ج7. الدر المصون في علم الكتاب المكنون
المؤلف : السمين الحلبي
والثاني : فاءُ الجزاءِ أي : جوابُ شرطٍ مقدرٍ . قال الفارسي : «
وإنْ شئتَ لم تَجْعَلِ الفاءَ لعطفِ جملة ، بل تجعلُه جزاءً كقوله ذي الرمة :
1827- وإنسانٌ عيني يَحْسِر الماءُ تارةً ... فيبدو ، وتاراتٍ يَجُمُّ فيَغْرَقُ
تقديرُه عندهم : إذا حَسَرَ بدا ، وكذا في الآية : إذا حَبَسْتموهما أقسما . وقال
مكي نحوه ، فإنه قال : و » يجوزُ اَنْ تكونَ الفاءُ جوابَ جزاءٍ لأن « تحسبونهما »
معناه الأمر بذلك ، وهو جواب الأمر الذي دلَّ عليه الكلامُ كأنه قل : إذا حبستموهما
أَقْسَما « قلت : ولا حاجةَ داعية إلى شيء من تقديرِ شرطٍ محذوفٍ ، وأيضاً فإنه
يحوج إلى حذفِ مبتدأ قبل قولِه { فَيُقْسِمَانِ } أي : فهما يُقْسمان ، وأيضاً ف »
إنْ تحبسوهما « تقدَّم أنها صفةٌ فكيف يَجْعَلُها بمعنى الأمر ، والطلب لا يقع
وصفاً؟ وأمَّا البيتُ الذي أنشده أبو عليّ فَخَرَّجَه النحويون على ان » يَحْسِر
الماءُ تارة « جملةٌ خبرية ، وهي إن لم يكن فيها رابط فقد عُطِف عليها جملةٌ فيها
رابط بالفاء السببية ، وفاءُ السببية جَعَلَتِ الجملتين شيئاً واحداً .
و » بالله « متعلِّقٌ بفعلِ القسم ، وقد تقدَّم أنه لا يجوز إظهار فعل القسمِ إلا
معها لأنها أمُّ . الباب . وقوله : { لاَ نَشْتَرِي بِهِ } جواب القسمِ المضمرِ في
» يُقْسِمان « فتُلُقِّي بما يُتَلَقَّى به . وقوله : { إِنِ ارتبتم } شرطٌ/
وجوابُه محذوفٌ تقديرُه : إن ارتبتم فيهما فحلِّفوهما ، وهذا الشرط وجوابُه
المقدَّرُ معترضٌ بين القسمِ وجوابِه ، وليس هذه الآيةُ مِمَّا اجتمع فيه شرطٌ
وقسمٌ فأُجيب سابقُهما ، وحُذِفَ جوابُ الآخرِ لدلالةِ جوابه عليه؛ لأنَّ تلكَ
المسألةَ شرطُها أن يكونَ جوابُ القسمِ صالحاً لأن يكون جوابَ الشرط حتى يَسُدَّ
مسدَّ جوابه نحو : » واللّهِ إن تقم لأكرمنَّك « لأنك لو قَدَّرْتَ » إن تقم
أكرمتك « صَحَّ ، وهنا لا يُقَدَّر جوابُ الشرط ما هو جوابٌ للقسم ، بل يُقَدَّر
جوابُه قِسْماً برأسِه ، ألا ترى أنَّ تقديره هنا : » إن ارتبتم حَلِّفوهما « ولو
قَدًّرْته : إن ارتبتم فلا نشتري لم يَصِحَّ ، فقد اتفق هنا أنه اجتمع شرطٌ وقسمٌ
وقد أُجيب سابقهما ، وحُذِفَ جواب الآخر وليس من تيك القاعدةِ . وقال الجرجان : »
إنَّ ثم قولاً محذوفاً تقديرُه يٌقْسِمان بالله ويقولان هذا القولَ في أيمانِهما ،
والعرب تُضْمِرُ القولَ كثيراً ، كقوله تعالى : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ
عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [ الرعد : 2324 ] أي : يقولون
سلام عليكم « . ولا أدري ما حمله على إضمارِ هذا القولِ؟
قوله : » به « في هذه الهاءِ ثلاثةُ أقوالٍ ، إحدُهما : أنها تعودُ على الله تعالى
الثاني : أنها تعودُ على القسمِ . الثالث : - وهو قول أبي علي - أنها تعودُ على
تحريفِ الشهادةِ ، وهذا قَويٌّ من حيث المعنى . وقال أبو البقاء » تعودُ على
اللّهِ أو القسمِ أو الحَلْفِ أو اليمينِ أو تحريفِ الشهادةِ أو على الشهادِة
لأنها قولٌ .
قلت : قوله « أو الحَلْف أو اليمين » لا فائدةٌ فيه إذ هما شيءٌ
واحدٌ ، وكذلك قولُ مَنْ قال : إنه تعودُ على الله تعالى ، لا بد أن يقدِّر مضافاً
محذوفاً أي : لا نشتري بيمينِ الله أو قسمِه ونحوِه ، لأن الذاتَ المقدسة لا يُقال
فيها ذلك . وقال مكي : « وقيل : الهاءُ تعودُ على الشهادة لكن ذُكِّرَتْ لأنها
قولُ كما قال : { فارزقوهم مِّنْهُ } [ النساء : 8 ] فردَّ الهاءَ على المقسومِ
لدلالة القسمة على ذلك » . والاشتراءُ هنا هل باقٍ على حقيقتِه أو يُراد به البيع؟
قولان ، أظهرُهما الأولُ ، وبيانُ ذلك مبنيٌّ على نصبِ « ثمناً » وهو منصوبٌ على
المفعولية ، قال الفارسيّ : وتقديره : لا نشتري به ذا ثمن ، ألا ترى انَّ الثمن لا
يُشْترى ، وإنما يُشْترى ذو الثمن ، قال : « وليس الاشراءُ هنا بمعنى البيع وإنْ
جاء لغةً ، لأنَّ البيعَ إبعادٌ عن البائعِ ، وليس المعنى عليه ، إنما معناه
التمسُّكُ به والإِيثارُ له على الحقِّ » . وقد نَقَل الشيخُ هذا الكلامَ بعينِه
ولم يَعْزُه لأبي علي .
وقال مكي : « معناه ذا ثمن ، لأنَّ الثمن لا يُشْترى ، وإنما يُشْتَرى ذو الثمن ،
وهو كقوله : { اشتروا بِآيَاتِ الله ثَمَناً } [ التوبة : 9 ] أي ذا ثمن » . وقال
غيرُه : « إنه لا يَحْتاج إلى حذف مضاف » قال أبو البقاء : « ولا حَذْفَ فيه لأنَّ
الثمنَ يُشْترى كما يُشْتَرَى به ، وقيل : التقدير : ذا ثمن » ، وقال بعضُهم : «
لا نَشْتري : لا نبيعُ بعهدِ الله بغرضٍ ناخذُه ، كقولِه تعالى : { إِنَّ
الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً } [ آل عمران
: 77 ] ، فمعنى { لاَ نَشْتَرِي بِهِ } لا نأخذُ ولا نستبدِلُ ، ومَنْ باع شيئاً
فقد اشترى ، ومعنى الآية : لا نأخذُ بعهدِ الله ثمناً بأن نبيعَه بعَرَضٍ من
الدنيا . قال الواحدي : » ويُستغنى بهذا عن كثيرٍ من تكلُّفِ أبي علي ، وهذا معنى
قولِ القتيبي والجرجاني « .
قوله : { وَلَوْ كَانَ ذَا قربى } الواوُ هنا كالتي سَبَقَتْ في قولِه : {
أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } [ الآية : 170 ] في البقرة من أنها
يحتمل أن يقال عاطفةٌ أو حاليةٌ ، وانَّ جملةَ الامتناعِ حالٌ معطوفةٌ على حالٍ
مقدرةٍ كقوله : » أعطُوا السائلَ ولو على فَرَسٍ « فكذا هنا تقديرُه : لا نَشْتري
به ثمناً في كل حال ولو كانَ الحالُ كذا ، واسمُ » كان « مضمرٌ فيها يعودُ على
المشهودِ له : أي : ولو كانَ المشهودُ له ذا قرابةٍ .
قوله : { وَلاَ نَكْتُمُ } الجمهورُ على رفعِ ميم » نكتُم « على أنَّ » لا « نافية
، والجملةُ تحتمل وجهين ، أحدُهما : - وهو الظاهرُ- كونُها نسقاً على جواب القسمِ
فتكونُ ايضاً مقسماً عليها . والثاني : أنه إخبارٌ من أنفسهم بأنهم لا يكتُمون
الشهادة ، ويتأيَّدُ بقراءة الحسن والشعبي : » ولا نَكْتُمْ « على النهي ، وهذه
القراءةُ جاءت على القليل من حيث إنَّ دخولَ » لا « الناهية على فعلِ المتكلم
قليلٌ ، ومنه .
1828- إذا ما خَرَجْنا مِنْ دمشقَ فلا نَعُدْ ... بها أبداً ما دامَ
فيها الجَراضِمُ
والجمهورُ على « شهادة الله » بالإِضافة ، وهي مفعولٌ بها ، وأُضيفت إليه تعالى
لأنه هو الآمرُ بها وبحفظِها وأَنْ لا تُكْتَمَ ولا تُضَيِّعَ . وقرأ عليُّ أميرُ
المؤمنين ونعيم بن ميسرة والشعبي في رواية : « شهادة الله » بتنوين شهادة ونصبِها
ونصبِ الجلالة ، وهي واضحةٌ ، ف « شهادة » مفعول ثان ، والجلالةُ نصبٌ على
التعظيمِ وهي الأول . والأصلُ : ولا نكتُم اللّهَ شهادةً ، وهو كقولِه : { وَلاَ
يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً } [ النساء : 42 ] وإنما قُدَِّمَتْ هنا للاهتمامِ بها
، فإنها المحدِّثُ عنها . وفيها وجهٌ ثانٍ - نقله الزهراوي - وهو أن تكون الجلالةُ
نصباً على إسقاطِ حرفِ القسم ، والتقديرُ : ولا نكتمُ شهادةً واللّهِ ، فلمَّا
حُذِف حرفُ الجر نُصِب المقسُم به ، ولا حاجةَ إليه لأنه يَسْتدعي حذفَ المفعولِ
الأولِ للكتمان ، أي : ولا نكتمُ أحداً شهادةً والله ، وفيه تكلفٌ ، وإليه ذهبَ
أبو البقاء أيضاً قال : « على أنه منصوبٌ بفعلِ القسم محذوفاً » .
وقرأ عليٌّ أمير المؤمنين والسلمي والحسن البصري : « شهادةً » بالتنوين والنصب ، «
الله » بمدِّ الألفِ التي للاستفهام دَخَلَتْ للتقرير وتوقيف نفوسِ الحالفين ، وهي
عوضٌ من حرفِ القسمِ المقدَّرِ ، وهل الجرُّ بها أم بالحرف المحذوف خلافٌ؟ وقرأ
الشعبي في رواية وغيره : « شهادة » بالهاء ويقف عليها ، ثم يَبْتدئ « آللّهِ »
بقطع همزة الوصل وبمدِّ الهمزة على أنها للاستفهام بالمعنى المتقدم ، وجَرِّ
الجلالة ، وهمزةً القطعِ تكون عوضاً من حرف القسم في هذا الاسم الشريف خاصة ، تقول
: « يا زيدُ آللّهِ لأفعلن » ، والذي يُعَوَّض من حرف القسم في هذا الاسم الشريف
خاصة ثلاثةٌ : ألفُ الاستفهامِ وقطعُ همزةِ الوصلِ وها التي لتنبيه ، نحو : « ها
اللَّهِ » ويجوزُ مع « ها » قطعُ همزةِ الجلالة ووصلُها . وهل الجرُّ بالحرف
المقدر أو بالعوض؟ تقدَّم أنَّ فيه خلافاً ، ولو قال قائل : إن قولَهم « أللّهِ
لأفعلنَّ » بالجر وقطع الهمزة بأنها همزة استفهام لم يُرَدَّ قولُه . فإن قيل :
همزةُ الاستفهام إذا دخلت على همزة الوصل التي مع لام التعريف أو ايمن في القسم
وجب ثبوت همزة الوصل ، وحينئذ إمَّا : أَنْ تُسَهَّلَ وإمَّا أَنْ تُبْدَلَ الفاً
، وهذه لم تَثْبُتْ بعدَها همزةُ وصل فتعيَّن أن تكونَ همزةَ وصل قُطِعَتْ عوضاً
عن حرف القسم . فالجواب : أنهم إنما أَبْدلوا ألفَ الوصلِ أو سَهَّلوها بعد همزةِ
الاستفهام فرقاً بين الاستفهام والخبر ، وهنا اللَّبْسُ مأمونٌ فإنَّ الجر في
الجلالة يؤذن بذلك فلا حاجةَ إلى بقاءِ همزةِ الوصلِ مُبْدَلةً أو مُسَهَّلَةً ،
فعلى هذا قراءة : الله وآلله بالقصر والمد تحتمل الاستفهامَ ، وهو تخريجٌ حسن .
قال ابن جني في هذه القراءة : « الوقفُ على » شهادة « بسكون الهاء
واستئنافُ القسم ، حسن ، لأنَّ استئنافَه في أولِ الكلام أَوْجَهُ له وأشدُّ هيبةً
مِنْ يدخُلَ في عَرَضِ القول » ورُوِيَتْ هذه القراءةُ - أعني ألله بقطع الألفِ من
غير مَدِّ وجرِ الجلالة - عن أبي بكر عن عاصم وقرئ : شهادةً اللّهِ « بنصب الشهادة
منونة وجر الجلالة موصولة الهمزةِ ، على أن الجر بحرفِ القسمِ المقدِّرِ من غير
عوضٍ منه بقطعٍ ولا همزةِ استفهام ، وهو مختصٌّ بذلك .
وقوله تعالى : { إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الآثمين } هذه الجملةُ لا محلَّ لها لأنها
استئنافيةٌ ، أخبروا عن أنفسِهم بأنهم من الآثمين إنْ كتموا الشهادة ، ولذلك أتوا
ب » إذَنْ « المؤذنة بالجزاء والجواب . وقرأ الجمهور : { لمن الآثمين } من غير نقل
ولا إدغام . وقرأ ابن محيصن والأعمش : { لَمِلاَّثِمين } بإدغام نون » من « في لام
التعريف بعد أن نقل إليها حركة الهمزة في » آثمين « فاعتدَّ بحركة النقل فأدغم ،
وهي نظيرُ قراءةِ مَنْ قرأ : { عَاداً الأولى } بالإِدغام ، وهناك إن شاء الله
يأتي تحقيق ذلك وبه القوة .
فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107)
قوله تعالى : { فَإِنْ عُثِرَ } : مبني للمفعول ، والقائمُ مقامَ
فاعِله الجارُّ بعدَه ، أي : فإنِ اطُّلِعَ على استحقاقِهما الإِثمَ يقال : [
عَثَر الرجلُ يعثُر ] عُثوراً : إذا هَجَم على شيء لم يَطَّلِعْ عليه غيرُه ،
وأعثرتُه على كذا : أطلعتُه عليه ، ومنه قولُه تعالى : { أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ }
[ الكهف : 21 ] . قال أهلُ اللغة : « وأصلُه من » عَثْرة الرجل « وهي الوقوع ،
وذلك أن العاثِرَ إنما يَعْثُر بشي كان لا يَراه ، فإن عَثَر به اطِّلع عليه
ونَظَر ما هو ، فقيل لكل أمر كان خَفِيّاً ثم اطُّلِع عليه : » عُثِر عليه « وقال
الليث : » عَثَر يَعْثُر عُثوراً هجم على أمرٍ لم يهجم عليه غيرُه ، وعَثَر
يَعْثُر عَثْرَةً وقع على شيء ، ففرَّق بين الفعلين بمصدريهما . وفَرَّق أبو
البقاء بينهما بغير ذلك فقال : « عَثَر مصدرُه العُثور ، ومعناه اطَّلع ، فأمَّا »
عَثَر « في مَشْيِة ومنطقه ورأيه فالعِثارُ » والراغب جَعَل المصدرين على حَدِّ
سواء فإنه قال : « عَثَر الرجلُ بالشيء يَعْثُر عُثوراً وعِيثاراً : إذا سَقَط
عليه ، ويُتَجَوًَّزُ به فيمن يَطِّلِعُ على أمرٍ من غيرِ طلبه ، يقال : »
عَثَرْتُ على كذا « وقوله : { وكذلك أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ } [ الكهف : 21 ] أي :
وَقَّفْناهم عليهم من غير أَنْ طَلَبوا » .
قوله تعالى : { فَآخَرَانِ } فيه أربعةُ أوجه ، [ الأول ] : أن يرتفع على أنه خبر
مبتدأ مضمر تقديره : فالشاهدان آخران ، والفاء جواب الشرط ، دَخَلَتْ على الجملة
الاسمية ، والجملةُ من قوله : { يقومان } محلِّ رفعٍ صفةً ل آخران . الثاني : أنه
مرفوعٌ بفعلٍ مضمرٍ تقديرُه : فليشهد آخران ، ذكره مكي وأبو البقاء وقد تَقَدَّم
أن الفعلَ لا يُحْذَفُ وحدَه إلا في مواضعَ ذكرتُها عند قوله : { حِينَ الوصية
اثنان } [ المائدة : 106 ] . الثالث : أنه خبرٌ مقدم ، و « الأَوْلَيان » مبتدأٌ
مؤخرٌ ، والتقدير : فالأَوْلَيان بأمر الميت آخران يَقُومان مقامَهان ذكر ذلك أبو
عليّ . قال : « ويكونُ كقولك : » تميمي أنا « الرابع : أنه متبدأٌ ، وفي الخبرِ
حينئذٍ احتمالات ، أحدُها : قولُه : { مِنَ الذين استحق } وجاز الابتداءُ به
لتخصُّصِه بالوصف وهو الجملة من » يَقُومان « ، والثاني : أنَّ الخبرَ » يَقُومان
« و » من الذين استحَقَّ « صفةُ المتبدأ ، ولا يَضُرُّ الفصلُ بالخبر بين الصفة
وموصوفها ، والمسوِّغُ أيضاً للابتداء به اعتمادُه على فاءِ الجزاء . وقال أبو
البقاء لَمَّا حَكَى رفعَه بالابتداء : » وجازَ الابتداءَ هنا بالنكرةِ لحصولِ «
الفائدةِ » فإنْ عَنَى أنَّ المسوِّغَ مجردُ الفائدةِ من غيرِ اعتبارِ مسوِّغٍ من
المُسَوِّغات التي ذكرتُها فغيرُ مُسَلَّم الثالث : أنَّ الخبرَ قولُه : «
الأَوْليَان » نقله أبو البقاء ، وقوله « يَقُومان » و « مِن الذين استَحَقَّ »
كلاهما في محلِّ رفعٍ صفةً ل « آخران » ويجوزُ ان يكونَ أحدُهما صفةً والآخرُ
حالاً ، وجاءَتِ الحالُ من النكرةِ لتخصُّصِها بالوصفِ .
وفي هذا الوجهِ ضعفٌ من حيث إنه إذا اجتمع معرفةٌ ونكرةٌ جَعَلْتَ
المعرفةَ محدِّثاً عنها والنكرةَ حديثاً ، وعكسُ ذلك قليلٌ جداً أو ضرروةٌ كقوله :
1829- . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... يكونُ مزاجَها عسلٌ وماءُ
[ وكقوله ] :
1830- وإنَّ حراماً أَنْ أسُبَّ مجاشِعاً ... بآبائي الشمِّ الكرامِ الخَضارمِ
وقد فَهِمْتَ مِمَّا تقدَّم أنَّ الجملةَ من قوله « يقومان » والجارَّ من قوله : {
مِنَ الَّذينَ } : إمَّا مرفوعٌ المحلِّ صفةً ل « آخَران » أو خبرٌ عنه ، وإمَّا
منصوبة على الحالِ : إمَّا من نفس « آخران » ، أو مِنَ الضمير المستكنِّ في «
آخران » ويجوزُ في قولِه { مِنَ الذين } أَنْ يكونَ حالاً من فاعلِ « يَقُومان » .
قوله : { استحق } قرأ الجمهورُ : « استُحِقَّ » مبنياً للمفعول ، « الأَوْليان »
رفعاً ، وحفص عن عاصم : « اسْتَحَقَّ » مبنياً للفاعل ، « الأوليان » كالجماعة ،
وهي قراءة عبد الله بن عباس وأمير المؤمنين علي رضي الله عنهم ، ورُوِيَتْ عن ابن
كثير أيضاً ، وحمزة وأبو بكر عن عاصم : « استُحِقَّ » مبنياً للمفعول كالجماعة ، «
الأَوَّلِين » جمعَ « أَوَّل » جمعَ المذكرِ السالم ، والحسن البصري : «
اسْتَحَقَّ » مبنياً للفاعل ، « الأوَّلان » مرفوعاً تثنية « أَوَّل » وابن سيرين
كالجماعة ، إلا أنه نصب الأوْلَيَيْن تثنيةَ « أَوْلى » وقرئ : « الأَوْلَيْنَ »
بسكون الواو وفتح اللام وهو جمع « أَوْلى » كالأعلَيْنَ في جمعِ « أَعْلى » ولما
وصل أبو إسحاق الزجاج إلى هذا الموضوع : قال : « هذا موضع من أصعب ما في القرآن
إعراباً » قلت : ولَعَمْري إنّ القول ما قالت حَذامِ ، فإن الناس قد دارَتْ
رؤوسُهم في فَكِّ هذا التركيب ، وقد اجتهدْتُ - بحمد الله تعالى - فلخَّصْتُ
الكلام فيها أحسنَ تلخيصٍ ، ولا بد من ذِكْرِ شيءٍ من معاني الآية لنستضيء به على
الإِعراب فإنه خادِمٌ لها .
فأمَّا قراءةُ الجمهورِ فرفُع « الأَوْلَيان » فيها من اوجه ، أحدها : أنه مبتدأ ،
وخبره « آخران » تقديره : فالأَوْلَيان بأمر الميت آخران ، وقد تقدَّم شرحُ هذا .
الثاني : أنه خبر مبتدأ مضمر أي : هما الأَوْلَيان ، كأنَّ سائلاً سأل فقال : «
مَنِ الآخران »؟ فقيل : هما الأَوْلَيان . الثالث : أنه بدلٌ من « آخران » وهو
بدلٌ في معنى البيان للمبدلِ منه ، نحو : « جاء زيدٌ أخوك » وهذا عندهمْ ضعيفٌ
لأنَّ الإِبدالَ بالمشتقاتِ يَقِلُّ . الرابع : أنه عطفُ بيان ل « آخران » بَيَّن
الآخَرَيْن بالأَوْلَيَيْنِ . فإن قلت : شرطُ عطفِ البيان أن يكونَ التابعُ
والمتبوعُ متفقين في التعرفِ والتنكيرِ ، على أنَّ الجمهورَ على عدمِ جريانِه في
النكرةِ خلافاً أبي علي ، و « آخران » نكرةٌ ، و « الأَوْلَيَان » معرفةٌ . قلت :
هذا سؤال صحيح ، ولكنْ يَلْزَمُ الأخفشَ ويلزم الزمخشريَّ جوازُه : أمَّا الأخفش
فإنه يُجيز اَنْ يكونَ « الأَوْلَيان » صفةً ل « آخران » بما سأقرره عنه عند
تعرُّضي لهذا الوجهِ ، والنعت المنعوت يُشترط فيهما التوافقُ ، فإذا جاز في النعت
فَلْيَجُزْ فيما هو شبيه به ، إذ لا فرق بينهما إلا اشتراطُ الاشتقاقِ في النعت .
وأمَّا الزمخشري فإنه لا يشترط ذلك - أعني التوافق - وقد نَصَّ هو في
سورة آل عمران على أن قوله تعالى : { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } [ الآية : 97 ] عطفُ
بيان لقوله { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ } و { آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ } نكرةٌ لكنها لَمَّا
تخصَّصَتْ بالوصفِ قَرُبَتْ من المعرفة ، كما قَدَّمْتُه عنه في موضعِه ، وكذا «
آخَران » قد وُصِف بصفتين فَقَرُب من المعرفة أشدَّ من « آياتٌ بيناتٌ » من حيث
وُصِفَتْ بصفةٍ واحدة . الخامس : أنه بدلٌ من فاعلِ « يَقُومان » .
السادس : أنه صفةٌ ل « آخران » ، أجازَ ذلك الأخفشُ قال أبو عليّ : « وأجازَ أبو
الحسن فيها شيئاً آخرَ ، وهو أن يكونَ » الأَوْلَيان « صفةً ل » آخران « لأنه
لَمَّا وُصِفَ تخصَّص ، فَمِنْ أجلِ وصفِه وتخصيصِه وُصِفَ بوصف المعارف » قال
الشيخ : « وهذا ضعيفٌ لاستلزامِه هَدْمَ ما كادوا أن يُجْمعوا عليه من أنَّ
النكرةَ لا تُوصف بالمعرفةِ ، ولا العكسِ » قلت : لا شكَّ أنَّ تخالفَهما في
التعريفِ والتنكيرِ ضعيفٌ ، وقد ارتكبوا ذلك في مواضعَ ، فمنها محكاه الخليل : «
مَرَرْتُ بالرجلِ خيرٍ منك » في أحدِ الأوجه في هذه المسألةِ ومنها { غَيْرِ
المغضوب عَلَيْهِم } [ الفاتحة : 7 ] على القولِ بأنَّ « غير » صفةُ « الذين أنعمت
عليهم » وقوله :
1831- ولقد أَمُرُّ على اللئيمِ يَسُبُّني ... فَمَضَيْتُ ثُمًّتَ قُلْتُ لا
يَعْنيني
وقولُه تعالى : { وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار } [ يس : 37 ] ،
على أنَّ « يَسُبُّني » و « نَسْلَخُ » صفتان لِما قبلَها فإنَّ الجملَ نكراتٌ ،
وهذه المُثُلُ التي أوردتها عكسُ ما نحن فيه ، فإنها تُؤَوَّلُ فيها المعرفةُ
بالنكرة ، وما نحن فيه جعلنا النكرةَ فيه كالمعرفةِ ، إلاَّ أنَّ الجامعَ بينهما
التخالفُ ، ويجوز أن يكون ما نحن فيه من هذه المُثُلِ باعتبار أنَّ «
الأَوْلَيَيْنِ » لَمَّا لم يُقْصَدْ بهما شخصان معينان قَرُبا من النكرةِ فوقعا
صفةً لها مع تخصُّصِها هي ، فصار في ذلك مسوِّغان : قربُ النكرةِ من المعرفة
بالتخصيصِ ، وقربُ المعرفةِ من النكرة بالإِبهام ، ويدلُّ لِما قلتُه ما قال أبو
البقاء : « والخامسُ أن يكون صفة ل » آخران « لأنه وإنْ كان نكرةً قد وُصِفَ
والأَوْلَيان لم يَقْصِدْ بهما قصدَ اثنين بأعيانِهما » .
السابع : أنه مرفوعٌ على ما لم يُسَمَّ فاعلُه ب « استُحِقَّ » إلاَّ أنَّ كلَّ
مَنْ أعربه كذا قَدَّره قبلَه مضافاً محذوفاً . واختلفت تقديراتُ المُعْرِبين ،
فقال : مكي : « تقديرُه : استُحِقَ عليهم إثمُ الأَوْلَيَيْن » وكذا أبو البقاء
وقد سبَقَهما إلى هذا التقديرِ ابنُ جرير الطبري وقَدَّره الزمخشري فقال : « مِن
الذين استُحِقَّ عليهم انتداب الأَوْلَيَيْن منهم للشهادةِ لاطِّلاعِهم على حقيقةِ
الحال » ، ومِمَّن ذهبَ إلى ارتفاع « الأَوْلَيَيْنِ » ب « استُحِقَّ » أبو علي
الفارسي ثم منَعه ، قال : « لأنَّ المُسْتَحَقَّ إنما يكون الوصية أو شيئاً منها ،
وأمَّا الأَوْلَيان بالميتِ فلا يجوزُ أَنْ يُسْتَحَقَّا فيُسْنَدَ استُحِقَّ
إليهما » قلت : إنما منع أبو عليّ ذلك على ظاهرِ اللفظِ فإنَّ الأَوْلَيَيْنِ لم
يستحقَهما أحدٌ كما ذكر ، ولكنْ يجوزُ أَنْ يُسْنَدَ « استُحِقَّ » إليهما بتأويلِ
حذفِ المضافِ المتقدم .
وهذا الذي منعه الفارسي ظاهراً هو الذي حَمَل الناسَ على إضمار ذلك
المضافِ ، وتقديرُه الزمخشري ب « انتداب الأوليين » أحسنُ من تقدير غيرِه ، فإنَ
المعنى يُساعِدُه ، وأمَّا إضمارُ « الإِثم » فلا يَظْهر أصلاً إلا بتأويل بعيدٍ .
وأجازَ ابن عطية أن يرتفعَ « الأَوْلَيان » ب « استُحِقَّ » أيضاً ، ولكنْ ظاهرُ
عبارتِه أنه لم يُقَدِّر مضافاً فإنه استشعر باستشكالِ الفارسي المتقدم فاحتالَ في
الجوابِ عنه وهذا نَصُّه ، قال ما ملخصُه : إنه « حُمِل » استُحِقَّ « هنا على
الاستعارة فإنه ليس استحقاقاً حقيقةً لقوله : { استحقآ إِثْماً } وإنما معناه
أنَهم غَلَبوا على المالِ بحكمِ انفرادِ هذا الميت وعدمِه لقرابته أو أهلِ دينهِ
فَجَعَل تسوُّرَهم عليه استحقاقاً مجازاً ، والمعنى : من الجماعة التي غابت وكان
مِنْ حَقِّها أَنْ تُحْضِرَ وليِّها ، فلمَّا غابَتْ وانفرد هذا الموصي استحقَت
هذه الحال ، وهذان الشاهدان من غير أهل الدين والولاية وأَمْرِ الأَوْلَيَيْنِ على
هذه الجماعة ، فبُنِي الفعلُ للمفعولِ على هذا المعنى إيجازاً ، ويُقَوِّي هذا
الفرضَ تعدِّي الفعلِ ب » على « لَمَّا كان باقتدارٍ وحَمْلٍ هَيَّأَتْه الحالُ ،
ولا يُقال : استحَقَّ منه أو فيه إلا في الاستحقاقِ الحقيقي على وجههِ ، وأمَّا »
استحَقَّ عليه « فبالحملِ والغلَبِة والاستحقاقِ المستعارِ » انتهى ، فقد أسند «
استحق » إلى الأوْليان « من غيرِ تقديرِ مضافٍ متأوِّلاً له بما ذَكَر ، واحتملتُ
طولَ عبارتِه لتتَّضحَ .
واعلم أنَّ مرفوعَ » استُحِقَّ « في الأوجهِ المتقدِّمة - أعني غير هذا الوجهِ وهو
إسنادُه إلى » الأَوْلَيان « - ضميرٌ يعودُ على ما تقدَّم لفظاً أوسياقاً ،
واختلفت عباراتُهم ، فيه ، فقال الفارسي والحوفي وأبو البقاء والزمخشري : أنه
ضميرُ الإِثم ، والإِثمُ قد تقدَّم في قوله : { استحقآ إِثْماً } وقال الفارسي
والحوفي ايضاً : » استحق هو الإِيصاءُ أو الوصيةُ « قالت : إضمارُ الوصية
مُشْكِلٌ؛ لأنه إذا أُسْنِد الفعلُ إلى ضميرِ المؤنثِ مطلقاً وَجَبَتِ التاءُ إلا
في ضرورة ، ويونس لا يَخُصُّه بها ، ولا جائز أَنْ يقال أَضْمرا لفظَ الوصية لأنَّ
ذلك حُذِفَ ، والفاعلُ عندهما لا يُحْذَفُ . وقال النحاس مستحسناً لإِضمارِ
الإِيصاء : » وهذا أحسنُ ما قيل فيه؛ لأنه لم يُجْعل حرفٌ بدلاً من حرفٍ « يعني
أنه لا يقولُ إنَّ » على « بمعنى » في « ، ولا بمعنى » مِنْ « كما قيل بهما ،
وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى .
وقد جَمَع الزمخشري غالبَ ما قُلْتُه وحَكَيْتُه من الإِعرابِ
والمعنى بأوجزِ عبارةٍ فقال : « ف » آخران « أي : فشاهدان آخَران يَقُومان
مقامَهما من الذين استُحِقَّ عليهم أي : [ من الذين ] استُحِقَّ عليهم الإِثمُ ،
ومعناه : من الذين جُنِي عليهم وهم أهلُ الميتِ وعشيرتُه والأَوْلَيان الأَحقَّان
بالشهادة لقرابتِهما ومعرفتِهما ، وارتفاعُهما على : » هما الأَوْلَيان « كأنه قيل
: ومَنْ هما؟ فقيل : والأَوْلَيان ، وقيل : هما بدلٌ من الضميرِ في » يَقُومان «
أو من » آخران « ويجوزُ أَنْ يرتفِعَا ب » استُحِقَّ « أي : من الذين استُحِقَّ
عليهم انتدابُ الأَوْلَيَيْنِ منهم للشهادة لاطّلاعهم على حقيقة الحال » .
وقوله { عَلَيْهِمُ } : في « على » ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنها على بابها ، قال
ابو البقاء : « كقولك : » وَجَبَ عليه الاثمُ « وقد تقدَّم عن النحاس أنه لَمَّا
أَضْمر الإِيصاء بَقَّاها على بابها ، واستحسن ذلك . والثاني : أنها بمعنى » في «
أي : استُحِقَّ فيهم الإِثمُ فوقَعَتْ » على « موقعَ » في « كما تقعُ » في «
موقعَها كقوله تعالى : { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل } [ طه : 71 ] أي
: على جذوعِ ، وكقولِه :
1832- بَطَلٌ كأنَّ ثيابَه في سَرْحَةٍ ... يُحْذَى نِعالَ السِّبْتِ ليس بتوءمِ
أي : على سَرْحةٍ . وقَدَّره أبو البقاء فقال : » أي استُحِقَّ فيهم الوصية «
والثالث : أنها بمعنى » من « أي : استُحِقَّ منهم الإِثمُ ، ومثلُه قولُه تعالى :
{ إِذَا اكتالوا عَلَى الناس } [ المطففين : 2 ] أي : من الناسِ . وقَدَّره أبو
البقاء فقال : » اي استُحِقَّ منهما الأوْلَيان ، فحين جَعَلها بمعنى « في »
قَدَّر « استُحِقَّ » مسنداً للوصية ، وحين جعلها بمعنى « من » قَدَّره مُسْنداً ل
« الأَوْلَيان » وكان لَمَّا ذَكَر القائمَ مقامَ الفاعلِ لم يذكر إلا ضميرَ
الإِثم والأوليان . وأجاز بعضُهم أَنْ يُسْندَ « استُحِقَّ » إلى ضمير المال أي :
استُحِقَّ عليهم المالُ الموروث ، وهو قريبٌ .
فقد تقرَّر أنَّ في مرفوع « استُحِقَّ خمسةَ أوجه ، أحدُها : » الأَوْلَيان « ،
الثاني : ضميرُ الإِيصاء ، الثالث : ضيرُ الوصية ، وهو في المعنى كالذي قبلَه
وتقدَّم إشكالُه ، الرابع : أنه ضميرُ الإِثمِ ، الخامس : انه ضميرُ المال ، ولم
أَرَهم أجازوا أن يكونَ » عليهم « هو القائمَ مقامَ الفاعلِ نحو : { غَيْرِ
المغضوب عَلَيْهِم } [ الفاتحة : 7 ] كأنهم لم يَرَوْا فيه فائدةً .
وأمَّا قراءةُ حفص ف { الأَوْلَيان } مرفوعٌ ب » استُحَقَّ « ومفعولُه محذوفٌ ،
قَدَّره بعضهم » وصيتَهما « وقَدَّره الزمخشري ب » أن يجرِّدوهما للقيام بالشهادة
« فإنه قال : » معناه من الورثة الذين استَحَقَّ عليهم الأَوْلَيان من بينهم
بالشهادة أن يُجَرِّدوهما للقيام بالشهادة ، ويُظْهِروا بها كذبَ الكاذبين « وقال
ابنُ عطية : » الأَوْلَيان « رفعٌ ب » اسَتَحَقَّ « وذلك أن يكون المعنى : من
الذين استَحَقَّ عليهم مالَهم وتَرِكَتهم شاهدا الزور فسُمِّيا أَوْلَيَيْنِ أي : صَيَّرهما
عدمُ الناس أَوْلَيَيْنِ بالميتِ وتَرِكَتِه فخانا وجارا فيها ، أو يكونُ المعنى :
مِن الذين حَقَّ عليهم أَنْ يكونَ الأَوْلَيان منهم ، فاستَحَقَّ بمعنى حَقَّ
كاستعجب وعجب ، أو يكون استحقَّ بمعنى سعى واستوجب فالمعنى : من القوم الذين حَضَر
أَوْلَيان منهم فاستَحَقَّا عليهم أي : استحقا لهم وسَعَيا فيه واستوجباه
بأيمانهما وقُرْبانهما » قال الشيخ - بعد أَنْ حكى عن الزمخشري وأبي محمد ما
قَدَّمْتُه عنهما - : « وقال بعضُهم : المفعولُ محذوفٌ تقديرُه : الذين استَحَقَّ
عليهم الأَوْلَيان وصيتَهما » قلت : وكذا هو محذوفٌ أيضاً في قولَي أبي القاسم
وأبي محمد وقد بَيَّنْتُهما ما هما فهو عند الزمخشري قولُه : « أَنْ يُجَرِّدُوهما
للقيامِ بالشهادة » وعند ابن عطية هو قولُه : { ما لَهم وتَرِكَتَهم } ، فقولُه :
« وقال بعضهم : المفعولُ محذوفٌ » يُوهِمُ أنه لم يَدْرِ أنَّه محذوفٌ فيما تقدَّم
أيضاً .
وممن ذهبَ إلى أن « استَحَقَّ » بمعنى « حَقَّ » المجردِ الواحدي
فإنه قال : واستحقَّ هنا بمعنى حَقَّ ، أي وَجَبَ ، والمعنى : فآخران من الذين
وَجَبَ عليهم الإِيصاءُ بتوصيته بينهم وهم وَرَثَتُه « وهذا التفسير الذي ذكره
الواحدي أوضحُ من المعنى الذي ذكره ابو محمد على هذا الوجهِ وهو ظاهرٌ .
وأمَّا قراءةُ حمزة وأبي بكر فمرفوعُ » استُحِقَّ « ضميرُ الإِيصاء أو الوصية أو
المال أو الإِثم حَسْبما تقدَّم ، وأمَّا » الأَوَّلين « فجمعُ » أوّل « المقابِل
ل » آخِر « وفيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه مجرورٌ صفةً ل » الذين « . الثاني :
أنه بدلٌ منه وهو قليلٌ لكونِه مشتقاً . الثالث : أنه بدلٌ من الضميرِ في » عليهم
« ، وحَسَّنَه هنا وإنْ كان مشتقاً عدمُ صلاحية ما قبلَه للوصف ، نَقَل هذين
الوجهين الأخيرين مكي الرابع : أنه منصوبٌ على المدح ، ذكره الزمخشري ، قال : »
ومعنى الأوَّلِيَّة التقدُّمُ على الأجانب في الشهادة لكونِهم أحقَّ بها « ، وإنما
فَسَّر الأوَّلِيَّة بالتقدُّمِ على الأجابِ جَرْياً على ما مَرَّ في تفسيره : أو
آخرَان مِنْ غيرِكم أنَّهما من الأجانبِ لا من الكفارِ . وقال الواحدي : »
وتقديرُه مِنَ الأَوَّلين الذين استُحِقَّ عليهم الإِيصاءُ أو الإِثم ، وإنما قيل
لهم « الأَوَّلين » من حيث كانوا أَوَّلِين في الذِّكْرِ ، ألا ترى أنه قد تقدَّم
: { يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } وكذلك { اثنان ذَوَا
عَدْلٍ مِّنْكُمْ } ذُكِرا في اللفظ قبل قوله : { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ }
وكان ابنُ عباس يختارُ هذه القراءةَ ويقول : « أرأيت إن كان الأَوْلَيان صغيرين
كيف يَقُومان مقامَهما »؟ أراد أنهما إذا كانا صغيرين لم يقوما في اليمين مقامَ
الحانثين .
ونحا ابن عطية هذا المنحى قال : « معناه من القوم الذين استُحِقَّ
عليهم أمرُهم أي : غُلِبوا عليه ، ثم وصفَهم بأنهم أَوَّلون أي : في الذكر في هذه
الآية » .
وأمَّا قراءة الحسن فالأولان مرفوعان ب « استَحَقَّ » فإنه يقرؤه مبنياً للفاعل .
قال الزمخشري : و « يَحْتَجُّ به مَنْ يرى ردَّ اليمين على المُدِّعي » ، ولم يبيِّن
مَنْ هما الأوَّلان ، والمرادُ بهما الاثنان المتقدِّمان في الذكر . وهذه القراءةُ
كقراءةِ حفص ، فيُقَدَّر فيها ما ذُكِر ، ثم مما يليقُ من تقديرِ المفعولِ .
وأما قراءة ابن سيرين فانتصابُها على المَدْحِ ولا يجوزُ فيها الجر ، لأنه : إمَّا
على البدل وإمَّا على الوصف بجمع ، والأَوْلَيَن في قراءته مثنى فتعذر فيها ذلك .
وأمَّا قراءة « الأَوْلَيْن » كالأعلَيْن فحكاها أبو البقاء قراءةً شاذة لم
يَعْزُها ، قال : « ويُقْرأ » الأَوْلَين « جمعَ الأَوْلَى ، وإعرابه كإعراب
الأَوْلَين » يعني في قراءة حمزة ، وقد تقدَّم أنّ فيها أربعةَ أوجه وهي جارية هنا
.
قوله : « فيُقْسِمان » نسقٌ على « يَقُومان » والسبيَّةُ فيها ظاهرةٌ . و «
لَشهادتُنا أحقُّ » : هذه الجملة جوابُ القسمِ في قوله : « فيُقْسِمان » و « ذلك
أَدْنَى » لامحلَّ لهذه الجملةِ لاستئنافِها ، والمشارُ إليه الحكمُ السابقُ
بتفصيلِه ، أي : ما تقدَّم ذكرُه من الأحكام أقربُ إلى حصول إقامة الشهادة على ما
ينبغي . وقيل المشارُ إليه الحَبْس بعد الصلاة ، وقيل : تحليفُ الشاهدين . و «
أَنْ يأتوا » أصلُه إلى أن يأتوا . وقَدَّره أبو البقاء ب « من » أيضاً ، أي :
أَدْنَى مَنْ أَنْ يأتُوا . وقَدَّره مكي بالباء أي : بأَنْ يأتُوا ، وليسا
بواضحين ، ثم حَذَفَ حرفَ الجر فَنَشَأ الخلافُ المشهور . و « على وجهها » متعلقٌ
ب « يأتُوا » . وقيل : في محلِّ نصبٍ على الحال منها ، وقَدَّره أبو البقاء ب «
محقّقة وصحيحة » وهو تفسيرُ معنى؛ لِما عرفت غير مرة من أنّ الأكوانَ المقيدة لا
تُقَدَّر في مثله .
قوله : { أَوْ يخافوا } في نصبه وجهان ، أحدهما : أنه منصوب عطفاً على « يَأْتوا »
وفي « أو » على هذا تأويلان ، أحدُهما : أنها على بابِها من كونِها لأحدِ الشيئين
، والمعنى : ذلك الحكمُ أقربُ إلى حصول الشهادة على ما ينبغي أو خوفِ رَدِّ
الأيمان إلى غيرِهم فتسقطُ أَيْمانهم . والتأويلُ الآخر : أن تكونَ بمعنى الواو ،
أي : ذلك الحكم كله أقربُ إلى أَنْ يأتُوا ، وأقربُ إلى أن يَخافوا ، وهذا مفهومٌ
من قول ابن عباس . الثاني من وجهي النصب : أنه منصوبٌ بإضمار « أَنْ » بعد « أو »
ومعناها « إلا » كقولهم : « لألزمنَّك أو تقضيَني حَقِّي » تقديره : إلاَّ أَنْ
تقضِيني ، ف « أو » حرفُ عطفٍ على بابها ، والفعلُ بعدَها منصوبٌ بإضمار « أَنْ »
وجوباً ، و « أَنْ » وما في حَيِّزها مؤولةٌ بمصدرٍ ، ذلك المصدرُ معطوفٌ على مصدر
متوهَّم من الفعل قبله ، فمعنى : لألزمنَّك أو تقضيَني حقي : ليكوننَّ مني لزومٌ
لك أو قضاؤك لحقي ، وكذا المعنى هنا أي : ذلك أدنى بأن يأتوا بالشهادة على وجهها؛
وإلاَّ خافوا ردَّ الأَيْمان ، كذا قَدَّره ابن عطية بواوٍ قبل « إلا » وهو خلافٌ
تقدير النحاة ، فإنهم لا يقدِّرون « أو » إلا بلفظ « إلا » وحدها دون واو .
وكأن « إلا » في عبارته على ما فهمه الشيخ ليسَتْ « إلا »
الاستثنائيةَ ، بل أصلُها « إنْ » شرطيةً دَخَلَتْ على « لا » النافيةِ فأُدغمت
فيها ، فإنه قال : « أو تكون » أو « بمعنى » إلاَّ إنْ « ، وهي التي عَبَّر عنها
ابن عطية بتلك العبارةِ من تقديرِها بشرطٍ - محذوفٍ فعلُه - وجزاء انتهى . وفيه
نظرٌ من وجهين ، أحدُهما : أنه لم يَقُلْ بذلك أحدٌ ، أعني كونَ » أو « بمعنى
الشرط . والثاني : انه بعد أَنْ حَكَم عليها بأنها بمعنى » إلاَّ إنْ « جَعَلها
بمعنى شرطٍ حُذِفَ فعلُه .
و { أَن تُرَدَّ } في محلِّ نصبٍ على المفعولِ به اي : أو يَخافُوا رَدَّ
أَيْمانهم . و » بعد أَيْمانهم « إمَّا ظرفٌ ل » تُرَدَّ « أو متعلِّقٌ بمحذوفٍ
على أنها صفةٌ ل » أَيْمان « وجُمِع الضميرُ في قولِه » يَأْتُوا « وما بعده وإنْ
كان عائداً في المعنى على مثَّنى وهو الشاهدان ، فقيل : هو عائدٌ على صنفي
الشاهدين . وقيل : بل عائدٌ على الشهودِ من الناسِ كلِّهم ، معناه : ذلك أَوْلى
وأجدرُ أَنْ يحذرَ الناسُ الخيانةَ فيَتَحَرَّوا في شهادتِهم خوفَ الشناعةِ عليهم
والفضحيةِ في رَدِّ اليمين على المُدَّعي . وقوله : { واتقوا الله } لم يذكرْ
معلِّق التقوى : إمَّا للعلمِ به أي : واتقوا اللَّهَ في شهادتِكم وفي الموصِين
عليهم بأن لا تَخْتَلِسوا لهم شيئاً؛ لأن القصةَ كانت بهذا السببِ ، وإمَّا قصداً
لإِيقاعِ التقوى ، فيتناولُ كلَّ ما يُتَّقى منه . وكذا مفعولُ » اسمعوا « إنْ
شئتَ حذفتَه اقتصاراً أو اختصاراً أي : اسمعوا أوامَره ونواهَيه من الأحكام
المتقدمة ، وما أفصحَ ما جيء بهاتين الجملتين الأمريتين ، فتباركَ اللَّهُ أصدقُ
القائلين .
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)
قوله تعالى : { يَوْمَ يَجْمَعُ } : في نصبِه أحدَ عشرَ وجهاً ،
أحدها : أنه منصوبٌ ب « اتقوا » أي : اتقوا اللَّهَ في يومِ جَمْعِه الرسلَ قاله
الحوفي ، وهذا ينبغي ألاَّ يجوزَ لأنَّ أمرَهم بالتقوى في يوم القيامة لا يكون ،
إذ ليس بيومِ تكليفٍ وابتلاء ، ولذلك قال الواحدي : ولم « يُنْصَب اليوم الظرفِ
للاتقاء ، لأنهم لم يُؤْمَروا بالتقوى في ذلك اليوم ، ولكن على المفعول به كقوله :
{ واتقوا يَوْماً } [ البقرة : 48 ] . الثاني : أنه منصوب ب » اتقوا « مضمراً يدل
عليه » واتقوا الله « قال الزجاج : » هو محمول على قوله : « واتقوا الله » ثم قال
: « يوم يجمع » أي : واتقوا ذلك اليوم « ، فدلَّ ذِكْرُ الاتقاء في الأول على
الاتقاء في هذه الآية ، ولا يكون منصوباً على الظرف للاتقاء لأنهم لم يُؤْمروا
بالاتقاء في ذلك اليوم ، ولكن على المفعول به كقوله تعالى : { واتقوا يَوْماً لاَّ
تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً } [ البقرة : 48 ] . الثالث : أنه منصوب
بإضمار » اذكروا « الرابع : بإضمار » احذروا « الخامس : أنه بدل اشتمال من الجلالة
. قال الزمخشري : » يوم يجمع « بدلٌ من المنصوب في » واتقوا الله « وهو من بدلِ
الاشتمال كأنه قيل : واتقوا الله يوم جَمْعِه » انتهى ، ولا بد من حذفِ مضافٍ على
هذا الوجهِ حتى تَصِحَّ له هذه العبارةُ التي ظاهرها ليس بجيدٍ ، لأنَّ الاشتمالَ
لا يُوصَفُ به الباري تعالى أيِّ مذهبٍ فَسَّرناه من مذاهبِ النحويين في الاشتمالَ
، والتقديرُ : واتقوا عقابَ الله يومَ يجمعُ رسلَه ، فإنَّ العقابَ مشتملٌ على
زمانِه ، أو زمانه مشتملٌ عليه ، أو عاملُها مشتملٌ عليهما على حَسَبِ الخلافِ في
تفسيرِ البدلِ الاشتمالي ، فقد تبيَّن لك امتناعُ هذه العباراتِ بالنسبةِ إلى
الجلالةِ الشريفة . واستبعد الشيخ هذا الوجهَ بطولِ الفصلِ بجملتين ، ولا بُعْدَ
فإنَّ هاتين الجملتين من تمامِ معنى الجملةِ الأولى . السادسُ : أنَّه منصوبٌ ب «
لا يَهْدي » قال الزمخشري وأبو البقاء . قال الزمخشري : « أي : لا يهديهم طريقَ
الجنة يومئذ كما يُفْعَلُ بغيرهم » . وقال أبو البقاء : « أي : لا يهديهم في ذلك
اليومِ إلى حُجَّة أو إلى طريق الجنة » .
السابع : أنه مفعولٌ به وناصبُه « اسمعوا » ولا بد من حذف مضاف حينئذ لأنَّ الزمان
لا يسمع ، فقدَّره أبو البقاء : « واسمعوا خبر يوم يجمع » ولم يذكر أبو البقاء
غيرَ هذين الوجهين وبدأ بأولهما . وفي نصبِه ب « لا يَهْدي » نظر من حيث إنه لا
يهديهم مطلقاً لا في ذلك اليوم ولا في الدنيا ، أعني المحكومَ عليهم بالفسق ، وفي
تقدير الزمخشري « لايهديهم إلى طريق الجنة » نُحُوٌّ إلى مذهبه من أنّ نَفْي
الهداية المطلقة لا يجوز على الله تعالى ، ولذلك خَصَّص المُهْدَى إليه ولم يذكر غيره
، والذي سَهَّل ذلك عنده أيضاً كونُه في يومٍ لا تكليفَ فيه ، وأما في دار التكليف
فلا يُجيز المعتزلي أن يُنْسَبَ إلى الله تعالى نَفْيُ الهدايةِ مطلقاً البتة .
الثامن : أنه منصوبٌ ب « اسمعوا » قاله الحوفي ، وفيه نظرٌ لأنهم
ليسوا مكلِّفين بالسماعِ في ذلك اليومِ ، إذ المرادُ بالسماع السماعُ التكليفي .
التاسع : أنه منصوبٌ بإضمارِ فعلٍ متأخرٍ أي : يوم يَجْمَعُ اللَّهُ الرسلَ كان
كيتَ وكاتَ ، قاله الزمخشري . العاشر : قلت : يجوز أن تكونَ المسألة من باب
الإِعمال ، فإنَّ كُلاً من هذه العوامل الثلاثة المتقدمة يَصِحُّ تسلُّطُه عليه
بدليل أنَّ العلماء جَوَّزوا فيه ذلك ، وتكون المسألةُ مِمَّا تنازع فيها ثلاثةُ
عواملَ وهي « اتقوا » و « اسمعوا » و « لا يَهْدي » ، ويكون من إعمال الأخير لأنه
قد حُذِفَ من الأَوَّلِين ولا مانع يمنع من الصناعة ، وأمَّا المعنى فقد قَدَّمْتُ
أنه لا يظهر نصب « يوم » بشيء من الثلاثة لأنَّ المعنى يأباه ، وإنما أجَزْتُ ذلك
جرياً على ما قالوه وجَوَّزوه ، لاسيما أبو البقاء فإنه لم يذكر غيرَ كونِه
منصوباً ب « اسمعوا » أو ب « لايهدي » ، و كذا الحوفي جَوَّز أن ينتصب ب « اتقوا »
وب « اسمعوا » الحادي عشر : أنه منصوب ب « اقولوا : لا علمَ لنا » أي : قال الرسل
يوم جمعهم وقول الله لهم ماذا أُجبتم . واختاره الشيخ على جميع ما تقدم ، قال : «
وهو نظيرُ ما قلناه في قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ
إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ } [ البقرة : 30 ] وهو
وجه حسن .
قوله : { مَاذَآ أُجِبْتُمْ } فيه أربعةُ أقوال ، أحُدها : أنَّ » ماذا « بمنزلةِ
اسمٍ واحدٍ ، فَغَلَب فيه جانبُ الاستفهام ومحلُّه النصبُ على المصدرِ بما بعده ،
والتقديرُ : أيَّ إجابةٍ أُجِبْتُم . قال الزمشخري : » ماذا أُجِبْتُم « منتصبٌ
انتصابَ مصدرهِ على معنى : أيَّ إجابة أُجِبْتُم ، ولو أُريد الجوابُ لقيل : بماذا
أُجبتم » أي : لو أُريد الكلامُ المجابُ لقيل : بماذا . ومِنْ مجيء « ماذا » كلِّه
مصدراً قوله :
1833- ماذا يَغِيرُ ابنَتَيْ ربعٍ عويلُهما ... لا تَرْقُدانِ ولا بُؤْسَ لِمَنْ
رَقَدا
الثاني : أن « ما » استفهاميةٌ في محل رفع بالابتداء و « ذا » خبره ، وهي موصولةٌ
بمعنى الذي لاستكمال الشرطين المذكورين ، و « أُجِبْتُم » صلتُها ، والعائدُ
محذوفٌ أي : ما الذي أُجِبْتم به ، فَحَذَف العائدَ ، قاله الحوفي . وهذا لايجوزُ
، لأنه لا يجوزُ حَذْفُ العائدِ المجرورِ إلا إذا جُرَّ الموصولُ بحرف مثلِ ذلك
الحرفِ الجارِّ للعائدِ ، وأَنْ يَتَّحِدَ متعلَّقاهما : نحو : « مررتُ بالذي
مررتَ » أي به ، وهذا الموصولُ غير مجرورٍ ، لو قلت : « رأيت الذي مررتَ » أي :
مررتَ به لم يجز ، اللهم إلا أَنْ يُدَّعى حَذْفُه على التدريج بأن يُحَذَفَ حرفُ
الجر فيصلَ الفعل إلى الضمير فيحذفَ كقوله :
{ وَخُضْتُمْ كالذي خاضوا } [ التوبة : 69 ] أي : في أحد أوجهه ،
وقوله : { فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ } [ الحجر : 94 ] في أحد وجهيه ، وعلى الجملةِ فهو
ضعيف . الثالث : أنَّ « ما » مجرورةٌ بحرفِ جَرٍّ مقدَّرٍ ، لَمَّا حُذِف بقيت في
محل نصب ، ذكره أبو البقاء وضَعَّف الوجه الذي قبله - أي كونَ ذا موصولةً - فإنه
قال : « ماذا » في موضعِ نصبٍ ب « أُجِبْتُم » وحرفُ الجرِّ محذوفٌ ، و « ما » و «
ذا » هنا بمنزلةِ اسمٍ واحدٍ ، ويَضْعُفُ أَنْ تُجْعَلَ « ما » بمعنى الذي لأنه لا
عائدَ هنا ، وحذفُ العائدِ مع حرفِ الجَرِّ ضعيفٌ « قلت : أمَّا جَعْلُه حذفَ
العائدِ المجرورِ ضعيفاً فصحيحٌ تقدَّم شرحُه والتنبيهُ عليه ، وأمَّا حذفُ حرفِ
الجر وانتصابُ مجرورِه فهو ضعيفٌ أيضاً ، لا يجوزُ إلا في ضرورة كقولِه :
1834- فَبِتُّ كأنَّ العائداتِ فَرَشْنَنِي ... . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . .
وقوله :
1835- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وأُخْفي الذي
لولا الأَسَى لقَضاني
وقوله :
1836- تَمُرُّون الديارَ ولم تَعُوجُوا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . .
وقد تقدَّم تحقيق ذلك واستنثاءُ المطَّرِد منه ، فقد فَرَّ من ضعيفٍ ووقع في أضعفَ
منه . الرابع : قال ابن عطية » « معناه : ماذا أجابت به الأمم » فَجَعَل « ماذا »
كنايةً عن المجابِ به لا المصدرٍ ، وبعد ذلك ، فهذا الكلامُ منه محتملٌ أَنْ يكونَ
مثلَ ما تقدَّم حكايتُه عن الحوفي في جَعْلِه « ما » مبتدأً استفهاميةً ، و « ذا »
خبره على أنها موصولةٌ ، وقد تقدَّم التنبيه على ضعفه ، ويُحْتمل أن يكون « ماذا »
كلُّه بمنزلة اسمِ استفهام في محلِّ رفع بالابتداء ، وأُجِبْتُم « خبرُه ،
والعائدُ محذوفٌ كما قَدَّره هو ، وهو أيضاً ضعيفٌ ، لأنه لا يُحْذَفُ عائدُ
المبتدأِ وهو مجرورٌ إلا في مواضعَ ليس هذا منها ، لو قلت : » زيدٌ مررتُ « لم يجز
، وإذا تبيَّن ضعفُ هذه الأوجهِ رُجِّح الأول .
والجمهور على » أُجِبْتم « مبنياً للمفعول ، وفي حذف الفاعل هنا ما لا يُبْلَغُ
كُنهُه من الفصاحة والبلاغة حيث اقتصر على خطاب رسله غيرَ مذكورٍ معهم غيرُهم ،
رفعاً من شأنهم وتشريفاً واختصاصاً . وقرأ ابن عباس وأبو حيوة » أَجَبْتم « مبنياً
للفاعل والمفعول محذوف أي : مذا أَجَبْتم أممكم حين كَذَّبوكم وآذَوْكم ، وفيه
توبيخٌ للأمم ، وليست في البلاغةِ كالأولى .
وقوله : { إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب } كقوله : { إِنَّكَ أَنْتَ العليم
الحكيم } [ الآية : 32 ] في البقرة . والجمهورُ على رفع » عَلاَّمُ الغيوب « وقرئ
بنصبِه وفيه أوجهٌ ذَكَرها أبو القاسم وهي : الاختصاصُ والنداءُ وصفةٌ لاسم » إنَّ
« قال : » وقُرئ بالنصب على أنّ الكلامَ تَمَّ عند قوله « إنك أنت » أي : إنك
الموصوف بأوصافِك المعروفة من العلم وغيرِه ، ثم انتصَبَ « عَلاَّم الغيوب » على
الاختصاصِ أو على النداء أو هو صفةٌ لاسم « إنَّ » قال الشيخ : « وهو على حَذْفِ
الخبر لفهم المعنى ، فَتَمَّ الكلامُ بالمقدَّرِ في قوله » إنك أنتَ « اي : إنَّك
الموصوفُ بأوصافِك المعروفةِ من العلم وغيره » ثم قال : « قال الزمخشري : ثم انتصب
فذكره إلى آخره » فزعم أنَّ الزمخشري قَدَّر ل « إنك » خبراً محذوفاً ، والزمخشري
لا يريد ذلك البتةَ ولا يَرْتضيه ، وإنما يريد أنَّ هذا الضمير بكونه لله تعالى هو
الدالُّ على تلك الصفات المذكورة لا انفكاكَ لها عنه ، وهذا المعنى هو الذي تقضيه
البلاغةُ والذي غاص [ عليه أبو القاسم ، لا ماقدَّره ] الشيخُ مُوِهماً أنه أتى به
من عنده .
ويعني بالاختصاص النصبَ على المدحِ لا الاختصاصَ الذي هو شبيه
بالنداء ، فإنَّ شرطه ان يكون حشواً ، ولكنَّ الشيخَ قد رَدَّ على أبي القاسم قوله
« إنه يجوز أن يكون صفةً لاسم » إنَّ « بأنَ اسمها هنا ضمير مخاطب ، والضمير لا
يوصف مطلقاً عند البصريين ، ولا يوصَف منه عند الكسائي إلا ضميرُ الغائبِ لإِبهامه
في قولهم » مررت به المسكينِ « مع إمكان تأويله بالبدل وهو ردٌّ واضح ، على أنه
يمكن أن يقال أرادَ بالصفةِ البدلَ وهي عبارة سيبويه ، يُطْلِقُ الصفةَ ويريد
البدل فله أُسْوَةٌ بإمامه واللازم مشترك ، فما كان جواباً عن سيبويه كان جواباً
له ، ولكن يبْقَى فيه البدلُ بالمشتق وهو اسهلُ من الأول . ولم أَرَهُم خرَّجُوها
على لغة مَنْ ينصِبُ الجزأين ب » إنَّ « وأخواتِها كقولِه :
1837 إنَّ العجوزَ خَبَّةً جَرُوزاً ... [ وقوله ] :
1838- . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . إنَّ حُرَّا سَنا
أُسْدا
[ وقوله ] :
1839- ليتَ الشبابَ هو الرَّجِيعُ على الفتى ... . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . .
[ وقوله ] :
1840- كأنَّ أُذْنيه إذا تَشَوَّفا ... قادِمةً أو قَلَماً مُحْرَّفا
ولو قيل به لكان صواباً
و » عَلاَّمُ « مثالُ مبالغة فهو ناصب لما بعده تقديراً ، وبهذا ايضاً يُرَدُّ على
الزمخشري على تقدير تسليم صحة وصف الضمير من حيث إنه نكرة؛ لأن إضافَته غيرُ محضة
وموصوفَه معرفةٌ . والجمهور على ضمِّ العين من » الغيوب « وهو الأصل ، وقرأ حمزة
وأبو بكر بكسرها ، والخلافُ جارٍ في ألفاظٍ أُخَرَ نحو : » البيوت والجيوب والعيون
والشيوخ « وقد تقدَّم تحرير هذا كله في البقرة عند ذكر { البيوت } [ الآية : 189 ]
، وستأتي كلٌّ لفظةٍ من هذه الألفاظِ مَعْزُوَّةً لقارئِها في سورها إن شاء الله
تعالى . وجُمِع الغيبُ هنا وإنْ كان مصدراً لاختلافِ أنواعِه ، وإن أريد به الشيء
الغائب ، أو قلنا إنه مخففٌ من فَيْعِل كما تقدم تحقيقه في البقرة فواضح .
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)
قوله تعالى : { إِذْ قَالَ الله } : فيها أوجه ، أحدها : أنه بدل من
« يوم يجمع » قال الزمخشري : « والمعنى : أنه يوبخ الكافرين بسؤال الرسل عن
إجابتهم ، وبتعديد ما أَظْهر على أيديهم من الآيات العِظام فكذَّبهم بعضُهم
وسَمَّوهم سحرةً ، وتجاوزَ بعضُهم الحَدَّ فجعله وأمه إليهن » . ولمَّا ذَكَر ابو
البقاء هذا الوجهَ تأوَّلَ فيه « قال » ب « يقول » وأنَّ « إذ » وإنْ كانت للماضي
فإنما وَقَعَتْ هنا على حكاية الحالِ . الثاني : أنه منصوبٌ ب « اذكر » مقدراً ،
قال أبو البقاء : « ويجوزُ أن يكونَ التقديرُ : إذ يقول » ، يعني أنه لا بد من
تأويل الماضي بالمستقبلِ ، وهذا كما تقدَّم له في الوجهِ قبله ، وكذا ابن عطية
تأوَّله ب « يقول » فإنه قال : « تقديرُه : اذكر يا محمد إذ » و « قال » هنا بمعنى
« يقول » لأنَّ ظاهرَ هذا القولِ إنما هو في يوم القيامة تقدمه لقوله : { أَأَنتَ
قُلتَ لِلنَّاسِ } الثالث : أنه في محل رفعٍ خبراً لمتبدأ مضمر ، أي : ذلك إذ قال
، ذكره الواحدي وهذا ضعيفٌ ، لأن « إذ » لا يُتَصَرَّف فيها ، وكذلك القولُ بأنها
مفعول بها بإضمار « اذكر » وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك ، اللهم إلا أَنْ يريدَ الواحدي
بكونِه خبراً أنه ظرفٌ قائمٌ مقامَ خبرٍ نحو : « زيدٌ عندك » فيجوز .
قوله : { ياعيسى ابن مَرْيَمَ } تقدَّم الكلام في اشتقاق هذه المفردات ومعانيها و
« ابن » صفة ل « عيسى » نُصِب لأنه مضاف ، وهذه قاعدةٌ كلية مفيدة ، وذلك أنَّ
المنادى المفردَ المعرفة الظاهرَ الضمةِ إذا وُصف ب « ابن » أو ابنة ووقع الابن أو
الابنة بين علمين أو اسمين متفقين في اللفظ ولم يُفْصَل بين الابن وبين موصوفه
بشيء تثبت له أجكامٌ منها : أنه يجوزُ إتباعُ المنادى المضمومِ لحركةِ نون « ابن »
فيُفتح نحو : « يا زيدَ بن عمرو ، ويا هندَ ابنة بكر » بفتح الدال من « زيد » و «
هند » وضمِّها ، فلو كانت الضمةُ مقدرةً نحو ما نحن فيه ، فإنَّ الضمة مقدرة على
ألف « عيسى » فهل يُقَدَّر بناؤه على الفتح إتباعاً كما في الضمة الظاهرة؟ خلاف :
الجمهورُ على عَدَمِ جوازِه ، إذ لا فائدة في ذلك ، فإنه إنما كان للإِتباع وهذا
المعنى مفقود في الضمة المقدرة . وأجاز الفراء ذلك إجراءً للمقدر مُجْرى الظاهر ،
وتبعه أبو البقاء فإنه قال : « يجوز أن يكونَ على الألف من » عيسى « فتحةٌ ، لأنه
قد وُصِف ب » ابن « وهو بين عَلَمين ، وأن يكونَ علهيا ضمةٌ ، وهو مثلُ قولِك : »
يا زيد بن عمرو « بفتح الدال وضمها » .
وهذا الذي قالاه غيرُ بعيدٍ ، ويَشْهَدُ له مسألة عند الجميعِ : وهو
ما إذا كان المنادى مبنياً على الكسرِ مثلاً نحو : « يا هؤلاء » فإنهم أجازوا في
صفتِه الوجهين : الرفعَ والنصبَ فيقولون : « يا هؤلاء العقلاءِ والعقلاءُ » بنصب
العقلاء ورفعها ، قالوا : والرفعُ مراعاةً لتلك الضمة المقدرة على « هؤلاء » فإنه
مفرد معرفة ، والنصب على محله ، فقد اعتبروا الضمةَ المقدرةَ في الإِتباع ، وإنْ
كان ذلك فائتاً ، في اللفظ . وقد يُفَرَّقُ بأنَّ « هؤلاء » نحن مضطرون فيه إلى
تقدير تلك الحركةِ لأنه مفرد معرفةٌ ، فكأنها ملفوظٌ بها بخلافِ تقديرِ الفتحة هنا
.
وقال الواحدي في « يا عيسى » : ويجوزُ أن يكونَ في محل النصب [ لأنه في نية
الإِضافة ، ثم جَعَلَ الابنَ توكيداً له ، وكل ما كان ] مثلَ هذا جاز فيه الوجهان
نحو : « يا زيد بن عمرو » وأنشد :
1841- يا حَكَمُ بنُ المنذرِ بن الجارودُ ... أنتَ الجوادُ بنُ الجوادِ بنُ الجودْ
سُرادِقُ المجدِ عليك ممدودْ ... بنصب الأول ورفعه على ما بَيَّنَّا . وقال
التبريزي : « الأظهر عندي أنَّ موضع » عيسى « نصب؛ لأنك [ تجعلُ الاسم مع نعتِه
إذا أضفته إلى العلم ] كالشيء الواحد المضافِ ، وهذا الذي قالاه لا يُشْبِهُ كلامَ
النحاةِ أصلاً ، بل يقولون : الفتحةُ للإِتباع ولم يُعْتَدَّ بالساكن لأنه حاجزٌ
غيرُ حصينٍ ، كذا قال الشيخ . قلت : قد قال الزمخشري - وكونه ليس من النحاة
مكابرةٌ في الضروريات - عند قوله : { إِذْ قَالَ الحواريون ياعيسى ابن مَرْيَمَ }
[ المائدة : 112 ] : » عيسى في محل النصب على إتباع حركته حركةَ الابن كقولك : «
يا زيدَ بنَ عمرو » وهي اللغة الفاشية ، ويجوزُ أن يكونَ مضموماً كقولِك « يا زيدُ
بنَ عمرو » والدليل عليه قوله :
1842- أحارِ بن عمروٍ كأني خَمِرْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
لأنَّ الترخيم لا يكونُ إلا في المضمومِ انتهى . فاحتاج إلى الاعتذار عن تقديرِ
الضمة ، واستشهد لها بالبيتِ لمخالفتِها اللغةَ الشيهرة .
