السبت، 13 مايو 2023

المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام د. جواد علي الجزء الثاني – الفصول 41-62.

المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام

د. جواد علي

الجزء الثاني – الفصول 41-62

الفصل الحادي والاربعون العرب وألحبش 369

الفصل الثاني والأربعون مكة المكرمة  388

الفصل الرابع والأربعون مجمل الحالة السياسة في جزيرة العرب عند ظهور الإسلام  419

الفصل الخامس والأربعون المجتمع العربي 443

الفصل السادس و الأربعون أنساب القبائل 475

الفصل السابع و الأربعون القبائل العدنانية 484

الفصل السابع و الأربعون الناس منازل و درجات  497

الفصل الثامن و الأربعون الحياة اليومية   511

الفصل الخمسون البيوت 529

الفصل الحادي والخمسون فقر وغنى وأفراح ؤأَتراح 545

الفصل الثاني والخمسون الدولة 565

الفصل الثالث والخمسون حقوق الملوك وحقوق سادات القبائل   583

الفصل الرابع والخمسون الغزو وأَيام العرب 601

الفصل الخامس والخمسون الحروب   616

الفصل السادس والخمسون في الفقه الجاهلي   632

الفصل السابع والخمسون الاحوال الشخصية  645

الفصل الثامن والخمسون الملك والإعتداء عليه 654

الفصل التاسع و الخمسون العقود و الالتزامات 663

الفصل الستون حكام العرب 668

الفصل الحادي و الستون أَديان العرب   672

الفصل الثاني والستون التوحيد والشرك  678

 

الفصل الحادي والاربعون

العرب وألحبش

صلات العرب بالحبشة صلات قديمة معروفة ترجع إلى ما قبل الميلاد. فبين السواحل الافريقية المقابلة لجزيرة العرب وبين السواحل العربية اتصال وثيق قديم، وتبادل بين السكان. اذ هاجر العرب الجنوبيون إلىالسواحل الافريقية وكونوا لهم مستوطنات هناك، وهاجر الأفارقة إلى العربية الجنوبية، وحكموها مراراً، وقد كان آخر حكم لهم عليها قبل الإسلام بأمد قصير.

ويرى بعض الباحثين إن أصل الحبش من غرب اليمن من سفوح الجبال،وفي اليمن جبل يسمى جبل "حُبيش"، قد يكون لاسمه صلة بالحبش الذين هاجروا إلى افريقية وأطلقوا اسمهم على الأرض التي عرفت باسمهم،أي "حبشت" أو الحبشة.

ويرون أيضاً إن "الجعز" أو "جعيزان" كما يدعون كذلك، هم cesani للذين وضع "بليني" منازلهم على مقربة من "عدن". فهم من أصل عربي جنوبي. هاجر إلى الحبشة وكو"ن مملكة هناك. والى هؤلاء نسبت لغة الحبش، حيث عرفت بالجعزية، أي لغة الجعز.

ويظن إن العرب الجنوبيين هم الذين موّ نوا السواحل الافريقية المقابلة بالعناصر السامية. وكانوا قد هاجروا مراراً اليها،ومن بين تلك الهجرات القديمة، هجرة. قام بها السبئيون في القرن الخامس قبل الميلاد. وقد هاجر معهم "الحبش" في ذلك الوقت أيضاً. وقد توقف سيل الهجرات هذه حين ندخل "البطالمة" في البحر الأحمر،وصار لهم نفوذ سياسي وعسكري على جانبي هذا البحر. غير أنها لم تنقطع انقطاعاً تاماً، إذ يرى بعض الباحثين أن العرب كانوا قد دخلوا الحبشة والسواحل الإفريقية المقابلة فيما بعد الميلاد أيضاً، فنزحوا اليها فيما بين السنة "232" والسنة "250" بعد الميلاد مثلاً، حيث ركبوا البحر ونزلوا هناك.

وقد تبين أن السبئيين كانوا قد استوطنوا في القرن السادس قبل الميلاد المناطق التي عرفت باسم "تعزية"Ta'izziya من أرض "أريتريا" ونجد الحبشة، وكوّنوا لهم حكومة هناك. وأمدوا الأرضين التي استولوا عليها بالثقافة العربية الجنوبية. ولم يقطع هؤلاء السبئيون صلاتهم بوطنهم. القديم، بل ظلت أنظارهم متجهة نحوه في تدخلهم وهم في هذا الوطن بشؤونه وارسالهم حملات عليه واحتلالهم له في فترات من الزمن. ولعلّ ما جاء في أحد النصوص من "مصر" الحبشة، قصد به هؤلاء الذين كانوا قد استوطنوا تلك المنطقة من إفريقية.

وفي القرن السادس قبل الميلاد،كان الاوسانيون قد نزحوا إلى السواحل الافريقية الشرقية، فاستوطنوا الأرضين المقابلة ل Pemba "زنزبار" Zanzibar وهي "عزانيا" Azania، وتوسعوا منها نحو الجنوب. وقد عرف هذا الساحل في كتاب "الطواف حول البحر الأريتري "، باسم Ausaniteae وهو اسم يذكرنا ب "أوسان". وقد ذكر مؤلف الكتاب، أنه كان خاضعاً في أيامه "القرن الأول بعد الميلاد"ء، لحكام Mapharitis. ويريد بهم حكام دولة "سبأ وذو ريدان".

وقد عثر الباحثون على حجر مكتوب في حائط كنيسة قديمة بالقرب من "أكسوم"، وإذا به كتب بالسبئية، وفيها اسم الإلهة السبئية "ذت بعسن" "ذات بعدن" "ذات البعد" وعثر على بقايا أعمدة في موضع "يحا" الواقع شمال شرقي "عدوة" Adua، تدل على وجود معبد سبئي في هذا المكان، كما عثر على مذبح سبئي خصص بالإله "سن" "سين". وعثر على كتابات وأشياء أخرى تشير كلها إلى وجود السبئيين في هذه الآرضين.

وعرف ملك الحبش ب "النجاشي" عند العرب. واللفظة لقب تطلقه العربية على كل من ملك الحبشة، فهي بمنزلة "قيصر"، اللفظة التي يطلقها العرب على ملوك الروم، و "كسرى" التي يطلقونها على من حكم الفرس، و "تبع" التي يطلقونها على من يحكم اليمن. أما في العربية الجنوبية، فقد أطلقت لفظة "ملك" على من ملك الحبشة، وقد ورد "ملك اكسمن"،أي "ملك اكسوم" وورد "ملك حبشت"، أي ملك الحبشة. فأخذ العرب اللفظة من الحبش. وهي في الحبشية بمعنى جامع الضريبة، والذي يستخرج الضريبة، فهي وظيفة من الوظائف في الأصل، ثم صارت لقباً. وورد في بعض النصوص العربية الجنوبية اذ لقب به "جدرة" مثلاً.

ويظن إن مملكة "أكسوم" التي ظهرت في أوائل أيام النصرانية، قد كانت دولة أقامها العرب الجنوبيون في تلك البلاد. وقد استطاع الباحثون من العثور على عدد من الكتابات تعود إلى ملوك هذه المملكة، دوّن بعض منها باليونانية مما يدل على تأثر ملوك هذه المملكة بالثقافة اليونانية وعلى وجود جاليات يونانية هناك نشرت ثقافتها في الحبشة. وقد عرفْت هذه المملكة بمملكة "أكسوم" "اكسمن".نسبة إلى عاصمتها. مدينة "اكسم" "أكسوم".

وقد كان ملوك أكسوم وثنيين. بقوا على وثنيتهم إلى القرن الرابع أو ما بعد ذلك للميلاد. ويظن إن إلملك "عزانا" Ezana وهو ابن الملك "الاعميدا" Ela-Amida، هو أول ملك تنصر من ملوك هذه المملكة وذلك لعثور الباحثين على آثار تعود إلى عصر، ترينا القديمة منها انه كان وثنياً، وترينا الحديثة منها انه كان نصرانياً، مما يدل على أنه كان وثنياً في أوائل أيام حكمه، ثم اعتنق النصرانية، فأدخل شعارها في مملكته، وذلك بتأثير المبشرين عليه.

وفي جملة ما يستدل به على تأثر العرب الجنوبين في الحبش، هو الأبجدية الحبشية المشتقة من الخط العربي الجنوبي. وقرب لغة الكتابة والتدوين عندهم من اللهجات العربية الجنوبية. وبعض الخصائص اللغوية والنحوية التي تشير إلى أنها قد أخذت من تلك اللهجات. ثم عثور العلماء على أسماء الهة عربية جنوبية ومعروفة في كتابات عثر عليها في الحبشة والصومال. ووجودها في هذه الأرضين هو دليل على تأثر الافريقين بالثقافة العربية الجنوبية،أو على وجود جاليات عربية جنوبية في تلك الجهات.

وكما تدخل العرب في شؤون السواحل الإفريقية المقابلة لهم، فقد تدخل. الافريقيون في شؤون السواحل العربية المقابلة لهم. لقد تدخلوا في أمورها مراراً. وحكموا مواضع من ساحل العربية الغربية ومن السواحل الجنوبية وتوغلوا منها إلى مسافات بعيدة في الداخل حتى بلغوا حدود نجران.

ويظهر من الكتابات الحبشية، أن الحبش كانوا في العربية الجنوبية في القرن الأول للميلاد. وقد كانوا فيها في القرن ألثاني أيضاً. ويظهر أنهم كانوا قد استولوا على السواحل الغربية، وهي سواحل قريبة من الساحل الافريقي ومن الممكن للسفن الوصول اليها وانزال الجنود بها. كما استولوا على الأرضين المسماة ب Kinaidokopitae في جغرافية "بطلميوس".

وورد في نص من النصوص الحبشية أن ملك "أكسوم" كان قد أخضع السواحل المقابلة لساحل مملكته، وذلك بارساله قوّات برية وبحرية تغلبت على ملوك تلك السواحل من ال "Arrhabite " "الأرحب" "الارحبية" "أرحب" Kinaidokolpite، وأجبرتهم على دفع الجزية، وعلى العيش بسلام في البر وفي البحر. ويرى بعض الباحثين إن المراد ب "Arrhabite" بدو الحجاز. وأن Kinaidokolpite هم "كنانة". وأن السواحل التي استولى الأحباش عليها تمتد من موضع "لويكه كومه" Leuke Kome "القرية البيضاء" إلى أرض السبئيين.

ويرى "فون وزمن" أن احتلال الحبش لأرض Kinaidokoplitae الأرض المسماة باسم قبيلة لا نعرف من أمرها شيئاً، والتي ورد اسمها في كتابة Monumentum Adulitanum فقط وفي جغرافية "بطلميوس"، كان قبل تدوين تلك الكتابة وربما في حوالي السنة" 100" بعد الميلاد. ويراد بها ساحل الحجاز وعسير من ينبع Ianbia في الشمال إلى السواحل الجنوبية الواقعة على البحر العربي شمال "وادي بيش"،فشملت الأرض المذكورة والتهائم والساحل كله.

غير اننا نجد أن مؤلف كتاب "الطواف حول البحر الأريتري" يشير من جهة آخرى إلى أن الساحل الافريقي المسمى ب "تنجانيقا" في الوقت الحاضر كان في أيدي الحميريين في ذلك الوقت. ومعنى ذلك إن ملك حمير استطاع في أيام ذلك المؤلف من الاستيلاء على ذلك الساحل ومن ضمه إلى ملكه. كما فعل أهل حضرموت وعمان فيما بعد.

ووردت جملة "احزب حبشت" في النص الموسوم ب "CIH 314+954". وهي تشير إلى وجود "أحزاب" أي جماعات من الحبش في العربية الجنوبية. وقد يراد بها مستوطنات حبشية وقوات عسكرية كانت قد استقرت في تلك البلاد. كما وردت في النص الموسوم ب Ryckmans 535 اذدي يتحدث عن حرب أعلنها "الشرح يحضب" على "احزب حبشت"، و "ذى سهرتن" و "شمر ذى ريدان".

وأشار "اصطيفان البيزنطي" إلى قوم دعاهم Abasynoi يظهر من قوله إن مواطنهم كانت في شرق حضرموت. ويفهم من كلامه أن هؤلاء كانوا حبشاً يقيمون في هذه الأرضين. وقد يكونون قد استولوا عليها بانقوة وألحقوا ما استولوا عليه بمملكة أكسوم.

وورد في كتابات تعود إلى أيام "علهان نهقان"، بأن هذا الملك كان قد تفاوض مع "جدرت" "جدرة" ملك "أكسوم" والحبشة لعقد صلح معه. ويظهر من جملة "واقول وقدمن واشعب ملك حبشت"،أي "واقيال وسادات وقبائل ملك الحبشة"، الواردة فيها، أن ملك الحبشة كان يحكم جزءاً من العربية الجنوبية في ذلك الوقت، وان الملك "علهان نهفان" تفاوض معه لتحسين العلاقات السياسية فيما بينه وبين الحبش ولضمان مساعدتهم في حروبه مع منافسيه وخصومه. ويرى "فون وزمن" أن تلك المفاوضات كانت قد جرت في حوالي السنة "180" بعد الميلاد.

وقد عقد "علهان" حلفاً مع الحبش، ويظهر أنه عقده بعد انتهائه من الحرب التي أعلنها على حمير. تلك الحرب التي اشترك الحبش فيها أيضاً وكذلك أهل حضرموت. ولما عقد "علهان" الحلف مع الحبش، كان ابنه "شعر أوتر" قد اشترك معه في الحكم.

ولم يدم الحلف الذي عقد بين "علهان" وابنه "شعر أوتر" من جهة والحبش من جهة أخرى، إذ سرعان ما نقض ووقعت الحرب بن "شعر أوتر" وبين "الحبش" على نحو ما ذكرت في أثناء حديثي عن حكم ""شعر أوتر". إلا أنه لم يتمكن من القضاء عليهم، ولم يزحهم عن اليمن. بل بقوا في الأرضين التي كانت خاضعة لهم والتي تقع في الجزء الغربي من اليمن.

وقد جاء اسم "جدرت" "جدرة" على هذه الصورة: "جدر نجش اكسم" في النصوص. وورد على هذه الصورة: "جدرت ملك حبشت واكسمن" في النص الذي وسم ب Jamme ومعنى الجملة الأولى "جدر نجاشي أكسوم".

ومعنى الجملة الثانية "جدرة ملك الحبشة وأكسوم". وقد قدّر بعض الباحثين زمان حكم هذا النجاششي بحوالي السنة "250" بعد الميلاد.

ويظهر إن الحبش كانوا قد تمكنْوا من دخول "ظفار" عاصمة حمير، وذلك فيما بين السنة "90 ا" و "205" بعد الميلاد. وذلك في أيام "لعزز يهنف يهصدق". ولا ندري إلى متى بقوا فيها. والظاهر أن حكمهم فيها كان قصيراً.

وقد كان نزول الحبش في أرض اليمن في أيام حكم الملك الحبشي "عذبة" على ما يظن. وكان هذا الملك على صلات حسنة بالرومان،ففتح بلاده للمصنوعات الرومانية النفيسة، وظل الحبش في اليمن في أيامه حتى وفاته، فلما توفي أو عزل تولى ملك آخر مكانه هو "زوسكالس" Zoskales وقد أدى هذا التغير إلى تبدل ألحال، اذ اضطر الحبش إلى النزوح من الأماكن التي كانوا قد استولوا عليها. ويرى بعض الباحثين إن ثورة قامت في الحبشة على حكم "عذبة" وأحلت "زوسكالس" محله. فانتهز أهل اليمن فرصة انشغال الحكومة بالاضطرابات التي وقعت بهذه الثورة، ونهضوا على الحبش فأخرجوهم عن ديارهم،وأخرج الحبش من السواحل التي كانوا قد استولوا عليها، المعروفة ب Kinaidokolpitae، ويراد بها ساحلّ الحجاز وعسير.

ووردت في النص الموسوم ب "Rychmans 535"، لفظة "و ذ ب ه" "وذبه" ثم ذكرت بعدها جملة: "ملك اكسمن "، أي "ملك الاكسومين"، أو "ملك الأكسوميين". وهو الملك الذي استعان به "شمر ذو ريدان". وقد قرأ بعض الباحثين لفظة "وذبه" على هذه الصورة "عذبة" اًو "وزبه". وذهبوا إلى أنه ملك الحيشة الذي استعان به "شمر ذو ريدان"4، والذي تدخل في شؤون اليمن فيما بين السنة "300" و "320" بعد الميلادْ، ويظهر من اللقب الطويل الذي تلقب به ملك "أكسوم"،أي الحبشة Ethiopiaوهو الملك "عيزانا" Ezana، أن اليمن وما جاورها من أرضين كانت خاضعة لحكم الحبش في أيامه أيضاً. أما لقبه الذي تلقب به فهو: "ملك اكسوم وحمير وريسان وسبأ وسلحن"، ويذكر بعد هذا اللقب أسماء ثلاثة مناطق افريقية كانت تحت حكمه، ثم ختم هذا اللقب بتتمته، وهي جملة: "ملك الملوك" و "سلحن" "سلحين"، هو قصر ملوك سبأ وذو ريدان بمأرب.

وكان الملك "عيزانا" "عزانا"، قد دخل في النصرانية بتأثير المبشر "فرومنتيوس"، الذي أرسله إليه الملك "قسطنطين" ملك البيزنطيين عام "350" للميلاد أو "356". وقد فرض هذا الملك النصرانية على شعبه وأعلنها ديانة رسمية لمملكته كما جعل الديانة الرسمية للعربية الجنوبية.

وكانت العربية الجنوبية خاضعة لحكم أبيه، ولعلّه هو الذي أدخلها في حكمه. اذ كان أبوه وهو "الاعميدا" Ella 'Amida، قد لقب نفسه باللقب المذكور. ويرى بعض الباحثين أن حكم "عيزانا" لم يكن فيما بين السنة "330" و "350" بعد الميلاد أو بعد ذلك كما ذهب إلى ذلك بعض الباحثين، بل كان في حوالي السنة "450" للميلاد. ويرى أن ملكاً آخر كان قد تدخل في شؤون اليمن واستولى على ساحل Kinaidokopitae، هو الملك "سمبروتس" Sembruthes وقد حكم على رأيهم في حوالي السنة "405" بعد الميلاد.

ويرى بعض الباحثين أن الحبش استولوا على العربية الجنوبية بعد وفاة "شمر يهرعش"، وأن ذلك كان في حوالي السنة "335 م". وأن "ثيوفيلس" نصَّر عرب اليمن في حوالي السنة "354 م"، إذ أنشأ كنيسة في " ظفار". وقد صار رثيس أساقفة "ظفار" يشرف على الكنائس التي أنشئت في اليمن وفي ضمن ذلك كنيسة "نجران" والكنائس الأخرى التي بنيت في العربية الجنوبية إلى الخليجْ.

وأعرف تدخل للحبش في العربية الجنوبية، تدخلهم في شؤون اليمن في النصف الأول للقرن السادس واحتلالهم اليمن، إذ بقوا فيها أمداً حتى ثار أهل اليمن عليهم، فتمكنوا من انقاذ بلادهم من الحبش بمعونة من الفرس. وتركوا بذلك اليمن أبداً.

ويظهر من بعض الكتابات أن حصن "شمر" والسهل المحيط به كان في أيدي الحبش، وقد ورد فيها اسم موضع "مخون"، وهو "مخا". ويرد اسم هذه المدينة لأول مرة. وتتناول هذه الكتابات حوادث وقعت سنة "528" بعد الميلاد. وتبدأ قصة دخول الحبش إلى اليمن على هذا النحو: لما قتل ذو نواس من اًهل نجران قربباً من عشرين ألفاً، أفلت منهم رجل يقال له "دوس ذو ثعلبان" أو رجل آخر اسمه "جبار بن فيض" أو غير ذلك، ففرّ على فرس له، فأعجزهم حتى خرج فوصل الحبشة،وجاء إلى ملكها، فأعلمه ما فعل "ذو نواس" بنصارى نجران، وأتاه بالانجيل قد أحرقت النار بعضه، فقال له: الرجال عندي كثير، وليست عندي سفن. وأنا كاتب إلى قيصر أن يبعث إليّ بسفن أجعل فيها الرجال، فكتب إلى قيصر في ذلك وبعث إليه بالانجيل المحرق. فبعث إليه قيصر بسفن كثيرة عبر فيها البحر ودخل اليمن.

وفي رواية أخرى إن "دوس ذو ثعلبان" قدم على قيصر صاحب الروم، فاستنصره على "ذي نواس" وجنوده وأخبره بما بلغ منهم، فقال له قيصر: بعدت بلادك من بلادنا ونأت عنا، فلا نقدر على إن نتناولها بالجنود. ولكني سأكتب لك إلى ملك الحبشة، فانه على هذا الدين، وهو أقرب إلى بلادك منا، فينصرك ويمنعك ويطلب لك بثأرك ممن ظلمك. فكتب معه قيصر إلى ملك الحبشة يذكر له حقه وما بلغ منه ومن أهل دينه، ويأمره بنصره وطلب ثأره ممن بغى عليه وعلى أهل دينه. فلما قدم دوس ذو ثعلبان بكتاب قيصر على النجاشي، بعث معه سبعين ألفاً من الحبشة، وأمر عليهم رجلاٌ من أهل الحبشة يقال له أرياط، وعهد إليه إن أنت ظهرت عليهم فاقتل ثلث رجالهم، وأخرب ثلث بلادهم، واسب ثلث نسائهم وأبنائهم. فخرج أرياط ومعه جنوده، وفي جنوده أبرهة الأشْرم، فركب البحر ومعه دوس ذو ثعلبان حتى نزلوا بساحل اليمن. وسمع بهم ذو نواس، فجمع إليه حمير ومن أطاعه من قبائل اليمن، فاجتمعوا إليه على اختلاف وتفرق لانقطاع المدة وحلول البلاء والنقمة، فلم تكن له حرب، غير أنه ناوش ذا نواس شيئاً من قتال، ثم انهزموا ودخلها أرياط بجموعه. فما رأى ذو نواس ما رأى مما نزل به وبقومه، وجه فرسه إلى البحر، ثم ضربه فسحل فيه، فكان آخر العهد به. ووطىء "أرياط" اليمن بالحبشة، فقتل ثلث رجالها وأخرب ثلث بلادها وبعث إلى النجاشي بثلث سباياها، ثم أقام بها.

ويظهر من دراسة هذا المروي،أن الرواة كانوا على اختلاف بينهم في حديثهم عن "أصحاب الأخدود". وقد أشار العلماء إلى هذا الاختلاف. وقد اختلفوا في زمانهم أيضاً، واكتفى بعضهم بقولهم: "وكانوا بنجران في الفترة بين عيسى ومحمد"، وقال بعضهم: انهم كانوا باليمن قبل مبعث الرسول بأربعين سنة، أخذهم "يوسف بن شراحيل بن تبع الحميري، وكانوا نيفاً وثمانين رجلاً، وحفر لهم أخدوداً وأحرقهم فيه. وجعل بعضهم عدد من قتل من نصارى نجران عشرين ألفاً، وجعله بعضهم اثني عشر ألفاً، وذكر بعض آخر إن أصحاب الأخدود سبعون ألفاً. وقد قتلهم "ذو نواس اليهودي" واسمه "زرعة بن تبان أسعد الحميري"، واسمه أيضاً "يوسف". وجعله بعضهم "يوسف بن ذي نواس بن تبع الحميري". وجعلوا زعيم نصارى نجران، والذي ثبت النصرانية فيها ونشرها بين النجرانيين رجل من أهل نجران، اسمه "عبد الله بن ثامر". وكان قد أخذ النصرانية عن راهب، رآه فلازمه وتعلق به، وأثر في قومه، بشفائه الأمراض بالدعاء لهم إلى الله لشفائهم، فدخل كثير ممن شفوا وبرؤوا بدينه، وبذلك انتشرت النصرانية في نجران.

ولم يبين رواة الخبر المتقدم الأسباب التي دعت نجاشي الحبشة إلى الطلب من قائده "أرياط" بأن يقتل ثلث رجال اليمن، ويخرب ثلث البلاد، ويسبي ثلث النساء وأبناءهم وأن يتبع هذا النظام الثلاثي في العقوبة. ولم يذكروا الموارد التي أخذوا منها خبرهم على طريقتهم في أخذ الأخبار من غير تمحيص.

وزعم "ابن الكلبي" أن السفن لما قدمت على النجاشي من عند قيصر،حمل جيشه فيها، فخرجوا في ساحل المندب. فلما سمع بهم ذو نواس، كتب إلى المقاول يدعوهم إلى مظاهرته، وان يكون أمرهم في محاربة الحبشة ودفعهم عن بلادهم واحداً فأبوا، وقالوا: يقاتل كل رجل عن مقولته وناحيته. فلما رأى ذلك، صنع مفاتيح كثيرة، ثم حملها على عدة من الابل، وخرج حتى لقي بعضهم فقال: هذه مفاتيح خزائن اليمن قد جئتكم بها. فلما وجه الحبشة ثقات اصحابهم في قبض الخزائن، كتب "ذو نواس" إلى كل ناحية أن اذبحوا كل من يريد اليكم منهم. ففعلوا فلما بلغ النجاشي ما كان من ذي نواس، جهز سبعين ألفاً، عليهم قائدان: أحدهما أبرهة. فلما صار الحبشة إلى صنعاء ورأى ذو نواس أن لا طاقة له بهم، ركب فرسه واعترض البحر فاقتحمه، فكان أخر العهد به.

هذا مجمل ما ورد في كتب المؤرخين الاسلاميين والأخبارين عن ذي نواس. وقد أخذ بعضه مما علق في أذهان أهل اليمن عن ذلك الحادث، وأخذ بعض آخر مما علق بأذهان أهل الكتاب عنه، ويعود الفضل في تدوينه وجمعه إلى القران الكريم، إِذ إشار بايجاز إليه: )قتل أصحاب الأخدود. النار ذات الوقود. إذ هم عليها قعود. وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود(. فكانت اشارته هذه الى أصحاب الأخدود حافزاً دفع بالمفسرين وأصحاب التأريخ والأخبار على جمع ما علق بالأذهان من هذا الحادث، فجاء على الصورة المذكورة.

ولم يرد الينا شيء من هذا القصص الذي رواه الأخباريون عن ذي نواس مكتوباً في المسند. وكل ما ورد مما له علاقة في حادث دخول الحبشة اليمن، هو ما جاء في النص المهم المعروف بنص حصن غراب والموسوم REP.EPIGR.2633 من أن الأحباش فتحوا أرض حمير وقتلوا ملكها وأقياله الحميريين والأرحبيين.

ولم يذكر في النص اسم هذا الملك. ويعود تأريخه إلى سنة "645" من التقويم الحميري الموافقة لسنة "525" للميلاد.

ويرى ونكلر مستنداً إلى نص "حصن غراب" أن "ذا نواس" كان هو البادىء بالحرب، وأن السميفع أشوع وأولاده أصحاب النص كانوا في معية الملك ذي نواس في حملته على الحبشة، غير انه لم يكتب له التوفيق، وأصيب بهزيمة اذ سقط فهزم جمعه. وعندئذ غزا الحبش ارض اليمن واستولوا عليها. فأسرع السميفع أشوع وأولاده في الذهاب إلى حصن "ماوية" للتحصن فيه ولتقوية وسائل دفاعه، ولم تكن قلوب هؤلاء مع ذي نواس، وانما أكرهوا على الذهاب معه. وبقوا في حصنهم هذا إلى أن دخل الحبش أرض اليمن، فتفاهم معهم.

وقد أشرت إلى ملخص ما جاء في التواريخ الاسلامية عن ذي نواس وعن حادث تعذيب نصارى نجران، وهو حادث لم يكن بعيد العهد عن الإسلام. فقد أشير إليه بايجاز في القرآن الكريم: ) قتل أصحاب الأخدود. النار ذات الوقود. اذ هم عليها قعود. وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود (. فجمع المفسرون والأخباريون ما علق بالأذهان من هذا الحادث ورووا أخباراً متناقضة متباينة في أصحاب الأخدود.

أما رأي اليهود - وهم طرف من أطراف هذا النزاع - عن حادث نجران فلا علم لنا برأي رجاله المعاصرين في الحادث. إذ لم يصل الينا شيء مدوّن بقلم مؤلف يهودي معاصر له. وقد أخذ الأخباريون - كما قلت - ما كان علق عن ذلك الحادث بأذهان يهود اليمن ويثرب، على لسان وهب بن منبه، وأضرابه، أخذوه عن طريق الرواية والحفظ، فهذا المدون في كتب أهل الاخبار والمنصوص على سنده هو كل ما نعرفه من رأي اليهود المتأخرين في حادث في نجران.

وأما ما رواه النصارى عنه، وهم الطرف الثاني فيَ النزاع، فإنه أطيب جداً وأوضح مما ورد في الموارد الاسلامية وفي الرواية اليهودية الشفوية اذ اعتمدت المواد الاسلامية واليهودية على منابع شفوية، هي السماع والرواية، فجاء وصفها للحادث مزوّقأَ. أما الموارد النصرانية فقد اعتمدت على السماع والمشافهة أيضاً، ولكنها أخذت من موارد ووثائقّ مسجلة دوّن بعضها بعد وقوع الحادث بقليل، وكان لتدوينها الحادث أهمية كبيرة بالنسبة لمن يريد تأريخه والوقوف على كيفية حدوثه، وإن كانت لا تخلو أيضاً من المبالغات والتهويل، والعواطف، لأنها كتبت في ظروف عاطفية حماسية. ونقلت من محيط للمبالغة فيه مكانة كبيرة ومن أفواه أناس ليس لهم علم بمنطق المحافظة على صدق الواقع. وقد دوّنت لبعث حمية النصارى على انقاذ أبناء دينهم المضطهدين في اليمن.

وقد ادرك بعضها زمن الحادث وأخذ سماعاً من رجال شهدوه، أو من رجال نقلوا رواياتهم من شهود العيان. فلهذه الوثائق إذن شأن عظيم،ني نظر المؤرخ. ومن هؤلاء الرحالة: "قزما"، والمؤرخ "بروكوبيوس" المتوفي في حوالي السنة "565" للميلاد. ومن المتأخرين: المؤرخ "ملالا" Johannes Malala. وقد نقل من كتابه بعض المؤرخين المتأخرين عنه،مثل "ثيوفانس"Theophanes "758 - 818" و "سدرينس" Georg Cedrnus، و "نيقيفورس كالستيNicephorus Callisti.

وكان "قزما" المعروف ب Cosmas Indicopleutes أي "قزا بحار البحر الهندي"، وصاحب كتاب "الطبوغرافية النصرانية" Christian Cosmography وكتاب "البحار الهندية" "بحار البحر الهندي" Indicopleutes في مدينة "أدولس" Adulis، الواقعة على ساحل الحبشة على المحيط الهندي ينقل كتابة "بطلميوس" Ptlemaeus اليونانية بأمر النجاشى )Elesboan ()Elesboas( في العهد الذي كان فيه النجاشي يتهيأ لغزو أرض حمير. فكتب في جملة ما كتبه قصة غزو الحبشة لليمن بعد25 عاماً من وقوعه. فلروايته عن الحملة شإن كبير لأنها غير بعيدة عهد عن الحادث، ثم إن صاحبها نفسه كان قد أدركها وقد سمع أخبارها من شهود عيان. ولعله كان نفسه من جملة أولئك الشهود، شاهد السفن وهي تحمل الجنود لنقلهم إلى اليمن، واتصل بالرسميين الحبش واستفسر منهم عن الحملة.

ويفهم من رواية "قزما"، إن الحملة كانت في أوائل أيام حكم القيصر "يسطينوس" Justinus "518 -527م". أما "ثيوفانس" Theophanes و "سدرينوس" Cedrnus ومن اعتمد عليهما، فقد جعلوا الحملة في السنة الخامسة من حكم هذا القيصر، وذكروا إن الذي حمل النجاشي على هذا الغزو هو تعذيب ملك حمير لنصارى نجران، وقد قتل هذا الملك.

ويحدثنا "ثيوفانس". و "سدرينوس" عن غزو ثانٍ قام به الحبش على حمير لآعتداءاتهم على تجار الروم،وذلك في السنة الخامسة عشرة من حكم "يوسطنيانوس" Justinus "527 - 565م"، وفي عهد النجاشي "ادد"Adad. أما ملك حمير، فاسمه "دميانوس"Damianus. وقد ذكر "ملالا" هذا الحديث محرفأَ بعض التحريف، فجعل اسم النجاشي "أندس" Andasبدلاّ من ادد، وصيّر اسم ملك حمير "دمنوس" Damnus عوضاً عن "دميانوس" Damianus، وذكر حملة "اندس" هذه قبل جملة Elasbaas. وأشار إلى أن النصرانية كانت قد انتشرت في الحبشة قبل أيام "اندس". وذكر المؤرخان الآخران إن "أدد" تنصر على أثر احرازه النصر على الحمريين.

وتحدثنا رواية سريانية إن النجاشي المسمى "ايدوك" Aidog حارب الملك "اكسينودون" Xenedon ملك الهنود. ثم حارب "دميون" Dimion ملك حمير لاعتدائه على التجار الروم واستيلائه على أموالهم. فانتصر "ايدوك" على ملك حمير، ثم تنصر، وعين على حمير ملكاً نصرانياً. فلما مات هذا الملك، عذب خلفه نصارى نجران، فغزا "ايدوك" حمير وانتصر عليها. وأقام علها "ابرهام" "ابراهيم" Abraham. ولا يشك المستشرق "فيل" Fell في أن - المراد ب "Adad" "Andas" "Aidog"" رجل واحد هو النجاشي "كالب"،وهو Elasbaas "كلب الا أصبحه" "كالب الا اصبحه". وأما Dimion , Damianus, Xenedon، يراد بها "ذو نواس". وقد تحدث "فل" Fell باطناب عن مختلف الروايات الواردة عن النجاشي "كالب" "كلب الا إصبحه" و "الاعاميدة". "عيلاميده" وعن انتشار النصرانية في الحبشة، وأمثال ذلك، فإليه يرجع من يطلب المزيد.

وفي المرويات اليونانية عن الشهداء أن الذي قام بتعذيب نصارى نجران هو الملك "ذو نواس" Dunaas ملك حمير، وان ذلك كان في السنة الخامسة من حكم، "يوسطينوس" Justinus، أن الذي غزا اليمن هو النجاشيEla Atzbeha. فلما دخلت جيوشه أرض حمير، فر Dunaas الى الجبال فتحصن فيها، حتى إذا سنحت له الفرصة خرج فقتل من بقي من جيش النجاشي في اليمن واحتل مدينة "نجران" فقام عندئذ Elesbas بحملة ثانية فانتصر بها على "Dunaas" وعين Abraham في مكانه.

وفي جملة ما لحق بقصص الشهداء الحميريين، المناظرة التي جرت بين أسقف "ظفار" المسمى "كَريكنتيوس " Gregentiusوبين Herban اليهودي، والظاهر أنها من القصص الذي وضع في السريانية وليست لها قيمة تأريخية بالطبع. وقد دوّن "يوحنا الأفسي" John of Ephesus المتوفي في حوالي سنة "585" للميلاد في تأريخه الكنسي وثيقة مهمة جداً عن حادث تعذيب نصارى نجران، هي رسالة وجهها "مار شمعون" أسقف "بيت أرشام" Simon of Beth Arsham المعاصر لهذا الحادث إلى "رئيس دير جبلة" Abt von Gabula يصف فيها ما سمعه وما قصصَّه عليه شهود عيان من أهل اليمن وما لاقوه هناك من أصناف العذاب. ومنه أخذها البطريق "ديونيسيوس" Patriach Dionysius، فأدخلها في تأريخه المؤلف بالسريانية. وقد نشرها "السمعاني" في مؤلفه "المكتبة الشرقية". وتجد هذه الرسالة أيضاً في تأريخ "زكريا" Zacharias von Mitylene المتوفي في حوالي سنة "568" للميلاد، وهو بالسريانية أيضاً. وفي الرسالة اختلافات عن نسخ الرسالة الأخرى، ولكنها غير مهمة على كل حال ولا تغير من جوهرها شيئاً.

وقد ذكر "شمعون" في رسالته أنه كان قد رافق "ابراهيم" "ابراهام" Abraham والد"نونوسوس" Nonnosus الشهير في رسالة خاصة أمر بها القيصر "يوسطينوس" Justinus الأول الى ملك الحيرة "المنذر الثالث". وكان ذلك في العشرين من كانون الثاني من سنة "835" من التأريخ السلوقي،وتقابل هذه السنة سنة"524" للميلاد. فلما بلغا قصر الملك، سمعا بأخبار استشهاد نصارى نجران. وعلم به "شمعون".من كتاب وجهّه ملك حمير الى ملك الحيرة، يطلب منه أن يفعل بنصارى مملكته ما فعله هو بنصارى نجران. وقد قرىء الكتاب أمامه، فوقف على ما جاء فيه، وعلم به أيضاً من رسول أرسله في الحال إلى نجران ليأتيه بالخبر اليقين عن هذه الأعمال المحزنة التي حلت بالمؤمنين.

وقد وجّه شمعون في نهاية الرسالة نداءً إلى الأساقفة خاصة أساقفة الروم ليعلمهم بهذه الفاجعة التي نزلت باخوانهم في الدين، والى بطريق الاسكندرية ليتوسط لدى نجاشي الحبشة في مساعدة نصارى اليمن، كما وجّه نداءه الى أحبار "طبرية" للتأثير على ملك حمير، والتوسط لديه بالوصف عن الاضطهاد والتعذيب.

وقد درس عدد من الباحثين هذه الرسالة، ونقدوها، وهي في الجملة صحيحة ووثيقة مهمة لا شك في ذلك بالنسبة إلى من يريد الوقوف على موضوع استشهاد نصارى نجران. أما ما جاء فيها على لسان ملك حمير من جمل وعبارات استخلصت على حد قول "شمعون" من الرسالة التي وجهها ملك حمير إلى المنذر، فمسألة فيها نظر، وقضية لا يمكن التسليم بها، فلا يعقل أن يكون ما قيل فيها على لسانه قد صدر منه. وما دوّن فيها من عبارات بحق الشهيد "حارثة" "الحارث" Arethas ونصارى نجران لا يعقل أن يكون قد صدر من ملك يهودي. ولكننا لا نستطيع أن ننكر أو نتجاهل أمر الرسالة التي أرسلها الملك إلى المنذر لحثه على اضطهاد نصارى مملكته مقابل مبلغ يقدمه ملك حمير إليه. ولا داعي يدعو إلى نكرانها والشك فيها. وكل ما نستطيع أن نقوله إن الرسالة صحيحة، ولكن ما دونه شمعون من جمل وعبارات على انها من كلام ملك حمير، هو من انشائه وكلامه، لا ترجمة حرفية للكتاب. وخلاصة ما يقال في الرسالة انها وثيقة مهمة، ولها قيمة تأريخية في الجملة بغض النظر عن التفصيلات الواردة فيها وعن عواطف كاتبها وعن المبالغات التي وردت فيها وفي مركز صاحبها والمكانة التي كان فيها ما يسوغ صدور مثل هذه الأمور منه ووقفه عليها.

ومن الوثاثق التأريخية التي تتعلق بشهداء نجران كتاب ينسب إلى "يعقوب السروجي" في السريانية في نصارى نجران، وقصيدة في رثاء الشهداء ل"بولس" Paulus Bishop of Eddessa أسقف "الرها" Eddassa=Edessa ومدحه اياهم، ونشيد كنسي سرياني ل"يوحنا بسالطس" Johannes Psaltes رئيس دير قنسرين المتوفى سنة "600" للميلاد، وميمر ليعقوب الرهاوي.

ويظهر مما ورد في "كتاب الشهداء الحميريين" وفي رسالة "شمعون الأرشامي" أن "يعقوب السروجي" أسقف "سرجيوبولس" Sergiopolis أي "الرصافة" كان من رجال البعثة المذكورة التي أوفدها القيصر "يوسطين الأول" "يسطينوس" Justin 1 إلى الملك "المنذر". و "الرصافة" Sergiopolis هي "متروبولية منطقة الفرات" Metoripolis of Euphratensis بالنسبة إلى نصارى العرب. ويذكر مؤلف الكتاب المذكور أنه عمد وهو في "حيرة النعمان" "حيرتا دى نعمانا" Hirtha Dhe,Na, mana أحد سادات حمير، واسمه "أفعو"Afu، وكان أحد الوثنين الذين جاؤوا من اليمن إلى الحيرة، وقد شاهد بنفسه تعذيب نصارى "نجران". وقد كلفه ملكه، أي ملك حمير،السفارة عند ملك الحيرة. ولكنه كان رقيق القلب، فرق قلبه وهو في الحيرة على النصرانية، فتنصر على يديه.

وقد نقل مؤلف كتاب الشهداء الحميريين صورة الكتاب الذي أرسله ملك حمير، وقد دعاه "مسروقاً" Masruq، إلى "المنذر بن الشقيقة" "منذر بن شقيقة" Mundhar bar Zaqiqa وهو يحرضه فيه على النصارى.

ولا بد من الإشارة إلى الأثر المهم المنشور باليونانية ل "يوحنا بولند" Johann Bolland وجماعته في عشرات المجلدات، والى أثر آخر نشره "بويسونا" Boissona في اليونانية كذلك في خمسة مجلدات. فقد دوّنت في الكتاب الأول قصة الشهيد القديس "الحارث" Arethas وبقية شهداء نجران، وقصة الحرب التي وقعت بين النجاشي وذي نواس. ودوّنت في الأثر الثاني مضامين رسالة "مار شمعون". وقد بين "فينندفل" Winand Fell رأيه فيما جاء في مجموعة "بولند" Bolland.

وللنصوص الحبشية ولا شك أهمية عظيمة عند من يريد تدوين غزو الأحباش لليمن وتأريخ شهداء نجران إذ كانوا الطرف الرئيسي في هذا الحادث، وهم الذين أغاروا على اليمن فقتلوا ملك حمير. لذا وجّه الباحثون أنظارهم نحوها وفتشوا عنها، غير انهم لم يعثروا على نصوص فيها أمور جديدة عن الحادث تنفرد بها. وما عثر عليه ليس بكثير. ومن ذلك كتابة عليها "يوسف سابيتو" J.Sapeto أشير فيها باختصار إلى القديس الحارث "حيروت" Herut وبقية الشهداء، وجملة مخطوطات حبشية محفوظة في المتحف البريطاني وردت فيها أخبار الشهداء وغزو الحبشة لليمن، وأمر "ذو نواس" المسمى فيها ب "فنحاس"،وهي لا تختلف في الجملة اختلافاً كبيراً عما جاء في أعمال "البولنديين" وأعمال القديس "أزقير" التي نشرها "روسيني"، وهو الذي استشهد بأمر ملك حمير "شرحبيل بن ينكف" مع "38" آخرين.

يتبين من بعض الموارد الإغريقية والحبشية أن الأحباش كانوا قد نزلوا بأرض حمير قبل قيام ذي نواس بتعذيب نصارى حمير بسنين، وانهم انتصروا على ذي نواس، فاضطر إلى التقهقر إلى الجبال للاحتماء بها، وانهم تركوا في اليمن جيشاً لحماية النصارى والدفاع عنهم. فلما مات قائد الجيش ونائب الملك، انتهز ذو نواس هذه الفرصة فأغار على الحبش فتمكن منهم، وعذّب من وجد في بلاده من النصارى واضطهدهم، وأغار على نجران، وحاصرها مدة طويلة بلغت سبعة أشهر على زعم الرواية الحبشية. فلما طال الحصار،عمد ذو نواس إلى الخداع والغش، ففاوض النجرانيين على التسليم له، وتعهد إن فتحوا له المدينة، ألاّ يتعرض لهم بسوء. فلما صدقوه وفتحوا المدينة له، أعمل فيهم السيف، فحمل، ذلك الحبش على غزو اليمن.

وورد في كتاب الشهداء الحميريين، ما يفيد بأن الحبش بعد أن نزلوا أرض حمير، عارضهم رجل اسمه "مسروق" وحاربهم وقاومهم، وهاجم مدينة "ظفار" عاصمة حمير، وكان الحبش قد استولوا عليها وتحصنوا بها، ولما رأى "مسروق" أنه لا يتمكن من التغلب على الحبش الذين كانوا يحاربونه في مدينة "ظفار"، أوفد اليهم كهانأَ ويهوداً من طبرية ورجلين من الحيرة كانا نصرانيين في الاسم، يحملون معهم كتاباً يعدهم فيه أنهم إن سلّموا له "ظفار" فلن يؤذيهم، بل يعيدهم إلى الحبشة سالمين. فوثقوا بكلامه وصدّقوه، وخرجوا إليه وكانوا ثلاث مئة محارب على رأسهم القائد "أبابوت"، فقبض عليهم وغدر بهم، إذ سلمهم إلى اليهود فقتلوهم. ثم أرسل من حرق بيعة ظفار بمن كان فيها من الحبش، عددهم مئتان وثمانون رجلاً، وكتب إلى الحميريين آمراً بقتل النصارى قاطبة إن لم يكفروا بالمسيح ويتهوّدوا. وكتب إلى الحارث من أشراف مدينة نجران أن يأتيه مع من عنده من حملة السلاح لحاجته الشديدة اليهم. فلما بلغ الحارث مدينة ظفار، وسمع بما حدث، رجع إلى نجران. فحاصر مسروق المدينة، وطال الحصار، فراسل أهلها على الأمان. فلما فتحوا له مدينتهم، غدر بهم، وأحرق بيعتهم وأحرق خلقاً منهم بالنار رجالاً ونساءً وأطفالاً. وكان بعض قسيسيهم من حيرة النعمان ومن الروم والفرس والحبشة.

فلما تمادى مسروق في غيه وفي قتل النصارى في نجران وغير نجران من مدن اليمن وقراها، سار سيد من سادات القوم اسمه "أميّة" الى الحبشة فأخبر مطرانها "أوبروبيوس" و "كالب" النجاشي بما حل بنصارى اليمن، فأمر "كالب" جيوشه بغزو حمير، فغزتها وقضى على "مسروق" اليهودي، وهو "ذو نواس" في كتب الإسلاميين.

هذه رواية في السبب المباشر لغزو اليمن. وفي رواية أخرى أن الملك "دميون" Dimion "دميانوس" Dimianos ملك حمير Homeritae، كان قد أمر بقتل التجار الروم الذين كانوا في بلاده وبنهب أموالهم انتقاماً من الروم الذين أساؤوا في بلادهم معاملة اليهود واضطهدوهم، فتجنب التجار الروم الذهاب إلى اليمن أو إلى الحبشة والى المناطق القريبة من حمير، فتأثرت التجارة مع الحبشة، وتضرر الأحباش. فعرض النجاشي على ملك حمير عروضا لم يوافق عليها، فوقعت الحرب. وتزعم الرواية أن النجاشي لم يكن نصرانياً، فقيل له: إن كتب لك النصر فادخل قي دين المسيح. فوافق على ذلك. فما انتصر، تنصّر، وانتقم من حمير. ثم أرسل رجلين من ذوي قرابته الى القيصر يلتمس منه إرسال أسقف وعدد من رجال الدين. وبعد بحث واستقصاء وقع الاختيار على Johannes Paramonaris من كنيسة القديس يوحنا، فذهب مع عدد من الكهان " فعمّد النجاشي وأتباعه، وأقام الكنائس، وأرشد الناس إلى الدين الصحيح.

وقد عرف ذو نواس في النصوص النصرانية باسم Dimnus=Damian و Damnus=Dimianos و "مسروق". ونرى تشابهاً كبيراً بين Dimnus و Damian و Damnus وكلمة "ذو نواس" العربية. فالظاهر أنها تجريف نشأ عن هذا الأصل. وأما النصوص الحبشية فقد دعته "فنحاس" Phin,has، وهو اسم من اسماء اليهود.

أما النجاشي الذي حارب حمير وغزا أرضها طَ فقد دعاه "بروكوببوس" باسم Hellestheaeus. ودعاه غيره بأسماء قريبة منه مثل Elesbowan=Elisbahaz و Ela-Atzbeha=Elesbaas=Elesboas. ويظهر انها أخذت من "ايلا اصباح" Ela-Asbah أو "ايلاصباح" Ela-Sebah في الحبشية. ودعي أيضاً باسم اخر، هو Aidug، دعاه به "يوحنا الأفسي" Johannes von Ephesus و "اندس" Andas وقد دعاه "ملالا" بذلك. و Adad ودعاه به "ثيوفانس" و "سدرينوس" Cedrenus. أما في الروايات الحبشية، فقد سمي "كالب" Kaleb. فهو إذن "الا أصبحة كالب" Elle, Asbwha Kaleb وتعني "الا" Elle=Ella "ذو" أو من "آل". وأما "أصبحة"، فاسم أجداده وعشيرته التي انحدر منها. كما أن "ذا نواس"، لا يعني اسم الملك، بل لقب أسرته. فاسمه هو "يوسف". ويكون النجاشي، أي ملك الحبشة الذي جهز الجيش وفتح اليمن هو "كالب" من "آل أصبحة" أو "الا أصبحة كالب" كما عرف بذلك.

وقد تحول اسم النجاشي Ela Sebah=Elesbass الى "أصحمة" في العربية. فقد ذكر بعض العلماء أن "أبرهة ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشي"، ف "أصحمة" إذن هو النجاشي المذكور.

والنجاشي Ela Atybeba=Elesboas، وهو ابن النجاشي Tayena الذي كان على النصرانية. وقد خلف هذا النجاشي، النجاشي Andas الذي كان قد أقسم أنه إذا انتصر في الحرب يتنصر. فانتصر،فدخل في النصرانية. وصارت النصرانية ديانة رسمية للحبشة. وقد لقب Tayena بلقب "ملك اكسوم وحمير Homer وريدان وسبأ وسلحين" في كتابة من كتاباته، مما يدل على أنه كان قد حكم اليمن.

وقد عثر في خرائب مدينة "مأرب" القديمة، على نص مصاب بتلف في مواضع عديدة منه، تبين من دراسة ما بقي منه انه مدون بلغة أهل الحبشة، وأنه يتحدث عن غزو بحري لميناء لم يذكر اسمه في النص، وقد يكون ذلك بسبب التلف الذي أصاب النص، قام بذلك الغزو مدون النص، وقد كان في سفينة تبعتها إحدى عشرة سفينة أخرى، فنزل بذلك الميناء وتغلب عليه ونزل المحاربون من سفنهم ودخلوا الميناء، فأخذوا غنائم وأسرى. ثم تلت هذه السفن دفعة ثانية من سفن جاءت محملة بالمحاربن، نزلوا في موضع يقع جنوب الموضع الذي نزل هو فيه. لم يذكر اسمه في النص كذلك. وقد انتصر الغزاة على الأماكن التي هاجموها، لأنهم كانوا مع الحق والشرع، فكان الله معهم، وكان أهل الميناء على الباطل وضد الشريعة الحقة فعوقبوا بالهزيمة.

والنص المذكور - وإن كان خلواً من كل إشارة إلى "ذي نواس"، أو إلى اسم "نجاشي" الحبشة، أو إلى زمن وقوع الغزو والأماكن التي وقع عليها - يشير إلى غزو الحبش لليمن في حكم "ذي نواس"، والى تغلب الحبش عليه. ويظهر منه أن القافلة الأولى تركت ساحل الحبشة من موضع "ادولس" "عدولس" "عدولي" Adulis على ما يظهر وكانت بإمرة "الا اصبحة"، فعبرت باب المندب، حتى وصلت إلى ساحل اليمن. وقد اختارت ميناء "مخا" موضعاً للنزول، فنزلت به وتغلبت على أصحابه. ثم جاءت قافلة أخرى نزلت في موضع يقع جنوب هذا الميناء، وتغلبت على أصحابه كذلك. وبذلك تم النصر للحبش. ولم يشر النص إلى أسم الموانىء التي تحرك منها الجيش، أو الموانىء التي نزل بها في ساحل اليمن.

وقد عالج الباحثون هذه الأسماء، فرأى قسم منهم أنها تعني شخصاً واحداً هو ملك الحبشة الذي حارب ذا نواس. ورأى آخرون أن المراد ب Aidug و Adad و Andas شخص واحد هو نجاشي حكم قبل هذا العهد، اي في القرن الرابع للميلاد، وهو "الا عاميدة" "علا عاميدة" Ela Amida، المعاصر للقيصر قسطنطين، وكان أول من تنصر من ملوك الحبشة على بعض الروايات. وذلك لعدم انسجام هذه الرواية التي تنص على تنصر Aidug بعد انتصاره على حمير، كما أشرت إلى ذلك، مع روايات أخرى تشر إلى تنصر ملوك الحبشة قبل غزو اليمن هذا بكثير.

وترى الروايات العربية أن ذا نواس لما غُلب على أمره ورأى مصيره السيىء، ركب فرسه وسار إلى البحر فدخله فغرق فيه. أما الروايات الحبشية والإغريقية، فإنها ترى أنه سقط حياً في أيدي الأحباش فقتلوه.

وهناك شعر نسب إلى علقمة ذي جدن زعم انه قائله، هو: أو ما سمعت بقبل حمير يوسفاً  أكل الثعالب لحمه لم يقتبر ?

وقد استدل منه "فون كريمر" على أن ذا نواس لم يغرق في البحر كما في الروايات العربية الأخرى، بل قتل قتلاً كما ورد في روايات الروم.

حكم السميفع أشوع

وذكر "بروكوبيوس" إن الذي حكم حمير بعد مقتل ملكهم هو رجل اسمهEsimiphaios=Esimiphaeus اختاره النجاشي من نصارى حمير ليكون ملكاً. على أن يدفع إلى الأحباش، جزية سنوية فرضي بذلك وحكم. غير أن من تبقىّ من جنود الحبشة في أرض حمير ثاروا عليه وحصروه في قلعة، وعينوا مكانه عبدأَ نصرانياً اسمه "ابراهام" Abraham كان مملوكاً في مدينة "أدولس" "عدول" Adulis لتاجر يوناني. فغضب النجاشي وأرسل قوة قوامها ثلاثة آلاف رجل لتأديبه وتأديب من انضم إليه. فلما وصلت إلى اليمن، التحقت بالثوار، وقتلت قائدها وهو من ذوي قرابة النجاشي. فغضب Hellestheaeus عندئذ غضباً شديدآ،وسيّر إليه قوة جديدة لم تتمكن من الوقوف أمام أتباع Abram فانهزمت ولم يفكر النجاشي بعد هذه الهزيمة في إرسال قوة أخرى. فلما مات، صالح Abraham خليفته على دفع جزية سنويه، على أن يعترف به نائباً عن الملك على اليمن، فعين نائبا عنه.

وذكر "بروكوبيوس" أيضاً أن القيصر "يوسطنيانوس" أرسل رسولاً عنه إلى النجاشي Ela-Atzbeha Hellestheaeus والى Esimiphaeus اسمه "جوليانوس" Julianus ليرجو منهما اعلان الحرب على الفرس وقطع العلاقات التجارية معهم، لأنهما والقيصر على دين واحد، فعليهما مساعدة أبناء دينهم الروم والاشتراك معهم في قضيتهم، وهي قضية عامة مشتركة، على النصارى جميعاً الدفاع عنها.

وطلب من ملك حمير Homeritae خاصة أن يوافق على تعيين "قيس" "Phylarch" Caisus=Kaisos سيداً على قبيلة معد Maddeni، وأن يجهز جيشاً كبيراً يشترك مع قبيلة معد في غزو ارض الفرس. وكان قيس كما يقول "بروكوبيوس" من أبناء سادات القبائل، وكان شجاعاً قديراً وكفؤاً جداً وحازماً، قتل بعض ذوي قرابة Esimiphaeus فانهزم إلى البادية هائماً. وقد وعد الملك خيراً، غير أنه لم ينجز وعده، إذ كان من الصعب عليه اجتياز أرض واسعة بعيدة وطرق طويلة تمر بصحارى وقفار لمحاربة أناس أقدر من قومه في الحرب. وقد وصل رسول "جستنيان" "يوسطنيان" Justinian سنة "531م" إلى ميناء "ادولس" من البحر، ثم ذهب منه إلى "اكسوم" حيث وجد النجاشي Ela Atybeba واقفاً على عربة ذات أربع عجلات، وقد ربطت بها، أربعة فيلة، وكان عارياً إلا من مئزر كتان مربوط بذهب، وقد ربط على بطنه وذراعيه حلياً من ذهب. وبعد أداء هذا الرسول رسالته، ثار "ابرام" Abram على Esimiphos، وقضى على حكمه.

وقد رجع السفير فرحاً مستبشراً بنجاح مهمته، معتمداً على الوعود التي أخذها من الملكين. غير انهما لم يفعلا شيئاً، ولم ينفذا شيئا مما تعهدا به للسفير. فلم يغزوا الفرس، ولم يعين "السميفع أشوع" "قيساً" "فيلارخاً" على قبيلة معد. وقد تحرش Abramos=Abram بالفرس، غير انه لم يستمر في تحرشه بهم، فما لبث أن كف قوانه عنهم.

ولا يعقل بالطبع توسط القيصر في هذا الموضوع لو لم يكن الرجل من أسرة مهمة وعريقة، له عند قومه مكانة ومنزلة، وعند القيصر أهمية وحظوة. ولشخصيته ولمكانة أسرته، وأرسل رسوله الى "السميفع" لاقناعه بالموافقة على اقامته رئيسا على قومه، وبهذا يكتسب القيصر رئيسا قويا وحليفا شجاعا يفيده في خططه السياسية الرامية الى بسط سلطان الروم على العرب، ومطافحة الساسانيين.

وقد زار "ابرام" Abram والد "نونوسوس" Nonnosus الذي أرسله جستنيان" Justinian إلى النجاشي وإلى اليمن وإلى معد Caisus=Kaisos "قيساً" هذا مرتين، وذلك قبل سنة "535م"، وزاره "نونوسوس" نفسه في أثناء حكمه، فأرسل "قيس" ابنه "معاوية" معه إلى القسطنطينية إلى "يوسطنيان"، ثم استقال "قيس"، وصار أخوه رئيساً على معد، وزار القسطنطنية، فعينّ "فيلارخاً" على فلسطين.

ويظهر من دراسة خبر المؤرخ "بروكوبيوس" أن قيصر الروم المذكور كان قد أرسل رسولاً عنه إلى "النجاشي" وإلى "السميفع"، إبان حكم السميفع لليمن، أي قبل ثورة "أبرام" "أبرهة" عليه. ولهذا كلمه الرسول في أمر "قيس"، ولكنه أخفق في اقناعه بالعفو عنه وبالاعتراف به رئيساً على معد، فلم يعترف به إلى مقتله. فلما توفي، جاء رسول القيصر ثانية إلى النجاشي والى ابرهة والى "قيس" بمهمة تحريضهم لمعارضة الفرس، وتوحيد كلمتهم. وكان "أبرهة" على عكس "السميفع" على علاقة طبية ب "قيس"، وقد قرر تنصيبه رئيساً على معد.

وقد أشار المؤرخ "ملالا" إلى خبر الرسول الذي أرسله القيصر إلى النجاشي لاقناعه بالاشتراك مع الروم في محاربة الفرس، غير أنه لم يذكر اسم الرسول الذيَ أوفده القيصر إلى بلاط "أكسوم". وقد ذكر أن النجاشي بعد أن تغلب على ملك حمير عين أحد ذوي قرابته ويدعى Anganes=Agganعلى الحميريين. وأما "يوحنا الأفسي"،. فقد دعاه Abramios، ودعاه "ثيوفانس،" "الحارث" Arethas.

و Esimiphaeusالذي نصبه النجاشي ملكاً على حمير بعد مقتل ملكهم اليهودي،

هو "السميفع أشوع"، صاحب النص الموسوم ب CIH 621 بين العلماء. وقد دونه مع أولاده: "شرحبيل" يكمل" و "معديكرب يعفر"، وجماعة من سادات القبائل منهم: أبناء ملحم "ملحهم"، وكبراء "كبور" قبائل محرج سيبان ذو نف. وقد كان السميفع أشوع من "بني لحيعت يرخم"،وكان هو وأولاده سادة "الهت" على: "كلعن" "كلعان" أي الكلاع و"ذ يزن" "ذى يزان" "ذى يزأن" و "ذى جون" و "مثلن" "مثلان" "مطلحن" "مطلحان" و "شرفن" "شرفان" "شرقان" و "حب" "حبم" ويثعن "يثعان" و "يشر" يشرم ويزر ومكرب "مكريم، و "عقهت" "عقهة" و "بزاي" "بزايان" ويلجب "يلجبم" وغيمن "غيمان" "جيمان" و يسب وجبح وجدوى "جدويان" و "كزر" "كزران" و "رخيت" وجردان "الجرد" وقبيل "قبلان" و شرجى "شرجا".

أما أبناء ملحهم، فقد كانوا على وحظت "وحظة" و "الهان" "الهن" و "سلفن" "سلفان" "السلف"، و "ضيفن" "ضيفت" "الضيفة" و "ريان" "رثاج" و "رياح" و "ريحن" و "ر كب" "ركبن" و "مطلن" "مطلان" و "مطلفن" "مطلفان" و "ساكلن" "ساكلان"، و "زكزد".

وقد دونوا النص المذكور، لمناسبة ترميمهم واصلاحهم أسوار ودروب ومنافذ وصهاريج حصن "مويت" "عرمويت"، "ماويت" "ماوية"، وتحصنهم فيه بعد أن جاء الحبش إلى أرض حمير ففتحوها، وقتلوا ملكها وأقياله الحمريين والأرحبيين، وذلك في شهر "ذو حجت" "ذي الحجة" من سنة "640" من التأريخ الحميري الموافق لسنة "525 " للميلاد.

ويظهر إن "السميفع أشوع"، كان من أهل "نصاب"، وكان قد هاجر لسبب لا نعرفه هو وأولاده إلى الحبشة.فأقام بها، ثم عاد فاستقر في "عرّ مويتّ" أي في "حصن ماوية"، وأخذ يوسع من هذا الحصن أرضه ويفتح أرضين جديدة ويتقدم نحو الأرضين التي حكمها "ذو نواس". فلما جاهر "ذو نواس" بمناصبة النصرانية والحبش والروم العداء،كلفه الحبش والروم بمهاجمة "ذي نواس" وقدّموا له المساعدات المادية من عون عسكري ومالي، يستعين بها في تنفيذ مشروعه هذا. وأخذ يشتري القبائل ويفرض نفوذه عليها بالقوة وبالمال حتى انتهى الأمر بزوال ملك "ذي نواس"، فعيّن "السميفع" حاكماً على اليمن ونائباً عن ملك الحبشة عليها، الا أن ثورة وقعت فيها، قضت على حكمه، فولى الأحباش شخصاً آخر في مكانه. وذلك بعد السنة "531" للميلاد.

و "شرحب ال لحمى عت يرخم" "شرحبيل لحيعت يرخم"، هو والد "السميفع أشوع"، ولم يكن ملكآَ، غير أنه لم يكن من العامة، بل كان من "اقول" الأقيال. وذلك لعدم ذكر لقب الملك بعد اسمه، وعدم نص ابنه "السميفع" على أن والده كان ملكاً. ويجوز أن يكون للسميفع أشوع أبناء آخرون،غير الولدين: "شرحب ال يكمل" "شرحبيل يكسل" و "معد يكرب يعفر" المذكورين في النص.

وفي متحف استانبول نص وسم ب Osma. Mus. No:281 نشره وترجمه العالم البلجيكي "ريكمنس" G.Ryckmans، في مجلة Le Museon،وردت في مطلعه جملة: "نفس قدس سميفع أشوع ملك سبا "، وفي آخره عبارة: "بسم رحمنن وبنهو كرشتش غلبن "، ومعناها "بسم الرحمن وابنه المسيح الغالب". وفي هاتين الجملتين دلالة مريحة على أن السميفع أشوع كان ملكاً على سبأ وأنه كان على دين النصارى. وقد استعمل النص كلمة "كوشتس" بمعنى المسيح ويستعملها أهل الحبشة كذلك. وقد أخذوها، ولا شك من الروم. ويؤيد كولت "السميفع أشوع" نصرانياً، ما ذكره المؤرخ "بروكوبيوس" من أن الحبشة عينت رجلاً نصرانيأ من حمير اسمه Esimiphaeus ملكاً على حمير، وذلك بعد قتل الملك الحميري الذي عذِّب النصارى في بلاده، ويقصد به ذو نواس.

ولم جيك "السميفع أشوع" ملكاً مستقلاً كل الاستقَلال يتصرف بملكه كيف يشاء، بل كان في الواقع تابعاً لحكومة "أكسوم". يفهم ذلك صراحة من هذا النص الذي أتحدث عنه. جاء في السطر الثالث منه:"امراهمو نجشت اكسمن برو وهوثرن"، أي "في أيام أميرهم نجاشي أكسوم بنوا وأسسوا". وجاء في السطر السادس: "املكن الابحه ملك جبشت"، أي "الملك الابحة ملك الحبشة"، ويقصد ب "الابحة" نجاشي الحبشة "الا أصبحة" Ella ' Asbeha الذي كان ملك الحبشة في ذلك العهد، وعاصمته مدينة "أكسوم".

وتعني كلمة "نجشت" الواردة في النص ملكَاً أو أميراً في العربية، وقد أخذها العرب من البفس، وأطلقوها على ملوك الحبش، وهي "نجاشي" و "النجاشي" في عربيتنا، كما أطلقوا كلمة "قيصر" على اباطرة الروم.

وقد ذكرت في النص أسماء "ذو يزان" "ذو يزن" و "حسن" "حسان" و "شرحبال" "شرحبيل" قيل "ذو معفرن"، أي قيل المعافر. و"اسودن" أي الأسود "وسميفع" قيل "دو بعدان" "ذ بعدن"، وزرعة قيل مرحبم، أي مرحب "المراحب" و "حارث" و "مرثد" أمراء "ثعبان"و "شرحبيل يكمل". وجاء بعض هذه الأسماء في نصوص أخرى، ومنها نص " حصن غراب" المتقدم وقد اشتهر بعض هذه القبائل في الإسلام.

ولدينا نص غفل من التأريخ وسمه العلماء بREP.EPIG.4069، وردت فيه جملة أسماء، هي: "شرحب ال يكمل" "شرحبيل يكمل" و"شرحب ال يقبل" "شرحيل يقبل"، و "مرثد علن احسن" "مرثد علن أحسن" "مرثد علان أحسن"، و "سميفع أشوع" أبناء "شرحب ال لحى عت يرخم" "شرحبيل لحيعت يرخم" أقيال "اقول" "ذو يزان" "ذو يزن" و "جدنم" "ذو جدن" و "يلجب" و "يصر". ويظن أن "السميفع أشوع" المذكور هنا هو الملك الذي نتحدث عنه. ولم يلقب في هذا النص بلقب ملك، كما لم يلقب به والده كذلك. والظاهر أنه كتب قبل عهد توليه الملك. وأنه لم يكن من الأسرة المالكة، ولكن من ابناء الذوات والأعيان. ووردت في نهاية النص جملة "الرحمنّ رب السماء والأرض"، وهي عبارة تختلف عن العبارات المألوفة التي نعهدها في النصوص الوثنية القديمة، تظهر منها عقيدة التوحيد والابتعاد عن الآلهة اقديمة بكل جلاء. غير أننا لا نستطيع أن نستخرج منها أن صاحبها كان يهودياً كما ذهب إلى ذلك بعض الباحثين، أو أنه كان نصرانيا. انما نستطيع أن نقول إن أصحاب هذا النص كانوا على دين التوحيد وكفى.

ومن الأسماء الواردة في هذا النص: "ضيفتن" "ضيفت" "ضيفة" و "ريحم" "ريح" "رياح" و "مهرت" "مهرة" وقبيلة "سيبن" "سيبان ". وقد تكون مهرت "مهرة"، هي مهرة التي تنسب إلى "مهرة بن حيدان بن عمرو بن الحاف بن قصاعة" في اصطلاح النسابين.

ويقع "عرمويت"، أي حصن "مويت" "ماوية" في جزيرة بركانية تسمى حصن الغراب" وهو الآن خراب. وقد عثر الباحثون في أنقاضه على كتابة وسمت بCIH 728 دونها "صيد ابرد بن مشن" "صيد ابرد بن مشان"، أحد أقيال "بدش" "باداش". وورد فيها اسم "قنا". وقد كان لهذا الحصن شأن كبير في تلك الأيام لحماية الجزيرة والميناء من الأعداء المهاجمين ومن لصوص البحر. وللدفاع عن التجار الذين كانوا يتاجرون مع افريقية والهند. ولهذا اهتم " ألسميفع أشوع" وأولاده بترميمه وبإصلاحه وتقويته.

وأما ميناء "قنا" الذي ذكرته في مواضع من هذا الكتاب، وهو في الموضع المسمى ب "بيرعلي" في الوقت الحاضر على رأي بعض الباحثين، فقد كان من الموانىء المهمة على البحر العربي. وقد كان مرفأ للتجارة الآتية من الشمال، أو من البحر لارسالها إلى "شبوة" ومواضع أخرى في شمال هذا الميناء.

ومما يلاحظ أن المواضع الآثارية التي على الساحل الجنوبي لجزيرة العرب قليلة معدودة. وتكاد تنحصر في أرض عدن وابينَ. وحصن الغراب وفي مواضع من أطراف "ظفار" وحول "المكلا" و"الشحر " وساحل مهرة. مع ان السواحل هي من المواضع التي يجب أن تكون في العادة عامرة بالمدن والمرافئ بسبب سهولة اتصالها بالعالم الخارجي، ووقوعها على طرق مائية تجلب اليهن السفن والناس. والظاهر ان وخامة الجو في هذه السواحل وصعوبة حماية ساحل من لصوص البحر، وتفشي الامراض، وملوحة المياه الجوفية، واسبابا اخرى، كانت في جملة ما حال بين الناس وبين بناء المدن على هذه السواحل.

وقد اشتهرت ظفار بأنها المرفأ المعد لتصدير اللبان والمر وحاصلات البلاد العربية الجنوبية الاخرى. وكان محاطا بسور. أما المواضع الاخرى، فلم تكن مسورة في الغالب. وقد اشار " كرب ايل وتر " في اخباره عن حروبه في السواحل الجنوبية انه خرب مدينة " تفض" في " ابين "، واحرق مواضع اخرى على البحر، يظهر انها لم تكن مسورة. ويظهر ان السواحل لم تكن مأهولة مثل الارضين الشمالية العالية، فلم يعثر الباحثون على كتابات كثيرة فيها حتى الآن. وصارت مدينة "عدن" ومدينة "قنا" من أهم المرافىء على الساحل الجنوبي.

هذا ولا بد لي هنا من الإشارة إلى كتابة حبشية ناقصة عثر عليها "أحمد فخري" سنة "1947م" بمأرب، فيها إشارة إلى دخول الحبشة إلى اليمن، وإن لم ينص على ذلك نصاً. ويظن أنها تشدير إلى استيلاء "الا اصبحة" النجاشي على اليمن سنة "525" للميلاد. وانتصارة على "ذي نواس".

ويظهر من هذه الكتابة أن حملة الحبش على اليمن نقلت في قافلتين من السفن: تحركت القافلة الأولى بقيادة النجاشي الذي كان قد احتجز سفينة خاصة به، فعبرت به باب المندب ورست عد ساحل اليمن.وكانت سفينة النجاشي أول سفينة بلغته، ثم تلتها بقية السفن. وقد سقط من الكتابة اسم الموضع الذي رست السفن فيه، ولعلة "مخا". فوقعت معارك بين ألحبش، وبين الحميرين، انتصر فيها الأحباش فأخذوا أسرى وغنائم. ولما كان النصر ناقصاً وقد طمست من الكتابة البا??قية منهَ كلمات، فقد صار غامضاً مقتضباً،لا يفهم منه إلا إشارات.

???أبرهة

AbrahamوAbramiois هما اسمان لمسمى واحد، أريد به "أبرهة" المشهور عند أهل الأخبار الذي اغتصب الملك باليمن، ونصب نفسه حاكماًعليها، ولقب نفسه بألقاب الملوك، وإن اعترف اساساً بأنه "عزلى ملكن اجعزين"، أي "نائب ملك الأجاعزة" على اليمن. وحكم اليمن أمداً، وترك في نفوس اليمانيين اثراً قويا.

ويرى بعض الباحثين أن "كالب ايلا أصبحة "، كان قد أرسل حملة سنة "523" للميلاد على اليمن، حملتها اليها سفن بيزنطية، نزلت في البلاد وتغلبت على "ذي نواس" فهرب "ذو نواس" من "ظفار"، ثم عاد فباغت الحبش وأنزل بهم خسائر كبيرة، واضطهد النصارى وعذّ بهم. فحمل النجاشي على ارسال حملة جديدة عليه نزلت اليمن سنة525" للميلاد. وصارت في أيدي الحبش حتى سنة "530" للميلاد. اذ قامت ثورة على الحبشة، وانتهز "أبرهة" الفرصة، فأخذ الأمر بيديه، وبقي حاكماً على اليمن منذ هذا الوقت تقريباً حتى سنة "575" للميلاد. وكان قد انتزع الحكم من "السميفع أشوع"، الذي نصّبه الحبش ملكاً على اليمن حين دخولهم اليها وعيّنوا رجلين من الحبش يحكمان معه ويراقبان أعماله لئلا يقوم بعمل يضر مصالحهم.

ولأهل الأخبار روايات عن كيفية استئثار "أبرهة" بالحكم واغتصابه له. لهم رواية تقول: إنه جاء إلى اليمن جندياً من جنود القائد الحبش "أرياط" الذي كلفه نجاشي الحبشة بفتح اليمن، فلما أقام باليمن سنين، نازعه في أمر الحبشة باليمن أبرهة الحبشي، حتى تفرقت الحبشة، وخرج أبرهة على طاعة قائده، ثم غدر به وأخذ مكانه. ورواية أخرى، تقول إن النجاشي أرسل جيشا ًقوامه سبعون الفاً، جعل عليه قائدين، أحدهما: أبرهة الأشرم. فلما ركب ذو نواس فرسه واعترض البحر فاقتحمه وترك به، نصب أبرهة نفسه ملكاً على اليمن، ولم يرسل له شيئاً، فغضب النجاشي ووجه اليه جيشاً عليه رجل من أصحابه، يقال له أرياط، فلما حل بساحته، بعث اليه أبرهه: "إنه يجمعني واياك البلاد والدين، والواجب عليّ وعليك أن ننظر لأهل بلادنا وديننا ممن معي ومعك، فإن شئت فبارزني، فأينا ظفر بصاحبه كان الملك له، ولم يقتل الحبشة فيما بيننا". فرضي بذلك أرياط، واْجمع أبرهة على المكر به، فاتعدا موضعاً يلتقيان به، واكمن أبرهة لأرياط عبداً يقال له: "أرنجده" في وهدة قريب من الموضع الذي التقيا فيه، فلما التقيا سبق أرياط فزرق أبرهة بحربته، فزالت الحربة عن رأسه وشرمت أنفه، فسمي الأشرم، ونهض أرنجده من الحفرة، فزرق أرياط فأنفذه، فقتله". وأخذ أبرهة الحكم لنفسه واستأثر به.

وتذكر رواية أخرى، أن النجاشي كان قد وجه أرياط أباصحم "ضخم" في أربعة آلاف إلى اليمن، فأداخها وغلب عليها، فأعطى الملوك، واستذل الفقراء، فقام رجل من الحبشة يقال له أبرهة الأشرم أبو يكسوم، فدعا إلى طاعته. فأجابوه، فقتل أرياط، وغلب على اليمن.

وتذكر رواية إن "أرياط" اخرب مع ما أخرب من أرض اليمن سلحين وبينون وغمدان، حصوناً لم يكن في الناس مثلها. ونسبوا في ذلك شعراً إلى "ذي جدن"، زعموا أنه قاله في هذه المناسبة. ويظهر من روايات اخرى أن تلك الحصون بقيت إلى ما بعد أيامه. وذكر أن "أرياط" كان فوق أبرهة، أقام باليمن سنتين في سلطانه لا ينازعه أحد، ثم نازعه أبرهة الحبشي الملك.

وتجمع روايات أهل الأخبار على أن النجاشي غضب على أبرهة لما فعله باليمن ولما أقدم عليه من قتل أرياط، وأنه حلف الاّ يدع أبرهة حتى يطأ بلاده، ويحز ناصيته، ويهرق دمه. فلما بلغ ذلك أبرهة، كتب إلى النجاشي كتاباً فيه تودد واعتذار وتوسل واسترضاء، فرضي النجاشي عنه، وثبته على عمله بأرض اليمن.

ولما استقام الأمر لأبرهة باليمن، بعث إلى "أبي مرة بن ذي يزن"، فنزع منه امرأته "ريحانة ابنة علقمة بن مالك بن زيد بن كهلان"، و "علقمة" هو ذو جدن. وكانت ولدت لأبي مرّة معد يكرب بن أبي مرة، وولدت لأبرهة بعد ابي مرة مسروق بن أبرهة، وبسباسة ابنة أبرهة. وهرب منه أبو مرة.

ولأبرهة ذكر وشهرة. في كتب أهل الأخبار والتأريخ. وقد ورد اسمه في الشعر الجاهلي، وضرب به المثل في القوة والصيت والسلطان، حتى لنجد أهل الأخبار يذكرون اسماء جملة اشخاص دعوهم "أبرهة" ذكروا أنهم حكموا اليمن.

والظاهر أن الشهرة التي بلغها في أيامه وغزوه القبائل العربية واستعماله القسوة معها، أحاطته بهالة في أيامه تضخمت فيما بعد، فأحيط بقصص وأساطير وصير من اسمه جملة حكام حكموا باسم "أبرهة".

فقد ذكروا اسم "أبرهة تبع ذي المنار بن الرائش بن قيس بن صيفي بن سبأ". وكان يقال له "الرائد". وجعلوا لأبرهة هذا ولدين، هما: إفريقس، والعبد ذو الأذعار. وأولد إفريقس شمر يرعش. وذكروا "أبرهة" آخر، قالوا له: "أبرهة بن شرحبيل بن أبرهة". وسمى "الهمداني" جملة رجال "أبرهة"، وأدخلهم في "الأصابح". ويظهر من دراسة اسم "أبرهة" ونعته في الحبشية أن الأخباربين أخذوها فصيرّوا منها أسماء عربية ربطوا بينها وبين تأريخ اليمن كما فعلوا مع أشخاص اخرين.

وقد ضرب "لبيد بن ربيعة العامري" المثل ب "أبي يكسوم" وهو أبرهة في وجوب الاتعاظ بهذه الدنيا الفانية التي لا تدوم لأحد، فقال: لو كان حي في الحياةُ مخلداً  في الدهر ألقاه أبويكسـوم

والتبّعان كلاهما وُمـحـرَق  وأبو قبيس فارس اليحمـومْ

وقد ترك أبرهة وثيقة مهمة على جانب خطير من الأهمية، وهي النص الذي وسم بGlaser 618 وبCIH 541، عند الباحثين في العربيات الجنوبية. وهي ثاني نص طويل يصل الينا من اليمن، يتألف من "36 ا" سطراً ومن حوالي "470" كلمة وتبحث عن ترميم سدّ مأرب ذي المكانة الخالدة في القصص العربي وتجديده مرتين، وذلك في أيام أبرهة. المرة الأولى في شهر "ذو المدرح" من سنة "657" من التاريخ الحميري المقابلة لسنة "542" للميلاد، والثانية في شهر "ذو معان" "ذ معن" من سنة "658" من التأريخ الحميري، أي في سنة "543" من الميلاد.

وقد افتتح النص بالعبارة الاتية: " بخيل وردا ورحمت رحمنن ومسحو ورح قدس سطرو ذن مزندن. إن ابره عزلى ملكن اجعزين رمحز زبيمن ملك سبأ وذ ريدن وحضرموت ويمنت واعربهمو طودم وتهمت"، أي "بحول و قوة ورحمة الرحمن ومسيحه وروح القدس سطروا هذه الكتابة. إن أبرهة نائب ملك الجعزيين رمحز زبيمان ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت وأعرابها في النجاد وفي تهامة ". ويلاحظ أن أبرهة قد لقب نفسه في هذا النصر باللقب الرسمي الذي كان يتلقب به ملوك حمير قبل سقوط دولتهم، مع أنه كان "عزلى ملكن اجعزين"،أي نائب ملك الجعزين. والواقع أنه كان قد استأثر بالحكم في اليمن، وحصر السلطة في يديه، وصار الحاكم المطلق، ولم يترك النجاشي أكسوم غير الاسم، حتى أنه دعاه في هذا النص "ملك الجعز" حسب.

وفي النص حديث عن ثورة قام بها "يزد بن كبشت" "يزيد بن كبشة" من السادات البارزين في اليمن. وكان أبرهة قد أنابه عنه، وجعله خليفته على قبيلتي "كدت" و "دا"، غير أنه ثار عليه لسبب لم يذكر في النص، وأعلن العصيان. وانضم إليه أقيال "اقول" سبأ و "اسحرن"،وهم: "ذو سحر" و "مرة " و"ثممت" و "ثمت" "ثمامة" و "حنش" "حنشم" و "مرثد " و "حنف" "حنفم" "حنيف" و "ذ خلل" "ذو خليل" و "ازانن" و"الأزان" والقيل "معد يكرب بن سميفع"، و "هعن" "هعان" واخوته أبناء أسلم. فما بلغ نبأ هذه الثورة مسامع "أبرهة"، سيّر إليه جيشاً بقيادة "جرح ذزبنر" "جراح ذو زبنور"، فلم يتمكن أن يفعل شيئأ، وهزمه "يزيد"، واستولى على حصن "كدر" "كدار"، وجميع من أطاعه من "كدت" "كدة" ومن "حريب" حضرموت وهاجم "هجن اذمرين" "هجان الذماري" وهزمه واستولى على أملاكه، وحاصر موضع "عبرن" "عبران" "العبر". عندئذ قرر أبرهة معالجة الموقف بارسال قوات كبيرة لرتق الخرق قبل اتساعه، فجهز في شهر "ذ قيضن" "ذو القيض" "ذو قيضان" من سنة "657" من التقويم الحميري أي سنة "542" للميلاد جيشاً لجباً من الاحباش والحميريين، وجهه نحو أودية "سبأ" و "صمرواح" ثم "نبط" على مقربة من "الوادي" "عبرن" "عبران" "العبر". وفي "نبط" جعل أهل "الو" "الوى" و "لمد" والحميربين في المقدمة. أما القيادة، فكانت بأيدي القائدين: "وطح" "وطاح" و "عوده" "ذو جدن". وبينما كان الجيش في طريقه لحرب."يزيد بن كبشة" إذا به يظهر مع عدد من أتباعه أمام "أبرهة" يطلب منه العفو والصفح. أما الباقون، فقد تحصنوا في مواضعهم، وأبو الخضوع والاستسلام.

وبينما كان أبرهة يفكر في أمر بقية الثائرين إذا به يسمع بخبر سيء جداً، هو تصدع سد "مأرب" وتهدم بعض توابعه، وذلك في شهر "ذ مذرن" "ذو مذران" "ذو المذرى" من سنة "657" من تقويم حمير، أي سنة "542" للميلاد. فأمر مسرعاً بتحضير مواد البناء والحجارة ، وحدد أجل ذلك بشهر "ذ صربن" "ذو الصرب" من السنة نفسها. وفي أثناء مدة التحضير هذه، افتتح أبرهة كنيسة في مدينة مأرب يظهر أنه هو الذي أمر ببنائها، ورتب لخدماتها جماعة من متنصرة سبأ. ولما انتهى من ذلك عاد إلى موضع السدّ لوضع أسسه وأقامته مستعيناً بحمير وبجنوده الحبش، لكنه اضطر بعد مدة إلى السماح لهم بإجازة، ليهيئوا لأنفسهم الطعام وما يحتاجون إليه، وليريحهم مدة من هذا العمل المضني الذي تبرموا منه، وليقضي بذلك على تذمر العشائر التي لم تتعود مثل هذه الأعمال الطويلة الشاقة. ورجع أبرهة في أثنائها إلى مأرب، فعقد معاهدة مع أقيال سبأ وتحسنت الأحوال، وأرسلت إليه الغلات والمواد اللازمة للبناء،ووصلت إليه جموع من الفعلية وأبناء العشائر، فعاد إلى العمل بهمة وجد، فأنجزه على نحو ما أراد، فبلغ طوله خمسة وأربعين "أمماً". أما عرضه، فكان أربع عشرة ذراعاً، بني بحجارة حمر من "البلق". وانجزت أعمال قنواته وأحواضه والمشروعات الفرعية المتعلقة به في "خبشم" "خبش" وفي "مفلم" "مفلل" "مفول". وقد دوّن أبرهة في نهاية النص ما أنفقه على بناء هذا السد من أموال، وما قدّمه إلى العمال والجيس الذي اشترك في العمل من طعام واعاشة من اليوم الذي بدئ في بالانشاء حتى يوم الانتهاء من في شهر "ذو معن" ذو معان" من سنة "658" الموافقة لسنة "543"للميلاد.

ويظهر من النص أن ثورة "يزيد بن كبشت" كانت ثورة عنيفة قوية، وأنها شملت حضرموت و "حريب" و "ذو جدن" و "حباب" عند "صراواح". ولكنها فشلت وتغلبت أبرهة عليها بمساعدة قبائل يمانية ذكرها في النص.

أما "يزيد بن كبشة" فلا نعرف من أمره في الزمن الحاضر إلا شيئاً يسيراً، وهو ما كره أبرهة في نصه عنه، من أنه عيّه عاملاً ووكيلاً عنه على قبيلة "كدت" "كدة". وهي كندة على رأي أكثر العلماء.

وأما الاقيال الذين انضموا إليه وساعدوه، وهم: "ذو سحر" و "مرة" و "ثمامة" و "حنش" و "مرثد" و "حنيف" وآل ذو خليل وذو يزان "ذ يزن" "ذو يزن"، و "معديكرب بن سميفع" و "هعن" "هعّان" واخوته أبناء أسلم. فهم يمثلون على الجملة الطبقات الأرستقراطية القديمة في سبأ. فآل ذو خليل وذو سحر، من الأسر التي ذكرت أسماؤها في النصوص المدونة قبل الميلاد. وقد أرخ بأسرة "ذي خليل" في نصوص المسند، وذكروا في كتابات السبئيين العتيقة التي تعود الى أيام المكربين. وكان لهم في أيامهم شأن يذكر في تأريخ سبأ، إذ كان منهم المكربون. وذكر "الهمداني" اسم جماعة يقال لهم "البحريون"، قال: انهم من ولد ذي خليل من حمير.

وليس من السهل تشخيص "مرّة" و "ثمامة"، فهما من الأسماء المتعددة المذكورة في الكتب العربية. وقد أشير إلى "ثمامة بن حجر" ملك "قصر الهدهاد" في "عمران". وذكر الهمداني "بني ثمامة" وقال: إن جبأ مدينة المعافر، وهي لآل الكرندي من بني ثمامة آل حمير الأصغر، فهل يكون لهؤلاء صلة ب "ثمامة" النص ? وذكر بعض الأخباريين اسم ملك من ملوك اليمن سموه "مرثداً" زعموا أنه كان آخر الملوك، وزعم قسم منهم أنه حكم مدة قصيرة بعد "ذي نواس"، فهل صاحب هذا الآسم هو "مرثد" المذكور في النص ? ولا عبرة بالطبع بما ذكر من أنه كان ملكاً، فقد كان من عادة الأقيال والأذواء التلقب بلقب ملك.

وورد "ذو مراثد بن ذو سحر"، في الموارد العربية، فجمعت بين "مراثد" و "سحر"، وورد اسم "سحر" واسم مرثد في النص، فهل هنالك صلة بين هذه الأسماء ? ويرى "كلاسر" أن "ازان"، هم "يزن"، ومتهم "سيف بن ذى يزن" الذي ثار على الحبش،واستعان بالفرس لانقاذ بلاده من أيدي الأحباش.

وأما معديكرب بن سميفع، فيرى الباحثون أنه ابن "السميفع أشوع". وقد جاء اسمه بين أسماء الأقيال الذين ثاروا على أبرهة، وانضموا إلى ثورة "يزيد ابن كبشة". فهو من الأقيال الحاقدين على أبرهة لاغتصاب أبرهة الملك من والده. ولهذا انضم إلى "يزين بن كيشة ! سيد "كدت" "كندة" وحارب معه الحبش.

وفي أثناء وجود أبرهة في مأرب قضي على عصيان الأقيال الذين انضموا إلى ثورة "يزيد"، وأبوا الخضوع لحكم أبرهة بعد استسلام يزيد وخضوعه. وكذلك استسلمت قبيلة كدار "كيدار" "كدر"، وتحسن موقفه بذلك كثيراً، وأصبح سيد اليمن وصاحب الأمر. أما الذين ساعدوه وآزروه وعاونوه والتفوا حوله، فهم: ذو معاهر و "بن ملكن" ابن الملك ومرجزف وذو ذرنح وعدل "عادل" و ذو فيش، وذو شولمان "ذو الشولم" و "ذو شعبان" "ذو الشعب" وذو رعين "ذرعن"، و "ذو همدان" و"ذو الكلاع"، و "ذ مهدم" "ذو مهد" و "ذ ثت" "ذو ثت" "ذو ثات"و"علسم" و "ذو يزان" "ذ يزن" "ذو يزن"، و "ذو ذبين" "ذو ذبيان" و "كبر حضرموت" كبير حضرموت، وذو فرنة "ذ فرنة". وقد ذكر النص انهم كانوا إلى جانب الملك، وانهم كانوا على ود وصداقة معه. وهم بالطبع من أسر عريقة، ومن كبراء القوم، وقد وردت أسماء بعض أسرهم في النصوص المدونة قبل الميلاد.

ولم يذكر في هذا النص اسم "كبر حضرموت"، أي كبير حضرموت الذي كان يحكم حضرموت في أيام أبرهة، يظهر من ذكره مع الرجال الذين حضروا إلى مأرب أنه كان تابعاً لأبرهة، أو أنه كان حليفا له.

وتدل جملة "بن ملكن"، على أن المراد بها "ابن الملك"، أي "ابن أبرهة"، ولم يشر النص إلى اسمه. فلعله قصد أكبر أولاده. ويرى البعض انه كان يحكم "وعلان" "ذو ردمان"، وانه كان يلقب ب "ذ معهر" "ذو معاهر" "ذو معهر". وقد أشار "الهمداني" إلى "ذي المعاهر". وذكر أنه قصر "وعلان" ب "ردمان".

وفي اثناء وجود أبرهة في مأرب، وفدت إليه وفود من النجاشي ومن ملك الروم "ملك رمن" ومن ملك القرس "ملك فرسن"، ورسل من "المنذر" "رسل مذرن" ومن "الحارث بن جبلة" "رسل حرثم بن جبلت" ومن "أب كرب بن جبلة" "أبكرب بن جبلة" "رسل ابكرب بن جبلت"ومن رؤساء القبائل. ويلاحظ إن النص قد قدّم النجاشي على ملك الروم، كما قدّم ملك الروم على ملك الفرس، ثم ذكر من بعد ملك الفرس اسم المنذر والحارث ابن جبلة وأبي كرب بن جبلة "ابكرب بن جبلت". أما تقديم النجاشي على غيره فأمر لا بد منه، وذلك لسيادة الحبشة ولو بالاسم على اليمن، واعتراف أبرهة بسيادة مملكة اكسوم عليه. وفي ارسال مندوب عن النجاشي إلى أبرهة في مهمة سياسية، دليل ضمني على انفراد أبرهة بالحكم، واستقلاله في ادارة اليمن حتى صار في حكم ملك مستقل، يستقبل وفود الدول ورسلهم ومن بينهم وفد من ملك قامت حكومته بغزو اليمن والاستيلاء عليها. وأما تقديم ملك الروم على ملك الفرس، فلصلة الدين والسياسة بين الحبشة والروم واليمن، فللروم الأسبقبة والأفضلية اذن على الفرس.

ويلاحظ أيضاً أن النص قد استعمل كلمة "محشكت" للوفد أو الرسل الذين جاؤوا الى أبرهة من النجاشي ومن ملك الروم، فكتب "محشكت نجشين" و "محشكت ملك رمن" أي "رسل الجا!ثي" "سفراء النجاشي" "سفير النجاشي" و "رسل ملك الروم". وتعني كلمة "محشكت" في إللغة السبئية "الزوجة"، فعبرّ في هذا النص بهذه الكلمة عن معنى "سفير" "سفراء" و "رسل حكومة صديقة مقربة"، فلها إذن هنا معنى دبلوماسي خاص. أما بالنسبة إلى رسل "ملك الفرس"، فقد أطلق عليهم كلمة "تنبلت"، فكتب "تنبلت ملك فرس"، أي "وفد ملك الفرس" وذلك يشير إلى أن لهذه الكلمة معنى خاصأَ في العرف السياسي يختلف عن معنى "محشكت"، وأن الوفد لم يكن في منزلة وفدي الحبشة والروم ودرجتهما.

ولقد أحدث مجيء مندوب النجاشي "رمحيز زبيمن" ومندوب ملك الروم ومبعوث ملك الفرس،ورسل المنلر ملك الحيرة، والحارث بن جيلة وأبي كرب اين جبلة، أثراً كبيراً ولا شك في نفوس العرب الجنوبيين، وفي نفوس الأقيال وقبائلهم، فمجيء هؤلاء إلى اليمن، وقطعهم المسافات الشاسعة، ليس بامر يسير، وفيه أهمية سياسية كبيرة. وفيه تقدير لأبرهة ولمكانته في هذه البقعه الخطرة المسيطرة على البحر الأحمر وفمه عند باب المندب، وعلى المحيط الهندي. كما أحدثت الأبهة التي اصطنعها أبرهة لنفسه في اليمن. والقوة التي جمعها في يديه أثرأَ كبيراً ولا شك أيضاً في نفوس المبعوثين الذين قطعوا تلك المسافات للوصول إلى عاصمة سبأ ذات الأثر الخالد في النفوس.

ولم يكن مجيء هؤلاء المبعوثن إلى أبرهة لمجرد التهنئة او التسلية أو المجاملة أو ما شاكل ذلك من كلمات مكتوبة في معجمات السياسة. ولكن لأمور أخرى أبعد من هذه وأهم، هي جرّ أبرهة إلى هذا المعسكر أو ذلك، وترجيح كفة على أخرى، وخنق التجارة في البحر الأحمر، أو توسيعها، ومن وراء ذلك اما نكبة تحل بمؤسسات الروم وتجاراتهم، واما ربح وافر يصيبهم بما لا يقدر. لقد كان العالم إِذ ذاك كما هو الآن، جبهتين: جبهة غربية، وجبهة أخرى شرقية: الروم والفرس. ولكل طبّالون ومزمرون من الممالك الصغيرة وسادات القبائل يطبلون ويزمرون، ويرضون أو يغضبون، ويثيبون أو يعاقيون إرضاء للجبهة التي هم فيها، وزلفى اليها وتقرباً. لقد سخر الروم كل قواهم السياسية للهيمنة على جزيرة العرب، أو ابعادها عن الفرس وعن الميالين اليهم على الأقل. وعمل الفرس من جهتهم على تحطيم كل جبهة تميل إلى الروم وتؤيد وجهة نظرهم وعلى منع سفنهم من الدخول إلى البحر الهندي، والاتجار مع بلاد العرب. وعمل المعسكران بكل جد وحزم على نشر وسائل الدعاية واكتساب معركة الدعاية والفكر، ومن ذلك التأثير على العقول. فسعى الروم لنشر النصرانية في الجزيرة، فأرسلوا المبشرين وساعدوهم، وحرضوا الحبشة على نصرها ونشرها، وسعى الفرس لنشر المذاهب النصرانية المعارضة لمذهب الروم والحبشة ولتأييد اليهودية أيضاً، وهي معارضة لسياسة للروم أيضاً. ولم يكن دين الفرس عكما نعلم نصرانياً ولا يهودياٌ، وإنما هو دين بغيض إلى أصحاب الديانتين. ولم يكن غرض الروم "من بث النصرانية أيضاً خالصاً لوجه الله بريئاً من كل شائبة.

أما النجاشي الذي أرسل الوفد إلى أبرهة فاسمه "رمحيز زبيمن" "رمحيز زبيمان" كما ذكر ذلك أبرهة نفسه. ولا يعرف من أمر هذا النجاشي شيء كثير، ولا يعرف كذلك أكان قد خلف النجاشي "كالب ايلا أصبحة" Kaleb Ela Asbaha الذي بأمره كان الفتح، أم كان خلفاً لخليفته. وقد أشرت من قبل إلى ما ذكره "بروكوبيوس" وأهل الأخبار عن التوتر الذي كان بين نجاشي الحبشة وأبرهة، وعن امتناع أبرهة عن دفع جزية سنوية إليه. ويظهر إن أبرهة رأى أن من الخير له مصالحة النجاشي والاعتراف بسلطانه اسمياً، وفي ذلك كسب سياسي عظيم، كما هو كسب للنجاشي ولو صورياً، فدفع الجزية له وتحسنت العلاقات.

وأما "ملك رمن" ملك الروم، فلم يذكر "أبرهة" اسمه في نصه. ولكن يجب أن يكون هو القيصر "يوسطنيانوس" Justinian الذي حكم من سنة"527" حتى سنة "566" للميلاد، وكان حكمه بعد حكم "يسطين" الذي ولى الحكم من سنة "518" حتى سنة "527" للميلاد. وكان "يوسطنيانوس" "يوسطنيان" قد وضع خطة للتحالف مع الحبش ومع حمير للاضرار بالفرس. وراسل "السميفع أشوع" Esimiphaeus للاتحاد معه ولمحاربة الفرس. فلما تولى "أبرهة" الحكم عاد القيصر فاتصل به، وتودد إليه لتنفيذ ما عرضه على "السميفع أشوع" من مهاجمة الفرس. فوافق أبرهة على ذلك، وأغار عليهم غير أنه ترجع بسرعة.

وأما "حرثم بن جبلت"، فهو الحارث بن جبلة ملك الغساسنة، وأما "ابكرب بن جبلت"، فإنه Abochorabus المذكور في تأريخ "بروكوبيوس". وقد ذكر هذا المؤرخ أن القيصر "يوسطنيانوس" "يوسطنيان" Justinian كان عينه عاملاً "فيلارخا" Phylarch على عرب السرسين Saracens بفلسطين، وأنه كان رجلاً صاحب قابليات وكفاية، تمكن من تأمين الحدود ومن منع الأعراب من التعرض لها، فكان هو نفسه يحكم قسماً منهم، كما كان شديداً على المخالفين له. وذكر أيضاً أنه كان يحكم أرض غابات النخيل جنوب فلسطين، ويجاور عربها عرب اخرون يسمون "معديني" "معدّ" للأع " Maddeni هم أتباع ل "حمير" Homeritae.

أراد هذا الرئيس أن يتقرب إلى القيصر، وأن يبالغ في تقرّبه إليه وفي إكرامه له، فنزل له عن أرض ذات نخل كثير، عرفت عند الروم ب Phoinikon "واحة النخيل"، أو "غابة النخيل" وهي أرض بعيدة، لا تبلغ إلا بعد مسيرة عشرة أيام في أرض قفرة. فقبل القيصر هذه الهدية الرمزية، إذ كان يعلم، كما يقول المؤرخ "بروكوبيوس" عدم فائدتها له، وأضافها إلى أملاكه، وعين هذا الرئيس عاملاً "فيلارخاً" على عرب فلسطين.

وقد قام ملك هذا الرئيس على ملك رئيس آخر كانت له صلات حسية بالروم كذلك، هو "امرؤ القيس" Amorkesos الذي سبق إن تحدثت عنه في كلامي على علاقة العرب بالبيزنطيين.

و "غابة النخيل" التي ذكرناها، تجاور أرض قبيلة "معد" Maddenoi، وكانت معد كما يظهر من أقوال المؤرخ "بروكوبيوس" خاضعة في عهده لحكم الحميريين. وقد ذكرت كيف أن القيصر توسط لدى "السميفع أشوع" ليوافق على تعيين "قيس" رئيساً على معد. وقد تمردت هذه القبيلة على "أبرهة"، فسيرّ اليها قوة لتأديبها، كما يظهر ذلك من كتابة أمر "أبرهة" بكتابتها لهذه المناسبة. أدّبها بقوة سيرّها اليها في شهر "ذو ثبتن" من شهور فصل الربيع، فانهزمت معد، وأنزلت القوة بها خسائر فادحة. وبعد أن تأدبت وخضعت، اعترف "أبرهة" بحكم "عمرو بن مذر" عليها، وتراجعت القوة عنها.

و Maddenoi، هي قبيلة Ma,addayaالتي ذكرها "يوحنا الأفسوسي" John of Ephsus مع "طياية" Taiyaye في كتابه الذي وجهّه إلى أسقف "بيت أرشام" Beth Arsham،ويظهر من هذا الكتاب أن عشائر منها كانت مقيمة في فلسطين.

وفي القرآن الكريم سورة، أشارت إلى سيل العرم، هي سورة سبأ، ورد فيها: )لقد كان لسبأ في مسكنهم آية، جناّت عن يمين وشمال، كلوا من رزق ربكم.واشكروا له، بلدة طيبة ورب غفور. فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدّلناهم بجنيتهم جنتين ذواتي أكل خمط واثلٍٍ و شيء من سدرٍ قليل(. ولم يحدد المفسرون الوقت الذي تهدم فيه السد.

ول "أبرهة" نص آخر، كتبه بعد النص المتقدم، لمناسبة غزوه "غزيو" "معداً"، في شهر "ذ ثبتن" "ذى ثبت" "ذى الثبت" "ذى الثبات" من شهور سنة "662" من التقويم الحميري الموافقة لسنة "547" أو "535" للميلاد. وهذا النص عثرت عليه بعثة "ريكمنس" مدوّنا على صخرة بالقرب من بئر "مريغان". فوسم ب Ryckmans 506. وقد ترجمه "ريكمنس" G.Ryckmans الى الفرنسية، ثم إلى لغات أخرى.

وفي النص مواضع طمست فيها معالم بعض الحروف، عزّ بذهابها فهم المعنى وضبط الأعلام. كما أن فيها بعض تعابير معقدة، عقدت على من عالجه فهم المعنى فهماً واضحاً، ثم هو نص قصير لا يتجاوز عشرة اسطر، واختصر وصف الحوادث حتى صيره وكأنه برقية من برقيات "التلغراف"، ولكنه مع كل هذا ذو خطر بالغ،لأنه يتحدث عن حوادث لم نكن نعرف عنها شيئاً، ويصف الأوضاع السياسية في ذلك العهد، ويشير إلى اتصال ملوك الحيرة بالحبش والى سلطان حكام اليمن على القبائل العربية، مثل معدّ، مع أنها قبائل قوية وكثيرة العدد. وهو مما يؤيد رواية أهل الأخبار في أنه كان لليمن نفوذ على قبائل معدّ وأن تبايعة اليمن كانوا ينصبون الملوك والحكام على تلك القبائل.

وقد تلقب "أبرهة" في هذا النص كما تلقب في نص سد مأرب بلقب الملك. الذي كان يتلقب به ملوك اليمن، وهو: "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت "اليمن" وأعرابها في النجاد "طودم" وفي المنخفضات "تهمتم"، "تهامة"، كما افتتحه بجملة: "نخيل رحمن ومسحهو"، أي "بحول الرحمن ومسيحه"، وقد سبق ل "ابرهة" أن افتتح نصه الذي دوّنه على "سد مأرب" بجملة: "بخيل ودا ورحمت رحمن ومسحهو ورح قدس"، ومعناها: "بحول وقوة ورحمة الرحمن ومسيحه روح القدس"، والجملتان من الجمل التي ترد في نصوص اليمن لأول مرة، وذلك بسبب كون أبرهة نصرانياً، وقد صارت النصرانية في أيام احتلال الحبش لليمن ديانة رسمية للحكومة، باعتبار أنها ديانة الحاكمين. وعرف "أبرهة" في النصين ب "ابره زيبمن"، أي "أبرهة زييمان"، ولفظكة "زي ب م ن" "زيبمن" من ألقاب الملك في لغة الأحباش.

واليك هذا النص كما دوّنه "ريكمنس" عن النص الأصيل: "بخيل رحمنن ومسحهو ملكن ابره زبيمن ملك سبا وذ ريدن وحضرموت ويمنت واعربهمو طودم وتهمت سطرو ذن سطرن كغزيو معدم غزوتن ربعتن بورخن ذ ثبتن كقسدو كل بنيعمرم وذكى ملكن ابجر بعم كدت وعل وبشرم بنحصنم بعم سعدم و م.خ ض.و وضرو قدمى جيشن على بنيعمرم كدت وعلى ود، ع. ز. رن. مردم وسعدم بود بمنهح تربن وهرجو وازرو ومنمو ذ عسم ومخض ملكن بحلبن ودنو كطل معدم ورهنو وبعدنهو وزعهمو عمرم بن مذرن ورهنهمو بنهو وستخلفهو على معدم معدم وقفلو بن حلبن بخيل رحمنن ورخهو ذلئنى وسثى وست ماتم ".

ونصه في عربيتنا: "بحول الرحمن ومسيحه. الملك أبرهة زبيمان ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت "اليمن" وأعرابها في الطود "الهضبة" وفي تهامة "المنخفضات". سطروا هذه الأسطر لما غزت معد: الغزوة الربيعية بشهر ذو الثبات "ذ ثبق" "ذو الثبت". ولما غلظ " ثار" كل "بنو عامر". أرسل الملك "أبا جبر"، بقبيلة "كدت" كندة وقبيلة "عل" و "بعثر بن حصن" "بشرم بن حصنم" بقبيلة "سعد" لحرب "بني عامر" فتحركا بسرعة وقدما جيشهما نحو العدو: وحاربت "كدت" بكندة وقبيلة "عل" بني عامر ومراداً، وحاربت "سعد" بواد "بمنهج" ينهج "يؤدي" إلى "تربن" "الترب". فقتلوا من بني عامر وأسروا وكسبوا غنائم. وأما الملك، فحارب ب "حلبن" "حلبان"، وهزمت معد، فرهنت رهائن عنده.

وبعدئذ، فاوض "عمرو بن المنذر" "عمرم بن مذرن"، وقدّ م رهائن من أبنائه. فاستخلفه "اقره" على معد. وقفل "أبرهة" راجعاً من "حلين" "حلبان"، بحول الرحمن. بتأريخ اثنين وستين وست مئة.

وقد درس بعض الباحثين هذا النص، فذهب بعضهم إلى أنه يشير إلى حملة أبرهة على مكة في العام الذي عرف عند أهل الأخيار ب "عام الفيل" وأشير اليها في القرآن الكريم. وذهب بعض آخر إلى أنه يشير إلى غزو قام به أبرهة تمهيداً لحملة كان عزم القيام بها نحو اْعالي جزيرة العرب، فتوقفت عند مكةْوذهب آخرون إلى إن ما جاء في هذا النصبر لا علاقة له بحملة الفبل، ذلك لأن هذه الحهعلة كانت في سنة "547" للميلاد على تقديرهم، على حين كانت حملة الفيل سنة "563" على تقديرهم أيضاً.

وذهب "بيستن" إلى أن هذا النص يتحدث عن معركتين: معركة قام بها "أبرهة" في "حلبان": ومعركة كندة وسعد - مراد بموضع "تربن" "الترب" "تربة"، وقد حاربت فيها جماعة من القبائل.

ويظهر من النص إن "أبرهة" غزا بنفسه معداً في شهر "ذى ثبتن" من ربيع سنة "662" من التقويم السبئي، والتقى بها في موضع "حلبن" "حلبان"، فهزمها وانتصر عليها، فاضطرت عندئذ إلى الخضوع له ومهادنته، والى وضع رهائن عنده تكون ضماناً لديه بعدم خروجها مرة ثانية عليه. فوافق على ذلك. وفيما كان في "حلبان" بعد اتفاقه مع معد، جاءه "عمرو بن المنذر" "عمرم ابن مذرن" وكان أبوه "المنذر" عينه أميراً على معد، ليفاوضه في أمر "معد" فقابله ب "حلبان"، وأظهر له استعداد أبيه "المنذر" على وضع رهائن عنده لئلا يتكرر ما حدث، وبحصول اعترافه على تولي عمرو حكم "معد" فوافق أبرهة على ذلك، وقفل "وقفلو" أبرهة راجعاً إلى اليمن، وسوّى بذلك خلافه مع معدّ. وصار "عمرو بن المنذر" رئيساً على معد بتعيين أبيه له عليها وبتثبيت "أبرهة" هذا التعيين.

و "حلبان" موضع في اليمن في أرض "حضور"، وذكر انه موضع في اليمن على مقربة من "نجران"، وانه موضع ماء في أرض "بني قُشيَر". وقد وعت ذاكرة أهل الأخبار على ما يظهر شيئاً عن ألمعركة التي نشبت في هذا الموضع إذ رووا شعراً للمخبّل السعدي يفخر بنصرة قومه "أبرهة بن الصباح" ملك اليمن. وكانت "خندف" حاشيته. ذكروا أنه قال: صرموا لأبرهة الأمور محلها  حلبان فانطلقوا مع الأقـوال

ومحرق والحارثان كلاهـمـا  شركاونا في الصهر والأموال

وأورد "الهمداني" أبياتاً فيها اسم موضع "حلبان" واسم "أبي يكسوم"، وهي قوله:.

ويوم ابي يكسوم والناس حضرٌ  على حلبان إذ تقضي محامله

فتحنا له باب الحضير وربّـه  عزيز يمشي بالسيوف أراجله

وقد روى هذان البيتان وهما من شعر "المخبل السعدي" في هذا الشكل: ويوم أبي يكسوم والناس حضر  على حلبان إذ تقضي محامله

طوينا لهم باب الحصين ودونه  عزيز يمشي بالحراب مقاوله

ويظهر من هذا الشعر أن "أبرهة" لما جاء بجيشه إلى موضع "حلبان"، وجد مقاومة، ووجد أبواب الحصن مقفلة، وقد تحصن فيه المقاومون، ودافعوا عنه، فهجم قوم الشاعر عليه، ففتحوا باب الحصن، ودخلوه.

أما تأديب " بني عامر"، فلم يقم ب "أبرهة" بنفسه، بل قام به قائد اسمه "ابجبر". "أبو جبر"، قاد قبيلتي "كدت"، أي "كندة" و "عل"، وقائد آخر اسمه "بشرم بن حصنم"، أي "بشر بن حصن"، قاد قبيلة "سعدم"، أي "سعد" "بنو سعد". وسار القائدان بجيشهما وتقدما بهما إلى "بني عامر"، وحاربا على هذا النحو: حاربت "كندة" و "عل" قبائل سقطت بعض الحروف من اسم كل واحدة منها،فبقي من احداهما "ود.ع" وبقي من الأخرى "زرن" "ز. رن" وقبيلة "مردم"، أي "مراد". وحاربت "سعد" بوادٍ يؤدي إلى "تربن" "الترب"، فقتلوا وأسروا "ازروا" وأصابوا غنائم. ولم يسم النصر الوادي الذي يؤدي إلى "الترب".

ويظهر أن موضع "تربن" الذي يؤدي إليه الوادي الذي جرت فيه المعركة، هو موضع "تربة"، مكان في بلاد بني عامر، ومن مخاليف مكة النجدية، على مسافة ثمانين ميلاً تقريباً إلى الجنوب الشرقي من الطائف. وذكر أنه واد بقرب مكة اى يومين منها، يصب في بستان ابن عامر، حوله جبال السَّراة، وقيل انه واد ضخم، مسيرته عشرون يوماً أسفله بنجد أعلاه بالسراة،وقيل: يأخذ من السرًاة ويفرغ في نجران، وقيل: موضع من بلاد بني عامر بن كلاب واسم موضع من بلاد عامر بن مالك.

و "عمرم بن مذرن"، هو "عمر بن المنذر" ملك الحيرة، وكان أبوه "المنذر" حليفاً للساسانيين. فيكون قد عاصر "ابراهة" اذن، ويكون "عمرو" ابنه من المعاصرين له أيضاً.

وقصد ب "بنيعمرم"، "بني عامر". وهم "بنو عامر بن صعصعة" من "هوازن".

ومراد، هي قبيلة مراد التي منها "غطيف". وفي أيام الرسول وفد عليه "فروة بن مسيك المرادي" مفارقاً لملوك كندة. وقد كانت بين مراد وهمدان قبيل الإسلام وقعة ظفرت فيها همدان، وكثر فيها القتلى في مراد. وعرفت تلك الوقعة بيوم الروم. ورئيس همدان االأجدع بن مالك والد مسروق.

وأما "سعدم" أي قبيلة "سعد"، التي قادها "بشر بن حصن" في هذه المعركة، فلم يذكر النص هويتها. غير أننا إذا ما أخذنا بشعر "المخبلّ السعدي" الذي افتخر به بنصرة قومه لأبرهة في يوم "حلبان" وبانضمامهم إليه، ففي استطاعتنا أن نقول حينئذ: إن قومه هم "سعدم" أي "سعد" القبيلة المذكورة في النص.

و "ابجير" اسم قد يقرأ "أبو جبر"، وقد يكون "أبو جابر" وقد يكون "أبجبر" وقد يكون "أبو جبار". وكل هذه الأسماء هي أسماء معروفة عند ألجاهليين. وقد ذهب "كستر" " M.J. Kister" الى احتمال كونه "يزيد ابن شرحبيل الكندي"او " أبو الجبر بن عمرو"، وهون من كندة ايضا. وهو من آل الجون من بطون كمندة.

وقد اشير في كتب أهل الاخبار الى امير من امراء كندة عرف ب"أبي الجبر" وقد ذكر في مقصورة "ابن دريد". وروى انه زار "كسرى" ليساعده على قومه، فأعطاه جماعة من الاساورة اخذهم معه ليساعدوه، فلما وصل الى "كاظمة" سئموا منه، وارادوا التخلص منه فدسوا السم له في طعامه. ولكنه لم يمت منه، بل شعر بالم منه، فأكرهه الاساورة على ان يكتب كتابا لهم يحملونه الى كسرى يذكر فيه أنه سمح لهم بالعودة، فكتب لهم كتاباً ثم سافر الى الطائف، فعالجه "الحارث بن كلمدة الثثفي"، حتى شفي، فوهبه جارية كانت له اسمها "سميّة" أهداها له "كسرى"، ثم ذهب إلى اليمن، ولكن عاوده مرض في طريقه اليها فات. وقد رأى "كستر" أنه هو "أبو جبر" المذكور في النص.

وأما "بشرم بن حصنم"، أي "بشر بن حصن"، أو "بشر بن حصين" أو "بشار بن حصن" أو "بشار بن حصين" أو "بشير بن حصن"،فقد ذهب "لندن" Ludin، الى انه احد سادات "كندة".

لقد أشرت إلى رأي بعض الباحثين في هذه الحملة، والى ذهاب بعضهم إلى انها كانت حملة الفيل، أي حملة أبرهة المذكورة في القرآن الكريم على مكة. كما أشرت إلى رأي آخر، ذكر أن هذه الحملة كانت مقدمة لحملة الفيل، أي حملةتجريبية سبقت تلك الحملة. وحجة الفريق الأول ما ورد في بعض الروايات من أن مولد الَرسول، كان بعد عام الفيل بثلاث وعشرين سنة أي في حوالي السنة "547" للميلاد. وهو تأريخ ينطبق مع السنة المذكورة في النص، إذا أخذنا برأي من يجعل مبدأ التقويم الحميري سنة "115" قبل الميلاد. ومن ورود رواية أخرى في حساب السنين عند قريش، تظهر بنتيجة حسابها وتحويلها أن عام الفيل كان في سنة "552" بعد الميلاد، وهو تأريخ ينطبق مع تأريخ النص أيضاً إذا أخذنا برأي "ريكمنس" في مبدأ التقويم الحميري من أنه كان سنة"109"لا"115" قبل الميلاد.

وأبرهة هذا هو "صاحب الفيل" الذي قصد بفيلته وجنده هدم الكعبة وإكراه الناس على الحج إلى "القليس" الكنيسة التي بناها بمدينة "صنعاء" في روايات الأخباريين. وهي كنيسة قال عنها أهل الأخبار،انها كانت عجيبة في عظمتها وضخامتها وتزويقها من الداخل والخارج، حتى إن "أبرهة" لما انتهى من بنائها كتب إلى النجاشي: "إني قد بنيت لك بصنعاء بيتاً لم تبن العرب ولا العجم مثله ". أو "إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلهَا لملك. كان قبلك". ويبالغ أهل الأخبار في وصفها فيذكر "الأزرفي"، انه بناها بجانب قصر غمدان، وأنه أقامها بحجارة قصر بلقيس بمأرب، نقلها العمال والفعلة والمسخرون من مأرب إلى صنعاء. فهدموا ذلك القصر وأخذوا حجره وما يصلج للبناء من مادة، ثم نقلوه إلى صنعاء لاستعماله في بناء تلكً الكنيسة التي بنوها بناء ضخماً عالياً، وجعلوا جدرانها من طبقات من حجر ذي ألوان مختلفة. لون كل طبقة يختلف عن الطبقة التي تحتها أو التي فوقها. وزينوا الجدران بأفاريز من الرخام والخشب المنقوش. وجعلوا الرخام ئاتئاً عن البناء، وجعلوا فوق الرخام حجارة سوداً لها بريق، وفوقها حجارة بيضاً لها بريق، فكان هذا ضاهر حائط القليس. وكان عرضه ست أذرع. وكان للقليس باب من نحاس عشر أذرع طولاً في أربع أذرع عرضاً. وكان المدخل منه إلى بيت في جوفه، طوله ثمانون ذراعاً في أربعين ذراعاً معلق العمد بالسياج المنقوش ومسامير الذهب والفضة، ثم يدخل من البيت الى إيوان طوله أربعون ذراعاً، عن يمينه وعن يساره، وعقوده مضروبة بالفسيفساء مشجرة، بين أضعافها كواكب الذهب ظاهرة، ثم يدخل من الإيوان إلى قبة ثلاثون ذراعاً في ثلاثين ذراعاً، جدرها بالفسيفساء، فيها صلب منقوشة بالفسيفساء والذهب والفضة، وفيها رخامة مما يلي مطلع الشمس من البلق مربعة عشر أذرع في عشر أذرع، تغشي عينَ من ينظر اليها من بطن القُبّة تؤدي ضوء الشمس والقمر إلى داخل القّبه، وكان تحت القبة منبر من خشب اللبخ، وهو عندهم الابنوس، مفصد بالعاج الأبيض. ودرج المنبر من خشب الساج ملبسة ذهباً وفضة. وكان في القبة سلاسل فضة. وفي القبة أو في البيت خشبة ساج منقوشة طولها ستون ذراعاً يقال لها كعيب، وخشبة من ساج نحوها في الطول يقال لها: امرأة كعيب كانوا يتبركون بهما في الجاهلية. وكان يقال لكعيب الأحوزي،والأحوزي بلسانهم الحر.

وكان أبرهة قد أخذ العمال بالعمل أخذاً شديداً، وأمر بالعمل في بناء الكنيسة ليل نهار. وإذا تراخى عامل أو تباطأ عن عمله أنزل وكلاؤه به عقاباً شديداً، يصل إلى قطع اليد. وبقي هذا شأنه ودأبه حتى أكمل بناؤها وسرّ من رؤيتها، فأصبحت بهجة للناظرين.

ونجد في وصف "الأزرفي" ومن تقدم عليه من أهل الأخبار للقليس شيئاً من المبالغة، ولكنه على الاجمال وصف يظهر أنه أخذ من موارد وعته وشاهدته وأدركته. لذلك جاء وصفاً حيأَ نابضاً بالحياة، ينطبق على الكنائس الضخمة التي أنشئت في تلك الأيام في القسطنطينية أو في القدس أو في دمشق، أو في المدن الأخرى. والظاهر من هذا الوصف، أن فن العمارة اليماني القديم قد أثر في شكل بناء هذه الكنيسة، التي تأثرت بالفن البيزنطي النصراني في بناء الكنائس.

ويذكر "الأزرفي" إن القليس بقي في صنعاء على ما كان عليه حتى ولى أبو جعفر المنصور الخلافة، فولي "العباس بن الربيع بن عبيد الله الحارثي" "العباس بن الربيع بن عبد الله العامري" اليمن، فذكر له ما في القليس من ذخائر، وقيل له انك تصيب فيه مالاً كثيراً وكنزاً فتاقت نفسه إلى هدمه. ثم استشار أحد أبناء وهب بن منبه وأحد يهود صنعاء فألحا عليه بهدمه،وبينّ اليهودي له أنه إذا هدمه فإنه سيلي اليمن أربعن سنة، فأمر بهدمه، واستخرج ما فيه من أموال وذهب وفضة. وخاف الناس من لمس الخشبة المنقوشة التي كانوا يتبركون بها،ثم اشتراها رجل من أهل العراق كان تاجراً بصنعاء وقطعها لدار له. وخرب القليس حتى عفى رسمه وانقّطع خبره.

واذا كان ما يقوله الأزرفي نقلاً عن رواة أدركوا تلك الكنيسهّ من إن أبرهه أقامها بأحجار قصر بلقيس باليمن، فإنه يكون بذلك قد قوض أثراً مهماً من آثار مدينة مأرب، وأزال عملاً من الأعمال البنائيه التي أقامها السبئيون في عاصمتهم قبله وهو عمل مؤسف.

وفي صنعاء اليوم موضع يعرف ب "غرفة القليس"، يظن أنه موضع تلك الكنيسة، وهو موضع حفيرْ صغير ترمى فيه القمامات وعليه حائط ويقع أعلى صنعاء في حارة القطيع بقرب مسجد نصير.

وذكر "الهمداني" اسم قصر دعاه "القليس" نسب بناءه إلى "القليس بن عمرو"، وهو في زعمه من أبناء "شرحبيل بن عمرو بن ذي غمدان بن إلى شرح يخضب". وقال: انه بناه بصنعاء، وهو بناء قديم. وذكر أيضاً أن "عمرو ينأر ذو غمدان ابن إلى شرح يخضب بن الصوار" هو أول من شرع في تشييد "غمدان" بعد بنائه القديم.

وقد أمر "أبرهة" ببناء كنيسة في "مأرب" أشار إلى بنائها في نصه الشهير، أقامها في سنة "542م"، ورتب لخدمتها جماعة من متنصرة سبأ، واحتفل هو نفسه بافتتاحها، ولعله استعان ببنائها بحجارة قصور مأرب ومعبدها الكبير، ذلك لأن حجارتها منحوتة نحتاً جيداً،يجعل من السهل استعمالها في البناء على حين يتطلب الحجر الجديد وقتاً طويلاً وأموآلاً باهظة. ولهذا السبب ذهب أهل الأخبار إلى أنه أمر بنقل حجارة قصر مأرب إلى صنعاء.

لقد أصيب مشروع أبرهة الرامي إلى هدم الكعبة والاستيلاء على مكة باخفاق ذريع، يذكرنا بذلك الاخفاق الذيُ مني "به مشروع "أوليوس غالوس". لقد كان في الواقع مشروعاً خطيراً، لو تم إذن لاتصل ملك الروم بملك حلفائهم وأنصارهم الحبش في اليمن، ولتحقق حلم الإسكندر الأكبر وأغسطس ومن فكر في الإستيلاء على هذا الجزء الخطير من العالم من بعدهما، ولتغير الوضع السياسي في الجزيرة من غير شك، لكن حدث ما لم يكن في الحسبان، حدث أن مكة التي أريد هدمها هي التي هدمت ملك الحبشة في اليمن، وملك من جاء بعدهم لنجدة أهل اليمن، وملك البيزنطيين في بلاد الشام وملك الفرس في العراق وفي كل مكان.

وصل إلى "خمير"، ولا في اي مكان كان يحكم. وما علاقة ذلك الملك الحبشي بجزيرة العرب إن صح انه ملك الحبش حقاً.وإذا أخذنا بقول هذا الشاعر وصدّقناه، فقد يكون ذهب ليتوسل إلى الحبش لفك أسر جماعة من قومه أو من أصحابه قد يكونون ذهبوا للاتجار أو لشراء الرقيق، فقبض عليهم لسبب من الأسباب واحتجزوا، فذهب لالتماسهم فنجح في وساطته وقد يكون "خمير" هذا احد الحكّام أو الاقطاعيين، لا النجاشي ملك الأحباش.

ويظهر من كتاب "الإشتقاق" أنه كان لأبرهة حفيد اسمه "ابن شمر، إذ ذكر مؤلفه "ابن دريد" اسم رجل سماه "ابن شمر بن أبرهة بن الصباح"، قال: إنه قتل مع "علي بن أبي طالب" بصفين. ومعنى هذا أنه كان لأبرهة ولد اسمه "شمر". ونجد في كتب أهل الأخبار أسماء رجال كانوا من حفدة "أبرهة".

وقد سعى الأحباش، مدهَ مكثهم في اليمن، في نشر النصرانية بين الناس، وبناء الكنائس،، ويحدثنا "قزما الرحالة" Cosmas Indicopleutes في نحو سنة "535م"، اي بعد اندحار "ذي نواس"، عن كثرة الكنائس في العربيةالسعيدة وعن كثرة الأساقفة والمبشرين الذين بشروا. بين الحميريين والنبط وبني جرم. وقد اشتهرت كنيسة "نجران"، وكذلك كنيسة صنعاءْ، وكنيسهّ "ظفار" التي بناها الحبش،وقد أشرف عليها الأسقف "جرجنسيوس" صاحب "كتاب شرائع الحميرين"، وكان مقرباً لدى النجاشي ومستشاره ومساعده في تنصير الحمريين.

وورد ان القيصر "يوسطين" "جستين" كان قد أرسل "كريكنتيوس" Gregentius of Ulpana من الاسكندرية إلى "ظفار" ليكون "أسقفاً" على نصاراها، وقد تناظر مع "حبر" من أحبار يهود فيها، فغلبه، وقدّم قانون للشريعة إلى "أبرام"Abram"ملك حمير.

حملة أبرهة

وفي أيام عبد المطلب كانت حملة أبرهة على مكة، وهي حملة روّعت قريشاً وأفزعتهم، لما عرفوه من قساوة أبرهة ومن شدته في أهل اليمن، ومن انفراده بالحكم، واستبداده في الأمور،حتى انه لما مات وذهب مع الذاهبين لم تمت ذكراه كما ماتت ذكرى غيره من الحكام، بل تركت أثراً عميقاً في ذاكرة أهل اليمن، انتقل منهم إلى أهل الأخبار، فرووا عنه أقاصيص، ونسجوا حوله نسيجاً من أساطير وخرافات، على عادتهم عند تحدثهم عن الشخصيات الجاهلية القوية التي تركت أثراً في أهل تلك الأيام، حتى انهم لم يكتفوا بكل ما قالوه فيه، وكأنه لم يكن كافياً، فجعلوا منه جملة رجال سموهم "أبرهة" نصبوهم ملوكاً وتبابعة على مملكة سبأ وحمير.

والرأي الغالب بين الناس إن حملة أبرهة على مكة، كانت قبل المبعث بزهاء أربعين سنة، وميلاد الرسول كان في عام هذه الحملة، وهو العام الذي عرف ب "عام الفيل". وهو يوافق سنة "570" أو "571م". وانما عرف بعام الفيل، لأن الحبش كما يزعم أهل الأخبار جاءوا إلى مكة ومعهم فيل سموه "محموداً"، وقد جاءوا به من الحبشة. وفي بعض الروايات أن عدد الفيلة كان ثلاثة عشر فيلاً، أو اثني عشر، أو دون ذلك، أو أكثر، وأوصلوا العدد إلى ألف فيل. ولوجود الفيل أو الفيلة في الحملة، عرفت بحملهّ الفيل، وعبر عن الحبش في القرأن الكريم ب "أصحاب الفيل".

وقد ذهب بعض الرواة إلى أن عام الفيل إنما كان قبل مولد النبي بثلاث وعشرين سنة، وذكر بعضهم أنه كان في السنة الثانية عشرة من ملك "هرمز ابن انو شرُان". ولما كان ابتداء حكم "هرمز بن أنو شروان" سنة "579" فعام الفيل يكون في توالى السنة "581" للميلاد لا سنة "570" او "571" للميلاد كما يذهب الأكئرون إلى ذلك. وأما إذا اخذنا برواية من قال من الرواة وأهل الأخبار من أن عام الفيل قد كان لاثنتين واربعين سنة من ملك "انو شروان"، فيكون هذا العام قد وقع في حوالى السنة "573" للميلاد وهو رقم قريب من الرقم الذي ذهب إليه أكثر المستشرقين حين حولوا ما ذكره اهل الأخبار عن سنة ولادة الرسول إلى التقويم الميلادي.

وقد ورد ذكر هذا الحادث في القرآن الكريم: )ألم تر كيف فعل ربك باًصحاب الفيل. ألم يجعل كيدهم في تضليل، وارسل عليهم طيراً أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول( وقد خاطبت هذه الآيات انرسول بأن قريشاً سوف تخيب وتحل بها الهزيمة، كما حلت بأصحاب الفيل، واصحاب الفيل اعظم منهم قوة واشد بطشاً، وهم لا شىء تجاههم، وفيها تذكير لقريش بما حل بالحبش، وما كان عهد الحبش عنهم ببعيد. وينسب الأخباريون حملة أبرهة على مكة إلى تدنيس رجل من كنانة "القليس" التي بناها أبرهة في اليمن، لتكون محجة للناس. فلما بلغ أبرهة خبر التدنيس كما يقولون، عزم على السير إلى مكة لهدم الكعبة،فسار ومعه جيش كبير من الحبش واهل اليمن.، وهو مصمم على دكها دكاً، وصرف الناس عن الحج اليها إلى الأبد. فلما وصل، هلك معظم جيشه، فاضطر إلى العودة إلى اليمن خائباً مدحورا.

ويذكر اهل الأخبار إن الرجل الذي دنس القليس،هو من النسّأة أحد بني فقيم، ثم احد بني مالك من كنانة. وقد غضب لما رآه من شأن تلك الكنيسة،ومن عزم أبرهة على صرف حاج العرب اليها، ومن مبالغته في الدعاية لها، ففعل ما فعل.

وقيل ان الرجل المذكور كان من النساك، من نساك بني فقيم، غاظه ما كان من عزم ابرهة على صرف العرب عن الحج الى مكة، فأحدث في القليس للحط من شأنها في نظر العرب، ولطخ قبلتها بحدثه، فشاع خبره بين الناس، وهزئ القوم من قليس حدث به ما حدث. وغضب ابرهة من عمله المشين هذا الموجه اليه والى كل الحبش، فعزم على هدم البيت الذي يقدسه هذا الكناني ومن يحج اليه.

ويفسر أخباريون آخرون عزم "أبرهة" على دك الكعبة وهدمها إلى عامل آخر، فهم يذكرون إن فتية من قريش دخلوا القليس فأججوا فيها ناراً، وكان يوماً فيه ريح شديدة، فاحرقت وسقطت إلى الأرض، فغضب أبرهة، وأقسم لينتقم من قريش بهدم معبدهم،كما تسببوا في هدم معبده الذيَ باهى النجاشي به.

وذكر أن "أبرهة" بنى القلَّيس بصنعاء، وهي كنيسة لم يُرَ مثلها في زمانها بشيء من الأرض، وكان نصرانياً، ثم كتب إلى النجاشي: إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك، ولست بمنته حتى أصرف اليها حج العرب. فلما تحدثت العرب بكتاب أبرهة ذلك إلى ألنجاشي، غضب رجل من النسّأة، فخرج حتى أتى الكنيسة، فأحدث فيها، ثم خرج فلحق بأرضه، فأخبر بذلك اًبرهة، فغضب عند ذلك، وحلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه. وبعث رجلاً كان عنده إلى بني كنانة يدعوهم إلى حج تلك الكنيسة، فقتلت بنو كنانة ذلك الرجل، فزاد أبرهة ذلك غضباً وحنقاً، ثم أمر الحبشة فتهيأت وتجهزت ثم سار وخرج معه بالفيل.

وذكر "السيوطي" سبباً آخر في قرار أبرهة غزو مكة، زعم أن أبرهة الأشرم كان ملك اليمن، وان ابن ابنته أكسوم بن الصباح الحميري خرج حاجأَ، فلما انصرف من مكة، نزل في كنيسة بنجران، فعدا عليها ناس من أهل مكة، فأخذوا ما فيها من الحلي وأخذوا قناع أكسوم، فانصرف إلى جده مغضباً، فبعث رجلا من أصحابه يقال له "شهر بن معقود" على عشرين ألفاً من خولان والأشعريين، فساروا حتى نزلوا بأرض خثعم فتيمنت خثعم عن طريقهم. فلما دنا من الطائف خرج إليه ناس من بني خثعم ونصر وثقيف، فقالوا: ماحاجتك إلى طائفنا، وإنها هي قرية صغيرة ? ولكنا ندلك على بيت بمكة يعبد فيه، ثم له ملك العرب، فعليك به، ودعنا منك، فأتاه حتى إذا بلغ المغمس، وجد إبلاً لعبد المطلب مئة ناقة مقلدة، فأنهبها بين أصحابه. فلما بلغ ذلك عبدالمطلب جاءه، وكان له صديق من أهل اليمن يقال له: ذو عمرو، فسأله أن يردّ عليه ابله، فقال: إني لا أطيق ذلك، ولكن إن شئت أدخلتلك على الملك. فقال عبد المطلب: افعل. فأدخله عليه، فقال له: إن لي اليك حاجةً. قال قضيت. كل حاجة تطلبها، ثم قص عليه قصة ابله التي انتهبها جيشه. فالتفت إلى ذي عمرو، ثم ضرب بإحدى يديه على الأخرى عجباً، فقال: لو سألني كل شيء أحوزه، أعطيته اياه، ثم أمر بإرجاع ابله عليه. وأمر بالرحيل نحو مكة لهدمها. وتوجه الف شهر وأصحاب الفيل، وقد اجمعوا ما اجمعوا نحو مكة، فلما بلغوها، خرجت عليهم طير من البحر لها خراطيم كأنها البلس، فرمتهم بحجارة مسرجة كالبنادق، فشاختهم، ونزل الهلاك بهم فانصرف شهر هارباً وحده، ولكنه ما كاد يسير، حتى تساقطت اعضاء جسده فهلك في طريقه إلى اليمن وهم ينظرون إليه.

ويتفق خبر "السيوطي" هذا في جوهره وفي شكله مع الروايات الأخرى التي وصلت الينا عن حملة "أبرهة"، ولا يختلف عنها الا في أمرين: في السبب الذي من أجله قرر أبرهة هدم الكعبة، وفي الشخص الذي سار على مكة. اما السبب الذي اورده السيوطي، فهو غير معقول، لسبب بسيط واضح، هو إن ابن ابرهة، وهو أكسوم بن الصباح الحمري، هو رجل نصراني،والنصارى لا تحج إلى مكة، لأنها محجة الوثنيين، وقد عزم جدّه ابرهة على صرف العرب من الحج اليها، فكيف يحج اليها ابن ابنته،وهو على دين جدّه ? واما ما زعمه من إن "شهر بن معقود" "مقصود" هو الذي سار على مكَة سصها، وذلك بأمر من ابرهة، فإنه يخالف اجماع أهل الأخبار والمفسرين من إن ابرهة هو نفسه قاد تلك الحملة، وانه هو الذي اخذ الفيل او الفيلة معه،وسار على رأس جيش كبير من الحبش ومن قبائل من اهل اليمن كانت تخضع له. ثم إن السيوطي يشير إلى وجود "الملك" في الجيش، ولم يكن شهر بن معقود ملكاً ولم يلقبه اهل الأخبار بلقب "ملك"، وانما أنعموا بهذا اللقب على ابرهة وحده. أضف إلى ذلك إن ما ذكره السيوطي من حوار وقع بين عبد المطلب وبين الملك هو حوار يذكر اهل الأخبار انه جرى بين عبد المطلب وبين ابرهة. لذلك ارى إن الأمر قد التبس على السيوطي،فخلط بين ابرهة وبين شهر احد قادته من العرب، وانه قصد بالملك ابرهة لا القائد، وإن لم يشر إليه، بل جعل الفعل كل الفعل للقائد المذكور.

وأورد "القرطبي" رواية اخرى نسبها إلى مقاتل بن سليمان وابن الكلبي، خلاصتها: إن سبب الفيل هو ما روى إن فتية من قريش خرجوا تجاراً إلى ارض النجاشي، فنزلوا على ساحل البحر إلى بيعة للنصارى، تسميها النصارى: الهيكل، فأوقدوا ناراً لطعامهم، وتركوها وارتحلوا، فهبت ريح عاصفة على النار فأضرمت البيعة ناراً واحترقت، فأتي الصريخ إلى النجاشي، فأخبره، فاستشاط غضباً، فاًتاه ابرهة بن الصباح وحجر بن شرحبيل وابو يكنهوم الكنديون وضمنوا له احراق الكعبة. وكان النجاشي هو الملك، وابرهة صاحب الجيش، وابو يكسوم نديم الملك، وقيل وزيره، وحجر بن شرحبيل من قواده. فساروا معهم الفيل، وقيل ثمانية فيلة، ونزلوا بذي المجاز، واستاقوا سرح مكة. وتتفق هذه الرواية مع الروايات السابقة من حيث الجوهر، ولا تختلف عنها الا في جعل الكنيسة المحققة بيعة في ارض النجاشي، اي في ساحل الحبش، لا في ارض اليمن، والا في جعل الآمر بالحملة النجاشي، لا ابرهة نفسه. أما المنفذون لها، فهم ابرهة ومن معه.

وهناك سبب اخر سأتعرض له فيما بعد، يذكره أهل الأخبار في جملة الأسباب التي زعموا انها حملت ابرهة على السير نحو مكة لتهديمها. وهو سبب ارجحه وأقدمه على السببين المذكورين، لما فيه من مساس بالسياسة، ولأنه مشروع سياسي خطير المشروعات العالمية القديمة التي وضعها اقدم ساسة العالم للسيطرة على الطرق الموصلة إلى المياه الدافئة والى الأرينض المنتجة لأهم المواد المطلوبة في ذلك العهد.

وتذكر روايات اهل الأخبار إن أبرهة لما رتب كل شيء وجهز نفسه للسير من اليمن نحو مكة، خرج له رجل من اشراف اليمن وملوكهم، يقال له: "ذو نفر" وعرض له فقاتله، فهزم "ذو نفر" واصحابه، واخذ له ذو نفر اسراً. ثم مضى ابرهة على وجهه ذلك، يريد ما خرج له، حتى إذا كان بأرض خثعم، عرض له "نفيل بن حبيب الخثعمي" في قبيلى خثعم: شهران وناهس ومن تبعه من قبائل العرب، فقاتله فهزمه أبرهة، وأخذ له نفُيل أسراً وخرج معه يدلّه على الطريق، حتى إذا مرّ بالطائف، خرج إليه "مسعود بن معتب" في رجال ثقيف، فقال له: أيها الملك، انما نحن عبيدك، سامعون لك مطيعين، ليس لك عندنا خلاف،وليس بيتنا هذا بالبيت الذي تريد - يعني اللات - انما تريد البيت الذي بمكة، يعنون الكعبة، ونحن نبعث معك من يدلك، فتجاوز عنهم، وبعثوأ معه أبا رغال، فخرج أبرهة ومعه أبو رغال حتى أنزله المغمس، فهلك أبو رغال به. فرجمت العرب قبره،فهو القبر الذي يرجم الناس بالمغمس.

وكان نفيل بن حبيب الخثعمي من سادات خثعم، ولما أخذه أبرهة أسيراً واحتبسه عنده، جعله دليله إلى مكة، وهو الذي أوصله إلى الطائف، حيث تسلم أبرهة الدليل الآخر من ثقيف، وهو أبو رغال. وذ كَر بعضهم أن "نفيل ابن حبيب" كان دليل أبرهة على الكعبة، وأنه عرف ب "ذي اليدين".

ولأهل الأخبار قصص عن "اًبي رغال"، صيره أسطورة، حتى صيره بعضهم من رجال ثمود ومن رجال "صالح" النبي. فزعموا إن النبي كان قد وجهه على صدقات الأموال، فخالف أمره، وأساء السيرة، فوثب عليه "ثقيف" وهو قسيّ بن منبه، فقتله قتلة شنيعة. وهو خبر وضعه أناس من ثقيف ولا شك، للدفاع عن أنفسهم، إذ اتهموا بان "أبا رغال" منهم، وقد جاموا بشعر، زعموا أن "أمية بن أبي الصلت" قاله في حقه، منه: وهم قتلوا الرئيس أبا رغال  بمكة إذ يسوق بها الوضينا

فصيروا القائل جدّ ثقيف، ونسبوا له فضل مساعدة نبي من أنبياء الله. وقد اشار "جرير بن الخطفي" في شعر قاله في الفرزدق إلى رجم الناس قبر أبي رغال، إذ قال: إذا مات الفرزدق فارجموه  كرجمكم لقبر أبي رغال

وذكر "المسعودي"، أن العرب ترجم قبراً آخر، يعرف بينهم بقبر العبادي في طريق العراق إلى مكة. بين الثعلبية والهبير نحو البطان. ولم يذكر شيئاً عن سببه، إذ أحال القارىء على مؤلفاته الأخرى.

وذكر "الهمداني" إن قبر أبي رغال عند "الزيمة". و "الزيمة" موضع صروف حتى هذا اليوم. ولما نزل أبرهة المغمس، بعث رجلاّ من الحبشة يقال له الأسود بن مقصود على خيل له، حتى انتهى إلى مكة: فساق إليه اموال أهل مكة من قريش وغيرهم، وأصاب منها مئتي بعير لعبد المطلب بن هاشم، وهو يومئذ كبير قريش وسيدها، فهمت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بالحرم من سائر الناس بقتاله، ثم عرفوا انه لا طاقهَ لهم به. فتركوا ذلك. ثم قرروا على أن يرسلوا سيدهم "عبد المطلب" لمواجهة أبرهة والتحدث إليه، فذهب وقابله، وتذكر رواية أهل الأخبار إن أبرهة لما ساًله عن حاجته وعما معه من أنباء، قال له: حاجتي إلى الملك أن يردّ علي مئتي بعير أصابها لي، فعجب ابرهة من هذا القول وقال له: اتكلمني في مئتي بعير قد اصبتها لك وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه ? قال له عبد المطلب: اني انا رب الابل، وان للبيت رباً سيمنعه.

وتذكر هذه الرواية أن أبرهة ردّ على عبد المطلب ابله، فرجع إلى قومه، وأمرهم بالخروج من مكة وللتحرز في شعف الجبال والشعاب تخوفاً عليهم من معرّة الجيش. فلما وصل جيش الحبش، لم يجد أحداً بمكة،وتفشى الوباء فيه، واضطر إلى التراجع بسرعة. فلما وصل أبرهة "إلى اليمن، هلك فيها بعد مدة قليلة من هذا الحادث.

ويذكر "الطبري" إن الأسود بن مقصود لما ساق أموال اهل مكة من قريش وغيرهم، وفي ضمنها ابل عبد المطلب، وأوصلها إلى أبرهة، وأن قريشاً وكنانة. وهذيل ومن كان معهم بالحرم من سائر الناس عزمت على ترك القتال، إذ تأكدوا انهم لا طاقة لهم به. بعث ابرهة "حناطة الحمري" إلى مكة، وقال له: سل عن سيد هذا البلد وشريفهم، ثم قل له إن الملك يقول لكم: إِني لم آتِ لحربكم، إنما جئت لهدم البيت، فإن لم تعرضوا دونه بحرب، فلا حاجة لي بدمائكم، فإن لم يُرد حربي فائتني به، فلما دخل حناطة مكة، سأل عن سيد قريش وشريفها، فقيل له: عبد المطلب، فقال له ما أمره به أبرهة، فقال له عبد المطلب: واللهِ ما نريد حربه، وما لنا بذلك من طاقة، هذا بيت الله الحرام، وبيت خليله ابراهيم،. فإن يمنعه فهو بيته وحرمه، وإن يخل بينه وبينه، فواللّه ما عندنا له من دافع عنه. ثم انطلق معه إلى أبرهة. فلما وصل المعسكر، سأل عن "ذي نفر"، وكان له صديقاً، فدلّ عليه، فجاءه وهو في محبسه، فكلمه، ثم توصل بوساطته إلى سائق فيل أبرهة وهو أنيس، وأوصاه خيراً. بعبد المطلب، وكلمه في إيصاله إلى ابرهة، وان يتكلم فيه عند ابرهة بخير. ونفذ انيس طلب "ذو نفر"، وأدخله عليه، فكان ما كان من حديث.

وذكر الطبري: أن بعض اهل الأخبار زعموا إن نفراً من سادات قريش رافقوا عبد المطلب في ذهابه مع حناطة إلى ابرهة، ذكروا منهم.: يعمر "عمرو" ابن نفاثة بن عديّ بن الدُّئل بن بكر بن عبد مناف بن كنانة، وهو يومئذ سيد بني كنانة، وخويلد بن واثلة الهُذلي، وهو يومئذ سيد هذيل، فعرضوا على أبرهة ثلث اموال اهل تهامة على إن يرجع عنهم، ولا يهدم البيت، فأبى عليهم.

ويذكر أهل الأخبار إن جيوش "ابرهة" حين دنت من مكة،توسل عبد المطلب إلى ربه وناجاه بأن ينصر بيته ويذل "آل الصليب" وأنه أخذ بحلقة باب الكعبه وقال: يا ربّ لا أرجو لهم سواكا  يا رب فامنع منهم حماكا

إن عدوّ البيت من عاداكا  أمنعهم أن يخربوا قراكا

وقال: لاهُمَّ إن العبـد يمـنـع  رحله فامنع رحـالـك

لا يغلين صـلـيبـهـم  ومحالهم عدواً محالـك

وانصر على آل الصليب  وعابـديه الـيوم آلـك

وقد بلغ أبرهة مكة، غير انه لم يتمكن من دكّها ومن هدمها، وخاب ظنه، إذ تفشى المرض بجيشه وفتك الوباء به، فهلك أكثره، واضطر إلى الإسراع في العودة، وكان عسكره يتساقطون موتى على الطريق، وهم في عودتهم إلى اليمن. وذكرت بعض الروايات إن أبرهة نفسه أصيب بهذا المرض. ولم يبلغ صنعاء الاّ بعد جهد جهيد. فلما بلغها، مات إِثر وصوله اليها.

وعلى هذه الصورة أنهى اهل الأخبار أخبار حملة ابرهة، فقالوا انها انتهت باخفاق ذريع، انتهت باصابة ابرهة بوباء خطير، وبإصابة عسكره بذلك المرض نفسه: مرض جلدي، أصاب جلود أكثر جيشه، فمزقها، وأصابها بقروح وقيوح في الأيدي خاصة، وفي الأفخاذ. أو بمرض وبائي هو الحصبة والجدري، فيذكر أهل الأخبار في تفسير سورة الفيل، وفي أئناء تحدثهم عن هذه الحملة وبعد شرحهم لمعنى "طير آبابيل": مباشرة، هذين المرضين ويقولون: "إن أول ما رئيت الحصبة والجُدري بأرض العرب ذلك العام". وتفسير ذلك بعبارة أخرى إن ما اصاب الحبش، هو وباء من تلك الأوبئة التي كانت تكتسح البشرية فيما مضى، فلا تشهب حتى تكون قد أكلت آلافاً من الرؤوس.

وكان لرجوع الأحباش إلى اليمن وهم على هذه الصورة من مرض يفتك بهم، وتعب ألمَّ بهم، أثر كبير أثر فيهم وفي قريش، ثم ما لبث ابرهة إن مات بعد مدهَ غير طويلة، فازداد اعتقاد قريش ب "رب البيت" وبأصنامها، وهابت العرب مكة، فكانت نكسة الحبش نصراً لقريش ولأهل مكة قوّى من معنوياتها. ويتجلى ذلك في القرآن الكرم في سورة الفيل، وهي من السور المكّية القديمة: )ألم تر كيف فعل ربّك بأصحاب الفيل، ألم يجعل كيدهم في تضليل، وأرسل عليهم طيراً أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول(.

وقصة تدنيس "القليس"، قد تكون حقيقية وقعت وحدثت، وقد تكون أسطورة حيكت ووضعت، على كل حال، وفي كلتا الحالتين لايعقل أن تكون هي السبب المباشر الذي دفع النجاشي إلى السير إلى مكة لهدم البيت ونقضه من أساسه ورفع احجاره حجراً حجراً، على نحو ما يزعمه أهل الأخبار بل يجب أن يكون السبب أهم من التدنيس وأعظم، وأن يكون فتح مكة بموجب خطة تسمو على فكرة تهديم البيت وتخريبه، خطة ترمي إلى ربط اليمن ببلاد الشام، لجعل العربية الغربية والعربيهّ الجنوبية تحت حكم النصرانية، وبذلك يستفيد الروم والحبش وهم نصارى، وان اختلفوا ذهباً، ويحققون لهم بذلك نصراً سياسياً واقتصادياً كبيراً، فيتخلص الروم بذلك من الخضوع للاسعار للعالية التي كان يفرضها الساسانيون على السلع التجارية النادرة المطلوبة التي احتكروا بيعها لمرورها ببلادهم، إذ سترد اليهم من سيلان والهند رأساً عن طريق بلاد العرب، فتنخفض الأسعار ويكون في امكان السفن البيزنطية السير بأمان في البحار العربية حتى سيلان والهند وما وراءهما من بحار.

وآية ذلك خبر يرويه أهل الأخبار يقولون فيه إن "أيرهة" توج "محمد ابن خزاعي بن حزابة الذكواني"، ثم السلمي، وكان قد جاءه في نفر من قومه، مع أخ له، يقال له "قيس بن خزاعي"، يلتمسون فضله، وأمرّه على مضر، وأمره أن يسير في الناس، فيدعوهم في جملة ما يدعوهم إليه إلى حج "القليس"، فسار محمد بن خزاعي، حتى إذا نزل ببعض أرض بني كنانة، وقد بلغ أهل تهامة أمره، وما جاء له، بعثوا إليه رجلاٌ من هذيل، يقال له عروة بن حياض الملاصي فرماه بسهم فقتله. وكان مع محمد بن خزاعي أخوه قيس، فهرب حين قتل أخوه، فلحق بأبرهة، فأخبره بقتله، فغضب وحلف ليغزون بني كنانة وليهدمنَّ البيت.

فمقتل "محمد بن خزاعي"، هو الذي هاج أبرهة وحمله على ركوب ذلك المركب الخشن. ولم يكن هياجه هذا بالطبع بسبب أن القتيل كان صاحبه وصديقه بل لأن من قتله عاكس رأيه وخالف سياسته ومراميه التوسعيهّ القاضية بفرض ارادته وارادة الحبش وحلفائهم على أهل مكة وبقية كنانة ومضر، وبتعيين ملك أو أمير عليهم، هو الشخص المقتول، فقتلوه. ومثل هذا الحادث يؤثر في السياسة وفي الساسة، ويدفع الى اتخاذ اجراءات قاسية شديدة، مثل ارسال جيش للقضاء على المتجاسرين حتى لا يتجاسر غيرهم، فتفلت من السياسي الأمور.

ومن يدري ? فلعل الروم كانوا هم المحرضين لأبرهة على فتح مكة وغير مكة حتى تكون العربية الغربية كلها تحت سلطان النصرانية، فتتحقق لهم مأربهم في طرد سلطان الفرس من بلاد العرب. وقد حاولوا مراراً اقناع الحبش بتنفيذ هذه الخطة والاشراك في محاربة الفرس، وهم الذين حرضوا الحبشة وساعدوهم بسفنهم وبمساعدات مادية أخرى في فتح اليمن. وهم الذين أرسلوا رسولاً اسمه "جوليانوس" Julianus، وذلك في أيام القيصر "يوسطنيان" Justinian لاقناع النجاشي Hellestheaeus و "السميع أشوع" Esimiphaeus بالتحالف مع الروم، وتكوين جبهة واحدة ضد الفرس والاشتراك مع الروم في اعلان الحرب على الفرس بسبب الرابطة التي تجمع بينهم، وهي رابطة الدين. وكان في جملة ما رجاه القيصر من "السميفع أشوع"، هو أن يوافق على تنصيب "قيس" Casius رئيساً على "Maddeni" معد.

وقد ذكر "المُسكَّري"، أن "محمد بن خزاعي بن علقمة بن محارب ابن مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان السلمي" كان في جيش ابرهة مع الفيل، أي انه لم يقتل كما جاء في الرواية السابقة.

وقد ورد في بعض الأخبار أن عائشة أدركت قائد الفيل وسائسه، وكانا أعميين مقعدين يستطعمان. وقد رأتهما.

وقد كان من أشراف مكة في هذا العهد غير عبد المطلب، المطعم بن عدي. وعمرو بن عائد بن عمران بن مخزوم، ومسعود بن عمرو الثقفي، وقد صعدوا على حِراء ينظرون ما سيفعل أبرهة بمكة.

وذكر بعض أهل الأخبار، أن فلالاً من الحبش من جيش أبرهة وعفاء وبعض من ضمّه العسكر، أقاموا بمكة، فكانوا يعتملون ويرعون لأهل مكة، وليس في كتب أهل الأخبار أسماء القبائل العربية التي جاءت مع "أبرهة" للاستيلاء على مكة بتفصيل. وكل ما نعرفه انه كان قد ضم إلى جيشه قوات عربية قد يكون بينها قوم من كندة، وقد أشير إلى اشتراك خولان والأشعرين فيها، وذكر أن "خنِدقاً" كانوا ممن اشترك في جيش أبرهة،وكذلك "حميس بن أد"

وقد اشير إلى أبرهة الأشرم والى الفيل في شعر شعراء جاهليين ومخضرمين واسلاميين. وقد ورد في شعر "عبد الله بن الزبعرى" أنه كان مع "أمير الحبش" ستون ألف مقاتل. وورد في شعر "امية بن ابي الصلت" إن الفيل ظل يحبو ب "المغمس" ولم يتحرك، وحوله من ملوك كندة أبطال ملاويث في الحروب صقور. ومعنى هذا أن سادات كندة كانوا مع الحبش في زحفهم على مكة. وذكر "عبد الله بن قيس الرقيّات": إن "الأشرم" جاء بالفيل يريد الكيد للكعبة، فولى جيشه مهزوماً، فأمطرتهم الطير بالجندل، حتى صاروا وكأنهم مرجومون يمطرون بحصى الرجم.

وذكر إن "عمر بن الخطاب" كان في جملة. من ذكر "أبا يكسوم أبرهة" في شعره، واتخذه مثلاً على من يحاول التطاول على بيت اللّه وعلى "آل اللّه" سكان مكة. وذكر أهل الأخبار انه قال ذلك الشعر في هجاء "زنباع بن روح ابن سلامة بن حداد بن حديدة" وكان عشاراً، أساء إلى "عمر بن الخطاب" وكان قد خرج في الجاهلية تاجراً وذلك في اجتيازه واخذ مكسه، فهجاه عمر، فبلغ ذلك الهجاء "زنباعاً"، فجهز جيشاً لغزو مكة. فقال عمر شعراً آخر يتحداه فيه بأن ينفهذ تهديده إن كان صادقاً، لأن من يريد البيت بسوء يكون مصيره مصير أبرهة الأشرم، وقد كف زنباع عن تنفيذ ما عزم عليه ولم يقم به.

لقد تركت حملة "الفيل" أثراً كبيراً في أهل مكة، حتى اعتبرت مبدأ تقويم عندهم، فصار أهل مكة يؤرخون بعام الفيل "في كتبهم وديونهم من سنة الفيل". فلم تزل قريش والعرب بمكة جميعاً تؤرخ بعام الفبل، ثم أرخت بعام الفجار، ثم أرخت ببنيان الكعبة.

لقد كان لأهل مكة صلات باليمن متينة، إذ كانت لهم تجارة معها،تقصدها قوافلها في كل وقت، وخاصة في موسم الشتاء، حيث تجهز قريش قافلة كييرة يساهم فيها أكثرهم، واليها أشير في القران الكريم في سورة قريش: )لإيلف قريش. ايلافِهم رحلة الشتاء والصيف(. ولهذا فقد كان من سياستهم مداراة حكام اليمن وارضاؤهم، ومنع من قد يعتدي منهم على أحد من أهل اليمن أو الحبش ممن قد يقصد مكة للاتجار أو للاستراحة بها في أثناء سيره إلى بلاد الشام، خوفاً من منع تجارهم من دخول أسواق اليمن. فلما وثب أحدهم على تجار من اليمن كانوا قد دخلوا مكة، وانتهبوا ما كان معهم، مضت عدة من وجوه قريش إلى "أبي يكسوم"، أي أبرهة وصالحوه أن لا يقطع تجار أهل مكة عنهم. وضماناً لوفائهم بما اتفقوا عليه وضعوا "الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار" وغيره رهينة، فكان "أبرهة" يكرمهم ويصلهم، وكانوا يبضعون البضائع إلى مكة لأنفسهم.

وقد وضع أهل الطائف رهائن عند أبي يكسوم كذلك، ضماناً لحسن معاملتهم للحبش ولمن قد يقصد الطائف للاتجار من الحبش أو من أهل اليمن.

طرد الحبشة

لقد عجل الحبش في نهايتهم في اليمن، وعملوا بأيديهم في هدم ما أقاموه بأنفسهم من حكومة، باعتدائهم على أعراض الناس وأموالهم، وأخذهم عنوة كل ما كانوا يجدونه أمامهم، حتى ضجّ أهل اليمن وضجروا، فهبوا يريدون تغيير الحال، وطرد الحبشة عن أرضهم، وإن أدى الأمر بهم إلى تبديلهم بأناس أعاجم أيضاً مثل الروم أو الفرس، إذا عجزوا هم عن طردهم، فلعل من الحكام الجدد من قد يكون أهون شراً من الحبش، وان كان كلاهما شراً، ولكن إذا كان لا بد من أحد الشرين فإن أهونهما هو الخيار ولا شك.

وهبّ اليمانون على الحبش، وثار عليهم ساداتهم في مواضع متعددة غير أن ثوراتهم لم تفسهم شيئاً، اذ أخمدت، وقتل القائمون بها. ومن أهم اسباب إخفاقها انها لم تكن ثورة عارمة عامة مادتها كل الجماهير والسادات، بل كانت ثورات سادات، مادة كل ثورة مؤججها ومن وراءه من تبع. هنا ثورة وهناك ثورة، ولم تكن بقيادة واحدة، أو بإمرة قائد خبير أو قادة متكاتفين خبراء بأمور الحرب والقتال، فصار من السهل على الحبش، الانقضاض عليها واخمادها، أضف إلى ذلك انها لم تؤقت بصورة تجعلها ثورات جماعية، وكأنها نيران تلتهب في وقت واحد، يعسر على مخمدي النيران إخمادها، او اخمادها على الأقل بسهولة.

ولتحاسد الأقيال وتنافسهم على السيادة والزعامة نصيب كبير في هذا الإخفاق، لذلك وجه بعض السادة أنظارهم نحو الخارج في أمل الحصول على معونة عسكرية أجنبية خارجية، تأتيهم من وراء الحدود، لتكره الحبش على ترك اليمن. وكان صاحب هذا الرأي والمفكر فيه "سيف بن ذي يزن"، من ابناء الأذواء ومن أسرة شهيرة. وقد نجح فىِ مشروعه، فاكتسب صفة البطولة وانتشر اسمه بين اليمانيين، حتى صير أسطورة من الأساطير، وصارت حياته قصة من القصص أمثال قصة أبي زيد الهلالي وعنترة وغيرهما ممن تحولوا إلى أبطال تقص حياتهم على الناس في المجالس وفي المقاهي وحفلات السمر والترفيه، أو تقرأ للتسلية واللهو.

و "سيف بن ذي يزن"، هو "معديكرب بن ابي مرة"،وقد عرف ابوه ايضاً ب "ابي مرة الفياض"، وكان من أشراف حمير، ومن الأفواء. وأمه "ريحانة ابنة علقمة"، وهي من نسل "ذي جدن" على فى ما ذكرت. يقال إن أبرهة لما انتزع ريحانة من بعلها "ابي مرة"، فر زوجها إلى العراق فالتجأ إلى ملك الحيرة "عمرو بن هند" على ما يظن، وبقي "معديكرب" مع امه في بيت "أبرهة" على ذلك مدة، حتى وقع شجار بينه وبين شقيقه من امه "مسروق" الذي ولي الملك بعد موت اخيه "يكسوم" فأثر ذلك في نفسه وحقد على "مسروق".، فلما مات يكسوم، خرج من اليمن، حتى قدم على قيصر ملك الروم، فشكا ما هم فيه، وطلب إليه إن يخرجهم عنه، ويليهم هو ويبعث اليهم من يشاء من الروم، فيكون له ملك اليمن، فلم يشكه ولم يجد عنده شيئاً مما يريد، فخرج حتى قدم الحيرة على النعمان بن المنذر، فأسكنه عنده ثم اوصله بكسرى، وحدثه في شأنه وفي خاطره في قومه، فأمده بثماني مئة محارب، وب "وهرز" أمره عليهم، وبثماني سفن جعل في كل سفينة مئة رجل و يصلحهم في البحر، فخرجوا، حتى إذا لجوا في البحر غرقت من السفن سفينتان بما فيهما، فخلص إلى ساحل اليمن من ارض عدن ست سفائن فيهن ستمئة رجل فيهم وهرز وسيف بن ذي يزن، نزلوا أرض اليمن، فلما سمع بهم مسروق بن أبرهة، جمع إليه جنده من الحبشة، ثم سار اليهم، فلما التقوا رمى "وهرز" مسروقاً بسهم، فقتله، وانهزمت الحبشة، فقتلوا، وهرب شريدهم، ودخل "وهرز" مدينة صنعاء، وملك اليمن ونفى عنها الحبشة، وكتب بذلك إلى كسرى. فكتب إليه كسرى يأمره إن يملك سيف بن ذي يزن على اليمن وارضها وان يرجع وهرز إلى بلاده، فرجع اليها. ورضي سيف بدفع جزية وخرج يؤديه في كل عام.

وذكر "الطبري" في رواية له اخرى عن "سيف بن ذي يزن" وعن مساعدة الفرس له، فقال: "فخرج ابن ذي يزن قاصداً إلى ملك الروم، وتجنب كسرى لابطائه عن نصر ابيه، فلم يجد عند ملك الروم ما يحب، ووجده يحامي عن الحبشة لموافقتهم اياه على الدين، فانكفأ راجعاً إلى كسرى"، فقابله وحياه وقال لكسرى: "انا ابن الشيخ اليماني ذي يزن، الذي وعدته إن تنصره فما ببابك وحضرتك، فتلك العدة حق لي وميراث يجب عليك الخروج لي منه. فرقَّ له كسرى، وامر له بمال. فخرج، فجعل ينشر الدراهم، فانتهبها الناس. فأرسل إليه كسرى: ما الذي حملك على ما صنعت: قال: إني لم آتك للمال، انما جئتك للرجال، ولتمنعني من الذل، فاعجب ذلك كسرى، فبعث اليه: إن أقم حتى انظر في امرك. ثم إن كسرى استشار وزراءه في توجيه الجند معه، فقال له الموبذان: إن لهذا الغلام حقاً بنزوعه وموت ابيه بباب الملك وحضرته، وما تقدم من عدته اياه، وفي سجون الملك رجال ذوو نجدة وبأس، فلو إن الملك وجههم معه، فإن أصابوا ظفراً كان له، وان هلكوا كان قد استراح وأراح اهل مملكته منهم، ولم يكن ذلك ببعيد الصواب. قال كسرى: هذا الرأي. وعمل به ".

ويظهر من هذه الرواية، إن "ابا مرّة"، والد "معديكرب"، كان قد فرّ من اليمن إلى العراق، وقد حاول عبثاً حث كسرى على تقديم العون العسكري له لطرد ابرهة وقومه الحبش عن اليمن، وبقي يسعى ويحاول حتى مات بالعراق، مات بالمدائن على حد زعم هذه الرواية. ويظهر منها أيضاً، إن سيف بن ذي يزن، أي ولد ابي مرّة، كان قد أيس هو من كسرى بعد إن رأى ما رأى من موقفه مع ابيه، فذهب أولاً إلى ملك الروم، على أمل مساعدته ومعاونته في طرد الحبش عن بلاده، حتى وان أدى الأمر إلى استيلاء الروم على اليمن، فلما خاب ظنه ذهب إلى الفرس، فساعدوه.

ويذكر "الطبري" أن وهرز لما انصرف إلى كسرى، ملَّك سيفاً على اليمن، ف "عدا على الحبشة فجعل يقتلها ويبقر النساء عما في بطونها، حتى إذا أفناها الا بقايا ذليلة قليلة، فاتخذهم خولاً، واتخذ منهم جماّزين يسعون بين يديه بحرابهم، حتى إذا كان في وسط منهم وجأوه بالحراب حتى قتلوه، ووثب بهم رجل من الحبشة، فقتل باليمن واوعث، فأفسد، فلما بلغ ذلك كسرى بعث اليهم "وهرز" في أربعة آلاف من الفرس، وأمره الا يترك باليمن أسود ولا ولد عربية من اسود الا قتله، صغيراً كان او كبيراً. فأقبل وهرز، حتى دخل اليمن ففعل ذلك. ثم كتب إلى كسرى بذلك، فأمره كسرى عليها. فكان عليها، وكان يجبيها إلى كسرى حتى هلك".

لقد كان استيلاء الحبشة على اليمن بأسرها سنة "525" للميلاد. أما القضاء على حكمهم فكان قريباً من سنة "575" للميلاد. ولكن الحبش كانوا في اليمن قلائل هذا العهد، اذ كانوا احتلوا بعض الأرضين قبل السنة "525" للميلاد، وكانوا يحكمونها باسم ملك الحبشة.

وجاء في تأريخ الطبري وفي موارد اخرى إن حكم الحبش لليمن دام اثنتين وسبعين سنة، توارث ذلك منهم اربعة: ارياط، ثم أبرهةّ، ثم يكسوم بن ابرهة، ثم مسروق ابن ايرهة. وهو رقم فيه زيادة، إذا اعتبرنا إن نهاية حكم الحبش في اليمن، كانت في حوالى السنة "575م" 0 اما اخذنا برواية اهل الأخبار مثل حمزة، الذي ذكر كما سبق إن بينّت إن حكم "أرياط" دام عشرين سنة، وان حكم ابرهة ثلاثاً وعشرين سنة، وان حكم "يكسوم" سبع عشرة، وان حكم مسروق اثنتي عشرة سنة، فيكون ما ذكره "الطبري" وحمزة صحيحاً من حيث المجموع، لأن مجموعه "72" سنة. ولكني أشكك في إن حكم "رياط" كان "20" سنة. إذ يعني هذا إن حكمه استمر إلى سنة "545" للميلاد، والمعروف من نص "ابرهة" المدون على جدار سد مأرب، إن ابرهة رمم السد وقوى جدرانه سنة "542" للميلاد. ومعنى هذا انه كان قد استبد بأمر اليمن قبل هذا الزمن.

وقد تعرض "حمزة" لهذا البحث، ولفت النظر إلى تفاوت الرواة في مدة لبث الحبشة باليمن وفي تأريخ اليمن كله. فقال: "وليس في جميع التواريخ تاريخ أسقم ولا أحلّ من تاريخ الأقيال ملوك حمير، لما قد ذكر فيه من كثرة عدد سني من ملك منهم، مع قلة عدد ملوكهم"، و "قد اختلف رواة الأخبار في مدة لبث الحبشة باليمن اختلافاً متفاوتاً". والواقع اننا نجد اختلافاً كبيراً بين اهل الأخبار في تأريخ اليمن،حتى في المتأخر منه القريب من الإسلام.

ويذكر "ابو حنيفة الدينوري"، إن "وهرز" كان شيخاً كبيراً، قد أناف على المائة، وكان من فرسان العجم وابطالها، ومن اهل البيوتات والشرف، وكان اخاف السبيل، فحبسه كسرى. ويقال له "وهرز بن الكاسجار"، فسار بأصحابه إلى "الأبلة" فركب منها البحر. وذكر إن "كسرى" لما ردّه إلى اليمن، بعد وثوب الحبش ب "سيف بن ذي يزن"، وبقي هناك إلى إن وافاه اجله، قُبر في مكان سّمي "مقبرة وهرز"، وراء الكنيسة، ولم يشر إلى اسم الكنيسة، ولعله قصد موضع "القليس".

أما "المسعودي"، فصير "وهرز" موظف كبيرأ بدرجة "اصبهبذ"، ودعاه ب "وهرز اصبهبذ الديلم" 0 أي انه كان اصبهبذاً على الديلم اذ ذاك. وذكر انه ركب ومن كان معه من أهل السجون البحر في السفن في دجلة ومعهم خيولهم وعُددهم وأموالهم حتى أتوا "الأبة"، فركبوا في سفن البحر، وساروا حتى أتوا ساحل حضرموت في موضع يقال له "مثَوب"، فخرجوا من السفن فأمرهم "وهرز" إن يحرقوا السفن، ليعلموا انه الموت. ثم ساروا من هناك براً حتى التقوا ب "مسروق".

وذكر "المسعودي"، إن "كسرى انو شروان"، أشترط على "معديكرب" شروطاً: منها أن الفرس تتزوج باليمن ولا تتزوج اليمن منها، وخراج محمله إليه. فتوج "وهرز" معديكرب بتاج كان معه وبدنة من الفضة ألبسه اياها، ورتبه بالملك على اليمن، وكتب إلى "أنو شروان" بالفتح.

قال "المسعودي" ولما ثبت "معديكرب" في ملك اليمن، اتته الوفود من العرب تهنيه بعود الملك إليه، وفيها وفد مكة وعليهم عبد المطلب، وأمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وخويلد بن أسد بن عبد العزُى، وابو زمعة جد امية بن ابي الصلت، فدخلوا إليه، وهو في اعلى قصره بمدينة صنعاء المعروف بغمدان، وهنأوه، وارتجل عبد المطلب خطاباً، ذكر المسعودي وغيره نصه، وأنشد "ابو زمعة" شعراً، فيه ثناء على الملك وحمد للفرس "بنو الأحرار". الذين ساعدوا أهل اليمن، على "سود الكلاب".

واذا أخذنا برواية "المسعودي" عن وفد مكة، وبما يذكره اهل الأخبار عن مدة حكم الحبش على اليمن، وهي اثنتين وسبعين سنة، وجب إن يكون ذهاب الوفد الى صنعاء بعد سنة "597" للميلاد، وهذا مستحيل. فقد كانت وفاة "عبد المطلب" في السنة الثامنة من عام الفيل، والرسول في الثامنة اذ ذاك فيكون وفاة "عبد المطلب" اذن في حوالي السنة "578" أو "579" للميلاد، اي في ايام وجود الحبش في اليمن، وقبل طردهم من بلاد العرب. اما لو اخذنا برواية الباحثين المحدثين التي تجعل زمن طرد الحبش عن اليمن سنة "575" للميلاد، او قبلها بقليل، فيكون من الممكن القول باحتمال ذهاب "عبد المطلب" إلى اليمن، على نحو ما يرويه "المسعودي".

لم يذكر اهل الأخبار السنة التي تولى فيها "سيف بن ذي يزن" الحكم على اليمن بعد طرد الحبش عنها، ويرى بعض الباحثين انها كانت في حوالي السنة "575" للميلاد. وان حكمه لم يكن قد شمل كل اليمن، بل جزءاً منها. ويظهر إن الفرس استأثروا بحكم اليمن لأنفسهم، اذ نجد إن رجالاّ منها تحكمها منذ حوالي السنة "598" للميلاد تقريباً، وكان احدهم بدرجة "ستراب" "سطراب" Satrapie.

وذكر "ابن دريد" إن من ذرية "سيف بن ذي يزن"، "عفير بن زرعة بن عفير بن الحارث بن النعمان بن قيس بن عبيد بن سيف". وكان سيد حمير بالشام في ايام عبد الملك بن مروان.

ورووا إن "وهرز" كان يبعث العير إلى كسرى بالطيوب والأموال فتمر على طريق البحرين تارة وعلى طريق الحجاز اخرى، فعدا بنو تميم في بعض الأيام على عيره بطريق البحرين، فكتب إلى عامله بالانتقام منهم، فسار عليهم وقتل منهم خلقاً، وذلك يوم "الصفقة". وعدا بنو كنانة على عيره بطريق الحجاز حين مرت بهم، وكانت في جوار رجل من أشراف العرب من قيس، فكانت حرب الفجار بين قيس وكنانة.

وامر كسرى بتولي ابن وهرز، وهو "المزربان بن وهرز" منصب ابيه، لما توفي والده. فكان عليها إلى إن هلك.

ثم امر كسرى "البينجان بن المرزبان" اي حفيد "وهرز" بتولي منصب ابيه حين داهمته منيته. فاًمرّ كسرى بعده "خُرّخرة ين البينجان"، فكان عليها، ثم غضب كسرى عليه. واستدعاه إلى عاصمته، فذهب اليها، فخلعه كسرى وعين باذان "باذام" في مكانه، ولم يزل على اليمن حتى بعث الرسول. وذكر بعض اهل الأخبار إن "خذ خسرو بن السيحان بن المرزبان" هو الذي حكم بعد "الرزبان بن وهزر"، وهو الذي عزله كسرى، وولى "باذان" "باذام" بعده على اليمن.

لقد كانت السنة السادسة من الهجرة، سنة مهمة جداً في تاريخ اليمن. فيها دخل "باذان" "باذام" في الإسلام، وفيها قضى الإسلام على الوثنية واليهودية والنصرانية وعلى الحكم الأجنبي في البلاد، فلم يبق حكم حبشي ولا حكم فارسي. ويرى بعض المستشرقين إن دخول باذان في الإسلام كان بين سنة "628" و"630" للميلاد. ويذكر "الطبري"، إن اسلام "باذان"، كان بعد قتل "شيرويه" لأبيه "كسرى أبرويز"، وتوليه الحكم في موضع والده. فلما جاء كتاب شيرويه إليه يبلغه بالخبر، ويطلب منه الطاعة، اعلن اسلامه، وأسلم من كان معه من الفرس والأبناء. وقد ولى "شيرويه" الحكم في سنة "628" للميلاد، ولم يدم حكمه اكثر من ثمانية اشهر. وقد عرف ب "قباذ".

وقد ذكر إن "باذان" "باذام" كان من "الأبناء"، أي من الفرس الذين ولدوا في اليمن، وأن الرسول استعمل ابنه "شهر بن باذان" مكانه، أي بعد وفاة والده.

ويذكر أهل الأخبار إن الفرس الذين عاشوا في اليمن وولدوا بها واختلطوا بأهلها، عرفوا ب "الأبناء"، وب "بني الأحرار".

ولما قتل "الأسود العنسي" "شهر بن باذام" "شهر بن باذان"، واستبد "العنسي" بأمر اليمن، خرج عمال الرسول عن اليمن. فلما قتل "العنسي" ورجع عمال النبي إلى اليمن، استبد بصنعاء "قيس بن عبد يغوث المرادي"، وتوفي الرسول والأمر على ذلك. ثم كانت خلافة ابي بكر، فولى على اليمن "فيروز الديلمي".

وقد تطرق "ابن قتيبة" إلى "ملوك الحبشة في اليمن"، فذكر اسم "أبرهة الأشرم"، ثم "يكسوم بن أبرهة"، ثم "سيف بن ذي يزن"، فقال عنه: انه "أتى كسرى أنو شروان بن قباذ" في آخر ايام ملكه - هكذا تقول الأعاجم في سيرها، وانا احسبه هرمز بن أنو شروان على ما وجدت في التأريخ -" مما يدل على أنه نقل أخباره عن حملة الفرس على اليمن من كتب سير ملوك العجم، المؤلفة بلغتهم، كما نقل من موارد أخرى غير أعجمية. وقد ذكر أيضاً أن المؤرخين اختلفوا اختلافاً متفاوتاً في مكث الحبشة في اليمن.

وكوّن الأبناء طبقة خاصة في اليمن، ولما قدم "وبر بن يُحنّس،" على الأبناء باليمن، يدعوهم إلى الإسلام، نزل على بنات النعمان بن يُزرج فأسلمن، وبعث إلى فيروز الديلمي فأسلم، والى "مركبود" وعطاء ابنه، ووهب بن منبه، وكان أول من جمع القرآن بصنعاء ابنه عطاء بن مركبود ووهب بن منبه.

ونجد عهد استيلاء الحبشة الأخير على اليمن عهداً كريمأَ من ناحيته التأريخية، اذ دوّن جملة نصوص، تحدثت عنها فيما سلف. أما عند استيلاء الفرس على اليمن إلى دخولها في الإسلام، فلم يترك شيئاً مدونأَ ولا أثراً يمكن أن يفيدنا في الكشف عن اليمن في هذا العهد. لم يترك لنا كتابة ما، لا بالمسند ولا بقلم الساسانيين الرسمي يشرح الأوضاع السياسية أو أي وضع آخر في هذا العهد.

وحالنا في النصوص الكتابية في أول عهد دخول اليمن في الإسلام، مثل حالنا في استيلاء الفرس عليها، فنحن فيه معدمون لا نملك ولا نصاً واحداً مدوناً من ذلك العهد. وهو أمر مؤسف كثيراً، وكيف لا وهو والعهد الذي قبله المتصل به، من أهم العهود الخطيرة في تأريخ اليمن وجزيرة العرب، ونص واحد من هذين العهدين ثروة لا تقدّر بثمن لمن يريد الوقوف على التطورات التأريخية التي مرّت بالعرب قبيل الإسلام وعند ظهوره.

هذا ولا بد من الاشارة الى ان حكم الفرس لليمن لم يكن حكماً فعلياً واقعيا، فلم يكن ولاتهم يحكمون اليمن كلها، وانما كان حكمهم حكماً اسميا صوريا، اقتصر على صنعاء وما والاها، أما المواضع الاخرى، فكان حكمها لأبناء الملوك من بقايا الأسر المالكة القديمة وللأقيال والأذواء. دلك أن أهل كل ناحية ملكوا عليهم رجلا من حمير، فكانوا "ملوك الطوائف" فكان على حمير عند مبعث رسول الله سادات نعتوا أنفسهم بنعوت الملوك، من بينهم "الحارث ابن عبد كلال، ونعيم بن عبد كلال، والنعمان قيل ذي رعين وهمدان ومعافر وزرعة ذو يزن بن مالك بن مرة الرهاوي". وقد أرسلوا إلى الرسول مبعوثاً عنهم يخبره برغبتهم في الدخول في الإسلام، وصل اليه مقفله من أرض الروم، ثم لقيه بالمدينة وأخبره باسلامهم وبمفارقتهم الشرك، فكتب اليهم رسول الله كتاباً يشرح فيه ما لهم وما عليهم من واجبات وحقوق.

همدان وصنعاء ومأرب

وكانت همدان عند مبعث الرسول، مستقلة في ادارة شؤونها، وقد أسلمت كلها في يوم واحد على يد علي بن أبي طالب، ولقد صارت "صنعاء" عاصمة لحكام اليمن منذ عهد الحبش حتى هذا اليوم، أما "مأرب" فقد صارت مدينة ثانوية، بل دون هذه الدرجة، وأفل كذلك شأن ظفار، وسائر المواضع التي كان لها شأن يذكر في عهد استقلال اليمن وفي عهد الوثنية. ويرجع بعض أهل الأخبار بناء صنعاء إلى "سام بن نوح"، وزعموا أنها أول مدينة بنيت باليمن، وأن قصر "غمدان" كان أحد البيوت السبعة التي بنيت على اسم الكواكب السبعة، بناه "الضحاك" على اسم الزُّهرة. وكان الناس يقصدونه إلى أيام "عثمان" فهدمه، فصار موضعه تلاً عظيماً.

وقد ورد اسم "صنعاء" لأول مرة على ما نعلم في نص يعود عهده إلى أيام الملك "الشرح يحضب" "ملك سبأ وذي ريدان"، ودعيت فيه ب "صنعو".

وذكر الأخباريون أنها كانت تعرف ب "أزال" وب "أوال". أخذوا ذلك على ما يظهر من "أزال" في التوراة بواسطة أهل الكتاب مثل "كعب الأحبار" ووهب بن منبّه. وذكروا أن قصرغمدان الذي هو بها قصر "سام بن نوح"، أو قصر "الشرح يحضب" "ليشرح يحضب". وذكروا أيضاً أنها أول مدينة اختطت باليمن بنتها "عاد". ورووا قصصاً عن "غمدان"، فزعم بعض أن بانيه "سليمان" أمر الشياطين، فبنوا لبلقيس ثلاثة قصور: غمدان وسلحين وبينون. وزعم بعضهم أن بانيه هو: "ليشرح يحضب" أراد اتخاذ قصر بين صنعاء و "طيوة"، فانتخب موضع "غمدان". وقد وصف "الهمداني" ما تبقى منه في أيامه، وأشار إلى ما كان يرويه أهل الأخبار عنه.

نجران

وأما "نجران"، فقد كانت مستقلة بشؤونها، يديرها ساداتها وأشرافها، ولها نظام سياسي واداري خاص تخضع له، ولم يكن للفرس عليها سلطان. وكان أهلها من "بني الحارث بن كعب"، وهم من "مذحج" و "كهلان"، وكانوا نصارى. ومن اشرافهم "بنو عبد المدان بن الدياّن"، أصحاب كعبة نجران وكان في فيها أساقفة معتمون، وهم الذين جاؤوا إلى النبي ودعاهم إلى المباهلة، مع وفد مؤلف من ستين أو سبعين رجلاً راكباً، فيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم، منهم ثلاثة نفر اليهم يؤول أمرهم. العاقب أمير القوم وذو رأيهم وصاحب مشورتهم والذي لا يصدرون إلا عن رأيه، واسمه عبد المسيح، والسيد ثمالهم وصاحب رحلهم ومجتمعهم واسمه الأيهم "وهب"، وأبو حارثة بن علقمة أحد بني بكر بن وائل، اسقفهم وحبرهم وإمامهم صاحب مداراسهم.

ويذكر الأخباريون، إن أبا حارثة كان قد شرف في أهل نجران ودرس الكتب حتى حسن علمه فى دينهم، وصار مرجعهم الأكبر فيه. وكانت له حظوة عند ملك الروم، حتى أنه كان يرسل له الأموال والفعلة ليبنوا له الكنائس، لما كانت له من منزلة في الدين وفي الدنيا عند قومه. وكان له أخ أسمه "كوز بن علقمة". وقد أسلما مع من أسلم من الناس بعد السنة العاشرة من الهجرة.

ويظهر من الخبر المتقدم أن ملوك الروم كانوا على اتصال بنصارى اليمن، وانهم كانوا يساعدون أساقفتهم ويموّلونهم، ويرسلون اليهم العطايا والهبات. وقد أمدوهم بالبنّائين والفعلة وبالمواد اللازمة لبناء الكنائس في نجران وفي غيرها من مواضع اليمن. وقد كان من مصلحة الروم مساعدة النصرانية في اليمن وانتشارها، لأن في ذلك كسباً عظيماً لهم. في انتشارها يستطيعون تحقيق ما عجز عنه "أوليوس غالوس" حينما كلفه انبراطور روما اقتحام العربية السعيدة والاستيلاء عليها.

وذكر أهل الأخبار أيضاً، أن رؤساء نجران كانوا يتوارثون كتباً عندهم، كلما مات رئيس منهم فأضيفت الرئاسة إلى غيره، انتقلت الكتب إليه. وقد عرفت تلك الكتب ب "الوضائع". وكانوا يختمونها، فكلما تولى رئيس جديد ختم على تلك الكتب فزادت الخواتم السابقة ختماً. وذكر علماء اللغة إن الوضائع هي كتب يكتب فيها الحكمة. وفي الحديث: أنه نبي وان أسمه وصورته في الوضائع.

ونجران أرض في نجد اليمن خصبة غنية، وفيها مدينة نجران من المدن اليمانية القديمة المعروفة قبل الميلاد. وقد ذكرها "سترابون" في جغرافيته، وسماها Negrana=Negrani في معرض كلامه على حملة "أوليوس غالوس" على العربية، كما ذكرها المؤرخ "بلينبوس" في جملة المدن التي أصابتها يد التخريب في هذه الحملة. كما ذكرها "بطلميوس"، فسماها Nagera Mytropolis=Negra Metropolis.

وفي ذكر "بطلميوس" لها على أنها "مدينة" دلالة على أنها كانت معروفة أيضاً بعد الميلاد. وأن صيتها يلغ مسامع اليونان.

ويعدّ النص الموسوم ب Glaser 418,419، من أقدم النصوص التي ورد فيها اسم مدينة نجران. إذ يرتفع زمنه إلى أيام "المكربين". وقد ذكر كما سبق في أثناء كلامي على دور المكربين، في مناسبة تسجيل أعمال ذلك "المكرب" وتأريخ حروبه وما قام به من فتوح. وورد ذكرها في النص: "Glaser 1000"، الذي يرتقي زمنه الى أيام المكرب والملك "كرب ايل وتر" آخر "مكربي" سبأ، وأول من تلقب بلقب "ملك سبأ". فورود اسم "نجران، في النصين المذكورين يدل على أنها كانت من المدن القديمة العامرة قبل الميلاد، وأنها كانت من المواضع النابهة في أول أيام سبأ.

وورد اسمها في نصوص أخرى. كما ذكرت في جملة المواضع التي دخلها رجال حملة "أوليوس غالوس" على اليمن. وذكرها نص "النمارة" الذي يرتقي زمنه إلى سنة "328" بعد الميلاد. وقد كانت في أيدي الملك "شمر يهرعش" إذ ذاك على رأي أكثر الباحثين. اذ كان قد وسع رقعة حكومة "سبأ وذي ريسان وحضرموت" وأضاف اليها ارضين جديدة منها أرض "نجران"، وأشار الى تدمير ذلك الملك ل "نبطو"، أي النبط.

وقد ذهب "ريتر" إلى أن Negra Mytropolis هو الموضع المسمى ب "القابل" على الضفة الغربية لوادي نجران. أما "هاليفي"، فذهب إلى أنها الخرائب المسماة "الأخدود". وذهب "كلاسر" الى أنها الأخدود أو "رجلة"، أو موضع آخر في "وادي الدواسر".

وقد ذكر "الهمداني" إن موضع "هجر نجران" أي مدينة نجران، هو الأخدود. ومدح خصب أرض نجران، ولم يكن "نجران" اسم مدينة في الأصل كما يتبين من النص CIH 363، بل كان اسم أرض بدليل ورود اسماء مواضع ذكر انها في "نجرن" نجران. ويرى بعض الباحثين أن مدينة "رجمت" كانت من المدن الكبرى في هذه الأرض، ثم تخصص اسم نجران فصار علماً على المدينة التي عرفت بنجران.

وذهب بعض الباحثين إلى أن "رجمت" "رجمة" هي "رعمة" المذكورة في التوراة. وقد تحدثت فيما سلف عن "رعمة" وعن اتجار أهلها وتجار "شبا" Sheba مع "صور" Tyrus.

ويذكر الأخباريون أن قوماً من "جرهم" نزلوا بنجران، ثم غلبهم عليها بنو حمير، وصاروا ولاة للتبابعة، وكان كل من ملك منهم يلقب "الأفعى". ومنهم "أفعى نجران" واسمه "القلمس بن عمرو بن همدان بن مالك بن منتاب ابن زيد بن وائل بن حمير"، وكان كاهناً. وهو الذي حكم على حد قولهم بين أولاد نزار. وكان والياً على نجران لبلقيس، فبعثته إلى سليمان، وآمن، وبث دين اليهودية في قومه، وطال عمره، وزعموا انه ملك البحرين والمشلل. ثم استولى "بنو مذحج" على نجران. ثم "بنو الحارث بن كعب"، وانتهت رياسة بني الحارث فيها إلى بني الديان، ثم صارت إلى بني عبد المدان، وكان منهم "يزيد". على عهد الرسول.

ويرى بعض أهل الأخبار أن "السيد" والعاقب أسقفي نجران اللذين أرادا مباهلة رسول الله هما من ولد الأفعى بن الحصين بن غنم بن رهم بن الحارث الجرهمي، الذي حكم بين بني نزار بن معد في ميراثهم، وكان منزله بنجران. وقد سميت "نجران" بنجران بن زيد بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان على رأي بعض أهل الأخبار. وقد اشتهرت بالأدم.

وقد أرسل الرسول خالد بن الوليد إلى "بني الحارث بن كعب" بنجران، وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام قبل أن يقاتلهم، فإن استجابوا إليه قبل منهم، وإن لم يفعلوا قاتلهم. فلما دعاهم إلى الإسلام أجابوه، ورجع خالد مع وفد منهم إلى رسول الله، فأعلنوا إسلامهم أمامه، ثم رجعوا وقد عين الرسول "عمرو ابن حزم" عاملاً على نجران. فبقي بنجران حتى توفى رسول الله.

ولما عاد خالد بن الوليد من نجران إلى المدينة، أقبل معه وفد "بلحارث بن كعب"، فيهم قيس ين الحصين بن يزيد بن قنان ذي الغصة، ويزيد بن عبد المدان، ويزيد بن المُحجّل،وعبد الله بن قريظ الزيادي، وشداد بن عبد الله القناني، وعمرو بن عبد الله الضبابي. فلما رآهم الرسول، قال: من هؤلاء القوم الذين كأنهم رجال الهند ? ثم كلمهم، وأمرَّ "قيس بن الحصين" عليهم، ورجعوا، وكان ذلك قبل وفاة الرسول بأربعة أشهر.

وقد اشتهرت نجران بثيابها، ولما توفى الرسول، كُفن في ثلاثة أثواب نجرانية.

وقد زار "فلبي" وادي نجران، وعثر على خرائب قديمة، يرجع عهدها إلى ما قبل الإسلام، كما تعرف على موضع "كعبة نجران". ووجد صوراً قديمة محفورة في الصخر على مقربة من "أم خرق"، وكتابات مدونة بالمسند. وعلى موضع يعرف ب "قصر ابن ثامر"، وضريح ينسب إلى ذلك القديس الشهيد الذي يرد اسمه في قصص الأخباريين عن شهداء نجران. ويرى "فلبي" أن مدينة "رجمت" "رجمة" هي "الأخدود"، وأن الخرائب الي لا تزال تشاهد فيها اليوم تعود إلى أيام المعينيين. ويقع "قصر الأخدود" الأثري بين "القابل" و "رجلة"، وهو من المواضع الغنية بالاثار. وقد تبسط "فلبي" في وصف موضع الأخدود، ووضع مخططاً بالمواضع الأثرية التي رآها في ذلك المكان.

ويتضح من مخطط "فلبي" لمدينة "نجران" أنها كانت مدينة كبيرة مفتوحة، وعندها أبنية محصنة على هيأة مدينة مربعة الشكل، وذلك للدفاع عنها، وبها مساكن وملاجىء للاحتماء بها ولتمكين المدافعين من صدّ هجمات المهاجمين لها.

أثر الحبش في أهل اليمن

ولا بد أن يكون فتح الحبش لليمن قد ترك أثرأ في لهجات أهلها، ولا سيما بين النصارى منهم، ممن دخلوا في النصرانية بتأثير الحبش من ساسة واداريين ومبشرين، فاستعملوا المصطلحات الدينية الني كان يستعملها الأحباش لعدم وجود ما يقابلها عندهم في لهجاتهم لوثنيتهم، ولكني مع ذلك لا أستطيع أن أقول إن تلك المصطلحات كانت كلها حبشية الأصل والأرومة ؛ لأن الكثير منها لم يكن حبشياً في المنشأ والوطن، وانما كان دخيلاً مستورداً، جاءت به النصرانية من لغة بنى إرم، أو من اللغات الأخرى المتنصرة، فأدخلتها إلى الحبشة، فأستعملها الأحباش وحرفوا بعضها على وفق لسانهم، ومنهم انتقلت بالفتوح وبالاتصال الى اليمن.

وقد عرض علماء اللغة المسلمون والمستشرقون لعدد من الألفاظ العربية، ذكروا انها من أصل حبشي، وهي من الإلفاظ التي كانت مستعملة معروفة قبل الإسلام، وقد ورد بعضها في القرآن الكريم وفي الشعر المنسوب إلى الجاهليين. ومثل هذه الألفاظ تستحق أن تكون موضع درس وتحيص لمعرفه صحة أصلها ونسبها ودرجة أرومتها في الحبشية، لمعرفة أثر الأحباش في العرب وأثر العرب في الأحباش، لأن بعض ما نسب إلى الأحباش من كلم هو من أصل عربي جنوبي، هاجر من اليمن بطرق متعددة إلى افريقية، واستعمل هناك، ظن انه حبشي الأصل، وان العرب أخذوه من الأحباش.

وقد اثر فتح الحبش لليمن على سحن الناس أيضاً. فظهر السواد على ألوانهم عند غلبة الحبشة على بلادهم. وقد تأثروا بأخلاق الحبش كذلك.

الفصل الثاني والأربعون

مكة المكرمة

ومكة بلد في واد غير ذي زرع، تشرف عليها جبال جُرد، فتزيد في قسوة مناخها. ليس بها ماء، غير ماء زمزم، وهي بئر محفورة، وآبار أخرى مجة حفرها أصحاب البيوت، أما مياه جارية وعيون غزيرة، على ما نرى في أماكن أخرى، فليس لها وجود بهذا المعنى هناك. وكل ما كان يحدث نزول سيول، قد تكون ثقيلة قوية، تهبط عليها من شعاب الهضاب والجبال، فتنزل بها أضراراً فادحة وخسائر كبيرة، وقد تصل إلى الحرم فمؤثر فيه، وقد تسقط البيوت، فتكون السيول نقمة، لا رحمة تسعف وتغيث أهل البيت الحرام.

لذلك لم تصلح أرض مكة لأن تكون أرضاً ذات نخيل وزرع وحَب، فاضطر سكانها إلى استيراد ما يحتاجون إليه من الأطراف والخارج، وأن يكتفوا في حياتهم بالتعيش مما يكسبونه من الحجاج، وأن يضيفوا إلى ذلك تجارة تسعفهم وتغنيهم، وتضمن لهم معاشهم، وأماناً وسلماً يحفظ لهم حياتهم، فلا يطمع فيهم طامع، ولا ينغص عيشهم منغص. "وإذ قال ابراهيم: ربّ اجل هذا بلداً آمناً، وارزق أهله من الثمرات...".

ويعود الفضل في بقاء مكة وبقاء أهلها بها إلى موقعها الجغرافي، فهي عقدة تتجمع بها القوافل التي ترد من العربية الجنوبية تريد بلاد الشام، أو القادمة من بلاد الشام تريد العربية الجنوبية، والتي كان لا بد من أن تستريح في هذا المكان، لينفض رجالها عن أنفسهم غبار السفر، وليتزودوا ما فيه من رزق. ثم ما لبث أهلها أن اقتبسوا من رجال القوافل سرّ السفر وفائدته، فسافروا أنفسهم على هيأة قوافل، تتولى نقل التجارة لأهلا مكة وللتجار الآخرين من أهل اليمن ومن أهل بلاد الشام. فلما كان القرن السادس للميلاد، احتكر تجار مكة التجارة في العربية الغربية، وسيطروا على حركة النقل في الطرق المهمة التي تربط اليمن ببلاد الشام وبالعراق.

وللبيت فضل كبير على أهل مكة، وبفضله يقصدها الناس من كل أنحاء العالم حتى اليوم للحج إليه. وقد عرف البيت ب "الكعبة" لأنه مكعب على خلقة الكعب. ويقال له: "البيت العتيق" و "قادس" و "بادر"، وعرفت الكعبة ب "القرية القديمة" كذلك.

وبمكة جبل يطل عليها، يقال له جبل: "أبو قبيس"، ذكر بعض أهل الأخبار انهُ سمي "أبا قبيس" برجل حداد لأنه أول من بنى فيه. وكان يسمى "الأمين" لأن الركن كان مستودعاً فيه. وأمامه جبل آخر؛ وبين الجبلين وادٍ، فيه نمت مكة ونبتت. فصارت محصورة بين سلسلتين من مرتفعات.

وقد سكن الناس جبل "أبي قبيس" قبل سكنهم بطحاء مكة، وذلك لأنه موضع مرتفع ولا خطر على من يسكنه من اغراق السيول له. وقد سكنته "بنو جرهم"، ويذكر أهل الأخبار انه إنما سُمّي "قبيساً" ب "قبيس بن شالخ" رجل من جرهم. كان في أيام "عمرو بن مضاض".

ويظهر انه كان من المواضع المقدسة عند الجاهليين، فقد كان نُسّاك مكة وزهادها ومن يتحنف ويتحنث ويترهب من أهلها في الجاهلية يصعده ويعتكف فيه. ولعله كان مقام الطبقة المترفة الغنية من أهل مكة قبل نزوح "قريش" إلى الوادي، وسكنها المسجد الحرام المحيط بالبيت.

ويظهر من سكوت أهل الأخبار عن الإشارة إلى وجود أُطم أو حصون في مكة للدفاع عنها، إن هذه المدينة الآمنة لم تكن ذات حصون وبروج ولا سور يقيها من احتمال غزو الأعراب أو أي عدو لها. ويظهر إن ذلك إنما كان بسبب إن مكة لم تكن قبل أيام "قصيّ" في هذا الوادي الذي يتمركزه "البيت"، بل كانت على المرتفعات المشرفة عليه.

اما الوادي، فكان حرماً آمناً يغطيه الشجر الذي انبتته السيول ورعته الطبيعة بعنايتها، ولم يكن ذا سور ولا سكن ثابت متصل بالأرض ؛ بل كان سكن من يأوي إليه بيوت الخيام. واما أهل المرتفعات فكانوا، إذا داهمهم عدو أو جاءهم غزو، اعتصموا برؤوس المرتفعات المشرفة على الدروب، وقاوموا العدو والغزو منها، وبذلك يصير من الصعب على من يطمع فيهم الوصول اليهم، ويضطر عندئذ إلى ا التراجع عنهم، فحمتهم الطبيعة بنفسها ورعتهم بهذه الرؤوس الجبلية التي أقامتها على مشارف الأودية والطرق. فلما أسكن "قصي" أهل الوادي في بيوت ثابتة مبنية، وجاء ببعض من كان يسكن الظواهر لنزول الوادي، بقي من فضّل السكن في ظواهر مكة، أي على المرتفعات. يقوم بمهمة حماية نفسه وحماية أهل البطحاء من تلك المرتفعات، وهم الذين عرفوا بقريش الظواهر. فلم تعد لأهل مكة سكان الوادي ثمة حاجة إلى اتخاذ الأطم والحصون، وبناء سور يحمي المدينة من الغزو، لا سيما والمدينة نفسها حرم آمن وفي حماية البيت ورعايته. وقد أكد "قصي" على أهلها لزوم إقراء الضيف ورعاية الغريب والابتعاد عن القتال وحل المشكلات حلاً بالتي هي أحسن. كما نظم أمور الحج، وجعل الحجاج يقدون إلى مكة، للحج وللاتجار. ثم أكد من جاء بعده من سادة قريش هذه السياسة التي افادت البلد الآمن، وأمنت له رزقه رغداً.

ولم يرد اسم "مكة" في نص الملك "نبونيد" ملك بابل، ذلك النص الذي سرد الملك فيه أسماء المواضع التي خضعت لجيوشه، ووصل هو إليها في الحجاز فكانت "يثرب" آخر مكان وصل إليه حكمه في العربية الغربية على ما يبدو من النص.

ولم نتمكن من الحصول على اسم "مكة" من الكتابات الجاهلية حتى الان. اما الموارد التأريخية المكتوبة باللغات الأعجمية، فقد جاء في كتاب منها اسم مدينة دعيت ب "مكربة" "مكربا" "Macoraba"، واسم هذا الكتاب هو "جغرافيا" "جغرافية" "للعالم اليوناني المعروف "بطلميوس" "Ptolemy" الذي عاش في القرن الثاني بعد الميلاد. وقد ذهب الباحثون إلى إن المدينة المذكورة هي "مكة". وإذا كان هذا الرأي صحيحاً يكون "بطلميوس" أول من أشار إليها من المؤلفين وأقدمهم بالنظر إلى يومنا هذا. ولا أستبعد مجيء يوم قد لا يكون بعيداً، ربما يعثر فيه المنقبون على اسم المدينة مطموراً تحت سطح الأرض، كما عثروا على أسماء مدن أخرى وأسماء قرى وقبائل وشعوب.

ولفظة "مكربة" "Macoraba"، لفظة عربية أصابها بعض التحريف ليناسب النطق اليوناني، أصلها "مكربة" أي "مقربة" من التقريب. وقد رأينا في أثناء كلامنا على حكومة "سبأ" القديمة، إن حكامها كانوا كهاناً، أي رجال دين، حكموا الناس باسم آلهتهم. وقد كان الواحد منهم يلقب نفسه بلقب "مكرب" أي "مقرب" في لهجتنا. فهو أقرب الناس إلى الالهة، وهو مقرب الناس إلى آلهتهم، وهو مقدس لنطقه باسم الآلهة، وفي هذا المعنى جاء لفظة "مكربة"، لأنها "مقربة" من الآلهة، وهي تقرب الناس اليهم، وهي أيضاً مقدسة و "حرام"، فاللفظة ليست علماء لمكة، وإنما هي نعت لها، كما في "بيت المقدس" و "القدس" إذ هما نعت لها في الأصل. ثم صار النعت عالماً للمدينة.

أما ما ذهب إليه بعض الباحثين من إن المعبد الشهير الذي ذكره "ديودروس الصقلي" "Diodorus Siculus" في أرض قبيلة عربية دعاها "Bizomeni"، وقال إنه مكان مقدس له حرمة وشهرة بين جميع العرب، هو مكة - فهو رأي لا يستند إلى دليل مقبول معقول. فالموضع الذي يقع المعبد فبه، هو موضع بعيد عن مكة بعداً كبراً، وهو يقع في "حسمى" في المكان المسى "روافة" "غوافة" على رأي "موسل". وقد كانت في هذه المنطقة وفي المحلات المجاورة لها معابد أخرى كثيرة أشار إليها الكتبة اليونان والرومان، ولا تزال آثارها باقية، وقد وصفها السياح الذين زاروا هذه الأمكنة.

وإذا صح رأينا في إن موضع "Macoraba" هو مكة، دلّ على إنها كانت قد اشتهرت بين العرب في القرن الثاني بعد الميلاد، وانها كانت مدينة مقدسة يقصدها الناس من مواضع بعيدة من حضر ومن بادين. وبفضل هذه القدسية والمكانة بلغ اسمها مسامع هذا العالم الجغرافي اليوناني البعيد. ودلّ أيضاً على إنها كانت موجودة ومعروفة قبل أيام "بطليموس" إذ لا يعقل إن يلمع اسمها وتنال هذه الشهرة بصورة مفاجئة بلغت مسامع ذلك العالِم الساكن في موضع بعيد ما لم يكن لها عهد سابق هذا العهد.

وقد عرفنا من الكتابات الثمودية أسماء رجال عرفوا ب "مكي". ولم تشر تلك الكتابات إلى سبب تسمية اولئك الرجال ب "مكي". فلا ندرى اليوم إذا كان اولئك الرجال من "مكة" أو من موضع آخر، أو من عشيرة عرفت ب "مكت" "مكة". لذلك لا نستطيع إن نقول إن هذه التسمية. صلة بمكة.

ولم يشر الأخباريون ولا من كتب في تأريخ مكة إلى هذا الامم الذي ذكره "بطلميوس"، ولا إلى ام آخر قريب منهه، وإنما أشار إلى اسم آخر هو "بكة". وقد ذكر هذا الاسم في القرآن. قالوا إنه الهمم مكة، أبدلت فيه الميم باءً، وقال بعض الأخباريين: إنه بطن مكة، وتشدد بعضهم وتزمت، فقال: بكة موضع البيت، ومكة ما وراءه، وقال آخرون: لا. والصحيح البيت مكة وما والاه بكة، واحتاجوا إلى ايجاد اجوبة في معنى اسم مكة وبكة، فأوجدوا للاسمين معاني وتفاسير عديدة تجدها في كتب اللغة والبلدان وأخبار مكة.

وذكر أهل الأخبار إن مكة عرفت بأسماء اخرى، منها: صلاح، لأمنها، ورووا في ذلك شعراً لأبي سفيان بن حرب بن أمية، ومنها أم رحم، والباسةّ، والناسّة. والحاطمة. و "كوثى". وذكرت في القرآن الكريم ب "أم القرى".

ولعلماء اللغة بعد، تفاسير عديدة لمعنى "مكة"، يظهر من غربلتها إنها من هذا النوع المألوف الوارد عنهم في تفسير الأسماء القديمة التي ليس لهم علم بها، فلجئوا من ثم إلى هذا التفسير والتأويل. ولا استبعد وجود صلة بين لفظة مكة ولفظة "مكربة" التي عرفنا معناها. ولا استبعد إن يكون سكان مكة القدامى هم من أصل يماني في القديم، فقد أسس أهل اليمن مستوطنات على الطريق الممتد من اليمن إلى أعالي الحجاز، حيث حكموا أعالي الحجاز وذلك قبل الميلاد. وقد سبق إن تحدثت عن ذلك في الجزء الثاني من هذا الكتاب، فلا يستبعد إن تكون مكة احداها. ثم انضم اليهم العرب العدنانيون، ولأهل الأخبار روايات تؤيد هذا الرأي.

وقد ذهب "دوزي" إلى إن تأريخ مكة يرتقي إلى أيام "داوود" ففي أيامه-على رأيه أنشأ "الشمعونيون" "السمعونيون"، الكعبة وهم "بنو جرهم" عند أهل الأخبار. وهو يخالف بذلك رأي "كيبن" "GIBBON"، ورأي جماعة من المستشرقين رأت إن مكة لم تعرف ولم تشتهر إلا في القرن الأول قبل الميلاد، مستدلةً على ذلك بما ورد في تأريخ "ديودورس الصقلي" من وجود معبد، ذكر عنه انه كان محجة لجميع العرب، وان الناس كانوا يحجون إليه من أماكن مختلفة. ولم يذكر "ديودورس" اسم المعبد، ولكن هذه الجماعة من المستشرقين رأت إن هذا الوصف ينطبق على الكعبة كل الانطباق، وان "ديودورس" قصدها بالذات.

وقد ذكر بعض أهل الأخبار-إن "العماليق" كانوا قد انتشروا في البلاد، فسكنوا مكة والمدينة وام الحجاز، وعتوا عتوّ اً كبيراً. فبعث اليهم موسى جنداً فقتلوهم بالحجاز. وجاء اليهود فاستوطنوا الحجاز بعد العماليق. ويظفر انهم أخذوا أخبارهم هذه من اليهود، ففي التوراة إن العماليق "العمالقة"، هم أول الشعوب التي حاربت العبرانيين، لما هموا بدخول فلسطين، وقد حاربهم موسى، فوسع يهود الحجاز هذه القصة ونقلوا حرب موسى مع العمالقة إلى الحجاز ليرجعوا زمان استيطانهم في الحجاز إلى ذلك العهد.

ثم جاءت "جرهم" فنزلت على قطورا، وكان على "قطورا" يومئذ "السميدع بن هوثر"، ثم لحق بجرهم بقية من قومهم باليمن وعليهم "مضاض ابن عمر بن الرقيب بن هاني بن بنت برهم" فنزلوا ب "قعيقعان". وكانت قطورا بأسفل مكة، وكان "مضاض" يعشر من دخل مكة من أعلاها، و "السميدع" من أسفلها. ثم حدث تنافس بين الزعيمين فاقتتلا، فتغلب "المضاض" وغلب "السميدع".

وجرهم قوم من اليمن، فهم قحطانيون إذن، جدهم هو ابن "يقطن بن عاير بن شالخ": وهم بنو عم "يعرب". كانوا باليمن وتكلموا بالعربية، ثم غادروها فجاؤوء مكة.

والعمالقة من الشعوب المذكورة في "التوراة"، وقد عدّهم "بلعام" "أول الشعوب". وقد كانوا يقيمون بين كنعان ومصر وفي "طور سيناء"، أيام الخروج، وبقوا في أماكنهم هذه إلى أيام "شاؤول" "SAUL". وقد تحدثت عنهم في الجزء الأول من هذا الكتاب.

وجرهم تزوج "إسماعيل ه بن ابراهيم" على رواية الأخباريين، وبلغتهم تكلم. وكانت "هاجر" قد جاءت، به إلى "مكة". فلما شبّ وكبر، تعلم لغة جرهم، وتكلم بها. وهم من "اليمن" في الأصل. وكانت لغتهم هي اللغة العربية. تزوج امرأة أولى قالوا إن اسمها "حرا" وهي بنت "سعد بن عوف بن هنىء بن نبت بن جرهم"، ثم طلقها بناءّ على وصية أبيه ابراهيم له، فتزوج امرأة أخرى هي السيدة بنت "الحارث بن مضاض بن عمرو بن جرهم". وعاش نسله في جرهم، والأمر على البيت لجرهم إلى إن تغلبت عليهم "بنو حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر"، وهم خزاعة في رأي بعض أهل الأخبار.

وطبقت خزاعة على جرهم قانون الغالب، فانتزعت منها المالك، وزحزحتها عن مكة، وأقامت عمرو بن لحيّ-وهو منها-ملكاً عليها، وكان دخول خزاعة مكة على أثر خروجها من اليمن، بسبب تنبؤ الكاهن بقرب انفجار السدّ، في قصة يذكرها الأخباريون. وظلت خزاعة صاحبة مكة، إلى إن كانت أيام عمرو بن الحارث وهو "أبو غبشان" "غبشان"، فانتزع قصي منه الملك، وأخذه من خزاعة لقريش.

وكان "عمرو بن لحيّ" أول من نصب الأوثان وأدخل عبادة الأصنام إلى العرب، وغيّر دين التوحيد على زعم أهل الأخبار. ويظهر مما يرويه الأخباريون عنه انه كان كاهناً، حكم قومه ووضع لهم سنن دينهم على طريقة حكم الكهان، واستبدّ بأمر "مكة" وثبت ملك خزاعة بها. فهو مثل "قصيّ" الذي جاء بعده، فأقام ملك "قريش" في هذه المدينة. ويظهر من بقاء خبره في ذاكرة أهل الأخبار إن أيامه لم تكن بعيدة عن الإسلام، وان حكمه لمكة لم يكن بعيد عهد عن حكم "قصيّ"، وان إليه يعود فضل تنحية "جرهم" عن مكة، وانتزاع الحكم منهم ونقله إلى قومه من "خزاعة"، وذلك بمساعدة "بني اسماعيل" أسلاف "قريش" من "بني كنانة".

وهو أول رجل يصل الينا خبره من الرجال الذين كان لهم أثر في تكوين مكة وفي انشاء معبدها وتوسيع عبادته بين القبائل المجاورة لمكة. حتى صير لهذه المدينة شأن عند القبائل المجاورة. وذلك باتيانه بأصنام نحتت نحتاً جيداً باًيد فنية قديرة، على رأسها الصنم "هبل" ووضعها في البيت، فجلب بذلك أنظار أهل مكة وأنظار القبائل المجاورة نحوها، فصارت تقبل عليها، وبذلك كوّن للبيت شهرة بين الأعراب، فصاروا يقدمون عليه للتقرب إلى "هبل" والى بقية الأصنام التي جاء بها من الخارج فضعها حوله وفي جوفه.

ومن بطون خزاعة: "بنو سلول" و "بنو حُبْشية بن كعب"، و" بنو حليل" و "بنو ضاطر". وكان "حُلَيْل بن كعب" سادن الكعبة، فزوج ابنته "حبى" بقصي. و "بنو قمير" ومن " بني قمير" "الحجاج بن عامر بن أقوم" شريف، و "حلحة بن عمرو بن كليب": شريف ، و"قيس بن عمرو بن منقذ" الذي يقال له "ابن الحدادية" شاعر. جاهلي. و "المتحرش"، و وهو "أبو غُبشان" الذي يزعمون انه باع البت من "قصي". ومن خزاعة "بديل بن ورقاء بن عبد العُزّى"، شريف، كتب إليه النبي يدعوا إلى الإسلام، وكان له قدر في الجاهلية بمكة.

" وكنانة" التي استعان بها "عمرو بن لحيّ" في تثبيت حكمه بمكة، هي من القبائل العدنانية في عرف أهل النساب، ومن مجموعة "مضر". ولما استبد "عمروا بن لحيّ" ومن جاء بعده بأمر مكة، وأخذوا بأيديهم أمر مكة، تركوا إلى "كنانة" أموراً تحص مناسك الحج وشعائره، وهي الإجازة بالناس يوم "عرفة" والإضافة والنسيّ. وهي أمور سأتحدث عنها في اثناء كلامي عن الحج.

ويذدر أهل الأخبار أن "الإسكندر" الأكبر دخل مكة، وذلك أنه بعد أن خرج من السودان قطع البحر فانتهى إلى السواحل "عدن"، فحرج إليه "تبع الأقرن" ملك اليمن، فأذعن له بالطاعة، وأقرّ بالإتاوة، وأدخله مدينة "صنعاء"، فأنزل له، وألطف له من الطاف اليمن، فأقام شهراً، ثم سار إلى "تهامة"، وسكان مكة يومئذ خزاعة، قد غلبوا عليها، فدخل عليه "النضر بن كنانة"، فعجب الإسكندر به وساعده، فأخرج "خزاعة" عن مكة، وأخلصها للنضر، ولبني أبيه، وحج الإسكندر، وفرّق في ولد معد بن عدنان صلات وجوائز، ثم قطع البحر يؤم الغرب.

وإذا كان أهل الأخبار قد أدخلوا "الإسكندر" مكة، وصيرّوه رجلاَ مؤمناً، حاجاً من حجاج البيت الحرام، فلا غرابة أذن إن جعلوا أسلاف الفرس فيمن قصد البيت وطاف به وعظمه وأهدى له. بعد أن صيروا "إبراهيم" جداً من أجدادهم وربطوا نسب الفرس بالعرب العدنانيين. فقالوا: وكان آخر من حج منهم "ساسان بن بابك"، وهو جدّ "أردشير". فكان ساسان إذا أتى البيت طاف به وزمزم على بئر إسماعيل، فقيل إنما سميت زمزم لزمزمته عليها، هو وغيره من فارس. واستدلوا على ذلك بشعر، قالوا عنه: إنه من الشعر القديم. وبه افتخر بعض شعراء الفرس بعد ظهور الإسلام، وقالوا: وقد كان "ساسان بن بابك" هذا، أهدى غزالين من ذهب وجوهراً وسيوفاً وذهباً كثيراً، فقذفه، فدفن في زمزم. وقد أنكروا أن يكون بنو جرهم قد دفنوا ذلك المال في بئر زمزم، لأن جرهم لم تكن ذات مال فيضاف ذلك إليها.

ويزعم الأخباريون أن "حسان بن عبد كلال بن مثوب ذي حرث الحميري"، "أقبل من اليمن مع حمير وقبائل من اليمن عظيمة، يريد أن ينقل أحجار الكعبة من مكة إلى اليمن، ليجعل حج الناس عنده ببلاده، قأقبل حتى نزل بنخلة فأغار على سرح الناس، ومنع الطريق، وهاب أن يدخل مكة. فلما رأت ذلك قريش وقبائل كنانة وأسد وجذام ومن كان معهم من أفناء مضر، خرجوا إليه، ورئيس الناس يومئذ فهر ين مالك، فاقتلوا قتالاً شديداً، فهزمت حمير، وأسر حسان بن عبد كلال ملك حمير، أسره الحارث بن فهر، وقتل في المعركة-فيمن قتل من الناس-ابن ابنة قيس بن غالب بن فهر، وكان حسان عندهم بمكة أسراً ثلاث سنين، حتى افتدى منهم نفسه، فخرج به، فمات بين مكة واليمن".

ويشر هذا الحادث إن صحّ وقوعه وصدق ما رواه أهل الأخبار عنه، إلى طمع الملك "حسان" والى خطة وضعها للاستيلاء عليها. وهو شيء مألوف، فقد كانت قبائل اليمن تتجه دوماً نحو الشمال، غير أن أهل مكة قاوموا الملك وتمكنوا من الصمود تجاهه، بل من التمكن من جيشه ومنا الحاق هزيمة به.

ويذكر أهل الأخبار حادثاً آخر مشابهاً لهذا الحادث، بل يظهر أنه الحادث نفسه وقد صيغ في صيغة أخرى، خلاصته أن "الملوك الأربعة" الذين لعنهم النبي، ولعن أختهم "أبضعة"، ولم يذكروا أسماءهم، لما هموا بنقل "الحجر الأسود" إلى صنعاء لقطعوا حج العرب عن البيت الحرام إلى صنعاء، وتوجهوا لذلك إلى مكة، فاجتمعت "كنانة" إلى "فهر بن مالك بن النضر"، فلقيهم، فقاتلهم، فقتل ابن لفهر، يسمى الحارثة، وقتل من الملوك الأربعة ثلاثة، وأسر الرابع، فلم يزل مأسوراً عند "فهر بن مالك" حتى مات.

وأما "أبضعة"، فهي التي يقال لها "العنققير"، ملكت بعد اخوتها على زعم أهل الأخبار.

ويشير الأخباريون إلى احترام التبابعة لمكة، فيذكرون مثلاً أن التبع "أسعد أبو كرب" الحميريّ وضع الكسوة على البيت الحرام، وصنع له باباً، ومنذ ذلك الحين جرت العادة بكسوة البيت، ويذكرون غير ذلك من أخبار تشير إلى اهتمام التبابعة بمكة. أما نحن، فلم يصل إلى علمنا شيء من هذا الذي يرويه الأخباريون، مدوّناً بالمسند، كما أننا لا نعلم أن أصنام أهل اليمن كانت في مكة حتى يتعبد لها التبابعة.ولسنا الآن في وضع نتمكن فيه من إثبات هذا القصص الذي يرويه الأخباريون، والذي قد يكون أُوجد، ليوحي أن ملوك اليمن كانوا يقدسون الكعبة، وأن الكعبة هي كعبة جميع العرب قبل الإسلام.

ولا نملك اليوم أثراً جاهلياً استنبط منه علماء الآثار شيئاً عن تأريخ مكة قبل الإسلام، ولذلك فكل ما ذكروه عنها هو من أخبار أهل الأخبار، وأخبارهم عنها متناقضة متضاربة، لعبت العواطف دوراً بارزاً في ظهورها. ولا يمكن لأحد أن يكتب في هذا اليوم شيئاً موثوقاً معقولاّ ومقبولاً عن تأريخ هذه المدينة المقدسة، في أيام الجاهلية القديمة، لأنه لا يملك نصوصاً أثرية تعينه في التحدث عن ماضيها القديم. وأملنا الوحيد هو في المستقبل، فلعل، المستقبل يكون خيراً من الحاضر والماضي، فيجود على الباحثين بآثار تمكنهم من تدوين تأريخ تلك المدينة، تدوينا علمياً يفرح نفوس الملايين من الناس الذين يحجون إليها من مختلف أنحاء العالم، ولكنهم لا يعرفون عن تأريخها القديم، غير هذا المدوّن عنها في كتب أهل الأخبار.

وإذا كنا في جهل من أمر تأريخ مكة قبل أيام "قصيّ" وقبل تمركز قريش في مكة، فإن جهلنا هذا لا يجوّز لنا القول بأن تأريخها لم يبدأ إلا بظهور قريش فيها وبتزعم قصيّ لها. وان ما يروى من تأريخها عن قبل هذه المدة هو قصص لا يعبأ به. لأن ما يورده أهل الأخبار من روايات تفيد عثور أهل مكة قبل أيام الرسول على قبور قديمة وعلى حليّ وكنوز مطمورة وكتابات غريبة عليهم، يدل كل ذلك على إن المدينة كانت مأهولة قبل أيام قصي بزمن طويل، وان مكة كانت موجودة قبل هذا التأريخ. وان تأريخها لذلك لم يبدأ بابتداء ظهور أمر قصيّ ونزول قريش مكة في عهده.

وتأريخ مكة حتى في أيام قصيّ وما بعدها إلى ظهور الإسلام لا يخلو مع ذلك من غموض ومن لبس وتناقض. شأنه في ذلك شأن أي تأريخ اعتمد على الروايات الشفوية، واستمد مادته من أقوال الناس ومن ذكرياتهم عن الماضي البعيد. لذلك تجد الرواة يناقضون أنفسهم تناقضاً بيناً في أمر واحد، ما كان في الإمكان الاختلاف فيه لو كانوا قد أخذوه من منبع قديم مكتوب. وسنرى في مواضع من هذا الكتاب وفي الأجزاء التي قد تتلوه عن تأريخ العرب في الإسلام نماذج وأمثلة تشير إلى تباين روايات أهل الأخبار في أخبارهم عن مكة في تلك الأيام.

قريش

و "قصيّ" من "قريش". و "قريش" كلها من نسل رجل اسمه "فهر بن مالك بن النضرين كنانة بن خزيمة بن مدركة بن مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان". فهي من القبائل العدنانية. أي من مجموعة العرب المستعربة في اصطلاح علماء النسب. ومن "فهر" فما بعده عرف اسم "قريش" في رأي أهل الأخبار.

أما ما قبل "فهر" من آباء فلم يعرفوا بقريش. فقريش إذن هم "فهر" وأبناؤه، من سكان مكة أو من سكان ظواهرها، أي كل من انحدر من صلبه من أبناء. وما كان فوق "فهر" فليس يقال له "قرشي"، وإنما يقال له كناني.

ومعارفنا عن "قريش" لا بأس بها بالنسبة إلى معارفنا عن خزاعة وعن من تقدم عليها من قبائل ذكر أهل الأخبار أنها سكنت هذه المدينة. وتبدأ هذه المعرفة بها، ابتداء من "قُصَيّ" زعيم قريش ومجمعها، والذي أخذ أمر مكة فوضعه في يديه، ثم في أيدي أولاده من بعده، فصارت "قريش" بذلك صاحبة مكة.

وقد اشتهرت قريش بالتجارة، وبها عرفت وذاع صيتها بين القبائل. وتمكن رجالها بفضل ذكائهم وحذقهم بأسلوب العامل من الاتصال بالدول الكبرى في ذلك العهد: الفرس والروم والحبشة، وبحكومة الحيرة والغساسنة، وبسادات القباثل، ومن تكوين علاقات طيبة معها، مع تنافر هذه الدول وتباغضها. كما يمكنوا من عقد أحلاف مع سادات القبائل، ضمنت لهم السير طوال أيام السنة بهدوء وطمأنينة في كل أنحاء جزيرة العرب. والطمأنينة، أهم أمنية من أماني التاجر. وبذلك أمنوا على تجارتهم، ونشروا تجارتهم في كل أنحاء جزيرة العرب. حتى عرفوا ب "قريش التجار". جاء على لسان كاهنة من كهان اليمن قولها: "لله دَر الديار، لقريش التجار".

وليس لنا علم بتأريخ بدء اشتغال قريش بالتجارة واشتهارها بها. وروايات أهل الأخبار، متضاربة في ذلك، فبينما هي ترجع ظهور "قريش" بمكة إلى أيام قصي، ومعنى ذلك أن تجارة قريش إنما بدأت منذ ذلك الحين، نراها ترجع تجارتها إلى أيام النبي "هود"، وتزعم أنه لما كان زمن "عمرو ذي الأذعار الحميري"، كشفت الريح عن قبر هذا النبي، فوجدوا صخرة على قبره كتب عليها بالمسند: "لمن ملك ذمار? لحمير الأخيار. لمن ملك ذمار? للحبشة الأشرار. لمن ملك ذمار? لفارس الأحرار. لمن ملك ذمار? لقريش التجار". والرواية أسطورة موضوعة، ولكنها تشر إلى أن اشتغال قريش بالتجارة يرجع إلى عهد قديم، عجز أصحاب هذه الرواية عن أدراك وقته، فوضعوه في أيام هود.

ثم نرى روايات أخرى ترجع بدء اشتهار قريش التجارة إلى أيام "هاشم"، وهي تزعم إن تجارة قريش كانت منحصرة في مكة، يتاجر أهلها بعضهم مع بعض، فتقدم العجم عليهم بالسلع، فيشترونها منهم ثم يتبايعونها بينهم، ويبيعونها لمن حولهم من العرب، وكانوا كذلك حتى ركب "هاشم بن عبد مناف" فنزل بقيصر، وتعاقد معه على إن يسمح له ولتجار قريش بالاتجار مع بلاد الشام، فوافق كل ذلك، وأعطاه كتاباً بذلك. فلما عاد، جعل كلما مرّ بحيّ من العرب بطريق الشام، اخذ من أشرافهم إيلاشاً، اي عقد أمان، فضمن بذلك لقومه حرية الاتجار بأمن وسلام. واشتهرت قريش بالتجارة منذ ذلك العهد.

وقد علّمت الأسفار سادة قريش أموراً كثيرة من أمور الحضارة والثقافة. فقد أرتهم بلاداً غريبة ذات تقدم وحضارة، وجعلتهم يحتكون بعرب العراق وبعرب بلاد الشام، فتعلموا من "الحيرة" أصول كتابتهم، وهذّبوا لسانهم، ودوّنوا به أمورهم. وذكر انهم كانوا من افصح العرب لساناً، وقد شهد العرب لهم بفصاحة اللسان، حتى إن الشعراء كانوا يعرضون عليهم شعرهم، وذكر إن الشاعر "علقمة الفحل" عرض عليهم شعره، فوصفوه ب "سمط الدهر".

وقد علّمت الطبيعة أهل مكة انهم لا يتمكنون من كسب المال ومن تأمين رزقهم في هذا الوادي الجاف، إلا إذا عاشوا هادئين مسالمين، يدفعون الإساءة بالحسنة، والشر بالصبر والحلم، والكلام السيء البذيء بالكلام الحسن المقنع المخجل. فتغلب حلمهم على جهل الجاهلية، وجاءت نجدتهم في نصرة الغريب والذب عن المظلوم والدفاع عن حق المستجير بهم، بأحسن النتائج لهم، فصار التاجر والبائع والمشتري يفد على سوق مكة، يبيع ويشتري بكل حرية، لأنه في بلد آمن، أخذ سادته على أنفسهم عهداً بالا يتعدى أحد منهم على غريب، لأن الإضرار به، يبعد الغرباء عنهم، وإذا ابتعد الغرباء عن مكة، خسروا جميعاً مورداً من موارد رزقهم: يعيش عليه كل واحد منهم بلا استثناء. لذلك كان الغريب إذاُ ظلِمْ، نادى يا آل قريش، أو يا آل مكة أو يا آل فلان. ثم يذكر ظلامته، فيقوم سادة مكة أو من نودي باسمه بأخذ حقه من الظالم له.

وقد اصطلحت قريش على أن تأخذ ممن ينزل عليها في الجاهلية حقاً. دعته: "حقّ قريش" وفي جملة ما كانوا يأخذونه من الغريب القادم اليهم عن هذا الحق بعض ثيابه أو بعض بدنته التي ينحر. ويأتي أهل الأخبار بمثل على ذلك، هو مثل: "ظويلم ويلقب مانع الحريم، وإنما سُمتي بذلك لأنه خرج في الجاهلية يريد الحج، فنزل على المغيرة بن عبد اللّه المخزومي، فأراد المغيرة إن يأخذ منه ما كانت قريش تأخذ ممن نزل عليها في الجاهلية، وذلك سُميّ: الحريم. وكانوا يأخذون بعض ثيابه أو بعض بدنته التي ينحر، فامتنع عليه ظويلم". وظويلم منع عمرو بن صرمة الإتاوة التي كان يأخذها من غطفان.

وقد جعلت طبيعة هذا الوادي أهل مكة يميلون إلى السلم، ولا يركنون إلى، الحرب والغزو إلا دفاعاً عن نفس. وهو شيء منطقي محترم، فأهل مكة في وادٍ ضيق بين جبلين متقابلين، وفي استطاعة الأعداء إنزال ضربات موجعة بهم منً المرتفعات المسيطرة عليه، وبسد منفذيه، يحصر أهله فتنقطع عنهم كل وسائل المعيشة من ماء وطعام. لذلك لم يجدوا أمامهم من سيبل سوى التجمل بالحلم والصبر واتباع خطة الدفاع عن النفس، بالاعتماد على أنفسهم وعلى غيرهم من أحلافهم كالأحابيش حلفائهم وقريش الظواهر. وقد أدت هذه الخطة إلى اتهام قريش إنها لا تحسن القتال، وانها إن حاربت خسرت، وانها كانت تخسر في الحروب - فخسرت ثلاثة حروب من حروب الفجار الأربعة، إلى غير ذلك من تهم. ولكن ذلك لا يعني إن في طبع رجال قريش جبناً، وان من سجية قريش الخوف. وإنما هو حاصل طبيعة مكان، واملاء ضرورات الحياة، لتأمين الرزق. ولو إن أهل مكة عاشوا فيَ موضع آخر، لما صاروا أقل شجاعة وأقل اقبالاً في الاندفاع نحو الحرب والغزو من القبائل الأخرى.

وقد تمكنت مكة في نهاية القرن السادس وبفضل نشاط قريش المذكور من القيام بأعمال هامة، صيّرتها من أهم المراكز المرموقة في العربية الغربية في التجارة وفي اقراض المال للمحتاج إليه. كما تمكنت من تنظيم أمورها الداخلية ومن تحسين شؤون المدينة، واتخاذ بيوت مناسبة لائقة لان تكون بيوت أغنياء زاروا العالم الخارجي ورأوا ما في بيوت أغنياثه من ترف وبذخ وخدم واسراف.

وقد ذكو "الثعالبي" إن قريشاً صاروا "أدهى العرب، وأعقل البرية، وأحسن الناس بياناً" لاختلاطهم بغيرهم ولاتصالهم بكثير من القبائل فأخذوا عن كل قوم شيئاً، ثم انهم كانوا تجاراً "والتجار هم أصحاب التربيح والتكسب والتدنيق والتدقيق"، وكانوا متشددين في دينهم حمساً، "فتركوا الغزو كراهة السبي واستحلال الأموال" إلى في ذلك من أمور جلبت لهم الشهرة والمكانة. وقد أشيد ايضاً بصحة اجسامهم وبجمالهم حتى ضرب المثل بجمالهم فقبل: "جمل قريش".

وقصيّ رئيسى قريش، هو الذي ثبت الملك في عقبه، ونظم شؤون المدينة، وقسم الوظائف والواجبات على أولاده حين شعر بدنو أجله. فلما أشرق الإسلام، كانت أمور مكة في يد قريش، ولها وحدها الهيمنة على هذه المدينة، حتى عرف سكانها ب "آل قصي"، فكان أحدهم اذا استغاث أو استنجد باحد، صاح: "يا لقَصي،"، كناية عن انهم "آل قصيّ". جامع قريش.

وهو أول رئيس من رؤساء مكة. يمكن إن نقول إن حديثنا عنه، هو حديث عن شخص عاش حقاً وعمل عملاّ في هذه المدينة التي صارت قبلة الملايين من البشر فيما بعد. فهو إذن من الممهدين العاملين المكونين لهذه القبلة، وهو أول رجل نتكلم عن بعض أعماله ونحن واثقون مما نكتبه عنه ونقوله. وهو أول شخص نقض البيوت المتنقلة التي لم تكن تقي أصحابها شيئاً من برد ولا حرّ، والتي كانت على أطراف الوادي وبين أشجار الحرم، وكأنها تريد حراسة البيت، وحوّلها من خيام مهلهلة إلى بيوت مستقرة ثابتة ذات أعمدة من خشب شجرة الحرم، وذات سقوف.

ولم نعثر حتى الآن على اسم قريش أهل مكة في نص جاهلي. كذلك لم نعثر عليه أو على اسم مقارب له في كتب اليونان أو اللاتين أو قدماء السريان ممن عاشوا- قبل الإسلام. فليس في امكاننا ذكر زمن جاهلي نقول أننا عثرنا فيه على اسم قريش، وانها كانت معروفة يومئذ فيه.

وقد وردت لفظة "قريش" اسماً لرجل عرف ب "حَبْسل قريش". وذلك في نص حضرميّ من أيام الملك "العز" ملك حضرموت.

هذا، وان لأهل الأخبار كلاماً في سبب تسمية قريش بقريش، "فقيل: ُسمّيت بقريش بن بدر بن يخلد بن الحارث بن يخلد بن النضر بن كنانة، لأن عير بتي النضر كانت اذا قدمت، قالت العرب: قد جاءت عير قريش، قالوا: وكان قريش هذا دليل النضر في أسفارهم، وصاحب ميرتهم، وكان له ابن يسمى بدراً، احتفر بدراً، قالوا فيه سميت البئر التي تدعى بدراً، بدراً. وقال ابن الكلبي: إنما قريش جماع نسب، ليس بأب ولا بأم ولا حاضن ولا حاضنة، وقال آخرون: إنما سُمي بنو النضر من كنانة قريشاً، لأن النضر بن كنانة خرج يوماً على نادي قومه، فقال بعضهم لبعض: انظروا إلى النضر، كأنه جمل قريش.

وقيل: إنما سميت بدابّة تكون في البحر تأكل دواب البحر، تدعى القرش، فشبه بنو النضر بن كنانة بها، لأنها أعظم دواب البحر قوة.

وقيل: إن النضر بن كنانة كان يقرش عن حاجة الناس، فيسدها بماله، والتقريش-فيم زعموا-التفتيش وكان بنوه يقرشون أهل الموسم عن الحاجة فيسدّونها بما يبلغهم. "وقيل إن النضر بن كنانة كان اسمه قريشا. وقيل: بل لم تزل بنو النضر بن كنانة يدعون بني النضر حتى جمعهم قصماّ بن كلاب، فقيل لهم: قريش، من أجل إن التجمع هو التقرش، فقالت العرب: تقرش بنو النضر، أي قد تجمعوا. وقيل: إنما قيل قريش من أجل إنها تقرشت عن الغارات".

وذكر إن قريشاً كانت تدعى "النضر بن كنانة"، وكانوا متفرقين في "بني كنانة"، فجمعهم "قصيّ بن كلاب"، فسموا قريشاً، التقرش التجمع. وسُمتى قصي مجمِّعاً. فال حذافة بن غانم بن عامر القرشي ثم العدوي: قُصيٌ أبوكم كان يدعى مجمعاً  به جمع الله القبائل من فهر

وذكر إن قريشاً إنما قيل لهم "قريش" لتجمّعهم في الحرم من حوالي الكعبة بعد تفرقهم في البلاد حين غلب عليها "قصي بن كلاب". يقال تقرش القوم إذا اجتمعوا. قالوا وبه سميّ قصي مجمعاً. أو لأنهم كانوا يتقرشون البياعات فيشترونها، أو لأن النضر بن كنانة اجتمع في ثوبه يوماً، فقالوا تقرش، فغلب عليه اللقب، أو لأنه جاء إلى قومه يوماً، فقالوا كأنه جمل قريش أي شديد، فلقُب به، أو لأن قصياً كان يقال له القرشي، وهو الذي سمّاهم بهذا الاسم، أو لأنهم كانوا يفتشون الحاج فيسدّون خلتها، فمن كان محتاجاً أغنوه ومن كان عارياً كسوه ومن كان معدماً كسوه ومن كان طريداً آووه، أو سمّوا بقريش بن مخلد بن غالب بن فهر، وكان صاحب عيرهم، فكانوا يقولون: قدمت عير قريش وخرجت عير قريش، فلقبوه به. أو نسبة إلى "قريش بن الحرث بن يخلد بن النضر"، والد "بدر"، وكان دليلا لبني "فهر بن مالك" في الجاهلية، فكانت عيرهم إذا وردت "بدراً"، يقال: قد جاءت عير قريش، يضيفونها إلى الرجل حتى مات. أو لأنهم كانوا أهل تجارة ولم يكونوا أصحاب ضرع وزرع. أو إلى قريش بن بدر بن يخلد بن النضر. وكان دليل بني كنانة في تجارتهم، فكان يقال: قدمت عير قريش. فسميت قريش بذلك. وأبوه بدر بن يخلد، صاحب بدر، الموضع المعروف.

ونعتت قريش ب "آل الله" و "جيران الله" و "سكان حرم الله". وب "أهل الله".

إلى غير ذلك من آراء حصرها بعضهم في عشرين قولاً في تفسير معنى لفظة "قريش" ومن أين جاء أصلها. تجدها في بطون الكتب التي أشرت إليها في الحواشي. وفي موارد أخرن. وهي كلها تدل على إن أهل الأخبار كانوا حيارى في أمر هذه التسمية، ولما كان من شأنهم ايجاد أصل وفصل ونسب وسبب لكل اسم وتسمية، كما فعلوا مع التسميات القديمة، ومنها تسميات قديمة تعود إلى ما قبل الميلاد، أوجدوا على طريقتهم تلك التعليلات والتفسيرات لمعنى "قريش". وقد تجد هذه التعليلات تروى وتنسب إلى شخص واحد كابن الكلبي مثلاً، وهو ينسب روايتها عادة إلى رواة تقسموا عليه أو عاصروه، وقد لا يرجعها إلى أحد، وربما كانت من وضعه وصنعته أو من اجتهاده الخاص في ايجاد علل للمسميات.

فهذا هو مجمل آراء أهل الأخبار في معنى اسم قريش.

أما رأيهم في أول زمن ظهرت فيه التسمية، فقد اختلف في ذلك وتباين أيضاً. فذكر قوم "إن عبد الملك بن مروان سأل محمد بن جبير: متى سميت قريش قريشاً? قال: حين اجتمعت إلى الحرم من تفرقها، فذلك التجمع التقرش. فقال عبد الملك: ما سمعت هذا، ولكن سمعت إن قصياً كان يقال له القرشي، ولم تسمّ قريش قبله". وورد: "لما نزل قصيّ الحرم وغلب عليه، فعل أفعالاً جميلة، فقيل له: القرشي، فهو أول من سُميّ به". ورود أيضاً إن "النضر بن كنانة كان يسمى القرشيّ".

وقد نسب إلى عليّ وابن عباس قولهما إن قريشاً حي من النبط من أهل كوثىْ. وإذا صح إن هذا القول هو مهما حقاً، فإن ذلك يدل على انهما قصدا بالنبط "نبايوت": وهو "ابن اسماعيل" في التوراة. واما "كوثى" فقصدا بذلك موطن ابراهيم، وهو من أهل العراق على رواية التواراة أيضاً. ولعلهما أخذا هذا الرأي من أهل الكتاب في يثرب.

ويذكر أن جذْم قريش كلها "فهر بن مالك" فما دونه قريش وما فوقه عرب، مثل كناَنة وأسد وغرهما من قبائل مضر. وأما قبائل قريش، فانما تنتهي إلى فهر بن مالك لا تجاوزه. ومن جاوز "فهراً"، فليس من قريش. ومعنى هذا إن جذم قريش من أيام "فهر بن مالك" فما فوقه، كانت متبدية تعيش عيشة أعرابية، فلما كانت أيام "فهر" أخذت تميل إلى الاستقرار والاستيطان، ولما استقرت وأقامت في مواضعها عرفت ب "قريش".

وذكر إن قريشاً قبيلة، وأبوهم النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر، فكل من كان من ولد "النضر"، فهو "قرشي" دون ولد كنانة ومن فوقه. وورد كل من لم يلده "فهر" فليس بقرشي. وهو المرجوع إليه.

وقد صيرت رابطة النسب هذه قريشاً قبيلة تامة تقيم مجتمعة في أرض محدودة، وبصورة مستقرة في بيوت ثابتة فيها بيوت من حجر، بين أفرادها وأسرها وبطونها عصبية، وبينهم تعاون وتضامن. كما جعلت أهل مكة في تعاون وثيق فيما بينهم في التجارة، حتى كادوا يكونون وكأنهم شركاء مساهمون في شركة تجارية عامة. يساهم فيها كل من يجد عنده شيئاً من مال، وإن حصل عليه عن طريق الاقتراض والربا، ليكون له نصيب من الأرباح التي تأتي بها شركات مكة.

ويقسم أهل الأخبار قريشاً إلى: قريش البطاح، وقريش الظواهر. ويذكرون إن قريش البطاح بيوت، منهم: بنو عبد مناف، وبنو عبد الدار، وبنو عبد العزى، وبنو عبد بن قصيّ بن كلاب، وبنو زهرة بن كلاب، وبنو تيم بن مرة، وبنو مخزوم بن يقظة بن مرة، وبنو سهم، وبنو جمح ابنا عمرو ابن هصيص بن كعب، وبنو عدي بن كعب، وبنو حسل بن عامر بن لؤي، وبنو هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر، وبنو هلال بن مالك بن ضبة بن الحارث بن فهر. وبنو عتيك بن عامر بن لؤي.و "قصي" هو الذي أدخل البطون المذكورة الأبطح، فسُموّا البطاح. ودخل "بنو حسل ابن عامر" مكة بعد، فصاروا مع قريش البطاح، فاًما من دخل في العر من قريش فليسوا من هؤلاء ولا من هؤلاء.

ويذكر أهل الأخبار إن "قريش البطاح"، الذين ينزلون أباطح مكة وبطحاءها.أو هم الذين ينزلون الشعب بين أخشبي مكة. وأخشبا مكة جبلاها: أبو قبيس والذي يقابله. ويقال لهم قريش الأباطح وقريش البطاح، لأنهم صبابة قريش وصميمها الذين اختطوا بطحاء مكة ونزلوها. وهم أشرف وأكرم من قريش الظواهر. ذكروا إن سادة قريش نزول ببطن مكة، ومن كان دونهم، فهم نزول بظواهر جبالها، أي قريش الظواهر.

اما قريش الظواهر: فهم: بنو معيص بن عامر بن لؤي، وتيم الأدرم بن غالب بن فهر، والحارث ابنا فهر، إلا بني هلال بن أهيب بن ضبة، وبني هلال بن مالك بن ضبة. وعامة بني عامر بن لؤي، وغيره. عرفوا جميعاً بقريش الظواهر، لأنهم لم يهبطوا مع قصيّ الأبطح. الا إن رهط "أبي عبيدة ابن الجراح"، وهم من "بني الحارث بن فهر"، نزلوا الأبطح فهم مع المطيبّين أهل البطاح. وورد إن "بني الأدرم من أعراب قريش ليس بمكة منهم أحد".

ويبدو من وصف أهل الأخبار لقريش البطاح، أنهم إنما سُموا بالبطاح لأنهم دخلوا مع قصي البطاح، فأقاموا هناك. فهم مستقرون خضر، وقد أقاموا في ييوت مهما كانت فإنها مستقرة، وقد انصرفوا إلى التجارة وخدمة البيت. فصاروا أصحاب مال وغنى، وملكوا الأملاك في خارج مكة، ولا سيما الطائف، كما ملكوا الإبل، وقد تركوا رعيها للاعراب. وعرفوا أيضا بقريش الضبّ للزومهم الحرم.

واما قريش الظواهر، فهم الساكنون خارج مكة في أطرافها، وكانوا على ما يبدو من وصف أهل الأخبار لهم أعراباً، أي انهم لم يبلغوا مبلغ قريش البطاح في الاستقرار وفي اتخاذ بيوت من مدر. وكانوا يفخرون على قريش، مكة بأنهم أصحاب قتال، وانهم يقاتلون عنهم وعن البيت. ولكنهم كانوا دون "قريش البطاح" في التحضر وفي الغنى والسيادة والجاه، لأنهم أعراب فقراء، لم يكن لهم عمل يعتاشون منه غير الرعي. وكانوا دونهم في مستوى المعيشة بكثير وفي الوجاهة بين القبائل. ومع اشتراكهم وقريش البطاح في النسب، ودفاعهم عنهم أيام الشدة والخطر، إلا انهم كانوا يحقدون على ذوي أرحامهم على ما أوتوا من غنى ومال وما نالوه من منزلة، ويحسدونهم على ما حصلوا عليه من مكانة دون إن يعملوا على رفع مستواهم،. وترقية حألهم، والاقتداء بذوي رحمهم أهل الوادي في اتخاذ الوسائل التي ضمنت لهم التفوق عليهم وفي جلب الغنى والمال لهم. كان شأنهم في ذلك شأن الحساد الذين يعيشون على حسدهم، ولا يبحثون عن وسائل ترفعهم إلى مصافّ من يحسدونه. ولعل نظرتهم الجاهلة إلى أنفسهم من انهم أعلى وأحل شأناً ممن يحسدونهم، وإن كانوا دونهم في نظر الناس في المنزلة والمكانة، حالت دون تحسين حاسم والتفوق على المحسود بالجد والعمل، لا بالاكتفاء بالحسد وبالتشدق بالقول والمباهاة.

ويذكر أهل الأخبار إن قسماً ثالثاً من قريش، لم ينزل - بمكة ولا بأطرافها، وانما هبط أماكن أخرى، فاستقر بها، وتحالف مع القبائل التي نزل بينها. من هؤلاء: سامة بن لؤي، وقع إلى عمان، فولده هناك حلفاء أزد عمان. والحارث ابن لؤي وقع إلى عمان، فولده هناك حلفاء أزد عمان. والحارث بن لؤي، وقع إلى اليمامة، فهم في بني هزان من عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار. والحارث، هو جُشَمْ. وخزيمة بن لؤي، وقعوا بالجزيرة إلى بني الحارث بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان وسعد بن لؤي، وبنو عوف بن لؤي، وقعوا إلى غطفان ولحقوا بهم، ويقال لبني سعد بن لؤي بنانة، وبنانة أمهم، فأهل البادية منهم. وأهل الحاضرة ينتمون إلى قريش. ويقال لبني خريمة بن لؤي: عائذة قريش. وكان عمان بن عفان ألحق هذه القبائل، حين استخلف بقريش.

ويلاحظ إن هذا الصنف من أصناف قريش، هو من نسل "لؤي"، أي: من نسل "لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر".وقد تباعدت مواطنهم عن قريش.

ومن قريش الظواهر: بنو الأدرم من نسل الأدرم، وهو تيم بن غالب، ومن رجالهم: عوف بن دهر بن تيم الشاعر، وهو أحد شعراء قريش. وهلال ابن عبد الله بن عبد مناف، وهو صاحب القينتين اللتين كانتا تغنيان بهجاء النبي، وهو ابن الخطل الذي كان يؤذي التي وارتد فأهدر النبي دمه يوم الفتح، قتله أبو برزة الأسلمي وهو متعلق بأستار الكعبة، أو سعد بن حريث المخزومي على رواية قريش. ومن قريش الظواهر أيضاً: بنو محارب، والحارث بن فهر وبنو هصيص بن عامر بن لؤي.

ولم يكن أهل مكة كلهم من قريش، بل سأكنيهم أيضاً من كان بها قبلهم، مثل خزاعة وبنو كنانة. وقريش وإن كانت من "كنانة"، إلا إنها ميزت نفسها عنا، وفرقت بينها وبين كنانة. ولكنانة أخوة منهم: أسد وأسده، ووالدهم هو "خزيمة" وهو جدّ من أجداد قريش، كما إن "كنانة" هو جد من أجدادهم. وللاخباريين رأي في معنى كنانة.

وقد عرفت قريش بين أهل الحجاز بسخينة. والسخينة طعام رقيق يتخذ من سمن ودقيق. وقيل دقيق وتمر-وهو دون العصيدة في الرقة وفوق الحساء. وانما لقبت قريش بسخينة لاتخاذها اياه، أي لأفهم كانوا يكثرون من أكلها ولذا كانت تعيَّر به.

الأحابيش

ومن أهل مكة جماعة عرفت ب "الأحابيش". ذكر أهل الأخبار انهم حلفاء قريش، وهم: بنو المصطلق، والحياء بن سعد بن عمرو، وبنو الهون ابن خزيمة. اجتمعوا بذنب حبشي-وهو جبل بأسفل مكة-فتحالفوا بالله إنا ليَدٌ على غيرنا ما سجا ليل وأوضح نهار، وما أرسى حبشي مكانه. وقيل: إنما سُمّوا بذلك لاجتماعهم. والتحابش: هو التجمع في كلام العرب. وذكر انهم اجتمعوا عند "حبشي" فحالفوا قريشاً. وقيل: أحياء من القارة انضموا إلى "بني ليث" في الحرب التي نشبت بينهم وبين قريش قبل الإسلام، فقال إبليس لقريش: إني جارٌ لكم من بني ليث فواقعوا دماً، ُسمّوا بذلك لاسودادهم، قال:

ليث ودِيل وكعب والـذي ظـأرت  جمع الأحابيش، لما احمرت الحدقُ

فلما سميت تلك الأحياء "الأحابيش" من فبل تجمعها، صار التحبيش في الكلام كالتجميع.

وورد إن "عبد مناف" و "عمرو بن هلال بن معيط الكناني"، عقدا حلف الأحابيش. والأحابيش، بنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة، وبنو المصطلق من خزاعة، وبنو الهون بن خزيمة بن مدركة، وكانوا مع قريش. وقيل أيضاً إن الأحابيش، هم: بنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة، وعضل، والديش من بني الهون بن خزيمة، والمصطلق، والحيا من خزاعة.

- وقد وصف "اليعقوبي" "حلف الأحابيش" بقوله: "ولما كبر عبد مناف ابن قصي جاءته خزاعة وبنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة، يسألونه الحلف ليعزوا به. فعقد بينهم الحلف الذي يقال له: حلف الأحابيش. وكان ُمدبرّ بني كنانة الذي سأل عبد مناف عقد الخلف عمرو بن هلل "هلال" بن معيص ابن عامر. وكان تحالف الأحابيش على الركن. يقوم رجل من قريش والآخر من الأحابيش فيضعان ايديهما على الركن، فيحلفان بالله القاتل وحرمة هذا البيت والمقام والركن والشهر الحرام على النصر على ا الخلق جميعاً حتى يرث الله الأرض ومن. عليها وعلى التعاقد وعلى التعاون على كل من كادهم من الناس جميعاً، مابل بحرٌ صوفة، وما قام حر أو ثبير، وما طلعت شمس من مشرقها إلى يوم القيامة. فسمي حلف الأحابيش".

، وقدُ ذكر أن "المطلب بن عبد فناف بن قصي"، قاد بني عبد مناف وأحلافها من الأحابيش، وهم من ذكرتُ يوم ذات نكيف، لحرب بني ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة. كما ورد إن "الأحابيش"، الذين ذكرت اسماءهم، كانوا يحضرون مع من يحضر من طوائف العرب مثل قريش وهوازن، وغطفان، وأسلم، و "طوائف من العرب" سوق عكاظ، فيبيعون ويشترون. كما ذكر انهم كانوا مثل قريش يقدسون اسافاً ونائلة.

وورد في بعض اخبار الأخباريين، إن يوم "ذات نكيف."، وقع بين قريش وبني كنانة. فهزمت قريش بني كنانة، وعلى قريش عبد المطلب. وقد بقي "الأحابيش" بمكة، إلى أيام الأمويين. فذكر إن "عبد الله المتكبر"، وكان من اشراف قريش في أيام "معاوية" ومن اغناها مالاً، لما وفد على "معاوية" وكان خليفة إذْ ذاك، كَلَّمه في "قريش" ووجوب الاعتماد عليهم ثم في "الأحابيش"، إذ. قال له عنهم: "وحلفاؤك من الأحابيش" قد عرفت نصرهم ومؤازرتهم، فاخلطهم نفسك وقومك".

وقد بحث "لامانس" في موضوع الأحابيش، فرأى انهم.قوة عسكرية ألفت من العبيد السود المستوردين من افريقية ومن عرب مرتزقة، كونتها مكة للدفاع عنا. وقد بحث مستشرقون آخرون في هذا الموضوع، فمنم من ايده، ومنهم من توسط في رأيه، ومنهم من ايد الرواية العربية المتقدمة التي ذكرتها. وعندي رأي آخر، قد يفسر لنا سبب تسمية "بني الحارث بن عبد مناة" من "كنانة" ومن ايدها من "بني المصطلق" و "بني الهون" بالأحابيش. هو إن من الممكن إن تكون هذه التسمية قد وردت اليهم من اجل خضوعهم لحكم الحبش، وذلك قيل الإسلام بزمن طويل. فقد سبق إن ذكرت في الجزء الثالث من كتابي: "تأريخ العرب قبل الإسلام"، وفي اثناء كلامي على "جغرافيا بطلميوس"، إن الساحل الذي ذكره "بطلميوس" باسم: "Cinaedocolpitae" إنما هو ساحل "تهامة" وهو منازل "كنانة". وقد بقي الحبش به وقتاً طويلاَ. واختلطوا بسكانه. فيجوز إن تكون لفضة "الأحابيش" قد لحقت بعض "كنانة"

من خضوعهم للحبش، حتى صارت اللفظة لقباً لهم، أو علماً لكنانة ومن حالفها. ويجوز إن تكون قد لحقتهم ولحقت الآخرين معهم لتميزهم عن بقية "كنانة" ومن انضم إليهم ممن سكن خارج تهامة. أو لتزوج قسم منهم من نساء حبشيات، حتى ظهرت السمرة على سحنهم. ولهذا وصفوا بالأحابيش فليس من اللازم أذن إن يكون "الأحابيش"، هم كلهم من حبش افريقية، بل كانوا عرباً وقوماً من العبيد والمرتزقة ممن امتلكهم أهل مكة. ومما يؤيد رأيي هذا هو وود "من بني كنانة" مع أهل تهامة في اخبار معارك قريش مع الرسول. ففي معركة "أحد"، نجد "الطبري" يقول: "فاجتمعت قريش لحرب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حين فعل ذلك أبو سفيان وأصحاب العير بأحابيشها ومن اطاعها من قبائل كنانة وأهل تهامة". ونجد مثل ذلك في اخبار معارك أخرى. مما يشير إلى إن الأحابيش، ليسوا عبيد إفريقية حسب، بل هم عرب وحبش ومرتزقة. وأن اولئك الأحابيش هم من ساحل تهامة في الغالب من كنانة، أي ممن أقام بذلك الساحل المستقر به من الحبش واندمج في العرب، فصار من المستعربة الذين نسوا اصولهم وضاعت انسابهم، واتخذوا لهم نسباً عربياً، .وقد كان للأحابيش سادة يديرون امورهم، منهم "ابن الدغنة" وهو "ربيعة بن رفيع بن حياّن بن ثعلبة السلمي" الذي اجار "ابا بكر". وشهد معركة حنين.

ومن سادات الأحابيش "الحليس بن يزيد". ويظهر انه كان يتمتع بمنزلة محترمة بمكة. وقد ذكر "محمد بن حبيب" "الحليس" على هذه الصورة: "الحليس بن يزيد". وذكر انه من "بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة". وكان من رؤساء حرب الفجار من قريش. وذكره. غيره على هذه الصورة: "وحليس بن علقمة الحارثي. سيد الأحابيش ورئسهم يوم أحد. وهو من بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة".

وقد حارب الأحابيش مع قريش يوم أحد، وقد رأسهم "أبو عامر" المعروف ب "الراهب" وقاتل بهم، مع إن رئيسهم وسيدهم اذ ذاك هو "الحليس بن زبان" أخو "بني الحارث بن عبد مناة". وهو يومئذ "سيد الأحابيش". وقد مرّب "أبي سفيان"، وهو يضرب في شدق "حمزة" بزج الرمح، فلامه،على فعله وأنبه. ولعلَّ هذا الحليس هو الحليس المتقدم، كتب اسم والده بصور. مختلفة بحذف اسم والده وإضافة جده أو غيره إليه، فصار وكأنه انسان آخر.

وقد ورد ذكر "الحليس" في خبر "الحديبية". فقد ذكر الطبري إن قريشاً اوفدت "الحليس بن علقمة" أو "ابن زبان"، وكان يومئذ سيد الأحابيش، وهو أحد "بلحارث بن عبد مناة بن كنانة"، إلى رسول الله، فلما رآه الرسول، قال: إن هذا من قوم يتألهون، فلما رأى الحليس هدْيَ المسلمين في قلائده، وأحس إن الرسول إنما جاء معتمراً لا يريد سوءاً لقريش، قصّ عليهم ما رأى، فقالوا له: اجلسى، فإنما أنت رجل أعرابي لا علم لك. فغضب "الحليس" عند ذلك، وقال. يا معشر قريشى، والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم، إن تصدّوا عن بيت الله من جاءه معظماً له، والذي نفس الحليس بيده لتخلُّن بين محمد وبن ما جاء له أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد! فقالوا له: مه، كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نوصي به.

وقد ساهم "الأحابيش" في الدفاع عن مكة عام الفتح. وكانوا قد تجمعوا مع "بني بكر" و "بني الحارث بن عبد مناة" ومن كان من الأحابيش، اسفل مكة، كما أمرتهم قريش بذلك. فأمر رسول الله خالد بن الوليد إن يسير عليهم، فقاتلهم حتى هزموا. ولم يكن بمكة قتال غير ذلك.، ولم يذكر "الطبري" اسم سيد الأحابيش في هذا اليوم.

ويتبين من دراسة اخبار أهل الأخبار عن الأحابيش، ومن نقدها وغربلتها،

إن الأحابيش، كانوا جماعة قائمة بذاتها، مستقلة في ادارة شؤونها، يدير امورها رؤساء منهم، بعرف أحدهم ب "سيد الأحابيش". وقد ذكرت أسماء بعض منهم قبل قليل. وقد عاشوا عيشة اعرابية، خارج مكة على ما يظهر من الروايات. وذلك بدليل قول قريش للحليس: "اجلس، فإنما أنت رجل اعرابي، لا علم لك" أي انهم كانوا اعراباً ويعيشون عيشة اعرابية. ويظهر من هذه الأخبار أيضاً إن "الحليس" "سيد الأحابيش"، كان من "بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة"، وأن "ابن الدغنة"، كان من "بني سليم". ولم ينص أهل الأخبار فيما اذا كانا عربيين صريحين ام انهما كانا من "بني الحارث" ومن "بني سليم" بالولاء، فنسبهما إلى القبيلتين، هو نسب ولاء. ويظهر من خبر "الحديبية"، ومن قول النبي لما رأى "الحليس". قادماً إليه: "إن هذا من قوم يتألهون"، إن الأحابيش لم يكونوا على دين مكة أي من عباد الاصنام بل كانوا مؤلهة، يدينون بوجود إلَه. وقد يشير الرسول بذلك إلى انهم كانوا نصارى، اخذوا نصرانيتهم من الحبش. ولذلك كانوا من المؤلهة بالنسبة لقريش. وأنا لا استبعد أيضاً إن تكون تلك التسمية قد غلبت على هؤلاء لأنهم كانوا من الساحل الافريقي المقاتل لجزيرة العرب. جاؤوا إليها بالفتوح وبالنخاسة، وأقاموا في تهامة إلى مكة، وعاشوا عيشة اعرابية متبدية، وتحالفوا مع القبائل العربية المذكورة، وتخلقوا بأخلاق عربية حتى صاروا اعراباً في كل شيء. وقد لازمتهم التسمية التي تشير إلى اصلهم، وانما تحالفوا مع "بني الحارث" وبقية المذكورين، عرف حلفهم ب "حلف الأحابيش"، ثم عرف المتحالفون ب "الأحابيش". وقد نسي الأصل وهو الأحابيش، أي اسم الحبش الذين تحالفوا مع "بني الحارث" و "عضل" و "الديش" و "المصطلق" و "الحيا". لسبب لا نعرفه، قد يكون بسبب كونهم عبيداً سوداً، وأطلق الحلف على المذكورين. غير إن روايات أهل الأخبار تشير إلى كثير من الأحابيش في مثل قولها: "وخرجت قريش بأحابيشها" إلى إن الأحابيش المذكوريين كانوا في حكم قريش، أي جماعة من الحبش من أهل افريقية، كانت كما ذكرت. تكوّن وحدة قائمة بذاتها، ولكنها تدين بولائها لقريش، ولها حلف مع بعض كنانة ومع قبائل اخرى. ولما كان عام الفتح امرتها قريش بالتعاون مع "بني بكر" و "بني الحارث نن عبد مناة"، للدفاع عن مكة من جهة الجنوب. فامتثلت لأمر قريش، وأخذت مواضعها هنالك، حتى زلزلها "خالد بن الوليد".

وقد منح "لامانس" الأحابيش درجة مهمة في الدفاع عن قريش. حتى زعم إن قريشاً ركنت اليهم في دفاعهم عن مكة، وعهدت اليهم دوراً خطيرا ًفي حروبها مع الرسول. وقد استند فى رأيه هذا إلى ما رواه أهل الأخبار من اشتراكهم مع قريش في تلك لحروب. غيرْ اننا نجد من دراسة أخبار الحروب المذكورة، إن الأحابيش وان ساهموا فيها، الا انهم لم يلعبوا دوراً خطيراً فيها. وانهم لم يكنوا في تلك الحروب سوى فرقة من الفرق التي ساعدت قريشاً، مقابل مال ورزق ووعود. ولم يكن الأحباش وحدهم قد ساعدوا أهل مكة في حروبهم مع غيرهم، فقد ساعدهم أيضاً طوائف من الأعراب، أي من البدو الفقراء الذين كانوا يقاتلون ويؤدون مختلف الخدمات في سبيل الحصول على خبز يعيشون عليه.

وقريش جماعة استقرت وتحضرت، واشتغلت بالتجارة، وحصلت منها على غنائم طيبة. ومن طبع التاجر الابتعاد عن الخصومات والمعارك والحروب. لأن التجارة لا يمكن إن تزدهر وتثمر إلا في محيط هادئ مستقر. لشك، صار من سياستها استرضاء الأعراب وعقد "حبال" مع ساداتهم، لتاًمين جانبهم، ليسمحوا لقوافلها بالمرور بسلام. كما صار من اللازم عليها عقد أحلاف مع المجاورين لهم من الأعراب مثل "قريش الظواهر" و "الأحابيش" وأمثالهم للاستعانة بهم في الدفاع عن مكة والاشتراك معهم في حروبهم التي قد يجبرون على خوضها مع غيرهم. بالإضافة إلى عبيدهم "الحبش" الذين اشتروهم لتمشية أمورهم وليكونوا حرساً وقوة أمن لهم.

ولم تكن قريش تعتمد على القوة في تمشية مصالحها التجارية، بقدر اعتمادها على سياسة الحلم واللين والقول المعسول والكلام المرضي الوصول إلى غايتها وأهدافها ومصالحها التجارية. وبهذه السياسة: سياسة اللين والمفاوضة والمسالمة، كانت تبدأ بحل ما يقع لها من صعوبات مع الناس. ولم يكن من السهل عليها في الواقع إرضاء الأعراب واسكاتهم لولا هذه السياسة الحكيمة التي اختاروها لأنفسهم، وهي سياسة أكثر سكان القرى العامرة الواقعة في البوادي بين أعراب جائعين، سياسة الاسترضاء بالحكمة واللسان الجميل، واداء المال رشوة لهم باًقل مقدار ممكن، لأن الاكثار من السخاء يثير في الأعرابي شهوة طلب المزيد. وشهوته هذه متى ظهرت، فسوف لا تنتهى عند حدّ. وأهل مكة بخبرتهم الطويلة في تجولهم بمختلف أنحاء جزيرة العرب اعرف من غيرهم بنفسية الأعراب.

وكان لأشرافها أحلاف مع سادات القبائل، تحالفوا معهم لتمشية مصالهم ولحماية تجارتهم. فكان "زرارة" التميمي مثلاً حليفاً ل "بني عبد الدار". وكان عامر بن هاشم بن عبد مناف، قد تزوّج "بنت النباش بن زرارة"، وأولد منها "عكرمة بن عامر بن هاشم" الشاعر، و "بغيض بن عامر" الذي كتب الصحيفة على "بني هاشم" في أمر مقاطعة قريش لبتي هاشم.

وقد عيرت قريش بأنها لا تحسن القتال، وانها تجاري وتساير من غلب، وانها لا تخرج إلا بخفارة خفير، وبحلف حليف، وبحبل من هذه الحبال التي عقدتها مع سادات القبائل. فلما سمع "النعمان بن قبيصة بن حيَّة الطائي" ابن عم "قبيصة بن إباس بن حيلّة الطائي" صاحب الحيرة، ب "سعد بن أبي وقاص"، سأل عنه، فقيل: "رجل من قريش، فقال: اما إذا كان قرشياً فليس بشيء، والله لأجاهدنه القتال. إنما قريش عبيد من غلب، والله ما يمنعون خفيراً، ولا يخرجون من بلادهم إلا بخفير". ونجد أمثلة أخرى من هذا القبيل تشير إلى ميل قريش إلى السلم، وعدم قدرتها على القتال.

وذكر الأخباريون انه كان لكنانة جملة أولاد، ذكر ابن الكلبي منهم: النضر، والنضير، ومالكاً وملكان، وعامراً، وعمراً، و الحارث، و عروان "غزوان"، وسعداً، وعوفاً، وغنماً، ومخرمة، وجرولاً. وهم من زوجته "برة بنت مر" أخت "تميم بن مرّ". ولهذا رأى النسابون وجود صلة بين أبناء هؤلاء الأولاد وقبيلة "تميْم". وأما "عبد مناة"، فإنه ابن كنانة من زوجته الأخرى، وهي "الذفراء بنت هانىء بن بلىّ" من قضاعة. ولذلك عدّ أبناؤه من قضاعة.

ويذكر أهل الأخبار إن من أجداد "قصيّ"، رجل كانت له منزلة في قومه اسمه "كعب بن لؤي"، كان يخطب للناس في الحج، وكان رئيساً في "قريش" فلما توفي، أرخت قريش بموته اعظاماً له، إلى إن كان عام الفيل فأرخوا به. وذكر بعض أهل الأخبار إن أسم "كعب" هي من "القين بن جسر" من قضاعة، وان كعباً هذا أول من سمى يوم الجمعة الجمعة، وكانت العنب تسمي يوم الجمعة: العروبة. وأول من قال: "أما بعد"، فكان يقول: "اما بعد، فاستمعوا وافهموا"، وان بين موته والفيل خمسمائة سنة وعشرون سنة.

وفي قول أهل الأخبار عن وقت موت كعب مبالغة شديدة بالطبع، فإن كعباً هو والد "مرّة" و "مرّة بر هو والد "كلاب" و "كلاب" هو والد "قصيّ". فلا يعقل إذن إن يكون بين موت "كعب" وبين الفيل هذا المقدار من السنين.

وهم يذكرون أيضاً إن والد "قصيّ" وهو "كلاب" كان فد تزوج "فاطمة بنت سعد بن سيل"، فأنجبت له "قصياً". وهي من الأزد، من نسل "عامر الجادر". وقد عرف ب "الجادر" لانه بنى جدار الكعبة بعد إن وَهَنَ من سيل أتى في أيام ولاية جرهم البيت، فسمي الجادر. وذكر أيضاً إن الحاج كانوا يتمسحون بالكعبة، ويأخذون من طيبها وحجارتها تبركاً بذلك، وان عامراً هذا كان موكلاً باصلاح ما شعث من جدرها فسُمي الجادر. وذكر إن "سعد بن سيل"، كان أول من حلى السيوف بالفضة والذهب. وكان أهدى إلى "كلاب" مع ابنته "فاطمة" سيفين محليين، فجعلا في خزانية للكعبة. وذكر إن "كلاباً"، هو أول من جعل في الكعبة السيوف المحلاة بالذهب والفضة ذخيرة للكعبة. وجاء أيضاً انه أول من جدر الكعبة.

و "قصيّ" رئيس قريش، هو الذي ثبت الملك في عقبه، ونظم شؤون المدينة، وقسم الوظائف والواجبات على أولاده حنن شعر بدنو أجله. فلما أشرق الإسلام، كانت أمور مكة في يد قريش، ولم تكن لغير قريش نفوذ بذكر على مكة. فهو الذي بعث الحياة إلى قومه من قريش، وجعل لهم مكانة في هذه القرية ونفوذاً وشهرة في الحجاز. وهو الذي أوجد لمكة مكانة، وخلق لها نوعاً من التنظيم والإدارة. ومن عهده فما بعد نجد في أخبار مكة ما يمكن إن يركن ويطمأن إليه من أخبار.

وقد روى "ابن قتيبة" خبراً مفاده إن "قيصر" أعان "قصياً" على "خزاعة". وإذا صح هذا الخبر، فإن مساعدة "قيصر" له قد تكون عن طريق معاونة الغساسنة له، وهم حلفاء الروم. وقد تكون قبيلة "بنو عذرة" وهي من القبائل المتنصرة التي عاشت على مقربة من حدود بلاد الشام، هي التي توسطت فيما بين قصي والروم، وقد كانت خاضعة لنفوذهم، فأعانه أحد الحكام الروم - وقد يكون من ضباط الحدود، أو من حكام المقاطعات الجنوبية مثل "بصرى" - بأن أمده بمساعدة مالية أو بايعاز منه إلى الأعراب المحالفين للروم بمساعدته في التغلب على خزاعة.ولا أهمية كبيرة في هذا الخبر لكلمة "قيصر". فقد جرت عادة أهل الأخبار على الإسراف في استعمالهم لهذه اللفظة. وقد ورثوا هذا الإسراف من الجاهلين، فقد كان من عادتهم تسمية أي موظف بارز من موظفي الحدود الروم، أو من حكام المقاطعات ب "قيصر". وفي روايات أهل الأخيار أمثلة عديدة من هذا القبيل.

