخل الحوايا في التحريم ، وهذا قولٌ لا يعضُده لا اللفظ ولا المعنى بل يدفعانه « ولم يبيِّن وجهَ الدفع فيهما . الثالث : أن » الحوايا « في محل نصب عطفاً على المستثنى وهو ما حَمَلَتْ ظهورُهما كأنه قيل : إلا ما حملت الظهور أو إلا الحوايا أو إلا ما اختلط ، نقله مكي ، وأبو البقاء بدأ به ثم قال : » وقيل : هو معطوف على الشحوم « . ونقل الواحدي عن الفراء أنه قال : » يجوز أن يكون في موضع نصب بتقدير حذف المضاف على أن يريد أو شحوم الحوايا فيحذف الشحوم ويكتفي بالحوايا كما قال تعالى : { وَسْئَلِ القرية } [ يوسف : 82 ] يريد أهلها ، وحكى ابن الأنباري عن أبي عبيد أنه قال : قلت للفراء : هو بمنزلة قول الشاعر :
2113 لا يَسْمعُ المرءُ فيها ما يُؤَنِّسُهُ ... بالليل إلا نئيمَ البُوْمِ والضُّوَعا
فقال لي : نعم ، يذهب إلى أن « الضوع » عطف على « النئيم » ولم يعطف على « البوم » ، كما عُطِفت الحوايا على « ما » ولم تعطف على الظهور . قلت : فمقتضى ما حكاه ابن الأنباري أن تكون « الحوايا » عطفاً على « ما » المستثناة ، وفي معنى ذلك قَلَقٌ بَيِّنٌ .

هذا ما يتعلق بإعرابها ، وأما ما يتعلق بمدلولها فقيل : هي المباعر ، وقيل : المصارين والأمعاء ، وقيل : كل ما تحويه البطن فاجتمع واستدار ، وقيل : هي الدوارة التي في بطن الشاة . واختُلِفَ في مفرد « الحوايا » فقيل : حاوية كضاربة وقيل : حَوِيَّة كطريفة وقيل : حاوياء كقاصِعاء . وقد جوَّز الفارسي أن يكون جمعاً لكل واحد من الثلاثة يعني أنه صالح لذلك . وقال ابن الأعرابي : هي الحَوِيَّة والحاوية ولم يذكر الحاوياء . وذكر ابن السكيت الثلاثة فقال « يقال : حاوية وحوايا مثل زاوية وزوايا ، وراوية وروايا » ومنهم من يقول حَوِيَّة وحوايا مثل الحَوِيَّة التي توضع على ظهر البعير ويُركب فوقها ، ومنهم مَنْ يقول لواحدتها « حاوياء » وأنشد قول جرير :
2114 تَضْغُو الخَنانيصُ والغُول التي أكلَتْ ... في حاوِيَاءِ رَدُومِ الليل مِجْعارِ
وأنشد أبو بكر ابن الأنباري :
2115 كأنَّ نقيق الحَبّ في حاويائه ... فحيحُ الأفاعي أو نقيقُ العقارب
فإن كان مفردها حاوية فوزنُها فواعل كضاربة وضوارب ونظيرها في المعتل : زاوية وزوايا وراوية وروايا ، والأصل حواوي كضوارب فقلبت الواو التي هي عين الكلمة همزة لأنها تالي حرفي لين اكتنفا مدة مَفاعِل ، فاسْتُثقِلت همزة مكسورة فقُلِبَتْ ياءً فاستثقلت الكسرة على الياء فجُعِلَتْ فتحة ، فتحرك حرف العلة وهو الياء التي هي لام الكلمة بعد فتحةٍ فقُلِبَتْ ألفاً فصارت حوايا ، وإن شئت قلت : قُلِبَتْ الواو همزة مفتوحة فتحرَّكَتْ الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً ، فصارت همزة مفتوحة بين ألفَيْن يشبهانها فقلبت الهمزة ياء ، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في قوله { نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ } [ البقرة : 58 ] / واختلافُ أهل التصريف في ذلك ، وكذلك إذا قلنا مفردها « حاوياء » كان وزنها فواعل أيضاً كقاصِعاء وقواصِع وراهِطاء ورواهِط ، والأصل حواوي أيضاً فَفُعِل به ما فُعل فيما قبله ، وإن قلنا إن مفردها حَوِيَّة فوزنها فعائل كطرائف ، والأصل حوائي فقُلِبت الهمزةُ ياءً مفتوحة ، وقُلبت الياء التي هي لام ألفاً فصار اللفظ « حوايا » أيضاً فاللفظُ متَّحد والعمل مختلف .
وقوله « أو ما اختلط بعظم » فيه ما تقدَّم في حوايا ، ورأى الفراء فيه أنه منصوبٌ نَسَقاً على « ما » المستثناة في قوله « إلا ما حَمَلَتْ ظهورهما » والمراد به الأَلْيَة وقيل : هو كلُّ شحمٍ في الجَنْب والعين والأذن والقوائم .
قوله : { ذلك جَزَيْنَاهُم } فيه أوجهٌ أحدها : أنه خبر مبتدأ محذوف أي : الأمر ذلك ، قاله الحوفي ومكي وأبو البقاء . الثاني : أنه مبتدأٌ ، والخبر ما بعده ، والعائد محذوف ، أي : ذلك جزيناهموه ، قاله أبو البقاء وفيه ضعف ، من حيث إنه حَذَفَ العائد المنصوب وقد تقدَّم ما في ذلك في المائدة عند قوله { أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُون } [ الآية : 50 ] ، وأيضاً فقدَّر العائد متصلاً ، وينبغي أن لا يُقَدَّر إلا منفصلاً ولكنه يشكل حَذْفُه وقد تقدم تحقيقه أول البقرة .

وقال ابن عطية : « ذلك في موضع رفع » ولم يبيِّنْ على أي الوجهين المتقدمين وينبغي أن يُحْمَلَ على الأول لضعف الثاني . الثالث : أنه منصوب على المصدر ، وهو ظاهر كلامِ الزمخشري فإنه قال : « ذلك الجزاء جزيناهم وهو تحريم الطيبات » . إلا أن هذا قد ينخدش بما نقله ابن مالك وهو أن المصدر إذا أشير إليه وَجَبَ أن يُتْبع ب « ذلك » المصدرُ فيقال : « ضربت ذلك الضرب » و « قمت هذا القيام » ولو قلت : « ضربت زيداً ذلك » و « قمت هذا » لم يَجُزْ ، ذكر ذلك في الرد على من أجاب عن قول المتنبي :
2116 هذي بَرَزْتِ فَهِجْتِ رسيسا ... ثم انصرفْتِ وما شَفَيْتِ نسيسا
فإنهم لَحَّنوا المتنبي من حيث إنه حذف حرف النداء من اسم الإِشارة إذ الأصل : يا هذي ، فأجابوا عنه بأنَّا لا نُسَلِّم أن « هذي » منادى بل إشارةٌ إلى المصدر كأنه قال : بَرَزْتِ هذي البَرْزة . فردَّ ابن مالك هذا الجواب بأنه لا يَنْتَصِبُ اسم الإِشارة مشاراً به إلى المصدر إلا وهو متبوع بالمصدر . وإذا سُلِّم هذا فيكون ظاهر قول الزمخشري « إنه منصوب على المصدر » مردوداً بما رُدَّ به الجوابُ عن بيت أبي الطيب ، إلا أنَّ رَدَّ ابن مالك ليس بصحيح لورود اسم الإِشارة مشاراً به إلى المصدر غيرَ متبوع به ، قال الشاعر :
2117 يا عمرُو إنك قد مَلِلْت صَحابتي ... وصحابَتيك إخالُ ذاك قليلُ
قال النحويون : « ذاك » إشارة إلى مصدر « خال » المؤكِّد له ، وقد أنشده هو على ذلك .
الرابع : أنه منصوب على أنه مفعولٌ ثانٍ قُدِّم على عامله لأنَّ « جزى » يتعدَّى لاثنين ، والتقدير : جَزَيْناهم ذلك التحريم . وقال أبو البقاء ومكي : إنه في موضع نصب بجَزَيْناهم ، ولم يُبَيِّنا على أي وجه انتصب : هل على المفعول الثاني أو المصدر؟
وقوله { لَصَادِقُونَ } معمولُه محذوفٌ أي : لصادقون في إتمام جزائهم في الآخرة إذ هو تعريضٌ بكذبهم حيث قالوا : نحن مُقْتدون في تحريم هذه الأشياءِ بإسرائيل والمعنى : لَصادقون في إخبارنا عنهم ذلك ، ولا يقدَّر له معمول أي : من شأننا الصدق . والضمير في « كذَّبوك » الظاهر عَوْدُه على اليهود لأنهم أقرب مذكور . وقيل : يعود على المشركين لتقدُّم الكلام معهم في قوله { نَبِّئُونِي بِعِلْم } [ الأنعام : 143 ] و { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآء } [ الأنعام : 144 ] .

فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)

وقوله تعالى : { ذُو رَحْمَةٍ } : جيء بهذه الجملة اسمية وبقوله { وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ } فعليةً تنبيهاً على مبالغة سَعَة الرحمة ، لأن الاسمية أدلُّ على الثبوت والتوكيد من الفعلية . وقوله : { عَنِ القوم المجرمين } يحتمل أن يكون مِنْ وَضْع الظاهر موضعَ المضمر تنبيهاً على التسجيل عليهم بذلك ، والأصل : ولا يُرَدُّ بأسُه عنكم . وقال أبو البقاء : « فإن كَذَّبوك » شرط ، جوابه « فقل ربكم ذو رحمة واسعة » والتقدير : فقل يصفح عنكم بتأخير العقوبة « وهذا تفسير معى لا إعراب .

سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)

وقوله تعالى : { وَلاَ آبَاؤُنَا } : عطف على الضمير المرفوع المتصل/ ولم يأتِ هنا بتأكيد بضمير رفع منفصل ولا فاصل بين المتعاطفين اكتفاءً بوجود « لا » الزائدة للتأكيد فاصلة بين حرف العطف والمعطوف ، وهذا هو على قواعد البصريين . وأمَّا الكوفيون فلا يشترطون شيئاً من ذلك وقد تقدَّم إتقان هذه المسألة .
وفي هذه الآية لم يُؤَّكَّد الضمير وفي آية النحل أكَّد فقال تعالى : { مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ ولا آبَاؤُنَا } [ النحل : 35 ] ، وهناك أيضاً قال « من دونه » مرتين وهنا قالها مرة واحدة فقال الشيخ : « لأنَّ لفظَ العبادة يَصِحُّ أن ينسب إلى إفراد الله بها ، وهذا ليس بمستنكرٍ ، بل المستنكرُ عبادةُ غير الله أو شيءٍ مع الله فناسب هنا ذكر » من دونه « مع العبادة ، وأمَّا لفظ » ما أشركنا « فالإِشراك يدلُّ على إثبات شريك فلا يتركَّب مع هذا الفعلِ لفظُ » من دونه « لو كان التركيب في غير القرآن » ما أشركنا مِنْ دونه « لم يصِحَّ المعنى ، وأمَّا » من دونه « الثانية فالإِشراك يدلُّ على تحريم أشياء وتحليل أشياء فلم يَحْتَجْ إلى لفظ » من دونه « وأمَّا لفظ العبادة فلا يدلُّ على تحريم شيء كما يدل عليه لفظ » أشرك « فقيَّد بقوله » من دونه « ، ولمَّا حَذَفَ » مِنْ دونِه « هنا ناسب أن يحذف » نحن « ليطَّرِدَ التركيب في التخفيف » . قلت : وفي هذا الكلام نظرٌ لا يَخْفى . وقوله « من شيء » : « مِنْ » زائدة في المفعول أي : ما حَرَّمنا شيئاً ، و « مِنْ دونه » متعلق بحرَّمْنا أي : ما حرَّمنا من غير إذنه لنا في ذلك . و « كذلك » نعت لمصدر محذوف أي : مثل التكذيب المشار إليه في قوله « فإن كَذَّبوك » . وقرئ « كَذَب » بالتخفيف .
وقوله : { حتى ذَاقُواْ } جاء به لامتداد التكذيب أو الكذب ، وقوله « مِنْ علم » : يحتمل أن يكون مبتدأ و « عندكم » خبر مقدم ، وأن يكون فاعلاً بالظرف لاعتماده على الاستفهام ، و « مِنْ » زائدة على كلا التقديرين . وقرأ النخعي وابن وثاب « إن يتَّبعون » بياء الغيبة ، قال ابن عطية : « وهذه قراءة شاذة يُضَعِّفها قولُه { وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ } يعني أنه أتى بعدها بالخطاب فبَعُدَتْ الغيبةُ . وقد يُجاب عنه بأن ذلك من باب الالتفات .

قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)

وقوله تعالى : { قُلْ فَلِلَّهِ } : بين « قل » وبين « فللّه » شيء محذوف ، فقدَّره الزمخشري شرطاً جوابه : فلله . قال : « فإن كان الأمرُ كما زعمتم مِنْ كونكم على مشيئة الله فلله الحجة » . وقَدَّره غيره جملةً اسمية والتقدير : قل أنتم لا حُجَّةَ لكم على ما ادَّعَيْتُمْ فلله الحجة البالغة عليكم .

قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)

قوله تعالى : { قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ } : « هلمَّ » هنا اسم فعل بمعنى أحْضِروا ، و « شهداءَكم » مفعول به ، فإن اسم الفعل يعمل عَمَلَ مُسَمَّاه من تَعَدٍّ ولُزوم . واعلم أنَّ « هلمَّ » فيها لغتان لغةُ الحجازيين ولغة التميميين : فأمَّا لغة الحجاز فإنها فيها بصيغةٍ واحدةٍ سواء أُسْنِدَتْ لمفرد أم مثنى أم مجموع أم مؤنث نحو : هلمَّ يا زيد يا زيدان يا زيدون يا هند يا هندان يا هندات ، وهي على هذه اللغة عند النحاة اسم فعل لعدم تغيُّرِها ، والتزمت العرب فَتْحَ الميم على هذه اللغة وهي حركة بناء بُنِيت على الفتح تخفيفاً ، وأمَّا لغة تميم وقد نسبها الليث إلى بني سعد فتلحقها الضمائر كما تَلْحق سائر الأفعال فيُقال : هلمَّا هلمُّوا هلمِّي هَلْمُمْن . وقال الفراء : « يقال هَلُمِّين يا نسوة » وهي على هذه اللغة فعل صريح لا يتصرَّف . هذا قول الجمهور ، وقد خالفَ بعضُهم في فعليَّتها على هذه اللغة وليس بشيء ، والتزمت العرب أيضاً فيها على لغة تميم فَتْحَ الميم إذا كانت مسندةً لضمير الواحد المذكر ، ولو يُجيزوا فيها ما أجازوا في ردَّ وشدَّ من الضم والكسر .
واختلف النحويون فيها : هل هي بسيطة أو مركبة؟ ثم القائلون بتركيبها اختلفوا فيما رُكِّبت منه : فجمهور البصريين على أنها مركبة من « ها » التي للتنبيه ، ومن « المم » أمراً مِنْ لَمَّ يَلُمُّ ، فلما ركِّبتا حُذِفَتْ ألف « ها » لكثرة الاستعمال ، وسقطت همزة الوصل للاستغناء عنها بحركة الميم المنقولة إليها لأجل الإِدغام ، وأدغمت الميم في الميم ، وبُنيت على الفتح فقيل : بل نُقِلت حركة الميم للام فسقطت الهمزةُ للاستغناء عنها فلما جيء ب « ها » التي للتنبيه التقى ساكنان : ألف ها واللام مِنْ « لَمَّ » لأنها ساكنة تقديراً ، ولم يَعْتَدُّوا بهذه الحركة لأنَّ حركة النقل عارضة ، فحذفت ألفُ « ها » لالتقاء الساكنين تقديراً . وقيل : بل حذفت ألف « ها » لالتقاء الساكنين ، وذلك أنه لَمَّا جيء بها مع الميم سَقَطَتْ همزة الوصل في الدرج فالتقى ساكنان : ألف « ها » ولام « المم » / فحُذِفت ألف « ها » فبقي هَلْمُم ، فنُقِلَتْ حركة الميم إلى اللام وأدغمت . وذهب بعضهم إلى أنها مركبة من « ها » التي للتنبيه أيضاً ومن « لَمّ » أمراً مِنْ « لَمَّ الله شَعْثَه » أي جمعه ، والمعنى عليه في هلم ، لأنه بمعنى : اجمع نفسك إلينا ، فحُذِفت ألف « ها » لكثرة الاستعمال ، وهذا سهلٌ جداً ، إذ ليس فيه إلا عملٌ واحد هو حَذْفُ ألف « ها » وهو مذهب الخليل وسيبويه . وذهب الفراء إلى أنها مركبة من هل التي للزجر ومن أمّ أمراً من الأَمّ وهو القصد ، وليس فيه إلا عملٌ واحد وهو نقل حركة الهمزة إلى لام هل . وقد رُدَّ كل واحد من هذه المذاهب بما يطول الكتاب بذكره من غير فائدة . و « هَلُمَّ » تكون متعدية بمعنى أَحْضِر ، ولازمةً بمعنى أقبلْ ، فمَنْ جَعَلَها متعدية أخذها مِن اللَّمِّ وهو الجمع ، ومَنْ جَعَلَها قاصرةً أخذها من اللَّمَمِ وهو الدنو والقرب .

قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)

قوله تعالى : { أَتْلُ مَا حَرَّمَ } : في « ما » هذه ثلاثة أوجه أظهرها : أنها موصولةٌ بمعنى الذي والعائد محذوف أي : الذي حَرَّمه ، والموصول في محل نصب مفعولاً به . والثاني : أن تكون مصدريةً أي : أتل تحريم ربكم ، ونفس التحريم لا يُتْلَى وإنما هو مصدرٌ واقع موقع المفعول به أي : أتلُ مُحَرَّم ربكم الذي حرَّمه هو . والثالث : أنها استفهامية في محل نصب بحرَّم بعدها ، وهي مُعَلِّقة لأتْل والتقدير : أتل أيَّ شيء حرَّم ربكم ، وهذا ضعيف لأنه لا تُعَلَّقُ إلا أفعالُ القلوب وما حُمِل عليها . وأمَّا « عليكم » ففيه وجهان أحدهما : أنه متعلق بَحَرَّم ، وهذا اختيار البصريين . والثاني : أنه متعلق بأَتْلُ وهو اختيار الكوفيين يعني أن المسألة من باب الإِعمال ، وقد عرفت أن اختيار البصريين إعمالُ الثاني ، واختيارَ الكوفيين إعمالُ الأول .
قوله : { أَلاَّ تُشْرِكُواْ } فيه أوجه أحدها : أنَّ « أَنْ » تفسيرية لأنه تَقَدَّمَها ما هو بمعنى القول لا حروفه و « لا » هي ناهية و « تشركوا » مجزومٌ بها ، وهذا وجهٌ ظاهر ، وهو اختيار الفراء قال : « ويجوزُ أن يكون مجزوماً ب » لا « على النهي كقولك : أمرتك أَنْ لا تذهب إلى زيد بالنصب والجزم . ثم قال : والجزم في هذه الآية أحبُّ إليَّ كقوله تعالى : { أَوْفُواْ المكيال والميزان } [ هود : 85 ] قلت : يعني فعطفُ هذه الجملة الأمرية يُقَوِّي أنَّ ما قبلها نهي ليتناسب طرفا الكلام ، وهو اختيار الزمخشري أيضاً فإنه قال : » وأَنْ في « أن لا تشركوا » مفسرة و « لا » للنهي « ثم قال بعد كلام : » فإن قلت : إذا جعلت « أن » مفسرةً لفعل التلاوة وهو معلَّق بما حرَّم ربكم وَجَبَ أَنْ يكون ما بعده منهيَّاً عنه مُحَرَّماً كله كالشرك وما بعده مما دخل عليه حرفُ النهي فما تصنع بالأوامر؟ قلت : لَمَّا وَرَدَت هذه الأوامرُ مع النواهي ، وتقدَّمهن جميعاً فعلُ التحريم ، واشتركن في الدخول تحت حكمه عُلم أن التحريمَ راجعٌ إلى أضدادها وهي الإِساءة إلى الوالدين ، وبَخْسُ الكيل والميزان ، وتَرْكُ العدلِ في القول ، ونكثُ العهد « .
قال الشيخ : » وكونُ هذه الأشياء اشتركت في الدخول تحت حكم التحريم ، وكونُ التحريم راجعاً إلى أضداد الأوامر بعيدٌ جداً وإلغازٌ في التعامي ولا ضرورةَ تدعو إلى ذلك « . قلت : ما استبعده ليس ببعيدٍ وأين الإِلغاز والتعمِّي من هذا الكلامِ حتى يرميَه به . ثم قال الشيخ : » وأمَّا عطف هذه الأوامر فيحتمل وجهين ، أحدهما : أنها معطوفة لا على المناهي قبلها فيلزم انسحاب التحريم عليها حيث كانت في حَيِّز « أن » التفسيرية ، بل هي معطوفة على قوله { تَعَالَوْاْ أتْلُ مَا حَرَّمَ } ، أمرهم أولاً بأمرٍ يترتب عليه ذِكْرُ مَناهٍ ، ثم أمرهم ثانياً بأوامر وهذا معنى واضح .

والثاني : أن تكون الأوامر معطوفةً على المناهي وداخلةً تحت « أن » التفسيرية ، ويصحُّ ذلك على تقدير محذوف تكون « أن » مفسرةً له وللمنطوق قبله الذي دلَّ على حَذْفِه ، والتقدير : وما أمركم به فحذف وما أمركم به لدلالة ما حَرَّم عليه ، لأن معنى ما حَرَّم ربكم : ما نهاكم ربكم عنه فالمعنى : تعالوا أتلُ ما نهاكم ربكم عنه وما أمركم به ، وإذا كان التقدير هكذا صح أن تكون « أن » تفسيرية لفعل/ النهي الدالِّ عليه التحريمُ وفعل الأمر المحذوف ، ألاى ترى أنه يجوز أن تقول : « أمرتك أن لا تكرم جاهلاً وأكرم عالماً » إذ يجوز أن يُعْطف الأمر على النهي والنهي على الأمر كما قال :
2118 . . . . . . . . . . . . . . . . ... يقولون لا تَهْلِكْ أسىً وتجمَّلِ
وهذا لا نعلم فيه خلافاً بخلاف الجمل المتباينة بالخبر والاستفهام والإِنشاء فإنَّ في جواز العطف فيها خلافاً « انتهى .
الثاني : أن تكون » أَنْ « ناصبةً للفعل بعدها ، وهي وما في حَيِّزها في محل نصب بدلاً من » ما حرم « . الثالث : أنها الناصبة أيضاً وهي وما في حَيِّزها بدل من العائد المحذوف إذ التقدير : ما حَرَّمه ، وهو في المعنى كالذي قبله . و » لا « على هذين الوجهين زائدة لئلا يفسد المعنى كزيادتها في قوله تعالى : { أَلاَّ تَسْجُدَ } [ الأعراف : 12 ] و { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ } [ الحديد : 29 ] . قال الشيخ : » وهذا ضعيف لانحصار عموم المُحَرَّمِ في الإِشراك ، إذ ما بعده من الأمر ليس داخلاً في المُحَرَّم ولا ما بعد الأمر مما فيه لا يمكن ادِّعاء زيادة « لا » فيه لظهور أنَّ « لا » فيه للنهي « . ولمَّا ذكر مكي كونَها بدلاً مِنْ » ما حرم « لم ينبِّه على زيادة » لا « ولا بد منه . وقد منع الزمخشري أن تكون بدلاً مِنْ » ما حرم « فقال : » فإن قلت : هلا قلت هي التي تنصب الفعل وجعلت « أن لا تشركوا » بدلاً من « ما حرم » . قلت : وجب أن يكون أن لا تشركوا ولا تقربوا ولا تقتلوا ولا تتبعوا السبل نواهي لانعطاف الأوامر عليها ، وهي قوله « بالوالدين إحساناً »؛ لأنَّ التقدير : وأحسنوا بالوالدين إحساناً ، وأَوْفوا وإذا قلتم فاعدِلوا ، وبعهد الله أَوْفوا « . فإن قلت : فما تصنع بقوله { وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه } [ الأنعام : 153 ] فيمَنْ قرأ بالفتح ، وإنما يستقيم عطفُه على » أَنْ لا تشركوا « إذا جعلت » أن « هي الناصبة حتى يكون المعنى : أتل عليكم نفي الإِشراك وأتل عليكم أن هذا صراطي مستقيماً؟ قلت : أجعل قولَه » وأن هذا صراطي مستقيماً « علةً للاتِّباع بتقدير اللام كقوله

{ وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً } [ الجن : 18 ] بمعنى : ولأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ، والدليل عليه القراءة بالكسر كأنه قيل : واتبعوا صراطي لأنه مستقيم ، أو : واتبعوا صراطي أنه مستقيم « .
واعترض عليه الشيخ بعد السؤال الأول وجوابه وهو » فإن قلت : هَلاَّ قلت هي الناصبة « إلى : { وَبِعَهْدِ الله أَوْفُواْ } فقال : » لا يتعيَّنْ أن تكونَ جميعُ الأوامر معطوفة على ما دخل عليه « لا » لأنَّا بيَّنَّا جواز عطف « وبالوالدين إحساناً » على « تعالَوا » وما بعده معطوف عليه ، ولا يكون قوله « وبالوالدين إحساناً » معطوفاً على أن لا تشركوا « .
الرابع : أن تكون » أَنْ « الناصبة وما في حَيِّزها منصوبةً على الإِغراء ب » عليكم « ، ويكون الكلامُ الأول قَدْ تمَّ عند قوله » ربكم « ، ثم ابتدأ فقال : عليكم أن لا تشركوا ، أي : الزموا نفي الإِشراك وعدمه ، وهذا وإن كان ذكره جماعة كما نقله ابن الأنباري ضعيف لتفكك التركيب عن ظاهره؛ ولأنه لا يتبادر إلى الذهن .
الخامس : أنها وما في حَيِّزها في محل نصب أو جر على حذف لام العلة والتقدير : أتل ما حرم ربكم عليكم لئلا تشركوا ، وهذا منقول عن أبي إسحاق ، إلا أن بعضهم استبعده من حيث إن ما بعده أمرٌ معطوف بالواو ومناهٍ معطوفة بالواو أيضاً فلا يناسب أن يكونَ تبييناً لِما حرَّم ، أمَّا الأمرُ فمِنْ حيث المعنى ، وأمَّا المناهي فمِنْ حيث العطف .
السادس : أن تكون هي وما بعدها في محل نصب بإضمارٍ فعلٍ تقديره : أوصيكم أن لا تشركوا؛ لأن قوله » وبالوالدين إحساناً « محمول على أوصيكم بالوالدين إحساناً ، وهو مذهب أبي إسحاق أيضاً .
السابع : أن تكون » أَنْ « وما في حَيِّزها في موضع رفع على أنها خبر مبتدأ محذوف أي : المُحَرَّمُ أن لا تشركوا ، أو المتلوُّ أن لا تشركوا ، إلا أن التقدير بنحو المتلوّ أحسنُ؛ لأنه لا يُحْوج إلى زيادة » لا « ، والتقدير بالمحرم أن لا تشركوا يحوج إلى زيادتها لئلا يفسد المعنى .
الثامن : أنها في محل رفع أيضاً على الابتداء ، والخبر الجارُّ قبله والتقدير : عليكم عَدَمُ الإِشراك ، ويكون الوقف على قوله » ربكم « كما تقدَّم في وجه الإِغراء ، وهذا مذهب لأبي بكر بن الأنباري فإنه قال : » ويجوز أن يكونَ في موضع رفع ب « على » كما تقول : عليكم الصيام والحج « .
التاسع : أن يكون في موضع رفع بالفاعلية بالجارِّ قبلها ، وهو ظاهر قول ابن الأنباري المتقدم ، والتقدير : استقرَّ/ عليكم عدم الإِشراك . وقد تحصَّلت في محل » أن لا تشركوا « على ثلاثة أوجه ، الرفع والنصب والجر ، فالجر من وجه واحد وهو أن يكون على حذف حرف الجر على مذهب الخليل والكسائي ، والرفع من ثلاثة أوجه ، والنصب من ستة أوجه ، فمجموع ذلك عشرة أوجه تقدَّم تحريرها .

و « شيئاً » فيه وجهان أحدهما : أنه مفعول به . والثاني : أنه مصدر أي إشراكاً أي : شيئاً من الإِشراك .
وقوله { وبالوالدين إِحْسَاناً } تقدم تحريره في البقرة .
قوله : { مِّنْ إمْلاَقٍ } « مِنْ » سببية متعلقة بالفعل المنهيّ عنه أي : لا تقتلوا أولادَكم لأجل الإِملاق . والإِملاق : الفقر في قول ابن عباس . وقيل : الجوع بلغة لخم ، نقله مؤرج . وقيل : الإِسراف ، أَمْلق أي : أسرف في نفقته ، قاله محمد بن نعيم الترمذي . وقيل الإِنفاق ، أملق مالَه أي أنفقه قاله المنذر ابن سعيد . والإِملاق : الإِفساد أيضاً قاله شمر ، قال : « وأَمْلَقَ يكون قاصراً ومتعدياً ، أَمْلَقَ الرجل : إذا افتقر فهذا قاصر ، وأملق ما عنده الدهر أي : أفسده » وأنشد النضر بن شميل على ذلك قول أوس بن حجر :
2119 ولمَّا رأيت العُدْمَ قَيَّد نائلي ... وأملق ما عندي خطوبٌ تَنَبَّلُ
أي : تَذْهب بالمال . تَنَبَّلَتْ بما عندي : أي ذهبت به .
وفي هذه الآية الكريمة { نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } ، فقدَّم المخاطبين ، وفي الإِسراء قَدَّمَ ضمير الأولاد عليهم فقال { نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم } [ الإِسراء : 31 ] فقيل : للتفنُّنِ في البلاغة . وأحسن منه أن يقال : الظاهر من قوله « من إملاق » حصول الإِملاق للوالد لا توقُّعُه وخشيته فبُدِئ أولاً بالعِدَةِ برزق الآباء بشارةً لهم بزوال ما هم فيه من الإِملاق ، وأما في آية سبحان فظاهرها أنهم مُوْسرون وإنما يخشَوْن حصول الفقر ولذلك قال : خَشْيَةَ إملاقٍ ، وإنما يُخْشى الأمور المتوقعة فبُدئ فيها بضمان رزقهم فلا معنى لقتلكم إياهم ، فهذه الآية تفيد النهيَ للآباء عن قتل الأولاد وإن كانوا متلبِّسين بالفقر ، والأخرى عن قتلهم وإن كانوا مُوْسِرين ، ولكن يخافون وقوع الفقر وإفادة معنى جديد أولى من ادِّعاء كون الآيتين بمعنى واحد للتأكيد .
قوله { مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } في محل نصب بدلاً من الفواحش بدلَ اشتمال أي : لا تَقْرَبوا ظاهرها وباطنها كقولك : ضربْتُ زيداً ما ظهر منه وما بطن ، ويجوز أن تكون « مَنْ » بدل البعض من الكل . و « منها » متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه حالٌ من فاعل « ظهر » . وحُذِفَ منها بعد قوله « بطن » لدلالة قوله « منها » في الأول عليه .
قوله { إِلاَّ بالحق } في محلِّ نصب على الحال من فاعل « تقتلوا » أي : لا تقتلوها إلا متلبِّسين بالحق ، ويجوز أن يكون وصفاً لمصدر محذوف أي : إلا قَتْلاً متلبِّساً بالحق ، وهو أن يكون القتل للقِصاص أو للرِدَّة أو للزنا بشرطه كما جاء مبيَّناً في السنَّة . وقوله : « ولا تَقْتلوا » هذا شبيهٌ بما هو مِنْ ذِكْر الخاص بعد العام اعتناءً بشأنه؛ لأن الفواحشَ يندرج فيها قَتْلُ النفسِ ، فجرَّد منها هذا استفظاعاً له وتهويلاً ، ولأنه قد استثنى منه في قوله « إلا بالحق » ولو لم يَذْكر هذا الخاصَّ لم يَصِحَّ الاستثناء من عموم الفواحش ، لو قيل في غير القرآن : « لا تَقْرَبوا الفواحشَ إلا بالحق » لم يكن شيئاً .

قوله { ذلكم وَصَّاكُمْ } في محله قولان أحدهما : أنه مبتدأ ، والخبر الجملة الفعلية بعده . والثاني : أنه في محل نصب بفعلٍ مقدَّر من معنى الفعل المتأخر عنه ، وتكون المسألة من باب الاشتغال ، والتقدير : ألزمكم أو كلَّفكم ذلك ، ويكون « وصَّاكم به » مفسِّراً لهذا العامل المقدر كقوله تعالى : { والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [ الإِنسان : 31 ] وناسب قوله هنا « لعلكم تعقلون » لأنَّ العقل مَنَاطُ التكليف والوصية بهذه الأشياء المذكورة .

وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)

قوله تعالى : { إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ } : استثناء مفرغ أي : لا تَقْرَبُوه إلا بالخَصْلة الحسنى ، فيجوز أن يكون حالاً ، وأن يكون نعت مصدر ، وأتى بصيغة التفضيل تنبيهاً على أنه يَتَحَرَّى في ذلك ، ويَفْعل الأحسنَ ولا يَكْتفي بالحسن .
قوله : { حتى يَبْلُغَ } هذه غايةٌ من حيث المعنى فإن المعنى : احفظوا ما لَه حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ولو/ جعلناه غاية للفظ كان التقدير : لا تقربوه حتى يبلغَ فاقربوه ، وليس ذلك مراداً .
والأَشَدُّ : اختلف النحويون فيه على خمسة أقوال فقيل : هو جمع لا واحد له ، وهو قول الفراء فإنه قال : « الأشدُّ واحدها » شَدّ « في القياس ولم أسمع لها بواحد » ، وقيل : هو مفردٌ لا جمعٌ ، نقل ابن الأنباري عن بعض أهل اللغة ذلك ، وأنه بمنزلة الآنُك ، ونَقَلَ الشيخ عنه أن هذا الوجه مختاره في آخرين ، ثم قال : « وليس بمختار لفقدان أَفْعُل في المفردات وضَْعاً » وقيل : هو جمع « شِدَّة » ، وفِعْلة يجمع على أَفْعُل كنِعْمَة وأنعُم ، قاله أبو الهيثم وقال : « وكأن الهاء في الشدة والنعمة لم تكن في الحرف إذ كانت زائدة ، وكان الأصل نِعم وشِدّ فجمعا على أَفْعُل كما قالوا : رجل وأرجُل وقدح وأقْدُح وضِرس وأضرُس . وقيل : هو جمع شُد بضم الشين نقله ابن الأنباري عن بعض البصريين قال : » كقولك : هو وُدٌّ ، وهم أَوَدّ . وقيل : هو جمع شَدّ بفتحها وهو محتمل . والمراد هنا ببلوغ الأشد بلوغ الحُلُمِ في قول الأكثر لأنه مَظِنَّة ذلك . وقيل : هو مبلغ الرجال من الحيلة والمعرفة . وقيل : هو أن يبلغ خمسة عشر إلى ثلاثين . وقيل : أن يبلغ ثلاثة وثلاثين . وقيل : أربعين . وقيل : ستين ، وهذه لا تليق بهذه الآية ، إنما تليق بقوله تعالى { حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً } [ الأحقاف : 15 ] . والأَشَدُّ : مشتق من الشِدَّة وهي القوة والجَلادة ، وأنشد الفراء :
2120 قد ساد وهو فتىً حتى إذا بلغت ... أَشُدُّهُ وعلا في الأمر واجتمعا
وقيل : أصله من الارتفاع ، مِنْ شَدَّ النهارُ إذا ارتفع وعلا ، قال عنترة :
2121 عهدي به شَدَّ النهار كأنما ... خُضِبَ البَنانُ ورأسُه بالعِظْلِمِ
والكَيْل والميزان : هما الآلة التي يُكال بها ويوزن ، وأصل الكيل المصدر ثم أطلق على الآلة . والميزان : مِفْعال من الوَزْن لهذه الآلة كالمصباح والمقياس لما يُستصبح به ويُقاس ، وأصل ميزان مِوْزان ففُعِلَ به ما فُعِلَ بميقات وقد تقدم في البقرة .
و « بالقسط » حال من فاعل « أَوْفوا » أي : أوفوهما مُقْسِطين أي : ملتبسين بالقسط ، ويجوز أن يكون حالاً من المفعول أي : أوفوا الكيل والميزان متلبسين بالقسط أي تامَّين . وقال أبو البقاء : « والكَيْلُ هنا مصدر في معنى المكيل ، وكذلك الميزان . ويجوز أن يكون فيه حذف مضاف ، تقديره : مكيل الكيل وموزون الميزان » ، ولا حاجة إلى ما ادَّعاه من وقوع المصدر موقع اسم المفعول ولا من تقدير المضاف لأن المعنى صحيح بدونهما ، وأيضاً فميزان ليس مصدراً إلا أنه يعضُد قولَه ما قاله الواحدي فإنه قال : « والميزان أي : وزن الميزان لأن المراد إتمام الوزن لا إتمام الميزان ، كما أنه قال » وأَوْفوا الكيل « ولم يقل المِكْيال فهو من باب حذف المضاف » انتهى .

والظاهرُ عدم الاحتياج إلى ذلك وكأنه لم يعرف أن الكيل يُطْلق على نفس المكيال حتى يقول « ولم يقل المكيال » .
قوله { لاَ نُكَلِّفُ } معترض بين هذه الأوامر ، وقوله « ولو كان » أي : ولو كان المقول له والمقول عليه ذا قرابة . وقد تقدَّم نظير هذا التركيب مراراً . وقوله « وبعهدِ الله » يجوز أن يكونَ من باب إضافة المصدر لفاعله أي : بما عاهدكم الله عليه ، وأن يكون مضافاً لمفعوله أي : بما عاهدتم الله عليه كقوله { صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ } [ الأحزاب : 23 ] { بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ الله } [ الفتح : 10 ] وأن تكون الإِضافة لمجرد البيان أضيف إلى الله من حيث إنه الآمرُ بحفظه ، والمراد به العهد الواقع بين الآيتين .
وخُتِمَت هذه بالتذكُّر لأنَّ الأربعة قبلها خفيَّةٌ تحتاج إلى إعمال فكر ونظر حتى يقفَ متعاطيها على العدل فناسبها التذكُّر ، وهذا بخلاف الخمسة الأشياء فإنها ظاهرة بحسبِ تعقُّلها وتفهُّمها فلذلك خُتِمَت بالفعل . وتَذَكَّرون حيث وقع يقرؤه الأخوان وعاصم في رواية حفص بالتخفيف ، والباقون بالتشديد والأصل : تتذكرون ، فَمَنْ خَفَّفَ حَذَفَ إحدى الياءين ، وهل هي تاء المضارعة أو تاء التفعُّل؟ خلاف مشهور . ومَنْ ثقَّل أدغم التاء/ في الذال .
قوله { وَأَنَّ هذا } قرأ الأخوان بكسر « إن » على الاستئناف و « فاتبعوه » جملة معطوفة على الجملة قبلها . وهذه الجملة الاتئنافية تفيد التعليل لقوله « فاتبعوه » ، ولذلك استشهد بها الزمخشري على ذلك كما تقدَّم ، فعلى هذا يكون الكلام في الفاء في « فاتَّبِعوه » كالكلام فيها في قراءة غيرهما وستأتي .
وقرأ ابن عامر « وأَنْ » بفتح الهمزة وتخفيف النون ، والباقون بالفتح أيضاً والتشديد . فأمَّا قراءة الجماعة ففيها أربعة أوجه ، أحدها : وهو الظاهر أنها في محل نصب نَسَقاً على ما حرَّم أي : أتل ما حرم وأتل أنْ هذا صراطي ، والمراد بالمتكلم النبي صلى الله عليه وسلم لأنَّ صراطه صراط لله عز وجل ، وهذا قول الفراء قال : « بفتح » أن « مع وقوع » أتلُ « عليها يعني : أتل عليكم أنَّ هذا صراطي مستقيماً . والثاني : أنها منصوبة المحل أيضاً نسقاً على » أن لا تشركوا « إذا قلنا بأنَّ » أَنْ « المصدرية وأنها وما بعدها بدل من » ما حَرَّم « قاله الحوفي .

الثالث : أنها على إسقاط لام العلة أي : ولأنَّ هذا صراطي مستقيماً فاتَّبِعوه كقوله تعالى : { وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ } [ الجن : 14 ] قال أبو علي : « من فتح » أنَّ « فقياس قول سيبويه أنَّه حَمَلها على » فاتَّبعوه « والتقدير : ولأن هذا صراطي مستقيماً فاتَّبعوه كقوله : { وَأنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } [ المؤمنون : 52 ] . قال سيبويه : » ولأن هذه أمتكم « وقال في قوله تعالى : » وأن المساجد لله « : ولأن المساجد » . قال بعضهم : وقد صرَّح بهذه اللام في نظير هذا التركيب كقوله تعالى : { لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إِيلاَفِهِمْ . . . فَلْيَعْبُدُواْ } [ قريش : 1 ] ، والفاء على هذا كهي في قولك : زيداً فاضرب ، وبزيد فامرر . وقد تقدم تقريره في البقرة . قال الفارسي : « قياس قول سيبويه في فتح الهمزة أن تكون الفاء زائدة كهي في » زيد فقائم « قلت : سيبويه لا يجوِّز زيادتها في مثل هذا الخبر ، وإنما أراد أبو علي بنظيرها في مجرد الزيادة وإن لم يَقُلْ به ، بل قال به غيرُه . الرابع : أنها في محل جر نسقاً على الضمير المجرور في » به « أي : ذلكم وصَّاكم به وبأن هذا ، وهو قول الفراء أيضاً . وردَّه أبو البقاء بوجهين أحدهما : العطف على الضمير المجرور من غير إعادةِ الجار . والثاني : أنه يصير المعنى : وَصَّاكم باستقامة الصراط وهذا فاسدٌ » . قلت : والوجهان مردودان ، أمَّا الأول فليس هذا من باب العطف على المضمر من غير إعادة الجار لأن الجارَّ هنا في قوة المنطوق به ، وإنما حُذِفَ لأنه يَطَّرد حَذْفُه مع أنَّ وأنْ لطولهما بالصلة ، ولذلك كان مذهب الجمهور أنها في محل جر بعد حذفه لأنه كالموجود ، ويدل على ما قلته ما قال الحوفي قال : « حُذِفت الباء لطول الصلة وهي مرادة ، ولا يكون في هذا عَطْفُ مُظْهَرٍ على مضمر لإِرادتها » . وأمَّا الثاني فالمعنى صحيح غير فاسد؛ لأن معنى توصيتنا باستقامة الصراط أن لا نتعاطى ما يُخْرِجنا عن الصراط ، فوصيتنا باستقامته مبالغة في اتباعه .
وأمَّا قراءةُ ابنِ عامر فقالوا : « أنْ » فيها مخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الأمر والشأن أي : « وأنَّه » كقوله تعالى : { أَنِ الحمد للَّهِ } [ يونس : 10 ] وقوله :
2122 . . . . . . . . . . . . . . . ... أنْ هالكٌ كلُّ مَنْ يَْحفَى ويَنْتَعِلُ
وحينئذٍ ففيها أربعةُ الأوجه المذكورة في المشددة . و « مستقيماً » حال ، العامل : إمَّا « ها » التنبيه ، وإمَّا اسم الإِشارة ، وفي مصحف عبد الله « وهذا صراطي » بدون « أنَّ » وهي قراءة الأعمش ، وبها تتأيَّد قراءةُ الكسر المؤذنة بالاستئناف .
قوله : { فَتَفَرَّقَ } منصوب بإضمار « أن » بعد الفاء في جواب النهي والجمهور على « فتفرق » بتاء خفيفة ، والبزي بتشديدها ، فَمَنْ خَفَّف حذف إحدى التاءين ، ومَنْ شدَّد أدغم ، وتقدم هذا آنفاً في { تَتَذَكَّرُونَ } [ الأنعام : 80 ] . و « بكم » يجوز أن تكون مفعولاً به في المعنى أي : فيفرقكم ، ويجوز أن تكون حالاً أي : وأنتم معها كقوله :
2123 . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... تَدُوس بنا الجماجمَ والتَّرِيبا
وختم هذه بالتقوى وهي اتقاء النار لمناسبة الأمر باتباع الصراط ، فإنَّ مَنْ اتَّبعه وقى نفسه من النار .

ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154)

قوله تعالى : { ثُمَّ آتَيْنَا } : أصل « ثم » المهلة في الزمان ، وقد تأتي للمهلة في الأخبار . وقال الزجاج : « هو معطوف على » أتل « تقديره : أتل ما حَرَّم ثم أتل آتينا ، وقيل : هو عطف على » قل « على / إضمار قل أي : ثم قل آتينا . وقيل : تقديره ثم أخبركم آتينا . وقال الزمخشري : » عطف على وصَّاكم به « . قال : » فإن قلت : كيف صح عطفه عليه ب ثم ، والإِيتاء قبل التوصية به بدهر طويل؟ قلت : هذه التوصية قديمة لم يزل تتواصاها كل أمة على لسان نبيها فكأنه قيل : ذلكم وصاكم به يا بني آدم قديماً وحديثاً ، ثم أعظم من ذلك أنَّا آتينا موسى الكتاب . وقيل : هو معطوف على ما تقدم قبل شطر السورة من قوله { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ } [ الأنعام : 84 ] . وقال ابن عطية : « مُهْلَتُها في ترتيب القول الذي أمر به محمد صلى الله عليه وسلم كأنه قال : ثم ممَّا وصَّيناه أنَّا آتينا موسى الكتاب ويدعو إلى ذلك أن موسى عليه السلام متقدِّم بالزمان على محمد عليه السلام » . وقال ابن القشيري : « في الكلام محذوف تقديره : ثم كنَّا قد آتينا موسى الكتاب قبل إنزالنا القرآن على محمد عليه الصلاة والسلام » . وقال الشيخ : « والذي ينبغي أن يُسْتعمل للعطف كالواو من غير اعتبار مهلة ، وبذلك قال بعض النحويين » . قلت : وهذه استراحة ، وأيضاً لا يلزمُ من انتفاء المهلة انتفاء الترتيب فكان ينبغي أن يقول من غير اعتبار ترتيب ولا مُهْلَةٍ على أن الفرض في هذه الآية عدمُ الترتيب في الزمان .
قوله : { تَمَاماً } يجوز فيه خمسة أوجه ، أحدها : أنه مفعول من أجله أي : لأجل تمام نعمتنا . الثاني : أنه حال من الكتاب أي : حال كونه تماماً . الثالث : أنه نصب على المصدر لأنه بمعنى : آتيناه إيتاء تمامٍ لا نقصان . الرابع : أنه حال من الفاعل أي متمّين . الخامس : أنه مصدر منصوب بفعل مقدر من لفظه ، ويكون مصدراً على حذف الزوائد والتقدير : أتممناه إتماماً .
و { عَلَى الذي } متعلق ب « تماماً » أو بمحذوف على أنه صفة ، هذا إذا لم يُجْعَلْ مصدراً مؤكِّداً فإنْ جُعِلَ تَعَيَّن جَعْلُه صفة .
و { أَحْسَنَ } فيه وجهان أظهرهما : أنه فعلٌ ماضٍ واقع صلةً للموصول ، وفاعله مضمر يعود على موسى أي : تماماً على الذي أحسن ، فيكون الذي عبارة عن موسى . وقيل : كل مَنْ أحسن . وقيل : « الذي » عبارة عن ما عمله موسى وأتقنه أي : تماماً على الذي أحسنه موسى . والثاني : أن « أحسن » اسم على وزن أفعل كأفضل وأكرم ، واستغنى بوصف الموصول عن صلته ، وذلك أن الموصول متى وُصِف بمعرفة نحو : « مررت بالذي أخيك » ، أو بما يقارب المعرفة نحو : « مررت بالذي خيرٍ منك وبالذي أحسن منك » جاز ذلك واستغنى به عن صلته ، وهو مذهب الفراء وأنشد :

2124 حتى إذا كانا هما اللَّذيْنِ ... مثلَ الجَدِيْلَيْنِ المُحَمْلَجَيْنِ
بنصب مثل على أنه صلة ل « اللذين » المنصوب على خبر كان . ويجوز أن تكون « الذي » مصدرية ، وأحسن فعل ماض صلتها ، والتقدير : تماماً على إحسانه أي إحسان الله إليه وإحسان موسى إليهم ، وهو رأي يونس والفراء كقوله :
2125 فَثَبَّتَ اللهُ ما آتاك مِنْ حَسَنٍ ... تثبيتَ عيسى ونصراً كالذي نُصِرُوا
وقد تقدَّم لك تحقيق هذا .
وفتحُ نون « أحسن » قراءة العامة . وقرأ يحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق برفعها ، وفيها وجهان ، أظهرهما : أنه خبر مبتدأ محذوف أي : على الذي هو أحسن ، فحذف العائد ، وإن لم تَطُل الصلة فهي شاذة من جهة ذلك ، وقد تقدَّم ذلك بدلائله عند قوله : { مَّا بَعُوضَةً } [ البقرة : 26 ] فيمن رفع « بعوضة » . والثاني : أن يكون « الذي » واقعاً موقع الذين ، وأصل « أَحْسن » أَحْسَنوا بواو الضمير حُذِفَت الواو اجتزاءً بحركة ما قبلها ، قاله التبريزي وأنشد :
2126 فلو أنَّ الأَطِبَّا كانُ حولي ... وكان مع الأطباء الأُساةُ
وقول الآخر :
2127 إذا ما شاءُ ضرُّوا مَنْ أرادوا ... ولا يألوهُمُ أحدٌ ضِرارا
وقول الآخر :
2128 شَبُّوا على المجد وشابوا واكتهلْ ... يريد : اكتهلوا فحذف الواو وسكن الحرف قبلها ، وقد تقدَّم أبياتُ أُخَرُ كهذه في تضاعيف هذا التصنيف ، ولكن جماهير النحاة تخصُّ هذا بضرورة الشعر/ .
وقوله : « وتفصيلاً » وما عُطِف عليه منصوب على ما ذُكِر في « تماما » .

وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)

قوله تعالى : { وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ } : يجوز أن يكون كتاب وأنزلناه ومبارك إخباراً عن اسم الإِشارة عند مَنْ يُجيز تعدُّدَ الخبر مطلقاً ، أو بالتأويل عند مَنْ لم يُجَوِّز ذلك . ويجوز أن يكون أنزلناه ومبارك وَصْفَيْن لكتاب عند مَنْ يجيز تقديمَ الوصف غير الصريح على الوصف الصريح . وقد تقدَّم تحقيق ذلك في السورة قبلها في قوله { بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } بالمائدة : 54 ] ، قال أبو البقاء : « ولو كان قُرِئ » مباركاً « بالنصب على الحال لجاز » ولا حاجة إلى مثل هذا وقُدِّم الوصف بالإِنزال لأن الكلام مع منكري أن الله ينزِّل على البشر كتاباً ويرسله رسولاً ، وأمَّا وصفُه بالبركة فهو أمر متراخٍ عنهم ، وجيء بصفة الإِنزال بجملةٍ فعلية أُسند الفعل فيها إلى ضمير المعظِّمِ نفسه مبالغة في ذلك بخلاف ما لو جيء بها اسماً مفرداً .

أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156)

قوله تعالى : { أَن تقولوا } : فيه وجهان أحدهما : أنه مفعول من أجله . قال الشيخ : « والعاملُ فيه » أنزلناه « مقدَّراً مدلولاً عليه بنفس » أنزلناه « الملفوظ به تقديره : أنزلناه أن تقولوا . قال : » ولا جائزٌ أن يعمل فيه « أنزلناه » الملفوظ به لئلا يلزمَ الفصلُ بين العامل ومعموله بأجنبي ، وذلك أن « مبارك » : إمَّا صفة وإمَّا خبر وهو أجنبي بكل من التقديرين ، وهذا الذي مَنَعَه هو ظاهر قول الكسائي والفراء . والثاني : أنها مفعول به ، والعامل فيه « واتقوا » أي : واتقوا قولكم كيت وكيت ، وقوله « لعلكم ترحمون » معترضٌ جارٍ مجرى التعليل ، وعلى كونه مفعولاً من أجله يكون تقديرُه عند البصريين على حذف مضاف تقديره : كراهةَ أن تقولوا ، وعند الكوفيين يكون تقديره : أن لا تقولوا كقوله : { رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ } [ النحل : 15 ] أي : أن لا تميد بكم وهذا مطَّردٌ عندهم في هذا النحوِ ، وقد تقدَّم ذلك غيرَ مرة . وقرأ الجمهور « تقولوا » بتاء الخطاب وقرأه ابن محيصن « يقولوا » بياء الغيبة .
قوله : { وَإِنْ كُنَّا } « إنْ » مخففةٌ من الثقيلة عند البصريين ، وهي هنا مهملةٌ ولذلك وَلِيَتْها الجملة الفعلية ، وقد تقدَّم تحقيق ذلك ، وأن الكوفيين يجعلونها بمعنى « ما » النافية ، واللام بمعنى إلا ، والتقدير : ما كنا عن دراستهم إلا غافلين . وقال الزجاج بمثل ذلك ، فنحا نحو الكوفيين . وقال قطرب : « إنْ » بمعنى قد واللام زائدة . وقال الزمخشري بعد أَنْ قَرَّر مذهب البصريين كما قدمته : « والأصل : إنَّه كنا عن عبادتهم » فقدَّر لها اسماً محذوفاً هو ضمير الشأن ، كما يُقَدِّر النحويون ذلك في « أَنْ » بالفتح إذا خُفِّفَتْ ، وهذا مخالف لنصوصهم وذلك أنهم نصُّوا على أنَّ « إنْ » بالكسر إذا خُفِّفت ولِيَتْها الجملة الفعلية الناسخة فلا عَمل لها لا في ظاهر ولا مضمر . و « عن دراستهم » متعلق بخبر « كنا » وهو « غافلين » ، وفيه دلالة على بطلان مذهب الكوفيين في زعمهم أن اللام بمعنى إلا ، ولا يجوز أن يعمل ما بعد « إلا » فيما قبلها فكذلك ما هو بمعناها .
قال الشيخ : « ولهم أن يجعلوا » عنها « متعلقاً بمحذوف » . وتقدَّم أيضاً خلاف أبي علي في أن هذه اللام ليست لامَ الابتداء بل لامٌ أخرى ، « ويدل أيضاً على أن اللام لام ابتداء لزمت للفرق فجاز أن يتقدَّم معمولُها عليها لمَّا وقعت في غير ما هو لها أصل ، كما جاز ذلك في : » إنَّ زيداً طعامَك لآكل « حيث وقعت في غير ما هو لها أصلٌ ، ولم يَجُز ذلك فيها إذا وقعت فيما هو لها أصل وهو دخولها على المبتدأ » . وقال أبو البقاء : « واللام في » لغافلين « عوض أو فارقة بين إنْ وما » قلت : قوله « عوض » عبارة غريبة ، وأكثر ما يقال إنها عوضٌ عن التشديد الذي ذهب من إنَّ ، وليس بشيء .

أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157)

وقوله تعالى : { فَقَدْ جَآءَكُمْ } : جواب شرط مقدر فقدَّره الزمخشري : إن صدقتم فيما كنتم تعدُّون من أنفسكم فقد جاءكم وهو من أحسن الحذوف « وقدَّره غيره : إن كنتم كما تزعمون أنكم إذا أنزل عليكم كتاب تكونون أهدى من اليهود والنصارى فقد جاءكم . ولم يؤنث الفعل؛ لأن التأنيث مجازي وللفصل بالمفعول ، و » من ربكم « يجوز أن يتعلق بجاءكم ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل » بيِّنة « . وقوله : وهدىً ورحمةً محذوف بعدهما : من ربكم .
وقوله : { فَمَنْ أَظْلَمُ } الظاهر أنها جملة مستقلة . وقال بعضهم : هي جواب شرط مقدر تقديره : فإن كذَّبتم فلا أحدَ أظلمُ منكم .
والجمهور على » كذَّب « مشدداً ، وبآيات الله متعلق به . وقرأ يحيى ابن وثاب وابن أبي عبلة » كَذَبَ « بالتخفيف ، وبآيات الله يجوز أن يكون مفعولاً ، وأن يكون حالاً/ أي : كذَّب ومعه آيات الله . وصَدَفَ مفعوله محذوف أي : وصدف عنها غيرَه . وقد تقدم تفسير ذلك .

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)

وقوله تعالى : { أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ } : تقدم أنه على حذف مضاف . وقرأ الأخوان : { إِلاَّ أَن يَأْتِيهُمُ الملائكة } بياء منقوطة من تحت لأن التأنيث مجازي وهو نظير { فناداه الملائكة } [ آل عمران : 39 ] . وأبو العالية وابن سيرين : « يوم تأتي بعض » بالتأنيث كقوله { تَلْتَقِطْه بعضُ السيَّارة } [ يوسف : 10 ] .
قوله : { يَوْمَ يَأْتِي } الجمهور على نصب « اليومَ » ، وناصبه ما بعد « لا » ، وهذا على أحد الأقوال الثلاثة في « لا » وهي أنها يتقدم معمول ما بعدها عليها مطلقاً ، ولا يتقدَّم مطلقاً ، ويُفَصَّل في الثالث : بين أن يكون جواب قسم فيمتنع ، أو لا فيجوز . وقرأ زهير الفرقبي « يومُ » بالرفع وهو مبتدأ ، وخبره الجملة بعده ، والعائد منها إليه محذوف أي : لا تنفع فيه .
وقرأ الجمهور « ينفع » بالياء من تحت . وقرأ ابن سيرين : تنفع بالتاء من فوق . قال أبو حاتم : « ذكروا أنه غلط » . قلت : وذلك لأن الفعل مسند لمذكر ، وجوابه أنه لما اكتسب بالإِضافة التأنيث أجرى عليه حكمه كقوله :
2129 وتَشْرَق بالقول الذي قد أَذَعْتَهُ _ ... كما شَرِقَتْ صدرُ القانةِ من الدم
وقد تقدَّم لك تحقيق هذا في أول السورة ، وأنشد سيبويه على ذلك :
2130 مَشَيْنَ كما اهتزَّتْ رماحٌ تسفَّهَتْ ... أعاليهَا مَرُّ الرياحِ النَّواسمِ
وقيل : لأن الإِيمان بمعنى العقيدة فهو كقولهم : « أتته كتابي فاحتقرها » أي : صحيفتي ورسالتي . وقال النحاس : « في هذا شيء دقيق ذكره سيبويه : وذلك أن الإِيمان والنفس كل منهما مشتمل على الآخر فأنَّث الإِيمان إذ هو من النفس وبها » . وأنشد سيبويه « مَشَيْن كما اهتزَّت » البيت . وقال الزمخشري في هذه القراءة « لكون الإِيمان مضافاً إلى ضمير المؤنث الذي هو بعضه كقولهم : » ذهبت بعض أصابعه « . قال الشيخ : » وهو غلطٌ؛ لأن الإِيمان ليس بعضاً للنفس « قلت : قد تقدَّم آنفاً ما يَشْهد لصحة هذه العبارة من كلام النحاس في قوله عن سيبويه : » وذلك أنَّ الإِيمان والنفس كلٌّ منهما مشتملٌ على الآخر ، فَأَنَّثَ الإِيمانَ إذ هو من النفس وبها « فلا فرقَ بين هاتين العبارتين ، أي لا فرق بين أن يقولَ هو منها وبها أو هو بعضها ، والمرادُ في العبارتين المجازُ .
قوله : » لم تكنْ آمَنَتْ « في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ أحدها : أنها في محل نصب لأنها نعتٌ لنفساً ، وفَصَل بالفاعل وهو » إيمانها « بين الصفة وموصوفها لأنه ليس بأجنبي ، إذ قد اشترك الموصوف الذي هو المفعول والفاعل في العامل ، فعلى هذا يجوز : » ضرب هنداً غلامُها القرشية « وقوله » أو كسبت « عطف على » لم تكن آمنت « .

وفي هذه الآية بحوثٌ حسنة تتعلق بعلم العربية ، وعليها تُبْنى مسائل من أصول الدين ، وذلك أن المعتزلي يقول : مجردُ الإِيمان الصحيح لا يكفي بل لا بد من انضمام عَمَلٍ يقترن به ويصدِّقه ، واستدل بظاهر هذه الآية ، وذلك كما قال الزمخشري « لم تكنْ آمَنَتْ من قبلُ » صفة لقوله « نفساً » وقوله « أوكسبت في إيمانها خيراً » عُطِفت على « آمنت » والمعنى : أن أشراط الساعة إذا جاءت وهي آياتٌ مُلْجئةٌ مضطرة ذهب أوانُ التكليف عندها فلم ينفع الإِيمان حينئذ نفساً غيرَ مقدِّمَةٍ إيمانَها قبل ظهور الآيات أو مقدِّمةً إيمانَها غير كاسبة خيراً في إيمانها ، فلم يفرق كما ترى بين النفس الكافرة إذا آمنت في غير وقت الإِيمان وبين النفس التي آمنت في وقته ولم تكسب خيراً ليعلم أن قوله { الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } جَمْعٌ بين قرينتين لا ينبغي أن تنفك إحداهما عن الأخرى حتى يفوزَ صاحبُهما ويَسْعَدَ ، وإلا فالشِّقوة والهلاك « . وقد أجاب الناس عن هذا الظاهر بأن المعنى بالآية الكريمة : أنه إذا أتى بعض الآيات لا ينفع نفساً كافرة إيمانُها الذي أوقعته إذ ذاك ، ولا ينفع نفساً سَبْقُ إيمانها وما كسبت فيه خيراً ، فقد عَلَّق نفع نفي الإِيمان بأحد وصفين : » إمَّا نفي سبق الإِيمان فقط وإمَّا سبقه مع نفي كسب الخير ، ومفهومه أنه ينفع الإِيمان السابق وحده أو السابق ومعه الخير ، ومفهوم الصفة قوي فيُسْتدل بالآية لمذهب أهل السنة فقد قَلَبوا دليلهم دليلاً عليهم .
وقد أجاب القاضي ناصر الدين بن المنيّر عن قول الزمخشري فقال : « قال أحمد : هو يرومُ الاستدلال على أن الكافر والعاصي في الخلود سواء حيث سوّى في الآية بينهما في عدم الانتفاع بما يستدركانه بعد ظهور الآيات ، ولا يتمُّ ذلك ، فإن هذا الكلام في البلاغة يُلَقَّبُ باللفِّ وأصله : يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن مؤمنة قبل إيمانها بعدُ ولا نفساً لم تكسب خيراً قبل ما تكسبه من الخير بعدُ ، فلَّف الكلامَيْن فجعلهما كلاماً واحداً إيجازاً وبلاغةً ، ويظهر بذلك أنها لا تخالف مذهب الحق فلا ينفع بعد ظهور الآيات اكتسابُ الخير وإن نفع الإِيمان المتقدم من الخلود ، فهي بالردِّ على مذهبه أَوْلى من أن تدلَّ له » / .
الثاني : أن هذه الجملةَ في محل نصب على الحال من الضمير المجرور ، قاله أبو البقاء يعني من « ها » في إيمانها . الثالث : أن تكون مستأنفة . وبهذا بدأ أبو البقاء وثَّنى بالحال ، وجعل الوصفَ ضعيفاً كأنه استشعر ما ذكره الزمخشري ففرَّ مِنْ جَعْلها نعتاً ، والشيخ جعل الحال بعيداً والاستئناف أبعد منه .

إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159)

وقرأ الأخوان : { فَارَقُوا } : من المفارقة وفيها وجهان أحدهما : أن فاعَلَ بمعنى فَعَّل نحو : ضاعَفْتُ الحساب وضعَّفْتُه . وقيل : هي من المفارقة ، وهي التركُ والتخلِيَةُ ومَنْ فرَّق دينه فآمن ببعض وكفر ببعض فقد فارق الدين القيم . وقرأ الباقون فرَّقوا بالتشديد . وقرأ الأعمش وأبو صالح وإبراهيم فَرَقوا مخفف الراء . قال أبو البقاء : « وهو بمعنى المشدد ، ويجوز أن يكون بمعنى فَصَلُوه عن الدين الحق » وقد تقدم معنى الشيع .
وقوله : { لَسْتَ مِنْهُمْ } في محل رفع خبراً لإِنَّ ، و « منهم » هو خبر « ليس » إذ به تتمُّ الفائدة كقول النابغة :
2131 إذا حاولْتَ في أسد فُجورا ... فإني لستُ منك ولست مني
ونظيره في الإِثبات : { فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي } [ إبراهيم : 36 ] ، وعلى هذا فيكون « في شيء » متعلقاً بالاستقرار الذي تعلق به منهم أي : لست مستقراً منهم في شيء أي : مِنْ تفريقهم . ويجوز أن يكون « في شيء » الخبر و « منهم » حال مقدمة عليه ، وذلك على حذف مضاف أي : لست في شيء كائن من تفريقهم ، فلمَّا قُدِّمت الصفة نصبت حالاً .

مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)

قوله تعالى : { فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } : إنما ذكَّر العددَ والمعدودُ مذكَّر لأوجه منها : أنَّ الإِضافة لها تأثيرٌ كما تقدَّم غيرَ مرة فاكتسب المذكر من المؤنث التأنيث فأُعطي حكمَ المؤنث من سقوط التاء من عدده؛ ولذلك يؤنث فعلُه حالةَ إضافتهِ لمؤنث نحو : { تَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة } [ يوسف : 10 ] ، [ وقوله ] :
2132 . . . . . . . . . . . . . . . . ... كما شَرِقت صدرُ القَنَاةِ . . . . .
[ وقوله ] :
2133 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... تسفَّهت أعاليَها مرُّ الرياح . . .
إلى غير ذلك مما تقدم تحقيقه . ومنها : أن هذا المذكر عبارة عن مؤنث ، فروعي المراد دون اللفظ وعليه قوله :
2134 وإنَّ كلاباً هذه عشرُ أَبْطُنٍ ... وأنت بريء من قبائلها العشرِ
لم يُلْحِق التاء في عدد أبطن وهي مذكرة لأنها عبارة عن مؤنث وهي القبائل فكأنه قيل : وإن كلاباً هذه عشر قبائل ، ومثله قول عمر ابن أبي ربيعة :
2135 وكان مِجَنِّي دونَ مَنْ كنت أتَّقي ... ثلاثُ شُخوصٍ كاعبانِ ومُعْصِرُ
لم يُلحِق التاء في عدد « شخوص » وهي مذكرة لَمَّا كانت عبارة عن النسوة ، وهذا أحسنُ مما قبله للتصريح بالمؤنث في قوله : كاعبان ومعصر ، وهذا كما أنه إذا أريد بلفظ مؤنث معنى مذكر فإنهم ينظرون إلى المراد دون اللفظ فيُلْحقون التاء في عدد المؤنث ، ومنه قول الشاعر :
2136 ثلاثةُ أنفسٍ وثلاثُ ذُوْدٍ ... لقد جار الزمانُ على عِيالي
فألحق التاءَ في عدد « أنفس » وهي مؤنثة لأنها يراد بها ذكور ، ومثله : { اثنتي عَشْرَةَ أَسْبَاطاً } [ الأعراف : 160 ] في أحد الوجهين وسيأتي إن شاء الله في موضعه .
ومنها : أنه راعى الموصوف المحذوف والتقدير : فله عشرُ حسناتٍ أمثالها ، ثم حذف الموصوف وأقام صفته مُقامَه تاركاً العدد على حاله ، ومثله « مررت بثلاثة نسابات » ألحقت التاء في عدد المؤنث مراعاةً للموصوف المحذوف ، إذ الأصل : بثلاثة رجال نسابات . وقال أبو علي : « اجتمع ههنا أمران كلُّ منهما يوجب التأنيث ، فلمَّا اجتمعا قوي التأنيث ، أحدهما : أن الأمثالَ في المعنى » حسنات « فجاز التأنيثُ كقوله :
2137 . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ثلاثُ شخوصٍ كاعبان ومعصر
أراد بالشخوص النساء ، الآخر : أن المضاف إلى المؤنث قد يؤنَّث وإن كان مذكراً كقول من قال : » قُطِعَتْ بعض أصابعه « { يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة } [ يوسف : 10 ] .
وقرأ يعقوب والحسن وسعيد بن جبير والأعمش وعيسى بن عمر بالتنوين » أمثالُها « بالرفع صفة لعشر أي : فله عشر حسنات أمثال تلك الحسنة ، وهذه القراءة سالمةٌ من تلك التآويل المذكورة في القراءة المشهورة .

قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)

قوله تعالى : { دِيناً } : نصبه من أوجه ، أحدها : أنه مصدر على المعنى أي : هداني هداية دين قيم ، أو على إضمار « عَرَّفني ديناً » أو الزموا ديناً . وقال أبو البقاء : « إنه مفعول ثان لهداني ، وهو غلط؛ لأن المفعول الثاني هنا هو المجرور بإلى فاكتفى به . وقال مكي : إنه منصوب على البدل من محل » إلى صراط « . وقيل : بهداني مقدرةً لدلالة » هداني « الأول عليها ، وهو كالذي قبله في المعنى .
وقرأ الكوفيون وابن عامر : » قِيَماً « بكسر القاف وفتح الياء خفيفة والباقون بفتحها وكسر الياء شديدة ، وتقدَّم توجيه إحدى القراءتين في/ النساء والمائدة . و » مِلَّة « بدل من » ديناً « أو منصوب بإضمار أعني . و » حنيفاً « قد ذكر في البقرة .
وقرأ نافع ومَحْيايْ بسكون ياء المتكلم وفيها الجمع بين ساكنين . قال الفارسي كقوله » التقت حَلْقتا البطان « » ولفلان ثلثا المال « يعنون الألفين . وقد طعن بعض الناس على هذه القراءة بما ذكرت من الجمع بين الساكنين ، وتعجَّبْتُ من كون هذا القارئ يحرِّك ياء » مماتي « ويُسَكِّن ياء » مَحْياي « . وقد نقل بعضهم عن نافع الرجوع عن ذلك . قال أبو شامة : » فينبغي أن لا يَحِلَّ نَقْلُ تسكين ياء « محياي » عنه « . وقرأ نافع في رواية » محيايِ « بكسر الياء وهي تُشْبه قراءة حمزة في { بِمُصْرِخِيَّ } [ إبراهيم : 22 ] وستأتي إن شاء الله تعالى . وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى الجحدري : ومَحْيَيَّ » بإبدال الألف ياء وإدغامها في ياء المتكلم ، وهي لغة هذيل ، وقد أنشدْتُ عليها قول أبي ذؤيب :
2138 سبقوا هَوَيَّ وأعنقوا لهواهُمُ ... فَتُخُرِّمُوا ولكلِّ جَنْبٍ مَصْرَعُ
في سورة البقرة . ومن هنا إلى آخر السورة إعرابُه ظاهر لِما تكرر من النظائر . وأكَّد قوله « لغفور » باللام دلالةً على سَعة رحمته ، ولم يؤكد سرعة العقاب بذلك هنا وإن كان قد أكد ذلك في سورة الأعراف ، لأن هناك المقامَ مقامُ تخويف وتهديد وبعد ذكر قصة المعتدين في السبت وغيره فناسب تأكيدَ العقاب هناك ، وأتى بصفتي الغفران والرحمة ، ولم يأت في جانب العقاب إلا بصفة واحدة دلالة على حلمه وسَعَة مغفرته ورحمته .

المص (1)

قوله تعالى : { المص } : قد تقدم الكلام على الأحرف المقطعة في أول هذا الموضوع .

كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)

قوله تعالى : { كتابٌ } : يجوز أن يكون خبراً عن الأحرف قبله ، وأن يكون خبر مبتدأ مضمر أي : هو كتاب ، كذا قدَّره الزمخشري . ويجوز أن يكون « كتاب » مبتدأ ، و « أُنْزِل » صفته ، و « فلا تكن » خبره ، والفاء زائدة على رأي الأخفش أي : كتاب موصوف بالإِنزال إليك ، لا يكن في صدرك حرج منه . وهو بعيد جداً . والقائمُ مقامَ الفاعل في « أُنْزِل » ضميرٌ عائدٌ على الكتاب . ولا يجوز أن يكون الجارَّ لئلا تخلوَ الصفةُ من عائد .
قوله : « منه » متعلقٌ ب « حَرَجٌ » . و « مِنْ » سببيَّة أي : حَرَجٌ بسببه تقول : حَرِجْتُ منه أي : ضِقْتُ بسببه ، ويجوز أن يتعلق بمحذوفٍ على أنه صفةٌ له أي : حرج كائن وصادر منه . والضمير في « منه » يجوز أن يعود على الكتاب وهو الظاهر ، ويجوز أن يعود على الإِنزال المدلول عليه ب « أُنْزِل » ، أو على الإِنذار أو على التبليغ المدلولِ عليهما بسياقِ الكلام ، أو على التكذيب الذي تضمَّنه المعنى . والنهيُ في الصورة للحرج ، والمرادُ الصادرُ منه ، مبالغة في النهي عن ذلك ، كأنه قيل : لا تتعاطَ أسباباً ينشأُ عنها حَرَجٌ ، وهو من باب « لا أُرَيَنَّك ههنا » : النهي متوجه على المتكلم والمرادُ به المخاطبُ ، كأنه قال : لا تكنْ بحضرتي فأراك . ومثله : { فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ } [ طه : 16 ] .
قوله : لتنذرَ به « في متعلَّق هذه اللامِ ثلاثةُ أوجه أحدها : أنها متعلقة ب » أُنْزِل « أي : أُنْزِلَ إليك للإِنذار ، وهذا قول الفراء قال : » اللام في « لتنذرَ » منظوم بقوله « أُنْزِل » على التقديم والتأخير ، على تقدير : كتابٌ أُنزل إليك لتنذرَ به فلا يكن « . وتبعه الزمخشري والحوفي وأبو البقاء . وعلى هذا تكونُ جملةُ النهي معترضةً بين العلة ومعلولها ، وهو الذي عناه الفراء بقوله » على التقديم والتأخير « . والثاني : أن اللامَ متعلقةٌ بما تعلَّق [ به ] خبر الكون ، إذ التقديرُ : فلا يكنْ حرجٌ مستقراً في صدرك لأجل الإِنذار . كذا قاله الشيخ عن ابن الأنباري ، فإنه قال : » وقال ابن الأنباري : التقدير : « فلا يكنْ في صدرك حرجٌ منه كي تنذرَ به فَجَعَلَه متعلقاً بما تعلَّق به » في صدرك « ، وكذا علَّقه به صاحب » النظم « ، فعلى هذا لا تكونُ الجملةُ معترضةً » . قلت : الذي نقله الواحدي عن نص ابن الأنباري في ذلك أن اللامَ متعلقةٌ بالكون ، وعن صاحب « النظم » أن اللام بمعنى « أن » وسيأتي بنصَّيْهما إن شاء الله ، فيجوز أن يكون لهما كلامان .
الثالث : أنها متعلقةٌ بنفس الكون ، وهو مذهب ابن الأنباري والزمخشري ، وصاحب/ « النظم » على ما نقله الشيخ .

قال أبو بكر ابن الأنباري : « ويجوز أن تكونَ اللامُ صلةً للكون على معنى : فلا يكن في صدرك شيءٌ لتنذر ، كما يقول الرجل للرجل : لا تكن ظالماً ليقضي صاحبك دَيْنَه ، فَتَحْمِل لامَ كي على الكون » . وقال الزمخشري : « فإن قلت : بمَ تَعَلَّق به » لتنذر «؟ قلت ب » أُنْزِل « أي : أُنْزل لإِنذارك به ، أو بالنهي ، لأنه إذا لم يُخِفْهم أنذرهم ، وكذا إذا علم أنه من عند الله شَجَّعه اليقين على الإِنذار » . قال الشيخ : « فقوله بالنهي ظاهره أنه يتعلَّق بفعل النهي ، فيكون متعلقاً بقوله » فلا يكن « ، وكان [ عندهم ] في تعليق المجرور والعمل في الظرف فيه خلافٌ ، ومبناه على أنَّ » كان « الناقصة هل تدلُّ على حَدَثٍ أم لا؟ فمن قال إنها تدلُّ على الحدث جوَّز ذلك ، ومَنْ قال لا تدلُّ عليه مَنَعَه » . قلت : فالزمخشري مسبوقٌ إلى هذا الوجهِ ، بل ليس في عبارته ما يدل على أنه تعلُّق ب « يكون » بل قال « بالنهي » فقد يريد بما تضمَّنه من المعنى ، وعلى تقدير ذلك فالصحيحُ أن الأفعالَ الناقصة كلَّها لها دلالةٌ على الحدث إلا « ليس » ، وقد أقمت على ذلك أدلةً وأَثْبَتُّ من أقوال الناس بما يشهدُ لصحة ذلك كقول سيبويه وأضرابه ، في غير هذا الموضوع .
وقال صاحب « النظم » : « وفيه وجهٌ آخرُ وهو أن تكونَ اللامُ بمعنى أَنْ والمعنى : لا يَضِقْ صدرُك ولا يضعُفْ عن أن تنذرَ به ، والعرب تضعُ هذه اللامَ في موضع » أَنْ « كقوله تعالى : { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله } [ التوبة : 32 ] وفي موضع آخر : { لِيُطْفِئُواْ } [ الصف : 8 ] فهما بمعنى واحد » قلت : هذا قول ساقط جداً ، كيف يكون حرفٌ يختصُّ بالأفعال يقع موقع آخرَ مختصٍ بالأسماء؟
قوله : { وذكرى } يجوز أن يكونَ في محلِّ رفعٍ أو نصبٍ أو جَرّ . فالرفعُ من وجهين ، أحدهما : أنها عطفٌ على « كتابٌ » أي : كتاب وذكرى أي تذكير ، فهي اسمُ مصدرٍ وهذا قول الفراء . والثاني من وجهي الرفع : أنها خبرُ مبتدأ مضمر أي : هو ذكرى ، وهذا قول أبي إسحاق الزجاج . والنصبُ من ثلاثة أوجه ، أحدُها : أنه منصوبٌ على المصدر بفعلٍ من لفظه تقديره : وتَذَكَّرْ ذكرى أي : تذكيراً . والثاني : أنَّها في محلِّ نصب نسقاً على موضع « لتنذرَ » فإنَّ موضعَه نصبٌ ، فيكون إذ ذاك معطوفاً على المعنى ، وهذا كما تُعْطَف الحال الصريحة على الحال المؤولة كقوله تعالى : { دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً } [ يونس : 12 ] ويكونُ حينئذ مفعولاً من أجله كما تقول : « جئتك لتكرمَني وإحساناً إليّ » .

والثالث : قال أبو البقاء : وبه بدأ « إنها حالٌ من الضمير في » أُنْزِل « وما بينهما معترض » . وهذا سهوٌ فإن الواو مانعة من ذلك ، وكيف تدخل الواوُ على حال صريحة؟
والجرُّ من وجهين أيضاً ، أحدهما : العطف على المصدر المُنْسَبِكِ من « أَنْ » المقدرة بعد لام كي والفعل ، والتقدير : للإِنذار والتذكير . والثاني : العطفُ على الضمير في « به » ، وهذا قول الكوفيين . والذي حَسَّنه كونُ « ذكرى » في تقدير حرفٍ مصدري وهو « أَنْ » وفِعْلٍ ولو صَرَّح ب « أَنْ » لحَسُنَ معها حذفُ حرف الجر ، فهو أحسنُ مِنْ « مررت بك وزيدٍ » إذ التقديرُ : لأَنْ تُنْذِرَ به وبأن تُذَكِّر .
و « للمؤمنين » يجوز أن تكونَ اللامُ مزيدةً في المفعول به تقويةً له ، لأنَّ العاملَ فرعٌ ، والتقدير : وتُذَكر المؤمنين . والثاني : أن تتعلَّق بمحذوفٍ لأنه صفة لذكرى .

اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)

قوله تعالى : { مِّن رَّبِّكُمْ } : يجوز فيه وجهان ، أحدهما : أن يتعلَّق بأُنْزِل ، وتكون « مِنْ » لابتداء الغاية المجازية . والثاني : أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حالٌ : إمَّا مِن الموصول ، وإمَّا مِنْ عائده القائمِ مقامَ الفاعل .
قوله : { مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ } : « من دونه » يجوز أن يتعلق بالفعل قبله ، والمعنى : لا تعدلوا عنه إلى غيره من الشياطين والكهان . والثاني : أن يتعلق بمحذوف ، لأنه كان في الأصل صفةً لأولياء ، فلما تقدَّم نُصِبَ حالاً ، وإليه يميل تفسيرُ الزمخشري فإنه قال : « أي لا تتولَّوا مِنْ دونِه مِنْ شياطين الإِنس والجن فيحملوكم على الأهواء والبِدَع » . والضمير في « دونِه » يُحْتمل وهو الظاهر أن يعودَ على « ربكم »؛ ولذلك قال الزمخشري : « مِنْ دون الله » ، وأن يعودَ على « ما » الموصولة ، وأن يعودَ على الكتاب المنزل ، والمعنى : لا تعدلوا عنه إلى الكتبِ المنسوخةِ . وقرأ الجحدري : « ابتَغُوا » بالغين المعجمة من الابتغاء . ومالك بن دينار ومجاهد : « ولا تبتغوا » من الاتغاء أيضاً .
قوله : { قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } قد تقدَّم نظيرُ هذا في قوله تعالى : { فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } [ البقرة : 88 ] وهو أنَّ « قليلاً » نعتُ مصدرٍ محذوف أي : تذكُّراً قليلاً تَذَكَّرون ، أو نعتُ ظرفِ زمانٍ محذوفٍ أيضاً أي : زماناً قليلاً تَذَكَّرون ، فالمصدرُ أو الظرفُ منصوبٌ بالفعل بعده ، و « ما » مزيدةٌ للتوكيد ، وهذا إعراب جليٌّ واضح . وقد أجاز الحوفي أن يكونَ/ نعتَ مصدرٍ محذوف لقوله « ولا تَتَّبعوا » أي : ولا تتبعوا مِنْ دونِه أولياءَ اتِّباعاً قليلاً ، وهو ضعيف ، لأنه يَصير مفهومُه أنهم غيرُ مَنْهِيِّين عن اتباع الكثير ، ولكنه معلومٌ من جهة المعنى فلا مفهوم له .
وحكى ابن عطية عن أبي عليّ أن « ما » مصدريةٌ موصولةٌ بالفعل بعدها ، واقتصر على هذا القَدْر ، ولا بد من تتمةٍ له ، فقال بعض الناس : « ويكون » قليلاً « نعت زمانٍ محذوف ، وذلك الزمانُ المحذوف في محل رفع خبراً مقدماً ، و » ما « المصدرية وما بعدها بتأويل مصدر مبتدأ مؤخراً ، والتقدير : زمناً قليلاً تذكُّرُكم أي : أنهم لا يقع تذكُّرهم إلا في بعض الأحيان ، ونظيرُه : زمناً قليلاً قيامُك » . وقد قيل : إن « ما » هذه نافيةٌ ، وهو بعيد؛ لأن « ما » لا يعمل ما بعدها فيما قبلها عند البصريين ، وعلى تقدير تسليم ذلك فيصير المعنى : ما تذكَّرون قليلاً ، وليس بطائل ، وهذا كما سيأتي في قوله تعالى : { كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ } [ الذاريات : 17 ] عند مَنْ جَعَلَها نافيةً .
وهناك وجهٌ لا يمكنُ أن يأتيَ ههنا وهو : أن تكون « ما » مصدريةً ، وهي وما بعدها في محل رفع بالفاعلية ب « قليلاً » الذي هو خبر « كان » ، والتقدير : كانوا قليلاً هجوعُهم ، وأمَّا هنا فلا يمكن ذلك لعدمِ صحة نصب « قليلاً » بقوله : « ولا تتَّبعوا » حتى تجعل « ما تذكَّرون » مرفوعاً به .

ولا يجوز أن يكونَ « قليلاً » حالاً من فاعل « تَتَّبعوا » و « ما تذكَّرون » مرفوعٌ به ، إذ يصير المعنى : أنهم نُهوا عن الاتِّباع في حالِ قلةِ تذكُّرهم ، وليس ذلك بمراد .
وقرأ الأخَوان وحفص : تَذَكَّرون « بتاء واحدة وتخفيف الذال ، وابن عامر بتاءين وتخفيف الذال ، والباقون بتاء وتشديد الذال ، وهنَّ واضحات ، تقدم معناها في الأنعام .

وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4)

قوله تعالى : { وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا } : في « كم » وجهان ، أحدهما : أنها في موضعِ رفعٍ بالابتداء ، والخبرُ الجملةُ بعدها ، و « من قرية » تمييز ، والضمير في « أهلكناها » عائدٌ على معنى كم . وهي هنا خبرية للتكثير ، والتقدير : وكثير من القرى أهلكناها . ونقل أبو البقاء عن بعضهم أنه جعل « أهلكناها » صفةً لقرية ، والخبرُ قوله : « فجاءها بأسنا » قال : « وهو سهوٌ لأنَّ الفاء تمنعُ من ذلك » . قلت : ولو ادَّعى مُدَّعٍ زيادتَها على مذهب الأخفش لم تُقْبَلْ دعواه؛ لأن الأخفش إنما يزيدها عند الاحتياج إلى زيادتها .
والثاني : أنها في موضع نصبٍ على الاشتغال بإضمار فعل يفسِّره ما بعده ، ويُقَدَّر الفعلُ متأخراً عن « كم »؛ لأن لها صدر الكلام ، والتقدير : وكم من قريةٍ أهلكناها أهلكناها ، وإنما كان لها صدرُ الكلام لوجهين أحدهما : مضارعتُها ل « كم » الاستفهامية . والثاني : أنها نقيضةُ « رُبَّ » لأنها للتكثير و « رُبَّ » للتقليل ، فحُمِل النقيضُ على نقيضه كما يحملون النظير على نظيره .
ولا بد من حَذْفِ مضافٍ في الكلام لقوله تعالى : « أو هم قائلون » فاضْطُرِرْنَا إلى تقدير محذوف ، ثم منهم مَنْ قَدَّره قبل « قرية » أي : كم من أهل قرية ، ومنهم مَنْ قدَّره قبل « ها » في « أهلكناها » أي : أهلكنا أهلَها ، وهذا ليس بشيءٍ؛ لأن التقادير إنما تكون لأجل الحاجة ، والحاجةُ لا تدعو إلى تقديرِ هذا المضاف في هذين الموضعين المذكورين ، لأن إهلاكَ القرية يمكن أن يقع عليها نفسِها ، فإن القرى تُهْلَكُ بالخَسْف والهدمِ والحريق والغَرَق ونحوه ، وإنما يُحتاج إلى ذلك عند قوله « فجاءها » لأجل عَوْدِ الضمير من قوله : « هم قائلون » عليه ، فيُقَدَّر : وكم من قرية أهلكناها فجاء أهلَها بأسُنا . قال الزمخشري : « فإن قلت : هل تُقَدِّرُ المضافَ الذي هو الأهل قبل » قرية « أو قبل الضمير في » أهلكناها «؟ قلت : إنما يُقَدَّر المضافُ للحاجة ولا حاجة ، فإن القرية تَهْلَكُ كما يَهْلَك أهلُها ، وإنما قدَّرناه قبل الضمير في » فجاءها « لقوله » أو هم قائلون « .
وظاهرُ الآيةِ أن مجيء البأس بعد الإِهلاك وعقيبِه؛ لأن الفاء تعطي ذلك ، لكن الواقعَ إنما هو مجيءُ البأس ، وبعده يقع الإِهلاك . فمن النحاة من قال : الفاء تأتي بمعنى الواو فلا تُرَتِّبُ ، وجَعَلَ من ذلك هذه الآيةَ ، وهو ضعيفٌ . و الجمهور أجابوا عن ذلك بوجهين ، أحدهما : أنه على حَذْف الإِرادة أي : أردنا إهلاكها كقوله : { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة } [ المائدة : 6 ] ، { فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن } [ النحل : 98 ] ، » إذا دخل أحدكم الخَلاءَ فَلْيُسَمِّ الله «

الثاني : أن المعنى أهلكناها أي خذلناهم ولم نوفِّقْهم فنشأ عن ذلك هلاكُهم ، فعبَّر بالمُسَبَّب عن سببه وهو باب واسع . وثَمَّ أجوبةٌ ضعيفة منها : أن الفاءَ هنا تفسيرية نحو : « توضأ فغسل وجهَه ثم يديه » فليست للتعقيب ، ومنها : أنها للترتيب في القول فقط كأنه أخبر عن قرىً كثيرة أنها أهلكها ثم قال : فكان من أمرها مجيء البأس . / ومنها ما قاله الفراء وهو أن الإِهلاك هو مجيء البأس ، ومجيء البأس هو الإِهلاك ، فلمَّا كانا متلازمَيْن لم تُبالِ بأيهما قدَّمْتَ في الرتبة كقولك : « شتمني فَأَساء » و « أساء فشتمني » فالإِساءةُ والشتمُ شيء واحد فهذه ستة أقوال .
واعلم أنه إذا حُذِف مضافٌ وأقيم المضافُ إليه مُقامَه جاز لك اعتباران ، أحدهما : الالتفاتُ إلى ذلك المحذوف ، والثاني وهو الأكثر عدم الالتفات إليه ، وقد جُمِعَ الأمران ههنا فإنه لم يُراعِ المحذوفَ في قوله « أهلكناها فجاءها » وراعاه في قوله « أو هم قائلون » ، هذا إذا قدَّرْنا الحذفَ قبل « قرية » ، أمَّا إذا قدَّرنا الحذفَ قبل ضمير « فجاءها » فإنه لم يُراعِ إلا المحذوفَ فقط ، وهو غيرُ الأكثر .
قوله : « بَيَاتاً » فيه ثلاثة أوجه أحدها : أنه منصوبٌ على الحال ، وهو في الأصل مصدر ، بات يبيتُ بَيْتاً وبَيْتَةً وبَيَاتاً وبَيْتُوتة . قال الليث : « البَيْتوتَةُ دخولُك في الليل » فقوله « بياتاً » أي بائتين . وجَوَّزوا أن يكون مفعولاً له ، وأن يكون في حكم الظرف . وقال الواحدي : « قوله بياتاً : أي ليلاً » ، وظاهر هذه العبارة أن يكون ظرفاً ، لولا أن يُقال : اراد تفسير المعنى .
قوله : { أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ نسقاً على الحال . و « أو » هنا للتنويع لا لشيء آخر كأنه قيل : أتاهم بأسنا تارةً ليلاً كقوم لوط ، وتارة وقت القيلولة كقوم شعيب . وهل يحتاج إلى تقديرِ واوِ حال قبل هذه الجملة أم لا؟ خلاف بين النحويين . قال الزمخشري : « فإن قلت : لا يقال : » جاء زيد هو فارس « بغير واو فما بالُ قوله تعالى » أو هم قائلون «؟ قلت : قَدَّر بعض النحويين الواوَ محذوفةً ، وردَّه الزجاج وقال : » لو قلت : جاءني زيد راجلاً أو هو فارس ، أو : جاءني زيد هو فارس لم تحتج إلى واو؛ لأن الذكر قد عاد على الأول « . والصحيح أنها إذا عُطِفَتْ على حال قبلها حُذِفت الواو استثقالاً لاجتماع حرفَيْ عطفٍ؛ لأن واو الحال هي واو العطف استعيرت للوصل ، فقولك : » جاء زيد راجلاً أو هو فارس « كلام فصيح واردٌ على حَدِّه ، وأمَّا » جاءني زيد هو فارس « فخبيث » . قال الشيخ : « أما بعض النحويين الذي اتهمه الزمخشري فهو الفراء .