وقولي : « المفرد » تحرُّزٌ من المُطَوَّل . وقولي « المعرفة » تحرز من النكرة نحو
: « يا رجلاً ابن رجل » إذا لم تَقْصِدْ به واحداً بعينه . وقولي : « الظاهرَ
الضمةِ » تحرُّزٌ من نحو : « يا موسى بن فلان » وكالآية الكريمة . وقولي : ب « ابن
» تحرُّزٌ من الوصف بغيرِه نحو : « يا زيدُ صاحبَنا » وقولي : « بين علمين أو
متفقين لفظاً » تحرُّزٌ من نحو : « يا زيد بن أخينا » وقولي : « غيرَ مفصولٍ »
تحرُّزٌ من نحو : « يا زيدُ العاقلُ ابنَ عمرو » فإنه لا يجوز في جميع ذلك إلا
الضم . وقولي : « أحكام » قد تقدَّمتْ منها ما ذكرتُه من جوازِ فتحِه إتباعاً ،
ومنها : حَذْفُ ألفِه خطاً ، ومنها : حَذْفُ تنويِنه في غيرِ النداء؛ لأنَّ
المنادَى لا تنوينَ فيه .
وقولي : « وصفٌ » تحرُّزٌ من أن يكون الابن خبراً لا صفة نحو : «
زيدٌ ابنُ عمرو » وهل يجوزُ إتباعُ « ابن » فيُضمَّ نحو : « يا زيد بن ُ عمرو »
بضم « ابن »؟ فيه خلافٌ .
وفي قوله : { ابن مَرْيَمَ } ثلاثةُ أوجه ، أحدُها : أنه صفةٌ كما تقدم ، والثاني
: أنه بدلٌ والثالث : أنه بيانٌ ، وعلى الوجهين الأخيرين لا يجوزُ تقديرُ التفحةِ
إتباعاً إجماعاً ، لأنّ الابنَ لم يَقَعْ صفةً ، وقد تقدم أنَّ ذلك شرطٌ .
قوله : { إِذْ أَيَّدتُّكَ } في « إذ » أوجهٌ ، أحدُها : أنه منصوبٌ ب « نعمتي »
كأنه قيل : اذكرُ إذ أنعمتُ عليك وعلى أمِّك في وقت تأييدي لك . والثاني : أنه
بدلٌ من « نعمتي » بدلُ اشتمال ، وكأنه في المعنى تفسيرٌ للنعمة . والثالث : أنه
حالٌ من « نعمتي » قاله أبوالبقاء والرابع : أن يكون مفعولاً به على السِّعَة قاله
أبو البقاء أيضاً . قلت : هذا هو الوجهُ الثاني - أعني البدليةَ - وقرأ الجمهور «
أيَّدتك » بتشديد الياء ، وغيرهم « آيَدْتُك » وقد تقدَّم الكلام على ذلك وعلى
مَنْ قرأ بها وما قاله الزمخشري وابن عطية والشيخ في سورة البقرة فليُنْظر ثَمَّ .
قوله : { تُكَلِّمُ الناس فِي المهد } إلى آخرها : تقدَّم ايضاً في آل عمران ، وما
فائدةُ قوله : { فِي المهد وَكَهْلاً } إلا أنَّ هنا بعضَ زياداتٍ لابدَّ من
التعرض لها . قرأ ابن عباس : « فتنفخُها » بحذف حرف الجر اتساعاً . والجمهور : «
فتكونُ » بالتاء منقوطةً فوق ، وأبو جعفر منقوطةً تحتُ ، أي : فيكونُ المنفوخ فيه
. والضمير في « فيها » قال ابن عطية : « اضطربت فيه أقوال المفسرين » قال مكي : «
هو في آل عمران عائدةٌ على الطائر ، وفي المائدة عائدٌ على الهيئة » قال : «
وَيصِحُّ عكس هذا » . وقال غير مكي : « الضمير المذكور عائد على الطين » . قال ابن
عطية : « ولا يَصِحُّ عودُ هذا الضمير على الطير ولا على الطين ولا على الهيئة ،
لأنَّ الطير أو الطائر الذي يَجِيء الطين على هيئته لا يُنْفَخُ فيه البتةَ ،
وكذلك لا نفخَ في هيئته الخاصة به ، وكذلك الطينُ إنما هو الطينُ العام ولا نفخَ
في ذلك » . وقال الزمخشري : « ولا يَرْجِعُ الضميرُ إلى الهيئةِ المضافِ إليها
لأنها ليست مِنْ خَلْقِه ولا مِنْ نفخِه في شيء ، وكذلك الضميرُ في » فتكون « . ثم
قال ابن عطية : » والوجهُ عودُ ضمير المؤنث على ما تقتضيه الآيةُ ضرورةً أي :
صوراً أو أشكالاً أو اجساماً ، وعودُ الضميرِ المذكِّر على المخلوقِ المدلولِ عليه
ب « تخلقُ » ثم قال : « ولك أن تعيدَه على ما تَدُلُّ عليه الكاف من معنى المثل
لأنَّ المعنى : وإذ تَخْلُق من الطينِ مثلَ هيئِته ، ولك أن تعيدَه على الكاف
نفسِها فتكونَ اسماً في غيرِ الشعر » انتهى .
وهذا القولُ هو عينُ ما قبله ، فإنَّ الكافَ أيضاً بمعنى مِثْل ،
وكونُها اسماً في غير الشعرِ لم يَقُلْ به غيرُ الأخفش .
استشكل الناسُ قولَ مكي المتقدم كما قَدَّمْتُ حكايتَه عن ابن عطية ، ويمكنُ أَنْ
يُجابَ عنه بأنَّ قولَه « عائدٌ على الطائر » لا يريدُ به الطائر الذي أُضيفت إليه
الهيئةُ بل الطائرُ المُصَوَّرُ ، والتقدير : وإذ تخلق من الطين طائراً صورةَ
الطائرِ الحقيقي فتنفخُ فيه فيكونُ طائراً حقيقياً ، وأنَّ قوله « عائدٌ على
الهيئة » لا يريدُ الهيئةَ المجرورةَ بالكاف ، بل الموصوفةَ بالكاف ، والتقدير :
وإذ تخلُق من الطينِ هيئةً مثلَ هيئة الطائر فتنفخُ فيها أي : في الموصوفة بالكافِ
التي نُسِب خَلْقُها إلى عيسى . وأمَّا كونُه كيف يعودُ ضميرٌ مذكر على هيئةٍ
وضميرٌ مؤنثٌ عل الطائرِ لأنَّ قوله : « ويجوز عكسُ هذا » يؤدي إلى ذلك « فجوابُه
أنه جازَ بالتأويل ، لأنه تُؤَوَّلُ الهيئةُ بالشكل ويُؤَوَّل الطائرُ بالهيئةِ
فاستقام ، وهو موضعُ تأولٍ وتأنٍ . وقال هنا » بإذني « أربعَ مراتٍ عَقِيب أربع
جمل ، وفي آل عمران » بإذن الله « مرتين؛ لأنَّ هناك موضعَ إخبارٍ فناسَبَ الإِيجازَ
، وهنا مقامُ تذكيرٍ بالنعمةِ والامتنانِ فناسبَ الإِسهابَ؛ وقوله : » بإذني «
حالٌ : إمَّا من الفاعلِ أو من المفعول .
قوله : { إِلاَّ سِحْرٌ } قرأ الأخَوان هنا وفي هود وفي الصف » إلا ساحر « اسم
فاعل ، والباقون : » إلا سحرٌ « مصدراً في الجميع ، والرسمُ يحتمل القراءتين ،
فأمَّا قراءةُ الجماعةِ فتحتمل أن تكون الإِشارة إلى ما جاءَ به من البينات أي :
ما هذا الذي جاء به من الآيات الخوارقِ إلى سحرٌ ، ويُحْتمل ان تكونَ الإِشارةُ
إلى عيسى ، جَعَلُوه نفسَ السحر مبالغةً نحو : » رجلٌ عدلٌ « ، أو على حَذْفِ
مضافٍ أي : إلا ذو سحر . وخَصَّ مكي هذا الوجهَ بكون المرادِ بالمشارِ إليه محمداً
صلى الله عليه وسلم فقال : » ويجوزُ أن تكونَ إشارةً إلى النبي محمد صلى الله عليه
وسلم على تقدير حَذْفِ مضافٍ أي : إنْ هذا إلا ذو سحر « . قلت : وهذا جائزٌ ،
والمرادُ بالمشار إليه عيسى عليه السلام ، وكيف يكونُ المرادُ النبيَّ صلى الله
عليه وسلم وهو لم يكن في زمنِ عيسى والحواريين حتى يشيروا إليه إلا بتأويلٍ بعيد »
وأمَّا قراءةُ الأخوين فتحتمل أن يكون « ساحر » اسم فاعل والمشارُ إليه « عيسى » ،
ويُحتمل أن يكون المرادُ به المصدرَ كقولهم : « عائذاً بك وعائذاً بالله مِنْ
شَرِّها ، والمشارُ إليه ما جاء به عيسى من البيِّنات والإِنجيل ، ذَكَر ذلك مكي ،
وتَبِعه أبو البقاء ، إلا أنَّ الواحدي مَنَع مِنْ ذلك فقال - بعد أَنْ حَكى
القراءتين - » وكلاهما حَسَنٌ لاستواءِ كلِّ واحدٍ منهما في أنَّ ذِكْرَه قد تقدَّم
، غير أَنَّ الاختيار « سحر » لجوازِ وقوعِه على الحَدِثِ والشخص ، وأمَّا وقوُعه
على الحدث فسهلٌ كثير ، ووقُوعه على الشخصِ يريدُ ذو سحر كقوله :
{ ولكن البر مَنْ آمَنَ } [ البقرة : 177 ] وقالوا : « إنما أنت سيرٌ
» و « ما أنت إلا سيرٌ » و :
1843- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فإنما هي إقبالٌ وإدبارُ
قلت : وهذا يرجِّحُ ما قَدَّمْتُه من أنه أَطْلق المصدر على الشخص مبالغةً نحو : «
رجل عدل » ثم قال : « ولا يجوزُ أَنْ يُراد بساحر السحر ، وقد جاء فاعِل يراد به
المصدرُ في حروفٍ ليست بالكثير نحو : » عائذاً بالله من شره « أي : عياذاً ، ونحو
» العافِية « ولم تَصِرْ هذه الحروفُ من الكثرة بحيث يسوغُ القياس عليها »
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)
قوله تعالى : { أَنْ آمِنُواْ } : في « أَنْ » وجهان ، أظهرهما :
أنها تفسيرية لأنها وردت بعدما هو بمعنى القول لا حروفِه . والثاني : انها مصدرية
بتأويلٍ متكلف أي : أَوْجَبْتُ إليهم الأمر بالإِيمان ، وهنا قالوا « آمنَّا » ولم
يُذْكر المُؤْمَنْ به ، وهناك { آمَنَّا بالله } [ آل عمران : 52 ] فذكره ، والفرق
أنَّ هناك تقدَّم ذِكْرُ الله تعالى فقط فأُعيدَ المؤمَنْ به فقيل : « بالله »
وهنا ذُكِر شيئان قبل ذلك وهما : { أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي } فلم يُذْكَر
ليشمل المذكورين ، وفيه نظرٌ . وهنا « بأنَّنا » وهناك « بأنَّا » بالحذف ، وقد
تقدَّم غيرَ مرة أنَّ هذا هو الأصل ، وإنما جِيء هنا بالأصل لأنَّ المُؤْمَنَ به
متعدِّدٌ فناسَبَه التأكيد .
قوله : { هَلْ يَسْتَطِيعُ } قرأ الجمهورُ « يَسْتَطيع » بياء الغيبة « ربك »
مرفوعاً بالفاعلية ، والكسائي : « تَسْتَطيع » بتاء الخطاب لعيسى ، و « ربَّك »
بالنصب على التعظيم ، وقاعدتُه أنه يُدْغِم لام « هل » في أحرف منها هذا المكان ،
وبقراءة الكسائي قرأت عائشة ، وكانت تقول : « الحواريُّونَ أعرفُ بالله من أن
يقولوا : هل يستطيع ربك » كأنها - رضي الله عنها - نَزَّهَتْهم عن هذه المقالةِ
الشنيعة أَنْ تُنْسَبَ إليهم ، وبها قرأ معاذ أيضاً وعلي وابن عباس وسعيد بن جبير
في آخرين ، وحينئذ فقد اختلفوا في هذه القراءة : هل تحتاجُ إلى حَذْفِ مضاف أم لا؟
فجمهورالمُعْربين / يقدِّرون : هل تستطيعُ سؤالَ ربك ، وقال الفارسي : « وقد يمكن
أَنْ يُسْتغنى عن تقدير » سؤالَ « على أن يكون المعنى : هل تستطيع أن يُنَزَّل
ربُّك بدعائك ، فيُرَدُّ المعنى - ولا بد - إلى مقدَّر يدل عليه ما ذُكِر من اللفظ
» قال الشيخ : « وما قاله غيرُ ظاهرٍ لأنَّ فعلَه تعالى وإنْ كان مسبباً عن
الدعاءِ فهو غيرُ مقدورٍ لعيسى » واختار أبو عبيد هذه القراءةَ قال : « لأنَّ
القراءةَ الأخرى تُشْبه أن يكونَ الحواريُّون شاكِّين ، وهذه لا تُوهِمُ ذلك » .
قلت : وهذا بناء من الناسِ على أنهم كانوا مؤمنين ، وهذا هو الحقُّ .
قال ابن الأنباري : « لا يجوزُ لأحد أن يتَوَهَّم على الحواريين أنهم شَكُّوا في
قدرة الله تعالى » وبهذا يَظْهَرُ أنَّ قول الزمخشري أنهم ليسا مؤمنين ليس بجيدٍ
وكأنه خارقٌ للإِجماع . قال ابن عطية : « ولا خلاف أحفظُه أنهم كانوا مؤمنين » .
وأمَّا القراءةُ الأولى فلا تَدُلُّ له لأن الناس أجابوا عن ذلك باجوبةٍ منها :
أنَّ معناه : هل يَسْهُل عليك أن تسأل ربَّك ، كقولِك لآخر : هل تستطيع أن تقومَ؟
وأنت تعلم استطاعته لذلك . ومنها : أنهم سألوه سؤالَ مستخبرٍ : هل يُنَزَّل أم لا
، فإن كان يُنَزِّلُ فاسأله لنا .
ومنها : أن المعنى هل يفعلُ ذلك وهل يقع منه إجابةٌ لذلك؟ ومنه ما
قيل لعبد الله بن زيد : هل تستطيعُ أن تُرَيَني كيف كان رسولُ الله صلى الله عليه
وسلم يتوضأ؟ أي هل تُحِبُّ ذلك؟ وقيل : المعنى : هل يطلب ربُّك الطاعة من نزول
المائدة؟ قال أبو شامة : « مثلُ ذلك في الإِشكال ما رواه الهيثم - وإن كان ضعيفاً
- عن ثابت عن أنس » أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عادَ أبا طالب في مرض فقال :
يا بنَ أخي ادعُ ربَّك الذي تعبده فيعافيَني . قال : اللهم اشفِ عمي ، فقام أبو
طالب كأنما نَشِط من عِقال . فقال : يابنَ أخي إنّ ربك الذي تعبدُ لَيطيعُك . قال
: وأنت يا عَمَّاه لو أَطَعْتَه ، أو : لئن أطعتَ اللّهَ ليطيعَنَّك اي :
لَيجيبَنَّك إلى مقصودك « . قلت : والذي حَسَّن ذلك المقابلةُ منه صلى الله عليه
وسلم للفظِ عَمِّه كقوله : { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله } [ آل عمران : 54 ] وقيل
: التقدير : هل يُطيع؟ فالسينُ زائدة كقولهم : استجاب وأجاب ، قال :
1844- وداعٍ دعا يا مَنْ يُجيب إلى النَّدى ... فلم يَسْتِجَبْه عند ذاك مُجيبُ
وبهذه الأجوبةِ يُستغنى عن قولِ مَنْ قال : » إنَّ يستطيع زائدةٌ « والمعنى : هل
يُنَزَّل ربُّك ، لأنه لا يُزال من الأفعال إلا » كان « بشرطينِ وشَذَّ زيادةُ
غيرِها في مواضعَ عَدَدْتُها في غيرِ هذا الكتاب ، على أنَّ الكوفيين يُجيزون
زيادةَ بعض الأفعال مطلقاً ، حَكَوْا : قَعَدَ فلانٌ يتهكَّم بي » ، وأنشدوا :
1845- على ما قام يَشْتِمُني لئيمٌ ... كخنزيرٍ تَمَرَّغَ في رَمادِ
وحكى البصريون على وجه الشذوذ : « ما اصبحَ أبردَها وما أمسى أدفأَها » يعنون
الدنيا .
قوله { أَن يُنَزِّلَ } في قراءةِ الجماعة في محل نصب مفعولاً به أي : الإِنزالَ .
وقال أبو البقاء : « والتقدير : على أن ينزَّل ، أو في أن ينزَّل ، ويجوز ألاَّ
يُحتاجَ إلى حرف جر على أن يكون » يَسْتطيع « بمعنى » يُطيق « . قلت : إنما احتاج
إلى تقديرِ حَرْفَي الجرِّ في الأول لأنه حَمَل الاستطاعةَ على الإِجابة ، وأمَّا
قولُه أخيراً » إنَّ يستطيع بمعنى يُطِيق « فإنما يَظْهَرُ كلَّ الظهورِ على رأي
الزمخشري من كونهم ليسوا بمؤمنين . وأمَّا في قراءةِ الكسائي فقالوا : هي في محلِّ
نصبٍ على المفعولية بالسؤالِ المقدَّر أي : هل يستطيع أنت أن تسألَ ربَّك
الإِنزالَ ، فيكون المصدرُ المقدرُ مضافاً لمفعوله الأول وهو » ربّك « فلمَّا
حُذِفَ المصدرُ انتصب . وفيه نظرٌ من أنهم أعملوا المصدرَ مضمراً ، وهو لا يجوزُ
عند البصريين ، يُؤَوِّلون ما ورد ظاهرُه ذلك . ويجوز أن يكونَ » أن ينزَّل «
بدلاً من » ربك « بدلَ اشتمالٍ ، والتقدير : هل تستطيع أي : هل تُطيق إنزالَ الله
تعالى مائدةً بسبب دعائك؟ وهو وجهٌ حسن .
و » مائدة « مفعول » يُنَزِّلُ « والمائدة : الخِوُان عليه طعامٌ ، فإن لم يكن
عليه طعامٌ فليست بمائدةٍ ، هذا هو المشهور ، إلا أن الراغب قال : » والمائدةُ :
الطبقُ الذي عليه طعام ، ويقال لكل واحدٍ منها مائدةٌ « وهو مخالِفٌ لما عليه
المُعْظَمُ ، وهذه المسألة لها نظائرٌ في اللغة ، لا يقال للخِوان مائدةٌ إلا
وعليه طعامٌ وإلا فهو خِوان ، ولا يقال كأسٌ إلا وفيها خَمْرٌ وإلا فهي قَدَحٌ ،
ولا يقال ذَنوب وسَجْل إلا وفيه ماء ، وإلا فهو دَلْو ، ولا يقال جِراب إلا وهو
مدبوعٌ وإلا فهو إهاب ، ولا قَلَمٌ إلا وهو مَبْرِيٌّ وإلا فهو أنبوب .
واختلف اللغويون في اشتقاقها فقال الزجاج : « هي من مادَ يَميدُ إذ
تحرك ، ومنه قوله : { رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ } [ الأنبياء : 31 ] ومنه :
مَيْدُ البحر » وهو ما يُصيب راكبَه ، فكأنها تَميد بما عليها من الطعام ، قال : «
وهي فاعِله على الأصل » وقال أبو عبيد : « هي فاعلة بمعنى مَفْعولة مشتقةٌ من
مادَهُ بمعنى أعطاه ، وامتادَهُ بمعنى استعطاهُ فهي بمعنى مَفْعولة » قال : «
كعِيشة راضِية » وأصلُها أنها مِيدَ بها صاحبُها أي : أُعْطِيها ، والعربُ تقول :
ما دَني فلان يَميدني إذا أحسنَ إليَّ وأعطاني « وقال أبو بكر بن الأنباري : »
سُمِّيت مائدةً لأنها غياثٌ وعطاءٌ ، من قولِ العرب : مادَ فلانٌ فلاناً إذا
أَحْسَنَ إليه ، وأنشدَ :
1846- إلى أميرِ المؤمنين المُمْتادْ ... أي : المُحْسِنُ لرعيَّته ، وهي فاعِلَة
من المَيْد بمعنى مُعْطِية فهو قريب من قولِ أبي عبيد في الاشتقاق ، إلا أنَّها
عنده بمعنى فاعِله على بابها . وابنُ قتيبة وافق أبا عبيد في كونها بمعنى مفعولة ،
قال : « لأنها يُمادُ بها الآكلون أي يُعْطَوْنها » . وقيل : هي من المَيْد وهو
الميل ، وهذا هو معنى قول الزجاج . قوله : « من السماء » يجوز أَنْ يتعلَّقَ
بالفعلِ قبلَه ، وأَنْ يتعلَّق بمحذوف على أنه صفةٌ ل « مائدة » أي : مائدةً
كائنةً من السماء أي : نازلةً منها .
قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113)
وقرأ الجمهور : { ونَعْلَمَ } : و « نكون » بنون المتكلم مبنياً
للفاعل ، و قرأ ابن جبير - فيما نقله عنه ابن عطية - « وتُعْلَم » بضم التاء على
أنه مبني للمفعول ، والضميرُ عائدٌ على القلوب أي : وتُعْلَمَ قلوبُنا ، ونُقل عنه
« ونُعْلَم » بالنون مبنياً للمفعول ، وقرئ : « يُعْلم » بالياء مبنياً للمفعول ،
والقائمُ مقام الفاعل : « أَنْ قد صدقتنا » أي : ويُعْلَمَ صِدْقُك لنا ، ولا يجوز
أن يكونَ الفعلُ في هذه القراءةِ مسنداً لضميرِ القلوب لأنه جارٍ مَجْرى المؤنثِ
المجازي ، ولا يجوزُ تذكيرُ فعلِ ضميرِه . وقرأ الأعمش : و « تَعْلَم » بتاء
والفعل مبني للفاعل ، وهو ضمير القلوب ، ولا يجوزُ أن تكونَ التاءُ للخطاب لفسادِ
المعنى ، ورُوي : « وتِعْلَم » بكسر حرف المضارعة ، والمعنى على ما تقدَّم وقُرئ :
و « تَكون » بالتاء والضمير للقلوب .
وأَنْ « في » أَنْ قد صَدَقْتَنا « مخففةٌ واسمُها محذوفٌ ، و » قد « فاصلةٌ لأنَّ
الجملة الواقعةَ خبراً لها فعليةٌ متصرفةٌ غيرُ دعاءٍ ، وقد عَرَفْتَ ذلك مما تقدم
في قوله : { أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ } [ المائدة : 71 ] ، و » أن « وما بعده
سادَّةٌ مسدَّ المفعولين أو مسدَّ الأول فقد والثاني محذوف . و » عليها « متعلقٌ
بمحذوف يَدُلُّ عليه » الشاهدين « ولا يتعلَّقُ بما بعده لأن » أل « لا يَعْمل ما
بعدَها فيما قبلَها عند الجمهورِ ، ومَنْ يُجيز ذلك يقول : » هو متعلقٌ بالشاهدين
، قُدِّم للفواصل « . وأجاز الزمخشري أن تكونَ » عليها « حالاً فإنه قال : » أو
نكونُ من الشاهدين لله بالواحدنية ولك بالنبوةِ عاكفين عليها ، على أن « عليها »
في موضع الحال « قلت : قوله » عاكفين « تفسيرُ معنىً؛ لأنه لا يُضْمر في هذه
الأماكن إلا الأكوانُ المطلقة ، وبهذا الذي قلته لا يَرد عليه ما قاله الشيخ فإنه
غاب عليه ذلك ، وجعله متناقضاً من حيث إنه لَمَّا علَّقه ب » عاكفين « كان غير
حال؛ لأنه إذا كان حالاً تعلَّق بكون مطلق ، ولا أدري ما معنى التناقض وكيف
يَتَحَمَّلُ عليه إلى هذا الحَدِّ؟
قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114)
قوله تعالى : { تَكُونُ لَنَا عِيداً } : في « تكون » ضمير يعود على
« مائدة » هو اسمُها ، وفي الخبرِ احتمالان ، أظهرُهما : أنه عيد ، و « لنا » فيه
وجهان أحدهما : أنه حال من « عيدا » لأنها صفة له في الأصل ، والثاني : أنها حال
من ضمير « تكون » عند مَنْ يُجَوِّزُ إعمالَها في الحال . والوجه الثاني : أنَّ «
لنا » هو الخبر ، و « عيداً » حال : إمَّا من ضمير « تكونُ » عند مَنْ يرى ذلك ،
وإمَّا من الضمير في « لنا » لأنه وقعَ خبراً فتحمَّل ضميراً ، والجملةُ في محلِّ
نصبٍ صفةً لمائدة .
وقرأ عبد الله : { تَكُنْ } بالجزم على جواب الأمر في قوله : « أَنْزل » قال
الزمخشري : « وهما نظير { يَرِثُنِي وَيَرِثُ } [ مريم : 6 ] يريد قوله تعالى : {
فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي } بالرفع صفةً ، وبالجزم جواباً ،
ولكنْ القراءتان هناك متواترتان ، والجزمُ هنا في الشاذ .
والعِيد مشتق من العَوْد لأنه يعود كل سنة ، قاله ثعلب عن ابن الأعرابي . وقال ابن
الأنباري : » النحويون يقولون : يوم العيد ، لأنه يعود بالفرح والسرور ، وعند
العرب لأنه يعد بالفرح والحزن ، وكل ما عاد إليه في وقت فهو عِيد ، حتى قالوا
للطَّيْفِ عيد « قال الأعشى :
1847- فواكبدي من لاعجِ الحُبِّ والهَوى ... إذا اعتاد قَلْبي من أُمَيْمَة عيدُها
أي : طيفُها ، وقال تأبَّط شراً :
1848- يا عيدُ ما لكَ مِنْ شوقٍ وإيراقِ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . .
وقال :
1849- عادَ قلبي من الطويلةِ عيدُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . .
وقال الراغب : » والعيديُ حالةٌ تعاوِدُ الإِنسانَ ، والعائدة : كل نفع يرجع إلى
الإِنسان بشيء ، ومنه « العَوْدُ » للبعيرِ المسنِّ : إمَّا لمعاودته السيرَ
والعملَ فهو بمعنى فاعِل ، وإمَّا لمعاودةِ السنين وإياه ومَرِّها عليه فهو بمعنى
مفعول ، قال : امرؤ القيس :
1850- على لاحِبٍ لا يُهْتَدى بمنارِه ... إذا سافَه العَوْدُ النباطِيُّ جَرْجَرا
وصَغَّره على « عُيَيْد » وكَسَّروه على « أعياد » وكانَ القياسُ عُوَيْد وأَعْود
، لزوالِ موجبِ قَلْبِ الواوِ ياءً ، لأنها إنما قُلِبت لسكونِها بعد كسرةٍ ك «
ميزان » ، وإنما فَعَلوا ذلك قالوا : فرقاً بينه وبين عودِ الخشب .
قوله : { لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا } فيه وجهان أحدُهما : أنه متعلقٌ بمحذوف لأنه
وقعَ صفةً ل « عيداً » الثاني : أنه بدلٌ من « ن » في « لنا » قال الزمخشري : «
لأولنا وآخرنا » بدلٌ من « لنا » بتكرير العاملِ « ثم قال : » وقرأ زيد بن ثابت
والجحدري لأَولانا وأُخْرانا والتأنيثُ على معنى الأمة . « وخَصَّص أبو البقاء
كلَّ وجه بشيء وذلك أنه قال : » فأمَّا « لأولنا وآخرنا » فإذا جعلت « لنا » خبراً
وحالاً من فاعل « تكون » فهو صفةٌ ل « عيداً » ، وإن جعلت « لنا » صفة ل « عيد »
كان « لأولنا » بدلاً من الضمير المجرور بإعادة الجارِّ « .
قلت : إنما فعل ذلك لأنه إذا جعل « لنا » خبراً كان « عيداً » حالاً
، وإن جعله حالاً كان « عيداً » خبراً ، فعلى التقديرين لا يمكنُه جَعْلُ « لأولنا
» بدلاً من « لنا » لئلا يلزَم الفصلُ بين البدلِ والمبدلِ منه : إمَّا بالحال
وإما بالخبر وهو « عيد » بخلافِ ما إذا جُعِل « لنا » صفةً ل « عيد » ، هذا الذي
يظهر في تخصيصِه ذلك بذلك ، ولكن يُقال : قولُه « فإنْ جعلت لنا صفة لعيداً كان
لأولنا بدلاً » مُشْكل أيضاً ، لأنَّ الفصلَ فيه موجود ، لا سيما أنَّ قولَه لا
يُحْمل على ظاهره لأنَّ « لنا » ليس صفةً بل هو حالٌ مقدمة ، ولكنه نظر إلى الأصل
، وأنَّ التقدير : عيداً لنا لأوَّلنا ، فكأنه لا فصلَ ، والظاهرُ جوازُ البدل ،
والفصلُ بالخبر أو الحال لا يَضُرُّ لأنه من تمامِه فليس بأجنبي .
واعلم أن البدلَ من ضميرِ الحاضر سواءً كان متكلماً أم مخاطباً لا يجوز عند جمهورِ
البصريين من بدلِ الكل من الكلّ لو قلت : « قمتُ زيدٌ » يعني نفسَك ، و « ضربتُك
عَمْراً » لم يَجُزْ ، قالوا : لأنَّ البدلَ إنما يؤتي به للبيانِ غالباً ،
والحاضرُ متميِّزٌ بنفسِه فلا فائدةَ في البدلِ منه ، وهذا يَقْرُبُ من تعليلِهم
في منعِ وصفِه . وأجازَ الأخفشُ ذلك مطلقاً مستدِلاً بظاهر هذه الآية وبقوله :
1851- أنا سيفُ العشيرةِ فاعرِفوني ... حُمَيْداً قد تَذَرَّيْتُ السِّناما
ف « حُمَيْداً » بدل من ياء اعرفوني ، وقولِ الآخر :
1852- وشوهاءَ تَغْدو بي إلى صارخ الوغى ... بمُسْتَلْئِمٍ مثلِ الفنيق
المُدَجَّلِ
وقوله :
1853- بكم قريشٍ كُفينا كُلَّ مُعْضِلَةٍ ... وأَمَّ نهج الهُدى مَنْ كان ضِلِّيلا
وفي الحديث : « أتينا النبيَّ صلى الله عليه وسلم نفرٌ من الأشعريين » والبصريون
يُؤَوِّلون جميع ذلك ، أمَّا الآية الكريمة فعلى ما تقدم في الوجه الأول ، وأما «
حُمَيْداً » فمنصوب على الاختصاص ، وأمَّا « بمُسْتلئم » فمن باب التجريد وهو شيءٌ
يعرفه أهلُ البيان ، يعني أنه جَرَّد من نفسه ذاتاً متصفةً بكذا ، وأمَّا « قريش »
فالروايةُ بالرفعِ على أنه منادى نُوِّن ضرورةً كقولِه :
1854- سلامُ اللَّهِ يا مطرٌ عليها ... وليسَ عليك يا مطرُ السَّلامُ
وأمَّا « نفرٌ » فخبر مبتدأ مضمر أي : نحن ، ومنع ذلك بعضُهم إلا أَنْ يُفيدَ
البدلُ توكيداً وإحاطةَ شمولٍ فيجوزُ ، واستدلَّ بهذه الآية وبقول الآخر :
1855- فما بَرِحَتْ أقدامُنا في مقامِنا ... ثلاثتِنا حتى أُزيروا المَنائِيَا
بجر « ثلاثتنا » بدلاً من « ن » ، ولا حُجَّة فيه لأنَّ « ثلاثتنا » توكيدٌ جارٍ
مَجْرى « كل » .
قوله تعالى : { وَآيَةً } : عطف على « عيداً » ، و « منك » صفتها . وقرأ اليماني :
« وإنَّه » ب « إنَّ » المشددة ، والضمير : إما للعيد وإما للإِنزال .
قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)
وقرأ نافع وابن عامر وعاصم : { مُنَزِّلُهَا } : بالتشديد ، فقيل :
إنَّ أَنْزَل ونَزَّل بمعنى ، وقد تقدم تحقيق ذلك . وقيل : التشديد للتكثير ، ففي
التفسير أنها نَزَلت مراتٍ متعددة ، وأما نُنَزِّلُ فقُدِّم تحقيق الخلاف فيه .
قوله تعالى : { بَعْدُ } : متعلق ب « يكفر » ، وبُني لقَطْعِه عن الإِضافة ، إذ
الأصل : بعد الإِنزالِ . و « منكم » متعلقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه حال من فاعل « يَكْفُرْ
» وقوله : { عَذَاباً } فيه وجهان ، أظهرهما : أنه اسمُ مصدرٍ بمعنى التعذيب ، أو
مصدرٌ على حَذْفَِ الزوائد نحو : « عطاء ونبات » ل « أعطى » وأنبت « ، وانتصابُه
على المصدرية بالتقديرين المذكورين . والثاني - أجازه أبو البقاء - أن يكون مفعولاً
به على السِّعَة ، يعني جَعَلَ الحَدَثَ مفعولاً به مبالغةً ، وحينئذ يكون نصبه
على التشبيه بالمفعول به ، والمنصوبُ على التشبيه بالمفعولِ به عند النحاة ثلاثةُ
أنواع : معمولُ الصفةِ المشبهة ، والمصدرُ ، والظرفُ المتسع فيهما ، أمَّا المصدرُ
فكما تقدَّم ، وأمَّا الظرفُ فنحو : » يوم الجمعة صُمتُه « ، ومنه قوله :
1856- ويومٍ شَهِدْناه سُلَيْماً وعامراً ... قليلٌ سوى الطعنِ النِّهالِ
نوافِلُهْ
قال الزمخشري : » ولو أُريد بالعذاب ما يُعَذَّب به لكان لا بد من الباء « قلت :
إنما قال ذلك لأنَّ إطلاقَ العذاب على ما يُعَذَّب به كثير ، فخاف أن يُتَوهَّم
ذلك ، وليس لقائلٍ أن يقولَ : كان الأصلُ : بعذاب ، ثم حَذَفَ الحرف فانتصب
المجرورُ به ، لأنَّ ذلكَ لم يَطَّرِدْ إلاَّ مع » أَنْ « بشرطِ أَمْنِ الَّبْسِ .
قوله : { لاَّ أُعَذِّبُهُ } الهاءُ فيها ثلاثة أوجه ، أظهرها : أنها عائدة على »
عذاب « الذي تقدم أنه بمعنى التعذيب ، التقدير : فإني أعذَّبه تعذيباً لا أعذِّبُ
مثلَ ذلك التعذيب أحداً ، والجملة في محلِّ نصب صفة ل » عذاباً « وهذا وجه سالم من
تَكَلُّفٍ ستراه في غيره . ولَمَّا ذكره أبو البقاء هذا الوجه - أعني عودَها على »
عذاباً « المتقدم - قال : » وفيه على هذا وجهان ، أحدُهما : على حَذْفِ حرف الجر ،
أي : لا أعذب به أحداً ، والثاني : أنه مفعولٌ به على السَّعة . قلت : أمَّا قوله
« حُذِف الحرف » فقد عرفت أنه لا يجوز إلا فيما استثني . الثاني من أوجه الهاء :
أنها تعود على « مَن » المتقدمة في قوله : { فَمَن يَكْفُرْ } والمعنى : لا
أعذَّبُ مثلَ عذاب الكافر أحداً ، ولا بد من تقدير هذين المضافين ليصِحَّ المعنى .
قال أبو البقاء في هذا الوجه : « وفي الكلام حذفٌ أي : لا أعذب الكافر أي : مثل
الكافر ، أي : مثل عذاب الكافر » الثالث : أنها ضمير المصدر المؤكد نحو : «
ظَنَنْتُهُ زيداً قائماً » ولَمَّا ذكر أبو البقاء هذا الوجهَ اعترض على نفسِه
فقال : « فإنْ قلت : » لا أعذِّبه « صفةٌ ل » عذاب « وعلى هذا التقدير لا يعودُ من
الصفة على الموصوف شيءٌ .
قيل : إنَّ الثاني لما كان واقعاً موقعَ المصدرِ والمصدرُ جنس و « عذاباً » نكرةٌ كان الأول داخلاً في الثاني ، والثاني مشتملٌ على الأول وهو مثل : « زيد نعم الرجل » انتهى ، فجعل الرابطَ العمومَ ، وهذا الذي ذكره من أنَّ الربط بالعموم إنما ذكره النحويون في الجملةِ الواقعةِ خبراً لمبتدأ ، ولذلك نَظَّره أبو البقاء ب « زيد نِعْم الرجل » وهذا لا ينبغي أن يُقاسَ عليه ، لأن الربطَ يحصُل في الخبر بأشياءَ لا تجوز في الجملة الواقعةِ صفةً ، وهذا منها ، ثم هذا الاعتراضُ الذي ذَكَره واردٌ عليه في الوجه الثاني؛ فإنَّ الجملة صفة ل « عذاباً » وليس فيها ضميرٌ ، فإنْ قيل : ليست هناك بصفةٌ ، قيل : يفسد المعنى بتقدير الاستئناف ، وعلى تقديرِ صحته فلتكنْ هنا أيضاً مستأنفةً . « وأحداً » منصوبٌ على المفعول الصريحِ . و « من العالمين » صفةٌ ل « أحداً فيتعلَّق بمحذوف .
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)
قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ الله } هل هذا القولُ وقعَ وانقضَى أو
سيقع يومَ القيامة؟ قولان للناس ، فقال بعضُم : لَمَّا رفعه إليه قال له ذلك ،
وعلى هذا ف « إذ » و « قال » على موضوعهما من المُضِيِّ وهو الظاهر . وقال بعضُهم
: سيقولُه له يوم القيامة وعلى هذا ف « إذا » بمعنى « إذا » ، « وقال » بمعنى «
يقول » وكونُها بمعنى « إذا » أهونُ من قول أبي عُبيد إنها زائدة؛ لأنَّ زيادةَ
الأسماء ليست بالسهلة .
قوله : { أَأَنتَ قُلتَ } دَخَلَتِ الهمزةُ على المبتدأ فائدةٍ ذكرها أهل البيان
وهو : أن الفعلَ إذا عُلِم وجودُه وشُكَّ / في نسبته إلى شخص أُولِي الاسمُ
المشكوكُ في نسبة الفعل إليه للهمزة فيقال : « أأنت ضرب زيداً » فَضَرْبُ زيدٍ قد
صدر في الوجود وإنما شُكَّ في نسبته إلى المخاطب ، وإنْ شُكَّ في اصل وقوع الفعل
أُولِي الفعلُ للهمزة فيقال : « أضربْتَ زيداً » لم تَقْطَعْ بوقوعِ الضرب بل
شَكَكْتَ فيه ، والحاصل : أنَّ الهمزةَ يليها المشكوك فيه ، جئنا إلى الآية
الكريمة فالاستفهامُ فيها يُراد به التقريعُ والتوبيخُ بغيرِ عيسى عليه السلام وهم
المتَّخذون له ولأمة الهين ، دَخَل على المبتدأ لهذا المعنى الذي قد ذكرته ، لأن
الاتخاذَ قد وقع لا بد . واللام في « للناس » للتبليغ فقط ، و « اتخذوني » يجوز أن
تكون بمعنى « صَيَّر » فتتعدَّى لاثنين ثانيهما « إلهين » وأن تكونَ المتعدية
لواحد ف « إلهين » حالٌ . و « من دون الله » فيه وجهان ، أظهرهما : أنه متعلقٌ
بالاتخاذ وأجاز أبو البقاء - وبه بدأ - أن يكون متعلقاً بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل «
آلهين » .
قوله : { سُبْحَانَكَ } أي : تنزيهاً ، وتقدَّم الكلامُ عليه في البقرة مشبعاً ،
ومتعلَّقُه هنا محذوفٌ فقدَّره الزمخشري : سبحانك من أن يكونَ لك شريكٌ « وقَدَّره
ابن عطية : » عن أَنْ يُقال هذا وينطق به « ورجَّحه الشيخ لقوله بعد : { مَا
يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ } قوله : { أَنْ أَقُول } في محلِّ رفع لأنه اسمُ » يكون
« ، والخبرُ في الجار قبله ، أي : ما ينبغي لي قولُ كذا . و » ما « يجوزُ أن تكونَ
موصولةً أن نكرةً موصوفة . والجملةُ بعدها صلةٌ فلا محلَّ لها ، أو صفةٌ فمحلُّها
النصبُ ، فإنّ » ما « منصوبةٌ ب » اقول « نصبَ المفعول به لأنها متضمنةٌ لجملة فهو
نظيرُ » قلت كلاماً « ، وعلى هذا فلا يُحتاج أن يُؤَوَّل » أقول « بمعنى أَدَّعِي
أو أذكر ، كما فعله أبو البقاء . وفي » ليس « ضميرٌ يعودُ على ما هو اسمُها ، وفي
خبرِها وجهان ، أحدهما : أنه » لي « أي : ما ليس مستقراً لي وثابتاً ، وأمَّا »
بحق « على هذا ففيه ثلاثةُ أوجه ، ذكر أبو البقاء منها وجهين ، احدُهما أنه حالٌ
من الضمير في » لي « قال : والثاني : أن يكونَ مفعولاً به تقديره : ما ليسَ
يَثْبُتُ ليس بسببِ حق ، فالباءُ متعلقةٌ بالفعلِ المحذوف لا بنفسِ الجارِّ ،
لأنَّ المعاني لا تعمل في المفعول به » .
قلت : وهذا ليس بجيدٍ لأنه قَدَّر متعلَّق الخبرِ كوناً مقيداً ثم
حَذَفه وأبقى معموله . الوجه الثالث : أنَّ قوله « بحق » متعلقٌ بقوله : «
عَلِمْتَه » ويكون الوقف على هذا على قوله « لي » والمعنى : فقد عَلِمْتَه بحق .
وقد رُدَّ هذا بأن الأصل عدم التقديم والتأخير ، وهذا لاينبغي أن يُكتفى به في
ردِّ هذا ، بل الذي منع من ذلك أنَّ معمولَ الشرطِ أو جوابِه لا يتقدَّم على أداة
الشرط لا سيما المرويُّ عن الأئمة القُرَّاء الوقفُ على « بحق » ، ويَبْتدئون ب «
إنْ كنت قلتُه » وهذا مَرِويٌّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ فوجَبَ اتِّباعه
] والوجهُ الثاني في خبرِ « ليس » أنه « بحق » ، وعلى هذا ففي « لي » ثلاثةُ أوجه
، أحدُها : أنه « يتبين » كما في قولهم : « سُقْياً له » أي : فيتعلَّقُ بمحذوف ،
والثاني : أنه حال من « بحق » لأنه لو تأخَّر لكانَ صفةً له ، قال أبو البقاء : «
وهذا يُخَرَّج على قولِ مَنْ يجوِّزُ تقديمَ حالِ المجرور عليه » قلت : قد تقدم لك
خلافُ الناسِ فيه وما أوردوه من الشواهِد ، وفيه أيضاً تقديمُ الحال على عامِلها
المعنوي : فإنَّ « بحق » هو العاملُ إذ « ليس » لا يجوز أن تعملَ في شيء ، وإنْ
قلنا : إنَّ « كان » أختها قد تعمل لأن « ليس » لا حدَثَ لها بالإِجماع . والثالث
: أنه متعلِّقٌ بنفسِ « حق » لأنَّ الباءَ زائدةٌ ، وحَقّ بمعنى مُسْتحق أي : ما
ليس مستحِقَّاً لي .
قوله : { إِن كُنتُ } : « كنت » وإن كانت ماضية اللفظ فهي مستقبلة في المعنى ،
والتقدير : إن تَصِحَّ دعواي لِما ذُكر ، وقَدَّره الفارسي بقوله : « إن أكن الآن
قلتُه فيما مضى » لأنَّ الشرطَ والجزاء لايقعان إلا في المستقبل « وقولُه : {
فَقَدْ عَلِمْتَهُ } أي : فقد تبيَّن وظهرَ عِلمُك به كقوله : { فَصَدَقَتْ } [
يوسف : 26 ] و { فَكَذَبَتْ } [ يوسف : 27 ] و { فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار
} [ النمل : 90 ] .
قوله : { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي } هذه لا يجوزُ أن تكونَ عرفانيةً ، لأنَّ
العرفان كما قَدَّمْتُه يستدعي سَبْقَ جهل ، او يُقْتَصَرُ به على معرفةِ الذات
دونَ أحوالها حَسْبَ ما قاله الناس ، فالمفعولُ الثاني محذوفٌ ، أي : تعلمُ ما في
نفسي كائناً وموجَداً على حقيقتِه لا يَخْفَى عليك منه شيءٌ ، وأمَّا : » ولا أعلم
« فيه وإنْ كان يجوزُ أن تكونَ عرفانيةً ، إلا أنها لَمَّا صارَتْ مقابلةً لما
قبلها ينبغي أن يكونَ مثلَها ، والمرادُ بالنفسِ هنا على ما قاله الزجاج » انها
تُطْلَقُ ويُراد بها حيققةُ الشي ، والمعنى في قوله { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي }
إلى آخره واضحٌ ، وقال : « المعنى : تعلمُ ما أُخْفيه من سِرِّي وغيبي ، أي : ما
غابَ ولم أُظْهِرْه ، ولا أعلمُ ما تُخفِيه أنت ولا تُطْلِعُنا عليه ، فذكرالنفس
مقابلةً وازداجاً ، وهذا منتزع من قول ابن عباس ، وعليه حام الزمخشري فإنه قال : »
تعلمُ معلومي ولا أعلمُ معلومَك « ، وأتى بقوله : { مَا فِي نَفْسِكَ } على جهةِ
المقابلةِ والتشاكلِ لقوله : { مَا فِي نَفْسِي } فهو كقوله :
{ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله } [ آل عمران : 54 ] ، وكقوله : { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } [ البقرة : 1415 ] .
مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)
قوله تعالى : { إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي } : هذا استثناءٌ مفرغ فإنَّ
« ما » منصوبةٌ بالقول؛ لأنها وما في حَيِّزها في تأويلِ مقول . وقَدَّر ابو
البقاء القولَ بمعنى الذكرِ والتأديةِ . و « ما » يجوزُ أن تكونَ موصولةً أو نكرةً
موصوفةً .
قوله : { أَنِ اعبدوا } في « أَنْ » سبعةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنها مصدرية في محلِّ
جر على البدل من الهاء في « به » والتقديرُ : ما قلتُ إلا ما أمرتَني بأن اعبدوا ،
وهذا الوجهُ سيأتي عليه اعتراض . والثاني : أنها في محلِّ نصبٍ بإضمار « أعني » ،
أي : إنه فَسَّر ذلك المأمورَ به . والثالث : أنه في محلِّ نصب على البدل من محلِّ
« به » في « ما أمرتني به » لأن محلِّ المجرور نصب . والرابع : أن موضعَها رفعٌ
على إضمار مبتدأ وهو قريبٌ في المعنى من النصب على البدلِ الخامس : أنها في محل جر
لأنها عطف بيان على الهاء في به ، السادس : أنها بدلٌ من « ما » نفسِها أي : ما
قلت لهم إلا أن اعبدوا . السابع : أنَّ « أَنْ » تفسيرية ، أجازه ابن عطية والحوفي
ومكي . وممن ذهب إلى جوز أَنَّ « أَنْ » بدلٌ مِنْ « ما » فتكونُ منصوبةَ المحلِّ
أو مِن الهاء فتكونُ مجرورتَه أبو إسحق الزجاج ، وأجاز أيضاً أن تكونَ تفسيريةً لا
محلَّ لها . وهذه الأوجهُ قد منع بعضَها الزمخشري ، وأبو البقاء منع منها وجهاً
واحداً وهو أن تكون تفسيرية ، أما الزمخشري فإنه منع أن تكون تفسيرية إلا بتأويل
ذكره وسيأتي ، وبدلاً من « ما » أو من الهاء في « به » . قال - رحمه الله - : «
أنْ » في قوله : { أَنِ اعبدوا الله } إنْ جَعَلْتَها مفسرةً لم يكن لها بُدٌّ من
مفسِّر ، والمفسِّر : إما أن يكون فعل القول أو فعل الأمر ، وكلاهما لا وجهَ له :
أما فعل القول فلأنه يُحْكى بعده الجمل ولا يَتَوسَّط بينه وبين محكيَّه حرفُ
تفسير ، وأما فعل الأمر فمستنِدٌ إلى ضمير الله عز وجل ، فلو فِسَّرْتَه ب «
اعبدوا الله ربي وربكم » لم يستقم لأن الله لا يقول : « اعبدوا الله ربي وربكم ،
وإنْ جَعَلْتَها بدلاً لم يخلُ مِنْ أَنْ تجعلَها بدلاً من » ما « في » ما أمرتني
به « أو من الهاء في » به « وكلاهُما غيرُ مستقيم؛ لأنَّ البدلَ هو الذي يقوم
مقامَ المبدلِ منه ، ولا يُقال : ما قلتُ لهم إلا أَنِ اعبدوا الله ، أي : ما قلتُ
لهم إلا عبادتَه لأنَّ العبادةَ لا تقال ، وكذلك لو جَعَلْتَها بدلاً من الهاء ،
لأنك لو أَقَمْتَ » أن اعبدوا « مُقامَ الهاء فقلت : إلا ما أمرتني بأن اعبدوا
الله لبقي الموصولُ بغير راجعٍ إليه من صلتِه ، فإن قلت : كيف تصنع؟ قلت : يُحْمل
فعلُ القول على معناه ، لأنَّ معنى » ما قلت لهم إلا ما أمرتني به « : ما أمرتُهم
إلا بما أمرتني به ، حتى يستقيمَ تفسيره ب » أن اعبدوا الله ربي وربكم « ، ويجوزُ
أن تكونَ » أَنْ « موصولةً عطفاً على بيانِ الهاء لا بدلاً .
وتعقَّب عليه الشيخ كلامَه فقال : « أمَّا قولَه » وأمَّا فعلُ الأمر
إلى آخر المنع وقوله : « لأنَّ الله لا يقول اعبدوا الله ربي وربكم » فإنما لم
يستقمْ لأنه جَعَلَ الجملةَ وما بعدها مضمومةً إلى فعلِ الأمر ، ويستقيم أن يكونَ
فعلُ الأمر مفسَّراً بقوله : « اعبدوا الله » ويكون « ربي وربكم » من كلام عيسى
على إضمار « أعني » أي : « أعني ربي وربكم » ، لا على الصفة التي فَهمها الزمخشري
فلم يستقم ذلك عندَه ، وأمَّا قولُه : « لأنّ العبادة لا تُقال » فصحيحٌ ، لكن
يَصِحُّ ذلك على حَذْفِ مضاف أي : ما قلت لهم إلا القولَ الذي امرتني به قولَ
عبادة الله أي : القولَ المتضمن عبادة الله ، وأمَّا قوله « لبقي الموصول بغير
راجع إليه من صلته » فلا يلزمُ في كل بدل أن يَحُلَّ المبدل منه ، « ألا ترى إلى
تجويز النحويين : » زيد مررت به أبي عبدِ الله « ولو قلت : » زيدٌ مررت بأبي عبد
الله « لم يجز إلا على رأي الأخفش . وأما قولُه » عطفاً على بيان الهاء « ففيه
بُعْد ، لأن عطفَ البيان أكثرُه بالجوامدِ الأعلامِ . وما اختاره الزمخشري
وجَوَّزه غيرُه لا يَصِحُّ ، لأنها جاءت بعد » إلا « ، وكلُّ ما كان بعد » إلا «
المستثنى بها فلا بُدَّ أن يكونَ له موضعٌ من الإِعراب ، و » أن « التفسيرية لا
موضعَ لها من الإِعراب » . انتهى .
قلت : أمَّا قوله : « إنّ ربي وربكم من كلام عيسى » ففي غايةِ ما يكون من البُعْد
عن الأفهام ، وكيف يَفْهم ذلك الزمخشري والسياق والمعنى يقودان إلى أنَّ « ربي »
تابعٌ للجلالة؟ لا يتبادر للذهن - بل لا يُقْبل - إلا ذلك ، وهذا أشدٌّ من قولهم «
يؤدي إلى تهيئة العامل للعمل وقطع عنه » فآل قولُ الشيخ إلى أنَّ « اعبدوا الله »
من كلام الله تعالى و « ربي وربكم » من كلام عيسى ، وكلاهما مفسِّرٌ ل « أمرتَ »
المسند للباري تعالى . وأمَّا قولُه « يَصِحُّ ذلك على حَذْف مضاف » ففيه بعض جودة
، وأما قولُه : « إنَّ حلولَ البدل محلَّ المبدل منه غيرُ لازم » واستشهاده بما
ذكر فغيرُ مُسَلِّم ، لأنَّ هذا معارَضٌ بنصِّهم ، على أنه لا يجوز « جاء الذي
مررت به أبي عبد الله » بجرِّ « عبد الله » بدلاً من الهاء ، وعَلَّلوه بأنه يلزمُ
بقاءُ الموصول بلا عائدٍ ، مع أنَّ لنا أيضاً في الربط بالظاهر في الصلة خلافاً قَدَّمْتُ
التنبيه عليه ، ويكفينا كثرةُ قولهم في مسائل : « لا يجوزُ هذا لأنّ البدل يَحُلُّ
محل المبدل منه » فيجعلون ذلك علةً مانعةً ، يَعْرف ذلك مَنْ عانى كلامَهم ، ولولا
خوفُ الإِطالة لأوردْتُ منه مسائل شتى .
وأمَّا قوله : « وكلُّ ما كان بعد » إلا « المستثنى به إلى آخره »
فكلامٌ صحيح لأنها إيجابٌ بعد نفي فيستدعى تسلُّط ما قبلها على ما بعدها .
ويجوز في « أَنْ » الكسرُ على أصل التقاء الساكنين والضمُّ على الإِتباع ، وقد
تقدَّم تحقيقُه ونسبتُه إلى مَنْ قرأ به في قوله : { فَمَنِ اضطر } [ الآية : 173
] في البقرة . و « ربي » نعت أو بدل أو بيان مقطوعٌ عن الإِتباع رفعاً أو نصباً ،
فهذه خمسةٌ أوجهٍ تقدَّم إيضاحُها .
قوله : { شَهِيداً } خبر « كان » و « عليهم » متعلق به ، و « ما » مصدريةٌ ظرفيةٌ
أي : تتقدَّر بمصدر مضاف إليه زمان ، و « دام » صلتها ، ويجوز فيها التمامُ والنقصان
، فإنْ كانت تامةً كان معناها الإِقامةَ ، ويكون « فيهم » متعلقاً بها ، ويجوزُ أن
يتعلَّقَ بمحذوف على أنه حال ، والمعنى : وكنتُ عليهم شهيداً مدة إقامتي فيهم ،
فلم يُحْتج هنا إلى منصوب ، وتكون حينئذٍ متصرفةً ، وإنْ كانت الناقصةَ لزمت لفظ
المضيِّ ولم تكتفِ بمرفوع ، فيكون « فيهم » في محلِّ نصب خبراً لها ، والتقديرُ :
مدةَ دوامي مستقراً فيهم ، وقد تقدم أنه يقال : « دِمْتَ تَدام » كخِفْتَ تَخاف .
قوله : { كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ } يجوز في « أنت » أن تكون فصلاً وأن تكونَ
تأكيداً . وقرئ « الرقيب » بالرفع على أنه خبر ل « أنت » والجملةُ خبرٌ « ل كان »
، كقوله :
1857- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وكنتَ عليها بالمَلا أنْتَ
أَقْدَرُ
وقد تقدَّم اشتقاقُ { الرقيب } و « عليهم » متعلِّق به . و « على كلِّ شيء »
متعلِّق ب « شهيد » قُدِّم للفاصلة .
إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)
قوله تعالى : { فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم } : تقدَّم نظيره ، وهي في قراءةِ الناس ومصاحفِهم « العزيزُ الحكيم » وفي مصحف ابن مسعود - وقرأ بها جماعة - : « الغفورُ الرحيم » ، وقد عبِث بعض مَنْ لا يفهم كلامَ العرب بهذه الآيةِ ، وقال : « إنما كان المناسب ما في مصحف ابن مسعود » وخَفِي عليه أنَّ المعنى متعلق بالشرطين جميعاً ، ويوضِّح هذا ما قاله أبو بكر بن الأنباري ، فإن نَقَل هذه القراءة عن بعض الطاعنين ثم قال : « ومتى نُقِل ما قاله هذا الطاعن ضَعُفَ معناه ، فإنه ينفرد » الغفور الرحيم « بالشرط الثاني ولا يكون له بالشرط الأول تعلُّقٌ ، وهو على ما أنزل الله وعلى ما أجمع على قراءته المسلمون معروف بالشرطين كليهما : أولهما وآخرهما ، إذ تلخيصه : إنْ تعذبهم فأنت العزيز الحكيم ، وإن تغفرْ لهم فأنتَ العزيزُ الحكيم في الأمرين كليهما من التعذيب والغفران ، فكأنَّ » العزيز الحكيم « أليقُ بهذا المكان لعمومه وأنه يجمع الشرطين ، ولم يصلُحْ » الغفور الرحيم « أَنْ يحتمل من العموم ما احتمله » العزيز الحكيم « قلت : » وكلامُه فيه دقةٌ ، وذلك أنه لا يريد بقوله « إنه معروف بالشرطين إلى آخره » أنه جوابٌ لهما صناعةً ، لأنَّ ذلك فاسدٌ من حيث الصناعةُ العربية؛ فإنَّ الأول قد أخذ جوابَه وهو « فإنهم عبادُك » وهو جوابٌ مطابِقٌ فإنَّ العبدَ قابل ليصرّفه سيدُه كيف شاء ، وإنما يريد بذلك أنه متعلق بهما من جهة المعنى . وقد أكثر الناسُ في الكلامِ على هذه الآية بما لا يحتمله هذا الموضوع ، وإنما تعرَّضْتُ لبعضِها لتعلُّقِه بالقراءة الشاذة والرسم الشاذ .
قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)
قوله تعالى : { يَوْمُ يَنفَعُ } : الجمهور على رفعه من غير تنوين ،
ونافع على نصبه من غير تنوين ، ونقل الزمخشري عن الأعمش « يوماً » بنصبه منوناً ، وابن
عطية عن الحسن بن عياش الشامي : « يوم » برفعه منوناً ، فهذه أربع قراءات . فأما
قراءة الجمهور فواضحةٌ على المبتدأ والخبر ، والجملةُ في محل نصب بالقول . وأمَّا
قراءة نافع ففيها أوجه ، أحدها : أنَّ « هذا » مبتدأ ، و « يوم » خبره كالقراءة
الأولى ، وإنما بُنِي الظرفُ لإِضافتِه إلى الجملة الفعلية وإن كانت معربةً ، وهذا
مذهب الكوفيين ، واستدلُّوا عليه بهذه القراءةِ ، وأمَّا البصريون فلا يجيزون
البناء إلا إذا صُدِّرت الجملةُ المضافُ إليها بفعلٍ ماض ، وعليه قولُ النابغة :
1858- على حينَ عاتبتُ المشيبَ على الصِّبا ... فقلتُ : أَلمَّا أًصْحُ والشيبُ
وازعُ
وخَرَّجوا هذه القراءةَ على أن « يوم » منصوبٌ على الظرف ، وهو متعلق في الحقيقةِ
بخبر المبتدأ أي : واقعٌ أو يقع في يوم ينفع ، فيستوي هذا مع تخريج القراءة الأولى
والثانية أيضاً في المعنى ، ومنهم مَنْ خَرَّجه على أنَّ « هذا » منصوبٌ ب « قال »
وأُشير به إلى المصدرِ فنصبُه على المصدر ، وقيل : بل أُشير به إلى الخبر والقِصَص
المتقدمةِ فيجري في نصبه خلافٌ : هل هو منصوبٌ نصبَ المفعول به أو نصبَ المصادر؟
لأنه متى وقع بعد القول ما يُفْهم كلاماً نحو : « قلت شهراً وخطبة » جَرَى فيه هذا
الخلاف ، وعلى كلِّ تقدير ف « يوم » منصوبٌ على الظرف ب « قال » أي : قال الله هذا
القولَ أو هذه الأخبارَ في وقتِ نفع الصادقين ، و « ينفع » في محلِّ خفضٍ
بالإِضافة ، وقد تقدَّم ما يجوزُ إضافتُه إلى الجمل ، وأنه أحد ثلاثةِ أشياء ،
وأمَّا قراءةُ التنوين فرفعُه على الخبريةِ كقراءة الجماعة ، ونصبُه على الظرفِ
كقراءة نافع ، إلا أنَّ الجملةَ بعده في القراءتين في محل الوصفِ لِما قبلها ،
والعائدُ محذوفٌ ، وهي نظيرَةُ قولِه تعالى : { يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن
نَّفْسٍ شَيْئاً } [ البقرة : 48 ] ، فيكونُ محلُّ هذه الجملةُ إما رفعاً أو نصباً
.
قوله : { صِدْقُهُمْ } مرفوع بالفاعلية ، وهذه قراءة العامة ، وقُرِئ شاذاً بنصبه
وفيه أربعة أوجه ، أحدها : أنه منصوب على المفعول من أجله ، أي : ينفعهم لأجلِ
صِدْقِهم ، ذكر ذلك أبو البقاء وتبعه الشيخ وهذا لا يجوزُ لأنه فاتَ شرطٌ من شروط
النصب ، وهو اتحاد الفاعل ، فإنَّ فاعلَ النفعِ غيرُ فاعلِ الصدقِ ، وليس لقائلٍ
أن يقولَ : « يُنْصب بالصادقين فكأنه قيل : الذين يَصْدُقون لأجل صدقهم فيلزمُ
اتحادُ الفاعل » لأنه يؤدي إلى أنَّ الشيء علة لنفسِه ، وللقولِ فيه مجال . الثاني
: على إسقاطِ حرف الجر أي : بصدقِهم ، وهذا قد عَرَفْتَ ما فيه أيضاً من أنّ حَذْف
الحرفَ لا يطَّرد . الثالث : أنه منصوب على المفعول به ، والناصب له اسم الفاعل في
« الصادقين » أي : الذين صَدَقوا صدقهم ، مبالغةً نحو : « صَدَقْت القتال » كأنك
وَعَدْتَ القتالَ فلم تَكْذِبْه ، وقد يُقَوِّي هذا نصبُه على المفعول له ،
والعامل فيه اسم الفاعل قبله . الرابع : أنه مصدرٌ مؤكد كأنه قيل : الذين
يَصْدُقون الصدقَ كما تقول : « صَدَق الصدقَ » وعلى هذه الأوجه كلِّها ففاعلُ «
ينفع » ضميرٌ يعود على الله تعالى وقوله تعالى : { رَّضِيَ الله عَنْهُمْ } معناه
الدعاءُ وباقي السورة ظاهرُ الإِعراب مِمَّا تقدَّم مِنْ نظائرِه ولله الحمدُ .
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)
قوله تعالى : { وَجَعَلَ الظلمات } : « جعل » هنا تتعدى لمفعول واحد
لأنها بمعنى خلق ، هكذا عبارة النحويين ، ظاهرها أنهما مترادفان . إلا أن الزمخشري
فرَّق بينهما فقال : « الفرق بين الخَلْق والجَعْل أنَّ الخَلْق فيه معنى التقدير
و [ في ] الجعل معنى التصيير كإنشاء شيء من شيء ، أو تصييرِ شيءٍ شيئاً ، أو نقلِه
من كان إلى مكان ، ومن ذلك : { وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [ الأعراف : 189 ] {
وَجَعَلَ الظلمات والنور } لأنَّ الظلمات من الأجرام المتكاثفة والنور من النار »
انتهى . وقال الطبري : « جَعَل » هنا هي التي تتصرف في طَرَف الكلام كما تقول :
جعلت أفعل كذا ، فكأنه : « وجعل إظلامَها وإنارتَها » وهذا لا يشبه كلام أهل
اللسان . ولكونها عند أبي القاسم ليست بمعنى « خلق » فسَّرها هنا بمعنى أحدث وأنشأ
. وكذا الراغب جعلها بمعنى أوجد .
ثم إن الشيخ اعترض عليه هنا لمَّا استطرد ، وذكر أنها تكون بمعنى صَيَّر ، ومثَّل
بقوله : { وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً } [ الزخرف :
19 ] فقال : « وما ذَكَره من أنَّ » جَعَل « بمعنى صَيَّر في قوله : { وَجَعَلُواْ
الملائكة } لا يَصِحُّ لأنهم لا يُصَيِّرهم إناثاً ، وإنما ذكر بعض النحويين أنها
هنا بمعنى سمَّى » قلت : ليس المرادُ بالتصيير التصييرَ بالفعل ، بل المراد
التصيير بالقول ، وقد نصَّ الزمخشري على ذلك ، وسيأتي لهذا - إن شاء الله - مزيدُ
بيان في موضعه . وقد ظهر الفرق بين تخصيص السماوات والأرض بالخَلْق والظلمات
والنور بالجَعْل بما ذكره الزمخشري . وإنما وَحَّد النور وجَمَع الظلمات لأن
النورَ مِنْ جنس واحد وهو النار ، والظلمات كثيرة ، فإنَّ ما من جِرْمٍ إلا وله
ظلُّ ، وظلُّه هو الظلمة ، وحَسَّن هذا أيضاً أن الصلةَ التي قبلها تقدَّم فيها
جَمْعٌ ثم مفردٌ فعطفْتَ هذه عليها كذلك وقد تقدَّم في البقرة الحكمة في جمع
السماوات وإفراد الأرض . وقُدِّمت « الظلمات » في الذِّكر لأنه مُوافِقٌ في
الوجود؛ إذ الظلمة قبل النور عند الجمهور .
قوله : { ثْمَّ الذين كَفَرُواْ } « ثم » هذه ليست للترتيب الزماني ، وإنما هي
للتراخي بين الرتبتين ، والمراد اسبتعادُ أن يَعْدِلوا به غيرَه مع ما أوضح من
الدلالات . وهذه عطفٌ : إمَّا على قوله « الحمد لله » وإما على قوله : « خلق
السماوات » قال الزمخشري : « فإن قلت : فما معنى » ثم «؟ قلت : استبعاد أن
يَمْتَرُوا فيه بعد ما ثبت أنه محييهم وميتهم وباعثهم » وقال ابن عطية : « ثم » دالة
على ما قُبْح فِعْل الذين كفروا؛ فإنَّ خَلْقه للسماوات والأرض وغيرهما قد تَقَّرر
، وآياتِه قد سَطَعَتْ ، وإنعامه بذلك قد تبيَّن ، ثم مع هذا كله يَعْدِلون به
غيره « .
قال الشيخ : « ما قالاه من انها للتوبيخ والاستبعاد ليس بصحيح ،
لأنها لم تُوضَعْ لذلك ، والاستبعادُ والتوبيخُ مستفادٌ من السياق لا من » ثم « ،
ولم أعلم أحداً من النحويين ذكر ذلك ، بل » ثم « هنا للمُهْلة في الزمان ، وهي
عاطفةٌ جملةً اسمية على جملة اسمية » . يعني على « الحمد لله » . ثم اعترض على
الزمخشري في تجويزه أن تكون معطوفةً على « خَلَق » بأنَّ « خَلَق » صلة ،
فالمعطوفُ عليها يُعطى حكمَها ، ولكن ليس ثَمَّ رابطٌ يعود منها على الموصول . ثم
قال : « إلا أن يكون على رأيِ مَنْ يَرى الرَّبْطَ بالظاهر كقولهم : أبو سعيدٍ
الذي رَوَيْتُ عن الخدري » وهو قليلٌ جداً لا ينبغي أن يُحملَ عليه كتابُ الله « .
قلت : الزمخشري إنما يريد العطف ب » ثم « لتراخي ما بين الرتبتين ، ولا يريد
التراخي في الزمان كما قد صرَّح به هو فيكف يَلْزمُه ما ذَكَرَ مِنَ الخلوِّ عن
الرابط ، وكيف يَتَخيَّل كونَها للمهلة في الزمان كما ذكر الشيخ؟
قوله : { بِرَبِّهِمْ } يجوز أن يتعلَّق ب » كفروا « فيكون » يُعْدِلون « بمعنى
يَميلون عنه ، من العُدول ، ولا مفعولَ له حينئذ ، ويجوز أن يتعلَّ ب » يعدِلون «
وقُدِّم للفواصل ، وفي الباء حينئذ احتمالان ، أحدهما : ان تكون بمعنى عن ، و »
يَعْدِلون « من العُدول وأيضاً ، أي يعدِلون عن ربهم إلى غيره . والثاني : أنها
للتعدية ، ويَعْدِلون من العَدْل وهو التسوية بين الشيئين ، أي : ثم الذين كفروا
يُسَوُّوْن بربهم غيرَه من المخلوقين ، فيكون المفعول محذوفاً .
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)
قوله تعالى : { مِّن طِينٍ } : فيه وجهان ، أظهرهما : أنه متعلِّقٌ ب
« خَلَقكم » و « مِنْ » لابتداء الغاية . والثاني : أنه متعلِّق بمحذوف على أنه
حال ، وهل يُحتاج في هذا الكلام إلى حَذْفِ مضاف أم لا؟ خلاف : ذهب جماعة
كالمهدويِّ ومكي وجماعة إلى أنه لا حَذْفَ ، وأن الإِنسان مخلوقٌ من الطين ، وروي
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما من مولودٍ يولد إلا ويُذَرُّ على النطفة
من تراب حفرته » . وقيل : إن النطفة أصلها الطين . وقال غالب المفسرين : ثمَّ
محذوفٌ أي : خَلَقَ أَصْلَكم أو أباكم من طينٍ ، يعنون آدم وقصته المشهورة . وقال
امرؤ القيس :
1859- إلى عِرْقِ الثَّرى رَسَخَتْ عُروقي ... وهذا الموتُ يَسْلُبُني شبابي
قالوا : أراد بعِرقْ الثرى آدم عليه السلام لأنه أصلُه .
قوله : { ثُمَّ قضى } إن كان « قضى » بمعنى أظهر ف « ثُمَّ » للترتيب الزماني على
أصلها؛ لأنَّ ذلك متأخرٌ عن خَلْقِنا وهي صفة فعل ، وإن كان بمعنى كَتَب وقَدَّر
فهي للترتيب في الذِّكْر؛ لأنها صفة ذات ، وذلك مُقَدَّم على خَلْقِنا .