ويذكر إن "عثمان بن الحويرث"، وكان من الهجائين في قريش ومن العالمين باًخبار رجالها، قد توسط فيما بعد لدى البيزنطنيين لتنصيب نفسه ملكاً على مكة. وهو من "بني أسد بن عبد العزى". ويظهر انه أدرك المرارة التي أصيب بها البيزنطيون من خروج الحبش عن اليمن ومن دخول الفرس إليها ، وسيطرتهم بذلك على باب المندب، مفتاح البحر الأحمر، فتقرب إلى الروم وتوسل إليهم لمساعدته بكل ما عندهم من وسائل لتنصيب نفسه ملكاً على مكة، علماً منه إن هذا الطلب سيجد قبولاَ لديهم، وان في امكانهم في حالة عدم رغبتهم بمساعدته مساعدة عسكرية أو مالية، الضغط على سادات مكة ضغطاً اقتصعادياً، بعرقلة تجارتهم مع بلاد الشام، أو بمنع الاتجار مع مكة، أو برفع مقدار الضرائب التي تؤخذ عن تجارتهم، وبذلك يوافقون على الاعتراف به ملكاً عليه، على نحو ما كان عليه الملوك الغساسنة. وكما سأتحدث عن هذا الموضوع فيما بعد.

والظاهر إن مشروعه هذا لم يلاق نجاحاً، لأن سادات مكة وفي جملتهم رجال من "بني أسد بن عبد العزى"، مثل "الأسود بن المطلب" و "أبو زمعة"، والاْثرياء من الأسرة الأخرى عارضوه، لأنهم كانوا تجاراً يتاجرون مع الفرس والروم، وانحيازهم إلى الروم، معناه خروج مكة عن سياسة الحياد التي اتبعوها تجاه المعسكرين: الفرس والروم، وسيؤدي هذا الانحياز إلى عرقلة اتجارهم مع الفرس ومع الأرضين الخاضعة لنفوذهم، وتؤدي هذه العرقلة إلى خسارة فادحة تقع بتجارتهم، لا سيما وان الفرس كانوا قد استولوا على اليمن، ولأهل مكة نجارة واسعة معها. ثم إن بين أهل مكة رجال لهم شأن ومكانة في قومهم، وكانوا أرفع منزلة من "عمان بن الحويرث"، لذلك لم يكن من الممكن بالنسبة لهم الانصياع له حتى وإن أرسل الروم جيشاً قوياً منظماً على مكة، لذلك لم يتحقق حلم "عثمان" في الرياسة ولو بمساعدة قوات أجنبية.

وزعم بعض أهل الأخبار إن "الحارث بن ظالم المريّ"، ذكر "آل قصي" في شعره، ودعاهم ب "قرابين الإله"، إذ قال: وإن تعَصِب بهم نسبي فمنهم  قرابين الإله بنو قـصـيّ

وهو في عرف بعض النسابين: "قصي بن كلاب بنُ مرّة بن كعب بن لؤي بن فهِر". و "قصي بن كلاب بنُ مرّة بن كعب بن لؤي بن غالب ابن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضَر بن نزار بن معد بن عدنان"، في شجرة نسبيه التي توصله إلى جدّه الأعلى "عدنان". فأبوه هو كلاب. اما أمه، فهي "فاطمة بنت سعد بن سيل بن حمالة بن عوف بن غنم بن عامر الجادر بن عمرو بن جعثمة ابن يشكر" من أزد شنوءة حلفاء في "بني الدّيل". توفي أبوه وهو صغير، وتزوجت أمه بعد وفاة "كلاب" أبيه من رجل من بني عذرة، هو ربيعة بن حرام. ولصغر سن قصي، أخذته أمه معها إلى أرض زوجها في بني عذرة، على مقربة من تَبُوك، وتركت أخاه الأكبر "زهرة" في أهله بمكة. ولما شب قصي، وترعرع، وعرف من أمه أصله وعشرته، رجع إلى قومه، فنزل بمكة وأقام بها: ونظم أمر قريش.

ولم يكن اسم قصي قصيّاً يومُ سمي، بل كان "يداً"، وإنما ُسمّي قصياً بعد ذلك، سميّ قصياً على ما يذكر أهل الأخبار، لأنه قصيّ عن قومه، فكان في بني عذرة، فسمي قصياً لبعد داره عن دار قومه. وبينا قصي بأرض قضاعة لا ينتمي إِلا إلى ربيعة بن حرام فى زوج أمه، وهو من أشراف قومه، إذ كان بينه وبين رجل من قَضاعة شيء، فأنبه القضاعي بالغربة، فرجع قصى إلى أمه، وقد وجد في نفسه مما قال له القضاعي، فسألها عما قال له ذلك الرجل، فقالت له: أنت، والله، يا بني أكرم منه نفساً وولداً. فأجمع قصي الخروج إلى قومه واللحوق بهم، فقالت له أمه: يا بتي، لا تعجل بالخروج حتى يدخل عليك الشهر الحرام، فترج في حاج العرب، فإنني أخشى عليك إن يصيبك بعض البأس، فأقام قصي حتى إذا دخل الشهر الحرام، خرج حاج قضاعة، فخرج فيهم حتى قسم مكة فلما فرغ من الحج، أقام بها، واتخذها له مستقراً ومقاماً.

وتعرف قصي وهو بمكة على "حليل بن حبشية الخراعي"، وكان يلي الكعبة وأمر مكة، ثم خطب إليه ابنته، وهي "حبى"، فزوجه إياها، وولدت له ولده: عبد الدار، وعبد مناف، وعبد العزّى، وعبد قصي. وكثر ماله، وعظم شرفه، فلما توفي "حليل" رأى قصي انه أولى من خراعة بولاية البيت، وان قريشاً فرعة إسماعيل وإبراهيم، واستنفر رجال قريش، ودعاهم إلى اخراج خزاعة من مكة. وكتب إلى أخيه من أمه، وهو "رزاح بن ربيعة بن حرام العذري" يستنصره، فأجابه ومعه قومه من بني عذوة من قضاعة، ووصلوا مكة ونصروه بم وغلبت قضاعة وبنو النضر خزاعة، وزال ملكهم عن مكة، وصار الأمر إلى قصي وقريش.

وفي رواية أخرى انه اشترى ولاية البيت من "أبي غبَشْان" بزق خمر وبعود. وكان "حليل" كما يقول أصحاب هذه الرواية قد جعل ولاية البيت إلى ابنته "حبى"، فقالت: قد علمت اني لا أقدر على فتح الباب وإغلاقه، قال: فاني أجعل الفتح والاغلاق إلى رجل يقوم لك به، فجعله إلى "أبي غَبشْان"، وهو "سليم بن عمرو بن بويّ بن ملكان بن أفصى"، فاشترى قصي ولاية البيت منه بزق خمر وبعود. فلما سمعت خزاعة ذلك، تجمعت على قصي، فاستنصر أخاه، فقاتل خزاعة وأصيب خراعة بوباء العدسة، حتى كادت تفنيهم. فما رأت ذلك، جلت عن مكة. ويذكرون إن العرب لما سمعت بقصة " أبي غبشان"، قالت: "أخسر صفقة من أبي غبشان"، فذهب القول مثلاً.

وأبو غبشان، هو "المحترش". وقد ورد اسم رجل عرف بالحارث، قيل عنه انه غبشان بن عبد عمرو، وانه كان قد حجب البيت، فلعلّ له علاقة بأبي غبشان المذكور، كأن يكون ابنه.

وفي رواية إن القتال حينما اشتد بين قصي وخزاعة، تداعوا إلى الصلح، على إن يحكم بينهم "عمرو بن عوف بن كعب بن ليث بن بكر بن عبد مناف بن كنانة" "يعمر بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث"، فوافق. فكان حكمه إن قصياً أولى بالبيت ومكة من خزاعة، وان كل دمٍ أصابه من خزاعة موضوع، فيشدخه تحت قدميه، وان كل دمٍ. أصابت خزاعةَ وبنو بكر حلفاؤهم من قريش وبني كنانة، ففي ذلك الدية مؤداةً. وبذلك انتصر قصي على خصومه. ويقولون إن "عمراً" ُسميّ منذ ذلك الحن الشدّاخ، بما شدخ من الدماء.

ولم يشر بعض أهل الأخبار إلى إن شدخ الشدّاخ الدماء بين قريش وخزاعة، كان في عهد قصي، فأغفلوا اسم "قصي"، بل اكتفوا بالاشارة إلى شدخه السماء وإصلاح ما بين قريش وخزاعة، وذكر بعضهم انه حكم في جملة ما حكم به على ألا يخرج خزاعة من مكة. وأكثر الرواة على إن اسمه "يعمر بن عوف، لا "عمرو بن عوف" كما جاء في الرواية المتقدمة".

ولم تشر رواية أخرى ذكرها "ابن دريد" إلى وقوع نزاع بين قصي وبين خزاعة، بل قالت: إن حليلاً سادن الكعبة، كان قد أوصى إليها أمر الكعبة واعطاها مفتاحها، فأعطته زوجها قصياً، فتحولت الحجابة من خزاعة إلى بني قصي.

وترجع بعض الروايات نزاع خزاعة مع قصي إلى عامل آخر غير ولاية البيت، فتذكر إن خزاعة كانت قد سلمت لقصي بحقه في ولاية البيت، وانها زعمت إن "حليلاً" أوصى بذلك قصياً، وبقيت على ولائها له، إلى إن اختلف "قصي" مع "صوفة". وكانت "صوفة" وهي من "جرهم" تتولى أمر الإجازة بالناس من عَرَفَة. فتجيزهم إذا نفروا من "منى" تولت ذلك من عهد جرهم وخزاعة. فلما كان قصي، أتاهم مع قومه من قريش وكنانة وقضاعة عند العقبة، فقالوا: نحن أولى بهذا منكم، فناكروه، فناكرهم، فقاتلوه، فاقتتل الناس قتالاً شديداً، ثم انهزمت صوفة، وغلبهم قصي على ما كان بأيديهم من ذلك، وحال بينهم وبينه، فانحازت عند ذلك خزاعة. وبنو بكر عن قصي بن كلاب، وعرفوا انه سيمنعهم كما منع صوفة، فوقع من ثم ما وقع على نحو ما مرّ.

غير إن الرواة يذكرون في مكان آخر الي قصياً اًقر للعرب في شأن حجّهم ما كانوا عليه، وذلك انه كان يراه ديناً في نفسه، لا ينبغي له تغييره، وكانت صوفة على ما كانت عليه، حتى انقرضت-فصار ذلك من أمرهم إلى "آل صفوان بن الحارث بن شجنة" وراثة. فهذه الرواية تنافي ما ذكرته آنفاً من قولهم بقتال قصي لهم، وغلبته علهم. وبقي أمر "عدوان" والنسأة، ومرة ابن عوف على ما كانوا عليه، حتى جاء الإسلام، فهدم به ذلك كله.

ويذكر الأخباريون إن قصياً بعد إن تمت له الغلبه، جمع قومه من الشعاب والأودية والجبال إلى مكة، فسُميّ لذلكُ مجمّعاً، وانه حكم منذ ذلك الحين فيهم، وملك عليهم. فكان قصي أول ولد كعب بن لؤي أصاب ملكاً، وأطاعه قومه به، وأنه قسم مكة أرباعاً بين قومه، فبنوا المساكن، وان قريشاً هابت قطع شجر الحرم في منازلهم، فقطعها قصي بيده، وأعانوه، وانها تيمنت به، فكانت لا تعقد أمراً، ولا تفعل فعلاً إلا في داره، كما تنكح امرأة ولا رجل من قريش إلا في دار قصي، وما يتشاورون في أمر ينزل بهم إلا في داره، ولا يعقدون لواء لحرب قوم من غيرهم إلا في داره، يعقدما لهم بعض ولده، وما تدّرع جارية إذا بلغت إن تدّرع من قريش إلا في داره، يشق عليها فيها درعها ثم تدرعه، ثم ينطلق بها إلى أهلها، فكان أمره في قومه من قريش في حياته وبعد موته كالدين المتبع، لا يعمل بغيره تيمناً بأمره ومعرفة بفضله وشرفه، واتخذ قصي لنفسه دار الندوة، وجعل بابها إلى مسجد الكعبة، ففيها كانت قريش تقضي أمورها.

ويذكر الأخباريون أيضاً، إن قريشاً كانوا إذا أرادوا إرسال عيرهم، فلا تخرج ولا يرحلون بها إلا من دار الندوة: ولا يقدمون إلا نزلوا فيها تشريفاً له وتيمناً برأيه ومعرفة بفضله، ولا يعذر لهم. غلام إلا في دار الندوة. وكانت إليه الحجابة والسقاية والرفادة واللواء والندوة وحكم مكة. وكان يعشر من دخل مكة سوى أهلها.

وقد وردت في الشعر لفظة "مجمع": أبونا قصي كان يدعي مجمِّعاً  به جمع الله القبائل من فهر

فيظهر من هذا البيت انه جمع قبائل فهر، ووحدها.

ويذكر الرواة إن "بني بكر بن عبد مناة"، صاروا يبغضون قريشاً لما كان من "قصي" حين أخرجهم من مكة مع من أخرج من خزاعة حين قسمها رباعاً وخططاً بين قريش. فلما كانوا على عهد "المطلب"، وهموا باخراج قريش من الحرم وان يقاتلوهم حتى يغلبوهم عليه، وعدت "بنو بكر" على نعم لبني الهون فأطردوها، ثم جمعوا جموعهم وجمعت قريش واستعدت. وعقد المطلب الحلف بين قريش والأحابيش، فلقوا بني بكر ومن انضم اليهم وعلى الناس "المطلب"، فاقتتلوا ب "ذات نكيف"، فانهزم بنو بكر، وقتلوا. قتلا ذريعاً، فلم يعودوا لحرب قريش.

وقتل يومئذ "عبيد بن السفّاح القاري" من القارة: قتادة بن قيس أخا "بلعاء بن قيس". والقارة من ولد "الهون بن خزيمة".

ويظهر من هذه الروايات إن أرض حرم مكة كانت مشجرة، وان تلك الاْشجار كانت مقدسة، وان بعض بيوت مكة كانت ذات أشجار، ويظهر إنها انتزعت من أرض الحرم، ولذلك كانوا يهابون قطعها ولا يتجاسرون على إلحاق سوء بها. فلما جاء قصي، خالف عقيدة القوم فيها، فقطعها. ولما وجد أهل مكة إن قطعها لم يلحق أي سوء بقصي، وانه بقي سالماً معافى، تجاسروا هم وفعلوا فعله في قطع الشجر.

وذكر العلماء: إن "الحرم"، أي حرم مكة، ما أطاف بمكة من جوانبها، وحد ه من طريق المدينة دون "التنعيم" عند بيوت "بني نفار" على ثلاثة أميال، ومن طريق العراق على ثنيّة جبل بالمنقطع على سبعة أميال، ومن طريق الجعِرانة بشِعْب "آل عبد الله بن خالد" على تسعة أميال، ومن طريق الطائف على عرفة من بطن "نمرة" على سبعة أميال، ومن طريق "جدة" منقطع العشائر على عشرة أميال.

والحرم المذكور، هو الأرض الحرام التي كانت مقدسة عند الجاهليين أيضاً، وهي مكة وأطرافها إلى حدودها التي اصطلح عليها. وأما الحرم الذي أحاط بالكعبة فقد عرف ب "المسجد" و "بالمسجد الحرام" و ب "الحرم". ولا نعرف حدوده في الجاهلية على وجه واضح معلوم. وقد كان الجاهليون قد وضعوا أنصاباً على الحدود ليعلم الناس مكان الحرم، ولم يكن له جدار يحيط به. وذكر انه كان في عهد الرسول وأبي بكر فناء حول الكعبة للطائفين، ولم يكن له على عهدهما جدار يحيط به. فلما استخلف "عمر" وكثر الناس، وسعّ المسجد، واشترى دوراً هدمها وزادها فيه، واتخذ للمسجد جداراً قصيراً دون القامة، وكانت المصابيح توضع عليه. فكان عمر أول من اتخذ جداراً للمسجد. ثم وسعّ المسجد "عمان" ومن جاء بعده، ثم صار كل من ولي من الخلفاء والسلاطين يزيد في اتساع الحي، حتى صار على ما هو عليه الآن.

ودار الندوة اذن هي دار مشورة في أمور السلم والحرب، ومجلس المدينة التي عرف رؤساؤها كيف يحصلون على الثروة وكيف يستعيضون عن فقر أرضهم بتجارة تدر عليهم أرباحاً عظيمة وبخدمة يقدمونها إلى عابدي الأصنام، جاءت اليهم بأموال وافرة من الحجيج. في هذه الدار يجتمع الرؤساء وأعيان البلاد للتشاور في الأمور واليت فيها. وفي هذه الدار أيضاً تجري عقود الزواج، وتعقد المعاملات، فهي دار مشورة ودار حكومة في آن واحد، يديرها "الملأ"، وهم مثل اعضاء مجلس شيوخ "اثينا" الذين كانوا يجتمعون في "المجلس" "Ekkiesa" للنظر في الأمور. يمثلون زعماء الأسر، ورؤساء الأحياء، وأصحاب الرأي والمشورة للبت فيما يعرض عليهم من مشكلات.

وقد ذكر بعض أهل الأخبار إن دار الندوة لم يكن يدخلها الاّ ابن أربعين أو ما زاد، فدلها أبو جهل، وهو ابن ثلاثين لجودة رأيه.، ودخلها غيره للسبب نفسه. فيظهر من ذلك إن المراد من دخول الدار، هو حضورها للاسهام في ابداء رأي وتقديم مشورة.

ولما كانت سن الأربعين في نظر العرب هي سن النضج والكمال، اخذوا بمبدأ تحديده باعتباره الحد الأصغر لسن من يسمح له بالاشتراك في الاجتماعات وإبداء الرأي، الا اذا وجدوا في رجل اصغر سناً جودةً في الرأي، وحدة في الذكاء، فيسمح له عندئذ بالاشتراك وبابداء الرأي بصورة خاصة.

وذكر أيضاً، انه لم يكن يدخل دار الندوة احد من قريش لمشورة حتى يبلغ أربعين سنة، إلاّ حكيم بن حزام، فانه دخلها وهو ابن خمس عشرة سنة. وكان ولد في الكعبة، وذلك إن أمه دخلت الكعبة مع نسوة من قريش وهي حامل به، فضربها المخاض في الكعبة، وأعجلها عن الخروج، فوضعت به بها. وجاء الإسلام ودار الندوة بيد حكيم، فباعها بعد من معاوية بمائة ألف درهم.

فدار الندوة اذن، هي دار "ملأ" مكة. وهم سادتها ووجوهها وأشرافها وأولو الأمر فيها. ولم تكن "برلماناً" أو "مجلس شيوخ" على النحو المفهوم من اللفظتين في المصطلح السياسي. وإنما كانت دار "أولي الشورة" و "الرأي". تتخذ رأياً عند ظهور حاجة أو اخذ "الرأي" وعند وجوب حصول زعماء الملأ على قرار في امر هام. ولم تكن قراراتها ملزمة، بل قد يخالفها سيد ذو رأي ومكانة، فيتفرد برأيه. ولا يحصل الإجماع إلاّ باتفاق. والغالب ألاّ يحصل هذا الاتفاق ويتوقف تنفيذ رأي "الملأ" على شخصية المقررين وعلى كفاءتهم وعلى ما يتخذونه من اجراء بحق المخالفين المعاندين من مقاطعة ومن مساومة ومن اقناع. والغالب إن الملأ لا يتخذون رأياً الا بعد دراسة وتفكير، ومفاوضات يراعى فيها جانب المروءة والحلم والمرونة، حتى لا يقع في البلد انشقاق قد يعرض الأمن إلى الاهتزاز.

وربما قام وجوه "الشعب"، وهم سادة الأسر، بدور هو اكثر فعّالية من دور "دار الندوة" في فض الخصومات. والعادة عندهم إن الخصومات الداخلية للاسر، تفض داخل الأسرة، لأن "آل" الأسرة أقدر على حل خلافاتهم من تدخل غيرهم في شؤونهم، ثم انهم لا يقبلون بتدخل غريب عن الأسرة في شأن من شؤون تلك الأسرة.. لذلك كان "،الملأ" لا ينظرون إلا في الأمور التي هي فوق مستوى الأسر و "الشعاب"، والتي تخص أمور الدينة كلها، والتي قد تعرض أمنها إلى الخطر، أو التي يتوقف على قراراتهم بصددها مستقبل المدينة.

والإنسان بمكة بأسرته وبمقدرته وقابلياته وكفاءته. وقد يرفع الأشخاص من مستوى أسرهم، وقد يهبط مستوى الأسر ومكانتها بسبب هبوط مستوى رجالها وعدم ظهور رجال أغنياء أقوياء فيها. ولما كانت مكنة مدينة عمل وتجارة ومال، والمال يتنقل بين الناس حسب اجتهاد الأفراد وجدهم في السعي وراءه، لذلك تجد من بين رجالها من يخمل ذكره بسبب خمول أولاده وتبذيرهم لما ورثوه من مال، وعدم سعيهم لإضافة مال جديد إليه. ويستتبع ذلك تنقل النفوذ من بيت إلى بيت.

فالحكم في مكة أذن حكم لا مركزي، حكم رؤساء وأصحاب جاه ونفوذ ومنزلة تطاع فيها الأحكام، وتنفذ الأوامر، لا لوجود حكومة قوية مركزية مهيمنة لها سلطة على أهل مكة، بل لأن الأحكام. والأوامر هي إحكام ذوي الوجه والسن والرئاسة والشرف، وإحكام هؤلاء مطاعة في عرف أهل مكة وفي عرف غيرهم من أهل جزيرة العرب. حكمت بذلك العادة وجرى عليه العرف، ولا مخالفة للعرف والعادة. فالعرف قانون أهل جزيرة العرب حتى اليوم. وانتهاك إحكامها معناه انتهاك سيادة القانون، وتمرد على الهيأة والنظام، وتحقير الحاكمين وإهانة لهم ولاتباعهم، وليس لأحد الخروج على أوامر سادات القوم وذوي الحسب والشرف والسن والعقل.

ولم تكن في مكة حكومة مركزية بالمعنى المفهوم المعروف من الحكومة، فلم يكن فيها ملك له تاج وعرش، ولا رئيس واحد محكمها على انه رئيس جمهورية أو رئيس مدينة، ولا مجلس رئاسة يحكم المدينة حكماً مشتركاً أو حكماً بالتناوب، ولا حاكم مدني عام أو حاكم عسكري. ولم يتحدث أهل الأخبار عن وجود مدير عام فيها واجبه ضبط الامن. أو مدير له سجن يزج فيه الخارجين عن الأنظمة والقوانين أو ما شابه ذلك من وظائف نجدها في الحكومات. وكل أمرها إنها قرية تتألف من شعاب. كل شعبْ لعشيرة. وأمر كل، شعْب لرؤسائه، هم وحدهم أصحاب الحلّ والعقد واَلنهي والتأديب فيه. وليسَ في استطاعة متمرد مخالفة إحكام. وإلاّ أدبه حيّه، وملؤه أي أشرافه. هؤلاء الرؤساء هم الحكام الناصحون وهم عقلاء الشعب.

وقد أشير إلى رؤساء مكة في القران الكريم في آية: )وقالوا: لولا نزُ ل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم( فرؤساء مكة هم علماؤها وساداتها، وهم أعلى الناس منزلة ودرجة ومكانة فيها. و "عظماء" مكة أو "عظماء الطائف" هم الطبقة "المختارة" والصفوة المتزعمة في الناس. واليها وحدها تكون الزعامة والرئاسة والرجاحة في الرأي.

وقانون القوم ودستورهم: )إنا وجدنا آباءنا على امة وانّا على، آثارهم مقتدون(. فهم محافظون حريصون على كل ما وصل إليهم، لا يريدون له تغييراً ولا تبديلاً. مهما بدا لهم في الجديد من منطق وحق. "قال) أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم. قالوا انّا بما أرسلتم به كافرون( وفي القرآن الكريم آيات أخرى ترينا تمسك نخبة مكة ورجال الملأ بحقوقهم وبما ورثوه من عرف مكّنهم من الملأ، وفي تمسكهم بها محافظة على حقوقهم الموروثة وعلى مصالحهم وعلى زعامتهم في الناس.

فملأ مكة أناس محافظون لا يقبلون تجديداً ولا تطويراً، سنتهم التعلق بالماضي، وكره الثورة والخروج عن العرف والعادة مهما كانت. فالعرف جرى الناس عليه، فلا خروج على العادة والعرف. أما المستهين بالعرف المخالف لسنة الآباء والأجداد، فيعاقب حتى يعود إلى رشد وصوابه. وهم باستماتتهم في التمسك بالماضي كيف كان، وبتطرفهم في المحافظة على العرف، إنما يراعون بذلك حقوقهم الموروثة ومكانتهم الإجماعية ومصالحهم الاقتصادية، فالعرف جعلهم الطبقة الحاكمة بالتقاليد، المحافظة على مصالحها، استناداً إلى العادات. هم يحكمون بهذا القانون الموروث غير المسجل، وعلى الناس الطاعة والانقياد. )واذا قيل لهم اتبعوا ما انزل الله. قالوا: بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا. أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون( وقد توارث بنو عبد الدار الندوة، حتى باعها "عكرمة بن عامر بن هاشم ابن عبد مناف بن عبد الدار" من معاوية، فجعلها دار الأمارة بمكة، ثم أدخلت في الحرم. وورد في رواية أخرى إن "حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشي الاسلمى" وهو ابن أخي خديجة بنت خويلد، كان هو الذي باعها من معاوية وكانت بيده. باعها بمئة ألف درهم. وكان قد اشتراها من "منصور بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار.

ودار الندوة، هي أول دار بنيت بمكة على حدّ قول الرواة. وكانت اشهر دار بمكة وانشرها في الناس خبراً. ثم تتابع الناس فبنوا من الدور ما استوطنوه. ويذكر أهل الأخبار: إن مكة لم تكن ذات منازل، وكانت قريش بعدُ جرهُم. والعمالقة ينلجعون جبالها وأوديتها ولا يخرجون من حرمها انتساباً إلى الكعبة لاستيلائهم عليها وتخصصاً بالحرم لحلولهم فيه. ولما كان "كعب بن لؤيّ بن غالب"، جمع قريشاً صار يخطب فيها في كل "جمعة"، وكان يوم الجمعة يسمى في الجاهلية "عروبة" فسماه كعب "الجمعة". وبذلك ألف بين قريش حتى جاء "قصي" ففعل ما فعل.

ولدينا خبر آخر، يذكو انه قد كان حول الحرم شجر ذو شوك، نبت من قديم الزمن وكوّن غُوطة، فقطعها "عبد مناف بن قصي"، وهو أول من بني داراً بمكة، ولم تُبن دار، قبلها، بل كان بها مضارب للعرب من الشعر الأسود.

وزعم بعض أهل الأخبار إن أهل مكة كانوا يبنون بيوتهم مُدوّرة تعظيماً للكعبة، وأول من بنى بيتاً مربعاً "حُميدْ بن زهر"، فقالت قريش: "رَبّعَ حُمَيْد بن زهر بيتاً"، إمّا حياةً وإما موتاً". و "الربع": المنزل ودار الإقامة والمحلة". وهو أحد "بني أسد بن عبد العزى". وان العرب تسمي كل بيت مربع كعبة، ومنه كعبة نجران. وُ ذكر أيضاً إن "حُمَيْد بن زبير ابن الحارث بن أسد بن عبد العزى"، هو اول من خالف سنة قريش وخرج على عرف أهل مكة فبنى بيتاً مربعاً.وجعل له سقفاً. وفي عمله هذا قال الراجز: اليوم يبنيِ لحُمَيْد بيته  اماّ حياته واما موته

وورد في رواية أخرى، إن ثاني دار بنيت بمكة بعد دار الندوة، هي "دار العجلة"، وهي دار، سعيد بن سعد بن سهم. وزعم "بنو سهم" إنها بنيت قبل "دار الندوة".

ويظهر من روايات أهل الأخبار عن بيوت مكة إن بيوتها، وهي بيوت أثريائها وساداتها، بيوت كانت مقامة بالحجر، وبها عدد من الغرف، ولها بابان متقابلان باب يدخل منها الداخل وباب تقابلها يخرج منها الخارج، ولعلها بنيت على هذا الوضع ليتمكن النساء من الخروج من الباب الأخرى عند وجود ضيوف في رحبة الدار عند الباب المقابلة. ومعنى هذا إن أمثال هذه الدور كانت واسعة تشرت على زقاقين. ولبعض الدور "حجر" عند باب البيت، يجلس تحته ليستظل به من أشعة الشمس، وكان منزل "خديجة" ذو حجر من هذا الطراز.

ولو أخذنا بالرواية المتقدمة عن التغيير الذي طرأ على طراز العمارة في مكة، فإن ذلك يحملنا على القول: إنه يجب إن يكون قد حدث، في النصف الثاني من القرن السادس للميلاد. في وقت ليس ببعيد عهد عن أيام النبي. لأننا نجد إن أحد أبنا "حُمَيْد"، وهو عبد الله"، كان قد حارب في معركة "أحد".

ويتبن من غربلة روايات الأخباريين المتقدمة عن مدى سعة الحرم وعن زمان بناء الدور بمكة، إن بطن مكة لم يعمر ولم تبن البيوت المستقرة فيه إلا منذ أيام "قصي". أما ما قبل ذلك، فقد كان الناس يسكنون "الظواهر": ظواهر مكة، أي أطرافها وهي مواضع مرتفعة تكون سفوح الجبال والمرتفعات المحيطة بالمدينة. أما باطن مكة، وهو الوادي الذي فيه البيت، فقد كان حرماً آمناً، لا بيوت فيه، أو إن بيوته كانت قليلة حصرت بسدنة البيت وبرت كانت له علاقة بخدمته. لذلك نبت فيه الشجر حتى غطى سطح الوادي، من السيول التي كانت تسيل إليه من الجبال. ولم يكن في وسع أحد التطاول على ذلك الشجر، لأنه شجر حرم اَمن، وبقي هذا شأنه يغطي الوادي ويكسو وجهه بغُوطة، حتى جاء "قصي". فتجاسر عليه بقطعه كما ذكرنا. وخاف الناس من فعله، خشية غضب رب البيت، ونزول الأذى بهم إن قطعوه. فلما وجدوا إن الله لم يغضب عليهم، وانه لم ينزل سوءاً بهم، اقتفوا أثره، فقطعوا الشجر، واستحوذوا على الأرض الحرام، وظهرت.البيوت فيه، وأخذت تتجه نحو البيت حتى أحاطت به، وصغرت مسجده، ولم يكن له يومئذ جدار. وظلت البيوت تتقرب إليه حتى ضايقته وصغرت فناءه، مما اضطر الخليفة "عمر" ومن جاء بعده إلى هدم البيوت التي لاصقته لتوسيع مسجد، ثم إلى بناء جدار ليحيط به حتى صار على نحو ما هو عليه في هذا اليوم.

ويتبين من خطبة الرسول عام الفتح ويوم دخوله البيت الحرام وقوله: "لا يُختلى خلا مكة ولا يعضد شجرها"، إن حرم مكة كان لا يزال ذا شجر. ولم يكن فد قطع تماماً منه في أيام الرسول.

وتذكر بعض الموارد إن قصيّاً أول من بنى الكعبة بعد. بناء تبع، وكان سمكها قصيراً، فنقضه ورفعها. وإذا صحت الرواية، يكون قصي من بناة الكعبة ومن مجدديها. وذكر انه كان أول من جدد بناء الكعبة من قريش، وانه سقفها بخشب الدوم وجريد النخل. وقد أشير إلى هذا البناء في شعر ينسب إلى الأعشى. وهذه الرواية تناقض بالطبع ما يرويه الأخباريون من إن الكعبة لم تكن مسقفة، وإنها سقفت لأول مرة عندما جدد بناؤها في أيام شباب الرسول. وهو يومئذ ابن خمس وثلاثين سنة.

والظاهر من روايات الأخباريين، إن البيت كان في الأصل بيتاً مسقوفاً، غير انه أصيب بكوارثعديدة، فتساقط وتساقط سقفه مراراً بسبب السيول، وبسبب حريق أصيب به، فصار من غير سقف في أيام شباب الرسول. حتى إذا ما نقضت. قريش البيت وأعادت بناء سقفته، وزوّقت جدره الداخلية والخارجية بالأصنام والصور. وأعادت إليه خزائنه حتى كان يوم الفتح، إذْ أمر الرسول بتحطيم الأصنام وبطمس الصور على نحو ما سأتحدث عنه في تأريخ الكعبة وذلك في القسم الخاص بأديان الجاهليين.

وفي روايات أهل الأخبار عن البيت-كما سترى فيما بعد حين أتكلم عنه في هذا القسم الخاص بأديان أهل الجاهلية-غموض وتناقض، يجّعل من الصعب تكوين رأي واضح عنه. فبينما هم يقولون إنه كان من غير سقف وان الطيور كانت تقف عليه، وان الأتربة المحملة بالأهوية كانت تتساقط في أرض البيت، نراهم يذكرون انه كان مسقفاً، وانه سقف بالخشب في أيام قصي وانه احترق، ثم يقولون إنه كان في داخله أصنام قريش، مع إن الوصف الذي يقدمونه لنا عن الكعبة من إنها "كانت ضمة فوق للقامة فأرادوا رفعها وتسقيفها، وذلك إن نفراً من قريش وغيرهم سرقوا كنزَ الكعبة، وإنما كان يكون في بئر في جوف الكعبة"، لا يمكن إن يجعل البيت سوى غرفة بسيطة ساذجة من أحجار رصت بعضها فوق بعض.

وفي روايةٍ: إن.قصيّاً هو أول من أظهر "الحجر الأسود"، وكانت "إياد" دفنته في جبال مكة، فرأتهم امرأة حين دفنوه، فلم يزل "قصي" يتلطف بتلك المرأة حتى دلته على مكانه، فأخرجه من الجبل، واستمر عند جماعة من قريش يتوارثون حتى بنت قريش الكعبة فوضعوه بركن البيت، بازاء باب الكعبة في آخر الركن الشرقي.

ويذكر إن قصيّاً بعد إن تمكن من مكة، حفر بها بئراً سماها "العجول" وهي أول بئر حفرتها قريش. وكانت قريش قبل قصي تشرب من بئر حفرها لؤي بن غالب خارج مكة تدعى "اليسيرة" ومن حياض ومصانع على رؤوس الجبال. ومن بثر حفرها "مرّة بن كعب" مما يلي عرَفَة، تدعى "الروى"، ومن آبار حفرها "كلاب بن مرة"، هي "خم" و "رم" و "الجفر" بطاهر مكة. فكانت "بئر العجول" أول بئر حفرتها قريش في مكة.

وازدادت حاجة أهل مكة، بعد قصي وقد تزايد عددهم إلى الماء، ولم تعد "العجول" تعَفي لتموينهم به، فاقتفى، أولاده أثره في حفر الآبار، واعتبروا حفرها منقبة ومحمبدة، لما للماء من أهمية لأهل هذا الوادي الجاف. وقد حازت بئر زمزم على المقام الأول بين آبار مكة فهي بئر البيت وبئر الحجاج تمونهم مما يحتاجون إليه من ماء، وذكر أهل الأخبار إن في جملة ما أحدث قصي في أيامه وصار سنة لأهل الجاهلية، انه أحدث وقود النار بالمزدلفة: حيث وقف بها حتى يراها من دفع من عرفة، فلم تزل توقد تلك النار تلث الليلة في الجاهلية. ويظهر إن قريشاً حافظت على هذه السُنّة أمداَ في الإسلام. وكانت تلك النار توقد على عهد رسول الله وأبي يكر وعمر وعثمان.

ويذكرون أيضاً إن في جملة ما أحدثه: "الرفادة"، وهي إطعام الحجاج في أيام موسم الحج حتى يرجعوا إلى بلادهم. وقد فرضها على قريش إذْ قال لهم: "يا معشر قريش أنكم جيران الله وأهل مكة وأهل الحرم، وان الحاج ضيف الله وزوّار بيته، وهم أحق بالضيافة، فاجعلوا لهم طعاماً وشراباً أيام الحج، حتى يصدروا عنكم". ففعلت قريش ذلك، فكانوا يخرجون في كل عام من أموالهم خرجاً، في فيدفعونه إلى قصي، لكي يصنعه طعاماً للناس أيام منى وبمكة وقد بقيت هذه السنة في الإسلام. وذكر إن "الرفادة شيء كانت تترافد به قريش في الجاهلية، فيستخرج فيما بينها كل إنسان مالاً بقدر طاقته وتشتري به للحاج طعاماً وزبيباً للنبيذ، فلا يزالون يطعمون الناس حتى تنقضي أيام موسم الحج.

وكانت إلى قصي أيضاً: الحجابة، والسقاية واللواء. فحاز شرف قريش كله. وصار رئيسها الوحيد المطاع، الناطق باسمها الأمر وللناهي، إذ. لأ أحد أحكم وأعقل وأحسن إدارة للملك منه.

وذكر إن قيصا أول من أصاب الملك من قريش بعد ولد إسماعيل، وذلك في أيام المنذر بن النعمان ملك الحيرة، وملك الفرس الساسانيين "بهرام جور". وقد كان حكم "بهرام جور" من سنة "420 م" حتى سنة "438 م"، أي في النصف الأول من القرن الخامس للميلاد، وإذا أخذنا برواية من جعل قصياً من المعاصرين لهذا الملك، يكون حكم قصي إذن في النصف الأول من للقرن الخامس للميلاد.

وقد نسب أهل الأخبار إلى قصي أقوالا وأمثالاً وحكماً وجعلوه غاية في الحكمة والمنطق. وروي "إن أمر قصي عند قريش ديناً يعملون به ولا يخالفونه".

وقد ترك قصي أثراً كبيراً في أهل مكة، وعدّوه المؤسس الحقيقي لكيان قريش. وكانوا يذكرون اسمه دائماً بخير. وكانوا لا يطيقون سماع أحد يستهين بشأنه. فلما تطاول الشاعر "عبد الله بن الِزبَعْرىَ"، على ما جاء في بعض الروايات، وتجاوز حدّه بذكر قصي بسوء في شعر له، كتبه كما يقولون في أستار الكعبة، فضب بنو عبد مناف، واستَعدوَا عليه "بني سهم"، لأنه كان من "بني سهم"، فأسلموه اليهم، فضبربوه وحلقوا شعره وربطوه إلى صخرة، فاستغاث قومه، فلم يغيثوه، فجعل يمدح قصيّاً ويسترضيهم، فأطلقه بنو عبد مناف وأكرموه، فمدحهم بأشعار كثيرة.

ولم نعثر في نصوص المسند على اسم رجل يُّدعى قصيّها، وإنما ورد في النصوص النبطية اسم علم لأشخاص. وهذا الاسم هو اسم صنم في الأصل، بدليل ورود عبد قصي. أما حديث الأخباريين عن أصله وفصله، فهو بما لا قيمة له. وقد ابتدعته مخيلتهم على الطريقة المألوفة في اختراع تفاسير لأسباب التسميات. والظاهر إن هذا الاسم من الأسماء التي كان يستعملها العرب النازلون في أعالي الحجاز، وربما في بلاد الشام.

وفي جملة النصوص النبطية التي عثر عليها في "صلخد" اسم رجل عرف ب "روحو بن قصيو" "روح بن قصي"، كما عثر على نصّ جاء فيه اسم "مليكو بن قصيو." "مالك بن قصي"، وورد اسم "قصيو بن اكلبو"، أي "قصي بن كلاب". وقد تبين من هذه الكتابات إن المذكورين هم من أسرة واحدة، وقد كَانوا كهاناً أو سدنة لمعبد من معابد "صلخد". فقصي إذن من الأسماء الواردة عند النبط. والغريب أننا نرى بين قصي صلخد وقصي مكة اشتراكاً لا في الاسم وحده، بل في المكانة أيضاً، فلقصي صلخد مكانة دينية، ولقصي مكة هذه المكانة أيضاً في مكة.

ويلاحظ إن الاسم الذي زعم الأخباريون انه اسم قصي الأصلي الذيُ سميّ به يوم ولد بمكة، وهو "زيد"، هو أيضاً اسم صنم. فقد نص أهل الأخبار على أن "زيداً" هو صنم من أصنام العرب.

ويذكر الأخباريون انه كان لقصي أربعة أولاد، ورووا قولاَ زعموا انه قاله. فقد ذكر:ا انه قال: "ولد لي أربعة، فسميت أثنين بصنمي، وواحداً بداري، ووحداً بنفسي". وكان يقال لعبد مناف: القمر، واسمه المغيرة، وكانت أمه "حُبىّ" دفعته إلى مناف، وكان أعظم أصنام مكة، تدينا بذلك، فغلب عليه عبد مناف. وأولاده هم: "عبد مناف"، واسمه "المغيرة"، وعبد الله، وهو "عبد الدار"، و "عبد العزى"، و "عبد قصي"، و "هند" بنت قصي، تزوجها "عبد الله بن عمّار الحضرمي".

ولما مات قصي، دفن بالحجَون، وقد كانوا يزورون قبره ويعظمونه. والحجون جبل بأعلى مكة كان أهل مكة يدفنون موتاهم فيه. فعليه مقبرة جاهلية من مقابر مكة القديمة. وقد ذكر في شعر جاهلي.

وقد أنكر بعض المستشرقين وجود "قصي"، وعدّوه شخصية خرافية من شخصيات الأساطير، واستدلوا على ذلك بالأقاويل التي رواها ابن الكلبي وابن جريج عنه، وهي ذات طابع قصصي. غير إن هذه المرويات لا يمكن إن تكون دليلا قوياً وسنداً يستند إليه في إنكار وجود رجل اسمه قصي، وإذا كان ما قيل عنه خرافة، فلن تكون هذه الخرافة سبباً لإنكار وجود شخص قيلت عنه.

وقد ترك "قصي" جملة أولاد هم: عبد العزى وعبد الدار وعبد مناف وعبد بن قصي. وقد تكتل أبناء هؤلاء الأولاد وتحزبوا، ونافسوا بعضهم بعضاً، فنافس بنو عبد مناف بني عبد الدار، وكونوا حلفاً فيما بينهم كان جماعته وأنصاره بنو أسد وبنو زهرة وبنو تيم والحارث بن فهر. وتراص بنو عبد الدار وجمعوا شملهم وشمل من انضم إليهم، وكونوا جماعة معارضة تألفت من بني مخزوم وبن سهم وبني جمح وبني عدي بن عامر بن لؤي ومحارب. وهم من "قريش الظواهر". وقد عرف حلف "بني عبد مناف" ب "حلف المطيبين" و ب "المطيبون"، وعرف بنو عبد الدار ب "الأحلاف". ولما ظهر الإسلام، كانت هذا النزاع العائلي على رئاسة مكة قائماً، وقد تمثل في تنافس الأسر على الرئاسة. اشتهر بعضها بالثراء والغنى، واشتهر بعضها بالوجاهة الدينية أو بالمكانة الاجتماعية.

ويلاحظ إن هذا النزاع لم يكن نزاعاً عائلياً تماماً، قام على النسب إلى الأب والجد بل كمان نزاعاً على الرئاسة والسيادة في الغالب، فنجد جماعة من عائلة تنضم إلى العائلة الأخرى المنافسة، وتترك عشيرتها، لأن مصلحتها الخاصة وتخاصمها مع. أحد أقربائها دفعاها على اتخاذ ذلك الموقف.

ولما أسن قصي، جعل لابنه "عبد الدار" على حدّ رواية أهل الأخبار دار الندوة والحجابة أي حجابة الكعبة، واللواء، فكان يعقد لقريش ألويتهم، والسقاية وهي سقاية الحاج، و "الرفادة"، وهي خَرْج تخرجه قريش في كل موسم من أموالها إلى قصي ليصنع به طعاماً. للحاج يأكله الفقراء، وكان قصي قد قال لقومه: "إنكم جيران الله وأهل بيته، وان الحاج ضيف الله وزوار بيته، وهم أحق الضيف بالكرامة، فاجعلوا لهم شراباً وطعاماً أيام الحج، حتى يصدروا عنكم"، ففعلوا، فكانوا يخرجون من أموالهم، فيصنع به الطعام أيام منى، فجرى ذلك من أمره على قومه في الجاهلية، حتى قام الإسلام.

ويذكر الأخباريون في تعليل إعطاء عبد الدار هذه الامتيازات إن عبد الدار كان ضعيفاً، وان عبد مناف شقيقه كان قد ساد في حياة أبيه، وكثر ماله، فأراد قصي بذلك تقويته بهذه الامتيازات.

وقد توارث بنو عبد الدار اللواء، فلا يعقد لقريش لواء الحرب الا هم. وهي وضيفة مهمة جداً، لما للواء من أثر خطير في الحروب والمعارك في تلك الأيام. وهذا كانوا يتدافعون في الذبَّ عن اللواء، حتى لا يسقط على الأرض بسقوط حامله، وسقوطه معناه نكسة معنوية كبيرة تصيب المحاربين تحت ذلك اللواء. ولما أسلم "بنو عبد الدار"، قالوا: يا نبيّ الله، اللواء إلينا. فقال النبي: الإسلام أوسع من ذلك. فبطل اللواء.

ويذكر الأخباريون إن قصيّاً لما هلك، قام "عبد مناف بن قصي" على أمر قصي بعده، وأمر قريش إليه، واختط بمكة رباعاً بعد الذي كان قصي قطع لقومه.

ويذكر أهل الأخبار إن بني عبد مناف أجمعوا على إن يأخذوا من بني عبد الدار "الرفادة" و "السقاية"، فأبى بنو عبد الدار ترك ما في أيديهم وأصروا على الاحتفاظ به، فتفرقت عند ذلك قريش، فكانت طائفة مع بني عبد الدار، وطائفة مع بني عبد مناف، وتحالف كل قوم مؤكداً، وأخرج بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيباً، فوضعوها عند الكعبة، وتحالفوا، وجعلوا أيديهم في الطيب، فسموا المطيبين. وتعاقد بنو عبد الدار ومن معهم، وتحالفوا، فسموا الأحلاف، وتعبأوا للقتال، ثم تداعوا إلى الصلح، على إن يعطوا بني عبد مناف السقاية والرفادة، فرضوا بذلك، وتحاجز الناس عن الحرب، واقترعوا عليها، فصارت لهاشم بن عبد مناف.

وأما الذين كوّنوا حلف الأحلاف ولعقة الدم، فهم: بنو مخزوم، وبنو جمح، وبنو سهم، وبنو عدي بن كعب.

وقد خرجت من ذلك "بنو عامر بن لؤُيّ" و "بنو محارب بن فهر". فلم يكونوا مع واحد من الفريقينْ.

وتذكر بعض الروايات إن "آل عبد مناف" قد كثروا، وقل " "آل عبد الدار"، فأرادوا انتزاع الحجابة من "بني عبد الدار"، فاختلفت في ذلك قريش، فكانت طائفة مع "بني عبد الدار" وطائفة مع "بني عبد مناف"، فأخرجت "أم حكيم البيضاء" توأمة أبي رسول الله، جفنة فيها طيب، فوضعتها في الحجر، فقالت: من كان مناّ فليدخل يده في هذا الطيب. فأدخلت عبد مناف أيديها، وبنو أسد بن عبد العزّى، وبنو زهرة، وبنو تيم، وبنو الحارث بن فهر، فسّموّا المطيبين. فعمدت بنو سهم بن عمرو، فنحرت جزوراً، وقالوا: من كان مناّ، فليدخل يده في هذه الجزور، فأدخلت أيديها عبد الدار وسهم، وجمح، ومخزوم، وعدي، فسُميّت الأحلاف. وقام الأسود بن حارثة بن نضلة، فأدخل يده في الدم، ثم لعقها، فلعقت بنو عدي كلها بأيديها، فسموا لعقة الدم.

وتذكر رواية إن "بني عبد مناف" اقترعوا على الرفادة والسقاية فصارتا إلى "هاشم بن عبد مناف"، ثم صارتا بعده إلى "المطلب بن عبد مناف" بوصية، ثم لعبد المطلب، ثم للزبير بن عبد المطلب، ثم لأبي طالب. ولم يكن له مال، فاستدان من أخيه العبّاس بن عبد المطلب عشرة آلاف درهم، فأنفقها، في لم يتمكن من رد المبلغ تنازل عن الرفادة والسقاية إلى "العباس": وأبرأ أبا طالب مما له عليه.

وتذكر رواية أخرى، إن هاشماً وعبد شمس والمطلب ونوفل بني عبد مناف أجمعوا إن يأخذوا ما بأيدي "بني عبد الدار" مما كان قصي جعل إلى "عبد الدار" من الحجابة واللواء والرفادة والسقاية والندوة، ورأوا أنهم أحق بها منهم، فأبت "بنو عبد الدار"، فعقد كل قوم على أمرهم حلفاً مؤكداً على الاّ يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضاً. وعرف حلف "بني عبد مناف" بحلف المطيبين وعرف حلف "بني عبد الدار" محلف الأحلاف ولعقة الدم. ثم تداعوا إلى الصلح، على إن تكون الحجابهً واللواء ودار الندوة إلى بني عبد الدار، وأن يعطوا بني عبد مناف السقاية والرفادة. وولى هاشم بن عبد مناف السقاية الرفادة. وتصرح بعض الروايات، إن هاشما هو الذي قام بأمر بني عبد مناف، ثم عامر بن هاشم.

ومعنى هذا إن الحلفين المذكورين: حلف المطيبين وحلف "الأحلاف"، إنما عقدا في حياة "هاشم بن عبد مناف"، أي قبل ميلاد الرسول. وأن. تلف "لعقة الدم" هو نفسه حلف الأحلاف، أو من حلف الأحلاف، عرف بهذه التسمية، لأن "بني عدي بن كعب، الذين حالفوا عبد الدار وانضموا اليهم، اسقوا الدم، فقيل لهم لعقة الدم، تمييزا لهم عن الذين لم يلعقوا الدم، وهم الأحلاف, وذُكر إن "بني عبد الدار" و "بني عدي"، أدخلوا جميعاً أيديهم في ذلك الدم في الجفنة، فسموا كلهم "لعقة الدم" بذلك.

ولكننا نصطدم بروايات أخرى، ترجع تأريخ حلف "لعقة الدم" إلى أيام بنيان الكعبة، التي كان قبل المبعث بخمس سنين، وعمر الرسول يومئذ خمس وثلاثون سنة. فهي تذكر إن أهل مكة لما وصلوا إلى موضع الركن اختصموا في وضع الحجر الأسود، حتى تجاوزوا وتحالفوا وتواعدوا على القتال، "فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءةّ دماء، ثم تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب على الموت، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في الجفنة، فسموا لعقة الدم بذلك"، ثم اتفقوا على إن يجعلوا بينهم حكماً، يحكم بينهم فيما هم فيه مختلفون، على إن يكون أول من يدخل من باب المسجد، فكان أول من دخل عليهم رسول الله. فحكم على نحو ما هو معروف.

كما نصطدم بروايات أخرى تذكر إن حلف المطيبين، إنما عرف بذلك، لان خمس قبائل هي: بنو عبد مناف، وبنو أسد، وبنو تيم، وبنو زهرة، وبنو الحارث بن فهر، لما أرادت بنو عبد مناف اخذ ما في أيدي بني عبد الدار من الحجابة والرفادة واللواء والسقاية وأبت بنو عبد الدار تسليمها إياهم اجتمع المذكرون في دار عبد الله بن جدعان، وعقد كل قوم على أمرهم حلفاً مؤكداً على التناصر وأن لا يتخاذلوا، ثم اخرج لهم بنو عبد مناف جفنة ثم خلطوا فيها اطياباً وغمدوا أيديهم فيها وتعاقدوا ثم مسحوا الكعبة بأيديهم توكيداً فسُمّوا المطيبين. وتعاقدت بنو عبد الدار وحلفاؤها وهم ست قبائل: عبد الدار وجمح ومخزوم وعدي وكعب وسهم حلفاً آخر مؤكداً، فسُموْا بذلك الأحلاف.

وقيل بل قسم رجل من بني زيد لمكة معتمراً ومعه تجارة اشتراها منه رجلٌ سهمي فأبى إن يقضيه حقه فناداهم من أعلى أبي قيس، فقاموا وتحالفوا على أنصافه، وكان النبيّ من المطيبين لحضوره فيه، وهو ابن خمس وعشرين سنة وكذلك أبو بكر. وكان عمر أحلافياً لحضوره معهم.

وقد وهم بعض أهل الأخبار فجعلوا حلف المطيبين هو حلف الفضول، ويظهر انهم وقعوا في الخطأ من كون الذين دعوا إلى عقد حلف الفضول وشهدوه هم من "المطيبين"، فاشتبه الأمر عليهم، وظنوا إن الحلفين حلف واحد. وقد ردّ عليهم بعض أهل الأخبار أيضاً، اذ ذكروا إن الرسول لم يدرك حلف المطيبين، لأنه كان وقع بين بني عبد مناف، وهم هاشم واخوته ومن انضم اليهم، وبين بني عمهم عبد الدار وأحلافهم، فقيل لهم الأحلاف، قبل إن يولد الرسول.

إما إن الخلفيين قد عقدا في أيام "عبد الله بن جدعان"، فخطأ، فقد اجمع أهل الأخبار على إن بني عبد مناف كانوا يلون الرفادة والسقاية قبل هذا للعهد، وأن "هاشم" كان يليهما في حياته، وأما انهما وقعا في أيام "هاشم" أو في أيام أبنائه، فان ذلك اقرب إلى المنطق، وذلك فيما إذا أخذنا برواية من يقول: إن "قصياّ" أوصى بالرفادة والسقاية واللواء والحجابة ودار الندوة إلى ابنه "عبد الدار"، وحرم بذلك ابنه "عبد مناف" من كل شيء، بحجة انه كان غنياً، وجيهاً وقد ساد في حياة ابيه، فلا حاجة له به إليها، فتأثر هاشم أو ابناوه من ذلك، فاًجمعوا على انتزاعها من أيدي "بني عبد الدار" وحدث ما حدث، وتولى هاشم الرفادة والسقاية على النحو المذكور." وهناك رواية أخرى رواها "اليعقوبي"، تفيد إن قصيّاً كان قد قسم السقاية والرفادة والرئاسة والدار بين ولده. فجعل السقاية والرئاسة لعبد مناف، والدار لعبد الدار، والرفادة لعبد العزّى، وحافة الوادي لعبد قصيّ. واخذ كل ابن ما أعطاه والده له.

ويتبن من دراسة الروايات المختلفة الواردة عن الحلفين المذكورين، إنهما قد عقدا لأغراض أخرى لا صلة لها بالسقاية والرفادة، وربما كانا قد عقدا قبل أيام هاشم، بسبب نزاع وقع بين بطون قريش على الزعامة، فتحربت تلك البطون وانقسمت على نفسها إلى "مطيبين" و "احلاف"، وربما كان حلف لعقة الدم حلفاً آخر عقده "بنو عدي" فيما بين هم، وهم الذين انحازوا إلى الأحلاف، ودخلوا معهم في حلف. خاصة وفي "اليعقوبي" يشير إلى حلف عقده "عبد مناف" بعد وفاة والده "قصي" مع "خزاعة" و "بني عبد مناف ابن كنانة"، عرف بحلف "الأحابيش". وكان مدبّر بني كنانة الذي سأل عبد مناف عقد الحلف "عمرو بن هلل بن معيص". مما يشير اذا صح بهذا الخبر إلى إن "بني مناف" أو الذين انضموا إليهم، كما يقول ذلك "اليعقوبي" أرادوا تقوية أنفسهم وتكوين قوة مهابة بتأليف ذلك الحلف. وربما كان هذا الحلف موجهاً ضد "بني عبد الدار" مما دفع "بني عبد الدار" على جمع صفوفهم وتأليف حلف يهم، للدفاع عن مصالحهم.

واسم هاشم على رواية الأخباريين "عمرو" وهو اكبر أولاد عبد مناف. وإنما قيل له هاشم،لأنه أول من هشم الثريد لقومه بمكة وأطعمه. ذكر إن قومه من قريش، كانت أصابتهم لزبة وقحط، فرحل إلى فلسطين، فاشترى منها الدقيق، فقدم به مكة، فأمر به فخبز له ونحر جزوراً، ثم اتخذ لقومه مرقة ثريد بذلك ويذكرون إن شاعراً من الشعراء، هو مطرود بن كعب الخزاعي، أو ابن الزبعرى، ذكر ذلك في شعره حيث قال: عمرو الذي هشم الثريد لقومه  ورجال مكة مُسْنِتون عجاف

ويظهر من وصف الأخباريين لهاشم انه كان تاجراً، له تجارة مع بلاد الشام، وأنه جمع ثروة من تجارته هذه، حتى زعموا انه هو أول من سن الرحلتين لقريش: رحلة الشتاء والصيف.

ويذكر أهل الأخبار إن هاشماً كان يحُث أهل مكة على إكرام الحجاج وإضافتهم وتقديم كل معونة لهم، لأنم يأتون يعظّمون بيت الله، ويزورونه، وهم جيران بيت الله، وقد أكرموا به، وشرفوا بالبيت على سائر العرب، فعليهم تقديم كل معونة لحجاج البيت. وكان يطلب منهم. كمساعدته بإخراج ما يتمكنون من إخراجه من أموالهم يضعونه في دار اندوة، ليخدم به الحجاج، لأنه لا يمكن وحده من إكرامهم وتقديم الطعام من ماله حده إليهم. فكان هاشم يخرج في كل عام مالا كثيراً، وكان قوم من قريش أهل يسار يترافدون. وكان كل إنسان يرسل بمئة مثقال هرقلية، فيجمع هاشم ما يجمع ويطبخ به طعاماً للحجاج.

ولشح الماء في مكة، واضطرار الناس إلى جليه من أماكن بعيدة، فعل "هاشم" ما فعله قصيّ حين حفر بئراً على نحو ما ذكرت، فحفر بئراً عرفت ب "بذَّر" وهي البئر التي في حق "المقوم بن عبد المطلب" في ظهر دار الطلوب مولاة زيدة بالبطحاء في اصل المستنذر. وحفر بئراً أخرى، وهي البئر التي يقال لها بئر "جبير بن مطعم"، ودخلت في "دار القوارير. فيسر بذلك لمكة الماء، وساعد على اكثاره عندهم.

وأخذ "هاشم" عهداً على نفسه بأن يسقي الحجاج ويكفيهم بالماء، قُربةً إلى رب "البيت" ما دام حيّاً. فكان إذا حفر الحج، يأمر بحياض من أدم، فتجعل في موضع "زمزم"، ثم تملا بالماء من الآبار التي بمكة، فيشرب منها الحاج. وكان يطعمهم قبل الروية بيوم بمكة، وبِمنِى وعَرفَة، وكان يثرد لهم الخبز واللحم، والخبز والسمن والسويق والتمرَ، ويحمل لهم الماء، فيستقون بمنى، والماء يومئذ قليل في حياض الأدم إلى إن يصدروا من "منِى"، ثم تنقطع الضيافة، ويتفرق الناس إلى بلادهم.

وموضوع السقاية موضوع غامض. فبينما نجد أهل الأخبار يفسرون السقاية باسقاء المحتاجين من الحجاج بالماء مجاناً، نجدهم يتحدثون عن السقاية على إنها إسقاء الحجاج من الزبيب المنبوذ بالماء. وذكر إن العباس كان يليها في الجاهلية و الإسلام.

وتحدث أهل الأخبار عن "سقاية" عرفت ب "سقاية عدىّ"، زعموا إنها كانت بالمشعرين بين الصفا والمروة، وان مطرود الخزاعي ذكرها حين قال: وما النيل يأتي بالسفين يكـفّ  بأجود سيباً من عدكماّ بن نوفل

وأنبطت بين المشعرين سقـاية  لحجاج بيت الله أفضل منهـل

وذكر إن هذه السقاية، كانت بسقاية اللبن والعسل.

ويظهر من وصف الأخباريين لهاشم انه كان تاجراً، له تجارة مع بلاد الشام. وانه جمع ثروة من تجارته هذه، حتى زعموا انه هو أول من سنّ الرحلتين لقريش: رحلة الشتاء والصيف. وانه كان صاحب "إيلاف قريش" وذلك إن قريشاً كانوا تجاراً، ولكن تجارتهم-كما يقول أهل الأخبار-لم تكن تتجاوز مكة، إنما تقدم عليهم الأعاجم بالسلع فيشترونها منهم، ثم يتبايعونها بينهم، ويبيعونها على من حولهم من العرب. فكانوا كذلك حتى ركب هاشم ابن عبد مناف إلى الشام، فكان يذبح كل يوم شاة ة ويصنع جفنة ثريد ويجمع من حوله فيأكلون. وكان هاشم من أجمل الناس وأتمهم، فذكر ذلك لقيصر، فدعا به فلما رآه وكلمه، أعجب به. فكان يبعث إليه في كل يوم، فيدخل عليه ويحادثه، فلما رأى نفسه تمكن عنده، قال له: أيها الملك: إن قومي تجار العرب، فإن رأيت إن تكتب لي كتاباً تؤمن تجارتهم فيقدموا عليك بما يستطرف من أدم الحجاز وثيابه، فتباع عندكم، فهو أرخص عليكم. فكتب له كتاب أمان لمن يقدم منهم. فأقبل هاشم بذلك الكتاب، فجعل كلما مرّ بحي من العرب بطريقه إلى مكة، عقد معهم عقدا على إن تقدم قريش إليهم ما يرضيهم من بضائع وهدايا تؤلف بينهم وبين قريش، فكان الإيلاف. فلما وصل إلى مكة، كان هذا الإيلاف أعظم ما جاء به هاشم إلى قريش. فخرجوا بتجارة عظيمة، وخرج هاشم معهم يجوزهم يوفيهم إيلافهم الذي أخذ من العرب حتى أوردهم الشام، وأحلهم قراها. فكان ذلك بدء إيلاف قريش.

وذكر إن متجر "هاشم" كان البلاد الشام، ويصل بتجارته إلى "غزة" وناحيتها، وربما توغل نحو الشمال، حتى زعم بعض أهل الأخبار انه كان ربما بلغ "أنقرة" "فيدخل على قيصر فيكرمه ويحبوه". ويجب علينا ألا نتصور دائماً إن أي "قيصر" يرد ذكره في أخبار أهل الأخبار، هو قيصر الروم حقاً، بل هو أحد عمّاله في الغالب، وأحد الموظفين الروم في بلاد الشام، وربما كان أحد قادة الحدود. وربما أخذوا اسم "أنقرة" من قصة للشاعر امرؤ القيس، فأدخلوها في قصة "هاشم". فلم تكن "أنقرة"، مقرّا للقياصرة إذ ذاك حتى يذهب هاشم إليها ليدخل على قيصر ويزوره فيها، بل كانت "القسطنطينية"، هي عاصمة البيزنطيين.

وقد فسر "الجاحظ" "الإيلاف"، انهُ جعلٌ فرضه هاشم على القبائل. لحماية مكة من الصعاليك ومن المتطاولين، إذْ قال: "وقد فسَّره قوم بغير ذلك. قالوا: إن هاشما جعل على رؤوس القبائل ضرائب يؤدونها إليه ليحمي بها أصل مكة. فإن ذؤبان العرب وصعاليك الأحياء وأصحاب الطوائل، كانوا لا يؤمنَون على الحرم، لا سيما وناس من العرب كانوا لا يرون للحرم حرمة ولا للشهر الحرام قدراً. مثل طيء وخثعم وقضاعة وبعض بلحارث بن كعب". فيفهم من ذلك إذن إن الإيلاف، هو نوع من تأليف قلوب سادات القبائل، لصدهم عن التحرش بأهل مكة ومن التعرض بقوافلهم، فألقهم هاشم وصاروا له مثل "المؤلفَة قلوبهم" في الإسلام. لا سيما وان بين الإيلاف و "ألف" "ألف بينهم" و "المؤلفة" صلة. وان فيما قاله "الجاحظ" عن "هاشم" من قوله: "وشرك في تجارته رؤساء القبائل من العرب... وجعل لهم معه ربحاً"، وبين تأليف القبائل صلة تامة، تجعل تفسير الإيلاف على انه عهود ومواثيق مع سادات القبائل في مقابل إسهامهم بأموالهم وبحمايتهم لقوافلَ قريش في مقابل ضرائب معينة تدفع لهم، وسهاماً من الأرباح تؤدى لهم، مع إعطائهم رؤوس أموالهم وما ربحته في الأسواق هو تفسير منطقي معقول. وبذلك كسبت قريش حياد هذه القبائل ودفاعها عن مصالحها.

وقد تعرض "الثعالبي" لموضوع "إيلاف قريش"، فقال: إيلاف قريش: كانت قريش لا تتاجر إلا مع من ورد عليها من مكة في المواسم وبذي المجاز وسوق عكاظ، وفي الأشهر الحرام لا تبرح دارها، ولا تجاوز حرمها، للتحمس في دينهم، والحب لحرمهم، والإلف لبيتهم، ولقيامهم لجميع من دخل مكة بما يصلحهم، وكانوا بواد غير ذي زرع.... فكان أول من خرج إلى الشام ووفد إلى الملوك وأبعد في السفر ومرّ بالأعداء، وأخذ منهم الإيلاف الذي ذكره إذ هاشم بن عبد مناف، وكانت له رحلتان: رحلة في الشتاء نحو العباهلة من ملوك اليمن ونحو اليكسوم من ملوك الحبشة، ورحلة في الصيف نحو الشام وبلاد الروم. وكا يأخذ الإيلاف من رؤساء القبائل وسادات العشائر لخصلتين: إحداهما إن ذؤبان العرب وصعاليك الأعراب وأصحاب الغارات وطلاب الطوائل كانوا لا يؤمنون على أهل الحرم ولا غيرهم، والخصلة الأخرى إن أناساً من العرب كانوا لا يرون للحرم حرمة، ولا للشهر الحرام قدراً، كبني طيء وخثعم وقضاعة، وسائر العرب يحجون البيت ويدينون بالحرمة له. ومعنى الإيلاف إنما هو شيء كان يجعله هاشم لرؤساء القبائل من الربح، ويحمل لهم متاعاً مع متاعه، ويسوق إليهم إبلاً مع إبله ليكفيهم مؤنة الأسفار، ويكفي قريشاً مؤنة الأعداء، فكان ذلك صلاحاً للفريقين، إذ كان المقيم رابحاً، والمسافر محفوظاً، فأخصبت قريش، وأتاها خير الشام واليمن والحبشة، وحسنت حالها، وطاب عيشها. ولما مات هاشم قام بذلك المطلَّب، فلما مات المطلب قام بذلك عبد شمس، فلما مات عبد شمس قام به نوفل، وكان أصغرهم".

والى هذا الإيلاف أشر في شعر "مطرود الخزاعي" بقوله: يا أيها الرجل المحولّ رحله  هلا حلت بآل عبد منـاف

الآخذين العهد في إيلافهـم  والراحلين برحلة الإيلاف

وعمل قريش هذا هو عمل حكيم، بدّل وغيّر أسلوب تجارة مكة، بأن جعل لها قوافل ضخمة تمر بأمن وبسلام في مختلف أنحاء الجزيرة جاءت إليها نتيجة لذلك بأرباح كبيرة، ما كان في إمكانها الحصول عليها، لو بقيت تتاجر وفقاً لطريقتها القديمة، من إرسالها قوافل صغيرة للمتاجرة مع مختلف الأسواق، فكانت القافلة منها إذا سلبت، عادت بأفدح الأضرار المادية على صاحبها أو على الأسرة التي أرسلتها، وربما أنزلت الإفلاس والفقر بأصحابها، بينما توسعت القافلة وفقاً للطريقة الجديدة بأن ساهم بأموالها كل من أراد المساهمة، من غني أو صعلوك أو متوسط حال، ومن سادات قبائل. وبذلك توسع الربح، وعمت فائدته عدداً كبيراً من أهل مكة، فرفع بذلك من مستواها الاجتماعي، كما ضمن لقوافلها الأمن والسلامة، وصيرّ مكة مكاناً مقصوداً للأعراب.

ويذكر أهل الأخبار أنه كان المطلب وهاشم وعبد شمس، ولد عبد مناف من أمهم: "عاتكة بنت مر"ة السُلمية"، و "نوفل" من "واقدة"، قد سادوا بعد أبيهم عبد مناف جميعاً، وكان يقال لهم: "المجبرون"، وصار لهم شاًن وسلطان، فكانوا أول من أخذ لقريش "العِصَم"، أي "الحبال"، ويراد بها العهود. أخذ لهم هاشم حبلاَ من سوك الروم وغسان، وأخذ لهم عبد شمس حبلاً، من النجاشي الاكبر، فاختلفوا بذلك السبب إلى ارض الحبشة، وأخذ لهم نوفل حبلاً من الاكاسرة، فاختلفوا بذلك السبب إلى ارض العراق وأرض فارس، وأخذ لهم المطلب حبلاً من ملوك حمير، فاختلفوا بذلك السبب إلى اليمن، فجُبرت بهم قريش، فسمّوا المجبرين. حتى ضرب بهم المثل، فقيل: أقرش من المجبرين. والقرش الجمع والتجارة، والتقرش التجمع، والمجبرون هم الأربعة المذكورون.

وفي رواية أخرى إن "المطلب" هو الذي عقد الحلف لقريش من النجاشي في متجرها إلى أرضه. وأن هاشم، هو الذي عقد الحلف لقريش من "هرقل" لأن تختلف إلى الشام آمنة. ولو أخذنا بهذه الرواية وجب إن يكون هاشم قد أدرك، أيام "هرقل" "610-641" "Heracleous I"، وهو أمر غير ممكن. لأن معنى ذلك انه عاش في أيام الرسول وأدرك رسالته. ولا يهم ورود اسم "هرقل" في هذه الرواية، فأهل الأخبار لا يميزون بين ملوك الروم، ويذكرون اسم "هرقل"، لأنه حكم في أيام الرسول وفي أيام الخلفاء الراشدين الأُول.

وإذا صحت الرواية، يكون "آل عبد مناف"، قد احتكروا التجارة وصاروا من أعظم تجار مكة. وقد وَزّعوا التجارة فيما بينهم، وخَصوا كل بيت من بيوتهم الكبيرة بالاتجار مع مكان من أمكنة الاتجار المشهورة في ذلك لعهد، وأنهم تمكنوا بهذه السياسة من عقد عقود تجارية ومواثيق مع السلطات الأجنبية التي تاجروا معها لنيل حظوة. عندها، ولتسهيل معاملاتها التجارية، فجنبَوا من هذه التجارة أرباحاً كبيرة.

فما كان في استطاعة "قريش" إرسال "غيرها" إلى بلاد الشام أو العراق أو اليمن أو العربية الجنوبية، بغير رضاء وموافقة ساحات القبائل التي تمر قوافل قريش بأرضها:، ورضاء هؤلاء السادات بالنسبة لقريش هو أهم جداً من رضاء حكومات بلاد الشام أو العراق أو اليمن عن مجيء تجار مكة إلى بلادها للاتجار في أسواقها، فما الفائدة من موافقة حكومات تلك البلاد على مجيء تجار مكة للبيع والشراء في أسواقها، إن لم يكن في وسع أولئك التجار تأمين وصول تجارتهم إليها، أو تاًمين سلامة ما يشترونه من أسواقها لايصاله إلى مكة أو إلى الأسواق الأخرى. هذا كان من أهم ما فعله تجار مكة في هذا الباب، هو عقدهم "حبالاً" و "عصماً" وعهوداً مع رؤساء القبائل، لترضيتهم بدفع جعالات معينة لهم أو تقديم هدايا والطاف مناسبة مغرية لهم، أو اشتراكهم معهم في تجارتهم. يقول الجاحظ في باب "فضل هاشم على عبد شمس"، "وشرك في تجارته رؤساء القبائل من العرب... وجُعل لهم معه ربح". وبهذه العقود المتنوعة سيطر تجار قريش على الأعراب، وحافظوا على أموالهم، وحدّوا من شره فقراء أبناء البادية إلى الغنائم. وصار في إمكانهم الخروج بكل حرية من مكة ومن الأسواق القريبة منها بتجارتهم نهو الأماكن المذكرة بكل أمن وسلام.

ولما كان البحث في هذا الموضع، هو في تأريخ مكة بصورة عامة، لذلك فسأترك الكلام عن "الإيلاف" إلى الموضع المناسب الخاص به، وهو التجارة والاتجار، وعندئذ سأتكلم عنه بما يتمم هذا الكلام العام.

ويذكر أهل الأخبار إن عبد شمس وهاشماً توأمان، وقد وقع بينهما تحاسد، وانتقل هذا التحاسد إلى ولد الاخوين، حتى في الإسلام.

وذكروا إن "أمية بن عبد شمس" حسد عمهّ هاشماً، وكان أمية ذا مال، فدعا عمّه إلى المنافرة، فرضي عمّه بذلك مكرهاً، على إن يتحاكما إلى الكاهن "الخزاعي"، فنفَّر هاشماً عليه، فأخذ هاشم الإبل التي نافر عليها من أمية، فنحرها وأطعمها من حضره، وخرج أمية إلى الشام، فأقام بها عشر سنين، بحسبُ حكم الكاهن، وكان هاشم قد نافر على الجلاء عن مكة عشر سنين. فكانت هذه أول عداوة وقعت بين هاشم وأمية.

ويذكر أهل الأخبار إن أمية بن عبد شمس كان من جملة من ذهب من رجال مكة إلى "سيف بن ذي يزن" لتهنئته بانتصار اليمن على الحبش وطردهم لهم. وقد دخل عليه مع وفد مكة في "قصر غمدان". وكان مثل أبي 3 عبد شمس حامل لواء قريش، أي انه كان يحملها في الحرب.

وكان هاشم أول من مات من ولد عبد مناف، مات بغزة فعرفت ب "غزة هاشم"، وكان قد وفد بتجارة إليها فمات بها، ومات عبد شمس بمكة، فقبر بأجياد، ثم مات نوفل بسلمان من طريق العراق، ثم مات المطلب بردمان من ارض اليمن. ويتبين من ذلك إن جميع هؤلاء الاخوة، ما خلا عبد شمس، ماتوا في ارض غريبة، ماتوا تجاراً في تلك الديار.

وورد في رواية أخرى، إن هاشماً خرج هو وعبد شمس إلى الشام، فماتا جميعاً بغزة في عام واحد. وبقي مالهما إلى إن جاء الإسلام، وأجياد جبل مكة على رأي، وموضع مرتفع في الذرا غربيّ "الصفا" كما ورد ذلك في شعر للأعشى. ذكر إن "مضاضاً" ضرب في ذلك الموضع اجياد مائة رجل من العمالقة، فسمي الموضع بذلك "اجياد".

ويذكر الأخباريون: إن هاشماٌ كان قد خرج في عير لقريش فيها تجارات، وكان طريقهم على المدينة، فنزلوا ب "سوق النبط"، فصادفوا سوقاً مقامة، فباعوا واشتروا، ونظروا إلى امرأة على موضع مشرف من السوق تأمر بما يشترى ويباع لها. وهي حازمة جلدة مع جمال، فسأل هاشم عنها: أ أيّم هي، أم ذات زوج? فقيل له" أيّم، كانت لا تنكح الرجال لشرفها في قومها حتى يشترطوا لها إن أمرها بيدها" فاذا كرهت رجلاً، فارقته، وهي "سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش بن عامر بن غنيم بن عديّ بن النجار"، وهو "تيم الله بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج".، فخطبها فزوّجته نفسها، ودخل بها، وصنع طعاماً، دعا إليه من كان معه من أهل مكة، ودعا من الخزرج رجالاً. وأقام بأصحابه اياماً، وعلقت "سلس" بعبد المطلب. وكانت "سلمى"، قد تزوجت من "أُحَيْحَة بن الجُلاّح بن الحريش بن جَحْجَبا الأوسي"، وهو من المعروفين في قومه كذلك.

ويذكر أهل الأخبار، إن عمر هاشم لما توفي، كان عشرون سنة، ويقال خمساً وعشرين. وهو عمر قصير إذا قيس بما يذكره أهل الأخبار ويوردونه عنه من اتجار وأعمال، أعمال لا تتناسب مع تلك السن.

ومن سادات مكة في هذه الأيام "قيس بن عدي بن سهم" من بني هصيص ابن كعب"، قد تكاثروا بمكة، حتى كادوا يعدلون بعبد مناف. وهو الذي منع "عديّ بن كعب" و "زهرة بن كلاب" من "بني عبد مناف"، ومنع "بني عديّ" أيضاً، من "بني جمح". وكان "عبد المطلب بن هاشم" ينفر ابنه "عبد المطلب"، وهو صغير، ويقول: كأنه في العز قيس بن عـديّ  في دار قيس ينتدى أهل الندى

مما يدلّ إن صح إن هذا الشعر هو من شعر "عبد المطلب" حقاً، على إن "عديّاً" كان اعزّ رجال قريش في أيامه، حتى ضربوا به المثل في العزّ. وأنه كان سيّد قومه" بنو سهم بن هصيص بن كعب.

ومن ولد هاشم "عبد المطلب"، وأمه من أهل يثرب من بني التجار فهي خزرجية تدعى "سلمى بنت عمرو بن زيد" على نحو ما ذكرت قبل قليل. تزوّجها هاشم في أثناء رحلة من رحلاته التي كان يقوم بها إلى الشام للاتجار.

ولما مات هاشم بغزة ولدت سلمى "عبد المطلب"، ومكث عند أخواله سبع سنين، ثم عاد إلى قومه بمكة، عاد به عمه "المطلب". ولما كبر تولى السقاية والرفادة وتزعم قومه.

ويذكر أهل الأخبار، إن هاشماً كان قد أوصى إلى أخيه "المطلب"، فبنو هاشم وبنو المطلب يد واحدة. وبنو عبد شمس وبنو نوفل يد. ومعنى هذا إن نزاعاً كان قد وقع بين أبناء هاشم وأبناء إخوته، جعلهم ينقسمون إلى فرقتين.

ويذكر أهل الأخبار إن اسم عبد المطلب، هو "شيبة". وقد عرف بن الناس بعبد المطلب، لان عمّه "المطلب" لما حمله من يثرب إلى مكة، كان يقول للناس، هذا عبدي، أو عبدٌ لي، فسُميّ من ثم بعبد المطلب، وشاعت بين قومه أهل مكة حتى طغت على اسمه. وقيل انه عرف بين أهل مكة ب "شيبة الحمد" لكثرة حمد الناس له، وكان يقال له "الفيّاض" لجودة، و "مطعم طير السماء" و "مطعم الطير" لأنه كان يرفع من مائدته للطير والوحوش في رؤوس الجبال.

وقد كان "المطلب." عمّ "عبد المطلب" مثل سائر أفراد أسرته وأهل مكة تاجراً، فخرج إلى أرض اليمن تاجراً، فهلك ب "ردمان" من اليمن.

وهم يروون انه كان مَفزَع قريش في النوائب، وملجأهم في الأمور، وانه كان من حلماء قريش وحكمائها، وممن حرم الخمر على نفسه، وهو أول من تحنث بغار حراء. والتحنث التعبد الليالي ذوات للعدد. وكان إذا دخل شهر رمضان، صعده وأطعم المساكين، وكان صعوده للتخلي من الناس، ليتفكر في جلال الله وعظمته. وكان يعظم الظلم بمكة، ويكثر للطواف بالبيت.

وذكر انه كان يأمر أولاده بترك الظلم والبغي، ويحثهم على مكارم الأخلاق، وينهاهم عن دنيات الأمور. وكان يقول" لن. يخرج من الدنيا ظلوم حتى ينتقم الله منه، وان وراء هذه الدار، داراً يجزى فيها المحسن بإحسانه، ويعاقب المسيء بإساءته. ورفض في آخر عمره عبادة الأصنام، ووحَّد الله. وروي" انه وضع سنناً جاء القرآن بأكثرها، وجاءت السنة بها. منها" الوفاء بالنذر، وتحريم الخمر والزنا، وان لا يطوف بالبيتُ عُريان. وذكر انه كان أول من سنّ دية النفس مئة من الإبل، وكانت الدية قبل ذلك عشرا من الإبل، فجرت في قريش والعرب مئة من الإبل. وأقرها رسول الله على ما كانت عليه.

ويذكرون إن قريشاً كانت إذا أصابها قحط شديد، تأخذ بيد عبد المطلب، فتخرج به إلى جبل ثَبِبر، تستسقي المطرْ.

وقد وقع خلاف بين عبد المطلب وعمه "نوفل"، كان سببه إن نوفل بن عبد مناف، وكان آخر من بقي من بني عبد مناف، ظلم عبد المطلب على أركاح له، وهي الساحات، فلما أصر نوفل على انكاره حق عبد المطلب، تدخل عقلاء قريش في الأمر على رواية أهل مكة، أو أخوال عبد المطلب، وهم من أهل يثرب. فأكره "نوفل" على إنصاف عبد المطلب حتى عاد إليه حقه.

ومن أهم أعمال "عبد المطلب" الخالدة إلى اليوم "بثر زمزم" في المسجد الحرام، على مقربة من البيت. وهي بئر يذكرون إنها بثر إسماعيل، وان جرهماً دفنتها، وإنها تقع بين أساف ونائلة في موضع كانت قريش تنحر فيه. فلما حفرها "عبد المطلب"، أقبل عليها الحجّاج وتركوا سائر الآبار.

ويذكر أهل الأخيار إن عبد المطلب لما كشف عن بئر زمزم، وجد فيها دفائن، من ذلك غرالان من ذهب، كانت جرهم دفنتهما، وأسياف قلعية، وأدراع سوابغ، فجعل الأسياف باباً للكعبة، وضرب في الباب أحد الغزالين صفائح من ذهب، وجعل المفتاح والقفل من ذهب فكان أول ذهبُ حلِّيته الكعبة. وجعل الغزال الأخر في الجبّ الذي كان في الكعبة أمام هبل. وذكر إن قريشاً أرادت منعه من الحفر، ولكنه أصر على إن يحفر حتى يصل إلى موضع الماء، وذلك بسبب رؤيا رآها، عينت له المكان، وأوحت إليه انه موضع بئر قديمة طمرت وعليه إعادة حفرها.

ويذكر الأخباريون، إن عبد المطلب، لما حلى بالمال الذي خرج من بئر زمزم الكعبة، جعله صفائح من ذهب على باب الكعبة. فكان أول ذهبُ حلّيته الكعبة. وتذكر بعض الروايات، إن ثلاثة نفر من قريش عدوَا على هذا الذهب وسرقوهْ. وتذكر رواياتهم انه ضرب الأسياف التي عثر عليها في البئر باباً للكعبة، وضرب بالباب الغزالين من ذهب.

ويظهر من وصف أهل الأخبار لما فعله "عبد المطلب" جمن ضرب الغزالين صفائح في وجه الكعبة، ومن جعل المفتاح والقفل من ذهب، أو من ضرب أحد الغزالين صفائح على الباب، وجعل الغزال الآخر في الجبّ الذي كان أمام "هُبَلْ" أي الغبغب، إن الكعبة لم تكن على نحو ما يصفها أهل الأخبار من البساطة والسذاجة، بغير سقف وذات جدر ضمة بقدر قامة إنسان. إذْ لا يعقل إن يضرب وجه باب الكعبة بالذهب وتوضع في داخلها تلك النفائس وهي على تلك الحالة، للهم إلا اذا شككنا قي أمر هذه الروايات وذهبنا إلى إنها من نوع القصص الذي وضعه أهل الأخبار.

وقد طغى ماء "بئر زمزم، على مياه آبار مكة الأخرى. فهو أولاً ماء مقدس، لأنه في أرض مقدسة، وفي المسجد الحرام، ثم هو أغزر وأكر كمية من مياه الآبار الأخرى، وهو لا ينضب مهما استقى أصحاب الدلاء منه، ثم انه ألطف مذاقاً من مياه آبار مكة الأخرى. وقد استفاد "عبد المطلب" من هذه البئر، مادياً وأدبياً، وصارت ملكاً خالصة له، على الرغم من محاولات زعماء مكة والمنافسين له مساهمتهم له في حق هذه البئر، لأنها في أرض الحرم، والحرم حرم الله، وهو مشاع بين كل أهل مكة. وصار يسقي الحجاج من هذه البئر، وترك السقي من حياض الأدم التي كانت بمكة عند موضع بئر زمزم، وصار يحمل الماء من زمزم إلى عرفة فيسقي الحاج.

وكان أبناء "قصي" قبل حفر بئر "زمزم" يأتون بالماء من خارج مكة-كما يقول أهل الأخبار-ثم يملأون بها حياضاً من أدم ويسقون الحجاج، جروا بذلك على سنة "قصيّ"، فلما حفرت بئر زمزم، تركوا السقي بالحياض من المياه المستوردة من خارج مكة، وأخذوا يسقونهم منِ ماء زمزم.

وقد كان عبد المطلب يزور اليمن بين الحين والحين، فكان إذا وردها نزل على عظيم من عظماء حمير. ويذكر أهل الأخبار إن أحد هؤلاء عَلَّم عبد المطلب صبغ الشعَّر، وذلك بأن أمر يه فخضب بحناء، ثمُ عُلِيَ بالوسمة، وصار يصبغ شعره بمكة، وخضب أهل مكة بالسواد. ويذكرَ أهل الأخبار أيضاً انه اتصل بملوك اليمن، وأخذ منهم إيلافاً لقومه، بالاتجار مع اليمن. وكانت قريش تنظم عيراً إلى اليمن في كل سنة.

وبذكر "المسعودي" إن "معد يكرب" حينما ولي الملك باليمن، أتته الوفود لتهنئه بالملك. وكان فيمن وفد عليه من زعماء العرب، "عبد المطلب"، و "خويلد بن أسد بن عبد العزّى" وجد أميّة بن أبي الصلت، وقيل" أبو الصلت أبوه. فدخلوا عليه في قصره بمدينة صنعاء" قصر غمدان. ويذكر له، كلاماً قاله عبد المطلب له، وجواب "معد يكرب" عليه. ويذكر أيضاً إن "عبد المطبب" كان فيمن وفد على "سيف بن ذي يزَنَ" ليهنئه بطرد الحبش.

ولم يكن عبد المطلب أغنى رجل في قريش، ولم يكن سيد مكة الوحيد المطاع كما كان قصي، إذ. كان في مكة رجال كانوا أكثر منه مالاّ وسلطاناً. إنما كان وجيه قومه، لأنه كان يتولى السقاية والرفادة وبئر زمزم، فهي وجاهة ذات صلة بالبيت. وقد تكون صلته هذه، هي التي جعلته يذهب أبرهة لمحادثته في شؤون مكة والبيت.

ويروي أهل الأخبار إن عبد المطلب كان قد نذر: لئن أكمل الله له عشرة ذكور حتى يراهم ان يذبح أحدهم. فلما تكاملوا عشرة، هم بذبح أحدهم، فضرب بالقداح فخرج القداح كل عبد الله، ولكن القوم منعوه، ثم أشاروا عليه بان يرضي الله بنحر إبل فدية عنه، وكان كما ضرب القداح بخرج على عبد الله حتى يلبغ العدد مئة فخرج على الإبل. فنحرها بين الصفا والمروة. وخلىّ بينها وبين كل من يريد لحمها من إنسيّ أو أسبع أو طائر، لا يذب عنها أحداً، ولم يأكل منها هو ولا أحد من ولده شيئاً. وكان نحر الإبل قبل الفيل بخمس سنين. إذْن فيكون ذلك حوالي سنة "565" للميلاد.

وكان لعبد المطلب ماء بالطائف، يقال له "ذو الهرم" وكان في أيدي ثقيف ردحاً، ثم طلبه عبد المطلب منهم، فأبوا عليه. وكان صاحب أمر ثقيف" "جندب بن الحارث" فأبى عليه وخاصمه فيه، فدعاهما ذلك إلى المنافرة إلى الكاهن "العذري"، وكان يقال له" "عزى سلمة"، وكان ببلاد الشام، وتنافرا على إبل، وأتيا الكاهن، فنفر عبد المطلب عليه، فاًخذ عبد المطلب الإبل فنحرها.

وقد نادم "عبد المطلب" على عادة أهل مكة جماعة من أقرانه، لقد كانت عادتهم إن يجتمعوا مساءَ فيتحادثوا أو يشربوا ويأكلوا أو يستمعوا إلى غناء، حتى يحل وقت النوم، وكان ممن نادمهم عبد المطلب "حرب بن أمية"، ثم اختلف معه، ونافره عند "نفيل بن عبد العُزّى" جد "عمر بن الخطاب"، فنفره على "حرب"، فافترقا. وكان سبب افتراقه عنه، إغلاظ "حرب" القول على يهوديّ كان جوار عبد المطلب. وتذكر رواية أخرى إن عبد المطلب و "حرب"، تنافرا أولا إلى النجاشي الحبشي، ولكنه أبى إن ينفر بينهما، فذهبا إلى نفيل. وأن "حرب بن أمية" غضب حين نفر عبد المطلب عليه، وقال له: إن من انتكاس الزمان إن جعلناك حكماً، وصار نديماً لعبد الله ابن جدعان.

وذكر "ابن الأثير" إن سبب افتراق "عبد المطلب" عن "حرب"، كان بسبب جار عبد المطلب اليهودي، واسمه "أُذَيْنَةَ"، وكان تاجراً وله مال كثير، فغاظَ ذلك "حرب بن أمية"، فأغرى به فتياناً من قريش ليقتلوه ويأخذوا ماله. فقتله "عامر بن عبد مناف" و "صخر بن عمرو بن كعب التَيْميَ"، فلم يعرف عبد المطلب قاتله، فلم يزل يبحث حتى عرفهما، وإذا ما قد استجارا بحرب بن أمية، فأتى حرباً ولامه وطلبهما منه، فأخفاهما، فتغالظا في القول حتى تنافرا إلى النجاشي ملك الحبشة، فلم يدخل بينهما، وذهبا إلى نفيل. وترك عبد المطلب منادمة حرب، ونادم عبد الله بن جدعان، وأخذ من حرب مئة ناقة، فدفعها إلى ابن عم اليهوديّ، وارتجع ماله، إلا شيئاً هلك، فغرمه من ماله.

وقد صاهر عبد المطلب، رجال من أسر معروفة بمكة، فصاهره "كُريز ابن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس"، وكانت عنده "أم حكيم"، وهي "البيضاء بنت عبد للطلب". وصاهره "أبو أميةّ بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم"، وكانت عنده "عاتكة بنت عبد المطلب"، و "عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم"، وكانت عنده "برة بنت عبد المطلب". وناسبه "أبو رُهم بن عبد العزى بن أبي قيس بن عبد ودّ بن نصر بن مالك ابن حسل بن عامر بن لؤي"، خلف على "برة" بعد عبد الأسد. وصاهره "جحش بن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرّة بن كبير بن غنم بن. دودان بن أسد بن خزيمة"، وكانت عنده "اميمة بنت عبد المطلب"، و "العْوّام ابن خويلد بن أسد بن عبد العُزّى"، خلف على "صفية بعد عمير بن وهب". ويذكر إن "عبد المطلب"، كان يفرش له في ظل الكعبة، ويجلس بنوه حول فراشه إلى خروجه، فإذا خرج، قاموا على رأسه مع عبيده، إجلالاً له. وكانت عادة سادة مكة تمضية أوقاتهم في مسجد الكعبة، حيث يجلسون في ظل الكعبة أو في فنائها يتحدثون ويتسامرون، ثم يذهبون إلى بيوتهم.

وفي أيام عبد المطلب كانت حملة "أبرهة" على مكة. وقد أرخت قريش بوقوعها، وصيرت الحملة مبدءاً لتأريخ، لأهميتها بالنسبة لمكة. وقد تركت أثراً كبيراً في نفوس قريش، بدليل تذكير القرآن لهم بما حلّ ب "أصحاب الفيل"، على نحو ما تحدثت عنه في الأجزاء المتقدمة من هذا الكتاب.

وقد رأينا إن "عبد المطلب" وقد أشار على قومه بالتحرز بشعاب الجبال، ويترك البيت وشأنه لأن للبيت رباً يحميه، وبعدم التحرش بالحبش وتركهم وشأنهم. والظاهر انه وجد إن عدد الأحباش كان كبيراً وان من غير الممكن مقاومتهم.والذبّ عن مكة في الوادي. ثم إنها حرم آمن، لا يجوز القتال فيه، وليس فيها حصون وآطام يُتَحصنَّ بها، لهذا رأى الرحيل عن الوادي والاحتماء برؤوس الجبال، والأشراف منها على الدروب والطرق، فذلك انفع وأحمى للمال وللنفس. ثم إن من الممكن مباغتة الحبش منها ومهاجمتهم وإنزال خسائر بهم حين يشاؤون ويقررون، على حين تكون القوة والمنعة في ايدي الأحباش لو حصروا أنفسهم بمكة، اذ يكونون في منخفض بينما العدّو على شُرف يشرف عليهم، وليس في إمكانهم مقاومته، وليس لهم حصون ولا مواضع دفاع. فتكون الغلبة لأبرهة حتماً، وقد نجحت فكرة عبد المطلب، ولمُ يُصب أهل مكة بسوء.

وقد كان من عادة أهل مكة، انهم إذا داهمهم الخطر توقَّلوا الجبال واعتصموا بها، ولما حاصرهم الرسول عام الفتح، هرب أكثرهم واعتصموا برؤوس الجبال، إذ ليس في إمكانهم الحرب والصمود في البطحاء.

ومات "عبد المطلب" بعد إن جاوز الثمانين. مات في ملك "هرمز بن أنو شروان"، وعلى الحيرة قابوس بن المنذر، أخو "عمرو بن المنذر" على رواية، وعمر الرسول ثمان سنين. ومعنى ذلك انه توفي في حوالي السنة "578" للميلاد. ولما حمل على سريره، جزت نساء "بني عبد مناف" شعورهن، وشق بعض الأولاد قمصانهم، حزناً على وفاته. ودفن بالحجون. وذكر انه لم يقم بمكة سوق أياماً كثيرة لوفاة عبد المطلب.

وذكر إن عبد المطلب كان أول، من تحنث بحراء، وكان إذا أهل هلال شهر رمضان، دخل بحراء فلم يخرج حتى ينسلخ الشهر، ويطعم المساكين. وكان يعظّم الظلم بمكة ويكثر الطواف بالبيت.

ومن ولد عبد المطلب" عبد الله وهو والد الرسول، وأبو طالب، واسمه عبد مناف، والزبير، وعبد الكعبة، وعاتكة، وبرة وأميمة. وعدة ولده اثنا عشر رجلا وست نسوة.

ولم يكن ولد عبد المطلب من رجال مكة الأثرياء، وكل ما كان عندهم ثراء روحي، استمدوه من اسم "قصيّ" وهاشم. فكانوا من وجهاء مكة من هذه الناحية. إما من ناحية المادة والمال، فلم يكونوا من السباقين فيه. لقعد كانوا وسطا، وربما كانوا دون أوساط تجار مكة. مات "عبد الله"، ولم يخلف لأهله شيئاً، ومات أبو طالب، وحالته المالية ليست على ما يرام. لقد تهانوا تجاراً يخرجون بتجارتهم على عادة فيهم إلى بلاد الشام، أو إلى اليمن فيبيعون ويشترون، ولكنهم على ما يبدو من الأخبار لم يتمكنوا من جمع ثروة تغنيهم وتجعلهم من أغنياء مكة. وقد توُُفيّ "عبد الله" وهو في طريقه من. "غزة" إلى مكة، وكان قد اقبل بتجارة له، فنزل بالمدينة وهو مريض، وتوفي هناك، وأن "عبد المطلب" بعث إليه "الزبير بن عبد المطلب" أخاه، ودفن في دار النابغة. وأنه ترك عند وفاته "أم أيمن"، حاضنة الرسول، وكان يُسميها" "أميّ"، فأعتقها وخمسة أجمال أوارك، وقطعة غنم، وسيفاً مأثوراً، وورقا.

وخرج "أبو طالب" بتجارة له في "عير قريش" ولكنه لم يتمكن من كسب شيء يربحه ويسعده من كل تجاراته. وآية ذلك إن الرسول اخذ منه ابنه "علياً"، ليشف عنه مشقة الأنفاق. على ولده، وأخذ "العباس" "جعفراً" منه لينفق عليه. ووضعٌ مثل هذا لا يدل على يسر. وكانت له مع فقره هذا وجاهة عند أهله وقومه. قيل: "لم يَسُد من قريش ممِقِ إلا عتبة وأبو طالب، فانهما سادا بغير مال". وقال "عليّ" في والده" "أبي ساد فقيراً وما ساد فقير غيره". وذكر إن عياله كانوا في ضيقة وخدة. لا يكادون يشبعون لقلة ما عندهم.

وعتبة بن ربيعة، هو أبو هند زوج "أبي سفيان"، وهي أم معاوية. ويذكر أهل الأخبار أيضاً" "ساد عتبة بن أبي ربيعة وأبو طالب، وكانا أفلس من أبي المزلق. وهو رجل من بني عبد شمس، لم يكن يجد مؤنة ليلته، وكذا أبوه وجدّه وجد جدّه كلهم يعرفون بالافلاس".

ويظهر إن "عبد شمس" و "نوفل" و "مخزوم"، كانوا قد تمكنوا من منافسة "عبد المطلب" و "آل هاشم" على التجارة، ومن انتزاع نجارة بلاد الشام منهم، ومن مزاحمتهم في الاتجار مع اليمن والعراق، حتى حصلوا على ثراء طائل، صيرّهم من أغنى رجال مكة، وجعل لهم التفوق على البلد، حتى صار رجال من "بني مخزوم" من أغنى رجال مكة. وكذلك رجال من "عبد شمس".

وتعدّ "أيام الفجار" من الحوادث المؤثرة في تأريخ مكة. وهي أفجرة. وإنما سميت بذلك لأنها كانت في الأشهر الحرم، ومن أهمها "فجار البراض"، نسبت إلى "البراض بن قيس" الذي قتل "عروة الرحّال" "عروة بن عتبة الرحال"، اذ جانب "قدك" بأرض يقال لها "أوارة"، فأهاج مقتله الحرب بين "قريش" ومن معها من "كنانة" وبين "قيس عيلان"، وكانت الدبرة على "قيس". وذكر في رواية أخرى، إن الفجارات الأربعة" فجار الرجل، أو فجار بدر بن معشر الغفاري، وهو الفجار الأول، وفجار القرد، وفجار المرأة، والفجار الرابع هو فجار البراض. وان يوم "البراض" أو يوم نخلة، هو أعظم أيّام الفجار، وكان البراض قد قدم باللطيمة إلى مكة، فأكلها، وهي لطيمة "النعمان بن المنذر"، التي وضع "النعمان" زمامها بيد "عروة بن عتبة الرحال"، وكان سُمّي الرحال لرحلته إلى الملوك. فكان ذلك مما الحرب. وقد رأس قريش: حرب بن أُمية، وكان موضعه في القلب، وعبد الله ابن جدعان في إحدى المجنبتين، وهشام بن المغيرة في الأخرى، فالتقوا ب "نخلة"، فاقتتلوا حتى دخلت قريش الحرم، وجن عليهم الليل. فكان اليوم لهوازن.

وذكر إن هذا اليوم قد وقع بعد عشرين سنة من عام الفيل. وقد شهد الرسول وعمره عشرون سنة.

ثم إن قريشاً وبني كنانة لقوا هوازن بشمطة. وعلى بني هاشم" الزبير بن عبد المطلب، وعلى بني عبد شمس وأحلافها" حرب بن أمية، وعلى بني عبد الدار وحلفائها" عكرمة بن هاشم، وعلى بني أسد بن عبد العزى" خويلد بن أسد، وعلى بني زهرة" مخرمة بن نوفل، وعلى بني تيم: عبد الله بن جدعان، وعلى بني مخزوم: هاشم بن المغيرة، وعلى بني سهم: العاص بن وائل، وعلى بني جمح: أمية بن خلف، وعلى بني عديّ: زيد بن عمرو بن نفيل، وعلى بني عامر بن لؤي: عمرو بن شمس، وعلى بني فهر: عبد الله بن الجرّاح، وعلى بني بكر: بلعاء بن قيس، وعلى الأحابيش: الحليس الكناني، فالتقوا أول النهار على هوازن، فصبروا. ثم استحر القتل في قريش، وانهزم الناس.

وروي إن "البراض بن قيس" لقي "بشر بن أبي خازم" الأسدي الشاعر، فأخبره الخبر، وأمر إن يعلم ذلك "عبد الله بن جدعان" و "هشام ابن المغيرة"، و "حرب بن أمية" و "نوفل بن معاوية الديلي" و "بلعاء ابن قيس"، فوافى "عكاظا"، فأخبرهم فخرجوا إلى الحرم، وبلغ "قيساً" الخبر، فخرجوا في آثارهم فأدركوهم وقد دخلوا الحرم، ولم تقم في تلك السنة "عكاظ". ومكثت "قريش" وغيرها من "كنانة" و "أسد" بن خزيمة ومن لحق بهم من الأحابيش، وهم الحارث بن عبد مناة وعضل والقارة وديش والمصطلق من خزاعة لحلفهم بالحارث بن عبد مناة، سنة يتأهبون للحرب، لإنذار "قيس" لها. وتأهبت "قيس عملان" وسارت على "قريش"، وكان فيها "أبو براء عامر بن مالك بن جعفر"، و "سُبيع بن ربيعة بن معاوية النصري" و "دريد بن الصعمة"، و "مسعود بن معتب الثقفي" و "أبو عروة بن مسعود" و "عوف بن أبي حارثة المرّي" و "عباس بن رعل السُلمي". واستعدت "قريش". ورؤساؤها "عبد الله بن جدعان"، و "هشام ابن المغيرة"، و "حرب بن أمية" و "أبو أحيحية سعيد بن العاص"، و "عتبة بن ربيعة"، و "العاص بن وائل"، و "معمر بن حبيب الجمحي"، و "عكرمة بن هاشم"، وخرجوا متساندين. ويقال بل أمرُهم إلى عبد الله بن جدعان. فالتقوا فكانت الدبرة أول النهار لقيس على قريش وكنانة ومن ضوى إليهم، ثم صارت الدبرة آخر النهر لقريش وكنانة على قيس، فقتلوهم قتلاً ذريعاً. فاصطلحوا على إن عَدّوا القتلى، وودت قريش لقيس ما قتلت فضلاً عن قتلاهم، وانتهت الحرب. وقد شهد الرسول هذه الفجار، ورمى فيها بسهم، فكان يوم حضر ابن عشرين سنة، وكان الفجار بعد الفيل بعشرين سنة.

وأغلب حروب الفجار معارك ومناوشات، ولم تكن حروباً بالمعنى المفهوم من كلمة "حرب". إما أهميتها وسبب اشتهارها فلوقوعها في شهور حرم ولخروج المتحاربين فيها على سنة قريش ودينهم في تحريم القتال في هذه الشهور. ولهذا السبب حفظ ذكرها وجاء خبرها في كتب أهل الأخبار. وقد كان النصر فيها على كنانة وقريش في الغالب. وهو شيء مفهوم معقول. فقد كانت "قيس عيلان" كما كانت "هوازن" قبائل محاربة تعيش على الغزو والقتال، بينما كانت "قريش قبيلة مستقرة اتخذت التجارة لها رزقاً، كما عاشت على الأرباح التي تجنيها من مجيء الأعراب إليها في مواسم الحج أو أيام العمرة ومن الامتيار من أسواقها. وقوم هذا شأنهم في حياتهم وفي تعاملهم لا يمكن إن يميلوا إلى الغزو والقتال، بل كانوا يحبون حياة السلم والاستقرار، يشترون السلم ولو عن طريق ترضية الأعراب بتقديم الأموال لهم والهدايا والهبات. لذلك لم يصر رجالها رجال حروب وقتال، بل صاروا رجال سياسة ومساومة ومفاوضات تنتهي بنتائج طيبة بالنسبة لهم، لا يمكن إن يحصلوا عليها من القتال.

وقد راس "الزبير بن عبد المطلب" بني هاشم، غير إن رئاسته هذه لم تكن متينة وقد كان في جملة من شهد "حلف الفضول" في دار "عبد الله ابن جدعان". كما رأس "بني هاشم" في حرب الفجار. وذكر انه كان نديماً لمالك بن عُميلة بن السباق بن عبد الدار. وقد تاجر الزبير مع بلاد الشام إلاّ انه لم ينجح في تجارته على ما ظهر، بدليل انه لم يكن موسراً. وذكر انه كان أحدُ حكام العرب الذين يتحاكمون إليهم.

وحلف الفضول من الأحداث المهمة التي يذكرها أهل السير والأخبار في تأريخ مكة. وإذا صحّ ما يذكرونه من انه عقد بعد الفجار بشهور، وفي السنة التي وقع فيها الفجار الذي حضره الرسول، ومن إن الرسول حضره وهو ابن عشرين سنة، فيجب إن يكون عقد هذا الحلف قد تم في حوالي السنة "590" للميلاد. ويذكر إن الذي دعا إليه هو الزبير بن عبد المطلب.

وقد شهد حلف الفضول بنو هاشم وبنو زهرة وبنو تيم وذكر انهم تعاهدوا على إن يكونوا مع المظلوم حتى يؤدى إليه حقه، وفي التآسي في المعاش. وقد عقد منصرف قريش من الفجار وكان الفجار في شوّال وعقد الحلف في ذي العقدة. وذكر أيضاً انهم "تحالفوا ألاُ يظلم أحد بمكة إلا قاموا معه حتى ترد ظلامته". وقد ذكره الشاعر "نبيه بن الحجاج السمي". وليس لأهل الأخبار رأي ثابت عن سبب تسمية هذا الحلف بحلف الفضول. فذكر بعضهم انهُ سُمي بذلك لأنهم تحالفوا إن يتركوا عند أحد فضلاً يظلمه أحداً إلا أخذوه له منه. وقيل" سُميّ به تشبيهاً بحلف كان قديماً بمكة أيام جرهم على التناصف والأخذ للضعيف من القوي والغريب من القاطن. وُسميّ حلف الفضول، لأنه قام به رجال من جرهم كلهم يسمى الفضل، فقيل حلف الفضول جمعاً لأسماء هؤلاء.

وذكر انهُ سميّ حلف الفضول، لأن قريشاً قالت: هذا فضول من الحلف، فسمي حلف الفضول. وقيل لأن قريشاً تعاقدوا فيما بينهم على "مواساة أهل الفاقة ممن ورد مكة بفضول أموالهم". وهو في بعض الروايات تحالُف ثلاثة من الفضلين على ألا يروا ظلماً بمكة إلا غيرّوه. وأسماؤهم: الفضل بن شراعة، والفضل بن قضاعة، والفضل بن نصاعة. فسُمي من ثم باسمهم" حلف الفضول.

وذكر اكثر أهل الأخبار، إن الغاية التي أريد بها منه، هي إنصاف المظلومين من أهل مكة، من الضعفاء والمساكين ومن لا يجد له عوناً ليحميه ويدافع عن حقوقه، وإنصاف الغرباء الوافدين على مكة من حجاج أو تجار، ممن يعتدي عليهم فيأخذ أموالهم أخذاً ويأكلها ولا يدفع لأصحابها عنها شيئاً. فذكر إن رجلاً من "زبيد" من اليمن، وكان يباع سلعة له "العاصَ بن وائل السهمي"، فمطله الثمن حتى يئس، فعلا جبل "أبي قيس"، وقريش في مجالسها حول الكعبة، فنادى رافعا صوته يشكو ظلامته، ويطلب أنصافه مستجيراً بقريش، فمشت قريش بعضها إلى بعض، وكان أول من سعى في ذلك "الزبير بن عبد المطلب"، واجتمعت في "دار الندوة"، وكان ممن اجتمع بها من "قريش" "بنو هاشم" و "بنو المطلب" و "زهرة" و "تيم" و "بنو الحارث"، فاتفقوا على انهم ينصفون المظلوم من الظالم، فساروا إلى دار عبد الله بن جدعان، فتحالفوا هنالك.

وذكر إن رجلا من "بني أسد بن خزيمة" جاء بتجارة فاشتراها رجل من "بني سهم"، فأخذها السهمي وأبى إن يعطيه الثمن، فكلّم قريشاً وسألها أعانته على أخذ حقه، فلم يأخذ له أحد بحقه، فصعد الأسدى "أبا قيس"، وصرخ بشعر يشكو فيه ظلامته، فتداعت قريش، وعقدت حلف الفضول.

وقيل لم يكن من "بني أسد"، ولكنه "قيس بن شيبة السلُمي"، باع متاعاً من "أبي خلف الجمحي" وذهب بحقه، فاستجار ب "آل قصي"، فأجاروه، فكان ذلك سبب عقد حلف الفضول. وقيل" بل كان الرجل من "بارق"، فلما يئس من أخذ حقه من "أبي"، صعد في الجبل ورفع عقيرته بقوله: يا للرجال لمظلومٍ بضاعتـه  ببطن مكة نائي الدار والنفر

إن الحرام لمن تمتً حرامته  ولا حرام لثوب الفاجر الغدر

فلما سمعه "الزبير بن عبد المطلب"، أجابه: حلَفتُ لنعقدن حِلفْاً عليهـم  وإن كُنّا جميعاً أهـل دار

نسُميّه الفضول إذا عقدنـا  يقربه الغريب لذي الجوارَ

ثم قام وعبد الله بن جدعان، فدعوا قريشاً إلى التحالف والتناصر والأخذ لمظلوم من الظالم، فأجابوهما، وتحالفوا في دار عبد الله بن جدعان، فهذا حلف لفضول.

وذكر إن رجلاً من "خثعم" قدم مكة ومعه بنت وضيئة، فاغتصعبها منه "نبيه بن الحجاج"، فقيل له عليك بحلف الفضول، فوقف عند الكعبة، ونادى: يا لحلف الفضول، فاجتمعوا حوله، واستردوا الجارية من نبيه. وقالوا له: "ويحك. فقد علمت من نحن وما تعاهدنا عليه" فأعادها إليه.

ويظهر من هذا الخبر إن حلف الفضول كان قد عقد قبل هذه الحادثة، وان جماعته كانت شديدة متراصة في دفع الحق إلى أهله واسترجاعه ممن اغتصبه كائناً ما كان.

ويظهر إن هذا الحلف استمر قائما إلى وقت ما في الإسلام، ثم فقد قيمته، فمات. فورد انه كان بين "الحسين بن عليّ بن أبي طالب" وبن "الوليد بن عتبة بن أبي سفيان" منازعة في مال متعلق بالحسين، فماطله الوليد. "فقال الحسين للوليد" أحلف بالله لتنصفني من حقي أو لآخذن سيفي ثم لأقومن مسجد رسول الله صلى اللّه عليه وسلم، ثم لأدعون لحلف الفضول، فلما بلغ ذاك الوليد بن عتبة أنصف الحسين من حقه".

وقد تفسر دعوة "الحسين". المذكورة، بأن الحسين، لم يقصد بقوله "لأدعون لحلف الفضول"، الحلف القديم المعروف، وإنما قصد لأدعون لحلف كحلف الفضول، وهو نصرة المظلوم على ظالمه. لم قد أبده على حقه جماعة، منهم عبد الله بن الزبير، مما دفع الوليد على إرجاع حق الحسين،. خشية وقوع فتنة وتدخّل في هذه الخصومة. ومعنى هنا أننا لا نستطيع إن نستنتج من الخبر المتقدم، إن حلف الفضول كان قد بقي إلى ذلك العهد.

ويرجع حلف للفضول إلى أحلاف سابقة على ما يتبين من أخبار أهل الأخبار. إلى عهد "هاشم" والى ما قبل أيام هاشم. والظاهر إن أهل مكة، بعد إن اجتمعوا وتكتلوا في واد ضيق وفي أرض فقيرة، وجدوا إن من العسير عليهم رؤية حفنة منهم وقد اسًتأثرت بالمال والغنى، بينما عاش الكثير بينهم في فقر وفاقة. وانهم إن أصموا آذانهم عن سماع نداء الإغاثة، فإن حالة من الذعر، ستسود مدينتهم. لذلك تواصوا فيما بينهم على مواساة أهل الفاقة وجبْر خاطر المحتاج، وعلى تراحمهم فيما بينهم وتواصلهم. وكان مما فعلوه لرفع مستوى الفقر، وللقضاء على الفوارق الكبيرة التي صارت فيما ببن سادات مكة وسوادها، إن حثوا كل مكيّ على المساهمة في أموال القوافل، حتى إذا ما عادت رابحة، ُوزعت أرباحها على هؤلاء أيضاً، كلّ حسب مقدار ما ساهم به من مال في القافلة. وبذلك خفف أهل مكة من حدة التضاد الذي كان بين النقيضين. وأمنوا من تطاول الشباب الفقراء على الأغنياء. بأن فتح بعض الأغنياء أبواب بيوتهم للجياع، فآووهم وساعدوهم على نحو ما جاء في شعر لمطرود بن كعب الخزاعي إذ يقول: هبلتك أملك لو حللت بدارهـم  ضمنوك من جوع ومن اقراف

وقو له: والخالطين غنيهم بفقيرهـم  حتى يصير فقيرهم كالكافي

والعطف على الفقراء ومواساة الضعفاء وذوي الحاجة من خلال الأشراف السادات. لأنهم إن لم يغيثوا الغائث ويرحموا المسكين فمن يرحمهم إذن على وجه هذه الأرض! وقد مدح من يجلط الفقير بالغني فيساوي بينهما، وذم من يبيت شبعاناً وجاره يبيت خامصاً لا شيء عنده يعتمد عليه.

وكان من أهم الأحداث التي وقعت في أيام الرسول، يوم كان في الخامسة والثلاثين، بناء الكعبة. بسبب سيل ملأ ما بين الجبلين، ودخل الكعبة حتى تصدعت، أو بسبب حريق أصاب أستار الكعبة، فتصدعت، فعزمت قريش على بنائها، فهدمتها وأعادت بناءها. وذكر إن قريشاً كانت قد أفردت ببناء كل ربع من أرباع البيت قوماً، وكان ذلك بقرعة بينهم. فلما انتهوا إلى موضع الحجر الأسود، اختلفوا فيمن يضعه وتشاحوا عليه، فرضوا بأول من يدخل من الباب. فكان أول من دخل رسول الله، فوضعه بيده، بعد إن قال: ليأت من كل ربع من قريش رجل، وبذلك فض النزاع. ويجب إن يكون حادث بناء البيت إذن في حوالي السنة "605" للميلاد.

وجهاء مكة

وكان أمر مكة إلى وجهاء أمرها، مثل "بنو مخزوم"، و "بنو عبد شمس"، و"بنو زهرة"و "بنو سهم" و"بنو المطلب" و"بنو هاشم"و "بنو نوفل" و "بنو عديّ" و "بنو كنانة" و "بنو أسد" و "بنو تيم" و "بنو جمح" و "بنو عبد الدار" و "بنو عامر بن لؤي" و "بنو محارب بن فهر" وذكر بعض أهل الأخبار، إن الشرف والرياسة في قريش في الجاهلية في "بني قصيّ"، لا ينازعونهم ولا يفخر عليهم فاخر. فلم يزالوا ينقاد لهم ويرأسون. وكانت لقريش ست مآثر كلها لبني قصيّ دون سائر قريش. فها الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء والرياسة. فلما هلك "حرب بن أمية"، وكان حرب رئيساً بعد المطلب، تفرقت الرياسة وللشرف في "بني عبد مناف". فكان في بني هاشم" الزبير وأبو طالب وحمزة، والعباس بن عبد المطلب. وفي بني أمية: أبو احيحة، وهو سعيد بن العاص بن امية، وهو "ذو العمامة"، كان لا يعتم أحد بمكة بلون عمامته إعظاماً له. وفي بني المطلب: عبد يزيد بن هاشم بن المطلب. و "عبد يزيد" هو "المحض لا قذى فيه." وفي "بني نوفل": المطعم بن عديّ بن نوفل. وفي بني أسد بن عبد العزُى: خويلد ابن أسد، وعثمان بن الحويرث بن أسد. وقد كانت النبوة والخلافة لبني عبئ مناف، ويشركهم في الشورى: زهرة وتيم وعدي وأسد: وقد اختص "بنو كنانة" بالنسيء. فكان نسأة الشهور منهم. وهم "القلامسة". وكانوا فقهاء العرب والمفتين لهم في دينهم. فمكانتهم أذن بين الناس هي مكانة روحية، فبيدهم الفقه والإفتاء.

ومكة وان كانت مجتمعاً حضرياً، أهله أهل مدر في الغالب، غير إنها لم تكن حضرية تامة الحضارة بالمعنى الذي نفهمه اليوم، لأن الحياة فيها كانت مبنية على أساس العصبية القبلية. المدينة مقدمة إلى شعاب، والشعاب هي وحدات اجتماعية مستقلة، تحكمها الاسر، وبين الأسر نزاع وتنافس على الجاه والنفوذ نزاع وان لم يقلق الأمن ويعبث بسلام المدينة، الا انه اثر في حياتها الاجتماعية أثراً خطيراً، انتقلت عدواه إلى أيام الإسلام.

لقد حاول بعض رؤسائها ووجوهها التحكم بأمر مكة،. وإعلان نفسه ملكاً عليها محلي رأسه بالتاج شأن الملوك المتوّجين، ولكنه لم يفلح ولم ينجح. حتى ذكر آن بعضهم التجأ إلى الغرباء، لمساعدتهم بنفوذهم السياسي والمادي والعسكري في تنصيب أنفسهم ملوكاً علها، فلم ينجحوا، كالذي ذكروه عن "عمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى"، المعروف ب "البطريق"، من انه طمع في ملك مكة، فلما عجز عن ذلك، خرج إلى قيصر، فسأله إن يملّكه على قريش، وقال: احملهم على دينك، فيدخلون في طاعتك، ففعل، وكتب له عهداً وختمه بالذهب، فهابت قريش "قيصر" وهمّوا إن يدينوا له، ثم قام الأسود بن المطلب، أبو زمعة، فصاح، والناس في الطواف" إن قريشاً لقاح! لا تملك ولا تملك، وصاح الأسود بن أسد بن عبد العزى" إلا إن مكة حي لقاح، لا تدين لملك. فاتسعت قريش على كلامه، ومنعوا عثمان مما جاء له، ولم يتم له مراده، فمات عند ابن جفنة. فاتهمت بنو أسد ابن جفنة بقتله. وابن جفنة هو عمرو بن جفنه الغساني.

ولم يكن عمان بن الحويرث أول زعيم جاهلي فُتن بالملك ويلقب ملك، الحبيب إلى النفوس، حتى حمله ذلك على استجداء هذا اللقب والحصول عليه بأية طريقة كانت، ولو عن سبيل التودد إلى الأقوياء الغرباء والتوسل إليهم، لمساعدتهم في تنصيبهم ملوكاً على قومهم. ففي كتب أهل الأخبار والتواريخ أسماء نفر كانوا على شاكلته، فتنهم الملك وأعماهم الطمع وحملهم ضعف الشخصية وفقر النفس حتى عاما التوسل إلى الساسانيين والروم، لتنصيبهم على قومهم ومنحهم اللقب الحبيب، ووضع التاج على رأسهم، في مقابل وضع أنفسهم وقومهم في خدمة السادة المساعدين أصحاب المنة والفضل.

لقد استمات عمان بن الحويرث في سبيل الحصول على ملك مكة، حتى ذكر انه تنصر وتقرب بذلك إلى الروم، وحسنت منزلته عندهم. ومن يدري? فلعله كان مدفوعاً مأموراً حرضه الروم ودفعوه للحصول على المدينة المقدسة، ليتمكنوا بذلك من السيطرة على الحجاز والوصول إلى اليمن والسيطرة على العربية الغربية والعربية الجنوبية. وإخضاع جزيرة العرب بذلك لنفوذهم. ولقد جمع القوم ورغبهم وأنذرهم وحذرهم بغضا الروم عليهم إن عارضوا مشروعه وقاوموا تنصيبه ملكاً عليهم. قائلا لهم: "يا قوم، إن قيصر قد علمتم امانكم ببلاده وما تصيبون من التجارة في كنفه. وقد ملكني عليكم، وأنا ابن عمكم، وأحدكم، وإنما آخذ منكم الجُراب من القرظ والعكة من السمن والأوهاب، فأجمع ذلك، ثم اذهب إليه. وأنا أخاف إن ابيتم ذلك إن يمنع منكم الشام، فلا تتجروا به وينقطع مرفقكم منه".

واذ صحَّ إن هذا الكلام هو كلام "عمان بن الحويرث" حقاً، وانه خاطب به قومه لحثهم على الاعتراف به ملكاً على مكة، فانه يكون كلام رجل عرف من أين يكلم قومه، وكيف يأتيهم! فقد هددهم باًن الروم سيمنعونهم من الاتجار مع الشام إن خالفوه ولم يبايعوه ولم يسلموا له بالملك، وقد كلفه "قيصر" به.. لأنه يعلم إن تجارة قريش مع بلاد الشام هي مصدر من أهم مصادر رزقهم. ولهذا ظن بأنهم سيخضعون له ويقبلون بما جاء به،. ولكن أشراف مكة من أصحاب المال والفوذ، لم يحملوا هذا التهديد محمل الجد، فالروم لا يهمهم أمر "عمان" كثيراً، ثم إن تهديدهم بقطع تجارة قريش مع الشام، تهديد لا يمكن تحقيقه، وحدود الشام طويلة ومفتوحة، ولعلّهم وجدوا إن كلام "عثمان" هو ادعاء لم يصدر عن الروم، تفوه به، من حيث لا يعلمون. فلم يقيموا له وزناً.

ولم يذكر أهل الأخبار شيئاً عن لقب "البطريق" الذي منحوه ل "عثمان ابن الحويرث". ولا أظن إن الروم قد منحوه له، لأنهم لم يكونوا يمنحون هذا اللقب المهم إلا لكبار العاملين في خدمتهم، ممن أدى لهم خدمات جليلة، ولا أظن انه يشير إلى درجة دينية، لأنه لم يشتهر بين النصارى شهرة كبيرة ولم ينل من العلم والمكانة ما يؤهله لأن يكون "بطريارخاً" على الكنيسة. وقد ذكر علماء اللغة إن "البطرق"، القائد، معرب، وهو الحاذق بالحرب وأمورها، وهو ذو منصب عند الروم. فلا يعقل إن يكون "عثمان"، قد نال هذه المنزلة عند البيزنطيين. وهي منزلة لم ينلها إلا بعض ملوك الغساسنة مع صلتهم القوية بهم.

ومما يذكره أبر الأخبار عن "عثمان" هذا، انه كان في رؤساء حرب الفجار من قريش. وانه كان من "بني أسد بن عبد العزّى"، وانه كان أحد الهجائين.

ومن وجهاء مكة وساداتها المقدمين المعروفين" عبد الله بن جدعان، وكان ثريّاً واسع الثراء، كما كان كريماً، أسرف في أواخر عمره في إكرام الناس وبالغ في إعطائهم حتى حجر رهطه عليه لما أسن، فكان إذا أعطى أحداً شيئاً، رجعوا على المعطى فأخذوه منه. فكان إذا سأل سائل، قال: "كن مني قريباً إذا جلست، فإني سألطمك، فلا ترضَ إلا بأن تلطمني بلطمتك، أو تفتدى لطمتك بفداء رغيب ترضاه". والى هذا الحادث أشار ابن قيس الرقيّات: والذي إن أشار نحوك لطماً  تبع اللطم نائل وعـطـاء

وينسبه النسابون إلى "بني تيم بن مرة"، ويقولون في نسبه إنه "عبد الله ابن جدعان بن عمرو بن كعب بن سد بن تيم بنُ مرة". وهو ابن عم والد الخليفة "أبي بكر"، ويذكرون "انه كان في ابتداء أمره صعلوكاً ترب اليدين، وكان مع ذلك شريراً فاتكاً، لا يزال يجني الجنايات فيعقل عنه أبوه وعَومه، حتى أبغضته عشيرته، ونفاه أبوه، وحلف إن لا يؤويه أبداً، فخرج في شعاب مكة حائراً مائراً يتمنى الموت إن ينزل به، فرأى شقاً في جبل، فظن إن فيه حية، فتعرض للشق يرجو إن يكون فيه ما يقتله فيستريح، فلم يجد شيئاً، فدخل فيه"، فإذا به أمام غار هو مقبرة من مقابر ملوك "جرهم"، وفيه كنوز وأموال من أموالهم ثمينة من بينها "ثعبان" مصنوع من ذهب، له عينان من ياقوت.

ووجد جثث الملوك على أسرّة، لم يرَ مثلها، وعليها ثياب من وشي، لا يُمَسُ منها شيء إلا انتثر كالهباء من طول الزمان، فأخذ من الغار حاجته ثم خرج، وعلَّم الشق بعلامة، وأغلق بابه بالحجارة، وأرسل إلى أبيه بالمال الذي خرج به منه يسترضيه ويستعطفه، ووصل عشيرته كلهم، فسادهم، وجل ينفق من ذلك الكنز، ويطعم الناس، ويفعل المعروف. وكان كلما احتاج إلى مال ذهب، فاستخرج ما محتاج إليه من ذلك الكنز حتى صار من أغنى أغنياء مكة.

فثراء "عبد الله بن جدعان" هو من هذا الكنز على زعم رواة هذه القصة التي يتصل سندها ب "عبد الملك بن هشام" راوية "كتاب التيِجان"، وهو كتاب مليء بالأقاصيص والأساطير. وقد تكون القصة صحيحة، فعثور الناس على كنوز ودفائن من الأمور المألوفة، وقد عثر غيره ممن جاؤوا قبله أو جاؤوا بعده على كنوز، بل ما زال الناس حتى اليوم يعثرون عليها مصادفة أو في أثناء الحفر والتنقيب. والشيء الغريب فيها هو هذا التزويق والتنميق، وهو أيضاً شيء مألوف بالنسبة الينا، وغير غريب وقد تعودنا قراءته، فمن عادة القصاصين ورواة الأساطير والأباطيل الإغراب في كلامهم والكذب فيه لأسباب لا مجال لذكرها هنا، وعلى رأس هذه الطائفة "وهب بن منبه"، صاحب "كتاب التيجان".

وذكر انه لثرائه كان لا يشرب ولا يأكل إلا بآنية من الذهب والفضة، فعرف لذلك ب "حاسي الذهب".

ويذكر أهل الأخبار إن "عبد الله بن جدعان" كان نخلهاً، له جوار يساعين، ويبيع أولادهن. فكانت جواريه تؤجر للرجال، وما ينتج عن هذا السفاح من نسل، يربى، فيبقي منه عبد الله ما يشاء ويبيع منه ما يشاء. ولكنه مع اتجاره بالرقيق، وعلى النحو المتقدم، كان كما يقولون يعتق الرقاب ويعين على النوائب، ويساعد الناس و. يقضي الحاجات، ولا سيما بعد تقدمه في السنّ.

ولا يستبعد إن يكون ما ذكره أهل الأخبار عن "عبد الله بن جدعان"، هو من صنع حساده ومبغضيه، ممن حسدوه على ما بلغ إليه بمكة من مركز وجاه. ومثل هذا التشنيع على الناس شائع مألوف. لا سيما وقد كان في الأصل فقيراً غير موسر، فغني بجسر واجتهاده فتقوّل عليه حساده من أهل زمانه تلك الأقوال.

وقد عرف "ابن جدعان" بإكرام الناس وبالإنفاق على أهل مدينته وروى أهل الأخبار أمثلة عديدة على جوده وسخائه. من ذلك ما رووه من انه كان قد وضع جفنة كبيرة ملاها طعاماً ليأكل منها الناس، وكانت الجفنة على درجة كبيرة من السعة بحيث غرق فيها صبي كان قد سقط فيها. وذكروا إن الرسول قال: لقد كنت أستظل بطل جفنة عبد الله بن جدعان صكَّةُ عميَّ،أي وقت الظهيرة. ووصفوا الجفنة فقالوا إنها "كانت لابن جدعان في الجاهلية، يطعم فيها الناس، وكان يأكل منها القائم والراكب لعظمها". يأكل الراكب منها، وهو على بعيره من عرض حافتها وكثرة طعامها.

وذكروا انه كان يطعم التمر والسويق ويسقي اللبن، حتى سمع قول أمية بن أبي الصلت: ولقد رأيت الفاعلين وفعلهم  فرأيت أكرمهم بني الديّان

البر يُلْبَكُ بالشهاد طعامهم  لاماُ يعللنا بنوُ جـدعـان

فبلغ ذلك عبد الله بن جدعان، فوجه إلى اليمن من جاءه بمن يعمل الفالوذج بالعسل، فكان أول من أدخله بمكة. وجعل منادياً ينادي كل ليلة بمكة على ظهر الكعبة إن هلموا إلى جفنة ابن جدعان. فقال أمية بن أبي الصلت: له داعّ بمكة مشـمـعـل  وآخر فوق كعبتها ينـادي

إلى ردحٍ من الشيزى ملاءٍ  لُباب البر يلبك بالشهـاد.

ويذكر أهل الأخبار إن "أمية" كان قد أتى "بني الديان" فدخل على "عبد المدان بن الديان" من بني الحارث بن كعب بنجران، فإذا به على سريره، وكاًن وجهه قمر، وبنوه حوله، فدعا بالطعام، فأتي بالفالوذج، فأكل طعاماً عجيباً، ثم انصرف فصّال في ذلك الشعر المذكور، فلما بلغ شعره "ابن جدعان"، أرسل ألفي بعير إلى الشام تحمل إليه البر والشهد والسمن، وجعل له مناديين يناديان: أحدهما بأسفل مكة والآخر بأعلاها، وكان أحدهما سفيان بن عبد الأسود، والآخر أيا قحافة، وكان أحدهما ينادي؛ ألا من أراد اللحم والشحم، فليأت دار ابن جدعان، وينادي الآخر: إن من أراد الفالوذج فليأتَ إلى دار ابن جدعان. وهو أول من أطعم الفالوذج بمكة.

وذكر "الجاحظ" إن من اشرف ما عرفه أهل مكة من الطعام، هو "الفالوذ" ولم يطعم الناس منهم ذلك الطعام، إلا عبد اللّه بن جدعان.

ولبعض أهل الأخبار رواية أخرى في كيفية وقوف "ابن جدعان" على الفالوذ "الفالوذج" وإدخاله إلى مكة، وترجع هذه الرواية مصدره إلى الفرس، فيقول" وفد "ابن جدعان" على كسرى، فأكل عنده الفالوذ، فسأل صفه، فقيل له" هذا الفالوذ. قال: وما الفالوذ? قالوا" لبُاب البُريُلْبَكُ مع عسل النحل. فأعجبه، فابتاع غلاماً يعرف صنعه، ثم قدم به مكة معه، ثم امره فصنع له الفالوذ بمكة، فوضع الموائد بالأبطح إلى باب المسجد، ثم نادى مناديه: ألا من أراد الفالوذ فليحضر، فحضر الناس. فكان فيمن حضر أميَّة ابن أبي الصَّلْت.

وذكر انه كان يضع "الحَيْس" على أنطاع على الأرض ليأكل منها القاعد والراكب. والحيَس" الأقط، يخلط بالتمر والسمن. وقد يجعل عوض الأقط الدقيقُ والفَتيت. وقيل، الحيْس" التمر والأِقطُ يُدقآن ويعجنان بالسَمنَ عجناً شديداً حتى يندر النوى منه نواةً نواة، ثم يسوّى كالثريد. وهو الوَطبْة أيضاً، إلا إن الحيْس ربما جعُل فيه السويق، واما الوطبة فلا.

ويروي أهل الأخبار إن أهل مكة كانوا يفدون على مائدة "ابن جدعان"، وأن رسول الله كان فيمن حضر طعامه.

وروي إن الرسول لما أمر بأن يستطلع خبر القتلى من قريش يوم بدر، وأن تلتمس جثة "أبي جهل" في القتلى، قال لهم: "انظروا إن خفي عليكم في القتلى، إلى اثر جرح في ركبته، فإني ازدحمت يوماً أنا وهو على مأدبة لعبد الله ابن جدعان، ونحن غلامان. وكنت اشف منه بيسير، فدفعته فوقع على ركبتيه"، فخدشت ساقه وانهشمت ركبته، فأثرها باقٍ. في ركبته". فوجدوه كذلك.

ويذكر أهل الأخبار إن "عبد الله بن جدعان" كان قد مثل قومه "بني تيم" في الوقت الذي أرسلته قريش إلى "سيف بن ذي يزَن"، واسمه "النعمان بن قيس"، لتهنئته بظفره بالحبشة، وإخراجهم من وطنه. وكان هذا الوفد في. وفود من العرب جاءته لتهنئته، وفيها شعراء وأشراف وسادات قبائل. ولّهد كان في وفد قريش: عبد المطلب بن هاشم، وأمية بن عبد شمس، وخويلد بن أسد، ووهب بن عبد مناف. وقد قدمت تلك الوفود إلى صنعاء، ودخلت قصره: قصر غُمدان.

ويروى إن عبد الله بن جدعان كان عقيماً، لم يولد له ولد. فتبنى رجلاً سماه "زهيراً"، وكنّاه "ابا مليكة"، فولده كلهم ينسبون إلى "أبي مليكة". وفقد "أبو مليكة" فلم يرجع.

وكانت له بئر بمكة تسمى "الثريا". وقد ذكر إن "بني تَيْم" حفروها. وذكر إن دار عبد الله بن جدعان كانت في "ربع بني تيم"، وكانت شارعة على الوادي. وكانت داراً فخمة، وبقيت مشهورة معروفة بمكة حتى بعد وفاته. وبهذه الدار عقد "حلف الفضول"، وذلك لشرفه ومكانته بين أهل مكة إذ ذاك. ولثرائه الضخم دخْل كبير في ذلك، ولا شك. وقد صيت للمدعوين طعاماً.ضيراً قدمه إليهم، ثم عقد الحلف. وكان الرسول ممن شهده، وهو ابن عشرين أو خمس وعشرين. وكان يتذكره ويقول: "لقد شهدت في دار عبد الله ابن جدعان حلفاً ما أحبّ إن لي به حمر النعم. ولو دعي به في الإسلام لأجبت". أو "أما لو دعيت في الإسلام لأجبت، وأحبّ إن لي به حمر النعم. وأني نَقَصتُه وما يزيده الإسلام إلا شدة".

وقد تكون حلف الفضول من هاشم، و "المطلب"، و "أسد"، و "زهرة"، و "تيم"، وربما من "بني الحارث بن فهر" أيضاً. وهم الذين كونوا حلف المطيبين. ولذلك ذهب بعض الباحثين إلى إن حلف الفضول، هو استمرار للحلف المذكور، اذ تألف من الأسر التي كانت ألفت ذلك الحلف ما خلا "بني عبد شمس" و "بني نوفل". وكان قد وقع نزاع بين "نوفل" و"عبد المطلب ابن هاشم"، فعلّه كان السبب في عدم انضمام "نوفل" إلى هذا الحلف.وقد تعاون "نوفل" و "عبد شمس"، ووجدا في استطاعتهما التعاون بينهما من غير حاجة إلى الدخول في حلف الفضول. ولهذا لم يكن حلف الفضول، في نظر هؤلاء، غير حلف من أحلاف الأسر، ولم يكن على رأيهم لنصرة الضعيف وأنصاف المظلوم، على نحو ما جاء في روايات أهل الأخبار.

وروي انه لمكانة "عبد الله" التي بلغها عند قومه وعند العرب، كانت العرب إذا قدمت عكاظ دفعت أسلحتها إليه حتى يفرغوا من أسواقهم وحجهم، ثم يردها عليهم إذا ظعنوا.

وكان يحافظ على الأمانات محافظة شديدة ة فما جاءه "حرب بن أمية"، صديقه، وهو من وجهاء مكة وأثريائها كذلك، قائلاّ له: احتبس قبَلَكَ سلاح هَوازن وذلك يوم نخلة من أيام الفجار الثاني، أجابه ابن جدعان: أبالغدر تأمرني، يا حرب? والله لو اعلم انه لم يبقَ منها سيف إلا ضُربت به، ولا رمح إلا طعنت به، ما أمسكت منها شيئا. ثم أبى إلا تسليم السلاح إليهم.

وقد اسهم "ابن جدعان" في أيام الفجار، وكان على "بني تيم". وأمدَّ قومه بالسلاح والمال، فأعلى مئة رجل سلاحاً تاماً كاملاّ، وذلك "يوم شمطة" غير ما ألبس من بني قومه والأحابيش. وحمل مئة رجل على مئة بعير، وقيل: ألف رجل على ألف بعير، وذلك "يوم شرب". أو يوم عكاظ. وله أخ اسمه "كلدة بن جدعان" قتل في الفجار.

وكان "ابن جدعان" يشرب الخمر على عادة الجاهليين في شربها، بقي يشربها حتى كبر، فعافها. ودخل فيمن عاف الخمر على كِبَره من سادات. قريش وأشرافها. وكان من عادتهم إذا كبروا ولعب بهم العمر، حرموا شرب الخمر على أنفسهم. "ما مات أحد من كبراء قريش في الجاهلية الا ترك الخمر استحياء مما فيها من الدنس. ولقد عابها ابن جدعان قبل موته".

ويروون في سبب تركه لها قصتين" قصة تقول انه عافها لأنه سكر مرة ففقد رشده فاعتدى على أمية بأن لطم عينه، فندم على ما فعل حين سمع بالخبر، وقال: "وَبَلَغَ مني الشراب ما أبلغ معه من جليس هذا المبلغ? فأعطاه عشرة آلاف درهم، وقال: الخمر عليّ حرام، ألا لا أذوقها أبداً" ثم قال شعراً في ذم الخمر وفي وصف حاله اذ ذاك.

ومن الرقيق الذي كان في ملك "ابن جدعان" واكتسب شهرة في الإسلام "صهب الرومي". بيع في سوق النخاسة، ثم وضع في شراء "ابن جدعان"، وبقي في ملكه إلى إن هلك سيده، ويقال انه اعتقه وهو في حياته وأنه لازمه حتى مماته.

وقد كان "ابن جدعان" يلتزم من يستجير به، ويحمي من يأوي إليه. وكان "الحارث بن ظالم" قاتل "خالد بن جعفر بن كلاب"، وهو في جوار ملك الحيرة في جملة من لجأ إلى "ابن جدعان" حين طلبه ملك الحيرة، وبقي في جواره وبمكة حتى أتاه ملك الحيرة. ويقال إن "الحارث بن ظالم" قدم على عبد الله بن جدعان بعكاظ، وهم يريدون حرب قيس. فلذلك نكس رمحه، ثم رفعه حين عرفوه وأمن. وكانوا إذا،خافوا فوردوا على من يستجيرون به، أو جاءوا تصلح، نكسوا رماحهم. ويوم عكاظ من أيام الفجار.

ورجل ثري وجيه له مكانة ومنزلة عند بني قومه، لا بد إن يصير مرجعاً للناس، يرجعون إليه في المنازعات والخصومات، ليحكم بينهم بما لديه من رجاحة عقل وسلطان، لذلك كان في جملة حكام العرب، الذين تحوكم إليهم.

ولأمية بن أبي الصلت شعر في مدح "عبد الله بن جدعان"، نجده في ديوان أمية وفي كتب الأدب. وقد كان من المقربين عند "أبي زهير" ومن المكرمين له بسخاء. وكان يعطيه دائماً، ونجد لأمية شعراً يطلب فيه من "ابن جدعان" إعطاءه مالاً.

وكان هلاك "ابن جدعان" قبل سنوات قبل المبعث. وذكر "البلاذري" إن هلاكه كان "قبل المبعث ببضع عشرة سنة. ولما مات دفن بمكة. وذكر في رواية أخرى انه دفن بموضع "برك الغماد"، وراء مكة بخمس ليال بينها وبين اليمن مما يلي البحر أو بين حلى وذهبان وفيه يقول الشاعر: سقى الأمطار قبر أبي زهير  إلى سقف إلى برك الغمـاد

ومن رجال مكة الأغنياء "الأسود بن المطلب" المعروف ب "أبي زمعة". و "زمعة" ابنه، قتل يوم "بدر" في جملة من قُتل من رجال قريش. وكان يقال له" "زاد الركب". وقد عرف ولده الأسود ب "زاد الركب" كذلك. وكان الأسود ممن، أدرك أيام الرسول وعارضه، وعَدّه "ابن حبيب" في جملة المستهزئين من قريش بالرسول، وممن مات كافراً، بعد إن أصابه. العمر.

وكان "الأسود" نديماً للأسود بن عبد يغوث الزهري. وكانا من اعز قريش في الجاهلية، وكانا يطوفان بالبيت متقلدين بسيفين سيفين. وكانا من المستهزئين بالرسول. وذكر إن "الأسود بن عبد يغوث" كان إذا رأى المسلمين، قال لأصحابه: "قد جاءكم ملوك الأرض الذين يرثون ملك كسرى وقيصر. ويقول للنبي، صلى الله عليه وسلم: أما كلمت اليوم من السماء، يا محمد وما أشبه هذا القول". مات حين هاجر. النبي، ودفن بالحجون.

وكان "زمعة بن الأسود"، تاجراً، متجره إلى الشام. وعرف بالدقة في العمل وفي وضع خطط سفره وتجارته. "فكان إذا خرج من عند أبيه في سفر، قال: اسير كذا وكذا، وآتي البلد يوم كذا وكذا، ثم اخرج يوم كذا وكذا، فلا يخرم مما يقول شيئاً".

ومن سادات قريش" "يزيد بن زمعه بن الأسود". وكانت إليه المشورة. وذلك إن رؤساء قريش لم يكونوا مجتمعين على أمر حتى يعرضوه. عليه، فان وافقه، ولاّ هم عليه، وإلا تخير، وكانوا له أعواناً. وقد اسلم، واستشهد مع الرسول بالطائف.

ويعد حرب بن أمية من وجهاء مكة وسيداً من سادات كنانة. وكان أمر كنانة كلها إليه يوم شمطة. واشترك يوم عكاظ، وقيد نفسه ومعه سفيان وأبو سفيان بن أمية بن عبد شمس، وذلك كي يثبتوا في أماكنهم، ويتقوى بذلك قومهم فيثبتوا في القتال. وكان من أثرياء مكة المعروفين.

ومن سادات مكة: "هشام بن المغيرة، بن عبد الله بن عمر بن مخزوم"، وكان له ولبنيه صيت بمكة وذكر عالٍ. وذكر انه كان سيد قريش في دهره. ولما مات صار يوم موته من أيام مكةً المشهورة، حتى انهم أرّخوا بموته. ونادى منادي مكة في أمثال هذه المناسبات: "اشهدوا جنازة ربكم". وكان سيداً مطعاماً. وطل يوم وفاة "هشام" يوماً يؤرخ به سبع سنين إلى إن كانت السنة التي بنوا فيها الكعبة، فأرخوا بها. وهو من الرجال الذين نعتوا بين قومهم ب "زاد الركب"، لأنه كان يقري المسافرين الذين يسافرون معه.

ومن أبناء "هشام بن المغيرة" المذكور "أبو جهل" و "الحارث بن هشام". أما "الحارث بن هشام"، فقد عرف بالكرم والجود. ذكر إن داره كانت مفتوحة للضيوف. يدخلون وإذا جفان مملومة خبزاً ولحماّ. وهو جالس على سرير يحث الناس على الأكل. ويروى إن "ابا ذر" قدم مكة معتمراً، فقال" "أما من مضيف?" قالوا" "بلى كثير وأقربهم منزلاً الحارث بن هشام". فأتى بابه، فقال: "أما من قرى?". فقالت له جارية: "بلى". فأخرجت إليه زبيبا في يدها. فقال: "ولِمََ لمْ تجعليه في طبق?" فعلم انه ضيف. وقالت: "ادخل" فدخل. فإذا بالحارث على كرسي وبين يديه جفان فيها خبز ولحم وأنطاع عليها زبيب. فقال: "أصب". فأكل ثم قال: "هذا لك". فأقام ثلاثاً ثم رجع إلى المدينة، فأخبر النبي خبره. فقال: "انه لسري ابن سري. وددت انه أسلم". وكان نديماً لحكيم بن حزام بن خويلد ابن أسد.

وأما "أبو الحكم" عمرو بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن محزوم ابنُ مرّة". فكان من رجال "بني مخزوم" المعدودين، ومن المعادين للإسلام، بل كان على رأس أشد الناس عداوة للرسول. وقد كَناّه الرسول ب "أبي جهل" لأنه كان يكنى قبل ذلك ب "أبي الحكم" فاشتهر بهذه الكنية، حتى لم يعد يعرف إلا بها في الإسلام. وكان من المقتسمين. وهم سبعة عشر رجلاً من قريش، اقتسموا عقاب مكة. فكانوا إذا حضروا الموسم يصدون الناس عن رسول الله. وفيهم نزلت: "كما أنزلنا على المقتسمين" وكان من المطعمين لحرب يوم بدر. نحر عشراً. وكان نديماً للحكم بن أبي العاص بن أمية. و "الحكم" هذا هو الطريد.

وأخبر "ابن الكلبي"، إن أخوين من "بني سليم"، دخلا مكة معتمرين فما وجدا. بها شراءً ولا قرى. فبينا هما كذلك إذ رأبا قوماً يمضون، فسألا "أين هؤلاء القوم?" فقيل لهما: يريدان الطعام. فمضيا في جملتهم حتى أتوا داراً فولجوها. فإذا رحل آدم، أحول، على سرير وعليه حلة سوداء وإذا جفان مملوءة خبزاً ولحماً. فقعدوا فأكلوا. فشبع أحد الأخوين وقال لأخيه: "كم تأكل? أما شبعت?". فقال الجالس على السرير: "كل فإنما جعل الطعام ليؤكل". فلما فرغوا خرجوا من باب الدار غير الذي دخلوا منه. فإذا هم بإبل موقوفة. فقالوا: "ما هذه الإبل?" قيل: الطعام الذي رأيتم. وكان الرجل الجالس على السرير: صاحب الطعام. فإذا به أبو جهل بن هشام.

ويظهر انه كان قاسياً قسا حتى على النساء، فعذب عدداً منهن بنفسه عذاباً أليماً. عذب "زنيرة"، وكانت لبني مخزوم حتى عميت، وعذب غيرها حتى هلكت، وممن هلكن "سمية" أم عمار بن ياسر. وكان يأتي من يسلم، فيكلمه ليفتنه عن دينه: يأتي الرجل الشريف، ويقول له" أتترك دينك ودين أبيلك، وهو خير منك? ويقبح رأيه وفعله، ويسفه حلمه. وان كان تاجراً يقول له: ستكسد تجارتك، ويهلك مالك. وان كان ضعيفاً، أوصى بمن يعذبه، حتى يترك دينه. جاء مرة دار أبي بكر، فلما لم يجده لطم خدّ أسماء ابنته لطمة طرح قرطها. وكان فاحشاً بذيئاً.

ويذكر أهل الأخبار انه كان لا يبالي في أكل حقوق الغرباء القادمين إلى مكة، فماطل مرة في أثمان إبل اشتراها من رجل من "أراش"، وماطل مرة أخرى في إبل أخذها من رجل من "زبيد"، ولم يدفع أثمانها ولم يعوض عنها إلا بالتجاء الرجلين إلى النبيّ، فأخذ حقهما منه، وانتصف منه. ويظهر إن "أبا جهل" وان كان قاسياً بغيضاً للرسول مؤذياً له، غير انه كان يخشاه إذا رآه ووقف امامه، واما ايذاؤه له، فكان بانتهاز غفلة يعتدي فيها على الرسول، أو بتحريض غيره للتحرش به.

وعرف "عمرو بن عبد الله بن صفوان بن أمية" بالجود. وذكر انه كان معرقاً به. كان جوادا ابن جواد ابن جواد ابن جواد.

وكان الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، من أشراف مكة وسادتها. وقد عرف بين قومه ب "العدل". وذكر انه إنما عرف بتلك، لأنه كان يعدل قريش كلها، فكانت قريش تكسو الكعبة جميعها، ويكسوها الوليد وحده، وذلك لثرائه وغناه. قبل انه كان له مال وزع بالطائف، وكان يملك حديقة بها غرس فيها الأشجار والفواكه. وقد كان لذلك متعالياً متغطرساً، فلما أظهر الرسول الإسلام، كان مثل بقية سراة مكة وأغنيائها من المعادين له، لأنه أنف إن يتبع رجلاً هو دونه في المال والاسم والثراء. فكافح الإسلام، واستهزأ بالرسول وبالإسلام، وكان أحد "المستهزئين" الذين نزلت بحقهم آيات تعنفهم وتوبخهم وتصفهم بالكفر وبالغرور والاستكبار، وانه كان يرى إن من الذلة الخضوع للرسول لأنه دونه مالاً ونفراً.

وقد كان "الوليد" الحُكّام الذين تحوكم اليهم، واليه تحاكم بنو عبد مناف في موضوع قتل "خداش" إنساناً منهم. وقد عرف ب "ابن صخرة" نسبة إلى أمه. وذكر انه كان في جملة من حَرّم في الجاهلية الخمر على نفسه وضرب فيها ابنه هشاماً على شربها. وقد عدّه "ابن حبيب" في جملة زنادقة قريش، وذكر انه وجماعته تعلموا الزندقة من نصارى الحِيرة، ولم يفسر قصده من الزندقة.

ويذكرون إن "الوليد" كان أسنّ قريش يوم حكم في قضية "خداش"، وحكم فيها ب "القَسامة"، فكان بذلك أول من سنّ "القسامة" في قريش.

ومات الوليد بعد الهجرة بثلاثة أشهر أو فيها، ودفن بالحجون، وذكر "محمد بن حبيب" إن "أبا أحيحة" كان نديماً للوليد بن المغيرة. على عادة القوم في اتخاذ الندماءْ.

وأبو "أحيحة" هو سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس، المعروف ب "ذي العمامة"، لأنه كان لا يعتم أحد بمكه بلون عمامته إعظاماً له. كما عرف ب "ذي التاج" وذلك للسبب نفسه. وقد ذكوه "أبو قبيس بن الأسلت" في شعر ينسب إليه. وكان مثل أكثر رجال قريش تاجراً. قدم مرة الشام في تجارة، فحبسه "عمرو بن جفنْة"، حبسه مع هشام بن سعد العامري، وبقي في محبسه حتى جاء بنو عبد شمس، فافتدوه بمال كثير.

وكان أبو أحيحة ممن أخذتهم العزة من أشراف مكة، فلم يقبلوا الدخول في الإسلام. وممن أظهر عداوته للرسول، خاصة بعد تحريض النضر بن الحارث والوليد بن المغيرة له على معاداته. وقد كان مثل سائر أشراف مكة يرى إن الأمر العظيم يجب إن يكون في العظماء. وهو من العصبة التي أشير إليها في هذه الآية: )وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظم، أهم يقسمون رحمة ربك(.

وقد مات أبو أحيحة بماله في الطائف في السنة الأولى، أو في السنة الثانية من الهجرة، مات في كافراً، وقد بني له قبر مشرف. وقد رأى أبو بكر قبره، فسبه، فسبً ابناه أبا قحافة، فنهى النبي عن سبّ الأموات، لما يثير ذلك من عداوة بين الأحياء، ولما فيه من إهانة للأموات.

وقد ساهم "أبو أحيحة" بثلاثين ألف دينار في رأس مال القافلة التي تولى قيادتها أبو سفيان. ومبلغ مثل هذا ليس بشيء قليل بالنسبة إلى الوضع المالي في تلك الأيام.

ومن سادة قريش: الأسود بن عامر بن السبّاق بن عبد الدار بن قصي.

ومن رجال بني فهر: في ضرار بن الخطاب بن مرداس بن كبير بن عمرو بن حبيب بن عمرو بن شيبان بن محارب. وكان فارس قريش في الجاهلية، وأدرك الإسلام. وكان شاعراً فارسياً، وقد أخذ مرباع بني فهر في الجاهلية.

ومن رجال بني عامر بن لؤي: عمرو بن عبد ودّ بن أبي قيس. كان فارس قريش في الجاهلية، بل فارس كنِانة. قتله علي بن أبي طالب. ومن "يني عبد ودّ"، سهيل بن عمرو، وكان من رجال قريش في الجاهلية، ثم أسلم، وهو الذي بعثته قريش يحكم الهدنة بينهم وبن النبي يوم الحديبية.

ومن سادات قريش: قيس بن عديّ بن سعد بن سهم. وقد ضرب به المثل في العز، حتى قيل: "كأنه في العزّ قيس بن عديّ". وكان يأتي الخمار وبيده مقرعة، فيعرض عليه خمره، فإن كانت جيدة، وإلا قال له: "أجد خمرك، مم يقرع رأسه وينصرف". وذكر انه كانت له قينتان يجتمع إليهما فتيان قريش: أبو لهب وأشباهه، وهو الذي أمرهم بسرقة الغزال من الكعبة، ففعلوا، فقسمه على قيانه، وكان غزالاً من ذهب مدفوناً، فقطعت قريش رجالاً ممن سرقه، وأرادوا قطع يد أبي لهب، فحمته أخواله من خزاعة.

وذكر إن "مقيس بن عبد قيس بن قيس بن قيس بن عديّ بن سعد بن سهم"، هو صاحب قصة الغزال.

وكان "الحارث بن قيس بن عديّ بن سعد بن سهم"، أحد المستهزئين المؤذين لرسول الله، وهو "ابن الغيطلة". وهو الذي نزلت فيه" )أفرأيت من اتخذ إلهه هواه(. وكان يأخذ حجراً، فإذا رأى أحسن منه تركه وأخذ الأحسن. وكان دَهرياً يقول: "لقد غرّ محمد نفسه وأصحابه إن وعدهم إن يحيوا بعد الموت، والله ما يهلكنا إلا الدهر ومرور الأيام والأحداث".

وممن اشتهر من بني عبد شمس: "عتبة بن ربيعة بن عبد شمس"، وكان نديماً لمطعم بن عديّ بن نوفل بن عبد مناف.

أما أبو سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن مناف، ويكنى أيضاً بأبي حنظلة، فكان مثل سائر رجال مكة تاجراً صاحب أسفار، ثريّاً، جمع مالاً من تجارته. وكان صاحب "عير قريش"، فهو المؤتمن عليها، وهو قائدها، وهو رجل جد خبير بالطرق والمسالك. وقد نجح في كل أسفاره، وأوصل تجارة مكة إلى أماكنها سالمة مضمونة. فلم يتمكن المسلمون من مفاجأته وأخذه مع أموال قريش وتجارتهم العظيمة التي تحت قيادته، حينما كان قافلاً من بلاد الشام يريد مكة، إذ أحسَّ بالخطر، فغير طريقه، وسلك طريق الساحل. وأفت مع قافلته ورجالها، وعدتهم سبعون، ووصل إلى مكة سالماً، فنشبت على أثر ذلك معركة بدر.

وكانت قيادة قريش في الحرب إلى أبي سفيان أيضاً، ورثها من أبيه. ورحل له فضل قيادة عير قريش، وقيادة مكة في الحرب، لا بد إن يكون في مقدمة سادات مكة وعلى رأس طبقتها المحافظة ذات العنجهية، التي ترى إن لها حق الرئاسة والزعامة، والكلمة والرأي.

وليس لأحد مكانة إلا إذا كان ذا مال وجاه وحسب. وعلى الباقين طاعة السادة، ومراعاة سن الآباء والأجداد، والإخلاص لعبادة الآباء والأجداد، والدفاع عن آلهة الكعبة التي كانت السبب في إعطاء قريش منزلة خاصة عند العرب.

وكان فضلاٌ عن هذا وذاك رجلاً صاحب لسان، ينظم الشعر ويجيد الهجاء، ومحسن النزول إلى أسوأ مستوى يصل إليه السوقي والحوشة من الإقذاع في الكلام وإلحاق الأذى بالناس. وقد أظهر قابلياته في ذلك في عناده ضد الإسلام وفي إيذائه الرسول وفي الحاقه الأذى بالمسلمين. وقد هيأ كل ما عنده من مواهب وكفايات وقدرات مالية لمقاومة الإسلام ولمحاربة الرسول وللقضاء على الدعوة التي جاءت مقوضة لديانة الآباء والأجداد من عبادة الأصنام، ومن المحافظة.على العرف، ومن تحطيم الزعامة، والخضوع لحكم الفقراء والرقيق. وفي القرآن الكرم آيات نزلت في حقه. وقد كان من المحرضين العاملين في معركة أحدا ويذكر انه ذهب إلى الشام واتصل ب "هرقل" وأخذ يحرضه على الرسول، ولكن الروم لم يبالوا بتحريضه، فعاد إلى مكة.

ويُعد" "عبد العُزّى بن عبد المطلب" من هذا الرعيل من وجهاء مكة الذين حاربوا الرسول، ونصبوا له العداوة. كان موسراً، جمع مالاً طائلاً، كما يفهم ذلك من "سورة المسد": )ما أغنى عنه ماله وما كسب(. وكان من التجار، له تجارة مع بلاد الشام. وكان من هؤلاء الذين أبوا التنكر لدين آبائهم وأجدادهم وإطاعة رجل فقير، وهم أكثر منه مالاً، وأكبر سناً. روي إن رسول الله كان بسوق ذي المجاز يقول: "أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله، تفلحوا"، وإذا برجل يأتي من خلفه ويرميه بحجارة، أدمت ساقيه وعرقوبيه، وهو يقول للناس: انه كذاب لا تصدقوه.

ويُعَدّ "أبو لهب" وهو "عبد العُزّى" ويكنى أيضاً ب "أبي عتبة"، من هذه الطبقة الوجيهة المعروفة من قريش. وهو عم الرسول، وكان مع ذلك من الذين حملوا حقداً شديداً عليه. وكانت زوجته تحرضه على معاداته وإيذائه، وفي حقها نزلت سورة "تبت". وهي السورة الحادية عشرة من السور التي نزلت بمكة على رأي أكثر العلماء.

وكان بيته في جوار بيت رسول الله. فذكر إن رسول الله قال: كنت بين شرّ جارين: بين أبي لهب وعقبة بن أبي معيط، إن كانا ليأتيان بالفروث فيطرحونها في بابي. وكان النبي يقول: يا بني عبد مناف، أي جوار هذا? ثم يميطه عن بابه.

ويذكر أهل الأخبار إن هنالك عشرة أبطن من بطون قريش انتهت اليهن الشرف في الجاهلية، ووصل في الإسلام، وهم، أمية، ونوفل، وعبد الدار، وأسد، وتيم، ومخزوم، وعديّ، وجمح، وسهم.

كسب مكة

ومكة كما ذكرت بلد في واد غير ذي زرع، لذلك كان عماد حياة أهلها التجارة، والأموال التي تجبى منً القوافل القادمة من الشام إلى اليمن والصاعدة من اليمن إلى الشام، وما ينفقه الحجيج القادمون في المواسم المقدسة، للتقرب إلى الأصنام. وهناك مورد آخر درّ على أثرياء هذه المدينة المقدسة ربحاً كبيراً، هو الربا الذي كانوا يتقاضونه من إيداع أموالهم إلى المحتاجين إليها من تجار ورجال قبائل.

لقد استفادت مكة كثيراً من التدهور السياسي الذي حلّ باليمن، ومن تقلص سلطان التبابعة، وظهور ملوك وأمراء متنافسين، إذْ أبعد هذا الوضع خطر الحكومات اليمانية الكبيرة عنها، وكانت تطمع فيها وفي الحجاز، لأن الحجاز، قنطرة بين بلاد الشام واليمن. ومن يستولي عليه يتصل ببلاد الشام، وبموانئ البحر الأبيض المهمة. وأعطى تدهور الأوضاع في العربية الجنوبية أهل مكة فرصة ثمينة عرفوا الاستفادة منها. فصاروا الواسطة في نقل التجارة من العربية الجنوبية إلى بلاد الشام، وبالعكس. وسعى تجار مكة جهد إمكانهم لاتخاذ موقف حياد تجاه الروم والفرس والحبش، فلم يتحزبوا لأحد، ولم يتحاملوا على طرف، وقوّوا مركزهم بعقد أحلاف بينهم وبين سادات القبائل، وتوددوا إليهم بتقديم الألطاف والمال اليهم، ليشتروا بذلك قلوبهم. وقد نجحوا في ذلك، واستفادوا من هذه السياسة كثيراً.

وفي القرآن إشارة إلى تجارة مكة، والى نشاط أهلها ومتاجرتهم مع الشام، واليمن: )لإيلاف قريشٍ ايلافهم رحلة الشتاء والصيف(. قال المفسرون: إن رحلة الشتاء كانت إلى اليمن، أما رحلة الصيف فكانت إلى بلاد الشام. وانهم كانوا يجمعون ثروة طائلة من الرحلتين تدر على قريش خيراً كثيراً، وتعوضهم عن فقر بلادهم.

ويظهر إن أهل هذه المدينة كانوا يسهمون جميعاً في الاتجار، فيقدم المكّي المتمكن كل ما يتمكن تقديمه من مالٍ ليستغله ويأتيه برزق يعيش عليه. ولذلك يعد رجوع القافلة أمنة مطمئنةُ بشرى وسروراً للجميع.

وقد أدى نشاط بعض أسر مكة في التجارة إلى حصولها على ثروات كبيرة طائلة. وقد أسهم رجل واحد من أهل هذه المدينة هو "أبو أحيحةَ" بثلاثين ألف دينار في رأس مال القافلة التي تولى قيادتها أبو سفيان. ومبلغ مثل هذا ليس بشيء قليل بالقياس إلى الوضع المالي في تلك الأيام، كذلك كان "عبد الله ابن جدعان" و "الوليد بن المغيرة المخزومي" من أثرياء مكة. وقد اشتهر بنو مخزوم بالثروة والمال.

وكانت لأسر مكة تجارات خاصة مع العراق وبلاد الشمام واليمن ومواضع من جزيرة العرب" تجارات لا علاقة لها برحلتي الشتاء والصيف، وكان لبعضها تجارة مع الأنبار والحيرة في العراق، وكان لبعض آخر تجارة مع "بصرى" و "غزة" وأذرعات في بلاد الشام، وكان لآخرين تجارة مع بلاد اليمن. وكان للأسر الغنية الثرية اتصال تجاري مع كل هذه المواضع. وتعامل مع كل الأماكن المذكورة، ولها وكلاء يبيعون لها ويشترون، كما كانت هي تتوكل لتجار العراق وبلاد الشام واليمن، وتجني من هذا التعامل أرباحاً طيبة.

وقد تحدثت عن النزاع الذي كان قد نشب بين أهل مكة و "أبرهة"، وهو نزاع ذو طبيعة سياسيةّ في الأغلب، وان جعله أهل الأخبار ذا طبيعة دينية. والأغلب إن الروم حثوا أبرهة على السير إلى مكة والاتجاه منها نحو الشمال، للاتصال ببلاد الشام، والاستيلاء بذلك على العربية الغربية، وبذلك يكون لهم سلطان على القسم الغربي من جزيرة العرب، فيأمنون على مصالحهم الداخلية وينزلون بذلك ضربة كبيرة بأعدائهم الساسانيين وبمن كان يساعدهم من سادات قبائل. ولكن اخفق التدبير، ورجع "أبرهة" خائباً لم يحقق شيئاً.

وأدى استيلاء الفرس على اليمن إلى حدوث تطور في علاقات أهل مكة بالفرس وبالروم. وقد اخذ الفرس يتدخلون في تجارة العربية الجنوبية، فصاروا يرسلون ببضائع من أسواق العراق إلى اليمن، ويأخذون في مقابلها بضائع من أسواق أفريقية والعربية الجنوبية، كما اخذ ملوك الحيرة يرسلون ب "لطائمهم" إلى اليمن للبيع والشراء.

وقد اثر هذا الوضع في تجارة أهل مكة أثراً كبيراً، إذ انتزع الفرس وملوك الحيرة من أيديهم قسطاً من أرباحهم، وربما لا يبعد إن يكون الهجوم الذي وقع على "لطيمة" "النعمان بن المنذر" ملك الحيرة، بتشجيع من أهل مكة، ذلك الهجوم الذي عرف ب "الفجار"، وذلك للأضرار بالفرس وبملوك الحيرة، ولتخويف القوافل التي صارت تسلك طريق "الطائف"، ثم منها إلى مواضع في البادية إلى الحيرة متجنبة طريق مكة.

وكانت "الشعيبة" ميناء مكة، إليها ترد السفن قبلُ جدة، ثم أخذت جُدّة موضعها في أيام الخليفة عثمان بن عفّان.

وقد قصدت ميناء "الشعيبة" سفن الروم وسفن الحبش، اذ كانت السفن القادمة من إفريقية، لبيع تجارتها لأهل مكة، ترسو في هذا الميناء.

ويظهر من كتب أهل الأخيار إن تجار مكة لم يكونوا يملكون سفناً خاصة بهم، لنقل تجارتهم إلى موانئ إفريقية، أو لنقل ما يشترونه من الموانئ الإفريقية لتصريفه في أسواق العراق أو أسواق بلاد الشام. فنحن لا نكاد نجد في هذه الكتب شيئاً يفيد إن أهل مكة كانوا يملكون سفناً يسيرها بحارة منهم. بل نجد انهم كانوا يركبون سفناً حبشية، عند ذهابهم إلى الحبشة. وهي سفن لم تكن شيئاً بالقياس إلى سفن الروم في ذلك العهد.

ولمركز مكة ونشاطها في التجارة، توافد عليها أيضاً تجار من الخارج من بلاد الشام ومن العراق ومن بلاد الروم والفرس وفيهم. ساكنوا المكّيين، وتحالفوا مع أثريائهم، ومنهم من قام فيها في مقابل دفع جزية لحمايته ولحفظ أمواله وتجارته. وكان تجار بلاد الشام خاصة يجلبون القمح والزيوت والخمور الجيدة إلى تجار مكة. وقد اتخذوا مستودعات فيها لخزن بضاعتهم هذه ولتصريفها.

ولا يستبعد "أوليري" إن يكون من بين تجار الروم في مكة من كان عيناً للبيزنطيين على العرب، يتجسس لهم، ويتسقط أخبارهم، ويكتب لهم عن صلاتهم بالفرس، وعن أنباء الفرس في جزيرة العرب واتصالهم بالقبائل، لشدة حاجة الروم إلى تلك الأخبار، لإفساد خطط الفرس وإبعادهم عن بلاد العرب وعن البحار. والعالم يومئذ معسكران متخاصمان: معسكر للروم، ومعسكر للفرس.

وقوم هم أصحاب تجارة واتصال بالعالم الخارجي بحكم اتجارهم معه، وذهابهم إليه، لا بد إن يكون لهم اهتمام بما كان يجري ويقع في السياسة الدولية. وكان لهم علم بما يحدث بين الفرس والروم، وبين الحبش وأهل اليمن، لأن لما يحدث علاقةً كبيرة بتجارتهم وبالأسواق التي كانوا يخرجون إليها للبيع والشراء.

ونجد في القرآن الكريم ما يؤيد ذلك. فلما وقعت الحرب بين الفرس والروم، هذه الحرب التي استولى فيها الفرس على القدس، وعلى "الصليب" المقدس عند النصارى، كان اهتمام مكة بها كبيراً وانقسم أهل مكة فريقين: مؤيد للروم، ومؤيد للفرس، مما يدل على وقوف أهل مكة على ما كان يقع في الخارج، وقد أشار إلى ذلك القرآن الكريم في سورة "الروم".

وقد كان المكّيون يهتمون اهتماماً خاصاً بما كان يقع في بلاد الشام وفي اليمن من أحداث، إذ كانت تجارتهم مرتبطة بهذه البلاد بالدرجة الأولى. فما يقع فيها يؤثر تأثراً مباشراً في تجارتهم. ولذلك حاولوا جهد إمكانهم إنشاء صلات حسنة مع الحاكم على بلاد الشام والحاكم على اليمن، كما كان من مصلحة الروم مصالحة حكام العربية الغربية وترضيتهم، ليأمنوا بذلك على سلامة تجارتهم في البحر الأحمر وعلى وصول بضائع إفريقّية والبلاد العربية الجنوبية والهند إليهم عند تعسف الفرس بالتجارة البرية التي كانت تأتي من الهند ومن الصين لتباع في بلاد الروم، وعند نشوب الحرب، وهي متوالية كثيرة، فيما بينهما، فتنقطع التجارة عندئذ بينهما، وترتفع الأسعار. إما التجارة عن طريق العربية الغربية، فلم تكن تصاب بأذى الحروب وبالنزاع بين الفرس والروم، لأنها كانت بعيدة عن ساحة الحروب، وهي في مأمن من الغارات.

ويظهر من روايات أهل الأخبار إن سادات مكة والمواضع الأخرى من الحجاز كانوا يتوددون إلى الروم والى حكام اليمن ليمكّنوهم من التحكم في شؤون مواطنيهم وللسيادة عليهم. وقد روى "ابنّ قتيبة" إن "قُصياً" استعان ب "قيصر" في نزاعه مع خزاعة. وقد تكَون مساعدة قيصر له، بإشارته على الغساسنة حلفاء الروم لتقديم العون إليه. ولمجوز إن يكون "بنو عذرة" وهم من العرب النصارى النازلين في أطراف بلاد الشام قد ساعدوه بطلب من الروم.

ولا يستبعد إن يكون تجار اليمن في أيام قصي وبعد موته، كانوا يأتون بتجارتهم إلى "مكة"، ثم يقوم تجار مكة بنقلها إلى بلاد الشام، أو بشرائها من تجار اليمن، ثم يقومون هم ببيعها على حسابهم في "بُصْرى" أو غزة من بلاد الشام. وقد كان يقع اختلاف في بعض الأحيان بين تجار اليمن وتجار مكة، وقد يقع اعتداء على تجار اليمن فيصادر بعض أهل مكة أموالهم ويغتصبونها، كالذي حدث لتاجر من تجار اليمن، مما حداه بالاستجارة بأشراف مكة وسادتها لإنصافه، وأدى الحال إلى عقد حلف الفضول.

ولطبيعة أهل مكة المستقرين التجار، لزم الابتعاد عن الحروب وعن خلق المشكلات، وجلّ كل معضلة بالمفاوضات أولاً وبالسلم. كما سعت للاتفاق مع القبائل المجاورة على محالفتها ومهادنتها. وقد أفادت هذه السياسة قريشاً كثيراً، فظهرت زعامة مكة على القبائل بعد تدهور ملك حمير في السياسة وفي الدين والاقتصاد. والارتفاع مستوى مكة الثقافي بالنسبة إلى الأعراب، ولزعامتها الدينية على القبائل المجاورة لها، ولاتصال سادتها بالعالم الخارجي، ولوجود جاليات أجنبية فيها طورت حياتها الاقتصادية والصناعية مما جعل القبائل تعترف لها بالتفوق عليها، وتسير في ركابها، وتتبع تقويمها، ونحضر في مواسمها، حتى صارت مكة عند ظهور الإسلام القاعدة للغربية العربية والزعيمة لها، ولذلك كانت رمز مقاومة الإسلام، والحصن العتيد المقاوم له. فلما دك هذا الحصن، دكت المقاومة دكاً، واستسلمت المواضع والقبائل للإسلام دون مقاومة تذكر.

وبلد مثل مكة فيه تجار وتجارة ورقيق وغنى وفقر وراحة وأصنام وعبادة وحجاج يأتون للتقرب إلى الأصنام، لا بد إن يضع أهله لهم وللقادمين إليه أنظمة وقوانين لتنظيم الحياة، وتأمين الأمن وحفظ الحقوق وحماية من يفد إليه من الأذى لدوام مجيء الحاج إليه على الأقل.

فالكعبة، وهي بيت الأصنام، ارض حرام، لا يجوز البغي فيها، ولا المعاصي واقتراف الآثام. والمدينة، وهي في جوار البيت ذات حرمة وقدسية. ودار الندوة دار مشورة وحكم وزعامة. وسكان البلد الحرام هم في حمى البيت وفي جواره، ولا بد من أنصافهم وإحقاق حقهم. ولأنصافهم ودفع الأذى عن فقيرهم، عقد حلف الفضول، وتعهد سادات مكة بالدفاع ممن يستًجير بهم، وبتأديب من يتجاسر منهم على العرف والسنة، وبذلك، جعلوا مكة بلداً آمناً مستقراً في محيط تتعارك فيه الأمواج.

ولسياسة أهل مكة القائمة على المسالمة وحل الخلاف بالتشاور والتفاوض، رميت قريش البواطن، وهم غالبية أهل المدينة بعدم القدرة على القتال وبالاتكال على غيرهم في الدفاع عن بلدهم، وباعتمادهم على الأحابيش وعلى قريش الظواهر وعلى القبائل المحالفة لهم في الدفاع عن مكة. ولم تكن مكة وحدها بدعاً في هذا الأمر، إذ كان أهل يثرب وأهل الطائف وسائر أهل القرى والمدر مثل أهل مكة، غير ميالين إلى الغزو والقتال، ولهم حبال وأحلاف مع القبائل الساكنة بجوارهم، لمنع تعدياتهم عليهم، ولمنع من يطمع فيهم من تنفيذ ما يريد.

الرقيق

وقد كانت بمكة جالية كبيرة من اصل إفريقي، عرفت ب، "الأحابيش" وهم سود البشرة، اشتراهم أثرياء مكة للعمل لهم في مختلف الأعمال ولخدمتهم. وقد كان هذا الرقيق ضرورة لازمة لاقتصاد مكة ولنظامها الاجتماعي في ذلك الزمن. فقد كان يقوم مقام الآلة في خدمة التاجر وصاحب العمل، فكان مصدراً من مصادر الثروة، وآلة مسخرة تخدم سيدها بأكل بطنها، كما كان سلاحاً يستخدم للدفاع عن السادة في أيام السلم وفي أيام الحرب.

وقد سبق إن أشرتُ إلى وجود "إحابيش" بين أهل مكة، زعم الأخباريون انهم عرب، وانهم إنما عرفوا بالأحابيش، لأنهم تحابشوا، أي تحالفوا وتعاهدوا على التناصر والتأثر عند جبل "حبشي"، فهم على زعم هؤلاء الأخباريين أحابيش آخرون لا صلة لهم بالأحابيش الذين أتحدث عنهم.

وقد أشار أهل الأخبار إلى إن قوماً من أشراف مكة تزوّجوا حبشيات فأولدن لهم أولاداً. ذكروا منهم "نضلة بن هاشم بن عبد مناف" و "نفيل بن عبد العُزّى" و "عمرو بن ربيعة" و "الخطاب بن نفيل"، والد "عمر بن الخطاب"، ويذكر إن "ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري" عيرَّ "عمر بن الخطاب" فقال ل:" يا ابن السوداء"، فأنزل الله: )يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم، عسى إن يكونوا خيراً منهم( و"عمرو بن العاص" وجماعةً آخرين.

وقامت بخدمة قريش طائفة أخرى من الآلات الحية، هي ادق عملاً وأحسن خدمة وأرقى في الإنتاج من الطائفة الأولى: الأحابيش، استوردت من الشمال من بلاد الشام والعراق، هي الأسرى البيض الذين كانوا يقعون في أيدي الروم أو الفرس أو القبائل المغيرة على اسود، فيباعون في أسواق النعاسة، ومنها ينقلون إلى مختلف أنحاء جزيرة العرب للقيام بمختلف الأعمال. يضاف إلى هؤلاء، الرقيق المستورد من أسواق اوروبة، لبيعه في أسواق الشرق. وأسعار هذه البضاعة وان كانت أغلى ثمناً من أسعار البضاعة المستوردة من إفريقية، إلا إن الجودة في الإنتاج والتفنن فيه، والبراعة في الصناعات التي لا تعرفها بضاعة الجنوب تعوّض عن هذا الفرق.

ومن جملة ما وُكلَ إلى رقيق العراق وبلاد الشام والروم وغيرهم من ذوي البشرة البيضاء من أعمال، إدارة المبيعات، والقيام بالحرف التي تحتاج إلى خبرة ومهارة وفن، وهي من اختصاص أهل المدن والمستقرين: مثل أعمال البناء والتجارة والأعمال الدقيقة، وهذه البضاعة التي استوردتها قريش إلى مكة-وان كانت تابعة، تؤمر فتفعل، وتكلف فتستجيب-كانت بضاعة حيةّ، لها قلب نابض، ودماغ يعمل، ولحم ودم، ولبعضها علم وفهم ومعرفة تفوق معرفة أصحابها المالكين لها. فبضاعة هذا شأنها لا بد إن تترك أثراً في البيئة التي استوردت إليها. والأخباريون الذين هم مرجعنا الوحيد في رواية أيام الجاهلية قبيل الإسلام، وان لم يحدثونا عن أمر هؤلاء القوم في نقوس ساداتهم والذين اختلطوا جمهم، نستطيع بالاعتماد على نقد بعض النتف من رواياتهم إن نصل إلى هذه النتيجة التي هي شيء طبيعي وأمر ليس بغريب: نتيجة تقول إن هذه البضاعة تركت في نفوس أهل مكة وفي نفوس العرب الآخرين ممن كان لهم رقيق، أثراً ليس إلى إنكاره من سبيل، وان بعض المصطلحات الفارسية والرومية والحبشية التي كانت معروفة عند العرب قبيل الإسلام، والتي أكدوا هم أنفسهم إنها لم تكن عربية، ولاسيما ما كان يتعلق منها بالصناعات والأعمال التي يأنف العربي من الاشتغال بها، إنما دخلت لغتهم وشاعت بينهم من طريق هؤلاء.

وقد كان أغلب الرقيق الأبيض على النصرانية، وقد ذكر الأخباريون أسماء لبعضهم من نزلاء مكة تشير بوضوح إلى تنصرهم. وقد كان فيهم من يتقن العربية، ويعبر عن أفكاره بها تعبيراً صحيحاً واضحاً، وفيهم من لا يفقه هذه اللغة، لأنه حديث عهدٍ بها، فكان يتكلم بلسان أعجمي أو بعربية ركيكة. ومنهم من كان بتباحث في أمور الدين ويشرح لمن يجالسه ما جاء في ديانته وفي كتبه المقدسة. وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في الآيات" )ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلّمه بشرٌ. لسان الذي يلحدون إليه أعجميّ، وهذا لسانٌ عربيٌ مبين(. "وقال الذين نحروا إن هذا إلا إفك ه افتراه وأعانه عليه قومٌ آخرون. فقد جاؤوا ظلماً وزوراً. وقالوا أساطير الأولين اكتتبها، فهيُ تمْلى عليه بُكرةً وأصيلاً".

وقال "ابن هشام" في تفسر الآية: )ولقد نعلم انهم يقولون إنما يعلمه بشرٌ، لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين(: "وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فيما بلغني، كثيراً ما يجلس عند المرْوة إلى مبيعة غلام نصراني، يقال له جبر، عبد لِبَني الحَضرميَّ، وكانوا يقولون: والله ما يعلّم محمداً كثيراً مما يأتي به إلا جبر النصراني، غلام بني الحضرمي. فأنزلَ الله عزّ وجلّ في ذلك من قولهم: ولقد نعلم". وهناك أشخاص آخرون كانوا موالي لا يحسنون العربية ولا يجدون النطق بها.

وروي عن "عبد الله بن مسلم الحضرمي" انه "قال: كان لنا عبدان: أحدهما يقال له يسار، والأخر يقال له جبر. وكانا صيقلين، فكانا يقرآن كتابهما ويعملان عملهما. وكان رسول الله يمرّ بهما فيسمع قراءتهما. فقالوا: إنما يتعلم منها. فنزلت: ولقد نعلم انهم يقولون".

وأشير إلى غلام آخر كان بمكة، اسمه "بلعام"، وكان قيناً، ذكر إن الرسول كان يدخل عليه ويخرج من عنده، فقالوا انه كان يتعلم منه. وقيل إن ذلك الرجل الذي قال أهل مكة إن الرسول كان يتعلم منه، اسمه "أبو اليسر"، وكان نصرانياً".

وفي جملة من أشار إليهم أهل اليسر من النصارى الذين كانوا بمكة، رجل اسمه "نسطاس"، وكان من موالي "صفوان بن أمية"، ونسطور الرومي، ويوحنا مولى صهيب الروميّ، وصهيب الرومي نفسه، وهو من الصحابة، جاء من بلاد الشام، ونزل بمكة، وتشارك مع مثري قريش عبد الله بن جدعان، ثم استقل عنه، وصار ثرياً من أثرياء مكة. ثم دخل في الإسلام. ومنهم مولى يوناني تزوج سمية أم بلال. وقد بقي نفر من النصارى محتفظين بدينهم بمكة في أيام الرسول.

وفي حديث الأخباريين عن بناء الكعبة إن قريشاً استعانت بعامل من الروم، أو من الأقباط، اسمه باقوم، كان تجاراً مقيماً بمكة، في تسقيف البيت. وفي حديث آخر لهم: إن هذا الرجل كان في سفينة جهزها قيصر الروم لبناء كنيسة، وقد شحنها بالرخام والخشب والحديد، فجنحت عند "الشعيبة" فاستعانت قريش بما تبقى من أخشابها وبخبرة هذا الرومي في تسقيف البيت. وقد دعي ب "بلقوم الرومي" أيضاً.

وفي كتب السير وكتب تراجم الصحابة أسماء جوارٍ يونانيات أو من بلاد الشام أو من العراق، وقد تزوجن في مكة ونسَلن ذرية كانوا فيها قبل الإسلام. وقد كان منهن في مواضع أخرى من جزيرة العرب بالطيع.

ويعود قسط كبير من وجود الكلمات الحبشية والرومية والفارسية في العربية إلى الرقيق الأسود والأبيض. وهذه الكلمات هي مسمّيات لأمور غريبة عن العربية لم يكن لأهل مكة ولا لغيرهم علم بها، فاستعملوها كما وردت وأخذت، أو صقلت حتى لاءمت اللسان العربي، كما حدث ويحدث في اللغات الأخرى، وعربت وصارت من ألفاظ العربية. وقد لاحق قسماً منها علماء اللغة، فوضعو فيها كتباً بحثت في تلك المعربات، وفي القرآن الكريم طائفة منها لم يغفل عنها أرباب اللغة والمفسرون.

أغنياء ومعدمون

كان أهل مكة بين غنيُ متْخم وفقر معدِم. وبين الجماعتين طبقة نستطيع إن نقول إنها كانت متوسطة. وأغنياء مكة، هم أصحاب المال، وقد تمكنوا من تكثيره بإعمال ما عندهم من مال بالاتجار وبإقراضه للمحتاج إليه، وبإعماله بالزراعة، واستغلاله بكل الطرق المربحة التي يرون إنها تنفحهم بالأرباح.

وقد تمكن هؤلاء الأغنياء من بسط سلطانهم على قبائل الحجاز، ومن تكوين صلات وثيقة مع أصحاب المال في العربية الجنوبية وفي العراق وبلاد الشام، بحيث كانوا يتصافقون في التجارة ويشار كونهم في الأعمال، حتى صاروا من أشهر تجار جزيرة العرب في القرن السادس للميلاد.

ويظهر مما جاء في القرآن الكريم إن بعض هؤلاء الأغنياء كان قاسياً، لم تدخل الرحمة ولا الشفقة قلبه. فكان يقسو على المحتاج، فلا يقرضه المال إلا بربىً فاحش وكان يشتط عليه. وكان بعضهم لا يتورعون من أكل أموال اليتيم والضعيف، طمعا في زيادة ثرائه. وكان يستغل رقيقه استغلالاً شنيعاً، حتى انه كان يكره فتياته على البغاء ليستولي على ما يأتن به من مال. وفي ذلك نزل النهي عنه في الإسلام. )ولا ُتكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا، لتبتغوا عرض الحياة الدنيا(. قال "الطبري": "كانوا في الجاهلية يكرهون إمامهم على الزنا. يأخذون أجورهن. فقال الله، لا تكرهوهن على الزنا من أخل المنالة في الدنيا. ومن يكرههن، فإن الله من بعد اكراهن غفور رحيم لهن. يعني إذا أكرهن". وقال: "كانوا يأمرون ولائدهم يباغين، يفعلن. ذلك، فيصبن فيأتينهم بكسبهن". وروي إن هذه الآية نزلت في حق "عبد الله ابن أبي سلول" وكان من أغنياء مكة من يأكل بصحاف من ذهب وفضة، ويثرب بآنية من ذهب وفضة ومن بلور، ويأكل على طريقة الروم والفرس، بسكاكين وشوكات مصنوعة من ذهب أو من فضة، على حين كان أكثر أهل مكة فقراء لا يملكون شيئاً. وكانوا يلبسون الحرير، ويتحلون بالخواتم المصنوعة من الذهب، تزينها أحجار كريمة. ولعلّ هذا الإسراف والتبذير كانا في جملة العوامل التي أدت إلى منع المسلمين من استعمال الأواني المصنوعة من الذهب والفضة للأكل والشرب، ومن صدور النهي من استعمال الحرير للرجال.

وقد حرص هؤلاء الأغنياء على إكثار أموالهم، وعلى توسيع تجارتهم، لذلك كانت هجرة الرسول إلى يثرب وتحرش المسلين بقوافلهم الذاهبة الآيبة بين بلاد الشام ومكة لطمة كبيرة أصابتهم. لقد اجتمع ملأهم بعد وقعة بدر للتداول في أمرهم. فقال قائل منهم: "قد عوّر علينا محمد مَتْجَرنا وهو على طريقنا. وقال أبو سفيان وصفوان بن أمية: إن أقمنا بمكة أكلنا رؤوس أموالنا. قال زمعة بن الأسود: فأنا أدلكم على رجل يسلك بكم النجدية، لو سلكها مغمض العينين لاهتدى. قال صفوان؛ من هو? فحاجتنا إلى الماء قليل. إنما نحن شاتون. قال: فرات بن حيان، فدعواه فاستأجراه، فخرج بهم في الشتاء، فسلك بهم على ذات عرق، ثم خرج بهم على "غمرة". وانتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم خبر العير وفيها مال كثير، وآنية من فضة حملها صفوان بن أمية، فخرج زيد بن حارثة، فاعترضها، فظفر بالعير، وأفلت أعيان القوم، فكان الخمس عشرين ألفاً، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقسم الأربعة أخماس على السرية، وأتى بفرات بن حيّان العجلي أسيراً، فقيل، إن أسلمت لم يقتلك رسول الله صلى اللّه عليه وسلم، أسلم، فأرسله". وقد عرفت هذه الغزوة ب "غزوة القردة". وقد كانت في السنة الثالثة من الهجرة.

وقد أشير في ديوان "حسان بن ثابت" إلى "فرات" هذا، كما أشير إلى رجل آخر هو "قيس بن امرئ القيس العجلي"، استأجرته قريش كذلك، ليكون لها دليلا يهدي قوافلها الطريق.

وقد كانت قريش، كما كان غير قريش، ومنهم المسلمون يستعينون بالأدلاء لإرشادهم الطرق، ولاسيما في أيام الخطر. وأيام جزيرة العرب كلها خطر دائم بالنسبة للتجار، لما كانوا يحملونه معهم من أموال، تسيل لعاب الطامعين في المال، وتنسيهم كل عهد وموثق. لشك كانوا يتحسسون جهدهم الطرق، ولا يسيرون إلا في الطرق الآمنة التي يوثق من ذمم أصحابها ومن قدرة سادتها على ضبطها وعلى إنزال أقصى العقوبة بالخلعاء وبالخارجين على الطاعة والعرف. ويستأجرون الأدلاء أصحاب العلم والدراية العملية بالطرق وبمخارجها وبكيفية الخروج من مآزقها ومهالكها وأخطارها، يتفقون معهم على إرشادهم، على إن يكون لهم أجر حسن إن نجت القافلة من الخطر ووصلت سالمة إلى مكانها المقصود.

وقد استغل تجار مكة أموالهم في الخارج، وامتلكوا الضياع، فامتلك "أبو سفيان ابن حرب" أيام تجارته إلى الشام في الجاهلية ضيعة بالبلقاء تدعى بقبش، فصارت لمعاوية وولده".

ولم يبال رجال مكة من الاشتغال بالصناعات، فقد اشتغل قوم منهم بالبزازة، واشغل بعض منهم بالخياطة، فكان "العوّام أبو الزبير خياطا" و "كان الزبير جزّاراً، وكان عمرو بن العاص جزاراً، وكان عامر بن كريز جزاراً، وكان الوليد بن المغيرة جزاراً. وكان العاص بن هشام أخو أبو جهل حداداً، وكان عقبة بن أبي معيط خماراً. وكان عثمان بن أبي طلحة الذي دفع إليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مفتاح البيت خياطاً، وكان قيس بن مخرمة خياطاً، وكان أبو سفيان بن حرب يبيع الزيت والأدم، وكان عتبة بن أبي وقاص أخو سعد نجاراً، وكان أمية بن خلف يبيع البرم، وكان عبد الله ابن جدعان تخاساً، له جوار يساعين ويبيع أولادهن، وكان العاص بن وائل أبو عمرو بن العاص يعالج الخبل والإبل، وكان النضر بن الحارث بن كلدة يضرب بالعود ويتغنى، وكان الحكم بن أبي العاص أبو مروان بن الحكم حجاماً، وكذلك حريث بن عمرو".

وإذا صح ما ذكرته من كلام نقلته من "الأعلاق النفيسة" لابن رستة، فإن ذلك ينفي ما يذكره أهل الأخبار من عدم وجود "تجار" في مكة كالذي ذكروه من عم وجود تجار بها يوم جددوا بناء الكعبة، فحاروا في كيفية العثور على تجار يقوم بتسقيف البيت، وبقوا في حيرتهم حتى اهتدوا إلى رومي تحطمت سفينته عند الساحل، فجاؤوا به وبخشب سفينته فسقف الروميّ "باقوم" لهم عندئذ الكعبة. وتنقي رواية "ابن رستة" ما ذكره غيره من ترفع ذوي الأسر من قريش من الاشتغال بالحرف اليدوية لأنها حرف لم تخلق للأشراف. ويكون ذلك دليلاً على إن بعض ما يذكره أهل الأخبار عن أهل مكة بعيد عن الواقع وتناقض فيما يروونه، لم يفطنوا إليه، لأنهم كانوا ينقلون الأخبار، ويأخذونها أنىّ جاءت، وغايتهم الجمع، وعلينا الآن واجب التمحيص بين تلك الروايات ونقدها وغربلتها، لاستخراج اللب من القشور.

وعندي إن الإسلام، هو الذي صيرّ قريشاً قريشاً المذكورة في الكتب. وهو الذي سوّدها على العرب، وجعل لها المكانة الأولى بين القبائل، والخلافة فيها، بفضل كون الرسول منها وظهور الإسلام في مكة. ولولا الإسلام، لكانت مكة قرية من القرى، لبعض أسرها ثراء حصلت عليه بفصل نشاطها وتقرّب رجالها إلى سادات القبائل وحكام العراق وبلاد الشام واليمن، وبفضل دعوة رجال قريش القبائل المحيطة بمكة لحج البيت والتقرب إلى الأصنام التي كدسوها فيه وحوله، ومنها أصنام القبائل التي لها تعامل مع مكة، فحصلت على ربح هو "حق قريش" من الغرباء وحق تعشير التجار وتعاطي البيع والشراء معهم.

ويبدو من أخبار الأخباريين عن البيت؛ إن العناية لم توجه إليه إلا قبيل الإسلام. وان الإسلام هو الذي رفع قواعده، وعني بعمارته، وهو الذي فرش مسجد بالرخام، وجعل له أشياء كثيرة لم تكن موجودة في أيام الجاهلية. وقد صرف عليه الخلفاء أموالاً طائلة وذلك قربة لله رب البيت.

والواقع إن في كثير مما يذكره أهل الأخبار عن مكة، ما يناقض بعضه بعضاً، وما لا يلتئم مع ما يذكرونه عنها. وهو في حاجة إلى نقد وغربلة. والظاهر إن الرواة عندما وجهوا عنايتهم نحو تدوين تأريخ مكة، وعمدوا إلى الشيبة يسألونهم عن تأريخها، تكلم كل منهم بحسب ما بقي في ذهنه عنا، وبما سمعه من آبائه، فجاء متناقضاً، لا توافق ولا تناسق فيما بين تلك الروايات التي أخذت من الأفواه. وقد زوَّقها بعضهم بعض التزويق، أو هذّب فيها وشذب، حتى وصلت إلى الشكل الذي بلغته إلينا. وإني أرجو إن يعثر في المستقبل على كتابات جاهلية قد تلقي بعض الضوء على تأريخ هذه المدينة المقدسة قبلة المسلمين، وان يقوم العلماء بتخصيص وقت كاف لدراسة ما ورد في كتب التفسير والحديث والموارد الأخرى عن مكة، لتقديم تأريخ واضح عن مكة.

هذا ما عندي من تأريخ مكة، أما عن "الكعبة." وعن الحج وعن المسائل الأخرى المتعلقة بالدين أو بالتجارة أو بالحكم، وبما شاكل ذلك، فسيكون الكلام عنها في المواضع المناسبة، فإليها المرجع إذن.

الفضَل الثالث وَالأربعون

يثرب والطائف

وكان ليثرب مكان مهم عند ظهور الإسلام، وفيها وفي أطرافها سكنت جاليات من يهود. وهي من المواضع التي يرجع تأريخها إلى ما قبل الميلاد. وقد ذكرت في الكتابات المعينية، وكانت من المواضع التي سكنتها جاليات من معين، ثم صارت إلى السبئيين بعد زوال مملكة معين. ولعلّ هذا السكن هو الذي حمل للنسابين على إرجاع نسب أهل يثرب إلى اليمن، فقالوا إنهم من الأزد، وإنهم من "قحطان".

وللأخباريين كعادتهم آراء في الاسم، قالوا إنها سميت "يثرب" نسبة إلى "يثرب بن قانية بن مهلائيل بن أرم بن عبيل بن عوص بن إرم بن سام بن نوح"، وكان أول من نزلها فدعيت باسمه. وقالوا" بل قبل لها "يثرب" من التثريب، وقالوا أشياء أخرى من هذا القبيل.

وزعم أهل الأخبار إن الرسول لما نزلها كره إن يسميها "يثرب"، فدعاها "طيبة" و "طابة". وذكروا لها تسعاً وعشرين اسماً، منها: "جابرة" و "مسكينة" و "محبورة" و "يندر الدار" و "دار الهجرة".

ويذكر بعض أهل الأخبار إن أقدم من سكن "يثرب" في سالف الزمان قوم يقال لهم "ُصعل" و "فالج"، فغزاهم النبي "داوود" وأخذ منهم أسرى، وهلك أكثرهم وقبورهم بناحية "الجرف". وسكنها "العماليق"، فأرسل عليهم النبي "موسى" جيشاً انتصر عليهم، وعلى من كان ساكناً منهم ب "تيماء"، فقتلوهم، وكان ذلك في عهد ملكهم الملك "الأرقم بن أبي الأرقم". ولم يترك الإسرائيليون منهم أحداً، وسكن اليهود في مواضعهم.

ونزل عليهم بعض قبائل العرب، فكانوا معهم واتخذوا الأموال والآطام والمنازل. ومن هؤلاء "بنو أنيّف"، وهم حيّ من "بليّ"، ويقال انهم بقية من العماليق، و "بنو مُريد" مزيد "مرثد"، حيّ من "بليّ"، وبنو معاوية ابن الحارث بنُ بهثة بن سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان، وبنو الجدمى "الجدماء" حيّ من اليمن، فعاشوا مع من كان بيثرب وأطرافها من اليهود، واتخذوا المنازل والآطام يتحصنون فيها من عدوهم إلى قدوم الأوس والخزرج إياها.

وكان قدوم "الأوس" و "الخزرج" على أثر حادث "سيل العرم"، فأجمع "عمرو بن عامر بن حارثه بن ثعلبة"، الخروج عن بلاده وباع ما له بمأرب، وتفرق ولده، فنزلت الأوس والخزرج "يثرب" وارتحلت "غسان" إلى الشام، وذهبت "الأزد" إلى عمان وخزاعة إلى تهامة. وأقامت الأوس والخزرج بالمدينة ووجدوا الأموال والآطام والنخل في أيدي اليهود ووجدوا العدد والقوة معهم، فمكثوا معهم أمداٌ وعقدوا معهم حلفاً وجوارا يأمن به بعضهم بعضاً ويمتنعون به ممن سواهم، فلم يزالوا على ذلك زماناً طويلاً، حتى نقضت اليهود عهد الحلف والجوار، وتسلطها على يثرب، فاستعان الأوس والخزرج بأقربائهم على اليهود، فغلبوهم، وصارت الغلبة للعرب على المدينة منذ ذلك العهد، على نحو ما سأتحدث عنه بعد قليل.

وأقدمُ مورد أشير فيه إلى "يثرب"، هو نص الملك "نبونيد" ملك بابل، الذي سكن "تيماء" أمداً، وذكر فجه إنه بلغ هذه المدينة. كما سلف إن تحدثت عن ذلك فيَ أثناء حديثي عن صلات العرب بالبابليين. وقد عرفت ب "يثربه" "Jathripa" في جغرافيا "بطلميوس" وعند "اصطيفان البيزنطي". وعرفت ب "المدينة" كذلك من كلمة "Nedinta" "Medinto" الإرمية، التي تعني "مدينة" في عربيتنا و "هكر" في العربية الجنوبية. وقد ورد اسمها في الكتابات المعينية.

ويظهر إنها عرفت ب "مدينة يثرب" على نحو ما وجدنا في كتاب "اصطيفان البيزنطي"، ثم اختصرت، فقيل لها "مدينتا"، أي "المدينة". ولما نزل الرسول بها، عرفت بأ "مدينة الرسول" في الإسلام.

وولقدم تأريخ "يثرب" ولورود اسمها في نص "نبونيد"، الذي يدل على إنها كانت معروفة اذ ذاك، لا يستبعد احتمال عثور المنقبين في المستقبل على كتابات وآثار قد تكشف عن بعض تأريخ هذه المدينة في أيام ما قبل الإسلام.

ولم يشر أهل الأخبار إلى وجود حرم أو بيت بيثرب، كان يتعبد فيه اليثربيون ويتقربون إليه بالنذور، مع انهم أشاروا إلى بيت اللات في الطائف. ويثرب مدينة مثل الطائف ومثل مدن أخرى كانت ذات محمضات ومعابد. وقد كان أهل يثرب مثل غيرهم من العرب مشركين يتقربون إلى الأصنام، وكانوا يحفظون أصناماً لهم في بيوتهم يتقربون إليها، كما كانوا يحجون إلى محجات كانت على مسافة من يثرب ولذلك يبدو غريباً سكوت أهل الأخبار عن ذكر بيت في هذه المدينة، يحج له الأوس والخزرج ومن والاهم من قبائل وعشائر.

وضر في مواضع لا تبعد كثراً عن "يثرب" على كتابات جاهلية، لم تعرف هويتها الآن، لأن الباحثين لم يتمكنوا من فحص مواضعها ومن نقلها إلى العلماء المختصين لقراءتها. كما انهم لم يتمكنوا من تصويرها ولا من التنقيب في تلك الأماكن تنقيباً علمياً. وقد أشار "عثمان ورستم" إلى وجود كتابات من هذا النوع على جبل "سلع"، وعند موضع "بئر عروة" بوادي العقيق وفي أماكن أخرى. أرجو إن يصل إليها الباحثون للتنقيب فيها ولحل رموز هذه الكتابات.

وقد يعثر على كتابات أخرى مطمورة في تربة "يثرب" وفي الأماكن القريبة منها، تكجف للقادمين من بعدنا أسرار هذه المدينة المقدسة.

ويثرب، مثل مكة من شعاب، تسكنها بطون الأوس والخزرج: الأوس في شعاب، والخزرج في شعاب، واليهود في شعاب. وفي الشعاب "حوائط"، بساتين صغيرة، وفي الحوائطَ "آبار" يسفون منها للشرب وللسقي وللغسل، كما كانت فيها دور مبنية بالأجر ودور مبنية باللبن. وبعضها ذو طابقين. وقد احتفر اليهود آباراً، كانوا يبيعون الماء منها بالدلاء، مثل "بئر ارومة"، وكانت ليهوي، وقد أمر الرسول بشرائها، فاشتراها عثمان. ومن آبار المدينة "بئر ذروان"، وهي البئر التي ذكر إن لبيد "ابن الأعصم" اليهودي سحر بها الرسول.

ويثرب على شاكلة مكة، بغير سور ولا حائط يحيط بها، ولا خندق يقف حائلاً أمام من يريد بالمدينة سوءاً. وقد كان عماد دفاع أهلها بالتحصن في بيوتهم وبسدّ منافذ الطرق في أثناء الخطر. والأغنياء الموسرون يعتمدون على آطامهم وحصونهم وقصورهم، يلجؤون إليها عند الشدة ومن معهم من اتباعهم يرمون أعداءهم من فوق السطوح بالسهام وبالحجارة، اذ لا حائط يحيط بها على نحو ما كان لمدينة الطائف. وقد تحارب الأوس والخزرج على الآطام، وأرخوا بتلك الحرب، وصاروا يؤرخون ب "عام الآطام". وذكر إن أهل المدينة من الأوس والخزرج كانوا يمتنعون بها، فأخربت في أيام عثمان.

ويظهر من وصف أهل الأخبار ليثرب، إنها كانت تشبه مدينة "الحيرة" بالعراق من حيث خلوّها من سور ومن تكوّنها من "قصور"، هي بيوت السادة ومعاقل المدينة ومواضع دفاعها آناء الشدة وأوقات الحروب. وقد عرفت ب "أطم" و "آطام" عند أهل يثرب. وذكر إن "الأطم" كان حصن بُنِيَ بحجارة، أو كل بيت مربع مسطح. وورد إن "الأطُوم": القصور وحصون لأهل المدينة والأبنية المرتفعة كالحصون.

والمدينة عند "وادي اضم". يقال للقسم الذي هو عند المدينة منه "القناة" والذي هو أعلى منها عند السدّ: الشظاة، اما ما كان اسفل ذلك، فيسمى أضماً إلى البحر. وذكر إن اضم واد يشق الحجاز حتىُ يفرغ في البحر. وأعلى اضم القناة التي تمر دُوين المدينة. وًان المدينة هي ما بين طرف قناة إلى طرف الجرف، وما بين الماء الذي يقال له "البوا" إلى "زبالة".

وجوّ "يثرب" على العموم خير من جو مكة، فهو ألطف وأفرح. ولم يعانِ أهلها ما عانى أهل مكة من قحط في الماء ومن شدة في الحصول عليه، حتى بعد حفر "بئر زمزم". فالماء متوفر بعض الشيء في المدينة، وهو غير بعيد عن سطح الأرض، ومن الممكن الحصول عليه بسهولة بحفر آبار في البيوت. وهذا صار في إمكان أهلها زرع النخيل، وإنشاء البساتين والحدائق، والتفسح فيها، والخروج إلى أطراف المدينة للنزهة، فأثر ذلك في طباع أهلها فجعلهم ألين عريكة وأشرح صدراً من أهل البيت الحرام.

وتأريخ المدينة مثل سائر تواريخ هذه الأماكن التي نتحدث عنها، مجهول لا نعرف من أمره شيئاً يذكر، وإنما ما يذكره الأخباريون عن وجود العماليق وجرهم بها فأمره وان قالوه، لا يستند إلى دليل، وحكمه حكم الأخبار الأخرى التي يروونها والتي عرفنا نوع اكرها وطبيعته. ولكن الشيء الذي نعرفه بقيناً إن أهل المدينة كانوا ينتسبون عند ظهور الإسلام إلى يمن، وكاوا يقسمون أنفسهم فرقتين" الأوس والخزرج. وبين الفرقتين صلة قربى على كل حال. ثم يذكرون انه كان بينهم يهود، وهم على زعمهم من قدماء سكان يثرب.

ويلاحظ إن الأوس والخزرج لا يدعون أنفسهم بأبناء حارثة، وإنما يدعون أنفسهم ب "بني قيلة" وب "ابني قيلة" ويقصدون بها "قيلة بنت الأرقم بن عمرو بن جفنة"، أو "قيلة بنت هالك بن عُذْرَة" من قضاعة، أو "قيلة بنت كامل بنُ عذْرة بن سعد بن زيد بن ليث بن سود بن اسلم بن الحاف ابن قضاعة". ولا بد إن يكون لهذه الامرأة التي ينتسبون إليها شهرة في الجاهلية حملتهم على الانتساب إليها. وقد ورد إن "قيلة" اسم ام الأوس والخزرج، وهي قديمة.

وقد ذكر بعض أهل الأخبار إن الأوس والخزرج ابنا قيلة لم يؤدوا اتاوة قط في الجاهلية إلى أحد من الملوك، وكتب إليهم تبعّ يدعوهم إلى طاعته، فغزاهم تبع أبو كرب، فكانوا يقاتلونه نهاراً ويخرجون إليه العشاء ليلاً، فما طال مكوثه ورأى كرمهم رحل عنهم.

ويُرجع الأخباريون مجيء الأوس والخزرج إلى المدينة. إلى حادث سيل العرم، ويقولون انهم لما جاءوا إلى يثرب وجدوا اليهود وقد تمكنوا منها، فنزلوا في ضنك وشدة، ودخلوا في حكم ملوك يهود إلى أيام ملكهم المسمى "الفيطوان" أو "الفيطون" أو "الفِطيون"، وكان رجلاً شديداً فظاً يعتدي على نساء الأوس والخزرج، فقتله رجل منهم اسمه "مالك بن العجلان" وفرّ إلى الشام إلى ملك من ملوك الغساسنة اسمه "أبو جبيلة". وفي رواية انه فرّ إلى "تبع الأصغر بن حسان". وتذكر الرواية إن أبا جبيلة سار إلى المدينة ونزل بذي حرض، ثم كتب إلى اليهود يتودد اليهم، فلما جاؤوا إليه قتلهم، فتغلبت من يومئذ الأوس والخزرج، وصار لهم الأموال والآطام. ثم رجع "أبو جبيلة" إلى الشام. وصارت اليهود تلعن "مالك بن عجلان". وهم يروون في ذلك أبياتاً ينسبونها إلى شاعر اسمه "الرمق بن زيد الخزرجي". ويذكر الأخباريون إن اليهود صوّرت "مالك بن عجلان" في كنائسهم وبيعهم ليراه الناس فيلعنوه.

وذكر "ابن دريد" إن "الفطيون"، اسم "عبراني"، وكان تَمَلَّك بيثرب، وكان هذا أول اسم في الجاهلية الأولى. وقد شهد بعض ولد الفطيون بدراً، واستشهد بعضهم يوم اليمامة، فمن ولد "الفطيون"" أبو المقشعر، واسمه أسيد بن عبد الله. ويذكر بعضهم إن اسم "الفطيون"، هو "عامر ابن عامر بن ثعلبه بن حارثة بن عمرو بن الحارث المحرق بن عمرو مزيقياء". فهو من العرب على رأي هذا البعض، ومن اليمن، وليس من أصل عبراني.

وأبو جبيلة عند بعض الأخباريين، هو "عبيد بن سالم بن مالك بن سالم"، أحد بني غضب بن جشم بن الخزرج. فهو على هذه الرواية رجل من الخزرج ذهب إلى ديار الشام، فملك على غسان. وذهب بعض آخر من الأخباريين إلى انه لم يكن ملكاً، وإنما كان عظيماً ومقرب عند ملك غسان. ونسبه بعض أهل الأخبار إلى "بني زريق"، بطن من بطون الخزرج. ونعته ب "أبي جبيلة الملك الغساني".

ونحن إذا أخذنا بهذه الرواية، وجب علينا القول: إن أخذ الأوس والخزرج أمر المدينة بيدهم، وزحزحة اليهود عنها، يجب إن يكون قد وقع في النصف الثاني من القرن السادس للميلاد، أي في زمن لا يبعد كثيراً عن الإسلام. لأننا نجد إن أحد أولاده وهو "عثمان بن مالك بن العجلان" في جملة من دخل في الإسلام وشهد بدراً، كما نجد جملة رجال من "بني العجلان"، من أبناء أخوة "مالك" وقد شهدوا "بدراً" ومشاهد أخرى، وهذا مما يجعل زمن "مالك" لا يمكن إن يكون بعيداً عن الإسلام.

ويظهر من دراسة هذه الأخبار المروية عن اليهود وملكهم "الفطيون" وعن الأوس والخزرج وما فعلوه بايهود، إن عنصر الخيال قد لعب دوراً في هذا المروي في كتب أهل الأخبار عن الموضوع. ونجد في القصص المروي عن ملوك اليمن وعن ولعهم بالنساء وعملهم المنكر بهن، ما يشبه هذا القصص الذي نسب إلى "الفطيون". ونجد للعلاقات الجنسية مكانة في هذا القصص الجاهلي الذي ايرويه أهل الأخبار عن ملوك الجاهلية. وما قصة "الفطيون" إلا قصة واحدة من هذا القصص الذي نبد للغرائز الجنسية مكانة بارزة فيه.

ويظهر إن كلمة "الأوس" هي اختصار لجملة "أوس مناة". و "مناة" كما نعلم صنم من أصنام الجاهلية. و "الأوس" هو جدّ الأوس، وهو في عرف النسَّابين "أوس بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن مرىء القيس بن ثعلبة بن مازن بن عبد الله بن الأزد".

وينقسم الأوس إلى بظون، منهم: عوف، والنبيت، وجشم، وُمرّة، وامرؤ القيس. وقد عرف "بنو مرّة" بالجعادرة كذلك. واتفقت جشم ومرة وامرؤ القيس وكونت حلفاً عرف ب "أوس اللاة". وب "أوس" كذلك. وانقسمت هذه الكتلة إلى أربعة أقسام، هي: ختمة وهي "جشم" في الأصل، وأمية، ووائل وهي مرة، وواقف وهي امرؤ القيس. وانقسمت هذه البطون إلى أفخاذ عديدة، حدثت بينها منازعات وحروب.

ويرجع أهل الأخبار نسب أهل "قباء" إلى "عوف"، ونسب "النبيت" إلى "عمرو"، ونسب "الجعادرة" إلى "مرّة". وقيل انهم سموّا بذلك لأنهم كانوا يقولون للرجل إذا جاورهم "جعدرْ حنث شئت، فأنت آمن. أي اذهب حيث شئت". ومنهم بنو كلفة وبنو حنش وبنو ضبيعة.

ومن الأوس "أحيحة بن الجَلاّح بن الحريش بن جحجبا"، سيد الأوس في الجاهلية شاعر. وكانت عنده "سلمى بنت عمرر النجارية"، وأولاده منها إخوة عبد المطلب. وهو من "بني جحجبا". ومن ولده "المنذر بن عقبة ابن أحيحة بن الحلاّح"، شهد بدراً وقتل يوم بئر معونة. وله أشعار ذكرها الرواة، منها أبيات في رثاء ابن له.

وأما الخزرج، فانهم إخوة الأوس في عرف النسابين. فالخزرج، وهو جدّ الخزرج، هو شقيق أوس. وهو "الخزرج بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر ابن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن عبد الله بن الأزد" وقد جاء نسله كما جاء نسل الأوس من اليمن بعد حادث سيل العرم، وسكنوا يثرب والى الشمال منها حتى "خبر" و "تيما،". وتأريخهم مثل تأريخ الأوس في رأي الأخباريين بدأ بالاتصال باليهود وبالعيش معهم وبينهم إلى إن تمكنوا منهم بعد الحادث الذي ذكرته وبعد مجيء أبي جبيلة لنصرتهم.

ومن سادات الأوس عند ظهور الإسلام، "سعد بن معاذ"، الذي قتل يوم "الخندق"، وأخوه "عمرو بن معاذ"، وقتل يوم أحد". و "سماك ابن عتيك" فارسهم في الجاهلية، وابنه "حضير الكتائب"، وكان سيد الأوس ورئيسهم يوم بعاث. وابنه "أسيد بن حضير"، شهد بدراً. ومنهم "أبو الهيثم بن التيهان"، وكان نقيباً، شهد العقبة وبدراً. و "قيس بن الخطيم بن عدي." الشاعر. و "سعد بن خيثمة !، وكان نقيباً، وقتل يوم بدر، وأبو قيس بن الأسلت الشاعر. و "شاس بن قيس بن عبادة"، وكان من أشراف الأوس في الجاهلية.

والخزرج أيضاً بطون، أشهرها: بنو النجار وينتسبون إلى "تيم الله بن ثعلبة" والحارث، وجعثم، وعوف، وكعب. ويلاحظ إن جشماً وعوفاً هما اسما بطنين أيضاً من بطون الأوس.

ومن الخزرج "أبو أيوب خالد بن زيد"، نزل عليه النبيّ أيام قدم المدينة. و "نعيمان بن عمرو"، وكان النبي يسخف نعيمان، لم يلقه قط إلا ضحك إليه. و "أسعد الخير بن زرارة بن عدس"، شهد العقبة وكان نقيباً، و "أبو أنس بن صرمة" الشاعر، وهو جاهلي، و "ثابت بن قيس بن شاس"، خطيب رسول الله، وعمرو بن الاطنابة الشاعر، جاهلي وهو أحد فرسان الخزرج. و "سعد بن عبادة بن دليم" وابنه "قيس بن سعد بن عبادة" وكان نقيباً سيداً جواداً، وابنه قيس أجود أهل دهره في أيام معاوية، ومنهم "مالك بن العجلان" قاتل "الفطيون"، وأبنه "عثمان بن ممالك بن العجلان"، شهد "بدراً"، و "خالد بن قيس بن العجلان"، شهد بدراً، و "عمرو بن النعمان بن كلدة بن عمرو بن أمية بن عامر بن بياضة". رأس الخزرج يوم بعُاث. و "رافع بن مالك بن العجلان"، وهو أول من أسلم من الأنصار، و "النعمان بن العجلان". و "مرداس بن مروان"، شهد يوم الحديبية، وبايع تحت الشجرة، وكان أمين النبي على، سُهمان خيبر، و "خشرم بن الحباب"، وكان حارس النبي. و "البرّاء بن معرور"، عقبيّ وكان نقيباً، وهو أول من أوصى بثلث ماله وأول من استقبل القبلة، وأول من حفن عليها. و "أبو قتادة بن ربعي" فارس النبي.

ويذكر الأخباريون انه كان للخزرج رئيس منهم، هو "عمرو بن الأطنّاية"، وقد ملك الحجاز. وكان ملكه على رأيهم في أيام "النعمان بن المنذر"، قتله الحارث بن ظالم قائل خالد بن جعفر بن كلاب. وكانت بينه وبين "عمرو" خصومة. وذكر إن "عمراً"، قال شعراً يهزأ فيه بالحارث جاء فيه: أبلغ الحارث بن ظالم الموُعدَ  والنافر الـنـذور عَـلـيَا

إنما تقتل النيام ولا تـقـتـل  يقظان ذا سـلاحّ كـمـيّا

وكان عمرو شاعراً ومن الفرسان.

وبالرغم من صلة الرحم القريبة التي كانت بين الأوس والخزرج، فقد وقعت بينهما حروب ترك لا فيها من الطرفين خلق كثير، وأول حرب وقعت بين الأوس والخزرج هي على رواية الأخباريين حرب "سمير" "سميحة". و "سمير" في روايتهم رجل من الاْوس من بني عمرو، شتم رجلاً اسمه كعب بن العجلان، وهو من بني ثعلبة من سعد بن ذبيان، نزل على مالك بن العجلان رئيس الخزرج وحالفه وأقام معه، ثم قتله. فثارت الثائرة ببن الأوس بسبب هذا القتل وبسبب دفع دية القتيل، ثم وقعت الحرب. ثم اتفقوا على إن يضعوا حكماً بينهم يفصل في الأمر، فوقع اختيارهم على "المنذر بن حرام التجاري الخزرجي". وهو جدّ حسان بن ثابت، فحكم بينهم بأن يؤدوا لكعب دية الصريح، ثم يعودوا إلى سنّتهم القديمة، وهي دفع نصف الدية عن الحليف. فرضوا وتفرقوا، ولكن بعد إن تمكنت العداوة والبغضاء في نفوس الطرفين.

واشتعلت نيران حرب أخرى بين الأوس والخزرج لسبب امرأة من "بني سالم". وفد كانت الحرب في هذه المرة بين "بني جحجبا" من الأوس و "بني مازن بن النجار" من الخزرج. وقد وقعت في موضع "الرحابة" انهزمت فيه "بنو جحجبا".

ثم تجددت الحرب بين "عمرو بن عوف" من الأوس وبني الحارث من الخزرج بسبب مقتل رجل من بني عمرو، وقد عرفت هذه الحرب باسم" "يوم السرارة". وقد كان على الأوس "حضير بن سماك". وهو والد "أسيد بن حضير"، وكان على الخزرج "عبد الله بن سلول" "عبد الله بن أبيَّ" المعروف في الإسلام ب "رأس المنافقين". وقد انتهت بانصراف الأوس إلى دورها، فعدت الخزرج ذلك نصراً لها.

ووقعت حرب أخرى لأسباب تافهة كهذه الأسباب. وما كانت لتقع لولا هذه العصبية الضيقة يثيرها في الغالب أفراد لا منازل كبيرة لهم في المجتمع ومنهم من الصعاليك والمغمورين بأمور سخيفة، فإذا وقع على أحدهم اعتداء نادى قومه للأخذ بثأره، فنثور الحرب. ومن هذه الحروب، حرب بني وائل ابن زيد الأوسيين، وبني مازن بن النجار الخزرجيين، وحرب بني طفر من الأوس وبن بني مالك من الخزرج، وحرب فارع، وحرب حاطب، ويوم الربيع، وحرب الفجار الأولى، وهي غير حرب الفجار التي وقعت بين قيس وكنانة، ثم حرب معبس ومضرس، وحرب الفجار الثانية، ثم يوم بعاث. وكان اليوم آخر الأيام المشهورة التي وقعت بين الأوس والخزرج.

وكان رئيس الخزرج في يوم بعاث "عمر بن النعمان بن صلاءة بن عمرو بن أمية بن عامر بن بياضة". أما رئيس الأوس، فكان "حضير الكتائب بن سحلك بن عتيك بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل". وقد ساعد الخزرج في هذا اليوم أشجع من غطفان، وجهينة من قضاعة. وساعد الأوس مزينة من أحياء طلحة بن إياس، وقريضة والنضير. وقد قتل فيه "عمرو بن النعمان" رئيس الخزرج. فانهزم الخزرج، وانتصرت الأوس.

وكان "حضير الكتائب بن سماك" سيد الأوس ورئيسهم يوم بعاث. ركز الرمح في قدمه وقل: ترون أفر!? فقتل يومئذ. وابنه "أسيد بن حضير" من الصحابة الذين شهدوا العقبة وبدراً.

وقد تخلل أخبار هذه الأيام كالعادة شعر، ذكر إن شعراء الطرفين المتخاصمين قالوه على الطريقة المألوفة في الفخر، وفي انتقاص الخصم، وفي إثارة النخوة لتصطلم الحرب ويستميت أصحاب الشاعر في القتال. وقد كأن المحلّق في هذه الأيام حسان بن ثابت الشاعر المخضرم الشهير، شاعر الرسول. وهو لسان الخزرج والمدافع عنهم، و "قيس بن الخطيم" وهو من الأوس، ثم جماعة ممن اشتركوا في المعارك، مثل: عامر بن الاطنابة، والربيع بن أبي الحقيق اليهودي، وعبد الله بن رواحة وآخرون.

ويظهر من روايات أهل الأخبار عن يثرب إن الأوس والخزرج، لم يكونوا كأهل مكة من حيث الميل إلى الهدوء والاستقرار، بل كانوا أميل من أهل مكة إلى حياة البداوة القائمة على الحصمومة والتقاتل. وقد بقي الحياّن يتعاصمان حتى جاء الرسول إليهما، فأمرهما بالكفّ عنه، ووجّههما وجهة أخرى أنستهما الخصومة العنيفة التي كانت فيما بينهما. ويظهر من رواياتهم أيضاً إن الأوس والخزرج، كانوا قد تحضروا واستقروا، غير انهم لم يتمكنوا من التخلص من الروح الأعرابية تخلصاً تاماً، بل بقوا محافظين على أكثر سجاياها، ومنها النزعة إلى التخاصم والتقائل، فألهتهم هذه النزعة عن الانصراف إلى غرس الأرض والاشتغال بالزراعة بهما فعل اليهود، وعن الاشتغال بالتجارة بمقياس كبير على نحو ما فعل أهل مكة. ونظراً لمساعدة أهل يثرب للرسول ومناصرتهم له وللمهاجرين، عرف الأوس والخزرج ب "الأنصار" في الإسلام. وصاروا يفتخرون بهذه التسمية، حتى غلبت عليهم، وصارت في منزلة النسب.

وكان أهل "يثرب" مثل غيرهم تجاراً، يخرجون إلى أسواق الشام فيتجرون بها. وقد ذكر أهل الأخبار أسماء رجال منها تاجروا مع بلاد الشام. وكان "يهود" يثرب يتاجرون أيضاً، ويأتون إلى أهل "يثرب" بما يحتاجون إليه من تجارات. كما "كانت الساقطة تنزل المدينة في الجاهلية والإسلام يقدُمون بالبر والشعير والزيت والتين والقماش، وما يكون في الشام". وكانوا يتسقطون الأخبار وينقلونها إلى الروم عند ظهور الإسلام. فقدم بعض الساقطة المدينة.، وأبو بكر ينفذ الجيوش، وسمعوا كلام أبي بكر لعمرو بن العاص، وهو يقول" عليك بفلسطين وإيليا، "فساروا بالخبر إلى الملك هرقل"، وتهيأ لملاقاة المسلين.

ولم يذكرا الرواة جنس هؤلاء "الساقطة"، الذين كانوا يأتون بالتجارة من بلاد الشام إلى المدينة، هل كانوا روماً أم عرباً، أم يهوداً، أم كانوا خليطاً من كل هؤلاء. على كل كانوا تجاراً يأتون يثرب في الجاهلية لبيع ما يحملونه من تجارة، ولشراء ما يجدونه هناك، وبقوا شأنهم هذا إلى الإسلام، كما نرى من الخبر المتقدم.

هذا هو مجمل ما نعرفه عن تأريخ "يثرب" وهو شيء قليل، لا يكفي المتعطش لمعرفة تأريخ هذه المدينة التي تعدّ من المواضع المقدسة في الإسلام بد وان يأتي يوم سنكتشف فيه الأقنعة عن تأريخ المدينة قبل الإسلام. وذلك حين يقوم المنقبون المتخصصون بالبحث في تربتها عن الماضي المستور الدفين.

الطائف

والطائف على مسافة خمسة وسبعين ميلاً تقريباً إلى الجنوب الشرقي من مكة. وهي على عكس مكة أرض مرتفعة ذات جوّ طيب في الصيف فيه زرع وضرع، وغنى جادت الطبيعة به على أهله. وقد كان وما زال مصيفاً طيباً يقصده أهل مكة مراراً من وهج الشمس.

وتقع الطائف على ظهر جبل غزوان، وهر أبرد مكان في الحجاز، وربما جمد الماء في فروته في الشتاء، وليس بالحجاز موضع يجمد فيه الماء سوى هذا الموضع. وبينها وبين مكة واد اسمه نعمان الأراك. وهي كثيرة الشجر والثمر، وأكثر ثمارها الزبيب والرمان والموز والأعناب، ولا سيما الصديفي، وفواكه أخرى عديدة. وهي تموّن مكة بالفواكه والبقول. وتحيط بها الأودية. ومن مواضعها، "الوهط"، وهو واد، أو مكان مطمئن من الأرض مستوّ، تنبت فيه العضاه والسمر والطلح والعرفط، وقد اتخذ بستاناً، صار ل "عمرو ابن العاص"، ثم لابنه. وقد عرف بكثرة كرمه وأنواع أعنابه.

والى الشرق من الطائف واد يقال له "لِيّة"، ذكر بعض أهل الأخبار إن أعلاه لثقيف وأسفله ل "بنٌي نصر بن معاوية" من هوازن.

وتأريخ مدينة الطائف تأريخ غامض، لا نعرف من أمره شيئا. إذْ لم تمس تربتها أيدي علماء الآثار بعد، كما إن السياح لم يجدوا في الطائف كتابات قديمة نجد. ولكن مكاناً مثل الطائف لا بد إن يكون له تأريخ قدم، ولا يعقل إن يكون من الأمكنة التي ظهرت ونشأت قبيل الإسلام. وليس لنا من أمل في الحصول على شيء من تأريخ الطائف إلا بقيام العلماء بمناجاة تربتها واستدراجها لتبوح لهم بما تكنهّ من كتابات مسجلة في الألواح يتحدث عن تأريخ هذا المكان المهم.

وقد عثر الباحثون فعلا على كتابات مدوّنة على الصخور المحيطة بمدينة الطائف الحديثة وفي مواضع غير بعيدة عنها. وقد تبين إن بعضاً منها بالنبطية وبعضاً آخر بالثمودية، وان بعضاً بأبجدية أخرى، وان بعضاً بأبجدية القرآن الكريم، أي بقلم إسلامي. ولا يستبعد عثور العلماء في المستقبل على كتابات ستكشف عن تأريخ هذه البقعة، وعن تأريخ من سكنها قبل الإسلام وقبل ثقيف. وُذكر إن بعض كتابات يشبه شكلها شكل الأبجدية اليونانية، وكتابات أخرى يشبه خطها الخط الكوفي عثر عليها في "بستان شهار" على مسافة كيلومترين إلى الجنوب من الطائف. غير إنها لم تدرس حتى الآن. ومكان مهم بالنسبة للطرق التجارية ولموقعه المعتدل الجمبل، لا بد وان يكون قد لفت أنطار سكان العربية الغربية قبل الميلاد فسكنوه، ولا أستبعد إمكانية تدوين تأريخ صحيح لهذه المدينة إذا ما قام المنقبون بالبحث فيها وفي الأماكن القريبة منها لاستنطاقها، لتتحدث لهم عما عرفته من أخبار تلك الشعوب التي سكنت هذا الموضع قبل ثقيف.

ويزهم أهل الأخبار إن الطائف إنما سميت طائفاً، بحائطها المطيف بها. اما اسمها القديم، فهو "وجَّ". ولهم روايات عن كيفية قيام ذلك الحائط. وقد حاول بعض أهل الأخبار إعطاء الطائف مسحة دينية، فزعموا بأنها من دعوات إبراهيم، وإنها قطعة من أرض ذات شجر كانت حول الكعبة، ثم انتقلت من مكانها بدعوة إبراهيم، فطافت حول البيت، ثم استقرت في مكانها، فسميت الطائف، وزعمت إن جبريل اقتطعها من فلسطين، وسار بها إلى مكة فطاف بها حول البيت، ثم أنزلها حول الطائف. وهكذا أكسبت هذه الروايات قدسية، وجعلت لها مكانة دينية. وهي روايات يظهر إنها وضعت بتأثير من سادات ثقيف المتعصبين لمدينتهم، والذين كانوا يرون إن مدينتهم ليست بأقل شأناً من مكة أو يثرب. وقد كان بها سادات وأشراف كانوا أصحاب مال وئراء.

وقد زعم بعض أهل الأخبار إن الذي أقام حائط الطائف رجل من الصدف، يقال له "الدمون بن عبد الملك"، قتل ابن عم له يقال له "عمرو" بحضرموت، ثم فرّ هارباً، ثم جاء إلى "مسعود بن معتب الثَّقفيّ" ومعه مال كثير، وكان تاجراً، فقال: أريد إن أحالفكم على إن تزوجوني وأزوجكم وأبن لكم طوفاً عليكم مثل الحائط لا يصل اليكم احد من العرب، فوافقوا على ذلك، وبنى لهم طوفاً عليهم، في ميت الطائف، فزوّجوه.

وقد كان لأهل. الطائف معبد يحجون إليه، هو معبد "اللات". وكانوا يعظَّمنونه ويتبركون به. ويذكر أهل الأخبار إن اللات كان صخرة مربعة يلت يهودي عندها السويق. وكان سسَد نته "بنو عتاب بن مالك"وهم من ثقيف. وقد بنوا له بناءً ضخماً. وكانت العرب، ومنها قريش، تعظمه، وتحجّ إليه وتطوف به. وقد هُدم في الإسلام عند فتح الطائف ودخول أهلها فيه. وقد هَدم الصنم" المغيرةُ بن شعبة، وأحرقه بالنار. ويقع موضعه تحت منارة المسجد، الذي بني على أنقاض ذلك المعبد، وهو مسجد المدينة. فمسجد الطائف إذنْ هو معبد اللات القديم، وهو في الطائف نفسها.

ويُرجع أهل الأخبار زمان الطائف إلى العمالقة، ويقولون: إنها إنما سميت "وَجّاً" بوجّ بن عبد الحيّ، من العماليق، وهو أخو "أجأ" الذيُ سمي به جبل "طيّ". ثم غلب عليها "بنو عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان ابن مُضَر"، ثم غلبهم "بنو عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن"، وذلك بعد قتال شديد. ثم استغلّت ثقبف الظروف، فاستولت عليها، وأخذتها من "بني عامر"، فارتحل "بنو عامر" عنها، ونزحوا إلى تهامة، وتحكم بها بنو ثقيف.

ويذكز بعض أحل الأخبار إن أول من ملك الطائف "عدوان بن عمرو بن قيس ابن عَيْلان بن مضر". فلما كثر "بنو عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر ابن هوازن"، غلبوهم على الطائف بعد قتال شديد. وقد كانت مواطن "بني عامر" بنجد. وكانوا يصيفون بالطائف، حتى غلبتهم ثقيف. فخرجوا إلى تهامة. وكان منهم "عامر بن الظرب العدواني" أحد الحكماء العرب.

وقد ورد في بعض الأخبار إن قوم ثمود هم الذين نزلوا بالطائف بعد العماليق، فأخذوها منهم، وذلك قبل ارتحالهم عنها إلى وادي القرُى، بسبب منازعة القبائل لهم، ومن ثم ربط رواة هذه الأخبار نسب ثقيف بثمود. وقد صيرّ بعض أهل الأخبار ثقيفاً مولى من موالي هوازن، ونسبهم آخرون إلى إياد.

وجاء في رواية أخرى إن أقدم سكان الطائف هم بنو مهلائيل بن قينان، وهم الذين عمروها وغرسوها وأحيوا مواتها. وقد سكنرها قبل الطوفان. فلما وقع الطوفان، كانوا في جملة من هلك فيه من الأمم الباغية. فخلت الطائف منهم، وسكنها بعدهم بنو هانىء بن هذلول بن هوذلة بن ثمود، فأعادوا بناءها وعمروها حتى جاءهم قوم من الأزد على عهد "عمرو بن عامر"، فأخرجوهم عنها، وأقاموا بها وأخذوا أماكنهم، ثم توالى عليها العرب حتى صارت في أيدي ثقيف.

وصيرّ بعض أهل الأخبار ثقيفاً رجلاً منتشرداً، اتفق مع ابن خاله النخَّعَ على الهجرة في طلب الرزق والعيش، فذهب النخَّعَ إلى اليمن، فنزل بها، وذهب "ثقيف" إلى وادي الفُرى، فنزل على عجوز يهودية لا ولد لها، واتخذها ثقف أماً له. فلما حضرها الموت، أوصت له بما كان عندها من دنانير وقضبان، ثم دفنها وذهب نحو الطائف. فلما كان على مقربة منها، وجد أمة حبشية ترعى غنماً، فأراد قتلها ليستولي على ماشينها، فارتابت منه، وأخبرته بأن يصعد إلى الجبل، فيستجير ب "عامر بن الظَّرِب العدَْواني" فإنه سيجيره ويغنيه، ويربح، أكثر من ربحه من استيلائه على هذه الغنمْ. فذهب إليه، وأجاره، وأغناه، وأنزله عنده، وزوّجه ابنة له، وبقي مقيماً في الطائف، وتكاثر ولده، حتى زاحموا بني عامر، وتلاحيا ثم اقتتلا، فتغلبت ثقيف على بني عامر، واستولت على الطائف.

ويذكر هؤلاء الرواة إن ثقيفاً اتفقوا مع "بني عامر" على إن يأخذوا الطائف لهم ويرحل بنو عامر منها، فيدفعوا لهم نصف ما يحصلون عليه من غلات. وقد بقوا على ذلك أمداً، حتى ثبّتت ثقيف نفسها في الطائف وقوّت دفاعها وأحكمت مواضعها، ثم امتنعت عن دفع أي شيء كان لبني عامر، فوقع قتال بين الطرفين انتهى بانتصار ثقيف. وصارت بذلك سيدة الطائف بلا نزاع.

وقد حسدهم طوائف من العرب، وقصدوهم لما صار لهم من مركز ومن رزق رغد وأثمار وجنان، ولكنهم لم يتمكنوا من الظفر بطائل، وتركوهم على حالهم.

وذكر بعض أهل الأخبار إن "عبد ضخم" كانوا فيمن سكن الطائف. وقد كانوا من عادٍ الأولى، وهلكوا فيمن اهلك من عاد ومن أقوام بائدة.

وذكر انه كان بالطائف قوم من يهود، طردوا من اليمن ومن يثرب، فجازوا إلى الطائف، وسكنوا فيها، ودفعوا الجزية لساداتها، ومن بعضهم ابتاع "معاوية" أمواله بالطائف.

وقد كان لوقوع الطائف على مرتفع، ولحائطها المزود بأبراج واستحكامات الفضل بالطبع في صد الأعراب ومنعهم من نهبها وغزوها. والظاهر إن أهل الطائف كانوا قد اقتفوا أثر اليمن في الدفاع عن مدنهم وقراهم، حيث كانوا يبنونها على المرتفعات في الغالب، ثم يحيطون ما يبنونه بأسوار ذات أبراج لمنع العدوّ من الدنوّ منها، ولا سيما الأعراب الذين لم يكونوا بحكم طبيعة معيشتهم في ارض منبسطة مكشوفة، ولفقرهم وعدم وجود أسلحة حسنة لديهم يستطيعون مهاجمة مثل هذه التحصينات، وأخذها على غرة حيث تقفل أبواب الأسوار وتغلق ليلاً، وفي أوقات الخطر-فلا يكون في استطاعة أحد ولوجها، لذلك صارت هذه التحصينات من اثقل الأعداء على قلوب الأعراب.

ولما هَمَّ "أبرهة" بالسير إلى مكة، كانت الطائف في جملة المواضع التي نزل بها في طريقه إليها. وقد خرج إليه مسعود بن معتب في رجال ثقيف، فأتوه بالطاعة، وبعثوا معه "أبا رغال" دليلاً، فأنزله المغمّس بين الطائف ومكة، فهلك "ابو رغال" هناك وقبره في ذلك الموضع.

وعند ظهور الإسلام كان أغلب سكان هذا الموضع ينتسبون إلى قبيلة ثقيف. وترجع هذه القبيلة نسبها مثل القبائل الأخرى إلى جدّ أعلى، يقولون إن اسمه "قسيّ بن منبه"، ويقول الأخباريون إنما دعي قسيًّاً لأنه قتل رجلاً، فقيل قسا عليه، وكان غليظاً قاسياً.

والنسابون يختلفون في نسبه، فمنهم من ينسبه إلى إياد، في جعله قسيّ بن نبت ابن منبه بن منصور بن مقدم بن أفصى بن دُعْمِيّ بن إياد بن معد، ومنهم من يجعله من هوازن، فيقول" قسيّ بن منبه بن بكر بن هوازن بن منصور ابن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان.

ونحن إذا درسنا ما رواه أهل الأخبار عن نسب ثقيف، وعن القبائل التي اتصلت بها، نجد إنها كانت ذات صلة وثيقَة بقبائل "قيس عيلان" من مجموعة مضَر. ومعنى هذا إنها كانت على مقربة منها، وإنها كانت من قبائل مضر. كما نجد في الوقت، نفسه إنها كانت على صلات وثيقة مع بعض قبائل اليمن. فسرت هذه الصلات بوجود نسب لثقيف باليمن. وهذا النسب المزدوج، هو كناية عن الصلات التي كانت تربط بين "ثقيف" ومجموعة. "مضر"، وبينها وبين قبائل اليمن. وهو تعبير عن موضع الطائف.المهم الوسط، الذي يربط بين اليمن والحجاز والطرق المارة إلى نجد. مما جعله وسطاً وموضعاً للاحتكاك بين قبائل هذه الأرضين.

وصروا ثقيفاً في رواية اخرى ابناً لأبي رغال، ثم رفعوا نسب الابن والأب إلى قوم ثمود، وجعله حمّاد الرواية ملكاً ظالماً على الطائف، لا يرحم أحداً، مرّ في سنة مجدبةٍ بامرأة ترضع صبيّاً يتيماً بلبن عنز لها، فأخذها منها فبقى الصبي بلا مرضعة، فمات، فرماه الله بقارعة فأهلكه، فرجمت العرب قبره، وصار رجم قبرهُ سنة للناس. فهل تجد رجلاً ألأم من هذا الرجل على هذا الوصف?.

وقد قيل في "أبي رغال" انه كان رجلاً عشّاراً في الزمن الأول، جائراً، وقيل كان عبداً لشعيب، وقيل: اسمه "زيد بن مخلف" عبدٌ كان لصالح النبيّ، وأنه أرسله إلى قوم ليس لهم لبن الا شاة واحدة، ولهم صبي قد ماتت أمه يغذونه بلبن تلك الشاة، فأبى إن يأخذ غيرها، فقالوا: دعها نحايي بها هذا الصبي، فأبى، "فيقال" انه نزلت به قارعة من السماء، ويقال" بل قتله رب الشاة. فلما فقده صالح، قام في الموسم ينشد الناس، فأخبر بصنيعه، فلعنه، فقبره بين مكة والطائف يرجمه الناس".

وفي رأيي إن معظم هذه الروايات التي يرويها الأخباريون عن ثقيف إنما وضعت في الإسلام، بغضاً للحجاج الذي عرف بقوته وبشدته، فصيروا ثقيفاً عبداً لأبي رغال، وجعلوا اصله من قوم نجوا من ثمود. وأبو رغال نفسه جاسوس خائن في نظر الأخباريين، حاول إرشًاد أبرهة إلى مكة، فكيف يكون أذن حال رجل من قوم فَسقَة كفَرَة، ثم صار عبداً لجاسوس لئيم وقد رأيت إن من أهل الأخبار من صيَرّ "ثقيفاً" رجلاً مهاجراً، هاجر في البلاد يلتمس العيش حتى جاء واديَ القُرَى، فتبنًّته عجوز يهودية، وعطفت عليه، حتى إذا ما ماتت اخذ مالها، وهاجر إلى الطائف، وكان لئيماً فطمع في غنمِ لأمَةٍ حبشية، وكاد يقتلها لولا إشارتها عليه باللجوء إلى "عامر بن الظَّرِب"، الجواد الكريم وصاحب الطائف، فأعطاه وحباه، ولكن أبى لؤم ثقيف إلا إن ينتقل إلى ولده، فتنكروا لبني عامر وأخرجوهم عن الطائف، واستبدوا وحدهم بها.

وبنو ثقيف حزبان: الأحلاف ومنهم: "غيلان بن سلمة" و "كنانة بن عبد ياليل" و"الحكم بن عمرو بن وهب بن معتب"، و"ربيعة بن عبد ياليل" و "شرحبيل بن غيلان بن سلمة"و "عثمان بن أبي العاص" و "أوس بن عوف" و "نمير بن خرشة بن ربيعة"، وقد ذهب هؤلاء إلى الرسول وأسلموا، فاستعمل عليهم "عثمان بن أبي العاص". وأما القسم الثاني، فعرف ب "بني مالك"، وقد ذهب نفر منهم مع هذا الوفد إلى الرسول، فضرب لهم قبة في المسجد. وأما الأحلاف، فنزلوا ضيوفاً على "المغيرة بن شعبة" وهو من ثقيف. ومن الإخلاف في الإسلام: المختار بن أبي عبيد، والحجاج بن يوسف.

ومن زعماء الأحلاف عند ظهور الإسلام" أميةّ بن أبي الصلت، والحارث. ابن كلدة، ومعتب، وعتاب، وأبو عتبة، وعتبان.

ويذكر أهل الأخبار إن حربا وقعت بين "مالك" والأحلاف، فخرجت الأحلاف تطلب الحلف من أهل يثرب على "بني مالك"، وعلى رأسها "مسعود ابن معتب" رأس الأحلاف. فقدم على "احيحة بن الحلاّج"، أحد بني عمرو بن عوف من "الأوس". فطلب منه الحلف. فأشار عليه "احيحة"، إن عليه إن يعود إلى الطائف ويصالح إخوانه، فان أحداً لن يبر له إذا حالفهم، فانصرف "مسعود" عن "عتبة" بعد إن زوّده بسلاح وزاد وأعطاه غلاماً يبني الأسوار. فلما وصل، أمر الغلام ببناء سور حول الطائف. فبناه له، وأحيطت الطائف بسور قوي حصين، وأمنت بذلك على نفسها من غارات الإعراب.

ويختلف أهل الطائف عن أهل مكة، وعن الأعراب من حيثُ ميلهُم إلى الزراعة واشتغالهم بها وعنايتهم بغرس الأشجار. وقد عرفت الطائف بكثرة زبيبها وأعنابها واشتهرت بأثمارها. وقد كان أهلها يعُنون بزراعة الأشجار المثمرة، ويسعون إلى تحسين أنواعها وجلب أنواع جديدة لها، فقد استوردوا أشجاراً من بلاد. الشام ومن أماكن أخرى وغرسوها، حتى صارت الطائف تموّن مكة وغيرها بالأثمار والخضر.

وثقيف حضر مستقرون متقدمون بالقياس إلى بقية أهل الحجاز. فاقوا غيرهم في الزراعة اذ عنوا بها كما ذكرت مع واستفادوا من الماء فائدة كبيرة، وأحاطوا المدينة ببساتين مثمرة، كما فاقوا في البناء فبيوتهم جيدة منظمة، وكان لهم حذق ومهارة في الأمور العسكرية. وقد تجلى ذلك في دفاعهم عن مدينتهم يوم حاصرها الرسول وتحصنهم بسورهم، ورميهم المسلمين بالسهام وبالنار من فوق سورهم، يوم لم يكن لمكة ولا للمدينة سور ولا خنادق.

كذلك اختلف أهل الطائف عن غيرهم من أهل الحجاز في ميلهم إلى الحرف اليدوية مثل الدباغه والتجارة والحدادة، وهي حرف مستهجنة في نطر العربي، يأنف من الاشتغال بها. ولكن أهل الطائف احترفوها، وربحوا منها، وشغّلوا رقيقهم بها. وقد استفادوا من خبرة الرقيق، فتعلموا منهم ما لم يكن معروفاً عندهم من أساليب الزراعة وأعمال الحرف، فجددوا وأضافوا إلى خبرتهم خبرة جديدة.

وقد عاش أهل الطائف في مستوى هو أرفع من مستوى عامة أهل الحجاز، فقد رزقوا فواكه أكلوا منها، وجففوا بعضا منها مثل "الزبيب"، وأكلوا وصدروا منه ما زاد عن حاجتهم، كما اقتاتوا بالحبوب واللحوم. حتى حظ فقراء الطائف، هو أرفع وأحسن من درجة من حظ فقراء المواضع الأخرى من الحجاز.

وقّد ذهب المفسرون إلى أن كلمة القريتين الواردة في القرآن الكريم، تعني مكة و الطائف. )وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم(.

و كان رؤساؤها من المثرين الكبار، لهم حصون يدافعون بها عن أنفسهم وعن أموالهم، ولهم علم بالحرب. ولحماية مدينتهم أقاموا حصوناً على مسافات منها، وحوّطوا مدينتهم بسور حصين عال، يردّ من يحاول دخولها، وجمعوا عندهم كل وسائل المقاومة الممكنة التي كانت معروفة في ذلك العهد، مثل أوتاد الحديد التي تحمى بالنار لتلقى على الجنود المختفين بالدبابات، وغير ذلك من وسائل المقاومة والدفاع، كما كانوا قد تغلّموا من أهل اليمن مثل مدينة "جرش" صناعة العرادات والمنجنيق والدبابات.

وكان أغنياء "الطائف"، كأغنياء مكة وأغنياء المواضع الأخرى من جزيرة العرب أصحاب ربا، ولما اسلموا اشرط عليهم الرسول أن لا يرابوا، ولا يشربوا الخمر.وكتب لهم كتاباً. وكانت لهم تجارة مع اليمن، ولكننا لا نسمع شيئاً عن قوافل كبيرة كقوافل أهل مكة، كانت. تتاجر مع بلاد الشام أو العراق. ولعلهم كانوا يساهمون مع تجار مكة في اتجارهم مع تلك الديار.

وقد اشتهرت الطائف بدباغة الجلود، وذكر أن مدابغها كانت كثيرة، وان مياهها كانت تنساب إلى الوادي، فتنبعث منها روائح كريهة مؤذية. واشتهرت بفواكهها وبعسلها.

وقد استغل أثرياء قريش أموالهم في الطائف، فاشتروا فيها الأرضين وغرسوها واستثمروها، واشتروا بعض المياه، وبنوا لهم منازل في الطائف ليتخذوها مساكن لهم في الصيف، وأسهموا مع رؤساء ثقيف في أعمال تجارية رابحة، وربطوا حبالهم بحبالهم، وحاولوا جهد إمكانهم ربط الطائف بمكة في كل شيء.

ولما فتحت مكة، وأسلم أهلها طمعت ثقيف فيها، حتى إذا فتحت الطائف أقرت في أيدي المكيين، وصارت أرض الطائف مخلافاً من مخاليف مكة.

وقد كان بين أهل مكة وأهل الطائف تنافس وتحاسد، وقد حاول أهل الطائف جلب القوافل اليهم، وجعل مدينتهم مركزاً للتجار يستريحون فيه، وقد نجحوا في مشروعهم هذا بعض النجاح يوم استولى الفرس على اليمن، وتمكنوا فيه من طرد الحبش عن العربية الجنوبية، فصارت قوافل "كسرى" التجارية و "لطَائم" ملوك الحيرة تذهب إلى اليمن وتعود منها من طريق الطائف، ونغصت بذلك عيش أهل مكة، غير إن أهل مكة تمكنوا من التغلغل إلى الطائف ومن بسط سلطانهم عليها، بإقراض سادتها الأموال، وبشراء الأرضين. فبسطوا بذلك سلطانهم عليها، وأقاموا بها أعمالاً اقتصادية خاصة ومشتركة، وهكذا استغل أذكياء مكة هذا الموضع المهم، وحوّلوه إلى مكان صار في حكم التابع لسادات قريش.

ومن سادات الطائف: "عبد ياليل" وأخوته "حبيبا" و "مسعودا" و "ربيعة" و "كنانة" وهم "بنو عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن غيرة الثقفي"، وكانوا أثرياء أجواداً يطعمون بالرياح. وأمهم "قلابة بنت الحارث بن كلدة بن عمرو بن علاج" الثقفي. وبيت "بني علاج" من البيوت القديمة المعروفة بالطائف.

وقد لقي الرسول مقاومة عنيفة من أهل الطائف حين حاصرها وأحاط بها، فقد تحصن أهلها بحائطهم وبحصونهم، وأغلقوا عليهم أبواب مدينتهم، وصنعوا الصنائع للقتال. إما من كان حول الطائف من الناس، فقد أسلموا كلهم. ولما ضيق المسلمون الحصار عليها، وقربوا من الحائط، دخل نفر من أصحاب رسول الله تحت دبّابة، ثم زحفوا بها إلى جدار الطائف فأرسلت عليهم ثقيف سكك الحديد فحماة بالنار، فخرجوا من تحتها، فرمتهم ثقيف بالنبل، وقتلوا رجالاً، فأمر رسول الله بقطع أعناب ثقيف،كي يحملهم على فتح أبواب مدينتهم ومهادنة الرسول، للإبقاء على أموالهم، غير انهم لم يبالوا بما رأوا من قطع أعنابهم وتخريب بساتينهم، وبقوا على عنادهم، مما حمل الرسول على ترك حصارهم والرحل عنهم انتظاراً لفرصة أخرى.

ويذكر أهل الأخبار، إن "سلمان الفارسي"، اتخذ منجنيقاً نصبه المسلمون على الطائف، وان المسلمين كانت لهم دبّابة، جاء بها "خالد بن سعيد بن العاص" من "جرش".

ويذكر الطبري إن عروة بن مسعود، وهو من وجوه الطائف، كان قد تعلم مع غيلان بن سلمة صنعة الدبابات والضّبور والمجانيق من أهل جرش. وقد اشتهرت هذه المدينة بصنع آلات الحرب.

ولما انصرف الرسول عن الطائف، اتبع أثره "عروة بن مسعود بن معتب" حتى أدركه قبل إن يصل إلى المدينة، فأسلم. فلما رجع إلى الطائف على أمل إقناع أهلها بالدخول في الإسلام، لمكانته فيهم، رموه بالنبل من كل وجه، فأصابه سمم فقتله. ثم أقامت ثقيف بعد مقتل عروة أشهراً، ثم انهم ائتمروا بينهم ألا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب، فأرسلوا وفداً إلى المدينة لمفاوضة الرسول على الدخول في الإسلام. فلما دخلوا عليه أبوا إن يحيوّه إلا بتحية الجاهلية، ثم سألوه إن يدع لهم "الطاغية"، وهي اللات لا يهدمها إلى أجل، لأنهم أرادوا بذلك "فيما يظهرون إن يسلموا بتركها من سفهائهم ونسائهم وذراريهم، ويكرهون إن يروّعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الإسلام. فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك إلا إن يبعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة فيهدماها. وقد كانوا سألوه مع ترك الطاغية إن يعفيهم من الصلاة، وان يكسروا أوثانهم بأيديهم، فقال رسول الله: أما كسر أوثانكم بأيديكم فسنعفيكم منه. وأما الصلاة، فلا خير في دين لا صلاة فيه. فقالوا: يا محمد، أما هذه فسنؤتيكها وإن كانت دناءة".

فلما وصل الوفد ومعه أبو سفيان والمغيرة بن شعبة، إلى الطائف، وأرادا هدم الصنم، "أراد المغيرة إن يقدم أبا سفيان، فأبى ذلك أبو سفيان عليه، وقال: ادخل أنت على قومك، وأقام أبو سفيان بماله بذي الهرم، فلما دخل المغيرة بن شعبة، علاها يضربها بالمعول، وقام قوم دونه-بنو مُعتب -خشية إن يرمى أو يصاب... وخرجن نساء ثقيف حسّراً يبكين" "ويقول أبو سفيان والمغيرة يضربها بالفأس: واهاً لك. فلما هدمها المغيرة، أخذ مالها وحُليهَّا، وأرسل إلى أبي سفيان وحليهّا مجوع، ومالها من الذهب والجزع، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أبا سفيان إن يقضي من مال اللات دين عروة. والأسود ابني مسعود، فقضي منه دينهما".

وذكر عن "عروة بن مسعود الثقفي" انه كان من الرجال الذين كانوا عندهم عشر نسوة عند مجيء الإسلام، وانه نادى على سطحه بالطائف بالأذان أو التوحيد، فرماه رجل من أهل الطائف فقتله، وان الرسول، قال فيه: "مثله مثل صاحب ياسين". "ويقال إنه الذي ذكره الله عز وجل في التنزيل من القرينين عظيم. وذكر بعض أهل العلم إن أربعة اتصل سؤددهم في الجاهلية والإسلام" عروة بن مسعود، والجارود واسمه: بشر بن المعلى، وجرير بن عبد الله، وسراقة بن جعشم المُدْلجي".

وثقيف أقرب في الواقع إلى اليمن منهم إلى أهل الحجاز. وتكاد تكون ثقافتهم ثقافة يمانية، وحياتهم الاجتماعية حياة اجتماعية من النوع المألوف في اليمن. حتى في الوثنية نجد لهم معبداً خاصاً بهم، يتقربون إليه ويحجون له. ولعلّ هذه الاختلافات وغيرها هي من جملة العوامل التي صَيرت ثقيفاً مجتمعاً خاصاً معارضاً لمجتمع مكة، وجعلت أهل الطائف يكرهون أهل مكة الذين امتلكوا أملاكاً في الطائف، وكانوا يأتون إليها في الصيف هرباً من جوّ مكة المحرق.

ومن بطون ثقيف، "بنو الحطيط" و "بنو غاضرة". ومن " بني الحطيط "مالك بن حطيط"، وكان من ساداتهم في الجاهلية، ومن ثقيف الشاعر أمية بن أبي الصلت. "وكان بعض العلماء يقول لولا النبي صلى الله عليه وسلم، لادعت ثقيف إن أمية نبيّ، لأنه قد دارس النصارى وقرأ معهم ودارس اليهود وكل الكتب قرأ. ولم يسلم ورثى قتلى بدر. ومن رجالهم "أبو محجن"، كان شاعراً فارساً شجاعاً شهد يوم القادسية، وكان له فيها بلاء عظيم، وقد شهد يومئذ "عمرو بن معد يكرب" وغيره من فرسان العرب، فلم يبل أحد بلاءه. و "الأخنس بن شريق"، وتزعم ثقيف انه أحد الرجلين اللذين ورد ذكرهما في القرآن، على رجل من القريتين عظيم: "الأخنس بن شريق والوليد بن المغيرة. وقد كان حليفا لبني زهرة. وقد خنس ببني زهرة يوم بدر.

ومن ثقيف "بنو علاج"، ومنهم "الحارث بن كلدة". "كان طبيب العرب في زمانه وأسلم ومات في خلافة عمر". والمغيرة بن شعبة.

ومن بني ثقيف عثمان والحكم ابنا أبي العاص بن بشر بن دهمان الثقفي، كانا شريفين عظمي القدر، ولى "عمر" عثمان عمان والبحرين وأقطعه الموضع المعروف بالبصرة ب "شط عثمان". ومنهم "تميم بن خرشة بن ربيعة"، أحد وفد ثقيف إلى رسول الله، ومن فرسانهم في الجاهلية" "أوس بن حذيفة" وأدرك الإسلام، و "ضبيس بن أبي عمرو"، و "همام بن الأعقل" وآخرون.

الفصل الرابع والأربعون

مجمل الحالة السياسة في جزيرة العرب عند ظهور الإسلام

استعرضنا في الفصول المتقدمة من هذا الكتاب حالة العرب السياسية قبل الإسلام على قدر ما أدّى إليه بحثنا، وساعفتنا عليه الموارد. أما في هذا الفصل وهو خاتمة فصول القسم السياسي، فنستعرض حالة العرب السياسية في القرن السادس للميلاد بوجه عام،

والقرن السادس للميلاد، فترة من الفترات المهمة في تأريخ البشرية، فيه ظهرت أمارات الشيخوخة على الانبراطورية الساسانية التي شيدها "أردشير الأول" على أثر الثورة التي اندلعت عام "224 م" أو "226 م"، ثم لم تلبث إن انهارت في القرن السابع للميلاد بسرعة عجيبة، وبأيد لم يحسب لوجودها حساب، ومن مكان لم يكن له قبل ظهور الإسلام أثر ما فعاًل في السياسة العالمية. وفي هذا القرن أيضاً برزت الأمراض العديدة التي ألمّت بالقيصرية، والأملاك التي كانت خاضعة لها، وهي أمراض لم تنج منها إلا ببتر بعض أطرافها في القرن التالي له، فخرجت من ردهة العمليات تئن من فاجعة الألم الذي حلّ بها، ومن هول ما أصيبت به بذلك البتر.

وفي النصف الثاني من هذا القرنُ ولدَ الرسول، وبميلاد الرسول ظهر حدث تأريخي خطير للبشرية في النصف الأول من القرن السابع للميلاد، يكفي إن أثره قائم حتى الآن، وانه سيقوم إلى ما شاء. الله، وانه أوجد مفاهيم خلقية جديدة للبشرية، وانه بشر برسالة قائمة على إن الدين لله، وان الناس أمامه سواء، لا فرق بين فرد وآخر وجنس وجنس، ولا تمييز للون على اخر، ثم لم يلبث إن انتشر بسرعة عجيبة لم ينتشر بمثلها دين من الأديان، فقضى على إحدى الانبراطوريتين العظيمتين في عالم ذلك العهد، واستأصل الأعضاء الثمينة من الانبراطورية الأخرى، وأوجد من أشتات سكان جزيرة العرب أمة، ومن قبائلها المتنازعة حكومة ذات سلطان، وفاض على سداد الجزيرة، وسقى ما وراءها من أرضين، ثم وحد بين أقوام عديدين وجمعهم في صعيد دين الله.

وقد ابتلي هذا القرن والنصف الأول من القرن التالي له بأوبئة وبآفات وبمجاعات زادت في مشكلاته الكثيرة التي ورثها من القرون السابقة له، ففيه انتشرت أوبئة ابتلعت بضع مئات من البشر في كل يوم من أيام انتشارها، كانت كالعواصف تنتقل من مكان إلى مكانّ مكتسحة من تجده أمامها من مساكين، وتعود بين الحين والحين لتبتلع ما يسد حاجتها من البشر والحيوانات. وفيه ُمني العالم بزلازل وبنقص كبير في الغلات أوجد قحطاً ومجاعةً وفقراً في كثير من الأقطار، حتى اضطر كثير من الناس إلى هجر الأماكن المنكوبة والارتحال عنها إلى أماكن أخرى فيها النجاة والسلامة.

ولا ريب إن ظروفاً هذه حالتها، لا بد إن تتولد منها مشكلات اجتماعية وسياسية واقتصادية للحكومات وللرعية، فاختل الأمن خاصة في المناطق الواقعة تحت أقدام الجيوش، فيوماً تكتسحها جيوش الفرس فتهدم كل ما تجده أمامها من قرى ومدن، ويوماً تغزوها جيوش الروم فتستولي على ما تجده أمامها من حاصلات زراعية ومن أموال. وفي ظروف هذه شأنها لا بد إن يجد الخارجون على النظام والطامعون في الربح السهل الحرام فرصاً مواتية لا يفرط فيها للكسب والظفر بما يرغبون فيه، فتأثرت بذلك حالة سكان هذه الأرضين، كما تعرضت التجارة للأخطار، واضطر التجار إلى سلوك طرق ثانية ليكونوا بمأمن من شر قطاع الطرق وفسادهم. وترك أكثر الناس مزارعهم وقراهم فراراً من هذا الوضع إلى المدن الكبيره البعيدة عن مواطن الغزو والأخطار،. فتحولت خيرة الأرضين الخصبة إلى اًرضين مجدبة، نتيجة لهذه الهجرة، ولتراكم الأتربة في شبكات الري. ولكن هذا القرن لم يعدم مع ذلكُ حكاماً حاولوا جهد إمكانهم إصلاح الخطأ، وأناساً كان لهم حسّ وشعور بما وصلت إليه الحالة فنادوا بالإصلاح. ولكن صيحاتهم لم تكن ذات أثر خطير في قوم قلقين حائرين، وليس في أيديهم زمام أمورهم، وقد اعتراهم ذهول جعلهم لا يعرفون كيف يتصرفون. ثم إن الحمل كان ثقيلاً، والأخطاء كثيرة، والأمراض، عديدة لا يقومها طبيب واحد أو أطباء معدودون.

لقد عزم "كسرى" الأول "531-579م" المعروف ب "كسرى أنو شروان"، على إصلاح الحال في مملكته، فأمر بوضع دستور جديد للجباية يخفف عن كاهل الدافعين بعض الثقل، وأمر بإصلاح الأرض وتوزيعها على شعبه بالعدل وبالإنصاف بين الناس حتى عرف لذلك بالعادل، واستعان بمستشارين حكماء كانوا يعظونه ويرشدونه بطريقة الحكم والأمثال والعظات إلى كيفية سياسة الرعية وتدبر أمورها، كما ولى النواحي الروحية عنايته كذلك، فأعاد الزردشتية القديمة، وقاوم الحركة المزدكية التي قام بها "مزدك" في عهد والد "قباد الأول" "483 - 531م" "488 - 531م"، وهي حركة تدعو إلى الغاء الملكية، والى الإباحية، والى القضاء على امتيازات النبلاء ورجال الدين على ما تقوله الموارد التأريخية العربية المستندة إلى موارد "فهلوية" شجعها "قباذ" لما وجد فيها من مبادئ توافق سياسته الرامية إلى مقاومة تلك الطبقات المتنفذة التي عارضت في انتقال العرش إليه، والتي اجتمعت كلمتها برئاسة "موبذان موبذ" والعظماء على إنزاله من عرشه، لما بدا لهم من ازوراره عنهم، وانحرافه عن الزردشتية إلى تعاليم مزدك المناهضة للموابذة ولعظماء المملكة الذين كانوا يتمتعون في المملكة بنفوذ واسع حدّ من سلطان "شاهنشاه".

ورسالة مزدك وتعاليمه، غامضة، لا نعلم من حقيقتها شيئاً، فقد أبيدت كتبهم وطمست معالم دينهم في.عهد "أنو شروان"، ولم يبق منها إلا هذه النتف المدوّنة في الكتب العربية عن موارد "فهلوية" دوّنت في أيام محفة المزدكية وبعدها. ويظهر من هذه النتف إنها حركة دينية اجتماعية سياسية تدعو إلى توزيع الثروات بين الناس بالتساوي. والى انتزاع الأموال والأرضين من الأغنياء لإعطائها للمقليّن، حىّ من كان عنده جملة نساء تؤخذ منه لتعطى لغيره من المحتاجين، فهي على هذا التعريف فكرة اشتراكية متطرفة عارضت النظم الاجتماعية القائمه، وهددت الدين القائم، وجرّأت العامة على تلك الطبقات، كان الملك في حاجة إليها للانتقام ممن عارضه فأيدها.

هذا وحيث أننا قد تعلمنا من التجارب التي تجري في الوقت الحاضر ومن دراستنا للموارد التأريخية القديمة، إن ما يكتب عن قوم غضب الحاكمون عليهم لا يمكن إن يكون مرآة صافية يعبر عن وجه أولئك القوم وعن ملامحهم الحقيقية، لذا فإننا لا نستطيع إن نقول ان ما وصل إلينا عن المزدكية بمثل رأيها وعقيدتها تمام التمثيل، إذ يجوز إن يكون منه ما هو مصنوع موضوع حمل عليهم، وان رواة الأخبار قد غرقوا منه، ودوّنوه على نحو ما وصل إلينا في كتبهم. لذلك يجب الانتباه على هذه الملاحظة.

وحمل عدل الملك الساساني وحلمه وتسامحه مع رعيته ومساعدته للخارجين على الكنيسة الرومية الرسمية "من الفلاسفة والمثقفين بالثقافة الإغريقية القديمة ممن كانوا هدفاً لهجمات الكنيسة الأرثودكسية في الانبراطورية البيزنطية" على الهجرة إلى المملكة الساسانية، طامعين في عدل الملك وحمايته، وفي بيأة تكون فيها الحربة الفكرية مكفولة مضمونة، لا ضغط فيها ولا إكراه. ولكنهم ما لبثوا إن وجدوا إن الزردشتية التي نصرها وأيدها "كسرى أنو شروان"، وهي ديانة المملكة غير ملائمة للفلسفة، وأنها ليست أرحب صدراً من "الأرثُودكسية"، وانهم لم يكونوا على صواب بمجيئهم إلى هذه الأرض، فرجوا من "ملك الملوك" الترفق بهم، بالسماح لهم بالعودة إلى بلادهم. فلما كانت الهدنة، طلب "كسرى" من قيصر في سنة 549م إباحة العودة إلى ديارهم والتلطف بهم والعفو عما بدر منهم من الذهاب إن مملكته.

وكان مما فعله "كسرى أنو شروان" أن هاجم الإمبراطورية البيزنطية وقيصرها في عهد "يوسطفيان" "يسطنيانوس" "جستنيان" "527 - 565م"، واشتبك معها في جملة حروب، ووسع حدوده في الشرق، وساعد الأحزاب المعارضة للروم، وأرسل حملة إلى اليمن بناء على طلب الأمراء المعارضين لحكم الحبشة عليها، ساعدتهم في وضع خطة لإزاحة الحبشة عنها. والحبش هم حلفاء البيزنطيين وإخوانهم في الدين وهم الذين حثوّا النجاشي على فتح اليمن بعد إن يئسوا من الاستيلاء عليها ومن الاستيلاء على الحجاز وبقية جزيرة العرب.

واتبع "كسرى الثاني" "595 - 628 م" المعروف ب "كسرى أبرويز"، وهو ابن "هرمز بن كسرى أنو شروان"، خطوات جدّه وأسلافه الملوك الماضين في الحرب مع البيزنطيين، فبلغ "خلقيدونية" ثلاث مرات، واستولى على بلاد الشام، ودخلت جيوشه القدس في سنة "614 م". ثم استولى على مصر في سنة "619 م" ودَوّخ بفتوحاته الروم إلى أن عاجله ابنه بخلعه، فاستراح الروم منه، ثم لم يلبثوا أن استردوا من الفرس أكثر ما أخذوه منهم في تلك الحروب.

وقد اضعفت هذه الحروب المتوالية الحكومة الساسانية وآذت الشعوب التي خضعت لحكمها وأفقرتها، وأثرت على الأمن الداخلي وعلى الأوضاع الاقتصادية والعمرانية تأثراً كبيراً ولا سيما في البلاد التي صارت ساحة تعبئة وتلاحم جيوش، وهي بلاد العراق. ولم يعد الإنسان يأمن على حياته وعلى ماله، وصار سواد الناس وكأنهم أبقار واجبها إعطاء الحليب وأداء الأعمال الأخرى للحكام، والذبح للاستفادة من لحومها ومن جلودها وعظامها حينما تنتفي الحاجات الأخرى منها. وتأسد المرازبة وقادة الجيوش في الحكم، حتى صار الحكم حكم عواطف وأهواء ومصالح، و "الشاهنشاه" عاجز عن عمل كل شيء لأن "الشاهنشاهية"، لم تعد متقيدة بالوراثة القديمة وبالآداب السلطانية، بل صارت لمن يستعين بأصحاب العضلات وبمثيري الفتق والاضطرابات. أضف إلى ذلك أن من بيده مفتاح الدفاع عن الدولة، وهم الجنود، والضباط الصغار، شعروا أنهم يقاتلون لا في سبيل وطن ودين وعقبدة، بل يقاتلون لأنهم يساقون اذ القتال قسراً، وهم في حالة. سيئة ووراءهم عوائلهم لا تملك شيئاً، وقد جيء بهم إلى الجيش قسراً وعلى طريقة "السخيرة". وهم يحاربون ولا سلاح لهم، لأن الحكومة لا تملك سلاحا، ولا نظام لهم، لأنهم لم يدربوا على القتال ولم يُعَلَّموا أصوله، أجسامهم تقاتل، وقلوبهم مشغولة في مصير أولادهم وزوجاتهم وبيوتهم، وهم المعيلون لهم، ليس لهم غيرهم من معين.

وحكومة هذا شأنها، لا يرممن لها أن تحافط على حدود طويلة مفتوحة سهلة تقيم عليها قبائل غارية، تترقب الفرص لتجد فرصة تهتبلها لتغير فيها على الحضر، فتنتزع منهم ما قد تقع أيديهم عليه من أي شيء. فصار الأعراب يغيرون على الحدود من كل مع مكان فيه نفوذ وجنود للساسانيين، ولاسيما بعد معركة "ذي قار" التي منحتهم قوة معنوية عالية، وعلمتهم مواطن الضعف عند الساسانيين. فما جاء الإسلام من جزيرة العرب صاروا عوناً له في تقويض تلك الدولة، ودالة ساعدته في تفهم مواطن الضعف فيها، ومنها نفذ الإسلام إلى ما وراء البحار، وقوض الحكومة الضخمة بسرعة عجيبة وبمحاربين لم يكونوا قد عرفوا من قبل أساليب القتال المنظم، ولا المعارك الضخمة التي صادفوها لأول مرة في حروبهم مع الساسانيين والبيزنطيين.

وقد طمعت القبائل في حكومة الحيرة أيضاً، هذه الحكومة التي ظهر عليها الوهن كذلك. فأخذت تغير عليها وتتعرض بحدودها، وتتحرش بقوافلها التي كان يرسلها ملوكها للاتجار في أسواق الحجاز واليمن. حتى صارت الطرق التي تسلكها خطرة غير آمنة، لا يتمكن رجالها من المرور بها بسلام. ولم يستطع الساسانيون من مساعدتها وحمايتها، لأن أوضاعهم الداخلية، كانت كما ذكرتُ على غير ما يرام. وهذا مما زاد في تصميم القبائل على مهاجمة ملوك الحيرة وحدود الفرس في آن واحد. ولعل هذه الغارات، كانت في جملة الأسباب التي حطمت "كسرى" على القضاء على النعمان وعابر إنهاء حكم "آل نصر"، إما بسبب ما رآه "كسرى" من عدم تمكن الملك "النعمان" من تأديب القبائل ومن ضبط الطرق والأمن، فارتأى استبداله بعربي أخر أو برجل قوي من قادة الجيوش الفرس، وإما لظنه أو لما وصل إلى علمه من خبر يفيد بأن النعمان قد أخذ يفاوض سادة القبائل الكبار لإرضائهم وضمهم إليه. وفي هذا العمل تهديد لمصالح الفرس ومحاولة للابتعاد عنهم. فأراد لذلك القضاء عليه وعلى الأسر الحاكمة، قبل أن يتمكن من الحصول على تأييد أولئك السادة الذين أدركوا نواحي الضعف في حكومة الساسانيين.