وأمَّا قول الزجاج [ في ] التمثيلين : لم تحتج فيه إلى الواو لأن الذِّكْرَ قد عاد على الأول ففيه إبهامٌ ، فتعيينه أنه يمتنع دخولها في المثال الأول ، ويجوز في المثال الثاني ، فليس انتفاءُ الاحتياج على حدٍّ سواء ، لأنه في الأول لامتناع الدخول ، وفي الثاني لكثرته لا لامتناعه « . قلت : أمَّا امتناعها في المثال الأول فلأن النحويين نصُّوا على أن الجملة الحالية إذا دخل عليها حرف عطف امتنع دخول واو الحال عليها ، والعلةُ فيه المشابهة اللفظية ، ولأن واو الحال في الأصل عاطفة .
ثم قال الشيخ : » وأمَّا قولُ الزمخشري فالصحيحُ إلى آخره فتعليلُه ليس بصحيح ، لأنَّ واوَ الحال ليست بحرف عطف فيلزم مِنْ ذكرها اجتماعُ حرفَيْ عطفٍ؛ لأنها لو كانَتْ حرفَ عطف لَلَزِم أن يكون ما قبلها حالاً حتى تعطفَ حالاً على حال ، فمجيئُها فيما لا يمكن أن يكونَ حالاً دليلٌ على أنها ليست واوَ عطفٍ ولا لُحِظ فيها معنى واو عطف تقول : « جاء زيد والشمسُ طالعةٌ » فجاء زيد ليس بحالٍ فتعطف عليها جملة حال ، وإنما هذه الواوُ مغايرةٌ لواو العطف بكل حال ، وهي قِسْمٌ من أقسام الواو ، كما تأتي للقَسَمِ وليست فيه للعطف كما إذا قلت : « والله ليخرجَنَّ » . قلت : أبو القاسم لم يدَّعِ في واوِ الحال أنها عاطفةٌ ، بل يدَّعي أن أصلَها العطف ، ويدل على ذلك قولُه : استعيرت للوصل ، فلو كانت عاطفةً على حالها لما قال : استعيرت ، فدلَّ قولُه ذلك على أنها خرجَتْ عن العطف واسْتُعْمِلت لمعنى آخر ، لكنها أُعْطيت حكم أصلها في امتناع مُجامعها لعاطف آخر . وأمَّا تسميتُها حرفَ عطفٍ فباعتبار أصلها ، ونظير ذلك واو « مع » فإنهم نَصُّوا على أن أصلَها واوُ العطف ، ثم اسْتُعْمِلَتْ في المعيَّة ، فكذلك واوُ الحال ، لا امتناعَ أن يكونَ أصلُها واوَ العطف/ .
ثم قال الشيخ : « وأما قولُه فخبيث فليس بخبيث؛ وذلك أنه بناه على أن الجملةَ الحالية إذا كانَتْ اسميةً وفيها ضمير ذي الحال فحذفُ الواوِ منها شاذٌّ وتبع في ذلك الفراءَ ، وليس بشاذ بل هو كثيرٌ في النظم والنثر » . قلت : قد سبق أبا القاسم في تسمية هذه الواوِ حرفَ عطفٍ الفراءُ وأبو بكر ابن الأنباري . قال الفراء : « أوهم قائلون فيه واو مضمرة ، المعنى : أهلكناها فجاءها بأسنا بياتاً أو وهم قائلون ، فاستثقلوا نسقاً على إثرِ نسقٍ ، ولو قيل لكان صواباً » . قلت : قد تقدم أن الشيخ نقل أن الواو ممتنعة في هذا المثال ولم يَحْكِ خلافاً ، وهذا قول الفراء : « ولو قيل لكان صواباً » مُصَرِّحٌ بالخلاف له . وقال أبو بكر : « أُضمرت واوُ الحال لوضوح معناها كما تقول العرب : » لقيت عبد الله مسرعاً أو هو يركض « فيحذفون الواوَ لأَمْنِهم اللَّبْسَ ، لأن الذِّكْرَ قد عاد على صاحب الحال ، ومن أجل أنَّ » أو « حرفُ عطف والواو كذلك ، فاستثقلوا جمعاً بين حرفين من حروف العطف فحذفوا الثاني » .

قلت : فهذا تصريحٌ من هذين الإِمامين بما ذكره أبو القاسم ، وإنما ذكرتُ نصَّ هذين الإِمامين لأُعْلِمَ اطِّلاعَه على أقوال الناس ، وأنه لا يأتي بغير مصطلح أهل العلم كما يرميه به غيرَ مرة .
و « قائلون » من القَيْلُولة . يقال : قال يَقيل قَيْلولة فهو قائل كبائع . والقيلولة : الراحةُ والدَّعَةُ في الحر وسط النهار وإن لم يكن معها نوم . وقال الليث : هي نَوْمَةُ نصف النهار . قال الأزهري : « القيلولة : الراحة وإن لم يكن فيها نوم ، بدليل قوله تعالى : { أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً } [ الفرقان : 24 ] والجنةُ لا نومَ فيها » قلت : ولا دليلَ فيما ذكر لأنَّ المقيل هنا خرج عن موضوعه الأصلي إلى مجرد الإِقامة بدليل أنه لا يُراد أيضاً الاستراحة في نصف النهار في الحر ، فقد خَرَجَ عن موضوعه عندنا وعندكم إلى ما ذكرته لك . والقيلولة مصدرٌ ومثلها : الثائلة و القَيْل والمَقيل .

فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5)

قوله تعالى : { فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ } جَوَّزوا في « دعواهم » وجهين ، أحدهما : أن يكون اسماً ل « كان » و « إلا أَنْ قالوا » خبرها ، وفيه خدشٌ من حيث إنَّ غير الأعرف جُعِل اسماً ، والأعرفَ جُعِل خبراً ، وقد فهمت ذلك في أول الأنعام عند { لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ } [ الآية : 23 ] والثاني : أن يكون « دعواهم » خبراً مقدماً و « إلا أن قالوا » اسماً مؤخراً ، ذكر ذلك الزمخشري ، ومكي ابن أبي طالب ، وسبقهما إلى ذلك الفراء والزجاج ، واختاره الزجاج . ولكن ذلك يُشْكل مِنْ قاعدةً أخرى ذكرها النحاة وهو أن الاسمَ والخبر في هذا الباب متى خفي إعرابُهما وَجَبَ تقديمُ الاسم وتأخيرُ الخبر نحو : كان موسى صاحبي ، وما كان دعائي إلا أن استغفرتُ ، قالوا : لأنهما كالمفعول والفاعل ، فمتى خفي الإِعرابُ التَزَمَ كلٌ في مرتبته ، وهذه الآيةُ مما نحن فيه فكيف يُدَّعى فيها ذلك ، بل كيف يختاره الزجاج؟ وقد رأيتُ كلامَ الزجاج هنا فيمكن أن يؤخذَ منه جوابٌ عن هذا المكان وذلك أنه قال : « إلا أن الاختيارَ إذا كانت » الدعوى « في موضع رفع أن يقول : فما كانت دعواهم ، فلمَّا قال : » كان دعواهم « دَلَّ على أن الدعوى في موضعِ نصبٍ ، غيرَ أنه يجوز تذكير الدعوى وإن كانَتْ رفعاً » قلت : فمِنْ هنا يقال : تذكيرُ الفعل فيه قرينةٌ مرجِّحة لإِسناد الفعل إلى « أن قالوا » ، ولو كان مسنداً للدعوى لكان الأرجح « كانت » كما قال ، وهو قريب من قولك : « ضربت موسى سلمى » فقدَّمْتَ المفعولَ بقرينة تأنيث الفعل ، وأيضاً فإن ثَمَّ قرينةً أخرى وهي كونُ الأعرفِ أحقَّ أن يكون اسماً من غير الأعرف .
والدَّعْوى تكون بمعنى الدعاء وبمعنى الادِّعاء ، والمقصود بها ههنا يحتمل الأمرين جميعاً ، ويحتمل أيضاً أن يكون بمعنى الاعتراف . فمِنْ مجيئها بمعنى الدعاء ما حكاه الخليل : « اللهم أشركنا في صالح دعوى المسلمين » تريد في صالح دعائهم ، وأنشدوا :
2139 وإنْ مَذِلَتْ رِجْلي دعوتُك أشتفي ... بدَعْواكَ مِنْ مَذْلٍ بها فتهونُ
/ ومنه قوله تعالى : { فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ } [ الأنبياء : 15 ] وقال الزمخشري : « ويجوز : فما كان استغاثتُهم إلا قولَهم هذا لأنه لا يُستغاث من الله تعالى بغيره ، مِنْ قولهم دعواهم يالكعب » . وقال ابن عطية : « وتحتمل الآية أن يكون المعنى : فما آلت دعاويهم التي كانت في حال كفرهم إلا إلى الاعتراف كقول الشاعر :
2140 وقد شهدَتْ قيسٌ فما كان نصرُها ... قتيبةَ إلا عضَّها بالأباهم
و » إذ « منصوب ب » دعواهم « .
وقوله : { إِنَّا كُنَّا } » كنَّا « وخبرُها في محلِّ رفع خبراً لإِنَّا ، وإنَّ وما في حيِّزها في محلِّ نصب محكياً ب » قالوا « ، و » قالوا « وما في حيزه لا محلَّ له لوقوعه صلةً لأَنْ . وأَنْ وما في حيِّزها في محل رفع أو نصبٍ على حسب ما تقدَّم مِنْ كونها اسماً أو خبراً .

فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6)

قوله تعالى : { الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ } : القائمُ مقامَ الفاعل الجارُّ والمجرور .

فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7)

وقوله تعالى : { بِعِلْمٍ } : في موضع الحال من الفاعل ، والباء للمصاحبة أي : لنقصَّنَّ على الرسل والمرسلِ إليهم حالَ كوننا ملتبسين بالعلم . ثم أكَّد هذا المعنى بقوله { وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ } .

وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8)

قوله تعالى : { والوزن يَوْمَئِذٍ الحق } : « الوزنُ » مبتدأ ، وفي الخبر وجهان ، أحدهما : هو الظرفُ أي : الوزن كائنٌ أو مستقر يومئذ أي : يوم إذ نسأل الرسل والمرسل إليهم . فحذف الجملةَ المضافَ إليها « إذ » وعَوَّض منها التنوين . هذا مذهب الجمهور خلافاً للأخفش . وفي « الحق » على هذا الوجهِ ثلاثةُ أوجه أحدها : أنه نعتٌ للوزن أي : الوزن الحق في ذلك اليوم . والثاني : أنه خبرُ مبتدأ محذوف كأنه جوابُ سؤال مقدر مِنْ قائل يقول : ما ذلك الوزنُ؟ فقيل : هو الحق لا الباطل . والثالث : أنه بدلٌ من الضمير المستكنِّ في الظرف . وهو غريب ذكره مكي .
والثاني من وجهي الخبر : أن يكون الخبرُ « الحق » ، و « يومئذ » على هذا فيه وجهان أحدهما : أنه منصوبٌ على الظرف ناصبُه « الوزن » أي : يقع الوزنُ ذلك اليوم . والثاني : أنه مفعول به على السَّعة . وهذا الثاني ضعيف جداً لا حاجة إليه . ولمَّا ذكر أبو البقاء كونَ « الحق » خبراً ، وجَعَل « يومئذ » ظرفاً للوزن قال : « ولا يجوز على هذا أن يكونَ صفةً ، لئلا يلزمَ الفصلُ بين الموصول وصلتِه » . قلت : وأين الفصل؟ فإن التركيب القرآني إنما جاء فيه « الحق » بعد تمام الموصول بصلته ، وإذا تمَّ الموصول بصلته جاز أن يوصفَ . تقول : « ضَرْبُك زيداً يوم الجمعة الشديدُ حسنٌ » فالشديدُ صفة لضربك . فإن توهَّم كونَ الصفة محلُّها أن تقع بعد الموصوف وتليه ، فكأنها مقدمة في التقدير فحصل الفصلُ تقديراً ، فإن هذا لا يُلتفت إليه ، لأن تلك المعمولاتِ من تتمة الموصول فلم يكُ إلا الموصول . وعلى تقدير اعتقاد ذلك له ، فالمانعُ من ذلك أيضاً صيرورةُ المبتدأ بلا خبر ، لأنك إذا جعلت « يومئذ » ظرفاً للوزن و « الحق » صفته فأين خبره؟ فهذا لو سَلِمَ من المانع الذي ذكره كان فيه هذا المانع الآخر .
وقد طوَّل مكي بذكر تقدير تقديم « الحق » على « يومئذ » وتأخيره عنه باعتبار الإِعرابات المتقدمة ، وهذا لا حاجة إليه لأنَّا مقيَّدون في القرآن بالإِتيان بنظمه . وذكر أيضاً أنه يجوز نصبه ، يعني أنه لو قرئ به لكان جائزاً ، وهذا أيضاً لا حاجة إليه .
وموازين فيها قولان : أحدهما : أنها جمع ميزان : الآلة التي يُوْزَنُ بها ، وإنما جُمِع لأنَّ كلَّ إنسانٍ له ميزانٌ يخصُّه على ما جاء في التفسير ، أو جُمع باعتبار الأعمال المُكْثِرة ، وعبَّر عن الحالِّ بالمحلِّ . والثاني : أنها جمع موزون وهي الأعمال ، والجمع حينئذ ظاهر .

وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)

قوله تعالى : { بِمَا كَانُواْ } : متعلِّقٌ ب « خسروا » و « ما » مصدرية و « بآياتنا » متعلق ب « يظلمون » قُدِّم عليه للفاصلة . وتعدَّى « يظلمون » بالباء : إمَّا لتضمُّنه معنى التكذيب نحو { كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } [ آل عمران : 11 ] ، وإمَّا لتضمُّنه معنى الجحد نحو { وَجَحَدُواْ بِهَا } [ النمل : 14 ] .

وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10)

قوله تعالى : { وجَعَلْنا لكم } : يجوز أن تكون بمعنى « خلق » فتتعدَّى لواحد فيتعلَّق الجارَّان بالجَعْل ، أو بمحذوفٍ على أنهما حالان مِنْ « معايش » لأنهما لو تأخرا لجاز أن يكونا وصفين . ويجوز أن تكونَ التصييرية فتتعدَّى لاثنين أولهما « معايش » ، والثاني أحد الجارَّين ، والآخر : إمَّا حال فيتعلق بمحذوف ، وإمَّا متعلق بنفس الجعل/ وهو الظاهر .
ومعايش جمع معيشة وفيها ثلاثة مذاهب ، مذهب سيبويه والخليل : أن وزنها مَفْعُلة بضم العين أو مَفْعِلة بكسرها ، فعلى الأول جُعِلت الضمةُ كسرةً ونُقِلَتْ إلى فاء الكلمة . وقياس قول الأخفش في هذا النحو أن يُغَيَّر الحرفُ لا الحركةُ ، فمعيشة عنده شاذة إذ كان ينبغي أن يُقال فيها مَعُوشة . وأما على قولنا إن أصلها مَعْيِشة بكسر العين فلا شذوذَ فيها . ومذهب الفراء أنَّ وزنها مَفْعَلة بفتح العين وليس بشيء . والمعيشة اسمٌ لما يُعاشُ به أي يُحْيا ، وهي في الأصل مصدرٌ لعاش يعيش عَيْشاً وعِيْشة قال تعالى : { فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } [ الحاقة : 21 ] ومعاشاً : قال تعالى : { وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً } ومَعِيشاً قال رؤبة :
2141 إليك أشكو شِدَّةَ المعيشِ ... وجُهْدَ أعوامٍ نَتَفْنَ ريشي
والعامَّةُ على « معايش » بصريح الياء . وقد خرج خارجة فروى عن نافع « معائش » بالهمز . وقال النحويون : هذه غلطٌ؛ لأنه لا يُهمز عندهم إلا ما كان فيه حرفُ المد زائداً نحو : صحائف ومدائن ، وأما « معايش » فالياءُ أصلٌ لأنها من العَيْش . قال الفارسي عن أبي عثمان : « أصلُ أَخْذِ هذه القراءةِ عن نافع » . قال : « ولم يكن يدري ما العربية؟ » . قلت : قد فَعَلَتْ العربُ مثل هذا ، فهمزوا منائر ومصائب جمع منارة ومصيبة ، والأصل : مناوِر ومصاوب . وقد غلَّط سيبويه مَنْ قال مصائب ، ويعني بذلك أنه غلط بالنسبة إلى مخالفة الجادَّة ، وهذا كما تقدَّم عنه أنه قال : « واعلم أنَّ بعضَهم يغلطُ فيقول : » إنهم أجمعون ذاهبون « قال : » ومنهم مَنْ يأتي بها على الأصل فيقول : مصاوب ومناور ، وهذا كما قالوا في جمع مقال ومقام : مَقَاوِم ومَقاوِل في رجوعهم بالعين إلى أصلها قال : وأنشد النحويون على ذلك :
2142 وإنِّي لَقَوَّامٌ مَقَاوِمَ لم يكن ... جريرٌ ولا مَوْلَى جريرٍ يقومُها
ووجهُ همزِها أنهم شبَّهوا الأصليَّ فتوهَّموا أن معيشة بزنة صحيفة فهمزوها كما همزوا تِيْك . قالوا : ونظير ذلك في تشبيههم الأصلي بالزائد قولهم في جمع مَسِيل : مِسْلان توهَّموه على أنه على زنة قضيب وقِضبان وقالوا في جمعه أَمْسِلة كأنهم توهَّموا أنه بزنة رغيف وأرغفة ، وإنما مسيل وزنه مَفْعِل لأنه من سَيَلان الماء . وأنشدوا على مَسيل وأَمْسِلة قولَ أبي ذؤيب الهذلي :
2143 بِوادٍ لا أنيسَ به يَبابٍ ... وأَمْسِلةٍ مَذانِبُها خَلِيفُ
وقال الزجاج : « جميع نحاة البصرة تزعم أن همزها خطأ ، ولا أعلم لها وجهاً إلا التشبيهَ بصحيفة وصحائف ، ولا ينبغي التعويل على هذه القراءة » .

قلت : وهذه القراءة لم ينفرد بها نافع بل قرأها جماعة جِلَّةٌ معه ، فإنها منقولةٌ عن ابن عامر الذي قرأ على جماعة من الصحابة كعثمان وأبي الدرداء ومعاوية ، وقد سبق ذلك في الأنعام ، وقد قرأ بها قبل ظهور اللحن وهو عربي صريح . وقرأ بها أيضاً زيد بن علي وهو على جانب من الفصاحةِ والعلمِ الذي لا يدانيه إلا القليلُ . وقرأ بها أيضاً الأعمشُ والأعرجُ وكفى بهما في الإِتقان والضبط . وقد نقل الفراء أن قَلْبَ هذه الياء تشبيهاً لها بياء صحيفة قد جاء وإنْ كان قليلاً .
وقوله : { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } كقوله : { قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } [ الأعراف : 3 ] .

وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)

قوله تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا } : اختلف الناس في « ثم » في هذين الموضعين : فمنهم مَنْ لم يلتزم فيها ترتيباً وجعلها بمنزلة الواو فإنَّ خَلْقَنا وتصويرَنا بعد قوله تعالى للملائكة « اسجدوا » . ومنهم مَنْ قال : هي للترتيب لا في الزمان بل للترتيب في الإِخبار ، ولا طائل في هذا . ومنهم من قال : هي للترتيب الزماني وهذا هو موضوعُها الأصلي . ومنهم مَنْ قال : الأولى للترتيب الزماني والثانية للترتيب الإِخباري . واختلفت عبارة القائلين بأنها للترتيب في الموضعين فقال بعضهم : إنَّ ذلك على حذف مضافين ، والتقدير : ولقد خلقنا آباءكم ثم صَوَّرْنا آباءكم ثم قلنا ، ويعني بأبينا آدم عليه السلام . والترتيب الزماني هنا ظاهر بهذا التقدير . وقال بعضهم : الخطاب في « خلقناكم وصوَّرناكم » لآدم عليه السلام وإنما خاطبه/ بصيغة الجمع وهو واحد تعظيماً له ولأنه أصلُ الجميع ، والترتيب أيضاً واضح .
وقال بعضهم : المخاطبُ بنو آدم والمراد به أبوهم ، وهذا من باب الخطاب لشخصٍ والمرادُ به غيره كقوله : { وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ } إلى آخره ، وإنما المُنَجَّى والذي كان يُسامُ سُوءَ العذاب أسلافُهم . وهذا مستفيضٌ في لسانهم . وأنشدوا على ذلك قوله :
2144 إذا افتخرَتْ يوماً تميمٌ بقوسها ... وزادَتْ على ما وطَّدَتْ مِنْ مناقب
فأنتم بذي قارٍ أمالَتْ سيوفُكمْ ... عروشَ الذين استرهنوا قوسَ حاجبِ
وهذه الوقعةُ إنما كانت في أسلافهم .
والترتيبُ أيضاً واضحٌ على هذا . ومن قال : إن الأولى للترتيب الزماني والثانية للترتيب الإِخباري اختلفت عباراتهم أيضاً . فقال بعضهم : المراد بالخطاب الأول آدمُ وبالثاني ذريتُه ، والترتيبُ الزماني واضح ، و « ثم » الثانية للترتيب الإِخباري . وقال بعضهم : ولقد خلقناكم في ظهر آدم ثم صوَّرناكم في بطونِ أمَّهاتكم . وقال بعضهم : ولقد خلقنا أزواجكم ثم صوَّرنا أجسامكم . وهذا غريبٌ نقله القاضي أبو يعلى في « المعتمد » . وقال بعضهم : خلقناكم نُطَفاً في أصلاب الرجال ثم صوَّرْناكم في أرحام النساء . وقال بعضهم : ولقد خلقناكم في بطون أمهاتكم وصوَّرْناكم فيها بعد الخلق بشَقِّ السمع والبصر ، ف « ثم » الأولى لترتيب الزمان ، والثانية لترتيب الإِخبار .
وقوله : { إِلاَّ إِبْلِيسَ } تقدَّم الكلام عليه في البقرة . وقوله « لم يكن » هذه الجملةُ استئنافيةٌ لأنها جواب سؤال مقدر ، وهذا كما تقدَّم في قوله في البقرة « أبى » . وتقدم أن الوقف على إبليس . وقيل : فائدة هذه الجملة التوكيدُ لِما أخرجه الاستثناء من نفي سجود إبليس . وقال أبو البقاء : « إنها في محل نصب على الحال أي : إلا إبليس حال كونه ممتنعاً من السجود » . وهذا كما تقدم له في البقرة من أن « أبى » في موضع نصب على الحال .

قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)

قوله تعالى : { أَلاَّ تَسْجُدَ } : في « لا » هذه وجهان ، أظهرهما : أنها زائدة للتوكيد . قال الزمخشري : « لا » في « أن لا تسجد » صلةٌ بدليل قوله تعالى : { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [ ص : 75 ] ومثلُها : { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب } [ الحديد : 29 ] بمعنى ليعلم . ثم قال : « فإن قلت : ما فائدةُ زيادتها؟ قلت : توكيد معنى الفعل الذي تدخل عليه وتحقيقه ، كأنه قيل : ليتحقَّق علمُ أهل الكتاب ، وما منعك أن تحقق السجود وتُلْزمَه نفسك إذ أمرتك؟ وأنشدوا على زيادة » لا « قولَ الشاعر :
2145 أبى جودُه لا البخلَِ واستعجلَتْ نَعَمْ ... به مِنْ فتى لا يمنع الجودَ نائلُه
يروى » البخل « بالنصب والجر ، والنصبُ ظاهرُ الدلالة في زيادتها ، تقديرُه : أبى جودُه البخلَ . وأمَّا في روايةِ الجر فالظاهرُ منها عدمُ الدلالة على زيادتها . ولا حجةَ في هذا البيتِ على زيادة » لا « في رواية النصب ، ويتخرَّجُ على وجهين أحدهما : أن تكون » لا « مفعولاً بها و » البخل « بدل منها لأنَّ » لا « تُقال في المنع فهي مؤدِّية للبخل . والثاني : أنها مفعول بها أيضاً ، والبخل مفعول من أجله والمعنى : أبى جودُه لفظ » لا « لأجل البخل أي كراهة البخل ، ويؤيد عدمَ الزيادة روايةُ الجر . قال أبو عمرو بن العلاء : » الرواية فيه بخفض « البخل » لأن « لا » تُسْتعمل في البخل « ، وأنشدوا أيضاً على زيادتها قول الآخر :
2146 أَفَعَنْكَ لا برقٌ كأنَّ وميضَه ... غابٌ تَسَنَّمَه ضِرامٌ مُثْقَبُ
يريد : أفعنك برقٌ . وقد خَرَّجه الشيخ على احتمال كونِها عاطفةً وحَذْفِ المعطوف ، والتقدير : أفعنك لا عن غيرك . وكونُ » لا « في الآية زائدةً هو مذهب الكسائي والفراء وأبي إسحاق . وما ذكرته من كون » البخل « بدلاً من » لا « و » لا « مفعولٌ بها هو مذهب الزجاج . وحكى بعضهم عن يونس قال : » كان أبو عمرو بن العلاء يجرُّ « البخل » ويجعل « لا » مضافة إليه ، أراد أبى جوده لا التي هي للبخل لأن « لا » قد تكون للبخل وللجود ، فالتي للبخل معروفة ، والتي للجود أنه لو قال له : « امنع الحق » أو « لا تعط المساكين » فقال : « لا » كان جوداً . قلت : يعني فتكون الإِضافة للتبيين ، لأن « لا » صارت مشتركةً فميَّزها بالإِضافة وخصَّصها به . / وقد تقدم طرف جيد من زيادة « لا » في أواخر الفاتحة وأقوال الناس في ذلك .
وقد زعم جماعةٌ أن « لا » في هذه الآية الكريمة غيرُ زائدة ، لكن اختلفت عبارتهم في تصحيح معنى ذلك فقال بعضهم : في الكلام حَذْفٌ يصحُّ به النفي ، والتقدير : ما منعك فأحوجك أن لا تسجد؟ وقال بعضهم : المعنى على ما ألجأك أن لا تسجد؟ وبعضهم : مَنْ أمَرَكَ أن لا تسجد؟ ومَنْ قال لك أن لا تسجد ، أو ما دَعاك أن لا تسجد؟ وهذا تمحُّل مَنْ يتحرَّج مِنْ نسبة الزيادة إلى القرآن وقد تقدَّم تحقيقه ، وأنَّ معنى الزيادة على معنىً يفهمه أهلُ العلم وإلا فكيف يُدَّعى زيادةٌ في القرآن بالعُرْف العام؟ هذا ما لا يقوله أحد من المسلمين .

و « ما » استفهاميةٌ في محل رفع بالابتداء ، والخبرُ بعدها أي : أيُّ شيء منعك . و « أَنْ » في محل نصبٍ أو جر لأنها على حَذْفِ حرف الجر إذ التقدير : ما منعك من السجود؟ و « إذ » منصوب بتسجد أي : ما منعك من السجود في وقت أمري إياك به . وقوله : { خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ } لا محلَّ لهذه الجملةِ لأنها كالتفسير والبيان للخبرية .

قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)

وقوله تعالى : { مِنْهَا } : و « فيها » الضميرُ يعود على الجنة لأنه كان من سكانها . عن ابن عباس : أنهم كانوا في عدن لا في جنة الخلد . وقيل : يعود على السماء ، لأنه يُروى في التفسير أنه وَسْوس إليهما وهو في السماء . وقيل : على الأرض أُمِر أن يَخْرج منها إلى جزائر البحار ، ولا يدخل في الأرض إلا كالسارق . وقيل : على الرتبة المنيفة والمنزلة الرفيعة . وقيل : على الصورة والهيئة التي كان عليها لأنه كان مُشْرق الوجه فعاد مُظْلِمَه . وقوله : « فاخرجْ » تأكيدٌ ل « اهبط » إذ هو بمعناه .
وقوله : « فيها » لا مفهومَ له ، يعني أنه لا يُتَوَهَّم أنه يجوز أن يتكبَّر في غيرها . ولمَّا اعتبر بعضهم هذا المفهوم احتاج إلى تقدير حذف معطوف كقوله : { تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] قال : « والتقديرُ فما يكون لك أن تتكبَّر فيها ولا في غيرها » .

قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14)

والضمير في { يُبْعَثُونَ } : يعود على بني آدم لدلالة السياق عليهم ، كما دلَّ على ما عاد عليه الضميران في منها وفيها كما تقدَّم .

قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16)

قوله تعالى : { فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي } : في هذه الباء وجهان أحدهما : أن تكون قسميةً وهو الظاهر . والثاني : أن تكون سببيَّة ، وبه بدأ الزمخشري قال : « فبما أغويتني : فبسبب إغوائك إياي لأقعدنَّ لهم » ثم قال : « والمعنى : فبسبب وقوعي في الغَيِّ لاجتهدنّ في إغوائهم حتى يَفْسُدوا بسببي كما فَسَدْتُ بسببهم . فإن قلت : بم تَعَلَّقَت الباء فإن تعلُّقها ب » لأقعدن « يصدُّ عنه لام القسم لا تقول : واللهِ بزيدٍ لأمرَّنَّ؟ قلت : تَعَلَّقَتْ بفعل القسم المحذوف تقديره : فبما أغويتني أقسم بالله لأقعدنَّ أي : فبسبب إغوائك أُقْسم . ويجوز أن تكون الباء للقسم أي : فأقسم بإغوائك لأقعدنَّ » . قلت : وهذان الوجهان سبق إليهما أبو بكر بن الأنباري ، وذكر عبارةً قريبة من هذه العبارة .
وقال الشيخ : « وما ذكره من أن اللام تصدُّ عن تعلُّق الباء ب » لأقعدَنَّ « ليس حكماً مُجْمَعاً عليه بل في ذلك خلافٌ » . قلت : أمَّا الخلافُ فنعم . لكنه خلافٌ ضعيف لا يُقَيَّد به أبو القاسم ، والشيخُ نفسه قد قال عند قوله تعالى { لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ } [ الأعراف : 18 ] في قراءة مَنْ كسر اللام في « لمن » ، إنَّ ذلك لا يُجيزه الجمهور وسيأتي لك مبيناً إن شاء الله .
و « ما » تحتمل ثلاثة أوجه أظهرها : أنها مصدرية أي : فبإغوائك إياي . والثاني : أنها استفهامية يعني أنه استفهم عن السبب الذي أغواه به فقال : فبأي شيء من الأشياء أغويتني؟ ثم استأنف جملةَ أقْسَمَ فيها بقوله « لأقعدنَّ » . وهذا ضعيفٌ عند بعضِهم أو ضرورةٌ عند آخرين من حيث إنَّ « ما » الاستفهامية إذا جُرَّت حُذِفَتْ ألفها ، ولا تَثْبت إلا في شذوذ كقولهم : عمَّا تسأل؟ أو ضرورةً كقوله :
2147 على ما قام يَشْتِمني لئيمٌ ... كخنزيرٍ تمرَّغَ في رمادِ
والثالث : أنها شرطية ، وهو قولُ ابن الأنباري ، ولا بد من إيراد نصِّه قال : رحمه الله « ويجوز أن تكونَ » ما « بتأويل الشرط ، والباءُ من صلة الإِغواء ، والفاءُ المضمرة جواب الشّرط ، والتقدير : فبأي شيء أغويتني فلأقعدنَّ لهم صراطك » فتُضْمر الفاءَ [ في ] جواب الشرط كما تضمرها في قولك « إلى ما أومأتَ إني قابلُه ، وبما أمرت إني سامعٌ مطيع » . وهذا الذي قاله ضعيف جداً ، فإنه على تقدير صحة معناه يمتنع من حيث الصناعة ، فإن فاء الجزاء لا تُحذف إلا في ضرورة شعر كقوله :
2148 مَنْ يفعلِ الحسناتِ اللهُ يشكرُها ... والشرُّ بالشر عند الله مِثْلان
أي : فالله . وكان المبرد/ لا يُجَوِّز ذلك ضرورة أيضاً ، وينشد البيت المذكور :
مَنْ يفعل الخير فالرحمن يشكره ... . . . . . . . . . . . . . .
فعلى رأي أبي بكر يكون قوله « لأقعدنَّ » جوابَ قسم محذوف ، وذلك القسم المقدر وجوابه جواب الشرط ، فيقدِّرُ دخول الفاء على نفس جملة القسم مع جوابها تقديره : فبما أغويتني فواللهِ لأقعدنَّ .

هذا يُتَمِّمُ مذهبه .
وقوله : « صراطَك » في نصبه ثلاثة أوجه أحدها : أنه منصوب على إسقاط الخافض . قال الزجاج : « ولا اختلاف بين النحويين أنَّ » على « محذوفة كقولك : » ضُرِب زيدٌ الظهرَ والبطنَ « أي : على الظهر والبطن » . إلا أن هذا الذي قاله الزجاج وإن كان ظاهرهُ الإِجماع ضعيفٌ من حيث إن حرف الجر لا يَطَّرِدُ حذفه ، بل هو مخصوص بالضرورة أو بشذوذ كقوله :
2149 تمُرُّون الديارَ فلم تعوجوا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
[ وقوله ] :
2150 . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . لولا الأسى لقضاني
[ وقوله ] :
2151 فَبِتُّ كأنَّ العائداتِ فَرَشْنني ... . . . . . . . . . . . . . . . .
والثاني : أنه منصوب على الظرف والتقدير : لأقعدنَّ لهم في صراطك . وهذا أيضاً ضعيف لأن « صراطك » ظرفُ مكانٍ مختصٌّ ، والظرف المكاني المختص لا يصل إليه الفعل بنفسه بل ب « في » ، تقول : صليت في المسجد ونمت في السوق . ولا تقول : صَلَّيْتَ المسجد ، إلا فيما استثني في كتب النحو ، وإنْ ورد غير ذلك كان شاذاً كقولهم « رَجَع أدراجَه » و « ذهبت » مع « الشام » خاصة . أو ضرورة كقوله :
2152 جزى الله بالخيراتِ ما فعلا بكم ... رفيقَيْنِ قالا خَيْمَتَيْ أمِّ معبدِ
أي : قالا في خيمتي . وجعلوا نظيرَ الآية في نصب المكان المختص قولَ الآخر :
2153 لَدْنٌ بهزِّ الكفِّ يَعْسِل مَتْنَه ... كما عَسَل الطريقَ الثعلبُ
وهذا البيت أنشده النحاة على أنه ضرورة . وقد شذَّ ابن الطراوة عن مذهب النحاة فجعل « الصراط » و « الطريق » في هذين الموضعين مكانين مُبْهمين . وهذا قولٌ مردودٌ لأن المختصَّ من الأمكنة ما له أقطارٌ تحويه وحدودٌ تحصره ، والصراط والطريق من هذا القبيل . والثالث : أنه منصوبٌ على المفعول به لأنَّ الفعلَ قبله وإن كان قاصراً فقد ضُمِّن معنى فعلٍ متعدٍّ . والتقدير : لألزمَنَّ صِراطك المستقيم بقعودي عليه .

ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)

قوله تعالى : { ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ } : جملةٌ معطوفة على جواب القسم أيضاً ، وأخبر أنه بعد أن يقعد على الصراط يأتي من هذه الجهات الأربع ، ونوَّع حرف الجر فجرَّ الأَوَّلَيْن ب « مِنْ » والثانَيْين ب « عن » لنكتة ذكرها الزمخشري . قال رحمه الله : « فإن قلت كيف قيل : مِنْ بين أيديهم ومِنْ خلفهم بحرف الابتداء ، وعن أيمانهم وعن شمائلهم بحرف المجاوزة؟ قلت : المفعول فيه عُدِّي إليه الفعلُ نحو تعديتهِ إلى المفعول به ، فكما اختلفَتْ حروفُ التعدية في ذلك اختلفت في هذا وكانت لغةً تُؤْخَذُ ولا تُقاسُ ، وإنما يُفَتَّشُ عن صحة موقعها فقط ، فلمَّا سمعناهم يقولون : جلس عن يمينه وعلى يمينه ، وعن شماله وعلى شماله قلنا : معنى » على يمينه « أنه تَمَكَّن من جهة اليمين تمكُّنَ المستعلي من المستعلَى عليه . ومعنى » عن يمينه « أنه جلس متجافياً عن صاحب اليمين غيرَ ملاصقٍ له منحرفاً عنه ، ثم كَثُر حتى استعمل في المتجافي وغيرِه كما ذكرنا في تعالَ . ونحوُه من المفعول به قولهم : » رميت على القوس وعن القوس ومن القوس « ، لأنَّ السهم يُبْعِدُ عنها ويَسْتعليها إذا وُضع على كَبِدِها للرمي ، ويبتدئ الرميُ منها فلذلك قالوا : جلس بين يديه وخلفه بمعنى في لأنهما ظرفان للفعل ، ومِنْ بين يديه ، ومن خلفه ، لأنَّ الفعل يقع في بعض الجهتين كما تقول : جئت من الليل تريد بعض الليل » . قلت : وهذا كلامُ مَنْ رسخت قدمُه في فهم كلام العرب . وقال الشيخ : « وهو كلامٌ لا بأسَ به » فلم يوفِّه حقَّه .
ثم قال : « وأقول : وإنما خَصَّ بين الأيدي والخلف بحرف الابتداء الذي هو أمكن في الإِتيان لأنهما أغلبُ ما يجيء العدوُّ منهما فينال فرصته ، وقدَّم بين الأيدي على الخلف لأنها الجهة التي تدلُّ على إقدام العدو وبسالته في مواجهة قِرْنِه غيرَ خائفٍ منه ، والخلف جهةُ غَدْرٍ ومخاتلة وجهالة القِرْن بمَنْ يغتاله ويتطلب غِرَّته وغَفْلَتَه ، وخَصَّ الأيمان والشمائل بالحرف الذي يدلُّ على المجاوزة لأنهما ليستا بأغلب ما يأتي منهما العدو ، وإنما يجاوز إتيانَه إلى الجهة التي هي أغلب في ذلك ، وقُدِّمت الأيمان على الشمائل لأنها هي الجهةُ القويةُ في ملاقاة العدو ، وبالأَيْمان البطشُ والدفعُ ، فالقِرْنُ الذي يأتي مِنْ جهتها أبسلُ وأشجع إذ جاء من الجهة التي هي أقوى في الدفع ، والشمائل ليست في القوة والدفع كالأَيْمان .
والأَيْمان والشمائل جَمْعا يمين وشمال ، وهما الجارحتان وتُجْمَعان في القلة على أَفْعُل ، قال :
2154 يأتي لها من أَيْمُنٍ وأَشْمُلِ ... والشمائل يُعَبَّر بها عن الأخلاق والشيم تقول : له شمائلُ حسنة ويُعَبَّر عن الحسنات باليمين ، وعن السيئات بالشمال ، لأنهما منشأ الفعلين : الحسن والسيِّئ .

ويقولون : اجعلني في يمينك لا في شِمالك قال :
2155 أبُثْنى أفي يُمْنَى يديكِ جَعَلْتِني ... فَأَفْرحَ أم صَيَّرْتني في شِمالكِ
يَكْنون بذلك عن عِظَم المنزلة عند الشخص وخِسَّتها وقال :
2156 رأيت بني العَلاَّتِ لمَّا تضافروا ... يَحُوزون سَهْمي بينهمْ في الشَّمائل
والشمائل : جمع شَمَال بفتح الشين وهي الريح . قال امرؤ القيس :
2157 وهَبَّتْ له ريحٌ بمختلف الصُّوى ... صَباً وشَمالٌ في منازِلِ قُفَّالِ
والألف في الشمال زائدةٌ ، لذا يُزاد فيها الهمزةُ أيضاً بعد الميم فيقولون شَمْأَل ، وقبلها فيقولون شَأْمَل ، يدلُّ على ذلك كلِّه سقوطُه في التصريف قالوا : « شَمَلَت الريح » إذا هبَّت شَمالاً .
قوله : { وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ } الوِجْدان هنا يحتمل أن يكون بمعنى اللقاء أو بمعنى العلم أي : لا تُلْفِي أكثرَهم شاكرين ، أو لا تعلم أكثرهم شاكرين ، فشاكرين حالٌ على الأول ، مفعول ثان على الثاني . وهذه الجملة تحتمل وجهين أحدهما : أن تكون استئنافية أخبر اللعين بذلك لتظنِّيه أو لأنه علمه بطريق . ويحتمل أن تكون داخلةً في حَيِّز ما قبلها في جواب القسم ، فتكونَ معطوفةً على قوله « لأقعدَنَّ » ، أَقْسَمَ على جملتين مُثْبَتَتَيْن وأخرى منفية .

قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)

قوله تعالى : { مَذْءُوماً مَّدْحُوراً } : حالان من فاعل « اخرج » عند مَنْ يجيز تَعدُّدَ الحال لذي حال واحدة . ومَنْ لا يُجِزْ ذلك فَمَدْحُوراً صفةٌ لمذؤوماً أو هي حالٌ من الضمير في الحال قبلها فيكون الحالان متداخلين . ومَذْؤوماً مدحوراً اسما مفعول مِنْ ذَأَمه ودَحَره . فأمَّا ذَأَمَه فيقال بالهمز : ذَأَمه يَذْأَمه كَرأَمه يَرْأَمُهُ ، وذامه يَذيمه كباعه يبيعه من غير همز ، وعليه قولهم : « لن يَعْدَمَ الحسناء ذاماً » يُروى بهمزةٍ ساكنة أو ألف ، وعلى اللغة الثانية قول الشاعر :
2158 تَبِعْتُك إذْ عَيْني عليها غِشاوةٌ ... فلما انجلَتْ قَطَّعْتُ نفسي أَذِيْمُها
فمصدرُ المهموز ذَأْم كرَأْس ، وأما مصدر غير المهموز فَسُمِعَ فيه ذامٌ بألف ، وحكى ابن الأنباري فيه ذَيْماً كيَنْعٍ قال : « يقال ذَأَمْتُ الرجل أَذْأَمُه وذِمْتُه أَذِيْمُه ذَيْماً وذَمَمْتُه أَذُمُّه ذَمَّاً بمعنىً . وأنشد :
2159 وأقاموا حتى انبرَوا جميعاً ... في مَقامٍ وكلُّهم مَذْؤُوْمُ
والذَّامُ : العَيْبُ ومنه المثل المتقدم : » لن يَعْدَمِ الحسناءُ ذاما « أي كلُّ امرأة حسنة لا بد أن يكون فيها عيبٌ ما . وقالوا : أردتَ أن تَذيمه فمدحتَه أي : تَعيبه فمدحته ، فأبدل الحاء هاءً . وقيل : الذام الاحتقارُ ، ذَأَمْتُ الرجل : أي احتقرته قاله الليث . وقيل : الذام الذَّمُّ ، قاله ابن قتيبة وابن الأنباري .
والجمهور على » مَذْؤوماً « بالهمز . وقرأ أبو جعفر والأعمش والزهري » مَذُوْمَاً « بواو واحدة من دون همز . وهي تحتمل وجهين أحدهما : ولا ينبغي أن يُعْدَلَ عنه أنه تخفيف » مذؤوماً « في القراءة الشهيرة بأَنْ أُلْقِيَتْ حركةُ الهمزة على الذال الساكنة ، وحُذِفَت الهمزةُ على القاعدة المستقرة في تخفيف مثله ، فوزن الكلمة آل إلى مَفُول لحذف العين . والثاني : أن هذه القراءةَ مأخوذةٌ مِنْ لغة مَنْ يقول : ذِمْتُه أَذيمه كبِعْتُه أَبيعه ، وكان مِنْ حق اسم المفعول على هذه اللغةِ مَذيم كمبيع قالوا : إلا أنه أُبْدلت/ الواو من الياء على حَدِّ قولهم » مكول « في » مكيل « مع أنه من الكيل . ومثل هذه القراءة في احتمال الوجهين قولُ أمية بن أبي الصلت :
2160 وقالَ لإِبليسَ ربُّ العبادِ ... [ أن ] اخرُجْ لعيناً دحيراً مَذُوْمَا
أنشد على ذلك الواحدي على لغة ذامه بالألف يَذيمه بالياء ، وليته جعله محتملاً للتخفيف مِنْ لغة الهمز .
والدَّحْر : الطَّرْدُ والإِبعاد يقال : دَحَره يَدْحَرُه دَحْراً ودُحوراً ، ومنه : { وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ دُحُوراً } [ الصافات : 9 ] وقول أمية في البيت المتقدم » لَعيناً دحيراً « وقوله أيضاً :
2161 وبإذنه سجدوا لآدمَ كلهمْ ... إلا لعيناً خاطِئاً مَدْحورا
وقال الآخر :
2162 دَحَرْتُ بني الحصيب إلى قَدِيدٍ ... وقد كانوا ذوي أَشَرٍ وفَخْرِ
قوله : { لَّمَن تَبِعَكَ } في هذه اللامِ وفي » مَنْ « وجهان أظهرهما : أن اللام لامُ التوطئة لقسم محذوف و » مَنْ « شرطية في محل رفع بالابتداء و » لأملأنَّ « جواب القسم المدلول عليه بلام التوطئة ، وجواب الشرط محذوف لسدِّ جوابِ القسم مسدَّه .

وقد تقدم إيضاح ذلك غير مرة . والثاني : أن اللامَ لامُ ابتداء ، « مَنْ » موصولة و « تبعك » صلتها ، وهي في محل رفع بالابتداء أيضاً ، و « لأملأنَّ » جواب قسم محذوف ، وذلك القسمُ المحذوفُ وجوابُه في محلِّ رفع خبراً لهذا المبتدأ ، والتقدير : للذي تبعك منهم والله لأملأنَّ جهنم منكم . فإن قلت : أين العائد من الجملة القسمية الواقعة خبراً عن المبتدأ؟ قلت : هو متضمِّنٌ في قوله « منكم » لأنه لمَّا اجتمع ضميرا غيبة وخطاب غَلَّب الخطاب على ما عُرِف غير مرة .
وفَتْحُ اللام هو قراءةُ العامَّة . وقرأ عاصم في رواية أبي بكر من بعض طرقهِ والجحدري : « لِمَنْ » بكسرها ، وخُرِّجتْ على ثلاثة أوجه أحدها : - وبه قال ابن عطية - أنها تتعلق بقوله « لأَملأنَّ » فإنه قال : « لأجل مَنْ تبعك منهم لأملأنَّ » ، وظاهر هذا أنها متعلقةٌ بالفعل بعد لام القسم . قال الشيخ : « ويمتنع ذلك على قول الجمهور أن ما بعد لام القسم لا يعمل فيما قبلها » . والثاني : أن اللام متعلقةٌ بالذَّأْمِ والدَّحْر ، والمعنى : اخرج بهاتين الصفتين لأجل تُباعك . ذكره أبو الفضل الرازي في كتاب « اللوائح على شاذ القراءة » . قلت : ويمكن أن تجيء المسألةُ من باب الإِعمال لأن كلاً من مذؤوماً ومدحوراً يطلب هذا الجارَّ عند هذا القائل من حيث المعنى ويكون الإِعمال للثاني كما هو مختار البصريين للحذف من الأول .
والثالث : أن يكون هذا الجارُّ خبراً مقدماً والمبتدأ محذوف تقديره : لمن تبعك منهم هذا الوعيدُ ، ودلَّ على قوله « هذا الوعيد » قولُه « لأملأن جهنم » ، لأن هذا القسمَ وجوابَه وعيدٌ ، وهذا أراده الزمخشري بقوله : « بمعنى لمن تبعك منهم الوعيد وهو قوله » لأملأن جهنم « على أنَّ » لأملأنَّ « في محل الابتداء و » لمن تبعك « خبره . قال الشيخ : » فإن أراد ظاهر كلامه فهو خطأ على مذهب البصريين لأنَّ قولَه « لأملأنَّ » جملةٌ هي جوابُ قسم محذوف ، من حيث كونُها جملةً فقط لا يجوز أن تكون مبتدأة ، ومن حيث كونها جواباً للقسم المحذوف يمتنع أيضاً؛ لأنها إذ ذاك من هذه الحيثيَّة لا موضع لها من الإِعراب ، ومن حيث كونُها مبتدأ لها موضع من الإِعراب ، ولا يجوز أن تكون الجملة لها موضع من الإِعراب لا موضع لها من الإِعراب ، وهو محال لأنه يلزم أن تكون في موضع رفع لا في موضع رفع ، داخلٌ عليها عاملٌ غيرُ داخل عليها عاملٌ ، وذلك لا يُتَصَوَّر « .
قلت : بعد أن قال الزمخشري : » بمعنى لِمَنْ تبعك الوعيد وهو لأملأنَّ « كيف يحسن أن يُتردد بعد ذلك فيُقال : إن أراد ظاهر كلامه ، كيف يريده مع التصريح بتأويله هو بنفسه؟ وأمَّا قوله » على أن لأملأنَّ في محل الابتداء « فإنما قاله لأنه دالٌ على الوعيد الذي هو في محل الابتداء ، فنسب إلى الدالِّ ما يُنْسب إلى المدلول من جهة المعنى .

وقول الشيخ أيضاً « ومن حيث كونُها جواباً/ للقسم المحذوف أيضاً إلى آخره كلامُ متحمِّلٍ عليه ، لأنه يريد جملة الجواب فقط البتة ، إنما يريد الجملة القسمية برُمَّتها ، وإنما استغنى بذكرها عن ذكر قسيمها لأنها ملفوظ بها ، وقد تقدَّم لك ما يشبه هذا الاعتراضَ الأخير عليه وجوابه . وأمَّا قولُ الشيخ : » ولا يجوز أن تكون الجملةُ لها موضعٌ من الإِعراب لا موضعَ لها من الإِعراب « إلى آخر كلامه كله شيءٌ واحدٌ ليس فيه معنى زائد .
وقوله تعالى : { أَجْمَعِينَ } تأكيد . واعلم أن الأكثر في أجمع وأخواته المستعملة في التأكيد إنما يؤتى بها بعد » كل « نحو : { فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } [ الحجر : 30 ] وفي غير الأكثر قد تجيء بدون » كل « كهذه الآية الكريمة ، فإنَّ » أجمعين « تأكيد ل » منكم « ، ونظيرها فيما ذكرتُ لك أيضاً قوله تعالى : { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الحجر : 43 ] .

وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19)

وفي البقرة : { رَغَداً } : وهو محذوفٌ لدلالة الكلام عليه .

فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20)

قوله تعالى : { فَوَسْوَسَ لَهُمَا } ، أي : فَعَلَ الوسوسة لأجلهما . والفرق بين وسوس له ووسوس إليه أنَّ وسوس له بمعنى لأجله كما تقدم ، ووسوس إليه ألقى إليه الوسوسة .
والوَسْوَسَةُ : الكلام الخفيُّ المكرر ، ومثله الوَسْواس وهو صوت الحَلْيِ ، والوَسْوَسة أيضاً الخَطْرة الرديئة ، ووسوس لا يتعدى إلى مفعول بل هو لازم ويقال : رجل مُوَسْوِس بكسر الواو ولا يقال بفتحها ، قاله ابن الأعرابيّ . وقال غيره : يقال : مُوَسْوَس له ومُوَسْوَس إليه . وقال الليث : « الوسوسة حديثُ النفس والصوت الخفي من ريحٍ تهزُّ قصباً ونحوه كالهمس » . قال تعالى : { وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ } [ ق : 16 ] وقال رؤبة بن العجاج يصف صياداً :
2163- وَسْوَسَ يدعو مُخلِصاً ربِّ الفَلَق ... لمَّا دَنا الصيد دنا مِنَ الوَهَقْ
أي : لَمَّا اراد الصيدَ وَسْوس في نفسه : أيخطئ أم يصيب؟ وقال الأزهري : « وسوس ووَزْوَزَ بمعنى واحد » .
قوله : { لِيُبْدِيَ } في هذه اللام قولان أظهرهما : أنها لامُ العلة على أصلها ، لأنَّ قَصْدَ الشيطان ذلك . وقال بعضهم : اللام للصيرورة والعاقبة ، وذلك أن الشيطان لم يكن يعلم أنهما يعاقبان بهذه العقوبة الخاصة ، فالمعنى : أن أمرهما آيل إلى ذلك . والجواب : أنه يجوزُ أن يُعْلم ذلك بطريق من الطرق المتقدمة في قوله { وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } [ الاعراف : 17 ] .
قوله : { مَا وُورِيَ } « ما » موصولة بمعنى الذي وهي مفعولٌ ل « يُبدي » أي ليُظْهِر الذي سُتِر . وقرأ الجمهور « وُوْري » بواوين صريحتين وهو ماضٍ مبني للمفعول ، أصله وارَى كضارب فلمَّا بُني للمفعول أُبدلت الألفُ واواً كضُوْرِبَ ، فالواو الأولى فاء والثانية زائدة . وقرأ عبد الله : أُوْرِيَ بإبدال الأولى همزةً وهو بدلٌ جائزٌ لا واجب . وهذه قاعدة كلية وهي : أنه إذا اجتمع في أول الكلمة واوان ، وتحركت الثانية أو كان لها نظيرٌ متحرك وجب إبدال الأولى همزة تخفيفاً ، فمثال النوع الأول « أُوَيصل » و « أواصل » تصغير واصل وتكسيره ، فإن الأصل : وُوَيْصِل ، وواصل فاجتمع واوان في المثالين ثانيتهما متحركة فوجب إبدال الأولى همزة . ومثال النوع الثاني أُوْلى فإن أصلها وُوْلَى ، فالثانية ساكنة لكنها قد تتحرك في الجمع في قولك أُوَل كفُضْلى وفُضَل . فإن لم تتحرك ولم تُحْمَلْ على متحرك جاز الإِبدال كهذه الآية الكريمة . ومثله وُوْطِئ وأُوْطِئ .
وقرأ يحيى بن وثاب « وُرِيَ » بواو واحدة مضمومة وراء مكسورة ، وكأنه من الثلاثي المتعدي ، وتحتاج إلى نَقْلِ أنَّ وَرَيْتُ كذا بمعنى وارَيْتُه .
والمُواراة : السَّتْرُ ، ومنه قوله عليه السلام لمَّا بلغه موت أبي طالب : « لعلِّي أذهب مُوارٍ » ومنه قول الآخر :
2164 على صَدىً أسودَ المُواري ... في التُّرْب أمسى وفي الصفيح
وقد تقدم تحقيق هذه المادة .
والجمهور على قراءة « سَوْءاتهما » بالجمع من غير نقلٍ ولا إدغام .

وقرأ مجاهد والحسن « سَوَّتِهما » بالإِفراد وإبدال الهمزة واواً وإدغام الواو فيها . وقرأ الحسن أيضاً وأبو جعفر وشَيْبَة بن نصاح « سَوَّاتِهما » بالجمع وتشديد الواو بالعمل المتقدم . وقرأ أيضاً سَواتِهما/ بالجمع أيضاً إلا أنه نَقَل حركةَ الهمزة إلى الواو من غير عملٍ آخر ، وكلُّ ذلك ظاهر : فَمََنْ قرأ بالجمع فيحتمل وجهين ، أظهرهما : أنه من باب وَضْعِ الجمع مَوْضعَ التثنية كراهيةَ اجتماع تثنيتَيْن والجمع أخو التثنية فلذلك ناب منابها كقوله { صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [ التحريم : 4 ] وقد تقدَّم تحقيق هذه القاعدة . ويحتمل أن يكون الجمعُ هنا على حقيقته؛ لأنَّ لكل واحد منهما قُبُلاً ودبراً ، والسَّوْءات كناية عن ذلك فهي أربعٌ؛ فلذلك جيء بالجمع ، ويؤيد الأولَ قراءةُ الإِفراد فإنه لا تكون كذلك إلا والموضع موضع تثنية نحو : « مَسَح أذنيه ظاهرَهما وباطنهما » .
قوله : { إِلاَّ أَنْ تَكُونَا } استثناءٌ مفرغ وهو مفعول من أجله ، فيقدّره البصريون إلا كراهةَ أن تكونا ، وقدَّره الكوفيون إلا أن لا تكونا ، وقد تقدَّم غيرَ مرة أن قول البصريين أَوْلى لأن إضمارَ الاسم أحسنُ من إضمار الحرف .
والجمهور على « مَلَكَيْن » بفتح اللام . وقرأ ابن عباس والحسن والضحاك ويحيى بن أبي كثير والزهري وابن حكيم عن ابن كثير « مَلِكين » بكسرها . قالوا : ويؤيِّد هذه القراءة قولُه في موضع آخر : { هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد وَمُلْكٍ لاَّ يبلى } [ طه : 120 ] والمُلك يناسِبُ المَلِك بالكسر . وأتى بقوله « من الخالدين » ولم يقل « أو تكونا خالدَيْن » مبالغةً في ذلك؛ لأن الوصف بالخلود أهم من المِلْكية أو المُلْك ، فإن قولك : « فلان من الصالحين » أبلغُ من قولك صالح ، وعليه { وَكَانَتْ مِنَ القانتين } [ التحريم : 12 ] .

وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)

قوله تعالى : { وقَاسَمَهُمَا } : المفاعلةُ هنا تحتمل أن تكون على بابها ، فقال الزمخشري : « كأنه قال لهما : أُقسم لكما إني لمن الناصحين ، وقالا له : أتقسم بالله أنت إنك لمن الناصحين لنا ، فَجعَل ذلك مقاسمةً بينهم ، أو أقسم لهما بالنصيحة وأقسما له بقبولها ، أو أَخْرج قسمَ إبليس على وزن المفاعلة؛ لأنه اجتهد فيها اجتهادَ المُقاسِم » . وقال ابن عطية : « وقاسمهما : أي حلف لهما ، وهي مفاعلة إذ قبول المحلوف له وإقباله على معنى اليمين كالقسم وتقريره ، وإن كان بادئَ الرأي يعطي أنها من واحد » ، ويحتمل أن يكون فاعَل بمعنى أفعل كباعَدْته وأبعدته ، وذلك أن الحَلْفَ إنما كان من إبليس دونهما وعليه قول خالد بن زهير :
2165 وقاسَمَها بالله جَهْداً لأنتمُ ... ألذَّ مِنَ السَّلوى إذا ما نشورها
قوله : { لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِين } يجوز في « لكما » أن يتعلق بما بعده على أن أل معرفةٌ لا موصولة ، وهذا مذهبُ أبي عثمان ، أو على أنها الموصولة ولكن تُسُومح في الظرف وعديله ما لا يتسامح في غيرهما اتساعاً فيهما لدوَرانهما في الكلام ، وهو رأي بعض البصريين وأنشد :
2166 رَبَّيْتُهُ حتى إذا تَمَعْدَدا ... كان جزائي بالعصا أن أُجْلدا
ف « بالعصا » متعلق بأُجْلَد وهو صلة أَنْ ، أو أن ذلك جائز مطلقاً ولو في المفعول به الصريح ، وهو رأي الكوفيين وأنشدوا :
2167 . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وشفاءُ غَيِّك خابِراً أن تسألي
أي : أن تسألي خابراً ، أو أنه متعلقٌ بمحذوف على البيان أي : أعني لكما كقولهم : سقياً لك ورَعياً ، أو تعلَّق بمحذوف مدلول عليه بصلة أل أي : إني ناصحٌ لكما . ومثلُ هذه الآية الكريمة : { إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِّنَ القالين } [ الشعراء : 168 ] { وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين } [ يوسف : 20 ] : وجعل ابن مالك ذلك مطَّرداً في مسألة أل الموصولة إذا كانت مجرورة ب مِنْ .
ونَصَح يتعدى لواحد تارةً بنفسه وتارة بحرف الجر ، ومثله شكر ، وقد تقدم ، وكال ووزن . وهل الأصلُ التعدِّي بحرف الجر أو التعدي بنفسه أو كلٌّ منهما أصل؟ الراجح الثالث . وزعم بعضُهم أن المفعول في هذه الأفعال محذوفٌ وأن المجرور باللام هو الثاني ، فإذا قلت : نصحتُ لزيدٍ فالتقدير : نصحت لزيد الرأيَ . وكذلك شَكَر له صنيعه وكِلْتُ له طعامه ووَزَنْتُ له متاعه فهذا مذهب رابع . وقال الفراء : « العربُ لا تكاد تقول : نصحتك ، إنما يقولون نصحتُ لك وأنصح لك » ، وقد يجوز نصحتك . قال النابغة :
2168 نصحتُ بني عوفٍ فلم يتقبَّلوا ... رسولي ولم تنجحْ لديهم وسائلي
وهذا يقوِّي أن اللام أصل .
والنُّصْحُ : بَذْلُ الجهد في طلب الخير خاصة ، وضده الغش . وأمَّا « نصحت لزيد ثوبه » فمتعدٍ لاثنين لأحدهما بنفسه ، وللثاني بحرف الجر باتفاق ، وكأن النصح الذي هو بذل الجهد في الخير مأخوذ مِنْ أحد معنيين : إمَّا مِنْ نَصَح أي أخلص ، ومنه : ناصح العسل أي خالصه ، فمعنى نصحه أخلصَ له الوُدَّ ، وإمَّا من نَصَحْتُ الجِلْد والثوب إذا أحكمتَ خياطتهما ، ومنه الناصح للخيَّاط والنِّصاح للخيط ، فمعنى نَصَحه أي : أحكم رأيه منه . ويقال : نَصَحه نُصوحاً ونَصاحة قال تعالى : { توبوا إِلَى الله تَوْبَةً نَّصُوحاً } [ التحريم : 8 ] بضم النون في قراءة أبي بكر ، وقال الشاعر في « نَصاحة » :
2169 أَحْبَبْتُ حُبَّاً خالَطَتْه نَصاحةٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وذلك كذُهوب وذَهاب .

فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)

قوله تعالى : { فدلاهما بغرور } : الباء للحال أي : مصاحبين للغرور أو مصاحباً للغرور فهي حال : إمَّا من الفاعلِ أو من المفعول . ويجوز أن تكون الباءُ سببيةً أي : دَلاَّهما بسبب أن غرَّهما . والغُرور مصدر حُذف فاعله ومفعوله ، والتقدير : بغُروره إياهما . وقوله : « فدلاَّهما » يحتمل أن يكون من التَدْلية من معنى دلا دَلْوَه في البئر والمعنى أطمعهما . قال أبو جندب الهذلي :
2170 أَحُصُّ فلا أُجير ومَنْ أُجِرْه ... فليس كمَنْ تَدَلَّى بالغرورِ
وأن تكون من الدالِّ والدالَّة وهي الجُرْأة أي : فجرَّأهما قال :
2171 أظن الحِلْمَ دَلَّ عليَّ قومي ... وقد يُسْتَجْهَلُ الرجلُ الحليم
وعلى الثاني يكون الأصل دَلَّلهما ، فاستثقل توالي ثلاثة أمثال فأبدل الثالثَ حرفَ لين ، كقولهم : تظنَّيْتُ في تظنَّنْت وقَصَّيْت أظفاري في قَصَصْت وقال :
2172 تَقَضِّيَ البازيْ إذا البازي كسرْ ... والذَّوْق : وجود الطعم بالفم ويعبر به عن الأكل . وقيل : الذوق مَسُّ الشيء باللسان أو بالفم يقال فيه : ذاق يذوق ذَوْقاً مثل : صام يصوم صوماً ، ونام ينام نوماً .
قوله : { وَطَفِقَا } طَفِقَ من أفعالِ الشُّروع كأخذ وجعل وأنشأ وعَلِق وهَبَّ وانبرى ، فهذه تدلُّ على التلبُّس بأول الفعل ، وحكمُها حكمُ أفعالِ المقاربة من كونِ خبرها لا يكون إلا مضارعاً ، ولا يجوزُ أن يقترنَ بأَنْ البتة لمنافاتها لها لأنها للشروع وهو حالٌ و « أَنْ » للاستقبال ، وقد يقع الخبر جملةً اسمية كقوله :
3173 وقد جَعَلَتْ قَلوصُ بني سهيلٍ ... من الأَكْوارِ مَرْتَعُها قريبُ
وشرطية كإذا كقول عمر : « فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يَخْرج أَرْسَلَ رسولاً » ويقال : طَفِقَ بفتح الفاء وكسرها ، وطَبِق بالباء الموحدة أيضاً . والألف اسمها و « يخصفان » خبرها .
والخَصْف الخَرْز في النِّعال ، وهو وَضْعُ طريقة على أخرى وخَرْزُهما ، والمِخْصَف : ما يُخْصَفُ به وهو الإِشْفى قال :
2174 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . أَنْفِها كالمِخْصَف
والخَصَفَةُ أيضاً الجُلَّة للتمر ، والخَصَفُ : الثياب الغليظة ، وخَصَفْتُ الخَصْفة نَسَجْتُها ، والأَخْصَف والخصيف طعام يبرق ، وأصله أن يُوضع لبنٌ ونحوه في الخَصْفة فيتلوَّن بلونها ، وقال العباس يمدح النبي صلى الله عليه وسلم :
2175 . . . . . . طِبْتَ في الظلال وفي ... مستودَعٍ حيث يُخْصَفُ الورقُ
يشير إلى الجنة أي حيث يخرز ويطابق بعضها فوق بعض .
قوله : { أَلَمْ أَنْهَكُمَا } يجوز أن تكون هذه الجملةُ التقريرية مفسرةً للنداء ولا محلَّ لها ، ويُحتمل أن يكون ثَمَّ قولٌ محذوف وهي معمولةٌ له أي : فقال : ألم أنْهَكما ، وذلك القولُ مفسِّر للنداء أيضاً . وقال الشيخ : « الأَوْلى أن يعود الضمير في » عليهما « على عورتيهما كأنه قيل : يَخْصِفان على سَوْءاتيهما ، وعاد بضمير الاثنين لأن الجمعَ يُراد به اثنان ، ولا يجوز أن يعود الضمير على آدم وحواء لأنه تقرَّر في علم العربية أنه لا يتعدَّى فعل الظاهر والمضمر المتصل إلى الضميرِ المتصلِ المنصوب لفظاً أو محلاً في غير باب ظن وفقد وعدم ووجد ، لا يجوز : زيد ضربه ولا ضربه زيد ، ولا زيد مرَّ به ولا مرَّ به زيد ، فلو جَعَلْنا الضميرَ في » عليهما « عائداً على آدم وحواء لَلَزِمَ من ذلك تعدِّي » يَخْصِفُ « إلى الضمير المنصوب محلاً وقد رفع الضمير المتصل وهو الألف في » يَخْصِفان « ، فإنْ أُخِذَ ذلك على حَذْف مضاف مرادٍ جاز ذلك وتقديره : » يَخْصِفان على بَدَنَيْهما « ، قلت : ومثلُ ذلك فيما ذكر

{ وهزى إِلَيْكِ } [ مريم : 25 ] { واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ } [ القصص : 32 ] وقول الشاعر :
2176 هَوِّنْ عليك فإن الأمور ... بِكَفِّ الإِله مقاديرُها
وقوله أيضاً :
2177 دَعْ عنك نَهْباً صِيْح في حَجَراته ... ولكنْ حديثاً ما حديثُ الرواحلِ
و { مِن وَرَقِ } يحتمل أن تكون « مِنْ » لابتداء الغاية وأن تكون للتبعيض . وقرأ أبو السَّمَّال « وطَفِقا » بفتح الفاء وهي لغة كما تقدم .
وقرأ الزهري « يُخْصِفان » مِنْ أخصف وهي تحتمل وجهين أحدهما : أن يكون أَفْعَلَ بمعنى فَعَل . والثاني : أن تكون الهمزةُ للتعدية ، والمفعولُ على هذا محذوفٌ أي : يَخْصِفان أنفسهما أي : يجعلان أنفسَهما خاصِفين . وقرأ الحسن والأعرج ومجاهد وابن وثاب/ « يَخِصِّفان » بفتح الياء وكسر الخاء والصادُ مشددةٌ ، والأصل : يختصفان ، فأُدْغمت التاء في الصاد ثم أُتْبعت الخاءُ للصاد في حركتها ، وسيأتي لهذه القراءة نظيرٌ في يونس ويس نحو { يهدي } [ يونس : 6 ] و { يَخِصِّمُون } [ يس : 49 ] إن شاء الله تعالى . وروى محبوب عن الحسن كذلك إلا أنه فتح الخاء فلم يُتْبِعْها للصاد ، وهي قراءة يعقوب أيضاً وابن بريدة . وقرأ عبد الله « يُخُصِّفان » بضم الياء والخاء وكسر الصاد مشددة وهي مِنْ خصَّف بالتشديد ، إلا أنه أتبع الخاء للياء قبلها في الحركة وهي قراءة عَسِرةُ النطق ، ويدل على أن أصلها مِنْ خَصَّف بالتشديد قراءةُ بعضهم « يُخَصِّفَان » كذلك إلا أنه بفتح الخاء على أصلها .
قوله : { أَلَمْ أَنْهَكُمَا } هذه الجملةُ في محل نصب بقول مقدر ذلك القولُ حالٌ تقديره : وناداهما قائلاً ذلك . ولم يُصَرِّحْ هنا باسم المنادي للعلم به . و « لكما » متعلق ب « عدو » لِما فيه من معنى الفعل . ويجوزُ أن تكونَ متعلقةً بمحذوف على أنها حال من « عدوّ » لأنها لو تأخّرت لجاز أن تكون وصفاً له .

قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)

قوله تعالى : { وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ } : هذا شرطٌ حُذِفَ جوابه لدلالة جواب القسم المقدر عليه ، فإنَّ قَبْلَ حرف الشرط لامَ التوطئة للقسم مقدرةً كقوله : { وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ } [ المائدة : 73 ] ويدلُّ على ذلك كثرةُ ورودِ لامِ التوطئة قبل أداة الشرط في كلامهم . وما بعد ذلك قد تقدَّم إعرابُه في البقرة .

قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)

قوله تعالى : { وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ } : قرأ الأَخَوان وابن ذكوان « تَخْرُجون » هنا ، وفي الجاثية : { فاليوم لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ } [ الجاثية : 35 ] وفي الزخرف : { كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ } [ الزخرف : 11 ] وفي أول الروم : { وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ } [ الروم : 19 ] قرؤوا الجميعَ مبنياً للفاعلَ ، والباقون قرؤوه مبنياً للمفعول ، وفي أول الروم خلافٌ عن ابن ذكوان . وتحرَّزْتُ بأول الروم من قوله : { إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ } [ الروم : 25 ] فإنه قُرئ مبنياً للفاعل من غير خلاف ، ولم يذكر بعضهم موافقةَ ابنِ ذكوان للأخَوَيْن في الجاثية . والقراءتان واضحتان .
و [ في ] قوله : { قَالاَ رَبَّنَا } [ الروم : 23 ] : فائدةُ حَذْفِ حرف النداء هنا تعظيم المنادى وتنزيهه . قال مكي : « ونداء الربِّ قد كَثُر حَذْفُ » يا « منه في القرآن ، وعلةُ ذلك أن في حذف » يا « من نداء الرب معنى التعظيم والتنزيه ، وذلك أنَّ النداءَ فيه طَرَفٌ من معنى الأمر؛ لأنك إذا قلت : يا زيد فمعناه : تعالَ يا زيد ، أدعوك يا زيد ، فحُذِفت » يا « من نداء الرب ليزولَ معنى الأمر وينقص لأنَّ » يا « تُؤَكِّده وتُظهر معناه فكان في حذف » يا « الإِجلالُ والتعظيم والتنزيه » .

يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)

قوله تعالى : { يُوَارِي } : في محلِّ نصبٍ صفةً للباساً . وقوله « وريشاً » يُحْتمل أن يكونَ من باب عطف الصفات ، والمعنى : أنه وصف اللباس بشيئين : مواراةِ السَّوْءة والزينة ، وعبَّر عنها بالريش ، لأنَّ الريش زينةٌ للطائر ، كما أن اللباس زينة للآدميين ولذلك قال الزمخشري : « والريش لباسُ الزينة » ، استعير مِنْ ريش الطير لأنه لباسُه وزينتُه « . ويُحْتَمل أن يكون من باب عطف الشيء على غيره أي : أَنْزَلْنا عليكم لباسَيْن لباساً موصوفاً بالمواراة ولباساً موصوفاً بالزينة ، وهذا اختيار الزمخشري فإنه قال بعدما حَكَيْتُه عنه آنفاً : » أي : أنزلنا عليكم لباسَيْن لباساً يواري سَوْءاتكم ولباساً يُزَيِّنُكم ، لأن الزينةَ غرضٌ صحيح كما قال تعالى : { لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } [ النحل : 8 ] { وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ } [ النحل : 6 ] وعلى هذا فالكلام في قوة حذف موصوف وإقامة صفته مُقامه والتقدير : ولباساً ريشاً أي : ذا ريش « .
والرِّيْشُ فيه قولان ، أحدهما : أنه اسم لهذا الشيءِ المعروف . والثاني : أنه مصدرٌ يُقال » راشَه يَريشه رِيْشاً إذا جعل فيه الرِّيش ، فينبغي أن يكون الريشُ مشتركاً بين المصدر والعين وهذا هو التحقيق . وقرأ عثمان وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والسُّلمي وعلي بن الحسين وابنه زيد وأبو رجاء وزر بن حبيش ، وعاصم وأبو عمرو في رواية عنهما : « ورِياشاً » ، وفيها تأويلان أحدهما وبه قال الزمخشري أنه جمع رِيْش فيكون كشِعْب وشِعاب . والثاني : أنه مصدرٌ أيضاً فيكون ريش ورياش مصدَريْن ل راشه الله رَيشاً ورياشاً أي : أنعم عليه . وقال الزجاج : « اللباس ، فعلى هذا هما اسمان للشيء الملبوس قالوا : لِبْس ولِباس » . قلت : وقد جَوَّز الفراء أن يكون مصدراً فأخذ الزمخشري بأحد القولين ، وغيرُه بالآخر ، وأنشدوا :
2178 ورِيْشي منكمُ وهَوايَ مَعْكمْ ... وإن كانت زيارتُكم لِماما
قوله : { وَلِبَاسُ التقوى } قرأ نافع وابن عامر والكسائي « لباسَ » بالنصب والباقون « لباسُ » بالرفع . فالنصب نسقاً على « لباساً » أي : أنزلنا لباساً موارياً وزينة ، وأنزلنا أيضاً لباس التقوى ، وهذا يُقَوِّي كون « ريشاً » صفةً ثانية للباساً الأول إذ لو أراد أنه صفة لباسٍ ثانٍ لأبرز موصوفه كما أبرز هذا اللباسَ المضاف للتقوى .
وأمَّا الرفعُ فمِنْ خمسة أوجه ، أحدها : أن يكون « لباس » مبتدأ ، و « ذلك » مبتدأ ثان و « خير » خبر الثاني ، والثاني وخبره خبر الأول ، والرابطُ هنا اسمُ الإِشارةِ وهو أحدُ الروابط الخمسة المتفق عليها ، ولنا سادسٌ فيه خلافٌ تقدَّم التنبيه عليه . وهذا الوجهُ هو أَوْجَهُ الأعاريب في هذه الآية الكريمة . الثاني : أن يكون « لباس » خبرَ مبتدأ محذوف أي : وهو لباس التقوى ، وهذا قول أبي إسحاق الزجاج ، وكأن المعنى/ بهذه الجملة التفسيرُ للّباس المتقدم ، وعلى هذا فيكون قوله « ذلك » جملةً أخرى من مبتدأ وخبر .

وقَدَّره مكي بأحسنَ مِنْ تقدير الزجاج فقال : « وسَتْر العورة لباس التقوى » . الثالث : أن يكون « ذلك » فَصْلاً بين المبتدأ وخبره ، وهذا قول الحوفي ولا أعلم أحداً من النحاة أجاز ذلك ، إلا أن الواحديَّ قال : « ومَنْ قال إن » ذلك « لغوٌ لم يَلْقَ على قوله دلالة؛ لأنه يجوز أن يكون على أحد ما ذكرنا » . قلت : فقوله « لغو » هو قريب من القول بالفصل؛ لأنَّ الفصلَ لا محلَّ له من الإِعراب على قول جمهور النحويين من البصريين والكوفيين . الرابع : أن يكون « لباس » مبتدأً و « ذلك » بدلٌ منه أو عطفُ بيان له أو نعت و « خير » خبره ، وهو معنى قول الزجاج وأبي علي وأبي بكر ابن الأنباري ، إلا أنَّ الحوفي قال : « وأنا أرى أن لا يكون » ذلك « نعتاً للباس التقوى؛ لأن الأسماءَ المبهمة أعرف ممَّا فيه الألفُ واللام وما أضيف إلى الألف واللام ، وسبيل النعت أن يكون مساوياً للمنعوت أو أقلَّ منه تعريفاً ، فإن كان قد تقدَّمَ قولُ أحدٍ به فهو سهوٌ » .
قلت : أمَّا القول به فقد قيل كما ذَكَرْتُه عن الزجاج والفارسي وابن الأنباري ، ونصَّ عليه أبو علي في « الحجة » أيضاً وذكره الواحدي . وقال ابن عطية : « هو أنبل الأقوال » ، وذكر مكي الاحتمالات الثلاثة : أعني كونه بدلاً أو بياناً أو نعتاً ، ولكن ما بحثه الحوفي صحيح من حيث الصناعةُ ، ومن حيث إن الصحيح في ترتيب المعارف ما ذَكَر من كونِ الإِشارات أعرفَ من ذي الأداة ، ولكن قد يقال : القائلُ بكونه نعتاً لا يجعله أعرفَ مِنْ ذي الألف واللام . الخامس : جوَّز أبو البقاء أن يكون « لباسُ » مبتدأً ، وخبره محذوف أي : ولباسُ التقوى ساتر عوراتكم « وهذا تقديرٌ لا حاجةَ إليه .
وإسنادُ الإِنزال إلى اللباس : إمَّا لأن أنزل بمعنى خلق كقوله : { وَأَنزْلْنَا الحديد } [ الحديد : 25 ] { وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } [ الزمر : 6 ] وإمَّا على ما يسمِّيه أهلُ العلم التدريجَ وذلك أنه ينزل أسبابه ، وهي الماء الذي هو سببٌ في نبات القطن والكتَّان والمرعى الذي تأكله البهائم ذواتُ الصوفِ والشعر والوبر التي يُتَّخَذُ منها الملابسُ ، ونحو قولِ الشاعر يصف مطراً :
2179 أقبل في المُسْتَنِّ من سَحابَهْ ... أسنِمة الآبال في ربابَهْ
فجعله جائياً لأسنمة . . . الإِبل مجازاً لمَّا كان سبباً في تربيتها ، وقريب منه قول الآخر :
2180 إذا نَزَلَ السَّماءُ بأرض قومٍ ... رَعَيْناه وإن كانوا غضابا
وقال الزمخشري : » جَعَلَ ما في الأرض منزَّلاً من السماء لأنه قضى ثَمَّ وكتب ، ومنه « وأنزل لكم من الأنعامِ ثمانيةَ » .

وقال ابن عطية : « وأيضاً فَخَلْقُ الله وأفعالُه إنما هي من علوٍّ في القَدْر والمنزلة » .
وفي قراءة عبد الله وأُبَيّ « ولباس التقوى خير » بإسقاط « ذلك » ، وهي مقوِّيةٌ للقول بالفصل والبدل وعطف البيان . وقرأ النحوي : « ولبُوسُ » بالواو ورفع السين . فأمَّا الرفعُ فعلى ما تقدَّم في « لباس » ، وأمَّا « لبوس » فلم يُبَيِّنوها : هل هي بفتح اللام فيكون مثلَ قوله تعالى : { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ } [ الأنبياء : 80 ] أو بضم اللام على أنه جمعٌ وهو مُشْكل ، وأكثر ما يُتَخَيَّل له أن يكون جمع لِبْس بكسر اللام بمعنى ملبوس .
وقوله : « ذلك مِنْ آيات الله » مبتدأٌ وخبر ، والإِشارة به إلى جميع ما تقدَّم من إنزال اللباسِ والريش ولباس التقوى . وقيل : بل هو إشارة لأقرب مذكور وهو لباسُ التقوى فقط .

يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)

قوله تعالى : { لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ } : هو نهيٌ للشيطان في الصورة ، والمراد نَهْيُ المخاطبين عن متابعته والإِصغاءِ إليه ، وقد تقدم معنى ذلك في قوله { فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ } [ الأعراف : 2 ] . وقرأ ابن وثاب وإبراهيم : « لا يُفْتِنَنَّكم » بضمِّ حرفِ المضارعة مِنْ أفتنه بمعنى حَمَلَه على الفتنة . وقرأ زيد بن علي « لا يَفْتِنْكم » بغير نون توكيد .
قوله : { كَمَآ أَخْرَجَ } نعتٌ لمصدرٍ محذوف أي : لا يَفْتنكم فتنةً مثلَ فتنة إخراج أبوَيْكم . ويجوز أن يكون التقدير : لا يُخْرِجَنَّكم بفتنته إخراجاً مثل إخراجه أبويكم . وقوله : « يَنْزِع » جملة في محل نصب على الحال . وفي صاحبها احتمالان ، أحدهما : أنه الضمير في « أخرج » العائدُ على الشيطان ، والثاني : أنه الأبوين ، وجاز الوجهان لأنَّ المعنى يَصِحُّ على كلٍ من التقديرين ، والصناعةُ مساعدةٌ لذلك؛ فإن الجملة مشتملة على ضمير الأبوين وعلى ضمير الشيطان . قال الشيخ : « فلو كان بدل » ينزع « نازعاً تعيَّن الأولُ ، لأنه إذ ذاك لو جُوِّز الثاني لكان وصفاً جرى على غير مَنْ هو له فكان يجب إبراز الضمير ، وذلك على مذهب البصريين » . قلت : يعني أنه يفرَّق/ بين الاسم والفعل إذا جريا على غير ما هما له في المعنى : فإن كان اسماً كان مذهبُ البصريين ما ذكر ، وإن كان فعلاً لم يَحْتَجْ إلى ذلك . وقد تقدَّم لك الكلامُ على هذه المسألة ، وأن الشيخ جمال الدين بن مالك سَوَّى بينهما ، وأن مكيَّاً له فيها كلام مُشْكل .
و { يَنْزِعُ } جيء بلفظ المضارع على أنه حكاية حال كأنها قد وقَعَتْ وانقضَتْ . والنَّزْعُ : الجَذْبُ بقوة للشيء عن مقرِّه ، ومنه { تَنزِعُ الناس كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } [ القمر : 20 ] ومنه نَزْع القوس ، وتستعمل في الأَعْراض ، ومنه نَزْعُ العداوة والمحبة من القلب ، ونُزِع فلانٌ كذا سُلِبَه ، ومنه { والنازعات غَرْقاً } [ النازعات : 1 ] لأنها تَقْلع أرواح الكفرة بشدة ، ومنه المنازعةُ وهي المخاصمة ، والنَّزْع عن الشيء كفٌّ عنه ، والنزوع : الاشتياق الشديد ، ومنه نَزَع إلى وطنه ونَزَع إلى مذهب كذا نَزْعَةً ، وأنزع القومُ : نَزَعَتْ إبلهم إلى مواطنها ، ورجل أَنْزَعُ أي زال شعرُه ، والنَّزْعتان بياض يكتنف الناصية ، والنَّزْعة أيضاً الموضع مِنْ رأس الأنزع ، ولا يقال امرأة نَزْعاء إذا كان بها ذلك ، بل يقال لها : زَعْراء ، وبئر نَزُوع أي قريبة القَعْر لأنها يُنزع منها باليد .
قوله : { إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ } : « هو » تأكيد للضمير المتصل ليسوغَ العطفُ عليه ، كذا عبارة بعضهم . قال الواحدي : « أعاد الكناية ليحسن العطف كقوله : { اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ } [ البقرة : 35 ] قلت : ولا حاجةَ إلى التأكيد في مثل هذه الصورةِ لصحة العطف ، إذ الفاصلُ هنا موجودٌ وهو كافٍ في صحة العطف ، فليس نظيرَ { اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ } .

وقد تقدَّم لك بحثٌ في { اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ } وهو أنه ليسَ من باب العطف على الضمير لمانعٍ ذُكر ثَمَّةَ .
و { وَقَبِيلُهُ } المشهورُ قراءته بالرفع نسقاً على الضمير المستتر ، ويجوز أن يكونَ نسقاً على اسم « إنَّ » على الموضع عند مَنْ يجيز ذلك ، ولا سيما عند مَنْ يقول : يجوز ذلك بعد الخبر بإجماع . ويجوز أن يكون مبتدأً محذوفَ الخبر فتحصَّل في رفعه ثلاثة أوجه . وقرأ اليزيدي « وقبيلَه » نصباً وفيها تخريجان ، أحدهما : أنه منصوب نسقاً على اسم إنَّ لفظاً إنْ قلنا إنَّ الضميرَ عائد على الشيطان ، وهو الظاهر . والثاني : أنه مفعولٌ معه أي : يراكم مصاحباً لقبيله . والضمير في « إنه » فيه وجهان الظاهرُ منهما كما تقدَّم أنه للشيطان . والثاني : أن يكون ضمير الشأن ، وبه قال الزمخشري ، ولا حاجةَ تدعو إلى ذلك .
والقبيل : الجماعة يكونون من ثلاثة فصاعداً من جماعة شتى ، هذا قول أبي عبيد . والقبيلةُ : الجماعةُ من أب واحد ، فليست القبيلةُ تأنيثَ القبيل لهذه المغايرة .
قوله : { مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ } « مِنْ » لابتداء غاية الرؤية ، و « حيث » ظرفُ لمكان انتفاء الرؤية ، و « لا تَرَوْنهم » في محل خفض بإضافة الظرف إليه ، هذا هو الظاهر في إعراب هذه الآية .
وثَمَّ كلامٌ مُشْكل منقول عن أبي إسحاق ، رأيت ذِكْرَه لئلا يَتَوَهَّم صحتَه مَنْ رآه . قال أبو إسحاق : « ما بعد » حيث « صلةٌ لها وليست بمضافةٍ إليه » . قال الفارسي : « هذا غيرُ مستقيم ، ولا يَصِحُّ أن يكون ما بعد » حيث « صلةً لها؛ لأنه إذا كان صلة لها وَجَبَ أن يكونَ للموصول فيه ذكرٌ ، كما أن في سائر صلات الموصول ذِكْراً للموصول ، فخلُّو الجملة التي بعد » حيث « من ضميرٍ يعود على » حيث « دليلٌ على أنها ليست صلة لحيث ، وإذا لم تكن صلةً كانت مضافة . فإن قيل : نقدِّر العائد في هذا كما نقدِّر العائدَ في الموصولات ، فإذا قلت : » رأيتك حيث زيد قائم « كان التقدير : حيث قائمه ، ولو قلت : رأيتك حيث قام زيد » كان التقدير : حيث قام زيد فيه ، ثم اتُّسِع في الحرف فَحُذِف فاتصل الضمير فحذف ، كما يُحْذف في قولك : « زيد الذي ضربت » أي : الذي ضربته . قيل : لو أريد ذلك لجاز استعمالُ هذا الأصل ، فَتَرْكُهم لهذا الاستعمالِ دليلٌ على أنه ليس أصلاً له « .
قلت : أبو إسحاق لم يَعْتقد كونَها موصولةً بمعنى الذي ، لا يقول بذلك أحد ، وإنما يزعم أنها ليست مضافةً للجملة بعدها فصارت كالصلة لها أي كالزيادة ، وهو كلامٌ متهافت ، فالردُّ عليه من هذه الحيثيَّةِ لا من حيثية اعتقادِه لكونها موصولةً . ويُحتمل أن يكون مرادُه أن الجملة لَمَّا كانت من تمام معناها بمعنى أنها مفتقرةٌ إليها كافتقار الموصول لصلته أُطْلق عليها هذه العبارة ، ويَدُلُّ على ما قلته أنَّ مكياً ذكر في علة بنائها فقال : » ولأنَّ ما بعدها مِنْ تمامها كالصلة والموصول « إلا أنه يَرضى أنها مضافةٌ لما بعدها .