قوله : { وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ } مبتدأ وخبر ، وسوَّغ الابتداء هنا شيئان ،
أحدهما : وَصْفُه ، والثاني : عَطْفُه ، ومجرَّدُ العطف من المسوغات ، قال :
1860- عندي اصْطِبارٌ وشَكْوى عند قاتلتي ... فهل بأعجبَ مِنْ هذا امرؤٌ سَمِعا
والتنكير في الأجلين للإِبهام . وهنا مُسَوِّغٌ آخر وهو التفصيل كقوله :
1861- إذا ما بكى مِنْ خلفِها انصرفَتْ له ... بشِقٍ وشِقٌ عندنا لم يُحَوَّلِ
ولم يَجِبْ هنا تقديمُ الخبر وإن كان المبتدأ نكرةً والخبر ظرفاً؛ قال الزمخشري :
لأنه تخصَّص بالصفةِ فقارَبَ « المعرفةَ ، قال الشيخ : » وهذا الذي ذكره من
كَوْنِه مُسَوِّغاً للابتداء بالنكرة لكونها وُصِفَتْ لا يتعيَّن ، لجواز أن يكون
المسوِّغُ التفصيلَ ، ثم أنشد البيت : إذا ما بكى « قلت : الزمخشري لم يقلْ إنه
تعيَّن ذلك حتى يُلْزِمَه به ، وإنما ذكر أشهرَ المسوِّغات فإنَّ العطفَ والتفصيل
قَلَّ مَنْ يذكرُهما في المسوِّغات .
قال الزمخشري : » فإن قلت : الكلامُ السائرُ أن يُقال : « عندي ثوب جيِّدٌ ، ولي
عبدٌ كيِّس » فما أوجب التقديم؟ قلت : أوجبه أن المعنى : وأيُّ أجل مسمَّى عنده ،
تعظيماً لشأن الساعة ، فلمَّا جرى فيه هذا المعنى أوجب التقديم « . قال الشيخ :
وهذا لا يجوز؛ لأنه إذا كان التقدير : وأيُّ أجل مسمى عنده كانت » أيّ « صفةً
لموصوف محذوف تقديره : وأجلٌ أيُّ أجلٍ مسمَّى عنده ، ولا يجوز حَذْفُ الصفةِ إذا
كانت » أيَّاً « ولا حَذْفُ موصوفِها وإبقاؤها لو قلت : مررت بأيِّ رجل ، تريد
برجلٍ أيِّ رجل لم يَجُزْ » قلت : ولم أَدْرِ كيف يُؤاخَذُ مَنْ فسَّر معنى بلفظٍ
لم يَدَّعِ أن ذلك اللفظَ هو أصل الكلام المفسَّر ، بل قال : معناه كيت وكيت ،
فكيف يَلزمه أن يكون ذلك الكلام الذي فسَّر به هو أصل ذلك المفسَّر؟ على أنه قد
وَرَدَ حذفُ موصوفِ « أيّ » وإبقاؤها كقوله :
1862- إذا حارب الحَجَّاجُ أيَّ منافقٍ ... عَلاه بسيفٍ كلما هَزَّ
يقطعُ
قوله : { ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ } قد تقدَّم الكلامُ على « ثم » هذه . وتمترون
تَفْتَعُون من المِرْيَة ، وتقدَّم معناها في البقرة عند قوله : { مِنَ الممترين }
[ الآية : 147 ] وجَعَلَ الشيخ هذا من باب الالتفات ، أعني قوله : « خَلَقَكم ثم
أنتم تَمْتَرون » يعني أن قوله { ثْمَّ الذين كَفَرُواْ } غائبٌ ، فالتفت عنه إلى
قوله : « خلقكم ثم أنتم » . ثم كأنه اعترض على نفسه بأنَّ خَلْقَكم وقضاءَ الأجلِ
لا يختصُّ به الكفار ، بل المؤمنون مثلُهم في ذلك . وأجاب بأنه إنما قصد الكفار
تنبيهاً لهم على خَلْقِه لهم وقدرتَه وقضائه لأجالهم . قال : « وإنما جَعَلْتُه من
الالتفات؛ لأن هذا الخطابَ وهو { ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ } لايمكن أن يندرجَ
فيه مَنْ اصطفاه الله بالنبوَّة والإِيمان » .
وأصل مُسَمَّى : مُسَمَّوٌ لأنه من مادة الاسم ، وقد تقدَّم ذلك فقلبت الواو ياءً
، ثم الياء ألفاً . وتمترون أصله تَمْتَرِيُون فأُعِلَّ كنظائر له تقدَّمَتْ .
وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3)
قوله تعالى : { وَهُوَ الله فِي السموات } : في هذه الآية أقوالٌ
كثيرة لخَّصْتُ جميعها في اثني عشر وجهاً؛ وذلك أن « هو » فيه قولان ، أحدهما : هو
ضمير اسم الله تعالى يعود على ما عادت عليه الضمائر قبله والثاني : أنه ضمير القصة
، قال أبو عليّ . قال الشيخ : « وإنما فَرَّ إلى هذا لأنه لو أعاده على الله لصار
التقدير : الله الله ، فتركَّب الكلام من اسمين متَّحِدَيْن لفظاً ومعنًى لا نسبةَ
بينهما إسنادية » قلت : الضمير إنما هو عائد على ما تقدَّم من الموصوف بتلك
الصفاتِ الجليلة وهي خَلْقُ السماوات والأرض ، وجَعْلُ الظلمات والنور ، وخَلْق
الناس من طين إلى آخرها ، فصار في الإِخبار بذلك ، فائدةٌ من غير شك ، فعلى قول
الجمهور يكون « هو » مبتدأ و « الله » خبره ، و « في السماوات » متعلق بنفس
الجلالة لما تَضَمَّنَتْه من معنى العبادة كأنه قيل : وهو المعبود في السماوات ،
وهذا قول الزجاج وابن عطية والزمخشري .
قال الزمخشري : « في السماوات » متعلق بمعنى اسم الله كأنه قيل : وهو المعبود فيها
- ومنه : { وَهُوَ الذي فِي السمآء إله } [ الزخرف : 84 ] - أو هو المعروف
بالإِلهيَّة والمتوحِّد بالإِلهيَّة فيها ، أو هو الذي يقال له « الله » لا
يَشْرَكُه في هذا الاسمِ غيره « . قلت : إنما قال : » أو هو المعروف أو هو الذي
يقال له الله « لأن هذا الاسم الشريف تقدَّم لك فيه خلاف : هل هو مشتق أو لا؟ فإن
كان مشتقاً ظهر تعلُّق الجار به ، وإن كان ليس بمشتق : فإمَّا أن يكون منقولاً أو
مرتجلاً ، وعلى كلا التقديرين فلا يعمل؛ لأن الأعلام لا تعمل فاحتاج أنْ يَتَأوَّل
ذلك على كل قول من هذه الأقوال الثلاثة ، فقوله » المعبود « راجع للاشتقاق ، وقوله
» المعروف « راجع لكونه عَلَماً منقولاً ، وقوله » الذي يقال له اللهُ « راجع إلى
كونه مرتجلاً ، وكأنه -رَحِمه الله - استشعر بالاعتراض المذكور . والاعتراضُ
منقولٌ عن الفارسي ، قال : » وإذا جَعَلْتَ الظرف متعلقاً باسم الله جاز عندي على
قياس مَنْ يقول إن الله أصله الإِله ، ومن ذهب بهذا الاسم مذهب الأعلام وجب أن لا
يتعلق به عنده إلا ان تُقَدِّر فيه ضرباً من معنى الفعل « فكأن الزمخشري - والله
أعلم - أخذ هذا من قول الفارسيِّ وبَسَطه . إلا أن أبا البقاء نقل عن أبي علي أنه
لا يتعلَّق » في « باسم الله لأنه صار بدخول الألف واللام ، والتغييرِ الذي دخله
كالعلمَ ، ولهذا قال تعالى : { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } [ مريم : 65 ] .
فظاهرُ هذا النقلِ أنه يمنع التعلُّق به وإن كان في الأصل مشتقاً .
وقال الزجاجُ : « هو متعلِّقٌ بما تضمَّنه اسم الله من لمعاني كقولك
» أميرُ المؤمنين الخليفة في المشرق والمغرب « . قال ابن عطية : » هذا عندي أفضل
الأقوال وأكثرُها إحرازاً لفصاحة اللفظ ، وجزالة المعنى . وإيضاحُه أنه أراد أن
يَدَلَّ على خَلْقه وآثارِ قدرته وإحاطته واستيلائه نحو هذه الصفات ، فَجَمع هذه
كلِّها في قوله : { وَهُوَ الله } أي : الذي له هذه كلُّها في السماوات وفي الأرض
، كأنه قال : وهو الخالق والرازق والمُحْيي والمحيط في السماوت والأرض ، كما تقول
: « زيد السلطان في الشام والعراق » فلو قصدت ذات زيد لكان محالاً ، فإذ كان مقصدُ
قولك : [ زيد ] الآمرُ الناهي الذي يولِّي ويَعْزِل كان فصيحاً صحيحاً ، فأقمت
السلطنة مُقامَ هذه الصفات ، كذلك في الآية الكريمة أقمت « الله » مقام تلك الصفات
« .
قال الشيخ : » ما ذكره الزجاج ، وأوضحه ابن عطية صحيح من حيث المعنى ، لكن صناعة
النحو تساعد عليه؛ لأنهما زعما أن « في السماوات » متعلق باسم الله لِما تَضَمَّنه
من تلك المعاني ، ولو صرح بتلك المعاني لم تعمل فيه جميعها ، بل العمل من حيث
اللفظُ لواحدٍ منها ، وإن كان « في السماوات » متعلقاً بجميعها من حيث المعنى ، بل
الأوْلى أن يتعلَّق بلفظ « الله » لِما تضمَّنه من معنى الألوهية ، وإن كان
عَلَماً لأن العلمَ يَعْمَلُ في الظرف لِما يتضمنه من المعنى كقوله :
1863- أنا أبو المِنْهالِ بعضَ الأحيانْ ... ف « بعضَ » نصب بالعلمَ لأنه في معنى
أنا المشهور « . قلت : قوله » لو صُرِّح بها لم تعمل « ممنوعٌ ، بل تعمل ويكون
عملُها على سبيل التنازع ، مع أنه لو سكت عن الجواب لكان واضحاً ، ولما ذكر الشيخ
ما قاله الزمخشري قال : » فانظر كيف قَدَّر العاملَ فيها واحداً لا جميعَها « يعني
أنه استنصر به فيما رَدَّ به على الزجاج وابن عطية .
الوجه الثاني : أن » في السموات « معلِّقٌ بمحذوف هو صفة لله تعالى حُذِفَتْ
لفَهْمِ المعنى ، فقدَّرها بعضهم ، وهو الله المعبود ، وبعضهم : وهو الله المدبِّر
، وحَذْفُ الصفة قليلٌ جداً لم يَرِدْ منه إلا موضعُ يسيرةٌ على نَظَرٍ فيها ،
فمنها { وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ } [ الأنعام : 66 ] أي المعانِدون ، { إِنَّهُ
لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } [ هود : 46 ] أي الناجين فلا ينبغي أن يُحْمَلَ هذا عليه .
الوجه الثالث : قال النحاس : » وهو أحسنُ ما قيل فيه - إن الكلام تمَّ عند قوله :
{ وَهُوَ الله } والمجرور متعلِّقٌ بمفعول « يَعْلَم » وهو « سِرَّكم وجَهْرَكم »
[ أي : ] يَعْلَم سِرَّكم وجَهْركم فيهما « وهذا ضعيفٌ جداً لِما فيه من تقديم
معمول المصدر عليه وقد عرف ما فيه .
الوجه الرابع : أن الكلام تمَّ أيضاً عند الجلالة ، ويتعلق الظرف بنفس » يعلم «
وهذا ظاهر ، و » يعلم « على هذين الوجهين مستأنف .
الوجه الخامس : أن الكلام تمَّ عند قوله { فِي السموات } فيتعلق {
فِي السموات } باسم الله ، على ما تقدَّم ، ويتعلَّق « في الأرض » ب « يعلم » .
وهو قول الطبري قال أبو البقاء « وهو ضعيفٌ؛ لأن الله تعالى معبود في السماوات وفي
الأرض ، ويعلم ما في السماوات وما في الأرض ، فلا تتخصَّص إحدى الصفتين بأحد
الظرفين » وهو رَدٌّ جميل .
الوجه السادس : أنَّ « في السماوات » متعلِّقٌ بمحذوف على أنه حال من « سرَّكم »
ثم قُدِّمَت الحالُ على صاحبها وعلى عاملها .
السابع : أنه متعلق ب « يَكْسِبون » وهذا فاسد من جهة أنه يلزم منه تقديمُ معمولِ
الصلةِ على الموصول؛ لأن « ما » موصولة اسمية أو حرفية ، وأيضاً فالمخاطبون كيف
يكسِبون في السماوات؟ ولو ذهب هذا القائل إلى أن الكلام تمَّ عند قوله « في
السماوات » وعلَّق « في الأرض » ب « يَكْسِبون » لسَهُلَ الأمرُ من حيث المعنى لا
من حيث الصناعةُ .
الثامن : أن « الله » خبر أول ، و « في السماوات » خبر ثان . قال الزمخشري : « على
معنى : أنَّه الله وأنه في السماوات وفي الأرض ، وعلى معنى : أنه عالمٌ بما فيها
لا يخفى عليه شيء ، كأنه ذاته فيهما » قال الشيخ : « وهذا ضعيفٌ لأن المجرور ب »
في « لا يدل على كون مقيد ، إنما يدل على كونٍ مُطْلَق » وهذا سهلُ الجواب
لتقدُّمِه مراراً .
التاسع : أن يكون « هو » مبتدأ و « الله » بدل منه ، و « يَعْلَمُ » خبره ، و « في
السماوات » على ما تقدَّم .
العاشر : أن يكون « الله » بدلاً أيضاً ، و « في السماوات » الخبرُ بالمعنى الذي
قال الزمخشري .
الحادي عشر : أن « هو » ضمير الشأن في محل رفع بالابتداء ، والجلالة مبتدأ ثان ،
وخبرها « في السماوات » بالمعنى المتقدَّم أو « يَعْلَمُ » والجملة خبر الأول -
وهو الثاني عشر - مفسرةً له .
وأمَّا « يَعْلَمُ » فقد عَرَفْت تفاصيل ما تقدَّم أنه يجوز أن يكون مستأنفاً ،
فلا محلَّ [ له ] ، أو في محل رفع خبراً ، أو في محل نصب على الحال ، و « سِرَّكم
وجهرَكم » : يجوز أن يكونا على بابهما من المصدرية ويكونان مضافين للفاعل . وأجاز
أبو البقاء أن يكونا واقعين موقع المفعول به أي مُسَرَّكم ومَجْهوركم ، واستدل
بقوله تعالى : { يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } [ البقرة : 77 ] ولا
دليلَ [ فيه ] لأنه يجوز أن تكون « ما » مصدرية . و « ما » في « ما تكسبون » يحتمل
أن تكون مصدريةً - وهو الأليق لمناسبة المصدَرَيْن قبلها - وأن تكون بمعنى الذي .
وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4)
قوله تعالى : { وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ } : « مِنْ آية » فاعل
زيدت فيه « مِنْ » لوجود الشرطين فلا تَعَلُّق لها . و « من آيات » صفة ل « آية »
فهي في محل جرٍّ على اللفظ أو رفعٍ على الموضع . ومعنى « مِنْ » التبعيض .
قوله : { إِلاَّ كَانُواْ } هذه الجملةُ الكونيَّةُ في محل نصب على الحال ، وفي
صاحبها وجهان ، أحدهما : أنه الضمير في « تأتيهم » والثاني : أنه « من آية » وذلك
لتخصُّصِها بالوصف . « وتأتيهم » يحتمل أن يكون ماضيَ المعنى لقوله « كانوا »
ويحتمل أن يكون « كانوا » مستقبلَ المعنى لقوله « تأتيهمْ » . واعلمْ أن الفعل
الماضي لا يقع بعد « إلا » إلا بأحد شرطين : إمَّا وقوعِه بعد فعلٍ كهذه الآية
الكريمة ، أو يقترن ب « قد » نحو : ما زيدٌ إلا قد قام « . وهنا التفات من خطابه
بقوله : » خلقكم « إلى آخره إلى الغَيْبة بقوله : » وما تأتيهم « .
فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5)
قوله تعالى : { فَقَدْ كَذَّبُواْ } : الفاء هنا للتعقيب ، يعني أن
الإِعراض عن الآيات أعقبه التكذيب . وقال الزمخشري : « فقد كذَّبوا » مردودٌ على
كلامٍ محذوف ، كأنه قيل : إن كانوا مُعْرِضين عن الآيات فقد كذبوا بما هو أعظمُ
آيةٍ وأكبرها « . قال الشيخ : » ولا ضرورةَ تدعو إلى هذا مع انتظام الكلام « ،
وقوله » بالحق « من إقامة الظاهر مُقام المضمر ، إذ الأصل : فقد كذَّبوا بها ، أي
بالآية . والأنباء جمع نبأ ، وهو ما يَعْظُم وَقْعُه من الأخبار . وفي الكلام حذف
، أي يأتيهم مضمون الأنباء . و » به « متعلق بخبر » كانوا « و » لمَّا « حرفُ وجوب
أو ظرف زمان ، والعامل فيه » كَذَّبوا « .
» وما يجوز أن تكون موصولة اسمية ، والضمير في « به » عائدٌ عليها ، ويجوز أن
تكونَ مصدرية ، قال ابن عطية ، أي أنباء كونهم مستهزئين ، وعلى هذا فالضمير لا
يعود عليها لأنها حرفية ، بل يعود على الحق ، وعند الأخفش يعود عليها لأنها اسم
عنده .
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6)
قوله تعالى : { كَمْ أَهْلَكْنَا } : يجوز في « كم » أن تكون
استفهامية وخبرية ، وعلى كلا التقديرين فهي مُعَلِّقةٌ للرؤية عن العمل ، لأن
الخبرية تجري مجرى الاستفهامية في ذلك ، ولذلك أُعْطِيت أحكامَها من وجوب التصدير
وغيره . والرؤيةُ هنا عِلْميَّة ، ويَضْعُفُ كونها بصرية ، وعلى كلا التقديرين فهي
معلَّقة عن العمل ، لأنَّ البَصَرية تجري مجراها ، فإن كانت عِلْميَّةً ف « كم »
وما في حيِّزها سادَّةٌ مَسدَّ مفعولين ، وإن كانت بصرية فمسدَّ واحد .
و « كم » يجوز أن تكون عبارة عن الأشخاص فتكونَ معفولاً بها ناصبها « أَهْلَكْنا »
و « مِنْ قَرْنٍ » على هذا تمييز لها ، وأن تكون عبارةً عن المصدر فتنتصبَ
انتصابَه بأهْلَكْنا ، أي إهلاكاً ، و « مِنْ قرن » على هذا صفةٌ لمفعول «
أَهْلَكْنا » أي أهلكنا قوماً أو فوجاً من القرون؛ لأنَّ قرناً يراد به الجمع ، و
« مِنْ » تبعيضية ، والأُولى لابتداء الغاية . وقال الحوفي : « من » الثانية بدل
من « مِنْ » الأولى وهذا لا يُعْقل فهو وَهْمٌ بَيِّنٌ ، ويجوز أن تكون « كم »
عبارة عن الزمان فتنتصب على الظرف . قال أبو البقاء : « تقديره : كم أزمنةٍ أهلكنا
فيها » وجعل أبو البقاء على هذا الوجه « من قرن » هو المفعول به و « مِنْ » مزيدة
فيه وجاز ذلك لأن الكلام غير موجب والمجرور نكرة . إلا أن الشيخ منع ذلك بأنه لا
يقع إذ ذاك المفردُ موقعَ الجمع لو قلت : [ « كم أزماناً ضربتُ رجلاً ، أو كم مرةً
ضربتُ رجلاً » لم يكن مدلولُ رجل رجالاً ] ، لأن السؤال إنما يقع عن عدد الأزمنة
أو المرات التي ضربت فيها ، وبأن هذا ليس [ موضعَ زيادة « مِنْ » لأنها لا تُزاد في
الاستفهام ] ، إلا وهو استفهام مَحْضٌ أو يكونُ بمعنى النفي ، والاستفهام هنا ليس
مَحْظَاً ولا مُراداً به النفيُ . [ انتهى . والجواب عمَّا قاله : لا نُسَلِّم ذلك
] .
قوله : { مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض } في موضع جر صفةً ل « قَرْن » وعاد الضميرُ
عليه جمعاً باعتبار معناه ، قاله أبو البقاء والحوفي ، وضَعَّفه الشيخ بأنَّ «
مِنْ قرن » تمييز ل « كم » ف « كم » هي المحدِّث عنها بالإِهلاك ، فهي المُحَدَّثُ
عنها بالتمكين لا ما بعدها ، إذ « من قرن » يجري مجرى التبيين ، ولم يُحَدَّثْ عنه
. وجَوَّز الشيخ أن تكون هذه الجملة استنئافاً جواباً لسؤالٍ مقدَّر ، قال كأنه
قيل : ما كان من حالهم؟ فقيل : مكَّنَّاهم ، وجعله هو الظاهر . وفي نظر ، فإن
النكرة مفتقرةٌ للصفة فَجَعْلُها صفةً أَلْيَق .
والفرق بين قوله { مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض } [ وقوله ] : « ما لم نمكِّن لكم »
أنَّ « مَكَّنه في كذا » : أَثْبته فيها ، ومنه :
{ وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ } [
الأحقاف : 26 ] وأمَّا مكَّن له فمعناه جعل له مكاناً ومنه ، { إِنَّا مَكَّنَّا
لَهُ فِي الأرض } [ الكهف : 84 ] { أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ } [ القصص : 57 ] ،
ومثله : « أَرَضَ له » أي جعل له أرضاً ، هذا قول الزمخشري . وأمَّا الشيخ فإنه
يظهر من كلامه التسوية بينهما فإن قال : « وتَعَدِّي مَكَّن هنا للذوات بنفسه
وبحرف الجر ، والأكثرُ تعديتُه باللام : { مَكَّنَّا لِيُوسُفَ } [ يوسف : 21 ] {
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ } [ الكهف : 84 ] { أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ } [ القصص :
57 ] . وقال أبو عبيدة : » مكَّنَّاهم ومكَّنَّاهم لهم : لغتان فصيحتان نحو :
نَصَحْتُه ونَصَحْتُ له « . [ قلت : وبهذا قال ] أبو علي والجرجاني .
قوله : { مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ } في » ما « هذه خمسة أوجه ، أحدها : أن تكون
موصولةً بمعنى الذي ، وهي حينئذ صفة لموصوف محذوف ، والتقدير : التمكين الذي لم
نمكِّن لكم ، والعائد محذوف أي : الذي لم نمكَّنه لكم . الثاني : أنها نكرةٌ صفةٌ
لمصدر محذوف تقديره : تمكيناً ما لم نمكِّنه لكم ، ذكرهما الحوفي . وردَّ الشيخ
الأول بأن » ما « بمعنى الذي لا تكون صفةً لمعرفة وإن كان » الذي « يقع صفة لها ،
ولو قلت : » ضربت الضرب ما ضَرَبَ زيدٌ « تريد الضربَ الذي ضربه زيد ، لم يجز ،
فإن قلت : » الضرب الذي ضربه زيد « جاز . ورَدَّ الثاني بأن » ما « النكرة التي
تقع صفةً لا يجوز حَذْفُ موصوفِها ، لو قلت : » قمت ما وضربت ما « وأنت تعني : قمت
قياماً ما ، وضرباً ما ، لم يجز » .
الثالث : أن تكون مفعولاً بها ل « مَكَّن » على المعنى ، لأن معنى مكَّنَّاهم :
أعطيناهم ما لم نُعْطِكُمْ ، ذكره أبو البقاء قال الشيخ : « هذا تضمينٌ ، والتضمين
لا ينقاس » الرابع : أن تكون « ما » مصدريةً ، والزمان محذوف ، أي : مدةَ ما لم
نمكِّن لكم ، والمعنى : مدة انتفاء التمكين لكم . الخامس : أن تكون نكرةً موصوفة
بالجملة المنفيَّة بعدها والعائد محذوف ، أي : شيئاً لم نمكِّنْه لكم ، ذكرهما
أيضاً أبو البقاء قال الشيخ في الأخير : « وهذا أقرب إلى الصواب » قلت : ولو
قدَّره أبو البقاء بخاص لكان أحسن من تقديره بلفظ شيء فكان يقول : مكنَّاهم
تمكيناً لم نمكنه لكم .
والضمير في « يروا » قيل : عائد على المستهزئين ، والخطاب في « لكم » راجع إليهم
أيضاً فيكون على هذا التفاتاً فائدتُه التعريض بقلَّة تمكُّن هؤلاء ونَقْصِ
أحوالهم عن حال أولئك ، ومع تمكينهم وكثرتهم فقد حَلَّ بهم الهلاك فكيف وأنتم
أقلُّ منهم تمكيناً وعَدَداً؟ وقال ابن عطية : « والمخاطبة في » لكم « هي للمؤمنين
ولجميع المعاصرين لهم ولسائر الناس كافة ، كأنه قيل : ما لم نمكِّن يا أهل هذا
العصر لكم ، ويحتمل أن يُقَدِّر معنى القول لهؤلاء الكفرة ، كأنه قال : يا محمد قل
لهم : ألم يروا كم أهلكنا الآية ، فإذا أخبرت أنك قُلْتَ - أو أَمَرْتَ أن يقال -
فَلَكَ في فصيح كلام العرب أن تحكي الألفاظ المقولة بعينها فتجيءَ بلفظ المخاطبة ،
ولك أن تجيء بالمعنى في الألفاظ بالغيبة دون الخطاب » .
انتهى ومثاله : « قلت لزيد : ما أكرمك ، أو ما أكرمه » .
والقَرْن : لفظ يقع على معانٍ كثيرة ، فالقرن : الأمَّة من الناس ، سمُّوا بذلك
لاقترانهم في مدة من الزمان ، ومنه قوله عليه السلام : « خيرُ القرون قرني » .
وقال الشاعر :
1864- أُخَبِّرُ أخبارَ القُرونِ التي مَضَتْ ... أَدِبُّ كاني كلما قُمْتُ راكِعُ
وقال قس بن ساعدة :
1865- في الذاهبين الأوَّلِي ... نَ من القرون لنا بصائِرْ
وقيل : أصله الارتفاع ، ومنه قَرْنُ الثور وغيره ، فَسُمُّوا بذلك لارتفاع السنِّ
. وقيل : لأن بعضهم يُقْرَن ببعض ويُجعل مجتمعاً معه ، ومنه القَرَن للحَبْلِ
يُجمع به بين البعيرين ، ويُطلق على المدة من الزمان أيضاً .
وهل إطلاقه على الناس والزمان بطريق الاشتراك أو الحقيقة والمجاز؟ الراجح الثاني؛
لأن المجازَ خيرٌ من الاشتراك . وإذا قلنا بالراجح فإنها الحقيقة ، الظاهر أنه
القوم لأنَّ غالبَ ما يُطلق عليهم ، والغَلَبة مؤذنةٌ بالأصالة غالباً . وقال ابن
عطية : « القرن أن يكون وفاة الأشياخ وولادة الأطفال ، ويَظْهر ذلك من قوله تعالى
: { وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ } فجعله معنى ، وليس بواضح . وقيل
: القرن : الناس المجتمعون ، قلَّت السنون أو كَثُرت ، واستدلوا بقوله عليه السلام
: » خيرُ القرونِ قَرْني « وبقوله :
1866- في الذاهبين الأوَّلي ... نَ من القرون لنا بصائرْ
وبقوله :
1867- إذا ذَهَبَ القومُ الذي كنتَ فيهمُ ... وخُلِّفْتَ في قَرْن فأنت غريبُ
فأطلقوه على الناس بقيد الاجتماع . ثم اختلف الناس في كمية القرن حالة إطلاقه على
الزمان فالجمهور أنه مئة سنة ، واستدلوا له بقوله عليه السلام : » يعيش قرناً «
فعاش مائة سنة . وقيل : مئة وعشرون قاله إياس بن معاوية وزارة بن أبي أوفى . وقيل
: ثمانون نقله صالح عن ابن عباس : وقيل : سبعون قاله الفراء . وقيل : ستون لقوله
عليه السلام : » معترك المنايا ما بين الستين إلى السبعين « وقيل : أربعون ، حكاه
محمد بن سيرين ، يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذلك الزهراوي أيضاً يرفعه
إلى النبي صلى الله عليه وسلم . وقيل : ثلاثون حكان النقاش عن أبي عبيدة ، كانوا
يرون أن ما بين القرنين ثلاثون سنة . وقيل : عشرون ، وهو رأي الحسن البصري . وقيل
: ثمانية عشر عاماً . وقيل : هو المقدار الوسط من أعمار أهل ذلك الزمان ، واستحسن
هذا بأنَّ أهل الزمن القديم كانوا يعيشون أربع مئة سنة وثلاث مائه وألفاً وأكثر
وأقل .
وقدَّر بعض الناس في قوله تعالى : { كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ }
أهلاً ، أي : أهل قرن؛ لأنَّ القرنَ الزمانُ ، ولا حاجة إلى ذلك إلا على اعتقاد
أنه حقيقةٌ فيه ، مجاز في الناس ، وقد قدَّمْتُ أن الراجحَ خلافُه .
قوله : { مَّدْرَاراً } حال من « السماء » إن أريد بها السحابُ ،
فإنَّ السحابَ يوصفُ بكثرة التتابع أيضاً ، وإن أريد به الماء فكذلك . ويدلُّ على
أنه يراد به الماءُ قولُه في الحديث « في أثر سماء كانت من الليل » ويقولون : ما
نزلنا نطأ السماء حتى أتيناكم ، ومنه :
1868- إذا نَزَل السماءُ بأرضِ قومٍ ... رَعَيْناه وإن كانوا غضابا
أي : رَعَيْنا ما ينشأ عنه . وإن أريد بها هذه المِظَلَّةُ فلا بد من حذف مضافٍ
حينئذ أي : مطر السماء ، ويكون « مدراراً » حالاً منه . ومدرار مِفْعال وهو
للمبالغة كامرأة مِذْكار ومِئْناث . قالوا : وأصله مِن « دَرِّ اللبن » وهو كثرةُ
ورودِه على الحالِب ومنه : « لا درَّ درُّه » في الدعاء عليه بقلة الخير . وفي
المثل : « سبقَتْ دِرَّتُ غِرارَه » وهي مثلُ قولهم : « سبقَ سيلُه مَطَرَه » .
واستدَّرت المِعْزى كناية عن طلبها الفحل ، قالوا : لأنَّها إذا طَلَبَتْه
حَمَلَتْ فَوَلَدَتْ فَدَرَّت .
قوله : { تَجْرِي } إنْ جعلنا « جَعَلَ » تصييرية كان « تجري » مفعولاً ثانياً ،
وإن جعلناها إيجادية كان حالاً . و « من تحتهم » يجوز فيه أوجه : أن يكون متعلقاً
ب « تجري » ، وهذا هو الذي ينبغي أن لا يُعْدَلَ عنه ، وأن يكون حالاً : إمَّا من
فاعل « تجري » أو من « الأنهار » وأن يكون مفعولاً ثانياً ل « جعلنا » ، و « تجري
» على هذا حال من الضمير في الجار ، وفيه ضعف لتقدُّمها على العامل المعنوي ،
ويجوز أن يكون « من تحتهم » حالاً من « الأنهار » كما تقدَّم ، و « تجري » حال من
الضمير المستكنِّ فيه ، وفيه الضعف المتقدم .
قوله : { مِن بَعْدِهِمْ } متعلق ب « أنشأنا » قال أبو البقاء : « ولا يجوز أن
يكون حالاً من » قرن « لأنه ظرف زمان » يعني أنه لو تأخر عن قرن لكان يُتَوَهَّم
جوازُ كونه صفةً له ، فلما قُدِّم عليه قد يوهم أن يكون حالاً منه ، لكنه منع ذلك
كونُه ظرفَ زمان ، والزمان لا يُخبر به عن الجثث ولا يوصف به ، وقد تقدم لك أنه
يصِحُّ ذلك بتأويلٍ ذكرته في البقرة عند قوله : { والذين مِن قَبْلِكُمْ } [ الآية
: 21 ] . و « آخرين » صفة ل « قَرْن » لأنه اسم جمعٍ كقوم ورهط ، فلذلك اعتُبر
معناه ، ومن قال : إنه الزمان قَدَّر مضافاً أي : أهل قرن آخرين ، وقد قَدَّمْتُ
أنَّه مرجوح .
وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
قوله تعالى : { فِي قِرْطَاسٍ } : يجوز أن يتعلق بمحذوف على انه صفة
لكتاب ، سواء أريد بكتاب المصدرُ أم الشيء المكتوب . ويجوز أن يتعلَّق بنفس «
كتاباً » سواء أريد به المصدر أم الشيء المكتوب . ومن مجيء الكتاب بمعنى مكتوب
قوله :
1869- . . . . . . . . . . . . . . . صحيفةً ... أَتَتْكَ من الحَجَّاج يُتْلى
كتابُها
وفي النفس مِنْ جَعْلِ « كتاباً » في الآية الكريمة مصدراً شيء؛ لأن نفس الكتاب لا
تُوصف بالإِنزال إلا بتجوُّز بعيد ، ولكنهم قد قالوه هنا ، ويجوز أن يتعلَّق « في
قرطاس » ب « نَزَّلْنا » .
والقِرْطاس : الصحيفة يُكتب فيها تكون من رَقَّ وكاغد ، بكسر القاف وضمها ،
والفصيح الكسر ، وقرئ بالضم شاذاً نقله أبو البقاء والقِرْطاس : اسم أعجمي معرَّب
، ولا يقال قرطاس إلا إذا كان مكتوباً وإلا فهو طِرْس وكاغَد ، وقال زهير :
1870- لها أخاديدُ مِنْ آثارِ ساكنها ... كما تردَّدَ في قِرْطاسِه القلمُ
قوله : { فَلَمَسُوهُ } الضمير المنصوب يجوز أن يعود على القِرْطاس ، وان يعود على
« كتاب » بمعنى مكتوب . و « بأيديهم » متعلق ب « لَمَسَ » . والباء للاستعانة
كعملت بالقَدُوم . و « لقال » جواب لو ، جاء على الأفصح من اقتران جوابها المثبت
باللام .
قوله : { إِنْ هاذآ } « إنْ » نافية ، و « هذا » مبتدأ ، و « إلا سحرٌ » خبره فهو
استثناء مفرغ ، والجملةُ المنفيَّة في محل نصب بالقول ، وأوقع الظاهرَ موقع المضمر
في قوله « لقال الذين كفروا » شهادةً عليهم « بالكفر . والجملة الامتناعية لا
محلَّ لها من الإِعراب لاستئنافها .
وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8)
قوله تعالى : { وَقَالُواْ لولا } : الظاهر أن هذه الجملة مستأنفة سِيْقَتْ للإِخبار عنهم بفرط تعنُّتِهم وتصلُّبهم في كفرهم . قيل : ويجوز أن تكون معطوفةً على جواب « لو » أي : لو نَزَّلْنا عليك كتاباً لقالو كذا ، ولقالوا : لولا أُنْزِل عليه مَلَك . وجيء بالجواب على أحد الجائزين ، أعني حذف اللام من المثبت . وفيه بُعْدٌ؛ لأن قولهم « لولا أُنْزل » ليس مترتباً على قوله : { وَلَوْ أَنزَلْنَا } و « لولا » هنا تحضيضية . والضمير في « عليه » الظاهر عودُه على النبي صلى الله عليه وسلم . وقيل : يجوز أن يعود على الكتاب أو القرطاس ، والمعنى : لولا أُنْزل على الكتاب مَلَك لشهد بصحته ، كما يُرْوى في القصة أنه قيل : له لن نؤمن حتى تعرجَ فتأتي بكتاب ، ومعه أربعة ملائكة يشهدون ، وهذا يَظْهر على رأي مَنْ يقول : إن الجملة من قوله : { وقالوا : لولا أُنْزل } معطوفةٌ على جواب لو ، فإنه يتعلق به من حيث المعنى حينئذ .
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)
قوله تعالى : { مَّا يَلْبِسُونَ } : في « ما » قولان ، أحدهما : أنها موصولة بمعنى الذي أي : ولَخَلَطْنَا عليهم ما يخلطون على أنفسهم أو على غيرهم ، قاله أبو البقاء وتكون « ما » حينئذ مفعولاً بها . الثاني : أنها مصدرية أي : ولَلَبَسْنا عليهم مثل ما يلبسون على غيرهم ويسلكونهم . وقرأ ابن محيصن : « ولَبَسْنا » بلام واحدة هي فاء الفعل ، ولم يأت بلام في الجواب اكتفاءً بها في المعطوف عليه . وقرأ الزُّهري « ولَلَبَّسْنا » بلامين وتشديد الفعل على التكثير .
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10)
قوله تعالى : { وَلَقَدِ استهزىء } : قرأ حمزة وعاصم وأبو عمرو بكسر
الذال على أصل التقاء الساكنين ، والباقون بالضم على الإِتباع ، ولم يبالَ بالساكن
لأنه حاجزٌ غيرُ حصين ، وقد قرَّرْتُ هذه القاعدة بدلائلها في البقرة عند قوله : {
فَمَنِ اضطر } [ الآية : 173 ] . و « برسلٍ » متعلق ب « استهزئ » . و « مِنْ قبلك
» صفة لرسل ، وتأويلُه ما تقدَّم في وقوع « من قبل » صلة .
قوله : { فَحَاقَ بالذين سَخِرُواْ } فاعل حاق : « ما كانوا » و « ما » يجوز أن
تكون موصولةً اسمية ، والعائد الهاء في « به » و « به » يتعلق ب « يستهزئون » و «
يستهزئون » خبر ل « كان » ، و « منهم » متعلق بسخروا ، على أنَّ الضمير يعود على
الرسل ، قال تعالى : { إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ } [ هود
: 38 ] ، ويجوز أن يتعدَّى بالباء نحو : سَخِرْت به ، ويجوز أن يتعلَّق « منهم »
بمحذوف أنَّه حال من فاعل « سَخِروا » ، والضمير في « منهم » يعود على الساخرين .
وقال أبو البقاء : « على المستهزئين » وقال الحوفي : « على أُمَمِ الرسلِ » .
وقد رَدَّ الشيخ على الحوفي بأنه يلزم إعادته على غير مذكور وجوابُه أنه في قوة
المذكور ، وردَّ على أبي البقاء بأنه يصير المعنى : فحاق بالذين سخروا كائنين من
المستهزئين ، فلا حاجةَ إلى هذه الحال لأنها مفهومةٌ من قوله « سخروا » وجوَّزوا
أن تكون « ما » مصدرية ، ذكره الشيخ ، ولم يتعرَّض للضمير في « به » والذي يظهر
أنه يعود على الرسل الذي يتضمَّنه الجمع ، فكأنه قيل : فحاق بهم عاقبةُ استهزائهم
بالرسول المندرج في جملة الرسل ، وأمَّا على رأي الأخفش وابن السراج فتعود على «
ما » مصدرية لأنها اسم عندهما .
وحاق ألفه منقلبة عن ياء بدليل يَحِيق ، كباع يبيع ، والمصدر حَيْق وحُيُوق
وحَيَقان كالغَلَيان والنَّزَوان . وزعم بعضهم أنه من الحَوْق ، وهو المستدير
بالشيء ، وبعضهم أنه من الحقّ ، فأُبْدِلت إحدى القافين ياءً كتظنَّنْتُ ، وهذان
ليسا بشيء ، أمَّا الأول فلاختلاف المادة إلا أن يريدوا الاشتقاق الأكبر ، وأما
الثاني فلأنها دعوى مجردة من غير دليل . ومعنى حاق أحاط ، وقيل : عاد عليه وبالُ
مَكْرِه ، قال الفراء . وقيل : دار ، والمعنى يدور على الإِحاطة والشمول ، ولا
تستعمل إلا في الشر . قال الشاعر :
1871- فأوطأ جُرْدُ الخيلِ عُقْرَ ديارهمْ ... وحاقَ بهم من بأسِ ضَبَّةَ حائقُ
وقال الراغب : « قيل وأصله حَقَّ ، فقلب نحو : زلَّ وزال ، وقد قرئ : » فأزلَّهما
وأزلَهما « وعلى هذا ذمَّة وذامه » وقال الأزهري : « جعل أبو إسحاق » « حاق »
بمعنى أحاط ، وكأن مأخذه من الحَوْق وهو ما استدار بالكَمَرَة « قال : » وجائز أن
يكون الحَوْق فعلاً من حاق يحيق ، كأنه في الأصل : حُيْق ، فقلبت الياء واواً
لانضمام ما قبلها « وهل يحتاج إلى تقدير مضاف قبل » ما كانوا «؟ نقل الواحدي عن
أكثر المفسرين ذلك أي : عقوبة ما كانوا ، أو جزاء ما كانوا ، ثم قال : » وهذا إذا
جعلت « ما » عبارة عن القرآن والشريعة وما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن
جعلْتَ « ما » عبارةً عن العذاب الذي كان صلى الله عليه وسلم يُوعدهم به إن لم
يؤمنوا استغْنَيْتَ عن تقدير المضاف ، والمعنى : فحاق بهم العذابُ الذي يستهزئون
به وينكرونه .
والسُّخْرِيَّة : الاستهزاء والتهكم ، يقال : سَخِر منه وبه ، ولا يقال إلا استهزاءً به فلا يتعدَّى ب « مِنْ » وقال الراغب : « سَخَرْتُهُ إذا سَخَّرْتَه للهُزْء منه ، يقال : رجل سُخَرَة بفتح الخاء إذا كان يَسْخَر من غيره ، وسُخْرة بسكونها إذا كان يُسْخر منه ، ومثله : ضُحَكة وضُحْكة ، ولا ينقاس . وقوله : { فاتخذتموهم سِخْرِيّاً } [ المؤمنون : 110 ] يحتمل أن يكون من التسخير ، وأن يكون من السُّخْرية » . وقد قرئ سُخرياً وسِخرياً بضمِّ السين وكسرها . وسيأتي له مزيد بيان في موضعه إن شاء الله تعالى .
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)
قوله تعالى : { ثُمَّ انظروا } : عطف على « سيروا » ولم يجئ في
القرآن العطفُ في مثل هذا الموضع إلا بالفاء ، وهنا جاء ب « ثم » فيحتاج إلى فرق ،
فذكر الزمخشري الفرق وهو : أَنْ جَعَل النظر مسبِّباً عن السير في قوله : { انظروا
} كأنه قيل : « سيروا لأجل النظر ، ولا تسيروا سيرَ الغافلين » وهنا معناه إباحةُ
السَّيْر في الأرض للتجارة وغيرها من المنافع وإيجاب النظر في آثار الهالكين ،
ونبَّه على ذلك ب « ثم » لتباعد ما بين الواجب « والمباح » .
قال الشيخ : « وما ذكره أولاً متناقض لأنه جعل النظر مُتَسَبِّباً عن السير ، فكان
السير سبباً للنظر ، ثم قال : فكأنه قيل : سيروا لأجلِ النظر ، فجعل السيرَ
معلولاً بالنظر ، والنظرُ سببٌ له فتناقضا ، ودعوى أن الفاء سببية دعوى لا دليلَ
عليها ، وإنما معناها التعقيب فقط ، وأمَّا : » زنى ماعِزٌ فَرُجم « ففَهْمُ
السببية من قرينةٍ غيرِها » قال : « وعلى تقدير تسليم إفادتها السببَ فلِمَ كان
السيرُ هنا سيرَ إباحة وفي غيره سيرَ إيجاب؟ قلت : هذا اعتراضٌ صحيح إلا قولَه »
إن الفاء لا تفيد السببية « فإنه غير مُرْضٍ ، ودليلُه في غير هذا الموضوع . ومثل
هذا المكان في كون الزمخشري جعل شيئاً علة ثم جعله معلولاً ما سيأتي إن شاء الله في
أول الفتح ويأتي هناك جوابه .
قوله : { كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ } » كيف « خبر مقدَّم و » عاقبة « اسمها ، ولم
يُؤَنَّثْ فعلُها لأن تأنيثها غير حقيقي ، ولأنها بتأويل المآل والمنتهى ، فإنَّ
العاقبة مصدرٌ على وزن فاعِله ، وهو محفوظ في ألفاظ تقدَّم ذِكْرُها وهي منتهى
الشيء وما يصير إليه . والعاقبة إذا أُطْلِقَتْ اختصت بالثواب . قال تعالى : {
والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ } [ الأعراف : 128 ] ، وبالإِضافة قد تستعمل في العقوبة
كقوله تعالى : { ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الذين أَسَاءُواْ السواأى } [ الروم : 10 ]
{ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِي النار } [ الحشر : 17 ] فصَحَّ أن تكون
استعارة مِنْ ضدِّه كقوله تعالى : { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عمران
: 21 ] . و » كيف « معلِّقة للنظر فيه في محل نصب على إسقاط الخافض؛ لأنَّ معناه
هنا التفكُّر والتدبُّر .
قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12)
قوله تعالى : { لِّمَن مَّا فِي السموات } : « لمَنْ » خبرٌ مقدَّمٌ
واجبُ التقديم؛ لاشتماله على ما له صدرُ الكلام فإنَّ « مَنْ » استفهامية والمبتدأ
« ما » وهي بمعنى الذي ، والمعنى : لمن استقر الذي في السماوات . وقوله : { قُل
للَّهِ } قيل : إنما أمَرَه أن يجيب وإن كان المقصود أن يُجيب غيرُه؛ ليكون أولَ
مَنْ بادر الاعتراف بذلك ، وقيل : لمَّا سألهم كأنهم قالوا : لمن هو؟ فقال الله :
قل لله ، ذكره الجرجاني . فعلى هذا قوله : « قل لله » جواب للسؤال المضمر الصادر
من جهة الكفار ، وهذا بعيدٌ ، لأنهم لم يكونوا يشكُّون في أنه لله ، وإنما هذا
سؤال تبكيت وتوبيخ ، ولو أجابوا لم يَسَعْهم أن يُجيبوا إلا بذلك . وقوله « لله »
خبر مبتدأ محذوف ، أي هو أو ذلك لله .
قوله : { كَتَبَ على نَفْسِهِ } أي قضى وأوجب إيجابَ تَفَضُّلٍ لا أنه مستحق عليه
تعالى . وقيل : معناه القسم ، وعلى هذا فقوله : { لَيَجْمَعَنَّكُمْ } جوابُه؛
لِما تضمن من معنى القسم ، وعلى هذا فلا توقُّفَ على قوله « الرحمة » قال الزجاج :
« إن الجملة من قوله : { لَيَجْمَعَنَّكُمْ } في محل النصب على أنها بدل من »
الرحمة « ، لأن فَسَّر قوله { لَيَجْمَعَنَّكُمْ } بأنه أمهلكم وأمدَّ لكم في
العمر والرزق مع كفركم ، فهو تفسير للرحمة . وقد ذكر الفراء هذين الوجهين : أعني
أن الجملة تَمَّتْ عند قوله » الرحمة « أو أن » ليجمعنكم « بدلٌ منها فقال : » إن
شئت جعلت الرحمة غايةَ الكلام ثم استأنفت بعدها « ليجمعنكم » وإن شِئْتَ
جَعَلْتَها في موضع نصب كما قال : { كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة أَنَّهُ
مَن عَمِلَ مِنكُمْ } [ الأنعام : 54 ] . قلت : واستشهاده بهذه الآيةِ حسن جداً .
ورَدَّ ابن عطية هذا بأنه يلزم دخولُ نونِ التوكيد في الإِيجاب قال : « وإنما تدخل
على الأمر والنهي وجواب القسم » . ورَدَّ الشيخ حصر ابن عطية وردَ نون التوكيد
فيما ذكر . وهو صحيح ، وردَّ كونَ « ليجمعنَّكم » بدلاً من الرحمة بوجه آخر ، وهو
أنَّ « ليجمعنَّكم » جوابُ قسمٍ ، وجملة الجواب وحدها لا موضع لها من الإِعراب ،
إنما يُحْكَمُ على موضع جملتي القسم والجواب بمحلِّ الإِعراب « . قلت : وقد خلط
مكي المذهبين وجعلهما مذهباً واحداً فقال : » ليجمعنَّكم « في موضع نصبٍ على البدل
من » الرحمة « واللام لام القسم . فهي جواب » كتب « لأنه بمعنى : أوجب ذلك على
نفسه ، ففيه معنى القسم ، وقد يظهر جوابٌ عما أورده الشيخ على غير مكي ، وذلك أنهم
جعلوا » ليجمعنَّكم « بدلاً من » الرحمة « ، يعني هي وقسيمها المحذوف ، واستغنوا
عن ذكر القسم بها؛ لأنها مذكورةٌ في اللفظ ، فكأنهم قالوا : وجملة القسم في محل
نصب بدلاً من الرحمة ، وكما يقولون جملة القسم ويستغنون به عن ذِكْرِهم جملةَ
الجواب كذلك يستغنون بالجواب عن ذكر القسم لاسيما وهو غير مذكور .
وأمَّا مكي فلا يظهر هذا جواباً له؛ لأنه نصَّ على أنه جوابٌ ل «
كَتَبَ » فَمِنْ حيث جعله جواباً لكَتَبَ لا محلَّ له ، ومن حيث جَعَلَه بدلاً كان
مَحَلُّه النصب فتنافيا . والذي ينبغي في هذه الآية أن يكون الوقفُ عند قوله «
الرحمة ، وقوله » ليجمعنَّكم « جواب قسم محذوف ، اي : والله ليجمعنكم ، والجملة
القسمية لا تعلُّق لها بما قبلها من حيث الإِعراب ، وإن تعلَّقَتْ به من حيث
المعنى .
و » إلى « على بابها أي : ليجمعنَّكم منتهين إلى يوم القيامة . وقيل : هي بمعنى
اللام كقوله : { إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ } [ آل عمران : 9 ] وقيل : بمعنى
» في « أي : ليجمعنَّكم في يوم القيامة . وقيل : هي زائدة أي : ليجمعنكم يوم
القيامة ، وقد يشهد له قراءة من قرأ { تهوى إليهم } بفتح الواو أنه ضرورةَ هنا إلى
ذلك .
قوله : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } تقدم نظيره في أول البقرة . والجملة حال من » يوم « ،
والضمير في » فيه « يعود على اليوم ، وقيل : يعود على الجمع المدلول عليه بالفعل
لأنه رَدٌّ على منكري الحشر .
قوله : { الذين خسروا } فيه ستة أوجه ، أحدها : أنه منصوبٌ بإضمار » أذمُّ «
وقدَّره الزمخشري ب أريد ، وليس بظاهر . الثاني : أنه مبتدأ أخبر عنه بقوله {
فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } وزيدت الفاءُ في خبره لِما تضمَّن من معنى الشرط ، قاله
الزجاج كأنه قيل : مَنْ يخسرْ نفسه فهو لا يؤمن . الثالث : أنه مجرور على أنه نعت
للمكذبين . الرابع : أنه بدل منهم ، وهذان الوجهان بعيدان . الخامس : أنه منصوبٌ
على البدل من ضمير المخاطب ، وهذا قد عَرْفْتَ ما فيه غيرَ مرَّةٍ ، وهو أنه هل
يُبْدَل من ضمير الحاضر بدلُ كل من كل في غير إحاطة ولا شمول أم لا؟ ومذهب الأخفش
جوازه ، وقد ذكرْنا دليل الجمهور ودلائله وما أُجيب عنها فأغنى عن إعادتها . وردَّ
المبرد عليه مذهبه بأنه البدل من ضمير الخطاب لا يجوز ، كما لا يجوز : » مررت بك
زيدٍ « وهذا عجيب؛ لأنه استشهد بمحل النزاع وهو : مررت بك زيدٍ . ورَدَّ ابنُ عطية
ردَّه فقال : » ما في الآية مخالفٌ للمثال؛لأن الفائدة في البدل مترتبة من الثاني
، فإذا قلت : « مررت بك زيدٍ » فلا فائدة في الثاني ، وقوله { لَيَجْمَعَنَّكُمْ }
يصلح لمخاطبة الناس كافةً فيفيدنا إبدال « الذين » من الضمير أنهم هم المختصُّون
بالخطاب ، وخُصُّوا على جهة الوعيد ، ويجيء هذا إبدالَ البعض من الكل « .
قال الشيخ : » هذا الردُّ ليس بجيد لأنه إذا جَعَلْنا « ليجمعنَّكم » صالحاً لخطاب
جميع الناس كان « الذين » بدل بعض ، ويحتاج إذ ذاك إلى ضميرٍ ، تقديره : خسروا
أنفسهم منهم .
وقوله « فيفيدنا إبدال الذين من الضمير أنهم هم المختصون بالخطاب
وخُصُّوا على جهة الوعيد » وهذا يقتضي أن يكون بدل كل من كل ، فتناقض أول كلامه مع
آخره؛ لأنه من حيث الصلاحيةُ بدل بعض ، ومن حيث اختصاص الخطاب بهم يكون بدلَ كل
فتناقضا « . قلت : ما أبعدَه عن التناقض ، لأن بدل البعض من الكل من جملة
المخصِّصات كالتخصُّص بالصفة والغاية والشرط ، نصَّ أهل العلم على ذلك ، فإذا تقرر
هذا فالمبدل منه بالنسبة إلى اللفظ في الظاهر عام ، وفي المعنى ليس المراد به إلا
ما أراده المتكلم فإذا ورد : » اقتلوا المشركين بني فلان « مثلاً فالمشركون صالح
لكل مشرك من حيث اللفظ ، ولكنَّ المراد به بنو فلان ، فالعموم في اللفظ والخصوص في
المعنى ، فكذا قول أبي محمد يَصْلُح لمخاطبة الناس ، معناه أنه يَعُمُّهم لفظاً .
وقوله » فيفيدنا إبدال الضمير إلى آخره « هذا هو المخصِّص فلا يجيء تناقضٌ البتةَ
، وهذا مقرر في علم أصول الفقه .
السادس : أنه مرفوع على الذمِّ ، قاله الزمخشري ، وعبارته فيه وفي الوجه الأول : »
نصبٌ على الذمِّ أو رفعٌ ، أي : أريد الذين خسروا أنفسهم ، أو أنتم خسروا أنفسهم «
انتهى . قلت : إنما قَدَّر المبتدأ » أنتم « ليرتبط مع قوله » ليجمعنَّكم « وقوله
» خسروا أنفسهم « من مراعاة الموصول ، ولو قال : » أنتم الذين خسروا أنفسهم «
مراعاةً للخطاب لجاز ، تقول : أنت الذي قعد ، وإن شئت : قَعَدْت .
وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)
قوله تعالى : { وَلَهُ مَا سَكَنَ } : جملة من مبتدأ وخبر ، وفيها
قولان ، أظهرهما : أنها استئناف إخبار بذلك . والثاني : أنها في محل نصب نسقاً على
قوله « لله » أي على الجملة المحكية ب قل أي : قل : هو لله وقل : له ما سكن . و «
ما » موصولة بمعنى الذي ، ولا يجوز غيرُ / ذلك . و « سَكَنْ » قيل : معناه ثبت
واستقر ، ولم يذكر الزمخشري غيره . وقيل : هو مِنْ سَكَن مقابل تَحَرَّك ، فعلى
الأول لا حَذْفَ في الآية الكريمة ، قال الزمخشري : « وتَعَدِّيه ب في كما في قوله
: { وَسَكَنتُمْ فِي مساكن الذين ظلموا أَنفُسَهُمْ } [ إبراهيم : 45 ] . ورجَّح
هذا التفسيرَ ابن عطية . وعلى الثاني اختلفوا ، فمنهم مَنْ قال : لا بد من محذوفٍ
لفهم المعنى ، وقدَّر ذلك المحذوفَ معطوفاً فقال : تقديره : وله ما سكن وما تحرك ،
كقوله في موضع آخر : { تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] أي : والبرد ، وحَذْفُ
المعطوف فاشٍ في كلامهم ، وأنشد :
1872- كأنَّ الحصى مِنْ خلفِها وأمامِها ... إذا نَجَلَتْهُ رِجْلُها خَذْفُ
أَعْسَرا
1873- فما كان بين الخيرِ لو جاء سالماً ... أبو حُجُرٍ إلا ليلٍ قلائلُ
يريد : رجلها ويدها ، وبين الخير وبيني . ومنهم مَنْ قال : لا حَذْفَ؛ لأنَّ كل
متحرك قد يُسَكَّن . وقيل : لأن المتحرك أقلُّ والساكن أكثر ، فلذلك أوثر بالذكر .
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14)
قوله تعالى : { أَغَيْرَ الله } : مفعول أول ل « أتَّخِذُ » و «
وليَّاً » مفعولٌ ثاني ، وإنما قَدَّم المفعول الأول على فعله لمعنى : وهو إنكار
أن يُتَّخَذَ غيرُ اللَّهِ ولياً لا اتخاذ الوليّ ، ونحوُه قولك لمن يهين زيداً
وهو مستحقٌّ للإِكرام : « أزيداً أهنت » ، أَنْكَرْتَ أن يكون مثله مُهاناً . وقد
تقدَّم هذا موضحاً في قوله : { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ } [ المائدة : 116 ] ومثله
: { أَغَيْرَ الله أَبْغِي رَبّاً } [ الأنعام : 114 ] { أَفَغَيْرَ الله تأمروني
أَعْبُدُ } [ الزمر : 64 ] { ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ } [ يونس : 59 ] {
ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ } [ الأنعام : 13 ] وهو كثير . ويجوز أن يكون « أتخذ »
متعدياً لواحد فيكون « غيرَ » منصوباً على الحال من « وليَّاً » لأنه في الأصل صفة
له ، ولا يجوز أن يكون استثناءً البتة ، كذا منعه أبو البقاء ، ولم يُبَيِّنْ
وجهَه . والذي يظهر أنَّ المانع تقدُّمه على المستثنى منه في لامعنى وهو « وليَّاً
» ، وأما المعنى فلا يأبى الاستثناء ، لأن الاستفهام لا يُراد به حقيقته ، بل
يُراد به الإِنكار ، فكأنه قيل : لا أتَّخذ ولياً غير الله ، ولو قيل كذا لكان
صحيحاً ، فظهر أن المانع عنده إنما هو التقديم على المستثنى منه ، لكن ذلك جائز ،
وإن كان قليلاً ومنه :
1874- وما ليَ آل أحمدَ شيعةٌ ... وما لي إلا مَشْعبَ الحقِّ مَشْعَبُ
وقرأ الجمهور « فاطرِ » بالجر ، وفيها تخريجان ، أحدهما - وبه قال الزمخشري
والحوفي وابن عطية - صفة للجلالة المجرورة ب « غير » ، ولا يَضُرُّ الفصل بين
الصفة والموصوف بهذه الجملة الفعلية ومفعولها؛ لأنها ليست بأجنبية ، إذ هي عاملة
في عامل الموصوف . والثاني - وإليه نحا أبو البقاء - أنه بدلٌ من اسمِ الله ،
وكأنه فرَّ من الفصل بين الصفة وموصوفها ، فإن قيل : هذا لازمٌ له في البدل ، فإنه
فَصَل بين التابع ومتبوعِه أيضاً . فيقال : إن الفصل بين البدلِ والمبدلِ أسهلُ؛
لأنَّ البدل على نية تكرار العامل فهو أقرب إلى الفصل ، وقد ترجَّح تخريجُه بوجهٍ
آخرَ : وهو أنَّ « فاطر » اسم فاعل ، والمعنى ليس على المضيِّ حتى تكون إضافتُه
غيرَ محضة فيلزم وَصْفُ المعرفة بالنكرة لأنه في نية الانفصال من الإِضافة ، ولا
يقال : الله فاطر السماوات والأرض فيما مضى ، فلا يُراد حال ولا استقبال؛ لأن كلام
الله تعالى قديم متقدِّمٌ على خلق السماوات ، فيكون المراد به الاستقبال قطعاً ،
ويدلُّ على جواز كونه في نية التنوين ما سأذكره عن أبي البقاء قريباً .
وقرأ ابن أبي عبلة برفعه ، وتخريجه سهل ، وهو أنه خبر مبتدأ محذوف . وخَرَّجه ابن
عطية على أنه مبتدأ فيحتاج إلى تقدير خبر ، الدلالةُ عليه خفيةٌ بخلاف تقدير
المبتدأ فإنه ضمير الأول أي : هو فاطر : وقرئ شاذاً بنصبه ، وخرَّجه أبو البقاء
على وجهين ، أحدهما : أنه بدل من « وليَّاً » قال : « والمعنى على هذا أجعلُ فاطر
السماوات والأرض غيرَ الله » كذا قدَّر وفيه نظر؛ فإنه جعل المفعول الأول وهو «
غير الله » مفعولاً ثانياً ، وجعل البدل المفعول الثاني مفعولاً أول ، فالتقدير
عكسُ التركيب الأصلي .
والثاني : أنه صفةٌ ل « وليَّاً » قال : « ويجوز أن يكون صفة ل »
وليَّاً « والتنوينُ مرادٌ » قلت : يعني بقوله : « التنوين مراد » أن اسم الفاعل
عامل تقديراً / فهو في نية الانفصال ، ولذلك وقع وصفاً للنكرة كقوله : { هذا
عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } [ الأحقاف : 24 ] .
وهذا الوجه لا يكاد يَصِحُّ إذ يصير المعنى : أأتخذ غيرَ الله وليَّاً فاطر
السماوات إلى آخره ، فيصفُ ذلك الولي بأنه فاطر السماوات . وقرأ الزهري : « فَطَر
» على أنه فعل ماضٍ وهي جملة في محل نصب على الحال من الجلالة كما كان « فاطر »
صفتها في قراءة الجمهور . ويجوز على رأي أبي البقاء أن تكون صفة ل « ولياً . ولا
يجوز أن تكون صفةً للجلالة ، لأن الجملة نكرة .
والفَطْر : الشَّقُّ مطلقاً ، وقيَّده الراغب بالشق وقيَّده الواحدي بشَقِّ الشي
عند ابتدائه . والفَطْر : الإِبداع والاتخاذ على غير مثال ، ومنه » فاطر السماوات
« أي أوجدها على غير مثالٍ يُحتذى . وعن ابن عباس : » ما كنت أدري ما معنى فَطَر
وفاطِر ، حتى اختصم إليَّ أعرابيان في بئر فقال أحدهما : « أنا فَطَرْتُها » أي :
أنشأتها وابتدأتها . ويقال : فَطَرْتُ كذا فَطْر هو فُطوراً ، وانفطر انفطاراً
وفَطَرْتُ الشاة : حَلَبْتُها بأصبعين ، وفَطَرْت العجين : خبزته مِنْ وقته ،
وقوله تعالى : { فِطْرَتَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا } [ الروم : 30 ]
إشارةً منه إلى ما فَطَر أي أبدع وركَّز في الناس من معرفته ، ففطرةُ الله ما
رُكِّز من القوة المُدْرِكة لمعرفته ، وهو المشار إليه بقوله تعالى : { وَلَئِن
سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله } [ الزخرف : 87 ] ، وعليه : «
كلُّ مولودٍ يَوْلَدُ على الفطرة . . . » الحديث ، وهذا أحسنُ ما سمعت في تفسير «
فطرة الله » في الكتاب والسنة .
قوله : { وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ } القراءة المشهورة ببناء الأول للفاعل
والثاني للمفعول ، والضمير لله تعالى ، والمعنى : وهو يَرْزق ولا يُرْزَق ، وهو
موافقٌ لقوله تعالى : { مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن
يُطْعِمُونِ } [ الذاريات : 57 ] . وقرأ سعيد بن جبير ومجاهد بن جبر والأعمش وأبو
حيوة وعمرو بن عبيد وأبو عمرو بن العلاء في رواية عنه : « ولا يَطْعَمُ » بفتح
الياء والعين بمعنى ولا يأكل ، والضمير لله تعالى .
وقرأ ابن أبي عبلة ويمان العماني : ولا يُطْعِم ، بضم الياء وكسر العين كالأول ،
فالضميران - أعني هو والمستكنُّ في « يطعم » - عائدان على الله تعالى ، والضمير في
ولا يُطْعِم للوليّ . وقرأ يعقوب في رواية ابن المأمون .
« وهو يُطْعَمُ ولا يُطْعِم » ببناء الأول للمفعول ، والثاني للفاعل
، على عكس القراءة المشهورة ، والضمائر الثلاثة أعني هو والمستترَيْنِ في الفعلين
للولي فقط ، أي : وذلك الوليُّ يُطْعمه غيره ولا يُطْعِمُ هو أحداً لعَجْزه .
وقرأ الأشهب : { وهو يُطْعِمُ ولا يُطْعِم } ببنائهما للفاعل . وذكر الزمخشري فيها
تخريجين ثانيهما لنفسه ، فإنه قال - بعد أن حكى القراءة - : « وفُسِّر بأن معناه
وهو يُطْعِم ولا يَسْتَطْعِم » . وحكى الأزهري : أطعمت بمعنى استطعمت ، ونحوه :
أَفَدْت ، ويجوز أن يكون المعنى : وهو يُطْعِم تارة ولا يُطْعم أخرى على حسب
المصالح كقولك : هو يعطي ويمنع ويَقْدِر ويبسط ويغني ويفقر « قلت : [ هكذا ذكر
الشيخ هذه القراءة ، وقراءةُ الأشهب هي ] كقراءة ابن أبي عبلة والعماني سواء ، لا
تخالُفَ بينهما ، فكان ينبغي أن يذكر هذه القراءة لهؤلاء كلِّهم ، وإلاَّ يوهمْ
هذا أنهما قراءتان متغايرتان وليس كذلك .
وقرئ شاذاً : { يَطْعَم } بفتح الياء والعين ، ولا يُطْعِم بضم الياء وكسر العين
أي : وهو يأكل ولا يُطْعِم غيره ، ذكر هذه القراءةَ أبو البقاء وقال : » والضمير
راجع على الولي الذي هو غير الله . فهذه ست قراءات وفي بعضها - وهي تَخَالُفُ
الفعلين - من صناعة البديع تجنيس التشكيل : وهو أن يكون الشكل فارقاً بين الكلمتين
، وسمَّاه أسامة بن منقذ تجنيس التحريف ، وهو تسمية فظيعة ، فتسميتُه بتجنيس
التشكيل أَوْلى .
قوله : { مَنْ أَسْلَمَ } « مَنْ » يجوز أن تكون نكرةً موصوفة واقعةً موقعَ اسمِ
جمع ، أي : أول فريق أسلم ، وأن تكون موصولة أي : أول الفريق الذي أسلم . وأفرد الضمير
في « اسلم » إمَّا باعتبار لفظ « فريق » المقدَّر ، وإمَّا باعتبار لفظ « مَنْ »
وقد تقدَّم الكلام على « أول » وكيف يُضاف إلى مفرد بالتأويل المذكور في البقرة .
قوله : { وَلاَ تَكُونَنَّ } فيه تأويلان ، أحدهما على إضمار القول أي : وقيل لي :
لا تكونَنَّ ، قال أبو البقاء : « ولو كان معطوفاً على ما قبله لفظاً لقال : و »
أنْ لا أكون « وإليه نحا أبو القاسم الزمخشري فإنه قال : » ولا تكونَنَّ : وقيل لي
لا تكونَنَّ ومعناه : وأُمرت بالإِسلام ونُهيت عن الشرك « والثاني : أنه معطوف على
معمول » قل « حملاً على المعنى ، والمعنى : قل إني قيل لي : كن أولَ مَنْ أسلم ولا
تكونن من المشركين [ فهما ] جميعاً محملان على القول ، لكن أتى الأول بغير لفظ
القول وفيه معناه ، فحمل الثاني على المعنى . وقيل ] : هو عطف على » قل « أُمِرَ
بأن يقول كذا ونهى عن كذا .
قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)
قوله تعالى : { إِنْ عَصَيْتُ } : شرط حُذِفَ جوابه لدلالة ما قبله عليه ، ولذلك جيء بفعل الشرط ماضياً ، وهذه الجملة الشرطية فيها وجهان ، أحدهما : أنه معترضٌ بين الفعل وهو « أخاف » وبين مفعوله وهو « عذاب » . والثاني : أنها في محلِّ نصب على الحال . قال الشيخ : « كأنه قيل : إني أخاف عاصياً ربِّي » وفيه نظرٌ ، إذ المعنى يأباه . و « أخاف » وما في حَيِّزه . خبر ل « إنَّ » وما في حيزها في محل نصب ب « قل » .
مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)
قوله تعالى : { مَّن يُصْرَفْ } : « مَنْ » شرطية ، ومحلُّها يحتمل
الرفع والنصب كما سيأتي بيانه بعد ذِكْر القراءتين فنقول : قرأ الأخوان وأبو بكر
عن عاصم : « يَصْرِف » بفتح الياء وكسر الراء على تسمية الفاعل . والباقون بضمِّ
الياء وفتح الراء على ما لم يُسَمَّ فاعله .
فأمَّا القراءة الأولى ف « مَنْ » فيها تحتمل الرفع والنصب : فالرفع من وجه واحد
وهو الابتداء ، وخبرها فعل الشرط أو الجواب أو هما ، على حسب الخلاف ، وفي مفعول «
يَصْرِف » حينئذ احتمالان ، أحدهما : أنه مذكور وهو « يومئذ » ، ولا بد من حذف
مضاف أي : يَصْرِف الله عنه هَوْل يؤمئذ - أو عذاب يومئذ - فقد رحمه ، فالضمير في
« يَصْرِف » يعود على الله تعالى ، ويدلُّ عليه قارءة أُبَيّ بن كعب « مَنْ
يَصْرِف اللَّهُ » بالتصريح به . والضميران في « عنه » و « رَحِمَة » ل « مَنْ »
والثاني : أنه محذوف لدلالة ما ذكر عليه قبل ذلك أي : مَنْ يَصْرف اللَّهُ عنه
العذابَ . و « يومئذ » منصوبٌ على الظرف . وقال مكي : « ولا يَحْسُن أن تقدَّرَ
هاءً؛ لأن الهاء إنما تُحْذف من الصلات » . قلت : يعني أنه لا يُقَدَّرُ المفعولُ
ضميراً عائداً على عذاب يوم؛ لأن الجملة الشرطية عنده صفةٌ ل « عذاب » والعائد
منها محذوف ، لكنَّ الحذف إنما يكون من الصلة لا من الصفة ، وهذا معنى قول الواحدي
أيضاً ، إلا أنَّ قولَ مكيّ « إنما يُحْذف من الصلات » يريد في الأحسن ، وإلاَّ
فيحذف من الصفات والأخبار والأحوال ، ولكنه دون الصلة .
والنصب من وجهين أحدهما : أنه مفعول مقدَّمٌ ل « يَصْرِف » والضمير في « عنه » على
هذا يتعيَّن عَوْدُه على العذاب المتقدم ، والتقدير : أيَّ شخص يَصْرِف اللَّهُ عن
العذاب . والثاني : أنه منصوب على الاشتغال بفعل مضمر لا يبرز ، يفسره هذا الظاهر
من معناه لا من لفظه ، والتقدير : مَنْ نُكْرِمْ أو مَنْ نُنَجِّ يَصْرِفِ الله .