وهناك روايات يشتمّ منها أن "النعمان"، قال لسادات القبائل" "إنما أنا رجل منكم، وإنما ملكتُ وعززتُ بمكانكم وما يتخوف من ناحيتكم... ليعلم أن العرب على غير ما ظن وحدث". وروايات تفيد أن "كسرى" إنما قتل "النعمان"، لأنه وسائر أسرته سايروا سادات القبائل وتواطئوا معهم على الساسانيين. ولعل عجز ملوك الحيرة عن حماية قوافل الفرس الذاهبة إلى اليمن والآيبة منها، وعن حماية الطرق البرية المهمة التي توصل العراق باليمن، ثم عجز ملك الحيرة من منع الأعراب من الإغارة على حدود الساسانيين، ثم اضطرار الملك "النعمان" على الاتصال بسادات القبائل لترضيتهم ولضمهم إليه لتأييده ولتقوية ملكه الضعيف، الذي كان يهدده خصوم له. لعلّ هذه الأسباب وغْيرها، كانت في جملة العوامل التي حملت "كسرى" على القضاء على "النعمان" وعلى استبدال الأسرة الحاكمة بأسرة أخرى، أو تسليم أمور الحيرة نهائياً إلى قائد فارسي، يحكمها حكماً عسكرياً.

وقد نصب الفرسُ حاكماً منهم على الحيرة، لكنه لم يتمكن من سد أبواب الحدود الطويلة وغلقها، وجمع الأعراب من دخولها. لقد اجتازوها ثم جاوزوها إلى مسافات بعيدة في الإسلام، أوصلت العرب إلى الصين والهند وتركستان الصينية. ذلك لأن الفرس كانوا منهوكي القوى في الداخل وفي الخارج، وقد أتعبتهم الأوجاع، بينما جاء العرب بإيمان برسالة، وبعزم وتصميم، وباعتماد على النفس، من أن النصر سيكون لهم حتماً. لقد بدأ هذا العزم قبل "ذي قار"، ثم تجسم في "ذي قار"، فكان نصر العركة في هذا الموضع، ناقوس النصر، و "الهرمون" الذي بعث الحيوية في جسم القبائل، فجعلها تشعر أن في استطاعتها أن تفعل شيئاً، لو وحدت نفسها، وعملت عملاّ إيجابياً منتظماً، بعد دراسة وتفكير، وباعدت نفسها عن الهياج والحماس والكلام الكثير، الذي يذهب بعد تكلمه مع الهواء.

ولم تكن مشكلات الروم أقل خطورة أو عدداً من مشكلات الساسانيين. لقد تمكنت النصرانية، بعد عنت واضطهاد ومقاومة، أن تكون ديانة رسمية للحكومة والشعب. وكان المأمول أن تتوحد بذلك صفوف الأمة، غير أن التصدع الذي أصاب هذه الديانة لم يحقق لهما ذلك الأول، فتدخلت المذهبية في السياسة، في المذهبيّات. وتولدت من هذا التدخل مقاومة رسمية من الحكومة للمذاهب المعارضة، واضطهاد لكل من يعارض مذهب القيصر. وظفرت كنيسة شرقية وكنيسة غربية، وتجزأ النصارى الشرقيون إلى شيع وفرقُ عدّ بعضها خارجاً على تعاليم الحق والأيمان، هي في نظر "الأرثودكسية" مذاهب الحادية باطلة، فعوملت كما عاملت وثنيةُ روما النصرانية حين ظهورها، فحوربت بغير هوادة واضطر الكثير من المخالفين إلى التكتم أو الهرب إلى مواضع ليس للبيزنطيين عليها سلطان.

والحروب المتوالية التي شنها الفرس على البيزنطيين، والبيزنطيون على الفرس، وانقسام الإنبراطورية إلى حكومتين: حكومة روما وحكومة القسطنطينية، ثم مهاجمة الملوك والأقوام الساكنة في أوربة لهاتين الحكومتين من الشمال والغرب، كل هذه انتجت مشكلات خطيرة للعالم الغربي عامة وللروم خاصة. وقد كان إزعاج الروم وقلاقهم، مما يفيد بالطبع منافسيهم الفرس ويسرهم، فكانوا يشجعون الثائرين ويتحالفون معهم لأن في ذلك قوة لهم، كما كان الروم أنفسهم يشجعون الأحزاب المعارضة للفرس ويحرضونها على الثورة على الساسانيين والتمرد عليهم، وعلى مهاجمة حدودهم نكاية بأعدائهم وللانتقام منهم حتى صارت الحروب بين الانبراطوريتين تقليداً موروثاً، لا يتركها أحد الطرفين إلا اضطراراً، ولا تعقد هدنة بينهما الا بدفع جزية تكون مقبولة لدى الطرف الغالب تغنيه عن المكاسب التي يتأملها من وراء الحرب. يدفعها المغلوب صاغراً بسبب الأحوال الحرجة التي هو فيها، آملاً تحسن الموقف للانتقام من الخم. فتأريخ الساسانيين والروم، هو تأريخ هدن وحروب عادت إلى بلاد الطرفين بأفدح الأضرار. وما الذي يكسبه الإنسان من الحروب غير الضرر والدمار ? %)165(

لقد وجد "كسرى أنو شروان" "531ه- 579م" في انشغال "يوسطنيان" "جستنيان" "Justinian" "527 - 565م" بالحروب في الجبهات الغربية فرصة مواتية للتوسع في المناطق الشرقية من الإنبراطورية البيزنطية، فتحلل من "الهدنة الأبدية" التي كانت قد عقدت بين الفرس والروم، وهاجم الإنبراطورية منتحلاّ أعذاراً واهيةً، واشترك في قتال دمويّ مرّ بجيوش الروم. ولم يفلح مجيء القائد "بليزاريوس" "Belisarius" من الجبهات الإيطالية لإيقاف تقدم الفرس، فسقطت مدن الشام وبلغت جيوش الفرس سواحل البحر المتوسط، وبعد مفاوضات ومساومات طويلة تمكن الروم من شراء هدنة من الفرس أمدما خمس سنوات بشروط صعبة عسيرة، وبدفع أموال كثيرة. ثمُ مددت هذه الهدنة على أثر مفاوضات شاقة مع الفرس خمسين عاماً حيث عقد الصلح في سنة "561" أو "562م". تعهد الروم لكسرى بدفع إتاوة سنوية عالية، وتعهد الفرس في مقابل ذلك بعدم اضطهاد للنصارى، وبالسماح للروم في الإتجار في مملكتهم على شرط معاملة الروم لرعايا الفرس المعاملة التي يتلقاها تجار الروم في أرض الساسانيين.

و "يوسطنيان" معاصر "كسرى أنوشروان" شخصية فذة مثل شخصية معاصره، ذو آراء في السياسة وفي الملك، من رأيه إن الملك يجب إن يكون دليلا وقدوة ونبراساً للناس، وانه لا يكون عظيماً شهيراً لحروبه ولكثرة ما يمكله من سلاح وجند، إنما يكون عظيماً بقوته وبقدرته وبالقوانين التي يسنها لشعبه للسير عليها، تنظيماً للحياة. فالملك في نظره قائد في الحروب ومرشد في السلم، حامٍ للقوانين، منتصر على أعدائه. وكان من رأيه إن الله قد جعل الأباطرة ولاته على الأرض، وأدلة للناس، قوامين على الشريعة. ولذلك فإن من واجب كل انبراطور إن يقوم بأداء ما فرضه الله عليه بسنّ القوانين وتشريع الشرائع، ليسير الناس عليها. ولما كانت القوانين التي سارت عليها الانبراطورية الرومانية كثيرة جداً، حتى صعب جمعها وحفظها، تطرق إليها الخلل، وتناقضت الإحكام. لذلك رأى إن من واجبه جمعها وتنسيقها وتهذيبها وإصدارها في هيأة دستور الانبراطوري يسير عليه قضاة الانبراطورية في تنفيذ الإحكام بين الناس، وعهد بهذا العمل الشاق إلى "تريبونيان" "Tribonian" من المشرعين المعروفين في أيامه. فجمع هذا المشرع البارع القوانين في مدوّنات، ورتبها في كتب وأبواب، وكان بتدوينه هذا بعض القوانين البيزنطية والرومانية من الضياع، وأورث المشرعين ذخيرة ثمينة من ذخائر البشرية في التشريع.

ويعد هذا العمل مم الأعمال العظيمة في تاريخ التشريع، ولم يكن "يوسطغيان" أول من فكر في جميع القوانين السابقة في مدوّنة، ولكنه كان أول من أقدم على تنسيقها وجمع ما تشتت منها وتيسيرها للمشرعين، وقد وحد بذلك قوانين الانبراطورية. فَعُدَّ صنيعه هذا إصلاحاً كبيراً يدل على شعور الملك وتقديره للعدالة في مملكته. وقد أدخل معاصره "كسرى أنو شروان" إصلاحات على قوانين الجباية، فعد القرن السادس من القرون المهمة في تأريخ التشريع. ولكن الذي يؤسفنا إننا لا نملك موارد تفصل إصلاحات "كسرى" وهل هي نتيجة شعور بضرورة ملحة وحاجة، أو هي صدى للعسل الذي قام به "يوسطنيان"، ثم أي مدى بلغته تلك الإصلاحات? وفكرة إخضاع الانبراطورية لقانون واحد نابعة من أصل عام كان يدين به "يوسطنيان"، يتلخص في دولة واحدة وقانون واحد وكنيسة واحدة. كان يوسطنيان يرى إن الدولة المنظمة هي الدولة التي يخضع فيها كل أحد لأوامر القيصر، وان الكنيسة إنما هي سلاح ماض يعين الحكومة في تحقيق أهدافها، لذلك سعى لجعلها تحت نفوذ الحكومة وفي خدمة أغراضها، فتقرب إلى رجال الدين، وساعد على إنشاء كنائس جديدة، واستدعى إلى عاصمته رؤساء الكنيسة "المنوفيزيتية" ""Monophysites" القائلين بالطبيعة الواحدة واليعاقبة وأتباع "آريوس" "Ariaus" وغيرهم من المعارضين لمباحثتهم ولعقد مناظرات بينهم وبين الكنيسة الرسمية للتقريب فيما بينهم وإيجاد نوع من الاتفاق يخدم أهداف الملك المذكور. ولكن هذه المحاولة لم تنجح، ومحاولات التوفيق لم تثمر، ولتحقيق نظريته في الكنيسة الواحدة اضطهد أصحاب المذاهب المعارضة وكذلك اليهود.

وزادت نظريته المذكورة في الدولة وفي الكنية في حدة المشكلات التي ورثها من أسلافه وجاءت بنتائج معاكسة لما كان يريد منها. فمحاولة تقربه من "البابا" وتأًييده له، اصطدمت بفكرة كانت مسيطرة عليه، هي إن علمه باللاهوت لا يقل عن علم رجال الدين به، وان من حقه التدخل في أمور الكنائس وفي تسيير المجامع الكنيسية، لتوحيد الكنائس وإعادتها إلى أصلها، فأزعج بذلك "البابا"، وصار من أضداده، وأزعج أصدقاءه ومعارضتوه من رجال المذاهب الأخرى، لأنه خالفهم، وجاء بتفسرات لم ترضي أي مذهب منها. واضطر أخيراً على الخضوع لعقيدته المهيمنة على عقله، وهي إن ما يراه في الدين، هو الصحيح، وهو الحل الوسط للنزاع الكنسي، وهو الأصلح للدولة. فخلق. معارضين له. وأغلق "جامعة أثينا" ومدارس البحث، واصدر أمراً بمنع الوثنين و. كل من ليس نصرانياً من الاشتغال في الدولة. وهكذا ولدت نظريته في "أنا الدولة" مشكلات خطيرة لدولته ولدولة من جاء بعده من قياصرة.

وكانت لدى الروم مثل هذه المشكلة التي كانت عند الفرس: مشكلة تهرب كبار الملاكين والمتنفذين من دفع الضرائب، وزيادة نفوذهم وسلطانهم في الدولة. فعزم "يوسطنيان" على الحد من سلطانهم، والتشديد في استيفاء الضرائب لمعالجة الوضع الحربي الناتج من قلة المال اللازم للإنفاق على جيش كبير، مما اضطر الحكومة إلى تقليص عدد الجنود. فأصدر أوامر عديدة بالتشديد في جمع الضرائب، وبإجراء الإصلاحات في الإدارة، غير إن إصلاحاته هذه لم تنفذ، إذ. لم يكن في مقدور الحكومة تنفيذها لعدم وجود قوة لديها تمكنها من "لحدّ من نفوذ المتنفذين ورجال أكفاء أقوياء يقومون بالتنفيذ.

واهتم "يوسطنيان" بأمر التجارة. والتجارة مورد رزق للدولة كبير، ولاسيما مع الأقطار الشرقية، فقد كانت بضائعها مرغوباً فيها في أوربة ومطلوبة، تجني الحكومة منها أرباحاً كثيرة، وفي مطلع قائمة هذه البضائع النفيسة الأموال التي ترد إلى الانبراطورية من الصين والهند، فقد كانت تلافي إقبالاً كبيراً من أثرياء الانبراطورية ومن أثرياء انبراطورية روما الغربية وبقية أنحاء أوربة.

وأثمن بضاعة في قائمة البضائع الواردة من الصين مادة الحرير، ولثمن الحرير الباهض حرص الصينيون على ألا يسمحوا لأي غريب كان إن ينقل معه البيض أو الديدان التي تتولد منه إلى الخارج، خشية المزاحمة والمنافسة التي تلحق بهم أفدح الأضرار. وتلي هذه المادة البضائع النفيسة الأخرى مثل العطور والقطن الوارد من الهند والتوابل وأمثالها من الموات التي كان يعجب بها أصحاب الذوق في ذلك الزمن. كل هذه يشتريها تجار الروم، وبعد إن تأخذ الدولة البيزنطية الضرائب المفروضة، تسمح للتجار بالتصرف فيها وبيعها على بقبة الأوربيين.

وأسعار هذه المواد عالية باهظة إلى درجة كبيرة صارت مشكلة من مشكلات الدولة البيزنطية، ولهذا كانت تتصل دوماً بالانبراطورية الساسانية لمحاولة الاتفاق على تحديد الأسعار، وتعيين مقدار الضرائب، وذلك بسبب ورود أكرها من هذه الانبراطورية، إذْ كان التجار يأتون بالأموال من أسواق الصين تنقلها القوافل التي تجتاز أرض الدولة الساسانية لتسلمها إلى حدود الانبراطورية البيزنطية، ومنها إلى العاصمة لتوزع في الأسواق الأوربية.

هذا طريق. وهناك طريق آخر هو طريق البحر. يحمل تجار الصين أموالهم على سفن توصلها إلى جزيرة "تبروبانة" "Taprobane" وهي جزيرة "سيلان" ثم تفرغ هناك، فتُحمل في سفن تنقلها إلى خليج البصرة، ثم تحمل في سفن أخرى تمخر في دجلة والفرات إلى حدود الروم.

ولما كانت علافات الروم بالساسانيين غير مستقرة، والحرب بين الانبراطوريتين متوالية صارت هذه التجارة معرضة للتوقف والإنقطاع طوال أيام الحروب، وهي كثيرة، فترتفع أسعارها هناك، كما إن الساسانيين كانوا يزيدون في أسعار البيع وفي ضربية المرور، فتزيد هذه في سعر التكليف، ولهذا فكر "يوسطنيان" في التحرر من تحكم الساسانيين في مورد مهم من موارد رزقهم، وذلك باستيراد بضائع عن طريق البحر الأحمر، وهو بعيد عن رقابة الساسانيين.

والخطة التي اختطها "يوسظيان" لتحرير التجارة البيزنطية من سيطرة الساسانينن عليها، هي الاتصال بالأسواق البيزنطية المصدرة، ونقل المشتريات إلى الانبراطورية بالبحر الأحمر الذي كان يسيطر الروم على أعاليه. لقد كان ميناء "أيلة" في أيدي البيزنطيين، وكان هذا الميناء موضعاً لتفريغ السفن الموسقة بالبضائع المرسلة من الهند إلى فلسطين وبلاد الشام، كما كان ميناء "القلزم" "Clysma" في أيديهم كذلك، تقصده السفن التي تريد إرسال حمولتها إلى موانئ البحر المتوسط. أما جزيرة "أيوتابة" "Iotabe" وهي جزيرة "تاران" "تيران"، فقد كانت مركزاً مهماً لجباية الضرائب من السفن القادمة من الهند، وكانت في أيدي بعض سادات القبائل، فأمر "يوسطنيان" بإقامة موظفي الجباية البيزنطيين بها، ليقوموا بالجباية. وأما ما بعد هذه المنطقة حتى مضيق المندب والمحيط الهندي فلم يكن للبيزنطيين عليه نفوذ.

ولتحقيق هذه الخطة، كان عليه وجوب السيطرة على البحر الأحمر والدخول منه إلى المحيط الهندي، للوصول إلى الهند وجزيرة "سيلان". ولا يمكن تحقيق هذه الخطة إلا بعملين: عمل عسكري يعتمد على القوة، وعمل سياسي يعتمد على التقرب إلى الحبشة الذين كانوا قد استولوا على اليمن، فصار مدخل البحر الأحمر "مضيق باب المندب" بذلك في أيديهم. ثم بالتودد إلى سادات القبائل العربية النازلة في العربية وفي بادية الشام، لضمهم إلى صفوف البيزنطيين، ولتحريضهم على الفرس، وبذلك يلحق البيزنطيون ضررا بالغاً بالفرس ويكون في استطاعتهم نقل التجارة نحو الغرب عن جزيرة العرب والبحر الأحمر إلى أسواقهم بكل حرية وأمان.

أما العمل العسكري، فلم في وسع البيزنطيين القيام به في ذلك الوقت، لعدم وجود قوات برية كبيرة كافية. لتتمكن من اجتياز العربية الغربية للوصول إلى اليمن، حيث الحبش هناك، أخوان البيزنطيين في الدين. وقد علموا من التجارب السابقة، أن الجوع والعطش يفتكان بالجيش فتكاً، وان القبائل لا يمكن الاطمئنان إليها والوثوق بها أبداً، لذلك تركوا هذا المشروع. فلم يبق أمامهم غير تنفيذه من ناحية البحر، وقد وجدوا إن هذا التنفيذ غير ممكن أيضاً، لأن أسطولهم في البحر الأحمر لم يكن قوياً، ولم يكن في استطاعته السيطرة عليه سيطرة تامة. فتركوه، ولو إلى حين، مفضّلين عليه العمل السياسي.

أما العمل السياسي، فقد تم بالاتصال بالحبش، وقد كان ملكهم على النصرانية، لذلك كان من الممكن جلبه إلى البيزنطيين بالتودد إليه باسم الاخوّة في الدين. كما تم بالتقرب إلى سادات القبائل المتنصرين، والتودد إليهم باسم الدين أيضاً. وتم بإرسال المبشرين إلى جزيرة العرب، وبتشجيعهم على المعيشة بين الأعراب وفي البوادي لتنصير،سادات القبائل، وللتأثير عليهم بذلك. وبإقامة الكنائس وإرسال المال وعمال البناء لبنائها بأسلوب يؤثر في عقول الوثنيين، فيجعلها تميل إلى النصرانية، ولتكون هذه المعابد معاهد تثقيف تثقف بالثقافة البيزنطية كما تفعل الدول الكبرى في هذه الأيام.

وأرسل "يوسطنيان"-كما سبق إن بينا ذلك-رسولاً عنه يدعي "يوليانوس" "جوليانس" "Julianus" إلى النجاشي والى "السميفع أشوع" "Esimphanus" حاكم اليمن في ذلك العهد، ليتودد اليهما، وليطلب منهما باسم "العقيدة المشتركة" التي تجمعهم إن يكوّنا مع الروم جبهة واحدة في محاربة الساسانيين، وان يقوما مع من ينضم إليهم من قبائل العرب بمهاجمتهم، وحمل السفير إلى "السميفع أشوع" رجاء آخر، هو موافقته على تعيين رئيس عربي اسمه "Kaisos" أي "قيس" عاملاً "فيلارخ" "Phylarch" على قبيلة عربية تدعى "معديني" "Maddeni"، أي قبيلة "معد"، ليشترك معه ومع عدد كبير من أفراد هذه القبيلة بمهاجمة الساسانيين، وقد رجع السفر فرحاً مستبشراً بنجاح مهمته، معتمداً على الوعود التي أخذها من العاهلين. غير أنهما لم يفعلا شيئاً، ولم ينفذا شيئاً ما مما تعهدا به للسفير، فلم يغزوا للفرس، ولم يعين "للسميفع فوع" "قيساً" "فيلارخاً" عاملا على قبيلة معدّ.

وورد أيضاً إن القيصر جدّد في أيام "ابراموس" "Abramos" الذي نصب نفسه في مكان "Esimiphaeus"، طلبه ورجائه في محاربة الفرس، فوافق على ذلك وأغار عليهم، غير انه تراجع بسرعة.

ويظهر إن اتصال البيزنطيين ب "ابراموس" "Abramos" كان بعد القضاء على "السميفع أشوع" الذي لم يتمكن من مهاجمة الفرس إذْ كان من الصعب عليه اجتياز أرض واسعة بعيدة وطرق بعيدة تمرّ بصحارى وقفار لمحاربة أناس أقدر من رجاله على القتال. فلما تمكن "ابراموس" من التحكم في شؤون اليمن ومن تنصيب نفسه حاكماً عاماً على اليمن وصارت الأمور بيديه تماماً، فكر البيزنطيون في الاستفادة منه بتحريضه على الساسانيين، وذلك باسم الأخوة في الدين.

وقد تحرش "ابراموس" بالفرس، غير انه لم يستمر في تحرشه بهم. فما لبث إن كف قواته عنهم. ولم يذكر المؤرخ "بروكوبيوس" كيف هاجم "ابراموز" الساسانيين، ومن أين هاجمهم ومتى هاجمهم. لذلك أبقانا في جهل بأخبار هذا الهجوم.

و "ابراموس" هو "أبرهة" الذي تحدثت عنه في أثناء كلامي عن اليمن. أما ما أشار إليه "بروكوبيوس" من تحرشه بالفرس ومن تركه لهم بعد قليل، فقد قصد به حملته على "مكة" على الغالب، وهي حملة قصد بها "أبرهة" على ما يظهر الاتصال بالبيزنطيين عن طريق البر، وإخضاع العربية الغربية بذلك على حكمه وهو من المؤيدين البيزنطيين. وبذلك تؤمن حرية الملاحة في البحر الأحمر ة ويكون في إمكان السفن البيزنطية السير به بكل حرية. ولعله كان يقصد بعد ذلك مهاجمة الفرس من البادية بتحريض القبائل المعادية للساسانيين عليهم، وبتأليف حلف من قبائل يؤثر عليها فيهاجم بها الفرس.

اما "Kaisos" "Caisus"، فكان كما وصفه المؤرخ "بروكربيوس" شجاعاً ذا شخصية قوية مؤثرة حازماً من أسرة سادت قبيلة "معدِّ". وقتل أحد ذوي قرابة "للسميفع أشوع" "Esimaphaios" "Esimiphaeus"، فتعادى بذلك معه، حتى اضطر إلى ترك دياره والهرب إلى مناطق صحراوية نائية. فأراد القيصر الشفاعة له لدى "Esimaphaios"، والرجاء منه الموافقة على أقامته رئيساً "Phyarch" على قبيلته قبيلة معدّ.

ولا يعقل بالطبع توسط القيصر في هذا الموضوع، لو لم يكن الرجل من أسرة مهمة عريقة، لها عند قومها مكانة ومنزلة، وعند القيصر أهمية وحظوة. ولشخصيته ومكانة أسرته أرسل رسوله إلى حاكم اليمن لإقناعه بالموافقة على أقامته رئيساً على قومه. وبهذا يكسب القيصر رئيساً قوياً وحليفاً شجاعاً يفيده في خططه السياسية الرامية إلى بسط نفوذ الروم على العرب، ومكافحة الساسانيين.

ونحن لا نعرف ن أمر "قيس" هذا في روايات الأخباريين شيئاً غير أن هناك رواية لابن إسحاق جاء فيها أن أبرهة عين محمد بن خزاعى عاملا له على مضر، وأن "قيساً" كان يرافق أخاه محمداً حين كان في أرض كنانة. فلما قتل "محمد"، فَرّا إلى "ابرهة". وقد ورد نسب "محمد" على هذه الصورة: "محمد بن خزاعي بن علقمة بن محارب بن مرّة بن هلال بن فالح ابن ذكوان السلمي" في بعض الروايات، وذكر أنه كان في جيش أبرهة مع الفيل.

فهل قيس هذا هو قيس الذي ذكره "بروكوبيوس" ?. اتصل مع أخيه محمد بأبرهة، وصار من المقربين لديه? أو هو رجل آخر لا علاقة له ب "قيس" الذي يذكره "ابن إسحاق"? وقد زار والد "نونوسوس" "Nonnosos" "قيساً" هذا مرتين، وذلك قبل سنة "535م" وزاره "نونوسوس" نفسه في إثناء حكمه. وأرسل "قيس" ابنه "معاوية" إلى "يوسطنيان"، ثم أعلم أخاه ثم ابنه الأمارة. وعينه القيصر عاملاً "Phylarch" على فلسطين.

وكانت للقيصر "يوسطنيان" صداقة مع رئيس آخر اسمه "أبو كرب" "Abochorabus"، يقع ملكه في أعالي الحجاز وفي المناطق الجنوبية من فلسطين. عرف هذا الرئيس بالحزم والعزم فخافه الأعداء، واحترمه الأتباع، واتسع لذلك ملكه، وتوسع سلطانه حتى شمل مناطق واسعة، ودخلت في تبعيته قبائل عديدة أخرى على القانون الطبيعي في البادية الذي يحتم دخول القبائل طوعاً وكرهاً في تبعية الرئيس القوي.

أراد هذا الرئيس أن يتقرب إلى القيصر، وأن يبالغ في تقربه إليه وفي إكرامه له، فنزل له عن أرض ذات تخيل كثيرة، عرفت عند الروم ب "فوينيكون" "Phoinikon" "واحة النخيل"، أو "غاية النخيل". وهي أرض بعيدة. لاتبلَغ الا بعد مسيرة عشرة أيام في أرض قفرة. فقبل القيصر هذه الهدية الرمزية، اذ كان يعلم، كما يقول المؤرخ "بروكوبيوس" عدم فائدتها له، وأضافها إلى أملاكه، وعن هذا "الشيخ" عاملاً "فيلارخا" على عرب فلسطين.

وقد قام ملك هذا الرئيس على ملك رئيس آخر كانت له صلات حسنة بالروم كذلك، هو "امرؤ القيس" "Amorkesos" وكان "Amorkesos" في الأصل من عرب المناطق الخاضعة للفرس، ثم هجر دياره لسبب لا نعرفه إلى الأرضين الخاضعة لنفوذ الرومان، وأخذ يغزو الأعراب، حتى هابته القوافل، فتوسع نفوذه، وامتد إلى العربية الصخرية، واستولى على. جزيرة "تاران" "Iotaba" وترك رجاله فيها يجبون له الجباية من السفن القادمة من الهند، حتى حصل على ثروة كبيرة، وعزم في سنة "473 م" على إرسال الأسقف "بطرس" أسقف الأعراب التابعين له إلى القسطنطينية، ليتصل بالقيصر، وليتوسط لديه هناك أن يوافق على تعيينه عاملاً "Phylarch" على الأعراب المقيمين في العربية الحجرية %)175( ابن المنذر، حليف الفرس. بمعنى أنه تعرض لجماعة كانت في جانب الساسانين. فهل الغزاة التي أشار إليها المؤرخ "بروكوبيوس" هي هذه الغزاة? و "Maddenoi" هي قبيلة "معداية" "Ma'addaye" التي ذكرها "يوحنا الأفسوسي" "John of Ephesus" مع "طياية" "طيايا"" "طيايه" "Tayaye" "Taiyaya" في كتابه الشي وجهه إلى أسقف "بيت أرشام" "Beth Aresham"، ويظهر من هذا الكتاب أنها كانت مقيمة في فلسطين.

وقد تحدثتُ سابقاً عن ورود اسم قبيلة "سدّ" في نص النمارة الذي يرجع عهده إلى سنة "328 م" حيث ورد أن "امرئ القيس بن عمرو" ملك العرب ملك على "معدّ" وعلى قبائل أخرى ذكرها النصى، منها أسد ونزار ومذحج. ويربط الأخباريون في العادة بين ملوك الحيرة وقبيلة معدّ، وظالما ذكروا إن ملوك الحيرة غزوا معدّ، مما يدل على وجود صلة تأريخية متينة بين الحيرة وهذه القبيلة المتبدية التي كانت تمعن في سكنها مع البادية.

ويظهر من روايات أهل الأخبار أنه قد كان للتبابعة شأن في تنصيب سادات على معدّ. فهي تذكر انهم هم الذين كانوا يعينون أولئك السادهّ، فينصبونهم "ملوكاً" على معدّ. وذلك بسبب تنازع سادات معد فيما بينهم وتحاسدهم وعدم تسليم بعضهم لبعض بالزعامة. ولهذا كانوا يلجأوون إلى التبابعة لتنصيب "ملوك" عليهم. يضاف إلى ذلك أن معدّ اً كانت قبائل متبدية: منتشرة في ارضين واسعة تتصل باليمن، وقد. كان أهل اليمن المتحضرون أرقى منهم، وجيوشهم أقوى وأنظم نسبياً من محاربي معدّ ومقاتليهم الذين كانوا يقاتلون قتال بدو، لا يعرفون تنظيماً ولا تشكيلاً ولا توزيعاً للعمل. وكل ما عندهم هو كرٌَّ وفرٌّ، إذا وجدوا خصمهم أشطر منهم وأقدر على القتال هربوا منه.

وقد منيت الانبراطورية البيزنطية بانتكاسات عديدة بعد وفاة "يوسطنبان"، فاشتدّ الاضطهاد للمذاهب المخالفة للمذهب الارثودكسي، وعادت الفوضى إلى الحكومة بعد أن سعى القيصر الراحل في القضاء عليها، وتجددت الحروب بين البيزنطيين والساسانيين، وعاد الناس يقاسون الشدائد بعد فترة من الراحة لم تدم طويلا. وبعد حروب ممتتالية دخل الساسانيون بلاد الشام. وفي سنة "614 م"، احتل اتباع ديانة زرادشت عاصمة النصرانية القدس، فأصيبت المدينة بخسائر كبيرة في أبنيتها التأريخية وفي ثروتها الفينة التي لا تقدر بثمن. ثم أصيبت. الانبراطورية بنكبة عظيمة جداً هي استيلاء الفرس على مصر، وبلوغ جيوش الساسانيين في هذه الأثناء للساحل المقابل للقسطنطينية عاصمة الانبراطورية.

لقد وقعت هذه الأحداث ونزلت هذه الهزائم بالروم في وقت كان أمر الله قد نزل فيه على الرسول بلزوم إبلاغ رسالته للناس. والرسول إذ ذاك بمكة، يدعو أهلها إلى دين الله. فلما جاء الخبر بظهور فارس على الروم، فرح المشركون، وكانوا يحبون إن يظهر أهل فارس على الروم لأنهم وإياهم أهل أوثان. وكان المسلمون محبون إن تظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب. قلقي المشركون أصحاب النبي، فقالوا: إنكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب، ونحن اميون. وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الكتاب، وأنكم إن قاتلتمونا لنظهرن عليكم، فأنزل الله" )الم غُلبت الروم. في أدنى الأرض، وهم من بعد غَلبهم سيغلبون. في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد. ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله؛ ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم(. وفرح المسلمون بنزول هذه الآيات المقوية للعزيمة وأيقنوا إن النصر لا بد آت، وانهم سينتصرون على أهل مكة أيضاً ويغلبونهم بأذن الله. وخرج أبو بكرً إلى الكفّار فقال: أفرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا. فلا تفرحوا ولا يقرّنّ الله أعيكنم، فوالله ليَظهرن الروم على فارس أخبرنا بذلك نبينا، صلى الله عليه وسلم، فقام إليه أبيّ بن خلف. فقال: كذبت يا أبا فضل. فقال له أبو بكر، رضي الله عنه: أنت أكذب يا عدوّ الله. فقال أناحبك على عشر قلائص مني وعشر قلائص منك، فإن ظهرت الروم على فارس غرمت، وإن ظهرت فارس على الروم غرمت إلى ثلاث سنين. ثم جاء أبو بكر إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فقال: ما هكذا ذكرت إنما البِضع ما بين الثلاث إلى التسع، فزايد.ه في الخطر ومادَّه في الأجل. فخرج أبو بكر فلقي أبياً، فقال: لعلك ندمت? فقال لا. نقال: أزايدك في الخطر وأمادك الأجل، فاجعلها مائة قلوص لمائة قلوص إلى تسع سنين. قال قد فعلت".

لقد وقعت هذه الهزائم الحربية الكبيرة في عهد القيصر "هرقل" "Heraclius" "610-641 م". ففي عهده، اقتطعت بلاد الشام ومصر من جسم الانبراطورية، وهي أعضاء رئيسية في ذلك الجسم. غير إن طالع هذا القيصر لم يلبث إن تحسن بعد سنين من النحسى، فاستعاد تلك الأملاك في المعارك التي نشبت بين سنة 622 وسنة 628 م. في هذه الفترة نال هرقل أعظم نصر له في ثلاث معارك كبيرة. ولكن نصره الأكبر جاءه يوم قتل "كسرى أبرويز" صاحب هذه الفتوحات بيد ابنه "شيرويه"، فورد طائر السعد على القيصر بهذا الخبر المفرح، ثم تحققت البشرى بالصلح الذي عقد بين القيصر وبين "شيرويه". وفيه نزل الفرس عن كل ما غنموه، ورضوا بالرجوع إلى حدودهم القديمة قبل الفتح. فعادت الشام وفلسطين ومصر إلى، البيزنطيين، وأعيد الصليب المقدس إلى موضعه في القدس في موكب حافل عظيم.

وسُر المسلمون وهم بالمدينة بانتصار الروم على الفرس، وزاد أملهم في قرب مجيء اليوم الذي ينتصر فيه المسلمون على المشركين، وقويت عزيمتهم في التغلب على قريش. "وأسلم عند ذاك ناس كثير". وتضعضت معنويات قريش، وغلب "أبو بكر" أبيّاً" على الرهان، وكسبه، أخذه من ورئته، لأنه كان قد توفي من جرح أصيب به، فلم يدرك زمن طرد من تعصب له من بلاد. الشام وخسارته الإبل التي تراهن عليها.

وشاء ربك ألا يكون النصر في هذه المرة لا للروم ولا للفرس، بل للمسلمين. وشاء ألا يبقى الروم في بلاد الشام إلا قليلاً، إلا سين، إذْ تهاوت مدن بلاد الشام ثم مصر فشمال إفريقية، الواحدة بعد الأخرى، في أيدي أناس لم يخطر ببال الروم أبداً انهم سيكونون شيئاً ذا خطر في هذا العالم، أعني بهم أبناء مكة ويثرب ومن تبعهم من، أهل جزيرة العرب. تهاوت بسرعّة عجيبة لا تكاد تصدق، وبطريقة تشبه المعجزات. وقد بدأ هذا الانهيار بكتاب يذكر أهل السَير والأخبار إن الرسول أرسله إلى "هرقل عظيم الروم"، يدعوه فيه إلى الإسلام، فإن أبى وبقي على دينه فعليه تبعته، فلما لم يسلم، جاءه الإنذار، قوات صغيرة لا تكاد تكون شيئاً بالنسبة إلى جيوش الروم الضخمة، أخذت تُمَهد الطريق لنشر الأيمان في بلاد رفض حكامها الدخول فيه. طهرت الأرض الموصلة إلى الحدود من المخالفين، ثم أخذت تتحرش ببلاد الشام، ولم يأخذ الروم ذلك التحرش مأخذاً جدّياً، اذ تصوّروه غزواً من غزو العرب المألوف يمكن القضاء عليه بتحريك عرب بلاد الشام من الغساسنة ومن لّفّ لفهم عليهم، أو بإرشاء رؤسائهم بالهدايا والمال وتنصبهم ملوكاً على عرب بلاد الشام في موضع الغساسنة كما كانوا يفعلون مع القبائل القوية الكبيرة التي كانت تتحرش بالحدود، وينتهي بذلك الغزو وتصفو الأمور.

ولم يعلم البيزنطيون أن المسلمين يختلفون عن الجاهليين، يختلفون عنهم في أن لهم عقيدة ورسالة، وأن من يسقط منهم يسقط شهيداً في سبيل إعلاء كلمة ربّه، وله الجنة، وأن من يعيش منهم وينجو فلن يركن إلى الدعة والحياة الهادئة والرجوع إلى البادية بل لا بد له من أحد أمرين: إما نصر حاسم، وإما موت شريف في سبيل الله ورسوله. وبقوا في جهلهم هذا إلى أن نبهتهم الضربات العنيفة التي وقعت بينهم وبين العرب في "أجنادين" "Gabatha" وفي "اليرموك" "Hieromax" بان المعارك التي وقعت ليست غزواً من الغزو المألوف، بل خطة مهيأة لطرد الروم الذين لا يؤمنون برسالة الرسول من كل بلاد الشام وما ورائها من أرضين، وعندئذ جمعوا جموعهم، وألفوا قلوب "العرب المستعربة، أي العرب النصارى القاطنين في بلاد الشام، بالمال وباسم الدين، وجعلوهم معهم وتحت قيادتهم في جيوشهم الضخمة لمقابلة المسلمين الذين لم يعرفوا الحروب الكبيرة، ذات المعدد الضخم من المحاربين، والأسلحة المتنوعة الحديثة، بالنسبة إلى أسلحتهم المكوّنة من سيوف وسهام ورماح وحجارة وخناجر. وهنا وقعت غلطة فنية حربية أخرى من الروم، اذ قابلوا المسلمين بجيوش ضخمه، يسيرها قوّاد كبار تعودوا الحرب بأساليبها النظامية وبالطرق المدرسية الموروثة عن الرومان،وتزوّدوا بالخبرة الفنية العالية التي كسبوها من حروبهم مع الفرس ومع الأوربيين، فظنوا إن الحرب مع المسلمين شيئاً بسيطاً، بل ابسط من البسيط، حتى أن كبار القادة وجدوا أن من المهانة الاهتمام بأمر أولئك البدو الغزاة، فتركوا الأمر لمن دونهم في الدرجات يديرونها مع العرب، الذين أظهروا ذكاءاً فطريّا عظيماً في هذه الحروب، بتجنبهم الالتحام بالجيوش، اذ لا قبل لهم بمقاتلتها، وباتخاذهم خطة المناوشات والكرّ والفرّ بقوات غير كبيرة العدد، وبذلك تتوفر لهم السرعة في العمل ومباغتة الجيوش الضخمة من ورائها ومن مجنباتها، وبغزو خاطف كالبرق يلقي الفزع في القلوب. وبذلك أفسدوا على الروم خطتهم بالهجوم على العربْ، بجيوش نظامية كبيرةُ مدرّبة على القتال يكون في حكم المحال بالنسبة للعرب الوقوف أمامها لو أنهم حاربوهم حربهم، ووقفوا أمامهم وجهاً لوجه. وبركون العرب إلى هذه الخطة المبتكرة، وبمعاملتهم من خضع لهم واستسلم لأمرهم معاملة حسنة، وبتحريض "العرب المستعربة"، "العرب المتنصّرة"، وسكان، بلاد الشام من غير الروم، بل ومن الروم على الانضمام إليهم، غلبوا البيزنطيين، وحصلوا ما حصلوا عليه من أرضين.

وعند ظهور الإسلام كانت اليمن في حكم الساسانيين كما رأينا، غير أن حكمهم لم يكن في الواقع حكماً تاماً فعلياً.، بل كان حكماء شكلياً اسمياً، محصوراً في صنعاء وما والاها. أما الأطراف والمدن الأخرى. فكان الحكم فيها لسادات اليمن من حضر ومن أهل وبر. وهو حكم نسمّيه حكم "أصحاب الجاه والنفوذ". وقد شاء بعض منهم أن يظهر نفسه بمظهر الملوك المنفردين بالحكم والسلطان والجاه، فلقبوا أنفسهم بلقب "ملك" وحملوه افتخاراً واعتزازاً، ولم يكن أولئك الملوك ملوكاً بالمعنى المفهوم، إنما كانوا سادات ارض وقبائل، جَمَّلوا أنفسهم بالقاب الملك.

فقد نعتت كتب التواريخ والسير سادات حمير في أيام الرسول: الحارث بن عبد كلال، وشريح بن عبد كلال، ونعيم بن عبد كلال، و "النعمان قيل ذي رعين وهمدان ومعافر"، و "زرعة ذو يزن" "زرعة بن ذي يزن" ب "ملوك حمير"، وذكرت أنهم أرسلوا إلى الرسول رسولاً يحل إليه كتاباً منهم يخبرونه فيه بإسلامهم، وقد وصل إليه مَقفله من تبوك، ولقيه بالمدينة، فكتبّ الرسول إليهم جوابه، شرح لهم فيه ما لهم وما عليهم، وما يجب عليه مراعاة من إحكام. ويذكر "ابن سعد" أن هذا الرسول هو "مالك بئ مُرارة الرهاوي" "مالك بن مرة الرهاوي"، وقد وصل المدينة في شهر رمضان سنة تسع، وذلك بعد رجوعه من أرض الروم.

ودَوّن "ابن سعد" صورة كتاب ذكر أن الرسول أرسله إلى "الحارث" و "مسروح" و "نعيم" أبناء "عبد كلال" من حمير. حمله إليهم "عياش ابن أبي ربيعة المخزومي". وأوصاه بوصايا ليوصي بها أبناء "عبد كلال" إن أسلموا. منها أنهم إذا رطنوا "فقل ترجموا"، حتى يفقه كلامهم. وإذا أسلموا، فليأخذ "قضبهم الثلاثة التي إذا حضروا بها سجدوا. وهي من الأئل قضيب ملمع ببياض وصفرة، وقضيب ذو عجر كأنه خبزران، والأسود البهيم كأنه من ساسم. ثم أخرجها فحرّقها بسوقهم. فذهب إليهم ووجدهم في دار. ذات ستور عظام على أبواب دور ثلاثة. فكشف الستر ودخل الباب الأوسط، وانتهى إلى قوم في قاعة الدار. ففعل بمثل ما أمره به الرسول.

ويظهر من قوله: "فاذا رطنوا فقل ترجموا"، أنهم لم يكونوا يحسنون عربية أهل مكة. وأنهم كانوا يتكلمون فيما بينهم بلهجاتهم الخاصة بهم. وأن معنى تحريق القضب الثلاثة، هدم ما كان لهم من عزة وسلطان وتكبر على الرعية، لأن الإسلام قد أمر باجتثات ذلك. وبان يكون الحكم للرسول وحده. ولما كانت تلك القضب رمزاً للحكم والسلطان، وقد جعل الإسلام الحكم للرسول وحده، هذا أمر الرسول بكسر تلك القضب، وفي كسرها أشعار لهم بأن حكمهم القديم قد زال عنهم، وأن الحكم الآن للرسول.

ويظهر من نص الكتاب الذي وجهه الرسول إلى "زرعة بن ذي يزن"، وفيه: "إما بعد، فإن محمداً يشهد أن لا إله إلا الله وأنه عبده ورسوله، ثم إن مالك بن مرة الرهاوي قد حدثني أنك أسلمت من أول حمير، وقتلت المشركين... الخ"، أن "زرعة" هذا كان رأس حمير، والمطاع فيها، وهذا أرسل إليه رسولاً خاصاً به هو "مالك بن مرة الرهاوي"، واستلم جواباً خاصاً من الرسول كتب باسمه، ولم يذكر اسمه في الجواب الذي أرسله إلى الباقين بصورة مشتركة.

وذكر "ابن سعد" أن رسول الله كتب كتاباً إلى "بني عمرو" من حمير، ولم يذكر من هم "بنو عمرو"، وأشار إلى أن في الكتاب: "وكتب خالد ابن سعيد بن العاصي"، ما يدل على أنه كان كاتب ذلك الكتاب. ويشير "ابن سعد" أيضاً إلى إن الرسول أرسل "جرير بن عبد الله البجلي" إلى "ذي الكلاع بن ناكور بن حبيب بن مالك بن حسان بن تبع" والى "ذي عمرو"، يدعوهما إلى الإسلام، فأسلما وأسلفت "ضريبة بنت ابرهة بن الصباح" امرأة "ذي الكلاع". وتوفي رسول الله، وجرير عندهم، فأخبره "ذو عمر" بوفاته.

ويشير نسب "ذو الكلاع" المذكور. إلى انه من الأسرة التي كانت تحكم اليمن قبيل غزو الحبش لها. فهو من الأسر الشريفة الحميرية في اليمن. وقد عرف ب "ذي الكلاع الأصغر" عند أهل الأخبار تمييزاً له عن "ذي الكلاع الأكبر" الذي هو في عرفهم "يزيد بن النعمان الحميري" من ولد "شهال بن وحاظة بن سعد بن عوف بن عدي بن ماللت بن زيد بن شدد بن زرعة بن سبأ الأصغر".

وأما صاحبنا "ذو الكلاع" الأصغر التي راسله الرسول، وأسلم فهو أبو"شراحيل سميفع بن ناكور بن عمرو بن يعفر بن ذي الكلاع الأكبر". قال أهل الأخبار" والتكلع الخلف "وبه سُمىِّ فو الكلاع الأصغر، لأن حمير تكلَّعوا على يد. أي تجمعوا، إلا قبيلتين" هوازن وحراز، فانهما تكلعتا على ذي الكلاع الأكبر" يزيد بن النعمان".

وذكر نسب "ذو الكلاع الأصغر" على هذا الشكل: "سميع بن ناكور ابن عمرو بن يعفر بن يزيد بن النعمان الحميري". و "يزيد" هذا هو "ذو الكلاع الأكبر". وذكر إن "أبا شراحيل" هو الرئيس في قومه المطاع المتبوع، أسلم في حياة النبي، فكتب إليه النبي على يد جرير بن عبد الله البجلي كتاباً في التعاون عل الأسود ومسيلمة وطليحة. وكان القائم بأمر معاوية في حرب صفير. وقتل قبل انقضاء الحرب، فقرح معاوية بموته، وذلك انه بلغه إن "ذا الكلاع" ثبت عنده إن عليّاً بريء من دم عثمان، وان معاوية لبسَّ عليهم ذلك، فأراد التشتيت عليه فعاجلته منيته بصفين وذلك سنة سبع وثلاثين.

ويكون "ذو الكلاع" الأصغر، قد تزوج بنتاً من بنات أبرهة هي "ضريبة".

ونسب إلى النابغة قوله: أتانا بالنجاشة مجلـبـوهـا  وكندة تحت راية ذي الكلاع

يريد تميماً وأسداً وطيّاً اجلبوا الجيش على بني عامر مع أبي يكسوم وذو الكلاع كان معه أيضاً.

وذكر إن رسول الله كتب إلى "معد يكرب بن أبرهة" إن له ما أسلم عليه من أرض خولان. ولم يشر "ابن سعد" إلى بقية اسم أبرهة أو إلى شهرته، ذلك لا ندري إذا كان قصد "أبرهة" المعروف، أم شخصاً آخر اسمه "أبرهة". ولكننا نعرف اسم قبل عرف ب "معد يكرب" اسم والده "أبو مرة الفياض" ذو يزن، كان متزوجاً من "ريحانة" ابنة "ذي جدن"، فولدت له "سعد يكرب" المذكور. ثم انتزعها منه "الأشرم"، ونشأ. "معد يكرب" مع أمه "ريحانة" في حجر "أبرهة"، فلعلّه نسب إليه، لذلك قال له "ابن سعد" "معد يكرب بن أبرهة".

وكان للفرس وللجيل الجديد الذي ظهر في اليمن من تزاوجهم باليمانيين، وهو الجيل الذي عرف ب "الأبناء" نفوذ كبير في اليمن، وقد تحدثت عنه في الجزء السابق من هذا الكتاب. والى هذا الجيل أرسل الرسول "وبر بنُ يُحنس"، يدعوه إلى الإسلام، فنزل على بنات "النعمان بن بزرج" فأسلمن، وبعث إلى فيروز الديلمي فأسلم، والى مركبود وعطاء ابنه، ووهب بن منبه. وكان أول من جمع القرآن بصنعاء ابنه عطاء بن مركبود ووهب بن منبه.

وقد كان الفرس الذين أقاموا باليمن مثل سائر الفرس على المجوسية، ولما دخل أهل اليمن في الإسلام دخل بعض هؤلاء فيه. وأقام بعض آخر على دينه، وفرض الرسول على من بقي على دينه جزية. وقد نفر منهم بعض سادات اليمن من الأسر القديمة، بسبب انهم غرباء عن اليمن، جاؤوا إلى اليمن فحكموها، ولهذا انضم بعض منهم إلى "الأسود" في ردّته. لأن "الأسود العنسي"، كان كارهاً الأبناء، حاقداً عليهم. يرى انهم عصابة دخيلة، استأثرت بحكم اليمن. وقد شاءت الأقدار إن تكون نهايته بأيديهم. إذْ كان قاتله منهم فكأن قلبه كان يعلم بما سيفعلونه به، ولهذا كرههم.

وكانت الأزد من القبائل المعروفة في اليمن، وقد جاء وفد منهم إلى الرسول على رأسه "صرد بن عبد الله" في بضعة عشر، فأسلم، وأمره إن يجاهد بمن أسلم من أهل بيته المشركين من قبائل اليمن، وكان أول ما فعله انه حاصر "جرش"، وكانت قد تحصنت وضوت إليها خثعم، فلما وجد إن من العسر عليه فتحها إ القوة آوى إلى جبل "كشر"، فظن أهل جرش، انه إنما ولى عنهم منهزماً، فخرجوا في طلبه، حتى إذا أدركوه عطف عليهم فقتلهم قتلاً. ثم أسلم من نجا منهم. وحمى الرسول لهم حمى حول قريتهم على أعلام معلومة للفرس، وللراحلة، وللمثيرة تثير الحرث، فمن رعاها من الناس سوى ذلك فماله سحت.

وكتب الرسول كتاباً إلى "خالد بن ضباد الأردي" إن له ما أسلم عليه من أرضه، وكان كاتب كتابه "أبيَّ". وكتب مثل ذلك لجنادة الأزدي وقومه، وكان كاتب هذا الكتاب "أبيَّ" كذلك. وكتب الرسول إلى "أبي ظبيان الأزدي" من "غامد" يدعوه ويدعو قومه إلى الإسلام. فأجابه في نفر من قومه بمكة. وكانت لأبي ظبيان صحبة، وأدرك عمر بن الخطاب.

وذكر إن "ضماد بن ثعلبة" الأزدي، كان صديقاً للرسول في الجاهلية، وكان يتطبب ويرقي من هذه الرياح، ويطلب العلم، فقدم مكة قبل الهجرة، واجتمع بالرسول وكلّمه، ثم أسلم. وهو من "أزد شنوءة".

ونجد "ابن سعد" يدوّن صورة كتاب ذكر إن الرسول كتبه لبارق من الأزد. نظم فيه حقوقهم مثل إن لاُ تجذّ ثمارهم وان لا ترعى بلادهم في مربع ولا مصيف إلا بمسألة من بارق. وغير ذلك. وكتب الكتاب "أبيَّ بن كعب"، وشهد عليه أبو عبيدة بن الجراح وحذيفة بن اليمان.

ويجاور الأزد من الشرق "خثعم" و "مذحج" و "مراد" و "همدان" و "بلحارث"، ويجاورهم في غربهم "بنو كنانة" و "بنو عك". وأما من الجنوب، فتتصل ديارهم بديار "همدان" و "حمير".

وتجمع بعد وفاة النبي قوم من الأزد وبجيلة وخثعم، عليهم حميضة بن النعمان وذلك ب "شنوءة"، وعلى أهل الطائف "عثمان بن ربيعة"، فبعث عليهم "عثمان بن أبي العاص"، عامل النبي على الطائف بعثاً التقى بهم بشنوءة، فهزموا تلك الجُمّاع، وتفرقوا عن ""حميضة"، وهرب وفسدت ثورة هؤلاء المرتدين.

وتمرد قوم د من "خثعم" على "أبي يكر" حينما بلغهم نبأ وفاة الرسول وخرجوا غضباً إلى "ذي الخلصة" يريدون إعادته، فأمر "أبو بكر" "جرير ابن عبد الله" إن يدعو من قومه من ثبت على أمر الله، وان يستنفر "مقويهم"، فيقاتل بهم خثعم، فنفذ أمره فتتبعهم وقتلهم وعاد إلى الإسلام من تاب. وكان الرسول قد بعث سنة تسع للهجرة "قطبة بن عامر بن حدية" إلى خثعم بناحية "تبالة"، فتغلب عليهم.

وبقيت "همدان" قبيلة قوية من قبائل اليمن، وقد أسلمت كلها في يوم واحد، أسلمت يوم مقدم "علي بن أبي طالب" إلى اليمن على رأس سرية أمر الرسول بإرسالها إلى هناك. وقد فرح الرسول بإسلامها، وتتابع أهل اليمن على الإسلام.

وقد كانت همدان بطون عديدة، من بطونها "بنو ناعط"، ومن رجالهم "حمرة ذو المشعار بن أيفع"، وكان شريفاً في الجاهلية، والظاهر انه كان صاحب موضع "المشعار". وهو "أبو ثور". وقد وفد على الرسول، ووفد معه "مالك بن نمط" و "مالك بن أيفع"، و "ظمام بن مالك السلماني"، و "عميرة بن مالك الخارفي"، فلقوا رسول الله بعد مرجعه من تبوك، وعليهم مقطعات الحبرات والعمائم المعدنية، برحال المَبسْ على المهرية والأرحبية. ويذكر أهل الأخبار، إن الوفد لما وصل المدينة، ارتجز "مالك بن نمط" رحزاً، ثم خطب بين يدي الرسول، ذاكراً له إن نصيه، أي أخياراً أشرافاً من همدان، يريد رجال الوفد، قدمت إلى الرسول، وهي "من كل حاضر وباد" أي من أهل الحضر ومن أهل البادية، ومن أهل مخلاف خارف ويام وشاكًر، ومن أهل الإبل والخيل، قدموا إليه، بعد إن عافوا الأصنام واعتنقوا الإسلام. فأثنى الرسول عليهم، وشكره سم وكتب لهم كتاباً، وجهه "لمخلاف خارف وأهل جناب الهضب، وحقاف الرمل مع وافدها، ذي المشعار: مالك بن نمط، ومن أسلم من قومه"، ثم بين لهم ما عليهم وما لهم.

وورد إن "قيس بن مالك بن سد بن لأي الأرحبي" قدم على رسول الله وهو بمكة، فعرض رسول الله عليه الإسلام فأسلم، ثم خرج إلى قومه فأسلموا بإسلامه، ثم عاد إلى الرسول فأخبره بإسلامهم، فكتب له عهداً على قومه "همدان". وذكر إن رجلاً مرّ بالرسول، وهو من "أرحب" من "همدان"، اسمه "عبد الله بن قيس بن أم غزال"، فعرض عليه الرسول الإسلام، فأسلم، فلما عاد إلى قومه قتله رجل من "بني زُبَيْد". وجاء وفد آخر من "همدان" إلى الرسول فأسلم على يديه، وكان فيه "حمزة بن مالك" من "ذي مشعار"، وكان على الوفد مقطعات الحبرة مكففة بالديباج، فكتب الرسول لهم كتاباً، وأوصاهم بقومهم من بقيه بطؤن همدان.

وورد إن الرسول كتب ل "قيس بن مالك بن سعد الأرحبي"، عهداً ثبته فيه على قومه "همدان: أحمورها وعربها وخلائطها ومواليها إن يسمعوا له ويطيعوا". وذكر إن الأحمور: قدم، وآل ذي مران، وآل ذي لعوة، وأذواء همدان. وقيل: حمورها: أهل القرى. وأرى إن المراد بالأحمور هم بقايا حمير الناطقون بالحميرية وهم سكان القرى والمدن. ذكروا وخصوا بالذكر، لأنهم اختلفوا عن غيرهم ممن كان يتكلم بلهجات أخرى، ولهذا ميزوا عن "عربها"، أي عرب همدان، وهم الأعراب، وعن الخلائط وهمم الذين يكونون أخلاط الناس وعن الموالي. وذهب بعض الباحثين، إلى إن "عربها" بالغين، أي "غربها" ويراد بهم: أرحب، ونهم، وشاكر ووداعة، و يام، و موهبة، و دالان، و خارف، وعذر، وحجور".

وأما "بنو زُبَيْد"، فكان على رأسهم "عمرو بن معد يكرب الزبيدي"، وكان قد قدم على الرسول في أناس من قومه، ليعرض عليه الإسلام. فأسلم وأسلم من كان معه. وقد نعت بالشجاعة فدعي ب "فارس العرب"، وهو لقب يلقب به الشجعان الفرسان. وأقام في قومه من بني زُبَيْد. وعليهم "فروة بن مسيك المُرادي"، الذي كان قد استعمله الرسول على مراد وزبيد ومذحج كلها: فلما توفي رسول الله ارتد عمرو بن معديكرب. ووثب "قيس بن عبد يغوث" على "فروة بن مسيك"، وهو على مواد ة فأجلاه ونزل منزله.

وكان "عمرو بن معد يكرب" قد لقيَ "قيس برْ مكشوح المرادي" حين انتهى إليه أمر رسول الله، فعرض عليه إن يذهب معه إلى رسول الله حتى يعلم علمه، فإن كان نبيّاً، فإنه لا يخفى أمره عليهم، وإن كان غير ذلك علم علمه أيضاً وتركه، فلم يأخذ "قيس" برأيه وسفهّ فكرته. ثم أوعد "قّيس" "عمرو بن معد يكرب" يوم سمع بذهابه إلى الرسول وباعتناقه الإسلام. وقال: "خالفني وترك رأيي".

وكان "فروة بن مسيك المرادي" من "بني مُراد" وقد عدّه "ابن حبيب" في جملة الجرارين، أي الذين قادوا ألفاً. وقد كان مفارقاً لملوك كندة، ومعانداً لهم. وقد شهد يوم الرزم، وهو يوم كان بين مراد قوم فروة وبن همدان، انتصرت فيه همدان على مراد. وقد نسبوا شعراً لفروة ذكروا انه قاله يعتذر فيه عن الهزيمة التي أصابت مراداً في ذلك اليوم، وكان الذي قّاد همدان فيه "مراد الأجدع بن مالك".

ولما وصل "فروة" المدينة، نزل على "سعد بن عبادة"، وقد أكرمه الرسول، واستعمله على مراد وزبيد ومذحج، وبعث معه "خالد بن سعيد بن العاص" على الصدقات 6.

والى بني الحارث بن كعب أرسل الرسول خالد بن الوليد يدعنهم إلى الإسلام أو البقاء على دينهم وهو النصرانية مع دفع الجزية. فأسلم أكثرهم، وذهب وفد منهم فيه "قيس بن الحصين بن يزيد بن قنان ذي الغصة"، و "يزيد بن عبد المدان"، و يزيد بن المحجل"، و "عبد الله بن قريظ الزيادي"، و "شدّاد بن عبد الله القناني"، و "عمرو بن عبد الله الضبابيّ"، فقابل الرسول، وكان السواد غالباً على لونهم، فقال الرسول، لما رآهم: من هؤلاء القوم الذين كأنهم رجال من الهند?. قيل: يا رسول الله، هؤلاء بنو الحارث ابن كعب. وأمر رسول الله "قيس بن الحصن" على "بني الحارث بن كعب". كما زار الرسول "عبدة بن مسهر الحارثي" في المدينة، وأسلم على يديه.

وكتب الرسول لبني الضباب من "بني الحارث بن كعب" إن لهم ساربة ورافعها، لا يُحاقّهم فبها أحد ما داموا مسلمين، وكتب كتابهم هذا المغيرة. وكتب لبني قنان بن وعلة من بني الحارث كتاباً إن لهم محبساً وانهم آمنون على أموالهم وأنفسهم، كتبه له المغيرة أيضاً. وأمر الرسول كاتبه: الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي، إن يكتب لعبد يغوث بن وعلة الحارثي، إن له ما أسلم عليه من أرضها وأشيائها، أي نخلها ما دام يقوم بما يفرضه الإسلام عليه من واجبات. وكتب له "علي بن أبي طالب" إن لبني زياد بن الحارث جمّاء وأذنبة. وأمر رسول الله المغيرة بن شعبة إن يكتب ليزيد بن المحجل الحارثي، إن له ولقومه نمرهّ ومساقيها ووادي الرحمان من بين غابتها. وانه على قومه من "بني مالك" و "عقبة" لا يغزون ولا يحشرون.

وأصر الرسول إن يكتب كتاباً ل "قيس بن الحصين ذي الغصة" أمانة لبني أبيه بني الحارث ولبني نهد حلفاء بني الحارث، يؤمنهم على أموالهم ما داموا مسلمين. وكتب كتاباً يشهد بإسلام "بني قنان بن يزيد" الحارثيين، ويؤمنهم فيه أيضاً إن لهمِ مذْوداً وسواقيه. وكتب مثل ذلك لعاصم، بن الحارث الحارثي، إن له نجمة من راكس لا يُحاقه فيها أحدا.

وكان "عوز بن سُرير الغافقي" في جملة من وفد من "غافق" على الرسول، كما كان فيهم "جليحة بن شجار بن صُحار الغافقي".

وقد آلم ولا شك خروج الحبش من اليمن البيزنطيين كثيراً، وأصيبوا بخروجهم منها بخسارة من الوجهة العسكرية والاقتصادية، غير إن مما خفف من هذه المصيبة إن الفرس لم يكن لديهم آنذاك أسطول قوي يستطيع الهيمنة على مضيق المندب، مدجل البحر الأحمر، بل ولا سفن كافية يكون في وسعها حماية سواحل اليمن والعربية الجنوبية. لذلك لم يهدد دخولهم اليمن السواحلَ الإفريقية المقابلة لسواحل جزيرة العرب وهي مهمة بالنسبة للروم، ثم انهم عوّضوا عن خسارتهم الكبيرة الفادحة التي نزلت بهم باحتلال الفرس لبلاد الشام، بطردهم الفرس وإجلائهم عن كل الأرضين التي استولوا عليها وبإعادتهم "الصليب المقدس" إلى مكانه. فرفعوا بذلك من معنوياتهم في الشرق الأوسط وفي إفريقية.

وقد سُرَّ اليهود من خروج الحبش من اليمن ومن استيلاء الفرس عليها. إذه صاروا في حكم حكومة لا تحقد عليهم، حكومة لا يهمها أمر اليهود لعدم وجود علاقة لها بها. بل ربما ساعدتها لأنها تناهض الروم، على عكس النصرانية التي كانت قد وجدت في الحبشة نصيراً ومساعداً، لذلك، أتباعها وانحسروا تدريجياً، وبقيت متمركزة بمدينة نجران.

ولنجران وضع خاص. فقد تمتعت باستقلال ذاتي في الغالب. وقد تحرشتُ بتأريخها في مواضع متعددة من هذا الكتاب وبحسب المناسبات. ولما استولى الفرس على اليمن لم تدخل في طاعتهم ولم تخضع لحكم "عاملهم"، بل أخذت تدير شؤونها بنفسها وبمجلس تنفيذي حصر أمور البلد في أيدي سادات ثلاثة اختصر أحدهم بالحكم المدني، واختص ثانيهم بالنظر في أمور الدين. واختص الثالث في شؤون الأمن والدفاع عن المدينة. وقد عرفوا بالعاقب والسيد والأسقف. وقد قدموا على الرسول وباهلوه ؛. وكتبِ لهم كتاب الصلح وذلك سنة عشر للهجرة. واشترط عليهم في جملة. ما اشترطه فيه، إن لا يأكلوا الربا ولا يتعاملوا به. وكتب الكتاب: المغيرة.

وذكر إن الوفد الذي خرج إلى الرسول من نجران كان مؤلفاً من أربعة عشر رجلا من أشرافهم نصارى. فيهم" العاقب، وهو عبد المسيح، رجل من كندة، وأبو الحارث بن علقمة، رجل من بني ربيعة، والسيد وأوس إبنا الحارث، وزيد بن قيس، وشيبة، وخويلد، وخالد، وعمرو، وعبيد الله، وفيهم ثلاثة نفر يتولون أمورهم، والعاقب، وهو أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحبه مدارسهم، والسيد، وهو صاحب رحلهم. فتقدمهم "كرز" أخو "أبو الحارث"، ثم قدم الوفد بعده، فدخلوا المسجد عليهم ثياب الحبرة، وأردية مكفوفة بالحرير، ثم كلّموا الرسول، وصالحهم على شروط، ثم عادوا إلى ديارهم، ثم عاد السيد والعاقب إلى المدينة فأسلما، وبقي الآخرون على دينهم إلى زمن "عمر" فأجلاهم، لأنهم أصابوا "الربا" وكثر بينهم. واشترى عقاراتهم وأموالهم، فتفرقوا، فنزل بعضهم الشام ونزل بعضهم "النجرانية" بناحية الكوفة.

وكان الحكم في نجران ل "بني الأفعى"، ثم تحول إلى "بني الحارث بن كعب"، فلما ظهر الإسلام كان حُكامها من بني الحارث بن كعب. أما بنو الأفعى فكانوا كثرة فيها. غير إن الحكم لم يكن في أيديهم.

ولما توفي رسول الله، كان عامله "عمرو بن حزم" بنجران. ولما قام "ذو الخمار عبهلة بن كعب" وهو " الأسود"، بعامة مذحج على الإسلام في حياة الرسول وكان كاهناً شعباذاً، يري الناس الأعاجيب، ويسبي قلوب من سمع منطقه، أخرج "عمرو برت حزم" من نجران، واستولى عليها ثم سار "عبهلة" إلى صنعاء فأخذها، وأخذ يدعو الناس إليه، حتى قضى عليه. وأرسل الرسول قبل وفاته بقليل "وبر بن يُحنس" إلى "فيروز" و "جُشيش الديلمي" و "داذويه اللاصطخري"، و "جرير بن عبد الله" إلى "ذي الكلاع" و "ذي ظليم"، و "الاقرع بن عبد الله الحميري" إلى "ذي زود" و "ذي مران" وذلك للقضاء على "الأسود" وعلى من استجاب إليه، فقتل. قتله: "فيروز للديلمي" و "قيس بن مكشوح المرادي"، وعاد من ارتد واتبعه إلى الإسلام، ولم يكن الرسول قد فارق الدنيا بعد.

وكان النبيّ حين وفاته قد نصب عمالاً على عمالات تمتد من مكة إلى اليمن، فكان على مكة وأرضها "عتاب بن أُسيدْ" و "الطاهر بن أبي هالة"، عتاب على بني كنانة والطاهر على عك. وعلى "الطائف" وأرضها "عثمان بن أبي العاص" و "مالك بن عوف النصريّ". "عثمان" على أهل المدر ومالك كل أهل الوبر أعجاز هوازن. وعلى نجران وأرضها عمرو بن حزم وأبو سفيان بن حرب. عمرو بن حزم على الصلاة، وأبو سفيان بن حرب على الصدقات، وعلى ما بين "رمع" و "زبيد" إلى حد "نجران" خالد بن سعيد بن العاص. وعلى همدان كلها "عامر بن شهر"، وعلى "صنعاء" فيروز الديلمي يسانده داذويه وقيس بن المكشوح، وعلى الجند يعلى بن أمية، وعلى مأرب أبو موسى الأشعري، وعلى الأشعريين مع عك الطاهر بن أبي هالة، ومعاذ بن جبل يعلم القوم، يتنقل في عمل عامل. بقي الحال على هذا المنوال حتى نزا بهم الأسود الكذّاب.

وورد في ش رواية أخرى، إن رسول الله وجه "خالد بن سعيد بن العاص" أميراً إلى صنعاء وأرضها، وذكر انه ولى "المهاجر بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي" صنعاء، فقبض وهو عليها. وقال آخرون إنما ولى "المهاجر" "أبو يكر"، وولى "خالد بن سعيد" مخاليف أعلى اليمن. وذكر أيضاً، إن رسول الله ولى "المهاجر" كندة والصدف، فلما قبض رسول الله، كتب أبو بكر إلى "زياد بن لبيد البياضي" من الأنصار بولاية كندة والصدف إلى ما كان يتولى من حضرموت. وولى المهاجر "صنعاء". والذي عليه الإجماع إن رسول الله ولى "زياد بن لبيد" حضرموت.

ولما ارتد "قيس بن عبد يغوث المكشوح" ردته الثانية، وعمل في قتل فيروز وداذويه وجشيش، وكتب إلى "ذي الكلاع" وأصحابه" "إن الأبناء نزُّاع في بلادكم، وثقلاء فيكم، وأن تتركوهم لن يزالوا عليكم، وقد أرى من الرأي أن اقتل رؤوسهم، وأخرجهم من بلادناً، كتب "أبو بكر" إلى "عمير ذي مران" والى "سعيد ذو زود" والى "سميفع ذي الكلاع" والى "حوشب ذي ظلم"، والى "شهر ذي يناف"، يأمرهم بالتمسك بالإسلام، وبمقاومة "قيس" والمرتدين. فكاتب "قيس" "تلك الفالة السيارة اللحجية، وهم يصعدون في البلاد ويصوّبون، محاربين لجميع من خالفهم" "وأمرهم إن يتعجلوا إليه، وليكون أمره وأمرهم واحداً، وليجتمعوا على نفي الأبناء من بلاد اليمن"، فاستجابوا له، ودنوا من صنعاء. وعمد إلى الحيلة لقتل "فيروز"، و "داذويه"، و "جشيش". وتمكن من "داذويه"، فقتله. فأحسرّ "فيروز" و "جشيش" بالمكيدة، فهربا إلى "خولان"، وهم أخوال "فيروز"، و امتنع "فيروز" بأخواله. فثار "قيس" بصنعاء، وجمع "فيروز" من تمكن جمعه من الأبناء، وكتب إلى "بني عقيل بن ربيعة بن عامر بن صعصعة" والى "عك" يستنصرهم ويستمدهم على "قيس". فساروا إليه ووثبت "عك" وعليهم "مسروق"، وسار "فيروز" بهم نحو "قيس"، فهرب في قومه والتحق بفلول "العنسي" التي تذبذبت بعد مقتله، وسار فيما بين صنعاء ونجران. وانضم إلى "عمرو بن معديكرب". وكان "عمرو" قد فارق قومه "سعد العشيرة" في "بني زبيد" وأحلافها وانضم إلى "العنسي".

ولما أرسل "أبو يكر" مدداً إلى من أرسله إلى اليمن، انضم إليه قوم من "مهرة" وسعد زيد والأزد وناجية وعبد القيس وحُدبان من بني مالك، وقوم من العنبر والنخع، وحمير، واختلف "قيس" مع "عمرو بن معديكرب"، وإنفلّ من كان معهما، وأخذا أسرين إلى أبي بكر، فعفى عنهما. وانتهت بذلك ردة هذين المرتدين.

ومن "بني خُشَين" "أبو ثعلبة الخشني"،. وقد وفد على الرسول وأسلم ووفد عليه نفر من "خشين" فنزلوا عليه وأسلموا وبايعوه ورجعوا إلى قومهم.

وكان من جملة وفود أهل اليمن إلى الرسول، وفد "بهراء"، جاؤوا إلى المدينة فأسلموا، وقد نزلوا على "المقداد بن عمرو".

ومن قبائل اليمن قبائل "مذحج"، وتقع منازلها جنوب منازل "خثعم" وفي شمال ديار "قهد". ومن بطونها "الرهاويون"، وهم حيّ من مذحج، قدم وفد منهم على الرسول سنة "عشر" للهجرة فأسلموا. وقدم رجل منهم اسمه "عمرو بن سبيع" على الرسول فأسلم، فعقد له رسول الله لواءً.

وأرسل "النخع" رجلين منهم إلى النبيّ" "ارطاة بن شراحيل بن كعب" من "بني حارثة بن مالك بن النخع" و "الجهيش" واسمه "الأرقم" من "بني بكر بن عوف بن النخع" فأسلما، وعقد لأرطاة لواء على قومه، وجاء وفد آخر من وفد النخع من اليمن سنة إحدى عشرة، وهم مائتا رجل، وكان فيهم "زرارة بن عمرو"، وقيل هو "زرارة بن قيس بن الحارث بن عداء"، وكان نصرانياً، فأسلموا، وبايعوا الرسول، وكانوا قد بايعوا "معاذ بن جبل" باليمن.

وقسم "جرير بن عبد الله البجلي" سنة عشر المدينةَ على رأس وفد من قومه "بحيلة"، فأسلموا وبايعوا الرسول. وقدم وفد آخر منهم فيه "قيس بن عزرة الأحمسي" فأسلموا وعادوا إلى ديارهم وجاء وفد "خثعم" وفيه "عثعث بن زحر" و "أنس بن مدرك"، فأسلموا، وكتب النبي لهم كتاباً. وقد دَوّن "ابن سعد" صورة كتاب ذكر أن الرسول كتبه ل "خثعم" "من حاضر بيشة وباديتها"، وأن الذي كتبه له وشهد عليه "جرير بن عبد الله" ومن حضر. ودَوّنَ "ابن سعد" صورة كتاب آخر، أمر الرسول بكتابته ل "مطرف بن الكاهن الباهلي". جاء فيه: "هذا كتاب من محمد رسول الله لمطرف بن الكاهن ولمن سكن بيشة من باهلة". ويظهر منه أن "مطرفا" المذكور وقومه من باهلة كانوا يقيمون اذ ذاك ب "بيشة". ودَوّن "ابن سعد" صورة كتاب آخر كتبه الرسول إلى "نهشل بن مالك الوائلي" من "باهلة. ولم يذكر الكتاب مواضع منازلهم.

وكان من رجال "جُعْفى" الذين وفدوا على الرسول" "قيس بن سلمة ابن شراحيل"، و "سلمة بن يزيد"، فأسلما، وأستأذنا الرسول بالعودة إلى منازلها. فلما كانا في الطريق، لقيا رجلاً من أصحاب رسول الله، معه إبل منه ابل الصدقة، فطردا الإبل، واوثقا الراعي. ومن "جعفى"، "ابو سبرة"، وهو "يزيد بن مالك بن عبد الله الجعفى" وابناه "سبرة" و "عزيز"، قدم بهما أبوهما على الرسول، وأسلموا.

وأما "تهامة"، فكان بها عَك والأشعرون. وكانوا قد ارتدوا بعد سماعهم خبر وفاة الرسول، ولكنهم غلبوا على أمرهم، وعادوا إلى الإسلام ولما توفي الرسول، كان أول منتقض بعد النبي بتهامة عَك والأشعرون، وذلك انهم حين بلغهم موت النبي، تجمعوا وأقاموا على الاعلاب طريق الساحل. فسار عليهم "الطاهر بن أبي هالة" ومعه "مسروق المكيّ"، فهزمهم وقتلهم كل قتلةَ، وعرفت الجموع من عكّ ومن تأشب إليهم" الأخابث، وُسميّ الطريق الذي تجمعوا فيه "طريق الأخابث"، وجاء وفد من الأشعريين، فيه "أبو موسى الأشعري"، ومعه رجلان من "عكّ" قدم في سفن في البحر، ثم نزلوا الساحل وذهبوا "برّاً إلى المدينة، فرأوا الرسول وبايعوه.

وأرسلت "جيشان" نفراً إلى المدينة فيهم "أبو وهب الجيشاني"، فأسلموا. وكان الحكم في حضرموت إلى الاقيال كذلك. وفي أيام الرسول قدم عليه "وائل بن حجر" راغباً في الإسلام، وكانت له مكانة كبيرة في بلده، وقد نعته كتاب الرسول الذي كتبه إليه ب "قيل حضرموت"، وقد كان لكندة والسكاسك والسكون والصدف اثر كبير في تأريخ حضرموت في هذا العهد الذي نتحدث عنه.

وذكر "ابن سعد"، إن الرسول كتب إلى أقيال حضرموت، وعظمائهم، كتب إلى "زرعة" و "فهد" و "البسّي" و "البحري" و "عبد كلال" و"ربيعة" و "حجر".ْ وكانت كندة هي القبيلة المتنفذة بحضرموت، كان "الاشعث بن قيس بن معديكرب الكندي" من رؤساء هذه القبيلة البارزين، وقد مدح الأعشى "قيس ابن معديكرب" بقوله: وجلنداء في عُمان مـقـيمـاً  ثم قيساً في حضرموت المنيف

وكان "الأشعث بن قيس" على رأس وفد كندة الذي وفد على الرسول سنة عشر، فأسلم مع قومه على يديه. وقد كان رجال الوفد قد رجًّلوا جمعهم واكتحلوا، ولبسوا جباب الحبرة قد كفَوّها بالحرير، وعليهم الديباج ظاهر مخوص بالذهب، فأمرهم الرسول بتك ذلك. فألقوه.

وذكر "أبو عبيدة"، إن "الأشعث بن قيس" لم يكن كندياً، وإنما صار في كندة بالولاء. وزعم إن والد "قيس" وهو "معمد يكرب" كان علجاً من أهل فارس إسكافاً اسمه "سيبخت بن ذكر"، قطع البحر من توج إلى حضرموت. وللفرزدق شعر في ذلك قاله في حق "عبد الرحمن" حين خالف عبد الملك بن مروان. كما زعم إن "وردة بنت معد يكرب" عمة الأشعث كانت عند رجل من اليهود، فماتت ولم تخلف ولداً، فأتى الأشعث "عمر بن الخطاب" يطلب ميراثها، فقال له عمر" لا ميراث لأهل ملتين. وقد عرف ملوك كندة الذين راسلهم الرسول ب "بني معاوية"، وهم الذين عرفوا ب "بني معاوية الأكرمين"، في شعر مدحوا به.

وكان مخوص "مخوس" ومشرح وجمد "حمدة" وأبضعة بنو معد يكرب ابن وليعة بن شرحبيل بن معاوية من الرؤساء الملقبين بلقب ملك، لأن كل واحد منهم قد اختص بواد ملكه، ولقب نفسه بلقب ملك. وقد نزلوا المحاجر، وهي أحماء حموها، وقد عرف هؤلاء بالملوك الأربعة من بني عمرو بن معاوية وقد لعنهم النبيّ. وعرفوا ب "بني وليعة" ملوك حضرموت وقد جاؤوا إلى الرسول مع وفد كندة فأسلموا.

ووفد رئيس آخر من رؤساء حضرموت على الرسول اسمه "وائل بن حجر"، ويظهر انه كان ذا منزلة كبيرة عند قومه، فلما وصل المدينة أمر الرسول "معاوية بن أبي سفيان" باستقباله وبإنزاله منزلاً خاصاً ب "الحرة"، وأمر بأن ينادى ليجتمع الناس: الصلاة جامعة، سروراً بقدومه، ولما أراد الشخوص إلى بلاده كتب له الرسول كتاباً دعاه فيه ب "قيل حضرموت"، وذكر فيه انه جعل له في يديه من الأرضين والحصون. ولما أمر الرسول معاوية بأن ينزل "وائلاً" بالحرة، مشى معاوية معه ووائل راكب، فقال معاوية: الق إليّ نعليك أتوقّى بهما من الحرّ، فقال له: لا يبلغ أهل اليمن إن سوقة لبس نعل ملك، ولما قال له: فأردفني، قال: لستَ من أرداف الملوك، ولكن إن شئتَ قصرت عليك ناقتي فسرتَ في ظلها، فأتى معاوية النبي، فأنبأه بقوله، فقال رسول الله: إن قيه لعُبية من عُبيّةَ الجاهلية.

وكان "الأشعث الكندي" وغيره من "كندة" نازعوا "وائل بن حجر" على وادٍ بحضرموت فادعوه عند رسول الله، فكتب به رسول الله، لوائل ابن حجر. بعد إن شهد له أقيال حمير وأقيال حضرموت. فكتب له بذلك، وأقره على ما في يده من الأرضين.

ومن قرى حضرموت" تريم ومشطة والنجير وتنعة وشبوة وذمار وكان الرسول قد استعمل "المهاجر بن أبي أمية" على كندة والصدف و "زياد بن لبيد البياضي" من "بني بياضة" على حضرموت، و "عكاشة ابن محصن" على "السكاسك" و "السكون". ولما توفي الرسول، خرج "بنو عمرو بن معاوية"، إلى محاجرهم، ونزل "الأشعث بن قيس الكندي" محجراً، و "السمط بن الأسود" محجراً، وطابقت "معاوية" كلها على منع الصدقة وأجمعوا على الردة، إلا ما كان من "شرحبيل بن السمط" وابنه، فإنهما خالفوهم في رأيهم، فهجم المسلمون على المحاجر، وقتلوا الملوك الأربعة.

وساروا على "الأشعث" ومن انضم إليه من "كندة"، والتقوا بمحجر الزرقان فهزمت كندة وعلهم الأشعث: فالتجأت إلى حصن النجر، ومعهم من استغووا من السكاسلك وشذاذ من السكون وحضرموت والنجير، فلحقتهم جيوش المسلمين، ومنعت المسد عنهم، وأخضعت من بقرى "بني هند" إلى "برهوت"، وأهل الساحل، وأهل "محا"، فخاف من بالحصن على نفسه، واستسلم الأشعث وانتهت فتنته. وأخذ إلى المدينة، فحقن "أبو بكر" دمه، وزوّجه أخته، ثم سار إلى الشام والعراق غازياً ومات بالكوفة.

وكان "شرحبيل بن السمط" الكندي مقاوماً للأشعث بن قيس الكندي في الرئاسة، وانتقل العداء إلى الأولاد.

وينسب "الصدف" إلى الصدف بن مالك بن مرخ بن معاوية بن كندة"، فهم إذن من كندة.

وذكر إن من سادات حضرموت في هذا العهد" "ربيعة بن ذي مرحب الحضرمي". وقد كتب إليه الرسول كتاباً أقره فيه وأقر أعمامه وأخوته وكل "آل ذي مرحب" على أرضهم وأموالهم ونخلهم ورقيقهم وآبارهم ونخلهم وشجرهم ومياههم وسواقيهم ونبتهم وشراجعهم وان "أموالهم وأنفسهم وزافر حائط الملك الذي كان يسيل إلى آل قيس" هو لهم. وكتب الكتاب للرسول معاوية بن أبي سفيان.

وكان يتنازع على رئاسة مهرة رجلان منهم عند ظهور الإسلام، أحدهما "شجريت" وهو من "بني شخراة"، وكان بمكان من أرض مهرة يقال له: "جَيْروت" إلى "نضدون". وأما الأخر فبالنّجد. وقد انقادت مهرة جميعاً لصاحب هذا الجمع، عليهم "المصبح" أحد بني محارب، والناس كلهم معه، إلا ما كان من شخريت، فكانا مختلفين، كل واحد من الرئيسين يدعو الآخر إلى نفسه" وقد قتل "المصبح" في أثناء ردة مهرة، أما شخريت الذي كان قد أسلم ثم ارتد، فقد سلم على نفسه بعودته إلى الإسلام، وأرسل مع الأخماس إلى "أبي بكر".

ويذكر أهل الأخبار إن بعض رجال "مهرة" وفدوا على الرسول، منهم "مَهْرى بن الأبيض"، وقد كتب له الرسول كتاباً، و "زهير بنِ قرضم ابن العُجيل بن قباث بن قمومي"، وقد اسلم، وكتب له الرسول كتاباً حين هم بالانصراف إلى قومه.

ومن مواضع "مهرة" "رياض الروضة"، بأقضى أرض اليمن من مهرة، و "جيروت" و "ظهور الشحر" و "الصبرات" و "ينعب" و "ذات الخيم".

وأما عمان، فكان المتنفذ والحاكم فيها "الجلندى بن المستكبر"، وكان قد نصب نفسه ملكاً عليها، ويفعل في ذلك فعل الملوك، فيُعشرُ للتجار في سوق "دبا" و "سوق صحار" وكانت سوق دبا من الأسواق المقصودة المشهورة، يأتي إليها البائعون والمشترون من جزيرة العرب ومن خارجها، فيأتيها تجار من السند والهند والصين.

وورد في باب الرسل الذين أرسلهم رسول الله إلى الملوك، انه أرسل "عمرو بن العاص" إلى"جيفر بن جلندى" و"عباد بن جلندى" "عبيد" "جيفر بن جلندى بن عامر ابن جلندى" "عبدا" الأزديين صاحبي عمان. مما يدل على انهما كانا هما الحاكمين على عمان في هذا الوقت. وتعني لفظة "جلنداء" الواردة في شعر الأعشى في مدح "قيس بن معد يكرب" "الجلندى" صاحب عمان. وتذكر الروايات إن "جيفر"، كان هو الملك منهما: وكان أسن من أخيه.

وكان يُسامي "الجلندى" "ذو التاج" "لقيط بن مالك الأزدي"، وقد أرتد وادعى يمثل ما ادعى من تنبأ: وغلب على عمان، والتجأ "جيفر" و "عباد" إلى الجبال. فأرسل "أبو بكر" إليهما مدداً، فتغلبا عليه وعلى من التف حوله. ويظهر إن لم لقيطاً" كان ينافس "آل الجلندى بن المستكبر" على السلطان، وقد اعتصم "آل الجلندى" بالإسلام. وانتصروا بفضل المدد الذي وصل إليهم عليه. وقد قتل "لقيط" وسُبي أهل "دبا".

وكلمة "الجلندي" على ما يظهر من روايات الأخباريين ليست اسماً لشخص، وإنما هي لقب، وقد تعني "لقباً" أو "قيلاء" أو "كاهناً" في لهجات أهل عمان. ويؤيد ذلك ما ورد من انه "ادعى به من كان نبيّاً".

وارتدت طوائف من أهل "عمان"، ولحقوا بالشحر، وارتد جمع من "مهرة بن حيدان بن عمرو بن الحاف بن قضاعة"، فجهز عليهم "أبو بكر" "عكرمة بن أبي جهل بن هشام المخزومي" و "حذيفة بن حصن البارقي" من الأزد، فتغلبا عليهم جميعاً، وعادوا عن ردتهم إلى الإسلام.

ودوّن "ابن سعد" صورة كتاب ذكر أن الرسول كتبه لرجل من "مهرة" اسمه "مهري بن الأبيض". كتبه له: "محمد بن مسلمة الأنصاري".

وغالب أهل عمان من الأزد. وهم من "القحطانيين على رأي أهل الأنساب، من نسل "أزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن كهلان بن سبأ". وقد عرفوا ب "أزد عمان"، تمييزاً لهم عن أزد شنوءة وأزد السراة وعن أزد غسان. وذكر إن أصل كلمة "أزد" هي "أسد"، وان "أسد" "أفصح من"أزد" وان الأزد نزلت عمان بعد سيل العرم، فغلبت على من كان بها من ناس. وإما أزد "شنوءة" فقد اتجهوا نحو الشمال، فذهب قوم منهم إلى العراق، ذكر انهم سموا "شنوءة" لشنآن، أي تباغض وقع بينهم أو لتباعدهم عن بلدهم. وإذا أخذنا بهذا التفسير، قلنا إنه يعني إن هذه الجماعة من الأزد، كانت مستبدية أعرابية، عاشت متباغضة يقاتل بعضها بعضاً، وهذا ما دفع فلولها على الارتحال عن مواضعها الأصلية وعلى الانتشار والتفكك والذهاب إلى أماكن بعيدة عن مواطنها شأن الأعراب المتقاتلين المتخاذلين.

ثم نراهم يذكرون إن أول من لحق بعمان من الأزد: "مالك بن فهم بن غانم بن دوس بن عبد الله بن زهران بن كعب بن الحارث بن عبد الله ابن مالك" وكان سبب خروجه عن قومه إلى عمان: إن كان له جار وكان لجاره كلبة، وكان بنو أخيه "عمرو بن فهم بن غانم يسرحون ويروحون على طريق بيت ذلك الرجل، وكانت الكلبة تعوي عليهم وتفرق غنمهم، فرماها أحدهم بسهم فقتلها. فشكا جار مالك إليه ما فعل بنو أخيه، فغضب مالك وقال: لا أقيم في بلد ينال فيه هذا من جاري. ثم خرج مراغماً لأخيه عمرو ابن فهم. ثم لحقت به قبائل أخرى من الأزد".

ويذكر الأخباريون إن "عمان" نسبة إلى رجل اسمه "عمان بن قحطان": وكان أول من نزلها بولاية أخيه يعرب، وذكر أيضاً إن "عمان" اسم وادٍ، كان ينزل الأزد عليه حين كانوا بمأرب، وان الفرس كانوا يسمون "عماناً" "مزون". وذكر إن العرب كانت تسمي "عمان" المزون. وذكر إن "أردشير بابكان" جعل الأزد ملاحين بشحر عمان قبل الإسلام بستمائة سنة. وقيل إن المزون، قرية من قرى عمان يسكنها اليهود والملاحون ليس بها غيرهم. ونزل بعمان ناس من غير الأزد. منهم جمع من "بني تميم"، ومنهم "آل جذيمة بن حازم"، وقوم من "بني النبيت" من الأنصار، ومنازلهم في قرية يقال لها "ضنك" من أعمال "السر"، و "بنو قطن" من أهل يثرب. كذلك، ومنازلهم "عبرى" و "السليف" و "تنعم" من أرض السر، وقوم من "بني الحارث بن كعب"، وآخرون من "قضاعة"، وفروع من "عبس".

وكان في جملة من وفد من أزد عمان على الرسول، "أسد بن يبرح الطاحي، خرج في وفد، فبايعوا الرسول، وطلبوا منه إن يرسل إليهم رجلا يقيم أمرهم، فأمر رسول الله "مخربة العبدي"، واسمه "مدرك بن خُوط" بأن يذهب اليهم، ويعلمهم القرآن والإحكام. وجاء بعده وفد آخر فيه "سلمة ابن عياذ "عباد" الأزدي".

ومن عمان "صحار"، وقد اشتهرت بسوقها. و "قسات"، وهي فرضة عمان على للبحر، إليها ترفأ أكثر سفن الهند. و "دبا" "حما" و"مهرة". ويعقد سوق صحار في أول يوم من رجب، ولا يختفر فيها بخفير، ثم يرتحلون إلى سوق دبا، فيعشرهم "آل الجلندى".

ودوّن "ابن سعد" صورة كتاب ذكر إن الرسول كتبه إلى وفد "ثُمالة" و "الحُدّان". جاء فيه "هذا كتاب من رسول الله لبادية الأسياف ونازلة الأجواف مما حاذت صُحار"، ثم ورد بعدها ما وضع عليهم الرسول من، حقوق. وقد كتب الصحيفة "ثابت بن قيس بن شماس"، وشهد عليها: سد بن عيادة ومحمد بن مسلمة.

وأما البحرين، فجلّ سكانها من "بني عبد القيس" وبكر بن وائل وتميم. وهم بين أهل شرك أو نصرانية وبين شراذم من يهود ومجوس. أما الوالي عليها في أيام ظهور الرسول، فكان "المنذر بن ساوى".. وهو من بني عبد الله ابن زيد" من "بني تميم". وكانوا ملوك المشقر بهجر، وكانت ملوك الفرس قد استعملتهم عليها. و "عبد الله بن زيد" هذا هو "الأسبذي"، نسبة إلى قرية ب "هجر" يقال لها "الأسبذ"، ويقال انه نسب إلى "الأسبذيين"، وهم قوم كانوا يعبدون الخيل بالبحرين.

و "المشقر" حصن آخر من حصون البحرين المعروفة، وهو من الحصون العادية لذلك نسب بعض أهل الأخبار بناءه إلى "سليمان بن داوود" على عادتهم في إرجاع نسب الأبنية العادية إليه في الغالب عند عجزهم عن معرفة أصل الأبنية. وذكر بعض آخر انه من بناء "طسم". وقد كان لعبد القيس، ولهم حصن أخر يليه اسمه "الصفا" قبل مدينة "هجر". وبين الصفا والمشقر نهر يجري يقال له "العين". ويذكر أهل الأخبار إن "بني عبد القيس" لما جاؤوا بها "إياداً"، فأخرجوهم عنها قهراً، وأخذوا مكانهم. وان "كسرى" حبس "تميماً" بهذا الحصن، وفيه فتك "المكعبر" والي "كسرى"، ببني تميم. وعرف الموضع لذلك ب "فج بني تميم".

وقد ورد اسم هذا الحصن في شعر "لبيد بن ربيعة العامري"، إذْ قال: وأعوصن بالدوميّ من رأس حصنه  وانزلن بالأسباب رب المشـقـر

وقد ذكر شارح الديوان إن الشاعر "لبيد" قصد بالدوميّ ملك دومة الجندل. وان المشقر حصن بالبحرين. "قال أبو عمرو" وكان ربَهّ رجلاً من الفرس". وجاء في هامش التحقيق إن "المشقر" قصر بالبحرين بناه معاوية بن الحارث بن معاوية الملك الكندي، وكانت منازلهم ضرية، فانتقل أبوه الحارث إلى الغمر ظ وبنى ابنه المشقر، وقال ابن الأعرابي: المشقر بمدينة قديمة في وسطها قلعة، وهي مدينة هجر".

وتقع ديار "عبد القيس" إلى الشمال من ديار "أزد عمان"، وهي تشرف على الخليج، وتمتد نحو الشمال حتى تصل إلى منازل قبائل "بكر بن وائل"، وقد خالطتها قبائل أخرى. وسكنت إلى الغرب من ديار "عبد القيس" قبائل "تميم"، التي تمتد ديارها موازية لديار "بني عبد القيس" الواقعة إلى شرقها حتى تصل إلى ديار "بكر بن وائل" وديار "أسد" التي تؤلف الحدود الشمالية الغربية لها. وأما القبائل النازلة إلى الغرب من ديار تميم، فهي: أسد وهوازن و "غني" و "باهلة"، وأما القبائل النازلة إلى الجنوب من بلاد تميم، فهي "أزد عمان" و "عبد مناة" و "ضَبةّ".

ويخبر من دراسة الروايات التي يرويها أهل الأخبار عن هجرة القبائل، إن "يبني عبد القيس"، لما جاؤوا إلى البحرين، كانت البلاد إذ ذاك لإياد، فجلت إياد من البحرين ونزحت نحو العراق، فكان ما كان لها من مواقف هناك مع الفرس.

وسبب غدر "المكعبر" ببني تميم، هو وثوبهم على قافلة كانت محملة بالطرف والأموال أرسلها "وهرز" عامل كسرى على اليمن إلى كسرى، فاغتاط "كسرى" من ذلك، وأراد إرسال جيش عليهم، فأخبر إن بلادهم بلاد سوء، قليلة الماء، وأشر إليه إن يرسل إلى عامله بالبحرين إن يقتلهم، وكانت تميم تصير إلى هجر للميرة. فلجأ العامل إلى الغدر بهم، فأمر مناديه إن ينادي لا تطلق الميرة إلا لتميم، فأقبل إليه خلق كثير، فأمرهم بدخول المشقر وأخذ الميرة، والخروج من باب آخر، فدخل قوم منها فقتلهم. ثم أجهز على الباقين، وبعث بذراريهم في سفن إلى فارس.

وذكر إن "المكعبر" واسمه "فيروز بن جشيش"، تحصهن ب "الزارة" وانضم إليه مجوس كانوا تجمعوا بالقطيف، وامتنعوا عن أداء الجزية، فحاصرها "العلاء" وفتحها في أول خلافة "عمر". وفتح "العلاء" "السابون" و "دارين" في الساحل المقابل من الخليج.

وتميم من القبائل الكبيرة التي كان لها شان عند ظهور الإسلام. وقد سكنت في مواضع متعددة من جزيرة العرب وفي العراق وبادية الشام. وكان من أشرافها عند ظهور الإسلام: عطارد لن حاجب بن زرارة لن عدس التميمي، والأقرع أبن حابس، والزبرقان بن بدر، وعمرو بن الأهتم، وقيس بن عاصم، وربيعة بن رفيع، وسرة بن عمرو. والقعقاع بن معبد، ووردان بن محرز، ومالك بن عمرو، وحنظلة بن دارم، وفراس بن حابس، وقيس بن الحارث، ونعيم بن سعد، ورباح بن الحارث. و "سفيان بن الحارث بن مصاد".

وكان "الزبرقان بن بدر" على الرباب وعوف والأبناء، وقيس بن عاصم على "مقاعس" والبطون، و "صفوان بن صفوان" على "بهدى" و "سبرة بن عمرو" على "خضم" من "بني عمرو". و "بهدى" و "خضم" قبيلتان من "بني تميم". و "وكيع بن مالك" و "مالك بن نويرة" على "بني حنظلة" "وكيع" على "بني مالك" و "مالك" على "بني يربوع". ولما وقعت "الردة"، ارتبك موقف زعماء "تميم"، وكانوا متخاصمين غير متفقين فيما بينهم، وبينهم تحاسد وتباغض، منهم من أدى الصدقة ومنهم من امتنع، وتخاصموا فيما بينهم بسبب ذلك. وزاد في ارتباكهم هذا قدوم "سجاح بنت الحارث بن سويد بن عقفان" من الجزيرة، وكانت ورهطها في "بني تغلب" تقود أفناء "ربيعة"، ومعها "الهذيل بن عمران" في "بني تغلب" و "عقة بن هلال" في النمر، و "تاد" في إياد، و "السُليل بن قيس" في "شيبان"، وحاروا في امرهم، منهم من انضم إليها ومنهم من خالفها وقاتلها، ثم اتجهت نحو "مسيلمة" باليمامة واتفقت معه، ثم غادرته راجعة إلى قومها،.

ولما امتنع "مالك بن نويرة" عن دفع الصدقة، سار عليه "خالد بن الوليد" إلى "البطاح"، وكان قد فَرقَ قومه، وأمرهم بعدم التعرض والمقاومة، ولكنه قتل. وانتهى بذلك أمر تميمْ.

وكان "الاقرع بن حابس بن عقال" المجاشعي الدارمي في جملة المؤلفة قلوبهم. وهو من سادات تميم. وذكر انه كان على دين المجوس ولقبيلة تميم صلات بملوك الحيرة، وقد كانت "الردافة" اليها. وهي مكانة ودرجة مهمة جداً، لا تعطى إلا للقبائل المتنفذة القوية. ومع ذلك فقد وقعت بينها وبينهم خطوب ومعارك. لما في طبع القبائل من شق عصا الطاعة عند شعورها بوجود وهن في الحكم وبأن في إمكانها الانفراد بنفسها في الحكم. كما كانت لها صلات متينة برجال مكة التجار، ولها معهم أعمال وتجارة وعهود وحبال. لحماية قوافل قريش ولتأمن وصولها سالمة إلى الأماكن التي كانت تقصدها.

ونجد تميماً تحارب "بكر بن وائل" ومن يشد أزرها ويعاونها من "الاساورة" وذلك يوم "الصليب". وفد انتصر "بنو عمرو" وهم من تميم على "بني بكر"، وقتل "طريف" "رأس الاساورة". وقد كانت "بكر بن وائل" من القبائل المؤيدة للساسانيين. وكان الفرس يقومونهم ويجهزونهم، ويشرف على تجهيزهم عاملهم على "عين التمر" وتظهر صلات "تميم" الطيبة بقريش من أخبار أهل الأخبار عن تجارة قريش وعن الطرق التي كان يسلكها تجارهم لوصولهم إلى الاسواق، مثل سوق دومة الجندل والمشقر والأسواق الأخرى. لقد كانت. الطرق المؤدية إلى تلك الأسواق تمر بأرضين هي لأحياء من تميم. ولم تكن هذه الأحياء تتعرض لتجار مكة أو للتجار المتحالفين معهم والذين يتاجرون باسمهم، بأي سَوء. على العكس كانت تحترمهم وتقدم لهم المعونة، لوجود حبال وعهود عقدا ساداتهم مع سادات قريش. ونظراً إلى ما كان من حلف بين "كلب" و "تميم"، فقد صار في وسع تاجر مكة ومن هو في حلفه أو يتاجر بحماية تجار مكة، المرور في منازل "كلب" بأمن وسلام.

ومن ديار تميم "الحزن"، وهو د "بني يربوع". وهو مرتع من مراتع العرب، فيه رياض وقيعان. وقيل هو صقع واسع نجدي بين الكوفة وفيد. وقيل: هو قف غليظ، ومربع من مرابع العرب، بعيد عن المياه، فليس ترعاه الشياه ولا الحمر. فليس فيها دمن ولا ارواث. وعرف بأنه بلاد بني يربوع. وهناك حزن آخر ما بين زبالة فما فوق ذلك مصعداً في بلاد نجد. وفيه غلظ وارتفاع. وقد ورد ذكر "الحزن" في شعر للأعشى، حيث يقول: ما روضة من رياض الحزن، معشبة  خضراء جاد عليها مسُبل هـطـل

وذكر انه موضع كانت ترعى فيه إبل الملوك، وهو من ارض "بني أسد".

وكانت قوافل قريش إذا قصدت "دومة الجندل" ،وسلكت السبل التي تمر ب "الحزن"، فإنها تكون آمنة مطمئنة، لأنها تمر ببلاد مضر. ولا يتحرش مضريّ بمضريّ. وكانت إذا عادت وأرادت سلوك مواضع الماء، مرّت بديار كلب، فتكون عندئذ آمنة مطمئنة، لأن لكلب حلفاً مع "تميم" و "تميم" من مضر ولها صلات وعلاقات بمكة. وإذا مرت بحزن أسد، فأنها تكون آمنة كذلك، لأن "بني أسد" من مضر. وإذا دخلت ديار "طيء"، صارت آمنة أيضاً، لأن لطيء حلفاً مع بني أسد.

ويظهر انه قد كانت لتميم صلات بقريش وبمكة تعود إلى أيام سابقة على الإسلام. إذ نجد في روايات أهل الأخبار إن نفراً منهم كانوا يذهبون إلى مكة ومنهم من كان يذهب إليها للاتجار. فقد ذكر إن تميمتاً كان متجره بمكة، وقد اختلف مع "حبرب"، فاعتدى عليه "حرب". فذهب التميمي إلى "بني هاشم" واستجار بهم، فأجاره "الزبير بن عبد المطلب"، رئيس "بني هاشم"،" وذكر إن نفراً من "بني دارم" كانوا في جوار رجل من "بني هاشم". بل يظهر انه قد كان لهذه القبيلة علاقة بمكة نفسها وبسوق عكاظ. وهو سوق مهم تقصده قريش، وكانت تتحكم في شؤونه. فلتميم صلة ب "الإفاضة"، ولها صلة بالحكومة في سوق عكاظ، وقد. ذكر أهل الأخبار أسماء عدد من حُكام تميم حكموا بعكاظ. وكانت هي وقريش وكنانة، تدير مراسم الحج وتحافظ على شعائره. مما يدل على إنها كانت ذات صلة قديمة بمكة، ولاسيما بعض أحياء منها، مثل "بنو دارم"، الذين ظهروا على اكثر أحياء تميم. ولعل ابتعادها عن مكة وارتحال أحيائها إلى مواطن بعيدة عن مكة، قد باعد فيما بينها وبين قريش، وقلل من صلاتها بهم.

وتتجلى هذه العلافة في تزوجّ قريش من "تميم"، مع ما عرف عن قريش من الامتناع من التزوج من غير قريش. وقد روى أهل الأخبار أسماء جماعة من أشراف مكة، كانت أمهاتهم من "تميم". ونجد في مكة رجالاً من تميم تحالفوا مع رجال من مكة. فصاروا من حلفائهم.

وقيام "تميم" بمهمة "الحكومة" في سوق عكاظ، وب "الإجازة"، يدل على أهمية مركز هذه القبيلة بالنسبة لقريش. وما كانت قريش تعطي "الإجازة" لتميم، لولا ما كان لها من نفوذ ومن علاقات طيبة بقريش. وقد افتخر "بنو تميم"، بالحكومة في "عكاظ" وبالإجازة في الجاهلية وفي الإسلام.

وكان "بنو عبد القيس" من قبائل البحرين المتنفذة. وكانت غالبيتهم على النصرانية، ومنهم كان "الجارود بن عمرو بن حنش بن المعلي"، الذي قدم في وفد عبد القيس إلى الرسول، فأسلم على يديه. وقد رفض الدخول فيما دخل فيه قومه من الردة عن الإسلام والعودة إلى النصرانية وتأييد "الغرور": المنذر ابن النعمان بن المنذر. وكان في جملة الوفد الذي قسم على الرسول عام الفتح: "عبد الله بن عوف الأشج" و "منقذ بن حيّان"، وهو ابن اخت الأشج، فأسلما وعادا إلى ديارهما.

ودوّن "ابن سعد" صورة كتاب ذكر إن الرسول وجهه إلى "الأكبر بن عبد القيس". ولم يشر إلى المراد من "الأكبر بن عبد القيس".ومما جاء فيه إن "العلاء بن الحضرمي" "أمين رسول الله على بَرّها وبحرها وحاضرها وسراياها وما خرج منها، وأهل البحرين خفراؤه من الضيم وأعوانه على الظالم وأنصاره في الملاحم".

وكان الرسول قد أرسل "العلاء بن الحضرمي" سنة ثمان قبل فتح مكة إلى "المنذر بن ساوي العبدي"، يدعوه إلى الإسلام، فأسلم، فهلك بعد وفاة الرسول بشهر، وارتد بعده أهل البحرين. واجتمعت "ربيعة" بالبحرين وارتدت، وملكوا عليهم "المنذر بن النعمان بن المنذر الغرور"، وكان يعاونه "الغرور بن سويد" أخي النعمان بن المنذر، ويسمى "المنذر بن سويد بن المنذر"، وكان رأس أهل الردة "الحطم بن ضُبيَعْة" أخو بني قيس بن ثعلبة، فجمع من اتبعه من بكر بن وائل، حتى نزل القطيف وهجر، واستغوى الخط ومن فيها من الزط والسيابجة، وبعث بعثاً إلى "دارين" وبعث على "جواثي" فحصرهم. وكان قد منى "سويد بن المنذر" بأن يجعله كالنعمان بالحيرة، غير انه فشل وغلب المسلمون أهل الردة، وقتل "الحطم".

وكان "المنذر بن النعمان" يسمى "الغرور"، فلما ظهر المسلمون، قال: لست بالغرور ولكني المغرور، ولحق هو وفُلّ "ربيعة" بالخط، فأتاها "العلاء" ففتحها وقتل المنذر ومن معه. وذكر انه نجا فدخل إلى "المشقر"، ثم لحق بسليمة فقتل معه. وذكر انه قتل "يوم جواثا"، وذكر انه استأمن ثم هرب فلحق فقتل. وقيل انه اسلم.

والمنذر بن ساوى هو رجل عربي من "بني تميم" من "بني دارم" على رأي اكثر أهل الأخبار. وقد ذهب بعضهم إلى انه من "بني عبد القيس". ولكن أكثرهم على انه "المنذر بن ساوى بن الاخنس بن بيان بن عمرو بن عبد الله ابن زيد بن عبد الله بن دارم التميمي الدارمي". وكان هو المتولي على البحرين في أيام الرسول.

ونجد في طبقات ابن سعد صورة كتاب أرسله الرسول إلى "المنذر بن ساوى"، يذكر فيه إن رسُل رسول الله قد "حمدوك، وانك مهما تصلح أصلح إليك وأثبتك على عملك وتنصح لله ولرسوله"، كما نجد للرسول كتاباً آخر، يخبر "المنذر" فيه انه قد بعث إليه "قدامة" و "أبا هريرة"، و "فادقع إليهما ما اجتمع عندك من جزية أرضك". وأرسل كتاباً مثله إلى "العلاء بن الحضرمي" يخبره فيه، انه بعث إلى المنذر بن ساوى من يقبض منه ما اجتمع عنده من الجزية، فعجله بها. وابعث معها ما اجتمع عندك من الصدقة والعشور". وكاتب الكتابين أبيّ. وكتب المنذر كتاباً إلى الرسول، جاء فيه: "إني قرأت كتابك على أهل هجر، فمنهم من أحب الإسلام وأعجبه ودخل فيه، ومنهم من كرهه".

وفي طبقات ابن سعد، كتاب من الرسول، ذكر انه أرسله "إلى الهلال صاحب البحرين"، فيه دعوة لهلال إلى الإسلام والى عبادة الله وحده والدخول في الجماعة فان ذلك خير له. ويظهر إن هلالاً هذا كان أحد سادات البحرين في هذا الوقت، وانه كان قد تأخر عن "الجماعة" أي قومه في الدخول في الإسلام، فكتب الرسول له ذلك الكتاب.

وأما "هجر"، فكان عليها عند ظهور الإسلام مرزبان يدعى "سيبخت" وإليه ذهب أيضاً العلاء بن الحضرمي يدعوه إلى الإسلام، فأسلم وأسلم معه جميع العرب وبعض العجم. وأما أهل الأرض هناك من اليهود والنصارى والمجوس، فقد صالحوا العلاء على الجزية. وهجًرْ سوق من أسواق الجاهلية، يؤمها "بنو محارب" من "عبد القيس". ويظهر من كتاب أمر رسول الله بتدوينه إليه. انه لما أسلم وصدق أرسل إلى رسول الله رسولاً يخبرهً بذلك اسمه "الأقرع"، فكتب إليه الرسول كتاباً حمله إليه الأقرع صاحبه، ويذكر رسوله الله فيه انه علم بما جاء في كتاب "سيبخت" إليه، وانه يحثه ويدعوه إلى القيام بشعائر الإسلام.

وقد ذهب بعض أهل الأخبار إلى إن هجراً كانت قاعدة البحرين، وقال بعض آخر إنها اسم لجميع أرض البحرين. وقد اشتهرت بالتمر، فقيل في المثل" كمُبضع التمر إلى هجر، كما عرفت بأوبئتها، وقد روي إن الخليفة عمر قال: "عجبت لتاجر هجر وراكب البحر"، كأنه أراد ذلك لكثرة وبائها، فعجب من تاجر يذهب لذلك إليها، كما عجب من راكب البحر، لأنه سواء في الخطر. ويظهر إنها كانت كثيرة المياه ذات مستنقعات، لذلك تفشت بها الأوبئة. وذكر الأخباريون إنها عرفت ب "هجر"، نسبة إلى "هجر بنت المكفف"، وكانت من العماليق، أو من العرب المتعربة؛ وكان زوجها: محلم ابن عبد الله صاحب النهر الذي بالبحرين، ويقال له: نهر محلم وهناك عين ماء عرفت بعين هجر وبعين محلم.

وذكر أهل الأخبار إن "ملك هجر"، ولم يشيروا إلى اسمه، كان قد سوّد "زهرة بن عبد الله بن قتادة بن الخوية"، ووفّده على النبي، وانه كان في جيش "سعد بن أبي وقاص" الذي أرسله إلى العراق، فجعله "سعد" من "أمراء التعبية". ولعلهم قصدوا بذلك المرزبان "سيبخت"، الذي ذهب إليه "العلاء بن الحضرمي" بأمر الرسول ليدعوه إلى الإسلام، فأسلم على يديه.

ويعرف الساحل المقابل لجزيرة "أوال" من جزر البحرين، ب "السيف" سيف البحر. والسيف في اللغة ساحل البحر. ويليه "الستار": "ستار البحرين".

و "كاظمة" جوّ على سيف البحر، وفيها ركايا كثيرة وماؤها شروب.

وعرفت ب "كاظمة البحور". وقد أكثر الشعراء من ذكرها. وهي موضع مجهول في الوقت الحاضر، يظن إن مكانه على ساحل الجون المقابل لموضع "الجهرة". ويعرف ذلك الموضع ب "دوحة كاظمة".

وكان على الأبلة وما والاها "قيس بن مسعود بن خالد"، فلما علم بما فعله كسرى بملك الحيرة، تفاوض سراً مع بكر، واتفق معها على مساعدتها. فلما انتهت معركة "ذي قار" لم يجرا كسرى إن يلحق به أذى ما هو في أرضه، فعمد إلى الحيلة للانتقام منه، بأن كتب إليه يطلب منه المجيء لرؤيته. فلما ذهب إليه، قبض عليه وحبسه في قصره بالأنبار أو بساباط. وقد عَدّه أهل الأخبار في المعدودين من "أجواد الجاهلية". ذكروا انه كانت له مائة ناقةُ مُعّدة للأضياف إذا نقصت أتمها. وقد مدحه لذلك الشعراء. وعدّ من "ذوي الآكال". وذكر إن كسرى كان قد أطعمه "الأبلة" وثمانين قرية من قراها.

وكان على اليمامة "هوذة بن علي الحنفي"، وكان ملكاً على دين النصرانية، واليه أرسل رسول الله "سليط بن عمرو" "سليط بن قيس بن عمرو الأنصاري" يدعوه إلى الإسلام. فأرسل "هوذة" وفداً إلى الرسول ليقول له: "إن جعل الأمر له من بعده أسلم، وسار إليه ونصره، وإلا قصد حربه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، ولا كرامة". ثم مات بعد قليل. وذكر انه كان شاعر قومه وخطيبهم، وكانت له مكانة عند العرب.

وذكر انه كان من "قُرّان" من مواضع اليمامة، وأهلها أفصح بنو حنيفة. وانه كان من وجهاء قومه. وقد نسب على هذه الصورة: "هوذة بن عليّ بن ثمامة بن عمرو الحنفي" من بكر بن وائل. وورد إن تميماً كانت قد قتلت والد "هوذة"، وان هوذة كان يكره بني تميم كرهاً شديداً حتى إن كسرى حين سأله عنهم أجابه: "بيني وبينهم حساء الموت، فهم الذين قتلوا أبي". وورد إن كسرى سأل هوذة عن عيشه وعن ماله، فقال: "أعيش عيشة رغيدة، وأغزو المغازي، واحصل على الغنائم". ولكن الظاهر انه لم يكن كفؤاً لبني تميم. وان ملكه لم يتجاوز حدود اليمامة.

وزعم أهل الأخبار إن "كسرى" تَوَجَّهَ إلى اليمامة، أو انه سمع بجوده وكرمه، فاستدعاه إليه، ولما وجد فيه عقلاً وسياسة" ورجاحة رأي توّجه بتاج من تيجانه، ولذا لقب هوذة ب "صاحب التاج"، وأقطعه أموالاً ب "هجر"، وكان نصرانياً. وقيل إن كسرى دعا بعقد من الدُرّ فعقد على رأسه وكساه قباء ديباج مع كسوة كثيرة، فمن ثم سُميّ هوذة ذا التاج. وذكر إن سبب استدعاء كسرى له، انه أكرم رجال العير التي حملت الطاف وهدايا وأموال "وهرز" التي أرسلها من اليمن إلى "كسرى"، وكانوا قد انتهُبوا حتى لم يبق عندهم شيء، فصاروا إلى "هوذة"، فأكرم مثواهم وآواهم وكساهم: وزَوّدهم وحماهم، وسار معهم إليه، فأكرمه كسرى على النحو المذكور. وقيل إنه لم يكن صاحب تاج، وإنما كان يضع على رأسه إِكليلا رصعه بأحجار ثمينة كأنه التاج تشبها بالملوك.

ويروي أحل الأخبار إن الشاعر الأعشى قال في حق هوذة: له أكاليل بالياقوت فصّـلـهـا  صوّاغها لا ترى عيبا ولا طبعا

وذكر انه كان أول معدّيّ لبس التاج، ولم يلبس التاج معديّ غيره.

ويظهر من روايات أهل الأخبار عن يوم الصفقة وعن يوم المشقر، إن نفوذ "هوذة" لم يكن واسعاً بعيداً، بل كان محدوداً بحدود قبيلته، وانه لم يكن في مستوى ملوك الحيرة أو آل غسان، بل كان سيد قومه إِذْ ذاك، حتى انه لما طمع في الجعالة التي كان الفرس يعطونها لمن يتولى خفارة قوافلهم الآتية من اليمن إلى العراق أو الذاهبة من العراق إلى اليمن، ووافق الفرس على إن يعطوه ما أراد، وسار مع القافلة خفيراً لها من "هجر" حتى "نطاع"، وبلغ "بنو سد" ما صنعه "هوذة"، خرجوا عليه وأخذوا ما كان مع الأساورة والقافلة وما معه، وأسروه، حتى اشترى منهم نفسه بثلاثمائة بعير، وقدُ عيرّ في ذلك، وتغنى شاعر "بني سد" بذلك اليوم، الذي سيق فيه هوذة، وهو مقرون اليدين إلى النحر، فلما استلم بنو سعد الإبل المذكورة جاؤوا به إلى اليمامة فأطلقوه.

ويذكر أهل الأخبار إن هوذة سار مع من تبقى من الأساورة وبقية فلول القافلة إلى "كسرى"، ليخبره بما حدث له، وبما فعلت به بنو تميم، ودخل على ملك الفرس فأكرمه، وأمر باسقائه بكأس من ذهب، ثم أعطاه إياه وكساه قباءاً له ديباج منسوج بالذهب واللؤلؤ وقلنسوة قيمتها ثلاثون ألف درهم وحباه ثم عاد إلى بلاده. ولو كان هوذة قد جاء كسرى بخبر انتصار وانقاذ للقافلة جاز لنا أخذ هذا الوصف على محمل الصدق، أما وأن الرواية هي في موضوع هزيمة واندحار، فإن من الصعب،علينا التصديق بها، ولا سيما وان ملوك الفرس كانوا أصحاب غطرسة وكانوا إذا جاءهم أحد بخبر هزيمة قابلوه بالازدراء والتبكيت وبإنزال اللعنات عليه في الغالب. وليس في هذا الموقف ما يدعو إلى اسقاء هوذة بكأس من ذهب.

ويذكر أهل الأخبار إن اليمامة من نجد، وقاعدتها "حجر"، وكانت تسمى "جدا" في الأصل، كما عرفت ب "جو". وذكروا إنها سميت "يمامة" نسبة إلى "اليمامة بنت سهم بن طسم"، وكانت منازل طسم وجديس في هذا المكان. وقد تناولتها الأيدي حتى صارت في أيدي "بني حنيفة" عند ظهور الإسلام في قصص من قصص أهل الأخبار.

واليمامة من الأماكن الخصبة في جزيرة العرب. وبها "وادي حنيفة". وبه مياه ومواضع كانت عامرة ثم خربت، وهي اليوم خراب أو آثار. وقد اشتهرت قراها ومزارعها، وكانت من أهم الأرضين الخاضعة لمملكة كندة. ويظهر إن سيلاً جارفاً أو سيولاً عارمة اكتسحت في الإسلام بعض قراها، فهجرت إذ ترى في هذا اليوم آثار أسس بيوت مبنية من اللبن ومن الطين، يظهر إنها اكتسحت بالسيول وجاءت الرمال فغطتها بغطاء لتستر بقاياها عن رؤية النور. وقد ذكر أهل الأخبار إن اليمامة كانت من "أحسن بلاد الله أرضاً وأكثرها خيراً وشجراً ونخيلاً". وبها مياه كثيرة. وقد عرف أهلها بالنشاط وبالتحضر، وذلك بسبب وجود الماء بها، إذْ أغرى سحر الماء الناس على الإقامة عند مواضع المياه، فنشأت مستوطنات كثيرة. ولا زال أهل اليمامة يعدّون من أنشط سكان المملكة العربية السعودية.

وحدود اليمامة من الشرق البحرين ومن الغرب تنتهي إلى الحجاز، وأما من الشمال فتتصل بواد متصل بالعذيب والضرية والنباج وسائر حدود البصرة وجنوبها بلاد اليمن. هذا على تعريف "ابن رسته". وتبعد "جو" وهي الخضارم من حجر يوماً وليلة. ومن مواضع اليمامة "منفوحة"، وهي قرية مشهورة، كان يسكنها الأعشى، وبها قبره. وهي لبني قيس بن ثعلبة بن عكابة. ومن مواضع اليمامة الأخرى "المعلاة" من قرى "الخرج".

ومن أبرز قبائل اليمامة في أيام الرسول، "بنو حنيفة". و "حنيفة" لقب "أثال بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل". ويذكر أهل، الأخبار، إن "الأحوى بن عوف" المعروف بجذيمة، لقى أثالاً فضربه فحنفه، فلقب حنيفة. وضربه أثال فحذمه جذيمة. فقال جذيمة: فإن تك خنصري بانت فإني  بها حنفَّت حاملتـي أثـال

وقد وفد وفد منهم، فيه "مسيلمة بن حبيب" الذي عرف ب "الكذّاب" لادعائه النبوة، وكان قد طلب من الرسول إن يشركه معه في الأمر. وادعى النبوة، ثم قتل. وكان يسجع السجعات مضاهاة للقرآن. وممن كان في هذا الوفد: "رحال بن عنفوة"، وقد شهد لمسيلمة إن رسول الله أشركه في الأمر فافتن الناس به، و "سلمي بن حنظلة السحيمي" و "طلق بن علي بن قيس" و "حمران بن جابر بن شمر" و "علي بن سنان" و "الأقعس بن مسلمة" و "زيد بن عبد عمرو"، وعلى الوفد "سلمي بن حنظلة".

ويذكر إن "سجاحاً"، وهي "سجاح بنت أوس بن العنبر بن يربوع" التميمية التي تكهنت وادعت النبوة، أتت "مسيلمة الكذّاب"، وهو ب "حجر"، فتزوجته، وجعلت دينها ودينه واحداً. وكان قد اتبعها قوم من "بني تميم" وقوم من أخوالها من "بني تغلب".

ومن "بني حنيفة"، "عُمير" و "قُرين" ابنا "سلمي". وكان "عمير" أوفى العرب، قبل أخاه "قرينا" بقتيل قتله من جيرانه. ومنهم "مجاعة بن مرارة بن سلمي"، وكان رسول الله قد أقطعه "الغورة" و "غرابة" و "الحبل"، ثم أقطعه "أبو بكر" "الخضرمة" ثم أقطعه "عمر" "الرياء"، ثم أقطعه "عثمان" قطيعة أخرى.

ومن رجال اليمامة "محكم بن الطفيل بن سبيع" الذي يقال له "محكم اليمامة"، وقد ارتد وقتل مع من قتل من المرتدين.

ومن قبائل اليمامة: بنو باهلة بن أعصر، وبنو نمير وأحياء من تميم. واستقرت بطون من بكر وعنزة وضبيعة في القسم الشرقي من اليمامة حتى البحرين، واتصلت منازل بطون منها بالعراق. كما كان بها "بنو هزان"، وهم من قطنة اليمامة القدامى: إذْ في أهل الأخبار يرجعون تأريخهم بها إلى أيام طسم، أي إلى أيام العرب العاربة أو العرب البائدة الأولى. والظاهر إن أهل الأخبار قد حاروا في أمر "هزان". فجعلوهم من العرب البائدة ودعاهم الهمداني ب "هزان الأولى"، وجعلوهم من اليمن ونسبوهم إلى "قحطان" وجعلوهم من "معدّ". وهم الذين بقوا في ديارهم اليمامة إلى الإسلام وفي الإسلام. ويظهر من روايات أهل الأخبار، انهم قصدوا قبائل مختلفة لا قبيلة واحدة هي "هزان" التي طلت باقية ولها بقية في اليمامة حتى اليوم. ولكننا نستبعد كون القبائل الثلاث قبيلة واحدة في الأصل. بدليل إن أهل الأخبار يذكرون إن هزان اليمانية الأصل كانت تقيم في اليمامة، وان هزان "معدّ" هم من أهل اليمامة أيضاً، أي إن مواطن القبيلتين واحدة، بل إن منهم من يرجع مواطن هزان الأولى إلى اليمامة كذلك. وهذا ما يحملنا علي القول إن الهزانيين كلهم من قبيلة واحدة، بقيت فروعها في مواطنها القديمة اليمامة حتى اليوم. ولا قيمة لما يرويه أهل الأنساب من سرد نسب كل قبيلة من القبائل الثلاث إلى العرب البائدة أو إلى العرب العاربة أو إلى العرب المستعربة.

والظاهر إن "بني حنيفة" ضغطوا على الهزانيين، فاغتصبوا معظم أرضهم باليمامة، فقل بذلك شأنهم، وصاروا دون "بني حنيفه" في القوة. ومن "بني هزان" تزوج الأعشى، ثم أكرهوه على تطليقها، فطلقها حين ضربوه، وأصروا عليه بلزوم تخليه عنها ففعل، فقال في ذلك شعراً، رواه الرواة. ومنهم نفر أسروا "الحارث بن ظالم المرّيّ"، ولم يكرنوا يعرفونه، وظنوه صعلوكاً، ثم باعوه إلى نفر من القيسيين بزق خمر وشاة، وقيل من بني سعد. ومنهم كان قاتل حيان برت عتبة بن جعفر بن كلاب. وهو المعروف بصاحب الرداع.

ومن مواطن "هزان" العلاة، وهو جبل من جبال اليمامة، وبرك، ونعام، وشهوان، وماوان، والمجازة. ويلاحظ إن أخلاطاً من قبائل أخرى جاورت "بني هزان"، وسكنت معهم. منهم "بنو جرم" و "بنو جشم"، و "الحارث بن لؤي بن غالب بن فهر" من قريش، و "ربيعة" وهم من اليمن.

وأما منازل طيء عند ظهور الإسلام فجبلا طيء: أجأ وسلمى. غير إن هناك بطوناً من طيء كانت قد انتشرت في أماكن أخرى، فنزلت في العراق وفي بلاد الشام وفي أماكن أخرى في جزيرة العرب.

وطيء من القبائل التي كان لها شأن كبير قبل الإسلام. ولعلّها كانت من أشهرها وأعرفها قبيل الميلاد وفي القرون الأولى للميلاد. بدليل إطلاق السريان كلمة "طيايا" على كل العرب، من أي قبيلة كانوا. أي إنها استعملت عندهم بمعنى "عرب"، وأصلها من اسم القبيلة التي نتحدث عنها وهي قبيلة "طيء".

ولم تكن طيء متصافية فيما بينها متحابة، فوقعت بين عشائرها حروب، حتى تداخل "الحارث بن جبلة" الغساني فيما بينها، فأصلح حالها، فلما ترك عادت إلى حربها، فالتقت جديلة وغوث بموضع تحاربت فيه، قتل فيه قائد بني جديلة، وهو أسبع بن عمرو بن لأم، وأخذ رجل من سنبس أذنيه فخصف بهما نعليه، فعظم ما صنعت الغوث على أوس بن خالد بن لأم، وعزم على لقاء الغوث بنفسه، وحلف ألا يرجع عن طيء حتى ينزل معها جبليها أجأ وسلمى، وتجبى له أهلها، وكان لم يشهد الحروب المتقدمة، لا هو ولا أحد من رؤساء طيء، كحاتم، وزيد الخيل، وغيرهم من الرؤساء. فلما اقبلت جديلة وعلى رأسها أوس بن حارثة بن لأم، وبلغ الغوث جمع أوسٍ لها، أوقدت ناراً على ذروة أجأ، وذلك في أول يوم توقد فيه النار، فأقبلت قبائل الغوث، كل قبيلة وعليها رئيسها، ومنهم زيد الخنيل، وحاتم، وتلاحمت بجديلة في يوم اليحاميم ويعرف أيضاً بقارات حوق، الذي انتهى بهزيمة منكرة حلت بجدية، فلم تبق لها بقية للحرب، فدخلت بلاد كلب، وحالفتهم وأقامت معهم.

وكان سيد طيء في أيام الرسول، "زيد الخيل بن مهلهل الطائي". وهو ممن قدم على الرسول في وفد طيء. وقد قطع له الرسول فيداً وأرضين معه، وكتب له بذلك، ولكنه توفي في موضع يقال له "فردة". من بلاد نجد من حمى علقت به أثناء أقامته بيثرب، فلم يبلغ مكانه. وقد مدحه الرسول وأثنى عليه. و "زيد الخيل" الذي سمّاه الرسول "زيد الخير"، هو من "بني نبهان" من "طيء". وكأن في الوفد رجال آخرون منهم: "وزر بن جابر ابن سدوس" من "بني نبهان"، و "قبيصة بن الأسود بن عامر" من "جرم طيء"، و "مالك بن عبد الله بن خيبري" من "بني معن"، و "قعُين ابن خليف بن جديلة".

ومن "طيء" الرجل الذي ضرب بجدوه المثل، والذي لا زال الناس يذكرون اسمه على انه المثل الأعلى في الكرم، وهو "حاتم الطائي". مقري الضيوف ومغيث الفقراء. فمدحه لجوده الشعراء" عبيد بن الابرص والنابغة الذبياني وبشر ابن أبي حازم وغيرهم. وكان مضربه ملجأ للمحتاجين ولمن يسلك الطريق يريد "الحيرة". ونظراً لجوده وكرمه هابته العرب وصارت له دالة ومكانة عند ملوك الحيرة وعند آل غسان. وذكر انه "إذا أسر اطلق. ومرّ في سفره على عنزة وفيهم أسير، فاستغاث به الأسير، ولم يحضره فكاكه فاشتراه من العنزيين، وأقام مكانه في القدّ حتى أدي فداؤه.

وقد توفي "حاتم الطائي" قبل الإسلام، وانتقلت رئاسة طيء منه إلى ابنه "عدي بن حاتم طيء"، وكان نصرانياً يسير في قومه بالمرباع، وكان بمثابة الملك فهم، فلما جاءت خيل الرسول سنة تسعٍ بلاد طيء، قرر اللحوق بأهل دينه من النصارى بالشام، ثم ترك الشام ولحق بالمدينة فأسلم وأكرمه الرسول. وعينه الرسول على صدقة طيء وأسد.

وذكر إن "عمرو بن المسبح بن كعب بن عمرو بن عصر بن غنم"، الذي كان أرمى العرب، وهو الذي ذكره "امرؤ القيس" في شعاره وأشار إليه، هو من "طيء"، كان قد أدرك الرسول، ووفد عليه.

وقد وقع بين طيء نزاع أدى إلى وقوع حروب وأيام بينها، ومن بينها يوم عرف ب "يوم اليحاميم". وقد كان "الحارث بن جبلة الغساني" قد اصلح بين قبائلها، فلما هلك عادت إلى حروبها. فالتقت جديلة والغوث، فقيل "أسبع ابن عمرو بن لأم"، وهو من جديلة وقائدها، قتل في موضع يقال له "غرثان"، وأخذ رجل من "سنبس" أذنيه فخصف بهما نعليه، فغضبت "بنو جديلة"، واقسم "أوس بن خالد بن لأم" على الانتقام من "الغوث" ومنهم "بنو سنبس"، وأخذ في حشد قومه "جديلة"، وبلغ الغوث ذلك، فأوقدت النار على "اجأ"، فأقبلت قبائل الغوث، وعلى رأسها ساداتها ومنهم "زيد الخيل" و "حاتم الطائي"، ووقع القتال بين جديلة والغوث في موضع يقال له "قارات حوق"، فانهزمت جديلة، وقتل فيها ابرح القتل، حتى لم تبق لها بقية للحرب، فدخلت بلاد كلب وحالفوا كلباً وأقاموا معهم. وعرف هذا اليوم ب "يوم اليحاميم".

وكتب الرسول كتباً إلى جماعة من "طيء". منهم "بنو معاوية بن جرول و "عامر بن الأسود بن عامر بن جوين الطائي"، وجماعة من "بتي جوين"، و "لبني معن" الطائيين.

وتقع إلى الشرق من ديار "طيء" منازل "أسد". والى الشمال من ديار أسد منازل "بكر"، وإما إلى الجنوب من منازل "أسد" فديار "هوازن" و "غطفان". وتتاخم ديار أسد من الشرق قبائل "عبد القيس" و "تميم".

ولما أخذت الوفود تترى على المدينة لمبايعة الرسول والدخول في الإسلام، كان وفد "أسد" في جملة الوفود التي بايعت الرسول ودخلت في الإسلام، وذلك سنة تسع للهجرة. وكان فيه "حضرمي بن عامر" و "ضرار بن الأزور" و "وابصة ابن معبد" و"قتادة بن القايف" و "سلمة بن حبيش" و "طلحة بن خويلد" و "نقادة بن عبد الله بن خلف"، ومعهم قوم من "بني الزنية" وهم من "مالك بن مالك بن ثعلبة بن دودان بن اسد".

وكتب رسول الله كتاباً إلى "بني أسد" كتبه له "خالد بن سعيد"، ورد فيه: "الا يقربن مياه طيء وأرضهم فانه لا تحل لهم مياههم ولا يلجن أرضهم من اولجوا. وأمر عليهم "قضاعي بن عمرو" وهو من "بني عذر"، بأن جعله عاملا عليهم. وكتب الرسول إلى "حصين بن نضلة الأسدي" "إن له اراما وكسة، لا يحاقه فيها احد".

ومن ديار "بني أسد بن خزيمة"، "قطن"، وهو جبل بناحية "فيد" به ماء. وأمر الرسول "ابا سلمة بن عبد الأسد المخزومي" بغزوه، لما بلغه إن "طليحة" و "سلمة" ابني "خويلد" قد سارا في قومهما ومن أطاعهما يدعوانهم إلى حرب الرسول، فذهب إلى "قطن"، ثم عاد، ومعه إبلٌ وشاء.

وتقع إلى الشمال الغربي من ديار "طيء"، ديار "بكر"، وهى "بكر ابن وائل". وهي قبائل ضخمة ذات فروع عديدة، سكنت في مواضع عديدة أخرى غير هذه المواضع.

وذكر في خبر فتوح السواد، إن "المثنى بن حارثة الشيباني" كان يغير على السواد، فبلغ "أبا بكر" خبره، فسأل عنه، فقال له قيس بن عاصم بن سنان المنقري: هذا رجل غير خامل الذكر، ولا مجهول النسب، وأثنى عليه. ثم إن المثنى قدم على "أبي بكر"، فقال له: يا خليفة رسول الله، استعملني على من اسلم من قومي اقاتل هذه الأعاجم من أهل فارس، فكتب له أبو بكر في ذلك عهداً، فسار حتى نزل "خفان" ودعا فيه إلى الإسلام فأسلموا. ثم إن ابا بكر أمر "خالد بن الوليد" بالمسير إلى العراق، وكتب إلى "المثنى بن حارثة" يأمره بالسمع والطاعة له وتلقيه. وكان "مذعور بن عدي العجلي"، قد كتب إلى أبي بكر يعلمه حاله وحال قومه ويسأله توليته قتال الفرس، فكتب إليه يأمره إن ينضم إلى خالد ويسمع له بالطاعة.

و "خفان" مأسدة وموضع أشبّ الغياض كثير الأسد، أو اجمة قرب "الكوفة".

ونجد في موارد أخرى إن "المثنى بن حارثة الشيباني" و "سويد بن قطبة العجلي"، وكلاهما من "بكر بن وائل" كانا يغيران على الدهاقين، فيأخذان ما قدرا عليه. فإذا ُطلبا أمعنا في البَرّ فلا يتبعهما أحد، وكان المثنى يغير من ناحية الحيرة، و "سويد" من ناحية "الأبلة". فكتب إلى "أبي بكر"، يعلمه ضراوته بفارس ويعرفه وهنهم، ويسأله إن يمدّه بجيش، فكتب إليه "أبو بكر" يخبره انه مرسل إليه "خالد بن الوليد" وان يكون في طاعته، فكره "المثنى" ورود خالد عليه، وكان ظن إن أبا بكر سيوليه الأمر، ولكنه لم يتمكن إن يفعل شيئاً فانضم إلى خالد.

ومن "بني عجل" "فرات بن حيان للعجلي"، كان دليل "أبي سفيان" إلى الشام. وذلك إن قريشاً خافوا طريقهم الذي كانوا يسلكون إلى الشام حين وقعة "بدر"، فكانوا يسلكون طريق العراق، فخرج بهم دليلهم "فرات"، في السنة الثالثة من الهجرة، ومعه أبو سفيان وصفوان بن امية، وحويطب بن عبد العُزّى، وعبد الله بن أبي ربيعة، ومعهم مال كثير، فيه فضة كثيرة، وهي اعظم تجارتهم، فلما بلغوا موضع "القردة"، وكان "فرات" قد سلك بهم على ذات عرق، اعترض "زيد بن حارثة" القافلة، وكان الرسول قد أرسله للتحرش بها، يوم بلغه أمر القافلة، فهرب أعيانها واستولى زيد على العير، وجاء بها إلى الرسول. وأسر فرات، فأسلم.

ويذكر أهل الأخبار إن قبائل مضر كانت تنزع إلى العراق، وكان أهل اليمن ينزعون إلى الشام. وانه لم يكن أحد من العرب اجرأ على فارس من ربيعة وقد قيل لها لذلك: ربيعة الأسد، وكانت العرب في جاهليتها تسمى: فارسُ الأسد.

وقد قدم وفد من "بكر بن وائل" على الرسول، فيه "بشير بن الخصاصية" و "عبد الله بن مرثد"، و "حسان بن حوط، "خوط"، فأسلموا وعادوا إلى ديارهم وذهب "حريث بن حسان الشيباني" في وفد من "بكر بن وائل" إلى الرسول، فأسلم على يديه. وذكر إن "عبد الله بن اسود بن شهاب بن عوف بن عمرو بن الحارث بن سدوس"، قدم مع الوفد المذكور، وكان ينزل اليمامة، فباع ما كان له من مال باليمامة واستقر بالمدينة.

وذكر إن رسول الله كتب كتاباً إلى "بكر بن وائل"، فما وجدوا رجلاً يقرؤه حتى جاءهم رجل من "بني صبيعة بن ربيعة" فقرأه. وكان الذي أتاهم بكتاب رسول الل: "ظبيان بن مرثد السدوسي".

وخرج "خالد" إلى العراق، فمرّ ب "فيد" و "الثعلبية" وأماكن أخرى منها "العذيب" و "خفان"، ثم سار قاصداً "الحيرة" وهي اهم موضع للعرب في العراق. فخرج إليه ساداتها في هذا الوقت" "عبد المسيح بن عمرو ابن قيس بن حيّان بن بقيلة"، وهو من الأزد، وصاحب القصر الذي يقال له: "قصر بني بقيلة" بالحيرة. وهو من "بني سبين". وكان من المعمرين. و "هانىء بن قبيصة بن مسعود الشيباني"، ويقال "فروة بن اياس". وكان "اياس" عامل كسري ابرويز على الحيرة، بعد النعمان بن المنذر، و "عدي ابن عدي بن زيد العبادي"، وأخوه "عمرو بن عدي"، و "عمرو بن عبد المسيح" و"حيرى بن أكّال"، وهم نقباء أهل الحيرة. فصالحوه على دفع الجزية وعلى إن يكونوا عيوناً للمسلمين على أهل فارس.

وفيد موضع مهم بطريق مكة في نصفها من الكوفة، به حصن عليه باب حديد، وعليه سور دائر. كان الناس يودعون فيه فواصل ازوادهم وما ثقل من أمتعتهم إلى حين رجوعهم. وذكر إن فيداً فلاة في الأرض بين أسد وطيء في الجاهلية. فلما قدم "زيد الخيل" الفارس المشهور على رسول الله اقطعه فيداً. وذكر أهل الأخبار، إن فيداً، إنما سميت فيد بفيد بن حسام أول من نزلها. والظاهر إنها من المواضع القديمة وقد ورد اسمها في الشعر الجاهلي والإسلامي.

و "العذيب"، اذ ذاك مسلحة كانت للفرس على طريق البادية، ومن القادسية التي تبعد عن الكوفة "15" ميلاّ إلى العذيب "6" اميال، ويؤدي الطريق من العذيب إلى البرية. وكان لبني تميم. وذكر أهل الأخبار إن "محلم بن سويط الضبي" أخا بني صباع، قاد الرباب كلها. وهو الرئيس الأول: أول من سار في ارض مضر برئاسة، وغزا العراق وبه كسرى حتى بلغ العذيب. فجعلت الإبل تتهيب خرير الماء. ويظهر من شعر لبعض الضبين إن العذيب كان احساءاً، يخرج الماء فيه من باطن الأرض ويندفع مكوّناً خريراً"، لذلك هابته الإبل، فكانت تتخوف من الشرب منه. وبعد العذيب، نهاية حدّ نجد في الشمال.

ويذكر "ابن رسته" إن "البطانية"، هو "قبر العبادي"، وسمّاه بعضهم "بطان". وذكر "اليعقوبي" إن هذا الموضع من ديار "بني أسد". وكان للثعلبية شأن يذكر، فقد ذكر إنها كانت موضعاً معروفاً، بل ذكر إنها مدينة عامرة عليها سور وفيها حمامات وسوق، وهي على ثلث الطريق القادم من بغداد إلى مكة. وقد صار لها شاًن في صدر الإسلام فما بعد، لأنها تقع على طريق التجارة والحاج. وهي على جادة مكة من الكوفة، ومن منازل أسد ابن خزيمة.

وكان أهل الحرة قد تحصنوا بقصورهم: في القصر الأبيض، وهو قصر "النعمان بن المنذر" وقصر ابن بقيلة، قصر العدسيين، والعدسيون من "كلب" نسبوا إلى امهم، وهي كلبية أيضاًء. وذكر انه كان في طرف الحيرة، لبني عمار بن عبد المسيح بن قيس بن حرملة بن علقمة بن عدس الكلبي، نسبوا إلى جدتهم "عدسة بنت مالك بن عوف الكلبي"، وهي "أم الرماح" و "المشط" ابني عامر المذمم.

وعدة قصور الحيرة ثلاثة على ما ورد في بعض الروايات. وهي عدة الحيرة وملاجئها أيام الخطر، فإذا سقطت، سقطت الحيرة، لأنها هي المكونة لها. وقد صالحت "خالد بن الوليد" لما وجدته إن ليس في استطاعتها الصمود أمام المسلمين. ولم يكن لها على ما يظهر من روايات أهل الأخبار سور.

ومن مواضع الحيرة، "ربيعة بني مازن"، لقوم من الأزد من بني عمرو ابن مازن من الأزد، وهم من غسان. و "دير هند"، لأم "عمرو بن هند بن ماء السماء"، و "ربيعة بني عدي بن الذميل" من لخم.

وقد هدمت قصور الحيرة التي كانت لآل المنذر واستخدمت حجارتها وأنقاضها لبناء المسجد الجامع بالكوفة ولأبنية اخرى، وقد عوض أصحاب القصور عنها. وفقاً لما جاء في "قراطيس هدم قصور الحيرة". وقد هدم بعض الخلفاء العباسيين قصور الحيرة وأزالوا بذلك من معالمها. منهم? الخليفة "أبو جعفر المنصور"، فقد هدم "الزوراء"، وهي دار بناها النعمان بن المنذر على ما يذكره أهل الأخبار.

وذكر "اليعقوبي" إن الحيرة "هي منازل آل بقيلة وغيرهم"، وان عليةّ أهل الحيرة نصارى، منهم من قبائل العرب من بني تميم ومن "سليم" ومن "طيء" وغيرهم. وان "الخورنق" بالقرب منها مما يلي المشرق، وبينه وبين الحيرة ثلاثة أميال، والسدير في برية.

وكان الفرس يستعينون بعرب الحيرة في أمر الترجمة فيما بينهم وبين العرب. ومن هؤلاء أسرة "عدي بن زيد العبادي" على نحو ما ذكرت. وترجمان كان يترجم ل "رستم" اسمه "عبود". وكان عربياً من أهل الحيرة. كما استخدم المسلمون تراجمة، ليترجموا ما كان يدور بينهم وبين الفرس من حوار، أو بينهم وبن من يقبضون عليه من أسرى الفرس، من هؤلاء رجل اسمه "هلال الهجري". واستخدموا كتبة لكتابة الكتب والأخبار، ذكروا منهم "زياد بن أبي سفيان.

لا وقد استعان الفرس ببعض "آل لخم" لمحاربة العرب ولاشغالهم، في معارك صغيرة، من هؤلاء "قابوس بن قابوس بن المنذر"، وقد كلفه "الآزاذبة مرد بن الآزاذبة" بالذهاب إلى "القادسية" لأشغال المسلمين، وأن يكون للفرس كما كان آباؤه قبله من النضر والعون، فنزل القادسية، وكاتب بكر بن وائل، بمثل ما كان النعمان يكاتبهم به، فلما بلغ خبره المسلمون حاصروه.

والقادسية موضع مهم جداً من الوجهة العسكرية، وقد قال عنه الخليفة "عمر" في كتابه الذي وجهه إلى "سعد" بأنه "باب فارس" وأجمع أبوابهم لمادتهم. وقد وضعوا ما بعده الحصون والقناطر والأنهار لحماية مواقعهم من وقوعها في أيدي من قد يأتي إليهم من البادية. وأهله من العرب، وكان الفرس قد أقاموا فيه مسالح عبثت بجنود من فارس، للدفاع عن خطوطهم الأمامية، ولمشاغلة الغزاة إلى حين وصول المدد الكبير.

وممن ساعد الفرس ودافع عنهم "النعمان بن قبيصة" ظ وهو ابن "حية الطائي" ابن عم "قبيصة بن اياس بن حيةّ الطائي" صاحب الحيرة، وكان مرابطاً في قصر "بني مقاتل"، وكان منظرة له. وقد قتله "سعد بن عبد الله بن سنان الأسدي" لما سمعه يستخف بقريش وبالقريشيين. فلما سأل عن "سعد بن أبي وقاص"، وقيل له انه من قريش، قال: "إما إذا كان قرشياً فليس بشيء، والته لأجاهدنه القتال، إنما قريش عبيد من غلب، والله ما يمنعون خفيراً، ولا يخرجون من بلادهم إلا بخفير".

ونجد في "فتوح الشام" للواقدي، خبراً مفاده إن "سعد بن أبي وقاص" لما وجهه الخليفة "عمر" إلى العراق قدم ارض "الرحبة"، فاتصلت الأخبار ب "اليعمور بن ميسرة العبسي"، فكتب إلى كسرى يخبره بمجيئه إلى هذا المكان، وان "سداً" لما ارتحل من "الرحبة" إلى "الحيرة البيضاء" في ثلاثين ألفاً من بجيلة والنخع وشيبان وربيعة واخلاط العرب، وجد هناك جيش "النعمان بن المنذر"، وقد ضرب خيامه والسرادقات إلى ظاهرها، وهو في ثمانين ألفاً من جميع عرب العراق، فكتب "النعمان" إلى "كسرى" بمجيئهم وحَثَّ عربه على الصمود وعلى مقاومة سعد قائلاً لهم: "إن هؤلاء عرب وأنتم عرب وهلاك كل شيء من جنسه" "وليس لأصحاب محمد فخر يفتخرون به علينا، ولكن نحن لنا الفخر عليهم. وهم يزعمون إن الله بعث فيهم نبياً وأنزل عليهم كتاباً يقال له القرآن،، ونحن لنا الإنجيل وعيسى بن مريم، وجميع الحوارين، ولنا المدبح، ولنا القسوس والرهبان والشمامسة، وعلى كل حال ديننا عتيق ودينهم محدث، فاثبتوا عند اللقاء وكونوا عند ظن الملك كسرى بكم". ويذكر رواة هذا الخبر إن عم "النعمان بن المنذر"، وكان صاحب حرسه، دخل إليه وقال له" إن أعداءنا قد أنفذوا إلينا رسولاّ، فأمر بإدخاله عليه، وكان الرسول "سعد بن أبي عبيد القاري"، فلما وقف بين يدي النعمان صاح به الحجاب والغلمان: قَبّل الأرض للملك فلم يلتفت إليهم، وقال: إن الله أمرنا إن لا يسجد بعضنا لبعض. ولعمري إن هذه كانت العادة المعروفة في الجاهلية قبل إن يبعث الله نبيه محمداً، فلما بعث جعل تحيته السلام، وكذا كانت الأنبياء من قبله. وأما السلام، فهو من أسماء الله تعالى، وأما تحيتكم هذه، فهي تحية جبابرة الملوك. فقال النعمان" لسنا من الجبابرة، بل نحن أجلّ منكم، لأنكم توحدون في دينكم وتقولون إن الله واحد وتوحدون ولده عيسى بن مريم". ويذكرون إن "سعداً" جادل "النعمان" في طبيعة "المسيح"، فأعجب بكلامه. ثم كلمه في الإسلام أو دفع الجزية، فغضب "النعمان"، وقال له: "لا ويح قومك، فليس عندنا جواب إلا السيف".

وتقدمت جيوش المسلمين حتى التحمت بجيش "النعمان" بظاهر الحيرة، وان "القعقاع بن عمرو التميمي" أو "بشر بن ربيعة التميمي"، أحدهما التقى بالنعمان في كبكبة من الخيل والازدهارات على رأسه، فحمل القعقاع أو بشر على الكبكبة ففرقها، وعلى الكتيبة فَمزَّقها وعلى النعمان بطعنة في صدره فقتل. فلما نظرت جيوش الحيرة إلى الملك النعمان مجندلا ولوا الأدبار يريدون القادسية نحو جيش الفرس. وأخذ المسلمون أسرى وغنائم، واحتوى "سعد" على قصر الخورنق والسدير، وترك جميع ما أخذه بالحيرة. وتحرك نحو القادسية. وكانت أخبار هزيمة النعمان قد وصلت الفرس وهم بالقادسية، وقد وصلت إليهم الفلول المنهزمة من جيش النعمان، فوقع التشويش في عسكر الفرس، وخارت قواهم، مما أدى إلى انتصار المسلمين عليهم في هذا المكان.

ولا نجد هذا الخبر في أيّ مورد آخر من موارد أهل الأخبار، فقد نصت جميع الموارد الأخرى على إن النعمان كان قد لقي مصرعه على نحو ما تحدثت عنه في أثناء كلامي على مملكة الحيرة. فلعل "النعمان" هذا هو أحد أبناء "آل لخم"، واستعان به الفرس للدفاع عن الحيرة ومنوّه في مقابل مساعدته لهم بالملك، كما استعانوا ب "قابوس بن قابوس". وقد يكون خبره من صنع أهل الأخبار، اقتحموا اسمه إقحاماً، وما فطنوا إلى انه كان قد توفي قبل هذا الوقت بسنين، على كل ففي الخبر كلام منمق وحوار وجدل ينبئك لونه إن فيه تكلفاً وصنعة، وان الخبر قد وضع وضعه أناس، لغايات لا مجال للبحث عنها في هذا المكان. وسار "خالد" من "الحيرة" إلى الأنبار، فحاصرها، وكان أصحاب النعمان وصنائعه يعطون أرزاقهم منها، ثم صالحهم، ثم أتى "خالد" سد مواقع أخرى "عين التمر".

وكان على رأس العرب الذين عاونوا الفرس وانحازوا إليهم" "عقة بن أبي عقة" و "هلال بن عقة بن قيس بن البشر" الثمري، على النمر بن قاسط بعين التمر، و "عمرو بن الصعق" و "بجير" أحد بني عتبة بن سعد بن زهر، والهذيل بن عمران، وسهم رجال من قبائلهم. ولكنهم لم يتمكنوا من الوقوف أمام "خالد بن الوليد"، إذْ انهزم جندهم، وأسرَ "عقة" و "عمرو بن الصق"، وكان "عقة" خفير القوم، وسقط حصن عين التمر في الإسلام. وورد في خبر آخر إن "خالد" قتل "هلال بن عقة" "هلال بن عقبة"، وصلبه. وكان من "النصر بن قاسط"، وكان خفيراً بعين التمرْ.

وتعرف "عين التمر" ب "شفاثا" "شفاثى" وب "عين شفته"، وقد اشتهرت بالقسب والتمر، وكانت تصدرهما إلى البادية والى أماكن أخرى، ويقصدها الأعراب للأمتيار. وبها حصن يتحصن به وعين ماء. ولما اقترب المسلمون منها، كان بها "مهران بن بهرام جوبين" في جمع عظيم من الفرس للدفاع عنها ومعه جمع عظيم من النمر وتغلب وأياد ومن لآفهّم، ولكنهم غلبوا على أمرهم، وفر الفرس. وكان بعين التمر مسلحة لأهل فارس.

وقد وجد "خالد" في كنيسة "عين التمر" جماعة سباهم، ووجد أولاداً كانوا يتعلمون الكتابة في الكنيسة، وقد اشتهر وعرف عدد من هؤلاء الذين سبوا، واشتهر أولادهم أيضاً. وقد كان من هؤلاء من كان من "بني النمر ابن قاسط" النازلين بعين التمر.

وكانت قُريّات السواد وهي: بانقيا وباروسما وألّيس خليط من العرب ومن النبط وسواد العراق، وقد صالح أهلها "خالد بن الوليد" حينما ظهر أمامها، صالحوه على الجزية، وكان الذي صالحه عليها "ابن صلوبا السوادي" المعروف ب "بصبرى بن صلوبا"، ومنزله بشاطئ الفرات. وقد ورد في كتاب الصلح الذي أعطاه "خالد بن الوليد" له، "وقد أعطيتَ عن نفسك وعن أهل خرجك وجزيرتك ومن كان في قريتك-بانقيا وباروسما-ألف درهم".

وذكر "البلاذري" إن الخليفة "عمر" وَجًّهَ "أبا عبيدة الثقفي" إلى العراق، فلما وصل إلى هناك، وهزم "جابان" بالعذيب، ثم هزم الفرس في معارك أخرى، حتى بلغ "باروسما"، صالحه "ابن الأنذر زعر" "ابن الأندر زعر" عن كل رأس على أربعة دراهم. ولم يشر إلى الصلة التي كانت بين "ابن صلوبا" و "ابن الأنذر". انه كان ينزل بها. وان اليهود كانوا يدفنون موتاهم بها. ويذكرون إنها ارض بالنجف دون الكوفة، وان سكانها كانوا على النصرانية عند ظهور الإسلام. وان الساسانيين كانوا هم الذين يدافعون عنها ويتولون أمر إدارتها، أما شؤونها المحلية فكان أمرها بيد ساداتها ورؤسائها.

وكانت عشائر "إياد" من العشائر التي نزحت إلى العراق قبل الإسلام بوقت طويل. نزل بعضهم ب"عين أباّغ" ج نزل بعض منهم بسنداد. فأمروا هناك، وكثروا، واتخذوا بسنداد بيتاً ذا شرفات تعبَدّوا له. ثم انتشروا، وغلبوا على ما يلي الحيرة. وصار لهم "الخورنق" و "السدير". فلهم "أقساس مالك". وهو مالك بن تيسر بن زهر بن إياد. ولهم دير الأعور، ودير السواء، ودير قرة، ودير الجماجم. وإنماُ سميّ دير الجماجم لأنه كان بين إياد وبهراء القين حرب، فقتل فيها من إياد خلق، فلما انقضت الحرب، دفنوا قتلاهم عند الدير. فكان الناس بعد ذلك يحفرون فتظهر جماجم. فسمي دير الجماجم. وقيل غير ذلك، مما لا مجال لذكره في هذا الموضع.

وكانت إياد تغير على السواد وتفسد. فجعل "سابور" ذو الأكتاب مسالح بالأنبار وعين التمر وغير. هاتين الناحيتين. لحماية الحدود منهم. ثم إن إياداً أغارت على السواد في ملك كسرى أنوشروان، فوجه اليهم جيوشاً كثيفة. فخرجوا هاربين، واتبعوا، فغرق منهم بشر، وأتى فُلُّهم "بني تغلب"، فأقاموا معهم على النصرانية، فأساءت "بني تغلب" جوارهم، فصار قوم منهم إلى الحيرة، ودخل منهم في جند ملوك الحيرة، ولحقُ جلّهم بغساّن بالشام. فلما جاء الإسلام دخل بعضهم بلاد الروم، ودخل منهم قوم في خثعم وفي تنوخ وفي قبائل أخرى.

ويقال إن مواطن إياد قبل نزوحها إلى العراق، كانت بالبحرين، واجتمعت عبد القيس والأزد على إياد، فاخرجوا عن الدار فأتت العراق.

وقد وصف "ابن قتيبة" إياداً على هذا النحو: "وكانت إياد أكثر نزار عدداً وأحسنهم وجوهاً وأمدهم وأشدهم، وأمنعهم. وكانوا لقاحاً لا يؤدون خرجاً. وهم أول معدّي خرج من تهامة، ونزلوا السواد وغلبوا على ما بين البحرين إلى سنداد والخورنق". فاصطدموا بالساسانيين لأنهم أغاروا على أموال فأخذوها، فهزموهم إلى الجزيرة، ووجه إليهم "كسرى" ستين ألفاً فكتب إليهم "لقيط" ينبههم. وانتصر عليهم كسرى، وانقسموا ثلاث فرق. فرقة لحقت بالشام، وفرقة أقامت بالجزيرة، وفرقة رجعت إلى السواد.

ولما سار "خالد" من "عين التمر" أتى "صندوداء" وبها قوم من كندة وإياد والعجم. وتركها واتجه نحو جمع من "تغلب" كانوا ب "المضيح"و "الحصيد" مرتدين صليهم، "ربيعة بن بجير"، فأتاهم فقاتلوه فهزمهم. ثم أغار "خالد" على "قراقر"، وهو ماء لكلب، ثم فوَّز منه إلى "سوى"، وهو ماء لكلب أيضاً. ومعهم فجه قوم من "بهراء"، فقتل "حرقوص بن النعمان البهراني"؛ من "قضاعة". وكان المسلمون لما انتهوا إلى "سوى" وجدوا "حرقوصاً" وجماعة معه يشربون ويتغنون فهجموا عليهم وقَتلوا "حرقوصاً". وخرج خالد من "سوى" إلى "الكواثل"، ثم أتى "قرقيسيا" وانحاز إلى البرّ، وأتى "أركه "أرك"، فأغار على أهلها، وفتحها، وسار منها نحو "دومة الجندل".

وذكر "ابن سعد" إن الرسول كتب إلى "نفاثة بن فروة بن الدئلي ملك السماوة"، ولم يشير إلى موضع ملكه من بادية السماوة ومقداره في البادية.

وكانت "دومة الجندل" عند ظهور الإسلام في ملك "أكيدر بن عبد الملك الكنِدي السكوني". والسكون من كندة، فهو كنديَ النسب أيضاً. وكان يتنقل في البادية فيصل إلى الحيرة والى أرض الغساسنة، ويقال إنه ملك "دومة الحيرة" ونزل بها قبل جلائه عن "دومة الجندل" أو بعده على رأي أهل الأخبار. وكان مثل أكثر رؤساء القبائل في العراق وفي البادية وبلاد الشام على النصرانية، وله عقود ومعاهدات مع القبائل العربية الشمالية الضاربة في البادية، تأتي إلى مقره في الموسم أيام افتتاح السوق لتمتار ولبيع ما تحمله من تجارات.

وكان لأكيدر بن عبد الملك أخ اسمه "بشر بن عبد الملك"، يذكر أهل الأخبار انه ذهب إلى الحيرة، وتعلم بها الخط، ثم رجع إلى مكة فتزوج "الصّهباء بنت حرب" أخت أبي سفيان.

وقد أرسل الرسول خالد بن الوليد إلى دومة الجندل ليفتحها، فسار خالد على رأس خيل إلى "دومة"، فلما بلغها وجد الأكيدر خارج حصنه يصطاد مع نفر من قومه فيهم أخ له يقال له: حسان، فهجم رجال خالد على الأكيدر وأسروه، وقتل حسان، وأخذ خالد قباء "أكيدر" وكان من ديباج مخوص بالذهب، وبعث به إلى الرسول ليقف عليه المسلمون، فلما رأوه عجبوا منه وجعلوا "يلمسونه بأيديهم، ويتعجبون منه، فقال رسول الله" أتعجبون من هذا. فوالذي نفس محمد بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا". وقد زاد عجبهم حين وصل خالد ومعه أسيره "أكيدر"، فحقن له دمه، وصالحه الرسول على الجزية، ثم خلى سبيله، فرجع إلى قريته.

ويذكر الرواة إن الرسول استقبل خالداً ومعه أسيره "الأكيدر" في المدينة، فعرض الرسول الإسلام على الأكيدر، فقبله وحقن الرسول دمه وكتب له كتاباً، وعاد إلى "دومة". فلما قبض النبي منع الصدقة وارتد إلى النصرانية ديانته الأولى. وخرج من دومة الجندل فلحق بالحيرة وابتنى بها بناء على مقربة من "عين التمر" سمّاه "دومة" أو "عومة الجندل" على اسم موضعه، وسكن هناك. ثم عاد إلى "دومة الجندل"، وتحصهن بها، فأمر "أبو بكر" خالد بن الوليد بالتوجه إليهم فسار إليه وقتله. أما أخوه "حريث بن عبد الملك" فقد أسلم، وحقن دمه. وقد تزوج "يزيد بن معاوية" إبنة له.

وتذكر رواية أخرى إن "الأكيدر" بعد إن نقض الصلح وعاد إلى نصرانيته، أجلاه "عمر" من "دومة" فيمن أجلى من مخالفي الإسلام إلى الحيرة، فأقام في موضع قرب "عين التمر"، ابتناه فسمّاه "دومة" وقيل "دوماء" باسم حصنه. وهي رواية. لا تتفق مع المشهور بين أهل الأخبار من إن خالداً قتل "الأكيدر" في السنة الثانية عشرة أو السنة الثالثة عشرة من الهجرة، وذلك في أيام "أبي بكر" بعد إن أمره ا الخليفة بالتوجه إليه. وهي رواية أقوى من الرواية المتقدمة في نظر المؤرخين.

ويظهر إن أهل "دومة الجندل" كانوا قد سمعوا بخبر مسير "خالد إليهم، فأرسلوا إلى حلفائهم وأحزابهم من بهراء وكلب وغسان وقبائل تنوخ والضجاعم ليساعدوهم في الوقوف أمامه. فأتاهم "وديعة" في "كلب" وبهراء، وسانده "رومانس بن وبرة بن رومانس" الكلبي، وجاءهم "ابن الحدرجان" في الضجاعم، و "جبلة بات الأيهم" في طوائف من غسان وتنوخ. وكذلك "الجودي بن ربيعة الغساني". وكان من المتزعمين في "دومة"، وقد احتمى أهل "دومة" بحصنهم وخلف أسوار المدينة، والتفت حول السور من الخارج نصارى العرب الذين جاؤوا لمساعدة أهلها. وقد تمكن "خالد" يساعده "عياض" من التغلب على أهل المدينة وحلفائهم، وقتل رؤساءهم، ودخل المدينة منتصراً، فغنم جيشه غنائم كثيرة وقُتِلَ من أهلها خلق كثير. وسبي ابنة "الجوديّ". وكان الأكيدر في جملة القتلى.

وكان الرسول قد غزا "دومة الجندل" بنفسه، وذلك في شهر ربيع الأول من السنة الخامسة من الهجرة، وبلغها، ولم يلق كيداً. كان سبب غزوه لها، إن رسول الله أراد إن يدنو إلى أراضي الشام، لأن ذلك مما يفزع الروم، ثم أن أهل دومة الجندل كانوا يظلمون من يمر بهم وبنزل عندهم، ومن يحل بسوقهم للبيع والشراء، وقد كان الناس يذهبون إليها ويعودون إلى المدينة، فقرر غزوها، فلما وصل الرسول كان أهلها قد فَرّوا وتركوا قريتهم، فنزل بها ولم يجد احداً، فرجع عنها، وذلك قبل غزو خالد لهما.

وورد في سبب غزو الرسول لها، إن جمعاً من قضاعة ومن غسان تجمعوا، وهمّوا بغزو الحجاز. فسار في ألفٍ انتخبهم، فلما انتهى إلى موضعهم ألفاهم قد تفرقوا أو هربوا، لم يلق كيداً.

وفي هذه الغزوة وادع رسول الله "عيينة بن حصن" على إن يرعى ب "تغلمين" وما والاه إلى "المراض".

ويفهم من حديث بعض أهل الأخبار عن "دومة الجندل"، إنها كانت قرية عادية، إلا إن الدهر كان قد لعب بها، فخربت وقلّ عدد من كان بها، إلى إن نزل بها "أكيدر"، فأعاد إليها رواءها، وغرس الزيتون بها، فتوافد إليها الأعراب. ويذكر هؤلاء إن "أكيدر"، كان ينزل مع اخوته قبل مجيئه إلى "دومة" "دومةَ الحيرة"، ولما جاء يزور أخواله من "كلب" و نزل بخرائب "دومة الجندل" أعجبته فنزل بها، وأمر باعادة بناء ما تهدم من حائطها وببعث الحياة بها حتى صارت قرية عامرة يقصدها الأعراب للبيع والشراء. وصار "اكيدر" يتردد بينها وبين "دومة الحيرة".

ويحمي "دومة" سور قديم، بني قبل "اكيدر" في زمان لا يحيط علم أهل الأخبار به. يقولون انه بُني من "الجندل"، وانه هو الذي جعل الناس يسمون الموضع ب "دومة الجندل". ويذكرون انه كان في دخل السور حصن منبع يقال له "مارد"، وهو حصن "اكيدر بن عبد الملك بن الحي بن أعيا ابن الحارث بن معاوية بن خلاده بن ابامه بن سلمة بن شكامة بن شبيب بن السكون بن اشرس بن شور بن عفير، وهو كندة" فهو سكوني كندي.

وحصن "مارد"، حصن شهير له ذكر بين أعراب الشمال بُني قبل أيام "اكيدر". قال عنه بعض أهل الأخبار انه حصن عادي، أي من الحصون الجاهلية القديمة. وقد رأينا فيما سلف إن "دومة" من المواضع المعروفة التي يعود عهدها إلى ما قبل الميلاد. وذكر أهل الأخبار، إن سكانها كانوا أصحاب نخل وزرع، يسقون على النواضح، وحولها عيون قليلة وزرعهم الشعير. وإنها. "دوماء الجندل" أيضاً.

وكان اكثر سكان "دومة الجندل" من "بني كنانة" من "كلب". ويعدّها بعض أهل الأخيار من "القريّات" ويقصدون بمصطلح "القريات": دومة وسكاكة وذو القارة. وتحيط بدومة مستوطنات وقرى تحتمي بسلطان حاكم "دومة". وكان "اكيدر" يلقب نفسه بلقب "ملك" على عادة ذلك الوقت في تلقيب سادات المواضع أنفسهم بهذا اللقب، وان كان لا يعني في الواقع اكثر مما يعنيه مصطلح "شيخ" في الوقت الحاضر.

وكان أهل "دومة" على النصرانية، شأنهم في ذلك شأن اكثر أهل القرى في العراق وفي بادية الشام وبلاد الشام. وكان أهل "اكيدر" على هذه الديانة أيضاً. إذ ورد إن الرسول أرسل "عبد الرحمن بن عوف" على رأس جيش إلى دومة، فذهب إليها ودخلها، وأسلم "الأصبغ"، وتزوج عبد الرحمن ابنته "تماضر"، اذ كان الرسول قد كتب إليه إن يتزوج ابنة ملكها، أي ملك "دومة"، وهو "الأصبغ". فيظهر من هذا الخبر، إن "الأصبغ" كان يلقب نفسه بلقب "ملك" أيضاً، وأنه كان يحكم "دومة" في أيام الرسول. في نفس الوقت الذي كان فيه "الأكيدر" يحكم "دومة"، ويلقب نفسه بلقب "ملك".

وذكر بعض الأخباريين إن أهل دومة الجندل كانوا من عُباد الكوفة ويقصدون بذلك انهم كانوا نصارى، فقد كانت عادتهم إطلاق لفظة "عباد" على النصارى العرب، عرب الحيرة بصورة خاصة. وقصدوا بالكوفة، الحيرة، لأن الكوفة لم تكن موجودة في الجاهلية، اذ بنيت في أيام الخليفة "عمر".

ويظهر من أهل الأخبار إن "اكيدر السكوني" لم يتمكن من تثبيت ملكه على "دومة الجندل" بصورة دائمة، اذ كان ينافسه زعماء كلب الأقوياء. فقد ذكر "محمد بن حبيب" إن ملكها كان بين "اكيدر العبادي ثم السكوني وبين قنافة الكلبي. فكان العباديون إذا غلبوا عليها وليها اكيدر، واذا غلب الغسانيون ولوها قنافة. وكانت غلبتهم إن الملكين كانا يتحاجيان فأيما ملك غلب صاحبه بإخراج ما يلقى عليه، تركه والسوق فصنع فيها ما شاء. ولم يبع بها أحد شيئاً إلا باذله حتى يبيع الملك كلما أراد بيعه مع ما يصل إليه من عشورها". ويؤيد هذا الخبر ما ذكرته من وجود ملك آخر على دومة، هو "الأصبغ" الكلبي المتقدم الذكر.

وهناك خبر آخر يفيد إن "الجودي بن ربيعة"، كان مثل "الاكيدر" رئيساً على "دوفة"، وان الإثنين كانا رئيسين عليها. وورد انه كان من غسان وأن اسمه "عدي بن عمرو. بن أبي عمرو الغساني"، وأن "عبد الرحمن ابن أبي بكر"، "كان يختلف إلى الشام في تجارة قريش في الجاهلية، فرأى هناك امرأة يقال لها: ابنة الجودي من غسان، فكان يهذى بها، ويذكرها كثيراً في شعره"، "وأصيبت حين غزو الروم ليلى ابنة الجودي، فبعثوا بها إلى عبد الرحمن بن أبي بكر لذكره إياها".0 فه إذن على هذه الرواية من غسان.

ويظهر من غربلة روايات الأخباريين إن هنالك موضعاً آخر عرف ب "دومة" و "دوماء". يقع في العراق على مقربة من "عين التمر"، ذكر الأخباريون إن اسمه "دومة" و "دوما" و "دومة الجندل". ونسبوا كما ذكرت قبل قليل بناءه إلى "الاكيدر". وهو موضع لا نعرف من أمر تأريخه شيئاً يذكر.

وذكر إن "حارثة بن قطن"، و "حمل بن سعدانة بن حارثة بن مغفل"، وهما من "كلب" قدما إلى رسول الله وأسلما، فكتب رسول الله لحارثة كتاباً "لأهل دومة الجندل وما يليها من طوائف كلب مع حارثة بن قطن"، ثم بين ما على المذكورين من حقوق وواجبات، وما عليهم من إحكام فرضها الإسلام على المسلمين.

وترك "خالد" "دومة الجندل"، ثم أتى "قم"، فصالحه "بنو مشجعة بن التيم بن النمر بن وبرة بن ثعلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة"، وكتب لهم اماناً. ثم أتى "تدمر"، فأمنهم، ثم أتى "القريتين"، ثم "حوارين" من "سنير"، ثم أتى "مرج راهط"، فأغار على "غسان".

وكان "حاضر" "قنسرين" لتنوخ، من أول ما تنخوا بالشام، نزلوه وهم في خيم الشعر. ثم ابتنوا به المنازل. فسعاهم "أبو عبيدة" إلى الإسلام، فأسلم بعضهم وأقام على النصرانية "بنو سليح". وكان بهذا الحاضرقوم من "طيء"، نزلوه بعد حرب الفساد التي كانت بينهم حين نزلوا الجبلين. فلما ورد "أبو عبيدة" عليهم اسلم بعضهم وصالح كثير منهم على الجزية، ثم اسلموا بعد ذلك.

وقضاعة قبائل عديدة، منها "بنو جرم بن ربان" و "بنو سليح" و "تزيد" ابنا "عمران بن الحاف بن قضاعة" و "كلب بن وبرة"، وهو قبيل عظيم. منهم "الأسبع"، ومن قبائل قضاعة "عذرة بن زيد اللآت" و "العبيد بن زيد اللآت"، و "بنو كنانة"، و "بنو جناب بن هبل"، و "بنو عليم بن جناب"، و "بنو مصاد"، و "بنو حصن"، و "بنو معقل". ومن "بني جناب" "بحدل بن أتيف"، ج، "يزيد بن معاوية" لأمه. ومن رجالهم "ابن الجَلاّح"، وكان قائداً للحارث بن أبي شمر. الجفني، واسمه "النعمان". وهو الذي أغار على "بني فزارة" و "بني ذبيان"، مَاستباحهم وسبي "عقرب" بنت النابغة، ومَنّ عليها، فمدحه "النابغة".

وقد انتشرت بطون "كلب" في ارضين واسعة، شملت دومة الجندل وبادية السماوة والأقسام الشرقية من بلاد الشام. ولما أخرج الروم عن ديار الشام، لعبت بطون كلب دوراً بارزاً في السياسة، إذ أيدت الاموين، وتزوجّ "معاوية" "ميسون" أم "يزيد" وهي كلبية، فصارت كلب في جانب الامويين.

ومن قبائل "قضاعة"، "بنو عامر الاجدار". ومن رجال "بني وبرة" غير كلب، "بنو القيس بن جسر"، و "بنو مصاد بن مذعور" و "بنو زهير بن عمرر بن فهم". ومن قبائل "جرم بن ربان": "بنو اعجب" و "بنو طرود" و "بنو شميس". ومن بطون "جرم": "بنو خشين"، ومن رجالهم "رأس الحجر"، وقد رأس في الجاهلية وأخذ المرباع. ومن رجال "جرم"، "عصام بن شهبر"، حاجب النعمان. وكان النعمان إذا أراد إن يبعث بألف فارس بعث بعصام.

وقد ذهب وفد من "جرم" إلى المدينة، فيه "الاصقع بن شريح بن صريم" و "هوذة بن عمرو"، فأسلما، وكتب الرسول لهما كتاباً. وذهب وفد آخر، اخبر الرسول بإسلام حواء من جرم، كان عليه "سلمة بن قيس الجرميّ" ومعه ابنه "أبو زيد عمرو بن سلمة بن قيس الجرمي".

وقد ساعد الغساسنة الروم في حروبهم مع المسلمين، وكان على رأسهم "جبلة ابن الايهم الغساني"، الذي حارب مع مقدمهّ جيش الروم في مستعربة الشام من غسان ولخم وجذام وغيرهم يوم اليرموك. ثم انحاز "جبلة" إلى المسلبين، وأظهر الإسلام، ثم عاد، ففرّ إلى بلاد الروم، واستقر بها، وبها مات. وقد استمر "المستعربة" يناصرون الروم، فلما تراجع قوادهم نحو الشمال لضغط المسلمين عليهم، التحق بهم هؤلاء "المستعربة" من غسان وتنوخ وإياد، وقد التحموا بالمسلمين في "درب بغراس".

ويذكر الأخباريون إن "دمشق" كانت منازل ملوك غسان. وبها آثار لآل جفنة. والظاهر، انهم كانوا قد اشتروا وابتنوا بها قصوراً، عاشوا فيها، ومنها كانوا يتصلون بكبار الموظفين الحاكمين البيزنطيين. فإذا أرادوا الاتصال بقومهم الغساسنة عادوا إلى قصورهم بين قومهم. وكانت الغوطة: غوطة دمشق من المناطق التي سكن بها الغساسنة.

ويظهر من رواية يرجع سندها إلى "محمد بن بُكر الغساني" عن قومه "غسان" إن الغساسنة لم يقبلوا على الإسلام إقبال غيرهم من العرب، وانهم لم يسلموا إلا بعد فتوح الشام. ولما. ذهب ثلاثة نفر منهم إلى المدينة، وأسلموا وبايعوا الرسول، لم يستجب قومهم لهم في دعوتهم إلى الإسلام، فكتموا أمهرهم عنهم، خوفاً من بطش قومهم بهم.

وورد في أخبار الرسل الذين أرسلهم الرسول إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام، إن الرسول أرسل "شجاج بن وهب" إلى "الحارث بن أبي شمر الغسانيّ" من غسان، وكان يقم إذ ذاك بغوطة دمشق في قصر منيف، ليدعوه إلى الإسلام، فلما دفع "شجاع" كتاب رسول الله إلى "الحارث" رمى به، ولم يدخل في الإسلام وبقي على النصرانية حتى توفي عام الفتح.

وكان "جبلة" مع الروم يوم "اليرموك" ومعه "المستعربة" من غَساّن وقضاعة وذلك سنة "15" للهجرة، "وكان قد انضم إلى المسلمين بعض لخم وجذام، فلما وجدوا جدّ القتال فرّوا ونجوا إلى ما كان قربهم من القرى وخذلوا المسلمين.

وقد كان "جبلة بن الأيهم" على رأس "العرب المتنصرة" يحارب مع الروم، لمنع المسلمين من التقدم نحو "قنسرين"، ويذكر أهل الأخبار إن محاورات جرت بينه وبين المسلمين في موضوع اشتراكه مع الروم، وعنا محاورات مع "خالد بن الوليد" صاغوها بأسلوب قصصي منمق، وذكروا انه كان جالساً "على كرسي من ذهب أحمر وعليه ثياب الديباج الرومي وعلى رأسه شبكة من اللؤلؤ وفي عنقه صليب من الياقوت. وكان ذلك بعد ارتداده عن الإسلام، فلما غلب الروم، "كان جبلة أول من انهزم والعرب المتنصرة أثره".

ومن الغساسنة "شرحبيل بن عمرو الغسانيّ"، الذي قتل رسولَ رسول الله "الحارث بن عمير الأزدي"، الذي كان الرسول قد بعثه إلى ملك "بصرى". فما نزل "مؤتة" قتله "شرحييل". فأمر رسول الله بإرسال حملة عليه، سنة ثمان للهجرة جعل أمرها "زيد بن حارثة". ولما سمع بها "شرحبيل" جمع جمعاً من قومه وتقدم نحوهم، وكانوا قد نزلوا "معان". وبلغ المسلمين إن "هرقل" كان قد نزل "مآب" من أرض البلقاء في جمع من بهراء ووائل وبكر ولخم وجذلم والقين، عليهم "مالك بن رافلة" الاراشي من "بليّ"، فانحازوا إلى "مشارف"، ولما دنا العدو انحازوا إلى "مؤتة"، وقتل فيها في فيها "جعفر بن أبي طالب"، و "عبد الله بن رواحة" و "ثابت بن رواحة" و "ثابت بن أرقم"، ثم "زيد بن حارثة"، ثم تراجعوا إلى المدينة. وقتل من العرب الذين كانوا مع الروم "مالك بن رافلة" "زافلة". واعتزل بعض "حَدَس" وهم "بنو غنم" الحرب، لإشارة كاهنتهم عليهم بذلك، فأخذوا بقولها، فاعتزلوا عن "بني لخم" وصلم الحرب بعض منهم، وهم "بنو ثعلبة".

وكان بقرب "حلب" حاضر، عرف ب "حاضر حلب"، جمع أصنافاً من العرب من تنوخ، فصالحهم "أبو عبيدة" على الجزية. ويرجع هذا الحاضر إلى أيام الجاهلية، فقد كان العرب قد توغلوا إلى هذه الديار قبل ظهور الإسلام، وأقاموا في الحواضر بظواهر المدن يتعيشون من اتصالهم بأهل تلك المدن.

ولم تكن الرابطة الدينية التي ربطت بين أكثر عرب بلاد الشام والبيزنطيين، هي العامل الوحيد الذي جعل أولئك العرب ينضمون إلى صفوف الروم في الدفاع عنهم وفي مقاومة جيوش المسلمين، بل كانت هنالك عوامل أخرى، مثل المنافع المادية التي كان يجنبها سادات الأعراب من البيزنطيين، حيث كانوا ينالون هدايا ورواتب منهم في مقابل حماية الحدود والمحافظة عليها من غارات الأعراب وفي مقابل الغارات التي كان البيزنطيون يكلفونهم بها لغزو حدود العراق لازعاج أعدائهم الفرس وقت الحاجة والضرورة، ومثل التسهيلات التي كانوا ينالونها من البيزنطيين في الإتجار مع مدن الشام وفي معاملات البيع والشراء والرواتب السخيفة التي تدفع للأعراب إذا خدموا في صفوف العساكر المتطوعة، وهي رواتب سخية إذا قيست بالنسبة لحالة أهل البادية المنخفضة من الناحية المادية كثيراً بالنسبة إلى حالة سكان بلاد الشام.

وكان "الحيار": "حيار بني القعقاع" بلداً معروفاً قبل الإسلام. وبه كان مقبل "المنذر بن ماء السماء" اللخمي، ملك الحيرة. فنزله "بنو القعقاع" من "عبس بن بغيض".

وكانت البلقاء في أيدي قبائل من العرب مثل لخم وجذام وبلقين وبهراء وبليّ، وهي قبائل يطلق عليها المؤرخون اسم "المستعربة". وكانوا على النصرانية في الغالب، لذلك كان هواهم إلى جانب الروم. فكانوا معهم في غزوة "مؤتة" يقاتلون مع "هرقل" ضد المسلمين وعليهم "مالك بن رافلة" وهو من "بليّ" ثم أحد إراشة. وكان المسلمون إذْ ذاك في "معان". وهي من أعمال البلقاء يستعدون للروم. وكان صاحب هذه المدينة في أيام الرسول رجلاً من "جذام"، هو "فروة بن عمرو الجُذاميّ". وكان عاملاً للروم على من يليهم من العرب، ومنزله بمعان. فلما أرسل فروة رسولاً عنه إلى الرسول يبلغه بإسلامه، قبض الروم عليه وحبسوه، ثم ضربوا عنقه وصلبوه.

ومن "لخم" "بنو السار بن هانىء". وقد قدم وفد منهم على رسول، الله منصرفه من "تبوك"، فيه" "تميم بن أوس بن خارجة الداريّ" و "نعيم ابن أوس بن خارجة"، و "يزيد بن قيس بن خارجة"، و "الفاكه بن النعمان بن جبلة بن صفارة"، و "جبلة بن مالك بن صفارة"، و"أبو هند" و "الطيب" إبنا "ذر". وهو "عبد الله بن رزين بن عِمّيت بن ربيعة درّ اع"، و "هانىء بن حبيب" و "عزيز" و "مُرّة" إبنا "مالك بن سواد بن جذيمة"، فأسلموا، وأهدى "هانىء بن حبيب" لرسول الله، راوية خمر وأفراساً وقباءاً مخوصاً بالذهب. فقيل الأفراس والقباء. وقال تميم: لنا جيرة من الروم لهم قريتان يقال لإحداهما "حبرى" والأخرى "بيت عينون"، فإن فتح الله عليك الشام فهبهما لي. فوهبهما رسول الله له. فلم توفي الرسول وقام أبو بكر أعطاه ذلك وكتب له كتاباً.

ولما أمر الرسول "أسامة بن زيد بن حارثة" إن يوطىء الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين، تجهز معه المهاجرون الأولون، ولكن وفاة الرسول لم تمكنه من السفر، فكان أول ما فعله خليفته "أبو بكر" إن أمره بتنفيذ. ما أمره به رسول الله. ولكنه لم يتقدم كثيراً، بل بلغ الموضع الذي قتل أبوه زيد بن حارثة فيه، وهو من أرض الشام فرجع، لأن الرسول أمره في حياته بالمسير إليه.

و "الداروم" قلعة بعد غزة للقاصد إلى مصر. يجاورها عربان بني ثعلبة بن سلامان بن ثعل من بني طيء. وهم درماء وزريق.

وكانت "جذام" نازلة في "حسمى" عند ظهور الإسلام. وهي من مواطن "ثمود". و "جدام" من نسل "جذام" شقيق "عاملة" و "لخم" أبناء "عدي بن الحارث بن مرّة بن كهلان". واسم "جذام" الحقيقي في رأيهم "عمرو".وتقع أرض جذام في الأقسام الجنوبية من بلاد الشام، وتصل إلى "أيلة" ثم تمتد مع الساحل حتى تبلغ "ينبع".

ويرجع بعض النسابين نسب جذام إلى اليمن، ويرجها بعض آخر إلى مضر، وتوسط قوم فقالوا إنهم كانوا من مضر في الأصل، ثم غادروا ديار مضر، فذهبوا إلى اليمن، وعاشوا بين قبائل قحطان، فنسوا أصلهم بتقادم العهد، وعُدّوا في القحطانيين. ويظهر إن هذا الرأي هو محاولة للتوفيق بين الرأيين السابقين.. أما الذي عليه غالبية جُذام، فهو إنها من قحطان.

وقد وفد رجال من "جذام" على رسول الله، منهم "رفاعة بن زيد بن عمير بن معبد الجُذامي" ثم أحد "بني الضبيب"، فأسلم وكتب الرسول له كتاباً. أما "فروة بن عمرو بن النافرة" الجُذامي، فقد كان كما سبق إن ذكرت عاملا الروم على ما يليهم من العرب، وكان منزله "معان" وما حولها أو على "عمان"، فلما بلغهم انه كاتب الرسول وانه أسلم أخذوه فحبسوه، ثم ضربوا عنقه. ويذكر أهل الأخبار إن "فروة" كتب إلى الرسول كتاباً أرسله مع "مسعود بن سعد"، وبعث إليه ببغلة وفرس وحمار، وأثواب لينْ، وقباء سندس مخوص بالذهب. وان الرسول كتب إلى فروة جواب كتابه. ويذكر أهل الأخبار إن الروم لما قبضوا على "فروة"، قال شعراً يذكر فيه نفسه والرسول، وقال مثل ذلك لما نقله الروم إلى موضع يقع على ماء لهم بفلسطين اسمه "عفراء"، فلما أرادوا ضرب عنقه، قال بيتاً من الشعر في إسلامه وفي إيمانه.

وقد انتشرت النصرانية بين كلب، كما انتشرت بين أكثر القبائل النازلة بديار الشام. والظاهر إنها كانت على مذهب القائلين بالطبيعة الواحدة "Monophysities".

وفي جوار "الحجر" وفي شرق "حرة ليلى"، أقامت بنو عذرة، وهي من قبائل قضاعة، وتنسب إلى "عذرة بن سعد بن هذيم بن زيد بن ليث بن أسلم بن الحاف بن قضاعة". ولا نعلم من تأريخ هذه القبيلة في الجاهلية شيئاً يذكر. ولم يرد اسمها كثيراً في الأيام، والظاهر إن ذلك لقلّة شعرائها، فإن شعر الشعراء هو الذي خلد أسماء القبائل عند الأخباريين. ويظن إنها قبيلة "Abritai" "Abraetai" التي ذكرها "بطلميوس".

أما ديار هذه القبيلة، فكانت في وادي القرى وتبوك. ولكنها امتدت حتى بلغت قرب أيلة ويذكر الأخباريون إن هذه القبيلة هاجرت مع من هاجر من قبائل قضاعة بعد حربها مع حمير، فنزلت في هذه الديار ه. وتعاهدت مع قوم من يهود على مجاورتهم، وإلا تتحرش بهم وبنخيلهم وبساتينهم. وتجاور ديار عذرة ديار قبائل أخرى من قضاعة مثل نهد وجهينة وبليّ وكلب، كما جاورت من الشمال قبيلة غطفان.

ولعذرة حلف مع عدد من بطون سعد هذيم، مثل بني ضنة، ويعدهم النسابون بطناً من عذرة، وكذلك مع بني سلامان. وقد عرفوا بصحار. وكان لهم حلف مع جهينة، ويرجع الأخباريون عهد هذا الحلف إلى أيام حرب قضاعة، وهي الحرب المسماة ب "حرب القريض".

وهنالك جملة قبائل ذكر الأخباريون أربعاً أو خمساً قالوا إنها كانت تعرف ب "عذرة". وقد سبسب تعدد هذه الأسماء للنسابين بعض التشويش.

ويظهر من روايات الأخباريين انه كان لهذه القبيلة صلة بقريش، فزعموا إن أم "قصي" تزوجت رجلاً من "بني عذرة"، وان أخاه من أمه "رزاح ابن ربيعة بن حرام" اشترك مع قريش في الدفاع عن الكعبة وفيَ طرد خزاعة عنها. ورووا أيضاً انه كان لها صلة بالأوس والخزرج كذلك، لأن أم القبيلتين، وهي "قيلة بنت كاهل أو بنت هالك"، كانت من هذه القبيلة.

ولما قدم وفد "عذرة" على الرسول في صفر سنة تسع، وفيه "حمزة بن النعمان العذري" و "سليم" و "سعد" ابنا مالك، و "مالك بن أبي رباح"، سلَّموا على الرسول "بسلام أهل الجاهلية، وقالوا" نحن إخوة قصي لأمه، ونحن الذين أزاحوا خزاعة وبني بكر عن مكة، ولنا قرابات وأرحام". وكان من رجال عذرة الذين وفدوا على الرسول: "زمل بن عمرو العذري".

وذكر "ابن سد" إن الرسول كتب إلى "عشرة" في "عسَيب"، وبعث به مع رجل من "بني عذرة"، فعدا عليه "ورد بن مرداس" أحد "بتي سعد هذيم"، فكسر العسيب وأسلم واستشهد مع "زيد بن حارثة" في غزوة وادي القرى أو غزوة القردة.

وكانت مواطنها عند ظهور الإسلام في منطقة مهمة جداً تقع بين الحجاز وبلاد الشام ومصر، فتمتد من منازل "كلب" في الشمال حتى منطقة المدينة. وكانت بطونها منتشرة في "وادي القرى" وحول "تبوك" وعند "أيلة" وفي طور سيناء. ولمرور طريق القوافل منها، تولى رجالها حراستها وجباية رسوم المرور منها. ولما رأى بعض المستشرقين إنها تقطن منطقة كان يسكنها "أهل مدين" وكذلك النبط، ذهبوا إلى إنها من نسل "مدين" أو من بقايا "النبط".

ومن المستشرقين من يرى إن "بني النضير" هم فرع من جُذام، دخلوا في دين يهود، ودليلهم على ذلك انتشار اليهودية بين بعض بطون جذام التي تقع منازلها على مقربة من "يثرب". وكانت النصرانية قد وجدت لها سبيلاً بين جذام، وذلك باتصالها ببلاد الشام ومصر. وقد، كانت مع "المستعربة" أي النصارى العرب، تحارب المسلين مع الروم في حروب بلاد الشام.

وفي أرض جذام موضع يقال له "السلاسل"، وقعت غزوة عرفت ب "ذات السلاسل". وقد قام بها "عمرو بن العاص"، وكان الرسول قد بعثه إلى أرض "بليّ" و "عذرة" يستنفر الناس إلى الشام.

ومن جذام "رفاعة بن زيد الجذامي" ثم "الضُبيبي"، وكان قد قدم إلى الرسول فأسلم، وكتب الرسول له كتاباً، وذهب إلى قومه، ونزل الحرة: حرة الرجلاء. و "ضبيب" بطن من جُذام. ولما أغار "الهُنيد بن عوص"، وهو من "الضليع"، بطن من جُذام على "دحية بن خليفة الكلبي"، حين قدومه من بلاد الشام، وكان رسول الله بعثه إلى "قيصر" صاحب الروم ومعه تجارة له، فأصاب كل شيء كان مع "دحية" نفًرَ "رفاعةُ" وقومه ممن أسلم، إلى "الهُنيد"، فاستنقذا ما كان في يده، فرَدّوه على "دحية". وكان المعتدون يقيمون بحسمى.

ومن "جذام" "زنباع بن روج بن سلامة بن حُداد بن حديدة"، وكان عَشّاراً، مرّ به "عمر بن الخطاب" في الجاهلية تاجراً إلى الشام، فأساء إليه في اجتيازه وأخذ مكسه، فقال "عمر" فيه شعراً يتوعده ويهجوه، فبلغ ذلك "زنباعا" فهجز جيشاً لغزو مكة، فنهي عن ذلك وأشر عليه بعدم تمكنه منها، فَكَفَّ عنها.

وكانت "أيلة" في أيام الرسول، في أيدي "يوحنا بن رؤبة" "يحنة بن رؤبة". ولما سمع "يوحنا" بمجيء الرسول مع جيشي إلى "تبوك"، جاء إليه، وصالحه على الجزية، وصالحه أهل "جرباء" و "اذرح" على الجزية أيضاً. كما صالح أهل "مقنا" على ربع كروعهم وغزولهم وحلفتهم وعلى ربع ثمارهم، وكانوا يهوداً. وقد دَوّن "ابن سعد" صورة كتاب ذكر إن الرسول كتبه ل "يحنة بن رؤبة" "يحنة بن رَوْبةَ" وأهل ايلة "لسفنهم وسيارتهم في البر والبحر... ولمن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر".

وأورد "ابن سعد" نص كتاب أرسله الرسول إلى "يوحنا بن روبة" "يحنة ابن رَوْبةَ" و "سَرَوات" أهل ايلة" جاء فيه إن رسول الله قد أرسل إليه رسلاً هم" "شرحبيل" و "أبيّ" و "حرملة"، و "حريث بن زيد الطائي". و "أن حرملة" قد شفع له ولأهل ايلة لدى الرسول وأن عليه إن يكسو "زيداً" كسوة حسنة. وأنه قد أوصى رسله بهم. ويظهر من هذا الكتاب، إن حامله كان "زيداً، وجاء فيه "وجهزوا أهل مقنا إلى أرضهم".

وكتب الرسول كتباً إلى أهل "اذرح" و "جربا" ولأهل مقنا، وذكر إن أهل مقنا، كانوا يهوداً على ساحل البحر. وأهل جربا وافرح يهود أيضاً.

إما "كلب" التي كانت ديارها تتاخم ديار جذام، فينسبها النسابون إلى "كلب بن وبرة"، وهي من القبائل التي كانت تنزل ديار الشام عند ظهور الإسلام. غير إننا لا نعرف من تأريخها شيئاً يذكر قبل الإسلام.

وتتصل بديار كلب من الشرق أرض الحيرة وديار "بني بكر"، ومن الجنوب ديار طيء، ومن الغرب ديار "بنو بليّ" و "جذام"، ومن الشمال "بنو بهراء" وقبائل غسان.

ويرجع نسب "كلب" في عرف النَسّابين إلى قبائل "قضاعة". ومن كلب الأسبع" وهي بطون ثعلب وفهد ودب والسيد والسرحان وبرك. ومن قبائلها: ثور وكلب ورفيدة وعوذي وعرينة وقبائل أخرى يذكرها النسابون.

وينسب إلى هذه القبيلة "زهر بن جناب الكلبي"، وهو في جملة من يذكرهم الأخباريون من المعمرين. ويذكرون انه كان رئيساً من رؤساء هذه القبيلة، وانه كان شاعراً، وأنه كان في أيام "كليب وائل" و "المهلهل بن ربيعة"، ومعنى ذلك انه عاشر في القرن السادس للميلاد.

وقد ذكر الأخباريون أسماء رجال برزوا في الجاهلية، ينتمون إلى بطون هذه القبيلة، منهم "هوذة بن عمرو"، نعتوه ب "رب الحجاز"، وهذا النعت يدل على منزلة الرجل ومكانته التي كان عليها قبل الإسلام. وهو من "حَرْ دش" وقد مدحه "النابغة "لذبياني". وقد نسب الأخباريون هوذة إلى "عص" أو "عيثر بن لبيد"، وهو في زعمهم من المعمرين في الجاهلية.

وقد وفد رجل من "كلب" على الرسول اسمه "عبد عمرو بن جبلة بن وائل بن الجَلاِّح الكلبي"، ومعه "عاصم"، من "بني وقاش" من "بني عامر"، فأسلم. ووفد "حارثة بن قطن بن زائر بن حصن بن كعب بن عليم الكَلْبي" و "حمل بن سعدانة بن حارثة بن مغفل بن كعب بن عليم"، فأسلما. وكتب الحارثة بن قطن، كتاباً، لأهل دومة الجندل وما يليها من طوائف كلب، دَوّن فيه أوامره لهم ونواهيه وشروطه إن أرادوا الدخول في الإسلام.

وأورد "ابن سعد" صورة كتاب، ذكر إن الرسول كتبه "لبني جناب" من كلب وأحلافهم ومن ظاهرهم. وقد بين فيه الأمور التي يجب عليهم مراعاتها من حقوق وإحكام. وأشهد عليه فيه: سعد بن عبادة، وعبد الله بن انيس، ودحية الكلبي 60 ولعذرة عدة بطون، منها" بنو الجلحاء، وبنو جلهمة، وبنو زقزقة، وبنو ضنة، وبنو حردش، وبنو حنّ، وبنو مدلج. ويظهر من ابيات للشاعر النابغة إن "النعمان بن حارث الغساني" لما هم بغزو "بني حنّ" في موضعهم ب "برقة صادر"، نهاه عن ذلك، غير انه لم ينته، فأصيب غزوه بهزيمة. وحنّ، هم الذين قتلوا "الجلاس بن وهب بن قيس بن عبيد" من طيء، في الحجر. وكان الجلاس ممن اجتمعت عليه جديلة طيء.

وتبوك هي من جملة مواضع بني عذرة، وهي موضع "Thapaua" الذي ذكره "بطلميوس"، ولا نعرف من أمرها قبل الإسلام شيئاً يذكر. وقد ذكرت في الفتوح، اذ وصل الرسول إليها، وصل الرسول، وصالح أهلها على الجزية، مما يدل على إن سكانها كانوا من أهل الكتاب.

وكان غزو الرسول لها سنة تسع للهجرة، اذ بلغه إن الروم قد جمعت جموعاً كثيرة بالشام، وانهم قد جمعوا إليهم جمعاً من لخم وجذام وعاملة وغسان وقدموا مقدماتهم إلى البلقاء، فأراد الرسول مباغتتهم قبل إن يباغتوه، فلما وصل إليها، وجد إن الروم بعيدون عنه فرجع.

ويذكر أهل الأخبار إن "بني عذرة" نصروا قصيّاً وساعدوه، لوجود صلة له بهم. ويظهر انه قد كان عند القدامى من "بنيُ عذرة" كتاب في أخبارهم كانوا يرجعون إليه إذا احتاجوا إلى الوقوف على خبر يخص هذه القبيلة. فقد ذكر "أبو عمرو بن حريث العذري"، انه رجع إلى كتاب من كتب آبائه في أمر "وفد عذرة" الذي ذهب إلى الرسول .

وتقع ديار "غطفان" جنوب "طيء"، وشمال "هوازن" و "خيبر" والى الغرب من بليّ وديار سعد. وهم من القبائل الكبيرة التي يرجع النسابون نسبها إلى "سعد بن قيس بن مضر". فهي من القبائل المضرية في اصطلاح أهل الأنساب. وهم قبائل: منهم: ريث وبغيض وأشجع، ومن بغيض ذبيان، وهو والد عبس، وأنما أجداد قبائل كبيرة. وتقع ديار أشجع على مقربة من المدينة، وأما ديار "بغيض" فتقع عند شربة والربذة، وتجاورها "خصفة بن قيس عيلان"، وسليم الذين تقع ديارهم في جنوبهم.

ومن رجال "أشجع" "مسعود بن رخيلة بن نويرة بن طريف"، وقد وفد على الرسول على رأس وفد قوامه مئة رجل، وادَعوا رسول الله، ثم أسلموا.

وقد كانت بين "غطفان" وبين "بني عامر بن صعصعة" وهم بطن من هوازن حوادث وأياّم. من ذلك "يوم النفراوات"، وفيه قيل خالد بن جعفر ابن كلاب العامري زهير بن جذيمة سيد عبس. وكانت هرازن تخضع لزهير. وتقدم له الإتاوة كل سنة في سوق عكاظ. فلما استبد بهم زهير، ولم يرع لهم حرمة، ولم ينصفهم، نقموا عليه. وأقسم جعفر ليقتلنه، وقد وفى بقسمه في يوم "النفراوات".

وقد غزا الرسول قوماً من "غطفان"، هم من "بني محارب" و "بني ثعلبة"، حتى نزل نخلاً فلقي جمعاً من "غطفان"، ولم تقع بينهم حرب، وعرفت الغزوة ب "غزوة ذات الرقاع". وكانت هذه الغزوة في أول السنة الثالثة من الهجرة. وعرفت أيضاً ب "غزوة ذي أمر" ناحية "النخيل". وكان قد جمعهم رجل يقال له: "دعثور بن الحارث" من "بني محارب"، وهم من الأعراب، فلما وصل الرسول إليهم، هربوا في رؤوس الجبال، ثم أسلم "دعثور" ودعى قومه إلى الإسلام.

وقد تجمع جمع من غطفان بالجناب، وأرادوا مباغتة المسلمين، فوصلت الأنباء بذلك إلى الرسول، فأرسل سرية عليهم فلت ذلك الجمع.

وقد استجابت "غطفان" لدعوة سادات "بني النضير" أمثال: "سلام ابن أبي الحقيق"، و "حيي بن أخطب" و "كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق"، ودعوة نفر من "بني وائل"، فيهم "هوذة بن قيس الوائلي" و "أبو عمار الوائلي"، ولزعماء مكة وعلى رأسهم "أبو سفيان"، فخرجت وقائدها "عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري" في بني فزارة، و "الحارث بن عوف بن أبي حارثة المُرّي" في "بنيُ مرّة" و "مسعود "مسعْر" بن رخيلة بن نويرة بن طريف بن سحمة الأشجعي" فيمن تابعه من أشجع. واستجابت لهم "بنو سليم"، يقودهم "سفيان بن عبد شمس" وهو أبو "أبي الأعور السلمي"، وانضمت إليهم "بنو أسد" يقودهم "طليحة بن خويلد الأسدي"، وكوّنوا الأحزاب. وساروا باتجاه المدينة، فوجدوا المسلمين وقد حفروا خندقاً حولها، حال بينهم وبين اقتحامها، ووقعت مناوشات، انتهت برجوع الأحزاب. ونجاح المسلمين في الدفاع عن أنفسهم.

ومن رجال "عبس" الذين وفدوا على الرسول "ميسرة بن مسروق" و "الحارث بن ربيع" وهو الكامل، و "قنان بن دارم"، و "بشر بن الحارث بن عبادة" و "هِدْم بن مسعدة"، و "سباع بن زيد"، و "أبو الحصن بن لقمان"، و "عبد الله بن مالك"، و "فروة بن الحصين بن فضالة". وذكر إن رسول الله سأل نفراً من "عبس" عن "خالد بن سنان"، فقالوا: لا عقا له، فقال: نبيّ ضيعه قومه، ثم أنشأ يحدث أصحابه حديث خالد.

وقد كتب الرسول إلى "بني زهير بن أقيش" كتاباً، أمنهم فيه على أنفسهم وأموالهم. و "بنو أقيش" هم حيّ من "عكل". و "عكل" من "الرباب". وهم "تيم" و "عدي" و "عكل" و "مزينة" .وذكر إن الرسول كتب لبني اقيش في ركية بالبادية.

ومن ديار "هوازن"، "تربة"، وهي ناحية "العبلاء" على طريق صنعاء ونجران. وتقع في "عجز هوازن". وقد أرسل الرسولُ عليهم سرية بقيادة "عمر" وذلك سنة سبع للهجرة. وتقع ديار هوازن بغور تهامة إلى إلى بيشة والسراة وحنين وأوطاس.

وفي جنوب شرقي "حسمى" أقامت بطون "فزارة"، وتنسب إلى "فزارة بن ذبيان بن بغيض بن غيث بن غطفان". وقد اشتركت في حرب داحس والغبراء بين عبس وذبيان، وفي معارك أخرى، وتعاونت مع يهود خيبر ضد الرسول. ومن رجال "فزارة" "خارجة بن حصن"، وكان فيمن وفد على التي من وفد "بني فزارة" سنة تسع للهجرة.

ومن "بني فزارة" في أيام الرسول "عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر"، أغار على لقاح رسول الله وهي ترعى بالغابة، وهي على بريد من المدينة، فوجه رسول الله جمعاً عليه، قتل "مسعدة بن حَكمةَ بن مالك بن حذيفة بن بدر الفزاري" و "حبيب بن عيينة"، ثم لحقهم الرسول ب "ذي قرد"، فوجدهم قد مضوا. وقد نعت النبي "عيينة" ب "الأحمق المطاع في قومه". ومن بني فزارة الذين وفدوا إلى الرسول بعد رجوعه من تبوك سنة تسع للهجرة، "خارجة بن حصن" و "الحرّ بن قيس بن حصن. وذكر إن "عيينة بن حصن" كان من المؤلفة قلوبهم. شهد حنيناً والطائف. وكان أحمق مطاعاً دخل على النبي بغير إذن وأساء الأدب، فصبر النبي على جفوته وأعرابيته. وقد ارتد وآمن بطليحة،. ثم أسر، فمنّ عليه الصدّيق، ثم لم يزل مظهراً للإسلام. وكان يتبعه عشرة آلاف قناة. وكان من الجرارة. واسمه حذيفة ولقبه عيينة لشتر عينه.

ولما خرج "زيد بن حارثة" في تجارة له إلى الشام، ومعه بضائع لأصحاب رسول الله، وكان دون "وادي القرى" لقيه ناس من "فزارة" من "بني بدر"، فضربوه وأخذوا ما كان معه، فعاد "زيد" إلى المدينة وأخبر الرسول بما حدث. فأعاده مع سرية لغزوهم، فحاصرهم، ولكنهم كانوا قد هربوا، فأسر منهم "فاطمة بنت ربيعة بن بدر" وابنتها "جارية بنت مالك بن حذيفة ابن بدر"، وقُتل "النعمان" و "عبد الله" ابنا "مسعدة بن حكمة بن مالك ابن بدر".

وعلى السُنّة الجارية بن القبائل، تشتَّت شمل عشائر غطفان بسبب الحروب التي نشبت بينها من جهةّ، وبينها وبن بطون خصافة من جهة أخرى. ونعني بخصافة هوازن وسليماً. وقد استمر التنافس بين عشائر غطفان وعشائر خصافة إلى ظهور الإسلام، وتميز بحوادث الفتك والاغتيالات، وبرز في هذا النزاع اسم "دريد بن الصمة" وهو من هوازن، ومعاوية وصخر أخوي الخنساء وهما من سُليم.

ولما انتقل الرسول إلى جوار ربه، ارتد كثير من غطفان، وأيد بعضهم طليحة، ولم يرجعوا إلى الإسلام إلا بعد انتصاره على المرتدين.

وكان من وجوه "بني عامر بن صعصعة"، عامر بن الطفيل، وأريد بن قيس بن مالك بن جعفر، "أريد بن ربيعة بن مالك بن جعفر"، وجبار بن سلمى بن مالك، وكان هؤلاء رؤوس القوم وشياطينهم. وقد وفدوا على الرسول. ولم يسلم "عامر بن الطفيل"، بل رجع كافراً ومات على الشرك. وكان معجباً بنفسه، جريئاً على الناس، من الفرسان. طلب من الرسول إن يجعل الأمر له من بعده في مقابل إسلامه، أو إن يقتسم معه الحكم على الناس مناصفة، فيكون الرسول حكم أهل الوبر، وله حكم أهل الوبر. فما قال له الرسول: " لا، ولكني أجعل لك أعنة الخيل فإنك امرؤ فارس" قال: أوليست لي? لأملأنها خيلاً ورجالاً. ثم ولى، فلما كان في طريقه إلى منازله مرض وهلك.

وكان "أبو براء عامر بن مالك بن جعفر" المعروف ب "ملاعب الأسنة الكلابي"، بعث إلى رسول الله إن ينفذ إليهم قوماً يفقهّونهم ويعرضون عليهم الإسلام وشرائعه، فبعث إليهم قوماً من أصحابه. فعرض لهم "عامر بن الطفيل" يوم بئر معونة فقتلهم أجمعين. واغتمَّ "أبو براء" لاخفار عامر بن الطفيل ذمته في أصحاب رسول الله، ثم تود بعد ذلك بقليل. وكان سيد "بني عامر ابن صعصعة" في أيامه. و "بئر معونة"، أرض بين أرض "بني عامر" و "حرة بني سُليم"، وهي إلى حرة بني سليم أقرب. وقد استصرخ "عامر بن الطفيل" جماعة من "بني سليم" و "عصية" و "رعلا" و "ذكران" فنفروا معه على المسلمين.

ولما أرسل "أبو بكر" "خالد بن الوليد" إلى "بني عامر بن صعصعة"، لم يقاتلوه ودفعوا الصدقة. وكان "قرة بن هبيرة" القشري امتنع من أداء الصدقة، وأمد "طليحة الأسدي"، فأخذه خالداً، فحمله إلى "أبي بكر" فحقن أبو بكر دمه.

ومن بني "عامر بن صعصعة "، بنو "رؤاس بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة". ومنهم "عمرو بن مالك بن قيس" الذي وفد على الرسول فأسلم. ومنهم "بنو البكّاء". ووفد وفد من "بني البكّاء" على الرسول كان فيه "معاوية بن ثور بن عبادة بن البكّاء" و "الفُجيع بن عبد الله بن جندح بن البكّاء" و "عبد عمر البكّائي"، وهم الأصم.

وتقع ديار "بني عامر بن صعصعة" في الأقسام الغربية من نجد وتمتد إلى الحجاز. وذكر انهم كانوا يصيفون بالطائف لطيب هوائها، فلما اشتدّ عود ثقيف وقوي أمرهم، منعوهم منها، واستقلوا بها وحدهم.

ويرجع نسب "بني سليم" إلى "قيس عيلان"، وتقع منازلها في مواطن حرار ذات مياه ومعادن عرفت ب "معدن سُليم". وكانوا يجاورون عشائر غطفان وهوازن وهلال. ولخيرات أرضهم ووقوعها في منطقة مهمة تهيمن على طرق التجارة، صارت بنو سليم من القبائل الغنية. وكانت صلاتها حسنة بيهود يثرب، كما كانت صلاتها وثيقة بقريش.. وقد تحالف عدد كبير من رجالات مكة مع بني سليم، واشتغلوا معهم في الاستفادة من المعادن والثروة في أرض سليم.

وقد قدم رجل من "بني سليم" اسمه "قيس بن نسيبة"، على الرسول فأسلم، ذكر انه كان على علم بلسان الروم وبهينمة الفرس، وبأشعار العرب، وانه كان ذا حظ بثقافة ذلك اليوم. فلما رجع إلى قومه، وكلمهم بالإسلام، اقتنعوا بحديثه فأسلم منهم عدد كبير، وذهب وفد عنهم إلى الرسول، فيه "العباس بن مرداس" و "أنس بن عياض بن رعل" و "راشد بن عبد ربه"، فأسلموا على يديه. وكان "راشد" يسدن صنما لبني سليم. وكان اسمه "غاوي"، وكان قد رأى ثعلبين يبولان على صنمه فشدّ عليه فكسره، ثم جاء مع الوفد إلى الرسول فأسلم، وسمّاه الرسولُ "راشدا" على طريقته في تغييره أمثال هذه الأسماء. وأعطاه الرسول "رهاناً"، وفيها عن ماء.

ويذكر أهل الأخبار، إن سيداً من سادات "بني شليم"، اسمه "قدْر ابن عمار"، كان قد قدم على النبي بالمدينة فأسلم، وعاهده على إن يأتيه بألف من قومه، فلما ذهب إلى قومه، وعاد ليأتي إلى للرسول برجاله، نزل به الموت، فأوصى إلى رهط من "بني سليم" بالذهاب إلى الرسول، هم "عباس ابن مرداس" و "جبار بن الحكيم" و "الأخنس بن يزيد" وأمّر كل واحد منهم على ثلاثمائة، ليقدموا على الرسول، ثم جاء من بعدهم "المنقع بن مالك ابن أمية" وهو على مائة رجل، فصار عددهم ألفاً.

وكتب الرسول إلى "سَلمة بن مالك بن أبي عامر" السلمي" من "بني حارثة"، انه أعطاه مدَفَوّاً لا يحاقّه فيه أحد. وأعطى "العباس بن مرداس" "مدَفوَاً"، لا يحاقه فيه أحد، كتبه له العلاء بن عقبة، وشهد عليه. ويظهر إن "سلمة بن مالك السلمي"، الذي ذكر "ابن سعد" إن الرسول "أعطاه ما بين ذات الحناظى إلى ذاتا الأساور"، هو "سلمي بن مالك بن أبي عامر" المتقدم.

وكان العباس بن مرداس يهاجي "ضاف بن ندبة السلمي" أحد الشعراء المعروفين. ثم تمادى الأمر إلى إن احتربا، وكثرت القتلى بينهما، ولما تماديا في هجائهما، ولم يسمعا نصيحة "الضحاك بن عبد الله السلمي"، وهو يومئذ صاحب أمر بني سليم، ولجّا في السفاهة، خلعتهما بنو سليم. ثم أتاهما "دريد ابن الصمة" و "مالك بن عوف النصري" رأس، هوازن، وأصلحا بينهما. واستراح منهما بنو سليم.

وأسلم "العباس بن مرداس" قبل فتح مكة وحضر مع النبي يوم الفتح في جمع من "بني سليم" بالقنا والدروع على الخيل. وله ولد اسمه جلهمة، روى عن النبي. ويروى إن العباس بن مرداس، شهد حُنيناً على فرسها العُبيد، فأعطاه التي أربع قلايص، فقال العباس: أتجعل نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع، فقال النبي: "اقطعوا عني لسانه، فأعطوه ثمانين أوقية فضة". وكان فيمن اشترك مع العباس بن مرداس من قومه في فتح مكة. "أنس بن عباس بن رعل" و "راشد بن عبد ربه"، وقد طلب العباس وقومه من الرسول، إن يجعل لهم لواءً أحمر. وشعاراً مقدماً، ففعل ذلك بهم. وكان للعباس أخ اسمه "عمرو بن مرداس"، ويعدّ مثل أخيه في جملة المؤلفة قلوبهم كذلك.

وأعطى الرسول "هوذة بن نبيشة السلمي" من "بني عصيةّ". "ما حوى الجفر كله". وكتب للأجبّ رجل من "بني سليم" "انه أعطاه فالساً"، وكتب كتابه وشهد عليه "الأرقم". وأعطى الرسول "راشد بن عبد السلمي". "غَلْوتين بسهم. وغلوة بحجر برهاط" "لا يحاقه فيها أحد". كما أعطى "حرام بن عبد عوف" من "بني سليم" "إذاماً وما كان له من شواق".

ومن "بني سليم" "نبيشة بن حبيب"، قاتل "ربيعة بن مكدّم" الكناني. وكان فارس كنانة.

ويذكر إن الردة لما وقعت بوفاة الرسول، جاءت "بنو سليم" إلى "أبي بكر"، فطلبوا منه إن يمدهم بالسلاح لمقاتلة المرتدين، فأمر لهم بسلاح، فأقبلوا يقاتلون "أبا بكر": فبعث أبو بكر خالد بن الوليد عليهم، وجعلهم في حظاَئر ثم أضرم عليهم النيران.

ومن ديار "بنيُ سليم" معدن بني سُليم، وهو منزل كثير الأهل فيه أعراب بني سليم، وماؤه من "البرك"، وهي قرى قديمة. قد غزا الرسول على رأس ثلاثة وعشرين شهراً من مُهاجره "قرقرة الكدر" "قراقرة الكدر"، ناحية معدن "بني سليم" بينه وبين المدينة ثمانية بُرُد، وذلك لما سمع إن بهذا الموضع جمعاً من "بني سليم" و "غظفان"، فلما لم يجد أحداً، اخذ ما عثر عليه من جمال تعود إليهم، كانت ترعى هناك، ورجع إلى المدينة. وغزا الرسول في السنة الثالثة من الهجرة موضعاً آخر من مواضع "بني سليم" اسمه: "بحران" من ناحية الفرع، وهي قرية من ناحية المدينة، لما بلغه إن بها جمعاً كثيراً من "بني سليم".

وكانت منازل عجز هوازن بموضع شربة. ومن رجال "هوازن" في أيام الرسول "مالك بن عوف النصري" أحد بني نصر. وهو الذي جمع جموع هوازن وثقيف وأقبل عامداً إلى النبيّ، حتى وافاه ب "حنين" فوقعت غزوة حنين. وقد جمعه نصر وجشم كلها وسعد بن بكر وناس من بني هلال، وهم قليل، ولم يشهدها من قيس عيلان الا هؤلاء وغابت عنها فلم يحضرها من هوازن كعب ولا كلاب. وفي جشم "دريد بن الصمة"، شيخ كبير، ليس فيه شيء إلا التيمن برأيه ومعرفته بالحرب. وكان شيخاً كبيراً مجرباً، وفي ثقيف سيدان لهم في الأحلاف: قارب بن الأسود بن مسعود، وفي بني مالك ذو الخمار سبيع بن الحارث وأخوه الأحمر بن الحارث في بني هلال.

وبنو سليم أيضاً قبائل، منها: بنو ذكوان، وبنو بهثة، وبنو سمّال، وبنو بهزّ، وبنو مطرود. وبنو الشريد، وبنو قنفذ، وبنو عُصيّة، وبنو ظفر. وقد نجلت هذه القبائل رجالاً عرفوا في الجاهلية والإسلام، منهم: العباس بن مرداس الشاعر الشهير، ممن شهدوا معركة حنين مع الرسول، ومجاشع بن مسعود ممن قاد الجيوش. وهو من المهاجرين، والعباس بن انس الأصم من فرسان الجاهلية، ورجال آخرون. ولسليم شقيق في عرف النسابين اسمه "مازن" 0 إما أبوهما فهو منصور.

و "جهينة" بطن مثل "بليّ" و "بهراء" و "كلب" و "تنوخ" من بطون "قضاعة"، كانت ديارها في نجد، ثم هاجرت إلى الحجاز، فسكنت على مقربة من يثرب في المنطقة التي بين البحر الأحمر ووادي القرى، عند ظهور الإسلام. وقد دخلت في الإسلام في حياة الرسول ولم تشترك مع من أشرك في الردة بعد وفاته. وينسب النسابون جهينة إلى صحار والد جهينة، ومن بطونها بنو حميس.

ومن ديار "جهينة"، موضع "بواط"، وهو من "جبال جهينة" من ناحية "رضوى" قريب من "ذي خشب" مما يلي طريق الشام. وبن "بواط" والمدينة نحو أربعة برد. ويمر به طريق إلى بلاد الشام. ولما سمع الرسول، وهو على رأس ثلاثة عشر شهراً من مهاجَره، إن قافلة لعير قريش" فيها أمية بن خلف الجمحي ومئة من رجال قريش وألف وخمسمائة بعير، تمر من هناك، خرج في مئتين لاعتراضها، ولكنها فرت ونجت، فلم تقع في الأسر.

وكان في جملة من وفد على الرسول من جهينة" "عبد العُزّى بن بدر بن زيد بن معاوية الجهني" من "بني الربعة بن رشدان بن قيس بن قيس بن جهينة"، ومعه أخوه لأمه "أبو روغة". وكان لهم واد اسمه "غويّ". ومن "بني جهينة" "بنو دهمان" ومنهم "عمرو بن مرّة الجهني"، وكان سادن صنمهم، فأسلم وكسر الصنم، وقدم المدينة، وأعلن إسلامه أمام الرسول.

وقد كتب الرسول كتاباً لبني زرعة وبني الربعة من جُهينة، أمنهم فيه على أنفسهم وأموالهم. كما كتب لعَوْسَجة بن حرملة الجهني من "ذي المروة"، وقد "أعطاه ما بين بَلَكثة إلى المصنعة إلى الجفلات إلى الجد جبل القبلة لا يحاقه أحد"، وشهد على صحة الكتاب وكتبه "عقبة" كما كتب الرسول كتاباً لقوم آخرين من جُهينة، هم من "بني شنخ"، وقد "أعطاهم ما خشوا من صفينة وما حرثوا"، وكتب الكتاب وشهد عليه "العلاء بن عقبة". كما كتب الرسول كتاباً لبني الجرمز بن ربيعة، وهم من "جهينة"، كتبه المغيرة. وكتب كتاباً ل "عمرو بن معبد الجهني" و "بني الحرفة" من جهينة وبني الجرمز، أهم ما جاء فيه "وما كان من الدين مدوّنة لأحد من المسلمين قضى برأس المال وبطل الربا في الرهن. وأن الصدقة في الثمار العشر"، ويظهر من ذلك أن هذا الكتاب قد دُوّن بعد نزول الأمر بتحريم الربا.

وبلي من قبائل قضاعة كذلك، وتنسب إلى بليّ بن عمرو بن الحاف بن قضاعة. وتقع ديارها على مقرية من تيماء بين ديار جهينة وديار "جُذام"، وهي مثل اكثر قبائل قضاعة، لا نعرف من تأريخها في الجاهلية شيئاً يذكر. أما في أول ظهور الإسلام، فقد اشتركت مع القبائل النصرانية في جانب الروم ضد المسلمين. ومنهم "مالك بن رافلة"، قائل "زيد بن حارثة" يوم "مؤتة".

وفي سنة ثمان من الهجرة أرسل الرسول "عمرو بن العاص" إلى ارض "بلْي" و "عذرة"، فلما بلني موضع "السلاسل" خاف، فبعث إلى رسول الله يستمدّه، فأمده بجماعة من المهاجرين الأولين، فيهم "أبو عبيدة بن الجراح" و "أبو بكر" و "عمر" وقد عرفت تلك الغزوة ب "ذات السلاسل".

وقد دخل دينَ يهود فرعت من بليّ ينسب إلى "حشنة بن اكارمة"، وسكن على مقربة من تيماء مع يهود، وظل في هذا الدين وفي هذه الديار إلى إن أمر "عمر" باجلائهم عنها في الإسلام.

وقد وفد نفر من "بليّ" على الرسول، وكان "شيخ الوفد" "أبو الضباب" "أبو الضبيب" فأسلم وأسلم من كان معه، ثم عادوا إلى ديارهم.

وتقع إلى الجنوب من ديار "بليّ" ديار "مزينة"، وهي في الشرق من منازل "جهُينة" والى الغرب من ديار "سعد" والى الشمال من بلاد "خزاعة". ويرجع نسب "مُزينة" إلى "مضر". وقد وفد قوم منهم إلى الرسول فيهم "خزاعي بن عبد نهم" فبايع الرسول على قومه مزينة، وقدم معه جماعة من أعيان مزينة منهم" "بلال بن الحارث" و "النعمان بن مقرن" و "عبيد الله ابن بردة"، و "عبد الله بن درة"، و "بشر بن المحتقر". و "خزاعي" هو الذي حمل لواء مزينة يوم الفتح، وكانوا يومئذ ألف رجل، وهو أخو المغفل أبي عبد الله بن المغفل وأخو عبد الله ذي البجادين.

وأما وادي القرى، فهو واد كثرت قراه، لذلك قيل له وادي القرى وأهله عرب ويهود. وهو من المواضع المعروفة بالخصب في جزيرة العرب، وبه عيون وآبار.. لذلك اشتهر بالعمار منذ أيام ما قبل الميلاد. فنزلت به قبائل عديدة، منه قوم ثمود. وقد جلب خصب هذا الوادي أنظار من نزح إليه من اليهود، فحفروا فيه الآبار وأساحوا العيون، وزرعوا فيه النخيل والحبوب، وعقدوا بينهم حلفاً وعقداً. ودفعوا عنه قبائل بليّ بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، وغيرهم من القبائل. وعقدوا لهم أحلافاً مع القبائل القوية، لتحميهم ولتدافع عنهم، مقابل جعل سنوي.

وقد غزا الرسول بعد فراغه من خيبر هذا الوادي، فقاتله أهله، ففتحه عنوة، وترك الرسول النخل والأرض في أيدي اليهود، وعاملهم على نحو ما عامل عليه أهل خيبر.

وكانت "فدك" حكومة مستقلة كسائر الواحات والقرى في أعالي الحجاز، أهلها من اليهود، وعليهم في أيام الرسول "يوشع بن نون اليهودي"، واليه ُبعث "مُحيصة بن مسعود" لدعوته ولدعوة قومه إلى الإسلام، وبها قوم من "بنيُ مرّة". وقوم من "بني سعد بن بكر".

وكان أهل خيبر من يهود كذلك، يتحكم فيهم رؤساء منهم، ولهم حصون وآطام تحمي أموالهم ومساكنهم، فتحت في أيام الرسول بسبب معاداة أهلها للإسلام واتفاقهم مع المشركين. وكان يظاهرهم "غطفان". ومن حصونهم "حصن ناعم" و "حصن القموص"، حصن "أبي الحقيق"، و "الوطيح" و "السلالم"، وكان آخر حصون خيبر و "الشق" و "النطاة".

وكاتب الرسول "بني غاديا"، وهم قوم من يهود. وكتب كتاب رسول الله إليهم: "خالد بن سعيد". وكتب "خالد" كتاباً آخر إلى "بني عريض" وهم أيضاً قوم من يهود، حدد لهم الرسول ما افرضه عليهم، يؤدونه لحينه في كل عام.

وكان يهود "بنو قينقاع"، قد تحالفوا مع الأوس والخزرج، تحالفوا مع "عبد الله بن أبي سلول"، كما تحالفوا مع "عبادة بن الصامت"، وكانوا صاغة، ولهم سوق عرف ب "سوق بني قينقاع"، وكانوا أشجع يهود. فلما كانت وقعة "بدر"، اظهروا ميلاً إلى قريش، فحاصرهم الرسول، ثم غلبهم فأجلاهم عن ديارهم ولحقوا بأذرعات ومن منازل "بني لحيان" موضع "غُزّان"، وادٍ بين أمج وُ عسفان إلى بلدّ يقال له "ساية". وهو موضع مرتفع غزاه الرسول غزوته التي عرفت ب "غزوة بني لحيان" في سنة ست للهجرة. وكان بنو لحيان ومن لأفهم من غيرهم قد استجمعوا، فلما بلغهم إقبال الرسول إليهم هربوا، فلم يلق كيداً. واعتصموا في رؤوس الجبال، فلم يقدر منهم على أحد. ولم تستطع السرايا إن تقبض على أحد منهم، فرجع الرسول.

وأقام "القرُطاء"، وهم ". بنو قرط"، "قريط" من "بني. كلاب"، بناحية "ضرية"، فبعث رسول الله عليهم "محمد بن مسلمة"، فاستاقَ إبلاً وغنما منهم، وهرب القرطاء. وقد أرسل الرسول "أبا بكر" لغزو "بني كلاب" بنجد، وذلك سنة سبع للهجرة، وذكر انه غزا "بني فزارة". وأرسل عليهم سنة تسع "الضَحّاك بن سفيان الكلابي"، ومعه "الأصيد بن سلمة بن قرط"، فلقيهم "بالزجّ" موضع بنجد، وتغلب على "القرط".

ولما غزا الرسول غزوة "الأبواء"، وهي غزوة "ودّان"، وكانت أول غزوة غزاها الرسول، وادعه "مخشي بن عمرو الضميري"، وكان سيد "بني ضمير" "بني الضمير" في ذلك الوقت. والأبواء قرية من أعمال "الفرع" من المدينة، بينها وبين "الجحفا" مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلاً.

وتقع ديار "بني مدلج" بناحية "ينبع"، ومن أرضهم "ذو العشيرة"، وهو لبني مدلج. وقد غزاهم الرسول غزوته المعروفة ب "ذي العشيرة" على رأس ستة عشر شهراً من مُهاجَره، فوادعهم ووادع حلفاءهم من "بني سمرة". ويظهر إن هذا الموضع إنما سمي ب "ذي العشيرة"، نسبة إلى الصنم "ذو العشيرة"، كان له معبد في هذا المكان، فعرف به.

ومن القبائل التي أقامت على مقربة من مكة "خزاعة"، ومن رجالهم عند ظهورّ الإسلام، "عمرو بن الحمق" الكاهن، صحب النبي وشهد المشاهد مع "علي" وقتله "معاوية" بالجزيرة. وكان رأسه أول رأس نصب في الإسلام. و "عمرو بن سالم الخزاعي"، الذي جاء إلى الرسول يشكو تظاهر "بنو بكر ابن عبد مناة بن كنانة" وقريش على خزاعة، ونكث قريش عهدهم الذي قطعوه للرسول ألا يظاهروا أحداً على خزاعة، فكان ذلك من عوامل فتح مكة.

ومن رجال خزاعة "بديل بن ورقاء بن عبد العُزّى"، شريف كتب إليه النبي يدعوه إلى الإسلام، وكان له قدر في الجاهلية بمكة. ومن بطون خزاعة "بنو المصطلق"، وعرفوا ب "بلمصطلق" أيضاً، وقد كانوا ينزلون ب "المريسيع"، وهو ماء لهم، من ناحية "قديد" إلى الساحل. وقد كان . قائدهم وسيّدهم "الحارث بن أبي ضرار"، أبو "جويرية"، التي تزوجها النبيّ بعد إن خرج إليهم في غزوة "بني المصطلق" من سنة ست. وهم من "خزاعة". وكان "الحارث" قد سار في قومه ومن قدر عليه من العرب، ودعاهم إلى حرب الرسول. فلما وصل الرسول إلى "المريسيع"، تفرق من كان مع الحارث من العرب. وتغلب الرسول على "بني المصطلق" وأخذ منهم أسرى وغنائم، وكانت "جويرية" في جملة من وقع في الأسر فتزوّجها الرسول. ومن بطون خزاعة "بنو الملوّح"، وكانوا ب "الكديد".

وكان في جمله من يقيم بتهامة "بنو جذيمة بن عامر بن عبد مناة"، ومن مياههم "الغميصاء". ولما توفي الرسول تجمعت بتهامة جموع من مدلج، تأشب إليهم شذاذ من خزاعة وأفناء من كنانة، عليهم جندب بن. سلمي، أحد "بني شنوق"، من بني مدلج، فحاربهم "خالد بن أسيد" وشتَت شملهم، وأفلت جندب، ثم ندم على ما صنع.

وكتب الرسول لقوم من "أهل تهامة"" بديل وبسر وسَرَوات بني عمرو، ذكر فيه انه لم يأثم مالهم، ولم يضع في جنبهم، ثم قال لهم: "وان أكرم أهل تهامة عليّ وأقربهم رحماً مني أنتم ومن تبعكم من المطيبين". ثم أخبرهم إن "علقمة بن ثلاثة" قد أسَلم. وأسلم "ابنا هوذة وهاجرا وبايعا على من تبعهم من عكرمة".

وينقل "ابن سعد" صورة كتاب كتبه "أبيّ بن كعب" وجهه "لجماع كانوا في جبل تهامة قد غصبوا المارة من كنانة ومزينة والحكم والقارة ومن اتبعهم من العبيد"، فلما ظهر رسول الله، وقوي أمره، وفد منهم وفد على النبي، فكتب لهم كتاباً جاء فيه: "هذا كتاب من محمد النبي رسول الله لعباد الله العتقاء. انهم إن آمنوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، فعبدهم حرّ ومولاهم محمد. ومن كان منهم من قبيلة لم يرد إليها. وما كان فيهم من دم أصابوه أو مال أخذوه، فهو لهم. وما كان لهم من دين في الناس رد إليهم، ولا ظلم عليهم ولا عدوان".

ويظهر من مضمون هذا الكتاب، ومن بيان أهل الأخبار عن الذين كانوا قد اعتصموا في جبل تهامة، انهم كانوا من الخارجين على الأعراف، ومن الرقيق الآبق، تجمعوا في هذا المكان المرتفع وتحصنوا وأخذوا يغتصبون منه المارة. وبقوا على ذلك حتى ظهر الرسول على أعدائه، فوجدوا إذ ذاك انهم لن يتمكنوا بعد ظهور الرسول من الاستمرار في التحرش بالمارة والتحرز بهذا الجبل، وان ظروفاً جديدة قد ظهرت، ستؤمن لهم سبل العيش، وان الرسول سيعفو عنهم ويغفر لهم ما وقع منهم قبل الإسلام، فجاؤوا إليه وأسلموا عند. وكتب لهم كتاب أمان بذلك.

ومنازل "كنانة" بتهامة، وهم فيها قبل الإسلام بأمدٍ طويل.

و "علقمة بن علاثة"" هو "علقمة بن علاثة بن عوف بن الأحوص بن جعفر بن كلاب". وهو الذي نافر "عامر بن الطفيل" عند "هرم بن قطبة بن سنان".

وأما "ابنا هوذة" فهما: العدّاء وعمرو ابنا خالد بن هوذة من بني عمرو ابن ربيعة بن عامر بن صعصعة.

وأما "عكرمة"، فعكرمة بن خصفة بن قيس عيلان. وذكر إن مراد الرسول ب "ومن تبعكم من المطيبين"، "بنو هاشم" وبنو زهيرة، وبنو الحارث بن فهر، وتيم بن مرة، وأسد بن عبد العزّى.

وكتب الرسول إلى "العدّاء بن خالد بن هوذة"، ومن تبعه من "عامر ابن عكرمة"، انه "أعطاهم ما بين المصباعة إلى الزّح ولوابة". يعنى لوابة الخرّار. وكتب لهم الكتاب: خالد بن سعيد.

ومن منازل "هذيل" "الرجيع"، وهو ماء لهم. ويقع إلى الشرق من "هذيل" ديار "ضَبّة" وديار "عبد مناة"، وأما في جنوبها فتقع ديار "خثعم" وثقيف، وتمتد ديارها في الشمال حتى تتصل بديار "بني سليم"، ومن "هذيل" "سفيان بن خالد بن نبيح الهذلي"، وكان قد جمع جمعاً ليغزو به الرسول، وكان قد نزل "نخلة" أو "عرنة"، موضع بقرب عرفة، أو قرية بوادي عرفة، فأرسل رسول الله إليه "عبد الله بن أنيس" فقتله. ومن القبائل المجاورة لهذيل: "فهم" و "عدوان" وكانت ديارهم بالسراة.

وممن كتب إليهم الرسول، ودَوّن "ابن سعد" صور كتبه إليهم: "سعيد ابن سفيان الرعلي"، وقد أعطاه الرسول "نخل السوارقية وقصرها، لا يحاقه فيها أحد". وكتب الكتاب وشهد عليه "خالد بن سعيد". و "عتبة بن فرقد"، وقد أعطاه الرسول موضع دار بمكة، يبنيها مما يلي المروة.

على هذا النحوا كان الوضع السياسي في جزيرة العرب عند ظهور الإسلام وفي أوائل أيامه" قوى مستقلة تخشى القبائل المحيطة بها. وأذواء وأقيال في اليمن وحضرموت ورؤساء قبائل يتحكمون في مناطق نفوذ قبائلهم، ويعيشون على ما يأخذونه من أتباعهم من حق الرئيس على المرؤوس في السلم وفي الحرب، وهم فيما بينهم في خصام وتنافس، لم تتركهم الخصومة من الانصراف إلى شؤون رعيتهم، وهم أنفسهم لم يفكروا في الانصراف إلى ذلك. فتدهورت الأحوال، وظهر أفراد ينادون بإصلاح الحال، وبالتفكير في تحسين الأوضاع وبالتعقل. وكان الصراع بين الفرس والروم، قد جسر الأعراب على الدولتين. وأخذت النصرانية ترسل المبشرين إلى العرب، لنشر النصرانية بينهم. وتغلب القلم المتصل الحروف، الذي صار قلم العرب والإسلام على القلم المنفصل الحروف، قلم العرب القدم، القلم المسند. وانتشر في مكة ويثرب. ونادى الأحناف بنبذ الوثنية والأوثان. ونزل الوحي على الرسول في أول العشر الثاني من القرن السابع للميلاد. وظهر الإسلام داعياً العرب وغيرهم إلى الإيمان بإله واحد خالق لهذا الكون. وبرسالة رسوله وبما جاء به من أوامر وأحكام. فكان ظهوره نهاية للجاهلية، وبداية لعهد جديد، عهد الإسلام.

وبظهور الإسلام على أعداثه في جزيرة العرب، وبقضائه على أهل الردة، أوجد لجزيرة العرب وجهاً جديداً. من وجوه الحياة، لم تشهده في حياتها ولم تعرفه. فقد أوجد الإسلام لأهلها موارد غنية من موارد الرزق، وبسط لهم الأرض من الصين إلى المحيط "الاطلانطي" وأخرج سكانها من ديارهم الفقيرة وأنزلهم في ديار غنية كثيرة السكان. وعرفوا بذلك نظماً لم تكن مألوفة عندهم، وأمماً لم يسمع أكثرهم بها، وخرج المؤمنون الأولون والمؤلفة قلوبهم ومن دخل الإسلام وقلبه غير مطمئن به، إلى خارج جزيرة العرب يحكمون باسم الإسلام. حدث كل ذلك في مدة لا تعدّ طويلة بالنسبة إلى ما وقع فيها من أحداث.

فالإسلام، إذن نهاية حياة قديمة، وبداية حياة جديدة، تختلف عن الحياة الأولى كل الاختلاف.

الفصل الخامس والأربعون

المجتمع العربي

المجتمع العربي: بدو وحضر. أهل وبر وأهل مدر، يتساوى في هذه الحال عرب الشمال وعرب الجنوب وعرب جميع أنحاء جزيرة العرب الأخرى.

وقسّم بعضهم عرب الجاهلية إلى ملوك وغير ملوك. وقسموا سائر الناس بعد الملوك إلى طبقتن: أهل مدر وأهل وبر. فأما أهل المدر، فهم الحواضر وسكان القرى، وكانوا يعيشون من الزرع والنخل والماشية والضرب في الأرض للتجارة. وإما أهل الوبر، فهم قطان الصحارى يعيشون من ألبان الإبل ولحومها، منتجعين منابت الكلأ، مرتادين لمواقع القطَر، فيخيمون هنالك ما ساعدهم الخصب وأمكنهم الرعي، ثم يتوجهون لطلب العشب وابتغاء المياه، فلا يزالون في حلّ وترحال.

ويعرف الحضر، وهم العرب المستقرون ب "أهل المدر"، عرفوا بذلك لأن أبنية الحضر إنما هي بالمدر. والمدر: قطع الطين اليابس. قال "عامر للنبي، صلى الله عليه وسلم: لنا الوبر ولكم المدر"، فعنى به المدن أو الحضر. ومن هنا قيل للحضر: بنو مدراء. وورد في حديث "الجسّاسة والدجال": "تبعه أهل الحجر وأهل المدر، يريد أهل البوادي الذين يسكنون مواضع الأحجار والرمال، وأهل المدر، أهل البادية". ويظهر من روايات أخرى إن "أهل، المدر" هم أهل البادية. ولكن أكثرها إن "أهل المدر"، هم الحضر، لأن اتخاذ بيوت المدر لا يكون في البادية، بل في الحضر.

وورد أن أهل البادية إنما قيل لهم "أهل الوبر"، لأن لهم أخبية الوبر. تمييزاً لهم عن أهل الحضر الذين لهم مبان من المدر، ومن هنا قيل للقرية "المدرة"، لأنها مبنية بالطين واللبن، وذكر إن "المدرة" القرية والمدينة الضخمة أيضاً، لأن المدن تبنى بالمدر أيضاً. ومن هنا قيل للحضر عموماً: بنو مدراء.

ويذكر علماء اللغة إن الحضر والحاضرة والحضارة خلاف البادية والبداوة والبدو. والحضارة الإقامة في الحضر. والحاضر والحضر هي المدن والقرى والريف، سميت بذلك لأن أهلها حضروا الأمصار ومساكن الديار التي يكون لهم بها قرار. وقد عرفوا بأهل القارية، وذلك في مقابل أهل البادية،. لأهل البدو.

و "أهل القرار"، هم الحضر، لأنهم اختاروا القرار وأحبوا الاستقرار والإقامة في مكان واحد. ولأن الطبيعة حبتهم بكل شيء يغري على الارتباط بالأرض، ولو ولد الأعرابي بين الحضر وتوفر لديه ما يؤمن له رزقه الدائم في مكانه الذي ولد فيه، لما تنقل وارتحل، ولصار حضريّاً من دون شك مثل سائر أهل الحضر. ولكن الطبيعة حرمته من نعم الاستقرار، فصار بدوياً يتتبع العشب والماء. فالطبيعة هي المسؤولة عن البداوة وعن انتشارها في جزيرة العرب.

ومن هنا قيل للحضري الذي لا ينتجع ويكون من أهل الأمصار "القراري". ولما كان أكثر "أهل القرار"، هم من الصناع، قبل لكل صانع "قراري". وذكر بعض علماء اللغة إن "القراري": الخياط. واستشهدوا على ذلك ببيت شعر للأعشى، هو: يشق الأمور و يجتابـهـا  كشق القراري ثوب الردن

وذكر بعض آخر انه القصّاب. وقد تجوّز الناس فيما بعد، فقالوا" خياط قراري، ونجّار قراري.

ويقال لساكن القرية القاريّ، كما يقال لساكن البادية البادي. والقارية سكنة القرى أي خلاف. البادية والأعراب. والقرية كل مكان اتصلت به الأبنية واتخذ قراراً. وتقع على المدن وغيرها. و سكانها من الحضر. ويذكر علماء اللغة إن "المدينة من مدَنََ، بمعنى أقام بمكان. ويراد بها الحصن يبنى في اصطمة الأرض. و تقابلها لفظة "مدينتو" في الارمية. و "هكرن" "هكر" "هجر" في العربية الجنوبية. وأما "البلدة"، فذكر علماء اللغة إنها كل موضع أو قطعة من الأرض مستحّبزة عامرة أو عامرة ؛ خالية أو مسكونة. فالبلدة، إذن من مواطن الحضر أيضاً.

وقد كان من الصعب التمييز عند الشعوب القديمة بين القرى والبلدان والمدن. وكل بلدة أو مدينة كانت قرية في الأصل، أي مستوطنة صغيرة غير محصنة، وعندما ازداد عدد سكانها، وكثر عمرانها ومالها لأسباب عديدة، توسعت وحصن أهلها أنفسهم بحصون وبأُطم أو بسور وخندق يحيط به لمنع العدوّ من الدنوّ منها. و بهذه التحصينات و بكثرة عدد. السكان تميزت هذه المستوطنات السكنية بعضها عن بعض، و لهذا كانت الشعوب القديمة لا تطلق لفظة "مدينة" إلا على القرى المحصنة المسوّرة، وفي ضمن هذه الشعوب العرب.

وتطلق لفظة "عرب" على أهل المدر خاصة، أي على الحضر و "الحاضر" و "الحاضرة" من العرب، أما أهل البادية، فعرفوا ب "أعراب". مع إن كلمة "العرب" قد أطلقت في لغتنا لتشمل العربين" عرب الحاضرة وعرب البادية ويظهر إن هذا الإطلاق إنما وضع قبيل الإسلام. فقد سبق لي أن بينت في الجزء الأول من هذا الكتاب تاريخ كلمة "عرب"، وبينت كيف تطورت اللفظة إلى ظهور الإسلام، وقد رأينا إنها كانت تعني أهل البادية، أي الأعراب في الأصل. أما الحضر فعرفوا بأسماء أماكنهم أو قبائلهم، وآية ذلك أن التوراة والكتابات الآشورية والبابلية بل والجاهلية، أي الكتابات العربية التي تعود إلى ما قبل الإسلام، كانت كلها إذا ذكرت الحضر، ذكرتهم بأسمائهم، ولم تطلق عليهم لفظة "عرب، أما إذا ذكرت أهل البادية، فأنها تستعمل لفظة "عرب" و "عربي"، أي أعراب وأعرابي مع أسمائهم، وذلك مثل "جندب"، وهو رئيس قبيلة، وقد حارب الآشوريين، فقد دعي في الكتابات الآشورية ب "جندب العربي"، أو " جندب الأعرابي" بتعبير أصح، ومثل "جشم" الذي نعت في سفر "نحميا" من أسفار التوراة بي "جشم العربي" اشارة إلى كونه من الأعراب، لا من الحضر، وهو من الملوك كما سبق أن تحدثت عنه في الجزء الأول من هذا الكتاب إلى غير ذلك من أمثلة تحدثت عنها في أثناء حديثي عن لفظة عرب.

أما "يقطن" وهو "قحطان" ونسله مثل" سبأ وحضرموت. و أما "إسماعيل" ونسله، وأما أهل "تيماء" و "مدين" وأمثالهم، فلم تطلق التوراة عليهم لفظة "عرب"، لأنهم لم يكونوا أعراباً، بل كانوا حضراً، ولهذا ذكرتهم بأسمائهم، فاستعمال "عرب" إذن بمعنى أهل الحاضر والحاضرة، أو أهل المدر، هو استعمال متأخر، ظهر بعد الميلاد.

لقد ذهب علماء العربية كما سبق إن بينت في الجزء الأول من هذا الكتاب، إلى إن العربية هي لغة "يعرب"، وهو أول من أعرب بلسانه على حدّ قولهم، وذهبوا إلى إن العدنانيين متعربون، ولم يكونوا عرباً في الأصل، ثم تعلموا واختلطوا بالعرب حتى صاروا طبقة خاصة منهم. وذهبوا إلى إن التبابعة كانوا عرباً ينظمون الشعر بالعربية التي نظم بها الشعراء الجاهليون شعرهم. ثم ذهبوا إلى إن "حمير" كانت تتكلم بلسان غريب عده بعض العلماء غير عربي مع إنها من لبّ العرب الصرحاء على حسب رأيهم، ولم يبينوا كيف وقع ذلك عندهم، إلى آخر ما نراه عندهم من آراء، لم تبن على دراسات تأريخية أصلية ونصوص جاهلية.

ولو كان المذكورون أحياء في هذا اليوم، ولو كانوا قد وقفوا على النصوص الجاهلية المختلفة و قرأوها، لغيرّوا رأيهم حتماً من غير ريب، ولقالوا قولاً آخر غير قولهم المتقدم في العربية وفي سبب تسميتها. فعربية القرآن الكريم هي عربية أهل مكة وما والاها، وهي عربية الأعراب، أي عربية أهل البادية. أما عربية أهل اليمن، وهم صلب القحطانية، فعربية أخرى. وان اردتَ قولاً اصح تعبيراً وأدق تحديداً، فقل: عربيات أخرى. فعربية يعرب إن تجوزت وجاريت رأي أهل الأنساب والأخبار وقلت قولهم في وجود جدّ وهو يعرب، يجب إن تكون عربية أخرى، بل عربيات مخالفة لعربية أهل مكة، وذلك استناداً إلى النصوص الجاهلية المدوّنة بأقلام أبنائه وحفدته والواصلة إلينا. ولما كانت اللغة العربية، هي عربية القرآن الكريم في رأي علماء اللغة، وهي عندهم وحدها اللغة الفصحى، وأشرف لغات العرب، إذن فلغة يعرب على هذا القياس لغة أعجمية غير عربية، أو عربية من الدرجات الدنيا إن أردنا التساهل في القول. وعندئذ يكون يعرب هو العربي المتعرب، و يكون نسله على وفق هذا المنطق، هم العرب المستعربة، لا العرب العدنايين.

ويكون العدنانيون هم أصل العرب ولبّها والعرب العارية الأولى، أي عكس ما يراه و يزعمه أهل الأخبار. أحكي هذا القول بالطبع متجوزاً أو مجارياً رأي أهل الأخبار ولا أحكيه لأني أراه، فأنا لست من المؤمنين بمثل هذه الأقاصيص التي يقصها علينا القصّاص، ولا سيما قصّاص أهل اليمن من أمثال وهب بن منبه وابن اخته، أو ابن الكلبي، وبعض القصّاص الذين هم من اصل يهودي مثل وهب المذكور ومحمد بن كعب القرظي. فرأيي أن كل لغات العرب الجاهلية هي لغات عربية، وأنها كانت متباينة عديدة، وبعضها لغات وصلت مرحلة التدوين مثل المعينية والسبئية والقتبانية والحضرمية وغيرها. ولغاتٌ تصل إلى درجة التدوين عند المتكلمين بها، لا يمكن أن تعدّ لغات سوقة ولهجات عامة.

وبعد فلست أرى أن لين "يعرب" المزعوم، وبين لفظة "العربية" والعرب أية رابطة أو صلة، وأن الصلة المزعومة المذكورة التي يذكرها أهل الأخبار في تفسر اللفظة، هي صلة خلقت خلقاً وصنعت صنعاً، لكي يجد صانعوها لهم مخرجاً في تفسيرها، وليس تفسيرهم هذا هو أول تفسير أوجدوه، فلدينا مئات من التفاسير المصنوعة، لألفاظ أشكل أمرها على الرواة وأهل الأخبار، فوضعوا لها تفسيرات على هذا النمظ، ليظهروا أنفسهم مظهر العالمين بكل شيء.

هذا وقد قلنا إن العربية هي بمعنى الأعرابية، أي البداوة في لغة الأعاجم وفي لغات أهل جزيرة العرب أنفسهم، وهي نسبة إلى العرب، والعرب هم الأعراب في البدو في لغات المذكورين. فتكون العربية أذن بمعنى عربية الأعراب: أي لغة أهل الوبر، وقد نسبت إليها، لا إلى يعرب بن قحطان. وهي بالطبع لم تكن لهجة واحدة، أي عربية واحدة، بل كانت لهجات. قيل لها عربية، لأن الأعراب وان كانوا قبائل، تجمع بينهم رابطة واحدة، هي رابطة البداوة، فكأنهم طبقة واحدة، تقابلهم طبقة "أهل المدر"، وهم الحضر. لذلك نعت لسانهم بلسان عربية ولما كانت البداوة أعم من الحضارة في بادية الشام وفي طرفي الهلال الخصيب وفي والحجاز والعربية الشرقية، صار لسانها اللسان الغالب في هذه الأرضين، وبلسانها نظم الشعراء شعرهم؛ وبلسان عرب الحجاز نزل القرآن الكريم، فصار لسانهم لسان الوحي والإسلام.

ومن َثمّ صار اعتماد أوائل علماء العربية في دراستهم لقواعد اللغة من نحو وصرف ومن استشهاد بشواهد على "العرب"، أي أهل الوبر من أبناء البادية، من الأعراب المعروفين بصدق لسانهم وبصحة أعرابينهم وبعدم تأثر ألسنتهم بألسنة الحضر من أهل الحواضر، بل لم يكتف أولئك العلماء بألسنة هؤلاء الأعراب القادمين عليهم من البوادي، لأسباب لا مجال لذكرها هنا، فركبوا ابلهم وذهبوا بأنفسهم إلى صميم البوادي البعيدة عن الحضر، ليأخذوا اللغة صافية نقية من أفواه رجالها الأصلاء الذين لم يتعلموا خدع أهل الحاضرة وغشهم وكذبهم، ولم تنحرف ألسنتهم عن ألسنة اجسادهم، ولم تتأثر بأحرف للأعاجم المندسيّن في القرى والمدن و الأرياف. فكان "سيبويه" مثلا إذا استشهد بشاهد نظر إلى أنه من "العرب الذين ترضى عربيتهم" أو من "العرب الموثوق بعربيتهم"، أو من "العرب الموثوق بهم"، أو من "فصحاء العرب". وكان يرى أن لسان أهل الحجاز هو "الأول والأقدم". وكان علماء اللغة إذا اختلفوا في شيء من لغة من ألفاظ أو قواعد، حكَّموا أهل البادية، أي الأعراب فيما شجر بينهم من خلاف، حتى ولن كان أولئك العلماء من أوثق الناس علماً بعلم العربية، فحكموا الأعراب مثلاً في المناظرة اللغوية التي وقعت بين سيبويه والكسائي والأخفش في حضرة "يحيى بن خالد" مع أنهم أعلم الناس بعلوم العربية. وقد أورد "ابن النديم" أسماء عدد من "الأعراب" كان علماء العربية يلجؤون إليهم في الملمّات، ويأخذون عنهم، و يحكمونهم فيما يقّع بينهم من خلاف. فهم "حكام" ذلك للزمن وقضاته، يحكّمون في منازعات الناس في اللغة.

والحد الفاصل بين الحضارة والبداوة، هو طراز الحياة ونوعها، فالحضر أهل قرار. و الأعراب ينتجعون ويتتبعون مساقط الغيث يرعون الكلأ والعشب إذا أعشبت البلاد، ويشربون "الكرع" وهو ماء السماء، فلا يزالون في النجع إلى إن يهيج العشب من عام قابل و تنش الغدران، فيرجعون إلى محاضرهم على إعداد المياه. و حياتهم على الإبل فلا يعتنون بتربية ماشية غيرها. ومن هنا أقرنت البداوة بالبادية وبتربية الإبل، التي تنفرد عن غيرها من الحيوانات بقابليتها على المعيشة في البادية وبقوة صبرها على مّحمل الجوع والعطش أياماً، بينما تقصر همم الحيوانات الأخرى عن مجاراتها في هذا الباب. ومن هنا نقصد بالأعراب: البدو الحقيقيين أبناء البادية وأصحاب الجمال الذين ينتجعون ويتتبعون مساقط الغيث ويشربون الكرع ويكون تماسهم بالحضارة والحضر قليلاً.

وما أقوله يخصُّ أعراب نجد و بادية الشام بالدرجة الأولى. أما أعراب العربية الجنوبية، فإن وضعهم يختلف عن وضع هؤلاء الأعراب. فهم وان عدّوا أعراباً ونص عليهم ب "اعرب" "أعراب" في نصوص المسند، لكنهم لم يكونوا أعراباً نقّلاً، يعيشون على تربية الإبل والغارات وعلى بعض الزراعة وكره الاشتغال بالحرف، بل كانوا شبه مستقرين سكنوا خارج المدن والقرى في مستوطنات متجمعة مؤلفة من بيوت وأكواخ وعشش من طين. ومارسوا تربية الإبل والماشية الاخرى، واشتغلوا بالزراعة وبالحرف اليدوية لم يجدوا في ذلك بأساً. وكانوا يغيرون على الحضر إن وجدوا فرصة مؤاتية ولم يكونوا أقوياء بالنسبة إلى الحضر، لوجود حكومات منظمة، في استطاعتها ضربهم إن تحرشوا بأهل المدن والقرى. ولهذا لا نجد للأعراب ذكراً في نصوص المسند القديمة ولم يظهر اسمهم فيها كقوة ضاربة إلا بعد الميلاد و قبيل الإسلام. حين ارتبك الوضع السياسي في العربية الجنوبية، وتدخل الحبش في شؤونها، و ولع بعض ملوكها مثل الملك "شمر يهرعش" في إثارة الحروب. مما أفسح المجال للأعراب فجربوا حظهم بالدخول في لعب الحروب. فلما وجدوا لهم حظاً حسناً وربحاً طيباً، مارسوها مع هذا الحاكم أو ذاك، وظهر اسمهم عندئذ في المسند. بل دخل في اللقب الرسمي الذي حمله الملوك فصار اللقب: "ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت وأعرابها. في الهضاب وفي التهائم". وطمع أعراب نجد في الحصول على مغانم في العربية الجنوبية فارتحلوا نحوها، وزاد بذلك عدد الأعراب. ومن هؤلاء. كندة الذين تركوا ديارهم بنجد. بعد نكبتهم وانضموا إلى إخوانهم في العربية الجنوبية فصار لهم فيها شأن كبير، حتى ذكروا في النصوص، ومنها نصوص أبرهة.

ومعاش الحضر، على الأرض يزرعونها ويعيشون عليها، أو على التجارة أو على الحرف اليدوية ونحوها. ومن طبيعة أهل الحضر الاستقرار في أرض تكون وطناً ثابتاً لهم، ومقاماً يقيمون فيه فيحمونه ويموتون في سبيله. أما أهل الوبر، فهم رُحّل، يتنقلون طلباً للماء والكلأ والامتيار، فموطنهم متنقل قلق غير مستقر. الأرض كلها وطنهم، ولكنها الأرض التي يكونون فيها، فإذا ما ارتحلوا عنها، صارت الأرض الجديدة وطناً لهم جديداً. أما الأرض القديمة فتكون وطناً لمن يحل فيها من طارئ جديد أو طارئ قديم.

والمشهور عن? العرب وعنه الأعاجم، أن العرب قوم يكرهون الزراعة والاشتغال بالحرف والصناعات، ويستخفون بشأن من يشتغل بها ويزدرونه، فلا يتزوجون منه ولا يزوّجونه منهم. وينطبق هذا القول على الأعراب وعلى بعض الحضر إلى حد ما. لكنه لم ينطبق على كل العرب. فالعرب الحضر، الذين وُجد الماء بغزارة عندهم، غرسوا الأشجار أيضاً وزرعوا، لم يجدوا في ذلك خسّة ولا دناءة. والعرب الذين توفرت لهم مواد العمل و ظروف العمل، اشتغلوا بالحرف وبالصناعات، كما هو شأن الطائف والعربية الجنوبية بل وبعض رجال مكة أيضاً. أما الذين ازدروها وكرهوها فهم الذين لم تتوفر لهم الأسباب التي تغريهم على الاشتغال بالحرف والصناعات، ولم تتوفر لديهم المواد الأولية ولا الظروف المساعدة على قيام الحرف. لذلك كرهوها كره من يكره شيئاً لأنه لا يملكه ولا يناله، أو لأن يده لا تصل إليه، ولو ملكه لغيّر حكمه عليه من غير شك.

وقد أشار "أمية بن خلف الهذليّ" إلى اشتغال أهل اليمن بالحرف، بقوله: يمانياً يظل يشـدّ كـيراً  وينفخ دائباً لهب الشواظ

وقد أفدّ أهل اليمن الحجاز وأماكن أخرى من جزيرة العرب بالسيوف وبمصنوعات المعادن وبالبرد والأنسجة الأخرى. كما عرفوا بإتقانهم البناء والتجارة وغير ذلك من حرف الحضر، التي أتشير إليها في الشعر الجاهلي.

وقد عيب على أهل اليمن اشتغالهم بالحرف: كالحدادة والحياكة والصياغة وما شاكل ذلك من حرف،على نحو ما تحدثت عن ذلك في فصل: "طبيعة العقلية العربية". ولكنّ مَنْ عابهم كان عالة عليهم وعلى غيرهم من أهل الحرفْ في أكثر الأمور التي كانت نخصّ شؤون حياتهم اليومية، كالسيوف والخناجر الجيدة مثلاً التي هي عماد المحافظة على حياة الإنسان في البادية. كما اعترف لهم بالتفوق على منَ كان يزدري الصناعة والحرف. فكانوا يخافونهم في الحروب، و يهابونهم عند القتال، لامتلاكهم أسلحة لا يملكونها هم. وكانوا يلجئون إليهم لتنصيب رئيس منهم عليهم. تهابه القبائل لصعوبة انصياع القبائل لقيادة رئيس منها، بسبب التحاسد القبلي، كما كانوا يخضعون لحكم أهل اليمن بسبب تفوقهم عليهم في السلاح وفي الثقافة إلى غير ذلك من أسباب ترجع في الواقع الطبيعية التي عطفت على اليماني وعلى العربي الجنوبي، ففوّقته على الأعراب.

ولما كانت طبيعة الجفاف، هي الغالبة على جزيرة العرب، كان هذه الطبيعة أثرها في حياكة العرب، فغلبت البداوة على الاستقرار، و أثرت في النظم بالآراء السياسية والاجتماعية و الاقتصادية والحربية وفي سائر نواحي ا?حياة الأخرى. لقد حالت دون قيام المجتمعات الكبرى القائمة على الاستقرار والاستيطان واستغلال الأرض، وجعلت من الصعب قيام الدول الكبيرة في هذه البلاد، وتكوين حكومات تقوم على احترام حقوق جميع أبناء الحكومة دون نظر إلى البيوتات والعشائر و القبائل و الرئاسات.

وفي الأماكن التي توافرت فيها المياه، المياه النابعة من الأرض أو النازلة بن السماء، نشأت مجتمعات مستقرة، وظهرت حكومات، غير أنها حكومات اختلف طابعها وشكلها باختلاف المحيط الذي ظهرت فيه، و الأحوال الطبيعية التي ألمت بها، والقدرة المادية التي تميزت لديها. فيها الحكومات الصغيرة التي قد تكون حكومات "قرية"، أو رئاسات عشائر، وفيها ما يمكن أن يعبر عنه بحكومات مدن، إن جاز إطلاق مصطلح "المدن" عليها، وفيها حكومات أكر وأوسع مثل حكومات الحرة و الغساسنة، وفيها حكومات مثل حكومات العرب الجنوبيين، وهي حكومات كبيرة إذا قيست إلى الحكومات التي كونها سادات القبائل في أنحاء أخرى من جزيرة العرب، ولم تعمر طويلاً، بل كانت مثل رغوة الصابون، لا تكاد تنتفخ حتى تزول، وذلك لأسباب وعوامل لا يتسع لها صدر هذا المكان.

فالطبيعة هي التي صَيرّت العرب على هذا الحال، وهي التي غلبت عليهم البداوة. إذ حرمتهم من الماء وجادت عليهم برمال تلفح الوجوه، وبسموم مؤذية وبحرارة شديدة، وبأرض متسعة تظهر وكأنها بحر من رمل لا حدّ له، صيرّت منُ ولد فيها إنساناً قلقاً هائماً على وجهه، يتنقل من مكان إلى مكان بحثاً عن ماء وأكل. خلا الأماكن السخية التي خرجت منها دموع جرت فوق الأرض بقدر وبمقدار، أو مواضع قَرُبَ الماء فيها من سطح التربة فاستنبطه الإنسان، أو أماكن انهمرت من سمائها العاشقة للأرض دموع حبها في مواسم من السنة فأصابت الأرض بطلّ، فاستهوت الإنسان، واستقر بها وتحضر. وصار العرب من ثم بدواً وحضراً، أهل بادية وأهل حاضرة.

ومن آيات ذلك، أننا في قبيلة واحدة، فيها بادية وفيها حاضرة، استقرت وتحضرت وسكنت في بيوت ثابتة، لا يهمنا أكانت بيوتها من صخر أو من حجر أو من مدر أو من بيوت شعر، إنما المهم إنها بيوت ثابتة ارتبطت بالأرض، شعر قُطّانها إن لهم صلة بهذه الأرض وان لهم بها رابطة، لا يحل عقدها إلا الموت أو الضرورات القصوى. فقريش حاضرة و بادية. وجهينة حضر، أقاموا بينبع وقرية "الصفراء"، و أعراب هبطوا رضوى و "عَزْوَرّ" ?. و "همدان" حاضرة وبادية.. ونهد حضر، وهم من سكن الصفراء منهم، وأهل وبر، وهم من سكن دون المدر في جبلي رضوى وعَزْوَر. وتنوخ حضر، وتنوخ أهل بادية وتنقل. إلى في ذلك من قبائل، استقرت أحياء منها، وتبدت أحياء أخرى منها.

ثم إننا نجد قرى منتشرة في موضع من العربية الغربية وفي نجد و العربية الشرقية أو العربية الجنوبية، وقد سكنها قوم عرب حضر زرعوا وحفروا لهم الآبار وتعهدوا العيون بالرعاية ليستفيدوا من مياهها، وجائوا بأشجار من الخارج لزرعها هناك. وفي كتب "الهمداني" و "عرام"، وكتب غيرهما ممن بحث عن جزيرة العرب أسماء قرى و مدن جاهلية، كانت ذات مزارع وحدائق، أما اليوم، فبعضها أثر، وبعض منها. قد زال وذهب مع الذاهبين، لم يترك له حتى بقية من أثر. وتلك المواضع هي دليل في حدّ ذاته على أن الماء إذا وجد في مكان ما أكره سكانه على الاستقرار به، وأجر قسماً من أهله على الاشتغال بالزرع. ولم ينضب الماء من تلقاء نفسه عن المواضع التي اندثرت وماتت وإنما وقعت أحداث لا مجال لي للبحث عنها في هذا المكان، ومنها الهجرة إلى خارج جزيرة العرب بالفتح وتحول الطرق التجارية العامة و إعراض الحكومات عن الاهتمام بشؤون جزيرة العرب ونحوها، فكرهت السكان على الارتحال عنها، فأهملت آبارها و ترستها الرمال فجفت وذهب مائها عنها.

وفي تلك المواضع التي. توفرت فيها المياه من مطر وعيون وآبار ومياه جوفية قريبة من سطح الأرض ظهرت الحضارة على شكل قرى ومستوطنات وأسواق موسمية، كان لها كلها أثر خطير في حياة العرب عموماً من عرب وأعراب. لما كان يقع فيها من اتصال ومن تبادل آراء بين الحضر والبدو، وبين هؤلاء جميعاً وبين الأعاجم الذين كانوا يؤمونها للاتجار بها بصورة مؤقتة أو دائمة، حيث كانوا يقيمون بها إقامة طويلة أو أبدية، وبالأعاجم الذين كانوا يقيمون فيها رقيقاً مملوكاً لمن اشتراهم من الملاكين. وبذلك حدث نوع من التلقيح في الآراء والأفكار وفي شؤون الحياة: تلقيح مهما قيل فيه وفي درجته، فإنه تلقيح على كل حال. وهذه المواضع هي التي كونت وخلقت تأريخ العرب فيما قبل الإسلام.

وقد نَبّه "الجاحظ" إلى الاختلاف بين البدوي والحضري، والسهلي والجبلي، فأشار إلى اختلاف ما بين الطائي الجبلي والطائي السهلي، والى اختلاف ما بين من البطون وبين من نزل الحزون، و بين من نزل النجود وبين من نزل الأغوار، ثم إلى ما ترك هذا الاختلاف في المواضع والمكان من أثر في اختلاف اللغة، فتحالفت عليا تميم، وسُفلى قيس، وعجز هوازن وفصحاء الحجاز في اللغة. وهي في أكثرها على خلاف لغة حمير، وسكان مخاليف اليمن. "وكذلك في الصورة والشمائل والأخلاق. وكلهم مع ذلك عربي خالص". وأشار إلى ما تركه هنا السكن من أثر في أخلاق العرب، حتى ليقال: "إن هذيلاً أكراد العرب". بسبب طباعهم وصبرهم على تحمل القتال.

كما أشار "الجاحظ" إلى إن هذا الاختلاف ظاهر في العرب جميعاً، قحطانيين و عدنانيين. ومع ذلك فهم كلهم عرب، لأنهم استووا في التربة وفي اللغة والشمائل والهمة وفي الأنفة والحمية، وفي الأخلاق والسجية، فسبكوا سبكاً واحداً، وافرغوا إفراغاً واحداً.

وكان من أثر اختلاف طبيعة الجوّ والأرض والضغوط الجوّية في أهل جزيرة العرب، إن صار لأهل المدر مجتمع يختلف في شكله وتكوينه عن مجتمع أهل الوبر، وان صار مجتمع أهل المدر جملة مجتمعات اختلفت في تكوينها باختلاف الظروف المؤثرة التي تحدثت عنها، وباختلاف المؤثرات الخارجية المحيطة بها أو المجاورة، والقريبة منها في ظروف تلك المجتمعات. و صار من ثم مجتمع العرب الجنوبيين، ولا سيما مجتمع اليمن، مجتمعاً خاصاً له طبيعة خاصة و شخصية مستقلة متأثرة بظروف اليمن الكلية من طبيعة أرض وطبيعة جوّ، وصار لأهل مكة وهم أشبه بأهل الحضر مجتمع خاص له طابع متميز، وصار لأهل الحيرة طابع خاص بهم، وصار لأهل برب كذلك مجتمع وطبيعة خاصة متميزة، وهكذا قل عن بقية المجتمعات الحضرية.

فمجتمع اليمن مثلاً مجتمع خاص نجد فيه صفات المجتمع الحضري أكثر مما نراه في أي مجتمع حضري آخر في جزيرة العرب، مجتمع يختلف حتى "عربه" أي بدوه وهم الطبقة الثانية من هذا المجتمع، عن أعراب بقية جزيرة العرب. فهم بالقياس إلى بدو الجزيرة.

شبه أعراب، ووسط بن البداوة الصرفة وبين أدنى درجات الحياة الحضرية الساذجة، المستندة إلى الاستقرار والتعلق بالأرض. ومجتمع اليمن الحضري مجتمع استغل عقله ويده في سبيل تكييف حياته و إسعاد أيامه في الدنيا، فاستغل الأرض وكيفها بحسبُ قدره واستعداده في إنتاج الغلة الزراعية وفي إنتاج المعادن وفي تربية الحيوان، وأقام له قصوراً وحصوناً، واستورد آلات حبة يستعملها وتُيسر له ما يحتاج إليه - استوردها من كل الأنحاء من الشمال ومن العراق ومن بلاد الشام، واستوردها من إفريقية. وسخرها في استغلال الأرض وفي إقامة الأبنية وفي أداء الأعمال اليدوية التي تحتاج إلى حنق ومهارة، فتفوق هذا المجتمع من ثمّ وبمزايا إقليمه من جوّ وأرض على المجتمعات العربية الأخرى، وأنتج حضارة لا تجد لها مثيلاً في بقية أنحاء جزيرة العرب.

فعرف اليمن في جاهليته واشتهر بمهارته وبحذقه بحرف وبمنتجات بقي ذكرها خالداً إلى الإسلام، وتميز عن غيره محسن الذوق و بالبراعة في استعمال أنامله. و حين برع بقية عرب الجزيرة في التعبير عن أحاسيسهم بكلام منظوم، نجد عرب اليمن و بقية العربية الجنوبية يعبرون عن أحاسيسهم بنقشها على المرمر وعلى بقية الأحجار وعلى المعادن والخشب، نجد السيوف اليمانية، و لها شهرة وخبر، ونجد بُسط " اليمن و برودهم و أكسيتهم مشهورة لها صيت في كل مكان، لا يدانيه صيت أي صنف مما ينتج في مكان آخر من أمكنة جزيرة العرب، ونجد لهم ذكراً في الصياغة وفي سوق الأحجار الكريمة والعطور، وغير ذلك من المنتجات التي تحتاج إلى يد وفكر.

و مجتمع اليمن المتحضر، مجتمع طبقي، تكوّن من طبقات: طبقات رفيعة ذات منزلة ومكانة عالية، تتلوها طبقات أخرى أقل درجة ومنزلة حتى تنتهي بالطبقات الدنيا التي تكون قاعدة لهرم هذا المجتمع وسواد الناس. وهي طبقات تكاد تكون مقفلة، لو شبه مقفلة إن صح هذا التعبير، ولا سيما بالقياس إلى الطبقات الدنيا، التي تجنبت الطبقات التي هي فوقها للتصاهر معها و الاتصال بها، للفروق المنزلية التي تشعر بوجودها فيما بينها. ثم إن الناس فيها يرثون منازل آبائهم ودرجاتهم، فابن النجار نجار، وابن الحداد حداد في الغالب، وابن التاجر يرث عمل والده، ويستطيع تغيير حرفته وتحسين حاله، إذ ليس لديهم قوانين إلزامية تجبر الناس على البقاء في طبقتهم إلى أبد الآبدين، ولكن مثل هذا التغير لا يقع إلا إذا كان الشخص ذا استعداد وكفاية وطموح، فيشق طريقه بنفسه هاتكا ستور الأعراف والعادات.