وقرئ { مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُ } بالإِفراد ، وذلك يحتمل وجهين أحدهما : يكون الضميرُ عائداً على الشيطان وحده دون قبيله ، لأنه هو رأسُهم وهم تَبَعٌ له ولأنه المَنْهيُّ [ عنه ] أول الكلام ، وأن يكون عائداً عليه وعلى قبيله ، ووحَّد الضميرَ إجراءً له مُجرى اسم الإِشارة في قوله تعالى { عَوَانٌ بَيْنَ ذلك } [ البقرة : 68 ] . ونظير هذه القراءة/ قول رؤبة :
2181 فيها خطوطٌ من سَوادٍ وبَلَقْ ... كأنه في الجلد توليعُ البَهَقْ
وقد تقدم هذا البيتُ بحكايته معه في البقرة .
قوله : { إِنَّا جَعَلْنَا } يحتمل أن يكون بمعنى صَيَّر أي : صَيَّرْنا الشياطينَ أولياءَ . وقال الزهراوي : « جعل هنا بمعنى وصف » وهذا لا يُعْرَفُ في « جعل » ، وكأنه فرارٌ من إسناد جَعْل الشياطين أولياء لغير المؤمنين إلى الله تعالى وكأنها نزعةٌ اعتزالية . و « للذين » متعلق بأولياء لأنه في معنى الفعل ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف لأنه صفةٌ لأولياء .

وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28)

قوله تعالى : { وَإِذَا فَعَلُواْ } : هذه الجملةُ الشرطية لا محلَّ لها من الإِعراب لأنها استئنافية وهو الظاهر ، وجوَّز ابنُ عطية أن تكونَ داخلةً في حَيِّز الصلة لعطفها عليها . قال ابن عطية : « ليقع التوبيخُ بصفةِ قومٍ قد جعلوا أمثالاً للمؤمنين إذ أشبه فعلُهم فِعْلَ الممثَّل بهم » وقوله : « وَجَدْنا » يُحْتمل أن تكون العِلْمِيَّة أي : عَلِمْنا طريقتهم أنها هذه ، ويحتمل أن تكونَ بمعنى لَقِيْنا ، فيكون « عليها » مفعولاً ثانياً على الأول ، وحالاً على الثاني .
وقوله { لاَ يَأْمُرُ بالفحشآء } حُذِف المفعولُ الأول للعلم به أي : لا يأمر أحداً ، أو لا يأمركم بأمر . . . ذلك .
وقوله : { مَا لاَ تَعْلَمُونَ } مفعولٌ به ، وهذا مفرد في قوة الجملة ، لأنَّ ما لا يعلمون ممَّا يتقوَّلونه على الله تعالى كلامٌ كثير من قولهم { والله أَمَرَنَا بِهَا } كتبحير البحائر وتسييب السوائب وطوافهم بالبيتِ عُراةً إلى غير ذلك ، وكذلك أيضاً حُذِف المفعول من قوله { أَمَرَ رَبِّي بالقسط } .

قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29)

قوله تعالى : { وَأَقِيمُواْ } : فيه وجهان ، أظهرهما : أنه معطوفٌ على الأمر المقدر أي : الذي ينحلُّ إليه المصدر وهو « بالقسط » ، وذلك أن القِسْط مصدرٌ فهو ينحلُّ لحرفٍ مصدري وفعل ، فالتقدير : قل : أمر ربي بأن أقسِطوا وأقيموا ، وكما أن المصدر ينحلُّ ل « أَنْ » والفعل الماضي نحو : « عجبت من قيامِ زيد وخرج » أي : من أن قام وخرج ، ول « أَنْ » والفعل المضارع كقولها :
2182 لَلُبْس عباءة وتَقَرَّ عيني ... . . . . . . . . . . . .
أي : لأَنْ ألبس وتَقَرَّ ، كذلك ينحلُّ ل « أَنْ » وفعل أمر لأنها بالثلاث الصيغ : الماضي والمضارع والأمر بشرط التصرُّف . وقد تقدَّم لنا تحقيقُ هذه المسألةِ وإشكالِها وجوابِه ، وهذا بخلاف « ما » فإنها لا تُوصل بالأمر ، وبخلاف « كي » فإنها لا تُوْصَلُ إلا بالمضارع ، فلذلك لا ينحلُّ المصدر إلى « ما » وفعل أمر ، ولا إلى كي وفعلٍ ماضٍ أو مضارع . وقال الزمخشري : « وأقيموا وجوهكم : وقل أقيموا وجوهكم أي : اقصدوا عبادته » . وهذا من أبي القاسم يحتمل تأويلين ، أحدهما : أن يكونَ قولُه « قل » أراد به أنه مقدَّرٌ غيرُ هذا الملفوظ به ، فيكون « أقيموا » معمولاً لقولٍ أمرٍ مقدرٍ ، وأن يكون معطوفاً على قوله « أَمَر ربي » فإنه معمول ل « قل » . وإنما أظهر الزمخشري « قل » مع « أقيموا » لتحقيق عطفيَّته على « أَمَر ربي » . ويجوز أن يكونَ قولُه « وأقيموا » معطوفاً على أمرٍ محذوفٍ تقديرُه : قل أَقْبِلوا وأقيموا .
وقال الجرجاني صاحب « النظم » : « نَسَق الأمرَ على الجر ، وجاز ذلك لأنَّ قوله { قُلْ أَمَرَ رَبِّي } قول؛ لأنَّ الأمر لا يكون إلا كلاماً والكلام قول ، وكأنه قال : قل يقول ربي : » أقسطوا وأقيموا « يعني أنه عطف على المعنى .
و { مَسْجِدٍ } هنا يحتمل أن يكون مكاناً وزماناً . قال الزمخشري : » في وقت كل سجود وفي مكان كل سجود « وكان مِنْ حَقِّ مسجدِ مَسْجَد بفتح العين لضمها في المضارع ، وله في هذا الشذوذ أخواتٌ كثيرةٌ مذكورةٌ في التصريف .
وقوله : { مُخْلِصِينَ } حال من فاعل » ادعُوه « ، و » الدّين « مفعول به باسم الفاعل . و » له « متعلِّقٌ بمخلصين ، ويجوز أن يتعلَّق بمحذوف على أنه حال من » الدين « .
قوله : { كَمَا بَدَأَكُمْ } الكافُ في محلِّ نصبٍ نعتاً لمصدر محذوف تقديره : تَعُودون عَوْداً مثلَ ما بدأكم . وقيل : تقديره يَخْرجون خروجاً مثل ما بدأكم ذكرهما مكي ، والأول أليقُ بلفظِ الآيةِ الكريمة . وقال ابن الأنباري : » موضعُ الكاف في « كما » نصبٌ بتعودون؛ وهو على مذهبِ العرب في تقديم مفعول الفعل عليه أي : تعودون كما ابتدأ خلقكم « .

قال الفارسي « كما بدأكم تعودون » ليس على ظاهره إذ ظاهرُه : تعودون كالبَدْء ، وليس المعنى تشبيهَهم بالبَدَاء ، إنما المعنى على إعادةِ الخَلْق كما ابتُدِئ ، فتقديرُ كما بدأكم تعودون : كما بدأ خَلْقَكم أي : يُحْيي خَلْقَكم عَوْداً كبدئه ، وكما أنه لم يَعْنِ بالبَدْء ظاهرَه من غير حذفِ المضافِ إليه كذلك لم يَعْنِ بالعَوْد من غير حذف المضافِ الذي هو الخَلْق فلمَّا حَذَفَه قام المضافُ إليه مَقَامَ الفاعِل فصار الفاعلون مخاطَبِين ، كما أنه لَمَّا حَذَفَ المضافَ من قوله « كما بدأ خلقكم صار المخاطبون مفعولين في اللفظ » قلت : يعني أن الأصل كما بدأ خَلْقُكُمْ يعود خَلْقُكم فحذف الخَلْقَ في الموضعين ، فصار المخاطبون في الأول مفعولِين بعد أن كانوا مجرورين بالإِضافة ، وفي الثاني صاروا فاعلين بعد أن كانوا مجرورين بالإِضافة أيضاً .
و « بدأ » بالهمز أنشأ واخترع ، ويُسْتعمل بهذا المعنى ثلاثياً ورباعياً على أَفْعل ، فالثلاثيُّ كهذه الآيةِ ، وقد جمع بين الاستعمالين في قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِئُ الله الخلق } [ العنكبوت : 19 ] فهذا مِنْ أبدأ ، ثم قال : { كَيْفَ بَدَأَ الخلق } [ العنكبوت : 20 ] هذا فيما يتعدَّى بنفسه . وأمَّا ما يتعدى بالباء نحو : بدأت بكذا بمعنى قَدَّمْته وجَعَلْته أولَ الأشياء يُقال منه : بدأت به وابتدأت به . وحكى الراغب أيضاً أنه يقال مِنْ هذا : أَبْدَأْت به على أَفْعَل وهو غريب ، وقولهم « أَبْدَأْتُ من أرض كذا » أي ابتدأت منها بالخروج . والبَدْءُ : السيِّدُ ، سُمِّيَ بذلك قيل : لأنه يُبْدأ به في العدِّ إذا عُدَّ السادات ، وذكروا عليه قوله :
2183 فَجِئْتُ قبورَهم بَدْءاً ولمَّا ... فنادَيْتُ القبورَ فلم يُجِبْنَهْ
أي : جئت قبور قومي سَيِّداً ولمَّا أكن سيداً ، لكنْ بموتهم صُيِّرْتُ سيِّداً/ وهذا يَنْظُرُ لقول الآخر :
2184 خَلَتِ الديارُ فسُدْتُ غيرَ مُسَوَّدِ ... ومن العَناء تفرُّدي بالسُّؤْدُدِ
و « ما » مصدرية أي : كبَدْئكم .

فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)

قوله تعالى : { فَرِيقاً هدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة } : في نصب « فريقاً » وجهان أحدُهما : أنه منصوب بهدى بعده ، وفريقاً الثاني منصوب بإضمار فعلٍ يفسِّره قولُه { حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة } من حيث المعنى ، والتقدير : وأضلَّ فريقاً حَقَّ عليهم ، وقَدَّره الزمخشري : « وخَذَل فريقاً » لغرضٍ له في ذلك . والجملتان الفعليتان في محل نصب على الحال من فاعل « بدأكم » أي : بَدَأكم حالَ كونه هادياً فريقاً ومُضِلاً آخر ، و « قد » مضمرةٌ عند بعضهم . ويجوز على هذا الوجهِ أيضاً أن تكون الجملتان الفعليتان مستأنفتَيْن ، فالوقفُ على « يعودون » على هذا الإِعرابِ تامٌّ بخلاف ما إذا جَعَلهما حالَيْن ، فالوقفُ على « يعودون » على هذا الإِعرابِ تامٌّ بخلاف ما إذا جَعَلهما حالَيْن ، فالوقفُ على قوله « الضلالة » .
الوجه الثاني : أن ينتصبَ « فريقاً » على الحال من فاعل « تَعُودون » أي : تعودون : فريقاً مَهْدِيَّاً وفريقاً حاقَّاً عليه الضلالة ، وتكون الجملتان الفعليتان على هذا في محل نصب على النعت لفريقاً وفريقاً ، ولا بد حينئذ من حَذْفِ عائد على الموصوف من هَدَى أي : فريقاً هداهم ، ولو قَدَّرْته « هداه » بلفظ الإِفراد لجاز ، اعتبار بلفظ « فريق » ، إلا أن الأحسنَ الأول لمناسبة قوله : { وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ } ، والوقف حينئذ على قوله « الضلالة » ، ويؤيد إعرابَه حالاً قراءةُ أُبَيّ بن كعب : « تعودون فريقَيْن : فريقاً هدى وفريقاً حقَّ عليهم الضلالة » ففريقَيْن نصب على الحال ، وفريقاً وفريقاً بدل أو منصوب بإضمار أعني على القطع ، ويجوز أن ينتصبَ فريقاً الأول على الحال من فاعل تعودون ، وفريقاً الثاني نصب بإضمار فعلٍ يفسِّره « حقَّ عليهم الضلالة » كما تقدم تحقيقه في كل منهما .
وهذه الأوجهُ كلُّها ذكرها ابن الأنباري فإنه قال كلاماً حسناً ، قال رحمه الله : « انتصب فريقاً وفريقاً على الحال من الضمير الذي في تعودون ، يريد : تعودون كما ابتدأ خَلْقُكم مختلفين ، بعضكم أشقياء وبعضكم سُعَداء ، فاتصل » فريق « وهو نكرةٌ بالضمير الذي في » تعودون « وهو معرفة فقُطِع عن لفظه ، وعُطِف الثاني عليه » . قال : « ويجوز أن يكونَ الأول منصوباً على الحال من الضمير ، والثاني منصوب بحقَّ عليهم الضلالة ، لأنه بمعنى أضلَّهم كما يقول القائل : » عبد الله أكرمته وزيداً أحسنت إليه « فينتصب زيداً بأحسنت إليه بمعنى نَفَعْته ، وأنشد :
2185 أثعلبةَ الفوارسِ أم رِياحا ... عَدَلْتَ بهم طُهَيَّةَ والخِشابا
نصب ثعلبة ب » عَدَلْتَ بهم طهية « لأنه بمعنى أَهَنْتَهم أي : عَدَلْت بهم مَنْ هو دونَهم ، وأنشد أيضاً قوله :
2186 يا ليت ضيفَكمُ الزبيرَ وجارَكم ... إيايَ لبَّس حبلَه بحبالي

فنصب « إياي » بقوله : « لَبَّس حبله بحبالي ، إذ كان معناه » خالطني وقصدني « قلت : يريد بذلك أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدر من معنى الثاني لا من لفظه ، هذا وجهُ التنظير . وإلى كون » فريقاً « منصوباً ب » هدى « و » فريقاً « منصوباً ب » حَقَّ « ذهب الفراء ، وجَعَلَه نظيرَ قوله تعالى : { يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [ الإنسان : 31 ] .
وقوله : { إِنَّهُمُ اتخذوا } جارٍ مَجْرى التعليل وإن كان استئنافاً لفظاً ، ويدلُّ على ذلك قراءةُ عيسى بن عمر والعباس بن الفضل وسهل بن شعيب » أنهم « بفتح الهمزة وهي نصٌّ في العِلِّيَّة أي : حَقَّتْ عليهم الضلالة لاتِّخاذهم الشياطينَ أولياءَ ، ولم يُسْند الإِضلال إلى ذاته المقدسة وإن كان هو الفاعلَ لها تحسيناً للفظ وتعليماً لعباده الأدبَ ، وعليه : { وعلى الله قَصْدُ السبيل وَمِنْهَا جَآئِرٌ } [ النحل : 9 ] .

قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)

وقوله تعالى : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ } : استفهامٌ معناه التوبيخُ والإِنكار ، وإذا كان للإِنكارِ فلا جوابَ له إذ لا يُراد به استعلامٌ ، ولذلك نُسِب مكي إلى الوهم في زعمه أن قوله : قل هي للذين آمنوا إلى آخره جوابه .
وقوله { مِنَ الرزق } حالٌ من « الطيبات » . قوله « خالصة » قرأها نافع رفعاً ، والباقون نصباً . فالرفع من وجهين أحدهما : أن تكون مرفوعةً على خبر المبتدأ وهو « هي » ، و « للذين آمنوا » متعلِّقٌ ب « خالصة » ، وكذلك يوم القيامة ، وقال مكي : « ويكون قوله للذين تبييناً » . قلت : فعلى هذا تتعلق بمحذوف كقولهم : سَقْياً لك وجَدْعاً له . و « في الحياة الدنيا » متعلِّقٌ بآمنوا ، والمعنى : قل الطيبات/ خالصة للمؤمنين في الدنيا يوم القيامة أي : تَخْلُص يومَ القيامة لِمَنْ آمن في الدنيا ، وإن كانت مشتركاً فيها بينهم وبين الكفار في الدنيا ، وهو معنى حسن . وقيل : المراد بخلوصها لهم يوم القيامة أنهم لا يُعاقبون عليها ، وإلى تفسير هذا نحا سعيد بن جبير .
الثاني : أن يكون خبراً بعد خبر ، والخبر الأول قوله « للذين آمنوا » ، و « في الحياة الدنيا » على هذا متعلِّقٌ بما تعلق به الجارُّ من الاستقرار المقدر ، ويوم القيامة معمولٌ لخالصة كما مَرَّ في الوجه قبله ، والتقدير : قل الطيبات مستقرة أو كائنة للذين آمنوا في الحياة الدنيا ، وهي خالصة لهم يوم القيامة ، وإن كانوا في الدنيا يُشاركهم الكفار فيها . ولَمَّا ذكر الشيخ هذا الوجه لم يُعَلِّقْ « في الحياة » إلا بالاستقرار ، ولو عَلَّق بآمنوا كما تقدَّم في الوجهِ قبله لكان حسناً وكون « خالصة » خبراً ثانياً هو مذهبُ الزجاج ، واستحسنه الفارسي ثم قال : « ويجوز عندي » ، فذكر الوجه الأول كما قررته ولكن بأخصر عبارة .
والنصبُ من وجهٍ واحد وهو الحال ، و « للذين آمنوا » خبر « هي » فيتعلق بالاستقرار المقدر ، وسيأتي أنه يتعلَّق باستقرار خاص في بعض التقادير عند بعضهم .
و { فِي الحياة الدنيا } على ما تقدَّم مِنْ تعلُّقِه بآمنوا أو بالاستقرار المتعلِّق به « للذين » . و « يوم القيامة » متعلِّقٌ أيضاً بخالصة ، والتقدير : قل الطيباتُ كائنةٌ أو مستقرة للمؤمنين في الحياة حالَ كونهم مقدَّراً خلوصُها لهم يوم القيامة . وسَمَّى الفراء نصبَها على القطع فقال : « خالصةً نصبٌ على القطع » ، وجعلَ خبر « هي » في اللام التي في قوله « للذين » . قلت : يعني بالقطع الحال .
وجوَّز أبو علي أن يتعلق { فِي الحياة الدنيا } بمحذوف على أنه حال ، والعامل فيها ما يعمل في « للذين آمنوا » .

وجَوَّزَ الفارسي وتبعه مكي أن يتعلق « في الحياة » بحرَّم ، والتقدير : مَنْ حرَّم زينةَ الله في الحياة الدنيا؟ وجوَّز أيضاً أن يتعلق بالطيبات ، وجوَّز الفارسيُّ وحدَه أن يتعلق بالرزق . ومنع مكي ذلك قال : « لأنك قد فَرَّقْتَ بينهما بقوله : { قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ } يعني أن الرزقَ مصدر فالمتعلَّق به مِنْ تمامه كما هو من تمام الموصول ، وقد فصلْتَ بينه وبين معموله بجملة أجنبية ، وسيأتي عن هذا جواب عن اعتراض اعتَرَض به على الأخفش .
وجوَّز الأخفش أن يتعلق » في الحياة « بأخرج أي : أخرجها في الحياة الدنيا . وهذا قد ردَّه عليه الناسُ ، فإنه يلزم منه الفصلُ بين أبعاض الصلة بأجنبي وهو قولُه { وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرزق } وقولُه { قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ } ، وذلك أنه لا يُعْطَفُ على الموصول إلا بعد تمام صلته ، وهنا قد عطفت على موصوف الموصول قبل تمام صلته ، لأنَّ » التي أَخْرَجَ « صفة لزينة ، و » الطيبات « عطف على » زينة « . وقوله : » قل هي للذين « جملة أخرى قد فَصَلَت على هذا التقدير بشيئين .
قال الفارسي كالمجيب عن الأخفش : » ويجوز ذلك وإن فُصِل بين الصلة والموصول بقوله : { هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ } لأنَّ ذلك كلامٌ يَشدُّ الصلة وليس بأجنبي منها حَدَّاً كما جاء ذلك في قوله : { والذين كَسَبُواْ السيئات جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } [ يونس : 27 ] ، فقوله : { وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } معطوفٌ على « كَسَبُوا » داخلٌ في الصلة « . قلت : هذا وإن أفاد في ما ذكر فلا يفيد في الاعتراضِ الأولِ ، وهو العطفُ على موصوفِ الموصول قبل تمام صلته إذ هو أجنبيٌّ منه ، وأيضاً فلا نُسَلِّم أن هذه الآية نظيرُ آيةِ يونس فإن الظاهرَ في آية يونس أنه ليس فيها فصلٌ بين أبعاضِ الصلة . قوله : { جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا } معترض ، و » ترهقهم « عطف على » كَسَبوا « قلنا ممنوع ، بل { جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا } هو خبر الموصول فيُعْترض بعدم الرابط بين المبتدأ والخبر ، فيُجاب بأنه محذوفٌ ، وهو مِنْ أحسنِ الحذوفِ لأنه مجرور ب مِنْ التبعيضية ، وقد نصَّ النحاة على أن ما كان كذلك كَثُر حَذْفُه وحَسُنَ ، والتقدير : والذين كسَبُوا السيئاتِ جزاءُ سيئة منهم بمثلها ، فجزاءُ سيئةٍ مبتدأ و » منهم « صفتُها ، و » بمثلها « خبره ، والجملةُ خبرُ الموصولِ وهو نظيرُ قولِهم : » السَّمْن مَنَوان بدرهم « أي : منوان منه ، وسيأتي لهذه/ الآية مزيد بيان .
ومنع مكي أن يتعلق { فِي الحياة الدنيا } بزينة قال : » لأنها قد نُعِتت والمصدر واسم الفاعل متى نُعِتا لا يعملان لبُعْدهما عن شبه الفعل « قال : » ولأنه يُفَرَّق بين الصلة والموصول؛ لأنَّ نعت الموصول ليس من صلته « .

قلت : لأن « زينة » مصدر فهي في قوة حرفٍ موصولٍ وصلته ، وقد تقرَّر أنه لا يُتْبع الموصولُ إلا بعد تمام صلته . فقد تحصَّل في تعلُّق « للذين آمنوا » ثلاثةُ أوجه : إمَّا أَنْ يتعلَّق بخالصة ، أو بمحذوفٍ على أنها خبرٌ ، أو بمحذوفٍ على أنها للبيان . وفي تعلُّق { فِي الحياة الدنيا } سبعةُ أوجهٍ أحدها : أن يتعلَّق بآمنوا . الثاني : أن يتعلق بمحذوفٍ على أنها حال . الثالث : أن يتعلَّق بما تعلَّق به للذين آمنوا . الرابع : أن يتعلق بحرَّم . الخامس : أن يتعلق بأخرج . السادس : أن يتعلق بقوله : « الطيبات » . السابع أن يتعلَّق بالرزق . ويوم القيامة له متعلق واحد وهو خالصة ، والمعنى : أنها وإن اشتركت فيها الطائفتان دنيا فهي خالصةٌ للمؤمنين فقط أخرى .
فإن قيل : إذا كان الأمر على ما زعَمْتَ مِنْ معنى الشِّركة بينهم في الدنيا فكيف جاء قوله : { قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ } وهذا مُؤْذِنٌ ظاهراً بعدم الشِّرْكة؟ قلت : قد أجابوا عن ذلك من أوجه : أحدُها : أن في الكلام حذفاً تقديره : قل هي للذين آمنوا ولغيرهم في الحياة الدنيا خالصة لهم يوم القيامة ، قاله أبو القاسم الكرماني ، وكأنه دلَّ على المحذوف قولُه بعد ذلك { خَالِصَةً يَوْمَ القيامة } إذ لو كانت خالصةً لهم في الدارَيْن لم يَخُصَّ بها إحداهما . والثاني : أن « للذين آمنوا » ليس متعلقاً بكونٍ مطلقٍ بل بكون مقيدٍ ، يدلُّ عليه المعنى ، والتقدير : قل هي غيرُ خالصةٍ للذين آمنوا ، لأن المشركين شركاؤهم فيها خالصة لهم يوم القيامة ، قاله الزمخشري ، ودلَّ على هذا الكون المقيَّد مقابلُه وهو قوله : { خَالِصَةً يَوْمَ القيامة } . الثالث : ما ذكره الزمخشري ، وسبقه إليه التبريزي قال : « فإن قلت : هَلاَّ قِيل [ هي ] للذين آمنوا ولغيرهم؟ قلت : التنبيهُ على أنها خُلِقَتْ للذين آمنوا على طريق الأصالة ، وأنَّ الكفرةَ تبعٌ لهم كقوله تعالى : { وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً } [ البقرة : 126 ] . وقال التبريزي : » ولم يَذْكر الشركة بينهم وبين الذين أشركوا في الدنيا تنبيهاً أنه إنما خَلَقها للذين آمنوا بطريق الأصالة ، والكفار تَبَعٌ لهم ، ولذلك خاطب المؤمنين بقوله : { هُوَ الذي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً } [ البقرة : 29 ] ، وهذا الثالثُ في الحقيقة ليس جواباً ثالثاً إنما هو مبين لحُسْن حذف المعطوف وعدمِ ذِكْره مع المعطوف عليه .

قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)

قوله تعالى : { مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } : تقدَّم في آخر السورة قبلها . وقوله : « والإِثم » الظاهرُ أنها الذنب . وقيل : هو الخمر هنا ، قاله الفضل وأنشد :
2187 نهانا رسولُ الله أَنْ نقرَب الزِّنى ... وأن نشرب الإِثمَ الذي يُوجب الوِزْرا
وأنشد الأصمعي :
2188 ورُحْتُ حزيناً ذاهلَ العقل بعدهمْ ... كأني شربتُ الإِثمَ أو مَسَّني خَبَلُ
قال : وقد تُسَمَّى الخمرُ إثماً ، وأنشد :
2189 شَرِبْتُ الإِثمَ حتى ضَلَّ عقلي ... كذاك الإِثمُ يَذْهب بالعقولِ
ويُروى عن ابن عباس والحسن البصري أنهما قالا : « الإِثم : الخمر » . قال الحسن : « وتصديق ذلك قولُه : { قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ } [ البقرة : 219 ] والذي قاله الحذَّاقُ : إن الإِثم ليس من أسماء الخمر . قال ابن الأنباري : » الإثم لا يكون اسماً للخمر؛ لأن العرب لم تُسَمِّ الخمر إثماً في جاهلية ولا إسلام ، وقول ابن عباس والحسن لا ينافي ذلك ، لأن الخمر سبب الإِثم بل هي معظمه فإنها مؤجِّجةٌ للفتن ، وكيف يكون ذلك وكانت الخمرُ حين نزول هذه السورة حلالاً؛ لأن هذه السورةَ مكية ، وتحريمُ الخمر إنما كان في المدينة بعد أُحُدٍ ، وقد شربها جماعةٌ من الصحابة يوم أحد فماتوا شهداء وهي في أجوافهم . وأمَّا ما أنشده الأصمعي من قوله « شَرِبت الإِثم » فقد نَصُّوا أنه مصنوعٌ ، وأما غيره فالله أعلم « .
و { بِغَيْرِ الحق } حالٌ ، وهي مؤكدة لأن البغي لا يكون إلا بغير حق و » أَنْ تُشْرِكوا « منصوبُ المحلِّ نسقاً على مفعول » حَرَّمَ « أي : وحَرَّم إشراكَكَم عليكم ، ومفعولُ الإِشراك { مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً } وقد تقدَّم بيانُه في الأنعام . و { أَن تقولوا } أيضاً نسقٌ على ما قبله أي : وحرَّم قولكم عليه مِنْ غير علمٍ . وقال الزمخشري : » ما لم يُنّزِّل به سلطاناً : تهكُّمٌ بهم لأنه/ لا يجوزُ أن يُنْزِلَ برهاناً أَنْ يُشْرَكَ به غيرُه « .

وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)

قوله تعالى : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ } : خبر مقدم ، ولا حاجة إلى حذف مضاف كما زعم بعضُهم أن التقديرَ : ولكلِّ أحدٍ من أمةٍ أَجَلٌ أي عُمْرٌ ، كأنه توهَّم أن كل أحد له عمرٌ مستقلٌّ ، وأن هذا مراد الآية الكريمة ، ومراد الآية أعمُّ من ذلك . وقوله { فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ } قال بعضهم : « كل موضع في القرآن من شِبْهِ هذا التركيب فإنَّ الفاءَ داخلةٌ على » إذا « إلا في يونس أما في يونس فيأتي حكمُها ، وأمَّا سائر المواضع فقال : » لأنها عَطَفَتْ جملةً على أخرى بينهما اتصالٌ وتعقيب ، فكان الموضعُ موضعَ الفاء « . وقرأ الحسن وابن سيرين » آجالهم « جمعاً .
قوله : { لاَ يَسْتَأْخِرُونَ } : جوابُ » إذا « ، والمضارعُ المنفيُّ ب » لا « إذا وقع جواباً ل » إذا « في الظاهر جاز أن يُتَلقَّى بالفاء وأن لا يُتَلَقَّى بها . قال الشيخ : » وينبغي أن يُعْتَقَدَ أنَّ بين الفاء والفعل بعدها اسماً مبتدأ فتصير الجملةُ اسميةً ، ومتى كانت كذلك وَجَبَ أن تَتَلَقَّى بالفاء أو إذا الفجائية « . و » ساعة « نصبٌ على الظرف وهي مَثَلٌ في قلة الزمان .
قوله : { وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } هذا مستأنفٌ ، معناه الإِخبار بأنهم لا يَسْبقون أَجَلَهم المضروبَ لهم بل لا بد من استيفائهم إياه ، كما أنهم لا يتأخرون عنه أقلَّ زمان . وقال الحوفي وغيرُه : » إنه معطوفٌ على « لا يستأخرون » وهذا لا يجوزُ ، لأن « إذا » إنما يترتَّب عليها وعلى ما بعدها الأمورُ المستقبلة لا الماضية ، والاستقدامُ بالنسبة إلى مجيء الأجل متقدم عليه فكيف يترتب عليه؟ ويصير هذا من باب الإِخبار بالضروريات التي لا يَجْهل أحدٌ معناها ، فيصير نظير قولك : « إذا قمت فيما يأتي لم يتقدم قيامك فيما مضى » ومعلوم أن قيامَك في المستقبل لم يتقدَّمْ قيامك هذا .
وقال الواحدي : « إن قيل : ما معنى هذا مع استحالة التقديم على الأجل وقتَ حضوره؟ وكيف يَحْسُن التقديمُ مع هذا الأجل؟ قيل : هذا على المقاربة لأنَّ العربَ تقول : » جاء الشيء « إذا قَرُب وقتُه ، ومع مقاربة الأجل يُتَصور الاستقدامُ ، وإن كان لا يتصور مع الانقضاء ، والمعنى : لا يستأخرون عن آجالهم إذا انقضَتْ ولا يَسْتقدمون عليها إذا قاربت الانقضاء » . قلت : هذا بناءً منه على أنه معطوفٌ على « لا يستأخرون » وهو ظاهرُ أقوال المفسرين .

يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35)

وقوله تعالى : { إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ } : قد تقدَّم نظيره في البقرة . و « منكم » صفةٌ لرسل ، وكذلك « يَقُصُّون » وقُدِّم الجارُّ على الجملة لأنه أقربُ إلى المفردِ منها . وقوله « فَمَنْ » يُحتمل أن تكون « مَنْ » شرطيةً ، وأن تكونَ موصولةً . فإن كان الأولَ كانت هي وجوابُها جواباً للشرطِ الأول ، وهي مستقلةٌ بالجواب دون الجملة التي بعد جوابها ، وهي « والذين كَذَّبوا » ، وإن كان الثاني كانت هي وجوابُها والجملة المشار إليها كلاهما جواباً للشرط ، كأنه قَسَّم جوابَ قوله : « إمَّا يأتينَّكم » إلى مُتَّقٍ ومُكَذِّب وجزاء كل منهما . وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في البقرة .
وحَذَفَ مفعولَيْ « اتَّقى وأصلحَ » اختصاراً للعِلْم بهما أي : اتَّقى ربَّه وأصلح عمله ، أو اقتصاراً أي : فَمَنْ كان من أهل التقوى والصلاح ، من غير نظرٍ إلى مفعول كقوله : { وَأَنَّهُ هُوَ أغنى وأقنى } [ النجم : 48 ] ولكن لا بد من تقديرِ رابطٍ بين هذه الجملةِ وبين الجملةِ الشرطية ، والتقدير : فَمَنْ اتَّقى منكم والذين كَذَّبوا منكم .
وقرأ أُبَيُّ والأعرجُ « تأتينَّكم » بتاء مثناة من فوق ، نظراً إلى معنى جماعة الرسل ، فيكونُ قوله تعالى : « يَقُصُّون » بالياء من تحت حَمْلاً على المعنى؛ إذ لو حُمل على اللفظ لقال : « تَقُصُّ » بالتأنيث أيضاً .

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)

وقوله تعالى : { مِّنَ الكتاب } : في محلِّ الحال من « نصيبهم » أي : حال كونه مستقراً من الكتاب و « مِنْ » لابتداء الغاية .
قوله : { حتى إِذَا } : « حتى » هنا غايةٌ ، و « إذا » وما في حَيِّزها تقدَّم لك الكلامُ عليها غيرَ مرة : هل هي جارَّةٌ أو حرفُ ابتداء؟ وتقدَّم عبارةُ الزمخشري فيها . واختلفوا فيها إذا كانت حرفَ ابتداء أيضاً : هل هي حينئذ جارّةٌَ وتتعلَّق بما قبلها تعلُّقَ حروفِ الجر من حيث المعنى لا من حيث اللفظ ، والجملة بعدها في محل جر ، أو ليست بجارَّةٍ بل هي حرفُ ابتداء فقط ، غيرُ جارة وإن كان معناها الغاية كقوله :
3190 سَرَيْتُ بهمْ حتى تَكِلَّ مطيُّهم ... وحتى الجيادُ ما يُقَدْنَ بأرسانِ
وقول الآخر :
2191 فما زالت القتلى تَمُجُّ دماءَها ... بدجلةَ حتى ماءُ دجلةَ أَشْكلُ
خلاف . الأولُ قولُ ابن درستويه ، والثاني قول الجمهور . وقال صاحب « التحرير » : « حتى هنا ليست للغاية بل هي ابتداء وخبره » وهذا وهمٌ إذ الغايةُ معنى لا يفارقها ، وقوله : « بل هي ابتداءٌ وخبرٌ » تسامحٌ في العبارة ، يريد : بل الجملةُ بعدها . ثم الجملة التي بعدها في هذا المكان ليست ابتداءً وخبراً بل هي جملةٌ فعلية/ وهي : « قالوا » ، و « إذا » معمولةٌ لها . وممن ذهب إلى أنها ليست هنا للغاية الواحديُّ فإنه حكى في معنى الآية أقوالاً ثم قال : « فعلى هذا القولِ معنى : » حتى « للانتهاء والغاية ، وعلى القَوْلين الأوَّلين ليست » حتى « في هذه الآيةِ للغاية بل هي التي يقعُ بعدها الجملُ وينصرف الكلام بعدها إلى الابتداء ك » أمَّا « و » إذا « . ولا تَعَلُّق لقوله » حتى إذا « بما قبله بل هذا ابتداءُ خبرٍ ، أخبر عنهم ، كقوله :
2192 فيا عجبا حتى كليبٌ تَسُبُّني ... كأنَّ أباها نَهْشَلٌ أو مُجاشعُ
قلت : وهذا غير مَرْضيٍّ منه لمخالفته الجمهور . وقوله : » لا تعلُّق لها بما قبلها « ممنوعٌ على جميع الأقوال التي ذكرها ، ولولا خوفُ الإِطالة لأورَدْت ما تَوَهَّمَ كونَه مانعاً مِمَّا ذكر ، ولذكرْتُ الانفصال عنه ، والظاهر أنها إنما تتعلَّقُ بقوله { يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم } .
وقوله : { يَتَوَفَّوْنَهُمْ } في محلِّ نصبٍ على الحال . وكُتِبت » أينما « متصلةً وحقُّها الانفصالُ ، لأنَّ » ما « موصولةٌ لا صلةٌ ، إذ التقدير : أين الذين تدعونهم؟ ولذلك كُتِبَ { إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ } [ الأنعام : 134 ] منفصلاً و { إِنَّمَا الله } [ النساء : 171 ] متصلاً . وقولهم : » ضلُّوا « جواب من حيث المعنى لا من حيث اللفظ ، وذلك أن السؤالَ إنما وقع عن مكان الذين كانوا يَدْعونهم من دون الله ، فلو جاء الجوابُ على نسق السؤال لقيل : هم في المكان الفلاني ، وإنما المعنى : ما فَعَل معبودُكم ومَنْ كنتم تدعونهم؟ فأجابوا بأنهم ضاعوا عنهم وغابوا .

قوله : { وَشَهِدُواْ } يُحتمل أن يكونَ نَسَقاً على « قالوا » الذي وقع جواباً لسؤال الرسل فيكون داخلاً في الجواب أيضاً . ويحتمل أن يكون مستأنفاً مقتطعاً عَمَّا قبله ليس داخلاً في حيز الجواب . كذا قال الشيخ وفيه نظر؛ من حيث إنه جَعَل هذه الجملة جواباً لعطفها على قالوا ، وقالوا في الحقيقة ليس هو الجواب ، إنما الجواب هو مقول هذا القول وهو « ضلُّوا عنا » ف « ضَلُّوا عنا » هو الجوابُ الحقيقي الذي يُسْتفاد منه الكلام . ونظيره أن يقول : سَأَلْتُ زيداً ما فعل؟ فقال : أطعمتُ وكسوتُ ، فنفس أطعمتُ وكسوتُ هو الجوابُ . وإذا تقرَّر هذا فكان ينبغي أن يقول « فيكون » معطوفاً على « ضلوا عنا » ، ثم لو قال كذلك لكان مُشْكلاً من جهة أخرى : وهو أنه كان يكون التركيبُ الكلامي : « ضلُّوا عنا وشهدنا على أنفسنا أنَّا كنَّا » ، إلا أَنْ يُقال : حكى الجواب الثاني على المعنى ، فهو محتملٌ على بُعْدٍ بعيد .

قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38)

قوله تعالى : { في أُمَمٍ } : يجوز أن يتعلَّق قولُه « في أمم » وقوله : « في النار » كلاهما بادخلوا فيجيء الاعتراضُ المشهور : وهو كيف يتعلَّق حرفا جر متحدا اللفظ والمعنى بعاملٍ واحد؟ فيُجاب بأحد وجهين : إمَّا أنَّ « في » الأولى ليست للظرفية بل للمعيَّة ، كأنه قيل : ادخلوا مع أممٍ أي : مصاحبين لهم في الدخول ، وقد تأتي « في » بمعنى مع كقوله تعالى : { وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ في أَصْحَابِ الجنة } [ الأحقاف : 16 ] . وقول الشاعر :
2193 شموسٌ وَدُوْدٌ في حياءٍ وعفةٍ ... رخيمةُ رَجْع الصوتِ طيبةُ النَّشْر
وإمَّا بأنَّ « في النار » بدلٌ من قوله « في أمم » وهو بدلُ اشتمال كقوله تعالى : { أَصْحَابُ الأخدود ، النار } [ البروج : 4 ] فإن « النارِ » بدلٌ من « الأخدود » ، كذلك « في النار » بدلٌ من « أممٍ » بإعادة العامل بدل اشتمال ، وتكونُ الظرفيةُ في « في » الأولى مجازاً؛ لأن الأمم ليسوا ظروفاً لهم حقيقة ، وإنما المعنى : ادخلوا في جملةِ أممٍ وغمارِهم . ويجوز أن تتعلق « في أمم » بمحذوفٍ على أنه حال أي : كائنين في جملة أمم . و « في النار » متعلق بخَلَتْ أي : تسبقكم في النار .
ويجوز أن تتعلق بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لأمم فتكون « أمم » قد وُصِفَتْ بثلاثة أوصاف ، الأول : الجملةُ الفعليةُ وهي قولُه « قد خَلَتْ » ، والثاني : الجار والمجرور وهو قوله { مِّن الجن والإنس } ، والثالث : قولُه « في النار » ، والتقدير : في أمم خاليةٍ من قبلكم كائنةٍ من الجن والإِنس ومستقرةٍ في النار .
ويجوز أن تتعلَّق « في النار » بمحذوفٍ أيضاً لا على الوجه المذكور ، بل على كونِه حالاً مِنْ « أمم » ، وجاز ذلك وإن كانَتْ نكرة لتخصُّصها بالوَصْفَيْن المشارِ إليهما . ويجوز أن يكونَ حالاً من الضمير في « خَلَتْ » إذ هو ضميرُ الأمم . وقُدِّمَتْ/ الجنُّ على الإِنس لأنهم الأصلُ في الإِغواء .
وقوله « حتى » هذه غاية لما قبلها ، والمعنى : أنهم يدخلون فوجاً فوجاً لاعناً بعضُهم لبعض إلى انتهاء تداركهم فيها . والجمهور قرؤوا « إذا ادَّاركوا » بوصل الألف وتشديد الدال ، والأصلُ : تداركوا ، فلما أريد إدغامُه فُعِل به ما فُعِل بادَّارَأْتم . وقد تقدَّم تحقيقُ تصريفه في البقرة .
قال مكي : « ولا يُسْتطاع اللفظُ بوزنها مع ألف الوصل؛ لأنَّك تَرُدُّ الزائد أصلياً فتقول : افَّاعلوا ، فتصير تاء تفاعَل فاءَ الفعل لإِدغامها في فاء الفعل ، وذلك لا يجوز فإنْ وَزَنْتَها على الأصل فقلت : تَفَاعلوا جاز » . قلت : هذا الذي ذَكَر مِنْ كونه لا يمكن وزنُه إلا بالأصل وهو تفاعلوا ممنوع . قوله : « لأنك تَرُدُّ الزائدَ أصلياً » قلنا : لا يلزم ذلك لأنَّا نَزِنُه بلفظِه مع همزةِ الوصل ونأتي بتاء التفاعل بلفظها فنقول : وزنُ ادَّاركوا اتْفاعَلوا فيُلْفَظُ بالتاءِ اعتباراً بأصلها لا بما صارت إليه حالَ الإِدغام .

وهذه المسألةُ نَصُّوا على نظيرها وهو أن تاءَ الافتعال إذا أُبْدلت إلى حرف مجانس لما قبلها . . . تُبْدَلُ طاءً أو دالاً في نحو : اصطبر واضطرب وازدجر وادَّكر ، إذا وُزِن ما هي فيه قالوا : يُلْفَظُ في الوزن بأصل تاء الافتعال ، ولا يُلْفَظُ بما صارَتْ إليه من طاء أو دال ، فتقول : وزن اصطبر افتعل لا افطعل ، ووزن ازدَجَر افتعل لا افدعل ، فكذلك تقول هنا : وزن ادَّاركوا اتْفاعلوا لا افَّاعلوا ، فلا فرقَ بين تاء الافتعال والتفاعل في ذلك .
وقرأ ابن مسعود والأعمش ، ورُوِيت عن أبي عمرو : تداركوا وهي أصلُ قراءة العامة . وقرأ أبو عمرو : « إذا ادَّاركوا » بقطع همزة الوصل . قال ابن جني : « هذا مُشْكِلٌ ، ومثلُ ذلك لا يفعله ارتجالاً ، وكأنه وَقَفَ وِقْفة مستنكرٍ ثم ابتدأ فقطع » . قلت : وهذا الذي يُعْتقد من أبي عمرو ، وإلا فكيف يَقْرأ بما لا يَثْبت إلا في ضرورة الشعر في الأسماء؟ كذا قال ابن جني ، يعني أَنَّ قَطْع ألف الوصل في الضرورة إنما جاء في الأسماء .
وقرأ حميد « أُدْرِكوا » بضم همزة القطع ، وسكون الدال وكسر الراء ، مثل « أُخْرِجوا » جعله مبنياً للمفعول بمعنى : أُدْخِلوا في دَرَكاتها أو أدراكها ، ونُقِل عن مجاهد بن جبر قراءتان : فَرَوى عنه مكي « ادَّارَكوا » بوصل الألف وفتح الدال مشددة وفتح الراء ، وأصلُها « ادْتَرَكوا » على افتعلوا مبنياً للفاعل ثم أدغم كما أدغم ادَّان من الدَّيْن . وروى عنه غيره « أَدْرَكوا » بتفح الهمزة مقطوعةً وسكونِ الدال وفتح الراء أي أدرك بعضهم بعضاً . وقال أبو البقاء : « وقرئ : إذا ادَّاركوا » بألفٍ واحدة ساكنة بعدها دالٌ مشددة وهو جمعٌ بين ساكنين ، وجاز في المنفصل كما جاز في المتصل ، وقد قال بعضهم « اثنا عْشر » بإثبات الألف وسكون العين « ، قلت : يعني بالمتصل نحو : الضالِّين وجانّ ، ومعنى المنفصل أن ألف » إذا « من كلمة ، والساكن الثاني من كلمة أخرى . وادَّاركوا بمعنى تلاحقوا . وتقدَّم تفسيرُ هذه المادة .
و { جَمِيعاً } حالٌ من فاعل » ادَّاركوا « . وأُخْراهم وأُولاهم : يحتمل أن تكونَ فُعْلى أنثى أفعل الذي للمفاضلة ، والمعنى على هذا كما قال الزمخشري : » أُخْراهم منزلةً ، وهم الأتباع والسَّفَلة ، لأُولاهم منزلةً وهم السَّادة والرؤساء « ، ويحتمل أن تكون » أخرى « بمعنى آخِرة تأنيث آخِر مقابل لأوَّل ، لا تأنيث » آخَر « الذي للمفاضلة كقوله : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } [ فاطر : 18 ] .
والفرقُ بين أخرى بمعنى آخِرة وبين أخرى تأنيث آخَر بزنة أفعل للتفضيل أنَّ التي للتفضيل لا تدلُّ على الانتهاء كما لا يَدُلُّ عليه مذكَّرها ، ولذلك يُعْطف أمثالُها عليها في نوعٍ واحد تقول : مررت بامرأةٍ وأخرى وأخرى ، كما تقول : برجل وآخر وآخر ، وهذه تدلُّ على الانتهاء كما يدلُّ عليه مذكَّرها ولذلك لا يُعْطَفُ أمثالُها عليها ، ولأنَّ الأولى تفيد إفادة » غير « ، وهذه لا تفيد إفادةَ » غير « .

والظاهرُ في هذه الآيةِ الكريمة أنهما ليستا للتفضيل بل لِما ذكرت لك/ .
وقوله : { لأُولاَهُمْ } اللامُ للتعليل أي لأجل ، ولا يجوز أن تكون التي للتبليغ كهي في قولك : قلت لزيدٍ افعل . قال الزمخشري : « لأنَّ خطابَهم مع الله لا معهم » وقد بَسَط القولَ قبله في ذلك الزجاج فقال : « والمعنى : وقالت أخراهم : يا ربَّنا هؤلاء أضلونا ، لأولاهم » فَذَكَرَ نحوه . قلت : وعلى هذا فاللامُ الثانيةُ في قوله « أُولاهم لأخراهم » يجوز أن تكون للتبليغ ، لأنَّ خطابَهم معهم بدليل قوله : « فما كان لكم علينا مِنْ فضلٍ ، فذوقوا بما كنتم تَكْسِبون » .
وقوله « ضِعْفاً » قال أبو عبيدة : « الضِّعْفُ : مثلُ الشيء مرةً واحدة » قال الأزهري : « وما قاله أبو عبيدة هو ما يَسْتعمله الناس في مجاز كلامهم ، وقد قال الشافعي قريباً منه فقال في رجل أوصى : » أَعْطوه ضِعْف ما يُصيب ولدي « قال : » يُعطَى مثله مرتين « . قال الأزهري : » الوصايا يُستعمل فيها العُرْف وما يتفاهمه الناس ، وأما كتاب الله فهو عربي مبين ، ويُرَدُّ تفسيرُه إلى لغة العرب وموضوعِ كلامِها الذي هو صنعةُ ألسنتها . والضِّعْف في كلام العرب المِثْل إلى ما زاد ، ولا يُقتصر به على مِثْلين بل تقول : هذا ضِعْفه أي مِثْلاه وثلاثةُ أمثاله ، لأنَّ الضِّعْفَ في الأصل زيادةٌ غيرُ محصورة ، ألا ترى إلى قول الله تعالى : { فأولئك لَهُمْ جَزَآءُ الضعف } [ سبأ : 37 ] لم يُرِدْ به مِثْلاً ولا مِثْلين ، وأَوْلى الأشياء به أن يُجْعل عشرةَ أمثالِه كقوله تعالى : « مَنْ جاء بالحسنةِ فله عشرُ أمثالِها » فأقلُّ الضعف محصورٌ وهو المِثْل وأكثرُه غير محصور « . ومثلُ هذه المقالةِ قال الزجاج أيضاً فإنه قال : » أي عذاباً مضاعفاً لأن الضِّعْفَ في كلام العرب على ضربين أحدهما : المثل ، والآخر : أن يكون في معنى تضعيف الشيء « أي زاد به إلى ما لا يَتناهَى . وقد تقدم طرفٌ من هذا في البقرة .
و » ضِعْفاً « صفة ل » عذاباً « . و » من النار « يجوز أن يكون صفة ل » عذاباً « وأن يكون صفةً ل » ضِعْفاً « ، ويجوز أن يكونَ ضعفاً بدلاً من » عذاباً « .
وقوله » لكلٍّ « أي : لكل فريق من الأخرى والأولى . وقوله : » ولكن لا تعلمون ، قراءةُ العامة بتاء الخطاب : إمَّا خطاباً للسائلين ، وإمَّا خطاباً لأهل الدنيا أي : ولكن لا تعلمون ما أعدَّ من العذاب لكل فريق . وقرأ أبو بكر عن عاصم بالغيبة ، وهي تحتمل أن يكون الضميرُ عائداً على الطائفة السائلة تضعيفَ العذاب أو على الطائفتين أي : لا يعلمون قَدْر ما أَعَدَّ لهم من العذاب .

وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)

قوله تعالى : { فَمَا } : هذه الفاءُ عاطفةٌ هذه الجملةَ المنفية على قول الله تعالى للسَّفلة : « لكلٍ ضعف » فقد ثَبَتَ أن لا فضلَ لكم علينا ، وأنَّا متساوون في استحقاق الضعف فذوقوا . قال الشيخ بعد أن حكى بعضَ كلامِ الزمخشري : « والذي يظهر أن المعنى : انتفاء كون فضلٍ عليهم من السَّفَلة في الدنيا بسبب اتِّباعهم إياهم وموافقتِهم لهم في الكفر أي : اتِّباعُكم إيانا وعدمُ اتِّباعكم سواءٌ ، لأنكم كنتم في الدنيا عندنا أقلَّ من أن يكون لكم علينا فضلٌ باتباعكم بل كفرتم اختياراً ، لا أنَّا حَمَلْناكم على الكفر إجباراً ، وأن قوله » فما كان « جملةٌ معطوفة على جملة محذوفة بعد القول دَلَّ عليها ما سَبَقَ من الكلام ، والتقدير : قالت أولاهم لأخراهم : ما دعاؤكم الله أنَّا أَضْللناكم وسؤالكم ما سألتم ، فما كان لكم علينا من فضلٍ بضلالكم ، وأنَّ قوله : » فذوقوا « من كلام الأولى خطاباً للأخرى على سبيل التشفِّي ، وأنَّ ذوق العذاب هو بسبب ما كَسَبْتُمْ لا بأنَّا أضللناكم . وقيل : فذوقوا من خطاب الله لهم » .
و « بما » الباء سببية ، و « ما » مصدريةٌ أو بمعنى الذي ، والعائد محذوف أي : تكسبونه .

إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40)

وقرأ أبو عمرو : { لا تُفْتَح } : بضم التاء من فوق والتخفيف . والأخوان بالياء من تحت والتخفيف ، والباقون : بالتأنيث والتشديد . فالتأنيث والتذكير باعتبار الجمع والجماعة ، والتخفيفُ والتضعيفُ باعتبار التكثير وعدمِه ، والتضعيفُ هنا أوضح لكثرة المتعلق . وهو في هذه القراءاتِ مبنيٌّ للمفعول . وقرأ أبو حيوة وأبو البرهسم « تَفَتَّح » بفتح التاء مِنْ فوق والتضعيف ، والأصل : / لا تتفتَّح بتاءَيْن فحُذِفت إحداهما ، وقد تقدَّم في « تذكَّرون » ونحوه ، ف « أبواب » على قراءة أبي حَيْوة فاعلٌ ، وعلى ما تقدم مفعولٌ لم يُسَمَّ فاعلُه . وقرئ : « لا تَفْتَحُ » بالتاء ونصب « الأبواب » على أن الفعل للآيات ، وبالياء على أن الفعل لله ، ذكره الزمخشري .
وقوله { فِي سَمِّ الخياط } متعلقٌ ب « يَلِجُ » . وسَمُّ الخياط ثقب الإِبرة وهو الخُرْتُ ، وسينُه مثلثةٌ ، وكل ثقبٍ ضيقٍ فهو سَمّ . وقيل : كل ثقب في البدن ، وقيل : كل ثقب في أنفٍ أو أذن فهو سَمٌّ ، وجمعه سُموم ، قال الفرزدق :
2194 فَنَفَّسْتُ عن سَمَّيْهِ حتى تَنَفَّسَا ... وقلت له لا تخش شيئاً ورائيا
والسُّمُّ : القاتل سُمِّي بذلك لِلُطْفه وتأثيره في مسام البدن حتى يصل إلى القلب ، وهو في الأصل مصدرٌ ثم أريد به معنى الفاعل لدخولِه باطنَ البدن ، وقد سَمَّه إذا أدخله فيه ، ومنه « السَّامَّة » للخاصَّة الذين يدخلون في بواطن الأمور ومَسَامِّها ، ولذلك يقال لهم الدُّخْلُلُ . والسَّموم : الريح الحارة لأنها تؤثر تأثيرَ السُّمِّ القاتل . والخِياط والمِخْيَط الآلة التي يُخاط بها فِعال ومِفَْل كإزار ومِئْزَر ولِحاف ومِلْحَف وقِناع ومِقْنع . ولا يقال للبعير جَمَل إلا إذا بَزَل . وقيل : لا يُقال له ذلك إلا إذا بلغ أربع سنين ، وأول ما يخرج ولد الناقة ولم تُعرف ذكوريتُه أو أنوثتُه يقال له : سَلِيْل ، فإن كان ذكراً فهو سَقْبٌ ، والأنثى حائل ، ثم هو حُوار إلى الفِطام وبعده فصيل إلى سنة ، وفي الثانية ابنُ مَخاض وبنت مخاض ، وفي الثالثة ابن لَبون وبنت لَبون ، وفي الرابعة حِقٌّ وحِقَّة ، وفي الخامسة جَذَع وجَذَعة ، وفي السادسة ثَنِيٌّ وثَنِيَّة ، وفي السابعة رَباع ورَباعِية مخففة ، وفي الثامنة سَديس لهما ، وقيل : سَديسة للأنثى ، وفي التاسعة بازل وبازلة ، وفي العاشرة مُخْلِفٌ ومُخْلِفة ، وليس بعد البُزُول والإِخلاف سِنٌّ بل يقال : بازل عام أو عامين ومُخْلِفُ عام أو عامَيْن حتى يَهْرَم فيقال له فَوْد .
والوُلوج : الدخول بشدة ولذلك يقال : هو الدخول في مضيق فهو أخصُّ من الدخول . والوَليجة : كلُّ ما يعتمده الإِنسان ، والوليجة : الداخلُ في قومٍ ليس منهم .
والجَمَل قراءة العامة وهو تشبيه في غاية الحسن ، وذلك أن الجملَ أعظمُ حيوانٍ عند العرب وأكبره جثةً حتى قال :
2195 . . . . . . . . . . . . . . . . ... جسمُ الجِمالِ وأحلام العصافير
[ وقوله ] :
2196 لقد كَبُر البعيرُ بغير لُبٍّ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وسُمُّ الإِبرة في غاية الضيق ، فلما كان المَثَلُ يُضْرَب بعِظَم هذا وكبره ، وبضيق ذاك حتى قيل : أضيقُ من خُرْتِ الإِبرة ، ومنه الخِرِّيْتُ وهو البصير بمضايق الطرق قيل : لا يَدْخلون الجنة حتى يتقحَّمَ أعظمُ الأشياء وأكبرها عند العرب في أضيقِ الأشياءِ وأصغرِها ، فكأنه قيل : لا يَدْخلون حتى يُوجدَ هذا المستحيلُ ، ومثلُه في المعنى قولُ الآخر :
2197 إذا شاب الغراب أتَيْتُ أهلي ... وصارَ القارُ كاللينِ الحليب
وقرأ ابن عباس في رواية ابن حَوْشب ومجاهد وابن يعمر وأبو مجلز والشعبي ومالك بن الشخير وابن محيصن وأبو رجاء وأبو رزين وأبان عن عاصم : « الجُمَّل » بضم الجيم وفتح الميم مشددة وهو القَلْسُ . والقَلْسُ : حبلٌ غليظ يُجمع من حبال كثيرة فَيُفْتَل وهو حبلُ السفينة وقيل : الحبل الذي يُصْعَد به [ إلى ] النخل ، ويروى عن ابن عباس أنه قال : « إن الله أحسنُ تشبيهاً من أن يُشَبِّه بالجمل » كأنه رأى إن صحَّ عنه أن المناسب لسُمّ الإِبرة شيء يناسب الخيط المسلوك فيها . وقال الكسائي : « الراوي ذلك عن ابن عباس أعجمي فشدّد الميم » . وضَعَّف ابن عطية قول الكسائي بكثرة رواتها عن ابن عباس قراءةً . قلت : وكذلك هي قراءة مشهورة بين الناس . وروى مجاهد عن ابن عباس ضمَّ الجيم وفتح الميم خفيفةً ، وهي قراءة ابن جبير وقتادة وسالم الأفطس .
وقرأ ابن عباس أيضاً في رواية عطاء : الجُمُل بضم الجيم والميم مخففة ، وبها قرأ الضحَّاك والحجدري . وقرأ عكرمة وابن جبير بضم الجيم وسكون الميم . والمتوكل وأبو الجوزاء بالفتح والسكون ، وكلها لغات في القَلْس المذكور . وسئل ابن مسعود عن الجمل في الآية ، فقال : زوج الناقة ، كأنه فهم ما أراد السائل فاستغباه . وقرأ عبد الله وقتادة وأبو رزين وطلجة : « سُمّ » بضم السين . وأبو عمران الحوفي وأبو نهيك والأصمعي عن نافع : سِمّ بالكسر . وقد تقدَّم أنها لغات . وقرأ عبد الله وأبو رزين وأبو مجلز : المِخْيَط بكسر الميم وسكون الخاء وفتح الياء . وطلحة بفتح الميم . وهذه مخالفة للسواد .
قوله : { وكذلك } أي : ومثل ذلك الجزاء نجزي المجرمين ، فالكافُ نعتٌ لمصدر محذوف .

لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)

وقوله تعالى : { لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ } : والجملةُ محتملة للحالية والاستئناف ، ويجوز حينئذ/ في « مهاد » أن تكون فاعلاً ب « لهم » فتكون الحال من قبيل المفردات ، وأن تكون مبتدأ فتكون من قبيل الجمل . و « من جهنم » حال من « مِهاد » لأنه لو تأخر عنه لكان صفةً ، أو متعلِّقٌ بما تعلَّق الجارُّ قبله .
وغَواشٍ : جمع غاشية . وللنحاة في الجمع الذي على مفاعل إذا كان منقوصاً بقياسٍ خلافٌ : هل هو منصرف أو غير منصرف؟ فبعضهم قال : هو منصرفٌ لأنه قد زال [ منه ] صيغة منتهى الجموع فصار وزنُه وزن جَناح وقَذَال فانصرف . وقال الجمهور : هو ممنوع من الصرف ، والتنوينُ تنوينُ عوض . واختُلِفَ في المُعَوَّض عنه ماذا؟ فالجمهور على أنه عوضٌ من الياء المحذوفة . وذهب المبرد إلى أنه عوضٌ من حركتها . والكسرُ ليس كسرَ إعراب ، وهكذا جَوارٍ ومَوالٍ . وبعضهم يجرُّه بالفتحة قال :
2198 ولو كان عبدُ الله مولىً هجوتُه ... ولكنَّ عبدَ اللهِ مَوْلَى مَواليا
وقال آخر :
2199 قد عَجِبَتْ مني ومن يُعَيْلِيا ... لَمَّا رَأَتْني خَلَقاً مُقْلَوْلِيا
وهذا الحكمُ ليس خاصاً بصيغة مَفاعل ، بل كل غير منصرف إذا كان منقوصاً فحكمه حكم ما تقدم نحو : يُعَيْلٍ تصغير يَعْلى ، ويَرْمٍ اسم رجل ، وعليه قولُه : « ومن يُعَيْلِيا » ، وبعضُ العرب يُعْرب « غواشٍ » ونحوه بالحركات على الحرف الذي قبل الياء المحذوفة فيقول : هؤلاء جوارٌ ، وقرئ { وَمن فوقهم غواشٌ } برفع الشين وهي كقراءة عبد الله { وله الجوارُ } [ الرحمن : 24 ] برفع الراء . وقد حرَّرْتُ هذه المسألةَ وما فيها من المذاهبِ واللغات في موضوعٍ غير هذا .
قوله : { وكذلك } تقدَّم مثله . وقوله { الظالمين } يحتمل أن يكون من باب وقوع الظاهرِ موقع المضمر . والمراد بالظالمين المجرمون ، ويحتمل أن يكونوا غيرَهم وأنهم يُجْزَون كجزائهم .

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42)

قوله تعالى : { والذين آمَنُواْ } : مبتدأ وفي خبره وجهان ، أحدهما : أنها الجملةُ من قولِه { لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً } وعلى هذا فلا بد من عائدٍ وهو مقدر ، وتقديره : نفساً منهم . والثاني : هو الجملة من قوله { أولئك أَصْحَابُ } ، وتكون هذه الجملة المنفيَّةُ معترضةً بينهما ، وهذا الوجه أعرب .

وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)

وقوله تعالى : { مِّنْ غِلٍّ } : يجوز أن تكون « مِنْ » لبيان جنس « ما » ، ويجوز أن تكون حالاً فتتعلَّق بمحذوف أي : كائناً مِنْ غِل . وقوله : « تجري من تحتهم الأنهار » في هذه الجملة ثلاثة أوجه ، أحدها : أنها حال من الضمير في « صدورهم » قاله أبو البقاء . وجَعَل العامل في هذه الحال معنى الإِضافة . والثاني : أنها حال ، والعامل فيها « نزعنا » ، قاله الحوفي . والثالث : أنها استئناف إخبار عن صفة أحوالهم .
وردَّ الشيخ الوجهين الأوَّلين : أمَّا الثاني فلأنَّ { تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار } ليس مِنْ صفة فاعل « نَزَعْنا » ولا مفعوله وهما « ن » و « ما » فكيف ينتصب حالاً عنهما؟ وهو واضح . وأمَّا الأولُ فلأنَّ معنى الإِضافة لا يعمل إلا إذا أمْكن تجريدُ المضاف وإعمالُه فيما بعده رفعاً أو نصباً . قلت : قد تقدم غيرَ مرة أن الحالَ تأتي من المضاف إليه إذا كان المضاف جزءاً من المضاف إليه لمَدْرَكٍ آخر لا لِما ذكره أبو البقاء من أنَّ العامل هو معنى الإِضافة ، بل العامل في الحال هو العامل في المضاف وإن كانت الحالُ ليست منه؛ لأنهما لما كانا متضايفَيْنِ وكانا مع ذلك شيئاً واحداً ساغ ذلك .
والغِلُّ : الحِقْد والإِحْنَةُ والبغض ، وكذلك الغُلول . وجمع الغِلّ غلال . والغُلول : الأَخْذُ في خُفْية ، وأحسنُ ما قيل أن ذلك من لفظ الغِلالة كأنه تَدَرَّع ولبس الحقد والخيانة حتى صار إليه كالغِلالة الملبوسة .
قوله : { لولا أَنْ هَدَانَا } أَنْ وما في حَيِّزها في محل رفع بالابتداء ، والخبرُ محذوفٌ على ما قَدَّرْته غير مرة ، وجواب « لولا » مدلول عليه بقوله : « وما كنا » تقديره : لولا هدايةٌ لنا موجودة لشَقِيْنا أو ما كنا مهتدين . و « لقد جاءت » جواب قسم مقدر . و « بالحق » يجوز أن تكون الباءُ للتعدية ، فبالحق مفعولٌ معنى ، ويجوز أن تكون للحال أي : جاؤوا ملتبسين بالحق .
قوله : { أَن تِلْكُمُ } يجوز أن تكون المفسِّرة ، فَسَّرَت النداء وهو الظاهر بما بعدها . ويجوز أن تكون المخففةَ ، واسمُها ضمير الأمر محذوفاً ، وأن وما بعدها في محل نصب أو جر؛ لأنَّ الأصلَ : بأن تلكم ، وأشير إليها بإشارة البعيد لأنهم وُعِدوها في الدنيا . وعبارة بعضهم « هي إشارة لغائبة » [ فيها ] مسامحة لأنَّ الإِشارة لا تكون إلا لحاضر ، ولكن العلماء تُطْلق على البعيد غائباً مجازاً .
و « أُورِثتموها » يجوز أن تكون هذه الجملةُ حاليةً كقوله : { فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً } [ النمل : 52 ] ، ويجوز أن تكونَ خبراً عن « تلكم » ويجوز أن تكون « الجنة » بدلاً أو عطف بيان ، و « أُورثتموها » الخبر . ومنع أبو البقاء أن تكون حالاً من « تلكم » للفصل بالخبر ، ولأن المبتدأ لا يعمل في الحال . وأدغم أبو عمرو والأخوان الثاء في التاء ، وأظهرها الباقون .
و { بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } تقدم غير مرة . والجماعة على « وما كنا » بواو وكذلك هي في مصاحف الأمصار غيرَ الشام . وفيها وجهان ، أظهرهما : أنها واو الاستئناف ، والجملة بعدها مستأنفة . والثاني : أنها حالية . وقرأ ابن عامر : « وما كنا » بدون واو ، والجملة على ما تقدَّم من احتمالي الاستئناف والحال ، وهي في مصحف الشاميين كذا/ فقد قرأ كلٌّ بما في مصحفه .

وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44)

قوله تعالى : { أَن قَدْ وَجَدْنَا } : « أَنْ » يحتمل أن تكون تفسيرية للنداء ، وأن تكونَ مخففةً من الثقيلة ، واسمُها ضميرُ الأمر والشأن ، والجملة بعدها خبرها ، وإذا كان الفعلُ متصرفاً غيرَ دعاء فالأجود الفصلُ ب « قد » كهذه الآية أو بغيرها . وقد تقدَّم تحقيقه في المائدة . وقال الزمخشري : « فإن قلت : هلا قيل : ما وعدكم ربكم ، كما قيل : » ما وَعَدنا ربنا « . قلت : حُذِف ذلك تخفيفاً لدلالة » وَعَدْنا « عليه . ولقائل أن يقول : أُطْلِق ليتناول كلَّ ما وَعَدَ الله من البعث والحساب والعقاب والثواب وسائرِ أحوالِ القيامة ، لأنهم كانوا مكذِّبين بذلك أجمعَ ، ولأن الموعودَ كلَّه ممَّا ساءهم ، وما نعيم أهلِ الجنة إلا عذابٌ لهم فأطلق لذلك » قلت : قوله : « ولقائلٍ إلى آخره » هذا الجوابُ لا يطابق سؤالَه لأن المُدَّعى حَذْفُ المفعول الأول وهو ضمير المخاطبين ، والجواب وقع بالمفعول الثاني الذي هو الحسابُ والعقاب وسائر الأحوال ، فهذا إنما يناسب لو سُئل عن حَذْفِ المفعول الثاني لا المفعول الأول .
و { نَعَمْ } حرفُ جوابٍ كأجل وإي وجَيْر وبلى . ونقيضتها لا ، و « نعم » تكون لتصديق الإِخبار أو إعلام استخبار أو وَعْدِ طالب ، وقد يُجاب بها النفيُ المقرونُ باستفهام وهو قليل جداً كقوله :
2200 أليس الليلُ يجمعُ أُمَّ عمروٍ ... وإيَّانا فذاك بنا تَدَاني
نعم وترى الهلالَ كما أراه ... ويَعْلوها النهارُ كما عَلاني
فأجاب قوله « أليس » ب نعم ، وكان من حقه أن يقول : بلى ، ولذلك يُروى عن ابن عباس في قوله تعالى : { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى } [ الأعراف : 172 ] : لو قالوا : نعم لكفروا ، وفيه بحثٌ يأتي إن شاء الله تعالى قريباً .
وتُكْسَرُ عينُها ، وبها قرأ الكسائي والأعمش ويحيى بن وثاب ، وهي لغةُ كنانة . وطعن أبو حاتم عليها وقال : « ليس الكسر بمعروف » . واحتجَّ الكسائي لقراءته بما يُحكى عن عمر بن الخطاب أنه سأل قوماً فقالوا : نَعَم يعني بالفتح فقال : « أمَّا النَّعَم فالإِبل فقولوا : نَعِم » أي بالكسر . قال أبو عبيد : « ولم نَرَ العرب يعرفون ما رَوَوْه عن عمر ونراه مُوَلَّداً » . قلت : هذا طعنٌ في المتواتر فلا يُقبل . وتبدل عينها حاءً ، وهي لغةٌ فاشيةٌ كما تبدل حاء « حتى » عيناً .
وقوله : { بَيْنَهُمْ } يجوز أن يكونَ منصوباً ب « أذَّن » أو ب « مؤذِّن » ، وأن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه صفةٌ ل « مؤذِّن » . قال مكي عند إجازته هذا الوجه : « ولكن لا يعمل في » أَنْ « » مُؤَذِّن « إذ قد نَعَته » يعني أنَّ قوله « أَنْ لعنةُ » لا يجوز أن يكونَ معمولاً [ ل « مؤذن لأنه موصوف ، واسم الفاعل متى وُصِف لم يعمل .

قلت : هذا يُوهِمُ أنَّا إذا لم نجعل « بينهم » نعتاً ل « مؤذِّن » جاز أن يعمل في « أن » ] وليس الأمر كذلك ، [ لأنك لو قلت ] : « ضرب ضاربٌ زيداً » تنصب زيداً ب ضرب لا بضارب . لكني قد رأيت الواحدي [ أجاز ما ] أجاز مكي [ من كون ] « مؤذِّن » عاملاً في « أَنْ » ، وإذا وَصَفْتَه امتنع ذلك ، وفيه ما تقدَّم وهو حسن .
و « أَنْ » يجوز أن تكون المفسِّرة ، وأن تكونَ المخففةَ ، والجملة الاسميةُ بعدها الخبر ، ولا حاجةَ هنا لفاصل . وقرأ الأخوان وابن عامر والبزِّي : « أنَّ » بفتح الهمزة وتشديد النون ونصب اللعنة على أنها اسمها ، و « على الظالمين » خبرها ، وكذلك في النور « أن لعنةُ الله عليه » خَفَّف « أَنْ » ورفع اللعنة نافع وحده ، والباقون بالتشديد والنصب . وقرأ عصمة عن الأعمش : إنَّ بالكسر والتشديد وذلك : إمَّا على إضمار القول عن البصريين ، وإمَّا على إجراء النداء مُجْرى القول عند الكوفيين .

الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45)

وقوله تعالى : { الذين } : يجوز أن يكون مرفوعَ المحل ومنصوبَه على القطع فيهما ، ومجرورَه على النعت أو البدل أو عطف البيان . ومفعول « يَصُدُّون » محذوفٌ أي : يصدُّون الناس . ويجوز ألاَّ يُقَدَّر له مفعول ، والمعنى : الذين من شأنهم الصدُّ كقولهم : « هو يعطي ويمنع » . ويجوز أن يكون « يَصُدُّون » بمعنى يُعْرضون ، مِنْ صَدَّ صُدوداً فيكون لازماً .

وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)

قوله تعالى : { وَبَيْنَهُمَا } : أي : بين أصحاب الجنة وأصحاب النار ، وهذا هو الظاهر لقوله { فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ } . وقيل : بين الجنة والنار ، وبه بدأ الزمخشري . وقوله : { وَعَلَى الأعراف } قال الزمخشري : « أي : وعلى أعراف الحجاب » كأنه جعل أل عوضاً من الإِضافة وهو مذهب كوفي ، وقد تقدم تحقيقه . وجعل بعضُهم نفس الأعراف هي نفس الحجاب المتقدِّمِ ذكرُه ، عبَّر عنه تارة بالحجاب وتارة بالأعراف . قال الواحدي : ولم يذكر غيره « ولذلك عُرِّفَت الأعراف لأنه عَنَى بها الحجاب » .
والأعراف جمع عُرْف بضم العين ، وهو كل مُرْتَفَع من أرض وغيرها استعارةً مِنْ عُرْف الديك وعُرْف الفَرَس ، كأنه عُرِف بارتفاعه دونَ الأشياءِ المنخفضة فإنها مجهولة غالباً ، قال أمية بن أبي الصلت :
2201 وآخرون على الأعراف قد طَمِعوا ... في جنة حَفَّها الرمَّانُ والخَضِرُ
ومثله أيضاً قوله :
2202 كلُّ كِنازِ لَحْمِه نيافِ ... كالجبلِ المُوْفِي على الأعرافِ
وقال آخر وهو الشماخ :
2203 فظلَّتْ بأعرافٍ تَعادَى كأنها ... رِماحٌ نَحاها وِجْهةَ الريحِ راكزٌ
وقوله : { يَعْرِفُونَ } في محل رفع نعتاً لرجال . و « كُلاَّ » أي : كل فريق من أصحاب الجنة وأصحاب النار . وقوله { أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ } كقوله { أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين } [ الأعراف : 44 ] إلا أنه لم يُقْرأ هنا إلا بأنْ الخفيفة فقط .
قوله : { وَنَادَوْاْ } هذا الضميرُ وما بعده لرجال . وقوله { لَمْ يَدْخُلُوهَا } في هذه الجملة أوجه ، أحدها : أنها حال من فاعل « نادوا » أي : نادى أهل الأعراف حالَ كونهم غير داخلين الجنة . وقوله « وهم يطمعون » يحتمل أن يكون حالاً مِنْ فاعل « يَدْخلُوها » ثم لك اعتباران بعد ذلك ، الأول : أن يكون المعنى : لم يدخلوها طامعين في دخولها بل/ دخلوها على يأس مِنْ دخولها . والثاني : أن المعنى : لم يدخلوها حال كونهم طامعين أي : لم يدخلوا بعد ، وهم في وقت عدم الدخول طامعون ، ويحتمل أن يكون مستأنَفَاً أخبر عنهم بأنهم طامعون في الدخول .
الوجه الثاني : أن يكون حالاً من مفعول « نادوا » أي : نادَوهم حالَ كونهم غيرَ داخلين . وقوله : « وهم يَطْمَعون » على ما تقدم آنفاً . والوجه الثالث أن تكون في محلِّ رفعٍ صفةً لرجال قاله الزمخشري . وفيه ضعفٌ من حيث إنه فَصَل فيه بين الموصوف وصفته بجملة قوله : « ونادَوا » وليست جملةَ اعتراض . والوجه الرابع : أنها لا محلَّ لها من الإِعراب لأنها جوابُ سائلٍ سأل عن أصحاب الأعراف فقال : ما صُنِعَ بهم؟ فقيل : لم يدخلوها وهم يطمعون في دخولها .
وقال مكي كلاماً عجيباً وهو أن قال : « إنْ حَمَلْتَ المعنى على أنهم دخلوها كان » وهم يطمعون « ابتداء وخبراً في موضع الحال من المضمر المرفوع في » يدخلوها « ، معناه : أنهم يئسوا من الدخول فلم يكن لهم طمعٌ في الدخول ، لكن دخلوا وهم على بأس من ذلك ، فإنْ حَمَلْتَ معناه أنهم لم يدخلوا بعدُ ولكنهم يطمعون في الدخولِ برحمة الله كان ابتداءً وخبراً مستأنفاً » .

وقال بعضُهم : « جملةُ قوله » لم يدخلوها « من كلام أصحاب الجنة ، وجملةُ قوله وهم يطمعون » من كلام الملائكة « قال عطاء عن ابن عباس : » إن أصحابَ الأعراف ينادُون أصحابَ الجنة بالسلام ، فيردُّون عليهم السلام ، فيقول أصحاب الجنة للخزنة : ما لأصحابنا على أعراف الجنة لم يدخلوها؟ فيقول لهم الملائكة جواباً لهم وهم يطمعون « ، وهذا يَبْعد صحته عن ابن عباس إذ لا يلائم فصاحة القرآن .
والطمع هنا يحتمل أن يكونَ على بابه ، وأن يكونَ بمعنى اليقين . قالوا : لقوله تعالى حكايةً عن إبراهيم على نبيِّنا وعليه أفضلُ الصلاة والسلام : { والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ } [ الشعراء : 82 ] وقال :
2204 وإني لأطمعُ أنَّ الإِله ... قديرٌ بحسْنِ يَقيني يَقيني

وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)

قوله تعالى : { تِلْقَآءَ } : منصوبٌ على ظرف المكان قال مكي : « وجمعُه تلاقِيّ » . قلت : لأن تِلْقاء وزنه تِفْعال كتمثال ، وتمثال وبابه يُجمع على تفاعيل ، فالتقت الياءُ الزائدة مع الياء التي هي لام الكلمة فأدغمت فصارت تلاقِيَّ . والتلقاء في الأصل مصدر ثم جُعِل دالاً على المكان أي : على جهة اللقاء والمقابلة قالوا : ولم يجئ من المصادر على تِفْعال بكسر التاء إلا لفظتان : التِلقاء والتِبْيان ، وما عدا ذلك من المصادر فمفتوحٌ نحو التَّرْداد والتَّكرار ، ومن الأسماء مكسورٌ نحو تِمثال وتِمْساح وتِقْصار .
وفي قوله : { صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ } فائدةٌ جليلة وهو أنهم لم يَلْتفتوا إلى جهة النار إلا مجبورين على ذلك لا باختيارهم لأنَّ مكان الشر محذور . وقد تقدَّم خلافُ القراء في نحو « تلقاء أصحاب » بالنسبة إلى إسقاط إحدى الهمزتين أو إثباتها أو تسهيلها في أوائل البقرة . وقرأ الأعمش : « وإذا قُلِبَتْ » وهي مخالفةٌ للسواد ، كقراءة { لم يدخلوها وهم ساخطون } أو { وهم طامِعُون } على أنَّ هذه أقرب . و « قالوا » هو جوابُ « إذا » والعامل فيها .

وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48)

قوله تعالى : { مَآ أغنى } : يجوز أن تكونَ استفهاميةً للتوبيخ والتقريع وهو الظاهر ، ويجوز أن تكونَ نافية . وقوله : « وما كنتم » : « ما » مصدرية ليُنْسَق مصدرٌ على مثله أي : ما أغنى عنكم جمعُكم وكونُكم مستكبرين . وقرئ « تستكثرون » بتاء مثلثة من الكثرة .

أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)

قوله تعالى : { أهؤلاء الذين أَقْسَمْتُمْ } : يجوز في هذه الجملة وجهان ، أحدهما : أنها في محل نصب بالقول المتقدم أي : قالوا : ما أغنى وقالوا : أهؤلاء الذين . والثاني : أن تكون جملةً مستقلةً غيرَ داخلةٍ في حيز القول ، والمشارُ إليهم على القول الأول هم أهل الجنة ، والقائلون ذلك هم أهل الأعراف ، والمقولُ لهم هم أهل النار . والمعنى : وقال أهلُ الأعراف لأهل النار : أهؤلاء الذين في الجنة اليوم هم الذين كنتم تَحْلفون إنهم لا يدخلون الجنة ، برحمة الله وفضله ادخلوا الجنة أي : قالوا لهم أو قيل لهم : ادخلوا الجنة .
وأمَّا على القول الثاني وهو الاستئناف : فاختُلف في المشار إليه . فقيل : هم أهل الأعراف ، والقائلُ ذلك مَلَكٌ يأمره الله بهذا القول ، والمقول له هم أهلُ النار . وقيل : المشار إليه هم أهل الجنة ، والقائلُ هم الملائكة ، والمقولُ له هم أهل النار . وقيل : المشار إليهم هم أهل الأعراف وهم/ القائلون ذلك أيضاً ، والمقول لهم الكفارُ ، وقوله « ادخلوا الجنة » من قولةِ أهل الأعراف أيضاً أي : يرجعون فيخاطب بعضُهم بعضاً فيقولون : ادخلوا الجنة . وقال ابن الأنباري : « إن قوله : أهؤلاء الذين أَقْسَمْتم لا ينالهم الله برحمة » من كلام أصحاب الأعراف . وقوله « ادخلوا » من كلام الله تعالى ، وذلك على إضمار قول أي : فقال لهم الله : ادخلوه ، ونظيره قوله تعالى : { يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ } [ الشعراء : 35 ] فهذا من كلام الملأ ، فماذا تأمرون؟ فهذا من كلام فرعون أي : فقال : فماذا تأمرون؟ .
وقرأ الحسن وابن سيرين : « أَدْخِلوا الجنة » أمراً من أَدْخَل وفيها تأويلان ، أحدهما : أن المأمور بالإِدخال الملائكة أي : أَدْخلوا يا ملائكةُ هؤلاء . ثم خاطب البشر بعد خطاب الملائكة فقال : لا خوف عليكم ، وتكون الجملة من قوله : « لا خوف » لا محلَّ لها من الإِعراب لاستئنافها . والثاني : أن المأمور بذلك هم أهل الأعراف والتقدير : أدخلوا أنفسَكم ، فحذف المفعولَ في الوجهين . ومثلُ هذه القراءة هنا قولُه تعالى : { أَدْخِلُوا آل فرعون } [ غافر : 46 ] وستأتي إن شاء الله ، إلا أن المفعولَ هناك مصرَّحٌ به في إحدى القراءتين .
والجملة من قوله « لا خوف » على هذا في محلِّ نصبٍ على الحال أي : أَدْخِلوا أنفسكم غير خائفين . وقرأ عكرمة « دَخَلوا » ماضياً مبنياً للفاعل . وطلحة وابن وثاب والنخعي « أُدْخِلوا » مِنْ أُدْخِل ماضياً مبنياً للمفعول على الإِخبار ، وعلى هاتين فالجملة المنفية في محل نصبٍ بقول مقدر ، ذلك القولُ منصوبٌ على الحال أي : مقولاً لهم لا خوف .

وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50)

قوله تعالى : { أَنْ أَفِيضُواْ } : كأحوالِها من احتمال التفسير والمصدرية ، و « من الماء » متعلق بأفيضوا على أحدِ وجهيه : إمَّا على حذف مفعول أي : شيئاً من الماء فهي تبعيضيةٌ ، طلبوا منهم البعضَ اليسير ، وإمَّا على تضمين « أفيضوا » معنى ما يتعدَّى ب مِنْ أي : أنعموا منه بالفيض . وقوله : { أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ } « أو » هنا على بابها من اقتضائها لأحد الشيئين : إمَّا تخييراً أو إباحةً أو غيرَ ذلك ممَّا يليق بها ، وعلى هذا يقال كيف قيل : حَرَّ مهما فأعيد الضمير مثنَّى ، وكان من حق مَنْ يقول إنها لأحد الشيئين أن يعودَ مفرداً على ما تقرر غير مرة؟ وقد أجابوا بأن المعنى : حَرَّم كلاً منهما . وقيل إن « أو » بمعنى الواو فعود الضمير واضحٌ عليه .
و « ممّا » : « ما » يجوز أن تكون موصولة اسمية ، وهو الظاهر ، والعائد محذوف أي : أو من الذي رزقكموه الله ، ويجوز أن تكونَ مصدريةً ، وفيه مجازان : أحدهما : أنهم طَلَبوا منهم إفاضةَ نفس الرزق مبالغةً في ذلك . والثاني : أن يَرادَ بالمصدر اسمُ المفعول كقوله : { كُلُواْ واشربوا مِن رِّزْقِ الله } [ البقرة : 60 ] في أحد وجهيه . وقال الزمخشري : « أو ممَّا رزقكم الله من غيره من الأشربة لدخوله في حكم الإِفاضة . ويجوز أن يُراد : أو أَلْقُوا علينا مِنْ ما رزقكم الله من الطعام والفاكهة كقوله :
2205 عَلَفْتُها تِبْناً وماءً بارداً ... . . . . . . . . . . . . . . .
قال الشيخ : » وقوله « و ألقوا علينا مما رزقكم الله من الطعام والفاكهة » يحتمل وجهين ، أحدهما أن يكون قوله : « أفيضوا » ضُمِّن معنى « ألقوا » علينا من الماء أو مما رزقكم الله فيصحَّ العطف ، ويحتمل وهو الظاهر من كلامه أن يكونَ أضمر فعلاً بعد « أو » يَصِل إلى مما رزقكم الله وهو « ألقوا » ، وهما مذهبان للنحاة فيما عُطِف على شيء بحرف عطف ، والفعل لا يصل إليه ، والصحيح منهما التضمين لا الإِضمار « . قلت : يعني الزمخشري أن الإِفاضة أصل استعمالها في الماء وما جرى مجراه في المائعات ، فقوله » أو مِنْ غيره من الأشربة « تصحيح ليسلِّط الإِفاضةَ عليه؛ لأنه لو حُمِل مما رزقكم الله على الطعام والفاكهة لم يَحْسُن نسبة الإِفاضة إليهما إلا بتجوُّز ، فذكر وجه التجوز بقوله » ألقوا « ، ثم فسَّره الشيخ بما ذكر ، وهو كما قال ، فإن العلَف لا يُسْنَدُ إلى الماء . فقوله إمَّا بالتضمين أي فَغَذَّيتُها ، ومثلُه :
2206 . . . . . . . . . . . . . . . ... وزَجَّجْنَ الحواجبَ والعيونا
وقوله :
2207 يا ليت زوجَك قد غدا ... متقلِّدا سيفاً ورُمْحا
وقوله تعالى : { والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان } [ الحشر : 9 ] وقد مضى من هذا جملةٌ صالحة . وزعم بعضهم أن قوله { أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله } عامٌّ يندرج فيه الماء المتقدم ، وهو بعيدٌ أو متعذَّرٌ للعطف بأو .
والتحريم هنا المَنْعُ كقوله :
2208 حرامٌ على عينيَّ أن تُطْعَما الكَرى ... . . . . . . . . . . . . . . . .

الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)

قوله تعالى : { الذين } : يجوز أن يكون في محل جَرٍّ وهو الظاهر نعتاً أو بدلاً من « الكافرين » : ويجوز أن يكونَ رفعاً أو نصباً على القطع . وقوله : « وغَرَّتْهم » عطفٌ على الصلة . وقوله : « فاليومَ » منصوب بما بعده . / وقوله : « كما » نعتٌ لمصدر محذوف أي : ينساهم نسياناً كنسيانهم لقاءَ أي بتركهم . و « ما » مصدريةٌ . ويجوز أن تكونَ الكافُ للتعليل أي : تركناهم لأجل نسيانهم لقاءَ يومهم . و « يومهم » يجوز أن يكونَ متسعاً فيه فأُضيف المصدرُ إليه ، كما يُضاف إلى المفعول به . ويجوز أن يكون المفعولُ محذوفاً ، والإِضافةُ إلى ظرف الحدث أي : لقاء العذاب في يومهم . وقوله : « وما كانوا » « ما » مصدريةٌ نسقاً على أختها المجرورة بالكاف أي : وكما يجحدون بآياتنا ، والتعليل فيه واضح .

وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)

والضمير في : { جِئْنَاهُمْ } : عائدٌ على مَنْ تقدَّم من الكفرة ، والمراد ب « كتاب » الجنس . وقيل : يعودُ على مَنْ عاصر النبي عليه الصلاة والسلام . والمراد بالكتاب القرآن . والباء في « بكتاب » للتعدية فقط . وقوله : « فَصَّلناه » صفةٌ ل « كتاب » ، والمرادُ بتفصيله إيضاحُ الحقِّ من الباطل ، أو تنزيله في فصولٍ مختلفةٍ كقوله : { وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ } [ الإِسراء : 106 ] . وقرأ الجحدري وابن محيصن بالضاد المعجمة أي : فضَّلْناه على غيرِه من الكتب السماوية . وقوله : « على عِلْم » حال : إمَّا من الفاعل أي : فَصَّلْناه عالمين بتفصيله ، وإمَّا من المفعول أي : فصَّلْناه مشتملاً على علم . ونَكَّر « علم » تعظيماً .
وقوله : { هُدًى وَرَحْمَةً } الجمهورُ على النصب ، وفيه وجهان ، أحدهما : أنه مفعول من أجله أي : فصَّلناه لأجل الهداية والرحمة . والثاني : أنه حال : إمَّا من كتاب ، وجاز ذلك لتخصصه بالوصف ، وإمَّا من مفعول « فصَّلناه » . وقرأ زيد بن علي « هدىً ورحمةٍ » بالجر ، وخرَّجه الكسائي والفراء على النعت ل « كتاب » ، وفيه المذاهب المشهورة في نحو « [ مررت ] برجل عدل » ، وخرَّجه غيرهما على البدل منه . وقرأته فرقة « هدىً ورحمةٌ » بالرفع على إضمار المبتدأ . وقال مكي : « وأجاز الفراء والكسائي » هدى ورحمة « بالخفض ، يجعلانه بدلاً من » علم « ، ويجوز هدى ورحمة على تقدير : هو هدى ورحمة » وكأنه لم يَطَّلع على أنهما قراءتان مَرْوِيَّتان حتى نسبهما على طريق الجواز . و « لقومٍ » صفة لرحمة وما عُطِفت عليه .

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)

وقوله تعالى : { تَأْوِيلَهُ } : قد تقدَّم ذلك في آل عمران . وقال الزمخشري ههنا : « والتأويل مادتُه من همزة وواو ولام مِنْ آل يؤول » وقال الخطابي : « أَوَّلْتُ الشيءَ رَدَدْتُه إلى أوله ، واللفظةُ مأخوذةٌ من الأول » . قال الشيخ : وهو خطأٌ لاختلاف المادتين « . و » يومَ « منصوب ب » يقول « ، وقد جاءَتْ منصوبةً بالقول ، و » بالحق « يجوز أن تكونَ الباءُ للحال ، وأن تكونَ للتعدية أي : جاؤوا ملتبسين بالحق أو أجاؤوا الحق .
قوله : { مِن شُفَعَآءَ } » مِنْ « مزيدة في المبتدأ و » لنا « خبرٌ مقدم . ويجوز أن يكونَ » من شفعاء « فاعلاً و » مِنْ « مزيدة أيضاً ، وهذا جائزٌ عند كل أحد لاعتماد الجارِّ على الاستفهام . وقوله : » فيشفعوا « منصوب بإضمار » أَنْ « في جواب الاستفهام ، فيكون قد عَطَفْتَ اسماً مؤولاً على اسمٍ صريح أي : فهل لنا شفعاء فشفاعة منهم لنا .
قوله : { أَوْ نُرَدُّ } الجمهور عَلَى رفع » نُرَدُّ « ونصب » فنعملَ « ، فَرَفْعُ » نردُّ « على أنه عَطَفَ جملةً فعلية وهي » نُرَدُّ « على جملة اسمية وهي : هل لنا من شفعاء فيشفعوا ، ونصبُ » فنعملَ « على ما انتصب عليه » فيشفعوا « . وقرأ الحسنُ برفعهما على ما تقدم ، كذا روى عنه ابن عطية وغيره . وروى عنه الزمخشري نصب » نُرَدّ « ورفع » فنعمل « . وقرأ أبو حيوة وابن أبي إسحاق بنصبهما . فنصبُ » نُرَدَّ « عطفاً على » فيشفعوا « جواباً على جواب ، ويكون الشفعاء في أحد شيئين : إمَّا في خلاصهم من العذاب ، وإمَّا في رجوعهم للدنيا ليعملوا صالحاً ، والشفاعةُ حينئذ منسحبةٌ على الخلاص أو الردّ ، وانتصب » فنعملَ « نسقاً على » فنردَّ « ، ويجوز أن يكون » أو نُرَدَّ « من باب » لألزمنَّكَ أو تقضيَني حقي « إذا قدَّرناه بمعنى : حتى تقضيَني أو كي تقضيَني ، غَيَّا اللزومَ بقضاء الحق أو عَلَّله به فكذلك الآية الكريمة أي : حتى نُرَدَّ أو كي نُرَدَّ ، والشفاعةُ حينئذ متعلقةٌ بالردِّ ليس إلا ، وأمَّا عند من يقدِّر » أو « بمعنى » إلا « في المثال المتقدم وهو سيبويه فلا يظهر معنى الآية عليه ، إذ يَصير التقدير : هل يشفع لنا شفعاءُ إلا أن نُرَدَّ . وهذا استثناءٌ غير ظاهر .
وقوله : » ما كانوا « فاعل » ضَلَّ « ، و » ما « موصولةٌ عائدها محذوف .

إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)

قوله تعالى : { إِنَّ رَبَّكُمُ الله } : الجمهور على رفع الجلالة خبراً ل « إنَّ » ، ويَضْعُف أن تُجْعل بدلاً من اسم « إنَّ » على الموضع عند مَنْ يرى ذلك ، والموصولُ خبرٌ ل « إنَّ » وكذا لو جَعَلَه عطفَ بيان ، ويتقوَّى هذا بنصب الجلالة في قراءة بكار فإنها فيها بدلٌ أو بيانٌ لاسم « إنَّ » على اللفظ ، ويضعف أن تكونَ خبرَها عند مَنْ يرى نَصْبَ الجزأين فيها كقوله :
2209 إذا اسْوَدَّ جنحُ الليلِ فلتأتِ ولتكنْ ... خُطاك خِفافاً إنَّ حُرَّاسنا أُسْدا
وقوله :
2210 إنَّ العجوزَ خَبَّةً جَرُوزا ... تأكلُ كلَّ ليلةٍ قَفيزا
قيل : ويؤيد ذلك قراءةُ الرفع أي في جَعْلها إياه خبراً ، فالموصولُ نعتٌ لله أو بيان له أو بدل منه ، أو يُجْعل خبراً ل إنَّ على ما تقدم من التخاريج ، ويجوز أن يكون معطوفاً على المدح رفعاً أو نصباً .
وقوله : { فِي سِتَّةِ } أصل ستة : سِدْس فقُلِبَتْ السينُ تاءً فلاقَتْها الدال وهي مقاربةٌ لها ساكنة فوجب الإِدغام ، وهذا الإِبدالُ لازمٌ ، ويدلُّ على أن هذا هو الأصل رجوعُه في التصغير إلى سُدَيْسَةٍ وفي الجمع [ أَسْداس ، وقولهم : جاء فلان سادساً وساتَّاً وسادِياً بالياء مثناة ] مِنْ أسفل قال الشاعر :
2211 . . . . . . . . . . . . . . . ... وتَعْتَدُّني إن لم يَقِ اللهُ ساديا
أي سادساً فأبدلها ياء .
و { فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } الظاهر أنه ظرفٌ ل { خَلَقَ السماوات والأرض } فاسْتُشْكِل على ذلك : أن اليوم إنما هو بطلوع الشمس وغروبها وذلك إنما هو بعد وجودِ السماوات والأرض . وأجابوا عنه بأجوبة منها : أن الستةَ ظرفٌ لخلق الأرض فقط ، فعلى هذا يكون قوله { خَلَقَ السماوات } مطلقاً لم يُقَيَّدْ بمدة ، ويكون قولُه « والأرض » مفعولاً بفعل مقدر أي وخلق الأرض ، وهذا الفعلُ مقيدٌ بمدة ستة أيام ، وهذا قولٌ ضعيف جداً . وقوله « ثم استوى » الظاهرُ عَوْدُ الضمير على الله تعالى بالتأويل المذكور في البقرة . وقيل : الضمير يعود على الخَلْق المفهوم مِنْ خَلَق أي : ثم استوى خَلْقُه على العرش . ومثله : { الرحمن عَلَى العرش استوى } [ طه : 5 ] قالوا : يحتمل أن يعود الضمير في « استوى » على الرحمن ، وأن يعود على الخَلْق ، ويكون « الرحمن » خبراً لمبتدأ محذوف أي : هو الرحمن .
والعرش : يُطْلق بإزاءِ معانٍ كثيرة فمنه سرير المَلِك ، وعليه { نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا } [ النمل : 41 ] { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش } [ يوسف : 100 ] . ومنه السلطان والعزُّ ، وعليه قول زهير :
2212 تدارَكْتُما عبساً وقد ثُلَّ عرشُها ... وذبيانَ إذ زلَّتْ بأقدامها النَّعْلُ
2213 إنْ يَقْتُلوك فقد ثَلَلْتُ عروشَهُمْ ... بربيعةَ بن الحارث بن شهاب
ومنه خشب تُطوى به البئرُ بعد أن يُطوى بالحجارة أسفلُها . ومنه ما يلاقي ظهر القدم وفيه الأصابع . ومنه السقف وكلُّ ما علاك فهو عرش ، وكأن المادة دائرة مع العلو والرفعة ، ويقال لأربعة كواكب صغار أسفلَ من العَوَّاء .

قوله : { يُغْشِي الليل النهار } قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحفص هنا وفي سورة الرعد « يُغْشي » مخففاً مِنْ أغشى على أفْعَل ، والباقون على التشديد مِنْ غشَّى على فَعَّل ، فالهمزةُ والتضعيفُ كلاهما للتعدية أكسبا الفعلَ مفعولاً ثانياً ، لأنه في الأصل متعدٍ لواحدٍ فصار الفاعل مفعولاً . وقرأ حميد بن قيس « يَغْشى » بفتح الياءِ والشين ، « الليلُ » رفعاً ، « النهار » نصباً هذه رواية الداني عنه . وروى ابن جني عنه نصب « الليل » ورفع « النهار » . قال ابن عطية : « ونَقْلُ ابن جني أَثْبَتُ » وفيه نظرٌ من حيث إن الداني أعنى من أبي الفتح بهذه الصناعة وإن كان دونه في العلم بطبقات ، ويؤيد روايةَ الداني أيضاً أنها موافقةٌ لقراءة العامة من حيث المعنى ، وذلك أنه جعل الليل فاعلاً لفظاً ومعنى ، والنهار مفعولاً لفظاً ومعنى ، وفي قراءة الجماعة : الليل فاعل معنى ، والنهار مفعول لفظاً ومعنى ، وذلك أن المفعولَيْن في هذا الباب متى صَلُح أن يكونَ كلٌّ منهما فاعلاً ومفعولاً في المعنى وَجَبَ تقديمُ الفاعل معنى لئلا يُلْبِسَ نحو : « أعطيت زيداً عمراً » فإن لم يُلْبس نحو : « أعطيت زيداً درهماً ، وكَسَوْتُ عمراً جبةً » جاز ، وهذا كما في الفاعل والمفعول الصريحين نحو : ضرب موسى عيسى ، وضرب زيد عمراً ، وهذه الآيةُ الكريمةُ من باب « أعطيت زيداً عمراً » لأن كلاً من الليل والنهار يَصْلُح أن يكون غاشياً مغشِّياً فوجَبَ جَعْلُ « الليل » في قراءة الجماعة هو الفاعل المعنوي و « النهار » هو المفعول من غير عكس ، وقراءة الداني موافقةٌ لهذه لأنها المصرَِّحةُ بفاعلية الليل ، وقراءة ابن جني مخالفةٌ لها ، وموافقةُ الجماعة أولى . قلت : وقد روى الزمخشري قراءةَ حميد كما رواها أبو الفتح فإنه قال : « يُغَشِّي » بالتشديد : أي يلحق الليل بالنهار أو النهار بالليل ، يحتملهما جميعاً ، والدليل على الثاني قراءةُ حميد بن قيس « يَغْشى » بفتح الياء ونصب الليل ورفع النهار « انتهى . وفيما/ قاله أبو القاسم نظر لِما ذَكَرْتُ لك من أن الآية الكريمة مما يجب فيها تقديمُ الفاعل المعنوي ، وكأن أبا القاسم تبع أبا الفتح في ذلك فلم يلتفتْ إلى هذه القاعدةِ المذكورة سهواً .
قوله » يَطْلبه « حال من الليل لأنه هو المحدَّث عنه أي : يغشى النهار طالباً له ، ويجوز أن يكونَ من النهار أي مطلوباً وفي الجملة ذِكْرُ كلٍّ منهما . و » حثيثا « يُحتمل أن يكون نعتَ مصدرٍ محذوف أي : طَلَباً حثيثا ، وأن يكون حالاً من فاعل » يطلبه « أي حاثَّاً ، أو من مفعوله أي : محثوثاً . والحَثُّ : الإِعجال والسرعة والحَمْل على فعلِ شيءٍ كالحَضِّ عليه ، فالحثُّ والحضُّ أخَوان .

يقال : حَثَثْتُ فلاناً فاحتثَّ فهو حثيث ومحثوث . قال :
2214 تَدَلَّى حثيثاً كأنَّ الصُّوا ... رَ يَتْبَعُهُ أُزْرَقِيٌّ لَحِمْ
فهذا يُحتمل أن يكونَ نعتَ مصدرٍ محذوف ، وأن يكونَ حالاً أي : تولَّى تَوَلِّيَاً حثيثاً أو تولَّى في هذه الحال .
قوله : { والشمس } قرأ ابن عامر هنا وفي النحل برفع « الشمس » وما عُطف عليها ورفع « مُسَخَّرات » ، وافقه حفص عن عاصم في النحل خاصة على رفع { والنجوم مُسَخَّرَاتٍ } ، والباقون بالنصب في الموضعين . وقرأ أبان ابن تغلب هنا برفع « النجوم » وما بعدها فقط ، كحفص في النحل .
فأما قراءةُ ابن عامر فعلى الابتداء والخبر ، جعلها جملةً مستقلة بالإِخبار بأنها مسخرات لنا من الله تعالى لمنافعنا . وأما قراءة الجماعة فالنصبُ في هذه السورة على عطفها على « السماوات » أي : وخلق الشمس ، وتكون « مسخرات » على هذا حالاً من هذه المفاعيل . ويجوز أن تكون هذه منصوبة ب « جَعَل » مقدراً ، فتكون هذه المنصوباتُ مفعولاً أول ، ومسخرات مفعولاً ثانياً .
وأما قراءةُ حفص في النحل فإنه إنما رفع هناك لأن الناصبَ هناك « سخَّر » وهو قولُه تعالى { وَسَخَّرَ لَكُمُ الليل والنهار والشمس والقمر } ، فلو نصب النجوم ومسخرات لصار اللفظ : سَخَّرها مسخرات ، فيلزم التأكيد فلذلك قطعهما على الأول ورفعهما جملةً مستقلة . والجمهورُ يخرِّجونها على الحال المؤكدة وهو مستفيضٌ في كلامهم ، أو على إضمار فعل قبل « والنجوم » أي : وجعل النجوم مسخرات ، أو يكون « مسخرات » جمع مُسَخَّر المراد به المصدر ، وجُمِع باعتبار أنواعه كأنه قيل : وسخَّر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم تسخيرات أي أنواعاً من التسخير .
وقوله : { بِأَمْرِهِ } متعلق بمسخرات أي بتيسيره وإرادته لها في ذلك . ويجوز أن تكون الباءُ للحال أي : مصاحبةً لأمره غيرَ خارجةٍ عنه في تسخيرها . وقوله : { لَهُ الخلق والأمر } يجوز أن يكون مصدراً على بابه ، وأن يكونَ واقعاً موقع المفعول به .

ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)

وقوله تعالى : { تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } : نصب على الحال أي : متضرِّعين مُخْفين الدعاءَ ليكونَ أقربَ إلى الإِجابة . ويجوز أن ينتصبا على المصدر أي دعاءَ تضرُّع وخفية . وقرأ أبو بكر « خِفية » بكسر الخاء وقد تقدم ذلك في الأنعام ، إلا أن كلامَ أبي علي يُرْشِد إلى أن « خِفْيَة » بالكسر بمعنى الخَوْف ، وهذا إنما يتأتَّى على ادِّعاء القلب أي يُعتقد تقدُّمُ اللامِ على العين وهو بعيدٌ ، ولأنه كان ينبغي أن تعودَ الواوُ إلى أصلها ، وذلك أن خِيْفة « ياؤها عن واو لسكونها وانكسار ما قبلها ، ولما أُخِّرَت الواو تحرَّكت وسُكِّن ما قبلها ، إلا أن يُقال : إنها قُلبت متروكةً على حالها . وقرأ الأعمش » وخِيْفة « وهي تؤيد ما ذكره الفارسي ، نَقَل هذه القراءة عنه أبو حاتم . وقرأ ابن أبي عبلة » إن الله « أتى بالجلالة مكان الضمير .

وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)

قوله تعالى : { خَوْفاً وَطَمَعاً } : حالان أي ادْعُوه ذوي خوف وطمع ، أو خائفين طامعين ، أو مفعولان من أجلهما أي : لأجل الخوف والطمع .
قوله : { قَرِيبٌ } إنما لم يؤنِّثها وإن كانت خبراً عن مؤنث لوجوه منها : أنها في معنى الغفران فحُمِلت عليه ، قاله النضر بن شميل واختاره أبو إسحاق . ومنها : أنها صفةٌ لموصوفٍ مذكر حذف وبقيت صفتُه ، والتقدير : إن رحمة الله شيء قريب . ومنها : أنها في معنى العفو أو المطر أو الرحم . ومنها : أنها بمعنى النسب أي ذات قرب كحائض أي ذات حيض . ومنها : تشبيهُ فعيل بمعنى فاعل بفعيل بمعنى مفعول فيستوي فيه المذكر والمؤنث كجريح ، كما حُمِل هذا عليه حيث قالوا : أسير وأُسَراء ، وقبيل وقُبَلاء ، حَمْلاً على رحيم ورُحَماء وعليم وعُلَماء وحكيم وحُكَماء . ومنها : أنه مصدرٌ جاء على فعيل كالنَّقِيق وهو صوت الضفدع والضَّغيب وهو صوت الأرنب ، وإذا كان مصدراً/ لزم الإِفرادُ والتذكير . ومنها : أنها بمعنى مفعول أي مُقَرَّبة قاله الكرماني وليس بجيد؛ لأن فعيلاً بمعنى مفعول لا ينقاس ، وعلى تقدير اقتياسه فإنما يكون من الثلاثي المجرد لا من المزيد فيه ، ومُقَرَّبة من المزيد فيه . ومنها : أنه من باب المؤنث المجازي فلذلك جاز التذكيرُ كطلع الشمس . قال بعضهم : « وهو غيرُ جيد لأن ذلك حيث كان الفعل متقدماً نحو : طلع الشمس ، أما إذا تأخر وَجَبَ التأنيثُ إلا في ضرورة شعر كقوله :
2215 . . . . . . . . . . . . . . ... ولا أرضَ أبقلَ إبقالها
قلت : وهذا يجيء على مذهب ابن كيسان فإنه لا يَقْصُر ذلك على ضرورة الشعر بل يُجيزه في السَّعة . وقال الفراء : » قريبة وبعيدة : إمَّا أن يُراد بها النسبُ وعدمُه فتؤنثها العرب ليس إلا ، فيقولون : فلانةٌ قريبةٌ مني أي في النسب ، وبعيدةٌ مني أي في النسب ، أمَّا إذا أريد القربُ في المكان فإنه يجوز الوجهان؛ لأن قريباً وبعيداً قائمٌ مقام المكان فتقول : فلانةٌ قريبةٌ وقريب ، وبعيدة وبعيد . التقدير : هي في مكانٍ قريبٍ وبعيد . وأنشد :
2216 عشيَّةَ لا عفراءُ منك قربيةٌ ... فَتَدْنو ولا عفراءُ منك بعيدُ
فجمع بين اللغتين . إلا أنَّ الزجاج ردَّ على الفراء قوله وقال : « هذا خطأ لأنَّ سبيلَ المذكر والمؤنث أن يجريا على أَفْعالهما » قلت : « وقد كَثُر في شعر العرب مجيءُ هذه اللفظةِ مذكرةً وهي صفة لمؤنث قال امرؤ القيس :
2217 له الويلُ إن أمسى ولا أمُّ سالمٍ ... قريبٌ ولا البَسْباسَةُ ابنةُ يشكرا
وفي القرآن { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة تَكُونُ قَرِيباً } [ الأحزاب : 63 ] وقال أبو عبيدة : » قريب في الآية ليس وصفاً لها ، إنما هو ظرفٌ لها وموضع ، فيجيء هكذا في المؤنث والاثنين والجميع ، فإن أريد بها الصفةُ وَجَبَت المطابقةُ ، ومثلُها لفظةُ « بعيد » أيضاً « . إلا أنَّ عليَّ بن سليمان الأخفش خطَّأه قال : » لأنه لو كانت ظرفاً لانتصَبَ كقولك : « إن زيداً قريباً منك » . وهذا ليس بخطأ لأنه يجوز أن يُتَّسعَ في الظرف فيعطى حكمَ الأسماء الصريحة فتقول : زيدٌ أمامُك وعمروٌ خلفُك برفع أمام وخلف ، وقد نصَّ النحاة على أنَّ نحو « إن قريباً منك زيد » أن « قريباً » اسم إنَّ ، و « زيدٌ » خبرها ، وذلك على الاتِّساع . و « من المحسنين » متعلقٌ ب « قريب » .

وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)

قوله تعالى : { بُشْراً } : قد تقدَّم خلافُ القراء في إفراد « الريح » وجمعها بالنسبة إلى سائر السور في البقرة . وأمَّا « بُشْراً » فقرأه في هذه السورة وحيث ورد في غيرها من السور نافع وأبو عمرو وابن كثير بضم النون والشين ، وهي قراءةُ الحسن وأبي عبد الرحمن وأبي رجاء بخلافٍ عنهم وشيبة بن نصاح والأعرج وعيسى بن عمر وأبي يحيى وأبي نوفل الأعرابيين . وفي هذه القراءة وجهان فيتحصَّل فيها ستة أوجه ، أحدها : أنَّ « نُشُراً » جمع ناشر كبازِل وبُزُل وشارِف وشُرُف وهو جمع شاذ في فاعل . ثم « نشر » هذا اختُلِفَ في معناه فقيل : هو على النسب : إمَّا إلى النَّشْر ضد الطيّ ، وإمَّا إلى النشور بمعنى الإِحياء كقوله : { وَإِلَيْهِ النشور } [ الملك : 15 ] والمعنى : ذا نشر أو ذا نشور ك « لابن » و « تامر » . وقيل : هو فاعِل مِنْ نَشَر مطاوع أَنْشر يقال : أنشر الله الميت فنشر فهو ناشر وأنشد :
2218 حتى يقولَ الناسُ ممَّا رَأَوا ... يا عجباً للميتِ الناشِرِ
وقيل : ناشر بمعنى مُنْشِر أي : المُحْيي تقول : نشر الله الموتى وأنشرها ، ففَعَل وأَفْعَل على هذا بمعنى واحد ، وهذه الثالثة ضعيفة .
الوجه الثاني : أن « نُشُراً » جمع نَشُور . هذا فيه احتمالان ، أحدهما : وهو الأرجح أنه بمعنى فاعِل ، وفَعول بمعنى فاعِل ينقاس جمعُه على فُعُل كصَبُور وصُبُر وشكور وشُكُر . والثاني : أنه بمعنى مفعول كرَكوب وحَلوب بمعنى مَرْكوب ومحلوب قالوا : لأنَّ الريح تُوْصَفُ بالموتِ وتوصفُ بالإِحياء ، فمن الأولِ قولُه :
2219 إني لأرجو أن تموتَ الريحُ ... فأقعدُ اليومَ وأستريحُ
ومن الثاني قولهم : « أنشرَ اللهُ الريحَ وأحياها » وفَعول بمعنى مفعول يُجْمع على فُعُل كرسول ورُسُل . وبهذا قال جماعة كثيرة ، إلا أن ذلك غيرُ مقيس في المفرد/ وفي الجمع ، أعني أنه لا ينقاس فَعول بمعنى مفعول لا تقول : زيد ضَروب ولا قتول بمعنى مضروب ومقتول ، ولا ينقاس أيضاً جمعُ فَعُول بمعنى مفعول على فُعُل .
وبيان ستة الأوجه في هذه القراءةِ : أنها جمع لناشِر بمعنى ذا نشر ضد الطيّ . الثاني : جمع ناشِر بمعنى ذي نشور . الثالث : جمع ناشر مطاوع أنشر . الرابع : جمعُ ناشِر بمعنى مُنْشِر . الخامس : جمع نُشور بمعنى فاعل . السادس : جمع نُشور بمعنى مَفْعول .
وقرأ ابنُ عامر بضمِّ النون وسكون الشين وهي قراءةُ ابن عباس وزر ابن حبيش ويحيى بن وثاب والنخعي وابن مصرف والأعمش ومسروق . وقد كُفِينا مؤونةَ تخريج هذه القراءة بما ذُكِر في القراءة قبلَها فإنَّها مخففةٌ منها كما قالوا : رُسْل في رُسُل وكُتْب في كُتُب ، فَسَلَبُوا الضمةَ تخفيفاً ، وإذا كانوا قد فعلوا ذلك في المفرد الذي هو أخفُّ من الجمع كقولهم في عُنُق : عُنْق ، وفي طُنُب ، طُنْب فما بالُهم في الجمع الذي أثقل من المفرد؟
وقرأ الأخَوان : « نَشْراً » بفتح النون وسكون الشين .

ووجهُها : أنها مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحال بمعنى ناشرة أو منشورة أو ذات نشر كلُّ ذلك على ما تقدَّم في نظيره . وقيل : نَشْراً مصدر مؤكِّد؛ لأنَّ أرسل وأنشر متقاربان . وقيل : نَشْراً مصدر على حذف الزوائد أي : إنشاراً ، وهو واقعٌ موقعَ الحال أي : مُنْشِراً أو مُنْشَراً حسبَ ما تقدَّم في ذلك .
وقرأ عاصم : « بُشْراً » بالباء الموحدة مضمومةً وسكونِ الشين ، وهو جمعُ بشيرة كنذيرة ونُذُر . وقيل : جمع فعيل كقليب وقُلُب ورغيف ورُغُف ، وهي مأخوذةٌ في المعنى من قوله تعالى : « وهو الذي يُرْسِلُ الرياحَ مُبَشِّرات » أي تُبَشِّر بالمطر ، ثم خُفِّفت الضمَّة كما تقدَّم في « نُشُر » . ويؤيد ذلك أن ابنَ عباس والسلمي وابن أبي عبلة قرؤوا بضمِّها ، وهي مرويَّةٌ عن عاصم نفسِه . فهذه أربعُ قراءاتٍ في السبع .
والخامسة ما ذكرْتُه الساعة عن ابن عباس ومَنْ معه . وقرأ مسروق : « نَشَراً » بفتح النون والشين ، وفيها تخريجان أحدهما : نقله أبو الفتح أنه اسمُ جمعٍ ك « غَيَب » و « نَشَأ » لغائبة وناشئة . والثاني : أن فَعَلاً بمعنى مفعول كقبَض بمعنى مقبوض . وقرأ أبو عبد الرحمن « بَشْراً » بفتح الباء وسكون الشين . ورُوِيَتْ عن عاصم أيضاً على أنه مصدرُ « بَشَر » ثلاثياً . وقرأ ابن السَّمَيْفَع « بُشْرى » بزنة رُجعى وهو مصدرٌ أيضاً . فهذه ثمان قراءات : أربع مع النون وأربع مع الباء ، هذا ما يتعلَّق بالقراءات وما هي بالنسبة إلى كونها مفردة أو جمعاً .
وأمَّا نصبها فإنها في قراءة نافع ومن معه وابنِ عامر منصوبةٌ على الحال من « الرياح » أو « الريح » حسبما تقدَّم في الخلاف . وكذلك هي في قراءة عاصم وما يُشْبهها . وأمَّا في قراءة الأخوين ومسروق فتحتمل المصدرية أو الحاليةَ ، وكلُّ هذا واضح وكذلك قراءة بُشْرى بزنة رُجْعى . ولا بد من التعرُّض لشيء آخر وهو أنَّ مَنْ قرأ « الرياح » بالجمع وقرأ « نُشْراً » جمعاً كنافع وأبي عمرو فواضحٌ .
وأمَّا مَنْ أفرد « الريح » وجمع « نشراً » كابن كثير فإنه يجعلُ الريحَ اسم جنس فهي جمع في المعنى فوَصَفَها بالجمع . كقول عنترة :
2220 فيها اثنتانِ وأربعونَ حَلُوبةً ... سُوداً كخافيةِ الغُرابِ الأسْحَمِ
والحالية في بعض الصور يجوز أن تكون مِنْ فاعل « يُرْسل » أو مفعوله ، وكلُّ هذا يُعْرف مما قَدَّمْتُه فلا حاجةَ إلى ذِكْر كلِّ صورةٍ بلفظها . و « بين » ظرف ل « يُرْسل » أو للبشارة فيمن قرأه كذلك .
وقوله : { حتى إِذَآ أَقَلَّتْ } غايةٌ لقوله « يرسل » . وأقلَّتْ : أي حَمَلَتْ ، مِنْ أَقْلَلْتُ كذا أي حملتُه بسهولة ، وكأنه مأخوذ من القِلَّة لأنه يقال : أَقَلَّه أي : حَمَله بسهولة فهو مستقلٌّ لما يحمله .

والقُلَّة بضم القاف هذا الظرفُ المعروف ، وقِلال هَجَر كذلك لأنَّ البعير يُقِلُّها أي يَحْملها . والسَّحاب تقدم تفسيره ، وأنه يُذَكَّر ويُؤَنَّثُ ، ولذلك عاد الضمير عليه مذكَّراً في قوله « سُقْناه » . ولو حُمِل على المعنى كما حُمِل قوله « ثقالاً » فجُمِع لقال « سقناها » . و « لبلدٍ » جعل الزمخشري اللامَ للعلة أي : لأجلِ بلده . قال الشيخ : « فرقٌ بين قولك : / سُقْت له مالاً ، وسُقْتُ لأجله مالاً ، فإنَّ » سُقْت له « أَوْصَلْتَه إليه وأَبْلَغْته إياه ، بخلاف » سُقْته لأجله « فإنه لا يلزم منه إيصاله له ، فقد يسوق المال لغيري لأجلي وهو واضحٌ . وقد تقدَّم الخلافُ في تخفيف » ميت « وتثقيله في آل عمران . وجاء هنا وفي الروم » يرسل « بلفظ المستقبل مناسَبةً لما قبله ، فإنَّ قبله : { ادْعُوه خَوْفاً } وهو مستقبل . وفي الروم { ليَجْزي الذين } وهو مستقبل . وأمَّا في الفرقان وفاطر فجاء بلفظ الماضي » أرسل « لمناسبةِ ما قبله وما بعده في المضيّ؛ لأنَّ قبله : { ألم تَرَ إلى ربِّك كيفَ مَدَّ الظلَّ » } وبعده { مَرَجَ البحرَيْن } ، فناسب ذلك الماضي ، ذكره الكرماني .
وقوله : { فَأَنْزَلْنَا بِهِ } الضميرُ في « به » يعودُ على أقربِ مذكورٍ وهو « بلد ميت » وعلى هذا فلا بد من أن تكون الباءُ ظرفيةً بمعنى : أنزلنا في ذلك البلد الميت الماء . وجعل الشيخُ هذا هو الظاهر . وقيل : الضمير يعود على السحاب . ثم في الباء وجهان ، أحدُهما : هي بمعنى « مِنْ » أي : فأنزلنا من السحاب الماء . والثاني : أنها سببيةٌ أي : فأنزلْنا الماءَ بسبب السحاب . وقيل : يعودُ على السَوْق المفهومِ من الفعل . والباءُ سببيةٌ أيضاً أي : فأنزلْنا بسبب سَوْقِ السحاب . وهو ضعيف لعَوْد الضمير على غيرِ مذكور مع إمكان عَوْدِه على مذكور .
وقوله : { فَأَخْرَجْنَا بِهِ } الخلافُ في هذه الهاء كالذي في قبلها ، ونزيد عليه وجهاً أحسنَ منها وهو العَوْدُ على الماء ، ولا ينبغي أن يُعْدَلَ عنه و « مِنْ » تبعيضيةٌ أو ابتدائية وقد تقدَّم نظيرُه . و « كذلك » نعتُ مصدر محذوف أي : يُخْرج الموتى إخراجاً كإخراجنا هذه الثمراتِ .

وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)

والبلد يُطْلَقُ على كل جزءٍ من الأرض عامراً كان أو خراباً ، وأنشدوا على ذلك قولَ الأعشى :
2221 وبلدةٍ مثلِ ظَهْر التُّرْسِ مُوْحشةٍ ... للجنِّ بالليل في حافاتِها زَجَلُ
و { بِإِذْنِ رَبِّهِ } يجوز أن تكونَ الباءُ سببيةً أو حاليةً . وقوله : « إلا نَكِداً » فيه وجهان أحدُهما : أن ينتصب حالاً أي عَسِراً مُبْطئاً . يقال منه نَكِد يَنْكَد نَكَداً بالفتح فهو نَكِد بالكسر . والثاني : أن ينتصب على أنه نعتُ مصدرٍ محذوف أي : إلا خروجاً نَكَداً . وَصَفَ الخروجَ بالنَّكَد كما يوصف به غيرُه ، ويؤيِّده قراءة أبي جعفر ابن القعقاع « إلا نَكَداً » بفتح الكاف . قال الزجاج : « وهي قراءةُ أهل المدينة » وقراءة ابن مصرِّف « إلا نَكْداً » بالسكون وهما مصدران . وقال مكي : « هو تخفيف نَكِد بالكسر مثل كَتْف في كتِف » يقال : رجل نَكِد وأَنْكد . والمَنْكُود : العطاء النَّزْر ، وأنشدوا في ذلك :
2222 وأَعْطِ ما أَعْطَيْتَه طَيِّباً ... لا خيرَ في المَنْكودِ والناكد
وأنشدوا أيضاً :
2223 لا تُنْجزِ الوعدَ إنْ وَعَدْتَ وإنْ ... أَعْطَيْتَ أَعْطَيْتَ تافِهاً نَكِدا؟
وقوله : { كذلك نُصَرِّفُ } كما تقدَّم في نظيره . وقرأ ابن أبي عبلة وأبو حيوة وعيسى بن عمر : « يُخْرَج » مبنياً للمفعول . « نباتُه » مرفوعاً لقيامِه مَقامَ الفاعل وهو الله تعالى . وقوله : { والذي خَبُثَ } صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ أي : والبلد الذي خَبُث ، وإنما حُذِف لدلالةِ ما قبلَه عليه ، كما أنه قد حُذِف منه الجارُّ في قوله « بإذن ربه » ، إذ التقديرُ : والبلد الذي خَبُث لا يَخْرُج بإذن ربه إلا نكداً . ولا بد من مضاف محذوف : إمَّا من الأول تقديره : وبيان الذي خَبُث لا يَخْرُج ، وإمَّا من الثاني تقديرُه : والذي خَبُث لا يخرج نباته إلا نكداً . وغايَر بين الموصولين فجاء بالأول بالألف واللام ، وفي الثاني جاء بالذي ، ووُصِلَتْ بفعل ماضٍ .

لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59)

قوله تعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا } : جوابُ قسمٍ محذوف تقديره : واللهِ لقد أرسَلْنا . قال الزمخشري : « فإن قلتَ : ما لهم لا يكادون ينطقون بهذه اللام إلا مع » قد « ، وقلَّ عنهم قولُه :
2224 حَلَفْتُ لها بالله حَلْفَةَ فاجرٍ ... لَناموا . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قلت : إنما كان ذلك لأن الجملةَ القسَمية لا تُساقُ إلا تأكيداً للجملة المقسمِ عليها التي هي جوابُها فكانت مَظَنَّةً لمعنى التوقع الذي هو معنى » قد « عند استماع المخاطب كلمة » القسم « ، وأمَّا غير أبي القاسم من النحاة فإنه قال : » إذا كان جواب القسم ماضياً مثبتاً متصرفاً : فإمَّا أن يكون قريباً مِنْ زمن الحال فتأتي ب « قد » وإلاَّ أَتَيْتَ باللام وحدها « فظاهر هذه العبارة جوازُ الوجهَيْن باعتبارَيْن .
وقال هنا : » لقد « من غير عاطفٍ وفي هود والمؤمنين : » ولقد « بعاطف . وأجاب الكرماني بأن في هود قد تقدَّم ذِكْرُ الرسول مرات ، وفي المؤمنين ذُكِر نوح ضمناً في قوله » وعلى الفلك « لأنه أولُ مَنْ صنعها [ فَحَسُنَ أن يُؤْتَى بالعاطف على ما تقدم ] بخلافه في هذه السورة/ .
قوله » غيره « قرأه الكسائي بخفض الراء في جميع القرآن ، والباقون برفعها . وقرأ عيسى بن عمر » غيرَه « بالنصب . فالجرُّ على النعت أو البدل من » إله « لفظاً . والرفعُ على النعتِ أو البدل من موضع » إله « لأنَّ » مِن « مزيدةٌ فيه ، وموضعهُ رفع : إمَّا بالابتداء وإمَّا بالفاعلية . ومنع مكي في وجهِ الجر أن يكونَ بدلاً من » إله « على اللفظ قال : » كما لا يجوزُ دخولُ « مِنْ » لو حَذَفْتَ المبدل منه لأنها لا تدخل في الإِيجاب « وهذا كلامٌ متهافت . والنصبُ على الاستثناء ، والقراءتان الأُوْلَيان أرجحُ؛ لأن الكلامَ متى كان غيرَ إيجاب رَجَحَ الإِتباع على النصب على الاستثناء ، وحكمُ » غير « حكمُ الاسمِ الواقعِ بعد » إلا « . و » من إله « إذا جَعَلْته مبتدأ فلك في الخبر وجهان أظهرهما : أنه » لكم « ، والثاني : أنه محذوفٌ أي : ما لكم مِنْ إلهٍ في الوجود أو في العالم غير الله ، و » لكم « على هذا تخصيصٌ وتبيين .
وجيء هنا بفاء العطف حيث قيل » فقال « وكذا في المؤمنين ، وفي قصة هود وصالح وشعيب هنا بغير فاء ، والأصل الفاء ، وإنما حُذِفَتْ تخفيفاً وتوسُّعاً واكتفاءً بالربط المعنوي ، وكانت الثواني فما بعدها بالحذف أوْلى ، وأمَّا في هود فيقدَّر قبل قوله » إني لكم « : فقال ، بالفاء على الأصل . وجاء هنا { مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ } فلم يَعْطِفْ هذه الجملةَ المنفيَّة بفاءٍ ولا غيرها لأنها مبينة ومنبِّهة على اختصاص الله تعالى بالعبادة ورَفْضِ ما سواه وكانت في غاية الاتصال .

قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60)

وقال ابن عطية : « وقرأ ابن عامر » المَلَوُ « بواو وهي كذلك في مصاحف الشام ، وهذه القراءة ليست مشهورةً عنه » .
قوله { لَنَرَاكَ } يجوز أن تكون القلبيةَ فتتعدَّى لاثنين ثانيهما « في ضلال » ، وأن تكون البصريةَ وليس بظاهر فالجارُّ حال ، وجعل الضلالَ ظرفاً مبالغةً في وَصْفهم له بذلك ، وزادوا في المبالغة بأن أكَّدوا ذلك بأنْ صَدَّروا الجملة ب « إنَّ » وفي خبرها اللام .

قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61)

وقوله تعالى : { لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ } : مِنْ أحسنِ الردَّ وأبلغه لأنه نفى أن تلتبسَ به ضلالةٌ واحدة فضلاً عن أن يحيطَ به الضلال ، ولو قال لستُ ضالاً لم يؤدِّ هذا المؤدَّى . وقوله : « ولكني » جاءت « لكن » هنا أحسنَ مجيء لأنها بين نقيضين ، لأن الإِنسان لا يخلو من أحد شيئين : ضلال أو هدى ، والرسالة لا تجامع الضلالَ . و « من رب » صفة لرسول و « مِنْ » لابتداء الغاية المجازية .

أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62)

وقوله تعالى : { أُبَلِّغُكُمْ } : يجوز أن تكونَ جملةً مستأنفة أُتي بها لبيان كونِه رسولاً ، ويجوز أن تكونَ صفةً لرسول ، ولكنه راعى الضمير السابق الذي للمتكلم فقال : « أُبَلِّغُكُمْ » ولو راعى الاسمَ الظاهر بعده لقال : يُبَلِّغكم ، والاستعمالان جائزان في كل اسم ظاهر سبقه ضميرٌ حاضر من متكلم أو مخاطب فتحرَّر لك فيه وجهان : مراعاةُ الضميرِ السابق وهو الأكثر ومراعاةُ الاسمِ الظاهر ، فتقول : « أنا رجلٌ أفعل كذا » مراعاةً ل : أنا . وإن شئت « أنا رجلٌ يفعل كذا » مراعاةً لرجل ، ومثله : « أنت رجل تفعل ويفعل » بالخطاب والغيبة . وقوله { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ } [ النمل : 47 ] جاء على الأكثر . ومثله ما لو وقع بعد الضمير موصولٌ نحو : « أنا الذي فَعَلْتُ وفعل » ، و « أنت الذي فعل وفعلت » . ومنه :
2225 نحن الذين بايَعُوا محمَّداً ... على الجهاد ما بقينا أبدا
فَجَمَعَ بين الاستعمالين ، وقد تقدَّم هذا بأوضحَ منه هنا .
وقرأ أبو عمرو : « أُبْلِغُكم » بالتخفيف والباقون بالتشديد ، وهذا الخلافُ جارٍ هنا في الموضعَيْن وفي الأحقاف . والتضعيف والهمزةُ للتعدية كأنزل ونَزَّل . وجمع « رسالة » باعتبار أنواعها من أمرٍ ونهيٍ ووَعْظٍ وزجر وإنذار وإعذار . وقد جاء الماضي على أفْعَل في قوله { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ } [ هود : 57 ] فهذا شاهدٌ لقراءة أبي عمرو ، وجاء على فَعَّل في قوله : { فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } [ المائدة : 67 ] فهذا شاهدٌ لقراءة الجماعة .

أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63)

قوله تعالى : { أَن جَآءَكُمْ } : أي مِنْ أَنْ جاءكم ، فلمَّا حَذَفَ الحرف جرى الخلاف المشهور . وقد تقدَّم الخلافُ في هذه الهمزة السابقة على الواو . وقدَّر الزمخشري على قاعدتِه معطوفاً عليه محذوفاً/ تقديرُه : أكذَّبتم وعَجِبْتم . و « مِنْ ربكم » صفةٌ لذِكْر . وقوله « على رجل » يجوز أن يكونَ على حذفِ مضافٍ أي : على لسان رجل . وقيل « على » بمعنى مع أي : مع رجل فلا حذف ، وقيل : لا حاجة إلى حَذْفٍ ولا إلى تضمينِ حرفٍ لأنَّ المعنى : أُنزل إليكم ذِكْرٌ على رجل ، وهذا أَوْلَى ، لأن التضمينَ في الأفعال أحسنُ منه في الحروف لقوتها وضعف الحروف .

فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64)

وقوله تعالى : { فِي الفلك } : يجوز أن يتعلَّق بأَنْجيناه أي : أنجيناه في الفلك . ويجوز أن تكونَ « في » حينئذ سببيةً أي : بسبب الفُلْك كقوله « إنَّ امرأةً دخلت النار في هرة » ويجوز أن يتعلق « في الفلك » بما تعلَّق به الظرفُ الواقعُ صلةً أي : الذين استقروا في الفلك معه . و « عَمِين » جمع عَمٍ ، وقد تقدَّم الكلامُ على هذه المادة . وقيل هنا : عمٍ إذا كان أعمى البصيرة غيرَ عارفٍ بأموره ، وأعمى أي في البصَر . قال زهير :
2226 وأَعْلَمُ عِلْمَ اليومِ والأمسِ قبله ... ولكنني عن عِلْمِ ما في غدٍ عَمِ
وهذا قول الليث . وقيل : عمٍ وأعمى بمعنىً ، كخَضِر وأخضر . وقال بعضهم : « عَمٍ » فيه دلالةٌ على ثبوت الصفة واستقرارِها كفَرِح وضَيّق ، ولو أُريد الحدوثُ لقيل : عامٍ كما يُقال : فارح وضائق . وقد قُرِئ « قوماً عامين » حكاها الزمخشري .

وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65)

قوله تعالى : { أَخَاهُمْ هُوداً } : « أخاهم » نصب بأَرْسَلْنا الأولى كأنه قيل : لقد أرسلْنا نوحاً وأرسلْنا إلى عادٍ أخاهم ، وكذلك ما يأتي من قوله { وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ } [ الأعراف : 73 ] { وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً } [ الأعراف : 85 ] { وَلُوطاً } [ الأعراف : 80 ] ويكون ما بعد « أخاهم » بدلاً أو عطف بيان . وأجاز مكي أن يكونَ النصبُ بإضمار « اذكر » وليس بشيء؛ لأن المعنى على ما ذكرْتُ مع عدم الاحتياج إليه .
و « عاد » اسم للحَيِّ ولذلك صَرَفَه ، ومنهم مَنْ جعله اسماً للقبيلة ، ولذلك منعه . قال :
2227 لو شَهْدَ عادَ في زمانِ عادِ ... لابْتَزَّها مَبارِكَ الجِلادِ
وعاد في الأصل اسم للأب الكبير ، وهو عاد بن عوص بن أرَم ابن سام بن نوح فسُمِّيت به القبيلةُ أو الحيّ ، وكذلك ما أشبهه من نحو « ثمود » إنْ جَعَلْته اسماً لمذكَّر صَرَفْتَه ، وإنْ جَعَلْته اسماً لمؤنث مَنَعْته . وقد بَوَّب له سيبويه باباً . وأمَّا هود فاشتهر في ألسنة النحاة أنه عربي ، وفيه نظرٌ؛ لأن الظاهرَ من كلام سيبويه لمَّا عَدَّه مع نوح ولوط أنه أعجمي ، ولأنَّ أبا البركات النسَّابة الشريف حكى أن أهل اليمن تزعم أن يَعْرُبَ ابنَ قحطان بن هود هو أولُ مَنْ تكلم بالعربية وسُمِّيت به العَرَبُ عَرَباً ، وعلى هذا يكون « هود » أعجمياً ، وإنما صُرِفَ لِما ذُكر في أخويه نوح ولوط . وهود اسمه عابر بن شالح بن أرفخشد بن سام بن نوح ، فمعنى « أخاهم » أنه منهم . ومَنْ قال : إنه مِنْ عاد في النسب فالأخوة ظاهرة .
وهنا « قال » بغير فاء وقد تقدَّم أنها مُرادةٌ . وقال الزمخشري : « فإن قلت : لِمَ يُحْذَفُ العاطفُ من قوله » قال يا قوم « ولم يقل : فقال ، كما في قصة نوح؟ قلت : هو على تقدير سؤال سائل قال : فما قال لهم هود؟ فقيل له : » قال يا قوم « . انتهى . وعلى هذا فلا تُقَدَّر هذه الفاءُ البتة .

قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66)

وقيل هنا : { قَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ } فوَصَفَ الملأَ بالكفر ، ولم يُوصفوا في قصة نوح . فقيل : لأن هذه صفةٌ مميزة ، إذ منهم مَنْ آمن كمرثد بن سعد بخلاف قوم نوح فإنه لم يؤمنْ منهم أحدٌ . قاله الزمخشري وغيرُه . وفيه نظرٌ لقوله تعالى { لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ } [ هود : 36 ] { وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } [ هود : 40 ] ويحتمل أنَّ حال مخاطبةِ نوحٍ لقومٍ لم يؤمن منهم أحد بعدُ ثم آمنوا ، بخلاف قصة هود فإنه حالَ الخطابِ كان فيهم مؤمن ، ويُحتمل أن يكونَ صفةً لمجرد الذمِّ من غير قَصْدِ تمييزٍ بها .

أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)

قوله تعالى : { إِذْ جَعَلَكُمْ } : في « إذ » وجهان أحدهما : أنه ظرفٌ منصوبٌ بما تضمَّنَتْه الآلاء من معنى الفعل كأنه قيل : واذكروا نِعَمَ اللهِ عليكم في هذا الوقت . ومفعولُ « اذكروا » محذوفٌ لدلالة قوله بعد ذلك : فاذكروا آلاءَ الله ، ولأنَّ قوله « إذ جعلكم خُلَفاء » ، وزادكم كذا هو نفس الآلاء ، وهذا ظاهرُ قولِ الحوفي . وقال الزمخشري : « إذ » مفعول اذكروا ، أي : / اذكروا هذا الوقتَ المشتمل على النِّعَمِ الجسيمة « .
وقوله { فِي الخلق } : يُحتمل أن يُراد به المصدر ، بمعنى في امتداد قاماتكم ، في حُسْن صُوَركم وعِظَم أجسامكم ، ويحتمل أن يُرادَ به معنى المفعول به أي : في المخلوقين بمعنى زادكم في الناس مثلكم بسطة عليهم ، فإنه لم يكن في زمانِهم مثلُهم في عِظَم الأَجْرام . وَرَدَ في التفسير أنَّ أقصرَهم ستون ذراعاً . وتقدَّم الخلاف في » بَسْطة « في البقرة .
قوله : { آلآءَ الله } أي نِعَمه ، وهو جمعٌ مفردُه » إلْيٌ « بكسر الهمزة وسكونِ اللام كحِمْل وأحمال ، أو » أُلْي « بضم الهمزة وسكون اللام كقُفل وأقفال ، أو » إلَى « بكسرِ الهمزة وفتح اللام كضِلَع وأضلاع وعِنب وأعناب ، أو » أَلَى « بفتحها كقفا وأقفاء ، قال الأعشى :
2228 ... أبيضُ لا يَرْهَبُ الهُزال ولا
يقطعُ رَحْمي ولا يَخُونُ إلى ... يُنشد بكسر الهمزة وهو المشهور وبفتحها ومثله » الآناء « جمع إنْي أو أُنْي أو إنَى أو أَنَى . وقال الأخفش : » إنْوٌ « . والآناء : الأوقات كقوله : { وَمِنْ آنَآءِ الليل } [ طه : 130 ] وسيأتي .

قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70)

قوله تعالى : { لِنَعْبُدَ } : متعلِّقٌ بالمجيء الذي أنكروه عليه . وقوله « إن كنتَ » جوابُه محذوف أو متقدم وهو « فَأْت به » .

قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71)

وقوله تعالى : { مِّن رَّبِّكُمْ } : إمَّا متعلق بوَقَع ، ومِنْ للابتداء مجازاً ، وإمَّا أن يتعلَّق بمحذوف لأنها حال إذ كانت في الأصل صفة لرجس . وقوله « سَمَّيْتُموها » صفةٌ لأسماء ، وكذلك الجملة من قوله « ما نَزَّل الله » و « مِنْ سلطان » مفعول « نَزَّل » ومِنْ مزيدة . و « من المنتظرين » خبر « إني » . و « معكم » فيه ما تقدَّم في قوله { إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين } [ الأعراف : 21 ] . ويجوز وهو ضعيف أن يكون « معكم » هو الخبر و « من المنتظرين » حال ، والتقدير : إني مصاحبُكم حالَ كوني من المنتظرين النصرَ والفرجَ من الله تعالى ، وليس بذاك لأن المقصود في الكلام هو الانتظارُ لمقابلة قوله « فانتظروا » فلا تُجْعل فَضْلة .

وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)

قوله تعالى : { وإلى ثَمُودَ } : ثمود اسم رجل وهو ثمود ابن جاثر بن إرَم بن سام وهو أخو جديس ، فثمود وجديس أخوان ثم سُمِّيت به هذه القبيلة ، والأكثر مَنْعُه اعتباراً بما ذكرته ، ومنهم مَنْ جَعَله اسماً للحيِّ فصرفه وهي قراءةُ الأعمش ويحيى بن وثاب في جميع القرآن ، وسيأتي لك خلاف بين القراء السبعة في سورة هود وغيرها . وقيل : سُمُّوا ثمود لقلة مائهم ، والثَّمْدُ الماء القليل . قال النابغة :
2229 واحْكُمْ كحكم فتاة الحي إذ نظرَتْ ... إلى حَمامٍ شِراعٍ واردِ الثَّمَدِ
وصالح اسم عربي وهو صالح بن آسف . وقيل : ابن عبيد بن آسف ابن كاشح بن أروم بن ثمود بن جاثر .
قوله : { قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ } قد كثُر إيلاءُ هذه اللفظةِ العواملَ ، فهي جاريةٌ مَجْرى الأبطح والأبرق في عدم ذِكْرِ موصوفها . وقوله : « من ربكم » يحتمل أن تتعلَّق بجاءتكم و « مِنْ » لابتداء الغاية مجازاً ، وأن تتعلق بمحذوف لأنها صفةُ بَيِّنة . ولا بد مِنْ حَذْف مضاف أي : من بينات ربكم ليتصادَقَ الموصوفُ وصفتُه . وقوله : « آية » نصب على الحال لأنها بمعنى العلامة . والعاملُ فيها : إمَّا معنى التنبيه ، وإمَّا معنى الإِشارة كأنه قال : أنبِّهكم عليها أو أُشير إليها في هذه الحال . ويجوز أن يكون العاملُ مضمراً تقديره : انظروا إليها في هذه الحال ، والجملةُ لا محلَّ لها لأنها كالجواب لسؤالٍ مقدر كأنهم قالوا : أين آيتك؟ فقال : هذه ناقةُ الله ، وأضافها إلى الله تشريفاً كبيت الله وروح الله ، وذلك لأنها لم تتوالد بين جَمَلٍ وناقة بل خَرَجَتْ من صَلْد كما هو المشهور .
وقوله { لِكُمْ } أي : أعني لكم ، وخُصُّوا بذلك لأنهم هم السائلوها أو المتفعون بها من بين سائر الناس لو أطاعوا . ويحتمل أن تكون « هذه ناقة الله » مفسرةً لقوله « بيِّنة » لأنَّ البينة تستدعي شيئاً يتبيَّن به المُدَّعَى ، فتكون الجملةُ في محل رفع على البدل ، وجاز إبدال جملةٍ من مفرد لأنها في قوته .
قوله : { في أَرْضِ الله } الظاهرُ تعلُّقه ب « تأكل » وقيل : يجوز تعلُّقه بقوله « فَذَرُوها » ، وعلى هذا فتكونُ المسألة من التنازع وإعمال الثاني ، ولو أعمل الأول لأضمر في الثاني فقال : تأكل فيها في أرض الله . / وانجزم « تأكل » جواباً للأمر . وقد تقدم الخلافُ في جازمه : هل هو نفسُ الجملة الطلبية أو أداة مقدرة؟ وقرأ أبو جعفر « تأكلُ » برفع الفعل على أنه حالٌ « ، وهو نظير { فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي } [ مريم : 6 ] رفعاً وجزماً .

وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)

قوله تعالى : { وَبَوَّأَكُمْ فِي الأرض } بوَّأه : أنزله منزلاً . والمَبَاءةُ المنزل ، وتقدَّمَتْ هذه المادة في آل عمران وهو يتعدَّى لاثنين ، فالثاني محذوف أي : بَوَّأكم منازل . و « في الأرض » متعلقٌ بالفعل وذُكِرَتْ ليبني عليها ما يأتي بعدها من قوله « تَتَّخذون » . قوله : « تَتَّخذون » يجوز أن تكونَ المتعديةَ لواحد ، فيكونَ « من سهولها » متعلقاً بالاتخاذ أو بمحذوف على أنه حال من « قصوراً » إذ هو في الأصل صفةٌ لها لو تأخر ، بمعنى أنَّ مادة القصور مِنْ سهل الأرض كالجبس واللِّبَن والآجرّ كقوله : { واتخذ قَوْمُ موسى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ } [ الأعراف : 148 ] أي : مادته من الحُلِيِّ . وقيل : « مِنْ » بمعنى في . وفي التفسير : أنهم كانوا يسكنون في القصور صيفاً وفي الجبال شتاءً . وأن تكونَ المتعدية لاثنين ثانيهما « من سهولها » .
قوله : { وَتَنْحِتُونَ الجبال بُيُوتاً } : يجوز أن تكون « الجبال » على إسقاط الخافض أي : من الجبال ، كقوله : { واختار موسى قَوْمَهُ } [ الأعراف : 155 ] فيكون « بيوتاً » مفعولَه . ويجوز أن يُضَمَّن « تَنْحِتون » معنى ما يتعدَّى لاثنين أي : وتتخذون الجبال بيوتاً بالنحت أو تُصَيِّرونها بيوتاً بالنحت . ويجوز أن يكون « الجبال » هو المفعول به و « بيوتاً » حالٌ مقدرة كقولك : خِطْ هذا الثوب جُبَّةً ، أي : مقدراً له كذلك . و « بيوتاً » وإن لم تكن مشتقةً فإنها في معناه أي : مسكونة .
وقرأ الحسن : « تَنْحَتون » بفتح الفاء . وزاد الزمخشري أنه قرأ : « تنحاتون » بإشباع الفتحة ألفاً ، وأنشد :
2230 يَنْباع من ذِفْرى غضوبٍ جَسْرَةٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقرأ يحيى بن مصرف وأبو مالك بالياء من أسفل على الالتفات . إلا أن أبا مالك فَتَح الحاء كقراءة الحسن . والسهلُ من الأرض مالان وسَهُلَ الانتفاع به ضد الحَزَن . والسهولة : التيسير . والقُصور : جمع قَصْر وهو البيت المُنيف ، سُمِّي بذلك لقُصور الناس عن الارتقاء إليه ، أو لأن عامَّة الناس يُقَصِّرون عن بناء مثله بخلاف خواصِّهم ، أو لأنه يُقتصر به على بُقْعَةٍ من الأرض بخلاف بيوت الشعر والعُمُد ، فإنها لا يُقتصر بها على بُقْعَةٍ مخصوصة لارتحال أهلها ، أو لأنه يَقْصُر مَنْ فيه أي يَحْبِسه ، ومنه : { وحُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الخيام } [ الرحمن : 72 ] والنَّحْتُ : النَّجْر في شيء صُلْب كالحجر والخشب قال :
2231 أمَّا النهارُ ففي قَيْدٍ وسلسلةٍ ... والليلُ في بَطْنِ منحوت من الساج
وقرأ الأعمش : « ولا تِعْثُوا » بكسر حرف المضارعة . وقد تقدم أن ذلك لغةٌ . و « مفسدين » حال مؤكدة إذ معناها مفهوم من عاملها . و « في الأرض » متعلقٌ بالفعلِ قبله أو بمفسدين .

قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75)

قوله تعالى : { قَالَ الملأ } : قرأ ابن عامر وحده : « وقال » بواو عطف نسقاً لهذه الجملة على ما قبلها ، وموافقةً لمصاحف الشام ، فإنها مرسومة فيها . والباقون بحَذْفِها : إمَّا اكتفاءً بالربط المعنويِّ ، وإمَّا لأنه جواب لسؤالٍ مقدر كما تقدَّم نظيره ، وموافقةً لمصاحفهم ، وهذا كما تقدم في قوله : { وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ } [ الأعراف : 43 ] إلا أنه هو الذي حَذَف الواو هناك .
قوله : { لِلَّذِينَ استضعفوا } اللام للتبليغ . ويَضْعُف أن تكون للعلة . والسين في « استكبروا » و « استضعفوا » يجوز أن تكونَ على بابِها من الطلب أي : طلبوا أولئك الكِبْرَ من أنفسهم ومن المؤمنين الضعف . ويجوز أن يكون استفعل بمعنى فَعَل كعجب واستعجب .
قوله : { لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ } بدلٌ من « الذين اسْتُضْعِفُوا » بإعادة العامل ، وفيه وجهان أحدهما : أنه بدلُ كل مِنْ كل إن عاد الضمير في « منهم » على قومه ، ويكون المستضعفون مؤمنين فقط . كأنه قيل : قال المستكبرون للمؤمنين من قوم صالح . والثاني : أنه بدلُ بعضٍ من كل إن عادَ الضمير على المستضعفين ، ويكون المستضعفون ضربَيْن : مؤمنين وكافرين ، كأنه قيل : / قال المستكبرون للمؤمنين من الضعفاء دون الكافرين من الضعفاء .
وقوله : { أَتَعْلَمُونَ } في محلِّ نصب بالقول . و « من ربه » متعلق بمُرْسَل . و « مِنْ » للابتداء مجازاً ، ويجوز أن تكونَ صفةً فتتعلَّق بمحذوف .
قوله : { بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ } متعلِّقٌ ب « مؤمنون » قُدِّم للاختصاص والاهتمام وللفاصلة . و « ما » موصولةٌ . ولا يجوز هنا حَذْفُ العائد وإن اتحد الجارُّ للموصول وعائدِه؛ لاختلاف العامل في الجارَّيْن . وكذلك قوله : { بالذي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } [ الأعراف : 76 ] .

فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77)

والعَقْر أصله كشف العراقيب في الإِبل وهو : أن تُضْرب قوائمُ البعير أو الناقة فتقع ، وكانت هذه سنَتهم في الذَّبْح . قال امرؤ القيس :
2232 ويومَ عَقَرْتُ للعَذارى مطيَّتي ... فيا عَجَباً مِنْ رَحْلِها المُتَحَمَّلِ
ثم أُطْلِق على كل نحرٍ ، وإن لم يكنْ فيه كَشْفُ عراقيب تسميةً للشيء بما يلازمه غالباً إطلاقاً للسبب على مسبَّبه . هذا قول الأزهري . وقال ابن قتيبة : « العَقْر : القتل كيف كان ، عَقَرْتُها فهي معقورة » . وقيل : العَقْرُ : الجرح . وعليه قول امرئ القيس :
2233 تقول وقد مال الغَبيط بنا معاً ... عَقَرْتَ بعيري يا امرأَ القيسِ فانزِلِ
تريد : جَرَحْتَه بثقلك وتمايُلِكَ . والعُقْر والعَقْر بالفتح ، والضم الأصل ، ومنه عَقَرْتُه أي : أصبت عَقْره يعني أصلَه كقولهم : كَبَدْتُه ورَأَسْتُه أي : أصبت كَبِده ورأسه ، وعَقَرْتَ النخل : قطعته من أصله . والكلب العَقُور منه . والمرأة عاقر ، وقد عُقِرَت . والعُقْر بالضم آخر الولد وآخر بيضة ، يقال : عُقِر البَيْض . والعَقار : بالفتح المِلْك من الأبنية ومنه « ما غُزي قوم في عُقْر دارهم إلا ذلُّوا » وبعضهم يَخُصُّه بالنخل . والعُقار بالضمِّ الخمر لأنها كالعاقِرة للعقل ورَفَعَ عَقِيْرَته أي : صوتَه ، وأصلُه أن رجلاً عَقَر رِجْلَه فَرفَع صوته فاستُعير لكل صائح . والعُقْر بالضم أيضاً : المَهْر .
وقوله : { وَعَتَوْاْ } العُتُوّ والعُتِيُّ : النُّبُوُّ أي : الارتفاع عن الطاعة يقال منه : عَتَا يَعْتُو عُتُوًّاً وعُتِيَّاً ، بقلب الواوين ياءين ، والأحسنُ فيه إذا كان مصدراً تصحيحُ الواوين كقوله : { وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً } [ الفرقان : 21 ] . وإذا كان جمعاً الإِعلالُ نحو : قوم عُتِيٌّ لأن الجمعَ أثقلُ ، قياسُه الإِعلالُ تخفيفاً . وقوله : { أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً } [ مريم : 69 ] . وقوله : { وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً } [ مريم : 8 ] أي : حالةً تتعذَّر مداواتي فيها وهو كقوله :
2234 . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ومن العَناءِ رياضَةُ الهَرِمِ
وقيل : العاتي : الجاسي أي اليابس . ويقال : عَثَا يَعْثُو عُثُوَّاً بالثاء المثلثة من مادة أخرى لأنه يقال : عَثِي يَعْثَى عِثِيَّاً وعثا يَعْثُو عُثُوَّاً ، فهو في إحدى لغتيه يشاركه « عتا » بالمثناة وزناً ومعنى ، ويقاربه في حروفه . والعَيْثُ أيضاً بتقديم الياء من أسفل على الثاء المثلثة هو الفساد ، فيحتمل أن يكونَ أصلاً وأن يكون مقلوباً فيه . وبعضهم يجعل العَيْث الفساد المُدْرَك حسَّاً والعِثِيّ في المُدْرَك حكماً وقد تقدم لك طرف من هذا .
وقوله : { يَا صَالِحُ ائتنا } يجوز لك على رواية مَنْ يُسَهِّل الهمزة وهو ورش والسوسي أن تُبْدِلَ الهمزة واواً ، فتلفظ بصورة يا صالحُ وْتِنا في الوصل خاصة ، تُبْدِل الهمزة بحركة ما قبلها وإن كانت منفصلة من كلمة أخرى . وقرأ عاصم وعيسى بن عمر : أُوْتنا بهمزٍ وإشباعِ ضم ، ولعله عاصم الحجدري لا ابن النجود ، وهذه القراءة لا تبعد عن الغلط لأن همزة الوصل في هذا النحوِ مكسورةٌ فمن أين جاءت ضمةُ الهمزة إلا على التوهُّم؟
وقوله : { بِمَا تَعِدُنَآ } العائدُ محذوفٌ أي : تَعِدُناه ، ولا يجوز أن تقدر « تَعِدُنا » متعدياً إليه بالباء ، وإن كان الأصلُ تعديتَه إليه بها؛ لئلا يلزمَ حذفُ العائدِ المجرور بحرفٍ من غير اتحادِ متعلَّقهما ، لأنَّ « بما » متعلِّقٌ بالإِتيان ، و « به » متعلِّقٌ بالوعد .

فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78)

والرَّجْفَةُ : الزلزلةُ الشديدة يقال : رَجَفَتِ الأرضُ تَرْجُف رَجْفاً ورَجِيْفاً ورجَفاناً . وقيل : الرَّجْفَةُ : الطامَّةُ التي يتزعزعُ لها الإِنسانُ ويضطرب ، ومنه قيل للبحر : رَجَّاف لاضطرابه . وقيل : أصلُه مِنْ رجَفَ به البعيرُ إذا حرَّكه في سَيْره ، قال ابن أبي ربيعة :
2235 ولَمَّا رَأَيْتُ الحجَّ قد حان وقتُه ... وظَلَّتْ جِمال القومِ بالحيِّ تَرْجُفُ
والإِرجاف : إيقاعُ الرَّجْفَةِ ، وجمعُه الأراجيف ومنه « الأراجيف ملاقيحُ الفِتَنِ » . وقوله : { يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة } [ النازعات : 4 ] كقوله : { إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا } [ الزلزلة : 1 ] ومنه :
2236 تُحْيي العظام َالراجفاتِ من البِلى ... وليس لداءِ الرُّكبتين طبيبُ
والجُثُوم : اللُّصوقُ بالأرض مِنْ جُثُوم الطائر والأرنب ، فإنه يَلْصِقُ بطنَه/ بالأرض ، ومنه رجلٌ جُثَمَة وجَثَّامة ، كناية عن النؤوم الكَسْلان ، وجُثْمان الإِنسان شخصُه قاعداً . وقال أبو عبيد : « الجُثُوم للناس والطيرِ كالبُروك للإِبل . وأنشد لجرير :
2237 عَرَفْتُ المُنْتَأَى وعَرَفْتُ منها ... مَطايا القِدْر كالحِدَأ الجُثُومِ
قال الكرماني : » حيث ذُكِرت الرَّجْفةُ وُحِّدت الدار ، وحيث ذُكرت الصيحةُ جُمِعَتْ ، لأنَّ الصيحةَ كانت من السماء فبلوغُها أكبرُ وأبلغُ من الزلزلة ، فَذَكَرَ كلَّ واحدٍ بالأليق به . وقيل في دارهم : أي بلدهم . وقيل : المرادُ بها الجنسُ . والفاء في « فَأَخَذَتْهم » للتعقيب . ويمكن أن تكونَ عاطفةً على الجملة من قوله « فَأْتِنا » وذلك على تقديرِ قربِ زمان الهلاك من زمان طلب الإِتيان . ويجوز أن يُقَدَّر ما يَصِحُّ العطفُ عليه بالفاء ، والتقدير : فوعدهم العذابَ بعد ثلاث فانقضت فأَخَذَتْهم .
ولا يُلتفت إلى ما ذكره بعضُ الملاحدةِ في قوله { فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ } وفي موضعٍ آخرَ : { الصيحة } [ هود : 67 ] ، وفي موضع آخر { بالطاغية } [ الحاقة : 5 ] واعتقد ما لا يجوز ، إذ لا منافاةَ بين ذلك ، فإن الرَّجْفَةَ مترتبةٌ على الصيحة ، لأنه لمَّا صِيح بهم رَجَفَتْ قلوبُهم فماتوا ، فجاز أن يُسْنَدَ الإِهلاكُ إلى كلٍ منهما . وأمَّا « بالطاغية » فالباء للسببية . والطاغية : الطُّغيان مصدر كالعاقبة ، ويقال للمَلِكِ الجبار طاغية ، فمعنى « أُهْلِكوا بالطاغية » أي بطغيانهم كقوله : { كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ } [ الشمس : 11 ] أي : بسبب طُغْيانهم .
وقوله « فأصبحوا » يجوز أن تكونَ الناقصةَ ، فجاثمين خبرُها ، و { في ديارهم } متعلِّقٌ به ، ولا يجوزُ أن يكونَ الجارُّ خبراً و « جاثمين » حال لعدمِ الفائدة بقولك « فأصبحوا في دارهم » وإن جاز الوجهان في قولك : « أصبح زيد في الدار جالساً » ، ويجوز أن تكونَ التامَّةَ أي : دخلوا في الصباح ، و « جاثمين » حال ، والأولُ أظهرُ .

فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)

وقوله تعالى : { وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ } : قيل : « كان » محذوفة هنا لأنه حكايةُ حالٍ ماضية أي : ولكن كنتم لا تحبون .

وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80)

قوله تعالى : { وَلُوطاً } : فيه وجهان أحدهما : أنه منصوب بأَرْسَلْنا الأول ، و « إذا » ظرفٌ للإِرسال . والثاني : أنه منصوبٌ بإضمار « اذكر » . وفي العامل في الظرفِ حينئذٍ وجهان ، أحدهما : وهو قول الزمخشري أنه بدلٌ من « لوطاً » قال : « بمعنى : واذكر وقتَ إذ قال لقومه » وهذا على تسليمِ تصرُّفِ « إذ » . والثاني : أن العاملَ فيها مقدَّرٌ تقديرُه : واذكر رسالةَ لوطٍ إذ قال . فإذ منصوب برسالة . قاله أبو البقاء ، والبدلُ حينئذٍ بدلُ اشتمال .
قوله : { مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ } في هذه الجملةِ وجهان ، أحدهما : أنها مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإِعراب . وعلى الاستئنافِ يُحتمل أن تكونَ جواباً لسؤال وأَنْ لا تكونَ . قال الزمخشري : « فإن قلت : ما موضعُ هذه الجملة؟ قلت : لا مَحَلَّ لها لأنها مستأنفة ، أنكر عليهم أولاً بقوله : { أَتَأْتُونَ الفاحشة } ثم وبَّخهم عليها فقال : أنتم أولُ مَنْ عَمِلَها . أو تكونُ جواباً لسؤال مقدَّر ، كأنهم قالوا : لِمَ لا تأتيها؟ فقال : ما سبقكم بها أحدٌ فلا تفعلوا ما لم تُسْبَقوا به » .
والباء في « بها » فيها وجهان ، أظهرهُما : أنها حاليةٌ أي : ما سَبَقكمْ أحدٌ مصاحِباً لها أي : ملتبساً بها . والثاني : أنها للتعديةِ . قال الزمخشري : « الباءُ للتعدية مِنْ قولك : » سَبَقْته بالكُرة « إذا ضربْتَها قبله . ومنه قوله عليه السلام : » سبقك بها عُكاشة « قال الشيخ : » والتعديةُ هنا قلقةٌ جداً؛ لأنَّ الباءَ المعدِّية في الفعل المتعدي لواحد [ هي ] بجَعْل المفعولِ الأولِ يَفْعل ذلك الفعلَ بما دَخَلَتْ عليه الباءُ فهي كالهمزة ، وبيان ذلك أنك إذا قلت : « صَكَكْتُ الحجرَ بالحجر » كان معناه : أَصْكَكْت الحجرَ أي : جَعَلْت الحجر يَصُكُّ الحجر ، فكذلك : دَفَعْتُ زيداً بعمرو عن خالد ، معناه : أدفعت زيداً عمراً عن خالد أي : جَعَلْتُ زيداً يدفع عمراً عن خالد ، فللمفعول الأول تأثيرٌ في الثاني ، ولا يصحُّ هذا المعنى هنا إذ لا يَصِحُّ أن يقدَّر : أَسْبَقْتُ زيداً الكرة أي : جَعَلْتُ زيداً يَسْبِق الكرة إلا بمجازٍ متكلِّف ، وهو أن تجعلَ ضربَك للكرة أولَ جَعْلٍ ضربةً قد سبقها أي تقدَّمها في الزمان فلم يجتمعا « . و » مِنْ « الأولى لتأكيد الاستغراق والثانية للتبعيض .
الوجه الثاني من وجهَيْ الجملة : أنها حال ، وفي صاحبها وجهان أحدهما : هو الفاعل أي : أتأتون مبتدئين بها . والثاني : هو المفعول أي : / أتأتونها مُبْتَدَأً بها غيرَ مسبوقةٍ من غيركم .

إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81)

قوله تعالى : { أإنكم } : قرأ نافع وحفص عن عاصم : « إنكم » على الخبر المستأنف وهو بيانٌ لتلك الفاحشةِ . وقرأ الباقون بالاستفهام المقتضي للتوبيخ .
قوله : { شَهْوَةً } فيه وجهان ، أحدُهما : أنه مفعولٌ من أجله أي : لأجلِ الاشتهاء ، لا حاملَ لكم عليه إلا مجردُ الشهوة لا غير . والثاني : أنها مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحال أي : مشتهين أو باقٍ على مصدريته ، ناصبه « أتَأْتُون » لأنه بمعنى أتشتهون . ويقال : شَهِيَ يَشْهى شَهْوة ، وشَها يَشْهو شهوة قال :
2238 وأَشْعَثَ يَشْهى النومَ قلت له ارتحِلْ ... إذا ما النجومُ أعرضَتْ واسْبَكَرَّتِ
وقد تقدَّم ذلك في آل عمران .
قوله : { مِّن دُونِ النسآء } فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه حالٌ من « الرجال » أي : أتأتونهم منفردين عن النساء . والثاني : أنه متعلِّقٌ بشهوة قاله الحوفي . وليس بظاهرٍ أن تقولَ : « اشتهيت من كذا » ، إلا بمعنىً غيرِ لائق هنا . والثالث : أن يكونَ صفةً لشهوة أي : شهوةً كائنة من دونهن .
قوله : { بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ } « بل » للإِضرابِ ، والمشهور أنه إضراب انتقالٍ من قصة إلى قصة إلى قصة ، فقيل : عن مذكور ، وهو الإِخبارُ بتجاوزهم عن الحدِّ في هذه الفاحشةِ أو عن توبيخهم وتقريرِهم والإِنكارِ عليهم . وقيل : بل للإِضراب عن شيء ، محذوف . واختُلِفَ فيه : فقال أبو البقاء : « تقديره ما عَدَلْتُم بل أنتم » . وقال الكرماني : « بل » رَدٌّ لجوابٍ زعموا أن يكونَ لهم عُذْراً أي : لا عذرَ لكم بل « . وجاء هنا بصفة القوم اسمَ الفاعل وهو » مُسْرفون «؛ لأنه أدلُّ على الثبوت ولموافقة رؤوسِ الآيِ فإنها أسماء . وجاء في النمل » تَجْهَلُون « دلالةً على أنَّ جهلَهم يتجدَّد كلَّ وقتٍ ولموافقةِ رؤوس الآي فإنها أفعال .

وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)

قوله تعالى : { وَمَا كَانَ جَوَابَ } : العامَّةُ على نصب « جواب » خبراً للكون ، والاسمُ « أنْ » وما في حَيِّزها وهو الأفصحُ ، إذ فيه جَعْلُ الأعرفِ اسماً . وقرأ الحسن « جوابُ » بالرفع ، وهو اسمُها ، والخبر « إلا أَنْ قالوا » وقد تقدَّمَ ذلك . وأتى هنا بقوله « وما » ، وفي النمل والعنكبوت « فما » ، والفاء هي الأصلُ في هذا الباب لأنَّ المرادَ أنهم لم يتأخر جوابُهم عن نصيحته . وأمَّا الواوُ فالتعقيبُ أحدُ محاملها ، فتعيَّن هنا أنها للتعقيب لأمرٍ خارجي وهي العربية في السورتين المذكورتين لأنها اقتضَتْ ذلك بوضعها .

فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83)

قوله تعالى : { إِلاَّ امرأته } : استثناء من أهله المُنْجَيْن . وقوله : { كَانَتْ مِنَ الغابرين } جوابُ سؤالٍ مقدر . وهذا كما تقدم في البقرة وفي أول هذه السورة في قصة إبليس .
والغابر : المُقيم . هذا هو مشهورُ اللغة ، وأنشدوا قول أبي ذؤيب الهذلي :
2239 فَغَبَرْتُ بعدهمُ بعيشٍ ناصِبٍ ... وإخالُ أني لاحقٌ مُسْتَتْبَعُ
ومنه غُبَّرُ اللبن لبقيَّته في الضَّرْع ، وغُبَّرُ الحَيْض أيضاً ، قال أبو كبير الهذلي ، ويُروى لتأبَّط شراً :
2240 ومُبَرَّأً من كل غُبَّرِ حَيْضَةٍ ... وفَسادِ مُرْضِعَةً وداءٍ مُعْضِلِ
ومعنى « من الغابرين » في الآية أي : مِن المقيمين في الهلاك . وقال بعضهم : « غَبَر بمعنى مَضَى وذهب » ومعنى الآية يساعده ، وأنشد للأعشى :
2241 عَضَّ بما أَبْقى المَواسِيْ له ... مِنْ أُمِّه في الزمن الغابر
أي : الزمن الماضي . وقال بعضهم : غَبَر أي غاب ، ومنه قولهم : « غبر عنا زماناً » وقال أبو عبيدة : « غَبَرَ : عُمِّر دهراً طويلاً حتى هَرِم ، ويدل له : { إِلاَّ عَجُوزاً فِي الغابرين } [ الصافات : 135 ] . والحاصلُ أن الغُبور مشتركٌ كعسعس أو حقيقةٌ ومجازٌ وهو المرجح . والغبار : لما يَبْقى من التراب المُثار . ومنه { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ } [ عبس : 40 ] تخييلاً لتغيرها واسودادها . والغَبْراء الأرض . قال طرفة :
2242 رأيتُ بني غَبْراءَ لا يُنْكِرونني ... ولا أهلَ هذاكَ الطرافِ المُمَدَّدِ

وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)

قوله تعالى : { وَأَمْطَرْنَا } : قال أبو عبيد : « يقال : مُطِر في الرحمة ، وأُمْطِر في العذاب » وقال أبو القاسم الراغب : « ويقال : مُطِر في الخير ، وأُمْطِر في العذاب ، قال تعالى : { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً } [ الحجر : 74 ] وهذا مردودٌ بقوله تعالى : { هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } [ الأحقاف : 24 ] فإنهم إنما عَنَوا بذلك الرحمة ، وهو مِنْ أَمْطَر رباعياً . ومَطَر وأمْطَر بمعنى واحد يتعديان لواحد يقال : مَطَرتهم السماء وأَمْطرتهم ، وقوله تعالى هنا » وأَمْطَرْنا « ضُمِّن معنى » أرسلنا « ولذلك عُدِّي ب » على « ، وعلى هذا ف » مَطَراً « مفعول به لأنه يُراد به الحجارة ، ولا يُراد به المصدرُ أصلاً ، إذ لو كان كذلك/ لقيل : أمطار . ويوم مطير . أي : مَمْطور . ويوم ماطِر ومُمْطِر على المجاز كقوله : { فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ } [ إبراهيم : 18 ] ووادٍ مطير فقط فلم يُتَجَوَّزْ فيه . ومطير بمعنى مُمْطِر قال :
2243 حَمامةَ بطنِ الوادِيَيْنِ تَرَنَّمِي ... سقاكِ مِن الغُرِّ الغَوادي مطيرها
فعيل هنا بمعنى فاعل؛ لأنَّ السحاب يُمْطِرُ غيرها . ونكَّر » مطراً « تعظيماً .

وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85)

قوله تعالى : { وإلى مَدْيَنَ } : اختُلِف في مَدْين فقيل : أعجمي فمنعُه للعجمة والعَلَميَّة ، وهو مَدْين بن خليل الرحمن ، فسُمِّيت به القبيلة . وقيل : هو عربيٌّ اسمُ بلد قاله الفراء وأنشد :
2244 رهبانُ مَدْيَنَ والذين عَهِدْتُهُمْ ... يبكون مِنْ حَذَرِ العذابِ قُعودا
لو يَسْمعون كما سمعتُ كلامَها ... خَرُّوا لعَزَّةَ رُكَّعاً وسُجودا
فمنعُه للعَلَمِيَّة والتأنيث ، ولا بد حينئذ من حذف مضاف أي : وإلى أهل مَدْيَن ، ولذلك أعاد الضمير في قوله « أخاهم » على الأهل ، ويجوز أن يُراد بالمكان ساكنوه ، فروعي ذلك بالنسبة إلى عود الضمير عليه . وعلى تقدير كونه عربياً قالوا : فهو شاذ ، إذ كان من حقِه الإِعلالُ كمتاع ومقام ، ولكنهم شَذُّوا فيه كما شَذُّوا في مَرْيَم ومَكْوَزَة ، وليس بشاذ عند المبرد لعدم جريانه على الفعل ، وهو حقٌّ وإن كان الجمهور على خلافه .
شُعَيْب : يجوز أن يكون تَصْغير شِعْب أو شَعب هكذا قالوا ، والأدب ألاَّ يُقالَ ذلك ، بل هذا موضوعٌ على هذه الزِّنَة وأمَّا أسماءُ الأنبياء فلا يَدْخل فيها تصغيرٌ البتةَ إلا ما نَطَق به القرآن على صيغةٍ تشبهه كشعيب عليه السلام وهو عربيٌّ لا أعجمي .
قوله : { وَلاَ تَبْخَسُواْ } قد تقدَّم معنى هذه اللفظة في قوله : { وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً } [ البقرة : 282 ] ، وهو يتعدَّى لاثنين وهما : الناسَ وأشياءَهم أي : لا تُنْقصوهم أشياءهم .

وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)

قوله تعالى : { بِكُلِّ صِرَاطٍ } : يجوز أن تكونَ الباءُ على حالها من الإِلصاقِ أو المصاحبةِ ، أو تكونَ بمعنى في . و « تُوْعِدون » و « تَصُدُّون » و « تبغون » هذه الجملُ أحوالٌ أي : لا تقعدوا مُوْعِدين وصادِّين وباغين . ولم يذكر المُوْعَد به لتذهب النفسُ كلَّ مذهب . ومفعول « تصدُّون » « مَنْ آمن » ، قال أبو البقاء : « مَنْ آمن » مفعول « تصدُّون » لا مفعول « توعدون » إذ لو كان مفعولاً للأول لقال « تَصُدُّونهم » . يعني أنه لو كان كذلك لكانت المسألة من التنازع ، وإذا كانت من التنازع وأَعْمَلْتَ الأول لأضمرْتَ في الثاني فكنت تقول : تَصُدُّونهم ، لكنه ليس القرآن كذا ، فدلَّ على أن « توعدون » ليس عاملاً فيه ، وكلامُه يحتمل أن تكون المسألةُ من التنازع ويكون ذلك على إعمال الثاني ، وهو مختار البصريين وحَذَف من الأول وألاَّ تكونَ وهو الظاهر .
وظاهرُ كلام ِالزمخشري أنها من التنازع ، وأنه من إعمال الأول ، فإنه قال : « فإن قلت : إلام يَرْجِعُ الضمير في » مَنْ آمن به «؟ قلت : إلى كل صراط ، تقديره : تُوْعِدون مَنْ آمن به وتَصُدُّون عنه ، فوضعَ الظاهر الذي هو » سبيل الله « موضعَ المضمر زيادةً في تقبيح أمرهم » .
قال الشيخ : « وهذا تعسُّف وتكلُّف مع عدم الاحتياج إلى تقديمٍ وتأخيرٍ ووضْعِ ظاهرٍ موضعَ مضمر ، إذ الأصلُ خلافُ ذلك كلِّه ، ولا ضرورةَ تدعو إليه ، وأيضاً فإنَّه من إعمال الأول وهو مذهبٌ مرجوح ، ولو كان من إعمالِ الأول لأضمر في الثاني وجوباً ، ولا يجوز حذفهُ إلا في ضرورةِ شعرٍ عند بعضِهم كقوله :
2245 بعكاظَ يُعْشي الناظِرِيْ ... نَ إذا هُمُ لَمَحُوا شعاعُه
فأعمل » يُعْشي « ورفع به » شعاعُه « وحَذَفَ الضمير مِنْ » لمحوا « تقديره : لمحوه . وأجازه بعضُهم بقلةٍ في غير الشعر . والضمير في » به « : إمَّا لكل صراط كما تقدَّم عن أبي القاسم ، وإمَّا على الله للعلم به ، وإمَّا على سبيل الله ، وجاز ذلك لأنه يذكَّر ويؤنَّثُ ، وعلى هذا فقد جمع بين الاستعمالين هنا حيث قال » به « فذكَّر ، وقال : » وتَبْغُونها عِوَجاً « فأنَّثَ ، ومثلُه : { قُلْ هذه سبيلي } [ يوسف : 108 ] . وقد تقدم نحو قوله : » تَبْغونها عِوَجاً « في آل عمران فأغنى عن إعادته .
قوله : { واذكروا } : إمَّا أن يكون مفعولُه محذوفاً ، فيكونَ هذا الظرفُ معمولاً لذلك المفعولِ أي : اذكروا نعمتَه عليكم في ذلك الوقت ، وإمَّا أن تجعلَ نفسَ الظرفِ مفعولاً به . قاله الزمخشري . وقال ابنُ عطية : » إن الهاء في « به » يجوز أن تعود على/ شعيب عند مَنْ رأى أن القعودَ على الطرقِ للردِّ عن شعيب « وهو بعيدٌ لأنَّ القائل » ولا تَقْعدوا « هو شعيب ، وحينئذ كان التركيب » مَنْ آمن بي « والادِّعاءُ بأنه من بابِ الالتفات بعيدٌ جداً؛ إذ لا يَحْسُن أن يُقال : » يا هذا أنا أقول لك : لا تُهِنْ مَنْ أَكْرَمَه « أي : مَنْ أكرمني .
قوله : » كيف « وما في َحيِّزها معلِّقَةٌ للنظر عن العمل ، فهي وما بعدها في محلِّ نصبٍ على إسقاطِ الخافضِ . والنظرُ هنا التفكُّرُ ، و » كيف « خبر كان ، واجبُ التقديم .

وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87)

قوله تعالى : { وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ } : عطف على « طائفة » الأولى ، فهي اسم كان و « لم يؤمنوا » معطوفٌ على « آمَنوا » الذي هو خبر كان عَطَفَتْ اسماً على اسم وخبراً على خبر ، ومثله لو قلت : « كان عبدُ الله ذاهباً وبكر خارجاً » عَطَفْتَ المرفوعَ على مثله وكذلك المنصوب . وقد حذف وَصْفَ « طائفة » الثانية لدلالة وَصْفِ الأولى عليه ، إذ التقدير : وطائفةٌ منكم لم يؤمنوا ، وحَذَفَ أيضاً متعلَّق الإِيمان في الثانية لدلالة الأول عليه ، إذ التقديرُ : لم يؤمنوا بالذي أُرْسِلْتَ به ، والوصفُ بقوله « منكم » الظاهر أو المقدر هو الذي سَوَّغ وقوعَ « طائفة » اسماً ل « كان » من حيث إن الاسم في هذا الباب كالمبتدأ ، والمبتدأ لا يكون نكرةً إلا بمسوغٍ تقدَّم التنبيه عليه .
قوله : { فاصبروا } يجوز أن يكونَ الضميرُ للمؤمنين من قومه ، وأن يكونَ للكافرين منهم ، وأن يكونَ للفريقين ، وهذا هو الظاهرُ ، أُمِر المؤمنون بالصبر ليحصُل لهم الظفرُ والغَلَبَةُ ، والكافرون مأمورون به ليَنْصُرَ الله عليهم المؤمنين لقولِه تعالى : { قُلْ تَرَبَّصُواْ } [ الطور : 31 ] أو على سبيلِ التنازع معهم أي : اصبروا فستعلمون مَنْ ينتصر ومن يَغْلب ، مع علمه بأن الغلبةَ له . و « حتى » بمعنى « إلى » فقط ، وقوله : « بيننا » غَلَّب ضميرَ المتكلمِ على المخاطب ، إذ المرادُ : بيننا جميعاً مِنْ مؤمنٍ وكافرٍ ، ولا حاجةَ إلى ادِّعاءِ حَذْفِ معطوفٍ تقديره : بيننا وبينكم .

قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88)

قوله تعالى : { والذين آمَنُواْ } : عطفٌ على الكاف ، و « يا شعيبُ » اعتراضٌ بين المتعاطفَيْن .
قوله : « أو لَتَعُودُنَّ » عَطَفَ على جواب القسم الأول ، إذ التقدير : واللهِ لنخرجنَّكَ والمؤمنين أو لتعودُنَّ . فالعَوْدُ مسندٌ إلى ضمير النبي ومَنْ آمن معه . و « عاد » لها في لسانهم استعمالان : أحدهما وهو الأصلُ أنه الرجوعُ إلى ما كان عليه من الحال الأول . والثاني استعمالُها بمعنى صار ، وحينئذ ترفعُ الاسمَ وتنصِبُ الخبر ، فلا تكتفي بمرفوعٍ وتفتقر إلى منصوب ، وهذا عند بعضهم . ومنهم مَنْ منع أن تكون بمعنى صار ، فمِنْ مجيئها بمعنى صار عند بعضهم قولُ الشاعر :
2246 وَرَبَّيْتُه حتى إذا ما تركتُه ... أخا القوم واستغنى عن المسح شاربُهْ
وبالمَحْضِ حتى عاد جَعْداً عَنَطْنَطا ... إذا قام ساوى غاربَ الفحل غاربُهْ
فرفع ب « عاد » ضميرَ الأول ونَصَبَ بها « جَعْداً » ، ومَنْ مَنَع ذلك يَجْعل المنصوب حالاً ، ولكن استشكلوا على كونِها بمعناها الأصلي أنَّ شعيباً صلى الله عليه وسلم لم يكنْ قطُّ على دينهم ولا في مِلَّتِهِمْ . فكيف يَحْسُن أن يُقال « أو لتعودُنَّ » أي : لَتَرْجِعُنَّ إلى حالتكم الأولى ، والخطابُ له ولأتباعه؟ وقد أجيب عن ذلك بثلاثة أوجه : أحدها : أن هذا القولَ مِنْ رؤسائهم قصدوا به التلبيسَ على العوام والإِبهام لهم أنه كان على دينهم وفي مِلَّتِهِمْ . الثاني : أن يُراد بعَوْده رجوعُه إلى حالةِ سكوتِه قبل بعثته؛ لأنه قبل أن يبعث إليهم كان يُخْفي إيمانه وهو ساكتٌ عنهم ، يَرَى مِنْ معبودهم غيرَ الله . الثالث : تغليبُ الجماعةِ على الواحدِ لأنهم لمَّا صحبوه في الإِخراج سحبوا عليه وعليهم حكمَ العَوْد في الملَّة تغليباً لهم عليه . وأما إذا جَعَلْناها بمعنى صيَّر فلا إشكال في ذلك ، إذ المعنى : لَتَصِيرُنَّ في ملَّتنا بعد أن لم تكونوا ، / ففي مِلَّتنا حالٌ على الأول ، خبر على الثاني ، وعدَّى « عاد » ب « في » الظرفيةِ كأن المِلَّةَ لهم بمنزلةِ الوعاءِ المحيط بهم .
قوله : { أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ } الاستفهامُ للإِنكار تقديره : أيوجدُ منكم أحدُ هذين الشيئين : أعني الإِخراج من القرية والعَوْد في الملَّة على كل حال حتى في حال كراهيتنا لذلك؟ وقال الزمخشري : « الهمزةُ للاستفهام ، والواوُ واو الحال تقديره : أتُعيدوننا في ملَّتكم في حالِ كراهتنا » . قال الشيخ : « وليست هذه واوَ الحال بل واوُ العطف عَطَفَتْ هذه الحالَ على حالٍ محذوفة كقوله عليه السلام : » رُدُّوا السائل ولو بظِلْفٍ مُحْرَق « ليس المعنى : رُدُّوه حالَ الصدقة عليه بظِلْف مُحْرَق ، بل معناه : رُدُّوه مصحوباً بالصدقة ولو مصحوباً بظلف محرق . قلت : وقد تقدَّمتْ هذه المسألةُ وأنه يَصِحُّ أن تُسَمَّى واوَ الحال وواوَ العطف وتحريرُ ذلك ، ولولا تكريرُه لما كرَّرْته . وقال أبو البقاء : » ولو هنا بمعنى « إنْ » لأنها للمستقبل ، ويجوزُ أن تكونَ على أصلها ، ويكون المعنى : لو كنَّا كارهين في هذه الحال . قوله « لأنها للمستقبل » ممنوع .

قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)

قوله تعالى : { إِنْ عُدْنَا } : شرطٌ جوابه محذوف عند الجمهور أي : فقد افترَيْنا ، حُذِفَ لدلالةِ ما تقدَّم عليه ، وعند أبي زيد والمبرد والكوفيين هو قولُه : « فقد افترَيْنا » ، وهو مردودٌ بأنه لو كان جواباً بنفسه لوَجَبَتْ فيه الفاء . وقال أبو البقاء : « قد افترَيْنا بمعنى المستقبل لأنه لم يقع وإنما سَدَّ مَسَدَّ جواب » إنْ عُدْنا « وساغَ دخولُ » قد « هنا لأنهم نَزَّلوا الافتراءَ عند العَوْد منزلةَ الواقع فَقَرنوه بقد ، وكأنَّ المعنى : قد افترَيْنا الآن إن هَمَمْنا بالعَوْد » .
وفي هذه الجملةِ وجهان ، أحدهما : أنها استئنافُ إخبارٍ فيه معنى التعجب ، قاله الزمخشري كأنه قيل : ما أَكْذَبَنا على الله إن عُدْنا في الكفر . والثاني : أنها جوابُ قسمٍ محذوف حُذِفَت اللامُ منه ، والتقديرُ : واللهِ لقد افترينا ، ذكره الزمخشري أيضاً . وجعله ابن عطية احتمالاً وأنشد :
2247 بَقَّيْتُ ما لي وانحرَفْتُ عن العُلَى ... ولَقِيْتُ أضيافي بوجهِ عبوس
قال : « كما تقول » افتريْتُ على الله إن كلَّمت فلاناً « ولم يُنْشِدْ ابن عطية البيتَ الذي بعد هذا وهو محلًُّ الفائدة لأنه مشتملٌ على الشرط وهو :
إنْ لم أَشُنَّ على ابنِ هندٍ غارةً ... لم تَخْلُ يوماً من نهابِ نفوسِ
قوله : { بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا } منصوبٌ ب » نعود « أي : ما يكون ولا يستقيمُ لنا عَوْدٌ بعد أن حصل لنا التنجيةُ منها .
قوله : { إِلاَّ أَن يَشَآءَ } في هذا الاستثناء وجهان ، أحدهما : أنه متصل . والثاني : أنه منقطعٌ . ثم القائلون بالاتصال مختلفون فمنهم مَنْ قال : هو مستثنى من الأوقات العامة والتقدير : وما يكونُ لنا أن نعود فيها في وقتٍ من الأوقات إلا في وقت مشيئة الله ذلك ، وهذا متصورٌ في حَقِّ مَنْ عدا شعيباً ، فإن الأنبياءَ لا يشاء الله ذلك لهم لأنه عَصَمهم . ومنهم مَنْ قال : هو مستثنى من الأحوال العامة . والتقدير : ما يكونُ لنا أن نعودَ فيها في كل حال إلا في حال مشيئة الله تعالى . وقال ابن عطية : » ويُحتمل أن يريدَ استثناءَ ما يمكن أن يَتَعَبَّد الله به المؤمنين ممَّا تفعلُه الكفرةُ من القُرُبات فلمَّا قال لهم : إنَّا لا نعودُ في مِلَّتكم ، ثم خشي أن يُتَعَبَّد الله بشيءٍ من أفعال الكفرة فيعارض ملحدٌ بذلك ويقول : هذه عودةٌ إلى مِلَّتِنا استثنى مشيئة الله فيما يمكن أن يُتَعَبَّدَ به « .
قال الشيخ : » وهذا الاحتمالُ لا يَصِحُّ لأن قوله : « بعد إذ نجَّانا اللهُ منها » إنما يعني النجاة من الكفر والمعاصي لا من أعمال البِرِّ « . قلت : قد حكى ابن الأنباري هذا القولَ عن المعتزلة الذين لا يؤمنون بالإِرادة ثم قال : » وهذا القول مُتَنَاوَلُهُ بعيد ، لأنَّ فيه تبعيضَ الملة « وقيل : هذا استثناء على سبيل التسليم والتأدُّب .

قال ابن عطية : « ويقلق هذا التأويلُ من جهةِ استقبالِ الاستثناء ، ولو كان الكلام » إلا إنْ شاء « قوي هذا التأويل » . وهذا الذي قاله سهوٌ لأنَّ الماضيَ يتخلَّص للاستقبال بعد « إنْ » الشرطية ، كما يتخلَّص المضارع له بأَنْ المصدرية .
وقيل : الضمير في قوله « فيها » ليس عائداً على المِلَّة بل عائدٌ على الفِرْية ، والتقدير : وما يكون أن نعودَ في الفِرْية إلا أن يشاءَ ربنا . وهو حَسَنٌ لولا بُعْدُه . وكرَّر هنا قوله « بيننا وبين قومنا » بخلاف/ قوله { حتى يَحْكُمَ الله بَيْنَنَا } [ الأعراف : 87 ] زيادةً في تأكيد تمييزه ومَنْ تبعه مِنْ قومه . وقد تقدَّم أن الفتح الحُكْم بلغة حِمْير ، وقيل بلغة مُراد وأنشد :
2248 ألا أبلغْ بني عُصْمٍ رَسُولاً ... بأنِّي عن فَتَاحَتِكُمْ غنيُّ
قوله : « عِلْماً » نصبٌ على التمييز وهو منقولٌ من الفاعلية ، تقديره : وَسِعَ علمُ ربِّنا كلَّ شيء كقوله تعالى : { واشتعل الرأس شَيْباً } [ مريم : 4 ] .

وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90)

قوله تعالى : { إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ } : إذن حرفُ جوابٍ وجزاء ، وقد تقدَّم الكلامُ عليها مُشْبعاً وخلافُ الناس فيها . وهي هنا معترضةٌ بين الاسم والخبر . وقد توهَّم بعضُهم فجعل « إذاً » هذه « إذا » الظرفية في الاستقبال نحو قولك : « أُلْزِمُك إذا جئتني » أي وقتَ مجيئك . قال : « ثم حُذِفَتِ الجملةُ المضافةُ هي إليها ، والأصل : إنكم إذا اتبعتموه لخاسرون ، فإذا ظرفٌ والعاملُ فيه » لخاسرون « ، ثم حُذِفَتِ الجملةُ المضافُ إليها وهي اتبعتموه ، وعُوِّضَ منها التنوين ، فلما جيء بالتنوين وهو ساكنٌ التقى بمجيئه ساكنان هو والألفُ قبلَه ، فحُذِفَت الألفُ لالتقاءِ الساكنين فبقي اللفظ » إذاً « كما ترى . وزم هذا القائل أن ذلك جائزٌ بالحَمْل على » إذا « التي للمضيّ في قولهم : » حينئذ « و » يومئذ « فكما أن التنوينَ هناك عوضٌ عن جملة عند الجمهور كذلك هنا . ورَدَّ الشيخ هذا بأنه لم يَثْبُتْ هذا الحكمُ ل » إذا « الاستقبالية في غير هذا الموضع فيحمل هذا عليه » . قلت : وهذا ليس بلازمٍ إذ لذلك القائلِ أنْ يقولَ : قَد وَجَدْتُ موضعاً غير هذا وهو قولُه تعالى : { إِنَّآ إِذاً لَّظَالِمُونَ } [ يوسف : 79 ] .
وقد رأيت كلام الشيخ شهاب الدين القرافي في قوله صلى الله عليه وسلم لَمَّا سألوه عن بيع الرُّطَب بالتمر فقال : أينقص الرُّطَبُ إذا جَفَّ؟ فقالوا : نعم . فقال : فلا إذن : أن « إذن » هذه هي « إذا » الظرفية ، قال : كالتي في قوله تعالى : { إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض } [ الزلزلة : 1 ] فحُذِفَتِ الجملةُ ، وذكره إلى آخره . وكنت لمَّا رأيته تعجَّبْتُ غاية العجب كيف يَصْدُر هذا منه حتى رأيته في كتاب الشيخ في هذا الموضع عن بعضهم ولم يُسَمِّه ، فذهب تعجُّبي منه ، فإن لم يكنْ ذلك القائلُ القرافيَّ فقد صار له في المسألة سَلَفٌ ، وإلاَّ فقد اتَّحَدَ الأصل ، والظاهرُ أنه غيره .
وقوله : « إنكم » هو جواب والقسم الموطَّأ له باللام . قال الزمخشري : « فإن قلت : ما جواب القسم الذي وَطَّأَتْه اللامُ في قوله » لئن اتبعتم شعيباً « وجوابُ الشرط؟ قلت : قوله : { إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ } سادُّ مسدَّ الجوابين » قال الشيخ : « والذي قاله النحويون إنَّ جواب الشرط محذوفٌ لدلالةِ جواب القسم عليه ، ولذلك وَجَبَ مُضِيُّ فعلِ الشرط . فإن عَنَى بأنه سادٌّ مَسَدَّهما أنه اجْتُزِئ بذكره عن ذِكْرِ جواب الشرط فهو قريبٌ . وإن عَنَى من حيث الصناعة النحوية فليس كما زعم؛ لأن الجملة يمتنع أن لا يكون لها محل من الإِعراب وأن يكون لها محلٌّ من الإِعراب » . قلت : قد تقدَّمَتْ هذه المسألة مِراراً واعتراضُ الشيخ عليه ، وتقدَّم الجوابُ عنه فلا أُعيده اكتفاءً بما تقدم . ويعني الشيخُ بقوله « لأنَّ الجملة يمتنع أن يكونَ لها محلٌّ من الإِعراب إلى آخره أنها من حيث كونُها جواباً للشرط يَسْتدعي أن يكونَ لها محلٌّ من الإِعراب وهو الجزم ، ومن حيث كونُها جواباً للقسم يستدعي أن لا يكونَ لها محلٌّ؛ إذ الجملةُ التي هي جوابُ القسم لا محلَّ [ لها ] لأنها من الجمل المستأنفة المبتدَأ بها ، وقد تقرَّر أن الجملةَ الابتدائية لا محلَّ [ لها ] .

الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92)

قوله تعالى : { الذين كَذَّبُواْ شُعَيْباً } : فيه خمسة أوجه ، أحدُها : أن هذا الموصولَ في محل رفع بالابتداءِ وخبرُه الجملةُ التشبيهية بعده . قال الزمخشري : « وفي هذا الابتداءِ معنى الاختصاص كأنه قيل : الذين كَذَّبوا شُعَيْباً هم المخصوصون بأن أُهْلِكوا واسْتُؤْصلوا ، كأنْ لم يُقيموا في دارهم ، لأنَّ الذين اتَّبعوا شعيباً قد أنجاهم الله تعالى » . قلت : قوله « يفيد الاختصاص » هو معنى قولِ الأصوليين : « يفيد الحصر » على خلاف بينهم في ذلك ، إذا قلت : « زيد العالم » ، والخلافُ في قولك « العالم زيد » أشهرُ منه فيما تقدَّم فيه المبتدأ .
الثاني : أن الخبرَ هو نفسُ الموصول الثاني وخبره ، / فإن الموصول الثاني مبتدأ ، والجملةُ من قوله { كَانُواْ هُمُ الخاسرين } في محل رفع خبراً له ، وهو وخبرهُ خبر الأول ، و { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ } : إمَّا اعتراضٌ وإمَّا حالٌ من فاعل « كذَّبوا » . الثالث : أن يكونَ الموصولُ الثاني خبراً بعد خبرٍ عن الموصول الأول ، والخبرُ الأولُ الجملةُ التشبيهية كما تقدَّم . الرابع : أن يكونَ الموصولُ بدلاً مِنْ قولِه قبلُ { الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ } [ الأعراف : 90 ] كأنه قال : « وقال الملأُ الذين كفروا منهم الذين كذَّبوا شُعَيْباً » وقوله : { لَئِنِ اتبعتم شُعَيْباً } معمولٌ للقول فليس بأجنبي . الخامس : أنه صفةٌ له أي : للذين كفروا مِنْ قومه . هذه عبارةُ أبي البقاء ، وتابعه الشيخ عليها . والأحسنُ أن يُقال : بدلٌ من الملأ أو نعتٌ له ، لأنه هو المحدِّثُ عنه والموصولُ صفةٌ له ، والجملةُ التشبيهيةُ على هذين الوجهين حالٌ من فاعل « كذَّبوا » .
وأما الموصولُ الثاني فقد تقدَّم أنه يجوزُ أن يكونَ خبراً باعتبارين : أعني كونَه أولَ أو ثانياً ، ويجوز أن يكونَ بدلاً من فاعل « يَغْنَوا » أو منصوباً بإضمار « أعني » أو مبتدأ وما بعده الخبر . وهذا هو الظاهر لتكونَ كلُّ جملة مستقلةً بنفسها . وعلى هذا الوجهِ ذكر الزمخشري أيضاً أن الابتداءَ يفيد الاختصاص قال : « أي هم المخصوصون بالخسران العظيم دونَ أتباعه ، وقد تقدَّم موضحاً .
وقوله : { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ } يَغْنَوْن : بمعنى يُقيمون يقال : غَنِي بالمكان يَغْنى فيه أي : أقام دهراً طويلاً ، وقيَّده بعضُهم بالإِقامة في عيشٍ رغد فهو أخصُّ من مُطْلق الإِقامة . قال الأسود بن يعفر :
2249 ولقد غَنَوا فيها بأنعمِ عيشةٍ ... في ظلِّ مَلْكٍ ثابتِ الأوتادِ
وقيل : معنى الآيةِ هنا من الغِنى الذي هو ضد الفقر ، قاله الزجاج فقال : » وغَنِي في مكان كذا : إذا طالَ مَقامُه فيه مُسْتَغْنياً به عن غيره « .

فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)

قوله تعالى : { فَكَيْفَ آسى } : « كيف » هنا مثل « كيف » في { كَيْفَ تَكْفُرُونَ } [ البقرة : 28 ] ، وتقدَّم الكلامُ على « أَسي » وبابه . وقرأ ابن وثاب وابن مصرف والأعمش « إيسَى » بكسر الهمزة التي هي حرف مضارعةٍ وقد تقدَّم أنها لغةُ بني أَخْيَل وحكاية ليلى الأخيلية في الفاتحة . ولزم من ذلك قَلْبُ الفاءِ بعدها ياءً؛ لأن الأصل : أَأْسى بهمزتين .

وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94)

قوله تعالى : { إِلاَّ أَخَذْنَا } : هذا استثناءٌ مفرَّغٌ ، وأَخَذْنا في محلِّ نصب على الحال . والتقدير : وما أَرْسَلْنا إلا آخذين أهلها ، والفعل الماضي لا يقع بعد « إلا » إلا بأحد شرطين : إمَّا تقدُّمِ فعلٍ كهذه الآية ، وإمَّا أن يصحب « قد » نحو : ما زيد إلا قد قام ، فلو فُقِد الشرطان امتنع فلا يجوز : ما زيد إلا قام .

ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)

قوله تعالى : { ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة الحسنة } : في « مكان » وجهان ، أظهرهما : أنه مفعولٌ به لا ظرفٌ ، والمعنى : بدَّلنا مكان الحال السيئة الحالَ الحسنة ، فالحسنةُ هي المأخوذةُ الحاصلة ، ومكان السيئة هو المتروكُ الذاهب ، وهو الذي تَصْحبه الباءُ في مثل هذا التركيب لو قيل في نظيره : بدَّلْتُ زيداً بعمرو ، فزيد هو المأخوذ وعمرو المتروك ، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في البقرة في موضعَيْن أوَّلهما : { فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ } [ الأعراف : 59 ] والثاني : { وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ الله } [ الأعراف : 211 ] فمكان والحسنة مفعولان ، إلا أنَّ أحدهما وَصَلَ إليه الفعلُ بنفسه وهو الحسنة ، والآخر بحذف حرف الجر وهو « مكان » . والثاني : أنه منصوبٌ على الظرف ، والتقدير : ثمَّ بَدَّلْنا في مكان السيئة الحسنة ، إلا أن هذا ينبغي أن يُرَدَّ لأن « بَدَّلَ » لا بُدَّ له من مفعولين أحدهما على إسقاط الباء .
قوله : { حتى عَفَوْاْ } « حتى » هنا غاية ، وتقدير مَنْ قَدَّرها ب إلى فإنما يريد تفسير المعنى لا الإِعراب ، لأن « حتى » الجارة لا تباشرُ إلا المضارعَ المنصوبَ بإضمار « أن » لأنها في التقدير داخلةٌ على المصدرِ المنسبكِ منها ومن الفعل ، وأمَّا الماضي فلا يطَّرد حَذْفُ « أنْ » معه ، فلا يُقَدَّر معه أنها حرفُ جر داخلةٌ على « أن » المصدرية أي : حتى أَنْ عَفَوا ، وهذا الذي يَنْبغي أن يُحْمَلَ عليه قولُ/ أبي البقاء : « حتى عَفَوا : إلى أنْ عفوا » .
ومعنى « عَفَوا » هنا كَثُروا ، مِنْ عفا السِّعْر : إذا كَثُرَ ، ومنه « وأعْفُوا اللِّحى » يقال : عَفَاه وأَعْفاه ثلاثياً ورباعياً . قال زهير :
2250 أذلك أم أَقَبُّ البطنِ جَأْبٌ ... عليه مِنْ عَقِيقته عِفاءُ
وفي الحديث : « إذا عَفا الوَبَر وبَرأ الدبر فقد حلَّت العمرة لمن اعتمر » وأنشد الزمخشري على ذلك قول الحطيئة :
2251 بمستأسِدِ القُرْيان عافٍ نباتُه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقول لبيد :
2252 ولكنَّا نُعِضُّ السيفَ منها ... بأسْوُقِ عافياتِ الشحم كُومِ
وهذا المادة قد تقدَّم تحقيقُها في البقرة .
قوله : { فَأَخَذْنَاهُمْ } قال أبو البقاء : « هو عطفٌ على » عَفَوا « . يريد : وما عطف عليه أيضاً ، أعني أن الآخذ ليس متسَبِّباً عن العَفاء فقط ، بل عليه وعلى قولهم تلك المقالةَ الجاهلية؛ لأنَّ المعنى ليس أنه لمجردِ كثرتِهم ونموّ أموالهم أَخَذهم بغتةً بل بمجموعِ الأمرين ، بل الظاهرُ أنه بقولهم ذلك فقط .
وقوله : { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } حال أيضاً ، وهي في قوة المؤكدة لأن » بغتة « تفيدُ إفادتَها ، سواءً أَعْرَبْنا » بغتة « حالاً أم مصدراً .

وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)

وقد تقدَّم أن ابن عامر يقرأ « لفتَّحنا » بالتشديد ، ووافقه هنا عيسى بن عمر الثقفي وأبو عبد الرحمن السلمي .

أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97)

قوله تعالى : { أَفَأَمِنَ } : قال الزمخشري : « فإنْ قلت : ما المعطوف عليه ، ولِمَ عطفت الأولى بالفاء والثانية بالواو؟ قلت : المعطوفُ عليه قوله : » فَأَخَذْناهم بعتةً « ، وقوله » ولو أنَّ أهل القرى إلى « يكسبون » وقع اعتراضاً بين المعطوف والمعطوف عليه ، وإنما عَطَفَتْ بالفاء لأن المَعْنى : فَعَلوا وصنعوا فأخذناهم بغتة ، أَبَعْدَ ذلك أَمِنَ أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً ، وأَمِنَ أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضُحى « . قال الشيخ : » وهذا الذي ذكره رجوعٌ عن مذهبه في مثل ذلك إلى مذهب الجماعة ، وذلك أن مذهبَه في الهمزة المصدرةِ على حرف العطف تقديرُ معطوف عليه بين الهمزة وحرفِ العطف ، ومذهبُ الجماعة أن حرفَ العطف في نية التقدم ، وإنما تأخَّر وتقدَّمَتْ عليه همزة الاستفهام لقوة تصدُّرها في أول الكلام « ، وقد تقدَّم تحقيق هذا غيرَ مرة ، والزمخشري هنا لم يقدِّر بينهما معطوفاً عليه بل جعل ما بعد الفاء معطوفاً على ما قبلها من الجمل وهو قوله » فأخذناهم بغتة « .
قوله { بَيَاتاً } تقدَّم أولَ السورة أنه يجوز أن يكون حالاً ، وأن يكون ظرفاً .
قوله : { وَهُمْ نَآئِمُونَ } جملةٌ حالية ، والظاهرُ أنها حال من الضمير المستتر في » بَيَاتاً « لأنه يتحمَّلُ ضميراً لوقوعه حالاً فتكون الحالان متداخلتين .

أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98)

قوله تعالى : { ضُحَىً } : منصوبٌ على الظرف الزماني ، ويكون متصرفاً وغير متصرف ، فالمتصرِّفُ ما لم يُرَدْ به وقتُه من يومٍ بعينه نحو : « ضُحاك ضحىً مبارك » . فإن قلت : « أتيتك يوم الجمعة ضحىً » فهذا لا يَتَصرف بل يلزم النصبَ على الظرفية ، وهذه العبارةُ أحسنُ من عبارة الشيخ حيث قال : « ظرفٌ متصرف إذا كان نكرةً ، وغيرَ متصرف إذا كان من يوم بعينه لأنَّه تَوَهَّم متى كان معرفةً بأي نوع كان من أنواع التعريف فإنه لا يتصرَّفُ ، وليس الأمر كذلك ، قال تعالى : { والضحى } [ الضحى : 1 ] فاستعمله مجروراً بالقسم مع أنه معرفة بأل ، وقال تعالى : { والشمس وَضُحَاهَا } [ الشمس : 1 ] جرَّه بحرف القسم أيضاً مع أنه معرَّفٌ بالإِضافة ، وهو امتداد الشمس وامتداد النهار .
ويقال : ضُحى وضَحاء ، إذا ضَمَمْتَ قَصَرْتَ وإذا فتحت مَدَدْتَ . وقال بعضهم : الضُّحى بالضم والقصرِ لأولِ ارتفاع الشمس ، والضَّحاء بالفتح والمدّ لقوة ارتفاعها قبل الزوال . والضُّحى مؤنث ، وشذُّوا في تصغيره على ضُحَيٌّ بدون تاء كعُرَيْب وأخواتها ، والضَّحاء أيضاً طعامُ الضحى كالغَداء طعام وقت الغُدْوَة يقال منهما : يُضَحِّي ضَحاءً وتَغَدَّى غَداءً . وضَحِيَ يَضْحَى إذا برز للشمسِ وقت الضحى ، ثم عُبِّر به عن إصابة الشمس مطلقاً ومنه قولُه { وَلاَ تضحى } [ طه : 119 ] أي لا تبرز للشمس . ويقال : ليلة أُضْحِيانَةٌ بضم الهمزة . وضَحْياء بالمد أي : مضيئة إضاءة الضحى ، والأُضْحِيَة/ وجمعها أَضاحٍ ، والضَّحيَّة وجمعها ضحايا ، والأَضْحاة وجمعها أضْحَىً هي المذبوحُ يوم النحر ، سُمِّيَتْ بذلك لذَبْحها ذلك الوقتَ لقوله عليه السلام : » مَنْ ذبح قبل صلاتِنا هذه فَلْيُعِدْ « وضواحي البلد نواحيه البارزة .
وقوله : { وَهُمْ يَلْعَبُونَ } حالٌ ، وهذا يقوِّي أن » بياتاً « ظرف لا حال ، لتتطابق الجملتان ، فيصير في كل منهما وقتٌ وحال ، وأتى بالحال الأولى متضمنةً لاسم فاعل لأنه يدلُّ على ثبات واستقرار وهو مناسب للنوم ، وبالثانية متضمنةً لفعل؛ لأنه يدل على التجدد والحدوث وهو مناسب لِلَّعب والهزل .
وقرأ نافع وابن عامر وابن كثير » أو « بسكون الواو والباقون بفتحها . ففي القراءة الأولى تكون » أو « بجملتها حرفَ عطف ومعناها حينئذ التقسيم . وزعم بعضهم أنها للإِباحة والتخيير . وليس بظاهر ، وفي الثانية هي واو العطف دخلَتْ عليها همزةُ الاستفهام مقدمةً عليها لفظاً ، وإن كانت بعدها تقديراً عند الجمهور . وقد عُرِف مذهب الزمخشري في ذلك ، ومعنى الاستفهام هنا التوبيخ والتقريع . وقال بعضهم : » إنه بمعنى النفي « كأبي شامة وغيره .

أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)

وكررت الجملة في قوله تعالى : { أَوَ أَمِنَ أَهْلُ } : « أفأمِنُوا » توكيداً لذلك ، وأتى في الجملة الثانية بالاسم ظاهراً ، وحَقُّه أن يضمر مبالغةً في التوكيد . ومعنى « مكر الله » أي إضافة المخلوق إلى الخالق كقولهم : ناقة الله وبيت الله ، والمراد به فعلٌ يُعاقَبُ به الكفرة ، وأُضيف إلى الله لَمَّا كان عقوبةَ الذنب ، فإن العرب تسمِّي العقوبة على أي جهة كانت باسم الذنب الذي وقعت عليه العقوبة ، وهذا نصٌّ في قوله { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله } [ آل عمران : 54 ] قاله ابن عطية . قلت : وهو تأويل حسن ، وقد تقدم لك في قوله { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله } [ آل عمران : 54 ] أنه من باب المقابلة أيضاً . والفاءُ في قوله « فلا يأمَنُ » للتنبيه على أن العذاب يَعْقُب أَمْنَ مكرِ الله .

أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100)

قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَهْدِ } : قرأ الجمهور « يَهْدِ » بالياء من تحت . وفي فاعله حينئذ ثلاثة أوجه ، أظهرها : أنه المصدر المؤول من « أنْ » وما في حَيِّزها ، والمفعولُ محذوفٌ والتقدير : أو لم يَهْدِ أي : يبيِّن ويوضِّح للوارثين مآلهم وعاقبةَ أمرهم وإصابتنا إياهم بذنوبهم لو شِئْنا ذلك ، فقد سَبَكْنا المصدر من « أنْ » ومن جواب لو . الثاني . أنَّ الفاعلَ هو ضميرُ اللهِ تعالى أي : أو لم يبيِّن الله ، ويؤيده قراءةُ مَنْ قرأ « نَهْدِ » بالنون . الثالث : أنه ضميرٌ عائد على ما يُفْهَمُ مِنْ سياق الكلام أي : أو لم يَهْدِ ما جَرَى للأممِ السابقة كقولهم : « إذا كان غداً فَأْتني » أي : إذا كان ما بيني وبينك مما دلَّ عليه السياق . وعلى هذين الوجهين ف « أنْ » وما في حيِّزها بتأويل مصدر كما تقدَّم في محلِّ المفعول والتقدير : أو لم يُبَيِّن ويوضح الله أو ما جَرَى للأمم إصابتنا إياهم بذنوبهم لو شئنا ذلك .
وقرأ مجاهد « نَهْدِ » بنون العظمة و « أنْ » مفعول فقط ، و « أنْ » هي المخففةُ من الثقيلة ، « ولو » فاصلةٌ بينها وبين الفعل ، وقد تقدَّم أن الفصلَ بها قليلٌ . و « نشاء » وإن كان مضارِعاً لفظاً فهو ماضٍ معنىً؛ لأنَّ « لو » الامتناعيةَ تخلِّصُ المضارع للمضيّ . وفي كلامِ ابنِ الأنباري خلافُه فإنه قال في « ونطبعُ » : « هذا فعلٌ مستأنف ومنقطع مما قبله ، لأنَّ قولَه » أَصَبْنا « ماضٍ و » نَطْبع « مستقبل ثم قال : » ويجوز أن يكونَ معطوفاً على « أَصَبْنا » إذ كان بمعنى نُصيب ، والمعنى : لو يشاء يصيبهم ويطبع ، فَوَضَع الماضي موضع المستقبل عند وضوح معنى الاستقبال كقوله تعالى : { إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ } [ الفرقان : 10 ] أي : يجعل ، بدليل قوله « ويجعل لك » . قلت : فهذا ظاهرٌ قويٌّ في أنَّ « لو » هذه لا تخلِّصُ المضارع للمضيّ ، وتنظيرُه بالآيةِ الأخرى مُقَوٍّ له أيضاً ، وسيأتي تحقيق ذلك عند قوله « ونطبع » .
وقال الفراء : « وجاز أن تَرُدَّ » يَفْعل « على فَعَلَ في جواب » لو « كقوله : { وَلَوْ يُعَجِّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ } [ يونس : 11 ] قوله : » فَنَذَرُ « مردودٌ على » لقُضِي « . قلت : وهذا هو قول الجمهور ، ومفعولُ » يشاء « محذوفٌ لدلالة جواب » لو « عليه ، والتقدير : لو يشاء تعذيبَهم أو الانتقامَ منهم . وأتى/ جوابُها بغير لام وإن كان مبنيَّاً على أحد الجائزين ، وإن كان الأكثرُ خلافَه ، كقوله تعالى : { لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً } [ الواقعة : 70 ] .

قوله : { وَنَطْبَعُ } في هذه الجملة أوجه ، أحدها : أنها نسقٌ على « أَصَبْناهم » وجاز عطفُ المضارع على الماضي لأنه بمعناه وقد تقدم أنَّ « لو » تُخَلِّصُ المضارع للمضيِّ ، ولما حكى الشيخ كلامَ ابن الأنباري المتقدِّم قال : « فجعل » لو « شرطيةً بمعنى » إنْ « ولم يجعلها التي هي » لِما « كان سيقعُ لوقوع غيره ، ولذلك جعل » أَصَبْنا « بمعنى نُصيب . ومثال وقوعِ » لو « بمعنى » إنْ « قوله :
2253 لا يُلْفِكَ الرَّاجيك إلا مُظْهِرا ... خُلُقَ الكرامِ ولو تكون عَدِيما
وهذا الذي قاله ابن الأنباري رَدَّه الزمخشري من حيث المعنى ، لكن بتقديرِ أنْ يكونَ » ونطبعُ « بمعنى طَبَعْنا ، فيكون قد عَطَفَ المضارع على الماضي لكونه بمعنى الماضي ، وابنُ الأنباري جَعَلَ التأويل في » أَصَبْنا « الذي هو جوابُ » لو نشاء « ، فجعله بمعنى نُصيب ، فتأوَّل المعطوفَ عليه وهو جوابُ » لو نشاء « ، فجعله بمعنى نُصيب ، فتأوَّل المعطوفَ ورَدَّه إلى المُضِيِّ ، وأنتج ردُّ الزمخشري أنَّ كلا التقديرين لا يَصِحُّ » .
قال الزمخشري : « فإن قلت : هل يجوز أن يكون » ونطبع « بمعنى طبَعْنا ، كما كان » لو نشاء « بمعنى لو شِئْنا ، ويعطف على » أَصَبْناهم «؟ قلت : لا يساعد على المعنى ، لأنَّ القوم كانوا مطبوعاً على قلوبهم ، مَوْصوفين بصفة مَنْ قبلهم مِن اقتراف الذنوب والإِصابة بها ، وهذا التفسير يؤدِّي إلى خلوِّهم من هذه الصفةِ ، وأن الله لو شاء لاتَّصفوا بها » . قال الشيخ : « وهذا الردُّ ظاهرهُ الصحةُ ، وملخصه أن المعطوفَ على الجوابِ جوابٌ سواء تأوَّلنا المعطوفَ عليه أم المعطوفَ ، وجوابُ » لو « لم يقع بعدُ ، سواءً كانت حرفاً لِما كان سيقع لوقوع غيره أم بمعنى » إنْ « الشرطية ، والإِصابةُ لم تقع ، والطَّبْعُ على القلوب واقع فلا يَصحُّ أن تَعْطِفَ على الجواب . فإنْ تُؤَوِّل » ونطبع « على معنى : ونستمر على الطبع على قلوبهم أمكن التعاطف لأن الاستمرار لم يقع بعدُ وإن كان الطبع قد وقع » . قلت : فهذا الوجه الأول ممتنع لِما ذكره الزمخشري .
الوجه الثاني : أنْ يكون « نطبع » مستأنفاً ومنقطعاً عَمَّا قبلَه فهو في نية خبرِ مبتدأ محذوف أي : ونحن نطبع . وهذا اختيارُ أبي إسحاق والزمخشري وجماعة .
الوجه الثالث : أن يكونَ معطوفاً على « يرثون الأرض » قاله الزمخشري . قال الشيخ : « وهو خطأٌ لأنَّ المعطوف على الصلة صلة و » يرثون « صلةٌ للذين ، فيلزم الفصلُ بين أبعاض الصلة بأجنبي ، فإن قوله » أنْ لو نشاء « : إمَّا فاعلٌ ليَهْد أو مفعولُه كما تقدَّم ، وعلى كلا التقديرين فلا تَعَلُّقَ له بشيء من الصلة ، وهو أجنبيٌّ منها فلا يُفْصل به بين أبعاضها ، وهذا الوجهُ مُؤَدٍّ على ذلك فهو خطأ » .
الرابع : أن يكونَ معطوفاً على ما دَلَّ عليه معنى « أو لم يهد لهم » كأنه قيل : يغفُلون عن الهداية ونطبع على قلوبهم . قاله الزمخشري أيضاً . قال الشيخ : « وهو ضعيفٌ؛ لأنه إضمار لا يُحتاج إليه ، إذ قد صَحَّ عطفُه على الاستئناف من باب العطف على الجمل فهو معطوفٌ على مجموع الجملة المصدَّرة بأداة الاستفهام ، وقد قاله الزمخشري وغيره » .
قوله : { فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } أتى بالفاء هنا إيذاناً بتعقيب عدم سماعهم على أثر الطبع على قلوبهم .

تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101)

قوله تعالى : { تِلْكَ القرى نَقُصُّ } : قال الزمخشري : كقوله { وهذا بَعْلِي شَيْخاً } [ هود : 72 ] في كونه مبتدأً وخبراً وحالاً « يعني أن » تلك « مبتدأٌ مشارٌ بها إلى ما بعدها ، و » القرى « خبرها ، و » نقصُّ « حال أي قاصّين كقوله : { فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً } [ النمل : 52 ] . قال الزمخشري : » فإن قلت : ما معنى « تلك القرى » حتى يكون كلاماً مفيداً؟ قلت : هو مفيد ولكن بالصفة في قولك : « هو الرجلُ الكريم » . قلت : يعني أن الحالَ هنا لازمةٌ ليفيدَ التركيب ، كما تلزم الصفة في قولك : « هو الرجل الكريم » ألا ترى أنك لو اقتصرت على « هو الرجل » لم يكن مفيداً ، ويجوز أن تكون « القرى » صفةً/ لتلك ، و « نقصُّ » الخبر ، ويجوز أن يكون « نَقُصُّ » خبراً بعد خبر . و « نقصُّ » يجوز أن يكون على حاله من الاستقبال أي : قد قَصَصْنا عليك من أنبائها ونحن نقصُّ عليك أيضاً بعضَ أنبائها ، وأُشير بالبعد تنبيهاً على بُعد هَلاكِها وتقادُمِه عن زمن الإِخبار فهو من الغيب . وفي قوله « القرى » بأل تعظيمٌ كقوله تعالى : « ذلك الكتابُ » ، وقول الرسول عليه السلام : « أولئك الملأُ من قريش » وقول أمية :
2254 تلك المكارمُ لا قَعْبانِ من لبنٍ ... شِيبا بماءٍ فعادا بعدُ أبوالا
و « مِنْ » للتبعيض كما تقدَّم ، لأنه إنما قَصَّ عليه عليه السلام ما فيه عِظَةٌ وانزجارٌ دونَ غيرهما .
قوله : { فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ } الظاهر أن الضمائرَ كلَّها عائدةٌ على أهل القرى ، وقال يمان بن رئاب : « إن الضميرين الأوَّلَيْن لأهل القرى ، والضمير في » كذَّبوا « لأسلافهم » . وكذا حَرَّر ابن عطية أيضاً أي : فما كان الأبناء ليؤمنوا بما كذَّب به الآباء وقد تقدَّم الكلامُ على لام الجحود وأنَّ نَفْيَ الفعل معها أبلغ . و « ما » موصولةٌ اسميةٌ ، وعائدُها محذوفٌ لأنه منصوب متصل أي : بما كذَّبوه . ولا يجوز أن يُقَدَّر « به » وإن كان الموصولُ مجروراً بالباء أيضاً لاختلاف المتعلَّق .
وقال هنا { بِمَا كَذَّبُواْ } فلم يذكر متعلق التكذيب ، وفي يونس ذكره فقال : { بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ } [ يونس : 74 ] ، والفرق أنه لمَّا حذفه في قوله { ولكن كَذَّبُواْ } [ الأعراف : 96 ] استمرَّ حَذْفُه بعد ذلك ، وأمَّا في يونس فقد أبرزه في قوله { فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ } [ يونس : 74 ] { كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } [ يونس : 73 ] فناسب ذكرَه موافقةٌ . قال معناه الكرماني .
قوله : { كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله } أي : مثلَ ذلك الطبعِ على قلوب أهل القرى المنتفي عنهم الإِيمانُ يطبعُ الله على قلوب الكفرة الجائين بعدهم .

وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)

قوله تعالى : { لأَكْثَرِهِم } : الظاهرُ أنه متعلِّقٌ بالوِجْدان كقولك : ما وَجَدْت له مالاً أي : ما صادَفْتُ له مالاً ولا لَقِيْتُه . الثاني : أن يكون حالاً من « عهد » لأنه في الأصل صفةُ نكرةٍ فلمَّا قُدِّم عليها نُصِب على الحال ، والأصل : وما وَجَدْنا عهداً لأكثرهم ، وهذا ما لم يذكر أبو البقاء غيره . وعلى هذين الوجهين ف « وجد » متعدية لواحد وهو « مِنْ عهد » ، و « مِنْ » مزيدة فيه لوجودِ الشرطين . الثالث : أنه في محل نصب مفعولاً ثانياً لوجد إذ هي بمعنى عِلْمية ، والمفعول هو « من عهد » . وقد يترجَّح هذا بأن « وَجَد » الثانيةَ عِلْمية لا وِجْدانية بمعنى الإِصابة ، وسيأتي دليل ذلك . فإذا تقرَّر هذا فينبغي أن تكونَ الأولى كذلك مطابقةً للكلام ومناسبة له . ومَنْ يرجِّح الأولَ يقول : إنَّ الأولى لمعنى ، والثانية لمعنى آخر .
قوله : { وَإِن وَجَدْنَآ } « إنْ » هذه هي المخففة ، وليست هنا عاملةٌ لمباشرتها الفعلَ فزال اختصاصُها المقتضي لإِعمالها . وقال الزمخشري : « وإنَّ الشأنَ والحديثَ وَجَدْنا » فظاهرُ هذه العبارة أنها مُعْمَلة ، وأنَّ اسمَها ضميرُ الأمر والشأن . وقد صَرَّح أبو البقاء هنا بأنها معملةٌ وأن اسمَها محذوفٌ ، إلا أنه لم يقدِّره ضميرَ الحديث بل غيرَه . فقال : « واسمُها محذوفٌ أي : إنَّا وجدنا » وهذا مذهب النحويين أعني اعتقادَ إعمالِ المخففِ من هذه الحروفِ في « أنْ » المفتوحة على الصحيح وفي « كأنْ » التشبيهية ، وأما « إنْ » المخففةُ المكسورةُ فلا . وقد تقدَّم ذلك بأوضح من هذا .
ووجد هنا متعديةٌ لاثنين أولهما « أكثرهم » ، والثاني « لَفاسقين » . قال الزمخشري : « والوجودُ بمعنى العلم من قولك : » وَجَدْتُ زيداً ذا الحفاظ « بدليل دخول » إنْ « المخففة ، واللامُ الفارقة ، ولا يَسُوغ ذلك إلا في المبتدأ والخبر والأفعالِ الداخلةِ عليهما » يعني أنها مختصةٌ بالابتداء أو بالأفعالِ الناسخة له ، وهذا مذهب الجمهور ، وقد تقدَّم لك خلافٌ عن الأخفش : أنه يُجَوِّز على غيرها وقَدَّمْتُ دليله على ذلك . واللام فارقةٌ . وقيل : هي عوضٌ من التشديد . قال مكي : « ولَزِمَتِ اللامُ في خبرها عوضاً من التشديد » . والمحذوفُ الأول . وتقدَّم/ الكلامُ أيضاً أن بعض الكوفيين يجعلون « إنْ » نافيةً ، واللامَ بمعنى « إلا » في قوله تعالى : { وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً } [ البقرة : 143 ] .

ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103)

قوله تعالى : { فَظَلَمُواْ بِهَا } : يجوز أن يُضَمَّن « ظلموا » معنى كفروا فيتعدَّى بالباء كتعديته . ويؤيِّده { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] . ويجوز أن تكون الباءُ سببيةٌ ، والمفعولُ محذوفٌ تقديره : فظلموا أنفسَهم ، أو ظلموا الناس بمعنى صَدُّوهم عن الإِيمان بسبب الآيات . وقوله « لأكثرهم » و « أكثرهم » و « مِنْ بعدهم » : إن جعلنا هذه الضمائرَ كلَّها للأممِ السالفة فلا اعتراض ، وإن جَعَلْنا الضميرَ في « لأكثرهم » و « أكثرهم » لعمومِ الناس والضميرَ في « من بعدهم » للأمم السالفة كانت هذه الجملةُ أعني « وما وجدنا » اعتراضاً . كذا قاله الزمخشري ، وفيه نظر : لأنه إذا كان الأولُ عاماً ثم ذُكِر شيء يندرج فيه ما بعده وما قبله كيف يُجْعل ذلك العامُّ معترضاً بين الخاصَّين . وأيضاً فالنحويون إنما يُعَرِّفون الاعتراض فيما اعتُرض به بين متلازِمَيْن ، إلا أنَّ أهلَ البيان عندهم الاعتراضُ أعمُّ من ذلك ، حتى إذا أُتي بشيء بين شيئين مذكورَيْن في قصة واحدة سَمَّوْه اعتراضاً .
قوله : { كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ } « كيف » خبرٌ لكان مقدَّمٌ عليها واجبُ التقديمِ ، لأنَّ له صدرَ الكلامِ ، و « عاقبة » اسمها ، وهذه الجملةُ الاستفهاميةُ في محلِّ نصبٍ على إسقاطِ حرف الجر إذ التقديرُ : فانظر إلى كذا .

حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105)

قوله تعالى : { حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَّ أَقُولَ } : قرأ العامة « على أَنْ » ب « على » التي هي حرف جر داخلة على أَنْ وما في حيزها . ونافع قرأ « عليَّ » ب « على » التي هي حرف جر داخلة على أَنْ وما في حيزها . ونافع قرأ « عليَّ » ب « على » التي هي حرف جر داخلة على ياء المتكلم . فأمَّا قراءةُ العامة ففيها ستة أوجه ، ذكر الزمخشري منها أربعة ، قال رحمه الله : « وفي المشورةِ إشكالٌ ، ولا يخلو من وجوه ، أحدها : أن تكون مِمَّا قُلب من الكلام كقوله :
2255 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وتَشْقى الرماحُ بالضَّياطرة الحُمْرِ
معناه : وتشقى الضياطرةُ بالرماح . قال الشيخ : » وأصحابُنا يَخُصُّون القلبَ بالضرورةِ ، فينبغي أَنْ يُنَزَّهَ القرآنُ عنه « . قلت : وللناس فيه ثلاثةُ مذاهبَ : الجوازُ مطلقاً ، المنعُ مطلقاً ، التفصيلُ : بين أن يفيد معنًى بديعاً فيجوزَ ، أو لا فيمتنعَ ، وقد تقدَّم إيضاحهُ ، وسيأتي منه أمثلةٌ أُخَرُ في القرآن العزيز . وعلى هذا الوجهِ تصيرُ هذه القراءةُ كقراءةِ نافعٍ في المعنى إذ الأصل : قولُ الحق حقيقٌ عليَّ ، فقلبَ اللفظَ فصار : أنا حقيقٌ على قَوْل الحق » . قال : « والثاني : أنَّ ما لَزِمك فقد لزمته ، فلمَّا كان قولُ الحق حقيقاً عليه كان هو حقيقاً على قولِ الحق أي لازماً له ، والثالث : أن يُضَمَّن حقيق معنى حريص كما ضمن » هَيَّجني « معنى ذكَّرني في بيت الكتاب ، الرابع : أن تكون » على « بمعنى الباء » . قلت : وبهذا الوجه قال أبو الحسن والفراء والفارسي . قالوا : إنَّ « على » بمعنى الباء كما أن الباء بمعنى على في قوله : { وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ } [ الأعراف : 86 ] أي : على كل . وقال الفراء : « العربُ تقول : رَمَيْتُ على القوس وبالقوس ، وجِئْتُ على حالٍ حسنة وبحال حسنة . إلا أن الأخفشَ قال : » وليس ذلك بالمطَّرِدِ لو قلت : ذهبت على زيد تريد : بزيدٍ لم يجز « . قلت : ولأنَّ مذهب البصريين عدمُ التجوُّز في الحروف ، وعَنَى بالبيت قولَ الشاعر :
2256 إذا تَغَنَّى الحَمامُ الوَرْقُ هَيَّجني ... ولو تَسَلَّيْتُ عنها أمَّ عمار
وبالكتاب كتابَ سيبويه فإنه عَلَمٌ بالغلبة عند أهل هذه الصناعة . الخامس : وهو الأَوْجَهُ والأَدْخَلُ في نُكت القرآن أن يُغْرِق موسى عليه السلام في وصفِ نفسه بالصدق في ذلك المقام لا سيما وقد رُوِيَ أنَّ فرعون لعنه الله لمَّا قال موسى : إني رسولٌ من رب العالمين قال له : كَذَبْت ، فيقول : أنا حقيقٌ على قولِ الحق أي : واجبٌ عليَّ قولُ الحق أن أكونَ أنا قائلَه ، والقائم به ولا يرضى إلا بمثلي ناطقاً به » . قال الشيخ : « ولا يَصِحُّ هذا الوجهُ إلا إنْ عَنَى أنه يكون » أن لا أقول « صفةٌ له كما تقول : أنا على قول الحق أي : طريقتي وعادتي قول الحق .

السادس : أن تكون « على » متعلقةً ب « رسول » . قال ابن مقسم : / « حقيقٌ من نعت » رسول « أي رسول حقيق من رب العالمين أُرْسِلْتُ على أنْ لا أقول على الله إلا الحق ، وهذا معنى صحيح واضح ، وقد غَفَل أكثرُ المفسرين من أرباب اللغة عن تعليق » على « برسول ، ولم يخطر لهم تعليقُه إلا ب » حقيق « .
قال الشيخ : » وكلامُه فيه تناقضٌ في الظاهر؛ لأنه قَدَّر أولاً العاملَ في « على » « أرسلت » وقال أخيراً : « لأنهم غَفَلوا عن تعليق » على « ب » رسول « . فأمَّا هذا الأخيرُ فلا يجوز عند البصريين لأنَّ » رسولاً « قد وُصِف قبل أن يأخَذَ معمولَه ، وذلك لا يجوز ، وأمَّا تعليقُه بأرسلت مقدَّراً لدلالةِ لفظ » رسول « عليه فهو تقديرٌ سائغ . ويُتَأَوَّل كلامه أنه أراد بقوله تُعَلَّقُ » على « ب » رسول « أنه لمَّا كان دالاًّ عليه صَحَّ نسبةُ التعلُّق له » قلت : قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة بعد ما ذكر هذا الوجهَ عن ابن مقسم : « والأوجهُ الأربعة التي للزمخشري . ولكن هذه وجوه متعسِّفة ، وليس المعنى إلا على ما ذكرته أولاً ، يعني وجه ابن مقسم ، وهذا فيه الإِشكالُ الذي ذكره الشيخ من إعمالِ اسم الفاعلِ أو الجاري مَجْراه وهو موصوف .
وقراءةُ نافعٍ واضحةٌ وفيها ثلاثة أوجه ، أحدها : أن يكونَ الكلامُ قد تمَّ عند قولِه » حقيق « ، و » عليَّ « خبر مقدم ، و » أنْ لا أقول « مبتدأ مؤخَّر كأنه قيل : عليَّ عدمُ قول غير الحق أي : فلا أقول إلا الحق . الثاني : أن يكون » حقيق « خبراً مقدَّماً ، و » أن لا أقول « مبتدأٌ على ما تقدَّم بيانه . الثالث : » أَنْ لا أقول « فاعِلٌ ب » حقيق « كأنه قيل : يحقُّ ويجب أن لا أقول ، وهذا أَعْرَبُ الوجوهِ لوضوحه لفظاً ومعنى ، وعلى الوجهين الأخيرين تتعلَّق » عليَّ « ب » حقيق « لأنك تقول : » حَقَّ عليه كذا « . قال تعالى : { أولئك الذين حَقَّ عليهم القولُ } . وعلى الوجهِ الأولِ يتعلَّقُ بمحذوفٍ على ما عُرِفَ غيرَ مرة .
وأمَّا رفع » حقيق « فقد تقدَّم أنه يجوزُ أن يكون خبراً مقدماً ، ويجوزُ أن يكونَ صفةً ل » رسول « ، وعلى هذا فيضعف أن يكون » مِنْ رب « صفةً لئلا يلزمَ تقديمُ الصفةِ غيرِ الصريحة على الصريحة ، فينبغي أن يكونَ متعلَّقاً بنفس » رسول « ، وتكون » مِنْ « لابتداء الغاية مجازاً .

ويجوز أن يكونَ خبراً ثانياً . ويجوز أن يكونَ مبتدأً وما بعدَه الخبرُ على قراءةِ مَنْ شَدَّدَ الياء ، وسَوَّغ الابتداءَ بالنكرة حينئذ تَعَلُّقُ الجارِّ بها .
فقد تحصَّل في رفعه أربعة أوجه ، وهل هو بمعنى فاعل أو بمعنى مفعول؟ الظاهرُ أنه يحتمل الأمرين مطلقاً ، أعني على قراءة نافع وعلى قراءة غيره . وقال الواحدي ناقلاً عن غيره : « إنه مع قراءة نافعٍ مُحتمل للأمرين ، ومع قراءة العامة بمعنى مفعول فإنه قال : » وحقيق على هذا القراءة يعني قراءة نافع يجوز أن يكونَ بمعنى فاعِل ، قال شمر : تقولُ العرب : « حَقَّ عليّ أن أفعل كذا » . وقال الليث : حقَّ الشيء معناه وَجَبَ ، ويحق عليك أن تفعلَه ، وحقيقٌ عليَّ أن أفعله ، فهذا بمعنى فاعل « ثم قال : » وقال الليث : وحقيقٌ بمعنى مفعول ، وعلى هذا تقول : فلان مَحقوقٌ عليه أن يفعل . قال الأعشى :
2257 لمَحْقوقَةٌ أن تستجيبي لِصَوْتِه ... وأن تعلمي أنَّ المُعَانَ مَوَفَّقٌ
وقال جرير :
2258 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... قَصِّرْ فإنك بالتقصيرِ محقوقُ
ثم قال : « وحقيق على هذه القراءة يعني قراءة العامة بمعنى محقوق » انتهى .
وقرأ أُبَيٌّ « بَأَنْ لا أقول » وهذه تُقَوِّي أنَّ « على » بمعنى الباء . وقرأ عبد الله والأعمش « أنْ لا أقول » دون حرف جر ، فاحتمل أن يكونَ ذلك الجارُّ « على » كما هو قراءة العامة ، وأن يكون الجارُّ الباءَ كما هو قراءة أبيّ .
و « الحقَّ » يجوز أن يكون مفعولاً به لأنه يتضمَّن معنى حَمَّله ، وأن يكونَ منصوباً على المصدر أي : القول الحقَّ ، والاستثناءُ مفرغ .

فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107)

قوله تعالى : { فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ } : « إذا » فجائية . وقد تقدَّم أن فيها ثلاثةَ مذاهب : ظرفُ مكان/ أو زمان أو حرف . قال ابن عطية : « وإذا ظرف مكان في هذا الموضع عند المبرد من حيث كانت خبراً عن جثة ، والصحيح الذي عليه الناس أنها ظرفٌ زمان في كل موضع » . قلت : المشهورُ عند الناس قولُ المبرد وهو مذهبُ سيبويه . وأمَّا كونُها زماناً فهو مذهب الرياشي ، وعُزِيَ لسيبويه أيضاً . وقوله « من حيث كانت خبراً عن جثة » ليست هي هنا خبراً عن جثة ، بل الخبرُ عن « هي » لفظُ « ثعبان » لا لفظ « إذا » .
والثُّعْبان هو ذَكَر الحَيَّاتِ العظيم . واشتقاقهُ مِنْ ثَعَبْتُ المكان أي : فجَّرتُه بالماء ، شُبِّه في انسيابه بانسياب الماء ، يقال : ثَعَبْتُ الماء فجَّرْتُه فانثعب . ومنه مَثْعَبُ المطر . وفي الحديث : « جاء يومَ القيامة وجرحُه يَثْعَبُ دماً » وهنا سؤالٌ وجوابُه ، وَصَفَها تارة بكونها ثعباناً وهو العظيم الهائل الخَلْق ، وفي موضع آخر بقوله { كَأَنَّهَا جَآنٌّ } [ النمل : 10 ] والجانُّ من الحيَّات الخفيفُ الضئيلُ الخَلْقِ « فكيف يُجْمَعُ بين هاتين الصفتين؟ وقد أجاب الزمخشري في غيرِ هذا المكان بجوابين ، أحدهُما : أنه جَمْعٌ لها بين الشيئين : أي كِبَرِ الجثة كالثعبان وبين خفةِ الحركة وسرعةِ المشي كالجانّ . والثاني : أنها في ابتداء أمرها تكون كالجانِّ ثم تتعاظم وتتزايد خَلْقُها إلى أن تصيرَ ثعباناً .

وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108)

قوله تعالى : { لِلنَّاظِرِينَ } : متعلِّقٌ بمحذوف لأنه صفةٌ لبيضاء . وقال الزمخشري : « فإن قلت : بم تُعَلِّق للناظرين؟ قلت : يتعلَّقُ ب » بيضاء « والمعنى : فإذا هي بيضاء للنظَّارة ، ولا تكون بيضاءَ للنَّظارة إلا إذا كان بياضُها بياضاً عجيباً خارجاً عن العادةِ ، يجتمعُ الناسُ للنظر إليه كما تجتمع النَّظارة للعجائب » . وهذا الذي ذكره أبو القاسم تفسيرُ معنى لا تفسيرُ إعراب ، وكيف يريدُ تفسيرَ الإِعراب؟ وإنما أراد التعلُّقَ المعنويَّ لا الصناعي ، كقولهم : هذا الكلامُ يتعلَّق بهذا الكلام . أي إنه من تتمَّةِ المعنى له . وقال في هذه السورة :
{ قَالَ الملأ }

قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109)

{ قَالَ الملأ } : فأسند القولَ إليهم . وفي الشعراء : « قال للملأ » فأسند القولَ إلى فرعون . وأجاب الزمخشري عن ذلك بثلاثة أوجه ، أحدُها : أن يكونَ هذا الكلامُ صادراً منه ومنهم ، فحكى هنا عنهم وفي الشعراء عنه . والثاني : أنه قاله ابتداءً وتلقَّنه عنه خاصَّته فقالوه لأعقابهم . والثالث : أنهم قالوه عنه للناس على طريق التبليغ كما يفعل الملوكُ ، يَرَى الواحدُ منهم الرأيَ فيبلِّغه الخاصة ثم يبلغوه لعامتهم . وهذا الثالث قريبٌ من الثاني في المعنى .
وقرأ الأخوان هنا وفي يونس : « بكل سَحَّارٍ » والباقون : « بكل ساحر » . ولا خلافَ أن الذي في الشعراء « بكل سَحَّارٍ » . وساحر وسَحَّار مثل عالم وعَلاَّم ، وقد عُرِف أن فعَّالاً مثال مبالغة . ويُرَجِّح « سَحَّار » أنه مجاوزٌ لعليم ، وكلاهما مثال مبالغة . ويرجح « ساحر » أنه تقدَّم مثلُه في قوله « إنَّ هذا لساحر » وهذا مناسب له .

يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110)

وفي الشعراء : « بسحره » وهنا بدون « ذلك » . قالوا : لأنَّ أولَ هذه الآيةِ مبنيٌّ على الاختصار .
قوله : { فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } قد تقدَّم الكلامُ على « ماذا » مُسْبَقاً في أول هذا التصنيف . والجمهور على « تأمرون » بفتح النون . وروى كردم عن نافع كسرَها . وعلى كلتا القراءتين يجوز أن يكونَ « ماذا » كلُّه اسماً واحداً في محل نصب على أنه مفعول ثان ل « تأمرون » بعد حَذْفِ الياء ، ويكون المفعول الأول ل « تأمرون » محذوفاً وهو ياءُ المتكلم ، والتقديرُ : بأيِّ شيء تأمرونني؟ وعلى قراءة نافع لا تقول : إن المفعولَ الأولَ محذوفٌ بل هو في قوة المنطوق به؛ لأن الكسرةَ دالةٌ عليه ، فهذا الحذفُ غيرُ الحذفِ في قراءة الجماعة . ويجوز أن تكونَ « ما » استفهاماً في محلِّ رفعٍ بالابتداء و « ذا » موصول ، وصلتُه « تأمرون » ، والعائدُ محذوفٌ ، والمفعولُ الأولُ أيضاً محذوف على قراءة الجماعة ، وتقدير العائد منصوبُ المحل غيرُ مُعَدَّى إليه بالباء فتقديره : فما الذي تأمرونيه؟
وقدَّره ابن عطية : « تأمروني به » ، وردَّ عليه/ الشيخ بأنه يلزم من ذلك حَذْفُ العائد المجرور بحرفٍ لم يُجَرَّ الموصولُ بمثله ، ثم اعتَذَر منه ، بأنه أراد التقدير الأصلي ، ثم اتُّسِعَ فيه بأنْ حُذِف الحرف فاتصل الضميرُ بالفعل . وهذه الجملةُ هل هي من كلام الملأ ، ويكونون قد خاطبوا فرعون بذلك وحده تعظيماً له كما يُخاطَبُ الملوك بصيغة الجمع ، أو يكونون قالوه له ولأصحابه ، أو يكون من كلام فرعون على إضمار قولٍ أي : فقال لهم فرعونُ فماذا تأمرون ، ويؤيِّد كونَها من كلام فرعون قولُه تعالى : « قالوا : أرْجِهْ » .
وهل « تأمرون » من الأمر المعهود أو من الأمر الذي بمعنى المشاورة؟ والثاني منقولٌ عن ابن عباس . وقال الزمخشري : « هو مِنْ أمَرْتُه فأمرني بكذا أي : شاورته فأشار عليَّ برأي » .

قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111)

قوله تعالى : { أَرْجِهْ } : في هذه الكلمة هنا والشعراء ست قراءات في المشهور المتواتر ، ولا التفاتَ إلى مَنْ أنكر بعضها ولا لمَنْ أنكر على راويها . وضبطُ ذلك أن يقال : ثلاث مع الهمز وثلاث مع عدمه ، فأمَّا الثلاث التي مع الهمز فأوّلُها قراءة ابن كثير ، وهشام عن ابن عامر : أَرْجِئْهو بهمزةٍ ساكنة وهاء متصلة بواو . الثانية قراءة أبي عمرو : أَرْجِئْهُ كما تقدَّم إلا أنها لم يَصِلْها بواو . الثانية قراءة أبي عمرو : أَرْجِئْهُ كما تقدَّم إلا أنها لم يَصِلْها بواو . الثالثة : قراءة ابن ذكوان عن ابن عامر : أَرْجِئْهِ بهمزة ساكنة وهاء مكسورة مِنْ غير صلة . وأمَّا الثلاثُ التي مع غير الهمز فأوَّلها قراءة عاصم وحمزة : أَرْجِهْ بكسرِ الجيم وسكون الهاء وصلاً ووقفاً . الثانية قراءة الكسائي : أَرْجِهي بهاء متصلة بياء . الثالثة : قراءة قالون بهاء مكسورة دون ياء .
فأمَّا ضمُّ الهاء وكسرُها فقد عُرِف مما تقدَّم . وأمَّا الهمزُ وعدمُه فلغتان مشهورتان يقال : أَرْجَأْته وأَرْجَيْتُه أي : أخَّرته ، وقد قُرِئ قوله تعالى : { تُرْجِي مَن تَشَآءُ } [ الأحزاب : 51 ] بالهمز وعدمِه . وهذا كقولهم : توضَّأْتُ وتوضَّيْتُ . وهل هما مادتان أصليتان أم المبدلُ فرع الهمز؟ احتمالان .
وقد طَعَنَ قومٌ على قراءة ابن ذكوان فقال الفارسيُّ : « ضمُّ الهاءِ مع الهمز لا يجوزُ غيرُه ، وروايةُ ابن ذكوان عن ابن عامر غلطٌ » . وقال ابن مجاهد : « وهذا لا يجوز ، لأن الهاءَ لا تُكسَرُ إلا بعد كسرةٍ أو ياءٍ ساكنة » . وقال الحوفي : « ومن القرَّاء مَنْ يكسر مع الهمز وليس بجيد » . وقال أبو البقاء : « ويُقْرأ بكسر الهاء مع الهمزِ وهو ضعيفٌ ، لأنَّ الهمزةَ حرفٌ صحيحٌ ساكنٌ فليس قبلَ الهاءِ ما يقتضي الكسر » .
قلت : وقد اعتذر الناسُ عن هذه القراءة على سبيل التنازل بوجهين : أحدُهما : أن الهمزةَ ساكنةٌ والساكنُ حاجزٌ غيرُ حصينٍ ، وله شواهدُ مذكورةٌ في موضعها ، فكأنَّ الهاءَ وَلِيَت الجيمَ المكسورةَ فلذلك كُسِرت . الثاني : أن الهمزةَ كثيراً ما يَطْرأ عليها التغييرُ ، وهي هنا في مَعْرِض أن تُبْدلَ ياءً ساكنة لسكونِها بعد كسرةٍ فكأنها وَلِيَتْ ياءً ساكنة فلذلك كُسِرَتْ .
وقد اعترض أبو شامةَ على هذين الجوابين بثلاثة أوجه . الأول : أن الهمزَ معتدٌّ به حاجزاً بإجماع في { أَنبِئْهُمْ } [ البقرة : 33 ] و { نَبِّئْهُمْ } [ القمر : 28 ] ، والحكمُ واحدٌ في ضمير الجمع والمفرد فيما يرجع إلى الكسر والضم . الثاني : أنه كان يلزمُهُ صلةُ الهاء إذ هي في حكمٍ كأنها قد وَلِيت الجيم . الثالث : أن الهمزَ لو قُلِبَ ياءً لكان الوجهُ المختارُ ضمُّ الهاء مع صريح الياء نظراً إلى أنَّ أصلَها همزة ، فما الظنُّ بمَنْ يكسر الهاءَ مع صريح الهمزة . وسيأتي تحقيق ذلك في باب وقفِ حمزةَ وهشام ، فضمُّ الهاء مع الهمزة هو الوجه .

واستضعف أبو البقاء قراءةَ ابن كثير وهشام فإنه قال : « وأَرْجِئْه » يُقرأ بالهمز وضم الهاء من غير إشباع وهو الجيد ، وبالإِشباع وهو ضعيف؛ لأن الهاء خفيَّة ، فكأن الواوَ التي بعدها تتلو الهمزةَ ، وَهو قريبٌ من الجمع بين الساكنين ، ومن ههنا ضَعُف قولُهم : « عليهي مال » بالإِشباع « . قلت : وهذا التضعيفُ ليس بشيء لأنها لغةٌ ثابتةٌ عن العرب أعني إشباعَ حركةِ الهاء بعد ساكن مطلقاً ، وقد تقدَّم أن هذا أصلٌ لابن كثير ليس مختصاً بهذه اللفظة ، بل قاعدتُه : كلُّ هاءِ كنايةٍ بعد ساكن أن يُشْبع حركتَها حتى يتولَّد منها حرفُ مَدٍّ نحو : » مِنْهو وعَنْهو وأرجِئْهو « إلا قبلَ ساكن فإن المدَّ يُحْذَفُ لالتقاءِ الساكنين إلا في موضع واحد رواه عنه البزي وهو { عَنْهُ تلهى } [ عبس : 10 ] بتشديد التاء ، وكذلك استضعف الزجاج قراءة حمزة وعاصم . قال بعدما أنشد قول الشاعر/ :
2259 لمَّا رأى أن لا دَعَهْ ولا شِبَعْ ... مالَ إلى أَرْطاةِ حِقْفٍ فالْطَجَعْ
» هذا شعرٌ لا يُعرف قائلُه ولا هو بشيءٍ ، ولو قاله شاعرٌ مذكور لقيل له : أخطأت ، لأن الشاعر يجوز أن يخطئ ، وهذا مذهبٌ لا يُعَرَّج عليه « . قلت : قد تقدَّم أن تسكينَ هاء الكناية لغة ثابتة ، وتقدَّم شواهدها فلا حاجةَ إلى إعادة ذلك .
وقوله » وأخاه « الأحسنُ أن يَكون نسقاً على الهاء في » أَرْجِهْ « ، ويَضْعُفُ نصبُه على المعيَّة لإِمكان النسق من غير ضعف لفظي ولا معنوي .
قوله : { فِي المدآئن } متعلقٌ بأَرْسِلْ ، و » حاشرين « مفعول به ، ومفعولُ » حاشرين « محذوفٌ أي : حاشرين السحرة بدليل ما بعده . والمدائن جمع مدينة وفيها ثلاثة أقوال : أحدها وهو الصحيح أن وزنها فَعيلة فميمها أصلية وياؤها زائدة ، مشتقة مِنْ مدَن يمدُن مُدوناً أي : أقام . واستُدِلَّ لهذا القول بإطباق القراء على همز مدائن كصحيفة وصحائف وسفينة وسفائن ، ولو كانت مَفْعِلة لم تُهْمَزْ نحو : معيشة ومعايش ، ولأنهم جمعوها أيضاً على مُدُن كقولهم : سفينة وسُفُن وصحيفة وصُحُف . قال الشيخ : » ويَقْطع بأنها فَعيلة جَمْعُهم لها على فُعُل قالوا : مُدُن ، كما قالوا : صحف في صحيفة « .
قلت : قد قال الزجاجي : » المدن في الحقيقة جمع المَدِين ، لأن المدينة لا تُجمع على مُدُن ، ولكن تجمع على المدائن ومثل هذا : سُفُن كأنهم جمعوا سفينة على سفين ثم جمعوه على سُفُن « . ولا أدري ما حَمَله على جَعْل مُدُن جمع مدين ، ومدين جمع مدينة مع اطِّراد فُعُل في فعيلة لا بمعنى مَفْعولة ، اللهم إلا أن يكونَ قد لَحَظَ في مدينة أنها فعيلة بمعنى مفعولة لأنَّ معنى مدينة أن يُمْدَن فيها أي : يُقام ، ويؤيد هذا ما سيأتي من أن مدينة وزنُها في الأصل مَدْيُوْنة عند بعضهم .

القول الثاني : أن وزنها مَفْعِلة مِنْ دانه يَدينه أي : ساسه يَسُوسه فمعنى مدينة أي : مملوكة ومَسُوسة أي : مسوسٌ أهلُها ، مِنْ دانهم مَلِكُهم إذا ساسهم ، وكان ينبغي أن يُجمع على مداين بصريح الياء كمعايش في مشهور لغة العرب .
الثالث : أن وزنها مَفْعولة وهو مذهب أبي العباس . قال : « هي مِنْ دانه يَدينه إذا ملكه وقَهَره ، وإذا كان أصلُها مَدْيونة فأُعِلَّت كما يُعَلُّ مَبِيع اسمَ مفعول من البيع ، ثم يجري الخلافُ في المحذوف : هل هو الياءُ الأصلية أو الواو الزائدة؟ الأول قول الأخفش ، والثاني قولُ المازني وهو مذهب جماهير النحاة . والمدينة معروفةٌ وهي البقعة المُسَوَّرة المستولي عليها مَلِكٌ .

وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113)

قوله تعالى : { قالوا إِنَّ لَنَا } : في هذه الجملة وجهان ، أظهرهما : أنها لامحلَّ لها من الإِعراب لأنها استئنافُ جوابٍ لسؤال مقدر ، ولذلك لم تُعْطَفْ بالفاء على ما قبلها . قال الزمخشري : « فإن قلت : هلاقيل : وجاء السحرة فرعون فقالوا . قلت : هو على تقدير سائل سأل : ما قالوا إذ جاؤوه؟ فأُجيب بقوله : قالوا أإن لنا لأجراً » ، وهذا قد سبقه إليه الواحدي ، إلا أنه قال : « ولم يقل فقالوا ، لأن المعنى لما جاؤوا قالوا ، فلم يَصِحَّ دخولُ الفاءِ على هذا الوجه » . والوجه الثاني : أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل « جاؤوا » قاله الحوفي .
وقرأ الحَرَمِيَّان وحفص عن عاصم « إنَّ » بهمزة واحدة ، والباقون بهمزتين على الاستفهام . وهم على أصولهم في التحقيق والتسهيل وإدخال ألفٍ بينهما وعدمِه . فقراءةُ الحَرَمِيَّيْن على الإِخبار ، وجوَّز الفارسي أن تكونَ على نية الاستفهام يدل عليه قراءة الباقين ، وجَعَلوا ذلك مثلَ قولِه تعالى : { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ } [ الشعراء : 22 ] وقولِ الشاعر :
2260 أفرحُ أَنْ أُرْزَأَ الكرام وأنْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقول الآخر :
2261 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . وذو الشيب يلعبُ
وقد تقدم تحقيق هذا وأنه مذهب أبي الحسن . ونكَّر « أجراً » للتعظيم . قال الزمخشري : « كقولهم : إنَّ له لإِبلاً وإن له لغنماً » .
قوله : { إِن كُنَّا } شرطٌ جوابُه محذوفٌ للدلالة عليه عند الجمهور ، أو ما تقدَّم عند/ مَنْ يُجيز تقديمَ جوابِ الشرط عليه . و « نحن » يجوز فيه أن يكونَ تأكيداً للضمير المرفوع ، وأن يكون فَصْلاً فلا محلَّ له عند البصريين ، ومحلُّه الرفعُ عند الكسائي ، والنصب عند الفراء .

قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114)

قوله تعالى : { وَإِنَّكُمْ لَمِنَ المقربين } : هذه الجملةُ نَسَقٌ على الجملة المحذوفةِ التي نابَتْ « نعم » عنها في الجواب ، إذ التقدير : قال : نعم إن لكم لأجراً وإنَّكم لمن المقربين .

قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115)

قوله تعالى : { إِمَّآ أَن تُلْقِيَ } : « إمَّا » هنا للتخيير ، ويُطْلق عليها حرفُ عطف مجازاً . وفي محل « أَنْ تلقي وإما أَنْ نكون » ثلاثة أوجه ، أحدها النصبُ بفعلٍ مقدر أي : افعل إمَّا إلقائك وإمَّا إلقاءنا ، كذا قدَّره الشيخ . وفيه نظر لأنه لا يَفْعَلُ إلقاءهم فينبغي أن يُقَدِّر فعلاً لائقاً بذلك وهو اختر أي : اختر إمَّا إلقاءك وإمَّا إلقاءنا . وقدَّره مكي وأبو البقاء ، فقالا : « إمَّا أن تفعل الإِلقاء » قال مكي : « كقوله :
2262 قالوا الركوبَ فقلنا تلك عادتنا ... . . . . . . . . . . . . . . .
إلا أنه جَعَلَ النصبَ مذهبَ الكوفيين . الثاني : الرفع على خبرِ ابتداءٍ مضمر تقديرُه : أَمْرُك إمَّا إلقاؤك وإمَّا إلقاؤُنا . الثالث : أن يكون مبتدأً خبرُه محذوفٌ تقديرُه : إمَّا إلقاؤك مبدوءٌ به ، وإمَّا إلقاؤنا مبدوءٌ به ، وإنما أتى هنا ب » أَنْ « المصدرية قبل الفعل بخلاف قوله تعالى : { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ } [ التوبة : 106 ] لأنَّ » أَنْ « وما بعدها هنا : إمَّا مفعولٌ وإمَّا مبتدأٌ ، والمفعولُ به والمبتدأ لا يكونان فعلاً صريحاً ، بل لا بد أن ينضمَّ إليه حرفٌ مصدري يجعله في تأويل اسم ، وأمَّا آيةُ التوبة فالفعلُ بعد » إمَّا « : إمَّا خبرٌ ثان ل آخرون ، وإمَّا صفةٌ له ، والخبرُ والصفةُ يقعان جملةً فعليةً مِنْ غير حرف مصدري .
وحُذِف مفعولُ الإِلقاء للعلم بهِ والتقدير : إمَّا أَن تُلْقيَ حبالَكَ وعِصِيَّك ، لأنهم كانوا يعتقدون أن يفعل كفِعْلهم أو نلقي حبالَنا وعِصِيَّنا .

قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)

قوله تعالى : { واسترهبوهم } : يجوزُ أَنْ يكونَ استفعل فيه بمعنى أفعل ، أي : أرهبوهم ، وهو قريبٌ مِنْ قولهم : قرَّ واستقرَّ وعَظَّم واستعظم وهذا رأي المبرد . ويجوز أن تكون السينُ على بابها أي : استدعوا رهبةَ الناس منهم ، وهو رأي الزجاج .

وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117)

قوله تعالى : { أَنْ أَلْقِ } : يجوزُ أن تكونَ المفسِّرة لمعنى الإِيحاء ، ويجوزُ أن تكونَ مصدريةً ، فتكون هي وما بعدها مفعولَ الإِيحاء .
قوله : { تَلْقَفُ } قرأ العامة « تَلَقَّفُ » بتشديدٍ ، مِنْ تلقَّفَ يتلقَّفُ ، والأصل : « تَتَلَقَّفُ » بتاءين فحذفت إحداهما : إمَّا الأولى وإما الثانية ، وقد تقدَّم ذلك في نحو { تَذَكَّرُونَ } [ الأنعام : 80 ] . والبزِّي على أصلِه في إدغامها فيما بعدها ، فيقرأ { فإذا هي تَّلقَّفُ } بتشديد التاء أيضاً ، وقد تقدَّم تحقيقُه عند قوله : { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث } [ البقرة : 267 ] . وقرأ حفص « تَلْقَف » بتخفيف القاف مِنْ لَقِفَ ك عَلِم يعلم ورَكِب يركب ، يقال : لَقِفْتُ الشيء أَلْقَفُه لَقْفاً ولَقَفاناً ، وتَلَقَّفْتُه أَتَلَقَّفُه تَلَقُّفاً إذا أخذتَه بسرعة فأكلته أو ابتلعته ، وفي التفسير : أنها ابتلعَتْ جميعَ ما صنَعُوه ، وأنشدوا على لَقِف يلقَف ك عَلِم يَعْلَم قول الشاعر :
2263 أنت عصا موسى التي لم تَزَلْ ... تَلْقَفُ ما يَصْنَعُه السَّاحر
ويقال : رجلٌ ثَقْفٌ لَقْفٌ وثقيف لقيف بَيِّنُ الثقافة واللَّقافة . ويقال : لَقِفَ ولَقِم بمعنى واحد قاله أبو عبيد . ويقال : لَقِف ولَقِم ولَهِم بمعنى واحد .
والفاء في « فإذا هي » يجوزُ أَنْ تكونَ العاطفةَ ، ولا بد من حذف جملةٍ قبلها ليترتَّب ما بعد الفاء عليها ، والتقدير : فألقاها فإذا هي ، ومَنْ جَوَّز أن تكون الفاءُ زائدةً في نحو « خرجت فإذا الأسدُ حاضر » جَوَّز زيادتَها هنا ، وعلى هذا فتكونُ هذه الجملةُ قد أُوْحِيَتْ إلى موسى كالتي قبلها ، وأمَّا على الأول أعني كون الفاءِ عاطفةً - فالجملةُ غير موحى بها إليه .
و « ما يأفِكون » يجوزُ في « ما » أن تكونَ بمعنى الذي ، والعائد محذوفٌ أي : الذي يأْفِكونه ، ويجوز أَنْ تكونَ « ما » مصدريةً ، والمصدرُ حينئذٍ واقعٌ موقعَ المفعولِ به ، وهذا لا حاجةَ إليه .

فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118)

وكذلك قوله تعالى : { مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } : يجوزُ أنْ تكونَ بمعنى الذي ، وأن تكونَ مصدريةً أي : وبَطَل الذي/ كانوا يعملونه أو عَمَلُهم ، وهذا المصدرُ يجوز أَنْ يكونَ على بابه وأن يكونَ واقِعاً موقعَ المفعولِ به بخلاف « ما يَأفِكون » فإنه يَتَعَيَّن أن يكونَ واقِعاً موقعَ المفعول به ليصِحَّ المعنى إذ اللَّقْفُ يستدعي عَيْناً يَصِحُّ تسلُّطُه عليها . وقال الفراء في هذه الآيات : « كيف صَحَّ أن يأمرَهم موسى بقوله : { أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ } [ يونس : 80 ] مع أن إلقاءَهم سحر وكفر؟ وأجاب بأن المعنى : أَلْقوا إن كنتم مُحِقِّين ، وأَلْقوا على ما يَصِحُّ ويجوز » . انتهى . والظاهر إنما أَمَرَهم بذلك تعجيزاً لهم وقطعاً لشَغَبهم واستطالتهم ، ولئلا يقولوا : لو تُرِكنا نفعل لَفَعَلْنا ، ولأنَّ الأمرَ لا يستلزم الإِرادة .

فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119)

قوله تعالى : { فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ } : « هنالك يجوز أن يكونَ مكاناً ، أي : غُلبوا في المكان الذي وَقَع فيه سحرهم ، وهذا هو الظاهر . قيل : ويجوز أن يكونَ زماناً ، وهذا ليس أصلَه ، وقد أثبت له بعضهم هذا المعنى بقولِه تعالى : { هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون } [ الأحزاب : 11 ] وبقول الآخر :
2264 . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فهناك يَعْترفون أين المَفْزَعُ
ولا حُجَّةَ فيهما؛ لأن المكان فيهما واضح .
قوله : { صَاغِرِينَ } حالٌ من فاعل » انْقَلبوا « ، والضمير في » انقلبوا « يجوز أن يعودَ على قومِ فرعون ، وعلى السَّحَرة إذا جعلنا الانقلابَ قبل إيمان السحرة ، أو جعلنا انقلبوا بمعنى صاروا ، كما فسَّره الزمخشري ، أي : » صاروا أَذِلاَّء مَبْهوتين متحيِّرين « ويجوز أَنْ يعودَ عليهم دون السَّحَرة إذا كان ذلك بعد إيمانهم ، ولم يُجعل » انقلبوا « بمعنى صاروا ، لأنَّ الله لا يَصِفُهم بالصَّغار بعد إيمانهم .

وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120)

قوله تعالى : { سَاجِدِينَ } : حالٌ أيضاً من « السحرة » . وكذلك :
{ قالوا }

قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121)

قوله تعالى : { قالوا } : أي : أُلْقُوا ساجدين قائلين ذلك . ويجوز أن يكون حالاً من الضمير المستتر في « ساجدين » . وعلى كلا القولين هم متلبِّسُون بالسجود لله تعالى . ويجوز أن يكونَ مستأنفاً لا محلَّ له . وجعله أبو البقاء حالاً من فاعل « انقلبوا » فإنه قال : « يجوز أن يكون حالاً ، أي : فانقلبوا صاغرين قد قالوا » . وهذا ليس بجيد للفصل بقوله : { وَأُلْقِيَ السحرة } .

رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122)

قوله تعالى : { رَبِّ موسى } : يجوز أن يكون نعتاً لرب العالمين ، وأن يكونَ بدلاً ، وأن يكونَ عطفَ بيان . وفائدةُ ذلك نَفْيُ تَوَهُّمِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أنَّ ربَّ العالمين قد يُطلق على غير الله تعالى ، لقول فرعون { أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى } [ النازعات : 24 ] . وقدَّموا موسى في الذِّكْر على هرون وإن كان هرون أسنَّ منه لكبره في الرتبة ، أو لأنه وقع فاصلةً هنا ، ولذلك قال في سورة طه { بِرَبِّ هَارُونَ وموسى } [ طه : 70 ] لوقوع موسى فاصلةً ، أو تكون كلُّ طائفةٍ منهم قالت إحدى المقالتين فَنَسَبَ فِعْلَ بعضٍ إلى المجموع في سورةٍ وفِعْلَ بعضٍ آخرَ إلى المجموع في أخرى .

قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123)

قوله تعالى : { آمَنتُمْ } : اختلفَ القراء في هذا الحرف هنا وفي طه وفي الشعراء . فبعضهم جَرَى على قولٍ واحد ، وبعضهم قَرَأَ في موضع بشيءٍ لم يَقْرأ به في غيره . فأقول : إن القرَّاء في ذلك على أربع مراتب :
الأولى : قراءةُ الأخوين وأبي بكر عن عاصم وهي : بتحقيق الهمزتين في السور الثلاثِ من غيرِ إدخالِ ألفٍ بينهما وهو استفهامُ إنكار ، وأمَّا الألفُ الثالثةُ فالكلُّ يَقْرؤونها كذلك؛ لأنها هي فاء الكلمة أُبْدِلَتْ لسكونها بعد همزة مفتوحة ، وذلك أن أصل هذه الكلمة أَأَأْمَنْتم بثلاث همزات ، الأولى للاستفهام والثانية همزة أفعل والثالثة فاء الكلمة ، فالثالثة يجب قَلْبُها ألفاً لِما عرفته أول هذا الموضوع ، وأمَّا الأولى فمُحَقَّقة ليس إلا ، وأمَّا الثانية فهي التي فيها الخلاف بالنسبة إلى التحقيق والتسهيل .
الثانية : قراءة حفص وهي « آمنتم » بهمزة واحدة بعدها الألف المشارُ إليها في جميع القرآن . وهذه القراءةُ تحتمل الخبرَ المَحْضَ المتضمنَ للتوبيخ ، وتحتمل الاستفهامَ المشارَ إليه ، ولكنه حُذِف لفهم المعنى ولقراءة الباقين .
الثالثة : قراءةُ نافع وأبي عمرو وابن عامر والبزي عن ابن كثير ، وهي تحقيقُ الأولى ، وتسهيلُ الثانية بين بين ، والألف المذكورة . وهو استفهامُ إنكارٍ كما تقدَّم .
الرابعة : قراءةُ قنبل عن ابن كثير وهي التفرقةُ بين السور الثلاث : وذلك أنه قرأ في هذه/ السورة حالَ الابتداء بآمنتم بهمزتين ، أولاهما مخفَّفة ، والثانية مُسَهَّلة بين بين وألف بعدها كقراءة رفيقه البزي ، وحالَ الوصل يقرأ : « قال فرعون وامنتم » بإبدال الأولى واواً وتسهيل الثانية بين بين وألف بعدها : وذلك أن الهمزة إذا كانت مفتوحةَ بعد ضمة جاز إبدالُها واواً سواء كانت الضمةُ والهمزةُ في كلمةٍ واحدة نحو : جُوَن ويُؤاخذكم ومُوَجَّلاً أم في كلمتين كهذه الآية ، وقد فعل مثل ذلك أيضاً في سورة الملك في قوله : { وَإِلَيْهِ النشور وأَمِنتُمْ } [ الملك : 15-16 ] فأبدل الهمزةَ الأولى واواً لانضمام ما قبلها حال الوصل ، وأما في الابتداء فيخففها لزوالِ الموجب لقلبها ، إلا أنه ليس في سورة الملك ثلاثُ همزات . وسيأتي إن شاء الله تعالى ذلك في موضعه .
وقرأ في سورة طه كقراءة حفص : أعني بهمزةٍ واحدةٍ بعدها ألفٌ ، وفي سورة الشعراء كقراءة رفيقِه البزي فإنه ليس قبلها ضمةٌ فيبدلها واواً في حال الوصل . وقد قرأتُ لقنبل أيضاً بثلاثة أوجه في هذه السورةِ وصلاً : وهي تسكينُ الهمزةِ بعد الواو المبدلةِ أو تحريكها أو إبدالُها ألفاً ، وحينئذ ينطق بقَدْر ألفَيْن ولم يُدخل أحدٌ من القراء مدّاً بين الهمزتين هنا سواءً في ذلك مَنْ حقق أو سَهَّل؛ لئلا تجتمع أربعةُ متشابهات .
والضمير في « به » عائدٌ على الله تعالى لقوله : { قالوا آمَنَّا بِرَبِّ العالمين } ويجوزُ أن يعودَ على موسى وأمَّا الذي في سورة طه والشعراء في قوله : { آمنتم له } فالضمير لموسى لقوله : { إنَّه لكبيرُكم } .
قوله : { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } حُذِفَ مفعولُ العلم للعلم به ، أي : تعلمون ما يحلُّ بكم ، ثم فَسَّر هذا الإِبهامَ بقوله :
{ لأُقَطِّعَنَّ }

لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124)

{ لأُقَطِّعَنَّ } جاء به في جملةٍ قَسَمية تأكيداً لما يفعله . وقرأ مجاهد بن جبر وحميد المكي وابن محيصن : « لأقْطَعَنَّ » مخففاً مِنْ قَطَعَ الثلاثي ، وكذا : « ولأَصْلُبَنَّكُمْ » من صلب الثلاثي ، ورُوي ضمُّ اللام وكسرُها ، وهما لغتان في المضارع يقال : صَلَبه يَصْلُبه ويَصْلِبه .
قوله : { مِّنْ خِلاَفٍ } يحتمل أن يكونَ المعنى : على أنه يقطع من كل شق طرفاً فيقطع اليدَ اليمنى والرِّجْل اليسرى وكذا هو في التفسير ، فيكونُ الجارُّ والمجرور في محلِّ نصبٍ على الحال كأنه قال : مختلفةً . ويُحتمل أن يكونَ المعنى : لأقطِّعَنَّ لأجل مخالفتكم إيَّاي فتكون « مِنْ » تعليليةً ، وتتعلَّق على هذا بنفس الفعلِ وهو بعيدٌ . وأجمعين تأكيد ، أي به دون « كل » وإن كان الأكثرُ سَبْقَه ب كل . وجيء هنا ب « ثم » وفي السورتين « ولأصلبنَّكم » بالواو ، لأن الواوَ صالحةٌ للمهلة فلا تَنافِيَ بين الآيات .

قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125)

وقوله تعالى : { إِنَّآ إلى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ } : جَوَّزوا في هذا الضميرِ وجهين ، أحدهما : أنه يَخُصُّ السَّحَرة ، ويؤيِّده قولُه بعد ذلك : { وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ } فإن الضميرَ في « مِنَّا » يَخُصُّهم ، وجَوَّزوا أن يعودَ عليهم وعلى فرعون ، أي : إنَّا نحن وأنت ننقلب إلى الله ، فيجازي كلاً بعمله ، وهذا وإن كان هو الواقعَ إلا أنه ليس من هذا اللفظ .

وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126)

وقوله تعالى : { وَمَا تَنقِمُ } : قد تقدَّم أنَّ فيه لغتين وكيفيةُ تعدِّيه ب « من » ، وأنه على التضمين ، في سورة المائدة . وقوله : { إِلاَّ أَنْ آمَنَّا } يجوز أن يكونَ في محلِّ نصب مفعولاً به ، أي : ما تَعيب علينا إلا إيمانَنا . ويجوز أن يكونَ مفعولاً مِنْ أجله ، أي : ما تنال منَّا وتعذِّبنا لشيءٍ من الأشياء إلا لإِيماننا . وعلى كلا القولَيْن فهو استثناءٌ مفرغ .
قوله : { لَمَّا جَآءَتْنَا } يجوز أن تكونَ ظرفيةً كما هو رأي الفارسي وأحد قولي سيبويه . والعاملُ فيها على هذا « آمنَّا » أي : آمنَّا حين مجيء الآيات ، وأن تكونَ حرفٍ وجوب لوجوب ، وعلى هذا فلا بد لها من جوابٍ وهو محذوفٌ تقديرُه : لمَّا جاءَتْنا آمنَّا بها من غير توقُّفٍ .

وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)

قوله تعالى : { وَيَذَرُكَ } : قرأ العامَّةُ : « ويَذَرَك » بياء الغيبة ونصبِ الراء . وفي النصبِ وجهان : أظهرهما : أنه على العطف على « ليُفْسدوا » . والثاني : أنه منصوبٌ على جواب الاستفهام ، كما يُنصب في جوابه بعد الفاء كقول الحطيئة :
2265 ألم أكُ جارَكُم ويكونَ بيني ... وبينكمُ المودةُ والإِخاءُ
والمعنى : كيف يكون الجمعُ بين تَرْكِكَ موسى وقومه مفسدين وبين تركِهم إيَّاك وعبادةِ آلهتك ، أي لا يمكنُ وقوعُ ذلك .
وقرأ الحسن في روايةٍ عنه ونعيم بن ميسرة « ويذرُك » برفع الراء . وفيها ثلاثةُ أوجه ، أظهرُها : أنه نسقٌ على « أتذر » أي : أتطلق له ذلك . الثاني : أنه استئنافُ إخبار بذلك . الثالث : أنه حالٌ . ولا بدَّ من/ إضمارِ مبتدأ ، أي : وهو يَذَرُك .
وقرأ الحسن أيضاً والأشهب العقيلي : « ويذرْك » بالجزم وفيها وجهان ، أحدهما : أنه جزم ذلك عطفاً على التوهم ، كأنه توهَّم جَزْمَ « يُفْسدوا » في جواب الاستفهام فعطف عليه بالجزم كقوله : { فأصَّدَّق وأكنْ } [ المنافقين : 10 ] بجزم « وأكن » . الثاني : أنها تخفيفٌ كقراءةِ أبي عمرو « يَنْصُرْكم » وبابه .
وقرأ أنس بن مالك : « ونذرُك » بنون الجماعة ورفع الراء ، تَوَعَّدوه بذلك ، أو أنَّ الأمرَ يُؤول إلى ذلك فيكون خبراً محضاً . وقرأ عبد الله والأعمش بما يخالف السواد فلا حاجةَ إلى ذِكْره .
وقرأ العامَّة : « وآلهتكَ » بالجمع . وفي التفسير : أنه كان يعبدُ آلهةً متعددة كالبقر والحجارة والكواكب ، أو آلهته التي شَرَع عبادتَها لهم وجَعَل نفسَه الإِلَه الأعلى في قوله { أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى } . وقرأ علي بن أبي طالب وابن مسعود وأنس وجماعة كثيرة : « وإلاهتك » . وفيها وجهان ، أحدهما : أن « إلاهة » اسم للمعبود ، ويكون المرادُ بها معبودَ فرعونِ وهي الشمس ، وفي التفسير أنه كان يعبد الشمس ، والشمس تسمَّى « إلاهةً » علَماً عليها ، ولذلك مُنِعت الصرف للعلمية والتأنيث . والثاني : أن « إلاهة » مصدر بمعنى العبادة ، أي : ويذر عبادَتك لأنَّ قومه كانوا يعبدونه . ونقل ابن الأنباري عن ابن عباس أنه كان يُنْكر قراءة العامة ، ويقرأ « وإلاهتك » وكان يقول : إن فرعون كان يُعْبَدُ ولا يَعْبُدُ .
قوله : { سَنُقَتِّلُ } قرأ نافع وابن كثير : « سَنَقْتل » بالتخفيف ، والباقون بالتضعيف للتكثير ، لتعدُّد المجال . وسيأتي أن الجماعة قَرَؤوا « يُقَتِّلُون أبناءكم » بالتضعيف إلا نافعاً ، فيخفف . فتلخص من ذلك أنَّ نافعاً يقرأ الفعلين بالتخفيف . وابن كثير يخفف « سنقتل » ويثقِّل « يقتلون » ، والباقون يثقلونها .

قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)

قوله تعالى : { يُورِثُهَا } : في محلِّ نصبٍ على الحال . وفي صاحبها وجهان ، أحدهما : الجلالة أي : هي له حالَ كونه مُورِثاً لها من يشاؤه . والثاني : أنه الضميرُ المستتر في الجار أي : إنَّ الأرضَ مستقرة لله حالَ كونها مُوَرَّثَةً من الله لمن يشاء . ويجوز أن يكونَ « يورثها » خبراً ثانياً ، وأن يكونَ خبراً وحدَه ، و « لله » هو الحال ، ومَنْ يشاء مفعولٌ ثانٍ ، ويجوزُ أن يكونَ جملةً مستأنفة .
وقرأ الحسن ورُويت عن حفص « يُوَرِّثُها » بالتشديد على المبالغة . وقرئ « يُوْرَثُها » بفتح الراء مبنياً للمفعول ، والقائمُ مقامَ الفاعل هو « مَنْ يشاء » . والألفُ واللام في « الأرض » يجوز أن تكونَ للعهدِ وهي أرضُ مِصْر أو للجنس .
وقرأ ابن مسعود بنصب « العاقبة » نسقاً على « الأرض » و « للمتقين » خبرُها ، فيكون قد عطف الاسم على الاسم والخبر على الخبر فهو مِنْ عطفِ الجمل . قال الزمخشري : « فإن قلت : لِمَ أُخْلِيَتْ هذه الجملةُ من الواو وأُدْخِلَتْ على التي قبلها؟ قلت : هي جملةٌ مبتدَأةٌ مستأنفةٌ ، وأمَّا { وَقَالَ الملأ } [ الأعراف : 127 ] فهي معطوفةٌ على ما سبقها مِنْ قوله : { وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ } .

وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)

قوله تعالى : { بالسنين } : جمعُ سَنَة . وفيها لغتان أشهرهما : إجراؤُه مُجْرى جمع المذكر السالم فيُرفع بالواو ويُنْصب ويُجَرُّ بالياء ، وتُحْذَفُ نونُه للإِضافة . قال النحاة : إنما جرى ذلك المجرى جبراً له لِما فاته مِنْ لامه المحذوفة ، وسيأتي في لامِه كلامٌ . واللغةُ الثانيةُ : أن يُجْعَلَ الإِعرابُ على النونِ ولكن مع الياءِ خاصَّةً . نَقَلَ هذه اللغةَ أبو زيد والفراء . ثم لك فيها لغتان أحدهما : ثبوتُ تنوينها ، والثانيةُ عدمهُ . قال الفراء : « هي في هذه اللغة مصروفة عند بني عامر وغير مصروفة عند بني تميم » . ووجه حذف التنوين التخفيف ، وحينئذ لا تُحْذف النون للإِضافة ، وعلى ذلك جاء قولُه :
2266 دَعَانيَ مِنْ نَجْدٍ فإنَّ سنينَه ... لَعِبْنَ بنا شِيْباً وشَيَّبْنَنَا مُرْدا
وجاء الحديث « اللهم اجعلها عليهم سنين كَسِني يوسف » و « سنيناً كسنينِ يوسف » باللغتين .
وفي لام « سَنَة » لغتان ، أحدهما : أنها واو لقولهم : سنوات وسانَيْتُ وسُنَيَّة . والثانية : أنه هاءٌ لقولهم : سانَهْتُ وسَنَهات وسُنَيْهَة . وليس هذا الحكمُ المذكور أعني جَرَيَانَه مَجْرى جمعِ المذكر أو إعرابَه بالحركات مقتصراً على لفظ سنين بل هو جارٍ في كل اسمٍ ثلاثي مؤنث حُذِفتْ لامُه وعُوِّضَ منها تاء التأنيث ولم يُجْمع جمع تكسير ، نحو ثُبة وثبين ، وقُلة وقُلين . وتَحَرَّزْتُ بقولي « حُذِفَتْ لامُه » ممَّا حُذِفَتْ فاؤه نحو : لِدة وعِدَة . وبقولي « ولم يُجْمع جمع تكسير » مِنْ « ظُبَة وظُبَى » . وقد شذَّ قولهم « لِدُون » في المحذوف الفاء ، وظِبون في المكسَّر قال/
2267 يرى الراؤون بالشَّفَراتِ منها ... وُقودَ أبي حُباحبَ والظُّبينا
واعلم أن هذا النوعَ إذا جَرَى مَجْرى الزيدِيْنَ فإن كان مكسورَ الفاء سَلِمَتْ ولم تُغَيَّر نحو : مئة ومئين ، وفئة وفئين . وإن كان مفتوحَها كُسِرَتْ نحو سنين ، وقد نُقِل فتحُها وهو قليلٌ جداً . وإن كان مضمومَها جاز في فائهِ الوجهان : أعني السَّلامة والكسر نحو : ثُبين وقُلين .
وقد غَلَبت السَّنَة على زمانِ الجَدْب ، والعام على زمان الخصب حتى صارا كالعلَم بالغلبة ، ولذلك اشتقوا من لفظ السنة فقالوا : أَسْنَتَ القومُ . قال :
2268 عمروُ الذي هَشَمَ الثَّريدَ لقومِه ... ورجالُ مكةَ مُسْنِتونَ عجافُ
وقال حاتم الطائي :
2269 وإنَّا نُهيْنُ المالَ في غيرِ ظِنَّةٍ ... وما يَشْتكينا في السنين ضريرُها
ويؤيِّد ما ذَكَرْتُ لك ما في سورة يوسف : { تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ } [ يوسف : 47 ] ثم قال : { سَبْعٌ شِدَادٌ } [ يوسف : 48 ] فهذا في الجَدْب . وقال : { ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلك عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ الناس } [ يوسف : 49 ] . وقوله : { مِّن الثمرات } متعلق ب { نَقْصٍ } .

فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131)

قوله تعالى : { فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الحسنة } : أتى في جانب الحسنة ب إذا التي للمحقق . وعُرِّفَتِ الحسنة لسَعة رحمة الله تعالى ، ولأنها أمر محبوب ، كلُّ أحدٍ يتمناه ، وأتى في جانب السيئة ب « إنْ » التي للمشكوك فيه ، ونُكِّرتِ السيئة لأنه أمرٌ كلُّ أحدٍ يَحْذره . وقد أوضح الزمخشري ذلك فقال : « فإن قلتَ : كيف قيل { فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الحسنة } ب » إذا « وتعريف الحسنة ، و { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } ب » إن « وتنكير السيئة؟ قلت : لأنَّ جنسَ وقوعِه كالواجب واتساعه ، وأمَّا السيئة فلا تقع إلا في الندرة ولا يقع إلا شيء منها » . انتهى . وهذا من محاسن علم البيان .
قوله : { يَطَّيَّرُواْ } الأصلُ : يتطيَّروا فَأُدْغمت التاء في الطاء لمقاربتها لها . وقرأ عيسى بن عمر وطلحة بن مصرف : « تطيَّروا » بتاءٍ من فوق على أنه فعلٌ ماضٍ وهو عند سيبويه وأتباعه ضرورة ، إذ لا يقع فعل الشرط مضارعاً والجزاء ماضياً إلا ضرورةً كقوله :
2270 مَنْ يَكِدْني بِسَيِّءٍ كنتُ منه ... كالشَّجا بين حَلْقِه والوريد
وقوله :
2271 وإن يَرَوا سُبَّة طاروا بها فَرَحاً ... مني وما سمعوا مِنْ صالحٍ دَفَنُوا
وقد تقدَّم الخلاف في ذلك فأغنى عن إعادته .
والتطيُّر : التشاؤم وأصله أن يُفَرَّق المالُ ويطير بين القوم ، فيطير لكل أحدٍ حظُّه وما يخصُّه ، ثم أُطْلق على الحظ والنصيب السَّيِّئ بالغلبة ، وأنشدوا للبيد :
2272 تطير عَدائِدُ الأشراكِ شَفْعاً ... ووِتْراً والزَّعامةُ للغلام
الأَشْراك : جمعُ شِرْك وهو النصيب ، أي : طار المال المقسوم شَفْعاً للذَّكر ووِتْراً للأنثى . والزَّعامة : أي : الرئاسة للذكر ، فهذا معناه تفرَّق ، وصار لكل أحد نصيبُه ، وليس من الشؤم في شيءٍ ، ثم غَلَبَ على ما ذكرت لك . ومعنى { طَائِرُهُمْ عِندَ الله } أي : حظهم وما طار لهم في القضاء والقدر ، أو شؤمهم ، أي : سبب شؤمِهم عند الله وهو ما يُنْزِلُه بهم .

وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132)

قوله تعالى : { مَهْمَا } : « مهما » اسمُ شرطٍ يجزم فعلين ، ك « إنْ » . هذا قولُ جمهور النحاة ، وقد يأتي للاستفهام ، وهو قليلٌ جداً كقوله :
2273 مهما لي الليلةَ مهما لِيَهْ ... أَوْدَى بنعلَيَّ وسِرْباليَهْ
يريد : ما لي الليلة ما لي؟ والهاء للسكت .
وزعم بعض النحويين أنَّ الجازمة تأتي ظرف زمان ، وأنشد :
2274 وإنك مهما تُعْطِ بطنك سُؤْلَه ... وفَرْجَكَ نالا منتهى الذمِّ أجمعا
وقول الآخر :
2275 ... عوَّدْتَ قومَك أن كلَّ مُبَرَّرٍ
مهما يُعَوَّدْ شيمةً يَتَعوَّدِ ... وقول الآخر :
2276 نُبِّئْتُ أن أبا شُتَيْمٍ يَدَّعي ... مهما يَعِشْ يُسْمِعْ بما لم يُسْمَعِ
قال : « ف مهما هنا ظرف زمان » والجمهور على خلافه . وما ذكره متأول ، بل بعضُه لا يَظْهر فيه للظرفية معنى .
وقد شنع الزمخشري على القائل بذلك فقال : « وهذه الكلمة في عداد الكلمات التي يُحَرِّفها مَنْ لا يدَ له في علم العربية فيضعها غيرَ موضعها ، ويحسب » مهما « بمعنى » متى « ويقول : مهما جئتني أعطيتك ، وهذا من كلامه وليس من واضع العربية ، ثم يذهب فيفسر { مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ } بمعنى الوقت فيُلْحد في آيات الله وهو لا يشعر ، وهذا وأمثاله مِمَّا يوجب الجثوَّ بين يدي الناظر في كتاب سيبويه » . قلت : هو معذورٌ في كونها بمعنى الوقت ، فإن ذلك قولٌ ضعيف لم يَقُلْ به إلا الطائفةُ الشاذَّةُ ، وقد قال جمال الدين ابن مالك : « جميع النحويين يقولون إن » مهما « و » ما « مثل » مَنْ « في لزوم التجرُّد عن الظرف ، مع أن استعمالهما ظرفين ثابتٌ في أشعار الفصحاء من العرب » ، وأنشد بعض الأبيات المتقدمة . قلت : وكفى بقوله « جميع النحويين » دليلاً على ضَعْف القول بظرفيتهما .
وهي اسمٌ لا حرفٌ بدليل عَوْد الضمير عليها ، ولا يعود الضمير على حرف كقوله { مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ } فالهاء في « به » تعود على « مهما » ، وشَذَّ السهيليُّ فزعم أنها قد تأتي حرفاً .
واختلف النحويون في « مهما » : هل هي بسيطة أو مركبة؟ والقائلون بتركيبها اختلفوا : فمنهم مَنْ قال : هي مركبة/ مِنْ ماما ، كُرِّرت « ما » الشرطية توكيداً فاستثقل توالي لفظين فأُبْدلت ألف « ما » الأولى هاء . وقيل : زيدت « ما » على « ما » الشرطية كما تُزاد على « إنْ » في قوله : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم } [ البقرة : 38 ] فعُمِل العمل المذكور للثقل الحاصل . وهذا قول الخليل وأتباعه من أهل البصرة . وقال قوم : « هي مركبة مِنْ مَهْ التي هي اسمُ فعلٍ بمعنى الزجر وما الشرطية ، ثم رُكِّبت الكلمتان فصارا شيئاً واحداً » . وقال بعضهم : « لا تركيبَ فيها هنا بل كأنهم قالوا له : مه ، ثم قالوا : ما تَأْتِنا به » ويُعْزى هذان الاحتمالان للكسائي وهذا ليس بشيء؛ لأن ذلك قد يأتي في موضعٍ لا زَجْرَ فيه ، ولأن كتابتها متصلة ينفي كونَ كلٍ منهما كلمةً مستقلة .

وقال قوم : إنها مركبة من مَهْ بمعنى اكفف ومَنْ الشرطية ، بدليل قول الشاعر :
2277 أماوِيَّ مَهْ مَنْ يَسْتمعْ في صديقه ... أقاويلَ هذا الناسِ ماوِيَّ يندمِ
فأُبْدِلَتْ نونُ « مَنْ » ألفاً ، كما تبدل النونُ الخفيفة بعد فتحة ، والتنوين ألفاً . وهذا ليس بشيء ، بل « مَهْ » على بابها من كونها من انكفف ثم قال : من يستمع . وقال قوم : « بل هي مركبةٌ مِنْ مَنْ وما ، فأُبْدلت نونُ مَنْ هاءً ، كما أبدلوا من ألف » ما « الأولى هاء ، وذلك لمؤاخاة » مَنْ « » ما « في أشياء وإن افترقا في شيء واحد » . ذكره مكي .
ومحلُّها نصبٌ أو رفع ، فالرفعُ على الابتداء وما بعده الخبر ، وفيه الخلافُ المشهورُ : هل الخبر فعلُ الشرط أو فعلُ الجزاء أو هما معاً . والنصب من وجهين : أظهرهُهما على الاشتغال ، ويُقَدَّر الفعلُ متأخراً عن اسم الشرط والتقدير : مهما تُحْضِر تأتِنا به ، ف « تَأْتِنا » مفسِّر ل « تُحضر » لأنه من معناه . والثاني : النصبُ على الظرفية عند مَنْ يرى ذلك ، وقد تقدم الردُّ على هذا القول . والضميران من قوله « به » و « بها » عائدان على « مهما » عاد الأول على اللفظ والثاني على المعنى ، فإن معناها الآية المذكورة . ومثله قول زهير :
2278 ومهما تكنْ عند امرئٍ من خَليقةٍ ... وإن خالها تَخْفَى على الناسِ تُعْلَمِ
ومثلُه في ذلك قولُه : { ما نَنْسَخْ من آيةٍ أو نَنْسَأْها نأْتِ بخيرٍ منها أو مثلها } [ البقرة : 106 ] فأعاد الضمير على « ما » مؤنثاً لأنها بمعنى الآية .
وقوله : { فَمَا نَحْنُ } يجوز أَنْ تكونَ « ما » حجازيةً أو تميمية ، والراءُ زائدةٌ على كلا القولين ، والجملةُ جوابُ الشرط فمحلها جزم .

فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133)

قوله تعالى : { الطوفان } : فيه قولان أحدهما : أنه جمع طُوْفانة ، أي : هو اسم جنس كقمح وقمحة وشعير وشعيرة . وقيل : بل هو مصدر كالنُّقْصان والرُّجْحان ، وهذا قول المبرد في آخرين ، والأول هو قول الأخفش قال : « هو فُعْلان من الطَّواف ، لأنه يطوف حتى يَعُمَّ ، وواحدته في القياس طُوْفانة ، وأنشد :
2279 غَيَّرَ الجِدَّةَ من آياتها ... خُرُقُ الريحِ وطوفانُ المَطَرْ
والطُّوفان : الماء الكثير قاله الليث ، وأنشد للعجاج :
2280 وعَمَّ طُوفانُ الظلامِ الأَثْأَبا ... شبَّه ظلامَ الليل بالماء الذي يغشى الأمكنة . وقال أبو النجم :
2281 ومَدَّ طوفانٌ مبيدٌ مَدَدا ... شهراً شآبيبَ وشهراً بَرَدا
وقيل : الطُّوفان من كلِّ شيءٍ ما كان كثيراً محيطاً مُطْبقاً بالجماعة من كل جهة كالماء الكثير والقتل الذريع والموت الجارف ، قاله ابو إسحاق . وقد فسَّره النبي صلى الله عليه وسلم بالموتِ تارةً وبأمرٍ من الله تارة ، وتلا قولَه تعالى : { فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ } [ القلم : 19 ] . وهذه المادة وإن كانت قد تقدَّمت في » طائفة « إلا أن لهذه البِنْية خصوصيةً بهذه المعاني المذكورة .
قوله : { والجراد } جمع جَرادة ، الذَّكَرُ والأنثى فيه سواء . يقال : جرادة ذََكَرٌ وجرادة أنثى كنملة وحمامة . قال أهل اللغة : وهو مشتق من الجَرْد ، قالوا : والاشتقاق في أسماء الأجناس قليلٌ جداً يقال : أرض جَرْداء أي : مَلْساء ، وثوب جَرْد : إذا ذهبَ زِئْبَرُه .
قوله : { والقمل } قيل هي : القِرْدان وقيل : دوابُّ تشبهها أصغرَ منها . وقيل : هي السُّوس الذي يخرج من الحنطة . وقيل : نوع من الجراد أصغر منه . وقيل : الحِمْنان الواحدة حِمْنانة نوع من القِرْدان . وقيل : هو القُمَّل المعروف الذي يكون في بدن الإِنسان وثيابه . ويؤيد هذا قراءة الحسن » والقَمْل « بفتح القاف وسكون الميم فيكون فيه لغتان : القُمَّل كقراءة العامة ، والقَمْل كقراءة الحسن البصري . وقيل : القمل : البراغيث . وقيل : الجِعلان .
قوله : { والضفادع } : جمع ضِفْدَع بزنة دِرْهم ، ويجوز كسر دالِه فيصير بزنة زِبْرِج وقد تُبْدَلُ عينُ جمعه ياء/ كقوله :
2282 ومَنْهَلٍ ليس له حَوازِق ... ولِضفادي جَمِّه نقانِقُ
وشَذَّ جمعُه أيضاً على ضِفْدَعان ، والضِّفدع مؤنث وليس بمذكر . فعلى هذا يُفَرَّق بين مذكَّره ومؤنثه بالوصف . فيقال : ضفدع ذَكَر وضفدع أنثى ، كما قلنا ذلك في المتلبِّس بتاءِ التأنيث نحو حمامة وجرادة ونملة .
قوله : { آيَاتٍ } منصوب على الحال من تلك الأشياء المتقدمة أي : أَرْسَلْنا عليهم هذه الأشياءَ حالَ كونِها علاماتٍ مميَّزاً بعضها من بعض .

وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134)

قوله تعالى : { بِمَا عَهِدَ } : يجوز في : هذه الباء وجهان أحدهما وهو الظاهر : أن يتعلق ب ادْعُ أي : ادْعُه بالدعاء الذي عَلَّمك أن تدعوه به . والثاني : أنها باء القسم . وقد ذكر الزمخشري هذين الوجهين فقال : « والباء إمَّا أن تتعلق ب » ادْعُ « على وجهين أحدهما : أَسْعِفْنا إلى ما نطلب إليك من الدعاء لنا بحق ما عندك من عهد الله وكرامته إياك بالنبوة ، أو ادعُ الله لنا متوسِّلاً إليه بعهده عندك ، وإمَّا أن يكون قَسَماً مُجاباً ب » لنؤمِنَنَّ « أي : أقسمنا بعهد الله عندك .

فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135)

قوله تعالى : { إلى أَجَلٍ } : فيه وجهان ، أحدهما : أنه متعلق ب كَشَفْنا ، وهذا هو المشهور عند المُعْرِبين . واستشكل عليه الشيخ ، إشكالاً وهو أنَّ ما دخلت عليه « لمَّا » يترتب جوابُه على ابتداء وقوعه ، والغايةُ تنافي التعليقَ على ابتداءِ الوقوع ، فلا بدَّ مِنْ تعقُّل الابتداء والاستمرار حتى تتحقَّقَ الغايةُ ، ولذلك لا تقع الغاية في الفعل غير المتطاول لا يُقال : « لَمَّا قتلت زيداً إلى يوم الخميس جَرَى كذا » ، ولا « لَمَّا وثبتُ إلى يوم الجمعة اتفق كذا » . هذا كلامُه وهو حسنٌ . وقد يُجاب عنه بأنَّ المرادَ بالأجَل هنا وقتُ إيمانهم وإرسالِهم بني إسرائيل معه ، ويكون المرادُ بالكشفِ استمرارَ رَفْعِ الرجز ، كأنه قيل : فلمَّا تمادَى كشَفْنا عنهم إلى أجَلْ . وأمَّا مَنْ فسَّر الأجل بالموت أو بالغرق فيحتاج إلى حَذْفِ مضاف تقديرُه : فلما كشَفْنا عنهم الرجزَ إلى قُرْب أجلٍ هم بالغوه ، وإنما احتاج إلى ذلك لأن بين موتهم أو غَرَقِهم حصل منهم نكثٌ فكيف يُتَصَوَّر أن يكون النكثُ منهم بعد موتهم أو غرقهم .
والثاني : أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنه حال من « الرِّجز » أي : فلما كشفنا عنهم الرجزَ كائناً إلى أجل . والمعنى أن العذاب كان مؤجلاً . قال الشيخ : « ويقوِّي هذا التأويلَ كونُ جواب » لمَّا « جاء ب » إذا « الفجائية أي : فلمَّا كَشَفْنا عنهم العذابَ المقرَّرَ عليهم إلى أجل فاجَؤُوا بالنكث ، وعلى معنى تغييته الكشفَ بالأجل المبلوغ لا تتأتى المفاجأة إلا على تأويلِ الكشفِ بالاستمرار المُغَيَّا فيمكن المفاجأة بالنكث إذ ذاك » انتهى .
قوله : { هُم بَالِغُوهُ } في محل جرٍ صفةً لأَجَل . والوصف بهذه الجملةِ أبلغُ مِنْ وَصْفه بالمفرد لتكررِ الضمير المؤذن بالتفخيم .
وقوله : { إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } هذه « إذا » الفجائية وقد تقدَّم الكلامُ عليها قريباً ، و « هم » مبتدأ و « ينكثون » خبره ، و « إذا » جوابُ « لَمَّا » كما تقدَّم بالتأويل المذكور . قال الزمخشري : « إذا هم ينكُثون جواب » لَمَّا « ، يعني فلمَّا كشَفْنا عنهم العذاب فاجؤوا النكث وبادروه ، ولم يؤخِّروه ، ولكن لَمَّا كَشَفَ عنهم نكثوا » . قال الشيخ : لا ولا يمكن التَّغْيية مع ظاهرِ هذا التقدير « . انتهى . يعني فلا بد من تأويلِ الكشف بالاستمرار كما تقدَّم حتى يَصِحَّ ذلك . وهذه الآية تَرُدُّ مذهبَ مَنْ يدَّعي في » لَمَّا « أنها ظرفٌ ، إذ لا بدَّ لها حينئذٍ من عامل . وما بعد » إذا « لا يعمل فيما قبلها . وقد تقدَّم ذلك محرَّراً في موضعه .
وقرأ أبو حيوة وأبو هاشم » تنكِثون « بكسر الكاف ، والجمهورُ على الضم ، وهما لغتان في المضارع . والنَّكْثُ : النَّقْضُ ، وأصلُه مِنْ نَكْثِ الصوف المغزول ليُغْزل ثانياً ، وذلك المنكوث نِكْثٌ كذِبْح ورِعْي والجمع أَنْكاث . فاستُعير لنقض العهد بعد إحكامه وإبرامه ، كما في خيوط الأَكْسية إذا نُكِثَتْ بعدما أُبْرِمَتْ ، وهذا مِنْ أحسن الاستعارات .

فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136)

قوله تعالى : { فانتقمنا } : هذه الفاءُ سببيَّة أي تسبِّب عن النكثِ الانتقامُ . ثم إنْ أريد بالانتقام/ نفسُ الإِغراق ، فالفاء الثانية مفسِّرةٌ عند مَنْ يُثْبِتُ لها ذلك ، وإلا كان التقدير : فأرَدْنا الانتقامَ .
قوله : { فِي اليم } متعلِّقٌ ب « أَغْرَقْناهم » . واليَمُّ : البحر . والمشهور أنه عربيٌّ . قال ذو الرمة :
2283 داوِيَّةٌ ودُجَى ليلٍ كأنهما ... يَمٌّ تراطَنَ في حافاتِه الرومُ
وقال ابن قتيبة : « إنه البحر بالسُّريانية » . وقيل : بالعبرانيَّة ، والمشهور أنه لا يتقيَّد ببحر خاص « . وقال الهروي في عربيَّته : » واليَمُّ : البحر الذي يقال له إساف ، وفيه غرق فرعون « ، وهذا ليس بجيد لقوله تعالى : { فَأَلْقِيهِ فِي اليم } [ القصص : 7 ] والمراد به نيلُ مِصْرَ ، وهو غيرُ الذي غَرِق فيه فرعون .
قوله : » بأنهم « الباءُ للسببية أي : أغْرَقْناهم بسبب تكذيبهم بآياتنا ، وكونِهم غافلين عن آياتنا . فالضمير في » عنها « يعودُ على الآيات . وهذا هو الظاهر . وبه قال الزجاج وغيره . وقيل : يجوز أن يكونَ على النقمة المدلولِ عليها بانتقمنا . ويُعْزى هذا لابن عباس ، وكأن القائل بذلك تَخيَّل أن الغفلةَ عن الآيات عُذْرٌ لهم من حيث إن الغفلةَ ليست مِنْ كسب الإِنسان . وقال الجمهور : إنهم تعاطَوا أسبابَ الغفلة فُذُمُّوا عليها كما يُذَمُّ الناسِي على نِسْيانه لتعاطيه أسبابَه .

وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)

قوله تعالى : { وأَوْرَثْنَا } : يتعدَّى لاثنين لأنه قبل النقل بالهمزة متعدٍّ لواحد نحو : وَرِثْتُ أبي ، فبالنقل اكتسب آخرَ ، فأَوَّلُهما « القوم » و « الذين » وصلتُه في محل نصب نعتاً له . وأمَّا المفعولُ الثاني : ففيه ثلاثة أوجهٍ ، أظهرُها : أنه { مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا } . وفي قوله { التي بَارَكْنَا فِيهَا } على هذا وجهان أحدهما : أنه نعتٌ لمشارق ومغارب . والثاني : أنه نعتٌ للأرض . وفيه ضعفٌ من حيث الفصلُ بالمعطوفِ بين الصفةِ والموصوف ، وهو نظيرُ قولك : « قام غلامُ هندٍ وزيدٌ العاقلةِ » . وقال أبو البقاء هنا : « وفيه ضعفٌ؛ لأن فيه العطفَ على الموصوف قبل الصفة » وهذا سَبْقُ لسان أو قلم لأنَّ العطفَ ليس على الموصوف ، بل على ما أُضيف إلى الموصوف .
الثاني من الأوجه الثلاثة : أن المفعول الثاني هو { التي بَارَكْنَا فِيهَا } أي : أَوْرَثناهم الأرض التي بارَكْنا فيها . وفي قوله تعالى { مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا } وجهان ، أحدهما : هو منصوب على الظرف ب « يُسْتَضْعفون » . والثاني : أن تقديره : يُستضعفون في مشارق الأرض ومغاربها ، فلمَّا حُذِفَ الحرف وصلَ الفعلُ بنفسه فنصب . هكذا قال أبو البقاء . ولا أدري كيف يكونان وجهَيْن فإن القولَ بالظرفية هو عينُ القول بكونه على تقدير « في »؛ لأن كل ظرف مقدَّرٌ ب « في » فكيف يَجعل شيئاً واحداً شيئين؟
الوجه الثالث : أن المفعولَ الثاني محذوفٌ تقديره : أورثناهم الأرضَ أو الملكَ أو نحوه . و « يُستضعفون » يجوز أن يكون على بابه من الطلب أي : يُطلب منهم الضَّعْفَ مجازاً ، وأن يكون استفعل بمعنى وجده ذا كذا . والمرادُ بالأرض أرضُ الشام وقيل : أرض مصر .
وقرأ الحسن ورويت عن أبي عمرو وعاصم « كلمات » بالجمع . قال الزمخشري : « ونظيره { لَقَدْ رأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكبرى } [ النجم : 18 ] يعني في كونِ الجمع وُصِفَ بمفرد . قال الشيخ : » ولا يتعيَّن في « الكبرى » ما ذَكَر لجواز أن يكون التقدير : لقد رأى الآيةَ الكبرى ، فهي وصفُ مفردٍ لا جمعٍ وهو أبلغُ « . قلت : في بعض الأماكن يتعيَّن ما ذكره الزمخشري نحو { مَآرِبُ أخرى } [ طه : 18 ] وهذه الآية ، فلذلك اختارَ منها ما يتعيَّنَ في غيرها .
قوله : { بِمَا صَبَرُواْ } متعلِّق ب » تَمَّت « ، والباءُ للسببية ، و » ما « مصدريةٌ أي بسبب صبرهم . ومتعلَّقُ الصبرِ محذوفٌ أي : على أذى فرعون وقومه .
قوله : { وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ } يجوز في هذا الآيةِ أوجهٌ ، أحدها : أن يكونَ » فرعون « اسمَ كان ، و » يصنع « خبرٌ مقدم ، والجملةُ الكونية صلةُ » ما « ، والعائدُ محذوف ، والتقدير : ودمَّرْنا الذي كان فرعون يَصْنَعُه .

واستضعف أبو البقاء هذا الوجه فقال : « لأنَّ » يصنع « يَصْلُح أن يعملَ في فرعون فلا يُقَدَّر تأخيره ، كما لا يُقَدَّر تأخيرُ الفعل في قولك قام زيد » . قلت : يعني أن قولك « قام زيد » يجب أن يكونَ من باب الفعل والفاعل ، ولا يجوزُ أن يُدَّعى فيه أنَّ « قام » فعلٌ وفاعلٌ ، والجملةُ خبرٌ مقدمٌّ ، و « زيد » مبتدأ مؤخر ، لأجل اللَّبْس بباب الفاعل ، فكذا هنا لأنَّ « يصنع » يَصِحُّ أن يتسلَّطَ على فرعون فيرفعَه فاعلاً ، فلا يُدَّعَى فيه التقديم . وقد سبقه إلى هذا مكي وقال : « ويلزم مَنْ يجيز هذا أن يُجيزَ » يقوم زيد « على الابتداء والخبر والتقديم والتأخير ولم يُجِزْه أحد » ، وقد تقدَّمت هذه المسألة وما فيها ، وأنه هل يجوز أن تكون من باب التنازع أم لا؟ وهذا الذي ذكراه وإن كان محيلاً في بادئ الرأي فإنه كباب/ الابتداء والخبر . ولكن الجواب عن ذلك أن المانع في « قام زيد » هو اللَّبس وهو مفقود ههنا .
القثاني : أن اسم « كان » ضميرٌ عائد على « ما » الموصولة و « يصنع » مسندٌ لفرعونَ ، والجملةُ خبرٌ عن كان ، والعائدُ محذوف أيضاً ، والتقدير : ودمَّرْنا الذي كان هو يصنعه فرعون .
الثالث : أن تكون « كان » زائدةً و « ما » مصدرية ، والتقدير : ودمَّرْنا ما يصنع فرعون أي : صُنْعَه . ذكره أبو البقاء . قلت : وينبغي أن يجيءَ هذا الوجهُ أيضاً وإن كانت « ما » موصولة اسمية على أن العائد محذوف تقديرُه : ودمَّرْنا الذي يصنعه فرعون .
الرابع : أنَّ « ما » مصدرية أيضاً ، و « كان » ليست زائدةً بل ناقصةٌ ، واسمُها ضمير الأمر والشأن ، والجملةُ من قوله « يصنع فرعون » خبرُ كان فهي مفسِّرة للضمير . وقال أبو البقاء هنا : « وقيل : ليست » كان « زائدةً ، ولكن » كان « الناقصة لا يُفصل بها بين » ما « وبين صلتها ، وقد ذكرْنا ذلك في قوله { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } [ البقرة : 10 ] وعلى هذا القول تحتاج » كان « إلى اسم . ويَضْعف أن يكونَ اسمُها ضميرَ الشأن؛ لأن الجملة التي بعدها صلةُ » ما « فلا تَصْلُح للتفسير فلا يحصُل بها الإِيضاحُ ، وتمامُ الاسم والمفسِّر يجب أن يكون مستقلاً فتدعو الحاجةُ إلى أن تَجْعل » فرعون « اسمَ كان ، وفي » يصنع « ضميرٌ يعود عليه » . قلت : بعد فَرَض كونِها ناقصةً تلزم أن تكونَ الجملةُ من قوله « يصنع فرعون » خبراً ل « كان » ، ويمتنع أن تكونَ صلةً ل « ما » . وقوله : « فتدعو الحاجة » أي ذلك الوجهُ الذي بدأت به واستضعفه هو احتاج إليه في هذا المكان فراراً مِنْ جَعْل الاسمِ ضميرَ الشأن لما تخيَّله مانعاً .

والتدميرُ : الإِهلاك وهو مُتَعدٍّ بنفسه . فأما قوله { دَمَّرَ الله عَلَيْهِمْ } فمفعولُه محذوفٌ أي : خرَّب عليهم منازلهم وبيوتَهم .
قوله : { يَعْرِشُونَ } قرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم هنا وفي النحل « يَعرُشون » بضم الراء ، والباقون بالكسر فيهما . وهما لغتان : عَرَش الكرمَ يعرِشُه ويعرُشُه ، والكسرُ لغة الحجاز . قال اليزيدي : « وهي أفصحُ » . وقُرئ شاذاً بالغين المعجمة والسين المهملة مِن غَرْس الأشجار ، وما أظنه إلا تصحيفاً . وقرأ ابن أبي عبلة « يُعَرِّشون » بضم الياء وفتحِ العين وكسرِ الراء مشددةً على المبالغة والتكثير .

وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)

قوله تعالى : { وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَآئِيلَ } : كقوله : { فَرَقْنَا بِكُمُ البحر } [ البقرة : 50 ] من كونِ الباء يجوز أن تكونَ للتعدية ، وأن تكون للحالية كقوله :
2284 . . . . . . . . . . . . . . . . . ... تَدوسُ بنا الجماجمَ والتَّريبا
وقد تقدَّم ذلك . وجاوز بمعنى جاز . ففاعَل بمعنى فَعَل . وقرأ الحسن وإبراهيم وأبو رجاء ويعقوب : جَوَّزنا بالتشديد ، وهو أيضاً بمعنى فَعَل المجردِ كقَدَر وقدَّر .
قوله : { يَعْكُفُونَ } صفة ل « قوم » . وقرأ الأخَوَان « يعكفون » بكسر العين ، ويُروى عن أبي عمرو أيضاً . والباقون بالضم ، وهما لغتان في المضارع كيَعْرشون . وقد تقدَّم معنى العكوف واشتقاقُه في البقرة .
قوله : { كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } الكافُ في محلِّ نصب صفة لإِلهاً ، أي : إلهاً مماثلاً لإِلههم . وفي « ما » ثلاثةُ أوجه ، أحدها : أنها موصولةٌ حرفية أي : تَتَأوَّل بمصدرٍ ، وعلى هذا فصلتُها محذوفة ، وإذا حُذِفت صلة « ما » المصدرية فلا بد من إبقاء معمولِ صلتها كقولهم : « لا أكلِّمكَ ما أنَّ حِراءَ مكانَه » أي : ما ثبت أن حراء مكانه . وكذا هنا تقديره : كما ثبت لهم آلهة ، فآلهة فاعل ب « ثبت » المقدر . وقال أبو البقاء في هذا الوجه : « والجملة بعدها صلةٌ لها ، وحسَّن ذلك أن الظرفَ مقدرٌ بالفعل » . قلت : كلامُه على ظاهره ليس بجيد؛ لأن « ما » المصدريةَ لا تُوْصَلُ بالجملة الاسمية على المشهور ، وعلى رأي مَنْ يُجَوِّز ذلك فيشترط فيها غالباً أن تُفْهِم الوقت كقوله :
2285 واصِلْ خليلَكَ ما التواصلُ ممكنٌ ... فلأَنْتَ أَوْ هُوَ عن قريبٍ ذاهبُ
ولكنَّ مرادَه أنَّ الجارَّ مقدَّرٌ بالفعل ، وحينئذ تَؤُول إلى جملة فعلية أي : كما استقرَّ لهم آلهةٌ .
الثاني : أن تكونَ « ما » كافَّةً لكاف التشبيه/ عن العمل فإنها حرف جر . وهذا كما تُكَفُّ « رُبَّ » ، فيليها الجملُ الاسمية والفعلية ، ولكن ليس ذلك على سبيل الوجوب ، بل يجوزُ في الكاف وفي « رب » مع ما الزائدة بعدهما وجهان : العملُ والإِهمالُ ، وعلى ذلك قول الشاعر :
2286 ونَنْصُرُ مولانا ونعلمُ أنَّه ... كما الناسُ مجرومٌ عليه وجارِمٌ
وقول الآخر :
2287 رُبَّما الجامِلُ المُؤَبَّلُ فيهمُ ... وعناجيجُ بينهنَّ المَهارى
يروى برفع « الناس » و « الجامل » وجرِّهما . هذا إذا أمكن الإِعمال . أمَّا إذا لم يمكن تَعَيَّن أن تكونَ كافَّةً كهذه الآيةِ إذا قيل بأن « ما » زائدة .
الثالث : أن تكون « ما » بمعنى الذي ، و « لهم » صلتها وفيه حينئذ ضميرٌ مرفوعٌ مستتر ، و « آلهة » بدل من ذلك الضمير . والتقدير : كالذي استقر هو لهم آلهة . وقال أبو البقاء في هذا الوجه : « والعائد محذوف و » آلهة « بدلٌ منه تقديره : كالذي هو لهم » وتسميتُه هذا حَذْفاً تسامحٌ؛ لأن ضمائر الرفع إذا كانت فاعلةً لا تُوصف بالحذف بل بالاستتار .

إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139)

قوله تعالى : { إِنَّ هؤلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ } : « هؤلاء » إشارة لمَنْ عَكَفوا على الأصنام و « مُتَبَّر » فيه وجهان ، أحدهما : أن يكون خبراً ل إنَّ و « ما » موصولة بمعنى الذي ، و « هم فيه » جملةٌ اسميةٌ صلةٌ وعائدُه ، وهذا الموصولُ مرفوعٌ باسم المفعول فيكون قد أَخْبَرْت بمفرد رفعت به شيئاً . والثاني : أن يكونَ الموصولُ مبتدأً ، و « مُتَبَّر » خبره قُدِّم عليه ، والجملةُ خبرٌ ل إنَّ . قال الزمخشري : « وفي ارتفاع » هؤلاء « اسماً ل » إنَّ « ، وتقديمُ خبر المبتدأ من الجملة الواقعة خبراً لها وَسْمٌ لعبارة الأصنام بأنهم هم المعرَّضون للتَّبار وأنه لا يَعْدوهم البتة ، وأنه لهم ضربةُ لازم ليحذِّرهم عاقبةَ ما طلبوا ويبغض إليهم ما أحبُّوا » . قال الشيخ : « ولا يتعيَّن ما قاله من [ أنه ] قدَّم خبر المبتدأ من الجملة الواقعة خبراً ، لأنَّ الأحسنَ في إعراب مثل هذا أن يكون » مُتَبَّر « خبراً ل إنَّ وما بعده مرفوعٌ » فذكر ما قَرَّرْتُه ، ونظَّره بقولك : « إنَّ زيداً مضروب غلامه » . قال : « فالأحسن أن يكون » غلامه « مرفوعاً ب » مضروب « .
ثم ذكر الوجه الثاني وهو أن يكون » مُتَبَّر « خبراً مقدماً من الجملة ، وجعله مرجوحاً وهو كما قال ، لأنَّ الأصل في الأخبار أن تكون مفردةً فما أمكن فيها ذلك لا يُعْدل عنه . إلا أن الزمخشريَّ لم يَذْكر ذلك على سبيل التعيين بل على أحد الوجهين . وقد يكون هذا عنده أرجحَ مِنْ جهة ما ذكره من المعنى ، وإذا دار الأمر بين مُرَجِّح لفظي ومُرَجِّح معنوي ، فاعتبارُ المعنويِّ أولى ، ولا أظنُّ حَمَل الزمخشري على ذلك إلا ما ذكرت .
وقوله : { وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ } كقوله { مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ } من جواز الوجهين وما ذُكِر فيهما .
والتَتْبير : الإِهلاكُ ، ومنه » التِّبْر « وهو كِسارة الذهب لتهالك الناس عليه . وقيل : التتبير : التكسير والتحطيم ومنه التِّبْر لأنه كِسارة الذهب .

قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140)

قوله تعالى : { أَغَيْرَ الله } : الهمزةُ للإِنكار والتوبيخ . وفي نصب « غير » وجهان أحدُهما : أنه مفعولٌ به ل « أبغيكم » على حَذْفِ اللام تقديره : أبغي لكم غيرَ الله ، أي : أَطْلُبُ لكم . فلمَّا حذف الحرف وصل الفعل بنفسه ، وهو غيرُ منقاس . وفي « إلهاً » على هذا وجهان أحدُهما : وهو الظاهر أنه تمييز ل « غير » . والثاني : أنه حالٌ ، ذكره الشيخ وفيه نظر . والثاني من وجهي « غير » : أنه منصوب على الحال من « إلهاً » ، و « إلهاً » هو المفعول به ل « أَبْغيكم » على ما تقرَّر ، والأصل : أبغي لكم إلهاً غير الله ، ف « غير الله » صفةٌ ل « إله » فلما قُدِّمَتْ صفةُ النكرةِ عليها نُصِبت حالاً . وقال ابن عطية : « وغير منصوبة بفعل مضمر ، هذا هو الظاهر ، ويجوز أن يكون حالاً » ، وهذا الذي ذكره من إضمار الفعل لا حاجةَ غليه ، فإن أراد أنه على الاشتغال فلا يَصِحُّ؛ لأنَّ شرطَه أن يعمل المفسِّر في ضمير الأول أو سببيِّه .
قوله : { وَهُوَ فَضَّلَكُمْ } يجوز أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على الحال : إمَّا من « الله » وإمَّا من المخاطبين ، لأن الجملةَ مشتملةٌ على كلٍ من ضميرَيْهما ، ويجوز أن لا يكونَ لها محلٌّ لاستئنافها .

وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)

قوله تعالى : { وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ } : قرأه العامَّة/ مسنداً إلى المُعَظِّم . وابن عامر : « أنجاكم » مسنداً إلى ضمير الله تعالى جرياً على قوله « وهو فَضَّلكم » . وقُرِئ « نَجَّيناكم » مشدداً . وتقدم الخلاف في تشديدِ « يقتلون » وتخفيفِها قبل هذا بقليل . وتقدَّم في البقرة إعراب هذه الآيةِ بكمالها فلا حاجةَ إلى إعادته .

وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)

قوله تعالى : { وَوَاعَدْنَا موسى ثَلاَثِينَ } : تقدَّم الخلاف في وَعَدْنا وواعَدْنا . وأتى الظرف بعده مفعول ثان على حَذْفِ مضاف ، ولا يجوز أن يكون ظرفاً لفساد المعنى في البقرة فكذا هنا ، أي : وَعَدْناه تمامَ ثلاثين ، أو أثناءها أو مناجاتها .
قوله : { وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ } في هذا الضميرِ قولان ، أحدهما : أنه يعودُ على المُواعدة المفهومةِ مِنْ « واعَدْنا » ، أي : وأَتْمَمْنا مواعدته بعشر . والثاني : أنها تعودُ على ثلاثين قاله الحوفي . قال الشيخ : « ولا يَظْهر لأنَّ الثلاثين لم تكن ناقصةً فتمَّ بعشر » . وحُذِف تمييز « عشر » لدلالة الكلام عليه ، أي : وأَتْمَمْناها بعشرِ ليال . وفي مُصْحف أُبَيّ « تَمَّمناها » بالتضعيف ، عَدَّاه بالتضعيف .
قوله : { فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ } الفرق بين الميقات والوقت : أن المِيقات ما قُدِّر فيه عملٌ من الأعمال ، والوقت وقت للشيء من غير تقديرِ عمل أو تقريره . وفي نصب « أربعين » أوجهٌ أحدها : أنه حال . قال الزمخشري : « وأربعين » نصب على الحال أي : تَمَّ بالغاً هذا العدد « . قال الشيخ : » فعلى هذا لا تكونُ الحال « أربعين » ، بل الحالُ هذا المحذوفُ فيُنافَى قوله « . قلت : لا تنافيَ فيه لأن النحاة لم يزالوا ينسبون الحكم للمعمول الباقي بعد حَذْف عامله المنوبِ عنه ، وله شواهد منها : » زيد في الدار أو عندك « فيقولون : الجارُّ والظرف خبر ، والخبر في الحقيقة إنما هو الحَدَثُ المقدَّر العاملُ فيهما . وكذا يقولون : » جاء زيد بثيابه « » بثيابه « حال ، والحال إنما هو العامل فيه ، إلى غير ذلك . وقدَّره الفارسي ب » معدوداً « قال : كقولك : » تمَّ القوم عشرين رجلاً « أي : معدودين هذا العدد » وهو تقدير حسن .
الثاني : أن ينتصب « أربعين » على المفعول به ، قال أبو البقاء : « لأنَّ معناه بلغ ، فهو كقولهم : بَلَغَتْ أرضك جَرِيبَيْن » ، أي يُضَمِّن « تَمَّ » معنى « بلغ » . الثالث : أنه منصوبٌ على الظرف . قال ابن عطية : « ويصحُّ أن تكون » أربعين « ظرفاً من حيث هي عددُ أزمنة » . وفي هذا نظر كيف يكون ظرفاً للتمام ، والتمام إنما هو بآخر جزء من تلك الأزمنة؟ إلا بتجوز بعيد : وهو أنَّ كلَّ جزءٍ من أجزاء الوقت سواء كان أولاً أم آخراً إذا نقص ذهب التمامُ . الرابع : أن ينتصب على التمييز . قال الشيخ : « والأصل : » فتمَّ أربعون ميقاتُ ربه « ثم أسند التمام إلى ميقات ، وانتصب » أربعون « على التمييز ، فهو منقولٌ من الفاعلية » يعني فيكون كقولِه : { واشتعل الرأس شَيْباً } [ مريم : 4 ] وهذا الذي قاله وجَعَلَه هو الذي يظهر يُشكل بما ذكره هو في الردِّ على الحوفي ، حيث قال هناك : « إن الثلاثين لم تكن ناقصةً فتتمَّ » كذلك ينبغي أن يُقالَ هنا إن الأربعين لم تكن ناقصةً فتتمَّ ، فكيف يُقَدِّر « فتمَّ أربعون ميقات ربه »؟ فإنْ أجابَ هنا بجواب فهو جوابٌ هناك لِمَنْ اعترض عليه .

وقوله : { فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ } في هذه الجملة قولان ، أظهرهُما : أنها للتأكيد لأنَّ قولَه قبل ذلك « وأَتْمَمْناها بعشر » فُهِم أنها أربعون ليلةً . وقيل : بل هي للتأسيس لاحتمالِ أن يَتَوَّهم متوهِّم بعشر ساعات أو غير ذلك ، وهو بعيدٌ جداً .
قوله : « ربِّه » ولم يقل : ميقاتنا جَرْياً على « واعَدْنا » لِما في إظهار هذا الاسم الشريف من الاعترافِ بربوبية الله له وإصلاحه له .
قوله « هارونَ » الجمهورُ على فتح نونه وفيه ثلاثة أوجه . الأول : أنه مجرورٌ بدلاً من « أخيه » الثاني : أنه عطفُ بيان له . الثالث : أنه منصوبٌ بإضمار أعني . وقرئ شاذاً « هارونُ » بالضم وفيه وجهان أحدهما : أنه منادى حُذف منه حرفُ النداء ، أي : يا هرون كقوله : { يُوسُفُ أَعْرِضْ } [ يوسف : 29 ] . والثاني : أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو هارون ، وهذا في المعنى كالوجه الذي تقدَّم من أنه منصوبٌ بإضمار أعني فإنَّ كليهما قطع . وقال أبو البقاء : « ولو قرئ بالرفع » فذكرهما ، كأنَّه لم يطَّلِعْ على أنها قراءة .

وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)

قوله تعالى : { لِمِيقَاتِنَا } : هذه اللامُ للاختصاص وكذا في قوله تعالى : { لِدُلُوكِ الشمس } [ الإِسراء : 78 ] / وليست بمعنى « عند » كما وَهِمَ بَعضُهم .
قوله : { أرني } مفعولُه الثاني محذوفٌ ، والتقدير : أرني نفسَك أو ذاتك المقدسةَ وإنما حَذْفُه مبالغةٌ في الأدب ، حيث لم يواجهْه بالتصريح بالمفعول . وأصل أَرِني : أَرْ إني فنُقِلَتْ حركةُ الهمزة . وقد تقدَّم تحريرُه .
قوله : { لَن تَرَانِي } : « لن » قد تقدَّم أنه لا يلزم مِنْ نفيِها التأبيدُ وإن كان بعضُهم فَهِم ذلك ، حتى إن ابن عطية قال : « فلو بَقينا على هذا النفي بمجرده لتضمَّن أن موسى لا يَراه أبداً ولا في الآخرة ، لكن وَرَدَ من جهة أخرى الحديثُ المتواتر : أنَّ أهلَ الجنةِ يَرَوْنه » . قلت : وعلى تقدير أنَّ « لن » ليست مقتضيةً للتأبيد فكلامُ ابنِ عطية وغيرِه ممن يقول : إن نفي المستقبل بعدها يَعُمُّ جميعَ الأزمنة المستقبلة صحيح لكن لِمَدْرك آخرَ : وهو أن الفعلَ نكرةٌ ، والنكرةُ في سياق النفي تعمُّ ، وللبحث فيه مجال .
والاستدراكُ في قوله « ولكن انظر » واضحٌ . وقال الزمخشري : « فإن قلت : كيف اتصلَ الاستدراكُ في قوله » ولكن انظر « [ بما قبله ] ؟ قلت : اتصلَ به على معنى أن النظر إليَّ مُحالٌ فلا تطلبه ، ولكن اطلب نظراً آخر وهو أن تنظر إلى الجبل » وهذا على رأيه مِنْ أن الرؤية محالٌ مطلقاً في الدنيا والآخرة .
قوله : { جَعَلَهُ دَكّاً } قرأ الأخوان « دَكّاء » بالمدّ على وزن حَمْراء والباقون « دَكّاً » بالقصر والتنوين . فقراءةُ الأخوين تحتمل وجهين أحدهما : أنها مأخوذةٌ مِنْ قولهم : ناقةٌ دكَّاء ، أي : منبسطة السَّنام غيرُ مرتفعتِه وإمَّا من قولهم : أرضٌ دكاء للناشزة . وفي التفسير : أنه لم يذهبْ كلُّه ، بل ذهب أعلاه فهذا يناسبه . وأمَّا قراءة الجماعة ف « دَكٌّ » مصدرٌ واقعٌ موقعَ المفعول به ، أي مدكوكاً أو مندَكّاً ، على حذف مضاف ، أي : ذا دَكٍّ . وفي انتصابه على القراءتين وجهان ، المشهور : أنه مفعولٌ ثان ل « جعل » بمعنى صيَّر . والثاني : وهو رأي الأخفش أنه مصدرٌ على المعنى ، إذ التقدير : دَكَّه دَكّاً .
وأمَّا على القراءة الأولى فهو مفعولٌ فقط ، أي : صَيَّره مثلَ ناقةٍ دكاء أو أرضٍ دكاء . والدكُّ والدقُّ بمعنى وهو تفتيت الشيء وسَحْقُه . وقيل : تسويتُه بالأرض . وقرأ ابن وثاب : « دُكَّا » بضم الدال والقصر ، وهو جمع دَكَّاء بالمد كحُمر في حمراء وغُرّ في غَرَّاء ، أي جعله قِطَعاً .
قوله : « صَعِقاً » حالٌ مقارنةٌ ، والخُرورُ السُّقوط ، كذا أطلقه الشيخ ، وقيَّده الراغب بسقوطٍ يُسمع له خريرٌ ، والخريرُ يقال لصوتِ الماءِ والريح وغيرِ ذلك ممَّا يَسْقُط من علوٍّ . والإِفاقة : رجوعُ الفهمِ والعقل إلى الإِنسان بعد جنونٍ أو سُكرٍ ، ومنه إفاقة المريض وهي رجوعُ قوته ، وإفاقةُ الحَلْب : وهي رجوع الدَّرِّ إلى الضَّرْع يُقال : استَفِقْ ناقَتَك ، أي : اتركها حتى يعودَ لبنُها ، والفُواق ما بين حَلْبَتَي الحالب . وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى .

قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)

قوله تعالى : { بِرِسَالاَتِي } : أي : بسبب . وقرأ الحرميَّان : برسالتي بالإِفراد ، والمراد به المصدر أي : بإرسالي إياك ، ويجوز أن يكون على حَذْفِ مضاف ، أي : بتبليغِ رسالتي . والرسالة : نفسُ الشيء المرسل به إلى الغير . وقرأ الباقون بالجمع اعتباراً بالأنواع ، وقد تقدَّم ذلك في المائدة والأنعام . وقرأ العامة « وبكلامي » وهو محتملٌ أن يُراد به المصدرُ ، أي : بتكليمي إياك ، فيكون كقوله { وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً } [ النساء : 164 ] وقوله :
2288 . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فإنَّ كلامَها شفاءٌ لِما بيا
أي : بتكليمي إياها ، ويحتمل أن يكونَ المرادُ به التوراة وما أوحاه إليه من قولهم للقرآن « كلام الله » تسميةً للشيء بالمصدر . وقَدَّم الرسالة على الكلام لأنها أسبقُ أو ليترقَّى إلى الأشرفِ . وكرر حرف الجرِّ تنبيهاً على مغايرة الاصطفاء . وقرأ الأعمش : « برسالاتي وبكَلِمِي » جمع كلمة ، ورَوَى عنه المهدوي أيضاً « وتكليمي » على زنة التفعيل ، وهي تؤيد أن الكلامَ مصدرٌ . وقرأ أبو رجاء « برسالتي » بالإِفراد و « بكَلِمي » بالجمع ، أي : وبسماع كلمي .

وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)

قوله تعالى : { وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألواح مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً } : « أل » في الألواح يجوز أن تكون لتعريف الماهيَّة وأن تكونَ للعهد ، لأنه يُروى في القصة أنه هو الذي قطعها وشقَّقها . وقال ابن عطية : « أل » عوض من الضمير ، تقديره : « في ألواحه » وهذا كقوله : { فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى } ، أي : مَأْواه « . أمَّا كون » أل « عوضاً من الضمير فلا يَعْرفه البصريون . وأمَّا قولُه { فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى } فإنَّا نحتاج فيه إلى رابطٍ يَرْبِط بين الاسم والخبر ، فالكوفيون يجعلون أل عوضاً من الضمير ، والبصريون يُقَدِّرونه ، أي : هي المأوى له ، وأما في هذه الآية فلا ضرورةَ تدعو إلى ذلك .
وفي مفعول » كَتَبْنَا « ثلاثةُ أوجه ، أحدُها : أنه » موعظة « ، أي : كتبنا له موعظة/ وتفصيلاً . و » من كل شيء « على هذا فيه وجهان ، أحدُهما : أنه متعلِّقٌ ب » كتبنا « ، والثاني : أنه متعلق بمحذوف لأنه في الأصلِ صفةٌ ل » موعظة « ، فلما قُدِّم عليها نُصب حالاً ، و » لكلِّ شيء « صفةٌ ل » تفصيلاً « . والثاني : أنه » من كل شيء « . قال الزمخشري : » من كل شيء « في محل النصب مفعول » كتبنا « ، و » موعظة وتفصيلاً « بدل منه ، والمعنى : كَتَبْنا له كلَّ شيء كان بنو إسرائيل يَحْتاجون إليه في دينهم من المواعظ وتفصيلِ الأحكام » . الثالث : أن المفعولَ محلُّ المجرور . قال الشيخ بعدما حكى الوجهَ الأول عن الحوفي والثاني عن الزمخشري : « ويُحْتَمَلُ عندي وجهٌ ثالثٌ وهو أن يكونَ مفعولُ » كَتَبْنا « موضع المجرور كما تقول : » أكلت من الرغيف « و » مِنْ « للتبعيض ، أي : كتبنا له أشياء من كل شيء ، وانتصب » مَوْعِظة وتفصيلاً « على المفعول من أجله ، أي : كتبنا له تلك الأشياءَ للاتِّعاظ وللتفصيل » قلت : والظاهر أن هذا الوجهَ هو الذي أراده الزمخشري فليس وجهاً ثالثاً .
قوله : « بقوة » حالٌ : إمَّا من الفاعل ، أي : ملتبساً بقوة ، وإمَّا من المفعول ، أي : ملتبسةً بقوة ، أي : بقوة دلائلها وبراهينها ، والأولُ أوضحُ . والجملةُ مِنْ قوله « فَخُذْها » يُحتمل أن تكونَ بدلاً من قوله « فخُذْ ما آتيتك » وعاد الضميرُ على معنى « ما » لا على لفظِها . ويحتمل أن تكونَ منصوبةً بقول مضمر ، ذلك القولُ منسوقٌ على جملة « كتبنا » والتقدير : وكتبنا فقلنا : خُذْ ما . والضميرُ على هذا عائدٌ على الألواح ، أو على التوراة ، أو على الرسالات ، أو على كل شيء لأنه في معنى الأشياء .

قوله : { يَأْخُذُواْ } الظاهرُ أنه مجزومٌ جواباً للأمر في قوله « وَأْمُرْ » . ولا بدَّ مِنْ تأويله لأنه لا يلزمُ مِنْ أمره إياهم بذلك أن يأخذوا ، بدليلِ عصيانِ بعضِهم له في ذلك ، فإنَّ شَرْط ذلك انحلال الجملتين إلى شَرْطٍ وجزاء . وقيل : انجزم على إضمار اللام تقديره : ليأخذوا ، كقوله :
2289 محمدٌ تَفْدِ نفسَك كلُّ نفسٍ ... إذا ما خِفْتَ مِنْ أمرٍ تَبالا
وهو مذهبُ الكسائي ، وابنُ مالك يرى جَوازه إذا كان في جواب « قل » ، وهنا لم يُذكر « قل » ولكن ذُكِر شيءٌ بمعناه؛ لأن معنى « وَأْمُرْ » و « قل » واحد .
قوله : { بِأَحْسَنِهَا } يجوز أن يكونَ حالاً كما تقدم في « بقوة » وعلى هذا فمفعولُ « يأخذوا » محذوفٌ تقديرُه : يأخذوا أنفسهم . ويجوز أن تكونَ الباءُ زائدةً ، و « أحسنُها » مفعولٌ به والتقدير : يأخذوا أحسنَها كقوله :
2290 . . . . . . . . . . . . . . . . . ... سودُ المحاجر لا يَقْرأن بالسُّوَرِ
وقد تقدَّم ذلك محقَّقاً في قوله تعالى : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة } [ البقرة : 195 ] . و « أحسن » يجوز أن تكونَ للتفضيل على بابها ، وأن لا تكونَ بل بمعنى حَسَنة كقوله :
2291 إنَّ الذي سَمَك السماء بنى لنا ... بيتاً دعائِمُهُ أعزُّ وأطولُ
أي : عزيزةٌ طويلة .
قوله : { سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين } جَوَّزوا في الرؤية هنا أن تكون بصَريةً وهو الظاهر فتتعدَّى لاثنين ، أحدهما : ضمير المخاطبين ، والثاني « دار » . والثاني : أنها قلبيةٌ وهو منقولٌ عن ابن زيد وغيره ، والمعنى : سأُعْلِمُكُمْ سيرَ الأولين وما حلَّ بهم من النَّكال . وقيل : دار الفاسقين : ما دارَ إليه أمرُهم ، وذلك لا يُعْلم إلا بالإِخبار والإِعلام . قال ابن عطية : معترضاً على هذا الوجه « ولو كان من رؤية القلب لتعدَّى بالهمزة إلى ثلاثةِ مفعولين . ولو قال قائل : المفعولُ الثالثُ يتضمنه المعنى فهو مُقَدَّر ، أي : مَذْمومة أو خربة أو مُسَعَّرة على قول من قال إنها جهنم قيل له : لا يجوزُ حَذْفُ هذا المفعولِ ولا الاقتصارُ دونَه لأنها داخلةٌ على الابتداءِ والخبرِ ، ولو جُوِّز لكان على قبحٍ في اللسان لا يليق بكتاب الله تعالى » .
قال الشيخ : « وحَذْفُ المفعول الثالث في باب أعلم لدلالة المعنى عليه جائزٌ فيجوز في جواب : هل أعلمتَ زيداً عمراً منطلقاً؟ أعلمتُ زيداً عمراً ، وتحذف » منطلقاً « لدلالة الكلام السابق عليه » . قلت : هذا مُسَلَّم لكن أين الدليل عليه في الكلام كما في المثال الذي أبرزه الشيخ؟ ثم قال : « وأمَّا تعليلُه بأنَّها داخلةٌ على المبتدأ والخبر لا يدل على المنع ، لأن خبرَ المبتدأ يجوزُ حَذْفُه اختصاراً ، والثاني والثالث/ في باب » أَعْلَمَ « يجوز حَذْفُ كلٍ منهما اختصاراً » . قلت : حَذْفُ الاختصار لدليل ، ولا دليلَ هنا . ثم قال : « وفي قوله لأنها أي » سأريكم « داخلة على المبتدأ والخبر فيه تجوُّزٌ » ويعني أنها قبل النقل بالهمزة داخلة على المبتدأ والخبر .

وقرأ الحسن البصري : « سأُوْريكم » بواو خالصة بعد الهمزة وفيها تخريجان ، أحدهما قاله الزمخشري : « وهي لغةٌ فاشية بالحجاز يُقال : أَوْرَني كذا وأَوْرَيْتُه ، فوجهه أن يكون مِنْ أَوْرَيْتُ الزندَ فإن المعنى : بَيِّنْه لي وأَنِرْه لأستبينَه . والثاني : ذكره ابن جني وهو أنه على الإِشباع فيتولَّد منها الواو قال : » وناسب هذا كونَه موضعَ تهديدٍ ووعيد فاحتمل الإِتيان بالواو « قلت : وهذا كقول الآخر :
2292 اللهُ يعلمُ أنَّا في تَلَفُّتِنا ... يومَ اللقاء إلى أحبابنا صورُ
وأنني حيثما يثني الهوى بَصَري ... من حيث ما سلكوا أَدْنُو فانظورُ
لكن الإِشباعَ بابُه الضرورة عند بعضِهم . وقرأ ابن عباس وقسامة ابن زيد : » سأُوْرِثكم « . قال الزمخشري : » وهي قراءة حسنة يصححها قوله تعالى { وَأَوْرَثْنَا القوم } [ الأعراف : 137 ] .

سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146)

قوله تعالى : { بِغَيْرِ الحق } : فيه وجهان أحدهما : أنه متعلق بمحذوفٍ على أنه حال ، أي : يتكبَّرون ملتبسين بغير الحق . والثاني : أن يتعلَّق بالفعل قبله أي : يتكبرون بما ليس بحق ، والتكبُّر بالحق لا يكون إلا لله تعالى خاصة .
قوله : { وَإِن يَرَوْاْ } الظاهرُ أنها بَصَريَّة ، ويجوز أن تكون قلبية ، والثاني محذوفٌ لفَهْم المعنى كقول عنترة :
2293 ولقد نَزَلْتِ فلا تظنِّي غيرَه ... مني بمنزلة المُحَبِّ المُكْرَمِ
أي : فلا تظني غيره واقعاً مني ، وكذا الآية الكريمة ، أي : وإن يَرَوا كل آية جائية أو حادثة . وقرأ مالك بن دينار « يُرَوا » مبنياً للمفعول مِنْ أرى المنقول بهمزة التعدية .
قوله { الرشد } قرأ الأخَوان هنا وأبو عمرو في قوله { مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً } [ الكهف : 66 ] خاصةً دون الأوَّلَيْن فيها بفتحتين ، والباقون بضمة وسكون . واختلف الناس فيها : هل هما بمعنى واحد؟ فقال الجمهور : نعم لغتان في المصدر كالبُخْل والبَخَل والسُّقْم والسَّقَم والحُزْن والحَزَن . وقال أبو عمرو بن العلاء : « الرُّشْد بضمة وسكون الصَّلاح في النظر ، وبفتحتين الدِّين » قالوا ولذلك أُجْمِع على قوله { فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً } [ النساء : 6 ] بالضم والسكون ، وعلى قوله { فأولئك تَحَرَّوْاْ رَشَداً } [ الجن : 14 ] بفتحتين . ورُوي عن ابن عامر « الرُّشُد » بضمَّتين وكأنه من باب الإِتباع كاليُسُر والعُسُر . وقرأ السلمي « الرَّشاد » بألف فيكون الرُّشْد والرَّشَد والرَّشاد كالسُّقْم والسَّقَم والسَّقَام . وقرأ ابن أبي عبلة « لا يتخذوها » و « يتخذوها » بتأنيث الضمير لأن السبيل يجوز تأنيثُها . قال تعالى : { قُلْ هذه سبيلي } [ يوسف : 108 ] .
قوله : { ذلك } فيه وجهان ، أظهرهما : أنه مبتدأ خبره الجارُّ بعده ، أي : ذلك الصرف بسبب تكذيبهم . والثاني : أنه في محلِّ نصب . ثم اختُلِف في ذلك : فقال الزمخشري : « صَرَفَهم الله ذلك الصَّرْفَ بعينه فجعله مصدراً . وقال ابن عطية : » فعلنا ذلك « فجعله مفعولاً به ، وعلى الوجهين فالباء في » بأنهم « متعلقةٌ بذلك المحذوف .
قوله : { وَكَانُواْ } في هذه الجملةِ احتمالان ، أحدهما : أنها نسقٌ على خبر » أنَّ « ، أي : ذلك بأنهم كذبوا ، وبأنهم كانوا غافلين عن آياتنا . والثاني : أنها مستأنفةٌ أخبر الله تعالى عنهم بأنَّ مِنْ شأنهم الغفلةَ عن الآيات وتدبُّرِها .

وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147)

قوله تعالى : { والذين كَذَّبُواْ } : في خبره وجهان أحدهما : أنه الجملة من قوله { حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } ، و { هَلْ يُجْزَوْنَ } خبر ثان أو مستأنف . والثاني : أن الخبرَ « هل يُجْزون » والجملةُ من قوله « حَبِطَتْ » في محلِّ نصب على الحال ، و « قد » مضمرة معه عند مَنْ يَشْترط ذلك ، وصاحبُ الحال فاعلُ « كذَّبوا » .
قوله : { وَلِقَآءِ الآخرة } فيه وجهان ، أحدهما : أنه من باب إضافة المصدر لمفعوله ، والفاعل محذوف والتقدير : ولقائهم الآخرة . والثاني : أنه من باب إضافة المصدر للظرف ، بمعنى « ولقاء ما وعد الله في الآخرة » ، ذكرهما الزمخشري . قال الشيخ : « ولا يجيز جُلَّةُ النحويين الإِضافةَ إلى الظرف لأن الظرفَ على تقديرِ » في « ، والإِضافةُ عندهم على تقدير اللام أو » مِنْ « ، فإن اتُّسِع في العامل جازَ أن يُنْصَب الظرفُ/ نَصْبَ المفعول ، ويجوز إذ ذاك أن يُضافَ مصدرُه إلى ذلك الظرف المتَّسَع في عاملِه ، وأجازَ بعض النحويين أن تكون الإِضافةُ على تقدير » في « كما يُفهِمُ ظاهرُ كلامِ الزمخشري » .
قوله : { هَلْ يُجْزَوْنَ } هذا الاستفهامُ معناه النفي ، ولذلك دخلت « إلا » ، ولو كان معناه التقريرَ لكان موجِباً فيَبْعُد دخول « إلا » أو يمتنع . وقال الواحدي هنا : « لا بد من تقديرِ محذوفٍ ، أي : إلا بما كانوا ، أو على ما كانوا ، أو جزاء ما كانوا » . قلت : لأن نفسَ ما كانوا يَعْملونه لا يُجْزَوْنَه إنما يُجْزون بمقابله وهو واضح .

وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148)

قوله تعالى : { مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ } : أي : من بعد مضيِّه وذهابه إلى الميقات . والجارَّان متعلقان ب « اتخذ » ، وجاز أن يتعلَّقَ بعاملٍ حرفا جر متحدا اللفظِ لاختلافِ معنييهما؛ لأنَّ الأولى لابتداء الغاية ، والثانية للتبعيض . ويجوز أن يكون « من حُليِّهم » متعلقاً بمحذوف على أنه حالٌ من « عملاً » لأنه لو تأخر عنه لكان صفةً فكان يقال : عجلاً مِنْ حليهم .
وقرأ الأخَوان : « حِليِّهم » بكسر الحاء ، ووجهُها الإِتباع لكسرة اللام ، وهي قراءة أصحاب عبد الله وطلحة ويحيى بن وثاب والأعمش ، والباقون بضمَّ اللام ، وهي قراءة الحسن وأبي جعفر وشَيْبة بن نصاح ، وهو في القراءتين جمع حَلْي كطيّ ، فُجمع على فُعول كفَلْس وفُلوس ، فأصلُه حُلُوي كثُدِيّ في ثُدُوْي فاجتمعت الياءُ والواو وَسَبَقَتْ إحداهما بالسكون ، فقُلبت الواو ياء ، وأَدْغمت ، وكُسِرت عين الكلمة ، وإن كانت في الأصل مضمومةً لتصِحّ الياء ، ثم لك فيه بعد ذلك وجهان : تَرْكُ الفاءِ على ضمِّها أو إتباعُها للعين في الكسرة ، وهذا مُطَّرد في كل جَمْعٍ على فُعُول من المعتلِّ اللام ، سواء كان الاعتلال بالياء كحُلِيّ وثُدِيّ أم بالواو نحو عُصِيّ ودُلِيّ جمعَ عصا ودَلْو . وقرأ يعقوب « حَلْيَهم » بفتح الحاء وسكون اللام ، وهي محتملةٌ لأن يكون الحَلْي مفرداً أريد به الجمعُ أو اسمُ جنسٍ مفردة حَلْيَة على حَدِّ قمح وقمحة .
و « عِجْلاً » مفعولُ « اتَّخذ » و « مِنْ حُليِّهم » تقدَّمَ حكمه . ويجوز أن يكونَ « اتَّخذ » متعديةً لاثنين بمعنى صَيَّر ، فيكون « مِنْ حليِّهم » هو المفعولَ الثاني . وقال أبو البقاء : « هو محذوف ، أي : إلهاً » ولا حاجة إليه .
و « جَسَداً » فيه ثلاثةُ أوجه ، أحدها : أنه نعت . الثاني : أنه عطفُ بيان . الثالث : أنه بدلٌ قاله الزمخشري ، وهو أحسنُ ، لأن الجسدَ ليس مشتقاً فلا ينعت به إلا بتأويل ، وعطفُ البيان في النكرات قليلٌ أو ممتنع عند الجمهور . وإنما قال « جسداً » لئلا يُتَوَهَّمَ أنه كان مخطوطاً أو مَرْقوماً . والجسد : الجثة . وقيل : ذات لحم ودم ، والوجهان منقولان في التفسير .
قوله : { لَّهُ خُوَارٌ } في محل النصب نعتاً ل « عِجْلاً » ، وهذا يقوِّي كونَ « جسداً » نعتاً لأنه إذا اجتمع نعت وبدل قُدَّمَ النعتُ على البدل . والجمهور على « خُوار » بخاء معجمة وواو صريحة وهو صوتُ البقر خاصةً ، وقد يُستعار للبعير . والخَوَر الضَّعْفُ ، ومنه : أرضٌ خَوَّارة ورُمْحٌ خَوَّار ، والخَوْران مجرى الرَّوْث وصوت البهائم أيضاً . وقرأ علي رضي الله عنه وأبو السَّمَّال « جُُؤَار » بالجيم والهمز وهو الصوت الشديد .
قوله : { أَلَمْ يَرَوْاْ } إنْ قلنا : إنَّ « اتخذ » متعدية لاثنين ، وإن الثاني محذوف تقديره : واتخذ قوم موسى من بعده عجلاً جسداً إلهاً فلا حاجة حينئذ إلى ادِّعاء حذف جملة يتوجَّه عليها هذا الإِنكارُ ، وإن قلنا إنها متعدية لواحد بمعنى صنع وعمل ، أو متعدية لاثنين ، والثاني هو « من حليِّهم » فلا بدَّ مِنْ حَذْفِ جملة قبل ذلك ليتوجَّه عليها الإِنكار ، والتقدير : فعبدوه .

و « يَرَوا » يجوز أن تكون العِلْمية وهو الظاهر ، وأن تكون البصَريةَ ، وهو بعيد .
قوله : { وَكَانُواْ ظَالِمِينَ } يجوز فيها وجهان ، أظهرهما : أنها استئنافية ، أَخْبَرَ عنهم بهذا الخبرِ وأنه دَيْدَنهم وشأنهم في كلِّ شيء فاتِّخاذُهم العجلَ من جملة ذلك . ويجوز أن تكون حالاً ، أي : وقد كانوا أي : اتخذوه في هذه الحالِ المستقرةِ لهم .

وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149)

قوله تعالى : { سُقِطَ في أَيْدِيهِمْ } : / الجارُّ قائم مقام الفاعل . وقيل : القائمُ مقامَ [ الفاعل ] ضميرُ المصدر الذي هو السُّقوط أي : سُقِط السقوط في أيديهم . ونقل الشيخ عن بعضهم أنه قال : « وسقط تتضمَّن مفعولاً وهو ههنا المصدر ، أي : الإِسقاط كقولك : » ذُهب بزيد « . قال : » صوابه : وهو هنا ضميرُ المصدر الذي هو السُّقوط ، لأنَّ « سقط » ليس مصدرُهُ الإِسقاط ، ولأن القائمَ مقامَ الفاعل ضميرُ المصدر لا المصدر « . وقد نقل الواحدي عن الأزهري أن قولهم » سُقِط في يده « كقول امرئ القيس :
2294 دَعْ عنك نَهْباً صِيح في حُجُراتِه ... ولكنْ حديثاً ما حديث الرواحلِ
في كون الفعل مسنداً للجار كأنه قيل : صاح المنتهبُ في حجراته ، وكذلك المراد : » سُقِط في يده « ، أي : سَقَطَ الندم في يده » قلت : فقوله : « أي : سقط الندم » تصريحٌ بأن القائمَ مقامَ الفاعل حرفُ الجارِّ لا ضميرُ المصدر . ونَقَل الفراء والزجاج أنه يُقال : سُقِط في يده وأُسقط أيضاً ، إلا أن الفراء قال : « سَقَط أي الثلاثي أكثر وأجودُ » . وهذه اللفظةُ تُستعمل في التندُّم والتحيُّر .
وقد اضْطَرَبَتْ أقوالُ أهل اللغة في أصلها فقال أبو مروان ابن سراج اللغوي : « قولُ العرب : سُقِط في يده مما أَعْياني معناه » . وقال الواحدي : « قد بان من أقوال المفسرين وأهلِ اللغة أن » سُقِط في يده « نَدِم ، وأنه يُستعمل في صفة النادم » . فأمَّا القول في أصله وما حَدُّه فلم أر لأحدٍ من أئمة اللغة شيئاً أرتضيه إلا ما ذكر الزجاجي فإنه قال : « قوله تعالى : » سُقِط في أيديهم « بمعنى ندموا ، نَظْمٌ لم يُسمع قبل القرآن ولم تَعْرفه العرب ، ولم يوجدْ ذلك في أشعارهم ، ويدلُّ على صحة ذلك أن شعراء الإِسلام لَمَّا سمعوا هذا النظم واستعملوه في كلامهم خفي عليهم وَجْهُ الاستعمال ، لأن عادتَهم لم تَجْرِ به فقال أبو نواس :
2295 ونشوةٌ سُقِطْتُ منها في يدي ... وأبو نواس هو العالِمُ النِّحْرِيْر فأخطأ في استعمال هذا اللفظ لأن فُعِلْتُ لا يُبْنى إلا من فعلٍ متعدٍ و » سَقَط « لازم لا يتعدى إلا بحرف الصفة ، لا يقال : » سُقطت « كما لا يُقال : رُغبت وغُضِبت إنما يقال : رُغِب في ، وغُضِب على . وذكر أبو حاتم [ أن ] » سُقِط فلان في يده « بمعنى ندم وهذا خطأ مثلُ قول أبي نواس ، ولو كان الأمر كذلك لكان النظم » ولما سُقطوا في أيديهم « و » سُقِط القومُ في أيديهم « . وقال أبو عبيدة : » يُقال لمن ندم على أمر وعجز عنه : سُقِط في يده « .

وقال الواحدي : « وذِكْرُ اليد ههنا لوجهين أحدهما : أنه يُقال للذي يَحْصُل وإن كان ذلك مما لا يكون في اليد : » قد حَصَل في يده مكروهٌ « يُشَبِّه ما يحصُل في النفس وفي القلب بما يُرى بالعين ، وخُصَّت اليدُ بالذِّكر لأنَّ مباشرة الذنوب بها ، فاللائمةُ تَرْجِع عليها لأنها هي الجارحة العظمى ، فيُسْنَدُ إليها ما لم تباشِرْ كقوله : { ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ } [ الحج : 10 ] وكثير من الذنوب لم تقدِّمْه اليد . الوجه الثاني : أن الندم حَدَثٌ يحصلُ في القلب ، وأثرهُ يظهر في اليد لأن النادمَ يَعَضُّ يدَه ويَضْرب إحدى يديه على الأخرى كقوله : { فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ } [ الكهف : 42 ] فتقليبُ الكف عبارةٌ عن الندم ، وكقوله : { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ } [ الفرقان : 27 ] فلمَّا كان أثرُ الندم يحصُل في اليدِ مِن الوجه الذي ذكرناه أُضيف سقوطُ الندم إلى اليد؛ لأن الذي يظهر للعيون من فِعْلِ النادم هو تقليبُ الكفِّ وعَضُّ الأنامل واليد ، كما أن السرور معنى في القلب يَسْتشعره الإِنسان والذي يظهر من حالة الاهتزاز والحركة والضحك وما يجري مجراه » .
وقال الزمخشري : « ولمَّا سُقِط في أيديهم » : ولما اشتدَّ ندمهم ، لأنَّ مِنْ شأن مَنْ اشتدَّ ندمُه وحسرته أن يَعَضَّ يده غَمَّاً فتصيرَ يدهُ مسقوطاً فيها لأنَّ فاه قد وقع فيها « . وقيل : مِنْ عادة النادم أن يُطَأطِئ رأسه ويضع ذَقَنه على يده معتمداً عليها ويصير على هيئة لو نُزعت يده لسقط على وجهه ، فكأن اليدَ مسقوط فيها . ومعنى » في « : » على « ، فمعنى » في أيديهم « : على/ أيديهم كقوله : { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل } [ طه : 71 ] . وقيل : هو مأخوذ من السِّقاط وهو كثرة الخطأ ، والخاطِئُ يندم على فِعْله . قال ابن أبي كاهل :
2296 كيف يَرْجُون سِقاطي بعدما ... لَفَّع الراسَ بياضٌ وصَلَعْ
وقيل : هو مأخوذٌ من السَّقيط ، وهو ما يُغَشِّي الأرض من الجليد يشبه الثلج؛ يقال منه : سَقَطَت الأرض كما يقال : ثَلَجت ، والسَّقْطُ والسَّقيط يذوب بأدنى حرارة ولا يَبْقى ، ومَنْ وقع في يده السَّقِيط لم يحصل منه على شيءٍ فصار هذا مثلاً لكل مَنْ خسر في عاقبته ولم يحصل من بغيته على طائل .
واعلم أن » سُقِطَ في يده « عَدَّه بعضُهم في الأفعال التي لا تتصرَّف كنِعْمَ وبئس . وقرأ ابن السَّمَيْفع » سَقَط في أيديهم « مبنيَّاً للفاعِل ، وفاعلُه مضمر ، أي : سقط الندمُ ، هذا قولُ الزجاج . وقال الزمخشري : » سقط العَضُّ « . وقال ابن عطية : » سَقَط الخسران والخيبة « وكل هذه أمثلةٌ . وقرأ ابن أبي عبلة » أُسْقِط « رباعياً مبنياً للمفعول . وقد تقدَّم أنها لغةٌ نقلها الفراء والزجاج .
قوله : { وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ } هذه قلبيَّة ، ولا حاجةَ في هذه إلى تقديمٍ وتأخير كما زعمَه بعضُهم قال : » تقديره : ولما رأوا أنهم قد ضلُّوا وسُقِط في أيديهم « .