والضمير في « عنه » للشرطية . وأمَّا مفعول « يَصْرِفْ » على هذا فيحتمل الوجهين
المتقدمين ، أعني كونه مذكوراً وهو « يومئذ » على حذفِ مضاف ، أو محذوفاً اختصاراً
.
وأمَّا القراءة الثانية ف « مَنْ » تحتمل وجهين ، أحدهما : أنها في محل رفعٍ
بالابتداء ، وخبره ما بعده على ما تقدَّم ، والفاعل المحذوف هو الله تعالى ، يدلُّ
عليه قراءة أبي المتقدمة ، وفي القائمِ مَقامَه أربعةُ أوجه ، أحدهما : أنه ضمير
العذاب ، والضمير في « عنه » يعود على « مَنْ » فقط ، والظرف فيه حينئذ ثلاثة أوجه
، أحدها : أنه منصوب ب « يُصْرَف » الثاني : أنه منصوب بالعذاب أي : الذي قام
ضميره مقام الفاعل ، قاله أبو البقاء ، ويلزم منه إعمال المصدر مضمراً ، وقد يقال
: يُغْتفر ذلك في الظروف .
الثالث : قال أبو البقاء : « إنه حال من الضمير » قلت : يعني الضمير
الذي قام مقام الفاعل ، وجاز وقوعُ الحال ظرف زمان لأنها عن معنًى لا عن جثة .
الثاني من الأوجه الأربعة : أن القائم الفاعل ضمير « مَنْ » والضمير في « عنه »
يعود على العذاب ، والظرف منصوب : إمَّا ب « يُصْرف » ، وإمَّا على الحال من هاء «
عنه » . والثالث من أوجه العامل في « يومئذ » متعذَّر هنا وهو واضح ، والتقدير :
أي شخصٍ يُصْرف هو عن العذاب . الثالث : أن القائم مقام الفاعل « يومئذ » إمَّا
على حذف مضاف أي : من يُصرف عنه فَزَعُ يومئذ أو هول يومئذ ، وإمَّا على قيام
الظرف دون مضاف كقولك : « سير يوم الجمعة » وإنما بُني « يومئذ » على الفتح
لإِضافته إلى غير متمكن ، ولو قرئ بالرفع لكان جائزاً في الكلام ، وقد قرئ : {
ومِنْ خزي يؤمئذ } فتحاً وجراً بلاعتبارين ، وهما اعتباران متعايران ، فإن قيل :
يلزمُ على عدم تقدير حذف المضاف إقامةُ الظرف غير التام مقامَ الفاعل ، وقد نصُّوا
على أن الظرف المقطوع عن الإِضافة لا يُخبر به ولا يقوم مقام فاعل ، لو قلت : «
ضُرب قبلُ » لم يجز ، والظرف هنا في حكم المقطوع عن الإِضافة فلا يجوز قيامه مقام
/ الفاعل إلا على حذف مضاف ، فالجواب أن هذا في قوة الظرف المضاف ، إذ التنوين
عوضٌ عنه ، وهذا ينتهض على رأي الجمهور ، أما الأخفش فلا ، لأن التنوين عنده تنوين
صَرْفٍ والكسر كسر إعراب ، وقد أوضحت ذلك إيضاحاً شافياً في غير هذا الموضوع .
الرابع : أن القائم مَقامَه « عنه » والضمير في « عنه » يعود على « مَنْ » و «
يومئذ » منصوب على الظرف ، والعامل فيه « يُصْرَفْ » ولا يجوز الوجهان الأخيران ،
أعني نصبَه على الحال؛ لأنَّ الضميرَ للجُثَّة ، والزمانُ لا يقع حالاً عنهما كما
لا يقع خبراً ، وأعني كونَه معمولاً للعذاب ، إذ ليس هو قائماً مقام الفاعل .
والثاني من وجهي « مَنْ » : أنها في محل نصب بفعل مضمر يفسره الظاهر بعده ، وهذا
إذا جعلنا « عنه » في محل نصب بأَنْ يُجْعَلَ القائم مقام الفاعل : إمَّا ضميرَ
العذاب وإمَّا « يومئذ » والتقدير : مَنْ يكرم اللَّهُ أو من يُنَجِّ يُصْرف عنه
العذابُ أو هولُ يومئذ ، ونظيره : « زيدٌ مُرَّ به مرورٌ حسن » ، أقمت المصدر فبقي
« عنه » منصوب المحل ، والتقدير : جاوزت زيداً مُرَّ به مرورٌ حسن . وأمَّا إذا
جُعل « عنه » قائماً مقام الفاعل تعيَّن رَفْعُه بالابتداء .
واعلم أنه متى قلت : منصوب على الاشتغال فإنما يُقَدَّر بعد « مَنْ »
لأنَّ لها صدر الكلام ، ولذلك لم أُظْهِره إلا مؤخراً ، ولهذه العلَّةِ منه بعضهم
الاشتغالَ فيما له صدر الكلام كالاستفهام والشرط . والتنوين في « يومئذ » عوض عن
جملة محذوفة تضمَّنها الكلام السابق ، التقدير : يوم إذ يكون الجزاء ، وإنما قلت
كذلك لأنه لم يتقدَّم في الكلام جملةٌ مُصَرَّحٌ بها يكون التنوين عوضاً منها ،
وقد تقدَّم خلاف الأخفش .
وهذه الجملة الشرطية يجوز فيها وجهان : الاستئناف والوصف ل « عذاب يوم » ، فحيث
جعلنا فيها ضميراً يعود على عذاب يوم إمَّا مِنْ « يُصْرف » وإمَّا مِنْ « عنه »
جاز أن تكونَ صفةً وهو الظاهر ، وأن تكونَ مستأنفةً ، وحيث لم نجعلْ فيها ضميراً
يعود عليه - وقد عرفت كيفية ذلك - تَعَيَّن أن تكون مستأنفة ، ولا يجوز أن تكون
صفةً لخلوِّها من الضمير .
وقد تكلَّم الناس في ترجيح إحدى هاتين القراءتين على الأخرى ، وذلك على عادتهم ،
فقال أبو علي الفارسي : « قراءة » يَصْرِفْ « يعني المبنيَّ للفاعل أحسن لمناسبة
قوله » رحمه « . يعني أن كلاً منهما مبني للفاعل ولم يقل » فقط رُحِمَ « .
واختارها أبو حاتم وأبو عبيد ، ورجَّح بعضهم قراءة المبني للمفعول بإجماعهم على
قراءة قوله : { ليس مصروفاً عنهم } يعني في كونه أتى بصيغة اسم المفعول المسند إلى
ضمير العذاب المذكور أولاً . ورجَّحها محمد بن جرير بأنها أقلُّ إضماراً ومكي -
رحمه الله - تلعثهم في كلامه في ترجيحه لقراءة الأخوين وأتى بأمثلةٍ فاسدةٍ في
كتاب » الهداية « له ، قاله ابن عطية . وقد قدَّمْتُ أول الكتاب عن العلماء ثعلب
وغيره أن ذلك - أعني ترجيحَ إحدى القراءات المتواترة على الأخرى بحيث تُضَعَّفُ
الأخرى - ولا يجوز . والجملة من قوله : { يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ } في محل جزم
على جواب الشرط ، والفاء واجبة .
قوله : { وَذَلِكَ الفوز } مبتدأ وخبر جيء بهذه الجملة مقرِّره لما تقدَّم من
مضمون الجملةِ قبلها ، والإِشارة ب » ذلك « إلى المصدر المفهوم من قوله » يُصْرف «
أي ذلك الصرف . و » المبين « يحتمل أن يكون متعدِّياً فيكون المفعول محذوفاً أي :
المبين غيرَه ، وأن يكون قاصراً بمعنى يبين ، وقد تقدَّم أن » أبان « يكون قاصراً
بمعنى ظهر ، ومتعدياً بمعنى أظهر .
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
قوله تعالى : { بِضُرٍّ } : الباء هنا للتعدية وكذا في « بخير »
والمعنى : وإن يمسسك الله الضرَّ أي : يجعلك ماسَّاً له ، وإذا مسست الضر فقد
مَسَّك ، إلا أنَّ التعدية بالباء في الفعل المتعدي قليلة جداً ، ومنه قولهم :
صَكَكْتُ أحد الحجرين بالآخر . وقال الشيخ : « ومنها قوله : » ومنها قوله : {
وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ } [ البقرة : 251 ] . وقال
الواحدي : « إن قيل : إنَّ المسَّ من صفة الأجسام فكيف قال : وإن يمسَسْك الله؟
فالجواب أن الباء للتعدية والباء والألف يتعاقبان في التعدية ، والمعنى : إن
أَمَسَّك الله ضراً أي : جعله ماسَّك فالفعل للضرّ وإن كان في الظاهر قد أسند إلى
اسم الله تعالى كقولك : » ذهب زيد بعمرو « وكان الذهاب فعلاً لعمرو ، غير أنَّ زيداً
هو المسبب له والحامل عليه ، كذلك ههنا المسُّ للضرِّ والله تعالى جعله ماسَّاً .
قوله : { فَلاَ كَاشِفَ لَهُ } » له « : خبر لا ، وثَمَّ محذوف تقديره : فلا كاشفَ
له عنك ، وهذا المحذوفُ ليس متعلقاً ب » كاشف « إذ كان يلزم تنوينه وإعرابه بل
يتعلق بمحذوف أي : أعني عنه .
و » إلا هو « فيه وجهان : أحدهما : أنه بدل من محل » لاكاشف « فإن محله الرفع على
الابتداء ، والثاني : أنه بدل من الضمير المستكنِّ في الخبر ، ولا يجوز أن/ يرتفع
باسم الفاعل وهو » كاشف « لأنه يصير مطولاً ومتى كان مطوَّلاً أُعْرب نصباً ،
وكذلك لا يجوزُ أن يكونَ بدلاً من الضمير المستكنِّ في » كاشف « للعلة المتقدمة ،
إذ البدل يحلُّ محل المبدل منه .
فإن قيل : المقابل للخير هو الشر فكيف عَدَلَ عن لفظ الشر؟ والجواب أنه أراد تغليب
الرحمة على ضدها فأتى في جانب الشر بأخص منه وهو الضرُّ ، وفي جانب بالعام الذي هو
الخير تغليباً لهذا الجانب . قال ابن عطية : » ناب الضرُّ هنا مناب الشرُّ وإن كان
الشر أعمَّ منه فقابل الخير ، وهذا من الفصاحة عدول عن [ قانون التكليف والصيغة ،
فإن باب التكليف وصيغ الكلام ] أن يكون الشيء مقترناً بالذي يختص به بنوع من أنواع
الاختصاص موافقةً أو مضاهاة ، فمن ذلك : { إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ
تعرى وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تضحى } [ طه : 118119 ] فجاء بالجوع مع
العري وبابه أن يكون مع الظمأ ومنه قول امرئ القيس :
1875- كأنّيَ لم أركبْ جواداً لِلَّذةٍ ... ولم أَتَبَطَّنْ كاعِباً ذاتَ خَلْخال
ولم أَسْبَأ الزِّقَّ الرَّويَّ ولم أقْلْ ... لخيلي كُرِّي كَرَّةً بعد إجْفالِ
ولم يوضح ابن عطية ذلك . وإيضاحه في آية طه اشتراك الجوع والعري في شيء خاص وهو
الخلوُّ ، فالجوع خلوٌّ وفراغ في الباطن ، والعريُّ خلوٌّ وفراغ في الظاهر ،
واشتراك الظمأ والضحى في الاحتراق ، فالظمأ احتراق في الباطن ولذلك تقول : «
بَرَّد الماء حرارة كبدي وأوام عطشي » ، والضحى : احتراق الظاهر .
وأمَّا البيتان فالجماع بين الركوب للَّذة وهو الصيد وتبطُّن الكاعب
اشتراكهما في لذة الاستعلاء والقهر والاقتناص والظفر بمثل هذا المركوب ، ألا ترى
تسميتهم هَنَ المرأة « رَكَباً » بفتح الراء والكاف وهو فَعَل بمعنى مَفْعول كقوله
:
1876- إنَّ لها لَرَكَباً إرْزَبَّا ... كأنه جبهةُ ذَرَّى حَبَّا
وأما البيت الثاني فالجامعُ بين سبأ الخمر والرجوع بعد الهزيمة اشتراكهما في البذل
، فشراء الخمر بَذْل المال ، والرجوع بعد الانهزام بذل الروح . وقدَّم تبارك
وتعالى مَسَّ الضرِّ على مسِّ الخير لمناسبة اتصال مسِّ الضر بما قبله من الترهيب
المدلول عليه بقوله : إن أخاف . وجاء جواب الشرط الأول بالحصر إشارةً إلى استقلاله
بكشف الضر دون غيره ، وجاء الثاني بقوله { فَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ }
إشارةً إلى قدرته الباهرة فيندرجُ فيها المَسُّ بخير وغيره ، على أنه لو قيل : إن
جواب الثاني محذوف لكان وجهاً أي : وإنْ يَمْسَسْك فلا رادَّ لفضله للتصريح بمثله
في موضع آخرَ .
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)
قوله : { فَوْقَ } : فيه أوجه أظهرها : أنه منصوب باسم الفاعل قبله . والفوقيَّةُ هنا عبارة عن الاستعلاء والغلبة . والثاني : أنه مرفوع على أنه خبر ثان ، أخبر عنه بشيئين أحدهما : أنه قاهرٌ ، والثاني : أنه فوق عباده بالغلبة والقهر . الثالث : أنه بدلٌ من الخبر . الرابع : أنه منصوبٌ على الحالِ من الضمير في « القاهر » كأنه قيل : وهو القاهرُ مُسْتعلياً أو غالباً ، ذكره المهدوي وأبو البقاء الخامس : أنها زائدةٌ ، والتقدير وهو : القاهر عباده ، ومثلُه : { فاضربوا فَوْقَ الأعناق } [ الأنفال : 12 ] وهذا مردودٌ ، لأن الأسماء لا تُزاد .
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)
قوله تعالى : { أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ } : مبتدأ وخبر ، وقد عَرَفْتَ
مما مرَّ « أيَّاً » بعضُ ما تضاف إليه ، فإذا كانت استفهاميةً اقتضى الظاهرُ أن
تكون مسمَّى باسم ما أضيفت إليه . قال أبو البقاء : « وهذا يوجب أن يُسَمَّى الله
تعالى » شيئاً « فعلى هذا تكون الجلالةُ خبرَ مبتدأ محذوف أي : ذلك الشيء هو الله
تعالى . ويجوز أن تكون الجلالة مبتدأ خبره محذوف ، والتقدير : الله أكبر شهادة . و
» شهيد « على هذين القولين خبرُ مبتدأ محذوف أي : هو شهيد بيني وبينكم . والجملة
من قوله : { قُلِ الله } على الوجهين المتقدمين جواب ل » أيّ « من حيث اللفظ
والمعنى . ويجوز أن تكون الجلالة مبتدأ ، و » شهيد « خبرها ، والجملة على هذا
جوابٌ ل » أيّ « من حيث المعنى أي : إنها دالة على الجواب وليست به .
قوله : { شَهَادةً } نصبٌ على التمييز ، وهذا هو الذي لا يَعْرِفُ النحاةُ غيرَه .
وقال ابن عطية : » ويَصِحُّ على المفعول بأن يُحْمَلَ « أكبر » على التشبيه بالصفة
المشبهة باسم الفاعل « . وهذا ساقطٌ جداً . إذ نصَّ النحويون على أن معنى شبهها
باسم الفاعل في كونها تؤنث وتثنَّى وتجمع ، وأفعلُ مِنْ لا يؤنَّثُ ولا يُثَنَّى
ولا يُجْمع فلم يُشْبِه اسم الفاعل ، حتى إن الشيخ نسب هذا الخِباط إلى الناسخ دون
أبي محمد .
قوله : { بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ } متعلِّقٌ ب » شيهد « وكان الأصل : قل الله شهيد
بيننا فكُرِّرَتْ » بين « توكيداً ، وهو نظير قوله :
1877- فأيِّي ما وأيُّك كان شراً ... فَسِيقَ إلى المَقامةِ لا يراها
وقوله :
1878- يا ربَّ موسَى أظلمي وأَظْلَمُهْ ... فاصْبُبْ عليه ملِكاً لا يَرْحَمُهْ
وقوله :
1879- فلئِنْ لَقِيْتُك خالِيَيْنِ لَتَعْلَمَنْ ... أيِّي وأيُّك فارسُ الأحزابِ
والجامع بينها أنه لَمَّا أضاف إلى الياء وحدها احتاج إلى تكرير ذلك المضاف .
وجَوَّز أبو البقاء أن يكون » بيني « متعلقاً بمحذوفٍ على أنه صفة لشهيد فيكون في
محل رفع ، والظاهر خلافه .
قوله : { وَأُوحِيَ } الجمهور على بنائه للمفعول وحُذِف الفاعلُ للعِلْمِ به وهو
الله تعالى . » والقرآن « رفع به . وقرأ أبو نهيك والجحدري وعكرمة وابن
السَّمَيْفَع . » وأَوْحَى « ببنائه للفاعل ، » القرآن « نصباً على المفعول به . و
» لأنذركم « متعلِّقٌ ب » أُوحِي « قيل : وثَمَّ معطوف حُذف لدلالة الكلام عليه أي
: لأنذركم به وأبَشِّركم به ، كقوله : { تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] وتقدَّم
منه جملةٌ صالحة . وقيل : لا حاجة إليه لأن المَقام مَقامُ تخويف .
قوله : { وَمَن بَلَغَ } فيه ثلاثة أقوال ، أحدها : أنه في محل نصب عطفاً على
المنصوب في » لأُنْذِرَكم « وتكون » مَنْ « موصولة والعائدُ عليها مِنْ صلتها
محذوف أي : ولأنذَر الذي بلغه القرآن .
والثاني : أنَّ في « بَلَغ » ضميراً مرفوعاً يعود على « مَنْ » ويكون
المفعولُ محذوفاً ، وهو منصوب المحل أيضاً نسقاً على مفعول « لأنذركم » ، والتقدير
: ولأنذر الذي بَلَغ الحُلُمَ ، فالعائد هنا مستتر في الفعل . والثالث : أن « مَنْ
» مرفوعةُ المحلِّ نَسَقاً على الضمير المرفوع في « لأنذرَكم » وجاز ذلك لأنَّ
الفصلَ بالمفعول والجارِّ والمجرور أغنى عن تأكيده ، والتقدير : لأنذركم به
ولينذركم الذي بلغه القرآن .
قوله : { أَئِنَّكُمْ } الجمهور على القراءة بهمزتين أولاهما للاستفهام ، وهو
استفهام تقريعٍ وتوبيخ ، وقد تقدَّم الكلام في قراءاتٍ مثلِ هذا . قال الشيخ : «
وبتسهيل الثانية وبإدخال ألفٍ بين الهمزة الأولى والهمزةِ المُسَهَّلَة ، روى هذا
الأخيرةَ الأصمعيُّ عن أبي عمرو ونافع » . انتهى . وهذا الكلام يُؤذن بأنها قراءة
مستغربة وليس كذلك ، بل المرويُّ عن أبي عمرو المدُّ بين الهمزتين ، ولم
يُخْتَلَفْ عن قالون في ذلك . وقرئ بهمزة واحدة وهي محتملة للاستفهام وإنما حُذفت
لفهم المعنى ، ودلالة القراءة الشهيرة عليها ، وتحتمل الخبر المحض .
ثم هذه الجملة الاستفهامية يحتمل أن تكون منصوبةَ المحلِّ لكونها في حيز القول وهو
الظاهر ، كأنه أُمِرَ أن يقول : أيُّ شيء أكبرُ شهادةً ، وأن يقول : أإنكم لتشهدون
. ويحتمل أن لا تكونَ داخلةً في حيِّزه فلا محلَّ لها حينئذ . و « أخرى » صفةٌ ل «
آلهة » لأنَّ ما لا يَعْقِل يُعامَل جمعُه معاملةَ الواحدةِ المؤنثة كقوله : {
مَآرِبُ أخرى } [ طه : 18 ] و { الأسمآء الحسنى } [ الأعراف : 180 ] .
قوله : { إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ } يجوز في « ما » هذه وجهان ، أظهرهما : أنها
كافة ل « إنَّ » عن عملها ، و « هو » مبتدأ ، و « إله » خبر و « واحد » صفته .
والثاني : أنها موصولة بمعنى الذي و « هو » مبتدأ « وإليه » خبره ، وهذه الجملةُ
صلةٌ وعائد ، والموصول في محل نصب اسماً ل « إن » ، و « واحد » خبرها . والتقدير :
إن الذي هو إله واحد ، ذكره أبو البقاء ، وهو ضعيفٌ ، ويدلُّ على صحة الوجه الأولِ
تعيُّنُه في قوله تعالى : { إِنَّمَا الله إله وَاحِدٌ } [ النساء : 171 ] ، إذ لا
يجوز فيه أن تكون موصولة لخلوِّ الجملة من ضمير الموصول . وقال أبو البقاء : - في
هذا الوجه - « وهو أليقُ مما قبله » ولا أدري ما وجه ذلك؟ .
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)
قوله تعالى : { الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب } : الموصول مبتدأ ، و «
يَعْرِفونه » خبره والضميرُ المنصوبُ يجوز عَوْدُه على / الرسول أو على القرآن
لتقدُّمه في قوله : { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذا القرآن } أو على التوحيد لدلالة قوله
: { إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ } أو على كتابهم أو على جميع ذلك . وأَفْرد الضمير
باعتبار المعنى كأنه قيل : يعرفون ما ذَكَرْنا وقصصنا . وقد تقدَّم إعراب هذه
الجملة في البقرة .
قوله : { الذين خسروا } في محله أربعة أوجه ، أظهرها : أنه مبتدأ ، وخبره الجملة
من قوله : { فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } ودخلت الفاء لما عَرَفْتَ من شبه الموصول
بالشرط . الثاني : أنه نعت للذين آتيناهم الكتاب . قال الزجاج الثالث : أنه خبر
مبتدأ محذوف أي : هم الذين خسروا . الرابع : أنه منصوبٌ على الذم ، وهذان الوجهان
فرعان على النعت لأنهما مقطوعان عنه ، وعلى الأقوال الثلاثة الأخيرة يكون { فَهُمْ
لاَ يُؤْمِنُونَ } من باب عَطْفِ جملة اسمية على مثلها ، ويجوز أن يكونَ عطفاً على
« خسروا » وفيه نظرٌ من حيث إنَّه يؤدِّي إلى ترتُّب عدم الإِيمان على خسرانهم .
والظاهر أن الخُسْران هو المترتِّبُ على عدم الإِيمان ، وعلى الوجه الأول يكون
الذين خسروا أعمَّ من أهل الجاحدين من المشركين ، وعلى غيره خاصاً بأهل الكتاب ،
والتقدير : الذين خسروا أنفسهم منهم أي : من أهل الكتاب .
واسْتُشْكِل على كونه نعتاً الاستشهادُ بهم على كفار قريش وغيرهم من العرب ، يعني
كيف يُسْتشهد بهم ويُذَمُّون في آية واحدة؟ فقيل : إن هذا سِيق للذمِّ لا
للاستشهاد . وقيل : بل سيق للاستشهاد وإن كان في بعض الكلام ذمٌّ لهم ، لأن ذلك
بوجيهن واعتبارين . قال ابن عطية : « فصَحَّ ذلك لاختلاف ما استشهد بهم فيه وما
ذُمُّوا فيه ، وأنَّ الذمَّ والاستشهاد ليسا من جهة واحدة » .
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22)
قوله تعالى : { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ } فيه خمسة أوجه ، احدها : أنه
منصوبٌ بفعلٍ مضمرٍ بعده ، وهو على ظرفيَّته ، أي : ويوم نحشرهم كان كيت وكيت ،
وحُذِفَ ليكونَ أبلغَ في التخويف . والثاني : أنه معطوف على ظرفٍ محذوف ، وذلك
الظرف معمول لقوله : { لاَ يُفْلِحُ الظالمون } والتقدير : إنه لا يفلح الظالمون
اليوم في الدنيا ويوم نحشرهم ، قاله محمد بن جرير . الثالث : أنه منصوب بقوله : {
انظر كَيْفَ كَذَبُواْ } وفيه بُعْدٌ لعبده من عامله بكثرة الفواصل . الرابع : أنه
مفعول به باذكر مقدراً . الخامس . أنه مفعول به أيضاً ، وناصبه احذروا أو اتقوا
يوم نحشرهم ، كقوله : { واخشوا يَوْماً } [ لقمان : 33 ] وهو كالذي قبله فلا
يُعَدُّ خامساً .
وقرأ الجمهور « نَحْشرهم » بنون العظمة وكذا « ثم نقول » وقرأ حميد ويعقوب بياء
الغيبة فيهما وهو الله تعالى . والجمهور على ضم الشين من « نَحْشُرهم » وأبو هريرة
بكسرها ، وهما لغتان في المضارع . والضمير المنصوب في « نحشرهم » يعود على
المفترين الكذب ، وقيل : على الناس كلهم فيندرج هؤلاء فيهم ، والتوبيخ مختص بهم .
وقيل : يعود على المشركين وأصنامهم ، ويدل عليه قوله : { احشروا الذين ظَلَمُواْ
وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ } [ الصافات : 22 ] . و « جميعاً »
حال من مفعول « نحشُرهم » . ويجوز أن يكونَ توكيداً عند مَنْ أثبته من النحويين
كأجمعين . وعطف هنا ب « ثُمَّ » للتراخي الحاصل بين الحشر والقول . ومفعولا «
تَزْعُمون » محذوفان للعِلْمِ بهما أي : تزعمونهم شركاء أو تزعمون أنهما شفعاؤكم .
وقوله : { ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ } إن جَعَلْنا الضمير في « نحشرهم » عائداً
على المفترين الكذبَ كان ذلك من باب إقامة الظاهرِ مُقام المضمر ، إذ الأصل : ثم
نقول لهم وإنما أُظِهِرَ تنبيهاً على قبح الشرك .
ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)
قوله تعالى : { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ } : قرأ حمزة
والكسائي : « يكن » بالياء من تحت ، « فتنتهم » نصباً ، وابن كثير وابن عامر وحفص
عن عاصم : « تكن » بالتاء من فوق ، « فتنتُهم » رفعاً . والباقون بالتاء من فوق
أيضاً ، « فتنتهم » نصباً . فأمَّا قراءة الأخوين فهي أفصحُ هذه القراءات
لإِجرائها على القواعد من غير تأويل ، وستعرفه في القراءتين الأُخْرَيَيْن ،
وإعرابها ظاهر . وذلك أن « فتنتهم » خبر مقدم ، و « أَنْ قالوا » بتأويل اسم مؤخر
، والتقدير : ثم لم تكن فتنتهم إلا قولُهم ، وإنما كانت أفصحَ لأنه إذا اجتمع
اسمان ، أحدهما : أعرفُ ، فالأحسنُ جَعْلُه اسماً مُحَدَّثاً عنه والآخر خبراً
حديثاً عنه ، و « أَنْ قالوا » يشبه المضمر ، والمضمر أعرف المعارف ، وهذه القراءة
جُعِل الأعرفُ/ فيها اسماً ل « كان » وغيرُ الأعرف خبرَها ، ولم يؤنَّث الفعل
لإِسناده إلى مذكر . وأما قراءة ابن كثير ومَنْ تبعه ف « فتنتُهم » اسمها ، ولذلك
أُنِّثَ الفعلُ لإِسناده إلى مؤنث . و « إلا أَنْ قالوا » خبرها ، وفيه أنك جعلت
غير الأعرف اسماً والأعرفَ خبراً ، فليست في قوة الأولى .
وأمَّا قراءةُ الباقين ف « فتنتَهم » خبر مقدم ، و « إلا أن قالوا » اسمٌ مؤخَّرٌ
، وهذه القراءةُ - وإن كان فيها جَعْلُ الأعرفِ اسماً - كالقراءة الأولى ، إلا أن
فيها لَحاقَ علامة تأنيث في الفعل مع تذكير الفاعل ولكنه بتأويل . فقيل : لأن قوله
: { إِلاَّ أَن قَالُواْ } في قوة مقالتهم . وقيل : لأنه هو الفتنة في المعنى ، وإذا
أخبر عن الشيء بمؤنَّثٍ اكتسب تأنيثاً فعومل معاملته ، وجعل أبو علي منه { فَلَهُ
عَشْرُ أَمْثَالِهَا } [ الأنعام : 160 ] لما كانت الأمثال هي الحسنات في المعنى
عومل معاملةَ المؤنث فسقطت التاء من عدده . ومثلُ الآيةِ قولُه :
1880- ألم يكُ غَدْراً ما فَعَلْتُم بسَمْعَلٍ ... وقد خاب مَنْ كانَتْ سريرتَه
الغَدْرُ
ف « كانت » مسند إلى الغدر وهو مذكَّر ، لكن لما أخبر عنه بمؤنث أنَّث فِعْلَه ،
ومثله قول لبيد :
1881- فمضى وقدَّمها وكانت عادةً ... إذا هي عَرَّدَتْ إقدامُها
قال أبو علي : « فأنَّث الإِقدام لما كان العادة في المعنى » قال : « وقد جاء في
الكلام : » ما جاءت حاجتَك « فأنّث ضمير » ما « حيث كانت الحاجة في المعنى ، ولذلك
نصب » حاجتك « . وقال الزمشخري : » وإنما أنَّث « أن قالوا » لوقوع الخبر مؤنثاً
كقولهم : من كانت أمَّك « .
وقال الشيخ : » وكلام الزمخشري مُلَفَّقٌ من كلام أبي علي ، وأمَّا « من كانت
أمَّك » فإنه حَمَلَ اسمَ « كان » على معنى « مَنْ » فإن لها لفظاً مفرداً مذكراً
، ولها معنى بحسب ما تريد من إفارد وتثنية وجمع وتذكير وتأنيث ، وليس الحَمْلُ على
المعنى لمراعاة الخبر ، ألا ترى أنه يجيء حيث لا خبر ، كقوله :
{ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } [ يونس : 42 ] [ وقوله ]
:
1882- . . . . . . . . . . . . . . . ... نكن مثلَ مَنْ يا ذئب يَصْطحبان
قلت : ليت شعري ولأي معنى خصَّ الزمخشريَّ بهذا الاعتراض فإنه وارد على أبي علي
أيضاً؟ إذ لقائلٍ أن يقول : التأنيث في « جاءت » للحمل على معنى « ما » فإن لها هي
أيضاً لفظاً ومعنى مثل « مَنْ » على أنه يقال : للتأنيث علَّتان ، فذكرا إحداهما .
ورجَّح أبو عبيد قراءَة الأخوين بقراءة أُبَيّ وبان مسعود : « وما كان فتنتُهم إلا
أن قالوا » فلم يُلْحِقْ الفعلَ علامةَ تأنيث . ورجَّحها غيره بإجماعهم على نصب «
حُجَّتَهم » من قوله تعالى : { مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ } [
الجاثية : 25 ] . وقرئ شاذاً : { ثم لم يكنْ فتنتُهم إلا أن قالوا « بتذكير » يكنْ
« ورفع » فتنتهم « ووجهُ شذوذِها سقوطُ علامةِ التأنيثِ والفاعلُ مؤنثٌ لفظاً وإن
كان غيرَ حقيقي ، وجَعْلُ غير الأعرف اسماً والأعرفِ خبراً ، فهي عكس القراءة
الأولى من الطرفين ، و » أن قالوا « ممَّا يجب تأخيرُه لحَصْره سواء أجُعِلَ اسماً
أم خبراً .
قوله : { رَبِّنَا } قرأ الأخَوان : { ربَّنا } نصباً والباقون جراً . ونصبه :
إمَّا على النداء وإمَّا على المدح ، قاله ابن عطية ، وإمَّا على إضمار » أعني «
قاله أبو البقاء والتقدير : يا ربنا . وعلى كلِّ تقديرٍ فالجملة معترضةٌ بين القسم
وجوابه وهو قوله { مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } وخفضُه في ثلاثةِ أوجهٍ : النعتِ
والبدلِ وعطفِ البيان . وقرأ عكرمة وسلام بن مسكين : { واللَّهُ ربُّنا } برفعهما
على المبتدأ والخبر . قال ابن عطية : » وهذا على تقديمٍ وتأخير ، كأنهم قالوا :
واللَّهِ ما كنَّا مشركين واللَّهُ ربُّنا « قلت : يعني أن ثَمَّ قَسَماً مضمراً .
انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)
قوله تعالى : { كَيْفَ كَذَبُواْ } : « كيف » منصوب على حدِّ نَصْبها في قوله : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله } [ البقرة : 28 ] وقد تقدَّم بيانه . و « كيف » وما بعدها في محل نصب ب « انظر » لأنها معلِّقة بها عن العمل . و « كَذَبوا » وإن كان معناه مستقبلاً لأنه في يوم القيامة ، فهو لتحقُّقِه أبرزه في صورة الماضي . وقوله : « وضَلَّ » يجوز أن يكونَ نَسَقاً على « كَذَبوا » فيكون داخلاً في حَيِّز النظر ، ويجوز أن يكونَ استئنافَ إخبارٍ فلا يندرجُ في حَيِّزِ المنظور إليه ، وقوله : « ما كانوا » يجوز في « ما » أن تكون مصدرية أي : وضلَّ عنهم افتراؤهم ، وهو قولُ ابن عطية . ويجوز أن تكونَ موصولةً اسمية ، أي : وضَلَّ عنهم الذين كانوا يفترونه ، فعلى الأول لا يُحْتاج إلى ضمير عائد على « ما » عند الجمهور ، وعلى الثاني لا بد من ضمير عند الجميع .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25)
قوله تعالى : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ } : راعى لفظَ « مَنْ »
فأفردَ ، ولو راعى المعنى لَجَمَع كقوله في موضع آخر : { وَمِنْهُمْ مَّن
يَسْتَمِعُونَ } [ يونس : 42 ] وقوله : { وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً
أَن يَفْقَهُوهُ } إلى آخره ، حُمِل على معناها .
قوله : { وَجَعَلْنَا } « جَعَلَ » هنا يحتمل أن يكونَ للتصيير فيتعدى لاثنين ،
أَوَّلُهما « أكنَّةً » ، والثاني الجار قبله ، فيتعلَّق بمحذوف ، أي : صَيَّرنا
الأكِنَّةَ مستقرَّةً على قلوبهم . ويحتمل أن يكون بمعنى خلق فيتعدَّى لواحد ،
ويكون الجارُّ قبله حالاً فيتعلَّق بمحذوف ، لأنه لو تأخر لوقع صفةً ل « أَكِنَّة
» ويُحتمل أن يكونَ بمعنى « ألقى » فتتعلق « على » بها كقولك : « ألقيت على زيدٍ
كذا » وقوله : { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي } [ طه : 39 ] .
وهذه الجملةُ تحتمل وجهين ، أظهرهما : أنها مستأنفة سيقت للإِخبار بما تضمَّنَتْه
من الخَتْم على قلوبهم وسمعهم . ويُحْتمل أن تكون في محلِّ نصب على الحال ،
والتقدير : مَنْ يستمع في حال كونه مجعولاً على قلبه كِنانٌ وفي أذنه وَقْرٌ ،
فعلى الأول يكون قد عطف جملةً فعلية على اسمية ، وعلى الثاني تكون الواو للحال ، و
« قد » مضمرة ، بعدها عند مَنْ يقدِّرها قبل الماضي الواقع حالاً .
والأَكِنَّة : جمع كِنان وهو الوعاء الجامع . قال :
1883- إذا ما انْتَضْوها في الوغَى مِنْ أكنَّةٍ ... حَسِبْتَ بروقَ الغيث تأتي
غيومُها
وقال بعضهم : « الكِنُّ - بالكسر - ما يُحْفَظُ فيه الشي ، وبالفتح المصدر . يقال
: كنَّنْتُه كِنَّاً أي : جعلتُه في كِنّ ، وجُمِعَ على أَكْنان قال تعالى : {
مِّنَ الجبال أَكْنَاناً } [ النحل : 81 ] . والكِنانُ : الغِطاء الساتر ، والفعل
من هذه المادة يُستعمل ثلاثياً ورباعياً ، يقال : كَنَنْتُ الشيء وأكنَنْتُه
كِنَّاً وأكناناً ، إلا أنَّ الراغبَ فرَّقَ بين فَعَل وأَفْعل فقال : » وخُصَّ
كَنَنْتُ بما يَسْتُرُ من بيتٍ أو ثوب أو غير ذلك من الأجسام ، قال تعالى : {
كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ } [ الصافات : 49 ] وأكنَنْتُ بما يُسْتَرُ في
النفس ، قال تعالى : { أَوْ أَكْنَنتُمْ في أَنْفُسِكُمْ } [ البقرة : 235 ] . قلت
: ويَشْهد لما قال قوله أيضاً : { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ
مَّكْنُونٍ } [ الواقعة : 7778 ] وقوله تعالى : { مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ } [
القصص : 69 ] . وكِنانُ يُجْمع على أكِنَّة في القلة والكثرة لتضعيفه ، وذلك أن
فَعالاً وفِعالاً بفتح الفاء وكسرها يُجْمع في القلة على أَفْعِله كأَحْمِرَة
واقْذِلة وفي الكثرة على فُعُل كحُمُر وقُذُل ، إلا أن يكونَ مضاعفاً ك « بَتَات »
و « كِنان » أو معتلَّ اللام كخِباء وقَباء فيُلْتَزَمَ جَمْعُه على أَفْعِلة ،
ولا يجوز على فُعُل إلا في قليلٍ من الكلام كقولهم عُنُن وحُجُج في جمع عِنان
وحِجاج .
قوله : { أَن يَفْقَهُوهُ } في محلِّ نصب على المفعول من أجله ، وفيه تأويلان
سَبَقا ، أحدهما : كراهةَ أن يفقهوه ، وهو رأيُ البصريين ، والثاني : حَذْفُ « لا
» أي : أن لا يفقهوه ، وهو رأيُ الكوفيين .
قوله : { وَقْراً } عطفٌ على « أَكِنَّة » فينصبُ انتصابَه ، أي :
وجَعَلْنا في آذانهم وقراً . و « في آذانهم » كقوله « على قلوبهم » وقد تقدَّم
أنَّ « جَعَل » يَحْتمل معانيَ ثلاثةً فيكونُ هذا الجار مبنيَّاً عليها مِنْ كونه
مفعولاً ثانياً قُدِّمَ ، أو متعلقاً بها نفسِها أو حالاً .
والجمهور على فتح الواو من « وَقْراً » وقرأ طلحة بن مصرف بكسرها والفرق بين
الوَقْر والوِقْر أنَّ المفتوح هو الثِّقل في الأذن ، يُقال منه : وَقَرِتْ أذنه
بفتح القاف وكَسْرِها ، والمضارع تَقِر وتَوْقَر بحسب الفعلين ك تَعِد وتَوْجَل .
وحكى أبو زيد : أذنٌ مَوْقورة ، وهو جارٍ على القياس ، ويكون فيه دليلٌ على أن
وَقَر الثلاثي يكون متعدِّياً ، وسُمِع « أذن مُوْقَرَة » والفعل على هذا
أَوْقَرْتُ رباعياً كأكرم . والوِقْر - بالكسر - الحِمْل للحمار والبغل ونحوهما ،
كالوسَق للبعير ، قال تعالى : { فالحاملات وِقْراً } [ الذاريات : 2 ] فعلى هذا
قراءةُ الجمهور واضحة أي : وجَعَلْنا في آذانهم ثِقَلاً أي : صَمَماً . وأمَّا
قراءةُ طلحة فكأنه جَعَلَ آذانهم وَقِرت من/ الصَّمَم كما تُوْقَرُ الدابة
بالحِمْل ، والحاصل أن المادَّة تدلُّ على الثِّقَل والرِّزانة ، ومنه الوَقار
للتُّؤَدة والسَّكينة ، وقوله تعالى : { وفي آذَانِهِمْ وَقْراً } فيه الفصلُ بين
حَرْفِ العطف وما عَطَفه بالجار مع كونِ العاطف على حرفٍ واحد وهي مسألة خلافٍ
تقدَّم تحقيقُها في قوله : { أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا } [ النساء :
58 ] والظاهر أن هذه الآيةَ ونظائرها مثلُ قوله : { آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً
وَفِي الآخرة حَسَنَةً } [ البقرة : 201 ] ليس مما فُصِل فيه بين العاطِف ومعطوفِه
. وقد حقَّقْتُ جميع ذلك في الموضعِ المُشارِ إليه .
قوله : { حتى إِذَا جَآءُوكَ } قد تقدَّم الكلام في « حتى » الداخلة على « إذا »
في أول النساء . وقال أبو البقاء هنا : « إذا » في موضع نصب بجوابها وهو « يقول »
وليس ل « حتى » هنا عملٌ وإنما أفادَتْ معنى الغاية كما لا تعمل في الجمل « . وقال
الحوفي : » حتى « غاية ، و » يُجادلونك « حال ، و » تقولُ « جوابُ » إذا « وهو
العامل في » إذا « وقال الزمخشري : » هي « حتى » التي تقع بعدها الجمل ، والجملةُ
قولُه : { حتى إِذَا جَآءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ } ، و « يجادلونك » في موضع
الحال ، ويجوزُ أن تكونَ الجارَّةَ ، ويكون « إذا جاؤوك » في محل الجَرِّ بمعنى :
حتى وقت مجيئهم ، ويجادلونك حال ، وقوله : { يَقُولُ الذين كفروا } تفسير له ،
والمعنى : أنه بلغ تكذيبُهم الآياتِ إلى أنهم يجادلونك ويناكرونك ، وفسَّر
مجادلتهم بأنهم يقولون : إنْ هذا إلا أساطير الأولين .
قال الشيخ : « وقد وُفِّق الحوفي وأبو البقاء وغيرُهما للصواب في ذلك ، ثم ذكر
عبارة أبي البقاء والحوفي . وقال أيضاً : » و « حتى » إذا وقع بعدها « إذا »
يُحْتمل أن تكونَ بمعنى الفاء ، ويُحتمل أن تكون بمعنى إلى أن ، فيكون التقدير :
فإذا جاؤوك يجادلونك يقول ، أو يكون التقدير : وجَعَلْنا على قلوبهم أَكِنَّة ،
وكذا إلى أَنْ قالوا : إنْ هذا إلا أساطير الأولين ، وقد تقدَّم أن « يُجادِلونك »
حالٌ من فاعل « جاؤوك » و « يقول » : إمَّا جواب « إذا » وإمَّا مفسِّرةٌ للمجيء
كما تقدَّم تقريره .
و « أساطير » فيه أقوال ، أحدها : أنه جمع لواحد مقدر ، واختُلِفَ في ذلك المقدَّر فقيل : أُسْطورة ، وقيل : أَسْطارة ، وقيل : أُسْطور ، وقيل : أَسْطار ، وقيل : إسْطير وقال بعضهم : بل لُفِظَ بهذه المفردات . والثاني : أنه جمعُ جمعٍ ، فأساطير جمع أَسْطار ، وأَسْطار جمع سطَر بفتح الطاء ، وأما سَطْر بسكونها فجمعُه في القلة على أَسْطُر ، وفي الكثرة على سُطور كفَلْس وأَفْلُس وفُلوس . والثالث : أنه جَمْعُ جَمْعِ الجمع ، فأساطير جمع أَسْطار ، وأَسْطار جمع أَسْطُر ، وأَسْطُر جمع سَطْر . وهذا مرويٌّ عن الزجاج . وهذا ليس بشيء ، فإنَّ « أَسْطار » ليس جمعَ أَسْطُر ، بل هما مثالا جمع قلة . الرابع : أنه اسم جمع ، قال ابن عطية : « وقيل : هو اسم جمعٍ لا واحد له من لفظه » وهذا ليس بشيء؛ لأنَّ النحويين قد نصُّوا على أذا كان على صيغة تَخُصُّ الجموعَ لم يُسمُّوه اسم جمع بل يقولون هو جمعٌ كعباديد وشماطيط . وظاهر كلام الراغب أن أساطير جمع سَطَر بفتح الطاءِ فإنه قال : « وجمعُ سَطَر - يعني بالفتح - أسطار وأساطير » ووقال المبرد : « هي جمع أُسْطورة نحو أُرْجوحة وأراجيح وأُحْدُوثه وأحاديث » ومعنى الأساطير الأحاديث الباطلة والتُرَّهات ممَّا لا حقيقةَ له .
وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)
قوله تعالى : { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ } : في الضميرين - أعني هم
وهاء « عنه » - أوجه ، أحدها : أن المرفوع يعود على الكفار ، والمجرور يعود على
القرآن ، وهو أيضاً الذي عاد عليه الضميرُ المنصوب من « يَفْقهوه » ، والمشارُ
إليه بقولهم : « إنْ هذا » والثاني : أنَّ « هم » يعود على مَنْ تقدَّم ذِكْرُهم
مِن الكفار ، وفي « عنه » يعود على الرسول ، وعلى هذا فقيه التفاتٌ من الخطاب إلى
الغَيْبة ، فإن قوله : { جَآءُوكَ يُجَادِلُونَكَ } خطاب للرسول ، فخرج من هذا
الخطاب إلى الغَيْبة . وقيل : يعود على المرفوع على أبي طالب وأتباعه .
وفي قوله { يَنْهَوْنَ } و { وَيَنْأَوْنَ } تجنيس التصريف ، وهو عبارة عن انفراد
كل كلمة عن الأخرى بحرف فينهَوْن انفردت بالهاء ، ويَنْأَوْن بالهمزة ، ومثله قوله
تعالى : { وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ } [ الكهف : 104 ] { بِمَا
كُنتُمْ تَفْرَحُونَ . . . . . . وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ } [ غافر : 75 ]
وقوله عليه السلام : « الخيلُ معقودٌ في نواصيها الخيرُ » وبعضهم يسمِّيه « تجنيس
التحريف » وهو الفرق بين كلمتين بحرف ، وأنشدوا :
1884- إنْ لم أشُنَّ على أبن حرب غارةً ... لم تَخْلُ يوماً من نِهاب نفوسِ
وذكر غيره أن تجنيسَ التحريف هو أن يكون الشكل فرقاً بين كلمتين ، وجعل منه «
اللُّهى تفتح اللَّهى » وقد تقدم تحقيق ذلك . وقرأ الحسن البصري « ويَنَوْن »
بإلقاء حركة الهمزة على النون وحذفها ، وهو تخفيف قياسي . والنَّأيُ : البُعْد ،
قال :
1885- إذا غيَّر النأيُ المُحِبِّين لم يَزَلْ ... رَسِيسُ الهوى مِنْ حُبِّ
مَيَّةَ يبرحُ
وقال آخر :
1886- ألا حَبَّذا هندٌ وأرضٌ بها هندُ ... وهندٌ أتى مِنْ دونها النأيُ البعدُ
عطف الشيء على نفسه للمغايرة اللفظية ، يقال : نأى زيد يَنْأى نأياً ، ويتعدَّى
بالهمزة فيقال : أَنْأيْتُه ، ولا يُعَدَّى بالتضعيف ، وكذا كلُّ ما كان عينه همزة
. ونقل الواحدي أنه يقال : نَأَيْتُه بمعنى نَأَيْتُ عنه ، أنشد المبردِ :
1887- أعاذِلُ إن يُصْبحْ صَداي بقَفْرَةٍ ... بعيداً نآني صاحبي وقريبي
أي : نأى عني . وحكى اللَّيث : « نَأَيْت الشيء » أي : أبعدته ، وأنشد :
1888- إذا ما التَقَيْنا سالَ من عَبَراتنا ... شآبيب يُنْآى سَيْلُها بالأصابع
فبناه للمفعول أي : يُنَحَّى ويُبْعَد . والحاصلُ أن هذه المادةَ تدلُّ على
البُعْد ، ومنه : أَتَنَأَّى أي : أفتعلُ النَّأيَ . والمَنْأى : الموضع البعيد ،
قال النابغة :
1889- فإنَّك كالموتِ الذي هو مُدْرِكي ... وإنْ خِلْتُ أنَّ المُنْتأى عنك واسعُ
وتناءَى : تباعَدَ ، ومنه النُّؤيُ للحُفَيْرة التي حول الخِباء لتُبْعِدَ عنه
الماء . وقُرِئ : { وناءَ بجانبه } وهو مقلوبٌ مِنْ نأى ، ويدل على ذلك أن الأصلَ
هو المصدرُ وهو النَّأْيُ بتقديم الهمزة على حرف العلة .
قوله : { وَإِن يُهْلِكُونَ } « إنْ » نافيةٌ كالتي في قوله : { إِنْ هاذآ } [
الأنعام : 25 ] ، و « أنفسهم » مفعولٌ ، وهو استثناء مفرغ ، ومفعول « يَشْعرون »
محذوف : إمَّا اقتصاراً وإمَّا اختصاراً ، أي : وما يشعرون أنهم يُهْلكون أنفسَهم
.
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27)
قوله تعالى : { وَلَوْ ترى } : جوابها محذوف لفَهْمِ المعنى ،
التقدير : لرأيت شيئاً عظيماً وهَوْلاً مُفْظِعاً . وحَذْفُ الجواب كثيرٌ في
التنزيل وفي النظم ، كقوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً } [ الرعد : 31 ] وقول
الآخر :
1890- وجَدِّك لو شيءٌ أتانا رسولُه ... سِواك ولكن لم نَجِدْ لك مَدْفَعا
وقوله :
1891- فلو أنها نفسٌ تموتُ جميعةً ... ولكنها نفسٌ تساقَطُ أنفُسَا
وقوله :
1892- كَذَبَ الغواذِلُ لو رَأَيْنَ مُنَاخَنَا ... بحَزيزِ رامةَ والمَطِيُّ
سَوَامي
وحَذْفُ الجواب أبلغُ : قالوا : لأنَّ السَّامع تَذْهَبُ نفسُه كلَّ مذهب ، فلو
صُرِّح له بالجواب وَطَّن نفسَه عليه فلم يَخْشَ منه [ كثيراً ، ولذلك قال كثير :
1893- فقلتُ لها يا عَزُّ كلُّ مصيبةٍ ... إذا وُطِّنَتْ لها النفسُ ذَلَّتِ ]
و « ترى » يجوز أن تكونَ بَصَريةً ومفعولُها محذوف ، أي : ولو ترى حالَهم ، ويجوز
أن تكونَ القلبيةَ ، والمعنى : ولو صَرَفْتَ فكرَك الصحيح لأن تَتَدبَّر حالَهم
لازْدَدْتَ يقيناً .
وفي « لو » هذه وجهان ، أظهرهما : أنها الامتناعية فينصرف المضارع بعدها للمضيِّ ،
ف « إذ » باقية على أصلها من دلالتها على الزمن الماضي ، وهذا وإن كان لم يقعْ
بعدُ لأنه سيأتي يوم القيامة إلا أنه أُبْرِزَ في صورة الماضي لتحَقُّقِ الوعد .
والثاني : أنها بمعنى « إنْ » الشرطية « و » إنْ « هنا تكون بمعنى » إذا « والذي
حَمَلَ هذا القائلَ على ذلك كونُه لم يقعْ بعدُ ، وقد تقدَّم تأويله .
وقرأ الجمهور : { وُقِفُوا } مبنياً للمفعول من وقف ثلاثياً . و » على « يُحْتمل
أن تكونَ على بابها وهو الظاهر أي : حُبِسوا عليها ، وقيل : يجوز أن تكون بمعنى في
، وليس بذاك . وقرأ ابن السَّمَيْفَع وزيد بن علي : » وَقَفوا « مبنياً للفاعل . و
» وقف « يتعدَّى ولا يتعدَّى ، وفرَّقَتِ العرب بينهما بالمصدر ، فمصدرُ اللازم
على فُعول ، ومصدرُ المتعدِّي على فَعْل ، ولا يقال : أَوْقَفْتُ . قال أبو عمرو
بن العلاء : » لم أسمعْ شيئاً في كلام العرب : أوقفت فلاناً ، إلا أَنِّي لو رأيت
رجلاً واقفاً فقلت : له : « ما أوقفك ههنا » لكان عندي حسناً « وإنما قال كذلك
لأنَّ تعدِّيَ الفعل بالهمزة مقيس نحو : ضحك زيد وأضحكته أنا ، ولكن سَمِعَ غيره
في » وقف « المتعدي أوقفته . قال الراغب : » ومنه - يعني من لفظِ وَقَفْتُ القومَ
- استُعير وَقَفْتُ الدابة إذا سَبَلْتُها « فَجَعَل الوقفَ حقيقةً في مَنْع المشي
وفي التسبيل مجازاً على سبيل الاستعارة ، وذلك أن الشيء المُسْبَل كأنه ممنوع من
الحركة ، والوَقْفُ لفظُ مشترك بين ما تقدَّم وبين سِوار من عاج ، ومنه : » حمار
مُوَقَّفٌ بأرساغه مِثْلُ الوَقْف من البياض « .
قوله : { ياليتنا } قد تقدَّم الكلام في » يا « المباشِرة للحرف والفعل .
وقرأ : « ولا نُكَذِّبُ » و « نكونُ » برفعهما نافع وأبو عمرو وابن
كثير والكسائي ، وبنصبهما حمزةُ عن عاصم ، وبرفع الأول ونصب الثاني ابن عامر وأبو
بكر . ونقل الشيخ عن ابن عامر أنه نصبَ الفعلين ، ثم قال بعد كلام طويل « قال ابن
عطية : وقرأ ابن عامر/ في رواية هشام بن عمار عن أصحابه عن ابن عامر : { ولا
نكذِّبُ } بالرفع ، و » نكون « بالنصب » . فأما قراءة الرفع فيهما ففيها ثلاثة
أوجه ، أحدها : أن الرفع فيهما على العطف على الفعل قبلهما وهو « نُرَدُّ » ،
ويكونون قد تمنَّوا ثلاثة اشياء : الردَّ إلى دار الدنيا ، وعدمَ تكذيبهم بآيات ربهم
، وكونَهم من المؤمنين . والثاني : أن الواو واو الحال ، والمضارع خبر مبتدأ مضمر
، والجملة الاسمية في محصل نصب على الحال من مرفوع « نُرَدُّ » ، والتقدير : يا
ليتنا نُرَدُّ غيرَ مكذِّبين وكائنين من المؤمنين ، فيكونُ تمنِّي الرد مقيَّداً
بهاتين الحالَيْن ، فيكونُ الفعلان أيضاً داخلَيْن في التمني .
وقد استشكل الناسُ هذين الوجهين : بأن التمني إنشاء ، والإِنشاء لا يدخله الصدق
ولا الكذب ، وإنما يدخلان في الإِخبار ، وهذا قد دخله الكذبُ لقوله تعالى : {
وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } وقد أجابوا عن ذلك بثلاثة أوجه أحدها - ذكره الزمشخري
- قال : « هذا تمنِّ تضمَّنَ معنى العِدَة فجاز أن يدخلَه التكذيبُ كما يقول الرجل
: » ليت اللَّهَ يرزقني مالاً فأُحْسِنَ إليك ، وأكافئَك على صنيعك « فهذا
مَتَمَنِّ في معنى الواعد ، فلو رُزِق مالاً ولم يُحْسِنْ إلى صاحبه ولم يكافئه
كذَّبَ ، وصَحَّ أن يقال له كاذب ، كأنه قال : إن رزقني الله مالاً أحسنت إليك .
والثاني : أن قوله تعالى : { وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } ليس متعلِّقاً بالمتمنَّى
، بل هو مَحْضُ إخبار من الله تعالى بأنهم دَيْدَنهم الكذب وهِجِّيراهم ذلك ، فلم
يدخل الكذب في التمني . وهذان الجوابان واضحان ، وثانيهما أوضح .
والثالث : أنَّا لا نُسَلِّم أن التمنِّي لا يَدْخُله الصدق والا الكذب ، بل
يدخلانه ، وعُزِي ذلك إلى عيسى بن عمر . واحتجَّ على ذلك بقول الشاعر :
1894- مُنَىً إن تكن حقاً يكنْ أحسنَ المنى ... وإلاَّ فقد عِشنا بها زمناً رغْدا
قال : » وإذا جاز أن توصف المنى بكونها حقاً بجاز أن توصف بكونها باطلاً وكذباً «
وهذا الجواب ساقط جداً ، فإن الذي وُصِفَ بالحق إنما هو المنى ، والمُنى جمع
مُنْيَة والمُنْيَةُ توصف بالصدق والكذب مجازاً؛ لأنها كأنها تَعِد النفس بوقوعها
فيُقال لِما وقع منها صادق ولِما لم يقع منها كاذب ، فالصدق والكذب إنما دخلا في
المُنْيَةِ لا في التمني .
والثالث من الأوجه المتقدمة ان قوله » ولا نكذِّبُ « خبر لمبتدأ محذوف ، والجملة
استنافية لا تعلُّقَ لها بما قبلها ، وإنما عُطِفَتْ هاتان الجملتان الفعليَّتان
على الجملة المشتملة على أداة التمني وما في حَيِّزها فليسَتْ داخلةً في التمني
أصلاً ، وإنما أخبر الله تعالى عنهم أنهم أَخْبروا عن أنفسهم بأنهم لا يُكَذِّبون
بآيات ربهم ، وأنَّهم يكونون من المؤمنين ، فتكون هذه الجملة وما عُطِف عليها في
محل نصبٍ بالقول ، كأنَّ التقديرَ : فقالوا : يا ليتنا نُرَدُّ وقالوا : نحن لا
نُكَذِّبُ ونكونُ من المؤمنين واختار سيبويه هذا الوجه ، وشبَّهه بقولهم : » دعني
ولا أعودُ « أي وأنا لا أعود تركتني أو لم تتركني ، أي : لا أعود على كل حال ،
كذلك معنى الآية أَخْبروا أنهم لا يُكَذِّبون بآيات ربهم وأنهم يكونون من المؤمنين
على كل حال ، رُدُّوا أو لم يُرَدوا .
وهذا الوجه وإن كان الناسُ قد ذكروه ورجَّحوه واختار سيبويه - كما
مرَّ - فن بعضهم استشكل عليه إشكالاً وهو : أنَّ الكذبَ لا يقع في الآخرة فكيف
وُصِفوا بأنهم كاذبون في الآخرة في قولهم « ولا نكذِّب ونكون »؟ وقد أُجيب عنه
بوجهين ، أحدهما : أن قوله { وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } استيثاقٌ لذَمِّهم بالكذب
، وأن ذلك شأنهم كما تقدَّم ذلك آنفاً . والثاني : أنهم صَمَّموا في تلك الحال على
أنهم لو رُدُّوا لَمَا عادوا إلى الكفر لِما شاهدوا من الأهوال والعقوبات ، فأخبر
الله تعالى أنَّ قولَهم في تلك الحال : « ولا نكذِّبُ » وإن كان عن اعتقاد وتصميم
يتغيَّر على تقدير الرد ووقوع العَوْد ، فيصير قولهم : « ولا نكذب » كذباً ، كما
يقول اللص عند ألم العقوبة : « لا أعود » ، ويعتقد ذلك ويصمم عليه ، فإذا خُلِّص
وعادَ كان كاذباً .
[ وقد أجاب مكي أيضاً بجوابين ، أحدهما ] قريبٌ مما تقدَّم ، والثاني لغيره ، فقال
: « أي : لكاذبون في الدنيا في تكذيبهم الرسل وإنكارهم البعثَ للحال التي كانوا
عليها وقد أجاز أبو عمرو وغيره وقوعَ التكذيب في الآخرة لأنهم ادَّعَوا أنهم لو
رُدُّوا لم يكذِّبوا بآيات الله ، فعلمَ اللَّهُ ما لا يكون لو كان كيف يكون ،
وأنهم لو رُدُّوا لم يؤمنوا ولكذَّبوا بآيات الله ، فأكذبهم الله في دعواهم » .
وأمَّا نَصْبُهما فبإضمار « أَنْ » بعد الواو التي بمعنى مع ، كقولك : « ليت لي
مالاً وأنفقَ منه » فالفعل منصوب بإضمار « أن » و « أنْ » مصدرية ينسبك منها ومن
الفعل بعدها مصدرٌ ، والواوُ حرف عطف فيستدعى معطوفاً عليه ، وليس قبلها في الآية
إلا فعلٌ فكيف يُعْطَفُ اسمٌ على فعل؟ فلا جَرَمَ أنَّا نقدِّر مصدراً متوهماً
يُعْطَفُ هذا المصدر المنسبك من « أَنْ » وما بعدها عليه ، والتقدير : يا ليتنا لنا
رَدُّ وانتفاءُ تكذيب بآيات ربنا وكون من المؤمنين ، أي : ليتنا لنا ردُّ مع هذين
الشيئين ، فيكون عدمُ التكذيب والكونُ من المؤمنين مُتَمَنَّيَيْنِ أيضاً ، فهذه
الثلاثةُ الأشياءِ : أعني الردَّ وعدمَ التكذيب والكونَ من المؤمنين متمنَّاةٌ
بقيد الاجتماع ، لا أنَّ كلَّ واحدٍ متمنَّى وحدَه؛ لأنه كما قَدَّمْتُ لك : هذه
الواوُ شرطُ إضمار « أنْ » بعدها : أن تصلح « مع » في مكانها ، فالنصبُ يُعَيِّنُ
أحدَ محتملاِتها في قولك « لا تأكلِ السمك وتشرب اللبن » وشبهه ، والإِشكالُ
المتقدم وهو إدخال التكذيب على التمني واردٌ هنا ، وقد تقدم جواب ذلك ، إلا أن
بعضَه يتعذَّر ههنا : وهو كون لا نكذِّبُ ، ونكونُ « متسأنَفَيْن سِيقا لمجرد
الإِخبار ، فبقي : إمَّا لكون التمني دخله معنى الوعد ، وإمَّا أن قوله تعالى : {
وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } ليس راجعاً إلى تمنِّيهم ، وإمَّا لأنَّ التمنِّي
يدخله التكذيب ، وقد تقدَّم فساده .
وقال ابن الأنباري : « أَكْذَبَهم في معنى التمني؛ لأن تمنِّيَهم
راجعٌ إلى معنى : » نحن لا نكذِّب إذا رُدِدْنا « فغلَّب عزَّ وجل تأويلَ الكلام
فأكذبهم ، ولم يُسْتعمل لفظ التمني » وهذا الذي قاله ابن الأنباري تقدَّم معناه بأوضح
من هذا . قال الشيخ : « وكثيراً ما يوجد في كتب النحو أنَّ هذه الواوَ المنصوبُ
بعدها هو على جواب التمني ، كما قال الزمخشري : » وقرئ : ولا نكذِّبَ ونكونَ
بالنصب بإضمار أَنْ على جواب التمني ، ومعناه : إنْ رُدِدْنا لم نكذِّبْ ونكنْ من
المؤمنين « . قال : » وليس كما ذكر ، فإنَّ نَصْبَ الفعل بعد الواو ليس على جهة
الجواب؛ لأنَّ الواوَ لا تقع [ في ] جواب الشرط فلا ينعقد ممَّا قبلها ولا ممَّا
بعدها شرط وجواب ، وإنما هي واو « مع » يُعْطَفُ ما بعدها على المصدر المتوهَّم
قبلها ، وهي واو العطف يتعيَّنُ مع النصب أحدُ محامِلها الثلاثة : وهي المعيَّةُ
ويُمَيِّزها من الفاء تقديرُ « مع » موضعها ، كما أن فاء الجواب إذا كان بعدها
فعلٌ منصوب ميِّزها تقدير شرطٍ قبلها أو حال مكانها . وشُبْهَةُ مَنْ قال إنها
جواب أنها تنصب في المواضع التي تنصب فيها الفاء فتوهَّم أنها جواب . وقال سيبويه
: « والواو تنصب ما بعدها في غير الواجب من حيث انتصب ما بعد الفاء ، والواو
والفاء معناهما مختلفان ، ألا ترى :
1895- لا تَنْهَ عن خلق وتأتيَ مثله ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . .
لو دخلت الفاءُ هنا لأفسدت المعنى ، وإنما أراد : لا تجمع النهيَ والإِتيان وتقول
: » لا تأكلِ السمكَ وتشربَ اللبن « لو أَدْخَلْتَ الفاء فَسَدَ المعنى » قال
الشيخ : « ويوضِّح لك أنها ليست بجوابٍ انفرادُ الفاءِ دونها بأنها إذا حُذِفت
انجزم الفعلُ بعدها بما قبلها لِما تضمَّنه من معنى الشرط إلا في النفي ، فإن ذلك
لا يجوز » . قلت : قد سبق الزمخشري إلى هذه العبارة أبو إسحاق الزجاج شيخُ الجماعة
. قال أبو إسحاق : « نصبٌ على الجواب بالواو في التمني كما تقول : » ليتك تصير
إلينا ونكرمَك « المعنى : ليت مصيرَك يقع وإكرامَنا ، ويكون المعنى : ليت ردَّنا
وقع وأن لا نكذِّب » .
وأمَّا كونُ الواو ليست بمعنى الفاء فصحيحٌ ، على ذلك جمهورُ النحاة
. إلى أني رأيت أبا بكر ابن الأنباري خرَّج النصب على وجهين ، أحدهما : أن الواو
بمعنى الفاء . قال أبو بكر : « في نصب » نكذِّبَ « وجهان ، أحدهما : أن الواو
مُبْدَلةٌ من الفاء ، والتقدير : يا ليتنا نُرَدُّ فلا نكذِّبَ ونكونَ ، فتكون
الواو هنا بمنزلة الفاء في قوله : { لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ
المحسنين } [ الزمر : 58 ] يؤكد هذا قراءةُ ابنِ مسعود وابن أبي إسحاق : » يا
ليتنا نردُّ فلا نكذبَ « بالفاء منصوباً . والوجه الآخر : النصب على الصرف ومعناه
الحال ، أي : يا ليتنا نُرَدُّ غيرَ مكذِّبين/ .
وأمَّا قراءة ابن عامر - برفع الأول ونصب الثاني - فظاهرةٌ بما تقدَّم؛ لأنَّ
الأولَ يرتفع على حدِّ ما تقدَّم من التأويلات ، وكذلك نصبُ الثاني يتخرَّج على ما
تقدَّم ، ويكون قد أدخل عدم التكذيب في التمني أو استأنفه ، إلا أنَّ المنصوبَ
يحتمل أن يكون من تمام قوله » نُرَدُّ « أي : تَمَنَّوا الردَّ مع كونهم من
المؤمنين ، وهذا ظاهر إذا جَعَلْنا » ولا نكذِّب « معطوفاً على » نردُّ « أو حالاً
منه . وأما إذا جَعَلْنا » ولا نكذِّبُ « مستأنفاً فيجوز ذلك أيضاً ولكن على سبيل
الاعتراض ، ويحتمل أن يكونَ من تمامِ » ولا نكذِّب « أي : لا يكونُ منا تكذيب مع
كوننا من المؤمنين ، ويكون قوله » ولا نكذب « حينئذ على حاله ، أعني مِنْ احتماله
العطفَ على » نُرَدُّ « أو الحالية أو الاستئناف ، ولا يخفى حينئذٍ دخولُ كونِهم
مع المؤمنين في التمني وخروجُه منه بما قرَّرْتُه لك .
وقُرئ شاذاً عكسَ قراءة ابن عامر ، أي : بنصب » نكذبَ « ورفع » نكون « وتخريجها
على ما تقدم ، إلا أنها يضعف فيها جَعْلُ » ونكونُ من المؤمنين « حالاً لكونه
مضارعاً مُثْبَتاً إلا بتأويل بعيد كقوله :
1896- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... نَجَوْتُ وأَرْهَنُهم
مالكاً
أي : وأنا أَرْهَنُهم ، وقولهم : » قمتُ وأصكُّ عينه « ، ويدل على حذف هذا المبتدأ
قراءةُ أُبيٍّ : » ونحن نكونُ من المؤمنين « .
بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)
قوله تعالى : { بَلْ بَدَا } : « بل » هنا لانتقالٍ من قصة إلى أخرى
وليست للإِبطالِ ، وعبارةُ بعضهم توهم أن فيها إبطالاً لكلام الكفرة فإنه قال : «
بل » رَدٌّ لِما تمنَّوه ، أي : ليس الأمر على ما قالوه لأنهم لم يقولوا ذلك رغبةً
في الإِيمان ، بل قالوه إشفاقاً من العذاب وطمعاً في الرحمة . قال الشيخ : « ولا
أدري ما هذا الكلام؟ » . قلت : ولا أدري ما وَجْهُ عدمِ الدراية منه؟ وهو كلام
صحيح في نفسه ، فإنهم لمَّا قالوا : يا ليتنا كأنهم قالوا تمنَّيْنا ، ولكن هذا
التمنِّيَ ليس بصحيح ، لأنهم إنما قالوه تقيَّةً ، فقد يتمنى الإِنسان شيئاً
بلسانه وقلبه فارغ منه . وقال الزجَّاج « بل » هنا استدراكٌ وإيجابُ نفي كقولهم :
ما قام زيد بل قام عمرو « . قال الشيخ : » ولا أدري ما النفيُ الذي سَبَق حتى
توجَبه « بل »؟ قلت : الظاهرُ أنَّ النفي الذي أراده الزجاج هو الذي في قوله : {
وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا } إذا جعلناه مستأنفاً على تقدير : ونحن لا
نكذِّبُ ، والمعنى : بل إنهم مُكَذِّبون .
وفاعلُ « بدا » قوله : { مَّا كَانُواْ } و « ما » يجوز أن تكونَ موصولةً اسميةً
وهو الظاهر ، أي : ظهر لهم الذي كانوا يُخْفونه . والعائد محذوف . ويجوز أن تكونَ
مصدريةً ، أي ظهر لهم إخفاؤهم ، أي : عاقبته ، أو أُطْلِق المصدرُ على اسم المفعول
، وهو بعيد ، والظاهر أن الضميرين : أعني المجرورَ والمرفوعَ في قوله { بَدَا
لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ } عائدان على شيء واحد ، وهم الكفار أو اليهود
والنصارى خاصة ، وقيل : المجرورُ للأتباع والمرفوعُ للرؤساء ، أي : بل بدا للأتباع
ما كان الوجهاء المتبعون يُخْفُونه .
قوله : { وَلَوْ رُدُّواْ } قرأ الجمهور بضم الراء خالصاً . وقرأ الأعمش ويحيى بن
وثاب وإبراهيم : « رِدُّوا » بكسرها خالصاً . وقد عَرَفْتَ أن الفعلَ الثلاثي
المضاعف العين واللام يجوز في فائه إذا بُني للمفعول ثلاثة الأوجه المذكورة في فاء
المعتل العين إذا بُني للمفعول نحو : قيل وبيع ، وقد تقدَّم ذلك . وقال الشاعر :
1897- وما حِلَّ مِنْ جهلٍ حُبا حُلمائِنا ... ولا قائلُ المعروف فينا يُعَنَّفُ
بكسر الحاء .