وما زالت الحياة الاجتماعية في العربية الجنوبية، تستمد قوتها وحياتها من جذور الحياة الاجتماعية القديمة التي كانت عليها قبل الإسلام. ففد نشأت هذه الحياة ونبتت من حاصل ظروف ذلك المجتمع الذي تحدثت عنه، و حافظ على خصائصه إلى هذا اليوم، لأنه عاشر في عزلة عن العالم الخارجي، أو في شبه عزلة، ولهذا بقي يعيش على ما تغذيه به بقايا جذور تلك الأيام من غذاء.

والحضر، وان استوطنوا واستقروا في أماكن ثابتة، لم يكونوا حضراً بالمعنى المفهوم من اللفظة عندنا، فلم يكونوا على شاكلة حضر الروم أو الفرس، ولا على شاكلة حضر العراق أو حضر بلاد الشام من غير العرب. انهم ضر من ناحية السكنى والاستقرار، أي من ناحية تعلقهم بالأرض ونزولهم بها واستيطانهم فيها، وعدم ارتحالهم عنها على نحو ما يفعل الأعراب، واتخاذهم مساكن دائمة في مكان ما. أما من ناحية التفكير وطراز المعيشة ونظم الحيلة الاجتماعية. فقد بقوا مخلصين لِمُثُل البوادي ولطبيعتها في الحياة. فهم في قراهم ومدنهم "بيوت" و "بطون"، يقيمون في "شعاب" ولهم عصبية. وهم مثل الأعراب في أكثر مألوف حياتهم. وما زال هذا الطابع الأعرابي بادياً على حياة من نسميهم الحضر في جزيرة العرب وفي خارجها، مؤثراً في حياتهم السياسية و الاجتماعية بل في عقلية من نسميهم "المثقفين" الدارسين من مدنيين وعسكريين، ذلك لأن عقول هؤلاء المثقفين وإنُ حشيت بالمعلومات وبالعلوم، لم تتمكن مع ذلك من التخلص من إرث البداوة المستمدة من طبيعة المجتمع وأثرها في الناس، في الماضي السحيق و في الحاضر، ومن طبيعة المجتمع الذي خلقته هذه الطبيعة وجبلت الناس عليه. ومن أهم صفاته: العنجهية، و التغني بذكريات الماضي: والابتعاد عن الواقع وعن مشكلات الحياة العلمية، واللجوء إلى العواطف والخيال، والاسراف في تمجيد النفس إلى حد أدى إلى ازدراء كل ما هو غير عربي من إنسان ومن نتاج إنسان. أضف إليها "العصبية" بأنواعها: العصبية للأهل و العصبية للعشيرة ثم القبيلة فالحلف في حالة الأعرابية، والعصبية للآهل والبيوت والشعاب ثم للقرية أو للمدينة والقبيلة التي يرجع أهل القرى نسبهم إليها في الأخر، وذلك بالنسبة إلى أهل المدن. ثم الفردية المفرطة التي جعلت من الصعب على الفرد الانقياد لغيره. والخضوع لأحد إلا إذا وجد نفسه أمام مصلحة خاصة أو أمام لا قوة، ذلك لأنه يرى نفسه أشرف الناس، وان من المذلة خضوعه لحكم أحد، ولا سيما إذا كان من يحكمه من أناس هم دون أهله، ومن عشيرة دون عشيرته. ثم ليس هو من أهل الجاه ولا من أهل المال، فكيف يسلم أمره إليه?

الرعاة

وندخل في الحضر الرعاة: رعاة الغنم والمعز والبقر، ذلك لأنهم اضطروا بحكم طبيعة حياة حيواناتهم إلى شيء من الاستقرار، والى عدم التنقل مسافات بعيدة طويلة في البوادي على نحو ما يفعل الأعراب. ثم انهم يعيشون على الآبار و برك الماء وعلى مقربة من الحضر، وفي وضع بجعلهم شبه مستقرين في أكثر أيام حياتهم. وهم "أعراب الضواحي"، وعنصر مهم من عناصر تكون القرى والمستوطنات، إذ إن قربهم من الحضر واعتماد حياتهم عليهم، يحملانهم على التأثر بهم، وعلى التقرب منهم ومن مستوطناتهم. فتصير "الخيمة" بيتاً مستقراً، ثم تصير "كوخاً" من طين أو من أغصان شجر، ثم تتحول بيتاً من بيوت قرية أو حيّ من أحياء مدينة، لما في المدينة من وسائل معاشية تستهوي الناس، لا تتوافر في الضواحي البعيدة، فتحول الرعاة قطّان مدن.

ولا يشترط في الرعاة الاقتصار في حياتهم على تربية الغنم، إذ فيهم من يربي الإبل أيضاً، وهم "رعاة الإبل". والفرق الوحيد بينهم وبين الأعراب وهل رعاة الإبل، إن الرعاة يلازمون أرضهم و إذا تنقلوا طلباً للماء والكلأ فلا يذهبون إلى مسافات بعيدة ولا يمعنون في اختراق البوادي، لأنهم لا يستطيعون الابتعاد عن الماء كثيراً ولا يستطيعون الاكتفاء بكلأ البادية لوجود ماشية أخرى عندهم لا تستطيع الصبر على الجوع طويلاً، كما إن اتصالهم بالحضر أكثر من اتصال الأعراب بهم. ومنازلهم هي في الغالب خليط من بيوت مدر ومن بيوت وبر. ولكنها ثابتة على العموم وحياتهم وسط بين البداوة والحضارة. والأرض التي يقيمون بها تكون ذات آبار وعيون ومتجمعات أمطار، وهم لا يبتعدون عنها كثيراً ولا يفارقونها لارتباط معيشتهم بها. بينما تكون حياة الأعراب على الغيث في الغالب، وعلى الآبار والتنقل.

وفي العربية لفظة "جشر". ذكر علماء اللغة إنها تعني القوم يبيتون مع الإبل في المرعى لا يأوون بيوتهم. والقوم يخرجون بدوابهم إلى المرعى ويبيتون مكانهم لا يأوون إلى البيوت. والمال الذي يرعى في مكانه لا يرجع إلى أهله بالليل. وان تخرج بخيلك فترعاها أمام بيتك. إلى آخر ذلك من معان تدل على إن الجشر رعاة يخرجون إلى المجاشر، أي المراعي لرعي إبلهم أو خيلهم بعض الوقت، إذا شبعت إبلهم واكتفت، عادوا بها إلى بيوتهم فأقاموا بها.

الأعراب

أما أهل الوبر، وهم الأعراب، فحياتهم حياة تنقل وارتحال، وعماد حياتهم "الإبل"، ولولا هذا الحيوان الصبور لما تمكن الأعرابي أن يقهر البوادي، وأن يوسع تنقله في أنحائها، وأن يعيش في هذه الأرضيين المقفرة الشحيحة التي يشح فيها سقوط المطر، ويضطر الإنسان فيها إلى ضرب الأرض بأرجل جَمَله بحثاً عن الكلأ والماء. ولهذا صار "الجمل" "المالَ" الوحيد الذي يملكه الأعرابي، به يقدر الأسعار، و به يقدر "الصِداق" و ثراء الإنسان.

وقد سبق لي أن تحدثت عن معنى "عرب"، وعن المراد منها إلى قبيل الإسلام، فلا حاجة لي هنا إلى إعادة الكلام عن شيء سبق إن تكلمت عنه.

أما مصطلح أهل الوبر"، فمعناه "عرب"، أي أعراب بالمعنى الجاهلي القديم. وذلك لأن الأعراب قوم نقل، يتنقلون من مكان إلى مكان، حاملين بيوتهم وما يملكونه معهم، وبيوتهم هي الخيام، وهي مصنوعة من "الوبر" وبر الإبل في الغالب، ولذلك عرفوا بها. وعرفوا في الموارد اليونانية ب "أهل الخيام" و ب "سكنة الخيام"، وقد استعمل أعراب العراق وبادية الشام وأعراب بلاد الشام الخيام المصنوعة من شعر الماعز، وهي خيام لونها السواد، وقد أشير إليها في التوراة وفي موارد تأريخية أخرى.

وذكر علماء اللغة إن العرب: سكان القرى والمدن أي الحضر، أهل الحاضرة. أما الأعراب، فهم سكان البادية من هذا الجيل. ويقال للرجل أعرابياً إذا كان بدوياً همه البحث عن الكلأ وتتبع الغيث والرعي. وأما من ينزل الريف ويستوطن القرى والمدن، فهو عربي، وان كان دون الأعراب في الفصاحة وفي سلامة اللغة. ويقال للأعراب "الأعاريب"، وذلك جمع الأعراب. فالأعرابي البدوي، وهو صاحب نجعة وانتواء وارتياد للكلأ، وتتبع لمساقط الغيث، وسواء كان من العرب أو من مواليهم. ومن نزل البادية، أو حاور البادين وظعن بظعنهم، وانتوى بانتوائهم: فهم أعراب. ومن نزل بلاد الريف واستوطن المدن والقرى العربية وغيرها مما ينتمي إلى العرب: فهم عرب، وان لم يكونوا فصحاء.

ويذكر علماء اللغة إن البادية من البروز والظهور. قيل للبرية لكونها ظاهرة بارزة. وان البادية اسم للأرض التي لا حضر فيها، وهي خلاف الحاضرة والحضارة. وقيل لسكان البادية البدو والبداة. ومن هذا الأصل جاءت لفظة "Bedouin" في الإنكليزية وفي عدد من اللغات الأوربية الأخرى، بمعنى أعراب.

والأعرابي بالمعنى العلمي المفهوم من اللفظة، هو - كما قلت قبل قليل - المتبدي، أي الذي قطن الباديه و عاش معظم حياته فيها وانقطع معظم حياته عن القرى والمدن. مكتفياً باتخاذ الإبل شريكة له في حياته هذه. قاطعاً البوادي الجافة التي يقل معدل سقوط الأمطار فيها عن "4" عقد في السنة، للبحث عن الكلأ والماء. قانعاً بحياته التي يحياها والتي أحبها وتعلق بها على ما فيها من قساوة وضراوة وفقر وشح في العيش. حتى صار لا يفارقها لأنه ولد بها. فهو لا يعرف دنيا غيرها، ولا يعرف إن في الدنيا مكاناً أطيب من وطنه الذي يعيش فيه. وكل مورد على ما يولد عليه.

وتعيش بين الحضر والبادية قبائل، صيّرتها إقامتها بين العالمين عالماً وسطاً، لا هو مجتمع حضريّ ولا هو بدوي أصيل، حافظ على خصائصه البدوية الموروثة من البادية، و اكتسب باحتكاكه بالحضر ما يلائم طبعه وما فرضه عليه محيطه الجديد من حياة أهل الحضر. فصار يزرع بعض الزرع ويرعى البقر والخيل والأغنام والمعز ويأتي إلى القرى والمدن للامتيار، و يستخدم موادّ لا يستخدمها الأعراب لعدم وجود حاجة لهم بها، ولفقرهم الذي لا يسمح لهم بشرائها، وأخذ يبيع لأهل الحضارة ما يفيض عن حاجته من الألبان والزبد والجلود والأصواف والحيوانات. فأهل هذا العالم إذن. هم عالم وسط عالمين، وقنطرة تربط بين العتبة الأولى من عتبات الحضارة والدرجة الأولى من درجات البداوة. وخير مثل على هؤلاء هم عرب مشارف الشام، وعرب مشارف العراق. ويراد بالمشارف القرى والمستوطنات والمضارب القائمة على ما بين بلاد الريف وبين البوادي.

و "الريف" في رأي بعض علماء اللغة الخصب. والسعة في المأكل والمشرب وما قارب الماء من الأرض. أو حيث يكون الخضر والمياه والزرع. ولهذا قيل: "تريف" إذا حضر القرى وهي المياه، و "راف البدوي" يريف إذا أتى الريف. ومن هنا عرف البدويّ بأنه جوّاب بيداء، لا يأكل البقل ولا يريف.

وورد في الحديث: "كنّا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف. أي إنا من أهل البادية لا من أهل المدن". ولكن المفهوم من لفظة "ضرع"، إنها لفظة تطلق على الماشية ذوات الظلف والخف، أو للشاء واليفر، ولهذا فيجب تفسيرها، بإنا من أهل ذوات الظلف والخف، أي من الرعاة لا أهل الزرع، والرعاة هم قُطّان المشارف، القريبين من القرى والريف، ولا يقيمون في البادية، لأن الشاء والبقر وبقية الماشية باستثناء الإبل لا تعيش في البادية وإنما ترعى الأماكن الخصبة من الماء والريف.

والحاضرة خلاف البادية، وهي القرى والمدن والريف، سمّوا بذلك لأن أهلها حضروا الأمصار ومساكن الديار التي يكون لهم بها قرار. وذكر إن كل من نزل على ماء عدّ ولم يتحول عنه شتاءَ ولا صيفاً، فهو حاضر، سواء نزلوا في القرى فالأرياف وبيوت المدر أو بنوا الأخبية عند المياه فقرّوا بها ورعوا ما حوليها من الكلأ. ولهذا قالوا: الحاضر: المقوم نزول على ماء يقيمون به ولا يرحلون عنه. وقد يكون ذلك في البوادي. إذ يقيمون حول بر أو ماء دائم، ولا يرتحلون عنه. فهذا نوع من أنواع الحاضرة في جزيرة العرب. وهم بهذا حضر جزيرة العرب، فهم سكان مستوطنات صغيرة ظهرت في مواضع الماء وعند مفترق الطرق، في هذه البوادي الجافة الواسعة.

وفي هذه الحواضر التي أسعفها الحظ بالماء، ظهرت مجتمعات متحضرة، أي مستقرة، استفادت من الماء فبنت بعض البيوت وزرعت بعض النخيل والأشجار. ومقياس هذه الحواضر، هو الماء. فإذا وجد بغزارة أو كان قريبا من سطح الأرض توسعت فيه رقعة الحضارة، بمقدار سعة الماء وسعد الناس بالعيش في بيوت مستقرة دائمة ثابتة، أما إذا كانت الأرض شحيحة بخيلة، لا تسعف من يعيش فوقها بماء، فان الإنسان يتحاشاها بالطبع ويبتعد عنها خلال أيام الغيث. وحواضر البوادي هي المواضع التي يجب أن نوجه إليها أنظارنا للبحث فيها عماّ قد يكون الدهر قد خبأه فيها من كنوز وآثار. وهي منتشرة في مواضع عديدة من جزيرة العرب، لا سيما عند الأودية وقرب الحسي والجعافر والعيون.

و "عرب الضاحية" أو "عرب الضواحي"، هم العرب النازلون بظواهر الريف والحضارة وبظواهر البادية. و "الضاحية" الظاهرة الخارجة من الشيء التي لا حائل دونها، و "الضامنة" ما أطاف بالشيء مثل سور المدينة، أي ما كان داخل شيء. وضواحي الروم: ما ظهر من بلادهم وبرز. ويراد ب "عرب الضاحية"، عرب مشارف العراق وعرب مشارف الشام، لأنهم أقاموا ضواحي العراق وبلاد الشام، وعلى تخوم البادية. وقد تأثر أكثر الأعراب الساكنين بأطراف الحضارة وبأخلاق الحضر، ودخلوا مثلهم في النصرانية، بحكم تأثرهم بهم وبعوامل التبشير والسياسة، إلا أن نصرانيتهم كانت. نصرانية أعرابية مكيفة بالعقيدة الوثنية الموروثة من السنين الماضية التي كونتها طبيعة البداوة في عقلية أهل الجاهلية.

وسوف نجد في بحثنا عن اللغة، أن لغة "أهل المشارف" أو "أهل الضواحي" و "عرب الأرياف"، م قد تأثرت بلهجات "إرم" العراق وبلاد الشام، فظهرت في لغتهم رطانة، وبرزت فيها ألفاظ ارمية وأعجمية، و انحازت في النطق بعض الانحياز عن عربيات أهل البوادي، وكتبوا بقلم نبطي وبلهجات عربية، لا تقرّها عربية القرآن الكريم، التي صارت لسان الإسلام. ولهذا حذر علماء اللغة من الاستشهاد بشعر شعراء القرى والريف وأهل المشارف والضواحي، لاعوجاج لسانهم بالنسبة إلى لسان الإسلام.

فأعراب الضواحي، أو عرب الضاحية، هم أعراب أيضاً، لكنهم لم يعزلوا أنفسهم عن العالم الخارجي، و إنما عاشوا على مقربة منه ومن مواطن الحضر، فصار حالهم أحسن من حال الأعراب الأقحاح، وارتفع مستواهم العقلي عن أولئك المعنيين في حياة الأعرابية. بسبب اتصالهم بالأجانب وأخذهم عنهم واحتكاكهم بالحضر، الذين هم أرقى من الأعراب بكثير. فأخذوا عنهم وتعلّموا منهم أشياء كثيرة، من مادية ومعنوية. سأتحدث عنها في المواضع المناسبة من أجزاء هذا الكتاب.

وقد عرفت الأرض التي تقع بين الفرات وبين بَرّيّة العرب ب "العبر". قال علماء اللغة: "والعبر بالكسر ما أخذ على غربي الفرات إلى برية العرب" لأنها المعبر الذي يعبر عليه للوصول إلى البادية، أو الدخول من البادية إلى الفرات. وقد تكونت بها قرى عربية لعبت دوراً مهماً في تأريخ العراق لموقعها العسكري المهم، ولأنها الخط الأمامي الذي كان يواجه الأعراب الغزاة ومن كان يحكم بلاد الشام من حكام. ولكونه المنطلق الذي تنطلق. منه الجيوش التي تريد غزو بلاد الشام، أو صدّ القوات الزاحفة على العراق من الغرب.

والبداوة هي التي أمدت العراق وبلاد الشام وسائر جزيرة الغرب بالحضر، فقد كان الأعراب يأتون الحواضر وينيخون هناك، ويستقرون ثم يتحولون إلى حضر. لذلك تكون البادية المنبع الذي يغذي تلك الارضين بالعرب الحضر.

عبية الجاهلية

ولقد تحدثت في الجزء الأول من هذا الكتاب عن العقلية العربية بصفة عامة: عقلية العرب أي الحضر وعقلية الأعراب. وأعود في هذا الموضع إلى الحديث عن عقلية الأعراب وما رماهم به أهل الحضر من الغلظة والجفاء والجهالة والعنجهية والكبر إلى غير ذلك من نعوت عرفت عند العلماء ب "عبية الجاهلية". وذلك لما هذه العبية من صلة بهذا الموضوع في هذا المكان.

و إذا أردت الوقوف على عنجهية الجاهلية وتكبر سادات القبائل وعلى نظرتهم إلى من هم دونهم في ذلك الوقت، فخذ ما روي من قصة وقعت لمعاوية بن أبي سفيان على ما يرويه أهل الأخبار. فقد رُوي أن الرسول أمر معاوية بإنزال "وائل بن حجر" الحضرمي منزلاً بالحرة، فمشى معه ووائل راكب وكان النهار حاراً شديد الحرارة. فقال له معاوية: ألق اليّ نعلك، قال: لا، أني لم اكن لألبسها وقد لبستها. قال فأردفني، قال: لست من أرداف الملوك.: قال: إن الرمضاء قد أحرقت قدمي، قال: لا يبلغ أهل اليمن أن سوقة لبس نعل ملك. ولكن إن شئت قصرت عليك ناقتي فسرت في ظلها. فأتى معاوية النبي، فأنبأه. فقال: "إن فيه لَعُبَيَّة من عُبَيّة الجاهلية".

و "العُبَيّة" الكبر والفخر. "وعُبيّة الجاهلية: نخوتها. وفي الحديث: إن الله وضع عنكم عُبَيّة الجاهلية، وتعظمها بآبائها، يعني الكِبَر". وقد وصفت "قريش" و نعتت بتكبرها حتى قيل: "هذه عُبَيّة قريش". وتجد في القرآن الكريم إشارات إلى عبية زعماء قريش وفخرهم على غيرهم بالآباء و بالأحساب وبأمور لا تستوجب فخر مفاخر، لانها لا تتناول عمل إنسان ليحمد أو ليذمّ عليه.وقد ذمها الإسلام ونهى المسلمين عن عبية الجاهليين.

ونظراً إلى ما للبداوة من فقر و قساوة و غلظ في المعاشى، ومن ضيق أفق في المدارك وقصر نظر في شؤن هذا العالم الخارجي وفي فهم الحياة - نظر العربي إلى الأعرابي نظرة استجهال وازدراء، ونظر إلى نفسه نظرة فيها علو واستعلاء. فورد أن الأعرابي إذا قيل له: يا عربي. فرح بذلك وهشّ له، والعربي إذا قيل له: يا أعرابي! غضب له. لما بين الحياتين من فروق وتضاد. فقد جبلت البادية أبناءها على أن يكونوا غرباء عن العالم الحضر وعن عقلية أهل القرى والمدن. متغطرسين مغرورين على فقرهم وفقر من يحيط بهم. فخورين بأنفسهم إلى حد الزهو والإعجاب والخروج عن الحدّ، فكانوا إذا تكلموا رفعوا أصواتهم، و ظهرت الخشونة في كلماتهم، و إذا تعاملوا مع غيرهم ظهر الحذر عليهم، خشية الغدر بهم. ولهذا قال الحضر: "أعرابي جلف"، أي جاف. وفي الحديث: "من بدا جفا"، أي غلظ طبعه لقلة مخالطة الناس. وقالوا: "أعرابي قحّ" و "أعرابي قُحاح"، و هو الذي لم يدخل الأمصار ولم يختلط بأهلها. و لهذه الخشونة التي خلقتها طبيعة البادية في الأعرابي، وهو لا دخل له بها بالطبع، كما انه لا يشعر بها ولا يرى أن فيه شيئاً منها، كان العرب، إذا تحدثوا عن شخص فيه عنجهية وخشونة، قالوا عنه: فيه أعرابية. كالذي ذكروه مثلاً عن "عيينة بن حصن الفزاري"، من أنه كان أحمق مطاعاً، دخل على النبيّ من غير إذن وأساء الأدب فصبر النبي "على جفوته و أعرابيته". إلى غير ذلك من نعوت تصف الأعرابي بالغلظ والقسوة والأنانية وما شاكل ذلك من نعوت تحدثت عنها في الجزء الأول من هذا الكتاب. وهي حاصل هذا المحيط الذي ولد فيه وعاشى، والظروف التي ألمت به، فعزلته عن العالم الخارجي، وأبعدته عن التحسس بتنوع مظاهر الطبيعة وبتغيرها، فلم ير الثلج في حياته وهو يتساقط من السماء. ولم يتعود على رؤية الأمطار وهي تتساقط عليه على نحو ما يقع في عالم أوربة أو في البلاد الحارة ذات الأمطار الموسمية الواضحة، حتى يستفيد منها في استغلال ارضه، ولم تعطه الطبيعة انهاراً ومياهاً جارية، إلى غير ذلك من أمور تحدثت عنا أثناء كلامي على العقلية العربية في الجزء الأول من هذا الكتاب.

و وصف الأعرابي بالجهل، بل بالجهل المطبق. فهو وثني ولكنه لا يفهم شيئاً من أمور الوثنية، وهو نصراني، لكنه نصرانيّ بالاسم، لا يعرف عن النصرانية في الغالب شيئاً، وهو مسلم ولكنه لا يعرف عن الإسلام إلا الاسم. ونجد في كتب آهل الأخبار والأدب قصصاً مضحكاً بمثل هذا الجهل الذيُ رمي به الأعراب في بعضه حق وفي بعضه باطل لأنه موضوع حمل عليهم حملا للانتقاص منهم وليكون قصصاً وتفكهةً وتسليةً يتسلى بها الحضر في مجالسهم في أثناء قتلهم للوقت.

وهو حقود، لا يرى إن يغفر ذنب من أساء إليه. بل يظل في نفسه حاقداً عليه حتى يأخذ بثأره منه. "قيل لأعرابي: أيسرك أن تدخل الجنة ولا تسيء إلى من أساء إليك ? فقال: بل يسرني أن أدرك الثأر وأدخل النار".

ويذكر إن الرسول كان يميز بين الأعراب وبين البادية، وهم الذين كانوا ينزلون أطراف القارة "القارية" وحولهم. فما أهدت "أم سنبلة" الأسلمية لبناً إلى بيت رسول الله، أبت عائشة قبوله، لأن الرسول قد نهى أهله عن قبول هدية أعرابي. وبينما كانت أم سنبلة في بيته، دخل رسول الله، فقال: ما هذا ? قالت عائشة: يا رسول الله، هذه أم سنبلة أهدت لنا لبناً، وكنت نهيتنا إن نقبل من أحد من الأعراب شيئاً. فقال رسول الله: خذوها، فان أسلم ليسوا بأعراب، هم أهل باديتنا. ويفهم من هذا الخبر، إن الرسول فرّق بين العرب البادية المقيمين حول "القارية" أهل الحاضرة، الذين هم على اتصال دائم بالحضر، وبين الأعراب. وهم البادون البعيدون عن أهل الحواضر. وهم الذين نهى الرسول عن قبول هدية منهم. وذلك بسبب جفائهم على ما يظهر ولأنهم لا يهدون شيئاً إلا طمعوا في ردَ ما هو أكثر منهم. لغلظ معاشهم وضيق تفكيرهم. وآية ذلك ما ورد عنهم في القرآن الكريم.

فأهل البادية المجاورون للحضر أخف على النفس، من الأعراب، لتأثرهم بحياة الحضر. ولعل منهم من شارك أهل الحضر في التعاطي والتعامل. ونرى آهل الأخبار يروون إن أهل القرى كانوا أصحاب زرع ونخيل وفواكه وخيل وشاءٍ كثير وإبل، يقيم حولهم أناس بادون. كالذي كان حول مكة ويثرب والطائف وقرى الحجاز واليمن وغير ذلك، فان هؤلاء لم يكونوا أعراباً أي بدواً صرفاً، هجروا الحواضر و أقاموا في البوادي البعيدة، بل هم وسط بن الحفر وبين الأعراب. فأخلاقهم ألين من أخلاق الأعراب وطباعهم أرق.. ويمكن الاعتماد عليهم نوعاً ما، بينما لا يمكن الركون إلى قول أعرابي.

وقد بلغ من استعلاء الحضر على أهل البادية، إن الأعراب لما أرادوا التسمّي بأسماء المهاجرين قبل أن يهاجروا، منعوا من ذلك، فأعلموا إن لهم أسماء الأعراب لا أسماء المهاجرين، وعليهم التسميّ بها.

والأعراب أهل منة، إذا فعلوا معروفاً بقوا يتحدثون عنه، ويمنون بصنعه على من قسموه له. وهم يريدون منه صنع أضعاف ما صنعوه له. وهم خشنون إذا تكلّموا رفعوا أصواتهم. وقد وّبخهم القرآن وأنّبهم لفعلهم هذا. فجاء فيه: "يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبيّ ولا تجهروا له بالقولِ كجهر بعضكم لبعض، أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون. إن الذين يغضون أصواتهم عند رسولِ اللهِ أولئك الذين امتحن اللهُ قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم". وأمر المسلمين بالتأدب بأدب الإسلام. فقال: "واقصد في مشيك واغضض من صوتك. إن أنكر الأصوات لصوت الحمير". وقد كانوا يجهرون له بالكلام ويرفعون اصواتهم، فوعظهم الله ونهاهم عن ذلك، يقول تعالى ذكره "يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت رسول الله تتجهموه بالكلام وتغلظون له في الخطاب".

و كان من خشونتهم و أعرابيتهم إن أحدهم إذا جاء الرسول فوجده في حجرته نادى: يا محمد يا محمد? وذكر إن وفداً من "تميم" وفد على رسول الله، فوجده فيّ حجرته، ونادى مناديه:. اخرج إلينا يا محمد? فان مدحنا زين وذمّنا شين. أو: يا محمد ! إن مدحي زين وان شتمي شين. فأنزل الله: )إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون. ولو انهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم. والله غفور رحيم(.

وقد اتهم الأعرابي بماديته المفرطة وبطمعه الفظيع. فهو يحارب معك، ثم ينقلب عليك ويصير مع خصمك، إذا وجد إن في الجانب الثاني حلاوة، وانه مستعد لإعطائه أكثر مما أعطيته. حاربوا مع الرسول ثم صاروا عليه و انتهبوا عسكره، و جاؤوا إليه فعرضوا عليه الإسلام، فلما أرادوا العودة إلى بلادهم وهم مسلمون، وجدوا رعاءً للرسول، فانتهبوه وقتلوا حماته مع علمهم بأنه له، وان انتهاب مال المسلم حرام، فكيف بهم وهم ينتهبون مال رسول الله. وقد ندد القرآن الكريم بطمعهم في الآية: )قالت الأعراب آمنا، قل لم تؤمنوا، ولكن قولوا أسلمنا(. فهؤلاء قوم من بوادي العرب قدموا على النبيّ، صلى الله عليه وسلم، المدينة، طمعاً في الصدقات، لا رغبة في الإسلام، فسماهم الله تعالى الأعراب.. و مثلهم الذين ذكرهم الله في سورة التوبة، فقال: )الأعراب أشد كفراً ونفاقاً(. وذكر عن "قتادة" قوله: "قالت الأعراب آمنّا، قل: لم تؤمنوا، ولعمري ما عمت هذه الآية الأعراب. إنّ من الأعراب مَنْ. يؤمن بالله واليوم الاخر، ولكن إنما أنزلت في حي من أحياء الأعراب إمتنوا بإسلامهم على نبيّ الله، صل الله عليه وسلم، فقالوا: أسلمنا ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان. فقال الله تعالى: )لا تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا(". "وقال أخرون: قيل لهم ذلك لأنهم منّوا على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بإسلامهم. فقال الله لنبيّه، صلى الله عليه وسلم، قل لهم لم تؤمنوا ولكن استسلمتم خوف السباء والقتل".

ولا يعرف الأعرابي شيئاً غير القوة ولا يخضع إلا لسلطانها. وبموجب هذه النظرة بنى أصول الحق والعدل، وما يتبعهما من حقوق. كما سأتحدث عن ذلك فيما بعد. وهو فخور بنفسه متباه بشجاعته، لكنه لا يصبر إذا طال القتال وجد، ولا يتحمل الوقوف طويلا في ساحة المعركة، لا سيما إذا شعر إن للقتال غبر متوازن، وان أسلحة تصمه أمض و أقوى في القتال من أسلحته، فيولي عندئذ الأدبار، و لا يرى في هروبه هذا من المعركة شيئاً ولا عيباً. وفي تأريخ معارك الجاهلية ولا سيما في معاركهم مع الأعاجم ومع القوات النظامية العربية أمثلة عديدة من هذا القبيل. ففي الحروب التي وقعت بين المسلمين والفرس أو الروم، خذلت بعض القبائل المسلمين، وتركتهم لما رأت جد القتال وان لا، فائدة مادية ستحصل عليها منه. "وقد كان انضم إلى المسلمين حين ساروا إلى الروم ناس من لخم وجذام، فلما رأوا جد القتال فروا ونجوا إلى ما كان قربهم من القرى، و خذلوا المسلمين". فروا وهربوا لأنهم وجدوا إن القتال قد طال وانه قتال جد، ولا قبل للقبائل على القتال الطويل للشديد الجد. فاختاروا الهروب دون إن يفكروا، في شدهم الذي عقدوه مع إخوانهم في الجنس على القتال معهم والاستمرار فيه حتى النهاية، فإما نصر وإما هزيمة وموت وهلاك. ولكن طبيعة الأعراب لا تقيم وزناً ولا تعطي أهمية للعقود في مثل هذه المواقف. إن رأت هواها في القتال قد تغيّر وتحول، وان الأمر في كسب مغنم قد تضاءل، انسحبت منه بعذر قد يكون تافهاً وبغير عذر أيضاً. وقد لا تنسحب، وإنما تبدل الجبهة، بأن تذهب إلى الجانب الآخر فتحارب معه، وتقاتل عندئذ من كانت تقاتل معه. لأنها وجدت إن الربح من هذا الجانب مضمون، وان ما ستناله منه من فائدة أكثر. وذك بعد مفاوضات سرية تجرى بالطبع. وهذا ما أزعج الروم والفرس، وجعلهم لا يطمئنون إلى قتال العرب معهم وفي صفوفهم.، فرموهم بالغدر. فكانوا إذا كلفوهم بالحرب معهم عهدوا إليهم القيام فيها بأعمال حربية ثانوية، أو الانفراد بحرب الأعراب الأعداء الذين هم من أنصار الجانب الآخر. فقد حدث مراراً إن هرب الأعراب من ساحة القتال حين سعرت نار الحرب، وارتفع لهيبها، فأحدث هروبهم هذا ارتباكاً في جانب من كان يقاتلون معه أدى إلى هزيمته هزيمة منكرة، لما أحدثه فرارهم هذا من فجوة في صفوف المقاتلين. وقد أشارت إلى هذه الحوادث مؤلفات الكتاب اليونان و اللاتين.

وهو صارم عبوس، إذا ضحك ضحك بقدر، وكأنه يسقع بضحكته هذه ضريبة فرضت عليه. يكره الدعابة، ويرى فيها تبذلاّ لا يليق صدوره من إنسان كريم. بقي هذا شأنه حتى في الإسلام. فما وصف "أبو عبد الله المصعب بن عمد الله بن المصعب الزبيري" "عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر-الصديق" قال عنه: "كان امرءاً صالحاً، وقد كانت فيه دعابة". حتى إن من العلماء من عَدّ "الدعابة" من الشوائب التي تنقص المرومة، وتؤثر في صاحبها، وتطعن فيه، فلا تجعله أهلا لأن يؤخذ عنه الحديث. أي جعلوه شخصا غير موثوق به.

و قد بحث "غوستاف لبون" و "رينان" و "الأب لامانس" في عقلية الأعرابي. وما رأوه فيه من وجود "فردية" متطرفة عنده، إلى درجة تجعله يقيس كل شيء بمقياس الفائدة التي يحصل عليها من ذلك الشيء. ثم ما وجدوه فيه في الوقت نفسه من خوفه من الإمعان في القسوة، ومن الإمعان في القتل، لما يدكه من رد الفعل الذي سيحدث عند أعدائه ضده إذا تمكنوا منه، ومن نتائج الأخذ بالثأر. كما بحثوا عن ميل الأعرابي إلى المبالغة. المبالغة في كلامه. والمبالغة في إعطائه إذا أعطى، والمبالغة في مدح نفسه، والتباهي بشجاعته و بكرمه و بشدة صبره إلى غير ذلك، مع وجود تناقض فيه بالنسبة إلى دعاويه هذه. وهو يحب المديح كثيراً، وهو على حدّ قولهم. إذا أعطى، صور ذلك غاية الجود، وبالغ فيه، ويظل يذكره في كل وقت ويحب إن يطرى عليه، لا سيما إذا كان من شاعر وهو صحافي ومذيع ذلك الوقت.

وللفوارق الموجودة بين العرب والأعراب، بين الحضر وبين أهل البوادي رأى "الأزهري" وجوب التفريق بين الاثنين. إذ قال: "والذي لا يفرق بين العرب والأعراب والعربي والأعرابي، ربما تحامل على العرب، بما يتأوله في هذه الآية. وهو لا يميز بين العرب والأعراب. ولا يجوز إن يقال للمهاجرين والأنصار أعراب، إنما هم عرب، لأنهم استوطنوا القرى القريبة، وسكنوا المدن. سواء منهم الناشئ بالبدو، ثم استوطن القرى و الناشئ بمكة، ثم هاجر إلى المدينة. فان لحقت طائفة منهم بأهل البدو بعد هجرتهم واقتنوا نعماً ورعوا مساقط الغيث بعد ما كانوا حاضرة أو مهاجرة. قيل: قد تعربوا أي صاروا أعراباً بعد ما كانوا عرباً. وفي الحديث تمثل في خطبته مهاجر ليس بأعرابي. جعل المهاجر ضدّ الأعرابي. قال والأعراب ساكنو البادية من العرب الذين لا يقيمون في الأمصار ولا يدخلونها إلا لحاجة. وقال أيضاً المستعربة عندي قوم من العجم دخلوا في العرب فتكلموا بلسانهم وحكوا هيآتهم وليسوا بصرحاء فيهم. وتعربوا مثل استعربوا". وقد ذهب هذا المذهب "ابن خلدون"، إذ رأى إن الأعراب يختلفون عن العرب. ولذلك فإن ما أشار إليه "ابن خلدون" من إن العرب إذا دخلوا بلداً أسرع إليه الخراب إنما قصد به الأعراب لا العرب الحضر.

ولكي نكون منصفين في الأحكام عادلن غير ظالمين علينا التفريق بين الأعراب وبين العرب. فما يقال عن الأعراب يجب ألا يتخذ قاعدة عامة تطبق على العرب. لما بين العرب والأعراب من تباين في الحياة وفي النفسية والعقل. ثم علينا لكي نكون منصفين أيضاً إن نفرق بين عرب وعرب. لما أصاب عرب كل أرض من أرض العرب من أثر تركه الأجانب فيهم، ومن امتزاج الأعاجم في العرب ودخولهم فيهم واندماجهم بهم حتى صاروا منهم تماماً. والامتزاج والاندماج يؤثران بالطبع في أخلاق أهل المنطقة التي وقعا فيها، أضف إلى ذلك عوامل البيئة والمحيط. ولهذا يرى المرء تبايناً بيّناً بين عرب كل قطر، تبايناً يلمسه حتى الغريب. فبين أهل العراق وأهل بلاد الشام العرب، تبابين و فروق في الملامح الجسمية وفي المظاهر العقلية والاجتماعية وغيرها، مع انهم جميعاً عرب يفتخرون بانتسابهم إلى العروبة. وبين عرب العربية الجنوبية وبين عرب عالية نجد فروق واضحة جليةّ. وهكذا قل عن بقية بلاد العرب. بل نجد هذا التباين أحياناً بين أجزاء قطر واحد. فإذا كان هذا هو ما نراه ونلمسه في الجاهلية وفي الإسلام، فهل يجوز لأحد التحدث عن عقلية عامة جامعة تشمل كل العرب? وقد أدرك المتقدمون علينا بالزمن اختلاف العرب في الصفات والشمائل، فتحدثوا عن "حلم قريش"، وعن لينها ورقة ذوقها وعن براعتها في التجارة، وتحدثوا عن عمق تفكير أهل اليمن وعن اشتهارهم بالحكمة، حتى قيل: الحكمة يمانية. وورد إن "علي بن أبي طالب"، لما وافق على اختيار "أبي موسى الأشعري" ليكون ممثله في التحكيم، قال له "أبو الأسود الدؤلي": "يا أمير المؤمنين لا ترضَ بأبي موسى، فإني قد عجمت الرجل وبلوته، فحلبت أشطره، فوجدته قريب القعر، مع انه يمان".

الحنين إلى الأوطان

ومع فقر البادية وغلظ معاشها وشحها، فإن الأعرابي يحن إليها، ولا يصبر عن فراقها حتى وان أخذ إلى جنان الريف. قال الجاحظ: "وترى الأعراب تحن إلى البلد الجدب، والمحل القفر، والحجر الصلد، وتستوخم الريف". "واعتل أعرابي في أرض غربة، فقيل له: ما تشتهي? فقال: حسل فلاة، و حسو قلات". ويروى إن "ميسون بنت بحدل" الكلبية، زوجة معاوية، كانت تحن إلى وطنها، وقد سمعها زوجها وهي تنشد أبياتاً في شوق وحنين إلى البادية، فخيمتها التي تلعب الأرياح بها، خير عندها وأحب لها من العيش في قصر منيف، ورجل من بني عمها نحيف أحب إليها من "علج عليف"، أي حضري سمين من كثرة الأكل. وانتقل أعرابي من البداوة إلى الحضارة، فرأى المكاء في الحضر، فقال يخاطبه: فارق هذا المكان، فإنه ليس لك فيه الشجر الذي تعشش عليه، و أشفق من إن تمرض كما مرضت.

والعربي الذي ألف الحضارة وأمعن في الترف وتفن في العيش بالمدن، لا يفقه سحر البادية الذي يجلب إليه أهل البادية. لأنه يرى إن كل ما فيها ضيق وجوع وحرّ شمس وفقر. فيسخر من الأعرابي ويضحك عليه لحنينه إلى باديته. ولما استظرف "الوليد بن عبد الملك" أعرابياً واستملحه، فأبقاه عنده وسأله عن سبب حنينه إلى وطنه أجابه جواباً خشناً، مثل جفاء الأعراب وصلفهم. فقال الوليد، وهو يضحك: أعرابي مجنون. ولم يتأثر منه، لأنه أعرابي، والأعرابي في حكم المجانين. وقد سقط حكم القلم عنه.

ويروي أهل الأخبار حديثاً لكسرى أنوشروان مع وفد وفدَ عليه فيه بعض خطباء العرب. فسألهم عن سبب تفضيلهم السكن بالبادية وعن حياتهم بها وعن طبائعهم إلى غير ذلك من أسئلة وأجوبة دوّنوها على إنها أسئلة كسرى و أجوبة العرب عليها. و فيها أمور مهمة عن حياة الأعراب. وقد يكون الخبر قصة موضوعة، غير إننا لا ننظر إليها من جهة تاريخية، إنما نأخذها مثالاً على ما كان يدور في خلد من صنعها عن نفسية الأعراب وعن نظرة الحضر إلى أهل البوادي.

و للمسعودي كلام في اختيار العرب سكنى البادية وسبب ذلك، كما تحدث عن أثر البوادي في صحة أجسام العرب وفي تكوين أخلاقهم، مما جعلهم يختلفون بذلك عن بقية الناس.

والعرب وإن عرفوا بالترحل والتنقل، بسبب البداوة إلا انهم يحنون إلى أوطانهم، ولا ينسون موطنهم القديم. يستوي في ذلك العربي والأعرابي. وهم يرون إن في الغربة كربة، وان الإنسان إذا صار في غير أهله ناله نصيب من العذل. "وكانت العرب إذا غزت وسافرت حملت معها من تربة بلدها رملا وعفراً تستنشقه عند نزلةٍ أو زكام أو صداع". "وقيل لأعرابي: كيف تصنع في البادية إذا اشتد القيظ وانتعل كل شيء ظلّه? قال: وهل العيش إلا ذاك، يمشي أحدنا ميلا فيرفضّ عرقاً، ثم ينصب عصاه ويلقي عليها كساءه، ويجلس في فيئه يكتال الريح، فكأنه في إيوان كسرى".

وجاء إن "الوليد بن عبد الملك" استظرف أعرابياً فاحتسبه عنده وحباه، فمرض فبعث إليه "الوليد" بالأطباء، وعالجوه، ورأى من الخليفة كل رعاية. لكن هواه بقي في وطنه، ولم يطق على هذه المعيشة الراضية الطيبة صبراً، فهلك بعد قليل. إلى غير ذلك من قصص وشعر ورد في الحنين إلى الأوطان، وفي تفضيل الوطن على كل منزل آخر، ولو كان آية في الجمال ومثالاّ من الراحة و الاطمئنان.

وهو يعجب من لغة أهل الحضر، ولا سيما حضر ريف العراق وريف بلاد الشام. ومن الاكرة الذين لا يفهم عنهم ولا يستطيع إفهامهم، فكان يجد نفسه و كأنه في سجن مطبق، يريد الخلاص منه. حدث ذلك حتى في الإسلام، وقد ذكر "أبو عمان الجاحظ"، انه رأى أعرابياً، وكان عبداً حبشياً لبني أسيد، وقد صار "ناظوراً"، و كأنه اصيب بمس من الجن، فلما رآه، قال له: لعن الله أرضاً ليس بها عرب.

حياة الأعراب

وحياة الأعراب حياة تكاد تكون حياة واحدة لا تغير فيها ولا تبدل، فهي على وتيرة واحدة. على تعدد القبائل، وابتعاد مواضع بعضها عن بعض. ذلك لأن الظروف المخيمة عليهم، ظروف واحدة لا اختلاف فيها ولا تبدل. إلا ما كان منها بالنسبة إلى أعراب الضواحي والحواضر، فان ظروفهم تختلف عن هؤلاء، ومجال تفكيرهم أوسع من مجال تفكير الأعراب. بسبب نوع المعيشة المتغير، المتصل بالأرض، وقربهم من الحضر. ولو درسنا حياة القبائل في الجاهلية وج معنا دراستنا من المرويّ عنها في الكتب، وجدنا إن بين الماضي البعيد وبين الحاضر شبهاً في نمط الحياة، وان ما ذكرته عن قبائل الجاهلية يكاد ينطبق على حياة قبائل البادية في وقتنا هذا، ذلك لأن الظروف والمؤثرات بالنسبة إلى حياة الأعراب الممعنين في البادية لا تزال كما كانت عليه. ولكنها سوف لن تبقى على ما هي عليه و إلى أبد الآبدين بالطبع، لأن التقدم الحضاري والاكتشافات المادية، قد آخذت تغزو الأعراب وتضيق الخناق عليهم، لتغير من حالهم. فبعد إن كان البدو قوم غزو، أكرهتهم الحكومات القوية على الابتعاد عن الغزو ونبذه، حتى اضطروا إلى توديعه إن الأبد أو كادوا وصاروا مغزوَّين، تغزوهم الحضارة الحديثة والآليّات بما لا قبل لهم بمقاومته، لتفوق الغزو الجديد عليهم. وهم سيكونون ولا شك بمرور الوقت على شاكلة النصف الآخر من العرب. أي إخوانهم الحضر. يوائمون أنفسهم مع التطور الجديد. وسوف يبدل هذا من حياتهم ولا شك، ومن أهم ما سيفعله فيهم، تحويل حياتهم من حياة غير مرتبطة بالأرض، إلى حياة ترتبط بها ارتباطا. وثيقاً، فتتحول البداوة عندئذ إلى حضارة، وسيشعر الأعرابي عندئذ انه مواطن له ارض ووطن وقوم هم إخوة له يشعرون بشعوره. وأن من يعزل نفسه عن العالم، فلن يعزل بذلك إلا نفسه، ولن يضر إلا بصالحه. وان الإنسان بغير عمل ولا إنتاج، إنسان تافه لا قيمة له. وأن العنتريات و العُبَيّة الجاهلية من جملة مؤخرات الحياة في كل الأزمنة والأوقات.

ملامح العرب

والعرب وان كانوا من الجنس السامي، إلا انهم يختلفون عن بقية "أبناء سام" في الملامح الجسمانية وفي فصائل الدم، وفي أمور أخرى. ذلك لأن السامية، كما سبق إن قلت -جنسية ثقافية، أما من الناحية "البيولوجية" وهي تتعلق بالملامح وبأمور بيولوجية أخرى فليست بجنسية خاصة يمكن تمييزها من بن قبائل الأجناس البشرية، لما نراه فيما بين شعوبها من تباين. ثم إن بين العرب أنفسهم، تبايناً واختلافاً في الملامح، بسبب قرب العرب وبعدهم من الأعاجم، وأثر فعل الرقيق والأسرى في امتزاج الدم بينهم، ثم اثر فعل الطبيعة و عملها في الإنسان، وما تقدمه له من غذاء ونوع ماء وحرّ وبرد ومطر وضغط جوّي ونوع تربة.

واليهود هم من الجنس السامي، جنس خليط كذلك في القديم وفي الحديث فقد دخل اليهود دم غريب أيضاً، وفي في التوراة وفي أسفار المكابيين والكتب العبرانية الأخرى، إكراه اليهود للشعوب التي استولوا على أرضها على التهود. فدخلت في اليهودية، وهي ليست من اصل يهودي، وصارت من يهود وقد دخلت اليهودية في حمير وبني كنانة وبني الحارث كعب و كندة، وهم من العرب. و دخل آخرون في اليهودية، وصاروا يهوداً فاليهود مثل غيرهم، فيهم اليهودي الخالص، وفيهم اليهودي الغريب، وفي ملامحهم المتباينة ما هو دليل على وجود الاختلاط في الدم.

وأنا إذ أتكلم عن ملامح العربي، فإني لا ازعم إن لديّ أو لدى الباحثين مقاييس خاصة ثابتة نستطيع إن نقيس بها ملامح العرب، بحيث نحددها في حدود ونرسم لها رسوماً، لا تتعداها ولا تتخطاها. فحدود مثل هذه لا يمكن إن توجد ولا يمكن إن ترسم، لان بين العرب تبايناً وتنابزاً في الصور وفي الملامح بحيث يكون من الصعب علينا وضع حدود ثابتة لملامح العرب، يخضع لها كل العرب أو أكثرهم. وسبب ذلك اتساع جزيرة العرب، ووجود سواحل طويلة جداً تقابل قارتين: قارة سوداء هي إفريقية، وقارة أخرى هي آسية، لون بشرة سكان سواحلها الجنوبية الشرقية السواد والسمرة الغامقة. وهي سواحل مفتوحة غَذّت جزيرة العرب بعناصر ملوّنة اختلط دمها بالدم العربي حتى اثر ذلك اللون في سحن الناس هناك فبان السواد أو اللون الداكن على السواحل العربية المقابلة لسيلانَ والمهند. وظهرت الملامح الأفريقية على سحِن الساحل الغربي لجزيرة العرب من تهامة فيما بعد حتى ساحل عمان. وظهرت سحن وملامح أقوام بيض من روم و رومان وأهل فارس في مواضع أخرى من جزيرة العرب، بسبب سياسة الحكومات القاضية بالتهجير نكاية بالمهجرين، أو بسبب تنقلات الجيوش والحروب، أو التجارة، أو الخطط العسكرية القاضية بحماية المصالح الاقتصادية. وذلك بوضع حاميات عسكرية على سواحل الجزيرة لحماية السفن من غارات الأعراب ولصوص البحر. ثم يحدث إن تنقطع الأسباب برجال تلك الحاميات، وتنقطع صلاتهم بالأم لعوامل عديدة، فيستقرون في مواضعهم ويتعربون حتى صاروا عرباً. نسوا أصلهم وعدّوا من خلص العرب. ولكن العرق دساس كما يقول الناس، فبقي أثره بارزاً ظاهراً على الوجوه، نراه حتى اليوم في تغاير وتمايز سحن سكان السواحل فيما بينها، وفي تغايرها عن سحن أهل باطن جزيرة العرب تغايراً. ملحوظاً. وقد أشرت في كتابي "تأريخ العرب قبل الإسلام" و في الجزء الأول والثاني من هذا الكتاب إلى أثر المستعمرات اليونانية في سحن العرب، كما هو الحال في جزيرة "فيلكة" في الكويت والى أثر الرقيق، التجارة في باطن جزيرة العرب مما يجعلني في غنى عن إعادة الكلام عن ذلك مرة أخرى.

وقد ذكر أهل الأخبار إن الروم سكنت في الجاهلية جبل "ملكان" وهو جبل في بلاد طيء. فلا يستعد بقاء هؤلاء فيه وسكنهم فيه، وتحولهم إلى عرب بتعربهم كما تعرب غيرهم من اليونان ممن نزل المستوطنات اليونانية في بلاد العرب.

ونجد بمكة ويثرب وبمواضع أخرى من جزيرة العرب موالي أصلهم من الفرس أو الروم برز منهم بعض الصحابة مثل: "سلمان الفارسي" و "رومان الرومي"، وهو من موالي الرسول، وغيرهم. وقد ترك هؤلاء الموالي آثراً في ملامح الناس ولا شك.

ثم يلاحظ إن أجسام سكان السواحل اقصر من أجسام أبناء الجبال والنجاد. وان أهل التهائم والسواحل الجنوبية لجزيرة العرب اقصر قامة من أهل نجاد اليمن أو أهل نجد. كما نجد اختلافاً بين ملامح القبائل لا زال بارزاً حتى اليوم. اختلافاً يتحدث عن طبيعة الامتزاج الذي وقع في الدم في أيام الجاهلية أيضاً، لاختلاط الدماء وامتزاجها بالعوامل التي ذكرتها.، وان ذهب البعض إلى إن جزيرة العرب كانت في عزلة عن العالم، فهذه العزلة التي يتحدثون عنها، هي عزلة لم تكن عامة و لا يمكن إن نسميّها عزلة صحيحة إلا بالنسبة للقبائل المتبدية التي عاشت في صميم البوادي، غير إن تلك القبائل لم تتمكن مع ذلك من عزل نفسها عن الرقيق والأسرى الغرباء.

ثم نجد فروقاً بين العرب والأعراب، سببه اختلاف المحيط والظروف والغذاء. فالعربي ممتلئ الجسم بالقياس إلى الأعرابي الرشيق القليل اللحم، الدقيق العظم. وتظهر هذه النحافة في وجه الأعرابي أيضاً، فوجهه ممشوق قليل اللحم، دقيق ممتد ذو ذقن بارز، وأنف دقيق، وعينان براقتان. وتعد الرشاقة في جسم العربي من محاسنه لأنها تجعله معتدل القوام. خفيف الحركة،. وقد مدح "امرؤ القيس" الغعلام الخف، أي الخفيف الجهم، السريع الحركة الذي ينزل، عن صهواته ويلوي بأثواب العنيف المثقل. أي الثقيل الجسم السمين. وقيل: الخفيف في الجسم والخفاف في التوقد والذكاء. ويعد ثقل الجسم من المعيبات. ومن المجاز التخفيف ضد التثقيل والخفيف ضد الثقيل. وقد اعتبروا الثقل ذماً في الإنسان. فقبل: هو ثقيل على جلسائه، وهو ثقيل الظل، ويقال مجالسة الثقيل تضني الروح، حتى ألف بعض العلماء في أخبار الثقلاء.

و "الربع" من الرجال، أي المتوسط القامة، النموذج الأوسط للإنسان وحدّ الكمال في الجسم عند العرب. ويقال له: "ربعة" و "مربوع". وقد نعت رسول الله بأنه "ربعة" من الرجال، وورد أنه كان أطول من المربوع وأقصر من المشذب. والوسط عند العرب هو بين. الجيد والرديء. وأوسط الشيء أفضله وخياره. ومنه الحديث: خيار الأمور أوساطها. وقد هابت العرب أصحاب الطول في الجسم، والكبر في الرأس، واحترموا أصحاب الهيبة والتأثير في النفس، وقد ذكر بعض منهم في كتب أهل الأخبار. وقد رموا القصير بالمكر والخديعة، ولكنهم اعتبروا القصر في الجسم من العيوب، لا سيما إذا كان ذلك القصير غليظ البطن. وقد عرف الإنسان الموصوف بهذه الصفة بالدحداح و بالداح وبالدودح وبالذحذاح. والدودحة القصر مع السمن. وأما "الدرحاية"، فالرجل الكثير اللحم القصير السمين البطين، اللئيم الخلقة. وعرف الرجل المسنّ الذي ذهبت أسنانه ب "الدردح".

واعتّبر العرب طول العنق من سمات المدح. ولذلك وصف رؤساء العرب بطول العنق. وعُبر عن الرؤساء والكبراء والأشراف ب "الأعناق" و "أعناق". وعبر عن الجماعة الكثرة ب "الأعناق" كذلك. وذكر الشاعر "عروة بن الورد" عنق الآرام في شعر له في وصفه للناشئات الماشية بتبختر. إذ قال: والناشئات الماشيات الخوزرى  كعنق الآرام أوْفى أو صرى

والعرب مثل غيرهم لا يحبون الصلع. ويكثر ظهوره بين العجزة والمسنين والأشراف. وقد ذكر إن أكثر الأشراف من العرب كانوا من الصلع، وتفسير ذلك إن أكر الأشراف هم من ذوي الأسنان، وان الإنسان إذا تقدمت به السن، أخذ الصلع يجد له مكاناً في رأسه فيلعب فيه. ومن ذلك قول الناس يوم بدر: "ما قتلنا إلا عجائز صلعاً" أي مشايخ عجزة عن الحرب. وأنشد "ابن الأعرابي": "يلوح في حافات قتلاه الصلع" أي يتجنب الأوغاد ولا يقتل إلا الأشراف.

وهم يفضلون "الأفرع" على الأصلع. والأفزع هو الكثير الشعر. وكان "أبو بكر" أفرع، وكان عمر أصلع. وكان رسول الله أفرع ذا جمة. والصلع خير من "القرع"، لأن القرع داء يصيب الرأس، فيؤثر في منظره ويسبب سقوط شعره وحدوث أثر دائم فيه، وقد تنبعث رائحة كريهة منه. وقد ذكر الأخباريون أسماء عدد من الأشراف عرفوا بقرعهم.

وقد اشتهر بعض العرب بطول القامة، حتى زعم إن بعضاً منهم كان إذا ركب الفرس الجسام خطت إبهاماه في الأرض. وذكروا من هؤلاء: "جذيمة ابن علقمة بن فراس"، المعروف ب "جذل الطعان" الكناني، و "ربيعة بن عامر بن جذيمة بن علقمة بن فراس"، وكان يماشي الظعينة فيقبلها، فسُمّي "مقبل الظعن". و "زيدّ الخيل بن المهلهل الطائي"، و "أبو زيد حرملة ابن النعمان الطائي"، وعدي بن حاتم بن عبد الله الطائي، وقيس بن سعد بن عبادة الأنصاري، وأبوه سعد بن عباسة، وسعد بن معاذ، وعبد الله بن أبَي ابن سلول، وبشير بن سعد، أخو بني الحارث بن الخزرج، وجبلة بن الأيهم الغساني، وحمل بن مرداس النخعي، ومالك الأشتر بن الحارث النخعي، و عبد الله بن الحصين ذي الغصة الحارثي، وعامر بن الطفيل الجعفري، وقيس ابن سلمة بن شراحيل بن أصهب الجعفي.

العرب أفخر الأمم

يرى الجاحظ إن العرب أفخر الأمم، وأرفعها وأحفظها لأيامها، وينسب ذلك إلى طبيعة بلادهم. إذ "كانوا سكان فياف وتربية العراء، لا يعرفون الغَمق ولا اللثق، و لا البخار ولا الغلظ و لا العفنً، ولا التخم، أذهان حِداد، ونفوس منكرة، فحين حملوا حدّهم ووجهوا قولهم لقول الشعر وبلاغة المنَطق، وتشقيق اللغة وتصاريف الكلام، بعد قيافة الأثر وحفظ النسب، والاهتداء بالنجوم، والاستدلال بالآفاق، وتعرّف الأنواء، والبصر بالخيل وآلة الحرب، والحفظ لكل مسموع والاعتبار بكل محسوس، وإحكام شأن المثالب والمناقب، بلغوا في ذلك الغاية، وحازوا كل أمنية. و ببعض هذه العلل صارت نفوسهم أكبر، وهمهم أرفع من جميع الأمم وأفخر، ولأيامهم أحفظ وأذكر". وهم لطبيعة الأرض التي ولدوا بها صاروا على هذه الحال، ولم يصيروا كاليونان في الحكمة وفي العلوم، ولا كالصين في السبك والصياغة والإفراغ و الإذابة والأصباغ العجيبة، وأصحاب الخرط والنحت و التصاوير، و لا كالهنود أو الفرس.

وقد وصف الأعرابي بالتفاخر وبالتباهي، فهو فخور معجب بنفسه مترفع عن غيره حتى لكأنه النمر، مع انه من أفقر الناس. ولهذا صاروا إذا أرادوا وصف شخص متغطرس متجبر مع انه لا يملك شيئاً يفوّق به نفسه على غيره، قالوا عنه: "نبطيّ في حبوته. أعرابي في نمرته، أسد في تامورته".

العجم

ويطلق العرب على غيرهم ممن لا. ينتمون إلى العرب، لفظة "أعاجم". و "العجم" عندهم خلاف العرب. والرجل الواحد "أعجمي". ولعلماء اللغة آراء في تفسير هذه اللفظة. وهي من الألفاظ الجاهلية، لورودها في القرآن الكريم. ففيه: )لسان الذي يلحدون إليه أعجمي(،. و )أ أعجمي وعربي. قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء(، و )لو جعلناه قرآناً أعجميّاً، لقالوا لولا فصلت آياته(، و )لو نزلناه على بعض. الأعجميين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين(. ففي هذه الآيات دلالة واضحة على إن المراد من "أعجمي" خلاف العربي، وان هذا المصطلح كان معروفاً عند العرب قبل "لإسلام." ويطلق العرب على العجم "الحمراء" لبياضهم ولأن الشقرة أغلب الألوان عليهم. وكانت العرب تقول للعجم الذين يكون البياض غاب على ألوانهم مثل الروم والفرس ومن صاقبهم: انهم الحمراء. والعرب إذا قالوا: فلان أبيض وفلان بيضاء، فمعناه الكرم في الأخلاق لا لون الخلقة. و إذا قالوا: فلان أحمر وفلانة حمراء عنوا بياض اللون. والعرب تسمي الموالي: الحمراء. جاء في الحديث: "بعثت إلى الأحمر والأسود"، أي إلى العجم والعرب كافة.

وورد إن العرب تقول: جاء بغنمه حمر الكلى وجاء بها سود البطون، معناهما المهازيل. وهو مجاز. ويذكرون إن معنى حمر الكلى الامتلاء والسمن، والسواد معنى الهزال والرشاقة. ولما كان الأعاجم ممتلئي الجسم بالنظر إلى العرب، قالوا لهم "الحمراء". وقد كان العرب يطلقون على الموالي "الحمراء"، و إذا سبّوا أحدهم قالوا، "يا ابن حمراء العجان أي يا ابن الأمّة. كلمة في السب والذم". ولعلهّم فعلوا ذلك بسبب امتلاء أجسام الموالي ولا سيما العجان، الذين لا يتحركون ولا يتنقلون من أماكنهم، ويأكلون الخبز فامتلأت لذلك بطونهم و تكرشوا.

ولم يشرح علماء العربية الأسباب التي حملت العرب على تلقيب العجم ب "رقاب المزاود" "رقاب المزود". وقد ذكر بعض العلماء، إن العرب إنما لقبت العجم ب "رقاب المزاود"، لطول رقابهم أو لضخامتها كأنها ملأى.

ويكنى العرب ب "السبط" عن العجمي و ب "الجعد" عن العربي. وذلك لان سبوطة الشعر هي الغالبة على شعور العجم من الروم والفرس وجعودة الشعر هي الغالبة على شعور العرب. ولكنهم كانوا يفرقون بين جعودة شعر العرب وجعودة شعر الزنج والنوبة. لأنهم ينظرون إلى الزنج والسود على انهم دونهم في المنزلة والمكانة. وهذا قالوا إن العرب تمدح الرجل إذ تقول رجل جعد، أي كريم جواد كناية عن كونه عربيّاً سخياً، لان العرب موصوفون بالجعودة، و تذم الرجل أيضاً حين تقول: رجل جعد، إذ. يقصدون بذلك رجلاً لئيماً لا يبض حجره، وقد يراد به رجل قصير متردد الخلق. فهو من الأضداد. لذلك فالجعد في صفات الرجال يكون مدحاً وذماً. و إذا قالوا رجل جعد السبوطة فمدح، إلا إن يكون قططا مفلفل الشعر فهو حينئذ ذم.

ومن المجاز قول العرب: الأعداء صهب السبال وسود الأكباد، وان لم يكونوا كذلك، أي صهب السبال، فكذللك يقال لهم. ورد في الشعر: جاؤا يجرون الحديث جـرّاً  صهب السبال يبتغون الشرّا

وانما يريدون إن عداوتهم كعداوة الروم. والروم صب السبال والشعر، و إلا فهم عرب و ألوانهم الأدمة والسمرة والسواد.

ويذكر علماء اللغة إن العرب تصف ألوانها بالسواد، وتصف ألوان العجم بالحمرة. وقد افتخر الشعراء بذلك في الجاهلية وفي الإسلام. من ذلك قول الفضل بن عباس بن عتبة اللهبي: وأنا الأخضر من يعرفـنـي  أخضر الجلدة في بيت العرب

يقول: أنا خالص لأن ألوان العرب السمرة. ومن ذلك قول مسكين الدارمي: أنا مسكين لمن يعرفـنـي  لوني السمرة ألوان العرب

قال "الجاحظ": "والعرب تفخر بسواد اللون.. و قد فخرت خُضر محارب باًنها سود، والسود عند العرب الخضر". ثم ذكر أمثلة من أمثلة افتخار بعض القبائل والأشخاص بكونهم "خضراً". حتى قال: "وخضر غسان بنو جفنة الملوك? قال الغساني: إن الخضارمة الخضر الذين ودََوا  أهل الربص ثمانى منهم الحكـم

وقد ذكر حسان أو غيره الخضر من بني عكيم، حين قال: ولستَ من بني هاشم في بيت مكرمة  ولا بني جمحِ الخضر الجـلاعـيد

قالوا: وكان ولد عبد المطلب العشرة الساحةُ سلاً ضخماً، نظر إليهم عامر ابن الطفيل يطوفون كأنهم جمال جون، فقال: بهؤلاء تمنع السدانة.

وكان عبد الله بن عباس أدلم ضخماً، وآل أبي طالب أشرف الخلق، وهم سود وأدم وسلم".

واشتهر بعض سودان العرب بالشجاعة والأقدام، منهم أربعة عرفوا ب "أغربة العرب" وذؤبان العرب. منهم: عنترة وخفاف بن ندبة السلمي، سرى فيه السواد من قبل أمه، وهو من حرّة بني سليم. أدرك النبي، وكان شاعراً شجاعاً، وقل ما يجتمع الشعر والشجاعة في واحد. ومنهم السليك بن السلكة.

وهناك قبائل غلب على لونها السواد، حتى عبر عنها ب "دلم". والدلم الرجل الشديد السواد. جاء إليها السواد، لكون أصلها من إفريقية على ما يظهر، وكانت قد استقرت بجزيرة العرب وتعربت، حتى عدت من العرب. أما الأسر والأفراد الدلم، فقد ظهر السواد على لونهم بالتزاوج من الملونين. فقد كان من عادة الأشراف الاتصال بالإماء السود، فإذا ولدن منهم أولاداً نجباً شجعاناً ألحقهم آباؤهم بهم، ونسبوهم إليهم كالذي كان من أمر عنترة العبسي. وقد مال قوم من قريش إلى التزوّج بالإماء السود، وقد ظهرت هذه النزعة بين السادات والأشراف.

وقد ذكر "الجاحظ" في معرض حجج السودان على البيضان، و على لسان الزنج قولهم للعرب: "من جهلكم أنكم رأيتمونا لكم أكفاء في الجاهلية في نسائكم، فلما جاء عدل الإسلام رأيتم ذلك فاسداً، وما بنا الرغبة عنكم. مع إن البادية منا ملأى ممن قد تزوج ورأس وساد، ومنع الذمار، وكَنَفَكم من العدوّ". وفي هذا القول إشارة إلى التزاوج الذي كان بين العرب والزنج، أي السودان المجلوبين من إفريقية، في أيام الجاهلية. والى انصراف العرب عنه في الإسلام، ما خلا البادية، وذلك بسبب إقبالهم على التزوج بالفارسيات والروميات وبغيرهن على ما يظهر، بسبب الفتوح وتوسع أسواق النخاسة في هذا الوقت. وارتفاع مستوى الوضع الاقتصادي للعرب في الإسلام عنه في الجاهلية، مما مكنهم من التزوّج بالأجنبيات البيض الجميلات و تفضيلهن على السودانيات. وظهور نظرة الازدراء إلى السودان في الإسلام، بسبب الأعاجم المسلمين الذين كانوا يزدرون العبيد وينظرون إليهم على انهم عونهم في المنزلة، فانتقلت هذه النظرة منهم إلى العرب.

ويظهر من رسالة الجاحظ: "فخر السودان على البيضان"، إن نزاعاً كان قد دبّ بين السودان والعرب في الإسلام، بسبب نظرة الازدراء التي أخذ الفاتحون ينظرون بها إليهم فصاروا يترفعون عنهم ولا يخالطونهم. و هذا مما أغاضهم، وحملهم على نبش الماضي، والإتيان بالأخبار وبالأشعار عن دور الحبش في جزيرة العرب قبل الإسلام، وكيف انهم كانوا قد ملكوا "بلاد العرب من لدن الحبشة إلى مكة"، وهزموا ذا ئواس، وقتلوا أقيال حمير، فملكوا العرب ولم يملكهم العرب. إلى غير ذلك من دعاوي تجدها في قصيدة الشاعر الزنجي "الخيقطان"، التي يفتخر فيها بالحبش على العرب، على نحو فخر الشعوبية بأصولهم على العرب. وهي قصيدة شهيرة، قالها يوم سمع "جرير" يسخر منه بشعر قاله، في وصفه. فرد عليه رداً شديداً بقصيدته هذه التي نظمها وهو باليمامة.

وقد عُرفت بعض القبائل ببياض بشرتها، واشتهرت نساؤها ببياض البشرة، ورد "في الحديث انه لما خرج من مكة قال له رجل: إن كنت تريد النساء البيض والنوق الأدم فعليك ببني مدلج". ويقال للمرأة التي يغلب على لونها البياض "الحمراء"، وقد لقب الرسول زوجته "عاثشة" ب "الحميراء"، لبياض لونها.

القبيلة

والقبيلة هي عماد الحياة في البادية، بها يحتمي الأعرابي في الدفاع عن، نفسه وعن ماله، حيث لا "شُرَط" في البوادي تؤدب المعتدين، ولا سجونُ يسجن فيها الخارجون على نظام المجتمع، وكل ما هناك "عصبية" تأخذ بالحق و "أعراف" يجب إن تطاع.

والرابط الذي يربط شمل القبيلة ويجمع شتاتها هو "النسب". ويفسر ذلك بارتباط أبناء القبيلة كلها بنسب واحد وبدم واحد و بصلب جدّ أعلى من صلبه انحدر أفراد القبيلة في اعتقادهم. ولهذا نجد أهل الأنساب يرجعون نسب كل قبيلة إلى جدّ أعلى، ثم يرجعون أنساب الجدود، أي أجداد القبائل إلى أجداد أقدم، وهكذا، حتى يصلوا إلى الجدّين للعرب: قحطان و عدنان.

وقد حفظت الكتابات العربية الجنوبية أسماء عدد كبير من القبائل، لم يعرف أسماء أكثرها أهل الأخبار. وهي تفيدنا من هذه الناحية فائدة كبيرة في الوقوف على هذه القبائل، وبعضها كان قد هلك و انحلّ واختلط في القبائل الأخرى قبل الميلاد وبعضها بعد الميلاد وقبل الإسلام بأمد.

و تتألف القبيلة من بيوت، يختلف عددها باختلاف حجم القبيلة، وباختلاف المواسم. ففي مواسم الربيع، تضطر أحياء القبيلة على الانتشار والابتعاد، لتتمكن إبلها من الرعي ومن إملاء بطونها بالعشب. فتتجمع على شكل مستوطنات يتراوح عدد بيوت كل مستوطنة منها ما بين الخمسين والمائة والخمسين بيتاً. أما في المواسم الأخرى، حيث تنحبس الأمطار وتجف الأرض، فتعود أحياء القبيلة إلى تكتلها وتجمعها، فتكون كل مجموعة حوالي "500" بيت أو أكثر. تتجمع حذر وقوع غزو عليها، وللتعاون فيما بينها عند الشدة والعسر.

والقبيلة في عرف علماء اللغة جماعة من أب واحد، والقبائل في نظرهم من قبائل الرأس لاجتماعها، أو من قبائل الشجرة وهي أغصانها، فهي إذنْ جماعة من الناس تضم طوائف أصغر منها، وهي تنتمي كلها إلى أصل واحد وجذر راسخ، ولها نسب مشترك يتصل بأب واحد هو أبعد الآباء والجد الأكبر للقبيلة. فالرابط الذي يربط بين أبناء القبيلة ويجمع شملها ويوحد بين أفرادها هو "الدم"، أي النسب. والنسب عندهم هو القومية ورمز المجتمع السياسي في البادية. والقبيلة هي الحكومة الوحيدة التي يفقهها الأعرابي، حيث لا يشاهد حكومة أخرى فوقها. وما تقرره حكومته هذه من قرارات يطاع وينفذ، وبها يستطيع إن يأخذ حقه من المعتدي عليه.

وهذه النظرة الخاصة بتعريف القبيلة، هي التي حملت أهل الأنساب والأخبار على إطلاق لفظة "القبيلة" على الحضر أيضاً. مع انهم استقروا وأقاموا. فقريش عندهم قبيلة، والأوس، والخزرج قبيلة، وثقيف قبيلة. ذلك لأن هؤلاء الناس وان تحضروا واستقروا وأقاموا، وتركوا الحياة الأعرابية، إلا أنهم بقوا رغم ذلك على مذهب أهل الوبر ودينهم في التمسك بالأنساب إلى جد أعلى و إلى أحياء وبطون. وفي إجابة النخوة والعصبية، وما شابه ذلك من سجايا البداوة، فعدّوا في القبائل، وان صاروا حضراً وأهل قرار، وقد طلقوا التنقل وانتجاع الكلأ.

وتشارك الشعوب السامية العرب في هذه النظرة. لأن نظامها الاجتماعي القديم هو كالنظام العربي قائم على القبيلة. والقبيلة عندها جماعة من بيوت ترى إنها من أصل واحد، وقد انحدرت كلها من صلب جدّ واحد. فهم جميعاً أبناء الجدّ الذي تتسمى به القبيلة. وهم مثل العرب في النداء وفي النسب. قد يذكرون الاسم فقط، فيقولون مثلاً: أدوم و مؤاب و إسرائيل ويهوذا، أو أبناء إسرائيل وأبناء يهوذا، وبنو إسرائيل وبنو يهوذا. وقد يقولون: بيت إسرائيل وبيت يوسف وبيت خمرى وبيت أديني، بمعنى أبناء المذكورين. تماماً كما نقول: غسان، وآل غسان، وأبناء غسان وأولاد غسان ومن غسان، وغساني، وما شاكل ذلك، ويريدون بها شيئاً واحداً، هو النسب. أي الانتماء إلى جد واحد به تسمى القبيلة واليه يرجع نسبها.

وهم يشعرون كالعرب إن أبناء القبيلةّ هم إخوة وهم من دم واحد، ومن لحم ودم ذلك الجد. وهم يخاطبون بعضهم بعضاً بقولهم: "أنت من لحمي ودمي". وفي التوراة أمثلة عديدة من هذا القبيل. فلما ذهب "أبو مالك بن يربعل" إلى عشيرة أمه خاطب أبناءها بقوله: "أيما خير لكم! أن يتسلط عليكم سبعون رجلاً جميع بني يربعل، أم إن يتسلط عليكم رجل واحد. واذكروا أني أنا عظمكم ولحمكم". وقد اعتبر "داوود". جميع أبناء عشيرته إخوة له. وخاطب "شيوخ يهوذا" بقوله: "أنتم إخوتي، أنتم عظمي ولحمي". فأبناء القبيلة هم إخوة من دم واحد، يسري في أجسامهم جميعاً ما دامت القبيلة حية باقية. ووحدة الدم هذه هي الرابط الذي يجمع شمل القبيلة. وهي صلة رحم، وعصبية، والحكومة الصحيحة التي يجب إن تطاع.

والعربي مثل بقية الساميين لم يفهم الدولة إلا إنها دولة القبيلة. وهي دولة صلة الرحم التي تربط الأسرة بالقبيلة. دولة العظم واللحم، دولة اللحم والدم، أي: دولة النسب. فالنسب هو الذي يربط بين أفراد الدولة ويجمع شملهم. وهو دين الدولة عندهم وقانونها المقرر المعترف به. وعلى هذا القانون يعامل الإنسان. وبالعرف القبلي تسير الأمور. فالحكام من القبيلة، وأحكامهم أحكام تنفذ في القبيلة، و إذا كانت ملائمة لعقلية القبيلة والبيئة، وهذا هو ما يحدث في الغالب، تصير سنة للقبيلة، نستطيع تسميتها ب "سنة الأولين". ووطن القبيلة هو بالطبع مضارب القبيلة حيت تكون، وحيث يصل نفوذها إليه، فهو يتقلص ويتوسع بتقلص وبتوسع نفوذ القبيلة.

وقد واجه المسلمون في أيام الفتوح صعوبة كبيرة في فتوحهم بسبب العقلية القبلية وضيق أفقها، وعدم تمكنها من التخلص من مثلها الجاهلية بسهولة. فقد كان على القائد إن يقاتل عدوّه بجيش يحارب على شكل كتل قبائل، تتكون كل كتلة من مقاتلي قبيلة واحدة، لا من جنود ينتمون إلى أمة هي فوق الكتل والقبائل. وكان على رأس كل وحدة مقاتلة رؤساء من القبيلة التي ينتمي إليها الجنود. وقد واجه الإمام "عليّ" صعوبة حينما حارب في معركة الجمل وفي معركة صفين وغيرها، إذ اشترطت عليه القبائل المحاربة، ألا تحارب إلا رجال قبيلتها الذين يكونون ضده.، فالهمدانيون الذين معه يحاربون الهمدانيين الذين يحاربون مع خصمه. وهكذا فعلت بقية القبائل، للعصبية القبلية، لأنهم لم يكونوا يستطيعون رؤية قبيلة غريبة تفتك بإخوانهم من قبيلتهم، وهم ينادون بشعار العصيبة، شعار القبيلة. أما هم فإن قاتلوا إخوانهم من قبيلتهم، فإن قتالهم هذا يختلف عن قتال الأخوة حين يقتتلون قتالاٌ قد يكون أشد ضراوة من قتال الغرباء، لا يلتفت فيه إلى وجود دم واحد بين المتقاتلين، والى أنهم من بيت أب وأم، يحتم عليهم التكتل والتعصب، إذ لا غريب هنا أمامهم في هذا القتال.

ولست بحاجة و أنا في هذا المكان، لتكرار قول سبق إن قلته في الجزء الأول من هذا الكتاب - من إن أسماء القبائل لا تعني بالضرورة إنها أسماء أجداد حقيقيين عاشوا وماتوا. فبينها كما سبق إن قلت أسماء مواضع، مثل غسان، وبينها أسماء أصنام مثل "بنو سعد العشيرة" وبينها أسماء أحلاف مثل "تنوخ" وبينها نعوت وألقاب.. إلى آخر ذلك من أسماء قبائل وصلت إلى علم علماء الأنساب، فأوجدوا لها معاني و اعتبروها أسماء رجال حقيقيين تزوّجوا و نسلوا ومنهم من كان عاقراً فلم ينسل، فذهب أثره، ولم تبق له بقية.

والمفهوم من لفظة "القبيلة" في العادة: القبائل التي تتألف من عمائر وما وراء العمائر من أقسام. فإذا ذكرت القبيلة انصرف الذهن إلى آلاف من البيوت تجتمع تحت اسم تلك القبيلة. ولكن الناس يتجوزون في الكلام وفي الكتابة أحياناً فيطلقونها على عدد قليل من الناس قد يبلغ ثلاثة نفر أو أربعة مثل: "بنو عبد الله ابن أفصى بن جديلة"، و "بنو جساس بن عمرو بن خوّية بن لوذان"، من "بني فزارة"، و "كليب بن عديّ بن جناب بن هبل"، و "بنو شقرة" من تميم. وقد يطلقونها على أكثر من ذلك، ولكن على عدد قليل من الناس أيضاً، كأن يكون خمسين رجلا أو ستين. وهذا الاستعمال، هو على سببل التجوز لا الاصطلاح.

ويرى علماء العربية إن هناك تجمعات، هي في نظرهم أكبر حجماً من القبيلة أطلقوا عليها "الشعوب". فذكروا إن الشعوب فوق القبائل، ومثاله: بنو قحطان، وبنو عدنان، فكل منهما شعب. وما دونهما قبائل. وذهب بعض منهم إلى إن "الشعوب" للعجم، فإن الشعوب بالنسبة لهم، مثل القبائل للعرب، ومنه قيل للذي يتعصب للعجم "شعوبي"، وقيل: بل هي للعرب وللعجم. والذي عليه اكثر علماء الأنساب، إن الشعب أكبر من القبيلة، وان الشعب أبو القبائل الذي ينتسبون إليه، أي يجمعهم ويضمهم.

ويظهر إن مردّ هذا الاختلاف هو ما ورد في القرآن الكريم من قوله: )وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا(. فقدم "الشعوب" على القبائل. فذهب أكثر المفسرين والعلماء إلى إن هذا التقديم يعني إن الشعب أكبر من القبيلة، وان الشعوب الجمّاع والقبائل البطون، أو الشعوب الجمهور والقبائل الأفخاذ، أو الشعوب: النسب البعيد، والقبائل: دون ذلك، كقولك فلان من بني فلان، وفلان من بني فلان. وتأول بعض آخر هذا المعنى، فذهبوا إلى إن هذا التقديم أو التأخر، لا علاقة له بالكبر، أي بحجم الشعب أو القبيلة، والآية لا تريد ذلك، و إنما تريد الأنساب، و إنها نزلت في بيان إن الإنسان لا بنسبه، و إنما بعمله. وعلى هذا، فإن الشعب، في نظرهم دون القبيلة في الترتيب. والشعب بعد القبيلة في الدرجة.

وقد أخذ العلماء بالتأويل الأول للفظة "الشعب"، حتى صار هذا المعنى هو المعنى المفهوم منها عند الناس في الإسلام. فهي إنما تعني اليوم جنساً من أجناس البشر له خصائصه ومميزاته، كالشعب العربي والشعب اليوناني والشعب التركي والشعب البريطاني والشعب الأميركي، و هكذا. أو جزاً كبيراً مستقلا من أجزاء أمة واحدة، كأن نقول: الشعب العراقي، والشعب السوري، والشعب السعودي، والشعب المصري، أي وحدة جغرافية سياسية ذات كيان.

ولفظة "الشعب"، من الألفاظ الواردة في نصوص المسند. وهي فيها بمعنى قبيلة، وتكتب "شعبن"، بمعنى "الشعب". وحرف النون في أواخر الأسماء أداة للتعريف في العربيات الجنوبية. فهي إذن مرادف "قبيلة" بالضبط. والجمع "اشعب"، أي "شعوب". ورد "سباواشعبهمو"، أي "سبأ وشعوبهم"، أو "سبأ وقبائلهم" بتعبير أدق وأصح. وورد "شعبن معن"، أي "قبيلة معين"، و "شعبن همدان"، أي "قبيلة همدان". والظاهر إن أهل مكة، وقفوا في الجاهلية على هذه اللفظة أيضاً فاستخدموها، وان قبائل حجازية مجاورة لمكة، كانت تستعمل لفظة "شعب" و "الشعب"، بمعنى قبيلة، ونظراً لورودهما معاً في القرآن الكريم، فرّق العلماء بين اللفظتين، باعتبار إن ذكرهما معاً، يعني وجود بعض الاختلاف في المراد منهما. فوقع من ثمَّ بين المسلمين هذا التمييز، وصارت لفظة "الشعب" تدل على معنى يختلف عن معنى كلمة "قبيلة" و"القبيلة".

ويلي الشعب في اصطلاح أهل النسب: القبيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الفصيلة. فالشعب النسب الأبعد مثل عدنان و قحطان، والقبيلة مثل ربيعة ومضر، والعمارة مثل قريش وكنانة، والبطن مثل بني عبد مناف و بني مخزوم، ومثل بني هاشم، وبني أميّة، والفصيلة مثل بني أبي طالب وبني العباس. وجعل "ابن الكلبي" مرتبة بين الفخذ والفصيلة هي مرتبة العشيرة، وهي رهط الرجل.

وورد إن البطن دون القبيلة أو دون الفخذ وفوق العمارة. وذكر بعضهم. إن أول العشيرة: الشعب ثم القبيلة ثم الفصيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ. وذلك على رأي من جعل العشيرة: العامة. مثل: بني تميم و بني عمرو بن تميم أي الجماعة العظيمة.

وزاد بعض العلماء الجذم قبل الشعب، وبعد الفصيلة العشيرة، ومنهم من زاد بعد العشيرة الأسرة، ثم العترة. ورتبها آخرون على هذه الصورة، جذم، ثم جمهور، ثم شعب، ثم قبيلة، ثم عمارة، ثم بطن، ثم فخذ، ثم عشيرة، ثم فصيلة، ثم رهط، ثم أسرة، ثم عترة، ثم ذرية. وزاد غيرهم في أثنائها ثلاثة هي: بيت، وحيّ، وجماع. وذكر بعض علماء اللغة أن "الجذم"، الأصل في كل شيء. فيقال: جذم القوم أهلهم وعشيرتهم. ومنه حديث حاطب، لم يكن رجل من قريش إلا له جذم بمكة.

وذكر بعض العلماء إن العمارة الحيّ العظيم يقوم بنفسه. وان الفرق بين الحيّ والقبيلة هو إن الحيّ لا يقال فيه بنو فلان نحو قريش و ثقيف ومعدّ وجذام. والقبائل يقال فيها بنو فلان مثل بني نعيم وبني سلول. وذكر أيضاً إن العمارة: الحيّ العظيم الذي يقوم بنفسه، ينفرد بظعنها و إقامتها و نجعتها. وقيل هو اصغر من القبيلة. وفي الحديث: انه كتب لعمائر كلب وأحلافها كتاباً. قال التغلبي: لكل اناس من معـدّ عـمـارة  عروضٌ، إليها يلجأون، وجانب

وقسم "النويري" النظام القبلي عند العرب إلى عشر طبقات. وابتدأ ب "الجذم" وهو الأصل: وهو قحطان وعدنان، والطبقة الأولى. ثم الجماهير، وهي الطبقة الثانية، ثم الطبقة الثالثة: الشعوب، والطبقة الرابعة القبيلة، وهي التي دون الشعب تجمع العمائر، ثم الطبقة الخامسة: العمائر، و هي التي دون القبائل، وتجمع البطون، ثم الطبقة السادسة: البطون، وهي التي تجمع الأفخاذ، والطبقة السابعة: الأفخاذ. وهي اصغر من البطن. والفخذ تجمع العشائر. والطبقة الثامنة: العشائر، واحدها عشيرة، وهم الذين يتعاقلون إلى أربعة آباء. والطبقة التاسعة: الفصائل، واحدها فصيلة، وهم أهل بيت الرجل وخاصته، والطبقة العاشرة: الرهط، وهم الرجل و أسرته.

ما ذكرته يمثل مجمل أراء علماء النسب عند العرب في موضوع كيان القبيلة وفروعها التي تتفرع منها درجة درجة، حتى تصل إلى البيت، الذي يتكون من الأب والأم وأولادهما. وقد رأينا انهم قد اختلفوا فيما بينهم وتباينوا في الترتيب وفي العدد. منهم من يقدم، ومنهم من يؤخر، ومنهم من يزيد، ومنهم من ينقص. واختلافهم هذا فيما بينهم، هو دليل يشعرنا إن التقسيم المذكور لم يكن تقسيماً ثابتاً. عند كل القبائل وأنه لم يكن تقسيماً جاهلياً بل كان تقسيماً محلياً اختلف بين قبيلة وأخرى، وأن أسماء أجزاء القبيلة، لم تكن أسماء عامة متبعة عند الجميع، أي أسماء مقررة عند كل قبيلة، بل هي أسماء آخذها العلماء من هنا وهناك، وهذا وقع بينهم هذا الاختلاف، ولو كان عند الجاهليين تقسيم واحد لأجزاء القبيلة فما كان من المعقول إن يقع علماء النسب واللغة فيما رأينا من تباين واختلاف، ولوجب اتفاقهم في الترتيب وفي العدد. فالتقاسيم المذكورة اذن، هي من وضع وترتيب وجمع علماء النسب واللغة في الإسلام.

وأصغر وحدة من وحدات القبيلة هي: الأسرة، أي "البيت". فهي نواة القبيلة و بذرتها وجرثومتها، ومن نموها ظهرت شجرة القبيلة التي تختلف حجمها وتختلف كثرة أغصانها وفروعها باختلاف منبت الشجرة والظروف والعوامل التي أثرت في تكوينها. من بذرة جيدة ومن تربة صالحة وماء كاف. والبيت هو نواة القبيلة عند العرب، وهو نواة القبيلة عند كل الشعوب القبلية. بل هو نواة المجتمع في كل مجتمع إنساني.

القحطانية و العدنانية

تحدثت في الجزء الأول من هذا الكتاب عن القحطانية والعدنانية بما فيه الكفاية، وأعود هنا فأقول إن ما ذكرته عن أهل المدر وأهل الوبر، أي عن الحضر و البدو أو الأعراب وهم أهل البادية، لا يعني إن الحضر هم القحطانيون، وان الأعراب هم العدنانيون. كما ذهب إلى ذلك بعض المستشرقين باعتبار إن غالبية من نسميهم القحطانيين هم حضر، أو اقرب من غيرهم إلى الحضر، وأن غالبية العدنانية أعرابية متبدية. والصواب عندنا إن في القحطانيين عرباً و أعرابا، وفي العدنانيين حضراً وبادية، وان غلبت البداوة على العدنانيين. لأن من وجد الماء الدائم تنخ عليه و تحضر، قحطانياً كان النازل أم عدنانياً، فالحضارة تنبت حيث يكون الماء، والماء لا يعرف النسب والقبائل. من وجده وظفر به وأقام عليه تحضر واستقر، فصار حضرياً.

ولهذا نجد في حضر جزيرة العرب أقواماً يحشرهم أهل الأنساب في قحطان، ونجد في حضرها أقواماً يرجعون نسبهم إلى عدنان.

ونحن إذا ما رسمنا خارطة لكيفية توزع الحضر و الأعراب، أو لكيفية استثمار القبائل، فإننا في إن منازل القبائل متداخلة مشتبكة. ليست بينها حدود ولا أسوار حاجزة تحجز القبائل القحطانية عن القبائل العدنانية. إلا في العربية الجنوبية حيث يرجع النسابون نسب اكثر قبائلها إلى أصل قحطاني. أما في الأماكن الأخرى، فان القبائل القحطانية وكذلك القبائل العدنانية منتشرة، انتشاراً لا يسل على وجود تكتل وتحزب. بل نجد القحطانية نجاور العدنانية وتخالطها ونجد القحطانية في جوار القحطانية، والعدنانية في جوار العدنانية، مما يدل على إن هذا التوزيع لم يقم ولم يستند على عنصرية وحزبية وعلى هجرات منتظمة، و إنما قام على حق القوة وتحكم القوي في الضعيف، مهما كان عنصر القوي وأصله. وأن التكتل قد حدث بدوافع سياسية عسكرية لعبت دوراً خطيراً في تكون النسب.

وظاهرة أخرى نراها عند القبائل، تتجلى في إن القبائل وان تنقلت وارتحلت من مكان إلى مكان، سعياً وراء الماء والكلأ، كما يذكر أهل الأخبار، إلا إن ذلك لا يعني إن هذه الحركة هي حركة دائمية مستمرة، وان القبائل كانت تتنقل دوماً من مكان إلى مكان. بحيث صار الترحل لها سنة دائمة لازمة. فلو ثبتنا منازل القبائل على "خريطة" صورة جزيرة العرب، استناداً إلى روايات أهل الأخبار عنها، وجدنا، إن منازل القبائل لم تتبدل إلا للضرورات ولأسباب قاهرة تكره القبيلة على ترك ديارها والارتحال عنها إلى منازل جديدة. كاًن تغزوها قبائل كثيرة العدد أقوى منها أو ينحبس عنها المطر سنين، تهلك الضرع، أو تحاربها قوة نظامية أقوى منها، كالذي وقع ل "إياد" حيث أزاحها "بنو عبد القيس" عن مواطنها في البحرين، ثم شتتت الفرس شملها في العراق فعندئذ تضطر القبيلة وهي مكرهة مجبورة على ترك ديارها للبحث عن ديار أخرى جديدة. وتكاد تكون اكثر أسباب هجرات القبائل وارتحالها من أماكنها إلى أماكن أخرى هي الأسباب المذكورة.

وطراز حياة القبائل في جزيرة العرب باستثناء العربية الجنوبية، متشابه، بحيث يصعب إن نجه فروقاً واضحة ظاهرة بين القبائل التي ينسبها النسابون المسلمون إلى قحطان أو آل عدنان، فهي متشابهة وعلى وتيرة واحدة. وأما اللغة، فإننا لا نجد فيما بين القبائل العدنانية و القحطانية أي خلاف يذكر على ما يظهر من روايات علماء اللغة. بل نجد إن لهجات القبائل القحطانية، الشمالية هي لهجات عدنانية، مخالفة للهجات أهل اليمن المعروفة التي كانت سائدة في اليمن إلى ظهور الإسلام. فلهجات آهل اليمن من الحميرية وغيرها، بعيدة عن لهجات القبائل القحطانية والعدنانية بعداً متساواً، حتى بالنسبة إلى القبائل اليمانية التي غادرت اليمن في عهد متأخر، كما سأبحث عن ذلك فيما بعد، وفي القسم الخاص بلغات أهل الجاهلية.. ولهذه الظاهرة أهمية كبيرة بالنسبة إلى دراسة اللغة والنسب عند العرب الجاهليين.

وعندي أن ما يذهبا اليه المستشرقون من تقسيم العرب إلى عرب جنوبيين وعرب شماليين، هو تقسيم لا يمكن اعتباره تقسيماً علمياً. فان ما نشاهده من فروق في الملامح والمظاهر بين أهل العربية الجنوبية من أهل اليمن وحضرموت ومسقط وعمان وبن أهل الحجاز ونجد، والعرب الشماليين الآخرين، وان كان واضحاً. ظاهراً ولا مجال إلى نكرانه، إلا إن هذه الفروق لا يمكن اعتبارها مع ذلك حداً فاصلا يقسم العرب إلى مجموعتين: مجموعة شمالية ومجموعة جنوبية، لسبب بسيط جداً سبق إن بينته في الجزء الأول من هذا الكتاب، وتحدثت عنه في مواضع، أخرى منه. وهو إن كل مجموعة من المجموعتين لا تكون في نفسها وحدة متناسقة متجانسة، بل تتألف من مجموعات تختلف بعضها عن بعض في السحن وفي الملامح، بسبب عوامل الاتصال بالعالم الخارجي، وبسبب اختلاف الظروف للطبيعية التي يعيش? أفراد كل مجموعة. فأهل جبال اليمن والجبال المتصلة بها الممتدة إلى عمان، يختلفون اختلافاً بيناً عن أهل السواحل و الارضين المنخفضة، ليس في الملامح والسحن فحسب، بل وفي العمل وفي النشاط وفي المدارك أيضاً. وأهل السراة في العربية الغربية يختلفون عن أهل تهامة وبقية ساحل البحر الأحمر، وأهل نجد يختلفون عن أهل ساحل الخليج. يختلفون عنهم في السحن والملامح كما يختلفون عنهم في المدارك وفي حدة الذهن. وهذا الاختلاف هوّ شيء واقعي بيّن للعيون، يراه كل إنسان حين يزور بلاد العرب. وهو في حد ذاته شاهد على فساد نظرية المستشرقين في تقسيم العرب إلى مجموعتين.

وبعد، فهذه الطبيعة طبيعة جزيرة العرب - من جوّ وارض، من انحباس مطر ومن ارتفاع في درجات الحرارة. ومن يبوسة في الهواء، وقلة في الرطوبة، ومن اختلاف في ضغط الجو اختلافاً يخل بتوازنه فيثير فيه أعاصير وعواصف، تعتدي على حرمة التربة الهادئة الراقدة، فتقع رمالها إلى ارتفاعات متباينة، وتلفح الأوجه والأجسام ب "سموم" و بما شاكله من اهوية مزعجة، تثير الغضب وتلهب العصب، وتجعل الجو داكناً اظلم مغبراً، أضف إلى ذلك ما نراه من نور ساطع و أشعة لامعة تحمل أمواجاً غير مرئية تؤثر في خلايا البشرة وفي النفس، ثم هذه الرطوبة المفرطة المتحكمة في التهائم، و هذه الندرة في الأنهار، والإسراف في ظهور البوادي والصحارى، وتحكم الطبيعة تحكماّ جائراً في توزيع النبات والحيوان على أهل جزيرة العرب: كل هذه الأمور و أمثالها أثرت أثراً كبيراً في نفس أهل جزيرة العرب، وفي شكل أجسامهم، وفي حالة معيشتهم، فجعلتهم يختلفون عن غيرهم بأمور، ويتباينون فيما بينهم بأمور، وذلك لاختلاف طبيعة أجزاء الجزيرة نفسها. ونحن لن نستطيع فهم العرب فهماً صحيحاً دقيقاً، إلا إذا درسنا هذه الأمور المذكورة وأمثالها دراسة علمية دقيقة. وعندئذ فقط نستطيع فهم سبب تفشي البداوة بين العرب، وسبب تطبع العرب بطباع خاصة، واتسامهم بسمات وعلامات خاصة وبملامح ومظاهر جسمية متباينة، وأمثال ذلك مما تعرضت له في بحث الجنس والسامية وفي بحث طبيعة العقلية العربية وما قبل في حقها من أقوال، وما ورد في العرب من مدح أو ذم ومن وصف صادق أو كاذب.

أركان القبائل

يرجع كل العرب من حيث النسب إلى ركن من "أركان القبائل". فقد اصطلح علماء النسب على إن للنسب عند العرب بعد قحطان و عدنان أربعة أركان: ربيعة ومضر و يمن و قضاعة. وذلك على رأي من جعل قضاعة ركناً قائماً بذاته. ولا يمكن إن يخرج نسب عربي أصيل عن أصل من هذه الأصول.

وورد إن العرب في النسب على أربع طبقات: خندفي وقيسي، ونزاري، ويمني. ويمن هي قحطان. وكان العرب يتعززون بانتسابهم إلى اليمن، فكان من ينقلب على نسبه يتخذ لنفسه نسباً يمانياً. "وأكثر العزوة لمن ينقلب عن نفسه إلى اليمن، لأجل أن الملوك كانت في اليمن: مثل آل النعمان بن المنذر من لخم، وآل سليح من قضاعة، و آل محرق، وآل العرنج، وهو حِمْيرَ الاكبر ابن سبأ كالتبابعة والأذواء وغيرهم. والعرب يطلبون العز ولو كان في شامخات الشواهق، وبطون الامالق البوالق، فينتسبون إلى الأعز لحماية الحمّية و اباءة الدنية ..".

ورجع بعض النسابين المعروفين نسب العرب إلى ثلاث جراثيم: نزار، واليمن وقضاعة. ويمثل رأيهم هذا رأي القائلين بالأركان الأربعة للقبائل بالضبط، لأن نزاراً هو في عرفهم والد ربيعة ومضر، وكل ما فعلوه هنا، هو انهم حذفوا اسمي الولدين وأحلوا اسم والدهما في محلهما.

ورجع "المأمون" الخليفة العباسي، أصول العرب إلى قيس ويمن و ربيعة ومضر. فلما تعرض عربيّ بالمأمون وهو في زيارته بلاد الشام، ولامه في تقديم أهل خراسان على العرب، بقوله: "يا أمير المؤمنين انظر لعرب الشام كما نظرت لعجم خراسان"، أجابه الخليفة: "أكثرت عليّ يا أخا أهل الشام، والله ما أنزلت قيساً عن ظهور الخيل إلا وأنا أرى انه لم يبق في بيت مالي درهم واحد. وأما اليمن فو الله ما أحببتها ولا أحبتني قط. وأما ربيعة فساخطة على ربّها منذ. بعث الله نبيه من مضر، ولم يخرج اثنان إلا خرج أحدهما شارباً، أعزب عني فعل الله بك..." فأركان العرب في رأي المأمون أربعة: قيس ويمن و ربيعة ومضر. وهي كتل كانت على عادة العرب متنافسة متحاسدة متباغضة، ترى كل واحدة منها نفسها وكأنها أمة دون سائر الأم: و "يمن" كناية عن العرب الجنوبيين من همدان وحمير وكندة وأمثالها، وأما قيس و ربيعة ومضر، فكناية عن تكتلات وتجمعات العرب من غير اليمن.

وذهب "ابن حزم" إلى إن جميع العرب من أب واحد، سوى ثلاث قبائل، هي: تنوخ، والعُتق، وغسان، فان كل قبيلة منها مجتمعة من عدة بطون. وذلك إن تنوخاً اسم لعشر قبائل اجتمعوا وأقاموا بالبحرين، فسُمّوا تنوخاً، والعتق جمع ما اجتمعوا على النبي، فظهر بهم فأعتقهم فسُمّوا بذلك، وغسان عدة بطون نزلوا على ماء يسمى غسان فسموا به.

ولما جاء "خالد بن الوليد، إلى العراق كان جيشه من "ربيعة" و "مضر" ومن قبائل يمانية. ومعنى هذا وجود ثلاثة أركان قبائل محاربة. ولما قال "خالد ابن الوليد" ل "عديّ بن عديّ بن زيد العباديّ": "ويحكم! ما انتم! أعرب? فما تنقمون من العرب! أو عجم! فما تنقمون من الإنصاف والعدل! فقال عديّ: بل عرب عاربة و أخرى متعرية، فقال: لو كنتم كما تقولون لمّ تحادّونا وتكرهوا امرنا? فقال له عديّ: ليدلك على ما نقوله انه ليس لنا لسان إلا بالعربية، فقال: صدقت" ولا تعني جملة "بل عرب عاربة و أخرى متعربة" معنى: إن العرب عربان، عرب عاربة وعرب متعربة، على النحو المفهوم منها عند أهل الأخبار. بل هي تعبر عن واقع اصل أهل الحيرة. فقد كان أهلها بين عرب صرحاء وبن عرب متعرية أي جماعة لم تكن عربية في الأصل وانما كانت من اصل عراقيّ وفارسيّ أقامت في الحيرة، وتأثرت بأهلها العرب فتكلمت العربية حتى صارت العربية لسانها، فهي من العرب المتعربة. وقد كان كل عرب العراق على هذا النحو في ذلك الوقت. فمنم بين عرب خلّص وبن عرب متعربة، لم تكن أصولها من منبت عربيّ، و إنما دخلت في العرب فتطبعت بطباعهم و أخذت لسانهم حتى نسيت ألسنتها القديمة، وصارت من العرب.

وقد ذكر بعض المؤرخين إن العرب من "نزار" ملكتهم الفرس. وأن العرب من غسان ملكتهم الروم. فجعل "نزاراً" في مقابل غسان. ولم يكن كل عرب العراق من "نزار". يدلك على ذلك إن ملوك الحيرة على رأي أهل الأخبار من قحطان. والذي يلاحَظ من كيفية توزيع القبائل علي حسب رواية أهل الأخبار إن. معظم قبائل العراق، هي من قبائل "نزار" أو من "ربيعة" و "مضر" بتعبير آخر. أما معظم قبائل بلاد الشام فهي من "يمن" أي على عكس الحال في العراق. فهل يمثل هذا التقسيم توزيعاً تاًريخياً صحيحاً ? بمعنى إن اكثر قبائل العراق، قد وردت العراق? من العربية الشرقية والعربية الوسطى، أي من سواحل الخليج ونجد، وان عرب بلاد الشام إنما جاؤوا إلى هناك من اليمن، عن طريق الحجاز ونجد.. أو انه تقسيم سياسي اصطلاحي، نشأ قبل الإسلام بعهد طويل من، المنافسة التي كانت بين العراق وبلاد الشام، المنافسة التي ظلت باقية في الإسلام. فقد كان بن العراق وبين بلاد الشام عداء وتباغض، لعوامل لا مجال للبحث فيها في هذا المكان.. وقد استولت حكومات العراق من حكومات وطنية وأجنبية على بلاد الشام مراراً، مما ولد مرارة وأوجد حقداً بين أهل العراق وأهل الشام، فانتقل ذلك إلى عرب القطرين أيضاً. فحارب عرب العراق عرب بلاد الشام، حتى وصل هذا العداء إلى دعوى وجود فرق بين اصل عرب العراق وأصل عرب بلاد الشام. فصارت اكثر قبائل العراق في عرف أهل الأنساب من ربيعة ومضر ونزار، وصار معظم بلاد الشام في عرفهم من اليمن. قياساً على ما كان عليه، العرب عند ظهور. الإسلام من أنصار ومهاجرين، أو من يمن وعدنان، أو قحطان و عدنان وما شابه ذلك من أسماء. أما رأيي، فان لأهل الأخبار يداً طولى في هذا التقسيم الذي ظهر واينع في الإسلام. وان الجاهلية لم تكن تخلو من تجمعات وتكتلات قبلية، لكنها كانت تختلف عن التجمعات التي أثارتها النعرة القبلية الجديدة التي برزت في الإسلام، والتي آثرت على ظهورها عوامل عديدة إلى إن ثبتت و دُوّنت في كتب أهل الأنساب والأخبار.

وجعل بعض أهل الأخبار العرب يمناً ونزاراً. وذكر إن اليمن أصحاب بحر وبني نزار أصحاب بر. وقصدوا باليمن أصحاب الساحل، الذين عركوا البحر وخبروه. عكس "نزار"، عرب البر، وهم قوم لا علم لهم بالبحر، انهم لم يتعودوا على ركوبه. إذ سكنوا البرَّ ولم يعركوا البحر، فخافوا منه و تجنبوه.

و الآراء المتقدمة في تقسيم العرب إلى أركان وكتل، هي آراء عربية محضة أخذت، من واقع الحال، ولم تستند من التقسيم المألوف للعرب إلى قحطانيين و عدنانيين، التقسيم المأخوذ من التوراة على نحو ما شرحت ذلك في الجزء الأول من هذا الكتاب. ذلك لأن الحياة في بلاد العرب هي حياة تكتل و تحزب، فكان لا بد للقبائل من عقد أحلاف فيما بينها للمحافظة على نفسها من افتراس القبائل الكبيرة لها، ومن إستذلالها وآخذ ما تملكه. وبهذه الأحلاف حافظت القبائل - الضعيفة على حياتها، وجدّت من طمع القبائل الضخمة في القبائل الهزيلة، وصار في الإمكان السيطرة على الأمن والتقليل من حمى غزو القبائل بعضها بعضاً.

وحاجة الأعراب إلى الأحلاف اكثر وأشد من حاجة الحضر إليها، وذلك بسبب إن الغزو في البادية ضرورة من ضرورات الحياة لفقر البادية وشحها، لانبساط أرضها وعم وجود حواجز طبيعية تعوق الغزو وتحمي المغزو منه. فاضطرت القبائل على خلق حماية طبيعية لها هي الأحلاف. و الأحلاف هي لغاية حماية المال والنفس في الغالب، ولكبح جماح المعتدين إذن. أما الأحلاف الهجومية التي تعقد لتحقيق أغراض هجومية مثل غزو حلف حلفاً آخر لو قبيلة ضخمة قبيلة ضخمة أخرى، فإنها لا تعمر طويلاً كما تعمرّ الأحلاف الدفاعية، لأن أسباب انعقادها تزول بتنفيذ ما اتفق عليه، وقد يتحطم الحلف بسبب ظهور اختلافات مصالح لم تكن في حسبان المتحالفين يوم عقدوا حلفهم، فيتصدع بنيان الحلف ويتهدم ويزول الحلف ليظهر محله حلف آخر جديد.

أما الحضر، فان لهم من حماية أرضهم لهم، ومن طبيعة الحياة التي يحيونها ما يخفف من حاجتهم إلى الحلف القبلي، ويجعل أحلافهم أحلافاً من طراز آخر.

فقد منحت الطبيعة الحضر حجراً صلداً بنوا به أبراجاً وحصوناً ومعاقل حموا بها مستوطناتهم، من طمع الطامعين فيهم، ولا سيما من الأعراب الذين لا يسهل عليهم اقتحام الحصون ولا تهديمها. لعدم وجود أسلحة تؤثر فيها ومنحتهم تربة صار من الممكن عمل الآجر أو اللبن منها لبناء المحافد و الآطام وما شاكل ذلك من وسائل الدفاع، كما أمدتهم بمواد بناء مكنتهم من إنشاء الحيطان والأسوار حولها، وهي مانع يصد الأعراب عن الحضر. وهم بالإضافة إلى ذلك أقدر على الدفاع عن أنفسهم وعلى اللجوء إلى الحيل للتخلص من الأعراب بسبب تحضرهم وتقدمهم في التفكير على عقلية الفطرة التي جبل البدو عليها. وغاية ما فعله الحضر من الأحلاف، هو تحالفهم مع من أحاط بهم من الأعراب لضمان عدم تحرشهم بهم أو لمنع الأعراب الآخرين من التحرش بهم. وعقد حبال مع القبائل لمرور تجارهم من أرضها بأمن وسلام مقابل هدايا أو أرباح أو أموال تعين، تدفع إلى ساداتها تأليفاً لقلوبهم وضماناً منهم لهم بعم تحرش أحد بهم.

ولما تقدم انحصرت الأحلاف الكبرى أو التكتلات القبلية الضخمة بالأرضيين المكشوفة التي غلب عليها الطابع الصحراوي. وبين القبائل التي غلبت البداوة عليها. و الأحلاف الكرى، هي في نظري كناية عن النسب الأكبر عند العرب. فربيعة ومضر و إياد وأنمار وقضاعة، هي في الواقع تكتلات قبيلة تكونت من قبائل غلبت البداوة على طبعها، وقد ظهرت خارج العربية الجنوبية، أي خارج الأرضين التي غلب على سكانها طابع الارتباط بالأرض والقرار. أما القبائل القحطانية، التي هي في التوراة كناية عن قبائل غربية جنوبية مستقرة، فكتل أخذت أسماءها من الأرضين التي كانت حكمها أو من اسم القبيلة التي سميت باسمها. وبين أسماء القبائل وأسماء الأرضين صلة متينة، بحيث يصعب الحكم فيما إذا كانت الأرض قد أخذت اسمها من اسم القبيلة، أو إن القبيلة أخذت اسمها من اسم الأرض.

وقد لعبت فكرة "قحطان" و "عدنان" دوراً مهما في حصر الأنساب عند العرب في الإسلام. يذكر الجاحظ إن رجلاً اسمه "شويس الساسي التميمي العدويّ"، المعروف ب "أبي فرعون"، كان قد قدم البصرة، فذهب إلى رجل منها اسمه "كهمس" يلتمس العون منه، فأعطاه رغيفاً من الخبز الحواري، ثم ذهب إلى رجل آخر اسمه "عمر بن مهران"، فلم يعطه ما كان يريد، فضاق ذرعاً من هذا الرغيف، وذهب إلى حلقة "بني عديّ" فوقف عليهم وهم مجتمعون، وأخرج الرغيف من جرابه وألقاه في وسط المجلس، وقال: يا بني عديّ، استفحلوا هذا الرغيف، فإنه أنبل نتاج على وجه الأرض! ثم قال شعراً سخر فيه من أهل البصرة ومن تشدقهم في الانتساب إلى قحطان أو عدنان، وفحش بهما ومن انتساب الناس اليهما، بينما الناس هنالك ما بين نبط أو خوزان.

ومن أهم القبائل القحطانية التي كان لها شأن يذكر عند ظهور الإسلام، و في الإسلام. حمير وكهلان. ومن مجموعة حمر قضاعة، في رأي من جل قضاعة من اليمن. ومن قضاعة كلب وأسد ومن أسد تنوخ. و أما مجموعة. كهلان، فتتألف من الأزد و همدان و مذحج وطيء، ومن الأزد: غسان و الأوس و الخزرج و ربيعة من القبائل العربية الكبيرة العدد، وقد سبق إن تحدثت عنها في مواضع من الأجزاء السابقة من هذا الكتاب. وقد عرفت "ربيعة" ب "ربيعة الفرس". ويعلل أهل الأخبار اشتهارها بذلك بقولهم: "وربيعة الفرس. هو ا?ن نزار بن معدّ بن عدنان، أبو قبيلة. وإنما قيل له ربيعة الفرس لأنه أعطي من ميراث أبيه الخيل، وأعطي أخوه مضر الذهب. فسميّ مضر الحمراء. وأعطي أنمار أخوهما: الغنم، فسمي أنمار الشاة. وذكروا أيضاً: إن نزاراً لما حضرته الوفاة، آثر إياداً بولاية الكعبة، وأعطى مضر ناقة حمراء، فسميّ مضر الحمراء، وأعطى ربيعة فرسه، فسموّا ربيعة الفرس، وأعطى أنمار جارية له تسمى: بجيلة فحضنت بنيه، فسميّ بجيلة أنمار". وذكر أيضاً إن نزاراً لما حضرته الوفاة قسم ماله بين بنيه، "وهم أربعة: مضر و ربيعة و إياد و أنمار. وقال: يا بني، هذه القبة وهي من أدم حمراء وما أشبهها من المال لمضر، وهذا الخباء الأسود وما شبهه من المال لربيعة، وهذه الخادم وما أشبهها من المال لإياد، وهذه البدرة والمجلس لأنمار يجلس فيه". ولما مات توجهوا إلى "الأفعى بن الأفعى الجرهمي" وكان ملك نجران، وصادفوا في طريقهم أعرابياً ضل بعيره، فوصفوه لة، فقال لهم دلّوني عليه، ولما حلفوا له أنهم لم يروه وإنما وصفوه من أثره لم يصدقهم بل أخذهم إلى "الأفعى" ليحلفوا أمامه انهم لم يروه، فلما بلغوه قصّوا قصتهم مع الأعرابي، وذكروا انهم إنما وصفوه من أثره على الأرض، فحكم لهم "الأفعى" بأنهم صادقون، وانهم لم يشاهدوه، ثم احتفل بهم بعد إن عرفهم وجرب ذكاءهم، وحكم بأن لمضر القبة الحمراء والدنانير والإبل، وهي حمر فسميت: مضر الحمراء، وان لربيعة الخباء الأسود من داية ومال، فصارت له الخيل، وهي دهم، فسميت ربيعة الفرس. ثم قال: وما اشبه الخادم، وكانت شمطاء، فهو لإياد، فصارت له الماشية البلق من الخيل وغيرها، وقضى لأنمار بالدراهم والأرض.

و "مضر" من القبائل الكبيرة. وقد عرفت ب "مضر الحمراء" كما ذكرت. وفسر علماء اللغة والنسب اشتهار "مضر" على نحو ما ذكرت قبل قليل، وفسره بعضهم يقوله ومضر الحمراء، لأنه أعطي الذهب من ميراث أبيه. وأخوه ربيعة أعطى الخيل. فلقب بالفرس. أو لأن شعارهم في الحرب الرايات الحمر. وقال بعض علماء اللغة، وإنماُ سميّ مضر بمضر: "لولعه بشرب اللبن الماضر أو لبياض لونه"، "والعرب تسمي الأبيض أحمر، فلذلك قيل مضر الحمراء". وذكر بعض أهل الأخبار إن مضر مضران: مضر الحمراء لسكناها قباب الأدم، ومضر السوداء لسكناها المظالّ.

ويظهر من هذه التفسيرات، إن "مضر" كانت قد نعتت ب "الحمراء" قبل ظهور الإسلام. وان "ربيعة" كانت. قد عرفت ب "ربيعة الفرس"، ولعل هذا بسبب، إن "مضر" كانت إذ ذاك قبائل ذات إبل و تجارة ومال، ومنها "قريش" التي عرفت بتجارتها وبما جمعته من مالَ، فقالوا "مضر الحمراء". و أما "ربيعة"، فكانت قبائل متبدية غازية محاربة، لها خيل وفرسان لهذا عرفت ب "ربيعة الفرس".

- وقد أشار الشاعر "لبيد" إلى ربيعة ومضر في شعره حين تعرض لذكر الموت، فقال: تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهـمـا  وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر

أراد: هل أنا إلا من أحد هذين الجنسين، فسبيلي إن أفنى كما فنيا. ونسب إليه قوله: فإن لم تجد من دون عدنان والداً  ودون معدّ فلتزعك العـواذل

فأشار بذلك إلى "عدنان" و "معد".

ومن أشهر قبائل مضر "قريش."، حتى إن الناس كانوا إذا قالوا: مضري انصرف ذهنهم إلى قرشي. علي سبيل الشهرة، لاشتهار. قريش بالمضريِة. فلما رأى رجل "أبا سفيان" واقفاً بباب "عثمان بن ضان" ينتظر الإذن بالدخول عليه. قال له: "يا أبا سفيان، ما كنت أرى، إن تقف بباب مضري، فيحجبك! فقال أبو سفيان: لأعدمت من قومي من أقف ببابه فيحجبني".

القبائل القوية

والقبائل مثل الدول، أنماط ودرجات..منها قبائل قوية نشطة تعتمد على نفسها في الدفاع عن كيانها، ومنها قبائل أقل من هذه القبائل شأناً وقوة تحالف مع غيرها في الدفاع عن نفسها، نم لتكون من الحلف كتلة قبلية مهابة. وقبائل صغيرة ليست لها قدرة على الدفاع عن حياتها لوحدها، لذلك تركن إلى التحالف مع قبائل أخرى أقوى منها لتحافظ بذلك على وجودها.

والقبائل القوية هي القبائل الكثيرة العدد والموارد. و إذا ترأسها سادات ذوو كفاءة وقدرة، هابتها القبائل الأخرى.، وسادت على غيرها، وكونت منها ومن القبائل التي تستولي عليها مملكة، كالذي فعلته كندة. ولم يورد العلماء شروطاً في الحد الأدنى أو الحد الأكبر للقبيلة.. وذلك من ناحية. عدد العشائر والبطون والأفخاذ، فلم نعثر على حد معين إذا بلغته جماعة من الناس وجب إطلاق لفظة "قبيلة" عليها. بل نجد علماء النسب يطلقونها أحياناً على بطون و أفخاذ، فيقولون: قبائل قريش، ويذكرون أسماءها، بينما هي في الواقع "آل" أو أرهاط وبطون.

و يقال للقبائل التي تستقل بنفسها وتستغني عن غيرها "الأرحى". وعرفت القبيلة التي لا تنضم إلى أحد ب "الجمرة". ذكر إنها القبيلة تقاتل جماعة قبائل. وكل قبيل انضموا فصاروا يداً واحدةً ولم يحالفوا غيرهم، فهم جمرة. وقيل: الجمرة: كل قوم يصبرون لقتال من قاتلهم لا يحالفون أحداً ولا ينضمون إلى أحد. تكون القبيلة نفسها جمرة تصبر لقراع القبائل كما صبرت عبس لقبائل قيس. ولما سأل "عمر" "الحطيئة" عن عبس و مقاومتها قبائل قيس. قال: "يا أمير المؤمنين كنا ألف فارس كأننا ذهبة حمراء، لا نستجمر و لا نحالف، أي لا نسأل غيرنا إن يجتمعوا إلينا لاستغنائهم عنهم". والجمرة إجماع القبيلة الواحدة على من ناوأها من سائر القبائل.

وذكر إن "الجمرة" ألف فارس، أي القبيلة التي يكون فيها ذلك العدد من الفرسان ؛ وقيل ثلاثمائة فارس، أو نحوها. والذي يستنتج من آراء علماء اللغة والنسب في تعريف "الجمرة"، إنها القبائل المقاتلة القوية التي تعتمد على نفسها في القتال، ولا تركن إلى غيرها، ولا تحالف غيرها لتستفيد من هذا الحلف في قراع القبائل.

ومن مفاخر هذه القبائل كثرة ما عندها من فرسان، والفرسان في ذلك اليوم هم عماد حركة الجيوش، ومن أسباب القوة والانتصار. وقد عدّوا القبيلة التي يكون فيها ثلاثمائة فارس أو نحوها جمرة، وقيل الجمرة: ألف فارس.

ومن جمرات العرب: ضبّة بن اد، وعبس بن بغيض، والحارث بن كعب، ويربوع بن حنظلة. و ذكر بعض العلماء إن جمرات العرب ثلاث جمرات: بنو ضبّة بن اد بن طابخة بن الياس بن مضر، وبنو الحارث بن كعب، وبنو نمير بن عامر. فطفئت منهم جمرتان. طفئمت ضبّة، لأنها حالفت الرباب وطفئت بنو الحارث، لأنها حالفت مذحج. وبقيت "نمير" لم تطفأ، لأنها لم تحالف. وورد إن الجمرات: عبس بن ذبيان بن بغيض، والحارث بن كعب، وضبّة بن اد، وهم إخوة لأم، لأن أمهم امرأة من اليمن. تزوجها "كعب بن عبد المدّان يزيد بن قطن، فولدت له: الحارث بن كعب، وهم أشراف اليمن ثم تزوجها "بغيض بن ريث بن غطفان"، فولدت له عبساً وهم فرسان العرب، ثم تزوجها "اد" فولدت له ضبة. فجمرتان في مضر، وهما عبس وضبةّ و جمرة في اليمن، وهم بنو الحارث بن كعب. وذكر بعض آخر إن الحارث، هم بنو كعب بن علة بن جلد. ومنهم من عدّ تميماً من الجمرات.

"قال الخليل: الجمرة كل قوم يصبرون لقتال من قاتلهم، لا يحالفون أحداً، ولا ينضمون إلى أحد، تكون القبيلة نفسها جمرة تصبر لمقارعة القبائل كما صبرت عبس لقيس كلها".

و إذا تأملت كلام العلماء في جمرات العرب، تجده يصادم بعضه بعضاً حتى إن الواحد منهم يذكر عدداً، ثم يذكر عدداً غيره في موضع آخر من كتابه. وقد اعتذر عن ذلك بعض العلماء إذ قال: "قلت فإذا تأملت كلامهم تجده مصادماً بعضه مع بعض"، ثم ذكر أمثلة من أمثلة هذا التصادم، ثم خلص إلى هذه النتيجة، واعتذر عنهم بقوله: "و إذا تأملت كلامهم علمت انه لا مخالفة ولا منافاة، إلا إن البعض فصل والبعض أجمل".

وعندي إن للعواطف القبلية دخل في هذا الاضطراب، فمن النسّابين من تعصب لقبيلة، فجعلها من الجمرات، بسبب صلته بها، ومنهم من تعصب لغيرها، ومنهم من تعصب على هذه القبيلة أو تلك، فأخرجها من الجمرات، فمن هنا وقع هذا الارتباك عند العلماء حين سألوا نسابي القبائل ورواة الأخبار عن أيام الجاهلية، وعن الأنساب والقبائل، وهي من أهم الامور حساسية عند العرب، فظهرت العصبية في مؤلفات أهل النسب والأخبار حين شرعوا بالتدوين.

وعرفت القبائل القوية الكبيرة التي تفرعت منها جملة قبائل ب "أم القبائل". ومن القبائل القوية "بكر بن وائل". وسبب ذلك إن القبيلة القوية تكبر بسبب انضمام القبائل الصغيرة، فإذا توسعت وتضخم عددها صار من الصب عليها البقاء في منازلها، فتضطر عندئذ على التوسع والانتشار في أرضين جديدة. و قد تغادر أحياء منها منازلها لتجد لها منزلاً طيباً جدبداً،، فتبتعد بذلك عن القبيلة الكبيرة التي جمعت تلك الأحياء. فتكون بمثابة الأم للقبائل النازحة. تربطها بها رابطة ذكرى الأمومة، التي تتحول إلى نسب تخطه ذاكرة حفاظ الأنساب.

وعرفت أربع قبائل بشدتها وبأسها، فقيل لها: "رضفات العرب". وهي: "شيبان وتغلب وبهراء وإياد".

وقيل ل "كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان" من قضاعة، و "طيء ابن ادد"، و "حنظلة بن مالك بن زيد مناة" من "تميم"، و "عامر بن صعصعة بن معاوية" من "فوازن"، "جماجم العرب". وذكر إن "الجماجم" السادات والرؤساء، وان القبائل المذكورة، كانت من جماجم القبائل، أي من رؤسائها، وقد دعيت ب "جماجم"، لأنها بمنزلة جمجمة للرأس بالنسبة للإنسان، أي إن هذه القبائل من القبائل الرئيسة عند الجاهليين.

وبين القبائل، قبائل دعاها "ابن حبيب" "أثافي العرب". وهي "سليم" و "هوازن" من "قيس عيلان"، و "غطفان"، و "أعصر" و "محارب ابن خصفة". و "الإثفية" العدد الكثير والجماعة من الناس. والظاهر إنها إنما عرفت بذلك لكثرة عددها.

ومن مفاخر القبائل اعتزالها القبائل الأخرى وعدم مخالطتها قبيلة ثانية. وتفخر الأحياء بحردها أيضاً. فيقال "حي حريد منفرد"، ومعناه-معتزل من جماعة القبيلة لا يخالطهم في ارتحاله وحلوله لعزته، لأنه لا ينزل. في قوم من ضعف وذلة لما هو عليه من القوة والكثرة.

وذكر أن القوم الذين يكون آمرهم واحداً يعرفون ب "الخليط". وذلك انهم كانوا ينتجعون أيام الكلأ، فتجتمع منهم قبائل شتى في مكان واحد، فتقع بين هم ألفة، ويكونون يداً واحدة. فإذا افترقوا ورجعوا إلى أوطانهم ساءهم ذلك وريعوا.

وهناك قبائل ضعيفة، لم تتمكن إن تعيش لوحدها، لذلك تحالفت مع غيرها من قبائل أقوى منها، واندمجت بها. كما يندمج الأشخاص بالقبائل، بالحلف أو بالجوار أو بالموالاة. وعند انضمام الأحياء والعشائر والقبائل الضعيفة إلى الأقوى منها، بطريقة من الطرق، يتم ذلك، بطقوس دينية على نحو ما سأتحدث عنه في عقد الأحلاف. بسبب إن العقود في نظر العرب تستوجب البرّ بها والوفاء، ولهذا تعقد في ظروف خاصة أمام الكهنة وفي المعابد.

ألقاب بعض القبائل

ولقد لقبت بعض القبائل بألقاب. فقد قيل: مازن غسان أرباب الملوك، وحمر أرباب العرب، و كندة كندة الملوك، ومذحج الطعان، وهمدان احلاس الخيل، والأزد أسد البأس، والذهلان: احدهما ذهل شيبان بن ثعلبة ويشكر، و الآخر ضبيعة وذهل بن ثعلبة، و اللهزمتان: إحداهما عجل وتيم اللآت، والأخرى قيس بن ثعلبة وعنزة، وكلهم من بكر بن وائل، إلا عنزة بن ربيعة.

وبعض هذه الألقاب ألقاب حسنة جميلة، وبعضها ألقاب تشير إلى قوة وبأس وشدة، وبعض منها مقبول لا بأس به. وهي ألقاب كانت القبائل الملقبة بها تفاخر وتتباهى بها، أو تقبلها ولا ترى فيها أي بأس. وهي على العموم أما إن تكون قد نبعت من القبيلة، كان ينعت سيد قبيلة قبيلته بنعت.، فتتمسك به، أو إن ينعتها بذلك شاعر منها أو شاعر من قبيلة. أخرى، فيذهب هذا النعت بين الناس، و يصير سمة للقبيلة. غير إن في الألقاب بعض آخر يشير إلى استصغار شأن القبيلة التي نعتت به، مثل "القين" و "الأجارب" و "الأقارع"، و "قراد"، وما شاكل ذلك من ألقاب، تحولت إلى مسميات. أي تحول اللقب فصار اسم علم. وهي نعوت يظهر إن مصدرها شعر الهجاء و القبائل المعادية المتنابزة بالألقاب. وقد شاعت وثبتت لأنها أثرت في القبائل المهجوة وآلمتها، فتمسك قائلوها بها، وشاعت بين الناس حتى نسي سبب قولها، وصارت اسم علم للقبيلة، ولم ير من جاء بعد ذلك بأساً من الانتماء إلى القبيلة المنبوزة به.

وقد رمت بعض القبائل قبيلة إياد بالفسو، وعيرتها به، حتى إذا كان أحد رجالها بعكاظ، ومعه بردا حبرة، قام فقال: من يشتري مني عار الفسو بهذين البردين? فقام عبد الله بن بيدرة احد "مَهْو" حيّ من عبد القيس، فقال: هاتها، واشهدوا أني اشتريت عار الفسو من إياد لعبد القيس بالردين. فلما أتى رحله وسئل عن الردين، قال: اشتريت لكم بهما عار الدهر، فوثبت عبد القيس، و قالت:.

إن الفساة قبـلـنـا إياد  ونحن لا نفسو و لا نكاد

و تفرق الناس عن عكاظ بابتياع عبد القيس عار الفسو. ثم إن هذا العار زال عن اياد ولصق بعبد القيس، فهجوا به كثيراً. وضرب المثل ب "عبد الله بن بيدرة"، فقيل: "شيخ مَهْو"، ضرب به المثل في الخسران. وقيل: أخسر صفقة من شيخ مهو.

وبعض هذه النعوت قيل في الإسلام، من ذلك رمي "تميم" بالبخل واللؤم، بسبب هجاء الطرماح لها وقوله فيها: تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا  ولو سلكت سبل المكارم ضلت

ونجد لجرير و للفرزدق و للأحابيش ولغيرهم ذمّاً في قبائل الشعراء المتهاجين.

ومن القبائل الملقبة: الأحابيش، وقد تحدثت عنهم، والمطيبون و الأحلاف، وهم من قريش. وقد تحدثت عنهم أيضاً، والأراقم، وهم جشم، ومالك، وعمرو بن ثعلبة، ومعاوية، و الحارث، بنو بكر بن حبيب بن ضم بن ثعلب ابن وائل. وهم أحياء من ثعلب، جعلهم بعضهم ستة. هم: جشم ومالك وعمرو وثعلبة ومعاوية والحرث بنو بكر بن حبيب بن غنم بن ثعلب بن وائل. وقال بعض علماء اللغة، الأراقم: بطون من بني تغلب يجمعهم هذا الاسم. قيل سموّا. بذلك لأن ناظرا نظر إليهم تحت الدثار وهم صغار، فقال: كأن أعينهم أعين الأراقم، فلج عليهم اللقب.

وعرفت بعض القبائل ب "البزاجم"، و هم خمسة بطون من بني حنظلة: قيس، وغالب، وعمرو، و كُلفة و الظليم، و هو مرّة. قيل انهم إنما سموا بذلك، لأنهم تبرجموا على اخوتهم يربوع و ربيعة وماللك، وكلهم أبوهم حنظلة ابن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مرة. وذكر أيضاً انهم إنما سموا البراجم، و ذلك لأن أباهم قبض أصابعه، وقال كونوا كبراجم يدي هذه. أي لا تفرقوا، وذلك اعز لكم. وقيل: لا، و إنما سموا بذلك، لأنم تحالفوا إن يرنوا كبراجم الأصابع في الاجتماع.

وعرف "الثعلبات" بهذه التسمية، لأنهم بطون، اسم كل بطن منهم "ثعلبة". وهم: ثعلبة بن سعد بن ضبّة، وثعلبة بن سعد بن ذبيان، و ثعلبة بن عديّ فزارة، و أضاف إليهم قوم: ثعلبة بن يربوع. ويقال لهم "الثعالب" أيضاً. وهم قبائل شتى، فثعلبة في "بني اسد"، وثعلبة في تميم، وثعلبة في ربيعة، و ثعلبة في قيس. ومنهما الثعلبتان من طيء. وما ثعلبة بن جذعاء بن ذهل بن رومان بن جندب بن خارجة بن سعد بن قطرة من طيء. وثعلبة بن رومان بن. جندب المذكور. وذكر إن الثعالب في طيء يقال لهم مصابيح الظلام، كالربائع في تميم.

و أما "الرباب"، فهم ضبّة بن أد بن طانجة، وتيم، وعديّ، وعوف، وهوعكل، وثور، وكل هؤلاء بنو عبد مناة بن أد بن طابخة. قيل انهم إنما سموا بذلك لتفرقهم، وقبل: سمو رباباً لترابهم، أي تعاهدهم وتحالفهم على تميم. وقبل: سموّا بذلك لأنهم أدخلوا أيديهم في رُبّ وتعاقدوا وتحالفوا عليه فصاروا ع يداً واحدة.

و أما "الأجارب"، فهم: خمس بطون من "بني سعد"، وهم: ربيعة، ومالك، والحارث، وعبد العزى، وبنو حمار. وورد الأجارب حيّ من بني سعد بن بكر من قيس عيلان، و إذا قيل: الأجربان، فهما: عبس و ذبيان.

و "الحرام"، هم: بنو كعب بن سعد بن زيد مناة. وذكر إن في العرب بطوناً ينسبون إلى "آل حرام". منهم بظن في تميم وبطن في جذام وبطن في بكر بن وائل. وهناك بطون أخرى عرفت ب "حرام".

وأما "الضباب"، فهم "بنو عمرو بن معاوية بن كلاب"، قال بعض أهل الأنساب انهم أربعة بطون من "بني كلاب". وقال بعض آخر. انهم اكثر، و أوصلوهم إلى أربعة عشر بطناً.

واشتهرت بعض القبائل والعشائر والبيوت بنعوت لازمتها في الجاهلية وامتدت إلى الإسلام، فقد عرف بنو مخزوم وبنو جعفر بن كلاب بالتّيه والكبر، حتى قيل: "أربعة لن يكونوا ومحال إن يكونوا: زبيديّ سخيّ، و مخزوميّ متواضع، وهاشميّ شحيح، وقريشيّ يحب آل محمد".

واشتهرت "طيء" بالجود. لكون حاتم وأوس بن حارثة بن لأم منهم. وعرفت "باهلة" باللؤم، حتى ضرب بها المثل في اللؤم، فقيل: لؤم باهلة. واشتهر "بنو ثعل" بالرمي، وذكروا بذلك في شعر لامرئ القيس. واكتسبت "مدلج" شهرة واسعة في القيافة، إذ اختصت بها من بين سائر العرب. وبرز "بنو لهب" في العيافة. فهم أزجر العرب وأعينهم. وعرفت "إياد" بخطبائها، وملوك غسان بثريدهم، الذي قيل له: "ثريدة غسان". وعرفت كندة بغلاء مهور بناتهم، وعرفت "خزاعة" بالجوع والأحاديث، قيل لزهمان: ما تقول في خزاعة? قال جوع وأحاديث. أي فقر و دعاوى فارغة وأضغاث أحلام.

وعرفت بعض القبائل ب "الضبيعات". وهي "ضبيعة بن قيس بن ثعلبة"، أشرفهن. و "ضبيعة أضجم بن ربيعة بن نزار"، و "ضبيعة بن عجل بن لجيم". وذكر أيضاً أن في العرب قبائل تنسب إلى "ضبيعة": "ضبيعة ابن ربيعة بن نزار"، وهو المعروف ب "الأضجم"، و "ضبيعة بن أسد ابن ربيعة"، قال بعضهم إنما ضبيعة أضجم، و "ضبيعة بن قيس بن ثعلبة ابن عكابة بن صعب بن بكر بن وائل"، وهو أبو رقاش أم مالك وزيد مناة ابني شيبان، و هم رهط الأعشى: ميمون بن قيس. و "ضبيعة بن عجل بن لجيم بن صعب بن بكر بن وائل، رهط الوصاف. و "ضبيعة بن فريد". بطن من الأوس من بني عوف بن عمرو، و ضبيعة بن الحارث العبسي.

وذكر "ابن حبيب" أسماء قبائل عرفت ب "الربائع". هي في "تميم". وهي: "ربيعة الجوع بن مالك بن زيد مناة بن تميم"، و "ربيعة بن حنظلة ابن مالك بن زيد بن تميم"، و "ربيعة بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم"، كل واحد منهم عم صاحبه. و "ربيعة بن كعب بن سعد ابن زيد مناة"، وهم "الحباق". وورد: في تميم ربيعتان: الكبرى وهي ربيعة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، وتدعى: ربيعة الجوع. والصغرى وهي: ربيعة بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة من تميم.

أسماء أجداد القبائل

ولكلّ قبيلة - كما ذكرت - جد تنتمي إليه وتفاخر وتباهي به. وقد يكون هذا الجدّ جداً حقيقياً، أي إنساناً عاش ومات، وساد القبيلة. وترك أثراً كبيراً في قبيلته، حتى نسبت القبيلة إليه. وقد يكون الجد اسم حلف تكوّن، وتالف من قبائل عديدة، حتى عرفت به، ودعيت بذلك الحلف، وصار وكأنه اسم جد وإنسان عاش. ومن هذا القبيل اسم "تنوخ" على حد زعم أهل الأخبار، فقد زووا إن تنوخ قبائل عديدة، اجتمعت وتحالفت، وأقامت في مواضعها.

وقد يكون اسم بوضع، أقامت قبيلة به، فنسبت إليه. كما يذكر أهل الأخبار من اسم "غسان". وقد يكون اسم إله عبد، فنسب عباده إليه مثل "بنو سعد العشرة"، و "تالب ريام" جد قبيلة "همدان"، و قد يكون اسم حيوان أو نبات أو ما شابه ذلك، مما يدخل في دراسة أصول الأسماء ومصادرها واشتقاقها، وهو شيء مألوف نراه عند غير العرب أيضاً، فليس العرب بدعاً وحسهم في هذه الأمور.

وما يذكره ويرويه أهل الأخبار عن أزمنة أجداد القبائل، فيه أغلاط وأوهام. فقد يرفعون زمان رجل فيبعدونه كثيراً عن الإسلام، بينما هو من الرجال الذين عاشوا قبيل الإسلام. وقد يجعلون الرجل من الجاهلية القريبة من الإسلام، بينما يجب وضعه قبل الإسلام بقرون. ثم هناك أخطاء فاضحة في سرد سلاسل النسب، وفي أسماء الاشخاص، ولا سيما في الأنساب القديمة، بحيث يصعب على الباحث. الأخذ بها والتأكد منها. أما بالنسبة إلى الأنساب القريبة من الإسلام، فان وضعها يختلف عن وضع الأنساب المذكورة، إذ يغلب عليها طابع الصحة والضبط.

وقد ذهب المستشرق "بلاشير" إلى إن طريقة النسابين بالنسبة إلى الأرهاط، هي طريقة إيجابية مقبولة، ولكنها لا تستند إلى أسس صحيحة بالنسبة للقبائل و الأحلاف. بسبب إن تحالف القبائل وتكتلها، راجع إلى عوامل المصلحة الخاصة والمنافع السياسية، وهي تتغير دوماً بتغير المصالح، تتولد تبعاً لذلك أحلاف لم تكن موجودة وتموت أحلاف قديمة. وتظهر قبائل كبيروة وتموت غيرها. ولهذا التغير. فعل قويّ في تكوين الأنساب وفي نشوئها إذ تتبدل وتتغير الأنساب تبعاً لذلك التغير، ومن ثم فلا يمكن الاعتماد على الأنساب الكبرى، التي دوّنها علماء النسب وجمعوها في مجموعات، وشجروها حفدة وآباء و أجداداً.

والمصالح السياسية للقبائل لا تقيم وزناً. للاخوة وللنسب. فإذا اختلفت المصلحة، فلا تجد القبائل عندئذ أي غضاضة في الانفصال عن قبيلة مؤاخية لها لتتحالف مع قبيلة غريبة عنها في النسب، ومحاربة أختها التي انفصمت عنها. فعبس مثلاً تحالفت مع "بني عامر" في حرب البسوس على "ذبيان"، وهي اختها، وتحالفت ذبيان مع "تميم" على "عبس"، مع ما بين "تميم" و "عبس" و "ذبيان" من عداء قديم. وقد وقعت أيام بين "تغلب" و "بكر" مع صلة الرحم والقرابة القوية التي ربطت بين القبيلتين الأختين. وقع كل ذلك وحدث بسبب تغير المصالح التي كانت تربط فيما بين هذه القبائل.

ارض القبيلة

ولكل قبيلة ارض تعيش عليها وتنزل بها وتعتبرها ملكاً لها، تنتشر بها بطونها وعشائرها، ولا تسمح لغريب النزول بها والمرور بها إلا. بموافقتها وبرضاها. وقد اختص كل بطن منها بناحيته فانفرد بها واعتبرها أرضاً خاصة به.

وتكون الأرض التي تحل القبيلة بها "منزلاً" لها، و "منازل" لأبنائها الذين ينزلون بها. يضربون بها، خيامهم. فتكون الأرض مضارب لها. تستوطنها وتقيم بها وتصير وطناً لها، أي دار إقامة، ما دامت تقيم بها. وموضع بيوتها. لذلك يعبر عن الأرض التي تقيم بها القبيلة ب "بيوت القبيلة" و ب "بيوت العشيرة"، لأنها مضرب البيوت.

وتمتد ارض القبيلة إلى المواضع التي تصل بيوتها أليها. فما يقع إلى الداخل فهو من موطن القبيلة، وما وقع خارج حدود نفوذ القبيلة خرج عن مواطنها. وتعين الحدود بالظواهر الطبيعية البارزة، مثل تلال أو أودية أو رمال أو ما شاكل ذلك. ونظراً إلى عدم تثبيت القبائل لحدودها على الأرض برسم معالم بارزة لها، صارت الحدود سبباً من أسباب النزاع المستمر والقتال الدائم بين القبائل.

وتكون مواضع الماء في أرض القبيلة قبلة أبنائها، يستقون منها ما يحتاجون إليه من "اكسير الحياة". وتكون هذه المواضع آباراً أو عيون ماء أو حسّياً وما شاكل ذلك. وتتفق القبيلة فيما بينها على حقوق السقي. ويؤدي الإخلال بحقوق السقي إلى وقوع نزاع، قد يؤدي إلى قتال، ولا سيما في أيام القيظ وانحباس المطر، حيث تشتد الحاجة إلى الماء، ويصير افتقاده سبباً لهلاك الأنفس والمال. والقاعدة إن ماء القبيلة مشاع في القبيلة. أما المياه المحمية: المياه التي تحمى للسادة والرؤساء، والمياه الخاصة، كالآبار التي يحفرها أصحابها، فتكون خاصة بهم. لا يجوز الاستقاء منها إلا بآذن.

ولكل قبيلة حق حماية أرضها. شأنها في ذلك شان الدول. و إذا أراد غريب اجتياز أرضها فلا بد من إن يكون في حماية إنسان منها. و إذا كان المجتاز جماعة، كأن يكون قافلة أو قبيلة أو حيّاً يريد التنقل إلى ارض أخرى، ولا بد له من المرور بأرض هذه القبيلة للوصول إلى هدفه، فعليه اخذ أذن من القبيلة يخوله جواز المرور بها، و إلا تعرض للمنع والقتال. لذا كان لا بد للتجار من ترضية سادات القبائل للسماح لهم بالمرور، بدفع حق المرور، وهي إتاوات تعارفت القبائل آنذاك على آخذها من المارة.

سادات القبائل

وسيد القبيلة بالنسبة للقبيلة، مثل ملك مملكة بالنسبة لمملكته. فهو الرئيس والمرجع والمسؤول عن أتباعه في السلم والحرب. يقصده ذوو الحاجات من أبناء القبيلة إن احتاجوا إلى حاجة. وقد يجمع هذا الرئيس شمل جملة قبائل، ويترأسها، وقد ينصب نفسه ملكاً عليها، كالذي فعله ملوك كندة من بني "آل اكل المرّار" و غيرهم من الملوك. وقد لا تخطئ إذا ما قلنا إن اكثر مؤسسي الأسر المالكة في بلاد العرب، كانوا سادات قبائل في الأصل، استغلوا مواهبهم وقابليتهم، و إمكانية قبيلتهم، وسخروها في سبيل الحصول على الملك، وعلى التلقب بلقب "ملك"، فنالوه.

ويقال للسيد: المسوّد. ويذكر علماء اللغة إن السيد يطلق على الربّ والمالك والشريف والفاضل والكريم والحليم ومحتمل أذى قومه والزوج والمقدم والرئيس. وسيد القبيلة هو رئيسها. تقول العرب: "فلان سيدنا" أي رئيسنا والذي نعظمه، ونقول "ساد قومه". وهي من الألفاظ المستعملة عند عرب الحجاز ونجد والعراق وبلاد الشام، أما العربية الجنوبية، فقد استخدمت ألفاظاً أخرى بدلاً عنها. ويقال لسيد القبيلة "رئيس القبيلة". والرئيس، سيد القوم. والرياسة: السيادة. ويقال فلان راس ورئيس القوم. ورؤساء القبائل هم سادات القبائل والمتولون لأمورها. كما يقال فلان: ساد قومه، وهو سيد القوم وسيدهم. فاللفظتان مترادفتان وفي معنى واحد. ووردت لفظة "زعيم" بمعنى سيدّ القوم ورئيسهم والمتكلم عنهم. والجمع زعماء. كما وردت الزعامة، الشرف و الرياسة على القوم وحظ السيد من المغم. غير إن استعمال "زعيم القبيلة"، أقل في الكلام من استعمال "سيد" و "رئيس".

و أنا حين استعمل "سيد قبيلة"، اقصد بها الرئيس الفعلي لقبيلة، المسؤول عنا، والمدبر لأمورها والمرجع الآخر لها، والذي يكون كالملك أو الحاكم بالنسبة لقبيلته لأن هناك سادات آخرين سادوا في القبيلة وقد عرف خبرهم في كل مكان، وربما اشتهر ذكرهم اكثر من اشتهار اسم سيد قبيلتهم، ومع ذلك فانهم لا يُعدون رأس تلك القبيلة. لأن الرأس المسؤول عن القبيلة رأس واحد، إلا إن العرف إن يسود الرؤساء في القبائل، هو كما يترأس الأشراف أمر مدينة، بان يترأسوا عمائر القبيلة ثم فروعها الدنيا التي تلي العمائر، فهم رؤساء في قبيلة بالمعنى المجازي، الذي جوز إطلاق لفظة "القبيلة" حتى على الأفخاذ والبطون، بل و البيوت. بأن يبزوا الرئيس بالخصال الحميدة، التي تجلب لهم الشهرة والسيادة، و تجعل اسمهم يعلو اسم رئيس القبيلة في كثير من الاحايين.

صفات الرئيس

وعلى من يسود في قومه إن يتحلى بخلال حميدة وسجايا طيبة، تجعل الناس يعترفون، بسيادته عليهم، كأن يتحمل أذى قومه، ولذلك قيل للسيد "محتمل أذى قومه"، وأن يكون شريفاً في أفعاله حليماً كريماً، يغض نظره عن أعمال الحمقى والجهلة، وأن يتجاهل السفلة والسفهاء الجاهلين. فلا يغضب ولا يثور، وأن "يكظم غيظه جاء في المثل: "احلم تسد".وان يحترم الناس مهما كانت منازلهم، وأن يؤلف بينهم و يكتسب محبتهم، وأن يكون ملاذهم، وأن يجعل بيته بيتاً للجميع، ومضيفاً لكل من يفد إليه من كبير أو حقير أو صغير، وأن يفتح قلبه للجميع.

وعلى الرئيس إن يكون في مقدمة القوم في الحروب والغزو، وأن يكون شجاعاً لا يهاب الموت، حتى يكسب النصر لنفسه ولقومه، وعليه إن يكون قائد قبيلته وواضع خطط الحرب. لأنه رمز القبيلة ورمز النصر وباعث الهمم في نفوس أبنائه، وهو أب القبيلة. و إذا لا يكون قدوة لأبنائه في ساعات الشدة والخطر، فترت هممُ أبناء القبيلة. ولا يثير القبائل إلا الشعارات و النخوة وإلهاب المشاعر، حتى تندفع اندفاعاً في القتال. والرئيس هو روح القبيلة وشعارها، فإذا أصيب بمكروه أو جبن في القتال، و إذا خر صريعاً في المعركة، هربت قبيلته في الغالب، وتراجعت القهقرى، إلا إذا وجد في القبيلة من يؤجج فيها نار الحماسة ويبث فيها العزيمة للوقوف والصمود. ويكون مثل هذا الرجل من الشجعان الأقوياء أصحاب الإرادة القوية الذين يعرفون نفسية قبيلتهم، و إلا فليس من السهل على رجل التأثير على قبيلة وهي في مثل هذا الوضع.

ولأثر الرئيس في مصير الحرب، كان الفرسان يوجهون كل قوتهم نحو الرؤساء، لأنهم على علم بأنهم إن تمكنوا من الرئيس فقتلوه، غلبوا عدوّهم في الغالب وقضوا عليه. فهو الروح المعنوية عند الأعراب. يليه حامل اللواء فإذا سقط حامل اللواء قتيلا أسرع من عُين ليكون خليفته في التقاط الراية وحملها، و إذا سقط هذا أيضاً أسرع من يأتي بعده، وهكذا. فان سقوط الراية معناه هزيمة منكرة ستحيق بمن سقطت رايته، ولهذا كانوا يختارون رجالاً شجعاناً يولونهم أمر اللواء، بحيث. إذا سقط أحدهم اخذ من يليه مكانه، وهكذا حتى النصر.

صعوبة انقياد القبائل

وليست قيادة القبيلة بأمر سهل يسير، لا سيما إذا كانت القبيلة قبيلة كبيرة ذات عشائر وأرهاط منتشرة في مواضع متباعدة. فان رؤساء العشائر يستغلون. فرصة ابتعادهم عن ارض الأم، ويعلنون انفصالهم عنها، وتوليهم آمرهم بأنفسهم.

فيحدث الانفصام و الانقسام، وقد يعلن الرئيس حربا على العشيرة العاقة المنشقة، لهذا يعد سيّد القبيلة الذي تجتمع له، رئاسة قبيلة كبيرة من السادات المحظوظين. وحظه هو ثمرة ذكائه ومواهبه و قابلياته ولا شك. ومن هؤلاء المحظوظين الذين دوّن أهل الأخبار أسماءهم: "جَهْبل بن ثعلبة اليشكري"، سيد "بكر بن وائل"، فقد اجتمعت ". بكر" حوله، و "عمرو بن شيبان بن ذهل"، و "عمرو بن قيس الأمم" و،"، الكلح" و "بشر بن عمرو بن مسعود"، و "همام بن مرة" و "الحارث بن عباد"، وقد، اجتمعت حولهم "بكر ابن وائل"، وانضوت تحت لوائهم، وذلك في مناسبات أشار إليها أهل الأخبار، مثل وقوع بعض الأيام. ولولا هذه الأيام، وتلك المناسبات التي اضطرت القبيلة على التكتل، والتجمع فيها حول زعيم واحد، ليخلصها من المخاطر، لما تجمعت حوله، لأن التجمع لا يلتئم مع طبع أهل البادية، الذين جبلتهم الطبيعة على التشتت والتفرق.

وذكر أهل الأخبار إن "خالد بن جعفر بن كلاب"، و "عروة الرحال ابن عتيبة بن جعفر"، و " الأحوص بن جعفر"، و "عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب"، هم أربعة اجتمعت عليهم "هوازن"، و لم تجتمع "هوازن" كلها في الجاهلية إلا على هؤلاء الأربعة. وهم كلهم من "بنى جعفر بن كلاب". مما يدل على صعوبة انقياد عشائر "هوازن" لزعامة رجل واحد. وهذا مثل واحد من أمثلة صعوبة انقياد القبائل برئاسة رئيس، لأن الانقياد لرئيس واحد، معناه في نظر رؤساء العشائر، خضوعهم لغيرهم و إستذلالهم له وتنازلهم عن حريتهم وعن استقلالهم في إدارة شؤون عشائرهم لغيرهم و لو كان هذا الرئيس منهم، أضف إلى ذلك الخسائر المادية التي قد يصابون بها من هذا الانقياد.

وقد عرفت قبائل "ربيعة" خاصة بتخاصمها و بتباغضها وبتحاسد رؤسائها، لذلك لم تقبل في الغالب بتملك رئيس منها عليها. بل كان سادتها يراجعون التبابعة على ما يقوله أهل الأخبار لتمليك سيد منهم عليهم. كانوا يراجعون اليمن كلما اختلفوا فيما بينهم على تمليك ملك عليهم. وقد ذكر أهل الأخبار إن من جملة أسباب تعين والد الشاعر "امرئ القيس" الكندي ملكاً على بني أسد وتعيين أعمامه ملوكاً على القبائل الاخرى، هو تناحر سادات ربيعة فيما بينهم، و تباغضهم وتفرق كلمتهم، حتى كان كل واحد منهم يرى انه أولى من غيره بالملك، فدبّ الخلافُ بين القبائل، وتطاول السفهاء على الأشراف وأهل البيوتات، وعندئذ وجد سادات القبائل إن الآمن لا يرجع إليهم إلا بذهابهم إلى كندة لتنصيب ملوك منها عليهم. فكان ما كان من تنصيب والد الشاعر على "بني أسد وتنصيب أعمامه على القبائل الأخرى. إلا إن الأمن لم يستتب ولم يستقر، طويلا بين هذه القبائل المتنازعة، إذ قرر الرحيل عنها، وعاد الخصام داء "ربيعة" إلى وطنه. وعادت حليمة إلى عادتها القديمة على ما يقوله أهل الأمثال.

وقد أشار أهل الأخبار إلى رجال ذكروا انهم تمكنوا من حكم معدّ و ربيعة. ومعنى ذلك انهم كانوا من ذوي الشخصيات القوية. وبذلك تمكنوا من فرض. أنفسهم على هذه القبائل المتباغضة. من هؤلاء: حذيفة بن بدر. وهو من سادات غطفان وبيتهم. وهو والد "حصن" أبو عيينة. وقد أدرك "عيينة" النبيّ، فأسلم ثم ارتد وأسلم بعد ذلك على يد أبي بكر. وقد قاد "حذيفة" "بني فزارة" و "مرّة" يوم النّسار، و يوم الجفار، و في حرب داحس حتى قتل فيها يوم الهباءة. وقد عرف ب "ربّ معدّ". وما كان ليعرف بذلك لو لم يكن من أصحاب القوة والمكانة حتى ساد قبائل معدّ.

ومن سادات "ربيعة" "الأفكل"، و "عمرو بن جعيد" من "بني الديل". وكان ذا بغي، فسارت إليه "بنو عَصَر" فقتلوه. و "الحارث الأضجم بن عبد الله بن ربيعة بن دوفن"، من "بني دوفن". قدم السؤدد فهم كانت تجبى إليه إتاوتهم. و "عامر الضحيان بن سعد بن الخزرج بن تيم بن النمر بن قاسط"، وكان سيد "النمر بن قاسط" في الجاهلية وصاحب مرباعهم.

وكان "القُدار بن الحارث" رئيس ربيعة في أول الإسلام. وورد إن "القُدار بن عمرو بن ضبيعة"، كان رئيس ربيعة، يلي العزّ والشرف فيهم.

و يمتاز سيد القبيلة عن سائر رجال قبيلته ببيته الكبير، المكوّن من خيمة ضخمة، والتي قد تتكون من جملة قطع من للنسيج خيطت بعضها إلى بعض لتتكون منها خيمة كبيرة. تكون مضيفاً للرئيس ومجلساً للقوم، يؤبه سادات القبيلة. وأشراف الأحياء. وموئلاً لذوي الحاجات من الناس. وله خيام أخرى، أعدت لحريمه. ولأهله. فهي منازل رئيس. القبيلة الخاصة به وبأفراد أسرته.

و امتاز الرئيس عن أفراد قبيلته بكثرة عدد نسائه. فسيد القبيلة مزواج في الغالب، عنده المال، وعنده الجاه والرئاسة، فلا يجد صعوبة في الحصول على ع زوجات صغيرات السن لينجبن له أولاداً، يكونون له حصناً حصيناً وأمناً له على ماله، وعوناً له على القبيلة. فيحمي بهم نفسه ممن قد يطمع في الرئاسة وفي انتزاع السيادة منه بالقوة.

ومن واجب الرئيس الأشراف على تقديم الغنائم، ومن حقه المرباع إن كان من ذوي المرباع، وله إن ع ينفق من جيبه على الضيوف، وان يفتح بيته للقادمين إليه من مختلف الناس، وان يستقبل ضيوف القبيلة بوجه فرح بشوش. وآن يرعى شؤون قبيلته، ويسأل عن أبنائها، وعليه إن يسعى لفك من يقع من أبناء عشيرته أسيراً في أيدي قبيلة أخرى، وان يشارك قومه في تحمل الديات، حين يعجز رجال القبيلة عن حملها، وعليه إن يعين أتباعه في كل جناية يجنونها، فهي وان صدرت من غيره لكنها تقع في النهاية على رأس سيد القبيلة. فعليه وحده إيجاد حل لها و مخرج. و من هنا كَنَّت العربُ عن سيد القبيلة بقولها "سيد معمم"، يريدون إن كل جناية يجنيها أحد من عشيرته معصوبة برأسه.

رئاسة القبائل

لا تملك نصاً جاهلياً فيه شيء عن الشروط التي يجب إن تتوفر في الرجل كي يكون رئيساً على قبيلة. ولا نجد في روايات أهل الأخبار أخباراً واضحة صريحة عن طريقة تولي الرئاسة عند الجاهليين. لذا لا نستطيع البت في موضوع شروط انتقال الرئاسة من رئيس قبيلة متوفى أو مخلوع إلى رئيس جديد. وهل كانت الرئاسة وراثية على طريقة انتقال العروش في النظام الملكي، أم كانت اختياراً وانتخاباً وشورى، بمعنى إن اختيار الرئيس يكون برأي من رؤساء القبيلة، وليس بسنة الإرث. والذي ظهر لنا من دراسة أخبار أهل الأخبار في هذا الموضوع إن الجاهليين كانوا قد ساروا على سنة الإرث في تولي الرئاسة كما ساروا على طريقة الاختيار.

أما إنها كانت رئاسة وراثية، فلأنها رئاسة مثل سائر الرئاسات عند العرب، كرئاسة المكربين والملوك والأقيال و الأذواء والأقيان وكل الرئاسات الجاهلية الأخرى. وقد كانت هذه الرئاسات رئاسات وراثية في الأغلب، لذا كانت رئاسة القبيلة بالوراثة أيضاً. تنتقل الرئاسة من الأب إلى الابن الأكبر. ويؤيد هذا الاستنتاج ما نجده في أكثر روايات القبائل، وتولي الأبناء رئاستها بعد الآباء.

وأما إنها بالنص والتعيين، فكالذي ذكروه من أمر اختيار "حصن بن حذيفة ابن بدر" ابنه "عيينة" لرئاسة قومه من بعده. ولم يكن عيينة أليق. من غيره بأن يكون سيد قومه، فاستدعى أولاده وقال لعيينة: أنتَ خليفتي ورئيس قومك من بعدي. ثم قال لقومه "بني بدر": لوائي و رياستي لعيينة، ثم أوصاهم بما يجب إن يفعلوه على عادة السادات عند اشتداد المرض بهم و شعورهم بدنوّ أجلهم. من وجوب التكتل والتهيؤ للقتال وعدم التجرؤ على الملوك، فان أيديهم أطول من أيدي الرعية. فسمعوا له وأطاعوا، واختاروه رئيساً عليهم.

وأما إنها شورى ورأي، فعند عدم وجود عقب للرئيس المتوفى، أو عند وجود تنافس وتباغض بين أبناء الرئيس المتوفى بسبب كونهم من زوجات مختلفات فيما بينهن، يخشى عندئذ من انقسام القبيلة على نفسها، ويحسم الخلاف باختيار أحزم الأبناء أو تنصيب رجل قريب أو بعيد عن الرئيس، يجدونه أهلاً و كفؤاً لتولي الرئاسة فيولونها إياه. وقد يلجئون إلى الرأي في حالة. تشتت شمل القبيلة، بظهور رجال أشراف فيها، لهم كفاءات و قابليات وشهرة تفوق شهرة أسرة الرئيس المتوفى، يطمعون في الرئاسة، فينتخبون اكفأهم و أقواهم ليكون الرئيس الجديد.

وقد لا تجتمع كلمة المتنافسين على الرئاسة، ولا تتفق على اختيار رئيس، فلا يكون أمام القبيلة في مثل هذه الحالة سوى اللجوء إلى الملوك في الغالب لتعيين رئيس عليهم يختارونه من جماعتهم وينصبونه سيداً عليهم. وقد كان هذا شأن قبائل "معد" في الغالب، إذ كانت قبائلها متبدية متنافرة، ذات رؤساء متحاسدين، لا يقرون برئاسة واحد منهم، لذلك كانوا يلجأون إلى ملوك اليمن لتعين رئيس من غيرهم عليهم، وبذلك يحل الخلاف.

ونجد في شعر "عامر بن الطفيل"، وهو أحد مشاهير فرسان العرب، تغنّياً بفعاله وبشجاعته وبدفاعه عن قومه، وتبجحاً بسيادته على قومه: واعتزازاً بأن سيادته هذه لم تأت إليه عن وراثة، و إنما جاءته بفعاله وبدفاعه عن قومه وذبّه عن حماهم، فسوّدوه لهذه الخلال عليهم، ولم يسوّدوه لأنه "ابن سيد عامر"، وفي هذا الشعر دلالة على إن الرئاسة كانت بالوراثة، وان والد "عامر" كان سيّداً، فأراد "عامر" إن يتبجح بنفسه على غيره، بأنه ليس من أولئك الرؤساء الذين يرثوا السيادة إرثاً، فلا دخل لهم بمجيئها إليهم، و إنما أخذها عن جدارة واستحقاق، ولو لم يكن أبوه سّداً، لجاءته السيادة تركض إليه، لما فيه من محامد ومكارم. فسيادته سياحة وراثة لأنه ورثها عن أبيه، وسيادة جدارة شجاعته لما فيه من خصال السادة الأشراف.

خصال السادة

يذكر أهل الأخبار إن أهل الجاهلية كانوا لا يسودون إلا من تكاملت فيه ست خصال: السخاء والنجدة والصبر والحلم والتواضع والبيان وقالوا: قيل:

لقيس بن عاصم بم سدت قومك ? قال ببذل الندى وكفّ الأذى ونصرة المولى، وتعجيل القرِى. وقد يسود الرجل بالعقل والعفة والأدب والعلم. ووصف بعضهم السؤدد: بأنه اصطناع العشيرة و احتمال الجريرة. وقد سئل أحد السادات بأي شيء سدت قومك ? فقال: "إني - والله - لأعفو عن سفيههم، وأحلم عن جاهلهم، وأسعى في حوائجهم وأعطي سائلهم، فمن فعل فعلي فهو مثلي، ومن فعل احسن من فعلي فهو أفضل مني، ومن قصر عن فعلي فأنا خير منه".

وذكر أهل الأخبار أيضاً، إن العرب كانت تسوّد على أشياء. فكانت مضر تسود ذا رأيها. وأما ربيعة فمن أطعم الطعام، وأما اليمن فعلى النسب.

والرئيس الناجح، هو الرئيس الذكي الفطن الذي تكون له قدرة وقابلية على التصرف بذكاء ومحذر وفقاً لعقلية القبائل. فيجرف كيف يعامل كل شخص يأتي إليه المعاملة التي تلائمه وتليق به، بحلم وصبر وأناة. و بقساوة وغلظة أحياناً من أجل إخافة أتباعه، لخوف القبائل من البطاش الظالم على إلا يسرف في ظلمه ويمعن في غيهّ، فيقع له ما وقع لكليب وائل ولأمثاله من الذين أسرفوا في الاعتماد على أنفسهم وعلى قابليتهم، فأهلكوا أنفسهم. ولهذا كان من شأن عقلاء سادات القبائل عرض المنازعات والخصومات القبلية للحكم فيها وبذلك يخلصون أنفسهم من مشكلات صعبة كانت ستقع تبعتها على أكتافهم فيما إذا انفردوا بالنظر.بها دون سائر الرؤساء.

ومن أعراف الحكم عند القبائل، إن سيد القبيلة يستمد رأيه من رأي أشراف قبيلته ووجوهها في الأمور الهامة التي تخص حياة القبيلة. ليستنير برايهم، وليعرف رأي أتباعه في معالجتها. وتساعد هذه المشورة سادات القبائل مساعدة كبيرة في التمكن من إدارة القبيلة إدارة حسنة ترضي الغالبية. وقد توصِل الرئيس إلى النجاح والنصر في الغزو. فيرتفع اسمه ويعلو نجمه. ولا زال سادات القبائل يستمعون إلى مشورة رؤساء القبيلة، ويقيمون لرأيهم وزناً إلى يومنا هذا. ورأيهم هذا هو مجرد مشورة ونصيه. بمعنى انه لا يلزم سيد القبيلة بوجوب العمل بموجبه. فقد ينبذه ويعمل برأيه و بقراره، لا سيما إذا كان قوي الشخصية متجبراً عنيداً.

وقد يكون النجاح حليفه، فتزداد بذلك هيبته على أتباعه، وقد يمنى بخسارة فادحة، فتقضي عليه وعلى رئاسته وربما تقضي على حياته أيضاً. و النظام القبلي يعد، هو نظام استشاري، الرأي فيه لأصحاب الرأي فقط، أما الأفراد أي أبناء القبيلة وسوادها، فلا رأي لهم في تسيير الأمور، إلا إذا برز أحدهم وظهر في قبيلته بمواهب يعترف بها، كالحكمة أو الشرف، فقد يدخل في عداد أولي الرأي، ويكون له عندئذ عندهم رأي مسموع.

وعلى الرغم من استبداد بعض السادة برأيهم، و حكمهم بما يوحي إليه به حسهم وشعورهم، وتصرفهم في الأمور تصرفاً كيفياً، فانهم كانوا يقيمون مع كل ذلك وزناً للرأي، وقد يكون هذا الرأي رأي رحل مغمور من عامة أبناء القبيلة، أو رأي شاعر أو خطيب أو أي شخص آخر من أبناء القبيلة. فالحكم عند القبائل بهذا، حكم فردي استشاري يتوقف الرأي فيه على شخصية وكفاءة، رئيس القبيلة، وعلى شخصية وكفاءة رؤساء البطون والأحياء.

وقد أدت غطرسة وعنجهية بعض سادات القبائل بهم إلى الموت فقد لجأوا إلى القسوة والقهر في الحكم واستبدوا برأيهم استبداداً فرّق بينهم وبين رؤساء قبيلتهم، مما دفع بعض فرسان القبيلة و شجعانها على قتلهم للتخلص منهم كالذي كان من أمر "كليب وائل"، الذي تعسف في حكمه وتجبر فاختار خيرة الأرضين الخصبة، فجعلها حمى له لا يحق لأحد الرعي بها، إلا بأذن منه. فأزعج عمله هذا من خضع لحكمه، فكانت عاقبته القتل.

والحلم عند العرب من أهم الصفات التي تؤهل الإنسان لحكم الناس. وهو، عندهم الأناة والعقل، وقيل ضبط النفس و الطبع عن هيجان الغضب. ومعالجة الأمور بهدوء وضبط أعصاب. وهو أحزم سياسة تلائم طبع الحكم. وقد عدّوه من خلال الحكماء.

وممن عرف واشتهر أكثر من غيره بالحلم: "الأحنف بن قيس". حتى ضربت العرب به المثل. فقالت: هو أحلم من الأحنف. وقد نسب أهل الأخبار

له حكماً كثيرة وأمثالاً، هي من الأمثال التي ينسبونها في العادة إلى الحكماء. وذكروا من أمثلة حلمه انه كان قاعداً يوماً بفناء داره. محتبيا بحمائل سيفه يحدث قومه، حتى أُتي بمكتوف ورجل مقتول، فقيل له: هذا ابن أخيك قتل أبنك، فما قطع كلامه حتى انتهى، ثم كلم ابن أخيه وأنبه و عفى عنه، ثم قال لأبن آخر له: وار أخاك وحلّ كتاف ابن عمك وسق إلى أمك مائة ناقة دية ابنها فإنها غريبة. إلى قَصص آخر من هذا القبيل.

النسب

النسب هو جرثومة العصبية وأساسها ولهذا حرص العربي على حفظ نسبه، ولا يزال يحرص عليه، فيروي لك شجرة نسبه حفظاً ويرفعها إلى جملة أجداد.

وقد وجد السياح أعراباً سرحوا لهم نسبهم سرداً من غير كتاب مكتوب إلى عشرات من الأجداد، وقد تأكدوا بعد فحوص واختبارات إن ما قيل لهم وسرد عليهم كان صحيحاً في الغالب.

و أما أهل المدر، فإن حرصهم على حفظ نسبهم، وإن لم يكن حرص أهل الوبر، غير إن فيهم من يحفظ شجرة نسبه، و فيهم من يحتفظ بها مكتوبة، وقت شهد على صحتها جماعة من النسابين. وفي جملة من يعتني بنسبه اعتناء كبيراً، ويأبى الزواج من غير الأسر الكفوءة له، السادة المنتمون إلى الرسول، من ذوي الجاه و الحسب والنسب، والأشراف السادات من أهل الحضر والوبر.

وحفظ النسب هذا هو استمرار لما كان عليه الجاهليون من حرص على حفظ أنسابهم. و إذا كُنا لا نملك اليوم جرائد جاهلية في النسب، فإن في بعض الكتابات الجاهلية تأييداً لما نقول. فبين أيدينا في هذا اليوم كتابات جاهلية ذكرت أسماء جملة أجداد لأشخاص دَوّنوا أسمائهم في تلك الكتابات. وقد دوّن على شاهد قبر "معنو" "معن"، اسم أبيه وجدّين من أجداده، كما عثر على أسماء عشرة أجداد في بعض الكتابات الصفوية. وهنالك أمثلة أخرى من هذا القبيل، تثبت عناية العرب في الجاهلية بتدوين أنسابهم وحفظها. وهي من أهم المزايا التي حافظ عليها العرب إلى هذا اليوم.

ويبدأ النسب بالأب في الغالب، وب "الأم" في الأقل في حالات تتغلب فيها شهرة الأم على شهرة الأب، ويكون "البيت" إذنْ جرثومة النسب. وحين ينسب إنسان يقول انه: "ابن فلان". ويشمل نسب البيت الأب و الأولاد و البنات والزوجة أو الزوجات، وهم أكثر الناس التصاقاً بالأب. وقد يقال انه من "بيت فلان" تعبيراً عن الانتساب إلى رئيس ذلك البيت. وقد عرف بعض علماء اللغة النسب: انه القرابة، أو هو في الآباء خاصة، وان النسب إن تذكر الرجل فتقول: هو فلان ابن فلان، وذكر انه يكون من قبل الأم والأب.

والبيت هو بيت أب. ولما كان المجتمع مجتمع بيوت، صار النظام فيه نظاماً أبوياً. السلطة العليا فيه للاب، إليه ينتسب وهو المسؤول قانوناً عن العائلة. يتساوى في ذلك مجتمع الحضر ومجتمع أهل الوبر.

ويذكر أهل الأخبار إن العرب تنسب ولد المرأة إلى زوجها الذي يخلف عليها بعد أبيهم. وذلك عنى حسان بن ثابت بقوله: ضربوا علياً يوم بدر ضربة  دانت لوقعتها جميع نزار.

أراد بني كلّ هؤلاء من كنانة. وهم بنو عبد مناة. و إنما قيل لهم بنو علي عزوة إلى عليّ بن مسعود الأزدي. وهو أخو عبد مناة لأمه، فخلف على أم ولد عبد مناة. وهم: بكر وعامر ومرة و أمهم: هند بنت بكر بن وائل النزارية فرباهم في حجره فنسبوا إليه.

و إذا توفي والد وله مولود في بطن زوجته، أو كان طفلاً رضيعاً وكان له أعمام، تركه أعمامه عند أمه حتى يكبر، ثم يأخذه أعمامه. وقد تأتي أمه معه. و لكن العادة إن الأم تبعُ أهلها أي عشيرتها، فإذا توفي زوجها و هي من عشيرة أخرى، تركت عشيرته لتعود إلى عشيرتها، فإذا كبر المولودُ خير بين البقاء مع أمه أو الالتحاق بأعمامه، أي بعشيرة والده. والأغلب إن يختار الولد عشيرة الوالد، لأن نسب الولد من نسب والده. فيلتحق المولود بعشيرة الأب. وتقدم عشيرته على عشيرة الأم. إذ يشعر إن عشيرة أمه وان كانت قريبة منه، إلا إن قربه منها ليس كقربه من عشيرة والده، وقد يعير باختياره عشرة أمه عشيرة له. ولدينا أمثلة تشير إلى تعيير الأولاد أولاداً آخرين، لالتحافهّم بعشيرة أمهم وتركهم عشيرة والدهم، كالذي كان، من أمر عبد المطل في يوم كان طفلا، إذ عيره أطفال عشيرة أمه بلجوئه إلى عشيرتهم، إذ لا عشيرة له. ولو كانت له عشيرة للحق بها. مما حمله على ترك يثرب والرجوع إلى أعمامه بمكة. فالعم في نظرهم بمنزلة الوالد. وهو اقرب الناس إليه، وهو وريثه في العصبات.. وبهذه الحجة احتج العباسيون على العلويين في تقدمهم عليهم بحق الخلافة.

ومن هنا في العرب يوصون بأولاد العم خيراً، و إلا يتهاتروا معهم ولا يختلفوا مهما وقع بينهم من خلاف. وفي هذا المعنى يقول أبو الطمحان: إذا كان في صدر ابن عمك إحنة  فلا تستثرها سوف يبدو دفينهـا

وللخؤولة مكانة كبيرة في العصبة عند العرب. قد تقوى على العمومة، فإذا هلك إنسان، وكان إخوته على خلاف مع زوجته أو كان حالهم ضعيفاً، قامت الخؤولة مقام العمومة في رعاية الأولاد وحمايتهم ومدّهم بالعصبية. بل قد نجد إن عصبية الخؤولة أقوى عند العرب في الغالب من عصبية العمومة وفي تأريخ الجاهلية. والإسلام أمثلة كثيرة على ذلك.

ومن حسن حظ الإنسان في الجاهلية إن يكون له أعمام وأخوال كثيرون، خاصة إذا كانوا أصحاب جاه وسيادة. لأنه سيعتز بهم، ويفتخر بكثرتهم. وكان الجاهليون يقولون: رجل معم ورجل مخوِل وأخول، إذا كان له أعمام وأخوال. ويقال: كريم الأعمام والأخوال، على سبيل المدح والتقدير ومنه قول امرئ القيس: بجيدُ معمّ في العشرة مخول. وقول الشاعر: تروح بالعشيّ بكل خرق  كريم الأعممين وكل خال

والنسب، نسب أهل، ويقوم على الدم القريب، ونسب قبيلة، و يقوم على العصبية للدم الأبعد. دم جد القبيلة يجري في عروق المنتسبين إليه.

والعرب من حيث النسب صرحاء. وحلفاء و جيران وموالي وشركاء يستلحقون بالنسب. أما الصريح، فهو المحض من كل شيء، والخالص النسب. ويقال جاء بنو فلان صريحة إذا لم يخالطهم غيرهم.

والنسب إذن، نسب آباء، و هو نسب الصرحاء الخلص من العرب المنحدرين من صلب جد القبيلة، على حد تعبير أهل الأنساب، ونسب حلف أو جوار، أي نسب استلحاق. والغالب إن يتحول نسب الاستلحاق إلى نسب صريح، حين تطول إقامة الدخيل بين من دخل بينهم: فينسى أصله، ويأخذ أحفاده نسب من دخل جدهم فيهم. ويشمل ذلك نسب القبائل أيضاً. وفي في كتب أهل الأخبار أمثلة كثيرة من أمثلة تحول الأنساب، حيث نجدها تنص على دخول نسب فلان في نسب بني فلان، ونسب قبيلة في نسب قبيلة أخرى.

ويقال للقوم الذين ينسبون إلى من ليسوا منهم "الدخل". والدخيل هو الرجل الغريب الذي ينتسب إلى قوم ليس هو بواحد منهم. وذكر أيضاً إن "الدخل" بمعنى الخاصة، وأيضاً الحشوة الذين يدخلون في قوم وليسوا منهم، أي في المعنى المتقدم.

وفي كتب أهل الأخبار أمثلة عديدة على تنقل الأنساب واثبات نسب قوم في قوم ليسوا منهم لغاية ومأرب. وقع ذلك في الجاهلية وفي الإسلام. قال "الكندي": "كان أبو رجب الخولاني وفلان وفلان يتحرشون أهل الحرس ويؤذونهم، فمشى أهل الحرس إلى زكريا بن يحيى كاتب العمري، فقالوا له حتى متى نؤذى ويطعن في أنسابنا. فأشار. عليهم زكريا بجمع مال يدفعونه إلى العمري ليسجل لهم سجلاً بإثبات أنسابهم، فجمعوا له ستة آلاف دينار، فلما صار المال إلى العمري لم يجسر على إن يسجل لهم، وقال: ارفعوا إلى الرشيد في ذلك، فخرج وفد منهم إلى العراق وانفق مالا عظيماً هناك، وادعى الوفد إن المفضل بن فضالة قد كان حكم لهم بإثبات أنسابهم وانهم بنو خوتكة بن الحاف ابن قضاعة، ثم عاد الوفد بكتاب محمد الأمين إلى العمري بالتسجيل لهم، فدعاهم العمري إلى إقامة البينة عنده على أنسابهم فأتوا بأهل الجوف الشرفي و آهل الشرقية. وقدم جماعة من بادية الشام، فشهدوا. انهم عرب فسجل لهم العمري. ثم تجدد نظر القضية فيما بعد وفسخ حكم القاضي العمري. ورد أهل الحرس إلى أصلهم القبطي".

وأشار أهل الأخبار إلى قبائل كانت تتنقل من قوم إلى قوم، فتنتمي إليهم، قالوا لها: "النواقل". والنواقل من انتقل من قبيلة إلى قبيلة أخرى فانتمى إليها. والتنقل دليل على إن النسب لم يكن من الصرامة والشدة على نحو ما يصوره لنا النسابون المتأخرون.

وفي الذي يذكره علماء النسب عن أنساب القبائل، أمور لا يمكن لنا قبولها، لا سيما ما يتعلق منها بالتعصب القبلي وبسرد الأنساب وتشجيرها وفي تفرعها. وأنساب القبائل موضوع لم يبحث بعد بحثاً علمياً، وهو يحتاج إلى تفرغ وتتبع والى مقارنة ما جاء عند العرب فيه بما جاء عند غيرهم من الساميين وغيرهم عنه. فقد لعبت الأنساب دوراً خطيراً عند البشرية، لأنها كانت الحماية والوقاية للإنسان، قبل إن تتولد الحكومات الكبيرة التي رعت الأمن وبسطت سلطانها، وبذلك خففت من غلواء النسب و الانتساب.

الاستلحاق

والاستلحاق، هو إن يستلحق انسان شخصاً فيلحقه بنسبه، و يجعله في حمايته ورعايته، أي في عصبيته. وقد يكون الرجل صريحاً معروف النسب، وقد يكون أسيراً أو مولى أو عبداً، فيسميه مولاه وينسبه إليه.

ومن هذا القبيل ما كان يفعله أهل الجاهلية من استلحاق أبناء الإماء البغايا بهم. وذلك انه كان لأهل الجاهلية إماء بغايا. وكان سادتهن يلمّون بهن، فإذا جاءت إحداهن بولد ربما ادعاه السيد والزاني، فيقع خلاف بينهما على الولد. و قد وقع مثل هذا الخلاف في أيام الرسول، في أول زمان الشريعة، فقضى الرسول بإلحاقه بالسيد، لأن الأمة فراش كالحرة، فان مات السيد ولم يستلحقه ثم استلحقه ورثته بعده لحق بابيه. وفي ورثته خلاف.

الدعيّ

ويقال للمستلحق "الدعيّ". والدعيّ المنسوب إلى غير أبيه. و "الدعوة" في النسب إن ينتسب الإنسان إلى غير أبيه وعشرته وقد كانوا يفعلونه فنهي عنه وجعل الولد للفراش. ومن هذا القبيل المتبنى. الذي تبناه رجل فدعاه أبنه. ونسبه إلى غيره، وكان للنبي، تبنى "زيد بن حارثة"، ثم ألحقه بنسبه، بعد إن نزل الوحي عليه )ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله، فإن لم تعلموا آباءهم. فإخوانكم في الدين ومواليكم(.. وقال: )ما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلك قولكم بأفواهكم(.

ويكون حكم الدعيّ من الناحية القانونية في حكم النسب الصحيح و البنوة الشرعية عند الجاهليين، لذلك كان الجاهليون يورثونه كما يورثون الأبناء.

ويقال للدعيّ ينتمي إلى قوم: منوط مذبذب، سميّ مذبذباً لأنه لا يدري إلى من ينتمي. وقد يكون الرجل دعي أدعياء، فيكون هو دعيّاً في رهطه، ورهطه دعي في قبيلة مثل "ابن هرمة"، فقد كان دعيّاً في الخلج وكان الخلج دعيّاً في قريش. ويقال للدعي "ملصقا"، والملصق، هو المقيم في الحي وليس منهم بنسب.

وقد ورد في حديث "علي بن الحسين": المستلاط لا يرث، وُ يدعى له ويدعى به، المستلاط المستلحق في النسب، ويدعى له، أي ينسب إليه، فيقال: فلان بن فلان، ويدعى به أي يكنى، فيقال: هو أبو فلان، وهو مع ذلك لا يرث لأنه ليس بولد حقيقي. ومن ذلك قولهم: "لاط القاضي فلانا بفلان ألحقه به"، وورد إن أناسًا في الجاهلية. كانوا يليطون الأولاد بآبائهم، أي يلحقونهم. والظاهر إن استلحاق الأبناء بالآباء، كان معروفاً بين الجاهليين بسبب الاتصال بالإماء وببعض الأعراف الأخرى التي حرمت في الإسلام.

ويقال للدعيّ: المخضرم وقيل هو من لاُ يعرف أبوه أو أبواه ورجل مخضرم أسود وأبوه أبيض، أو هو من ولدته السراري. وذلك ذم في الإنسان.

ويقال رجل "خلط ملط"، بمعنى: مختلط النسب. وذكر إن الملط الذي لا يعرف له نسب ولا أب. وأما خلط، فإما بمعنى المختلط النسب، وإما بمعنى ولد الزنا. والخليط المشارك في حقوق الملك كالشرب والطريق و نحو ذلك. ومنه الحديث: الشريك أولى من الخليط، والخليط أولى من الجار. والشريك المشارك في الشيوع. و الخليط القومُ الذين أمرهم واحد.

و "الأهل" أهل إلا الرجال وأهل الدار، وأهل الرجل أخص الناس به. وأهل الدار أهل البيت. و "آل الرجل" أهله. ويقال في النسب: هو من آل فلان.

وينتهي النسب بجد القبيلة الأكبر. فلكلّ قبيلة جدّ اكبر ينتمي إليه، وتتسمى به، وله ابن ينتسب إليه أو أبناء ينتسبون إليهم، ويكون هذا الجدّ محور "النسب" و "العصبية" للقبيلة. ونجد هذا النوع من النسب معروفاً عند غير العرب أيضاً.. عند العبرانيين و الآراميين وعند الإغريق والرومان مثلاً.

الجوار

وللجوار صلة كبيرة ب "النسب" وبالعصبية عند للعرب، فقد يتوثق الجوار، وتتقوى أواصره فيصير نسباً، فيدخل عندئذ نسب "المستجير" بنسب "المجير"، ويصير وكأنه نسب واحد، هو نسب "المجير". وقد اندمجت ب "الجوار" أنساب كثيرة من القبائل الصغيرة، أو القبائل التي تشعر بخوف من قبيلة أخرى أكبر منها، فتضطر إلى طلب "جوار" قبيلة أكبر منها، نتدافع عنها، ولتكون بذلك قوة رادعة تحمي حياتها و تحافظ على نفسها ومالها بهذا الجوار.

وهو من السنن التي حافظ عليها الجاهليون، و إعتدّوها كالقوانين. فإذا استجار شخص بآخر، أو استجارت قبيلة بأخرى، اكتسب هذا الجواز صيغة قانونية، ووجب على المجير المحافظة على حق الجوار. و إلا نزلت السبة بالمجير، وازدراه الناس.

ويكتسب الجوار حكمه بإعلان الطرفين قبولهم له على الملأ، في أماكن الاجتماع في الغالب، في مثل المواسم من حج أو سوق. فإذا أعلن ذلك، و علم الناس الخبر، صار المجار في ذمة المجر، وترتب على المجير إن يكون مسؤولاً عن كل ما يقع على المجير وما يصدر منه.

وقد ورد في القرآن الكريم، )والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل(. والجار ذو القربى هو نسيبك النازل معك في الحواء، ويكون نازلاً في بلدة وأنت في أخرى، فله حرمة جوار القرابة. والجار الجنب إن لا ينهون له مناسب في جيء إليه ويسأله إن يجيره، أي يمنعه فينزل معه، فهذا الجار الجنب له حرمة نزوله في جواره ومنعته وركونه إلى أمانه وعهده. لأنه جاوره وان كان نسبه في قوم آخرين ولا قرابة له به.

وكان سيّد العشيرة إذا أجار عليها إنساناً لم يخفروه. و إذا دخل قبته أو خباءه أو دار حول خيمته، ونادى بالجوار والأمان صار آمناً وقد وجب على صاحب القبة أو الخباء أو الخيمة حمايته، حتى وان كان من سائر أبناء القبيلة.

والجار والمجير والمعيذ واحد. ومن عاذ بشخض استجار به. ومن هذا القبيل استجارة أهل الجاهلية بالجِنّ. "قبل: إنّ أهل الجاهلية كانوا إذا نزلت رفقة منهم في وادٍ، قالت: نعوذ بعزيز هذا الوادي من مرد الجن وسفهائهم. أي نلوذ به ونستجير".

وللجوار حرمة كبيرة عند الجاهليين. فإذا استجار شخص بشخص آخر، وقبل ذلك الشخص إن بجعله جاراً ومستجيراً به، وجبت عليه حمايته، وحق

على المجار الدفاع عن مجيره: و الذبّ عنه. وإلا عدّ ناقضاً، للعهد، ناكثاً للوعد، مخالفا لحق الجوار. وعلى القبائل استجارة من يستجير بها، و الدفاع عنه دفاعها عن أبنائها. ويقال للذي يستجير بك "جار". والجار. الذي أجرته من إن يظلمه ظالم. و جارك المستجير بك، والمجير هو الذي يمنعك ويجيرك. و أجاره: أنقذه من شيء يقع عليه.

وقد أوصوا بالجار خيراً، ورجوا من الجار إن يكون كذلك قدوة حسنة في جواره، فلا يسيء إلى جاره أو إلى جيرانه، و على الجار إن يغض نظره من عيوب جاره، وأن يكون يقظاً في حفظ حقوق جاره، فطناً في الدفاع عنه. ليس له أن يتملص من حقوق الجوار إذا استحقت ووجبت، لأن للجار حقاً عليك.

وكان يقال في الجاهلية للرجل إذا استجار بيثرب: قوقل في هذا الجبل ثم قد أمنت. فإذا فعل أحد ذلك، وجب على أهل يثرب قبول جواره والدفاع عنه. وذكر إن "قوقل" رجل من الخزرج، اسمه "غنم بن عوف بن عمرو ابن عوف بن الخزرج"، سميّ به "لأنه كان إذا أتاه إنسان يستجير به أو بيثرب قال له: قوقل في هذا الجبل، وقد أمنت. أي ارتق". وقيل: "لأنهم كانوا إذا أجاروا أحداً أعطوه سهماً. وقالوا: قوقل به حيث شئت. أي سر به حيث شئت". وذكروا. أيضاً أن "القوقل" اسم أبي بطن من الأنصار، اسمه ثعلبة بن دعد بن فهر بن ثعلبة بنْ غنم بن عوف بن الخزرج. وقالوا: هو النعمان بن مالك بن ثعلبة.

والغاية من الجوار طلب الحماية والمحافظة على النفس والأهل والمال، لذلك لا يطلبه في العادة إلا المحتاج إليه. ولا يشتط في الجوار نزول الجار قرب المجير، أو في جواره أي أن يكون بيته ملتصقاً ببيته. فقد يكون على البعد كذلك. لأن الجوار حماية ورعاية، وتكون الحماية. حيث تصل سلطة المجير، وتراعى فيه حرمته و ذمته. ويكون في إمكانه الدفاع عن جاره. ولهذا كان على الجار أن يعرف حدود "الجوار"، وقد يعلقانه بأجل احترازاً وتحفظاً من الجوار المطلق، الذي لا يعلق بزمن و إنما يكون عاماً.

ولا يجير أحد إنساناً إلا إذا أحس إن في إمكانه أداء أمانة الجوار. و إلا عرض نفسه وأهله وقبيلته للأذى والسبةّ، إن قبل شخص جوار أحد، وهو في وضع، لا يمكنه من الوفاء بحقوق الجوار. ولا يطلب رجل مجاورة رجل آخر إلا إذا شعر أن من سيستجير به هو كفؤ لأن يجيره. و إلا فما الفائدة من الاستجارة برجل ضعيف قد يكون هو نفسه في حاجة إذ الاستجارة بأحد.

ولا يشترط في الجوار أن يكون جوار أحياء. فقد يستجير إنسان بقبر، فيصير في جواره وفي حرمة ذلك القبر. وعلى أصحاب ذلك القبر الذبّ عن هذا الجار والدفاع عنه. ومن هذا القبيل استجارة الناس بقبر "عامر بن الطفيل". فقد ذكر أن قومه من "بني عامر"، وضعوا حول قبره أنصاباً على مسافة منه، إذا اجتازها اللاجئ ودخل "الحرم" المحيط بالقبر، صار آمناً على ماله ونفسه، لا يخشى خشية. أحد، يريد إنزال سوء به. وقد منعوا دخول حيوان إليه أو مرور راكب به، احتراماً لحرمة صاحب هذا القبر. وكالذي كان من أمر قبر "تميم بن مر"" جد قبيلة تميم في عرف النسابين.

وقد يستجير الإنسان بمعبد أو بأي موضع مقدس، فيكون في جوار وحرمة ذلك المكان. وعلى أصحابه أداء حقوق الجوار. ومن هذا القبيل جوار مكة. فمن دخل حرم "البيت" صار في جواره، آمناً مطمئاً لا يجوز الاعتداء عليه و لا إخافته، لأنه في حرمة "البيت" وعلى قريش الذبّ عنة.

وقد كان لآل "محلم بن ذهل" قبة بوادي "عوف" عرفت ب "قبة المعاذة"، من لجأ إليها أعاذوه. و "آل عوف" من اشرافهم في الجاهلية ومن رجالهم "عوف" التي يضرب به المثل: لا حرّ بوادي عوف. والعوذ الالتجاء. وهذا. عرفت بتلك التسمية. وهو "عوف بن محلم بن ذهل بن شيبان". وقد ضرب به المثل في الوفاء. فورد: "هو أوفى من عوف". وذلك لأن عمرو ابن هند طلب منه مروان القرظ. وكان قد أجاره فمنعه عوف وأبى إن يسلمه، فقال عمرو: لا حرّ بوادي عوف. أي أنه يقهر من حل بواديه وكل من فيه كالعبيد له لطاعتهم إيّاه. وهو من أمثال العرب في الرجل العزيز المنيع الذي يعز به الذليل ويذل به العزيز. و قيل إن كل من صار في ناحيته خضع له. أو قيل ذلك لأنه كان يقتل الأسارى. ولما توفي "عوف" دفن بواديه، و أقاموا قبة على قبره صارت ملاذاً لمن يطلب الجوار.

ومن طرق الجوار، أن يأتي رجل إلى رجل ليستجير به فلا يجده، فيعقد طرف ثوبه إلى طنب البيت، فإذا فعل ذلك عدّ جاراً، ووجب على صاحب البيت أن يجيره.

والجوار جواران: جوار جماعة كجوار بيت أو فخذ أو بطن أو ظهر أو عشيرة أو قبيلة، وجوار أفراد. و للجوارين حرمة وقدسية ليس أحدهما دون الآخر في الحرمة والوفاء.

و إذا نزل انسان على انسان آخر جاراً، فان من المتعارف عليه أن تكون حرمة جواره ثلاثة أيام،: "وكانت خفرة الجار ثلاثاً" فإذا انتهت، انتهت مدة الجوار. وعلى الجار الارتحال، إلا إذا جدد "المجير" جواره له، وطلب منه البقاء في جواره. فيكون عندئذ لهذا الجوار حكم آخر، إذ يبقى الجوار قائماً ما دام عقده باقياً. وقد استفاد من حق الجوار الغرباء والمسافرون، والمحتاجون وأمثالهم. فقد أمنوا على راحتهم و رزقهم وهم في محيط صعب، كما أمنوا على حياتهم، حتى أن المجير ليغفر لجاره ما قد يبدر منه من سوء بسبب حكم الجوار. قال مجير لجاره: "لولا أنك جار لقتلناك". ويشمل هذا الجوار المسافر والضيف.

ومن عاداتهم في الجوار، أن أحدهم إذا خاف، فورد على من يريد الاستجارة به، نكس رمحه، فإذا عرفه المجير، رفع رمحه. فيصير في جواره. فلما هرب "الحارث بن ظالم المرّي" من ملك الحرة، وأخذ يتنقل بين القبائل حتى وصل عكاظ وبها "عبد الله بن جدعان"، نكس رمحه أمام مضرب "ابن جدعان"، ثم رفعه حين عرفوه، وأمن وأقام بمكة، حتى أتاه أمان ملك الحيرة.

وقد يحدد الجوار بحدوده. كأن يذكر من يطلب الاستجارة لمن يريد إن يستجير به، إن استجارته به من قبيلة كذا أو من القبائل الفلانية أو من الشخص الفلاني. فإذا قبل المجير ذلك حسد جواره بما حسد في عقد الجوار. فإذا اعتدت على المستجير قبيلة أخرى لم تذكر في نص الجوار، فلا ذمة للمستجير على المجير، و ليس من حقه طلب مساعدته له. كما قد يحدد الجوار بزمن، كاقامة شخص في مكان، أو ايصاله من موضع إلى موضع، أو تعيين أمد له.

و الخفارة الخفرة: الأمان، والخفير:المجير، والخفارة: الذمة. ويقال: خفرت الرجل: أجرته وحفظته، و تخفرت به إذا استجرت به. و أخفرت الرجل إذا نقضت عهده وذمامه. بان يعلن ذلك ليقف عليه الناس، والا بقيت التبعة في عنق الخفير.

وعلى من أعطى خفارته لأحد، الوفاء بما أعطى، والوفاء بما ألزم نفسه به عليه، و إلا عد ناكثاً للعهد حقيراً.

المؤاخاة

لا وتكون المؤاخاة بين الأفراد كما تكون بين الجماعات، كالعشائر والقبائل. وهي تدعو إلى العناصر والمؤازرة والمساعدة. وتؤدي إلى الموارثة. وخير مثل على المؤاخاة، ما فعله الرسول يوم مقدمه المدينة من مؤاخاته بين الأنصار والمهاجرين لتوحيد الكلمة وليساعد بعضهم بعضاً.

ولا يشترط في المؤاخاة أن تكون بين أعراب وأعراب، أو بين حضر وحضر، إذ يجوز أن تعقد أيضاً بين العرب والأعراب، أي بين الحضر والبدو. لأن المؤاخاة عقد، والعقد يقع بين كل الناس، كما قد تقع بين عربي وأعجمي، فقد آخى الرسول بين سلمان الفارس وأبي الدرداء.

الموالي

والمولى: الولي والعصبة والحليف وابن العم وللعم والأخ و الابن و ابن الأخت و العصبات كلهم والجار والشريك. فللفظة إذن معان عديدة، أهمها. بالنسبة لنا، إن المولى: العبد، أي المملوك الذي يمنّ عليه صاحبه، بان يفك رقبته، فيعتقه، ويصير المملوك بذلك مولى لعاتقه. وسوف نرى إن الموالي أنواع. وهم الذين نبحث عنهم في هذا المكان.

و "الموالي: العصبة. هم كانوا في الجاهلية الموالي، فلما دخلت العجم على العرب لم يجدوا لهم اسماً، فقال الله تبارك وتعالى: )فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم(. فسموّا الموالي.. والمولى اليوم موليان: مولى يرث ويورث، فهؤلاء ذوو الأرحام، ومولى يورث ولا يرث. فهؤلاء العتاقة".

والعرب تسمي ابن العم المولى، ومنه قول الشاعر: ومولى رمينا حوله وهو مدغل  بأعراضنا والمنسبات سـروع

يعني بذلك و ابن عمّ رمينا حوله. ومنه قول الفضل بن العباس: مهلا بني عَمّنا، مهلا موالينا  لا تظهرنّ لنا ما كان مدفونا

والموالي أنواع، موالي عتق وموالي عتاقة، وهو الرقيق أو الأسر الذي تفك. رقبته بعتقه. كأن يشتري، رجل مملوكاً فيشتريه فيعتقه. وفي جملة ما كان يفعله الجاهليون في مقابل فك رقبة المملوك اشتراطهم على المملوك عملَ عملٍ يعيَّن له، فإن قام به وأتمه، أعتقت رقبته. ويصير مولى لمعتقه إن شاء، وله الخيار في إن يختار غير. سيده مولى له، إن اشترط ذلك على سيده، أو اشترط سيده عليه ذلك الشرط. وقد يقع الاختبار على ذلك بعد وقوع العتق.

ومن الموالي: موالي مكاتبة "موالي المكاتبة" وذلك، بأن يشترط في عقد البيع، إن العبد يكاتب على نفسه بثمنه، فإذا سعى وأداه عتق. وذكر أيضاً إن المكاتبة، إن يكاتب الرجل عبده على مال يؤديه إليه منجَّماً، فإذا أداه صار حرّاً. والعبد مكاتب. وقيل: المكاتبة: إن يكاتب الرجل عبده أو أمته على مال ينجّمه عليه، ويكتب عليه انه إذا أدى نجومه في كل نجم كذا وكذا، فهو حرّ، فإذا أدى جميع. ما كاتبه عليه، فقد عتق، وولاؤه لمولاه الذي كاتبه. وذلك إن مولاه سوغه كسبه الذي هو في الأصل لمولاه، فالسيد مكاتب، . والعبد مكاتب إذا عقد عليه ما فارقه عليه من أداة المال. سميت مكاتبة لما يكتب للعبد عليه على السيد من العتق إذا أدى ما فورق عليه، ولما يكتب للسيد على العبد من النجوم التي يؤديها في محلها، وان له تعجيزه إذا عجز عن أداء نجم يحلّ عليه.

والأصل في ولاء المكاتبة، إن من أعتق عبداً كان ولاؤه له، فينسب إليه. و إذا مات كان هو وارثه. وقد لا يتحول الولاء للولي، إذا اشترطوا أولاً إلا يكون ولائه لمعتقه، بل لمن يؤدي ثمن المكاتبة مثلا. وقد يعتق المملوك ولا يكون لأحد ولاء عليه. وتكون العتاقة عندئذ "سائبة". و "السائبة": العبد يعتق على إن لا ولاء له، أي عليه. ويحق عندئذ إن يضع ماله حيث يشاء.

ومن أسباب العتاقة: التدبير. وهو إن يعلق المالك عتق مملوكه على شرط، هو بعد وفاته. كأن يقول له: أنت حرّ بعد موتي. فلا يرثه أهله.

و أما مولى العقد، ويقال له مولى حلف ومولى اصطناع، فيكون بانتماء رجل إلى رجل آخر بعقد، أو قبيلة إلى قبيلة أخرى بحلف. و ذلك بأن يتعاقد ضعيف مع قوي على إن يساعده و يعاضده، ويقوم في مقابل ذلك بأداء ما اتفق عليه من شروط. وينسب المولى عندئذ إلى سيده، أي مولاه الذي قبِل ولاءه. ومن هذا القبيل يهود يثرب، فقد كانوا في ولاية الأوس والخزرج، لجأ كل بطن منهم إلى بطن من الأوس أو الخزرج يتعززون بهم، وصاروا موالي لهم. إذا وقع جمليهم ضيم لجأوا إلى من انتموا إليه بالولاء للدفاع عنه. ولما ظهر الإسلام كان من دخل في ولاء "عبد الله بن أبي"، ومنهم من دخل في ولاء "سعد بن معاذ" ومنهم من كان في ولاء "عبادة بن الصامت". وكان عليهم في مقابل ذلك، العون والنصرة لمن دخلوا في ولائه أو ولائهم، والدفاع عنهم، وان يكونوا بمثابة العون لهم.

وكان من موالي الحلف، قوم من اليهود والنصارى والمجوس. ولما ظهر الإسلام، أبطل عن تولي أهل الكتاب. إذ جعلهم في ذمة المسلمين. ويدخل في هذا الولاء ولاء قبائل وعشائر صغيرة لقبائل أكبر منها. وذلك في سبيل الحصول على حمايتها لها ودفاعها عنا. فيتوجب عليها أداء ما شرط عليها من شروط عند طلبها الولاء، من العصبية والعقل وما شاكل ذلك من حقوق.

أما مولى الرحم، فيكتسب الولاء بالزواج من موالي بعض القبائل، فينسب إلى القبيلة التي تزوج من مواليها.

وذكر بعض أهل الأخبار إن الموالي ثلاثة: مولى اليمين المحالف، ومولى الدار المجاور، ومولى النسب ابن العم والقرابة. وقد ذكرت هذه الأنواع في هذا البيت: نبئت حياً على نعمان أفـرادهـم  مولى اليمين ومولى الدار والنسب

وقد ذكر "الجاحظ" "إن الموالي أقرب إلى العرب في كثير من المعاني? لأنهم عرب في المدّعى، وفي العاقلة، وفي الوراثة. وهذا تأويل لقوله: مولى القوم منهم، ومولى القوم من أنفسهم. والولاء لحمة كلحمة النسب". وهذا عد الموالي في نسب من دخلوا في ولائه. وتعصبوا وتحزبوا لولاء المولى. والموالي مهما كانوا: عرباً أم عجماً، كانوا أقل شأناً في مجتمعهم من الأحرار. إذ نظر إليهم على انهم دون العرب الأحرار في المكانة. ولهذا فقلما زوج الأحرار بناتهم للموالي. حتى ضرب بهم المثل في القلة و الذلة ولا سيما إذا كان الإنسان مولى موالي. فقيل: "مولى الموالي"، قيل ذلك في الإسلام أيضاً. ورد في الشعر: فلو كان عبد الله مولى هجوته  ولكن عبد الله مولى موالـيا

وقد بقيت نطرة الازدراء المذكورة حتى في الإسلام. فمع مساواة الإسلام للعرب بغيرهم و إتيانه بمقياس جديد في تفضيل الخلق بعضهم على بعض هو مقياس العمل الصالح، المتجسم في قوله: "أيها الناس إن الله أذهب عنكم نخوة الجاهلية، وفخرها بالآباء، كلكم لآدم، وآدم من تراب، ليس لعربيّ على عجميّ فضل إلا بالتقوى". أو قوله: "الناس في الإسلام سواء، الناس طف الصاع لآدم وحواء. لا فضل لعربيّ على عجميّ، ولا عجميّ على عربيّ إلا بتقوى الله"، "لا تأتوني بأنسابكم وأتوني بأعمالكم، فأقول للناس هكذا ولكم هكذا"، نجد إن العرب بقيت في الإسلام أيضاً تأنف من تزويج بناتها إلى الموالي بسبب شرط "الكفاءة" الذي كان سنة من سنن أهل الجاهلية في الزواج: كفاءة النسب والمنزلة والحرفة. و إذا تزوج مولى بنتاً عربية، عُيرت القبيلة به. وقد هجا الشاعر "أبو بجير" "عبد القيس"، لتزويجهم بناتهم للموالي. و ذهب البعض إلى قاعدة: "الكفاءة في النسب والدين و الصنعة والحرية، ولا تزوج عربية بأعجمي و لا قرشية بغير قرشي، ولا هاشمية بغير هاشمي، ولا عفيفة بفاجر". وان "قريشاً بعضهم أكفاء لبعض بطن ببطن، والعرب بعضهم أكفاء لبعض، قبيلة بقبيلة، والموالي بعضهم أكفاء لبعض رجل برجل".

أما كفاءة النسب، فيراد بها النسب العربي، أي إن الرجل لا يزوج بنتاً عربية إلا إذا كان عربيّاً. و أما المنزلة، فيراعى فيها الكفاءة في المكانة، كأن يراعى في اختيار الزوجة أن تكون من عائلة ليست منزلتها دون منزلة الزوج، وإلا عيرّ بزواجه، وأما الحرفة، فان يتزوج الرجل بنتاً من بنات حرفته، فلا يتزوج الرجل ابنة صائغ مثلاً وإلا عّير ابنها به، كالذي كان من أمر "النعمان بن المنذر" ملك الحيرة، فقد عَيّره الناس بأمه لأنها ابنة صائغ، ثم لأنها يهودية. وكان هذا العرف صارماً في اليمن، فحصروا الزواج بأصحاب الحرف على نحو ما سأتحدث عنه في باب الزواج.

ونظراً إلى ازدراء العرب لشأن الموالي، وما كان يجلبه الولاء من ازدراء العرب بعضهم بعضاً لهذا السبب، بسبب ولاء العتق أو ولاء الموالاة، فقد أمر الخليفة "عمر" بإبطال الولاء بين العرب، وجوز بقاءه فيما بين العرب وغير العرب، فاقتصر الولاء على هذا النوع وحده في الإسلام.

الأحلاف

وكان للأحلاف شأن خطير في حياة الجاهليين. والحلف في اصطلاح علماء اللغة العهدُ بين القوم، والحلف والمحالفة: المعاهدة، وأصله اليمن الذي يأخذ بعضهم من بعض بها العهد، ثمُ عُبّر به عن كل يمين. والمحالفة إن يحلف كل للآخر. فمعنى الخلف في الأصل المعاقدة والمعاهدة على التعاضد و التساعد والاتفاق. وتحالفوا بمعنى تعاهدوا وعقدوا اتفاقاً وعهداً، و تآخوا على العمل يداً واحدةّ، وقد حالف الرسول بين المهاجرين والأنصار، أي آخى بينهم.

وفي كلمة الحلف شيء من الدلالة على الشعائر والأيمان والمعاني الدينية، ولذلك قيل للحلف اليمين، لأن من عادتهم عند عقد الحلف بسط أيمانهم إذا حلفوا وتحالفوا وتعاقدوا وتبايعوا. وكانوا ينظرون إليها على إن لها قداسة خاصة وحرمة، والحانث بيمينه ينظر إليه بأشد أنواع التحقير والازدراء. ويُعد الحنث باليمين من الموبقات ومن الكبائر التي لا يغتفر صدورها من شخص في شريعة الجاهليين. وقد أمر الإسلام بالوفاء بالعهد.

و "العهد" بمعنى الحلف أيضاً وقيل: العهد كل ما عوهد عليه، وكل ما بين الناس من المواثيق. وهو أيضاً الموثق واليمين. و لذلك ورد: "على عهد الله" و "أخذت عليه عهد الله"، و "ولي العهد"، لأنه وليّ الميثاق الذي يؤخذ على من يابع الخليفة. وعلى من يعطي العهد الوفاء به: "وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم". "وما وجدنا لأكثرهم من عهد"، أي من وفاء. ووردت لفظة "عاهدتم" بمعنى التحالف والتعاقد في مواضع من كتاب الله.

ويرد "الميثاق" بمعنى العهد. و المواثقة المعاهدة. و أما "التواثق"،، فالتحالف والتعاهد. وفي القرآن الكريم: )الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق( 7 )فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق(، )والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه(. وقد قال العلماء في الميثاق إنه: عقد مؤكد بيمين وعهد. والحلف الذي نتحدث عنه هو "ميثاق"، لأنه عهد يؤخذ بحلف مؤكد بيمين.

و تكون بين المتحالفين مواثيق على الوفاء بالالتزامات التي نص عليها، واتفق الطرفان المتعاقدان أو الأطراف المتعاقدة على الوفاء بها كاملة غير منقوصة.

ويكون الحلف بين الأفراد، كما يكون بين الجماعات والحكومات، فيتحالف الأفراد بعضهم مع بعفى، ويعلن ذلك الحلف ليكون معلوماً بين الناس، وتتحالف القبائل بعضها مع بعض، ويعلن حلفها هذا ليكون معلوماً عند أفرادها وعند القبائل الأخرى، وتحالف الحكومات: حكومات عربية مع حكومات عربية، أو حكومات عربية مع حكومات أعجمية. وفي المسند أمثلة عديدة على محالفات الحكومات العربية بعضها مع بعض، أو محالفتها لحكومة أجنبية مثل: الحبشة، كما في الكتابات الآشورية وفي مؤلفات اليونان واللاتين، وفي كتب أهل الأخبار أمثلة من محالفات العرب مع غيرهم، أو محالفاتهم بعضهم مع بعض.

والفكرة التي حملت العرب على عقد الأحلاف، هي نفس الفكرة التي تدفعهم اليوم على عقد الأحلاف بي نهم أو مع غيرهم. وهي الضرورة والدفاع عن مصالح خاصة أو عامة، أي نفس الفكرة التي تدفع الدول على التكتل والتحزب وعقد الأحلاف الدولية، في هذا اليوم، أو في المستقبل. وهناك أحلاف عقدت لأغراض هجومية، وأحلاف عقدت لمصالح اقتصادية، مثل أكثر أحلاف قريش مع القبائل . وأحلاف لتثبيت نظم و إقرار قوانين وأخذ حقوق وردع ظالم و إنصاف مظلوم.

وقد تعقد الأحلاف لأغراض معينة، فتكون لها آجال محددة، كأن تسعى قبيلة لعقد حلف مع قبيلة أخرى لمساعدتها في صدّ غزو سيقع عليها أو لمساعدتها في غزو قبيلة أخرى، أو الوقوف موقف حياد تجاه الغزو. أو مساعدة قبيلة قبيلة أخرى للأخذ بثأر من قبيلة لها ثأر معها.ومثل هذه الأحلاف لا تعمر طويلاً، إذْ ينتهي أجلها بانتهاء الغاية التي من أجلها عقد الحلف.

والغالب إن الضعيف هو الذي يبحث عن حليف. يحالفه، ليقَوّي بهذا التحالف نفسه، ويعز به مكانه. قال البكري: "فلما رأت القبائل ما وقع بينها من الاختلاف والفرقة، وتنافس الناس في الماء والكلأ، والتماسهم المعاش في المتسع، وغلبة بعضهم بعضاً على البلاد والمعاش، واستضعاف القوي للضعيف، انضم الذليل منهم إلى العزيز وحالف القليلُ منهم الكثير، وتباين القوم في ديارهم ومحالِّهم، وانتشر كل قوم فيما يليهم".

لقد دفعت الضرورات قبائل جزيرة العرب إلى تكوين الأحلاف، للمحافظة على الأمن وللدفاع عن مصالح المشتركة كما تفعل الدول. و إذا دام الحلف أمداً، وبقيت هذه الرابطة التي جمعت شمل تلك القبائل متينة، فإنّ هذه الرابطة تنتهي إلى نسب يشعر معه أفراد الحلف أنهم من أسرة واحدة تسلسلت من جدّ واحد، وقد يحدث ما يفسد هذه الرابطة، أو ما يدعو إلى انفصال بعض قبائل الحلف، فتنضم القبائل المنفصلة إلى أحلاف أخرى، وهكذا تجد في الجزيرة أحلافاً تتكون، وأحلافاً قديمة تنحل أو تضعف.

لم يكن في مقدور القبائل أو العشائر الصغيرة المحافظة على نفسها من غير حليف قوي يشدّ أزرها إذا هاجمتها قبيلة أخرى، أو أرادت الأخذ بالثأر منها. لقد كانت معظم القبائل داخلة في هذه الأحلاف، إلا عدداً قليلاً من القبائل القوية الكثيرة العدد، و كانت تتفاخر بنفسها، لأنها لا تعتمد على حليف يدافع عنها، بل كانت تأخذ بفأرهما وتنال حقها بالسيف. ويشرك المتحالفون في الغالب في المواطن، وقد تنزل القبائل على خلفائها، وتكون الهيمنة بالطبع في هذه للقبائل الكبيرة.

وقد عرفت مثل هذه الأحلاف عند سائر الشعوب السامية كالعبرانيين مثلا، وطالما انتهت تلك الأحلاف كما انتهت عند العرب إلى نسب، فيشعر المتحالفون انهم من أسرة واحدة يجمع بينهم نسب واحد. و يقال للحلف "تكلع" عند اليمانيين. "وبه سمّي ذو الكلاع، و هو ملك حميري من ملوك اليمن من الأذواء، و سُميّ ذا الكلاع، لأنهم تكلعوا على يديه أي تجمعوا، و إذا اجتمعت القبائل وتناصرت فقد تكلعت".

ولما كانت المصالح الخاصة هي العامل المؤثر في تأليف الأحلاف، كان أمد الحلف يتوقف في الغالب على دوام تلك المصالح. وقد تعقد الأحلاف لتنفيذ شروط اتفق عليها، كأن تعقد لغزو قبيلة، أو للوقوف أمام غزو محتمل، أو لأجل معين. ومتى نفذت أو تلكأ أحد الطرفين في التنفيذ، انحل الحلف. وتعدّ هذه الناحية من النواحي الضعيفة في التاريخ العربي، فإن تفكير القبائل لم يكن يتجاوز عند عقدهم هذه الأحلاف مصالح العشائر أو القبائل الخاصة، لذلك نجدها تتألف للمسائل الداخلية التي تخص قبائل جزيرة العرب، ولم تكن موجهة للدفاع عن بلاد العرب ولمقاومة أعداء العرب. و لا يمكن إن نطلب من نظام يقوم على العصبية القبلية إن يفعل غير ذلك. فإن وطن القبيلة ضيق بضيق الأرض التي تنزل فيها، فإذا ارتحلت عنها، ونزلت بأرض جديدة، كانت الأرض الجديدة هي الموطن الجديد الذي تبالغ القبيلة في الدفاع عنه. ولما كانت هذه النزعة الفردية هي هدف سياسة سادات القبائل ، أصبحت حتى اليوم من أهم العوائق في تكوين الحكومات الكبيرة في جزيرة العرب، ومن أبرز مظاهر الحياة السياسية للأعراب.

وخير مثال للقبائل التي اقتضت مصالحها التكتل والتحالف بينها، هو الحلف الذي قيل له "تنوخ". فقد اجتمع بالبحرين قبائل من العرب، وتحالفوا وتعاقدوا على التناصر و التساعد والتآزر فصاروا يدا واحدةً، وضمهم اسم "تنوخ". وحلف "فرسان"، وهو حلف آخر قديم تكوّن من انضمام قبائل عديدة بعضها إلى بعض للتناصر والتآزر. ولما لم يعرف أهل الأخبار واللغة شيئاً من تلك الأمور العادية، أوجدوا تلك القصص والأخبار والأنساب المدوّنة عن تنوخ وأمثال تنوخ.

ومن هذا القبيل، الحلف الذي قيل له: "البراجم". وهو من عمرو و ظليم وقيس وكلفة وغالب زعم أهل الأخبار، إن "حارثة بن عمرو بن حنظلة"، قال لهم: أيتها القبائل التي قد ذهب عددها، تعالوا فلنجتمع ولنكن كبراجم يدي هذه. فقبلوا، فقيل لهم البراجم. وهم يد مع عبد الله بن دارم. فنحن أمام حلفٍ من أحياء قلّ عددها وذهب أمرها، وخافت على نفسها، فلم تجد أمامها من وسيلة للمحافظة على حياتها سوى التحالف، فكان من ذلك حلف البراجم.

وتجد لفظة "الحليفان" للدلالة على تحالف قبيلتين، أو "الأحلاف" تعبيراً عن حلف عقد بين قبيلتين أو أكثر، تتردد في كتب أهل الأنساب والأخبار. وقد قصد بها أحلاف عديدة. فقد قيل لأسد و غطفان "الحليفان"، لأنهما تحالفا وتعاقد" وعقدا حلفاً بينهما على التناصر والتآزر، كما قيل لهما "الأحلاف". و الأحلاف أسد و غطفان. وقيل لقوم من ثقيف: "الأحلاف". والظاهر أنهم. كانوا في الأصل طوائف لم تتمكن من البقاء وحدها في وسط عالم لا يعيش فيه إلا القويّ، فتحالفت للدفاع عن نفسها، ويقال لأسد وطيء "الحليفان" ولِفزَارة وأسد "حليفان"، لأن خزاعة لما أجلت بني أسد عن الحرم، خرجت فحالفت طَيّئاً، ثم حالفت بني فزارة.

ولما تحالفت غطفان وبنو أسد وطيء، قيل لهم: الأحاليف، لعقدهم حلفاً على التناصر والتآزر.

وقد ورد في معلقة "الحارث بن حِلِّزة اليشكُري" اسم "حلف ذي المجاز" الذي عقد بين بكر وتغلب بوساطة "عمرو بن هند"، وقد أخذ فيه عمرو بن هند العهود و المواثيق و الكفلاء من الطرفين حذر الجور والتعدي.

وتكون الهيمنة في الأحلاف التي تعقد بين قبائل غير متكافئة للقبائل القوية، أي للقبائل التي لجأت إليها القبائل الضعيفة لعقد حلف معها. فتكون الكلمة عندئذ لسادات القبائل البارزة التي هذا الخلف. وعلى القبائل الضعيفة دفع شيء للقبائل القوية في مقابل حمايتها لها وبسط سلطانها عليها، ومنع ما قد يقع من اعتداء من قبائل أخرى عليها.

وقد كانت هذه الأحلاف تدوم ما دامت المصالح متشابهة، فإذا اختل التوازن بين المتحالفين، أو وجد أحد الطرفين طرفين أن مصالحه تقتضي الانضمام إلى حلف آخر، فسخ ذلك العقد، وعقد حلفاً آخر، وحالف قبائل أخرى قد تكون معادية لقبائل الحلف السابق، ويقال لفسخ الأحلاف "الخلع".

وهكذا كانت الحياة السياسية في الجاهلية: أحلاف تتكون وأخرى قديمة تنحل. ولا سيما إذا كانت قد تكونت من قبائل لا رابطة دموية بينها ولا اشتراك في المواطن، و إنما كانت عوامل مؤقتة وأحوال طارئة اقتضت تكتلها، ثم اقتضت انحلالها لزوال تلك الأسباب.

وتعقد الأحلاف أحياناً بين عشائر وبطون قبيلة واحدة، تعقد على نمط الأحلاف التي تعقد بين القبائل. وقد يعقد الحلف بين عشائر وبطون قبيلة، وبين عشائر وبطون قبائل غريبة. وذلك بسبب حدوث مشاحنات ومنافسات بين عشائر وبطون القبيلة، فتتكتل العشائر والبطون وتتحزب وقد تتقاتل، وتضطر عندئذ إلى تأليف أحلاف بينها لتتغلب بها على العشائر والبطون المنافسة. ومثل هذه الأحلاف تضعف القبيلة وتؤدي إلى تصدعها ما لم يتدارك أمرها أصحاب الرأي والسداد فيتولوا إصلاح ما قد وقع بين رجال القبيلة من فساد وتهدئة الحال حفظاً لمصلحة القبيلة. ونجد أمثلة من هذا القبيلة عند أهل الأخبار.

ولم يكن من الواجب على كل أحياء قبيلة، الاشتراك في الأحلاف التي تعقدها غالبية أحياء تلك القبيلة. فقد اعتزلت "حنيفة" الحلف الذي عقدته قبائل "بكر" في الجاهلية. لأنها كانت من أهل المدر، وكان الخلف في أهل الوبر. فلما جاء الإسلام، دخلت في "عجل"، وصارت لهزمة.

وكان في العرف الجاهلي أن الأحياء التي تتحضر من قبيلة ما، لا تدخل في الأحلاف التي تعقدها الأحياء المتبدية، لاختلاف الحالة، لا سيما إذا كانت المواطن بعيدة. فالحضارة تبعد الأعراب عمن يتحضر منهم. إلا إذا وجدت مصالح خاصة، والمصالح أساس التعامل.

ونظراً إلى ما للحلف من قدسية في النفوس، أصبح من المعتاد عقده في مراسيم مؤثرة ورد وصفُ بعضها في الأخبار، مثل حلف "المطيّبين" الذي عقد في مكة بعد اختلاف بني عبد مناف وهاشم والمطلب ونوفل مع بني عبد الدار بن قُصيّ، و إجماعهم على اخذ ما في أيدي بني عبد الدار مما كان قُصَيّ قد جعله فيهم من الحجابة واللواء والسقاية والرفادة، فعقد كل قوم على أمرهم حلفاً مؤكداً، على إلا يتخاذلوا، ولا يسلم بعضهم بعضاً "ما بَلَّ بحرٌ صوفةً"، فأخرج بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيباً، فيزعمون أن بعض نساء بني عبد مناف أخرجنها لهم، فوضعوها لأحلافهم في المسجد عند الكعبة، ثم غمس القوم أيديهم فيها، فتعاقدوا وتعاهدوا هم وحلفاؤهم، ثم مسكوا الكعبة بأيديهم توكيداً على أنفسهم، فسُموا المطيبن، وتعاقد بنو عبد الدار وتعاهدوا هم وحلفاؤهم عند الكعبة حلفاً مؤكداً على ألا يتخاذلوا، ولا يسلم بعضهم بعضاً، فَسُمّوا الأحلاف.

"و الأحلاف ست قبائل: عبد الدار، وجمح، ومخزوم، وبنو عدي، و كعب، وسهم".

ومن هذا القبيل حلف الفضول، إذ تداعت قبائل من قريش إلى حلف وتعاهدوا وتعاقدوا على إلا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها ومن غيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه حنى ترد عنه مظلمته، فسمت قريش ذلك الخلف حلف الفضول. وهو من الأحلاف التي ظل الناس يحترمون أحكامها حتى في الإسلام. وقد عقد على هذه الصورة: اجتمعت بنو هاشم وأسد وزهرة وتيم في دار عبد الله بن جدعان، وصنع لهم طعاماً كثيراً، ثم "عمدوا إلى ماء من ماء زمزم فجعلوه في جفنة، ثم بعثوا به إلى البيت فغسلت به أركانه، ثم أتوا به فشربوه".

و أضيف إلى هذه الأحلاف، حلف "الرباب". و فو حلف عقد بين المتحالفين بإدخال أيدهم في "رُبّ" وتحالفوا عليه، أو لأنهم جاؤوا بربّ فأكلوا منه، وغسلوا أيديهم فيه، وتحالفوا عليه. فصارو يداً واحدة، وقيل: لأنهم اجتمعوا كاجتماع الربابة، و هم: تيم وعديّ وعُكل ومُزَيْنَة و ضَبّة ، أو: ضبه وثور، وعُكل، وتيم، وعديّ.

ومن تلك الأحلاف، حلف لَعَقة الدم. وقد عقد على أثر تخاصم القبائل من قريش في وضع الحجر الأسود فيء موضعه. فلما استعدت للقتال "قربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دماً، ثم تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب بن لُؤيّ على الموت، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة، فسموا "لَعَقَةَ الدم". ويظهر أن عقد الحلف بإدخال الأيدي في الدم من المراسيم المعروفة. وقد عرف قوم من بني عامر بن عبد مناة بن كنانة بلعقة الدم. وكانوا ذوي بأس شديد. و جاء أن خَثْعَماً إنما سموا خثعماً لانهم غمسوا أيديهم في دمِ جَزُور.

وتعقد الأحلاف على النار كذلك، وقد وصف "هيرودوتس" طريقة من طرق التحالف والمؤاخاة والمحافظة على العهود عند العرب، فذكر أن العرب يحافظون على العهود والمواثيق محافظة شديدة، لا يشاركهم في ذلك أحد من الأمم، ولها قداسة خاصة عندهم، حتى تكاد تكون من الأمور الدينية المقدسة. و إذا ما أراد أحدهم عقد حلف مع آخر، أوقفا شخصاً ثالثاً بينهما ليقوم بأجراء المراسيم المطلوبة في عقد الحلف، ليكتسب حكماً شرعياً، فيأخذ ذلك الشخص حجراً له حافة حادة كالسكين يخدش به راحتي الشخصين قرب الإصبع الوسطى. ثم يقطع قطعة من ملابسهما فيغمسهما في دمي الراحتين، ويلوث بها سبعة أحجار. و يكون مكان هذا الشخص الذي يقوم بإجراء هذه الشعائر في الوسط، يتلو أدعية وصلاة للإلهين "باخوس" "Bachus" و "اورانيا" "Urania"، حتى إذا انتهوا منها قاد الحلف حليفه إلى أهله وعشيرته لإخبارهم بذلك، و للإعلان عنه، فيصبح الحليف أخاً له وحليفاً، أمرهما واحد بالوفاء.

وما ذكره "هيرودوتس" عن عقد العرب أحلافهم على النار، هو صحيح على وجه عام. يؤيده ما ذكره أهل الأخبار عن "نار التحالف". وقولهم: كان أهل الجاهلية إذا أرادوا أن يعقدوا حلفاً، أوقدوا ناراً وعقدوا حلفهم عندها، ودعوا بالحرمان والمنع من خيرها على من ينقض العهد، وحلّ العقد، وكانوا يطرحون فيها الملح والكبريت، فإذا استشاطت، قالوا للحالف: هذه النار تهددتك، يخوّفونه بها حتى يحافظ على العهد والوعد، ولا يحلف كذباً، وبضر غير ما يظهر. ولذلك عرفت هذه النار بنار التحالف. وهي نار يقسم المتخاصمون عليها كذلك، فان كان الحالف مبطلاً نكل، وان بريئاً حلف ولهذا سمّوها أيضاً "نار المهول" و "الهولة". وذكر أنهم كانوا لا يعقدون حلفاً إلا عليها. وقد أشار إلى هذه النار "أوس بن حجر"، إذ قال: إذا استقبلته الشمس، صدّ بوجهه  كما صدّ عن نار المهوّل حالف

كما أشار إليها الكميت: هُمو خوّفوني بـالـعـمـى هُـوّة  الردى كما شب نار الحالفين المهوّل

وقد ذكر أهل الأخبار حلفاً سمّوه: "حلف المحرقين"، وزعموا أن المتحالفين تحالفوا عند نار حتى أمحشوا أي احترقوا، وأن "يزيد بن أبي حارثة ابن سنان، وهو أخو هرم بن سنان الذي مدحه زهر، يمحش المحاش، و هم بنو خصيلة بن مرة وبنو نشبة بن غيظ بن مرة على بني يربوع بن غيظ بن مرة رهط النابغة، فتحالفوا على بني يربوع على النار، فسُموّا المحاشّ بتحالفهم على النار. وزعموا أن المحاشَّ القومُ يجتمعون من قبائل شتى، فيتحالفون عند النار.

وذكر علماء اللغة أن "المحاشن": القوم يجتمعون من قبائل محالفون غيرهم من الحلف عند النار. وكانوا يوقدون ناراً لدى الحلف ليكون أوكد. وقد أشير إلى ذلك في شعر للنابغة، إذ يقول: جمع محاشك يا يزيد، فإنني  أعددت يربوعاً لكم، وتميما

قيل: يعنى صرمة وسهماً ومالكاً بني مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن بغيض وضبة بن سعد، لأنهم تحالفوا بالنار، فسمّوا المحاش.

وقريب من هذا ما كانت تفعله قريش حين تعقد حلفاً، فيأخذ الحليف حليفه إلى الكعبة، ثم يطوفان بالأصنام لإشهادها على ذلك، ثم يعود الحليف بحليفه لإشهاد قريش ومن يكون في الكعبة آنئذ على صحة هذا الحلف، وقبوله محالفة الحليف، إذ أصبح وله ما له وعليه ما عليه، وعلى قومه حمايته حمايتهم له وقد ذكرت كتب السيرة والأخبار والأدب طرفاً من أخبار المحالفات التي كانت تعقد بمكة و كيفيتها وبعض المراسيم التي تمت فيها.

ولا تعرف صيغة واحدة معينة لاقي م الذي يقسم به المحالفون. فمنهم من أقسم بالأصنام التي يعبدونها ويقفون عندها حين يعقدون الحلف. ومنهم، وهم أغلب أهل مكة.، من كانوا يحلفون ضد الركن من الكعبة، فيضع المتحالفون أيديهم عليه، فيحلفون. وقد ذكر أن قَسَمَ قريش والاحابيش عند الركن يوم تحالفوا وتعاقدوا، حلفوا "بالله القائل وحرمة البيت والمقام والركن والشهر الحرام على مصر على الخلق جميعاً حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وعلى التعاقد والتساعد على من عاداهم من الناس ما بلّ بحرٌ صوفةٌ، وما قام حراء وثبير،وما طلعت شمس من مشرقها إلى يوم القيامة".

و منهم من أقسم بالآباء والاجداد، لما لهم من مكانة ومقام في نفوسهم. ومنهم من حلف وعقد الحلف عند المشاهد العظيمة، أو في معابد الأصنام، أو عند تجور سادات القبائل المحترمين، فيحلفون بصاحب هذا القبر ويذكرون اسمه على التعاقد والتآزر أو على ما يتفق المتحالفون عليه، وعلى الوفاء بالعهد. وقد روي أن النبي أدرك "عُمَرَ" في رَكْب وهو يحلف بأبيه، فنادى رسول الله: "أما إن الله عزّ وجلّ ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم. من كان حالفاً، فليحلف بالله، أو يصمت".

وفي كتب أهل الأخبار والأدب أسماء قبائل يظهر إنها كانت أسماء أحلاف عقدت في مراسيم خاصة، يمكن الوقوف عليها وتعيينها من دراستها والوقوف على معانيها، مثل الرباب و المحاش وما شاكل ذلك من أسماء.

ومن عاداتهم في عقد الأحلاف ما ذكرته من التحالف على الطيب أو النار أو القسم عند صنم. "وفي حديث الهجرة: وقد غمس حلفاً في آل العاص، أي أخذ نصيباً من عقدهم وحلفهم يأمن به. وكان عادتهم أن يحضروا في جفنة طيباً أو دماً أو رماداً، فيدخلون فيه أيديهم عند التحالف ليتم عقدهم عليه باشتراكهم في شيء واحد". وحلفوا بالملح وبالماء. "قال ابن الأعرابي": "والعرب نحلف بالملح والماء تعظيماً لهما". ومن المجاز "ملحه على ركبته"، بمعنى قليل الوفاء. وحلفوا بالخبز والملح، وعلى من يأكل خبز وملح شخص للوفاء نذلك الشخص. ولا يجوز الاعتداء على من أكل خبز وملح قبيلة. وعليها الدفاع عنه وأخذ حقه ممن ظلمه من أهل تلك القبيلة.

وتدوّ ن الأحلاف أحياناً لتوكيدها وتثبيتها، وتحفظ عند المتعاقدين، وقد تودع في المعابد، كالذي روي في خبر "صحيفة قريش" يوم تم مر للمشركون وتحالفوا على مقاطعة "بني هاشم" في شعبهم، إذ كتبوا صحيفة بما اتفقوا عبيه، ثم أودعوها كما يقول أهل الأخبار جوف الكعبة، وكالذي ورد، من تحالف ذبيان وعبس وتدوينهم ما تحالفوا عليه في كتاب، وتعاهدوا وأقسموا على اتباع ما كتب فيه، والعمل به، والى ذلك أشر في شعر قيس.

ونجد في شعر "زهر": إلا ابلغ الأحلاف عني رسالة  وذبيان: هل أقسم كل مقسم?

إشارة إلى قسم أخذ من المتعاقدين، ليلتزموا الوفاء بما تحالفوا عليه، وهم "الأحلاف". كما نجد في شعر الحارث بن حلزة اليشكري: و اذكروا حلف ذي المجاز وما قد  م فيه العـهـود و الـكُـفـلاءُ

حذر الجور والتعـدّي، وهـل ين  قض ما في المهارق الاهـواءُ

إشارة إلى العهود والرهائن التي أخذت من "بني تغلب" و "بني بكر" للوفاء بما توافقوا وتعاهدوا عليه و دَوّنوه من شروط على "المهارق"، أي القراطيس، توكيداً لما اتفقوا عليه مشافهة. وكان الملك "عمرو بن هند"، قد أصلح بين الطرفين بحلف، سميّ حلف ذي المجاز، فأخذ عليهم المواثيق والرهائن.

ويوثق ما اتفق عليه عن عهود وأحلاف ومواثيق، رؤساء الأطراف المتعاقدة، بأن تدون أسماؤهم وتختم بخواتيمهم، لتكون شهادة بصحة ما اتفق عليه، كما يفعل المتعاهدون على صحة العقد، وعلى صحة الخواتيم، وبأن مي اتفق عليه كان بجضورهم، وبأنهم شهود على كل ذلك.

وفي أخبار أهل الأخبار شواهد تشهد بتدوين الجاهليين لعقود الأحلاف. ورد في شرح "التبريزي" على المعلقات قوله في معرض شرحه لمعلقة "الحارث بن حلزة اليشكري": إن كانت أهواؤكم زيَّنت لكم الغدر والخيانة بعد ما تحالفنا وتعاقدنا، فكيف تصنعون بما هو في الصحف مكتوب عليكم من العهود والمواثيق والبينّات فيما علينا وعليكم? وورد إن أهل الجاهلية "كانوا يدعون في الجاهلية من يكتب لهم ذكر الحلف والهدنة تعظيماً للامر، وتبعيداً من النسيان". وورد في شعر ينسب إلى "درهم بن زيد الأوسي"، ما يفيد بوجود صحف مكتوية بعهود عقدت بين الأوس والخزرج. ووردت إشارة إلى "الصحف": صحف العهود والمواثيق في شعر للشاعر: قيس بن الخطيم.

وروي انه قد كان عند "عمر بن إبراهيم" من ولد "أبرهة بن الصباح" الحبشي المعروف، كتاباً دوّن "الدينوري" صورته، فيه حلف اليمن و ربيعة في حكم الملك "تبع بن ملكيكرب". وقد دون بشهر رجب الأصم. وهو كتاب يظهر انه دوّن في الإسلام، وان واضعه لم يكن له علم بأحوال اليمن في ذلك العهد. على كلّ، فإنه يشير إلى وجود تدوين العهود عند الجاهليين. ولما تحالفت قريش على مقاطعة "بني هاشم" و "بني المطلب" كتبت كتاباً بما اتفقت عليه، كتبه "منصور بن عكرمة العبدري"، وذكر انه حفظ عند "أم الجُلاّس بنتُ مخربة الحنظلية" خالة أبي جهل، وذكر انه علق في جوف الكعبة.

وشهادات الشهود على صحة العقود أو الأوامر، معروفة عند أهل اليمن، إذ وردت في الأوامر الملكية التي أصدرها ملوك اليمن وفي قوانينهم التي كانوا يصرونها لأتباعهم. وقد عرفت عند أهل مكة، وهم قوم تجار وأصحاب مصالح، ولهم عقود ومواثيق ومعاهدات مع غيرهم من أهل القرى وسادات القبائل. وفي القرآن الكريم ألفاظ لها صلة بالشهادة والشهود، منها ة "شهدتم"، و "شهدوا"، و "أشهد" و "تشهد"، و "تشهدون"، و "شاهد"، و "الشهادة"، وقد أمر بوجوب المحافظة على الشهادة وعدم كتمانها: )ولا تَكْتموا الشَهادَةَ، ومن يكتمها فإنه آثم قَلْبّهُ".

ولما كانت مراسيم الأحلاف من المراسيم المهمة ومن الأحداث الخطيرة، اقترنت من أجل ذلك بتقديم الطعام للمتحالفين. فيجلس المتحالفون من جميع الفرقاء على مائدة واحدة كالذي ذكرته من تقدم عبد الله بن جدعان الطعام للمتحالفين يوم عقدوا "حلف الفضول". وقد تكون الوليمة نفسها مظهراً من مظاهر مراسيم عقد الأحلاف، لما للخبز والملح من أثر عند العرب. فعلى من يأكل خبز رجل وملحَه إن يمّر به ويوفي له، ولهذا يعنف الإنسان الإنسان الغادر ويوبخه، لأنه لم يراع حرمة الخبز والملح، وهي حرمة تكاد تصل إلى حرمة الدم والرحم.

يتبين مما تقدم إن الحرب كانت ترى توكيد الأحلاف بكسوتها بقدسية خاصة، وذلك بعقدها مراسيم ذات صبغة دينية. وقد راعت في تلك المراسيم جهد إمكانها إيلاج ما يوضع في تلك المراسيم إلى أجسام المتحالفين لم، وكأنهم أرادوا بذلك إدخال القسم وما حلف عليه في جسم المتحالفين، ولهذا كان الذين يغمسون إصبعهم في جفنة الدم أو في دم الجزور، يلطعون إصبعهم، وكان الذين يغمسون أصابعهم في الطيب يلطعون أصابعهم أيضاً، وكان الذين يقسمون على الماء المقدس يشربون من ذلك الماء؛ وكان الذين يجرحون أيديهم ويعقدون الحلف يضعون راحتي المتحالفين اليمنى إحداهما فوق الأخرى، إلى آخر ذلك من مظاهر توحي إن المتحالفين لم يكونوا قد فعلوا ذلك عبثاً ومن غير هدف ولا قصد، بل أرادوا من كل ذلك التأثير في المتحالفين وجعلهم يشعرون بأن حلفهم هذا أي قسمهم على التحالف لتنفيذ ما اتفق عليه قد صار جزءاً من جسمهم، وقد حل في دمهم، كما يحل الدم والخبز في دم الجسم.

وتعقد الأحلاف الخطيرة المهمة أمام الأصنام وفي المعابد في الغالب، وذلك كي تكتسب قدسية خاصة. ويشرف على عقدها سادن الصنم، وقد يساعده مساعدون، ليقوموا بمساعدته في إتمام المراسيم.

ويكون بين قبائل الحلف سلم وود، لذلك يستطيع أبناء القبائل المتحالفة المرور بمواطن هذه القبائل غير خائفين، وتمر قوافلهم بأمان لا يُتعرضُ لها، ولا تجبى إلا على وفق ما اتفق عليه وجرت عليه عادة المتحالفين. وعلى أبناء هذه القبائل حماية من يجتاز بأرضهم وتقديم المساعدات له و إضافته ودفع الأذى عنه، و إذا وقع عليه اعتداء من قبائل غربية فعليه مساعدته والذب عنه واستصراخ قومه لنجدته، لأنهم من حلف واحد. وعلى الإنسان إن يتعصب للحلف تعصبه لقبيلته.

ويلاحظ إن الأحلاف إذا طالت وتماسكت، أحدثت اندماجاً بين قبائل الحلف، قد يتحول إلى النسب. بأن تربط القبائل والعشائر الضعيفة نسبها بنسب القبيلة البارزة المهيمنة على الحلف. وينتهي الأفراد إلى سيد تلك القبيلة البارزة، فتدخل أنسابها في نسب الأكبر. وفي كتب الأنساب والأدب أمثلة عديدة على تداخل الأنساب، وانتفاء قبائل من أنسابها القديمة ودخولها في أنساب جديدة.

ويؤدي انحلال الحلف أو انحلال عقد عشائر القبيلة الذي هو في الواقع حلف سمي "قبيلة" إلى انحلال الأنساب وظهور أنساب جديدة، فان القبائل المنحلة تنضم إلى حلف جديد، فيحدث ما ذكرته آنفاً من تولد أنساب جديدة، ومن تداخل قبائل في قبائل أخرى، وأخذها نسبها. ومن هنا قال "كولد زيهر": إنه لفهم الأنساب عند العرب، لا بد من معرفة الأحلاف والتحالف، فإنها تكوّن القبائل، لأن أكبر أسماء أجداد القبائل هي أسماء أحلاف، ضمت عدداً من القبائل توحدت مصالحها فاتفقت على عقد حلف فيما بينها على نحو ما مر.

وفي كتب الأنساب والأدب أدلة عديدة معروفة على إنهاء أحلاف، مشت بين الناس وفشت وشاعت حتى صارت كأنها نسب من الأنساب. من ذلك "الأحلاف" و "المطيبون". جاء "ابن صفوان" إلى "عبد الله بن عباس"، فقال له: "نعم الإمارة إمارة الأحلاف، كانت لكم" فقال "ابن عباس": "الذي كان قبلها خيراً منّا. كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من المطيبين، وكان عمر من الأحلاف" يعني "إمارة عمر". وقيل لعمر: أحلافي، لأنه عَدَويّ. و الأحلاف صار إسماً لهم كما صار الأنصار إسماً للاوس و الخزرج.

وقد أشرت سابقاً إلى اسم "تنوخ". و "، الأحابيش"، حلف عقد عند جبل حبش بأسفل مكة، فعرف المتحالفون به. وهم "بنو المصطلق، والحَيل ابن سعد بن عمرو، م وبنو الهون بن خزيمة"، و ذلك على حدّ قول اكثر أهل الأخبار.

و "الرباب." حلف أيضاً، ضم خمس قبائل، هي: تيم، وعديّ، و عُكْل، ومزينة وضبة، ولكنه سار بين الناس ومشى وكأنه اسم جماعة ترجع إلى نسب واحد. وأما "الأحلاف"، الذين ورد اسمهم في شعر "زهير ابن أبي سلمي"، فهم "أسد" و "غطفان"، و يقال لحلفهما المذكور أيضاً "الحليفان". و "الأحلاف": كذلك قوم من "ثقيف".

لقد تركت الأحلاف أثراً مهما" في الحياة السياسية والاجتماعية عند العرب قبل الإسلام وعند العرب في الإسلام كذلك، على الرغم من الحديث المنسوب إلى الرسول الذي يناهض الحلف: "لا حلف في الإسلام". وقد أدرك الرسول، ولا شك، ضررها بالمجتمع العربي إذ كانت من أسباب التفريق، فحلّ الأحلاف وأحل الدولة مكانها، وحتم على القبائل إطاعة الرسول أو من يقوم مقامه من المسلمين.

وأما ما رواه "قيس بن عاصم من إن الرسول قال: "لا حلف في الإسلام، ولكن تمسكوا بحلف الجاهلية"، فالطاهر انه قصد بذلك الجوار. وقد أكد الإسلام احترام الجار، ووجوب الدفاع عنه، كما أيد الأحلاف الجاهلية التي تدعو إلى الخير ونصرة الحق. أما الممنوع، فما خالف حكم الإسلام، ودعا إلى الهلاك والضرر والفتن والقتال، فذلك الذي ورد النهي عنه في الإسلام.

واستعمل الجاهليون لفظة "حبل" و "حبال" للعهود والمواثيق. ف "الحبل" هو العهد والذمة والأمان، و هو مثل الجوار. وكان من عادة العرب في الجاهلية إن يخيف بعضهم بعضاً، فكان الرجل إذا أراد سفراً أخذ عهداً من سيّد كل قبيلة، فيأمن به ما دام في تلك القبيلة، حتى ينتهي إلى الأخرى، فيأخذ مثل ذلك أيضاً، يريد به الأمان. فهذا حبل الجوار، أي ما دام مجاوراً أرضه. وفي هذا المعنى جاء قول الأعشى: و إذا تجوّزها حبـال قـبـيلة  أخذت من الأخرى اليك حبالها

وجاء في الحديث: "بينا وبين القوم حبال"، أي عهود ومواثيق. وفي هذا المعنى، أي العهد والذمة والأمان، جاء: مازلت معتصما بحبل منكُمُ  مَن حَلّ ساحتكم بأسبابٍ،نجا

وقد استفادت قريش من "الحبال" التي عقدتها بينها وبين القبائل، إذ أمنت بذلك على تجارتها، وقد كانت واسعة تشمل كل جزيرة العرب، وتتصل بالعراق وببلاد الشام، فصارت قوافلها العامة والخاصة تمر بأمن وسلام من كل مكان بفضل حنكة سادة مكة وذكائهم في تأليف قلوب سادات القبائل وربطهم بهم بعهود ومواثيق، جعلت التحرش بقوافلهم من الأمور الصعبة، و إذا طمع بها طامع أدبه سيد قبيلته الذي يخضع له.

ولقريش ولغيرها أحلاف مع أسر وأفراد. فقد كان ل "بني دارم" من تميم حلف مع "بني عبد مناف" من قريش. وكان ل "عكاشة بن محصن" حلف مع رجال من مكة. روي إن رسول الله قال: "منا خير فارس في العرب: عكاشة بن محصن. فقال ضرار بن الأزور الأسدي ذاك رجل منا يا رسول الله. قال: بل هو منا بالحلف. فجعل حليف القوم منهم. كما جعل ابن أخت القوم منهم". وكان للأخنس بن شريق، وهو رجل من ثقيف، وكذلك "يعلى بن منبه"، وهو رجل من "بلعدويَّة"، وكذلك "خالد ابن عرفطة" وهو رجل من عذرة جلف مع قريش، فصاروا منها بالحلف. ذلك لأن "حليف القوم منهم، وحكمه حكمهم".

وقد يقع أسير في أسر آسر، فلا يتمكن من فداء نفسه، ثم يطلب من آسره إن يكون حليفاً له، فإذا قبل آسره منه ذلك، صار في حلفه وفي حلف قبيلته. أي يكون ذلك الشخص حليفاً لقبيلة آسره. ويكون حكمه بالنسبة للإرث، إنه يرث من القبيلة كما يرث الصريح من أبنائها. أما إذا قتل، فديته نصف دية الصريح وكان "معيقيب بن أبي فاطمة" حليفاً لبني أسد، وكان يكتب مغانم الرسول.

التخالع

و إذا أراد المتحالفون إنهاء حلفهم وعهدهم الذي تعاهدوا عليه بينهم، أعلنوا عن ذلك، وكتبوا به كتاباً، ليكون مشعراً بتخالعهم، و انهم نقضوا الحلف الذي كان بينهم، فتسقط بذلك كل مسؤولية تولدت عن الوفاء بذلك الحلف أو العهد، فلا يطالب طرفٌ الطرف الثاني بالوفاء به. ورد في كتب اللغة: و تخالعوا:. نقضوا الحلف والعهد بينهم وتناكثوا.

ويكون التخالع باتفاق الطرفين عليه، وبرضائهما عنه. أما إذا نكل طرف واحد بتنفيذ ما جاء في الحلف، أو أعلن عن انسحابه منه ساعة الحاجة إليه، كأن يتبرأ منه في وقت يكون فيه حليفه في شدة وضيق، عدّ ذلك غدراً وخيانة، لتلكؤه عن تنفيذ ما اتفق عليه. وليس الغدر من سجايا إنسان شريف.

وقد كان للحلف أثر مهم في تلاحم الأنساب وفي انفكاكها وتجزئها، وطالما نقرأ في الكتب عبارات تشير إلى تلاحم الأنساب وتداخلها بسبب العوامل المتقدمة. مثل: "ومنهم سليم بن عباد. كان حليفاً لأبي طالب. وولده اليوم يدعون في آل أبي طالب".

و الأحلاف بنوعيها أحلاف القبائل وأحلاف الأفراد قد لا تدوم أمداً طويلاً، ولا سيما أحلاف القبائل، فالقبائل في تنقل وحركة، ومصالحها وضرورات الحياة عندها متغيرة غير ثابتة، وهي قلقة غير مستقرة. وأحلاف تقوم على مثل هذه الأسس لا يمكن إن تدوم وتعمر، ولا سيما إذا ما تشتت شمل الحلف، وتنقلت قبائله، وتحولت إلى أماكن بعيدة. فتضعف الروابط والصلات التي تجمع بين شملها، ثم ترخى وتزول ولا يبقى من الحلف غير الاسم. تزول بغير تخالع ولا تقاتل أو تباغض، تزوله لأن الظروف التي دعت إلى عقدها، تكون قد زالت وتغيرت ولأن التباعد قد بَرّدَ من نار الحب التي كانت قد قاربت بين القلوب فجعلها تنسى ذلك الحب، ولا تذكره إلا عندما تتذكره.

إخاء للقبائل

وإخاء القبائل، هو إخاء اصطناعي، وان عدّه أهل الأنساب والأخبار إخاء

حقيقياً من اقتران والد بأم. فنحن نعلم في هذا اليوم ومن قراءاتنا للكتابات الجاهلية، ومن نقدنا:غربلتنا لأخبار أهل الأخبار و لروايات أهل الأنساب، إن التآخي، هو في الواقع جوار، ونزول قبيلة بجرار قبيلة أخرى، أو نتيجة حلف تآخت قبائله واتحدت، فعد تآخيها تآخيا بالمعنى المفهوم من الاخوة. أو حاصل تضخم قبيلة لم تعد أرضها يتسع صدرها لها، فاضطرت عشائرها وبطونها على التنقل والارتحال إلى مواطن جديدة، وعدت نفسها لذلك من نسل تلك القبيلة التي كانت تعيش معها، فعدّ ذلك أهل الأنساب نسباً حقيقياً بالمعنى المفهوم من النسب عندنا.

وقد تضطر بعض القبائل على ترك مواطنها والارتحال عنا، بسبب غزو قبيلة أقوى منها لها، فتنزل بين قبيلة جديدة وتتحالف معها، أو تقهرها على النزول بأرضها. وفي كتب أهل الأنساب والأخبار أمثلة عديدة على ذلك. فتتداخل أنسابها، ويتولد من ذلك نسب جديد. من ذلك، ما يرويه أهل الأنساب عن "عك" وهو أخو "معد" على زعم أهل النسب، فلما حارب "بختنصر" "عدنان"، والد "معد" و"عك"، هاجر أبناء "عك" نحو الجنوب فراراً من "بختنصر" وأقاموا في اليمن، فدخل نسبهم في اليمن، وعدّهم بعض أهل الأنساب من قحطان، ومن ذلك قضاعة وقبائل أخرى عديدة.

الهجن

وتزوج العرب من الإماء، وذلك إن من الإماء من كانت جميلة الصورة حلوة المنظر والكلام، ولهذا تزوّج ساداتهن منهن، فولد لهم نسل، قيل للواحد منه الهجين. والهجين: ولد العربي من غير العربية، قيل له ذلك لأن الغالب على ألوان العرب الأدمة، ويقال للزواج الذي يقع بين عربي وأعجمية: "مهاجنة". وقد عابته العرب وعدت الهجين دون العربيّ الصريح، لوجود دم أعجميّ فيه. والأعاجم هم، مهما كانوا عليه من منزلة، دون العرب في نظر العرب.

ويظهر من تعريف علماء اللغة للفظة "الهجين"، إنها خصصت بمن يولد من أم أعجمية بيضاء، كأن تكون الأم رومية أو فارسية. فقد ذكروا إن العرب أطلقت على أولادها من العجميات اللائي يغلب على ألوانهن البيإض، الهجن و الهجناء، لغلبة البياض على ألوانهم و إشباههم أمهاتهم، فيجب إن تكون الأمهات الأعجميات إذنْ من ذوات البشرة البيضاء، تمييزاً لهن عن ذوات البشرة السوداء من الرقيق المستورد من إفريقية. ويذكر علماء اللغة أيضاً إن العرب قالت للعجم "الحمراء" و "رقاب المزاود"، لغلبة البياض على ألوانهم، ويقولون لمن علا لونه البياض: أحمر. وقد هجا "حسان بن ثابت" "سعد بن أبي سرح" بأن اتهمه بأنه عبد هبجين، أحمر اللون فاقع، موتر عِلْباءِ القفا، قَطَطٌ، جعد.

والهجنة من الكلام: ما يعيبك. وقد جاء هذا المعنى من الفساد الذي قد يظهر في كلام. الهجن، بسبب عجمة الأمهات وعدم إتقانهن العربية. ولما كان الخطأ في اللغة عيباً، عدت الهجنة من الأمور المعيبة.

ويطلق العرب لفظة "رجل مولَّد" على الرجل إذا كان عربياً غير محض. و "المولدة" الجارية المولودة بين العرب.، وقيل: تُولدَ بن العرب وتنشا مع أولادهم ويغذونها غذاء الولد ويعلمونها من الأدب مثل ما يعلمون أولادهم. و "التليد" التي ولدت ببلاد العجم وحُملت فنشأت ببلاد العرب، وقيل: هي التي تولد في ملك قوم وعندهم أبوها.

الجوار

و للجوار حرمة كبيرة عند الجاهليين. فإذا استجار شخص بشخص آخر، وقبل ذلك الشخص إن يجعله جاراً و مستجيراً به، وجبت عليه حمايته، وحق على المجار الدفاع عن مجيره، والذبّ عنه. وإلا عدّ ناقضاً للعهد، ناكثاً للوعد، مخالفاً لحق الجوار. وعلى القبائل استجارة من يستجير بها، والدفاع عنه دفاعها عن أبنائها. و يقال للذي يستجير بك "جار". والجار الذي أجرته من إن يخلصه ظالم. وجارك المستجير بك، والمجير هو الذي يمنعك ويجرك. وأجاره: أنقذه من ع شيء يقع عليه.

العصبية

وأساس النظام القبلي هو العصبية، العصبية للآهل والعشيرة وسائر متفرعات الشعب أو الجذم أو القبيلة، أو العشيرة. ومن شروطها إن يدعو الرجل إلى نصرة عصبته والتألب معهم على من يناوئهم، ظالمين كانوا أو مظلومين، وليس له إن يتساءل: أهو ظالم أم مظلوم، وهي ضرورية للقبائل، لأنها لا تستطيع إن تدافع عن نفسها إلا إذا كانت ذات عصبية ونسب، وبذلك تشتد شوكتها، ويخشى جانبها، كما انه لا يمكن وقوع العدوان على أحد مع وجود العصبية. وتقوم العصبية على النسب، وهي تختلف لذلك باختلاف درجات تقارب الأنساب، ولذلك تجد عصبيات مختلفة. و تقوم العصبية الصرحاء والموالي والجيران.

وتشمل العصبية أهل المدر كذلك، فأهل المدر وإن تحضروا واستقروا و أقاموا في بيوت ثابتة، إلا إن نظامهم الاجتماعي والسياسي بني على العصبية أيضاً، فتألفت المدن والقرى من "شِعاب"، وتكوّنت الشعاب من جماعات بينها روابط دم و وشائج قرابة. والشِعْب هو وحدة، وهو الذي يأخذ حق المظلوم من الظالم، و بظلامة من تقع عليه ظلامة. وغالباً ما تكون بين الشعاب المتجاورة قرابة وصلة رحم، و إذا حدث حادث لهذه الشعاب، هبّت للنظر فيه واتخاذ ما ينبغي اتخاذه من موقف، ثم تكون عصبية الشعاب للمدينة أو للقرية ثم إن سكان هذه المدن وإن تحضروا واستقروا كانوا يُرجعون أنفسهم كأهل الوبر إلى قبائل وعشائر. فهم إذن أعراب من حيث التعصب والأخذ بالعصبية، واختلافهم عن الأعراب، هو في استقرارهم وفي عيشهم في محيط ضيق محدود وفي خطط مثبتة مرسومة.

وفي المعنى المتقدم من العصبية، ورد قول الشاعر: إذا أنا لم أنصر أخي وهو ظـالـم  على القوم، لم أنصر أخي حين يظلَم

فالعصبية: أن يدعو الرجل عصبته إلى نصرته. وهي "النصرة على ذوي القربى وأهل الارحام، أن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة".

وفي هذا المعنى أيضاً ورد قول الشاعر، قريط بن أنيف، حيث يقول: قوم إذا الشرُّ أبدى ناجذيه لهـم  طاروا إليه زُرافات ووحدانـا

لا يسألون أخاهم حين يندبـهـم  في النائبات على ما قال برهانا

فهو يهبّ إذا سمع نداء العصبية حاملاً سيفه أو رمحه أو أي سلاح بملكه، وبغير سلاح، لينصر أخاه، لا يسأله: لِمَ? فليس من العصبية والاخوة القبلية أن "تسأل أخاك عماّ وقع له، بل عليك تلبيَة ندائه و تقديم العون له، معتدياً كان أم معتدى عليه.

و العصبية صلة كبيرة بالمسؤولية و بالعقوبات. فعلى درجة العصبية تقع المسؤولية. فأقرب الناس إلى الجاني، يكون أول من يتناوله الأخذ بالثأر، ثم الأبعَد فالأبعد. ومن هنا كان الطالبون للثأر يبدأون بالجاني أولاً. فان فاتهم أخذوا أقرب الناس رحماً به، فان فاتهم أخذوا الذي يليه أو من هو في درجته وهكذا.

وكلما بعدت العصبية عن دم الأبوين، خفت حدتها، وطبيعي ألا تكون العصبية إلى القبيلة مثل العصبية إلى الآهل في الشدة. ولهذا فان العصبية ترتبط بدرجة الدم والتحام النسب ارتباطاً طردياً. وهذا شيء طبيعي، وهو حاصل هذه الحياة.

ولا تمنع العصبية بطون القبيلة من مخاصمة بعضها بعصاً ومن القبائل فيما بينها، بسبب تغلب المصالح الشخصية على عاطفة "العصبية". ومتى اصطدمت المصالح بالعواطف، تغلبت المصلحة عليها. فالمصلحة حاجة وواقع عملي، والعصبية شعور، والحاجة أقوى منها. وهذا نجد المصلحة تدفع بطون القبيلة المتخاصمة على الاستعانة ببطون غريبة عنها، أو بقبائل بعيدة عنها في النسب لمقارعتها أخواتها و للتغلب عليها، مدفوعة إلى ذلك بدافع المصلحة وغريزة المحافظة على الحياة. فتقاتلت بطون من طيء و تحاربت فيما بينها، وتقاتلت قبائل بكر ووائل مع وجود النسب والدم، وتقاتل بنو جعفر والضباب. تقاتلت لظهور مصالح تغلبمت على العصبية و على الشعور بالاخوة. ومتى ظهرت المصالح المادية عجزت عاطفة النسب والعصبية من التغلب عليها.

وجرثومة العصبية، العصبية للدم، وأقرب دم إلى إنسان هو دم أسرته وعلى رأسها الأبوان والاخوة والأخوات ثم الأبعد فالأبعد، حتى تصل إلى العصبية للقبيلة. ولهذا تكون شدة العصبية وقوتها تابعة لدرجة قرب الدم والنسب وبعدها. فإذا ما حلّ حادث بإنسان، فعلى أقرب الناس دماً إليه أن يهب لإسعافه والآخذ بالثأر ممن ألحق الأذى بقريبه. ولهذا صارت درجات العصببة متفاوتة بحسب تفاوت الدم ومنازل النسب.

وآخر مرحلة من مراحل العصبية، العصبية للقبيلة، والعصبية للحلف، أو العصبية للنسب الأكبر، وذلك في حالة تكتل القبائل وتخاصمها كتلاٌ. وتكون العصبية للقبيلة أقوى من العصبية للحلف أو النسب الأكبر مثل معدّ أو نزار أو حمير أو ما شاكل ذلك، وذلك لشعور أبناء القبيلة بأن الرابطة التي تربطهم هي رابطة الدم، والدم أبرز وأظهر في القبيلة من رابطة الحلف أو رابطة النسب الأكبر، ولا سيما رابطة الحلف، فإنها رابطة مصلحة في الغالب لا رابطة دم، والشعور بروابط. لمصالح لا يكون مثل الشعور بروابط الدم.

وتدفع العصبية للحلف، قبائل الحلف على التناصر والتآزر والتكتل، والوفاء بالعهد، و إلا لم تكن للمتحالفين فائدة ما من الحلف، وعلى أفراد الحلف أن ينصر بعضهم بعضاً، وعلى قبائل الحلف أن يتآزروا في دفع الديات أيضاً. وبالمطالبة بديات من يُقتل من قبائل الحلف، إذا عجز أهل القتيل لو قبيلة القاتل عن الأخذ بحقه.

وتشمل العصبية كل منتمٍ إلى القبيلة، تشمل أحرارها أي أبناءها الخلصّ الصرحاء، و تشمل الموالي أي الرقيق وكل مملوك تابع لحر، كما تشمل أهل الولاء والجوار. فالعصبية لا تعرف تفريقاً في هذه الناحية، فعلى كل من ينتمي إلى قبيلة ويحمل اسمها أن يتعصب لقبيلته ويذود عنها، وان كان عبداً مملوكاً، ذلك قانون وأمر محتوم، لا جدال فيه ولا نقاش، من حيث وجود حقوق أو عدم وجودها، ومن حيث إن اصل هذا حرّ واصل هذا عبد. لأن ما يصيب الحر يصيب المولى والجار، وما يصيب المولى والجار يؤثر على الحر، لأنه مسؤول عن مولاه وعن جاره بحكم التملك والجوار، وعلى الرقيق والجار تبعة الدفاع عن الصريح وعن القبيلة التي ينتمي إليها الصريح.

وتلزم العصبية أبناء القبيلة بوجوب تحمل التبعة والقيام بواجبها وتلبية ندائها وإجابة الصارخ بالعصبية، ليس له إن يسأل عن السبب، ولا إن يعتذر عن تلبية النداء، و إنما عليه إن يعمل بقول الشاعر: لا يسألون أخاهم حين يندبـهـم  في النائبات على ما قال برهانا

و إذا قتل قتيل لزم الأخذ بثأره، و إذا كان القتيل سيد قبيلة وجب على القبيلة الأخذ بثأر سيدها، وهيهات إن تسكت عن قتله، وعلى كل فرد من أفراد تلك القبيلة واجب الأخذ بثأره ممن قتله.

ويفرض قانون العصبية على القبيلة تحمل التبعة، إذ جعلها تبعة جماعية. فإذا جنى رجل جناية قتل، تكون قبيلته مسؤولة عن جنايته، وعليها تقع تبعة قتل القاتل إذا تعذر الأخذ بالثأر منه أو تعذر تسليم القبيلة له، كما يقع على القبيلة دفع الدية إذا عجز القاتل أو آله عن دفعها، وذلك لتوزيعها على المتمكنين من أفرادها، أو بقيام ساداتها أو سيدها بدفعها كاملة أو يدفع ما تبقى منها.

ومن هنا خضعت فردية الأعرابي المتطرفة لقانون الجماعة، أي لسلطان العصبية فصار واجباً عليه إن يضع نفسه تحت إمرة القبيلة، وذلك بتلبية ندائها حين يبلغه ذلك النداء، وتقديم نفسه طائعاً مختاراً لإمرة القبيلة ليدافع عنها أو ليشترك معها في الغزو، ليس له إن يفرّ أو يعتزل أو يتلكأ، فهذا واجب مفروض عليه، إذا خالفه خالف جماعته وخسر حمايتها له، وصار مَسْبُوباً من الناس.

الحمية

ومن مظاهر العصبية "الحميّة" وهي الأنفة والغيرة والغضب، وذلك، أن الشخص كان يأنف من عمل قبيح، وتأخذه حميته من إن يفعل شيئاً يعاب ويعار عليه. وهو يغضب وتأخذه حميته من أن يترك سنة آبائه وأجداده. وقد نهى الإسلام عن الحمية، واعتبرها من أخلاق أهل الجاهلية والكفر. ونزل الوحي يندد بها: )إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حَميّة الجاهلية. فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين والزمهم كلمة التقوى(. وذلك حين جعل "سهيل بن عمرو" في قلبه الحمية فامتنع أن يكتب في كتاب المقاضاة الذي كتب بين الرسول والمشركين بسم الله الرحمن الرحيم، وأن يكتب فيه محمد رسول الله، وامتنع هو وقومه من دخول رسول الله مكة عامه ذلك. فوضع الإسلام "السَّكينة" في موضع حمية الجاهلية.

و "النعرة"، وهي الصياح ومناداة القوم بشعارهم طلباً للغوث والاستعانة، أو لإهاجتهم ولتجمعهم في الحرب. ومن هنا ورد في الحديث "ما كانت فتنة إلا نعر فيها فلان". أي نهض فيها. وفي حديث الحسن: كلما نعر بهم ناعر اتبعوه، أي ناهض يدعوهم إلى الفتنة ويصيح بهم إليها. ولما كان العرب أصحاب حس مرهف، وعاطفة ذات حساسية شديدة، لذلك لعبت النعرات فيهم دوراً خطيراً في إثارة الفتن بينهم. وكانت سبباً لحدوث حوادث مؤسفة عند الحضر وعند الأعراب.

و إذا أصيب شخص بضيم، أو نزلت به إهانة أو نازلة، نادى قومه بشعائر العصبية، وعلى قومه تلبيته ونصرته. و قد ينادي الإنسان شخصاً طالباً منه العون والنصرة، فتلزمه مساعدته كأن ينادي "يا لَفلان"، وهو شعار يستعمل عند التحزب والتعصب، ينادي به بصوت عال مسموع، عند بيت المنادى أو في موضع عام أو في مكان مرتفع ليصل الصوت إلى ابعد مكان.

وللقبائل شعار ينادون به عند العصبية، فإذا وقع على أحد من أهل يثرب اعتداء وأراد المؤازرة والنصرة، نادى: يا لآل قَيلْة، و إذا كان من تميم نادى: يا لَتَميم، وهكذا، فيهرع من يكون حاضراً ساعة النداء لينصر صاحبه الذي هو من قومه و ليؤازره. وتعد التلبية من أهم مفاخر الرجال والقبائل وواجباً من الواجبات ويتداعى الناس إلى العصبية في القتال. و إذا أرادوا إهاجة قومهم نادوا بالعصبية.

وقد وقع خلاف بين المهاجرين والأنصار في المدينة والرسول فيها. فقال قوم: يا لَلأنصار. وقال قوم ياَ للمهاجرين. فسمع النبي تداعيهم وصراخهم، فقال لهم: دعوها فإنها منتنة. ودعاها ب "دعوى الجاهلية". "وفي الحديث: ما بال دعوى الجاهلية? هو قولهم: يا لفلان كانوا يدعون بعضهم بعضاً عند الأمر الشديد".

الإسلام والعصبية

وقد تركت "العصبية" أثراً مهماً في الحياة السياسية والاجتماعية عند العرب تجبل الإسلام. وقد كانت إذ ذاك ضرورة من الضرورات اللازمة بالنسبة إلى الحياة في الجاهلية، لأنها الحائل الذي يحول بين الفرد وبين الاعتداء عليه، والرادع الذي يمنع الصعاليك و الخلعاء و المستهترين بالسنن من التطاول على حقوق الناس، إذ لا حكومة قوية رادعة ولا هيئةً حاكمة في استطاعتها الهيمنة على البوادي وعلى الأعراب المتنقلين. بل هنالك قبائل متناحرة و إمارات متنافرة، إذ ارتكب إنسان جريمة. في أرضها، وفرّ إلى ارض أخرى، نجا بنفسه وأمن على حياته هناك، ولكنه كان يخشى من شيء وأحد، لم يكن لأحد فيه عليه سلطان، هو "العصبية" وسنة "الأخذ بالثار"، وهي العصبية في ثوبها العملي. كان نحشى من سلطان الأخذ بالثأر، حيث يتعقبه أهل الثأر، فلا يتركون الجاني يهنأ بالحياة ولو بعد مضي عشرات من السنين، حتى يُقتل أو يقتل اقرب الناس إليه. وبذلك صارت العصبية ضرورة من ضرورات الحياة، بالنسبة لسكان جزيرة العرب، لحمايتهم وصيانتهم من عبث العابثين.

وقد أدرك الإسلام ما في العصبية من أخطار على المجتمع، ولما في الأخذ بالثأر من ضرر على الأمة، إذ يحول المجتمع إلى مجتمع ذئاب، يأخذ كل ذئب بحقه من غريمه، فنهى عنها، وحوّل العصبية الجاهلية إلى عصبية إسلامية. بأن يتعصب المسلم لأهل عصبيته، ولدينه، فيدافع عنه ويقاتل في سبيله وفي سبيل رفع الظلم عمن وقع الظلم عليه بمساعدة من بيدهم الأمور على إحقاق الحق وإظهار حق المظلوم لديهم. وحرم العصبية الجاهلية المعروفة، فورد في الحديث: "ليس منا من دعا إلى عصبية أو قاتل عصبية". ومنع الأخذ بالثأر، إذ جعل حقه من حقوق أولي الأمر، ومن بيده سلطان المسلمين ومن ينيبونه عنهم للقضاء بين الناس.

من أعراف للعرب

وللأعراب بصورة خاصة أعراف أوجبت الطبيعة عليهم إطاعتها والعمل بها لأن في تنفيذها مصلحة الجميع، وفي الخروج عليها ضرراً بالغاً. من ذلك وجوب الأخذ بالثاًر، والبحث عن القاتل لقتله مهما طال الزمن، لان "الدم لا يغسل إلا بالدم". وقد أملت طبيعة المحيط الذي يعيش فيه العرب عليهم هذا العرف. فليس في البادية من يحول بين قتل الناس بعضهم بعضاً إلا الأخذ بالثأر، و قيام أهل القتيل والعصبية بالأخذ بدمه. ولولا الخوف من الأخذ بالثأر لَعَمَّ القتل الحياة: فالحياة في البوادي وفي أكثر أنحاء جزيرة العرب شدة ومحنة و فقر وقسوة. وليس في البادية أي خير كان مما يستمتع به أهل الحواضر، ولا سيما تلك التي امتازت بوفرة الماء فيها و بحسن جوّها واعتداله. لذلك صارت حياة الأعراب ضنكاً في العيش وفقراً مُرّاً، وصار كل شيء تقع عليه عين الأعرابي ذا قيمة وفائدة عنده مهما كان تافهاً، فيريد الاستيلاء عليه وسلبه من صاحبه، لأنه محتاج إليه وفقير، ويرى إن من حقه إن يستولي على كل ما يراه عند من هو أضعف منه، وان أدى ذلك إلى إزهاق حياته. ولكن الطبيعة التي علمت الأعرابي هذا المنطق و درّسته هذا الدرس درّسته في الوقت نفسه إن الاستهتار بالسلب والنهب والقتل، يؤذيه ويهلكه، وانه لاُ بد له من الحدّ من غلوائه ومن أعدائه على غيره، ووضعت له حدوداً و قيوداً من طبيعة هذه الحياة التي يحياها. منها عرف "العصبية"، والأخذ بالثأر، وغير ذلك من أعراف أملتها الطبيعة على سكان هذه البوادي، وصارت سنناً متبعة بعضها يتعلق بالأعراف التي تخص داخل القبيلة، وبعضها يتعلق بالأعراف التي تتعلق بالقبائل المتحالفة، ومنها ما يتعلق بالأعراف التي تكون بين القبائل المتعادية.