قال : « لأنَّ الندمَ والتحسُّر إنما يقعان بعد المعرفة » .
قوله : { لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا } قرأ الأخَوان : « ترحمنا وتغفر » بالخطاب ، « ربَّنا » بالنصب . وهي قراءةُ الشعبي وابن وثاب وابن مصرف والجحدري والأعمش ، وأيوب ، وباقي السبعة بياء الغيبة فيهما ، « ربُّنا » رَفْعاً ، وهي قراءة الحسن ومجاهد والأعرج وشيبة وأبي جعفر . فالنصبُ على أنه منادى وناسبه الخطاب ، والرفعُ على أنه فاعل ، فيجوز أن يكون هذا الكلامُ صَدَرَ من جميعهم على التعاقب ، أو هذا من طائفة وهذا من طائفة ، فَمَنْ غلب عليه الخوفُ وقَوِي على المواجهة خاطب مستقيلاً من ذنبه ، ومَنْ غلب عليه الحياء أخرج كلامه مُخْرج المُسْتحيي من الخطاب ، فأسند الفعل إلى الغائب .

وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)

قوله تعالى : { غَضْبَانَ أَسِفاً } : حالان من موسى عند مَنْ يجيز تعدُّدَ الحال ، وعند مَنْ لا يجيزه يَجْعَلُ « أَسِفاً » حالاً من الضمير المستتر في « غضبان » فتكون حالاً متداخلةً ، أو يجعلها بدلاً من الأولى ، وفيه نظرٌ لعُسْر إدخالِه في أقسام البدل ، وأقربُ ما يقال : إنه بدلُ بعضٍ من كل إن فسَّرنا الأسِفَ بالشديد الغضبِ ، أو بدلُ اشتمال إن فسَّرناه بالحزين . يقال : أسِف يأسَفُ أَسَفاً ، أي : اشتدَّ غضبُه . قال تعالى : { فَلَمَّآ آسَفُونَا انتقمنا مِنْهُمْ } [ الزخرف : 55 ] ويقال : بل معناه حَزِن ومنه قوله :
2297 غيرُ مأسوفٍ على زمنٍ ... ينقضي بالهمِّ والحزن
فلما كانا متقاربَيْنِ في المعنى صَحَّت البدليةُ على ما ذكرته لك ، ويدلُّ على مقاربة ما بينهما كما قال الواحدي قولُه :
2298 . . . . . . . . . . . . . . . ... فحزنُ كلِّ أخي حُزْنٍ أخو الغضبِ
وقال الأعشى :
2299 أرى رجلاً منكمْ أسِيفاً كأنما ... يَضُمُّ إلى كَشْحَيْه كَفَّاً مُخَضَّبا
فهذا بمعنى غضبان . وفي الحديث : « إنَّ أبا بكر رجلٌ أسيف » أي : حزين ، ورجلٌ أَسِف : إذا قُصِد ثبوتُ الوصف واستقراره ، فإن قُصِد به الزمان جاء على فاعِل .
قوله : { قَالَ : بِئْسَمَا } هذا جوابُ « لمَّا » وتقدَّم الكلامُ على « بئسما » ، ولكنَّ المخصوصَ بالذم محذوفٌ ، والفاعلُ مستتر يفسِّره « ما خَلَفْتموني » والتقدير : بئس خلافةً خَلَفْتمونيها خلافتُكم .
قوله : { أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ } في « أَمْرَ » وجهان أحدهما : أنه منصوب على المفعول بعد إسقاط الخافض وتضمين الفعل معنى ما يتعدى بنفسه ، والأصل : أَعَجِلْتُمْ عن أمر ربكم . قال الزمخشري : « يقال : عَجِل عن الأمر : إذا تركه غير تامَّ ، ونقيضه تَمَّ ، وأعجله عنه غيره ، ويُضَمَّن معنى سبق فيتعدَّى تعديتَه فيقال : عَجِلْتُ الأمر ، والمعنى : أعجلتم عن أمر ربكم » . والثاني : أنه متعدٍّ بنفسه غيرَ مضمَّنٍ معنى فعل آخر . حكى يعقوب « عَجِلْتُ الشيء سبقته » وأعجلت الرجل استعجلته ، أي : حملتُه على العَجَلة « .
قوله : { يَجُرُّهُ إِلَيْهِ } فيه ثلاثة أوجه ، أحدُها : أن الجملةَ حالٌ من ضمير موسى المستتر في » أخذ « ، أي : أخذ جارَّاً إليه . الثاني : أنها حال من » رأس « قاله أبو البقاء وفيه نظرٌ لعدم الرابط . الثالث : أنها حال من » أخيه « قال أبو البقاء : » وهو ضعيفٌ يعني من حيث/ إن الحال من المضاف إليه يَقِلُّ مجيئُها أو يمتنعُ عند بعضهم . قلت : وقد تقدم غيرَ مرة أن بعضَهم يُجَوّزه في صورٍ هذه منها ، وهو كونُ المضافُ جزءاً من المضاف إليه .
قوله : { قَالَ ابن أُمَّ } قرأ الأخَوان وأبو بكر وابن عامر هنا وفي طه بكسر الميم والباقون بفتحها . فأمَّا قراءة الفتح ففيها مذهبان : مذهبُ البصريين أنهما بُنيا على الفتح لتركُّبهما تركيب خمسة عشر ، فعلى هذا فليس « ابن » مضافاً ل « أم » بل مركَّب معها فحركتُهما حركةُ بناء .

والثاني : مذهب الكوفيين وهو أن « ابن » مضاف ل « أُمّ » و « أم » مضافة لياء المتكلم ، وياء المتكلم قد قلبت ألفاً كما تقلب في المنادى المضاف إلى ياء المتكلم نحو : يا غلاماً ، ثم حُذِفَتْ الألفُ واجْتُزِئ عنها بالفتحة كما يُجْتَزَأُ عن الياء بالكسرة ، فحينئذ حركة « ابن » حركةُ إعراب وهو مضاف ل « أُمَّ » فهي في محلِّ خفضٍ بالإِضافة .
وأما قراءةُ الكسر فعلى رأي البصريين هو كسرُ بناءٍ لأجل ياء المتكلم ، بمعنى أنَّا أَضَفْنا هذا الاسمَ المركب كلَّه لياء المتكلم فكُسِر آخرُه ، ثم اجتُزِئ عن الياء بالكسرة فهو نظير : يا أحَدَ عشري ثم : يا أحد عَشرِ بالحذف ، ولا جائز أن يكونا باقيين على الإِضافة إذ لم يَجُزْ حَذْفُ الياء لأن الاسمَ ليس منادى ، ولكنه مضافٌ إليه المُنادى فلم يَجُزْ حَذْفُ الياء منه . وعلى رأي الكوفيين يكون الكسرُ كسرَ إعراب وحُذِفت الياءُ مجتَزَأً عنها بالكسرة كما اجتزِئَ عن ألفها بالفتحة . وهذان الوجهان يَجْريان في « ابن أم » و « ابن عم » و « ابنة أم » و « ابنة عم » . فاعلم أنه يجوزُ في هذه الأمثلةِ الأربعةِ خاصةً خمسُ لغات ، فُصْحاهُنَّ : حَذْفُ الياء مجتزأ عنها بالكسرة ، ثم قَلْبُ الياءِ ألفاً فَيَلْزَمُ قَلْبُ الكسرةِ فتحةً ، ثم حَذْفُ الألف مجتزَأً عنها بالفتحة ، ثم إثبات الياء ساكنة أو مفتوحة ، وأمَّا غيرُ هذه الأمثلة الأربعة ممَّا أُضيف إلى مضاف إلى ياء المتكلم في النداء فإنه لا يجوزُ فيه إلا ما يجوزُ في غير باب النداء لأنه ليس منادى نحو : يا غلامَ أبي ويا غلام أمي ، وإنما جَرَتْ هذه الأمثلةُ خاصةً هذا المجرى تنزيلاً للكلمتين منزلةَ كلمةٍ واحدة ولكثرة الاستعمال .
وقُرئ « يابن أمي » بإثباتِ الياء ساكنةً ، ومثلُه قوله :
2300 يابنَ أُمِّي ويا شُقَيِّق نفسي ... أنت خَلَّفْتَني لدهرٍ شديدِ
وقول الآخر :
2301 يا بنَ أمي فَدَتْكَ نفسي ومالي ... . . . . . . . . . . . . . . .
وقُرئ أيضاً : « ابن إمِّ » بكسر الهمزة والميم وهو إتباعٌ . ومِنْ قَلْبِ الياءِ ألفاً قولُه :
2302 يا بنة عَمَّا لا تَلُومي واهْجَعي ... وقوله :
2303 كُنْ لي لا عَليَّ يا بن عَمَّا ... نَدُمْ عَزِيزَيْنِ ونُكْفَ الذَّمَّا
قوله : { فَلاَ تُشْمِتْ } العامَّة على ضم التاء وكسر الميم وهو مِنْ أَشْمت رباعياً ، « الأعداء » مفعول به . وقرأ ابن محيصن « فلا تَشْمِتْ » بفتح التاء وكسر الميم ، ومجاهد بفتح التاء أيضاً وفتح الميم ، « الأعداءَ » نصب على المفعول به . وفي : هاتين القراءتين تخريجان ، أظهرهما : أن شمِت أو شَمَت بكسر الميم أو فتحها متعدٍّ بنفسه كأشمت الرباعي ، يقال : شمت بي زيدٌ العدوَّ ، كما يقال : أَشْمَتَّ بي العدو .

والثاني : أنَّ « تَشْمت » مسندٌ لضمير الباري تعالى ، أي : فلا تَشْمت يا رب ، وجاز هذا كما جاز { الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } ثم أضمر ناصباً للأعداء كقراءة الجماعة قاله ابن جني ، ولا حاجةَ إلى هذا التكلف لأنَّ « شمت » الثلاثي يكون متعدِّياً بنفسه ، والإِضمارُ على خلاف الأصل . وقال أبو البقاء في هذا التخريج : « فلا تشمت أنت » فجعل الفاعلَ ضميرَ موسى ، وهو أولى من إسناده إلى ضمير الله تعالى . وأمَّا تنظيرُه بقوله { الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } فإنما جاز ذلك للمقابلة في قوله : { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } [ البقرة : 14 ] وكقوله : { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله } [ آل عمران : 54 ] ولا يجوز ذلك في غير المقابلة .
وقرأ حميد بن قيس : « فلا تَشْمِت » كقراءة ابن محيصن ، ومجاهد كقراءته فيه أولاً ، إلا أنهما رفعا الأعداء على الفاعلية ، جعلا شمت/ لازماً فرفعا به « الأعداء » على الفاعلية ، فالنهي في اللفظ للمخاطب والمرادُ به غيرُه كقولهم : « لا أُرَيَنَّك ههنا » ، أي : لا يكنْ منك ما يقتضي أن تَشْمت بي الأعداء .
والإِشمات والشَّماتة : الفَرَح ببلِيَّة تنال عدوَّك قال :
2304 . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... والموتُ دون شماتَةِ الأعداء
قيل : واشتقاقُها مِنْ شوامِتِ الدابة وهي قوائمُها؛ لأن الشماتةَ تَقْلِبُ قلبَ الحاسِد في حالَتَي الفرح والترح كتقلُّب شوامت الدابة . وتشميت العاطس وتَسْميته بالشين والسين الدعاء له بالخير ، قال أبو عبيد : « الشينُ أعْلى اللغتين » وقال ثعلب : « الأصلُ فيهما السين مِنَ السَّمْت ، وهو القصد والهَدْيُ » . وقيل : معنى تشميتِ العاطس بالمعجمة أن يُثَبِّته الله كما يثبت قوائم الدابة . وقيل : بل التفعيل للسَّلْب ، أي : أزال الله الشماتة به ، وبالسين المهملة ، أي : ردَّه الله إلى سَمْتِه الأول أي هيئته لأنه يحصُل له انزعاج . وقال أبو بكر : « يقال : سَمَته وسَمَت عليه ، وفي الحديث : » وسَمَّت عليهما « .

إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152)

قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ نَجْزِي المفترين } : أي : ومثلَ ذلك النيل من المعصية والذل نجزي المفترين .

وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153)

قوله تعالى : { والذين عَمِلُواْ } : مبتدأ ، وخبره قوله : « إن ربك » إلى آخره . والعائد محذوف والتقدير : غفورٌ لهم رحيم بهم كقوله : { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور } [ الشورى : 43 ] أي : منه .
قوله : { مِن بَعْدِهَا } يجوز أن يعود الضمير على « السيئات » وهو الظاهر ، ويجوز أن يكونَ عائداً على التوبة المدلول عليها بقوله : « ثم تابوا » ، أي : من بعد التوبة . قال الشيخ : « وهذا أَوْلَى ، لأن الأولَ يلزمُ منه حَذْفُ مضافٍ ومعطوفِه ، إذ التقدير : من بعد عَمَلِ السيئات والتوبة منها » .
قوله : { وآمنوا } يجوز أن تكونَ الواوُ للعطفِ فيقال : التوبة بعد الإِيمان فكيف جاءَتْ قبلَه؟ فيقال : الواو لا تُرَتِّبُ ، ويجوز أن تكونَ الواوُ للحال ، أي : تابوا وقد آمنوا .

وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)

قوله تعالى : { وَلَماَّ سَكَتَ } : السُّكوت والسُّكات : قَطْعُ الكلامِ ، وهو هنا استعارةٌ بديعة . قال الزمخشري : « هذا مَثَلٌ كأن الغضبَ كان يُغْرِيه على ما فعل ويقول له : قل لقومك كذا ، وأَلْقِ الألواحِ وجُرَّ برأس أخيك إليك ، فترك النطق بذلك وترك الإِغراء به ، ولم يستحسن هذه الكلمة ولم يَسْتَفْصِحْها كل ذي طبع سليم وذوق صحيح إلا لذلك ، ولأنه من قبيل شُعَب البلاغة ، وإلا فما لِقراءة معاوية بن قرة » ولمَّا سكن « بالنون لا تجدُ النفسَ عندها شيئاً من تلك الهزة وطرفاً من تلك الروعة؟ » .
وقيل : شَبَّه جمود الغضب بانقطاع كلام المتكلم . قال يونس : « سال الوادي ثم سكت » فهذا أيضاً استعارةٌ . وقال الزجاج : « مصدر سَكَتَ الغضبُ السكتة ، ومصدر سَكَت الرجل السكوت » وهذا يقتضي أن يكون « سكت الغضب » فعلاً على حِدَته . وقيل : هذا من باب القلب والأصل : ولما سكت موسى عن الغضب نحو : أَدْخَلْتُ القلنسوة في رأسي ، وهذا ينبغي أن لا يجوز لعدم الاحتياج إليه ، مع ما في القلب من الخلاف الذي ذكرته لك غير مرة .
قوله : { وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى } ، هذه الجملة في محل نصب على الحال من الألواح أو من ضمير موسى ، والأول أحسن .
قوله : { لِّلَّذِينَ } متعلقٌ بمحذوف لأنه صفةٌ ل « رحمة » أي : رحمة كائنة للذين . ويجوز أن تكونَ اللامُ لامَ المفعول من أجله كأنه قيل : هدى ورحمة لأجل هؤلاء ، و « هم » مبتدأ ، و « يرهبون » خبره ، والجملةُ صلة الموصول .
قوله : { لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ } في هذه اللامِ أربعةُ أوجه ، أحدها : أن اللامَ مقويةٌ للفعل ، لأنه لمَّا تقدَّم معمولُه ضَعُفَ فقوي باللام كقوله : { إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } وقد تقدم أن اللامَ تكونُ مقويةً حيث كان العامل مؤخراً أو فرعاً نحو : { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [ هود : 107 ] ، ولا تُزاد في غير هذين إلا ضرورةً عند بعضهم كقوله :
2305 ولمَّا أن تواقَفْنا قليلاً ... أَنَخْنا للكلاكل فارْتَمَيْنا
أو في قليل عند آخرين كقوله تعالى : { رَدِفَ لَكُم } [ النمل : 72 ] . والثاني : أن اللامَ لامُ العلة ، وعلى هذا فمفعولُ « يرهبون » محذوفٌ تقديره : يرهبون عقابَه لأجله ، وهذا مذهب الأخفش . / الثالث : أنها متعلقةٌ بمصدرٍ محذوف تقديره : الذين هم رهبتهم لربهم ، وهو قول المبرد ، وهذا غير جارٍ على قواعد البصريين لأنه يَلْزَمُ منه حَذْفُ المصدر وإبقاءُ معموله وهو ممتنعٌ إلا في شعر ، وأيضاً فهو تقديرٌ مُخْرِجٌ للكلام عن وجه فصاحته . الرابع : أنها متعلقةٌ بفعلٍ مقدر أيضاً تقديره : يخشعون لربهم . ذكره أبو البقاء وهو أولى ممَّا قبله .

وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)

قوله تعالى : { واختار موسى } : « اختار » يتعدَّى لاثنين إلى أوَّلهما بنفسه وإلى ثانيهما بحرف الجر ، ويجوز حَذْفُه ، تقول : « اخترت زيداً من الرجال » ، ثم تَتَّسِعُ فتحذف « مِنْ » فتقول : « زيداً الرجال » قال :
2306 اخْتَرْتُكَ الناسَ إذ رثَّتْ خلائِقُهُمْ ... واعتلَّ مَنْ كان يُرجى عنده السُّؤلُ
وقال الراعي :
2307 فقلْتُ له اخترها قَلوصاً سمينة ... ونابٌ علينا مثل نابِكَ في الحيا
وقال الفرزدق :
2308 منا الذي اختير الرجالَ سماحةً ... وجوداً إذا هَبَّ الرياح الزعازعُ
وهذا النوعُ مقصورٌ على السماع ، حَصَره النحاة في ألفاظ ، وهي : اختار وأَمَر كقوله :
2309 أمرتك الخيرَ فافعلْ ما أُمِرْتَ به ... فقد تَرَكْتُك ذا مالٍ وذا نَشَبِ
واستغفر كقوله :
2310 أستغفرُ اللهَ ذنباً لستُ محصيَه ... ربَّ العبادِ إليه الوجهُ والعملُ
وسمَّى [ نحو : ] سَمَّيْتُ ابني بزيد ، وإن شئت : زيداً . و « دعا » بمعناه قال :
2311 دَعَتْني أمُّ عمرو أخاها ولم أكن ... أخاها ولم أَرْضَعْ لها بلَبانِ
و « كَنَى » تقول : كَنَيْته بفلان ، وإن شئت فلاناً . و « صَدَق » قال تعالى : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ } [ آل عمران : 152 ] . و « زوَّج » قال تعالى : { زَوَّجْنَاكَهَا } [ الأحزاب : 37 ] . ولم يزد الشيخ عليها . ومنها أيضاً « حدَّث وأنبأ ونبّأ وأخبر وخبَّر » إذا لم تُضَمَّن معنى أَعْلَمَ . قال تعالى : { مَنْ أَنبَأَكَ هذا } [ التحريم : 3 ] وقال : { فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ } [ التحريم : 3 ] . وتقول : حَدَّثْتك بكذا ، وإن شئت : كذا ، قال :
2312 لَئِنْ كان ما حُدِّثْتُه اليومَ صادقاً ... أَصُمْ في نهارِ القيظِ للشمس باديا
و « قومه » مفعولٌ ثانٍ على أوَّلهما ، والتقدير : واختار موسى سبعين رجلاً من قومه . ونقل أبو البقاء عن بعضهم أن « قومَه » مفعول أول و « سبعين » بدل ، أي : بدل بعض من كل ، ثم قال : « وأرى أن البدلَ جائزٌ على ضعف وأن التقدير : سبعين رجلاً منهم » . قلت : إنما كان ممتنعاً أو ضعيفاً لأنَّ فيه حَذْفَ شيئين : أحدُهما المختار منه ، فإنه لا بد للاختيار من مختارٍ ومختار منه ، وعلى البدل إنما ذُكِر المختارُ دونَ المختار منه . والثاني : أنه لا بد من رابط بين البدل والمبدل منه وهو « منهم » كما قدَّره أبو البقاء ، وأيضاً فإن البدلَ في نية الطَّرْح .
وأصل اختار : اختَيَرَ افتعل من لفظ الخير كاصطفى من الصفوة . و « لميقاتنا » متعلقٌ به أي : لأجل ميقاتنا . ويجوز أن يكونَ معناها الاختصاصَ ، أي : اختارهم مخصصاً بهم الميقات كقولك : اختير لك هذا .
قوله : { لَوْ شِئْتَ } مفعولُ المشيئة محذوف أي : لو شِئْتَ إهلاكنا ، و « أهلكتهم » جواب لو ، والأكثر الإِتيانُ باللام في هذا النحو ، ولذلك لم يَأْتِ مجرداً منها إلا هنا ، وفي قوله

{ أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ } [ الأعراف : 100 ] وفي قوله : { لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً } [ الواقعة : 70 ] . ومعنى « من قبل » أي : قبل الاختيار وأَخْذ الرجفة .
قوله : { وَإِيَّايَ } قد يتعلَّق به مَنْ يرى جواز انفصال الضمير مع القدرة على اتصاله ، إذ كان يمكنُ أن يُقال : أهلكتنا ، وهو تعلُّقٌ واهٍ جداً لأن مقصودَه صلى الله عليه وسلم التنصيص على هلاك كلٍ على حِدَتِه تعظيماً للأمر ، وأيضاً فإن موسى لم يتعاطَ ما يقتضي إهلاكَه بخلاف قومه ، وإنما قال ذلك تسليماً منه لربِّه ، فعطَف ضميرَه تنبيهاً على ذلك ، وقد تقدم لك فهذه من هذا في قوله { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ } [ النساء : 131 ] وقوله { يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ } [ الممتحنة : 1 ] .
قوله : { أَتُهْلِكُنَا } يجوز فيه أن يكون على بابه ، أي : أتَعُمُّنا بالإِهلاك أم تخصُّ به السفهاءَ منا؟/ ويجوز أن يكونَ بمعنى النفي ، أي : ما تُهْلِك مَنْ لم يُذنب بذنب غيره ، قاله أبو بكر بن الأنباري ، قال : « وهو كقولك : أتُهين مَنْ يكرمك؟ وعن المبرد : هو سؤالُ استعطاف . و » منا « في محل نصب على الحال من » السفهاء « ويجوز أن تكون للبيان .
قوله : { تُضِلُّ بِهَا } يجوز فيها وجهان ، أحدهما : أن تكون مستأنفةً فلا محلَّ لها . والثاني : أن تكون حالاً من » فتنتك « أي : حالَ كونها مُضِلاً بها . ويجوز أن تكون حالاً من الكاف لأنها مرفوعةٌ تقديراً بالفاعلية ، ومنعه أبو البقاء قال : » لعدم العامل فيها « وقد تقدَّم البحث معه فيه غير مرة .

وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)

قوله تعالى : { هُدْنَآ } : العامَّةُ على ضم الهاء ، مِنْ هاد يهود بمعنى مال ، قال :
2313 قد عَلِمَتْ سَلْمى وجاراتُها ... أني مِنَ الله لها هائدُ
أو تاب ، مِنْ قوله :
2314 إني امرؤٌ مما جَنَيْتُ هائِدُ ... . . . . . . . . . . . . . . .
ومن كلامِ بعضهم : « يا راكبَ الذنب هُدْهُدْ ، واسجد كأنك هُدْهُد » . وقرأ زيد بن علي وأبو وَجْزة « هِدْنا » بكسر [ الهاء ] من هاد يَهيد أي حرَّك . وقد أجاز الزمخشري في هُدنا وهِدْنا بالضم والكسر أن يكون الفعلُ مبنياً للفاعل أو للمفعول في كل منهما بمعنى مِلْنا أو أمالنا غيرُنا ، أو حرَّكْنا نحن أنفسَنا أو حرَّكَنا غيرُنا وفيه نظر ، لأن بعض النحويين قد نصَّ على أنه متى أُلبس وَجَبَ أن يؤتى بحركةٍ مزيلةٍ لِلَّبس فيقال في « عقتُ » من العَوْق إذا عاقك غيرك : « عِقت » بالكسر فقط أو الإِشمام ، وفي بعتَ يا عبد إذا قصد أن غيرَه باعه : « بُعْت » بالضم فقط أو الإِشمام ، ولكن سيبويه جوَّز في قيل وبيع ونحوهما الأوجهَ الثلاثة من غير احتراز .
و « هي » ضميرٌ يفسِّره سياقُ الكلام إذ التقدير : إنْ فتنتُهم إلا فتنتُك . وقيل : يعود على مسألة الإِراءة من قوله : { أَرِنَا الله جَهْرَةً } أي : إنْ مسألة الرؤية .
قوله : { عذابي أُصِيبُ } مبتدأ وخبره . والعامَّةُ على « مَنْ أشاء » بالشين المعجمة . وقرأ زيد بن علي وطاوس وعمرو بن فائد : « أساء » بالمهملة من الإِساءة . قال الداني : « لا تَصِحُّ هذه القراءة عن الحسن ولا عن طاوس ، وعمرو بن فائد رجل سَوْء ، وقرأها يوماً سفيان بن عيينة واستحسنها ، فقام إليه عبد الرحمن المقرئ فصاح به وأسمعه فقال سفيان : » لم أَفْطِنْ لما يقولُ أهل البدع « . قلت : يعني عبد الرحمن أن المعتزلةَ تعلَّقوا بهذه القراءة في أن فعلَ العبدِ مخلوقٌ له ، فاعتذر سفيان عن ذلك .

الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)

قوله تعالى : { الذين يَتَّبِعُونَ } : في محله أوجه ، أحدها : الجر نعتاً لقوله « الذين يتقون » . الثاني : أنه بدلٌ منه . الثالث : أنه منصوبٌ على القطع . الرابع : أنه مرفوع على خبر ابتداء مضمر وهو معنى القطع أيضاً . الخامس : أنه مبتدأ ، وفي الخبر حينئذ وجهان ، أحدهما : أنه الجملةُ الفعلية من قوله « يأمرهم بالمعروف » . والثاني : الجملةُ الاسمية من قوله { أولئك هُمُ المفلحون } ذكر ذلك أبو البقاء ، وفيه ضعف ، بل مَنْعٌ ، كيف يجعل « يأمرهم » خبراً وهو من تتمة وَصْفِ الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو على أنه معمولٌ للوجدان عند بعضهم كما سيأتي التنبيهُ عليه ، وكيف يَجْعَلُ « أولئك هم المفلحون » خبراً لهذا الموصول ، والموصولُ الثاني وهو قوله { فالذين آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ } يطلبه خبراً ، لا يتبادَرُ الذهنُ إلى غيره ولو تبادر لم يكن مُعْتبراً .
قوله : { الأمي } العامَّةُ على ضم الهمزة نسبةً : إمَّا إلى الأُمة وهي أمة العرب ، وذلك لأن العرب لا تحسب ولا تكتب ، ومنه الحديثُ : « إنَّا أمةٌ أمِّيَّةٌ لا نكتب ولا نحسب » ، وإمَّا نسبةً إلى الأَمّ وهو مصدر أَمَّ يَؤُمُّ ، أي : قصد يقصد ، والمعنى على هذا : أن هذا النبيَّ الكريم مقصود لكل أحدٍ . وفيه نظر ، لأنه كان ينبغي أن يقال : الأَمِّيّ بفتح الهمزة . وقد يقال : إنه من تغيير النسب . وسيأتي أن هذا قراءةٌ لبعضهم ، وإما نسبةً إلى أمِّ القرى وهي مكة ، وإمَّا نسبة إلى الأُمّ كأن الذي لا يقرأ ولا يكتب على حالةِ ولادتِه من أمه .
وقرأ يعقوب « الأَمِّيّ » بفتح الهمزة ، وخرَّجها بعضهم على أنه من تغيير النسب ، كما قالوا في النسب إلى أُمَيَّة : أَمَوي/ . وخرَّجها بعضهم على أنها نسبةٌ إلى الأَمّ وهو القصد ، أي : الذي هو على القصد والسَّداد ، وقد تقدَّم ذكرُ ذلك أيضاً في القراءة الشهيرة . فقد تحصَّل أن كلاً من القراءتين يحتمل أن تكون مُغَيَّرَةً من الأخرى .
قوله : « تجدونه » الظاهر أن هذه متعديةٌ لواحد لأنها اللُّقْبَة ، والتقدير : تَلْقَوْنه ، أي تَلْقَوْن اسمَه ونعته مكتوباً ، لأنه بمعنى وُجْدان الضالَّة فيكون « مكتوباً » حالاً من الهاء في « تجدونه » . وقال أبو علي : « إنها متعدية لاثنين أولهما الهاء ، والثاني » مكتوباً « . قال : » ولا بد من حذف هذا المضاف ، أعني قوله « ذكره أو اسمه » . قال سيبويه : « تقول إذا نظرت في هذا الكتاب : هذا عمرو ، وإنما المعنى : هذا اسم عمرو وهذا ذِكْر عمرو قال : » وهذا يجوزُ على سَعة الكلام « .
قوله : { عِندَهُمْ فِي التوراة } هذا الظرف وعديلُه كلاهما متعلِّقٌ ب » تَجدون « ، ويجوز وهو الأظهر أن يتعلَّقا ب » مكتوباً « ، أي : كُتِبَ اسمُه ونعته عندهم في تَوْراتهم وإنجيلهم .

قوله : { يَأْمُرُهُم } فيه ستةُ أوجه ، أحدها : أنه مستأنف ، فلا محلَّ له حينئذ وهو قول للزجاج . والثاني : أنه خبر ل « الذين » . قاله أبو البقاء ، وقد ذُكِرَ ، قلت : وقد ذكر ما فيه ثَمَّة . الثالث : أنه منصوبٌ على الحال من الهاء في « تجدونه » ولا بد من التجوز بها ، ذلك بأن تُجْعَلَ حالاً مقدرة . وقد منع أبو علي أن تكون حالاً من هذا الضمير قال : « لأن الضميرَ للاسم والذِّكْرِ ، والاسم والذِّكر لا يأمران » يعني أن الكلام على حَذْفِ مضافٍ كما مرَّ ، فإن تقديره : تجدون اسمه أو ذِكْره ، والذكرُ والاسمُ لا يأمران ، إنما يأمر المذكور والمسمَّى . الرابع : أنه حال من « النبيّ » . الخامس : أنه حال من الضمير المستكن في « مكتوباً » . السادس : أنه مفسِّر ل « مكتوباً » ، أي لِما كُتِب ، قاله الفارسي . قال : « كما فَسَّر قوله : { وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ } بقوله : { لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } [ المائدة : 9 ] ، وكما فسَّر المَثَل في قوله تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ } [ آل عمران : 59 ] بقوله { خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } .
وقال الزجَّاج هنا : » ويجوز أن يكون المعنى : يجدونه مكتوباً عندهم أنه يأمرُهم بالمعروف ، وعلى هذا يكون الأمرُ بالمعروف وما ذُكِر معه مِنْ صفته التي ذُكِرت في الكتابين « . واستدرك أبو علي عليه هذه المقالةَ فقال : » لا وجهَ لقوله « يجدونه مكتوباً عندهم أنه يأمرهم بالمعروف » إن كان يعني أن ذلك مرادٌ ، لأنه لا شيءَ يَدُلُّ على حَذْفِه ، ولأنَّا لا نَعْلَمهم أنهم صَدَقُوا في شيء ، وتفسير الآية أنَّ { وجدت } فيها تتعدى لمفعولين « فَذَكر نحو ما قدَّمته عنه . قلت : وهذا الردُّ تحاملٌ منه عليه ، لأنه أراد تفسيرَ المعنى وهو تفسير حسن .
قوله : { إصرهم } قرأ ابن عامر : » آصارهم « بالجمع على صيغة أفْعال ، فانقلبت الهمزة التي هي فاء الكلمة ألفاً لسَبْقِها بمثلها ، والباقون بالإِفراد فهي جمع باعتبار متعلَّقاته وأنواعه ، وهي كثيرة . ومَنْ أفرد فلأنه اسمُ جنسٍ . وقرأ بعضهم : » أَصرهم « بفتح الهمزة ، وبعضُهم » أُصْرهم « بضمها . وقد تقدم تفسير هذه المادة في أواخر البقرة .
والأغلال جمع غُلّ ، وهو هنا مَثَل لِما كُلِّفوه . وقد تقدَّم تفسير المادة أيضاً في آل عمران : { وما كان لنبي أن يَغُلَّ } ، وكذا تقدم تفسير التعزير في المائدة .
والعامَّة على تشديد » وعزَّروه « . وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر وسليمان التيمي بتخفيفها ، وجعفر بن محمد : » وعَزَّزوه « بزايين معجمتين .
قوله : { أُنزِلَ مَعَهُ } قال الزمخشري : » فإن قلت : ما معنى « أُنْزِلَ معه » ، وإنما أُنْزِل مع جبريل؟ قلت : معناه أُنزل مع نبوته؛ لأن اسْتِنْباءَه كان مصحوباً بالقرآن مشفوعاً به .

ويجوز أن يتعلَّق ب « اتَّبعوا » ، أي : واتَّبعوا القرآن المنزَّل مع اتِّباع النبيّ وبالعمل بسنته وبما أَمَرَ به ونَهَى عنه ، أو واتَّبعوا القرآنَ كما اتَّبعه مصاحبين له في اتَّباعه « يعني بهذا الوجهِ الأخير أنه حالٌ من فاعل » اتبعوا « . / وقيل : » مع « بمعنى » على « ، أي : أُنْزِلَ عليه . وجوَّز الشيخ أن يكون » معه « ظَرْفاً في موضعِ الحال . قال : » والعاملُ فيها محذوف تقديره : أُنْزِلَ كائناً معه ، وهي حال مقدَّرة كقولهم : « مررت برجلٍ معه صقرٌ صائداً به غداً » فحالةُ الإِنزال لم يكن معه ، لكنه صار معه بعدُ ، كما أن الصيدَ لم يكن وقتَ المرور « .

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)

قوله تعالى : { إِلَيْكُمْ } : متعلقٌ ب « رسول » ، و « جميعاً » حال من المجرور ب إلى .
قوله : { الذي لَهُ مُلْكُ } يجوز فيه الرفع والنصب والجر ، فالرفعُ والنصبُ على القطع وقد مرَّ غيرَ مرة . والجرُّ من وجهين : إمَّا النعتِ للجلالة ، وإمَّا البدلِ منها . قال الزمخشري : « ويجوز أن يكون جَرّاً على الوصفِ وإن حِيل بين الصفة والموصوف بقوله » إليكم جميعاً « . وقد استضعف أبو البقاء هذا ووجهَ البدل فقال : » ويَبْعُدُ أن يكونَ صفة لله أو بدلاً منه لِما فيه من الفصل بينهما ب « إليكم » وبحالٍ ، وهو متعلِّق ب « رسول » .
قوله : { لا إله إِلاَّ هُوَ } لا محلَّ لهذه الجملةِ من الإِعراب ، إذ هي بدلٌ من الصلةِ قبلها ، وفيها بيانٌ لها ، لأنَّ مَنْ مَلَكَ العالَم كان هو الإِلهَ على الحقيقة . وكذا قوله « يحيي ويميت » هي بيانٌ لقوله { لا إله إِلاَّ هُوَ } سِيْقَتْ لبيان اختصاصه بالإِلهية لأنه لا يَقْدِرُ على الإِحياءِ والإِماتةِ غيرُه ، قال ذلك الزمخشري . قال الشيخ : « وإبدالُ الجملِ من الجمل غيرِ المشتركة في عاملٍ لا نعرفه » . وقال الحوفي : « إنَّ » يحيي ويميت « في موضع خبر » لا إله « . قال : » لأن الإِله في موضع رفع بالابتداء ، و « إلا هو » بدلٌ على الموضع « قال : » والجملةُ أيضاً في موضع الحال من اسم الله « . قلت : يعني بالجملة قولَه { لا إله إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ } ويعني باسم الله ، أي الضمير في » له مُلْك « ، أي : استقرَّ له الملك في حال انفراده بالإِلهية . وقال الشيخ : » والأحسن أن تكون هذه جملاً مستقلة من حيث الإِعراب ، وإن كان متعلقاً بعضُها ببعض من حيث المعنى « . وقال في إعراب الحوفي المتقدم : » إنه متكلِّفٌ « وهو كما قال .
وقرأ مجاهد وعيسى » وكلمة « بالتوحيد ، والمراد بها الجنس كقوله : » أصدقُ كلمةٍ قالها شاعر كلمة لبيد « ، ويسمُّون القصيدة كلها كلمةً ، وقد تقدَّم لك شرح هذا .
قوله : { فَآمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ } قال الزمخشري : » فإن قلت : هَلاَّ قيل : فآمنوا بالله وبي بعد قوله : { إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } . قلت : عَدَل عن المضمر إلى الاسم الظاهر لتجري عليه الصفاتُ التي أُجْرِيَتْ عليه ، ولِما في طريقة الالتفات من البلاغة ، وليُعْلِم أنَّ الذي يجب الإِيمان به واتِّباعه هو هذا الشخص المستقلّ بأنه النبيُّ الأميُّ الذي يؤمن بالله وكلماته كائناً مَنْ كان أنا أو غيري إظهاراً للنَّصَفة وتفادياً من العصبية لنفسه « .

وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)

قوله تعالى : { وَقَطَّعْنَاهُمُ اثنتي عَشْرَةَ } : الظاهر أن « قطعناهم » متعدٍّ لواحد لأنه لم يُضَمَّنْ معنى ما يتعدى لاثنين ، فعلى هذا يكون « اثنتي » حالاً من مفعول « قطَّعناهم » ، أي : فَرَّقْناهم معدودِين بهذا العدد . وجوَّز أبو البقاء أن يكون قَطَّعْنا بمعنى صَيَّرنا وأن « اثنتي » مفعولٌ ثانٍ ، وجزم الحوفي بذلك .
وتمييز « اثنتي عشرة » محذوف لفهم المعنى تقديره : اثنتي عشرة فرقة و « أسباطاً » بدل من ذلك التمييز . وإنما قلت إن التمييز محذوف ، ولم أجعل « أسباطاً » هو المميِّز لوجهين ، أحدهما : أن المعدودَ مذكرٌ لأن أسباطاً جمع سِبْط ، فكان يكون التركيبُ اثني عشر . والثاني : أن تمييز العدد المركب وهو من أحد عشر إلى تسعة عشر مفرد منصوب ، وهذا كما رأيت جمعٌ . وقد جعله الزمخشري تمييزاً له معتذراً عنه فقال : « فإن قلتَ : مميِّز ما عدا العشرةَ مفردٌ فما وجهُ مجيئه جمعاً؟ وهلا قيل : اثني عشر سِبْطاً . قلت : لو قيل ذلك لم يكن تحقيقاً لأن المرادَ : وقطَّعْناهم اثنتي عشرة قبيلة ، وكلُّ قبيلة أَسْباط لا سِبْط ، فوضع أسباطاً موضع قبيلة . ونظيرُه :
2315 ... بين رماحَيْ مالكٍ ونَهْشَلِ
قال الشيخ : » وما ذهب إليه من أن كل/ قبيلة أسباط خلافُ ما ذكره الناس : ذكروا أن الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب ، وقالوا : الأسباط جمع [ سبط ] ، وهم الفرق والأسباط في ولد إسحاق كالقبائل في ولد إسماعيل ويكون على زعمه قولُه تعالى : { وَمَآ أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط } معناه : والقبيلة . وقوله وهو نظير قوله « بين رماحَيْ مالك ونهشل » ليس بنظيره ، لأن هذا من باب تثنية الجمع وهو لا يجوز إلا في ضرورة ، وكأنه يشير إلى أنه لو لم يُلْحَظْ في الجمع كونُه أريد به نوعٌ من الرماح لم تَصِحَّ التثنية ، كذلك هنا لُحِظ في الأسباط وإن كان جمعاً معنى القبيلة فَمُيِّزَ به كما يُمَيَّزُ بالمفرد « .
وقال الحوفي : » يجوز أن يكونَ على الحَذْف ، والتقدير : اثنتي عشرة فرقةً أسباطاً ، ويكون « أسباطاً » نعتاً لفرقة ، ثم حُذف الموصوفُ وأقيمت الصفة مُقامه . وأمم نعتٌ لأسباط ، وأنَّث العددَ وهو واقعٌ على الأسباط وهو مذكر وهو بمعنى فرقة أو أمة كما قال :
2316 ثلاثة أنفس . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يعني رجلاً . [ وقال : ]
2317 . . . . . . . . . . . . . . . . عشرُ أَبْطُنْ ... . . . . . . . . . . . . . . . .
بالنظر إلى القبيلة . ونظيرُ وصفِ التمييز المفرد بالجمع مراعاةً للمعنى قول الشاعر :
2318 فيها اثنتان وأربعون حَلوبةً ... سُوداً كخافيةِ الغراب الأَسْحَمِ
فوصف « حلوبة » وهي مفردةٌ لفظاً ب « سُوْداً » وهو جمع مراعاةً لمعناها ، إذ المرادُ الجمع « .
وقال الفراء : » إنما قال « اثنتي عشرة » والسِّبط مذكر لأنَّ ما بعده أممٌ فذهب التأنيث إلى الأمم ، ولو كان اثني عشر لتذكير السبط لكان جائزاً « واحتجَّ النحويون على هذا بقول الشاعر :

2319 وإنَّ قريشاً هذه عشرُ أبطنٍ ... وأنت بريءٌ من قبائلها العشرِ
ذهب بالبطن إلى القبيلة والفصيلة ، لذلك أنَّث والبطن ذَكَر .
وقال الزجاج : « المعنى : » وقَطَّعناهم اثنتي عشرة فرقةً أسباطاً ، من نعتِ فرقة كأنه قال : جَعَلناهم أسباطاً وفَرَّقْناهم أسباطاً « ، وجوَّز أيضاً أن يكون » أسباطاً « بدلاً من » اثنتي عشرة « وتبعه الفارسيُّ في ذلك .
وقال بعضهم : » تقدير الكلام : وقطعناهم فرقاً اثنتي عشرة ، فلا يُحتاج حينئذٍ إلى غيره . وقال آخرون : جَعَل كلَّ واحد من الاثنتي عشرة أسباطاً ، كما تقول : لزيد دراهم ولفلان دراهم ولفلان دراهم ، فهذه عشرون دراهم ، يعني أن المعنى على عشرينات من الدراهم . ولو قلت : لفلان ولفلان ولفلان عشرون درهماً بإفراد « درهم » لأدَّى إلى اشتراك الكل في عشرين واحدة والمعنى على خلافه . وقال جماعة منهم البغوي : « وفي الكلام تقديمٌ وتأخير تقديرُه : وقطعناهم أسباطاً أمماً اثنتي عشرة » .
وقوله { أُمَماً } : إمَّا نعتٌ لأسباطاً ، وإمَّا بدل منها بعد بدل على قولنا : إن أسباطاً بدلٌ من ذلك التمييزِ المقدر . وجَعَلَه الزمخشري أنه بدل من اثنتي عشرة قال : « بمعنى : وقَطَّعناهم أمماً لأن كل أسباط كانَتْ أمةً عظيمة وجماعة كثيفة العدد » وكلُّ واحدة تَؤُمُّ خلافَ ما تَؤُمُّه الأخرى لا تكاد تأتلف « انتهى . وقد تقدَّم القول في الأسباط .
وقرأ أبان بن تغلب » وَقَطَعْناهم « بتخفيف العين ، والشهيرةُ أحسنُ لأنَّ المقامَ للتكثير ، وهذه تحتمله أيضاً . وقرأ الأعمش وابن وثاب وطلحة ابن سليمان » عَشِرة « بكسر الشين ، وقد رُوي عنهم فتحُها أيضاً ، ووافقهم على الكسر فقط أبو حيوة وطلحة بن مصرف . وقد تقدَّم تحقيق ذلك في البقرة ، وأن الكسرَ لغةُ تميم والسكونَ لغةُ الحجاز .
قوله : { أَنِ اضرب } يجوز في » أَنْ « أن تكون المفسِّرة للإِيحاء ، وأن تكونَ المصدرية . وقوله : » فانبجسَتْ « كقوله : { فانفجرت } [ البقرة : 80 ] إعراباً وتقديراً ومعنىً ، وقد تقدم جميعُ ذلك في البقرة . وقيل : الانبِجاسُ : العَرَق . قال أبو عمرو بن العلاء : / » انبجست : عَرِقَتْ ، وانفجرت : سالَتْ « ففرَّق بينهما بما ذُكر ، وفي التفسير أن موسى عليه الصلاة والسلام كان إذا ضَرَبَ الحجر ظهر عليه مثلُ ثَدْي المرأة فَيَعْرَقُ ثم يَسيل ، وهما قريبان من الفَرْق المذكور في النضخ والنضح . وقال الراغب : » يقال : بَجَس الماءُ وانبجَسَ انفجر ، لكن الانبجاسَ أكثرُ ما يُقال فيما يَخْرج من شيءٍ ضيق ، والانفجار يُستعمل فيه وفيما يخرج من شيء واسع ، ولذلك قال تعالى : { فانبجست مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْناً } ، وفي موضعٍ آخرَ { فانفجرت } [ البقرة : 60 ] ، فاستُعْمل حيث ضاق المخرج اللفظتان « يعني ففرَّق بينهما بالعموم والخصوص ، فكلُّ انبجاسٍ انفجارٌ من غير عكس .

وقال الهروي : « يقال : انبجسَ وتَبَجَّس وتَفَجَّر وتفتَّق بمعنى واحدٍ » ، وفي حديث حذيفة : « ما منا إلا رجلٌ له آمَّةٌ يَبْجُسُها الظُّفُر غيرَ رَجُلَيْن » يعني عمر وعلياً رضي الله عنهم . الآمَّة : الشجَّة تبلغ أمَّ الرأس ، وهذا مَثَل يعني أن الآمَّة منا قد امتلأت صديداً بحيث إنه يُقْدر على استخراج ما فيها بالظفر من غير احتياج إلى آلة حديد كالمِبْضَع فعبَّر عن زَلَلِ الإِنسان بذلك ، وأنه تفاقم إلى أن صار يشبه شَجَّةً هذه صفتها .
قوله : { كُلُّ أُنَاسٍ } قد تقدَّم الوعدُ في البقرة بالكلام على لفظة « أناس » هنا . قال الزمخشري : « الأناس : اسم جمع غير تكسير نحو : رُخال وتُناء وتُؤام وأخواتٍ لها . ويجوز أن يقال : إن الأصل الكسر والتكسير ، والضمة بدل من الكسرة كما أُبدلت في نحو سُكارَى وغُيارَى من الفتحة » . قال الشيخ : « ولا يجوز ما قال لوجهين ، أحدهما : أنه لم يُنْطَقْ ب » إناس « بكسر الهمزة فيكون جمعَ تكسيرٍ حتى تكونَ الضمةُ بدلاً من الكسرة بخلاف سُكارى وغيارى فإن القياس فيه فَعالى بفتح فاء الكلمة ، وهو مسموع فيهما . والثاني : أن سُكارى وغُيارى وعُجالى وما ورد من نحوها ليست الضمةُ فيه بدلاً من الفتحة ، بل نَصَّ سيبويه في » كتابه « على أنه جمعُ تكسيرٍ أصلٌ ، كما أن فَعالى جمعُ تكسيرٍ أصلٌ ، وإن كان لا ينقاس الضمُّ كما ينقاس الفتح .
قال سيبويه في حَدِّ تكسيرِ الصفات : » وقد يُكَسِّرون بعضَ هذا على فُعالى وذلك قول بعضِهم « عُجالى وسُكارى » . وقال سيبويه في الأبنية أيضاً : « ويكونُ فُعالى في الاسم نحو : حُبارَى وسُمانى ولُبادى ولا يكون وصفاً إلا أن يُكَسَّر عليه الواحدُ للجمع نحو : سُكارى وعجالى » فهذان نَصَّان من سيبويه على أنه جمعُ تكسير ، وإذا كان جمعَ تكسيرٍ أصلاً لم يَسْغُ أن يُدَّعى أن أصلَه فَعالَى وأنه أُبْدلت الحركة فيه . وذهب المبرد إلى أنه اسمُ جمع أعني فُعالى بضم الفاء وليس بجمع تكسير ، فالزمخشري لم يذهبْ إلى ما ذهب إليه سيبويه ، ولا إلى ما ذهب إليه المبرد ، لأنه عند المبرد اسمُ جمعٍ ، فالضمة في فائه أصلٌ ليست بدلاً من الفتحة بل أحدث قولاً ثالثاً « انتهى .
قوله : { كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ } قد تقدَّم الكلامُ على هذه الجملةِ وما قبلها ، وما بعدها في البقرة ، وكأن هذه القصةَ مختصرةٌ مِنْ تِيْكَ ، فإن تِيْكَ أشبعُ من هذه . قال الزمخشري : » التقديمُ والتأخيرُ في « وقولوا وادخلوا » سواء قَدَّموا الحِطَّة على دخول الباب أو أخَّروها ، فهم جامعونَ في الإِيجادِ بينهما « قال الشيخ : » وقولُه : سواءٌ قَدَّموا أو أخَّروها تركيبٌ غير عربي ، وإصلاحهُ : سواء أقدَّموا أم أخَّروا كما قال تعالى :

{ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا } [ إبراهيم : 21 ] قلت : يعني كونه أتى لفظُ « سواء » بأو دون أم ، ولم يأت بهمزة التسوية بعد سواء ، وقد تقدم أن ذلك جائزٌ وإن كان الكثيرُ ما ذكره ، وأنه قد قرئ { سواء عليهم أأنذرتهم أو لم تُنْذِرْهم } والردُّ بمثل هذا غيرُ طائلٍ .
وقرأ عيسى الهمذاني « ما رَزَقْتُكم » بالإِفراد ، وسيأتي خلافٌ بين السبعة في مثل هذا في سورة طه .
قوله : { نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ } قد تقدَّم الخلاف في « يغفر » وأما « خطاياكم » فقرأها ابنُ عامر « خطيئتكم » بالتوحيد والرفع على ما لم يُسَمَّ فاعلُه ، والفرض أنه يقرأ « تُغْفَر » بالتاء من فوق . ونافع قرأ « خطيئاتكم » بجمعِ السَّلامة رفعاً على ما لم يُسَمَّ فاعلُه؛ لأنه يقرأ « تُغْفَر » كقراءةِ ابن عامر ، وأبو عمرو قرأ : « خطاياكم » جمعَ تكسير ، ويَقرأ « نغفر » بنونِ العظمة ، والباقون : نَغْفر كأبي عمرو ، « خطيئاتكم » بجمع السَّلامة منصوباً بالكسرة على القاعدة . وفي سورة نوح قرأ أبو عمرو/ « خطاياهم » بالتكسير أيضاً ، والباقون بجمع التصحيح . وقرأ ابن هرمز « تُغْفَر » بتاء مضمومة مبنياً للمفعول كنافع ، « خطاياكم » كأبي عمرو . وعنه أيضاً : « يَغْفر » بياء الغيبة ، وعنه : « تَغْفِر » بفتح التاء من فوق ، على معنى أن الحِطَّة سببٌ للغفران فنسب الغفرانَ إليها .

وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)

قوله تعالى : { عَنِ القرية } : لا بد من مضافٍ محذوفٍ ، أي : عن خبر القرية ، وهذا المضافُ هو الناصبُ لهذا الظرف وهو قوله : « إذ يعدون » وقيل : بل هو منصوبٌ ب « حاضرة » . قال أبو البقاء : « وجوَّز ذلك أنها كانت موجودةً ذلك الوقتَ ثم خَرِبَتْ » . وقدَّر الزمخشري المضاف « أهل » ، أي : عن أهل القرية ، وجعل الظرفَ بدلاً من « أهل » المحذوف فإنه قال : « إذ يَعْدون » بدل من القرية ، والمرادُ بالقرية أهلُها ، كأنه قيل : وسَلْهم عن أهل القرية وقت عدوانهم في السبت ، وهو مِنْ بدل الاشتمال .
قال الشيخ : « وهذا لا يجوزُ ، لأنَّ » إذ « من الظروف التي لا تتصرَّف ، ولا يَدْخل عليها حرفُ جر ، وجَعْلُها بدلاً يُجَوِّز دخول » عن « عليها لأنَّ البدلَ هو على نية تكرار العامل ، ولو أَدْخَلْت » عن « عليها لم يَجُزْ ، وإنما يُتَصَرَّفُ فيها بأنْ تُضِيْفَ إليها بعضَ الظروفِ الزمانية نحو » يوم إذ كان كذا « ، وأمَّا قولُ مَنْ ذهب إلى أنها تكونُ مفعولةً ب » اذكر « : فقولُ مَنْ عَجَز عن تأويلها على ما ينبغي لها من إبقائها ظرفاً » .
وقال الحوفي : « إذ متعلقةٌ ب » سَلْهم « . قال الشيخ : » وهذا لا يُتَصور ، لأن « إذ » لِما مضى ، و « سَلْهم » مستقبلٌ ، ولو كان ظرفاً مستقبلاً لم يَصِحَّ المعنى ، لأنَّ العادِين وهم أهل القرية مفقودون ، فلا يمكن سؤالُهم فالمسؤول غير أهل القرية العادين « .
وقرأ شهر بن حوشب وأبو نهيك : » يَعَدُّون « بفتح العين وتشديد الدال ، وهذه تشبه قراءةَ نافع في قوله » لا تَعَدُّوا في السبت « والأصل » تَعْتَدُّوا « فأدغم التاءَ في الدال لمقاربتها لها . وقُرئ » تُعِدُّون « بضمِ التاء وكسرِ العين وتشديد الدال من أعدَّ يُعِدُّ إعداداً : إذا هَيَّأ آلاتِه . وفي التفسير : أنهم كانوا مأمورين في السبت فيتركونها ويُهَيِّئون آلاتِ الصيد .
قوله : { إِذْ تَأْتِيهِمْ } العاملُ فيه » يَعْدُون « ، أي : إذ عَدَوا إذ أَتَتْهم ، لأنَّ الظرفَ الماضي يَصْرِفُ المضارع إلى المضيّ . وقال الزمخشري : » وإذ تأتيهم بدلٌ من إذْ يَعْدُون بدلاً بعد بدل « يعني أنه بدلٌ ثانٍ من القرية على ما تقرَّر عنه . وقد تقدَّم ردُّ الشيخ عليه هناك وهو عائدٌ هنا .
و » حِيْتان « جمع حُوت ، وإنما أُبدلت الواو ياء لسكونها وانكسارِ ما قبلَها . ومثلُه : نون ونينان . والنونُ : الحوت .
قوله : { شُرَّعاً } حالٌ من » حِيتانهم « وشُرَّعٌ جمعُ شارع . وقرأ عمر ابن عبد العزيز » يوم إسْباتهم « وهو مصدرٌ » أسبت « إذا دخل في السَّبْت .

وقرأ عاصم بخلافٍ عنه وعيسى بن عمر : لا يَسْبُتون بضم الباء . وقرأ علي والحسن وعاصم بخلاف عنه « يُسْبِتون » بضم الياء وكسرِ الباء مِنْ أَسْبت ، أي : دَخَل في السبت . وقرئ : « يُسْبَتُون » بضمِّ الياء وفتح الباء مبنياً للمفعول ، نقلها الزمخشري عن الحسن قال : « أي : لا يُدار عليهم السَّبْت ولا يُؤْمرون بأن يَسْبِتُوا » .
والعاملُ في « يوم لا يَسْبتون » قوله « لا تَأْتيهم » أي : لا تأتيهم يوم لا يَسْبتون ، وهذا يدلُّ على جواز تقديم معمول المنفي ب « لا » عليها . وقد قدَّمْتُ فيه ثلاثةَ مذاهب : الجوازَ مطلقاً كهذه الآية ، المنعَ مطلقاً ، التفصيلَ : بين أن يكون جوابَ قسم فيمتنعَ أو لا فيجوز .
قوله : { كَذَلِكَ نَبْلُوهُم } ذكر الزجاج وابن الأنباري في هذه الكاف ومجرورِها وجهين ، أحدهما : قال الزجاج : « أي : مثلَ هذا الاختبار الشديد نختبرهم ، فموضعُ الكاف نصب ب » نَبْلوهم « . قال ابن الأنباري : » ذلك « إشارةٌ إلى ما بعدَه ، يريد : نَبْلوهم بما كانوا يفسُقون كذلك البلاءَ الذي وقع بهم في أَمْرِ الحِيتان ، وينقطع الكلام عند قوله » لا تأتيهم « .
الوجه الثاني : قال الزجاج : » ويحتمل أن يكون على بُعْدٍ أن يكونَ : ويومَ لا يَسْبِتُون لا تأتيهم كذلك ، أي : لا تأتيهم شُرَّعاً ، ويكون نَبْلوهم مستأنفاً « . قال أبو بكر : » وعلى هذا الوجهِ : « كذلك » راجعةٌ إلى الشُّروع في قوله تعالى : { يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً } والتقدير : ويوم لا يَسْبِتون لا تأتيهم كذلك الإِتيانَ بالشروع ، وموضعُ الكاف على هذا نصبٌ بالإِتيان على الحال ، أي : لا تأتي مثلَ ذلك الإِتيان « . /
وقوله : { بِمَا كَانُوا } الباء سببيةٌ ، و » ما « مصدريةٌ أي : نَبْلُوهم بسببِ فِسْقِهم ، ويَضْعُفُ أن تكونَ بمعنى الذي لتكلُّفِ حَذْفِ العائد على التدريج . وقد ذكر مكي هنا مسألةً مختلفاً فيها بين النحاة لا تعلُّق لها بهذا الموضع فقال : » وأفصحُ اللغات أن ينتصبَ الظرف مع السبت والجمعة فتقول : اليومَ السبتُ ، واليومَ الجمعة ، فَتُنْصَبَ « اليوم » على الظرف وتُرْفَعَ مع سائر الأيام فتقول : اليومَ الأحد ، واليومَ الأربعاء ، لأنه لا معنى للفعل فيهما ، فالمبتدأ هو الخبر فترفع « . قلت : هذه المسألة فيها خلافٌ بين النحويين ، فالجمهور كما ذكر يوجبون الرفعَ لأنه بمنزلة قولك : اليومُ الأولُ ، اليوم الثاني . وأجاز الفراء وهشام النصب قالا : » لأن اليوم بمنزلة الآن ، فالآن أعم من الأحد والثلاثاء ، فكأنه قيل : الآن الأحد ، الآن الاثنان « ، أي : إنهما واقعان في الآن ، وليست هذه المسألةُ مختصةً بالجمعة والسبت ، بل الضابطُ فيها أنه إذا ذُكر » اليوم « مع ما يتضمن عملاً وحدثاً جاز النصب والرفع نحو قولهم : اليوم العيد ، اليوم الفطر ، اليوم الأضحى ، كأنك قلت : اليوم يَحْدُث اجتماع وفطر وأُضْحية .

وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164)

قوله تعالى : { مَعْذِرَةً } : قرأ العامة « معذرة » رفعاً على خبر ابتداء مضمر ، أي موعظتنا معذرة . وقرأ حفص عن عاصم وزيد ابن علي وعيسى بن عمر وطلحة بن مصرف : « معذرةً » نصباً . وفيها ثلاثةُ أوجه ، أظهرُها : أنها منصوبةٌ على المفعول من أجله ، أي : وعَظْناه لأجلِ المعذرة . قال سيبويه : « ولو قال رجلٌ لرجل : معذرةً إلى الله وإليك من كذا انتصب » . الثاني : أنها منصوبةٌ على المصدر بفعل مقدرٍ مِنْ لفظِها تقديرُه : نعتذر معذرةً . الثالث : أن ينتصبَ انتصابَ المفعولِ به لأنَّ المعذرةَ تتضمَّن كلاماً ، والمفردُ المتضمنُ لكلامٍ إذا وقع بعد القول نُصِبَ نَصْبَ المفعول به كقلت خطبة . وسيبويه يختار الرفع قال : « لأنهم لم يريدوا أن يعتذروا اعتذاراً مستأنفاً ، ولكنهم قيل لهم : لِمَ تَعِظُون؟ فقالوا : موعظتنا معذرة » . والمَعْذِرة : اسمُ مصدر وهو العُذْر . قال الأزهري : « إنها بمعنى الاعتذار » والعُذْر : التنصُّل من الذنب .

فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165)

قوله تعالى : { فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ } : الضمير في « نَسُوا » للمنهيين . و « ما » موصولةٌ بمعنى الذي ، أي : فلمَّا نَسُوا الوعظَ الذي ذكَّرهم به الصالحون . قال ابن عطية : « ويحتمل أن يُرادَ به الذِّكْرُ نفسُه ، ويُحتمل أن يرادَ به ما كان فيه الذكر » قال الشيخ : « ولا يَظْهر لي هذان الاحتمالان » قلت : يعني ابن عطية بقوله « الذكر نفسه » ، أي : نفسُ الموصول مرادٌ به المصدر كأنه قال : فلما نَسُوا الذكر الذي ذُكِّروا به ، وبقوله « ما كان فيه الذكر » نفسُ الشيء المُذَكَّر به الذي هو متعلَّق الذكر ، لأن ابن عطية لمَّا جَعَل « ما » بمعنى الذي قال : « إنها تحتملُ الوقوعَ على هذين الشيئين المتغايرين » .
قوله : { بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } قرأ نافع وأبو جعفر وشيبة : « بِيْسٍ » بياء ساكنة . وابن عامر بهمزة ساكنة ، وفيهما أربعة أوجه ، أحدها : أن هذا في الأصل فعلٌ ماضٍ سُمِّي به فأُعْرِب كقوله عليه السلام : « أنهاكم عن قيلٍ وقال » بالإِعراب والحكاية ، وكذا قولهم : « مُذْ شَبَّ إلى دَبَّ » و « مُذْ شَبٍّ إلى دَبٍّ » فلمَّا نُقِل إلى الاسمية صار وَصْفاً ك نِضْو ونِقْض . والثاني : أنه وصف وُضِع على فِعْل كحِلْف . الثالث : أن أصلَه بَئيس كالقراءة المشهورة ، فخفَّف الهمزة ، فالتقت ياءان ثم كَسَر الباء إتباعاً كرِغيف وشِهيد ، فاستثقل توالي ياءين بعد كسرة ، فحذفت الياء المكسورة فصار اللفظ بِئْسٍ ، وهو تخريج الكسائي . الرابع : أن أصله « بَئِس » بزنة كَتِف ثم أُتْبعت الباءُ للهمزة في الكسر ، ثم سُكِّنت الهمزة ثم أُبدلت ياء . وأمَّا قراءةُ ابنِ عامر فتحتمل أن تكون فعلاً منقولاً ، وأن تكون وصفاً كحِلْف .
وقرأ أبو بكر عن عاصم « بَيْئَسٍ » بياء ساكنة بين باء وهمزة مفتوحتين وهو صفةٌ على فَيْعَل كضيغَم وصَيْرَف وهي كثيرة في الأوصاف/ . وقال امرؤ القيس بن عابس الكندي :
2320 كلاهما كان رئيساً بَيْئَساً ... يَضْرِبُ في يومِ الهياجِ القَوْنَسا
وقرأ باقي السبعة بَئِيْسٍ بزنة رئيس . وفيه وجهان ، أحدهما : أنه وصفٌ على فَعِيل كشديد وهو للمبالغة وأصله فاعل . والثاني : أنه مصدرٌ وُصف به أي : بعذابٍ ذي بأس بئيس ، مصدر مثل النذير والنكير والعذير ، ومثل ذلك في احتمال الوجهين قول أبي الإِصبع العدواني :
2321 حَنَقَاً عَلَيَّ ولا أَرَى ... ليَ منهما شَرَّاً بئيساً
وهي أيضاً قراءةُ علي وأبي رجاء .
وقرأ يعقوبٌ القارئ : بَئِسَ بوزن شَهِدَ ، وقرأها أيضاً عيسى بن عمر وزيد بن علي . وقرأ نصر بن عاصم : بَأَس بوزن ضَرَب فعلاً ماضياً .
وقرأ الأعمش ومالك بن دينار : بَأْس فعلاً ماضياً ، وأصله بئِس بكسرِ الهمزة فسَكَّنها تخفيفاً كشَهْد في قوله :

2322 لو شَهْدَ عادَ في زمانِ تُبَّعِ ... وقرأ ابن كثير وأهل مكة : بِئِسٍ بكسر الباء والهمز همزاً خفيفاً ، ولم يُبَيَّن : هل الهمزةُ مكسورةٌ أو ساكنة؟
وقرأ طلحة وخارجة عن نافع بَيْسٍ بفتح الباء وسكون الياء مثل كَيْل وأصله بَيْئَس مثل : ضَيْغَم فخفَّف الهمزةَ بقلبها ياءً وإدغامِ الياء فيها ، ثم خَفَّفه بالحذف كمَيْت في مَيّت .
وقرأ عيسى بن عمر والأعمش وعاصم في رواية : بَيْئِسٍ كقراءة أبي بكر عنه إلا أنه كسر الهمزة . وهذه قد رَدَّها الناسُ لأن فَيْعِلاً بكسر العين في المعتلِّ ، كما أن فَيْعَلاً بفتحها في الصحيح كسيِّد وضَيْغَم . على أنه قد شذَّ : صَيْقِل بالكسر ، وعَيَّل بالفتح .
وقرأ نصر في رواية مالك بن دينار عنه « بَأَسٍ » بفتح الباء والهمزة وجَرِّ السين بزنة جَبَل .
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وطلحة بن مصرف « بِئَسٍ » مثل كَبِد وحَذِر قال عبيد الله بن قيس :
2323 ليتني أَلْقَى رُقَيَّةَ في ... خَلْوةٍ من غير ما بَئِسِ
وقرأ نصر بن عاصم في رواية « بَيِّسٍ » بتشديد الياء كميّت ، وفيها تخريجان ، أحدهما : أنها من البؤس ولا أصلَ لها في الهمز ، والأصل : بَيْوِس كمَيْوِت ففُعِل به ما فُعِل به . والثاني : أن أصلَه الهمزةُ فأبدلها ياءً ثم أدغم الباء في الياء .
وقرأ أيضاً في روايةٍ « بَأَّس » بهمزةٍ مشددة ، قالوا : قَلَبَ الياءَ همزةً وأدغمها في مثلها ماضياً كشَمَّر .
وطائفة أخرى : بَأَسَ « كالتي قبلها إلا أن الهمزةَ خفيفةٌ .
وطائفة : » باسٍ « بألف صريحة بين الباء والسين المجرورة .
وقرأ أهلُ المدينة : » بِئيس « كرئيس ، إلا أنهم كسروا الباءَ ، وهذه لغةُ تميم في فعيل الحلقيِّ العين نحو : بِعير وشعير وشهيد سواء أكان اسماً أم صفة .
وقرأ الحسن والأعمش : » بِئْيَسٍ « بياءٍ مكسورة ثم همزةٍ ساكنة ثم ياءٍ مفتوحةٍ بزنة حِذْيَم وعِثْيَر .
وقرأ الحسن : بِئْسَ بكسرِ الباء وسكون الهمزة وفتح السين ، جَعَلَها التي للذَّمِّ في نحو : بئس الرجل زيد ، ورُوِيت عن أبي بكر .
وقرأ الحسن أيضاً كذلك إلا أنه بياءٍ صريحة ، وتخريجُها كالتي قبلها وهي مرويَّةٌ عن نافع . وقد ردَّ أبو حاتم هذه القراءةَ والتي قبلها بأنه لا يُقال : » مررت برجلٍ بئس « حتى يقال : بئس الرجل ، أو بئس رجلاً . قال النحاس : » وهذا مردودٌ يعني قولَ أبي حاتم حكى النحويون : « إن فعلتَ كذا وكذا فبها ونعمَتْ » ، أي : ونِعمَتِ الخَصْلة ، والتقدير : بئس العذاب « . قلت : أبو حاتم معذورٌ في [ ردّ ] القراءة فإن الفاعلَ ظاهراً غيرُ مذكور والفاعلُ عمدةٌ لا يجوز حذفه ، ولكن قد ورد في الحديث : » من توضَّأ فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل « ففاعل » نعمت « هنا مضمرٌ يفسَِّره/ سياقُ الكلام . قال الشيخ : » فهذه اثنتان وعشرون قراءةً ، وضبطُها بالتلخيص أنها قُرِئَتْ ثلاثيةَ اللفظِ ورباعيَّتَه : فالثلاثي اسماً : بِيْسٍ ، بِئْسٍ ، بَيْسٍ ، بَاْسٍ ، بَأَسٍ ، بِئِسٍ ، بَئِسٍ .

وفعلاً : بِئْسَ ، بِيْسَ ، بَئِسَ ، بَأَسَ ، بَأْسَ ، بَيَسَ . والرباعية اسماً : بَيْئَسٍ ، بِيْئِسٍ ، بَيْئِسٍ ، بَيِّسٍ ، بَئِيْسٍ . بِئَيْسٍ ، بِئْيَسٍ . وفعلاً : بَأَّسَ .
قلت : وقد زاد أبو البقاء أربع قراءات أخر : بَيِسٍ بباء مفتوحة وياءٍ مكسورةٍ . قال : « وأصلُها همزة مكسورة فأبدلَتْ ياء ، وبَيَس بفتحهما ، قال » وأصلها ياءٌ ساكنةٌ وهمزةٌ مفتوحة ، إلا أن حركةَ الهمزةِ أُلْقِيَتْ على الياء وحُذِفَتْ ، ولم تُقْلَبِ الياءُ ألفاً لأن حركتَها عارضةٌ « . وبَأْيَسٍ بفتح الباءِ وسكونِ الهمزة وفتح الياء ، قال : » وهو بعيد إذ ليس في الكلام فَعْيَل « . وقرئ بَيْآس على فَيْعال وهو غريب . فهذه ستٌّ وعشرون قراءة في هذه اللفظة ، وقد حرَّرْتُ ألفاظها وتوجيهاتها بحمد الله تعالى .

وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)

قوله تعالى : { وَإِذْ تَأَذَّنَ } : تَأَذَّن : فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه بمعنى آذَنَ أي : أَعْلَمَ . قال الواحديُّ : « وأكثرُ أهل اللغة على أنَّ التأذُّن بمعنى الإِيذان وهو الإِعلامُ . قال الفارسي : » آذن « أَعْلَمَ ، وأذَّن : نادى وصاح للإِعلام ومنه قوله تعالى : { فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ } [ الأعراف : 44 ] . قال : » وبعض العرب يُجْري آذَنْتُ مجرى تأذَّنْتُ ، فيجعل آذن وتأذَّن بمعنى ، فإذا كان أذَّن أعلم في لغة بعضهم فأذَّن : تفعَّل مِنْ هذا . وقيل : إن معناه حَتَّم وأوجب « . وقال الزمخشري : » تأذَّن : عَزَم ربك ، وهو تَفَعَّل من الإِيذان وهو الإِعلامُ ، لأن العازمَ على الأمر يحدِّث به نفسَه ويُؤْذِنُها بفعله ، وأُجْري مُجْرى فعل القسم ك عَلِمَ الله وشهد الله ، ولذلك اُجيب بما يُجاب به القسم وهو : « ليبعثَنَّ » . وقال الطبري وغيرُه : « تَأَذَّن معناه أَعْلَمَ » وهو قلقٌ مِنْ جهة التصريف إذ نسبةُ « تأذَّن » إلى الفاعلِ غيرُ نسبة أعلم ، وبين ذلك فرقٌ بين التعدي وغيره .
قوله : { إلى يَوْمِ القيامة } فيه وجهان أحدُهما : أنه متعلقٌ ب « يَبْعَثَنَّ » وهذا هو الصحيحُ . والثاني : أنه متعلقٌ ب « تأذَّن » نقله أبو البقاء . ولا جائزٌ أن يتعلق بيُسومهم لأن مَنْ : إمَّا : موصولةٌ وإمَّا موصوفةٌ ، والصلةُ والصفة لا يعملان فيما قبل الموصول والموصوف .

وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)

قوله تعالى : { أُمَماً } : إمَّا حالٌ من مفعول « قطَّعناهم » ، وإمَّا مفعولٌ ثانٍ على ما تقدَّم من أنَّ قَطَّعَ تضمَّن معنى صَيَّر . و « منهم » الصالحون « صفةٌ لأمم . وقال أبو البقاء : » أو بدل منه ، أي : من أمم « يعني أنه حالٌ من مفعول » قَطَّعناهم « أي : فَرَّقناهم حال كونهم منهم الصالحون .
قوله : { وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك } . » منهم « خبرٌ مقدم ، و » دونَ ذلك « نعتٌ لمنعوتٍ محذوف هو المبتدأ ، والتقدير : ومنهم ناسٌ أو قومٌ دون ذلك . قال الزمخشري : » معناه : ومنهم ناسٌ منحطُّون عَنِ الصلاح ، ونحوه : { وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [ الصافات : 64 ] بمعنى : ما منا أحدٌ إلا له مقامٌ معلومٌ « يعني في كونه حُذِف الموصوفُ وأقيم الجملةُ الوصفية مُقامَه ، كما قام مَقامَه الظرفُ الوصفي . والتفصيل ب » مِنْ « يجوز فيه حَذْفُ الموصوف وإقامةُ الصفة مُقامه كقولهم : » منا ظَعَن ومنَّا أقام « . وقال ابن عطية : » فإن أريدَ بالصَّلاح الإِيمانُ ف « دون » بمعنى « غير » يُراد به الكفرة « . قال الشيخ : » إن أراد أنَّ « دون » ترادِفُ غيراً فليس بصحيحٍ ، وإن أرادَ أنه يلزم أنَّ مَنْ كان دون شيء أن يكون غيراً له فصحيح « .
و » ذلك « إمَّا أن يُشارَ به إلى الصَّلاح ، وإما أَنْ يُشار به إلى الجماعة ، فإن أُشير به إلى الصلاح فلا بد من حذف مضاف ليصِحَّ المعنى تقديرُه : ومنهم دونَ أهلِ ذلك الصلاح ليعتدل التقسيم ، وإن أُشير به إلى الجماعة أي : ومنهم دونَ أولئك الصالحين فلا حاجة إلى تقدير/ مضاف لاعتدال التقسيم بدونه . وقال أبو البقاء : » ودون ذلك ظرفٌ أو خبر على ما ذكرنا في قوله { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 94 ] . وفيه نظرٌ من حيث إن « دون » ليس بخبر .

فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169)

قوله تعالى : { وَرِثُواْ } : في محلِّ رفع نعتاً ل « خَلْفٌ » و « يأخذون » حال من فاعل « ورثوا » . والخَلْف والخَلَف بفتح اللام وإسكانها هل هما بمعنىً واحد ، أي : يُطلق كل منهما على القَرْن الذي يَخْلُف غيره صالحاً كان أو طالحاً ، أو أن الساكن اللام في الطالح والمفتوحها في الصالح؟ خلافٌ مشهور بين اللغويين . قال الفراء : « يُقال للقَرْن : خَلْف يعني ساكناً ولمن استخلفته : خلَفاً يعني متحرك اللام » . وقال الزجاج : يُقال للقَرْن يجيء بعد القرن خَلْف « . وقال ثعلب : » الناس كلهم يقولون : « خَلَف صدق » للصالح و « خَلْف سوء » للطالح ، وأنشد :
2324 ذهب الذين يُعاشُ في أكنافِهم ... وبَقِيتُ في خَلْف كجِلْدِ الأجرب
وقالوا في المثل : « سكت أَلْفاً ونطق خَلْفاً » ، ويُعزى هذا أيضاً إلى الفراء وأنشدوا :
2325 خَلَّفْتَ خَلْفاً ولم تَدَعْ خَلفَا ... ليت بهم كان لا بك التَّلَفَا
وقال بعضهم : « قد يجيء في الرديء خَلَف بالفتح ، وفي الجيد خَلْف بالسكون ، فمِنْ مجيء الأول قوله :
2326 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... إلى ذلك الخَلَفِ الأعور
ومِنْ مجيء الثاني قول حسان :
2327 لنا القَدَمُ الأُوْلى عليهم وخَلْفُنا ... لأولِنا في طاعة الله تابعُ
وقد جمع بينهما الشاعر في قوله :
2328 إنَّا وَجَدْنا خَلْفَنا بِئْسَ الخَلَفْ ... عبداً إذا ما ناء بالحِمْل وَقَفْ
فاستعمل الساكنَ والمتحركَ في الرديء ، ولهذا قال النضر : » يجوز التحريكُ والسكونُ في الرديء ، فأمَّا الجيدُ فبالتحريك فقط « ، ووافقه جماعةُ أهل اللغة إلا الفراءَ وأبا عبيد فإنهما أجازا السكون في الخلف المراد به الصالح .
والخَلْف بالسكون - فيه وجهان ، أحدهما : أنه مصدر ، ولذلك لا يثنَّى ولا يُجْمَعُ ولا يُؤَنَّث وعليه ما تقدَّم من قوله :
إنَّا وَجَدْنا خَلْفَنَا بئس الخَلَفْ ... وإمَّا اسم جمع خالِف كرَكْب لراكب وتَجْر لتاجر ، قاله ابن الأنباري . وردُّوه عليه بأنه لو كان اسم جمع لم يَجْرِ على المفرد وقد جرى عليه . واشتقاقُه : إمَّا من الخلافة ، أي : كلُّ خَلَفٍ يَخْلُفُ مَنْ قبله ، وإمَّا مِنْ خَلَفَ النبيذ يخلُف ، أي : فسد ، يقال : خَلَفَ النبيذُ يَخْلُف خَلْفاً إذا فسد ، خَلْفاً وخُلُوفاً ، وكذا الفم إذا تغيَّرت رائحتُه . ومن ذلك الحديث : » لَخَلُوف فم الصائم « . وقرأ الحسن البصري : » وُرِّثوا « بضم الواو وتشديد الراء مبنياً لِما لم يُسَمَّ فاعلُه . ويجوز أن يكون » يأخذون « مستأنفاً ، أخبر عنهم بذلك . وتقدَّم الكلامُ على لفظ » الأدنى « واشتقاقه .
قوله : { وَيَقُولُونَ } نسق على » يأخذون « بوجهيه و » سيُغْفَر « معموله . وفي القائم مَقام فاعلِه وجهان ، أحدهما : الجارُّ بعده وهو » لنا « .

والثاني : أنه ضمير الأخذ المدلول عليه بقوله : « يأخذون » ، أي : سيفغر لنا أَخْذُ العَرض الأدنى .
قوله : { وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ } هذه الجملةُ الشرطية فيها وجهان ، أحدهما : وهو الظاهر أنها مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإِعراب ، والثاني : أن الواوَ للحال ، وما بعدها منصوبٌ عليها . قال الزمخشري : « الواو للحال ، أي : يرجون المغفرة وهم مُصِرُّون عائدون إلى فعلهم غير تائبين ، وغفرانُ الذنوبِ لا يَصِحُّ إلا بالتوبة ، والمُصِرُّ لا غفران له » انتهى . وإنما جَعَل الواو للحال لهذا الغرض الذي ذكره من أن الغفران شرطُه التوبة ، وهو رأي المعتزلة ، وأمَّا أهل السنة فيجوز مع عدم التوبة لأنَّ الفاعلَ مختار .
قوله : { عَرَضَ } العرض بفتح الراء ما لا ثبات له ، ومنه استعار المتكلمون العَرَض المقابل للجوهر . وقال أبو عبيدة : « العَرَض بالفتح جميعُ مَتَاع الدنيا غيرَ النَّقْدَيْن » . والعَرْض بالسكون هو الدراهم والدنانير التي هي قيم المُتْلَفات ورؤوسُ الأموال . وعلى الأول قيل : الدنيا عرضٌ حاضر يأكل منها البَرُّ والفاجر .
قوله : { أَن لاَّ يِقُولُواْ } فيه [ أوجه ] / أحدها : أنَّ محله رفع على البدل من « ميثاق » لأن قول الحق هو ميثاق الكتاب . والثاني : أنه عطفُ بيان له ، وهو قريب من الأول . و الثالث : أنه منصوبٌ على المفعول من أجله . قال الزمخشري : « وإن فُسِّر ميثاق الكتاب بما تقدَّم ذكرُه كان » أن لا يقولوا « مفعولاً من أجله ، ومعناه : لئلا يقولوا » وكان قد فَسَّر ميثاق الكتاب بقوله في التوراة : مَنْ ارتكب ذنباً عظيماً فإنه لا يُغفر له إلا بالتوبة . و « أنْ » مفسرةٌ لميثاق الكتاب لأنه بمعنى القول . و « لا » ناهية وما بعدها مجزوم بها ، وعلى الأقوال [ الأُول ] « لا » نافية والفعل منصوبٌ ب « أنْ » المصدرية . و « الحق » يجوز أن يكون مفعولاً به وأن يكونَ مصدراً ، وأُضيف الميثاقُ للكتاب لأنه مذكورٌ فيه .
قوله : « دَرَسُواْ » فيه ثلاثة أوجه ، أظهرها ما قال الزمخشري وهو كونُه معطوفاً على قوله « ألم يُؤْخَذْ » لأنه تقرير ، فكأنه قيل : أُخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا ، وهو نظيرُ قوله تعالى { أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ } [ الشعراء : 18 ] معناه : قد ربَّيْناك ولَبِثْتَ . والثاني : أنه معطوف على « وَرِثوا » . قال أبو البقاء : « ويكون قولُه » ألم يُؤْخَذْ « معترضاً بينهما ، وهذا الوجهُ سبقه إليه الطبري وغيره .
الثالث : أنه على إضمار قد ، والتقدير : وقد درسوا . قلت : وهو على هذا منصوب على الحال نسقاً على الجملة الشرطية أي : يقولون : سيُغْفر لنا في هذه الحال ، ويجوز أن يكونَ حالاً من فاعل » يأخذوه « ، أي : يأخذون العرضَ في حال دَرْسِهم ما في الكتاب المانع من أخذ الرِّشا .

وعلى كلا التقديرين فالاستفهامُ اعتراض .
وقرأ الجحدري : « أن لا تقولوا » بتاء الخطاب وهو التفات حسن . وقرأ عليٌّ رضي الله عنه وأبو عبد الرحمن السلمي « وادَّارسوا » بتشديد الدال والأصل : تدارسوا ، وتصريفُه كتصريف { فادارأتم فِيهَا } [ البقرة : 72 ] وقد تقدَّم تحريرُه .
قوله : { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } تقدَّم الكلام على هذه الهمزة والفاء غيرَ مرة . وقرأ ابن عامر ونافع وحفص « تعملون » بالخطاب والباقون بالغيبة ، فالخطاب يحتمل وجهين ، أحدهما : أنه التفات من الغيبة إلى الخطاب ، والمراد بالضمائر حينئذ شيءٌ واحد . والثاني : أن الخطابَ لهذه الأمة ، أي : أفلا تعقلون أنتم حال هؤلاء وما هم عليه وتتعجَّبون من حالهم . وأمَّا الغيبةُ فجرى على ما تقدَّم من الضمائر . ونقل الشيخ أن قراءة الغيبة لأبي عمرو وأهلِ مكة ، وقراءةَ الخطاب للباقين .

وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)

قوله تعالى : { والذين يُمَسِّكُونَ } : فيه وجهان ، أظهرهما : أنه مبتدأ ، وفي خبره حينئذ [ أوجه ] ، أحدُهما : الجملة من قوله : « إنَّا لا نُضيع أَجْرَ المُصْلحين » وفي الرابط حينئذ أقوال ، أحدها : أنه ضميرٌ محذوفٌ لفَهْم المعنى . والتقدير : المُصْلحين منهم ، وهذا على قواعد جمهور البصريين وقواعد الكوفيين تقتضي أن أل قائمةٌ مَقام الضمير تقديره : أَجْر مصلحيهم كقوله : { فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى } [ النازعات : 41 ] ، أي : مَأْواه ، وقوله : { مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأبواب } [ ص : 50 ] ، أي أبوابها ، وقوله : { في أَدْنَى الأرض } [ الروم : 3 ] ، أي أرضهم ، إلى غير ذلك . والثاني : أن الرابطَ تكرُّرُ المبتدأ بمعناه نحو : زيد قام أبو عبد الله وهو رأيُ الأخفش ، وهذا كما يُجيزه في الموصول نحو : أبو سعيدٍ الذي رويتُ عن الخدريّ ، والحجَّاج الذي رأيت ابنُ يوسف ، وقد قدَّمْت من ذلك شواهد كثيرة . الثالث : أن الرابطَ هو العمومُ في « المُصْلحين » قاله أبو البقاء ، قال : « وإن شِئْتَ قلت : لمَّا كان المصلحون جنياً والمبتدأ واحد منه استغنيت عن ضمير » . قلت : العمومُ رابطٌ من الروابط الخمسة وعليه قولُه :
2329 ألا ليت شعري هَلْ إلى أمِّ سالمٍ ... سبيلٌ فأمَّا الصبر عنها فلا صبرا
ومنه « نِعْم الرجل زيد » على أحدِ الأوجه .
والوجه الثاني من وجهَيْ الخبر أنه محذوف تقديره : والذين يمسكون مأجورون أو مُثابون ونحوه ، وقوله : « إنَّا لا نضيع » جملةٌ اعتراضية ، قاله الحوفي ، ولا ضرورة إلى ادِّعاء مثلِه .
الثاني من وجهي « والذين يُمْسكون » : أنه في محل جر نسقاً على « للذين يتقون » ، أي : ولَدار الآخرة خيرٌ للمتقين وللمتمسكين ، قاله الزمخشري ، إلا أنه قال : « ويكون قوله » إنَّا لا نُضيع اعتراضاً « . وفيه نظرٌ لأنه لم يقعْ بين شيئين متلازمَيْن ولا بين/ شيئين بينهما تعلُّقٌ معنويٌّ فكان ينبغي أن يقولَ : ويكون على هذا مستأنفاً .
وقرأ العامَّة : » يُمَسِّكون « بالتشديد مِنْ مَسَّك بمعنى تمسَّك ، حكاه أهلُ التصريف ، أي : إنَّ فَعَّل بمعنى تَفَعَّل ، وعلى هذا فالباء للآلة كهي في : تمسَّكْتُ بالحبل . وقرأ أبو بكر عن عاصم ورُوِيت عن أبي عمرو وأبي العالية : » يُمْسِكون « بسكون الميم وتخفيف السين مِنْ أَمْسَك ، وهما لغتان يقال : مَسَكْت وأَمْسكت ، وقد جمع كعب بن زهير بينهما في قوله :
2330 ولا تُمَسِّكُ بالعَهْدِ الذي زَعَمَتْ ... إلا كما يُمْسِكُ الماءَ الغرابيلُ
ولكن أمسك متعدّ . قال تعالى : { وَيُمْسِكُ السمآء } فعلى هذا مفعولُه محذوفٌ تقديرُه : » يُمْسِكون دينَهم وأعمالهم بالكتاب « ، فالباءُ يجوز أن تكونَ للحال وأن تكونَ للآلة ، أي : مصاحبين للكتاب ، أي لأوامره ونواهيه . وقرأ الأعمش وهي قراءة عبد الله » استمسكوا « . وأُبَيّ » تَمَسَّكوا « ماضيَيْن .

وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)

قوله تعالى : { فَوْقَهُمْ } : فيه وجهان : أحدهما : هو متعلِّقٌ بمحذوف على أنه حال من الجبل ، وهي حالٌ مقدرة لأن حالةَ النَّتْق لم تكن فوقَهم ، لكنه بالنَّتْق صار فوقهم . والثاني : أنه ظرفٌ لنَتَقْنا . قاله الحوفي وأبو البقاء . قال الشيخ : « ولا يمكن ذلك إلا أن يُضَمَّن معنى فِعْلٍ يمكن أن يعمل في » فوقهم « ، أي : رفعنا بالنَّتْقِ الجبلَ فوقهم فيكون كقوله : { وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطور } [ النساء : 154 ] .
والنَّتْق : اختلفَتْ فيه عبارات أهل اللغة . فقال أبو عبيدة : » هو قَلْعُ الشيءِ من موضعه والرَّمْيُ به ، ومنه « نَتَق ما في الجِراب » إذا نقضه ورمى ما فيه . وامرأة ناتق ومِنْتاق : إذا كانت كثيرةَ الولادة . وفي الحديث : « عليكم بزواج الأبكار فإنهن أَنْتَقُ أَرْحاماً وأطيبُ أفواهاً وأرضى باليسير » وقيل : النتق : الجَذْب بشدة . ومنه « نَتَقْتُ السِّقاء » إذا جَذَبْتَه لتقتلعَ الزُّبْدة من فمه « . وقال الفراء : » هو الرفع « وقال ابن قتيبة : » الزعزعة « وبه فسَّر مجاهد . وقال النابغة :
2331 لم يُحْرَموا حُسْنَ الغِذاءِ وأمُّهُمْ ... طَفَحَتْ عليك بناتقٍ مِذْكار
وكلُّ هذه مَعانٍ متقاربة . وقد عَرَفْت أن » فوقهم « يجوز أن يكون منصوباً ب » نَتَق « لأنه بمعنى رفع وقلع .
قوله : » كأنه ظُلَّة « في محلِّ نصبٍ على الحال من » الجبل « أيضاً فتتعدَّد الحال . وقال مكي : » هي خبرُ مبتدأ محذوف ، أي : هو كأنه ظُلَّة « وفيه بُعْدٌ .
قوله : { وظنوا } فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه في محل جَرٍّ نسقاً على » نَتَقْنا « المخفوض بالظرف تقديراً . والثاني : أنه حال ، و » قد « مقدرةٌ عند بعضهم ، وصاحب الحال : إمَّا الجبل ، أي : كأنه ظُلَّةٌ في حال كونه مظنوناً وقوعُه بهم . ويضعف أن يكون صاحبه » هم « في » فوقهم « . والثالث : أنه مستأنف فلا محل له . والظنُّ هنا على بابه ، ويجوز أن يكون بمعنى اليقين ، والباء على بابها أيضاً . قيل : ويجوز أن تكون بمعنى » على « .
قوله : { واذكروا } العامَّة على التخفيف أمراً مِنْ ذكر يَذْكُر . والأعمش : » واذَّكِروا « بتشديد الذال من الاذّكار والأصل : اذْتَكِرُوا والاذتكار ، وتقدم تصريفه . وقرأ ابن مسعود : تذكَّروا مِن تذكَّر بتشديد الكاف . وقرئ : وتَذَّكَّروا بتشديد الذال والكاف ، والأصلُ : وَلْتَتَذَكَّروا ، فأدغمت التاء في الذال وحُذِفَتْ لامُ الجر كقوله :
2332 محمدُ تَفْدِ نفسَك كلُّ نفسٍ ... . . . . . . . . . . .

وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)

قوله تعالى : { مِن ظُهُورِهِمْ } : بدلٌ من قوله « من بني آدم » بإعادة الجارِّ كقوله : { لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ } [ الزخرف : 33 ] { لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ آمَنَ } [ الأعراف : 75 ] . وهل هو بدلُ اشتمال أو بدل بعض من كل؟ قولان ، الأول لأبي البقاء ، والثاني للزمخشري ، وهو الظاهر كقولك : ضربت زيداً ظهرَه ، وقطعتُه يدَه ، لا يُعْرِب أحد هذا بدلَ اشتمال .
و { ذُرِّيَّتَهُمْ } مفعول به . وقرأ الكوفيون وابن كثير « ذريتهم » بالإِفراد ، والباقون « ذُرِّيَّاتهم » بالجمع . قال الشيخ : « ويحتمل في قراءة الجمع أن يكونَ مفعولُ » أخذ « محذوفاً لفهمِ المعنى ، و » ذريَّاتهم « بدلٌ من ضميرِ » ظهورهم « ، كما أنَّ » من ظهورهم « بدلٌ من » بني آدم « ، والمفعولُ المحذوفُ هو الميثاق كقوله { وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً } [ النساء : 154 ] قال : » وتقديرُ الكلام : وإذ أَخَذَ ربُّك من ظهور ذريات بني آدم ميثاق التوحيد ، واستعارَ أن يكون أخذ الميثاق من الظهر ، كأن الميثاق لصعوبته ، والارتباطَ به شيءٌ ثقيل يُحمل على الظهر « . وكذلك قرأ الكوفيون وابن كثير في سورة يس وفي/ الطور في الموضعين : » ذريتهم « بالإِفراد ، وافقهم أبو عمرو على ما في يس ، ونافع وافقهم في أول الطور وهي » ذريتهم بإيمان « دونَ الثانية وهي » أَلْحَقْنا بهم ذريَّاتِهم « فالكوفيون وابن كثير جَرَوا على منوالٍ واحدٍ وهو الإِفراد ، وابن عامر على الجمع ، وأبو عمرو ونافع جمعوا بين الأمرين كما بَيَّنْتُ لك .
قال الشيخ في قراءة الإِفراد في هذه السورة : » ويتعيَّن أن يكونَ مفعولاً ب « أخذ » وهو على حَذْف مضاف ، أي : ميثاق ذريتهم « يعني أنه لم يَجُزْ فيه ما جازَ في » ذرياتهم « من أنه بدل والمفعول محذوف ، وذلك واضحٌ لأنَّ مَنْ قرأ » ذريتهم « بالإِفراد لم يَقْرأه إلا منصوباً ، ولو كان بدلاً مِنْ » هم « في » ظهورهم « لكان مجروراً بخلافِ » ذرياتهم « بالجمع ، فإن الكسرةَ تَصْلُح أن تكون عَلَماً للجر وللنصب في جمع المؤنث السالم .
قوله : { بلى } جوابٌ لقوله » أَلَسْتُ « قال ابن عباس : » لو قالوا : نعم لكفروا « يريد أن النفيَ إذا أُجيب ب نعم كانت تصديقاً له ، فكأنهم أقرُّوا بأنه ليس بربِّهم . هكذا ينقلونه عن ابن عباس رضي الله عنه ، وفيه نظرٌ إنْ صَحَّ عنه ، وذلك أن هذا النفيَ صار مقرَّراً ، فكيف يكفرون بتصديق التقرير؟ وإنما المانع من جهة اللغة : وهو أن النفيَ مطلقاً إذا قُصِد إيجابه أُجيب ب بلى ، وإن كان مقرَّراً بسبب دخول الاستفهام عليه ، وإنما كان ذلك تغليباً لجانب اللفظ ، ولا يجوز مراعاةُ جانب ِالمعنى إلا في شعر كقوله :

2333 أليس الليلُ يجمعُ أمَّ عمروٍ ... وإيانا فذاك بنا تَدانى
نعم وترى الهلالَ كما أراه ... ويعلوها النهار كما علاني
فأجاب قوله « أليس » ب نعم مراعاةً للمعنى لأنه إيجاب .
قوله : { شَهِدْنَآ } هذا من كلام الله تعالى . وقيل : من كلام الملائكة . وقيل : من كلام الله تعالى والملائكة . وقيل : من كلام الذرية . قال الواحدي : « وعلى هذا لا يَحْسُن الوقفُ على قوله » بلى « ولا يتعلَّقُ » أَنْ تقولوا « ب » شَهِدْنا « ولكن بقوله » وأَشْهَدَهُمْ « .
قوله : { أَن تَقُولُواْ } مفعولٌ مِنْ أجله ، والعامل فيه : إمَّا شهدْنا ، أي : شهِدْنا كراهةَ أن تقولوا ، هذا تأويل البصريين ، وأمَّا الكوفيون فقاعدتهم تقدير لا النافية ، تقديره : لئلا تَقولوا ، كقولِه { أَن تَمِيدَ بِكُمْ } [ النحل : 15 ] ، وقول الآخر :
2334 رَأَيْنا ما رأى البُصَراء فيها ... فآلَيْنا عليها أَنْ تُباعا
أي : أن لا تُباع ، وأمَّا » وأشهدهم « ، أي : أشهدهم لئلا تقولوا أو كراهةَ أَنْ تقولوا . وقد تقدَّم أن الواحديَّ قد قال : » إنَّ شَهِدْنا إذا كان من قولِ الذرية يتعيَّن أن يتعلَّقَ « أن تقولوا » ب « أَشْهَدَهم » كأنه رأى أن التركيب يصير : شَهِدْنا أن تقولوا سواءً قرئ بالغيبة أو الخطاب ، والشاهدون هم القائلون في المعنى ، فكان ينبغي أن يكون التركيب : شهدنا أن نقول نحن . وهذا غيرُ لازم لأن المعنى : شهد بعضهم على بعض ، فبعضُ الذرية قال : شهدنا أن يقول البعض الآخر كذلك . وذكر الجرجانيُّ لبعضهم وجهاً آخر وهو أن يكون قوله « وإذْ أخَذَ ربك » إلى قوله : « قالوا بلى » تمامَ قصة الميثاق ، ثم ابتدأ عز وجل خبراً آخر بِذِكْرِ ما يقوله المشركون يوم القيامة فقال تعالى : { شَهِدْنا } بمعنى نشهد كما قال الحطيئة :
2335 شَهِدَ الحطيئةُ حين يلقى ربَّه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أي : يشهد ، فيكون تأويله « يَشْهد أن تقولوا » .
وقرأ أبو عمرو « يقولوا » في الموضعين بالغَيْبة جرياً على الأسماء المتقدمة ، والباقون بالخطاب ، وهذا واضحٌ على قولنا إنَّ « شَهِدْنا » مُسْندٌ لضمير الله تعالى . وقيل : على قراءة الغيبة يتعلَّق « أَنْ يقولوا » بأشهدهم ، ويكون « قالوا شهدنا » معترضاً بين الفعلِ وعلَّته ، والخطابُ على الالتفات فيكون الضميران لشيء واحد . وهل هذا من باب الحقيقة وأن الله أخرج الذرية من ظهره بأَنْ مَسَح عليه فخرجوا كالذَّرِّ وأَنْطَقهم فشهدوا الكلُّ بأنه ربهم ، فالمؤمنون قالوه حقيقةً في الأَزَل والمشركون قالوه تقيَّةً ، وعلى هذا جماعةٌ كثيرة ، أو من باب التمثيل ، قاله جماعة منهم الزمخشري ، وجعله كقوله تعالى : { ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11 ] ، وقولِ الشاعر :
2336 إذ قالت الأَنْساع للبطن الحَقِي ... وقول الآخر :
2337 قالت له ريحُ الصَّبا قَرْقارِ ... إلى غير ذلك .

وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)

قوله تعالى : { وكذلك نُفَصِّلُ } : أي : ومثلَ ما بَيَّنَّا أَخْذَ الميثاق المتقدم وفصَّلناه نبيِّن ونفصِّل الآيات . وقرأت فرقة « يُفَصّل » بياء الغيبة وهو الله تعالى .

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175)

قوله تعالى : { فَأَتْبَعَهُ } : الجمهورُ على « أَتْبعه » رباعياً وفيه وجهان أحدهما : أنه متعدٍّ لواحدٍ بمعنى أَدْركه ولحقه وهو مبالغةٌ في حقه ، / حيث جُعِل إماماً للشيطان . ويحتمل أن يكون متعدِّياً لاثنين لأنه منقولٌ بالهمزة مِنْ تَبع ، والمفعولُ الثاني محذوفٌ تقديره : أتبعه الشيطان خطواتِهِ ، أي : جعله تابعاً لها . ومِنْ تعدِّيه لاثنين قولُه تعالى : { وأَتْبعناهم ذرياتهم بإيمان } [ الطور : 21 ] . وقرأ الحسن وطلحة بخلافٍ عنه « فاتَّبعه » بتشديد التاء . وهل تبعه واتَّبعه بمعنى أو بينهما فرق؟ قيل بكلٍ منهما/ وأبدى بعضهم الفرق بأنَّ تَبِعه مشى في أثره ، واتَّبعه إذا وازاه في المشي . وقيل : اتَّبعه بمعنى استتبعه .
والانسلاخ : التعرِّي من الشيء ، ومنه : انسلاخ جلد الحية . وليس في الآية قَلْبٌ؛ إذ لا ضرورة تدعو إليه وإن زعمه بعضهم ، وأن أصلَه : فانسلختْ منه .

وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)

قوله تعالى : { لَرَفَعْنَاهُ بِهَا } : الضميرُ المنصوبُ الظاهرُ عودُه على الذي أوتي الآيات ، والمجرورُ عائد على الآيات . وقيل : المنصوبُ يعودُ على الكفر المفهوم مِمَّا سبق ، والمجرور على الآيات أيضاً ، أي : لَرَفَعْنا الكفر بما ترى من الآيات . وقيل : الضمير المجرور يعود على المعصية والمنصوب على « الذي » . والمراد بالرَّفْع الأخذُ كما تقول : رُفِع الظالمُ ، أي قُلِعَ وأُهْلِكَ ، أي : لأهلكناه بسبب المعصية . وهذه أقوال بعيدة ، وإن كانت مرويةً عن مجاهد وغيره . ولا يظهر الاستدراك إلا على الوجه الأول . ومعنى أخلد ، أي : ترامى بنفسه . قال أهل العربية : « وأصله من الإِخلاد وهو الدوامُ واللزوم ، فالمعنى : لَزِم المَيْلَ إلى الأرض ، قال مالك بن نويرة :
2338 بأبناء حَيٍّ مِنْ قبائل مالك ... وعمرو بن يربوعٍ أقاموا فأخلدوا
قوله : { إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ } هذه الجملة الشرطية في محل نصب على الحال ، أي : لاهثاً في الحالتين . قال بعضهم : » وأما الجملة الشرطية فلا تكاد تقع بتمامها موضعَ الحال فلا يقال : « جاء زيد إنْ يَسْأَل يُعط » على الحال ، بل لو أريد ذلك لجُعِلت الجملة خبراً عن ضمير ما أريد جَعْلُ الحال منه فيقال : جاء زيد وهو إن يسأل يُعط ، فتكون الجملة الاسمية في الحال . نعم قد أوقعوا الجملة الشرطية موقعَ الحال ، ولكن بعد أن أخرجوها عن حقيقة الشرط ، وتلك الجملة لا تخلو : مِنْ أن يُعطف عليها ما يناقضها أو لم يُعطف ، فالأول يستمرُّ فيه تَرْكُ الواو نحو : أتيتك إن أتيتني وإن لم تأتني ، إذ لا يَخْفى أن النقيضين من الشرطين في مثل هذا الموضع لا يَبْقَيان على معنى الشرط ، بل يتحولان إلى معنى التسوية كالاستفهامين المتناقضين في قوله : { أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ } [ البقرة : 6 ] ، والثاني لا بد فيه من الواو نحو : أتيتك وإن لم تأتني ، لأنه لو تركْتَ الواوَ فقيل : أتيتُك إن لم تأتِني لالتبس . إذا عُرِف هذا فقوله { إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث } من قبيل النوع الأول لأنَّ الحَمْل عليه والترك نقيضان « .
والكلب : يجمع في القلة على أكْلُب ، وفي الكثرة على كِلاب ، وشذُّوا فجمعوا أكلباً على أكالب ، وكِلاباً على كِلابات ، وأمَّا كَلِيب فاسم جمع كفريق لا جمع قال طرفة :
2339 تَعَفَّق بالأَرْطَى لها وأرادَها ... رجالٌ فبذَّت نبلَهم وكليبُ
وتقدَّمت هذه المادة في المائدة . ويقال : لَهَثَ يَلْهَث بفتح العين في الماضي والمضارع لَهَثَاً ولُهْثاً بفتح اللام وضمها وهو خروجُ لسانه في حال راحته وإعيائه ، وأمَّا غيره من الحيوان فلا يَلْهَثُ إلا إذا أعيا أو عطش . والذي يَظْهر أن هذه الجملةَ الشرطيَة لا محلَّ لها من الإِعراب لأنها مفسِّرة للمثَل المذكور ، وهذا معنى واضح كما قالوا في قوله تعالى { خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } فإنَّ الجملةَ من قوله » خَلَقَه من تراب « مفسرةٌ لقولِه تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ } [ آل عمران : 59 ] .
قوله : { ذَّلِكَ مَثَلُ } يجوز أن يُشارَ ب » ذلك « إلى صفةِ الكلب ، ويجوز أن يُشارَ به إلى المنسلخِ من الآيات أو إلى الكلب . وأداةُ التشبيهِ محذوفةٌ من ذلك ، أي : صفة المنسلخ أو صفة الكلب مثل الذين كذَّبوا . ويجوز أن تكون المحذوفةُ من مثَل القوم ، أي : ذلك الوصف وهو وصف المنسلخ أو وصف الكلب كمثل القوم .

سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)

قوله تعالى : { سَآءَ مَثَلاً } : « ساء » بمعنى بئس ، وفاعلها مضمر فيها و « مثلاً » تمييزٌ مفسِّر له ، وقد تقدَّم غيرَ مرة أنَّ فاعل هذا الباب إذا كان ضميراً يُفَسَّر بما بعده ويُسْتَغْنى عن تثنيته وجمعه وتأنيثه بتثنية التمييز وجمعه وتأنيثه عند البصريين . وتقدَّم أن « ساءَ » أصلُها التعدِّي لمفعولٍ ، والمخصوصُ بالذم لا يكون إلا من جنسِ التمييز/ ، والتمييز مفسِّر للفاعلِ فهو هو ، فلزم أن يَصْدُقَ الفاعلُ والتمييز والمخصوصُ على شيءٍ واحد . إذا عُرِف هذا فقوله « القوم » غيرُ صادقٍ على التمييز والفاعل ، فلا جَرَمَ أنه لا بد من تقدير محذوف : إمَّا من التمييز ، وإمَّا من المخصوص ، فالأولُ يقدَّر : ساء أصحاب مَثَل ، أو أهل مثل القوم ، والثاني يُقَدَّر : ساء مَثَلاً مثلُ القوم ، ثم حُذِف المضاف في التقديرين وأقيم المضاف إليه مُقامه ، وهذه الجملةُ تأكيدٌ للتي قبلها .
وقرأ الحسن والأعمش وعيسى بن عمر : « ساء مثلُ القوم » برفع « مثل » مضافاً للقوم . والجحدري رُوِي عنه كذلك ، وروي عنه كسرُ الميم وسكونُ الثاء ورفعُ اللام وجَرُّ القوم . وهذه القراءةُ المنسوبةُ لهؤلاء الجماعة تحتمل وجهين ، أحدهما : أن تكون « ساء » للتعجب مبنية تقديراً على فَعُل بضم العين كقولهم : « لقَضُو الرجل » ، و « مثل القوم » فاعل بها ، والتقدير : ما أسوأ مثلَ القوم ، والموصولُ على هذا في محلِّ جرٍ نعتاً لقوم . والثاني : أنها بمعنى بئس ، ومَثَلُ القوم فاعل ، والموصولُ على هذا في محل رفعٍ لأنه المخصوصُ بالذمِّ ، وعلى هذا فلا بد مِنْ حَذْف مضاف ليتصادقَ الفاعلُ والمخصوصُ على شيءٍ واحد . والتقدير : ساءَ مثلُ القومِ مثل الذين . وقَدَّر الشيخ تمييزاً في هذه القراءة وفيه نظرٌ ، إذ لا يحتاج إلى تمييز إذا كان الفاعلُ ظاهراً حتى جَعَلوا الجمع بينهما ضرورةً كقوله :
2340 تَزوَّدْ مثلَ زادِ أبيك فينا ... فنعمَ الزَّادُ زادُ أبيك زادا
وفي المسألة ثلاثةُ مذاهب : الجوازُ مطلقاً ، والمنع مطلقاً ، والتفصيل : فإن كان مغايراً للفظِ ومفيداً فائدةً جديدة جاز نحو : نعم الرجل شجاعاً زيد ، وعليه قوله :
2341 تخيَّرَهُ فلم يَعْدِلْ سواه ... فنِعْمَ المرءُ مِنْ رجلٍ تَهامي
قوله : { وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ } مفعول ل « يظلمون » ، وفيه دليلٌ على تقديم خبر كان عليها؛ لأنَّ تقديم المعمول يُؤْذِنُ بتقديم العامل غالباً . وقلت « غالباً » لأن ثَمَّ مواضع يمتنع فيها ذلك نحو { فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ } [ الضحى : 9 ] فاليتيم مفعول ب « تقهر » ولا يجوز تقديم « تقهر » على جازِمِه ، وهو محتملٌ للبحث .
وهذه الجملة الكونيةُ تحتمل وجهين ، أحدهما : أن تكونَ نسقاً على الصلة وهي « كَذَّبوا بآياتنا » . والثاني : أن تكون مستأنفة ، وعلى كلا القولين فلا محلَّ لها ، وقُدِّمَ المفعولُ ليفيدَ الاختصاص ، وهذا على طريق الزمخشري وأنظاره .

مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)

قوله تعالى : { مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتدي } : راعَى لفظ مَنْ فأفرد ، وراعى معناها في قوله « أولئك هم الخاسرون » فجمع . وياء « المهتدي » ثابتةٌ عند جميع القراء لثبوتها في الرسم ، وسيأتي لك خلافٌ في التي في الإِسراء وبحثها . وقال الواحدي : « فهو المهتدي : يجوز إثباتُ الياءِ على الأصل ، ويجوزُ حَذْفُها استخفافاً كما قيل في بيت الكتاب :
2342 فَطِرْتُ بمُنْصُلي في يَعْمَلات ... دوامي الأَيْدِ يَخْبِطْنَ السَّريحا
ومنه :
2343 كنَواحِ ريشِ حَمامةٍ نَجْديةِ ... ومَسَحْتَ باللِّثتين عَصْفَ الإِثْمِدِ
قال ابن جني : » شَبَّه المضاف إليه بالتنوين فحذف له الياء « .

وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)

قوله تعالى : { لِجَهَنَّمَ } : يجوز في هذه اللام وجهان ، أحدهما : أنها لامُ الصيرورة والعاقبة ، وإنما احتاج هذا القائلُ إلى كونها لامَ العاقبة لقوله تعالى { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] فهذه علةٌ معتبرةٌ محصورة ، فكيف تكون هذه العلةُ أيضاً؟ وأوردوا من ذلك قول الشاعر :
2344 لِدُوا للموت وابْنُوا للخراب ... . . . . . . . . . . . . . .
وقول الآخر :
2345 ألا كلُّ مولودٍ فللموتِ يُوْلَدُ ... ولستُ أرى حَيّاً لحيٍّ يُخَلَّدُ
وقول الآخر :
2346 فللموتِ تَغْذُو الوالداتُ سِخالَها ... كما لخرابِ الدور تُبْنَى المساكنُ
والثاني : أنها للعلةِ وذلك أنهم لمَّا كان مآلُهم إليها جعل ذلك سبباً على طريق المجاز .
وقد ردَّ ابن عطية على مَنْ جعلها لامَ العاقبة فقال : « وليس هذا بصحيح ، ولامُ العاقبة إنما تُتَصَوَّر إذا كان فعل الفاعل لم يُقْصد مصيرُ الأمر إليه ، وأما هنا فالفعل قُصِد به ما يصير الأمر [ إليه ] مِنْ سُكْناهم لجهنم » ، واللام على هذا متعلقة ب « ذَرَأْنا » . ويجوز أن تتعلق بمحذوف على أنه حال من « كثيراً » لأنه في الأصل صفة لها لو تأخر . ولا حاجة إلى ادعاء قلب وأن الأصل : ذَرَأْنا جهنم لكثير لأنه ضرورةٌ أو قليلٌ .
و { مِّنَ الجن } صفة ل « كثيراً » . « لهم قلوب » جملة في محل نصب : إمَّا صفة لكثير أيضاً ، وإمَّا حالاً من « كثيراً » وإن كان نكرة لتخصُّصِه بالوصف ، أو من الضمير المستكن في « من الجن » لأنه يَحْمل/ ضميراً لوقوعِه صفةً . ويجوز أن يكون « لهم » على حِدَته هو الوصف أو الحال ، و « قلوب » فاعل به فيكون من باب الوصفِ بالمفرد وهو أولى . وقوله : { لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا } وكذلك الجملةُ المنفيَّةُ في محلِّ النعت لما قبلها ، وهذا الوصفُ يكاد يكونُ لازماً لو ورد في غير القرآن لأنه لا فائدةَ بدونه لو قلت : « لزيد قَلْبٌ وله عينٌ » وسَكَتَّ لم يظهر لذلك كبيرُ فائدةٍ .

وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)

قوله تعالى : { الحسنى } : فيها قولان ، أظهرهما : أنها تأنيث « أحسن » ، والجمع المكسَّرُ لغير العاقل يجوز أن يُوْصَفَ بما يوصف به المؤنث نحو : مآرب أخرى ، ولو طُوبق به لكان التركيب الحَسَن كقوله : { مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [ البقرة : 184 ] . والثاني : أن الحسنى مصدر على فُعْلَى كالرُّجْعَى والبُقْيَا قال :
2347 ولا يَجْزون مِنْ حُسْنى بسوءٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . .
و « الأسماء » هنا : الألفاظُ الدالَّةُ على الباري تعالى كالله والرحمن . وقال ابن عطية : « المرادُ بها التسمياتُ إجماعاً من المتأولين لا يمكن غيره ، وفيه نظرٌ لأنَّ التسمية مصدرٌ ، والمصدر لا يُدْعى به على كلا القولين في تفسير الدعاء ، وذلك أن معنى » فادعوه « نادوه بها ، كقولهم : يا الله يا رحمان يا ذا الجلال والإِكرام اغفرْ لنا . وقيل : سمُّوه بها كقولك : » سَمَّيْت ابني بزيد « .
قوله : { يُلْحِدُونَ } قرأ حمزة هنا وفي النحل وحم السجدة : يَلْحدون بفتح الياء والحاء مِنْ لحد ثلاثياً . والباقون بضم الياء وكسرِ الحاء مِنْ أَلْحد . فقيل : هما بمعنى واحد ، وهو المَيْل والانحراف . ومنه لَحْد القبر لأنه يُمال ، بحفره إلى جانبه ، بخلاف الضريح فإنه يُحْفر في وسطه ، ومن كلامهم » ما فعل الواجد؟ قالوا لَحَدَه اللاحد « . وإلى كونهما بمعنى واحد ذهب ابن السِّكِّيت وقال : » هما العدول عن الحق « . وأَلْحد أكثر استعمالاً مِنْ لَحَدَ قال :
2348 ليس الإِمام بالشحيح المُلْحِدِ ... وقال غيره : » لَحَدَ بمعنى رَكَنَ وانضوى ، وألحد : مال وانحرف « قاله الكسائي . ونُقل عنه أيضاً : أَلْحَدَ : أعرض ، ولحد : مال . قالوا : ولهذا وافق حمزة في النحل إذ معناه : يميلون إليه .
وروى أبو عبيدة عن الأصمعي : » ألحد : مارى وجادل ، ولحد : حاد ومال . ورُجِّحت قراءةُ العامة بالإِجماع على قوله « بإلحاد » . وقال الواحدي : « ولا يكاد يُسْمع من العرب لاحد » . قلت : فامتناعُهم من مجيء اسم فاعل الثلاثي يدل على قلَّته وقد قَدَّمْتُ من كلامهم « لحده اللاحِد » . ومعنى الإِلحاد فيها أن اشتقوا منها أسماءً لآلهتهم فيقولون : اللات من لفظ الله ، والعزَّى من لفظ العزيز ، ومناة مِنْ لفظ المَنَّان ، ويجوز أن يُراد سَمَّوه بما لا يليق بجلاله .

وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)

قوله تعالى : { وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ } : « مَنْ » يجوز أن تكون موصولة أو نكرة موصوفة ، و « يَهْدون » صفة ل « أمة » . وقال بعضهم : « في الكلام حَذْفٌ تقديره : ومِمَّن خلقنا للجنة ، يدل على ذلك ما ثبت لمُقابِلهِمْ ، وهو قوله : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ } [ العراف : 179 ] .

وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182)

قوله تعالى : { والذين كَذَّبُواْ } : يجوز فيه وجهان ، أظهرهما : أنه مبتدأ وخبره الجملة الاستقبالية بعده . والوجه الثاني : أنه منصوب على الاشتغال بفعلٍ مقدَّرٍ تقديرُه : سنستدرج الذين كذَّبوا والاستدراج : التقريبُ منزلةً منزلةً والأخذ قليلاً قليلاً ، من الدَّرَج لأن الصاعد يرقى درجةً درجة وكذلك النازل . وقيل : هو مأخوذ من الدَّرْج وهو الطيّ ومنه : « دَرَجَ الثوبَ » : طواه ، و « دَرَجَ الميتَ » مثله . والمعنى : تُطوى آجالهم .
وقرأ النخعي وابن وثاب : « سَيَسْتَدْرِجُهم » بالياء ، فيحتمل أن يكون الفاعلُ الباريَ تعالى ، وهو التفاتٌ من التكلم إلى الغيبة ، وأن يكون الفاعلُ ضميرَ التكذيب المفهوم مِنْ قوله « كذَّبوا » . وقال الأعشى في الاستدراج :
2349 فلو كنتَ في جُبٍّ ثمانين قامةً ... ورُقِّيْتَ أسبابَ السماءِ بسُلَّمِ
لَيَسْتَدْرِجَنْكَ القولُ حتى تَهِرَّهُ ... وتَعْلَمَ أنِّي عنكمُ غيرُ مُلْجَمِ
ويقال : « دَرَجَ الصبيُّ » : إذا قارب بين خطاه ، ودرج القوم : مات بعضهم إثرَ بعض .

وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)

قوله تعالى : { وَأُمْلِي } : جَوَّز أبو البقاء فيه أن يكون خبر مبتدأ مضمر ، أي : وأنا أُملي ، وأن يكون َمستأنفاً ، وأن يكونَ معطوفاً على « سنستدرج » . وفيه نظر إذ كان من الفصاحة لو كان كذا [ لكان ] « ونُمْلي » بنون العظمة . ويجوز أن يكون هذا قريباً من الالتفات . والإِملاء : الإِمهالُ والتطويل . والمتين : القوي . ومنه المَتْنُ وهو الوسط لأنه أقوى ما في الحيوان . وقد مَتُنَ يَمْتُنُ مَتانةً ، أي : قَوِيَ . وقرأ العامَّة : « إنَّ كيدي » بالكسر على الاستئناف المُشْعر بالغلبة . وقرأ ابن عامر في روايةِ عبد الحميد « أنَّ كيدي » بفتحِ الهمزة على العلة .

أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)

قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ } : يجوز في « ما » أوجه ، أحدُها : أن تكونَ استفهاميةً في محلِّ رفع بالابتداء ، والخبر « بصاحبهم » أي : أيُّ شيء استقر بصاحبهم من الجنون؟ فالجِنَّة مصدرٌ يُراد بها الهيئة كالرِّكبة والجِّلسة . وقيل : المراد بالجِنَّة الجنُّ كقوله : { مِنَ الجنة والناس } ولا بد حينئذ مِنْ حذف مضاف أي : مَسِّ جنة أو تخبيط جنة .
والثاني : أن « ما » نافية ، أي : ليس بصاحبهم جنون ولا مسُّ جِنّ . وفي هاتين الجملتين : أعني الاستفهاميةَ أو المنفية فيهما وجهان ، أظهرهما : أنها في محل نصب بعد إسقاطِ الخافض لأنهما عَلَّقا التفكُّر لأنه من أفعال القلوب . والثاني : أن الكلامَ تمَّ عند قوله : « أو لم يتفكروا » ثم ابتدأ كلاماً آخر : إمَّا استفهامَ إنكار وإمَّا نفياً . وقال الحوفي : « إنَّ » ما بصاحبهم « معلقةٌ لفعلٍ محذوف دلَّ عليه الكلامُ ، والتقدير : أو لم يتفكروا فيعلموا ما بصاحبهم » . قال : « وتفكَّر » لا يُعَلَّقُ لأنه لم يدخل على جملة « . وهذا ضعيفٌ ، لأنهم نَصُّواعلى أن فعلَ القلب المتعدِّي بحرفِ جر أو إلى واحد إذا عُلِّق هل يبقى على حاله أو يُضَمَّن ما يتعدَّى لاثنين؟
الثالث : أن تكون » ما « موصولة بمعنى الذي تقديره : أو لم يتفكروا في الذي بصاحبهم ، وعلى هذا يكون الكلام خرج على زعمهم . وعلى قولنا إنها نافية يكون » من جنة « مبتدأ و » مِنْ « مزيدةٌ فيه و » بصاحبهم « خبره أي : ما جِنَّةٌ بصاحبهم .

أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)

قوله تعالى : { وَأَنْ عسى } : « أنْ » فيها وجهان أحدهما : وهو الصحيح أنها المخففةُ من الثقيلة ، واسمُها ضمير الأمر والشأن . و « عسى » وما في حيِّزها في محل الرفع خبراً لها ، ولم يُفْصل هنا بين أنْ والخبر وإن كان فعلاً؛ لأن الفعل الجامد الذي لا يتصرَّف يشبه الأسماء ، ومثله { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى } [ النجم : 39 ] { والخامسة أَنَّ غَضَبَ الله عَلَيْهَآ } [ النور : 9 ] في قراءة نافع لأنه دعاء . وقد وقع خبرُ « أَنْ » جملةً طلبية في هاتين الآيتين الأخيرتين فإنَّ « عسى » للإِنشاء ، و « غضب الله » دعاء .
والثاني : أنها المصدرية ، قاله أبو البقاء يعني التي تنصب المضارع الثنائية الوضع ، وهذا ليس بجيد؛ لأن النحاةَ نَصُّوا على أنَّ « أَنْ » المصدرية لا تُوصل إلا بالفعل المتصرِف مطلقاً أي ماضٍ ومضارع وأمر و « عسى » لا يتصرف فكيف يقع صلة لها؟ و « أنْ » على كلا الوجهين في محل جرٍّ نَسَقاً على « ملكوت » ، أي : وألم ينظروا في أن الأمر والشأن عسى أن يكون . و « أن يكون » فاعل عسى ، وهي حينئذٍ تامَّةٌ لأنها متى رفعت أَنْ وما في حيزها كانت تامةً ، ومثلها في ذلك أوشك واخلولق . وفي اسم « يكون » قولان ، أحدُهما : هو ضمير الشأن ، ويكون « قد اقترب أجلهم » خبراً لها . والثاني : أنه « أجلُهم » و « قد اقترب » جملةٌ من فعلٍ وفاعلٍ هو ضمير « أجلهم » ولكن قَدَّم الخبر وهو جملة فعلية على اسمها ، وقد تقدَّم ذلك والخلاف فيه : وهو أن ابن مالك يجيزه ، وابن عصفور يمنعه ، عند قوله : { مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ } [ الأعراف : 137 ] .
قوله : { فَبِأَيِّ } متعلِّقٌ ب « يُؤْمنون » وهي جملةٌ استفهامية سِيقَتْ للتعجب ، أي : إذا لم يؤمنوا بهذا الحديث فكيف يُؤْمنون بغيره؟ والهاء في « بعده » تحتمل العَوْدَ على القرآن وأن تعودَ على الرسول ، ويكون الكلامُ على حَذْف مضافٍ ، أي : بعد خبره وقصته ، وأن تعود على « أجلهم » ، أي : إنهم إذا ماتوا وانقضى أجلُهم فكيف يؤمنون بعد انقضاء أجلهم؟ قال الزمخشري : « فإن قلت : بم تُعَلِّق قوله : » فبأي حديث بعده يؤمنون «؟ قلت : بقوله » عسى أن يكونَ قد اقترب أجلهم « . كأنه قيل : لعل أجلَهم قد اقترب فما لهم لا يبادرون [ إلى ] الإِيمان بالقرآن قبل الموت ، وماذا ينتظرون بعد وضوح الحق ، وبأي حديثٍ أحقَّ منه يريدون أن يؤمنوا »؟ يعني التعلُّق المعنويَّ المرتبطَ بما قبله لا الصناعي وهو واضح .
قوله : « ويَذَرهم » قرأ الأخَوان بالياء وجزم الفعل ، وعاصم وأبو عمرو بالياء أيضاً ورفع الفعل ، ونافع وابن كثير وابن عامر بالنون ورفع الفعل أيضاً .

وقد رُوي الجزمُ أيضاً عن نافع وأبي عمرو في الشواذ . فالرفعُ من وجهٍ واحدٍ وهو الاستئناف أي : وهو يَذَرُهم ، أو : ونحن نذرهم على حسب القراءتين . / وأمَّا السُّكون فيحتمل وجهين أحدهما : أنه جزم نسَقاً على محلِّ قوله « فلا هادي له » لأن الجملَة المنفيَّة جوابٌ للشرط فهي في محلِّ جزمٍ فَعَطَف على مَحَلِّها وهو كقوله تعالى : { وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقرآء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ } [ البقرة : 271 ] بجزم « يكفر » ، وكقول الشاعر :
2350 أنَّى سلكتَ فإنني لك كاشحٌ ... وعلى انتقاصِك في الحياة وأزْدَدِ
وأنشد الواحدي أيضاً قول الآخر :
2351 فَأَبْلوني بَلِيَّتَكمْ لعلِّي ... أُصالِحُكم وأسْتدرِجْ نَوَيَّا
قال : « حمل » أستدرج « على موضع الفاء المحذوفة من قوله » فلعلي أصالحكم « . والثاني : أنه سكونُ تخفيف كقراءة أبي عمرو : { يَنصُرْكُمُ } [ آل عمران : 160 ] و { يُشْعِرُكُمْ } [ الأنعام : 109 ] ونحوه . وأما الغيبة فَجَرْياً على اسم الله تعالى ، والتكلم على الالتفات من الغيبة إلى التكلم تعظيماً .

يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)

قوله تعالى : { أَيَّانَ مُرْسَاهَا } : فيه وجهان أحدهما : أن « أيان » خبر مقدم ، و « مُرْساها » مبتدأ مؤخر . والثاني : أن « أيان » منصوب على الظرف بفعل مضمر ، ذلك الفعل رافع ل « مرساها » بالفاعلية ، وهو مذهب أبي العباس . وهذه الجملةُ في محل نصب لأنها بدل من « الساعة » بدلُ اشتمال ، وحينئذ كان ينبغي ألاَّ تكون في محل جر لأنها بدل من مجرور . وقد صرَّح بذلك أبو البقاء فقال : « والجملةُ في موضع جر بدلاً من » الساعة « تقديره : يسألونك عن زمان حلول الساعة » ، إلا أنه مَنَع مِنْ كونها مجرورةَ المحل أن البدل في نيَّة تكرار العامل ، والعامل هو « يَسْألونك » والسؤال يعلق بالاستفهام وهو متعدٍّ ، يعني فتكون الجملة الاستفهاميةُ في محلِّ نصب بعد إسقاط الخافض كأنه قيل : يسألونك أيان مُرْسى الساعة ، فهو في الحقيقة بدلٌ من موضع « عن الساعة » لأن موضع المجرور نصب ، ونظيره في البدل على أحسن الوجوه فيه : عَرَفْتُ زيداً أبو مَنْ هو .
و « أيان » ظرف زمان مبني لتضمُّنه معنى الاستفهام ولا يتصرف ، ويليه المبتدأ والفعل المضارع دون الماضي ، بخلاف « متى » فإنها يليها النوعان . وأكثرُ ما تكون « أيَّان » استفهاماً كقول الشاعر :
2352 أيَّان تَقْضي حاجتي أيَّانا ... أما تَرى لفِعْلها إبَّانا
وقد تأتي شرطيةً جازمة لفعلين . قال الشاعر :
2353 أيَّان نُؤْمِنْكَ تُؤْمَنْ غيرَنا وإذا ... لم تُدْرِكِ الأمنَ منَّا لم تزلْ حَذِرا
وقال آخر :
2354 إذا النَّعْجَةُ العَجْفاءُ باتت بقَفْرةٍ ... فأيَّان ما تَعْدِلْ بها الريحُ تَنْزِلِ
والفصيحُ فتحُ همزتها وهي قراءةُ العامة . وقرأ السُّلمي بكسرها وهي لغة سُلَيْم . واختلف النحويون في « أيَّان » : هل هي بسيطةٌ أم مركبة؟ فذهب بعضُهم إلى أن أصلَها : أيّ أوانٍ فحُذِفَت الهمزةُ على غيرِ قياس ولم يُعَوَّضْ منها شيء ، وقُلبت الواوُ ياء على غير قياس ، فاجتمع ثلاثُ ياءات فاسْتُثْقِل ذلك فَحُذِفت إحداهن ، وبُنيت الكلمةُ على الفتح فصارت أيان . واختلفوا فيها أيضاً : هل هي مشتقةٌ أم لا؟ فذهب أبو الفتح إلى أنها مشتقة مِنْ أَوَيْتُ إليه ، لأن البعض آوٍ إلى الكل ، والمعنى : أيّ وقت وأي فعلٍ ، ووزنه فَعْلان أو فِعْلان بحسب اللغتين ، ومنع أن يكون وزنه فَعَّالاً مشتقةً مِنْ « أين » ، لأنَّ أين ظرف مكان وأيان ظرف زمان .
ومُرْساها يجوز أن يكون اسمَ مصدر وأن يكون اسم زمان ، قال الزمخشري : « مُرْساها » إرساؤُها أو وقت إرسائها ، أي : إثباتها وإقرارها « . قال الشيخ » وتقديره : وقت إرسائها ليس بجيدٍ ، لأن « أيَّان » استفهام عن الزمان فلا يَصِحُّ أن يكونَ خبراً عن الوقت إلا بمجاز لأنه يكون التقدير : في أي وقتٍ وقتُ إرسائها « وهو كلام حسن ، ويقال : رسا يرسو : ثَبَتَ ، ولا يقال إلا في الشيء الثقيل نحو : رَسَت السفينةُ تَرْسُو ، وأَرْسَيْتها .

قوله : { عِلْمُهَا } مصدرٌ مضاف للمفعول والظرف خبره . وقوله : « في السماوات » يجوز فيها وجهان ، أحدهما : أن تكون « في » بمعنى على ، أي : على أهل السماوات أو هي ثقيلة على نفس السماوات والأرض لانشقاق هذه وزلزال ذي . والثاني : أنها على بابها من الظرفية ، والمعنى : حَصَل ثِقَلُها وهو شِدَّتها أو المبالغة في إخفائها في هذين الظرفين .
قوله : { كَأَنَّكَ حَفِيٌّ } هذه الجملة التشبيهية في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ مفعولِ « يسألونك » . وفي « عنها » وجهان ، أحدهما : أنها متعلقةٌ بيسألونك وكأنك حَفِيٌّ معترض ، وصلتها محذوفة تقديره : حَفِيٌّ بها .
وقال أبو البقاء : « في الكلام تقديمٌ وتأخير ، ولا حاجةَ إلى ذلك لأن هذه كلَّها متعلقاتٌ للفعل فإنَّ قولَه : / » كأنك حفيٌّ « حال كما تقدم . والثاني أنَّ » عن « بمعنى الباء كما أن الباء بمعنى عن كقوله : { فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً } [ الفرقان : 59 ] { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السمآء بالغمام } [ الفرقان : 25 ] لأن حَفِي لا يتعدَّى ب » عن « بل بالباءِ كقوله : { كَانَ بِي حَفِيّاً } [ مريم : 47 ] ويُضَمَّن معنى شيء يتعدَّى ب » عن « ، أي : كأنك كاشف بحفاوتك عنها .
والحَفِيُّ : المستقصي عن الشيء ، المهتبل به ، المعتني بأمره قال :
2355 سؤال حفيٍّ عن أخيه كأنه ... بذُكْرَتِهِ وَسْنانُ أو مُتَواسِنُ
وقال آخر :
2356 فلمَّا التقينا بَيَّن السيفُ بيننا ... لسائلةٍ عنا حَفِيٍّ سؤالُها
وقال الأعشى :
2357 فإنْ تَسْأَلي عني فيا رُبُّ سائلٍ ... حَفِيٍّ عن الأعشى به حيث أَصْعَدا
والإِحْفاءُ : الاستقصاء ومنه » إحفاء الشوارب « والحافي ، لأنه حَفِيَتْ قدمُه في استقصاء السَّير . والحفاوة : البرُّ واللطف .
وقرأ عبد الله » حَفِيٌّ بها « وهي تَدُلُّ لمن ادَّعى أن » عَنْ « بمعنى الباء . وحَفِيٌّ فعيل بمعنى مفعول أي : محفوٌّ . وقيل : بمعنى فاعل أي : كأنك مبالِغٌ في السؤال عنها ومتطلع إلى عِلْمِ مجيئها .

قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)

قوله تعالى : { لِنَفْسِي } : فيه وجهان ، أحدهما : أنها متعلقة بأملك . والثاني : أنها متعلقةٌ بمحذوف على أنها حال من « نفعاً » لأنه في الأصل صفةٌ له لو تأخر . ويجوز أن يكون « لنفسي » معمولاً ب « نفعاً » ، واللامُ زائدةٌ في المفعول به تقويةً للعامل لأنه فرع ، إذ التقدير : لا أملك أن أنفع نفسي ولا أن أضرَّها . وهو وجهٌ حسن .
قوله : { إِلاَّ مَا شَآءَ الله } في هذا الاستثناء وجهان ، أظهرهما : أنه متصل ، أي : إلا ما شاء الله تمكيني منه فإني أملكه . والثاني وبه قال ابن عطية ، وسبقه إليه مكيّ : أنه منقطعٌ ، ولا حاجةَ تدعو إليه أنه منقطع .
قوله : { وَمَا مَسَّنِيَ السواء } عطف على جواب « لو » وجاء هنا على أحسنِ الاستعمال من حيث أثبت اللام في جواب « لو » المثبت وإن كان يجوزُ غيرُه ، وقد تقدَّم ، وحَذَف اللامَ من المنفيّ لأنه يمتنع ذلك فيه . وقال الشيخ : « ولم تصحب » ما « النافيةَ أي اللام ، وإن كان الفصيحُ أن لا تصحبَها كقوله : { وَلَوْ سَمِعُواْ مَا استجابوا لَكُمْ } [ فاطر : 14 ] . وفيه نظرٌ لأنهم نصُّوا على أن جوابَها المنفيَّ لا يجوز دخولُ اللام عليه .
قوله : { لِّقَوْمٍ } هذه من باب التنازع فيُختار عند البصريين تعلُّقُه ب » بشير « لأنه الثاني ، وعند الكوفيين بالأول لسبقه ، ويجوز أن يكونَ المتعلَّق بالنذارة محذوفاً ، أي : نذير للكافرين ، ودَلَّ عليه ذِكْرُ مقابله ، وهو قريب من حذف المعطوف كقوله : { تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] .

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189)

قوله تعالى : { حَمْلاً } : المشهور أن الحَمل بالفتح ما كان في بطن أو على رأس شجرة ، وبالكسر ما كان على ظهر أو رأس [ غير ] شجرة . وحكى أبو سعيد في حمل المرأة : حِمْل وحَمْل . وحكى يعقوب في حمل النخلة الكسرة . والحمل في الآية يجوز أن يرادَ به المصدرُ فينتصبَ انتصابَه ، وأن يُراد به نفسُ الجنين ، وهو الظاهر ، فينتصبَ انتصابَ المفعول به كقولك : حَمَلْت زيداً .
قوله : { فَمَرَّتْ } الجمهورُ على تشديد الراء ومعناه : استمرت به ، أي : قامَتْ وقعدت . وقيل : هو على القلب ، أي : فمرَّ بها ، أي استمر ودام .
وقرأ ابن عباس وأبو العالية ويحيى بن يعمر وأيوب « فَمَرَتْ » خفيفةَ الراء ، وفيها تخريجان ، أحدهما : أن أصلها التشديد ، ولكنهم كرهوا التضعيف في حرف مكرر فتركوه ، وهذا كقراءة « وقَرْن » بفتح القاف إذا جَعَلْناه من القرار . والثاني : أنه من المِرْية وهو الشك ، أي : فشكَّتْ بسببه أهو حَمْل أم مرض؟
وقرأ عبد الله بن عمرو بن العاص والجحدري : « فمارَتْ » بألف وتخفيف الراء . وفيها أيضاً وجهان ، أحدهما : أنها مِنْ مار يمور ، أي جاء وذهب ، ومارَتِ الريح ، أي : جاءت وذهبَتْ وتصرَّفَتْ في كل وجه ، ووزنه حينئذ فَعَلَتْ والأصل مَوَرَتْ ، ثم قُلبت الواو ألفاً فهو كطافَتْ تطوف . والثاني : أنها من المِرْية أيضاً قاله الزمخشري وعلى هذا فوزنه فاعَلَت والأصل : مارَيَتْ كضارَبَتْ ، فتحرك حرف العلة وانفتح ما قبله فَقُلِبَ ألفاً ، ثم حُذِفَتْ لالتقاء الساكنين فهو كبارَتْ ورامت .
وقرأ سعد بن أبي وقاص وابن عباس أيضاً والضحاك « فاسْتَمَرَّتْ به » وهي واضحة . وقرأ أُبَيّ « فاستمارَتْ » وفيها الوجهان المتقدمان في « فمارَتْ » ، أي : أنه يجوز/ أن يكون من المِرْية ، والأصل « اسْتَمْرَيَتْ » ، وأن يكون من المَوْر والأصل : استَمْوَرَتْ .
قوله : { أَثْقَلَتْ } ، أي : صارت ذا ثِقل كقولهم : أَلْبَنَ الرجل وأَتْمَرَ ، أي : صار ذا لبنٍ وتمرٍ . وقيل : دخلت في الثقل ، كقولهم : أصبح وأمسى ، أي : دخلَتْ في الصباح والمساء . وقرئ « أُثْقِلَتْ » مبنياً للمفعول .
قوله : { دَّعَوَا الله } متعلَّقٌ الدعاء محذوفٌ لدلالة الجملة القسمية عليه ، أي : دَعَواه في أن يُؤتيَهما ولداً صالحاً .
وقوله : { لَئِنْ آتَيْتَنَا } هذا القسمُ وجوابُه فيه وجهان ، أظهرهما : أنه مفسِّرٌ لجملة الدعاء كأنه قيل : فما كان دعاؤهما؟ كان دعاؤهما كيت وكيت ، ولذلك قلت : إن هذه الجملةَ دالَّةٌ على متعلق الدعاء . والثاني : أنه معمول لقول مضمر تقديره : فقالا : لئن آتيتنا . و « لنكونَنَّ » جوابُ القسم ، وجواب الشرط محذوفٌ على ما تقرَّر . و « صالحاً » فيه قولان أظهرهما : أنه مفعولٌ ثان ، أي : ولداً صالحاً . والثاني وبه قال مكي : أنه نعتُ مصدرٍ محذوف ، أي : إيتاءً صالحاً . وهذا لا حاجةَ إليه لأنه لا بد مِنْ تقدير الموتى لهما .

فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)

قوله تعالى : { جَعَلاَ لَهُ } : قيل : ثَمَّ مضاف ، أي : جعل له أولادُهما شركاءَ ، وإلا فحاشا آدم وحواء من ذلك ، وإن جُعِل الضمير ليس لآدم وحواء فلا حاجة إلى تقديره . وقيل في الآية أقوال تقتضي أن يكون الضميرُ لآدم وحواء من غيرِ حَذْفِ مضاف بتأويل ذُكر في التفسير .
وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم « شِرْكاً » بكسر الشين وتسكين الراء وتنوين الكاف . والباقون بضمَّ الشين وفتح الراء ومدِّ الكافِ مهموزةً من غير تنوين ، جمع شريك ، فالشِرْك مصدرٌ ولا بد من حَذْف مضاف ، أي : ذوي شِرْك بمعنى إشراك ، فهو في الحقيقة اسمُ مصدر . وقيل : المرادُ بالشرك النصيبُ ، وهو ما جعلاه مِنْ رزقهما له يأكله معهما ، وكانا يأكلان ويشربان وحدَهما . فالضمير في « له » يعود على الولد الصالح . وقيل : الضمير في « له » لإِبليس ولم يَجْرِ له ذِكْر . وهذان الوجهان لا معنى لهما . وقال مكي وأبو البقاء وغيرهما : إن التقدير يجوز أن يكون : جَعَلا لغيره شِرْكاً . قلت : هذا الذي قدَّروه هؤلاء قد قال فيه أبو الحسن : « كان ينبغي لمَنْ قرأ » شِرْكاً « أن يقول : المعنى : جعلا لغيره شِرْكاً [ فيما أتاهما ] لأنهما لا يُنْكِران أن الأصل لله ، فالشرك إنما لجعله لغيره » .
قوله : { فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } قيل : هذه جملةٌ استئنافية ، والضميرُ في « يشركون » يعود على الكفار ، والكلامُ قد تَمَّ قبله . وقيل : يعودُ على آدم وحواء وإبليس ، والمرادُ بالإِشراك تسميتهُما لولدٍ ثالث بعبد الحرث ، وكان أشار بذلك إبليس ، فالإِشراك في التسمية فقط . وقيل : لم يكن آدمُ عَلِم ، ويؤيد الوجهَ الأولَ قراءةُ السلمي « عَمَّا تشركون » بتاء الخطاب ، وكذلك « أَتُشرِكون » بالخطاب أيضاً وهو التفات .

أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191)

قوله تعالى : { وَهُمْ يُخْلَقُونَ } : يجوز أن تعود على « ما » من حيث المعنى ، والمراد بها الأصنام ، وعَبَّر عنهم ب « هم » لاعتقاد الكفار فيها ما يعتقدون في العقلاء ، أو لأنهم مختلطون بمَنْ عُبِد من العقلاء كالمسيح وعُزَير ، أو يعود على الكفار ، أي : والكافرون مخلوقون فلو تفكَّروا في ذلك لآمنوا .

وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193)

قوله تعالى : { وَإِن تَدْعُوهُمْ } : الظاهرُ أن الخطاب للكفار وضميرَ النصب للأصنام ، والمعنى : وإن تدعوا آلهتكم إلى طَلَب هدى ورشاد كما تطلبونه من الله لا يتابعوكم على مُرادكم . ويجوز أن يكونَ الضميرُ للرسول والمؤمنين والمنصوب للكفار : وإن تدعوا أنتم هؤلاء الكفار إلى الإِيمان . ولا يجوز أن يكونَ « تَدْعوا » مسنداً إلى ضمير الرسول فقط ، والمنصوبُ للكفار أيضاً ، لأنه كان ينبغي أن تُحْذف الواو لأجل الجازم ، ولا يجوز أن يُقال قَدَّر حَذْفَ الحركة وثبت حرف العلة كقوله :
2358 هَجَوْت زَبَّان ثم جِئْتَ مُعْتذراً ... مِنْ هَجْو زبَّانَ لم تهجو ولم تَدَعِ
ويكون مثلَ قوله تعالى : { إِنَّهُ مَن يَتَّقي وَيِصْبِرْ } [ يوسف : 90 ] { فَلاَ تنسى } { لا تَخَفْ دَرَكاً ولا تخشى } [ طه : 77 ] لأنه ضرورةٌ ، وأمَّا الآيات فمؤولة وسيأتي ذلك ، وقد مضى منه جملة .
قوله : « لا يَتَّبِعكم » قرأ نافع بالتخفيف وكذا في الشعراء « يَتْبَعُهم » ، والباقون بالتشديد ، فقيل : هما لغتان ، ولهذا جاء في قصة آدم : { فَمَن تَبِعَ } [ البقرة : 38 ] ، في موضع آخر { اتبع } [ طه : 123 ] . وقيل : تبع : اقتفى أثره ، واتَّبعه بالتشديد اقتدَى به . والأول أظهر .
قوله : { أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ } هذه جملةٌ اسميةٌ عُطِفت على أخرى فعلية لأنها في معنى الفعلية ، والتقدير : أم صَمَتُّم . وقال أبو البقاء : « جملةٌ اسمية في موضعِ الفعلية والتقدير : أدعوتموهم أم صَمَتُّم » . وقال ابن عطية : « عَطَفَ الاسمَ على الفعل إذ التقدير : أم صَمَتُّم ، ومثله قول الشاعر :
2359 سواءٌ عليك الفقرُ أم بِتَّ ليلةً ... بأهل القباب مِنْ نميرِ بن عامرِ
قال الشيخ : » وليس من عَطْفِ الفعلِ على الاسم ، إنما هو من عَطْفِ الاسمية على الفعلية ، وأمَّا البيتُ فليس فيه عطفُ فعلٍ على اسم ، بل مِنْ عطفِ الفعليةِ على اسمٍ مقدَّرٍ بالفعلية إذ الأصل : سواء عليك أفتقرْتَ أم بِتَّ ، وإنما أَتَى في الآية بالجملة الثانية اسمية لأن الفعلَ يُشعِر بالحدوث ولأنها رأسُ فاصلة « .
والصَّمْتُ : السكون ، يقال منه : صمَت يصمُت : بالفتح في الماضي والضم في المضارع . ويقال : صَمِت بالكسر يصمَت بالفتح ، والمصدر : الصَّمْت والصُّمات . و » إصْمِت « بكسر الهمزة والميم اسمُ فلاة معروفة ، وهو منقولٌ من فعل الأمر من هذه المادة . وقد رَدَّ بعضهم هذا بأنه لو كان منقولاً من الأمر لكان ينبغي أن تكون همزتُه همزةَ وصل ، ولكان ينبغي أن تكون ميمُه مضمومةً إن كان مِنْ يَصْمُت ، أو مفتوحةً إن كان من يَصْمَت ، ولأنه كان ينبغي ألاَّ يؤنث بالتاء وقد قالوا إصْمِتة . والجواب أن فعلَ الأمر يجبُ قَطْعُ همزتِهِ إذا سُمِّي به نحو » إشرب « لأنه ليس لنا من الأسماء ما همزته للوصل إلا أسماءٌ عشرة [ ونوع الانطلاق من كل مصدر زاد على الخمسة ] وهو قليلٌ فالإِلحاق بالكثير أولى ، وأما كسر الميم فلأنَّ التغييرَ يُؤْنِسُ بالتغيير ، وكذلك الجوابُ عن تأنيثِه بالتاء .

إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194)

قوله تعالى : { إِنَّ الذين } : العامَّة على تشديد إنَّ فالموصولُ اسمُها وعبادٌ خبرها . وقرأ سعيد بن جبير بتخفيف « إنْ » ونصب « عباد » و « أمثالكم » . وقد خَرَّجها أبو الفتح ابن جني وغيره أنها « إنْ » النافيةُ ، وهي عاملةٌ عملَ « ما » الحجازية ، وهذا مذهب الكسائي وأكثرُ الكوفيين غيرَ الفراء ، وقال به من البصريين ابن السراج والفارسي وابن جني ، واختلف النقل عن سيبويه والمبرد . والصحيح أن إعمالَها لغةٌ ثابتة نظماً ونثراً وأنشدوا :
2360 إنْ هو مستولياً على أحد ... إلا على أَضْعف المجانين
ولكن قد استشكلوا هذه القراءة من حيث إنها تنفي كونهم عباداً أمثالهم ، والقراءة الشهيرة تُثْبت ذلك ، ولا يجوز التناقض في كلام الله تعالى . وقد أجابوا عن ذلك بأن هذه القراءة تُفْهم تحقيرَ أمرِ المعبود من دون الله وغباوةَ عابدِه ، وذلك أن العابدين أتمُّ حالاً وأقدرُ على الضرِّ والنفع من آلهتهم فإنها جمادٌ لا تفعل شيئاً من ذلك فكيف يَعْبُد الكاملُ مَنْ هو دونَه؟ فهي موافقةٌ للقراءة المتواترة بطريق الأَوْلى .
وقد ردَّ أبو جعفر هذه القراءة بثلاثة أوجه ، أحدها : مخالفتُها لسواد المصحف . الثاني : أن سيبويه يختار الرفع في خبر « إنْ » المخففة فيقول : « إنْ زيد منطلق » لأن عَمَلَ « ما » ضعيف و « إنْ » بمعناها فهي أضعف منها . الثالث : أن الكسائي لا يرى أنها تكون بمعنى « ما » إلا أن يكون بعدها إيجاب . وما ردَّ به النحاس ليس بشيء لأنها مخالَفَةٌ يسيرة . قال الشيخ : « ويجوز أن يكون كتب المنصوب على لغة ربيعة في الوقف على المنون المنصوب بغير ألف فلا تكون فيه مخالِفَةً للسواد » . وأما سيبويه فاختلف الناس في الفهم عنه في ذلك . وأما الكسائي فهذا القيد غير معروف له . وخرَّج الشيخ القراءة على أنها « إنْ » المخففة قال : « وإنْ المخففة تعمل في القراءة المتواترة كقراءة » وإنْ كلاً « ، ثم إنها قد ثبت لها نصب الجُزْأَين ، وأنشد :
2361 . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . إنَّ حُرَّاسنا أُسْدا
قال : » وهي لغة ثابتة « ثم قال : » فإن تأوَّلنا ما ورد من ذلك نحو :
2362 يا ليت أيامَ الصِّبا رواجعا ... أي : تُرى رواجعا/ فكذلك هذه يكون تأويلها : إن الذين تدعون من دون الله خلقناهم عباداً أمثالكم « . قلت : فيكون هذا التخريج مبنياً على مذهبين أحدهما : إعمال المخففة وقد نصَّ جماعة من النحويين على أنه أقل من الإِهمال ، وعبارة بعضهم » إنه قليل « ولا أرتضيه لوروده في المتواتر . والثاني : أن » إنَّ « وإخواتها تنصب الجزأين وهو مذهب مرجوح . وقد تحصَّل في تخريج هذه القراءة ثلاثة أوجه : كون » إنْ « نافيةً عاملةً ، أو المخففة الناصبة للجزأين ، أو النصب بفعل مقدر هو خبر لها في المعنى .

وقرأ بعضهم « إنْ » مخففة ، « عباداً » نصباً ، « أمثالُكم » رفعاً ، وتخريجها على أن تكونَ المخففة وقد أُهملت ، و « الذين » مبتدأ ، و « تدعون » صلتها ، والعائد محذوف ، و « عبادٌ » حال من ذلك العائد المحذوف ، و « أمثالكم » خبره . والتقدير : إن الذين تدعونهم حال كونهم عباداً أمثالكم في كونهم مخلوقين مملوكين فكيف يُعبدون؟ ويَضْعُف أن يكون الموصول اسماً منصوبَ المحل لأن إعمالَ المخففة كما تقدَّم قليلٌ .
وحكى أبو البقاء أيضاً قراءةً رابعةً وهي بتشديد « إنَّ » ، ونصب « عباد » ، ورفع « أمثالكم » ، وتخريجها على ما تقدم قبلها .

أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195)

قوله تعالى : { يَبْطِشُونَ } : العامة على كسر الطاء من بطش يبطِش . وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع في رواية عنه : « يَبْطُشون » بضمها وهما لغتان . والبطش : الأخذ بقوة .
قوله : { ثم كيدوني } قرأ أبو عمرو : « كيدوني » بإثبات الياء وصلاً وحَذْفِها وقفاً . وهشام بإثباتها في الحالين . والباقون بحذفها في الحالين ، وعن هشام خلافٌ مشهور . وقال الشيخ : « وقرأ أبو عمرو وهشام بخلاف عنه » فكيدوني « بإثبات الياء وصلاً ووقفاً » قلت : أبو عمرو لا يثبتها وقفاً البتة ، فإن قاعدَته [ في ] الياءات الزائدة ما ذكرته لك . وفي القراءة « فكيدوني » ثلاثةُ ألفاظٍ : هذه وقد عُرف حكمُها ، وفي هود [ الآية : 55 ] { فَكِيدُونِي جَمِيعاً } أثبتها القُرَّاء كلهم في الحالين ، وفي المرسلات [ الآية : 39 ] : { فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ فَكِيدُونِ } حَذَفَها الجميعُ في الحالين ، وهذا نظير ما مرَّ بك من لفظة { واخشوني } [ البقرة : 150 ] فإنها في البقرة ثابتةٌ للكل وصلاً ووقفاً ، ومحذوفةٌ في أول المائدة ، ومختلف فيها في ثانيتها .

إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196)

قوله تعالى : { إِنَّ وَلِيِّيَ الله } : العامة على تشديد « وليي » مضافاً لياء المتكلم المفتوحة وهي قراءة واضحة . أضاف الوليّ إلى نفسه .
وقرأ أبو عمرو في بعض طرقه : « إن وليَّ » بياء واحدة مشددة مفتوحة ، وفيها تخريجان أحدهما : قال أبو علي : « إن ياء فعيل مدغمةٌ في ياء المتكلم ، وإن الياء التي هي لام الكلمة محذوفةٌ ، ومنع من العكس . والثاني : أن يكون » وليَّ « اسمها وهو اسمٌ نكرةٌ غيرُ مضاف لياء المتكلم والأصل : إن ولياً الله ، فولياً اسمُها واللهُ خبرها ، ثم حذف التنوين لالتقاء الساكنين كقوله :
2363 فالفيته غيرَ مُسْتَعْتِبٍ ... ولا ذاكرَ اللهَ إلا قليلا
وكقراءة من قرأ : { قُلْ هُوَ الله أَحَدُ الله الصمد } [ الصمد : 1-2 ] . ولم يبق إلا الإِخبارُ عن نكرةٍ بمعرفة وهو واردٌ ، قال الشاعر :
2364 وإنَّ حراماً أن أَسُبَّ مجاشعاً ... بآبائي الشمِّ الكرام الخضارم
وقرأ الجحدري في رواية : » إن وليِّ الله « بكسر الياء مشددة ، وأصلُها أنه سَكَّن ياء المتكلم فالتقت مع لام التعريف ، فحذفت لالتقاء الساكنين وبقيت الكسرة تدلُّ عليها نحو : إنَّ غلامِ الرجلُ . وقرأه في رواية أخرى : » إن وليَّ الله « بياء مشددة والجلالة بالجر ، نقلها عنه أبو عمرو الداني ، أضاف الوليّ إلى الجلالة . وذكر الأخفش وأبو حاتم هذه القراءة عنه ، ولم يذكرا نصب الياء . وخرَّجها الناس على ثلاثة أوجه ، الأول قولُ الأخفش وهو أن يكون وليّ الله اسمها ، والذي نزَّل الكتاب خبرها ، والمراد بالذي نزَّل الكتاب جبريل ، يدلُّ عليه قولُه تعالى { نَزَلَ بِهِ الروح الأمين } [ الشعراء : 193 ] { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس } [ النحل : 102 ] إلا أن الأخفش قال في قوله » وهو يتولى الصالحين « هو مِنْ صفة الله قطعاً لا من صفة جبريل ، وفي تَحَتُّم ذلك نظرٌ . والثاني : أن يكون الموصوف بتنزيل الكتاب هو الله تعالى ، والمراد بالموصول النبي صلى الله عليه وسلم ويكون ثَمَّ عائدٌ محذوف لفهم المعنى ، والتقدير : إنَّ وليَّ الله النبيُّ الذي نَزَّل الله الكتاب عليه ، فحذف » عليه « وإن لم يكن مشتملاً على شروط الحذف لكنه قد جاء قليلاً كقوله : /
2365 وإن لساني شُهْدةٌ يُشْتفى بها ... وهُوَّ على مَنْ صَبَّه الله عَلْقَمُ
أي : صَبَّه الله عليه . وقال آخر :
2366 فأصبح من أسماء قيسٍ كقابضٍ ... على الماء لا يدري بما هو قابضُ
أي : بما هو قابض عليه . وقال آخر :
2367 لعلَّ الذي أَصْعَدْتِني أن يَرُدَّني ... إلى الأرض إن لم يَقْدِرِ الخيرَ قادرُهْ
أي : أَصْعَدْتني به . وقال آخر :
2368 ومِنْ حَسَدٍ يجورُ عليَّ قومي ... وأيُّ الدهر ذو لم يحسُدوني
وقال آخر :
2369 فقلت لها لا والذي حَجَّ حاتمٌ ... أخونُكِ عهداً إنني غيرُ خَوَّانِ
أي : حجَّ إليه . وقال آخر :
2370 فَأَبْلِغَنَّ خالدَ بنَ عَضْلَةٍ ... والمَرْءُ مَعْنِيٌّ بلومِ مَنْ يثقْ
أي : يثق به ، وإذا ثَبَتَ أن الضميرَ يُحْذف في مثل هذه الأماكن وإن لم يكمل شرطُ الحذف فلهذه القراءة في التخريج المذكور أسوة بها . والثالث : أن يكون الخبر محذوفاً تقديره : إن وليَّ الله الصالحُ أو مَنْ هو صالح ، وحُذف لدلالة قوله » وهو يتولَّى الصالحين « وكقوله : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ بالذكر } [ أي : معذَّبون ، وكقوله : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ } [ الحج : 25 ] .

وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)

والنَّزْغُ : أدنى حركة تكون ، وأكثر ما يُسْند للشيطان لأنه أسرعُ في ذلك . وقيل : النَّزْغ : الدخول في أمرٍ لإِفساده وقال الزمخشري : « والنزغ والنَّسْغ الفَرْزُ والنَّخْس ، وجعل النزغ نازغاً كما قيل : » جَدَّ جَدُّه « يعني قصد بذلك المبالغة .

إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)

قوله تعالى : { طَائِفٌ } : قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي : « طَيْفٌ » والباقون « طائف » بزنة فاعل . فأمَّا طَيْف ففيه ثلاثة أوجه ، أحدُها : أنه مصدرٌ مِنْ طاف يَطيف كباع يبيع ، وأنشد أبو عبيدة :
2371 أنَّى ألمَّ بك الخيالُ يَطيفُ ... ومَطافُه لك ذُكْرَةٌ وشُعُوفُ
والثاني : أنه مخففٌ من فَيْعِل ، والأصل : طَيِّف بتشديد الياء فحذف عين الكلمة كقولهم في ميّت مَيْت وفي ليّن ليْن وفي هيّن هيْن . ثم طَيّف الذي هو الأصل يحتمل أن يكون مِنْ طاف يطيف أو من طاف يطوف ، والأصل : طَيْوِف فقلب وأدغم وهذا قول أبي بكر بن الأنباري . والثالث : أن أصله طَوْف من طاف يطوف ، فقلبت الواو ياءً . قال أبو البقاء : « قلبت الواو ياءً وإن كانت ساكنة كما قلبت في أَيْد وهو بعيد » قلت : وقد قالوا أيضاً في حَوْل : حَيْل ، ولكن هذا من الشذوذ بحيث لا يُقاس عليه . وقوله « وإن كانت ساكنة » ليس هذا مقتضياً لمنع قلبها ياء بل كان ينبغي أن يُقال : وإن كان ما قبلها غيرَ مكسورٍ .
وأمَّا طائفٌ فاسمُ فاعل ، يُحْتمل أن يكون مِنْ طاف يطوف فيكون كقائم وقائل ، وأن يكونَ مِنْ طاف يطيف فيكون كبائع ومائل . وقد زعم بعضُهم أنَّ طَيْفاً وطائفاً بمعنى واحد ويُعزى للفراء ، فيحتمل أن يَرُدَّ طائفاً لطَيْف فيجعلهما مصدرين . وقد جاء فاعِل مصدراً كقولهم : « أقائماً وقد قعد الناس » وأن يَرُدَّ طيفاً لطائف ، أي : فيجعله وَصْفاً على فَعْل .
وقال الفارسي : « الطيف كالخَطْرة ، والطائف كالخاطر » ففرَّق بينهما . وقال الكسائي : « الطَّيْف : اللَّمَم ، والطائف ما طاف حول الإِنسان » . قال ابن عطية : « وكيف هذا وقد قال الأعشى :
2372 وتُصْبح مِنْ غِبِّ السُّرَى وكأنما ... ألمَّ بها من طائفِ الجنِّ أولقُ
ولا أدري ما تَعَجُّبُه؟ وكأنه أخذ قوله » ما طافَ حول الإِنسان « مقيَّداً بالإِنسان ، وهذا قد جعله طائفاً بالناقة ، وهي سَقْطة لأن الكسائي إنما قاله اتفاقاً لا تقييداً . وقال أبو زيد الأنصاري : » طافَ : أقبل وأدبر يَطُوف طَوْفاً وطَوَافاً ، وأطاف : استدار القومُ من نواحيهم . وطاف الخيالُ : أَلَمَّ ، يَطيف طَيفاً « فقد فرَّق أبو زيد بين ذي الواو وذي الياء ، فخصَّص كلَّ مادة بمعنى . وفرَّق أيضاً بين فعل وأفعل كما رأيت .
وزعم السُّهَيْلي أنه لا يُسْتعمل مِنْ » طاف الخيال « اسم فاعل قال : » لأنه تخيُّلٌ لا حقيقة له « . قال : » فأمَّا قوله تعالى : { فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ } [ القلم : 19 ] فلا يقال فيه طَيْف لأنه اسمُ فاعل حقيقةً . وقال حسان :
2373 جِنِّيَّةٌ أرَّقَني طيفُها ... تَذْهَبُ صُبْحاً وتُرى في المنامْ
وقال السدِّي : « الطَّيْفُ : الجنون ، والطائف : الغضب » ، وعن ابن عباس رضي الله عنه هما بمعنى واحد وهو النَّزْغ .

وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)

قوله تعالى : { وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغي } : في هذه الآيةِ أوجهٌ ، أحدها : أن الضميرَ في « إخوانهم » يعود على الشياطين لدلالةِ لفظ الشيطان عليهم ، أو على الشيطان نفسه لأنه لا يُراد به الواحدُ بل الجنس . والضمير المنصوب في « يَمُدُّونهم » يعود على الكفار ، والمرفوع يعود على الشياطين أو الشيطان كما تقدَّم . والتقدير : وإخوان الشياطين يَمُدُّهم الشياطين ، وعلى هذا الوجه فالخبرُ جارٍ على غير مَنْ هو له في المعنى ، ألا ترى أن الإِمداد مسند إلى الشياطين في المعنى ، وهو في اللفظ خبر عن « إخوانهم » ، ومثله :
2374 قوم إذا الخيلُ جالُوا في كواثبها ... . . . . . . . . . . . . . .
وقد تقدم لك في هذا كلامٌ وبحثٌ مع مكي وغيره من حيث جَرَيانُ الفعلِ على غير مَنْ هوله ولم يَبْرُزْ ضمير ، وهذا التأويل الذي ذكرته هو قول الجمهور عليه عامَّة المفسرين . قال الزمخشري « هو أَوْجَهُ لأن إخوانهم في مقابلة الذين اتقوا » .
الثاني : أن المرادَ بالإِخوان الشياطين ، وبالضمير المضافِ إليه الجاهلون أو غيرُ المتَّقين؛ لأن الشيء يَدُلُّ على مقابله . والواو تعود على الإِخوان ، والضميرُ المنصوب يعود على الجاهلين أو غير المتقين ، والمعنى : والشياطين الذين هم إخوانُ الجاهلين أو غير المتقين يَمُدُّون الجاهلين أو غير المتقين في الغَيِّ ، والخبرُ في هذا الوجه جارٍ على مَنْ هوله لفظاً ومعنى وهذا تفسير قتادة .
الثالث : أن يعودَ الضمير المجرور والمنصوب على الشياطين ، والمرفوع على الإِخوان وهم الكفار . قال ابن عطية : « ويكون المعنى : وإخوان الشياطين في الغيِّ بخلافِ الإِخوة في الله يَمُدُّون [ الشياطين ] ، أي : بطاعتهم لهم وقبولهم منهم ، ولا يترتَّب هذا التأويل على أن يتعلق في الغيّ بالإِمداد : لأن الإِنس لا يُغْوون الشياطين » . قلت : يعني يكون في « الغيّ » حالاً من المبتدأ أي : وإخوانهم حال كونهم مستقرين في الغيّ ، وفي مجيء الحال من المبتدأ خلاف ، والأحسن أن يتعلق بما تضمَّنه إخوانهم من معنى المؤاخاة والأخوة ، وسيأتي فيه بحث للشيخ .
قال الشيخ : « ويمكن أن يتعلَّق » في الغيّ « على هذا التأويل ب » يمدُّونهم « على جهة السببيّة ، أي : يمدُّونهم بسبب غوايتهم نحو : » دخلت امرأة النار في هرة « ، أي : بسبب هرةٍ » ، ويُحتمل أن يكون « في الغيّ » حالاً فيتعلَّق بمحذوف ، أي : كائنين في الغيّ ، فيكون « في الغيّ » في موضعه ، ولا يتعلَّق بإخوانهم ، وقد جَوَّز ذلك ابن عطية . وعندي في ذلك نظرٌ ، فلو قلت : « مُطْعِمُك زيدٌ لحماً » تريد : مطعمك لحماً زيدٌ ، فتفصل بين المبتدأ ومعموله بالخبر لكان في جوازه نظر؛ لأنك فَصَلْتَ بين العامل والمعمول بأجنبي لهما معاً ، وإن كان ليس أجنبياً لأحدهما وهو المبتدأ « .

قلت : ولا يظهر منعُ هذا البتةَ لعدم أجنبيَّته .
وقرأ نافع : « يُمِدونهم » بضم الياء وكسر الميم مِنْ أمدَّ ، والباقون بفتح الياء وضم الميم مِنْ مدَّ ، وقد تقدَّم الكلام على هذه المادة ، وهل هما بمعنى واحد أم بينهما فرق في أوائل هذا الموضوع . وقرأ الجحدري « يُمادُّونهم » مِنْ مادَّهُ بزنة فاعَلَه .
وقرأ العامة « يُقْصِرُون » مِنْ أَقْصَرَ ، قال الشاعر :
2375 لعَمْرك ما قلبي إلى أهله بحُرّْ ... ولا مُقْصِرٍ يوماً فيأتيني بقُرّْ
وقال امرؤ القيس :
2376 سما لك شوقٌ بعدما كان أَقْصَرا ... وحَلَّتْ سُلَيْمى بَطْنَ قَوٍّ فعَرْعرا
أي : ولا نازع عمَّا هو فيه ، وارتفع شوقك بعدما كان قد نزع وأقلع . وقرأ عيسى بن عمر وابن أبي عبلة « ثم لا يَقْصُرون » بفتح الياء وضم الصاد مِنْ قصر ، أي : ثم لا يَنْقُصون من إمدادهم . وهذه الجملة أعني « وإخوانهم يمدُّونهم » زعم الزجاج أنها متصلة بالجملة من قوله { وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً } وهو تكلف بعيد .
وقوله { فِي الغي } : قد تقدَّم أنه يجوزُ أن يكون متعلقاً بالفعل ، أو بإخوانهم ، أو بمحذوف على أنه حال : إمَّا من إخوانهم ، وإمَّا مِنْ واو « يمدُّونهم » ، وإمَّا مِنْ مفعوله .

وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)

والإنصاتُ : السُّكون للاستماع ، قاله الفراء . ويقال : نَصَتَ وأنصت بمعنى واحد ، وقد جاء أنصت متعدياً ، قال الكميت :
2377 أبوك الذي أجْدَى عليك بنصره ... فأنصت عني بعده كلَّ قائل
وقوله : { هذا بَصَآئِرُ } جمع بصيرة ، وأطلق على القرآن بصائر : إمَّا مبالغةً ، وإمَّا لأنه سبُب البصائر ، وإمَّا على حَذْف مضاف ، أي : ذو بصائر . و « لعل » يجوز أن تكونَ للترجي بحسب المخاطبين ، وأن تكون للتعليل .

وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)

قوله تعالى : { لَهُ } : متعلَّقٌ ب استمعوا ، على معنى لأجله ، والضمير للقرآن . وقال أبو البقاء : « يجوزُ أن يكون بمعنى لله ، أي : لأجله » ، فأعاد الضميرَ على « الله » وفيه بُعْدٌ ، وجَوَّز أيضاً أن تكونَ اللامُ زائدةً ، أي : فاستمعوه ، وقد عَرَفْتَ أن هذا لا يجوز عند الجمهور إلا في موضعين : إمّا تقديمِ المعمولِ أو كونِ العامل فرعاً . وجوَّز أيضاً أن تكون بمعنى إلى ولا حاجة إليه .
والاجتباء : افتعال مِنْ جَبَاه يَجْبيه ، أي : جمعه مختاراً له ، ولهذا غلب : اجتبيتُ الشيء ، أي : اخترته . وقال الزمخشري : « اجتبى الشيء : بمعنى جَبَاه لنفسه ، أي : جمعه/ كقولك : اجتمعه أو جُبِيَ إليه فاجتباه ، أي : أخذه كقوله : جَلَيْتُ إليه العروس فاجتلاها ، والمعنى : هلا اجتمعتها افتعالاً من عند نفسك لأنهم كانوا يقولون : { إِنْ هذا إِلاَّ إِفْكٌ افتراه } [ الفرقان : 4 ] .

وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205)

قوله تعالى : { تَضَرُّعاً وَخِيفَةً } : في نصبهما وجهان ، أظهرهما : أنهما مفعولان من أجلهما لأنه يتسبَّب عنهما الذِّكْر . والثاني : أن ينتصبا على المصدر الواقع موقع الحال ، أي : متضرعين خائفين ، أو ذوي تضرع وخيفة . وقرئ « وخفية » بتقديم الفاء . وقيل : وهما مصدران للفعل مِنْ معناه لا من لفظه ، ذكره أبو البقاء وهو بعيد .
قوله : { وَدُونَ الجهر } قال أبو البقاء : « معطوف على » تضرُّع « والتقدير : ومقتصدين » . وهذا ضعيف لأن « دون » ظرف لا يتصرَّف على المشهور ، فالذي ينبغي أن يُجْعَل صفةٌ لشيء محذوف ، ذلك المحذوف هو الحال كما قدَّره الزمخشري فقال : « ودونَ الجهر : ومتكلماً كلاماً دون الجهر؛ لأن الإِخفاءَ أَدْخَلُ في الإِخلاص وأقربُ إلى حسن التفكر » .
قوله : { بالغدو والآصال } متعلق باذكر ، أي : اذكره في هذين الوقتين وهما عبارةٌ عن الليل والنهار . قال أبو البقاء : « بالغُدُوِّ » متعلق ب « ادعوا » وهو سَبْقُ لسانٍ وقلم ، إذ ليس نظمُ القرآن كذا .
والغُدُوّ : إمَّا جمع غُدْوة كقمح وقمحة ، وعلى هذا فيكون قد قابل الجمع بالجمع المعنوي . وقيل : هو مصدرٌ فيقدَّرُ زمانٌ مضاف إليه حتى يتقابل زمان مجموع بمثله ، تقديره : بأوقات الغدو . والآصال : جمع أُصُل ، وأُصُل جمع أصيل فهو جمع الجمع . ولا جائزٌ أن يكونَ جماً لأصيل؛ لأن فعيلاً لا يُجْمع على أفعال . وقيل : بل هو جمعٌ لأصيل ، وفعيل يُجمع على أفعال نحو : يمين وأيمان . وقيل : آصال جمع ل « أُصُل » وأُصُل مفرد ، ثبت ذلك مِنْ لغتهم وهو العشيُّ ، وفُعُل يُجمع على أَفْعال قالوا : عُنُق وأعناق ، وعلى هذا فلا حاجة إلى دَعْوى أنه جمع الجمع ، ويُجْمع على أُصلان كرَغيف ورُغْفان ، ويُصَغَّر على لفظه كقوله :
2378 وَقَفْتُ فيها أُصَيْلالاً أسائلُها ... عَيَّتْ جواباً وما بالرَّبْعِ مِنْ أحدِ
واستدلُّ الكوفيون بقولهم « أُصَيْلان » على جواز تصغير جمع الكثرة بهذا البيت ، وتأوَّله البصريون على أنه مفرد ، وتُبدل نونه لاماً ، ويُروى أصيلالاً .
وقرأ أبو مجلز واسمُه لاحق بن حميد السدوسي البصري « والإِيصال » مصدرُ آصَل ، أي : دخل في الأصيل .

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)

قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال } : فاعل « يَسْأل » يعود على معلوم ، وهم مَنْ حَضَرَ بَدْراً . و « سأل » تارةً تكونُ لاقتضاء معنى في نَفْسِ المسؤول فتتعدَّى ب « عن » كهذه الآية ، وكقول الشاعر :
2379 سَلي إنْ جَهِلْتِ الناسَ عنَّا وعنهمُ ... فليس سواءً عالمٌ وجَهولُ
وقد تكون لاقتضاء مالٍ ونحوه فتتعدَّى لاثنين نحو : « سألت زيداً مالاً » . وقد ادَّعى بعضُهم أن السؤالَ هنا بهذا المعنى ، وزعم أن « عَنْ » زائدةٌ ، والتقدير : يسألونك الأنفالَ ، وأيَّد قولَه بقراءة سعد بن أبي وقاص وابن مسعود وعلي بن الحسين وزيدٍ ولدِه ومحمد الباقر ولدِه أيضاً وولده جعفر الصادق وعكرمة وعطاء : « يسألونك الأنفالَ » دون « عن » . والصحيحُ أن هذه القراءةَ على إرادةِ حرفِ الجر . وقال بعضهم : « عن » بمعنى « مِنْ » . وهذا لا ضرورةَ تدعو إليه .
وقرأ ابنُ محيصن : « عَلَّنْفَال » . والأصل : أنه نقل حركةَ الهمزة إلى لام التعريف ، ثم اعتدَّ بالحركة العارضة فأدغم النونَ في اللام كقوله : { وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم } [ العنكبوت : 38 ] ، وقد تقدَّم ذلك في قوله { عَنِ الأهلة } [ البقرة : 189 ] .
والأنفال : جمع نَفَل وهي الزيادة على الشيء الواجب وسُمِّيَتْ/ الغنيمة نَفَلاً لزيادتِها على حِماية الحَوزة . قال لبيد :
2380 إنَّ تقوى ربِّنا خيرُ نَفَلْ ... وبإذنِ الله رَيْثي وعَجَلْ
وقال آخر :
2381 إنَّا إذا احْمَرَّ الوغَى نَرْوي القَنا ... ونَعِفُّ عند مَقاسِمِ الأنفالِ
وقيل : سُمِّيت « الأَنْفال » لأنَّ المسلمين فُضِّلُوا بها على سائر الأمم . وقال الزمخشري : « والنَّفَل : ما يُنْفَلُه الغازي ، أي يُعْطاه زيادةً على سهمه من المَغْنم » .
قوله : { ذَاتَ بِيْنِكُمْ } : قد تقدَّمَ الكلامُ على « ذات » في آل عمران . وهي هنا صفةٌ لمفعولٍ محذوف تقديره : وأَصْلِحوا أحوالاً ذاتَ افتراقِكم وذاتَ وَصْلِكم ، أو ذاتَ المكانِ المتصلِ بكم ، فإنَّ « بين » قد قيل إنه يُراد به هنا الفراقُ أو الوصل أو الظرف . وقال الزجاج وغيره : « إنَّ » ذات « هنا بمنزلة حقيقة الشيء ونفسه » وقد أوضح ذلك ابنُ عطية . والتفسير ببيان هذا أولى .
وقال الشيخ : « والبَيْنُ : الفِراق ، و » ذات « نعت لمفعول محذوف أي : وأَصْلِحوا أحوالاً ذات افتراقكم ، لمَّا كانت الأحوالُ ملابِسةً للبَيْن أُضِيْفَتْ صفتُها إليه ، كما تقول : اسْقِني ذا إنائك أي : ماءً صاحبَ إنائك ، لَمَّا لابس الماءُ الإِناءَ وُصِفَ ب » ذا « وأُضيف على الإِناء . والمعنى : اسقِني ما في الإِناء من الماء » .

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)

قوله تعالى : { وَجِلَتْ } : يُقال : وَجِلَ بالكسر في الماضي يَوْجَلُ بالفتح ، وفيه لُغَيَّةٌ أخرى ، قرئ بها في الشاذ : وَجَلَتْ بفتح الجيم في الماضي وكَسْرِها في المضارع فَتَنْحَذِف الواو كوَعَد يَعِدُ . ويُقال في المشهورة : وَجِل يَوْجَل . ومنهم مَنْ يقول : ياجَلُ بقلب الواو ألفاً ، وهو شاذٌّ لأنه قَلْبُ حرفِ العلة بأحد السببين : وهو انفتاحُ ما قبلَ حرفِ العلة دون تحركه وهو نظير « طائي » في النسب إلى طيِّئ . ومنهم من يقول : يِيْجَلُ بكسر حرف المضارعة فتنقلبُ الواوُ ياءً لسكونها وانكسار ما قبلها . وقد تقدَّم في أول هذا الموضوع أنَّ من العرب مَنْ يكسِرُ حرف المضارعة بشروطٍ منها : أن لا يكونَ حرفُ المضارعة ياءً إلا في هذه اللفظة وفي أَبَى يِئْبَى . ومنهم مَنْ ركَّب من هاتين اللغتين لغةً أخرى وهي فتحُ الياء وقلبُ الواو ياءً فقال : يَيْجَلُ ، فأخذ قلبَ الواو ممَّن كسرَ حرفَ المضارعة ، وأخذ فتحَ الياءِ مِنْ لغة الجمهور .
وقوله : { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } قال ابن عطية : « وجوابُ الشرط المتقدم في قوله : » وأطيعوا « ، هذا مذهب سيبويه ، ومذهب المبرد أن الجواب محذوف متأخر ، ومذهبه في هذا ألاَّ يتقدَّمَ الجوابُ على الشرط » . قلت : وهذا الذي ذكره أبو [ محمد ] نقل الناسُ خلافَه ، نقلوا ذلك أعني جوازَ تقديمِ جوابِ الشرط عليه عن الكوفيين وأبي زيد وأبي العباس ، فالله أعلم أيُّهما أثبت . ويجوز أن يكون للمبرد قولان وكذا لسيبويه ، فنقل كلُّ فريق عن كلٍ منهما أحد القولين .

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

دليلك إلى المواقع الإسلامية المنتقاة بأكثر من ( 42 ) لغة !!

دليلك إلى المواقع الإسلامية المنتقاة بأكثر من ( 42 ) لغة !! اللغة الرابط اللغة الأذرية http://www.islamhouse.com/s/9357 ...