قوله : { وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } تقدَّم الكلام على هذه الجملة : هل هي
مستأنفة أو راجعة إلى قوله { يا ليتنا } ؟
وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29)
قوله تعالى : { وقالوا } : هل هذه الجملة معطوفة على جواب « لو »
والتقدير : ولو رُدُّوا لعادوا ولقالوا ، أو هي مستأنفة ليست داخلةً في حَيِّز «
لو » ، / أو هي معطوفةٌ على قوله : { وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } ؟ ثلاثة أوجه ،
ذكر الزمخشري الوجهين الأول والآخِر فإنه قال : « وقالوا عطف على » لعادوا « أي :
لو رُدُّوا لكفروا ولقالوا : إنْ هي إلا حياتنا الدنيا ، كما كانوا يقولون قبل
معاينة القيامة ، ويجوز أن يُعْطف على قوله : { وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } على
معنى : وإنهم لقوم كاذبون في كل شيء » . والوجهُ الأولُ منقول عن ابن زيد ، إلا أن
ابن عطية ردَّه فقال : « وتوقيفُ اللَّهِ لهم في الآية بعدها على البعث والإِشارة
إليه في قوله { أَلَيْسَ هذا بالحق } [ آل عمران : 30 ] يردُّ على هذا التأويل » .
وقد يُجاب عن هذا باختلاف حالين : فإنَّ إقرارَهم بالبعث حقيقةً إنما هو في الآخرة
، وإنكارَهم ذلك إنما هو الدنيا بتقدير عَوْدِهم إلى الدنيا ، فاعترافهم به في
الدار الآخرة غيرُ منافٍ لإِنكارهم إياه في الدنيا .
قوله : { إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا } « إنْ » نافية و « هي » مبتدأ ، و «
حياتُنا » خبرها ، ولم يكتفُوا بمجرَّد الإِخبار بذلك حتى أبرزوها محصورةً في نفيٍ
وإثبات ، و « هي » ضمير مُبْهَم يفسِّره خبره ، أي : ولا نعلم ما يُراد به إلا
بذكر خبره ، وهو من الضمائر التي يفسِّرها ما بعدها لفظاً ورتبة ، وقد قَدَّمْتُ
ذلك عند قوله : { فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } [ البقرة : 29 ] ، وكونُ هذا
ممَّا يفسِّره ما بعده لفظاً ورتبةً فيه نظرٌ ، إذ لقائل أن يقول « هي » تعود على
شيء دلَّ عليه سياقُ الكلام ، كأنهم قالوا : إنَّ العادةَ المستمرة أو إن حالتنا
وما عَهِدْنا إلا حياتنا الدنيا ، واستند هذا القائل إلى قولِ الزمخشري : « هذا
ضميرٌ لا يُعْلَمُ ما يُراد به إلا بِذِكْر ما بعده » ومثَّل الزمخشري بقول العرب
: « هي النفس تتحمَّل ما حَمَلَتْ » و « هي العرب تقول ما شاءت » .
وليس فيما قاله الزمخشري دليل له؛ لأنه يعني أنه لا يُعلم ما يعود عليه الضمير إلا
بذكر ما بعده ، وليس في هذا ما يدلُّ على أن الخبر مفسِّرٌ للضمير ، ويجوز أن يكون
المعنى : إنِ الحياة إلا حياتنا الدنيا ، فقوله { إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا }
دالٌّ على ما يفسِّر الضمير وهو الحياة مطلقاً ، فَصَدَقَ عليه أنه لا يعمل ما
يُراد به إلا بذكر ما بعده من هذه الحيثية لا من حيثيَّة التفسيرِ ، ويدلُّ على ما
قلتُه قولُ أبي البقاء : « هي كنايةٌ عن الحياة ، ويجوز أن يكون ضميرَ القصة » .
قلت : أمَّا أولُ كلامِه فصحيحٌ ، وأمَّا آخرُه وهو قوله : « إن هي ضمير القصة » فليس بشيء؛ لأن ضمير القصة لا يفسِّر إلا بجملةٍ مصرَّحٍ بجزْأَيْها . فإن قلت : الكوفي يجوِّزُ تفسيره بالمفرد فيكون نحا نحوَهم . فالجوابُ أن الكوفيَّ إنما يُجَوِّزه بمفرد عامل عملَ الفعل نحو : « إنه قائم زيد » « وظنتُه قائِماً زيدٌ » لأنه في صورة الجملة ، إذ في الكلام مسندٌ ومسندٌ إليه . أما نحو « هو زيد » فلا يُجيزه أحدٌ ، على أن يكونَ « هو » ضميرَ شأنٍ ولا قصة ، والدنيا صفة الحياة ، وليست صفةً مزيلةً اشتراكاً عارضاً ، يعني أن ثَمَّ حياةً غيرَ دنيا يُقِرُّون بها ، لأنهم لا يَعْرفون إلا هذه ، فهي صفةٌ لمجرد التوكيد ، كذا قيل ، ويَعْنون بذلك أنها لا مفهومَ لها ، وإلاَّ فحقيقةُ التوكيد غير ظاهرةٍ بخلاف { نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ } [ الحاقة : 13 ] . والباء في قوله « بمبعوثين » زائدةٌ لتأكيد الخبر المنفي ، ويحتمل مجرورها أن يكونَ منصوبً المحلِّ على أنَّ « ما » حجازيةٌ ، أو مرفوعةٌ على أنها تميمية .
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)
قوله تعالى : { على رَبِّهِمْ } : فيه وجهان ، أحدهما : أنه من باب
الحذف ، تقديره : على سؤال ربهم أو ملك ربهم أو جزاء ربهم . والثاني : أنه من باب
المجاز؛ لأنه كنايةٌ عن الحَبْسِ للتوبيخ ، كما يوقَفُ العبدُ بين يدي سيِّده
ليعاتبَه ، ذكر ذلك الزمخشري ، ورجَّح المجاز على الحذف لأنه بدأ بالمجاز ، ثم قال
: « وقيل [ وقُفوا ] على جزاء ربهم » . وللناس خلافٌ في ترجيح أحدهما على الآخر .
وجملة القول فيه أن فيه ثلاثةَ مذاهب ، أشهرُها : ترجيحُ المجاز على الإِضمار ،
والثاني عكسُه ، والثالث : هما سواء .
قوله : { قَالَ أَلَيْسَ } في هذه الجملة وجهان ، أحدهما : أنها استفهاميةٌ أي :
جواب سؤال مقدر ، قال الزمشخري : « قال » مردودٌ على قولِ قائلٍ قال : ماذا قال
لهم ربُّهم إذا وُقِفوا عليه؟ فقيل : قال لهم : أليس هذا بالحق « . والثاني : أن
تكون الجملة حالية ، وصاحبُ الحال » ربُّهم « كأنه قيل : وُقِفوا عليه قائلاً :
أليس هذا بالحق . والمشارُ إليه قيل : هو ما كانوا يكذِّبون به من البعث . وقيل :
هو العذاب يدلُّ عليه { فَذُوقُواْ العذاب } .
وقوله : { بِمَا كُنتُمْ } يجوز أن تكونَ » ما « موصولةً اسميةً والتقدير :
تكفرونه ، والأصل : تكفرون به ، فاتصل الضمير بالفعل بعد حذف الواسطةِ ، ولا جائزٌ
أن يُحْذَف وهو مجرور بحاله ، وإن كان مجروراً بحرفٍ جُرَّ بمثله الموصولُ لاختلاف
المتعلَّق ، وقد تقدَّم إيضاحُه غيرَ مرة . والأَوْلَى أن تُجْعَلَ » ما « مصدرية
ويكون متعلَّق الكفر محذوفاً ، والتقدير : بما كنتم تكفرون بالعبث أو بالعذاب أي
بملاقاته أي بكفركم بذلك .
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31)
قوله تعالى : { بَغْتَةً } : في نصبها أربعة أوجه ، أحدها : أنها
مصدرٌ في موضع الحال من فاعل « جاءَتْهم » أي : مباغتةً ، وإمَّا من مفعوله أي :
مَبْغوتين . الثاني : أنها مصدرٌ على غير الصدر؛ لأنَّ معنى « جاءتهم »
بَغَتَتْهُمْ بغتة ، فهو كقولهم : « أتيته رَكْضاً » . الثالث : أنَّها منصوبةٌ
بفعلٍ محذوف من لفظها ، أي : تَبْغَتُهم بَغْتة . الرابع : بفعلٍ من غير لفظها ،
أي : أتتهم بغتة .
والبَغْتُ والبَغْتةُ مفاجأة الشيء بسرعة من غير اعتدادٍ به ولا جَعْلِ بالٍ منه
حتى لو استشعر الإِنسانُ به ثم جاءه بسرعةٍ لا يُقال فيه بَغْتَة ، ولذلك قال
الشاعر :
1898- إذا بَغَتَتْ أشياءُ قد كان قبلها ... قديماً فلا تَعْتَدَّها بَغَتَاتِ
والألف واللام في « الساعة » للغلبة كالنجم والثريا ، لأنها غلبت على يوم القيامة
، وسمِّيَتِ القيامةُ ساعةً لسرعة الحساب فيها على الباري تعالى . وقوله « قالوا »
هو جواب « إذا » .
قوله : { ياحسرتنا } هذا مجازٌ ، لأنَّ الحسرةَ لا يتأتَّى منها الإِقبال ،
وإنَّما المعنى على المبالغة في شدة التحرُّ ، وكأنهم نادوا التحسُّر ، وقالوا :
إن كان لكِ وقتٌ فهذا أوان حضورك . ومثله : « يا ويلتا » ، والمقصودُ التنبيهُ على
خطأ المنادي حيث ترك ما أحوجه تركه إلى نداء هذه الأشياء .
قوله : { على مَا فَرَّطْنَا } متعلقٌ بالحَسْرة ، و « ما » مصدريةٌ ، أي : على
تفريطنا . والضمير في « فيها » يجوز أن يعود على الساعة ، ولا بد من مضاف أي : في
شأنها والإِيمان بها ، وأن يعود على الصفقة المتضمَّنة في قوله : { قَدْ خَسِرَ
الذين } قاله الحسن ، أو يعود على الحياة الدنيا وإن لم [ يَجْرِ ] لها ذِكْرٌ
لكونها مَعْلومةً ، قاله الزمخشري . وقيل : يعود على مازلهم في الجنة إذا رأَوْها
. وهو بعيدٌ .
والتفريطُ : التقصيرُ في الشيء مع القدرة على فعله . وقال أبو عبيد : « هو التضييع
» وقال ابن بحر : « هو السَّبْق ، منه الفارط أي السابق للقوم ، فمعنى فرَّط
بالتشديد خلَّى السبق لغيره ، فالتضعيف فيه للسَّلْب كجلَّدْتُ البعير ومنه {
فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً } [ الإِسراء : 79 ] .
قوله : { وَهُمْ يَحْمِلُونَ } الواو للحال ، وصاحب الحال الواو في » قالوا « أي :
قالوا : يا حَسْرَتَنا في حالةِ حَمْلِهم أوزارَهم . وصُدِّرت هذه الجملة بضمير مبتدأ
ليكون ذِكْرُه مرتين فهو أبلغُ ، والحَمْلُ هنا قيل : مجازٌ عن مقاساتهم العذابَ
الذي سببُّه الأوزارُ ، وقيل : هو حقيقةٌ . وفي الحديث : » إنه يُمَثَّل له عملُه
بصورةٍ قبيحةٍ مُنْتِنَةِ الريح فيحملها « وخُصَّ الظهرُ لأنه يُطِيق من الحمل ما
لا يُطِيقه غيره من الأعضاء كالرأس والكاهل ، وهذا كما تقدَّم في { فَلَمَسُوهُ
بِأَيْدِيهِمْ } [ الأنعام : 7 ] ؛ لأن اليدَ أقوى في الإِدراك اللمسي من غيرها .
الأوزار : جمع وِزْر كحِمْل وأَحْمال وعِدْل وأعدال .
والوِزْر في الأصل الثقل ، ومنه : وَزِرْتُهُ أي : حَمَّلْته شيئاً
ثقيلاً ، ووزير المَلِك من هذا لأنه يتحمَّل أعباءَ ما قلَّده الملك من مؤونة
رعيتَّه وحَشَمَتِه ، ومنه أوزار الحرب لسلاحها وآلاتها ، قال :
1899- وأعدَدْتُ للحرب أوزارَها ... رماحاً طِوالاً وخيلاً ذُكروا
وقيل : الأصل في ذلك الوَزَر بفتح الواو الزاي ، وهو الملجأ الذي يُلْتجأ إليه من
الجبل ، قال تعالى : { كَلاَّ لاَ وَزَرَ } [ القيامة : 11 ] ثم قيل للثقل وِزْرٌ
تشبيهاً بالجبل ، ثم استُعير الوِزْرُ للذَّنبِ تشبيهاً به في ملاقاة المشقة منه ،
والحاصل أنَّ هذه المادة تَدُلُّ على الرَّزانةِ والعِصْمة .
قوله : { أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ } « ساء » هنا تحتمل أوجهاً ثلاثة ، أحدُها :
أنها « ساء » المتصرفةُ المتعدِّية ، ووزنها حينئذ فَعَل فتح العين ، ومفعولُها
حينئذ محذوف ، وفاعلها « ما » ، و « ما » تحتمل ثلاثة أوجه : أن تكونَ موصلةً
اسمية أو حرفية أو نكرة موصوفة وهو بعيدٌ ، وعلى جَعْلِها اسميةً أو نكرة موصوفة
تُقَدِّر لها عائداً ، والحرفية غير محتاجة إليه عند الجمهور . والتقدير : ألا
ساءَهم الذي يَزِرُونه أو شيء يزرونه أو وِزْرُهم . وبدأ ابن عطية بهذا الوجه قال
: « كما تقول : ساءني هذا الأمر ، والكلام خبر مجرد كقوله :
1900- رَضِيْتَ خِطَّةَ خَسْفٍ غيرَ طائلةٍ ... فساءَ هذا رِضَىً يا قيسَ عيلانا
قال الشيخ : » ولا يتعيَّن أن تكون « ما » في البيت خبراً مجرداً بل تحتمل الأوجهَ
الثلالثة « انتهى وهو ظاهر .
الثاني : أن تكون للتعجُّبِ فتنتقل من فَعَل بفتح العين إلى فَعُل بضمها ، فتُعْطى
حكمَ فعل التعجب : من عدم التصرُّفِ والخروج من الخبر المحض إلا الإِنشاء ، إن
قلنا : إن التعجب إنشاءٌ وهو الصحيح ، والمعنى : ما أسوأ - أي أقبح- الذي
يَزِرُونه أو شيئاً يَزِرُونه أو وِزْرُهم ، الثالث : أنها بمعنى بئس فتكون
للمبالغةِ في الذم فتُعْطى أحكامَها أيضاً ، ويجري الخلاف في » ما « الواقعةِ
بعدها حَسْبما ذكر في { بِئْسَمَا اشتروا } [ البقرة : 90 ] . وقد ظهرالفرقُ بين
هذه الأوجه الثلاثة فإنها في الأول متعدية متصرفة والكلام معها خبرٌ محض ، وفي
الأخيرين قاصرة جامدة إنشائية . والفرق بين الوجهين الأخيرين أنَّ التعجبيَّة لا
يُشْترط في فاعلها ما يشترط في فاعل بئس . وقال الشيخ : » والفرقُ بين هذا الوجهِ
- يعني كونها بمعنى بئس - والوجه الذي قبله - يعني كونَها تعجبيَّةً - أنه لا
يُشترط فيه ما يُشترط في فاعل « بئس » من الأحكام ولا هو جملةٌ منعقدةٌ من مبتدأ
وخبر ، وإنما هو منعقدٌ من فعل وفاعل « . انتهى .
وظاهرهُ لا يَظْهر إلا بتأويل وهو أن الذمَّ لا بد فيه من مخصوصٍ بالذم وهو مبتدأ
، والجملة الفعلية قبله خبره فانعقدَ من هذه الجملةِ متبدأٌ وخبر ، إلا أنَّ
لقائلٍ أن يقول : إنما يتأتَّى هذا على أحد الأعاريب في المخصوص ، وعلى تقدير
التسليم فلا مَدْخَل للمخصوص بالذم في جملة الذم بالنسبة إلى كونها فعليةً فحينئذ
لا يظهر فرقٌ بينهم وبين التعجبية في أنَّ كلاً منها منعقدة في فعلٍ وفاعل .
وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32)
قوله تعالى : { وَمَا الحياة الدنيآ إِلاَّ لَعِبٌ } : يجوز أن يَكون
من المبالغة جَعْلُ الحياة نفس اللعب واللهو كقولها :
1901- . . . . . . . . . . . . . . ... فإنما هي إقبالٌ وإدبار
وهذا أحسن ، ويجوز أن يكون في الكلام حذف أي : وما أعمال الحياة ، وقال الحسن
البصري : « وما أهل الحياة الدنيا إلا أهل لعب » فقدَّر شيئين محذوفين .
واللَّهْو : صَرْفُ النفس عن الجدِّ إلى الهزل . ومنه لو يلهو . وأمَّا لَهِي عن
كذا فمعناه صَرَفَ نفسَه ، والمادةُ واحدةٌ انقلبت الواو ياءً لانكسار ما قبلها
نحو : شَقِي ورضي . وقال المهدوي : « الذي معناه الصرفُ لامُه ياء بدليل قولهم
لَهْيان ، ولام الأول واو » . قال الشيخ : « وليس بشيء؛ لأن الواو في التثنية
انقلبت ياءً فليس أصلها الياء ، ألا ترى إلى تثنية شَجٍ : شَجِيان وهو مِن
الشَّجْوِ » انتهى . يعني أنهم يقولون في اسم فاعله : لَهٍ كشجٍ ، والتثنيةُ
مبنيَّةٌ على المفرد ، وقد أنقلبت في المفرد فَلْتنقلب في المثنى [ ولنا فيه بحثٌ
أَوْدَعْناه في « التفسير الكبير » ولله الحمد ] وبهذا يَظْهَرُ فسادُ رَدِّ
المهدوي على الرماني ، فإنَّ الرماني قال : « اللعب عَمَلٌ يُشْغِلُ النفسَ عما
تنتفعُ به ، واللَّهْوُ صَرْفُ النفسِ من الجدِّ إلى الهزل ، يقال : لَهَيْتُ عنه
أي صرفْتُ نفسي عنه » قال المهدوي : « وفيه ضعفٌ وبُعْدٌ؛ لأنَّ الذي فيه معنى
الصرف لامه ياء ، بدليل قولهم في التثنية ليهان » انتهى . وقد تقدَّم فسادُ هذا
الردِّ وقال الراغب : « اللَّهْوُ ما يَشْغَلُ الإِنسانَ عما يَعْنيه ويَهُمُّه ،
يقال : لَهَوْتُ بكذا أو لهيت عن كذا اشتغلْتُ عنه بلَهْوٍ » وهذا الذي ذكره
الراغب هو الذي حَمَلَ المهدوي على التفرقة بين المادتين .
قوله : { وَلَلدَّارُ الآخرة } قرأ الجمهور بلامَيْن ، الأُوْلى لام الابتداء ،
والثانية للتعريفِ ، وقرؤوا « الآخرةُ » رفعاً على أنها صفةٌ للدار ، و « خيرٌ »
خبرُها . وقرأ ابن عامر : « ولَدارُ » بلامٍ واحدة هي لامُ الابتداء ، و « الآخرةِ
» جرٌّ بالإِضافة . وفي هذه القراءة تأويلان أحدُهما قولُ البصريين وهو انه من باب
حَذْف الموصوف وإقامةِ الصفةِ مُقامه ، والتقدير : ولَدارُ الساعةِ الآخرة ، أو
لَدار الحياة الآخرة ، يدلُّ عليه « وما الحياة الدنيا » ومثله قولهم : « حبة
الحمقاء ومسجد الجامع وصلاة الأولى ومكان الغربي » التقدير : حبة البقلة الحمقاء ،
ومسجد المكان الجامع ، وصلاة الساعة الأولى ، ومكان الجانب الغربي . وحَسَّن ذلك
أيضاً في الآية كونُ هذه الصفةِ جَرَتْ مَجْرى الجوامد في إيلائِها العواملَ
كثيراً ، وكذلك كلُّ ما جاء مما تُوُهِّم فيه إضافةُ الموصوفِ إلى صفته ، وإنما
احتاجوا إلى ذلك لِئلاً يَلْزَمَ إضافةُ الشيء إلى نفسه وهو ممتنع؛ لأن الإِضافة :
إمَّا للتعريف أو للتخصيص ، والشيء لا يُعْرِّف نفسه ولا يخصِّصُها .
والثاني : وهو قول الكوفيين - أنه إذا اختلف لفظ الموصوف وصفته جازت
إضافته إليها ، وأوردوا ما قدَّمْته من الأمثلة قال الفراء : « هي إضافةُ الشيء
إلى نفسِه كقولك : بارحة الأولى ويوم الخميس وحق اليقين ، وإنما يجوز عند اختلاف
اللفظين » . وقراءةُ ابن عامر موافقةٌ لمصحفه؛ فإنها رُسِمَتْ في مصاحف الشاميين
بلامٍ واحدة ، واختارها بعضُهم لموافقتها لما أُجْمِع عليه في يوسف : { وَلَدَارُ
الآخرة خَيْرٌ } [ يوسف : 109 ] ، وفي مصاحف الناسِ بلامَيْنِ .
و « خيرٌ » يجوز أن يكون للتفضيل ، وحُذِف المفضَّلُ عليه للعلم به أي : خيرٌ من
الحياة الدنيا ، ويجوز أن يكونَ لمجرَّدِ الوَصْف بالخَيْرية كقوله تعالى : {
أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً } [ الفرقان : 24 ] . و {
لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } متعلِّقٌ بمحذوف؛ لأنه صفةٌ ل « خير » والذي ينبغي - أو
يتعيَّن- أن تكونَ اللامُ للبيان ، أي : أعني للذين ، وكذا كلُّ ما جاء مِنْ نحوه
، نحو : { خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى } [ الضحى : 4 ] .
قوله : { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } قد تقدَّم الكلامُ في مثل هذه الهمزةِ الداخلةِ
على الفاء وأختِها الواوِ وثم وقرأ ابن عامر ونافع وحفص عن عاصم : { تَعْقِلُون }
خطاباً لمن كان بحضرته عليه السلام وفي زمانه . والباقون بياء الغيبة رَدَّاً على
ما تقدَّم من الأسماء الغائبة ، وحُذِفَ مفعول « تَعْقِلون » للعلمِ به ، أي : فلا
تَعْقلون أنَّ الأمرَ كما ذكر فتزهَّدوا في الدنيا ، أو أنها خير من الدنيا .
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)
قوله تعالى : { قَدْ نَعْلَمُ } : « قد » هنا حرف تحقيق . وقال
الزمخشري والتبريزي : « قد نعلم : بمعنى ربما التي تجيء لزيادة الفعل وكثرته نحو
قوله :
1902- . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . قد يُهْلِكُ
المالَ نائِلُهْ
قال الشيخ : » وهذا القول غير مشهور للنحاة ، وإن قال به بعضهم مستدلاً بقوله :
1903- قد أَتْرُكُ القِرْن مُصْفرَّاً أناملُه ... كأنَّ أثوابه مُجَّتْ بفِرصادِ
وقول الآخر :
أخي ثقةٍ لا تُتْلِفُ الخمرُ مالَه ... ولكنه قد يُهْلك المالَ نائلُه
والذي يَظْهر أن التكثيرَ لا يُفْهَمُ من « قد » إنما فُهم من سياق الكلام؛ إذ
التمدُّحُ بقتل قِرْن واحد غيرُ طائل ، وعلى تقدير ذلك هو متعذِّر في الآية؛ لأنَّ
علمه تعالى لا يقبل التكثير « . قلت : قد يُجاب عنه بأنَّ التكثير في متعلَّقات
العلم لا في العلم ، ثم قال : » وقولُه بمعنى « ربما » التي تجيء لزيادة الفعل
وكثرته المشهورُ أنَّ « رُبَّ » للتقليل لا للتكثير ، وزيادةُ « ما » عليها لا
يُخْرجها عن ذلك بل هي مهيِّئة لدخولِها على الفعل ، و « ما » المهيِّئة لا تزيلُ
الكلمة عن معناها الأصلي ، كما لا تزيل « لعلَّ » عن الترجِّي ولا « كأنَّ » عن
التشبيه ولا « ليت » عن التمني . وقال ابن مالك « » قد « ك » ربما « في التقليل
والصَّرف إلى معنى المضيّ ، وتكون حينئذ للتحقيق والتوكيد نحو : { قَدْ نَعْلَمُ
إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ } { وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ الله } [ الصف : 5 ]
وقوله :
1904- وقد تُدْرِكُ الإِنسانَ رحمةُ ربِّه ... ولو كان تحت الأرض سبعين واديا
/ وقد تخلُو من التقليل وهي صارفةٌ لمعنى المضيِّ نحو قوله : { قَدْ نرى تَقَلُّبَ
وَجْهِكَ } [ البقرة : 144 ] .
وقال مكي : » قد « هنا وشبهه تأتي لتأكيد الشيء وإيجابه وتصديقه . و » نعلم «
بمعنى عَلِمْنا ، وقد تقدَّم الكلام في هذا الحرف وأنها متردِّدةٌ بين الحرفيةِ
والاسميةِ . وقال الشيخ هنا : » قد حرف توقع ، إذا دخلت على مستقبلِ الزمان كان
التوقُّعُ من المتكلم كقولك : « قد ينزل المطرُ شهرَ كذا » ، وإذا كان ماضياً أو
فعل حال بمعنى المضيِّ كان التوقُّع عند السامع ، وأمَّا المتكلمُ فهو موجِبُ ما
أخبر به ، وعَبَّر هنا بالمضارع إذا المرادُ الاتِّصافُ بالعلم واستمراره ، ولم
يَلْحَظْ فيه الزمانَ كقولهم : « هو يعطي ويمنع » .
و { إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ } سادٌّ مَسَدَّ المفعولين فإنها معلِّقة عن العمل ،
وكُسِرت لدخول اللام في خبرها . وتقدَّم الكلامُ في « لَيَحْزُنك » وأنه قرئ بفتح
الياء وضمِّها من حَزَنه وأَحْزنه في آل عمران . « والذي يقولون » فاعلٌ وعائده
محذوف ، أي : الذي يقولونه مِنْ نسبتهم إلى ما لا يليق به ، والضمير في « إنه »
ضمير الشأن والحديث ، والجملة بعده خبر مفسِّرةً له ، ولا يجوزُ في هذا المضارعِ
أن يُقَدَّر باسم فاعلٍ رافعٍ لفاعلٍ كما يُقَدَّرُ في قولك : « إنَّ زيداً يقوم
أبوه » لئلا يلزمَ تفسير ضمير الشأن بمفرد ، وقد تقدَّم أنَّه ممنوعٌ عند البصريين
.
قوله : { لاَ يُكَذِّبُونَكَ } قرأ نافع والكسائي : { لا يَكْذِبُونك
} مخففاً من أَكْذَبَ ، والباقون مثقَّلاً مِنْ كذَّب ، وهي قراءة علي وابن عباس .
واختلف الناس في ذلك ، فقيل : هما بمعنى واحد مثل : أَكْثَر وكثَّر ونَزَّل وأنزل
، وقيل : بينهما فرق ، قال الكسائي : العرب تقول « كذَّبْتُ الرجلَ » بالتشديد ،
إذا نَسَبْتَ الكذبَ إليه ، و « أَكْذَبْتُه » إذا نسبْتَ الكذبَ إلى ما جاء به
دون أن تنسبه إليه ، ويقولون أيضاً : أَكْذَبْتُ الرجل إذا وجدْتُه كاذباً
كأَحْمَدْتُه إذا وجدته محموداً ، فمعنى « لا يُكْذِبونك » مخفَّفاً : لا
يَنْسِبون الكذبَ إليك ولا يجدونك كاذباً ، وهو واضحٌ .
وأمَّا التشديدُ فيكونُ خبراً محضاً عن عدم تكذيبهم إياه . فإن قيل : هذا مُحالٌ؛
لأنَّ بعضهم قد وُجِد منه تكذيبٌ ضرورةً . فالجاب أن هذا وإن كان منسوباً إلى
جمعيهم ، أعني عدمَ التكذيب فهو إنما يراد به بعضُهم مجازاً كقوله : { كَذَّبَتْ
قَوْمُ نُوحٍ } [ الشعراء : 105 ] { كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ } [ الشعراء : 16 ]
وإن كان فيهم مَنْ لم يُكَذِّبْه فهو عامٌّ يُرادُ به الخاص . والثاني : أنه نفى
التكذيب لانتقاء ما يترتَّب عليه من المَضَارِّ ، فكأنه قيل : فإنهم لا
يُكَذِّبونك تكذيباً يُبالى به ويَضُرَّك لأنك لست بكاذب ، فتكذيبُهم كلا تكذيب ،
فهو مِنْ نفي السبب لانتفاءِ مُسَبِّبه . وقال الزمخشري : « والمعنى أنَّ
تَكْذيبَك أمرٌ راجع إلى الله لأنك رسولُه المصدَّق ، فهم لا يكذِّبونك في الحقيقة
، إنما يكذبون الله بجحود آياته فانْتَهِ عن حزنك كقول السيدِ لغلامه : - وقد أهانه
بعض الناس - لن يُهِينُوك وإنما أهانوني ، وعلى هذه الطريقة : { إِنَّ الذين
يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } [ الفتح : 10 ] .
قوله : { بِآيَاتِ الله } يجوز في هذا الجارِّ وجهان ، أحدهما : أنه متعلِّقٌ ب »
يَجْحَدون « ، وهو الظاهرُ الذي لاينبغي أن يُعْدَلَ عنه وجَوَّز أبو البقاء أن
يتعلَّق بالظالمين ، قال : » كقوله تعالى : { وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة
مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا } [ الإِسراء : 59 ] وهذا الذي قاله ليس بجيد ، لأن
الباءَ هناك سببيةٌ ، أي : ظلموا بسببها ، والباء هنا معناها التعدية ، وهنا شيءٌ
يتعلق به تعلُّقاً واضحاً ، فلا ضرورة تدعو إلى الخروج عنه . وفي هذه الآية إقامةُ
الظاهرِ مُقامَ المضمر ، إذ الأصل : ولكنهم يَجْحدون بآيات الله ، ولكنه نَبَّه
على أن الظلمَ هو الحاملُ لهم على الجُحود .
والجُحود والجَحْد نَفْيُ ما في القلب ثباتُه أو إثباتُ ما في القلب نفيُه . وقيل
: الجَحْد : إنكار المعرفة فليس مرادفاً للنفي من كل وجه .
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)
قوله تعالى : { مِّن قَبْلِكَ } : متعلَّقٌ ب « كَذَّبَتْ » ومنع أبو
البقاء أن يكون صفةً لرسل لأنه زمانٌ ، والزمان لا يُوصف به الجثث ، وقد تقدَّم
البحث في ذلك غيرَ مرةٍ وأَتْقَنْتُه في البقرة وذكرته قريباً هنا في قوله : {
وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً } [ الأنعام : 6 ] .
قوله : { وَأُوذُواْ } يجوز/ فيه أربعة أوجه أظهرها : أنه عطفٌ على قوله «
كُذِّبَتْ » أي : كُذِّبَت الرسلُ وأُوْذُوا فصبروا على كل ذلك . والثاني : أنه
معطوفٌ على « صَبَروا » أي : فصبروا وأُوْذُوا . والثالث : - وهو بعيدٌ- أن يكونَ
معطوفاً على « كُذِّبوا » فيكون داخلاً في صلة الحرف المصدري والتقدير : فصَبروا
على تكذيبهم وإيذائهم . والرابع : أن يكون مستأنفاً قال أبو البقاء : « ويجوز أن
يكون القف تَمَّ على قوله » كُذِّبوا « ثم استأنف فقال : » أُوْذوا « .
وقرأ الجمهور : { وأُوْذُوا } بواو بعدَ الهمزةِ من آذى يؤذي رباعياً . وقرأ ابن
عامر في روايةٍ شاذةٍ : » وأُذوا « من غير واو بعد الهمزة ، وهو من أَذَيْتُ الرجل
ثلاثياً لا من » آذيت « رباعياً .
قوله : { حتى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا } الظاهر أن هذه الغايةَ متعلقةٌ بقوله : »
فصبروا « أي : كان غايةُ صبرهم نَصْرَ الله إياهم ، وإن جَعَلْنا » وأوذوا « عطفاً
عليه كانت غايةً لهما ، وهو واضح جداً . وإن جعلناه مستأنفاً كانت غايةً له فقط ،
وإن جَعَلْناه معطوفاً على » كُذِّبَتْ « فتكون الغاية للثلاثة . والنصر مضافٌ
لفاعله ومفعوله محذوف ، أي : نَصْرُنا إياهم . وفيه التفاتٌ من ضمير الغيبة إلى
التكلُّم ، إذ قلبه » بآيات الله « فلو جاء على ذلك لقيل : نَصْرُه . وفائدةُ
الالتفات إسناد النصر إلى ضمير المتكلم المُشْعر بالعظمة .
قوله : { وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِ المرسلين } في فاعل » جاء « وجهان ، أحدهما
: هو مضمر ، واختلفوا فيما يعود عليه هذا الضمير ، فقال ابن عطية : » الصواب عندي
أن يقدر : « جَلاء ، و بيان » . وقال الرماني : « تقديره : ولقد جاءك نبأ » وقال
الشيخ : « الذي يظهر لي أنه يعود على ما دل عليه المعنى من الجملة السابقة ، أي :
ولقد جاءك هذا الخبرُ من تكذيبِ أَتْباع الرسل للرسل والصبر والإِيذاء إلى أن
نُصِروا » . وعلى هذه الأقوال يكون « من نبأ المرسلين » في محل نصب على الحال من
ذلك الضمير ، وعاملها هو « جاء » لأنه عاملٌ في صاحبها . والثاني : أنَّ « من نبأ
» هو الفاعل ، ذكره الفارسي ، وهذا إنما يتمشَّى له على رأي الأخفش؛ لأنه لا
يَشْترط في زيادتها شيئاً وهذا - كما رأيت - كلامٌ موجَبْ ، والمجرور ب « مِنْ »
معرفة . وضُعِّفَ أيضاً من جهة المعنى بأنه لم يَجِئْه كلُّ نبأ للمرسلين لقوله :
{ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ
عَلَيْكَ } [ غافر : 78 ] ، وزيادة « مِنْ » تؤدي إلى أنه جاءه جميع الأنباء؛ لأنه
اسم جنس مضاف ، والأمر بخلافِه .
ولم يتعرَّض الزمخشري للفاعل إلا أنه قال : « ولقد جاءك من نبأ المرسلين بعضُ
أبنائهم وقصصهم » وهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب ، إذ « مِنْ » لا تكون فاعلة ،
ولا يجوز أن يكون « من نبأ » صفةً لمحذوف هو الفاعل ، أي : ولقد جاءك نبأ من نبأ
المرسلين ، لأن الفاعلَ لا يُحْذَفُ بحالٍ إلا في مواضع ذُكِرت ، كذا قالوا . قال
أبو البقاء : « ولا يجوز عند الجميع أن تكون » مِنْ « صفةً لمحذوف ، لأن الفاعلَ
لا يُحْذف ، وحرف الجر إذا لم يكن زائداً لم يصحِّ أن يكون فاعلاً لأنَّ حرف لاجر
يُعَدِّي ، وكل فعل يعمل في الفاعل من غير تعدٍّ » يعني بقولِهِ « لم يصحَّ أن
يكونَ فاعلاً » لم يَصِحَّ أن يكون المجرور بذلك الحرف ، وإلاَّ فالحرفُ لا يكونُ
فاعلاً البتة .
وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)
قوله تعالى : { وَإِن كَانَ كَبُرَ } : هذا شرطٌ ، جوابه الفاء
الداخلة على الشرط الثاني ، وجواب الثاني محذوف تقديره : فإن استطعت أن تبتغي
فافعلْ ، ثم جُعِل الشرطُ الثاني وجوابُه جواباً للشرط الأول ، وقد تقدَّم مِثْلُ
ذلك في قوله : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم . . . . . فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ
خَوْفٌ } [ البقرة : 38 ] . وتقدَّم تحرير القول فيه ، إلا أن جواب الثاني هناك
مُظْهَرٌ . و « كان » في اسمها وجهان ، أحدهما : أنه « إعراضهم » و « كَبُرَ »
جملة فعلية في محل نصب خبراً مقدماً على الاسم ، وهي مسألة خلاف : هل يجوزُ تقديمُ
خبرِ كان على اسمها إذا كان فعلاً رافعاً لضمير مستتر أم لا؟ وأمَّا إذا كان خبراً
للمبتدأ فلا يجوزُ البتةَ ، لئلا يلتبسَ بباب الفاعل واللَّبْسُ هنا مَأْمون .
وَوَجْهُ المَنْع استصحابُ الأصل . و « كَبُر » إذا قيل : إنه خبر « كان » فهل
يُحتاج إلى إضمار « قد » أم لا؟ والظاهر أنه لا يحتاج ، لأنه كثر وقع الماضي خبراً
لها من غير « قد » نظماً ونثراً بعضهم يَخُصُّ ذلك ب « كان » ويمنعه في غيرها من
أخواتها إلا ب « قد » ظاهرةً أو مضمرةً ومن مجيء ذلك في خبر أخواتها قولُ النابغة
:
1905- أمسَتْ خَلاءً وأمسى أهلُها احَتَمَلُوا ... أَخْنى عليها الذي أخنى على
لُبَدِ
والثاني : أن يكونَ اسمُها ضميرَ الأمر والشأن ، والجملة الفعلية مفسِّرةٌ له في
محل نصب على الخبر ، فإعراضُهم مرفوعٌ ب « كَبُر » وفي الوجه الأول ب « كان » ،
ولا ضمير في « كَبُر » على الثاني ، وفيه ضمير على الأول . ومثلُ ذلك في جواز هذين
الوجهين قوله تعالى : { وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ } [ الأعراف :
137 ] { وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا } [ الجن : 4 ] ، ففرعون يحتمل أن
يكون اسماً ، وأن يكون فاعلاً وكذلك « سفيهُنا » ومثلُه أيضاً قولُ امرئ القيس .
1906- وإنْ تَكُ قد ساءَتْكِ مني خَليقةٌ ... فَسُلِّي ثيابي مِنْ ثيابك تَنْسُلِ
فخليقة يحتمل الأمرين . وإظهار « قد » هنا يرجَّح قولَ مَنْ يشترطها ، وهل يجوز في
مثل هذا التركيب التنازعُ؟ وذلك أن كلاً من « كان » وما بعدها من الأفعال المذكورة
في هذه الأمثلةِ يطلب المرفوع من جهة المعنى ، وشروط الإِعمال موجودة . وكنت
قديماً سألت الشيخ عن ذلك فأجابَ بالمنع ، محتَّجاً بأنَّ شرط الإِعمال أن لا
يكونَ أحدُ المتنازعين مفتقراً إلى الآخر ، وأن يكونَ من تمام معناه ، و « كان »
مفتقرةٌ إلى خبرها وهو من تمام معناها . وهذا الذي ذكره من المنع وترجيحِه ظاهرٌ ،
إلا أن النَّحْويين لم يذكروه في شروط الإِعمال .
وقوله : { وَإِن كَانَ كَبُرَ } مؤولٌ بالاستقبال وهو التَبيُّن والظهور فهو كقوله
:
{ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ } [ يوسف : 26 ] أي : إنْ
تبيَّن وظَهَر ، وإلاَّ فهذه الأفعالُ قد وقعتْ وانقضتْ فكيف تقع شرطاً؟ وقد
تقدَّم أنَّ المبردَ يُبْقي « كان » خاصةً على مضيِِّها في المعنى مع أدوات الشرط
، وليس بشيء . وأمَّا : « فإن استطعتَ » فهو مستقبلٌ معنى لأنه لم يقعْ بخلافِ
كونه كَبُر عليه إعراضُهم وقَدِّ القميص « وأن تبتغي » مفعولُ الاستطاعة . «
ونَفَقاً » مفعول الابتغاء .
والنَّفَقُ : السَّرَب النافذ في الأرض وأصله في جُحْرة اليربوع ومنه النافقاء
والقاصِعاء ، وذلك أن اليربوعَ يَحْفِر [ في ] الأرض سَرَباً ويجعل له بابين ،
وقيل : ثلاثة؛ النَّافِقاء والقاصعاء والدَّابِقاء ، ثم يَرِقُّ بالحفر ما تقارب
وجه الأرض ، فإذا نابه أمرٌ دفع تلك القشرةَ الرقيقةَ وخرجَ ، وقد تقدَّم لك
استيفاء هذه المادة عند ذكر { يُنْفِقُونَ } [ البقرة : 3 ] و { المنافقين } [
النساء : 61 ] .
وقوله { فِي الأرض } ظاهرُه أنه متعلقٌ بالفعل قبله ، ويجوز أن يكون صفةً ل «
نَفَقاً » فيتعلَّقَ بمحذوف ، وهي صفة لمجرد التوكيد إذ النفق لا يكون إلا في
الأرض . وجوَّز أبو البقاء مع هذين الوجهين أن يكونَ حالاً من فاعل « تَبْتغي » أي
: وأنت في الأرض ، قال : « وكذلك في السماء » يعني مِنْ جوازِ الأوجه الثلاثة ،
وهذا الوجهُ الثالث ينبغي أن لا يجوز لخُلُوِّه عن الفائدة .
والسُّلَّم : قيل : المِصْعَد ، وقيل : الدَّرَج ، وقيل : السبب ، تقول العرب :
اتَّخِذْني سُلَّماً لحاجتك أي : سبباً ، قال كعب بن زهير :
1907- ولا لكما مَنْجَىً من الأرض فابغِيا ... بها نَفَقاً أو في السماوات
سُلَّماً
وهو مشتقٌّ من السَّلامة ، قالوا : لأنه يُسْلَمُ به إلى المصعد . والسُّلَّم مذكر
، وحكى الفراء تأنيثه ، قال بعضهم ، ليس ذلك بالوضع ، بل لأنه بمعنى المِرْقاة كما
أنَّث بعضهم الصوت في قوله :
1908- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... سائِلْ بني أَسَدٍ ما هذه الصَّوْتُ
لمَّا كان في معنى الصرخة .
إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)
قوله تعالى : { والموتى يَبْعَثُهُمُ الله } : فيه ثلاثةُ أوجه ،
أظهرها : أنها جملة من مبتدأ وخبر سِيْقَتْ للإِخبار بقدرته ، وأنَّ مَنْ قَدَرَ
على بعث الموتى يَقِدْرُ على إحياء قلوب الكفرة بالإِيمان فلا تتأسَّفْ على مَنْ
كفر . والثاني : أن « الموتى » منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر بعده ، ورُجِّح هذا
الوجهُ على الرفع بالابتداء لعطف جملة الاشتغال على جملةٍ فعلية قبلها فو نظير : {
والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [ الإِنسان : 31 ] بعد قوله : {
يُدْخِل } والثالث : أنه مرفوع نسقاً على الموصول قبله ، والمراد بالموتى الكفار
أي : إنما يَسْتجيب المؤمنون السامعون من أول وهلة ، والكافرون الذين يُجيبهم الله
تعالى بالإِيمان ويوفقهم له ، وعلى هذا فتكون الجملة من قوله : { يَبْعَثُهُمُ
الله } في محل نصب على الحال ، إلا أن هذا القولَ يُبْعده قوله تعالى : { ثُمَّ
إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } إلا أن يكون من ترشيح المجاز . وتقدَّمت له نظائر .
وقرئ { يَرْجِعون } مِنْ رَجَع اللازم .
وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37)
قوله تعالى : { مِّن رَّبِّهِ } : فيها وجهان ، أحدهما : أنها متعلقة ب « نُزِّل » والثاني : أنها متعلِّقةٌ بمحذوفٍ لأنها صفةٌ ل « آية » أي : آية كائنة من ربه . وتقدَّم الكلام على « لولا » وأنها تحضيضية .
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)
قوله تعالى : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ } : « مِنْ » زائدة لوجود الشرطين
وهي مبتدأ ، و « إلا أممٌ » خَبُروها مع ما عُطِفَ عليها . وقوله « في الأرض »
صفةٌ لدابَّة ، فيجوز لك أن تجعلَها في محلِّ جر باعتبار اللفظ ، وأن تجعلها في
محصل رفع باعتبار الموضع .
قوله : { وَلاَ طَائِرٍ } الجمهور على جرِّه نسقاً على لفظ « دابة » ، وقرأ ابن
أبي عبلة برفعه نسقاً على موضعها . وقرأ ابن عباس : « ولا طيرٍ » من غير ألف . وقد
تقدَّم الكلامُ فيه : هل هو جمع أو اسم جمع؟ وقوله : { يطير } في قراءة الجمهور
يحتمل أن يكون في محلِّ جر باعتبار لفظه ، ويحتمل أن يكون في محل رفع باعتبار
موضعه . وأمَّا على قراءة ابن أبي عبلة ففي محل رفع ليس إلا . وفي قوله « ولا طائر
» ذكرُ خاصٍ بعد عام ، لأنَّ الدابَّةَ تَشْمل كلَّ ما دَبَّ من طائرٍ وغيره فهو
كقوله : { وملائكته . . . . . وَجِبْرِيلَ } [ البقرة : 98 ] وفيه نظر إذ المقابلة
هنا تنفي أن تكون الدابة تشمل الطائر .
قوله : { بِجَنَاحَيْهِ } فيه قولان ، أحدهما : أن الباء متعلقة ب « يطير » وتكونُ
الباءُ للاستعانة . والثاني : أن تتعلَّقَ بمحذوف على أنها حال وهي حال مؤكدة ،
وفيها رفعُ مَجازٍ يُتَوَهَّم؛ لأنَّ الطيران يُستعار في السرعة قال :
1909- قومٌ إذا الشرُّ أبدَى ناجِذَيْه لهم ... طاروا إليه زَرافاتٍ ووِحْدانا
ويُطلق الطيرُ على العمل ، قال تعالى : { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ
طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ } [ الإِسراء : 13 ] .
وقوله : { إِلاَّ أُمَمٌ } خبر المبتدأ ، وجُمع وإن لم يتقدَّمْهُ إلا شيئان ، لأن
المراد بها الجنس . و « أمثالكم » صفة لأُمَم ، يعني أمثالهم في الأرزاق والآجال
والموت والحياة والحشر والاقتصاص لمظلومها من ظالمها . وقيل : في معرفة الله
وعبادته .
قوله : { مِن شَيْءٍ } فيه ثلاثة أوجه ، أحدها : أن « مِنْ » زائدة في المفعول به
والتقدير : ما فرَّطْنا شيئاً ، وتضمَّنه « فرَّطنا » معنى تركنا وأغفلنا ،
والمعنى : ما أَغْفَلْنا ولا تَرَكْنا شيئاً . ثم اختلفوا في الكتاب : ما المراد
به؟ فقيل : اللوح المحفوظ ، وعلى هذا فالعموم ظاهر لأن الله تعالى أثبت ما كان وما
يكون فيه . وقيل : القرآن ، وعلى هذا فهل العمومُ باقٍ؟ منهم من قال : نعم ، وأن
جميع الأشياء مثبتة في القرآن . إمَّا بالصريح وإمَّا بالإِيماء ، ومنهم من قال :
إنه يُراد به الخصوص ، والمعنى : من شيءٍ يحتاج إليه المُكَلَّفون . والثاني : أن
« مِنْ » تبعيضيةٌ أي : ما تركْنا ولا أَغْفَلْنا في الكتاب بعضَ شيء يَحْتاج إليه
المكلَّف . الثالث : أنَّ « من شيء » في محل نصب على المصدر و « من » زائدة فيه
أيضاً . ولم يُجِزْ أبو البقاء غيره ، فإنه قال : « مِنْ » زائدة ، و « شيء » هنا
واقع موقع المصدر أي تفريطاً .
وعلى هذا التأويل لا يَبْقى في الآية حجةٌ لمن ظنَّ أن الكتابَ يَحْتوي على ذِكْر كل شيء صريحاً . ونظير ذلك : { لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً } [ آل عمران : 120 ] ، ولا يجوز أن يكون مفعولاً به لأنَّ « فرَّطْنا » لا يتعدى بنفسه بل بحرف الجر ، وقد عُدِّيَتْ إلى الكتاب ب « في » فلا يتعدَّى بحرف آخر ، ولا يَصِحُّ أن يكون المعنى : ما تركنا في الكتاب من شيء ، لأن المعنى على خلاف فبان التأويل بما ذكرنا « انتهى . قوله : » يحتوي على ذِكْر كل شيء صريحاً « لم يَقُلْ به أحدٌ لأنَّه مكابرة في الضروريات . وقرأ الأعرج وعلقمة : » فَرَطْنا « مخفَّفاً ، فقيل : هما بمعنى . وعن النقاش : فَرَطْنا : أخَّرْنا كما قالوا : » فَرَط الله عنك المرض « أي : أزاله .
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)
قوله تعالى : { والذين كَذَّبُواْ } : مبتدأٌ وما بعده الخبرُ .
ويجوز أن يكون « صمٌّ » خبرَ مبتدأ محذوف ، والجملة خبر الأول ، والتقدير : والذين
كذَّبوا بعضُهم صمٌّ وبعضُهم بُكْمٌ ، وقال أبو البقاء : « صمٌّ وبُكْمٌ الخبرُ ،
مثل حلو حامض ، والواو لا تمنع من ذلك » . قلت : هذا الذي قاله لا يجوزُ مِنْ
وجهين ، أحدهما : أنَّ ذلك إنما يكون إذا كان الخبران في معنى خبر واحد لأنهما في
معنى مُزّ ، وهو أَعْسَرُ يَسَرٌ بمعنى أضبط ، وأمَّا هذان الخبران فكلُّ منهما
مستقلٌّ بالفائدة . والثاني : أن الواو لا تجوز في مثل هذا إلا عند أبي علي
الفارسي وهو وجه ضعيف .
قوله : { فِي الظلمات } فيه أوجهٌ ، أحدها : أن يكون خبراً ثانياً لقوله : {
والذين كَذَّبُواْ } ويكون ذلك عبارةً عن العَمَى ، ويصير نظيرَ الآيةِ الأخرى : {
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } [ البقرة : 18 ] فَعَبَّر عن العمى بلازمه ، والمراد بذلك
عَمَى البصيرة . والثاني : أنه متعلِّقٌ بمحذوف على أنه حال من الضمير المستكنِّ
في الخبر تقديرُه : ضالُّون حال كونهم مستقرين في الظلمات . الثالث : أنه صفةٌ ل «
بُكْم » فيتعلَّق أيضاً بمحذوف أي بُكم كائنون في الظلمات . الرابع : أن يكون
ظرفاً على حقيقته وهو ظرف ل « صُمُّ » أو ل « بُكْم » قال أبو البقاء : « أو لِما
ينوبُ عنهما في الفعل » أي : لأن الصفتين في قوة التصريح بالفعل .
قوله : { مَن يَشَإِ الله يُضْلِلْهُ } في « مَنْ » وجهان ، أحدهما : أنها مبتدأ
وخبرها ما بعدها ، وقد عُرِف غير مرة . ومفعول « يشأ » محذوف أي : مَنْ يشأ الله
إضلاله . والثاني : أنه منصوب بفعل مضمر يفسِّره ما بعده من حيث المعنى ، ويقدِّر
ذلك الفعل متأخراً عن اسم الشرط لئلا يلزمَ خروجه عن الصدر ، وقد تقدَّم التنبيهُ
على ذلك وأن فيه خلافاً ، والتقدير : مَنْ يُشْقِ اللهُ يَشَأْ إضلاله ومن
يُسْعِدْ يَشَأ هدايته . فإن قلت : هل يجوز أن تكون « مَنْ » مفعولاً مقدَّماً ل «
يشأ »؟ فالجواب أن ذلك لا يجوز لفساد المعنى . فإن قلت : أُقَدِّرُ مضافاً هو
المفعول حُذِفَ وأقيمت « مَنْ » مُقامه تقديره : إضلال مَنْ يشاء وهداية من يشاء ،
ودلَّ على هذا المضاف جوابُ الشرط . فالجوابُ أنَّ الأخفشَ حكى عن العرب أنَّ اسم
الشرط غير الظرف والمضاف إلى سام الشرط لا بد أن يكون في الجزاء ضمير يعود عليه أو
على ما أُضيف إليه ، فالضمير في « يُضْلِلْه » و « يِجْعَلُه » إمَّا أن يعود على
المضاف المحذوف ويكونَ كقوله : { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ
} [ النور : 40 ] فالهاء في « يغشاه » تعود على المضاف أي : كذي ظلمات يَغْشاه ،
وإمَّا أن يعود على اسم الشرط ، والأول ممتنع ، إذ يصير التقدير : إضلال مَنْ يشأ
الله يُضْلِلْه أي : يُضِلُّ الإِضلال ، وهو فاسدٌ .
والثاني : أيضاً ممتنعٌ لخلوِّ الجوابِ من ضمير يعود على المضاف إلى
اسم الشرط . فإن قيل : يجوز أن يكون المعنى : مَنْ يشأ الله بالإِضلال وتكون «
مَنْ » مفعولاً مقدماً؛ لأنَّ « شاء » بمعنى أراد ، و « أراد » يتعدى بالباء قال :
1910- أرادَتْ عَراراً بالهَوانِ ومَنْ يُرِدْ ... عَراراً لعَمْري بالهَوان فقد
ظَلَمْ
قيل : لا يلزم من كون « شاء » بمعنى « أراد » أن يتعدَّى تعديته ، ولذلك نجد اللفظ
الواحد تختلف تعديتُه باختلافِ متعلَّقِه تقول : دخلت الدار ودخلت في الأمر ، ولا
تقول : دخلتُ الأمرَ ، فإذا كان ذلك في اللفظ الواحد فما بالك بلفظين؟ ولم يُحفظ
عن العرب تعديةُ « شاء » بالباء وإن كانت في معنى أراد .
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40)
قوله تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُكُم } : يجوز نَقْلُ حركة همزة
الاستفهام إلى لام « قُلْ » وتحذف الهمزة تخفيفاً وهي قراءة ورش ، وهو تسهيل
مطرَّد ، وأرأيتكم هذه بمعنى أَخْبِرْني ، ولها أحكام تختص بها ، اضطربت أقوال
الناس فيها ، وانتشر خلافهم فلا بد من التعرُّض لذلك فأقول :
« أرأيْتَ » إن كانت البصَريَة أو العِلْميةَ الباقيةَ على معناها أو التي لإِصابة
الرئة كقولهم : « رَأَيْتُ الطائر » أي : أصبت رِئَته ، لم يَجُزْ فها تخفيفُ
الهمزةِ التي هي عينُها ، بل تُحَقَّق ليس إلا ، أو تُسَهَّل بينَ بينَ من غير
إبدال ولا حذف ، ولا يجوز أن تَلْحَقَها كافٌ على أنها حرف خطاب ، بل إن لحقها كاف
كانت ضميراً مفعولاً أولَ ويكون مطابقاً لما يُراد به من تذكير وتأنيثٍ وإفراد
وتثنية وجمع ، وإذا اتَّصَلَتْ بها تاءُ خطاب لَزِم مطابقتُها لما يُراد بها
ممَّا ذُكِر ، ويكون ضميراً فاعلاً نحو : أرأيتم ، أرأيتما أرأيتنَّ ، ويدخلها
التعليق والإِلغاء .
وإن كانت العِلْميَّةَ التي ضُمِّنَتْ معنى « أخبرني » اختصَّتْ بأحكامٍ أُخَرَ
منها : أنه يجوز تسهيل همزتها بإبدالها ألفاً ، وهي مَرْوِيَّةٌ عن نافع من طريق
ورش ، والنحاةُ يَسْتَضْعِفُون إبدالَ هذه الهمزةِ ألفاً ، بل المشهورُ عندهم
تسهيلُها بين بين ، وهي الرواية المشهورة عن نافع ، لكنه قد نَقَل الإِبدالَ المحض
قطربٌ وغيرُه من اللغويين . قال بعضهم : « هذا غَلَطٌ غُلِطَ عليه » أي على نافع .
وسببُ ذلك أن يؤدِّي إلى الجمع بين ساكنين فإن الياء بعدها ساكنة . ونقل أبو عبيد
القاسم بن سلام عن أبي جعفر ونافع وغيرهما من أهل المدينة أنهم يُسْقطون الهمزة ،
ويَدِّعون أن الألف خَلَفٌ منها . قلت : وهذه العبارة تُشْعر أن هذه الألف ليست
بدلاً عن الهمزة ، بل جيء بها عوضاً عن الهمزة الساقطة .
وقال مكي ، بن أبي طالب : « وقد رُوي عن ورش إبدالُ الهمزة ألفاً ، لأن الرواية
عنه أنه يَمُدُّ الثانية ، والمدُّ لا يتمكَّن ، إلا مع البدل ، وحسَّن جوازُ
البدلِ في الهمزة وبعدها ساكنٌ أنَّ الأولَ حرفُ مَدٍّ ولين ، فإن هذا الذي يحدث
مع السكون يقومُ مقامَ حركةٍ يُتَوَصَّلُ بها إلى النطق بالساكن » وقد تقدَّم لك
شيءٌ من هذا عند قوله « أأنذرتهم » . ومنها : أن تُخْذَفَ الهمزة التي هي عين
الكلمة ، وبها قرأ الكسائي ، وهي فاشيةٌ نظماً ونثراً ، فَمِنَ النظم قوله :
1911- أرَيْتَ ما جاءت به أُمْلُودا ... مُرَجَّلاً ويلبسُ البُرودا
أقائِلُنَّ أحضِروا الشهودا ... وقال آخر :
1912- أرَيْتُكَ إذ هُنَّا عليك الم تَخَفْ ... رقيباً وحولي مِنْ عَدُوِّك
حُضَّرُ
وأنشد الكسائي لأبي الأسود :
1913- أَرَيْتَ امرَأً كنت لم أَبْلُهُ ... أتاني فقال اتَّخِذْني خليلا
وزعم الفراء أن هذه اللغة لغة أكثر العرب ، قال : « في أَرَأيْتَ لغتان ومعنيان ،
أحدهما : أن يسأل الرجل : أرأيت زيداً ، أي : أعلمت ، فهذه مهموزة ، وثانيهما : أن
تقول : أرأيت بمعنى أَخْبِرْني ، فههنا تُتْرك الهمزة إن شِئْتَ وهو اكثرُ كلامِ
العرب ، تُوْمِئ إلى تَرْك الهمزِ للفرق بين المعنيين » انتهى .
وفي كيفيَّةِ حَذْفِ هذه الهمزة ثلاثةُ أوجه ، أحدها : - وهو الظاهر
- أنه اسْتُثْقِلَ الجمعُ بين همزتين في فِعْلٍ اتصل به ضمير ، فَخَفَّفَه بإسقاط
إحدى الهمزتين ، وكانت الثانيةُ أَوْلى لأنها حَصَل بها الثقلُ ، ولأنَّ حَذْفَها
ثابتٌ في مضارع هذا الفعل نحو أرى ، ويرى ، ونرى ، وترى ، ولأنَّ حذف الأولى
يُخلُّ بالتفاهم إذ هي للاستفهام والثاني : أنه أبدل الهمزة ألفاً كما فَعَلأ
نافعٌ في رواية ورش فالتقى ساكنان فحذف أولهما وهو الألف ، والثالث : أنه أبدلها
ياءً ثم سكَّنها ثم حَذَفَها لالتقاء الساكنين ، قاله أبو البقاء ، وفيه بُعْدٌ ،
ثم قال : « وقَرَّب ذلك فيها حَذْفُها في مستقبل هذا الفعل » يعني في يرى وبابه .
ورجَّح بعضُهم مذهبَ الكسائيّ بأن الهمزة قد اجتُرِئ عليها بالحذف ، وأنشد :
1914- إنْ لم أُقاتِلْ فالبِسَوني بُرْقُعا ... وأنشد لأبي الأسود :
1915- يابا المُغِيرةِ رُبَّ أمرٍ مُعْضِلٍ ... فرَّجْتُه بالمَكْرِ مني والدَّها
وقولهم : { وَيْلُمِّه } وقوله :
1916- وَيْلُمِّها خُلَّةً قد سِيْطَ مِنْ دَمِها ... فَجْعٌ وَوَلْعٌ وأخلافٌ
وتَبْديلُ
وأنشد أيضاً :
1917- ومَنْ رَاْ مثلَ مَعْدانَ بِن سعدٍ ... إذا ما النِّسْعُ طال على
المَطِيَّةْ
أي : ومن رأى
ومنها : أنه لا يدخلها تعليقٌ ولا إلغاء لأنها بمعنى أخبرني ، و « أخبرني » لا
يُعَلَّقُ عند الجمهور . قال سيبويه : « وتقول : أَرَأَيْتَك زيداً أو مَنْ هو؟ لا
يَحْسُنُ فيه إلا النصبُ في » زيد « ألا ترى أنك لو قلت : » أرأيت أو مَنْ انت؟ «
لم يحسن ، لأن فيه معنى أخبرني عن زيد ، وصار الاستفهامُ في موضع المفعول الثاني »
وقد خالف سيبويه غيرَه من النحويين وقالوا : كثيراً ما تُعَلَّق « أرأيت » وفي
القرآن من ذلك كثيرٌ ، واستدلُّوا بهذه الآيةِ التي نحن فيها ، وبقوله : { أَرَأَيْتَ
إِن كَذَّبَ وتولى أَلَمْ يَعْلَم } [ العلق : 1314 ] ، وبقوله :
1918- أرَيْتَ ما جاءَتْ به أملودا ... وهذا لا يَرِد على سيبويه ، وسيأتي تأويل
ذلك قريباً .
ومنها : أنها تَلْحَقُها التاءُ فَيُلْتَزَمُ إفرادها وتذكيرها ويستغنى عن لحاق
علامة الفروع بها بلحاقها بالكاف بخلاف التي لم تُضَمَّن معنى « أخبرني » فإنها
تطابق فيها - كما تقدَّم - ما يُراد بها .
ومنها : أنه يَلْحَقُها كافٌ هي حرفُ خطاب تطابق ما يُراد بها من إفراد وتذكير
وضدَّيهما . وهل هذه التاء فاعل والكاف حرف خطاب تُبَيِّن أحوالَ التاء ، كما
تُبَيِّنه إذا كانت ضميراً ، أو التاء حرف خطاب والكاف هي الفاعل ، واستعير ضميرُ
النصبِ في مكان ضمير الرفع ، أو التاءُ فاعلٌ أيضاً ، والكاف ضمير في مضوع المفعول
الأول؟ ثلاثة مذاهبَ مشهورة ، الأولُ قولُ البصريِّين ، والثاني قول الفراء ،
والثالثُ قولُ الكسائي .
ولنقتصر على بعضِ أدلةِ كلِّ فريق .
قال أبو علي : « قولهم » : « أَرَأَيْتَكَ زيداً ما فعل » بفتح التاء في جميع
الأحوال ، فالكافُ لا يَخْلو أن يكون للخطاب مجرداً ، ومعنى الاسميةِ مخلوعٌ منه ،
أو يكون دالاً على الاسم مع دلالته على الخطاب ، ولو كان اسماً لوجبَ أن يكونَ
الاسمُ الذي بعده هو هو ، لأن هذه الأفعالَ مفعولُها الثاني هو الأول في المعنى ،
لكنه ليس به ، فتعيَّنَ أن يكون مخلوعاً منه الاسميةُ ، وإذا ثبت أنه للخطاب
مُعرَّى من الاسمية ثبت أن التاء لا تكون لمجرَّد الخطاب . ألا ترى أنه ينبغي أن
يَلْحق الكلمةَ علامتا خطاب ، كما لا يلحقها علامتا تأنيث ولا علامتا استفهام ،
فلمَّا لم يَجُز ذلك أُفْرِدَت التاء في جميع الأحوال لَمَّا كان الفعل لا بد له
من فاعل ، وجُعِل في جميع الأحوال على لفظ واحد استغناءً بما يلحق الكاف ، ولو لحق
التاءَ علامةُ الفروع لاجتمع علامتان للخطاب مما كان يلحق التاء ، وممَّا كان يلحق
الكاف ، فلما كان ذلك يؤدِّي إلى ما لا نظيرَ له رُفِضَ وأُجْري على ما عليه سائر
كلامهم « .
وقال الزجاج عبد حكايته مذهبَ الفراء : » وهذا القول لم يَقْبله النحويون القدماء
وهو خطأٌ؛ لأنَّ قولَك : « أرأيتك زيداً ما شأنه » لو تَعَدَّت الرؤية إلى الكاف
وإلى زيد لصار المعنى : أَرَأَتْ نَفْسُك زيداً ما شأنُه ، وهذا مُحالٌ « ثم ذكر
مذهبَ البصريين . وقال مكي بن أبي طالب بعد حكايته مذهبَ الفراء : » وهذا مُحالٌ؛
لأنَّ التاءَ هي الكاف في أرأيتكم ، فكان يجب أن تَظْهر علامةُ جمع التاء ، وكان
يجب أن يكون فاعلاً لفعلٍ واحد وهما لشيء واحد ، ويجب أن يكون معنى قولك أرأيتَك
زيداً ما صنع : أرأيْتَ نفسَك زيداً ما صنع ، لأن الكاف هو المخاطب ، وهذا مُحَالٌ
في المعنى ومتناقض في الإِعراب والمعنى ، لأنك تستفهم عن نفسه في صدر السؤال ، ثم
تَرُدُّ السؤالَ إلى غيره في آخره وتخاطبه أولاً ، ثم تأتي بغائب آخر ، أو لأنه
يصير ثلاثة مفعولين لرأيت ، وهذا كلُّه لا يجوزُ ، ولو قلت : « أرأيتك عالماً بزيد
» لكان كلاماً صحيحاً وقد تعدَّى « رأى » إلى مفعولين « .
وقال ابو البقاء بعدما حكى مذهب البصريين : » والدليل على ذلك أنها - أي الكاف -
لو كانت اسماً لكانت : إمَّا مجرورةً - وهو باطل ، إذ لا جارَّ هنا - وإمَّا
مرفوعةً ، وهو باطلٌ أيضاً لأمرين ، أحدهما : أن الكافَ ليسَتْ من ضمائرِ الرفع ،
والثاني : أنها لا رافعَ لها ، إذ ليست فاعلاً لأن التاء فاعل ، ولا يكون لفعلٍ واحد
فاعلان ، وإمَّا أن تكون منصوبةً وذلك باطلٌ لثلاثة أوجه ، أحدُها : أن هذا الفعلَ
يتعدَّى إلى مفعولين كقولك : « أرأيت زيداً ما فعلَ » فلو جُعِلَت الكافُ مفعولاً
لكان ثالثاً .
والثاني : أنه لو كان مفعولاً لكان هو الفاعل في المعنى ، وليس
المعنى على ذلك ، إذ ليس الغرضُ أرأيت نفسك ، بل أرأيت غيرك . ولذلك قلت : أرأيت
زيداً ، وزيداً غير المخاطب ولا هو بدل منه . والثالث : أنه لو كان منصوباً على
أنه مفعول لظهرَتْ علامةُ التثنية والجمعِ والتأنيث في التاء فكنت تقول :
أرأيتماكما ، أرأيتموكم ، أرأيتكنَّ « ثم ذكر مذهبَ الفراء ثم قال : » وفيما
ذَكَرْنا إبطالٌ لمذهبه « .
وقد انتصر أبو بكر بن الأنباري لمذهب الفراء بأن قال : » لو كانت الكاف توكيداً
لوقعت التثنية والجمع بالتاء ، كما يقعان بها عند عدم الكاف ، فلمَّا فُتِحت
التاءُ في خطاب الجمع ووقع مِيْسَم الجمع لغيرها كان ذلك دليلاً على أن الكافَ
غيرُ توكيد . ألا ترى أن الكاف لو سَقَطَت لم يَصْلُحْ أن يُقال لجماعة : أرأيت ،
فوضح بهذا انصرافُ الفعلِ إلى الكاف وأنها واجبةٌ لازمةٌ مفتقر إليها « . وهذا
الذي قاله أبو بكر باطل بالكاف اللاحقةِ لاسمِ الإِشارة ، فإنها يقع عليها مِيْسَمُ
الجمعِ ، ومع ذلك هي حرف .
وقال الفراء : » موضعُ الكاف نصب ، وتأويلها رفع؛ لأن الفعل يتحول عن التاء إليها
، وهي بمنزلة الكاف في « دونك » إذا أغري بها ، كما تقول : « دونكَ زيداً » فتجد
الكاف في اللفظ خَفْضاً وفي المعنى رفعاً ، لأنها مأمورةٌ ، فكذلك هذه الكافُ
موضعُها نصبٌ وتأويلها رفع « . قلت : وهذه الشبهةُ باطلةُ مما تقدم ، والخلاف في »
دونك « و » إليك « وبابِهما مشهورٌ تقدَّم التنبيهُ عليه غيرَ مرة .
وقال الفراء أيضاً كلاماً حسناً رأيت أن أذكره فإنه مُبين نافع ، قال : » للعرب في
« أرأيْتَ » لغتان ومعنيان ، أحدُهما رؤيةُ العين ، فإذا أردت هذا عَدَّيْتَ
الرؤية بالضمير إلى المخطاب ويتصرَّف تصرُّفَ سائرِ الأفعال ، تقول للرجل : «
أرأيتك على غير هذه الحال » تريد : هل رأيتَ نفسَك ، ثم تثنِّي وتجمع فتقول :
أرأيتماكما ، أرأيتموكم ، أرأيتكنَّ ، والمعنى الآخر : أن تقول « أرأيتك » وأنت
تريد معنى أخبرني ، كقولك : أرأيتك إنْ فَعَلْتَ كذا ماذا تفعل أي : أخبرني ،
وتترك التاء - إذا أردت هذا المعنى - موحدةً على كل حال تقول : أرأيتكما ، أرأيتكم
، أرأيتكنَّ ، وإنما تركَتِ العربُ التاءَ واحدةً؛ لأنهم لم يريدوا أن يكون الفعل
واقعاً من المخاطب على نفسه فاكتفوا من علامة المخاطب بذكره في المكان ، وتركوا
التاء على التذكير والتوحيد إذا لم يكن الفعل واقعاً «؟
قال : والرؤيةُ من الأفعال الناقصة التي يُعَدِّيها المخاطبُ إلى نفسه بالمكنى مثل
: ظنتُني وأريتُني ، ولا يقولون ذلك في الأفعال التامة ، لا يقولون للرجل : قتلتَك
بمعنى : قتلتَ نفسَك ، ولا أحسنتَ إليك ، كما يقولون : متى تظنُّك خارجاً؟ وذلك
أنَّهم أرادوا الفصلَ بين الفعل الذي قد يُلغى وبين الفعلِ الذي لا يجوزُ إلغاؤه ،
ألا ترى أنك تقول : » أنا أظنُّ خارجٌ « فتلغي » أظن « وقال الله تعالى :
{ أَن رَّآهُ استغنى } [ العلق : 7 ] ولم يَقُلْ : رأى نفسه . وقد
جاء في ضرورة الشعر إجراءُ الأفعال التامة مُجْرى النواقص :
قال جران العود :
1919- لقد كان لي عن ضَرَّتَيْنِ عَدِمْتُني ... وعَمَّا أُلاقي منهما
مُتَزَحْزِحُ
والعرب تقول : عَدِمْتني ووَجَدْتُني وفَقَدْتُني وليس بوجه الكلام « انتهى .