والقاعدة عند العرب إن الدم - كما سبق إن قلت - لا يغسل إلا بالدم، وان تعويض الدم بمال يرضى عنه "آل" القتيل، منقصة و ذلة لا يقبل بها إلا ضعاف النفوس. أما أهل البيوت والحمولة، فلاً يقبلون إلا بالقصاص وبأخذ الثأر، وبقتل رجل كفء يكافئ المقتول في المنزلة والدرجة والمكانة، فإذا كان القتيل سيد قبيلة والقاتل من عامًة الناس أو من عبيدهم، أبوا الاكتفاء بقتله به اقتصاصاً منه، إذ انه دون القتيل في المنزلة والشرف والمكانة، بل لا بد عندهم من قتل سيد من سادات القبيلة التي يكون منها القاتل، على إن يكون مكافئاً للقتيل، حتى يغسل الدم. وان كان ذلك السيد بعيداً عن القاتل ولا صلة له به. فالسيِّد سيّد ولا يغسل دمه إلا بدم سيد مثله. ولعلّ الطبيعة وضعت لهم هذه السنة لتأديب سادات القبيلة أو غيرهم، ممن قد يحرضون العبيد أو غيرهم من السوقة على قتل خصومهم وأعدائهم. فإذا عرفوا إن أهل القتيل سينتقمون منهم بقتلهم، حاربوا سفكة الدماء من أتباعهم ولاحقوهم، وبذلك ينظفون المجتمع منهم، و يخلصون الناس من سفاكي السماء.

والأصل في القتل: القصاص، وقتل القاتل بدل القتيل. فيطالب أهل المقتول

بالقوَد وهو قتل النفس بالنفس. وقد ورد ذكره في الحديث، إذ جاء: "من قتل عمداً، فهو قود". و إذا لم يتم، القود، أو لم يحدث التراضي على الدية، أو إذا فرّ القائل، فلا بد من الأخذ بالثأر. ولا يستقر لأهل القتيل قرار إلا بعد الأخذ يثأر القتيل. وقد يتركون الخمر والطيبّات ولا يقربون النساء طيلة طلبهم للثأر. وقد يلبسون ألبسة الحزن ويجزوّن شعورهم، ولا يأكلون لحماً، ولا يميلون إلى ضحك ولا سماع دعاية ولا إلى الاستراحة، حتى ينالوا منالهم من الأخذ بثأر القتيل. كالذي روي في قصة طلب امرئ القيس الكندي ثأر أبيه من بني أسد. وقد آلى على نفسه إن لا يمس رأسه غسل ولا يشرب خمراً حتى يثأر بأبيه. فلما ظفر ببني أسد قَتَلَتهَ وأدركّ ثأره حلّ له ما حرم على نفسه. وكالذَي روي في قصة طلب قيس بن الخطيم ثأر أبيه أو عن "يوم الأقطانيين"، إذ أقسموا إلا يغسلوا أجسامهم حتى يأخذوا بثأرهم.

وقد يستغرق طلب الأخذ بالثأر.عشرات السنين، لا يكلّ في خلال هذه المدة أصحاب القتيل عن إدراك الثأر. وينظر إلى الذين يتوانون عن إدراك الثأر نظرة ازدراء واحتقار، وقد يلحق بهم وبنسلهم العار من هذا الإهمال، وقد يلحق ذلك العشيرة أو القبيلة برمتها ويكون لهاُ سبّة، إذا كان القتيل من أشرافها أو من سادتها. لهذا لا يتهاون أهل القتيل عن تتبع آثار القاتل أو أقربائه أو أفراد قبيلته التي ينتمي. إليها لغسل هذا العار، فإن الدم لا يغسل إلا بالدم.

ومتى أدرك أهل الثأر ثأرهم، ووجدوا المقتول كفؤاً لدم القتيل ورضوا عن ذلك، قالوا هذا النوع من الثأر "الثأر المنيم". وقد عرفه بعضهم: أنه الذي إذا أصابه الطالب رضى به فنام بعده. وقيل هو الذي يكون كفؤاً لدم وليّك. ويقال أدرك فلان ثأراً منيّماً، إذا قل نبيلاً فيه وفاءٌ لطلبته، وكذلك أصاب الثأر المنيم. قال أبو جندب الهذلي: دعوا مولى نفائة ثم قالوا:  لعلك لست بالثأر المنـيم

أي لست بالذي ينيم صاحبه، أي إن قتلتك لم أنم حتى أقتل غيرك، أي لست بالكفؤ فأنام بعد قتلك.

ومتى أخذ بثأر القتيل بكته النساء. لأن من عادة نساء الجاهليين ألا يبكين المقتول إلا إن يدرَ ك بثأره، و إذا أدرك بثأره، بكين.

ويشبه الثأر إن يكون عقيدة من العقائد الدينية عند العرب. لما يكتنفه أحياناً من "حلف" و "قسم" بوجوب الأخذ بالثأر. ولما تحوط به من شعائر يحافظ عليها، من أخذ على نفسه القسم بوجوب الأخذ بالثأر. وهي من شعائر الدين عند الجاهلين. ولا يتركها حتى يبر بقسمه.

و إذا عجز الإنسان عن أخذ ثأره بنفسه، استغاث بغيره لينجده على ثأره. و على من قبل نداء الاستغاثة ووافق على النجدة، مساعدة المستغيث في الأخذ بالثأر وعدم تركه حتى يأخذ بثأره من طلبته.

وقد لعب الأخذ بالثأر دوراً خطيراً في الإسلام كذلك. ولا سيما في الأحداث السياسية. فلما قتل "عثمان" ارتفع نداء: يا لثارات عمان. قال حسان: لتسمعن وشيكاً في ديارهم  الله أكبر يا ثارات عثمانا

ومن ذلك قولهم: "يا لثارات الحسين"، و "يا لثارات زيد" إلى غير ذلك. وهو لا يزال يلعب دوراً خطيراً في الحياة العربية إلى اليوم.

وقد عير أحد الشعراء "بني وهب"، لأنهم أخذوا دية قتيل، فاشتروا بها نخلاً، فقال لهم: إلا أبلغ بني وهب رسولا  بأن التمر حلو في الشتاء

أي اقعدوا وكلوا التمر ولا تطلبوا بثأركم.

وهناك رجالُ ضرب بهم المثل في إدراكهم الثأر. ويقال للواحد من هؤلاء: البيهس.

الاستغاثة:

ومن مظاهر العصبية: الإستغاثة. وهي إن يصيح الإنسان واغوثاه. طلباً للعون والنصرة وعلى من يسمع نداء الاستغاثة من أهل المستغيث أو من رجال قبيلته أو الحلف الذي تكون قبيلته فعليه مدّ يد العون له ونصرته. ويعاب من يسمع الاستغاثة فلا يعمل على مساعدة المستغيث. وقد يجو المستغيث قومه إذا تباطأوا في إغاثة المستغيث أو لم يستجيبوا لندائه، وقد يتبرأ منهم و يتركهم ليلحق بقوم آخرين.

ومن أخلاق الجاهلية المناداة بالنصرة. و قد ذكرت معناها في العصبية فهي أيضاً وجه من وجوهها. ذكر إن الرسول قال: "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً"، وتفسيره إن يمنعه ومن الظلم إن وجده ظالماً. وان كان مظلوماً أعانه على ظالمه. والتناصر التعاونُ، وقد حول الإسلام نصرة الجاهلية إلى تناصر، أي تعاون وتعاضد لأن المسلمين إخوة. ويكِون بالانتصار من الظالم وبالانتصاف حتى يؤخذ بحق المظلوم من الظالم.

الوفاء

وعلى الإنسان الوفاء لأهل عصبيته، ليس له مخالفتهم ولا معاكستهم مها كانت درجة الخلاف بينه وبينهم، لأنه واحد، وهم جماعة، إن أصابه ضيم فلا بد لجماعته من مواساته و من الانتصار له مهما كانت أسباب الفرقة.وما يصيب جماعته سيصيبه، وما سيصيبه، سيؤثر في جماعته حتماً، فيجعلها إلى جانبه في الأخر.

وهل أنا إلا من غَزِيِةَ إن غوت  غَوَيْت وإن تَرشُدْ غَزيّةُ أرشد

وهي في الأخر كما بقول الشاعر "المتلمَّس" لشخص ظن انه منتقل عنهم لخلاف وقع بينه و بينهم: أمنتقلاً من نصر بهثة خلِتـنـي  ألا إنني منهم وان كنت أينـمـا

ألا إنني منهم وعرضيَ عرضهم  كذِي الأنف بحمي أنفه إن يصلّما

فإذا أعطى رجلٌ رجلاً عهداً، فلا يسعه إن يغدر به، ولا بد له من المحافظة على الجهد وما برح العرب يحافظون على عهودهم حتى اليوم. وقد يضحي الإنسان بنفسه على إن يخدش سمعته فيوسم بالغدر. وكانوا في الجاهلية إذا غدر الرجل رفعوا له في سوق عكاظ لواءً ليعرفوه الناس. وقد ورد: "إن لكل غدرة لواء" ونصب. اللواء في المواضع العامة وفي المواسم للإشارة إلى غدر شخص بشخص آخر من أشهر الأشياء عند العرب.

والى هذا اللواء أشار "الحادرة"، "قطبة بن أوس" إذ قال: أسمي ويحك هل سمعت بغدرةٍ  رفع اللواء لنا بها في مجمع

و إذا غدر الرجل بجاره، أوقدوا النار بمنى أيام الحج على أحد الأخشبين، ثم صاحوا: "هذه غدرة فلان" ليحذره الناس. وقد قيل لهذه النار: نار الغدر.

وربما جعلوا للمغادرِ مثالاً من طين، ينصبونه ليراه الناس، وكانوا يقولون: إلا إن فلاناً قد غدر فالعنوه. جاء في الشعر: فلنقتلن بخالد سَروَاتكم  و لنجعلن لظالمٍ تمثالا

فهدا التمثال، هو تمثال الغدر والخيانة، نصب ليقف الناس على خبر غدر الشخص الذي نصب له.

وقد عاب الناس الغادر و عيرّوا به فإذا شتموا شخصاً قالوا: يا غُدرَ ! وقد جعلوا الذئب من الحيوانات الغادرة، فقالوا: الذئب غادر، أي لا عهد له. كما قالوا: الذئب فاجرا.

أهل الغدر

وقد حفظ أهل الأخبار أسماء رجال عرفوا بالغدر. وقد قال بعضهم: أعرف الناس بالغدر "آل الأشعث بن قيس بن معد يكرب". وذكر إن الغدر ارث فيهم انتقل بهم إلى الإسلام. وضربوا المثل بغدر الصيزن بأبيها صاحب الحصن.

ومن الوفاء: الوفاء بالعهود والمواثيق. فلا يجوز لمن أعلى عهداً وميثاقاً الغدر بهما و التنصل من الوفاء بهما. والوفاء من أنبل الخصال الحميدة التي يتخلق بها إنسان. وهو من المثل العليا عند العرب ومن أخلاق "الإنسان الفاصل" عندهم. وقد أوفى "حنظلة الطائي" بعهد الذي أعطاه للملك "النعمان" يوم بؤسه بأن يعود إليه، ليرى الملك رأيه في قتله فعاد، وهو يعلم إن الملك سيقتله، لأنه أعطاه قولاً بالعودة، وجعل "شريكاً" نديم الملك ضامناً له بالعودة. فلما عاد، واستمع الملك إلى قصة وفائه أبطل عادته في قتل أول من كان يظهر أمامه يوم بؤسه، إكراماً لعمله. ورأى "السموأل" ابنه وهو في أيدي أحد ملوك الغساسنة أو ملوك كندة، وهو يناديه بوجوب دفع ما عنده من دروع وأسلحة مودعة عنده، من دروع وأسلحة "امرئ القيس" فقال له: "ما كنت لأخفر ذمامي وأبطل وفائي فاصنع ما شئت". فذبح ولده واحتسب السموأل ذبح ولسر وصبر محافظة على وفائه، ولم يسلم الوديعة إلا إلى ورثة امرئ القيس.

وقد دَون أهل الأخبار أسماء أناس عرفوا بالوفاء منهم: "أوفى بن مطر المازني"، جاوره رجل ومعه امرأة له، فأعجبت قيساً أخاه، فقتل زوجها غيلة، فبلغ ذلك "أوفى" فقتل قيس بجاره. و "الحارث بن عبّاد"، وكان من وفائه انه أسر يوم "قضة" "عدي بن ربيعة أخا مهلهل"، وهو لا يعرفه. فقال له: دلني على عدي. فقال له عدي: إن دلتك عليه فأنا آمن? فأعطاه ذلك. فقال له: فأنا عدي. فخلىّ سبيله.

ومن أوفياء العرب "عوف بن محلم الشيباني"، وهو من مشاهير سادات العرب. وكان من وفائه ان "مروان بن زنباع العبسي" كان قد وتر "عمرو بن هند"، فجعل على نفسه إلا يؤمنه حتى يضع يده في يده. وان "مروان" غزا "بكر بن وائل" فأسر، ولم يكن آسره منيعاً، فطلب من أم آسره إن توصله إلى "عوف بن مسلم"، ولها منه مئة بعير، فحمل إلى "عوف"، ولاذ بقبته، وبلغ "عمرو بن هند" مكانه، فبعث يطلبه، فأبى عوف إن يسلمه إلا إن يؤمنه. ثم أخذه عوف إلى "عمرو بن هند"، وجعل يده بين يد عمرو ويد مروان، وأصلح بينهما، فعفا "عمرو" عنه وآمن مروان. فقال عمرو: "لا حر بوادي عوف" فذهبت مثلاً.

وعدّ "مروان بن زنباع" من أوفياء العرب، لأنه وفى بعهده الذي أعطاه لأم آسره، وكان قد أعطاه عوداً التقطه من الأرض ليكون رمز وفائه، على إن توصله إلى "محلم" فلما أوصلته دفع إليها المئة بعير، كما تعهد لها بذلك.

وضرب المثل بوفاء "عمير بن سلمى الحنفي"، وله قصة في الوفاء تشبه قصة "أوفى بن مطر المازني". ذكروا إن من وفائه ان رجلاً من "بني عامر بن كلاب" استجار. بعمير وكانت معه امرأة جميلة. فرآها "قرين بن سلمى الحنفي" أخو عمير، وصار يتحدث إليها حتى بلغ ذلك زوجها، فنهاها. فخافته فانتهت. فلما رأى "قرين" ذلك وثب على زوجها، فقتله. و عمير غائب، فأتى أخو المقتول قبر "سلمى" فعاذ به. فقدم "عمير بن سلمى"، فأخذ أخاه. وبلغ وجوه "بني حنيفة" الخبر، فأتوه فكلموه، فأبى إلا إن يقتله أو،يعفو عنه جاره، وأبى أخو المقتول أخذ دية أخيه القتيل ولو ضوعفت، فأخذ.عندئذ "عمير" أخاه وقتله لغدره بجاره.

ومن الأوفياء "أبو حنبل: جارية بن مرّ الطائي ثم الحنبلي". وكان من وفائه إن "امرئ القيس بن حجر الكندي"، كان جاراً "لعامر بن جوين الطائي" فَقَبَّل "عامر" امرأة "امرئ القيس"، فأعلمته ذلك فارتحل إلى "جارية" ليستجير به. فلم يجده، ووجد ابناً له أجاره، فلما جاء "جارية" ورأى كثرة أموال "امرئ القيس" طمع فيها، وعزم على الغدر ب "امرئ القيس"، ثم فكر في أمره ورأى إن الغدر عار، فعقد له جواره، ثم أخذه إلى "عامر بن جوين"، فقال لامرئ القيس: قَبّل امرأته كما قبل امرأتك. ففعل.

ومنهم "المعلى الطائي"، أحد "بني تيم" من جديلة. وهم "مصابيح الظلام". وكان "المنذر" يطلب امرئ القيس، فلجأ إلى "المعلى" فأجاره، وبلغ المنذر مكان "امرئ القيس" فركب حتى أتى منزل المعلى، ولم يكن المعلى موجوداً، وأبى ابنه تسليم امرئ القيس إلى المنذر ومنعوه.

ومن الأوفياء "عصيمة بن خالد بن سنان بن منقر"، وكان "النعمان" قد غضب على "بني عامر بن صعصعة"، فقتل منهم ناساً وشردهم، فالجأهم "عصيمة" وأجارهم. فبعث إليه النعمان: "ابعث اليّ بعبيدي" فأبى ونادى في قومه شعاره "كوثر"، وأقبل "النعمان" فأهبرى "عصيمة" بالرمح إلى معرفة فرسه، ورجع الملك خائباً. ثم كسا "عصيمة" "بني عامر" وبلّغهم مأمنهم.

وقد عدّ الوفاء محمدة وواجباً، ولأجل توكيد الوفاء وترسيخه، كانوا يضعون رهناً، قد يكون ثميناً مثل أبناء سادات القبائل ، يقدمونهم رهينة لدى، الملوك ضماناً لهم في مقابل وفائهم بما تعهدوا للملك وبما عاهدوه عليه من شروط، وقد يكون شيئاً لا قيمة كبيرة له من الوجهة المادية، مثل رهن قوس، أو سهم، أو التقاط عود من الأرض و إيداعها رهناً بالوفاء، كما مرّ معنا في قصعة "مروان ابن زنباع العبسي" مع "عوف بن محلم الشيباني."، أو في مقابل إعطاء كلمة بالوفاء، كما في قصة "الحارث بن عباد"، أو الوفاء بسبب استجارة إنسان بقبر، كما في قصة وفاء "عمير بن سلمى الحنفي".

العرض

وعرض الرجل نفسه وبدنه، وقيل العرض: موضع المدح والذم من الإنسان سواء كان في نفسه أو سلفه أو من يلزمه أمره. وقيل أيضاً: هو جانبه الذي يصونه من نفسه وحسبه و يحامي عنه إن ينتقص ويثلب. وذكر أيضاً إن العرض: عرض الإنسان، ذم أو مدح. ويحرص الجاهليّ على إلا يمس بسوء. و إذا تحرش أحدهم به، أو شعر إن شخصا أراد الانتقاص منه. ولو بتلميح أو بإشارة أو بغمز ثار وهاج مدافعاً عن نفسه وعرضه، لأن عرض الإنسان أشرف شيء بالنسبة له في هذه الحياة.

ومن العرض صيانة أعراض الناس، لأن من ينتهك عرض غيره، ينتهك الناس عرضه ويعرض نفسه وماله وأهله للتهلكة. فقد لا يصبر شخص أهينت كرامته على هذه الإهانة فينتقم ممن تعرض به شرّ انتقام. إن لم يتمكن هو بنفسه، ساعده في أخذ حقه أهل عصبته ورجال قبيلته، حتى يثأر لنفسه ممن تعرض لعرضه بسوء.

ونجد في الشعر الجاهلي تبجحاً بالنفس و إشادة في الدفاع عن العرض، وتهديداً و وعيداً لمن يحاول النيل منه بأي سوء. وهو كلام يحمل حساد المتبجح بنفسه على الردّ عليه وعلى الطعن فيما قاله. وبذلك تتولد خصومة قد تطول وتكر وتودي إلى سقوط قتلى كانوا في غنى عنها لولا هذه الحمية الجاهلية القائمة على التفاخر و التباهي والزهو والحمق.

الحرية

والعربي مجبول على الحرية، وهو لا يطيق الخضوع لأحد غير قبيلته على إن لا يؤثر ذلك في حريته الشخصية، وقد أعجب "هيرودوتس" وغيره من كتبة اليونان والرومان بحب العرب للحرية ولمقاومتهم للاسترقاق، فذكروا انهم كانوا الشعب الوحيد من بين الشعوب الآسيوية الذي لم بخضع لحكم الفرس، فلم يتمكن ملوك الفهرس من استعبادهم، وانما اضطروا إلى معاملتهم معاملة أصدقاء حلفاء، فقاموا لهم بخدمات جليلة سهلت لهم فتح مصر، ولو كان العرب حرباً على الفرس لما تمكنوا قط من حملتهم على مصر.

والعربي من هذه الناحية شديد التعلق بالحرية، والأعرابي يشعر، وهو في الحضر بين سكان القرى أو المدن، انه في سجن لا يطاق لكثرة القيود التي تقتضيها عادات المتحضرين، ويسعى للعودة إلى وطنه حيث ينطلق حراً كما يشاء. والقبائل تشعر هذا الشعور نفسه، فهي تعيش متمتعة بأعظم قسط من الحرية، لا تضحي بها، إلا لمقتضيات المحافظة على الحياة حيث ترتبط بواجبات التحالف مع القبائل الأخرى للدفاع عن النفس وضمان ضروريات الحياة.

ولما كان لكل شيء حد ونهاية، غدت هذه الحرية أنانية شديدة، وفردية مطلقة حالت دون تعاون الأفراد، ومنعت من مساعدة القبائل بعضا بعضاً مع وجود،خطر أجنبي داهم، وحالت دون تكون المجتمعات الكبرى وهي الحكومات، واقتصرت التنظيمات السياسية على القبائل، وأصبحت العصبية للقبيلة تعني القومية. وزاد في حدة هذه الأنانية القبلية اعتقادهم بالرابطة الدموية التي تربط الأسر بالعشائر، والعشائر بالقبائل، وإرجاع ذلك إلى الأنساب فلا تتعصب القبائل إلا لتلك القبائل التي تعتقد إنها وإياها من شجرة واحدة وأصل واحد.

إن الحياة الصحراوية التي طبعت أصحابها بطابع الإفراط في حب الحرية الفردية، قد آثرت كثيراً في الحياة السياسية و التفكير السياسي في بلاد العرب، فاقتصرت الأفعال السياسية على أفعال القبيلة، وتراجع الفرد بل الآهل والعشيرة تجاه القبيلة، وأثرت في أشكال الحكومات التي تكونت في الأماكن الخصبة وبين المتحضرين، فجعلت منها اتحاداً مع قبائل جمعت بينها مصالح متشابهة ومنافع مشتركة. فإذا ما شعرت بزوال مصلحتها أو إن من مصلحتها الانفصال عن هذا الاتحاد فلا تتوانى عن تنفيذ رغباتها وتحقيقها بالقوة. ولهذا نجد القبائل تهيج وتثور على الحكومات التي تخضع لها، وتدين بالولاء لها، لأسباب تافهة منبعها ومبعثها هذه الأنانية الضيقة التي تدفع سادات القبائل إلى الانفصال والخروج من عبودية الخضوع لحاكم، عليهم تقديم واجب الإخلاص والطاعة له. حاكم يرون انه لا يمتاز عنهم. بشيء، بل يرى كل واحد منهم لأنانيته انه أولى منه بالحكم وبتسلم القيادة، وان من حقه الخروج عن طاعته إن وجد ظروفاً ملائمة متهيئة للانفصال عنه. فلما وجدت القبائل التي خضت لحكم "ملوك كندة" ضعفاً في إلاسرة الكندية الحاكمة، ثارت عليها، وقتلت منهم من قتلت، وطردت من طردت، وكوّن سادات القبائل إمارات عديدة، حلت محل مملكة كندة. ولما كان سادات القبائل يجدون ضعفاً في العلاقات بين ملوك الحيرة والفرس، وبين ملوك الغساسنة وبين الروم، كانوا يسارعون إلى الاتصال بالفرس وبالروم لتنصيبهم مكان ملوك الحيرة وملوك الغساسنة، لا يرون في هذا العمل أي شين أو بأس.

ويصعب في الحقيقة التوفيق بين الفكرة القبلية الضيقة والفكرة القومية التي تسمو فوق القبائل، فالفكرة القبلية لا تعترف بوجود قومية غير قومية القبيلة، ولا ترى وجود وطن غير الوطن الذي تنزل فيه القبيلة فإذا ارتحلت عنه، وحلت في ارض أخرى أصبحت هذه الأرض وطن القبيلة الجديد، الذي يجب أن يدافع عنه. وأما الأوطان الأخرى، ومنها وطن القبيلة السابق، فليست بأوطانها. و من هنا كان بون شاسع بين هذه الفكرة الوطنية الضيقة، وبين الفكرة القومية التي تدين بعقيدة الأيمان بالقوم أي الجنس الذي هو فوق القبائل والأمكنة، وبالوطن العام الذي يشكل الأرضيين التي يستوطنها ذلك الجنس.

وقد جابهت الحكومات العربية في الجاهلية ثم في الإسلام متاعب كثيرة من الروح القبلية العنيفة، ومن الفردية المتطرفة، فكانت هذه من أهم عوامل هد المجتمعات السياسية الكبرى في بلاد العرب، وكانت من اعنف أعداء القومية العربية، لا في الجاهلية حسب، بل في الجاهلية وفي الإسلام كذلك.

فأهم ما يعوز العرب في الجاهلية الشعور بفكرة "الأمة"، التي تسمو فوق القوميات القبلية، وفوق الإقليميات الضيقة التي هي أيضاً صفحة من صفحات الأنانية. والشعور بلزوم الحد من الفردية الجامحة التي لا تعترف بحرياّت الآخرين، وبضرورة إطاعة المجتمع في سبيل المصلحة العامة، و إخضاع إرادة الحاكمين لمصلحة حكم الجماعة، والتحديد من أنانيتهم المفرطة ومن البت في أمور الرعية، وكأن الرعية سَواد من ماشية، عليها إطاعة سوط الحاكم وأوامره، دون إن يكون لها سق في إبداء الرأي. فان غلطة الاستبداد بالرأي تؤدي إلى أسوأ العواقب، غير أن الحرية المفرطة، أو الأنانية الشديدة بتعبير أصح، التي كادت تجعل المجتمع فوضى، ضبطتها من ناحية أخرى قوة كبحت جماعها، وحدت من حريتها، وأجبرتها على التقيد بقيود، وعدم التحرك إلا بحد وحسود هي سنة وجوب إطاعة أوامر المجتمع، والاستجابة لنداء الجماعة، و لأحكام رؤساء الأحياء والبطون والأفخاذ، والصيحات التي تصرخها القبيلة أو فروعها لتنادي بنداء، "العصبية". و إلا عدّ الخارج على نداء الجماعة والمخالف لقرار رؤساء الأسرة أو الحي أو القبيلة خارجاً على القانون وعلى العصبية فاستحق بذلك واجب خلعه من عصبية القبيلة له وطرده من قومه. وهو اشد عقاب يفرض على مخالف ما. عقاب: الخلع.

الخلع

ويبقى الفرد متمتعاً بعطف قبيلته عليه، وبحمايتها له ما دام قائماً بواجباته المترتبة عليه، شاعراً بعظم التبعة. فإذا أجرم، أو عمل عملاً ينافي شرفه أو شرف قبيلته، واستمر في غيّه لا يسمع نصائح أهله وعشيرته، كاسراً أعراف آله وقبيلته، فقد عصبية أهله وقبيلته له، وهام على وجهه طريداً يلتمس مجاورة رجل من عشيرة أو قبيلة أخرى قريبة من موطنه أو بعيدة عنه. وتكون هذه. الفترة من حياة الإنسان شرّ فترة في حياته، ولا يهدأ للطريد بال إلا إذا وجد له حليفاً أو جاراً يتعهد له بحمايته وببذل "العصبية" له، وبالدفاع عنه.

ويقال للرجل الذي تغضب عليه قبيلته وتحرمه عطفها وعصبيتها له "الخليع"، ويقال ذلك لمن يخلعه أهله أيضاً. وقد يقال له "الرجل اللعين" و "اللعين". واللعين هو المطرود "، ولذلك يقال له "الطريد"، إلى غيرها من مصطلحات.

وربما خلعوا الرجل من القبيلة ولو كان من صميمها، ويسقط عن أهله وقبيلته كل واجب يترتب عليهم أو عليها إذا عمل عملا يستوجب خلعه، كما تسقط عن القبائل التي قد تتعرض للخليع بشرّ كل تبعة تقع عليها من الاعتداء عليه، لخلع أهله أو قبيلته له، وتبرّئهم أو تبرئها منه، فلا يطالبون بثأر.

ولا بد من إعلان خلع أقل "الخليع" أو خلع قبيلته له وترثها منه، ليكون ذلك معلوماً عند أفراد قبيلته أو القبائل الاخرى، فتسقط العصبية عندئذ عن "الخليع" عند إعلان قرار الخلغ، والا بقيت في رقبة أولياء أمره "وقبيلته، وذلك كأن يعلن الأب في المواضع العامة وفي المواسم انه خلع ابنه، بأن يقول: إلا، أني قد خلعت ابني هذا، فان جَرَّ لم اضمن، وإن جر عليه لم اطلب. أو يعلن قومه: إنما خلعنا فلاناً، فلا نأخذ أحداً بجناية تجنى عليه، ولا نؤخذ بجناياته التي يجنيها.

وقد كان الحج من المواسم المناسبة لإعلان خلع الخلعاء، وكذلك كانت مواسم الأسواق كسوق عكاظ. فهي مواسم تجمع، ينادي فيها. المنادي يخلع من براد خلعه. وكان أقل مكة يكلفون منادياً بالطواف بالأحياء، ينادي بأعلى. صوته عن خلع الخليع. وقد يكتبون كتاباً يحفظونه عندهم أو يعلقونه في محلّ عام ليقف عليه الناس.

وقد عاش الخلعاء عيشة صعبة، لا أحد يساعدهم أو يؤويهم خشية إن ينزل بهم أذى، أو يترتب على قبول جوارهم تبعة تجاه من يقتص آثارهم طلباً للثأر منهم. ولذلك تكتل الصعاليك أحياناً وكوّنوا عصابات تغزو وتغير وتقطع الطريق. وكان. الشاعر "عروة بن الورد" وهو منهم يجمع حوله الصعاليك والفقراء في حظيرة. ويغزو بهم ويرزقهم مما يغنمه، ولذلك سُميّ "عروة الصعاليك". ذكر أنه كان إذا شكا إليه فتى من فتيان قومه الفقر، أعطاه فرساً ورمحاً، وقال له: إن لم تستغن بهما فلا أغناك الله.

والصعلوك الفقر الذي لا مالَ له. ومن الصعاليك "السليك بن سلكة" الشاعر العدّاء. وهو من العدّائين الذين ضرب بهم المثل في العدو. وكان "حاجز بن عوف بن الحرث"، و هو شاعر جاهليّ مقلّ، أحد الصعاليك العدّائين. كان يعدو على رجليه عدواً يسبق به الخيل. وكان يغير على قبائل العرب. وكان "قيس بن الحدادية" من الشعراء الصعاليك الفاتكين الشجعان. خلعته خزاعة بسوق عكاظ، وأشهدت على نفسها بخلعها اياه، فلا تحتمل جريرة له، ولا تطالب بجريرة جمرها أحد عليه.

ومن بقية الصعاليك "الشنفرى" و "تأبط شرّاً". غير إن اعرفهم وأشهرهم

وحامل لواء الصعلكة فيهم، هر "عروة بن الورد"، الذي نصب نفسه سيّداً على الصعاليك. فكان يجمعهم ويشركهم فيما يغنمه ويرزقهم من رزقه. ويبذل جهده لمواساتهم. فاجتمع حوله صعاليك "عبس"، وهو منهم واتخذ لهم حظائر آووا إليها، ولهذا نعت ب "عروة الصعاليك". قال أهل الأخبار: إنما قيل له عروة الصعاليك مع أنه عروة بن الورد، لأنه كان يجمع الفقراء في حظيرة، فيرزقهم بما يغنمه. فعروة لم يكن فقيراً محتاجاً معدماً، كما يفهم من لفظة "صعلوك". لقد كان في وسعه إن يجمع مالا مما كان يغنمه من غاراته على العرب، فيكون حسن الحال غنيا. لكنه فضل الصعلكة على اكتناز المال، ورجحّ إشراك الفقراء فيما يغنمه على جمعه له و استئثاره له وحده، لأن له مروءة تأبى عليه إن ينام شبعاناً وجاره فقير جائع. فكان ينفق ما يغنمه على المحتاجين فهو صاحب مذهب إنساني أحس بالألم، وأدرك ما أصابه يوم خلعه أهله من شدة و ضنك، فأراد إن يخفف من آلام أمثاله ممن خلعهم مجتمعهم لعدم وقوفه على أسباب خروجهم عليه. فصار بذلك نصير الصعاليك. ولقد ذكره "عبد الملك ابن مروان"، فقال: "ما كنت احب إن أحداً ولدني من العرب إلا عروة بن الورد". فعروة صعلوك فلسف، الصعلكة بأن جعلها مثلاً من مُثل الحياة، بينما كانت تعني فقراً مدقعاً و جوعا قتالاً و هياماً على وجه الأرض للاستجداء.

وقد كوّن الصعاليك عصابات تنقلت من مكان إلى مكان تسلب المارة و تغير على أحياء العرب، لترزق نفسها و من يأوي اليها. أنضم اليها الصعاليك من مختلف القبائل. و لكون أكثر الصعاليك من الشبان الطائشين الخارجين على أعراف قومهم، و من الذين لا يبالون و لا يخشون أحداً، صاروا قوة خشي منها، و حسب لها حسابٌ. خاصة و فيها شعراء فحول، يحسنون الهجاء و يتقنون فن ثلب الأعراض، و فيها مقاتلون شجعان لا يعبأون بالموت، يفتكون بمن يريدون الفتك به. و خافهم الناس و امتنعوا جهد إمكانهم من التحرش بهم و معاداتهم، و منهم من قبل جوار الصعاليك ورد عنهم و أحسن إليهم فأستفاد منهم و استفادوا منه.

وقد كان العرب ينفون الخلعاء إلى أماكن معينة مثل "حَضَوْضى"، و هو جبل في الجزيرة العربية كان الناس في الجاهلية ينفون إليه خلعاءها. و قيل جبل في البحر أو جزيرة فيه، كانت العرب تنفي إليه خلعاءها.

الفصل السادس و الأربعون

أنساب القبائل

تحدثت في مواضع متعددة من هذا الكتاب عن تقسيم القبائل العربية المألوف عند الأخباريين. أما الحديث في هذا الفصل، فهو عن أثر القبائل العربية في الجاهلية المتصلة بالإسلام. وبعبارة أخرى القبائل العربية التي كانت في القرن السادس للميلاد. ويضيق بنا هذا الفصل لو أردنا الكلام على جميع القبائل وبطونها وأفخاذها وعمائرها، لذلك سأكتفي في هذا الفصل بذكر القبائل الكبرى و بالإشارة إلى بطونها إن كانت مهمة. وفي كتب الأخباريين والمؤلفات المدونة في الأنساب الكفاية لمن طلب المزيد.

والتصنيف المألوف للقبائل هو حاصل عرف جرى عليه النَسّابون، ولا نعرف تدويناً لأهل الجاهلية للأنساب، إنما نعرف إن أول تدوين رسمي كان هو التدوين الذي تم في زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، حيث ظهرت الحاجة إلى التسجيل، فسجلت. ولم تصل ويا للأسف سجلات ذلك الديوان إلينا، ولم يصرح أحد من النسابين انه أخذ مادة أنسابه من تلك السجلات. و إنما الذي بين أيدينا هو خلاصة وجهة نظر النسابين في أنساب القبائل، وعلى هذا التقسيم اعتمد المعنيّون بهذا الموضوع.

و إذا غضضنا الطرف عن التصنيف المتبع في حصر أنساب العرب كلها في أصلين أساسيين قحطان وعدنان، فاننا نرى القبائل كما يفهم من روايات الأخباريين كتلاً، ترجع كل كتلة منها نسبها إلى جدّ قديم تزعم إن قبائلها انحدرت من صلبه. وقد تحدثت مراراً عن طبيعة هؤلاء الأجداد.

ومن هذه الكتل التي كانت عند ظهور الإسلام، كتلة حمير، وكتلة كهلان، وكتلة قضاعة، وكتلة مضر، وكتلة ربيعة. وكل كتلة مجموعة قبائل كبيرة، ترجع في عصبيتها إلى تلك الكتلة.

أما حمير، فقد تحدثت عنها سابقاً، وأشرت إلى ورود اسمها لدى بعض الكتبة الكلاسيكيين مثل "سترابون" والمؤرخ "بلينيوس" وذلك في أثناء كلامه

على حملة "أوليوس غالوس" حيث عدّها من أشهر القبائل العربية التي كانت في اليمن إذ ذاك، كما أشرت إلى ورود اسمها في نصوص المسند التي يعود تأريخها إلى ما بعد الميلاد، وهو اسم أرض معينة واسم شعب. أما الذي نفهمه من الأخباريين، فهو إن حمير اسم واسع يشمل قبائل قحطان عند ظهور الإسلام. وقد يكون مرد ذلك إلى ظهور هذه القبيلة في هذا الزمن وبروزها في هذا العهد في اليمن، فانتمى إليها كثير من القبائل على العادة الجارية في الانتماء إلى المشاهير.

ويرجع النسابون نسب حمير إلى حمير بن سبأ الأكبر بن يشجب بن يعرب، ويقولون إن اسمه "العرنج" "العرنجج"، وهو في نظرهم والد جملة أولاد، جعلهم بعضهم شعة، هم: الهميسع، ومالك، وزيد، وعريب، ووائل و "مشروح" مسروح، ومعد يكرب، وأوس، ومرة. وجعلهم بعض آخر أقل من ذلك، أو أكثر عدداً.

و هم أنفسهم أجداد قبائل حمير. ومن نسل هؤلاء: بنو مرة، وهم في حضرموت، والأملوك، و بنو خيران، وذو رعن، و بنو هوزن، و الأوزاع، وبنو شعبان، وبنو عبد شمس، وبنو شرعب، وزيد الجمهور. وبنو الصوّار، و أكثر قبائل حمير منهم. وقد كان الملك فيهم وبقي إلى مبعث الرسول. ومنهم الحارث الرائش الذي غزا - على زعم الأخبارين - الأعاجم والروم، وعرف ب "ملك الأملاك"، وحملت إليه الهدايا من أرض الصين وبلاد الترك والهند، وملك الأرض بأسرها، و أدت إليه جميع الناس الخراج. وقد جعلوا مدة حكمه خمسا وعشرين و مئة سنة، وهي مدة لا أدري كيف اكتفى بها أصحاب الأخبار الذين اعتادوا منح العمر الطويل لملوك هم أقل شأناً ودرجة بكثير من هذا الملك المظفر السعيد.

ويظهر لنا من تدقيق منازل القبائل والبطون المنسوبة إلى حمير، إنها كانت في العربية الجنوبية، و إنها بقيت في مواضعها على الغالب في الإسلام. بينما نجد قبائل "كهلان" وبطونها، وهي فرع سبأ الثاني وقد سكنت في مواضع بعيدة عن اليمن. وهي قبائل ضخمة. اضخم من قبائل حمير. ثم إنها كانت تتكلم بلهجة قريبة من لهجة القرآن الكريم في الإسلام. أما بطون حمير، فقد كانت تتكلم بلغة ركيكة رديئة غير فصيحة بعيدة عن العربية على حدِّ تعبير الأخباريين، ويظهر إن هذا التباين كان عاملاً مهما في تمييز حمير عن غيرها وفي حشر البطون في جذم حمير. فمن حافظ على لهجته القديمة، وبقي يستعملها، عدّ في هذا الجذم. ولم محافظ على هذه اللهجات إلا الذين بقوا في أماكنهم وفي مواضعهم، ولم يختلطوا بالقبائل الأخرى التي تأثرت لهجتها بلهجة القرآن الكريم.

وحمير عند الأخباريين أبو الملوك التبابعة والاذواء والأقيال، و هو شقيق كهلان أبي الملوك من الأزد من بني جفنة ومن لخم. ويلاحظ انهم قد حصروا حكم اليمن والقبائل القحطانية المقيمة بها في حمير، على حين جعلوا الملك على عرب الشام وعرب العراق ويثرب في أيدي المنتسبين إلى كهلان، أي انهم خصوا الحكم في خارج اليمن بايدي إخوة حمير، فوزعوا الملك في اليمن وفي خارجها بين الأخوين.و حمير في عرفهم هو الابن الأكبر لسبأ، فلعل هذا الكبر هو الذي شفع له إن يكون الوارث لليمن، والحاكم على قبائل قحطان و عدنان فيها. وأخذ مكانة الأب بعد موته والجلوس على عرشه، ميزة لا ينالها إلا الابن البكر، وقد ملك حمير بعد أبيه على حدّ قولهم أكثر من مئة عام.

ويذكر قوم من الأخباريين إن حكم حمير كان للملوك منها، ثم للاقيال. وللقيل هو الذي يخلف الملك في مجلسه، فيجلس في مكانه، ويحكم فلا يرد حكمه. ومن هؤلاء الأقيال على زعممهم المثامنة، "وهم ثمانية رجال كانوا من حمير، وكانوا ملوكاً على قومهم، وهم من تحت أيدي ملوك حمير، وأولادهم قبائل من حمير، ويسمون المثامنة. وكان من شأنهم لا يتملك ملك من حمير إلا بإرادتهم، وان اجتمعوا على عزله عزلوه. وهم: يزن، وسحر، وثعلبان الأكبر، ومرة ذو عثكلان. هؤلاء من أولاد سبأ الأصغر. ومقار بن مالك من أولاد حمير الأصغر، وعلقمة ذو جدن، وذو صرواح".

ويلي الأقيال في الحكم الأذواء، وهم كثرون منهم: ذو فيفان، وذو يهر، وذو يزن، وذو اصبح، وذو الشعبين، وذو حوال، وذو مناخ، وذو يحضب، وذو قينان.

ولما أعاد "عمر بن يوسف بن رسول" مؤلف كتاب "طرفة الأصحاب في

معرفة الأنساب" المتوفى سنة ست وتسعين وستمائة، وهو نفسه ملك من ملوك اليمن، الحديث عن المثامنة، ذكر انهم ثمانية أقيال استقاموا بعد سيف بن ذي يزن، وهم: آل ذي مناخ، وآل ذي يزن، وآل ذي خليل، وآل ذي مقار، وآل ذي عثكلان ؛ وآل ذي ثعلبان، وآل ذي معافر، وآل ذي جدن. وأعظهم آل ذي يزن لخؤولة أسعد الكامل. وهكذا نجده يرجع تأريخ ظهورهم إلى ما بعد أيام سيف بن ذي يزن، ثم يرجعها إلى ما قبل ذلك، ويغير في الأسماء ويبدل. ولكن علينا إن نعلم إن الأخباريين لا يعرفون التواريخ على وجه صحيح مضبوط، ثم انهم يخلقون من الرجل جملة رجال، فخلقوا من أبرهة مثلاً، وقد عرفنا زمانه، جملة أبرهات، وَزَّعوا أيامها في أزمان تبدأ عندهم قبل أيام سليمان بن داوود وتنتهي بأبرهة الحقيقي حاكم اليمن يعد الميلاد. فلا غرابة إن ذكروا أكثر من سيف بن ذي يزن ورجعوا بتاريخ أيامه إلى الوراء.

وكثر من أسماء البطون والقبائل التي يرجع النسابون نسبها إلى حمير، هي أسماء وردت في نصوص المسند، ومنها أسماء قبائل وبطون حقاً، ولكنها ليست بالطبع على" الشكل الذي يراه الأخباريون، و لا من حمير بال ضرورة. هي أسماء أقوام ولكنها خالية من الآباء والأجداد. أما الآباء و الأجداد، فهي من مولدات المتأخرين منهم، وأغلب ظني إنها من المستحدثات التي ظهرت في الجاهلية المتصلة بالإسلام وفي الإسلام. وقد ذكر الأخباريون أسماء عدد كبير من البطون والقبائل المنتمية إلى حمير، كان لها شأن كبير في تأريخ اليمن في الإسلام. أما في خارجها، فقد أعطى الأخباريون الأدواء الكرى لأبناء كهلان.

وأما "قضاعة" فللنسابين في أصلها آراء، منهم من أرجع نسبها إلى حمير، فجعل نسبها قضاعة بن مالك بن عمرو بنُ مرةّ بن زيد بن حمير. ومنهم من نسبها إلى معد"، فجعل قضاعة الابن البكر لمعدّ، ومنهم من صيرها جذماً مستقلاً مثل جذم قحطان و عدنان. ومرد هذا الاختلاف إلى عوامل سياسية أثرت تأثراً كبيراً في تصنيف الأنساب، ولا سيما في أيام معاوية وابنه يزيد، اللذين بذلا أموالاً جسيمة لرؤساء قضاعة في سبيل حملهم على الانتفاء من اليمن والانتساب إلى معدّ، لكنونها قوة كبيرة في بلاد الشام في ذلك العهد، ولا سيما إن منهم بني كلب، فذكر إن زعماءها وافقوا تجاه هذه المغريات على الانتساب إلى معدّ، غير إن الأكثرية رفضت ذلك، وأبت إلا الانتساب إلى قحطان. ويرى بعض النسابين والمستشرقين إن انتساب قضاعة إلى يمن غير قديم. "قال أبو جعفر بن حبيب النَسّابة: لم تزل قضاعة في الجاهلية والإسلام،. تعرف بمعدّ حتى كانت الفتنة بالشام بين كلب وقيس عيلان أيام مروان بن الحكم. فمالت كلب يومئذ إلى اليمن، فانتمت إلى حمير، استظهاراً منهم بهم إلى قيس. وذكر ابن الأثير في الأنساب هذا الاختلاف، ثم قال: ولهذا قال محمد بن سلام البصري النَسّابة لما سئل: أنزار أكثر أم اليمن? فقال: إن تمعددت قضاعة، فنزار أكثر، وان تيمنت، فاليمن". والظاهر إن اختلاط قبائل قضاعة بقبائل قحطان وبقبائل عدنان هو الذي أحدث هذا الارتباك بين أهل الأنساب، فجعلهم ينسبونها تارة إلى قحطان، وأخرى إلى عدنان. تضاف إلى ذلك العوامل السياسية التي يغفل عن إدراكها أهل الأخبار.

ولا استبعد كون قضاعة كتلة من القبائل كانت قائمة بنفسها. قبل الإسلام. ربما كانت حلفاً كبيراً في الأصل، ثم تجزأت وتشتتت، فالتحق قسم منها بمعد، وقسم منها باليمن.

وقد صرح بعض النساّبين المعروفين إن العرب ثلاث جراثيم: نزار، واليمن و قضاعة. فجعل قضاعة جذماً قائماً بذاته مما يشير إلى أهميتها قبل الإسلام وفي الإسلام، خاصةً إذا ما تذكرنا مكانة القبائل المنتمية إليها وأثرها الكبير في السياسة في الجاهلية وبعدها. ولما للنسب من أثر خطير في الميزان السياسي لذلك العهد، خاصة في أيام معاوية وفي دور الفتن التي وقعت في صدر دولة الأمويين، ولثقل هذه الكتلة، كان من المهم لمعاوية اجتذابها إليه، وضمها إلى معدّ وهو منها، لتقوية هذا الحزب.

وكان قضاعة جد القضاعيين الأكبر على رواية أهل الأخبار، مثل سائر أبناء سبأ، مقيماً في اليمن أرض آبائه وأجداده. ولكنه تشاجر مع وائل بن حمير، وتخاصم معه وآثر الهجرة إلى الشَّحر، فذهب إليها، وأقام في هذه الأرض مع أبنائه، وصار ملكاً عليها إلى إن توفي بها، فقبر هناك فصار الملك لابنه "الحاف" "الحافي"، وهو في زعم الأخباريين والد ثلاثة أولاد، هم: عمرو، وعمران، وأسلم. ومن نسل هؤلاء تفرعت قبائل قضاعة. وأما أمهم، فبنت غافق بن الشاهد بن عك. فكان من صلب عمرو: حيدان: وبليّ، وبهراء. وكان من عمران ابنه حلوان، وأمه ضرية بنت ربيعة بن نزار بن معدّ. فولد حلوان: تغلب، وربان، ومزاحا وعمرا وهو سليح، وعابداً وعائذا وقد دخلا في غسان، وتزيد وقد دخل نسله في تنوخ. وكان من نسل اسلم: سد هذيم، وجهينة، ونهد.

وجعل من رجعّ نسب قضاعة إلى معد، الأرض التي أقام فيها قضاعة وأبناؤه جُدّة وما دونها إلى منتهى ذات عرق، إلى حيز الحرم، من السهل والجبل. وبجُدّة ولد جُدّة بن جرم بن ربان بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة وبها سُميّ على قول أصحاب الأخبار.

أما حيدان، فتنسب إلى حيدان بن عمرو بن الحاف، والد مهرة في نظر النسابين، فهو جدّ قبيلة عربية جنوبية على هذا الرأي، وما زال اسم مهرة معروفاً حتى ألان. ولمهرة لغة خاصة، عني بدراستها المستشرقون. وهم من القبائل العربية القديمة التي ورد ذكرها في مؤلفات "الكلاسيكيين". وقد علل بعض العلماء القدماء بعد لغة جمهرة عن العربية بقوله: "مهرة انقطعوا بالشحَّر، فبقيت لغتهم الأولى الحميرية لهم، يتكلمون بها إلى هذا اليوم". وذكر ابن حزم لحيدان أولاداً آخرين، هم يزيد، وعُريب، وعربد، وجنادة.

ويظهر من روايات النسابين إن بطون حيدان لم تكن كثيرة، وان مواطنها لم تتجاوز العربية الجنوبيةَ، وإنها كانت تتكلم بلهجات العربية الجنوبية القديمة، وحافظت عليها في الإسلام. فهي مثل بطون حمير، تختلف في لهجتها عن القبائل الأخرى التي تكلمت بلهجة مقاربة من اللهجة العربية الفصحى. إذن فما الرابط الذي جعل النسابين يرجعون نسب قبائل حيدان إلى قضاعة مع هذا الاختلاف البين في اللهجات? ومع سكناها في محل قاص ناءٍ عند الساحل الجنوبي للجزيرة? اللهم إلا إن تكون كل فروع قضاعة على هذا الطراز من اللهجات، وهذا أمر لم يتحدث عنه الأخباريون ولم يعرفوه.

وأما بليّ، فقد كانت مواطنهم عند ظهور الإسلام على مقربة من تيماء بين مواطن جهينة وجُذام، أبمب في المنطقة التي كانت لثمود في جغرافية "بطلميوس". ومن بليّ، بنو فرّان وهني.

ولم يذكر الأخباريون بطوناً ضخمة عديدة لبهراء، ويظهر إنها لم تكن من القبائل الكثيرة العدد. ومن بطونها: قاسط، وعبدة، وأهود "أهوذ"، ومبشر، وبنو هنب بن القين، وبنو فائش "بنو قاس"، و شبيب ابني دريم، و مطرود، وثمامة، و عكرمة، و ثعلبة، و دهز، وسعد.

وأما عمران بن الحاف "الحافي". فولد حلوان، وقد ولد هذا جملة أولاد هم: تغلب، وربان وهو علاف، ومزاح، وعمرو ? وهي سليح، وعابد، وعائذ، وهم أجداد قبائل، كما ذكرت ذلك آنفاً.

ومن بني سليح: حماطة، وهم ضجعم بن سعد بن سليح، وهم الضجاعمة الذين ملكوا بالشام قبل غسان. وبنو سليح هم أسلاف الغساسنة كذلك، وهم في نظر النسابين أبناء: سليح بن حلوان بن عمران بن الحاف. ونسبت إلى سليح بطون أخرى منها: أشجع وعمرو والأبصر والعبيد،.

ومن نسل "ربان" "زبان"، قبيلة "جرم"، ومن ولد جرم: قدامة، وملكان، وناجية، وجدّة. ومن جرم كان "عصام" حاجب النعمان. ومن بطون جرم الأخرى: بنو راسب، وبنو شمخ.

أما تغلب بن حلوان، فولد وبرة، وولد وبرة أسداً، والنمر وكلباً. وهي قبائل ضخمة، والبرك، والثعلب، وهما بطنان ضخمان. وولد أسد، تيم الله وشيع اللآت. فولد تيم الله بن أسد: فهم، وهم من تنوخ؛ وقسم، وهم بالجزيرة، حلفاء لبني تغلب، ومن فهم: مالك بن زهير بن عمرو بن فهم ابن تيم الله بن أسد بن وبرة. وعليه تنخت تنوخ وعلى عمّ أبيه مالك بن فهم، فتنوخ على ثلاثة أبطن: بطن اسمه فهم، وهم هؤلاء. وبطن اسمه نزار، وهم لوث، ليس نزار لهم بوالد ولا أم. ولكنهم من بطون قضاعة كلها، من بني العجلان بن الثعلب، ومن بني تيم الله بن أسد بن وبرة، ومن غيرهم؛ وبطن ثالث يقال له الأحلاف، وهم من جميع القبائل كلها، ومن كندة ولخم وجذام وعبد القيس.

ومن نسل شنيع اللآت: بنو القين. وهو النعمان بن جسر بن شيع اللآت بن أسد بن وبرة. ومن بطون بني القين، جشم "جسم"، وزعيزعة، وأنس، وثعلبة، وفالج، وبنو مالك بن كعب بن القين. وكعب وكنانة، ومالك ومعاوية. وبطون أخرى ذكرها "وستنفلد". وكان للقين جمع عظيم وثروة في أكناف الشام، فكانوا يناهضون كلب بن وبرة، ثم ضعف أمرهم ووهن حتى ما يكاد إن يعرفوا.

ومن نسل النمر بن وبرة بن تغلب: التم، وجعثمة، ووائل وهو خُشَيْن، وقتبة، وغاضرة، و "عاينة" عاتية، وبطون أخرى دخلت في قبائل عديدة، فعدت منها، مما يدل على إنها لم تكن ذات عدة وعدد، لذلك كان لا بد لها من الدخول في القبائل الأخرى والاندماج فيها، لحماية نفسها من تعديات القبائل والبطون القوية عليها.

وكلب من قبائل قضاعة الشهيرة. وتنسب إلى هذه المجموعة: تغلب بن حلوان فجدّها. في عرف النسابين كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن، الحاف بن قضاعة. و كانوا ينزلون في الجاهلية دومة الجندل و تبوك وأطراف الشام.،وقد كانت لهم لهجة خاصة لم يستعملها أحد من الشعراء. الجاهليين. ولعل ذلك بسبب اتصال هذه القبيلة بالنبط، أي ببقية بني ارم وبغيرهم ممن لم تكن لهم لهجة عربية نقية، فتأثرت لهجتها بهذا الاختلاط.

واشتهر من رجال هذه القبيلة زهير بن جناب، وهو ممن يدخله الأخباريون في المعمرين الجاهليين. وجعلوا عمره أربع مئة وعشرين سنة، ونسبوا إليه مئتي وقعة، وجعلوه سيد قومه وخطيبهم وشاعرهم ووافدهم إلى الملوك وطبيبهم وكاهنهم وفارسهم، ونسبوا إليه الأمثال والشعر، وذكروا إن من شعره قوله: ونادمت الملوك من آل عمرو  وبعدهم بني ماء السـمـاء

وأنه قاله وقد بلغ من العمر مئتي عام، فجعلوه بذلك معاصراً للمناذرة ملوك الحيرة، فيكون على قولهم هذا قد عاشر طويلاً في الإسلام. وقد أدرك هشام ابن الكلبي هذا التناقض في إحدى رواياته، فصحح عمر زهير واقتصر على مئتي عام. وهو عمر كاف ولا شك يشتاق إن يبلغه كل إنسان. ولكنه عمر استقله الأشياخ الكلبيون الذين لا يرضيهم هذا التنقيص في السن.

ولم يكن زهير رئيساً لكلب خاصة، بل كان على رأي الرواة الكلبيين رئيساً على كل قضاعة. ويذكر الأخباريون إن قضاعة لم تجمع على إطاعة رئيس إلا زهيراً و إلا رزاح بن ربيعة، وهو من عذرة. وكان رزاح هذا أخا قصي بن كلاب لأمه. وقد جعل الأخباريون زهيراً معاصراً لكليب بن وائل. ويفهم من شعر منسوب إلى المسيب بن الرفل، وهو من ولد زهير بن جناب قاله مفتخراً بزهير متبجحاً به: إن ابرهة كان قد اصطفى آل زهير، وسوّدها على الناس، و أعطاه الإمرة عليهم، وجعله أميراً على حيي معد وعلى ابني وائل حيث أهانهما وأذلهما. ومعنى ذلك إن زهيراً كان في أيام ابرهة، أي في النصف الأول من القرن السادس للميلاد، وأنه على ذلك كان معاصراً لقصي زعيم قريش.

ولم يقنع الرواة الكلبيون بكل ما ذكروه عن حياة زهير، بل أرادوا إن تكون خاتمة زهير خاتمة غريبة كذلك كغرابة حياته، فذكروا انه كبر حتى خرف وحتى استخفت به نساؤه، وأنه لم يتمكن من الأكل، بنفسه، فصارت معزبته تطعمه بنفّسها، إلى إن ملّ الحياة على هذا النمط، فأخذ يشرب الخمر صرفاً أياماً حتى مات. وذكروا إن أحداً من العرب لم يفعل هذا الفعل غير زهير وغير أبي براء عامر بن مالك بن جعفر، والشاعر عمرو بن كلثوم.

ومن حروب زهير حربه مع بكر وتغلب ابني وائل، ويروي الأخباريون في ذلك إن ابرهة حين طلع على نجد أتاه زهير فأكرمه و فضله على من أتاه من العرب، ثم أقرّه علي بكر وتغلب ابني وائل، فوليهم. وصار يجبي لهم الخراج، وحدث إن أصابتهم سنة شديدة لم يتمكنوا فيها من دفع ما عليهم إليه. فلما. طالبهم بها، اعتذروا عن الدفع، فاشتدّ عليهم، ومنعهم من النجعة حتى يؤدوا ما عليهم، فكادت مواشيهم تهلك. فلما رأى ذلك "ابن زيابة" أحد بني تيم الله ابن ثعلبة، وكان فاتكاً معروفاً، أتى زهيراً. وهو نائم، فاغمد السيف في بطنه، ثم فر هارباً ظاناً انه قد أهلكه. ولما أفاق زهير، أخذه من كان معه من قومه حتى وصلوا به إلى قبيلته، فجمع عندئذ جموعه ومن قدر عليه من أهل اليمن، وغزا بهم بكراً وتغلب، وقاتلهم قتالا شديداً انهزمت به بكر، وقاتل تغلب بعدها، فانهزمت أيضاً، وأسر كليب ومهلهل ابنا ربيعة، وأخذت الأموال، وكثرت القتلى في بني تغلب، وأسرت جماعة من فرسانهم ووجوههم، وانتصر زهير نصراً عظيماً.

ونسبت إليه حرب أخرى مع غطفان، قالوا إن سببها إن بني ريث بن غطفان حين خرجوا من تهامة ساروا بأجمعهم، فتعرضت لهم صداء، وهي قبيلة من مذحج، فقاتلوهم، وبنو بغيض سائرون بأهليهم وأموالهم، فقاتلوهم عن حريمهم فظهروا على صداء وفتكوا فيهم، فعزت بغيض بذلك، وأثرت، وكَثُرَتْ أموالها، فلما رأت ذلك، قالت: "والله لنتخذن حرماً مثل مكة لا يقتل صيده ولا يهاج عائذه"، فبنوا حرماً، ووليه "بنو مرة بن عوف" فلما بلغ فعلهم وما اجمعوا عليه زهير بن جناب، أبى ذلك، وقرر منع غطفان من اتخاذ هذا الحرم، فسار إليها بجموع كبيرة، فظفر بها، وأصاب حاجته منها، وأخذ فارساً منهم في حرمهم فقتله، وعطل ذلك الحرم.

وروى الأخباريون انه حارب بني القين بن جسر. وكانت له أخت متزوجة فيهم، فأرسلت من اخبره بعزم بني القين على محاربته، فاستعد لها، فقاتلها، وقتل رئيسها وانصرفت خائبة عنه.

ويظهر من غربلة روايات الأخباريين عن زهير بن جناب، إن بطل كلب هذا كان من رجال القرن السادس للميلاد، وأنه لم يكن بعيد عهد عن الإسلام، وأنه كان معاصراً لأبرهة، ولعلّه كان قد تحالف معه، فترك حلفه معه أثراً في ذاكرة الأخباريين. والظاهر انه كان ذا شخصية قويّة، محارباً، حارب جملة قبائل فأخضعها، وبذلك بسط نفوذه عليها، ورفع اسم قبيلته على القبائل الأخرى. ولعل اتصاله بابرهة وباليمن هو الذي أوجد رابطة نسب قبائل قضاعة بحمير. وقد سبق إن قلت إن المحالفات كانت تؤدي في الغالب إلى الالتحام في الأنساب.

أما ما أورده الأخباريون بشأن زمانه وعمره، فهو مما لا قيمة له. فمن عادة القصاص، رفع من كانوا يتحدثون عنهم من الشخصيات البارزة التي كانت لها شان وخطر في القدم، و إضافة السنين الطويلة إلى أعمارهم، والمبالغات و الأغراب إلى قصصهم ليكون ذلك أوقع في نفوس السامعين وفي مخيلة المعجبين بهذا النوع من الحكايات. ولهذا الأغراب جعل بعض المستشرقين زهيراً شخصية خرافية، وبطلاً خيالياً أوجدته على رأيهم مخيلة الأخباريين، ولكن الأغراب في القصص مهما بولغ فيه لا يكون حُجة قاطعة في كون من قيل فيه شخصية خرافية لاوجود لها. فقد اغرب الأخباريون في ابرهة معاصر زهير، وبالغوا في الذي رووه عنه، ورفعوا أيامه إلى أيام داوود وأيام سليمان، وجعلوا له أياماً أخرى. ولكن ابرهة فند أقاصيصهم عنه وبين في كتاباته التي دَوّنها على سد مأرب انه من رجال القرن السادس للميلاد.

ومعظم من روى عنهم الأخباريون هذا النوع من القصص، هم رجال مثلنا، عاشوا وماتوا، وكانت أيامهم في الغالب في القرن السادس للميلاد، أي في عهد لم يكن بعيداً جداً عن الإسلام لم تتمكن ذاكرة الرواة وحفظة الأخبار من حفظ شيء عنهم، إلا هذا النوع من القصص المحبوب، المطلوب من الناس، يقصه القصاصون في الليالي المقمرة الجميلة ويقصه المعمرون من رجال القبيلة ليكون فخراً لقبيلتهم. وهذا النوع من القصص هو نوع بدائي من أنواع حفظ التأريخ، وأكثر من حفظ وروى أخبار زهير بن جناب الشرقي بن القطامي، و هشام بن الكلبي، و أبوه محمد، وجماعة آخرون من المشايخ الكلبيين. كانوا يروون هذا النوع من القصص عن رجال كلب، حملهم على ذلك تعصبهم لقبيلتهم كلب.

و أكثر ما روي عن كلب، هو من إخراج تلك الأيدي الكلبية، نشرته وأذاعته بين الناس، ومن حسن حظ كلب إن شيوخ الأخباريين الذين ذكرتهم كانوا منها، فكان لقصصهم هذا صداه البعيد عند جمهرة الأخباريين.

وكلب في حد ذاتها جملة قبائل وبطون ضخمة، منها: رفيدة، وعُرَيْنة، و صحب، وبنو كنانة، وهي قبيلة ضخمة من بطونها: بنو عدي، وبنو زهير، وبنو عليم، وبنو جناب.

وذكر بعض الأخباريين إن كلباً كانت تحكم دومة الجندل، و أن أول من حكمها منهم هو دجانة بن قنافة بن عدي بن زهير بن جناب. وذكروا أيضاً إن الملك على دومة الجندل وتبوك، كان لهم إلى إن ظهر الإسلام، وانهم كانوا يتداولونه مع السكون من كندة. فلما ظهر الإسلام، كان على دومة الجندل الأكيدر بن عبد الملك بن السكون.

وأظهر قبائل مجموعة أسلم، جهينة، وسعد هذيم، ونهد. ابناء زيد بن ليث ابن الأسود بن اسلم بن الحاف بن قضاعة. أما جهينة، فقد كانت منازلها في نجد في الأصل، وعند ظهور الإسلام كانت تقيم في الحجاز على مقربة من المدينة بين ساحل البحر الأحمر ووادي القرى.

ومن جهينة: قيس ومودعة. فولد قيس: غطفان وغيّان. ويعرفون برشدان كذلك. عرفوا في أيام الرسول.

وأما نهد، فقد سكنت اكبر بطونها في منطقة نجران. وقد دخلت بطون منها في قبائل أخرى واندمجت فيها. وأما سعد هذيم، فأشهر قبائلها: بنو عذرة، و بنو ضنة وتقع منازل بني عذرة في أعالي الحجاز في جوار عدد من القبائل المنتمية إلى مجموعة قضاعة، وهي: نهد، و جهينة، وكلب، و بلي. وتقع أرضها في جوار غطفان، ومن مواضعها: وادي القرى، و تبوك حتى ايلة. ويذكر الأخباريون إن بني عذرة حينما وفدوا إلى وادي القرى من مواطنهم الأصلية على اثر الحروب التي وقعت بين قبائل قضاعة وحمير، وجدوا اليهود في هذه الديار، فتحالفوا معهم، وعاشوا في هذا الوادي وفي المواضع المجاورة له.

وقد ذهب شبرنكر إلى إن "عذرة" هي "ادريته Adrithaess" القبيلة التي ذكرها "بطلميوس". أما تأريخ "عذرة" البعيدة عن الإسلام فلا نعرف عنه شيئاً يذكر. وما نعرفه منه يخص الأيام القريبة من الإسلام. و إلى صلاتها الوثيقة وحلفها مع قبائل سعد هذيم، خاصة بني ضنة وبنو سلامان، يعود نشوء هذا النسب الذي ربط فيما بن فروع هذه الكتلة، وكذلك كتلة بني أسلم ومنها جهينة التي كانت ذات صلآت حسنة ببني عذرة. وهذا السبب أطلق النسابون على هذه الجماعة "صحار".

وكان لبني عشرة صلات بقبيلة قريش تتجلى في خبر الأخباريين عن مساعدة رزاح، وهو منهم لأخيه من أمه قصيّ زعيم قريش في نزاعه مع خزاعة كما أشرات إليه في أثناء كلامي على مكة. كذلك كانت لهم صلات بالأوس والخزرج حيث يذكر الأخباريين إن والدة الأوس والخزرج كانت من تلك القبيلة، فهي - في عرفهم - قَيْلَة بنت كاهل "هالك" بن عذرة. وهكذا نجد لبني عذرة علاقات بأهل المدينتين المتنافستين: يثرب، ومكة. والزواج بين القبائل من الأمور التي تقرب بينها وتصل أنسابها بعضها ببعض.

ومن بطون هذه القبيلة. بنو ضنة، وبنو جلهمة، وبنو زقزقة، وبنو الجلحاء، وبنو حردش، وبنو حُنّ، وبنو مدلج على رأي بعض النَسّابين، وبنو رفاعة، وبنو كثر، وبنو صرمة، وبنو حرام، وبنو نصر، وبطون أخرى يذكرها أهل الأنساب.

وتنسب قبائل كثيرة من اليمن إلى كهلان بن سبأ، وكهلان هو شقيق حمير، فهناك إذن صلة بن قبائل حمير وقبائل كهلان. ويذكر النَسّابون إن بني كهلان وبني حمير تهانوا يتداولون الملك في بادئ الأمر بينهم، ثم انفرد به بنو حمير، وبقيت بطون كهلان في حكمهم في اليمن. فلما تقلص ملك حمير، صارت الرياسة على العرب البادية لبني كهلان، لما كانوا بادين لم يأخذ ترف الحضارة منهم. وهكذا نجد النَسّابين يقسمون أبناء سبأ إلى قسمين: حضر، وهم في رأيهم أبناء حمير، وأهل وبر أو متزعمون لأهل الوبر وهم من نسل كهلان. والابن الذي ذكره الأخباريون لكهلان، هو زيد ومن ظهره تسلسلت قبائل كهلان.

وقد نَجَلَ زيد، على حد قول النسابين، ولدين، هما:. مالك و عريب. وأضاف الهمداني إلى هذين الولدين ولداً ثالثاً سماه غالباً. ومن صلب هؤلاء الأبناء انحدرت قبائل كهلان.

و نَجَلَ مالك من الولد الخيار ونبتاً، فولد نبت الغوثَ وولد الغوث أدَدَ، وهو الأزد، وعَمراً. ومن ولد عمرو خثعم و بجيلة. ونَجَل عمراً و قداز ومقطعان "مقطعا" على رواية للهمداني.

أما الخيار فقد ولد ربيعة، وولد ربيعة أوسلة، وولد أوسلة زيد بن أوسلة، وولد زيد بن أوسلة مالكاً وسبيعاً وساعاً الأكبر عاى رأي. ومالكا وتبع، وعبداً، على رواية ابن حزم. وقد دخل تبع وعبد في همدان. وولد مالك ابن زيد من الولد همدان والهان. وقد ولد همدان نوفا "نوفل?" بن همدان على رأي. وجملة أولاد آخرين على روايات أخرى. ومن نسل نوف تفرعت قبائل همدان: حاشد، وبكيل ابنا جشم بن خيران بن نوف.

أما عبريب، فولد يشجب على رواية ابن حزم، ونهراً على رواية الهمداني، فولد يشجب أو عمرو زيد بن يشجب أو زيد بن عمرو على اختلاف الروايتين. والهمينسع وهو ذو القرنين السيّار ويكنى بالصعب على رواية ذكرها الهمداني. ونَجَلَ زيد أدد بن زيد، فولد أدد مرة، ونبتاً، وهو الأشعر، وجلهمة وهو طيء، ومالكاً، وهو ملحج. وقد تفرعت من هؤلاء قبائل وبطون.

والأزد قبائل عديدة تنتمي كما قلت إلى الأزد، وهو الغوث. وينسب الأخباريون بيتاً من الشعر إلى حسان بن ثابت، يقولون: إنه قاله في نسب ا لأزد، هو: ونحن بنو الغوث بن نبت بن مالكِ  بن زيد بن كهلانٍ وأهل المفاخر

يذكرون انه قاله مفتخراً بهذا النسب، وهو منهم. وهو شعر قد يكون وضعه النسابون وأهل الأخبار على لسانه، وهو ما أظنه، ليكون دليلاً لهم على صحة دعواهم في نسب الأزد، وهم يعلمون ما كان عليه الشاعر من تعصب لليمن. وقد ذكر الأخباريون أيضاً إن حمير تقول إن، الأزد منهم، وانه هو الأزد بن الغوث الأكبر بن الهميسع بن حمير الأكبر. ولم يكفهم ذلك بل أرادوا إن يثبتوا هذا القول و يؤيدوه بشعر. والشعر في نظرهم سندٌ قوي لإثبات رأي، ولا سيما إذا كان من شعر معمر أو ملك من الملوك القدماء. وقد قرأت في كتبهم ولا شك ما كتبوه من الأشعار على لسان آدم وهابيل و قابيل وعاد وثمود و أمثال ذلك من شعر زعموا انهم نظموه بهذه العربية الجميلة التي تكتب اليوم بها، فكيف لا يأتون بشعر لإثبات رأيهم في هذا الباب ينسب إلى التبابعة، وهم من خلص العرب وملوكها المعروفين البارزين? فرووا شعراً للتبع لسعد تبع، قالوا، انه ذكي فيه الأزد، وكانوا معه، فهم من حمير إذن وهو: ومعي مَقاولُ حميرٍ وملوكُها  و الأزد أزد شنوءة وعمان

وهكذا أضافوا إلى حمير الأزد بجملتها.

وأسعد تبعٌ من التبابعة الذين لهم حظ سعيد عند الأخباريين، فهو مؤمن في نظرهم، وهو ذو القرنين. وهو من أعظم التبابعة، وأفصح شعراء العرب. ولم يكتفوا بما أغدقوا عليه من نعوت، بل أرادوا أكثر من ذلك وأبعد، فقالوا انه كان نبيّاً مرسلاَ إلى نفسه، وانه تنبأ بظهور الرسول، صلى الله عليه وسلم، قبل ظهوره بسبع مئة سنة، وانه قال شعراً في ذلك حفظه الناس هذه السنين الطويلة عنه، وانه لذلك نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن سبّه. فهو إذن من المؤمنين الصالحين ومن رجال الجنة ولا شك، وهو قصص روَّجه ولا شك الحميريون والقحطانيون المتعصبون في الإسلام، ليسُسكتوا بذلك خصومهم السياسيين. وهم في نظرهم العدنانيون الذين شرفتهم النبوة ورفعت مقامهم في الإسلام، فافتخروا بها على القحطانيين، ولم يكن القحطانيون أقل باعاً في توليد القصص في الفخر من منافسيهم القحطانيين، فأوجدوا هذه الحكايات عن تبابعتهم، و أوجدوا لهم الفتوحات العظيمة، ثم لم يكفهم ذلك كله، فقالوا: إن النبوة إذا كانت في العدنانيين، فإنها كانت أيضاً في القحطانيين، بل هي أقدم عهداً فيهم منهم، فمنهم كان عدة أنبياء. وهكذا سدّوا الثغرة التي كان يهاجم منها العدنانيون.

و قد ولد الأزد عدة أولاد، منهم: مازن، ونصر، وعمرو، وعبد الله، ووقدان، و الأهبوب. ومن ولد مازن عمرو، وعدي، وكعب، وثعلبة. ومن ولد ثعلبة: عامر، وامرؤ القيس، وهو البطريق، وكرز. فولد امرؤ القيس حارثة، وهو الغطريف، وولد حارثة هذا عامراً المعروف بماء السماء، والتوأم، وهو عامر، وعدياً.

و نَجَلَ مالك من الولد الخيار ونبتاً، فولد نبت الغوثَ وولد الغوث أدَدَ، وهو الأزد، وعَمراً. ومن ولد عمرو خثعم و بجيلة. ونَجَل عمراً و قداز ومقطعان "مقطعا" على رواية للهمداني.

أما الخيار فقد ولد ربيعة، وولد ربيعة أوسلة، وولد أوسلة زيد بن أوسلة، وولد زيد بن أوسلة مالكاً وسبيعاً وساعاً الأكبر عاى رأي. ومالكا وتبع، وعبداً، على رواية ابن حزم. وقد دخل تبع وعبد في همدان. وولد مالك ابن زيد من الولد همدان والهان. وقد ولد همدان نوفا "نوفل?" بن همدان على رأي. وجملة أولاد آخرين على روايات أخرى. ومن نسل نوف تفرعت قبائل همدان: حاشد، وبكيل ابنا جشم بن خيران بن نوف.

أما عبريب، فولد يشجب على رواية ابن حزم، ونهراً على رواية الهمداني، فولد يشجب أو عمرو زيد بن يشجب أو زيد بن عمرو على اختلاف الروايتين. والهمينسع وهو ذو القرنين السيّار ويكنى بالصعب على رواية ذكرها الهمداني. ونَجَلَ زيد أدد بن زيد، فولد أدد مرة، ونبتاً، وهو الأشعر، وجلهمة وهو طيء، ومالكاً، وهو ملحج. وقد تفرعت من هؤلاء قبائل وبطون.

والأزد قبائل عديدة تنتمي كما قلت إلى الأزد، وهو الغوث. وينسب الأخباريون بيتاً من الشعر إلى حسان بن ثابت، يقولون: إنه قاله في نسب ا لأزد، هو: ونحن بنو الغوث بن نبت بن مالكِ  بن زيد بن كهلانٍ وأهل المفاخر

يذكرون انه قاله مفتخراً بهذا النسب، وهو منهم. وهو شعر قد يكون وضعه النسابون وأهل الأخبار على لسانه، وهو ما أظنه، ليكون دليلاً لهم على صحة دعواهم في نسب الأزد، وهم يعلمون ما كان عليه الشاعر من تعصب لليمن. وقد ذكر الأخباريون أيضاً إن حمير تقول إن، الأزد منهم، وانه هو الأزد بن الغوث الأكبر بن الهميسع بن حمير الأكبر. ولم يكفهم ذلك بل أرادوا إن يثبتوا هذا القول و يؤيدوه بشعر. والشعر في نظرهم سندٌ قوي لإثبات رأي، ولا سيما إذا كان من شعر معمر أو ملك من الملوك القدماء. وقد قرأت في كتبهم ولا شك ما كتبوه من الأشعار على لسان آدم وهابيل و قابيل وعاد وثمود و أمثال ذلك من شعر زعموا انهم نظموه بهذه العربية الجميلة التي تكتب اليوم بها، فكيف لا يأتون بشعر لإثبات رأيهم في هذا الباب ينسب إلى التبابعة، وهم من خلص العرب وملوكها المعروفين البارزين? فرووا شعراً للتبع لسعد تبع، قالوا، انه ذكي فيه الأزد، وكانوا معه، فهم من حمير إذن وهو: ومعي مَقاولُ حميرٍ وملوكُها  و الأزد أزد شنوءة وعمان

وهكذا أضافوا إلى حمير الأزد بجملتها.

وأسعد تبعٌ من التبابعة الذين لهم حظ سعيد عند الأخباريين، فهو مؤمن في نظرهم، وهو ذو القرنين. وهو من أعظم التبابعة، وأفصح شعراء العرب. ولم يكتفوا بما أغدقوا عليه من نعوت، بل أرادوا أكثر من ذلك وأبعد، فقالوا انه كان نبيّاً مرسلاَ إلى نفسه، وانه تنبأ بظهور الرسول، صلى الله عليه وسلم، قبل ظهوره بسبع مئة سنة، وانه قال شعراً في ذلك حفظه الناس هذه السنين الطويلة عنه، وانه لذلك نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن سبّه. فهو إذن من المؤمنين الصالحين ومن رجال الجنة ولا شك، وهو قصص روَّجه ولا شك الحميريون والقحطانيون المتعصبون في الإسلام، ليسُسكتوا بذلك خصومهم السياسيين. وهم في نظرهم العدنانيون الذين شرفتهم النبوة ورفعت مقامهم في الإسلام، فافتخروا بها على القحطانيين، ولم يكن القحطانيون أقل باعاً في توليد القصص في الفخر من منافسيهم القحطانيين، فأوجدوا هذه الحكايات عن تبابعتهم، و أوجدوا لهم الفتوحات العظيمة، ثم لم يكفهم ذلك كله، فقالوا: إن النبوة إذا كانت في العدنانيين، فإنها كانت أيضاً في القحطانيين، بل هي أقدم عهداً فيهم منهم، فمنهم كان عدة أنبياء. وهكذا سدّوا الثغرة التي كان يهاجم منها العدنانيون.

و قد ولد الأزد عدة أولاد، منهم: مازن، ونصر، وعمرو، وعبد الله، ووقدان، و الأهبوب. ومن ولد مازن عمرو، وعدي، وكعب، وثعلبة. ومن ولد ثعلبة: عامر، وامرؤ القيس، وهو البطريق، وكرز. فولد امرؤ القيس حارثة، وهو الغطريف، وولد حارثة هذا عامراً المعروف بماء السماء، والتوأم، وهو عامر، وعدياً.

ويفهم من هذا البيت إن خزاعة إنما تخلفت عن الأزد بموضع "بطن مرّ"، وهو موضع من نواحي مكة، فأقامت به، ولم تلحق ببقية ولد عمرو بن عامر حين أقبلوا من مأرب يريدون الشام، وقد نسب "ياقوت الحموي" هذا البيت مع آبيات أخرى إلى عون بن أيوب الأنصاري الخزرجي.

ولبعض النسابين و الأخباريين رأي في نسب خزاعة، فهم يرون إنها من معدّ، أي من العدنانية، وإنها من نسل خزاعة بن لحي بن قمعة بن الياس بن مضر. ولكن الأكثرية من النسابين ترى إنها من الأزد، أي من قحطان.

وقد اختارت خزاعة بعد اعتزالها الأزد الذاهبين إلى الشام الإقامة بمكة، وكانت مكة بأيدي جرهم يومئذ أخذتها في أيام ملكها مضاض بن عمرو من العماليق أصحابها قبل جرهم، وساعده في ذلك "السميدع" ملك قطورا، و بقيت جرهم فيها إلى إن أجلتهم خزاعة عنها أجلاهم رئيسها يومئذ، وهو ثعلبة بن عمرو مزيقياء بعد حرب، فانتقل الحكم إلى الخزاعين. وتولاها رجال منهم تلقبوا كسابقيهم بألقاب الملوك.

وانفرد زعيم خزاعة لحيّ بالحكم، و تزوج فهيرة بنت عامر بن عمرو بن الحارث بن مضاض بن عمرو الجرهمي ملك جرهم، فولدت له عَمْراً، وهو عمرو بن لحي على نحو ما ذكرت. ثم انتقل الحكم من بعده إلى أولاده، فكان مجموع، ما حكموا خمس مئة عام، و أخرهم حليل بن حبشية في أيام قصيّ.

و للإخباريين روايات في كيفية استيلاء خزاعة على مكة، وفي الذي استولى عليها من رؤساء خزاعة، وهم يبالغون كثيراً في الزمن الذي استولت خزاعة فيه على مكة. وربما لا يتجاوز ذلك القرن الخامس للميلاد. أما تأريخ انتهاء حكمها على مكة وانتقاله إلى قريش في أيام قصيّ، فقد كان في النصف. الأول من القرن السادس للميلاد. ولكن انتقال السلطة منها إلى قريش لا يعني إنها أصيبه بما أصيبت جرهم أو غير جرهم به من ضعف واندثار، فقد بقيت خزاعة معرفة مشهورة ذات بطون عديدة في الإسلام.

فمن جملة خزاعة كعب ومليح وسعد، ومنهم بنو سلول بن عمرو، وبنو حليل بن حبشية سادن الكعبة، وبنو قمر، وبنو المصطلق الذين غزاهم الرسول، وبطون أخرى عديدة يذكرها النساّبون.

وكانت خزاعة محالفة للرسول في نزاعه مع قريش. ولما وقعت حرب بينها وبين بني بكر، وأعان مشركو قريش حلفائهم بني بكر، ونقضوا بذلك العهد، نصر الرسول خزاعة، وأعلن الحرب على قريش، فكان ذلك سبب فتح مكة.

و يعد آل الجُلنْدي، و هم ملوكُ عمان، من الأزد، كذلك و الجُلندي لقب لكل من ملك منهم عُمان. وآخر من ملك منهم جيفرٌ و عبد ابنا الجُلندي، أسلما مع أهل عمان على يد عمرو بن العاص، و قد كان "الجلندي بن المستكبر" يعشر من يقصد سوق "صحار"، ومن يقصد ميناء "، دبا" من التجار القادمين من مختلف أنحاء الجزيرة أو من الهند والصين و إفريقية. ويفعل في ذلك فعل الملوك. ويرجع نسب "المستكبر" إلى "بني نصر بن زهران بن كعب". وهو في عرف النَسّابين "المستكبر بن مسعود بن الجرار بن عبد الله. ابن مغولة بن شمس بن عمرو بن غنم بن غالب بن عثمان بن نصر بن زهران". أما جيفر، فهو ابن الجلُندي بن كركر بن المستكبر وكان أخوه عبد الله، ملك عمان.

وقد جعل بعض علماء الأنساب الأزد ستاً وعشرين قبيلة يجمعها جميعها الأزد، وهي: جفنة، وغسان و الأوس والخزرج، وخزاعة، ومازن، وبارق، وألمع، و الحجر، والعتيك "العتيق" و راسب، و غامد، و والبة، وثمالة، ولهب، وزَهْران، و دهمان، و الحُدان، وشكر، و عَكّ، و دوس، و فهم، والجهاضم، و الأشاقر، و القسامل و الفراهيد. وهي أكثر من ذلك، أو أقل عدداً على حسب مذاهب أهل الأنساب في ضبط أسماء البطون.

ويصنف النسّابون قبائل الأزد جميعها في أربعة أصناف من الأزد، هي: أزد عمان وأزد السراة وهم الذين أقاموا في سراة اليمن، وأزد شنوءة أبناء كعب ابن الحارث بن كعب بق عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد، وهم من سكنة السراة كذلك، وأزد غسان وهم من شرب من ماء غسان. ويلاحظ إن هذا التصنيف مبني على أسماء مواضع نزلت فيها قبائل الأزد.

ومواطنْ الأزد القديمة هي مثل مواطن بقية القحطانيين في اليمن، وقد تركتها على أثر حادث سيل العرم، فتفرقت مع من تفرق من القحطانيين إلى الأماكن المذكورة. وذكر إن أزد السراة حاربت قبيلة خثَعم التي كانت نازلة في السراة، فتغلبت عليها و انتزعت الأرض منها، وان "أردشير" الأول أسكن الأزد في عمان. فبقوا فيها تحت حكم الفرس.

وكان مناة و ذو الخلصة من أصنام الأزد الرئيسية التي تعبدت لها، كما تعبدت لصنم اسمه العائم كان في السراة. ولصنم آخر اسمه باجر، كان للأزد ولمن جاورهم من طىء.

وأما القبائل المتفرعة من عمرو بن الغوث، فهي أنمار، وتنسب إلى أنمار بن "أراش" "إراش" "أراشة"، و أراش هو ابن عمرو، وقد نسب بعض النسابين أنماراً إلى أتمار بن نزار بن معدّ بن عدنان، فجعلوها من العدنانيين، ويدلّ ذلك على اختلاط هذه القبيلة بالقبائل التي ترجع نسبها إلى مجموعة معد.

وولد أنمار أفتل، وهو خثعم، وأمه هند بنت مالك بن الغافق بن الشاهد ابن عكّ، فهي ذات صلة بعكّ من ناحية الأم. وولد أنمار أيضاً خزيمة وقد دخلت في الأزد، و وادعة، وعبقراً، والغوث، وصهيبة، وأشهل، وشهلاً، و طريفاً، وسنية، والحارث، و خذعة. وأمهم كلهم بجيلة بنت صعب بن سعد العشيرة، وكانوا كلهم متحالفين على ولد أخيهم خثعم. ولهذا يرجع كثير من النسّابين قبائل أنمار إلى أصلين: خثعم و بجيلة.

وولد خثعم ولداً اسمه حلف أو خلف، ويعود هذا الاختلاف إلى غلط النساخ، ومن نسله عفرس، فولد عفرس ناهساً وشهران وناهباً ونهشاً وكوداً وربيعة أبا اكلب. ومن بني "ناهش" ناهس حام بن "ناهس" ناهش، وهم بطن، وبنو أجرم وهم بطن أيضاً. ويسموّن ببني معاوية كذلك، وأوس مناة بن ناهس، وهو الحنيك، وهم بطن، وبنو عُنةّ، وبنو قحافة.

وكانت منازل خثعم في الهضبة الممتدة من الطائف إلى نجران عند طريق القوافل الممتدة من اليمن إلى الحجاز.

ولا تزال بطون خثعم معروفة حتى الآن. ومنها بطون في تهامة وفي عسير. منها ما هي بادية، ومنها ما هي مستقرة تتكسب قوتها من الزرع.

وذهب "ليفي ديلافيدا" في "المعلمة الإسلامية" إلى إن خثعماً ليست قبيلة في الأصل إنما هي حلف تألف من قبائل متعددة تحالفت. بينها لمصالح مشتركة جمعِت بينها، كما يحدث في سائر الأحلاف، والذي أداه إلى هذا الفهم اختلاط هذه القبيلة في القبائل العدنانية واختلاف النسابين في نسب خثعم وتفسيرهم معنى كلمة خثعم.

وقد ورد ذكر خثعم في روايات الأخباريين عن حملة أبرهة على مكة، إذ هم يذكرون إنها عزمت على منعه من الوصول، إلى مكة، وان نفيل بن حبيب االخثعمي رئيس خثعم إذ ذاك، خرج بقبيلتي خثعم: شهران وناهس ومن تبعه من قبائل العرب، وقاتله حينما بلغ أرض خثعم، غير إن أبرهة تغلب عليه، وأسره، وأبقاه حياً على إن يكون دليله في طريقه إلى مكة، وقد سار معه حتى أبلغه الطائف، وهناك قام بوظيفة إرشاد الحبش إلى مكة أبو رغال الثقفي، وذلك بأمر من مسعود بن معتب رئيس ثقيف. ويقول الأخباريون إن اعغرب صارت ترجم قبر أبي رغال بالمغمس، وصار سبة للناس، ولست أدري لم خص الأخباريون قبر أبي رغال بالرجم، ولم يشركوا معه قبر مسعود بن معتب، وهو الذي كلف - على حد قولهم - أبا رغال إن يرشد أبرهة إلى مكة.

وقد اشتركت خثعم في المعركة المعروفة عند الأخباريين باسم يوم فيف الريح، وهو يوم كان لِمَذْحِج على بني عامر بن صعصعة. اشتركت فيه عدة قبائل أخرى مع المتخاصمين. وقد كانت بطون من مذحج تسكن في جوار خثغم، وعند ظهور الإسلام كانت خثعم في حلف مع مراد، وقد اشتركت معها في حربها مع قيس.

وقد تعبدت خثعم مثل بجيلة ودوس وباهله و الأزد للصنم المسمى بذي الخلصة الذي هدم في الإسلام، هدمه عبد الله بن جرير البجلي. وكان لها بيت يدعى كعبة اليمامة به الخلصة. تعبدت إليه.

أما بجيلة، فهم بطون عديدة متفرقة، تفرفت في أحياء العرب منذ يوم حربها مع كلب بن وبرة بالفجار، وقد أعاد شملها وجمعها جرير بن عبد الله ابن جابر البجلي، وهو الشليل بن مالك بن نصر بن ثعلبة بن جشم، صاحب رسول الله. ومن أشهر بطون بجيلة قسر، وعلقمة، وبنو أحمسن. وقيس كبة، وبنو عرينة بن نذير، وبنو دهن بن معاوية. ومن قسر خالد بن عبد الله القسري.

وأعرف قبائل المجموعة الثانية من قبائل كهلان، وهي المجموعة التي ترفع نسبها إلى الخيار بن زيد بن كهلان، هي قبيلة همدان. وهي من القبائل المعروفة في الجاهلية والإسلام، وكان لها شأن خطير في كلا العهدين.

وقد تحدثت في الجزء الثاني من كتاب: تأريخ العرب قبل الإسلام عن همدان استناداً إلى كتابات المسند، وأشرت إلى صنمها وهو "تألب ريام" والى نفر من ملوكها، والى منازل في الأرض التي عرفت ببلد همدان أما الأخباريون وأهل الأنساب، فيروون إن هذه القبيلة من نسل جدّ أعلى هو "همدان" وكان يسمى "بلاد الملك"، وهو في نظرهم والد نوف "نوفل"، وعمرو، و رقاش زوج عديّ بن الحارث. ويختلف النساّبون بعض الاختلاف في سرد أسماء آباء همدان، وهو اختلاف لا يهمنا نحن كثيراً أو قليلاً بعد إن وقفنا على طبيعة هذه الأنساب.

وأولد نوف بن همدان "ُحبران" "خيوان" "خيران"، ويعود، اختلاف هذا الاسم إلى الخطأ الذي وقع فيه النُسّاخ ولا شك. وولد حبران "خيوان" ولداً اسمهُ جشمْ، وهو والد حاشد وبكيل. وهما قبيلا همدان العظيمان، والحارث وقد غبر في قيس، وزيد وقد دخل في حاشد.

وأولد حاشد جشماً، وعوصاً وقد دخل في كلب. وولد نجشم بن حاشد مالكاً ومعد يكرب وعمراً وأسعد و عريباً وزيداً ومرثداً وضماماً و يريم الأكابر وعامراً و ربيعة. و أولد يريم بن جشم حاشد الوحش، وهم بطن بالوحش من أرض الكلاع بين السحول وزبيد، وعمراً. وأولد عمرو زيداً وهو والد تباع جدّ التباعين، وتقع منازلهم بالسحول من بلد الكلاع بعلقان ووادي النهى.

و إلى حاشد تنسب مرثد، وهو مرثد بن جشم بن حاشد في عرف النسابين. وقد سبق إن أشرتُ إلى مرثد. وهو والد ولد اسمه ربيعة، وهو ناعط، وهو بطن، وولد آخر اسمه الحارث وهم اسم بطن كذلك. وأولد ناعط مرثداً وشراحيل وعامراً وشرحبيل، فولد شرحبيل أفلح، وأولد أفلح عُمَيْراً ذا مرّان وكان معاصراً للنبي.

ومن هَمَدان بطون عديدة كان لها صيت. في الجاهلية وفي الإسلام، مثل بني عليان، وبني حجور، وبني قدم، وبني فائش، وبني شاسذ، وبني جحدن، وبني ابزن، وبني شبام. وذي جعران وذي حدّان، وبني ناعط. وهم في الواقع عدة بطون، ومنهم آل ذي المشعار.

ومن بطون بكيل بن جشم بن حبران آل ذي لعوة، و بنو جذلان و ثعلان، وبنو دومان، ومنهم النشقيون، وبنو صعب بن دومان، وبنو مرهبة من الصعب، وبنو أرحب من الصعب كذلك، وبطون أخرى ذكرها الهمداني في الجزء العاشر من الإكليل. وهو الجزء الخاص بقبائل همدان.

ويظهر من روايات الأخباريين أن الهمدانيين كانوا يتعبدون للصنمين: يغوث ويعوق عند ظهور الإسلام. ومعنى ذلك إن تطوراً خطيراً كان قد طرأ على عبادة هذه القبيلة، فابتعدت عن صنمها الخاص بها وحاميها الذي كانت تلجأ إليه في الملمات، وهو "تألب" الذي كان معبده بمدينة "ريام"، ونسيته وتعبدت للصنمين. المذكورين اللذين لم يرد اسمهما في كتابات المسند، وهما من الأصنام التي استوردت إلى الحجاز ونجد على ما يظن من الشمال.

وقد وقع بين مراد و همدان والحارث بن كعب يوم عرف بيوم رزم "يوم الرزم"، و هو موضع في بلاد مراد، وقد اخذ فيه الصنم يغوث.

أما قبائل مجموعة عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ، فاشهرها الأشعر، وطيء، ومذحج، وبنو مرّة.

أما الأشعر، فولد نبت بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ، وهم الأشعريون والأشعرون والأشاعرة، وتقع منازلهم في ناحية الشمال من زبيد.

ومن بطون الأشعر: الجماهر، وجدّة و الأنغم "الانعم" "الاتعم"، والأرغم، ووائل، وكاهل. ومن بطونهم: غاسل، وناجية، والحنيك، والركب.

وأما طيء، فإنها من ولد جلهمة بن أدد بن يشجب بن عريب بن زيد كهلان، ويذكر الأخباريون إنها كانت باليمن، ثم خرجت على اثر الأزد إلى الحجاز، ونزلوا سميراً وفيداً في جوار بني اسد، ثم استولوا على اجأ وسلمى وهما جبلان من بلاد اسد، فأقاموا في الجبلين حتى عرفا بجبلي طيء.

وتفرقت طيء إلى بطون عديدة، يرجع أصولها النسابون كعادتهم إلى آباء وأجداد، ومن هؤلاء جديلة، وتيم الله "بنو تيم" وحيش والأسعد، وقد جلا هؤلاء عن الجبلين. و بحتر بن عتود، وبنو نبهان، وبنو هنيء، وبنو ثعل والثعالب. وهم بنو ثعلبة بن رومان بن جندب بن خارجة بن سعد بن فطرة بن طيء، وهم في طيء نظير الربائع في بني تميم. وبن بني ثعلبة بن جدعاء تيم بن ثعلبة، وعليهم نزل امرؤ القيس بن حجر، وعمرو بن ثعلبة بن غياث، و كان على مقسمة عمرو بن هند يوم اوارة، و بنو لأم بن ثعلبة.

ويذكر الأخباريون إن طيئاً بعد إن بلغت جبلي اجأ وسلمى، شاهدت هناك شيخاً كان مع ابنته يمتلكان جبلي اجأ وسلمى، وقد ذكرا لطيء انهما من بقايا صحار، وذكروا إن لغة طيء هي لغة هذا الشيخ الصحاري. وقد أوجد الأخباريون هذه القصة تفسيراً لبعض المميزات اللغوية التي امتازت بها لهجة طيء. وصحار أسم موضع واسم بطن من قضاعة أيضاً. وقد أخذت بطون قضاعة مواطن طيء في الشمال، واختلطت بعض بطون طيء بقضاعة. فهل عنى الأخباريون بصحار هذا البطن من قضاعة، و لا سيما إذا تذكرنا إن علماء اللغة يذكرون وجود التلتلة في لغة طيء، وقد نسبوا التلتلة إلى قضاعة كذلك? ولا يستبعد إن يكون لأسطورة الأخباريين عن الشيخ الصحاري، شيء من الواقع، كأن يشير ذلك إلى صلة صحار بطيء.

ويذكر الأخباريون إن الرئاسة في الجاهلية على طيء كانت لبني هنيء بن عمرو ابن الغوث بن طيء، وهم رمليون واخوتهم جبليون، ويعنون بذلك إنها كانت تنزل البوادي، لا جبلي طيء. ومن ولده اياس بن قبيصة بن أبي غفر بن النعمان بن حية بن سعنة بن الحارث بن الحويرث بن ربيعة بن مالك بن سفر بن هنيء بن عمرو بن الغوث بن طيء الذي ولي ملك الحيرة بأمر كسرى. كما سبق إن أشرت إلى ذلك في الفصل الخاص بتأريخ الحيرة وكان له شأن يذكر عند الفرس.

وكان لطيء جد هذه القبيلة من الولد: فطرة، والغوث والحارث. فأما وبد الحارث فدخلوا في مهرة بن حيدان. وأما ولد فطرة، فمنهم: جديلة، وولد خارجة بن سعد بن فطرة، وتيم الله، وحيش، و الأسعد ومن نسل هؤلاء تفرعت سائر بطون طيء.

ومن بني الغوث بن طيء بنو ثعل، ومنهم سلامان وجرول. ومن بني سلامان بحتر، ومعن، وهما بطنان ضخمان، و جرول بن ثعل. ومن بني جرول ابن ثعل ربيعة بن جرول. وهم بطن ضخم، ولوذان بن جرول بن ثعل. ومن بني ربيعة بن جرول اخزم والنجد. والأخزم بطون عديدة، ومنها عدي بن اخزم، ومن رجالها حاتم الطائي المعروف بجوده. وعمرو بن الشيخ وكان أرمى الناس في زمانه.

وفي استطاعتنا إن نقول عن طيء، وان كنا لا نعرف شيئاً يذكر من تاريخها في الجاهلية، إنها كانت ذات مكانة خطيرة في تلك الايام، بدليل إطلاق اسمها عند بعض الكتبة الكلاسيكيين وعند الفرس والسريان وعند يهود بابل، على جميع العرب كما أشرت. إلى ذلك في الجزء الأول من هذا الكتاب. ولا يعقل إطلاق اسم هذه القبيلة على جميع العرب لو لم تكن لها منزلة ومكانة في تلك الأيام، ولو لم تكن قوية كثيرة العدد ممعنة في الغزو ومهاجمة الحدود، حتى صار في روع السربان إنها أقوى العرب، فأطلقوا اسمها عليهم. وبدليل اختيار الفرس لإياس بن قبيصة، وهو من طيء لتولي الحكم في الحيرة مرتين، ولا بد إن يكون لمركز قبيلته سند قوي أسنده في الحكم. وليس بمستبعد إن تكون قبائل قضاعة قد حله محل طيء في الشمال مما اضطر الاخيرة إلى التزحزح من أماكنها والدخول في غيرها والاكتفاء بمنطقتها في جنوب النفود. أي في جبلي طيء.

وبالرغم من انتزاع طيء لجزء من أرض بني أسد، وهم من مضر، وسكناهم فيها، فإن بني أسد وكذلك بني ضبة التي كانت قد تحولت عن بني تميم إلى طيء، انضموا إلى طيء وساعدوها في الحرب التي وقعت بينها وبين بني يربوع، وهم من تميم، تساعدهم بنو سعد. وانتهت بهزيمة بني يربوع في موضع "رجلة التيس". ولكن ذلك لا يعني إن العلاقات بين بطونَ طيء وأسد كانت حسنة دوماً، وثيقة لم يعكر صفوها ما يقع عادة بين القبائل من حروب. فقد وقعت بين القبيلتين حروب كذلك. منها: الحرب التي وقعت بالخص في العراق على مقربة من ناحية الكوفة. وقد انتهت هذه الحرب كما تنتهي الحروب الأخرى. بتصفية حسابها بدفع الديات وبعقد صلح.

وقد، وقعت بين عبس و طيء جملة غزوات. قضت إحداها على حياة "عنترة ابن شداد"، البطل الأسود الشهير. أغار عنترة مع قومه على بني نبهان من طيء، وهو شيخ كبير، قد عبثت به يد الدهر، فجل يرتجز، وهو يطرد طريدة لطيء. فانهزمت عبس. وأصيب عنترة بجرح قضى عليه. وهناك رواية أخرى في مقتل بطل عبس.

وفي رواية للإخباريين إن ابن هند ملك الحيرة أغار على إبل لطيء، فحرض زرارة بن عدس، عمرو بن هند على طيء، وقال له انهم يتوعَّدونك، فغزاهم فوقعت بسبب ذلك جملة حوادث تسلسلت إلى يوم أوارة. وكان عمرو ابن هند كما يقول الأخباريون قد عاقد الحيّ الذي غزاه على إن لا ينازعوا ولا يفاخروا ولا يغزوا، فلما غزا عمرو بن هند اليمامة، ورجع، مرّ بطيء، انتهز زرارة بن عدس - وكان كارهاً لطيء مبغضاً لها - هذه الفرصة، وأخذ يحرضه على غزوها، ويشجعه عليه. وما زال به على ذلك، حتى. غزاها، بعد آن بلغه هجاء الشعراء الطائيين له، لإصابته بعض النسوة من طيء. فتمكن منها م وأخذ جملة أسرى، من بطن "أخزم"، وهم رهط حاتم الطائي.

وكانت صلة هذه القبيلة بالفرس حسنة، ولما أراد، الملك النعمان الالتجاء إليهم والدخول فيهم ليمنعوه من الفرس، لمصاهرته لهم، وأخذه زوجتن هما فرعة بنت سعد بن حارثة بن لام وزينب بنت أوس بن حارثة بن لام منهم، لم تقبل طيء جواره ولا مساعدته، وقالت له: "لولا صهرك قاتلناك، فإنه لا حاجة لنا في معاداة كسرى". و قد جعل كسرى إياس بن قبيصة على الرجال من الفرس والعرب في حرب بكر بن وائل في معركة ذي قار.

ويظهر من روايات الأخباريين إن رؤساء طيء كانوا يحكمونها، وكانوا يلقبون بملك. فقد ذكروا إن عدي بن حاتم الطائي كان رئيس طيء في أيام الرسول، وكان مالكاً عليهم يأخذ منها المرباع. فلما جاءت خيل الرسول إليه. بقيادة علي بن أبي طالب، فرّ إلى الشام، ثم ترك الشام، وذهب إلى الرسول فأسلم.

أما صنم طيء، فكان "الفلس"، وكان بنجد، قريباً من فيد. وسدنته من بني بولان. هدمه علي بن أبي طالب بأمر النبي، وكانت طيء قد قلدت الصنم سيفين يقال لأحدهما مخذم و للآخر رسوب، أهداهما إليه الحارث بن أبي شمر، فأخذهما عليّ بن أبي طالب. وتعبدت طيء لصنم تخر هو "رضى". كما تعبدت لصنم ثالث هو سهيل.

ومذحج من القبائل اليمانية الكبيرة، وقد تفرعت منها قبائل كبيرة كذلك. وتنتسب إلى جدّ أعلى لها، هو مذحج. وهو مالك بن أدد بن زيد بن يشجب ابن عريب بن زيد بن كهلان، وأبو عدة أولاد، هم: جلد بن مذحج، ويحابر. وهو مراد: وزيد. وهو عنس، وسعد العشيرة، ولهيس بن مذحج.

وأمهم كلهمِ سلمى بنت منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن مضر.

ومن بني عَنسْ بن مذحج: عمّار بن ياسر الصحابي المعروف، والأسود العنسي المتنبي.

و لمذحج مثل القبائل الأخرى أيام. منها يوم فيف الريح ويوم السلان. وهو لربيعة على مذحج. وسأتحدث عن أيام مذحج في الفصل الخاص بأيام العرب قبل الإسلام.

ويشير هذا النسب الذي يذكره النسابون إلى وجود صلات قديمة وثيقة بين مراد و خثعم، وبين مجموعة القبائل المعروفة بمذحج. وهم أبناء اخوة على رأي النسابين.

ويذكر الأخباريون إن مواطن مراد القديمة هي في الجوف، في منطقة رملية جرداء. ويظهر إنها كانت متبدية وكان معبودها الصنم يغوث، الصنم الذي تعبدت له مذحج كذلك. روي إن الصنم يغوث، كان لمذحج كلها. وكان في أنعم، فقاتلتهم عليه. غطيف من مراد، حتى هربوا به إلى نجران، فأقروه عند بني النار من الضباب، من بني كعب، و اجتمعوا عليه جميعاً.

ويذكر الأخباريون إن المنذر بن ماء السماء حينما بغى على أخيه عمرو، هرب عمرو إلى مراد، فاحتفلت به، وعينته رئيساً عليها. غير انه اشتدّ عليها حينما تمكن وقويَ أمره، فغدرت به وقتلته. لذلك غزاها عمرو بن هند، وقتل قتلة عمرو.

وكانت بين مراد وهمدان حرب، وقعت في عهد لم يكن بعيداً عن الإسلام. عرفت بيوم الرزم، انتصرت فيها همدان على مراد. وكان رئيس مراد أيام الرسول فروة بن مسيك المرادي. وقد استعمله الرسول على صدقات مراد و زبيد ومذحج، فاستاءت زبيد ومذحج من ذلك. وارتد عمرو بن معديكرب في مرتدين من زبيد ومذحج. فاستجاش فروة النبي، فوجه إليهم جيشاً، هزم المرتدين.

و قبيل الإسلام كان هبيرة بن المكشوح بن عبد يغوث رئيساً بارزاً على مراد، وقد عدّه الأخباريون من "الجرارين" في اليمن، ويقصد بالجرار من ترأس ألفا في الجاهلية. وقد كان ابنه قيس من رؤساء مراد البارزين عند ظهور الإسلام. وهو الذي قتل الأسود العنسي. وكان هناك رئيس آخر على مراد عند ظهور الإسلام هو فروة بن مسيك المتقدم ذكره، كان كذلك من الجرارين.

وأشهر أولاد محابر، وهو مراد، ناجية وزاهر. ومن ولد ناجية مفرج، وكنانة، وعبد الله، ومالك، ويشكر، و ردمان. وقد انتسب ردمان إلى حمير. ومن ولد عبد الله غَطِيفٌ، وهم بطن. ومن نسل ردمان قرين ونابية، وهما بطنان. ومن بني زاهر قيس بن المكشوح، و بنو الحصين والربض والصنابح وهما بطنان.

وأولاد سعد العشرة كثيرون، تفرعت منهم قبائل وبطون، ويذكر الأخباريون إن سعد العشيرة كان رجلاً كثير الأولاد حتى انه كان إذا ركب ركب معه ثلاث مئة فارس من صلبه. والظاهر إنها كانت من القبائل الكبيرة، وأظن إنها كانت تحتمي بصنم هو "سعد العشيرة"، ثم نسبته فتصور أبناؤها انه إنسان، وانهم من صلبة منحدرون، وليس هذا بأمر غريب، وقد ذكرت أمثلة من هذا القبيل، ومنه "تالب" صنم همدان المذكور في المسند، الذي صيره النسابون جدّاً من أجداد همدان.

ومن أولاد سعد العشرة: الحكم، والصعب، ونمرة، و جعفي، وعائذ الله، وأوهن الله، وزيد الله، وأنس الله، والحرّ. ومن البطون المتفرعة من هؤلاء الدئل، وهم من نسل الحكم، وقد دخلوا في تغلب. وأسلم. ومن جعفي مرّان وحريم أما بنو صعب فأشهرهم أود ومنبه، ويسمى أيضاً بزبيد. ومن نسل زبيد مازن، وهم بطن ومن قبيلة أود الأفوهُ الأودي الشاعر المعروف.

وأبين بطون جلد بن مالك بن أدد، أي جلد بن مذحج، بنوُ علة بن جلد. ومن أولاد عُلة: عمرو، وعامر، وحرب تفرغت جملة قبائل أظهرها: النخع بن عمرو بن علة. وبنو الحارثي. بن كعب بن عمرو بن علة، ورهاء وهو ضبة بن الحارث بن عُلة، و صداء وهم من نسل يزيد بن حرب ابن علة.

وقد تحالفت منبه والحارث والعلاء "العلى" وسيحان "سيحان" "سنجان" وهفان وشمران، وهم ولد يزيد بن حرب بن علة بن جلد على بني أخيهم صداء ابن يزيد بن حرب، فسُمّوا جَنبْاً، لأنهم جانبوا. عمهم صداء، و حالفوا بني عمهم بني سعد العشيرة. ومن جنب، معاوية الخير الجنبي، صاحب لواء مذحج في حرب بني وائل، وكان مع تغلب.

أما صداء، فحالفت بني الحارث بن كعب . و من بني منبته، كان معاوية ابن عمرو بن معاوية بن الحارث بن منبه بن يزيد الذي تزوجّ بنت مهلهل بن ربيعة التغلبي.

وتنتسب قبيلة النحغ إلى النحغ وهو جسر بن عمرو بن علة بن جلد بن مالك، وهو مذحج. ومن النخع الأشتر النخعي، واسمه مالك بن الحارث، صاحب رسول الله، ثم علي بن أبي طالب. وللنخع بطون عديدة منها: صهُبان، ووهبيل، وجسر، وجذيمة، وقيس، وحارثة، وصلاءة، و رزام، و الأرت، ومن الأرت بنو عبد المدان وعبد الحجر بن المدّان.

وولد مرّة بن أدد رُهْما، والحارث. ومن رهم كان الأفغى الذي كان يتحاكم إليه بنجران على رواية ابن حزم، أو من رهم، من طيء على رواية ابن دريد. أما الهمداني، فذهب إن انه من رهم بن مرة بن أدد، أي على نحو ما ذهب ابن حزم إليه.

وبنوُ مرّة بن أدد، اخوة طيء و مذحج والأشعريين، بطون كثيرة تنتهي كلها إلى الحارث بنُ مرّة، مثل خولان و معافر ولخم وجذام وعاملة وكندة. أما خولان، فيرجع نسبها إلى خولان بن عمرو بن مالك بن الحارث بن مرّة ابن أدد. ويسمي النسابون خوَْلان فكلا "أفكلاً" كذلك. والخوليون هؤلاء هم خولان أدد، وعرفوا بخولان العالية أيضاً، وهم غير خولان بن عمرو ابن الحاف "الحافي" بن قضاعة، أي خولان القُضاعية، وهي قبيلة يمانية كذلك في نظر من جعل قضاعة من اليمانيين. وأظن إن هناك صلة بين "فكل" و "أفكل" و "يكلى" أو "ركلى" المذكور عند بعض الأخباريين، وقد زعم الهمداني انه شقيق خَولان، وابن الابن الآخر لعمرو بن مالك. وقد نشأت هذه الصور للاسم من تحريف النُساخ، ومن لتبلبل الذيَ يحدثه أمثاله للنسابين والباحثين في الأنساب. و أما إن يكلى أو فكل هو شقيق خَوْلان، أو انه خولان نفسه، فأمر لا قيمة له.

ورجح نشوان بن سعيد الحميري كون المراد ب "خولان العالية" خوَلان قضاعة، وقد ذكر الرأيين وناقش كل واحد منهما، ثم رَجَّحَ إن خولان العالية هي خولان قضاعة..

واسم خولان من الأسماء التي ورد ذكرها في كتاباتي المسند. ورد اسماً لأرض، كما ورد اسماً لقبيلة، هي قبيلة خولان ويعود تأريخ هذه الكتابات إلى ما قبل الميلاد. وتقع أرض خولان في نفس المكان الذي عرف في الإسلام ب "عرّ خَوْلان" وبأرض خولان. وقد ذهب "شبرنكر" إلى إن خولان هي "حويلة" إحدى القبائل العربية المذكورة في التوراة.

وعند ظهور الإسلام، كانت خولان تتعبد للصنم، عم أنس "عميأنس" وللصنم يعوق. وفي السنة العاشرة للهجرة، وصل وفد منها إلى الرسول معلناً له الدخول في الإسلام. وقد اشتركت خولان مع من اشترك من القبائل العربية في الفتوح، فلعبت دوراً هاماً فيها خاصة في فتوحات مصر.

و إلى جعفر بن مالك بن الحارث بن مُرّة يرجع نسب المعافر. جدّ المعافرين، . ويسمى بالمعافر الاكبر تمييزاً له عن المعافر الأصغر، وهو ابن حضرموت. وقد اشتهرت المعافر بنوع من الثياب سميت باسمهم.

ومن ولد، عديّ بن الحارث بن مرّة بن أدد بن يشجب، كان الحارث بن عديّ وهو عاملة، وعمرو بن عديّ وهو جذام، و مالك بن عديّ وهو لخم، وعفير بن عدي وهو والد كندة. وكلها كما نرى قبائل معروفة شهيرة تنتسب إلى القحطانيين. وأما أمهم، فهي رقاش بنت همدان.

وذكر ابن خلدون إن الحارث بن عديّ والد عاملة، سمي عاملة باسم أمه عاملة، وهي من قضاعة. وذكر إنها كانت في بادية الشام.

وقد يستنتج من هذه الصلة بين القبائل الثلاث، إنها كانت حلفاً في الأصل جمع بينها لمصالح مشتركة ولظروف متشابهة ألفت بي ها على نحو ما رأينا عند قبائل أخرى فضارت نسباً بمرور الأيام. وقد كانت هذه الصلة قوية خاصة. بين لخم وجذام، حيث اقترن اسمهما معاً في الغالب، ولا سيما في الإسلام، مما يدل على اشتراك المصالح بين القبيلتين.

وكانت عاملة حليفة لكلب، "وغزت معها إلى طيء، فأسر رجل من عاملة، اسمه ععيسيس، عديّ بن حاتم، فانتزعه منهم شعيب بن مسعود. العُليمي من كلب، وقال له: ما أنت وأسر الأشراف ?"، وأطلقه بغير فداء. ومن عاملة الشاعر عديّ بن الرقاع.

ويذكر الأخباريون إن بطوناً من عاملة كانت في الحيرة ? كما إن بعضاً منها كانت خاضعة للزباّء. و إذا صح زعم الإخباريين هذا، فانه يدل على قدم وجود هذه القبيلة في بلاد الشام والعراق، ولكننا لا نجد لها ذكراً مثل اكثر القبائل الأخرى في كتب "الكلاسيكيين.

وكانت منازلها عند ظهور الإسلام في المنطقة الجنوبية الشرقية للبحر الميت. وقد اشتركت مع القبائل العربية الأخرى التي ساعدت الروم، وانضمت إلى جانب "هرقل" "Heraclius"، ولكن اسمها لم يرد كثيراً في أخبار فتوح المسلمين لبلاد الشام، وانما كان من الأسماء المعروفة في أيام الأمويين. وتدل إقامتها في هذه البلاد منذ أيام الجاهلية على إن صلتها ببلاد الشام كانت أقوى وأمتن من صلتها بالعراق.

وصنم عاملة هو الأقيصر، وكان في مشارف الشام، يحجون إليه، ويحلقون رؤوسهم عنده.

وولد جذام: وهو عمرو بن عديّ بن الحارث بن مرّة والد قبيلة جذام الشهيرة من الولد حراما، و "جُشَمَ". ومن بني حرام غطفان وأفصى، وهما ابنا "سعد بن اياس بن افصى بن حرام بن جذام". وذكر ابن حزم: ارن روح بن زنباع، و هو من بني افصى، اراد إن يرد نسب جذام إلى مضر، فيقال جذام بن أسدة أخي كنانة وأسدٍ ابني خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر، فعارضه في ذلك نائل بن قيس.

ومن بطون جذام: "بنو ضبيب، وبنو مخرمة، وبنو بعجة، وبنو نفاثة، وديارهم حوالي ايلة من أول أعمال الحجاز إلى ينبع من أطراف يثرب. وكانت لهم رياسة في معان وما حولها من ارض الشام لبني النافرة من نفائة، ثم لفروة ابن عمرو بن النافرة. وكان عاملاً للروم على قومه وعلى من كان حوالي معان من العرب. وهو الذي بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامه، و أهدى له بغلة بيضاء وسمع بذلك قيصر، فأغرى به الحارث بن أبي شمر الغساني ملك غسان، فأخذه وصلبه بفلسطين".

أما لخم، الأخ الآخر لعاملة وجذام، فولد جزيلة ونمارة، وولد نمارة عديّاً، وهو عَمَم وحبيب وجذيمة، وهم العباد، وغيرهم. وولد حبيب، هانئاً، ومن نسله تميم الداري صاحب رسول الله، ومن نمارة عمرو بن رزين ابن لخم، ومن ولده قصير الوارد اسمه في قصة الزباّء، ومن نسل عَمَم بنو نصر بن ربيعة بن عمرو بن الحارث بن مسعود بن مالك بن عمم بن نمارة ابن لخم، رهط آل المنذر ملوك الحيرة.

ويظهر إن اللخمين كانوا أقدم جماعة في هذا الحلف، وقد كانوا قبل الإسلام في بلاد الشام والعراق وفي البادية الفاصلة بينهما وفي مواضع متعددة من فلسطين. ومنهم كما رأينا كان آل لخم ملوك الحيرة. ولا يستبعد إن يكون ظهور هذه القبيلة علن أثر تصدع حكومة تدمر. حيث مكن هذا التصدع رؤساء القبائل . الكرى من الظهور. وقد كان اللخميون على النصرانية مثل الغساسنة في الشام.

ويدل القصص المروي عن أصل لخم، وانحدارها من صلب إبراهيم، على قدم هذه القبيلة في نظر أهل الأخبار. ومما جاء في هذا القصص إن أحد بني لخم هو الذي أخرج يوسف من البئر. وقد لعب اللخميون دوراً هاماً كما رأينا في سياسة البادية وفي مقدرات عرب الشام والعراق.

وفي الإسلام صارت كلمة "لخم" تطلق على جذام. ويدل ذلك على الصلات الوثيقة التي ربطت بن القبيلتين. ثم قل استعمال كلمة "لخم" و لخمي، بالقياس إلى جذام. حتى صارت لخم تعني في الغالب الأمراء اللخميين.

وشقيق لخم هو عفير بن عديّ والد ثهور، وهو كندة جدّ قبيلة كندة الشهيرة. وولد كندة معاوية بن كندة، وأشرس، وأمهما هي رملة بنت أسد ابن ربيعة بن نزار. وبمثل هذا النسب صلة كندة بقبائل معدّ. وقد نسب بعض النساّبين كندة إلى كندة، وهو ثور بن مرخ بن معاوية بن كندي بن عفير بن عديّ بن الحارث بن مرّة بن أدد بن زيد بن عمرو بن عريب بن زيد بن كهلان، وقد ولد هذا النسب من نسب آخر جعل اسم ولدم عفير "كندي"، ثم ساقوا النسب على هذا النحو إلى إن وصلوا إلى ثور بن مرخ، فقالوا: إنه هو كندة وانه شقيق مالك وهو الصدف، وقيس.

ومن بطون كندة معاوية بن كندة، ومنه الملوك بنو الحارث بن معاوية الأصغر بن ثور بن مرتع بن معاوية أسلاف الشاعر امرؤ القيس، وقد حكموا القبائل الأخرى من غير كندة، ومنها قبائل من عدنان.

ومن ولد أشرس: السكون والسكاسك، ومن السكون بنو عديّ وبنو سعد وأمهما من مذحج اسمها تجيب بنت ثوبان بن سُليم بن رها بن مذحج، ولذلك عرفوا ب "تجيب".

وكان أكيدر بن عبد الملك صاحب دومة الجندل في أيام الرسول من السكون، وأخوه بشر بن عبد الملك. يذكرون انه ذهب إلى الحيرة، وتعلم بها الخط، ثم رجع إلى مكة فتزوج الضهياء بنت حرب أخت أبي سفبان.

وأما الصدف، فهو كقب مالك بن أشرس على رواية. وقد نسب إلى كندة، كما نسب إلى حضرموت. ونسبه بعض النسابين إلى حمير. فمن نسبه إلى كندة، قال: الصدف هو: عمرو بن مالك بن أشرس بن شبيب بن السكون ابن أشرس بن ثور وهو كندة، أو عمرو بن مالك بن أشرس أخي السكون ابن أشرس. ومن نسبه إلى حضرموت، قال: الصدف، هو الصدف بن أسلم بن زيد بن مالك بن زيد بن حضرموت الأكبر. وقد قال عنه بعض، الأخباريين: انه مالك بن الصباح، أخو أبرهة بن الصباح. وأبرهة بن الصباح هو عربي في نظر أكثر الأخباربين. ولم يعرفوا انهم يقصدون به أبرهة الحبشي، صاحب حملة. الفيل. ومن نسبه إلى حمير قال: الصدف هم من نسل: الصدف ابن عمرو بن ديسع بن السبب بن شرحبيل بن الحارث بن مالك بن زيد بن سدد بن حمير الأصغر أو الصدف بن سهلة بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن هميسع بن حميرا.

واختلاف أهل الأنساب، وأهل الأخبار في نسب الصدف، دليل على اختلاط هذه القبيلة ببطون كندة وحمير وحضرموت. ودخول بطونها فيها، وانتسابها إلى البطون التي دخلت فيها، ويؤدي ذلك في الغالب كما رأينا إلى اختلاط الأنساب.

الفصل السابع و الأربعون

القبائل العدنانية

اوجزت الكلام في الفصل المتقدم على القبائل القحطانية، أي القبائل التي يرجع نسبها إلى اليمن، وفي هذا الفصل سأحاول الكلام على قبائل القسم الثاني من العرب، أي قبائل العدنانين، مقتصرا في الغالب على ذكر القبائل الكبرى، سالكاً ما سلكته في الفصل المتقدم من طريقة أهل الأنساب في ترتيب القبائل.

وجدّ قبائل هذا الفصل عدنان من سلسلة تنتهي بإسماعيل بن أيراهم الخليل، جد الإسماعيليين. وهو مثل قحطان شخصية لا نعرف من أمرها شيئاً، ولا من خبرها غير هذا الذي يقصه علينا الأخباريون. وهو على حد قولهم من معاصري الملك بختنصر ملك بابل "604 - 561ق.م" الذي أوحى الله إليه على لسان "برخيا بن احنيا بن زربابل بن سلتيل" إن يغزو العرب في أيام ابنه معدّ بن عدنان على حد قول الأخباريين.

ويزعم الأخباريون انهم وجدوا في كتب "برخيا" هذا نسب عدنان، وأنه كان معروفاً عند أهل الكتاب وعلمائهم، مثبتاً في أسفارهم. واستشهدوا على نسبه بشعر لأمية بن أبي الصّلت. فمن ذرية عدنان أذن، تفرعت هذه القبائل التي سأتحدث عنها في هذا الفصل.

وقد بخل الأخباريون على عدنان، فلم يمنحوه من الولد غير ولدين، هما:.

معد، والحارث وهو عكّ. وأمهما: منهاد بنت لهم بن جليد بن طسم. وقد بخلوا عليه بأسماء نسائه أيضاً على ما يظهر، إذ لم يذكروا لنا اسم زوجة أخرى له. ولا ندري نحن، وقد عشنا بعدهم بقرون، سرّ هذا البخل الشنيع.

ومن نسل هذين الولدين تفرعت قبائل عدنان فأولد معد نزاراً، وأضاف بعض النسابين قضاعة إليه. و أمهما معانة بنت جوشم بن جهلمة بن عامر بن عوف ابن عديّ بن دُب بن جرهم. وقد أشرت إلى اختلاف النسابين في نسب قضاعة و إرجاع بعضهم إياه إلى معدّ وبعضهم إلى قحطان، والى محاولة كل فريق جرهم إليه، لعوامل سياسية بحتة و إن اكتسبت صبغة نسب وأصل وحسب، فالموضوع هو تكتل وتحزب وتنافس. و قضاعة كتلة من القبائل كبيرة، لذلك كان لاجتذابها إلى أحد المعسكرين السياسيين المتطاحنين أهمية عظيمة في سياسة ذلك العهد، لذلك نجد نَسّابي كل فريق يحاولون جهدهم إثبات نسب قضاعة في فريقهم، حريصين على نفي نسبتها إلى الفريق المعارض، و إخراجها منها، وتفنيد حجج الخصوم هذا، أبو عبد الله الزبيري. "156 - 236 ه" و هو قرشي، و معدود من مشاهير النسابين، يذكر نسب قضاعة فيقول: "وقد انتسبت قضاعة إلى حمير، فقالوا: قضاعة بن مالك بن حمير بن سبأ، وأمه عُكبرة، امرأة من سبأ، خلف عليها معد، فولدت قضاعة على فراش معدّ، وزَوّروا في ذلك شعراً فقالوا: يا أيها الداعي ادعنه وأبشـر  ولكن قضاعـياً ولا تَـنَـزّرْ

قضاعة بن مالك بن حـمـير  النسب المعروف غير المنكر

قال: وأشعار قضاعة في الجاهلية، وبعد الجاهلية، تدلّ على إن نسبهم في معدّ".

وجعل ابن حزم لمعدّ خمسة أولاد، هم: نزار بن معدّ، و أياد بن معدّ، وقنص بن معدّ، وعبيد الرماح بن معدّ، والضحاك بن معدّ. وذكر إن من الأخباريين من يزعم إن ملوك الحيرة من المناذرة هم من ولد قنص، وأن عبيد الرماح دخلوا في بني مالك بن كنانة، وان الضحاك بن معد هو الذي أغار على بني إسرائيل في أربعين من تهامة. ونسب ابن الكلبي لمعد جملة أولاد آخرين.

ويذكر بعض الأخباريين إن الإمارة بعد معدّ على العرب كانت إلى قنص بعد أبيه، فأراد إخراج أخيه نزار من الحرم، فأخرجه أهل مكة، وَ قدّموا عليه نزاراً.

وقد ولد لنزار مضر واياد، وأمهما، خبيةّ بنت عك بن عدنان، و ربيعة وانمار، وأمهما حُدالة بنت وعلان بن جوشم بن جهلمة بن عامر بن عوف بن عديّ بن دُبّ بن جرهم، فهما ليسا صريحين في نظر النسابين كمضر و أياد، لأنهما ليسا مثلهما من أب عدناني و أم عدنانية. ومن النسابين من قال: إن "ربيعة ومضر الصريحان من ولد إسماعيل"، فلم يجعل اياداً بذلك من العدنانيين الصريحين.

وفي رواية الأخباريين إن نزاراً حينما شعر بدنوّ اجله قسم ما عنده على أولاده، فجل لربيعة الفرس، ولمضر القبة الحمراء، ولأنمار الحمار، و لإياد الحلمة والعصا.. ثم تخاصموا بعد ذلك، واتفقوا على التحكيم، فحكم بينهما أفعى نجران.

ولم يجزم ابن حزم في نسبة أنمار نزار، فبعد أن ذكر مضر وربيعة واياداً، وهم ولد نزار، قال: "وقيل: أنمار"، ثم قال: "وذكروا أن خثعماً وبحيلة من ولد أنمار". أما ابو عبد الله المصعب بن عبد الله مصعب الزبيري، فأثبت نسب أنمار في نزار، وذكر إن من أنمار بجيلة "انتسبوا إلى اليمن، إلا من كان لهم بالشام والمغرب، فانهم على نسبهم إلى أنمار بن نزار".

ويظهر إن نسابي خثعم وبجيلة يأبون انتسابهم إلى أنمار، إذ ذكروا ذلك، ويرون إن اراش بن عمرو تزوّج ابنة أنمار، وهي سلامة، فولدت له ولداً سمي أنمار بن اراش. ويذكر النسابون انه لم يشتهر أحد من ولد أنمار. ومعنى هذا إن هذه القبيلة كان قد ضعف حالها وذابت في غيرها، لذلك يذكر لها النسابون شيئاً من البطون.

وقد نسب "الزبيري" خثعماً إلى اقبل "افتل" بن أنمار بن نزار، وذكر إن خثعماً هم اسم جبل تحالفوا عليه، "فنسبوا إليه، وهم بالسراة على نسبهم إلى أنمار بن نزار. و إذا كانت بين اليمن فيما هنالك وبين مضر حرب، كانت خثعم مع اليمن على مضر". كذلك نسب خزيمة، وهو يشكر إلى أنمار.

وكان اياد على رواية الأخباريين اكبر أولاد معدّ، واليه يرجع نسب كل أيادي. وأولد اياد زهراً ودعمياً ونمارة، ومن نسلهم تفرعت سائر اياد.

وقد ارتحلت اياد عن منازلها الأصلية، بسبب الحروب، فذهب قسم كبير منها إلى العراق حيث نزلوا في الأنبار وفي عين أباغ و سنداد و تكريت وبطن اياد و باعجة وأماكن أخرى، وذهب قسم آخر منهم إلى البحرين حيث انضموا إلى قضاعة، كما سكن قسم منهم في بلاد الشام.

ويروي الأخباريون إن اياداً الذين كانوا اختاروا الإقامة في البحرين وهجر بعد تركهم مواطنهم القديمة في تهامة اضطروا إلى ترك مواطنهم الثانية والهجرة منها إلى العراق على اثر قدوم بني عبد القيس وشن بن افصى ومن معهم مهاجرين من منازلهم إلى هجر و البحرين، فان هؤلاء القادمين الجدد لما بلغوا هجر والبحرين ضاموا من وجدوهم بها من اياد و الازد، ثم أجلت عبد القيس اياداً عنه تلك البلاد، فساروا نحو العراق، وتبعتهم شن بن افصى، فعطفت عليهم اياد واقتتلوا معهم حتى كاد القوم يتفانون، وقد بادت بسبب ذلك قبائل من شن.

أما منازل اياد القديمة، فكانت تهامة مع ابناء أنمار ما بين حد ارض مضر إلى حد نجران وما والاها وصاقبها من البلاد. ثم فارقت أنمار اخوتها ربيعة ومضر و اياداً، فكثرت اياد وزاد عددها وكثرت قبائلها، فأخذت تعتدي على ابناء ربيعة ومضر، فوقعت بينها وبينهم من جراء بغيها هذا حروب، واجتمعت مضر وربيعة عليها، ثم تحاربوا في موضع من ديارهم يسمى "خانقاً" وهو لكنانة، فغلبت اياد، وظعنت من منازلها، وافترقت عن اخوتها، وتفوقت على رأي بعض الأخباريين ثلاث فرق: "فرقة مع أسد بن خزيمة بذي طوى، و فرقة لحقت بعين اباغ. وأقبل الجمهور حتى نزلوا بناحية سنداد. ثم أتفقوا، فكانوا يعبدون ذا الكعبات: بيتا بسنداد - وعبدتها بكر بن وائل بعدهم - فانتشروا فيما بين سنداد وكاظمة، والى بارق و الخورنق وما يليها، و استطالوا على الفرات، حتى خالطوا ارض الجزيرة، فكان لهم موضع دير الأغور ودير الجماجم ودير مُرّة، وكثر من بعين اباغ منهم، حتى صاروا كالليل كثرة، وبقيت هناك تعير على من يليها من أهل البوادي، وتغزو مع ملوك آل نصر المغازي"، وحالها حسن معهم ومع الأكاسرة، حتى حدث حادث افشل ما بينهم وبين الفرس، يرجعه الأخباريون إلى اعتداء نفر من اياد على نسوة من أشراف الأعاجم، وذلك في أيام "انو شروان بن قباذ" أو "كسرى بن هرمز"، فسار إليهم الفرس، فانحازت اياد إلى الفرات، وجعلوا يعبرون ابلهم بالقراقير، و يجوزون الفرات فتبعتهم الأعاجم، وكان على اياد يومئذ. "بياضة ابن رباح بن طارق الايادي". فلما التقى الناس، ارتجزت "هند بنت بياضة" شعراً مشهوراً معروفاً، أوله: نحن بنـات طـارق  نمشي على المفارق

ثم هجمت اياد على الفرس، وهزمتها آخر النهار، وقتلت الجيش الذي كان يتعقبها، فلم يفلت منه إلا الشريد، وجمعوا جماجمهم، فجعلوها كالكوم، فَسُمّي ذلك الموضع دير الجماجم.

هذه رواية من عدة روايات وردت عن الحرب التي وقعت بين الفرس و اياد، وهي الرواية الوحيدة التي ورد فيها خبر انتصار اياد على الفرس. أما الروايات الاخرى، فتقول بانتصار الفرس على اياد. فرواية أبي علي القالي مثلاً،عن رجاله تنص على غزو انو شروان لاياد على اثر اعتداء نفر من اياد على نسوة الاعاجم، وتعقيبه لهم، وقتله خلقاً منهم، حتى اضطر بعضهم إلى النزول بتكريت، وبعضهم ارض الموصل والجزيرة، عندئذ بعث انو شروان ناساً من بكر بن وائل مع الفرس، فنفوهم من تكريت والموصل إلى قرية. يقال لها الحَرَجيّة: ثم التقوا بهم ثانية في هذا الموضع، فهزمهم الفرس، وقتلت. منهم كثيراً، ودفنت أجسادهم بها في مقبرة ذكر صاحب الرواية إنها كانت معروفة بها إلى يومه. وسارت البقية حتى نزلت بقرى من ارض الروم، فسار بعضهم إلى حمص وأطراف الشام. وكان الحارث بن همام بن مرّة بن ذهل بن شيبان فيمن سار إليهم من بكر بن وائل مع الأعاجم، فأجار ناساً من اياد، كان فيهم: أبو دواد الايادي..

وفي رواية أخرى إن اياداً كانت مقربة عند الفرس، حتى إن كسرى بن هرمز كان قد اتخذ جماعة منهم امتازوا بحسن الرماية، فجعلهم رماة عنده، وجعلهم مراصد على الطريق فيما بينه. وبين الفرات لئلا يعبره أحد عليهم، إلى إن حدثت حادثة الاعتداء على نسوة، فغضب كسرى على اياد، وأرسل جيشاً عليهم، لحقهم وقد عبروا دجلة، فجثا الاياديون على الركب، ورموا الفرس رشقاً واحداً. عندئذ آمر كسرى بإرسال الخيل عليهم، وأمر "لقيط بن يعمر ابن خارجة بن عَوْبَثان الايادي"، وكان كاتبه بالعربية وترجمانه، وكان محبوساً عنده إن يكتب إلى من كان من شداد قومه، فيما بينهم وبين الجزيرة، إن يقبلوا إلى قومهم، فيجتمعوا، ليغير على اياد كلهم، فيقتلهم. فكتب لقيط إلى قومه ينذرهم كسرى، ويحذرهم إياه في جملة قصائد رواها الأخباريون، فهربت اياد وأمر كسرى الخيل، فأحدقت بهم وبالذين بقوا من خلف الفرات. ثم وضعوا فيهم السيوف، ومن غرق منهم بالماء اكثر ممن قتل بالسيف. ولما بلغ كسرى شعر لقيط قتله.

أما من هرب من اياد إلى الشام، ومن كان قد هاجر إليها، فقد دان للغساسنة، و تنصر كأكثر عرب الروم، ولحق أكثرهم بلاد الروم فيمن دخلها مع جبلة بن الايهم من غسان وقضاعة ولخم وجذام.

ولدينا رواية أخرى في أسباب تسمية موضع دير الجماجم بهذا الاسم، تشير إلى حدوث، معركة بن الفرس و اياد، وقتل اياد لقوم من الفرس، ولكنها حادثة أخرى غير الحادثة المتقدمة على ما يظهر، يرويها ابن الكلبي، خلاصتها: إن رجلاً من اياد اسكنه بلاد الرماح أو بلال الرماح، وهو انبت بن محرز الايادي، قتل قوماً من الفرس، ونصب رؤوسهم عند الدير، فسمي دير الجماجم. ولم تذكر هذه الرواية زمن حدوث هذا القتل، وهل كان قبل إجلاء اياد عن العراق أو بعده كما جاء في الروايات السابقة? وهل كان هذا انتقاماً من الفرس بعد ما فعلوه بإياد? غير إن هناك رواية أخرى يرويها ابن الكلبي أيضاً تشير بوضوح إلى إن فتك اياد بالفرس في موضع دير الجماجم إنما كان بعد نفي كسرى إياهم إلى الشام وفتكه بهم، أي إن هذا الفتك كان عملا انتقامياً من الفرس، لما فعلوه بإياد. يقول ابن الكلبي: "كان كسرى قد قتل اياداً، ونفاهم إلى الشام، فأقبلت ألف فارس منهم حتى نزلوا السواد، فجاء رجل منهم وأخبر كسرى يخبرهم، فأنفذ إليهم مقدار ألف وأربع مئة فارس ليقتلوهم، فقال لهم ذلك الرجل الواشي: انزلوا قريباً حتى أعلم لكم علمهم. فرجع إلى قومه وأخبرهم، فأقبلوا حتى وقعوا بالأساورة، فقتلوهم عن آخرهم، وجعلوا جماجمهم قبة. وبلغ كسرى خبرهم، فخرج في اهليهم يبكون. فلما رآهم، إغتم لهم، وأمر أن يبني عليهم دير سمي دير الجماجم". وهذه الرواية عن فتك اياد بالفرس، هي اقرب إلى المنطق من الرواية الأولى التي ذكرتها عن النزاع بين كسرى و اياد.

على إن هناك أخباراً أخرى ذكرها الأخباريون في تعليل اسم موضع "دير الجماجم" لا تشير إشارة ما إلى هذا الاصطدام بين الفرس واياد، إنما أشار بعضها إلى حرب وقعت بين اياد وبين بني نهد في هذا المكان، قتل فيها خلق من اياد و قضاعة، ودفنوا هناك، فسمي الموضع بهذا الاسم، كما نسبت الحرب إلى قبائل أخرى لم يرد بينها اسم اياد.

وفي رواية. الإخباريين عن فتك كسرى بإياد، ونفيه إياهم إلى الشام، مبالغة كبيرة ولا شك. فإننا نجدهم أنفسهم يذكرون اياداً مع الفرس تحارب في معركة "ذي قار"، ثم يذكرون إنها اتفقت سراً مع بكر على إن تخذل الفرس يوم اللقاء. وقد خذلتهم بالفعل، إذ ولت منهزمة، ساعة اشتداد القتال فانهزمت الفرس. ثم تراهم يذكرون اياداً في أخبار الفتوح، فيروون إنها حاربت تحت امرة "بهران ابن بهران جوبين" المسلمين، أي إنها كانت تحارب مع الفرس في العراق. وان صلاتهم كانت حسنة بهم. وهذا يناقض ما زعموه عن نفي الفرس لهم عن العراق.

ولم تكن اياد من القبائل العربية النصرانية التي مالت إلى تأييد المسلمين، ففي الفتوحات الإسلامية للعراق كانوا مع الفرس على المسلمين وإن ساعدهم قسم منهم بالاتفاق معهم سراً، كما حدث في فتح تكريت. وفي الشام انضم قسم منهم إلى "هرقل" "Heraclius" في محاولاته اليائسة التي قام بها للاحتفاظ ببلاد الشام ولاستخلاص ما استولى عليه المسلمون من تلك البقاع. ولما حلت الهزائم بالروم، فضل قسم منهم الهجرة إلى بلاد الروم و الإقامة فيها. وقد كان ذلك عن عاطفة دينية ولا شك. غير إن هذا لا يعني إن جمهرة اياد كانت كلها مع الروم.

ذكرت إن من المواضع التي كانت لإياد في العراق، موضع سنداد، ويفهم من روايات الأخباريين عنه، انه قصر ونهر ومنازل نزلت بها إباد حين مجيئها إلى العراق، وانه كان في الأصل اسم حاكم فارسي كان قد عين على هذه المنطقة، فأقام بها مدة طويلة، وبنى أبنية كثيرة من جملتها القصر الذي ذكر في شعر ينسب إلى الأسود بن يعفر النهشلي، جاء فيه: أهل الخورنق والسدير وبـارق  والقصر ذي الشرفات من سنساد

وانه أيضاً اسم قصر كانت العرب تحج إليه، هو الذي قصده الهمداني بقوله: "وكانوا يعبدون بيتاً يسمى ذا الكعبات، والكعبات حروف الترابيع". ويظهر من روايات الأخباريبن عن هذا القصر انه كان من القصور الضخمة المعروفة. يظهر انه كان مربع الشكل، أو ذا مربعات ولذلك عرف ب "الكعبات"، وب "ذي الكعبات". وذكر أيضاً انه كان لربيعة، وانها كانت تطوف حوله حيث قالوا: "الكعبات، بيت كان لربيعة، كانوا يطوفون به".

ويظهر من أقوال الأخباريين وجود عدة بيوت كانت على هيأة كعبات في جزيرة العرب لعبادة الأصنام، تحج القبائل إليها وتطوف حولها، سأتحدث عنها في الجزء الخاص بالحياة الدينية عند العرب قبل الإسلام، ومنها بيت كان ب "أحد" على رواية، أو على مقربة من شداد "سنداد" على رواية ابن دريد، أو على شاطئ الفرات على رواية تنسب إلى ابن الكلبي عرف ب "السعيدة" كانت ربيعة تحجه في الجاهلية، وأظنهم يقصدون هذا البيت بيت سنداد.

أما مضر، فولد الياس والناس، ويعرف،أيضاً. بعيَلان، وأمهما الحنفاء ابنة إياد بن معدّ، وسماها ابن حزم "أسمى بنت سود بن أسلم بن الحارث. ابن قضاعة"، فهي قضاعية على هذا الرأي. وجعل بعض النسابين أم الياس امرأة دعوها الرباب بنت إياد المعدية، فهي إذن على هذه النسبة من معد.

ومضر هو شعب في نطر أهل الأنساب، والشعب في عرفهم أعظم من القبيلة، فهو أكبر وحدة اجتماعية سياسية في اصطلاح النسابين. وهو من أعظم شعوب مجموعة عدنان، ولم يعثر على هذا الاسم في الكتابات الجاهلية، ولا في مؤلفات الكلاسيكيين. أما اسم معدّ، فقد أشير إليه كما ذكرت سابقاً في بعض مؤلفات الكلاسيكيين. وأما اسم نزار فقد ورد في نص النمارة الذي يرجع عهده إلى سنة 328 للميلاد. وقد عرف مضر ب "مضر الحمراء" عند النسابين، ويقولون انه عرف بذلك "لأن أباه أوصى له من ماله بالذهب". ويظهر إنها كانت قبيلة عظيمة عند ظهور الإسلام، ثم اندمجت في غيرها من قبائل هذه المجموعة: مجموعة عدنان. حتى تغلبت على مضر تسمية قيس، أي تسمية أبناء قيس عيلان "قيس بن عيلان" "قيس عيلان" في الإسلام، فصارت "قيس" تؤدي معنى العدنانية، واستعملت في مقابل عرب اليمن قاطبة، فيقال: قيس ويمن.

. وولد لألياس مدركة واسمه عامر، وعمرو وهو طابخة، وقمعة واسمه عمير، وأمهم خندف، و أما ليلى بنت حُلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة. وقد نسبوا إلى أمهم فقيل لهم خندف. وقد حصر بعض النسابين نسل خندف في مدركة وطابخة، ولذلك حصروا قبائل مضر في أصلين خندف وقيس عيلان.

أما مدركة، فولد له خزيمة ؛ وهذيل. وأمهما سلمى بنت أسد بن ربيعة ابن نزار، و نسب بعضهم له ولداً آخر هو غالب. وولد خزيمة كنانة، وأمه عوانة بنت قيس بن عيلان، وأسداً، وأسدة، و الههون، وأمهم برّة بنت مرّ بن أد بن طابخة بن الياس بن مضر بن مضر بن نزار،وهي أخت تميم ابن مرّ و هذيل قبيلة متسعة، لها بطون كثيرة.

وليس النسابون على اتفاق بين هم في تعيين، أولاد أسدة، فجعلهم بعضهم جذاماً ولحماً وعاملة، ونسب هؤلاء في اليمن كما أشرت إلى ذلك في أنساب قبائل قحطان على رأي أكثر النسابين.

وأما نسل الهون فهم: عضل، و ديش، ويعرفون بالقارة، وهم بنو بيشع بن مليح بن الهون. على حدِّ قول بعض النسابين وبطنان من خزاعة هما الحيا والمصطلق، حلفاء بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة. ويعرفون على حد قولهم بالأحابيش: أحابيش. قريش. لأن قريشاً حالفت بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة على بكر بن عبد مناة، فهم حلفاء قريش.

و أولاد كنانة، هم: النضر، وهو أكبر أولاده وبه يكنى، ومالك "مالكا"، وملكان، ومليك وغزوان، وعمرو، وعامر، وأمهم برّة بنت مرّ أخت تميم بن مرّ، وهي نفسها زوج خزيمة والد كنانة، تزوجها كنانة بعد وفاة أبيه. وكانت العادة في الجاهلية إن يتزوج الولد البكر زوجة أبيه بعد وفاته إذا لم تكن أمه، وان يرث خيار ماله، وهو زواج منعه الإسلام. ويعرف هذا الزواج بزواج المقتْ.

وكانت لكنانة زوج أخرى، هي هالة بنت سويد بن الغطريف، و يقصدون بالغطريف حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث بن النبت، وقد ولدت له حُدال وسعداً وعوفاً ومجربة. وقد ترك هؤلاء الأولاد فرية، فكان من نسل حدّان جماعة أقامت بعدن أبين، وكان من نسل مجربة بنو ساعدة.

أما زوج كنانة الثالثة، فكانت الذفراء: واسمها فكيهة. وهي بنت هنى ابن بلي بن عمرو بن الحاف بن قضاعة. وقد ولدت له: عبد مناة.

وولد النضر، وهو قريش على بعض الآراء مالكاً على رأي أكثر النسابين، و أضاف بعضهم إليه ولدين آخرين، هما: يخلد الصلت، وأمهم عكرشة بنت عدوان بن عمرو بن قيس ابن عيلان. ومن يخلد قريش بن بدر بن يخلد بن النضر، وكان دليل قريش في التجارة في الجاهلية، وبه سميت قريش على رأي بعض النسابين، وباسم بدر والده دعي بدر، والى الصلت بن النضرة ينسب بنو مليح "ملح"، على رأي، بينما يعدّون من خزاعة في رأي آخر.

أما ولد مالك، فهو فهر، وهو قريش، وأمه جندلة بنت الحارث بن جندل ببن عامر بن سعد بن الحارث بن عضاض بن جرهم، فهي جرهمية على هذا النسب. وبه سميت قريش قريشاً على رأي أكثرية أهل الأخبار. ولهذا يقال لهم بنو فهر. و للإخباريين روايات عديدة في معنى قريش.

وولد فهر غالباً والحارث ومحارباً وجندلة، وأمهم ليلى بنت الحارث بن تميم ابن سعد بن هذيل بن مدركة، وولد غالب بن فهر لؤياً وتميماً وهو الأدرم، وأمهما عاتكة بنت يخلد بن النضرة بن كنانة، وقيس بن غالب وقد انقرض نسله.

ومن ولد لؤي كعب وعامر، وهما البطاح، وسامة ومن نسله بنو ناجية، وخزيمة وهم عائذة، وقد نزلوا في بني أبي ربيعة من شيبان، والحارث وهو جشم، وهم في همدان، وأمهم مارية بنت كعب بن القين بن جسر بن شيع الله ابن أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران، بن الحاّف بن قضاعة، وسعد ابن لؤي وهم بنانة، وقد نزلوا في بني شيبان، وأمه يسرة بنت غالب بن الهون بن خزيمة، وعوف بن لؤي وقد دخل نسله في بني ذبيان بن غطفان أم بن قيس عيلان، وهم بنو مرّة بن عوف بن ذبيان رهط الحارث بن ظالم المري. وقد دخل أكثر هؤلاء الأبناء في غيرهم، ولذلك أدخلهم النسابون فيمن دخلوا فيهم، وعدوا نَسْلَ كعب وعامر الصرحاء من ولد لؤي وحده?

وولد كعب مرّة، وهصيصاً، وأمهما وحشية بنت. شيبان بن محارب بن فهر، وعديّ وأمه حبيبة بنت بحالة بن سعد بن فهم بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر، وولد مرّة كلاباً، وأمه هند بنت سرير بن ثعلبة بن الحارث ابن مالك بن كنانة، وسرير والد هند هو أول من نسأ الشهور، ثم نسأها القلمس ابن أخيه من بعده واسمه عديّ بن ثعلبة بن الحارث بن كنانة. ثم صار النسيء في ولده، وكان آخرهم جنادة بن عوف. وولد أيضاً تيم بن مرّة ويقظة بن مرّة، وأمهما بنت سد، وهو بارق بن الحارثة بن عمرو بن عامر. جد قبيلة بازق، ومن عديّ بن كعب عمر بن الخطاب وزيد.

أما كلاب، فكان له من الولد قصيّ وزهرة. ومن نسل قصي: عبد مناف وعبد الدار وعبد العزى. وقد تحدثت سابقاً عن قصيّ منظم قريش.

فولد عبد مناف بن قصيّ: عمراً وهو هاشم، والمطلب وهو عبد شمس ونوفلاً. وأم هاشم وعبد شمس والمطلب عاتكة بنت مرّة بن هلال بن فالح بن ذكوان السلمية، وأم نوفل واقدة من بني مازن بن صعصعة السلمية، خلف عليها هاشم بن عبد مناف بعد أبيه، فولدت له ابنتين خالدة وضعينة.

ومن بطون كلاب بنو زهرة ومن بطون تيم بن مرّة أبو بكر الصديق، وعبد الله بن جدعان سيد قريش في الجاهلية، ومن بطون يقظة بن مرّة بنو مخزوم، ومنهم خالد بن الوليد.

ومن نسل هصيص بن كعب، بنو جمح، وهم ولد جمح بن عمرو بن هصيص، وبنو سهم بن عمرو بن هصيص. ومن بني سهم، عمرو ابن العاص.

وقد وقعت حرب بين بني جمح وبني محارب بن فهر في موضع عرف بردم بني جمح بمكة، قتلت فيه بنو محارب بني جمح اشد القتل، فعرف ذلك الموضع بالردم، بما ردم عليه من القتلى يومئذ. وكان أمية بن خلف على بني جمح في حرب الفجار.

أما نسل ربيعة بن نزار، فهم أسد وضبيعة ، ويضاف اليهما أكلب على بعض الروايات. ومن نسل هؤلاء تفرعت قبائل ربيعة. فمن أسد كانت جديلة وعنزة و عمير، ومن بني عنزة بنو هزّان بن صباح بن عتيك بن أسلم بن يذكر بن عنزة. وبنو جلاّن بن عتيك بن أسلم بن يذكر بن عنزة. وبنو الحارث بن الدؤل بن صباح بن عتيك بن أسلم. كان إذا مصر ثوبية مصرت عنزة معه. وعرف من بي هزان آل ضور بن رزاح بن مالك بن سعد بن وائل بن هزّان، والحارث بن رزاح أخو ضور بن رزاح وهو الذي يقال انه الحارث بن لؤي بن غالب الذي يسمى جشماً، و جشم كان عبداً لأبيه، حضنه فسمى به.

وتعد عنزة من القبائل العربية الكبيرة، وهي لا تزال من القبائل البارزة في الزمن الحاضر، ولها بطون عديدة في الحجاز وفي وبادية الشام والشام. أما تأريخها قبل الإسلام، فهو مثل تواريخ القبائل الأخرى من حيث الغموض. وقد كانت تتعبد في الجاهلية لمحرق ولسعير.

وأما ولد ضبيعة ، فهم أحس والحارث. ومن بني أحمس الشاعر المسيب، و هو زهر بن علس، والحارث الأضعم بن عبد الله بن ربيعة بن دوفن سيد ربيعة الذي نشبت بسبب مقتله حرب بين بني ربيعة، والمتلمس الشاعر. ومن بني أحمس أيضاً بنو الكلبة، وهم أولاد مرّة بن مازن بن أوس بن زيد بن أحمس بن ضيعة، ومنهم الحُلَيْس وابن المسيب.

أبا جديلة، وهو جدّ جديلة، فولد دُعميّاً و جدْياً. وقد دخل بنوه في بني شيبان، وجدار "جدانا"، وقد دخل نسله في بني زهير بن جشم من بني النمر بن قاسط. وولد غير ذلك في بعض الروايات. وولد دعمي أفصى، و ولد أفصع هنبساً وعبد القيس وجشماً ودخل بنوه في عبد القيس، وناشما، ودخل بنوه في بنى تغلب.

ومن نسل عبد القيس بن أفصى، شن ولكيز. و من ولد لكيز وديعة وهو جدّ بطن، وصباح، وهم بطن كذلك ونكرة، ومن بطون وديعة عمرو، وغنم، ودهن، ومن عمرو بن "وديعة مالك وثعلبة وعائدة وسعد وعوف والحارث، ومن الحارث، ابن أنمار بن عمرو بن وديعة البراجم، وهم عبد شمس وعمرو وحيّ بني معاوية بن ثعلبة بن عوف بن أنمار بن عمرو بن ربيعة، وهؤلاء البراجم هم غير براجم تميم، والجارود وقد كانت له صحبة بالرسول وولي أولاده منازل رفيعة في الإسلام.

ومن نسل عجل بن عمرو بن وديعة بن لكبز، ذهل وذاهل، ومن بني ذهل ليث وثعلبة، وهما ابنا حداد بن ظالم بن ذهل بن عجل بن عمرو. ومن ليث بن حداد بنو ذهل بن ليث، ومنهم جيفر بن عبد عمرو بن خوليّ ابن همام بن الفاتك، ومن نسل عمرو بن وديعة بنو محارب، ومنهم الحطم بن محارب، واليه تنسب الدروع الحطمية، وبنو الدّيل بن عمرو بن وديعة، ومن نسل وديعة بن لكيز بنو دهن وبنو غنم. ومنهم الدّيل ومازن.

واشتهر من ولد نكرة بن لكيز، الشاعر المثقب، والشاعر الآخر الممزق، وهوشأس، والمفضل بن معشر بن أسجم وهو شاعر كذلك.

أما شن بن أفصى، فكان من نسله يزيد بن شن، يذكر أهل الأخبار انه أول من ثقف القنا بالخط، وعديّ، والدّيل. ومنهم. عمرو بن الجعيد بن صبرة بن الدّيل بن شن بن أفصى بن عبد القيس، وهو الذي ساق عبد القيس من تهامة إلى البحرين، وعرف بالأفكل، وكان سيد ربيعة في الجاهلية، وكان ذا بغي، فسارت إليه بنو عصر، فقتلوه. ومن بني عمرو رئاب بن البرّاء، وكان على دين المسيح.

ومواطن بني عبد القبس بتهامة في الأصل، ثم ارتحلت عنها بسبب الحروب التي وقعت بين أبناء ربيعة، فذهبت إلى البحرين، فتغلبت على من كان قد سكن قبلهم بها من اياد ومن بكر بن وائل و تميم. واقتسمتها بينهم، فنزلت جذيمة بن عوف بن بكر بن عوف بن أنمار بن عمرو بن وديعة بن لكيز الخط وأفناءها، ونزلت شن افصى طرفها وأدناها إلى العراق، ونزلت نكرة بن لكيز القطيف وما حوله والشفار والظهران إلى الرمل وما بين هجر إلى قطر وبينونة، ونزلت عامر بن الحارث بن أنمار بن عمرو بن وديعة والعمور، وهم بنو الدّيل ابن عمرو، ومحارب بن عمرو، وعجل بن عمرو الجوف و العيون و الاحساء، ودخلت قبائل منهم جوفُ عمان فصاروا شركاء للازد في بلادهم. وقد بقيت بنو عبد القيس في هذه المواضع محتفظة بها عند ظهور الإسلام.

ويظن إن "Aboukaiun"، وهو اسم قبيلة، موضع ذكر في جغرافية "بطلميوس" هو "عبد القيس". ولم يتحدث "الكلاسيكيون" شأنهم في اكثر ما كتبوه عن بلاد العرب بشيء ص عن هذه القبيلة. ولكن الأخباريين يروون إن عرب بلاد عبد القيس والبحرين وكاظمة غزوا السواحل المقابلة لهم من ارض إيران، وذلك لضيق معاشهم، وللضنك الذي حَلَّ بهم في عهد سابور ذي الاكتاف "سابور الثاني" منتهزين فرصة اضطراب الأمن في تلك البلاد وضعف الحكومة بسبب صغر سن المملك. فلما كبر الملك واشتد، جمع جموعه وسار بها على الغازين، ففتك بهم، وأسر منهم خلقاً كثيراً، ثم عبر البحر "فورد الخط واستقرى بلاد البحرين، يقتل أهلها ولا يقبل فداء. ولا يعرج عن غنيمة، ثم مضى على وجهه، فورد هجر، وبها ناس من أعراب تميم وبكر بن وائل وعبد القيس، فأفشى فيهم القتل" "ثم عطف على بلاد عبد القيس، فأباد أهلها" ثم سار إلى اليمامة، فقتل بها مقتلة كبيرة، ولم يمر في طريقه بماء إلا غوره، ولا جب من جبابهم إلا طمّه، حتى وصل قرب المدينة، فقتل من وجد هناك من العرب، وأسر. ثم عطف نحو بلاد بكر وتغلب فيمار بين مملكة فارس ومناظر الروم بأرض الشام، فقتل من وجد بها من العرب، وسبى وطَمَّ مياههم، ثم أسكن من بني تغلب من البحرين دارين واسمها هيبج والخط، ومن كان من عبد القيس وطوائف من بني تميم هجرَ، ومن كان من بكر بن وائل كزمان، ومن كان منهم من بني حنظلة بالرملية من بلاد الأهواز.

وهم يذكرون أيضاً إن عرب الشام قد تأثروا بما فعله سابور بهم، فاتفقوا مع الروم، وانتقموا منه. ولكن سابور بعد انتصاره على الروم، عاد فاتبع، سياسة استرضاء العرب، فاستصلحهم، وأسكن بعض قبائل تغلب وعبد القيس وبكر بن وائل كرمان وتوج و الاهواز. وهذه الرواية الثانية هي، ولا شك الجزء الآخر من حديثهم عن حملة سابور على بلاد العرب، أخذها الطبري أو المورد الذي اعتمد عليه من مورد كان قد جزأ الكلام، فصار الحديث الواحد حديثين اثنين. ونجد ذلك واضحاً وضوحاً تاماً في اتفاق العبارات بين الروايتين، ثم إن الإسكان الإجباري في ارض ما ليس نوعاً من الاستصلاح والاسترضاء.

وفي حديث الأخباريين عن حملة سابور على بلاد العرب ووصوله إلى مقربة من المدينة. وعن تنكيله بالعرب وحرقه المدن وطمّه المياه، مبالغات كبيرة ولا شك، اخذت من موارد فارسية بولغ فيها، وليس في روايات المؤرخين الروم عن هذا الحادث ما يؤيد هذا الزعم.

وكان والي البحرين عند ظهور الإسلام، المنذر بن ساوى، وهو من بني تميم، يحكمها باسم الفرس على حدّ رواية الأخباريين، وقد أرسل إليه الرسول رسولاً عنه يدعوه وقومه من بني عبد القيس إلى الإسلام. وكان رسول رسول الله هو العلاء بن الحضرمي. فلما أتاه العلاء يدعوه ومن معه بالبحرين إلى الإسلام أو الجزية، اسلم المنذر، وأسلم جميع العرب بالبحرين. وقد أوفدوا وفداً عنهم إلى الرسول برئاسة المنذر بن الحارث بن النعمان بن زياد بن نصر بن عمرو بن عوف بن جزيمة بن عوف بن أنمار بن عمرو بن وديعة بن بكر، فاتصل بالرسول، وصارت له صحبة ومكانة منه. ووفد منهم إلى الرسول أيضاً الجارود وهو "بشر ابن عمرو بن خناش"، وثعلبة أخو عوف بن جذيمة، وَفِهدا في بني عبد القيس سنة تسع مع المنذر بن ساوى. وكان نصرانياً فأسلم.

و كان بين بني عبد القيس وسكان البحرين والعربية الشرقية بصورة عامة جماعة على دين يهود، وجماعة أخرى على دين المجوس، وجماعة على دبن النصارى. وقد صالح من قرر البقاء في دينه العلاء بن الحضرمي والمنذر بن ساوى على الجزية.

وينسب إلى ابي عبيدة معمر بن المثنى كتاب في أخبار بني عبد القيس، اسمه "كتاب خبر عبد القيس" والى عَلاّن الشعوبي كتاب اسمه "مثالب عبد القيس"، كذلك ينسب إلى المدائني كتاب اسمه "كتاب أشراف عبد القيس".

ومن ولد هنب بن أفصى قاسط بن هنب، وهو والد وائل بن قاسط، والنمر، ومن بني النمر تيم الله وأوس مناة وعبد مناة وقاسط، ومن بني تيم الله ابن النمر عامر الضحيان، وقد ساد ربيعة أربعين عاماً وأخذ منها المرباع وهو عامر بن سعد بن الخزرج بن تيم الله بن النمر بن قاسط. وأبو حوط الحظائر ابن جابر، والد جابر الخير، أخو المنذر بن ماء السماء لأمه.

ومن رجال بني النمر بن قاسط سنان بن مالك، وكان على الأبلة، استعمله كسرى عليها. وهو والد صهيب من أصحاب الرسول. وقد عرف "صهيب" بصهيب الرومي. وذكر ابن خلدون انه ينسب إلى الروم، فهل عنى بذلك إن أمه من الروم، أو إن أجداده من اصل رومي، عُدّوا من النمر بن قاسط? ومن اشهر ديار النمر بن قاسط راس العين "رأس".

وقد كانت النمر بن قاسط في جملة القبائل العدنانية الأخرى التي خضعت لحكم كندة، ويذكر الأخباريون في تعليل ذلك إن الحارث بن أبى شمر الغساني لما قتل عمرو بن حجر "ملك بعده ابنه الحارث بن عمرو، وأمه بنت عوف بن محلم ابن ذهل بن شيبان. و نزل الحيرة. فما تفاسدت القبائل من نزار، آتاه أشرافهم، فقالوا: أنا في دينك، ونحن نخاف إن نتفانى فيما يحدث بيننا، فوجه معنا بنيك، ينزلون فينا، فيكفون بعضنا عن بعض ففرق ولده في قبائل العرب، فملك ابنه حُجَراً على بني أسد وغطفان، وملك ابنه شرحبيل قتيل يوم الكلاب على بكر بن وائل بأسرها وبني حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم و الرباب، و ملك ابنه معديكرب، وهو غلفاء، على بني تغلب والنمر بن قاسط وسعد بن زيد مناة وطوائف من بني دارم بن مالك بن حنظلة والصنائع، وهو بنو رُقَيّة قوم كانوا يكونون مع الملوك من شذاذ العرب، و ملك ابنه عبد الله على عبد القيس، وملك ابنه سلمى على قيس". فكانت هذه القبيلة إذن في جملة القبائل العدنانية التي جمع شتاتها تاج كندة. وليس في رواية الأخباريين هذه غرابة، فقد رأينا امرؤ القيس يحكم قبله قبائل عديدة، ويفرض تاجه عليها، ثم يوزّع أبناءه على تلك القبائل. ولكن هذا التوحيد لا يدوم في العادة أمداً طويلاً، إنما يتوقف على حكمة الحكام، وعلى حسن تصرفهم، وعلى قوتهم وقدرتهم، وسلطة ذات يدهم. فإذا ظهر ضعف على الحاكم أو الحكام، أو حدث حادث، يتبن منه للقبائل الخاضعة إن من خضعت له لم يعد،قويّاً متمكناً، ثارت عليه ثم لا يلبث ذلك البناء إن ينهار.

أما نسل وائل بن قاسط، فهم بكر ودثار، وهو تغلب، وعبد الله، وهو عنز، والشُّخيص، وقد دخل نسله في بني تغلب، والحارث وقد دخل في بني عائش بن مالك بن تيم الله بن ثعلبة بن بكر بن وائل. أمهم كلهم هند بنت مُرّ بن طابخة بن الياس بن عامر.

وولد تغلب بن وائل غنماً، والأوس، وعمران. ومن ولد غنم عمرو ووائل ومن ولد وائل شيبان ولوذان، ومن ولد عمرو بن غنم بن تغلب حبيب ومعاوية وتيد، ومن نسل حبيب بكر وجشم ومالك، ومن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب كان الشاعر عمرو بن كلثوم، وبنوه: عبد الله والأسود، وهما شاعران كذلك، وعباد، وهو قاتل بشر بن عمرو بن عدس. وكان من بني جشم مُرّة بن كلثوم، وهو فارس من فرسان الجاهلية، وكان أخاً لعمرو ابن كلثوم، وأبو حنش عاصم بن النعمان بن مالك بن عتاب وهو ابن عم عمرو ابن كلثوم، وعاصم هذا هو قاتل شرحبيل بن الحارث الملك آكل المرار يوم الكلاب.

ومن بني الحارث بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب، كليب و مهلهل، وعديّ، وسلمة بنو ربيعة بن الحارث بن زهير بن جشم، ومن نسل مهلهل ليلى وهي أم عمرو بن كلثوم، ومن نسل كليب هجرس بن كليب.

تغلب

وتغلب من القبائل العربية الكبيرة التي ورد اسمها كثيراً في مؤلفات الأخباريين والمؤرخين ولها أيام مع القبائل الأخرى، وهي مثل سائر القبائل العدنانية الأخرى مهاجرة كل عرف النسابين، تركت ديارها وارتحلت إلى الشمال، فسكنت في العراق وفي بادية الشام، واتصلت منازلها بالغساسنة والمناذرة والروم والفرس. وكانت غالبيتها على النصرانية عند ظهور الإسلام.

وينسب النسابون تغلب إلى جدّ أعلى زعموا إن اسمه "تغلب"، وهو "تغلب ابن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة أبن نزار".

وقد عرفت هذه القبيلة ب "الغلباء". وهو نعت يدل على فخر القبيلة بنفسها وعلى تباهيها على غيرها من القبائل. وقد ذكر بعض أهل الأخبار عنها. قوله:. "لو أبطأ الإسلام قليلاً، لأكل بنو تغلب الناس". تعبيراً عن قوتها وكثرتها وأهميتها إذ ذاك بين القبائل.

و قيل في اسمها تغلب بنت وائل بالتأنيث، ذهاباً إلى القبيلة، كما قالوا: تميم بنت مرّ. جاء في شعر الفرزدق: لولا فوارس تغلب ابنة وائل  ورد العدو عليك كل مكان

وقد كانت لرؤساء تغلب الرئاسة على قبائل ربيعة،. كما صار لها اللواء. أي رئاسة الحرب. فمن يحمل اللواء تكون له الرئاسة في الحرب.

ويرى أهل الأخيار إن قبيلة تغلب مثل سائر قبائل ربي ة كانت تسكن في الأصل في تهامة، ثم انتشرت فنزلت الحجاز ونجد والبحربن، فلما تحاربت مع "بكر بن وائل"، زحفت نحو الشمال حتى بلغت أطراف الجزيرة، فسكن قوم منها جهات سنجار ونصيبن، حتى عرفت تلك الديار ب "ديار ربيعة". وديار ربيعة بين الموصل إلى رأس عين ونصيبين و "دنيسر" والخابور، وما بين هذه من المدن والقرى. وجمعت هذه الديار بين "ديار بكر" و "ديار ربيعة" وسميت كلها ب "ديار ربيعة". وقد انتشرت بطون تغلب في الثرثار، بين سنجار وتكريت.

ويروي أهل الأخبار إن أول من نزل بطون تغلب في الجزيرة الفراتية هو: "علقمة بن سيف بن شرحبيل بن مالك بن سعد بن جشم بن بكر" وقد قاتل أهل الجزيرة حتى غلبهم، وأنزل قومه بها. ويؤيدون رأيهم هذا بما جاء في معلقة "عمرو بن كلثوم": ورثنا مجدَ علقمة بن سيف  أباح لنا حصون المْجدِ دِينا

وقد كان شريفاً رئيساً في الجاهلية.

وقد أدى اتصال تغلب بالروم وبنصارى العراق والجزيرة وبلاد الشام إلى دخول قسم منهم في النصرانية كمعظم القبائل التي دخلت العراق وبلاد الشام. وهي من القبائل المتنصرة ومن سكان الخيام.

وقد تغلب الشاعر "جابر بن حتى التغلبي"، ويقال انه قال في شعر له مخاطباً بهراء: وقد زعمت بهراء إن رمـاحـنـا  رماح نصارى لا تخوض إلى الدم

وهو بيت من قصيدة يفتخر. فيها بقومه وبشجاعتهم: ومعنى هذا البيت إن صح، إن النصارى لم يكونوا أشداء في الحروب، وانهم لم يكونوا على شاكلة العرب الوثنيين في الطعن والضرب.

ومن ولد تغلب في رأي النسابين: غنم والأوس وعمران. ومن بطون غنم: "الاراقم". و هم جشم و مالك و عمرو و ثعلبة و الحارث و معاوية و هم بنو بكر ابن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب. و منهم: عمرو بن الخنس قاتل "الحارث بن ظالم"، و كان "الاسود بن منذر" ملك الحيرة قد طلب ذلك منه. و منهم "الهذيل بن هبيرة" و كان قد رأس تغلب في الجاهلية. و كان جراراً للجيوش، وأسره يزيد بن حذيفة السعدي.

و من بني "تغلب" "السفاح بن خالد"، و اسمه "سلمة". و كان جراراً للجيوش في الجاهلية. و إنما سمي "السفاح"، لأنه سفح المزاد يوم كاظمة، و قال لأصحابه: قاتلوا فإنكم إن أهزمتم مُتم عطشاً.

و من بني غنم: بنو جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب. و منهم الشاعر: عمرو بن كلثوم بن مالك بن عتاب بن سعد بن زهير بن جشم، و من ولده: عبد الله و الأسود، و هما شاعران سيدان. و عَبّاد، و هو قاتل بشر بن عمرو بن عدس.

و منهم "أبو حنش"، عاصم بن النعمان بن مالك بن عتاب ، و هو ابن عم عمرو بن كلثوم. و هو قاتل "شرحبيل بن الحارث" الكندي، و ذلك يوم الكلاب. و منهم "الفدكس" الذين منهم "الأخطل".

و من بني جشم بن بكر بن الحارث، "كليب وائل"، ذو الصيت الشهير في كتب أهل الاخبار شقيق "مهلهل". و "كليب وائل" هو "وائل بين ربيعة بن الحارث بن زهير". و قد ضرب به المثل في العز فقيل "أعز من كليب وائل". و كان والده "ربيعة"، قد قاد مضر وربيعة يوم السلآن إلى أهل اليمن، وأدخله "السكرى" في جملة "الجرارين".

أما السبب الذي حمل "ربيعة بن مرّة بن الحارث بن زهير التغلبي" على مقارعة قبائل اليمن وحروبها، فهر شعور أبناء تغلب بوجوب التخلص من نفوذ اليمن عليها، ومن حكم "زهير بن جناب الكلبي" عليها. فقد زعم أهل الأخبار إن "تغلب" كانت مثل سائر قبائل "معدّ" خاضعة لنفوذ حكّام اليمن، وقد سئمت من جوار الحكّام الذين ينصبهم "التبابعة" عليها، فظهر رجال فيها عزموا على التخلص من ذلك النفوذ، وتكوين حلف قوي. يكبح جماح اليمن يتألف من قبائل معدّ. وكان من بين أولئك الرجال "ربيعة بن الحارث ابن زهر" والد "كليب وائل"، وكانت خطته ضرب اليمن للتخلص من حكم "زهير بن جناب" الذي كان حكّام اليمن قد أقاموه على قبائل معدّ. وجمع قبائل مضر وربيعة تحت زعامة واحدة، وبذلك تتخلص تلك القبائل من تحكم اليمن في شؤونها ومن دفع الإتاوة لها.

ويذكر أهل الأخبار إن "زهير بن جناب" الكلبي القضاعي، كان قد ولى أمر "معدّ" بمساعدة حكام اليمن وتأييدهم له، ويذكر بعض منهم إن "أبرهة" الحبشي هو الذي نصب زهيراً عليها وايده وأعانه على معدّ. وذاك حينما غزا "أبرهة" نجداً وتوسع فيها، فجاءه "زهير" ليتقرب إليه، وليعينه على بعض قبائل معدّ.

وسار "زهير" في حكم معدّ، حتى اشتط وبغى وقسا في جمع الإتاوة، فضجر الناس منه، وهاجمه "زباية" من "بني تيم الله"، وطعنه طعنة ظن انه قد قضى بها عليه. ولكن زهيراً نجا منها، فجمع عندئذ قومه ومن كان معهم من قبائل قحطان وغزا بكراً وتغلب، فانهزمت بكر ثم تغلب، وأسر كليب ومهلهل ابنا ربيعة، وجماعة من أشراف تغلب. فتأثرت قبائل ربيعة من هذه الهزيمة، وعينت "ربيعة بن مرّة بن الحارث بن زهير التغلبي" رئيساً عليها، فحمل ربيعة ومن انقاد إليه على زهير، واسترجع الأسرى ولكن زهيراً لم يلبث إن عاد إلى ما كان عليه من جمع الإتاوة من معدّ.

و كليب وائل، كما يظهر من روايات الأخباريين، رجل صلب قوي، ارتفع نجمه بعد يوم "خزازى" "خزاز" الذي أظهر قوة معدّ لما اجتمعت، فانتخب رئيسا مطاعاً على هذه القبائل، وأعطي الملك والتاج، وبقي على ذلك دهراً، حتى دخله زَهو شديد، فأخذ يبغى على القبائل ويشتط في أخذ الإتاوة منها وفي اتخاذ خيرة الأرض المخصبة ذات المياه الغزيرة مناطق حمى لا يجوز لإبل غيره الرعي فيها، وفي الاستيلاء على مواضع الماء، حتى ضجرت الناس منه وسئمت حكمه وودت لو تمكنت من التخلص من جوره وتعسفه.

قال "ابن الكلبي": لم تجتمع معدّ كلها إلا على ثلاثة من رؤساء العرب، وهم: عامر بن الظرب بن عمرو بن بكر بن يشكر بن الحارث: والثاني ربيعة ابن الحارث بن مرّة بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب، وهو قائد معدّ يوم السلان. وهو كما رأينا والد "كليب". والثالث: كليب بن ربيعة. ويظهر من ذلك انه ورث رئاسة قومه ورئاسة معدّ من والده، وانه زاد في قومه وفي مكانته يوم قاوم قبائل اليمن، وتغلب عليها في "يوم خزاز"، وكانت معدّ تهاب اليمن، و تخضع لملوكها، لذلك كان يوم السلان ويوم خزاز، نصراً معنوياً كبيراً لها، جرأها على الوقوف أمام اليمن، وعلى تحديها. وجعلها تشعر بأنها قوة وأن في إمكانها صد اليمن لو اتحدت قبائل "معدّ" فيما بينها، ووحدت كلمتها تحت رئاسة رئيس قوي قدير.

ويذكر أهل الأخبار إن معداً اجتمعت كلها تحت رايته، وجعلت له قسم الملك وتاجه وتحيته وطاعته، فغبر بذلك حيناً من الدهر ثم دخله زهو شديد وبغى على قومه حتى بلغ من بغيه انه كان يحمي مواقع السحاب فلا يرعى حماه، ويقول: وحش أرض كذا في جواري، فلا يهاج، ولا تورد إبل أحد مع إبله ولا توقد ناره. وكان إذا رأى أرضاً فأعجبته حماها ومنع الناس عنها، وذلك بأن يطلق جرواً يعوي، فيكون المكان الذي ينقطع فجيه صوت العواء فلا يسمع، هو حد تلك الأرض. قيل ولذلك عرف ب "كليب".

وكان "كليب" قد تزوج "جليلة بنت مرة بن ذهل بن شيبان بن ثعلبة"، وهي أخت "جَسّاس بن مرة بن ذهل بن شيبان بن ثعلبة بن عكابة".وهي أيضاً من أشراف قومها، و "ذهل بن شيبان" من الأسر المعروفة التي نجد لها اسماً بين الجاهلين.

وقد أدت عنجهية "كليب" وغطرسته إلى مقتله، وسبب ذلك على ما يقوله أهل الأخبار إن ناقة كانت للبسوس خالة "جَساّس"، أو إلى "جليلة أخت جسّاس" على رواية، أو إلى رجل إسمه "سعد الجرهمي" واسم الناقة "السراب" كانت قد اختلطت بإبل "كليب" وأخذت ترعى معها، فلما رآها كليب، أنكرها واستعظم أمر دخولها المرعى مع إبله، فرمى ضرعها بسهم فنفرت وهي ترغو. فلما رأت "البسوس"، أو "جليلة" أو رأى "سعد الجرمي" الناقة وقد أصيبت بهم كليب، عز على صاحبها ذلك، أو على صاحبتها حسب اختلاف الروايات، وذهب أو ذهبت كل واحدة منهما إلى "جساس"، صارخاً أو صارخة، وكل منها في جواره وعند فناء بيته، فثار الدم في رأسه، وأخذته العزة، وذهب غاضباً إلى "كليب" ومعه "عمرو بن الحارث" فكنماه، وأظهر جسّاس ما حلّ به من ذل وإهانة برمي "السراب" بالسهم، فلم يبال بهما، فطعنه "جساس" وضربه "عمرو بن الحارث"، فقتل كليب.

وقد أثار مقتل "كليب وائل" هذا حرباً استمرت أربعين سنة على ما بذكره أهل الأخبار عرفت ب "حرب البسوس". وهي في الواقع معارك وغزوات وقعت في أوقات متقطعة وقعت بن "تغلب" و من حالفها وبين "بكر".

أثارها وأشعل نارها "مهلهل" أخو "كليب" أخذاً بثأر أخيه من "بني بكر" قوم "جساس". وأعلنها دون اهتمام لتوسط عقلاء "بكر" بحلّ القضية حلاً سليماً حقناً لدماء الطرفين. بتأدية دية الملوك، وهي ألف ناقة سود المقل، أو إن يأخذوا أحد أبناء "مرة بن ذهل" والد جساس، فيقتلوه بدم "كليب".

وأبت بعض قبائل بكر الدخول في حرب مع "تغلب"، واعتزلت عن "بني شيبان" قوم جساس، ومن هؤلاء "بنو لجيم" و "بنو يشكر". وانسحبت "الحارث بن عباد". وعشائر أخرى. وتولى "مرة بن ذهل" قيادة قومه من "بني شيبان" من بكر فكانت معارك وملاحم ذكر أسماء هي أهل الأخبار. منها "يوم النهى"، وهو أول بوم من أيام حرب البسوس على رواية، ويوم عنيزة، و هو أول يوم من هذه الأيام على رواية أخرى.

ثم وقعت أيام أخرى منها يوم الذنائب، وهو يوم قتل فيه: "شراحبيل بن مرّة بن همام" والحارث بن مرة، وهمام بن مرّة أخو جساس من أمه وأبيه. وعمرو بن سدوس بن شيبان. وهو من بني ذهل بن ثعلبة، وسد بن ضبيعة، وهو من بني قيس بن ثعلبة وآخرون. وقد قيل إن منهم من قتل في أيام أخرى.

ومن بقية الأيام: يوم واردات، ويوم عويرضات، ويوم الحنو ويوم أنيق، ويوم ضرية، ويوم القصيبات، ويوم العصيات، ويوم قضة، وهو يوم التحالق، وفيه حَلَقَ رجال بكر لمتهم، وذلك ليميز البكريون عن غيرهم، إلى غير ذلك من أيام تجد أسماءها في كتب الأخبار والتأريخ والأدب.

وقد توسط رؤساء بكر عند "مهلهل" بأن يوقف القتال، بعد إن سقط القاتل وهو "جسّاس" قتيلاً في معركة من هذه المعارك، يقال إنها معركة "يوم واردات" لكنه لم يقبل وأبى إلا الاستمرار في القتال حتى يشفي نفسه من "بني بكر"، فتدخل "الحارث بن عياد" عندئذ واشترك مع البكريين، وتولى أمر "بني بكر"، ووقعت أيام أخرى أثرت في "بني تغلب". وقد وقع "مهلهل" في يوم "قضة" وهو يوم "تحلاق اللمم" أسيراً في أيدي "الحارث ابن عباد" ولم يكن يعرفه. فسأله الحارث عن مكان "مهلهل" قائلاً له: دلني على عدي بن ربيعة "وهو اسم مهلهل" وأخلي عنك. فقال له عدي: عليك العهود بذلك إن دللتك عليه? قال: نعم. قال: فأنا عدي. فجزَّ ناصيته وتركه. وقال فيه: لهفَ نفسي على عديّ ولم أعرف  عديّاً إذ امكـنـتـنـي الـيدان

وورد في بعض الأخبار. إن الذي قتل "جساساً" هو "الهجرس"، وهو ابن كليب، وابن أخت جساس، إذ إن أمه هي "جليلة". وكان جسّاس قد سباه، ثم زوجه ابنته ولكنه أبى إلا إن يقتل خاله، أخذاً منه بدم والده. ويقال، إن جساساً لم يقتل و إنما مات حتف أمه.

وفي هذا الأسر وجز الناصية كانت نهاية زعامة "مهلهل" على قومه، فقد ترك أهله، وفرّ إلى "مذحج"، حيث نزل ب "بني جنب"، فخطبوا إليه ابنته وقبل أخته فمنعهم، فأجروه على تزويجها، وساقوا إليه جلوداً من أدم. وكان قد كبر وتقدم في السن وضعف حاله فجاءه أجله بعد مدة غير طويلة، ويقال إنْ عبدين من عبيده اشتراهما "مهلهل" ليغزوان معه، سبأ منه، فلما كانا معه بموضع قفر أجمعا على قتله، فقتلاه، وبذلك انتهت حياته، وحياة حرب البسوس.

ويذكر أهل الأخبار إن العرب صارت تضرب المثل في شؤم "البسوس" وفي شؤم "سراب"، فقالت "أشأم من البسوس" و "اشأم من سراب".

وقد أقحم الرواة شعراً في قصصهم عن هذه الحرب، وذلك على عادتهم في رواية أخبار الأيام، وهو لا يخلو من أثر الإثارة والعواطف القبلية. ونجد في الشعر المنسوب إلى البسوس تحريضاً أثار جسّاساً حتى دفعه على قتل " كليب" دون أن يفكر في سوء عاقبة ذلك القتل. ويعرف هذا النوع من الشعر ب "الموثبات". وهو من شعر التحريض. ومن هذا النوع الشعر الذي تقوله النساء في ندب الموتى لإثارة شجون الحاضرين.

ويعد "مهلهل" في جملة فرسان العرب الشجعان المعروفين. كما يعدّ في جملة الشعراء المتقدمين. لقب ب "مهلهل"، لأنه أول من رقق الشعر، أو لقوله: لما توغل في الكراع هجينـهـم  هلهلت أثأر مالكاً أو صنبلا فتدبر

وقد كان لتغلب جملة رؤساء، منهم رئيس يقال له الجرّار أدرك النبي، وأبى الإسلام فبعث رسول الله. زيد الخيل الشاعر المشهور و أحد الشجعان المشهورين، ليطلب منه الدخول في الإسلام كما تقول إحدى الروايات أو القتال، فأبى الإسلام وقاتل حتى قتل.

ولاعتزاز تغلب بنفسها، ولشعورها بعزتها، امتنعت عن دفع الجزية المفروض أداؤها على أهل الكتاب، وذهبت إلى عمر بن الخطاب قائلة له: "نحن عرب لا نؤدي ما يؤدي العجم، ولكن خذ منّا كما يأخذ بعضكم من بعض". ورضيت بدفع ضعف ما يدفعه المسلمون صدقة أنفة من كلمة "جزية". واقتدت قبائل أخرى مثل تنوخ وبهراء بتغلب، فرضيت بدفع الصدقة التي يدفعها المسلمون مضاعفة مفضلين إياها على دفع الجزية، لكي لا تكون في مصاف النبط، ومن لف لفهم من غير العرب، والمساواة فيها تعد إهانة لهم في نظرهم، وان كان دافعوها نصارى مثلهم، وهم إخوانهم في الدين.

وذكر إن "عمر بن الخطاب" لما "همّ بفرض الجزية عليهم، قطعوا الفرات وأرادوا اللحاق بأرض الروم، فانطلق "النعمان بن زرعة" أو "زرعة بن للنعمان" إلى "عمر"، فقال له: أنشدك الله في بني تغلب، فانهم قوم من العرب نائفون من الجزية، وهم قوم شديدة نكايتهم، فلا يغن عدوّك بهم فأرسل عمر في طلبهم وأضعف عليهم الصدقة.

ومن مواضعها التي كانت تتبرك بها قبر القديس مارسرجيوس "مارسرجس" بالرصافة.

وكانت تغلب أيضاً في جملة القبائل العدنانية التي خضعت لآل كندة، حكم منهم عليها معديكرب المعروف بغلفاء، وخضعت أيضاً لحكم ملوك الحيرة الذين حاولوا إصلاح البين ببن تغلب وبين بكر بن وائل، فأخذوا رهائن من الطرفين، ليمنعوهم بذلك من القتال. وقد وقعت بين الحيين حروب طويلة ترد أخبارها في الأيام، كما وقعت بينها وبن يربوع وقبائل أخرى حروب سأتحدث عنها في الفصل الخاص بأيام العرب قبل الإسلام.

وقد ثار التغلبيون مراراً على ملوك الحيرة وحاربوهم، والواقع إن خضوع تغلب والقبائل الكبيرة الأخرى لملوك الحيرة لم يكن إلا خضوعاً اسمياً، يتمثل في حمل الإتاوات إلى الملوك ما داموا أقوياء، ولذلك كان ملوك الحيرة كما كان الأكاسرة والقياصرة يسترضون الرؤساء بالهبات والمال، ومن جملة هؤلاء، سادات "مشايخ" هذه القبيلة.

و أما بكر بن وائل، فكان من نسله عليٌّ، ويشكر، وبدن. وقد دخل بنو بدن في بني يشكر، ومن بني يشكر الشاعر الحارث بن حلزة، والرياّن اليشكري، سيد بني بكر في حربهم مع بني تغلب. وكان من صل علي بن بكر، صعب بن عليّ، وهو والد مالك ولُجَيْم وعكابة. ومن مالك بن صعب سهلُ بن شيبان بن زمان المعروف بالنفد. ومن بطون يشكر، بنو غُبر بن غنم بن حبيب بن كعب بن يثسكر، وبنو كنانة، وبنو حرب بن يشكر، وبنو ذبيان بن كنانة بن يشكر.

وبكر بن وائل من القبائل الكبيرة التي كان لها شأن معروف عند ظهور الإسلام. وهي مثل القبائل العدنانية الأخرى من القبائل المهاجرة التي تركت ديارها القديمة على حد قول الاخباريين، وهي تهامة، على اثر الحروب الكثيرة المملّة التي وقعت بين العدنانيين، فهاجرت إلى اليمامة ثم إلى البحرين والعراق. ويذكر إنها أخذت تغزو مع تميم وعبد القيس حدود الفرس، حتى اضطر "سابور" الثاني المعروف ب "سابور ذي الأكتاف حوالي سنة "350 للميلاد" على مهاجمة هذه القبائل ومحاربتها، وتخريب المنازل التي كانت تنزل بها. فلما انتهى من حروبه، أمر بنقل كثير من الأسرى إلى الأهواز وكرمان لإسكانهم هناك.

وفي القرن الخامس للميلاد، كان الحكم على بكر وأكثر قبائل معدّ على حد رواية الإخباريين في أيدي التبابعة، ثم في أيدي ملوك كندة، نصبهم التبابعة أنفسهم ملوكاً على تلك القبائل. وكان أولهم حجر آكل المرار الذي انتزع من اللخميين ما كان في أيديهم من ملك بكر بن وائل، ووسَّع ملكه. فلما توفي حجر تولى الملك ابنه عمرو المعروف بالمقصور من بعده، وبقيت بكر تابعة له، وكذلك لابنه الحارث مغتصب عرش الحيرة على نحو ما ذكرت. وكان الحارث قد وَزَّع أبناءه على القبائل، ليتولوا إدارة شؤونها فعين ابنه شراحيل أو شرحبيل أو سلمة حاكماً على بكر. فلما أعاد انو شروان عرش الحيرة إلى أصحابه اللخميين، وانتكس الأمر مع الحارث، حتى اضطر إلى الهَرَب إلى ديار كلب أو غيرها، حيث لاقى مصيره بكيفية لم يتفق على وصفها الأخباريون، وقعت النفرة بين أولاده، ودبَّ الخلاف بين ابنائه، فاقتتلوا، وتحزبت القبائل واقتتلت. ثم وجد رؤساؤها إنها فرصة سانحة، فاستقلوا عن كندة، و عادت إلى ما كانت عليه من الفرقة والاستقلال. وترأس كليب وائل تَغْلِبَ وبكراً وقبائل معد، وقاتل جموع اليمن، وهزمهم، وعظم شأنه، وصارَ ملكاً زماناً من السمر، ثم داخله الزهو والغرور، فبغى على اتباعه، وحمى اكثر الارضين، فلم يسمح لأحد بالرعي فيها إلا باذنه، فقتله رجل من بكر اسمه "جساس" في قصة يروها الاخباريون، فثارت تغلب، وطالب أخو كليب وهو "مهلهل" بالأخذ بالثأر من بكر، فجرت بين القبيلتين حروب طويلة استمرت على ما يذكر الأخباريون أربعين عاماً، ترك فيها خلق كثير وانتهت بمقتل جساس، وهلاك مهلهل في قصص مُنّمَّق من هذا القصص الذي يرويه أهل الأخبار.

وقد أضعفت هذه الحروب القبيلتين ولا شك، وقد تدخل ملوك الحيرة في الأمر، فأصلحوا بينهم: أصلح بينهم المنذر بن ماء السماء على رواية، أو عمرو ابن هند في رواية أخرى، و قد كانوا مع المنذر الثالث في غزوته التي غزا بها الغساسنة، كما كانوا مع النعمان بن المنذر. وقد حاربوا الفرس مع بني شيبان، فانتصروا عليهم في معركة ذي قار. وكان يؤيد الفرس من العرب تغلب وطيء واياد وبهراء وقضاعة وانعباد والنمر بن قاسط. وقد اتفقت اياد سراً مع بكر بن وائل، فانهزمت حين اشتباك المعركة، فانهزمت الفرس ومن ساعد الفرس من القبائل التي اشتركت معها تأييداً لإياس بن قبيصة، أو بغضاً لبكر كما هو شأن تغلب، أو طمعاً في ربح من الفرس أو رغبة في التقرب إليهم. وقد كان هذه المعركة اثر كبير في نفوس القبائل، ومركزها مع الفرس.

ويظهر إن بكراً لم تخضع للفرس، ولا لحكم الحيرة بعد معركة ذي قار. وفي السنة التاسعة من الهجرة دخل قسم منها في الإسلام، فعين الرسول المنذر بن ساوى عليها وعلى بني عبد القيس. غير إنها ارتدت عنها بعد وفاة الرسول، فهاجمت مع قيس بن ثعلبة برئاسة الحطيم بن ضبيعة البحرين، وعينت "الغرور" ملكاً على هذه الديار. عندئذ أرسل أبو بكر عليهم جيشاً يقيادة العلاء الحضرمي ومن بقي على الإسلام من بكر وشيبان، تمكن منهم ورَجَمَهُمْ إلى حظيرة الإسلام.

ومن لُجَيْم بن صعب، بنو حنيفة، وبنو عجل، ابنا لجيم بن صعب بن عليّ، وبنو حنيفة هم أهل اليمامة، ومن حنيفة الدُّئل، وتقع مواطنهم في اليمامة كذلك. ومن ولد الدُّئل بن حنيفة بنو مرّة وعبد الله وذهل وثعلبة. ومن بني مرّة هودة بن عليّ بن يمامة الذي توجَّه إلى كسرى، وعمرو بن عبد الله ابن عمرو بن عبد العُزّى، وهو قاتل المنذر بن ماء السماء يوم عين أباغ، ومن عديّ بن حنيفة مسيلمة الكذّاب.

و أما ولد عُكابة بن صعب. فهم: ثعلبة وهو الحضن، وقيس وقد دخل بنوه في بني ذهل بن ثعلبة. فولد ثعلبة بن عكابة شيبان، وذهل، وقيساً، والحارث. وقد دخل بنوه في بني أنمار بن دب بن مرّة بن ذهل بن شيبان. وأمهم رقاش، وهي البرشاء بنت الحارث بن العتيك بن غنم بن تغلب. وولد ثعلبة أيضاً تيم الله بن ثعلبة. وأمه الجدماء بنت جلّ بن عديّ بن عبد مناة بن أد بن طابخة بن الياس بن مضر، وأتيد، وضنّة. ودخل بنو ضنّة في بني عذرة. ودخل بنو أتيد في بني هند من بني شيبان.

ومن ولد ثعلبة بن عكابة، تيم الله. ومن ولد تيم الله بن ثعلبة بن عكابة، شيبان، ومنهم أوس بن محصن، وهو الذي أطلق له السبي يوم اوارة، و صعير بن عامر وكان من فرسان بكر.

ومن بني ذهل بن ثعلبة بن عكابة، بنو سدوس بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة، وتقع مواطنهم في اليمامة، وكانوا أرداف ملوك كندة. وبنو رقاش وهم الرقاشيون أبناء مالك "ملكان" وزيد "زيد مناة" ابني شيبان بن ذهل ابن ثعلبة بن عكابة من زوجه رقاش بنت ضبيعة بن قيس بن ثعلبة. وكان بنو شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة من البطون الضخمة، ورئيسهم في الجاهلية مرّة بن ذهل بن شيبان، ومن نسله جساس قائل كليب.

ومن نسل قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب، ضبيعة، وتيم، وثعلبة، وسعد. ومن نسل ضبيعة الأعشى ميمون بن قيس الشاعر المعروف، والمرقش الأكبر، والمرقش الأصغر، وطرفة بن العبد، وعمرو بن قميئة، وشعراء آخرون. وتعدّ هذه القبيلة في طليعة القبائل بكثرة من ظهر فيها من الشعراء. وتقع منازل قيس في اليمامة. وكانت صلاتهم وثيقة بالمناذرة. ومنهم كتيبة الصنائع إحدى كتائب النعمان بن المنذر.

ومن بني أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان، عمرو بن أبي ربيعة بالمزدلف، وابنه حارثة ذو التاج، وكان على بني بكر يوم أوارة، وهانىء بن مسعود الشيباني الذي هاج القتال بين بني بكر وبني تميم وضبة والرباب يوم ذي قار، ومفروق واسمه النعمان بن عمرو الأصم، وهو من فرسان بكر و ساداتهم، وأعشى بني ربيعة، وهو عبد الله بن خارجة بن حبيب بن قيس بن عمرو ابن أبي ربيعة الشاعر.

ومن بني مرّة بن ذهل بن شيبان، همام، و جساس قاتل كليب التغلبي، والمثنى بن حارثة بن سلمة بن ضمضم بن سعد بن مرّة بن ذهل الشيباني القائد الإسلامي الشهير قاتل مهران.

و أما عَك، فهم من القبائل العربية القديمة، وهم "أكيتة" "Akkitai" عند "بطلميوس"، ولا نعرف من أخبارها في نصوص المسند شيئاً. ويظهر من اختلاف النسّابين في نسبها، ومن جعلها من قحطان تارة ومن عدنان تارة أخرى، إنها كانت على اتصال بالجماعتين، واختلطت بهما بالفعل، ولهذا الاختلاط أثره في تكوين الأنساب، كما إن لمحالفاتها لقبائل عدنان و قحطان أثره في النسب.

وهذا نجد بعض النسابين يجعلون عكّاً ابناً لعدنان، فهو على حد قولهم شقيق معدّ، ونجد بعضاً آخر يُسميّه الحارث، ويجعل عكّاً لقباً له، ثم يصيره ابناً للديث بن عدنان فيقول: هو عَكّ بن الديث بن عدنان، أي انه حفيد عدنان. ثم نجد قسماً آخر يصيره من الأزد، أي من قحطان، فيجعله عَكّ ابن عدنان بن جمد الله بن الأزد، بن للغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان وأرى إن "عدثان" و "عدنان" كلمة واحدة. وقع فيها تحريف، فصارت الكلفة الواحدة كلمتين، وليس من المستغرب وقوع ذلك. فالكلمتان واحدة في الحروف، ما عدا حرفي الثاء والنون اللذين يتشابهان في الرسم أيضاً. فيما عدا عدد النقط.

و قد رجح نشوان بن سعيد الحميري، وهو من اليمن من حمير، رأي القائلين من النساّبين برجوع نسب عَكّ في الأزد، فقال: "عَك قبيلة من العرب يقال لهم ولد عك بن عدنان أخي، معد، ويقال لهم ولد عكّ بن عدثان بن عبد الله بن الأزد، وهو أصح القولين. و إنما سبب انتسابهم في معدٍ إن غسان وقت خروج الأزد من مأرب نزلوا تهامة وبها عكّ، فخيرتهم عَكّ بين شرقي تهامة وغربيها، فاختارت غساّن الشرقي، ومكثت به زماناً، حتى قيل لهم إن عكاً أثخن منكم لبنَاً، وأدسم منكم سمناً، لأن أموالكم إذا سرحت استقبلت الشمس، وإذا راحت استقبلت الشمس، فاْحرّت الشمس رؤوسها، وأموال عَكّ تستدبر الشمس عند الطلوع والغروب، فاستقالت غساّن عكاً. فلم تقلها، فاقتتلوا، فقتلت غسان عكّاً قتلاً ذريعاً وأجلتها عن كثير من أوطانها، فمن ثم انتفت عَكّ من اليمن، وانتسبت إلى معدّ".

وقد ذكر نشوان شعراًَ جاء فيه: ألم ترَ عكّاً هامة الأزد أصبحت  مذبذبة الأنساب بين الـقـبـائل

وعقت أباها الأزد واستبدلت بـه  أباً لم يلدها في القرون الأوائل?

ومن ولد عكّ علقمة، ومن ولد علقمة الشاهد، ومن ولد الشاهد غافق، من نسل هؤلاء تفرعت سائر عكّ. ونجد بعض ع النسابين يغفلون علقمة، ويجعلون الشاهد ولداً من أولاد عدنان، ومنهم من جعل لعك ولدين، هما: الشاهد، وعبد الله، وجعل للشاهد ولدين كذلك، هما غافق، وساعبة، ولعبد الله بطنين كذلك، هما: عبس و بولان. ومن بطون غافق، القيانة، والمقاصرة، ودهنة. ومن بطون ساعدة: لام، وصخر، ودعج، ونعج، وزحل، وقين، وقاضية، وعلاقة، و هامل، ووالبة، وقحر. ومن بطون عبس: زهير، ومالك، وطريف، وزيد، والعسالق، والحجببية، وغنم، وتاج، ومنسك، ومن بطون بولان: الهليلي، والحربي. ويلاحظ إن معظم قبائل عكّ وبطونها، هي في اليمن، بينما هي قبائل عدنانية على رأي أكثرية النساّبين. وقد علل يعض النسابين ذلك بقوله: "وإنما كثرت قبائل عَكّ بن عدنان باليمن، لأن عكّاً تزوّج بنت أشعر، فأولد فيهم، فكانت الدار واحدة لذلك السبب".

وسمى النسابون ابن مضر عيلاناً كذلك، وقال بعضهم "إن عيلاناً لم يكن بأب لقيس ولا ابنٍ لمضر، و إنما هو قيس بن مضر. و عيلان اسم فرس لقيس مشهور في خيل العرب مفضل، وكان قيس بن مضر يسابق عليه. وكان رجل من بجيلة يقال له قيس كبة الفرس له مشهورة أيضاً، وكانا متجاورين في دار واحدة قبل إن تلحق بجيلة بأرض اليمن. وهذا على مذهب من جعل بجيلة ابناً لأنمار بن نزار. وكان فرساهما مشهورين مذكورين، فكان الرجل إذا سأل عن قيس، أو ذكر قيساً، قيل له: أقيس عيلان تريد، أم قيس كبّة? فصار قيس لا يعرف إلا بقيس عيلان، وهو قيس بن مضر بن نزار..وقد قيل إن قيساً سُمي عيلان بغلام كان له، وقيلُ سميّ عيلان بكلب كان له يقال له عيلان" إلى غير ذلك من تفاسير وتعليلات تشير إلى اضطراب النسابين والإخباريين في الناس وفي قيس عيلان.

وقد عرف المنتسبون إلى قيس عيلان ب "قيس" و "بقيس عيلان" و ب "عيلان" و ب "القيسيين" و ب "القيسية" كذلك، وهي من الكتل القبائلية الضخمة. ومع ذلك لا نعرف من تأريخها قبل القرن السادس للميلاد شيئاً يذكر. ولم يرد اسمها في كتب "الكلاسيكيين،". وقد ذكر لها الأخباريون أياماً عديدة، تشمل حروباً وقعت بين القبائل القيسية نفسها، وحروباً وقعت بين قيس وقبائل أخرى من غير قيس. وقد خضعت قبائل قيس مثل أكثر القبائل العدنانية الأخرى لحكم مملكة كندة القصير.

وقد ولد الناس أو عيلان قيسا ودهمان. وقد جعل بعض النسابين. قيساً ابناً لمضر، وقالوا: انه عيلان، و إن عيلان عبد حضنه، فنسب قيس إليه. وقد ولد قيس عدة أولاد، هم: خصفة، وسعد، وعمرو. ومن ولد عمرو فهم، والحارث وهو عدوان، وأمهما جديلة بنت مرّ بن أد، فنسبوا إليها. وقيل: هي جديلة بنت مدركة بن الياس.

وكان لفهم عدة أولاد، منهم: قَيْن، وسد، وعامر، وعائد، ومن بني سعد تأبط شراً الشاعر. وكانت الطائف من مواطن فهم، وعدوان، ثم غلبتهم عليها ثقيف، فخرجوا إلى تهامة ونجد. ومن بني طرود، وهم بطن من فهم، كان بأرض نجد، الأعشى.

أما أبناء عدوان بن عمرو، فهم زيد، ويشكر، ودَوْس. ويقال انهم دَوْس التي في الأزد، وكانت ديارهم بالطائف، ثم تركوها بعد نزول ثقيف فيها وارتحلوا، إلى تهامة. ومن ولد زيد بن عدوان، أبو سياّرة الذي كان يدفع بالناس في المواسم. ومن بني يشكر بن عدران، عامر بن الظرب بن عمرو بن عَيّاذ بن يشكر بن عدوان، وقد عرف عامر بن الظرب هذا ب "حاكم العرب" في الجاهلية. وهو شقيق سعد، وعمر، وصعصعة، وثعلبة. ومن بني ثعلبة بن الظرب، ذو الأصبع العدواني من الشعراء المعروفين. ومن بطون عدوان الأخرى، بنو خارجة، وبنو وابش، وبنو رهم بن ناج.

ومن نسل سعد بن قيس عيلان، غطفان ومنبه وهو أعصر. أما غطفان، فقبيلة كبيرة معروفة، وهناك قبيلة أخرى تسمى ب "غطفان" كذلك، وهي يمانية، تنسب إلى غطفان بن سعد بن مالك بن حرام بن جذام أما هذه، فعدنانية في عرف النسّابين، وتقع منازل هذه القبيلة شرقي خبير وحدود الحجاز إلى جبلَيْ طيء.

وقد وقعت بين غطفان وبني عامر بن صعصعة عدة أيام، منها: يوم الرقم، ويوم القرنتين، ويوم طوالة، ويوم قرن. وقد كانوا مع الأحزاب في محاربة الرسول. وكانوا يعبدون العُزّى. شجرة بنخلة عندها وثن تعبدها غطفان، سدنتها من بني صرمة. بن مرّة، وكانت قريش تنظمها، وكانت غنى و باهلة تعبدها معهم. هدمها خالد بن الوليد، وهدم البيت وكسر الوثن. وكانوا يطوفون حول البيت، بيت بساء تشبهاً بطواف القبائل الأخرى حول الكعبة بمكة، و لهم صنم آخر موضعه في مشارف الشام يسمى الأقيصر.

ومن رؤساء غطفان الذين سادوا فيها، زهير بن جذبمة العبسي، وقد قاد غطفان كلها، وعمرو بن جؤيّة بن لوذان الفزاري، وقد قاد غطفان كلها إلى يوم الخنان إلى بكر بن وائل، وبدر بن عمرو، وقد قاد غطفان لبني أسد، وعيينة بن حصن بن حذيفة، قاد غطفان إلى بني تغلب يوم الساجسي.

ويبدأ تأريخ غطفان باستقلال قبائل معدّ، وخروجها من حكم اليمن على ما يرويه الاخباريون. وكان رئيس قبائل غطفان في هذا العهد زهير بن جذيمة العبسي سيد عبس، وعبس من غطفان. وقد تلقب بلقب ملك وجبى. الإتاوة من هوازن، ثم قتله خالد بن جعفر بن كلاب، فترأس عبس ابنه قيس، وترأس ذبيان - وهي من قبائل غطفان كذلك - حذيفة بن الفزاري. وتمكن الحارث بن ظالم أحد الفُتّاك في الجاهلية من قتل خالد بن جعفر، وهو في جوار ملك الحيرة، وقد أدت هذه الحوادث إلى تشتيت قبائل غطفان، والى نشوب حروب بينها خاصة بين عبس وذبيان.

وقد كانت قبائل غطفان في جملة القبائل التي قاومت الإسلام، واشتركت مع القبائل الأخرى في محاربة الرسول ومهاجمة المدينة، ثم أسلمت في السنة الثامنة للهجرة. وبعد وفاة الرسول عادت أكثرية غطفان، فارتدت عن الإسلام، وهاجمت المدينة. ولكن أبا بكر تمكن من صدّها، ثم عادت كما عاد غيرها إن حظيرة الإسلام.

وولد غطفان ثلاثة أولاد، هم: ريث، وبغيض وأشجع على رواية، وولد ريثاً وعبد العُّزّى على رواية أخرى. وقد بدل رسول الله اسم عبد العُزّى فجعله عبد الله، فعرف نسله بالاسم الجديد. وقد ولد ريث من الولد أهون، ومازناً و أشجع وبغيضاً، وذلك على رواية من جعل لغطفان ولدين، هما: ريث وعبد العُزّى.

ومن بطون اشْجَعْ بكر وسبع، ومن سبيع حلاوة "خلاوة"، وهفّان وفتيان، وقنفذ، وذبيان.

وتقع مواطن أشجع في الحجاز بضواحي يثرب، وكانوا حلفاء للخزرج من الأزد. وقد ساعدوهم في يوم بعاث. وقد كان بين هم وبين سُليَم بن منصور يوم كان في موضع الجر.

ومن ولد بغيض: عبس، و ذُبيان ويضاف إليهما أنمار في بعض الروايات.

ومن نسل عبس قطيعة، ووردة، والحارث، وورقة. ومن نسل قطيعة زهير بن جذيمة سيد بني عبس، وجميع غطفان، وقيس بن زهير بن جذيمة صاحب حرب داحس والغبراء، والربيع بن زياد وزير النعمان، والحارث بن زهير، قتله كليب يوم عراعر، وشأس بن زهير قتله فزَارة، ومن عبس عنترة بن شدّاد البطل الجاهلي الشهير.

وهناك جملة قبائل وبطون عرفت بعبس، ففي أسد وحذيفة وهوازن وعمرو ابن قيس عيلان وعكّ بطون عرفت بعبس، وهي تسمية معروفة وردت في الكتابات الصفوية والتدمرية والنبطية، فهي من الأسماء القديمة المعروفة عند العرب الشماليين.

وتعد عبس جمرة من جمرات العرب، وجمرات العرب هي: ضبةّ بن أد، وعبس بن بغيض، والحارث بن كعب، ويربوع بن حنظلة، وبنو نمير بن عامر أو أقل من ذلك على حسب تعدد الروايات. ويقصدون بالجمرة القبيلة التي لا تنضم إلى أحد، ولا تحالف غيرها، وتصبر في قتال من يقاتلها من إلقبائل، أو القبيلة التي يكون فيها ثلاث مئة فارس أو ألف فارس. وهو تعريف لا يمكن إن ينطبق على قبيلةٍ ما من القبائل، حتى على هذه القبائل التي قالوا عنها إنها الجمرات، فلا بد في القتال بين القبائل من حلف، ومن طلب مساعدة القبائل الأخرى. ولذلك نجد الأخباريين يذكرون إن بعض هذه القبائل طفئت لأنها حالفت القبيلة الفلانية. فذكروا إن ضبة طفئت لأنها حالفت الرباب، وان الحارث طفئت لأنها حالفت مذحجاً، وان عبساً طفئت أيضاً لانتقالها إلى بني عامر بن صعصعة يوم جبلة. وهكذا إذا استقيصت كلام. الإخباريين الوارد في مناسبات أخرى عن هذه القبائل، تجد انه يصادم ما قالوه من عدم تحالف القبائل المذكورة وانضمامها إلى القبائل الأخرى. وظنّي إن شهرة عبس في الشجاعة خاصة من دون القبائل الأخرى إنما وردت إليها من هذا القصص المروي عن عنترة ابن شداد.

ومن ولد ذبيان فزارة وسعد، وفي روايات أخرى إن والد سعد هو ثعلبة ابن ذبيان. وولد سعد عوفاً، وهو والد مُرّة وثعلبة، ومن بني مرّة بن عوف خزيمة، وغطفان، وسنان. ومن بني سنان هَرِم بنُ سنان، وبنو يربوع بن غيط بن مرة بن عوف، ومنهم النابغة الذبياني، و الحارث بن ظالم ابن جذيمة بن يربوع بن غيظ من الفتاك، ومن بني مرة بنو سهم بن مرة، ومن بني ثعلبة بن سعد، بنو بجالة بن ثعلبة بن سعد، وبنو عجب بن ثعلبة بن سعد، وبنو رزام بن ثعلبة بن سعد.

وقد وقعت بين بني عبس وذبيان حروب عديدة، سأتحدث عنها في الأيام، والظاهر انه كانت بين القبيلتين منافسة شديدة.

أما فزارة، فولد عديّاً، وظالماً، ومازناً، وشمخاً "سمخا" "شمجا بم،ومرّة. ومن بني عديّ: بغيض بن مالك بن سعد الذي اجتمعت عليه قيس في الجاهلية، وبنو بدر بن عمرو بان حويّة بن لوذان بن ثعلبة بن عدي بن فزارة، وهم بيت فزارة وعددهم، وبنوه حذيفة الذي يقال له ربّ معد، وحمل، المقتولان يوم الهبأة، ومالك، وعوف، المقتولان في حرب داحس والغراء، والحارث، وربيعة، وقد سادوا كلهم. ومن بني ظالم، نعامة التي يتمثل به في إدراك الثأر، وكان فيه هوج، ورويت له أمثال كثيرة. ومن بني شمخ، ظويلم المعروف بمانع الحريم، "سُمي بذلك لأنه خرج في الجاهلية يريد الحج، فنزل على المغيرة بن عبد الله المختومي، فأراد إن يأخذ منه ما كانت قريش تأخذ ممن نزل عليها في الجاهلية، ولذلك سُمّي الحريم. وكانوا يأخذون بعض ثيابه أو بعض بدنته التي ينحر، فامتنع عليه ظويلم، وقال: يا ربّ، هل عندك من غفيره  إن منى مانعه الـمـغـيره

ومانع بعد مـنـى ثـبـيره  ومانعـي ربـي أنْ أزوره

وظويلم الذي منع عمرو بن صرمة الإتاوة التي كان يأخذها من غطفان".

وتقع مواطن فزارة بنجد وبوادي القرى، وانتشروا بعد ذلك - وخاصة في الفتوحات الإسلامية - في مواطن أخرى، وذهبت بطون منهم إلى شمال إفريقية. وكان لحذيفة بن بدر رئيس فزارة اثر خطير في حرب داحس التي وقعت بين عبس وذبيان، و لهم حروب و أيام مع القبائل الأخرى مثل حربها مع عمرو بن تميم ومع التيم ومع هوازن ومع بني جشم بن بكر ومع بني عامر. يذكرها أهل الأخبار في حديثهم عن الأيام. وقد قاد حذيفة بن بدر فزارة، ومرّة يوم النسار، ويوم الجفار، وفي حرب داحس حتى قتل فيها يوم الهبأة. وقد عرف "حذيفة" هذا ب "ربّ معد". وكان ابنه "حصن" من سادات فزارة.

ومن بني مازن بن فزارة: بنو العشراء، "وبنو سيّار بن عمرو الذي رهن قومه بألف بعير، وضمنها لملك من ملوك اليمن، وذلك إن بني حارث بن مرّة، قتلوا ابناً لعمرو بن هند، فرهن سيار قوسه. ومن ولد سيّار، زبّان، و قطبة. ومن ولد قطبة هرم بن قطبة، وهو من حكماء العرب، واليه تحاكم عامر بن طفبل وعلقمة بن علاثة، وكان ممن أدركوا الإسلام.

و أما ولد أعصر بن سعد بن قيس عيلان، فهم: مالك، ومن نسله باهلة، وعمرو وهو غنيّ، وأمهما من هَمْدان، وثعلبة وعامر ومعاوية، وأمهم الطفاوة بنت جرم بن "زبان".

ومن ولد مالك، سعد مناة، وأمه باهلة بنت صعب بن سعد العشيرة من مذحج، وبها عرف سعد مناة ونسله. ومعن بن مالك وهو الذي خلف أباه على باهلة، ومن نسله عمارة بن عبد العزىّ، قاتل عبد الدار بن قصيّ. ومن بطون باهلة بنو قتيبة، ومنهم بنو سهم، وبنو أصمع، و وائل بن معن. وتقع منازل هذه القبيلة في اليمامة في الأصل، ويظن بعض المستشرقين إنها قبيلة "Bahilitae" "Pachylitae" التي ذكرها "بلينيوس". وقبيلة "Bliulaei" الوارد اسمها في جغرافية "بطلميوس".

و أما غّنيّ، فقيلة كانت ديارها في جوار طيء و عند حمى ضَرِيّةَ. ومنها رباج بن الأشل، وابن أخيه ثعلبة قاتل شأس بن زهرة بن خزيمة العبسي. وقيل: إن رباحاً هو قاتل شأس. وكانت لهم ظاعنة ضخمة بالشام. ومن بطون غنيّ عبد، وزبان، وصريم، وضبينة، وبنو عتريف. وكانت لهم حروب مع عبس ومع زيد الخيل. ومن أصنامهم التي عبدوها: اللآت، ومناة، والعُزّى. ومن شعرائهم طفيل بن عمرو الغَنوَي، وكعب بن سعد الغَنَوي.

ومن ولد خصفة بن قيس عيلان: عكرمة، وأمه اخت كلب بن وبرة لأبيه، ومحارب. ومن محارب: عامر بن وهب بن مجاشع المعروف بذي الرمحين، وكان سيّد قومه، وقد غزا باهلة وأوقع فيها، وأسر منها، وسبع الوارث، وهو مالك بن عمرو بن حارثة بن عبد بن سلول الكيدبان، و اسمه عبد الله. القائل لرسول الله: "جملي احب إليّ من ربّك"، والعقب من محارب لصلبه في فخذين: طريف، وجسر.

والفرع الثاني من فرعي خصفة، فرع ضخم كبير بالقياس إلى فرع محارب، فهو يشمل على ولد منصور بن عكرمة، وهم: مازن، وهوازن، وسُليم، وسلامان، وأبو مالك. ومن بني هوازن: بكر بن هوازن، ومن ولد بكر: معاوية، ومنبه، وسعد، ويزيد. وقد قتل معاوية، فجعل عامر بن الظرب العدواني ديته مئة من الإبل. ويقول الأخباريون إن هذه أول دية قضى فيها بذلك، وان لقمان كان قد جعلها قبل ذلك مئة جدي. وفي بني سعد بن بكر ابن هوازن استرضع الرسول. ومن بطون بكر الأخرى: جشم بن معاوية بن بكر، ومنهم بنو جداعة، رهط دريد بن الصمّة، وبنو سلول وهم بنو مرّة ابن صعصعة بن معاوية بن بكر، وعامر بن صعصعة.

وهوازن من القبائل العربية الضخمة، وقد تفرعت منها قبائل كبيرة معروفة كانت لها شهرة بين القبائل. سكنت في مواضع متعددة من نجد على حدود اليمن وفي الحجاز. ويظهر من انتساب هذه القبائل المعروفة الكبيرة إليها، ثم من اقتصار اسم هوازن على قبيلة واحدة فيما بعد، واختصاصها به، إنها كانت في الأصل حلفاً في جملة قبائل، ثم انفصل لعوامل سياسية واقتصادية مختلفة، فلم يبق من ذلك الحلف إلا الرابطة التأريخية التي بقيت في. ذاكرة نسابي القبائل، وهي رابطة النسب. وقد وقعت بين القبائل التي ترجع نسبها إلى هوازن وبين قبيلة هوازن حروب عديدة.

وقد كانت هوازن في جملة القبائل الخاضعة للتبابعة، فلما استقلت قبائل معدّ عن اليمن، كانت هوازن في جملة من استقل من تلك القبائل. ولكنها أخذت تدفع الإتاوة لزهير بن جذيمة سيد عبس من غطفان. فلما قتل زهير، استقلت من غطفان، ولم تدفع الإتاوة إليها. ولما انتهت حرب عبس و ذبيان، وعقد الصلح بين القبيلتين المتنافستين، وقعت حروب وأيام بين بطون غطفان وهوازن، منها: يوم الرقم، ويوم النباع، ويوم اللوى، دارت الدائرة فيها على هوازن، كما وقعت بينها وبين قبائل كنانة وقريش و ثقيف أيام عديدة. وكانت هوازن في جملة القبائل التي قاومت الإسلام. و قد غزاها الرسول، بعد فتح مكة، فتمكن منها، ودخلت في الإسلام ثم ارتدت بعد وفاته، ثم عادت مع التوابين بعد إن غلبهم الخليفة أبو بكر الصديق.

وكان لهوازن صنم يعظمونه في عكاظ اسمه جهِار، سدنته من آل عوف النصرين، تشاركهم في عبادته محارب، وكان في سفح أطْحَل.

ومن ولد مُنبه بن بكر بن هوازن بن منصور، قَسيّ و هو ثقيف. وولد قسي جشماً و عوفاً ودارساً. وقد دخل ولده في الأزد. ومن بني عوف بن ثقيف، الحجاج بن يوسف الثقفي. ومن بني غِيرة بن عوف بن ثقيف، الشاعر أمية بن أبي الصلت. والأخنس بن شريق، والحارث بن كلدة و أبو عبيد بن مسعود، والد المختار. ومن بطون ثقيف الأخرى بنو عُقدة بن غيرة، وبنو مُعتب، وبنو حبيب، وبنو اليسار بن مالك بن حطيط. ومن بني مُعتب، غيلان بن مسلمة بن معتب، وكانت له وفادة على كسرى.

ولثقيف حروب يظهر إنها كانت في الغالب دفاعاً عن النفس، إذ نجد ثقيفاً تهاجم فيها في الطائف، فتضطر عندئذ إلى الدفاع عنها. وقد كان من أصنامها اللآت، وله بيت بالطائف على صخرة يضاهون به الكعبة بمكة. وكانوا يهدون إليه الثياب لستره به، ويطوفون حوله. وسدنته من آل أبي العاص بن أبي يسار بن مالك من ثقيف.

وولد سليم بن منصور، بُهثة "بُهتة". ومن ولد بهثة الحارث، وثعلبة، وامرؤ القيس، وعوف، ومعاوية. ومن بطون امرئ القيس، بنو عصية. ومن بني عصية، مالك ذو التاج، وكرز، وعمرو، وهند، وبنو خالد بن صخر بن الشريدة وقد توجت بنو سليم مالكاً ملكاً عليها، وقتل مالكاً وكرزاً عبد الله بن جذل الطعان الكناني. وقد اشتهرت بلاد بني سليم بالمْعدنِ الذي فيها، ولذلك قيل لها معدن بني سليم. ومن بني الحارث بن بهثة بنو ذكوان. ومن بني عبس بن رفاعة بن الحارث، للعباس بن مرداس، وهم من القبائل التي لعنها الرسول، لقتلها أهل بئر معونة. وقد لعن الرسول بني عصية بن خفاف بن امرئ القيس بن بهثة كذلك للسبب نفسه. ومن بني ثعلبة بن بهثة بن سليم حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقص، وكان بمكة في الجاهلية محتسباً يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.

وتعد قبيلة بني سليم من القبائل المهمة الساكنة في الحجاز في ارض اشتهرت بمعادنها و بخصبها، وبها حِرارد منها: حرة بني سليم، وحرة ليلى، و بها مياه استفادت منها القبيلة في الزرع. و تجاورها من القبائل. غطفان و هوازن وهلال. وكانوا على صلات حسنة باليهود، كما كانوا على صلات وثيقة بقريش. وقد تحالف معهم أشراف مكة و كبارها لما لهم من علاقات اقتصادية بهذه القبيلة.

ويروى إن النعمان بن المنذر كان قد نقم على بني سُليم لأمر أحدثوه، فأرسل عليهم جيشاً، ولكنه لم يتمكن منهم، وهزم الجيش. و لبني سليم ككل القبائل الأخرى أيام. منها: يوم ذات الرَّمرمْ وهو لبني مازن على بني سُليم، ويوم تثليت وهو بين مراد وبني سُليم.

وكان لهم صنم يقال له "ضمار" كان عند مرداس والد العباس بن مرداس. فلما توفي مرداس، وضعه العباس في بيت يتعبد له. فلما ظهر الإسلام، أسلم، وأحرق ذلك الصنم.

وولد معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور أولاداً، هم: نصر، وجشم، وصعصعة، وعوف. ويسمون بنيه الوقَعَة. و قد دخلوا في بني عمرو بن كلاب بن الحارث. ومن بني نصر معاوية ربيعة بن عمان، وهو أول عربي قتل عجمياً في يوم القادسية. ومن بني جشم بن معاوية، دُريد بن الصمة من الفرسان المعروفين. ولهم حروب مع أسد و غطفان وعبس، وكانت موطنهم بالسروات.

أما ولد صعصة بن معاوية، فهم: عامر، ومرّة ويعرف أبناؤه ببني سلول نسبوا إلى أمهم، وغالب و أمه تماضر، وقد نسب ولده إلى أمهم. وربيعة وأمة عويصرة، و إليها نسب. وعبد الله، والحارث: وأمهما عادية، واليها نسبا، وكبير، وعمرو، وزبير وأمهم وائلة، و إليها نسبوا. وقيس، وعوف، ومساور، وسيار، و مشجور أمهم عدبة، فنسبوا إليها. ويلاحظ إن النسابين قد جعلوا لصصعة عدة نساء، ونسبوا إلى هؤلاء النسوة أولادهن، فعلوا ذلك للتمييز بين هؤلاء الأولاد ولا شك.

وذهب بعض المستشرقين إلى احتمال كون بني عامر هم: "Hamirei"، "Hamirou"، "Hamirinoi" المذكورين في تأريخ "بلينيوس". و تقع منازلهم بين منازل قبائل هوازن وسلم وثقيف، ولهم مع القبائل الأخرى مثل بني حنيفة وعبس وذبيان وفزارة وتميم و بني نهد وسعد الرباب حروب -عديدة-، ترد أخبارها في الأيام.

ومن نسل عامر بن صعصة.: ربيعة، وهلال، ونمير، و سواءة. ومن بني ربيعة بن عامر بن صعصعة كلاب، وعامر، وكليب. ومن بني عامر ابن ربيعة بن عامر بن صعصعة، معاوية ذو السهمين، لأنه كان يأخذ سهمه من غزوات بني عامر، أقام أو غزا. وبنو عمرو بن عامر المعروف ب "فارس الضحياء". ومن بني كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. وهم خالد الأصبغ وربيعة الأحوص، ومالك الطيّان، أمهم بنت رياح بن الأشل الغنوي، وعتبة، وعوف، أمهما فاطمة بنت عبد مناف بن قصيّ بن كلاب. فولد الأحوص عوفاً، وعمراً، و شريحاً، قاتل لقيط بن زرارة يوم جبلة، وقد سادوا جميعاً. ومن عوف بن الأخوص علقمة بن علاثة الذي نافر عامر ابن الطفيل.

ومن نسل خالد بن جعفر بن كلاب أرْبَدْ بن قيس بن جزء بن خالد، وهو الذي أراد مع عامر بن الطفيل قتل رسول الله. ومن نسل مالك بن جعفر ابن كلاب، عامر، وهو أبو براء ربيعة ملاعب الأسنة، والطفيل، وهو والد عامر بن الطفيل، ولبيد الشاعر. ومن نسل عتبة بن جعفر بن كلاب عروة الرحّال بن عتبة بن جعفر الذي أجار لطيمة الحيرة، فقتله البرّاض الكناني، و من أجله كانت حرب الفجار. وابنته كبشة هي أم عامر بن الطفيل، ولدته يوم جبلة.

ومن نسل عمرو بن كلاب الصعق، وهو عمرو بن خويلد بن نفيل بن عمرو ابن كلاب. وكان سيداً لم يطعم بعكاظ، ومن ولده الشاعر يزيد بن عمرو الصعق. ومن بني الباب بن كلاب بن ربيعة شَمِرْ بن ذي الجوشن قاتل الحسن بن علي. ومن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة جَعدَة، والحرَيش، وعُقيل، وقشير، وعبد الله، وحبيب. ومن ولد عبد الله نهم والعجلاَن، وهم قبيلة. ومن جعدة الشاعر النابغة الجعدي. ومن بني قُشير مالك ذو الرقيبة بن سلمة الخير الذي أسر حاجب بن زرارة يوم جبلة. ومن عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، المننفق بن عامر بن عقيل، وهم بطن وربيعة بن عامر، ومنهم الحارث الأبرص قاتل زيد بن عمرو بن عدس يوم جبلة، وبنو خفاجة بن عمرو بن عقيل.

وتقع منازل الضباب في أرض كلاب، ومن بطونهم ضبّ و ضبيب و حسل وحسيل، وقد وقعت بينهم وبين جعفر بن كلاب يوم عرف بيوم حرابيب، ويوم آخر عرف بيوم هراميت.

و أما منازل جعدة، فهب في الفلج من اليمامة. و أما الحريش، فكانت منازلهم باليمامة، واشتركت في يوم الرحرحان. وكانت مساكن عقيل بالبحرين، وهاجروا إلى العراق، وكاِن لهم أثر ملحوظ في تأريخ العراق في الإسلام.

والفرع الثاني من فروع مضر، هو من نسل الياس، ويتكون هذا الفرع من ثلاث كتل: طابخة، وقمعة، ومدركة. ولكلّ كتلة من هذه الكتل قبائل وبطون.

أما طابخة، واسمه عمرو "عامر"، فهو والد ولد يسميه النسابون أداً، وأد والد عدة أولاد هم: مرّ، وضبّة، وعمرو وهو مزينة، وعبد مناة، وحميس "خميس". وذكروا إن بني حميس شهدوا يوم الفيل مع الحبشة، فقتلوا، فقل نسبهم.

أما ضبّة بن أد، فولد سعد بن ضبّة، وسعيد ولا عقب له، قتله الحارث ابن كعب، ثم قتل ضبّة الحارث بن كعب، وفي ذلك سارت الأمثال الثلاثة: "أسعد أم سعيد" و "الحديث ذو شجون" و "سبق السيفُ العذلَ" قالها كلها ضبة، و باسل بن ضبّة. ويذكر الأخباريون إن الديلم من نسله. وولد سعد ابن ضبّة بكر بن سعد، وثعلية، وصريم. ومن بكر بن سعد ضرار بن عمرو ابن مالك، سيد بني ضبّة. وقد شهد يوم القرنتين، والمفضل بن يعلم" صاحب المفضليات، وحبيش بن دلف بن العون، وكان ينازع ضرار بن عمرو الرياسة وحضر يوم القرنتين، و بني تيم بن ذهل.

وتعد ضبّة جمرة من جمرات العرب التي أشرت إليها، وتقع منازلها في اليمامة، وفي خلال الحرب التي وقعت بين عبس وذبيان دخلت عبس أرض ضبّة، ولكنها اضطرت إلى مغادرتها بعد النزاع الذي حدث بين عبس و ضبّة. وجاورت بني عامر بن صعصعة. وفي يوم "جبلَة"، وهو من الأيام المشهورة التي وقعت بعد يوم رحرحان بعام، ويصادف ذلك عام مولد النبي على رواية. أو قبل مولده بسبع عشرة سنة على رواية أخرى. كانت ضبة مع ذبيان وتميم وأسد والرباب وفزارة في مهاجمة بني عامر بن صعصعة. وبالرغم من كثرة هذه القبائل، تمكنت بنو عامر من الظفر به ومن إلحاق الهزيمة بتميم وبمن ضامها. والى مشورة قيس بن زهير العبسي يعود الفضل في انتصار بني عامر. وفي رواية إن لقيطاً استنجد أيضاً بالنعمان بن المنذر، فأنجده بأخيه لأمه حسّان ابن وبرة الكلبي، وبصاحب هجر وهو الجون الكندي، فأنجده بابنيه معاوية وعمرو وغزا بني عامر. وقد أصيب تميم ومن كان معها من القبائل بخسائر، وبوقوع عدد من الزعماء أسرى في أيدي بني عامر، فقتل في هذا اليوم لقيط بن زرارة، وأسر حاجب بن زرارة، أسره فو الرُّقيبة، وأسر سنان بن أبي حارثة المرُّي وجزت ناصيته، وأطلق إمعاناً في امتهانه، وأسر عمرو بن عدس وجزت ناصيته كذلك ثم أخلي سبيله. وقتل معاوية بن الجون، ومنقذ بن طريف الأسدي، ومالك بن ربعي بن جندل. وبعد حزّ الناصية بعد الأسر خاصة مع اشد درجات الامتهان، و لا سيما جزّ نواصي السادة والرؤساء.

وفي يوم النسّار، لحقت ضبة وعديّ بأسد وطيء و غطفان في غزوهم لي بني عامر، وقد ألحقوا خسائر فادحة ببني عامر، وهذا مما غاظ تميماً، فجعلها تلحق طيئاً وغطفان وحلفائهم من ضبةّ وعديّ يوم الفجار، حتى قتلت من طيء أكثر مما قتلت طيء يوم النسار.

ومنُ ذرية عبد مناة بن أد: تيم، وعديّ، وعوف، وثور، وأشيب. وهؤلاء هم الرّياب، لأنهم تحالفوا مع بني عمهم ضبّة على بني عمهم تميم بن مرّ، فغمسوا أيديهم في رُبّ. ومن بني عوف بن عبد مناة بنو عكل. و من بني عمرو بن أد: مزينة، نسبوا إلى أمهم مُزينة بنت كلب بن وبرة. وتقع ديار الرباب بالدهناء في جوار بني تميم.

ومن ولد أد بن طابخة مرّ بن أد فولد مرّ تميماً وثعلبة، وهو ظاعنة، وبكر بن مرّ، وهو الشعراء، ومحارب بن مرّ، وهو صوفة. ومن النساء برة أم "النضر، وملك وملكان بني كنانة. وهي أيضاً أم أسد بن خزيمة، وهند ابنة مر وقد ولدت بكراً وتغلب وعنز بني وائل بن قاسط، وتُكمة بنت مرّ وقد ولدت غطفان بن سعد، وسُليماً و سلامان بن منصور، وجديلة نجت مرّ وفد ولدت فهماً وعدوان، واليها ينسبون، وعاتكة بنت مرّ. وهي والدة عذرة ابن سعد و إخوته.

و أما صوفة، فانهم كانوا يجيزون بالحاج. وقد انقرضوا عن آخرهم في الجاهلية، فورث ذلك آل صفوان بن شجنة "سجنة" "شحمة"، من بني سعد بن زيد مناة بن تميم. ومن هؤلاء على رواية كان عامر بن احيمر السعدي الذي حصل على برديُّ محوّق من النعمان بن المنشر في مجلس مفاخر حضرته وفود العرب عقد بحضره النعمان بن المنذر في الحيرة. وقد بزّ عامر هذا الحاضرين في الفخر وفي الانتساب على الطريقة المألوفة. ولما سأله النعمان: بم أنت أعز العرب? قال: العزُّ والعدد من العرب في معدّ، ثم في نزار، ثم في تميم، ثم في سعدّ، ثم في كعب، ثم في عوف، ثم في بهدلة، فمن أنكر هذا من العرب فلينافرني? فلما لم ينافره أحد، ذهب بالبردين.

وتميم من القبائل العربية الكبيرة المعروفة، وقد نعتهم ابن حزم بقوله:"وهم قاعدة من أكبر قواعد العرب". وتعدّ في مقابل قيس وربيعة، وهي الممثلة لمجموعة مضر في بعض الأحيان. وهي أقرب جغرافياً وتاريخياً إلى قيس وربيعة منها إلى كنانة. ومعارفنا عن تأريخها مستمدة مثل معارفنا عن القبائل الأخرى المماثلة من الروايات المدوّنة في كتب الأخباريين.

ويزعم الأخباريون إن جدّ هذه القبيلة مدفون في موضع "مُرّان"، وهم يروون قصصاً عنه وعن ميلاد أولاده من هذا النوع الذي ألفنا وروده عن الأخباريين.

ولا نستطيع في الوقت الحاضر إن نرتقي بتأريخ تميم عن القرن السادس للميلاد، فليست لدينا موارد تأريخية يعتمد عليها ترفع تأريخ هذه القبيلة إلى ما قبل ذلك، ولا يعني هذا إننا ننكر إن يكون لها تأريخ قديم، إذ يجوز إن يكون لها عهد اقدم من هذا العهد الذي نتحدث عنه. ولكننا لا تملك الان نصوصاً جاهلية أو موارد إسلامية يُطمأن إليها، ترجع تأريخ تميم إلى ما قبل هذا القرن.

أما في القرن السادس، فقد كانت تيم قبيلة بارزة ظاهرة، بطونها منتشرة في العربية الشرقية، وفي نجد وفي العراق، وفي أنحاء مختلفة من جزيرة العرب، مجاورة لقبائل معروفة مثل أسد وغطفان و بني عبد القيس وتغلب، متصلة بها. ومن بني دارم من تميم كان المنذر بن ساوى حاكم البحرين والذي أسلم في أيام الرسول.

و كانت لتميم صلات متينة بملوك الحيرة، وكان من عادتهم جعل الردافة في بطن من بطونهم، وهو بطن بني يربوع. وقد ثار هذا البطن وهاج، لما حولت الردافة إلى بطن آخر من بطون تميم، هو بطن بني دارم، ولم يقبلوا إلا برجوعها إليهم، لما كان للردافة من مكانة ومنزلة في ذلك الوقت.

ونجد في كتاب الأخباريين أسماء أيام عديدة وقعت بين تميم وغيرها من القبائل، خاصة قبائل بكر بن وائل، كما نجد إشارات إلى حروب وقعت بينهم وبين بعض ملوك الحيرة. وقد أشرت إلى القصص الذي يرويه أهل الأخبار عن غزو "سابور ذي الأكتاف" لجزيرة العرب والى ما زعموه من تنكيله بالقبائل وانتزاعه أكتافهم، ومن هذه القبائل قبيلة تميم. ويذكر الأخباريون أيضاً إن "كسرى برويز" . "كسرى أبرويز" "Khusrawparwez"، كتب إلى عامله على هجر، وهو "المكعبر"، إن ينتقم من تميم، لتعرضها لقافلة كانت محملة بالتجارات وبالهدايا مرسله إليه، فقتل المكعبر بالمشقر عدداً كبيراً منهم.

ولتميم صلات متينة برجال مكة، وقد كان لرجالهم ذكر وخبر في سوق "عكاظ". فنهم كان حكام الموسم. كما تولوا القيام ببعض مناسك الحج. وقد صاهرهم بعض رجاك مكة.

ويظهر من بعض روايات الأخباريين إن تميماً وبقية القبائل المنتمية إلى "أُد" كانت تتعبد ل "شمس". وكان لشمس بيت "تعبده بنو أُد كلها: ضبّة، وتميم، وعدي، و عُكْل،. وثور. وكان سدنته من بني أوس بن مخاشن بن معاوية بن شريف بن جروة بن أسيد بن عمرو بن تميم، فكسره هند بن أبي هالة بن أسيد بن الحلاحل بن أوس بن مخاشن". وعبدت طائفة من تميم "الدَّبرَان" من النجوم، ولهم قصة عن هذه النجوم.

وكاد بعض تميم على النصرانية، ومنهم عدي بن زيد العبادي، كما كان بعض منهم من دان بالمجوسية، وبن هؤلاء زرارة بن عدس التميمي و ابنه حاجب ابن زرارة والأقرع بن حابس.

وفي شواهد كتب النحو والصرف أمثلة عديدة من لهجة تميم، وهي تشير إلى وجود فوارق ومميزات في تلك اللهجة تميزها عن اللهجة التي نزل بها القرآن الكريم. وقد أخرجت هذه القبيلة عدداً من الشعراء في الجاهلية والإسلام. وللاستشهاد بلهجة تميم، ولوجود عدد من الشعراء الذين يبدون من كبار الشعراء عند علماء الشعر، أهمية كبيرة ولا شك في دراسة اللهجات العربية، وعلاقاتها بلهجة القرآن الكريم.

وقد أدى تعدد بطون تميم وانتشارها إلى نشوب حروب بينها، والى تكتلها كتلاً وتكوين أحلاف بينها، كالحلف الذي كان بين بني يربوع و بني نَهْشَل. وقد نسب لأبي اليقظان النسابة كَتاب في أحلاف تميم اسمه: "كتاب حلف تميم بعضها بعضاً".

وبطون تميم عديدة، تفرعت على رأي النسابين من الحارث، وعمرو، وزيد مناة أولاد تميم. ومن ولد عمرو: العنبر، والهجيم، وأسيد، ومالك، والحارث و قليب. والحرماز، وكعب على رواية أخرى. ومن بطون بني كعب بنو فهد. وقد عرف نسل الحارث بالحَبِطات. ومن بطون بني مالك إبن عمرو بن تميم: مازن، والحرماز، وغيلان، وغسان. ومن بني أسيد ابن عمرو بن تميم بنو كاهل، ومنهم أوس بن حجر الشاعر الجاهلي المعروف، وكان شاعر مضر حتى أسقطه زهير، وبنو شريف ومنهم أكثم بن صيفي من حكماء العرب في الجاهلية، وحنظلة بن رجعة، ابن أخي اكثم. و قد كتب للنبي الوحي. ومن بني مالك بن زيد مناة بن تميم البراجُم،. وبنو دارم، ومن بني حنظلة بنو يربوع، ومن بني يربوع بنو ثعلبة، ومن بني الحارث بن يربوع بنو سليط، ومن نسل مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم: بنو فُقَيْم، وبنو نهشل، و بنو مجاشع، وفي بني رياح بن يربوع كانت ردافة قبل الإسلام، ومن بني العنبر بن يربوع كانت سجاح.

وذكر "البلاذري" أن "بكر بن وائل" أغارت على "بني عمرو بن تميم" يوم "الصليب"، ومعها ناس من الاساورة، فهزمتهم بنو عمرو وقتلت "طريفا" رأس الأساورة ا، وذكر إن "بكراً" كانت تحت يد كسرى وفارس، فكانوا يقوونهم ويجهزونهم. وكان يشرف عليهم عامل "عين التمر". ويظهر إن "بني عمرو"، كانوا قد اعتدوا على "عِيرِ كسرى"، فجهز "بكر بن وائل" عليهم.

أما بنو قمعة بن الياس، فهم من نسل عامر بن قمعة، واسم قمعة عمير. وقد ولد عامر أفصى وربيعة وهي لحيّ فولد لحيّ عامر بن لحيّ، وولد عامر ابن لحيّ عَمْراً وهو عمرو بن لحي، نسب إلى جدّه، فعرف بعمرو بن لحيّ. وهو على قول الأخباريين أول من غير دين إسماعيل ودعا العرب إلى عبادة الأوثان.

و أشهر بطون قمعة أسلم، و خزاعة في رأي بعض النسابين. ولم يشر إلى عقب يذكر لقمعة بعض آخر من علماء الأنساب أما اسلم، فهم بنو أفصى ابن عامر بن قمعة، و أما خزاعة، فهم بنو عمرو بن عامر بن لحيّ وهو ربيعة. وقد كانت مواطن خزاعة في أنحاء مكة في مرّ الظهران وما يليه. وكانوا حلفاء لقريش. ودخلوا في عام الخديبية في عهد رسول الله، وقد ذهب بعض النسابين كما أشرت سابقاً إلى ذلك إن خزاعة من غسان، و إنها من نسل حارثة بن عمرو "عامر" مزيقياء، و إنها أقامت بمرّ الظهران حين سارت غسان إلى الشام، وتخزعوا عنهم، فَسُمّوا خزاعة. والى نسبة خزاعة إلى غسّان ذهب نسابوا خزاعة.

ومن صلب عمرو بن لحيّ، أي خزاعة، بنو سلول بن كعب بن عمرو بن عامر بن لحيّ، ومنهم قيمر "قمر"، ومطرود ومازن وسعد و حليل، وحُبْشيّة وهم بطن، وهو حاجب الكعبة. ووالد حُبيّ التي تزوجها قصُيّ بن كلاب. ومن نسل حليل أبو غبشان. واسمه المحترش، باع الكعبة بزق خمر من قصيّ ابن كلاب. ومن ولد حبشية بن كعب بن عمرو بن عامر بن لحي: حرام، و غاضرة. ومن نسل بني عوف بن عمرو بن عامر بن لحيّ: جفنة "بنو جهينة"، وهم عباد بالحرة. ومن نسل سعد بن عمرو بن لحي بنو المصطلق، ومن بني افصى بن عامر بن قمعة بن عامر بن قمعة: بنو اسلم، و سلامان و هوازن، وبنو ملكان بن افصى بن عامر بن قمعة وبنو مالك بن افصى.

وقد تحدثت سابقاً عن رأي نسابي اليمن في خزاعة، وعدّها من جماعة قحطان. ونظراً لعد بعض النسابين إياها من عدنان تحدثت عنها في هذا الباب.

أما فرع مدركة، فيتكون من اصلين: خزبمة، وهذيل. وأمهما سلمى بنت أسد بن ربيعة بن نزار. و أضاف بعض النسابين ولداً آخر أليهما اسمه غالب بن مدركة، دخل نسله في بني الهون بن خزيمة بن مدركة.

أما ولد خزيمة، فهم كنانة وأمه عوانة بنت قيس بن عيلان، وأسد، و أسدة، و الهون، وأمهم برّة بنت مر بن أُد بن طابخة. اخت تميم بن مر، ويرى بعض النسابين إن جذاماً ولخماً وعاملة هم نسل أسدة، ولكنهم انتسبوا في اليمن، فقالواُ جذام بن عدي بن الحارث بن مُرّة بن أُدَدْ بن زيد بن يشجب بن يشجب بن مالك بن زيد بن كهلان، وأن هذا الانتساب كان لعوامل سياسة كما حدث لقبائل أخرى، خاصة في أيام الأمويين.

وكانت منازل كنانة عند ظهور الإسلام في أطراف مكة بين هذيل وأسد بن خزيمة، وكان لها أثر مهم في تأريخ مكة على ما يفهم من روايات الأخباريين. وقد ساعدت قريشاً، وقريش من كنانة في نزاعها على رئاسة مكة مع خزاعة، ولها مع خزاعة جملة وقائع، كما كان لها أثر خطير في حروب الفجار.

وتتألف كنانة من بطون عديدة، هي: النضر، والنضير، ومالك، وملكان، وعامر، وعمرو، والحارث، وعروان "عزوان"، وسعد، و عوف، وغنم، و مخرمة، و جرول. وفي رواية لابن الكلبي إن جميع هؤلاء الأبناء هم من أم واحدة هي برّة بنت مرّ، أخت تميم بن مرّ، وهي أم أسد و أسدة والهون أبناء خزيمة في رواية أخرى. أما أم عبد مناة بن كنانة، وذلك في رواية من جعله ابناً لكنانة، فهي بنت هنئ بن بَليّ بن قضاعة. وهذا السبب نسبت إلى قضاعة عند بعض النسابين.

ومن بطون عبد مناة بن كنانة: بكر، وعامر، ومرّة، وغفار. وهي بطون. ومن بكر: ليث، والدئل وأمهما أم خارجة البجلية، وضمرة، وعريج. ومق ليث بن بكر: عامر و جندع، وسعد. ومن الدُّؤل أبو الأسود الدُّؤلي. ومن بني مرّة بن عبد مناة: بنو مدلج، وقد اشتهروا بالقيافة. ومن بطون مالك بن كنانة،: ربيعة بن مكدّم، فارس بني كنانة، و بنو، فراس بن تميم، وبنو فُقَيم، وهم الذين كانوا ينسأون الشهور في الجاهلية، ثم ابطل ذلك في الإسلام.

ومن نسل الهون: عضل، وديش، والقارة. وبنو يينع "يتتع". "يثيع"، بن مليح بن الهون. وهم، وبطنان من خزاعة هما: الحيا والمصطلق، حلفاء لبني الحارث بن عبد مناة بن كنانة. ويقال لهم جميعاً الأحابيش، أحابيش قريش، لأن قريشاً حالفت بني الحارث بن عبد مناة على بكر بن عبد مناة، فهم وأحلافهم حلفاء قريش.

أما نسل أسد بن خزيمة، فهم: دُودان، وكاهل، وعمرو، وصعب، وحملة. ويقال لبني عمرو بنو نعامة. وجعل بعض النسابين بني النعامة، من نسل عبد الله بن صعب بن أسد، وهم: بنو جعدة، وبنو البحر بن عبد الله ابن مرّة بن عبد الله بن صعب بن أسد. وحصر بعض النسابين بطون أسد ابن خزيمة في كاهل، وفقعس، والقعين، و دُودان.

ومن نسل عمرو بن أسد بن خزيمة: القليب، ومعرض واسمه سعد، والهالك، ومن نسل كاهل بن أسد بن خزيمة مازن بن كاهل، ومنهم علياء ابن حارثة بن هلال الشاعر قاتل حجر بن عمرو الكندي والد الشاعر امرئ القيس.

وولد دودان بن أسد: ثعلبة، وغنما. فولد غنم بن دُودان كبيراً، وعامراً، ومالكاً. ومن بني غنم بنو جحش. ومن بني ثعلبة بن دودان الشاعر عبيد بن الأبرص، والكميت الشاعر. ومن بني سعد بن مالك بن ثعلبة ابن دُودان عمرو بن مسعود الذي يقال إن النعمان بنى عليه الغَرِيّ. ومن بني الحارث بن ثعلبة بن دُودان: قُعين، ووالبة، وسعد، و من بني قعين عامر ابن عبد الله بن طريف بن مالك بن نصر بن قعُن، صاحب لواء بني أسد في الجاهلين. ومن بني عمرو بن قُعين بن الحارث بن ثعلبة بن دودان، طليعة ابن خويلد بن نوفل الذي ادعى النبوة. وأشهر بطون بني ثعلبة: بنو غاضرة، وبنو مالك، وبنو والبة، وبنو نصر بن قعين، وبنو الصيداء، وبنو فقعس، وبنو دبير.

أما ولد هُذيل بن مدركة، فهم: سعد، ولحيان. وولد لحيان طابخة، ودابغة. ومن طانحة أبو قلابة الحارث بن صعصعة الشاعر. ومن سعد بن هذيل: الشاعر أبو كبير الهذلي، وحوية. وقيل إن الحُطيأة منهم. ومنهم خناعة وهم بطن، ورهم، وتميم، والحارث، ومعاوية، و عوف. ومن سعد هذيل: عبد الله بن مسعود، والمؤرخ المسعودي. وقد اشتهرت هذيل بكثرة من نبغ فيها من الشعراء، حيث بلغ عددهم نيفاً وسبعين شاعراً. ومن بطون هذيل الأخرى: بنو دهمان، وبنو عادية، وبنو صاهلة، وبنو ظاعنة، وبنو مخزوم، وبنو قُريم، وبنو قرد بن معاوية.

وتعدّ هذيل من القبائل العربية الكبيرة التي كانت في القرن السادس للميلاد، أما منازلهم في هذا الوقت، ففي سراة هذيل بين مكة والمدينة وفي جوار بني سُليم وكنانة، وهي مثل أكبر القبائل الأخرى لا نعرف من تأريخها قبل الإسلام شيئاً يذكر. ويذكر الأخباريون إنها كانت في جملة القبائل التي أرادت الدفاع عن مكة حينما عزم أيرهة على احتلالها. وكانت تتعبد للصنم سواع بِنغَمْان، وسدنته بنو صاهلة من هذيل، وتعبدت له بنو كنانة وبنو مزينة وبنو عمرو بن قيس عيلان كذلك. وله معبد آخر بموضع "رهاط"، كما تعبدت للصنم "متاة" ومعبده بقديد.

إن ما ذكرته في هذين الفصلين، هو خلاصة آراء علماء الأنساب في أنساب القبائل. وهي آراء لا نستطيع إن نذهب مذهبهم في إنها جاهلية قديمة، وإنها على هذه الصيغة كانت معروفة قبل الإسلام، وإن قالوا إنهم توارثوها عن الجاهلين، ونقلوها عن المشتغلين بالنسب في الإسلام والجاهلية كابراً عن كابر، ولا نستطيع أيضاً إن نزعم إنها تمثل أنساب القبائل على نحو ما دوّنت وصنفت في الديوان بأمر الخليفة عمر بن الخطاب. فلم نجد في أقدم ما انتهى إلينا من كتب النسب إشارة تفيد إن ما قْصّوه علينا وما ذكروه في النسب، منتزع من سجلات ديوان الخليفة. ثم إننا رأينا أمثلة عديدة، لتنقل نسب القبائل في أيام الأمويين بين قحطان وعدنان لأسباب سياسية وعوامل ترجع إلى هذا التعصب المزري الذي انتشر في ذلك العصر، حتى جزّأ العرب إلى قيس ويمن.

وهذه الخصومة السياسية العنيفة التي جزأت العرب ويا للأسف إلى جزءين، و أسالت السماء بين الفريقين، صارت سببا لتثبيت أنساب القبائل وضمها في مجموعتين: إما إلى قحطان، و أما إلى عدنان، ولا وسط بين الكتلتين. وقد صادف هذا التحزب عصر بدء التدوين، فكان النسب "لأهميته عند القبائل والناس وفي الحياة السياسية في ذلك العهد" في طليعة الأمور التي شملتها حركة التدوين، فبدلاً من إن يعتمد النسابون على الذاكرة والرواية سطرّوا تلك الروايات في الأوراق، وضبطوا أنساب القبائل التي عاشت قبيل الإسلام وفي صدر الإسلام بهذا التدوين.

وقد أحدث عدم ضبط قواعد الخط في صدر الإسلام، وعدم استعمال النقط في أول العهد بالتدوين بعض المشكلات للمتأخرين في ضبط الأعلام. فاختلاف النقط يحدث كما هو معروف اختلافاً في ضبط الأسماء، وهذا ما حدث فعلاً. و إنك لتجد في كتب الأنساب المطبوعة والمحفوظة أمثلة عديدة من هذا القبيل. كذلك أدى إهمال في النسابين ذكر الآباء أو الأجداد إلى حدوث شيء من الارتباك في ضبط الأنساب. يضاف إلى هذا تشابه أسماء بعض القبائل والبطون في قحطان وعدنان.

وقد أشار الهَمدْاني إلى العصبية التي كان لها أثر خطير في وضع الأنساب في عهد معاوية وغيره في الشام وفي العراق، ثم إلى تقصير نسابي العراق والشام في عدة آباء كهلان وحمير، ليضاهوا بذلك على حد تعبير الهمداني عدة الآباء من ولد إسماعيل، وذكر انه كانت عند أهل اليمن مثل حمير وهمدان والمرانيين وغيرهم زُبر مُدوّنة فيها أنسابهم، يتناقلها الناس، وهي تختلف عن الأنساب التي يتداولها أهل النسب في العراق والحجاز والشام بعض الاختلاف، وان بعضاً من أنساب عرب الحجاز دخل في أنساب الناس من أهل اليمن، وذلك على رأيه لأسباب، منها: فتك "بخت نصر" بأقيال اليمن في عهد أسعد تبع، وفي أيام حسان بن أسعد وتخريبه حصونهم، وقتل حسان لجديس التي أفنت طسماً. وفي هذا الحديث على علاته ما فيه من اعتراف صريح باضطراب النسابين في ضبط الأنساب.

ولا يخلو بعض هذه الأنساب من تحامل العصبية التي كانت في نفوس القبائل والبطون، إذ خلقت هذه مثالب لصقتها بآباء القبائل المتباغضة وأجدادها حفظت على مرور الأيام، ولازمت من قيلت فيهم، ليس من الصعب الوقوف عليها ومعرفتها كما هو الحال في نسب ثقيف مثلاً. وتجد أوجدت قسوة الحجاج بن يوسف، وهو من ثقيف، ذلك القصص الذي قيل في جدّ ثقيف ولا شك.

وقد أشرت فيما سبق إلى أثر التوراة وأثر نفر من أهل الكتاب ممن ادعوا العلم بكتب الأولين في النساّبين والإخباريين ووضعهم أسس النسب، وإرجاعها إلى قحطان و عدنان، وبناء نسب القبائل على هذين الأساسين. وقد وجدنا "يقطان" في التوراة أباً لشبا وحضرموت وبقية إخوتهما، وهم من العرب الساكنين في اليمن وفي بقية العربية الجنوبية. ويقطان هو قحطان. ثم وجدنا الإشماعيليين في التوراة كذلك، والإشماعيليون هم الاسماعيليون أبناء إسماعيل جدّ العرب العدنانيين. ووجدنا نابت وقدار في التوراة كذلك وعند النسابين أيضاً، ونابت هو "نبابوت".

أما الذي يتجلى لنا من استعراض كل هذه الأنساب ودراستها، سواء أكانت قحطانية أم عدنانية، فهو إن الحياة السياسية للقبائل كانت حياة كتل، وهي حياة اقتضتها ضرورات الحياة للدفاع عن النفس والمصالح، كما هو شأن الدول في كل زمان، حيث تعقد بينها المحالفات. فالحلف بين القبائل، هو كالحلف بين الدول يكل ما للحلف من معنى. وقد رأينا. نماذج من تلك الكبل الضخمة أشرت إليها في أثناء كلامي على القبائل. ويخيل إليّ إن فكرة رجوع العرب إلى قحطان و عدنان، فكرة تثبتت في الإسلام، ساعد في ترسيخها وتثبيتها تلك العصبية التي أشرت إليها، وتلك النظرية التي انتزعها ابن الكلبي وأضرابه من التوراة ومن أهل الكتاب بخصوص يقطان وقيدار.

وفي الذي يذهب إليه أهل الأخبار والأنساب من ادعاء وجود خلاف بن القحطانيين والعدنانيين، شيء من الصحة، لا سبيل إلى نكرانه، غير انه ليس على النحو الذي ذهبوا إليه. والكتابات الجاهلية التي تحدثت عنها سابقاً، وأسماء الأشخاص والأصنام، شواهد على وجود هذا الاختلاف. ولكنه ليس اختلافاً بالمعنى الذي ذهب إليه الأخباريون فبين العرب الذين يطلق الأخباريون عليهم "القحطانيين" اختلاف في اللهجة وفي الأسماء لا يقل عن الاختلاف بين القحطانيين و العدنانيين. كذلك نجد مثل هذا الاختلاف بين العدنانيين أنفسهم. وقد وجدنا نص النمارة لامرئ القيس، وهو أصل قحطاني على حدّ تعبير الأخباريين وأهل الأنساب، بلهجة قريبة من لهجة القرآن الكريم بعيدة عن لهجات أهل اليمن. بلهجة نستطيع إن نقول إنها من الأم التي ولدت عربية القرآن الكريم. كذلك نجد النصوص الأخرى قريبة من هذه العربية، مع إنها لأناس يجب عدّهم من قحطان إن سرنا مع النسّابين في مذهبهم في تقسيم العرب إلى قحطانيين وعدنانيين. ثم إن الأخباريين لم يشيروا إلى وجوب فروق في اللسان بين القحطانيين والعدنانيين، وإنما جعلوهم يتكلمون بعربية واحدة هي عربية القرآن الكريم، ونسبوا إليهم أصناماً مشتركة. وشعراء الجاهلية هم في عرفهم من قحطان و عدنان. ولهذا قالوا عن اللهجات العربية الجنوبية التي ظلت حية في اليمن وفي حضرموت إنها نمير فصيحة و إنها ليست بعربية، وان لسان حمير ليس بلساننا، إلى غير ذلك مما أشرت إليه في أجزاء الكتاب السابقة مأخوذة من أقوال العلماء.

وقد ذكرت في كتابي: تأريخ العرب قبل الإسلام، في أثناء كلامي على النبط ما كان من وجود أداة "ال" المستعملة في عربية القرآن الكريم، في كتاباتهم، وأشرت إلى استعمالهم أسماء استعملتها قريش وغيرهم من العرب العدنانيين. وهي أسماء لم نعثر عليها في الكتابات العربية الجنوبية حتى ألان، كما أشرت إلى مشاركتهم العرب الشماليين في أسماء الآلهة التي تعبدوا لها، وأوردت آراء بعض المستشرقين في أصلهم، وفي انهم عرب مثل العرب الآخرين.

وهذه الملاحظات أهمية كبيرة في اصل الحديث عن العرب الشماليين، وفي النواحي التي يختلفون فيها عن العرب القحطانيين. كما أن لنص النمارة ولتأريخ "بروكوبيوس" أهمية خطيرة كذلك في هذا الموضوع لإشارتهما لأول مرة إلى "معدّ". فقد وردت كلمة "معدو" أي معدّ في السطر الثالث من النص، ووردت كلمة "نزرو" أي "نزار" في السطر الثاني منه. يضاف إلى ذلك ورود أسماء قبائل أخرى هي "الأسدين"، أي قبيلة أسد، ومذحج.

أما تأريخ "بروكوبيوس"، فقد وضع "Maddeni" أي معدّاً في الأقسام الشمالية من الحجاز، وقد ذكر هذا المؤرخ إن القيصر "يوسطنيان" طلب من "السميفع أشوع" "Esimiphaius" أن يوافق على تعيين سيد قبيلة اسمه "قيس Kaisua" "Gaisus" رئيساً على "معدّ". وقد ذكرت إن هذا يدلّ ضمناً على خضوع معدّ لحمير، ولو كان خضوعاً بالاسم. ولوجود معدّ في هذا الزمن، أي في القرن السادس للميلاد، في أرض كانت مأهولة بالنبط أهمية كبيرة ولا شك.

كما أشرت إلى ورود كلمة "مضر" في نص يماني: والى اشتراكها في حرب خاضتها سبأ وحمير ورحبة وكست و مضر وثعلبة. وهي حرب يظهر إنها كانت واسعة من الحروب التي وقعت قبيل الإسلام. ومضر في هذا النص قبيلة من هذه القبائل التي اشتركت في الحرب، وليس اسماً عاماً لقبائل كثيرة، أي على نحو ما يذهب إليه الأخباريون.

فيتبين من هذه النصوص إن معداً و نزاراً ومضر كانت قبائل تقيم في الأقسام الشمالية من جزيرة العرب وفي العربية الغربية. وقد لاحظنا إن نص النمارة قد فرق بين معدّ ونزار، ولم يشر إلى وجود رابطة بين القبيلتين، بمعنى إن كلا من نزِار ومعدّ كلن قبيلة مستقلة، في حين يضع النسابون نسباً بينهما ويربطون بين القبيلتين. والظاهر إن هذا الارتباط الذي ذهب إليه الأخباريون وأهل الأنساب إنما حدث في صدر الإسلام، بعد تثبيت القبائل في الديوان.

وفي أثناء كلام الأخباريين على تأريخ الحيرة، ذكروا إن معداً كانت خاضعة لها، وأن ملوكها كانوا يحكمون معدّاً. ذكروهم في جملة من كان قد خضع لحكم أولئك الملوك. والذي يستنتج من كلامهم أن معداً كانوا بادين، أي أعراباً، وأنهم كانوا يقطنون مناطق كانت في نفوذ ملوك الحيرة. فهل قصد الأخباريون معداً الذين كانوا يسكنون في أعالي الحجاز كما ذكر ذلك "بروكوبيوس" أم قصدوا جماعات منهم هاجرت إلى بادية الشام، وخضعوا لحكم أهل الحيرة? و يلاحظ إن الإخباريين يتوسعون أحياناً في ملك ملوك الحيرة فيبلغون به البحرين والحجاز.

أما كيف تطورت هذه الأنساب، وكيف توزعت، وكيف حصرت في جدّين ومن قام بذلك، وأمثال هذا? فليس من السهل إيجاد جواب لأمثال هذه الأسئلة ما دمنا لا تملك الأسباب التي تهيء لنا العلم الكافي للإجابة عنها.

الفصل السابع و الأربعون

الناس منازل و درجات

وأهل الجاهلية مثل غيرهم من شعوب ذلك الزمن: أحرار و عبيد، يستوي في ذلك الأعرابيّ وأهل المدر. والحرّ نقيض العبد، والحرة نقيض الأمة. والحرّ هو الذي يتصرف بأموره كما يشاء. و أما العبد فلا، فأمره بيد مالكه، فلا يجوز له إن يفعل شيئاً من غير رضا سيده ومالك رقبته. و يعبر عن الحر بلفظة "حرم" في المسند، فيقال: "حرم"، أي "حرّ". والجمع "أحرر"، أي "أحرار".

والجاهليون وان بدوا "دمقراطيين" شعبيين، لا فرق عندهم بين حر وعبد، كبير أو صغير. يخاطب الفقير ملكه أو سيد قبيلته بلهجة بسيطة تنم عن "دمقراطية" عميقة أصيلة. إلا انهم في الواقع طبقيون يعاملون الناس حسب منازلهم و درجاتهم، ويعملون بمبدأ عدم التكافؤ بين الناس. وآية ذلك عُرف جلوس الناس في مجالس الملوك والمجتمعات، وعرفي تقديم الطعام أو الشراب مبتدئين بالملك ثم بمن يجلس على جانبه الأيمن باعتبار انه أشرف القوم ثم بالجالس على الجانب الأيسر من الملك، على ترتيب الناس في درجات جلوسهم أو حسب إشارة الملك إلى السافي أو مقدم الطعام. ثم في نظرتهم إلى "الحق" و إلى الأعراف الاجتماعية كالأخذ بالثأر والزواج. فلهم في الأخذ بالثأر مبدأ مقرر معروف. هو إن القتيل إذا كان شريفاً في قومه، وكان قاتله وضيعاً صعلوكا، أو عبداً فلا يقبل أهل القتيل ب "القوَد"، بل بعرف تكافؤ الدم. فعندهم إن دم القتيل الشريف، لا يغسل إلا بدم شريف مثله ومن أهل مكانته، ومعنى هذا إن قتل القاتل لا يكفي، بل لا بد لأهل القتيل في هذه الحالة من البحث عن شريف من قوم القاتل يكون مكافئاً للقتيل في المنزلة والمكانة حتى يقتل به، فيغسل عندئذ بقتله دمه. وينام الثأر. وقد يكون المقتول وهو ما يحدث في الغالب بريئاً ولا علاقة له بالقتيل ولا القاتل. ولكن العرف القائم على نظرية التكافؤ بين الطبقات، لا يفهم براءة بريء، وحق قتل القاتل وحده، بل يدين بعقيدة إن الدم لا يغسل إلا بدم مواز له، فلا بد من قتل شريف بشريف إذن حتى ينام أهل القتيل.

والى ما تقدم من الإسراف في القتل وقتل البريء بدم مقتول، أشير في القرآن الكريم: )ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق. ومن قتل مظلوماً، فقد جعلنا لوليه سلطاناً، فلا يسرف في القتل(. "وذلك إن أهل الجاهلية، كانوا يفعلون ذلك، إذا قتل رجل رجلاً عمد ولي القتيل إلى الشريف من قبيلة القاتل فقتله بوليه، وترك القاتل، فنهى الله عزّ وجلّ عن ذلك عباده، وقال لرسوله، عليه السلام، قتل غير القائل بالمقتول معصية وسرف، فلا تقتل به غير قاتله. وان قتلت القاتل بالمقتول، فلا تمثل به".

وعلى هذه النظرية الطبيعية بنوا تقييم أثمان الديات، أي ثمن الدم. فدية الملوك في الجاهلية أعلى ما دفع ثمناً عن دم. إذ جعلت دية الملك ألفاً من الإبل، شرفت لذلك بدية الملك. تليها في الثمن ديات الأشراف وسادات القوم حسب الشرف والمنزلة حتى تصل إلى ديات المغمورين المطمورين فتكون أقلها ثمناً. إذ تبلغ خمساً من الإبل، وقد تنقص في ذلك. وعلى هذه النظرية القائمة على "الفوقية" و "التحتية"، قدرت فدية الأسرى أيضاً. ففدية الملوك الذين يقعون في أسر آسر ألف من الإبل، وعرفت ب "فدية الملوك" وفدية من هم دونهم أقل حتى تصل إلى أبخس ثمن، وهي فدية سواد الناس. ولهذا حرص الأسير الشريف الذي لا يعرفه آسره على اخفاء شخصيته وعلى التظاهر بالإملاق وبأنه من المغمورين ليجنب نفسه دفع فدية عالية قد يفرضها آسره عليه، فتوجعه ولؤلمه.

ومن هذه النظرة أيضاً ولد اعتقاد أهل الجاهلية إن دم الرئيس يشفي من عضة الكلب الكلب. فإذا كُلب إنسان أتوا رجلاً شريفاً فيقطر لهم من دم إصبعه فيسقون المكَلوب فيبرأ. أو يسقونه من دم ملك فيشفى. جاء في المثل: دماء الملوك شفاء الكلب. ودماء الملوك أشفى من الكلب. قال أهل الأخبار عن الكلب: "وأجمعت العرب إن دواءه قطرة من دم ملك يخلط بماء فيسقاه"، فيشفى بذلك من الكلب. ولو لم يكن للجاهليين رأي خاص في الملوك والأشراف، وفي وجود تفوق لهم على سواد الناس، لما اعتقدوا هذا الاعتقاد في اشفاء دماء الملوك والأشراف لمن يصاب بالكلب. وبعدم شفاء دم غيرهم لهؤلاء المرضى.

ومن هذه النظرة أيضاً، تولد امتناعهم من تزويج بنات الأشراف والأسر من رجال هم دون البنت في المنزلة. وهو عرف يراعونه ويحافظون عليه إلى يومنا هذا. ويزدرون من شأن الخارج على "التكافؤ" بين البنت والولد في الزواج. وقد يرفضون تزويج رجل ثري مكتنز للمال، من امرأة فقيرة شريفة الأصل، إذا كان الرجل من أصل ذابل، كأن يكون أبوه أوجده "صانعاً" أو "خضاراً"، لأن الأصل في نظر العرب فوق المال. والشريفة يجب ألا تزوج إلا من شريف مثلها، مراعاة منهم لمبدأ نقاوة الأصل وانجاب الأولاد النجباء. و من هذه النظرة امتنع العرب من تزويج بناتهم من الأعاجم حتى لو كان ذلك الأعجمي ملكاً. وقد رأينا كيف إن "النعمان بن المنذر"، رد طلب "كسرى" لما طلب منه تزويجه إحدى بناته من أحد أبنائه. وشقَّ ذلك عليه حتى انه لم يمالك من ضبط نفسه، ففال للرسول: أما في عين السواد وفارس ما تبغون حاجتكم. ومراده من لفظة "عين" البقر. ومن اغتنام "زيد بن عديّ بن زيد العبادي" هذه الفرصة، وكان هو الذي اقترح على "كسرى" إن يزوج أحد ولده من بنات النعمان، فقال لكسرى: "قد كنت أخبرتك بضنهم بنسائهم على غيرهم، وان ذلك من شقائهم واختيارهم الجوع والعري على الشبع والرياشر، واختيارهم السموم والرياح على طيب أرنجك هذه حتى انهم ليسمونها السجن". ومن قوله له: "أيها الملك: إن شر شيء في العرب وفي النعمان انهم يتكرمون عن العجم". فكان ما كان من غضب "كسرى" على النعمان ومن القضاء عليه على النحو الذي تحدثت عنه.

وقد جعل بعض العلماء تخوف العرب من القهر. عليهم و من طمع غير الأكفاء في بناتهم، في جملة العوامل التي حملتهم على وأد البنات. "قال قتادة: كان مضر وخزاعة يدفنون البنات أحياء، وأشدّهم في هذا تميم. زعموا خوف القهر عليهم، وطمع غير الأكفاء فيهن". ومن شروط الكفاءة في الزواج عند الجاهليين، التكافؤ في النسب والحسب والمكانة وفي الأصل.

وسبب امتناع العربي من تزويج ابنته إلى أعجمي، هو تكرم العرب عن الأعاجم واستعلاؤهم جمليهم. ونظرتهم إلى الأعاجم على انهم دونهم في المنزلة والكرامة. لذلك رأوا إن تزويج بنت عربية إلى علج أعجميّ، خسة ما بعدها خسّة ودناءة ما وراءها دناءة. حتى وان كان العربي فقيراً لا يملك شيئاً. بل اعابوا العربي الذي يتزوج اعجمية بسبب النسل، واستصغروا شأن المولود من أب عربيّ ومن أم أعجمية. فهو وان كان عربياً في عرف العرب من اجل إن النسبَ إلى الأب، ولكنه أعجميّ من ناحية الأم، فهو دون الأصيل في المرتبة.