واعلم أن الناس اختلفوا في الجملة الاستفهامية الواقعة بعد المنصوب بأرأيتك نحو :
أرأيتك زيداً ما صنع؟ فالجمهور على أن » زيداً « مفعول أول ، والجملة بعده في محصل
نصب سادَّةً مَسَدَّ المفعول الثاني . وقد تقدم أنه لا يجوز التعليق فيه هذه وإن
جاز في غيرها من أخواتها نحو : علمت زيداً أبو مَنْ هو؟ وقال ابن كَيْسان : » إن
الجملة الاستفهامية في رأيتك زيداً ما صنع بدل من أرأيتك « وقال الأخفش : » إن لا
بد بعد « أرأيت » التي بمعنى أخبرني من الاسم المستَخْبَرِ عنه ، ويلزمُ الجملةَ
التي بعده الاستفهامُ لأن « أخبرني » موافق لمعنى الاستفهام « وزعم أيضاً أنها
تخرج عن بابها فتكون بمعنى » أما « أو » تنبَّه « ، وحينئذ لا يكون لها مفعولان
ولا مفعول واحد ، وجعل من ذلك : { أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة
فَإِنِّي نَسِيتُ الحوت } [ الكهف : 63 ] . وهذا ينبغي أن لا يجوز لأنه إخراج
للَّفْظَة عن موضوعها من غير داعٍ إلى ذلك .
إذا تقرَّر هذا فليُرْجع إلى الآية الكريمة فنقول وبالله التوفيق : اختلف الناس في
هذه الآية على ثلاثة أقوال ، أحدُها : أن المفعولَ الأولَ والجملةَ الاستفهامية
التي سَدَّت مَسَدَّ الثاني محذوفان لفهم المعنى ، والتقدير : أرأيتكم عبادتكم
الأصنام هل تنفعُكم » أو اتِّخاذَكم غيرَ الله إلهاً هل يَكْشِفُ ضُرَّكم؟ ونحو
ذلك : فعبادَتَكُمْ أو اتِّخاذَكم مفعول أول ، والجملة الاستفهامية سادَّةٌ
مَسَدَّ الثاني : والتاء هي الفاعل ، والكاف حرف خطاب .
الثاني : أن الشرط وجوابه - سيأتي بيانه - قد سَدَّا مَسَدَّ المعفولين لأنهما قد
حَصَّلا المعنى المقصود ، فلم يَحْتج هذا الفعل إلى مفعولٍ ، وليس بشيء؛ لأن الشرط
وجوابه لم يُعْهد فيهما أن يَسُدَّا مَسَدَّ مفعولي ظن ، وكونُ الفعلِ غيرَ محتاجٍ
لمفعولٍ إخراجٌ له عن وضعه ، فإنْ عَنَى بقوله : « سَدَّا مَسَدَّه » أنَّهما
دالاَّن عليه فهو المدَّعى .
والثالث : أن المفعول الأول محذوفٌ ، والمسألةُ من باب التنازع بين أرأيتكم وأتاكم
، والمتنازَعُ فيه هو لفظُ « العذاب » . وهذا اختيار الشيخ ، ولنوردْ كلامه ليظهرَ
فإنَّه كلامٌ حسن قال : « فنقول : الذي نختاره : أنها باقية على حكمها في التعدِّي
إلى اثنين ، فالأول منصوب والثاني لم نجده بالاستقراء إلا جلمة استفهامية أو قسمية
.
فإذا تقرَّر هذا فنقول : المفعول الأول في هذه الآية محذوف ،
والمسألة من باب التنازع ، تنازع « أرأيتكم » والشرط على « عذاب الله » ، فأعمل
الثاني وهو « أتاكم » فارتفع « عذاب » به ، ولو أعمل الأول لكان التركيب : « عذاب
» بالنصب ، ونظير ذلك : « اضرب إنْ جاءك زيد » على إعمال « جاءك » ولو نصب لجاز ،
وكان من إعمال الأول . وأمَّا المفعول الثاني فهو الجملة من الاستفهام : « أغيرَ
الله تَدْعُون » والرابط لهذه الجملة بالمفعول الأول المحذوف محذوف تقديره : أغيرَ
الله تَدْعُنن لكَشْفِه ، والمعنى : قل أرأيتكم عذابَ الله إنْ أتاكم - أو الساعة
إن أتتكم - أغيرَ الله تَدْعُون لكشفه أو لكشف نوازلها « انتها . والتقدير
الإِعرابيُّ الذي ذكره يحتاج إلى بعض إيضاح ، وتقديره : قل أرأيتَكموه أو أرأيتَكم
إياه إن أتاكم عذاب الله ، فلذلك الضمير هو ضمير العذاب لمَّا عمل الثاني في ظاهره
أُعطي المُلْغَى ضميرَه ، وإذا أُضْمِرَ في الأول حُذِف ما لم يكن مرفوعاً أو
خبراً في الأصل ، وهذا الضمير ليس مرفوعاً ولا خبراً في الأصل ، فلأجل ذلك حُذِف
ولا يَثْبُتُ إلا ضرورةً .
وأمَّا جوابُ الشرط ففيه خمسةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه محذوفٌ ، فقدَّره الزمخشري :
» إن أتاكم عذابُ الله مَنْ تدعون « قال الشيخ : » وإصلاحُه أن يقول : « فَمَنْ
تدعون » بالفاء ، لأن جوابَ الشرطِ إذا وقع جملةً استفهاميةً فلا بتد فيه من الفاء
. الثاني : أنه « أرأيتكم » ، قاله الحوفي ، وهو فاسِدٌ لوجهين ، أحدهما : أن
جوابَ الشرط لا يتقدَّمُ عند جمهور البصريين ، إنما جوَّزَه الكوفيون وأبو زيدٍ
والمبردُ والثاني : أن الجملةَ المصدَّرَةَ بالهمزة لا تقع جواباً للشرط البتة ،
إنما يقع من الاستفهام ما كان ب « هل » أو اسمٍ من أسماء الاستفهام ، وإنما لم تقع
الجملة المصدرة بالهمزة جوباً لأنه لا يخلو : أن تأتي معها بالفاء أو لا تأتي بها
، لا جائز أن لا تأتي بها؛ لأنَّ كلَّ ما لا يَصْلح شرطاً يجب اقترانه بالفاء إذا
وقع جواباً ، ولا جائز أن تأتي بها لأنك : إمَّا أن تأتي بها قبل الهمزة نحو : إن
قمت فأزيد منطلق « ، أو بعدها نحو : » أفزيد منطلق « ، وكلاهما ممتنعٌ ، أمَّا
الأول فلتصدُّر الفاء على الهمزة ، وأما الثاني فلأنه يؤدي إلى عدم الجواب بالفاء
في موضع كان يجب فيه الإِتيانُ بها ، وهذا بخلاف » هل « فإنك تأتي بالفاء قبلها
فتقول : إن قمت فهل زيد قائم ، لأنه ليس لها تامُ التصدير الذي تستحقُّه الهمزةُ ،
ولذلك تَصَدَّرَتْ على بعضِ حروف العطف وقد تقدَّم مشروحاً غير مرة .
الثالث : أنه » أغير الله « وهو ظاهر عبارة الزمخشري فإنه قال : » ويجوز أن
يتعلَّق الشرطُ بقولِه : { أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ } كأنه قيل : أغير الله
تَدْعُون إن أتاكم عذاب الله « قال الشيخ : » ولا يجوز أن يتعلَّق الشرط بقوله : «
أغير الله »؛ لأنه لو تعلَّق به لكان جواباً له ، لكنه لا يقع جواباً؛ لأنَّ جواب
الشرط إذا كان استفهاماً بالحرف لا يقع إلا ب « هل » وذَكَر ما قدَّمْتُه إلى آخره
، وعزاه الأخفش عن العرب ثم قال : « ولا يجوز أيضاً من وجه آخر ، لأنَّا قد
قَرَّرْنا أنَّ » أرأيتك « متعدِّية إلى اثنين ، أحدهما في هذه الاية محذوفٌ ،
وأنه من باب التنازع ، والآخر وقعت الجملة الاستفهامية موقعَة ، فلو جَعَلْتها
جواب الشرط لبقيَتْ » أرأيتَكم « متعدية إلى واحد وذلك لا يجوز » قلت : وهذا لا
يلزم الزمخشري فإنه لا يرتضى ما قاله من الإِعراب المشار إليه .
قوله « يلزم تعدِّيها لواحد » قلنا : لا نسلِّم بل يتعدَّى لاثنين
محذوفين ثانيهما جملة استفهام ، كما قدَّره غيرُه : بأرأيتكم عبادتَكم هل تنفعكم ،
ثم قال : « وأيضاً التزامُ العرب في الشرط الجائي بعد » أرأيت « مُضِيَّ الفعل
دليلٌ على أن جواب الشرط محذوف ، لأنه لا يُحْذَفُ جوابُ الشرط إلا عند مُضِيِّ
فِعْلِه ، قال تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ الله } [
الأنعام : 47 ] { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله } [ الأنعام : 46 ] { قُلْ
أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله } [ القصص : 71 ] { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ
الله } [ القصص : 72 ] { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ } [ يونس :
50 ] { أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ } [ الشعراء : 205 ] {
أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وتولى } [ العلق : 13 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقال
الشاعر :
1920- أَرَيْتَ إنْ جاءت به أمْلودا ... وأيضاً مجيءُ الجملة الاستفهامية
مُصَدَّرةً بهمزة الاستفهام دليل على أنها ليست جوابَ الشرط ، إذ لا يَصحُّ
وقوعُها جواباً للشرط » . انتهى .
ولما جَوَّزَ الزمخشري أن الشرطَ متعلِّقٌ بقوله : { أغير الله } سأل سؤالاً
وأجابَ عنه ، قال : « فإنْ قلت : إنْ عَلَّقْتَ الشرطَ بِه فما تصنعُ بقوله : »
فيكشِفُ ما تَدْعُون إليه « مع قوله : { أَوْ أَتَتْكُمْ الساعة } وقوارع الساعة
لا تكشف عن المشركين؟ قلت : قد اشترط في الكشفِ المشيئةَ وهو قوله » إنْ شاء «
إيذاناً بأنه إنْ فَعَلَ كان له وجهٌ من الحكمة ، إلا أنه لا يَفْعلُ لوجهٍ آخرَ
من الحكمةِ أرجحَ منه » قال الشيخ : « وهذا مبنيٌّ على أن الشرط متعلقٌ ب » أغير
الله « . وقد استَدْلَلْنا على أنه لا يجوز » قلت : تَرَك الشيخُ التبنيهَ على
ماهو أهمُّ من ذلك وهو قوله : « إلا أنه لا يفعل لوجهٍ آخر من الحكمة أرجحَ منه »
وهذا أصل فاسد من أصول المعتزلة يزعمون أن أفعاله تعالى تابعةٌ لمصالحَ وحِكمٍ
يترجَّح مع بعضها الفعلُ ومع بعضها التركُ ، ومع بعضها يجب الفعل أو الترك ، تعالى
الله عن ذلك بل أفعاله لا تُعَلَّلُ بغرضٍ من الأغراض ، لا يُسأل عما يَفعل ،
وموضوع هذه المسألةِ غيرُ هذا الموضوع ، ولكني نبَّهْتُك علهيا إجمالاً .
الرابع : أنَّ جواب الشرط محذوف تقديره : إن أتاكم عذابُ الله أو
أَتَتْكم الساعةُ دَعَوْتم ، ودَلَّ عليه قوله : { أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ }
الخامس : أن محذوف أيضاً ، ولكنه مقدَّرٌ من جنس ما تقدَّم في المعنى ، تقديرُه :
إنْ أتاكم عذاب الله أو أَتَتْكم الساعة فأخبروني عنه أَتَدْعُون غير الله لكشفِه
كما تقول : « أخبرني عن زيدٍ إن جاءك ما تصنعُ به » أي : إن جاءَك فأخبرني عنه ،
فحُذِفَ الجوابُ لدلالة « أخبرني » عليه ، ونظيرُه : أنت ظالمُ إن فعلت ، أي :
فأنت ظالم ، فحذف « فأنت ظالمٌ » لدلالةِ ما تقدَّم عليه . وهذا ما اختاره الشيخ .
قال : « وهو جارٍ على قواعد العربية » وادَّعى أنه لم يَرَه لغيره .
قوله : { أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ } « غيرَ » مفعول مقدم ل « تَدْعون » وتقديمُه :
إمَّا للاختصاص كما قال الزمشخري : « بَكَّتهم بقوله : أغير الله تَدْعُون ، بمعنى
، أَتَخُصُّون آلهتَكم بالدعوة فيما هو عادتكم إذا أصابكم ضرٌّ أم تدعون اللَّهَ
دونها ، وإمَّا للإِنكارِ عليهم في دعائهم للأصنام؛ لأن المُنْكَرَ إنما هو دعاءُ
الأصنامِ لا نفسُ الدعاء ، ألا ترى أنك إذا قلت » أزيداً تضربُ « إنما تُنْكِرُ
كونَ » زيد « مَحَلاً للضرب ولا تُنْكر نفسَ الضرب ، وهذا من قاعدةٍ بيانية
قَدَّمْتُ التنبيهَ عليها عند قوله تعالى : { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني } [
المائدة : 116 ] .
قوله : { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } جوابُه محذوف لدلالة الكلام عليه وكذلك معمولُ
» صادقين « والتقدير : إن كنتم صادقين في دعواكم أنَّ غيرَ الله إلهٌ فهل
تَدْعُونه لكشْف ما يَحُلُّ بكم من العذاب؟
بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41)
قوله تعالى : { بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ } : « بل » حرفُ إضرابٍ وانتقال
لا إبطالٍ ، لِما عَرَفْتَ غيرَ مرة من أنها في كلام الله كذلك . و « إياه » مفعول
مقدَّم للاختصاص عند الزمخشري ، ولذلك قال : « بل تَخُصُّونه بالدعاء ، وعند غيره
للاعتناء ، وإن كان ثَمَّ حَصْرٌ واختصاص فِمِنْ قرينة أخرى . » وإياه « ضمير
منصوب منفصل تقدَّم الكلامُ عليه مشبعاً في الفاتحة وقال ابن عطية : » هنا « إيَّا
» اسم مضمر أُجري مُجرى المظهرات في أنه مضاف أبداً « قال الشيخ : » وهذا خلافُ
مذهبِ سيبويه ، فإنَّ مذهب سيبويه أن ما بعد « إيَّا » حرفٌ يُبَيِّن أحوال الضمير
، وليس مضافاً لما بعده ، لئلاَّ يلزمَ تعريفُ الإِضافةِ ، وذلك يستدعي تنكيره ،
والضمائر لا تَقْبَلُ التنكير فلا تقبل الإِضافة .
قوله : { مَا تَدْعُونَ } يجوز في « ما » أربعةُ أوجه ، أظهرها : أنها موصولة
بمعنى الذي أي : فتكشف الذي تَدْعون ، والعائد محذوف لاستكمال الشروط أي :
تَدْعونه . الثاني : أنها ظرفية ، قال ابن عطية . وعلى هذا فيكون مفعول « يكشفُ »
محذوفاً تقديره : فيكشف العذاب مدةَ دعائكم أي : ما دُمْتُمْ داعِيه .
قال الشيخ : « وهذا ما لا حاجةَ إليه مع أنَّ فيه وَصْلَها بمضارعٍ ، وهو قليلٌ
جداً تقولُ : » لا أُكَلِّمك ما طلَعت الشمس « ويضعف : ما تطلع الشمس » قلت : قوله
بمضارع « كان ينبغي أن يقول مثبت؛ لأنه متى كان منفياً ب » لم « كَثُر وَصْلُها به
نحو قوله :
1921- ولَنْ يَلْبَثَ الجُهَّالُ أن يَتَهَضَّموا ... أخا الحلم ما لم يَسْتَعِنْ
بجَهول
ومِنْ وَصْلها بمضارعٍ مثبت قولُه :
1922- أُطَوِّفُ ما أُطَوِّفُ ثم آوي ... إلى أمَّا ويَرْويني النقيعُ
وقول الآخر :
1923- أُطَوِّفُ ما أُطّوِّفُ ثم أوي ... إلى بيتٍ قعيدَتُهُ لَكاعِ
ف » أُطَوِّفُ « صلةُ ل » ما « الظرفية .
الثالث : أنها نكرة موصوفة ذكره أبو البقاء ، والعائد أيضاً محذوف أي : فيكشفُ شيئاً
تَدْعونه أي : تَدْعون كَشْفَه ، والحذفُ من الصفةِ أقلُّ منه من الصلة . الرابع :
أنها مصدرية ، قال ابن عطية : » ويَصِحُّ أن تكون مصدرية على حذف في الكلام « قال
الزجاج : » وهو مثل : { وَسْئَلِ القرية } [ يوسف : 82 ] . قلت : والتقدير : فيكشف
سبب دعائكم وموجبه قال الشيخ « وهذه دعوى محذوف غيرِ معين وهو خلاف الظاهر » وقال
أبو البقاء : « وليست مصدرية إلا أَنْ تجعلَها مصدراً بمعنى المفعول » يعني يصير
تقديره : فيكشف مَدْعُوَّكم أي : الذي تَدْعُون لأجله ، وهو الضُّرُّ ونحوه .
قوله : { إِلَيْهِ } فيما يتعلق به وجهان ، أحدهما : أن يتعلق ب « تَدْعون » ،
والضمير حينئذ يعود على « ما » الموصولة أي : الذي تدعون إلى كَشْفِه ، و « دعا »
بالنسبة إلى متعلِّق الدعاء يتعدى ب « إلى » أو اللام .
قال تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله } [
فصلت : 33 ] { وَإِذَا دعوا إِلَى الله } [ النور : 48 ] وقال :
1924- وإن أُدْعَ للجُلَّى أكنْ مِنْ حُماتها ... . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . .
وقال :
1925- وإنْ دَعَوْتِ إلى جُلَّى ومَكْرُمَةٍ ... يوماً سَراةَ كرامِ الناس
فادْعِينا
وقال :
1926- دعوتُ لِما نابني مِسْوَراً ... فَلَبِّيْ فَلَبَّيْ يَدَيْ مِسْوَرِ
والثاني : أن يتلعَّق ب « يَكْشِفُ » قال أبو البقاء : « أي : يرفعه إليه » انتهى
. والضميرُ على هذا عائد على الله تعالى ، وذكر ابو البقاء وجهَي التعلق ولم
يَتَعرَّضْ للضمير وقد عَرَفْتَه . وقال ابن عطية : « والضمير في » إليه « يُحتمل
أن يعودَ إلى الله بتقدير : فيكشف ما تدعون فيه إليه » قال الشيخ : « وهذا ليس
بجيد؛ لأنَّ » دعا « يتعدى لمفعول به دون حرف جر : { ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [
غافر : 60 ] { إِذَا دَعَانِ } [ البقرة : 186 ] ومن كلام العرب : » دعوتُ الله
سميعاً « قلت : ومثلُه : { قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن أَيّاً مَّا
تَدْعُواْ } [ الإِسراء : 110 ] { ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً } [ الأعراف : 55 ]
قال : ولا تقول بهذا المعنى : » دعوت إلى الله « بمعنى : دعوت الله ، إلا أنه يمكن
أن يُصَحَّح كلامُه بمعنى التضمين ، ضمَّن » تدعون « معنى » تلجَؤون فيه إلى الله
« إلا أنَّ التضمين ليس بقياس ، لا يُصارُ إليه إلا عند الضرورة ، ولا ضرورةَ تدعو
إليه هنا » .
قلت : ليس التضمين مقصوراً على الضرورة ، وهو في القرآن أكثر من أن يُحْصَر ،
تقدَّم لك منه جملةٌ صالحة ، وسيأتي لك إن شاء الله مثلُها ، على أنه قد يقال
تجويزُ أبي محمد عَوْدَ الضمير إلى الله تعالى محمولٌ على أن « إليه » متعلق بيكشف
، كما تقدَّم نَقْلُه عن أبي البقاء وأن معناه « يرفعه » فلا يلزم المحذورُ
المذكور ، لولا أنه يُعَكِّر عليه تقديرُه بقوله « تدعون فيه إليه » فتقديره « فيه
» ظاهره أنه يزعمُ تعلُّقَه ب « تَدْعُون » .
قوله : { إِنْ شَآءَ } جوابه محذوف لفهم المعنى ، ودلالة ما قبله عليه ، أي : إنْ
شاء أن يكشِفَ كشف ، وادِّعاءُ تقديمِ جواب الشرط هنا واضحٌ لاقترانه بالفاء ، فهو
أحسنُ مِنْ قوله : « أنت ظالم إن فعلت » لكن يمنع مِنْ كونها جواباً هنا أنها
سببيَّةٌ مرتبة أي : أنها أفادَتْ ترتُّبَ الكشفِ على الدعاء ، وأن الدعاءَ سببٌ
فيه ، على أن لنا خلافاً في فاء الجزاء : هل تفي السببيَّة أو لا؟
قوله : { وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ } الظاهر في « ما » أن تكون موصولةً اسمية ،
والمرادُ بها ما عُبِد مِنْ دون الله مطلقاً : العقلاءُ وغيرُهم ، إلا أنه غَلَّب
غيرَ العقلاء عليهم كقوله : { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السموات } [ النحل : 49
] والعائدُ محذوفٌ أي ما تُشْركونه مع الله في العبادة . وقال الفارسي : « الأصلُ
: وتَنْسَون دعاءَ ما تشركون ، فحذف المضاف » ويجوز أن تكونَ مصدريةً ، وحينئذ لا
تحتاج إلى عائد عند الجمهور . ثم هل هذا المصدر باق على حقيقته؟ أي : تَنْسَون
الإِشراكَ نفسَه لِما يلحقُكم من الدَّهْشَة والحَيْرة ، أو هو واقعٌ موقعَ
المعفول به ، أي : وتنسَوْن المُشْرَك به وهي الأصنام وغيرها ، وعلى هذا فمعناه
كالأول وحينئذٍ يحتمل السياقُ أن يكون على بابه من الغفلة ، وأن يكون بمعنى الترك
، وإن كانوا ذاكرين لها أي للأصنام وغيرها .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42)
وقوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إلى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ } : في الكلام حَذْفٌ تقديره : أَرْسَلْنا رسلاً إلى أمم فكذَّبوا فأخذناهم ، وهذا الحذفُ ظاهرٌ جداً ، و « مِنْ قبلك » متعلِّق بأَرْسلنا ، وفي جعله صفةً لأمم كلامٌ تقدَّم غير مرة ، وتقدَّم تفسيرُ البأساء والضرَّاء ، ولم يُلْفَظْ لهما بمذكَّر على أَفْعَل .
فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43)
قوله تعالى : { فلولا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ } : «
إذ » منصوب ب « تَضرَّعوا » فَصَلَ به بين حرف التحضيض وما دخل عليه ، وهو جائز
حتى في المفعول به ، تقول : « لولا زيداً ضَرَبْتَ » وتقدَّم أن حرف التحضيض مع
الماضي يكون معناه التوبيخ .
والتضرُّع : تفعُّل من الضَّراعة ، وهي الذِّلَّة والهيئة المسبِّبة عن الانقياد
إلى الطاعة يقال : ضَرَع يَضْرَعُ ضَراعة فهو ضارعٌ وضَرِع قال :
1927- لِيُبْكَ يزيدُ ضارعٌ لخصومَةٍ ... ومختبطٌ ممَّا تُطيح الطوائِحُ
وللسهولة والتذلُّل المفهومة من هذه المادة اشتقُّوا منها للثدي اسماً فقالوا له «
ضَرْعاً »
قوله : { ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ } « لكنْ » هنا واقعة بين ضدين ، وهما اللين
والقسوة؛ وذلك أن قولَه « تَضَرَّعوا » مُشْعِرٌ باللين والسهولة ، وكذلك إذا
جَعَلْتَ الضراعةَ عبارة عن الإِيمان ، والقسوة عبارة عن الكفر ، وعَبَّرت عن السبب
بالمسبِّب وعن المسبِّب بالسبب ، ألا ترى أنك تقول : « آمَنَ قلبُه فتضرَّع ، وقسا
قلبه فكفر » وهذا أحسن من قول أبي البقاء : « ولكن » استدراك على المعنى ، أي ما
تضرَّعوا ولكن « يعني أن التحضيض في معنى النفي ، وقد يترجَّح هذا بما قاله
الزمخشري فإنه قال : » معناه نَفْيُ التضرُّعِ كأنه قيل : لم يتضرعوا إذ جاءهم
بأْسُنا ، ولكنه جاء ب « لولا » ليفيد أنه لم يكنْ لهم عذرٌ في ترْك التضرُّع إلا
قسوةُ قلوبِهم وإعجابُهم بأعمالهم التي زيَّنها الشيطان لهم « .
قوله : { وَزَيَّنَ لَهُمُ } هذه الجملة تحتمل وجهين ، أحدهما : أن تكون استنافيةً
، أخبر تعالى عنهم بذلك . » والثاني : وهو الظاهر - : أنها داخلةٌ في حَيِّز
الاستدارك فهي نسقٌ على قوله : { قَسَتْ قُلُوبُهُمْ } وهذا رأيُ الزمخشري فإنه
قال : « لم يكن لهم عُذْرٌ في ترك التضرع إلا قسوةُ قلوبهم وإعجابُهم بأعمالهم »
وقد تقدَّم ذلك . و « ما » في قوله : { مَا كَانُواّ } يحتمل أن تكونَ موصولةً
اسمية أي : الذي كانوا يعملونه وأن تكونَ مصدرية ، أي : زَيَّن لهم عملَهم ، كقوله
: { زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ } [ النمل : 4 ] ويَبْعُد جَعْلُها نكرةً
موصوفة .
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)
قوله تعالى : { فَتَحْنَا } : قرأ الجمهور « فَتَحْنا » مخفَّفاً ،
وابن عامر « فتَّحنا » مثقلاً ، والتثقيلُ مُؤْذِنٌ بالتكثير؛ لأنَّ بعده « أبواب
» فناسب التكثير ، والتخفيف هو الأصل . وقرأ ابنُ عامر أيضاً في الأعراف : {
لَفَتَحْنَا } [ الآية : 96 ] وفي القمر : { فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ } [ الآية : 11
] بالتشديد أيضاً ، وشدَّد أيضاً { فُتِحَتْ يَأْجُوجُ } [ الأنبياء : 96 ]
والخلاف أيضاً في { فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } [ الآيتين : 71 ، 73 ] في الزمر في
الموضعين ، { وَفُتِحَتِ السمآء } [ الآية : 19 ] في النبأ ، فإن الجماعة وافقوا
ابن عامر على تشديدها ، ولم يَقْرَأْها بالتخفيف إلا الكوفيون ، فقد جرى ابن عامر
على نمطٍ واحد في هذا الفعل ، والباقون شدَّدوا في المواضع الثلاثة المشارِ إليها
، وخفَّفوا في الباقي جَمْعاً بين اللغتين .
قوله : { فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ } « إذا » هي الفجائية وفيها ثلاثة مذاهب مذهب
سيبويه أنها ظرف مكان ، ومذهب جماعة منهم والرياشي أنها ظرفُ زمانٍ ، ومذهب
الكوفيين أنها حرف . فعلى تقدير كونها ظرفاً مكاناً أو زماناً الناصبُ لها خبر
المبتدأ ، أي أُبْلِسوا في مكان إقامتهم أو في زمانها .
والإِبلاسُ : الإِطراق ، وقيل : هو الحُزْن المعترض من شدة البأس ، ومنه اشْتُقَّ
« إبليس » وقد تقدَّم في موضعه وأنه هل هو أعجمي أم لا؟
قوله : { فَقُطِعَ دَابِرُ } الجمهور على « فَقُطِع » مبنيّاً للمفعول . « دابر »
مرفوع به . وقرأ عكرمة : « قطع » مبنياً للفاعل وهو الله تعالى ، « دابر » مفعول
به ، وفيه التفاتٌ ، إذ هو خروج من تكلم في قوله : « أخذناهم » إلى غيبة .
والدابِرُ : التابع من خلف ، يقال : دَبَر الولدُ والدَه ، ودَبَر فلان القوم
يَدْبُرُهم دُبُوراً ودَبْراً . وقيل : الدابِر : الأصل ، يقال : قطع الله دابِرَه
أي : أصله ، قال الأصمعي . وقال أبو عبيد : « دابرُ القوم آخرُهم » ، وأنشدوا
لأميَّة بن ابي الصلت :
1928- فاستُؤْصِلوا بعذابٍ حَصَّ دابِرَهُمْ ... فما استطاعوا له صَرْفاً ولا
انتصروا
ومنه : دَبَر السهمُ الهدفَ أي : سقَط خلفَه .
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46)
قوله تعالى : { أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله } : المفعول الأول
محذوف تقديره : أرأيتم سَمْعَكم وأبصاركم إن أخذها الله ، والجملة الاستفهامية في
موضع الثاني ، وقد تقدم أنَّ الشيخ يجعلُه من التنازع ، وجواب الشرط محذوف على نحو
ما مرَّ . وقال الحوفي : « وحرفُ الشرط وما اتصل به في موضع نصبٍ على الحال ،
والعالمُ في الحال » أرأيتم « كقولك : » اضربه إن خرج « أي خارجاً ، وجواب الشرط
ما تقدَّم مِمَّا دخلَتْ عليه همزة الاستفهام » وهذا إعرابٌ لا يَظْهر . ولم
يُؤْتَ هنا بكاف الخطاب وأُتي به هناك؛ لأنَّ التهديدَ هناك أعظم فناسب التأكيد
بالإِتيان بكاف الخطاب ، ولمَّا لم يُؤْتَ بالكافِ وجب بروزُ علامةِ الجمع في
التاء لئلا يلتبسَ ، ولو جيء معها بالكاف لا ستُغْنِي بها كما تقدَّم ، وتوحيد
السمع وجَمْعُ الأبصارِ مفهومٌ ممَّا تقدَّم في البقرة .
قوله : { مَّنْ إله } مبتدأ وخبر ، و « مَنْ » استفهامية ، « وغيرُ الله » صفةٌ ب
« إلهٌ » و « يأتيكم » صفةٌ ثانية ، والهاء في « به » على سمعكم . وقيل : تعود على
الجميع . وَوُحِّد ذهاباً به مذهب اسم الإِشارة وقيل : تعود على الهَدْي المدلول
عليه بالمعنى . وقيل : يَعودُ على المأخوذ والمختوم المدلول عليهما بالأَخْذ
والخَتْم . والاستفهام هنا للإِنكار .
قوله : { انظر كَيْفَ نُصَرِّفُ } « كيف » معمولةٌ لنصرِّف ، ونصبُها : إمَّا على
التشبيه بالحال أو التشبيه بالظرف ، وهي مُعَلِّقةٌ ل « انظر » فهي في محل نصب
بإسقاط حرف الجر ، وهذا كله ظاهر مِمَّا تقدم . « ويَصْدِفون » معناه يُعْرِضُون ،
يقال : صَدَف عن الشيء صَدْفاً وصُدُوفاً وصدافِيَةً قال عدي بن الرقاع :
1929- إذا ذكرْنَ حديثاً قُلْنَ أحسنَه ... وهُنَّ عن كل سوءٍ يُتَّقى صُدُفُ
« صُدُف » جمع صَدُوف ك صُبُر في جمع صبور ، وقيل : معنى صدف : مالَ ، مأخوذ من
الصَّدَف في البعير وهو أن يَميل خِفُّه من اليد إلى الرِّجْل من الجانب الوحشي .
والصَّدَف جمع صَدَفة وهي المَحارة التي تكون فيها الدُّرَّة قال :
1930- وزادَها عَجَباً أَنْ رُحْتُ في سُبُلٍ ... وما دَرَتْ دَوَرَان الدُّرِّ في
الصَّدَفِ
والصَّدَف والصُّدُف بفتح الصاد والدال وضمهما ، وضم الصاد وسكون الدال ناحية
الجبل المرتفع ، وسيأتي لهذا مزيدُ بيان .
والجمهور : « به انظر » بكسر الهاءِ على الاصل ، وروى المُسَيِّبي عن نافع : « بهُ
انظر » بضمها نظراً إلى الأصل : وقرأ الجمهور أيضاً : { نُصَرِّف } مضعَّفاً ،
وقُرِئ شاذاً : « نَصْرِف » بكسر الراء من صرف ثلاثياً .
قوله : { هَلْ يُهْلَكُ } هذا استفهامٌ بمعنى النفي؛ ولذلك دخلت « إلاَّ » ، وهو
استثناءٌ مفرَّغٌ ، والتقدير : ما يُهْلك إلا القوم الظالمون . وهذه الجملة الاستفهامية
في موضع المفعول الثاني ل « أرأيتكم » والأولُ محذوفٌ ، وهذا من التنازع على رأي
الشيخ كما تقدَّم تقريره . وقال أبو البقاء : « الاستفهامُ ههنا بمعنى التقرير ،
فلذلك ناب عن جواب الشرط أي : إن أتاكمْ هَلَكْتم ، والظاهرُ ما قَدَّمْتُه ،
ويجيء هنا قول الحوفي المتقدم في الآية قبلها من كون الشرط حالاً . وقرأ ابن محيصن
: { هل يَهْلَكُ } مبنياً للفاعل . وتَقَدَّم الكلام أيضاً على » بَغْتة «
اشتقاقاً وإعراباً » .
وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48)
قوله تعالى : { إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ } : حال من «
المرسلين » وفي هذه الحال معنى الغَلَبة أي : لم نُرْسِلْهم لأن تُقْتَرَحَ عليهم
الآيات ، بل لأن يُبَشِّروا ويُنْذِرُوا . وقرأ إبراهيم ويحيى : « مُبْشِرين »
بالتخفيف وقد تقدَّم أن « أَبْشَر » لغةٌ في « بَشَّر » .
قوله : { فَمَنْ آمَنَ } يجوز في « مَنْ » أن تكون شرطية ، وأن تكونَ موصولةً ،
وعلى كلا التقديرين فمحلُّها رفعٌ بالابتداء والخبر : « فلا خوف » : فإن كانت
شرطية فالفاء جواب الشرط ، وإن كانت موصولة فالفاء زائدة لشبه الموصول بالشرط ،
وعلى الأول يكون محلُّ الجملتين الجزمَ ، وعلى الثاني لا محلَّ للأولى ، ومحلُّ
الثانية الرفع ، وحُمِل على اللفظ فأفردَ في « آمن » و « اصلَح » ، وعلى المعنى
فجمع في { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } ويُقَوِّي كونَها
موصولةً مقابلتُها بالموصول بعدها في قوله : { والذين كَذَّبوا } .
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49)
وقرأ علقمة : { نُمسُّهم } : بنونٍ مضمومة من « أَمَسَّه كذا » « العذابَ » نصباً ، والأعمش ويحيى بن وثاب : « يَفْسِقون » بكسر السين ، وقد تقدَّم أنها لغة . و « ما » مصدريةٌ على الأظهر ، أي : بفِسْقِهم .
قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)
قوله : { ولا أَعْلَمُ الغيب } في محلِّ هذه الجملة وجهان ، أحدهما : النصب عطفاً على قوله « عندي خزائنُ الله » لأنه من جملة المقول ، كأنه قال : لا أقول لكم هذا القولَ ولا هذا القولَ ، قاله الزمشخري ، وفيه نظرٌ من حيث إنه يؤدي إلى أنه يصير التقدير : ولا أقول لكم لا أَعْلَمُ الغيب ، وليس بصحيحٍ . والثاني : أنه معطوف على « لا أقول » لا معمولٌ له ، فهو أمَرَ أن يُخْبِرَ عن نفسه بهذه الجمل الثلاث فهي معمولة للأمر الذي هو « قل » ، وهذا تخريجُ الشيخ ، قال بعد أن حكى قول الزمخشري : « ولا يتعيَّنُ ما قاله ، بل الظاهرُ أنه معطوفٌ على » ألاَّ أقول « إلى آخره » .
وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)
قوله : { بالغداة } : قرأ الجمهور : « بالغداة » هنا وفي الكهف وابن
عامر : { بالغُدْوة } بضم الغين وسكون الدال وفتح الواو في الموضعين ، وهي قراءة
أبي عبد الرحمن السلمي والحسن البصري ومالك بن دينار وأبو رجاء العطاردي ونصر بن
عاصم الليثي . والأشهر في « الغُدْوة » أنها معرفة بالعلمية ، وهي علميَّة الجنس
كأسامة في الأشخاص ولذلك مُنِعت من الصرف قال الفراء : « سمعت أبا الجراح يقول :
ما رأيت كغدوة قط ، يريد : غداة يومه » قال : « ألا ترى أن العرب لا تضيفها ، فكذا
لا يدخلها الألف واللام ، إنما يقولون : جئتك غداة الخميس » وقال الفراء في كتاب «
المعاني » في سورة الكهف : « قرأ عبد الرحمن السلمي : { بالغُدْوَة والعَشِي } ولا
أعلم أحداً قرأ بها غيره ، والعرب لا تُدْخل الألف واللام في » الغدوة « لأنها
معرفة بغير ألف ولام » فذكره إلى آخره .
وقد طعن أبو عبيد القاسم بن سلام على هذه القراءة فقال : « إنما نرى ابن عامر
والسلمي قرآ تلك القراءة إتباعاً للخط ، وليس في إثبات الواو في الكتاب دليل على
القراءة بها ، لأنهم كتبوا الصلاة والزكاة بالواو ولفظُهما على تَرْكها ، وكذلك
الغداة ، على هذا وجدنا العرب » . وقال الفارسيُّ : « الوجه قراءة العامة بالغداة
، لأنها تستعمل نكرة ومعرفة بالام ، فأمَّا » غُدْوَة « فمعرفة وهو عَلَمٌ وُضِع
للتعريف ، وإذا كان كذلك فلا ينبغي أن تدخل عليه الألف واللام للتعريف ، كما لا
تَدْخُل على سائر الأعلام ، وإن كانت قد كُتِبَتْ بالواو لأنها لا تدلُّ على ذلك .
ألا ترى الصلاة والزكاة بالواو ولا تُقرآن بها ، فكذلك الغداة . قال سيبويه : »
غُدْوة وبُكْرة جُعِل كلُّ واحد منهما اسماً للحين ، كما جعلوا « أم حُبَيْن »
اسماً لدابَّةٍ معروفة « . إلا أنَّ هذا الطعنَ لا يُلتفت إليه ، وكيف يُظَنُّ
بمَنْ تَقَدَّم أنهم يَلْحنون ، والحسن البصري ممن يُسْتَشْهد بكلامِه فضلاً عن
قراءته ، نصر بن عاصم شيخ النحاة أخذ هذا العلمَ عن أبي الأسود ينبوعِ الصناعة ،
وابن عامر لا يَعْرف اللحن لأنه عربي ، وقرأ على عثمان بن عفان وغيره من الصحابة ،
ولكن أبا عبيد - رحمه الله - لم يعرف أن تنكير » غدوة « لغةُ ثانية عن العرب حكاها
سيبويه والخليل .
قال سيبويه : » زعم الخيل أنه يجوز أن تقول : « أَتيتُكَ اليوم غُدْوةً وبُكْرة »
فجعلها مثل ضَحْوة ، قال المهدوي : « حكى سيبويه والخليل أنَّ بعضَهم يُنَكِّر
فيقول » غُدْوةً « بالتنوين ، وبذلك قرأه ابن عامر ، كأنه جعله نكرة ، فأدخل عليها
الألف واللام » وقال أبو علي الفارسي : « وجه دخول الألف واللام عليها أنه يجوز
وإن كانت معرفةً أن تُنَكِّر ، كما حكى أبو زيد » لقيته فَيْنَةَ « غير مصروفة »
والفَيْنَةَ بعد الفينة « أي : الحين بعد الحين ، فألحق لام التعريف ما استعمل
معرفة ، ووجه ذلك أنه يُقَدَّر فيه التنكير والشيوع كما يُقَدَّر فيه ذلك إذا بني
» .
وقال أبو جعفر النحاس : « قرأ أبو عبد الرحمن ومالك بن دينار وابن
عامر : » بالغُدْوة « قال : » وباب غُدْوة أن يكون معرفة إلا أنه يجوز تنكيرها كما
تُنَكَّر الأسماءُ الأعلام ، فإذا نُكِّرَتْ دَخَلَتْها الألف واللام للتعريف «
وقال مكي بن أبي طالب : » إنما دَخَلَت الألف واللام على « غداة » لأنها نكرة ،
وأكثر العرب يَجْعل « غُدوة » معرفةً فلا ينوِّنها ، وكلهم يجعل « غداة » نكرةً
فينوِّنها ، ومنهم مَنْ يجعل « غُدْوة » نكرة وهم الأقل « فثبت بهذه النقولِ التي
ذكرْتُها عن هؤلاء الأئمةِ أن قراءة ابن عامر سالمةٌ من طعن أبي عبيد ، وكأنه -
رحمه الله - لم يحفظها لغةً .
وأما » العَشِيُّ « فنكرةٌ وكذلك » عَشِيَّة « وهل العَشِيُّ مرادِفٌ لعِشِيَّة؟
أي : إن هذا اللفظَ فيه لغتان : التذكير والتأنيث أو أن عَشِيّاً جمعُ عَشِيَّة في
المعنى على حدِّ قمح وقمحة وشعير وشعيرة ، فيكون اسم جنس ، خلاف مشهور ، والظاهر
الأول لقوله تعالى : { إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بالعشي الصافنات } [ ص : 31 ] ، إذ
المرادُ هنا عشيَّة واحدة ، واتفقت مصاحف الأمصار على رسم هذه اللفظة » الغدوة «
بالواو وقد تقدَّم لك أن قراءة ابن عامر ليست مستندة إلى مجرد الرسم بل إلى النقل
، وثَمَّ ألفاظ اتُّفِقَ ايضاً على رسمها بالواو ، واتُّفق على قراءتها بالألف وهي
: الصلاة والزكاة ومَنَاة ومِشْكاة والربا والنجاة والحياة ، وحرفٌ اتٌّفِق على
رسمه بالواو واختلف في قراءة بالألف والواو وهو » الغداة « . وأصل غداة : غَدَوَة
، تحرَّكَت الواو وانفتح ما قبلها فقُلِبَتْ ألفاً . وقرأ ابن أبي عبلة »
بالغَدَوات والعَشِيَّات « جمع غداة وعشية ، ورُوي عن أبي عبد الرحمن أيضاً »
بالغدوِّ « بتشديد الواو من غير هاء .
قوله : { يُرِيدُونَ } هذه الجملةُ في محلِّ نصب على الحال من فاعل » يَدْعون « أو
مِنْ مفعلوله ، والأول هو الصحيح ، وفي الكلام حَذْفٌ أي : يريدون بدعائهم في هذين
الوقتين وجهَه .
قوله : { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ } » ما « هذه يجوز أن تكونَ
الحجازيةَ الناصبة للخبر فيكون » عليك « في محل النصب على أنه خبرها ، عند مَنْ
يُجَوِّزُ إعمالَها في الخبر المقدَّم إذا كان ظرفاً أو حرف جر ، وأمَّا إذا كانت
تميميةً أو متعيَّناً إهمالُه في الخبر المقدم مطلقاً كان » عليك « في محل رفع
خبراً مقدماً ، والمبتدأ هو » مِنْ شيء « زِيْدت فيه » مِنْ « .
وقوله : { مِنْ حِسَابِهِم } قالوا : « مِنْ » بتعيضية وهي في محلِّ
نصب على الحال ، وصاحبُ الحال هو « مِنْ شيء » لأنها لو تأخرت عنه لكانت صفةً له ،
وصفةُ النكرة متى قُدِّمَتْ انتصبت على الحال ، فعلى هذا تتعلَّق بمحذوفٍ ،
والعامل في الحال الاستقرار في « عليك » ، ويجوز أن يكون « من شيء » في محلِّ رفعٍ
بالفاعلية ورافعُه « عليك » لاعتماده على النفي ، و « مِنْ حسابهم » حالٌ أيضاً من
« شيء » العمل فيها الاستقرار ، والتقدير : ما استقرَّ عليك شيء من حسابهم .
وأُجيز أن يكون « من حسابهم » هو الخبر : إمَّا ل « ما » وإمَّا للمبتدأ ، « وعليك
» حال من « شيء » ، والعامل فيها الاستقرار ، وعلى هذا فيجوز أن يكون « من حسابهم
» هو الرافع للفاعل على ذاك الوجه ، و « عليك » حال أيضاً كما تقدم تقريره ، وكون
« من حسابهم » هو الخبر ، و « عليك » هو الحال غيرُ واضح لأنَّ مَحَطَّ الفائدة
إنما هو « عليك » .
وقوله : { وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ } كالذي قبله ، إلا أنَّ
هنا يمتنع بعض ما كان جائزاً هناك ، وذلك أن قوله « من حسابك » لا يجوز أن
يُنْصَبَ على الحال لأنه يلزمُ تقدُّمه على عامله المعنوي ، وهو ضعيفٌ أو ممتنع ،
لا سيما وقد تقدَّمَتْ هنا على العامل فيها وعلى صاحبها ، وقد تقدَّم لك أن الحال
إذا كانت ظرفاً أو حرفَ جر كان تقديمُها على العامل المعنويِّ أحسنَ منه إذا لم
يكن كذلك ، فحينئذ لك أن تجعل قوله « مِنْ حسابك » بياناً لا حالاً ولا خبراً حتى
تخرجَ من هذا المحذورِ ، وكَوْنُ « مِنْ » هذه تبعيضيةً غيرُ ظاهر ، وقدَّم خطابَه
عليه السلام في الجملتين تشريفاً له ، ولو جاءت الجملة الثانية على نَمَط الأولى
لكان التركيب : « وما عليهم مِنْ حسابك من شيء » فتقدَّم المجرور ب « على » كما
قَدَّمه في الأولى ، لكنه عَدَل عن ذلك لما تقدم .
وفي هاتين الجملتين ما يُسَمِّيه أهل البديع : ردَّ الأعجاز على الصدور ، كقولهم :
« عادات السادات سادات العادات » ، ومثله في المعنى قول الشاعر :
1931- وليس الذي حَلَّلْتَه بمُحَلَّلٍ ... وليس الذي حَرَّمْتَه بمُحَرَّم
وقال الزمخشري : - بعد كلامٍ قَدَّمَه في معنى التفسير - « فإن قلت أما كفى قولُه
: { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ } حتى ضمَّ إليه { وَمَا مِنْ
حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيءٍ } قلت : قد جُعِلَتِ الجملتان بمنزلة جملة واحدة
وقُصِد بهما مُؤدَّىً واحدٌ وهو المَعْنِيُّ بقوله : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ
وِزْرَ أخرى } [ الأنعام : 164 ] ، ولا يَسْتَقِلُّ بهذا المعنى إلا الجملتان
جميعاً كأنه قيل : لا تُؤاخَدُ أنت ولا هم بحسابِ صاحبه » .
قال الشيخ : « قوله : لا تُؤاخَذُ أنت إلى آخره » تركيبٌ غير عربي ،
لا يجوزُ عَوْدُ الضمير هنا غائباً ولا مخاطباً ، لأنه إنْ عاد غائباً فلم
يتقدَّمْ له اسمٌ مفرد غائب يعود عليه ، إنما تقدَّم قوله « هم » ولا يمكن
العَوْدُ عليه على اعتقادِ الاستغناء بالمفرد عن الجمع ، لأنه يصير التركيب بحساب
صاحبهم ، وإنْ أُعيد مخاطباً فلم يتقدم مخاطب يعود عليه ، إنما تقدَّم قولُه « لا
تُؤاخذ أنت » ولا يمكن العَوْدُ إليه ، فإنه ضميرٌ مخاطب فلا يعودُ عليه غائباً ،
ولو أَبْرَزْته مخاطباً لم يَصِحَّ التركيب ايضاً ، فإصلاحُ التركيبِ أن يقال : «
لا يُؤاخذُ كلُّ واحدٍ منك ولا منهم بحسابِ صاحبه ، أو لا تؤاخذ أنت بحسابهم ولا
هم بحسابك ، أو لا تؤاخذ أنت ولا هم بحسابكم » فتُغَلِّب الخطابَ على الغيبة كما
تقول : « أنت وزيد تضربان » والذي يظهر أن كلامَ الزمخشري صحيحٌ ، ولكنْ فيه حذفٌ وتقديره
: لا يؤاخذ كل واحد : أنت ولا هم بحساب صاحبه ، وتكون « انت ولا هم » بدلاً من كل
واحد ، والضمير ، في « صاحبه » عائد على قوله « كل واحد » ، ثم إنه وقع في محذور
آخر مما أَصْلَحَ به كلام أبي القاسم ، وذلك أنه قال : « أولا تؤاخذ أنت ولا هم
بحسابكم » وهذا التركيبُ يُحتمل أن يكونَ المرادُ - بل هو الظاهر - نفيَ المؤاخذة
بحساب كل واحد بالنسبة إلى نفسه هو ، لا أن كلَّ واحد غير مؤاخذ بحساب غيره ،
والمعنى الثاني هو المقصود .
والضمائر الثلاثة ، أعني التي في قوله : { مِنْ حِسَابِهِم } و « عليهم » و «
فتطردهم » الظاهر عَوْدُها على نوعٍ واحد وهم الذين يَدْعُون ربهم ، وبه قال
الطبري ، إلا أنه فسَّر الحساب بالرزقِ الدنيويِّ . وقال الزمخشريّ وبان عطية : «
إن الضميرَيْن الأوَّلَيْن يعودان على المشركين ، والثالث يعود على الداعين » .
قال الشيخ : « وقيل : الضميرُ في » حسابهم « و » عليهم « عائد على المشركين وتكون
الجملتان اعتراضاً بين النهي وجوابه » ، وظاهر عبارته أن الجملتين لا تكونان
اعتراضاً إلا على اعتقاد كون الضميرين « في حسابهم » و « عليهم » عائدَيْن على
المشركين ، وليس الأمرُ كذلك ، بل هما اعتراضٌ بين النهي وهو « لا تَطْرُدِ » وبين
جوابِه وهو فتكونَ « وإن كانت الضمائر كلها للمؤمنين ، ويدل على ذلك أنه قال بعد
ذلك في » فتكون « : » وجوَّزوا أن يكون جواباً للنهي في قوله { وَلاَ تَطْرُدِ }
وتكون الجملتان وجوابُ الأول اعتراضاً بين النهي وجوابه « فجعلهما اعتراضاً مطلقاً
من غير نظر إلى الضميرين .
ويعني بالجملتين « وما عليك من حسابهم مِنْ شيء » و « ما من حسابك
عليهم من شيء » وبجواب الأول قوله { فَتَطْرُدَهُمْ } .
قوله تعالى : { فَتَطْرُدَهُمْ } فيه وجهان ، أحدهما : منصوب على جواب النهي بأحد
معنيين فقط ، وهو انتفاءُ الطَّرْدِ لانتفاء كون حسابهم عليه وحسابه عليهم ، لأنه
ينتفي المُسَبِّب بانتفاء سببه ، ويتوضَّح ذلك في مثال وهو « ما تأتينا فتحدِّثنا
» بنصب « فتحدِّثَنا » وهو يحتمل معنيين ، أحدُهما : انتفاءُ الإِتيان وانتفاء
الحديث ، كأنه قيل : ما يكون منك إتيانٌ فكيف يقع منك حديث؟ وهذا المعنى هو مقصود
الآية الكريمة أي : ما يكون مؤاخذةٌ كلِ واحدٍ بحساب صاحبه فيكف يقع طرد؟ والمعنى
الثاني : انتفاء الحديث وثبوت الإِتيان كأنه قيل : ما تأتينا مُحَدِّثاً بل تأتينا
غيرَ محدِّث . وهذا المعنى لا يليق بالآية الكريمة ، والعلماء - رحمهم الله - وإن أطلقوا
قولهم إنه منصوبٌ على جواب النفي ، فإنما يريدون المعنى الأول دون الثاني :
والثاني : أن يكون منصوباً على جواب النهي .
وأما قوله « فتكونَ » ففي نصبه وجهان ، أظهرهما : أنه منصوب عطفاً على « فتطردَهم
» والمعنى : الإِخبار بانتفاء حسابهم ، والطرد والظلم المسبب عن الطرد . قال
الزمخشري : « ويجوز أن تكون عطفاً على » فتطردَهم « على وجه السبب ، لأنَّ كونَه
ظالماً مُسَبِّبٌ عن طردهم » .
والثاني من وجهي النصب : أنه منصوب على جواب النهي في قوله : « ولا تَطْرد » ولم
يذكر مكي ولا الواحدي ولا أبو البقاء غيره . قال الشيخ : « وجوَّزوا أن يكون »
فتكونَ « جواباً للنهي في قوله » لا تَطْرِدِ « كقوله : { لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى
الله كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ } [ طه : 61 ] ، وتكون الجملتان وجوابُ
الأول اعتراضاً بين النهي وجوابه » قلت : قد تقدَّم أن كونَهما اعتراضاً لا يتوقف على
عَوْد الضميرين في قوله « مِنْ حسابهم » و « عليهم » على المشركين كما هو المفهوم
من قوله ههنا ، وإن كان كلامه قبل ذلك كما حَكَيْتُه عنه يُشْعر بذلك .
وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)
قوله تعالى : { وكذلك فَتَنَّا } : الكاف في محصل نصب على أنها نعت
لمصدر محذوف والتقدير : ومثل ذلك الفُتُون المتقدِّم الذي فُهم من سِياق أخبار
الأمم الماضية فَتَنَّا بعضَ هذه الأمةِ ببعض ، فالإِشارةُ بذلك إلى الفتون
المدلول عليه بقوله : { فَتَنَّا } ولذلك قال الزمخشري : « ومِثْل ذلك الفَتْن
العظيم فُتِن بعض الناس ببعض » فجعلَ الإِشارة لمصدر « فتنَّا » ، وانظر كيف لم
يتلفظ هو بإسناد الفتنة إلى الله تعالى في كلامه ، وإن كان الباري تعالى قد
أَسْندها ، بل قال : « فُتِن بعضُ الناس » فبناه للمفعول على قاعدة المعتزلة .
وجعل ابنُ عطية الإِشارةَ إلى طلب الطرد فإنه قال بعد كلام يتعلق بالتفسير : «
والإِشارة بذلك إلا ما ذُكِرَ مِنْ طلبهم أنْ يطرد الضعفة » . قال الشيخ : « ولا
ينتظم هذا التشبيه ، إذ يصير التقدير : مثل طلب الطرف فتنَّا بعضهم [ ببعض ] ،
والمتبادر إلى الذهن من قولك : » ضربْتُ مثل ذلك « المماثلةُ في الضرب ، أي : مثل
ذلك الضرب لا أن تقع المماثلة في غير الضرب ، وقد تقدم غير مرة أن سيبويه يجعل مثل
ذلك حالاً من ضمير المصدر المقدر .
قوله : { ليقولوا } في هذه اللام وجهان ، أظهرهما : - وعليه أكثر المعربين
والمفسِّرين - أنها لام كي ، والتقدير : ومثل ذلك الفُتُون فَتَنَّا ليقولوا هذه
المقالة ابتلاءً منا وامتحانا . والثاني : أنها لام الصيرورة أي العاقبة كقوله :
1932- لِدُوا للموتِ وابنُوا للخراب ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
.
{ فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً } [ القصص : 8 ] ويكونُ قولهم
» أهؤلاء « إلى آخره ، صادراً على سبيل الاستخفاف .
قوله : { أهؤلاء } يجوز في وجهان ، أظهرهما : أنه منصوب المحل على الاشتغال بفعلٍ
محذوفٍ يُفَسِّره الفعل الظاهر ، العامل في ضميره بوساطة » على « ، ويكون المفسِّر
من حيث المعنى لا من حيث اللفظ ، والتقدير : أفَضَّلَ الله هؤلاء منَّ عليهم ، أو
اختار هؤلاء مَنَّ عليهم ، ولا محلَّ لقوله : { مَنَّ الله عَلَيْهِم } لكونها
مفسرة ، وإنما رجَّح هنا إضمار الفعل لأنه وقع بعد أداةٍ يغلب إيلاءُ الفعلِ لها .
والثاني : أنَّه مرفوع لامحل على أنه مبتدأ والخبر : مَنَّ الله عليهم ، وهذا وإن
كان سالماً من الإِضمار الموجود في الوجه الذي قبله ، إلا أنه مرجوحٌ لما تقدم ، و
» عليهم « متعلِّقٌ ب » مَنَّ « .
و { مِّن بَيْنِنَآ } يجوز أن يتعلَّق به أيضاً ، قال أبو البقاء : » أي : ميَّزهم
علينا ، ويجوز أن يكون حالاً « قال أبو البقاء أيضاً : » أي : مَنَّ عليهم منفردين
، وهذان التفسيران تفسيرا معنى لا تفسيرا إعراب ، إلا أنه لم يَسُقْهما إلا
تفسيرَيْ إعراب ، والجملة من قوله : { أهؤلاء مَنَّ الله } في محلِّ نصب بالقول .
وقوله : { بِأَعْلَمَ بالشاكرين } الفرق بين التاءين أو الأولى لا تعلُّق لها
لكونها زائدةً في خبر ليس ، والثانية متعلقة بأعلم ، وتَعدِّي العِلْم بها لِما
ضُمِّن من معنى الإِحاطة ، وكثيراً ما يقع ذلك في عبارة العلماء فيقولون : عَلِم
بكذا ، والعِلْم بكذا ، لما تقدم .
وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)
قوله تعالى : { وَإِذَا جَآءَكَ } : « إذا » منصوب بجوابه أي : فقلْ
: سَلامٌ عليكم وقتَ مجيئهم أي : أوقع هذا القول كلَّه في وقت مجيئهم إليك ، وهذا
معنى واضح . وقال أبو البقاء : « العامل في » إذا « معنى الجواب أي : إذا جاؤوك
سلِّمْ عليهم » ولا حاجةَ تدعو إلى ذلك مع فوات قوة المعنى ، لأن كونه يبلَّغهم
السلام والإِخبارَ بأنه كتب على نفسه الرحمة ، وأنه من عَمِل سوءاً بجهالة غفر له
، لا يقوم مقامَه السَّلامُ فقط ، وتقديره يُفْضي إلى ذلك .
وقوله : { سَلاَمٌ } مبتدأ وجاز الابتداء به وإن كان نكرةً لأنه دعاءٌ ، والدعاء
من المسوِّغات . وقال أبو البقاء : « لما فيه من معنى الفعل » وهذا ليس من مذهب
جمهور البصريين إنما هو شيء نُقل عن الأخفش : أنه إذا كانت النكرة في معنى الفعل
جاز الابتداء بها ورَفْعُها الفاعل وذلك نحو : قائمٌ أبواك ، ونَقَل ابن مالك أن
سيبويه أومأ إلى جوازه ، واستدل الأخفش بقوله :
1933- خبيرٌ بنو لِهْبٍ فلاتك مُلْغِياً ... مقالةَ لِهْبِيِّ إذا الطيرُ مَرَّتِ
ولا دليلَ فيه؛ لأنَّ فَعيلاً يقع بلفظ واحد للمفرد وغيره ، ف « خبير » خبرٌ
مقدَّمٌ ، واستدلَّ له أيضاً بقول الآخر :
1934- فخيرٌ نحنُ عند الناسِ منكمْ ... إذا الداعي المثوِّبُ قال يالا
فخير مبتدأ ، و « نحن » فاعل سدَّ مَسَدَّ الخبر ،
فإن قيل : لِمَ لا يجوز أن يكون « خير » خبراً مقدماً ، « ونحن » مبتدأ مؤخر؟ قيل
: لئلا يلزم الفصلُ بين أفعل و « مِنْ » بأجنبي بخلاف جَعْلِه فاعلاً ، فإن
الفاعلَ كالخبر بخلاف المبتدأ ، وهذا القدرُ في هذا الموضع كافٍ والمسألةُ قد
قرَّرتُها في غير هذا الموضوع ، و « عليكم » خبرُه ، و « سلام عليكم » أبلغُ من «
سلاماً عليكم » . بالنصب ، وقد تقرَّر هذا في أول الفاتحة عند قراءة « الحمدُ » و
« الحمدَ » .
وقوله : { كَتَبَ رَبُّكُمْ } في محل نصب بالقول لأنه كالتفسير لقوله { سَلاَمٌ
عَلَيْكُمْ } .
قوله { أنَّه ، فأنَّه } قرأ ابن عامر وعاصم بالفتح فيهما ، وابن كثير وأبو عمرو
وحمزة والكسائي بالكسر فيهما ، ونافع بفتح الأولى وكسر الثاينة ، وهذه القاراءتُ
الثلاثُ في المتواتر ، والأعرج بكسر الأولى وفتح الثانية عكسَ قراءة نافع ، هذه
رواية الزهراوي عنه وكذا الداني . وأمَّا سيبويه فروى قراءته كقراءة نافع ، فيحتمل
أن يكون عن روايتان . فأمَّا القراءة الأولى فَفَتْحُ الأولى فيها مِنْ أربعة أوجه
، أحدها : أنها بدل من الرحمة بدل شيء من شيء والتقدير : كتب على نفسه أنه من عمل
إلى آخره ، فإنَّ نفس هذه الجملِ المتضمنةِ للإِخبار بذلك رحمة . والثاني : أنها
في محل رفع على أنها مبتدأ ، والخبر محذوف أي : عليه أنه من عمل إلى آخره .
والثالث : أنها فتحت على تقدير حذف حرف الجر ، والتقدير : لأنه مَنْ
عمل ، فلما حُذِفت اللامُ جرى في محلها الخلاف المشهور . الرابع : أنها مفول ب «
كتب » و « الرحمة » مفعول من أجله ، أي : كتب أنه مَنْ عَمِل لأجل رحمته إياكم .
قال الشيخ : « وينبغي أن لا يجوز لأن فيه تهيئة العامل للعمل وقَطْعَه منه » .
وأمَّا فَتْحُ الثانية فمن خمسة أوجه ، أحدها : أنها في محل رفع على أنها مبتدأ
والخبر محذوف أي : فغفرانُه ورحمتُه حاصلان أو كائنان ، أو فعليه غفرانه ورحمته .
وقد أجمع القرَّاء على فتح ما بعد فاء الجزاء في قوله : { أَلَمْ يعلموا أَنَّهُ
مَن يُحَادِدِ الله وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ } [ التوبة : 63 ] {
كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّه } [ الحج : 4 ] كما
أجمعوا على كسرها في قوله : { وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ
جَهَنَّمَ } [ الجن : 23 ] الثاني : أنها في محل رفعٍ على أنها خبر مبتدأ محذوف أي
: فأمرُه أو شأنه أنه غفور رحيم . الثالث : أنها تكريرٌ للأولى كُرِّرت لمَّا طال
الكلام وعُطِفت عليها بالفاء ، وهذا منقولٌ عن أبي جعفر النحاس . وهذا وهمٌ فاحش
لأنه يلزم منه أحد محذورين : إمَّا بقاءُ مبتدأ بلا خير أو شرط بلا جواب ، وبيان
ذلك أن « مِنْ » في قوله : { أَنَّهُ مَن عَمِلَ } لا تخلو : إمَّا أن تكون
موصولةً أو شرطية ، وعلى كلا التقديرين فهي في محل رفع بالابتداء ، فلو جعلنا « أن
» الثانية ، معطوفة على الأولى لزم عدم خبر المبتدأ وجواب الشرط ، وهو لا يجوز .
قد ذكر هذا الاعتراضَ وأجاب عنه الشيخ شهاب الدين أو شامة فقال : « ومنهم مَنْ جعل
الثانيةَ تكريراً للأولى لأجل طول الكلام على حد قوله : { أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ
إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ } [ المؤمنون
: 35 ] ودخلت الفاء في » فأنه غفورٌ « على حَدِّ دخولها في { فَلاَ
تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ } [ آل عمران : 188 ] على قول مَنْ جعله تكريراً
لقولَه : { لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ } [ آل عمران : 188 ] إلا أن هذا
ليس مثلَ » أيعدكم أنَّكم «؛ لأنَّ هذه لا شرطَ فيها وهذه فيها شرط ، فيبقى بغير
جواب . فقيل : الجواب محذوف لدلالة الكلام عليه تقديره : غفر لهم » انتهى . وفيه
بُعْدٌ ، وسيأتي هذا الجواب أيضاً في القراءة الثانية منقولاً عن أبي البقاء ،
وكان ينبغي أن يجيب به هنا لكنه لم يفعلْ ، ولم يظهرْ فرقٌ في ذلك .
الرابع : أنها بدل من « أنَّ » الأولى ، وهو قول الفراء والزجاج وهذا مردودٌ
بشيئين ، أحدهما : أنَّ البدلَ لا يَدْخُل فيه حرفُ عطف ، وهذا مقترنٌ بحرفِ العطف
، فامتنع أن يكون بدلاً . فإن قيل : نجعل الفاء زائدةً . فالجواب أن زيادتها غيرُ
جائزة ، وهي شيء قال به الأخفش ، وعلى تقدير التسليم فلا يجوز ذلك من وجهٍ آخر : وهو
خلوٌّ المبتدأ أو الشرط عن خبر أو جواب .
والثاني من الشيئين : خلوُّ المبتدأ أو الشرط عن الخبر أو الجواب ،
كما تقدَّم تقريره : فإن قيل : نجعل الجوابَ محذوفاً - كما تقدَّم نَقْلُه عن أبي
شامة - قيل : هذا بعيدٌ عن الفَهْم .
الخامس : أنها مرفوعةٌ بالفاعلية ، تقديره : فاستقرَّ له أنه غفورٌ أي : استقرَّ
له وثَبَتَ غُفرانه ، ويجوز أن نُقَدِّر في هذا الوجه جارَّاً رافعاً لهذا الفاعلِ
عند الأخفش تقديره : فعليه أنه غفور ، لأنه يُرْفَعُ به وإن لم يَعْتمد ، وقد
تقدَّم تحقيقهُ غيرَ مرَّة .
وأما القراءة الثانية : فكسْرُ الأولى من ثلاثة أوجه ، أحدها : أنها مستأنفة وأن
الكلام تام قبلها ، وجيء بها وبما بعدها كالتفسير لقوله : { كَتَبَ رَبُّكُمْ على
نَفْسِهِ الرحمة } والثاني : أنها كُسِرَتْ بعد قولٍ مقدَّر أي : قال الله ذلك ،
وهذا في المعنى كالذي قبله . والثالث : أنه أجرى « كتب » مُجْرى « قال » فكُسِرَتْ
بعده كما تُكْسرُ بعد القول الصريح ، وهذا لا يتمشَّى على أصول البصريين . وأمَّا
كَسْرُ الثانية فمن وجهين ، أحدهما : أنها على الاستئناف ، بمعنى أنها في صدر جملة
وقعت خبراً ل « مَنْ » الموصولة ، أو جواباً لها إن كانت شرطاً . والثاني : أنها
عطفٌ على الأولى وتكرير لها ، ويُعْترض على هذا بأنه يلزم بقاءُ المبتدأ بلا خبر
أو الشرط بلا جزاء ، كما تقدَّم ذلك في المفتوحتين .
وأجاب أبو البقاء هنا عن ذلك بأن خبر « مَنْ » محذوفٌ دلَّ عليه الكلام ، وقد
قدَّمْتُ لك أنه كان ينبغي أن يُجيب بهذا الجواب في المفتوحتين عند مَنْ جعل
الثانية تكريراً للأولى أو بدلاً منها ، ثم قال : « ويجوزُ أن يكونَ العائدُ
محذوفاً أي : فإنه غفورٌ له » قلت : قوله « ويجوز » ليس بجيدٍ ، بل كان ينبغي أن
يقول ويجب ، لأنه لا بد من ضمير عائد على المبتدأ من الجملة الخبرية ، أو ما يقوم
مقامه إن لم يكنْ نفسَ المبتدأ .
وأمَّا القراءةُ الثالثة : فيؤخذُ فتحُ الأولى وكَسْرُ الثانية مما تقدَّم مِنْ
كسرِها وفتحها بما يليق من ذلك ، وهو ظاهر .
وأمَّا القراءة الرابعة فكذلك وقال أبو شامة : « وأجاز الزجاجُ كَسْرَ الأولى
وفَتْحَ الثانية وإن لم يُقرأ به » قلت : قد قدَّمْتُ أن هذه قراءةُ الأعرج وأن
الزهراوي وأبا عمرو الداني نقلاها ، عنه فكأن الشيخ لم يَطِّلِعْ عليها وقَدَّمْتُ
لك أيضاً أنَّ سيبويه لم يَرْوِ عن الأعرج إلا كقراءة نافع ، فهذا ممَّا يصلح أن
يكون عذراً للزجاج ، وأما أبو شامة فإنه متأخر ، فعدمُ اطِّلاعِه عجيب .
والهاء في « أنَّه » ضمير الأمر والقصة . و « مَنْ » يجوز أن تكون شرطيةً وأن تكون
موصولة ، وعلى كل تقدير فهي مبتدأَةٌ ، والفاءُ وما بعدها في محل جزم جواباً إن
كانت شرطاً ، وإلاَّ ففي محلِّ رفعٍ خبراً إن كانت موصولة ، والعائد محذوف أي :
غفول له .
والهاء في « بعده » يجوز أن تعود على « السوء » وأن تعود على العمل
المفهوم من الفعل كقوله : { اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ } [ المائدة : 8 ] ، والأولى
أولى لأنه أصرح ، و « منكم » متعلِّقٌ بمحذوف إذ هو حالٌ من فاعل « عمل » ، ويجوز
أن تكون « مِنْ » للبيان فيعمل فيها « أعني » مقدراً .
وقوله { بِجَهَالَةٍ } فيه وجهان ، أحدهما : أنه يتعلَّق ب « عمل » على أن الباءَ
للسببيةِ أي : عملُه بسبب الجهل . وعَبَّر أبو البقاء في هذا الوجه عن ذلك
بالمفعول به وليس بواضح . والثاني - وهو الظاهر - أنها للحال أي : عملُه مصاحباً
للجهالة . « ومِنْ » في « مِنْ بعده » لابتداء الغاية .
وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)
قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ } : الكاف أمرُها واضحٌ من كونها
نعتاً لمصدر محذوف أو حالاً من ضمير ذلك المصدر كما هو رأي سيبويه ، والإِشارة ب «
ذلك » إلى التفصيل السابق ، تقديره : مثل ذلك التفصيل البيِّنِ ، وهو ما سَبَقَ من
أحوال الأمم نفصِّل آيات القرآن . وقال ابن عطية : « والإِشارة بقوله » وكذلك «
إلى ما تقدَّم ، من النَّهْي عن طَرْد المؤمنين وبيان فساد منزع المعارضين لذلك ،
وتفصيل الآ يات تبيينُها وشَرْحُها » . وهذا شبيهٌ بما تقدم له في قوله : { وكذلك
فَتَنَّا } [ الأنعام : 53 ] وتقدَّم أنه غير ظاهر .
قوله : { وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ } قرأ الأخوان وأبو بكر : « وليستبين » بالياء
من تحت ، « سبيلُ » بالرفع ونافع : « ولتستبين » بالتاء من فوق ، « سبيلَ » بالنصب
، والباقون : بالتاء من فوق ، « سبيل » بالرفع . وهذه القراءات دائرة على تذكير «
السبيل » وتأنيثه وتَعَدَّي « استبان » ولُزِومه . وإيضاح هذا أن لغة نجد وتميم
تذكير « السبيل » وعليه قوله تعالى : { وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرشد لاَ
يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الغي يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً } [
الأعراف : 146 ] ، لغةُ الحجاز التأنيث ، وعليه : { قُلْ هذه سبيلي } [ يوسف : 108
] وقوله :
1935- خَلِّ السبيل لمَنْ يبني المنار بها ... . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وأمَّا « استبانَ » فيكونُ متعدِّياً نحو : استَبَنْتُ الشيءَ « ويكون لازماً نحو
: » استبان الصبح « بمعنى بأن ، فَمَنْ قرأ بالياء من تحت ورَفَع فإنه أسند الفعل
إلى » السبيل « فرفْعُه على أنه مذكَّرٌ وعلى أن الفعل لازم ، ومن قرأ بالتاء من
فوق فكذلك ولكن على لغة التأنيث . ومن قرأ بالتاء من فوق ونصب » السبيلَ « فإنه
أسند الفعلَ إلى المخاطب ونصب » السبيل « على المفعولية وذلك على تعدية الفعل أي :
ولتستبين أنت سبيل المجرمين ، فالتاء في » لتستبينَ « مختلفةُ المعنى ، فإنها في
إحدى القراءتين للخطاب وفي الأخرى للتأنيث ، وهي في كلا الحالين للمضارعة ، و »
تستبين « منصوب بإضمار » أن « بعد لام كي ، وفيما تتعلَّق به هذه اللام وجهان ،
أحدهما : أنها معطوفة على علة محذوفة ، وتلك العلة معمولةٌ لقوله : { نفَصِّلُ }
والمعنى : وكذلك نفصل الآيات لتستبين لكم ولتستبين .
والثاني : أنها متعلقة بمحذوف مقدر بعدها أي : ولتستبين سبيل المجرمين فصَّلناها
ذلك التفصيل . وفي الكلام حذفُ معطوف على رأيٍ ، أي : وسبيل المؤمنين ، كقوله
تعالى : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] . وقيل : لا يُحتاج إلى ذلك
، لأن المقام إنما يقتضي ذِكْرَ المجرمين فقط ، إذ هم الذين أثاروا ما تقدَّم
ذِكْره .
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56)
قوله تعالى : { أَنْ أَعْبُدَ } : في محل « أَنْ » الخلاف المشهور ،
إذ هي على حَذْفِ حرف تقديره : نُهِيْتُ عن أن أعبدَ . وقوله : { قَدْ ضَلَلْتُ } «
إذن » حرف جواب وجزاء لا عمل لها هنا لعدم فعلٍ تعمل فيه ، والمعنى : « إن
اتَّبَعْتُ أهواءَكم ضَللْت وما اهتدَيْت » فهي في قوة شرط وجزاء .
والجمهور : { ضَلَلْتَ } بفتح اللام الأولى . وقرأ أبو عبد الرحمن ويحيى وطلحة
بكسرها ، وقد تقدَّم أنها لغة . ونقل صاحب التحرير [ عن يحيى وابن أبي ليلى أنها
قرآ ] هنا وفي ألم السجدة : { أَإِذَا ضَلَلْنَا } بصاد غير معجمة . يقال : صَلَّ
اللحمُ أي : أنتن ، وهذا له بعض مناسبة في آية السجدة ، وأما هنا فمعناه بعيدٌ أو
ممتنعٌ . وروى العباس عن ابن مجاهد في « الشواذ » له : « صُلِلْنا في الأرض » أي
دُفِنَّا في الصَّلَّة وهي الأرضُ الصُلْبة . وقوله : { وَمَآ أَنَاْ مِنَ
المهتدين } تأكيد لقوله : { قَدْ ضَلَلْتُ } وأتى بالأولى جملةً فعلية ليدلَّ على
تجدد الفعل وحُدوثهِ ، وبالثانية اسميةً ليدلَّ على الثبوت .
قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57)
قوله تعالى : { وَكَذَّبْتُم بِهِ } : في هذه الجملة وجهان ، أحدهما
: أنها مستأنفةٌ سيقت للإِخبار بذلك . والثاني : أنها في محصل نصب على الحال ،
وحينئذ هل يُحتاج إلى إضمار « قد » أم لا؟ والهاء في « به » يجوز أن تعود على «
ربي » وهو الظاهر . وقيل : على القرآن لأنه كالمذكور . وقيل على « بَيِّنَة »
لأنها في معنى البيان . وقيل : لأن التاء فيها للمبالغة ، والمعنى : على أمرٍ
بَيِّنٍ من ربي ، و « من ربي » في محل جر صفة ل « بينة »
قوله : { يَقُصُّ الحق } قرأ نافع وابن كثير وعاصم : « يقص » بصاد مهملة مشددة
مرفوعة ، وهي قراءة ابن عباس ، والباقون بضاد معجمة مخففة مكسورة ، وهاتان في
المتواتر . وقرأ عبد الله وأُبَيّ ويحيى بن وثاب والنخعي والأعمش وطلحة : « يقضي
بالحق » من القضاء . وقرأ سعيد بن جبير ومجاهد : « يقضي بالحق وهو خير القاضين »
فأمَّا قراءة « يقضي » فمِن القضاء . ويؤيده قوله : « وهو خير الفاصلين » فإنَّ
الفصل يناسب القضاء ، ولم يُرْسَم إلا بضاد ، كأن الباء حُذِفَتْ خَطَّاً كما حذفت
لفظاً لالتقاء الساكنين ، كما حذفت من نحو : { فَمَا تُغْنِ النذر } [ القمر : 5 ]
، وكما حُذِفَتْ الواو في { سَنَدْعُ الزبانية } [ العلق : 18 ] { وَيَمْحُ الله
الباطل } [ الشورى : 24 ] لما تقدم .
وأمَّا نصب « الحق » بعده ففيه أربعة أوجه ، أحدها : أنه منصوب على أنه صفة لمصدر
محذوف أي : يقضي القضاء الحق . والثاني : أنه ضمَّن « يقضي » معنى يُنْفِذ ، فلذلك
عدَّاه إلى المفعول به ، الثالث : أن « قضى » بمعنى صنع فيتعدَّى بنفسه من غير
تضمين ، ويدل على ذلك قوله :
1936- وعليهما مَسْرُودتان قضاهُما ... داودُ . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. .
أي : صَنَعَهما . الرابع : أنه على إسقاط حرف الجر أي : يقضي بالحق ، فلما حذف
انتصب مجروره على حَدِّ قوله :
1937- تمرُّون الدِّيار فلم تَعْوجوا ... . . . . . . . . . . . . . . . . .
ويؤيد ذلك : القراءةُ بهذا الأصل .
وأما قراءة « يَقُصُّ » فمِنْ « قَصَّ الحديث » أو مِنْ « قصَّ الأثر » أي :
تَتَبَّعه . وقال تعالى : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص } [ يوسف : 3
] . ورجحَّ أبو عمرو بن العلاء القراءة الأولى بقوله : « الفاصلين » ، وحُكي عنه
أنَّه قال : « أهو يَقُصُّ الحقَّ أو يقضي الحقَّ أو يقضي الحق » فقالوا : « يقصُّ
» فقال : « لو كان » يقص « لقال : » وهو خير القاصِّين « اقرأ أحدٌ بهذا؟ وحيث قال
: { وَهُوَ خَيْرُ الفاصلين } فالفصل إنما يكون في القضاء » وكأن أبا عمرو لم
يَبْلُغْه « وهو خير القاصِّين » قراءةً . وقد أجاب أبو علي الفارسي عما ذكره ابن
العلاء فقال : « القصصُ هنا بمعنى القول ، وقد جاء الفصل في القول أيضاً قال تعالى
: { إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ } [ طارق : 13 ] وقال تعالى : { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ
آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ } [ هود : 1 ] . وقال تعالى : { وَنُفَصِّلُ الآيات } [
التوبة : 11 ] فقد حمل الفَصْل على القول ، واستُعمل معه كما جاء مع القضاء فلا
يلزم » من الفاصلين « أن يكون مُعَيِّناً ليقضي .
قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)
وقوله تعالى : { والله أَعْلَمُ بالظالمين } : من باب إقامة الظاهر مقام المضمر تنبيهاً على استحقاقهم ذلك بصفةِ الظلم ، إذا لو جاء على الأصل لقال : « والله أعملُ بكم » .
وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)
قوله تعالى : { مَفَاتِحُ } : فيه ثلاثة أقوال ، أحدها : أنه جمعُ
مِفْتح بكسر الميم والقصر ، وهو الآلة التي يُفتح بها نحو : مُنْخُل ومَنَاخل .
والثاني : أنه جمع مَفْتَح بفتح الميم ، وهو المكان ، ويؤيده تفسير ابن عباس هي
خزائن المطر . والثالث : أنه جمع مِفتاح بكسر الميم والألف ، وهو الآلة أيضاً ،
إلا أنَّ هذا فيه ضعفٌ من حيث إنه كان ينبغي أن تُقلب ألف المفرد ياء فيقال :
مفاتيح كدنانير ، ولكنه قد نُقِل في جمع مصباح مصابح ، وفي جمع مِحْراب مَحارِب ،
وفي جمع قُرْقُرر قراقِر ، وهذا كما أتوا بالياء في جمع ما لا مَدَّةَ في مفرده
كقولهم : دراهيم وصياريف في جمع دِرْهَم وصَيْرَف ، قال :
1938- تَنْفي يداها الحصى في كل هاجِرَةٍ ... نَفْيَ الدارهيمِ تَنْقادُ
الصَّياريفِ
وقالوا : عيِّل وعَياييل . قال :
1939- فيها عياييلُ أُسودٌ ونُمُرْ ... الأصل : عيايل ونمور ، فزاد في ذلك
ونَقَّصَ مِنْ هذا .
وقد قُرِئ « مفاتيح » بالياء وهي تؤيد أنَّ مفاتح جمع مفتاح ، وإنما حُذِفَتْ
مدَّتْه . وجَوَّز الواحدي أن يكون مفاتح جمع مَفْتَح بفتح الميم على أنه مصدر ،
قال بعد كلام حكاه عن أبي إسحاق : « فعلى هذا مفاتح جمع المَفْتح بمعنى الفتح » ،
كأن المعنى : « وعنده فتوح الغيب » أي : هو يفتح الغيب على مَنْ يشاء من عباده .
وقال أبو البقاء : « مفاتح جمع مَفْتَح ، والمَفْتَحُ الخزانة ، فأمَّا ما يُفتح
به فهو المفتاحُ ، وجمعه مفاتيح وقد قيل مَفْتح أيضاً » انتهى . يريد جمع مَفتح أي
بفتح الميم . وقوله : « وقد قيل : مَفْتَح يعني أنها لغة قليلة في الآلة والكثير
فيها المدُّ ، وكان ينبغي أن يوضِّح عبارته فإنها موهمة ولذلك شرحتها .
قوله : { لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ } في محل نصب على الحال من » مفاتح « ،
والعامل فيها الاستقرار الذي تضمَّنه حرف الجر لوقوعه خبراً . وقال أبو البقاء : »
نفسُ الظرف إنْ رَفَعْتَ به مفاتح « أي : إنْ رفعته به فاعلاً ، وذلك على رأي
الأخفش ، وتضمُّنه للاستقرار لا بد منه على كل قول ، فلا فرق بين أن ترفعَ به
الفاعل أو تجعله خبراً .
قوله : { مِن وَرَقَةٍ } فاعل » تَسْقُط « و » مِنْ « زائدة لاستغراق الجنس ،
وقوله : { إِلاَّ يَعْلَمُهَا } حالٌ من » ورقة « وجاءت الحال من النكرة لاعتمادِها
على النفي ، والتقدير : ما تسقط من ورقة إلا عالماً هو بها كقولك : » ما أكرمْتُ
أحداً إلا صالحاً « ويجوز عندي أن تكونَ الجملة نعتاً ل » ورقة « وإذا كانوا
أجازوا في قوله { إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ } [ الحجر : 4 ] أن تكون
نعتاً لقرية في قوله : { وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ
مَّعْلُومٌ } [ الحجر : 4 ] مع كونها بالواو ويعتذرون عن زيادة الواو ، فأَنْ
يجيزوا ذلك هنا أولى ، وحينئذ فيجوز أن تكون في موضع جر على اللفظ أو رفع على
المَحَلَّ .
قوله : { وَلاَ حَبَّةٍ } عطفٌ على لفظ « ورقةٍ » ولو قُرِئ بالرفع
لكان على الموضع . و « في ظلمات » صفة لحبة . وقوله : { وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ
يَابِسٍ } معطوفان أيضاً على لفظ « ورقة » وقرأهما ابن السميفع والحسن وابن أبي
إسحاق بالرفع على المحل ، وهذا هو الظاهر ، ويجوز أن يكونا مبتدأين ، والخبر قوله
{ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } ونقل الزمخشري أن الرفع في الثلاثة أعني قوله : «
ولا حبةٍ ولا رطبٍ ولا يابسٍ » وذكر وجهي الرفع المتقدِّمين ، ونظَّر الوجه الثاني
بقولك : « لا رجلٌ منهم ولا امرأة إلا في الدار » .
قوله : { إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } في هذا الاستثناء غموض ، فقال الزمخشري :
« وقوله : { إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } كالتكرير لقوله : { إِلاَّ يَعْلَمُهَا
} لأن معنى » إلاَّ يعلمها « ومعنى » إلا في كتاب مبين « واحد ، والكتاب علم الله
أو اللوح » وأبرزه الشيخ في عبارة قريبة من هذه فقال : « وهذا الاستثناء جارٍ مجرى
التوكيد لأن قوله : » ولا حبةٍ ولا رطب ولا يابس « معطوف على » مِنْ ورقة «
والاستثناءُ الأولُ منسحبٌ عليها كما تقول : » ماجاءني من رجلٍ إلا أكرمته ولا
أمرأةٍ « فالمعنى : إلا أكرمتها ، ولكنه لَمَّا طال الكلام أعيد الاستثناء على
سبيل التوكيد ، وحَسَّنه كونُه فاصلة » انتهى . وجعل صاحب « النظم » الكلامَ تاماً
عند قوله : { ولا يابس } ثم استأنف خبراً آخر بقوله { إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ
} بمعنى : وهو في كتاب مبين أيضاً . قال : « لأنك لو جَعَلْتَ قوله { إِلاَّ فِي
كِتَابٍ } متصلاً بالكلام الأول لفسَدَ المعنى ، وبيان فساده في فصل طويل ذكرناه
في سورة يونس في قوله : » ولا أصغرَ من ذلك ولا أكبرَ إلا في كتاب مبين « انتهى .
قلت : إنما كان فاسدَ المعنى من حيث اعتقد أنه استثناءٌ آخرُ مستقلٌّ ، وسيأتي كيف
فسادُه ، أمَّا لو جعله استثناء مؤكداً للأول كما قاله أبو القاسم لم يفسد المعنى
، وكيف يُتَصَوَّرُ تمام الكلام على قوله تعالى : { وَلاَ يَابِسٍ } ويُبْتَدَأ ب
» إلا « وكيف تقع » إلا « هكذا؟
وقد نحا أبو البقاء لشيءٍ مِمَّا قاله الجرجاني فقال : » إلا في كتاب مبين « أي :
إلا هو في كتاب مبين ، ولا يجوز أن يكون استثناء يعمل فيه » يَعْلمها «؛ لأنَّ
المعنى يصير : وما تسقط من ورقة إلا يعلمها إلا في كتاب ، فينقلب معناه إلى
الإِثبات أي : لا يعلمها في كتاب ، وإذا لم يكن إلا في كتاب وجب أن يعلمها في
الكتاب ، فإذن يكون الاستثاءُ الثاني بدلاً من الأول أي : وما تسقط من ورقة إلا هي
في كتاب وما يَعْلَمُها » انتهى . وجوابه ما تقدم من جَعْلِ الاستثناء تأكيداً ،
وسيأتي هذا مقرَّراً إن شاء الله في سورة يونس لأنَّ له بحثاً يخصُّه .
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)
قوله تعالى : { بالليل } : متعلق بما قبله على أنه ظرف له ، والباء
تأتي بمعنى « في ، وقد قدَّمْتُ منه جملةً صالحة . وقال أبو البقاء هنا : » وجاز ذلك
لأنَّ الباء للإِلصاق ، والملاصِقُ للزمان والمكان حاصل فيهما « يعني فهذه
العلاقَةُ المجوِّزةُ للتجوُّز ، وعلى هذا فلا حاجة إلى أن ينوبَ حرفٌ مكان آخر ،
بل نقول : هي هنا للإِلصاق مجازاً نحو ما قالوه في » مررت بزيد « وأسند التوفِّيَ
هنا إلى ذاته المقدسة لأنه لا يُنْفَرُ منه هنا ، إذ المرادُ به الدَّعة والراحة ،
وأسنده إلى غيره في قوله تعالى : { تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا } [ الأنعام : 61 ] {
يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت } [ السجدة : 11 ] لأنه يُنْفَرُ منه ، إذ المرادُ به
الموت .
وقوله : { مَا جَرَحْتُم } الظاهر أنها مصدريةٌ ، وإن كان كونُها موصولةً اسميةً
أكثرَ ، ويجوز أن تكونَ نكرةً موصوفةً بما بعدها ، والعائد على كلا التقديرين
الآخرين محذوف ، وكذا عند الأخفش وابن السراج على القول الأول . و » بالنهار «
كقوله : { بالليل } والضمير في » فيه « عائد على النهار . هذا هو الظاهر قال الشيخ
: » عاد عليه لفظاً « والمعنى : في يوم آخر ، كما تقول : عندي درهم ونصفه » قلت :
ولا حاجةَ في الظاهر إلى عوده على نظير المذكور ، إذ عَوْدُه على المذكور لا
محذورَ فيه ، وأمَّا من نحو : « درهم ونصفه » فلضرورة انتفاء العيِّ من الكلام ،
قالوا : لأنك إذا قلت : « عندي درهم » عُلِمَ أن عندك نصفَه ضرورةً ، فقولك بعد
ذلك : « ونصفه » تضطر إلى عَوْدِه إلى نظير ما عندك بخلاف ما نحن فيه . وقيل :
يعود على الليل . وقيل : يعود على التوفِّي وهو النوم أي : يُوقظكم في خلال النوم
. وقال الزمخشري : « ثم يَبْعثكم مِن القبور في شأن الذي قطعتم به أعماركم من
النوم بالليل وكَسْبِ الآثام بالنهار » انتهى . وهو حسن .
وخصَّ الليل بالتوفي والنهار بالكسب وإن كان قد يُنام في هذا ، ويُكسَبُ في الآخر
اعتباراً بالحال الأغلب . وقَدَّم التوفِّيَ بالليل لأنه أبلغ في المِنَّة عليهم ،
ولا سيما عند مَنْ يَخُصُّ الجَرْحَ بكَسْب الشر دون الخير .
قوله : { ليقضى أَجَلٌ } الجمهور على « لِيُقْضَى » مبنياً للمفعول و « أجلٌ » رفع
به ، وفي الفاعل المحذوف احتمالان ، أحدهما : أنه ضمير الباري تعالى . والثاني :
أنه ضمير المخاطبين ، أي : لتقضوا أي : لتستوفوا آجالكم . وقرأ أبو رجاء وطلحة : «
ليقضي » مبنياً للفاعل وهو الله تعالى ، « أجلاً » مفعول به ، و « مُسَمَّى » صفة
، فهو مرفوع على الأول ومنصوب على الثاني ، ويترتب على ذلك خلافٌ للقراء في إمالة
ألفهِ قد أوضحته في « شرح القصيد » واللام في « لِيُقْضَى » متعلقةٌ بما قبلها من
مجموعِ الفعلين أي : يتوفَّاكم ثم يبعثكم لأجل ذلك .
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61)
قوله تعالى : { وَيُرْسِلُ } : فيه خمسة أوجه ، أحدها : أنه عطفٌ على
اسم الفاعل الواقع صلة لأل ، لأنه في معنى يفعل ، والتقدير : وهو الذي يقهر عباده
ويرسل ، فعطف الفعل على الاسم لأنه في تأويله ، ومثلُه عند بعضهم : { إِنَّ
المصدقين والمصدقات وَأَقْرَضُواْ } [ الحديد : 18 ] قالوا : فأقرضوا عطف على «
مصدقين » الواقعِ صلةً لأل ، لأنه في معنى : إنَّ الذين صدَّقوا وأقرضوا ، وهذا
ليس بشيء ، لأنه يلزم من ذلك الفصلُ بين أبعاض الصلة بأجنبيّ وذلك أن « وأقرضوا »
من تمام صلة أل في « المصِّدِّقين » وقد عطف على الموصول قوله « المصدقات » وهو أجنبي
، وقد تقرر غيرَ مرة أنه لا يُتْبَعُ الموصول إلا بعد تمام صلته . وأمَّا قوله
تعالى : { فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ } [ الملك : 19 ] فيقبضن في تأويل
اسم أي : وقابضات . ومن عطف الاسم على الفعل لكونه في تأويل الاسم قولُه تعالى : {
يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَمُخْرِجُ الميت } [ الأنعام : 95 ] وقوله :
1940- فأَلْفَيْتُه يوماً يُبيرُ عدوَّهُ ... ومُجْرٍ عطاءً يستخفُّ المعابرا
والثاني : أنها جملة فعلية عُطِفَتْ على جملة اسمية وهي قوله : { وَهُوَ القاهر }
والثالث : أنها معطوفة على الصلة وما عُطِف عليها وهو قوله : يتوفَّاكم ويعلم ،
وما بعده ، أي : وهو الذي يتوفَّاكم ويرسل . الرابع : أنه خبر مبتدأ محذوف ،
والجملة في محل نصب على الحال . وفي صاحبها وجهان ، أظهرهما : أنه الضميرُ
المستكنُّ في « القاهر » والثاني : أنها حال من الضمير المستكنِّ في الظرف ، كذا
قال أبو البقاء ، ونقله عن الشيخ وقال : « وهذا الوجهُ أضعفُ الأعاريب » وقولهما «
الضمير الذي في الظرف » ليس هنا ظرفٌ يُتَوهَّم كونُ هذه الحالِ من ضميرٍ فيه إلا
قولَه « فوق عباده » ولكن بأي طريق يَتَحَمَّل هذا الظرفُ ضميراً؟
والجواب أنه قد تقدم في الاية المشبهة لهذه أن « فوق عباده » فيه خمسة أوجه ،
ثلاثة منها تَتَحَمَّلُ فيها ضميراً وهي : كونه خبراً ثانياً أو بدلاً من الخبر أو
حالاً ، وإنما اضطررنا إلى تقدير مبتدأ قبل « يُرْسِلُ » لأن المضارعَ المثبتَ إذا
وقع حالاً لم يقترنْ بالواو ، وقد تقدَّم إيضاحُ هذا غيرَ مرة . والخامس : أنها
مستأنفةٌ سِيقت للإِخبار بذلك ، وهذا الوجهُ هو في المعنى كالثاني .
وقوله : { عَلَيْكُم } يحتمل ثلاثة أوجه ، أظهرها : أنه متعلق بيرسل ، ومنه : {
يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا } [ الرحمن : 35 ] { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ } [ الأعراف :
133 ] { وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً } [ الفيل : 3 ] إلى غير ذلك . والثاني :
أنه متعلق ب « حَفَظَة » . يقال : حَفِظْتُ عليه عمله ، فالتقدير : ويُرْسل
حَفَظَة عليكم . قال الشيخ : « أي يحفظون عليكم أعمالهم كما قال : { وَإِنَّ
عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ } [ الانفطار : 10 ] كما تقول : حَفِظْتُ عليك ما تعمل »
فقوله : « كما قال : إن عليكم لحافظين » تشبيه من حيث المعنى لا أن « عليكم » تعلق
بحافظين؛ لأن « عليكم » هو الخبر ل « إن » فيتعلق بمحذوف .
والثالث : أنه متعلِّقٌ بمحذوف على أنه حال من « حفظة » إذ لو تأخَّر
لجاز أن يكون صفةً لها .
قال أبو البقاء : « عليكم » فيه وجهان أحدهما : هو متعلِّق بيرسل ، والثاني : أن
يكون في نية التأخير وفيه وجهان ، أحدهما : أن يتعلَّقَ بنفس « حَفَظة » والمفعول
محذوف أي : يرسل عليكم مَنْ يحفظ أعمالكم . والثاني : أن يكون صفةً ل « حَفَظة »
قُدِّمَتْ فصارت حالاً « انتهى . قوله : » المفعول محذوف « يعني مفعول » حفظة «
إلا أنه يُوهم أنَّ تقديرَ المفعول خاصٌّ بالوجه الذي ذكره ، وليس كذلك بل لا بد
من تقديره على كل وجه ، و » حَفَظَة « إنما عمل في ذلك المقدَّر لكونه صفةً لمحذوف
، تقديره : ويرسل عليكم ملائكة حفظة ، لأنه لا يعمل إلا بشروطٍ هذا منها ، أعني
كونه معتمداً على موصوف .
و » حَفَظَة « جمع حافظ ، وهو منقاسٌ في كل وصف على فاعِل صحيح اللام ، لعاقل مذكر
ك » بارّ « و » بَرَة « و » فاجِر « و » فَجَرة « و » كامل « و » كَمَلة « ،
ويَقِلُّ في غير العاقل كقولهم : غراب ناعق وغربان نَعَقَه . وتقدَّم مثل قوله : »
حتى إذا جاء «
قوله : { تَوَفَّتْهُ } قرأ الجمهور : { توفَّتْه } ماضياً بتاء التأنيث لتأنيث
الجمع . وقرأ حمزة : { توفَّاه } من غير تاء تأنيث ، وهي تحتمل وجهين أظهرهما :
أنه ماضٍ وإنما حَذَفَ تاء التأنيث لوجهين ، أحدهما : كونه تأنيثاً مجازياً ،
والثاني : الفصلُ بين الفعل وفاعله بالمفعول . والثاني : أنه مضارع ، وأصله :
تتوفاه بتاءين ، فحذفت إحداهما على خلاف في ايتهما ك » تَنَزَّلُ « وبابه . وحمزةُ
على بابه في إمالة مثل هذه الألف . وقرأ الأعمش : { يتوفَّاه } مضارعاً بياء الغَيْبة
، اعتباراً بكونه مؤنثاً مجازياً أو للفصل ، فهي كقراءة حمزة في الوجه الأول من
حيث تذكيرُ الفعل ، وكقراءته في الوجه الثاني من حيث إنه أتى به مضارعاً . وقال
أبو البقاء : » وقرئ شاذاً : { تتوفَّاه } على الاستقبال ولم يذكر بياء ولا تاء .
قوله : { وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ } هذه الجملة تحتمل وجهين ، أظهرهما : أنها حال
من « رسلنا » والثاني : أنها استئنافية سيقت للإِخبار عنهم بهذه الصفة ، والجمهور
على التشديد في « يُفْرِّطون » ومعناه لا يُقَصِّرون . وقرأ عمرو بن عبيد والأعرج
: « يُفْرِطون » مخففاً من أفرط ، وفيها تأويلان أحدهما : أنها بمعنى لا يجاوزون
الحدَّ فيما أُمِروا به . قال الزمخشري : « فالتفريط : التواني والتأخير عن الحدِّ
، و الإِفراط : مجاوزة الحدِّ أي : لا يُنْقصون ممَّا أمروا به ولا يَزيدون »
والثاني : أن معناه لا يتقدمون على أمر الله ، وهذا يحتاج إلى نَقْلِ أنَّ أفرط
بمعنى فَرَّط أي تَقَدَّم . وقال الجاحظ قريباً من هذا فإنه قال : « معنى لا
يُفْرِطون : لا يَدَعون أحداً يفرُط عنهم أي : يَسْبقهم ويفوتهم » وقال أبو البقاء
: « ويُقرأ بالتخفيف أي : لا يزيدون على ما أُمِروا به » وهو قريب مِمَّا تقدم .
ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)
قوله تعالى : { مَوْلاَهُمُ الحق } : صفتان لله . وقرأ الحسن والأعمش : « الحقَّ » نصباً ، وفيه تاويلان ، أظهرهما : أنه نعت مقطوع . والثاني : أنه نعتُ مصدرٍ محذوف أي : رَدُّوا الردَّ الحقَّ لا الباطل . وقرئ : { رِدُّوا } بكسر الراء ، وتقدَّم تخريجها مستوفى . والضمير في « مولاهم » فيه ثلاثة أوجه ، أظهرهما : أنه للعباد في قوله { فَوْقَ عِبَادِهِ } فقوله : { وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم } التفاتٌ ، إذا الأصل : ويرسل عليهم وفائدة هذا الالتفات التنبيهُ والإِيقاظ . والثاني : أنه يعود على الملائكة المعنيِّين بقوله : « رسلنا » ، يعني أنهم يموتون كما يموت بنو آدم ويُرَدُّون إلى ربهم . والثالث : أنه يعود على « أحد » في قوله : { إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت } إذ المراد به الجمع لا الإِفراد .
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63)
قوله تعالى : { قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ } : قرأ السبعة هذه مشددة ، {
قل الله ينجيكم } : قرأها الكوفيون وهشام بن عمار عن ابن عامر مشددة كالأولى ،
وقرأ الثِّنتين بالتخفيف من « أنجى » حميدُ بن قيس ويعقوب وعلي بن نصر عن أبي عمرو
، وتحصَّل من ذلك أن الكوفيين وهشاماً يثقِّلون في الموضعين وأن حميداً ومَنْ معه
يُخَففون فيهما ، وأن نافعاً وابن كثير وأبا عمرو وأبن ذكوان عن ابن عامر
يُثْقِّون الأولى ويُخَفِّفون الثانية ، والقراءاتُ واضحة فإنها من نجَّى وأَنْجى
، فالتضعيف والهمزة كلاهما للتعدية ، فالكوفيون وهشام التزموا التعدية بالتضعيف ،
وحميد وجماعته التزموها بالهمزة ، والباقون جمعوا بين التعديتين جمعاً بين اللغتين
كقوله تعالى : { فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً } [ الطارق : 17 ] .
والاستفهام للتقرير والتوبيخ ، وفي الكلام حذف مضاف أي : مِنْ مَهالِك ظلمات أو من
مخاوفها ، والظلمات كناية عن الشدائد .
قوله : { تَدْعُونَهُ } في محل نصب على الحال : إمَّا من مفعول « ينجيكم » وهو
الظاهر ، أي : يُنَجيكم داعين إياه ، وإمَّا من فاعله أي : مَدْعُوَّاً مِنْ جتهكم
.
قوله : { تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } يجوز فيهما وجهان ، أحدهما : أنها مصدران في
موضع الحال أي : تَدْعُونه متضرِّعين ومُخْفِين . والثاني : أنهما مصدران من معنى
العامل لا من لفظه كقوله : قَعَدْتُ جلوساً . وقرأ الجمهور : { خُفْية } بضم الخاء
. وقرأ أبو بكر بكسرها وهما لغتان كالعُدوة والعِدوة ، والأُسوة والإِسوة . وقرأ
الأعمش : { وخيفة } كالتي في الأعراف وهي من الخوف ، قُلِبَتْ الواو ياء لانكسار
ما قبلها وسكونها ، ويظهر على هذه القراءة أن يكون مفعولاً من أجله لولا ما يأباه
« تضرُّعاً » من المعنى .
قوله : { لَّئِنْ أَنجَانَا } الظاهر أن هذه الجملةَ القسمية تفسير للدعاء قبلها ،
ويجوز أن تكون منصوبةَ المحلِّ على إضمار القول ، ويكونه ذلك القول في محل نصب على
الحال من فاعل « تَدْعُونه » أي : تدعونه قائلين ذلك ، وقد عرفت ممَّا تقدَّم غيرَ
مرة كيفيةَ اجتماع الشرط والقسم . وقرأ الكوفيون : « أَنْجانا » بلفظ الغيبة
مراعاةً لقوله : { تَدْعُونَهُ } والباقون « » أَنْجَيْتنا « بالخطاب حكايةً
لخطابهم في حالة الدعاء ، وقد قرأ كلُّ بما رُسِم في مصحفه ، فإنَّ في مصاحف
الكوفة : » أنجانا « ، وفي غيرِها : » أَنْجَيْتنا « .
قوله : { مِنْ هذه } متعلِّقٌ بالفعل قبله ، و » مِنْ « لابتداء الغاية ، و » هذه
« إشارةٌ إلى الظلمات؛ لأنها تجري مَجْرى المؤنثة الواحدة ، وكذلك في » منها « تعود
على الظلمات لِما تقدم .
قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)
وقوله : { وَمِن كُلِّ كَرْبٍ } : عطف على الضمير المجرور بإعادة حرف الجر وهو واجبٌ عند البصريين وقد تقدم .
قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)
قوله : { عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ } : يجوز أن يكون الظرف متعلقاً ب
« نبعث » ، وأن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه صفة ل « عذاباً » أي : عذاباً كائناً
من هاتين الجهيتن .
قوله : { أَوْ يَلْبِسَكُمْ } عطف على « يَبْعَث » والجمهور على فتح الياء من «
يَلْبسكم » وفيه وجهان ، أحدهما : أنه بمعنى يخلطكم فِرَقاً مختلفين على أهواء شتى
، كل فرقة مشايعة لإِمام ، ومعنى خَلْطِهم إنشابُ القتال بينهم فيختلطوا في ملاحكم
القتال كقول الحماسي :
1941- وكتيبةٍ لَبَّسْتُها بكتيبةٍ ... حتى إذا التبسَتْ نَفَضْتُ لها يدي
فَتَرَكْتُهمْ تَقِصُ الرماحُ ظهورَهم ... ما بين مُنْعَفِرٍ وآخرَ مُسْنَدِ
وهذه عبارة الزمخشري ، فجعله من اللَّبس الذي هو الخلط ، وبهذا التفسير الحسن ظهر
تعدِّي « يلبس » إلى المفعول . و « شيعاً » نصب على الحال . وهي جمع شِيْعة
كسِدْرة وسِدَر . وقيل : « شيعاً » منصوب على المصدر من معنى الفعل الأول أي : إنه
مصدر على غير الصدر كقعدت جلوساً . قال الشيخ : « ويحتاج في جعله مصدراً إلى
نَقْلٍ من اللغة » . ويجوز على هذا أيضاً أن يكونَ حالاً كأتيته ركضاً أي : راكضاً
أو ذا ركض . وقال أبو البقاء : « والجمهور على فتح الياء أي : يلبس عليكم أموركم ،
فحذف حرف الجر والمفعول ، والأجودُ أن يكون التقدير : أو يلبس أموركم ، فحُذِف
المضاف وأُقيم المضاف إليه مُقامه » ، وهذا كلُّه لاحاجةَ إليه لِما عَرَفْتَ من
كلام الزمخشري .
وقرأ ابو عبد الله المدني : « يُلبسكم » بضم الياء من « ألبس » رباعياً ، وفيه
وجهان ، أحدهما : أن يكون المفعول الثاني محذوفاً تقديره : أو يلبسكم الفتنة . و «
شيعاً » على هذا حال أي : يُلْبِسكم الفتنة في حال تفرُّقكم وشتاتكم . والثاني :
أن يكون « شِيعاً » هو المفعولُ الثاني كأنه جعل الناسَ يلبسون بعضَهم مجازاً
كقوله :
1942- لَبِسْتُ أناساً فَأَفْنَيْتُهمْ ... وأَفْنَيْتُ بعد أُناسٍ أُناسا
والشيعة : مَنْ يتقوَّى بهم الإِنسان ، والجمع : « شِيَع » كما تقدم ، وأشياع كذا
قاله الراغب ، والظاهر أن أشياعاً جمع شِيَع كعِنَب وأعناب وضِلَع وأضلاع ، وشِيَع
جمع شِيْعة ، فهو جمع الجمع .
قوله : { وَيُذِيقَ } نسق على « يَبْعَث » والإِذاقة : استعارة ، وهي فاشية : {
ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ } [ القمر : 48 ] { ذُقْ إِنَّكَ } [ الدخان : 49 ] {
فَذُوقُواْ العذاب } [ الأنعام : 30 ] ، وقال :
1943- أَذَقْناهُمْ كؤوسَ الموت صِرْفاً ... وذاقوا من أَسِنَّتنا كؤوسا
وقرأ الأعمش : { ونذيق } بنون العظمة ، وهو التفاتٌ فائدتُه تعظيم الأمر والتحذير
من سطوته .
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66)
قوله : { وَكَذَّبَ بِهِ } : الهاء في « به » تعود على العذاب
المتقدم في قوله { عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ } قاله الزمخشري ، وقيل : تعود على
القرآن ، وقيل : تعود على الوعيد المتضمن في هذه الآيات المتقدمة . وقيل : على
النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا بعيدٌ لأنه خوطب بالكاف عَقِيبَه ، فلو كان كذلك
لقال : « وكذَّب به قومك ، وادِّعاء الالتفات فيه أبعدُ وقيل : لا بد من حذف صفة
هنا أي : وكذَّب به قومك المعاندون ، أو الكافرون ، لأن قومه كلهم لم يكذِّبوه
كقوله : { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } [ هود : 46 ] ، أي : الناجين . وحَذْفُ
الصفة وبقاءُ الموصوف قليل جداً بخلاف العكس . وقرأ ابن عبلة .
{ وكَذِّبَتْ } بتاء التأنيث ، كقوله تعالى : { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ } [
الشعراء : 105 ] { كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ } [ القمر : 33 ] . باعتبار الجماعمة
قوله : { وَهُوَ الحق } في هذه الجملةِ وجهان ، الظاهر منهما : أنها استئناف ،
والثاني : أنها حال من الهاء في » به « أي : كذَّبوا به في حال كونه حقاً ، وهو
أعزم في القبح .
قوله : { عَلَيْكُمْ } متعلق بما بعده وهو توكيد وقدَّم لأجل الفواصل ، ويجوز أن
يكون حالاً من قوله » بوكيل «؛ لأنه لو تأخر لجاز أن يكون صفةً له ، وهذا عند مَنْ
يُجيز تقديمَ الحال على صاحبها المجرور بالحرف وهو اختيار جماعة ، وأنشدوا عليه :
1944- غافلاً تُعْرَضُ المَنِيَّةُ للمَرْ ... ءِ فيُدْعَى ولات حين إباءُ
فقدَّم » غافلاً « على صاحبها وهو » المرء « وعلى عاملها وهو » تُعرض « فهذا
أَوْلى . ومنه :
1945- لَئِنْ كان بَرْدُ الماءِ هَيْمانَ صادياً ... إليَّ حبيباً إنها لحبيبُ
أي : إليَّ هيمان صادِياً ، ومثله :
1946- فإن يك أذوادٌ أُصِبْنَ ونسوةٌ ... فَلَنْ يذهبوا فَرْغاً بقتل حبالِ
» فرغاً « حال من » بقتل « و » حبال « بالمهملة اسم رجل ، مع أن حرف الجر هنا
زائدة فجوازه أولى من ما ذكرنا .
لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)
قوله تعالى : { لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ } : يجوز رفع « نبأ » بالابتدائية وخبرُه الجارُّ قبله ، وبالفاعلية عند الأخفش بالجار قبله ، ويجوز أن يكونَ « مستقر » اسمَ مصدرٍ أي استقرار ، أو مكان أو زمان .
وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)
قوله تعالى : { وَإِذَا رَأَيْتَ } : « إذا » منصوب بجوابها وهو «
فأعرضْ » أي : أعرضْ عنهم في هذا الوقت ، و « رأيت » هنا تحتمل أن تكون البَصرية
وهو الظاهر ولذلك تعدَّت لواحد . قال الشيخ : « ولا بد من تقدير حالٍ محذوفة أي :
رأيت الذين يخوضون في آياتنا وهم خائضون فيها ، أي : وإذا رأيتم ملتبسين بالخوض
فيها » انتهى . قلت : ولا حاجةَ إلى ذلك لأنَّ قوله « يخوضون » مضارع والراجح
حاليَّتُه ، وأيضاً فإن « الذين يخوضون » في قوة الخائضين ، واسم الفاعل حقيقةٌ في
الحال بلا خلاف ، فيُحمل هذا على حقيقته ، فيُستغنى عن حذف هذه الحال التي
قَدَّرها وهي حال مؤكدة . ويحتمل أن تكون عِلْميَّة ، وضعَّفه الشيخ بأنه يلزم منه
حَذْفُ المفعول الثاني ، وحذفه : إمَّا اقتصارٌ وإمَّا اختصار ، فإن كان الأول
فممنوعٌ انفاقاً ، وإن كان الثاني فالصحيح المنع حتى منع ذلك بعض النحويين .
قوله : { غَيْرِهِ } الهاء فيها وجهان ، أحدهما : أنه تعود على الآيات ، وعاد
مفرداً مذكراً؛ لأن الآيات في معنى الحديث والقرآن . وقيل : إنها تعود على الخوض
أي : المدلول عليه بالفعل كقوله :
1947- إذا نُهِي السَّفيهُ جرى إليه ... وخالف والسفيهُ إلى خلافِ
أي : جرى إلى السَّفه ، دل عليه الصفة كما دل الفعل على مصدره أي : حتى يخوضوا في
حديث غيرِ الخوض .
قوله : { يُنسِيَنَّكَ } قراءة العامة : « يُنْسِيَنَّك » بتخفيف السين من « أنساه
» كقوله : { وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان } [ الكهف : 63 ] { فَأَنْسَاهُ
الشيطان } [ يوسف : 42 ] . وقرأ ابن عامر بتشديدها مِنْ « نَسَّاه » والتعدّي جاء
في هذا الفعلِ بالهمزة مرةً وبالتضعيف أخرى كما تقدم في أنجى ونجَّى ، وأمهل
ومهَّل . والمفعول الثاني محذوف في القراءتين ، تقديره : وإمَّا يُنْسِيَنَّك
الشيطان الذكرَ أو الحق . والأحسنُ أن تقدِّر ما يليق بالمعنى أي : وإمَّا
يُنْسِيَنَّك الشيطان ما أُمِرْت به من تَرْك مجالسه الخائضين بعد تذكيرك فلا تقعد
بعد ذلك معهم ، وإنما أبرازهم ظاهرين تسجيلاً عليهم بصفة الظلم ، وجاء الشرط الأول
ب « إذا » لأنَّ خوضهم في الآيات محقق ، وفي الشرط الثاني ب « إنْ » لأنَّ إنساءَ
الشيطان له ليس أمراً محققاً بل قد يقع وقد لا يقع وهو معصومٌ منه .
ولم يَجِيءْ مصدرٌ على فِعْلى غيرُ « ذكرى » وقال ابن عطية : « وإمَّا » شرط ،
ويلزمُها في الأغلب النون الثقيلة ، وقد لا تلزم ، كقوله :
1948- إمَّا يُصيبْكَ عدوٌّ في مُنَاوَأَةٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . .
وهذا الذي ذكره مِنْ لزوم التوكيد هو مذهب الزجاج ، والناس على خلافه وأنشدوا ما
أنشده ابن عطية وأبياتاً أُخَرَ ذكرتها في « شرح التسهيل » كقوله :
1949- إمَّا تَرَيْني اليومَ أمَّ حَمْزِ ... على أني قد ضممت كثيراً من أطراف هذه
المسألة في أوائل البقرة ، إلا أن أحداً لم يقل يلزم توكيده بالثقيلة دون الخفيفة
، وإن كان ظاهر عبارة أبي محمد ذلك .
وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)
قوله تعالى : { وَمَا عَلَى الذين } : يجوز أن تقدِّر « ما » حجازية
فيكون « من شيء » اسمَها ، و « من » مزيدة فيه لتأكيد الاستغراق ، و { عَلَى الذين
يَتَّقُونَ } خبرها عند مَنْ يُجيز إعمالَها مقدَّمَةَ الخبر مطلقاً أو يرى ذلك في
الظرف وعديله . و { مِنْ حِسَابِهِم } حال من « شيء »؛ لأنه لو تأخر لكان صفة له ،
ويجوز أن تكون مهملةً : إمَّا على لغة تميم وإمَّا على لغة الحجاز لفواتِ شرطٍ وهو
تقديم خبرها وإن كان ظرفاً ، وتحقيق ذلك ممَّا تقدم في قوله : { مَا عَلَيْكَ مِنْ
حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ } [ الأنعام : 52 ] .
قوله : { ولكن ذكرى } فيه أربعة أوجه ، أحدها : أنها منصوبةٌ على المصدر بفعلٍ
مضمر ، فقدَّره بعضهم أمراً أي : ولكن ذكِّروهم ذكرى ، وبعضهم قدَّره خبراً أي :
ولكن يذكرونهم ذكرى . الثاني : أنه مبتدأ خبره محذوف اي : ولكن عليهم ذكرى ، أو
عليكم ذكرى أي : تذكيرهم . الثالث : أنه خبر لمبتدأ محذوف أي : هو ذكرى اي : النهي
عن مجالستهم والامتناع منها ذكرى الرابع : أنه عطف على موضع « شيء » المجرور ب «
مِنْ » أي : ما على المتِّقين من حسابهم شيء ولكن عليهم ذكرى فيكون من عطف
المفردات ، وأما على الأوجه السابقة فمن عطف الجمل ، وقد رَدَّ الزمخشري هذا
الوجهَ الرابعَ ، وردَّه عليه الشيخ ، فلا بد من إيراد قولهما . قال أبو القاسم :
« ولا يجوز أن يكون عطفاً على محل » من شيء « كقولك : » ما في الدار من أحد ولكن
زيد « لأن قوله » من حسابهم « يأبى ذلك .
قال الشيخ : » كأنه تخيَّل أن في العطف يلزم القيد الذي في المعطوف عليه وهو « من
حسابهم » فهو قيد في « شيء » ، فلا يجوز عنده أن يكون من عطف المفردات عطفاً على «
من شيء » على الموضع؛ لأنه يصير التقدير عنده : ولكن ذكرى من حسابهم ، وليس المعنى
على هذا ، وهذا الذي تخيَّله ليس بشيء ، لا يلزم في العطف ب « ولكن » ما ذكر ،
تقول : ما عندنا رجل سوء ولكن رجلُ صدق ، وما عندنا رجل من تميم ولكن رجل من قريش
، وما قام من رجل عالم ولكن رجل جاهل ، فعلى هذا الذي قَرَّرناه يجوز أن يكون من
عطف الجمل كما تقدَّم ، وأن يكون من عطف المفردات ، والعطف بالواو ، و « لكن » جيء
بها للاستدراك « .
قلت : قوله » تقول : ما عندنا رجل سوء ولكن رجل صدق « إلى آخر الأمثلة التي ذكرَها
لا يَرُدُّ على الزمخشري؛ لأنَّ الزمخشري وغيرَه من أهل اللسان والأصوليين يقولون
: إن العطف ظاهر في التشريك ، فإن كان في المعطوف عليه قيدٌ فالظاهر تقيُّد
المعطوف بذلك القيد ، إلا أن تجيء قرينةٌ صارفة فيُحال الأمر عليها .
فإذا قلت : ضربت زيداً يوم الجمعة وعمراً ، فالظاهر اشتراك عمرو مع زيد في الضرب مقيداً بيوم الجمعة فإن قلت : « وعمرا يوم السبت » لم يشاركه في قيده ، والآية الكريمة من قبيل النوع الأول أي : لم يؤت مع المعطوف بقرينةٍ تُخْرِجه؛ فالظاهر مشاركته للأول في قيده ، ولو شاركه في قيده لزم منه ما ذكر الزمخشري ، وأمَّا الأمثلةُ التي أوردها فالمعطوف مقيد بغير القيد الذي قُيِّد به الأول ، وإنما كان ينبغي أن يأتي بأمثلةٍ هكذا فيقول : ما عندما رجل سوء ولكن امرأة ، وماعندنا رجل من تميم ولكن صبيُّ ، فالظاهر من هذا أن المعنى : ولكنْ امرأة سوء ، ولكن صبي من قريش ، وقول الزمخشري « عطفاً على محل » من شيء « ولم يقل عطفاً على لفظه لفائدة حسنة يَعْسُر معرفتها : وهو أن » لكن « حرف إيجاب ، فلو عطف ما بعدها على المجرور ب » مِنْ « لفظاً لزم زيادة » من « في الواجب ، وجمهورُ البصريين على عدم زيادتها فيه ، ويدلُّ على اعتبار الإِيجاب في » لكن « أنهم إذا عطفوا بعد خبر ما الحجازية ، أبطلوا النصب؛ لأنها لا تعمل في المنتقض النفي ، و » بل « ك » لكن « فيما ذكرت لك .
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
قوله تعالى : { اتخذوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً } : « اتخذوا »
يجوز فيها وجهان ، أحدهما : أنها متعدية لواحد على أنها بمعنى اكتسبوا وعملوا ، و
« لهواً ولعباً » على هذا مفعول من أجله أي : اكتسبوه لأجل اللهو واللعب . والثاني
: أنها المتعدية إلى اثنين أوَّلُهما « دينهم » وثانيهما « لعباً ولهواً » قال
الشيخ : « ويظهر من بعض كلام الزمخشري وكلام ابن عطية أن » لعباً ولهواً « هو
المفعول الأول ، و » دينهم « هو المفعول الثاني . قال الزمخشري : » أي : دينهم
الذي كان يجب أن يأخذوا به لعباً ولهواً ، وذلك أن عبادتهم وما كانوا عليه من
تبحير البحائر وتسويب السوائب من باب اللهو واللعب واتِّباع هوى النفس وما هو من
جنس الهَزْل لا الجد ، وأو اتخذوا ما هو لعبٌ ولهو من عبادة الأصنام ديناً لهم ،
أو اتخذوا دينهم الذي كُلِّفوه وهو دين الإِسلام لَعِباً ولهواً حيث سخروا به قال
: « فظاهرُ تقديرِه الثاني يدلُّ على ما ذكرنا » .
وقال ابن عطية : « وأضاف الدين إليهم على معنى أنهم جعلوا اللعب واللهو ديناً ،
ويحتمل أن يكون المعنى : اتخذوا دينهم الذي كان ينبغي لهم لعباً ولهواً ، فتفسيره
الأول هو ما ذكرناه عنه » انتهى . قلت : وهذا الذي ذكراه إنما ذكراه تفسيرَ معنى
لا إعراب ، وكيف يَجْعلان النكرةَ مفعولاً أولَ والمعرفةَ معفولاً ثانياً من غير
داعية إلى ذلك مع أنهما من أكابر أهل هذا الشأن ، وانظر كيف أبرزا ما جعلاه
مفعولاً أولَ معرفةً وما جعلاه ثانياً نكرة في تركيب كلامهما ليَخِدوا على كلام
العرب فكيف يُظَنُّ بهما أن يجعلا النكر محدَّثاً عنها والمعرفة حديثاً في كلام
الله تعالى؟
وقوله : { وَذَكِّرْ بِهِ } أي بالقرآن ، يدلُّ له قوله : { فَذَكِّرْ بالقرآن مَن
يَخَافُ وَعِيدِ } [ ق : 45 ] وقيل : يعود على حسابهم . وقيل : على الذين وقيل :
هذا ضميرٌ يُفسِّره ما بعده وسيأتي إيضاحُه .
وقوله : { وَغَرَّتْهُمُ الحياوة } تحتمل وجهين . أحدهما : أنها مستأنفةٌ والثاني
: أنها عطفٌ على صلةِ الذين أي : الذي اتخذوا وغَرَّتْهُم وقد تقدم معنى الغرور في
آخر آل عمران وقيل : هنا غَرَّتهم من « الغَرّ » بفتح العين أي : ملأت أفواههم
وأشبعتهم ، وعليه قول الشاعر :
1950- ولمَّا التَقَيْنا بالحُلَيْبَةِ غَرَّني ... بمعروفِهِ حتى خرجْتُ أفوقُ
قوله : { أَن تُبْسَلَ } : في هذا وجهان ، المشهور- بل الإِجماع - على أنه مفعول
من أجله وتقديره : مخافة أن تُبْسَل ، أو كراهة أن تُبْسَلَ ، أو أن لا تبسل
والثاني : قال الشيخ : - بعد أن نقل الاتفاق على المفعول من أجله - « ويجوز عندي
أن يكون في موضعِ جرِّ على البدل من الضمير ، والضميرُ مفسَّرٌ بالبدل ، ويُضْمر
الإِبسالُ لما في الإِضمار من التفخيم ، كما أضمروا ضمير الأمر والشأن ، والتقدير
: وذكِّرْ بارتهان النفوس وحبسها بما كسبت كما قالوا : » اللهم صلِّ عليه الرؤوفِ
الرحيمِ « وقد أجاز ذلك سيبويه قال : » فإن قلت : « ضربت وضربوني قومك » نصبت ،
إلا في قول مَنْ قال : أكلوني البراغيث ، أوتحملُه على البدل من المضمر .
وقال أيضاً : « فإن قلتَ : » ضربني وضربتُهم قومُك « رَفَعْتَ على
التقديم والتأخير ، إلا أن تَجْعَلَ ههنا البدل كم جعلته في الرفع » انتهى . وقد
روي قوله :
1951- . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . فاستاكَتْ به عُودِ إسْحِلِ
بجر « عُود » على البدل من الضمير . قلت : أمَّا تفسيرُ الضميرِ غيرِ المرفوع
بالبدل فهو قول الأخفش وأنشد عليه هذا العجز وأوله :
إذا هي لم تَسْتَكْ بعودِ أراكةٍ ... تُنُخَّلَ فاستاكَتْ به عودِ إسحلِ
والبيتُ لطُفَيل الغَنَويّ ، يُروى برَفْع « عود » وهذا هو المشهور عند النحاة ،
ورفعُهُ على إعمالِ الأولِ وهو « تُنُخِّل » وإهمال الثاني وهو « فاستاكَتْ »
فأعطاه ضميرَه ، ولو أَعْمَلَه لقال : « فاستاكَتْ بعود إسحل » ولا يمكن لانكسار
البيت ، والروايةُ الأخرى التي استشهد بها ضعيفةٌ جداً لا يعرفها أكثر المُعْربين
، ولو استشهد بما لا خلاف فيه كقوله :
1952- على حالةٍ لو أن في القوم حاتِماً ... على جوده لضَنَّ بالماءِ حاتمِ
بجرِّ « حاتم » بدلاً من الهاء في « بجوده » والقوافي مجورة لكان أَوْلَى
والإِبسال : الارتهان ، ويقال : أَبْسَلْتُ ولدي وأهلي أي ارْتَهَنْتُهُمْ قال :
1953- وإبسالي بَنِيَّ بغير جُرْمٍ بَعَوْناه ولا بدمٍ مُراق ... بَعَوْنا :
جَنَيْناَ ، والبَعْوُ : الجناية . وقيل : الإِبسال : أن يُسْلِمَ الرجل نفسه
للهلكة .
وقال الراغب : « البَسْلُ : ضَمُّ الشيء ومَنْعُه ، ولتضمُّنهِ معنى الضمِّ
استُعير لتقطُّب الوجه فقيل : هو : باسل ومُتْبَسِلُ الوجه ، ولتضمينه معنى المنع
قيل للمُحَرَّم والمرتَهَن : » بَسْلٌ « ثم قال : » والفرقُ بين الحرام والبَسْل
أنَّ الحرامَ عامٌ فيما كان ممنوعاً منه بالقهر والحكم ، والبَسْلُ هو الممنوع
بالقهر ، وقيل للشجاعة بسالة : إمَّا لِما يُوْصَفُ به الشجاع من عُبوسِ وجهه أو
لكونه مُحَرَّماً على أقرانه أو لأنه يمنع ما في حوزته وما تحت يده من أعدائه ،
والبُسْلَةُ أجرة الراقي ، مأخوذة من قول الراقي : أَبْسَلْتُ زيداً أي :
جَعَلْتُه محرَّماً على الشيطان أو جَعَلْتُه شجاعاً قوياً على مدافعته ، وبَسَل
في معنى أَجَلْ وبَسْ « أي : فيكون حرفَ جواب كأجل ، واسمَ فعل بمعنى اكتف ك » بس
« .
وقوله : { بِمَا } متعلّقٌ ب » تُبْسَل « أي : بسبب ، و » ما « مصدرية أو بمعنى
الذي ، او نكرة ، وأمرها واضح .
قوله : { لَيْسَ لَهَا } هذه الجملة فيها ثلاثة أوجه ، أحدها : وهوالظاهر أنها
مستأنفةٌ سِيقَتْ للإِخبار بذلك . والثاني : أنها في محل رفع صفة ل » نفس «
والثالث : أنها في محل نصب حالاً من الضمير في » كسبت « .
قوله : { مِن دُونِ } في « مِنْ » وجهان ، أظهرهما : أنها لابتداء
الغاية ، والثاني : أنها زائدةٌ ، نقله ابن عطية بشيء؛ وإذا كانت لابتداء الغاية
ففي ما يتعلَّق به وجهان ، أحدهما : أنها حال مِنْ « وليّ » لأنها لو تأخَّرَتْ
لكانَتْ صفةً له ، فتتعلَّقُ بمحذوف هو حال . والثاني : أنها خبر « ليس » فتتعلق
بمحذوف أيضاً هو خبر ل « ليس » وعلى هذا فيكون « لها » متعلقاً بمحذوف على البيان
. وقد مرَّ نظائره ، و { مِن دُونِ الله } فيه حذفُ مضافٍ أي : من دون عذابِهِ
وجزائه .
قوله : { كُلَّ عَدْلٍ } منصوبٌ على المصدرية لأنَّ « كل » بحسب ما تُضاف إليه ،
هذا هو المشهور ، ويجوز نصبُه على المفعول به أي : وإن تَفْدِ يداها كلَّ ما
تَفْدِي به لا يُؤخَذُ ، فالضميرُ في « لا يُؤْخَذُ » على الأول : قال الشيخ : «
عائد على المعدول به المفهوم من سياق الكلام ، ولا يعود إلى المصدر ، لأنه لا
يُسْنَدُ إليه الأخذ ، وأمَّا في { وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } [ البقرة : 48
] فمعنى المَفْدِيِّ به فيصح » انتهى .
أي : إنه إنما أَسْنَدَ الأخْذَ إلى العدل صريحاً في البقرة ، لأنه ليس المرادُ
المصدرَ بل الشيءُ المَفْدِيُّ به ، وعلى الثاني يعود على « كل عدل » لأنه ليس
مصدراً فهو كآية البقرة «
قوله : { أولئك الذين أُبْسِلُواْ } يجوز أن يكون » الذين « خبراً » ولهم شراب «
خبراً ثانياً ، وأن يكون » لهم شراب « حالاً : إمَّا من الضمير في » أُبْسِلوا «
وإمَّا من الموصول نفسه ، و » شرابٌ « فاعل لاعتماد الجارِّ قبله على ذي الحال ،
ويجوز أن يكون » لهم شراب « مستأنفاً فهذه ثلاثة أوجه في » لهم شراب « ويجوز أن
يكون » الذين « بدلاً من » أولئك « أو نعتاً لهم فيتعيَّنُ أن تكون الجملة من »
لهم شرابٌ « خيراً للمبتدأ ، فتحصَّل في الموصول أيضاً ثلاثة أوجه : كونه خبراً أو
بدلاً أو نعتاً ، فجاءت مع ما قبلها ستة أوجه في هذه الآية .
و » شراب « يجوز رفعُه مِنْ وجهين : الابتدائية والفاعلية عند الأخفش ، وعند
سيبويه أيضاً على أن يكون » لهم « هو خبر المبتدأ أو حالاً حيث جعلناه حالاً ، و »
شراب « مرتفعٌ به لاعتماده على ما تقدَّم ، و » من حميمٍ « صفةٌ ل » شراب « فهو في
محلِّ رفع ويتعلق بمحذوف .
و » شراب « فَعَال بمعنى مَفْعول ، وفَعال بمعنى مفعول كطعام بمعنى مطعوم وشراب
بمعنى مشروب لا ينقاس لا يقال : أَكال بمعنى مأكول ، ولا ضَراب بمعنى مضروب .
والإِشارة ب » ذلك « في قول الزمخشري والحوفي إلى الذين اتخذوا ، فلذلك أتى بصيغة
الجمع ، وفي قول ابن عطية وأبي البقاء إلى الحبس المفهوم من قوله » أن تُبْسَلَ
نَفْسٌ « إذ المرادُ به عمومُ الأنفسِ فلذلك أُشير إليه بالجمع .
قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)
قول تعالى : { أَنَدْعُواْ } : استفهام توبيخ وإنكار ، والجملة في
محل نصب بالقول ، و « ما » مفعولةٌ ب « ندعو » وهي موصولةٌ أو نكرةٌ موصوفة ، و «
مِنْ دون الله » متعلِّقٌ ب « ندعو » قال أبو البقاء : « ولا يجوز أن يكونَ حالاً
من الضمير في » يَنْفَعنا « ولا معمولاً ل » ينفعنا « لتقدُّمِه على » ما «
والصلةُ والصفةُ لا تعمل فيما قبل الموصول والموصوف ، » قوله « من الضمير في
يَنْفعنا » يعني به المرفوعَ العائدَ على « ما » وقوله : « لا تعمل فيما قبل
الموصول والموصوف » يعني أن « ما » لا تخرج عن هذين القسمين ، ولكن يجوز أن يكون «
من دون » حالاً من « ما » نفسها على قوله : إذ لم يجعل المانعَ من جَعْلِه حالاً
من ضميره الذي في « ينفعنا » إلا صناعياً لا معنوياً ، ولا فرق بين الظاهر وضميره
بمعنى أنه إذا جاز أن يكون حالاً من ظاهر جاز أن يكون حالاً من ضميره ، إلا أن
يمنع مانع .
قوله : { وَنُرَدُّ } فيه وجهان أظهرهما : أنه نسقٌ على « ندعو » فهو داخلٌ في
حيِّز الاستفهام المتسلط عليه القول . والثاني : أنه حال على إضمار مبتدأ أي :
ونحن نُرَدُّ . قال الشيخ بعد نقله عن أبي البقاء : « وهو ضعيفٌ لإِضمار المبتدأ ،
ولأنها تكون حالاً مؤكدة » وفي كونها مؤكِّدةً نظر ، لأنَّ المؤكِّدةَ ، ما فُهِم
معناها من الأول وكأنه يقول مِنْ لازم الدعاء « من دون الله » الارتداد على
العَقِب .
قوله : { على أَعْقَابِنَا } فيه وجهان ، أحدهما : أنه متعلقٌ ب « نُرَدٌّ »
والثاني : أنَّه متعلِّقٌ بمحذوف على أنه حال من مرفوع « نُرَدُّ » أي : نُرَدٌّ
راجعين على أَعقابنا أو منقلبين أو متأخرين ، كذا قدَّره وهو تفسيرُ معنى ، إذ
المقدَّر في مثله كون مطلق ، وهذا يحتمل أن يُقال فيه إنه حال مؤكدة ، و « بعد إذ
» متعلق ب « نُرَدٌّ » .
قوله : { كالذي استهوته } في هذه الكاف وجهان ، أحدهما : أنه نعت مصدر محذوف أي :
نُرَدٌّ رَدَّاً مثل ردِّ الذين . والثاني : أنها في محل نصب على الحال من مرفوع «
نرد » أي : نُرَدُّ مشبهين الذي استهوته الشياطين ، فمَنْ جوَّز تعدُّدَ الحال
جَعَلَها حالاً ثانية إن جعل « على أعقابنا » حالاً ، ومَنْ لم يُجَوِّزْ ذلك
جَعَلَ هذه الحالَ بدلاً من الحالِ الأولى ، ألم يجعل « على أعقابنا » حالاً بل
متعلقاً ب « نُرَدٌّ »
والجمهورُ على « اسْتَهْوَتْهُ » بتاء التأنيث وحمزة « استهواه » وهو على قاعدِته
من الإِمالة ، الوجهان معروفان ممَّا تقدَّم في :
{ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا } [ الأنعام : 61 ] . وقرأ ابو عبد الرحمن
والأعمش : « استهوَتْه الشيطان » بتأنيث الفعل والشيطان مفردٌ قال الكسائي : « وهي
كذلك في مصحف ابن مسعود » وتوجيهُ هذه القراءة أنها نُؤوِّل المذكر بمؤنث كقولهم :
« أتته كتابي فاحترقها » أي : صحيفتي ، وتقدم له نظائر . وقرأ الحسن البصري : «
الشياطون » وجعلوها لحناً ولا تصل إلى اللحن ، إلا أنها لُغَيَّةٌ رديئةٌ ، سُمِع
: حول بستان فلانٍ بساتون ، وله سَلاطون ، ويحكى أنه لمَّا حُكِيَتْ قراءة الحسن
لحَّنه بعضهم ، فقال الفراء : « أَيْ والله يُلحِّنون الشيخ ، ويستشدون بقول رؤبة
» ولعمري لقد صدق الفراء في إنكار ذلك . والمراد بالذي الجنس ، ويحتمل أن يُراد به
الواحدُ الفذُّ .
قوله : { فِي الأرض } فيه أربعةُ أوجه ، أحدها : أنه متعلقٌ بقوله : { استهوته }
الثاني : أنه حال من مفعول « استهوته » الثالث : أنه حال من « حَيْران » الرابع :
أنه حال من الضمير المستكنّ في « حيران » و « حَيْران » حال : إمَّا من هاء «
اسْتَهْوَتْه » على أنها بدل من الأولى أو عند مَنْ يُجيز تَعَدُّدها ، وإمَّا من
« الذي » وإمَّا من الضمير المستكنِّ في الظرف ، وحيران مؤنَّثُه حَيْرى ، ولذلك
لم ينصرف والفعل حار يحار حَيْرةً وحَيَراناً وحَيْرورة .
قوله : { لَهُ أَصْحَابٌ } جملة في محصل نصب صفة لحيران ، ويجوز أن يكون حالاً من
الضمير في حيران وأن تكون مستأنفةً و « إلى الهدى » متعلِّقٌ ب « يَدْعُونه » وفي
مصحف ابن مسعود وقراءته : « أتينا » بصيغة الماضي ، و « إلى الهدى » على هذه
القراءة متعلِّقٌ به ، وعلى قراءة الجمهورِ : الجملة الأمريَّة في محل نصب بقول
مضمر اي : يقولون ائتنا ، والقول المضمر في محلِّ صفةٍ لأصحاب وكذلك « يدعونه » .
قوله : { لِنُسْلِمَ } في هذه اللام أقوال ، أحدها : - وهو مذهب سيبويه - أن هذه
اللامَ بعد الإِرادة والأمر وشبهِهِما متعلقة بمحذوف على أنه خبر للمبتدأ وذلك
المبتدأ هو مصدر من ذلك الفعل المتقدم ، فإذا قلت : أردْتَ لتقوم ، وأمرت زيداً
ليذهب كان التقدير : الإِرادة للقيام والأمر للذهاب ، كذا نقل الشيخ ذلك عن سيبويه
وأصحابه وفيه ضعفٌ قد قَدَّمْتُه في سورة النساء عند قوله : { يُرِيدُ الله
لِيُبَيِّنَ لَكُمْ } [ الآية : 26 ] . الثاني : أن مفعول الأمر والإِرادة محذوف ،
وتقديره : وأُمِرْنا بالإِخلاص لنُسْلِمَ
الثالث : قال الزمخشري : « هي تعليل للأمر بمعنى : أُمِرْنا وقيل لنا أسلموا لأجل
أن نُسْلم » الرابع : أن اللام زائدة أي : أُمِرْنا أن نُسِلمَ الخامس : أنها معنى
الباء أي : بأَنْ نُسْلِمَ . السادس : أن اللام وما بعدها مفعول الأمر واقعة موقع
« أن » أي أنهما يتعاقبان فتقول : أمرتُك لتقومَ وأن تقوم ، وهذا مذهب الكوفيين .
وقال ابن عطية : « ومذهبُ سيبويه أنَّ » لنُسْلِمَ « في موضع المفعول وأنَّ قولك :
» أُمِرْت لأقومَ وأَنْ أقومَ « يجريان سواء وقال الشاعر :
1954- أُريد لأَنْسى حبَّها فكأنَّما ... تَمثَّلُ لي ليلى بكل طريقِ
وهذا ليس مَذْهَبَ سيبويه إنما مذهبُه ما تقدَّم ، وقد تقدَّم تحقيق هذه المسألة في
السورةِ المشارِ إليها قبلُ .
وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72)
قوله تعالى : { وَأَنْ أَقِيمُواْ } : فيه أقوال أحدها : أنها في محل
نصب بالقول نسقاً على قوله : إنَّ هُدَى الله هو الهدى أي : قل هذين الشيئين . والثاني
: أنه نسقٌ على « لِنُسْلَم » والتقدير : وأمرنا بكذا للإِسلام ولنقيم الصلاة ، و
« أن » توصل بالأمر كقولهم : « كتبت إليه بأن قم » حكاه سيبويه وهذا رأي الزجاج ،
والثالث : أنه نسق على « ائتنا » قال مكي : « لأن معناه أن ائتنا » وهو غير ظاهر .
والرابع : أنه معطوف على مفعول الأمر المقدَّر والتقدير : وأُمِرْنا بالإِيمان
وبإقامة الصلاة ، قاله ابن عيطة .
قال الشيخ : « وهذا لا بأسَ به إذ لا بد من التقدير المفعول الثاني ل » أُمِرْنا «
ويجوز حَذْفُ المعطوف عليه لفهم المعنى ، تقول : أضربت زيداً؟ فيجيب : نعم وعمراً
، التقدير : ضربته وعمراً . وقد أجاز الفراء : » جاءني الذي وزيد قائمان « التقدير
: الذي هو وزيدٌ قائمان ، فحذف » هو « لدلالة المعنى عليه » وهذا الذي قال إنه لا
بأس به ليس من أصول البصريين . وأمَّا « نَعَمْ وعَمْراً » فلا دلالة فيه لأنَّ «
نَعَمْ » قامَتْ مقامَ الجملة المحذوفة . وقال مكي قريباً من هذا القول إلا أنه لم
يُصَرِّحْ بحذف المعطوف عليه فإنه قال : « وأن في موضع نصب بحذفِ الجارِّ تقديرُه
: وبأَنْ أَقيموا » فقوله : وبأن أقيموا هو معنى قول ابنِ عطية ، إلا أن ذاك أوضحه
بحذف المعطوف عليه .
وقال الزمخشري : « فإن قلت : علام عطف قوله { وَأَنْ أَقِيمُواْ } ؟ قلت : على
موضع » لِنُسْلِمَ « كأنه قيل : وأُمِرْنا أن نسلم وأن أقيموا » قال الشيخ : «
وظاهر هذا التقدير أنَّ » لنسلم « في موضع المفعول الثاني ل » أُمِرْنا « وعُطِفَ
عليه » وأَنْ أقيموا « فتكون اللام على هذا زائدة وكان قد قدَّم قبل هذا أن اللام
تعليل للأمر فتناقض كلامه ، لأن ما يكون علةً يستحيل أن يكون مفعولاً ويدل على أنه
أراد بقوله : » أن نسلَم في موضع المفعول الثاني « قوله بعد ذلك » ويجوز أن يكونَ
التقديرُ : وأُمِرْنا لأن نسلم ولأن أقيموا أي للإِسلام ولإِقامة الصلاة ، وهذا
قول الزجاج ، فلو لم يكن هذا القول مغايراً لقوله الأول لاتَّحد قولاه وذلك خُلْف
« .
وقال الزجاج : » أن أقيموا عطف على قوله « لِنُسْلِمَ » تقديره : وأُمِرْنا لأن
نُسْلِمَ وأن أقيموا « قال ابن عطية : » واللفظ يمانعه لأنَّ « نُسْلِمَ » مُعْربٌ
و « أقيموا » مبني وعطف المبنيِّ على المعرب لا يجوز؛ لأنَّ العطفَ يقتضي التشريك
في العامل « .
قال الشيخ » وما ذُكِرَ من أنه لا يُعْطف المبني على المعرب ليس كما ذكر ، بل يجوز
ذلك نحو : « قام زيد وهذا » وقال تعالى :
{ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النار } [ هود :
98 ] ، غاية ما في الباب أنَّ العمل يؤثر في المعرب ولا يؤثر في المبني ، وتقول :
« إنْ قام زيد ويقصدْني أُكرمه » ف « إن » لم تؤثر في « قام » لأنه مبنيٌّ وأثَّرت
في « يقصِدْني » لأنه معرب « ثم قال ابن عطية : » اللَّهم إلا أن تجعل العطف في «
إنْ » وحدها ، وذلك قلق ، وإنما يتخرَّج على أن يقدَّر قوله « وأن أقيموا » بمعنى
« ولنقم » ثم خرجَتْ بلفظ الأمرِ لما في ذلك جزالةِ اللفظ ، فجاز العطف على أن
يُلغى حكم اللفظ ويُعَوَّلَ على المعنى ، ويُشْبه هذا من جهةِ ماحكاه يونس عن
العرب : « ادخلوا الأول فالأول » وإلاَّ فلا يجوز إلا : الأولَ فالأولَ بالنصب «
قال الشيخ : » وهذا الذي استدركه بقوله « اللهم إلا » إلى آخره هو الذي أراده
الزجاج بعينه ، وهو أنَّ « أَنْ أقيموا » معطوفٌ على « أن نُسْلِمَ » وأنَّ كليهما
علة للمأمور به المحذوف؛ وإنما قلق عند ابن عطية لأنه أراد بقاء « أن أقيموا » على
معناها من موضوع الأمر وليس كذلك ، لأنَّ « أَنْ » إذا دخلت على فعل الأمر وكانت
المصدرية انسبك منها ومن الأمر مصدر ، وإذا انسبك منهما مصدر زال معنى الأمر ، وقد
أجاز النحويون سيبوبه وغيره أن تُوْصَلَ أَنْ المصدرية الناصبةُ للمضارع بالماضي
والأمر . قال سيبويه : « وتقول : كتبت إليه بأَنْ قم ، أي بالقيام » فإذا كان
الحكم كذا كان قوله « لنُسْلِمَ و » أَنْ أقيموا « في تقدير : للإِسلام ولإِقامة
الصلاة ، وأمَّا تشبيه ابن عطية له بقوله : » ادخلوا الأولُ فالأولُ « بالرفع فليس
بشبيهٍ لأن » ادخلوا « لا يمكن لو أزيل عنه الضمير أن يتسلط على ما بعده بخلاف »
أَنْ « فإنها توصلُ بالأمر فإذن لا شبه بينهما » انتهى .
أمَّا قولُ الشيخ « وإنما قَلِقَ عند ابن عطية لأنه أراد بقاء » أَنْ أقيموا « على
معناها من موضوع الأمر » فليس القلقُ عنده لذلك فقط كما حصره الشيخ ، بل لأمرٍ آخر
من جهة اللفظ وهو أنَّ السِّياقَ التركيبي يقتضي على ما قاله الزجاج أن يكون «
لنسلم » وأن نقيم ، فتأتي في الفعل الثاني بضمير فلما لم يقل ذلك قلق عنده ،
ويدلُّ على ما ذكرته قول ابن عطية « بمعنى ولنقم ، ثم خرجت بلفظ الأمر » إلا آخره
.
والخامس : أنه محمول على المعنى ، إذ المعنى : قيل لنا : أسْلِموا وأن أقيموا .
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
قوله تعالى : { وَيَوْمَ يَقُولُ كُن } : في « يوم » ثمانية أوجه
أحدها - وهو قول الزجاج - أنه مفعول به لا ظرف وهو معطوف على الهاء في « اتقوه »
أي : واتقوا يومَ أي عقابَ يومِ يقول أو هَوْلَه أو فَزَعَه ، فهو كقوله تعالى في
موضع آخر : { واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي } [ البقرة : 48 ] على المشهور في
إعرابه . الثاني : أنه مفعول به أيضاً ولكنه نسق على « السماوات والأرض » أي : وهو
الذي خلق يوم يقول . الثالث : أنه مفعولٌ لا ذكْرُ مقدراً . الرابع : أنه منصوبٌ
بعامل مقدَّرٍ ، وذلك العامل المقدر مفعول فعل مقدر أيضاً ، والتقدير : واذكروا
الإِعادة يوم يقول : كن أي : يوم يقول الله للأجساد كوني معادةً . الخامس : أنه
عطف على موضع قوله « بالحق » فإنَّ موضعه نصب ويكون « يقول » بمعنى « قال » ماضياً
كأنه قيل : وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم قال لها : كن .
السادس : أن يكون « يوم يقول » خبراً مقدماً ، والمبتدأ « قوله » و « الحق » صفته
، أي : قوله الحق في يوم يقول كن فيكون ، وإليه نحا الزمخشري فإنه قال : « قوله
الحق مبتدأ ويوم يقول خبره مقدماً عليه ، وانتصابه بمعنى الاستقرار كقولك » يوم
الجمعة القتال « واليوم بمعنى الحين ، والمعنى : أنه خلق السماوات والأرض قائماً
بالحكم وحين يقول لشيء من الأشياء كن ، فيكون ذلك الشيء قوله الحق والحكمة .
السابع : أنه منصوب على الظرف ، والناصب له معنى الجملة التي هي » قوله الحق « أي
: حق قوله في يوم يقول كن الثامن : أنه منصوب بمحذوف دلَّ عليه » بالحق «
قال الزمخشري : » وانتصابُ اليوم بمحذوف دلَّ عليه قوله « بالحق » كأنه قيل : وحين
يكونّ ويقدّر يقوم بالحق « قال الشيخ : » وهذا إعراب متكلف « .
قوله : { فَيَكُونُ } هي هنا تامة ، وكذلك قوله : { كن } فتكتفي بمرفوع ولا تحتاج
إلى منصوب ، وفي فاعلها أربعة أوجه ، أحدها : أنه ضمير جميع ما يخلقه الله تعالى
يوم القيامة ، كذا قَيَّده أبو البقاء بيوم القيامة . وقال مكي : » وقيل : تقدير
المضمر في « فيكون » جميع ما أراد « فأطلق ولم يقيِّدْه ، وهذا أولى وكأن أبا البقاء
أخذ ذلك من قرينة الحال . الثاني : أنه ضمير الصور المنفوخ فيها ، ودلَّ عليه قوله
: { يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور } الثالث : هو ضمير اليوم أي : فيكون ذلك اليوم
العظيم . الرابع : أن الفاعل هو » قولُه « و » الحق « صفته أي : فيوجَدُ قوله الحق
، ويكون الكلام على هذا تاماً على » الحق « .
قوله : { قَوْلُهُ الحق } فيه أربعةُ أوجه ، أحدها : أنه مبتدأ و » الحق « نعته ،
وخبره قوله » يوم يقول « والثاني : أنه فاعل لقوله » فيكون « » والحق « نعته أيضاً
، وقد تقدَّم هذان الوجهان ، .
الثالث : أنَّ « قولُه » مبتدأ ، و « الحقٌّ » خبره ، أَخْبَرَ عن
قوله بأنه لا يكون إلا حقاً . الرابع : أنه مبتدأ أيضاً و « ألحق » نعته ، و « يوم
يُنْفخ » خبره ، وعلى هذا ففي قوله « وله الملك » ثلاثة أوجه أحدها : أن تكونَ
جملةً من مبتدأ وخبر معترضة بين المبتدأ وخبره فلا محلَّ لها حينئذ من الإِعراب .
والثاني : ان يكون « الملك » عطفاً على « قوله » وأل فيه عوضٌ عن الضمير ، « وله »
في محل نصب على الحال من « الملك » العامل فيه الاستقرار والتقدير : قولُه الحقُّ
وملكه كائناً له يوم يُنفخ ، فأخبرت عن القول الحق والملك الذي لله بأنهما كائنان
في يوم ينفخ في الصور . الثالث : أنَّ الجملة من « وله الملك » في محل نصب على
الحال ، وهذا الوجه ضعيف لشيئين ، أحدهما : أنها تكون حالاً مؤكدة ، والأصل : أن
تكون مؤسسةً . الثاني : أن العاملَ فيها معنويٌّ؛ لأنه الاستقرار المقدَّر في
الظرف الواقع خبراً ، ولا يجيزه إلا الأخفشُ ومَنْ تابعه . وقد تقرَّر مذهبُه غيرَ
مرة بدلائله .
قوله : { يَوْمَ يُنفَخُ } فيه ثمانية أوجه ، أحدها : أنه خبر لقوله « قول الحق »
وقد تقدَّم هذا بتحقيقه ، الثاني : أنه بدل من « يوم يقول » فيكون حكمه حكمَ ذاك .
الثالث : أنه ظرف ل « تُحْشَرون » أي : وهو الذي إليه تُحشرون في يوم ينفخ في
الصور . الرابع : أنه منصوب بنفس الملك أي : وله الملك في ذلك اليوم فإن قلت :
يلزم من ذلك تقيُّد الملك بيوم النفخ والملك له كل وقت . فالجواب ما أُجيب به في
قوله { لِّمَنِ الملك اليوم؟لله } [ غافر : 16 ] وقوله : { والأمر يَوْمَئِذٍ
لِلَّهِ } [ الانفطار : 19 ] وهو أن فائدةَ الإِخبار بذلك أنه أَثْبَتَ المُلْك
والأمر في يوم لا يمكن أحد أن يدِّعي فيه شيئاً من ذلك فكذلك هذا . الخامس : أنه
حال من الملك ، والعامل فيه « له » تضمَّنه من معنى الفعل . السادس : انه منصوبٌ
بقوله « يقول » السابع : أنه منصوب بعالم الغيب بعده . الثامن : أنه منصوب بقوله «
قول الحق » فقد تحصَّل في كل من اليومين ثمانيةُ أوجه ، ولله الحمد .
والجمهور على « يُنْفَخُ » مبنيَّاً للمفعول بياء الغيبة ، والقائم مقام الفاعل
الجارُّ بعده . وقرأ أبو عمرو في رواية عبد الوراث : « ننفخ » بنون العظمة مبنياً
للفاعل . والصُّور : الجمهورُ على قراءته ساكنَ [ العين ] وقرأه الحسن البصري
بفتحها ، فأمَّا قراءة الجمهور فاختلفوا في معنى الصُّور فيها ، فقال جماعة :
الصُّور جمع صُورة كالصُّوف جمع صُوفة ، والثُّوم جمع ثومة ، وهذا ليس جمعاً صناعياً
وإنا هو اسم جنس ، إذ يُفَرَّق بينه وبين واحده بتاء التأنيث ، وأيَّدوا هذا
القولَ بقراءة الحسنِ المتقدمة .
وقال جماعةٌ : إن الصُّور هو القَرْن ، قال بعضهم : هي لغة اليمنِ
وأنشد :
1955- نحن نَطَحْناهُمْ غَداة الجَمْعَيْنْ ... بالشامخات في غبار النَّقْعَيْنْ
نَطْحاً شديداً لا كنطح الصُّوْرَيْن ... وأيَّدوا ذلك بما ورد الأحاديث الصحيحة ،
قال عليه السلام : « كيف أَنْعَمُ وصاحبُ القَرْن قد التقمه » وقيل : في صفته إنه
قَرْنٌ مستطيل فيه أبخاش ، وأن أرواحَ الناس كلهم فيه ، فإذا نفخ فيه إسرافيل
خرجَتْ روحُ كلِّ جسدٍ من بخش من تلك الأبخاش . وأنحى أبو الهيثم على مَنْ ادَّعى
أن الصُّور جمع صُوره فقال : « وقد اعترض قومٌ فأنكروا أن يكون الصُّور قرناً كما
أنكروا العرش والميزان والصراط ، وادَّعَوا أن الصور جمع الصورة كالصوف جمع الصوفة
، ورَوَوْا ذلك عن أبي عبيدة ، وهذا خطأٌ فاحشٌ وتحريفٌ لكلام الله عز وجل عن
مواضعه لأن الله قال : { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } [ غافر : 64 ] {
وَنُفِخَ فِي الصور } [ الكهف : 99 ] فَمَنْ قرأها : » ونُفِخ في الصُّوَرِ « أي
بالفتح ، وقرأ » فَأَحْسَنَ صُوْرَكم « أي بالسكون فقد افترى الكذبَ على الله ،
وكان أبو عبيد صاحبَ أخبارٍ وغريب ولم يكن له معرفة بالنحو » قال الأزهري : « قد
احتجَّ أبو الهيثم فأحسن الاحتجاج ، ولا يجوز عندي غيرُ ما ذهب إليه وهو قول أهل
السنة والجماعة » أنتهى ، ولا ينبغي أن ينسب ذلك إلى هذه الغاية التي ذكرها أبو
الهيثم . وقال الفراء : « يُقال : نَفَخ في الصور ونَفَخَ الصورَ » وأنشد :
1956- لولا ابنُ جَعْدَةَ لم يُفْتَح قُهَنْدُزُكُمْ ... ولا خراسانُ حتى يُنْفَخَ
الصُّورُ
وفي المسألة كلامٌ أكثرُ من هذا تركتُه إيثاراً للاختصار .
قوله : { عَالِمُ الغيب } في رفعه أربعةُ أوجه ، أحدها : أن يكون صفةً للذي في
قوله : { وَهُوَ الذي خَلَقَ } وفيه بُعْدٌ لطول الفصل بأجنبيٍّ . الثاني : أنه
خبر مبتدأ مضمر أي : هو عالم . الثالث : أنه فاعلٌ لقوله : { يقول } أي : يوم يقول
عالم الغيب . الرابع : أنه فاعل بفعلٍ محذوف يدل عليه الفعلُ المبنيُّ للمفعول؛
لأنه لمَّا قال « يُنفخ في الصور » سأل سائِلٌ فقال : من الذي يَنْفُخ؟ فقيل : «
عالم الغيب » أي : « يُنْفخ فيه عالمُ الغيب أي : يأمر بالنفخ فيه ، كقوله : {
يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال رِجَالٌ } [ النور : 3637 ] أي يُسَبِّحُه ،
ومثله أيضاً قول الآخر :
1957- ليُبْكَ يزيدُ ضارعٌ لخصومةٍ ... ومختبطٌ ممَّا تُطيح الطوائح
أي : مَنْ يَبْكيه؟ فقيل : ضارع ، أي : يبكيه ضارع ومثله : » وكذلك زُيِّن لكثير
من المشركين قَتْلُ أولادِهم شركاؤُهم « في قراءة مَنْ بني » زُيِّن « للمفعول
ورفع » قَتْلُ « و » شركاؤهم « كأنه قيل : مَنْ زيَّنه لهم؟ فقيل : زيَّنه شركاؤهم
. والرفع على ما تقدَّم قراءة الجمهور ، وقرأ الحسن البصري والأعمش : » عالمِ «
بالجر وفيها ثلاثة أوجه ، أحسنها : أنه بدل من الهاء في » له « الثاني : أنه بدل
من » رب العالمين « وفيه بُعْدٌ لطول الفصل بين البدل والمبدل منه . الثالث : أنه
نعت للهاء في » له « وهذا إنما يتمشَّى على رأي الكسائيّ حيث يجيز نعت المضمر
بالغائب وهو ضعيفٌ عند البصريين والكوفيين غيرَ الكسائي .
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74)
قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ } : « إذ » منصوبٌ بفعل محذوف أي : اذكر
، وهو معطوفٌ على « أقيموا » قاله أبو البقاء . و « قال » في محل خفض بالظرف « .
قوله : { آزَرَ } الجمهور : آزرَ بزنة آدم ، مفتوح الزاي والراء ، وإعرابه حينئذ
على أوجه ، أحدها : أنه بدل من » أبيه « أو عطف بيان له إن كان آزر لقباً له ، وإن
كان صفةً بمعنى المخطئ كما قال الزجاج ، أو المعوجّ كما قاله الفراء ، أو الشيخ
الهرم كما قاله الضحاك ، فيكون نعتاً ل » ابيه « أو حالاً منه بمعنى : وهو في حالة
اعوجاج أو خطأ ، ويُنْسَبُ للزجاج . وإن قيل : إن آزر اسم صنم كان يعبده أبوه ،
فيكون إذ ذاك عطفَ بيان لأبيه أو بدلاً منه ، ووجهُ ذلك أنه لما لازم عبادته
نُبِزَ وصار لَقَباً له كما قال بعض المُحْدَثين .
1958- أُدْعى بأسماءَ نَبْزاً في قبائِلها ... كأنَّ أسماءَ أَضْحَتْ بعضَ أسمائي
كذا نسبه الزمخشري : إلى بعض المُحْدَثين ، ونسبه الشيخ لبعض النحويين ، قال
الزمخشري : » كما نُبِزَ ابن قيس بالرُّقَيَّات اللاتي كان يشبِّبُ بهنَّ فقيل :
ابن قيس الرُّقَيَّات « أو يكون على حذف مضاف أي : لأبيه عابد آزر ، ثم حُذِفَ
المضاف وأُقيم المضاف إليه مُقامَه ، وعلى هذا فيكون عابد صفة لأبيه أُعْرِبَ هذا
بإعرابه أو يكون منصوباً على الذمّ .
وآزر ممنوع الصرف واختلف في علةِ مَنْعِه فقال الزمخشري : » والأقربُ أن يكون وزن
آزر فاعَل كعابَر وشالَخ وفالَغ ، فعلى هذا هو ممنوع للعلمية والعجمة . وقال أبو
البقاء : « ووزنه أفعل ولم ينصرف للعجمة والتعريف على قول من لم يشتقَّه من الأزر
أو الوزر ، ومَن اشتقَّه من واحدٍ منهما قال : هو عربيٌّ ولم يَصْرِفْه للتعريف
ووزن الفعل » وهذا الخلاف يشبه الخلاف في آدم ، وقد تقدم ذلك وأن اختيار الزمخشري
فيه أنه فاعلَ كعابَر ، وما جرى على ذاك ، وإذا قلنا بكونِه صفةً على ما قاله
الزجاج بمنى المخطئ أو بمعنى المعوجّ أو بمعنى الهَرِم ، كما قاله الفراء والضحاك
فَيُشْكل مَنْعُ صرفِه ، ويَشْكل ايضاً وقوعُه صفة للمعرفة .
وقد يُجاب عن الأول بأن الإِشكال يندفع بادِّعاء وزنه على أَفْعَل فيمتنع حينئذ
للوزن والصفة كأحمر وبابه ، وأمَّا على قول الزمخشري فلا يتمشَّى ذلك ، وعن الثاني
بأنه لا نُسَلِّم أنه نعت ل « أبيه » حتى يلزم وصفُ المعارف بالنكرات بل هو منصوبٌ
على الذم أو أنه على نية الألف واللام ، قالهما الزجاج والثاني ضعيف ، لأنَّ حذف
أل وإرادة معناها إمَّا أن يؤثر مَنْعَ صرف [ كما ] في « سحر » ليوم بعينه ويسمَّى
عَدْلاً ، وإمَّا أن يؤثر بناءً ويسمى تضمُّناً كأمس ، وفي سحر وأمس كلامٌ طويلٌ
ليس هذا مقامه ، ولا يمكن أن يقال إن « آزَر » امتنع من الصرف كما امتنع « سحر »
أي للعدل عن أل ، لأن العدلَ يُمْنع فيه مع التعريف ، فإنه لوقتٍ بعينه ، بخلاف
هذا فإنه وصفٌ كما قرضتم .
وقرأ أُبَيُّ بنُ كعب وعبد الله بن عباس والحسن ومجاهد في آخرين
بضمِّ الراء على أنه منادى حُذِفَ حرفُ ندائِه كقوله تعالى : { يُوسُفُ أَعْرِضْ }
[ يوسف : 29 ] وكقوله :
1959- ليُبْك يزيدُ ضارعٌ لخصومةٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
في أحد الوجهين أي : يا يزيد ، ويؤيِّده ما في مصحف أُبَيّ : يا آزر بإثبات حرفه ،
وهذا إنما يَتَمشَّى على دعوى أنه عَلَم ، وأمَّا على دعوى وصفيَِّتِه فيضعف؛
لأنَّ حَذْفَ حرفِ النداء يَقِلُّ فيها كقولهم : « افتدِ مخنوقُ » و « صاحِ
شَمِّرْ »
وقرأ ابن عباس في روايةٍ : « أَأَزْراً تتخذ » بهمزتين مفتوحتين وزاي ساكنة وراء
منونة منصوبة ، « تتخذ » بدون همزة استفهام ، ولمَّا حكى الزمخشري هذه القراءة لم
يُسْقط همزة الاستفهام من « أتتخذ » فأمَّا على القراءة الأولى فقال ابن عطية
مفسراً لمعناها : « أعضداً وقوة ومظاهرةً على الله تتخذ ، وهو من قوله { اشدد بِهِ
أَزْرِي } [ طه : 31 ] انتهى . وعلى هذا فيحتمل » أزراً « أن ينتصب من ثلاثة اوجه
، أحدها : أنه مفعول من أجله ، و » اصناماً آلهة « منصوب بتتخذ على ما سيأتي بيانه
، والمعنى أتَّتخذ أصناماً آلهةً لأجل القوة والمظاهرة . والثاني : أن ينتصبَ على
الحال لأنها في الأصل صفةُ لأصناماً ، فلما قُدِّمَتْ عليها وعلى عاملها انتصَبْت
على الحال . والثالث : أنْ ينتصب على أنه مفعول ثان قُدِّم على عامله ، والأصل :
أتتخذ أصناماً آلهة أزْراً أي قوة ومظاهرة .
وأمَّا القراءةُ الثانيةُ فقال الزمخشري : » هو اسم صنم ومعناه : أتعبد أزْراً ،
على الإِنكار ، ثم قال : تتخذ أصناماً آلهة تثبيتاً لذلك وتقريراً ، وهو داخلٌ في
حكم الإِنكارِ لأنه كالبيان له « فعلى هذا » أزْراً « منصوب بفعل محذوف يدل عليه
المعنى ، ولكن قوله » وهو داخلٌ في حكم الإِنكار « يقوِّي أنه لم يُقرأ : »
أَتَتَّخِذُ « بهمزة الاستفهام لأنه لو كان معه همزة استفهام لكان مستقلاً
بالإِنكار ، ولم يحتج أن يقول : هو داخلٌ في حكمِ الإِنكارِ لأنه كالبيان له .
وقرأ ابن عباس ايضاً وأبو إسماعيل الشامي : » أَإزراً « بهمزة استفهام بعدها همزةٌ
مكسورة ونصب الراء منونةً ، فجعلها ابن عطية بدلاً من واو اشتقاقاً من الوزر
كإسادة وإشاح في : وسادة ووشاح . وقال أبو البقاء : » وفيه وجهان ، أحدهما : أن
الهمزة الثانية فاء الكلمة وليست بدلاً من شيء ومعناه الثقل « وجعله الزمخشري اسمَ
صنم ، والكلامُ فيه كالكلام في » أزراً « المفتوح الهمزة وقد تقدم .
وقرأ الأعمش : » إزْراً تَتَّخِذُ « بدون همزةِ استفهام ، ولكن بكسر الهمزة وسكونِ
الزاي ونصب الراء منونة ، ونصبُه واضح مما تقدم ، و » تتخذ « يُحتمل أن تكونَ
المتعدية لاثنين بمعنى التصييرية ، وأن تكون المتعديةَ لواحدٍ لأنَّها بمعنى عمل ،
ويحكى في التفسير أن أباه كان ينحتها ويصنعها ، والجملة الاستفهامية في محل نصب
بالقول ، وكذلك قوله { إني أَرَاكَ } و » أراك « يحتمل أن تكون العِلْميَّة وهو
الظاهر فتتعدَّى لاثنين وأن تكون بصرية وليس بذاك ، ف » في ضلال « حالٌ ، وعلى كلا
التقديرين يتعلَّق بمحذف إلا أنه في الأول أحدُ جُزْأَي الكلام ، وفي الثاني
فَضْلة .
و « مبين » اسم فاعل من « أبان » لازماً بمعنى ظهر ، ويجوز أن يكون من المتعدِّي والمفعول محذوف ، أي : مبين كفرُكم بخالقكم ، وعلى هذا فقولُ ابن عطية « وليس بالفعلِ المتعدِّي المنقول من بان يبين » غيرُ مُسَلَّم ، وجعلَ الضلالَ ظرفاً محيطاً بهم مبالغةً في اتِّصافهم به فهو أبلغُ مِنْ قوله « أراكم ضالين » .
وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)
قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ } : في هذه الكاف ثلاثة أوجه ، أظهرها :
أنها للتشبيه ، وهي في محل نصب نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ ، فقَدَّره الزمخشري : « ومثل
ذلك التعريف والتبصير نعرِّفُ إبراهيم ونبصره ملكوت » وقدَّره المهدوي : « وكما
هديناك يا محمد أرينا إبراهيم » . قال الشيخ : « وهذا بعيد من دلالة اللفظ » قلت :
إنما كان بعيداً لأن المحذوف من غير الملفوظ به ولو قدَّره بقوله : « وكما
أَرَيْناك يا محمد الهداية » لكان قريباً لدلالة اللفظ والمعنى معاً عليه .
وقدَّره أبو البقاء بوجهين ، أحدهما : قال « هو نصب على إضمار أريناه ، تقديرُه :
وكما رأى أباه وقومه في ضلال مبينٍ أريناه ذلك ، أي : ما رآه صواباً بإطلاعنا إياه
عليه . والثاني قال : » ويجوز أن يكون منصوباً ب « نُري » التي بعده على أنه صفةٌ
لمصدرٍ محذوف تقديره : نريه ملكوت السماوات والأرض رؤية كرؤية ضلال أبيه « انتهى .
قلت : فقوله » على إضمار أريناه « لا حاجةَ إليه البتة ولأنَّه يقتضي عدمَ ارتباط
قوله » نُري إبراهيم ملكوت « بما قبله .
الثاني : أنها للتعليل بمعنى اللام أي : ولذلك الإِنكارِ الصادرِ منه عليهم ،
والدعاءِ إلى الله في زمن كان يُدْعَى فيه غير الله آلهة نريه ملكوت . الثالث : أن
الكاف في محل رفع على خبر ابتداء مضمر أي : والأمر كذلك أي : ما رآه من ضلالتهم ،
نقل الوجهين الأخيرين أبو البقاء وغيره .
» ونُري « هذا مضارعٌ ، والمراد به حكاية حال ماضية ، ونري يحتمل أن تكون
المتعدِّية لاثنين ، لأنها في الأصل بَصَريَّة ، فأكسَبَتْها همزةُ النقل معفولاً
ثانياً ، وجعلها ابن عطية منقولة مِنْ رأى بمعنى عرف ، وكذلك الزمخشري فإنه قال
فيما قدَّمت/ حكايته عنه » ومثل ذلك التعريف نعرِّف « . قال الشيخ بعد حكايته كلام
ابن عطية : » ويَحْتاج كونُ « رأى » بمعنى عرف ثم يتعدى بالهمزة إلى مفعولين إلى
نَقْلِ ذلك عن العرب ، والذي نقل النحويون أن « رأى » إذا كانت بصَرية تعدَّتْ
لمفعول ، وإذا كانت بمعنى « علم » الناصبة لمفعولين تَعَدَّتْ إلى مفعولين « قلت :
العجبُ كيف خَصَّ بالاعتراضِ ابنَ عطية دون أبي القاسم . وهذه الجملةُ المشتملةُ
على التشبيه أو التعليل معترضة بين قوله » وإذ قال إبراهيم « مُنْكِراً على أبيه
وقومه عبادة الأصنام وبين الاستدلال عليهم بوحدانية الله تعالى ، ويجوز أن لا تكون
معترضة إن قلنا إنَّ قولَه » فلمَّا « عطف على ما قبله وسيأتي .
والمَلَكوت مصدر على فَعَلوت بمعنى الملك ، وبُني على هذه الزنة ، والزيادة
للمبالغة وقد تقدَّم ذلك عند ذكر الطاغوت . والجمهور على مَلَكوت بفتح اللام ،
وقرأ أبو السَّمَّال بسكونها وهي لغةٌ .
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76)
قوله تعالى : { فَلَمَّا جَنَّ } : يجوز أن تكون هذه الجملة نسقاً
على قوله { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ } عطفاً للتدليل على مدلوله ، فيكون {
وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ } معترضاً كما تقدم ، ويجوز أن تكونَ معطوفةً على
الجملة من قوله { وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ } قال ابن عطية : « الفاءُ في قوله
: » فلمَّا « رابطةٌ جملةَ ما بعدها بما قبلها ، وهي ترجِّحُ أن المرادَ بالملكوت
التفصيل المذكور في هذه الآية » والأولُ أحسنُ وإليه نحا الزمخشري .
وجَنَّ : سَتَر ، وقد تقدَّم اشتقاقُ هذه المادةِ عند ذِكْر { الجنة } [ البقرة :
35 ] . وهنا خصوصيةٌ لذِكْر الفعل المسند إلى الليل يقال : جَنَّ عليه الليل وأجنّ
عليه ، بمعنى أظلم ، فيُستعمل قاصراً ، وجنَّه وأجنّه فيُستعمل متعدياً فهذا مما
اتَّفق فيه فَعَل وأَفْعَل لزوماً وتعدِّياً ، إلا أن الأجود في الاستعمال : جنَّ
عليه الليل وأجنَّه الليل فيكون الثلاثي لازماً ، وأفعل متعدياً ، ومن مجيء
الثلاثي متعدياً قوله :
1961 ... وماءٍ وَرَدَتْ قُبَيْلَ الكَرَى
وقد جَنَّه السَّدَفُ الأدهَمُ ... ومصدره جَنٌّ وجَنان وجُنون ، وفرَّق الراغب
بين جَنَّه وأَجَنَّه ، فقال : « جنَّه إذا ستره ، وأجنَّه جعل له ما يَجُنُّه
كقولك : قَبَرْتُه وأقبرته وسَقَيْتُه وأَسْقَيْتُه » وقد تقدَّم لك شيء من هذا
عند ذِكْرِ حزن وأحزن ، ويُحتمل أن يكون « جنَّ » في الآية الكريمة متعدياً حذف
المفعول منه تقديره : جنَّ عليه الأشياءَ والمبصرات .
قوله : « رأى كوكباً » هذا جواب « لمَّا » ، وللقراء فيه وفيما بعده من الفعلين
خلاف كبير بالنسبة إلى الإِمالة وعدمها فلأذكرْ ذلك ملخِّصاً له وذاكراً لعلله
فأقول : أمَّا « رأى » الثابت الألف فأمال راءه وهمزته إمالةً محضة الأخوان وأبو
بكر عن عاصم وابن ذكوان عن ابن عامر ، وأمال الهمزةَ منه فقط دون الراءِ أبو عمرو
بكماله ، وأمال السُّوسي بخلاف عنه عن أبي عمرو الراء أيضاً ، فالسوسي في أحد
وجهيه يوافق الجماعة المتقدمين ، وأمال ورش الراء والهمزة بين بين من هذا الحرفِ
حيث وقع هذا كلُّه ما لم يتصل به ضمير نحو ما تقدم ، فأمَّا إذا/ اتصل به ضمير نحو
{ فَرَآهُ فِي سَوَآءِ } [ الصافات : 55 ] { فَلَمَّا رَآهَا } [ النمل : 10 ] {
وَإِذَا رَآكَ الذين } [ الأنبياء : 36 ] فابن ذكوان عنه وجهان ، والباقون على
أصولهم المتقدمة .
وأما « رأى » إذا حذفت ألفه فهو على قسمين : قسمٍ لا تعود فيه البتةَ لا وَصْلاً
ولا وقفاً نحو : { رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ } [ الفرقان : 12 ] { رَأَوُاْ العذاب
} [ يونس : 54 ] فلا إمالة في شيء منه ، وكذا ما انقلبت ألفه ياءً نحو : {
رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ } [ الإِنسان : 20 ] ، وقسمٍ حُذِفَتْ ألفُه لالتقاء
السَّاكنين وَصْلاً ، وتعود وقفاً نحو : { رَأَى القمر } [ الأنعام : 77 ] { رَأَى
الشمس } [ الأنعام : 78 ] { وَرَأَى المجرمون النار } [ الكهف : 53 ] { وَإِذَا
رَأى الذين ظَلَمُواْ } [ النحل : 85 ] فهذا فيه خلافٌ أيضاً بين أهلِ الإِمالة
اعتباراً باللفظ تارةً وبالأصل أخرى ، فأمال الراء وحدها من غير خلاف حمزة وأبو
بكر عن عاصم والسوسي بخلافٍ عنه وحده .
وأمَّا الهمزة فأمالها مع الراء أبو بكر والسوسي بخلافٍ عنهما . هذا
كله إذا وصلْتَ ، أمَّا إذا وَقَفْتَ فإنَّ الألفَ ترجع لعدم المقتضي لحَذْفِها ،
وحكمُ هذا الفعلِ حينئذٍ حكمُ ما لم يتصل به ساكن فيعود فيه التفصيل المتقدم ، كما
إذا وقفت على رأى مِنْ نحو : { رَأَى القمر } [ الأنعام : 77 ] . فأمَّا إمالة
الراء من « رأى » فلإٍِتباعها لإِمالةِ الهمزة ، هكذا عبارتهم ، وفي الحقيقة
الإِمالة إنما هي للألف لانقلابها عن الياء ، والإِمالة كما عَرَفْتَ أن تنحى
بالألف نحو الياء ، وبالفتحة قبلها نحو الكسرة ، فمن ثَمَّ صَحَّ أن يقال :
أُميلَتْ الراءُ لإِمالة الهمزة .
وأمَّا تفصيل ابنِ ذكوان بالنسبة إلى اتصاله بالضمير وعدمه فوجهُه أنَّ الفعلَ
لمَّا اتصل بالضمير بَعُدَتْ ألفُه مِنَ الطرف فلم تُمَلْ ، ووجهُ مَنْ أمال
الهمزةَ في « رأى القمرَ » مراعاةُ الألف وإن كانت محذوفةً إذ حَذْفُها عارضٌ ، ثم
منهم مَنْ اقتصر على إمالة الهمزة لأنَّ اعتبارَ وجودِها ضعيف ، ومنهم مَنْ لم
يَقْتصر إعطاءً لها حكمَ الموجودةِ حقيقةً فأتبع الراء للهمزة في ذلك .
والكَوْكَبُ : النجم ، ويقال فيه كَوْكبة ، وقال الراغب : « لا يقال فيه أي في
النجم كوكب إلا عند ظهوره » . وفي اشتقاقه ثلاثة أوجه ، أحدها : أنه من مادة « وكب
» فتكون الكافُ زائدة ، وهذا القول قاله الشيخ رضي الدين الصَّغاني ، قال رحمه
الله : « حَقُّ كوكب أن يُذكر في مادة » وَكب « عند حُذَّاق النحويين فإنها
وَرَدَتْ بكافٍ زائدة عندهم ، إلا أنَّ الجوهريَّ أوردها في تركيب ك و ك ب ، ولعله
تبع في ذلك الليثَ فإنه ذكره في الرباعي ، ذاهباً إلى أن الواو أصلية ، فهذا
تصريحٌ من الصَّغاني بزيادة الكاف ، وزيادةُ الكاف عند النحويين لا تجوز ، وحروفُ
الزيادة محصورةٌ في تلك العشرة . فأمَّا قولُهم » هِنْدِيٌّ وهِنْدِكيّ « بمعنى
واحد وهو المنسوبُ إلى الهند ، وقول الشاعر :
1962 ومُقْرَبةٍ دُهْمٍ وكُمْتٍ كأنَّها ... طَماطِمُ من فوق الوفازِ هَنادِكُ
فظاهره زيادة الكاف ، ولكن خَرَّجها النحويون على أنه من باب سَبْط وسِبَطْر أي
مما جاء فيه لفظان أحدهما أطول من الآخر وليس بأصلٍ له ، فكما لا يقال الراء زائدة
باتفاق ، كذلك هذه الكاف ، ولذلك قال الشيخ ، » وليت شعري : مِنْ حُذَّاق النحويين
الذين يرون زيادتها لا سيما أول الكلمة « والثاني : أن الكلمة كلها أصول رباعية ،
مما كُرِّرَتْ فيها الفاء فوزنها فَعْفَل ك » فَوْفَل « وهو بناءٌ قليل . والثالث
: ساق الراغب أنه من مادة : كبَّ وكَبْكب فإنه قال : » والكَبْكَبَةُ تدهور الشيء
في هُوَّة يقال : كَبَّ وكَبْكَبَ نحو : كفَّ وكَفْكَفَ ، وصَرَّ الريحُ وصرصر ،
والكواكب النجوم البادية « فظاهر هذا السياق أن الواو زائدة والكاف بدل من إحدى
الياءين وهذا غريبُ جداً .
قوله : « قال هذا ربِّي » في « قال » ثلاثةُ أوجه ، أظهرُها : أنه
استئنافٌ أخبر بذلك القولِ أو استفهم عنه على حسب الخلاف . والثاني : أنه نعت ل «
كوكباً » فيكون في محل نصب ، وكيف يكون نعتاً ل « كوكباً » ولا يساعد من حيث
الصناعةُ ولا من حيث المعنى؟ أمَّا الصناعةُ فلعدمِ الضميرِ العائد من الجملة
الواقعة صفةً إلى موصوفها ، ولا يقال : إن الرابطَ حصل باسم الإِشارة لأنَّ ذلك
خاص بباب المبتدأ والخبر ، ولذلك يكثر حذف العائد من الصفة ويقلُّ من الخبر ، فلا
يلزمُ مِنْ جواز شيء في هذا جوازُه في ذلك ، وادِّعاء حذفِ ضميرٍ بعيدٌ ، أي : قال
فيه : هذا ربي . وأمَّا المعنى فلا يؤدي إلى أن التقدير : رأى كوكباً متصفاً بهذا
القول ، وذلك غير مراد قطعاً . والثالث : أنه جواب « فلما جَنَّ ، وعلى هذا فيكون
قوله » رأى كوكباً « في محلِّ نصب على الحال أي : فلمَّا جَنَّ عليه الليل رائياً
كوكباً .
و » هذا ربي « محكيٌّ بالقول ، فقيل : هو خبرٌ مَحْضٌ بتأويلٍ ذكره أهل التفسير ،
وقيل : بل هو على حذف همزة الاستفهام أي : أهذا ربي ، وأنشدوا :
1963 لعَمْرَك ما أدري وإن كنتُ داريا ... بسبعٍ رَمَيْنَ الجمرَ أم بثمان
وقوله :
1964 أفرحُ أن أُرْزَأ الكرامَ وأَنْ ... أُوْرَثَ ذَوْداً شصائِصاً نَبْلا
وقوله :
1975 ... طَرِبْتُ وما شوقاً إلى البيض أطربُ
ولا لَعِباً مني وذو الشيب يلعبُ ... وقوله تعالى : { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ
تَمُنُّهَا عَلَيّ } [ الشعراء : 13 ] قالوا : تقديره : أبسبع ، وأأفرح ، وأذو ،
وأتلك . قال ابن الأنباري : » وهذا لا يجوز إلا حيث يكون ثَمَّ فاصلٌ بين الخبر
والاستفهام ، يعني إنْ دلَّ دليل لفظي كوجود « أم » في البيت الأول بخلاف ما بعده
. والأًُفول : الغَيْبَةُ والذهاب ، يقال : أَفَلَ يأفُل أُفولاً ، قال ذو الرمَّة
:
1966 ... مصابيحُ ليسَتْ باللواتي تقودُها
نجومٌ ولا بالآفلاتِ شُموسُها ... والإِفَالُ : صغارُ الغنم ، والأَفيل : الفصيل
الضئيل .
فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77)
قوله تعالى : { بَازِغاً } : حال من القمر . والبزوغ : الطلوع ، يقال : بَزَغَ بفتح الزاي يبزُغ بضمِّها بُزوغاً ، ويستعمل قاصراً ومتعدياً ، يقال : بَزَغ البَيْطار الدابَّة أي : أسال دَمَهَا فَبَزَغ هو أي : سال ، هذا هو الأصل ، ثم قيل لكل طُلوع : بُزوغ ، ومنه : بَزَغَ ناب الصبي والبعير تشبيهاً بذلك ، والقمرُ معروفٌ ، سُمِّي بذلك لبياضه وانتشار ضوئه ، والأقمر : الحمار الذي على لون الليلة القمراء ، والقَمْراء ضوء القمر ، وقيل : سُمِّي قمراً لأنه يَقْمُر ضوء الكواكب ويفوز به ، والليالي القُمْر : ليالي تَدَوُّرِ القمر وهي الليالي البيض ، لأن ضوء القمر يستمرُّ فيها إلى الصباح ، قيل : ولا يُقال له قمر إلا بعد امتلائه في ثالث ليلة وقبلها هلال ، على خلاف بين أهل اللغة قَدَّمُتْه في البقرة عند قوله { عَنِ الأهلة } [ البقرة : 189 ] ، فإذا بلغ بعد العشر ثالثَ ليلةٍ قيل له « بدر » إلى خامسَ عشر ، ويقال : قَمِرْتُ فلاناً كذا اي خَدَعته عنه ، وكأنه مأخوذ من قَمِرَتْ القِرْبَةُ فَسَدَت بالقَمْراء .
فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78)
قوله تعالى : { هذا رَبِّي } : إنما ذكَّر اسم الإِشارة والمشار إليه
مؤنث لأحد وجوه : إمَّا ذهاباً بها مذهب الكوكب ، وإمَّا ذهابها مذهب الضوء والنور
، وإمَّا بتأويل الطالع أو الشخص أو الشيء ، أو لأنه لمَّا أخبر عنها بمذكر
أُعْطِيَتْ حكمه ، تقول : هند ذاك الإِنسان وتِيْكَ الإِنسان ، قال :
1967 تبيت نُعْمَى على الهِجْران غائبةً ... سُقْياً ورُعْياً لذاك الغائبِ الزاري
فأشار إلى « نُعمى » وهي مؤنث إشارةَ المذكر لوَصْفِها بوَصْف الذكور أو لأن فيها
لغتين التذكير والتأنيث ، وإنْ كان الأكثرُ التأنيثَ فقد جمع بينهما في الآية
الكريمة فأنَّثَ في قوله « بازغة » وذكَّر في قوله « هذا » . وقال الزمخشري : «
جَعَل المبتدأَ مثلَ الخبر لكونهما عبارة عن شيء واحد كقولهم : ما جاءت حاجتك ،
ومَنْ كانت أمك ، و { لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ } [ الأنعام :
23 ] وكان اختيارُ هذه الطريقة واجباً لصيانة الربِّ عن شبهة التأنيث ، ألا تراهم
قالوا في صفة الله : عَلاَّم ، ولم يقولوا عَلاَّمة ، وإن كان أبلغَ ، احترازاً من
علامة التأنيث » . قلت : هذا قريبٌ مما تقدَّم في قولي : إن المؤنث إذا أُخبر عنه
بمذكر عومل معاملة المذكر نحو : « هند ذاك الإِنسان » . وقيل : لأنها بمعنى هذا
النيِّر أو المرئيُّ .
قال الشيخ : « ويمكن أن يُقال : إن أكثر لغةِ الأعاجم لا يُفَرِّقون في الضمائر
ولا في الإِشارة بين المذكر والمؤنث ولا علامة عندهم للتأنيث ، بل المذكر والمؤنث
سواء ، فلذلك أشار إلى المؤنث عندنا حين حكى كلامَ إبراهيم بما يُشار به إلى
المذكر ، بل لو كان المؤنث بفَرْجٍ لم يكن له عَلامَةٌ تَدُلُّ عليه في كلامهم ،
وحين أخبر تعالى عنهم بقوله » بازغة « و » أَفَلتْ « أَتَتْ على مقتضى العربية إذ
ليس ذلك بحكاية » انتهى . وهذا إنما يظهر أن لو حكى كلامهم بعينه في لغتهم ، أمَّا
شيءٌ يُعَبَّر عنه بلغة العرب ويُعطَى حكمَه في لغة العجم فهو محلُّ نظر .
قوله : « مِمَّا يُشْرِكون » « ما » مصدرية أي : بريء من إشراككم أو موصولةٌ أي :
من الذين يشركونه مع الله في عبادته ، فحذف العائد ، ويجوز أن تكونَ الموصوفة ،
والعائدُ أيضاً محذوف ، إلا أنَّ حذف عائد الصفة أقلُّ من حذف عائد الصلة ،
فالجملةُ بعدها لا محلَّ لها على القولين الأوَّلَيْن ، ومحلُّها الجر على الثالث .
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)
قوله تعالى : { لِلَّذِي فَطَرَ } : قدَّروا قبله مضافاً أي : وجَّهْتُ وجهي لعبادته ولرضاه ، كأنهم نَفَوْا بذلك وَهْمَ مَنْ يَتَوَهَّم الجهة . و « حنيفاً » حال من فاعل « وَجَّهْتُ » ، وقد تقدَّم تفسيرُ هذه الألفاظِ ، و « ما » يُحتمل أن تكون الحجازيةَ ، وأن تكون التميمية .
وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80)
قوله تعالى : { أتحاجواني } : قرأ نافع وابن ذكوان وهشام بخلافٍ عنه
بنون خفيفة ، والباقون بنون ثقيلة ، والتثقيلُ هو الأصل؛ لأن النون الأولى نون
الرفع في الأمثلة الخمسة ، والثانية نون الوقاية ، فاسْتُثْقِل اجتماعهما ، وفيها
لغات ثلاث : الفكُّ وتركهما على حالهما ، والإِدغام ، والحذف ، وقد قرء بهذه
اللغات كلها في قوله تعالى : { أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ } [ الزمر : 64 ]
، وهنا لم تقرأ إلا بالحذف أو الإِدغام ، وفي سورة الحجر : { فَبِمَ تُبَشِّرُونَ
} [ الحجر : 54 ] ، كذلك ، فقراءة ابن كثير بالإِدغام ونافع بالحذف ، والباقون
يفتحون النون لأنها عندهم نون رفع ، وفي سورة النحل : { تُشَاقُّونَ فِيهِمْ } [
النحل : 27 ] ، يُقرأ بفتح النون عند الجمهور لأنها نونُ رفع ، ويقرؤه نافع بنونٍ
خفيفة مكسورةٍ على الحذف ، فنافعٌ حَذَفَ إحدى النونين في جميع هذه المواضع التي
ذكرتها لك ، فإنه/ يقرأ في الزمر أيضاً بحذف إحداهما ، وقوله تعالى : { أتعدانني }
[ الأحقاف : 17 ] ، قرأه هشام بالإِدغام ، والباقون بالإِظهار دون الحذف .
واختلف النحاةُ في أيَّتهما المحذوفة : فمذهب سيبويه ومَنْ تبعه أن المحذوفةَ هي
الأُولى ، ومذهب الأخفش ومَنْ تبعه أن المحذوفة هي الثانية ، استدلَّ سيبويه على
ذلك بأنَّ نونَ الرفع قد عُهِد حَذْفُها دون ملاقاة مِثْلٍ رفعاً ، وأُنْشِد :
1968 فإنْ يكُ قومٌ سَرَّهمْ ما صنعتُمُ ... سَتَحْتَلبوها لاقِحاً غير باهِلِ
أي : فستحتلبونها ، لا يقال إن النون حُذِفَتْ جزماً في جواب الشرط؛ لأنَّ الفاء
هنا واجبة الدخول لعدم صلاحية الجملة الجزائية شرطاً ، وإذا تقرَّر وجوبُ الفاء ،
وإنما حُذِفت ضرورةً ثبت أن نون الرفع كان مِنْ حقها الثبوت إلا أنها حُذِفَتْ ضرورة
، وأنشدوا أيضاً قوله :
1969 أبيتُ أَسْرِي وتَبِيتي تَدْلُكي ... وجهكِ بالعنبرِ والمِسْك الذكي
أي : تبيتين وتَدْلُكين ، وفي الحديث : « والذي نفسي بيده لا تَدْخلوا الجنة حتى
تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا » ف « لا » الداخلة على « تدخلوا » و « تؤمنوا » نافية
لا ناهية ، لفساد المعنى عليه ، وإذا ثَبَتَ حَذْفُها دون ملاقاةِ « مثل » رَفْعاً
فلأنْ تُحْذَفَ مع ملاقاة « مثل » استثقالاً بطريق الأَوْلى والأحرى ، وأيضاً فإن
النون نائبة عن الضمة ، والضمةُ قد عُهِد حَذْفُها في فصيح الكلام كقراءةِ أبي
عمرو : { يَنصُرْكُمُ } [ آل عمران : 160 ] و { يُشْعِرُكُمْ } [ الأنعام : 109 ]
و { يَأْمُرُكُمْ } [ البقرة : 67 ] وبابِه بسكون آخر الفعل ، وقوله :
1970 فاليومَ أشربْ غيرَ مُسْتَحقِبٍ ... إثماً من اللهِ ولا واغِلِ
وإذا ثبت حَذْفُ الأصلِ فَلْيَثْبُتْ حَذْفُ الفرع لئلا يلزمَ تفضيل فرع على أصله
، وأيضاً فإنَّ ادَّعاء حذف نون الرفع لا يُحْوِج إلى حذف آخر ، وحذف نون الوقاية
قد يحوج إلى ذلك ، وبيانه أنه إذا دخل جازم أو ناصب على أحد هذه الأمثلة فلو كان
المحذوف نون الوقاية لكان ينبغي أن تُحْذَفَ هذه النونُ لأنها نون رفع وهي تسقط للناصب
والجازم ، بخلاف ادِّعاءِ حَذْفِ نون الرفع ، فإنه لا يحوج إلى ذلك لأنه لا عملَ
له في التي للوقاية .
ولقائلٍ أن يقول : لا يلزم من جواز حَذْفَ الأصل حَذْفُ الفرع ،
لأنَّ في الأصل قوةً تقتضي جواز حذفه بخلاف الفرع ، وعلى الآخر له أن يقول : هذا
مُعارَضٌ بإلغاء العامل : وذلك أنه لو كان المحذوفُ نونَ الرفع لأجل نون الوقاية
ودخل الجازم والناصب لم يجد له شيئاً يحذفه؛ لأن النون حُذِفت لعارض آخر .
واستدلوا لسيبويه أيضاً بأن نون الوقاية مكسورة ، فبقاؤها على حالها لا يلزم منه
تغييرٌ بخلاف ما لو ادَّعَيْنا حَذْفها فإنَّا يلزمنا تغييرُ نون الرفع من فتح إلى
كسر ، وتقليلُ العمل أولى ، واستدلوا أيضاً بأنها قد حذفت مع مثلها وإن لم يكن نون
وقاية كقوله :
1971 كل له نِيَّةٌ في بُغْضِ صاحبِهِ ... بنعمةِ الله نَقْلِيْكُمْ وتَقْلُونا
أي : وتَقْلُوننا ، فالمحذوفُ نونُ الرفع لا نونُ « ن » لأنها بعض ضمير ، وعُورض
هذا بأن نون الرفع أيضاً لها قوةٌ لدلالتها على الإِعراب ، فَحَذْفُها أيضاً لا
يجوز ، وجعل سيبويه المحذوفةَ من قول الشاعر :
1972 تراه كالثَّغامِ يُعَلُّ مِسْكاً ... يَسُوءُ الفالِياتِ إذا فَلَيْني
نونَ الفاعل لا نونَ الوقاية ، واستدلَّ الأخفش بأنَّ الثقل إنما حصل بالثانية ،
ولأنه قد اسْتُغْنِي عنها ، فإنه إنما أُتِيَ بها لتقِيَ الفعلَ من الكسر ، وهو
مأمونٌ لوقوع الكسر على نون الرفع ، ولأنها لا تدلُّ على معنى بخلاف نون الرفع ،
وأيضاً فإنها تُحْذَفُ في نحو : ليتني فيقال : ليتي ، كقوله :
1973 كمُنْيَةِ جابر إذ قال ليتي ... أُصادِفُه وأُتْلِفُ بعضَ مالي
واعلم أن حذف النون في هذا النحو جائز فصيح ، ولا يُلتفت إلى قول مَنْ مَنَع ذلك
إلا في ضرورةٍ أو قليلٍ من الكلام ، ولهذا عِيْبَ على مكي ابن أبي طالب حيث قال :
« الحَذْفُ بعيدٌ في العربية قبيح مكروه ، وإنما يجوز في الشعر للوزن ، والقرآن لا
يُحتمل ذلك فيه إذ لا ضرورة تدعو إليه » . وتجاسر بعضهم فقال : « هذه القراءة أعني
تخفيف النون لحنٌ » وهذان القولان مردودان عليهما لتواتر ذلك ، وقد قَدَّمْتُ
الدليل على صحته لغةً ، وأيضاً فإن الثقاتِ نقلوا أنها لغةٌ ثابتةٌ للعرب وهم
غطفان فلا معنى لإِنكارها .
و « في الله » متعلِّقٌ ب « أتحاجُّوني » لا ب « حاجَّه » ، والمسألةُ من باب
التنازع ، وأعمل الثاني لأنه لما أضمر في الأول حذف ، ولو أَعْمل الأول لأضْمر في
الثاني من غير حذفٍ ، ومثله : { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي
الكلالة } [ النساء : 176 ] ، كذا قال الشيخ ، وفيه نظر ، من حيث/ إن المعنى ليس
على تَسَلُّط « وَحَاجَّهُ » على قوله « في الله »؛ إذ الظاهر انقطاعُ الجملة
القولية ممَّا قبلها . وقوله « في الله » أي في شأنه ووحدانيته .
قوله : « وَقَدْ هَدَاني » في محلِّ نصب على الحال ، وفي صاحبها وجهان أظهرهما :
أنه التاء في « أتحاجونني » أي : أتجادلونني فيه حال كوني مَهْدِيّاً مِنْ عنده .
والثاني : أنه حال من « الله » أي : أتخاصمونني فيه حال كونه هادياً
لي ، فحجَّتكم لا تُجْدي شيئاً لأنها داحضة .
قوله : { وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ } هذه الجملة يجوز أن تكونَ مستأنفة
، أخبر عليه السلام بأنه لا يخاف ما تشركون به ربَّه ثقةً به ، وكانوا قد خوَّفوه
مِنْ ضررٍ يحصُل له بسبب سَبِّ آلهتهم ، ويحتمل أن تكون في مَحَلِّ نصبٍ على الحال
باعتبارين أحدهما : أن تكونَ ثانيةً عطفاً على الأولى ، فتكون الحالان من الياء في
« أتحاجونِّي » . والثاني : أنها حال من الياء في « هداني » فتكون جملةً حالية من
بعض جملة حالية فهي قريبة من الحال المتداخلة ، إلا أنه لا بد من إضمار مبتدأ على
هذا الوجه قبل الفعل المضارع ، لما تقدَّم من أن الفعل المضارع ب « لا » حكمُه
حكمُ المثبت من حيث إنه لا تباشره الواو .
و « ما » يجوز فيها الأوجه الثلاثة : أن تكونَ مصدريةً ، وعلى هذا فالهاء في « به
» لا تعود على « ما » عند الجمهور ، بل تعود على الله تعالى ، والتقدير : ولا أخاف
إشراكَكم بالله ، والمفعول محذوف أي : ما تشركون غير الله به ، وأن تكون بمعنى
الذي ، وأن تكون نكرةً موصوفة ، والهاء في « به » على هذين الوجهين تعود على « ما
» ، والمعنى : ولا أخاف الذي تشركون الله به ، فحذف المفعول أيضاً كما حذفه في
الوجه الأول ، وقدَّر أبو البقاء قبل الضمير مضافاً فقال : « ويجوز أن تكون الهاءُ
عائدة على » ما « أي : ولا أخاف الذي تشركون بسببه » ، ولا حاجةَ إلى ذلك .
قوله : « إلا أَنْ يشاء » في هذا الاستثناء قَوْلان ، أظهرهما : أنه متصل ،
والثاني : أنه منقطع ، والقائلون بالاتصال : اختلفوا في المستثنى منه ، فجعله
الزمخشري زماناً فقال : « إلا وقت مشيئة ربي شيئاً يخاف ، فحذف الوقت ، يعني : لا
أخاف معبوداتِكم في وقتٍ قط؛ لأنها لا تقدر على منفعةٍ ولا مَضَرَّة إلا إذا شاء
ربي » . وجَعَلَه أبو البقاء حالاً فقال : تقديره إلا في حال مشيئة ربي أي : لا
أخافها في كل حال إلا في هذه الحال . وممَّن ذهب إلى انقطاعه ابن عطية والحوفي
وأبو البقاء في أحد الوجهين ، فقال الحوفي : « تقديره : لكن مشيئة الله إياي بضرٍّ
أخاف » ، وقال ابن عطية : « استثناء ليس من الأول ولما كانت قوة الكلام أنه لا
يخاف ضراً استثنى مشيئة ربه في أن يريده بضر .
قوله : » شيئاً « يجوز فيه وجهان ، أظهرهما : أنه منصوب على المصدر تقديره : إلا
أن يشاء ربي شيئاً من المشيئة ، والثاني : أنه مفعول به ليشاء ، وإنما كان الأولُ
أظهرَ لوجهين ، أحدهما : أن الكلام المؤكد أقوى وأثبتُ في النفس من غير المؤكد .
والثاني : أنه قد تقدم أن مفعول المشيئة والإِرادة لا يُذْكران إلا
إذا كان فيهما غرابة كقوله :
1974 ولو شِئْتُ أَنْ أبكي دماً لبَكَيْتُه ... . . . . . . . . . . . . . .
قوله : « عِلْماً » فيه وجهان ، أظهرهما : أنه منصوب على التمييز ، وهو مُحَوَّلٌ
عن الفاعل تقديره : وَسِع علمُ ربي كلَّ شيء ، كقوله : { واشتعل الرأس شَيْباً } [
مريم : 4 ] . والثاني : أنه منصوبٌ على المفعول المطلق؛ لأن معنى وَسِعَ عَلِم .
قال أبو البقاء : « لأنَّ ما يَسَعُ الشيء فقد أحاط به ، والعالم بالشيء محيطٌ
بعلمه » وهذا الذي ادَّعاه من المجاز بعيد . و « كل شيء » مفعول لوسع على كلا
التقديرين . و « أفلا تتذكرون » جملة تقرير وتوبيخ ، ولا محلَّ لها لاستئنافها .
وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81)
قوله تعالى : { وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ } : قد تقدَّم
الكلام على « كيف » في أول البقرة ، وهذه نظيرتها . و « ما » يجوز فيها ثلاثة
الأوجه ، أعني كونها موصولةً اسميةً أو نكرة موصوفة أو مصدرية ، والعائد على
الأوَّلين محذوف أي : ما أشركتموه بالله أو إشراككم بالله غيره .
وقوله : « ولا تخافون » يجوز في هذه الجملة أن تكون نسقاً على « أخاف » فتكون
داخلةً في حَيِّز التعجب والإِنكار ، وأن تكون حالية أي : وكيف أخاف الذي تشركون
حال كونكم أنتم غير خائفين عاقبة إشراككم ، / ولا بد من إضمارِ مبتدأ قبل المضارع
المنفيِّ ب لا ، لِما تقدم غيرَ مرة أي : كيف أخاف الذي تُشْركون أو يُخاف إشراككم
حال كونكم آمنين مِنْ مَكْرِ الله الذي أَشْركتم به غيره . وهذه الجملةُ وإن لم
يكن فيها رابطٌ يعود على ذي الحال لا يضرُّ ذلك لأن الواو بنفسها رابطةٌ ، وانظر
إلى حسن هذا النظم السويّ حيث جعل متعلق الخوف الواقع منه بالأصنام ، ومُتَعَلَّق
الخوف الواقع منهم إشراكهم بالله غيرَه تَرْكاً لأن يعادَلَ الباري تعالى بأصنامهم
، لو أبرز التركيب على هذا فقال : « ولا تخافون الله » مقابلةً لقوله « وكيف أخاف
معبودتكم » . وأتى ب « ما » في قوله « ما أشركتم » وفي قوله { مَا لَمْ يُنَزِّلْ
بِهِ سُلْطَاناً } لأنهم غير عقلاء ، إذ هي جمادٌ أحجارٌ ، وحيث كانوا ينحتونها
ويعبدونها .
قوله : « ما لم يُنَزِّلْ » مفعول ل « أَشْرَكْتُم » وهي موصولة اسمية أو نكرة ،
ولا تكون مصدرية لفساد المعنى ، و « به » و « عليكم » متعلقان ب « يُنَزِّل » ،
ويجوز في « عليكم » وجهٌ آخر : وهو أن يكون حالاً من « سلطاناً » لأنه لو تأخَّر
عنه لجاز أن يكونَ صفةً . وقرأ الجمهور « سُلْطاناً » ساكنَ اللام حيث وقع . وقرئ
بضمها ، وقيل : هي لغة مستقلة فيثبت بها بناء « فُعُل » بضم الفاء والعين ، أو هي
إتباع حركةٍ لأخرى .
وقوله : « فأيُّ الفريقين أحقُّ » لم يقل : أيُّنا أحقُّ نحن أم أنتم إلزاماً
لخصمه بما يدَّعيه عليه ، ولأنه لا يزكِّي القائلُ نفسه ، وهذا بخلاف قول الآخر :
1975 فلئِنْ لقيتُكَ خالِيَيْنِ لتعلمَنْ ... أيّي وأيُّك فارسُ الأحزابِ
فللَّهِ فصاحةُ القرآن وآدابه . وقوله : « إن كنتم » جوابه محذوف ، أي : فأخبروني
، ومُتَعَلَّقُ العلم محذوف ، ويجوز أَنْ لا يُرادَ له مفعولٌ أي : إن كنتم من ذوي
العلم .
الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)
قوله تعالى : { الذين آمَنُواْ } : هل هو من كلام إبراهيم أو من كلام
قومه أو من كلام الله تعالى؟ ثلاثة أقوال للعلماء وعليها يترتب الإِعراب ، فإن
قلنا : إنها من كلام إبراهيم جواباً عن السؤال في قوله : « فأيُّ الفريقين » وكذا
إن قلنا : إنها من كلام قومه ، وأنهم أجابوا بما هو حجةٌ عليهم ، كأن الموصولَ
خبرُ مبتدأ محذوف ، أي : هم الذين آمنوا ، وإن جَعَلْنَاهُ من كلام الله تعالى
وأنه أَمَرَ نبيه بأن يجيب به السؤال المتقدم فكذلك أيضاً ، وإنْ جَعَلْنَاهُ
لمجرد الإِخبار من الباري تعالى كان الموصول مبتدأ ، وفي خبره أوجه أحدها : أنه
الجملة بعده فإن « أولئك » مبتدأ ثان ، و « الأمن » مبتدأ ثالث ، و « لهم » خبره ،
والجملة خبر « أولئك » و « أولئك » وخبره خبر الأول .
الثاني : أن يكون « أولئك » بدلاً أو عطف بيان ، و « لهم » خبر الموصول ، و «
الأمنُ » فاعلٌ به لاعتماده . الثالث : كذلك ، إلا أنَّ « لهم » خبرٌ مقدم ، و «
الأمن » مبتدأ مؤخر ، والجملة خبر الموصول . الرابع : أن يكون « أولئك » مبتدأ
ثانياً ، و « لهم » خبره و « الأمن » فاعل به ، والجملة خبر الموصول . الخامس :
وإليه ذهب أبو جعفر النحاس والحوفي أن « لهم الأمن » خبر الموصول ، وأن « أولئك »
فاصلة وهو غريب ، لأن الفصل من شأن الضمائر لا من شأن أسماء الإِشارة ، وأمَّا على
قولنا بأن « الذين » خبر مبتدأ محذوف فيكون « أولئك » مبتدأً فقط ، وخبره الجملة
بعده أو الجارُّ وحده ، و « الأمنُ » فاعلٌ به ، والجملة الأولى على هذا منصوبة
بقول مضمر أي : قل هم الذين آمنوا إن كانت من كلام الخليل ، أو قالوا هم الذين إن
كانت من كلام قومه . وقوله « ولم يَلْبسوا » يجوز فيه وجهان ، أحدهما : أنها
معطوفة على الصلة فلا محلَّ لها حينئذٍ ، والثاني : أن تكون الواو للحال ، والجملة
بعدها في محل نصب على الحال أي : آمنوا غير مُلْبِسين إيمانهم/ بظلم وهو كقوله
تعالى : { أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } [ مريم : 20 ] ولا
يُلتفت إلى قول ابن عصفور حيث جعل وقوع الجملة المنفيَّة حالاً قليلاً ، ولا إلى
قول ابن خروف حيث جعل الواو واجبة الدخول على هذه الجملة وإن كان فيها ضمير يعود
على ذي الحال .
والجمهور على « يَلْبِسُوا » بفتح الياء بمعنى يَخْلطونه ، وقرأ عكرمة بضمها من
الإِلباس . « وهم مهتدون » يجوز استئنافها وحاليتها .
وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)
قوله تعالى : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ } : « تلك » إشارة
إلى الدلائل المتقدمة في قوله : { وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ } [ الأنعام : 75 ]
إلى قوله : { وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين } [ الأنعام : 79 ] . ويجوز في «
حُجَّتنا » وجهان ، أحدهما : أن يكون خبر المبتدأ وفي « آتيناها » حينئذٍ وجهان ،
أحدهما : أنه في محل نصب على الحال والعامل فيها معنى الإِشارة ، ويدل على ذلك
التصريحُ بوقوع الحال في نظيرتها كقوله تعالى : { فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً
} [ النمل : 52 ] . والثاني : أنه في محل رفع على أنه خبرٌ ثانٍ أخبر عنها بخبرين
، أحدهما مفرد والآخر جملة . والثاني من الوجهين الأولين : أن تكون « حُجَّتنا »
بدلاً أو بياناً لتلك ، والخبر الجملة الفعلية .
وقال الحوفي : « إن الجملة مِنْ » آتَيْناها « في موضع النعت ل » حُجَّتنا « على
نية الانفصال ، إذ التقدير : حجة لنا » ، يعني الانفصال من الإِضافة ليحصُلَ
التنكيرُ المسوِّغُ لوقوعِ الجملة صفةً لحُجَّتنا ، وهذا لا ينبغي أن يقال ، وقال
أيضاً : « إن » إبراهيم « مفعول ثان لآتيناها ، والمفعول الأول هو » ها « ، وقد
قدَّمْتُ لك في أوائل البقرة أن هذا مذهب السهيلي عند قوله { آتَيْنَا مُوسَى
الكتاب } [ البقرة : 53 ] ، وأنَّ مذهبَ الجمهورِ أن تَجْعل الأولَ ما كان عاقلاً
والثاني غيرَه ، ولا تبالي بتقديمٍ ولا تأخير .
قوله : » على قومه « فيه وجهان أحدهما : أنه متعلقٌ ب » آتينا « قاله ابن عطية
والحوفي أي : أظهرناها لإِبراهيم على قومه . والثاني : أنها متعلقة بمحذوف على
أنها حال أي : آتيناها إبراهيم حجةً على قومه أو دليلاً على قومه ، كذا قدَّره أبو
البقاء ، ويلزم من هذا التقدير أن تكون حالاً مؤكدة ، إذ التقدير : وتلك حُجَّتنا
آتيناها له حجةً .
وقدَّرها الشيخ على حذف مضاف فقال : » أي آتيناها إبراهيم مستعليةً على حجج قومه
قاهرة لها « وهذا حسن . ومنع أبو البقاء أن تكون متعلِّقةً بحجتنا قال : » لأنها
مصدر ، وآتيناها خبر أو حال ، وكلاهما لا يُفْصل به بين الموصول وصلته « . ومنع
الشيخ ذلك أيضاً ، ولكن لكون الحجَّة ليست مصدراً قال : » إنما هو الكلام
المُؤَلَّفُ للاستدلال على الشيء « ثم قال : » ولو جعلناها مصدراً لم يجز ذلك
أيضاً ، لأنه لا يفصل بالخبر ولا بمثل هذه الحال بين المصدر ومطلوبه . وفي
مَنْعِهِ ومَنْع أبي البقاء ذلك نظرٌ ، لأنَّ الحال وإن كانَتْ جملةً ليسَتْ
أجنبيةً حتى يُمْنَعَ الفصل بها لأنها من جملة مطلوبات المصدر ، وقد تقدَّم لي
نظيرُ ذلك بأشبع من هذا .
قوله : « نرفع » فيه وجهان الظاهر منهما : أنها مستأنفة لا محل لها من الإِعراب .
الثاني : جوَّزه أبو البقاء وبدأ به أنها في موضع الحال من « آتيناها » يعني من
فاعل « آتيناها » ، أي : في حال كوننا رافعين ، ولا تكون حالاً من المفعول إذ لا
ضمير فيها يعود إليه .