وفي غنى العربية بالمصطلحات الكثيرة التي تطلق على السادة والأشراف وعلى الفقراء. و المعدمين الترِبين وعلى الطبقات الأخرى، دلالة ليس فوقها دلالة على وجود هذه النظرة الطَبقية عندهم، وعلى نظرتهم إلى أنفسهم على انهم منازل ودرجات، وانهم غير متكافئين. وان القيادة في المجتمع يجب إن تكون للبيوت.

ثم إن الأحرار على منازل ودرجات. وهم متفاوتون من حيث الشرف والمال. ويظهر التفاوت بين أهل المَدَر أكثر مما يظهر بين أهل الوبر، ذلك لأن الأعرابي فخور بنفسه، يرى انه "شريف" مثل غيره نبيل وان قل ماله وشح. ثم إن التفاوت بين الطبقات لا يمكن إن يظهر في البادية ظهوره بين الضواحي والقرى، لأن طبيعة البادية لا تساعد على ظهور ذلك التباين، حتى إن عبيد الأعراب لم يكونوا يكوّنون طبقة خاصة مضطهدة، ينطر إليها نظرة أهل القرى بازدراء، بل كانوا يعدون في البادية كأعضاء من أعضاء الأسرة.

والتباين الطبقي هو على ما أوضح ما يكون في اليمن، لأن الطبيعة قد حبت أرض اليمن خيرات وجوّاً لم تحبُ المناطق الأخرى من جزيرة العلاب مثلها، فكانت نتيجة ذلك ظهور الاقطاع فيها، واشتدت الحاجة إلى شراء الرقيق واستجلابه لإستغلال التربة واستثمار خيرات الأرض وتشغيله في المهن الوضيعة، وظهر في اليمن أغنياء ومتوسطو حال وفقراء معدمون، أي طبقات اجتماعية كونت ذلك المجتمع بشكل واضح لا نراه في المجتمعات العربية الأخرى، أشير اليهم في الكتابات.

رجال الدين

ورجال الدين طبقة في رأس طبقات المجتمع مكانة ومنزلة، ولها امتيازات خاصة، لأنها ألْسنِة الآلهة الناطقة على هذه الأرض، والآمرة والناهية باسمها، وهي تقرب الناس إلى الالهة، وتحرم وتحلل. وقد رأينا إن أوائل حكام العربية الجنوبية هم "مكربون"، أي رجال دين. ولرجال الدين أملاك وأموال، ولهم على الناس حقوق، يأخذونها منهم، كما تأخذ الحكومة حقها من الشعب. وهم طبقة كبيرة ذات قوة وسلطان مصالحها مع مصالح الحكام بالرغم من الانفصام الذي وقع فيما بين الدولة والمعبد، وإبعاد "المكرب" عن الحكم، وحصر حق الحكم في الملك وحده، وحصر حق ادارة المعبد، في رجال الدين وحدهم وذلك لأن مصالح الملك ومصالح رجال الدين متشابهة، وكل جهة من الجهتين بها حاجة إلى مساعدة الجهه الأخرى.

وكثيراً ما نقرأ في كتابات معين: إن ال "شوع" أو ال "رشو" الفلاني قدّم قرباناً إلى آلهة معين، أو بنى معبداً، أو أقام بناء، أو عمل عملا تقدمةً لآلهة معين. ولفظتا "شوع" و "رشو" تعنيان الكاهن والسادن، أي منزلهة دينية ذات مركز سام، وهي أعلى درجات الكهنوت في العربية الجنوبية.

السادة والأشراف

ويعبر عن السادة و الأشراف بتعابر التعظيم والتفخيم، ومنها لفظة " أبعل" "ابعل"، أي سيد ورئيس. وهي لفظة استعملت للالهة كذلك. استعملت بمعنى رب وإله. فورد "ود بعل... " و " عشتر بعل..." وهكذا. وقد استعملت في النصوص القديمة خاصة.

ويقال للسادة "أسود " "اسواد" في العربية الجنوبية، وهم السادة الأشراف. وتقابل اللفظة لفظة "سادات، في عربيتنا. وهم سادة القوم وأشرافهم وأصحاب المنزلة والمكانة في المجتمع.

ويعدّ أعضاء الأسرة المالكة في طليعة السادات، وهم في السيادة على حسب قربهم أو بعدهم من الملك، ويقدمون على هذا الأساس عند حضورهم إلى الملك وفي المواسم الرسمية. ولهم أرضون يستغلونها، ورقيق يخدمهم.

ويعبر عن وجيه القوم وذي المنزلة والمكانة بلفظة "كهثم" "كهث" وعكسها الوضيع والخامل و الصغير والحقير، فقد ورد: "كل انسم كهثم وقطم"، ومعناها: "كل إنسان: كبير وصغير" أو "كل إنسان وجيه ووضيع". وتطلق لفظة "القطين" وهي " قطنم" و "قطن" في لغة المسند، على الخدم والأتباع والإماء في لغة القرآن الكريم. فهي إذنْ في نفس المعنى المراد من اللفظة في لغة المسند. وقد ذكر علماء اللغة إن القطين أتباع الملك ومماليكه.

ويقابل أهل الوجاهة والمنزلة في المجتمع، من يطلق عليهم " ص غ رم" "صغرم"، أي صغير ويراد بها سواد الناس، ممن لا وجاهة لهم ولا مركز لدى الحكومة والمجتمع، كما في هذه الجملة: "كبرم فاوصغرم"، ومعناها: "كبير أو صغير".

وفي الدرجات العليا من درجات المجتمع، الأقيال وهم إقطاعيون كبار، لهم أرضون واسعة وسلطان، وقد يجد "القول" القَيْلُ قوة في نفسه ومنعة، فينازع الملوك على الملك، ويأخذ الحكم بيده.

وترد في الموارد الإسلامية درجة أخرى تذكر عادة مع الأقيال، هي درجة "ذو" وتجمع أذواء. ويظهر إنها من الدرجات الإقطاعية التي صار لها شأن في العهود المتأخرة القريبة من الإسلام. ويراد بها أصحاب الأرضيين ورؤساء الإقطاعيات، كما تطلق على رؤساء القبائل. وقد أخذت من "ذ" التي ترد في المسند، ومعناها "ذو" في عربيتنا وهي بمعنى "صاحب" في العربيات الجنوبية.

الوجوه

وسادة القوم هم وجوه المجتمع وسادات القبائل وقادة الجيوش. من "مقتوين" ومن أمراء حرب، ومن المقربين إلى الملوك وكبار موظفي الدولة. وهم أنفسهم من الطبقات العالية في الغالب.وقد ورثوا منازلهم إرثاً ؛ ولهم أرضون وثراء وقصور يقيمون فيها، وبيوت مشيدة، وخدم يخدمونهم، وقد حصلنا على أسماء عدد منهم من الكتابات.

والتجارة من أشرف ما يشتغل به إنسان عند قريش وعند غيرهم من العرب. وقد اشتغل بها أكثر أشراف مكة، إذ كانوا تجاراً يتاجرون مع اليمن ومع بلاد الشام والعراق. وقد كانت الحرفة الوحيدة المربحة في جزيرة العرب. فالزراعة لا تدر عليهم ربحاً كبيراً، لعدم توفر الماء الكافي لزراعة أرضين واسعة تأتي لأصحابها بغلات واسعة وبأموال طائلة، والصناعة غير متيسرة، لذلك عافوها وعابوها، ولم تكن لديهم وسيلة مربحة أخرى غير التجارة.

ومن الألفاظ الدالة على الوجاهة والمكانة عند العرب الجنوبيين، لفظة "قرمن"، أي " القرم". وهي في هذا المعنى في عربيتنا كذلك، فيقال للسيد قرم. والقرم من الرجال السيد المعظم و "المقرم"، هو أيضاً السيد المعظم.

المحاربون

ويكون المحاربون طبقة خاصة بهم، وهم أناس احترفوا، الخدمة العسكرية وعاشوا عليها، وقد أشير إليهم في الكتابات وعرفوا ب " قسم" "قسد" "ق س د". وقد ذكروا بعد أصحاب الأرض في إحدى الكتابات، وقبل "التجار" "مكر" و " الكيالين " " سلا " في كتابة أخرى. وقد أشار، إليهم "سترابو " إذ جعلهم في الطبقة الأولى من طبقات المجتمع في "العربية السعيدة". وكان قد قسم هذا المجتمع ثلاثَ طبقات: المحاربين، والمزارعين، وأصحاب الحرف اليدوية.

ويظهر من دراسة بعض النصوص التي وردت فيها كلمة "قسون"، إن "القسود"، كونوا طبقة كبيرة خاصة في دولة سبأ، كانت منزلتها دون منزلة الأشراف و أصحاب الإقطاع وفوق رقيق الارض، المسمون ب "ادومت"، التابعين للأرض و الذين يباعون معها عند بيع الأرض. وكانوا يستغلون الأرض التي تعلم لهم لاستغلالها في مقابل أداء الخدمة العسكرية والاشتراك في القتال عند وقوعه، فهم عساكر وفلاحون في آن واحد. ويشبه حالهم حال العساكر الذين منحهم الخلفاء الراشدون ارضين زراعية لاستغلالها في مقابل هرعهم إلى القتال مع المحاربين عند توجيه الدعوة لهم. وهو نظام كان عند الساسانيين والبيزنطيين.

وقد كان الأشراف وأصحاب الإقطاع يستأجرون من لا ارض له، بإعطائه أرضاً لاستغلالها في مقابل الدفاع عنهم والقتال دونهم. ولذلك كان لكل إقطاعي "قسود" أستطيع تسميتهم بالفلاحين المحاربين. يحاربون معه ويدافعون عنه. و إذا مات سيدهم، صارت السيادة إلى من ينتقل الإرث إليه.

ويعرف المحارب ب "اسدم" "اسد" في العربيات الجنوبية، أي جندي وعسكري في اصطلاحنا اليوم. وهم أحرار وعبيد. ووردت في بعض الكتابات جملة "اسد املكن" "اسد املكان"، أي "جنود الملك" و "جنود الملوك" وذلك تعبيراً عن جماعة اختصت بالخدمة في جيش الملك. وقد أشير إليهم في كتابة بمناسبة إنشاء طريق.

ويلحق هذه الطبقة طبقة ال "اتمت" ويراد بها الجنود المرتزقة: أو ما يعبر عنه ب "العساكر" في الزمن الحاضر، وقد كوّن "العساكر" أو "عساكر السلطان" كما عرفوا في بعض البلاد الإسلامية في أيام الخلافة طبقة خاصة، اعتمدت على سلطانها وقوتها، فلم تحفل بأحد وأخذت تعتدي على الآهلين. وقد كانوا خليطاً من الأحرار ومن الرقيق. اعتمد عليهم الحكام في الدفاع عنهم وفي القضاء على خصومهم، فعاشوا على خدمة سادتهم، وقد صارت حرفتهم وراثية، فابن ال "اتمت"، ينتسب إلى الخدمة في المعسكر أيضاً حين بلوغه سن الخدمة ويعيش، في خدمة سيده.

التجار وتوابعهم

ويكوّن "التجار" طبقة خاصة من طبقات المجتمع العربي الجنوبي. ويقال لهم "مكر" في لغة المسند. وقد كانوا يتاجرون في البرّ والبحر، ولهم قوافل وطبقات دنيا من رقيق وخدم تؤدي الواجبات التي يريدها سادكم منهم. وكان لهذه الطبقة شأن خطر في تأريخ العربية الجنوبية في القديم، وأثر بليغ في اقتصاد للبلاد، وتزويد الحكومة بمصدر كبير من مصادر دخلها وهو الضرائب التي كانت تدفعها إليها.

وقد تعرض علماء العربية للفظة "المكر"، فقالوا: إن من معانيها السوق، وفيها يقع المكر والخداع. وان "الماكر" العير تحمل الزبيب، والتمكر احتكار الحبوب في البيوت. ولهذه المعاني صلة مباشرة بالتجارة وبالاتجار في البر والبحر.

وفي العربية طبقة عرفت ب "سلا"، تعاطت تجارة الملح، كانت تبيعه وتستورده وتصدره وتقوم بنقله من مواضعه إلى الأسواق. وقد شبه "رودوكناكس" هذه الطبقة ب "الكواليان " في الوقت الحاضر.

الطبقات الدنيا

ومن الطبقات الدنيا عند العرب الجنوبيين: ال "ادم". وال "صغرم" "الصغر" "الصغار"، و الأجراء "اجرم"، و المتربون "غبر"، و ال "ومي" "امي".

الادم

وترد في كتابات المسند كلمة هي "ادم" و "ادومت". وتقابل لفظتي "ادم" و "ادومت" و "آدمي" و "أوادم" في العراق، بمعنى خادم وخدم. ووردت في صورة: " اديمت" "ا دي م ت" و "ادوم" في الكتابات القتبانية المتأخرة. وتؤدي معنى التبعية. وأعني بالتبعية الاعتراف بسيادة رئيس على مرؤوس. فقد كان أصحاب الأرض يؤجرون الأرض لمن لا ارض لهم، ومن لا مال لهم، فيقيمون فيها يشتغلون لأصحابها، ويكونون تبعاً لهم. ويعبرون عن هذه التبعية بتلك اللفظة المعبرة عنها. فهم في هذه الحالة إذن مزارعون يعيشون من كراء الأرض.

وقد وردت هذه اللفظة بهذا المعنى، خاصة في النصوص المتعلقة بقبيلة "سخيم". وهي ذات أملاك واسعة وأرضين خصبة، وأجرتها لمن لا ارض له من المتوافدين عليها من الأماكن الأخرى، لتستغل هذه الأرضين وتعيش عليها، معترفة بذلك إنها في حماية هذه القبيلة وفي خدمتها.

وهي فضلا عن ذلك تعبر عن التبعية بكل أشكالها، فتعبر عن الانتماء إلى شخص أو قبيلة كذلك، بمعنى إن "الادم" تابع لذلك الشخص أو القبيلة، منتمٍ إليه. ولذلك يذكر ال "ادم" اسم سيده الذي ينتمي إليه ومحتمي به، كأن يذكر اسمه أو اسم القبيلة التي ينتمي إليها. وقد يعبر باللفظة عن معنى "تابع" و "خادم" بالمعنى المجازي أيضاً، في مثل مصطلح "ادم ملكن" أي "خادم الملك" و "عبد الملك" و " آدم الملك". وذلك تعبيراً عن الاحترام للملك وعن الإقرار بتبعية الشخص المذكور له، وبإخلاصه له إخلاص العبد لسيده، وان كنا نجد إن للملك حاشية كبيرة هي حاشية "ادم" حقيقية، أي طبقة لا تملك أرضاً ولا ملكاً، ومعاشها من خدمة الملك، حيث يتولى القصر الإنفاق عليها، كما كانت للأسرة الكبيرة جماعات من ال "ادم" تخدمها وتؤدي لها مختلف الأعمال.

فال "ادم" إذن وفي الغالب، تعبير عن جماعة من الناس كانوا أحراراً، إلا انهم لم يكونوا من المتمكنين في حياتهم من حيازة أرض أو ملك، لذلك جعلوا أنفسهم في خدمة غيرهم، بأن كروا الأرضين من أصحابها، لاستغلالها في مقابل حق معلوم، أو اتفقوا مع ثري على أداء عمل له في مقابل أجر يقدمونه إليه. وهم طبقة واسعة العدد. وهي لذلك أرقى منزلة وأحسن حالاً من حال العبيد المملوكين، والرقيق المشترى من الأسواق.

وقد فسرّ بعض الباحثين كلمة "ادوم" "ادوام" و "اديمت"، و " ادومت"، بمعنى عمال الأرض، أو طبقة واطئة من المزارعين الذين لا يملكون أرضاً، أحوالهم ضعيفة، لأن ما ينتجونه لا يكفي لإعاشتهم. وذكروا إن كلمة "ضعيف" المستعملة في العربية الجنوبية تعبر عن ذلك المعنى المراد من تلك الكلمات.

وقد ورد في بعض النصوص لفظ "ا ج ر م" بمعنى "أجير" و "أجراء"، وهم الأشخاص الذين يشتغلون بأجور يدفعها لهم أصحاب الأرضين أو أصحاب المال أو أصحاب العمل. وقد كانوا طبقة من الطبقات الدنيا، بدليل ذكرهم في هذه الجملة: "كل معنم حرم واجرم"، "كلّ معينىّ حرّ وأجير"، أي كل فرد من أبناء معين حر وأجير، بتعبير أوضح. والأجراء هم أكثر حرية من العبيد، لأنهم يشتغلون بأجر وبعقود يتفقون عليها. فإذا انتهى العقد، أو حصل خلاف، جاز للأجير الانتقال إلى موضع آخر، أو إلى صاحب محل آخر للعمل لديه، على حين لا يجوز للعبد فعل ذلك، لأنه ملك يمين. والأجراء أناس أحرار، يستطيعون التنقل والتصرف بحرية، ولكنهم فقراء معدمون لا بملكون شيئاً، وعيشتهم من العمل الذي يقومون به لغيرهم مقابل الأجر الذي يقدمه رب العمل لهم.

وقد يكون الأجر الذي يدفع عن عمل مقطوع، وقد يكون عن أمد يحدد كأن يكون أجر يوم واحد أو أيام، فإذا تم النهار دفع الآجر للأجير. وقد يكون الأجر لموسم كامل، كموسم زرع. وقد كان الأجراء يشتغلون في الزراعة خاصة كحرث الأرض وزرعها أو حصاد الزرع أو قطف الثمر. ولضعف هذه الطبقة، وعدم تمكنها من أخذ حقها بالقوة، كان بعض من يؤجرهم يأكل حقوقهم، ولا يدفع أجورهم، أو يأكل قسماً منها. و نجد هذه الطبقة في العراق حيث أشير إليها في شريعة "حمورابي"، كما نجدها في أماكن أخرى من العالم، وما زال العامل يستخدم في مقابل أجور يومية للقيام بمختلف الأعمال.

وقد ورد في الكتابات القتبانية ذكر جماعتين: جماعة عرفت ب "غبر"، وجماعة عبر عنها ب "ومي"، أو "امي". و "الغبر" في عربية القرآن الكريم هم الفقراء والصعاليك، وفي العربية كلمة أخرى تؤدي هذا المعنى هي لفظة "غَبْراء الناس"، أي فقرائهم، ومنه قيل للمحاويج بنو غَبْراء، كأنهم نسبوا إلى الأرض والتراب. وبنو غبراء الفقراء. و أما "الغرباء"، فهم الصعاليك. فالغبر، إذن هم "طبقة من الطبقات البائسة الدنيا التي كانت في قتبان وفي غير قتبان، طبقة من الفقراء والصعاليك، لا تملك شيئاً، ليس لها في حياتها غير البؤس والتعاسة لأنها ولدت بائسة تاعسة فعاشت في تعاستها هذه في هذا العالم على صدقات الناس وعلى ما يحصلون عليه بالسرقة أو بالاستجداء و بالقيام بالخدمات والأعمال المتعبة في سبيل الحصول على ما يقوتهم إلى يوم خلاصهم من هذا العالم بالوفاة.

وبمعنى المحاويج والصعاليك فُسّر بيت "طرفة بن العبد"، بقوله: رأيت بني غبراء لا ينكروننـي  ولا أهل هذاك الطراف الممدّد

وعرفت "بنو غبراء" ب "المدقعين" للصوقهم بالدقعاء، وهي الأرض. كأنهم لا حائل بينهم وبينها، و "الدوقعة الفقر والذلّ" و "جوع أدقع وديقوع شديد".

و أما "الومي" "امي?" فطبقة من الطبقات الدنيا كذلك، من هذه الطبقات العاملة البائسة التاعسة التي لا تحصل على عيشها إلا بشق الأنفس. ولعلهّا الطبقة التي يقال لها "شفلوت" في العربية الجنوبية في هذه الأيام. ويجوز إن تكون للكلمة صلة بلفظة "امي" في عربيتنا التي تعني الجاهل والشخص الذي لا يقرأ ولا يكتب.

وفي العربية لفظة "الحشم"، قبل إنها تعني المماليك والأتباع، مماليك كانوا أو أحراراً. وورد إن الحشم الأحرار، والقطين: المماليك.

رؤوس وأذناب

ونجد التفاوت الاجتماعي في ذروته عند العرب الجنوبيين كما بينت ذلك من إيرادي للمصطلحات الاجتماعية المتقدمة. ويقع هذا التفاوت في الدولة وفي المجتمع عند الحضر وعند "اعربن" الأعراب. ويقع بين القبائل كما يقع في القبيلة الواحدة. فالقبائل أيضاً منازل ودرجات. وعلى رأس القبائل القبيلة التي ينتسب لها المكربون أو الملوك. مثل "معين" و "سبأ" و "قتبان" و "حضرموت" و "أوسان". ولهذا ذكرت مع الآلهة والحكّام ونسبت إليها الحكومات. ثم ذكر بعدها القبائل الأخرى التي هي أقل أهمية منها. أما في القبيلة الواحدة، فنجد تفاوتاً بين أبنائها، وقد رتبوا وصنفوا في درجات ومنازل. أعلاها عند السبئيين مثلا أعضاء ال "مزود" و "حسود?"، أصحاب المشورة والرأي والذين يستشيرهم الملوك، وهم طبقة ممتازة كانت فوق القانون، ذات امتيازات خاصة. يليها أصحاب الأملاك والأرض والمال المسمّون ب "مسحنين" في السبئية، و ب "طبنن" في القتبانية. ثم تليها طبقات أخرى تتدنى حتى تصل إلى أشفل، وهي طبقة "الادومت" "ادم": طبقة "الاوادم" أي الخدم.

ويعدّ المقربون إلى الملوك من أشراف الناس ومن أصحاب الحظوة والجاه. وهذا شيء طبيعي، بالنسبة لكل مكان وزمان، فالذي يصل إلى الملك أو الحاكم لا بد وان يكون من ذوي الجاه والمنزلة والمكانة. وقد عرف من اختص بالملوك ب "أصفياء الملوك" وب "أحباء الملك" وب "ندماء الملوك"، وهم من الخاصة بالطبع. و يعبر عنهم ب "مودد ملكن" في العربيات الجنوبية.

وأدنى الطبقات منزلةَ في المجتمع ؛ هي طبقة العبيد، هي طبقة تقوم بالخدمة وبسائر الأعمال التي يأنف الإنسان الحر من ممارستها. وقد يكون معظم أفرادها من الزنوج المستوردين من إفريقية. و أما الباقون فمن الرقيق الأبيض المستورد من أسواق العراق ومن أسواق بلاد الشام.، قد كان العبيد ملكاً يباع ويشترى بيع الأموال المتقولة، ويتصرف صاحب العبد به تصرفه بملكه الخاص، ولم يخول القانون العبد حق إبداء رأيه في مستقبله في أي حال من الأحوال، لأنه ملك، وبضاعة مملوكة، وكالماشية، وان كان إنساناً حيّاً له ما لكل إنسان من روح و إدراك وشعور.

ويعرف العبد بلفظة "عبدم" في الكتابات العربية الجنوبية، أي "عبد". وبلفظة "عبدن"، أي "العبد". وتشمل كل العبيد، مهما اختلفت ألوان بشرتهم. وترد هذه اللفظة في عربية القرآن الكريم كذلك، وفي سائر اللهجات العربية الأخرى مثل اللهجة "اللحيانية"؛ كما ترد في لغة بني إدم "عبدو" وفي اللغة العبرانية. وتستعمل اللفظة للتعبير أيضاً عن العبودية المعنوية، مثل نسبة. عبودية الإنسان إلى الآلهة أو للملوك أو الكبار وللأشراف والسادات.

وتؤدي لفظة "قن" معنى عبد ؛ أما "قنت" "قنيت" "قنية"، فتؤدي معنى عبدة. وردت بهذا المعنى في الكتابات الصفوية. وتعبر عن طبقة العبيد التي كانت منتشرة في كل أنحاء جزيرة العرب، وفي كل، أنحاء العالم إذ ذاك. إذ كانت القوانين الحكومية والقوانين الدولية تعدّ الاتجار ببيع الرقيق تجارة مشروعة وتعدّ العبد ملك يمين لصاحبه، متى ابق جاز لصاحبه ومالكه قتله. وهو ملك مثل أي ملك، وحق الملكية حقّ مقدس مصون.

و "القن" في عربية القرآن: العبد الذي مُلك هو وأبواه. وعرف انه العبد الذي ولد عندك، ولا يستطع إن يخرج عنك. وورد "لم نكن عبيد قن، انما كُنا عبيد مملكة". وقيل: عبد قن الذي كان أبوه مملوكاً لمواليه، فإذا لم يكن كذلك فهو عبد مملكة. فالقن إذن هو عبد بالولادة، وقد ورثه سيده ؛ فهو عَبْد عبدٍ، أو عبدُ عبيدٍ.

و "القي المملوك، فهو في ملك سيده.وقد اقتني وصار في مقتنيات مالكه، فهو من طبقة المملوكين. ومن هذه الطبقة المملوكة جماعة عرفت ب "رب ملكن" "ربب ملكن" "ربيب الملوك" "ربيب الملك"، بمعنى "عبد الملك" و "عبيد الملك".

أبناء الحبش والأبناء

وقد تولد من استيلاء الحبش على اليمن جيل جديد تعرّب وكوّن، طبقة خاصة من طبقات مجتمع الين. وقد تكون هذا الجيل من عنصرين: حبش ولدوا في اليمن من أبوين حبشيين، ثم بقوا في اليمن وعاش أبناؤهم فيها، وحبش تزوّجوا من اليمن، فنشأ لهم نسل فيه دماء الحبش ودماء أهل اليمن. وقد عاش الجيلان في اليمن وتعربا و نسيا أصلهما وصارا يتكلمان العربية و اعتدّاها لغتهما، ولكن ملامحهما الافريقية، أو الملامح المختلطة دساسة، لم تتمكن من الاختفاء عن الجيلين، بل بقيت تنطق بأصلهما وبصلتهما القديمة بالأرض السوداء.

وعرف الجيل الذي ظهر في اليمن من تزوّج الفرس في العرب ب "الأبناء"، وغلب عليهم الاسم لأن أمهاتهم من غير جنس آبائهم. وقد كتب إليهم النبي يدعوهم إلى الإسلام. وقد ساعدوا المسلمين ودافعوا عن الإسلام وقاوموا الردة، ومنهم وهب بات منبه بن سيج بن ذكبار، و طاووس، وذادويه، وفيروز الديلمي. وقد قيل عنهم: الأبناء قوم من العجم سكنوا اليمن، وهم الذين أرسلهم كسرى مع سيف بن ذي يزن لما جاء يستنجده على الحبشة فنصرره وملكوا اليمن وتديروها وتزّوجوا في العرب ؛ فقيل لأولادهم الأبناء، وغلب عليهم هذا الاسم لأن أمهاتهم من غير جنس آبائهم. وذكر أنهم عرفوا ب "أبناوي" في لغة "بني سعد" و "بنوي" في لغة بعض العرب.

ويظهر من بعض الأخبار إن العرب توسعت في مفهوم الأبناء فأطلقتها على كل الفرس الذين اجتذبتهم الحروب إلى جزيرة العرب.

وءإف "الأبناء " بتسمية أخرى أيضاً هي "بنو الأحرار". أما الذين ولدوا من آباء فرس وأمهات عربيات فقد عرفوا في الكوفة بالأحامرة، و في البصرة بالأساورة، و في جزيرة العرب بالخضارمة، وفي الشام بالجراجمة.

وقد ذهبت بعض كتب التواريخ التي ألفها أهل اليمن، "إن أبناء اليمن يتسبون إلى "هرمز" الفارسي الذي أرسله كسرى مع سيف بن ذي يزن. فاستوطن اليمن. وأولد ثلاثة، بهلوان و دادوان وبانيان؛ فأعقب بهلوان بهلول. و الدادويون يسعوان، ومنهم بنو المتمير بصنعاء وصعدة وجراف الطاهر ونحر البون. والدادويون خوارج. ومنهم غزا كراذمار وهم خلق كثير".

وعرف العربيّ المولود من أمة ب "الهجين". وهو معيب. وقيل هو ابن الأمة الراعية ما لم تحصن، فإذا حصنت فليس الولد بهجين. أو "مَنْ أبوة في من أمه". "قال المبرد: قيل لولد العربي من غير العربية هجين، لأن الغالب على أولاد العرب الأدمة. وكانت تسمى العجم الحمراء ورقاب المزاود، لغلبة البياض على ألوانهم".

أما طبقات المجتمع الحضري بالنسبة إلى العرب الآخرين وأسماؤها، فلا ذكر لها في النصوص الجاهلية، و إنما ذكرت في الموارد الإسلامية، وأكثره مما يخص عرب الحجاز؛ لأن اكثر ما ورد عن الجاهلية القريبة من الإسلام هو مما يخص موطن الإسلام. فكل اعتمادنا فيه على هذه الموارد الإسلامية.

وفي العربية ألفاظ عديدة تعبر عن منازل الناس في الشرف والسيادة. هي في الواقع من النعوت التي أطلقها الناس على الأشراف مبالغة في مدحهم وتفخيمهم وأشراف القوم هم سادتهم من أرباب البيوت. ونجد في الموارد الإسلامية ذكر "أشراف قريش". وهم كبار قريش وسادتها وأصحاب البيوت فيها. كما نجد تعبيراً يدل على الرئاسة والزعامة هو "رحى القوم"، يقال لسيد القوم الذي يصدرون عن رأيه وينتهون إلى أمره.

وقد عُيّر السودان في الجاهلية وفي الإسلام. عيّروا بسوادهم وبملامح أجسامهم وبطريقة تكلمهم. هذا حسان يهجو أحدهم بقوله: وأمّك سوداء نوبـيّة  كأن أناملها الحنظب

و "الخلاس" الولد بين أبوين أبيض وأسود، ابيض وسوداء أو اسود وبيضاء. فهو المضرب. وقال بعض علماء اللغة: تقول العرب للغلام إذا كانت أمه سوداء وأبوه عربياً آدم فجاءت بولد بن لونيهما غلام خلاسية والأنثى خلاسية قال الجاحظ: "ورأينا الخلاسيَّ من الناس، وهو الذي يتخلق بين الحبشيّ والبيضاء، والعادة من هذا التركيب انه يخرج اعظم من أبويه وأقوى من أصليه ومثمريه. ورأينا البَيْسريّ من الناس، وهو الذي يخلق من منن البيض والهند، لا يخرج ذلك النتاج على مقدار ضخم الأبوين قوتهما، ولكنه يجيء أحسن وأملح"..

وقد شابت السنة هؤلاء "طُمطمانية"، أي عجمة. قال عنترة: تأوي له قلص النعام كما أوت  خرق يمانية لأعجمَ طمطـم

السادات

وسادة القوم إشرافهم ورؤساؤهم، وذكر إن السيد الذي فاق غيره بالعقل والمال والدفع والنفع، المعطي ماله في حقوقه المعين بنفسه. وذكر إن السيد: الحليم لا يغلبه غضبه.

والسيادة منزلة ودرجة، ولا تأتي أحداً إلا باعتراف قومه له بسيادته عليهم وبتنصيبهم له سيداً عليهم. وكانوا إذا سوّدوا شخصاً عصبوه، والتعصيب التسويد، وهذا كانوا يسمّون السيّد المطاع معصَّباً. وذكر إن العصابة العمامة. وكانت عمائم سادة العرب هي العمائم الحمر.

وتعدّ الأسر الحاكمة التي ينشأ فيها عدد كبير من الملوك والحكام أسراً عريقة في الشرف، وينظر إليها نظرة تقدير واحترام، لأنهم ورثوا المجد عن آبائهم أباً بعد أب. وينطبق ذلك على سادات القبائل الذين يرثون سيادتهم قبائلهم أباً عن جد، فانهم يفتخرون بذلك على غيرهم، لأنهم ليسوا من أولئك الذين انتزعوا السيادة فصاروا سادة، على حين كان آباؤهم أو أجدادهم من الخاملين.

وقصد سادات القبائل وبعض الشعراء الكبار الملوك، ورحلوا إليهم من منازلهم، وتقربوا إليهم، وتوسطوا لديهم لبعض الناس. وقد عرف هؤلاء ب "الرحال". ولهذا نجد في الكتب، إنها إذا تعرضت لمثل هؤلاء قالت عنهم انهم من "الرحال". فقد عرف "عروة بن عتبة بن جعفر بن كلاب" ب "عروة الرحال"، "و إنما سُميّ الرحال لنحلته إلى الملوك". كما عرفوا ب "زوّار الملوك"، ومنهم "أبو زيد الطائي".

وأشراف الناس، هم الذين نالوا الشرف والسؤدد بين قومهم، فسادوهم. والسيد هو الرئيس، ويطلق على الرب والمالك والشريف والفاضل والكريم وعلى من ساد قومه، مثل سادات القبائل. وقد نعت رسول الله "سعد بن معاذ" ب "سيّد الأنصار". وتقول العرب "هذا سيدّنا" و "فلان سيّدنا"، أي رئيسنا والذي نعظمه. وتقول "ساد قومه"، أي صار سيدهم ورئيسهم. ونعت "قيس بن عديّ" ب "سيد قريش". وكان يوم وفاة "سعد بن معاذ" بالمدينة يوماً مشهوداً. حتى حضر الرسول جنازته وكبر عليه تسعاً، كما كبر على حمزة، تعظيماً لشأنه. وشهد دفنه. وكان من عادة أهل مكة في الجاهلية انه إذا مات لهم سيد كبيرٌ أغلقوا أسواقهم أعظاماً لموته، وتعبيراً عن تقديرهم له. فغلق الأسواق عند الجاهلين عند وفاة رجل خطير من إمارات التقدير والتعظيم.

ومن إمارات تكريم الميت الشريف، تجمع الناس عند بيته، احتفالاً به لنقله

إلى موضع دفنه. و إذا كان الميت خطر الشأن كان الجمع اكبر. وهو يتناسب في كثرته مع مكانة ودرجة الميت في المجتمع. وقد ذكر انهم كانوا يقولون للرجل الشريف يقتل: "العقيرة".

والسادات هم الرؤوس، رؤوس الناس. أما من دونهم فأذناب. وعرفوا ب "أذناب الناس و ذنباتهم"، أي اتباعهم وسفلتهم، والاتباع دون الرؤساء. يقال: جاء فلان بذنبه، أي اتباعه. قال الحطيئة يمدح قوماً: قوم هم الرأس والأذناب غيرهم  ومن يسوّي بأنف الناقة الذنـيا

والسادات "مصابيح الظلام" ومشاعله، بنورهم يهتدي الفقراء و أصحاب الحاجة والفاقة، فينالون منهم ما يخفف عن كربهم وفقرهم. يطعمون الناس في الحضر والسفر، فهم سادة الناس وملاذهم حين تغلق كل الأبواب. بأوجه الأذناب التاعسين البائسين.

ويقال لأشراف قوم و للبارزبن منهم وجوه القوم ووجهاء القوم، فورد "وكان من وجوه القرشين"، و "كان من وجوه قريش". و أما "سروات" مثل "سروات الانصار" و "سروات قريش"، ففي هذا المعنى أيضاً، وجوه الأنصار وأشرافهم ووجوه قريش وأشرافهم. و "السرّي"، هو الرئيس. وتعني كلمة "النواصي" خيار العرب وأشرافهم. فيقال هو ناصية قومه، وهو من ناصيتهم ونواصيهم. و "النصية" من القوم الخيار الأشراف.

ويعرف الأشراف المعرقون ب "النجوم"، و واحدهم "نجم". وقد أشار إليهم "حسان" في شعره، فذكر إن الذين يحملون "اللواء" أي "لواء الحرب"، هم النجوم. ويقال لسادة الناس "الجحاجح" كذلك،. ويقال لهم: "العَرى"، وهم سادات الناس الذين يعتصم بهم الضعفاء، ويعيشون بعُرفهم. شبهوا بعرى الشجر العاصمة الماشية في الجدب.

و أما لفظة "ربّ" التي تعني بعلا أيضاً، وإلهاً، والتي تعبر عن معنى "إله" في الزمن الحاضر؛ فقد أطلقت في لغة المسند على السيد والشريف، لتعبر عن معاني التفخيم والاحترام، وأطلقت في معنى "إله" أيضاً في النصوص المتأخرة في الغالب، وهي من الألفاظ السامية القديمة.التي وردت في معظم لغات السامين.

وقد وردت في عربيتنا بمعنى المالك والسيد والمدبّر، وأطلقت بمعنى الملك كذلك. وقد كان أهل الجاهلية يطلقونها على الملك، قال الحارث بن حِلِزَّةَ: وهو الربّ والشهيد على يو  م الحيارين والبلاء بـلاء

هنا وللسن أهمية. كبيرة عند العرب، لأن الإنسان إذا ما تقدم في السن ازدادت حكمته و تجاربه في الحياة ورجح عقله. لذلك يكون مرجعاً لمن هو دونه في للعمر، وملاذاً في المشورات، ويعبر عنهم ب "ذوي الأسنان". وهم الطبقة الذكية الفطنة المجربة من ذوي المكانة في الناس بالطبع. ولهذا نجد القبائل تتمسك بأخذ الرأي والمشورة من ساداتها المسنين ومن حكمائها المعمرَّين، لأنهم عركوا الحياة وخبروها وعرفوا ما فيها من مرّ وحلو. لذلك جعلوهم في الطبقات العليا من الناس.

و "الربّ" الرئيس والمرجع ومن تكون إليه الطاعة. والأرباب، هم السادات "قال المنذر يوماً لخالد، وهم على الشراب، يا خالد، من ربك? فقال خالد: عمرو بن مسعود ربيّ وربك. فأمسك عليهما". و "المنذر" هو المنذر الأكبر اللخمي، وخالد، هو خالد بن نضلة. ولهذا كان يقول العبد لسيّده: ربيّ. وتقول حاشية السيد والملك لسيدها وملكها: ربنا.

قال الحارث بن حلزّة: ربُّنا وابننا وأفضـل مـن يم  شي ومن دُون ما لديه الثناء

وقال لبيد حين ذكر حذيفة بن بدر: وأهلكن يوماً ربّ كندة وابنـه  ورب معدٍّ بين خَبْتٍ و عرعر

و "الخُطر" الأشراف من الرجال العظيمو القدر والمنزلة. والخطير الواحد. ويقال للرجل الشريف، هو عظيم الخطر. وقوم خطرون: قوم أشراف، ويقال "العبقري" للكامل والسيد من الرجال. وهو سيد القوم وكبيرهم والذي ليس فوقه شيء والشديد القوي.

وقد عرف سادة قريش ووجوهها ب "خضراء قريش". ولما صعد الرسول "الصفا"، عام الفتح، وجاءت الأنصار فأطافوا بالصفا وجاء "أبو سفيان"، فقال: "يا رسول اللهِ أُبيدت خضراء قريش! لا قريش بعد اليوم". يقصد نخبة قريش وخاصتها، في مقابل "أوباش قريش"، الذين قال عنهم الرسول للأنصار: يا معشر الأنصار! هل ترون أوباش قريش.

والأخضر عند العرب الأسود. و قد افتخر "الفضل بن عباس بن عتبة اللهبي" بلونه، إذ قال:

وأنا الأخضر من يعرفـنـي  أخضر الجلدة في بيت العرب

يقول: أنا خالص لأن ألوان العرب السمرة، وأنه عربي محض لأن العرب تصف ألوانها بالسواد، وتصف ألوان العجم بالحمرة، والخضرة عند العرب السواد. وورد "خضر غسان"، و "خضر محارب". قال الشاعر: إن الخضارمة الخضر الذين غدوا  أهل البريص ثمانٍ منهم الحكـم

والخضارمة جمع خضرم، وهو السيد الحمول.

ويقال لمن هم دون الأشراف وفوق الطبقات الدنيا، "أوساط الناس"، و "الأوساط"، و "اللهازم". يقال هو من لهازم القبيلة، أي من أوساطها لا اشرافها.

المستضعفون من الناس

والمستضعفون من الناس، كثيرون، وقد نظر إليهم مجتمعهم نظرة ازدراء واستهجان، و اعتدّهم من الطبقات الدنيا. إما لفقرهم وضيق ذات يدهم، ومنهم الفقراء والصعاليك والمحتاجون وأبناء السبيل، و أما لطيشهم وخروجهم من مجتمعهم، ومنهم الطريد والضالّ والخليع، و أما لانشغالهم بحرف يدوية، وهي حرف لا تليق بالرجل الكريم، ولا سيما الحرف الدنيا مثل الحلاقة والحجامة والحمالة وأمثالها، و أما من ناحية أصلهم، مثل إن يكونوا عبيداً أو عبيداً مملوكين.

ولاستصغارهم شأن الحرف اليدوية، لم يقبل عليها الأحرار و أبناء البيوت، إلا من اضطرته الفاقة و وجد إلا سبيل له إلى العيش إلا بالاشتغال بها، فانصرف إليها صاغراً. وهذا كان اكبر أصحاب الأعمال اليدوية من الرقيق والأعاجم واليهود. و إذا أخذنا بروايات أهل الأخبار نجد إن عدد أصحاب الحرف اليدوية كان قليلاً جداً، فلم يكن في مكة مثلا أحد من النجارين البارعين على ما يفهم من رواياتهم كروايتهم عن إعادة بناء الكعبة قبل النبوة بخمس سنين، أو كانوا قلة يعدّون عداً. وكذلك يقال عن بقية الحرف، و يقال مثل ذلك عن يثرب. ولا استبعد إن تكون في روايات أهل الأخبار مبالغات، ولكننا لا نستطيع نكران ازدراء العرب للحرف والصناعات.

وكانوا يعيرون من يتزوج من ابنة صائغ أو حداد أو نجار، ويعرون نسله، ولا سيما إذا كان من بيت رفيع. وقد وجد أعداء "النعمان بن المنذر" آخر ملوك الحيرة وحساده في أمه "سلمى" التي قيل إنها ابنة قين أو صائغ يهودي، سبباً قوياً من أسباب استهزائهم به والاستصغار لشأنه. أما الحرفي، أي الذي يشتغل بالحرف اليدوية، فلم يكن من السهل عليه التزوج من بنات الأحرار، لما قد تتعرض له أسر البنات من تعيير وسبّة وإهانة بين الناس، بتزويجهم ابنة حرة لشخص وضيع مستصغر.

وأدنى المتعيشين بالحرف منزلة، الحلاقون والحجامون والحمالون، ثم أولئك الذين يعيشون على تلهية الناس، مثل سائس قرد، وهو الشخص الذي يربي القردة ويعلمها القيام ببعض الألعاب لتسلية المتفرجين وإضحاكهم في مقابل صدقة يقدمونها لقردته وله، ومثل أناس آخرون يربون حيوانات أخرى للغرض نفسه، أو يتخذون لهم مهنة إضحاك الناس عليهم لدر عطفهم والجود عليهم، ومثل المخنثون والمغنون المطربون.

وقد عرف المعدمون المتربون، وهم الدين لا يملكون شيئاً ب "بني غبراء"، للزقهم بغبراء الأرض، ويقال لهم " الصعاليك" أيضاً، وقد ذكرت قبل قليل ورود لفظة "غبر" في الكتابات القتبانية، وان لها صلة ب "غبراء الناس" وب "بني غبراء" في عربيتنا. وقد تكون لهذا المصطلح صلة بمصطلح اختلف علماء التوراة في المراد منه، هو مصطلح "عم ه - ارز"، أي "ناس الأرض" "أهل الأرض"، فقد ذهب بعض العلماء إلى إنها تعني طبقة وضيعة من سواد الناس، أو "الفلاحين" الذين يعيشون على استغلال الأرض.

ونعت الخادم الذي يخدم بطعام بطنه "بالعضروط"، وهو الصعلوك، والعضاريط الصعاليك. وتعهد إلى العضروط مختلف الخدمات، مثل العناية بالراحلة وأداء أي عمل آخر يقوم به في قابل طعام بطنه. و يقال للعضروط: اللعُموظ، وهو الذي يخدم بطنه. و "العضارِط" الأجراء.

و "الخول" العبيد والخدم، ويقال: القوم خول فلان، أي أتباعه؛ وهم حشم الرجل وأتباعه. ويقع على العبد والأمَة فهم إذن الأتباع المغلوبون على أمرهم الخاضعون لحكم المتحكمين في رقابهم من السادة.

والمملوك خلاف الحر، والرقيق: المملوك واحد وجمع. والرقيق العبد. ورَقَّ صار في عبودية. والعبد: المملوك خلاف الحر. ونجد لعلماء اللغة تفاسير كثيرة لمعنى "العبد"، والرقيق، وفي مدى حرية كل واحد منها. وقد استعملت لفظة "العبد" للدلالة على معان مجازية، ومعان حقيقية. فقد قصد بها الخضوع والتذلل، ولهذا نهي عن استعمالها بهذا المعنى في الإسلام، فورد: "لا يقل أحدكم لمملوكه عبدي وأمتَي، وليقل: فتاي وفتاتي". وقصد بها أيضاً العبودية الحقيقية.

ولفظة "عبد" و "العبد" لفظة عامة في الأصل، وقد وردت بهذا المعنى في أكثر اللغات السامية، فاستعملت في معانٍ مجازية وفي معان حقيقية، ولم تكن تعني شخصاً مملوكاً بالمعنى الحقيقي من لفظة "مملوك" بالضرورة. وطالما نقرأ في كتب أهل الأخبار جملا، مثل: "ومن هو?إنما هو عبد من عبيدي"، و "أنت عبد من عبيدي"، وذلك تعبيراً عن ازدراء شخص لشخص آخر، واستصغاراً لشأنه، لأنه جعله في منزلة خدمه وعبيده.

واستعملوا لفظة: "عبد" و "العبد" بالمعنى الحقيقي الخاص بالعبودية، وقصدوا بها "مملوكاً"، فقالوا: "كان عبداً روميّاً"، وقالوا: "كان عبداً حبشياً"، فقصدوا بها "مملوكاً" كائناً ما كان لونه، أو جنسه والظاهر إن المتأخرين قد غلَّبوا استعمالها على العبيد والسُّود، فأطلقوها عليهم من غير ذكر صفتهم، وعنوا بها الرقيق الأسود حَسْبُ.

وقد ذكر بعض علماء اللغة إن "العبد" إذا ملك ولم يملك أبواه، أو الذي سبي، ولم يُملك أبواه. وقالوا: هم عبيد مملكة، وهو إن يغلب عليهم ويسُتعبدوا وهم أحرار. وفي الحديث: "إن الأشعث بن قيس خادم أهل نجران إلى عمر في رقابهم، وكان قد استعبدهم في الجاهلية، فلما أسلموا، أبوا عليه، فقالوا: يا أمر المؤمنين إنا إنما كنا عبيد مملكة ولم نكن عبيد قن. أي إن يغلب عليهم فيستعبدهم وهم في الأصل أحرار.

وذكر علماء للعربية إن القن: العبد الذي مُلك هو و أبواه، ران العبد القن الذي ولد عندك ولا يستطيع إن يخرج عنك. وعبد قن خالص العبودة. فالقن إِذن، هو العبد المملوك، الذي تنقل إليه العبودية عن أبيه. وقد أسلفت إن هذه اللفظة وردت في لغة المسند، و إنها كانت تعني هذا المعنى عندهم أيضاً. ويشبه العبد القن، العبد الذي يقال له "CERF" عند الرومان. و لا القين": العبد والجمع قيان.

ويعبر عن العبد بلفظة "مولى" أيضاً، ويراد نجها المعتق كذلك. وتؤدي معاني اجتماعية أخرى ذكرها علماء اللغة منها: الحليف، والعقيد، والربّ والمالك، والسيد. ويتبن معناها من الاستعمال. وقد كان بمكة وسائر الأمكنة الأخرى من جزيرة العرب عدد كبير من الموالي.

والعبيد هم حاصل الحروب. فإذا وقع إنسان أسيراً في غزو أو حرب صار ملكاً لآسره، إن شاء مَنّ عليه ففك رقبته، وان شاء ملكه فصار عبداً له. يحتفظ به لنفسه إن أراد، أو أن يهديه لغيره فيصير في ملك من أهدي له، أو إن يبيعه، فيقبض ثمنه، فتنتقل ملكية العبد إلى شاريه. فالسباء هو مصدر مهم من مصادر الرقيق.

ومورد آخر أمد الجاهليين بالعبيد، هو التجارة: تجارة العبيد. وقد اختص بها قوم عرفوا بالنخاسين. يأتون بالرقيق من مختلف الأماكن ويبيعونه. وكانت تجارة رابحة.

ومن العبيد، قوم كانوا مدينون فلم يتمكنوا من سداد ديونهم فبيعوا رقيقاً. ومنهم من صار رقيقاً لعدم تمكنه من دفع مال يجب عليه تأديته. كالذي روي من تقامر أبي لهب و العاص بن هشام، على إن من قمر صار عبداً لصاحبه، فقمره أبو لهب فاسترقه واسترعاه ابله.

ويكون عدد ما بملكه الإنسان من الرقيق إمارة علي الغنى والمنزلة والجاه والقوة. هم قوة لأنهم عُدّة لسيدهم في القتال وفي الدفاع عنه حتى وان كرهوه. وهم خدم له يؤدون له كل ما يطليه منهم من أعمال، ولا يخلو منهم بيت. وذكر إن بعض السادات كان يملك المئات من العبيد فلما وفد "ذو الكلاع ملك حمير" على أبي بكر "ومعه ألف عبد دون من كان معه من عشيرته وعليه التاج، وما وصفنا من البرود و الحلل".

وكان كثير من ملاك الرقيق ذوو قلوب غلاط، لا يرحمون عبيدهم ولا يرفقون بهم. و إذا شهد العبد غزواً أو حرباً وغنم فلا يعطى حقه له. ويؤخذ سهمه ويعطى إلى سيده. ولم يكونوا يثقون بأمانة رقيقهم لذلك حقد العبيد على سادتهم، وانضموا إلى أعدائهم إن وجدوا فرصة مؤاتية لهم أملاً منهم بإصلاح الحال. ولما حاصر الرسول الطائف نادى مناديه: "أيما عبد نزل فهو حر وولاؤه لله ورسولهِ" فنزل جمع منهم وأسلموا وصاروا أحراراً.

ويذكر علماء اللغة طبقة سمّوها "القطن"، وهم في عرفهم تبّاع الملك ومماليكه، والخدم والأتباع. وقالوا أيضاً: إن القطين تبع الرجل، ومماليكه، وخدمه.

ويقال للرعية من الناس "السُّوقة" سمّوا بذلك لأن الملوك يسوقونهم فينساقون لهم. و أما "سواد الناس"، فعامتهم.

وكل من ذكرت من الطبقات الدنيا هم " سوقة" أو "عوام"، و "سواد".

ويقال للأخلاط والسفلة من الناس: الأوباش. وهم مثل الأوشاب. و أما الأشابة فأخلاط الناس تجتمع من كل أوب و التأشب التجمع. ويقال: أوباش من الناس و أوشاب. وهم الضروب المتفرقون.

ويذكر علماء اللغة إن أهل اليمن يطلقون على المستضعفين من الناس "مستخمرون". و "المستخمرون" هم الجيران الضعفاء. من "اخمره الشيء"، بمعنى أعطاه إياه أو ملكه بلغة اليمن.

ويقال لأوغاد الناس و أرذاَلهم "الطغام" و "الطغامة". وذكر إن "طغامة" و "دغامة" الأحمق. وورد "باطاسة الأحلام"، بمعنى من لا عقل له ولا معرفة، وقبل: هم أوغاد الناس و أسافلهم.

وعرف أوغاد الناس ب "أولاد درزة". وذكر إن أولاد درزة: السفلة والسقاط والغوغاء من الناس، كذلك أولاد ترنى. و "أولاد درزة" أيضاً الخياطون. ويقال: أولاد درزة هم الحاكة، وهم من أسافل الناس، كما صرح به المفسرون في قوله تعالى: واتبعك الأرذلون. وابن درزة الدعي، أو ابن أمة تُساعي، فجاءت به من المساعاة ولا يعرف له أب.

أهل الوبر

ما ذكرته عن المجتمع يتناول الحضر، أما المجتمع البدوي، أي مجتمع الأعراب، مجتمع ساذج ليس في تكوينه تعقيد ولا تعدد طبقات. صقلت البادية أهلها، وبسطت لهم أسلوب الحياة، وقلصت من الفروق الطبقية، فلا تجد فيها ما نجده عند الحضر من اختلاف كبير في منازل الناس.

وكل ما هنالك من طبقات: سادات القبائل، وهم رؤساء القبيلة وأشرافها، وأحدهم "سيد القبيلة" أو رئيسا القبيلة. ثم أشراف العشائر و متفرعاتها. ولهم اموال، ورقيق يخدمونهم. أما سواد القبيلة، فهم منتشرون في أرض القبيلة على هيأة مجتمعات صغيرة متفرقة مبعثرة، لضيق العيش الذي لا يساعد على تجمع أفراد القبيلة تجمعاً كبيراً في محل واحد، تظهر فيه الحرف وتتنوع الأعمال التي تكون ضرورية لمجتمع مع الحضر.

ولسادات القبائل المال، وهي: الإبل. يشربون من ألبانها، ويأكلون لحومها، وهم الذين في استطاعتهم الذهاب إلى القرى والمدن ومواطن الحضارة للعيش فيها زمناً، ولشراء ما يجدون في أسواقها مما يحتاجون إليه من سلع.

وللتمتع بمناظر الحضارة. ولزيارة الملوك والحكام. والساكن منهم على مقربة من الحضر، يخالطهم وقد يشتري له ملكاً يعيش فيه بينهم. فإذا جاء الربيع، وحمد وقت البادية عاد إلى وطنه، ليرعى ماله، ولينظر في شؤون قبيلته.

وقد استخدم الأعراب "العبيد" أيضاً، ولكنهم لم يكثروا من استّخدامه استخدام أهل الحضر له، لعدم وجود حاجة كبيرة عندهم إليه. وقد كان عبيد الأعراب اكثر حرية وأحسن حالاّ من عبيد أهل الحضر، ذلك لأن البادية لا تعرف الأعمال المرهقة، ولا الحرف الكثيرة التي فرضتها الحضارة على أهل الحضارة، لذلك صارت الأعمال التي يقوم بها عبيد الأعراب اقل بكثير من الأعمال التي يقوم بها عبيد أهل القرى، وصار العبد في البادية الصق بصاحبه من مثيله في القرية، حتى صار وكأنه جزء من أهل البيت التي اشتراه أو ورثه.

بيوت العرب

لقد تبين لنا مما تقدم إن العرب وان بدوا وكأنهم سواسية كأسنان المشط، الكل متساوون في المعاملة لا فرق عندهم بين غني وفقير، كل معتز بنفسه فخور بفعاله، إلا انهم مع ذلك وفي الواقع طبقيون، لكل طبقة عرف وتقاليد، فبيوتهم تتفاوت عندهم في الشرف والمكانة، هناك بيوت اشتهرت في القبيلة وحافظت على فعالها ومكانتها، وكانت تتفاخر وتتباهى على غيرها فلا تزوجّ أحداً من أبنائها أو بناتها إلا لمن كلن كفؤاً لها.

وقد تحدث أهل الأخبار والأنساب عن بيوت برزت في القبائل وتَفَوّقت على غيرها في ناحية من نواحي الفضل والفخر. فذكر ابن الكلبي: مثلاً إن العدد من تميم في بني سعد، والبيت في بني دارم، والفرسان في بني يربوع، والبيت من قيس في غطفان، ثم في بني فزارة، والعدد في بني عامر، والفرسان في بني سليم، والعدد من ربيعة في بكر، والبيت والفرسان في شيبان.

وكان يقال: إذا كنت من تميم ففاخر بحنظلة، وكاثر بسعد، وحارب بعمرو، وإذا كنت من قيس ففاخر بغطفان، وكاثر بهوازن، وحارب بسليم، وإذا كنت من بكر ففاخر بشيبان، وكاثر بشيبان، وحارب بشيبان.

وقد اشتهرت ثلاثة بيوت شهرة خاصة في الجاهلية القريبة من الإسلام، وهي: بيت بني زرارة، وهم من "بني عبد الله بن دارم" في تميم، وبيت "بني بندر"، وهم من "بني فزارة" من "بني قيس"، وبيت "ذي الجدّين"، وهم من "بني شيبان" من "بكر بن وائل".

وجعل "أبو عبيدة" بيوت العرب ثلاثة: فبيت قيس في الجاهلية بنو فزارة، ومركزه بنو بدر، وبيت ربيعة بنو شيبان، ومركزه ذو الجدين، وبيت تميم بنو عبد الله ابن دارم، ومركزه بنو زرارة. وذكر انه قال: ليس في العرب أربعة اخوة انجب ولا أعدّ ولا اكثر فرساناً من بني ثعلبة بن عكابة. وكان يقال له الأغر والحصن. وبنوه: شيبان و قيس وذهل و تيم الله. وفارس غطفان الربيع بن زياد العبسي، و فاتكها الحارث بن ظالم، وحكمها هرم بن قطبة، و جوادها هرم بن سنان المريّ ؛ وشاعرها النابغة الذبياني. وفارس بني تميم عتيب بن الحرث بن شهاب أحد بني يربوع. وفارس عمرو بن تميم طريف بن تميم العنبري. وفارس دارم عمرو بن عدس، وفارس سعد فدكي بن المنقري، وفارس الرباب زيد الفوارس ابن حصين الضبيّ، وفارس قيس، عامر بن الطفيل، وفارس ربيعة بسطام ابن قيس.

وقال أبو عمرو بن العلاء: بيت بني سعد إلى الزبرقان بن بدر من بني بهذلة بن عوف بن كعب بن سعد، وبيت بني ضبة بنو ضرار بن عمرو الرديم، وبيت بني عديّ بن عبد مناة آل شهاب من بني ملكان، وبيت التيم آل النعمان ابن جساس.

وزعم "ابن الكلبي" إن آل حصن الفزاريين، وآل الجد بن الشيبانيين، وآل عبد المدان الحارثيين. هم أعلى بيوت العرب. ويقال: بيت تميم في بني حنظلة، أي شرفها. فهذه البيوت هي البيوت البارزة المسلم لها بالسيادة والشرف عند الجاهليين على رأي "ابن الكلبي".

وذكر "الجمحيّ": إن الفروسية في اليمن في بني زبيد بن عمرو بن معديكرب. وان شاعر اليمن امرؤ القيس، وأن بيتها في كندة: في الأشعث ابن قيس. لا يختلف في هذا و إنما اختلفَ في نزار. وقال اخباريّ: كان بيت قيس في آل عمرو بن الظوب العدواني، ثم في غني. في آل عمرو بن يربوع، ثم تحوّل إلى بني بدر. فجاء الإسلام وهو فيهم. وقال الاخفش: فرعا قريش هاشم وعبد شمس. وفرط غطفان بدر بن عمرو بن لوذان وسيّار بن عمرو بن جابر. وفرعا حنظلة رياح و ثعلبة ابنا يربوع. وفرعا ربيعة بن عامر بن صعصعة جعفر وأبو يكو ابنا كلاب. وفرعا قضاعة عذرة والحرث بن سعد.

وقد ذكر "الجاحظ" إن هناك قبائل في شطرها خير كثير، وفي الشطر الآخر شرف وضعة. "فمن القبائل المتقادمة التي في شطرها خير كثير، وفي الشطر الآخر شرف وضعة، مثل قبائل غطفان وقيس عيلان، ومثل فزارة ومرّة، وئعلبة، ومثل عبس، وعبد الله بن غطفان، ثم غنيّ و باهلة، واليعسوب و الطفاوة . فالشرف والخطر في عبس وذبيان، والمبتلى والمللّقى والمحروم والمظلوم، مثل باهلة وغنيّ. ومن هذا الضرب تميم بن مرّ، وثور وعكل، وتميم ومزينة. ففيُ عكل وتجم ومزينة من الشرف والفضل ما ليس في ثور".

وذكر "الجاحظ" إن بعض الناس تكبّروا على غيرهم، لما وجدوا لأنفسهم من الجاه والثراء والمكانة، ومنهم: بنو مخزوم، وبنو أمية، وبنو جعفر بن كلاب، وبنو زرارة بن عدس. فلم يكونوا كبني هاشم في تواضعهم، وفي إنصافهم لمن دونهم.

الشرف

و للشرف مقام كبير عند العرب. وإذا دخل شريف قوم في مجتمع جلس في المقام اللائق به. ويلعب هذا المقام دوراً كبيراً في مجالس الملوك وفي مجالس سادات القبائل وفي أندية الحضر. وإذا لم يأخذ الشريف مكانه، كأن يجلس في مجلس هو دون مجلسه اللائق بمقامه بالنسبة إلى الحاضرين، عدّ ذلك إهانة له، ومعاملة سيئة متعمدة. قد تأتي بأوخم النتائج إذا كان الشريف من أصحاب الحول والطول. ولهذا كان الملوك خاصة وسادات القبائل يراعون حرمة المكان، و يُعينون للقادم مكانه، بأسلوب لطيف لا يثير مشاعر الجالسين ولا يشعرهم بأنهم قصدوا إهانتهم إن طلبوا من القادم التقدم على الحاضرين، والجلوس على مقربة منهم. وذلك على حسب مكانته ومنزلته، و الغالب أن ينص على المكان الذي سيجلس به.

والشرف في العرف الجاهلي، هو الحسب بالآباء. والشرف والمجد عندهم لا يكونان إلا بالآباء. أما الحسب والكرم فيكونان، وان لم يكن له آباء لهم شرف. ولهذا حرصوا على استمرار الشرف في الأسر الشريفة، وعلى إمدادها بالحيوية والنشاط حتى يبقى الشرف متألقاً لامعاً فيها. ومن ذلك الزواج المكافئ والفعال الحميدة والمحافظة على سجايا الأسرة الطية، والأعراف المثالية، والتمسك بالنسب. وعدم تلويثه بدم من هو دونهم في الشرف، ورعاية ذلك النسب وحفطه، فيكون نسب كل شريف بيتناً واضحاً ظاهراً للناس.

ومن الشرف: التخلق بالأخلاق الحميدة، وعمل الأمور المُحببة المفيدة التي تخلد الذكر لصاحبها وتجعل الناس يلهجون باسمه من ذلك.

العرض

والعرض في معنى الشرف، ويتجلى في مظاهر متنوعة يراد بها صيانة السمعة وطرد سوء الظن وما يخدش شرف الإنسان من سوء أو مكروه. وهو لا يكتفي بالدفاع عن عرضه، بل يلزم نفسه ايضاً بالدفاع عن عرض قبيلته وعن عرض من يدخل في جواره أو في حلفه، لأن أعراضهم عرضه. فهو يلزم نفسه بلوازم كثيرة ثقيلة، يحاول مهما كلفه الأمر الوفاء بها خشية العار. وهو في لمجل الوفاء بالتزامات العرض يفعل ما يشاء، ويدخل في ذلك القتل والعنف في سبيل الدفاع عن الالتزامات التي ألزم نفسه بها في سبيل حماية العرض.

وإذا ممس عرض امرئ بأذى هاج وأهاج مَنْ هو من ذوي دمه ولحمه، للاقتصاص ممن دنس عرضه. وهو لا يهدأ حتى يأخذ بثأره ممن داس على عرضه. فثأر العرض مثل ثأر القتل، لا يهدأ صاحبه ولا يهجع إلا إذا اخذ بثأره ممن تجاوز على عرضه. والغالب في عقوبة هذا الثار الذبح. أي بقطع الرأس. عن الجسد يذبح حتى في حالة إذا كان قد توفي من طعنة بخنجر يقضي عليه، فانه يذبحه عندئذ. ويكون هذا غسلاً للعار الذي ألحقه ذلك المتجاسر بعرض القائل.

المروءة

وتتمثل المثل الجاهلية العليا في "المروءة"، وقد فسرت المروءة بأنها كمال الرجولية. ومن المروءة: الحلم، والصبر، والعفو عند المقدرة، وقرى الضيف، واغاثة الملهوف، ونصرة الجار، وحماية الضعيف. فإذا تمثلت أمثال هذه السجابا في رجل، كان كاملا، عظيم الشأن في قومه. والمروءة عند الجاهلين كالدين عند المسلم.

وقد ورد إن المروءة إلا تفعل في السرّ أمراً وأنت تستحي إن تفعله جهراً فهي أقصى ما تكون من أخلاق في الرجل الكامل الشجاع. وقد اقرها الإسلام في جملة ما اقره من فضائل الجاهلية، ورد: الدين، المروءة، ولا دين إلا بالمروءة.

والشهامة هي من صفات السيّد الشريف النبيل. و الشهم، هو السيّد النجد، الذي إذا دعي أتجد، وإذا طلب أجاب.

الكملة

وتحدث أهل الأخبار عن جماعة من الجاهليين قالوا انهم عرفوا بين قومهم بالكملة. منهم "بنو زباد العبسيون"، وهم أنس الحفاظ، ويقال له أيضاً أنس، الفوارس، وعمارة الوَهاب، و ربيع الكامل، وقيسَ الجواد وقيل: ربيع الحِفاظ، وعمارة الوَهاب، وأنس الفوارس، أمهم فاطمة بنت الخُرشب الأنمارية.

وكان "للربيع بن زياد العبسي" المعروف بالكامل، ممن ينادم الملك النعمان، ويكثر عنده، ويتقدم على من سواه. وينزله في قبة يضربها له. حتى أفسد "لبيد" الشاعر، وكان إذ ذاك غلاماً ما كان بينهما من ود في خبر ترويه كتب الأدب والأخبار.

وعرف قوم ب "الأكابر"، قيل هم: شيبان، وعامر، وجليحة، والحارث بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل.

والإنسان الكامل عند الجاهلين وفي أول الإسلام، هو الذي يكتب بالعربية، ومحسن الغْوم والرمي. وقد لقب رجال عديدون بهذا اللقب، منهم: "أوس ابن خولي"، وهو من المخضرمين. قال "ابن سعد" عنه: "وكان أوس ابن خَوَلي من الكَمَلة،. وكان الكامل عندهم في الجاهلية وأول الإسلام الذي يكتب بالعربية ويحسن العوم والرمي".

من الخصال الحميدة

ومن الخصال الحميدة عند العرب: النخوة. والنخوة في اللغة الافتخار والتعظم، والنخوة الكبر والعظمة. ومن صفات العرب إنها كانت تتنحى من الدنايا أي تستنكفْ

الكرم

ومن الأعراف عرف إكرام الضيف، وتقديم حق الضيافة له مهما كانت درجة تلك الضيافة ومنزلة المضيف. يقدم له ما يقدر عليه وما يتسع حاله له. والضيافة درس من الدروس التي لقنتها الطبيعة للإنسان أيضاً. لقنته إن الإنسان مهما كان فقيراً، عليه إن يقدم ما عنده لمن يأتيه من ضيف قريب أو غريب ليضيفه، إنقاذاً لحياته من قحط البادية ومن شحها. فليس في البادية ملجأ يلجأ الفرد إليه غير الخيام المضروبة هنا وهناك، ملاجئ مهما قبل فيها، لكنها قوارب النجاة أو جزر صغيرة في محيط واسع شاسع. لا يطمع الإنسان منها إلا في الاستراحة وإمضاء أمور سفره إلى الموضع الذي يريده، و إذا امتنع صاحب الخيمة عن أداء حق الضيافة، عرض حياة ضيفه للخطر، وعرّض حياته نفسه إلى ذلك الخطر، فلا بد إن تنزل به في يوم ما حاجة ما، ولا بد إن يقطع البادية مراراً في حياته بحثاً عن رزق، فإذا بخل ولم يضيف غيره، لم يستضيفه الآخرون فيقع في ضنك قد يكون به هلاكه وهلاك من معه.

والعرف إن الضيافة ثلاثة أيام و ثلاث ليال، فاذا انتهت المدة، سقط حق الضيافة من رقبة "المضيف" إلا إذا جددهاً، وزاد عليها. ويعبر عن منزلة. الضيف عند المضيف بجمل و تعابير تعبر عن ترحيب المضيف بضيفه، مثل جملة: "بيتي بيتك"، وعلى الضيف بالطبع إن يتأدب بأدب الضيافة، فيصون حرمة بيت مضيفه، فلا يسرق منه، ولا ينظر إلى العائلة بسوء وألا يقوم بأي عمل يخل بعرف الضيافة.

ونظراً إلى ما للمعابد من حرمات، اعتبر الوافدون عليها لزيارتها والتقرب. لأصنامها ضيوفاً لها، وعدّوا الذين يعتدون عليهم خارجين عن العرف مارقين، بالنسبة لمجتمعهم. فمن كان يفد إلى مكة يقال له "ضيف الله"، وقيل للحُجاج "ضيوف الكعبة"، فلا يجوز الاعتداء عليهم، ومن وقع اعتداء عليه، يجد حتما من ببن أهل مكة من يدافع عنه.

والجود، وهو السخاء صفحة أخرى من صفحات الكرم. وهو إن يمطر الرجل غيره بمعروفه، وان يجود على غيره بما هو عنده. وقد بالغ بعضهم بجوده حتى ضرب به المثل. ومن هؤلاء حاتم الطائي. وهو "حاتم بن عبد الله ابن سعد بن الحشرج بن امرئ القيس بن عديّ بن أحزم" من قبيلة طيء.

وقد ضرب به المثل في الجود والسخاء، فقيل "أجود من حاتم"، ورووا عنه قصصاً كثيراً في الجود والسخاء، يرينا إن الجود فيه سجية، نبت فيه،مذ كان صغيراً، فقد روي انه اختلف مع والده، وهو صغير، لأنه فرق إبله وغنمه وكان يرعى بها على قوم مرّوا به، فيهم: عبَيد بن الأبرص، وبشر ابن أبي خازم، والنابغة الذبياني، فطرده أبوه، وقالَ له: إذن لا أساكنك بعدها أبداً ولا آويك، فقال حاتم: إذن لا أبالي.

ويذكر: انه كان إذا أبل شهر رجب نحر في كل يوم عشرة من الإبل، وأطعم الناس ؛ وانه كان يقول لغلامه يسار، إذا اشتد، البرد وكلب الشتاء: أوقد ناراً في بقاع من الأرض: لينظر إليها من أضل الطريق ليلا فيقصد نحوه. وكان يوقد نار القِرى، ليقصدها من يريد الضيافة من الناس. وذكروا انه كانت لحاتم قدور عظام بفنائه لا تنزل عن الأثافي، إلى غير ذلك من أخبار في كرمه وسخائه.

يذكر عنه انه قسم ماله بضع عشرة مرّة؛ وانه مرّ في سفر له على بني عنزة ولهم أسير في القدّ، فاستغاث به، ولم يحضره فكاكه، ففاداه وخلاّه، وأقام مقامه في القدّ حتى أدي فداؤه. ورووا انه ذبح فرسه، ووزع لحمها على جيرانه، لأن امرأة كانت جارة له جاءت إليه مستغيثة به، تقول له: أتيتك من صبية يتعاوون من الجوع ولم يكن لديه ما يعطيها، فذبح فرسه، مع انه و عائلته كانوا جياعاً مثل صبيتها، فلما مانعت زوجته في ذبح فرسه، قال لها: إن هذا للُؤم إن تأكلوا وأهل الحيّ جياع.

وينسب أهل الأخبار إليه شعراً، في جملته قصيدة تتعلق بالكرم وبمكارم الأخلاق وبالحكم، وقد جمعوا من شعره ديواناً، وذكروا انه من الشعر البليغ الجيد.

وضرب المثل بجود " كعب بن مامة الإيادي". ويذكر أهل الأخبار انه هلك بسبب جوده، فقد مات عطشاً، لأنه أعطى الماء غيره، فمات هو من العطش. وقد فضله "الجاحظ" ورَجَّحه على "حاتم للطائي" في الجود. ذلك لأن حاتماً كان يجود على غيره بماله، أما "كعب"، فقد بذل النفس حتى أعطبه الكرم، وبذل المجهود في المال، فساوى حاتماً من هذا الوجه و باينه ببذل المهجة. فهو على رأيه فوقه في الكرم بمنازل و درجات. وذكر إن من عادة "كعب بن مامة" انه إذا جاوره رجل قام له بكل ما يصلحه وعياله، وحماه ممن يريد وان هلك له بعبر أو شاة أو عبد أخلف عليه، وان مات وداه، فجاوره "أبو دواد الإيادي"، الشاعر، فكان يفعل به ذلك ويزيد في برّه، فصارت العرب إذا حمدت جاراً بحسن جواره، قالوا: كجار أبي دُواد. وقد افتخرت به إياد. وعد من مفاخرها. وذكر "عبد الملك بن مروان" إياداً، فقال: هم أخطب الناس لمكان قس، و أسخى الناس لمكان كعب، ولشعر الناس لمكان أبي دواد، و أنكح الناس لمكان ابن الغز.

و "أوس بن حارثة بن لأم الطائي". يذكرون إن "النعمان بن المنذر" حباه حلة نفيسة بحضور وفود العرب من كل حيّ، وكانوا قد اجتمعوا عنده، فقال لهم: "إني ملبسٌ هذه الحلة أكرمكم" فألبسه النعمان الحلة. ويذكرون انه تمكن من الشاعر "بشر بن أبي خازم"، وكان "أوس" قد نذر لئن ظفر به ليْحرِقنَّه، لأنه أسرف في هجائه، حتى تجاسر فهجا أمه "سُعدى". فلما ظفر به، أشارت "سعدى" على "أوس" بأن يمنّ على بشر، فخلى سبيله وأكرمه وأحسن كسوته وحمله على نجيبه وحباه، فصار "بشر" يمدحه، ويذكر أهل الأخبار، إن أوساً وحاتما وفدا على "عمرو بن هند"، فأراد امتحانهما، والوقوف على رأي أحدهما في الآخر، فما انتقص واحد منهما الآخر. فقال عمرو: والله ما أدري أيكما أفضل! وما منكما إلا سيد كريم.

و "هرم بن سنان المُريّ"، من أجواد الجاهلية أيضاً. وهو سيد غطفان. وكان والده سيّد غطفان كذلك. وقد مدحه الشاعر زهير بن أبي سلمى في أبيات لا يزال الناس يحفظونها ويذكرونها عن هرم وقد كان هرم أعطاه مالا كثيراً. من خيل وإبل وثياب وغير ذلك مما أغناه، وفيه ورد المثل: "أجود من هرم". وقد أدركت بنت له أيام عمر فسألها عن أبيها وعن صلته بزهير.

قال "أبو عبيدة": "أجواد العرب ثلاثة: كعب بن مامة، وحاتم الطائي، وكلاهما ضُرب به المثل، وهرم بن سنان صاحب زهير".

وقد ضرب المثل بجود "عبد الله بن حبيب العنبري" فقيل: "أقرى من آكل الخبز". ذكر انهُ سميّ آكل الخبز، لأنه كان لا يأكل التمر ولا يرغب في اللبن. وأكل الخبز ممدوح عند العرب. وهو عندهم من علامات الغنى والمال. وعرف "ثور بن شحمة العنبريّ" بالجود كذلك، وقد كان قومه "بنو العنبر" إذا افتخروا، قالوا: "مناّ آكل الخبز، ومنا مجير الطير". وقد عرف "ثور بن شحمة" ب "مجير الطير" لأنه كان يشفق على الطيور فيطعمها و يشبعها لجوده وكرمه.

واشتهر "عبد الله بن جُدعان" برده كذلك، وقد كان يسمى ب "حاسي الذهب"، لأنه كان يشرب في إناء من الذهب، وقيل: "أقرى من حاسي الذهب". وكان يجود على "أمية برت أبي الصلَّت"، ويقرِي أهل مكة ومن يأتي إليها، وله جفنة كبيرة يأكل منها الناس، ويصنع لهم "الفالوذج"، ولم يكن معروفاً قبله بمكة، فما كان بالعراق، أكله و استذوقه، وجاء منه بطبّاخ ليطبخ له "الفالوذج". وهو من "بني تيم". وكان ممن حرم الخمر على نفسه بعد إن كان بها مغرى، لما رأى فيها من ضرر و إسفاف يلحق بشاربها. وذكر انه لما كَبُرَ وهرِم، أراد قومه إن يمنعوه من تبذير ماله، ولاموه في العطاء، فَكان يدعو الرجل، فإذا دنا منه، لطمه لطمة خفيفة، ثم يقول له: قم فانشُد لطمتك واطلب ديتها، فإذا فعل، أعطته بنو تيم من مال أبن جُدعان. وقد ضرب المثل بفالوذج ابن جُدعان في أطايب الأطعمة.

وقد عدّ في "مطعمي قريش"، وهم سادات قريش وأشرافها ممن كان يطعم الناس ويفتح بيته للضيوف، ولا يمنع جائعاً من دخول داره. كهاشم بن عبد مناف. وكانت له جفان يأكل منها القائم والراكب، إذا وقع في إحداها صبيّ غرق. فجرى بها المثل في العظم.

وللتعبير عن إسراف الأجواد في جودهم، وفي قراهم الضيوف، نعت أحدهم ب "مطعم الطير" كناية عن كرمهم، وعن كثرة طعامهم المهيأ، حتى كانت الطيور تشارك الضيوف في أكل الزاد، وهو كثير. وقد نعت "حسان ابن ثابت" عمه "خالد بن زيد" المعروف ب "ابن هند"، وهِو من "بني النجّار"، ب "مطعم الطير"، كناية عن انه كان ينحر الإبل للأضياف، فيأكل منها الناس والطير. ونعتت "ليلى بنت الخطيم بن عديّ بن عمرو"، وهي أخت الشاعر "قيس بن الخطيم" أباها بأنه "مَطعم الطير ومباري الريح"، و ذلك أمام الرسول.

ومن الأجواد من كان يجود في أوقات الشدة والحاجة بصورة خاصة، في مثل حلول الجدب. وقد عرف نفر من العرب ب "مطاعيم الريح"، وذلك لأنهم كانوا يطعمون إذا هبت ريح الصبا، لأنها لا تهب إلا في جدب، فمدحوا. ومن هؤلاء: "كنانة بن عبد يا ليل الثقفي". عم أبي مِحْجَن. وزعم "ابن الأعرابي" إن "مطاعم الريح"، هم أربعة. منهم: كنانة ابن عبد يا ليل الثقفي المذكور و "لبيد بن ربيعة".

ويقال للرجل الذي بهتز للمعروف والعطية "الأريحي"، وهو السحي. و "الأريحية" السخاء.

وقد ضرب المضل بجماعة من الجاهليين عرفوا بجودهم وكرمهم، حفظ العرب ذكرهم لجودهم، وما زالوا يحتفظونه حتى اليوم، يتذاكرونه ويروونه في كتاباتهم وفي أنديتهم وفي كلامهم. من هؤلاء ثلاثة سُموا "زاد الراكب" و "أزواد الركب"، لأنهم كانوا إذا سافروا مع قوم لم يتزودوا معهم. كانوا من أهل مكة هم: أبو عمرو بن امية. "مسافر بن أبي عمرو بن أمية"، وأبو أمية بن المغيرة المخزومي، و الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العُزّى "زمعة بن الأسود بن المطلب". وقد ضرب بهم المثل، فقيل: أقرى من زاد الراكب.

وقد كان "عبد الله بن أبي أمية"، المعروف ب "زاد الركب" شديد الحلاف على المسلمين، ثم خرج مهاجراً من مكة يريد النبي، فلقيه ب "الصلوب" فوق العرج، فأعرض عنه رسول الله، ثم عفى عنه.

وفي معنى "زاد الركب" معنى "جفنة الركب"، و الجفنة: الرجل الكريم. قيل له: "جفنة الركب"، لأنه كان مطعاماً يضع جفنته ويطعم الناس فيها، ومن يكون معه في ترحاله. فسميّ باسمها.

وكانت العرب تقول: السفر ميزان القوم، كأنه يزنهم بأوزانهم ويفصح عن مقاديرهم في الكرم واللؤم. إذ يتبين الكريم من اللئيم في سفره. فاللئام إذا ما سافروا ضجروا، لخوفهم من تقديم ما عندهم إلى من هم دونهم من فقير ومحتاج، أما الكريم، فإنه لا يبالي في سفره فيعطي وينفق ويساعد من يسافر معه بما يجود به عليهم. فهو على عكس اللئيم فرحٌ بسفره هذا مستبشر.

وزعم الأخباريون إن "سويد بن هرمي بن عامر الجمحي"، كان أول من وضع الأرائك وسقى اللبن والعسل بمكة. ومعنى هذا انه أول من وضع الأرائك لراحة الناس في الجاهلية، ولعلّهم قصدوا أرائك وضعت، في الحرم لجلوس الناس عليها. كما ذكروا إن "أبا أمية بن المغيرة المخزومي" و "أبا وادعة بن ضبيرة بن سعيد بِن سعد بن سهم" وكانا يسقيان العسل بمكة، بعد سويد بن هرمي. وقد كان "عديّ بن نوفل" يسقي الحجيج اللبن والعسل على ما ذكره أهل الأخبار. وقد عدّت السقاية من مفاخر قريش.

وقد كان من عادة الأجواد إيقاد النار في الظلام ليراها الغريب والمحتاج، الجائع من مسافة بعيدة فيفد إليها، فيجد له من يقريه ويقدم له ما يحتاج إليه من طعام. ويقال لها "نار القرى" و "نار الضيافة". وهي نار توقد لاستدلال الأضياف بها على المنزل. وكانوا يوقدونها على الأماكن المرتفعة، لتكون أشهر. حتى زعم إن منهم من كان يوقدها بالمندلي الرطب، ليهتدي إليها العميان، بشم رائحة الطيب التي تفوح منها عند الاحتراق. وهي من أجل الأعمال عند العرب. وقد ذكرت في الشعر الجاهلي.

ويعدّ الشتاء محكاً للأجواد ولكرام الأنفس. فالشتاء عدو الفقير، يؤلمه ببرده ويوجه بفقره ويضيف آلاماً على آلامه. فخيمته الممزقة البالية، لا تقيه من رياح ولا من مطر ولا من برد. والصيد يختفي ويقلّ، و الأعشاب تزول، فلا بحد الفقير أمامه سوى ما ادخره من قوت فيعيش عليه. فإذا أكله أو كان قليلاً، فليس أمامه من ملجأ سوى الاستجارة بأهل الجود والسخاء. ممن كان إذا جاء الشتاء ادنوا إليهم الناس و أطعموهم، فيقتلون بذلك جوع الشتاء. ولهذا عرف الواحد منهم ب "قاتل الشتاء".

وغاية الجود إن يجود الإنسان بأعز ماله لغبره، يقال: "انه لمنحار بوائكها، أي ينحر سمان الإبل"، وهو للمبالغة، يوصف للجود. فهو ليس من أولئك الذين يبخلون بمالهم العزيز، فينحرون الهزيل من الإبل، حرصاً على العزيز، بل يقدم أقصى ما عنده لضيوفه.

ويعد العرب "إقراء الضيف" و "الرفادة": "رفادة الحج" في جملة "ارث إبراهيم و إسماعيل. ويدخل أهل الأخبار في جملة هذا الإرث: تعظيم الحرم ومنعه من البغي فيه وقمع الظالم ومنع المظلوم. فالكرم إذن من للسنن القديمة الموروثة عن سنة إبراهيم على أهل الأخبار.

ولا يعدّ الكريم كريماً إذا وهب ماله في سبيل غرض. فمن وهب المال لجلب نفع أو دفع ضرر أو خلاص من ذم فليس بكريم.

وبقال للعطيةّ الجزيلة "الدسيعة". ويقال للجواد، هو ضخم الدسيعة، أي كثير العطيّة. وقيل هي المائدة الكريمة والجفنة على سببل المجاز، لما عرف به الأجواد من تقدم الطعام للأضياف. ويقال للجواد المعطاء السيد الحمول: "الخضرم"، تشبيهاً بالبحر الخضرم وهو الكثير الماء.

وقد يعبر عن غاية الجود بقولهم: "هو جبان الكلب"، أي نهاية في الكرم وكثرته، لأنه لكثرة تردد الضيفان إليه يأنس كلبه فلا يهر أبداً. قال حسان ابن ثابت: يُغشون حتى ما تهر كلابهم  لا يسألون من السواد المقبل

ومن الجود والكرم: الرفادة. والرفد: العطاء و إعانة المحتاج. ومن ذلك ما فعلته قريش من "الرفادة"، حيث اتفقت إن بخرج كل إنسان مالاً بقدر طاقته، يشترون به للحاج الجُزر والطعام والزبيب للنبيذ، فيجمعون من ذلك مالاً عظيماً، فلا يزالون يطعمون الناس حتى تنقضي أيام موسم الحج. وذكر إن "هاشم بن عبد مناف"، كان أول من قام بالرفادة، و أول من هشم الثريد، وقد سُميّ هاشماً لهشمه الثريد.

وذكر علماء اللغة إن السخاء مراتب ثلاث: سحاء وجود و إيثار. فالسخاء إعطاء الأقل و إمساك الأكثر. والجود إعطاء الأكثر و إمساك الأقل، و الإيثار إعطاء الكل من غير إمساك. وهو اشرف درجات الكرم.

ويعبر عن السخاء ب "الندى". ويقال "هو الذي الكف"، إذا كان سخياً. و "طلحة الندى"، أي السخي الكريم.

من شيم السادة

ويعد حمل أثقال الديات من شيم السادة، إذ لم يكن من الممكن للأسر الفقيرة دفع دية القتلى حين توزع في العشرة أو القبيلة؛ لذلك يحملها السادة عن الضعفاء. وقد فدح "حسان بن ثابت" "حكيم بن حزام بن خويلد"، فكان مما مدحه به انه "انه حمال أثقال الديات".

وممن حمل الدماء ودفع اثمان دياتها: "عمرو بن عصم"، الذي حمل الدماء التي كانت بين "بني سدوس" و "بني عنزة" في الجاهلية، وهرم بن سنان، والحارث بن عوف، إذ تحمّل ديات قتلى الحرب التي وقعت بين عبس وذبيان.

كما يعد حمل ثقل المولودة التي يراد و أدها من الشيم ومن الأعمال الحميدة التي يحمد القائم بها عليها. وقد ذكر أهل الأخبار أسماء جماعة دفعوا مالاً لآباء كانوا قد همّوا بوأد بناتهم لإملاقهم ولضعف حالهم، أبقوا بذلك على حياتهن. وهو عمل بقدر حقاً، لأنه عن حس إنساني ودافع خيري نبيل.

فك الأسر

ومن شيم الرجال المنّ على الأسرى بفكّ رقابهم و إعطائهم حريتهم. وقد أبت مروؤة بعض السادات إلا إن يقوموا بفك أسر الأسرى وإعتاق رقبتهم، ولو بشراء أسرهم بثمن. وقد ذكر العلماء أسماء رجال منهم عاشوا في الجاهلية عرفوا بعدم رضاهم عن الأسر، فكانوا يدفعون مالاً في مقابل فكّ رقبتهم. من هؤلاء "سعد بن مُشمت بن المُخَيّل"، وهو من رجال "بني المخيل" في الجاهلية. وكمان إلى إن لا يرى أسيراً إلا أفتكه.

ومن شيم الرجال العفو عند المقدرة والحلم والصفح عن المسيء، وكان من عاداتهم في غفران الذنب، حفر بئر، ثم ينادي من يريد غفران الذنب والعفو عن المذنب: اشهدوا أني جعلت ذنبه في هذه البئر ثم يرد فيها ترابها، وبذلك يغفر الذنب. وقد ضرب العرب المثل بحلم "قيس بن عاصم"، و ب "الأحنف ابن قيس" و "قيس بن عاصم"، هو من بني منقر من تميم. وكان ممن حرم الخمر في الجاهلية، وذكر انه كان أول من واد، لأنه خشني إن يخلف على بناته من هو غير كف لهن. وكان قد وأد ثماني بنات، ووفد في وفد "بني تميم" على الرسول فأسلم. وقد قال له للرسول لما دنا منه: "هذا سيد أهل الوبر".

و أما "الأحنف بن قيس"، فهو تميمي كذلك. أدرك النبي ولم يجتمع به. وكان يضرب بحلمه المثل وله قصص مع الخلفاء. وسكن البصرة، وبها مات سنة سبع وستين.

وقد رجحّ الجاحظ "الاحنف" على كل من عرف عند العرب واشتهر بينهم بالحلم، حتى رجحه على لقمان ولقيم وقيس بن عاصم ومعاوية بن أبي سفيان. وله قصص مع معاوية. ونسبوا له حكماً وشعرا. وذكر انه هو القائل: "لا تزال العرب بخير ما لبست. العمائم، و تقلدت السيوف، وركبت الخيل، ولم تأخذها حمية الأوغاد. قيل: وما حمية الأوغاد? قال: إن يروا الحلم ذلاً، والتواهب ضيما"". وقيل للأحنف بن قيس: بماذا سدت? فقال: بثلاث، بذل الندى، وكفّ الأذى، ونصر المولى. وقال: إنما تعلمت. الحلم من قيس بن عاصم: أتي بقاتل.ابنه فقال: رعبتم الفتى. وأقبل جمليه فقال: يا بني لقد نقصت عددك، و أوهنت ركنك، وفتت، في عضدك، وأشمتَّ عدوّك، وأسأت بقوملك، خلوا سبيله، وما حل حبوته، ولا تغير وجهه.

وللعرب كلمة تقولها عند طلب العفو والحلم وفي مواطن الغضب والتشاجر هي: "إذا ملكت فاسجح"، يقصد بها طلب العفو و الحلم عند ثوران الغضب. ولهم كلمات أخرى كثيرة في الحث على التحلي بالحلم و الصبر.

ومن خصال السادة: النخوة. وقد عرف بها العرب حتى ضرب بها المثل، فقيل: نخوة العرب، وورد: "لؤم النبيط و نخوة العرب". وهم ينتخون لمن ينتخيهم مع ترفع وتعزز، فإذا نخى شخص، فعلى من انتخى إجابة داعي النخوة و إلا عدّ جباناً وصار سبة للناس.

ولا يعني إن ما ذكرته كان بحب إن يتوفر حتماً في رجل ليستحق إن يكون سيداً. فقد رمي بعض الرؤساء بالبخل وبشدة الحرص و بإمساك يدهم، و وصف بعض السادات بالظلم وبالقسوة، ومع ذلك، فقد حكموا قبيلتهم وساد بعضهم وهم شُبّان، والعادة عند العرب إن الرئاسة للمسنّ، و إنما الذي ذكرته يمثل رأي ذوي الرأي في الرئيس المثالي الذي يعرف كيف يحكم قومه وكيف يوجه قبيلته. وهي ليست بالضرورة مؤهلات وصفات يجب إن تكون لازمة في الرجل الذي سيسود قومه، لقد ذكرت إن السيادة بالوراثة، وأن هذه الخلال إذا تحلى بها إنسان آخر من رجال القبيلة عدّ أيضاً سيداً من ساداتها، بمعنى انه صار شريفاً مقدماً فيها ووجهاً من وجوهها. تماماً كما يكون لمدينة ما رئيس مدينة، يحكها بصفة رسمية، ويكون لها في الوقت نفسه وجهاء وأشراف قد يكون من بينهم من هو اكثر ذكراً وأعلى مكانة وأشرف منزلة من رئيس المدينة، ولكنه مع ذلك لا يمثل المدينة في الحفلات والمجتمعات، لأنه ليس برئيسها العامل المعين. وهكذا هو شأن تلك الخصال، خصال مثالية قد تتوفر في رئيس القبيلة، وقد لا تتوفر فيه، بل تتوفر في غيره من أبناء القبيلة ومن رؤساء فروعها، ليكون لهم السيادة و الشرف فيها ويشار إليهم على انهم سادة القبيلة، ولكنهم لا يعنون بذلك رئاسة فعلية، و إنما رئاسة شرف ومكانة وتقدير في مجتمع. ومن هنا نجد أهل الأخبار يذكرون أسماء جملة سادات، على انهم سادات قبيلة واحدة وفي وقت واحد، فهم في الواقع سادات مجتمع وفروع قبيلة.

المدح والهجاء

وللمدح وللهجاء شأن كبير عند الجاهليين إذ كان الجاهليون يقيمون وزناً كبيراً للقيم المعنوية. فربّ مدح يخلد الممدوح ويبقي ذكره، ورب هجاء يغض من شأن المهجو ويحط من اسمه ونحن هذا اليوم نقرأ ما ورد عنهم من المدح، ونسمع أسماء الممسوحين وما حصلوا عليه من جاه وفخر بين الناس، ونقرأ ما ورد في ذم أناس وما قيل فيهم من ذمّ و قذع. ولولا الأهمية التي أعطاها الماضون للمدح وللهجاء لما بقي الذم والمديح حتى اليوم.

ومن أَسباب المدح سخاء الممدوح أو شهامته ونجدته وشجاعته وعفته وحلمه وصبره وتضحيته وما إلى ذلك من صفات وخلال حميدة. فكان إذا جاءه ضيف يعرفه أو لا يعرفه قدم إليه واجب الضيافة، وبالغ في إكرامه وان كان فقيراً لا يملك شيئاً. ويقسمه على نفسه وعلى أهله، لأن الضيافة حق وواجب، و على من يقصدَ الضيافة أداء هذا الواجب.

وقد كان الملوك يهبون على المدح ويثيبون المادح على قدر ما جاء في مدحهم لهم من تفن في المدح ومن إطراء زائد ومبالغة في المدح. ولما دخل "النابغة الذبياني" على "النعمان بن المنذر"، وحياه بتحية الملوك، ثم مضى مسترسلا في مدحه، تهلل وجه النعمان سروراً، وأمر إن يقدم له الدرّ، و "كُسيَ أثواب الرضى. وكانت ُجبات أطواقها الذهب بقصب الزمرد. ثم قال النعمان: هكذا فليمدح الملوك". وفي كتب الأدب والأخبار أشعار قيل عن كل شعر منها "إنها أمدح بيت قالته العرب". وفيها مبالغات وغلوّ في المدح، تجعل الممدوح شمس والملوك كواكب، إذا طلعت لم يبد منهن كوكب. وأمثال ذلك.

و هذا الشعر وشعر الفخر وأمثالهما، يجب إن يكونا موضوعين لدراسات نفسية، لأنهما يمثلان أعمق الأحاسيس النفسية للعرب، ويتحدثان عن المواطن الرقيقة عند العرب، التي تهتز أوتارها بسرعة عند سماعها هذا النوع من المدح. والنواحي العاطفية التي يمكن منها التأثير في العرب. ونحن لا نستطيع بالطبع، إن نأخذ هذا الفخر أو ذاك المدح على انهما يمثلان الواقع و يمثلان الممدوح تمام التمثيل. أو انهما تعبير عن نفس صادقة مخلصة في كل ما قالته أو نظمته. فنحن نعلم إن من الشعراء من يمدح للعطاء ويهجو إذا حرم منه وان الممدوح إذا قطع عطاءه عن الشاعر، كفَّ الشاعر عن مدحه، وربما انقلب عليه فيغسل كل ما قاله في مدحه له، بشعر يشتمه فيه بأبشع أنواع الشتم وأمضه. فشعر مثل هذا، وان كنا نرويه ونتحدث عنه ونحفظه، ولكنا نرويه ونستلذ بروايته، لأنه لذيذ من ناحية الأدب، ولأنه شعر قديم يمثل ضرباً من ضروب الحياة في ذلك الوقت.

وقد يمدح الشخص بنعته بنعوت مشرفة، مثل "فلان أبيض أ و "قوم بيض"، و "البيض المناجيد" وهم لا يريدون من اللفظة بياض البشرة، و إنما يريدون المدح بالكرم ونقاء العرض من الدنس والعيوب. وقد ينعت قوم بالخضرة، ويريدون بذلك إن المنعوتين قوم عرب خلص. والأخضر بمعنى الأسود، والعرب تسمى. الأسود أخضر، يريدون بذلك سواد الجلد، والمراد بسواد الجلد انهم عرب خلص.

و يمدح المحافظون على الوفاء بالعهد والمتمسكون بالودّ، والمحامون على عوراتهم الذابّون عنها. ويعبر عنهم ب "أهل الحفاظ".

التفاخر

والتفاخر، وهو التعاظم، من أهم مظاهر الحياة الاجتماعية عند أهل الجاهلية وفي الكتب العربية أمثلة كثيرة من تفاخر الجاهليين بعضهم على بعض، وتباهيهم بالأشياء الخارجة عن الإنسان و التمدح بالخصال. وتكون المفاخر بالآباء والأجساد، وبالسيادة والشرت، وبالكثرة، و بالحسب والنسب، حتى انهم انطلقوا في بعض الأوقات إلى القبور فكانوا يشيرون إلى القبر بعد القبر، و يقولون: فيكم مثل فلان ومثل فلان? وفي ذلك نزلت الآية: )ألهاكم التكاثر حتى زُرْتم المقابر، كلاّ سوف تعلمون، ثم كلاّ سوف تعلمون(. فذكر إن حيين من قريش، بني عدنان و بني سهم، تكاثروا بالسيادة والأشراف، فقال كل، حيّ بهم: )ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر(. وقيل: إن قبيلتين من قبائل الأنصار، تفاخروا وتكاثروا، فقالت إحداهما: فيكم مثل فلان وفلان? وقال الآخرون مثل ذلك. تفاخروا بالأحياء، ثم قالوا: انطلقوا بنا إلى القبور، فجعلت إحدى الطائفتين تقول: فيكم مثل فلان يشيرون إلى القبر، وقال الآخرون مثل ذلك. فأنزلت: "ألهاكم التكاثر".

وتقع المفاخرات بحضور محكمين في الغالب، أو طرف ثالث محزم، وعلى الطرفين قبول الحكم و إطاعته، وسماع رأي الطرف الثالث في حجج وأقوال المتخاصمين المتفاخرين. وتكون المفاخرة بإظهار كل طرف ما عنده من خصال يفاخر بها، ومن مناقب يستأثر بها، ومن مجدٍ يرى انه انفرد به دون خصمه، ثم يذكر ما امتاز به على خصمه، بكلام منثور ومنظوم، منسق منمق، وما قام به من أعمال فريدة، وما حصل عليه في حروبه مع الناس. وبعد إن يفرغ المتفاخرون من إِلقاء ما عندهم من حجج وبيان، ينظر المحكمون في الحجج التي استمعوا إليها، ليبدوا حكمهم بموجبها ويكون حكمهم أصعب شيء يواجهونه، لما يتركه من أثر في نفوس المتخاصمين، ولما سيكون له من تأثير في مكانة من سيخسر المفاخرة.

ويقال للمفاخرة "المنافرة" و "المنافرة" المحاكمة في الحسب، وان يفتخر الرجلان كل واحد منهما على صاحبه، ثم يحكمّا بينهما رجلاً، كفعل "علقمة بن علاثة" مع "عامر بن طفيل" حين تنافرا إلى "هرم بن قطبة الفزاري"، و فيهما يقول الأعشى بمدح "عامر بن الطفيل" و يحمل على "علقمة ابن علاثة": قد قلت شعري فمضى فيكما  واعترف المنفور للنـافـر

وقد نافر "أنيس" أخو "أبي ذرّ الغفاري" شاعراً على شعره، إذ كان يرى انه أجود منه شعراً. وتكون المنافرة في كل شيء، يرى إنسان انه يفوق به غيره، كالمنعة والعزّ والجاه والكرم وما شاكل ذلك من خصال. قال "ابن سيده": "وكأنما جاءت المنافرة في أول ما استعملت انهم كانوا يسألون الحاكم: أبنا أعز نفراً?".

و "النفار" إن يتنافروا إلى حاكم يحكم بينهم. و "النفورة" الحكومة.

وورد "يوم نفورة": أي يوم حكومة، حكم فيه بالنفار.

ومن ا لمفاخرات، مفاخرةُ وفود ربيعة ومضر ابني نزار عند النعمان بن المنذر. فكان فيمن قدم عليه من وفود ربيعة "بسطام بن قيس" و "الحوفزان بن شريك". و فيمن قدم عليه من وفد مضر من قيس بن عيلان "عامر بن مالك" وعامر بن الطفيل. ومن تميم قيس بن عاصم، والأقرع بن حابس. ومفاخرة "آل حذيفة بن بدر" و "آل الأشعث بن قيس الكندي" عند كسرى. وهم من أعرق الأسر في أيامهم، وأشرفها. وقد عَجب "كسرى" بذكائهم وبحدة أذهانهم. ومفاخرات أخرى مدوّنة في الكتب.

ومن مفاخرات أهل الجاهلية، منافرة "عامر بن الطفيل" مع "علقمة بن، علاثة" المذكورة، ومنافرة "بني فَزَارة". و "بني هلال"، ومنافرة "الفقعسي" و "ضمرة"، و منافرة "جربر البجليّ" و "خالد بن أرطاة الكلبيّ" ، ومنافرة "القعقاع بن زُرارة بن عدس" و "خالد بن مالك ابن رُبعي بن سلم بن جندل بن نهشل" ومنافرة "هاشم بن عبد مناف" و "أمية بن عبد شمس".

"ومن المنافرات، منافرة "عامر بن أحيمر" عند "المنذر بن امرئ القيس ابن ماء السماء". فقد ذكر إن "المنذر" أخرج بُردَين يوماً يبلو الوفود، وقال: ليقم أعز العرب قبيلة، فليأخذهما. فقام "عامر بن أحيمر" فأخذهما وائتزر بأحدهما وارتدى بالآخر، فقال له المنذر: أ أنت أعز العرب قبيلة? فقال: العز والعدد في معدّ، ثم في نزار، ثم في مضر، ثم في خِنْذف، ثم في تميم، ثم في سعد، ثم في كعب، ثم في عوف، ثم في بهدلة، فمن أنكر هذا فلينافرني، قسكت الناس، فقال المنذر: هذه عشيرتك كما تزعم، فكيف أنت في أهل بيتك وفي نفسك? فقال: أنا أبو عشرة، وأخو عشرة و خال عشرة، وعم عشرة، و أما أنا في نفسي، فشاهد العز شاهدي، ثم وضع قدمه على الأرض، فقال: من أزالها عن مكانها، فله مئة من الإبل. فلم يقم إليه أحد من الحاضرين، ففاز بالبردين، وعرف ب "ذي البُرديَن".

وطالما كانت تؤدي هذه المفاخرات إلى وقوع حروب وسفك دماء، ولذلك أبطلها الإسلام، ونهى عنها? وعدّها من شعار الجاهلية.

والمساجلة في معنى المفاخرة، بأن يصنع مثل صنيعه في جري أو سقي. وتساجلوا بمعنى تفاخروا. ذكروا إن أصل المساجلة: إن يستقي ساقيان، فيخرج كل منهما في سَجْله ع مثل ما يخرج الآخر ج فأيهما نكل فقد غلب، فضربته العرب مثلا للمفاخرة، فإذا قيل فلان يساجل فلاناً فمعناه انه يخرج من الشرف مثل.ما يخرجه الآخر، فأيهما نكل فقد غلب.

وتعرف "المفاخرة" ب "المُباهاة" أيضاً. فيقال: تباهوا إذا تفاخروا. ، و أما إذا صايحه، فيقال هاباه. وذلك بأن يذكر كل متباه مناقبه ومناقب قومه، يتفاخر بها على خصمه. وطالما أدت المباهاة إلى وقوع خصومات ومعارك.

ومن مفاخر العرب التفاخر بمن برز عندهم في عمل فذّ وفي عمل خصال كريمة، أو قام بفعل استحق الإعجاب. فكانت القبائل تتفاخر بذكر أسماء هؤلآء، وتحفظ أسماءهم للتباهي بهم، كما تفعل الدول في التباهي برجالها. ومن مفاخرهم: الفروسية، فعدّ "الحوفزان" مثلاً وهو "الحوفزان بن شريك" فارس بكر بن وائل.

وافتخروا ب "الأصم عمرو بن قيس"، ولقب عند المتفاخرين به ب "صاحب رؤوس بني تميم"، وافتخروا ب "مفروق بن عمرو" "حاضن الأيتام" والظاهر انه كان يحن على الأيتام ويعطف عليهم، لذلك لقب بهذا اللقب، وافتخر ب "سنان بن مفروق"، الذي عرف ب "ضامن الدمن". كما افتخر ب "عمران بن مرة" لأنه أسر "يزيد بن الصعق" مرتين.

الخيلاء

وقد عرف بعض الجاهليين بالخيلاء والزهو والتغطرس. وقد اعتبرها الإسلام من سمات أهل الجاهلية. وقد اشتهر "سماك بن خرشة الأنصاري" بمشية خاصة به، فيها تبختر و خيلاء؛ حتى عرفت ب "مشية أبي دجانة". والتبختر هي مشية العجب والخيلاء. و كانت من مشية بعض المغرورين المترفين من أصحاب الجاه والمال.

الهجاء

والهجاء عكس المدح، وهو ذم الشخص والانتقاص منه و شتمه. و قد نبغ فيه بعض الشعراء، وتخصص به، ويجب إن نقف منه موقف الحذر الشديد، لما للعواطف والهوى من أثر فيه. وقد يهجو شخص شخصاً أو قوماً لسبب تافه، أو بسبب حادث وقع له لا يستوجب صدور ذلك الهجاء منه. وهناك أشخاص جبلوا على ازدراء الناس وشتمهم والانتقاص منهم، فهجوا أكثرهم، بل بلغ بهم الهجاء حدّاً حملهم على هجو أقاربهم وأهلهم، بل أنفسهم في بعضن الأحيان.

ويستحق الهجاء من اتصف بسوء الخصال، واتسم بأخلاق الأرذال، والأنذال، وجعل اللؤم جلبايه وشعاره، والبخل وطامر ودثاره. وقد حفظ الرواة بعض الأشعار التي قيل إنها كانت من أهجى أشعار العرب في الجاهلية وفي الإسلام. وذكر إن من شعر الهجاء المرّ القاسي قول الأعشى: تبيتون في المشتى ملاءً بطونكم  وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا

وقوله في الزبرقان بن بدر: دع المكارم لا ترحل لبغيتـهـا  واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

وقول الطرمّاح:

تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا  و لو سلكت طرق المكارم ضلّت

إلى غير ذلك من شعر، يجب إن نأخذه بحذر. وان نعالجه دائماً على انه يمثل العواطف الشخصية والانفعالات النفسية، والتهيج الآني. وان شعراً من هذا القبيل لا يمكن إن يحمل محمل الصدق، وان نقول عنه انه يعبر عن الواقع. بل نأخذه كما سبق إن فكرت عن شعر المديح على انه تعبير عن نوع من أنواع الأدب في ذلك الوقت. وعلى انه باب بحب إن يدرس من الوجهة النفسية، لأنه يفيد في الوقوف على النفسية العربية و العقلية الجاهلية في ذلك الوقت.

ولم يكن الهجاؤون يراعون الصدق في كلامهم، وكيف يراعونه وهم يريدون هجو خصومهم والإساءة إليهم والى سمعتهم بأية طريقة ووسيلة كانت، حتى وان علموا إن سامعي الهجاء لا يصدقونه. ومن هذا القبيل رمي بعض القبائل أو الأُسر بأنها من أصل أعجمي، وفي كتب الأخبار أمثلة عديدة على ذلك، وقد يكون ذلك بسبب وجود دم أعجمي من أم أو من أب بعيد أو قريب، وقد لا يكون أي أثر من ذلك. شتم "عمرو بن الأشم" "قيس بن عاصم"، فقال له ولقومه: إن تبغضونا، فإن الروم أصلكـم  والروم لا تملك البغضاء للعرب

وقد عير "حسان بن ثابت" "بني المغيرة" وسبهم بأنهم عبيد قيون، أبوهم قين لدى كيره" جاثم. يأخذون "الاهالة"، وهو الدهن الذي يستخرج من اللحم، ويبيعونه من الدباّغين. فما ذكره فيهم هو من أعمال العجم والصعاليك، لا العرب الأصلاء و الأقحاح.

وذكر إن "الوليد" المعروف ب "الوليد بن المغيرة" لم يكن عربياً، و إنما كان عبداً رومياً، وكان اسمه "ديم"، واسم أبيه. "صقعب"، فرغب فيه "المغيرة"، فادّعاه، والحق صقعباً بالشام، فاشتاق إليه، فصوره في الحائط. وقد هجاه "حسان بن ثابت"، فقال له إن والدك "صقعباً" كان قيناً، و أما أمك فهي "حباشة"، وهي عبدة سوداء. وقد تباهيتَ إذ صرت غنياً، و إنما صرت ثرياً بكلبتك هذه، وهي آلة من آلات الحدادين، يشير بذلك إلى انه كان حداداً، يعرف ضرب النصال، وحسن الرقع للبرم. وهي القدور. ويظهر من شعر حسان ومن شرح الشرّاح إن "الوليد" كان مصهوّراً ماهراً متمكناً من فنه، حتى صور اباه، إن صح هذا الادعاء من " حسان".

ولحسان بن ثابت هجاء شديد لثقيف، قال في بعضه خلوّا "معداً" ولا تنتسبوا إليها، واتركوا "خِنْدفاً"، فما لكم من ولادة فيها، وذلك على عاداته وعادة الشعراء والناس عند هجاء قوم، حيث يرمونهم بكل قبيح، ويجردونهم من كل مكرمة، إلا انه لم يصرح في شعره بأنهم من ثمود، إذ كانوا وقت هجاء "حسان" إياهم من "قيس". وقد نسبهم بعضهم إلى "الفهود بن بني جائر بن إرم، اخوة ثمود"، ونسبهم آخرون إلى "وحاظة" بن حمير ؛ وقال آخرون إن "ثقيفاً"، هو عبد كل ذلك نكاية بثقيف.

وذكر أهل الأخبار إن "الازرق"، وهو غلام رومي في الأصل كان للحارث ابن كلدة الثقفي. وقد ادعى نسله إن "الأزرق" هو ابن "عمرو بن الحارث ابن ابي شمر الضاني"، فهم من غسان. وذكر انهم ادعوا في أول آمرهم انهم من تغلب، ثم من بني عكب؛ ثم أفسدتهم خزاعة، ودعوهم إلى اليمن، وزينوا لهم ذلك، وقالوا: انتم لا يغسل عنكم ذكر الروم إلا إن تدعوا إنكم من غسان. فانتموا إلى غسان بعد.

وقد عَيَّرت العرب وسبَت من كان ذا أصل خامل، كأن يكون قينا، والقين العبد والحداد. ولعلها جمعت هذا المعنى من الرابط بين الحرفة والمنزلة، فقد كلبن القيون من العبيد. وقد عيّر "حسان بن ثابت" "بني عوف بن عوف" بأنهم منتسبون إلى قريش، ولكن نسبهم ليس منهم، بل من جذع قين لئيم العروق عرقوب والده اصهب. فرماهم بأنهم ليسوا من قريش، ولا من العرب، بل من الروم، ووالدهم اصهب به حمرة، وليست الصهبة من لون العرب. وقال لهم: ولذا أردتم الانتساب إلى العرب، فانتسبوا إلى "تغلب"، انهم شرّ جيل، وليس لكم غيرهم مذهب. ويبعث قول "حسان" هذا في "تغلب" على الظن بان أقواماً من الغرباء دخلوا في تغلب، وصاروا منهم. ولعله قصد إن من تنصر، دخل في تغلب، حتى دخل فيهم من ليس من العرب بسبب نصرانيته، حتى دخل فيهم قوم أصلهم من الروم.

و عُير ب "أولاد درزة م، ويراد بهم الغوغاء. وبنو درز: الخياطون و الحاكة، والعرب تقول للدعيّ: هو ابن درزة وابن ترني. وذلك إذا كان ابن أمةٍ تُساعي، فجامت به من المساعاة، ولا يعرف له أب، وقال: هؤلاء أولاد درزة وأولاد فرتني. للسفلة و السقاط.

والسب: الشتم، والسباب: الشتائم والمشاتمة. و أما "السبّة" فالعار. و كانوا يتشاتمون جماعات و فُرادى، و يعير بعضهم بعضاً وقد يقذعون في السب، ولا سيما في الأمور إلى تتغلب فيها العواطف، على العقل.

ومن شتائم الجاهليين وسبابهم "عضضت بأير ابيك"، ويا ابن الزانية، ويا ابن الفاعلة، و "يا عاض اير أبيه، و "يا مصفر أُسته"، و "يا ابن ملقى ارحل الركبان".

و عيرت العرب بالبخل. و البخل هو على نقيض الكرم. وقد ذُمّ بعض الجاهلين لبخلهم ولحرصهم الشديد على مالهم وعدم مساعدتهم للفقراء. و المحتاجين. وقد انتخبوا من بينهم رجلاً زُعم انه ابخل الناس في الجاهلية اسمه "مادر"، "بخل مادر" و "ابخل من مادر". وهو رجل من "بني هلال بن عامر". ذكر انه كان إذا أتى ماءً روي وأروى، ملأه مدرا ضنا على غيره بوروده. وانه بلغ من بخله انه سقى ابيه، فبقي في الحوض ماء قليل، فسلح فيه ومدر الحوض بالسلح، أي لطخه. وورد في الأمثال: "ألأم من مادر".

وعّيرت بالغدر. قال بشر: رَضِيعَةُ صَفْحٍ بالجباه ملـمةُ  لها بَلَقٌ فوق الرؤوس مشهَّرُ

وصفح رجل من "بني كلب برت وبرة"، جاور قوماً من "بني عامر"، فقتلوه غدراً. يقول غدرتكم ب "زيد بن ضباء الاسدي"، اخت غدرتكم بصفح الكلبي.

و عيرت من ينكر الصنيع الجميل و الفعل الحميد، فينسى احسان من احسن له. وعيرت من لا يفي، ولا سيما من أكل الخبز والملح، وهما من موجبات الوفاء، فقالوا: "ملحه على ركبتيه"، في عدم الوفاء.

وإذا سبت العرب أحد الموالي، قالت: يا ابن حمراء العجان، أي يا ابن الأمَة. كلمة تقولها في السبّ والذمّ. والعرب تسميّ الموالي: الحمراء. وكانوا يعيرون "الأتاوي"، و هو الغريب في غير موطنه، ولا يعدلون أحداً من الأتاويين باصحاب المحلات. قال الشاعر: لا تعدلن اتاويين قـد نـزلـوا  وسط الفلاة باصحاب المحلات

وقالت امرأة من الكفّار، وهي تحرض الأوس والخزرج، حين نزل فيهم النبي: أطعتم أتاويّ من غيركـم  ظلا من مرُاد ولا مذحج

أرادت إن تؤلب وتذكي العصبية.

وكانوا إذا أرادوا الاستهزاء برجل جاهل سفيه، قالوا له: هذا من اشد سباب العرب، أي إن يقول الرجل لصاحبه إذا استجهله يا حليم! أي أنت عند نفسك حليم وعند الناس سفيه.

ويعيَّر الإنسان بأبويه، أو بأحدهما، إذا كان بهما أو بأحدهما مثلبة ومنقصة يؤاخذ عليها، كان يكون ابن أمة أو ابن سبي بيع في السوق. وقد رأينا انهم كانوا يزدرون الهجين، ولا ينظرون إليه نظرتهم إلى إنسان صريح، كما كانوا يزدرون منَ أمه أو أبوه من أصحاب الحرف. و قد عيِّر "النعمان بن المنذر" لأن أمه "سلمى" كانت ابنة قَينْ، على زعم بعض الرواة. وكانوا إذا شتموا ابن امة، قالوا له: يا ابن آستها.

وقد كان للجاهليين أعراف في إهانات الناس، من مثل سب الشخص على ما ذكرت، وتحريض الأطفال على العبث بمن يريدون اهانته، ورميه بالحجارة والركض خلفه، وبأمثال ذلك، أو بتحريض السفهاء على التحرش بالشخص، أو تحريض النسوة بسبِّه، وبالإقذاع في كلامهم معه، وبما شاكل ذلك من وسائل دنيئة لا تنم على قدرة المحرض ولا على جرأة عنده، فيعمد إلى أمثال هذه الأمور.

و أما المقتدرون المتمكنون، فكانوا إذا أرادوا إهانة إنسان أهانوه بأسلوب يدلّ على قدرة المهين وتمكنه من مُهانه وازدرائه، فكان أحدهم إذا تمكن من عدوّه، عد إلى إهانته بنتف لحيته. و نتف اللحية من الإهانات الشديدة عند العرب، لأن اللحية من سيماء الرجولة، فإذا نتفت عدّ نتفها انتقاصاً من شأن ذلك الرجل، وازدراءً شديداً به.

وما يقال عن الإهانة التي توجه إلى الرجل بنتف لحيته، ينطبق كذلك على

"جز الناصية". فجزّ الناصية من وسائل التحقير والازدراء، و فيه دلالة على ازدراء مَنْ جَزَّ الناصية بمن جُزّت ناصيته، بعد إن تمكن منه. وقد كان في إمكانه استرقاقه، أو المنّ عليه بفك أسره، أو بفك رقبته بفدية، ولكنه لم يفعل كل ذلك، ولم يطمح في الفدية إمعاناً في ازدراء خصمه بإفهام الناس إن ذلك الشخصر لا يساوي شيئاً، وان المتمكن ارفع من إن يقبل فدية عن رجل وضيع خامل.

وكانوا إذا ذكروا خصومهم، تمنوا لهم الشرّ والأذى، واستعملوا جملاً فيها هذه المعاني. مثل: أخس الله حظه، وأبعده الله وقبحه، أو رضيع اللؤم، أو ابعد الله دار فلان، وأوقد ناراً في أثره، وقد يذكرونهم بهزء وسخرية. ويكثر ذلك عند أهل القرار.

ومن معاني الشتم لفظة "لحى"، اليّ تعتي "شتم". يقال "لحى الله فلانا"، أي قبحه ولعنه. و "الملاحاة" المنازعة وفي المثل من لاحاك، فقد عاداك.

وكان من دعاء بعضهم على بعض قولهم: "حبناً و قداداً". والحبن الاستسقاء، والقداد، وجع في البطن.

وكان إذا دعا الرجل على صاحبه، يقول: قطع الله مطاك. فيقول الآخر: بسلاً بسلاً، أي آمين آمين. وكان يحلف الرجل ثم يقول بسل، أي: آمين. وكان "عمر" يقول في دعائه: آمين وبسلاً، أي إيجاباً و تحقيقاً. وهي في معنى الويل، يقال: بسلا له أي ويلاً له.

وكانوا إذا ما أرادوا التكنية عن الكذاب، قالوا: "أبو بنات عبر". و "بنات عبر" الكذب والباطل.

الخسة و الدناءة

والخسة والدنامة، والخسيس الدنيء والحقير. والدنيئة النقيصة. والسنية الخصلة المذمومة. وهي من المثالب التي تكون في الإنسان. فيزدرى من شأنه ومحتقر بين قومه. ومنها الحسد واللؤم وعدم احترام العرض. والعرب، تتنخى من الدنايا و تستنكف منها.

والحسد من الصفات السيئة التي كرهها العرب. وقد كان الحسد إذ ذاك كثيراً، بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية وانتشار الفقر. فكان الفقير يحسد غيره على ما عنده، مهما كان ما عنده قليلا، لأنه لا يملك حتى هذا القليل. وقد بحث "الجاحظ" في الحشد، ووضع رسالة فيه دعاها: كتاب فصل ما بين العداوة والحسد. والحسد عنه شيء مألوف يقع لكل طبقة ولكل إنسان. ومن أسبابه: حبّ الرياسة، ووجود النعمة، و أمور أخرى ذكرها و تحدث عنها. كما تكلم عن مظهر الحسد و أشكاله عند الجاهلين والإسلاميين، وقد جعله فوق العداوة، لأن العداوة تزول بزوال أسبابها، أما الحسد، فإنه دائم باق.

و "الج بن"، من الصفات التي يعير "الجبان" بها. وهو الذي لا يحب القتال ولا يستعمل سيفه. ولما كانت الحياة عند للعرب حياة قتال صارت الشجاعة في الإنسان صفة من صفات التكريم والتعظيم والتقدير، عكس "الجبن"، وينظر الناس إلى "الجبان" نظرتهم إلى النساء، بل هو عندهم دونهن شأناً. لأن المرأة ولدت وفي طبعها اللين والاستسلام، أما الرجل فقد خلق للعراك والقتال، وقد حفظ أهل الأخبار قصصاً عن الجبناء وعن، تحايلهم في سبيل تخليص أنفسهم من القتال ومن استعمال السيف. وقد اتهموا بتهم منها: انهم كانوا ينتابهم "الضراط" عند شعوبى هم بخوف و بأصوات السيوف. حتى، استخفت النساء بهم من أجل ذلك. قيل في المثل: أجبن من المنزوف ضرطاً. ومن ذلك إن نسوة من العرب لم يكن لهن رجل، فتزوجت إحداهن رجلا كان ينام الصبحة، فإذا أتينه بصبوح، قلن قم فاصطبح، فيقول: لو نبهتُنَّي لعادية، فلما رأين ذلك. قال بعضهن لبعض: إن صاحبنا لشجاع، فتعالين حتى نجربه، فأتينه كما يأتينه، فأيقظنه. فقال: لو لعادية نبهتني. فقلن هذه نواصي الخيل. فجعل يقول: الخيل الخيل و يضرط ، حتى مات. إلى غير ذلك من قصص يروج الأخباريون.

الشرف و الخمول في قبائل العرب

و القبائل كالأفراد والأُسر، فيها النابه المذكور المهاب، وفيها الخامل الهزيل الضعيف الذي لا ينظر إليه نظرة تقدير وتبجيل. والقبيل الكثير الذرَّء والفرسان والحكماء و الأجواد والشعراء، و كثير السادات في العشائر، وكثير الرؤساء في الأرحاء، هو القبيل المقدر المعظم، ذو الشأن بين القبائل. وقد تقع أحداث وعوامل، تؤدي إلى خمول القبيل والى انفصام وحدته، و إلى طمع غيره فيه، فيهزل عندئذ ويخمل، ويأخذ مكانه من هو أقوى منه. وقد ذكر "الجاحظ"، إن القبيل الذرء و العدد، والذي لا يكون فيه خير كثير ولا شرّ كثير، يخمل و يدخل في غمار المرب، ويغرق في معظم الناس، وصار من المغمورين ومن المنسيين، وسلم من ضروب الهجاء ومن أكثر ذلك؛ و سلم من إن يضرب به المثل في قلة ونذالة إذا لم يكن شرّ، وكان محلّهم من القلوب محلّ من لا يغيظ الشعراء، ولا يحسدهم الأكفاء... و إذا تقادم الميلاد ولم يكن الذرء وكان فيهم خير كثير وشرّ كثير، ومثالب ومناقب، لم يسلموا من إن يهجوا ويضرب بهم المثل... وقد يكون القوم حلولاً مع بني أعمامهم، فإذا رأوا فضلهم عليهم حسدوهم، وان تركوا شيئاً من أنصافهم اشتدّ ذلك عليهم، وتعاظموا بأكثر من قدره، فدعاهم ذلك إلى الخروج منهم إلى أعدائهم. فإذا صاروا إلى آخرين نهكوهم وحملوا عليهم، فوق الذي كانوا فيبه من بني أعمامهم، حتى يدعوهم ذلك إلى الندم على مفارقتهم، فلا يستطيعون الرجوع، حميّة واتقاء، ومخافة إن يعودوا لهم إلى شيء مما كانوا عليه، و إلى المقام في حلفائهم الذين يرون من احتقارهم، ومن شدة الصولة عليهم".

وقد ذكر "الجاحظ"، إن مما تبتلى به القبائل فيصيبها الخمول: الشعر و نبوغ الأقارب أو المنافسين. فالشعر عند العرب يرفع من قدر الناس ويحطّ من درجاتهم. فقد يقال بيت واحد يربطه الشاعر في قوم ليس لهم جاه، فيرفع من شأنهم، وفد يقال بيت واحد في قوم لهم النباهة والعدد والفعال، فيغض من مكانتهم، ويكون سبّة لهم. ولأمر ما بكت العرب بالدموع الغِزار من وقع الهجاء، كما بكى مخارق بن شهاب، وكما بكى علقمة بن عُلاثة، وكما بكى عبد الله بن جُدعان، والبلية الأخرى: إن يكون القبيل متقادم الميلاد، قليل الذرء قليل السيادة، وتهيّأ إن يصير في ولد أخوتهم الشرف الكامل والعدد التام، فيستبين لمكانهم منهم من قلتهم وضعفهم لكلّ من رآهم أو سمع بهم، أضعاف الذي هم عليه لو لم يكونوا ابتلوا بشرف أخوتهم.

و من شؤم الأخوة إن شرفهم ضعة إخوتهم، ومن يمن الأولاد إن شرفهم شرف من قبلهم من آبائهم ومن بعدهم من أولادهم. ولذلك كانت القبائل تفخر بنبوغ الشعراء بها، لأنهم لسانها الذابّ عنها، وسيفها المصلت على رقاب الأعداء. وتتباهى بما يقوم به ساداتها من فعال حميدة وأعمال مجيدة ترفع رأس أبناء القبيلة بين الناس.

ولأهمية الشعراء عند الجاهليين، قال بعض العلماء: كلاب الحيّ شعراؤهم، وهم الذين ينبحون دونهم، ويحمون أعراضهم. وفي هذا المعنى جاء قول عمرو بن كلثوم: وقد هرَّت كلابُ الحيّ منّا  و شَذَّبنا قتادة من يلـينـا

الإسلام والجاهلية

وقد أبطل الإسلام كل سمة من سمات الجاهلية وعلامة من العلامات التي كانت تعدّ من صميم حياة الجاهليين. وفي جملتها المثل الأعرابية والحياة البدوية، فاعتبر الأعرابية بعد الإسلام ردة ر ونهى عن الهجرة من المدن إلى البوادي، فكان الأعرابي إذا دخل في الإسلام، لزم الحضارة، وكلّف بواجب الجهاد في سبيل نشر الإسلام، لما في التبدي والأعرابية من ابتعاد عن الجماعة وترك للواجب الملقى على المواطن في الدفاع عن الإسلام وفي العمل على إنهاض المجتمع والإنتاج. في سبيل الخير العام. لذلك لام الناس "أبا ذر الغفاري"، حين لجأ إلى "الربذة" فأقام، بها وتعزب بذلك عن الجماعة.

وفي جملة ما حاربه الإسلام من أمور الجاهلية الأصنام والأوثان، فطُمست وأزيلت معالمها، بل غير أموراً أقلّ منها شأناً وخطباً، مثل: خضرمة النوق. وكان أهل الجاهلية يخضرمون نعمهم، فل جاء الإسلام أمروا إن يخضرموا من غير الموضع الذي تخضرم منه أهل الجاهلية. وذلك منعاً من التشبه بالجاهليين، و إبعاداً للمسلمين عن تذكر أيام ما قبل الإسلام. ونهى عن تسنيم القبور وعن لبس بعض الملابس، وعن أمور أخرى، لأنها كانت من صميم أعمال الجاهليين.

وحارب الإسلام، للعصبية التي كانت من أهم سمات الجاهلية، و التي بقيت مع ذلك كامنة في نفوس الناس. عصبية القبائل وعصبية القرى والمواضع. من ذلك ما كان بين يمن و أهل مكة من نزاع، تحول إلى نزاع قحطان وعدنان. فعير أهل مكة اليمن بأنهم قيون، و أجابهم أهل اليمن بكلام غليظ شديد. هذا "أمية بن خلف" يهجو حسان بن ثابت بقوله: أليس أبوك فينا كـان قـينـاً  لدى القينات، فسلاً في الحفاظ

يمـانـياً يظـلّ يشـدّ كِـيِراً  وينفخ دائباً لهـب الـشـواظ

وهذا "حسان" يجيبه ويرد عليه في شعر مطلعه: أتاني عـن أمـيّة زُورُ قـولٍ  وما هو في المغيب بذي حفاظ

وطالما ظهرت هذه العصبية في أيام الرسول، بتنازع الأنصار وقريش وتفاخرهم بعضهم على بعض. وذكر إن في جملة أسباب تحريم الخمر، إن رجلا من الأنصار صنع طعاماً، فدعا جمعاً من الأنصار وقريش، وشربوا الخمر حتى انتشوا، فتفاخرت الأنصار وقريش، فقالت الأنصار: نحن أفضل منكم. وقالت قريش نحن أفضل منكم، و تخاصموا، فبلغ ذلك الرسول، فنزل الأمر بتحريم الخمر.

وفي جملة ما نهى الإسلام عنه "دعوى الجاهلية" من التفاخر بالأحساب والأنساب والتباهي بالمال والبنين والأموات، و تحريم بعض الطعام والشراب والعادات الاجتماعية والأوضاع الاقتصادية على نحو ما رأينا فيما تقدم، وما سنراه فيما بعد.

قد ترك المسلمون أموراً كثيرة أخرى مما كان مستعملاً في الجاهلية، فمن ذلك تسميتهم للخراج إتاوة، و كقولهم للرشوة ولما يأخذه السلطان: الحُملان والمكس. و كما تركوا: أنعم صباحاً، وأنعم ظلاماً، وصاروا، يقولون: كيف أصبحتم? وكيف أمسيتم? كما تركوا إن يقولوا للملك أو السيد المطاع: أبيت اللعن، وتركوا إن يقول العبد لسيده: ربي وان تقول حاشية الملك و السيد للملك وللسيد: ربنا. وكما تركوا إن يقولوا لقوّام الملوك السدنة، وقالوا: الحجبة. كما تركوا أشياء أخرى مثل المرباع والنشيطة و الصفايا، إلى غير ذلك، مما كان مستعملا في الجاهلية. فكره لذلك استعماله في الإسلام.

الفصل الثامن و الأربعون

الحياة اليومية

لا نستطيع إن نتصور وجود حياة يومية صاخبة أو متغيرة عند أهل الوبر، فحياة البادية في غاية البساطة ساذجة إلى أقصى حدّ من السذاجة. تذهب وتأتي على وتيرة واحدة ونمط واحد. فليس للرجل في البادية من عمل سوى رعي الإبل والإشراف عليها. وهو عمل لا يستوجب مجهوداً ولا يتطلب بذل طاقة، لذلك يعهد به إلى الأحداث في الغالب، أما الرجال، فليس لهم عمل مهم يذكر. لذلك يقضون معظم وقتهم جلوساً بغير عمل، أو في التحدث بعضهم إلى بعض. وحياة على هذا النحو تجعل الإنسان على الكسل والخمول. فصار الأعرابي خاملا كسولا على صحة جسمه وتوقد ذهنه وذكائه. يحسن الكلام و يجيد تنميق الحديث ويتلاعب في كلامه وفي أيجاد معان وحيل ومخارج له، ويسترسل في الخيال وفي التصور وفي شعوره الذي سبكه وصاغه في كلام موزون منظوم مقفىّ، وفي كلام مسترسل غير مقفى، وفي كل حرفة لسانية، أو تعبير عن شعور ذاتي صاحب والبطولة وما شاكل ذلك مما لا يحتاج إلى مجهود و عمل. أما النواحي العملية من الحياة، من نواحي التي تحتاج إلى جهد وعمل، فقد ترك أمرها لغيره، بل ازدراها وازدرى شأن من يعمل بها، واحتقر الحرف والصناعات، لأنها من عمل الأعاجم والعبيد. ورأى إن من العار إن يصاهر أهل الصناعات والحرف والزراعة، لأنهم دونه في المنزلة بكثير. وهو غير ملوم على نظرته هذه إلى العمل البدوي المجهد، فالإنسان عدوّ ما جهل معظم لما يكون عنده؛ كاره لما لا يملكه ويكون عند غيره. فقد حرمته الطبيعة من كل ما يحمله على بذل الجهد للاشتغال في صناعة أو حرفة أو زراعة، ولم تهيئ له البذور والمواد اللازمة لاقامتها، لذلك جهلها فحاربها وازدراها وازدرى شأن من يشتغل بها. كما سأتحدث عن ذلك في المواضع المناسبة لهذا البحث.

والبادية ارضون واسعة شاسعة جرداء في اغلب أيام السنة، خلا مواسم نزول الغيث وهي قليلة، وقد تنحبس. إذا أمطرت السماء ظهر "الربيع"، فتفرح الأرض وتكسى بخضرة تتخلها أوراد وأزهار وشقائق، ويضحك عندئذ وجهها، بعد يبوس و عبوس، ضحكاً يفهم الإنسان الحضري عندئذ سرّ تعلق الأعرابي بباديته. ففي البادية على ما فيها من شقاء وجفاف و يبوسة؛ سحر ينسي الإنسان صعوبة الحياة، وحلاوة تنسيه مرارة الأيام القاسية التي يعيشها البدوي في باديته. بعيداً عن الحضر وعن المجتمع المتكثف في مستوطنة أو قرية أو مدينة، بل بعيداً حتى عن أبناء عشيرته فمن طبيعة الصحراء إن قلبها لا يتقبل المجتمعات الكبيرة، بل يفضل المجتمعات الصغيرة المتناثرة. فصارت البيوت فيها متباعدة منتشرة هنا وهناك انتشار النجوم في السماء. كل بيت مسؤول عن حماية نفسه وعن وقاية أفراده من أذى الإنسان والحيوان، وعن حماية جاره وذوي رحمه وأبناء عشيرته. لأنه إن لم يفعل ذلك، لم بجد من يدافع عنه أيام الشدة والعناء، حتى صار الجار عنده بمنزلة الأهل والدار.

وحياة من هذا النوع هي حياة لا بد وأن تصير بسيطة جداً ساذجة إلى أقصى حدود السذاجة. أحاديثها اليومية تكرار واعادة، و أحاسيسها نسخة لأحاسيس اليوم الماضي و الأيام السابقة. وافق التفكير فيها محدود ضيق إذ لا مجال فيها للفكر إن يتفتق وأن يتفتح ويتوسع. ومن هنا طبعت الحياة العقلية والاجتماعية بطابع الفطرة والبساطة. وهي لا يمكن إلا إن تكون كذلك. وكيف تريد منها إن تكون غير ذلك، ومحيطها وظروفها هي على هذا النحو من الحدود والقيود!

وفي وسع الرجل بفضل ما أوتي من قوة ومن يسطة في الجسم، قطع المسافات لزيارة الأقارب والجيران، لقتل الوقت بالكلام معهم، أو للتحدث عن غزو سابق أو عن شؤون سيد القبيلة أو عن أشراف العشيرة أو للخروج إلى صيد لاصطياد ما قد بحده من حيوان مسكين، حَتَّم عليه سوء طالعه إن يولد في هذه الأرض الفقرة، فهو مثل الإنسان تائه بهذه الحياة في هذه البادية الواسعة المكشوفة الشحيحة، يشكو إلى خالقه من ظلم طبيعةٍ أنبتته في هذه الأرض الفقيرة، على حين زرعت غيره في غابات كثيفة ذات ظروف حياتية غنية، فيها من المأكول أشكال و ألون. يينما هو لا يكاد يجد أمامه شيئاً، حتى إذا اشتد عوده. واستوى، وقع في قبضة أناس جائعين، لا يقل جوعهم عن جوعه، فلا يخرج من قبضتهم أبدا. يتلذذون في أكله شواء، ويتحدثون عن صيدهم ويفتخرون به. وقد يكون الصيد ظبياً أو ضباً أو يربوعاً. ويفخرون بصيدهم لأنهم محرومون من اللحم، وكل ما تقع عليه عين المحروم من الأكل، هو أكل لذيذ دسم في نطر المحروم.

أما الأطفال فهم أطفال أينما وجدوا. لا يعرفون من أسرار الحياة وعنائها وشقائها شيئاً. همهم اللعب، يلعب الذكور مع الإناث، الأخوة مع الأخوات، فهم أطفال البيوت. وقد يلعب معهم أطفال جيرانهم، إذا كانت البيوت متقاربة. يلعبون ألعابا، هي من نتاج طبيعة أرضهم و محيطهم. لا يعبأون بحرّ ولا برد، ولا بريح أو بأشعة شمس محرقة وما الذي يفعلونه تجاه طبيعة قوية قهارة لم. تعطهم إمكانيات بناء بيوت من مدر يأوون إليها لحماية أنفسهم من أشعة الشمس لهم على الأقل. و إنما مكنت آباءَهم من صنع بيوت من وبر أو صوف أو شعر معز قد تقيهم من الأشعة بعض الوقاية، بأن تمنحهم شيئاً من ظل. ولكنها عاجزة عن حمايتهم من البرد ومن الحر ومن الغيث إذا نزل عليهم مدراراً. لا سيما إذا طال عهد هذه البيوت ولعب بها العمر، وصارت مهلهة بالية، ذات جيوب وشقوق كالغراببل، تعبث بها الرياح ساخرة من جهل هذا الإنسان القانع الراضي بحياته هذه على ما فيها من شظف وعسر و فقر، بينما هناك مجال واسع له لتحسين حاله، لو حرك نفسه واستخدم عقله وذراعه لتسخير الطبيعة في خدمته، لتحسين وضعه والترفيه عن نفسه ولو إلى حد.

الرجل

والرجل بحكم تفوق بنيته على بنية المرأة، وبفضل قوة عضلاته ومقاومته للطبيعة و للأخطار سيد الأسرة و "رب العائلة" و "بعل المراة"، أي سيدها. منح نفسه حقوقاً لم يعطها للنساء. وبنى مفاهيم العدل والحق على أساس إن العدل هو القوة، فاغتصب حق المرأة و البنت والولد والرجل العاجز لقوته ولأنه مقاتل، أما غيره من المذكورين فعاجز عن القتال، فحرمهم من الحقوق. ومنها حقوق الإرث، وأباح لنفسه حق الاستمتاع بملاذ الحياة، وفي جملتها الاستمتاع بالنساء وبالخمور وببقية الأطايب. فله إن يتزوج ما يتمكن من النساء، وجعل بيده حق الطلاق، وجوّز لنفسه الاتصال بأية امرأة شاء وان كان متزوجاً، وله إن يتسرى ما يشاء، وله غير ذلك من امتيازات وحقوق، بسبب قوته وتفوقه على الجنس الآخر وعلى المستضعفين من المخلوقات، لأن الحق للمخلوق القوي، ولا حق عند القوي لإنسان ضعيف.

اللحية

ومن الرجولة الشجاعة والأقدام وعدم المبالاة والمحافظة على مقومات الرجل وما منحته الطبيعة إياه من ملامح ميزته عن المرأة، وأهمها: اللحى. فاللحية عند العرب رمز الرجولة وزينتها وسيماء تكريم الرجل وتقديره. وإهانة اللحية عند العرب وعند الساميين هي من اعظم الإهانات التي لا تغتفر، وتقبيلها عندهم من علامات التقدير والاحترام والاجلال. ويعد نتف اللحية أو جزها أو حلقها إهانة كبيرة تنزل بصاحبها. يفعلها من يريد الازدراء بشأن الملتحي، ويعد عدم الاكتراث بتسوية اللحية من سيماء الحزن أو الغيظ أو المرض أو الارتباك وتضعضع الحال. وفي في التوراة إن في جملة الإهانات التي تلحق بالناس حلق أنصاف لحاهم. ويقسم باللحية، ويعدّ القسم بها من الإيمان المغلظة. يمسك بها الحالف بيده اليمنى فيحلف في انه لا يكذب أو انه سيفعل، أو-ما شابه ذلك. ولكن العادة إن الحلف بها يكون بإمساكها باليد، وإذا مدّ غريب يده على لحية رجل اكبر منه في المنزلة وللدرجة وأقسم بها أو استجار بها، وجب على صاحبها الأخذ بقسمه والاهتمام بأمره ومساعدته. وقد يمسك غريب محتاج أو مطارد بلحية سيد قبيلة أو شريف قوم، ويبين له انه في حماه ومنعته، وعلى الرجل بذل الحماية والمنعة له.

والعربي يكرم لحيته، ولا يحلقها، وتكون لحيته مدببة في الغالب على نمط اللحى الفرنسية. ويصرف بعض الوقت لإصلاحها حتى لا تكون متناثرة بشعة، وقد يعير الإنسان بلحيته، فيقال: له لحية تيس. وتنسب عادة إكرام اللحى إلى سنن إبراهيم. وقد تكون اللحية كثة كبيرة منتظمة. ويقال للرجل ذي اللحية الطويلة: "اللحياني" و "رجل لحيان".

ويحلف العربي بشاربه، فإذا أراد إعطاء عهد أو جوار أو أي عهد آخر واقسم بشاربه، وجب عليه الوفاء بعهده. ومن عادة العرب تخْيف الشارب، وقد تحف وتنسب هذه العادة إلى سنن إبراهيم، ومن السنن الأخرى تقليم الأظافر وحلق العانة. وذكر إن الرسول كان يقصى شاربه وأنه قال: قصوا الشوارب وأرخوا اللحى وخالفوا المجوس. وورد انه قال: "خالفوا المشركين ووفرو اللحى وأحفوا الشوارب".

ويعدّ قص الشارب من "الفطرة". وهي عشرة أو خمسة أمور. يذكرون إنها من سنن "إبراهيم ومن "تبعه من العرب. وفي جملتها الختان.

ويذكر العلماء إن الله ابتلى "إبراهيم" بسنن الفطرة، وهي التي ذُكرت في للقرآن في قوله تعالى: )وإذِ ابتلى إبراهيمَ رَبُّهُ بكلمات فأتَمَّهنّ"، وهي الكلمات العشر: خمس في الرأس، وخمس في الجسد. فأما اًلتي في الرأس فالمضمضة والاستنشاق وقصّ الشارب والفرق والسواك. وأما التي في الجسد فالاستنجاء وتقليم الأظافر ونتف الإبظ وحلق العانة والختان. فلماّ جاء. الإسلام، قررها سنة من السنن.

والعرب من أصحاب الشعور السوداء. وهم مثل غيرهم يفاخرون بشعر رئسهم، ويتركونه ينمو ولا يحلقونه على نهو ما كان يفعل اليهود والمصريون. وكانوا يدهنونه؛ ويمشطونه بالمشط، ويتركونه يتدلى على المنكبين. وقد يضفرونه ضفائر. ومنهم من يضفره ضفيرتين يجعلهما تتدليان على جانبي الوجه. وذكر إن العرب تسمي الخصلة من الشعر أو الضفيرة قرناً. ولهذا عرف "المنذر ابن ماء السماء" جدّ "النعمان بق المنذر" ب "ذي القرنين" لضفيرتين كانتا في قرني رأسه. والعرب تكني عن العربيّ بالجعد وعن العجمي بالسبط. والجعد من الشعر خلاف السبط، أو هو القصير منه. وهم يعن بذلك إن سبوطه الشعر هي الغالبة على شعور العجم من الروم والفرس، وجعودة الشعر هي الغالبة. علي شعور العرب. وكانوا إذا. قالوا رجلاً جداً عنوا رجلاً كريماً، كناية عن كونه عربياً سخيّاً، لأن العرب موصوفون بالجعودة. وقد يقصدون بذلك رجلا بخيلا لئيماً، فهو من الأضداد. وذكر إن العرب تقول: رجلاً جعداً، إذا كان قصيراً متردد الخلق. وإذا قالت جعد السبوطة، فإنها تريد بذلك المدح، إلا لن يكون مفلفلاً كشعر الزنج والنوبة، فهو حينئذ ذم

وكان الرسول يسدل شعره، ثم فرقه. والفرق إن بجعل شعره فرقتين كل فرقة ذؤابة. والسدل إن يسدله من ورائه ولا يجعله فرقتين. وذكر انه كان يضفره غدائر، والغدائر الضفائر،. وكان إذا طال شعره جعله غدائر أربعاً. وكان يكثر دهن رأسه ولحيته ويكثر القناع كأن ثوبه ثوب زَيّات. وكان يحب لترجّل، وكان يرجل نفسه تارة وترجله عائشة تارة. وترجيل الشعر تسريحه. وقد تقوم به المرأة. ويكون دلك بالمشط. قال امرىء القيس: كأن دماء الهاديات بنحـره  عصارة حَنّاء بشيب مرجّل

والعرب عادات بالنسبة إلى شعرهم. فهم إذا غضبوا وأرادوا الأخذ بالثأر، لم يغسلوا شعورهم وتركوا تدهينها حتى يأخذوا بثأرهم. كالذي رووه من قصة امرىء القيس، حينما جاءه خبر مقتل والده. وهم إذا أرادوا إذلال رجل وأهانته كإذلال سيد قبيلة أو شريف قوم سقط أسيراً، وأرادوا الإمعان في إذلاله جزّوا ناصيته وتركوه يذهب فذلك عندهم شرّ إذلال. والناصية مقدم الرأس.

ويستوي الرجل والمرأة في دهن شعر الرأس. ولا زال الأعراب يدهنون شعورهم على الطريقة القديمة. ويستعمل أغنياؤهم الدهون الجيدة المستوردة من الخارج. مثل "الزيت" المطيب بالعطور وبأنواع الطيب، يدهنون به شعورهم ولحاهم في أيام الأفراح بصورة خاصة وفي الأعياد. وكان الرومان واليونان يدهنون الجسم كله بالزيت. ويعدّ دهن شعر الرأس من علامات الفرح والسرور، وتركه من علامات الغم والحزن. وقد كان الصحابة يطلون شعر رأسهم ولحيتهم بالدهن ليزيلوا شعث رؤوسهم ولحاهم به.

ويضفر شعر الأولاد والبنات ضفائر، تتدلى على جاني الوجه ومؤخرة الرأس. وأما الرجال، فكان منهم من يضفر شعر رأسه ضفيرتين يتركهما تتدليان على جاني وجهه، ومنهم من يضفره جملة ضفائر، قد تبلغ سبعاً. وعادة ضفر شعر الرأس سبع ضفائر عابرة معروفة عند غير العرب أيضاً. وكان شعر "شمشون" المشهور مضفوراً في سبع خصل. ولا زال الأعراب يضفرون شعورهم. ويقال للضفيرة "الذؤابة". والذؤابتان اللتان تسقطان على الصدر. ويقال لهما "غديرتان". وكل عقيصة غديرة: قال امرؤ القيس: غدائره مستشزرات إلى العـلـى  تضل العقاصي في مثنىّ ومرسل

ولما قدم "ضِام بن ثعلبة" من "بني سعد" على الرسول، كان رجلاً جلداً أشعر ذا غديرتين. فلما ولى قال رسول الله: إن صدق ذو العقيصتين. ويقال لهما "القرنين" كذلك. والعرب تسمي الخصلة من الشعر القرن. والقرن الذؤابة عامة. ومنه: الروم ذات القرون، لطول ذوائبهم.

وهم مثل غيرهم من الناس يعتبرون.الشعر الأشيب إكليل مجد الشيخ، والشعر الأبيض رمزاً الحكمة والجلالة. وذلك بسبب إن تقدم العمر بالإنسان يكسبه خبرة وحكمة، لما يراه في حياته من تجارب وعظات. لذلك أقاموا للسن وزناً كبيراً في أخذ الرأي وفي التقدم في الدخول وفي الجلوس في المجالس.

ولم يكن شيوخ الجاهلية وشيبها أقل عناية بمظهرهم وبمرآهم من شيوخ هذا اليوم وشيبه، فحاولوا ما قدروا إخفاء شيبهم واطفاء لعب الزمان بشعرهم وبأوجههم بمختلف الوسائل والسبل، ومنها إخفاء الشيب بصبغه وباستعمال الخضاب، وبعضه أسود، كما خضبوا بالعِظْلم وبالحنّاءْ. وصبغوا لحاهم. ولم يهملوا العيون، فاكتحلوا لتظهر براقة مؤثرة. ولا تزال "الوسمة"، وهي خضاب أسود معروف، ويستعملها بعضن الناس اليوم.

وذكر بعض علماء اللغة إن الخضاب، اخفاء الشيب بالحنّاء.، وإذا كان بغير الحناء قيل: صبغ شعره، ولا يقال. خضبه. وذكر آخر إن أول من خضب بالسواد من العرب "عبد المطلب". وقد تعلمه من أهل اليمن. إذْ كان قد زارهم فوجد شِيبهم يخضبون شعورهم بالسواد، فأعطوه خضاب، فجاء إلى مكة، وعنه شاع الخضاب بين أهلها.

وقد استعملوا الزعفران في صبغ لحاهم وشعورهم. واستعملوا لون الزعفران في صبغ ثيابهم أيضاً. وذلك لغلاء ثمن "الزعفران" الطبيعي. كما استعمل "العصفر" في الصبغ، وهو من نبات ينبت في جزيرة العرب، إذا صبغ الثوب به قيل: عصفر الثوب به. كما استعملوا "الكتم" في تخصيب الشعر. وهو نبت يخلط بالحنّاء ويخضب بالشعر فيبقى لونه. وقد أشار إليه "أمية بن أبي الصلت" بقوله: وسوّدت شمسهم إذا طلعت  بالجلب هفاً كأنه كـتـم

والمكتومة: دهن من أدهان العرب أحمر، يجعل فيه الزعفران أو الكتم. وطبخوا الكم بالماء واستخرجوا منه مداداً الكتابة.

ويكون الخضاب بالحناّء، كما يكون بالحناء والكتم، كما ذكرت، وقد يكون بالحناء والوسمة. وتجعل الوسمة الشعر أسود فاحماً. وكل هذه من النباتات التي تنبت في الحجاز وفي اليمن وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب. وقد استعملوا "السواد" ويكون بالوسمة في الغالب لتسويد شعر الجارية والمرأة الكبيرة والشيخ للغش والتدليس، حتى إذا جاء سيّد لشراء جارية ظن أن شعرها على هذه الصورة من السواد، أو جاء رجل يطلب المرأة الكبيرة ظن أنها أصغر من عمرها، أو عرض الرجل الشيخ نفسه الزواج، ظهر أصغر من عمره. ونظراً إلى ما في هذا العمل من غش نهي عنه في الإسلام.

وخوفاً من أن يقملوا لبّدوا شعر رؤوسهم بالخطمي والصبغ. وقد عرف من يفعل ذلك ب "الملبد". وقيل: إن "الملبد " المحرم، الذي لبد شعره حتى لا يقمل، إذا دخله الغبار بعد العرق. وقد كان القمل قد عشش في آباط كثير من الناس، لا سيما الفقراء والأعراب منهم. وفي شعر رؤوسهم وفي المواضع المشعرة من أجسامهم، نظراً لسوء وضعهم من الناحية الاقتصادية وفقرهم: وعدم تمكنهم من غسل أجسامهم. وقد أشير إلى القمل والتلبيد في الشعر. ذكر أن القمل كان يتهافت من رأس "كعب بن عجوة بن عديّ" على وجهه، وكان محرماً، فرآه الرسول، فأمره أن يحلق رأسه وأن يطعم فرقا بين ستة مساكين.

وذكر أن التلبيد، أن يأخذ شيئاً من خطمى وآسّ وسدر، وشيئاً من صمغ، فيجعله في أصول شعره وعلى رأسه، كي يتلبد شعره ولا يعرق ويدخله الغبار، فيخمّ ويقمل.

وتطيّب الرجال بالطيب، ودهنوا شعورهم بالدهن المطيب. وكانوا يتطيبون إذا ذهبوا إلى زيارة بيت، وفي المجتمعات العامة كالمواسم والأفراح. وللرجال طيب يختلف عن طيب النساء.

وقد يرقن الرجل كما ترقن المرأة بالحناء وبالزعفران. يقال: أرقن الرجل لحيته ورقنها، أي خضبها بالحناء وبالزعفران. قال الشاعر: ومسمعة إذا ما شئت غنت  مضمخة الترائب بالرقان

والرقان والرقون الحناء والزعفران.

ويكثر العرب من حمل "العصا" معهم. إذ هي ضرورة بالنسبة لحياتهم. يستعينون بها في طرد الكلاب عنهم، ورد الحيوانات المتوحشة التي قد تصادفهم، كما يستعملونها في ضرب إبلهم حتى تطيع أوامرهم. حتى أنهم جعلوا العصا رمزاً لأمور عديدة. منها الطاعة والجماعة. ومنها "شق العصا" بمعنى مخالفة الجماعة. والعصا الجماعة. ومنها "القى المسافر عصاه"، أي بلغ موضعه وأقام. وضرب مثلا لكل من وافقه شيء فأقام عليه. ومنها "هو لين العصا"، أي رقيق لين حسن السياسة، و "هو ضعيف العصا"، أي قليل ضرب الإبل. و "إن العصا من العصية"، يقال ذلك إذا شبه بأبيه، أي: إن بعض الأمر من بعض.

كما حملوا القضب، وهي من علائم السلطة والقوة والحكم والنفوذ عندهم. وقد ورد في خبر أرسال رسول الله "عباس بن أبي ربيعة المخزومي" إلى "الحارث" و "مسروح" و "نعيم" بني عبد كلال من حمير، انهم كانوا يحملون قضباً معهم. وهي من الأثل:. قضيب ملمعّ ببياض وصفرة وقضيب ذو غُجرَ وكأنه خيزران، وقضيب أسود بهم كأنه من ساسم. وكان أحدهم إذا جلس وفكر في أمره، أو أراد الإجابة على سؤال يحتاج إلى عمل روية نَكَسَث الأرض بالقضيب الذي يحمله بيده.

المرأة

والمرأة في المحيط البدوي أنشط وأكثر عملاً من الرجل؛ فعليها تهيأة الطعام وحلب النياق وغسل الملابس وغزال الصوف والوبر، والعناية بالأطفال وتحضر مادة الوقود، إلى غير ذلك من أعمال لا يقوم بها الرجل، لأنها من عمل المرأة، ولا يليق بالرجل القيام بها.

ولم نقرأ في كتب أهل الأخبار ما يفيد سيادة النساء على القبائل، في الجاهلية القريبة من الإسلام. ولم نقرأ في المسند ما يفيد بوجود ملكات حكمن اليمن. بينما قرأنا في الكتابات الآشورية وجود ملكات عربيات حكمن قبائل. عربية، كانت تنزل البوادي من بادية الشام. ووقفنا أيضاً على حكم الملكة "الزباء". لتدمر وذلك بعد الميلاد. ولكننا نقرأ في أخبار أهل الأخبار أخبار كاهنات، كانت لهن مراكز خطيرة عند القبائل. وكذلك أخبار حاكمات. حكمن فيما بين الناس في الخصومات. وقد كان منهن من يقرأ ويكتب كما سترى فيما بعد.

وللمرأة الشريفة ذات السؤدد حط في المجتمع لا يدانيه حظ المرأة الحرة الفقيرة. فسؤددها حماية لها ودرع يصونها من الغض من منزلتها ومكانتها. وأسرتها قوة لها، تمنع زوجها من إذلالها أو إلحاق أي أذى بها، وهي نفسها فخورة على غيرها لأنها من الأسر الكريمة. والعادة بالطبع أن الأسر الكريمة لا تزوج بناتها الا من أسر كريمة موازية لها في المنزلة والشرف. من ذلك قولهم: "استنكح العقائل، إذا نكح النجيبات".

حال المرأة في الجاهلية

وقد اختلف حال المرأة في الجاهلية عن حالها في الإسلام، بسبب تغير الأحوال وتبدل الظروف. "فلم يكن بين رجال العرب ونسائها حجاب، ولا كانوا يرضون مع سقوط الحجاب بنظرة الفلتة ولا لحظة الخلسة، دون أن يجتمعوا على الحديث والمسامرة، ويزدوجوا في المناسمة والمثافنة، ويسمى المولع بذلك من الرجال الزِّير، المشتق من الزيارة. وكل ذلك، بأعين الأولياء وحضور الأزواج، لا ينكرون ما ليس بمنكر إذا أمنوا المكر". "فلم يزل الرجال يتحدثون مع النساء، في الجاهلية والإسلام، حتى ضرب الحجاب على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة". "ثم كانت الشرائف من النساء يقعدن الرجال للحديث، ولم يكن النظر من بعضهم إلى بعض عاراً في الجاهلية، ولا حراماً في الإسلام".

وما نراه اليوم من، اعتكاف النساء في بيوتهن ومن عدم اختلاطهن بالرجال ومن التشدد في الحجاب وأمثال ذلك، هو بين أهل الحضر خاصة. وقد كان هذا التحفظ معروفاً نوعاً ما عند أهل الحواضر والقرى في الجاهلية، إلا أن التزمُّت والنشدّد في وجوب ابتعاد الرجل عن المرأة وانفصالهما بعضهما عن بعض إنما نشأ في الإسلام، بسبب تغير الظروف واختلاط العرب بالأعاجم، وظهور حالات جعلت العوائل الكبيرة تحرص على حصر المرأة في بيتها. أما في البادية فإن المرأة لا تزال تشارك الرجل في أعماله وتجالسه وتكلمه ولو كان غريباً عنا، لأن محيط البادية محيط بعيد عن مواطن الريبة والشبهات، وينشأ البنات والأولاد فيه سوية، ويلعبون سوية ويشبون سوية، ولذلك لم تنشأ عندهم القيود والحدود التي تفصل بين المرأة والرجل. وقد كان حال المرأة الأعرابية على هذه. الحال في الجاهلية.

وقد عرفت المرأة بالكيد بين الجاهليين. ونظروا إليها نظرتهم إلى للشيطان، وليست هذه النظرة العربية إلى المرأة هي نظرة خاصة بالجاهلين، بل هي نظرة عامة نجدها عند غيرهم أيضاً. بل هي وجهة نظر الرجل بالنسبة للمرأة في كل العالم في ذلك الوقت. وهي نظرة نجدها عند الحضر بدرجة خاصة، لما لمحيط الحضر من خصائص التجمع والتكتل، والتصاق البيوت بعضها ببعض، ولما لهم من حياة اجتماعية واقتصادية وسياسية، وقد تجر المرأة على دس انقها، والاتصال بالغرباء، فنشأ منَ ثمّ هذا الرأي بين أهل الحضر أكثر من الأعراب.

وعرفت المرأة عندهم بالمكر والخديعة. إذْ كان في وسعها استدراج الرجل والمكر به. وهم يتمثلون بمكر "الزبّاء".. واستدراجها "جذيمة الأبرش" إليها، ثم فتكها به. على نحو ما ورد من قصص عنها في كتب أهل الأخبار. غير انهم يروون في الوقت نفسه قصة "قصير" معها، وكيف تمكن من الأخذ بثأره منها، في حيلة ومكر ومكيدة، حتى فتك بها في قصة من قصص المكر والخديعة، ضرب بها المثل. و عُدت المرأة كالحيّة في المكر.

ونظر الرجل إلى رأي المرأة على إن فيه وهناً وضعفاً وانه دون رأيه بكثير، وتصور إن مقاييس الحكم عندها، دون مقاييسه في الدقة والضبط، وهذا رأى العرب إن من الحمق الأخذ. برأي المرأة. فكانوا إذا أرادوا ضرب المثل بضعف رأي وخطله قالوا عنه: "رأي النساء" و "رأي نساء" وقالوا: شاوروهن وخالفوهن، لما عرف عن المرأة من تأثر بأحكام العاطفة عندها. حتى ذهب البعض إلى عدم وجود رأي للمرأة، وهذا قالوا: يقال الرجل "الفند" إذا خرف وخف عقله لهرم أو مرض، وقد يستعمل في غير الكبر وأصله في الكبر. ولا يقال "عجوز مفندة، لأنها لم تكن في شبيبتها ذات رأي أبداً فتفند في كبرها. وفي الكشاف: ولذا لم يقل للمرأة مفندة لأنها لا رأي لها حتى يضعف قال شيخنا: ولا وجه لقول السمن انه غريب، فإنه منقول عن أهل اللغة. ثم قال: ولعلّ وجهه إن لها عقلاً وإن كان ناقصاً يشتد نقصه بكبر السن".

ويكني العرب عن المرأة ه ب "الدُّمية". والدمية الصنم. وقيل: الصورة المنقشة: العاج ونحوه وقيل هي الصورة. وقول الشاعر: والبيض يرفلن في الدُمـى  والريط والمذهب المصون

يعني ثياباً فيها تصاوير.

ويقال المرأة البذيئة القليلة الحياء "العنفص". وقال بعض علماء اللغة إنها المرأة القليلة الجسم الكثيرة الحركة. أو، الداعرة الخبيثة. وقبل هي القصيرة المختالة المعجبة. أو المرأة الكثيرة الكلام، وهي المنتنة الريح. وقد ذمت المرأة "النمامة"، والبذيئة التي تشتم الناس وتنطق بالبذاء. والسليطة اللسان التي تتطاول على الناس، ولا تبالي أحداً. وقد كان بعض الناس محرضون أمثال هؤلاء النسوة لإهانة كرام الناس والتحرش بهم، لما يعرفونه من إن في طبع الرجل الكريم عدم الردّ على المرأة رداً قبيحاً والتعرض لها بسوء.

وتشائموا من بعض النسوة. وقالوا: "مرأة مشؤومة"، و "عقرى حلقى"، أي عقرها الله وحلقها، بمعنى حلق شعرها أو أصابها بوجع في حلقها، أو أنها تعقر قومها وتحلقهم بشؤمها وتستأصلهم. وقد كانوا يطلقونها إذا تشاءم الزوج أو أهله منها، لاعتقادهم الشديد بالشؤم. وتشاءموا من الفرس الأشقر ومن عتبة الباب، ومن أشياء أخرى سأتحدث عنا في موضوع التفاؤل والتشاؤم عند العرب.

وجمال المرأة في حلاوة العينين، وفي جمال الأنف، والملاحة في الفم. قال الشاعر: خزاعيّة الأطراف مرّية الحشا  فزارية العينين طائيّة الـفـم

المرأة القبيحة

وذكر بعض علماء اللغة إن العرب تصف ب "السعلاة" العجائز والخيل. وقبل السعالى: النساء الصخابات البذيئات، والمرأة القبيحة الوجه السيئة الخلق. ومن ذلك قول الأعشى: ونساء كأنهن السعالى.

والعرب تكني عن المرأة بالعتبة والنعل والقارورة والبيت والدمية والغل والقيد والريحانة والقوصرة والشاة والنعجة.

وما قلته يمثل الفكرة العامة عن المرأة بين سواد الناس. غير إن هناك نسوة اشتهرن بالعقل والحكمة عند الجاهليين. وكنَّ مرجعاً الرجال في أخذ الرأي. حتى إن منهن من تولين أمر الحكومات، وقد سبق إن ذكرت فيما مضى إن قبائل بادية الشام كانت تحت حكم ملكات في أيام الآشوريين. ومنهن الملكات "شمس" و "زبيبة". كما أشرت إلى الملكة "الزبّاء". ولم يجد العرب قبل الميلاد ولا بعده غضاضة من تعين النساء ملكات عليهم. وقد كن يصاحبن الرجال إلى القتال لإثارة هممهم عند اشتداد المعارك ولمداواة الجرحى، وحمل الماء إلى العطشى من المقاتلين. وقد كانت "رفيدة" تداوي جرحى المسلمين في مسجد الرسول بيثرب. وكانت "زينب" طبيبة "بني أود" تعالج المرضى وحازت على شهرة بين العرب.

حتى الشعر، برزت به شاعرات. مثل الخنساء، وخرنق، وجليلة، وكبشة أخت عمرو بن معد يكرب، وغيرهن. ومنهن من حكمن بين الشعراء المتنافسين في تفضيل شعر شاعر على شعر شاعر آخر. وكان من بينهن كاتبات ومتاجرات إلى غير ذلك من حقول الأعمال التي تحتاج إلى عقل وذكاء.

زينة المرأة

والمرأة الحضرية أكثر تفنناً واعتناء بنفسها من الأعرابية، بسبب اختلاف المحيط والوضع الاقتصادي. ولها من أمور الزينة ما لا تعرفه الأعرابيات، من وسائل تجميل وتحلية جسم وملبس. ولا سيما النساء الغنيات القريبات من مواطن الأعاجم. فقد تأثرن بالأعجميات وأخذن منهن ما راق لهن من ملبس وزينة وطيب وحلية.

والعادة إن المرأة تضفر شعر رأسها ضفائر وغدائر، أما الرجال فيتخذون لهم ضفيرتين، تتدليان على طرفي الوجه إلى المنكبين. ويقال الضفيرة: العقيصة. وذكر ن "العقيصة" الدؤابة. وذكر بعض علماء اللغة إن كل عقيصة غديرة. والغديرتان الذؤابتان تسقطان على الصدر. وقيل الغدائر النساء،وهي المضفورة. والضفائر الرجال. وقبل العقص الفتل، أي فتل الشعر، وهو إن يلوى الشعر حتى يبقى ليُّه، ثم يرسل. وذكر بعض علماء اللغة إن العقص إن تأخذ المرأة كل خصلة من شعر فتلويها ثم تعقدها حتى يبقى فيها التواء ثم ترسلها، فكل خصله عقيصة. وقد عرف "ضمام بن ثعلبة" أحد بني سعد بن بكر ب "ذي العقيصتين"، وكان أشعرَ ذا غديرتين. وكان خصل شعره عقيصتين وارخاهما من جانبيه. وهو من الصحابة.

ويعدّ شعر المرأة من أثمن الأشياء عندها لذلك تستعز به وتحافظ عليه، وتسعى لإثارته وتنشيطه، وهي لا تحلقه إلا إذا نزلت بها نازلة، مثل موت زوجها أو عزيز آخر عليها، ويعدّ ذلك غاية في التضحية وفي إظهار حزنها على رجلها الراحل العزيز. فإذا مات عزيز حلقت المرأة شعرها وذَرَّت التراب أو الرماد على رأسها، إظهارا لشدة ألمها وحزنها على ميتها. ويقال لها "الحالقة". وقد لعن الرسول من النساء الحالقة والصالقة والخارقة. والحالقة التي تحلق شعرها في المصيبة. وقد ضرب بها المثل في الشؤم. لأن من عادة الناس في الجاهلية انهم إذا أصيبوا بمصيبة حلقت النساء شعورهن. والى ذاك أشير في شعر الخنساء: ولكني رأيت الصبر مخيراً  من النعلين والرأس الحليق

وأصل ذلك إن المرأة كانت إذا أصيب لها كريم حلقت رأسها وأخذت نعلين تضرب بهما رأسها وتعفره. وفي هذا المعنى جاء في الشعر: ألا قومي أولو عقرى وحلقى  لما لاقت سلامان بن غنـم

ولهذا السبب اعتبرت الحالقة علامة من علامات الشؤم ونذيراً من نذر الفرقة يضرب بها المثل. وفي الحديث: "دبّ الكم داء الأمم: البغضاء والحالمَة". "هي قطيعة الرحم والتظالم والقول السيء".

ويسرح الشعر ب "المشط". وقد عرفه الجاهليون، وهو من آلات التجميل القديمة.. وقد أشير إليه في الحديث. كما أشير إليه في الشعر. ورد قول عبد الرحمن بن حسان: قد كنت أغنى ذِي غنى عَنْكُم كما  أغنى الرجالِ عن المِشاطِ الأقرع

وتمشط شعر العرائس "الماشطهَ"، فتقوم بترجيله وتجميله لخبرتها فيه. ويكون المشط من خشب في الغالب، وقد يعمل من ذهب أو فضة أو من معدن آخر، وقد يتخذ من "العاج".

وتغسل المرأة رأسها بطينٍ وأشنان وخطمى وتحوه لتنظيفه. وقد تغتسل بالطيب، وذلك بالنسبة للغنيات. وإذا انتهت من غسله استعملت "الغسلة"، وهو ما تجله المرأة في شعرها عند الامتشاط من طيب وورق الآس يطرّى بأفاويه من الطيب ويمتشط به. والطين أنواع، يختلف باختلاف طبقات الأرض. واجوده الحرّ النقي الخالص بعد رسوب الماء، ويستعمل في تنظيف الشعر.

وقد كانت القبائل إذا أرادت الصبر في القتال، والوقوف في الحرب إلى النهابة وحتى النصر، حلقت نساؤها شعورهن، لبث الشجاعة في نفوس المقاتلين وإذكاء نار الشجاعة فيهم. وذكر إن "يوم تحلاق اللِّمم"، إثما سمي بذلك، لأن شعارهم كان الحلق. وكان لتغلب على بكر بن وائل.

وتجملت المرأة الجاهلية وتزينت على قدر حالا وإمكانها، لتظهر بذلك جمالها وأنوثتها على سنة الطبيعة، وعلى عادة المرأة بل والإنسان: رجلاً كان أو امرأة في كل وقت وزمان، من حبه في إظهار الزينة وحسن المظهر. جَمَّلت نفسها بالاعتناء بالنظافة وبالثياب وبالحلية، كالخلخال والسوارين والخاتم والقُلبين والقلب والفتخة والمسكة والقرطين والقلائد الأخرى، وبالتجميل بالكحل وبالمساحيق التي توضع على الوجه والسمن الذي يدهن به الشعر وخضاب الكف والقدم، وبالوشم وما شاكل ذلك من أمور تجميل وتحلية كانت معروفة في ذلك العهد.

ومن وسائل الزينة: الوشم غرز إبرة ونحوها في عضو حتى يسيل الدم ثم يحشى بنؤور أو بالكحل أو بالنيلج أو نهوها فيزرق أثره أو يخضر. وكانوا يقصدون بذلك التزّين فينقشون به غالب أبدانهم، أنواعا من النقوش من صور حيوانات أو نبات أو صور إنسان وكذلك الشفاه، فترى غالب شفاه نسائهم زرقاً. والأطفال منهم يوشمون في بعض المحال من وجوههم لقصد الزينة. وكذلك الرجال. وذكر إن الرسول قد نهى عن ذلك في حديث: لعن الله الواشمة. أو لعن الله الواشمة والمستوشمة.

وكانوا يعتنون بتجميل حواجبهم وإزالة الشعر من وجوههم ب "النماص" وهو "المنقاش". وعرفت مزينة النساء ب "النامصة". وهي مزينة بالنمص. وذكر إن النمص نتف الشعر. وان المشط ينمص الشعر وكذلك المحسة لأن لها أسناناً كأسنان المشط. ويقال إن النماص مختص بإزالة الشعر من الحاجبين ليرققهما أو ليسوّيهما. وفي الحديث: لعنت النامضة والمتنمصة.

وعنوا بالأسنان فاستعملوا المبرد لبرد ما بين الثنايا والرباعيات، لتجميلها. وقد لعنت المتفلّجات في الحديث. والمتفلجات جمع متفلجة التي تفلج ببن الأسنان. وعنوا بتبيض الأسنان باستخدام "المسواك"، وهو ما يدلك الفم. ويكون من عيدان بعض الأشجار ذات الرائحة الطيبة. وقد أشير إليه في الحديث.

ويقص الشعر والظفر بالمقص، أي المقراض وهما مقصان. يقص به الرجل شعره، كما تقص به المرأة. وتتخذ المرأة "القُصة" في مقدم رأسها تقص ناصيتها ما عدا جبينها.

وذكر إن من نساء الجاهلية من كنّ يقمحن لثَتهن ب "النوور"، حصاة كإثمد تدق فتسفها اللثة. وكن يتّسمن ب "النؤر". وهو دخان الشحم أو دخان الفتيلة، يتخذ كحلاً أو وشماً، وخصصه بعضهم بالوشم.

ولم تنسَ المرأة الجاهلية زينتها، فزينت نفسها ب "الحليّ" من ذهب وفضة ومعادن أخرى ومن أحجار كريمة وأحجار تلفت النظر وبالعظام أيضاً وبالخرز. ومن الحليّ "الأساور" المصنوعة من الذهب، بالنسبة إلى المرأة الموسرة، والحليّ المطعمة باللؤلؤ. ومن الحليّ؛ ما يزين به الرأس والعنق، ومنه ما يزين به الأيدي أو الأرجل. وسأتحدث عنها في القسم الخاص بالحرف، بشيء من التفصيل.

و "الكرم": القلادة. وقيل هي القلادة من الذهب والفضة، وقيل تكون من لؤلؤ أيضاً.

ويضفر شعر رأس الأطفال ذوائب، أي ضفائر تتدلى على رأسه وعلى ناصيته. ومنى كبر الطفل وبلغ سنّ الرشد، أو شعر برجولته، ضفرت له ذؤابتان، وهي علامة الشباب والرجولة عندهم. وقد كان الساميوّن يحتفلون بحلق الذوإئب، لأن هذا الحلق معناه إنتهاء مرحلة من الحياة ودخول الطفل مرحلة الرجولة، وهي مرحلة الحياة الصحيحة. وكانوا يرمون الذوائب أمام الأصنام. والعادة انهم يضفرون الأطفال سبع ضفائر. وهي عادة معروفة عند الجاهليين أيضاً،، ولا تزال متبعة عند الأعراب وأشباه الحضر. وقد يعلقون حلياً على كل ضفيرة، وذلك إمعاناً منهم في تدليل الطفل وفي إراءة جماله. فالزينة وتعليق الحلي من مظاهر التدليل والتجميل.

نساء شهيرات

وقد ذكر أهل الأخبار أسماء نساء ذكروا أنهن عشن في الجاهلية. منهن: صحر بنت لقمان بن عاد. وكان أبوها لقمان وأخوها لقيم خرجا مغرين، فأصابا إبلاً كثيرة فسبق لقم إلى منزله، وعمدت صحر إلى بعض ما جاء به لقيم، فصنعت منه طعاماً يكون معدّاً لأبيها لقمان إذا قدم، وقد كان لقمان حسد لقيماً في تبريزه عليه، فما قسمت صحر إليه الطعام وعلم انه من غنيمة لقيم، لطمها لطمة قضت عليها، فصارت عقوبتها مثلاً لكل منَ لا ذنب له ويعاقب "فقيل: مالي ذنب إِلا ذنب صحر"، ولم يكن لي ذنب.

وقد حصلت "الزبّاء" على شهرة بين العرب، ووضعوا حولها القصص. ذكروا إنها امرأة من العماليق، وأمها من الروم. وكانت تغزو بالجيوش، وهي التي غزت مارداً والأبلق فاستعصيا عليها، فقالت: تمرد مارد وعز الأبلق، فذهبت مثلاً. ويروي أهل الأخبار لها أمثلة أخرى. ورموها بالغدر، فقالوا: "قال عدي بن زيد يذكر قصة جذيمة الأبرش لخطبة الزباّء: لخطيبي التي غدرت وخانت  وهنّ ذوات غائلة لحـينـا

أي لخطبة زباء. وهي امرأة غدرت بجذيمة الأبرش حين خطبها فأجابته وخاست بالعهد فقتلته.

واشتهرت "البسوس" بالبؤس والشؤم حتى قالوا "شؤم البسوس". وهي بنت منقذ التميمية، زارت أختها أم جساّس بنُ مرّة ومع البسوس جار لها من جَرْم، يقال له سعد بن شمس، ومعه ناقة له، فرماها كليب وائل لما رآها في مرعى قد حماه، فأقبلت الناقة إلى صاحبها وهي ترعو وضرعها يشخب لبنا ودماً، فلما رأى ما بها انطلق إلى البسوس فأخبرها بالقصة، فقالت: وأذلاّه! واغربتاه! وأنشأت تقول أبياتاً تسمّيها العرب أبيات الفناء. فسمعها ابن أختها جساس فثار الدمُ في رأسه، وخرج معقباً كليباً حتى وجده فطعنه طعنة قضت عليه. ووقعت الحرب بين. بكر وتغلب ودامت أربعون سنة. وسار شؤم البسوس مثلا، ونسبت الحرب إليها لكونها سببها، فقيل: حرب البسوس. وهكذا فسر أهل الأخبار سبب وقوع حرب البسوس.

وقص أهل الأخبار قصة امرأة أخرى، قالوا إن. رغيف خبز لها صار سبباً في وقوع شرٍ بين حييُن، وأدى إلى وقوع قتلى. حتى قيل: أشأم من رغيف الخولاء. والخولاء خبّازة في "بي سعد بن زيد مناة"، فمَّرت وعلى رأسها كارة خبز، فتناول رجل عن رأسها رغيفاً، فاشتكت إلى رجل كان جاراً لها، فثار وثار معه قومه إلى الرجل الذي أخذ الرغيف وقومه فقتل بينهم ألف نفس، وسار رغيف الخولاء مثلا في الشيء اليسير يجلب الخطب الكبير.

وذكر أهل الأخبار اسم امرأة أخرى اشتهرت بعطرها، حتى ضرب به المثل، فقيل: "عطر منشم". ولهم أقوال في سبب ضرب هذا المثل. وخلاصتها إن "منشم" امرأة عطارة تبيع الطيب، فكانوا إذا قصدوا حرباً غمدوا أيديهم في طيبها، وتحالفوا عليه بأن يستميتوا في الحرب ولا يولوا أو يقتلوا، فكانوا إذا دخلوا الحرب بطيب تلك المرأة يقول الناس: قد دقّوا بينهم عطر منشم، فلما كثر هذا القول صار مثلاً. فممن تمثل به زهير حيث قال: تداركما عبساً وذبيان بعدمـا  تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم

واختار أهل الأخبار من بين النساء امرأة جعلوها مثالاً للحمق، حتى قالوا: "حمق دغه". وهي دغة بنت منعج. روي لها حماقات كثيرة. وجعلوها مثلاً سائراً بين الناس في الحمق.

وضرب المثل ب "أم خارجة" في السرعة، فقال أسرع من نكاح أم خارجة. وهي "عمرة بنت سعد بن عبد الله بن بجيلة". كان يأتيها الخاطب فيقول: خطب، فتقول: نكح. ولدت أم خارجة في نيف وعشرين حيّاً من آباء. متفرقين، وكانت إذا تزوج منها الرجل فأصبحت عنده كان أمرها إليها، إن شاهت أقامت، وإن شاءت ذهبت، كانت علامة ارتضائها الزوج إن تصنع له طعاماً كلما تصبح.

وضربوا المثل ب "عز أم قرفة"، فمن أمثالهم إذا أرادوا العزّ والمنعة قالوا: انه لأمنع من أم قرفة. وهي بنت "مالك بن حذيفة بن بدر": وكان يحرس بيتها خمسون سيفاً بخمسين فارساً، كلهم لها محرم.

كما ضربوا المثل ب "برد العجوز". ولهم قصص في سبب ضربه. وهم متفقون على أن المثل جاهلي، وليس بإسلامي. ذكر بعضهم إن عجوزاً دهرية كاهنة من العرب كانت تخبر قومها ببرد يقع في أواخر الشتاء وأوائل الربيع، فيسوء أثره على المواشي، فقالوا: هذا برد العجوز، يعني العجوز الذي أنذرت به. وذكر بعض آخر؛ أن عجوزاً كانت بالجاهلية ولها ثمانية بنين فسألتهم إن يزوّجوها، وألحت عليهم، فتآمروا بينهم، وقالوا لها: إن كنت تزعمين أنك شابة فابرزي للهواء ثمان ليال، فإننا نزوجك بعدها، فوعدت بذلك، وتعرضت تلك الليلة والزمان شتاء كلب، وبرزت الهواء، وبقيت تفعل ذلك سبع ليال، ثم ماتت في الليلة السابعة. فضرب بها المثل: وقيل برد العجوز.

أهل الحضر

وما ذكرته يتناول حياة الأعراب، وحياتهم الاجتماعية هي حياة أخرى تختلف عن حياة أهل الحاضرة. ففي حياة الحضر تجمع وتكتل. وإذا تجمع الإنسان وتكتل في موضع وكوّن جماعة، ظهرت عنده خلال، لا يمكن ظهورها عند الأعراب. تتسع وتكبر كلما بعدت الشقة بين البداوة والحضارة. لذا فان بين حياة أهل الحيرة أو يثرب أو مكة أو المستوطنات الحضرية الأخرى المنتشرة في جزيرة العرب وبين حياة أهل البادية فروقاً كبيرة، تختلف في الدرجة والشدة، بدرجة تكاثف السُكّان في المستوطنة الحضرية، وبدرجة قربها أو بعدها من الاعاجم، وبدرجة. اتصالها بالعالم الخارجي. فالمستوطنات التي تقع على سواحل البحر يكون لها اتصال خاص بالعالم الخارجي، لا يمكن أن يتوفر لأهل البواطن، ويؤدي هذا الاتصال إلى الملاحم في الأفكار والى الاختلاط والامتزاج والى توسع أفق أهل الساحل بالنسبة إلى من وراءهم في الباطن، بسبب هذا الاختلاط في الموقع.

لقد تأثر أهل الحواضر من عرب العراق بأخلاق أهل النبط وغيرهم من أهل العراق، حتى بان ذلك على لسانهم وعلى طراز معاشهم كما بان ذلك على عرب بلاد الشام لاختلاطهم بالروم وبأهل بلاد الشام. فعرفوا عنهم أكل الأعاجم واحبوا غناء الفرس وغناء الروم. ودخل من دخل منهم في النصرانية. وقلّد ملوك الحيرة ملوك الفرس في بعض شؤون حياتهم، وتشبه ملوك عرب الشام بملوك الروم، حتى في أمور دينهم حيث اعتنقوا. النصرانية، وجاؤوا إلى قصورهم بقيان يغنين بغناء الروم وبقيان يغنين بغناء الفرس. وزار سادات عرب العراق "المدائن"، ووقفوا على حياتها؛ وعاش سادات عرب الشام بدمشق وبمدن بلاد الشام الأخرى، وجليوا إلى قصورهم وبيوتهم شيئاً مما أعجبهم ونال حبهم. فصارت حياتهم من ثم حياة تختلف عن حياة الأعراب من هذه النواحي.

وكان لأهل قرى العربية الشرقية اتصال دائم بالعراق وبسواحل الهند الغربية، وبإيران وبالتجار الروم، فأخذوا منهم وتأثروا بهم، كالذي يني من الآثار التي عثر عليها ويعثر عليها المنقبون في مواضع العاديات. وتأثر أهل العربية الغربية بأهل بلاد الشام والعراق لما كان لهم من اتصال تجاري دائم بهم. ولما كانوا يجلبونه من هذه البلاد من رقيق. كما كان لهم ولأهل العربية. الجنوبية اتصال بأهل إفريقية، سكان السواحل المقابلة لبلاد العرب، فأثروا فيهم وتأثروا بهم. ومن آيات هذا التأثير الملامح الإفريقية التي ظهرت في العربية الجنوبية بصورة خاصة، لا سيما باستيلاء الأحباش مراراً على السواحل العربية المقابلة لإفريقية، وظهور جيل أخذ من ملامح الجنسين، نتيجة للازدواج الذي صار بين العرب والإفريقيين.

ونجد أثر هذا الاختلاط في اللغة كما نجده في الغناء وفي آلات الطرب. اذ يختلف غناء أهل سواحل جزيرة العرب عن غناء القبائل الساكنة في الباطن، بعيدة بعض البعد عن السواحل وعن التأثر بمؤثرات الأعاجم الذين يقصدون المواني الساحلية الاتجار.

الزواج

والزواج هو من أهم الأفراح في حياة الإنسان؛ وهو ما زال وسيبقى من أهم الأفراح في حياته، لما له من علاقة سعيدة به. ولهذا يحتفل الناس به عادة؛ بإقامة المآدب فيه وبدعوة ذوي القرابة والأصدقاء إليها لمشاركة الزوجين أفراحهما. وقد صنف "روبرتسن سمث" زواج العرب ثلاثة أصناف: زواج يكون في حدود القبيلة فلا يتعدّاه، ولا يسمح لرجال القبيلة ألا بالزواج من بنات القبيلة نفسها، وهو ما يسمى ب "Endogamous"، وزواج يفرض فيه على الرجل أن يتزوج امرأته من قبيلة أخرى، وهو ما يعرف ب "Exogamous" أي "زواج خارجي". وزواج يجمع الطريقتين المذكورتين، أي الزواج في داخل القبيلة والزواج من خارجهاا.

ويظهر من دراسة كل ما ورد في كتب أهل الأخبار وفي كتب التفسير والحديث عن الزواج والطلاق عند الجاهليين أن أهل الجاهلية لم يكونوا يسيرون على سنّة واحدة في عرف الزواج والطلاق، ولكن كانوا يسيرون على أعراف مختلفة اختلفت باختلاف الأماكن وباختلاف الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية واتصالها بالخارج. وقد وردت إلينا مسميّات بعض تلك الأنواع، مثال، "الخدن" و "المتعة" و "البدل" و "الشغار" و "البعولة" وزواج ذوات الرايات وغير ذلك مما ورد وصفه وشرحه، ولكنه لم ينعت باسم معين.

وأنواع الزواج هذه، ليست خاصةً بالجاهليين، وإنما هي معروفة عند غيرهم أيضأ، ولا سيما عند الشعوب السامية، وهي مراحل مرّ بها جميع البشر، ولا يزال الكثير منها قائماً في أنحاء متعددة من العالم. وهي في الغالب مرآة صافية الظروف التي يعيش فيها الناس. وبعض هذه الأنواع زناء معيب في عرفنا، غير أننا يجب أن نفكر دائماً إن أولئك القوم كانت لهم مقاييس دينية وخلقية خاصة بهم، وهي سليمة صحيحة بالقياس إليهم، وأنهم عاشوا قبل الإسلام وفي ظروف تختلف عن ظروفنا، وأن ما نسميه عيباً لم يكن عيباً بالقياس إلى المراحل التي كانوا فيها والى عرف ذلك العهد.

ويقال الرجل العزب الذي لا زوج له "الخالي"، قال امرؤ القيس: ألَمْ ترني أصْبي، على المرء عِرْسهَُ  وامنعُ عِرسْي إن يزَن بها الخالي

وللرجولة عند العرب أثر بارز، لما، في طبيعة بلادهم من الحرّ وعدم وجود أمور مسلّية لديهم تصرف ذهنهم عن التفكر فيه وتلهيهم بعض الشيء عن العريزة الجنسية. ونجد في الأدب العربي شيئاً. كثيراً مما يتعلق بهذا الموضوع. وللغلمة المفرطة صار العربي مزواجاً، يتشبب بالنساء ويتغزل، والتشبيب من أمارات الرجولة عند الجاهليين.

ونجد في القصص المنسوب إلى الجاهليين وفي شعرهم في شيئاً كثيراً يتعلق بالحب: حب الرجل المرأة، وليس العكس، ذلك لأن في طبع الرجل التباهي والتفاخر بحبه النساء. أما المرأة فإن في طبعها الخجل الذي بمنعها من إظهار حبها وتعلقها برجل ما، ثم إن المجتمع لا يسمح لها بذلك، وهو يردعها عن أن تبوح بحبها لرجل ما، ويعد ذلك نوعاً من الخروج على الآداب العامة وجلب العار إلى البنت والى الأسرة. ويعبر عن النسيب بالنساء، أي يذكرهن في ابتداء القصائد، ب "التشبيب". ويعد ابتداء القصيدة بالتشبيب من العرف الجاهلي، ويقولون إن في ذلك ترقيقاً الشعر.

والنسيب في الشعر، التشبب بالمرأة والتغزل بها، وذلك في أول القصيدة، إذا ذكرها في شعره ووصفها بالجمال والصبا، ووصف أعضاء جسمها وغير ذلك. ثم يخرج الشاعر بعد ذلك إلى المديح. ويدخل في النسيب، ووصف مرابع الأحباب ومنازلهم واشتياق المحب إلى لقائهم ووصالهم وغير ذلك.

والغزل في نظر بعض العلماء كالتشبيب والنسيب، كلها بمعنى واحَد. وهو وصف الأعضاء الظاهرة من المحبوب، أو ذكر أيام الوصل والهجر أو نحو ذلك. وفرق بعض آخر بينها، بأن جعل التشبيب ذكر صفات المرأة وهو القسم الأول من النسيب، فلا يطلق التشييب على ذكر صفات الناسب ولا على غيره. والتغزل بمعنى النسيب ذكر الغزل. فالغزل غير التغزل، والنسيب والغزل في رأي بعض آخر هو الأفعال والأقوال والأحوال الجارية بين المحب والمحبوب. نفسها. وأما التشبيب فهو الإشادة بذكر المحبوب وصفاته وإشهار ذلك والتصريح به. وأما النسيب فذكر حال الناسب والمنسوب به والأمور الجارية بينهما. وقال بعض: الغزل إنما هو التصابي والاستهتار بمودّات النساء. والى غير ذلك من آراء لا صلة لها بهذا الموضوع.

والعادة أن يتغزل الرجل بامرأة فيجعلها بطلة غزله. يلف ويدور في غزله حولها ويلج ويلهج بذكرها. وقد يذكر اسمها وقد لا يذكره. وهي قد تكون امرأة حقاً، رآها الشاعر فأعجب بها، وقد لا تكون امرأة معينة خاصة، وإنما امرأة تخيلها ذهن الشاعر، فصار يتغزل. بها ويلهج بذكرها ويلج في إظهار وصفها وفصاتها وما قالت له وما قال لها إلى غير ذلك. وسبب ذلك هو أذواق أهل ذلك العهد، وعادتهم في وجوب الابتداء بالقصيدة بهذا النوع من المقدمات، حتى يكون شعراً رقيقاً مرموقاً، وقد أدى تغزل بعض الشعراء بنساء رجال معروفين. أو ببناتهم إلى وقوعهم في مهالك. ومن أمثلة ذلك ما زعم من تغزل "النابغة الذبياني" بالمتجردة زوج الملك. "النعمان بن المنذر"، وما كان من غضب الملك عليه وتهديده له بالقبل، مما اضطر النابغة إلى الهَرَب إلى الغساسنة أعداء النعمان، ليسلم بريشه من سيد الحيرة وما ورد في قصة الشاعر "طرفة بن العبد".

والطابع العام في هذا الغزل البراءة والعفة ونقاء الألفاظ المؤدّبة، لا يتطرق فيه الشاعر إلى ما وراء إظهار الوجد والحب والتلهف إلى زيارة معشوقته له، أو زيارته لها، وذكر الأيام الجميلة وأحلام الحب الصافية الخالصة النقية، وقلمّا نجد في الشعر الجاهلي إقذاعاً وفحشاً. فالشاعر متأدب في شعره، يعرف حدوده في الغزل فلا يتجاوزها، لأنه يعلم حقاً انه إذا ذكر الفحش في شعره وتعرض بامرأة معينة، فأصابها بسوء قول، فأنها لن تسكت عنه، واذا سكتت هي، فلن يفلت من عقاب أسرتها وآلها له. وقد يكون ذلك العقاب القتل.

وقد ضرب العرب المثل ببعض الرجال في شدة النكاح وكثرته. ومن هؤلاء "حوثرة" رجل من بني عبد القيس، ضربت به العرب المثل في ذلك فقالت "أنكح من حوثرة"، و "خوات بن جبير الأنصاري"، وكان. يأتي أحياء العرب يتطلب النساء، فإذا سئل عن حاجته قال: قد شرد لي بعير فخرجت في طلبه. وأدرك لم الإسلام، ورأى الرسول، فقال له: ما فعل بعيرك الشرود? فقال: أما منذ قيده الإسلام فلا. وكان يحسن الغناء. وكان إذا رأى النساء لبس حلته وجلس اليهن. وذُكر انه "صاحب ذات النحيين".

ويقال: "اغتلم الرجل" إذا هاج من الشهوة، وكذلك الجارية وفي الحديث: " خير النساء الغِلمةُ على زوجها". والغلمة: شهوة الضراب، "وفسره جماعة بالشبق واشتهاء الغلمان". و "الَشبق" شدة الغلمة وطلب النكاح، يقال: رجل شبق، وامرأة شبقة. وقد ذكر أهل الأخبار أسماء رجال عرفوا بالشبق والغلمة، ومن هؤلاء "ابن الغز". فذكر إن عبد الملك ابن مروان ذكر إياداً، فقال:" هم أخطب الناس لمكان قس، وأسخى الناس لمكان كعب، وأشعر الناس لمكان أبي دؤاد، وأنكح الناس لمكان ابن الغز".

وفي المثل: "أنكح من ابن الغز"، وهو من بني إياد، واسمه سعد أو عروة أو الحارث بن أشيم. وذكروا أنه كان نكّاحاً عظيم الأير، زعموا إن عروسه زفت إليه، فأصاب رأس أيره جنبها، فقالت: أتهددني بالركبة.

وقد عرف من يحب محادثة، النساء ومجالستهن ومخالطتهن ب، "الزير"، ومن هنا قيل: "زير نساء". وقد ذكر أهل الأخبار أسماء نفر من المشهورين بذلك.

ويقال لمن لا يأتي النساء عجزاً أو لا يريدهن "العنين". كما يقال المرأة التي لا تريد الرجال. ولا تشتهيهم "العنينة" على بعض الآراء. ويقال امرأة مساحقة. وامرأة سحاقة، لمن تشتهي النساء. ويقال إنها لفظة مولدة.

وقد عرف "التبتل" عند بعض الجاهليين، ممن تأثر بآراء الرهبان. ويراد به ترك النكاح والزهد فيه، ويكون ذلك الرجال كما يكون النساء. وتعرف المرأة المنقطعة عن الرجال ب "البتول". وقد نهى الرسول "عثمان بن مظعون" عن التبتل. وورد في الحديث: "لا رهبانية ولا تبتل في الإسلام". ويقال لمن لم يأت النساء ولم يتزوج "الصارور". و "الصارورة"، المتبتلة، فلم تتزوج ولم تتصل برجل. ومن ذلك: "لا صرورة في الإسلام". و "الصرورة" عند الجاهليين أرفع الناس في مراتب العبادة، وقد أطلقت على الراهب المتعبد، كما جاء ذلك في شعر "ربيعة بن مقروم" الضبي، من مخضرمي الجاهلية والإسلام: لو أنها عَرَضت لاشمط راهب  عبد الإله صرورةّ متبـتـل

لدنا لبهجتها وحسن حديثـهـا  ولهم من تاموره بـتـنـزلِ

وقد عيب العازف عن اللهو والنساء، والذي لا يطرب للهّو ويبعد عنه. ولا يقرب النساء، ولا يحدثهن ولا يريدهن ولا يلهو. فإن مثل هذا الرجل هو كالحجر الصلد الجلمد، وفيه غفلة. ويقال له "العزهاة".

عدد الزوجات

ومن حق الرجل في الجاهلية إن يتزوج ما يشاء من النساء من غير تحديد ولا حصر. إذ. لم تحدد شرائعهم للرجال عدد ما يتزوجونه من نسائهم. فلما جاء الإسلام، حدد العدد وجَوَّز الرجل إن تكون له أربع زوجات في وقت واحد، ومنعه من تجاوز العدد في حالة الجمع، بمعنى انه لا يسمح له إن يجمع بين خمس زوجات أو أكثر من ذلك في وقت واحد بشرط العدالة بينهن، فإن خاف الزوج ألا يعدل بينهن فواحدة.

ويذكر أهل الأخبار إن أهل الحرم أول من اتخذ الضرائر، والضرائر زوجات الرجل الواحد، وكل منها ضره للأخرى.

والغاية الأولى من الزواج هي النسل، لذلك قالت العرب: من لا يلد لا وُلد.كرهت العاقر وعدتها شؤماً. واتخذ العقر من الأسباب الشرعية الطلاق، إِذ كان الرجل يأبى البقاء مع امرأة لا تلد. لذلك كان يطلقها في الغالب، لانتفاء الفائدة منها مع أنفاقه عليها، أو يتزوج عليها ليكون له عقب، وعندهم إن المرأة القبيحة الولود، خير من الحسناء العاقر، وان "سوداء ولوداً خير من حسناء عاقر". وليست هذه العادة من عادات العرب وحدهم، ولكن.، يشاركهم فيها أكثر الشعوب. الأخرى، ومنها الشعوب السامية.

ولسادات القبائل والأشراف والملوك غرض آخر من الزواج، هو غرض كسب الألفة واجتذاب البعداء، والنصرة، حتى يرجم المنافر موالياً، ويصير العدوّ مؤالفاً، فهو زواج "سياسي". يتزوج الملك أو سيد قبيلة ابنة سيّد قبيلة أخرى، فيشدّ بزواجه هذا من أزر ملكَه أو من قوة قبيلته. لا سيما إذا كانت البنت من قبيلة كبيرة. وقد عمل بهذا الزواج كثيراً في الجاهلية، كما عمل به في الإسلام. فقد استفاد معاوية كثيراً من زواجه من قبيلة "كلب"، إذْ ساعدته وأيدته. وروعي هذا الزواج في المواضع التي تغلبت عليها الحياة القبلية بصورة، خاصة التغلب على طباع البداوة، القائمة على النفرة من الخضوع لحكم حاكم غريب عنها. وبهذا الزواج تخف هذه النفرة، فتشعر القبيلة إنها من أصهار هذا الحاكم، وعليها واجب مساعدته بحكم عصبية المصاهرة.

وكثرة الاخوة عزة، فمن كثرت اخوته استظهر بهم. فلا يتمكن أحد من النيل منه بسوء، ولا من ابتزاز حق من حقوقه، ولا من الاعتداء عليه.

وحظ الرجل العقيم خير من حظ المرأة العاقر. فهو يتزوج عدة زوجات فإن لم يلدن منه، آمن عندئذ بعقمه. أما المرأة، فنبقى قانعة راضية في بيت الزوجية، إن أراد زوجها ذلك، لأن من الصعب عليها الحصول على زوج آخر إذْ طلقت، إذْ كان الرجال يفضلون الأبكار على المطلقات، واذا طلقت المرأة العاقر، بقيت بين أهلها من غير زواج في الغالب.

ويرغب العرب في التزوج بالأبكار، ويفضلون الأبكار الصغار على الأبكار الكبار، والبكارة من الشروط التي يجب توافرها في الزواج، وإذا تبين إن البنت ليست بكراً، عد ذلك نكبة وعير أهلها بها، ولذلك يكون مصيرها القتل تخلصاً من عارها. أما الزواج يالثيب، فلا يشترط فيه البكارة لأن المرأة كانت قد تزوجت من قبل، ثم طلقها زوجها أو مات عنها، فهي مما لا يتوافر فيها شروط البكارة، وهو زواج يعزف عنه الشباب ويعير به من يقدم عليه، إذْ يتهم بالوهن الجنسي وبالطمع في مال الزوجة، فليس يجمل بالشاب إن يتزوج امرأة أعطت بكارتها غيره. ومن صارت ثيباً من النساء، صار نصيبها الثيب من الرجال في الغالب، وان كانت لا تزال شابة صغيرة السن.

ويكره العرب الجمال البارع، لما محدث عنه من شدة الإدلال، ومن الخوف من محنة الرغبة وبلوى المنازعة وشدة الصبوة وسوء عواقب الفتنة، لكنهم كانوا يراعون حسن الصورة وجمال الجسم وتناسق أعضائه. ولهم صفات ونعوت ذكروا إنها تمثل جمال المرأة، تختلف باختلاف الأذواق، كما إن لهم رأياً في محاسن أخلاق المرأة وفي الخصال التي يجب إن تتحلى بها في معاشرة زوجها وفي العناية ببيتها وفي تربية أولادها. من ذلك إن تكون حريصة على إرضاء زوجها وخدمة أولادها والعناية ببيتها.

وللعرب نعوت رأوا إنها إن وجدت في المرأة عابتها، منها إن تكون بذيئة اللسان، نمامة كذوباً، عابسة قطوباً، كثيرة الانتباه والتدخل، طويلة مهزولة، ظاهرة العيوب، سبابة وثوبة إن ائتمنها زوجها خانته، وان لان لها أهانته، وان أرضاها أغضبته، وان أطاعها عصته، إلى غير ذلك من نعوت رووها عن الجاهليين في ذم المرأة المتخلقة بها. وقد نعتت المرأة التي تلبس درعها مقلوباً، وتكحل إحدى عينيها وتدع الأخرى ب "القرثع"، وهي المرأة الجريئة القليلة الحياء البذيئة الفاحشة.

ويرغب العرب في الزواج بالنساء الشقراوات البيض البشرة، ورد إن بعض العرب قالوا لبعض الملوك: هل لكم في النساء الزهر، والخيل الشقر، والنوق الحمر.

والعادة إن أمر الزواج بيد الأبوين، وليس البنت معارضة وليهّا الشرعي في الزواج، غير إن بعض بنات الأسر الشريفة لم يكن يقبلن بالزواج بأحد إلا بموافقتهن، فإلى البنت يكون حق قبول الزوج أو رفضه. كما اشترطت بعض النسوة أنهن إن أصبحن عند زوجهن، كان أمرهن اليهن، إن شئن أقمن معهم، وان شئن تركنهم، أي إن حق الطلاق بيدهن. وذلك لشرفهن وقدرهن. ومن ج هؤلاء "سلى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش"، وهي أم عبد المطلب ابن هاشم بن عبد مناف، و "فاطمة بنت الخرشب الأنمارية"، وهي أم الكَملة من بني عبس، وهم: الربيع الكامل، وعمارة الوهاب، وقيس الحفاظ، وأنس القوارس، بنو زياد.

ومنهن "عاتكة بنت مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان بن ثعلبة بن بهثة"، وهي أم هاشم، وعبد شمس، والمطلب بني عبد مناف. و "السوا بنت الأعيس" من عنزة، وكانت تحت خالد بن جعفر بن كلاب. و "مارية بنت الجعيد بن صنبرة بن الديل بن شن بن أفصى" من لكيز.

وقد اشتهرت "أم خارجة" وهي -"عمرة بنت سعد بن عبد الله بن قداد ابن ثعلبة بن معاوية بن زيد بن الغوث بن أنمار" من بحيلة بأنها كانت قد اشترطت إن يكون طلافها بيدها، فكانت كما يقول أهل الأخبار تتزوج ونطلق. وقد أكثرت من الولد في العرب، وبها ضرب المثل فقيل: "أسرع من نكاح أم خارجة". كان يقال لها: خطبٌ، فتقول: نكح وخارجة ابنها، ولا يعلم ممن هو. وولدت ل "بكر بن عبد مناة": الليث والدُّول، وعُريجاً، وهي أم العنبر، والهجيم، وأسيد. وولدت أيضاً في "بني القين" من اليمن، قوم يقال لهم: بنو الحرة، وولدت في بهراءْ. وللعداوات بين القبائل أثر بليغ في اختلاق أمثال هذا القصص، كما لا يخفى.

وذكر أهل الأخبار أسماء نساء تزوجن ثلاثة أزواج فصاعداً. منهن "مارية بنت الجعيد"، ذكر "ابن حبيب" إنها تزوجت من عشرة رجال. ونسوة أخر ذكر أسماءهن "محمد بن حبيب".

تخفيف غلمة النساء:

وقد أمر بعض الجاهليين بختان النساء الحدّ من طغيان الشهوة، فإن البظراء تجدُ من اللذة ما لا تجده المختونة، وفي حديث: يا ابن مقطعة البظور. دعاه بذلك، لأن أمه كانت تختن النساء. والعرب تطلق هذا اللفظ في معرض الذم، وان لم تكن أم من يقال له هذا خاتنة. وذكر إن الرسول قال لأم عطية الخاتنة: "أشمّيه ولا تنهكبه، فإنه أسرى للوجه، وأحظى عند البعل". كأنه أراد انه ينقص من شهوتها بقدر ما يردها إلى الاعتدال، فإن شهوتها إذا قلت ذهب التمتع، ونقص حب الأزواج، وحب الزوج قيد دون الفجور.

وذكر إن العرب اتخذت بعض الطرق لتضييق فرج المرأة، من ذلك استعمال عجم الزبيب. وذكروا إن نساء ثقيف فعلن ذلك، ويظهر إن أعداء ثقيف في أيام الحجاج قد أشاعوا قصصاً من هذا النوع نكاية به. ويقال لذلك التقريب والتفريم.

حق المقدم في الزواج

ويقدم ابن العم على غيره في الزواج، فإذا جاء رجل يريد خطبة ابنة رحل، سئل ابن عمها إن كان لها ابن عم عن رأيه في ابنة عمه، فإن أظهر رغبته في الاقتران بها قدم على غيره، وزوجت منه، وان أظهر انه. غير راغب فيهاُ زوّجت من غيره. ذلك لأن ابن العم مقدم على كل أحد في الزواج من ابنة العم، وقد يأبى ابن العم من تزويج ابنة عمه من غيره ويصر على إن تكون له، ولكنه يأبى إن يحده موعداً الزواج منها، ويتركها أمداً طويلا تنتظر حتى يرى رأيه، وقد تأبى ابنة العم الزواج من ابن عمها، ويأبى ابن عمها إلا الزواج منها، فتنشأ من ذلك منازعات وخصومات قد تصل إلى إراقة الدم.

ومع وجود عرف إن القريب أولى بالبنت من البعيد، فإن العرب تراعي في الغالب إنكاح البعداء والأجانب. يرون إن ذلك أنجب للولد وأبهى للخلقة، وأحفظ لقوة النسل ؛ لأن إنكاح الأهل والأقارب يضر بالمولود ويسمه بالضعف والهزال، ويزعمون إن نقارب الأنساب مدح في الإبل، لأنه إنما يكون في الكرائم يحمل بعضها على بعض حفظاً لنوعها، وذم الناس. لأنه فيهم سبّب الضعف. وبهذا المعنى ورد الحديث: "اغتربوا ولا تضووا" أي إن تزوج القرائب يوقع الضوى في الولد، والضوى: الضعف والهزال. وقد أوصى "حصن بن حذيفة بن بدر" قومه إن "ينكحوا الكفء الدريب، فإنه عز حادث ". وقال "عمر" مخاطباً آل السائب: "يا بني السائب، أنكم قد أضويتم، فانكحوا في النزائع". أي تزوجوا في البعاد الأنساب، لا في الأقارب، لئلا تضوى أولادكم. والنزائع جمع نزيعة، وهي المرأة التي تزوج في غير عشيرتها. وأضوى: ولد له ولد ضاو أي ضعيف.

وروي إن رجلاً قال: بنات العم أصبر والغرائب أنجب، وما ضرب رؤوس الأبطال كابن أعجمية. وقد أدركوا أثر العرق في الولد. قال رجل: لا أتزوج امرأة حتى أنظر إلى ولدي منها، قيل له: كيف ذلك? قال: أنظر إلى أبيها وأمها، فإنها تجر بأحدهما. وقال بعض الشعراء: إذا كنت تبغـي أيمـاً بـجـهـالة  من الناس فانظر من أبوها وخالها.

فإنهما منها كما هي مـنـهـمـا  كقدّك نعلاً إن أريد مـثـالـهـا

فإن الذي ترجو من المال عندها  سيأتي عليه شؤمها وخبالـهـا

ويراعى التكافىء في الزواج، فالأشراف لا يتزوجون إلا من طبقة مكافئة لهم، والسواد لا يتجاسرون على خطبة ابنة سيد قبيلة أو ابنة أحد الوجهاء، ويعير السيد الشريف إن تزوج بنتاً من سواد الناس، ولا سيما إذا كانت ابنة صائغ أو نجار أو ابنة رجل يشتغل بحرفة من الحرف اليدوية لأنها من حرف العبيد. وقد عيّر "النعمان بن المنذر" بأمه، لأنها كانت ابنة يهودي صائغ، على ما يزعمه أهل الأخبار. ولم يكن من المستساغ عرفاً تزويج ابنة رجل حرّ من عبد مملوك أو مفكوك الرقبة، ولم يكن من الممكن تزويج البنت الأصيلة الحرّة من ابن عبد أو من حفيد عبد، أو من حفيد حفيد عبد، وهكذا لأن سمة العبودية والضَّعَة تلازم الأسر، وان تحررت وحسن حالها وصارت غنية، وما زال هذا المحرف قائماً في جزيرة العرب.

ويقدم العرب البيت على الجمال. فللبيات أثر في أخلاق المرأة وفي نجابة الأولاد، وهو أثر دائم. والجمال صورة زائلة. فكانوا يهتمون بالبيت الطيب المنجب، ليكون النسل نجيباً صحيح البنية والعقل لقد علمتهم الطبيعة، وتبين من تجارب الحياة إن لبيت البنت أثراً كبيراً في مستقبل الأسرة وفي نجابة الأولاد وصحة أجسامهم وسلامتهم من المرض. لشاك فضلوا أصالة البيت على جمال المرأة. لما للأصالة من أثر في الوراثة التي تنتقل من الأبوين إلى الأولاد. ونجد هذا المسلك عند غير العرب من الساميين أيضاً، ورد في التلمود: "لا تحفل بجمال المرأة. وانظر إلى أسرتها". وروي إن رجلاً شاور حكيماً في التزوج، فقال له: افعل، وإياك والجمال الفائق، فإنه مرعى أنيق. فقال: ما نهيتنْي إلا عما أطلب، فقال: أما سمعت قول القائل: ولن تصادفَ مرعىً مُمرِعاً أبداً  إلا وجدتَ به آثار منـتـجـع

وورد في الحديث: "إياكم وخضراءَ الدمن، قيل: يا رسول الله، وما خضراء الدمن? قال: المرأة الحسناء في منبت السوء". فللمنبت شأن كبير في الزواج وفي أخلاق الولد، فلا قيمة المرأة الحسناء إذا كانت من بيت سوء.

المناكح الكريمة

وقد روي عن "أكثم بن صيفي" قوله: "المناكح الكريمة مدارج الشرف". ولهذا حرصوا على تطبيق قاعدة التكافؤ في الزواج، واختيار كرائم البنات لكرائم الرجال. وروي إن جملة ما أوصى به "الحارث بن كعب" سيّد مَذْحِج قومه إن "تزوجوا الأكفاء، وليستعملن في طيبهن الماء، وتجنبوا الحمقاء. فان ولدها إلى أفنٍ ما يكون، إلا انه لا راحة لقاطع القرابة" وقد عرفت هذه القاعدة قي "الكفاءة في النكاح". وهي إن يكون الزوج مساوياً المرأة في حسبها ودينها ونسبها وبيتها وغير ذلك.

والمرأة في نظر العرب وعاء للولد. هذه نظرتهم إليها في الجاهلية وفي الإسلام. قال "عروة بن الزبير": " لعن الله فلانة، ألفتُ بني فلان بيضاً طوالاً، فقلبت هم سوداً قصِاراً". وفي هذا المعنى جاء في الشعر: وأول خبث الماء خبث ترابـه  وأول خبث القوم خبث المناكح

وللأم أثر خطير في الولد. وقد ذكر "الجاحظ" إن العرب تقول: "عرق الخال لا ينام". وان كثيراً من العلماء يزعمون إن عرق الخال أنزع من عرق العم. ومن دلائل ذلك تباهي الناس بأخوالهم، واعتبار الخال بمنزلة الوالد. وقول العرب: "لئيم الخال"، واحتماء الأولاد بأخوالهم ولجوؤهم إليهم أكثر بن لجوئهم إلى أعمامهم. ودعوتهم لهم عند العصبية. وقول العرب "العرق دساس" و " عرق الخال".

ولكننا لا نستطيع القطع برأي العرب في موضوع "دس العرق". وفي إن أياً هو أكثر أثراً ووضوحاً في الولد: عرق الخال، أم عرق العم? فهناك أمثلة في التأريخ الجاهلي تظهر إن من الجاهلين من كان يقدم العم على الخال، ويرى إن العم مقام الوالد. ولما كان الوالد هو الأصل في النسب عند الجاهليين، وهو الولي وصاحب الحق الشرعي الأول في ولده، يكون هذا الحق في إخوته بعد وفاته. كما أننا في إن بعض الأولاد كانوا ينزعون إلى أعمامهم أكثر من نزوعهم إلى أخوالهم. وموضوع نزع العرق عند العرب، اعتباري اصطلاحي بالطبع، يمثل وجهة نظرهم في النسب، ولا يقوم على أسس "بيولوجية" أي من ناحية اثر الدم وانتقال الخصائص الدموية من الوالد، أو من الأم إلى الولد. وهو موضوع علمي، يختلف عن هذه النظرة الاعتبارية، من حيث انه يقوم على الدراسات العلمية، ولا يأخذ بالاعتبارات والآراء المبينة على اعتبارات أهل النسب في خصائص الولد.

والظاهر إن الوئام لم يكن واقعاً دائماً بين أبناء العم، إذْ نجد إن الخصومات طالما كانت تحدث بينهم. ولعل ذلك بسبب ما ألقاه المجتمع على عاتق العمّ من تبعات أولاد إخوته حين وفاة الأخ، فانه يكون بحسب العرف القبلي الوصي الشرعي على أولاد المتوفى، وله حق في إرثه بحسب قانون "العصبة" عند وفاة الأخ عن بنات ومن غير أبناء، أو لطمع الأعمام في أموال اليتامى، إلى غير ذلك من أمور سببت حدوث خصومات أحياناً بين الأعمام وبن أبناء الاخوة، أو بين أبناء الأعمام. ولعل هذه الخصومات هي الني جعلت "الجاحظ" يتصور إن أبناء العم محسودون.

ونجد العرب يقولون: "عرق فيه أعمامه وأخواله"، فقدموا الأعمام على الأخوال، واعترفوا بأثر عرق الاثنين في الولد، من كرم أو لؤم، إذْ يكون دس العرق في اللؤم والكرم.

ولاحظ العرب إن الأبوين قد يلدان ولداً يكون لونه مغايراً للونهما، فيحدث نزاعاً بين الرجل وزوجته في هذه الولادة الغريبة، وتتهم المرأة أحياناً باتصالها برجل غريب جاء منه هذا المولود، إلا إن منهم من أدرك "دس العرق" في هذه الولادة، واحتمال انتقال هذا اللون من آباء أحد الوالدين. وقد اختصم رجل مع زوجته في مولود ولد له، فجاء إلى رسول الله وقال له: إن امرأتي قد ولدت غلاماً أسود، فقال له الرسول: "لعل عرقا نزعه". فاعتقاد العرب إن الولد قد ينزعه عرق من الأب. وفي هذا المعنى أيضاً قول "ابن الزبير": "لا يمنعكم من تزوجّ امرأة قصرها، فإن الطويلة تلد القصير، والقصيرة تلد الطويل، وإياكم والمذكَرة فإنها لا تنجب". والمذكرة المتشبهة بالذكور.

وقد حرص العرب لما تقدم على التزوج في الأسر الصحيحة السالمة من الأمراض والعيوب، ليكون النسل صحيحاً نجيباً. قال أعرابي لصاحب له: "إذا تزوجت امرأة من العرب فأنظر إلى أخوالها، وأعمامها، واخوتها، فإنها لا تخطئ الشبه بواحد منهم".

لبن الأم

وللبن الأم شأن كبير عند العرب، لما يتركه من اثر في طبيعة الولد، ولشلك كانوا يرون إن تكون الأم مرضعة الولد، إلا إذا تعذر ذلك لسبب، فترضه مرضعة قريبة من أهل المولود أو من المرضعات السليمات من المرض، ومن ذوات العرق الطيب. لأن اللين دساس يؤثر في شاربه.

واهم العرب باختيار المرضعات. لما يكون للبان الرضاع من أثر في الرضيع، ولما يكون المرضعة ولبيتها من أثر فيه، كما اهتموا باختيار من يتأبط المولود ويحمله، لتسليته وتلهيته، لما يتركه ذلك من أثر في تربيته وخلقه. وفي حديث عمرو بن العاص: "ما تأبطتني الإماء ولا حملتني البغايا في غبرات المآلي" أراد انه لم تتول الإماء تربيته. وغبرات المآلي: بقايا خِرَق الحيض.

وإذا أراد مدح إنسان والثناء عليه، ذكروا مرضعته وصفاء لبنه الذي رضعه، فقالوا: "نعمت المرضعة"، و " نعمت المرضعة مرضعته". وإذا أرادوا ذمّ إنسان قالوا: "بئست المرضعة مرضعته"، كناية عن إنها هي التي أرضعته، فخرج رضيعها على شاكلتها. وفي الحديث حين ذكر الأمارة، فقال: "نعمت المرضعة وبئست الفاطمة"، ضرب المرضعة مثلاً للأمارة وما يوصله إلى صاحبها من الأحلاب، يعني المنافع، والفاطمة مثلاً. للموت الذي يهدم عليه لذاته ويقطع منافعها.

وتعدّ الرضاعة بمنزلة الأخوة بين المتراضعين، ويفتخر ويتعزز الواحد منهم بالآخر، خاصة إذا كان من السادات والأشراف. والعرب تقول: "هذا رضيعك" أي أخوك من، الرضاع ، وتقول: "استرضع في بني فلان". ويصير كأنه واحد من القوم الذين استرضع فيهم. وتكون المراضع بمنزلة الأم للرضيع.

ويبدأ الزواج برغبة يبديها الرجل لوالديه، أو برغبة من والديه، أو من أحدهما تقدم إلى الولد تطلب إليه إن يتزوج، فإن حصلت الموافقة اختيرت له زوجة، وقد يكون الرجل قد اختار خطيبته وعينها، فإذا وافق أهله خطبوها إلى وليّ أمرها، وإذا أبوا فعليه إن يختار أخرى زوجاً له، وإذا أبى أقل البنت عليه ذلك تركها، وقد يصر على الزواج بها، ويصر أهله أو أهلها على رفضهم ذلك، وقد يزداد الرجل أو البنت إصراراَ على الاقتران معاً حتى يتحول ذلك إلى هرب من مكانهما إلى مكان آخر. وقد تقع بغضاء بين أهلي الرجل والبنت من وقوع هذا الزواج.

الخطبة

وغذا استقر الرأي على البنت، يذهب ولي أمر الرجل أو أقرب الناس إليه إلى ولي أمر البنت، كالأب أو الأخ أو العم أو بني عمها أو غيرهم ممن هم أقرب الناس اليها، يخطب البنت بعد إن يكونوا قد مهدوا لذلك وحددوا الصداق. وكان الخاطب إذا. دخل بيت أهل البنت حيّاهم ومن كان حاضراً بتحية أهل الجاهلية، مثل: انعموا صباحاً، أو عموا صباحاَ، أو أمثال ذلك، فإذا استقر به المقام، تكلم فيما جاء فيه، كأن يقول: نحن اكفاؤكم ونظراؤكم، فإن زوجتمونا فقد أصبنا رغبة واصبتمونا وكنّا لصهركم حامدين، وان رددتمونا لعلة نعرفها رجعنا عاذرين. ثم يجيب ولي أمر البنت جواب مناسباً يضمنه الرضى والقبول، وبذلك تكون البنت قد خطبت لذلك الرجل.

ووصف بعض أهل الأخبار طريقة من طرق الخطبة عند بعض الجاهليين، فقال: كان الرجل في الجاهلية يأتي الحي خاطباً، فيقوم في ناديهم، فيقول: خطب، أي جئت خاطباً. فيقال له: بعد الموافقة نكح، أي قد انكحناك إياها، ومن ذلك ما قدمت من خبر أم خارجة إن صحّ. وذكر إن "نكحاً" هي كلمة كانت العرب تتزوج بها.

ويرتدي أهل الخاطب وأهل المخطوبة خير ما عندهم من ملابسهم ويزينون أنفسهم عند مجيء أهل الرجل إلى بيت البنت لخطبتها. وإذا تمت الخطبة ضمخ والد الخطيبة بالعبير وخلِّق بالطيب ونُحير بعير أو أكثر على حسب منزلة أهل البنت. والعادة عند العرب إن ينحروا بعيراً أو شاة في المناسبات المفرحة المبهجة، فلا بد لمثل هذه المناسبات من "ذبيحة" وإسالة دم. ولما خطب النبي "خديجة" واجابته، استأذنت أباها في إن تتزوجه وهو ثمل، فأذن لها في. ذلك، وقال: هو الفحل لا يقرع أنفه. فنحرت بعيراً، وخلّقت أباها بالبعير، وكسته برداً أحمراً.

وكان الجاهليون يقولون الإبل تساق في الصداق: النوافج. وكانوا يقولون عند تقديمها: تهنئك النافجة. على إن بعضهم من كان يكره ذلك. وقد بطل هذا القول في الإسلام.

وتلبس العروس ثوباً يجعل له ذيل تسحبه حنن تمشي. لأنه يكون طويلاً، وقد أشير إليه في شعر لامرىء القيس. إذ. قال: لها قلب مثل ذيل العروس  تسد به فرجها من دبـر

كما أشر إليه في شعر لخداش بن زهر. إذْ قال: لها ذنب مثل ذيل الهديّ  إلى جؤجؤٍ أيدِ الزافر

والهديّ: العروس التي تهدى إلى زوجها.

واستعملت المرأة الغنية المسك والطيب في تطبيب جسمها وثيابها. حتى كان المسك يفوح من أردانها. قال قيس بن الخطيم: وعمرة من سروات النسا  ء تنفحُ بالمسك أردانهـا

و "الصدّاق" هو مهر المرأة، أي ما يدفعه الرجل إلى أهل البنت عند عقد الزواج، ويقال له الصَّدَقة والصَّدُقة والصُّدُقة والصَّداق. وترادف هذه الكلمة كلمة أخرى هي "مهر"، وهي من المصطلحات الجاهلية كذلك.

وطريقة العرب من جاهليين وإسلاميين في دفع الرجل "المهر" للزوجة، تناقض المألوف عند اليونان والرومان، حيث جرت عادتهم إن تقدم المرأة صداقها إلى زوجها نقوداً أو عيناً. وهي الطريقة المألوفة عند الغربيين حتى الآن. وكان الرومان يستغربون طريقة الجاهليين هذه في دفع المهر.

ويروي "روبرتسن سمث" إن ترادف معنى "الصداق" و "المهر" إنما حدث في الإسلام. أما في الجاهلية، فقد كان هناك فرق بن مدلول الكلمتين. فان المراد من كلمة الصداق عند الجاهليين هو ما يقدم إلى العروس. أما المهر، فهو ما يقدم إلى الوالدين.

والرجل إما إن يكون من ذوي قرابة البنت وإما إن يكون من الأباعد، أي غريبا عنها. فان كان من ذوي قرابتها، قال لها ولي أمرها إذا حملت إليه: أيسرتِ وأذكرتِ ولا انثتِ، جعل الله منك عدداً وعزاً وخلداً. أحسني خلقكَ، وأكرمي زوجك، وليكن طيبك الماء... ومثل ذلك من كلام. وإذا زوّجت في غربة قال لها: لا أيسرتِ، ولا ذكرتِ، فانك تدنين البعداء، أو تلدين الأعداء. أحسنى خلقك، وَتحببي إلى أحمائك، فان لهم عيناً ناظرة إليك، وأذناً سامعة اليك، وليكن طيبك الماء.

وإذا كان العرس أولموا وليمة، ودعوا إليها ذوي قرابة الزوجين وأصدقاءهم. وتتناسب الولائم مع مكانة العريس وأهله، للهو، فإن كان غنيتم كانت وليمته ضخمة، وربما دعوا إليها أهل الطرب، وقدّموا فيها المأكولات الشهية والخمور. ويقال الوليمة التي تقام "الملاك" ويقال "الإملاك"، ويقال الطعام الذي يقدم في "الإملاك" "الشندخ " لأنه يقدم الدخول. وإما ما يصنع الدخول بالمرأة، فيقال له: "وليمة " و "وليمة العرس". وكانوا يعدون ولائم العرس من الأمور اللازمة، ويفعل ذلك حتى القفير الضعيف الحال. وقد حث الإسلام عليها، فورد في الحديث إن الرسول قال لعبد الرحمن بن عوف: "أولم ولو بشاة".

وتزف العروس إلى زوجها، ومعها أصدقاؤها وأهلها: وقد يقتن ذلك بضرب الدفوف والغناء. وقد كان الأنصار يعجبهم اللهو، وهذا كانوا يهتبلون هذه المناسبات للهو فيها. ومما كان يقال في زف العروس: أتيناكـم أتـينـاكـم  فحيانـا وحـياّكـم

ولولا الذهب الأحمر  ما حلت بوادبـكـم

ولولا الحنطة السمرا  ما سمنت عذاريكم

ويقال لليلة التي تزف فيها العروس إلى زوجها ليلة الزفاف. ويعرف موكب الزفاف ب "الزفة" ويزف "العروس" إلى بيته أيضاً، فقد كان من عادة ذوي القرابة والأصدقاء إقامة وليمة له، إذا انتهت رافق المدعوون العريس إلى بيته في موكب يغنى فيه ويضرب بالدفوف. وقد يبقى المدعوون إلى الصباح؛ حيث يحيون ليلتهم، وهي ليلة العرس، بالشرب والغناء واللعب.

وتخلّق العروس بالعبير وبأنواع الطيب بحسب سعة حالها وأحوال أهلها المعاشية. وذكر إن "العبير" الزعفران وحده عند أهل الجاهلية. وذكر انه أخلاط من الطيب يجمع بالزعفران،، وورد إن العبير غير الزعفران. وقد اشتهر رداء العروس بطيب رائحته، لما فيه من العبير. قال الأعشى: وتَـبْـرُدُ بَـرْدَ رداءِ الـعـــرو  سِ في الصيف رقْرَفَتْ فيه العبيرا

وتزفت العروس إلى زوجها ليلاً: تزف على قدر حال العروسين، وقد تزف في النهار، ويرافق العروس "موكب" موكب من نساء ورجال على الإبل المزينة يسير والنيران بين يدي العروس. وقد توضع الأنماط على هودج العروس وفي بيتها. وقد منع استعمال النيران في الإسلام؛ لما في ذلك من التشبه بالمشركين، كما نهي عن استعمال أنماط الحرير.

وقد تزف العروس في محفة يقال لها "المزفة"، ومعها، أصحاب "الزفة". وذكر إن "الزفة"، الزمرة. "ومنه الحديث: انه صل الله عليه وسلم، قال لبلال حين صنع طعاماً في تزويج فاطمة، رضي الله عنها: "أدخل الناس عليّ زفةً زفةً" أي: فوجاً بعد فوج ؛ وطائفةّ بعد طائفة.

وفي المثل: "لا عطر بعد عروس" أول من قال ذلك امرأةّ اسمها: أسماء بنت عبد الله العُذّرية، واسم زوجها-وكان من بني عمها-"عروس". ثم مات عنها، فتزوجها رجل من قومها أعسر أبخر نحيل دمَيم، يقال له "نوفل". فما أراد إن يظعن بها، قالت: لو أذنت لي، رثيت ابن عميّ، وبكيت عند رمسه? فقال: إفعلي. فقالت: أبكيك يا عرس الأعراس، يا ثعلباً في أهله، وأسداً عند الباس، مع أشياء ليس يعلمها الناس! فقال: وما تلك الأشياء? فقالت: كان من الهمة غير نَعّاس ويعمل السيف صبيحات الباس. ثم قالت: يا عروس الأغر الأزهر، الطيب الخيم، الكريم المحضر، مع أشياء لا تذكر فقال: وما تلك الأشياء? قالت: كان عيوفاً للخنا والمنكر، طيب النهكة غير أبحنر، أيسر غير أعسر. فعرف الرحل إنها تعرّض به. فلما رحل بها، قال: ضميّ عطرك. وقد نظر إلى قشوة عطرها مطروحة. فقالت: "لا عطر بعد عروس" فذهبت مثلاً. أو "لا مخبأ لعطر بعه عروس".

وتحمل العروس معها أدوات زينتها وموادها الأخرى تضعها في قشوة: قفة من خوص يجعل فيها مواضعها للقوارير بحواجز بينها لعطر المرأة وقطنها، قال الشاعر: لها قشوة فيها ملابٌ وزنبقٌ  إذا عزبٌ. أسرى إليها تطيبا

ويقال البنت العذراء التي لم تقتض "البكر". ويقال ذلك للرجل الذي، لم يقرب امرأة بعد. وزوجها الأول هو الذي يفتض بكارتها. وإِذْ كانت لسلامة بكارة البنت مكانة عند العرب، كانوا يعرضون دم البكارة على الأقارب، ليكون شهادة على سلامة بكارتها. ويكنى عن البكارة والبنت البكر ب "بنت سعد".

والزواج حادث مهم في حياة الإنسان، ولذلك يعلن عنه بفرح وسرور، ويقال لذلك "بشاشة العرس". يعلن عنه بدعوة "وليمة" تولم لذوي القربى والأحباء والجيران والأصدقاء، تقترن بالغناء وبالضرب على الدفوف أحياناً، وبارتداء ملابس نظيفة مناسبة، أو ملابس مصبوغة بصفرة، والصفرة عند أهل الحجاز في. ذلك العهد علامة العرس والفرح والسرور، كما كانوا يصبغون أيديهم ولحاهم بالزعفران، ويكحلون عيونهم، والكحل عندهم من الزينة أيضاً. ويقال الطعام يصنع لعرس: "الوليمة"، وقد ذهب بعض علماء اللغة إلى إن اسم الوليمة مختص بطعام العرس. وقد حث الإسلام عليها. ورد في الحديث قوله لعبد الرحمن بن عوف: أولم ولو بشاة.

ويقابل الزوج على تفضله بالدعوة إلى الوليمة بكلمات فيها خير وشكر وتمنيات الحياة الزوجية الجديدة، ويقال له عند الانتهاء والانصراف: على الطائر الميمون، وبالرفاه والبنين. وقد كره في الإسلام القول: بالرفاه والبنين لأنه من أقوال الجاهلية، ولما فيه من الإشارة إلى بغض البنات، لتخصيص البنين بالذكور، وإحياء سنن الجاهلية.

المال والبنون

وإذا ولد مولود ذكر، سر أهله بميلاده. والعرب مثل غيرهم من الشعوب القديمة كانوا يفرحون بميلاد ولد ذكر، ويغتمون إذا ولدت لهم أنثى، ويقيمون وليمة لميلاده، وكثرة البنين من المفاخر التي يفتخر بها أهل الجاهلية. إن كثرتهم نعمة وعزة. والبنون والمال زينة الحياة الدنيا. بالبنين يدافع، الرجل عن نفسه وعن بيته، وبهم ينال المال والحق والأخذ بالثأر، فهم الحماية ورأس المال. ونقرأ في أخبار أهل الأخبار افتخار الأباء والأمهات بكثرة ما أنجبوا من أولاد، ولا سيما إذا كان الأولاد حازوا شهرة بالجود بالشجاعة أو بأمثال ذلك، أو سادوا قومهم ورأسوهم. ورد في القرآن: )المال والبنون زينة الحياة الدنيا(. صحيح إن أعالتهم مسألة صعبة عسيرة، ولا سيما إعالة الفقراء أولادهم، غير إن الحياة الاجتماعية في ذلك العهد لم تكن على مستوى عال من المعيشة تطلب مالاّ يضمن الوالد به عيش أولاده، إنما كانت المعيشة سهلة لا تتطلب حاجات كثيرة، ولم تكن بالناس حاجة شديدة إلى النقود، فما بقوم به المرء من مجهود بدني هو أصيلة كل إنسان، وبه يعيش، وبه يحصل على ما يحتاج إليه من وسائل المعيشة محدودة. فإذا كثر الأولاد، ازدادت وسائل المعيشة، وعاش الوالد عيشة ناعمة طيبة، وحصل بفضلهم على قوة ومنعة.

وقد ذكر أهل الأخبار عدداً من الرجال عرفوا ببنين حصلوا على شهرة وذكر، فكانوا يفتخرون بهم بين الناس. من هؤلاء "سعد العشيرة"، قيل له "سعد العشيرة" لأنه كان يركب في عشرة من أولاده الذكور، فكأنه منهم في عشيرة، فصار مثلاً للرجل يستكثر بأبنائه وعشيرته ويتعزز بهم. و "الحارث بن سدوس". وكان له واحد وعشرون ولداً ذكراً.

ويكون الذكور فخراً الأمهات وقوة لهن، ويقال المرأة التي تلد الأولاد الكرماء الأشراف منجبة ومنجاب. "ولم تكن العرب تعد منجبة من لها أقل من ثلاثة بنين أشراف". وتعرف ب "أم البنين" كذلك. ومنهن "أم البنين بنت عمرو بن عامر بن ربيعة بن عامر بن ضعصعة"، و "عمرو بن عامر، هو "فارس". ولدت "أبا براء" ملاعب الأسنة، و "طفيلاً" فارس قرزل و "ربيعة" ربيع المقترين، و "معاوية" معوذ الحكماء، "سلمى" نزال المضيق، بني مالك بن جعفر بن كلاب.

وقد أشار القرآن الكريم إلى نفرة العرب من البنات، وما كان يصاب به الرجل من ضيق صدر ومن همّ إذا بلغّ إن مولوده أنثى، قال تعالى: )وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم(. ويزداد كربه إذا زاد عدد بناته، وقد يعمدون إلى "الوأد"، أي دفنهن أحياء للتخلص منهن. قيل: " إنهم كانوا يقتلونهن خوف العار". والى ذلك أشار القرآن الكريم: )ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق. نحنُ نرزقهم وإياكم(، )ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقهم وإياكم(.

وقد افتخرت "بنو عبس" ب "زهير بن جذيمة بن رواحة" العبسي، لأنه كان أبا عشرة، وعم عشرة، وأخا عشرة، وخال عشرة، ورأس غطفان كلها في الجاهلية ولم يجمع على أحد قبله. فكثرة البنين من موجبات الفخر والاعتزاز والتباهي عند الجاهليين.

العقيقة

وإذا كانت نهاية الإنسان ضد الجاهلين مقترنة بالدم، فإن مبدأ حياته مقترن عندهم بالدم كذلك. لقد كان من عادتهم ذبح شاة عند ميلاد مولود وتلطيخ شيء من دمها برأس المولود، ويقال لهذه الذبيحة "العقيقة"، وهي كلمة جاهلية وردت في الشعر الجاهلي. وتذبح عادة في اليوم السابع من ميلاد المولود. وقد أقر الإسلام ذلك، فوردت الكلمة في الحديث. ويذكر علماء اللغة ان معنى العقيقة هو شعر كل مولود يخرج على رأسه في بطن أمه، وانه قيل الشاة المذبوحة. لذبحها عند الاحتفال بحلق هذا الشعر. وقد كانوا يعيرون من لم تحلق عقيقته، إذْ يرون في ذلك منقصة لا تليق بالرجل الكامل.

ويستقّبل المولود بدلك جنكه بالتمر المضوغ، أو الحلو مثل عسل النحل، وكل ما لم تمسه نار من الحلو. وكان العبرانيون يفركون المولود بالملح. واستقبال المواليد بمثل هذه الأمور من العادات الشائعة عند كثير من الأمم القديمة، وهي عادات وشعائر دينية أيضاً. فإن الشعوب القديمة لم تكن تفرق كثيراً بين العادات والشعائر بخلاف الحال في الزمن الحاضر. ولاستقبال المولود بدلك جسمه بالحلو أو بالملح أو بما شابه ذلك، معنى التفاؤل. فالحلو رمز السعادة والفرح. وإما الملح، فانه عنصر مهم من عناصر الحياة عند الأمم القديمة. والخبز والملح هما رمز الصداقة والمودة حتى اليوم.

ويسلى الأطفال باعطائهم العرائس والتماثيل الصغيرة يلعبون بها ويقضون وقتهم بالتسلي بها وبمكالمتها على نحو ما يفعل أطفال اليوم. كما يتسلون باللعب معاً بألعاب خاصة بالصبيان.

الختان

ويعدّ الختان من العادات الجاهلية القديمة، والعرب في ذلك كالعبرانيين. وهو أمر لم يرد ذكره في القرآن الكريم، إنما ورد ذكره في الحديث. وترجع الكلمة إلى أصل سامي شمالي قديم. والختان في الأصل نوع من أنواع العبادة الدموية التي كان يقدمها الإنسان إلى أربابه، وتعدّ أهم جزء من. العبادات في الديانات القديمة. فقطع جزء من البدن وإسالة الدم منه، تضحية ذات شأن خطير في عرف أناس ذلك العهد، كما كان حلق الشعر كله أو جزء منه نوعاً من أنواع التقرب إلى الآلهة. والختان في الإسلام معدود من سن الفطرة التي ابتلى الله إبراهيم بها ؛ وهي الكلمات العشر. وفي جملتها الختان.

وقد كان الجاهليون يسمون من لم يختتن: أقلف وأغلف وأغرل، ويعيبونه، ويعدّونه ناقصاً. وذكر انتشار هذه العادة عند العرب بعض الكتبة "الكلاسيكيين" مثل: "يوسفوس" المؤرخ اليهودي و " أويسبيوس" و "سوزومينوس" "Sozomenius" ويظهر انه كان معروفاً عند العرب الجنوبيين وعند الحبشة كذلك. وقد طبق على النوعين الذكور والإناث. وكانت العرب. تزعم إن الغلام إذا ولد في القمراء قسحت قلفته فصار كالمختون؛ قال امرؤ القيس وقد كان دخل مع قيصر الحمام فراه أقلف، على ما يزعمه أهل الأخيار: إني حلفت يميناً غير كـاذبة  لأنت أقلف إلا ما جنى القمر

وذكر "يوسفوس " إن العرب يختنون أولادهم عند بلوغهم عشرة من سنهمْ. ومن الضعف قبول خبره، ويظهر من موارد أخرى إن الجاهليين لم يعينوا عمراً معيناً الاختتان وأحسب إن هذا الكاتب اعتمد على ما جاء في التوراة عن اختتان إسماعيل وهو في الثالثة عشرة من عمره، أو انه اعتمد على ما سمعه من بعض القبائل الإسماعيلية الساكنة في المناطق الشمالية الغربية من جزيرة العرب، فظن إن الاختتان عند جميع العرب هو في هذه السن.

وقد ورد في بعض الأخبار إن الروم حاولوا منع العرب من الاختتان. والاختتان من المناسبات المفرحة المبهجة في حياة الأسرة، لهذا كان من عادة العرب يدعون ذوي القرابة والأصدقاء إلى الولائم ويلبسون الأطفال أحسن ما عندهم من لباس ابتهاجاً وفرحاً بذلك.

الرجولة

واذا بلغ الطفل، صار رجلا، وجاز له حينئذ إن يفعل فعل الرجال. واحتفل أهله بذلك عند الصنم "Oratai"، الذي يقابل الإلَه "باخوس" "Bacchus" عند اليونان، ويبلغ الاحتفال غايته عند قص الضفائر ورميها أمامه. لأن ذلك معناه عندهم دخول الشاب في مرحلة الرجولة، ودخوله في عبادة هذا الإلَه.

والبلوغ أدراك الغلام والجارية. وقد كان أهل مكة إذا بلغت عندهم الجارية أخذوها إلى "دار الندوة" فدرعوها بها، علامة على بلوغها.

ومن أمثال العرب: "ولدك من دمّى عقبيك"، أي من نفسِت به، وصير عقبيك ملطخين بالدم، فهو ابنك حقيقة، لا من أخذته وتبنيّته وهو من غيرك. والابن الشرعي، من ينسب إلى أبيه بنسب صحيح، وعزي إلى والده. ويقال: انه لَحسن العزوة، أي صحيح النسب حسنه.

والعادة. عند اكثر الساميين نسبة الأولاد إلى الآباء. ونجد اكثر أسماء الجاهليين على هذا النحو. وهناك أشخاص عرفوا بأسماء امهاتهم، والاخباريين في تفسيرها آراء، الغالب انهم اشتهروا بأمهاتهم لما كان لأمهاتهم من كفايات وصفات خاصة جعلت لهن صيتاً بعيداً طغى على اسم الرجال، فنسب أبناؤهم اليهن لهذا السبب تمييزاً عن بقية الأبناء الذين قد يكونون للرجل من زوجة أخرى. ومن هذا القبيل اشتهار "عمرو" ملك الحيرة ب "عمرو بن هند". واشتهار "المنذر"، وهو أحد الملوك ب "المنذر بن ماء السماء" على رأي من جعل "ماء السماء" اسم والدة الملك.

ولم يكن الجاهليين قواعد ثابتة معينة في تسمية المواليد، ففي بعض الروايات إن الأجداد أو الآباء هم الذين كانوا يقومون بتسمية المولود، وفي روايات أخرى ما يفيد قيام المرأة بهذه المهمة. والذي يتبين من غربلة الروايات إن الرجال هم يسموّن الأولاد، فيضعون لهم الأسماء. إما تسمية البنات فكانت في الغالب من اختصاص النساء. وقد يثبت اسم المولود ويحدد في اليوم السابع من مولده، أي في يوم "العقيقة". وتذكر كتب السير إن "عبد المطلب" هو الذي سمى الرسول محمداً، في يوم سابعه، أخذه فدخل به الكعبة، ثم خرج به إلى أمه فدفعه إليها، وفي هذا اليوم عقّ له على عادة العرب في ذلك العهد. وتذكر أيضاً إن قريشاً "قالوا لعبد المطلب ما سميت أبنك هذا? قال سميته محمداً".

وتختلف التسميات في جزيرة العرب، كما تختلف معانيها، فالأسماء المشهورة عند العرب الجنوبيين والواردة في نصوص المسند لا ترد في قوائم أسماء الجاهليين الذين كانوا يعيشون قبيل الإسلام في نجد والحجاز. وأسماء اكثر ملوك العرب الجنوبيين ولا سيما الذين عاشوا منهم قبل الإسلام هي أسماء مركبة، ولها صلة بالآلة. إما أسماء الملوك الشماليين فأكثرها مفردة مثل المنذر والنعمان والحارث وعمرو وأمثال ذلك. والأسماء الشمالية المركبة لها صلة بالأصنام، ولكن بأصنام العرب الشماليين، مثل عبد مناة، وعبد العزى، وامرئ القيس، وعبد ودّ وأه وما أسماء سواد الناس، فتختلف كذلك في العربية الجنوبية عنا في الشمال، وفي المواضع الأخرى من جزيرة العرب. وقد احدث الإسلام تغييراً كبيراً في الإنهاء، فاجتث منها كلّ ما له صلة بالوثنية وبالأوثان، وجاء بتسميات لم تكن شائعة بين الجاهليين، مثل: محمد وعلي وأمثال ذلك من أسماء لها صلة بالرسول وبالصحابة وبتأريخ الإسلام.

ما كان العرب يسمون به أولادهم

وقد بحث "الجاحط" في علل التسميات عند العرب وفي أسبابها، فقال: "والعرب إنما كانت تسمىّ بكلب، وحمار، وحجر، وجعل، وحنظلة، وقرد، على التفاؤل بذلك. وكان الرجل إذا ولد له ذكر خرج يتعرض لزجر الطير والفأل، فان سمع أنساناً يقول حجرا، أو رأى حجراً، سمىّ ابنه به وتفاءل فيه الشدة والصلابة والبقاء والصبر، وأنه يحطم ما بقي. وكذلك إن سمع أنساناً يقول ذئباً أو رأى ذئباً، تأول فيه الفطنة والخِبِّ والمكر والكسب. وان كان حماراً تأول فيه طول العمر والوقاحة والقّوة والجلَد. وان كان كلباً تأول فيه الحِراسة واليقظة وبُعد الصوت والكسب وغير ذلك". وجاء بآراء آخرين على هذه التسميّات وعلى آرائهم فيه.

وتعرض "الجاحظ" إلى أسماء الحيوان التي تَسمَّى بها الناس. فذكر منها: غراب، وُصرد، وفاختة، وحمامة، ويمام، ويمامة، وعقاب، وقطامي، وحجل، و صقر، وصقير، وطاووس، وطويس، وحيقطان، والغرانيق، والغرنوق.

المعمرون

وقد عمر بعض أهل الجاهلية عمراً طويلاً، فعُدّوا من المعمرَّين في الجاهلية. وروى أهل الأخبار أخبارهم وألف بعضهم كتباً فيهم. فلأبي حاتم السجستاني مؤلف في المعمرين. والعادة عند العرب إن المرءَ إذا شاخ وكبر بالغوا في تقدير عمره، وزادوا في سني حياته. حتى جعلوا المعمر من عاش فوق المئة عام. ولا يعد المعمر معمراً عندهم إلا إذا عاش مائة وعشرين سنة وصاعداً، وهذا، فلا نستغرب ما يرويه أهل الأخبار عن بعضهم من انهم عاشوا فوق المئة بكثير.

ومن المعمرين: الحارث بن كعب بن عمرو بن وعلة بن خالد المذحجي. يزعمون انه عاش مائة وستين سنة. ورووا له وصية في الأخلاق والآداب والمواعظ والحكم. بيَنَّ فيها انه على دين شعيب النبي، وما عليه أحد من العرب غيره، وغير أسد بن خزيمة، وتميم بن مُرة. وأنه لم يصافح غادراً، ولم يتعلق بأخلاق فاجر، ولا صبى بابنة عمّ له ولا كنة. ولا جاءته مومسة. وأوصى أولاده بالتجمع، وبالموت في سبيل العز، وبالحذر من الناس، وبتزوّج الأكفاء وبتجنب الزواج من المرأة الحمقاء، لانتقال المقق منهن، إلى من يلدن. وأوصى بوصل الرحم، وبلزوم إطاعة الوالدين، ونبذ الحقد والضغينة.

ومنهم: المستوغر: وهو عمرو بن ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة. ذكروا انه عاش ثلاثمائة وعشرين، وأدرك الإسلام أو كاد يدرك أوله. ونسبوا له شعراً وحِكَماَ.

وحشروا في المعمَّرين: "دويد بن زيد" من قضاعة. ذكروا انه عاشر أربعمائة سنة وستاً وخمسين سنة ونسبوا له وصية فيها: "أوصيكم بالناس شراً، لا ترحموا لهم عبرة، ولا تقيلوا لهم عثرة" إلى آخر ذلك من وصية فيها شدة على الناس وحث لأهله على عدم الرحمة بهم، وأَلا يرحموا أحداً، والا يهنوا. وهي تمثل وضعاً خاصاً ورأياً لواضع هذه الوصية ولراويها من أناس زمانه، فيها سوء طن، ووجوب الحذر والاعتماد على النفس: حيث لا ينفع الإنسان في حياته إلا نفسه.

ومن المعمرين: زهير بن جناب. عاش مائتي سنة وعشرين سنة. وأوقع مائتي وقعة، وكان سيّداً مطاعاً شريفاً في قومه. فيه عشر خصال لم يجتمعن في غيره من أهل زمانه، كان سيد قومه، وشريفهم، وخطيبهم، وشاعرهم، ووافدهم إلى الملوك، وطبيبهم، وحازي قومه، وكان فارس قومه وله البيت فيهم. وقد نسبوا له وصية، على عادتهم في نسبت هم الوصايا إلى المعمرين. ذكروا انه أوصى بنيه فيها بوجوب التجمع ومقاومة النوائب وترك التخاذل والاتكال، وبعدم الغرور في هذه ا الدنيا، فإنما الإنسان في هذه الدنيا غَرَضٌ، تعاورُه الرماة فمقصِّر دونه، ومجاوز موضعه، وواقع عن يمينه وشماله، ثم لا بد انه مصيبه. ورووا له شعراً وحكماٌ.

وُذكر انه كان على عهد "كليب وائل"، ولم يكن في العرب انطق من زهير ولا أوجَه منه عند الملوك، وكان لسداد رأيه يسمى كاهناً، ولم تجمع قضاعة لا علية وعلى رزاح بن ربيعة.

واختلف في عمر "ذو الأصبع العدواني" يوم مات. فذكر بعضهم انه عاش مائة وسبعن سنة. واستقل "أبو حاتم السجستاني" هذا المقدار، فجعله ثلاثمائة سنة. وهو من "عدوان". وأحد حكام العرب فيَ الجاهلية. ونسبوا له على عادتهم بالنسبة للمعمرين حكماً وشعراً.

ومن المعمرين الذين ذكرهم أهل الأخبار "معد يكرب الحميرني"، من آل ذي رعين، و "الربيع بن ضيع الفزَاري". ذكر انه عاش أكثر من مائتي سنة. وانه لما بلغ مائتين وأربعين سنة قال شعراً في ذلك. وقد عاش في الإسلام أيضاً وأدرك ألام معاوية.

وجعلوا عمر "أبو الطحان القبني" مائتي سنة ونسبوا له حكماً وشعراً. وأبى "الكلبيُّ" إن يجعل عمر "عبد المسيح بن بقيلة الغساني"، وهو عبد المسيح بن عمرو بن قيس بن حياّن بن بقيلة، أقل من ثلاثمائة وخمسين سنة. وجاراه في ذلك "أبو مخنف" وآخرون. وذكروا انه عاش في الجاهلية وأدرك الإسلام فلم يسلم، ومات نصرانياً. وذكروا إن "خالد بن الوليد" لما نزل على الحيرة، وتحصن منه أهلها أرسلوا إليه "عبد المسيح بن بقيلة" ليكلمه فسأله خالد أسئلة عديدة. منها: أعرب أنتم أم نبط? قال عبد المسيح: عرب استنبطنا ونبيط استعربنا. ثم سأله: كم أتى لك? قال: ستون وثلاثمائة سنة. ثم عاد إلى قومه فنصحهم بمصالحة خالد. ورووا له شعراً في دخول المسلمين الحيرة، وكيف صار أمر "آل المنذر"، وقد تحسر فيه على الأيام الماضية، التي ولت حتى آل الأمر بهم إن يؤدوا الخراج. إلى "معدّ" التي اقتسمتهم علانية كأقسام الجزور، يؤدون لهم الخراج، بعد خراج كسرى وخراج من قريظة والنضير. ثم خلص إلى إن الدهر هو كذلك لا يدوم على حال. فيوم من مساءة ويوم من سرور.

وذكر إن بعض سادات أهل الحيرة خرج إلى ظاهرها يختط داراً، فلما احتفر موضع الأساس، وأمعن في الاحتفار أصاب كهيئة البيت، فدخله فإذا رجل على سرير من رخام، وعند رأسه كتابة: أنا عبد المسيح بن بقيلة.

حلبت السهر أشطره حياتي  ونلت من المنى بُلَغَ المزيد.

وكافحت الأمور وكافحتنـي  فلم أحفل بمعضـلة كـئود

وكدت أنال في الشرف الثريا  ولكن لا سبيل إلى الخلـود

وأدخلوا "النابغة الجعدي"، وأسمه "قيس بن عبد الله بن عدس" في المعمَرّين. ولكنه لم ينل من أهل الأخبار عمراً يستحق الذكر. إذْ منحوه أقصر ما يمكن من العمر بالنسبة للمعمرين. وهو عشرون ومائة سنة. وتفضل "أبو حاتم السجستاني" عليه فمنحه مائتي سنة. وأبو حاتم من. الكرماء جداً بالنسبة لمنح الأعمار إلى المعمرين. وقد أدرك الإسلام فأسلم. ومدح الإسلام بشعر. ويذكر انه جاء الرسول وأنشده من شعره.

وذكر "الجاحظ" نقلاً عن المتقدمين عليه، انهم "ذكروا انهم وجدوا أطول أعمار الناس في ثلاثة مواضع: أولها سرو حمير، ثم فرغانة، ثم اليمامة، وان في الأعراب لأعماراً أطول، على إن لهم في ذلك كذِباً كثيراً".

أصحاب العاهات

والعمى من العاهات المعروفة بين الجاهليين. منهم من ولد أعمى، أو أصيب بالعمى في طفولته، ومنهم من أصابه وهو على كبر. وذكروا إن من أشراف العميان "زهرة بن كلاب" و "عبد المطلب بن هاشم" و "العباس بن عبد المطلب"، وغيرهم.

و "العَوَرُ" من العاهات التي كان الجاهليون يعيبون من أصيب به. وكانوا يرمون العوران باللؤم والخبث. وقد أصيب به بعضهم في الحروب. "كأبو سفيان" فقد أصيب يومَ الطائف بالعوَر، وأصيب غيره في معارك أخرى.

وأصيب بعض الناس بالبرص. وقد ذكر "السكري" أسماء جماعة من "البرص الأشراف"، ومن هؤلاء: "جذيمة الأبرش"، الملقب ب "الوضّاح"، وذكر إن "الوضح" كناية عن "البرص"، وكانت قريش تخاف البرص خشية العدوى. فأخرجت "أبا عزة عمرو بن عبد الله بن عمير بن وهب" عنها، مخافة العدوى، فكان يكون بالليل في شُعَف الجبال، وبالنهار يستظل في الشجر، وُسقيَ بطنه، فأخذ مدية فوجأ بها في معدته. فسال ذلك الماء، فبرأ يرصه، ورجع إلى مكة.

ومن العاهات "الفقم"، وهو تقدم الثنايا العليا، فلا تقع على السفلى، إذا ضم الرجل فاه. ثم كثر حتى صار كل معوج أفقم و "العرج"، ومن أشهر "العرجان الأشراف" "الحارث بن أبي شمر الغساني"، و "عبد الله ابن جُدعان"، و "الحوفزان بن شريك الشيباني"، و "النابغة الذبياني"، وغيرهم.

ومن المعييات في الإنسان، ألا يكون للرحل شعر في وجهه. ويقال لمن عرى وجهه من الشعر "الكوسج". وذكر انه الذي عرى وجهه من الشعر إلا طاقات في أسفل حنكه، كالأثط والثط. والثط هو القليل شعر اللحية والحاجبين. ويقال: رجل ثَطٌّ ، وامرأة ثطة الحاجبين. ومن الثُّط "الحارث بن أبي شمر الغساني"، و "المنذر بن النعمان بن ماء السماء اللخمي"، و "عبد الله ابن جدعان" و "قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري".

حياة الشبان

ومن الشبان من كان يقضي وقته بالشراب، وبمصاحبه القيان، وهم أولاد اليسار والمجّان. وكان منهم من يأوي إلى منزل أحدهم فيعكفون على اللهو وافي شرُّب، لا يعبأون ولا يكترثون ومنهم شباب مكة قبل الإسلام. وكان منهم قوم مستهترون لم يبالوا بحرمة ولا بأحد، حتى إن شباباً من شباب مكة سرق من خزانة الكعبة لينفق مما سرقه على شربه وقيانه. وقد عرف هؤلاء ب "الفتيان". وكانوا يقضون أوقاتهم بالشرب وبلبس الملابس النظيفة، وبالسماع إلى القيان كما عرفوا بالسناء على من حولهم وعلى من يجتمع معهم من الفتيان. وكانوا شجعاناً، يخرجون إلى القنص والصيد. وقد أشار أهل الأخبار إلى أسماء بعض هؤلاء الفتنيان.

وشباب الجاهلية مثل شباب أهل كل زمان، لا يختلفون عنهم بشيء، في تأنق بعض منهم وفي محاولته إظهار شبابه تجاه البنات. فكان شباب القرى والمدن ولا سيما الوضيئون منهم وأهل الجمال يتسكعون في الأسواق وفي مواضع التجمع، بل وحتى في المعابد ليعبثوا في كلامهم مع البنات وليتحدثوا إليهن، شأن أي شاب في هذه الدنيا بالنسبة إلى الشابات. وقد اضطر آباء وأقرباء بعض هؤلاء الشباب على تقريع أبنائهم لتجاسرهم على بنات الحيّ. حتى منع البعض من الشباب الجميل من التأنق في الملبس حتى لا يلفتوا إليهم أنظار البنات، فيثن فيهم عاطفة الجموح نحو التشبب والحب.

وذكر "محمد بن حبيب" أسماء رجال من مكة كانوا يتعممون مخافة النساء على أنفسهم من جمالهم. ويظهر انهم كانوا يرخون العمائم حتى تنزل على الوجه فتخفي معالمه، ولا يبدو عندئذ شيء من معالم جمال ذلك الشخص. ولم يذكر فيما إذا كانوا قد فعلوا ذلك من أنفسهم ضبطاً للنفس من الوقوع في غوى الشيطان، وتحت تأثير سعر العيون، أم انهم أجبروا على ذلك إجباراً، على نحو ما كان يفعله أهل مكة بالنسبة إلى المستهترين من شبابهم، ليكون التعميم أحد الحواجز التي تحول دون سقوط عين المرأة. على الشاب الجميل أو الرجل الجميل. أو انهم فعلوه هم، على انه "موضة" وَذِيٌّ من أزياء الشباب. ومن الرجال الذين ذكر "ابن حبيب" انهم تعمموا مخافة الَنساء ولم يكونوا من أهل مكة، "امرؤ القيس بن حجر الكندي"، و"قيس بن الخطيم" الأوسي، و "ذو الكلاع الحميري"، و "زيد الخيل بن مهلهل الطائي". ولم يذكر السبب لم في إقحام مثل هذه الأسماء في موضوع التعمم بمكة. هل ذكرهم بمعنى انهم كانوا إذا قدموا مكة تعمموا، خشية الوقوع في هوى النساء، فيجلب عليهم صداعاً وصداماً مع أهل أولئك النسوة، أو انه ذكرهم بمعنى انهم كانوا يتعممون مثل أهل مكة حذر الوقوع في الحب، فدرج أسماءهم في هذا الموضع لهذه المناسبة.

وقد ذكر "ابن حبيب" إن "الحضر"، وهو أحد من كان يتعمم مخافة الوقوع في حب النساء، لم يكتف بالتعم، بل تبرقع أيضاً. ولعله فعل ذلك بتأثر ديني، أخذ ذلك عن الرهبان والمتزمتين بدينهم من أهل الجاهلية الذين حجبوا أنفسهم عن الناس وآووا إلى الغار أو قمم الجبال للتبصر والتأمل والابتعاد عن الملأ، ولا سيما عن النساء.

الفتيان

واعرف شباب أبناء الأغنياء والجاه ب "الفتيان". وأحدهم "فتى". ويراد به الشاب. وقد تطلق على السخيّ الكرم، وهو من "الفتوة". وكثيراً ما نقرأ في كتب أهل الأخبار جملا" تشير إلى "الفتوة" في الجاهلية، مثل "وهو من فتيان قريش أيضاً". يريدون بذلك جماعة من أبناء الأسر عاشت عيشة شباب وعبث، تلهو وتشرب، وتنفق وتعطي، وتغيث، وتتسابق، وتقتل وقتها في اللذة والاستمتاع وفي الأنفاق على الجسد، على نحو ما يفعله أبناء الطبقة المترفة في كل وقت. وقد كانت لها نجدة وشهامة، إذا استُنجد بأحدها هبّ لنجدة المستنجد ودافع عنه.

الأحامرة

والحياة عند بعض الناس: خمر ولحم وخُلوق. فهي متع الحياة عندهم. قال الأعشى: إن الأحامرة الثلاثة أهلكت  مالي وكنت بها قديماً مولعاً

الخمر واللحم السمين وأطلَّي  بالزعفران فلن أزال مبقعا

والحياة عند البعض خمرٌ ونساء. واتهمت المرأة بحبها الحليّ والطيب. ورد: "أهلك النساء الأحمران. يعنون الذهب والزعفران، أي أهلكهن حب الحليّ والطيب". وورد "الأحمران: اللحم والخمر". ويقال للذهب والزعفران: الأصفران، وللماء واللبن الأبيضان، والتمر والماء الأسودان. وفي الحديث: أعطيت الكنزين الأحمر والأبيض. والأحمر الذهب والأبيض الفضة. والذهب كنوز الروم، لأنها الغالب على نقودهم. وقيل أراد العرب والعجم. وقيل: الأحامرة: اللحم والخمر والخلوق. وورد الأحمران: الخمور والبرود.

الخمور

وفي مجتمعٍ الحياة فيه على وتيرة واحدة، والفراغ فيه أكثر من العمل، ومرافق اللهو والتسلية فيه قليلة أو معدومة، والفقر فيه أكثر من الغنى، وتشغيل الفكر. فيه محدود ضيق-في مجتمع كهذا المجتمع لا بد وان يقبل الناس فيه على قتل فراغهم بالبحث عن شيء ينسيهم فراغهم وفقرهم وشدة حاجتهم، ويلهيهم عن قساوة الطبيعة عليهم، ويبعث فيهم الأمل والطرب والنشوة، والشعور بأنهم سادة ملكوا الدنيا، وان كل واحد منهم هو "رب الخورنق والسدير"، فكان إقبالهم على الخمر شديداً، حتى أفرطوا في شربه وآذى بعضهم نفسه من شدة لا إقباله عليه، فصار آفة من الآفات، حتى ضحى شاربه بمركزه وماله في سبيله، فكان ذلك من عوامل تحريمه في الإسلام.

وقد كان الخمر من متع الحياة الثلاث بالنسبة للشباب. والمتع الثلاث: الخمر والقمار والنساء. فإذا أضيفت الشجاعة إليها صار الفتى من خيرة الفتيان، لذلك كان الشباب يفتخرون إذا جمعوا بين هذه المتع ويتباهون على غيرهم بها. وربما ارتكبوا المعاصي والمخالفات في سيبل الحصول على المال للأنفاق على متعهم هذه وعلى ملذاتهم وملاهيهم في هذه الحيان.

ومن أسماء الخمر: العقار، سُميت لمعاقرتها أي لملازمتها السنّ. والمعاقرة الإدمان ومعاقرة الخمر إدمان شربها. وقيل سميت عقاراً لأن أصحابها يعاقرونها أي يلازمونها أو لعقرها شاربها عن المشي، وقيل هي التي لا تلبث إن تُسكر.

والسكران نقيض الصاحي. والسكر حالة تعترض بين المرءِ وعقله. وأكثر ما يستعمل ذلك في الشراب المسكر. و "السكّير" الكثير السكر. و "المدمن" هو الملازم للشراب وغيره، لم يقلع عنه، فهو يلازمه ولا يقلع عن شربه أو شرب الخمر.

وقد أدمن كثير من أهل الجاهلية على شرب الخمر، وهلك قسم منهم بسببها. وقد حذر من ذلك الإسلام فورد: "مدمن الخمر كعابد الوثن"، و "لا يدخل الجنة مدن خمر" وعرف علماء اللغة "الخمر" بما أسكر من عصير العنب ومن عصير كل شيء يُسكر. ولما نزل الأمر بتحريم الخمر، كان شرابهم بالمدينة يومئذ الفضيخ، البُسْر والتمر في الغالب. غير إن الجاهلين كانوا يصنعون الخمر من أي شيء يقع في أيديهم مما يمكن تخميره للحصول على مادة مسكرة منه مثل الحبوب الأعشاب وغير ذلك، بل كان منهم من يخمر اللبن، ولا سيما للبان الإبل، الانتشاء بها. و "النشوة" السكر.

وكان أهل المدينة يسقون ضيوفهم شراباً من الفضيخ. فإذا جاءهم ضيف سقوه منه. كانوا يضعونه في قِلال وجِرار وهو خليط من بسر وتمر، ومن تمر وزهو. والزهو هو البسر اَلملون الذي ظهرت فيه الحمرة والصفرة، كما كانوا يصنعونها من خلط الزبيب والتمر أيضاً. وكانوا يجلسون مجلسهم، ويسقيهم أحد أبناء صاحب الدار أو خادم من خدمه، من قلال أو كؤوس يدرر بها عليهم قليلاً قليلاً.

واستخرج أهل اليمن من الشعر شراباً عرف عندهم باسم "المزر". وذكر إن "المزر" نبيذ الذرة والشعير والحنطة والحبوب، وقيل: نبيذ الذرة خاصة. وذكر أبو عبيد إن ابن عمر فسّر الأنبذة، فقال: البِتع نبيذ العسل، والجعة نبيذ الشعير، والمزر من الذرة، والسكر من التمر، والخمر من العنب. وورد إن أهل اليمن كانوا يتخذون شراباً مسكراً من القمح يستعينون به على برد بلادهم ويتقوّون به على عملهم. وقد منعوا عن ذلك في الإسلام حين. نزل الأمر بتحريم الخمور.

ومن الخمور نوع اشتهر في العراق باسم "الخمور الصريفية" نُسبت إلى قرية "صريفون" عند "عكبراء" في العراق، وإياها عنى الأعشى بقوله: وتجبى إليه السيلحون ودونـهـا  صريفون في أنهارها والخَوَرْنَقُ

ووصف الأعشى في شعر آخر الخمر الصريفية فقال: تعاطي الضجيع إذا أقبلت  بُعَيْدَ الرقاد وعند الوَسنْ

صريفيةّ طيبٌ طعمهـا  لها زبد بين كـوُب ودن

وذكر بعض العلماء إنها إنما عرفت بصريفية.، لأنها.أخذت من الدن ساعتئذ كاللبن الصريف.

وكانوا يضعون خمرهم في زِقّ يحملونه معهم، فأينما يكون الإنسان يكون خمره معه. وقد كانوا يكثرون من استعًماله كما يظهر ذلك من روايات أهل الأخبار مع فقر شاربها وعدم وجود طعام عنده. أما في المدن والقرى والحواضر، فهناك خمارات، جمعت إلى الخمر وسائل المتع الأخرى، يقصدها أهل المكان والغرباء الاستمتاع بها، والترفيه عن خاطرهم. وقد هيأت بعض الخمارات المغنين فيها وجلبوا إلى حاناتهم أنواع الخمور.

وكانت الخمارات منتشرة في كل مكان، ولا سيما على الطرق. حيث ينزل بها المسافرون الاستراحة واستعادة النشاط بعد تعب ونصب. وكان بمكة وبسائر القرى خمارات كذلك. أصحابها نصارى ويهود في الغالب. ومعظمهم من غير العرب، وفدوا من الخارج للتكسب والعيش فامتهنوا مهنة بيع الخمر وإسقائها للناس. وقد عرفت "الخمارة" بالحانوت. يذكر علماء اللغة إن "الحانوت دكان الخمير". وقد أشير إلى بالحانوت في الشعر الجاهلي. وكانت العرب تسمي بيوت الخمارين الحوانيت. وأهل العراق يسمونها المواخير. وورد إن الخليفة "عمر" أحرق بيت "رويشد الثقفي"، وكان حانوتاً يعاقر فيه الخمر ويباع. وعرفت "الخمارة" بالدكة أيضاً.

وقد يجتمع فتيان من مواضع شتى للشرب، فيقال لهم "الأندرون". يتنادرون فيما بينهم بما شذّ وخرج من الجمهور. وذكر إن قول عمرو بن كلثوم: ألا هبي بصحنك فاصبحينا  ولا تبقي خمور الأندرينا

هو في هذا المعنى.

وقد تاجر اليهود بالخمر، وفتحوا لهم الخمارات في الأماكن التي أقاموا بهام من جزيرة العرب، فقصدها الناس للشرب. ومن جملتهم الشاعر الأعشى الذي كان كلفاً بشرب الخمر حريصاً على تعاطيها، قيل انه عزم على الدخول في الإسلام وأراد الذهاب إلى الرسول لينشده ويعلن أمامه دخوله في الإسلام، ونظم شعراً في مدحه، فأدرك "أبو سفيان" ما في شعر،"الأعشى". في مدح الرسول والإسلام من أثر في تصرفه وفي إضعاف قريش، فلقيه وحادثه وكلّمه وجاءه من ناحية نقطة الضعف التي كانت فيه. وهي حبّه للخمرة. فهيَّج أشجانه فيها، وأظهر له كيف. إن الإسلام حرّمها على المسلمين، وجعل في شربها الحدّ، فهو سيُحرم من متعته الوحيدة التي بقيت له في حياته إن دخل في الإسلام. وأثار فيه الحنين إليها، ورغَّبه في الذهاب. إلى قومه والمكوث هناك سنة يشربها، ثم في يرى رأيه بعد ذلك، فإما إن يستمر على شربها، وإما إن يعافها ويدخل في الإسلام، على إن يأخذ مقابل ذلك مائة من الإبل. فأثر كلام "أبو سفيان" فيه، وأخذ الإبل وذهب بها إلى قومه وأقام ب "منفوحة" حتى مات بها قبل الحول.

وذكر "بلينيوس" إن العرب كانوا يصنعون الخمر من النخيل، وذلك كما يفعل سكان الهند. ويقصد بذلك التمور بالطبع. وقد ذكر ذلك من باب التنويه بالأمور الغريبة. فليس استخراج الخمر من التمور مألوفاً عند اليونان والرومان ولهذا السبب أشار إليه، ليقف عليه قومه. غير إن العرب كانوا يستخرجون النبيذ من الكروم أيضاً، وذلك في الأماكن التي توفرت فيها الكروم، مثل الطائف واليمن. وقد أشار "سترابون" إلى صنع الخمر من التمر.

أما خمور العرب فمن البتِع، وهو نبيذ العسل، وهو خمر أهل اليمن. ومن التمر ومن البر والشعير والزبيب. ولأهل اليمن شراب من الشعير، يقال له المزر، أشرت قبل قليل إليه.

وشرب الجاهليون أشربة استخرجوها من الذرة ومن مواد أخرى. فقد.صنع أهل اليمن "المزر" من الذرة أيضاً. فلما أسلم قوم منهم سألوا الرسول عنه. فقال لهم: أله نشوة? فلما قالوا له: نعم، قال: فلا تشربوه.

وانتبذوا في "النقير": أصل النخلة ينقر فينبذ فيه، فيشتدّ نبيذه. وُذكر إن أهل اليمامة كانوا ينقرون. أصل النخلة ثم يشدخون فيها الرطب والبسر ثم يدعونه حتى يهدر ثم يموت، وانتبذوا. في "الختم": الجرار الخضر، وفي "الدبّاء"، اليقطين، وفي "المزفت" أي ما طلي بالزفت.

ومن الخمور "المقدى". يتخذ من العسل على بعض الروايات. يقال انه من قرية تسمى "المقدة" بالأردن، وقيل هي في طرف حوران قرب أذرعات.

وللخمر أسماء عديدة، ذكرها علماء اللغة. منها ما هي معربة. عربت عن اليونانية، أو الفارسية، أو السريانية، لأنها استوردت من بلاد الشام، أو العراق.

ومن الخمور خمر يقال له: "الاسفنط". وهو المطيَّب من عصير العنب. وقيل هي خمر فيها أفاويه، أو أعلى الخمر وصفوتها. وذكر إن اللفظة "رومية". قال الأعشى: وكان الخمر العتيق مـن الا  سفنط ممزوجة بمـاء زلال

باكرتها الأغراب في سنة النو  م فتجرى خلال شوك السيال

واستعمل الجاهليون أواني الشرب المصنوعة من الزجاج والبلور ومن الذهب والفضة، واستعملوا أواني أخرى تتناسب مع منزلة الشارب ومكانته. وقد كان ملوك الحيرة وملوك الغساسنة يشربون بالآنية الغالية، وبعضها منقوش. وكذلك تفنن أغنياء مكة في الشرب، فاستعمل عبد الله بن جُدعان الأواني المصنوعة من الذهب في شربه، حتى ضرب به المثل، فقيل: "أقرى من حاسي الذهب"، وعرف ب "حاسي الذهب". وشرب غيره من أصحاب الثراء بأواني غالية استوردوها من الخارج، على حين كان أكثر سكان مكة فقراء لا يملكون شيئا. ولهذا ورد في الحديث النهي عن الشرب بآنية الذهب والفضة. وقد ذكر إن النابغة الذبياني، وهو من شعراء الجاهلية الكبار، كان لا يأكل ويشرب إلا في آنية الذهب والفضة، من عطايا النعمان وأبيه وجدّه، ولا يستعمل غير ذلك.

وحرم قوم من الجاهلين الخمر على أنفسهم، وأكثرهم ممن يسموّن الأحناف، ومنهم من كان يشربها ويقبل عليها، ولكنه وجد نفسه وقد قام بأعمال لم يرتضيها، جعلته يشعر بالخجل منها، فتركها وحرمها على نفسه. ويذكر أهل الأخبار إن أول من حرمها على نفسه وامتنع منها في الجاهلية، هو "الوليد بن المغيرة". وهو رجل ينسب إليه أهل الأخبار جملة أمور، منها انه أول من خلع نعليه لدخول الكعبة في الجاهلية، فخلع الناس نعالهم في الإسلام " وأول من قضى بالقسامة في الجاهلية فأقرها الإسلام، وأول من قطع في السرقة في الجاهلية، فأقرّها الإسلام. ويذكرون إن الجاهليين كانوا يقولون: " لاوَثَوْبَيْ الوليد، الخلق منهما والجديد".

وممن ترك الخمر في الجاهلية "عبد الله بن جدعان"، وسبب تركه لها انه شرب مع أمية بن أبي الصلت الثقفي، فلطم وجه "أمية" بعد إن ثمل، فأصبحت عينه مخضرة فخاف عليها الذهاب، فسأله عبد الله: ما بال عينك? فقال: أنت أصبتها البارحة. قال: وبلغ مني الشراب ما ابلغ معه من جليسي هذا المبلغ، فأعطاه عشرة آلاف درهم، وقال: الخمر عليّ حرام، لا أذوقها أبداً. وذكر أيضاً انه سكر فجعل يساور القمر. فلما اصبح أخبر بذلك، فحرمها. إلى غير ذلك من قصص.

وممن حرمها في الجاهلية، قيس بن عاصم المنقري، وعامر بن الظرب العدواني، وصفوان بن أمية بن محرث الكناني، وعفيف بن معد يكرب الكندي، والاسلوم ابن اليامي من هَمْدان، ومقيس بن عدي السهمي، والعباس بن مرداس السلمي، وسعيد بن ربيعة بن عبد شمس، وورقة بن نوفل، والوليد بن المغيرة، وأبوه أمية بن المغيرة، والحارث بن عبيد المخزومى، وزيد بن عمر. بن نفيل، وعامر ابن جذيم الجمحي، وأبو ذر الغفاري، ويزيد بن جعونة الليثي، وأبو واقد الحارث بن عوف الكناني، وعمرو بن عَبسة، وقسّ بن ساعدة الإيادي، وعبيد ابن الابرص، وزهير بن أبي سُلمى المزني، والنابغتان الذبياني والجعدي، وحنظلة الراهب بن أبي عامر، وقبيصة بن اياس الطائي، واياس بن قبيصة بن أبي غفر، وحاتم الطائي، و "سويد بن عدي بن عمرو بن سلسلة الطائي".

وذكر إن ممن حرم الخمر على نفسه في الجاهلية: "بشير الثقفي". وكان نذر في الجاهلية إلا يأكل الجزور ولا يشرب الخمر.

وروي إن "عفيف بن معد يكرب الكندي"، عم الأشعث بن قيس، كان قد طلق الخمر وحرّمها على نفسه وحَرَّمَ معها القمار والزنى، والثلاثة من أهم وسائل التلهي والتمتع بالحياة عند الجاهليين. وكان قيس بن عاصم يأتيه في الجاهلية تاجر خمر فيبتاع منه ولا يزال الخمار في جواره حتى ينفد ما عنده. فشرب قيس ذات يوم فسكر سكراً قبيحاً، فجذب ابنته وتناول ثوبها، ورأى القمر فتكلم بشيء ثم نهب ماله ومال الخمار. فلما صحا أخبرته ابنته بما صنع وما قال فآلى لا يذوق الخمر.

وبعض هؤلاء هم من الحنفاء، وبعضهم من السادة الأشراف الذين لم يتذوقوها، أو انهم تعاطوها ثم رأوا ضرَرَها فتركوها وحرموها على أنفسهم. ويظهر إن بعضهم قد حرمها على نفسه وعلى آله أيضاً، فذكر مثلاً إن الوليد بن المغيرة ضرب فيها ابنه هشاماً على شربها، ولعلّ منهم من كان يستعمل، الحدّ، وهو الجزاء الذي قرره الإسلام على شاربي الخمر.

وقد أشار أهل الأخبار إلى وقوع حوادث لأكثر من ذكرتهم دفعت بهم إلى تحريم الخمر على أنفسهم، كالذي ذكرته من أمر عبد الله بن جدعان، وكالذي أشار إليه أهل الأخبار من تحرش بعضهم بمحارمهم تحرشاً لا يفعله إنسان سويّ، أو تخليطهم أثناء سكرهم وقيامهم بأعمال مضحكة صيّرتهم سخرية الحاضرين، فلما صحوا وسمعوا بما فعلوا ندموا على ما بدا منهم، وقرروا اجتنابها وتحريمها على أنفسهم منذ ذلك اليوم.

وكان الجاهليون يشتدون على النساء في شرب الخمر حتى لم يُحفظ إن امرأة سكرت.

المخدرات

لم اعثر على نص جاهلي جاء فيهَ ذكر لاستعمال أهل الجاهلية المخدرات، ولم اعثر في أخبار أهل الأخبار على خبر يفيد تعاطي الجاهليين لها. ولكن هذا لا يعني. نفي معرفة عرب الجاهلية بالمخدرات، ويظهر إن إفراطهم في تناول الخمور ووجود الخمور الرخيصة لديهم، وتحضيرهم لها بطرق بدائية رخيصة، ونخدرهم بها، كانت من الأمور التي صرفتهم عن استعمال المخدرات الأخرى التي ربما زاد ثمنها على ثمن الخمر.

الانتحار بشرب الخمر

وقد قتل بعض الجاهلين أنفسهم بشرب الخمر. صرفاً، ذكر "السكَّري" منهم "عمرو بن كلثوم الثعلبي". وكانت الملوك تبعث إليه بحياته وهو في منزله من غير إن يفد إليها. فلما ساد ابنه الأسود بن عمرو، بعث إليه بعض الملوك بحبائه كما بعث إلى أبيه، فغضت "عمرو" وقال: "ساواني بولدي"، وحلف لا يذوق دسماً حتى يموت، وجعل يشرب الخمر على غير صرفاً على غير طعام، فلم يزل يشرب حتى مات.

وأهلك "البرحُ بن مسهر الطائي،" نفسه بشرب الخمر الصرف كذلك، في قصة ذكرها "السكري".

و "زهير بن جناب بن هبل"، هو ممن أتلف نفسه بشرب. الخمر أيضاً، لما خالفه ابن أخيه عبد الله بن عليم بن جناب، فانزعج من ذلك وغضب، وأمات نفسه بشرب الخمر. ذكر انه قال في ابن أخيه: "عدوّ الرجل ابن اخيه، غير انه لا يَدَعُ قاتل عمه".

وذكر إن "ابا براء بن مالك بنِ جعفر"، قتل نفسه بشرب الخمر أيضاً، انتحر لمخالفة قومه أمره. فدعا قَيْنَتَيْنِ له، فشرب، وغنتاه، ثم دعا بالشاعر "لبيد"، وطلب منه إن يقول ما يقول فيه من المراثي، فلما أثقله الشراب، اتكأ على سيفه حتى مات.

الاغتيال

الغيلة: هي الخديعة وإيصال الشر أو القتل إلى إنسان من حيث لا يعلم ولا يشعر. وقد كان معروفاً بين الجاهليين، شجع على ظهوره وانتشاره بينهم، عُرْف الأخذ بالثأر، والتنافس الذي كان بينهم على الرئاسة والوجاهة، وقواعد مجتمع ذلك الوقت التي كانت تقيم وزناً كبيراً الكلمة، والمدح والهجاء، ولتقديم شخص على شخص في الجلوس في الجلوس من المجالس، فكانت هذه الأمور وأمثالها تدفع من يتعرض لها على الانتقام ممن أهانه والتربص به وتتبع آثاره حتى يتمكن من قتله أو اغتياله.

وقد اتبع المغتالون أساليب شتى في الاغتيال. منها الطعن بالرمح أو بالخنجر أو بالسكن، ومنها الذبح، والخنق، ومنها اللجوء إلى الحيلة بدس السم في الشراب أو الطعام، إلى غير ذلك من أسباب الغيلة.

والغيلة غير الفتك. ذُكر إن الفتك إن يقتل الرجل الرجلَ مجاهرة. وهو إن يأتي الرجل صاحبه وهو غارٌّ غافل حتى يشد عليه فيقتله، وان لم يكن أعطاه أماناً قبل ذلك، ولكن ينبغي له إن يعلمه ذلك.

قال المخبل السعدي: وإذْ فتك النعمان بالناس مـحـرمـا  فمن ليَ من عوف بن كعبٍ سلاسله

وكان النعمان بعث إلى "بني عوف بن كعب" جيشاً في الشهر الحرام، وهم آمنون غارون فقتل فيهم وسبا.

ولمحمد بن حبيب السكري، كتاب ذكر فيه أسماء المغتالين من الأشراف في الجاهلية والإسلام، وأسماء من قُتل من الشعراء. بدأ فيه ب "جذيمة الأبرش" الذي غدرت به "الزباء" ملكة "تدمر"، فأجلسته على نطع، وسقته الخمر، ثم أمرت بقطع رواهشه، حتى مات. ثم ثنى ب "حسان بن تبع"، فزعم إن أخاه قتله غيلة وهو نائم على فراشه، طمعاً في ملكه، ثم تكلم في "عمليق" ملك طسم، وكانت منازلهم "عذرة" في موضع اليمامة. وذكر في جملة من ذكرهم اسم "عمرو بن مسعود" و "خالد بن نضلة" من بني "أسد". وكانت أسد وغطفان حلفاء لا يدينون ويغرون عليهم، فوفدا سنة من السنين رمعهما "سبرة بن عمير الفقعسي" الشاعر، على "المنذر" الأكبر اللخمي، فكلّمهما في أمر دخولهما في طاعته والذب عنه كما ذبت "تميم" و "ربيعة"، فعلم انهم لا يدينون له. فقرر الكيد بهما، فأومأ إلى الساقي فسقاهما سماً، فماتا، ثم ندم على ما فعل، فأمر فحُفر لهما قبران ودفنا فيهما، وبنى عليهما منارتين، وهما "الغريان" وعقر على كل قبر خمسين فرساً وخمسين بعيراً، وغرّاهما بدمائهما، وجعل يومَ نادمهما يوم نعيم، ويوم دفنهما يوم بؤس.

وقد كان خنق الأشخاص في جملة وسائل الاغتيال والتخلص من الأعداء، وقدُ ذكر إن الملك "النعمان بن المنذر"، أمر بخنق "عدي بن زيد العبادي"، فمات منه. ويكون الخنق بالضغط الشديد على الرقبة باليد، وباستعمال الحبل أو قطع القماش. ويقال الحبل الذي يخنق به "الخناق".

وذكر إن "الحكم بن الطفيل"، لما انهزم في نفر من أصحابه يوم "الرقم" "حتى انتهوا إلى ماء يقال له المرورات، فقطع العطش أعناقهم فماتوا، وخنق ابن الطفيل نفسه مخافة المثلة، فقال في ذلك عروة بن الورد: عجبت لهم اذ يخنقون نفوسهـم  ومَقتلهم تحت الوغى كان أعذرا

الصيد

والصيد في جزيرة العرب رغبة وحاجة. رغبة الملوك والرؤساء والأثرياء للأنس والترويح عن النفس، وحاجة عند السواد وهم ققراء في الغالب لا يملكون شيئاً، فلحم الصيد نعمة كبرى لهم وغذاء طيب لا يصل إليهم دائماً.

إما اصطياد الرؤساء والأثرياء فبالاستعانة بالصقور في الغالب، حتى إذا قبل كُنّا نتصقر، انصرف الذهن في الحال إلى الصيد، لاستعمال الطيور في الصيد، حيث تُدرَّب تدريباً خاصاً وتعلم تعليماً متقناً، فإذا رأت الحيوان انقضت عليه، فلا تتركه يستطيع الحركة والهرب إلى إن يصل الصياد إلى الفريسة المسكينة. ويدعى قيِّم الصقور ومعلمها "الصقّار". وتستعل كلاب الصيد كذلك، وهي كلاب سريعة مدربهّ تدريباً خاصاً، فإذا رأت الصقر فوق الفريسة عَدَت خلفها لتساعد الصقر في القبض على الحيوان فلا يهرب ويولي. ومنها ما تفتش عن مواضع اختفاء الحيوانات، فإذا شعرت بوجود حيوان في كهف أو مغارة تدخل إليها أو تقوم بحركات تضطره إلى الخروج فيصطاده الصياد. وقد تستعمل الخيل كذلك. وهي لم تكن كثيرة في الجاهلية، ولا يملكها إلا المتمكنون.

وقد ذكر الصيد في آيات من القرآن الكريم، مما يدل على أهميته ومكانته في حياة العرب يومئذ. ويقال للصيّاد القانص كذلك. وأما استثارة الصيد وأخراجه، فيعبرَ عن ذلك بلفظة "النُّجش"، والمنجاش والنجاش هو المثير للصيد. ويقال: هَبِض الكلب إذا حرص على الصيد وقلق نحوه، ويقال أيضاً: غَرَّبت الكلاب، إذا أمعنت في طلب الصيد.

وكانت العرب تعيش في الغالب بلحوم الصيد، وكانت خيلهم تسهل عليهم نيل صيدهم، وتعينهم على الوصول إلى غايتهم. فكانت عندهم من اعز الأموال وايمن الأشياء يُعتنى بها اعتناء الرجل بنفسه، ولولاها حُرم من لذة أكل اللحوم. وكانت إذا إغارتها على صيد، خضبوا تحر السابق بدم ما يمسكونه من الصيد، علامة على كونه السبّاق الذي لا يدرك في الغارات.

ولأهل الجاهلية عناية خاصة ب "الصقور". يربّونا تربية خاصة. وذكر علماء اللغة إن كل شيء يصيد من البزاة والشواهين، صقر. وقد أشير إلى صيد "الصقور" في الحديث.

وقد استعانوا بالكلاب السريعة الجري في الصيد كذلك. وقد عُنوا بتربية أنواع ذكية سريعة الجري منها لمطاردة الفريسة، إذا أدركتها نهشتها أو قبضت عليها، فيأتي الصياد، فيأخذها منها.

ويتحايل الصيادون في الاصطياد، فيحفرون حفيرة تلجَف من جوانبها، أي يجعل لها نواحي، وتعرف عندهم بالقُرموص، وذلك للتمويه على الحيوان. وقد يتخذ الصياد أو أي شخص آخر موضعاً فوق أطراف الشجر والنخل خوفاً من الأسد، فيقال لذلك "العرزال". وأما " الزُّبية" فحفرة تحتِفر الأسد، وكذلك "الزونة"، و "القُتْرة" حفرة يحتفرها الصائد يكمن فيها حتى لا يشعر به الصيد. وقد يدخِّن الصائد في قترته لكيلا تجد الوحش ريحه، ويقال لذلك "المُدمر". و " الروق" موضع الصائد، و " الدُجية" قترة الصائد. وهناك ألفاظ أخرى من هذا القبيل يراد بها الحفرَ التي يستتر بها الصيادون في الصيد.

ويستخدم الصيادون جملة أدوات في الاصطياد، منها آلة تسمى "الجَرّة "، وهي خشبة نحو الذراع يجعل في رأسها كَفة وفي وسطها حبل، فإذا نشب فيها. الظبي ناوصها واضطرب، فإذا غلبته استقر فيها. و "الحِبالة" الحبل الذي يصاد به. و "الأحبول" حبالة الصائد. وأما " الشرك" فحبائلَ الصائد والواحدة " شركة" و " المصلاة" شرك ينصب الصيد، و "الكَصيصة" حبالة الظبي التي يصاد بها. وهناك آلة تشبه المنجل تشدّ بحبالة الصائد ليختطف به الظبي يقال لها "الخاطوف". وأما "الرداعة" فمثل البيت تجعل فيه لَحْمة يصيد الصياد به الضبع والذئب. ويتخذ الصيادون بيتاً يبنونه من حجارة، ثم يجعلون على بابه حجراً يقال له السهم. والمِلْسن. يكون على الباب، ويجعلون لحمة السبع في مؤخر البيت فإذا دخل السبع لتناوَل اللحمة، سقط الحجر على الباب فسدّها، وبذلك يحيس، فلا يستطيع الخروج. ويقال لذلك البيت "الرواحة". وأما "الجَريئة"، فإنها بمعنى "الرداعة". ولعرقبة الحمير الوحشية تستعل آلة خاصة تشبه الهلال يقال لها "هلال الصيد".

وتستعمل الشباك في الصيد كذلك. تستعمل قي صيد البحر والبر. ويغدف الصياد بالشبكة على الصيد ليأخذه. وأما القصبة التي تصاد بها العصافير، فيقال لها الغاية. والغاية الراية كذلك. وأما "الرأمق" و الرامج " فبمعنى الملواح الذي يصاد به البُزاة والصقور، وهو أن يؤتى ببومة فيُشدّ في رجلها شيء أسود، ويخاط عيناها. ويشدّ في ساقيها خيط طويل، فإذا وقع عليها البازي صاده الصياد من قترته. ويقال إنها لفظة عجمية. وقد تُعْشى الطيور بالليل بالمنار ليصيدوها، ويعبرون عن ذلك بجملة: قمر القومُ الطيرَ.

و "المِفقاس" عودان يشدّ طرفاهما بخيط، كالذي في وسط الفخ، ثم يُلوْى أحدهما، ثم يجعل بينهما شيء يشدهما، ثم يوضع فوقهما الشركة، فإذا أصابها شيء، وثبت، ثم أغلقت الشركة في الصيد. والعطوف والعاظوف مصيدة فيها خشبة منعطفة الرأس، والمِقْلة والقُلة عود يجعل في وسطه حبل، ثم يدفن، ويجعل للحبل كفة فيها عيدانَ، فإذا وطئ الظبي عليها.عضت على أطراف اكارعه. وأما الدّواحيل فخشبات على رؤوسها خرق، كأنها طرّادات قصار، تركز في الأرض لصيد حمر الوحش. وأما البُجّة، فإنها "الرداحة". وأما "اللُبجة"، فإنها حديدة ذات شُعب كأنها كفٌّ بأصابعه تنَفرِج، فيوضع في وسطها لحم ثم يُشدّ إلى وتد، فإذا قبض عليها الذئب، التبجت في خطمه، فقبضت عليه، وصرعته. و "النّامِرة" مصيدة تربط فيها شاة للذئب.

وقد يستتر. الصياد بحيوان أو غيره ليخفي نفسه عن الصيد، وبقال لذلك "الدريئة"، وبهذا المعنى "الذريعة" و "الرقيبة" و "السيفة"، وإذا استتر الإنسان بالبعير من الصيد فيقال لذلك "المسوق".

وفي جزيرة العرب حيوانات وحشية، وقد قلّ فيها الأسد الآن. أما في الجاهلية، فقد كان معروفاً في مواضع عديدة عُرفت عندهم بالمآسد، جمع مأسدة، وقد كانوا يصطادونه بطريقة إسقاطه في حفر تغطى، فإذا سار عليها الأسد سقط فيها، وبطرق أخرى. وهناك الفهود والنسور والضباع والذئاب، وتكثر القردة في المناطق الجبلية وفي النجود، وهي لا تزال موجودة في نجود الحجاز واليمن والعربية الجنوبية.

ويقال لمأوى الأسد في خيسه: "العريس" "والعريسة". ويصعب صيده وهو في مكمنه، وضرب اَلمثل بذالك فقيل: "كمبتغي الصيد=فيِ عرّيسة الأسد" وقال طرفة: كليوث وسط عريسِ الأجم ومن الحيوانات الوحشية المعروفة في جزيرة العرب الحمار الوحشي. ويظهر إن بعض الناس كانوا يأكلونه، بدليل ما ورد في كتب الفقه من النهي عن أكل لحوم الحمر الوحشية. ويذكر علماء اللغة إن الحميريين كانوا يطلقون على الحمار لفظة "العُكسوم" و " الكسعوم".

ويكثر الظبي في جزيرة العرب، ويطمع فيه الصيادون. وقد كان الجاهليون يلجأون إلى جحوره فيسدّون أبوابها ويحفرون من موضع آخر الوصول إليه، كما كانوا يضربون بحجر على الحجر ليفزع الظبي، فإذا فزع تهيأ القتال، وتهيأ الصياد القبض عليه، ويتحايل عليه فيقبض عليه من ذيله.وهو ما زال كثيراً في مواضع عديدة من جزيرة العرب، وقد استعملت السيارة في الزمن الحاضر في صيده وذلك في باب التجديد في الصيد.

والنعام من الحيوانات المعروفة في جزيرة العرب. وقد ذكر علماء اللغة ألفاظاً كثيرة قالوا إن العرب أطلقوها على النعام، على ذكر النعامة وعلى أنثاها وعلى صغار النعام. ومنها "الجعول" ويراد بها ولد النعام، وهي يمانية. وكذلك لأصوات النعام وجماعاتها. وورود هذه الألفاط دليل على كثرة النعام في جزيرة العرب ووقوف العرب عليها.

وأما أهل السواحل، فقد اضطرتهم طبيعة بلادهم على الاصطياد في البحر، على اصطياد سمكه، للاعتياش عليه ولبيع الفائض منه. أو لتجفيف الزائد منه لأكله وقت الحاجة أو لتقديمه علفاً لحيواناتهم. وقد اشتهر سكان الخليج في الجاهلية أيضاً بالغوص لاستخراج اللؤلؤ من الصدف الكامن على قاع البحر. وقد كان يؤتيهم ذلك أرباحاً طائلة. إما أهل باطن جزيرة العرب والأماكن البعيدة عن السواحل فقد قل علمهم بالسمك، لعدم وجود أنواع منه في البوادي. وعدم إمكان إيصاله طرياً إليهم. فقلّت أسماء أنواعه في لهجاتهم. بينما نبد له أسماءً عديدة في لغات أهل السواحل لوجود أنواع عديدة منه في البحار كانوا يصطادونها. فتكون القسم الغالب، من اللحم عندهم.

وذكر علماء اللغة إن "السمك" الحوت من خلق الماء. وذكر إن الحوت ما عظم من السمك. ومن أنواع سمك البحر: "القرش". وهو من الأسماك العظام.

ومن وسائل صيد السمك "العروك"، خشب يلقى في البحر، يركبون عليه، ويلقون شباكهم، يصيدون السمك. و "العركيّ" صياد السمك. ولهذا قيل الملاحين عرك، لأنهم يصيدون السمك. "وفي الحديث في كتابه إلى قوم من اليهود: إن عليكم ربع ما أخرجت نخلكم ؛ وربع ما صادت عروككم، وربع المغزل". والعروك هم الذين يصيدون السمك.

ومن عادة ملوك الحيرة والغساسنة انهم كانوا يتبدون في المواسم الطيبة من السنة، بعد هطول الأمطار واكتساء البادية بُسطَ الربيع، وتعييد الطيور والماشية بالمناسبة السعيدة. كانوا يخرجون إلى البوادي للاستمتاع بالمناظر الجميلة والصيد والقنص، ومن الأماكن التي كان ملوك الحرة يقصدونها منزل "ماوية"، وهو منزل بين مكة والبصرة. ذكر إن الملك "النعمان" كان إذا أراد الاستئناس برؤية حال الربيع والماء، خرج إلى "النجف" والى البادية، فتنصب له ولأصحابه القباب ويمضي أياماً هناك يتصيد ويستمتع بمنظر الشقائق ذوات الألوان الأخاذة الجاذبة القلوب، حتى زعم إن "شقائق النعمان" إنما سميت بذلك نسبة إليه. جاء إلى موضع وقد اعتم نبته من أصفر وأحمر وإذا فيه، من هذه الشقائق ما راقه ولم يرَ مثله، فقال: ما أحسن هذه الشقائق! إحموها! وكان أول من حماها، فسميت شقائق النعمان بذلك.

ويظهر من حديث جرى بين يدي "النعمان" إن من العرب من كان يذمّ الصيّاد، ويفضل صاحب الإبل عليه. فقد روي إن "معاوية بن شكل" ذم "حجل بن نضلة" بين يدي النعمان، إذْ قال فيه: "انه مقبل النعلين، منتفخ الساقين، قعو الأَلْيَتَيْن مشّاء بأقراء، قتال ظباء، بياع إماء". فقال له النعمان: "أردت إن تذيمه، فمدحته"، وصفه بأنه صاحب صيد لا صاحب إبل. ولعله قصد بذلك انه كان صياداً محترفاً، اتخذ الصيدَ حرفة له. فقد كان بين الصيادين قوم اتخذوا الصيد لهم حرفة. فإذا اصطادوا باعوا صيدهم، ولم يستفد منه، فهو مثل الجزّار، الذي يبيع اللحم ولا يطعم أهله منه، ولذلك نظروا إليه نظرة استصغار.

سباق الخيل

والتسابق على ظهور الخيل رياضة الأثرياء والفرسان القديمة. وهي لا تزال معروفة، وان كانت قد أخذت تلفظ أنفاسها بسبب أقيال الأثرياء على ركوب السيارات الفخمة التي لفتت أنظارهم وجرتهم إليها، فلم يبق من يمارس تلك الرياضة القديمة إلا أولئك الذين لم تصل السيارات إليهم بكثرة، لوعورة الطرق وامعانهم في البوادي وابتعادهم عن المواطن التي أخذت تغزوها منتجات العرب.

ويذكر أهل الأخبار إن أول من ركب الخيل "إسماعيل"، ولذلك سميت ب "العراب"، وكانت قبل ذلك وحشية كسائر الوحوش. خرج إلى موضع "أجياد"، فنادى بالخيل، فلم يبق علي وجه الأرض فرس بأرض العرب إلا أجابته فأمكنته من نواصيها وتذللت له. ولذلك قال النبي: "اركبوا الخيل فانها ميراث أبيكم إسماعيل".

وراهن أهل الجاهلية على الخيل، فكانوا يخرجون إلى السباق ويقال: مجتمع الناس الرهان، ثم يتراهنون هنالك على الخيل المتجمعة و "السابق" من الخيل، وهو الأول، هو الذي يأخذ الجائزة الأولى، ويتلوه "المصليِّ" وهو الفائز الثاني. و "الحلبة" الدفعة من الخيل في الرهان خاصة، وقيل: خيل تتجمع للسباق من كل أوب. ومجمع الخيل.

ويقال للخيل الذي يمدّ في صدر الخيل عند الإرسال الحلب. والمنصبة الخيل حين تنصب الإرسال. ويقال السابق من الخيل: الأول، والمصليّ الثاني الذي يتلوه. وما سوى ذينك يقال له الثالث والرابع وكذلك إلى التاسع ثم السُّكَيْت. فما جاء بعد ذلك لا يعتد به. والغسكل الذي يجيء آخر الخيل. وذكر: إن: أسماء خيل الحلبة عشرة لأنهم كانوا يرسلونها عشرة عشرة، وسمي كل واحد منها باسم. فالأول منها السابق. وهو المُجليّ. لأنه. كان يجلي عن صاحبه، والثاني المُصلي لأنه يضع جحفلته على صلا السابق، والثالث المسلي، والرابع والخامس المرتاح، والسادس العاطف، والسابع والمؤمل، والثامن الحظيّ، والتاسع اللَّطيم، والعاشر السُّكيْت، والغسكل الذي يجيء آخر الخيل في الحلبة. ويقال للحبل الذي بجعل في صدور الخيل يوم الرهان المقبض والمقوس. وقيل في أسماء خيل الحلبة إن أولها المجلِّي ثم المصلي ثم المسلي ثم العاطف ثم المرتاح ثم الحظيّ ثم المؤمل. هذه السبعة لها حظوظ، ثم التي لا حظوظ لها. اللطيم، ثم الوغد، ثم السكيت.

وكانوا يضعون عند نهاية الحد الذي يقررونه السباق قصبة فمن يصل إليها قبل غيره من المتسابقين، يعد السابق لقصبة السبق، ويكون قد أحرز القصب لأن الغاية التي يسبق إليها تُذرعَ بالقصب. وتركز تلك القصبة عند منتهى الغاية، فمن سبق إليها حازها واستحق الخطر.

و "الخطر" الذي يوضع بين أهل السباق، وقيل الذي يوضع في النضال والرهان في الخيل ع فمن سبق أخذه. والسابق إذا تناول القصبة، علم انه قد أحرز الخطر. وكانوا يقلدون السابق من الخيل؛ ولا يقلَّد من الخيل إلا سابق كريم. ويقولون للسابق من الخبل: المقلَّد.

وقد سابق الرسول بين الخيل التي قد ضُمِّرت من موضع "الحفياء" إلى "ثنية الوداع" والمسافة بين الموضعين خمسة أميال أو ستة، وقيل ستة أميال أو سبعة. وسابق بين الخبل التي لم تضمر من "الثنية" إلى مسجد "زريق،" والمسافة ميل أو نحوه. وسابق بين الخيل على حال أتته من اليمن، فأعطى السابق ثلاث حال والمصلي حلتين، والثالث حلة، والرابع ديناراً، والخامس درهماً، والسادس قصبة. وقد ساهمت خيله في السباق.

وراهن رسول الله على الخيل، وذكر إن أول مسابقة كانت في الإسلام سنة ست من الهجرة. سابق رسول الله بين الخيل، فسبق فرس لأبي بكر فأخذ السبق. والمسابقة مما كان في الجاهلية، فأقرها الإسلام.

وفي الحديث: أحاديث عن الرسول في السبق، منها: لا سبق إلا في خف أو نصل أو حافر، فالخف للإبل، والحافر للخيل، والنصال للرمي وبقية الأحاديث في كتب الحديث والفقه.

ولم يقتصر السباق عند الجاهليين على السباق بين الخيل، بل سابقوا بين الإبل، وجعلوا للسابق خطراً، كما سابقوا بين الكلاب والحمير والحيوانات الأخرى.

ومن سباق أهل الجاهلية والإسلام، السبق بالنصل، أي المراماة بالسهم. وذلك بأن يوضع خطر، ويذكر عدد الرمي والهدف، فمن أصاب الهدف أكثر من غيره نال السبق. وقد عرف نفر من الجاهليين بإصابتهم الهدف، وبقوة رميهم، وجعلوا لقوة الرمي وشدته أو لرخاوته وللمكان من إصابته الهدف درجات هي: الخاضل، والخازق، والخاسق، والحابي، والمارق، والخارم، والمزدلف. والخاضل الذي يقرع الشن ولا يخدشه، والخازق الذي يخدشه ولا يثقبه، والخاسق الذي يثقبه ويثبت فيه، والحابي إن يدني الرامي يده من الأرض فيرميه فيمر على وجه الأرض فيصيب الهدف، والمارق الذي يمرق الشن أي يثقبه وينفذ فيه، والخارم الذي يخرم طرف الشن أي يقطعه، والمزدلف الذي يسقط بقرب الغرض ثم يشتن فيصيب الهدف.

ومن السباق: المناضلة، وهي المباراة في الرمي: والنضيل هو الذي يرامي ويسابق. والمناضلة المفاخرة والتسابق بالأشعار. وتكون المباراة في الرمي بثلاثة أنواع: مبادرة، ومحاطة، ومناضلة. فالمبادرة إن يشترطا إصابة عشرة من عشرين، فيبتدر أحدهما إلى العشرة فينضل صاحبه، والمحاطة إن يقولا نرمي عشرين رشقاً على إن من فضل صاحبه بخمس إصابات فقد نضله، فإذا اشترطا ذلك، ورمى كل واحد منهما عشرين رشقاً وأصابا إصابات نظر إن استويا في الإصابة لم يحصل النضل، وان تفاوتا في الإصابة حط الأقل أو الأكثر، فإن بقي لصاحب الأكبر الخمس المشروطة فقد نضل صاحبه، وان بقي له أقل من الخمس المشروطة لم يحصل النضل. والمناضلة إن يشترطا عشرة من عشرين على إن يستوفيا جميعاً، فيرميان معاً جميع ذلك، فإن أصاب كل واحد منهما عشرة أو فوقها أو دونها لم يحصل النضل، وان أصاب واحد منهما دون العشرة والأخر عشرة فما فوقها، فقد نضل صاحبه.

وللعرب عناية خاصة بالخيل، وما زالوا يعتنون بها إلى اليوم، حتى لقد حفظوا أنسابها حفظهم لأنساب الناس، وألفوا الكتب فيها. ونجد في كتب الأدب واللغة أسماء خيل اشتهرت في الجاهلية. وذكر "ابن النديم" في كتابه "الفهرست" أسماء كتب ألفت في الخيل، ذهب أكثرها، وبقي بعض منها. ونجد في "تاج العروس" أسماء خيل اشتهر أمرها في الجاهلية ذكرت في مواضع متناثرة من أجزاء الكتاب. وذكر معها أسماء أصحابها، كما أشار إلى مؤلفات رجع إليها في هذا الموضوع مثل كتاب الخيل لابن الكلبي، وقد طبع، وكتاب الخيل لأبي عبيدة وقد طبع كذلك، ومؤلفات أخرى لم تطبع حتى الآن.

ولائم العرب

الوليمة كل طعام يصنع لعرس وغيره ويدعى إليه. وأما الدعوة: فهي أعم من الوليمة،. وأما المأدبة، فكل طعام صنع لدعوة أو عرس. والآدب الداعي إلى الطعام. وولائم العرب ست عشرة وليمة. هي: وليمة العرس، وهي ما يصنع للدخول بالزوجية، و "الملاك" "الأملاك" وهي ما يصنع الخطبة، و "الخُرس" وهي طعام يصنع للنفساء لسلامة المرأة من الطلق، وقيل: هي طعام الولادة. و "العقيقة" وهي ما يصنع للطفل بعد ولادته وتختص باليوم السابع، و "الأعذار" وهي،ما يصنع لختان، و "الشندخ" وهي أيضا طعام الأملاك، و "الوكيرة" وهي ما يصنع للبناء يعني السكن المجدد، و "التحفة" وهي ما يصنع للزائر، و "الشندخ" وهي طعام الأملاك كما ذكرت، وما يصنع عند وجود الضالة، و "النقيعة" وهي ما يصنع للقدوم من السفر، وقيل: النقيعة التي يصنعها القادم والتي تصنع له تسمى "التحفة"، و "القرى" وهي ما يصنع للضيف، و "الوضيمة" وهي ما يصنع للميت، أي لأهل المصيبة.

ويقال للدعوة التي تعم دعوتها "الجَفلَى"، وأما "النقرى" فهي التي تخص دعوتها. قال طرفة: نحن في المشتاةِ ندعو الجَفَلى  لا ترى الآدِبَ فينا ينتـقـر

يفتخر بقومه وانهم إذا صنعوا مأدبة دعوا إليها عموماً لا خصوصاً، وخصّ أيام الشتاء لأنها أيام الشدّة والضيق.

ويقال الطعام المستعجل، وهو الذي يقم للراكب: "العُجل" و "العجيل"، وهو من السويق والتمر في الغالب. وإذا أكرم رجل رجلاً آخر بتقديم "اللبن" إليه، قيل لذلك الكرم "القمي". ويقال لما يرفع للإنسان من المرق "العفارة". وهنالك أسماء تجدها في كتب اللغة لأنواع المأكول والأطعمة.

الفصل الخمسون

البيوت

ومساكن العرب متباينة مختلفة. منها: البيوت المتنقلة، ومنها.المباني المبنية بالمدر أو الحجر، وهي أبنية أهل الحضر. وهي مختلفة أيضاً في طرازها المعماري وفي سعتها ومادتها ويكون اختلافها باختلاف مكانها وباختلاف مكانة صاحبها، ومنزلته من حيث الغنى والفقر.

والبيت لفظة تطلق على الصغير من البيوت وعلى الكبير منها. وقد جعل "ابن الكلبي" بيوت العرب ستة: قبة من أدم، ومظلة من شعر، وخباء من صوف، وبجاد من وبر، وخيمة من شجر، وقنة من حجر، وسوط من شعر، وهو أصغرها. وذكر بعض علماء اللغة أن الخباء بيت صغير من صوف أو شعر، فإذا كان اكبر من الخباء فهو بيت، ثم مظلة إذا كبرت عن البيت. وهي تسمى ببيتاً أيضاً إذا كان ضخماً مزوّقاً. وذكر بعض آخر ان الخباء بيت يعمل من وبر أو صوف أو شعر. ويكون على عمودين أو ثلاثة. والبيت يكون على ستة أعمدة إلى تسعهَ. وذكر ان الخباء هوالبيت كيفما كان.

وذكر علماء اللغة ان البناء المبني، ويراد به أيضاً البيت الذي يسكنه الأعراب فى الصحراء. ومنه الطراف والخياء والبناء والقبة والمضرب. والطراف بيت من أدم ليس له كفاء، وهو من بيوت الأعراب ذكر في شعر طرفة بن العبد: رأيت بني غبراء لا ينكروننـي  ولا أهل هذاك الطراف الممدد

وقد اشتهر "بنو قيدار" بخيمهم المصنوعة من شعر الماعز. وقد أشير اليها في التوراة. وهم رعاة في الغالب يعيشون على الرعي، ولذا اتخذوا ييوتهم من شعر الماعز، فصارت ذات لون أسود. وقد اشتهروا ببراعتهم في الرمي بالقوس. وأصحاب الخيام المصنوعة من شعر الماعز أو من الصوف،هم من الأعراب أصحاب الماشية، الذين يعيشون في مواضع تكثر فيها الأمطار وتكون غير بعيدة عن المدن والقرى ومواضع الماء، ولذلك يعيشون في الغالب على الرعي.

وفي سعة الخيمة دلالة على منزلة صاحبها ومكانته وثراثه. ولذلك يفتخر العزيز منهم بسعة بيته، أي خيمته. وقد تقطع الخيمة بقاطع، يقسمها إلى قسمين: قسم للحريم،أي للنساء والسكن،لا يدخله غريب. وقسم يكون للرجل وللضيوف، يجلسون ويأكلون فيه. ويكون نادياً ومضيفاً يخصص للقادمين ولضيوف صاحب ذلك البيت.

ولسيد القبيلة خيمة كبيرة تكون "مضرب القبيلة"، ومقر السيد الرئيس ونادي القوم. يسمر فيها "رب القبيلة"، ويأوي اليها الضيوف. واليها يلتجيء المحتاج ومن به حاجة إلى الاقراء أو أية حاجة أخرى. ويفتخر سيد القبيلة بمضربه هذا، ويتباهى به على أقرانه، وتفتخر قبيلته به أيضاٌ، لأنه يرفع رأسها بين القبائل. وورد المضرب: الفسطاط العظيم، وهو فسطاط الملك.

وتضرب للسادات الأشراف والأغنياء قبب خاصة تكون من الأدم. فكان لرؤساء القبائل أصحاب العز قباب من أدم، كما كان من عادة ملوك الحيرة ضرب قباب من الأدم لأصحاب الجاه وسادات القبائل الكبار الذين يفدون عليهم. وتعتبر هذه القباب من امارات التعظيم والتفخيم والامتياز والجاه عند الملوك. ولذلك يعامل من تضرب له القبة معاملة خاصة. وتعرف قبة الأدم ب "قبة المبناة" أيضاً. وذكر بعض علماء اللغة أن القبةّ هي البناء من الأدم خاصة. وذكر بعض آخر أن القبّة من الخباء بيت صغير مستدير، وهو من بيوت العرب.

وذكر "الطبري" في كلامه عن غزوة الخندق، أن الرسول أدار المعركة "وهو ضارب عليه قبةّ ترُْكيِة". ولم يشر إلى -شكل هذه القبةّ ولا إلى سبب تسميتها بذلك.

وقد اشتهرت "القباب الحمر" المصنوعة من أدم، ياًوي اليها أصحاب الجاه واليسار والمشهورون. وقد ذكر أن النابغة الذبياني كان يضرب له بسوق عكاظ قبة حمراء من أدم، فتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها. وكان ممن أنشده "حسان بن ثابت". وقد انتقده النابغة بأدب ولطف. وقيل إن بيت الأدم، قبة الملك، يجتمع فيها كل ضرب، ياًكلون الطعام.

ويذكر أهل الأخبار ان العرب تضرب الأخبية لأنفسها، والمضارب لملوكها، والمضارب انما ترتبط بالأوتاد. وذكر ان الخباء هو ما كان من وبر أو صوف ولا يكون من شعر، وهو على عمودين أو ثلاثة، وما فوق ذلك فهو بيت. وقيل: الخباء من شعر أو صوف، وهو دون المظلة. وهو من بيوت الأعراب. وذكر ان "المظلة" الكبير من الأخبية ذات رواق، وربما كانت شقة وشقتين وثلاثاً، وربما كان لها كفاء وهو مؤخرها. قال بعض علماء اللغة انها تكون من الشعر، وقال بعض آخر لا تكون إلا من الثياب.

. و "المضرب" الفسطاط العظيم، وهو فسطاط الملك. وقد استعمل للملوك خاصة، ولأصحاب الجاه والعز والمكانة. ولهذا كانوا إذا مدحوا إنساناً وأرادوا 1لإشادة بمكانته وبمنصبه قالوا: "إنه لكرم المضرب شريف المنصب"، وإذا أرادوا ذم إنسان، قالوا: "ما يعرف له مضرب عسلة"، و "لا منبض عسلة"، أي من النسب والمال، يقال ذلك إذا لم يكن له نسب معروف ولا يعرف اعراقه في نسبه. ولما كانت المضارب من بيوت الملوك، وأهل الجاه وهم خيار "الناس ونخبتهم، صارت المضارب كناية عن الجاه والشرف والمال.

و "السرادق"، كل ما أحاط بشيء من حائط أو مضرب أو خباء.وقيل: كل بيت من "كُرْسُفْ" فهو سرادق. وترد اللفظة في الفارسية بمعنى حائط أو حاجز من نسج غليظ حول خيمة.

وذكر أن "الفسطاط" ضرب من بيوت الشعر. والظاهر أنه البيت الكبير. وورد "الفسطاط العظيم"، وهو "فسطاط الملك". وذكر أن الفسطاط هو مجتمع الناس. وذكر أن الفسطاط ضرب من الأبنية في السفر دون السرادق وبه سميت المدينة: مدينة الفسطاط. ويظهر أن الكلمة من الألفاظ المعربة عن الفارسية، وهي في هذه اللغة بمعنى "خيمة".

و "الطراف" خباء من أدم يتخذه الأغنياء. و "الطوارف" من الخباء ما رفعت من جوانبه ونواحيه للنظر الى خارج. قال عروة بن الورد: رأيت برني غبراء لا ينكرونني  ولا أهل هذاك الطراف الممدد

يعني ان الفقراء يعرفونني بإعطائي، والأغنياء يعرفونني بفضلي وجلالة قدري.

وتكوّن بيوت الأعراب المتناثرة، وهي خيامها، منازل القبيلة ومضاربها.

وتحيط خيامها بخيم الرئيس. فتكون من ذلك مستوطنة بدوية. ومنها يتألف مجتمع البوادي. ويرتبط حجم هذه المستوطنات، بسعة ماء المكان وبعدد بيوت القبيلة النازلة به، فإن كان الماء قليلا، قلّ عدد خيامها، وإن كان غزيراً، كثر عددها. واتسعت رقعة المضارب اتساعاً يتناسب مع كفاءة ذلك الماء وما على الأرض من رزق تعيش إبلهم عليه.

بيوت أهل المدر

أما أهل القرى والمدن، اْي أهل المدر، وهم المستقرون وشبه المستقرين،

فإنهم يقيمون في بيوت ثابتة أو شبه ثابتة. وهي تتفاوت بالطبع بتفاوت. منازل ودرجات أصحابها. فربّ بيت يكون من خيمة أو من أغصان شجر وعيدان وجربد، ويقال له "العنة". وقد قيل إن العنة الخيمة تتخذ من أغصان الشجر. وقيل البيت يعمل من الخشب.وربّ بيت يكون من طين، ويسقف بجريد أو باًغصان أو بحصير يطين أيضاً. ويختلف حجم مثل هذا البيت باختلاف حجم العائلة. وقد يبنى البيت باللبن وهو الغالب، وتكون حالة. أصحابها أحسن من حالة أصحاب بيوت الطين. وكنتيجة لتيسر مواد البناء في العربية الجنوبية، ظهرت مدن لا نجد لها مثيلاًفي أنحاء أخرى من جزيرة العرب. مدن كبيرة بيوتها ثابتة وبعضها ذو جملة طوابق، تحاط بأسوار عالية وأبراج وحصون يأوي فيها المدافعون.. وقد تمكن المنقبون من التنقيب في بعض خرائبها ومن وضع مخططات لبعض:شعابها أو مخططات عامة مبدئية للمدينة كلها وللسور الذي كان قي يحتضنها.

والقرية في نظر علماء العربية لفظة يمانية الأصل. يقولون إنها المصر الجامع، وكل مكان اتصلت به الأبنية واتخذ قراراً. وتقع على المدن وغيرها. ولكن الأغلب أنها أصغر حجماَ من المدن. وأنها تكون غير مسورة. فإذا أحاط بها "سور" صارت مدبنة. وذلك على نحو ما نفهم من نصوص الجاهليين ومن المتعارف عليه بن الساميين من أن القرية أصغر حجماَ من المدينة. وأن المدن هي القرى الكبيرة المسورة. وقد فهم علماء العربية هذا المعنى بالنسبة للمدينة أيضاً.

إذ قالوا مدينة: الحصن يبنى في اصطمة الأرض. وتقابل "مدنتو" Medinto في لغة بني إرم. وتقابل لفظة "هكر" "هجر" "هجرن" "هكرن" في لغة أهل اليمن. وهي لا تزال مستعملة في العربية الجنوبية لهذا اليوم. وذكر علماء اللغة أن "هجر" هي القرية بلغة حمير.

وورد أن العرب تسمي "القرى" مصانع، واحدتها مصنعة، يقال هو من أهل المصانع، أي القرى. و "المصانع" أيضاً المباني من القصور والحصون.

ويطلق العرب على الرجل من أهل القرى مصطلح: "أخضر النوّاجذ"، يريدون أنه ممن يأكل الكرات والبصل والبقول والخضر. ولا يتناول الأعراب هذه الخضر.

وفي العربية لفظة "الحير" بمعنى شبه الحظيرة والحمى، و "الحيرة" بمعنى المعسكر والمقام، و "الحائر" وهي من مواطن الحضر، أي - من المستوطنات.

قد كانت مستعملة بن الجاهليين. ومثلها "الحاضرة" و "الحضرة" و "الحضر"، وهي المدن والقرى والريف. وهي من مساكن الحضر وأهل القرار.

وتسمى المدن بأسماء. أما القرى والمستوطنات الصغيرة، فقد تسمى بأسماء، وقد تنسب إلى أصحابها المالكين لها أو إلى العشائر أو الأفخاذ أو الأسر النازلة بها. ولا تزال هذه العادة متبعة في مواضع من جزيرة العرب. أما بيوت كبار الناس وأغنيائهم، فتستعمل فيها الحجارة والخشب وغير ذلك من مواد تجعل البناء يدوم أمداًَ ويعيش مدة طويلة، وبفضل ذلك بقيتّ اثار بعض منها حتى الان.

ولا يزال الناس في مواضع من جزيرة العرب، ولا سيما الأماكن المعزولة القصية، يتخذون بيوتاً تشبه بيوت العرب قبل الإسلام، وخاصة بيوت سادات القبائل والرؤساء. وبعض ذلك قصور وحصون ذوات جدر وأسوار مرتفعة وتقوم في طرف من الأرض أبراج لها مزارق ومرابيع للدفاع، وأبراج مربعة. وقد تقع البيوت في عدة طبقات تحمى بمختلف وسائل الدفاع. وتستعمل الزينة من أصباغ محلية ومن حجارة طبيعية ذوات ألوان مختلفة. وأعتقد ان هذه الأبنية يجب أن يعنى بدراستها المهندسون المعماريون والآثاريون، فإن دراستها تحلّ لنا مشكلات كثيرة للفن العربي الجاهلي، وتوصلنا إلى وضع مخططات عن بقايا الأبنية الجاهلية القديمة التي تهدمت غالبيتها،أو اعتدى عليها الإنسان ويا للاسف فاستخدم حجارتها في أبنيته الحديثة، وقضى بذلك على معالمها في الغالب، وتجاوز على حجارتها المكتوبة فحطّمها وأبادها، وبذلك ألحق بتأريخ العرب قبل الإسلام ضرراً بليغاً.

وأعظم شئ في المدن هو هياكلها، أي معابدها المسماة بأسماء الالهة التي بنيت لها، وقصور الملوك وسادات القوم وأشرافهم. فلهؤلاء مال مكّنهم من بناء قصور ضخمة ذات جملة طوابق، بنوها بحجارة طبيعية اقتلعت من الصخور، وزخرفوا الوجوه البارزة منها،وأفتن فيها الفنانون على وفق أذواقهم وذوق طبيعة بلادهم، ونشروا الرخام الأبيض والملون وشرّحوه ألواناً رقيقة جعلوها في النوافذ بدلاً عن الزجاج. فهذه الأماكن اذن هي التي تتحدث لنا عن العمارة عند الجاهليين.

وقد استعين في بناء بعض المدن بحجارة اقتلعت من مواضع بعيدة بعض البعد عنها في بعض الأحيان. فقد ينيت "قرنو" "معين"، بحجارة جلبت من موضع يبعد عشرين كيلومتراً تقريباً من شمال "معين"، من "جبل اللوذ" أو من جنوب "جبل يام". ويرى بعض الباحثين احتمال جلب بعض الصخور اليها من مواضع تبعد ثمانين كيلومتراً من المدينة. وبعض هذه الأحجار ثقيل يبلغ طول الواحدة منها خمسة أمتار. وجاءوا ب "المرمر" إلى "شبوة" من موضع "مداث" و "كلوة" على مسافة خمسين كيلومتراً من المدينة.

وقد تبين من الدراسات. العامة الأولية التي قام بها الباحثون لخرائب المدن الجاهلية أن بعضها قد بني على شكل مستطيل، ويحيط به سور مستطيل الشكل أيضاً ذو أبراج، وبعضها بني على شكل إهليلجي أو قريب منه، وبعضها على شكل دائري. وقد أحيطت بأسوار لحمايتها من غزو الغزاة وللدفاع عن نفسها وللثبات بوجه الأعداء. ولها أبواب تغلق ليلاً وتحرس حراسة شديدة حتى لا تفاجأ المدينة بعدوً يأخذ على حين غرة، كما تغلق وتسدّ سداً محكماً أيام الحروب.

ويظن أن تخطيط المدن على شكل مستطيل كان هو الشكل الغالب، إذ وجد المنقبون أكثر خرائب المدن قد بني في الأصل على هذا النحو. ف"مأرب" بنيت على شكل مستطيل على رأي بعض من درس آثارها.وكذلك خربة "غربون" في جنوب "المشهد" بوادي ! حجرين" بحضرموت. وذهب بعض من زارها إلى انها كانت مربعة الشكل. وعلى هذا النحو كانت "شبوة" و "حريب" و "يلط" "يليط"، و "قرنو" الني هي معين في الجوف.

ومن المدن الني بنيت على شكل إهليلجي تقريباً مدينهّ "حاز" "حيزم ". وهي محاطة بسور يتراوح ارتفاعه من ستة أمتار إلى ثمانية أمتار، تخترقه خمسة أبواب. وبنيت مدينة "بيحان النقب" التي تقع على مسافة عشرة أميال الى الشمال من "بيجان" على شكل إهليلجي كذلك.

وقد تبين أن أكثر المدن اليمانية القديمة قد بني في بطون الأودية على مرتفعات طبيعية، أو صناعية،أي من عمل الإنسان. وقد يكون ذلك بسبب خصب الأودية وتوافر الماء فيها بسهولة، بحفر الابار أو من العيون أو بواسطة بناء السدود.

غير أن هناك مدنأَ أقيمت على الهضاب والنجاد وعلى سفوح الجبال، وذلك لتتمتع بحماية طبيعية وليكون من الصعب على الأعداء التغلب عليها. ومن المدن القديمة التي أقيمت في بطون الأودية مدينة "قرنو" "القرن" "معين"، فقد بنيت على تل أقامه المعينيون أنفسهم ارتفاعه خمسة عشر متراً عن سطح أرض الوادي، وذلك لحماية المدينة من طغيان ماء السيول في الوادي في موسم الأمطار.

وتحمي المدن حصون وقلاع، وقد تقام الأسوار وعلى مسافة من المدينة لتشغل العدو وتمنعه من الدنو منها، لتحمي مزارع المدينة وأموالها، وتكون أبنيتها حصينة ذات جدر سميكة فيها منافذ ترمى منها السهام، وفي أعلاها أبراج يرمي منها الرماة الحجارة والسهام على المهاجمين.كما تبنى في المدن نفسها خلف الأسوار، لحماية داخل المدينة من العدوّ عند تغلبه على الحصون والقلاع الخارجية، وأسوار المدن. وبيوت الملوك والأشراف وسادات المدينة، قلاع وحصون في حدّ ذاتها، فيها كل وسائل المقاومة والدفاع ومخازن لحفظ مواد الإعاشة، وآبار.

ويكاد يكون لكل مدينة من المدن حصن يقيها ويحميها،وقد اشتهرت وعرفت به. فاحتمت "ظفار" مثلاً بحصنها "ذو ريدان"، وأقيمت "شبام سخيم" عند حصن "عرّ ذو مرمر"، و "شبام اقيان" عند "الوة" "كوكبان"، و "بيحان" عند "ذي ريدان"، و "برج اتوت" على "ميفع ظبيان"، وأنشئت "غيمان" على تلّ مرتفع يحمي المدينة من المهاجمين. وأقيم "ذو معاهر" ليحمي مدينة "وعلان" ب "ردمان".

ويظهر من كتابات المسند ومن الاثار ان بعض مدن اليمن كانت مسورة، محيط بها سور للدفاع عنها. ويقال لمثل هذه المدن "هجرن" في العربيات الجنوبية، أي "المدن". مثل "هجرن قرنو"، بمعنى المدينهٌ "قرنو" وهي عاصمة معين. و "هجرن مرب"، أي المدينة مأرب، و "هجرن نجرن" أي المدينة نجران، المدينة الشهيرة عاصمة مخلاف نجران والتي لا يزال اسمها حياً.، معروفاً في العربية السعودية في هذا اليوم.

و تختلف أطوال -أسوار المدن وارتفاعاتها بحسب حجم المدن وبحسب مواقعها.

فالمدن الكبيرة تكون أسوارها طويلة يتناسب طولها مع سعتها. والمدن الني تبنى فوق الجبال والهضاب والمحلات الحصينة تكون أسوارها أقل ارتفاعاً من أسوار المدن المبنية في السهول. وقد وجد سور مدينة "قرنو" مستطيلاً، وطوله زهاء أربع مئة متر، وعرضه زهاء خمسين ومئتي متر، وعلى كل زاوية من زوايا هذا المستطيل الأربع برج لمراقبة الأعداء ولرميهم بالحجارة والسهام وبوسائل الدفاع الأخرى التي كانت ميسورة لهم.

وقد وجدت اسس سور مدينة "حيزم" "حزم"، وهي "حاز"، مبنية بحجر بركاني، أخذ من لابة قريبة من المكان. على حين بنيت أسس أسوار ألمدن الأخرى وجدرها من أحجار تقع مقالعها على مقربة من المدن المسوّرة، ليكون في الإمكان نقلها بسهولة إلى مواضع البناء.

وغالب مدن العربية الجنوبية، لها بابان متقابلان، فإذا كان أحدهما في الجدار الشرفي للمدينة كان الثاني في الجدار الغربي. وقد وجد في بعض المدن أربعة أبواب أو خمسة. ف "شبوة" عاصمة حضرموت كان لها خمسة أبواب، يقع الباب الرئيسي في الجهة الشمالية من المدينة. وتؤدي الأبواب إلى أفنية تكون متجمع الناس، تعلن على جدرانها الأوامر الحكومية ليقف عليها الغاديَ والرائح، ويعلن المعلنون فيها أوامر الحكومة، كما ينادي الدلالون بما عندهم من خبر أو بضاعة. وتكون هذه الساحات أسواقاً كذلك، ومواضع لتنفيذ أحكام القتل أو العقوبات الأخرى ليعتبر بها الناس. وهكذا تجد أن أبواب المدن كانت من أهم الأماكن العامة للمدينة في تلك الأيام.

وقد وجد بعض الأبواب، وهي الأبواب الرئيسية، محصناً من الجهتين ببناءين قويين، للدفاع عن الباب، فيهما منافذ ومواضع يرمي منها" المدافعون من يريد اقتحام المدينة. وبين البناءين أو الحصنين باب قوي يغلق في الليل وعند وقوع خطر ما. ويؤدي هذا الباب إلى ساحة تحيط بها غرف ومواضع لإيواء الجنود، ثم تنتهي هذه الساحة بحائط قوي أو سور يخترقه باب آخر يغلق ويفتح ليؤدي إلى المدينة. والغاية من وجود هذا الباب الثاني سدّ الطريق على الأعداء عند اقتحامهم الباب الاول وتغلبهم على الجواسيس ووصولهم إلى الساحة التي يقيم فيها الجنود، فيقابلهم عندئذ باب ثان يسدّ عليهم الطريق ولا يمكنهم من دخول المدينة إلاّ إذا تغلبوا على هذا الباب.

وقدُ عني العرب الجنوبيون بزخرفة الاْبواب وبزخرفة الإطار الذي ترتكز عليه، والجدار الذي يضم الإطار، والأعمدة التي تبنى على جانبي الباب أحياناً وللبناءين المحكمين اللذين يبنيان عند طرفي ابواب المدن والقصور والمعابد لحراستها. وتتصل شوارع المدن والقرى بهذه الساحات. والشوارع الرئيسية مبلطة في الغالب، ولا سيما الشوارع المؤدية إلى قصور الملوك ودور الكبار والحكومة والمعابد،وتؤدي إلى ساحات أمام هذه المواضع المهمة. ويكون تبليط الشوارع عندهم بتغطيتها بصخور عريضة مستطيلة أو مربعة نحتت بأطرافها بحيث يوضع طرف حجر فوق طرف الحجر الذي يليه، فيظهران كأنهما حجر واحد، أو بصقل أطراف الحجر صقلا جيداً ووضعه بجانب حجر مصقول آخر ولصقهما لصقاً تاماً، حنى يبدوَ ا كأنهما قطعة واحدة. ويظهر أنهم كانوا يعتنون عناية شديدة تامة بالتبليط. وقد تبين من دراسة بعض قطع شوارع مدينة "غيمان" الياقية من أيام الجاهلية حتى اليوم أن أهل هذه المدينة لم يعتنوا بتبليط شوارعهم عناية أهل المدن الأخرى، كما يتبين من طريقة رصف الحجر ومن وضعه بعضه إلى بعضه ومن دراسة المواد. الني توضع تحت الأحجار وبينها.

وللمدن حدود، ما كان بعدها عُدّ تابعاً للمدينة، وما كان خارجها عُدّ منقطع الصلة بتلك المدينة. وقد ذهب "رودوكناكس" إلى أن لفظة "اود" التي ترد في بعض الكتابات تعني "الحد" كما في هذه الجملة "اود هجرن"، أي "حد المدينة". وعندي ان المراد بها "السدود" وكل شيء يقي شيئاً. فإن الأياد في العربية ما أيد به من شئ، واياد كل شيء ما يقوى به من جانبيه، والتراب يجعل حول الحوض وافيء يقوى به أو يمنع ماء المطر. وعلى هذا فإن تفسير "اود" بسداد تحيط بمدينة أوفق في نظري من تفسيرها ب "حد" وحدود. والواقع أن من الصعب علينا في الزمن الحاضر أن نتحدث عن هندسة المدن وتخطيطها وعن طراز أبنيتها وارتفاعها، وعن ساحاتها وأسواقها، لقلة ألتنقيبات الأثرية العلمية واقتصارها على وجه الأرض وفي بقاع قليلة جداً من جزيرة العرب، وانعدامها من أكثر الأنحاء مع وجود آثار كثيرة فيها لا تزال مطمورة تحت الرمال.

ولو تهيأت للجزيرة بعثات أثرية على شاكلة البعثات التي تقصد العراق أو بلاد. الشام أو فلسطين. أو مصر أو غيرها من أماكن، لكان علمنا. بأحوال المدن العربية الجاهلية وبأحوال الجاهليين غزيراً جديداً يختلف عن هذا النزر اليسر الذي نتحدث به عن أحوال العرب قبل الإسلام.

اما الحجاز، فالظاهر أن الطائف منه، كانت القرية أو المدينة الوحيدة المحاطة بجدار أو حائط، يمكن أن نسميه سوراً. وكان يحيط بالمدينة وبه مواضع يتحصن فيها، وفيها تحصمت ثقيف يوم قاومت الرسول في أثناء حصاره لها. وكانت له أبواب أغلقوها عليهم، وامتنع على المسلمين عندئذ الدخول منها، والاقتراب من الجدار. ولما اختفى المسلمون تحت دبابة، ثم زحفوا بها إلى جدار للطائف، أرسلت عليهم ثقيف سكك الحديد محماة بالنار، فخرجوا من تحتها، فرمتهم ثقيف يالنبل،، وقتلوا رجالاً من المسلمين. وأما مكة، فيظهر من وصف أهل الأخبار لها أنها لم تكن مسورة. وإنما كانت ذات منافذ وطرق تؤدي إلى داخل المدينة وتمر بالشعاب. وعلى كل شعب حماية حدِّ شعبه من الأطراف عند دنو عدوّ من مكة. وأما المدينة، فلم يكن لها سور كذلك. ويمكن أن يقال مثل ذلك عن بقية قرى الحجاز.

ولا نجد في وصف أهل الأخبار لقرى أهل الحجاز وبيوتها، ما يفيد بوجود أبنية ضخمة فيها على طراز أبنية اليمن. فلم يتحدث أهل الأخبار- عن وجود قصور فيها تشبه "قصرغمدان" أو "قصر ذو ريدان" أو غير ذلك من القصور. حتى مكة وهي أم القرى لا يشير أهل الأخبار إلى وجود بناء ضخم فيها على طراز أبنية اليمن، ولا وجود بيت كبير فيها على طراز بيوت سراة اليمن.

و "دار الندوة"، وهي دار قصي،مؤسس ملك قريش، لم تكن داراً ضخمة ولا كبيرة على ما يظهر من روايات أهل الأخبار ويظهر أن أهل الأخبار لم يحفلوا كثيراً بالنواحي العمرانية من الجاهلية، لذلك صارت معلوماتنا بسيطة جداً عنها من هذه الناحية. فلا نكاد نعرف شيئاً عن بيوت مكة أو غيرها قبل الإسلام. وقد كانت بيوت المتمكنين من الناس وأصحاب اليسر والمال، مشيدة يالحجارة وباللبن. ويذكر علماء اللغة أن كل بيت مربع مسطح، فهو "أجم". ويظهر من شعر ينسب إلى امرىء القيس وتيماء لم يترك بها جذع نخلة  ولا أجماً إلا مشيداً بجنـدل

أن آجام "تيماء"، كانت مشيدة بالجندل. والجندل الحجر، وقيل الصخور، وذكر أنها الصخرة كرأس الإنسان. وقد استعين بتشييد السقوف بجذوع النخل. ويقال للاجام: القصور بلغة أهل الحجاز، وعرفت بالآكام كذلك، وهي بمثابة الحصون، يتحصن بها أوقات الخطر. والقصر عند العرب كل بناء من حجر، وذكر أن اللفظة "قرشية". ووردت لفظة "قصر" و "قصور" في القرآن الكريمْ. وقد ذهب المفسرون إلى أن معنى "مشيد" في.الاية: )فكأيّنْ من قرية أهلكناها وهي ظالمة، فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصرٍ مشيد(، المجصص. والجص بالمدينة يسمى: المشيد. فالقصر، البناء الضخم المبني بالجص والحجارة،، وقد يكون منفرداً محصناً، وقد يكون في قرية، مع قصور أخرى، ولكل قصر بئر، يؤخذ منها الماء. وهي ضرورية جداً بالنسبة لبيوت ذلك الوقت.

ويظهر من روايات أهل الأخبار عن البيوت أن في بيوت يثرب بيوت تكوّنت من طابقين. طابق أرضي وطابق علوي. وكانوا يسكنون الطابقين. ولعلهم كانوا يودعون ماشيتهم ودوابهم الطابق الأرضي، أو مواضع خاصة بها ملحقة بهذا الطابق. وكانت دار "أبو أيوب الأنصاري" التي نزل بها الرسول ذات طابقين نزل الرسول بطابق، وسكن "أبو أيوب" بالطابق الثاني.

وكان سادات القرى قد حلّوا مشكلة الدفاع عن أنفسهم وعن مواليهم ببناء أبنية حصينة ذات جدران سميكة قالوا لها الحصون والآطام والواحد هو الأطم. فكان أهل المدينة من الأوس والخزرج يلجأون إلى آطامهم وقت الخطر فيتحصنون بها ويمتنعون، وكذلك كانت ليهود وادي القرى حصون وآطام. بها آبار ومواضع لخزن ذخيرتهم وما عندهم من غال وثمين ودخلوا حصونهم وآطامهم وأغلقوا عليهم الأبواب. وبذلك صارت القرية مجموعة حصون وآطام.

والأطم القصر وكل حصن بني بالحجارة. وقيل هو كل بيت مربع مسطح. وقد ورد أن "بلالاً الحبشي" كان يؤذن على أطم المدينة. وقد اشتهرت بها المدينة. وذكر أن الأطمة الحصن. وأن "الأضبظ بن قربع بن عوف بن كَعب ابن سعد بن زيد مناة بن تميم"، بنى أطماً باليمن، عرف باسمه: "أطم الأضبط". وكان قد أغار على أهل صنعاء. وأشر في شعر "أوس" إلى "آطام نجران". حيث ذكر أن اًحد الملوك بث الجنود في الأرض، فأخذوا بقتل أعدائه ما بين بصرى وآطام نجران.

ويظهر من روايات أهل الأخبار أن قرى الحجاز ومدنها كانت شعاباً، أي أحياء. تكوّنت على الطريقة البدوية. وذلك بإقامة كل عشيرة في حيّ معين من أحياء القرية أو المدينة. وتكون بين الحي عصبية مثل عصبية أفراد القبيلة للقبيلة. وينتمي الحي إلى القبيلة أو العشيرة التي يرجع اليها، ويتعصب لها. ويشعر أن بين أفراد الحيّ قرابة ورابطة دم. ويعبر عن سكان الحي ب "آل.....". ويكون وجيه الشعب، هو نقيبه وممثله وسيده.

وقد يقال للمنزل أو المحلة "الربع" والجمع "الرباع". وذكر أن "الرباع" المنازل وجماعة الناس. فتتألف كل قرية أو مدينة من رباع.

وقد كانت "الحيرة" على هذه الشاكلة أيضاً. فقد كانت مؤلفة من مواضع حصينة بناها سادات المدينة وأشراف الأحياء، عرفت عندهم ب "القصور" والمفرد "قصر". فإذا داهم المدينة خطر دخل أهل الحيّ قصر سيدهم وشريفهم وتحصنوا به.

الأبراج

وتؤلف الأبراج والحصون ص فحة من صفحات كتاب الفن المعماري والحربي في التأريخ الجاهلي. فقد بنيت لتؤدي واجب الدفاع والحماية والوقوف بجبروت وتعنت في وجه من يريد الكيد بمن يحتمي وراء تلك الحصون. وطبيعي أن تراعي في تصميمها وبنائها الأغراض التي من أجلها شيدت وبنيت والمكان الذي تقام عليه. ويراعى في جدران الحصون أن تكون سميكة وأن تبنى بمواد متماسكة تماسكاً شديداً حنى لا تنهار عند ضرب المهاجمين لها ومحاولتهم تهديمها لايجاد ثغر فيها يهجمون منها، وتنشأ فيها مخازن لخزن الأسلحة، ويُيسَّر فيها الماء ومواد المعيشة التي يحتاج اليها المدافعون، وتحدث منافذ في أعالي الأبراج لرمي المهاجمين منها. ويكون سمك الحائط عند القاعدة أكبر من سمكه في أعلاه. وأما الأبواب المؤدية إلى الحصن، فإن الطريق اليها لا يكون مستقيماً ممتداً، بل بأخذ اتجاهات مختلفة، ويمر بممرات وقاعات،ليكون في امكان المدافعين الاحتماء بها حين يتمكن المهاجمون من اقتحام الباب الخارجي.

وتقام الأبراج فوق الأسوار والأبواب لحمايتها من المهاجمين. وتكون هندسة بنائها عندئذ متناسبة مع هندسة بناء السور أو أعلى الباب. وقد تنتهي بما يشبه الأسنان والأفاريز، ليتمكن المدافع من إصابة المهاجمين بما عنده من مواد مؤذية فيمنعهم بذلك من اقتحام السور ومن إلحاق أي أذى به. وذكر علماء العربية أن "البرج" بيت بنى على السور والحصن. وقد يسمى بيتاً. وذكروا أن برج الحصن ركنه. ولم يذكر أولئك العلماء أصل الكلمة. وهو من الألفاظ المعربة عن اليونانية، إذ هو Pirghos فيها. بمعنى "بناء" وبرج فوق بناء يدافع به المدافعون ولصدّ المهاجمين من التقدم نحوه.

الطرق

وتوجد آثار طرق جاهلية في اليمن وفي بقية العربية الجنوبية مبلطة تبليطاً حسناً، وأخرى ممهدة تمهيداً فنياً. وقد انشىء بعضها في أرض جبلية وفي أرضين وعرة، وذلك باستعمال آلات بمهارة في قطع الصخور لانشاء هذه الممرات. وأنشىء بعض إخر في الأودية وفي السهول برفق وعناية وقد كسيت ورصفت بالأحجار رصفاً متيناً قويأَ كالذي يظهر من بقايا هذه الطرق التي لا تزال متماسكة شديدة، تقاوم الأيام بالرغم من طول عمرها ومن عدم اهتمام الناس بها.

ومن الطرق الجاهلية الني وجدها السياح والباحثون، طريق "مبلقة" "مبلقت" في وادي بيحان. الذي يتراوح طوله من ثلاثة أميال إلى أربعة أميال، ويرجع عهده الى حوالي السنة "325" قبل الميلاد في تقدير بعض الباحثين. وهو يؤدي إلى "حريب". وقد رصف وجهه وكسي بصفاح ضخم عريض. ونحت قسم منه طوله زهاء مئة قدم في الصخر نحتاً إلى عمق ثلاثين قدماً، وذلك اختصاراً للمسافة. وهو عمل يقدر بالنسبة ذلك الزمن.

ومن هذه الطرق طريق مدرج عمله الجاهليون في المرتفعات المؤدية إلى "وادي ذنه" على مقربة من مأرب. "مدرج نقيل" "نقيل مدرج". وقد نحت في الصخر وطريق آخر عرضه زهاء أربعة أمتار يقع شمال "معبر"، وطريق اخر يؤدي من هضبة "عقبة" إلى وادى عرمة ثم الى "شبوة". وطريق في جنوب حافة جبل اللوذ، نحت نحتاً في الصخر حتى يؤدي بسالكيه من "خربة السود" إلى "كعاب اللوذ". ونجد طرقاً نحتت في صخور المرتفعات والهضاب والجبال لتؤدي إلى الحصون "العر" والمحافد والقصور والمدن مثل "عر ذو مرمر" و "عراتوت" "حصن أتوت" في أرحب، و "قصر ريدان" "ذو ريدان" "جبل ريدان في بيحان". واشير في النص Glaser 824 إلى طريق جبلي، عمل على جبل "جحاف" في هضبة "الضالع".

ومن الطرق الجبلية المسماة "منقل" في المسند، طريق في جبل "عمان" يؤدي إلى "مأرب". وقد ذكر علماء اللغة أن "المنقل الطريق في الجبل". وقد وصفه "هاملتون"، الطريق القديم الذي ربط عدن بالداخل. وهناك طريق معروف مشهور اشتهر باسم "درب الفيل"، ينسب الى "التبع أسعد كامل" في حوالي السنة "400" للميلاد، ومنه بقايا بين "تربة" ومواضع أخرى من أعالي اليمن.

وقد وجدت شوارع المدن وطرقها مبلطة مرصوفة رصفاٌ حسناً في بعض الأحيان بحجارة وضع بعضها فوق بعض، وربطت بينها مادة بناء مثل الجبس، ذات قوة وتماسك كقوة "السمنت" وتماسكه حين يجف. وقد رصف بعضر آخر بحجارة مربعة أو مستطيلة قدت من صخر، وضع بعضها إلى جانب بعض وضعاً محكماً بحيث بدت وكأنها حجر واحد،ورصف بعض آخر بحجارة هذبت اوجهها وصقلت وجعلت لها حوشي منخفضة، وحواشي بارزة يكون سمكها سمك القسم المنخفض من الحواشي المنخفضة حتى توضع فوقها فتغطيها، فتكون الأحجار متماسكة بذلك كقطعة واحدة. وقد وجد بعض الطرق مكسواً ب "الاسفلت".

وقد ذكر علماء اللغة أن "البلق" الرخام، وحجارة باليمن تضيء ما وراءها كالزجاج. ولم يذكروا أن "مبلقة" بمعنى الطريق الممهد، وقد تبين من فحص البقية الباقية من الطريق القريب من "غيمان"، وعهده أيام ما قبل الإسلام، أن تبليطه ورصفه لم يكونا على جانب كبير من الدقة والعناية. وهو بعرض أربعة أمتار تقريباً، ويؤدي إلى "قصر غيمان". وقد أقيم في موضع منه على سدّ ارتفاعه خمسة أمتار،وقد حفظ من الجانبين بحدارين.

ويقال للطرق الضيقة الني يسلكها الإنسان للوصول إلى أعلى البرج أو القلعة "محول" في اللهجة المعينية. وقد تكون مسقوفة، وقد تكون بغير سقف، كما تكون مدرجة أي ذات سلالم،وربما لا تكون كذلك، وقد تؤدي الى ارتفاع، وقد تكون ممراً مستوياً يخترقه الإنسان كالدهليز، واتخذ الجاهليون القناطر، والقنطرة لغة في ألجسر، ويراد بها القنطرة المعقودة المعروفة عند الناس. والعرب تسمي كل أزج قنطرة. وقد ورد ذكرها في شعر لطرفة بن العبد. هي تعقد بالحجارة وتشاد بالجص أو بجياد وهو الكلس. ويعبر عليها الناس ووسائط النقل وقد عثر على آثار قناطر في مواضع متعددة من جزيرة العرب،ولا سيما في اليمن وبقية العرببة الجنوبية حيث تكثر الأودية والسيول. وجاء في شعر لطِرفة بن العبد"، هذا البيت: كقنطرة الرومي اقسم ربها  لتكتفنن حتى تشاد بقرمـد

وقد ذكر "الزوزني"، أن صاحب القنطرة وهو رومي، حلف ليحاطن

بها حتى ترفع أو تجصص يالصاروج أو بالاجر. وأن القرمد: الآجر، وقيل هو الصاروج، والشيد الرفع والطلي بالشيد وهو الجص. ولم يذكر الشارح موضع القنطرة المذكورة التي بناها صاحبها وهو رومي فنسبت اليه.

أثاث البيوت

وليست لدينا صور واضحة دقيقة عن بيوت أغنياء المدن، وعن محتوياتها وعما فيها من أثاث وأدوات. غير أن بعضاً منها يجب أن يكون واسعأَ كبيراً حوى كل وسائل الراحة المتوفرة بالقياس إلى ذلك العهد. فرجل مثل "عبد الله بن جُدعان" كان ثرياً ثقيل الثراء، يملك انية من الذهب والفضة، ويشرب يكؤوس غالية، ويأكل أكلات غريبة، ويتفنن في مأكله، وقد استحضر لذلك طبّاخين من الخارج من العراق مثلاَ، ليطبخوا له طعاماً غريباً عجمياً، أقول إن رجلاً مثل هذا لا بُدّ أن يكون بيته بيتاً كبيراً يتناسب مع ثراء صاحبه وماله وقد بني بناءً محكماّ، وأحصنت جدرانه وارتفعت حتى يكون في مستطاعه التحصن فيه وقت الخطر والمحافظة على نفسه من السراق والطامعين في ماله في الليل والنهار. ولا بد أن يكون بيت عبدالله بن جُدْعان هذا قد بني من أجنحة متعددة، جناح لسكناه مع نسائه، وجناح لقيانه وخادماته وجناح لخدامه وعبيده، وجناح لاستقبال أصحابه وندمائه وأصحاب الحاجات والأشغال، فقد كان يجلس للاصدقاء يتسامر معهم ويسمع معهم غناء قيانه، وعلى رأسهن "الجرادتان"، وهما قينتاه المختارتان، وكان لهما صوتان شجيان، وقد اشتهرتا بمكة، وخلد ذكرهما حتى الآن، فلا يعقل أن يكون بيته صغيراً أو حقيراً أو بدائياً، إذ لا يتناسب ذلك مع ما يذكره اًهل الأخبار وبروونه عن ثرائه وبذخه وعن شربه بآنية من ذهب وفضة، إلى غير ذلك مما يحملنا - لو صدقنا روايات الأخباريين - على أن ببته يجب أن يتناسب مع ثرائه.

وعاصر ابنَ جُدْعان نفر آخر كانوا من أغنياء مكة ومن أصحاب المال والثراء، لهم ذوق في الجمال وحب للشراب، وكان لهم خدم وحشم، ورجال من هذا الطراز لا بد أن تكون بيوتهم حسنة ومن حجارة، وفيها وسائل الراحة، ولها مواضع خاصة بإقامة النساء، وأماكن خاصة باستقبال الضيوف، ومواضع لإقامة الخدم والصيد. والحيوانات التي يرتبطها للركوب، وحجر لحفظ الأطعمة والأشربة بمقادير كافية احتمالاً لحالات الطوارئ.

وعرفت الزرابي، وهي "الطنافس"، في بيوت أثرياء الجاهليين وقصور الأمراء. وقد ذكرت "الزرابي" و "النمارق" في القرآن الكريم. وورد أن الزرابي ضرب من الثياب محبر، منسوب إلى موضع، وذكرت "الزرابي" في شعر"حسان".

وعرف عند الجاهيين نوع خاص من الطنافس قيل له "الرحال"، ذكر أنه من طنافس الحيرة. واليه أشار الأعشى بقوله: ومصاب غادية كأن تجارهـا  نشرت عليه برودها ورحالها

وقد استعملت الكراسي والأسرة في بيوت الأغنياء. والكرسي السرير. واما السرير، فهو ما يجلس عليه وينام فوقه أيضاً. وقد عبر به عن الملك والنعمة.

والظاهر أن ذلك بسبب كونه من مظاهر الغنى والجاه. و"الخلب" الكرسى قوائمه من حديد.

ويقال للمجلس "الموثب" في لغة "حمير". ويراد بها أسفل الشيء وما يستقر على الأرض. وهي قريبة في المعنى من لفظة "شت" و "اشدو".

وقد استورد أهل مكة الأواني الغالية والأثاث الراقي من بلاد الشام، لما عرفت به هذه البلاد من التقدم في الصنعة وحسن الذوق، ولقربها من الحجاز، كما استوردوها من العراق " ويمكن معرفة أصولها والأماكن التي وردت منها بدراسة أسماءها. فأكثر أسماء الأشياء المستوردة، هي أسماء معربة. عربت من اصول أعجمية، ويمكن الوقوف على أصلها بدراسة أصولها اللغوية التي جاءت منها. وقد تبنى "دكك" عند باب البيت، يحلس عليها الدرابنة، أي "البوابون"، لمنع الغرباء من الدخول داخل البيت، ولحراسة الدار. وقد أشير اليها في شعر ينسب للمثقب العبدي: فابقي باطلي والجد منها  كدكان الدرابنة المطين

أما بيوت الفقراء، فهي كما يظهر من روايات أهل الاخبار، بيوت حقيرة

إن جاز اطلاق لفظة "بيت" و "بيوت" عليها. وهي من طين ومن بيوت شعر، لا تقي من برد ولا من حر.، لذلك فإن الطبقة الفقيرة عاشت عيشة بؤس وشقاء. وليس في مثل هذه البيوت مرافق صحية ولا مغاسل ولا حمامات، فكان اصحابها يقضون حاجاتهم في خارج البيوت. وإذا كان من السهل على الذكور أداء هذا الواجب، فإن ذلك كان من ت أصعب الأشياء بالنسبة للاناث.

وسائل الركوب

وكان السير على الأقدام للوصول إلى المواضع المقصودة هو المألوف عند أكثر الناس، بسبب فقرهم وعدم تمكنهم من امتلاك دابة ركوب. لقد كان أكثرهم يقطع مسافات طويلة مشياً على قدميه في ذهابه الى قبيلته أو للتنقل من مكان إلى مكان. أما المتمكنون منهم، فقد ركبوا الجمال في قطع المسافات البعيدة والأرضين الصحراوية، وركبوا الخيل والبغال والحمر في القرى وفي الأرضين التي لا تغلب عليها الطبيعة الصحراوية.

ولحماية النفسى أثناء النوم من "البعوض" والحشرات الأخرى استعملوا "الكلل". و "الكلة" ستر رقيق يخاط كالبيت يتوقى به من الحشرات. ومن هذه الحشرات والهوام: البعوض، واكثر ما يكون في بيوت الحضر، حيث تتوفر له وسائل النمو والمعيشة، من أوساخ ورطوبة وماء. وفي المواضع التي يكثر وجود الماء بها مثل خيبر، حيث عرفت بكثرة بعوضها الحامل للبرداء "الملاريا.". و "الناموس"، و "البرغوث" الذي يزعج الإنسان ويقلقه، فلا يجعله يستريح في نومه، ثم الذباب.

آداب المجالس

وللقوم آداب في مجالسهم على الإنسان اتباعها ومراعاتها، من ذلك أن لكل بيت مهما كان حجمه أو مكانته حرمة. وأن على كل إنسان صيانة حرمة بيته وبيت غيره سواء بسواء. لأن بيوت الناس هي في الحرمة سواء. ومن ينتهك حرمة بيت غيره يكون قد قام بإثم كبير وعرض نفسه لانتقام أهل البيت المنتهك منه. وقد يؤدي ذلك إلى وقوع قتال بنداء العصبية وبتجمع أهل البيت للاخذ بثأرهم ممن ثلب حرمة بيتهم وتطاول عليه، ودنس شرفه، بالاساءة اليه. ولن تغفر الاساءة ولا يغسل عارها إلاّ بالانتقام وبالانتقاص من شأن ذلك الإنسان الذي انتهك حرمة بيت غيره.

ومن حرمة البيت عدم جواز دخوله إلاّ بإذن من صاحبه. فإن دخل اليه دون إذن، عنف الداخل وأنب، وان ثبت أنه دخله عن غاية وتصميم عدّ معتدياً عليه منتهكاً لحرمته. ويكون جزاءه الانتقام منه. وعلى من يريد دخول بيت الاستئذان من أصحابه حتى وإن كان البيت خيمة مهلهلة تذروها الرياح. لأن تلك الخيمة هي بيت ومأوى. ولا ينظر الناس إلى نوع البيت والى جنسه بل إلى أهله، فالبيت بأهله لا يكيفيته،وحرمته من حرمة أصحابه.

وقد كان بعض الجاهليين يدخلون البيوت كل. غير استئذان، ولا سيما الأعراب. ومنهم منَ كان يقف عند الباب فين ادي: يا فلان اخرج، أو يا فلان أدخل. ونجد في كتب السير والأخبار أن من الأعراب من كان يقف اًمام حجر النبي وينادي: أخرج يا محمد ? ولهذا شدد على "الاستئذان" وعلى السلام في الإسلام. ولا يخاطب الرجل الرجل الأكبر منه سناً أو منزلة باسمه، وإنما يخاطبه بكنيته. كأن يقول يا أبا فلان، وتكون الكنية باسم الابن الأكبر، إلاّ إذا حدث ما يستوجب عدم ذكر اسمه. فيكنى بغيره ممن يختارهم ذلك الرجل. وقد لا يكون ولداً، ولكنه يكنى مع ذلك بكنية يختارها هو، أو تكون متعارفة عن الاسم بين الناس. ولا تزال عادة التكنية مستعملة عند الحضر وعند الأعراب. وقد عرف بعضهم الكنية بي )اسم يطلق على الشخص للتعظيم نحو أبي حفص وأبي حسن، أو علامة عليه(. وتقوم الكنية مقام الاسم فيعرف صاحبها بها كما يعرف باسمه كأبي لهب عرف بكنيته. وأبو فلان كنيته.

التحية

والعادة عند الجاهليين أن يحيى الصديق صديقه إذا رآه. والتحية: السلام.

ومن تحياتهم: حيّاك الله أو حياك.... ثم يذكر الصنم. وإذا كان اللقاء صباحاً قالوا: أنعم صباحاً وعم صباحاً، أما إذا كانوا جماعة فيقول عندئذ: أنعموا صباحاً، وعموا صباحاً، وإذا كان الوقت مساءً، قال أنعم مساءً وعم مساءّ وأنعموا مساءً إذا كانوا جماعة.

والمصافحة معروفة عند الجاهليين. وتكون باليد اليمنى. وقد يتصافحون باليدين. وقد يتعانقون، إذا كانوا قد جاؤوا من سفر أو من فراق. وقد أشير في الحديث إلى المصافحة باليدين عند اللقاء.

وتكون إجابة الصغير للكبير بتلبية مؤدبة،. فإذا سأل إنسان ذو منزلة إنساناً آخر أقل منزلة منه أجابه بجمل فيها أدب وتقدير مثل لبيك وسعديكْ. أي لزوماً لطاعتك، وأنا مقيم على طاعتك، واجابة لك، وأنا مقيم عندك، واتجاهي اليك وقصدي لك وما شاكل ذلك من معان ذكرها علماء اللغة. ومن هنا قيل لقول الحجاج في الحح: لبيك اللهم لبيك، التلبية، ويجاب ب "نعم" وب "نعم وكرامة". وقد يكون الجواب لطلب عمل عملٍ. كأن يطلب رجل من رجل آخر عمل عملٍ، فيقول له: "نعم"، و "نعم وكرامة"، و "نعم عين ونعمة عين"، و "نعام عين"، و "نعيم عين"، و "نعام عين". وتعدّ لفظة " بلى" من ألفاظ الإجابة كذلك.

ومن آداب البيت الامتناع عن قول الفحش بحضور النساء. وعدم النظر بسوء إلى البنات والنساء، وعدم تركيز النظر عليهن. لأن معنى ذلك توجيه إهانة إلى رب البيت، واظهار أنه إنما قصد من دخول البيت التمتع برؤية النساء. وعليه السيطرة على نفسه وضبطها فلا يسمح لنفسه بإخراج الريح من جوفه، لأن ذلك عند العرب عيب كبير. فالضراط و الفساء إذا وقعا من إنسان بحضرة غرباء عدّا من المغامز التي قد يؤاخذونها على الرجل. لا سيما إذا كان الرجل معروفاً مشهوراً وله حسّاد.

ومن عاداتهم: تشميت العاطس، لا سيما إذا كان كبيراَ ذا جاه. كان يدعى له بطول العمر. وقد أكده الإسلام. فإذا عطس إنسان قال: الحمد لله فيجيبه الحضار ب "يرحمك الله". ويحمد العطاس عند العرب، ما لم يكن من زكام ويذم التثاؤب. وذكر أن كل دعاء بخير فهو تشميت.

ويقال للشاب إذا سعل: عمراً وشباباً. أما إذا كان الساعل شيخاً أو رجلاً بغيظاً، فيقال لهما: ورياً وقحاباً. وللحبيب إذا سعل: عمراً وشباباً.

وكانت تحيتهم للملك أن يقولوا: أبيت اللعن. وإذا قال أحدهم للآخر: أنعم صباحاً، أو أنعم مساءً، أو أنعم ظلاماً، أجابه صاحبه: نعمتَ.

ثقال الناس

ومن الناس مَنْ يسُتثَقل ظلهم ويرجى انصرافهم بسرعة. لثقل طبعهم ووجود جفاوة فيهم، أو تلبد في طبعهم يجعلهم لا يدركون طباع الناس. ويقال لأمثال هؤلاء: الثقلاء. وثقال الناس وثقلاؤهم من تكره صحبته ويستثقله الناس. يقال: مجالسة الثقيل تضني الروح. ويقال: هو ثقيل على جلسائه، وما أنت إلاّ ثقيل الظل بارد النسيمْ.

ومن الثقلاء من يطيل الجلوس في المجالس: أو يدخلها دون دعوة، أو يتدخل فيما لا يعنيه أو فيما يجهله ليظهر علمه وفهمه. أو يزور صديقاً في وقت لاتستحب زيارة أحد فيه، أو يعود مريضاً ثم يطيل الجلوس عنده. وكانوا إذا وجدوا من الثقيل بلادة، فلربما أسمعوه كلاماً يشعر بتثاقلهم منه، فإذا لم ينتبه أشعروه بصور أخرى تفهمه أنه ثقيل الظل حتىّ يرحل عن المجلس و "الظريف" على عكس "الثقيل"، يستظرفه الناس ويستملحون كلامه ويحبّون مجالسته. وهو البليغ الجيد الكلام، أو هو حسن الوجه والهيئة، كما يكون في اللسان. وقيل الظرف: البزاعهّ وذكاء القلب. والبزاعة هي الظرافة والملاحة والكياسة.

وقد يدعون بالشر على الأعداء والحساد والثقلاء، فيقولون: رماه الله في الدوقعة، أي في الفقر والذل، و "أخسّ الله حظه"، و "أبعد الله دار فلان، وأوقد ناراً إثره". والمعنى لا رجعه الله ولا ردّ ه. و "أبعده الله وأسحقه وأوقد ناراً إثره".

للصلف

وأما "الصلف"، فالتمدح بما ليس عندك. وقيل مجاوزة قدر الظرف والبراعة فوق ذلك تكبراً. وفي الحديث:آفة الظرف الصلف. وهو الغلو في الظرف والزيادة على المقدار مع تكبرْ. وهو مكروه ويستثقل صاحبه ويقل أصحابه.

المجالس

والعادة عندهم أنهم إذا زاروا ملكاً أو سيد قبيلة أو عظيماً، لبسوا أحسن ما عندهم من لباس، وتزينوا بأجمل زينة يعرفونها ومنها الكحل والترجيل ولبس جبب الحيرة المكففة بالحرير،كالذي فعله سادات نجران يوم وفدوا على الرسول. والتكحل عادة منتشرة عند جميع الجاهليين رجالاً ونساء وفي كل جزيرة العرب. كما كانوا يتطيبون بالطيب والعطر.

ومن آدابهم في مجالسهم قيام القاعد للقادم عند قدومه وتوجيهه التحية لهم.

ولا سيما إذا كان القادم شريفاً وله منزلة عند قومه ومكانة. فيقف القوم على أرجلهم ويحيون المحيي على تحيته بتحية هي خير منها، هذه سنة كانت معروفة عندهم، ولا تزال. وقد تطرق "الجاحظ" الى هذه القاعدة، ثم قال: "قالوا: ومن الأعاجيب أن الحارث بن كعب لا يقوم لحزم، وحزم لا تقوم لكندة، وكندة لا تقوم للحارث بن كعب". ثم قال: "قالوا: ومثل ذلك من الأعاجيب في الحارث: أن العرب لا تقوم للترك، والترك لا تقوم للروم، والروم لا تقوم للعرب".

وتفرش أرض سيد القبيلة وذوي اليسار من الناس، وكذلك غرف بيوتهم بالفرش، كالبسط، وتوضع الوسد في صدر المجلس ليتكئ عليها الجالسون. وليتوسدوها عند النوم. ويعدّ تقديم الوسادة إلى الضيف من اماراة التكريم والتقديس بالنسبة لمن قدمت له. ولا تزال هذه العادة متبعة عند الأعراب. ويجلس العرب على الأرض وعلى الحصير والبساط. وقد يجلسون على وسادة وقد يستلقون ويضعون إحدى رجليهم على الأخرى، وقد يتكئون على الوسادة، وربما اتكأوا على اليمين وربما اتكأوا على اليسار. والحصير سقيفة تصنع من بردى وأسل ثم يفترش. سمي بذلك لأنه يلي وجه الأرض. وتصنع الحصر من خوص السعف أبضأَ، وتفرش على الأرض. يستعملها أهل القرى والمدن والأرياف، وفي بيوت الفقراء. وذلك لعدم تمكن الفقير من شراء بساط منسوج، ولا سرير يجلس عليه. قال شاعر: فأضحى كالأمير على سرير  وأمسى كالأسر على حصير

وقد عدّ "السرير من امارات الغنى والرفاه والنعمة، حتى عبروا عنه بالملك. فقالوا: "سرير الملك".

ويقال للحصير المنسوج من القصب "البارية" و "البوري". وقد عرف أهل الحجاز "البارية". وأشير اليها في الحديث.

ويتناول الإنسان عند نهوضه من نومه "الصبوح". ويحي أهله ومن هو حوله بتحية الصباح: عم صباحاً وعموا صباحاً إذا كانوا جماعة. وهي تحية الجاهلية. و "الصبوح" كل ما أكل أو شرب من اْكل أو لبن. وهم يستحبون الجلوس من النوم صباحاً، لأن ذلك عندهم أنشط للجسم وأدعى للصحة، ثم إنّ الغارات تقع في الصباح، وإذا أغاروا صاحوا: يا صباحاه ينذرون الحي أجمع بالنداء العالي، ويسموّن الغارة يوم الصباح. ولكن أكثرهم كانوا ينامون الصباح أي نوم الغداة، ويسمون ذلك النوم "الضبحة" ولا ينهضون إلا متأخرين أو بعد حيل وازعاج لهم، لاكراههم على النهوض. وقد كره الإسلام هذه النومة، فجاء النهي عنها في حديث الرسول.

تنظيف الأجسام

ولتنظيف الجسم من الأوساخ والأدران استعملت الحمامات. وذلك عند الحضر بالطبع. أما حمامات البدوّ، فهي بيوتهم والعراء، يسكبون الماء على أجسامهم ويغتسلون. وقد عرف أهل القرى والمدن الحمامات ولها مساخن تسخن لهم الماء ليغتسلوا بها. وكانوا يستعملون النورة في الحمامات لإزالة الشعر. وإذا خرج أحدهم من الحمام قيل له: طابت حمتك. وذكر أن من أسماء الحمام "الديماس". وزعم بعضهم أن الديماس من الألفاظ المعربة. عربت من لغة الحبشةْ.

وكانت الحمامات العامة قليلة العدد وربما لم تكن معروفة، إذ لم تكن شائعة بين الناس في الشرق الأدنى، لأنهم كانوا يستحمون في بيوتهم في الغالب، فجزيرة العرب حارة ومن الممكن الاغتسال في البيوت بكل سهولة. ولم يعرف اليهود الحمامات ألعامة، وإنما تعلّموها من الروم والرومان. وكانوا يستحمون في المياه الجارية وفي البيوت. وقد ورد أن الرسول لم يدخل حماماً قط، ولم يصح في الحمام حديث. مما يدل على أن الحمام العام لم يكن شائعاً في أيامه. فكان الرسول يغسل جسمه في بيته. وإذا وجد الحمام العام فلم يكن الأغنياء وذوو اليسار وأهل البيوت يقصدونه، إذ كانوا يرون أن في تعري الرجل من ملابسه أمام الغرباء زراية ومنقصة، وأن في مخالطة الناس والاغتسال معهم في حمام، مثلبة ودلالة على نقص في البيت. فاستحموا في بيوتهم.

وقد قام السدر في الحجاز مقام الصابون في الاغتسال، فكانوا إذا أرادوا تنظيف أجسامهم استعملوا ورق السدر مع الماء، فيخرج له رغاء ابيض، وذلك بعد طحن الورق أو دقه. وقد جرت العادة بغسل الميت به. وذكر ان الرسول امر قيس بن عاصم بأن يغتسل بالماء والسدر.

وعندما تغتسل المرأة، تغسل رأسها بالخطمي والطين الحرّ والأشنان ونحوه.

ثم تمشط شعرها. وقد تستعمل المرأة المتمكنة ورق الاس يطرى بأفاويه من الطيب لتمشيط شعرها به.

ونظراً لقلة وجود الماء في البادية، اقتصدوا في استعماله كثيراً، حتى أنهم لم يكونوا يشربون منه إلاّ قليلاً وعند الضرورة، وذلك خوفاَ من إلإسراف فيه، فينفذ ويهلكون عطشاً، لذلك كان من الطبيعي بالنسبة لهم عدم غسل اجسامهم حتى صار عدم الاستحمام بالماء شبه عادة لهم. وقد ادى ذلك إلى توسخ اجسامهم وظهور رائحة الوسخ منهم. ورد في حديث "عاثشة": "كان الناس يسكنون العالية فيحضرون الجمعة وبهم وسخ، فإذا اصابهم الروح سطعت ارواحهم، فيتأذى به الناس. فأثروا بالغسل". وكان منهم الفقراء من اهل الحضر كذلك، ممن لا يملكَون بيتاً ولا يجدون لهم مكاناً يغسلون اجسادهم فيه. وكان من بينهم عدد من الصحابة الفقراء.

وكانوا إذا ارادوا قضاء الحاجة دخلوا الخلاء". وهو موضع قضاء الحاجة. وتكون في بيوت الحضر. وقد تكون غرفة وقد تكون ستراً. ويستنجي بالماء إنْ وجد وبالحجارة، والنجو ما يخرج من البطن من ريح أو غائظ. وقيل العذرة نفسها. واستنجى مسح النجو أو غسله. وكانوا إذا ذهبوا في سفرهم للحاجة انطلقوا الى موضع يتوارون فيه عن أصحابهم. ليقضوا حاجتهم به. وربما تستروا بالهدف وفي حشائش النخل وبشجر الوادي. ويقال للكنيف المشرف في أعلى السطح المتصل بقناة إلى الأرض "الكرياس". أما إذا كان أسفل فليس بكرياس. وقد تكون للغرف "مراحيض". والكنيف المرحاض كأنه كنف في أستر النواحي.

وكانوا إذا أرادوا أن يبولوا ابتعدوا عن أصحابهم بعض الشيء ثم بالوا.

وأكثر ماس يبولون قعوداً. ولكنهم كانوا يبولون وقوفاً أيضاً، وهو في الأقل. وإذا أرادوا قضاء حاجتهم أو التبول لم يرفعوا ثوبهم بل جعلوه يتدلى حتى يدنو من الأرض، إلاّ من الأمام حيث يرتفع بعض الشيء، ويبعد من الخلف أو يرفع قليلا حتى لا يتأذى بالعذرة.

ويرى العرب أن ما بين السَرّة والركبة من الرجل عورة، لذلك يجب ستره.

والعورة السوأة من الرجل والمرأة. وكانوا يرون ظهورها عاراً أي مذمة. لذا حرصوا على انزال ثيابهم إلى الأرض لسترها قدر الامكان، وذلك عند قضاء الحاجة.

الخدم والخصيان

وتحتاج البيوت الكبيرة إلى خدم، لتحضير ما يحتاج البيت اليه من طعام وماء ولتنظيفه وللعناية بدوابه وبما يربط في مرابطه من حيوان. كما يوكل اليهم خدمة الضيوف وتقديم الشراب إلى المتنادمين. وكانوا يستخدمون "الخصي" لخدمة أهل البيت من النساء، لأنهن محرم، ولا تصح خدمة الرجال لمحارم البيت. ونظراً إلى ضرورة استخدام الرجال في بعض أمور البيت، استعاضْوا عنهم باستخدام "الخصي" في هذه الأمور. وقد كان "مأبور" القبطيّ الخصي، الذي قدم مع "مارية القبطية" أم ولد الرسول من مصر يدخل عليها ويجلس في بيتها، وكان خصيّاً.

الحياة الليلية

والحياة الليلية حياة هادئة على وتيرة واحدة، ياًوي الناس الى بيوتهم. مع غروب الشمس في الغالب، أما وجهاء القوم، فقد كانوا يتسامرون في بيوتهم وفي مضاربهم، وذلك بأن يأتي أصدقاؤهم اليهم فيتحدثون معهم ويتذاكرون الأيام الماضية وما يقع من أحداث إلى ساعات من الليل ثم يعودون إلى بيوتهم. ويكون السمر في الليل خاصة، والسمر الظلمة. ولهذا كانوا يقسمون بالسمر والقمر. أي بالظلمة والقمر. ثم أطلق السمر على السمر عامة في الليل أو في النهار. وقد صار هذا "السمر" أساساً للقصص العربي وللادب العربي والتاريخ الجاهلي. وعلى الرغم من أن طابع السمر، أي القص والتحدث والانصات إلى المسامر، لا يتفق مع الطابع التأريخي، إلا أنه موّن المؤرخين مع ذلك بشيء من أخبار أيامها ورجالها في صورة مم ألصور المعروفة عن القص. والعادة أن الذين يبرزون ويظهرون في رواية القصص هم أصحاب الالسنة، اللبقون الذين أوتوا مواهب خاصة، والذين يجيدون معرفة نفسيات من يحيط بهم للاستماع إلى قصصهم. فيحدثون السامعين اليهم بما سمعوه ممن تقدم عليهم أو من يعاصرهم من أخبار وحوادث مسلّية طريفة كان الجاهليون إذ ذاك يتشوقون إلى الاستماع اليها. ومن ذلك قصص إلأيام والأبطال الشجعان الذين سأهموا فيها، وقد يكون المتكلم نفسه ممن شهد الأيام وقائل فيها. وهذا النوع من السمر، لا يتقيد بالصدق وبالتعقل، كما أن المستمعين لا يهمهم فيه إذا كان معقولاً أو غير معقول.

وكل ما يهمه منه هو التلذذ بسماع القصص أو الأشعار أو الأخبار وأمور الشجعان أو غير ذلك.ولما كان السمر يكون في كل بيت وفي كل مكان. وهو يتناسب مع عقلية القاص أو المتكلم وعقلية السامع وحالاته النفسية التي يكون عليها عند الإستماع الى السمر، لهذا كان السمر ألواناً وأشكالا، منه ما يتناول أخبار العالم، كما وصلت إلى البادية، ومنه ما يتناول أخبار الملوك وأخبار سادات القبائل،ومنه ما يتناول الشعر والمناسبات التي قيل الشعر فيها، ومنها ما يتناول الجنّ والأساطير والخرافات وأمثال ذلك من غريب، قد يبهر لبّ أذكى الناس، ويلهب في السامعين نيران العواطف، فيجعلهم يقبلون على الاستماع اليه بكل قلوبهم. على الاستماع إلى هذا العنصر: عنصر التصنع في القصّ والإغراب، لأن من طبع الإنسان البحث والتفتيش عن كل شيء غريب عجيب.

ويتخذ الملوك والأشراف وذوو اليسر لهم ندماء، يشربون معهم ويقضون وقتهم بالمنادمة. وهم من المقربين إلى الملوك ومن ضيوفهم الذين تكون لهم عندهم مكانة خاصة، وكان من عادة أهل القرى، اتخاذ الندماء، والغالب أن المنادمة تكون على الشراب. ونجد فىِ أخبار "مكة" التي يذكرها أهل الأخبار، أسماء جماعة من أشرافها، اختصوا بمنادمة بعضهم بعضاً. يبقون في منادمتهم مدة طويلة وقد يقع سوء فهم بينهما، فيترك أحدهم منادمة صاحبه، لينادم غيره.

ويجلس الملك أو سيد القبيلة في صدر المجلس، ودونه بقية الجالسين على حسب المنازل والدرجات وقد عطًّر نفسه، وتطيب، وتضمخ بالعنبر وبالمسك. والظاهر أنهم كانوا يكثرون من وضع المسك على رؤوسهم حتى كان يبدوا واضحاً جلياً من مفارقهم. وقد أشير إلى هذه العادة في الشعر والأخبار.

وكان من عادة سادة العرب استعمال الخلوق والطيب في الدعة وفي جلوسهم مجالس أنسهم، مثل مجالس السماع والغناء. وكان المتمكنون. منهم وعلى رأسهم الملوك يضمخون.أجسادهم ورؤوسهم بالطيب حتى كأنه يقطر منهم. فكانت تفوح منها رائحة الطيب. فضلاً عن البخور الذي يتبخر به.

وقد كان الأغنياء والمتمكنون من الناس يشترون العطور ويكثرون من التطيب بها. وقد تباهى "كعب بن الأشرف" بأنه كان يملك أطيب العطور المعروفة عند العرب.

وتكون ملابسهم بالطبع من أحسن الملابس، من الديباج أو من الخز أو من الكتان، وتوشى بالشهب، وتقصب به. وقد تكون للملك دور خاصة بنسيجه، تنسج فيها حلله وما يجود به على ضيوفه وزائريه. ولديه ملابس كثيرة حاضرة، إذ طالما كان يخلع ملابسه التي يرتديها في المجلس ليعطيها إلى حاضر مدحه فأجاد في مدحه، أو لشخص قال كلاماً ظريفاً استحسنه، ومن يناله هذا ا التكريم يفتخر به بين أقرانه ويتباهى: فهي من المفاخر التي كان يتباهى بها في ذلك الزمان. وعادة الخلع، خلع الحلل والملابس التي يلبسها الملوك على السادة رؤساء القبائل والأشراف، أمارة على التكريم والتقدير، هي عادة معروفة في الجاهلية، وطالما أثارت حسد الرؤساء وتباغضهم، إذ عدّ خلع الملوك لملابسهم على السيد، تفضلاً له وتقديما على غيره من السادة رؤساء القبائل. وكان لهذه الرسوم والعادات الني لا نعيرها اهتماماً في زماننا ولا نقيم لها وزناً،أهمية كبيرة في عرف ذلك العهد، وقد عرفت هذه العادة في الإسلام أيضاً. وقد كان المسلمون يتباهون بالحصول على خلع من الرسول، خلعها عليهم من ملابسه التي يلبسها، فإن فيها تكريماً، وفيها بركة لمن خلعت عليه، لأنها من ملابس الرسول.

وقد عرفت هذه الحلل والخلع ب "أثواب الرضى"، لأنها لا تعطى إلاّ تعبيراً عن رضى الملك عن الشخص الذي أعطيت له. وكان جباب أطواقها الذهب بقصب الزمرد. وقد أغدق "النعمان" بها على مادحيه. وكان يقول: "هكذا فليمدح الملوك".

وقد ذكر أهل الأخبار أن أولئك الملوك اتخذوا ندماء من الفرس والروم أيضاً، فذكروا مثلاً أن الملك النعمان كان له نديمان، يعرف أحدهما ب "النطاسي" وسمه "سرجون"، ويعرف الآخر ب "توفيل"، وكلاهما من الروم. وورد في رواية أخرى: أن أحد النديمين هو "سرجون بن توفل" " "توفيل"، وكان رجلاً من أهل الشام تاجراً حريفاً للنعمان يبايعه، و كان أديباً حسن الحديث والمنادمة: فاستخفه النعمان. وكان إذا أراد أن يخلو عن شرابه بعث اليه والى "النطاسي"، وهو رومي كذلك متطبب، زهو النديم الآخر له، وكان طبيباً بارعاً، ضرب به المثل عند عن العرب لبراعته بالطب.

وفي منادمة النعمان للنطاسي ولابن توفيل، أشير في بيت شعر للشاعر الربيع ابن زياد المعروف بالكامل، وهو: أبرقْ بأرضك يا نعمان متكـئاً  مع النطاسي يوماً وابن توفيلا

وممن ذكرهم أهل الأخبار من ندماء قريش عبد المطلب بن هاشم. كان نديماً لحرب بن أمية حتى تنافرا إلى "نفيل بن عبد العزى". فلما نفر عبد المطلب افترقا. ونادم حرب عبد اللهَ بن جدَعان. ونادم حمزة عبد الله بن السائب المخزومي، وكان أبو أحيحة سعيد بن العاص نديماً للوليد بن المغيرة المخزومي، - وكان معمر بن حبيب الجمحي نديماً لأمية بن خلف بن وهب بن حذافة. وكان عقبة بن أبي معيط نديماً لأبيّ بن خلف. وكان الأسود بن المطلب بن أسد نديماً للأسود بن عبد يغوث الزهري. وكانا من أعز قريش فيَ الجاهلية و كانا يطوفان بالبيت متقلديين بسيفين سيفين.وكان أبو طالب نديماً لمسافر بن أبي عمرو ابن أمية. فمات مسافر. فنادم أبو طالب بعدر عمرو بن عبد ودّ بن نضر. وكان عتبة بن ربيعة بن عبد شمس نديماً لمطعم بن في عدي بن نوفل بن عبد مناف. وكان أبو سفيان نّديماً للعباس بن عبد المطلب.وكان ألفاكه بن المغيرة بن عبد الله ابن عمر بن مخزوم نديماً لعوف بن عبد عوف بن عبد بن الحارث بن زهرة. وكان زيد بن عمرو بن نفيل نديماً لورقة بن نوفل بن أسد.وكان شيبة بن ربيعة ابن عبد شمس نديماً لعثمان بن الحويرث. وكان العاص بن سعيد بن العاص نديماً للعاص بن هشام بن المغيرة. وكان يدعيان أحمقي قريش و كان أبو لهب عبد العزى بن عبد المطلب نديماً للحارث بن عامر بن نوفل. وكان الولبد بن عتبة ابن ربيعة نديماً للعاص بن منبه السهمي. وكان ضرار بن الخطاّب بن مرداس الفهري الشاعر نديماً لهبيرة بن أبي وهب المخزومي.وكان أبو جهل بن هشام وهو عمرو بن هشام نديماً للحكم بن أبي العاص بن أمية. وكان الحارث بن هشام بن المغيرة نديماً لحكيم بن حزام بن خويلد بن أسد.وكان العاص بن وائل بن هشام ابنّ سعيد بن سهم، نديماً لهشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، أبي جهل. وكان نبيه بن الحجاج بن عامر السهمي نديماً للنضر بن الحارث. وكان عمارة بن الوليد بن المغيرة نديماً لحنظلة بن أبي سفيان بن حرب. وكان الزبير بن عبد المطلب، وهو من فتيان قريش، نديماً لمالك بن عميلة بن السباق ابن عبد الدار.وكان الأرقم بن نضلة بن هاشم بن عبد مناف، وهو من فتيان قريش أيضاً نديماً لسويد بن هرمي بن عامر الجمحي. وكان سويد أول من وضع الأرائك وسقى اللبن والعسل بمكة. وكان الحارث بن حرب بن أمية نديماً للحارث ابن عبد المطلب. فلما مات نادم العوّام بن خويلد بن أسد. وكان الحارث بن أسد بن عبد العُزّى نديماً لعبد العزُِّى بن عثمان بن عبد الدار. وكان ابو البختري العاص بن هاشم بن الحارث بن أسد نديماً لطلحة بن أبي طلحة بن عبد الدار. وكان منبهّ بن الحجاج السهمي نديماً لطعيمة بن عدي بن نوفل بن عبد مناف. وكان ابو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب نديماً لعمرو بن العاص بن وائل السهمي، وكان ابو امية بن المغيرة المخزومي نديماً لأبي وداعة بن ضبيرة بن سعيد بن سعد بن سهم، وكانا يسقيان العسل بمكة بعد سويد بن هرمي.وكان ابو قيس بن عبد مناف نديماً لسفيان بن أمية بن عبد شمس. وكان ابو العاص ابن امية نديماً لقيس بن عدي بن سهم. وكان يأتي ألخَمّار وبيده مقرعة. فيعرض عليه خمر، فإن كانت جيدة، وإلاّ قال له: أجد خمرك، تم يقرع رأسه وينصرف.

وقد يستدعي الملوك في مجالس أنسهم الخاصة من يضحكهم ويسلّيهم ويجلب لهم البهجة والسرور. من امثال القصاصين الذين يقصون لهم القصص،والمسامرون الذين يسامرون الملوك بأنواع قصص السمر والحكايات المضحكة الغريبة والأمور المثيرة، والمضحكون الذين يأتون يالنكت وبالأفعال المضحكة لإضحاك الملك.

وقد كان للملك "النعمان بن المنذر" مضحك اسمه "القرقرة"، كان يضحك منه "النعمان"، واسمه "سعد". والقرقرة: نوع من الضحك، اختص يالضحك العالي منه. وقد أدخلوه في المستأكلين والمتطفلين. قالوا سأله أحد الأشخاص يوماً: ما رأيناك إلا" وأنت تزيد شحماً وتقطر دماً. فقال: لأني لا آخذ ولا أعطي، وأخطئ ولا ألام، فأنا طول الدهر مسرور ضاحك.

وقد جاء في شعر للشاعر "لبيد" وصف مجلس للنعمان، وقد وقف فيه "الهبانيق" أي الوصفاء بأيديهم الأباريق ينتظرون إشارة من أحد جلساء النعمان ليصبوا له خمراً طيبة من خمور تلك الأباريق. فإذا طلب منهم ملء كأس ساروا إلى الطالب سيراً فاتراً وبتؤدة ليملاؤا له الكأس.

وكانت لهم عادات وتقاليد في مجالس الشرب وفي مجالس الطعام على نحو ما نفعل اليوم في المآدب الرسمية، فكان من عادة ملوك الغساسنة والمناذرة إجلاس السادة الرؤساء والمقربين اليهم على يمينهم وعلى مقربة منهم، تعظيماً لشانهم، ودلالة على مكانة الشخص عندهم. فإذا قدم الشراب أو الطعام، قدم الى الملك اولاً، فإذا شرب منه، أو ذاقه، أمر فقدم الشراب أو الطعام إلى من هو في يمينه. وقد اتبعت هذه العادة عند سائر الناس في الولائم والدعوات. فكان "النعمان بن المنذر" مثلاً إذا همت الوفود التي تفد اليه يالانصراف، أمر باتخاذ مجلس لهم، يطعمون فيه معه، ويشربون. وكان إذا وضع الشراب سقي النعمان، فمن بدأ به على أثره فهو أفضل الوفد. ويذكر أنه أقام مجلساً ذات يوم ضم فيه من وفود "ربيعة" "بسطام بن قيس" و "الحوفزان بن شريك" البكرباّن. وفيمن قدم عليه من وفد "مضر" من قيس عيلان: "عامر بن مالك" و "عامر بن الطفيل"، ومن تميم "قيس بن عاصم" و "الاقرع بن حابس"، فلما انتهوا إلى النعمان أكرمهم وحياهم، وأمر "القينة" أن تسقي "بسطام بن قيس"، المعروف ب "ذي الجدين" أولاً، ثم تسقي الآخربن. فا"نزعح بقية سادات الوفود من هذه المعاملة التي ااعتبروها إهانة متعمدة ألحقت بهم.

وإلى هذه العادة، عادة تقديم الأيمن، أشير فس شعر عمرو بن كلثوم في هذا البيت صَبَنْتِ الكأس عنّا أم عمرو  وكان الكأس مجراها اليمينا

و "الردف"، هو الذي يجلس على يمين الملك في قصور الحيرة فإذا شرب الملك، شرب الردف قبل الناس. وإذا غزا الملك، جلس الردف في مجلسه، وخلفه على الناس حتى يرجع من غزاته. وله المرباع، فهي منزلة كبيرة، ولهذا شرف بالجلوس على يمين الملك، والشراب من بعده. وقد اتخذت هذه المنزلة لإرضاء سادات القبائل وإسكاتهم، ومنعهم بذلك من التحرش بعرب الحيرة. وقد خصصت في "بني يربوع"، وكانوا من القبائل القوية التي تكثر الغارات.

وقد تأثر رؤساء الحيرة وأصحاب الحل والعقد والجاه منهم، والمتصلون بالحكومة الساسانية، بالعادات والرسوم المتبعة عند الفرس، فإذا هم يحاكونهم في مآكلهم وفي مجالس شربهم وأنسهم، وفي طريقة معيشتهم. جاء ذلك إليهم عن طريق اختلاطهم بهم بالطبع وشدة امتزاجهم بهم، فنرى عدي بن زيد العبادي يذكر "النستق" في شعره.

وقد دخلت على الحسناء كلَّتهـا  بعد الهدوء تضيء البيت كالصَّنَم

ينصفها نستق تكاد تكـرمـهـم  عن النصافة كالغزلان في السلم

و "النستق" الخدم، وهي من الألفاظ المعربية. و"الكلّة"، هي الستر الرقيق، ولا تزال تعرف بهذه التسمية في العراق، توضع فوق الفراش وينام تحتها، فتكون كالقبة فةقها، لتمنع البعوض والذباب والحشرات الأخرى من الدخول إلى داخلها ومن ازعاج النائم. وهي "كلتو"Kelto في لغة بني إرم.

وكان المتمكنون من أهل الجاهلية يستعملون "الكلل" للتخلص من البعوض. ينصبونها على سرير المنام وينامون تحتها.

ولا بد في المجالس والأندية التي يقصدها الضيوف أو في البيوت من تكريم الرجل بتقديم طيب إليه أو تجميره. ويكون التجمير بمبخرة فيها نار، يرمى عليها شيء من بخور أو مواد أخرى عطرة لنبعث منها رائحة طيبة تتجه نحو الشخص المراد تكريمه، فيتبخر بها. والتجمير علامة بالطبع من علامات التقدير والتكريم. وهي ما زالت معروفة، وإن أخذت شأن كثير من العادات والتقاليد القديمة بالانقراض. وقد كانوا يجمرون الميت كذلك، إكراماً له، وهو تبخيره بالطيب.، لتكون رائحته طيبة. ورد في الحديث: إذا أجمرتم الميت، فجمروه ثلاثاً.

ونظراً إلى شح البادية وفقر الحياة وصعوبتها في تلك الأيام، صار الملوك ملاذاً لذوي العسر والحاجات، ولا سيما لأصحاب الألسنة من الشعراء الذين كان للسانهم خطر وأثر في نفوس المجتمع إذْ ذاك، فللمديح قيمة وللهجاء أثر في الناس ينتقل بينهم من مكان إلى مكان. فكان هؤلاء يتحايلون ويبحثون عن مختلف المناسبات للوصول إلى الملوك لنيل عطائهم وألطافهم. وكانت مناسبات الشرب والأنس من خيرة المناسبات بالنسبة إليهم، لجو السرور والمرح الذي كان يخيم. فيه على الملوك، فيعطون ويجودون ولا يبالون بما يعطون إذا كان صاحب الحاجة لبقاً لطيفاً حلو المعشر، يسيطر بلسانه على الملك، وقد يجعله في عداد المقربين إليه.

ولما كانت الدنانير والداراهم، قليلة إذْ ذاك، صارت أعطية الملوك لسادات القبائل مالاً في الغالب، والمال عندهم: الإبل. ويعطون الأكسية والألبسة والطعام لهم ولسواد الناس من الفقراء المحتاجين الذين يقفون عند أبواب الملك يلتمسون منهم الرحمة والشفقة والانقاذ من الجوع.

والجائزة العطية. فكان الملوك يجيزون من يطلب منهم الجوائز ومنها:"القطوط"، جمع "قط"، وهي الصك بالجائزة والصحيفة للإنسان بصلة يوصل بها. قال اللأعشى: ولا الملك النعمان، يوم لقيتـه  بغبطته، يعطي القطوطَ ويأفق

ولسادات القبائل أنديتهم أيضاً، يقصدها أشراف القبيلة والناس. وكانوا إذا اجتمعوا تداولوا أمور قبيلتهم وما وقع بين القبائل ونظروا في أيامهم الماضية وقد يتناشدون الأشعار ويتفاخرون. ويذكر علماء اللغة أن "النادي المجلس يندون إليه من حوإليه ولا يسمى نادياً حتى يكون فيه أهله. وإذا تفرقوا لم يكن نادياً. وفي التنزيل العزيز: وتأتون في ناديكم المنكر. قيل كانوا يحذفون الناس في المجالس، فأعلم الله تعالى أن هذا من المنكر وأنه لا يتبغي أن يتعاشروا عليه ولا يجتمعوا على الهزء والتلهي وأن لا يجتمعوا إلا فيما قرب من الله وباعد من سخطه". وقد كان ملا مكة إذا اجتمعوا في نواديهم تذاكروا أمور ساداتها فغض قوم من قوم، وسخر بعض من بعض وروى بعض عن بعض قصصاً للغض من شأنهم، شأن المجتمعات الفارغة التي لا لهو فيها يلهي ولا عمل فيها يشغل. فكان هذا شأنهم حتى نزل التنديد بفعلهم في القرآن. كما نزل يندد في أمور أخرى كانت من هذا القبيل، مثل "المشمعة"، العبث والاستهزاء والضحك بالناس والتفكه بهم. "وفي الحديث: من تتبع المشمعة يشمع الله به، أراد من كان شأنه العبث والاستهزاء والضحك بالناس والتفكه بهم جازاه الله جزاء ذلك. وقال الجوهري: أي من عبث بالناس أصاره الله إلى حالة يعبث به فيها".

وقد لجأ العرب إلى اتخاذ وسائل للتخفيف من شدة وطأة اسرّ عليهم. إذْ أن الجوّ حار في بلاد العرب بالصيف. وفي جملة ما استخدموه: "المراوح". ورد أن الناس كانوا يستعملونها للترويح عن أنفسهمْ. وللريح أهمية كبيرة في جزيرة العرب وفي البلاد الحارة. إذ أن وقوفه يزعج الناس ويؤذيهم، فلا غرابة إذا ما اعتبروا الرياح رحمة تغيث الناس وتفرج عن كربهم. وتغَنّوا بها وسرّوا بهبوبها سروراً كبيراً. بهبوب الرياح المنعشة المرطبة التي تحمل المزن لهم. فتصيب الأرض وترويها بما تحمله معها من مزن. ولريح الصبا، ذكريات طيبة عند العرب. ولها أثر خالد في الشعر، حتى أنهم كانوا يطعمون عند هبوبها. وهي ريح معروفة تقابل الدبور. سميت بذلك لأنها تستقبل البيت وكأنها تحن اليه، قال ابن الأعرابي مهبها من مطلع الثريا إلى بنات نعش.. وتزعم العرب أن الدبور تزعج السحاب وتشخصه في الهواء ثم تسوقه، فإذا علا كشفت عنه واستقبلته الصبا، فوزعته بعضه على بعض حتى يصير كسفاً واحداً، والجنوب تلحق روادفه به وتمده من المدد، والشمال تمزق السحاب.

ومن وسائل التلطيف من حدة الحرّ، رش الأرض بالماء. أي نفح المكان بالماء. ورش الحصر المنسوجة من جريد النخل أو من الحلفاء أو من غيرها بالماء، حتى تبرد فينام الإنسان عليها، أو تعليقها ونضحها بالماء. فيبرد الهواء الذي يمر من مساماتها بعض الشيء. ورش ستر الكرباس والخيش بالماء، ليبرد الهواء الذي يخترق مساماتها، فينعش الجالس أمامها.

وكان الوجوه وأشراف البلد إذا أرادوا الإنشراح شربوا وسمعوا القيان، وكان لأكثرهم قيان امتلكوها للترفيه عنهم بالغناء. و "القينة" الأمة المغنية أو أعم. يذكر علماء اللغة، أن اللفظة من "التقين" التزين، لأنها كانت تزين. وذكر أن القينة الأمة والجارية تخدم حسب،. و "المغنية"هي التي تغني للناس، والتي اتخذت الغناء حرفة لها، تعيش عليها.

ومنهم من يستدعي اليه أصحاب المجون والنوادر والفكاهات والملح للترفيه عنهم. وقد اشتهر بالمزاح رجل اسمه "نعيمان" وكان من أصحاب رسول الله البدريين. والمجون ألاّ يبالي الإنسان بما صنع. والماجن عند العرب: الذي يرتكب المقابح المردية والفضائح المخزية، ولا يمضه عذل عاذله ولا تقريع من يقرعه، ولا يبالي قولاً وفعلا" لقلة استحيائه.

والمزاح: الدعابة، والمزح نقيض الجد. وليس في طبع العربي ميل إلى المزاح، إذ يراه منقصة بحق الرجل واسفافاً يعرضه إلى التهكم والازدراء به. وذكر بعض علماء اللغة أن الدعاية المزاح مع لعب. وقيل يتكلم بما يستملح.

الخصومات

ويقع النزاع بين للناس، يقع بين الأهل كما يقع بين الجيران أو بين الأباعد. وقد يتحول إلى "عراك" والى وقوع معارك. والمشاجرة الخلاف والاشتباك. وقد تكون المشاجرة بسيطة بأن يشاتم ويسابب طرف طرفاً آخر. ويعبر عن ذلك باللحاء. ونظراً لجهل الناس في ذلك الوقت، فشا السباب والتشاتم بينهم. بين الرجال والرجال وبين النساء والنساء وبين الجنسين.وإذا طال واشتد تدخل الناس في الأمر لاصلاح ذات البين. وقد تتطور الخصومة البسيطة فتتحول إلى خصومة كبيرة يساهم فيها آل المتخاصمين وأحياؤهم، وقد يقع بسبب ذلك عدد من القتلى. وقد حفظت كتب الأخبار والأدب أسماء معارك وأيام، سقط فيها عدد من القتلى بسبب خصومات تافهة، كان بالامكان غض النظر عنها، لو استعمل أحد الجانبين الحكمة والعقل في معالجة الحادث.

قتل الوقت

وقد أشرت إلى أن "النعمان بن المنذر" كان يستخدم المضحكين،وعلى رأسهم "سعد القرقرة " لإضحاكه. وقد عدّ في المستأكلين والمتطفلين. وقد استعان السادة والأشراف بالمضحكين أيضاً ليقصوا لهم القصص المضحك. والقرقرة الضحك إذا استغرب في. وقد لقب بها سعد هازل النعمان بن المنذر ملك الحيرة. كان يضحك منه. وكان من أهل هجر.

والمخنثون مادة من مواد التسلية والفكاهة والطرب. وقد خصي بعضهم،وعادة الخصاء عادة قديمة معروفة عند مختلف الشعوب، ذلك لأنهم كانوا يدخلون على النساء في البيوت، فخصوا اتقاء حدوث اتصال بين هؤلاء والنساء. وكان في المدينة على عهد الرسول ثلاثة من المخنثين: هيت، وهرم، وماتع، فسار المثل من بينهم بهيت، فقيل: أخنث من هيت. ومن المخنثين في الإسلام طويس، ويقال له: إنه أول من غنى بالمدينة في الإسلام، ونقر الدفّ المربع. وكان أخذ طرائف الغناء عن سبي فارس. وقد خصي مع غيره من المخنثين. وكان مألوفاً خليعاً يضحك كل ثكلى.

وقد عير العرب بالخنث، والخنث من فيه انخناث وتثن. وهو المسترخي. وهو جبان لا يطيق القتال. وتكون المرأة أشجع منه مع أنه رجل. ويقال للجمع "الخناث". قال الشاعر: لعمرك ما الخناث بنو قشير  بنسوان يلـدن ولا رجـال

والمحمقون مادة من مواد التسلية والترويح عن النفس. ومنهم من اتخذ التحمق وسيلة للوصول إلى الملوك والسادات. ومنهم من كان محمقاً بطبعه. مثل هؤلاء يكونون وسيلة من وسائل السمر، بما يظهر منهم طبعاً أو تصنعاً من حمق.وقد عرف "نعامة "، واسمه "بيهس"، بالتحمق، فقيل " أحمق من بيهس". وهو من "بني ظالم بن فزارة ". وذكر أنه أحد الأخوة السبعة الذين قتلوا وترك هو لحمقه. وهو القائل: ألبس لكل حالة لبوسها  إما نعيمها واما بوسها

واشتهرت بمكة امرأة عرفت بالحمق. قيل لها "خرقاء مكة". ذكر أنها كانت إذا أبرمت غزلها نقضته. فاشتهر أمرها حتى ضرب بها المثل. واليها أشير في القرآن في قوله: "ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة". "وقيل المراد امرأة معينة من قريش: ريطة بنت سعد بن تيم. وكانت خرقاء. اتخذت مغزلاً قدر ذراع و صنارة مثل اصبع. وهي الحديدة في رأس المغزل وفلكة عظيمة على قدرها. وكانت تغزل هي وجواريها من الغداة إلى الظهر،ثم تأمرهن فينقضن ما غزلن". وذكر أن تلك المرأه هي: "ريطة بنت عمرو بن كعب بن سعد ابن تيم بن مرة"، وكانت امرأة حمقاء بمكة، وكانت تفعل ذلك. والظاهر أن أهل مكة كانوا يتندرون بذكر حمقها، فضرب القرآن بها المثل لتذكر قريش قومها بها، لئلا يكونوا مثلها في الحمق.

وعرف الجاهليون لوناً آخر من ألوان الترويح عن النفس والترفيه عنها، هو التنزه في البساتين وفي مواطن الكلأ والأماكن الجميلة من البادية في أيام الربيع حيث تكتسي ببسط من الخضرة، وحيث تظهر الأزهار البرية، ذات الروائح الزكية. فكان ملوك وأهل الحرة يقضون أياماً في المتنزهات القريبة منهم وفي مواطن في البادية يروحون عن أنفسهن ويتلهون بالصيد. وكان أهل يثرب يخرجون إلى "العقيق" متنزههم للتسلية. وهكذا فعل غيرهم من سكان بلاد الشام وجزيرة العرب.

ومن ملوك الحيرة الذين ارتبط اسمهم باسم الأزهار التي تجود بها البوادي أيام الربيع الملك "النعمان بن المنذر". فقد قيل للشقائق التي تنبتها البادية، مثل أرض النجف، "شقائق النعمان". قيل انها دعيت باسمه لأنه جاء إلى موضع وقد اعتم نبته من أصفر وأحمر، وإذا فيه من هذه الشقائق ما راقه ولم ير مثله، فحماها فسميت "شقائق النعمان" بذلك.

وكان من عادة أهل مكة الذهاب إلى الطائف في أيام القيظ، للتخلص من حر مكة الشديد، لطيب هواء الطائف واعتداله، ولوجود الماء البارد بها الخارج من العيون و الآيار. ولوجود مختلف الأثمار والخضرة بها. وقد كان لأغنياء مكة أملاك بها وبساتين استغلوها. ومنهم من كان يذهب إلى بلاد الشام للاتجار ولتمضية الصيف هناك.

وكان فى جملة ما ابتكره الجاهليون لقطع الوقت " الاغلوطات "، وهي صعاب المسائل، فيطرح سائل ما سؤالا عويصاً على المستمعين، ويطلب منهم أن يعملوا فكرهم لحلهّ، وقد ورد في الأخبار أن الرسول نهى عن "الأغلوطات". وقيل "الغلوطات". وهي الكلام الذي يغلط فيه ويغالط به.

وكان تناشد الشعر والتساجل فيه من جملة الأمور التي أمضوا أوقاتهم بها. فكان أحدهم يطارح صاحباً له أو جملة أصحاب له الشعر،وقد يجتمع الأصدقاء حولهم ليروا الفائز من المتبارين. والفائز هو من يبز غيره في الحفظ، إذ يبقى يطارح أصحابه ما يحفظ حتى يعجزهم، فيغلبهم ويكسب الفوز. وقد يكون ذلك برهن يعطى للغالب، وقد يكون بغير رهن. والمساجلة المباراة والمفاخرة في الأصل، بأن يصنع كل من المتبارين صنعه في شيء فمن بقي وبَزَّ صاحبه غلبه. وهكذا تكون في الشعر، فمن يثبت يكسب المساجلة.

اللباس

جاء في بعض الأخبار: "كل ما شئت والبس ما شئت ". ولكن الشائع بين الناس "كل ما شئت والبس ما يشتهي الناس"، ذلك لأن اللباس مظهر، وعلى الإنسان أن يظهر في خير مظهر أمام الناس. وقد ورد أن العرب تلبس لكل حالة لبوسها. وينطبق ذلك على السراة وذوي اليسار والثراء بالطبع، أما سواد الناس، فلم يكن من السهل عليهم الحصول على اللباس. إذ كان غالياً مرتفع الثمن بالنسبة لأوضاعهم الاقتصادية. فكانوا يسترون أجسامهم بأسمال بالية وبكل ما يمكن أن يستر الجسم به.

وكسوة العرب، تختلف وتتباين، باختلاف الشخص وباختلاف الجماعة التي ينتسب اليها والمكان الذي يعيش فيه. فللاعراب ألبسة وذوق، ولأهل المدر أذواق وأمزجة في اللباس، تتباين فيما بينها، بتباين المنزلة والمكانة والحرفة. ولذوي اليسار والثراء ألبسة فاخرة، يستوردونها من الخارج في بعض الأحيان، وفيها أناقة وفيها تصنع، وهي من المواد الغالية الثمينة في الغالب، لا يتاح لغير الموسرين الحصول عليها. ثم ان بعض الناس يفضلون لوناً يعافه بعض آخر ويتجنبه.

فكان الكاهن لا يلبس المصبغ، والعراف لا يدع تذييل قميصه وسحب ردائه، والحكم لا يفارق الوبر، ولحرائر النساء زيّ، ولكل مملوك زيّ، يتساوى في في ذلك لباس الرأس ولباس اليدن.

وقد كان أثرياء مكة ويثرب والقرى والقبائل يلبسون الملابس الفاخرة المصنوعة من الحرير ودقيق الكتان والخز، وغير ذلك من الثياب الغالية الرقيقة، المستوردة من دور النسيج المعروفة في جزيرة العرب ومن خارجها، ويلبسون النعال الجيدة، مثل النعل الحضرمية المشهورة بمكة، ويتعطرون بعطور غالية ثمينة، ويركبون الدواب الحسنة المطهمة مبالغة في التباهي والتظاهر.

وتختلف كسوة الرأس عند العرب باختلاف منزلة الرجل ومكانته ووضعه وحاله. و "العمامة" هي فخرهم وعزهم وأفخر ملبس يضعونه على رؤوسهم. حتى قيل: "عمم الرجل: سوّد لأن تيجان العرب العمائم، فكما قيل في العجم توج من التاج، قيل في العرب عمم"، "والعرب تقول للرجل إذا سود: قد عمم، وكانوا إذا سوّدوا رجلاً عمموه عمامة حمراء". وورد عن عمر قوله: "العمائم تيجان العرب ". وهي تعدّ عادة من عادات العرب. خاصة العرب أصحاب الجاه والمكانة والنفوذ من حضر وبادية، فانها تميزهم عن بقية الناس.

وقد جاء في الخبر: " ان العمائم تيجان العرب". "وكان يقال: اختصت العرب من بين الأمم بأربع: العمائم تيجانها، والدروع حيطانها، والسيوف سيجانها، والشعر ديوانها " وتعد العمامة من لبس الطبقة العالية والمترفة، وذلك لأن الطبقة الفقيرة والعامة لم تتمكن من اقتنائها، وانما تضع على رأسها أغطية أخرى، أخف وزناً وثمناً من العمامة، ولذلك كانوا اذا أرادوا التعبير عن رخاء شخص، قالوا: " أرخى عمامته: أمن وترفه، لأن الرجل انما يرخي عمامته عند الرخاء ".

وجاء في الحديث: انه كان يتعوذ من الحور بعد الكور، أي من النقصان بعد الزيادة. وهو من تكوير العمامة، لأن الكور تكوير العمامة، والحور نقضها، وتكوير العمامة بعد الشد. ففي تكوير العمائم، دلالة على النعمة والرخاء. إذ لم يكن في وسع الفقير شراء قماش يعمم به رأسه على سنة الأغنياء. فكيف به يعمم رأسه بعمامة كبيرة.

ولم يكن تكوير العمامة العلامة الوحيدة الدالة على الغنى والجاه، بل كان الإسراف في اطالة الردن والذيل في الثوب من علائم الغنى والجاه أيضاً. فقد كان السادات والأغنياء يطيلون الأردان وأذيال الثياب، حتى تصير تلامس الأرض، للتعبير عن غناهم وكثرة مالهم وانهم لا يبالون بالمال و لا بالثياب فيتركونها تجر الأرض وراءهم من سعة عيشهم. بينما لم يكن في وسع اكساء جسمه حتى بالأسملة.

وللعمامة منزلة كبيرة عند العرب. فهي تعبر عن شرف الرجل وعن مكانته، فإذا اعتدي عليها أو أهينت، لحق الذل بصاحبها، وطالب بإنصافه وبأخذ حقه. وإذا أهين شخص أو شعر بإهانة لحقت به، ألقى بعمامته على الأرض، ونادى بوجوب انصافه. ويعدّ اللوذ بعمامة رجل، وذكرها من موجبات الوفاء والانصاف لمن لاذ بها. "واذا قالوا سيد معمم، فإنما يريدون أن كل جناية يجتنيها الجاني في تلك العشيرة، فهي معصوبة برأسه". كما يريدون بذلك السيادة لأن تيجان العرب العمائم، فكما قيل في العجم توج من التاج قيل في العرب عمم. وكانوا إذا سودوا رجلاً عمموه عمامة حمراء. وكانت الفرس تتوج ملوكها فيقال له المتوج.

ويدلّ سيماء العمامة على مكانة حاملها، فلقماش العمامة وللونها ولشكلها العام، أي كيفية تكويرها، دلالة على مكانة صاحبها ومنزلته في المجتمع. فعمامة المترفين المتمكنين هي من أقمشة فاخرة، نسجت بعناية، منها عمائم الديباج والخز، وذكر أن العمائم المهراة، وهي الصفرة، هي لباس سادة العرب. وأن بعض السادة مثل " الزبرقان بن بدر" كانوا يصبغون عمائمهم بصفرة، ويعصفرونها بالعصفر والى ذلك أشار الشاعر بقوله: وأشهد من عوف حُلولاً كـثـيرة  يحُجّون سِبّ الزبرقان المعصفرا

والسب: ا لعمامة.

وورد في الحديث " كانت عمائم العرب محنكة " أي طرف منها تحت الحنك. وقد جرت عادة العرب بإرخاء العذبات، وقد يزيدون في ذلك دلالة على الوجاهة و ا لغنى. ويذكر علماء اللغة أن "من أسماء العمامة: العصابة، والمقطعة، والمعجر، والمشوذ، والكوارة ". وقيل إن العصابة والعمامة سواء.

وقد كان السادات يتفننون في لبس العمامة وفي اختيار ألوانها، فكانوا يختارون لكل مناسبة لوناً، فكان بعضهم إذا قاتل لبس عمامة حمراء، ولبس بعضهم عمامة صفراء أو سوداء. يتبع ذلك مزاج لابسها وعمره، ونُظر اليها على انها جمال الرجل، ومظهره الذي يضهر به. ورد ان علي بن أبي طالب كان يقول: جمال الرجل في عمته، وجمال المرأة في خفها.

وفي الأمثال: " أجمل من ذي عمامة"، وهو مثل من أمثال مكة، قيل: انهم قالوه لسعيد بن العاص بن أمية، المعروف عندهم ب "ذي العمامة"، وكان في الجاهلية إذا لبس عمامة، لا تلبس قريش عمامة على لونها. وقيل: انه كناية عن السيادة. وذلك لأن العرب تقول: فلان معمم، يريدون ان كل جناية يجنيها الجاني من تلك القبيلة والعشيرة، فهي معصوبة برأسه. والى مثل هذا ذهبوا في تسميتهم سعيد بن العاص، ذا العمامة، وذا العصابة.

وربما جعلوا العمامة لواءً، فينزع سيد القوم عمامته، ويعقدها لواءً، وفي ذلك معنى التقدير والاحترام، لأنها عمامة سيد القوم، وربما شدوا بها أوساطهم عند التعب والمجهدة.

وما يكون تحت الحنك من العمامة هو "الحنكة ". أما ما أرسل، منها على الظهر نهو الذؤابة. وأما " القفدة " فأعلى العمامة. والعمة العجراء، هي العمة الضخمة. وفي العمامة الكور، وهي الطرائق الني يعصب بها الرأس.

ولطريقة شد العمامة ووضعها على الرأس أسماء، وضعت لكل شدة أو طريقة من طرق وضعها فوق الرأس. ويختلف حجم العمامة وألوانها باختلاف العمر أيضاً. فللشباب عمائم تميزهم عن الكهول والشيوخ. كما يختلفون عنهم في اختيار ألوان الألبسة. وذكر ان الرسول كانت له عمامة تسمى السحاب، وكان يلبسها ويلبس تحتها " قلنسوة ". وكان يلبس القلنسوة بغير عمامة ويلبس العمامة بغير قلنسوة. وكان إذا اعتم أرخى عمامته بين كتفيه. ولما دخل مكة، دخلها وعليه عمامة سوداء.

ووضعت القلنسوة على الرأس كذلك، فورد أن خالد بن الوليد كان يضع قلنسوة على رأسه. وقد لبسها الرسول. وكانت معروفة عند الجاهليين وأشير اليها في الشعر. ولفظة " قلنسوة " من الألفاظ المعربة عن "اللاتينية". عربت من Calantica. ويراد بها ضرب من ملابس الرأس.

وقد كان الجاهليون يوفقون أيضاً بين نوع ملابسهم، فكانوا يلبسون مثلاً عمامة خز مع جبة خز ومطرف خز. وذلك للتناسق في اللباس.

وجعلوا العمامة شعاراً للعرب ورمزاً لهم، إذا زال زالت عروبتهم. " قال غيلان بن خرشة للأحنف: يا أبا بحر. ما بقاء ما فيه العرب ? قال: إذا تقلدوا السيوف، وشدّوا العمائم، واستجادوا النعال، ولم تأخذهم حمية الأوغاد". وورد "في الخبر، إن العمائم تيجان العرب، فإذا وضعوها وضع الله عزهم". وقيل اختصت العرب: بالعمائم تيجانها وبالدروع وبالسيوف وبالشعر.

وعرفت "المساتق" في الحجاز. وهي فِراء طوال الأكمام، واحدتها "مستقة ". وذكر الجواليقي أنها من الألفاظ المعربة عن الفارسية، وأنها "مشته" في لغة الفرس. وروي أن الرسول كان يصليّ وعليه مستقة، وأن مستقته من سندس مبطنة بالحرير، أهديت اليه. ذكر أن ملك الروم أهداها اليه.

وأما الجبّة، فهي من البسة الموسرين كذلك، لأنها غالية، تكون من خز، وتكون من ديباج ومن أقمشة أخرى. وقد ذكر أن لم الأكيدر أهدى إلى الرسول جبةّ من ديباج منسوج فيها الذهب. وقد تكون واسعة الكمين، كما تكون ضيقتهما. وقد لبس الرسول في السفر جبة ضيقة الكمين. وذكر أنه قد كانت عند "اسماء بنت أبي يكر" جبّة لرسول الله، "طيالسية خسروانية لها لينة ديباج وفرجاها مكفوفان بالديباج. فقالت هذه كانت عند عائشة حتى قبضت، فلما قبضت قبضتها، وكان النبي، صلى الله عليه وسلم، يلبسها، فنحن نغسلها للمريض نستشفي بها ".

وتعدّ الجبب من مقطعات الثياب. فقد اصطلح علماء اللغة على تقسيم الثياب إلى مقطعات و غير مقطعات. والمقطع من الثياب كل ما يفصّلُ ويخاط من قميص وجبات وسراويلات وغيرها، وما لا يقطع منها كالأردية والأزر والمطارف، والريّاط التي لم تقطع، وإنما يتعطف بها مرة ويتلّفع بها أخرى.

والجبب مثل سائر الثياب، لا تكون بلون واحد. فقد تكون بيضاء، وقد تكون سوداء، وقد تكون حمراء، وقد تكون خضراء، ويختار لابسها اللون الذي يلفت نظره. وقد تكون له جملة جبب بألوان مختلفة، يلبس صاحبها الجبة التي يلائم لونها المناسبة والمكان الذي يذهب اليه.

و "البرنس": قلنسوة طويلة، أو كل ثوب رأسه منه، ملتصق به، درّاعة كان أو جبة، أو ممطراً. وكان النساك يلبسونها في صدر الإسلام. واللفظة من الألفاظ المعربة عن اليونانية، عربت من أصل " فيروس" Virros، بمعنى ثوب عريض الكمين، غطاء الرأس ملتصق به، أي هو جزء منه.ويلبس عندهم فوق الثياب.

و "القميص" من الثياب المقطعة. ذكر بعض علماء اللغة انه لا يكون إلا من قطن أو كتان، وأما من الصوف فلا. والظاهر انهم خصصوه بالقطن أو الكتان للغالب. وذكر ان الرسول لبس قميصاً من قطن، وكان قصير الطول، قصير الكمّين. والظاهر ان هذه الصفة كانت هي الصفة الغالبة على القمصان، ثم طولت فيما بعد ووسعت أكمامها.

و "الخميصة" من الألبسة القديمة. وهي ثياب من خزّ ثخان سود وحمر ولها أعلام ثخان أيضاً. وذكر أن الخميصة كساء أسود مربع له علمان، فإن لم يكن، معلماً، فليس بخميصة. وذكر أنها قد تكون من خزّ أو صوف. والظاهر أنهم كانوا لا يسمون الخميصة خميصة، إلاّ إذا كانت ذات أعلام. وهي من ألبسة الموسرين.

و "الرداء"، الوشاح، ويقع على المنكبين ومجتمع العنق. وهو ما يشمر على النصف الأعلى من الجسم لتغطيته، ويكون من قطعة واحدة من القماش، يلف على هذا النصف. قد يكون طويلاً واسعاً، وقد يكون قصيراً. وقد يلف على الجسم رأساً، وهو الغالب، وقد يلف فوق ألبسة أخرى.

و" الازار" الملحفة، وما يستر أسفل البدن، والرداء ما يستر به أعلاهٍ.

و كلاهما غير مخيط . وقيل الازار ما تحت العاتق والظهر، ولا يكون مخيطاً. فهو قطعة قماش، يلف به القسم الأسفل من البدن لستره. يختلف طوله وعرضه حسب رغبة لابسه. ويلبس الإزار مع الرداء في الغالب، وقد تلبس معه ألبسة أخرى.

و "النمرة" شمله فيها خطوط بيض وسود، وبردة مخططة من صوف تلبسها الأعراب. وذكر أن كل شملة مخططة من مآزر الأعراب، فهي نمرة. وجمعها أنمار ونمار. كأنها أخذت من لون النمر، لما فيها من السواد والبياض. وقد لبس النبي النمار. وورد: نبطي في حبوته، أعرابي في نمرته أسد في تامورته.

والمطرف: رداء من خز مربع، له أعلام. وهو من الأردية التي يلبسها الأغنياء وذوو اليسار. وذكر ان المطرف رداء في طرفيه علمان.

ولبس الجاهليون القباء. وقد كان كسرى قد أهدى " الأكيدر" قباءً من ديباج منسوج يالذهب. وكان من عادة الأكَاسرة أن يكسوا الرؤساء وسادات القبائل أقبية من الديباج للتلطف والإسترضاء.

واكتسبت البرد اليمانية شهرة كبيرة بين الجاهليين،وبقيت شهرتها في الإسلام،وهي ذات ألوان. وفي كتب الأخبار: ان وفد رؤساء مكة حينما ذهبوا الى سيف بن ذي يزن ، لتهنئته، ودخلوا عليه في قصر غمدان، وجدوه متضمخاً بالعنبر، يلمع وبِيصُ المسك فى مفرق رأسه، وعليه بردان أخضران قد ائتزر بأحدهما.

واشتهرت برود، " تزيد " عند العرب وضرب بها المثل، كما يضرب ببرود اليمن. وذكر ان العرب تنسب البرود الفاخرة إلى تزيد، ونزعم انها قبيلة للجن.

ولبس الجاهليون الألبسة الحمراء مثل: المياثر الحمر والألبسة الحمراء البحتة القانية. وذكر ان الرسول نهى عن لبس الألبسة الحمراء الخالصة التي لا يخالط لونها هذا لون آخر. ولم ينه عن لبس الألبسة المخططة بحمرة مع لون آخر، مثل الحلل اليمانية، وهي إزار ورداء، منسوجان بخطوط حمر مع الأسود. كما نهى الرجال من لبس الربط المضرجة بالعصفر، لأنها من لبس الكفار.

ولبس للعرب الثياب المصبغة، وذكر أن ساداتهم كانوا يصبغون ثيابهم بالزعفران.

وان من صبغ ثيابه به "ذو المجاسد". وهو من حكّام الجاهلية وفقهائها. وذكر أن العرب كانت مصفقة على توريث البنين دون الأناث، فورّث ماله لولده في الجاهلية للذكر مثل حظ الانثيين. فوافق حكم الإسلام. وورد أن ملحفة رسول الله التي يلبس في اهله مورسة حتى انها لتردع على جلده.

وقد كان الأغنياء والشباب يبالغون في ألبستهم، فكان منهم من يشمر ثوبه، ومنهم من يسبله ويتركه يجر الأرض، ومنهم من يبالغ في ردائه خيلاء وتيهاً وتكبراً. ونظراً إلى ما يتركه من أثر في نفوس الفقراء، والى ما فيه من اسراف وتبذير في استعمال الأقمشة، نُهي عن فعل ذلك في الإسلام. وورد النهي عن ذلك في كتب الحديث. وورد النهي عن لبس القمصان ذات الأكمام الواسعة الطوال التي هي كالأخراح، لأنها من جنس الخيلاء.

ويلبس العرب النعال في أرجلهم، ويفضلونها على غيرها من البسة الرجل مثل الخف. وقد ورد ذكرها في شعر النابغة. وتصنع من الجلود المدبوغة، ولا سيما جلود البقر. ويذكر بعض اهل الأخبار أن أول من حذا النعال هو جذيمة الأبرش بن مالك.

وقد ضرب العرب المثل بموضع تجميع الأنعلة في الذلة والهوان. فقيل: هو في صف النعال، لا في صف الرجال. دلالة على أن الرجل من الطبقة الذليلة.

والخفاف، جمع الخف،هي في منزلة النعل عند العرب. لبسوها في أرجلهم، وشاع استعمالها بين أهل المدر في الحجاز وفي الأمكنة الأخرى. وذكرت في كتب الفقه، في باب الضوء والصلاة، حيث جوّز الفقهاء المسح على الخفين.

وورد النهي باستعمال الخفين للمحرم إلاّ عند عدم النعلين، وذلك يدل على استعمال أهل الحجاز للخفاف قبيل الإسلام.

ومن الخفاف، نوع يقال له "الموزج"، ويذكر بعض علماء اللغة ان اللفظة من الألفاظ المعربة عن الفارسية، وان أصلها "موزه". وهناك نوع آخر يسمى "الموق" ويجمع على "أمواق"، وقد عرف بأنه خف غليظ يلبس فوق الخف. ويظهر من بيت للشاعر المخضرم النمر بن تولب، ان العباديين كانوا يلبسون الأمواق، إذ وصف مشية النعاج بمشي العباديين في الأمواق.

وورد في الأخبار: ان العرب تلهح بذكر النعال، والفرس تلهج بذكر الخفاف.

وورد ان النساء كن يلبسن الخفاف، وقد ورد أن أصحاب رسول الله كانوا ينهون نساءهم عن لبس الحمر والصفر. ويقولون: هو من زينهَ آل فرعون. ويعني هذا ان نساء الجاهلية كن يلبسن الخفاف الملونة، فوجد المسلمون ان في ذلك تقليداً للأعاجم فأمرهن بنبذ الملون منها.

وقد ضرب العرب المثل بخفي حنين عند اليأس من الحاجة والرجوع بالخيبة. فيقال: رجع بخفي حنين. وكان حنين إِسكافاً من أهل الحيرة، فساومه أعرابي بخفين، فاختلفا حتى أغضبه الأعرابي، وأراد حنين غيظ الأعرابي، فلما ارتحل أخذ أحد خفيه، فطرحه، ثم ألقى الآخر في مكان آخر، فلما مر الأعرابي بأحدهما قال: ما أشبه هذا الخف بحفي حنين ولو معه الآخر لاْخذته، ومضى فلما انتهى إلى الآخر ندم على تركه الأول، فأناخ راحلته ورجع في طلب الأول، وقد كان حنين كمن له، فعمد الى راحلته وما عليها فذهب بها،وأقبل الأعرابي وليس معه إلآ خفان. فقال له قومه: ماذا جئت به من سفرك ? قال جئتكم بخفي حنين فذهبت كلمته مثلا.

وحيث أنّي سأتكلم عن ملابس الجاهليين بشئ من الأطناب في أثناء حديثي عن الحرف، لذلك اكتفي بما ذكرته في هذا الموضع عن الملابس، على امل التحدث عنها في ذلك المكان.

ومن عادة اهل "نجد" الاستصباح ب "الداذين". مناور من خشب الأرز ليستصبح بها. وهي بنجد من شجر المظ.

ومصابيح القوم من الفخار، أي الطين المشوي بالنار، يوضع في بطنه زيت الوقود تتصل به فتيلة تولع بالنار، ليستضاء بها، وذلك في الأماكن التي يندر فيها استعمال الحجر. أما في الأماكن الجبلية ذات الحجر،فيستعمل كذلك المصابيح المستعملة من الحجر، وخاصة في بيوت الكبار والموسرين. ويستعملون فها زيت الزيِتون. ولا يزال بعض الناس يستعملون هذه "الضواية" في الإنارة،وتعرف ب "المسرجة" كذلك. و "السراج" هو المصباح والنبراس و "القراط" شعلة السراج، و "الذبال" ما يحمل "السراج". ويقال سَغّم المصباح، أي مدّه بالزيت. والنسيلة الفتيلة في بعض اللغات. والمشاعل القناديل والزهليق السراج في القنديل.

أما الأعراب، فلم يكونوا يعرفون المصابيح، ومصابيحهم نجوم السماء وضوء القمر يهتدون بها ويستلهمون منها معنى الحياة.

المأكل والمشرب

يختلف أكل العرب عن أكل الأعراب. كما يختلف أكل أهل كل مكان عن أكل أهل مكان آخر من جزيرة العرب. وأكل ألحضر، متنوع نوعاً ما بالنسبة إلى مأكول أهل الوبر. لفقرهم ولشح باديتهم. ولذلك صار طعام الأعراب على العموم بسيطاً. وقد أثر اختلاف نوع الطعام على هيئة الإنسان ووزن جسمه. فصار جسم الأعرابي نحيفاً في الغالب، لبساطة أكله، وقلة المواد النشوية والدهنية فيه.

ومن عادات العرب أنهم يقلون من الأكل. ويقولون: البطنة تذهب الفطنة، و "البطنهَ تأفن الفطنة". وكانوا يعيبون الرجل الأكول الجشع. ويرون أن "الأزم"، أي قلة الأكل أفضل دواء لصحة الأبدان. قيل للحارث بن كلدة، طبيب العرب في الجاهلية: ما أفضل الدواء ? قال: الأزم. ولهم في ذلك أمثلة كثيرة في الأزم، وضرر البطنة. رووا بعضاً منها على لسان لقمان، ورووا بعضاً آخر على ألسنة الحكماء العرب. وهم يعالجون البطنة بالحمية. لأن المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء. وهم يرون أن الشبع والامتلاء يضعف الفطنة. أي الشبعان لا يكون فطناً لبيباً. فللأكل علاقة كبيرة بالفطنة والعقل والذكاء.

وللعرب مصطلحات عديدة في درجات الأكل. أي من حيث كيفية تناول الطعام، ومن حيث الاقبال عليه إلى حد التخمة. ولما كان الاكثار من الأكل معيباً عندهم وضعوا ألفاظاً في هؤلاء الذين كانوا يسرفون في الأكل، فإذا دعوا إلى وليمة أسرفوا في الأكل، وأقدموا عليه، وكاًنهم جاؤوا من سني قحط. وعابوهم، ومدحوا من اعتدل في أكله وتوسط فيه، وأظهر نظافة وأدباً في تعاطيه.

ومن عادات العرب، انهم كانوا يبكرون في الغداء، ويرون أن ذلك أقرب إلى راحة البدن وصحته، ويؤخرون العشاء.

وماكل الأعراب قليلة شحيحة مثل شح البادية، خاصة إذا انحبس المطر وهلك الزرع. فإن رزقه يقل وقد يذهب ما معه من زاد فيهلك خلق من الأعراب من شدة الجوع. قيل لأعرابي ما طعامكم ? قال: "الهبيد، والضباب واليرابيع، والقنافذ والحيات، وربما والله أكَلنا القد، واشترينا الجلد، فلا نعلم والله أحداً أخصب منا عيشاً ". و "الهبيد ": حب الحنظل، تنقعه الأعراب في الماء اًياماً، ثم يطبخ ويؤكل. وأما القد، فجلد السخلة. "وفي حديث عمر، رضي الله عنه، كانوا يأكلون القد. يريد جلد السخلة ".

وكانوا يفصدون عرق الناقة ليخرج الدم منه فيشرب، يفعلونه أيام الجوع. كما كانوا يأخذون ذلك الدم ويسخنونه إلى أن يجمد ويقوى فيطعم به الضيف في شدة الزمان، إذا نزل بهم ضيف فلا يكون عندهم ما يقويه، ويشح أن ينحر المضيف راحلته فيفصدها. و"الفصيد" دم كان يوضع في الجاهلية في معى من فصد عرق البعير ويشوى وكان أهل الجاهلية يأكلونه وتطعمه الضيف في الأزمة.

وأما " الفصيدة "، فتمر يعجن ويشاب بدم. وهو دواء يداوى به الصبيان. ويقال للفصيد "البجة" كذلك. و "البجة" دم الفصيد، يأكلونها في الأزمة. والبج الطعن غير النافذ، فقد كانوا يفصدون عرق البعير ويأخذون الدم يتبلغون به في السنة المجدبة. جاء في الحديث: "إن اللّه قد أراحكم من الشجة والبجة"، وورد "أراحكم الله من الجبة والسجة ".أي قد أنعم عليكم بالتخلص من مذلة الجاهلية وضيقتها ووسع لكم الرزق وأفاء عليكم الأموال.

وكان أحدهم إذا نال شربة من اللبن الممذوق بالماء، وخمس تميرات صغار، ظن نفسه ملكاً، ودب اليه نشاطه. قال الشاعر: إذا ما أصبنـا كـل يوم مُـذيقة  وخمس تميرات صغار كـنـائز

فنحن ملوك الأرض خصباً ونعمة  ونحن أسود الغاب ضد الهزاهز

وكم متمنّ ٍ عيشـنـا لا ينـالـه  ولو ناله أضحى به حـق فـائز

وأكل الجراد معروف مشهور عند الأعراب. يأكلونه نيئاً، وقد يطبخونه أو يحمصونه ويلقون عليه شيئاً من الملح. وقد يأكلونه بالتمر. وبغيره، وهو عندهم طعام لذيذ. ويذكر بعضهم أن الإنسان قد يصاب بالشري من أكله، وقد يشكو من بطنة قد تصيبه.

وغالب أكل الأعراب لحوم الصيد والسويق والألبان. وكانوا لا يعافون شيئاً من المآكل لقلتها عندهم. حتى أنهم كانوا يأكلون كل شيء تقع أيديهم عليه. ولا نجد من كتب أهل الأخبار ما يفيد تحريم العرب لأكل بعض الحيوان. بل نجد أن اغلبهم قد استباحوا أكلها جميعاً. مهما كان ذلك الحيوان صغيراَ او كبيراً حسن المنظرأو قبيحه، من ذات الأظلاف أو من غيرها. حياً كان أم ميتاً. وذلك لفقرهم ولشدة الجوع عندهم. فلما جاء الإسلام حرم أكل الميتة والدم ولحم الخنزير والمختنقة وحدد الذبح وما يمكن أكله من الحيوان، بسبب ما كان يصيب الناس من أكل لحومها من أضرار.

وقد أكلوا لحوم الحمر الوحشية والحمر الأهلية، فنهى الإسلام عن أكلها لما في ذلك من ضرر. وتمنىّ أحد الرجّاز لو اصطاد ضبّاً أوسحبلا سميناً، ليفوز بلحمه من شدة الفاقة والحاجة إلى اللحم.

نعم لقد ورد أن بعض القبائل عافت أكل لحوم بعض الحيوانات، أو عابت أكل بعض أجزائها، إلا ان هذا لا يعتبر عاماً، كما انه من قبيل العرف والعادة أو مما له علاقة بالعقائد عندهم. فقد ذكر ان قبيلة "جعفى" كانت تحرم أكل "القلب"، إلا ان هذا التحريم هو تحريم خاص بهذه القبيلة. أما القبائل الأخرى فقد كانت تأكله ولا تبالي، لأنه غير حرام عندها.

وفي أيام الشدة وفي الأيام الأخرى أيضاً يرسل الأعراب أولادهم لجمع الحنظل، فإذا جمع نُقفِ، لإخراج هبيدة، أي حَبّه، لطبخه، أو تحميصه لأكله. وقد تفاخر "حسان بن ثابت" بالغساسنة، لأنهم كانوا في بحبوحة من العيش، وليسوا بصعاليك يرسلون ولائدهم لنقف الحنظل. والى ذلك أشار "امرؤ القيس" بقوله: كأني غداة البين حين تحمـلـوا  لدى سمرات الحي ناقف حنظل

وقد كانوا يقاسون من شدة الجوع والفقر في بعض السنين حتى يموت من يموت منهم من الجوع. قيل: " كانوا إذا اشتد بهم الجوع وخافوا أن يموتوا أغلقوا عليهم باباً وجعلوا حظيرة من شجرة يدخلون فيها ليموتوا جوعاً"، "ولقي رجل جارية تبكي فقال لها: ما لك ? فقالت نريد أن نعتفد"، "والأعتفاد أن يغلق الرجل بابه على نفسه، فلا يسأل احداً حتى يموت جوعاً ". فالاعتفاد انتحار للتخلص من ألم الجوع.

قال بعض المدنيين لبعض الأعراب: أتأكلون الحيّات والعقارب والجعلان والخنافس ? فقال: نأكل كل شيء إلا ام حُبين. فقال المدني: لتهَنِ أم الحُبَين العافية. فالفقر كافر، والجوع يدفع الإنسان إلى،اكل كل شيء. والعرب تكني عن الجوع ب "أبي مالك". وتسمي الخبز جابراً وعاصماً وعامراً. وقد كنّت عنه وعن الإفلاس ب "ابي عمرة".

وهو على فقر اكله وبساطته وجوعه يهزأ بأكل الحضر ويسخر منه، ويرى فيه طعاماً صعباً لا يهضم. وأكلاً لا يناسب مزاج العرب. إذا أكله آكل اْصيب بمرض. وهو محقّ في ذلك، فرجل ذو معدة فارغة، لا يذوق إلا القليل من الأكل والماء، لا تتمكن معدته من هضم طعام مهما كان بسيطاً، فإنه ئقيل بالنسبة إلى معدة الأعرابي، فإذا اقبل على أكل طعام أهل الحضر، وهو طعام غير مألوف عنده أصيب ببطنه تجعله يكره أكل الحضر، وطعام أهل القرى والمدن، ويعجب كيف يأكله أولئك ثم لا يصابون بمكروه. قال أعرابي قدم الحضر فشبع فاتخم: أقول للقوم لما ساءني شبعـي  ألا سبيل الى أرض بها الجوع

الا حيل إلى ارض يكون بهـا  جوع يصدع منه الرأس ديقوع

وقد كان الجاهليون يأكلون كل ما وقع تحت أيديهم من حيوان مقتول أو ميت، فنزلت الحرمة عن ذلك في الآية: )حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع. إلاّ ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقيموا بالأزلام ذلكم فسق(. وذكر أن أهل الجاهلية كانوا بخنقون الشاة وغرها،فإذا ماتت أكلوها. وأنهم كانوا يضربون الأنعام بالخشب لآلهتهم حنى يشلوها فيأكلوها. وذكر أن الموقوذة: هي التي ترمى أو تضرب بحجر أو عصا حتى تموت من غير تذكية. والوقذة شدة الضرب.

وأما المتردية، فهي الي تتردى من العلو إلى الاسفل فتموت، كان ذلك من جبل أو في بئر ونحوه. وسواء تردت بنفسها أو ردّاها غيرها. وكانت الجاهلية تاًكل المتردي، ولم تكن تعتقد ميتة إلا ما مات بالوجع ونحوه دون سبب يعرف. فأما هذه الأسباب، فكانت عندها كالذكاة. فحصر الشرع الذكاة في صفة مخصوصة. وبقيت هذه كلها ميتة. و لَذا النطيحة وأكيلة السبع التي فات نفسها بالنطح والأكل. وكانت الجاهلية تأكل النطيحة الميتة كما تأكل الشاة التي يأخذها السبع فتخلص منه، وكذلك إن أكل بعضهاْ.

وقد كان الجاهليون يستحلون أكل المحرمات المذكورة التي حرمت في الإسلام، ويأكلون ما يذكى من الحيوان على الأنصاب للاصنام، وما يذكى على غيرالأنصاب على نحو ما يفعل القصاب. والذكاة في كلام العرب الذبح. فلما جاء الإسلام حدد الذبح، على كل ما أدرك ذكاته من المذكورات وفيه حياة، ولو بعض حياة. فأبطل ذكاة ما خمد نفسه من حيوان. وهو بهذا خالف الجاهليين، إذ لم يشترطوا الشروط الني اشترطها الإسلام في الذبح..

وللاغنياء والحضر آداب في مآكلهم، تبدأ بغسل الأيدي في الغالب، لازالة ما قد يكون قد علق بها من أتربة وأوساخ، فإذا انتهوا من غسل الأيدي، أكلوا بها. إذ قلما كانوا يستعملون السكاكين و "الملاعق" و "الشوكات" في أكلهم على نحو ما كان يفعله أغنياء العجم.وإذا انتهوا من طعامهم غسلوا.أيديهم كذلك لتنظيفها من الدسم ومن المواد الأخرى التي تكون قد علقت بها من بقايا الطعام. والأكل باليد عادة شائعة بين الشعوب السامية، يرون لها مزايا على الاستعانة بأدوات الأكل في الأكل، حتى صارت في حكم العرف والعادات،بل جعل الأكل باليد من السنن المحببة في الدين.

وتستعمل "الربطة" وهي المنديل و "الفوطة" لمسح اليد وتنشيفها من الماء. وقد استعمل الملوك والأغنياء المناديل المصنوعة من الحرير أو من الكتان، وهي غالية في ثمينة. وذكر بعض علماء اللغة ان الربطة لا تكون إلا بيضاء. والمنديل الذي يمسح به من أثر الماء وغيره. ويظهر أن "الفوطة" و "الفوط" من الألفاظ المعربة، ذكر انها من لغة سندية معربة "بوته". وهي في الأصل ثياب تجلب من السند، غلاظ قصار تكون مآزر، أو هي مآزر مخططة يشتريها الجمالون والأعراب والخدم وسفل الناس، فيأتزرون. ثم استعملت في معنى "منديل" و "مناديل"، يضعها الإنسان على ركبتيه ليقي بها ملابسه عند الطعامْ.

وقد استخدم الملوك والأغنياء الخدم في تقديم والأطعمة والأشربة، وكما كان يفعل ملوك الفرس والروم وسراتهما، في كسو خدمهم أكسية خاصة نظيفة وإلباسهم "سراببل"، معتملة، كذلك فعل ملوك العرب وسراتهم ولا سيما عرب العراق وبلاد الشام، بخدمهم، وقد قرطوا آذانهم بالنطف أي الأقراط احياناً مبالغة في تزيينهم، حتى يعطى جوّ المآدب والضيافة لوناً شعرياً خاصاً. فإذا قدم شيئاً، وضع المنديل أو الديباجة على كتفه، ووضع تحت صحن الطعام شيئاً ثم يقسمه إلى الضيوف.

ويختلف الحضريّ عن الأعرابي في طريقة أكله. فإذا تناول الحضريّ لقمة صغرها وأكلها بأطراف الأسنان، وحاول جهده ألاّ يملا فمه بلقمة كبيرة، فيبدو الفم منتفخاً منها. وهذا ما يخالف مألوف الأعرابي. "قدم أعرابي على ابن عم له بمكة، فقال له: إنّ هذه بلاد مفضم وليست ببلاد مخضم".والخضم أكل بجميع الفم. والقضم دون ذلك. وقيل الخضم: ملء بالمأكول.

ويعد أكل "اللحوم" من أطايب الحياة، ومن المفاخر التي يتباهى بها الناس على غيرهم، إذ لم يكن في ميسور كل إنسان الحصول على اللحم، ولا سيما "اللحم السمين". وإذا أضيفت اليها الخمور والطيب، والنساء، تمت بذلك مباهج الحياة. وقد عبر عن "الخمور واللحم والطيب"، بالأحامرة الثلاثة. وكانت هذه تستنزف المال، لما ينفق الإنسان في الحصول عليها من ماله. قال الأعشى: إن الأحامرة الثلاثة أهلكـت  مالي، وكنت بها قديماً مولعا

وقال: الخمر واللحم السمين، واطلي  بالزعفران، فلن أزال مولعا

وكان من تنصر من العرب يأكلون لحم الخنزبر. يأكلونه أشد الأكل، ويرغبون في لحمه أشد الرغبة. وذكر أن غيرهم كانوا يأكلونه أيضاً. وزعم "أن العرب لم تكن تأكل القرود"، وروي انهم كانوا يأكلون كل شيء يقع بين أيديهم لشدة الفاقة والحاجة، ولا سيما الأعراب. فأكلوا دم "الفصيد"، وكانوا يحبونه، ويرون انه يورث القوة.

وورد في ألسنة الناس "أهلك الرجال الأحمران: اللحم والخمر". وورد أيضاً "أهلك النساء: الأحمران، الذهب والزعفران". وذلك لما كان الرجال والنساء ينفقونه من مال، للحصول على هذه الأشياء: ورد أيضاً: "الأحمران: الطيب والذهب".

وتسربت إلى أهل الحجاز وسائر جزيرة العرب مأكولات أعجمية أخرى، حافظت بعضها على أصالتها وعلى عجمتها. فذكر إن أهل المدينة، لما نزل فيهم ناس من الفرس في قديم الدهر، علقوا ببعض مأكولاتهم، فسموا السميط "الرزدق" والمصوص المزور، والبطيخ الخريز، ومأكولات أخرى، أدخلها هؤلاء الفرس وأمثالهم بحكم نزولهمء اعما اله س ب قبل الإسلام.

والثريد، هو طعام محبوب مشهور عند العرب. وهو طعام يتكون من فت الخبز وتهشيمه ثم بله بالمرق. والغالب أن يكون بالمرق واللحم. وقد اشتهر "هاشم بن عبد مناف"، بتقديمه الثريد لقومه.

ومن أكلات العرب المعروفة "الحريقة"، وهي أن يذر الدقيق على ماء أو لبن حليب فيحتسى، وهي أغلظ من السخينة يبقى بها صاحب العيال على عياله وقت الشدة. و "الحيسة" وهي تمر وسمن وأقط، وقد أهدت "أم سليم" حيسة إلى الرسول وضعتها في "برمة" في قدر من حجر، وأرسلتها إليه، لمناسبة دخوله "زينب".

وعند العرب أكلات تعير بها من يأكلها، منها "السخينة"، وهي تتخذ من الدقيق، دون العصيدة في الرقة وفوق الحساء، وإنما يأكلونها في شدة الدهر وغلاء السعر وعجف المال. والظاهر أنها كانت أكلة معروفة عند قريش خاصة، وعند العرب أكلات تعر بها من يأكلها، منها "السخينة " لذلك عُيرّت بها. وقد عيَّرها "حسان بن ثابت" بها، فدعاها "سخينة"، كما سماها بهذه التسمية كعب.

وقد مازح "معاوية" "الأحنف بن قيس"، فقال: ما الشىء المُلففُ في البجاد ? قال: هو السمينة يا أمير المؤمنين. وإنما أراد معاوية قول الشاعر: إذا ما مات ميت من تـمـيم  فسرّك أن يعيش فجىء بزاد

بخبز أو بتمـر أو بـسـمـن  أو الشيء الملففِ في البجادَ

تراه يطوف في الافاقِ حرصاً  ليأكل رأس لقمان بـن عـاد

وكان الاحنف من تميم، وإنما أراد الأحنف بالسخينة رمي قوم معاوية بالبخل، لأنهم كانوا يقتصرون عليها عند غلاء السعر حتى صار هذا اللفظ لقباً لقريش.

والشواء هو الطريقة الشائعة بين الأعراب وأهل الريف في طبخ اللحوم. فهو وطريقته سهلة: توقد نار، ثم يوضع اللحم عليها، ومتى نضج أكل. فكان أهل الوبر إذا اصطادوا أو ذبحوا لضيف، أوقدوا ناراً، واشتووا اللحم وأكلوه.

ونجد في قصص أجواد العرب، مثل حاتم، انهم كانوا ينحرون الإبل أو يذبحون فرساً، ثم يوقدون ناراً يشوون اللحم عليها. ويدعى الناس إلى الأكل، فإذا فرغوا منه، مَشّوا أيديهم بكل ما يكون أمامهم، حتى أعراف الجياد.

نجد ذلك في شعر لامرىء القيس: وللعرب أواني استخدموها لتقديم الطعام بها الى الضيوف. منها: الفيخة والصحفة، وهي تشبع الرجل، والمكتلة تشبع الرجلين والثلاثة والقصعة تشبع الأربعة والخمسة، والجفنة تشبع ما زاد على ذلك، والدعيسة وهي أكبر الأواني عندهم. وقيل أكبرها الجفنة التي ورد ذكرها في شعر الشعراء على سبيل الفخر والمدح.

الذبح

والغالب على الجاهلين ذبح الحيوان،لأخذ لحمه، وذلك بقطع الحلقوم بسكين. يفعلون ذلك في الشياه والكباش والتيوس والطيور والدجاج. أما بالنسبة الى السمك وما يستخرج من البحر، فإنهم يتركونه حتى يموت، أو يشقون بطونها وقد يذبحونها أيضاً. ويأكلون الميت منه كذلك. واما الإبل، فإنهم ينحرونها، ونحر البعير طعنه في منحره. وكانوا إذا أرادوا نحر البعير عقروه، أي قطعوا أحد قوائمه ثم ينحر، يفعل ذلك به كيلا يشرد عند النحر.

هذا هو الأصل في الحصول على اللحم، ولكنهم كانوا كما جاء في القرآن الكريم لا يعافون أكل الميتة والمختنقة والمتناطحة، لفقرهم وجوعهم. مع ما كان يلحقهم من ضرر من أكلها بسبب فسادها. ولذلك حرم أكل لحومها في الإسلام. والعادة عند العرب أن من العيب بيع شيء من طعام لمن هو في حاجة اليه. وهم يشعرون بالخجل وبالإهانة إذا طلب معسر طعاماً أو شراباً كلبن أو ماء ثم لا يجاب طلبه،أو يطلب عن ذلك ثمناً يقبضه مقابل ما قدم من طعام شراب. لأن القرى واجب على كل عربي،ولا يكون القرى بثمن. فكيف يقف إنسان موقف بخل وإمساك أمام مرمل محتاجْ.

ويقال لكل ما يؤكَل "الطعام" ث فالطعام اسم جامع، وجمعه أطعمة. وأشهر وجبات الطعام عند العرب الغداء والعشاء. فالغداء وقت الغدي، والعشاء وقت العشى. أما الفطور، وهو ما يتناوله الإنسان صباحاً، أي عند نهوضه من نومه، فليس له عند غالبية العرب مقام كبير ة كَمقام الغداء أو العشاء ولا سيما عند أهل الوبر، وحظه مع ذلك عند أهل المدر أحسن حالاً وأكثر مكانة. والطعمة: الدعوة إلى الطعام.

ويعبر عن الطعام ب "الزاد" كذلك. وورد أن الزاد: طعام السفر والحضر. وورد: التزود بمعنى اتخاذ الزاد. وأما "العيش"، فالزاد والطعام في لغة أهل اليمن.

الضيافة والأضياف

وعرف الجاهليون بالقرى، أي اطعام الأضياف. والجود خلة يتفاخر بها العرب ويتسامون، حتى إن بعضهم أوقد ناراً ليراها الأضياف فيستدلون بها على المنزل، وتسمى هذه النار: "نار القرى"، أي نار الضيافة. وأفقر رجل عندهم يقوم قدر حاجته وامكانه إكرام من يفد عليه. والبخل سجيه مذمومة يعاب بها، وتكون سبة بين الناس. وهو لؤم، واللؤم قبيح بالعربي.

ولا يقتصر واجب الضيف على تقديم الطعام لضيفه والترَحيب به، بل عليه حمايته والدفاع عنه ما دام في بيته. فإذا اعتدى عليه، كان الاعتداء كأنه وقع على المضيف، وخزي وكسف اسمه بين الناس. بلحق العار به وبأسرته، فلا بد له من حماية ضيفه والدفاع عنه مهما كان شأنه وحاله من ضعف وفقر، فإن كان عاجزاً استدعى قومه للدفاع عن اسمه من المعتدين.

وخفرة الجار ثلاث، فإذا انتهى الأجل ومضى اليوم الثالث، انتهت خفرة الجوار، وعلى الضيف الخروج. وفي أثناء الضيافة ونزول الضيف في خفرة مضيفه، يكون في مأمن وفي حمى جاره، فإن وقع عليه شيء، طالب مضيفه بالانتصاف ممن أهان ضيفه، لأنه في ضيافته،وتكون الإهانة كأنها قد لحقت به. وورد في الأخبار اًن العرب أصحاب حياض. وانهم كانوا يقرون في الحياض وينفون إلأقذاء عن الماء، وذلك لما للماء من أهمية في جزيرة العرب،فعليه تتوقف حياة الإنسان. ولذلك عدت السقاية في مكة مفخرة من مفاخر قريش. وقد فسرت هذه السقاية بأنها وضع الماء في حياض داخل الحرم ليستقي منها الحاج، والاستقاء مجاناً من ماء زمزم للفقراء والمعوزين. وقد يكون هذا هو الأصل من السقاية. غير إن أهل الأخبار يشيرون أيضاً إلى نوع. أخر من السقاية كان يليها الهاشميون في مكة وذلك بإسقاء الحاج الزبيب المنبوذ في الماء مجاناً لهم. وهو أغلى واثمن من الماء.

وذكر إن "بني أفصى بن نذير بن قسر بن عبقر". وهم من بجيلة، كانوا "لم ينزل بها نازل قط إلا عمدوا إلى ماله فحبسوه ودفعوه إلى رجل يرضون أمانته ومانوه بأموالهم ما أقام بين أظهرهم. فإذا ظعن أدوا إليه ماله ورحلوا معه. فإن مات ودوه، وإن قتل طلبوا بدمه، وإن سلم ألحقوه بمأمنه. وفي ذلك يقول عمرو بن الخثارم:.

ألا من كان مغترباً فإنـي  لغربته على أفصى دليل

يعينون الغنيّ على غنـاه  ويثرو في جوارهم القليل

وطبيعي أن يكون بينهم من يشذّ عن العرف ويخالف المألوف، فيمسك يديه ويبخل. فقد روي أن ناساً سافروا من الأنصار فأرملوا فمروا بحي من العرب فسألوهم القرى فلم يقروهم، وسألوهم الشراء فلم يبيعوهم، فأصابوا منهم وتضبطوا. أي أخذوه على حبس وقهر.

ولائم العرب

وللعرب في المناسبات ولائم يقيمونها يدعون إليها الأقرباء والجيران ومن لهم معرفة بهم، لمشاطرتهم الأنس والفرح في تلك المناسبة. كما كانوا يدعون الناس إلى الطعام في أوقات الأتراح أيضاً، وذلك مثل وفاة عزيز، أو مرور أمد على ذكراه، ولهم ولائم أيضاً في المناسبات الدينية. والغاية من كل ذلك هو مشاطرة من يدعون أصحاب الدعوة في مشاعرهم والاجتماع بهم. ويذكر علماء اللغة أن "الوليمة" طعام العرس، أو كل طعام صنع لدعوة وغيرها. وقد ع كانت العادة إيلام الولائم في الأعراس، لذلك غلب اسم الوليمة على وليمة الاعراس. وذكر أن الرسول قال لعبد الرحمن بن عوف: أولم ولو بشاة. أي اصنع وليمة. والدعوة اسم لكل طعام دعيت اليه الجماعة. فهي تشمل كل أنواع الطعام والدعوات. وبهذا المعنى ترد لفضة:المأدبة. حيث يدعى الناس الى الطعام لمختلف المناسبات. وهي أعم من الوليمة.

وتذبح الذبائح في الولائم ولمناسبات اكرام الضيوف. والمفرد "ذبيحة". وان كانت تدل على أنثى، غير أنها قد تكون حيواناً ذكراً. فلا يشترط فيها أن تكون شاة، بل يجوز أن تكون خروفاً. وهي لا تختص بحيوان معين، فقد تكون جملاً وقد تكون ناقة. ويقال لما يهلّ للالهة: "ذبائح" كذلك. وتكون الذبائح في مناسبات إكرام الضيف، تبعاً لمنزلة الضيف. فإذا كان الضيف ملكاً مثلاً أو سيد قبيلته بولغ في عدد الذبائح التي تقدم له، إكراماً لمنزلته ومكانته. والوليمة هي طعام الإملاك، وقد تطلق على الولائم عامة، ولكن الناس يخصصونها في الغالب بمثل، هذه الحالات. فيقولون وليمة العرس، ووليمة الختان، ونحو ذلك. والدعوة أعم من الوليمة. وأما "الخرس" فطعام الولادة، وقيل: الطعام الذي يصنع للنفساء سلامة المرأة من الطلق. و "العقيقة"، وهي طعام سابع الولادة، و "الاعذار" "العذيرة" الطعام يصنع للختان، و "النقيعة" طعام الإملاك، أي التزويج، وقبل: وما يصنع للقدوم من السفر، وقيل: النقيعة التي يصنعها القادم، والتي تصنع له تسمى التحفة، و "الملاك" ما يصنع للخطبة، ويقال: "الاملاك"، ودعي طعام "الاملاك" ب "الشندخ" كذلك.

وقيل إنما قبل لطعام الإملاك "الشندخ"، لأن الشندخ هو الفرس الذي يتقدم بقية الخيل. وحيث أن طعام الإملاك هو طعام يتقدم العرس،. أيَ هو طعام الزفاف، أو ما يصنع للخطبة، لذلك قيل له: الشندخ. وذكر بعض العلماء الشندخ: الطعام يجعله الرجل إذا ابتنى داراً أو عمل بيتاً، أو قدم من سفر أو وجد ضالته.

وقد أشير الى "النقيعة" على أنها الطعام الذي يصنع للقادم، والناقة التي ينحرها القادم للطعام الذي يتخذه، في شعر ينسب إلى "مهلهل" هو-: إنّا لنضرب بالسيوف رؤوسَهم  ضرب القدار نقيعة القُـدام

وذكر أن النقيعة كل جزور جزرت للضيافة. ومنه قولهم: الناسم، نقائع الموت.

وذهب بعضهم إلى أن النقيعة طعام الرجل ليلة يملكْ.

وورد أيضاٌ أن "المنقع"، طعام المآتم، وأن النقيعة الذبيحة التي تذبح عند الوفاة، والنقع، رفع الصوت وشق الجيب. وهذا المعنى يخالف بالطبع المعنى المتقدم لذلك الطعام.

وإذا قام الإنسان بعمل مفيد جديد، فقد يصنع وليمة لهذه المناسبة. فإذا قام انسان ببناء بيت، أو أي بناء اخر جديد، أو استفاد الرجل شيئاً جديداً، يتخذ طعاماً يدعو اليه اخوانه وأصدقاءه، ويسمون ذلك: العذار. وذكر أيضأ ان العذار طعام البناء وطعام الختان، وأن تستفيد شيئاً جديداً فتتخذ طعاماً تدعو اليه اخوانك.

وأما "الوكيَرة"، فهي طعام يصنع غد تمام البيت يبنيه الرجل لنفسه، مشتقة من "الوكر"، وهو المأوى والمستقر. وعادتهم عند الانتهاء من بناء بيت، دعوة الأقرباء والاصدقاء إلى وليمة لمشاركَة صاحب البيت في أنسه وفرحه بتمام البيت.

و "العقيقة" من الولائم التي يدعى الناس، اليها، لمناسبة المساهمة بفرح أهل مولود، حيما يحلقون شعر رأسه لأول مرة، أي الشعر الذي ولد به. وقد تكون العقيقة في الأسبوع الأول من ولادة المولود. وعندئذ يعلن عن اسم المولود الذي سيعرف به.

والختان من المناسبات المبهجة في حياة الأسر. لذلك يولم الناس ولائم لهذه المناسبة يدعونها "العذيرة"، والجمع الإعذار. والمعذور هو المختن. وقد كان الاختتان معروفاً بين الجاهلين. ويقال للعذيرة أيضاً: العذار والإعذار والعذير. وكل ذلك في معنى طعام الختان. وفي الحديث: الوليمة في الاعذار حق.وورد في الحديث أيضاً: كنا اعذار عام واحد، أي ختنا في عام واحد. وكانوا يختتنون لسن معلومة فيما بين عشر سنين وخمس عشرة.

و "القرَى": ما يصنع للضيف، و "المأدبة": كل طعام يصنع لدعوة، و "الآدب" صاحب المأدبة.

وإذا كانت الدعوة عامة مفتوحة للجميع " قيل لها "الجفَلى"، أما إذا كانت خاصة يقال لها: "النقرى". وفي هذا المعنى ورد في شعر طرفة: نحن في المشتاة ندعو الجفًلى  لا نرى الآدِبَ منها ينتقـرْ

ويقال انتقر الرجل إذا دعا بعضاً دون بعض، فكأنه اختارهم واختصهم من بينهمّ.

ورد أن الجَفَلى، ويقال لطعامها الجفالة، الوليمة، التي ينادي الداعي فيها جميع القوم، أي كل من حضر إلى الطعام. ولا يستثني أحداً، فكل من حضر يحضر تلك الوليمة عكس النقرى، حيث ينتقر الداعي، أي صاحب الوليمة الأشخاص، بأن يذكر أعيانهم، ولا يدعى غير هؤلاء المنتقرين إلى تلك الوليمة، وهي لذلك مذمومة. يقال نقرت باسمه، أي أسميته بين جماعة.

وقد يقدم طعام يتعلل به قبل الطعام، يعرف عندهم بي "السلفة". وإذا أريد أن يكرم الرجل بطعامه عبّر عن ذلك بلفظة "القفيّ". وأما ما يرفع من المرق للانسان، فيقال له "القفارة"، وذلك دلالة على التكريم والتقدير.

وإذا هلّ هلال شهر رجب، دعي بعض الناس إلى وليمة يسمونها "العتيرة". ولشهر رجب حُرمة ومكانة ومنزلة خاصة في نفوس الجاهلين. وقد كان الجاهليون ينذرون، انهم إذا كثر مالهم، فانهم يذبحون منه، ما يذكرون عدده في هذا الشهر. وكان منهم من يذبح من الإبل حين يبلغ الحد الذي ذكر في النذر، ومنهم من يذبح الشاة. كما كانوا ينذرون بتقديم عتيرة في كل نذر آخر يريدون تحقيقه. فإذا أولموا لذلك وليمة أو وزّعوا لحم العتيرة أو طعامها على الناس فعملهم هذا عتيرة. وهناك عتيرة أخرى، هي الذبيحة التي كانت لّذبح للأصنام ويصبّ دمها على رأسها فهذه عتيرة أيضاً.

المتطفلون

وقد عاب أهل الجاهلية أهل التطفل ومن يتحين طعام الناس، أو يكثر من السؤال. وقالوا للحريص من الرجال "الفلحس". وقالوا: أسأل من "فلحس"، و "تفلحس الرجل"، إذا تطفل. وذكر أهل الأخبار أن "الفلحس" رجل من بني شيبان، زعموا أنه كان إذا أعطي سهمه من الغنيمة، سأل سهماً لامرأته ثم لناقته، وكان يسأل سهماً في الجيش. وهو في بيته، فيعطى لعزه وسؤدده، فقالوا: "أسأل من فلحس". وذكر أنه كان حريصاٌ رغيباً وملحفاً ملحاً، وكل طفيلي، فهو عندهم فلحس.

والطفيلي الذي يدخل الولائم والمآدب بلا دعوة. وقد نسب التطفل إلى رجل من أهل الكوفة، زعموا ان اسمه "الطفيل بن زلال "، وهو من "بني عبدالله ابن غطفان" " كان يأتي الولائم بلا دعوة، وكان يقول: وددت أن الكوفة مصهرجة، فلا يخفى عليّ منها شيء. فنسب الطفيليون اليه.

المعاقرة

العقر قطع قوائم الفرس أو الإبل أو الشاة بالسيف، وهو قائم. يقال جمل عقير. بمعنى مقطوع القوائم وكذلك ناقة عقيرة، أي قطعت إحدى قوائمها أو قوائمها. وكان الموسرون منهم يتعاقرون، يفاخر بعضهم بعضاً ويتفاضلون في عقر الإبل، ويتبارون في ذلك ليرى أيهم أعقر لها، فيكون له الفضل والفخر على الغير. ومن ذلك معاقرة "غالب بن صعصعة" أبي الفرزدق و "سحيم ابن وثيل الرياحي"، لما تعاقرا ب "صوأر"، موضع من أرفى، "كلب" من طرف السماوق، مسافة يوم وليلة من ا إكوفة مما يلي الشام. نعقر "سحيم" خممساً ثم بدا له، وعقر غالب مائة. ذكر أنهم كانوا يفعلونه رياء وسمعة وتفاخراً، ولا يقصدون به غير ذلك، ولهذا نهي عنه في الإسلام، لأنه لم يقصد به وجه الله. جاء في حديث ابن عباس" لا تأكلوا من تعاقر الإعراب، فإني لا آمن من أن يكون مما أهل به لغير الله. قال ابن الأثير: هو عقرهم الإبل. كان الرجلان يتباريان في الجود والسخاء، فيعقر هذا وهذا حتى يعجز أحدهما الآخر، وكانوا يفعلونه رياءٌ وسمعة وتفاخراً ولا يقصدون به وجه الله تعالى فشبهه.بما ذبح لغير الله. وفي الحديث لا عقر في الإسلام. قال ابن الأثير: كانوا يعقرون الإبل على قبور الموتى أي ينحرونها ويقولون: إن صاحب القبر كان يعقر للاضياف أيام حياته فنكافئه بمثل صنيعه بعد وفاته. وأصل العقر ضرب قوائم البعير أو الشاة بالسيف وهو قائم. وفي الحديث لا تعقرن شاة ولا بعيراً إلاّ لمأكلة، وإنما نهي عنه، لأنه مثلة وتعذيب للحيوان.

مبرات جاهلية

و كانت للجاهليين مناقب ومبرات ومكرمات،فعلوها في جاهليتهم وقبل إسلامهم. لا ندري إذا كانوا فعلوها عن دين وعقيدة في ثواب تثيبهم الآلهة عليها في هذه الدنيا أو في الدنيا الآخرة، وذلك بالنسبة لمن آمن بوجود عالم ثان، أم أنهم فعلوها عن مروءة وكرم نفس. فمنها "السقاية": سقاية مكة وهي ما كانت قريش تسقيه الحجاج من الزبيب المنبوذ في الماء، وذلك في ايام الجاهلية. وكانت تعد- مأثرة من ماثرهم، أو اقامة البيوت في المواسم وعلى الطرق وفي المعابد تتخذ سقاية يستقي منها الناس بلا ثمن. وقد ورد في الحديث: انه كان يستعذب الماء من بيوت السقيا.

ومن مبراتهم قبة عوف بن أبي عمرو بن عوف بن محلم بن ذهل بن شيبان، لا يدخل جائع إلا أشبع، ولا خائف إلا أمن.

ومنها نخل ربيعة بن الأسود اليشكريّ، وكان جعلها لابن السبيل وكل مقطوع وقره فيها. فلما كانت حجة الوداع، ووضع رسول الله كل دم ومكرمة في الجاهلية إلا السدانة والسقايا، قام ابن ربيعة بن الأسود، فقال: يا رسول الله إن أبي كان وقف نخلاً على أبناء السبيل أفهي مكرمة له ? فأمضها. فأمره النبي بإمضائها. وقد مدح أولاده ونسله فنعتهم أحد الشعراء ب "بني مورث الأضياف من آل اسود". وتذكرهم معاوية، فقال: "وددت أن صاحب نخل ربيعة بن أسود مكان الخلافة. لي".

مياه الشرب

ولما كان الجفاف هو الغالب على طبع جزيرة العرب. لذلك قل " الماء فيها، واضطر الناس إلى قطع المئات من الأميال للوصول إلى موضع ماء للتزود به. ولهذا صار عزيزاً عندهم ثميناً، فقد تنقذ كمية قليلة منه حياة شخص. وتكثر الحاجة اليه بصورة خاصة في الصيف: حيث تكثر الحرارة، فيشتد العطش، ويظطر الإنسان إلى الاكثار من شرب الماء لكسر حدة ذلك العطش. ولذلك يقترب الناس في مواسم الصيف من مواضع الماء، حتى إذا نفد ما عندهم منه، ذهبوا إلى أقرب ماء اليهم، للتزود به.

وألذّ المياه عند العرب ماء الغيث. أي ماء المطر، فإذا جادت السماء به، سال إلى المواضع المنخفضة وتجمع بها، فيأتي الأعراب اليها للاستقاء منها. ولهم أسماء ومصطلحات عديدة لأنواع المطر ولمواضع تساقطه، نظراً لما لذلك من علاقة بحياتهم، ولما لهم من حاجة شديدة الى الغيث.

والعيون والآبار والحسي، هي من المنابع الأخرى إلتي أمدت العرب بالماء والعين، هي ينبوع الماء الذي ينبع من الأرض. وقد تطلق على موضع تجمع مطر خمسة أو ستة ايام أو أكثر. والبئر، هي القليب. قد تكون بئراً عادية، وهي البئر القديمة التي لا يعلم لها حافر بلا مالك، وقد تكون بئراً يعرف صاحبها وحافرها ومالكها. وقد كان الجاهلون يحفرون الآبار لأنفسهم للاستسقاء منها وللزرع بمائها، كما كانوا يبيعون ماءها لغيرهم. وقد كانت لليهود آبار بالحجاز حصلوا منها على أموال بسبب بيع مائها للمحتاج اليه. وإما "الحسي" " فهي المواضع التي يظهر فيها الماء من جوف الأرض على وجه التربة. ومنها حسي الاحساء وأحساء خرشاف، واحساء "بني وهب" على خمسة اميال من المرتمى، فيه بركة وتسع آبار كبار وصغار بين القرعاء وواقصة على طريق الحاج، واحساء "غنى" وأحساء اليمامة، أحساء جديلة.

ويشرب الأعراب الماء بأيديهم،بأن يمدّوا أيديهم في عين الماء أو في مستجمعه ثم يغرفوا منه، فيشربوه وهكذا حتى يرتووا. وقد ينبطح أحدهم على الأرض، ثم يمدّ فمه إلى الماء فيشرب منه. أما بالنسبة إلى الآبار والقرب ومخازن الماء، فإنهم قد يشربون من أفواه الدلاء أو القرب، وقد يستعملون أواني يشربون بها منها: الغمر، وهو قدح صغير " والقدح والتبن، والصحن والقعب، وغير ذلك من أسماء ذكرها علماء اللغة.

وقد يتجمع الماء في حفر، فيكون بركاً. وذكر ان البركة مثل الحوض يحفر في الأرض لا يجعل له أعضاد فوق صعيد الأرض. وذكر ان العرب يسموّن الصهارِيج التي سويت بالآجر وصرجت بالنورة في طريق مكة ومناهلها بركاً. وربّ بركة تكون ألف ذراع وأقل وأكثر. وأما الحياض التي تسوى لماء السماء ولا تطوى بالآجر، فهي الأصناع.

وذكر علماء اللغة ان "الصنع"، مصنعة الماء، وهي خشبة يحبس بها الماءوتمسكه حيناً، والجمع "أصناع"، وذكر ان "المصنعة" -كالحوض أو شبه الصهريج يجمع فيها ماء المطر، يحتفرها الناس فيملاونها ماء السماء يشربونها. وورد ان "الحبس" مثل المصنعة.

ولهم في سقي إبلهم عادات. وكانوا يسمون كل سقية حسب يومها. فإذا سقوا الإبل كل يوم، قالوا سقيناها رفهاً، وإذا اوردوها يوما وتركوها في المرعى يوماً، قالوا: سقيناها غباً. وإذا اقاموها في المرعى بعد يوم الشرب يومين ثم أوردوها في اليوم الثالث يقولون: سقيناها ربعاً، وهكذا. وتمام ظمأ الإبل قي الغالب ثمانية إيام فإذا أوردوها في اليوم التاسع منه،وهو العاشر من الشرب الأول، قالوا: سقيناها فِي ربعاً بالكسر، إلى غير ذلك مما تجده في كتب اللغة عن هذا الموضوعْ.

ومن أوعية الماء "المهراس". حجر منقور ضخم لا يقله الرجال ولا يحركونه لثقله، يسع ماءً كثيراً. يؤخذ منه الماء للشرب، وللاستعمال، وقد استعمل في الإسلام للوضوء منه.

والحب، معروف عند الجاهلين، يختزن فيه الماء للشرب، يعمله الكواز والفخار. والكوز إناء يشرب به، ذكر أنه يكون بعروة، أما إذا لم تكن به عروة فهو "كوب". وهناك الأباريق واوان أخرى استعملت في الشرب. طرق معالجة الماء

وللعرب طرق في معالجة المياه المالحة، مثل ماء البحر، وفي معالجة المياه الكدرة. من ذلك أنهم كانوا إذا اضطروا إلى شرب ماء البحر، وضعوه في قدر، وجعلوا فوق القدر قصبات وعليها صوف جديد منفوش، ويوقد تحت القدر حتى يرتفع بخارها إلى الصوف، فإذ كثر عصروه، ولا يزالون على هذا الفعل حتى يجتمع لهم ما يريدون.فيكون ما استخرج من الماء من عصر الصوف ماء عذب، ويبقى في القدر الزعاق.

وربما حفروا على ساحل البحر أو شاطىء مجتمع الماء المالح حفرة، يرشح الماء من الماء المالح اليها، ويحفرون حفرة أخرى على مسافة منها، يرشح اليها الماء من الحفرة الأولى، ثم يحفرون ثالثة، وبذلك يتحايلون على ملوحة الماء، حتى. يعذب، فيكون صالحاً للشرب.

ولهم في دفع كدرة الماء حيل. من ذلك أنهم كانوا إذا اضطروا إلى شرب الماء الكدر، ألقوا فيه قطعة من خشب الساج أو جمراً ملهباً يطفأ فيه، أو طيناً أو سويق حنطة، فإن كدورته ترسب إلى أسفلْ. وقد يضعون إناءً تحت حب. الماء، لتتجمع قطرات الماء الصافية فيه، يشربون منه ماءً صافياً لا كدرة فيه. وربما عرفوا استعمال "الشب" في إزالة كدرة الماء. وهو أنواع، منه شب يماني.

الفصل الحادي والخمسون

فقر وغنى وأفراح ؤأَتراح

وبين الجاهليين أناس عرفوا بالغنى وبالثراء وبكثرة المال، كالذي ذكرته عن بعض رجال مكة.. فقد كان بينهم رجال متخمون شبعون، سكنوا بيوتاً حسنة، زينّوها بأثاث جيد وثر، ولبسوا ملابس الحرير والألبسة الجيدة المستوردة من بلاد الشام واليمن، فأكلوا أكلات الأعاجم وتفننوا في الطبخ، وشربوا بآنية من ذهب وفضة وبلور. وساهموا في قوافل تجارة مكة الجماعية. كما كانت لهم قوافل خاصة بهم، تأتي إليهم بأرباح طيبة. ومنهم من استغل ماله بالربا وبامتلاك الأرض لاستغلالها، كما فعلوا بالطائف، إلى غير ذلك من وسائل اتبعوها في جمع المال.

وكان منهم أناس ذوو حس وعاطفية، فعطفوا على المحتاج وأطعموا الناس، رقة بحالهم أو طلباً للشهرة والاسم. فهم جماعة محسنة على كل حال وكان بينهم من لم يكن له قلب ولا حس، فلم يعرف محتاجاً أو فقيراً ولم يفهم معنى للإحسان على الفقير. فاشتط وأبى وقسى في رباه، ولم يتساهل فيه. ومنهم من أكل أموال اليتامى ومنع الماعون. وإذا باع أنقص في المكيال، ليزيد في ماله. وفي القرآن الكريم آيات في وصف حال هؤلاء الأغنياء، وتقريع لهم وتوبيخ على ما فعلوه: )فذلك الذي يدع اليتيم، ولا يحض على طعام المسكن(. أي يدفع اليتيم عن حقه، ويقهره ويظلمه. وانهم كانوا لا بورثون النساء ولا الصغار، ويقولون: "انما يحوز المال من يطعن بالسنان، ويضرب بالحسام".

وكان منهم من يبخل بماله فلا ينفق منه على المحتاجين والمساكين،كان منهم من يعتذر عن بخله وحرصه، فيقول: "أنطعم من لو شاء الله أطعمه " فنزلت هذه الآية: )ولا يحض على طعام ألمسكن( فيهم، "وتوجه الذم اليهم. فيكون معنى الكلام: لا يفعلونه إن قدروا،ولا يحثون عليه إن عسروا.

وكان بين الجاهليين فقراء معدمون مدقعون لم يملكوا من حطام هذه الدنيا شيئاً. وكانت حالتهم مزرية مؤلمة. منهم من سأل الموسرين نوال إحسانهم، ومنهم من تحامل على نفسه تكرماً وتعففاً، فلم يسأل غباً ولم يطلب من الموسرين حاجة، محافظة على كرامته وعلى ماء وجهه،مفضلاً الجوع على الشبع بالاستجداء.

حتى ذكر ان منهم من كان يختار الموت على الدنيةّ. والدنيّة، أن يذهب إلى رجل فيتوسل اليه بأن يجود عليه بمعروف. ومنهم من اعتقد. والاتحفاد أن يغلق الرجل بابه على نفسه، فلا يسأل أحداٌ حتى يموت جوعاً. وكانوا يفعلون ذلك في الجدب. قيل كانوا إذا اشتد بهم الجوع وخافوا أن يموتوا أغلقوا عليهم باباً وجعلوا حظيرة من شجرة يدخلون فيها ليموتوا جوعاً.

وكان بعض تجار مكة إذا أفلسوا أو ساءت حالتهم، خرجوا إلى اليبدية سراً، وأقاموا هناك حتى يهلكوا جوعاً. خشية معرة وقوف رجال مكة على حالهم، واشفاقاً على أنفسهم من التوسل بالاغنياء لمساعدتهم. فالموت على هذه السورة أسهل عندهم من الإستجداء. روي "عن ابن عباس" في تفسير "لإيلاف قريش"، قوله: "وذلك أن قريشاً كانوا إذا أصابت واحداً منهم مخمصة، جرى هو وعياله إلى موضع معروف فضربوا على أنفسهم خباء فماتوا".

وكان منهم من رضي وقنع بالدون من المعيشة، فعاش في فقر مدقع. والدقع الرضا بالدون من المعيشة وسوء احتمال الفقر واللصوق بالأرض من الفقر والجوع، فهم ينامون على التراب ويلتحفون السماء. والدوقعة الفقر والذل، وجوع أدقع وديقوع شديد. وهم مثل "بنو غَبٌراء" في الفقر والحاجة، أولئك الذين توسدوا الغبراء واتخذوا التربة فراشاً لهم، لعدم وجود ملجأ لهم يأوون اليه، و لا مكان يحتمون به.

ولم يكن في وسع كثير من الجاهليين الحصول على اللحم لفقرهم فكانوا يأتدمون "الصليب" وهو الودك. زدك العظام. يجمعون العظام ويكسرونها ويطبخونها، ثم يجمعون الودك الذي يخرج منها ليأتدموا به. وقد عرفوا ب "أصحاب الصلب". ولما قدم الرسول مكة "أتاه أصحاب الصلب الذين يجمعون العظام إذا لحب عنها لحمانها فيطبخونها بالماء ويستخرجون ودكها ويأتدومن به "

ولم يكن في استطاعة الفقراء أكل الخبز لغلائه بالنسبة لهم. لذلك عدّ أكله من علائم الغنى والمال. وكان الذي يطعم الخبز والتمر يعد من السادة الكرام. وكان أحدهم يفتخر بقوله "خبزتُ القومَ وتمرتهم "، بمعنى أطعمتهم الخبز والتمر. وقد افتخر "بنو العنبر " بسيدهم "عبد الله بن حبيب العنبري "، لأنه كان لا يأكل التمر و لا يرغب في اللبن، بل كان يأكل الخبز. فكانوا إذا افتخروا قالوا: منّا آكل الخبز. وكانوا يقولون "أقرى من آكل الخبز " لأنه كان جواداً. وذكر أن "كسرى" حين سأل "هوذة بن علي الحنفي " عن غذائه ببلده، قال له هوذة: الخبز. " فقال كسرى: هذا عقل الخبز لا عقل اللبن والتمر ".

وكان منهم من لا يستطيع شراء الملابس ليلبسها، فيستر جسمه بالأسمال البالية وبالجلود، ويعيش متضوراً جوعاً. وقد ذكر أن الفقراء من الصحابة كانوا لا يملكون شيئاً، ويتضورون جوعاً، وينامون في صفة المسجد، يرزقهم الرسول من رزقه، تنبعث منهم روائح كريهة، من عدم الغسيل. ويلعب القمل في شعرهم، ويتنقل على أجسامهم حيث يشاء.

ويظهر أن بعض زعماء مكة قد شعر نخطر ظاهرة انتشار الفقر بمكة، وبما سيتركه الاعتقاد من أثر في مجتمعها، فعمل على معالجة مشكلة الفقر والجوع والتسول، حفظاً لمصالح الأغنياء على الأقل. فهم إن تركوا الفقر ينتشرويتفشى، ولم يعملوا على معالجته، تطاول الفقراء منهم على أموال الأغنياء، وقاموا عليهم وأرغموهم على أخذ أموالهم أو على أن يساهموهم فيه. أضف إلى ذلك ما سيحدثه اعتداء الفقراء على أموال الأغنياء من خوف، ومن فزع في نفوس أهل هذه المدينة المتاجرة، لذلك سعوا لاقناع تجار المدينة على إنصاف الفقراء والمحتاجين ومساعدتهم للتخفيف من شدة الجوع والفقر.

ويظهر ان المخمصة، كانت شديدة، شدة حملت البعض على السطو على أموال الناس وعلى سرقة ما يجدونه أمامهم. ففزع من ذلك أهل مكة، وعمل زعماؤها على التفكير في اتخاذ أقسى العقوبات في حق السارق، فكان أن حكم "الوليد بن المغيرة" بقطع يد السارق، ذكر انه كان أول من حكم بقطع يد السارق فىِ الجاهلية فصار القطع سنّة عندهم.

وكان أن نادى "هاشم"، وهو "عمرو بن عبد مناف" إنصاف الفقراء والمحتاجين وتقديم المعونة لهم، حتى يصير فقيرهم كالكافي، فما ربح الغني أخرج منه نصيبا ليكون للفقراء. وبذلك يخفف من حدة وطأة الفقر في هذه المدينة المتاجرة.

وذكر في تعليل دعوة "هاشم" إلى إنصاف الفقراء ومساعدتهم، انه "كان سيداً في زمانه، وله ابن يقال له: أسد، وكان له ترب من بني مخزوم، يحبه ويلعب معه. فقال له: نحن غداً نعتفد. فدخل أسد على أمه يبكي، وذكر ما قاله تربه.. فأرسلت أم أسد إلى أولئك بشحم ودقيق، فعاشوا به أياماً. ثم إن تربه أتاه أيضاً، فقال: نحن غداَ نعتفد، فدخل أسد على أبيه يبكي، وخبره خبر تربه، فاشتد ذلك على عمرو بن عبد مناف، فقام خطيباً في قريش وكانوا يطيعون أمره، فقال: انكم أحدثتم حدثاً تقلون فيه وتكثر العرب، وتذلون وتعزّ العرب، وأنتم أهل حرم الله جل وعز، وأشرف ولد آدم، والناس لكم تبع، ويكاد هذا الاعتفاد يأتي عليكم. فقالوا: نحن لك تبع. قال: ابتدئوا بهذا الرجل - يعني أبا ترب أسد - فأغنوه عن الاعتفاد، ففعلوا. ثم انه نحر البدن، وذبح الكباش والمعز، ثم هشم الثريد، وأطعم الناس، فسميّ هاشماً. وفيه قال الشاعر: عمرو الذي هشم الثريد لقومه  ورجال مكة مسنتون عجاف

تم جمع كل بني أب على رحلتين: في الشتاء إلى اليمن وفي الصيف إلى الشام للتجارات، فما ربح الغني قسّمه بينه وبين الفقير، حتى صار فقيرهم كغنيهم، فجاء الإسلام وهم على هذا، فلم يكن في العرب بنو اب أكثر مالاً ولا أعز من قريش، وهو قول شاعرهم: والخالطون فقيرهم بغنيهّـم  حتى يصير فقيرهم كالكافي

فلم يزالوا كذلك حتى بعث الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم، فقال: "فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع" بصنيع هاشم "وآمنهم من خوف" أن تكثر العرب ويقلوا.

وورد أنّ "حكيم بن حزام" كان يقاسم ربحه من تجارته الفقراء وأهل الحاجة والمحاويج. وذكر أن قريشأَ كانت تتراحم فيما بينها وتتواصل. وأن تفسير " لإيلاف قريش"، هو " لتراحم قريش وتواصلهم". فالإيلاف التراحم والتواصل. وذكر أن قريشاً كانوا "يتفحصون عن حال الفقراء ويسدّون خلة المحاويج". ويظهر أن هذا إنما حدث بفعل "هاشم" وبتنظيمه وجمعه وبدعوته تلك. فصار أصحاب القلوب الرقيقة يخرجون منذ يومئذ من دخلهم نصيباً يجمعونه ويوحدونه، لينفقوا منه على من به حاجة من أهل مكة ومن الغرباء.

والإيلاف هو التطبيق العملي لدعوة "هاشم" إلى إنصاف الفقراء والمساكين والمحاويج. فبعقد "الإيلاف" وإجماع قريش على تلبية دعوة هاشم بإخراج نصيب من أموالهم يخصص لمساعدة المحتاج، تمكن "هاشم" من تطبيق دعوته تطبيقاً عملياً، ومن مساعدة المحتاجين. حتى صار عمله سنة لمن جاء بعده. فحسن حال المحتاجين، ونعش فقراء مكة. يؤيد ذلك ما نجده من قول "ابن حبيب": "أصحاب الإيلاف من قريش الذين رفع الله بهم قريشاً ونعش فقراءها".

والرفادة والسقاية، هما من ثمرات دعوة "هاشم"، فالرفادة، هي إقراء ضيوف مكة وإطعام المحتاجين من أهلها. والسقاية إسقاءهم الماء، والنبيذ واللبن.

فلم تقتصر السقاية على تقديم الماء بلا ثمن إلى العطشان والمحتاج إلى الماء. بل اشتملت على تقديم اللبن والنبيذ بل والعسل كذلك إلى المحتاج بلا ثمن. وقد ذكر أن "سويد بن هرمي بن عامر الجمحي"، كان " أول من وضع الأرائك وسقى اللبن والعسل بمكة". وأن "أبا أمية بن المغيرة المخزومي": المعروف ب "زاد الركب"، و " أبا وادعة بن ضبيرة بن سعيد بن سعد بن سهم"، "كانا يسقيان العسل بمكة بعد سويد بن هرمي". وكل هذه الأعمال، هي من الأعمال الخيرية النافعة، التي تدل على نفس طيبة، تسعى للتخفيف عن مصاعب الناس، وعن رغبة في مساعدة الفقراء والمحتاجين. فصار في وسع من يقصد البيت الجلوس على أرائك ليرتاح عليها، كما صار في وسعه الحصول على ماء أوسقاء لبن أو ماء معسل، أي محلى، مجاناً إن لم بتمكن من دفع الثمن.

وفي حلف "الفضول" دعوة ل "مواساة أهل الفاقة ممن ورد مكة بفضول أموالهم"، وذلك لمنع الظالمين من أهل مكة من اغتصاب أموال أهل الفاقة والغرياء ممن يرد إلى المدينة وليس لهم من جار ومعين، ومن أهل مكة كذلك.فهو توثيق وتتمة لعمل "هاشم".

ونجد هذه الدعوة الانسانية في مساعدة الجار والفقير في الشعر: في مثل قول الشاعر: يبيتون في المشتى ملاء بطونهم  وجاراتهم غرثى يبتن خمائصا

وهو بيت يمثل المثل الجاهلية العليا التي تجسمت في الجوار وفي المروءة والاحسان والحميّة وأمثال ذلك.

ونجد مئل هذه النزعة في قول الشاعر: هنالك إن يُستحبلوا المألُ يُخبِـلـوا  وإن يسألوا يعُطوا وإن ييسروا يُغلوا

على مكثُريهم رزق من يعتـريهـم  وعند الُمقِلّين السمـاحةُ والـبـذل

وفي قول "الخرِْنق بنت هَفّان" ترثي زوجها "عمرو بن مرثد" وابنها "علقمة بن عمرو" وأخويه حسان وشرحبيل، حيث قالت في جمله ما قالته: والخالطين نحَيِتهم بنضارهـم  وذويَ الغنى منهم بذي الفقرِ

والنحيت الدخيل في القوم، والنضار الخالص النسب. فهم قوم كرام، لم يفرقوا بين الدخيل والأصيل، ولا بين الغني والفقير، فنال الدخيل ما عند الأصيل، وشارك ذو الفقر والمدقعة الغني في ماله، وهو أعز شيءعند الإنسان، لأنه أبى أن يستأثر به، وجاره فقير ليس عنده ما يسد حاجته. فمجتمعهم مجتمع "خليط"، و "الخليط: القوم الذين أمرهم واحد"، والمشارك الحقوق. وفي الحديث: الشريك أولى من الخليط. والخليط أولى من الجار. وأراد بالشريك: المشارك في الشيوع.

ونجد فكرة مساعدة الفقير، والاستهانة بالمال بانفاقه على المعوزين، والإنعام به على الفقراء، في أبيات أخرى في مثل: والخالطين غنيّهم بفـقـيرهـم  والمنعمين على الفقير المرمل

وفي مثل قول الأعشى: وأهان صالح ماله لفقـيرهـا  وآسى وأصلح بينها وسعى لها

وقول الشاعر عمرو بن الاطنابة: والخالطين حليفهم بصريحهم  والباذلين عطاءهم للسـائل

وأرى أنّ في ورود لفظة "الخالطين" في هذه الأبيات، بمعنى خلط المال، وتخصيص الأغنياء نصيباً من أموالهم للفقراء، دلالة على أنّ من الجاهليين الأغنياء من كان قد وضع في ماله حقوقاً للمحتاجين، بحيث صاروا كالمخالطين لهم في مالهم، وفي منزلة الشركاء لهم في المال. من دون إرغام لهم ولا إكراه، أو طمع في ثواب دنيوي أو في عالم ما بعد الموت. وذلك غاية الجود والكرم.

وفي شعر للنعمان بن عجلان الأنصاري، إشادة بعمل قومه الأنصار، إذ قَسَّموا أموالهم وديارهم بينهم وبين المهاجرين. فيقول: وقلنا لقوم هاجروا: مرحباً لـكـم  وأهلاً وسهلا ً، قد أمنتم من الفقر

نقاسمـكـم أمـوالـنـا وديارنـا  كقسمة أيسار الجزور على الشطر

ويذكرنا شعره هذا الذي افتخر فيه بقومه الأنصار بالمؤاخاة، إذ آخى رسول الله بين المهاجرين والأنصار. بعد مقدمه بخمسة أشهر، وقيل ثمانية أشهر. فكانوا يتوارثون بهذا الإخاء في ابتداء الإسلام إرثاً مقدماً على القرابة. ثم نسخ التوارث بالمؤاخاة بعد بدرْ. والمؤاخاة هي "المخالطة" الجاهلية في صورة أخرى.

وقد كان بين الجاهليين من حبس الحبوس،لتكون وقفاً على الفقراء والمحتاجين وأبناء السببل. ومنهم من ساعد الفقراء والصعاليك بتقديم الخيل لهم للإغارة بها واكتساب الرزق عن طريق الغارات.كالذي روي عن "الريّان بن حويص العبدي" من أنه كان قد جعل فرسه "هراوة" موقوفة على الأعزاب من قومه. فكانوا يغزون عليها ويستفيدون المال ليتزوجوا، فإذا استفاد واحد منهم مالاّ وأهلاً دفعها إلى آخر منهم، فكانوا يتداولونها كذلك، فضربت مثلاً، فقيل: أعزّ من هراوة الأعزاب. وذكر أنها جاءت سابقة طول أربع عشرة سنة، فتصدق بها على العُزّ اب، يتكسبون عليها في السباق الغارات.

ومن تقاليد العرب مساعدة الضال والمنقطع والمعزب، وهو الذي عزب عن أهله فيّ إبله وانقطع عنهم. ومن ذلك ما ورد في الحديث: أنهم كانوا في سفرٍ مع النبي، فسمع منادياً، فقال: انظروا ستجدوه معزياٌ أو م مكلئاً. والتعزب: الابتعاد عن الجماعات بسكنى البادية، وقد نهي عن ذلك في الإسلام. كما أشير إلى ذلك في حديث "ابن الأكوع" لما أقام بالزبذة "أبو ذر الغفاري" قال له الحجاح ارتددت على عقبيك تعزبت.

ومنهم من جعل في ماله صدقة يؤديها إلى الفقراء على وجه القربة الآلهة أو عن دافع انساني أوعن حب للظهور والفخر. ويقال لمن يتصدق على غيره "المتصدق". وهو عمل تطوعي، يقوم به الإنسان اختياراً وتطوعاَ، لمساعددة المعوز والمحتاج.

و "ابن السبيل " هو "ابن الطريق"، الذي قطع عليه الطريق، ولا يجد ما يتبلغ به. والضيف المنقطع به، فيجب أن يعطى ما يتبلغ به إلى وطنه. وقد تتعرض السابلة إلى لصوص الطرق، يسلبونهم ما معهم، وقد يأخذون حتى ملابسهم، فيتعرض مثل هؤلاء للهلاك والأخطار، حتى يتهيأ لهم من له شفقة ورحمة فيغيثهم بما يمكن منه، وقد يحملهم معه.

وكان لفقر الكثير منهم، يصعب عليهم دفع ديونهم، ويماطلون في الأداء حتى انهم كانوا إذا رأوا الهلال، قالوا: لا مرحباً بمحل الدين ومقرب الآجال. وذلك لأنهم كانوا يتواعدون في دقع الديون على مطالع القمر.

ومما زاد في فقر بعضهم، شرب الخمر والمقامرة. فكان بعضهم يفني ماله في شرب الخمر، "وكان الرجل في الجاهلية يقامر على أهله وماله فيقعد حزيناً سليباً، ينظر إلى ماله في يدي غيره، فكانت تورث بينهم عداوة وبغضاً". فعلوا ذلك أملاً في التخلص من ألم الفقر والحرمان باللجوء إلى الخمور لطمس ألم الفقر والذل، والى القمار، أملاً في الكسب والربح، فزادوا بذلك فقرهم، وعرّضوا أنفسهم الى الخسارة.

الوأد

والوأد من ذيول الفقر. وقد جاء ذكره في الاية: "وإذا الموؤودة سُئلت: بأي ذنب قُتِلَتٌ". والوأد على ما يذكر علماء التفسير وأهل الأخبار هو دفن الينات وهنّ أحياء، وذلك خوفاً من العار أو لوجود نقص فيها أو مرض، أو قبح كأن تكون زرقاء أو شيماء أو برشاء أو كسحاء وأمثال ذلك، وهي من الصفات التي كان يتشاءم منها العربْ، أو خوفاً من الفقر والجوع، أو مخافة العار والحاجة.

ورجع "القرطبي" أسباب الوأد لخصلتين: "إحداهما، كانوا يقولون إن الملائكة بنات اللّهِ، فألحقوا البنات به. الثانية، إمّا مخافة الحاجة والإملاق وإما خوفاً من السَبي والإسترقاق". وذكر غيره أن سنين شديدة كانت تنزل بالناس تكون قاسية على أكثرهم، ولا سيما على الفقراء، فيأكلون "العِلٌهِز" وهو الوبر بالدم، وذلك من شدة الجوع. فهذا الفقر وهذه الفاقة وذلك الإملاق، كل ذلك حملهم على وأد البنات حذر الوقوع في الغواية، فتلحق السُّبَّة بأهل البنت وبعشيرتها وقبيلتها. وذكر أيضاً أن من جملة أسباب الوأد وجود نقص في الموؤودة أو مرض أو قبح، كأن تكون زرقاء أو شيماء أو برشاء أو كسحاء واًمثال ذلك، وهي من الصفات التي كان يتشاءم منها العرب.

وذكر بعض أهل الأخبار، ان بعض العرب كانوا يتشاءمون من البنت الزرقاء أو الشيماء، أو الكسحاء، فكانوا يئدون من البنات من كانت على هذه الصفة، ويمسكون من لم يكنّ على هذه الصفة. وذكروا ان والد "سودة بنت زهرة" الكاهنة وهي عمة "وهب"، والد "آمنة" أم الرسول، أرسل بها إلى "الحجون" لوأدها، للصفة المذكورة، ثم تركها في قصة يروونها، وصارت كاهنة شهيرة. فسبب الوأد عند هؤلاء، هو هذه العقيدة القائمة على التشاؤم من البنت الزرقاء والشيماء.

ويذكرون انهم كانوا يحفرون حفرة، فإذا ولدت الحامل بنتاً ولم يشأ أهلها الاحتفاظ بها رموا بها في الحفرة، أو انهم كانوا يقولون للأم بأن تهيىء ابنتها للوأد وذلك بتطييبها وتزيينها. فإذا زينت وطيبت، أخذها أبوها إلى حفرة يكون قد احتفرها، فيدفعها فيها، ويهيل عليها التراب حتى تستوي الحفرة بالأرض. وذكر أيضاً، ان بعضهم كان يغرقها، أو يقوم بذبحها، ليتخلص بهذه الطرق منها.

وذكر ان الرجل منهم كان إذا ولدت له بنت، فأراد أن يستحييها ألبسها جبة من صوف أو شعر ترعى له الإبل والغنم في البادية، وإن اراد قتلها تركها حتى إذا كانت سداسية فيقول لأمها: طيّبيها وزيّنيها حتى أذهب بها احماتها، وقد حفر لها بئراً في الصحراء فيبلغ بها اليئر، فيقول لها انظري فيها ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها التراب، حتى تستوي البئر بالأرض. وروي عن ابن عباس انه قال: كانت الحامل إذا قربت ولادتها حفرت حفرة فمخضت على رأس تلك الحفرة، فإذا ولدت بنتاً رمت بها في الحفرة وردّت التراب عليها، وإذا ولدت ولداً حبسته. ومنه قول الراجز: سمّيتها إذ ولدت: تـمـوت  والقبر صهرٌ ضامن زمّيتُ

الزمّيت الوقور.

وفاعل العمل هو "الوائد" والبنت المدفونة وهي حية "الموؤودة"، والعادة "الوأد".

ويرجع بعض أهل الأخبار تأريخ الوأد إلى ايام "النعمان بن المنذر" ملك الحيرة، فيقولون إن "بني تميم" منعوا الملك ضريبة الاتاوة الني كانت عليهم فجرّد الملك حملة عليهم كان اكثر رجالها من بني بكر بن وائل، أوقعت بهم وسبت ذراريهم. فلما ارضوا الملك وكلموه في الذراري، " حكم النعمان بأن يجعل الخيار في ذلك إلى النساء، فأية امرأة اختارت زوجها،ردّ ت عليه، فاختلفن في الخيار. وكانت فيهن بنت لقيس بن عاصم المنقري،فاختارت سابيها على زوجها، فنذر قيس بن عاصم أن يدسَّ كل بنت تولد في التراب، فوأد بضع عشرة بنتاً. وبصنيع قيس بن عاصم وايجاده هذه السنة نزل القرآن في ذم، وأد البنات. ورجع بعض الأخباريين الوأد إلى قبيلة ربيعة. زعموا أن بنتاً لرئيسها وسيدها وقعت أسيرة في أيدي قبيلة أغارت عليها: فلما عقد الصلح، لم تشأ البنت العودة إلى بيتها، فاختارت بيت آسرها، فغضب رئيس ربيعة لذلك، واستنّ هذه السنة، وقلدته بقية العرب حتى فشت بين القبائل، وهي رواية قريبة في مضمونها وفي فكرتها من الرواية الأولى. والفرق بين الروايتين هو في تسمية القبيلة والأشخاص.

وورد أن "قيس بن عاصم" التميمي، جاء إلى النبي، فقال: إني وأدت ثماني بنات في الجاهلية. قال فأعتق عن كل واحدة منهن بدنة. أو: فأعتق عن كل واحدة منهن رقبة.

ويذكر الأخباريون أن "الوأد كان مستعملاً في قبائل العرب قاطبة، فكان يستعمله واحد ويتركه عشرة فجاء الإسلام، وقد قل ذلك فيها إلا من بني تميم، فإنهم تزايد فيهم ذلك قبيل الإسلام". وقبيلة كندة وقيس وهذيل وأسد وبكر ابن وائل من القبائل التي عرف فيها الوأد، وخزاعة، وكنانة، ومضر، واشدهم في هذا تميم زعموا خوف القهر عليهم، وطمع غير الاكفاء فيهن. وذكربعض أهل الأخبار ان الوأد كان في تميم، منهم انتقل الى غيرهم. وقيل: إنه كان في تميم، وقيس، وأسد، وهُذيَلْ، وبكر بن وائل، وهم من مضرْ. فهي عادة تفشت في قبائل مضر خاصة. وقيل إنها كانت في غير مضر كذلك. وذكر انها كانت في ربيعة ومضر، اي في العرب الذين تغلّبت الأعرابية على حياتهم.

وذكر "عكرمة" في تفسير الآية: "قد خسر الذين قتلوا اولادهم سفهاً بغير علم"، انها نزلت فيمن يئد البنات من ربيعة ومضر. كان الرجل يشترط على امرأته، ان تستحي جارية وتئد اخرى. فإذا كانت الجارية التي توأد غدا الرجل أو راح من عند امرأته، وقال لها: انت عليَّ كظهر امي إن رجعت اليك ولم تئديها، فتخدّ لها في الأرض خدّ اً وترسَل إلى نسائها فيجتمعن عندها، ثم يتَداولنها حتى إذا ابصرته راجعاً دستها في حفرتها ثم سوّت عليها التراب".

اما ان اول من سنّ الوأد في العرب، هو "قيس بن عاصم المنقري"، للسبب المذكور، فدعوى من الدعاوى المألوفة عن اهل الأخبار، وقصة من القصص الذي كانوا يضعونه احياناً حين يقفون عند امر غريب عليهم، ليس لهم علم به، فكانوا يوجدون قصصاً في تفسيره وتعليله، وقفنا على كثير منه. والظاهر ان وأد "قيس" لبنات من بناته، ووجوده في تميم خاصة بعد ان خفّ عند بقية العرب، حمل اصحاب الأخبار على ارجاع اصله واساسه إلى "قيس"، مع انهم يذ كَرون حوادث عن الوأد، مثل ما ذكروه عن "سودة بنت زهرة " الكاهنة، تتقدم في الزمن على "قيس". والوأد عند العرب اقدم منه، وربما يعود الى ما قبل الميلاد. وفي القرآن الكريم: "وإذا بُشر احدهم بالأنثى ظل وجهه مسودّاً وهو كظيم، يتوارى من القوم من سوء ما بُشّر به. أيمسكه على هون ام يدُسُّه في التراب ? ألا ساء ما يحكمون". وفي هذه الآية وصف للحالة النفًسية التي كانت تعتور الأب عند إخباره بميلاد بنت له، وشرح لبعض الأسباب التي كانت تحمل الآباء على وأد البنات. ويروى إن بعض الجاهلية يتوارى في حالة الطلق، فإن أخبر بذكر ابتهج أو بأنثى حزن، وبقي متوارياً ايامأ يدبر ما يصنع أيتركه ويربيه على ذلّ، ام يدسه في التراب، بأن يئده ويدفنه حياً حتى يموت، ام يهلكه بأمر آخر، بأن يلقيه من شاهق. روي ان رجلاً قال: يا رسولَ الله والذي بعثك بالحق ما اجد حلاوة الإسلام منذ اسلمت. وقد كانت لي فيَ الجاهلية بنت وأمرت امرأتي ان تزينها وأخرجتها فلما انتهيت إلى وادٍ بجد القعر ألقيتها، فقالت: يا ابتِ قتلتني ! فكلما ذكرت قولها لم ينفعني شيء. فقال الرسول: ما في الجاهلية فقد هدمه الإسلام، وما في الإسلام يهدمه الأستغفار. وكان بعضهم يغرقها وبعضهم يذبحها.

وقد ذكر العلماء في تفسيرهم: " وقالوا: ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا. وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء، سيجزيهم وصفهم، إنه حكيم عليم. قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم، وحرّموا ما رزقهم اللّه إفتراءً على الله. قد ضلوا وماكانوا مهتدين". أن الله " أخبر بخسرانهم لوأدهم البنات وتحريمهم البحيرة وغيرها بعقولهم، فقتلوا أولادهم سفهاً خوف الإملاق، وحجروا على أنفسهم في أموالهم ولم يخشوا الإملاق، فأبان ذلك عن تناقض رأيهم".

قال "القرطبي": "إنه كان من العرب من يقتل ولده خشية الإملاق، كما ذكر اللهُ عزّ وجل في غير هذا الموضع. وكان منهم من يقتله سفهاً بغيرحجة منهم في قتلهم، وهم ربيعة ومضر، كانوا يقتلون بناتهم لأجل الحمية. ومنهم من يقول: الملائكة بنات الله، فألحقوا البنات بالبنات. وروي أن رجلاً من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم، وكان لا يزال مغتماً بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: مالكَ تكون محزوناً ? فقال: يا رسول اللّه، إني أذنبت ذنباً في الجاهلية فأخاف ألاّ يغفره الله لي وإن أسلمت. فقال له: أخبرني عن ذنبك: فقال: يا رسول اللّه، إني كنت من الذين يقتلون بناتهم، فولدت لي بنت فتشفعت إليّ امرأتي ان اتركها فتركتها حتى كبرت وادركت، وصارت من اجمل النساء فخطبوها، فدخلتني الحمية ولم يحتمل قلبي ان ازوجها أو اتركها في الييت بغير زواج.، فقلت للمرأة: إني اريد ان اذهب إلى قبيلة كذا وكذا في زيارة اقربائي فابعثيها معي، فسُرّت بذلك وزينتها بالثياب والحلي، واخذت علي المواثيق بألاّ اخونها، فذهبت إلى رأس بئر فنظرت في البئر ففطنت الجارية إني اريد ان أُلقيها في البئر فالتزمتني، وجعلت تبكي، وتقول: يا ابت ايش تريد ان تفعل بي ? فرحمتها، ثم نظرت في البئر فدخلت علي الحمّية، ثَم التزمتني وجعلت تقول: يا ابت لا تضيع امانة أًمي ! فجعلت مرة انظر في البئر ومرة انظر اليها فأرحمها حتى غَلبنى الشيطان فأخذتها وألقيتها في البئر منكوسة، وهي تنادي في البئر: يا ابتِ، قتلتني. فمكثت هناك حتى انقطع صوتها فرجعت. فبكى رسول الله صلى اَلله عليه وسلم واصحابه، وقال: لو امرت ان اعاقب احداً بما فعل في الجاهلية لعاقبتك ".

فالفاقة والحمية واعتقاد بعض منهم ان الملائكة بنات ال له، فيجب إلحاق البنات بالبنات، هي عوامل دفعت بالعرب إلى الوأد. فهي بين عامل اقتصادي نص عليه في القران الكريم، وعامل اجتماعي، هو الحمية، وخشية لحوق العار بالانسان من السبي والغارات وعامل ديني، يرجع إلى رأي في دين. لقد تعرض "قتادة" إلى قوله تعالى: "قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم" فقال: "هذا صنيع أهل الجاهلية كان أحدهم يقتل ابنته مخافة السباء. والفاقة ويغذو كلبه. وقوله: وحرموا ما رزقهم الله... الآية وهم أهل الجاهلية جعلوا بحيرة وسائبة ووصيلة وحامياً تحكّماً من الشياطين في أموالهم". ولكن أغلب الوأد هو عن العامل الأول، وهو الخشية من العيلة والفقر والإملاق. وهو ما نُصّ عليه في الآيات المتعلقة بالوأد وبقتل الأولاد. وورد أن الجاهلية كانوا يدفنون البنات وهن أحياء. خصوصاً كندة، خوف العار، أو خوف الفقر والإملاق.

ومن النساء من تكون خصبة في ولادة البنات، فيجلب لها هذا الخصب هجر زوجها لها وفراره منها ومن رؤية بناته. يحدثنا الأصمعي أن امرأة ولدت لرجل بنتاً سمتها الذلفاء، فكانت هذه البنت سبباً في هرب الرجل من البيت، فقالت: ما لأبي الذلفاء لا يأتـينـا  يظلّ في البيت الذي يلينا?

يحرد أن لانلَدَِ البـنـينـا  وإنما نأخذ ما يعـطـينـا

ومثل تلك المرأة المسكينة كثير من النساء هجرهن أزواجهن لكثرة ماكن يلدن لهم من البنات، ولسان حالهن يكرر كلمات أم الذلفاء.

وبمكة جبل يقال له " أبو دلامة " كانت قريش تئد فيه البنات. وذكرأن هذا الجبل يطل على "الحجون". وقيل كان الحجون هو الذي يقال له: أبو دلامة.

وورد في القرآن الكريم ما يشير إلى قتل بعض الجاهليين أولادهم خشية الإملاق وخوف الفقر. وهم الفقراء من بعض قبائل العرب وفيهم نزلت الآيات: "ولا تقتلوا اولادكم خشية إملاقٍ نحن نرزقهم وإياكم، إنّ قتلهم كان خطئاً كبيراً". و "كذلكُ زُينّ لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليرُدوهم وليلبسوا عليهم دينهم. ولو شاء الله، ما فعلوه، فذرهم وما يفترون". و "قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم، وحرّموا ما رزقهم الله افتراءً على الله، قد ضلوا، وما كانوا مهتدين". و " قل: تعالوا اتل ما حرّم ربكم عليكم، ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً، ولا تقتلوا اولادكم من إملاق، نحن نرزقكم وإياهم". وظاهر لفظ الآيات النهي عن جميع أنواع قتل الأولاد ذكورا كانوا أو اناثاً مخافة الفقر والفاقة.

وذكر ان المراد من كلمة "اولادكم" البنات، وان المقصود بذلك الوأد.

أي وأد البنات، لا قتل الأبناء. وذهب بعض العلماء إلى ان المراد بها الأولاد ذكوراً كانوا أو اناثاً. "فقد كان الرجل في الجاهلية يحلف بالله لئن ولد له كذا وكذا غلاماً لينحرن احدهم، كما فعله عبد المطلب حين نذر ذبح ولده عبدالله". فنحن أمام هذه الآيات تجاه موضوعين: وأد البنات وقتل الأولاد الذكور عند الجاهليين. وأد البنات للاسباب المذكورة الواردة في كتب التفسير والحديث، وقتل الأولاد للاسباب المذكورة في تلك الكتب أيضاً، وفي كلتا الحالتين نتيجة واحدة، هي القضاء على حياة انسان.

وقتل الأولاد الذكور عند الجاهليين هو أقل استعمالاً من وأد البنات بكثير. ويظهر انهَ كان عن عامل ديني في الأغلب، كما يتبين ذلك من قصة إقدام عبد المطلب على قتل ابنه عبدالله بسبب النذر الذي أخذه على نفسه على ما جاء في روايات اهل الأخبار.

وهذا العامل هو الذي يفسر ما جاء في التوراة عن اقدام ابراهيم على ذبح ابنه، ويشير الى وجود هذه العادة عند الإسرائيليين. وسبب قلة قتل الأولاد بالقياس إلى وأد البنات أن الولد عنصر مهم في الحياة الاقتصادية وفي الحياة الاجتماعية حيث يكون عدة لوالده ولأهله وعشيرته في الحروب، ثم أن أسره في الحروب لا يعد شائناً مثل أسر البنات. والمرأة بالأسر تكون فريسة للآسرين. والمرأة ليست قادرة كالرجل على اعاشة نفسها وغيرها ولا على الغزو، ولذلك صارت البنت هدفأَ للوأد أكثر من الذكر.

وقد تأثر بعض ذوي القلوب الرقيقة من عادة "وأد البنات"، وسعوا لإبطالها. وكان بعض الموسرين منهم يفتدي البنات من القتل بدفع تعويض إلى أهلهن، وأخذهن لتربيتهن. فكان "صعصعة بن ناجية" جدّ الفرزدق الشاعر المعروف، ومن أشراف تميم، يشتري البنات ويفديهن من القتل كل بنت بناقتين عشراوين وجمل. فجاء الإسلام وعنده ثلاثون موؤودة. وذكر أنه فدى اربعمائة جارية، وقيل ثلاثمائة جارية من الجاهلية حتى مجيء الإسلام. وذكر على لسان الفرزدق أنه قال: "أحيا جدّي اثنتين وتسعين موؤودة". وأنه منع الوئيد في الجاهلية فلم يدع تميماً تئد وهو يقدر على ذلك. وذكر أنه قال للرسول إنه اشترى "280" موؤودة، دفع عن كل واحدة منهن ناقتين عشراوين وجملاً. وأنه كان لا يسمع بموؤودة يراد وأدها، وهو يتمكن من احيائها، الا جاء والدها ففداها، وأنه سأل قومه في ترك الواًد، فخفف بذلك منه. وعدّ ذلك مكرمة ما سبقه اليها أحد من العرب.

والى "صعصعة بن ناجية"، أشار الشاعر "الفرزدق"، مفتخراً به في شعره، إذ قال: وجدّي الذي منع الوائدات  وأحيا الوئيد فـلـم يوأد

وله أشعار اخرى في هذا المعنى.

وكان "عمرو بن نفيل" يحيي الموؤودة لأجل الإملاق. يقول للرجل إذا أراد ان يفعل ذلك: لا تفعل ! أنا أكفيك مؤونتها، فيأخذها، فإذا ترعرعت قال لأبيها: إن شئت دفعتها اليك، وإن شئت كفيتك مؤونتها.

وذكر "القرطبي" في تفسير الاية: "ويجعلون للهِ البنات، سبحانه ولهم ما يشتهون. وإذا بشّر احدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم" انها "نزلت في خزاعة وكنانة، فإنهم زعموا أنّ الملائكة بنات الله، فكانوا يقولون ألحقوا البنات بالبنات". فنسب فعلهم الوأد الى هذه العقيدة.

ولست استبعد ما ذكره اهل الأخبار من وجود دافع ديني حمل الجاهيين على قتل الأولاد وعلى الوأد، بأن يكون ذلك من بقايا الشعائر الدينية التي كانت في القديم، وتقديم الضحايا البشرية إلى الآلهة لخير المجتمع وسلامته، وإرضاء الآلهة هي شعيرة من الشعائر الدينية المعروفة. فليس بمستبعد ان الوأد والقتل من بقايا تلك الشعائر، والغريب في الوأد انه يكون بالدفن، بينما العادة في الضحايا التي تقدم إلى الآلهة ان تكون بالذبح أو بالطعن وبأمثال ذلك، كي يسيل الدم من الضحية، والدم هو الغاية من كل ضحية،لأنه الجزء المهم من الضحايا المخصص بالآلهة. وعلى الجملة إن الوأد هو نوع ايضاً من القتل، وذبح الأولاد وتقديمهم قرابين إلى الآلهة Infantcide، عبادة معروفة عند امم اخرى كانت تمارسها لترضي بذلك الآلهة وتجيب مطالبها.

وعدّ من ا الوأد "العز ل"، وهو ان يعتزل الرجل امرأته لئلا تنجب له أولاداً. وقد عرف في الإسلام ب "الوأد الخفي" وب "الوأد الأصغر ".

سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزل فقال: ذلك "الوأد الخفي"، وفي حديث آخر "تلك الموؤودة الصغرى". وقد بحث عنه في كتب الفقه والتفسير. وروي ان رسول الله قال في ناس: " لقد هممت ان أنهى عن الغيلة، فنظرت في الروم وفارس فإذا هم في يغيلون اولادهم، ولا يضر اولادهم ذلك في شيئاً، ثم سألوه عن العزل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذلك إلوأد الخفي وهو الموؤودة سئلت. والغيلة إذا اتيت إمرأة وهي ترضع ولدها، وكذلك إذا حملت امه وهي ترضعه. وقد جعل الحديث "العزل" عن المرأة بمنزلة الوأد إلا انه خفي، لأن من يعزِل عن امرأته انما يعزل هرباً من الولد. ولذلك سمّاها الموؤودة الصغرى، لأن وأد البنات الأحياء الموؤودة الكبرىْ.

ولم ينفرد العرب بقتل الأولاد وبوأد البنات، بل تجد ذلك عند غيرهم من الشعوب كذلك، مثل المصريين واليونان والرومان وشعوب استرالية، أما العوامل التي حملت اؤلمك الشعوب عليها فهي عديدة،.منها عوامل دينية مثل الإعتقاد بحلول الأرواح، ومنها اقتصادية كالخشية من الفقر، ومنها ما يتعلق بالصحة كأن يكون المولود ضعيفاً فيقضي عليه الوالدان.

ومن ذيول الفقر وسوء الأوضاع الاقتصادية، انتشار اللصويية والاعتداء على أموال الناس، وابتزازها وقطع الطرق وسلب الناس. وما الذي يفعله الفقير والمحتاج ومن له منعة في الجسم وضعف فى شديد في الجيب لاعاشة نفسه وأهله غير اللجوء الى هذه الطرق في الحصول على لقمة العيش، إن لم يجد له وسيلة كسب أخرى ? واللص، هو السارق. وذكر إن اللفظة من لغة طيء وبعض الأنصار. وتقابل Listis في اليونانية، بمعنى السارق. لذالك ذهب البعض الى أنها من هذا الأصل.

ونظراً لتستر اللص في حرفته، وممارسته لها بتكتم وحذر خوفاً من الفضيحة والقبض عليه مارس عمله بالليل في الغالب، حيث يرقد الناس. مارسه بخفة ومهارة، فكنى عنه بكنى منها: "ابن الليل"، و "ابن إلطريق"، لأنه يمارس اللصوصية بالليل وعلى الطرق.

ويقال لمن يسرق الدراهم بين أصابعه "القفاف". يقال: "قف الصيرفي قفوفاً"، بمعنى سرق الدراهم بين أصابعه. وأظن أن هذا الاستعمال استعمال مولد، ولد في الإسلام.

ويعبر عن السطو والاستيلاء عنوة وعن سرقة أموال الناس، بتعابير أخرى في اللغات العربيه الجنوبية، منها "خرط"، بمعنى سرق، و "حلص"، بمعنى سرق ونهب وسلب، وكل ما يؤخذ حيلة وسرقة.

وتعدّ السرقة عيباً عند العرب،لأنها تكون دون علم صاحب المسروق وبمغافلته. والمغافلة والاستيلاء على شيء من دون علم صاحبه عيب عندهم، وفيه جبن ونذالة. أما الاستيلاء على شيء عنوة وباستخدام القوة، فلا يعدّ نقصاً عندهم ولا شيناً ولا يعدّ سرقة، لأن السالب قد استعمل حق القوة، فأخذه بيده من صاحب المال المسلوب. فليس في عمله جبن ولا غدر ولا خيانة.لذلك فرقوا بين لفظة "سرق" وبين الألفاط الأخرى التي تعني أخذ مال الغير، ولكن من غير تستر ولا تحايل. فقالوا: " السارق عند العرب من جاء مستتراً إلى حرز، فأخذ مالاً لغيره. فإن أخذه من ظاهر، فهو مختلس ومستلب ومنتهب ومحترس فإن منع ما في يده، فهو غاصب.

ولم تعد "الغارة" سرقة ولا عملاً مشيناً يلحق الشين والسبة بمن يقوم به. بل افتخر بالغارات وعدّ المكثر منها "مغواراً". لما فيها من جرأة وشجاعة وإقدام وتكون الغارة بالخيل في الغالب، ولذلك قال علم اللغة: " أغار على القوم غارة وإغارة دفع عليهم الخيل " . وقد عاش قوم على الغارات، كانوا يغيرون على أحياء العرب، ويأخذون ما تقع أيديهم عليه، ومن هؤلاء "عروة بن الورد "، إذ كان يغير بمن معه على أحياء العرب، فيأخذ ما يجده أمامه، ليرزق به نفسه وأصحابه. بعد أن انقطعت بهم سبل المعيشة، وضاقت بهم الدنيا. فاختاروا الغارات والتعرض للقوافل سبباً من أسباب المعيشة والرزق. وذكر أهل الأخبار أسماء رجال عاشوا على الغارات وعلى التربص للمسافرين لسلب ما يحملونه معهم من مال ومتاع.

الأفراح

الأفراح، عامة أو خاصة. فمن الأفراح العامة، الأعياد والمناسبات المماثلة، مثل انتصار في حرب وغزو أو تولي ملك عرشاً أو سيد رئاسةَ قبيلة. ومن الخاصة، الزواج والبرء من مرض، والعود من سفر، وأمثال ذلك.

ولما كان العرب في جاهليتهم قبائل وشيعاً وكان الاتصال بينهم صعباً، صارت أعيادهم كثيرة غير متفقة فيَ زمان أو مكان، ذات صفة محلية، لا يشترك فيها كل عرب جزيرة العرب. وهي مرتبطة بالأصنام في الغالب وبالمواسم التجارية التي تتجلى في انعقاد الأسواق.

ولذلك، فأنا حين أتحدث عن اعياد اهل الجاهلية فلن أستطيع أن آتي باسم عيد واحد، أقول إن جميع العرب كانوا يعيدّون ويفرحون جميعهم به، لما ذكرته من انقسام الجاهليين الى قبائل وشيع وعدم وجود دين واحد لهم، يجمع شملهم. والدين من اهم العوامل المساعدة لظهور الأعياد وجكمع شمل المؤمنين به للاحتفال بها. ولذلك فأعياد الجاهليين هي اعياد موضعية تعيّد قبيلة أو مدينة أو مملكة بعيد، ولا يعرف عنه بقية العرب اي شيء. أما اعياد اليهود والنصارى والعرب فأمرها أمر آخر، لأن اليهودية والنصرانية قد حددتا تأريخّاً ثابتاً للاعياد فيهِا، فصارت معروفة عند أتباع الديانتين يحتفلون بها في الأجل الموقوت.

وكان الحج إلى مكة من أهم مواسم العرب في الحجاز، وهو عيد، يجتمع فيه الناس من مختلف القبائل ومختلف الأماكن للتقرب إلى الأصنام وللتلاقي في ظروف أمن وسلام لا يحلّ فيها قتال ولا اعتداء ولا لغو ولا فحش. ويقوم اهل مكة بخدمة الوافدين الضيوف، ضيوف "البيت"، وتمر ايام خالية من غدر واعتدأء وقتل وأخذ بثأر يلبس فيها الناس خير ما عندهم من لباس ويتجلون بأحسن صورة. فإذا انتهت إلأيام عادوا إلى ديارهم.

وذكر انه كَان لأهل "يثرب" يومان يعيّدون فيهما، يلعبون فيهما ويستأنسون، هما: النيروز، والمهرجان. فلما قدم الرسول المدينة أبدلهما بيوم الفطر والأضحى. والظاهر ان اليثربيين أخذوا عيديهما المذكورين من الفرس، "النيروز" عيد شهير من اعياد الفرس من اصل "نو" بعنى جديد و "روز" بمعنى يوم، أي أول يوم من السنة الإيرانية الشمسية. وأما "المهرجان"، فإنه عيد من أعياد الفرس كَذلك، يعيدّ به في الشهر السابع من شهورهم الشمسية. وهو شهر "مهر" "مهرمأه"، ويدعى العيد "مهركان". وقد بقي الفرس يحتفلون به في الإسلام، حتى زماننا هذا، وورد ذكره في الأشعأر.

ولم يذكر أهل الأخبار كيف عيَد أهل "يثرب" بهذين العيدين اللذين هما من أعياد الفرس. ولا ما هي صلتهم بهما.

وذكر أهل الأخبار عيداً سموه "يوم السبع"، قالوا إنه عيد كًان لهم في الجاهلية، يشتغلون فيه بلهوهم وعيدهم من حكل شيء ولم يتحدثوا بشيء مفصل عنه، ولم يذكروا أنه عيد من.

وورد في بيت شعر للنابغة اسم عيد دعاه "السباسب"، وقد ذكر أهل الأخبار أنه كان عيداً لقوم من العرب في الجاهلية وكانوا يحيّون فيه بالريحان.

رقاق النعال، طيبٌّ حُجُزاتهم  يحيوّن بالريحان يوم السباسِبِ

وهو في الواقع عيد من أعياد النصارى، كما أشار إلى ذلك أهل، الأخبار. إذ ذكروا أنه "عيد للنصارى ويسمونه يوم " الشعانين" وقد كان هذا ألعيد معروفاً فيَ الحجار أيضاً، ورد في الحديث " إنّ الله تعالى أبدلكم بيوم السباسب يوم العيد ". وإذا صح ورود هذا الحديث عن الرسول، كان ذاك دليلاً على أن أهل مكة كانوا قد عرفوا هذا العيد وعيدوه وربما كانوا أخذوه عن النصرانية.

ولم ترد في نصوص المسند إشارات الى أعياد العرب الجنوبيين ولم ترد اشارات إلى الأعياد في النصوص الثمودية أو اللحيانية أو الصفوية. لذلك لا أستطيع أن أتحدث عن العيد عند العرب الجنوبيين أو اللحيانيين أو الصفويين أو قوم ثمود. وقد اشار بعض الكتبة "الكلاسيكيين" إلى تعييد النبط وعرب اعالي الحجاز واحتفائهم فيها بأصنامهم وحجّهم إلى معابدهم، إلا انهم لم يسموّا تلك الأعياد بأسمائها.

وقد عيّد يهود جزيرة العرب بأعيادهم ايضاً. وكانوا يحافظون عليها، لأنها في عقيدتهم عمل من الأعمال الدينية. ولم يكونوا يشتغلون فيهاْ، إذ يرون في الخروج عليها خروجاً على الدين الذي منعهم من الاشتغال في ايام السبت والأعياد وحتم عليهم وجوب مراعاة حرمة تلك الأيام مراعاة تامة.

ومن اعياد اليهود الني عرفها الجاهليون عيد رأس السنة، وعيد الصوم الكبير"الكبور"، و "عيد المظال" واعياد اخرى.

أما العرب النصارى، فقد عيدوا بأعيادهم الدينية، واحتفلوا بها، وفي المواضع التي كَانت فيها جماعة كبيرة منهم كانت احتفالاتهم بها اوضح وأفرح. وفي الحيرة، جيث تفشت النصرانية وانتشرت، كان الناس يتزينون ويتجملون ويلبسون أحسن ما عندهم من حلل في ايام أعيادهم، مثل "عيد السعانين" "عيد الشعانين"، ويحتفلون في البيع والكنائس، والأديرة فرحأ بذكرى العيد، ويخرجون بصلبانهم.

وذكر ان "يوم السعانين" "يوم الشعانين"، هو "يوم السباسب"، العيد الذي مرّ ذكره، وقد كان من أعياد النصارى. وقد اشتقت كلمة "السعانن" "الشعانين" من العبرانية، أخذت من لفظة "هوشعنا"، التي كان يتهلل بها اليهود أمام المسيح. و "السباسب": الأغصان، يريدون منها سعف النخيل الذي قطعه اليهود يوم استقبلوا المسيح في دخوله أورشليم.

وذكر أن "الهنزمر"، و "الهنزمن" " و "الهيزمن"، -كلها: عيد من أعياد النصارى أو سائر العجم، وهي أعجمية. قال الأعشى: إذا كان هنزمن وروحْتُ مخشما

واشتهر "عيد الفصح"، وهو عيد فطر النصارى، إذا أفطروا وأكلوا اللحم. وقد أشار اليه الأعشى بقوله: بهم تقرب يوم الفصح ضاحـية  يرجو الإله بما سدّى وما صنعا

وذكر العلماء اسم عيد آخر من أعياد النصارى دعوه "السلاّق"، ذكروا أنه مشتق من تسلق المسيح الى السماء. والكلمة من أصل إرمي، هو Souloqoبمعنى صعود. وقصد به عيد صعود المسيح اك ألى السماء.

وللنصارى عيد آخر اسمه "خميس الفصح"، وعرف أيضاً ب "خميس العهد".

وقد احتفل به نصارى الحيرة. وذكر علماء اللغة أن للنصارى عيداً من أعيادهم اسمه "دنح"، وتكلمت به العربْ. وهو من أصل إرمي هو "دنحو"، بمعنى اشراق وظهور. ويراد به "عيد الغطاس".

وتضاف اليها الأعياد المحلية، التيَ كَان يحتفل فيها بأيام القديسن. فقد كان الغساسنة يحتفلون مثلاً في الرصافة بعيد "القديس سرجيوس". وكان لنصارى العراق أعيادهم الخاصة بهم جسب مذاهبهم. يكرسونها تخليداً لذكرى قديسيهم.

وقد اشتهر النصارى بين الجإهليين وفي الإسلام بمحافظتهم على أعيادهم حتى ضربوا المثل بأعياد النصارى. فقال العجاج: واعتاد أرباضاً لها آري  كَما يعود العيد نصراني

والعادة - كما هو شأن كل الأمم - أن يتزين في أيام الأعياد بأحسن اثياب والملابس المفتخرة والحلل المثمنة والبرود المعجبة، وأن يظهر الشبان مقدراتهم وبراعتهم في التسابق على الخيل وفي الألعاب وفي الظهور أمام النساء، ويلعب الصبيان أنواعاً من الملاعب، وان يتغنى ويزمر بالدفوف والمزاهر وأمثال ذلك، لتكسب الأيام بهجتها وروعتها. وكان من عادة أشراف الحيرة اللعب على الخيل بالصوالجة، وذللك على طريقة العجم.

وقد يخضب الرجال والنساء أيديههم بالخضاب، ولا سيما "الحناء". ولكن هذا النوع من إظهار القرح والسرور، غالب في الأعراس وفي الختان، حيث تولم الولائم وتقام الأفراح، ويخضب بالحناء.

اللعب في العيد

ومما كان يتلهى به المعيّدون ويتسلّون به، الغناء، واللعب بمختلف أنواعه. وفي جملته استخدام السودان للعب بلعبتهم الشهيرة لعبة الدرق والحراب. وقد برع في الغناء نساء ورجال. وذكر ان أهل "يثرب" كانوا اهل طرب وكانوا يحبون الغناء، وانهم استخدموا "الحبش" للضرب على الدف والغناء في ايام آلأعياد. وقد كانوا يلعبون في المسجد بالدرق والحراب ولم بنههم الرسول عن ذلك، لأن اللعب كان في ايام العيد. وقد غنت جاريتان ل "عائشة" بإنشاد العرب بغناء بعاث،كما أذن الرسول للسودان باللعب في مسجده في الحراب والدرق، ونشطهم بقوله: "يا بني أرفدة".

الغناء

وطرب الأعراب، طرب ساذج يتناسب مع طبيعة بيئانهم، وكذلك كان غناؤهم غير معقد ولا متنوع. أما طرب أهل الحضر، فكان أكثر تعقيداًوتفنناً ولا سيما طرب أهل، الحضر الساكنين في ريف العراق وفي بلاد الشام، وعند أهل اليمن، فاستعملوا آلات طرب متعددة، أخذوا بعضها من ألاعاجم الذين اتصلوا بهم، كما أخذوا من أولئك الأقوام ألواناً من ألوان الغناء وفنونه. هذا الاختلاف لا بد أن يقع،لاختلاف أهل الوبر وأهل المدر في البيئات، وفي الطباع والعادات.

- وللشعر علاقة كبيرة بالغناء. فالغناء هو التغني بالشعر. ولذلك قالوا: تغنى بالشعر، وفلان يتغنى بفلانة إذا صنع فيها شعراً، وله علاقة بالحداء أيضاً. قالوا: حدا به، إذا عمل فيه شعراً. فالغناء نغم ووزن ويكون لذلك بكلام موزون. وهو الشعر الذي يناسب نغم الغناء. أما النثر، فلا يناسب طبعه طبع الغناء. ويكون بينهما جفاء. إذ لا يستقيم النثر العربي مع الوزن دائماً. لذلك فلا يمكن للمغني أن يغني به. قال "الجاحظ": العرب تقطع الألحان الموزونة وألعجم تمطط الألفاظ فتقبض وتبسط حتى تدخل في الوزن اللحن، نتضع موزوناً على غير موزون. وذكر أن الغناء من الصوت ما طرب به.

وذكر أهل الأخبار أن الجاهليين كانوا يستمعون إلى القيان. وأن فارس كانت تعدّ الغناء أدباً والروم فلسفة. وأن الملوك العرب كانوا يملكون القيان أيضاً. ومنهم أشراف مكَة وعلى رأسهم "عبدالله بن جدعان".

وقد عرف غناء أهل البادية ب "غناء الأعراب"، وذلك لاختلافه عن غناء الحضرْ.

فكان لأهل الحيرة مزاج في الغناء نختلف عن مزاج أهل البادية، بل حتى عن مزاج غيرهم من الحضر، وذلك للظروف الخاصة الني تحيط بهم، مثل اختلاطهم يالفرس، ووجود النصرانية والمؤئرات اليونانية فيما بينهم. وقد كان في كنائس العباديين نصارى الحيرة، تراتيل وترانيم، وهي بالطبع نوع من الغذاء الروحي وقد كان عندهم خمرتبعث على الانشراح واللأنبساط، وأديرة مزدانة بالخضرة والرياحين والأزهار، وفيها ماء طيب وغناء ران وراهبات، فلا عجب إن طرب سكافها وتفننوا في غنائهم وتميزوا به عن بقية الغناء ائعربي، حتى قيل له: غناء أهل الحيرة، وقد ذكر: انه بين الهزج والنصب، وهو إلى النصب أقرب، كما كانت لهم لغة امتازت عن لغات العرب الاخرين غنوا بها، فأكتسب غناؤهم طابعاً حيرياً خاصا.

ومن مرادفات الغناء "السمود " بلغة حمير. وقيل السمود اللهو وبصورة خاصة الغناء.

وللفقهاء في الإسلام آراء في قراءة القرآن. منهم مَنْ جوّ ز قراءته بالألحان ومنهم من جوّز قراءته بالرجيع، وغير ذلك. والترجيع ترديد الصوت في الحلق في قراءة أو غناء أو زمر أو غير ذلك مما يترنم به. وقيل الترجيم هو تقارب ضروب الحركات في الصوت.

وأما "العزف" فالملاهي، واللعب بالمعازف، وهي الدفوف وغيرها مما يضرب. والعازف اللاعب بها والمغني، وعزف الدف صوته. والمعزف، ضرب من الطنابير يتخذه أهل اليمن وغيرهم، ويجعل العود معزوفا.

ويعبر عن الاستماع إلى الغناء والإنصات لصوت المغني ب "السماع". ويحدث السماع طرباً في النفس. وقد صار للكلمة معنى خاص في الإسلام، إذ حولت الى سماع الترانيم الدينية في الغالب، لذللك لم ينظر اليه نظرة الناس إلى الغناء.

وتغنى أهل الجاهلية في كل المناسبات المبهجة، وضربوا على آلات الطرب.ومن هذه المناسبات الزواج والعودة من الأسفار، كما كانوا ينذرون أنه إن تحقق مطلب لهم فإفهم يقيمون مجلس طرب يتغنى فيه: كمناسبة شفاء من مرض أوعودة من حرب.وكان شبان مكة يذهبون الى السمر ويلهون بسماع الغناء وبالضرب على الدفوف والاستماع إلى تزمير المزمار. كما اسعمل الغناء في الغزو، وذلك لتنشيط الغازين وتحريضهم على القتال. ومن هذا القبيل ما يرتجز به الشجعان عند اللقاء في الحرب. واستعمل في الختان وفي العقيقة والولائم.

آلات الطرب

والات الطرب عند العرب ثلاثة: الات ذات أوتار كالعود وآلات نفخَ، وآلات ضرب كالصنوج والطبل الدف.

والطرب: الفرح والحزن وهو ضد، أو هو خفة تلحقك سواء تسرك أو تحزنك. فهي تعتري عند شدة الفرح أو الحزن أو الغم. والتطريب التغني. ويقال طرب فلان في غنائه تطريباً إذا رجع صوته وزينه.

والدفّ من آلات الطرب القديمة المشهورة ويستعمل. للتعبر عن العواطف في الفرح والسرور. وهو معروف عند الساميين ويسمى "توف" "تف" toph عند العبرانيين. وقد ورد ذكره في التوراة. وتنقر به النساء أيضاً. وقد كان شائعاً عند العرب، ينقرون به في أفراحهم. ولما وصل الرسول إلى يثرب، استقبل بفرح عظيم وبالغناء وبنقر الدفوف. وأكثر ما استعمله العرب في المناسبات المفرحة، كالنكاح. ورافقوا الضرب به أصوات الغناء.

وقدا وردت في الشعر الجاهلي أسماء آلات طرب عرفت في ذلك العهد، فورد في شعر للاعشى: الناي، والبربط، والصنح، وهي آلات عرفت عند الفرس. وقد دعي "الناي" ب "ناي نرم".

والناي نرم وبربـط ذيُ بـحة  والصنج يبكي شجْوَهُ أن يوضعا

وقد ذكر الجواليقي ان الربط معرب، وهو من ملاهي العجم، شبّه بصدر البط. والصدر بالفارسية "بر"، فقيل بربط. وقد ورد في العقد الفريد: "العود الكران. والمزْ هر أيضاً هو العود، وهو البربط". والبربط من آلات الملاهي المشهورة عند الروم.

وعرف الجواليقي "الصنج" فقال: "والصنج الذي تعرفه العرب هو الذي يتخذ من صفر، يضرب أحدهما بالاخر... فأما الصنج ذو الأوتار، فتختص به العجم، وهما معربان. وسموّا الأعشى "صناجة العرب" لجودة شعره. وذكر أن اللاعب بالصنج هو "الصناّج أ و "الصنّاجة".

وجاء الأعشى باسم ألة طرب أخرى من ألات الملاهي عند العجم، دعاها "الوَنَّ": بالجلـسّـان وطـيب أردانـه  بالونَ يضرب لي يكرالإصبعا

ويظهر من هذا البيت أن الونّ آلة طرب ذات أوتار،يضرب عليها بالأصابع. وقد ذكر بعض العلماء أن الونّ: "الصنج الذي يضرب بالأصابع وهو الونج، كلاهما دخيل مشتق من كلام العجم". وعرف بعضهم "الونج" بأنه "المعزف أو العود، فارسي معرب. وأصله بالفارسية وَ نهَْ. وقد تكلمت به العرب. ومنهم من جعل "الون "" و "الونج" شيئاً واحداً.

ويذكر علماء اللغة أن "العرْطَبة" هي اسم للعود، وقيل: الطبل، وقيل: الطنبور: وقد ورد ذكوها في الحديث مع اسم آلة أخرى من آلات الملاهي، هي "كوبة". ويرى العلماء أن "الكوبة"، الطبل الصغير،وهي "النرد" بلغة اليمن. وذكر أن "المرطبة" طبل الحبشة خاصة.، وان "الكوبة" لبربط وللشطرنج والطبل الصغير.

وذكر أهل الأخبار أن "النضر بن الحارث بن كلدة" كان يغني بالعود. والعود من جملة آلات الطرب القديمة. وهو "عوديت" عند العبرانيين. وقد أشير اليه في جملة آلات الموسيقى المستعملة في أيام داوود، وذلك في المزامير. وذكر أن من أسماء العود "الكران"، وأن "الكرينة" المغنية الضاربة يالعود أو الصنج.

ويعرف الوتر ب "البم"، ويقال هو الوتر الغليظ من أوتار المزهر.

و "الناي" من ا لات الطرب، ينفخ فيه،يصنع من الخشب ومن القصب. وذكر ان الناي من أسماء "المزمار"، وهو من الات النفخ كذلك. و "القصاب"، وهو الذي ينفخ في القصب الزمّار.

وأما "الهيرعة"، فالقصبة، التي يزمر فيها الراعي.

وذكر أن "القنين" طنبور الحبشة. "وفي الحديث: إنّ الله حرّم الخمر والكوبة والقنين". والقنين الضرب بالقنين. وذكر أن الكوبة: الطبل. وأما "الكر"، فهو الطبل، وقيلَ طبلُ له وجه واحد. وقيل هو الطبل ذو الرأسين ويقال للطنبور "طبن" كذلك.

المزمار" و "الزمّارة": ما يزمر فيه. ويقال للقصبة التي يزمر بها،زمارة.واما "الرباب" فمن الات اللهو كذلك. وقد اشتهر الغناء بالمزمار عند العرب، وأجادوا فيه.

وقد كان الجاهليون مثل غيرهم من الساميين يستخدمون الغناء في عباداتهم، ربما استخدموا معه بعض آلات الطرب. وذلك تعبيراً عن بهجتهم وسرورهم بتعبدهم للالهة وتقرباً اليها بهذا الغناء الذي يدخل السرور إلى نفوسها. وقد ذكر المفسرون أن أهل الجاهلية كانوا يطوفون بالبيت يصفرون ويصفقون. وإذا صح قولهم هذا، فإنه يعني استعمال نوع من الطرب في حجّهم وطوافهم بالبيت.

وقد تعرض "الجاحظ" لموضوع الغناء العربي وما يختلف به ويمتاز عن غناء الأعاجم، فقال: "العرب تقطع الألحان الموزونة على الأشعار الموزونة، والعجم تمطط الألفاظ قتبضى وتبسط حتى تدخل في وزن اللحن فتضع موزوناً على غير موزون ".

واللحن: الغناء. "وفي الحديث: اقرأوا القرآن. بلحون العرب وأصواتها، وإيّاكم ولحون أهل العشق ". ويراد به التطريب وترجيع الصوت وتحسين القراءة والشعر والغناء. وقد كان اليهود والنصارى يقرأون كتبهم نحوا من ذللك.

أصول الغناء الجاهلي

ويرجع الأخبار غناء الجاهلين إلى ثلاثة أوجه: النصب،والسناد،والهزج. فأما النصب، فغناء الركبان وغناء االفتيان والقينات، ويغني به في المراثي كذلك. وقد دعى اسحاق بن ابراهيم الموصلى، الغناء الجنابي نسبة إلى رجل من كلبٍ يقال له: جناب بن عبد الله بن هبل. وهو الذي يقال له "المراثي"، ومنه كان أصل الحداء، وكله يخرج من الطويل في العروض. وأما السناد، فالثقيل ذو الترجيع الكثير النغمات والنبرات. وأما الهزج، فالخفيف الذي يرقص عليه ويمشي بالدف والمزمار فيطرب ويستخف إلحليم.

ويذكر أهل الأخبار ان الأنواع المذكورة كانت غناء العرب، حتى جاء الإسلام وفتحت العراق، وجلب الغناء والرقيق من فارس والروم، فغنوا الغناء المجزأ المؤلف بالفارسية والرومية، وغنوّا جميعاً بالعيدان وألطنابر والمعازف والمزامير. وذكر أيضاً ان الغناء قديم في الفرس والروم، ولم يكن "للعرب قبل ذللك إلا الحداء والنشيد، وكانوا يسموّنه "الركباني" "الركبانية". والنشيد رفع الصوت، ومن المجاز الشعر المتناشد بين القوم ينشده بعضهم بعضاً.

وذكر "المسعودي" أن غناء العرب النصب، ثلاثة أنجاس: الركباني، والسناد الثقيل، والهزج الخفيفْ.

ويرى بعض أهل الأخبار أن أصل الغناء ومعدنه إنما كان في أمهات القرى من بلاد العرب، حيث فشا بها، وانتشر. ومن هذه مكة والمدينة والطائف وخير ووادي القرى ودومة الجندل واليمامة، وهذه القرى مجامع أسواق العرب. ورووا أن أول من غنى في العرب قينتان لعاد، يقال لهما الجرادتان. وههما قينتا "معاوية بن بكر الجرهمي" "معاوية بن بكر العملقي" غنتّا لوفد "عاد"بمكة، فشغلوا عن الطواف بالبيت وسؤال الله فما قصدوا، فهلكت عاد وهم سامدون. فلما رأى الجرهمي، وهو معاوية بن بكر، أحد العماليق، ذلك قال: هلك أخوالي "عاد"، ولو قلت لضيوفي شيئاً، ظنوا بي البخل، فألقى إلى الجرادتين شعراً يذكر بمحنة "عاد"، فاًنشدتاه الضيوف. وكان الجرهمي سيد مكة حين وفدت عاد تستقي في قحطها. وكان "قيل ابن عتر" أحد الرؤوس الثلاثة لوفد عاد، حين ذهبوا في القحط إلى مكة يستسقون لقومهم.

وورد أيضاً أن الجرادتين كانتا مغنيتين للنعمان. كما ورد ذكر الجرادتين وغناءهما لأبي رغال. وورد أنهّ كان بمكة في الجاهلية قينتان يقال لهما الجرادتان مشهورتان بحسن الصوت. وقبل إن الجرأدتين كانتا أمتين تتغنيان في الجاهلية وكانتا لعبدالله ابن جُدْعان.

وقد ذكر "أبو العلاء المعري"، أن العرب تسمي كل قينة جرادة، حملاً على أن قينة في الدهر إلأول كانت تدعى الجرادة. واستشهد بهذا البيت: تغنينا احبراد ونحن نشرب=نعلّ الراح خالطها المشور وذكر بعض العلماء أن "جذيمة الخزاعي بن سعد بن عمرو بن ربيعة بن حارثة ابن عمرو بن عامر"، المعروف ب "المصطلق"، كان من أحسن إلناس صوتاً، وقد غنى بعد "الجرادتين" " غنى غناء النصب. وذكر انه أول من غنى في خزاعة. ثم غنى بعده "ربيعة"، وهو "ضبيس بن حزام بن حيشة بن سلول ابن كعب بن عمرو بن عامر" الخزاعي، ثم غنى بعده "زمام بن خطام الكلبي"، وقد ذكره ". الصمة القشيري"، بقوله: دعوت زماماً للهوى فأجابني  وأي فتى للّهو بعـد زمـام

وذكر "المسعودي"، أن غناء أهل اليمن بالمعازف وإيقاعها جنس واحد، وغناؤهم جنسان: حنفي، وحميري. والحنفي أحسنهما، فهذا هو غناء أهل اليمن. ورجع بعض أهل الأخبار غناء أهل اليمن إلى "علس بن زيد ذي جدن"، زعموا انه أول من تغنى باليمن. وزعموا أنه كان من ملوك اليمن، لقب بذي جدن، لجمال صوته. فالجدن الصوت عند أهل اليمن.

وذكر ان قريشاً لم تكن تعرف من الغناء، إلا النصب، حتى قدم "النضر ابن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي"العراق، فتعلم ضرب العود وغناء العباديين، فقدم مكة، فعلّم أهلها، فاتخذوا القيان. ويظهر من غربلة ما ورد في الأخبار عن الغناء، أن المراد به، تلحين ما يراد التغني به وتطريبه، حتى يثير الطرب في نفوس السامعين، لا سيما إذا اقترن بآلة من آلات الطرب. ونادراً ما يكون غناء دون "موسيقى". فالموسيقى تصاحب الغناء. والغناء: تلحين ما يراد التغني به بتقطيعه قطعاً موزونة تكون نغمة،يوقع على كل صوت منها بإيقاع يناسبه، فيزيده لذة في السماع.

وذهب "المسعودي" إلى أن أول من اتحذ القيان من العرب، أهل يثرب. أخذوا ذلك من بقايا عاد. بينما يذكر الأخباريون، أن أول من غنى من العرب العاربة الجرادتان، وكانتا قينتين على عهد عاد، لمعاوية بن بكر العمليقي. وفي جملة من قال ذلك "ابن خرداذبه"، الذي اعتمد "المسعودي" عليه في موضوع الغناء، ونقل من كتابه "اللهو والملاهي" بالنصْ.

والقينة عند علماء اللغة: الأمة المغنية، وذكروا أنها كلمة هذلية. وقال بعض آخر: مغنية كانت أو غير مغنية. وإنما قيل للمغنية قينة، إذا كان الغناء صناعة لها، وذلك من عمل الإماء دون الحرائر. والظاهر أنها من الألفاط المعربة، فالغناء في لغة "بني إرم" هو "قنتو" Qintoوالمغنية "قينة" من الغناء "قنتو".

وذكر أن من أسماء "القينة" "الزمّارة" و "الزامرة"، وقيل للمغنى "الزمار"، وذلك من التزمير بالمزمار.

ويقال للمغنية "الكرينة" أيضاً. وقد وردت اللفظة في شعر لبيد: بصبوح صافية وجَذْب كرينة  بموتر تأتالـه ايهـامـهـا

وذكر أن "الكرينة" المغنّية الضارية بالعود أو الصنج، والضاربة ب "الكران".

و "الكران" هو العود.

وذهب أهل الأخبار إلى أن الغناء محدث في العرب، أخذ من "الحداء".

وكان الحداء في العرب قبل الغناء. وكان أول السماع والترجيع في العرب، ثم اشتق الغناء من الحداء. اشتقه "حباب بن عبدالله الكلبي"، فغنى النصب.

وقد أُشير الى الغناء النصب في كلام ينسب إلى عبدالله بن عمر بن الخطّاب، فذكر أنه قال: مر بنا ابن الخطاب، وأنا وعاصم بن عمر نغني غناء النصب، فقال: أعيدا عليّْ. وورد أن أنس بن مالك سمع أخاه البرّاء بن مالك يغني، فقال: ما هذا قال: أبيات عربية أنصبها نصباً. مما يدلّ على أن غناء النصب إنما ورد من هذا المعنى.كذلك أشير الى الحداء في خبر ينسب إلى ابن جريج، قال: سألت عطاء عن قراءة القرآن على ألحان إلغناء والحداء. وقد أخرج هذا الخبر الحداء من الغناء.

وعرف بعض العلماء النصب: أنه غناء الركبان. وعرف أنه "العقيرة"، يقال: رفع عقيرته إذا غنى النصب. وعرف أنه ضرب من أغاني آلعرب. "وفي حديث نائل،مولى عثمان: فقلنا لرباح بن المغترف: لو نصبت لنا نصب العرب أي لو تغنيت، وفي الصحاح: لو غنيت لنا غناء العرب. "وكان رباح بن المغترف يحسن غناء النصب، وهو ضرب من أغاني العرب، شبيه الحداء،وقيل: هو الذي أحكم من النشيد، وأقيم لحنه ووزنه". وعرف النصب: انه ضرب من مغاني العرب أرق من الحداء.

وقد أشار أهل الأخبار إلى أن العرب كانت "تتغنى بالركياني، إذا ركبت الابل، وإذا جلست في الأفنية وعلى أكثر أحوالها، فلما نزل القرآن أحب النبي، صلى الله عليه وسلم " أن يكون هجيراهم بالقران مكان التغني يالركباني، وأول من فرأ بالألحان عبيد الله بن أبي بكرة، فورثه عند عبيد الله بن عمر، ولذلك يقال قرأت العمري، وأخذ ذلك عنه سعيد العلاّ ف الإباضي". وذكر أن "عمر" سمع "عبد الرحمن بن عوف" وهو يتغنى وينشد بالركبانية، وهو غناء يحدى به الركاب.

والحداء، هو من أقدم أنواع الغناء عند العرب،يغنى به في الأسفار خاصة، ولا زال على مكانته ومقامه في البادية حتى اليوم. ويتغنى به فىِ المناسيات المحزنة أيضاً لملاءمة نغمته مع الحزن. وقد كان للرسول حادي هو " إلبرّاء بن مالك بن النضر الأنصاري" وكان حداءً للرجالْ. وكان له حدّاء آخر، يقال له "أنجشة الحادي" وكان جميل الصوت أسود، وكان يحدو للنساء، نساء النبي، وكان غلاماً للرسول. وذكر أن النبي "قال لقوم من بني غفار" سع حاديهم بطريق مكة ليلاّ، فقال لهم: إن أباكم مضر خرج إلى بعض رعاته فوجدها قد تفرقت، فأخذ عصا فضرب بها كف غلامه، فعدا الغلام في الوادي وهو يصيح: وايداه، وايداه، فسمعت الإبل ذلك فعطفت فقال مضر: لو اشتق مثل هذا لانتفعت به الإبل واجتمعت، فاشتق الحداء".

وذكر بعض أهل الأخبار " أن أول من أخذ في ترجيعه الحداء "مضر بن نزار".

فإنه سقط عن جمل فانكسرت يده، فحملوه وهو يقول: وايداه وايداه،و كَان أحسن الله جرماً وصوتاٌ، فأصغت الإبل اليه وجدت في السر، فجعلت العرب مثالاً لقوله هايدا هايدا سون به الإبل ". وللاخبارين كلام آخر من هذا النوع عن الحداء. يتفق كله في أن هذا النوع من الغناء كان من خصائص غناء مضر.

وكان "عامر بن سنان الأكَوع بن عبد الله بن قشير الأسليمي" المعروف ب "ابن الأكوع، رجلاً شاعراً وراجزإً، وكان يحسن الحدإء، فطلب منه أصحاب الرسول أثناء سيرهم الى خيبر أن يحدو بهم. فسمع الرسول حداءه. وهناك أخبار أخرى يفهم منها أن العرب لم تدخل الحداء في الغناء، وإنما ذكرته معه، على أنه باب خاصْ. والعادة أن يجعل المسافرون معهم حادياً أو جملة حداة يحدون بهم في السفر. وكان أبو هريرة أحد الصحابة المحدثين عن رسول الله، يحدو لركب بسرة بنت غزوان.

والحداء إذن ضرب مخصوص من الغناء، ويكون بالرجز غالباً لأن طبيعة الرجز تلائم هذا النوع من الغناء. ويذكر "المسمعودي" أن الحداء كان في العرب قبل الغناء. وكان أولَ السماع والترجيع في العرب، ثم اشتق الغناء من الحداء. فالحداء متقدم على الغناء إذن، هو الباب الذي ولج ألعرب منه الى الغناء.

والحداء، هو في الواقع غناء أهل البادية، وفي إرجاع أهل إلأخبار أصله إلى "مضر" أو غيره من الرجال صحة، إذا اضبرنا ان "مضر" أو غيره كناية عن الأعراب. لأن هذا النوع من الغناء مما يتناسب مع لحن البوادي ونغمها الحزينة البسيطة التي تطرب بها طبيعة البداوة نفس الأعراب. ولا زال غناء اًهل البادية متأثراً بهذه الضربات من العزف، التي تعزنها البادية للتخفيف عن كآبته.

الطبيعة وللتعبير عن الروح الحزينة التي تحملها هذه الطبيعة من نشوئها ونموها في هذه الفيافي الساحقة الشاسعة التي لا ترى،حدودها العين، والتي ترشق الأوجه برشقات من الرمال، تسدّ العين، حتى لا تتجاسر فتمدّ بصرها لتسترق سرّ هذه المحيطات ذات الأمواج المتفاوتة في الإرتفاع من تموجات الرمال.

وقد تخصص أناس من رجال ونساء بالغناء، واتخذوه حرفة لهم يتكسبون بها. والمغنون المحترفون هم من سواد الناس، ومن الرقيق. لأن من طبع الشريف والحرّ الابتعاد عنه. وقد احترف هؤلاء الغناء وتعيشوا عليه. فكانوا يدعون إلى إحياء الحفلات في مقابل أجر يدفع لهم. وقد كان من بينهم من يغني بلغته كالرومية والحبشية، ولهذا فلم يكن من المستبعد سماع غناء أجنبي في موضع مثل مكة أو يثرب لوجود رقيق فيه.

وقد تغنى بشعر بعض الشعراء الجاهليين، ومن هؤلاء شعر الشاعر "مرُّة ابن الرواغ". ويذكر أهل الأخبار ان "امرىء القيس بن حجر"، كان يأمر قيانه أن يغنين بشعره. وان قيان الملوك كن يغنين به أيضاً، وقد كان النخاسون في الجاهلية يعلمون المغنيات الشعر، للتغني به.

وقد كان أغنياء مكة والقرىَ الأخرى يملكون القيان، ومنهم من كان يملك عدداً منهن. مثل "عبدالله بن جصُدْى ان". وكان "لمقيس بن عبد قيس بن قيس بن عدي"، قينتان تغنيان، وكان بيته مألفاً لشباب قريش ينفقون عنده ويشربون ويتهاتكون يبقون على ذلك ليالي وأياما.

ومن القيان: " هريرة" اني شبب بها "الأعشى". وهي أمة سوداء،لحسان ابن عمرو بن مرثد. ولها أخت اسمها "خليدة": كانت قينة كذلك. وقد ورد في رواية أخرى، أنهما كانتا قينتين د "بشر بن عمرو بن مرثد"، وكانتا تغنيانه النصب. وقدم بهما اليمامة، لما هرب من "النعان".

وذكر انه كان ل "عائشة" جاريتان تغنيان بغناء بعاث، أي تنشدان ومن أهل الحداء حاد يقال له "أنجشة" أشرت اليه قبل قليل، وكان حسن الصوت. وهو من الصحابة. "وفي الحديث: أن النبي، صلى الله عليه وسلم قال لأنجشة وهو يحدو بالنساء، رفقاً بالقوارير.،، وكان أنجشة يحدو بهن ركابهن ويرتجز بنسيب الشعر والرجز وراءهن". وهو من أصل حبشي،يكنى"أبا مارية". وكان يحدو بالنساء، وكان الرّ اء بن مالك يحدو يالرجال. وربما كان على النصرانية قبل دخوله في الإسلام.

وكان "البراء بن مالك بن النضر الأنصاري"، حسن الصوت كذلك. وكان يرجز لرسول الله في بعض أسفاره، كما أشرت إلى ذلك قبل قليل. وذكر انه كان حادي الرجال. وكان يتغنى بالشعر.قد شهد المشاهد مع رسول الله إلى بدراً، وله يوم اليمامة أخبار. واستشهد في أيام عصر. وكان من الشجعانْ. ومما يلفت النظر ان الأخباريين حين يتحدثون عن مجلس طرب وشرب وغناء، يذكرون أن صاحب المجلس أمر قينتين له بأن تغنيا له. أولهم، وذلك في الغالب، ولم يذكروا قينة أو أكثر إلا في الأقل، حتى ليشعر القارىء أن العرف في ذلك الوقت أن تكون للسادة وللاشراف قينتين تغنيان تكونان في البيت بصورة دائمة. فلما اغتاط "أبو براء عامر بن مالك بن جعفر" مما قيل عنه، وأراد الترفيه عن نفسه قبل أن يقتل نفسه "دعا قينيتن له فشرب وغنتاه". وكان "عبدالله ابنُ جدْ عان" إذا أراد سماع الغناء "أمر قينتين له تسميان "الجرادتين" بالغناءَ.

ولا يستبعد استخدام الجاهليين آلات الطرب والغناء في معابدهم وفي أعيادهم. فقد كان الساميون كالعبرانيين يستعملون أنواع آلات الموسيقى في معابدهم وفي أعيادهم تقرباً إلى آلهتهم. وقد وصلت الينا أسماء بعض آلات الطرب التي استعملها الجاهليون ولكن معارفنا لا تزال مع ذلك قليلة ضعيفة. وستزيد ولاشك. متى قام الآثاريون بالتنقيب تنقيباً علمياً عميقاً في مواضع الآثار في مختلف الأنحاء.

أما العرب في العراق وفيَ بلاد الشام، فقد تأثروا بالغناء الأعجمي، واستعملوا آلات الطرب المعروفة عند الفرس واليونان، وسمعوا الغناء بالفارسية والرومية واستحسنوه، بل استحسنه أناس من عرب الحجاز أيضاً. سمع حسان بن ثابت غناء "رائقة". فلما عاد إلى بيته، تذكر ليلة قصاها في الجاهلية مع "جبلة ابن إلأيهم"، لم ينسها قط، قال: "لقد رأيت عشر قيان: خمس روميات يغنين بالرومية بالبرابط، وخمس يغنين غناء أهل الحيرة وأهداهن إليه اياس بن قبيصة. وكان يقد إليه من يغنيه من العرب من مكة وغيرها. وكان إذا جلس للشرب، فرش تحته الآس والياسمين وأصناف الرياحين، وضرب له العنبر والمسلك في صحاف الفضة والذهب، وأتى بالمسك الصحيح في صحاف الفضة، وأوقد له العود المندّى إن كان شاتياً، وإن كان صائفاً بطّن بالثلج، واتى هو وأصحابه بكساء صيفية ينفصل هو وأصحابه بها في الصيف، وفي الشتاء بفراء الفَنَك وما أشبهه، ولا والله ما جلست معه يوماً قط إلاّ وخلع عليّ ثيابه التي عليه في ذلك اليوم وعلى غيري من جلسائه، هذا مع حلم عمن جهل، وضحك وبذل من غير مسألة".

وإذا كان الغناء للطرب بوجه عام، فإن هنالك نوعاً آخر من الغناء هو "الترنيم"، وهو تطريب الصوت، ويستخدم في الغالب في التلاوة، أي تلاوة الأدعية والتراتيل الدينية. فقد كان الجاهليون يرتلون أغانيهم الدينية أمام أصنامهم، كما فعل ذلك اليهود والنصارى ويترنمون بها. وتصحب هذه الترانيم آلات موسيقية لتعزف الألحان المناسبة الموافقة لها.

وذكر علماء العربية أن "الرنم" المغنّيات المجيدات، والرنم الصوت. والرنيم والترنيم ترجيع الصوت وتطريبه. وعرف "الترجيع" ب "ترديد الصوت في الحلق في قراءة أو غناء أو زمر أو غير ذلك ما يترنم به". وقيل: "الترجيع. هو تقارب ضروب الحركات في الصوت". وقد كان الجاهليون يرجعون الشعر، بأن يقرأونه على الألحان والتطريب والإيقاع ليؤثر في السامعين.

أما المناسبات المخزنة كالموت والكأبة، فقد كانوا يستعملون فيها نغمات حزينة وهادئة للتخفيف من شدة الحزن والكآبة والألم. وقد كانت لهم في ذلك ألحان وأوزان ونغم.

وأما "الهزج"، فالخفيف الذي يرقص عليه، ويمشي بالدف " والمزمار، فيطرب ويستخف الحليم. وذكر أن الهزج من الأغاني ما فيه ترنم وصوت مطرب، وقيل: هو صوت فيه بحح، صوت دقيق مع ارتفاع. وكل كلام متدارك متقارب في خفة هزج. فهو الخفيف المطرب من الغناء.

وكانت المناسبات المفرحة مثل الزواج تقترن بالعزف والغناء. روي أن رسول اللّه لما كان غلاماً يرعى غنماً ومعه غلام من قريش يرعى معه كذاك قال له: "لو أنك أبصرت غنمي حتى أدخل مكة: فأسمر بها كما يسمر الشباب، قال: أفعل. فخرجت أريد ذلك حتى جئت أول دار من ديار مكة، سمعت عزْفاً بالدفوف والمزامير. فقلت ما هذا ? فقالوا: فًلان تزوّج فلانة بنت فلان. فجلست أنظر اليهم "، وذكر أن من عادة أهل مكة أن يفعلوا ذلك عند الزواج. وفعل أهل يثرب ذلك أيضاً فى مثل هذه المناسبات وفي مناسبات الفرح الأخرى.

الر قص

والرقص وجه آخر من وجوه التسلية والتفريج عن النفس. يرقصون في المناسبات، مثل الأعراس والأفراح الأخرى. وهو في الغالب ارتفاع وانخفاض، وقد يكون ذلك هو الذي حمل علماء اللغة على تفسير الرقص أنه ارتفاع وانخفاض. والراقصون هم من الشباب في الغالب، أما الشيوخ، فكانوا لا يرقصون، لعدم ملاءمة الرقص مع جلال السن.

وذكر علماء اللغة أن من الرقص نوع يقال له "الدرقلة". وذ كَر بعض آخر أن "الدرقلة" الرقص. "قال محمد بن إسحاق: قدم فتية من الحبْشة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، يدرقلون، أي يرقصون". وقيل: الدرقلة: لعبة للعجم معربة. وهي من الحبشة على بعض اراء علماء اللغة. ونطقت ب" الدركلة" كذلك. وذكروا أن الرسول "مرّ على أصحاب الدركلة فقال: جدّوا يا بني أرفدة حتى يعلم اليهود والنصارى أن في ديننا فسحة". قيل إنّ الدَركلة ضرب من الرقص ولعبة للعجم معربة.

وقد عرف الحبش بحبهّم للرقص. وكان أهل مكة وغيرهم من أهل الحجاز إذا أرادوا الاحتفال بعرس أو ختان أو أية مناسبة مفرحة أخرى أحضروا الحبش للرقص والغناء على طريقتهم الخاصة. وورد في الحديث أنه قال للحبشة دونكم يا بني أرفدة. وقيل هم جنس من الحبشة يرقصون. وقيل "أرفده" لقب لهم.

هو اسم أبيهم الأقدم يعرفون به.

وقد كان الرقص عند الشعوب السامية نوعاً من أنواع التعبير عن الفرح والشكر تجاه آلهتهم. ويدخل في جملة الشعائر الدينية. ولا يستبعد أن يكون الجاهليون مثل غيرهم قد رقصوا لآلهتهم في المناسبات الدينية، تعبيراً عن شكرهم للالهة. ولكن معارفنا عن ذلك قليلة جداً، فلا نجد في الكتابات الجاهلية أية إشارة اليه، أما أخبار أهل الأخبار عن الرقص عند الجاهليين، فهي قليلة. ولا اًستبعد أن يكون السعي بين الصفا والمروة كان رقصاً في الأصل فكان الساعون يرقصون ويغنون أغاني دينية، في تمجيد رب البيت والتقرب اليه. كما كانوا يرقصون في المعابد الأخرى.

ويعدّ يوم وصول الملوك والأمراء والسادات إلى مكان ما، يوماً مشهودا ًيجلب الفرح والسرور إلى قلوب الناس، ويعطي ذلك اليوم بهجة وسروراً، وكانوا يستقبلون كبار الوافدين عند قدومهم بأصناف اللهو. ويخرج "المقلسون" بالسيوف والريحان وبالدفوف والغناء. ولذلك قيل "القلس" و "التقليس": الضرب بالدفّ والغناء. و "المقلس": الذي يلعب بين يدي الأمير. ولما قدم "عمر" الشام لقيه المقلسون بالسيوف والريحان. والقلس: الرقص في غناء، وقيل هو الغناء الجيد.

العاب مسلية

وقطع الجاهليون وفتهم ببعض الألعاب المسليّة، مثل "النرد" وقد أشير اليه في الحديث ب "النردشير" وب "النرد". وذكر بعض العلماء أن "النرد" هو "الكوبة"، بلغة أهل اليمن. وأشير اليه في حديث اهل الأخبار عن "امرىء القيس الكندي" وعن الناعي الذي أوصل الخبر اليه، فقالوا: "فوجده مع نديم له يشرب الخمر، ويلاعبه بالنرد، فقال له: قتل حجر، فلم يلتفت إلى قوله، وأمسك نديمه، فقال له امرؤ القيس: اضرب، فضرب،. حتى إذا فرغ، قال: ما كنت لأفسد عليك دستلك " والدست مصطلح فارسي، أي ما كنت لأفسد عليك لعبك.

وكان في الجاهلية إذا خاب قدح أحدهم ولم ينل مرامه قبل تمّ عليه الدست. وقيل الدست: هو دست القمار، كان في اصطلاح الجاهلية. وفلان حسن الدست: شطرنجي حاذق.

واللعب اللهو والتسلية، وهو أنواع. كما ان لكل عمر نوع من اللعب يليق به. و "التلعابة" و "التلعاب" الكثير اللعب، والكثير المزح والمداعبة. و "الشطرنج" لعبة، والنرد لعبة كذلك، وكل ملعوب به فهو لعبة. و "اللعبة" الأحمق الذي يسخر به ويلعا ويطرد عليهْ.

ويعبر عن اللهو واللعب بلفظة "الديدن"، و "الددن"، و "الدد"، و "الددا"، و "ديد"، و "ديدان"، و "الديدبون". وفي الحديث: "ما أنا من دد ولا الددُ مني". أي ما أنا في شيء من اللهو واللعب.وورد لعديّ بن زبد آلعباديّ: أيها القلب تعلـل بـددن  إن هميّ في سماع وأذن

وذكر أن الدد: هو الضرب بالأصابع في اللعب، وأن الديدبون: اللهو.وللاْطفال ألعاب تتناسب مع سنهم، منها: "الجماح"، وهي سهيم يلعب به، يجعلون مكان زجّه طيناً، و "البقيري"، ولعبة "الغراب"، وقد ذكر أن صبياناً كانوَا يلعبونها ليلاً. و "الكعاب" و "الفيال".، وهي لعبة كانوا يلعبون بها، يجمعون تراباَ ويخبئون فيها خبئاً، ويقولون لصاحبه في أي الجانبين هوْ ?.

ومن ألعاب الصبيان لعبة يقال لها "الدخرجاء" و "الدحيريجاء"، وفيها قال الشاعر: عليك الدحيريجاء فاتبع صحابهـا  سيكفيك زين الحرب أروع ماجد

ومن ألعاب الصبيان، لعبة "عظم وضاح." "عظيم وضاح"، أن يأخذ بالليل عظماً أبيض، فيرمونه في ظلمة الليل، تم يتفرقون في طلبه، فمن وجده فله القمر. وذكر أن من وجده يركب الفريق الآخر من الموضع الذي وجدوه فيه إلى الموضع الذي رموا به منه. وورد في الحديث أن النبي لعب وهو صغير بعظم وضاح.

و "البقُيري": أن يجمع يديه عامحما التراب في الأرض إلى أسفله، ثم يقول لصاحبه: اشته في نفسك، فيصيب ويخطىء. وذكر أنهم يأتون الى موضع قد خبيء لهم فيه شيء، فيضربون بأيديهم بلا حفر يطلبونه.

والخطرة، أن يعملوا مخرافا، ثم يرمى به واحد منهم من خلفه إلى الفريق الاخر، فإن عجزروا عن أخذه رموا به اليهم، فإن أخذوه ركبوهم. وأما " الدارة"، ويقال لها "الخراج"، أن يمسك أحدهم شيئاً بيده ويقول لسائرهم. أخرجوا ما في يدي. و "الشحمة"، أنه يمضى واحد من أحد الفريقين بغلام فيتنحّون ناحية ثم يقبلون، ويستقبلهم الآخرون، فإن منعوا الغلام حتى يصيرواً إلى الموضع الآخر فقد غلبوهم عليه،ويدفع الغلام اليهم، وإن لم يمنعوه ركبوهم، وهذا كلّه يكون في ليالي الصيف، عن غب ربيع مخصب.

وسابق الأطفال والشبان بعضهم بعضاً. سابقوا على الخيل وسابقوا على الأقدام فكان السابق يفخر على المسبوقين، وربما خاطروا في السباق، فيأخذ السابق، "الخطر"، وهو ما جعلوه رهناً للسابق. وصارعوا. واعتبروا المصارعة رياضة وفخراَ. فالقوي يصرع الضعيف. ولهذا كان المصارع الذي لا يصرع يتباهى ويفخر بنفسه على غيره.وقد سابق رسول الله بنفسه على الأقدام. ويقال للمصارعة "المراوغة"، لما فيها من مراوغة الواحد منهما للآخر، للتغلب عليه. وقد صارع النبي "ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب"، فصرعه مرتين.

"وكان شديداً. يحكى أنه كَان يقف على جلد بعير لين جديد حين سلخه. فيجذبه من تحته عشرة فيتمزق الجلد ولا يتزحزح هو عن مكانه".

ومن ألعاب الصبيان "الطبن"، وهو خط مستدير يلعب به الصبيان. و "الشعارير" وهي من لعب الصبيان. واما البنات فالتماثيل الصغار التي يلعب وإلمتقامرين على الجزور: الأيسار. وذكر أن اشتقاق "الميسر" إما من اليسر لأنه أخذ مال الرجل بيسر وسهولة من غير كد ولا تعب، أو من اليسار لأنه سلب يساره.

وقد ألف بعض العلماء كتباً في الميسرة منها كتاب ألفه "ابن قتيبة الدينوري" وكتاب ألّفه "الزبيدي" دعاه "نشوة الارتياح في بيان حقيقة الميسر والقداح".

وآراء العلماء متباينة في الميسر وفي المراد منه، وفي طريقته. ويظهر أن قسماً ممن كان يلعب الميسر لم يكن يلعبه ابتغاء الكسب، وانما كان يلعبه للتسلية وللترفيه عن الآخرين، وذلك باعطائه ما يكسبه للمحتاجين وللفقراء، ولذلك افتخروا بعملهم هذا وعدّوه مفخرة من مفاخر العرب، لأنم كانوا يفعلونه في أيام الشدة وعدم اللبن واًيام للشتاء. فيعطون اللحم للمحتاج اليه، إذ عيب من كان يأخذه لنفسه وعدّ وه عاراً، وقد افتخروا به في شعرهم، ومدحوا من يأخذ القداح وعابت من لا ييسر ودعته "البرم"، وذللك لبخله وظنه بماله من أن يذهب إلى غيره، مع أن الناس في حاجة شديدة اليه.

وإلى لعب الموسرين الأيسار في الشتاء لمساعدة ذوي الحاجة، أشار طرفة في شعره إذ قال: وهم أيسار لـقـمـان إذا  أغلت الشتوة أبداء الجزور

وأما القسم الآخر ممن كان ييسر، فكان يبغي الكسب والمال، لذلك كان يقامر بكل ما يملك في سبيل الحصول على المال للمياسرة. روي عن "ابن عباس" أنه "كان الرجل في الجاهلية يخاطر على أهله وماله" في سبيل المياسرة. وكان يلجأ إلى الغش والخداع والى السرقة واضاعة العيال، ولأضراره هذه حرمه الإسلام.

وقد ييسرون على الأسرى، فقد وقع "سحيم بن وثيل اليربوعي" في سباء، فضرب عليه بالسهام، فقال في ذلك: أقول لهم بالشعب إذ ييسرونـي  ألم تعلموا أني ابن فارس زهدم

وصفة الميسر: أن القوم كانوا يجتمعون فيشترون الجزور بينهم، فيفصلونها على عشرة أجزاء يؤُتى بالحُرضة وهو رجل يتأله عندهم لم يأكل لحما" عندهم قط بثمن، ويؤتى بالقداح وهو أحد عشر قدْحاً، سبعة منها لها حظ إن فازت، وعلى أهلها غرم إن خابت، يقدر ما لها من الحظ إن فازت، وأربعة ينفل بها القداح، لا حظ لها إن فازت ولا غرم عليها ان خابت.

فأما التي لها الحظ: فأولها الفذ في صدره حز واحد، فإن خرج أخذ نصيباً، وإن خاب غرم صاحبه ثمن نصيب، ثم التوأم، له نصيبان ان فاز، وعليه ثمن نصيبين إن خاب، ثم الضريب، وله ثلاثة أنصباء، ثم الحلس وله أربعة، ثم النافس وله خمسة، ثم المسبل، وله ستة، ثم المُعَلى وله سبعة. والمسبل يسمى: المصفح، والضريب يقال له: الرقيب.

وأما الأربعة التي يفصل بها القداح، فهي: السفيح، والمنيح، والمضعف، وا لوغد.

وقيل: إن للمنيح موضعين: أحدهما لا حظ له، والثاني له حظ فكأنه الذي يمنح الحظ، واستدلوا عابر ذللك بقول عمرو بن قبيصة: بأيديهم مقرومة ومغـالـق  يعود بأرزاق العيال منيحها

فيؤتى بالقداح كلها وقد عرف كل ما اختار من السبعة ولا يكون الأيسار إلا ان الناس كانوا ينظرون إلى "الحرضة" نظرة استصغار وازدراء ويعرف أيضاً ب "الضريب".

ويسمى "الرقيب" ".رابىء الضرباء" يقعد خلف ضارب قداح الميسر يرتبى لهم فيما يخرج من القداح فيخبرهم به ويعتمدون على قوله فيه، ثم يجلس الأيسار حوله دائرين به. ثم يفيض الضريب بالقدّاح، فإذا نشز منها قدح استسله الحرضة من غير أن ينظر اليه، تم ناوله الرقيب فينظر الرقيب لمن هو فيدفعه إلى صاحبه، فيأخذ من أجزاء الجزور على قدر نصيب القدح منها وذلك هو الفوز.

فإن شاء بعد ذلك أمسك، وإن شاء أعاد السهم على "خطار" آخر، وهو السبق يراهن عليه، وهو ما يوضع بين أهل السباق. واعادة السهم تسمى التثنية. وقد وصفت "القداح" بأنها عيدان من نبع، قد نحتت وملست وجعلت سواء في الطول. وهي عشرة من رواية أخرى غير الرواية التقدمة. هي: الفذ والتوأم والرقيب والحلس والنافس والمسبل والمعلى والمنيح والسفيح والوغد. وللاول سهم إن فاز، وفوزه خروجه وعليه عزم سهم إن خاب، وكذلك باقيها على الترتيب فيما له وعليه إلى المعلى، وهو السابع، وله سبعة وعليه سبعة يفرض في كل سم منها بحسب ماله، وعليه حز وتكثر هذه السهام بثلاثة أخر أغفال ليس فيها حزوز ولا لها علامات ليكون ذلك أنفى للتهمة وأبعد من المحاباة. وهي: المنيح وألسفيح والوغد، وتسمى القداح مغالق، لأنها تغلق الرهن إذا ضربوا بها.

وإذا حضرت القداح وحضر الأيسار أخذ كل منهم من القداح على قدره وطافته ورياسته، فمهم من لا يبلغ حاله -أكثر من الفذ فأخذه له، فإن خاب غرم سهماً، وإن فاز أخذ سهماً " ومنهم من يأخذ المعلى ولا يبالي بالغرم إن خاب وينال النصيب الأوفر ان فاز. ومنهم من يأخذ المعلى وسهماً إن لم يحضر من يتمم السهام، فيأخذ ما فضل من القداح، ويقول للايسار قد تممتكم.

ويقع الغرم أي ثمن الجزور على من لم في يخرج سهمه وهم أربعة: أصحاب الرقيب والحلس والنافس، والمسبل. ولجملة هذه القداح ثمانية عشر سهماً، فيجزأ الثمن على ثمانية عشر جزءاً. ويلزم كل صاحب قدح من هذه القداح مثل ماكان نصيبه من اللحم لو فاز قدحه، فإن لم يخرج الفذ ولا التوأم وخرج الرقيب أخذ صاحبه ثلاثة أجزاء، ثم ضربوا ثانيه فخرج المعلى، أخذ صاحبه السبعة الأجزاء الباقية، وهي تتمة الجزور، وكانت الغرامة على من لم يخرج قدحه، وهم أصحاب القداح الخمسة التي خابت. وقد ينحرون جزوراً اخر لأن في القداح التي خابت نصيباً يزيد علىما بقي من اللحم.وإن فضل من أجزاء اللحم شيء وقد خرجت القداح كلها كانت تلك الفاصلة لأهل الوبد من العشرة، وهم أهل الضعف وسوء الحال.

الأسفار

ومن أيام الفرح والسرور عندهم يوم العودة من السفر ومن حقهم أن يفرحوا به. فقد كان السفر شاقا خطراً في تلك الأيام، ولا سيما إذا طال. فقد يتعرض المسافر فيه للهلاَك والموت جوعاً أو عطشاَ، عدا ما يتعرض له من السلب والنهب. لذلك كانوا يحاولون جهدهم أن يسافروا جماعة وقوافل يتعاونون ويشد بعضهم أزر بعض. وكانوا إذا عادوا فرح أهلهم بعودتهم سالمين، وتلقوهم بالبشر والتهنئة، وذبحوا الذبائح ووزعوا لحومها بين الأصدقاء والفقراء، وأولموا الولائم للمهنئين والجيران. وكان أول ما يفعله المسافر إلى مكة عند عودته إلى مدينته الذهاب إلى "البيت" للطواف به ولشكر رب البيت على حمايته له واغداقه نعمته عليه بالعودة سالماً.

وقد عثر السياح والمنقبون عن الآثار في جزيرة المعرب على كتابات جاهلية توسل فها أصحابها إلى آلهتهم لترعاهم في سفرهم، وتحفظهم من لصوص الطريق ومن كل شرّ وسوء. وقد تعهدوا فيها بتقديم نذور لمعابدها بعد عودتهم سالمين غانمين. كما عثر على كتابات فيها حمد وشكر لتلك الالهة لأنها أجابت دعوة أصحاب الكتابات، فحمتهم ورحمتهم في سفرهم ويسرت لهم العودة سالمين.

وكانوا إذا أرادوا السفر عمدوا إلى فعل الجاهلية في زجر الطير والاستقسام بالأزلام لأختيار الطالع، فإذا خرج سهم "الأمر" فسروه بالأمر بالسفر، وإذا خرج "النهي" "الناهي"، انتهوا عنه.

وكانوا إذا خرجوا إلى الأسفار أوقدوا ناراً بينهم وبين المنزل الذي يريدونه، ولم يوقدوا بينهم وبين المنزل الذي خرجوا منه تفاولاً بالرجوع اليه. وللمهنئن بسلامة العودة، تعابير خاصة،يتولونا للمسافرين حين السفر وحين العودة. وفي جملة ما كانوا يقولونه للاياب من السفر: "سفر رجيع". وسفر رجيع: مرجوع فيهُ راراً.

ومن مناسبات الفرح والسرور، الإبلال من مرض والشفاء منه. فالشفاء من المرض عودة إلى الحياة وولادة من جديد، وعمر يضاف إلى عر المريض،. لذلك كان المرضى يتوسلون إلى آلهتهم أن تمنّ عليهم بالصحة والشفاء والعافية مما ابتلوا به، ويعدونها بتقدم نذر إن أعادت اليهم صحتهم وعافيتهم. وقد حصل المنقبون على ألواح كثيرة كتب فيها شكر وحمد وثناءعلى الآلهة لأنها أجابت دعوة صاحب الكتابة، فعافته من مرضه،ومنت عليه بالصحة والعافية، وأبرأته مما أصيب به من أمراض أو جروح في معارك، فهو يوفي بوعده لها ويقدم لها نذره ويحمدها على نعمتها عليه. وقد يولمون وليمة يقولون لها "البة"، و "البلة" العافية من المرض.

ويعود أهل الجاهلية مرضاهم، للإعراب لهم عن تمنياتهم لهم بالشفاء العاجل والابلال من المرض، كما يعودونهم بعد الشمفاء لتهنئتهم على عودة الصحة اليهم، وشفائهم مما ابتلوا به من مرض. ويقع "العود" من الرجال والنساءْ. ويقال لمن حسنت حاله بعد الهزال، ولمن شفي من مرض "بلّ الرجل"، من مرضه، و "بل " من مرضه"، و "أبلَ".

?مواسم الربيع

وللربيع مكانة خاصة في نفوس العرب، حتى صار في منزلة العيد عندهم. ففيه يطيب الجو، ويرق الهواء، وتكسى الأرض بأكسية خضراء وببسط منمقة مزركشة، تسحر مناظرها الألباب، تسير عليها الإبل بفخر و،عجاب، تقضم ما تجده فوقها من طعام. فتشبع وتسمن بعد فقر وجوع وضنك. وفيه يكثر مال العرب، ومال العرب إبلهم، وتكثر مواشي الحضر، من غنم ويقر.. وتكون سنة الربيع للعربي سنة يمن وبركة. وسنة انحباس الغيث وانقطاع المطرهَ سنة بؤس وشقاء.

ولا يفرح العربي بشيء فرحه بالغيث وبظهور الربيع، أي موسم اخضرار الأرض واكتسائها ببساط سندسي يبهر العن ويؤثر في النفس فيجعلها فرحة مستبشرة، فيخرج السادات إلى المرابع، يتلذذون هناك بمنظر الربيع وبرؤية أموالهم وهي فرحة مستبشرة ترعى فيه، فيزيد بذلك مالهم ويكثر لبن نوقهم وتنشظ إبلهم في انجاب الولد. ويتوجه سادات القباثل إلى المرابع الجيدة، التي يجود فيها الربيع، وليس في بلاد العرب مربع كالدهناء. ويترك الملوك قصورهم على ما فيها من وسائل الراحة، للذهاب إلى البادية، للاستمتاع بما خلقته الطبيعة هناك، وبما أوجدته من صنعة متقنة وفن عجيب لا بضاهى. يبقون هناك أياماً وأسابيع، يجددون فيها عهدهم بألبوادي وبما فيها من هواء صحيح سليم، يعطي الجسم نشاطا، ويبعث فيه "اكسير" الحياة.

البغاء

البغاء الفجور. و "البغي" الأمَةَ فاجرة كانت أو غير فاجرة، والجمع البغايا. والزنا هو الفجور، وهو عيب كبير عند العرب، فلا تقربه الحرة. أما الرجال َفلا يرونه عيباً، بل قد يتبجح بعضهم به، لأنه من أمارات الرجولة. وقد كانوا يذهبون اليهن ويتصلون بهن في مقابل أجر، وكن من الإماء، لأن المرء في الحياة لبطنه وفرجه. ومنه المثل: "المرء يسعىِ لغاريْه" أي يكسب لبطنه وفرجه.

وعرفت "البغي" ب "القحبة". قيل لها قحبة لأنها كانت في الجاهلية تؤذن طلابها بقحابها، وهو سعالها. فقد كانت من عادة "قحبة" الجاهلية أن تسعل أو تتنحنح، تراود بذلك عن نفسها، وتشعر الرجل، انها حاضرة للفجور إن أراد ذلك، فيتفق معها.

و "المسافحة"، المزاناة لأن الماء يصب ضائعاً. و "السفاح" أن تقيم امرأة مع رجل على الفجور من غير تزويج صحيح: وفي الحديث: "أوله سفاح واخره نكاح". وهي المرأة تسافح رجلاً مدة فيكون بينهما اجتماع على الفجور، ثم يتزوجها بعد ذلك. وكان أهل الجاهلية إذا خطب الرجل المرأة قال: أنكحيني، فإذا أراد الزنا قال: سافحيني.

ويقال للزنا: الفاحشة. والفاحشة الزانية وكل ما يشتد قبحه من الذنوب والمعاصي وكل ما نهي عنه،وكل خصلة قبيحة فهي فاحشة من الأقوال والأفعال. فاللفظة عامة تتناول الفحش الذي هو إلزنا كما تتناول غيره من الأعمال والخصال القبيحة. ويقال للبغي وللامة " تزنى"، ويقال لابنها "ابن تزنى" و "ابن درزة".

ولما نزلت الآية: )يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لايشركن باللهِ شيئاً ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفتريه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف، فبايعهن واستغفر لهن الله، إن الله غفور رحيم(، وفرغ رسول الله من بيعة الرجال بمكة واجتمع اليه نساء من قريش فيهن: "هند بنت عتبة" وأخذن يبايعن الرسول، فلما وصل إلى قوله تعالى: "ولا يزنين"، فقالت: يا رسول الله وهل تزني الحرة?

وفي القرآن الكريم آيات ذكرت الزنا في الجاهلية، من ذلك آية سورة النور: )الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة،والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرّم ذلك على المؤمنين(. قال المفسرون: قدم المهاجرون إلى المدينة وفيهم فقراء ليست لهم أموال، وبالمدينة نساء بغايا مسافحات يكرين أنفسهن، وهنّ يومئذ أخصب أهل المدينة، فرغب في كسبهن ناس من فقراء المهاجرين،فقالوا: لو إنا تزوجا منهن فعشنا معهن إلى أن يغنينا الله تعالى عنهن. فاستأذنوا النبي صلي الله عليه وسلم، في ذلك، فنزلت هذه الآية وحرم فيها نكاح الزانية صيانة للمؤمنين عن ذلك، وقال عكرمة: نزلت الآية في نساء بغايا متعالمات بمكة والمدينة، وكن كثيرات، ومنهن تسع صواحب رايات، لهن رايات كرايات البيطار يعرفوفها: أم مهدون "أم مهزول" جارية السائب بن أبي السائب المخزومي، و "أم غليظ" "أم غليظ" جاريهّ صفوان بن أمية، و "حبة القبطية" "حنة القبطية" جارية العاص بن وائل، و "مرية" جارية مالك بن عميلة. "عمثلة" بن السباق بن عبد الدار، و "حلالة" "جلالة" جارية سهيل بن عمرو، و "أم سويد" جارية عمرو بن عثمان المخزومي، و "شريفة" "سريفة" جارية زمعة بن الأسود، و "قرينة" "فرسة" جارية هشام بن ربيعة بن حبيب بن حذيفة بن جبل بن مالك بن عاصم بن لؤي، و "فرنتا" "قريبا" جارية هلال بن أنس بن جابر بن نمر بن غالب بن فهر. وكانت بريوتهن تسمى في الجاهلية "المواخير" لا يدخل عليهن ولا يأتيهن إلا زان من أهل القبلة أو مشرك من أهل الأوثان، فأراد ناس من المسلمين نكاحهن ليتخذًوهن مأكلة، فأنزل الله تعالى، هذه الاية، ونهى المؤمنين عن ذلك، وحرمه عليهم".

وورد أن امرأة يقال لها أم مهدون "أم مهزول" كانت تسافح وكانت تشترط للذي يتزوجها أن تكفيه النفقة. وأن رجلاً من المسلمين أراد أن يتزوجها، ع فذكر ذلك للنبي، صلى اللّه عليه وسلم فنزلت هذه الآية: )الزانية لا ينكحها الا زان(. وكان لمرثد صديقة في الجاهلية، يقال لها عناق، وكان مرثد رجلاّ شديداً، وكان يقال له: دلدل، وكان يأتي مكة فيحمل ضعفة المسلمين إلى رسول الله، صلى اللّه عليه رسلم َفلقي صديقته، فدعته إلى نفسها، فقال: إن اللَه قد حرم الزنا، فقالت اني تبرز، فخشي أن تشيع عليه، فرجع إلى المدينة فأتى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله كانت لي صديقة في الجاهلية، فهل ترى لي نكاحها قال: فأنزل الله: )الزانية لا ينكحها إلا زان...). وذكر أنهن كنّ بغايا متعالمات كنّ في الجاهلية، بغي آل فلان وبغي آل فلان، فأنزل الله: لا الزاني لا ينكح إلاّ زانية أو مشركة َوالزانية لا ينكحها إلاّ زان أو مشرك، وحرم ذلك على المؤمنين " فحكم الله بذلك من أمر الجاهلية على الإسلام. وورد: كان الرجل ينكح الزانية في الجاهلية التي قد علم ذلك منها، يتخذها مأكلة، فأراد ناس من المسلمين نكاحهن على تلك الجهة، فنهوا عن ذلك".

وفي القرآن الكريم: )ولا تكرهوا فتًياتكم على البغاء، إن أردْنَ تحصناً، لتبتغوا عَرضََ الحياة الدنيا. ومن يكرههن فإن الله من بعد اكراههن غفور رحيم(. قال المفسرون: نزلت في معاذة ومسيكة جاريتي عبد الله بن أبيّ المنافق، كان يكرهها على الزنا لضريبة يأخذها منها. وكذلك كانوا يفعلون في الجاهلية يؤاجرون إماءهم. فلما جاء الإسلام، قالت معاذة لمسيكة إن هذا الامر الذي نحن فيه لا يخلو من وجهين، فإن يك خيراً فقد اسكثرنا منه، وإن يلك شراً فقد ان لنا أن ندعه. فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال مقاتل: ننرلت في ست جوار لعبد اللهّ بن أبيّ كان يكرههن على الزنا ويأخذ أجورهن، وهن: معاذة، ومًسيكة، وأميمة، وعمرة، وأروى، وقتيلة، فجاءت احداهن ذات يوم بدينار، وجاءت أخرى بدونه، فقال لهما: إرجعا فازنيا. فقالتا: والله لا نفعل، قد جاءنا الله بالإسلام وحرم الزنا. فأتيا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وشكتا اليه. فأنزل الله تعالى هذه الآية". وذكر أن رجلاّ من قريش أسر يوم بدر، وكان عبد الله بن أبيّ أسره، وكان لعبد الله جارية يقال لها معاذة، فكان القرشي الأسير يراودها عن نفسها، وكانت تمتنع منه لاسلامها. وكان ابن أبيّ يكرهها على ذلك ويضربها، لأجل أن تحمل من القرشي، فيطلب فداء ولده، فقال الله تعالى ولا تكرهوا فتياتكم...

ويرى بعض علماء اللغة أن "المساعاة" تكون في الحرة وفي الأمة. وذهب بعض آخر إلى أنها تكون في الإماء خاصة بخلاف الزنا والعهر، فإنهما يكونان في الحرة وفي الأمة، وفي الحديث إماء ساعيَن في الجاهلية. وأتي عمر برجل ساعى أمة، وقيل مساعاة المرأة أن يضرب عليها مالكها ضربية تأديها بالزنا. وفي الحديث،: لا مساعاة في الإسلام، ومن ساعى في الجاهلية فقد لحق بعصبته" والمساءاة الزنا. وذكر ابن فارس أن المساعاة الزنا بالإماء خاصة.

ولم تكن للمسافحة أجور ثابتة، بل كانت تتوقف على المعاملة والتراضي، وقد تكون نقداً، دنانير أو دراهم، وقدّ كون عيناً مثل برد أو أنسجة أو طعام أو ما شاكل ذلك، لقلة العملة في ذلك العهد.

ويلحق أءل الجاهلية نسب ولد المساعية بها إذا ولدت، ويكون الولد رقيقاً لمن يملك رقبة الأم إن شاء جعلهم في ملكه وإن شاء باعهم لأن الأمة وما تملك ملك للمالك. وقد تاجر ملاك الرقيق بأولاد الإماء، وربحوا من هذه التجارة ربحاً. فلما جاء الإسلام أبطل المساعاة، ولم يلحق النسب بالأمة، وعفا عما كأن منها في الجاهلية ممن ألحق بها. وفي حديث عمر: انه أتى في نساء أو إماء ساعين في الجاهلية، فأمر بأولادهن أن يقوَّ موا على آبائهم ولايسرقّوا. فصاروا أحراراً لاحقي الأنساب بآبائهم الزناةْ. وقد ورد في الحديث: "الولد للفراش وللعاهر الحجر " وبموجبه سكم الشرع على من ولد من الزنا في الجاهلية وأدرك الإسلام.

ولم يرد في نصوص المسند ذكر للزنا وعقوبة الزاني والزانية عند الجاهلين. وأقصد بالزنا هنا الزنا الذي يكون بين المحصن والمحصنة أو بين المحصن والبكر، أو بين البنت الحرة والرجل العزب أو الذي لم يتزوج، أي الزنا مع غير الإماء.

أما اتزنا مع الإماء، فلم يكن الجاهليون يعيبون الإنسان عليه كما بينت ذلك. ويظهر من بعض الأخبار الواردة عن الزنا أنّ من الجاهليين من كان يأخذ الفدية عنه. فقد روي أن رجلاً من الأعراب قام فقال: يا رسول الله أنشدك الله إلا ما قضيت بينا بكتاب الله وائذن لي. فقال رسول الله: قل: قال: إن ابني كان عسَيِفاً على هذا "وأشار إلى أعرابي..كان جاساً إلى جانبه" فزنى بامرأته فافتديت منه بمئة شاة وخادم ثم سألت رجالا" من أهل العلم، فأخروني،أنّ على ابني جلد مئة وتغريب عام. وعلى امرأته الرجم لإحصانها. فقال النبي: والذي نفسي في بيده لأقضين بينكما بكتاب الله جلّ ذكره: المئة شاة والخادم ردّ عليك، وعلى ابنك جلد مئة وتغريب عام. وأغدُ يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها. وقد كان هذا الحادث بعد نزول الأمر بالرجم. فيظهر منه أن من جملة عقوبات الزنا عند الجاهليين كان أخذ فدية،وتغريب.

واختلاف وجهة نظر الجاهليين الى الزنا، هو بسبب اختلاف عاداتهم وعرفهم وتعدد قبائلهم، وعدم وجود دين واحد لهم يخضعون جميعأ لحكمه. فلما جاء الإسلام وجعل الزنا من المحرمات، تغير حكمهم عليه، وصار شرعهم في ذلك هو شرع الإسلام.

و "المواخير"، بيوت أهل الفسق ومجالس الخمارين، ومواضع الريبة.

والماخور: بيت الريبة ومن يلي ذلك البيت ويقود اليه. واللفظة من الألفاظ المعربة. يرى بعض علماء اللغة أنها معربة عن أصل فارسى "ميخور" "مي خور"، أي شارب الخمر،وذهب بعض آخر إلى أنها من أصل عربي. ولكن الصحيح أنها فارسية معربة. وقد كانت المواخير في الجاهلية موجودة في القرى والمدن وعلى طرق التجارة. حيث يأوي التجار وأصحاب الأسفار للراحة، فيجدون أمامهم تلك المواخير. ذكر عن "ابن عباس" في تفسير قوله تعالى: الزاني لاينكح إلا زانية أو مشركة، والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين" انه قال: كانت بيوت تسمى المواخًر في الجاهلية، وكانوا يؤاجرون فيها فتياتهنّ، وكانت ييوتا معلومة للزنا لا يدخل عليهن. ولا ياًتيهن إلا زان ".

وكان من الرجال من يتهم أزواجه بالزنا ويرميهن بالفاحشة، لأسباب عديدة، منها الرغبة في التخلص منهن أو انتقاماً من أهلهن أو عضلاً لهن، فلا يتزوجن ويحبسن في البيوت حتى يتوفاهن الموت، وقد حدثت مثل هذه الحوادث في الإسلام، فنزل الحكم فيها في القرآن الكريم.

صواحب الرايات

وهن البغايا كنّ ينصبن على اْبوابهن رايات تكون علماً، فمن أرادهن دخل عليهن، وتفاوض معهن على أجورهن في مقابل دخوله بهن. وذكر أن تلك الرايات كانت رايات حمراً. وروي انه. "كان لبعضهن راية منصوبة في أسواق العرب فيأتيها الناس فيفجرون بها. فأذهب الإسلام في ذلك، وأسقطه فيما أسقط". وقد وجد بعض الناس صعوبة في تقبل حكم الإسلام في تحريم الزنا والخمر.

"وفي حديث علي كرم الله وجهه، لما طلب اليه أهل الطائف أن يكتب لهم الأمان على تحليل الزنا والخمر، فامتنع، قاموا ولهم تغذمُرٌ وبَربرَة" من شدة غضبهم ونفورهم من هذا التحريم.

وأما اليهود، فقد ساروا على وفق ما جاء في التوراة في أمر الزنا. وهو من الخطايا المنهي عنها في الوصية السابعة من ألوصايا العشر. ويقاص الرجل الذي يضاجع امراة غيره بالموت، وتعاقب المرأة بالعقوبة نفسها. وإذا ضاجع رجل ابنة مخطوبة ولم تصرخ الابنة رجم الاثنان، وإذا صرخت رجم هو فقط. وإذا ضاجع رجل ابنة حرة غير مخطوبة، فوجدا، لزم عليه اعطاء والدها خمسين شاقلاً من الفضة، ويلتزم أن يأخذها له امرأة. وإذا كانت الابنة غير حرة، كان يقدم الرجل تقدمة حظيته. وقد نصُ في سفر "العدد" على طريقة إظهار زنا المرأة المتهمة ومعاقبتها.

ويظهر من كتب السير والحديث أن يهود المدينة في أيام الرسول، كانوا قد تساهلوا في تطبيق أحكام التوراة بشأن الزنا، وابتدعوا طرقاً أخرى غير طرق العرف والعادة. فقد روي انه أتى رسول الله بيهودي ويهودية، وقد أحدثا جميعاً، أي زنيا. فقال رسول الله لليهود: ما تجدون في كتابكم ? قالوا: إن أحبارنا أحدثوا تحميم الوجه والتجبية. أي الإركاب معكوساً، وقيل أن يحمل الزانيان على حمار مخالفاَ بين وجهيهما. قال عبد الله بن سلام: ادعهم يا رسول الله يالتوراة، فأتى بها، وقرأ موضع الرجم، فرجما.

وعرفت "القيِادة" عند الجاهليين. قالت "عائشة رضي الله عنها: ليست الواصلة بالتي تعنون، وما بأسٌ إذا كانت المرأة زعراء أن تصل شعرها، ولكن الواصلة أن تكون بغياً في شبيبتها، فإذا أسنت وصلته بالقيادة ". والقوادة هي الني تجلب البغايا للرجال، وأما القواد، فالذي يقوم بالقيادة. و "التدييث" القيادة. و "الديوث" القوّ اد على أهله والذي لا يغار على أهله. وقيل الديوث والديبوب الذي يدخل الرجال على حرمته بحيث يراهم، كأنه لين نفسه على ذلك. وقبل هو الذى تؤتى أهله وهو يعلم.

وضرب المثل بي "ظلمة" في القيادة. وكانت " صبيةّ في الكتاب، فكانت تضرب دويّ الصبيان وأقلامهم، فلما شبت زنت، فلما أسنتَّ قادت، فلما قعست اشترت تيساً تنزيه على العنز". وذكر أنها كانت فاجرة هذلية. فضرب بها المثل فقيل "أقود من ظلمة" و "أفجر من ظلمة".

المخادنة

وهناك نوع آخر من العلاقات يكون بين الرجل والمرأة بغير عقد ولا نكاح يكون الرجل خدناً للمرأة أي صديقاً لها، وتكون هي خدنة له، أي صديقة له، ولذلك عبر عن هؤلاء النسوة المتخادنات ب "ذوات اللأخدان" و "متخذات أخدان". جاء ذكر هذه المخادنة في الاية الكريمة:)فانكحوهن بإذن أهلهن، وأتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان.( أي أصدقاء على السفاح. وشد ذكر أن ذلك قيل كذلك، لأن الزواني كُانتّ في الجاهلية المعلنات بالزنا والمتخذات الأخدان اللواتي قد حبسن أنفسهن على الخليل والصديق للفجور بها سراً دون إعلان بذلك. وقد ذكر أن متخذات الأخدان ذوات الخليل الواحد. قالوا: كان أهل الجاهلية يحرمون ما ظهر من الزنا ويستحلون ما خفي، يقولون: أما ما ظهرمنه فهو لؤم، وأما ما خفي فلا بأس بذلك فأنزل الله تبارك وتعالى: "ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن". فذات الخدن، المرأة ذات الخليل الواحد المستسرة به. وقد يقيم معها وتقيم معه وقد عد صداقة ومودة، لذلك اختلفت وجهة نطر أهل الجاهلية اليه عن وجهة نظرهم إلى الزنا، فلم يعدّوه من الزنا الشائن.

المضامدة

والمضامدة قريبة من المخادنة. والضمْد أن تخالّ المرأة ذات الزوج رجلاً غير زوجها أو رجلين. والضماد أن تصادق المرأة اثنين أو ثلاثة في القحط لتأكل عند هذا وهذا لتشبع. و "الضمد" الخل.

الشذوذ الجنسي

والشذوذ الجنسي معروف عند الجاهليين أيضاً كما هو عند جميع الأمم منذ القدم، وليس من المعقول استثناء الجاهلينن من ذلك، بدليل ورود النهي عنه والتحذير منه في القرآن الكريم وفي الحديث. ومن الشذوذ الجنسي، الشذوذ المعروف، وهو ذهاب الرجل مع الرجل ومزاولته عمل الجنس معه، أو اتصال المرأة بالمرأة اتصالاً جنسياٌ، أو اتيان الرجل المرأة من دبر، كما كان الحال عند أهل مكة. فقد ذكر أن منهم من كان يأتي النساء من أدبارهن، وقد منع ذلك في الإسلام. وقد عرف إتيان المرأة في دبرها ب "التحميض". ويقال للتفخيذ في الجماع "التحميض" أيضاً. وذكروا في تفسير الآية: )نساؤكم حرث لكم(: "انما كان هذا الحي من الأنصار، وهم أهل وثن، مع هذا الحي من يهود، وهم أهل كتاب وكانوا يرون لهم فضلاً عليهم في العلم، فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم، وكان من أمر أهل الكتاب ألا يأتوا النساء إلا على حرف، وذلك أستر ما تكون المرأة، فكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم، وكان هذا الحي من قريش يشرحون النساء شرحاً منكراً، ويتلذذون منهن مقبلات ومدبرات ومستلقيات. فلما قدم المهاجرون المدينة، تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار، فذهب يصنع بها ذلك، فأنكرته عليه، وقالت: انما كا نؤتى على حرف ! فاصنع ذلك، وإلا فاجتنبني، حتى شرى -أمرهما فبلغ ذلك النبي، صلى الله عليه وسلم، فأنزل اللّه عز وجل: فأتوا حرثكم أنىّ شئتم، أي مقبلات ومدبرات ومستلقيات، يعني بذلك موضع الولد وذكر أن أهل مكة كانوا يجبون النساء، وكانت الأنصار لا تجبي وتنكر فعل ذلك، وإنما يؤتين على جنوبهن. فوقع خلاف بن أهل مكة ممن تزوج من أهل المدينة وبين من تزوجوا في كيفية إتيانهن، فنزلت الاية في شرح ذلك، وانه يكون على أي شكل كان، ما دام في موضع الحرث. والإجباء: أن تكون المرأة منكبة على وجهها. كهيئة السجود، فيأتيها الرجل على هذه الهيئة. وذكر ان يهود يثرب، كانت تقول: إذا نكح الرجل امرأته مجببة جاء الولد أحول،.

وتستعمل لفظة "اللواطة" للتعبير عن إتيان الذكران في أدبارهم وأرى أن هذا المعنى إنما وقع في الإسلام.. أخذ مما جاء في القرآن الكريم عن عمل قوم لوط: )إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين.أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر(، )ولوطاً إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون. أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء، بل أنتم قوم تجهلون(. و )لوطاً إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين، انكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء، بل أنتم قوم مسرفون(، فنسب فعل إتيان الرجال بعضهم بعضأً إلى قوم "لوط"، واشتق الفعل من اسمه. ونرى ان الآيات قد استعملت: "لتأتون الرجال"، للتعبر عن هذا الفعل. واستعمل المفسرون هذا التعبير وتعبير "المجامعة" للتعبير عنه. وقد استعمل الجاهليون "لاط" في معان أخرى لا صلة لها بالمعنى المذكور. وفي ذلك دلالة واضحة على أن استعمال "اللواط" إنما وقع في الإسلام. والمأبون الذي تفعل به الفاحشة، وهي الأبنة. ومن المجاز برقع لحيته، أي صار مأبوناً، تزيا بزي من لبس البرقع، ومنه قول الشاعر: ألم تر قيساً قيس عيلان برقعت  لحاها وباعت نبلها بالمغـارْل

وذكر "ابن قيم الجوزية" أن هذا الفعل لم يكن معروفاً بين العرب ولم يرفع إلى الرسول في أيامه حادث به.

وتعبير "السحاق" و "المساحقة" و "امرأة سحاقة" من التعابير التي انتشرت في الإسلام وقال الأزهري: ومساحقة النساء لفظة مولدة. ومن علماء اللغة من يرجع عهدها إلى الجاهلية، ويجعلها من الألفاظ العربية الأصيلة. واللفظة عربية ولا شك، ولكن استعمالها في المعنى المذكور مجازي، وقول الأزهري إنها مولدة غير صحيح.

وكان منهم من يضرب جاريته على ظهرها ثم يجامعها. كأنهم كانوا لايشعرون بشهوة الجنس على ما يظهر إلاّ بعد ضرب الجارية، ويعبرون عن ذلك بقولهم "صلق جاريته"، ويعرف هذا بين الغربيين في العصر الحاضر بالسادية Sadism نسبة إلى "الكونت دي ساد". كناية عن الابتهاج بالقسوة. وعن انحراف جنسي يتلذذ فيه المرء بإنزال أصناف، العذاب بمحبوبه.

ومن الشذوذ أيضاً إِتيان الحيوان. فقد ذكر أن "بني كليب" كانوا يرمون بإتيان الضأن، وكذلك بنو الأعرج وسلَيم. وأشجعُ ترمى بإتيان المعز. ونجد ذلك واضحأَ مذكوراً في شعر الشعراء كالنجاشي والفرزدق. ورميت "بنو دارم" بإتيان الأتنْ. وتعرض "الجاحظ" في أثناء حديثه عن زواج الانسى بالجن لهذا الموضوع فقال: ونحن نجد الأعرابي والشاب الشبق، ينيكان الناقة والبقرة والعنز والنعجة، وأجناساً كثيرة، فيفرغون نطفهم في أفواه أرحامها، ولم نرَ ولا سمعنا على طول الدهر، وكثرة هذا العمل الذي يكون من السفهاء، القح منها شيء من هذه الأجناس،والأجناس على حالهم من لحم ودم، ومن النطف خلقوا. ورميت "بنو فزارة" بإتيان الإبل. رماها بذلك "بنو هلال بن عامر بن صعصمعة بن معاوية بنت بكر بن هوازن" في ملاحاة كانت بين الحيين. والعادة أن القبائل إذا تخاصمت رمت بعضها بعضاً بالتهم، وذالك في الجاهلية وفي الإسلام.

فلما رمى "بنو هلال" "بني فزارة" بأكل أير الحمار، وبإتيان الإبل، قالت بنو فزارة: أليس منكم يا بني هلال من قرا في حوضه فسقى إبله، فلما رويت سلح فيه ومدره بخلاً أن يشرب من فضله.

الأتراح والأحزان

وإذ كنت قد تحدثت عن ألأفراح في جياة الإنسان، وما كان يفعله أهل الجاهلية فيها، فلا بد لي من الحديث هنا عن الأتراح والأحزان عندهم، وما كانوا يفعلونه عند نزول مصيبة بهم أو وقوع حادث محزن مفجع لهم، فأقول: يلعب الحزن دوراً كبيراً في حياة الشرقيين، بل نستطيع أن نقول إن الحزن أظهر في حياتهم من الفرح وأن المبالغة في إظهاره عندهم هي من المظاهر البارزة في مجتمعاتهم. وطالما يلجأ الحزين إلى المبالغة في حزنه، ليظهر نفسه وكأنه كان أكثر الناس تحملاً للمصائب والأهوأل والنكبات: وما قصة "أيوب" الواردة في التوراة إلا نوعاً من هذا القصص: قصص الحزن وتحمل الصبر من شدة البلاء.

وفقدان المال بعد ثراء وغنى وجاه والعلل والأسقام التي تنزل بالانسان، والكوارث والموت وأمثال ذلك، هي مما يثير الحزن والأشجان في النفس، فتجعل الإنسان يحزن على ما أصابه ويظهر جزعه أو تحمله للالام أمام الناس، وذلك بمختلف أساليب التعبير عن الحزن الذي نزل بالحزين.

والحزن: الهمّ. وقيل: خلاف السرور. وقد فرّ ق بعضهم بين الهمّ الحزن. وقال بعض علماء اللغة: الحزن: الغمّ الحاصل لوقوع مكروه أو فوات محبوب في الماضي ويضاده الفرح. وقد سمى رسول اللّه العام الذي ماتت فيه "خديجة" وعمه "أبو طالب" "عام الحزن"، وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين، لمآ أصابه فيه من همّ وغمّ.

وللعرب كَما لغيرهم من الشعوب مصطلحات وتعابير خاصة، يعبرون بها عن آلامهم وأحزانهم وما يجيش في صدورهم من أحزان. منها تعابير يستخدمها المحزون نفسه تعبيراً عن حزنه وآلامه الشديدة، ومنها تعابير بستعمل ألمحزون في الرد على من يتفضل عليه بمواساته للتخفيف عن آلامه،بأن يدعو لهم ويشكرهم على تكليف أنفسمهم مشقة المجيء اليه لمؤاساته أو مشاركتهم له في حزنه. ومنها تعابير يقولها المؤاسون للشخص المحزون للتخفيف عن مصابه وللترويح عنه ولاظهار حزنهم له ومشاركتهم له في أحزانه.

كما أن لهم كما لغيرهم علامات وشعارات يظهرونها للناس لإشعارهم بأنهم مصابون بالام وأحزان، وبحلول نكبات وكوارث بهم. وذلك مثل لبس ألبسة خاصة تكون شعاراً خاصاً بالحزن، وذرّ الرماد أو التراب على الرأس و الوجه بالطين، وترك الشعر ينمو دون حلق ولا إِجراء تعديل فيه أوترك دهنه مدة معينة إظهاراً للحزن على ميت، وما إلى ذلك من علامات، هي ضرورية ولازمة جداً، بالنسبة لمحزون أو للمحزونين والمفجوعين ولأصدقائهم، إذ أن اهمالها وتركها هو في نظرهم عيب ومنقصة على المفجوع وعلى أصدقائه وعلى آله على حد سواء. ثم هي تقاليد لا بد من مراعاتها والمحافظه عليها.

ومن ذلك أيضاً: النداء. وذلك بإعلان شخص عن المصيبة بصوت عال يسمع حتى يشاركه الناس مصيبته أو ليحصل منهم على ما يرجوه من مساعدة.

مثل واسوء صباحاه: في المصيبة التي تقع في آخر الليل وأول النهار. أو أن يعلن عن وفاة كبير وذلك بأن ينادي بصوت عال في الأحياء وفي الاماكن العامة عن موت ذلك الكبير بعبارات مؤثرة وبصوت رخيم. ليكون ذلك معلوماً لأهل المكان، فيتجمعون حول المفجوع ويشاطرونه حزنه ويشتركون في تشييع ألجنازة.

ويعبر عن الكوارث والآفات والمصائب بلفظة "لمت"، في بعض اللهجات العربية الجنوبية، كما في هذه الجملة: "كل لمت لمت "، ومعناها من كل ملمة ألمت، أو من كال نازلة نزلت. وفي هذا المعنى أيضاً جملة: "بعد حدثت حدثت"2 أيما بعد حادثة حدثت، أو بعد الحادثة إلتي حدثت، أو بعد الفاجعة التي حدثت.

ويقال لما يصيب الناس من عظيم نوب الدهر: "دواهي الدهر". وإذا نزلت بشخص مصيبة قالوا: "دهته داهية"، وقد يقولون "داهلية دهياء" على سبيل التوكيد والمبالغة. ويقول الشخص: دهيت. وزتمول ما دهاك ? أي ما أصابك.وكل ما أصابك من منكر من وجه المأمن فقد دهاك دهياً.. والدهياء: الداهية من شدائد الأمر.

أخو محافظه، إذا نزلت به  دهياء داهية مـن الأزم

والاصطلاح الشائع عن هلاك الإنسان وفقده الحياة هو "الموت". وقد وردت هذه اللفظة في لهجات عربية أخرى، مثل اللهجه الصفوية واللحيانيةْ وهنأك ألفاظ أخرى تؤدي معنى الموت والهلاك. مثل الهلاك والمنايا والاحداث والحمام والأجل و الحتف والقدر والمنون وألزمان والسأم والنحب وغير ذلك. وهي مصطلحات جاهلية، بعضها من المصطلحات القديمة، لها معان أوسع من مصطلحات الموت. ولكن ربط بينها وبين هذا المصطلح لما لها من صلة بهلاك الإنسان وبمصيره،فجعلت تؤدي معنى الموت.

وهلك بمعنى مات. معروف عند أهل اللغة. وقد وردت اللفظة بهذا المعنى في نص النمارة الذي يعود تأريخه الى سنة 328 م. وأما المنية، فالموت كذلك في نظر علماء اللغة، لأن المنى القدر والموت قدر علينا. وأما الحتف، فهو الموت أيضاً، وجمعه حتوف. وهو معنى مجازي جاهلي متأخر. ورد في المثل: "مات حتف أنفه" 0 اي على فراشه من غير ضرب ولا قتل ولا غرق ولا حرق، وخص الأنف لأنهم كانوا يتخيلون أن روح الرجل تخرج من أنفه، فإن جرح خرجت من جراحته. وهناك مثل آخر يشبهه وهو "مات حتم فيه" لأن الفم مجرى النفس كذلك.

وترادف لفظة "الميت" و "ميت" لنظة "جنز" في ألعربيات الجنوبية. وذكر علماء العربية ان الجنازة الميت، فهي في معنى لفظة "جنز" ا اَوارسة في المسند.

وقريب من معنى "مات حتف نفسه"، ماورد في بعض النصوص الصفوية من تعبير "رغم مني"، فإنه يريد ان الشخص لم يمت قتلاً، وانما مات رغماً منه، مات بمنيته وبأجله.

و يعبر مصطلح "مات بحد السيف" أو "مات صبراً"، عن معنى ان الوفاة لم تكن طبيعية، وانما كانت قتلاً، إما بضرب عنقه، وإمها بوسائل أخرى من وسائل، التعذيب، صبر عيها ذلك الشخص حتى مات.

وورد: " الموت الأبيض" و "الموت إلأحمر" 0 الأبيض الفجأة، أي ما يأتي فجأة، ولم يكن قبله مرض يغير لونه. والأحمر الموت بالقتل لأجل الدم.

والانتحار، أي قتل الإنسان نفسه، معروف عند الشعوب القديمة، ويكون إما بإزهاق الإنسان روحه باستعمال آلة حادة، مثل، سكين أو خنجر وما شابه ذلك، وإما برمي الشخص نفسه من محل مرتفع، أو بإغراق نفسه، أو بإحراق نفسه بنار، وما إلى ذلك. ويعد من الأعمال الشريرة في الأديان. ويعبّر في العربية ب "قتل نفسه" عن "الانتحار".

ومن الألفاظ التي تعني الموت: القشم. يقال: قشم الرجل قشعاٌ، أي مات. وأم قشعم، فإنها تعني المنية، كما تعتي الحرب والداهية. والحمام،لأنه قضاء الموت وقدره. و "أم اللهيم": يراد بها "الحمى"، ويكنى بها عن الموت، لانها تلتهم كل أحد. وقيل: هي "المنية"، وكنية الموت، لأنها تلتهم كل أحد.

ويعبّر عن الحالات التي يكون فيما المرض قد اشتد بالمريض حتى صار يشرف على الموت بتعابير خاصة مثل: "سكرات الموت" و "الحشرجة" ويراد بها تردد النفسْ.

ويعبّر عن القتل المعجل بالتصص، فيقال مات فلان قصصاً، إذ أصابته ضربة أو رمية فمات مكانه. ويقال ضربه فأقصصه، أي قتله في مكانه.

وللدهر والحدثان والزمان والقدرصلات قوية بالموت، إذ تنسب اليها إماتة الإنسان. والدهر على الأخص مسؤول في نظر أهل الجاهلية عن قوارع الزمان وحوادثه التى تنزل بالانسان. انه هو المبيد، وهو المهلك، وهو المفقر، فهو اذن بالنسبة إلى الجاهليين رأس كل بلاء. ولكنهم بدلاً من التقرب اليه والتودد له ليبتعد عنهم، وليرأف بحالهم كانوا لا يستطيعون ضبط أعصابهم عند نزول الشدائد بهم، فيسبونه، لذلك ورد ان الرسول نهى عن سب الدهر فقال: "لا تسبوا الدهرَ، فإن الله هو الدهر". وجعل الدهر في الإسلام من أسماء الله الحسنى، وذكر انه ورد في الحديث القدسي: " تؤذيني ابن آدم، يسب الدهر، وانما أنا الدهر ".

والموت في نظر الجاهليين مفارفة الروح للجسد لسبب من الأسباب التي تؤول إلى هلاكه. تخرج الروح من الأنف أو من الفم وذلك في الموت الطبيي وفي موت الفجأة. أما إذا كَان الموت بسبب جرح، فإن الروح تخرج على ما ذكره الأخباريون من الجرح. والروح قد تتحول وتصير طائراً يرفرف فوق قبر الميت يسمى "الهامه" في حالة كون الميت قتيلاً.

واعتقد بعض الجاهليين ان الموت أجل مثبت وأمر معين محتم، وهو لا يأتي إلا في حينه. فإذ! جاء الأجل كان حذر الإنسان وجبنه غير دافع عنه المنية إذا حلت به. وذكر ان أول من قال ذلك "عمرو بن مامة" في شعره. وفي حديث عامر بن فهيرة: والمرء يأتي حتفه من فوقه

ولحنش بن مالك بيت في الحتوف، إذ يقول: فنفسك احرز فإن الحـتـو  ف ينبان يالمرء في كل واد

وكامة "الروح" من الكمات المعروفة عند الجاهليين. وقد صورتها بعض الأخبار الإسلامية حفظة على الملئثكة " وجعلت لها وجهاً كوجه الإنسان وجسداً كجسد الملائكة،ولا يمكن رؤيتها كما لا يمكن رؤية الملائكة. بها يعيش الإنسان وبها حياة الانفس. وقد سأل الجاهليون الرسول على ماهية الروح،فنزلت الآية: " يسألونك عن الروح قل: الروج من أمر ربي، وما أوتيتم من العلم الاّ قليلاً". ويذكر المفسرون أن سائليه هم اليهودْ أو ان اليهود علموا المشركين أن يسألوه عن الروح محاولين بذلك إثارة مشكلة للرسول كانت مهمة في أعين الناس يومئذ، مما يدل على أهمية هذه القضية في ذلك العهد.

ويظهر من تمحيص الأخبار الواردة عن الموت والقبر وأشباه ذلك أن عقيدة الجاهليين ان الروح متصلة بالجسد ملازمة له في أثناء الحياة، فإذا وقع الموت انفصلت عن الجسد وفارقته. ثم اختلفو فيما بينهم في مصير الروح، فمنهم من تصورها وهي ملازمة "قبر صاحبها لا تفارقه، وكأنها لا تريد أن تفارق الجسد الذي كانت مستقرة فيه". فصارت المقابر موضع تجمع الأرواح، ومنهم من ذهب الى هلاكها بهلاك الجسد أو تحولها أرواحاً تسبح في عالم الأرواح. ونجد في حديث "مجاهد" أن "الأرواح على أفنية القبور سبعة أيام من يوم دفن الميت لا تفارق ذلك". تفسيراً لرأي بعض الجاهلين في مدة بقاء الروح حول القبر. وهناك أحاديث أخرى يظهر منها ان الروح تلازم القبور فلا تفارقهم.

وهندك كلمة أخرى لها صلة وعلاقة متينة بهذه الكلمة. هي لفظة "النفس". وهي من الكلمات الجاهلية القديمة التي وردت في النصوص، معناها الروح والشخص والذات والجسد. وقد ذكر لها علماء اللغة جملة معان استعملت في الأكثر على سبيل المجاز. ولم يفرق بعض هؤلاء بين الروح وًالنفس. ويظهر من بعض التعابير والجمل التي كان يستعملها الجاهليون مثل "خرجت نفس فلان"و"فاظت نفسه" "فاضت نفسه" أن المراد بالنفس الروح. وقد تصور بعضهم أن النفس الدم، وإنما سمي الدم نفسا لأن النفس تخرج بخروجه. وفي الحديث: " ما ليس له نفس سائلة فإنه لا ينجس الماء إذا مات فيه " لا ولبعضهم آراء في التفريق بين الاثنين نشأت في العهد الإسلامي. ولا سيما من ورود استعمال الكلمتين في معان متعددة في القرآن الكريم وفي الحديث.

ويُعدّ "المرض" من جملة الآثام التي تنزلها الآلهةبالإنسان، لخروجه على أوامرها ولعدم أداء ما عليه من واجبات وفروض تجاهها، ومنها الحقوق التي فرضتها عليه، وفي رأسها النذور والصدقات والزكاة التي امرت الآلهة بتقديمها إلى معابدها. ولهذا نجد المريض يتوسل بآلهته لكي تصفح عنه وتعفو عن تقصيره تجاهها، وأن تعيد اليه ما اخذته منه من صحة وعافية في مقابل تقدم نذر لها ووفائه يقيامه بكل ما أمرت به من واجبات تجاهها. وفي المتاحف الخاصة والعامة مئات من الكتابات الجاهلية في هذا المعنى، ومئات أخرىَ،كتبت شكرا وحمداً للالهة، إذ سمعت توسلات عبيدها بأن تمن عليهم بالصحة والعافية، فمنت عليهم ولهذا فإنهم كتبوا كتاباتهم تلك للتعبير عن شكرهم لها، ولمناسبة تقديمهم النذر الذي نذروه لمعابد الالهة.

نعي الميت

وتكون الاعلان عن موت شخص بالبكاء وبالنعي، ويتوقف نعي الميت والبكاء عليه على قدر منزلة الميت ودرجة أهله ومكانتهم الاجتماعية. ويعد نعي الميت و شق الجيوب عليه من وسائل التقدير والإكرام وتبجيل الميت، ولذلك كانوا يوصون قبل موتهم بنعيهم للناس نعياً يليق بهم، ويقوم بذلك ناع أو جملة نعاة. يركب الناعي فرساً ويسير ينعى الميت بذكر اسمه وتمجيد ليسمع بذلك القوم، قائلا: "نعاء فلان..." وترد كلمة "الناعي" و "النعاة" كثيرا في الشعر وفي النثر. وقد كان الجاهليون يستغلون نعى القتلى للتحريض عاى القتال والأخذ بالثأر، ويقال لذلك: "التناعي".

وقد نهى الإسلام عن "نعي الجاهلية"، وذلك لما كانوا يبالغون من النداء بموت الشخص وذكر مآثره ومفاخره ورثاءه رثاء يتجاوز الحد.

والولولة والنياحهَ على الميت من النقاليد التي تشدد فيها أهل الجاهلية وكانت عندهم سمة من سمات التقديس. ولهذا كان أهل الجاه والشراف يستأجرون النائحات للنياحة على الميت فيَ بيته وخلف نعشه إلى القبر وفي مأتمهه، ويبالغون في ذلك تبعاً لمننرلة المتوفى. وتلك عادة متبعة عند غيرهم أيضاً، فقد كان العبرانيون يستاجرون النادبات ليندبن الموتى. كما كان الرومان يتبعون هذه السنة.

وكلمة "الرثاء" من الكلمات الجاهلية وهي تعني بكاء الميت وتعديد محاسنه ونظم الشعر فيه، ويقال للمراة النواحة، والتي ترثي بعلها أو غيره من الأقارب والأعزاء ممن يكرم عندها "الرثاءة" و "الرثاية". وأما "المناحة" فهي إجتماع النساء في مناحة لاظهار حزنه على الميت. ويقال للاجتماع نياحة أيضاً. والكلمة من الكلمات الجاهلية كذلك. ويفهم كَثير من الناس من كلمة "مأتم" المصيبة واظهار الحزن والنوح والبكاء،وليس هو كذلك، وإنما "المأتم" في عرف أهل اللغة المجتمع يجتمع فيه النساء في حزن أو فرح في خير أو شرّ، ويطلق على اجتماعات الرجال والنساء.

وفي الشعر الجاهلي أبيات يحث فيها الشعراء أهلهم ويوصونهم بالبكاء وبالنوح عليهم إذا -ماتوا. قصد ذكروا أن طرفة بن ا لعبد خاطب ابنة أخيه بهذا البيت: ???فإن متُ فانعيني بما أنا أهله=وشقي عليّ الجيب يا ابنة معبدْ وذكروا أن الشاعر حازم بن أبي طرفة الحارث بن قيس الشدّاخ الكناني، وهو شاعر جاهلي أوصى ابنته لما شعر بدنو أجله بأن تبكي والدها وأن تندبه وتذكر محامده وفعاله، وذلك في هذين البيتين: بنية إنّ المـوت لا بـد لاحـق  بشيخك ماضي الانام المـودّع

فإن قمت تبكيني فقولي أبوالندى  ومأوى رجال بائسين وجـوّعّ

أما الشاعر لبيد فقد أوصى ابنته بهذه الوصية لما حضرته الوفاة: تمنى ابنتايَ أن يعيش أبوهـمـا  وهل أنا إلا من ربيعة أومضر?

فقوما وقولا بالذي تعلـمـانـه  ولا تخمشا وجهاً ولا تحلقا شعر

وقولا: هو المرء الذي لا صديقه  أضاعَ ولا خانَ الأمن ولاغـدر

وهي وصية فيها تعقل واقتصاد بالنسبة إلى طلبات غيره ممن كان يرى البكاء والنياحة وخمش الوجوه وحلق الشعور وإظهار أكثر ما يمكن من مظاهر الحزن والتوجع والتألم وأمثال ذلك، هي سيماء من سيماء التقدير والتعظيم والاحترام للميت بل للاحياء من اَله وأقربائه أيضأ، لأنها دلالة على شدة تألمهم لذهاب فقيدهم، وعلى انهم لا يبالون في الإنفاق في شيء حتى في إيلام أنفسهم وتوجيع أجسامهم وهلاكهم في سبيله، وانهم كرماء لا يبالون في البذل في سبيل من يفتقدونه. وما كان لبيد، ليقنع بهذا المأتم لو كان على رأي أهل ألجاهلية. فمأتمه هذا مأتم بارد لا يليق بمقام رجل جاهلي، ولكنه كان مسلماً، دفعه إسلامه على القناعة في مأتمه وعلى الاكتفاء بهذا القليل. فقد ورد في الحديث " إن الميت ليعذب ببكاء أهله " وأن الرسول قال: " ليس منّا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية "، وانه " بريء من الصالقة والحالقة والشاقة "، وانه قال: "اثنتان في الناس هما بهما كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت" إلى غير ذلك من أحاديث تنهى عن هذه المظاهر، التي هي في نظر الإسلام من سيماء أهل الجاهلية.

ويصحب البكاء شق الجيب وتعفر الرأس بالتراب واجتماع النسوة اياماَ لندب الميت وذكر مناقبه. تقوم بذلك نادبات ممتهنات أو غيرهن ممن رزقن موهبة القول في مثل هذه الأحوال من أفراد الأسرة أو القبيلة أو الحي أو القرية. وفي بيت ل "طرفة بن العبد" نجده يوصي بنعيه بما يستحقه وبشق الجيب عليه. وقد يمتد نعي الميت ورثاؤه حولاً كاملاً، وهي مدة عزاء أهل الجاهلية. فإذا انتهى الحول وقد بكوه البكاء الذي استحقه الميت عذر أقرباؤه عن الإستمرار في بكائه إلاّ في المناسبات. قال لبيد لابنتيه، لما حضرته الوفاة: إلى الحول ثم اسم السلام عليكما  ومن يبكِ حولا كَاملاً فقد اعتذر

وتعرف التي ترفع صوتها بالنياحة ب "الصالقة". وأما التي تحلق شعرها عند نزول المصيبة فيقال لها "الحالقة". وأما التي تشق جيبها، فيقال لها "الشاقة". ويقال لتعديد النادبة بأعلى صوتها محاسن الميت النادبة ولعملها الندب. والظاهر أن الندب كان خاصاً بالنساء، وإن وردت كلمة "نادب" عند اللغوبين. وقد نهى الإسلام عن "الصلق"، ورد في الحديث: "ليس منا من صلق أو حلق أوخرق ". أي ليس منا من رفع صوته عند الصيبة وعندالموت. ويدخل فيه النوح أيضاً. و "السالقة"، هي بمعنى "الصالقة"، وهي لهجة ولا شك من لهجات القبائل، وقد وردت قي رواية أخرى للحديث المذكور أيضاً.. ولطم الخدود ونهشها وشق الجيوب وذر التراب أو الرماد أو وضع الطين على الرأس والخدود عادة لا ينفرد بها العرب وحدهم، بل هي موجودة عند غيرهم من الأمم أيضاً. وفي التوراة آيات تشير اليها كلها وتعدّها من دلائل الحزن والأسى الشديد والتوجع على الميت. وهي كلها مذكورة فيها من البكاء والنحيب على الميت إلى ذرّ الرماد والتراب أو وضع الطين على الرأس الى شق الجيوب ولطم الصدر والخدود.

وليست عادة استئجار النادبات بعادة خاصة بالعرب الجاهليين،فقد كان العبرانيون يستأجرون النادبات كذلك ليندبن الميت، وقد أشير إلى ذلك في التوراة،ولعلها من العادات السامية القديمة المعروفة عند بقية إلساميين.

ويقال لمدّ الصوت بالنحيب "النقع" " واْما مدّ اللسان بالولولة ونحوها، فيقال له "اللقلقة".

ويحترم الجاهليون الموت والميت فكانوا يقومون إذا مرت بهم جنازة، ويقولون إذا رأوها: "كنت في أهلك مائتاً مرتين". أما أهل الميت وأقرباؤه وأصدقاؤه فكانوا يسيرون أمام الجنازة وخلفها الى المقبرة.

وتعفر النساء رؤوسهن بالتراب وبالرماد وبالطين ويلطمن خدودهن بأيديهن، كما كنّ يلطخن رؤوسهن بالطين ويسرن مع الجنازة إظهارللحزن والجزع على الفقيد. وترافقهن النادبات والمولولات، يندبن الميت ويولولن عليه يسرن حافيات مبالغة في إظهار الحزن.

وكانت العرب لا تندب قتلاها ولا تبكي عليها حتى يثأر بها، فإذا قتل قاتل القتيل، بكت عليه وناحت.

ويتبين من حديث "عمرو بن العاص" ان من عادات الجاهليين حمل النار مع إلجنازة تصطحبها اصطحاب النائحة لها، وقد أباح "عمرو" لأهله نحر جزور عند قبره لتوزيع لحمها على المحتاجين، وأن يقيموا حول قبره حتى يستأنس بهم، وينظر ماذا يراجع به رسل ربه. ونجد مثل ذلك في خبر يذكر ان "أبا موسى الأشعري" لما حضره الموت دعا ابنه، فقال: " أنظروا إذا أنا مت فلا تؤذنن بي أحداً ولا يتبعني صوتٌ ولا نار "ْ. ويدل ذلك على ان عادة حمل النار مع الجنازة بقيت زمناً في الإسلام.

ويؤخذ من شعر للأفوه الأودي ان الجاهليين كانوا يغسلون موتاهم قبل دفنهم. وذكر "اليعقوبي"، انه لما مات عبد المطلب "أعظمت قريش موته وغسل بالماء والسدر. وكانت قريش أول من غسل الموتى بالسدر، ولف في حلتين من حلل اليمن قيمتها ألف مثقال ذهب وطرح عليه المسك حتى ستره، وحمل على الأعواد". وسبب ذلك على ما يقوله علماء اللغة أن البوادي لا جنائز لهم، فهم يضمون عوداً إلى عود ويحملون الميت عليها الى القبر وذكر انه أراد بقوله: ولقد علمت سوى الذي نبأتني  أن السبيل سبيل ذي الأعواد

لو أغفل الموت احداً لأغفل ذا الأعواد، وأنا ميت مثله. وذو الأعواد الذي قرعت له العصا، "غويّ بن سلامة الأسيدي"، أو هو "ربيعة بن مخاشن الأسيديَ"، أو هو "سلامة بن غوي" على اختلاف في ذلك. قيل كان له خرج على مضر يؤدونه اليه كل عام فشاخ حتى كان يحمل على سرير يطاف به في مياه العرب فيجبيها. وفي اللسان: قبل هو رجل أسن، فكان يحمل على محفّة من عود، أو هو جدّ لأكثم بن صيفي المختلف في صحيته. وهومن بني أسيد بن عمرو بن تميم. وكان أعز أهل زمانه، فاتخذت له قبة على سرير، ولم يكن يأتي سريره خائف إلاّ أمن، ولا ذليل إلا عزّ ولا جائع إلا شبع وهو قول أبي عبيدة. وبه فسر قول الأسود بن يعفر النهشلي.

ويحمل الموتى على "الحرج" أيضا. والحرج خشب يشدّ بعضه إلى بعض ثم يحمل فيه الموتى.

وللعلماء آراء في الجنازة. ذكر بعض منهم ان الجنازة من الجنز بمعنى الستر، وذكر بعض آخر ان اللفظة من ألفاظ النبط، وتعني جنز في لغتهم الإخفاء، ويقصدون بالنبطية لغة بني إرم. معنى جملة "جنز الميت" عندهم، وضع الميت على السرير وصلاة الكاهن عليه. وذكر بعض العلماء ان الجنازة بالكسر، الميت وبالفتح السرير، وذكر بعض آخر العكس. وذهب فريق آخر إلى ان الجنازة الميت نفسه، لذلك لا تكون جنازة حتى يكون ميت، وإلا، فهو سرير أو نعش. فالجنازة على هذا الرأي، الميت محمولا على سرير أو نعش، أو تابوت في الاصطلاح الحديث. وبهذا المعنى يعبّر عن الجنازة في الوقت الحاضر.

وصلاة الجنائز، هي الصلاة التي تقام على جنازة الميت، أي الميت وهو في تابوته، ليرسل إلى القبر، وهي صلاة أقرها الإسلام، وقد أفرد لها باب في كتب الحديث والفقه يعرف ب "كتاب الجنائز".

والعادة عند أكثر الساميين السير بسرعة في الجنازة. فيسرع المشيعّون الذين يسيرون مع الجنازة إلى موضع القبر في مشيهم للوصول بالجنازة بسرعة اليه. وقد أشير إلى هذه العادة في كتب الحديث. والظاهر ان لطبيعة الجو دخل في ظهور هذه العادة.

ويقال لتهيئة الميت ودفنه في القبر "تجهيز الميت". ويقوم الأبناء والأقرباء بوضعه في لحده. وإذا كان الميت عزيزاً كريماً في قومه سيداً رئيساً اشترك الرؤساء في إدخاله القبر، وقد يتنافسون في نيل هذا الشرف، وقد يؤدي هذا التنافس إلى وقوع الشر بين المتنافسين، لأن تجهيز الميت ووضعه في لحده من علامات تقدير الميت وتعظيمه، ومن دلائل قرب من دخل القبر من الميت واتصالهم الوثيق به.

ويقال للميت عند وضعه في قبره: "لا تبعد"، أي انه وان ذهب عنهم سيكون دائماً معهم وفي قلوبهم. ولعل هذا التفكير هو الذي حملهم على إخراج حصته مما كانوا يأكلونه ويشربونه يسموّنها بأسم الميت، وعلى زيارة قبور الموتى والجلوس عندهم وضرب الخيام حولها، وعلى مناجاة صاحب القبر بذكر اسمه وتحيته، لأن روح الميت في رأيهم حية لا تموت. ولهذا السبب أيضاً كانوا يسقونها بصب شيء من الماء على القبر، كما كانوا ينضحونه بالدم. وبهذا المعنى يفسر ما ورد في الشعر وفي النثر من سقي الغمام للقبر، ونزوله عليه، وما ورد من شرب الخمر على القبر وسكب بعضه عليه. وقد كان العبرانيون يخرجون حصة مما يأكلونه لتكون من نصيب الموتى. ويذكر أهل الأخبار ان الناس كانوا يسكبون الخمر على قبر "الأعشى" ب "منفوحة" اليمامة، وذلك لولعه بها وتقديراً لذكراه.

ويدفن بعض العرب الميت بملابسه، ويغلى رأسه. ويكفن بعضهم موتاهم ويدفنونهم مكفنين. ويذكر علماء اللغة ان من أسماء الكفن الجنن، واستشهدوا على ذلك ببيت للأعشى. وفي الحديث: "ان ثمود لما استيقنوا بالعذاب تكفنوا بالأنطاع وتحنطوا بالصبر، لئلا يجيفوا وينتنوا. يضعون الحنوط في أكفان الميت".كما وردت كلمة "أكفَاني" في بيت لامرىء القيس، مما يدل على معرفة الجاهليين للكفن. وقد كان قدماء العبرانيين يدفنون موتاهم بملابسهم التي كانوا يستعملونها، أي كما كان يفعل قدماء الجاهليين، ثم كفن المتأخرون منهم موتاهم بكفن مكوّن من قماش أبيض مصنوع على الأكثر من الكتان على هيأة البرد اليماني يلف على جسم الميت، وربطوا الرأس بمناديل، كما ربطوا يدي الميت وقدميه برباط خاص، على النسق الذي أقر في الإسلام.

ويظهر من الأخبار الواردة عن تكفين رسول اللّه، أن أهل مكة أو الحجاز عامة كانوا يفضلون الأكفان السحولية، وهي أثواب بيض سحولية من كرسف، اي من قطن. وقد نسجت في "سحول"، وهي قرية باليمن منها هذه الثياب. وقد كره الإسلام تكفين الموتى بالمصيغّات وغيرها من ثياب الزينة، كما كره التكفين بالحرير، بل حرم بعض العلماء التكفين فيه. وقد كان أغنياء الجاهلية يكفنون موتاهم بالألبسة الغالية، مبالغة منهم في تقديرهم لمنزلة ميتهم عندهم.

وقد ذكر "اليعقوبي"، أن "عبد المطلب" لفّ في حلتين يمانيتين ثمينتين وكانت البرود اليمانية مفضلة على غيرها في التكفين. وذكر أنه كان من المستحسن عندهم الإحسان في الكفن. ورويت أحاديثَ في تحسين الكفن. منها:" إذا كفنّ أحدكم أخاه، فليحسن كفنه".

وذكر أن "التحسيب"، بمعنى التكفين وان لفظة "محسب" بمعنى مكفن. وذكر ايضاً التحسيب دفن الميت بالحجارة.

عند وضع الميت في قبره يقوم من يذكر محاسنه وأعماله، ثم يظهر حزنه وحزن الناس لفراقه، ويقال لذلك "الصلاة". وقد أطلق الإسلام على هذه وعلى الندب والأعمال الأخرى "دعوى الجاهلية"، ونهى عنها.

ويوارى الميت في حفرته ثم يهال التراب عليه. وإذا كان الميت من أصحاب الاسم والجاه فقد يجصص قبره ويبنى عليه، ويكتب على قبره اسم صاحبه وما يناسب المقام. وكثيراً ما نسمع بنحر الإبل أو عقرها على الفور لتبتل بدماء الإبل. ولا سيما إذا كان الهالك من سادات القبائل والأجواد. وإذا حلقت النساء شعورهن حزناً على الميت، وضعن شعورهن على القبر.

وقد اختلف العلماء في سبب عقرهم للابل على القبور، فقال قوم إنما كانوا يفعلون ذلك مكافأة للميت على ما كان يعقره من الإبل في حياته وينحره للأضياف. وقال قوم إنما كانوا يفعلون ذلك اعظاماً للميت كما كانوا يذبحون للاصنام. وزعم بعض آخر أنهم انما كانوا يفعلون ذلك، لأن الإبل كانت تأكل عظام الموتى إذا بليت فكأنهم يثأرون لهم فيها. وقيل ان الإبل أنفس اموالهم، فكانوا يريدون بذلك أنها قد هانت عليه لعظم المصيبة، وقد نهى الإسلام ذلك بحديث: " لا عقر في الإسلام ".

وإذا وضع الميت في لحده، أهالوا التراب عليه، وقد ينظم الشعراء شعراً لهذه المناسبة ينشدونه على القبر اظهاراً لحزنهم ولحزن الناس على فراقه.

وطريقة دفن الميت هي العادة الشائعة المعروفة بين الجاهليين، غير أن هناك من كان يوصي بحرق جثته وذرّ رماده في الهواء، أو بدفن الرماد في الأرض، وطريقة حرق الموتى ليست من العادات السامية أي من العادات المنتشرة بين الساميين إذ يرون أنها تنافي حرمة الميت وأحكام الآلهة. وكانوا إذا سَبوا شخصاً أو أرادوا به سوءاً دعوا له بالحرق، أو قالوا له يا ابن المحروق.

وقد وجد من فحص القبور التي عثر عليها خارج أسوار "مأرب" أن من الموتى من دفن على هيأة انسان نائم أي وضع متمدداً في لحده، كما نفعل في موتانا وأن بعضهم لم يدفن على وفق هذه الطريقة، ولكن دفن قائماً. وقد عثر في بعض هذه القبور على كتابات قصيرة، كما عثر فيها على رؤوس منحوته دفنت مع الميت، لعلها ترمز إلى رمز ديني، أو عقيدة من عقائدهم في الموت، أو تمثل الميت نفسه لتكون شاهداً عليه.

ولم نعثر على جثث في جزيرة العرب محنّطة على طريقة المصريين،والذي نعرفه الآن ان الجاهليين كانوا يضعون الحنوط في أكفان الميت وملابسه ليطيب به جسمه وليحفظه مدة طويلة. ويظهر من التفسير الذي يرويه علء اللغة لجملة "عطر منشم" الواردة في شعر "زهير بن أبي سلمى"، ان "خزاعة" وربما غيرها كانت تشترى "الكافور" لموتاها. وقد كانت قريش تضع الكافور مع الميت، وهي عادة استمرت في الإسلام أيضاً.

ويقال: إن منشماً امرأة كانت تبيع الحنوط في الجاهلية، فقيل للقوم إذا تحاربوا: دقوا بينهم عطر منشم، يراد طيب الموتى، مما يدل على ان تطييب الميت عادة جاهلة قديمة، ويقال لطيب الموتى الحنوط. وقد طرح المسك على عبد المطلب لتطييبه، "وكل ما يطيب به الميت من ذريرة أو مسك أو عنبر أو كافور هو قصب هندي أو صندل مدقوق، فهو كله حنوط".

وقيل ان منشماً، هي ابنة "الوجيه" العطارة بمكة من حمير، وقيل من همدان، وقيل من خزاعة وقيل من جرهم. وكانت خزاعة وجرهم إذا أرادوا القتال وتطيبوا بطيبها كثرت القتلى فيما بينهم. وذكر انهم كانوا إذا قصدوا الحرب غمسوا أيديهم في طيبها وتحالفوا عليه بأن يستميتوا في الحرب ولا يولوا أو يقتلوا. وقال "الكلبي": " جرهمية. وكانت جرهم إذا خرجت لقتال خزاعة خرجت معهم فطيبتهم فلا يتطيب بطيبها أحد إلا قاتل حتى يقتل أو يجرح. وقيل امرأة كانت صنعت طيباً تطيب به زوجها، ثم انها صادقت رجلاً وطيبته بطيبها، فلقيه زوجها فشم ريح طيبها عليه فقتله. فأقتتل الحيان من أجله. قال الكلبي: ومن قال منشم بفتح الشين فهي امرأة كانت تنتجع العرب تبيعهم عطرها فأغار عليها قوم من العرب فأخذوا عطرها، فبلغ ذلك قومها فاستأصلوا كل من شمّوا عليه ريح عطرها. وقد ضرب بها المثل في الشر، فقالوا: أشأم من عطر منشم".

وورد أن "المنشم" عطر شاق الدق أوشيء يكون في قرون السنبل، يسميه العطّارون "روقا". وهو سم سوعة. وقيل: ثمرة سوداء منتنة الريح، أو حبّ البلسان.

ويجعل الحنوط في مرافق الميت وفي بطنه وفي مربع رجليه ومآبضه ورُفْغَيهْ وعينيه وأنفه وأذنيه. يجعل يابساً.

ونظراً لوجود لفظة "حنط" في العربية في المعنى الذي نفهمه من التحنيط، أي حفظ الجسد، ولاستعمال الجاهلين "الحنوط" في تجهيز موتاهم، وهي موإد عطرةْ ذات رائحة طيبة ولورود اللفظة في العبرانية وفي السريانية "حونطو"، نرى أن نوعاَ من التحنيط كان معروفا عند الساميين. وان لم يكن بالشكل الذي كان عند المضربين. ولا يستبعد أن يكون اهل الجاهلية قد مارسوا التحنيط ايضاً، وذلك بالنسبة إلى أغنيائهم واصحاب الثراء منهم. ويؤيد هذا الاحتمال ما رواه اهل الأخبار من عثور الجاهليين وبعض الإسلامين على جثث عادية كانت محافظة على هيأتها حتى انها تبدو وكأنها دفنت بالأمس، وما رووه من عثورهم على نفائس وأواني وكتابات، إلى جانب تلك الجثث. مما يبعث على الظن بان تلك الجثث كانت محنطة بطريقة ما.

ولم تستعمل التوابيت المصنوعة من الحجارة في نجد والحجاز. أما في يطرا وتدمر فقد اتخذت التوابيت المصنوعة من الحجر والنواويس.

والتابوت، هو الصندوق الذي يوضع فيه الميت. ويصنع من الخشب والحجر. أو من مواد أخرى. وهو "تبا" فىِ العبرانية. وقد ذكر بعض علماء اللغة، ان "التابوه" لغة في التابوت، والتابوت في الأصل "صندوق من الخشب وقد أشير اليه في القرآن الكريم ".

وقد عرف العرب لفظة أخرى استعملوها في معنى"التابوت" هي لفظه "إران"، ويراد بها صندوق من خشب يوضع الميت فيه. وقد ذكر بعض علماء اللغة ان ان الإران تابوت يضع النصارى فيه أمواتهم ويدفنونه مع الميت. واللفظة عبرانية، وقد وردت جملة "حمل على الإران"، أي حمل في التابوت. وذكر علماء اللغة ان "الإران" الجنازة، وخشب يشدّ بعضه إلى بعض تحمل فيه الموتى، وسرير الموتى، وتابوت الموتى.

والعادة ان تذكر مناقب الميت عند قبره في أثناء الاحتفال بدفنه إذا كان عظيماً سيداً، وأن يعجل بدفنه في مقبرة القبيلة أو القرية أو في بيته. وقد كان من عادتهم دفن الميت في البيوت أو على مقربة منها. أما الأعراب،فقد كانوا يدفنون موتاهم في المنازل التي يكونون فيها، وإذا كانوا في أثناء رحيلهم دفنوهم على قارعة الطرق ولا سيما على المرتفعات المشرفة عليها.

ويعجل العرب بدفن موتاهم. والتعجيل بدفن الميت من الضرورات التي اقتضتها طبيعة الجو. فجو جزيرة العرب لا يساعد على بقاء جسد الميت مدة طويلة، وإلا تعرّض للفساد، ولحق الأذى به ولهذا صار من الاستحباب التعجبل بدفن الميت ليس في العرف حسب، بل من الناحية الدينية كذلك.

ويحلق بعض الجاهليين شعر الرأس كله أو بعضه ويرمونه على القبر. وحلق شعر الرأس أو جزّ الناصية أو حلقها أو حلق الضفيرتين من التقاليد القديمة. وكانوا يقومون بذلك إكراهاً وتعظيماً لشأن الأرباب، وعند الحج إلى بيوت الآلهة، فيرمون يالشعر أمام الأصنام تعظيماً لها وبياناً عن مقدار احترامهم لها حتى ضحّوا بأعز رمز لديهم في سبيلها، ولهذا كان لرمي ضفائر شعر الرأس عند القبر أهمية خاصة في نظر الجاهليين.

وكان في روع الأمم القديمة ان الشعر للفرد قوة وحياة، فحلقه أو جزّ جزء منه، معناه تضحية كبيرة وصلة تربط الميت بالحي.

القبر

ويدفن الموتى عادة في حفر تحفر يقال لها: قبر، وجدث، ومقبر،ووجر، ورمس، وجنن. أما في "بطرا"، وفي بعض المناطق الجبلية والصخرية، فقد نقرت المقابر في الصخور، فصنعت على هيأة حجر وضعت جثث الأموات فيها، كما استعملت المقابر المرتفعة في مدينة "تدمر"، وذلك بتشييد مبانٍ وضعت فيها جثث الموتى في حجر صغيرة تعمل في تلك الأبنية.

واستعملت الكهوف مقابر كذلك. ففي المناطق الصخرية توجد كهوف طبيعية سكنها الإنسان، واتخذها مقبرة له. وذلك بدفن الأموات فيها وسدّ بابها. وقد عثر الباحثون والسياح على عدد منها.

والقبر هو التسمية المعروفة الشائعة في أغلب أنحاء جزيرة العرب، وقد وردت في نص النمارة، وجمعها القبور. ذكر علماء اللغة ان "القبر" مدفن الإنسان وان "المقبر" موضع القبر. وأما "المقبرة"، فهي موضع القبور. وقد وردت لفظة "مقبر" و "مقبرت" أي مقبرة، و "مقبرتم " أي "مقبرة" في حالة التنكير في نصوص المسند.

وأما "الجدث" فالقبر، والمجمع أجداث وأجدث، وهو قلة. وورد "الجدف" في بعض الروايات.

.وأما الوجر، فهو كالكهف عند علماء اللغة. فهو يؤدي معنى قبر على سبيل المجاز. وقد ورد في نص مدوّن بالمسند يعود إلى القرن السادس للميلاد، عثر عليه في العربية الشرقية. وهو شاهد قبر رجل اسمه "ايليا".

ويذكر علماء اللغة، ان الجنن: القبر، سمي بذلك لستره الميت، وأيضا الميت لكونه مستوراً فيه، وأيضاً "الكفن" لأنه يجن الميت، أي يستره، فالأصل في الكلمة الستر، ويجمع على أجنان.

وقد وردت لفظة "ضرح"، أي "ضريح" بمعنى قبر في اللغة الصفوية. ولكن من الجائز أن تكون قد وردت فيها بالمعنى المفهوم من الكلمة في عربيتنا. كما وردت فيها ألفاظ أخرى بمعنى قبر، مثل: "نفست" أي، "نفس" و "مقل"، بمعنى "مقيل"، أي موطن الراحة ومحلها، و "نيت". ويظهر ان لفظة "نفست" قد أخذت من أصل إرمي هو "نفسا" "نفشا".

وقد وردت لفظة "نفش" و "نفس" في النصوص النبطية واللحيانية والسبئية وفي نصوصُ دوّنت بلهجات عربية أخرى. ولعل للفظة "نيت"، علاقة ب "منوت" و "منايا" و "منون"، وهي تعني في الصفوية: المسافر والسفر أي في معنى أدبي لطيف، له صلة بالموت، باعتبار ان الميت مسافر من هذا العالم إلى عالم آخر، وان القبر هو مستقر ذلك السفر.

ويلحد أهل الحجاز لحداً في القبر لوضع الميت فيه. ويقال للذي يلحد القبر ويضع الميت فيه "اللاحد". ويقال للذي يعمل الضريح "الضارح". وكان من عادة الجاهليين رجم القبور أي وضع أحجار فوقها، وذلك على سبيل التقدير والتعظيم للميت. فإذا زار قريب أو صديق قبر قريب أو صديق له رجمه، أي وضع أحجاراً فوقه. والرجام الحجارة. والرجمة أحجار القبر ثم يعبر بها عن القبر وجمعها رجام ورجم. وقد ورد في كتب الحديث ان الرسول قال: لا ترجموا قبري، وان "عبدالله بن مغفل المرني" قال: "لا ترجموا قبري، أي لا تجعلوا عليه الرجم. وأراد بذلك تسوية القبر بالأرض"، وعدم نصب أحجار فوقه ليظهر واضحاً شاخصاً.

وتؤدي لفظة "رجم" و "رجمت" و "هرجم" أي "الرجم"، معنى قبر أيضاً. وترد بكثرة في الكتابات الصفوية. ويراد بها الآحجار التي تكوم فوق قبر. والعادة عندهم أن الشخص الذي يمر على قبر ما، أو يزور قبر قريب له، يضع حجراً او أحجاراً فوق القبر، تكريماً لصاحبه وتخليداً لذكره، حتى وان لم يعرفه، لأن ذلك من باب احترام الموت والميت. فالرجام اذن، هي قبور غطيت بأحجار.

وقد عثر على عدد من الرجام المكتوب الذي اتخذ شواخص للقبور فيه اسم الميت ودعاء على من يحاول نقل الرجمة من محلها أو على من يحاول تغيير معالم القبر وازللته أو على من يريد انّحاذه براً له أو لأحد أفراد أسرته أو يسفن أي أحد فيه. وقد أفادتنا هذ الشه س اهد في معرفة لهجة الفوم وفي بعض الأمور التي لها صلة بالأصنام وبالدين.

وقد استعملت اللحيانية لفظة "قبر" ومنها "هنقبر"، أي "القر"، للتعبير عن القبر، كما استعملت لفظة أخرى هي "مثبر" "م ث ب ر" ومنها "همثبر"، أي "المثبر" في معنى قبر. وللثبور بالطبع صلة بالموت. وتعبر لفظة "كهف" في هذه الهجة عن هذا المعنى أيضا.

ويقال للقبر المسوّى مع الأرض "رمس" فإذا كان مرفوعاً عن الأرض فهو قبر مسنم. ويظهر أن الجاهليين كانوا يسنمون قبورهم. وقد ورد في حديث "ابن مغفل": "ارمسوا قبري رمساً". أي سووه بالأرض ولا تجعلوه مسنماً. والرمس تراب التر والمَرْ مَس موضع القبرْ.

ووردت لفظة "مقبر" في الكتابات الصفوية، بمعنى "القبر"، أي الموضع الذي يقبر به. وهم يرصفون القبر، ويعبرّون عن ذلك بكلمة "ارصف". كما يرجمونها بالرجم ويعتبرون ذلك من امارات التقدير والاحترام.

وعرفت مقابر النصارى ب "الناووس". وقد شلك بعض علماء اللغة في أصلها، فذهب الى احتمال، كونها من أصل أعجمي، وهي من أصل يوناني، ومعناها فيها: حجر منقور لدفن ميت، كما أطلقت على مقبرة النصارى وعلى المعبد والكنيسة،لأن كثيراً ما كان النصارى القدامى يقبرون موتاهم في الكنائس. وقد حارب الإسلام عادة أهل الجاهلية في تسنيم القبور ورفعها عن سطح الأرض، وشدّد على ذلك في الحديث، وجعلت القبور المسنمة في حكم الأوثان. ولا بد أن يكون لهذا التشديد سبب، إذ لا يعقل ورود تلك الأحاديث في موضوع طمسها بغير داع ولا أساس. وسبب ذلك هو تقديس أهل الجاهلية لتلك القبور تقديسهم الأوثان وتقربهم اليها، وهو ما لا يتفق ومبادىء التوحيد في الإسلام.

ونهى الإسلام عن تكليل القبور. "أي رفعها تبنى مثل الكَلل، وهي الصوامع والقباب التي تبنى على القبور. وقيل: هو ضرب الكلة عليها. وهي ستر مربع يضرب على القبور". وقد كانوا يبنون البيوت والأبنية فوق القبور. وقد نادى الشاعر "لبيد" باني قبر عزيز له بأن يضعف من سمك القبر وأن يرفع الحائط أو السقف، حتى يكون هناك متسع من فضاء فوق القبر. وذكرأنه كانت على قبر " أبي أحيحة" قبة مشرفة.

وقد ورد في شعر "بشر بن أبي خازم الأسدي" ما يفيد بناء أضرحة فوق القبور، ورفع القبر عن الأرض حتى يكون كسنام الجمل بارزا ظاهراً. وقد عبر عن بناء القبر ورفعه عن الأرض وبناء ضريح عليه ب "ارتفد الضريح" والضريح في تعريف علماء اللغة، الشق في وسط القبر، وقيل القبر كله أو قبر بلا لحد. وذلك لأنهم يجعلون اللحد في جانب القبر.

ويظهر أن يهود الحجاز ونصاراه كانوا قد بالغوا في ضرب القباب والأضرحة على قبور موتاهم وفي تعظيم قبور أحبارهم وقسسهم، حتى تحولت قبورهم إلى اضرحة ومزارات. تزار في المناسبات وقد دفنوهم في المعابد. لذلك نهي عن التشبه بفعلهم في الإسلام. وأشير إلى عملهم هذا في القران الكريم وفي كتب الحديث. وقد وضع اليهود والنصارى شعار اليهود والنصارى على قبورهم لتمتيزها عن مقابر الوثنيين.

ويقال للحائرِ الذي يحيط بالقر "الودع". وقيل: الودع القبر، أو الحظيرة حوله، أو المدفن يحير به حائر.

وتعرف علامات القبر ومعالم حدوده به "الآيات"، والاية هي العلامة. وقيل للرجمات التي وضعت على القبر إلأحجار والأطباق والصفيح والصفائح والصفاح. ويراد بالصفائح الحجارة العريضة التي توضع على القبر لتغطيته.

وكان منهم من يضع الجريد على إلقبر، ومنهم من يضعه داخل القبر. وقد تغرز الجريدة في القبر فيكون رأسها بارزاً فتكون علامة تشير إلى القبر. وذكر إذ رسول الله أخذ جريدة رطبة فشقها نصفين، ثم غرز في كل قبر واحدة. ولا زال الناس يتبعون هذه العادة. وقد استعملوا الأذخر والحشيش في قبورهم كذلك. كانوا يضعون الأذخر في الفرج التي تكون بين اللبنات،ويضعون الحشيش تحت الميت وفوقه.

وعثر في مواضع من جزيرة العرب على مقابر دعاها الباحثون: "تمولي" tamuli لأنها على شكل تلال أو هضاب. وقد اتخذت مدافن. منها "تمولي" البحرين. وسأتحدث عنها في أثناء حديثي عن الفن والعمارة عند الجاهليين.

وقد عثر المنقبون على مقابر جاهلية عامة، على نحو ما نجده من المقابر العامة في هذا الوقت. وقد نبش عدد منها في الإسلام، لاتخاذها أملاكاً أو مساجد، كما حول بعضاً منها الى مقابر اسلامية، دفن فيها المسلمون بعد أن أزيلت ونبشت قبور الجاهليين. وأشير اليها في كتب الحديث. ويظهر ان بعضاً منها كان ذا أضرحة وقبور مرتفعة عن الأرض.

ولا يدفن في المقابر إلا أفراد العائلة التي تمتلكها، أو من يؤذن بدفنه فيها. ويعد الإذن بدفن غريب في مقبرة خاصة من علامات التقدير والاحترام بالنسبة للمتوفى الغريب. وقد تحجز مناطق من مقبرة عامة لتكون مقبرة خاصة،فلايسمح لأحد بالدفن فيها إلا لمالكها. وقد تسور ويعمل لها باب، وقد يقام ضريح أو بناء ضخم، مع ان المقبرة هي جزء من مقبرة عامة. ولا تزال هذه العادة متبعة وقد تشترى، الأرض ممن يتولى أمر المقبرة العامة. ويحافظ أهل المقابر الخاصة على مقابر أسرهم فيتعهدونها بالرعاية والعناية وبإدامتها على خير وجه. وهي تزار في المناسبات تقرباً إلى اصحاب القبور، لئلا تنقطع صلتهم بموتاهم. وورد ان بعضاً من الجاهليين كان يضرب قبة على قبر عزيز له مدة سنة"للاستمتاع بقربه وتعليلاً للنفس وتخييلاً باستصحاب المألوف من الأنس ومكابرة للحسن. كما يتعلل بالوقوف على الأطلال البانية ويخاطب المنازل الخالية".

وتراعى القرابة والمنزلة في دفن الموتى في المقابر فتدفن الزوجة على مقربة من زوجها في الغالب والأبن على مقربة من أبيه "، وهكذا فكاًنهم يريدون بذلك جمع شمل العائلة، وإعادتها إلى ما كانت عليه يوم كانوا أحياءّ. وإذا كان المتوفى عظيم وذا مكانة ومنزلة حرص، أقرب الناس اليه من أصحابه على نيل شرف الدفن على مقربة منه عند دنو أجلهم. وقد تتحول أمثال هذه المقابر الى مزارات، خاصة إذا كانت مقابر كهنة وسدنة ورجال دين.

أما قبور الأعراب والفقراء والسواد، فهي بسيطة، حفرة تحفر في الأرض يوارى فيها الميت، ثم يهال عليه التراب أو الرمال أو الحجارة حسب طبيعة الأرض فتكون قبر ذلك الميت. وقد يسوّ ى القبر بالأرض فلا تظهر آثاره ولاتبرز معالمه عن معالم القشرة، وقد يرفع التراب بعض الشيء ليكون علامة عليه.وقد توضع عصي أو أحجار فوقه لتكون إشارة تشير إلى مكانه. وليس في إمكان الأعراب النازلين في البوادي البعيدة عن الحضر، فعل غير ذلك، ولا سما إذا كان الموت قد وقع في حين نزول القبيلة في أرض جاءت اليها في الموسم لترعى العشب أو في أثناء تنقل فإنها لا تستطيع أن تصنع قبراً لميتها غير هذا القبر.

ومدة العزاء عند الجاهليين حولٌ، أي سنة لا يترك أهل الميت فيها ذكرى فقيدهم، فيندبونه في أوقات معينة ويبكون عليه عند قدوم قادم اليهم، وينحرون لذكراه ويكرمون من يأتيهم لتعزيتهم. وقد كانت مدة العزاء حول عند العبرانيين أيضاً وعند غيرهم من الساميين والشعوب الأخرى، يقوم فيها أبناء الميت أو بناته بتلاوة صلوات خاصة في خلالها عاى الميت ليرحمه الله وليغفر له وليسعد روحه. وتكَاد هذه المدة تكون امداً للعزاء ولذكرى الميت عند كل الشعوب إلى هذا اليوم.

وأما مدة المناحة فهي في العادة سبعة أيام. فلما مات "زيد الخيل"، الشاعر الفارس، وهو فيَ طريقه إلى دياره، أقام "قبيصة بن الأسود" المناحة سبعة أيام. ولا تزال هذه المدة مرعية في العراق، حيت تنوح وتبكي النسوة فيها موتاها، ويكون اليوم السابع هو ختام العزاء. أما الرجال، فيقيمون العزاء ثلاثة أيام، ويسمونه "الفاتحة" في الإسلام بالعراق في هذه الأيام. ويجلس أقرباء الميت وأهله عند العبرانيين سبعة أيام في البيت حزناً عليه وتقبلاَ لتعازي الناس. وقد ورد أن مدة النياحة قد تستمر عند الجاهليين فتكون حولاً.

ملابس الحزن

ويلبس أهل الميت وأقرباؤه ملابس الحزن مدة العزاء أو حولاً كاملاّ. واللونان الأبيض والأسود هما اللونان اللذان تتخذ منهما الملابس في الحزن، فقد لبسوا الملابس البيض، ولبسوا الملابس السود، وما زال اللونان شعاريْ الحزن حتى الان. فاللون الأبيض هو شعار الحزن في الحجاز والشام، أما الأسود، فهو شعار الحزن في العراق.

وحداد المرأة على زوجها حداد صعب عسير، عليها في هذه المدة الامتناع عن الزينة والطيب امتناعاً تاما، ويقال لها في هذه الأثناء "الحادة" لأنها حدت على زوجها: وفي خلال الحداد يمتنع الخطاب من خطبتها والطمع فيها حتى تنتهي منه.

ويفهم من بعض رايات الأخباريين أن من عادة الجاهليين حجز المرأة عند وفاة زوجها في بيت صغير، قد يكون خيمة أو بناء يسمونه "الحفش"، لتقضي فيه مدة العدّة. فإذا كانت في هذا البيت، لبست شرّ ثيابها، وامتنعت عن الطيب وعن تزيين نفسها مدة عام. فإذا انتهت المدة افتضت عدّنها "بمس الطيب أو بغيره كقلم الظفر أو نتف الشعر من الوجه أو دلكت جسدها بدابةّ أو طير، ليكون ذلك خروجاً عن العدّة. أو كان من عادتهم أن تمسح قُبلها بطائر، وتنبذه فلا يكاد يعيش.

وتصف رواية أخرى دخول المرأة الحفش وخروجها منه على هذه الصورة: " كانت إذا توفي زوجها دخلت حفشاً ولبست شرّ ثيابها حتى تمرّ بها سنة ثم تؤتى بدابة، شاة أو طير فتفتض بها، فقلمّا تفتض بشيء إِلاّ مات. ثم تخرج فتعطي بعرة ترمى بها...". وجاء: و "كانت لا تغتسل ولا تمس ماء ولا تقلم ظفراً ولا تنتف من وجهها شعراً، ثم تخرج بعد الحول بأقبح منظر. ثم تفتض بطائر تمسح به قبلها وتنبذه فلا يكاد يعيش ".

ومن عادات بعض الجاهليين ضرب القباب على قبور موتاهم أياماً أو أشهرا قد تبلغ عاماً، يقيم فيها نساء الميت أو ذوو قرابته، ليجاوروا الميت، وليستقبلوا فيه من يفد لزيارة القبر. واعتقادهم بإحساس روح الميت بوجودهم هناك وبمجيئهم إلى القبر لمؤانستهم له هو الذى حملهم، ولا شك، على ضرب هذه القباب وعلى مجاراتهم لتلك الأجداث. ومن هذه القباب المؤقتة ظهرت الأضرحة الثابتة ذات القباب السامقة الشامخة، كما أن من المعابد المتنقلة، أي الخيام المقدسة، نشأت المعابد الثابتة عند العبرانيين وعند الجاهليين وعند غيرهم من الشعوب.

ومن عادة الجاهليين إسالة دم الذبائح على القبر أو تضريحه بتلك الدماء. فيعقر على قبور الموتى وعند إهالة التراب على الميت، وقد يعقر على القبر كل عام وفي أثناء المناسبات إذا كان الميت من السادة المشهورين المعروفين يالخصال الحميدة كالشحاعة والكرم. وفي الشعر الجاهلي والأخبار أسماء أناس كانوا من المشاهير في ايامهم، جرت العادة بأن تذبح الذبائح عند قبورهم إكراماً لهم. وقد بقيت هذه العادة الجاهلية خالدة حتى اليوم مع إبطال الإسلام لها بحديث: "لا عقر في الإسلام ". وليس من الضروري أن يكَون أصحاب العقائر من ذوي قرابة صاحب القبر أو من قبيلته. ومن هذه القبور قبر "ربيعة بن مكدم" من "بني فراس بن غنم بن ماللك بن كنانة". وكان الناس يعقرون على قبره. ويظهر من شعر لحسان بن ثابت قاله لما مر بقبره، أن قبره كان قبراً مبنياً بني من حجارة حرة.

والعادة في العقر، عقر قوائم الدابة، وقاء تعقر الدابة ثم تذبح والغالب ان تكون الدابة جملاً أو ناقة، ولبهن بعضهم كان يعقر شاة كذلك، وذلك إذاكان اهل الميت من طبقة ضعيفة، يصعب عليها عقر جمل أو ناقة. وقد ورد النهي عن ذلك في حديث آخر هو: " لا تعقرن شاة أو بعيراً إلا لمأكله".

وقوم كان يحبسون ناقة الرجل وذلك بأن يشدّوا الناقة إلى قبر الرجل، ويعكسو رأسها إلى ذنبها، ويغطو رأسها بولية، وهي البردعة،وتربط برباط وثيق حتى لا تهرب، فإن أفلتت لم ترد عن ماء ولا مرعى، وإذا بقيت على القبر، فإنها تبقى في حفرة لا تعلف فى لا تسقى حتى تموت عطشاً وجوعاً،ويقال لهذه الناقة السيئة الحظ البليةّ. ويزعون انهم انما يفعلون ذلك، ليركبها صاحبها في المعاد، ليحشر عليها فلا يحتاج أن يمشي. قال أبو زبيد: كالبلايا رؤوسها في الولايا  مانحات السمومُ حرّ الخدودْ

ووجدت في قبور الجاهليين أشياء مما يستعمله الإنسان في حياته مما يدل على أنهم كانوا كغيرهم يدفنون مع الموتى ما يشعرون ان الميت قد يحتاج في حياته الأخرى اليه. أما الأعراب فلا نتصور أنهم كانوا يدفنون مع الموتى أشياء ثمينة لفقرهم وبساطة معيشتهم. وقد عثر في مقابر أهل العربية الجنوبية مثل اليمن وحضرموت على حليّ وأحجار نفيسة وأمثال ذلك مما دفنه أهل تلك البلاد مع موتاهم، ليتزبنوا بها في العالم الثاني.

وتؤيد روايات أهل الأخبار عن فتح القبور في الإسلام بحثاً عن الغنى والمال، ما ذكرته من احتمال وجود رأي عند عرب ما قبل الإسلام، بأن الميت سيحتاج إلى هذه الأشياء التي دفنت معه، وأنه سيستفيد منها في عالمه الثاني الذي رحل اليه. ولكني لا أستبعد احتمالاَ اخر، قد يكون أهل الجاهلية قصدوه من دفن الذهب والفضة من حلي أو سبائك أو صفائح مكتوبة مع الميت، هو رغبة أهل الميت في اظهار شعور الود والمحبة نحو ذلك الميت، بدفن تلك النفائس العزيزة معه، لاظهار أنهم لا يبالون بها بعد فقدهم عزيزهم الميت، وأنهم يريدون دفن كنوزه معه، تعففاً عنها وإزدراء بها، وقد ورد في بعض الأخبار أن امرأة ماتت، فدفنوها مع متاعها.

ولصيانة القبر وبقائه على حاله أهميه كبيرة عند الجاهليين، تتجلى في الجمل التي دونوها على شواخص قبورهم، هذه الشواخص التي عثر عليها السياح والباحثون في مواضع متعدة من جزيرة العرب، وهي تطلب إلى الآلهة بأن زنزل الالام والمدراض والعاهات بمن يتجاسر فينقل شاخص القبر من مكانه، أو يكسره ويأخذه ليستعمله، أو ما شاكل ذلك. وجملة "عور لذ عور سفر" أي "عور للذي يعور الشاخص"، أو جملة "وعور دشر وخبل"، أي عمى وجنون "خبل" من الإلهَ "ذو الشرى"، على من يحوّ ر هذا الشاخصم، ويغيره أو يأخذه ويغيره لغرض ما، وأمثالها، هي من العبارات المألوفة التي نقرأها يكثرة على شواخص القبور.

ومن الطبيعي أن تجد هذه العبارات وعبارات أخرى أشد منها مدونة على تلك الشواخص، راجية من الالهة أن تنزل عقابها على من يحاول التطاول على حرمة القبر بدفن غريب، فيه. ويظهر من هذه العبارات ان من الجاهليين من كان يتطاول على القبور، ولأ سيما القبور المنحوتة والقبور الجيدة المبنية على شكل غرف، وأضرحة، فيدفنون موتاهم فيها، وبذلك تدخل جثث غريبة في تلك القبور،أو يحولوا تلك المقبرة القديمة إلى مقبرة جديدة. وقد يزيلون معالمها تماماً، أو يدفنون أمواتاً فوق أموات على نحو ما نفعل اليوم في المقابر القديمة المشهورة المقامة حول الأولياء، حيث تتحول المقابر القريبة من الولي الى مقبرة قد ترتفع من كثرة ما يدفن عليها، حتى تكون مرتفعاً عن ظاهر الأرض.

وتزار قبور السادات والشثراف، وخاصة قبور كبار سادات القبائل، ويذبح عندها، ويحلف بها، ويلجأ اليها طلباً للأمان والسلامة، فلا يستطيع أحد التحرش بمن التجأ الى صاحب القر ولا ذويه. وقد هجا "بشر بن أبي خازم الأسدي" "أوس بن حارثة" من "آل لأم"، فكان في جملة ما قاله في هجائه: جعلنم قبر حارثة بن لأم  الها تحلفون به فجوراً

وحارثة بن لأم صاحب القبر، هو أبو أوس المهجو.

وقد أشار أهل الأخبار إلى قبور سادات جاهلين كان الناس يفدون اليها ويعظمونها، ويلوذون بها، ويطوفون حولها، منها قبر "تميم" بموضع "مر الظهران"، وقبر "عامر بن الطفيل"، وقد وضعوا الأنصاب حول القبر لتكون علامة له، فلا يدخل الساحة التي يكون فيها القبر إلى موضع الأنصاب حيوان أو راكب ولا يهتك حرمتها انسان. كذلك كان الناس يحلقون شعورهم عند مثل هذه القبور، كالذي كانوا يفعلونه عند الأصنام.

وقد حجت قبائل قضاعة إلى قبر كان على مرتفع من الشحر، زعم أنه قبر جدّ قبائل قضاعة. وكانت أمثال هذه القبور ملاذاً يلوذ بها أصحاب الحاجات، كما قصدها الشعراء لانشاد قصائدهم في مدح صاحب القبر والتغني بمجده وبمجد قبيلته. ولها جمى حكمه حكم الحمى الذي يحيط ببيوت الأصنام. ويقسم بهذه القبور وبحق أصحابها، كما يقسم بالأجداد، ويعد هذا النوع من القسم يميناً لا بحوز الكذب فيه، وهو كاليممان المغلظة التي حلف بها الناس ويذكرون فيها الآلهة اسماء الأصنام.

وفي كتب الحديث أن النبي نهى عن الحلف بالآباء والأجداد وبتربهم، لأن ذلك من عمل أهل الجاهلية. وقد كانت قريش تحلف بآبائها وبأجدادها فتقول: أبي أفعل هذا، أو وأبي لا أفعل وحق أبي أو تربة أبي أو وتربه جدك، نحو،ذلك. وهي ايِمان من ايمان الجاهلية نهى النبى عنها.

الفصل الثاني والخمسون

الدولة

أقصد بالدولة الشعب والحزب أو الجماعة الحاكمة له في أرضه وتحت سلطانه وفي حيازته وملكه، لذلك لا أشترط في هذه الدولة أن تكون دولة كبيرة كالدولة الرومانية أو اليونانية أو الساسانية، فقد تكون الدولة.حكومة قريَة مثل يثرب أو مكة، وقد تكون حكومة قبيلة، وقد تكون أكبر من ذلك وأوسع مثل دولة الحيرة ودولة الغساسنة ودول اليمن. فلا علاقة اذن لكبر أو لصغر الحكومة بمفهوم الدولة في نظري، فكل حكومة جاهلية مستقلة، هي عندي مع شعبها أي التابعين لها دولة صغرت أم كبرت.

وألشعب في الجاهية وعند الجاهليين، هو القبيلة. فالقبيلة هي أصل الدولة ونواتها، وتقوم على رابطة الدم، أي على فكرة ان القبيلة هي من صلب رجل عاش حقاً ومات، وان أفرادها من هنا يرتبطون بينهم برابط الدم،اَي ان بينهم قرابة وصلة رحم. أما وطن القبيلة، فالأرض التي نشأت فيها، ثم الأرض التي هي عليها. فمن القبيلة ومن أرضها، تكونت دولتها، وعلى رأسها سيد القبيلة.

هذا بالنسبة إلى اللأعراب، أما بالنسبة إلى الحضر، فإن فكرة الدولة عندهم تختلف باختلاف درجه اولئك الحضر. فالدولة في العربية الجنوبية، تجمع شمل قبائل عديدة كما تضم طوائف وفئات رسمت لها حدود معينة وحددت بحدود وقيود، فلا تتجاوزها. وقد حدد المجتمع مكانتها ومنزلتها بحيث جعل من المجتمع العربي الجنوبي مجتمعاً طبقياً. يتمتع فيه الملوك ومن يأتي بعدهم من حكام وأصحاب معبد وأرض بأعلى المنازل، ثم تليهم بقية الطبقات حسب قوتها ومكَانتها إلى أن تصل الى سواد الناس، وأقلهم منزلة الرقيق واصحاب الحرف المبتذلة.

وهو نظام بقيت روحه وجذوره قائمة ئي اليمن الى الوقت الحاضر، ولكنه بدأ يجابه بمقاومة روح العصر وتقدم البشرية، فأخذ يتهدم بعض التهدم حسب مواطن الضعف في البناء. وأما في الأماكن الحضرية الأخرى، مثل العربية الشرقية وفي الحجاز، أو نجد، فإن درجة فهم الناس فيها للدولة، اختلف فيها، باختلاف تقدم ذلك المكان في ألحضارة وباتصاله بالعالم الخارجي.

وبفضل عثور الباحثين على كتابات تعود إلى عهود مختلفة من تأريخ العربية الجنوبية، استطعنا الالمام بعض الالمام بشيء من نظم، الدولة في تلك الارضين. وفي جملتها طرق الحكَم فيها ونفوذ رجال، الدين وأصحاب الارض و الحياة ألاقتصادية التي جعلت العربية الجنوبية مجتمعاْ مكوناَ من طبقات، يسيره ألحكام ورجال الدين وأصحاب المال والأرض. أما بالنسبة ان المواضع الأخرى، فإن علمنا عن هذه الأمور هو دون علمنا عن العربية الجنوبية بكثير، بسبب عدم عثور الباحثين على كتابات جاهلية فيها، نستطيع أن نستلهم منها وحينا عن الماضي البعيد. ولذلك فعلمنا عنها ضحل،اعتمد أكثره من أخبار اهل الأخبار، وهي فجة أو مصنوعة، أو محرفة حرفها مرور الزمن،أو مدسوسةعمداً من اخباري أراد اظهار علمه للناس،أو من متعصب لقبيلة أراد بدسه الأخبار التفريج عن عاطفة التعصب الكامنة في نفسه.

ويعبر عن سكان القرى والمدن ب"أهل" وب "آل". فيقال "أهل مكة" و "أهل يثرب"، ويراد بهم قطان مكة وسكان يثرب، و "شعب" في التعبير الحديث، على اعتبار أن كل مدينة مستقلة بشؤونها قائمة بإدارة أمورها وهي حكومة ذاتية يدير حكمها سادات المدينة. على نحو ما كَان عليه الوضع في القرى الأخرى من الحجاز وفي نواحٍ عديدة من جزيرة العرب. وإذا أصيب احدهم بضيم، أو أراد شيئا يتطلب العون والمساعدة نادى: "يا أهل مكة" أو "يا آل مكَة"، فيلبي ساداتها نداءه ويمضون في معالجة أمره، والغريب عن "اهل مكة"، له حق النخوة والاستجارة، فإذا نادى بشعارها حصل على من يدافع عنه ويأخذ حقه ممن ظلمه.

ويشعر سكان المدن والقرى انهم كالقبيلة من اصل واحد، وأن لهم جداً أعلى، يرجع نسبهم اليه، أو جدهّ إن انتمى اهل المدينة إلى امرأة. وذلك، لاعتقادهم أنهم من قبيلة واحدة في الأصل، هاجرت إلى هذا المكان فسكنت نيه. فمرجع نسب مكة الى "قريش"، ونهاية نسب اهل يثرب من الأوس والخزرج الى "قيلة" جدتهم، وشب أهل الطائف الى ثقيف. فنحن إذن وإن كنا امام مدن وقرى، اي أمام عرب حضر، لكننا في انفسنا امام نظم تقوم على أسس قبلية وعقلية قبلية. فالقرية في الواقع قبيلة مستقرة تمركزت في مكان واحد. وقد تمسكت بنظم تفرع القبيلة وبالعصبية، وبما إلى ذلك من عرف مجتمع أهل البادية. وقد بقيت رابطة النسب وصلة الدم بها قوية. ذلك لأن تلك القرىَ، وإن جلبت اليها الأجانب والغرباء، غير انها بقيت مجتمعات منعزلة، لأن وسائل الاختلاط لم تكن مهيئة لها فيَ ذلك الوقت، حتى نجبرها على الخروج عن العزلة، والاختلاط بالغير، اختلاطاً شديداً على نحو ما يحدث للحضر في الأمكنة المتحضرة الممتزجة بالسكان.

وجدّ القبيلة، هو مصدر إلهامها، ورابطها الروحي الذي يربط بينها. باسمه تتنادى في الغزوات والحروب، لتبعث حرارة الاندفاع والحماسة في القتال، وبه يدعو للنخوة أبناؤها ومن يلتجئ إلى القبيلة من مولى أو جار، وبقبره يلاذ إن كان له قبر، وباسمه يحلف كما يحلف بأسماء الآلهة.

وللقبائل مصدر إلهام روحي آخر، هو أصنامها. فكان "المقه" صنم سبأ، وكان "ودّ" صنم "معين"، وكان للقبائل العربية الشمالية التي حاربت الآشوريين أصنام يحملونها معهم في سلم وفي حرب، ويستمدون منها المدد والعون في النزوات والحروب. ويعد سقوط الصنم في أيدي الأعداء نكسة للقبيلة وعاراً على أبنائها، لذلك كانوا لا يهدأ لهم بال حتى تعاد اليهم أصنامهم. وكان من اًهم ما يدعو القبائل العربية الى التهادن مع الآشوريين رغبتهم في استعادة أصنامهم وضمان عودتها من المنفى والأسر إلى الحرية.

ولما ظهر الإسلام كانت القبائل ما تزال تحتمي بأصنامها وتدعوها لتنصرها في الحرب،حتى من تحضّر منها واستقر، مثل أهل مكة الذين كانوا ينادون: "أعْلُ هُبَلْ. أعْلُ هُبَلْ" في حربهم مع المسلمين. أما الذين غيروا دينهم وتنكروا لعبادة الأصنام فقد احتموا بشفعاء جدد، أخذوهم من النصرانية الني دخلوا فيها، فكان لهم قديسون يلوذون بهم في أثناء القتال.

ويعبرّ عن القبيلة بلفظة "شعب" في العربيات الجنوبية. فالقبيلة والشعب إذن لفظان مترادفان على معنى واحد. الشعب بمعنى قبيلة في عربية القرآن الكريم،والقبيلة بمعنى شعب في العربيات الجنوبية. ولكن علماء العربية يفرقون بين اللفظتين، فيجعلون الشعب أكبر من القبيلة. والظاهر ان هذا التفريق قد وقع في الجاهلية القريبة من الإسلام، ونجده في القرآن الكريم في آية الحجرات: )وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم(. فذكر المفسرون ان الشعب أكبر من ألقبيلهّ. غير ان كثيراً من علماء العربية يرون أن الشعب والقبيلة في معنى واحد.

وقد وردت كلمة "شعب" في الكتابات السبئية بمعنى قبيلة كما ذكرت،فورد: "شعب سبا"، بمعنى قبيلة سبأ. وورد "سبا واشعبهمو" بمعنى "سبأ و أشعبهم"،أي السبئيون وقبائلهم، ويراد بقبائلهم القبائل الأخرى الخاضعة لهم.

ويرى بعض الباحثين في العربيات الجنوبية، ان لفظة "شعب" لا تعني عند العرب الجنوبين معنى "قبيلة" بالمعنى المفهوم من اللفظة عندنا، بل تعني جماعة ترتبط بالدولة وبالآلهة: آلهة الدولة ارتباطاَ ثقافياً واقتصادياً واجتماعياَ. فإذا قلنا شعب سبأ "شعبن سبا"، فإننا لا نقصد القبيلة سبأ، بل أمة سبأ، أو شعب سبأ بالاصطلاح الحديث. أي رابطة مواطنة تجمع شمل جميع المواطنين بالدولة جمعاً روحياً ومادياً، أي ان أمة سبأ تجمع السبئيين وغيرهم من الغرباء من أتباع حكومة سبأ، الخاضعين لحكم هذه الحكومة، ويدينون بالولاء لها ولأنظمتها ولقوانينها الروحية والمادية.

ونجد في النصوص العربية الجنوبية إشارات إلى وجود ثلث أو ربع أو نصف قبيلة. فورد: "ثلثن سمعى"، أي "ثلث سمعي". ومعنى هذا ان جزءاً من قبيلة ما تعاون مع سكان منطقة ما لاستغلال أرض وللاستفادة من غلاتها،فيذَكر عندئذ رقم الجزء الذي نزل في هذا المكان. ولا يعني هذا بالضرورة ثلث أبناء القبيلة أو ربعها أو نصفها أوخمسها على الوجه المفهوم من القبيلة عندنا. بل يعني ذلك توزيع الأعمال والشغل على المجتمعين الذين تجاوزوا ورضوا بالعمل معا حسب الأجزاء المذكورة، التي تمثل نسب اشتراك المشتركين في العمل.

وفي العربيات الجنوبية مصطلح، له صلة بمعنى "المواطنة" والمواطنين بالمعنى الحديث. وهو مصطلح: "خمس" ويجمع على "اخمس" "أخمس"، ويراد به مواطنو مملكة أو إمارة. فهو بمعنى المواطنة أو الرعاية في الاصطلاح الحديث. فكل من يعيش في حكومة ما في اي مكان كان، من قرية أو مدينة، فهو "خمس"، أي مواطن ومن رعايا تلك الحكومة، كما نرى في هذه الفقرة في نص "معيني": "ركل الا لت معنم ويثل وكل الالت ذا خمسم واشعبم"، و معناها: "وكل آلهة معين ويثل وكل آلهة المواطنين والقبائل". ويراد ب "اشعبم" هنا القبائل، أي الأعرابّ واما "أخمس"، فيظهر أن المراد بها الرعايا الحضر المستقرون. ورد في نص سبئي: "خمسيهو وحميرم"، أي "مواطنو سبأ وحمير".

وترد لفظة "جوم" "كوم"،في النصوص السبئية القديمة بوجه خاص،مثل هذه الجملة "هوصت كل جوم". ويرى بعض الباحثين أن "هوصت" بمعنى "ملة". و"الملة"، في الإسلام،يراد بها نظام ديني واقتصادي واجتماعي،ارتبط أفراده بمجتمع واحد، برابط الأمور المذكورة. اما لفظة "جوم" "كوم"، فترادف لفظة "قوم" في عربيتنا. وقد يكون القوم عدداً صغيراً،وقد يكون كبيراً. ويرتبط القوم برباط متين يربط افراده، هو الإله الذي ينتمي القوم أليه. فورد "جوم غثتر" و "كوم ود"، اي "قوم عثتر" "وقوم ود"". فالقوم إذن جماعة وإخوان في دين، تؤمن بإله يجمع شمل المؤمنين به،ويربط بينهم برباط العقيدة والإيمان به، لا برباط النسب وصلة الرحم والدم.

هذا، ويذكر علماء ا اللغة ان "الملة"، الشريعة والدين، كملّة الإسلام والنصرانية واليهودية، وهي في اللغة السنة والطريقة. وقد وردت في خمسة عشرموضعاً من القران الكريم. استعملت في ثمانية مواضع منها للتعبير عن دين إبراهيم: "ملة ابراهيم". وللمستشرقين اراء متضاربة في أصل الكلمة.

والمواطنون هم أبناء "القبيلة"، التي هي نواة الحكومة وجرثومتها، والتي بقوتها تكونت تلك الحكومة، والقبائل المتحالفة معها، أو التي خضعت لحكمها فتبعتها، ولهذا تذكر القبيلة ويشار اليها، باعتبار ان الحكومة هي حكومتها في الأصل ثم يشار إلى القبائل الخاضعة لها للدلالة على انها في حكم تلك الحكومة. فقد ورد في الكتابات السبئية "سبا و اشعبهمو"، بمعنى سبأ و القبائل التابعة لها.وورد: "ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت ويمنت وأعرابها في المرتفعات وفي التهائم"، وهو لقب ملوك سبأ بعد توسع رقعة سبأ واستيلاء السبئيين على غيرهم وضمهم أرضهم إلى ارض دولتهم. فدون اسم سبأ أولاً، باعتبار ان السبئيين هم العنصر الحاكم المكون الأول للدولة، ثم اشارالى من تبعهم و انضم اليهم سلما او حربا.

وبين "الشعب" وإلهه رابطة مقدسة وصلة متينة لا انفصام لها. وفي استطاعتنا ان نقول ان مجتمعات العرب الجنوبيين كانت مجتمعات دينية ز فالشعب عبيد الاله ن والاله بالنسبة لاتباعه اب غفور رحيم ن شفيق قدير. "الجوم" "الكوم" أي القوم ابناؤه واولاده. فالسبئيون هم ولد "المقة"، أي اولاد المقه، اله سبأ، والمعينيون هم "ولد ود"، وقد خاطبوا الههم "وداً" بعبارة "ود ابم" أي "ود اب" و "ود الاب". وقال القتبانيون عن انفسهم "ولد عم" و "ولد عم"، أي ولد الاله "عم" واولاد الاله "عم". وفي هذه الجمل اجمل تعبير عن وجهة نظر المجتمع الى ربه. ان رب القبيلة، هو الرابط المقدس الذي يربط شملها ويجمع بين ابنائه، وبه يعتصم الناس، واليه يلاذ في الخير وفي الشر. وقد عبر عن هذه الرابطة بلفظة جميلة هي "حبلم" في بعض الكتابات. والحبل يربط ويجمع ويجعل من المتفرق وحدة. وهو مصطلح يذكرنا بالآية الكريمة: "واعتصموا بحبل الله "، وبالآية "أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس". فلفظة "ولد" اذن بمعنى قوم وابناء صنم أو موضع. فهي في معنى أبناء في اصطلاحنا الحديث، تستعمل قبل اسم الصنم أو الموضع أو القبيلة، لتدل على معنى المواطنة. ولا يشترط فيها أن تكون مواطنة نسب أي صلة رحم وقرابة دم، بل مواطنة دينيه ورابطة سياسية واجتماعية واقتصادية.

والإله حامي شعبه والذابّ عنه، والمؤيد له في السلم وفي الحرب. لذلك نعت بى "شيمم" "ش ي م م" أي "شيم"، وتعني اللفظة معنى حام وحافظ ومدافع. وتجد الناس وهم ينعتون آلهتهم بهذا النعت في كتاباتهم طالبين منهم العون لشفائهم من أمراضهم ولحمايتهم من الأسوأ.

وفي جملة "اهل عثتر" وامثالها التي ترد في مختلف كتابات المسند، تعبير عن هذه الرابطة المتينة الني تربط القوم بإلههم. تعبير عن صلة ملة عثتر بربهما. الجاعة المؤمنة بالإلهَ عثتر. وتعبير عن جماعات انتمت الى الهة اخرى، وقالت عن نفسها: "اهل". ويشبه هدا التعبير تعبير "اهل الله" الوارد في الإسلام ويراد بهم المؤمنون بالله المنقطعون له وحده العابدون القانتون الزاهدون.

وهكذا نجد شعوب حكومات العربية الجنوبية، مؤلفة من وحدات سياسية دينية. لكل وحدة رابطة روحية تربط أفرادها، جعلت "المؤمنين إخوة"، في عقيدتهم وفي تمسكهم واعتقادهم بإلَه قبيلتهم الخاص، هو إلهَ القبيلة.

ونحن إذ نقرأ لفظة "شعب" في الكتابات العربية الجنوبيهّ، يجب ان لا نفهم منها ما نفهمه من لفظة "قبيلة" في نظر الأعراب، وعند العرب الشماليين، اي رابطة دموية تجمع ابناء القبيلة، ترجع بهم إلى جدّ واحد أعلى. بل يجب علينا ان نفهمهما على وجه آخر. يجب ان نفهمهما بمفهوم "الملّة" أو "الأمة" في المصلح الإسلامي، وعلى النحو الذي فهمه المسلمون الأول من مصطلح "امة" و "ملّة"، اي رابطة تجمع بين شمل جماعات شعرت بوجود روابط دينية وفكرية واقتصادية واجتماعية بينها، وبوجود إخوة في العقيدة والرأي. على نحو ما نفهمه من آية الحجرات:" إنما المؤمنون إخوة". وذلك كما سبق أن تحدثت عن ذلك قبل قليل.

وترد لفظة "عم" بمعنى شعب في الكتابات النبطية، وترد بهذا إلمعنى في لهجات عربية أخرى. وقد نعت ملوك النبط أنفسهم ب "رحم عمه" "راحم عمه"، أي "رحيم شعبه" أو "راحم شعبه"، بمعنى أنه محب لشعبه رحيم به. وأن ملوك النبط رحماء بشعبهم محبوّن له.

والذي يجمع شمل الدولة ويقويها ويأخذ بها إلى الحكم ثلاثة أركان:إلَه أو آلهة، يدافع أو تدافع عن الحاكم وعن رعيته، وحاكم قد يكون "كاهناً" وقد يكون ملكاً، وقد يكون أمراً، وقد يكون سيد قبيلة، واجبه حكم رعيته وارشادهم وقيادتهم في السلم والحرب، ثم رعية طيعة طائعة تدين بالولاء للآلهة وللحكام، ليس لها الاعتراض على "حق الحكم"، لأنه حق إلهي متكرر، ولا اعتراض على قدر الآلهة ومقدراتها: ومن يخالف أوامر السلطان، كان كمن يخالف أمر ربه، عاصياً خارجاً عن سواء السبيل، فيجب تأديبه، ولو بالقتل، لأن جزأء من يخرج على أمر الالهة القتل.

ومن سيماء الاخلاص للدولة ذكر أسماء الآلهة التي يتعبد لها إلحكام، اًيَ الالهة الشعب الحاكم، تيمناً بها، وتقرّباً اليها، وذكَر أسماء اّلحكام في إلكتابات في المناسبات تعبيراً عن ولاء صاحب الكتابة واخلاصه للحاكم. وذكر اسم القبيلة الحاكمة مع اسم القبيلة التي ينتمي اليها صاحب الكتابة، ليكون ذكرها تعبيراً عن الاعتراف بسيادتها عليه وعلى قبيلته.

أصول الحكم

المجتمع العربي الجاهلي: بدو و حضر اهل وبر وأهل مدر يتساوى في ذلك عرب العراق وعرب بلاد الشام وعرب جميع أنحاء جزيرة العرب. وفي كل مجتمع من هذين المجتمعين تكوّن نظام من أنظمة الحكم يتناسب مع المحيط، لأنه نبات ذلك المحيط، وحاصله، وما ينبت في مكان ينبت وقد اكتسب خصائص التربة وخصائص الجو، وما يحيط بالنبات من مؤثرات طبيعية أو بشرية.

ومن هنا صارت "الرئاسة" قاعدة الحكم عند أهل الوبر، و "الملكية" و "رئاسة القرى والمدن"، أداة الحكم عند أهل المدر.

ولا ينال الحكم في المجتمعات البدوية وفي المجتمعات الصغيرة التي لم تبلغ مرحلة متقدمة من الحضارة، والتي لم تنل حظاً من الغنى والمهارة في العمل وفي كثرة الانتاج وتنويعه، إلا من كان ذا قابلية عالية وذو شخصية قوية، وذو أسرة متجانسة متآلفة متماسكة كثيرة العدد، وذا عشيرة أو قبيلة تندفع في تأييده لمزاياه المذكورة أو لخوفها منه، أضف إلى ذلك العصبية والرغبة في كسب المال عن طريق الاندفاع معه في غزو القبائل الأخرى. فمجتمع من هذا النوع تكون قيادته بيد "سادته"، وقد يفرض أحدهم نفسه على الاخرين، طوعاً أو كرهاً فيكوّن حكومة تنسب في الغالب اليه، قد يطول أجلها إذا جاء من بعده حكام أكفاء لهم قابلية وشخصية، وقد تموت بموته، لعدم كفاءة من يخلفه، ولأنه كون دولته بشخصيته، وليس عن دوافع أخرى مثل ايمان بعقيدة واخلاص لها، أو وجود وعي مشترك وحس بوجوب التكاتف والتآزر، لتأليف مجتمع متكاتف يعيش فيه المواطنون عيشة مؤاخاة ومواطنيه بالعدل والانصاف، حتى يطول عمر تلك الحكومة، ولما كانت تلك الدولة قد كونت إما عن مصلحة أو عن خوف وقهر أو عن طمع، وقد زالت هذه بموت صاحبها، لذلك يصيبها التفكك وانهيار البناء. ومما يؤيد ذلك ردة من ارتد بعد وفاة الرسول عن الإسلام، فقد كانت حجتهم في ردتهم انهم انما بايعوا الرسول وآمنوا به، ولم يبايعوا غيره. وبوفاته انتهى حكم البيعة، فلن يخضعوا لغيره ولن يدفعوا صدقة ولا زكاة ولن يطيعوا أحداً. ولو لم يؤدبهم "أبو بكر"، بأدب القوة، لما عادوا ثانية إلى الإسلام.

وللحكم الملكي صلة كبيرة بحياة الاستقرار والاستيطان، فهو لا ينمو ولا يظهر إلا في المجتمعات المستقرة وفي المواضع الغنية بالماء وفيَ القرىَ والمدن. فنرى ان حكام قرى فلسطين ومدنها كانوا قلى لقبوا أنفسهم بلقب "ملك" في ايام "ابراهيم" مع انهم لم يكونوا إلا رؤساء قرى أو مدن."ُ قد كان أكثرهم كهنة في الأصل، اي حكاماً حكموا رعيتهم باسم الآلهة، فكان لهم الحكم في الدين وفي تدبير اًمور الرعية من الناحية الدنيوية، ثَم عافوا هذا المركز وتركوا المعبد،وخصصوا أنفسهم بالنظر في الأمور الدنيوية.

ولما تقدمت وسائل الحروب وتفنن الإنسان في صنع الأسلحة، وفي استذلال الحيوان وتسخيره لنقل محاربيه وأسلحتهم ومواد اعاشتهم، توسعت سلطة كبار الملوك، وتضخمت حدود ممالكهم، فظهرت الملكيات الكبيرة: ظهرت على أنقاض "ممالك القرى" و "ممالك المدن". حيث حكم التأريخ بتسلط الممالك القوية على الممالك الصغيرة،وبأكل القوي منها الضعيف، لأن الحق للاقوى والبقاء للقوي المكافح المناضل المكالب في هذه الحياة تكالب الكلاب فيما بينها لمجرد شعور كلب قوي بتفوقه على كلب آخر غريب أو كلاب غريبة عنه.

ولعب "المال" دوراً خطيراً في ظهور "الملوك الكبار" وفي تكوين "الحكومات الملكية الكبيرة "، ونضيف اليه شخصية صاحب المال والطبيعة التي عاش بها، من برودة وحرارة وتبدل في الضغط الجوي، ومن تربة ومعدن ونبات وماء. فالمال وحده لا يكفي لخلق دول كبرى، وهو لا يدوم إذا لم يقرن بعقل فطن. خلاّق يعمل على الإيجاد والتكوين وتسخير الطبيعة في خدمته وخلق قوة تكون سندا له وسداً منيعاً يقف حائلاً منيعاً أمام المعتدين. والاستفادة من المال بتشغيله بحكمة وبعلم، وبإيِجاد موارد جديدة تحل محل الموارد القديمة إن نففت.

وقد كان ظهور الحكومات ألملكية الكبيرة في الأرضين الغنية بخيراتها ذات الماء الغزير والجو المساعد على العمل. فوسعت رقعتها وطمعت في غيرها فابتلعتها وقوَّت نفسها بخيراتها وعبأًت كل قواها لخدمتها، وأخذت تكتسح غيرها وتتوسع وكونت الممالك الكبير المشهورة في التأريخ.وقد سمح بعض ملوك الحكومات الكبيرة لملوك الممالك الصغيرة بالاحتفاظ بحمل لقب "ملك"، على أن يكون ذلك مقروناً باعتراف أولئك الملوك بحماية الملوك الكبار لهم،وبوجوب عدم الخروج على طاعتهم وبلزوم الاشتراك معهم في الحروب إن طلب منهم الاشتراك فيها، وبدفع جزية مرضية لهم. فلم تتمكن الحكومات الصغيرة التي عاشت على التجارة والاتجار من العيش بمأمن وسلام، إذ طمعت فيها الدول القوية، فأرسلت اليها من يخيرها بين الاستسلام والطاعة أو الهلاك واحراق الدور وإنزال الدمار. وقد رأينا أمثلة عديدة على ذلك فيما سلف من هذا الكتاب. من ذلك تهديد حكومات العراق لحكومات مدن الخليج،وتهديد الرومان واليونان للنبط. وحملة "أوليوس غالوس" على اليمن، لضم أصدقاء أغنياء إلى انبراطورية الرومان، يؤدون لها الخراج ويقدمون لها ما عندهم من ذهب ابريز، وإلا فالنار والخراب والدمار والقتل. فلا مجال للحكومات الغنية الصغيرة من العيش بأمن وسلام. وليس عندها سوى الإختيار بين أمر من أمرين. فإما دفع جزية ثقيلة ترضي القوي، واما الاستسلام وإنزال النار بها والدمار.

أما البوادي والأرضين القفرة الفقيرة القليلة الماء، فلا يمكن أن تنبت بها "ممالك" كبيرة،لعدم توفر مستلزمات المعيشة والتجمع الكبير فيها، لهذا صارت حكوماتها حكومات "رئاسات" رئاسة قبيلة أو أحلاف. وقد يحلو للرئيس أن نحتار له "ملك"، لقب لا يعني في الواقع العملي أكثر من سيد قبيلة. وحكومات باطن جزيرة العرب هي من هذا النوع في الأكثر. أما الملكيات فقامت في مواضع الحضارة، حيث التربهّ الصالحة الخصبة المساعدة على حياة التجمع والاستقرار. ووجود حضر َيقبلون بالطاعة والخضوع لحكم حاكم، ومال يجبى من الناس ليستعين به الحاكم على الانفاق على نفسه وعلى جيشه وعلى من ينصبهم لادارة الأمور. قامت تلك الملكيات في العراق وفي بلاَد الشام وفي أطراف جزيرة العرب وفي مواضع الماء من نجد كاليمامة. وقد تكلمت عنها في الأجزاء السابقة من هذا الكتاب.

أما الرئاسة، فهى درجات تبدأ برئاسة بيت، وتنتهي برئاسة قبيلة. ولكل رئيس سلطان على أتباعه وحقوق وواجبات. وعليه أيضا حقوق وواجبات يجب أن يوفي بها لأتباعه ومن هم في عنقه ويمينه. والرئيس هو "بعل" و "رب" و "سيد" جماعه والمسؤول الشرعي عن أتباعه، وهو ممثلهم ولسانهم الناطق باسمهم وحاميهم في الملمات.

وقد عرف "هشام بن المغيرة" ب "رب قريش" ونسبت قريش اليه في الجاهلية، فقال الشاعر: أحاديث شاعت من معد وحمير  وخبّرها الركبان حيّ هشـام

وذلك تعظيماً له واحراماً لشأنه.

ويعرف رئيس القبيلة ب "سيد القبيلة"، وسادات القبائل هم رؤساء القبائل.

وقد ينعت رجل ب "سيد العرب" وب "سيد مضر" وب "سيد أهل الوبر"، وذلك لتعبير عن سلطانه وعن مكانته وعن حكمه لقبائل كثيرة عديدة. فقد نعت "الأفكل"، وهو "عمرو بن جعيد" ب "سيد ربيعة" لرئاسته على ربيعة. وعرف "حذيقة بن بدر" ب "سيد غطفان"، وكان يقال له: "رب معد".

وعرف "قيس بن عاصم بن سنان المنقري" ب "سيد أهل الوبر"،- فلما وفد على رسول الله في وفد "تميم"، قالَ رسول الله: " هذا سيد أهل الوبر". وكان ممن حرم الخمر على نفسه في الجاهلية، لأنه سكر فعبث بذي محرم له.

وعرف حاكم "تدمر" ب "رش تذمور"، أي "رأس تدمر" و"رئيس تدمر"، في الكتابات التدمرية القديمة. ثم عرف ب "ملك"، في الكتابات المتأخرهَ المدونة وصار اللقب الرسمي لحكام "تدمر" في ايام "الزباّء" فما بعد، إلى احتلاَل الرومان لتدمر وإلغائهم الحكم التدمري.

ولقب "أذينة" ملك "تدمر" نفسه ب "ملك ملكا" أي "ملك الملوك" أيضاً، تشبهاً مملوك الفرس وبملوك حكموا قبلهم مثل الملوك الأشوريين، واتخذ لنفسه ألقاباً يونانية تقليدا للرومان. ولم نعثر في النصوص العربية الجنوبية على لقب "ملك الملوك". ويظهر ان الملوك العرب لم يتلقبوا بهذا اللقب الأعجمي.

المكربون

وترينا أقدم الكتابات العربية ان العربية الجنوبية حكمها قبل الملوك أناس حكموا حكماً مزدوجاً، أي حكماً دينياً ودنيويأَ، على نحو ما حدث في العراق وفي مصر وفي أماكن أخرى من الشرق، قبل أن ينتقل الحكم إلى الملوك، ويتحول. الى حكم زمني، ينصرف فيه.الملك إلى الأمور الزمنية لرعيته، تاركاً الشؤون الدينية لرجال الدين، حكموا الأرض باسم ألسماء،وحكموا حكم الساسة والحكام،.ونطقوا باسم الآلهة، فحكمهم حكم إلهي مقدس، على أتباعهم ومن يؤمن بهم إطاعتهم، لأنهم ألسنة الآلهة الناطقة على هذه الأرض.

ويعرف هذا الكاهن الملك ب "مكرب"، أي "مقرب". وقد حصانا من كتابات المسند على أسماء عدد من "المكربين"، غير ان تلك الكتابات خرساء، لم تبح لنا بشئ ما عن أصول حكمهم للمعابد ولإدارة الدولة ولا عن كيفية تلقيهم الأوامر الإلهية التي يطلبون من أتباعهم تنفيذها، هل كانت وهل وحياً من الآلهة، يحملها اليهم ملائكة مقربون، أو إلهاما يتجلى في نفوسهم فينطق به المكربون ويبلغونه للناس،أو صوتاً يخرج منَ رئِيّ أو صنم أو ما شاكل ذلك يسمعه "المكرب" فيفسره للناس على طريقة الكهان ? وليس في نصوص المسند تعليل ما للدوافع والاسباب التي حملت آخر "مكرب" في كل دولة من الدول العربية الجنوبية على تغيير لقبه القديم، الموروث عن ابائه، واتخاذ لقب جديد، لقب "ملك"، وهو لقب يشير إلى الحكم الدنيوي فقط، والى ابتعاد الملك عن الحكم الديني وتركه لغيره. غير اننا نستطيع أن نقول باحتمال تأثر هؤلاء "ألمكربين" بالمظاهر الخارجية اإني كانت عند الدول المعاصرة التي لقبت حكامها بلقب ملك، وهي دول كبيرة ذات جاه وسلطان فأراد أولئك الحكام، حكام حكومات اليمن، التشبه بهم، ومحاكاتهم في المظهر، فغيروا لقبهم، ليظهروا أنفسهم انهم مثلهم، وانهم ليسوا أقل شأناً من أقرانهم الملوك.

ولا يظن أن التغيير الذي حدث فأدى إلى إبدال حكم "المكربين"بحكم الملوك كان تغيراً قسربا، أي نتيجة انقلاب عسكري أو ثورة، ذلك لأننا نعلم أن آخر مكرب من مكربي سبأ كان هو المكرب "كرب ال وتر" "كرب ايل وتر". وقد كان هذا المكرب أول من افتتح العهد الملكي في سبأ، وأول من حمل لقب "ملك وذلك يدل على أنه هو الذي اختار اللقب الجديد، واستبدله بالقب القديم.

ولم يكن "المكرب" رجل دين بالمعنى المفهَوم من الجملة، أي عالماً بأمور الدين فقيهاً بها كرس وقته لها، ومتولياً إمامة الناس في صلواتهم وفي أداء الشعائر الدينية للارباب في معابدها، مقدماً القرابين بنفسه اليها، بل يرى بعض الباحثين أنه مجرد منصب له صبغته الدينية، وأنه يشبه منصب "الخليفة" في الإسلام "، حيث كان الخليقة يعد "أمير المؤمنين" ورئيس المسلمين. ولم يكن مع ذلك أعلم المسلمين بأمور الدين ولا أفقههم بالأحكام، وإنما هو "خليفةالله" في أرضه. وكذلك كان المكربون خلفاء الالهة على الأرض.

وقد استتبع انتقال الحكم من "المكربين" إلى الملوك، حدوث تغيير في أصول الحكم. فانقطعت صلة الملك بالمعبد، ولم يعد الرئيس المباشر له ولرجال الدين، وإن بقي الملك حامي الدين والمعبد. لما للمعبد من ارتباط بالدولة ولما للاثنين من مصالح مشتركة مترابطة، إذا اختلت أصاب الأذى الجهتين. وانصرف رئيس المعبد إلى ادارة المعبد وأملاكه الكثيرة الواسعة، والى جباية الضرائب الدينية، أي حقوق الالهة على الناس. وهي حقوق واجبة مفروضة. وانصرف الملك إلى ادارة الدولة، وجباية حقوقه على شعبه. وادارة املاكه الخاصة وأملاك الدولة،.التي هي أملاك الملك أيضاَ. حيث لم يفرق الملوك بين جيبهم الخاص وبين جيب الدولة. لأن الدولة الملك، والملك الدولة. وبيت المال هو بيت مال واحد، للملك أن يتصرف به كيف شاء.

الملك

وأما "الملك"، فهو الرئيس الأكبر والإنسان الأعلى في مجتمعه. ولفظة "ملك" من الألفاظ العربية القديمة التي ترد في جميع اللهجات العربية، وهي أيضاً من الألفاظ التي ترد في أغلب اللغات السامية. وقد تلقب بها ملوك العربية الجنوبية، وتلقب بها ملوك الحيرة وملوك آل غسان وملوك كندة، بل طمع في هذا اللقب أمراء وسادات قبائل،اعجبهم فلقبوا أنفسهم به.

ولا يعني هذا.ان حكم الملك كان دائما" "حكما شاملا واسعاً بالمعنى المفهوم من هذا اللقب،فقد كان سلطان الملك في بعض الأحيان لا يتجاوز سلطان سيد قبيلة، أو سلطان صاحب قرية أو أرض. وعلى ذلك نجد في العربية الجنوبية وفي أنحاء أخرى من جزيرة العرب عشرات من أمثال هؤلاء الملوك يحكمون قبائلهم أو أرضهم بهذه النعوت والصفات المغرية المحببة الى النفوس والقلوب، ذلك لأنهم أحبوا هذا اللقب، فلقبوا أنفسهم به، وصاروا ملوكاً، وهم في الواقع سادة قبائل أو أرض صغيرة. ونجد في كتب السير والتواريخ اسماء جملة "ملوك" عاشوا قبل الإسلام وعند ظهوره، لم يكونوا في الواقع سوى سادات "شيوخ" قبائل أو قرى، ولم يكن لهم على من حولهم نفوذ أو سلطان.

ومعنى "ملك"، الرأي والمشورة والنصيحة. و "ملَك"، بمعنى قدّ م رأياً أو نصيحة أو مشورة، وذلك في بعض اللغات السامية. وتعني كلمة "شارو" "شرو"، "الملك" في الأشورية، وهي في معنى "الحكيم" في الأصل، أي في المعنى المقدم. وتعني كلمة "مليخ" "ملخ"، أي "ملك" في العبرانية،الحّكيم الذي يقدم رأيا وحكما ومشورة، فهي في معنىCounseller , Adviser الانكليزية إذ كان الملوك بمنزلة الحكماء القضاة فيَ شعوبهم، ثم تخصصت بالحاكم الذي يحكم شعبه على النحو المفهوم من اللفظة عندنا.

وقد وردت لفظة "ملك" في نصوص المسند. وردت على هذه الصورة: "ملكن"، أي "الملك"، و "ملكم"، أي "ملكٌ". ووردت على هذه الصورة: "ملك" في النصوص الثمودية واللحيانية والصصوية. و"ملكو" في النصوص النبطية. أما في النصوص ألعربية الشمالية، فإن أقدم نص وردت فيه هذه اللفضة، هو نص "أم الجمال"،الذي يعود عهده إلى سنة "250" أو "275" بعد الميلاد. وهو شاهد قبر رجل اسمه "نهر بن سلى مربّ جذيمة ملك تنوخ" ونص " النمارة " الذى هو شاهد قبر الملك "امرء القيس"،وقد دون سنة"328" للميلاد.

ولا نعرف في الزمن الحاضر مكانة درجة من يحمل لقب "اخ ملكا" أي "أخي الملك" الوارد في النصوص النبطية. فلسنا ندري أكانت تعني "وصاية" أو "وزارة" أو مقرباً من الملك، ام تعني ان حامله من الأسرة المالكة.

ونطلق لفظة "تبع"، والجمع "التبابعة"، على ملوك حمير، بل تطلقها الموارد الإسلامية في بعض الأحيان على كل ملوك اليمن. فهي في معنى "ملك".

ولا يطلقونها على غيرهم، أي على الملوك الآخرين من ملوك العرب. فهي إذن اصطلاح خاص بأولئك الملوك. كما اصطلحوا على تسمية كل من ملك الحبشة "النجاشي"، وكل من ملك الروم "قيصر"، وكل من ملك الفرس "كسرى". وقد ذكر علماء اللغة في تفسيرها: "وتبع كانوا رؤساء، سمّوا بذلك لاتباع بعضهم بعضاً في الرئاسة والسياسة. وقيل تبع ملك يتبعه قومه والجمع التبابعة". وورد في القرآن الكريم: "وقوم تبع" في جملة الأقوام التي كذبت فحق عليها وعيد.

وذكر بعض أهل الأخبار "أن العرب لم تكن تسمي أحداَ تبعاً حتى يملك

اليمن والشحر وحضرموت، وقيل: حتى يتبعه بنو جشمَْ بن عبد شمس". فإن لم يكن كذلك سمي ملكاً، وأول من لقب منهم بذلك "الحارث بن ذي شمر"وهو الرائش. ولم يز ل هذا اللقب ملازماً لملوكهم إلى أن زالت مملكتهم بملك الحبش اليمن.

وذكر أن العرب كانت تسمي الملك "الحصير" ئ لك. لأنه محجوب عن الناس، أو لكونه حاصراً، أي مانعاً لمن أراد الوصول اليه. قال لبيد.

وقماقم غلب الرقاب كأنهم  جنّ على باب الحصير قيام

والمراد به النعمان بن المنذر. وروي لدى طرف الحصير قيام. أي عند طرف بساط النعمانْ.

وذكر بعض أهل الأخبار أن "حمير" تسمي الحاكم "الفتاح" بلغتها.

والعادة ان الملكية وراثية، تنتقل من الآباء إلى الأبناء، ويتولاها الابن الأكبر في الغالب. فإذا حكم هذا وتوفي، انتقلت إلى ابنه الأكبر، وهكذا. وبذلك يحرم إخوته الآخرون، إلا إذا نص الأب الملك على خلاف ذلك، كأن يذكر اسم الذي سيخلفه،أو يعين جملة أبناء أو أشخاص يحكمون من بعده على التوالي، فإذا توفي الابن الأكبر مثلا، انتقل الحكم إلى اخيه الذي يليه، وهكذا إلى نهاية الوصية. وقد يوصي المتوفى لأخيه من بعده، أو لإخوته، بدلاً من ابنه أو اولاده، فنظام الحكم اذن نظام وراثي في العادة، ينتقل طبيعة إلى الابن الأكبر للحاكم المتوفى، إلا إذا حدث خلاف ذلك، لوصية يوصيها المتوفى ولرأي يراه، أو لأحوال قاهرة كأن يكون الشخص المتوفى عقيماً لا عقب له، فقي مثل هذه الحالة ينتقل الحكم إلى أقرب الناس اليه، بحسب وراثة الدم، أو بحسب رأي الأسرة التي ينتمي اليها المتوفى.فيكون عندئذ لها وللمدنين والوجهاء الرأي والاختيار.

والعادة ان الحكم يكون في الأسر الكبيرة الرفيعة، ينتقل إما من أب إلى ابن على حسب العمر، وإما إلى أخٍ أو غيره من افراد الأسرة. وقد ينشب خصام بين افراد هذه الأسرة في موضوع تولي العرش، ولا سيما في العهود القديمة، حيث لم يكن العرف قد استقر على ضرورة انتقال الحكم من الأب إلى ابنه الأكبر. فتنقسم الأسرة، وقد يطول انقسامها، عند تكافؤ المتخاصمين واستعانة كل فريق على الاخر بمؤيدين اقوياء، فيدعي حق الحكم له، ويلقب زعيمه بلقب "ملك". وتفتح هذه الخصومات الأبواب لزعماء الأسر الكبيرة الأخرى،لمنافسة الأسر الحاكمة على الحكم، فتدعيه ايضاً لنفسها وقد تنجح مدة وقد تنجح في انتزاعه من الأسر الحاكمة وابتزازه لنفسها.

وقد يقارع تلك الأسر شخصِّ من سواد الناس من المغمورين، وينتزع الحكم من أصحابه، وذلك يفضل كفاية فيه، وقوة شخصية دفعته للتزعم وللطموح. وفي تأريخ الحكم في ألعربية الجنوبية أمثلة عديدة على ذلك. وقد يصر هذا الشخص مؤسس أسرة حاكمة جديدة، إذ ينتقل الحكم منه الى أبنائه أو اعضاء أسرته بعد وفاته، وقد يقتصر الحكم عليه، فإذا توزع وقتل أو مات، قتل حكمه بقتله، ومات اغتصابه له بموته.

وقد أرتنا بعض كتابات المسند أن العرب الجنوبيين، لم يجدوا غضاضة في تلقب أب وابنه أو اب وأبنائه أو أخ وإخوته بلقب "ملك" في وقت واحد، فقد انتهت الينا كتابات عديدة، وفيها أب يحمل لقب ملك، ومعه أبناؤه يحملون هذا اللقب كذلك، كما انتهت الينا كتابات يحمل فيها أخ وإخوته لقب "ملك". وقد يدلّ ذلك على اشتراك المذكورين في الكتابة اشتراكاً فعلياً في الحكم، غير ان ذلك لا يعني الحتمية، فقد يجوز أن يكون "الملك" برد لقب يمنح لذلك الشخص أو لأولئك الأشخاص ليشير إلى صلة الشخص أو الأشخاص به، أو إلى منزلته ومنزلتهم بين الناس.

وقد يكون ذلك.للتخفيف عن أعمال الملك بسبب من كثرة عمله أو من عدم تمشه من القيام بأعمال الملك كلها لضعف شخصيته وقابلياته، أو لمرض ألم به، أو لأن الملك أراد بذكرهم معه تدريبهم على أعمال الحكم، حتى يكونوا قد خبروا أمور الملك إذا انتقل الحكم اليهم، مع بقاء الملك الأصل في عرشه ومكانه، يمارس أعماله على نحو ما يريد.

ولم يصل الينا نص ما من العربية الجنوبية يشير إلى وجود امم ملكة على عرش إحدى الحكومات التي تكونت هناك. اما خارج العربية الجنوبية، وخارج جزيرة العرب، فقد وردت في الكتابات الآشورية وفي كتابات غيرها أسماء ملكات عربيات، وكل ذلك دليل على ان العرب الشماليين لم يجدوا ما يمنعهم من تعيين ملكات عليهم، وان ملكات ولينَ حكومات.

وقد كان ذلك قبل الإسلام بزمن طويل. أما في الأيام القريبة من الإسلام، فلم نعثر على اسم ملكه حكمت فيها، لا في الكتابات ولا في القصص الذي يرويه الاخباريون عن تلك الأيام.

ولا نعرف في جزيرة العرب نظاماً انتخابياً عاماً ينتخب الشعب فيه ملكه على النحو الذي نفهمه في الزمن الحاضر، أو على النحو الذي كان معروفاً عند الرومان أو اليونان في زمن من الأزمان، انتخاباً لأمد محدود معين بسنين أو لأمد طويل يحد حياة الإنسان، فلم يرد نصٌ ما فيه لشيء من ذلك، ولم يرد في قصص الأخبارين ما يشير إلى وجود مثل هذا الانتخاب.

ولا نعرف أيضاً ان المزاود وهي المجالس أو طبقة قادة الجيش أو سادة المدن والقبائل كان لها رأي في تعيين الملوك، أو إقرارهم على نحو ما كان يجري في الدولة البيزنطية. ولا نعرف كذلك اكَان لأحد حق اقالة الملوك وتنحيتهم عن عرشهم إذا تبين انه غير صالح لتولي الحكم لسبب من الأسباب، فإننا لم نتعرف حتى الآن على نصوص تتحدث عن مثل هذه الأمور. وأما قيام شخص من الأسرة المالكة أو من غيرها بمنافسة الملك أو بالثورة عليه وانتزاع الملك مكنه، فإن ذلك شيء آخر، يعود إلى أستعمال القوة والخروج عن الظاعة، وهما بالطبع من الأمور المخالفة في كل عهد وزمان.

لقد تحدث "الهمداني" عن طريقة من طرق تعيين المللك عند "حمير"،فقال: "وبأسفل المعافر قصرُ ذي شمر، ويدخلون في قيالة حمير، وكانت أقوالها تكون في كل عصر ثمانين قيلاً من وجوه حمير وكهلان، فإذا حدث بالملك حدث، كانوا الذين يقيمون القائم من بعده ويعقدون له العهد. وكان قيام الملك من قدماء حمير عن إجماع رأي كهلان، وفي الحديث عن رأي اقوال حمير فقط، وكانوا إذا لم يرتضوا بخلف الملك، تراضوا لخيرّهم، وأدخلوا مكانه رجلاً ممن يلحق بدرجة الأقوال، فيتم الثمانين قيلاً، ولم يكن هذا في حمير إلا مرات يسيرة لأن الملك لم ييكن يعدو الرائش، إلا ان يُتوفى الملك واولاده صغار، أو يكل، فيفعل ذلك حتى يتدبر في سواه من ال الرإئش.

وما ذكرته عن حكاية "الهَمْداني" عن كيفية تعيين الملوك في حمير، يؤيد كون الملكية في اليمن ملكية وراثية تنتقل في الأصل بالإرث من الأب الى الابن، إلا في الحالات الطارئة، مثل موت ملك فجأة وأولاده صغار، أو موته وهو عقيم لا خلف له، ولم يوص لأحد بالحكم من بعده، فيكون الرأي لسادات المملكة الذين جعل "الهمداني" عدة مجلسهم ثمانين قيلاً، فيختارون للملك من يرون أنه أكفأ الناس للملك، وينصبونه ملكاً. وقد رأينا انه نص في حديثه هذا على أن ما ذكره يتناول حالات خاصة، وقد وقع في مرات يسيرة، لأن الملك لم يكن يعدو الإرث المعهود عنهم الذي ينتقل في الأسرهّ المالكة.

ولعلّ هذه الظروف الطارئة هي التي حملت الملك على تنصيب ابن له أو ابنين أو أخ له ملكاً معه يلقب بلقب الحكم في أثناء حياته، ويذكر ويذكرون بعده في الكتابات. وغايته من هذا النص هو أن الشخص المذكور اسمه بعد اسم الملك، هو الذي يرث الملك بعد وفاة الملك لسبب من الأسباب، فلا يقع حينئذ خلاف ما في تعيين الشخص الذي سيلي الملك. ولعل ذلك كان يحدث عند مرض الملك أو عند تقدمه في السنّ وشعوره بالعجز والكلال، أو لكونه محارباً فهو يخشى أن يقتل في المعارك، وما أشبه هذا، فكان يحتاط لذلك بالنص على اسم من يليه وتعيينه معه ليعينه في تحمل أعباء الحكم، حتى إذا حدث له حادث يكون قد تدرب على ادارة الملك.

وذكر بعض اهل الأخبار انه لم يكن لملوك اليمن نظام، وانما كان الرئيس منهم يكون ملكاً على مخلافه لا يتجاوزه. وإن تجاوز بعضهم عن مخلافه بمسافة يسيرة من غير ان يرث ذلك الملك عن ابائه فلا يرثه أبناؤه عنه، وانما هو شأن شذاذ المتلصصة، يغيرون على النواحي باستغفالِ اهلها، فإذا قصدهم الطلب لم يكن لهم ثبات. وكذلك كان امر ملوك اليمن، يخرج احدهم من مخلافه بعض الأحيان، ويبدو في الغزو والإغارة، فيصيب ما يمرّ به، ثم يرجع عنه، عند خوف الطلب، زاحفاً إلى مكانه من غير ان يدين "له احد من غير مخلافه بالطاعة أو يؤدي اليه خراجاً.

وقد اخذوا وصفهم هذا السلوك من الحالة السياسية التي كانت في اليمن وفي بقية العربية الجنوبية، ايام تدهور الأوضاع بعد الميلاد، ولا سيما في أوائل القرن السادس للميلاد إلى دخول العربية الجنوبية في الإسلام. فقد استبد الحكام وأصحاب الاقطاع بالمخاليف، ولقبوا أنفسهم بألقاب الملك، وأخذ بعضهم يغير على بعض، ويغزو ارض جاره على طريقة الأعراب.

والسيادة على القبيلة، هي كالملكية تنتقل إلى مستحقها بالوراثة في الغالب. فإذا توفي سيد قبيلة، انتقلت سيادتها إلى ابنه الأكبر. هذا عامر بن الطفيل، وهو ابن سيد قبيلة، وقد صار سيدها بعد وفاة والده، يفتخر بنفسه، ويذكر انه ورث السيادة من وراثة، اذ أتته من والده، هذا صحيح، وليس في ذلك. من شك، لكن قومه لم يسوّدوه ولم يعيّنوه مكان ابيه، لهذا السب، وانما سودوه لأنه كان يحمي حمى قبيلته ويذب عنها،ولأن فيه شروط السيادة وحقوقها، فهو سيد قومه، قبل ان تأتي السيادة اليه من والده: وإني وإن كنت ابن سيد عـامـر  وفارسها المشهور في كل موكب

فما سودتني ني عامر مـن وراثة  أبى الله أن أسمـو بـأم ولا أب

ولكنني أحمي حماهـا وأتـقـي  أذاها وأرمي من رماها بمنكـب

وهذا "بشامة بن الغدير"، خال "أبي سلمى" والد زهير، يقول في شعر له:- وجدت أبي فيهم وجَدّي كليهمـا  يطاع ويؤتى أمره وهوُ محشتبي

فلم أتعمّل لـمـسـيادة فـيهـم  ولكن أتتني طائعاً غيرمتـعـب

فهو رئيس ابن رئيس قبيلة،أتته السيادة من أبيه طائعة، لفضل فيه واستحقاق لها، دون ان يعمل وان يركض للحصول عليها. فالسيادة اذن عند العرب، تتبع نظام الارث في الغالب، إلا إذا حدث حادث يجعل أهل بيت السيادة، يعرضون عن الإبن الأكبر الى غيره، كأن يكون الآبن الأكبر معتوهاً أو سفيهاً أو ضعيفاً، واخوته أو أقرباؤه أقوى منه.

الأمراء

والأمير ذو الأمر، اي الآمر. وأولو الأمر: الرؤساء واهل العلم. وذكر ان الأمير الملك لنفاذ أمره، والجمع امراء، وهو يأمر إمارة. ولما كان الخليفة في الإسلام اميراً على المسلمين، نعت ب "أمر المؤمنين"، ولم ترد اللفظة في النصوص الجاهلية بمعنى "ملك". ويظهر انها كانت تعني عند اهل الحجاز الرئيس الآمر. وقد ورد في كتب التأريخ ان الأنصار لما اختلفوا مع المهاجرين بعد وفاة الرسول على "الإمارة" واجتمعوا في "سقيفة بني ساعدة" قالوا: " منا أمير ومنكم أمير ". وفي استعمال الأنصار لهذه اللفظة، دلالة على وجودها عند الجاهليين واستعمال اهل الحجاز لها بهذا المعنى في ايام الجاهلية.

ويظهر من الموارد "البيزنطية" ومن روايات اهل الأخبار، أن الملوك الغساسنة والملوك من "ال نصر"، اي ملوك الحيرة، لم يكونوا ملوكاً بالمعنى العلمي الصحيح المفهوم من الكلمة، وإنما كانوا "عمّالاً"، إذا كاتبهم الروم أو الفرس، لقبوهم ب "عامل". إذ عينوهم عمالاً على الأعراب ولم يعينوهم "ملوكاً". فلقب "ملك" من الألقاب الخاصة بملوك الروم لم يمنحوه لغيرهم. وكذلك كان الشأن عند الفرس. نعم لقد ذكر المؤرخ "بروكوبيوس" Procopius ان القيصر "يسطنيانوس" Justinianus منح "الحارث بن جبلة" لقب "ملك" ولقب بعض الكتبة اليونان سادات غسان باللقب المذكور. غير ان هذا التلقيب لا يمكن ان يكون دليلاً على أن الدولة الييزنطية كانت تطلقه عليهم بصفة رسمية وانه كان لقبهم الرسمي المعترف به عند الدول الأجنبية. ومن هنا شك المستشرق "نولدكه" في صحة رواية "بروكوبيوس" بشأن منح الحارث لقب "ملك"، ذلك لأن لقب "ملك" كان خاصاً كما ذكرت بقياصرة البيزنطيين فلا يمنح لغيرهم، ولأن الوثائق الرسمية لم تطلق هذا اللقب عليهم. ثم إن نص اًبرهة الشهير الذي تحدثت عنه أثناء حديثي عن "ابرهة"، لم يلقب "المنذر" ولا "الحارث بن جبلة" بلقب "ملك"، بل لم يلقبهما بأي لقب، بما في ذلك لقب عامل. وهذا مما يدل على أن "آل نصر" و "آل غسان" وإن لقبوا أنفسهم بلقب "ملك" أو لقبهم العرب به، إلا ان ذلك التلقيب لم يكن بصفة دولية رسمية، وانما كان بصورة غير رسمية وعلى سبيل التجمل بهذا اللقب

والتشبه بالملوك الأجانب، استعمله الناس من باب التزلف والتقرب إلى اولئك الحكام، أو انهم نظروا اليهم من وجهة نظرهم الخاصة، فدعوهم ملوكاً لأنهم كانوا رعيتهم وكانوا هم مالكي رقبتهم. ومن هنا اعترفوا بهم ملوكاً، أما الدول الأجنبية فقد اعتبرتهم مجرد عمال وسادات قبائل.

والذي صح اطلاقه على أمراء الغساسنة، وثبت وجوده في الوثائق الرسمية، هو لقب "بطريق" Patricius، ولقب "عامل" أو رئيس قبيلة Phylarcos=Phylarkos=Phylarchus مقروناٌ بنعت من النعوت التابعة له، أو مجردا منه، كالذي جاء عن المنذر الذي حكم بعد الحارث بن جبلة "فلابيوس المنذر البطريق الفائق المديح، ورئيس القبيلة"، و "المنذر البطريق الفائق المديح،، وما ورد عن الحارث "الحارث البطريق ورئيس القبيلة".

ولقب "اليطريق" من ألقاب الشرف الضخمة عند الروم، ولذلك لم يكن يمنح إلا لعدد قليل من الخاصة، ولصاحبه امتيازات ومنزلة في الدرلة حتى ان بعض الملوك كانوا يحبذون الحصول على هذا اللقب من القيصر، ويفضلونه على غيره من الألقاب.

ويلاحظ أن بعض كتبة اليونان أطلقوا لقب "ملك" على الأمراء العرب، مثل "ماوية" فقد لقبوها ب "ملكة". ولم يستعملوا كلمة "فيلارك" "فيلارخ" "فيلاركس" "فيلاركوس" التي تعني "العامل" أو "سيد قبيلة". والظاهر انهم نهجوا في ذلك نهج الكتبة "السريان"، فقد لقبوا سادات القبائل العربية بلقب "ملك" على نحو ما نجلد في الشعر العربي. ويظهر ان عرب العراق كانوا قد لقببوا حكام "الحيرة" بلقب "ملك" و "ملوك"، وأن عرب بلاد الشام لقبوا حكامهم الغساسنة بلقب "ملك" كذلك، وذلك على سبيل التفخيم والتعظيم كما ذكرت، وباعتبار انهم حكامهم ومالكو أمرهم. كما لقب من خضع ل "ال آكل المرار " حكامهم من هذه العائلة بلقب "ملك". وكما لقب بعض سادات القبائل أنفسهم بلقب "ملك"، ولم يكونوا ملوكاً، بل كانوا سادات قبائل و "أمراء".

ومما يؤيد أن حكام الحيرة وغسان، لم يكونوا "ملوكاً" في نظر الدول الأجنبية بل عمالاً، ما نجده من اطلاق أهل الأخبار عليهم لقب "عامل" ولقب "ملك" أيضاً. فكانوا إذا تحدثوا عن صلاتهم بالفرس، أو نقلوا من موارد فارسية قالوا لهم "عمالاً"، وقالوا عنهم جملاً مثل: " كان يلي ذلك من قبل ملوك الفرس من آل نصر... وقدر ولاية كل من ولي منهم. وأمثال ذلك من جمل تشعر أنهم كانوا عمالاً وولاة. أما إذا تحدثوا عنهم من ناحية حكمهم للحيرة وللعرب وعن صلاتهم بالشعراء وبمدد حكمهم لقبوهم ب "ملك" وقالوا: "وقد ملك...."، وسبب ذلك أنهم أخذوا أخبارهم من منبعين: منبع اجنبي يوناني وفارسي، وهو منبع وثائقه -مدوّنة ومورودة من الموارد الرسمية التي تنعتهم ب"عمال". ومنبع عربي يلقبهم ب "ملوك"، استند على العرف العربي أي على ما كان يخاطب به العرب أولئك الملوك، فوقع من ثم هذا الالتباس.

السادات

وسادة القوم أشرافهم ورؤسائهم، وذكر ان السيد الذي فاق غيره بالعقل والمال والدفع والنفع، المعطى ماله في حقوقه المعين بنفسه. وذكر ان السيد الحليم الذي لا يغلبه غضبه.

والسيادة منزلة ودرجة، ولا تأتي أحداً إلا باعتراف قومه له بسيادته عليهم وبتنصيبهم له سيداً عليهم. إذا سوّدوا شخصاً، عصبوه. والتعصيب التسويد. ولهذا كانوا يسمّون السيد المطاع معصباً. وذكر ان العصابة العمامة. وكانت عمائم سادة العرب هي العمائم الحمر.

وتعد الأسر الحاكمة التي ينشأ فيها عدد كبير من الملوك والحكام أسراً عريقة في الشرف. وينظر اليها نظرة تقدير واحترام، لأنهم ورثوا المجد عن آبائهم أباً بعد أب.وينطبق ذلك على سادات القبائل الذين يرثون سيادتهم على قبائلهم أباً عن جد، فإنهم يفتخرون بذلك على غيرهم، لأنهم ليسوا من أولئك الذين انتزعوا السيادة فصاروا سادة، على حين كان آباؤهم أو أجدادهم من الخاملين.

ويعبر عن السادة والأشراف بتعابير التعظيم والتفخيم، ومنها لفظة "ابعل" "أبعل"، أي سيد ورئيس. وهي لفظة استعملت للالهة كذلك. استعملت بمعنى رب وإله. فورد "ود بعل..."، و "عثتر بعل..."، وهكذا. وقد استعملت في النصوص القديمة خاصة.

ويقال للسادة "اسود" "اسواد" في العربية الجنوبية، وهم السادة الأشراف. وتقابل اللفظة لفظة سادات في عربيتنا. وهم سادة القوم وأشرافهم وأصحاب المنزلة والمكانة في المجتمع.

ويعد أعضاء الأسر المالكة في طليعة السادات، وهم في السيادة على حسب قربهم أو بعدهم من الملك، ويقسمون على هذا الأساس عند حضورهم إلى الملك وفي المواسم الرسمية. ولهم أرضون يستغلونها، ورقق يخدمهم.

وكانوا يقولون: "هذا سيدنا"، و "انظروا إلى سيدكم"، و "جاء سيدنا"، تعبيراً عن السيادة والرئاسة. وقد كره الرسول أن يقال له: "أنت سيد قريش"، و "أنت سيدنا"، كما كانوا يدعون رؤساءهم.

علائم الملك

وللملك علامات ومميزات تميزه عن غيره من الناس. منها "التاج" والعرش والرمح أو الحربة وعربة الملك والحرس الخاص ووجود محل خاص يخصص له في المعبد ونقد يضرب عليه اسمه وشعاره وصورته. و "قصر" له يحكم منه، أو قبة كبيرة يتخذها قراراً له ومجلساً حين يبتدي أو يخرج للصيد إلى غير ذلك من علامات، تكون سيماء للملك، وعلامة فارقة تميزه عن رعيته وعن سواد مملكته. وقد وصلت الينا بعض الاثار التي تشير الى شعار الملوك وعلائمهم ومنها النقود. فلدى العلماء وفي المتاحف العامة والخاصة اليوم، نقود ضربت في العربية الجنوبية، منها نقود معينية وقتبانية وحميرية. وقد ضرب عليها أسماء الملوك أصحابها. ومن ذلك نقد ظهر الملك "اب يثع" "ا ب ي ث ع" "ابيشع" فيه وهو جالس على كرسي، لعله يرمز إلى كرسي العرش. أما رأسه، فهو مكشوف بغير غطاء. مما يدل على أنه لم يستعمل "التاج". ولا نجد التاج على رؤوس يقية الملوك ممن ضربت صورهم على النقود. ولا على التماثيل التي عثر عليها لبعض ملوك أوسان.

ولما كنّا لا نملك في الوقت الحاضر، صور ملوك جاهليين، ولا تماثيل كافية أو كتابات تشير إلى شعار الملوك وعلاماتهم ونوع ملابسهم وأمثال ذلك مما يميز الملوك عن الرعية، لذلك صار الحديث في هذا الموضوع من اختصاص الأجيال القادمة، فلعلها تعثر على آثار هي الآن في باطن الأرض، فيها حديث شيق عنه، فتقدمه لهم لنشره للناس.

ومن علامات الملك "العمارة: رقعة مزينة تخاط في المظلة علامة للرياسة.

و "العمار": ما يضعه الرئيس على رأسه عمارة لرياسته وحفظاً لها، ريحاناً كان أو عمامة. وكانوا إذا استقبلوا ملكاً أو رئيساً، استقبلوه بالريحان، يرفعونه له، وكانوا إذا جلسوا مجالس شربهم، زينوها بالريحان، فإذا دخل عليهم داخل، رفعوا شيئاً منة بأيديهم وحيوه به.كما كانوا يضعون أكاليل الريحان على رؤوسهم كما تفعل العجم. وإذا سار الملك بين الناس، استقبلوه برمي الريحان عليه، وبنثر الورود عليهم، تحية للملوك.

وذكر ان من علائم الملك، أن يقال للملك أو السيد المطاعَ: "أبيت اللعن".

وقد زعموا أن "حذيفة بن بدر" كان يحيىّ بتحية الملوك ويقال له: أبيت اللعن. وقد ترك ذلك في الإسلام.

مظاهر التتويج

وكان من عادة الملوك الاعلان عن تتويجهم للناس، والاحتفال بيوم التتويج والإفصاح عنه، وعندئذ يتلقب الملك بلقب يختاره لنفسه، يعرف به "هملقب".

وكان من عادة ملوك حضرموت مثلاً الاحتفال بحمل اللقب في "محفد أنود" "محفد انودم". وقد انتهت الينا جملة كتابات تشير إلى هذا المحفد. وقد اختتمت بكلمة "هملقب" أي "ليتلقب"، واستعملت فيها بعض التعابير والكلمات التي لها صلة بهذه المناسبة، مثل "متلل"، ومعناها "بين" و "شهر" وأظهر، و "علن"، ومعناها أعلن، ليكون ذلك معروفاً بين الناس.

وقد يدعى إلى هذه الاحتفالات رجال من حكومات أخرى، لمشاركة الملك وحكومته في الأفراح والمسرّات، فيأتي رجال من قتبان أو من حضرموت أو من حكومات أخرى أى سبأ مثلاً، لتهنئة ملكها وحكومتها، يحملون اليه الهدايا والألطاف التي تقدم في أمثال هذه المناسبات. ولا يستبعد استدعاء مندوبين من خارج العربية الجنوبية لحضور هذه المناسبات، غير أننا لم نظفر، ويا للأسف، بنص يفيد ورود رسل أجانب أو زيارات ملوك إلى اليمن وبقية العربية الجنوبية لهذه المناسبات، ان لمناسبات أخرى مثل الدعوة إلى زيارة العربية الجنوبية ومشاهدتها في الأعياد أو في سائر الأيام، إلا ما رأيناه في عهد "أبرهة" الحبشي.

وقد حافظ ملوك العربية الجنوبية، على اختلاف حكوماتهم، على عادة اتخاذ الألقاب الملكية حين تولي العرش. فالرجل الذيُ يملك لا بد له من اتخاذ لقب له، يعرف به. وقد بقوا يحافظون على هذه العادة إلى ما بعد الميلاد. ثم أخذوا يتساهلون في حمل هذه الألقاب ولا سيما بعد تدخل الحبش في شؤون العربية الجنوبية ودخول اليهودية والنصرانية اليها. وقد كان فراعنة مصر يتخذون لهم لقباً ملكياَ عند توليهم العرش. وتجد هذه العادة، عادة اتخاذ ألقاب ملكية خاصة، عند ملوك آشور وعند غيرهم من الملوك، ليتميزوا بذلك عن أسماء الناس. ولهذه الألقاب صلة بالألهة التي كانوا يعبدون.

ومعارفنا في "مراسيم التتوييج" مع ذلك ضئيلة جداً، ولا سيما ما يخص العرب الشماليين، فلا نعرف اليوم شيئاً يستحق الذكر عن كيفية التتويج وعن المراسيم والحفلات التي كانت. تقام عندهم في هذه المناسبات. ولم نعثر حتى اليوم على نص جاهلي يصف أسلوب التتويج وكيفية اجراء المراسيم الخاصة بالتتويج عند الجاهليين عامة. فلا ندري أكانت تلك المراسيم تتم في المعابد وبرئاسة رجال الدين كما كانت الحال عند الاشورين وعند غيرهم مثلاً، حيث يقوم رجل الدين الأكبر بإجراء الطقوس الدينية وبتلاوة الصلوات والأدعية، ثم يقوم بعد ذلك بوضع التاج على راْس الملك، وأمام تمثال الإلهَ: "آشور". أم كانت تلك المراسيم تتم في القصور الملكية، ام كانت تجري بسذاجة وبغير تكلف، بأن يأتي، سادات القوم لتهنئة الملك، ثم تقام المآدب.

ويظهر من أخبار أهل الأخبار ان عادة اتخاذ الألقاب الملكية لم تكن معروفة عند ملوك الحيرة والغساسنة وملوك كندة وأمثالهم ممن وعت أسماءهم ذاكرتهم، بدليل ورود أسمائهم ساذجة لا تختلف عن تسميات الناس بشيء ليمس فيها نعوت ولا صلة بالآلهة على نحو ما نجده في العربية الجنوبية عند المعينيين والسبئين والقتبانيين، وغيرهم من حكومات ظهرت هناك.

ولم تصل الينا أخبار في وصف كيفية احتفال ملوك الحيرة أو الغساسنة عند تتويجهم، أو عند وفاة ملوكلهم وكيفية دفنهم، ثم كيفية تنصيب خلفائهم من بعدهم. ولا بد بالطيع من أن تكون تلك الحكومات قد احتفلت في هذه المناسبات،وأن يكون ملوكها قد جلسوا لتقبل التهاني من الهنئين، وأن يكونوا قد أولموا الولائم لكبار الوافدين عليهم. وتجد في أخبار "مكة" أن سادتها مثل "عبد المطلب"، كانوا يقصدون ملوك اليمن عند انتقال العرش اليهم لتهنئتهم ولتقديم التبريكات لهم. ثم يمضون أياماً هناك حتى تنتهي ايام التهنئة، فيغدق الملك عليهم بالألطاف والطرف، لمناسبة عودتهم إلى ديارهم. وتكون هذه الألطاف من دواعي الفخر عندهم.

ولا نعرف شيئاً عن رسوم "البيعة" عند الجاهليين. وأعني بالبيعة كيفية مبايعة الملوك عند انتقال الملك اليهم. ولكن المألوف بين العرب ان كبار الناس يبايعون الملوك، بوضع أيديهم اليمنى على يد الملك اليمنى، ثم يبايعونه على الاخلاص له والسمع والطاعة وما شاكل ذلك من جمل وعبارات. وقد يقسمون له بمين الطاعة والولاء. وقد ورد في بيعة الناس لرسول اللّه يوم فتح مكة،ما قد يشرح لنا اصول بيعة في الحجاز. فقد ذكر ان الناس اجتمعوا، فجلس لهم رسول اللّه على الصفا وعمر بن الخطاب تحت رسول الله، أسفل من مجلسه يأخذ على الناس. فبايعوا رسول اللّه على السمع والطاعة لله ولرسوله فيما استطاعوا، وكذلك كانت بيعتهم لمن بايع رسول الله من الناس على الإسلام. فلما فرغ رسول الله من بيعة الرجال بايع النساء، واجتمع اليه نساء من نساء قريش، وكانوا قد وضعوا إناءً فيه ماء بين يدي رسول اللّه، فإذا أخذ عليهن العهد وأعطينه غمس يده في الإناء، ثم أخرجها، فغمس النساء أيديهن فيه.وكان بعد ذلك يأخذ عليهن، فإذا أعطينه ما شرط عليهن، قال: اذهبن فقد بايعتكن، لا يزيد على ذلك. وتكون هذه البيعة بغيرماء.

وتكون المبايعة مبايعة السادات والأشراف للملك أو لسيد القبيلة. والمبايعة هي المعاقدة والمعاهدة على الطاعة. وبايعه عليه مبايعة عاهده. كأن كل واحد منهما باع ما عنده لصاحبه وأعطاه خالصة نفسه وطاعته ودخيلة أمره. ويبدأ أقرب الناس من الملك بمبايعته ثم الأبعد فالأبعد حسب الوجاهة والمكانة. ولا بد وأن يكون للشعراء والخطباء المكان الأول في "البيعة"، فالبيعة هي من المناسبات ألتي يبحث عنها لسن الناس، لإظهار انفسهم وللحصول على نوال وعطايا المبايعَن، ولا تحدث هذه المناسبات إلا في الفترات، لهذا كانوا يتلهفون لسماع أخبارها، لعرض ما عندهم من فنون القول، ولنيل ما عند الملوك من الكرم والبذل.

وكان ملوك الجاهلية يأخذون الوضائع والودائع من السادات والوجوه، لتكون رهائن عندهم بالوفاء بعهود البيعة، لخشيهمم من خيسهم بعهدهم وتنصلهم منه. وقد فعل "الأكاسرة" مثل ذلك بسادات القبائل، فأخذوا "الوضائع" منهم، وجعلوها رهناً عندهم. وقد عرفت ب "وضائع كسرى". ووضائع كسرى: هم الرهائن كان يرتهنهم وينزلهم بعض بلاده، حتى يصيروا بها وضيعة. وهم الشحن والمسالح. وقد بعث رسول اللّه، إلى وضائع كسرى بهجر، فلم يسلموا، فوضع عليهم الجزية ديناراً على كل رجل منهم. وكانت "وضائع كسرى" من أبناء أشراف العجم، ومن خضع لحكمه من عجم وعرب.

التيجان

ويضع الملوك شيئاً فوق رؤوسهم، يتوجون به أنفسهم ليميزهم بذلك عن الرعية، يسمى "التاج" في عربيتنا.

ولا نعرف في الزمن الحاضر اسم "التاج" في العربيات الجنوبية. لعدم وروده في نصوص المسند. اما أهل الحيرة والغساسنة وعرب نجد والعربية الشرقية، فقد عرفوه واستعملوه، فورد في نص النمارة من سنة "328 م." حيث ورد "ذو اسر التج" أي "الذي حاز التاج". وهذا النص هو أقدم نص تأريخي مدون وردت فيه هذه الكلمة. وقد وردت الكلمة في الشعر، إذ جاء "تاج آل محرق" وفي أخبار."النعمان" حيث عرف "بذي التاج". وذكر علماء اللغة أن التيجان للملوك.

وقد رصع ملوك الحرة تيجانهم بالأحجار الكريمة على طريقة الفرس. وقد ورد في بيت شعر لمالك بن نويرة اليربوعي ان تاج النعمان بن المنذر كان من الزبرجد والياقوت والذهب.

ونحن إذا جهلنا اليوم التاج أو أي شعار آخر يشير إلى الملك والحكم كان يصنعه ملوك العربية الجنوبية على رؤوسهم ليكون سمة لهم تميزهم عن الرعية وعمن هم دونهم، فان ذلك لا يعني اننا ننكر وجوداً لشعار الملك عندهم، بل إني أرى انه لا بد أن يكون لأولئك الملوك من تاج ومن شعارات أخرى، كانوا يتخذونها لتميزهم عن غيرهم ولتشعرهم بأنهم أصحاب السلطان. وإذا كان لملوك الرومان والروم والحبشة والفرس تيجان، فِلمَ لا يكون لملوك العربية الجنوبية تيجان، وقد كانوا يحاكون ملوك زمانهم في رسوم الملك وأسلوب الحكم ? وفي عربيتنا لفظة أخرى استعملت لتمييز شخص، عن بقبة أناس في المنزلة والدرجات، هي لفظة "الإكليل". فلمن يضع الإكليل على رأسه منزلة رفيعة، إلا انها لا تبلغ درجة "ملك" ولا تؤدي معنى "تاج". فالتاج لا يكون إلا للملوك. وأما "الإكليل" فلمن دونهم. وقد كان شيئا يضعه الشخص فوق مفرق رأسه، قد يعلق به خرز وأحجار وقد لا يعلق. وقد ورد في بعض الأخبار أن "هوذة بن علي الحَنفي"، صاحب اليمامة، كان يضع إكليلا على رأسه، واليه أشار الأعشى في شعره: له أكاليل بالياقوت، فصهّلـهـا  صواغها لا ترى عيباَ ولا طبعا

وقد عرف "الإكليل" انه شبهه عصابة مزينة بالجواهر،ويسمى التاج إكليلاً. وقيل: إن الإكليل يجعل كالحلقة، ويوضع على أعلى الرأس.

وقد ورد في روايات أخرى ان كسرى أعطى "هوذة" قلنسوة فيها جوهر، فكان يلبسها، فسمّي ذا التاج. غير ان أكثر الروايات تعارض في حصول "هوذة" على التاج، وفي بلوغه منزلة ملك. وترى ان تلقيبه ب "ذي التاج" هو على سبيل المجاز، وان الذي كان يضع على رأسه هو إكليل،لا تاج من التيجان.

وذكر بعض الأخباريين أن التيجان كانت لليمن، وذكر أن غيرهم كانوا يتوجون أنفسهم بخرزات تنظم لهم. ويقال إن الملك كان إذا ملك سنةً زِيد في تاجه وقلادته خرزة،ليعلم عدد السنن التي ملك فيها. وذلك كالذي ورد في بيت شعر من قصيدة قالها لبِيد في رثاء النعمان بن المنذر، وهو قوله:. رعى خرزاتِ الملك عشرين حجة=وعشرين،حتى فادَ والشيب شامل وقد ورد في شعر أعشى بكر في هوذة بن علي الحنفي الذي كان يجيز لطيمة كسرى في كل عام: من يَرَ هوذة يسجُدْ غيرمُـتـئِب  إذا تعصّب فوق التاج أو وضعا

له أكاليل بالياقوت فصـلـهـا  صوّاغها لاترى عيبا ولا طبَعا

ويتبين من ذلك ان هوذة كان من أصحاب التيجان. غير أن بعض العلماء ينكرون وجود التيجان عند غير أهل اليمن، ويقولون كما ورد عن أبي عبيدة عن أبي عمرو: " لم يتتوج معدّي قط، وإنما كانت التيجان لليمن. ولما سئل عن هوذة بن علي الحنفي، قال: إنما كانت خرزات تنظم له.

وذكر ان عادة نظم الخرز في عقدْ يوضع على الرأس، ليكون شعارا للملك والحكم، عادة كانت معروفة في الحجَاز. وقد ورد ان "عبد الله بن أبي بن سلول" كان رجلاً شريفاً في يثرب لا يختلف عليه في شرفه من قومه اثنان، ولم تجتمع الأوس والخزرج قبله ولا بعده على رجل من أحد الفريقين غيره،وكان قومه قد نظموا له الخرز ليتوّجوه ثم يملكوه عليهم. فما راعه إلا مجيء الإسلام إلى يثرب وقدوم الرسول اليها، فانصرف قومه عنه، فضغن على الإسلام، وراى ان الرسول قد استلبه ملكه.

وورد فىِ الحديث أن الرسول: "شكا إلى سعد بن عبادة، عبد الله بن أُبَي، فقال اعف عنه، يا رسول الله، فقد كان اصطلح أهل البحيرة، على أن يعصبوه العصابة. فلما ا جاء اللّه بالإسلام، شرِق لذلك". ويعصبونه: معناه يسودونه ويملكونه، وكانوا يسمّون السيد المطاع معصباً، لأنه يعصب بالتاج. وفي ذلك قال عمرو بن كلثوم: وسيّد معشرٍ قد عصـبـوه  بتاج الملكِ،يحمي المحجَرينا

فجعل الملك معصباَ أيضاً، لأن التاج أحاط لي رأسه كالعصابة التي عصبت برأس لابسها. ويقال: اعصب التاج على رأسه، إذا استكفّ به، ومنه قول قيس الرقيات: يعتصب التاجُ فوق مفرقه  على جبينٍ كأنه الذهـب

ولا تؤدي لفظة "سموط" معنى "تاج"،بل ولا تبلغ في المنزلة منزلة "إكلبل". و "اسمط": الخيط ما دام الخرز أو اللؤلؤ منتظماَ فيه. وقد استعملت كلمة سموط في مقام التاج، للتعبير عن تاج ملوك الحيرة، غير انني أرى ان ذلك على سبيل التجوز، لا التخصيص. وقد ذكر علماء اللغة ان السمط يشدّ في العنق والجمع سموط.

ومن مظاهر الملك "السرير"، ويقال له "العرش" كذلك. ويعبر بالسرير عن الملك والنعمةْ. ويذكر أهل الأخبار ان أول من جلس على السرير من ملوك العرب "جذيمة الأبرش"، وهو أول من وقعت له السمعة من ملوك العرب، وأول من لبس الطوق. وقد أشير في القرآن إلى عرش ملكة سبأ، ويكنى به عن العزّ والسلطان والمملكة. ولذلك يقال: "عرش فلان" و "عرش الممكة" و "ثل عرشه"، و "أصحاب العروش" أي الملوك.

وذكر أهل الأخبار أن "السرير": الوِ ثاب. وقيل: السرير الذي لا يبرح الملك عليه، واسم الملك "موُثبان". والموثبان بلغة حمير: الملك الذي يقعد، ويلزم السرير. والوِ ثاب المقاعد. قال أمية بن أبي الصلت: بإذن اللّهِ، فإشتدت قـواهـم  على ملْكين، وهي لهم وثاب

وقد كان الملوك يلبسون قلائد عرفت ب "قلائد الملك". تكون من الذهب والأحجار الكريمة. وربما كان "السمط" قلادة تنظم من اللؤلؤ والأحجار الكريمة، يتقلدها الملك للزينة ولتكون شعاراَ للملك.

وذكر علماء اللغة أن كل ما يضعه الملوك والرؤساء على رؤوسهم من تاج أو عمامة أو قلنسوة أو غيره، فهو "عمارة". و "العمارة"، رقعة مزينة نخاط في المظلة علامة الرياسة، وهي "التحية" أيضاً.

ومن عادة الملوك استخدامهم الحراس يمشون معهم إذا ركبوا، دلالة على الملك، ولحراستهم. يمشون معهم، وقد تقلدوا سلاحهم ولبسوا ألبسة خاصة تشعر انهم من حرس السلطان. ويذكر أهل الأخبار ان أول من مشت الرجال معه، وهو راكب، "الأشعث بن قيس الكندي". كانت "بنو عمرو بن معاوية" ملّكوه عليهم وتوّجوه. وكَان من عادة الاشراف والسادات حتى في الإسلام، أن تسير مع ركابهم حاشية يتناسب عدد افرادها مع منزلة الشريف ومكانته وغناه. فكان "كريب بن أبرهة" سيد حمير في زمانه، إذا سار بالشأم خرج وتحت ركابه خمسمائة نفر من حمير يسعونْ.

القصور

وقد عرفت البيوت التي كان يقطن فيها المكربون وملوك العربية الجنوِبية يالقصور، مثل "قصر غندن" أي "قصر غمدان" و "قصر سلحن"، أي "قصر سلحين". ولفظة "قصر" من الألفاظ الواردة في العربيات الجنوبية. وقد أشار علماء اللغة والأخبار إلى "قصور اليمن"، وذلك يدل على اختصاص اليمن بها. وذكر علماء اللغة أن القصر: المنزل، وقيل: كل بيت من حجر. وترد في لغة بني إرم على هذه الصورة: "قصرو".

ويقطن القصور حرم الملوك، أي أزواجه. وقد يكون للملك زوج واحدة، وقد تكون له جملة أزواج، إذ كانت العادة أن يتزوج الملوك بجملة نساء، ليتمتع بهن، وقد يتزوج لعوامل سياسية، فيأخذ الملك ابنة سيد قبيلة كبير، أو ابنة رجل من أصحاب الجاه والسلطان ليقوي مركزه وليحصل على مؤازرة أصحاب البنت له.

وربما لا يكتفي الملك أو سيد القبيلة بالزوجة أو الزوجات، فيضيف اليها أو اليهن عدداً من "الجواري" والسراري، ممن وقعن في الأسر وعرفن بالجمال وحسن الذوق، ممن يشتريه من سوق النخاسة، وإذا ولد لهن مولود عدّ المولود من أبناء الملك أو سيد القبيلة إن قرر الملك أو سيد القبيلة ذلك، ويعامل معاملة أبناء الأسرة المالكة، غير أن الناس لم يكونوا ينكرون عليه نظرتهم إلى ابن ملك ولد من أم من بنات الأسر المالكة أو من أسرة شريفة معروفة.

ولملوك الحيرة قصور ذكر أهل الأخبار أسماء بعض منها. مثل: الخورنق والسدير، كما كان لملوك الغساسنة قصور في مواضع مختلفة من مملكتهم وقصور في دمشق، يمضون في اياماً عند زيارتهم لها، وعند وجود مراجعات لهم مع حكَامها من الروم. وقد ذكر أهل الأخبار أسماء بعض القصور التي بناها الغساسنة في مواضع متفرقة من الأرضين التي خضعت لحكمهم، تحدثت عنها في أثناء كلامي على الغساسنة في الجزء الثالث من هذا الكتاب: كما تحدثت عن قصور ملوك الحرة في الجزء نفسه.

وكان للملك "النعمان" قصر بالحيرة عرف ب" القصر الأبيض"، لبياضه، يظهر ان جدرانه كانت مجصصة، فظهرت بيضاء. ويذكر أهل الأخبار ان النعمان، كان عنده دواوين شعر فيها ما مدح به، أو ما مدح به آله. ثم أمر فدفنها في قصره هذا، فلما كان "المختار" قيل، له: إن تحت القصر كنزاً فأمر به فحفر، فاستخرج الكنز ثم صار إلى آل مروان أو ما صار منه. وكان هذا القصر دار ملكه ومقره في الحيرة، إذ لم يذكروا له قصراً آخر له فيها.

وكان للاكاسرة القصر الأبيض بالمدائن، ذكر انه كان من العجائب،ولم يزل قائماً الى إن نقضه "المكنفي بالله" العباسى في حدود سنة 290 ه.وبنى بشرفاته أساس التاج الذي بدار الخلافة وبأساسه شرفاته. وقد ذكره البحتري.

وذكر "الزبيدي"، اسم قصر دعاه "لحيان"، زعم أنه "قصر النعمان بن المنذر بن ساوى" بالحيرة. فهل، قصد بذلك شخصاً آخر من أهك الحيرة أم إنه وهم من أوهام عديدة نجدهم في "تاج العروس" في أمور تأريخية، قد يكون المسؤول عنها نسّاخ الكتاب في بعض الأحيان.

ونسب بعض، أهل الأخبار إلى "النعمان بن المنذر"، داراً، قالوا لها: "الزوراء".، ذكروا أن "أبا جعفر المنصور" هدمها.

الحكم وأخذ الرأي

ولم يكن الملوك في العربية الجنوبية أو العربية الغربية ملوكاً مطلقين لهم سلطان مطلق وحق إلهي في الدولة على نحو ما يريدون، ولكن كانوا ملوكاً

مطلقين لهم سلطان مطلق وحق الهي في ادارة الدولة على نحو ما يريدون ولكن كانوا ملوكا يستشيرون الاقيال والأذواء وسادات القبائل والناس وكبار رجال الدين فيما يريدون عمله، واتخاذ قرار بشأنه. وهو نظام تقدمي فيه شيء من الرأي والمشورة وحكم الشعب."الديمقراطية" بالقياس الى الملوك المطلقين الذين حكموا آشور وبابل ومصر وايرانْ.

أما الطبقات الضعيفة وبقية السواد من السوقة والفلاحين وما شاكلهم، فليس لهم رأي في تسيير الامور، ولا يستشارون في البت في أي شيء حتى في المسائل الصميمة المتعلقة بمصيرهم، ولم يكن عالم ذلك اليوم يحفل بسواد الناس،أي بالغالبية، لأن الرأي لأصحاب الوجاهة والسيادة والسلطان إذ ذاك، وفي كل مكان من أمكنة العالم.

وترينا الكتابات المعينة ان ملوك معين كانوا مقيدين في حالات معينة باخذ رأي "المزود" عند اتخاذ قرار خطير، ولذلك يذكر "المزود" عند صدور التشريعات والقرارات الخطيرة في نص القوانين والقرارات، للتعبير عن موافقته عليها وعلى انها صدرتْ بعد وقوفه عليها وأخذ الملك رأيه فيها. ويؤخذ رأي المعبد أيضاً، فقد ذكر في قرار بشأن الضرائب، وِذلك يدل على ان المعبد كان يستشار في المسائل الخطيرة أيضاً.

وقد تبين من بعض الكتابات ان ملوك العربية الجنوبية، قد أخذوا برأي الجمعيات وأصحاب الحرف والعمل، حتى لا يبرموا أمراً يظهر بعد تنفيذه انه غير واقعي ولا عملي، وانه سيلقى معارضة من بعض الفئات والطبقات. كما أخذوا برأي المستشارين وأصحاب الرأي من جماعة ال "فقضت" وال"بل"و "طبن" "الطبن"، وهم الملاكون، عند وضع القوانين.

وقد تبين من النص: Rep. Epigr. 2771 ان ملك معين استشار "المزود" في فرض ضريبة. وتبين من النص: Rep. Epigr. 2774 انه استشاره في فرض ضرائب خصصت بالمعبد. ولكننا نجد في نصوص أخرى، مثل النصر: Rep. Epigr. 3699أن الملك لم يستشر "المزود" حين أصدر أمره في موضوع زواج المعينيين بأهل "ددن" "ددان" "ديدان". ولعله فعل ذلك لأن موضوع الزواج موضوع اداري ولا علاقة له بالسياسة العامة أو بفرض الضرائب أو بالمسائل الداخلية الخطيرة،وهي الأمور التي يأخذ فيها الملك رأيَ المجلس. كما نجد الملك يصدر قانونا باسم "معن" "معين" أي شعب "معين" دون أن يذكَر اسم "المزود".

وقد تبين من بعض الكتابات أن ملوك معين أصدروا تشريعات في أمور لم يأخذوا فيها رأي المزود، لعدم ورود إشارة فيها اليه. فلدينا قرار في تنظيم أمور الزواج بين المعينيين وأهل "ددن" "ت يدان" ة لم يرد فيه ذكر للمزود. ولدينا قرار اخر لم يذكر فيه اسم المزود أيضا، غير أنه يشير إلى أنه صدر باسم شعب معين، مما قد يبعث على الظن بأن الملوك لم يكونوا ملزمين دائما بالرجو إلى رأي إلمزود ووجوب أخذ موافقته في كل قضية، بل في القضايا العامة الخطيره التي تخص مصير الشعب.

ويتبين من الكتابات السبئية أن ملوك سبأ ولا سيما قدماؤهم كانوا يتبعون سنُّة "معين" في الرجوع إلى رأي المزود في القضايا الخطيرة للدولة واصدار القوانين. فكَان الملك إذا أراد اصدار تشريع، أحاله على المزود ليبدي رأيه فيه وفي طليعة هذه المسائل القوانين الخاصة بالأرضين وبالزرع وبحصص الحكومة من الضرائب لما لها من صلة بمصالح رجال المزود. ومتى وافق المزود على القانون أحيل على الملك لتصديقه ولاعلانه.

وهنالك شبه كبير في موضوع التشريع بين القوانين القتبانية والقوانين السبئية العامة، الصادرة في سبأ، ولا سيما في ايام حكم قدماء الملوك، حتى ذهب بعض الباحثين الى وجود ما يشبه حد الاتفاق بين قوانين إلمملكَتين، إلا في القوانين الخاصة التي تتعلق بالتشريعات المحلية للمخاليف والمدن، فانها شرعت على وفق الأحوال الملائمة لتلك الأمكنة.

وقد يشار في التشريعات الى قصور الملوك، مثل "قصر سلحن" "قصر سلحين"،كما أشير اليها في كتابات مختلفة، تتعلق بأخبار الحروب والجباية، وذلك كناية عن مقرِ الحكم، على نحو ما يستعمل في الزمن الحاضر من قولهم: "صدر من قصرنا العامر" أو "صدر من قصر....". وذلك رمز إلى مقر الحكم وكناية عن الملك الذي يقيم في ذلك القصر. ومن تلك القصور: "قصرغمدن" أي "قصر غمدان" و "قصر وعلن "قصر وعلان" و "قصر ريدن"

أي "قصر ريدان". ومن هذه القصور تصدر الأوامر بالموافقة على القوانين والمراسيم، وفيها يوقع على ما يراد نشره ليكتسب صيغة رسمية مقررة.

??في اخلاق الحكام

ليس لدينا وثائق جاهلية فيَ أخلاق الحكام والصفات التي يجب أن يتصف بها الحاكم، ليتمكن بها من حكم الناس ومن الحكم بينهم. وكل ما لدينا، نتف ومقتبسات في أصول الحكم تنسب إلى الجاهليين، مدونة في المؤلفات الإسلامية، يظهر ان بعضها أخذ من حكم الفرس ومن آداب اليونان في السياسة، فنسب الى الجاهليين، وبعضه اسلامي خالص وضع ليكون وعظاً وإرشاداً وإشارة هادية إلى الخلفاء والحكام في كيفية حكم الرعية وفي تنبيههم الى واجباتهم وابعادهم عن الظلم والاتعاظ بمصير الحكام الطغاة الماضين حتى لا يكون مصيرهم مصير أولئك الملوك.

وفي كتاب "تأريخ ملوك العرب الأولية من بني هود وغيرهم"،لأبي سعيد عبد الملك بن قريب الأصمعي، وصايا وعظات في أصول الملك والحكم، نسبها إلى ملوك العرب الماضين قبل الإسلام، دوّنها للخليفة "المأمون" لتكون له هادياً ومرشداً في كيفية الحكم. وقد استهله بوصية نسبها الى "قحطان بن هود" أوصى بها بنيه أن يتعظوا بما نزل بقوم عاد حين عتوا على ربهم، وعصوا أمر نبيهم، فحثهم على التآلف والتعاضد و التناصر وعلى الطاعة للحكام، ثم حث ابنه "يعرب" كبير أولاده على العمل بسيرته ومنهجه، وان يصل ذوي القربى، وان يحفظ لسانه ويصونه، وان يكون كاظماً للغيظ، يقظاً من الأعداء، حليماً، لأن الذين سادوا لم يسودوا إلا بالعلم،وان يكون كريماً، لأن البخل يبعد الأتباع من الحاكم.

وذكر "الأصمعي" ان يعرب أوصى أبناءه بخصال وبما وصاه به أبوه. أوصى بأن يتعلم العلم ويعمل به، وان يترك الحسد وان يتجنب الشر وأهله، وان ينصف الناس، وان يبتعد عن الكبرياء، لأن الكبرياء تبعد قلوب الرجال عن المتكبر، وأوصى بالتواضع، فإنه يقرب المتواضع من الناس ويحببه اليهم، وان يصفح عن المسيء، وان يحسن إلى الجار، ولأن يسوء حال أحدهم، خير له من أن يسوء حال جاره، وان يوصي بالمولى، لأن المولى منكم واليكم، وان يخلص بالاستشارة والنصيحة، وان يتمسك الإنسان باصطناع الرجال.

ونجد في الوصايا التي ذكرها "الأصمعي" وصايا بوجوب التعاضد والتآزر،والابتعاد عن الفرقة، والطاعة من غير خوف، والعدل في الرعية، والتجاوز عن المسيء،والكف عن أذى العشيرة، والأخذ بالرأي لأنه لا بد للملك من يعينه في الرأي والأمر والنهي، ولا بد له من مشير يحمل عنه بعض ما يثقله من ذلك. والملك صانع، فإن قام الصانع حق قيامه على صنعته، استجاد الناس له، فكسب المال والجاه ؛ وان استهان بها، ذهبت الصنعة من يده، وكسب الندم والحرمان.

واستمر "الأصمعي" يذكر الوصايا التي ذكر أن ملوك العرب الماضين وضعوها في كيفية الحكم حذر الزلل، ولتجنب الوقوع في الخطأ، وهي نثر وشعر، قد تكون من وضعه وصنعته، صنعها للخليفة ليتعظ بها في الحكم على نسق ما كان يفعله ادباء الفرس والهند في وضع الوصايا والمواعظ والقصص على ألسنة الملوك الماضين والحكماء ليتعظ بها الحكّام في أثناء حكمهم للناس. ونجد أمثلة كثيرة من هذا النوع دبجت في كتب السياسة والأدب، على ألسنة أرسطو أو الاسكندر أو أكاسرة الفرس.

ونجد في شعر ينسب إلى "لقيط الإيادي"،أن الحاكم الذي يقلد الأمر يجب أن يكون رحب الذراع، مضطلعاً بأمر الحرب،لا مترفاً ولا إذا عض به مكروه خشع وخضع، يحلب دَرَّ الدَّهر،يكون مُتبَّعاٌ طوراً ومُتَّبعاً، مستحصد الرأي لا قحماً ولا ضرعاً.

وكان الملوك على استبدادهم أحياناً بآرائهم يستشيرون من يرون فيه الأصالة في الرأي،ولا سيما المتقدمون في السن، فقد "كانت العرب تحمد آراء الشيوخ لتقدمها في السن، ولأنها لا تتُبع حسناتها بالأذى والمنّ، ولما مرّ عليها من التجارب التي عرفت بها عواقب الأمور، حتى كأنها تنظرها عياناً، وطرأ عليها من الحوادث التي أوضحت لها طريق الصواب وبينته تبياناً،ولما منحته من أصالة رأيها، واستفادته بجميل سعيها".

ويظهر أن الملوك الغساسنة والمناذرة كانوا قد تطبعوا بطباع الروم والفرس، وأخذوا عنهم أبهة الحكم، فحجبوا أنفسهم عن رعيتهم، مخالفين بذلك العرف العربي، وحصروا أنفسهم في قصورهم وفي قبابهم،حتى أن من كان يريد الوصول اليهم من ذوي الحاجات كان عليه أن يقف أياماً أمام باب الملك، حتى يأتيه الأذن بالدخول عليه، وهذا ما ازعج الوافدين عليهم. كثيراَ، وسبب الى تجاسر الشعراء وذوي الألسنة الحادة عليهم. وكان على أكثر الوافدين التقرب إلى "الحاجب" والتذلل اليه ورشوته ليعجّل لهم بالدخول على الملوك، ومنهم من كان يتعهد له بأن يجعل له نصيباً فيما قد يناله من جوائز الملك وهداياه،فيسرع الحاجب عندئذ إلى الملك، لطلب أخذ الأذن منه بدخول ذلك الوافد عليه. وتوصف أخلاق الملوك بالتلون والتغير، لأن الملوك لهم بَدَوات. حتى تضرب بتلون أخلاقها المثل. فقيل: ويومٍ كأخلاق الملوك ملوّن  فشمسُ ودجنٌ ثم طلٌّ ووابلُ

ولهذا حذر أصحاب المكانة والجاه من الوصول اليهم في أيام غضبهم وبؤسهم، خشية صدور شيء منهم قد يزعجهم فيغضبوا عليهم،أو يتفوهوا بعبارات قد تخدش من كرامتهم، وتسبب لهم الألم والأذى. وقد ورد في الحكم: اتقوا غضب الملوك ومدّ البحر. وقد ضرب المثل، بيومي البؤس والنعيم.

وقد وردت في الكتابات الجاهلية مصطلحات تعبّر عن تقدير الناس لملوكهم،مثل مصطلح "أمرهم"، أي "آمرهم" و "أميرهم" أو سيدهم، ونجد الكتابات العربية الجنوبية تطلق لفظة "مراهمو" و "مراسهمو" بمعنى "آمرهم" او"أميرهم" و "سيّدهم" على من هو فوقهم، كالملوك أو الأقيال أو السادات، احتراماً لهم واعترافاً بسيادتهم عليهم.

أما في كتابات "تدمر"، فقد وردت لفظة "مرن"، أي "سيدنا". وقد أطلقت على الملوك، كما استعملت للأشخاص الكبار من أصحاب السلطان. وتقابل هذه اللفظة كلمة Exarkos في اليونانية، وفي الشعر ذمّ الحكام وشعر في هجاء السادة، لظلمهم وتنمرهم في حق رعيتهم، حتى ذهب الظن بهم أن كَل مطاعٍ يظلم، وان المسوّد ظالم غشوم.

الراعي والرعية

الراعي هو الوالي، أي الذي يلي أمور قوم ويرعى شؤونهم، فهو بمنزلة الراعي للماشية المرعية. أما القوم فهم الرعية، أي العامة. والملك هو راعي مملكته، وراعي رعيته، وهم من هم دونه، يتبعونه ويخضعون لرأيه وحكمه.

ويعبر عن الرعية بالسُّوقة كذلك. سمّوا سوقة لأن الملوك يسوقونهم فينساقون لهم، والسوقة من الناس، منَْ لم يكن ذا سلطان. والسوقة خلاف الملك. قال نهشل بن حَرّيّ: ولم تَرَعيني سه سوقةً مثل مالك  ولا ملكاً تجبى اليه مـرازبـه

وفي البيت المنسوب إلى "بنت النعمان بن المنذر"، وهو: فبينا نسوس الناسَ والأمر أمرُنا  إذا نحن فيهم سُوقة نتنصّـف

تعبير عن فكرة التعالي والترفع التي كانت عند أهل الحكم والملك بالنسبة إلى المحكومين. وفي حديث المرأة الجوَْنية التي أراد النبي، صلى الله عليه وسلم، أن يدخل بها، فقال لها: هبي لي نفسك، فقالت: هلَ تهبُ الملكة نفسها للسوقة ? ما ينم عن هذه الروح.

ويعبر عن السواد الأعظم ب "سواد الناس" وب "سواد القوم " أي عوامهم وكل عدد كثير. وهو مصطلح يقرب معناه من معنى "السوقة". والسواد الأعظم من الناس، هم الجمهور الأعظم والعدد الكثير وهم "الغوغاء" الذين لا يفقهون شيئاً من أمور دنياهم وانما هم تبع وغنم يتبعون أي راع. وقد برزت أهميتهم في صدر الإسلام، إذ عرفت الفائدة منهم فيما لو وجهوا توجيهاً حسناً. قال الخليفة "عمر": " استوصوا بالغوغاء خيراٌ، فإنهم يطفئون الحريق، ويسدّون البثوق ".

وقد عرف الجاهليون قيمة وأهمية السواد، لأنه الكثرة والرماح التي يعتمد عليها ذوو السؤدد في سؤددهم، والجماعة التي تدافع عن سيدها وتحمي حماه. وقد استطاع "أبو سلمى" ان يعبر عن أهمية العوام وأصحاب الحناجر القوية من غوغاء الناس في جلب السؤدد إلى الأشخاص في هذا الرجز: لا بد للسؤدد من رمـاح  ِومن عديد يتقي بالراح

ومن كلاب جمة النباح

وعلى الرعية حق الطاعة، طاعة من بيده الحكم والسلطان. وليس عليها الخروج على أوامره وأحكامه،لأن من حق الراعي تأديب رعيته إذا خرجت عن طاعته. فإذا خرجت الرعية على الملك، حق عليه تأديب رعيته بالصورة التي يراها. ولا يتمكن من الخروج على طاعة السلطان إلا الأشراف وسادات القبائل، ففي استطاعة هؤلاء بما لهم من أتباع ورعية، تنديد الملوك، أو من ينوب عنهم في الحكم. ولهذا كانت لهذه الطبقة مكانة وكلمة عند الملوك.

ولم يكن من السهل على أبناء القبائل تقديم واجب الطاعة للملوك إذا كانوا من غير قبيلتهم، فالملوك الغرباء وإن كانوا عرباً مثلهم، لكنهم في نظرهم غرباء عنهم، ومن قبيلة بعيدة عنهم. والعربي بحكم طبيعة ظروفه ومحيطه القبليّ، لا يرى الخشوع إلا لمن تربطه به رابطة العصبية. ومعنى هذا أنه لا يخضع إلا لسيد قبيلته، أو لمن يخضع سيد قبيلته لحكمه أو للملك إذا كان من قبيلته.

وسيد القبيلة لا يخضع هو نفسه لأحد إلا إذا أكره على ذلك، إكراهاً، أو وجد في خضوعه لحكم حاكم آخر منفعة ما تاًتيه من هذا الحكم. فإن زالت القوة التي أكرهته على الخضوع لغيره، أو ذهبت المنفعة التي كان يحصل عليها، أعلن انفصاله واستقلاله بشؤون قبيلته أو انضمامه إلى حاكم قوي اخر ليصير حليفاً له.

لذا صار تأريخ القبائل صراعاً ونزاعاً بين قبائل طامعة في قبائل أصغر منها،وقبائل أخرى تريد أن تعيش لوحدها مستقلة بإدارة أمورها، أو منافسة غيرها في حكم قبائل أخرى، لتكوين حكومة كبيرة منها ومن القبائل التي استسلمت لها.

فالممالك الني تكونت والتي تحدثت عنها، لم تكن إذن ممالك مكونة من مواطنين آمنوا بمبدأ المواطنة واعتقدوا بعقيدة طاعة سلطان الدولة. بلَ كانت مملكة قبائل اتحدت طوعاً أو كرهاً، وكونت حلفاً كبيراً ترأسه ملك. يظل قائماً ما دامت هنالك قوة قائمة ومصلحة وفائدة، فإن انتفت المصلحة، عادت طبيعة الأنانية القبلية إلى لعب دورها في الانفصال. وهي عقلية تعرقل وتقاوم تكوّن الدول الكبرى. ولهذا قاومها الإسلام، لأنه جاء بمبدأ "الجماعة"، وعقيدة "الأمة" و "الملة"، فورد في الحديث: "من خرج من الطاعة وفارق الجماعة ثم مات، مات ميتة جاهلية ".

وللشعراء وأهل البيان كلام في أصول سياسة الحكم وادارة أمور الرعية. قال "الجاحظ": " ومتى أحب السيد الجامعُ، والرئيس الكامل قومه أشد الحب وحاطهم على حسب حبه لهم، كان بغض أعدائهم له على حسب حب قومه له.هذا إذا لم يتوثب اليه ولم يعترض عليه من بني عمه واخوته من قد أطمعته الحال باللحاق به. وحسد الأقارب أشد، وعداوتهم على حسب حسدهم.

وقد قال الأولون: رضا الناس شيء لا ينال.

وقد قيل لبعض العرب: من السيد فيكم قال الذي إذا أقبل هبناه، وإذا أدبر اغتبناه.

وقد قال الأُول: بغضاء السُّوق موصولة بالملوك والسادة وتجري في الحاشية مجرى الملوك.

وليس في الأرض عمل أكدّ لأهله من سياسة القوم.

وقد دفعت الروح الفردية والنزعة القبلية سادات القبائل وقادة الجيش على الثورة بملوكهم وبحكامهم، فامتلأ تأريخ الجاهلية بها وبالمكايد والانتفاضات. وقد أثرت أثراً خطيراً في الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وصارت في جملة عوامل تدهور الحضارة في اليمن. ونقرأ في كتابات المسند بعض الألفاظ المعبرة عن الفوضى وعدم الاستقرار بسبب حركات العصيان. منها لفظة "كيد"، وتؤدي معنى ثورة وعصيان. و "ثبر" و "مثبر" بمعنى "ثبور"، ويراد بها ثورة ايضاً. و "نزع" وتؤدي معنى ثورة كذلك. و "نقم" وتؤدي معنى "نقمة" وعدم رضى عن الاوضاع. و "قسدت" و "قسد" بمعنى ثورة وثار. فالثورة هي "قسدت" في العربية الجنوبية. و "قرن" وهي في المعنى نفسه. و "تحسبن" بمعنى عنف واستخدام العنف. ولفظة "هرج" بمعنى الفوضى والقتل والهرج. و "مخر" بمعنى مخالفة وقتال.

ونجد في كتابات المسند ألفاظاً اخرى، لها صلة. وعلاقة بالأوضاع المذكورة.

مثل لفظة "هبعل" في معنى الاعتراف بسيادة قوم على قوم. وبالتسليم بسيادة الرؤساء بعد ان ثاروا عليهم وحاولوا التخلص منهم. ولفظة "هوبل" في معنى النجاح في المطاردة والتوفيق في القضاء على العصيان، وعودة الأمر إلى ما كان عليه. ولفظة "همسر" بمعنى احبط وكسر. و "هسحت"، بمعنى تحطيم والقضاء على شيء، كحركة عصيان. و "هضرع" بمعنى أخضع و "حلفي بمعنى ضغط واستعمل العنف. و "حف" بمعنى أحاط. و "خرط" بمعنى الاستيلاء على شيء. و"نحت" بمعنى ضرب. و "نكى" في معنى قاسى وكابد من الألم والعذاب. و "نقيذ" بمعنى استولى على مكان وفتحه. و "سبط" بمعنى أحبط وقضى على ثورة. و "سحت" في معنى هزيمة. و "قمع" في المعنى المعروف منها في لهجتنا. و "رتضح" بمعنى ذبح. و "توشع" في معنى هزيمة. و "تشكر" في معنى هزيمة ايضاً. فلكل هذه الكلمات ولغيرها مما في معناها صلة بالأوضاع السياسية والعسكرية التي كانت سائدة في ذلك العهد. وهي دليل على سوء الحال.

تحية الملك

وكانت لملوك الحيرة وملوك الغساسنة وغيرهم من ملوك الجاهلية تحيات تختلف عن تحيات سائر الناس. لأن الملك يحيا بتحية الملك المعروفة للملوك التي يباينون فيها غيرهم..ومن حياتهم: أبيت اللعن، وأسلم وانعم، وانعم صباحاً، وعش ألف سنة. "وكانت تحية ملوك العجم نحواً من تحية ملوك العرب، كان يقال لملكهم: زه هزار سال ؛ المعنى: عش سالماً ألف عام".

وذكر بعض علماء اللغة أن "أبيتَ اللعن:كلمة كانت العرب تحيي بها ملوكها في الجاهلية، تقول للملك: أبيت اللعن، معناه أبيت ايها الملك ان تأتي ما تلعن عليه. واللعن: الإبعاد والطرد من الخير". وذكروا ان أول من حيي بتحية الملوك: "أبيت اللعن" و "أنعم صباحاً" يعرب بن قحطان. وقد وردت تحية "أبيت اللعن" في شعر للنابغة الذبياني،يعتذر فيه للنعمان بن المنذر: أتاني-أبيت اللعن - انك لمتني=وتلك التي تستك منها المسامع وذكر أيضاَ ان اول من قيل له ذلك قحطان. وقيل: اول من حيي بها يعرب بن قحطان.

وذكر ان تحية الناس فيما بينهم: "أنعم صباحاً" أو "انعم مساء" أو "انعم ظلاماً"،و "عموا صباحاً" و "عموا مساء"، وذلك حسب المناسبات.

أما إذا حيوا الملك، قالوا له: "انعم صباحاً ايها الملك"، لهيبة الملك ولتعظيمه.

وقد ابطل الإسلام تلك التحية: بأن أحل السلام محلها. فلما دنا "عمير بن وهب" من رسول الله قال: "انعموا صباحاً"، فقال رسول الله: "قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير؛بالسلام تحية اهل الجنة". وقد صار السلام من العلامات الفارقة بين الشرك والإسلام.

وذكر ان التحيّة الملك. وفي هذا المعنى قولهم: حيّاك اللّه وبيّاك،أي اعتمدك بالملك. وفي هذا المعنى قول زهير بن جناب الكلبي: ولكل ما نال الفتى  قد نلته إلا التحية

أي إلا الملك، وذكر ان المراد بها هنا البقاء، لأنه كان ملكاً في قومه.

والتحية في قول "عمرو بن معد يكرب": أسير به إلى النعمان،حتى  أنيخ على تحيته بجنـدي

تعني ملكه. فالتحية الملك.

ويظهر ان بعض الجاهليين كانوا يحيون بتحية "حياك وبيّاك"،أو "حياك الله"، أو "حيّاك الله وبياك". ولا استبعد استعمالهم اسم صنم من الأصنام في موضع "الله" عند عباّد ذلك الصنم، كأن يقولون: "حياّك هبل"،وقد بقيت هذه التحية إلى الإسلام، ثم صارت: "حيّاك اللّه". وقد يخاطبون بها الملوك فيقولون: "حيا الله الملك". وذكر ان تحيات اهل الشام لملوكهم: "يا خير الفتيان".

والمعروف عن العرب أنهم لم يكونوا يسجدون للملوك ولساداتهم كما كان يفعل العجم. غير ان رواية وردت في "كتاب فتوح الشام" للواقدي تذكر ان "الياس"،وهو عم ملك الحيرة وصاحب حرسه، لما أدخل "سعد بن أبي عبيد القاري"، على الملك "النعمان بن المنذر"، "صاح به الحجاب والغلمان قبَّل الأرض للملك، فلم يلتفت اليهم". وفي هذا الخبر دلالة على ان أهل الحيرة كانوا إذا دخلوا على الملوك سجدوا لهم: كما كان يفعل ذلك غيرهم من الغرباء ممن يدخل على الملوك ولا سيما الفرس. وتتحدث هذه الرواية المنسوبة إلى الواقدي،بأن الملك النعمان، كان له كلام وجدل في موضوع الدين ورسالة الإسلام مع "سعد بن أبي عبيد القاري" رسول "سعد بن أبي وقّاص" اليه. وأنه لما طرد الرسول، قال "سعد بن أبي وقّاص": سأحمل فيهم حمـلة عـربـية  ولا أنثني واللّه عنهم بعسكري

فإما أرى النعمان في القيد موثقا  وإما طريحاً في الدماء المعفر

ثم أمر سعد بن أبي وقاص جمعه بالمسير نحو النعمان، فالتقى القعقاع بن عمرو التميمي أو بشر بن ربيعة التميمي بالنعمان في كبكبة من الخيل، فحمل القعقاع أو بشر على الكبكبة أو الكتيبة فمزقها ورمى النعمان بطعنة في صدره، فلما رأت جيوش الحيرة الملك مجندلاً، ولت الأبار تريد القادسية نحو جيش الفرس. والذي أجمع عليه المؤرخون واهل الأخبار، ان المنذر كان قد ذهب إلى العالم الثاني قبل الفتح،بزمن على نحو ما تحدثت عنه في الجزء الثالث من هذا الكتاب. وقد ذكرت ما قيل في موته من شعر نظمه شعراء معاصرون له، وما وقع من اصطدام بين العرب والفرس بسبب مطالبة "كسرى" بترَكته على ما يذكره أهل الأخبار. لذلك لا يمكن التصديق بهذه الرواية مع وجود ذلك الاجماع، ثم ان فيها معالم الصنعة والتزويق،ولا سيما في موضوع الحوار بين النعمان وبين رسول "سعد" اليه في موضوع الإسلام، مما يحملنا على القول بأن هذا الخبر قد أدخل فيما بعد أيام العرب في المشكلات التي تتعرض لها الدولة، والبت في القضايا المهمة وفي موضوع فرض الضرائب. وقد عرف هذا المجلس في دولة معين ب"مزودن معن" "مزود معين". وكان للسبئيين مجالسهم الخاصة بهم، تنظر في المسائل التي يحتاج ملوك سبأ إلى اخذ الرأي فيها والوقوف على رأي عقلاء الأمة للاستنارة برأيهم عند اتخاذ رأي وإقرار قرار.

ولا يعني وجود هذه المجالس ان النظام هناك كان نظاماً نيابياً انتخابياً، يجتمع الأحرار والوجهاء فينتخبون من يريدون ان يمثلهم أو يتكلم باسمهم انتخاباً على النحو المفهوم من الانتخاب في الزمن الحاضر. وإنما كانت عضوية المجالس بالوجاهة والمنزلة والمكانة، وتلك قضايا اعتبارية للعرف فيها الرأي والقرار، وأعضاء المجلس هم اعضاء فيه، لأنهم من رجال الدين أو سادات قبائل أو من كبار الموظفين، أو من اصحاب الأرض والمال، فهم في عرف ذلك اليوم الصفوة والخيرة، وعندهم العقل والرأي والسداد. وعلى هذا النحو من التمثيل تكون المزاود،اي مجالس الأمة.

وقد عرف أعضاء المزود ب "اسود"، اي "أسواد" "اسياد"، بمعنى سادة، وهم بالطبع من علية القوم وسادتهم. وفي ضمن هؤلاء ال "منوت" "منوات".

وكما تطلق الشعوب في الزمن الحاضر نعوت التفخيم والاحترام على مجالسهم التمثيلية، كذلك اطلقت الشعوب الماضية مثل هذه النعوت على مجالسهم. فأطلق العرب الجنوبيون لفظة "منعن" مثلاً على المزود، فورد: "مزود منعن" في بعض الكتابات، بمعنى "المزود المنيع". وربما أطلقت اللفظة على العضو في هذا المجلس كذلك. ولكننا لا نعرف ذلك في هذا اليوم معرفة أكيدة، وربما كانوا يطلقون نعوت تفخيم وتعظيم أخرى على أعضاء هذا المجلس.

وحصلنا من الكتابات على اسم لمجلس يسمما ب "طبنن"، وذلك في الكتابات القتبانية. وقد رأى بعض الباحثين انه مجلس كبار الملاكين. ورأى اخرون انه بمنزلة "المزود" بالنسبة إلى القبيلة، وانه مجلس أصحاب الأملاك،ورؤساء أفخاذ القبيلة المالكين، وانه يأتي بعد "المزود" في الأهمية عند القتبانيين،وانه كان ينظر في المسائل الخاصة بالملك والأرض وفي الضرائب التي تجبى عن الزراعة وفي تأجير الأرض، وما شاكل ذلك من موضوعات تخص الأرض والزرع. ويقول علماء اللغة إن "الطبن"، هو الرجل الفطن الحاذق العالم بكل شيء، ولعلهم أخذوا هذا التفسير من العرب الجنوبيين. في "طبنن"، هو مجلس عقلاء التخوم وحذاقهم والمتكلمين باسم القوم.

ولم يكن لسواد الناس ولا للطبقات الوسطى منهم،رأي ولا تمثيل في "الطبنن" ذلك لأن هذا المجلس هو مجلس كبار الملاكين للارض فقط. وكانوا يشتركون في الي "المزود". ونجد ذكر هذا المجلس، في كتابات يرى بعض الباحثين قبل من أواسط القرن الخامس قبل الميلاد.

ويقابل مجلس الملاِّكين "طبنن" القتباني مجلس عرف ب "مسخنن" "المسخن" في اللهجة السبئية. وقد أشير اليه في الكتابات السبئية القديمة وفي كتابات عهد "ملوك سبأ وذي ريدان".وأعضاؤه من الوجهاء وكبار الملاكين الذين ورثوا ملكهم من عقار وأرض.

وترد في الكتابات السبئية لفظة لها علاقة بمجلس يمثل طبقة خاصة في سبأ عرف ب "عهرو" "عهًر". ونجد هذا الاسم في الكتابات التي هي من القرنا الثاني قبل الميلاد فما بعده. ويظهر أنه كان مجلس اللأشراف من اهل الحسب والنسب من امثال الأشراف والنبلاء الذين عاشوا في اوروبة في القرون الوسطى. ولا يشترط في الطبقة المسماة بهذه التسمية ان تكون من كبار الملاكين وأصحاب العقار. والى هؤلاء يضاف من يقال لهم "ذ اعذر" "ذو اعذر". وهم طبقة من الاشراف لا يربط بينهم دم، ولا تجمع بينهم وبين القبيلة التي ينزلون بينها أو بين الناس الذين يعيشون بينهم، صلة رحم، ولا يملكون أرضاً، وإنما هم حلفاء وجيران، نزلوا بين قوم فصاروا مثلهم، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، يؤدّون ما يؤدّيه حليفهم من القبيلة من واجب وعمل، وعلى حليفهم مراعاتهم لانهم في جواره وفي حلفه.

هؤلاء هم أصحاب الرأي والاستشارة في الحكومات العربية الجنوبية، والمجالس المذكورة تنظر في مصالح المنتمين اليها وكلهم كما رأينا من اًصحاب الجاه والسيادة و السلطان.

وإذا أقر "المزود" موضوعا ووافق عليه، رفع القرار إلى الملك لإصدار أمره بتنفيذ ما توصل اليه، وتصدر القرارات بصورة مراسيم تشريعية ملكية تعلن للناس وتبلغ للقبائل لاقرارها وتنفيذها، وقد حفظت الكتابات جملة قرارات من هذا النوع. وتوقع المحاضر في الغالب بلفظة "مثبت" من أصل "ثبت"، وذلك دلالة على الموافقة والتأييد بصحة صدور القرار. وأن اقرار قد ثبت وصار أمراَ إلزامياً واجب التنفيذ.

واصطفى الملوك لهم حاشية من ذوي الرأي والعقل والتجربة، جعلوها هيأة استشارية، تقدم الرأي لهم، وقد عرفت ب"فقضت"، وب "بتل ".

فنحن في اليمن إذن بإزاء نظام يمكن أن نسميه نظام يمكن ان نسميه نظاما تمثيليا،وان لم يكن يمثل رأي الشعب تمثيلاً تاما، فلم تكن للاغلبية المكوّ نة للامة إرادة في اختيار ممثليهم للمجالس، كما هو المفروض والمطلوب من المجالس،فمن هنا لم يكن نظام الحكم في هذه البلاد نظام الحكم في هذه البلاد نظاما تمثيليا صحيحا ولكان تمثيلا من ناحية ضمه أصحاب اَلرأي والجاه والسلطان في الدولة، لمجالس "المزود" وإبدائها رأيها لحاكم البلاد، ولا سيما في المسائل الكبرى التي يتوقف عليها المصير،مثل إِعلان حرب،أو عقد صلح، أو إقرار ضرائب. نظام نستطيع أن نسميه نظام الأخذ بمبدأ استشارة ذوي الرأي والوجاهة والسلطان في المسائل الخطيرة التي تخص الدولة أو المجتمع وحدهم، فهو نظام شورويّ بالنسبة لأهل الرأي والمشورة، وهؤلاء وحدهم هم الذين يشاورون في الأمور. أما السواد، فلا رأي له. ومع ذلك، فهو أفضل من الحكم المطلق الذي يكون الملك فيه هو الكل في الكل، يفعل ما يشاء من غير حساب. وهو بالقياس إلى نظم الحكم عند الأشوريين أو البابليين لمن أو الفراعنة، نظام فيه "ديمقراطية" لا نجدها في قواعد حكم الشعوب المذكورة.

ولكن الدنيا لا تدوم على،حال واحد، فأخذ حكم المزاود يتقلص،وصار عدد من يأخذ بالرأي والمشورة من الملوك يقل حتى إذا جاءت الأيام المتأخرة من حكومة سبأ، صار الأمر للاقيال والأذواء وسادات القبائل، واضطر الملوك إلى النزول عن حقهم في الأرضين إلى أصحاب السلطان في مقابل اتفاقيات تحدد الواجبات والحقوق التي يترتب على هؤلاء الأقوياء الذين اغتصبوا الأرض اغتصاباً أداؤها للدولة. ويقوم صاحب السلطان الملاّك بايجار الأرض لأتباعه من آله أو من أهل قبيلته، مقابل أجر يدفعونه له، وهؤلاء يؤجرونها أيضاً لمن هم دونهم في المنزلة والدرجة. فتحولت الملكية بذلك إلى دولة اقطاع، أرباحها وحاصلها وناتجها وقف على طبقة ذوي الجاه والسلطان.

وفقد "المزود" مكانته، إذ انتزع الأقيال "اقول" منه السلطان، حتى قدموا أسماءهم في النصوص على اسم المزاود. فنجد أقيال "سمعى" "اقول سمعى" يقدمون اسمهم على اسم المزود، دلالة على خطر شأنهم وقوتهم، وعلى أن حكم "المزود" صار في الدرجة الثانية من خطر الشأن في هذه الأيام.

وقد تضاءل حكم "المزود"، بل زال من الوجود منذ القرن الثالث للميلاد فما بعده، فلا نكاد تجد له حكماً أو ذكراً في الكتابات، إذ انفرد الملوك والاقطاعيون الكبار بالحكم، وصار رأيهم هو الرأي الحق المقبول، وبيئة ينفرد فيها الأفراد بالحكم، وينتزع فيها من الأشخاص حق التعبير عن الرأي، هي بيئة لا يمكن أن يعمر فيها "المزود" أو أي مجلس كان من قبيله يقوم بالتعبير عن رأي الناس، وإن كان بصورة رمزية شكلية. لذلك نستطيع أن نقول إن العربية الجنوبية فقدت أهم نعمة كانت عندها، نعمة التعبيرعن رأي،والنظم اللامركزية بعد الميلاد. وزاد في تقليص حكم المجالس تدخل الحبش بصورة مستمرة في شؤون العربية الجنوبية، وانتزاعهم الحكم بالقوة من أصحابه الشرعيين وانفراد حكامهم وحدهم بالحكم، ثم اضطرار الملوك والأقيال و الأذواء إلى مقاومة الحبش الغزاة وحشد كل الطاقات البشرية لطرد الحبش من بلادهم، وأحوال مثل هذه لا تسمح بابداء رأي، فكان فيها موت تلك المجالس التي لم تكن كما قلت تمثل الشعب، لأنها لا تمثل السواد الأكبر،وإنما كانت تمثل أصحاب الوجاهة والسلطان ولكن وجود شيء فيه وقوف إزاء الملوك وتحد لسلطانهم إن أرادوا توسيعه، هو مهما كان نوعه خير من لا شيء ومن انفراد الملوك بالأمر دون خوف ولا رهبة من اعتراض، أحد ومن نقد ناقد.

هذا، ولم نعثر على نص بالمسند، ورد فيه ذكر لعدد أعضاء المزاود أو المجالس التمثيلية الأخرى. أما ما ذكره "الهمداني" من انه كان لحمير مجلس ينظر في أمور الملك واختيار الملك إذا مات الملك ولم يترك من يرثه، وان عدد أعضاء ذلك المجلس ثمانون قيلاً، لا ينقص ولا يزيد، وانهم إذا انتخبوا قيلاً منهم يكون ملكاً عند عدم وجود من يخلف الملك، أو عدم رضائهم عن الملك لسبب من الأسباب، فإنهم كانوا ينتخبون قيلا" جديداً ليكمل العدد المقرر، فإننا لا ندري أكان ذلك حكاية عن وضع الحكم في اليمن قبيل الإسلام، ام كان مجرد رواية من هذه الروايات الواردة عن الجاهلية، مما يرويه أهل الأخبار. وقد نحمل روايته محمل الصدق بالنسبة إلى مجمل الخبر. أما بالنسبة إلى ثبات العدد فأمر لا نستطيع أن نأخذ به ونقطع بصحة ما ورد فيه.

وظهرت في القرن الثاني قبل الميلاد فما بعده ظاهرة جديدة أخرى، قد تدلّ على ضعف شخصية الملوك، وتقلص سلطانهم، هي ظاهرة ذكر امم ولي العهد مع اسم الملك، وتلقيبه بلقب ملك تماماً كما يلقب الملوك. فجاء اسم نهفان مع ابنه "شعرم اوتر" "شعر أوتر"، دلالةً على أنهما حكما حكا" مشتركاً، وجاء اسم ملك، وجاء اسم ملك وجاء مع اسمه اسم أخيه يحكم معه ويحمل لقب الملك، وجاء اسم ملك ومعه اسم ابنين أو ثلاثة أبناء، يشاركونه في اللقب وفي الحكم، بل ورد اسم ملك ومعه حفدته يحملون لقب الملك.

وظاهرة أخرى نراها تظهر، فيها دلالة أيضاً على تناحر الأسر وتقاتلها على الجاه والحكم والسلطان، تتجلى في حكم أسرتين حكم اسرتين مختلفتين، إحداهما من "حاشد" وأخرى من "بكيل"، وكلتاهما من هَمْدان، وقد حمل كل واحد من رجلي الأسرتين اللقب الرسمي لملوك سبأ. فقد حكم "علهان نهفان" وابنه "شعر أوتر" وهما من "حاشد "، وحكم في الوقت نفسه "فرع ينهب"، وابنه، وهما من "بكيل"، وكان كل واحد منهما بلقب نفسه بألقاب ملوك سبأ. ثم تجد من ذيول هذه الظاهرة منافسة "ظفار" لمأرب، ومبارزة قصر ملوك "ظفار" وهو "ذو ريدان" لقصر ملوك سبأ القديم وهو "سلحن" "سلحين". وفي هذه المنافسة دلالة على تنافس أسرتين على الحكم، كل أسرة تدعي أنها حاكمة سبأ ومالكة مملكة سبأ.

وكان من نتائج هذا التطور ظهور حكم لا أودّ تسميته ب "حكم لامركزي"، ولكن أرى تسميته: حكماً إقطاعياً، أو حكم "أمراء الطوائف"، أو حكم رؤوس الطوائف. فقد صار الأمر والنهي للقيال وللاذواء، وللسادات وقادة الجيش، حتى تكاثر عددهم، وحتى صارت لهم كلمة في اختيار الملوك وفي إسقاطهم. ونجد في الكتابات المتأخرة أسماء عدد كبير من هؤلاء الإقطاعين، دلالة على مكانتها، وخطر شأنها في السياسة العامة، ولم تختف هذه الظاهرة حتى بعد احتلال الحبش لليمن، وحتى بعد طرد الحبش عنها ودخولها في حكم الفرس إلى أيام الإسلام.

وكان مما قوى سلطان الإقطاعيين الحروب التي أعلنها الملك "شمر يهرعش" على جيرانه. لقد تمكن من توسيع رقعة سبأ ومن إضافة أرضين جديدة واسعة لها، ومن إحاطتها بهالة من العظمة، ولكنه اضطر من ناحية أخرى إلى إرضاء الإقطاعيين الذين ساعدوه وخدموه في حروبه وأدوا له خدمات كجيرة، فوسع سلطانهم، وقوّى مركزهم، وصيرهم قوة ذات شأن لها سلطان في الدولة، فأضعف بعمله مركز الحكومة، ووضع من جاء بعده من الملوك في مركز حرج أمام كبار الاقطاعيين الذين أخذوا لم يتدخلون في أمور الدولة، وينافسونها في سلطان. وهكذا زالت معالم. الحكم "الاستشاري" الأقيال، ويحل محلّه حكم الملوك المستند إلى تأييد عدد من كبار رجال ألاقطاعيين وسادات القبائل، وهو حكم راعى بالطبع مصالح هؤلاء، ولم يهْتم بمصالح هؤلاء، ولم يهتم بمصالح سواد الناس، بل حتى مصالح الاقطاعيين الذين لم يكن لهم سلطان كبير، فاصيبوا بضرر بالغ من هذا التغيير الدستوري في أصول الحكم.

وقد كان ملوك العربية الغربية، مثل كل ملوك ألعربية الجنوبية، يأخذون بالرأي ويعملون بمشورة المجالس. ويعرف مجلس الشورى في الكتابات الحيانية ب "هجبل" "الجبل" و "جبل". وقد نعت المجلس بجملة "العالي الشأن" في إحدى الكتابات، تعظيماً له، وتقديراَ لشأنه. ومما يؤيد أخذ الملوك برأي المجلس "جبل"وهو ورود لفظة "براى"، أي "برأي" في الكتابات، دلالة على أخذ الملوك برأي المجلس.

بل ذهب بعض الباحثين إلى احتمال وجود أحزاب سياسية في مملكة لحيان.غير أننا لم نتمكن من الحصول على كتابات لحيانية فيها شيء عن الحزبية وألاحزاب في ذلك العهد.

أما أصول الحكم عند "آل لخم"، فإننا لا نملك نصوصا طما لها مدونة، كذلك لا نملك نصوصا فيها شيء عن أصول الحكم عند الغساسنة. ولم يشر أهل الأخبار الى وجود مجالس على نمط "المزود" أو "دار الندوة" عند المناذرة أو الغساسنة، لذلك لا نستطيع أن نتحدث بأي حديث عن الشورى وأخذ الرأي عند اللخميين، أو عند آل غسان.

بل يستنبط من بعض روايات أهل الاخبار، ان ملوك "آل نصر"و "آل غسان" و "آل اكل المرار"،كانوا ملوكاً غلب على حكمهم الاستبداد بالرأي، إذ لم يعملوا برأي أحد، ولم يأخذوا بمشورة مستشار إلا إذا كانت المشورة موافقة لهواهم ومن شخص قريب منهم، وله أثر فعلي عليهم. كما يستنبط منها ايضاً ان المقربين من الملوك، لم يكونوا مخلصين لهم في تقديم النصيحة، بل كانوا يبتغون من ورائها الحصول على منفعة وفائدة، أو ضررا يلحق بأعدائهم، وبالقبائل المعادية لقبائلهم في كثير من الأحايين. وان بعض الملوك، ولا سيما المتأخرون منهم، كانوا قد تأثروا بآرائهم فعملوا بها،فأوجدت لهم مشكلات خطيرة،كان الملوك في غنى عنها لو انهم كونوا مجالس استشارية، وأخذوا برأيها في تسيير النابه من أمور المملكة.

أما القرى والمدن إن جازت هذه التسمية، شد حكمها وجهاؤها وساداتها رؤساء الشعاب والبيوتات الكبيرة. فإذا حدث حادث في شعْب حلهّ رؤساء ذلك الشعب، وإن عرض للقرية او للمدينة عارضاً اجتمع سادتها للنظر فيه وحلة، واليهَم يكون تسيير أمور القرية أو المدينة. يجتمعون في "نادي" القرية أو المدينة، وهو مجتمعها للنظر في الأمر والبت فيما يرون اتخاذه من قرارات. وقد ورد في القرآن الكريم: " وتأتون في ناديكم المنكر ". والنادي هنا المجلس، ومجتمع القوم، وموضع اتخاذ القرارات والبت في الأمور.

وكان لأهل "تدمر" "مجلس" على غرار مجلس "الشيوخ" في "رومة" مؤلف من سادات المدينة من أصحاب الجاه والسلطان له سلطة من القوانين والتشربع، وله رئيس وكاتب.

دار الندوة

وقد تحدث اهل الأخبار عن دار قالوا انها كانت بمكة سموّها "دار الندوة" ونسبوها إلى جد قريش ومجمعها "قصي،"، قالوا: إن قريشاً كانت إذا همت بأمر أو أرادت رأياً، أو قررت اتحاذ قرار، اجتمعت فيها، ونظرت في أمرها واتخذت فيها قرارها. فهي إذن مجلس يشبه "المجالس" التي كانت في مدن اليونان، وقد كونوها لتكون حكومة المدينة المشرفة على شؤونها المدبرة لأمورها الناظرة فيما يقع فيها من خصومات وخلاف.

وذكر بعض اهل الأخبار،انه لم يكن يدخلها من قريش من غير ولد قصيّ إلا ابن أربعين سنة للمشورة، وكان يدخلها ولد قصي "كلهم اًجمعون وحلفاؤهم والظاهر ان هذا كان خاصاً بالمشورة وأخذ الرأي. لماَ كان قد قرّ في نفوس أكثر الناس من أهمية السن في تقديم الرأي، ومن أن النضوج العقلي يبدأ في الاربعين من العمر. وإذا صحت الرواية، نكون أمام شرط مهم فيمن يحق له حضور دار الندوة، لابداء المشورة و الرأي. لكننا نسمع من رواة الأخبار أيضا، أنهم يذكرون ان قريشاَ كانت تتساهل في موضوع السن اًحياناً، فكانت تتساحل في قبول دخول من هو دون الأربعين من العمر إذا كان الشخص سديد الرأي. فقد " تحاكم العرب في الجاهلية في النفورة،وفي غير ذلك من المخايرة والمشاورة، الى أبي جهل ابن هشام في أيام حداثته وفتائه، ولذلك أدخلوه دار الندوة، ودفع مع ذوي الأسنان والحكمة من بين جميع الشبان، ومن بين جميع الفتيان.

ولذلك قال قطبة بن سياّر حكيم فزارهّ حين تنافر اليه عامر بن الطفبل وعلقمة ابن علاثة: عليكم بالحديد الذهن، الحديث السن يعني أبا جهل ".

الملا

وفي القران الكريم لفظة "ملأ" بمعنى جماعة يجتمعون على رأي. وتعبر هذه الفظه عن الغالبية، أي عن الرأي العام الغالب لمكان ما، أو لجماعة من الجماعات. ومعنى ذلك اتخاذ "أهل الحل والعقد" من الملا رأياً يكون ملزماً للآخرين وأهل الرأي والحل والعقد، هم السادة أصحاب الجاه والعقل والسن، ولذلك كانوا يفضلون في أخذ الرأي، اْخذ رأي أصحاب العقل والخبرة ،وهم المتقدمون في السن في الغالب،ففي صغر السن طيش وتسرع، والبت في الأمور يحتاج إلى نضج وصر وأناة وحلم. لهذا كان أكثر رجال "دار ألندوة" من البالغين المتقدمين في السن.

وعرف علماء العربية "الملا" أنه الرؤساء والجماعة وأشراف القوم ووجوههم ورؤساؤهم ومقدموهم الذين يرجع إلى قولهم، "يروى أن النبي، صلى الله عليه وسلم، سمع رجلاً من الأنصار وقد رجعوا من غزِوة بدر، يقول: ما قتلنا إلا عجائز صلعاً، فقال عليه السلام: أولئك الملأ من قريش، لو حضر فعالهم، لاحتقرت فعلك " أي: اشراف قريش. فالملأ إنما هم القوم ذوو الشارة والتجمع للادارة.

وورد ان "الملا" التشاور والعطية. ويظهر من المواضع العديدة التي وردت فيها هذه الكلمة في القران الكريم، ان المراد بها في اكثر تلك المواضع، علية القوم من دْوي الرأي والمكانة، والأشراف من القوم ووجوههم ورؤساؤهم و مقدموهم الذين يرُجع إلى قولهم. وذكر ان "الملأ": التشاور. تشاور الأشراف والجماعة في أمر ما.

فرؤساء مكة إذن، هم حكومتها وحكامها، وليس هناك ملك أو حاكم انفرد بالحكم والسلطان. فالحكم فيها إذن، حكم مدينة، لا حكم ملك أو فرد، وقد كان الحكم في الطائف وفي يثرب وفي نجران، وفي وادي القرى على مثل هذه الطريقة، غير ان الأخباريين لم يتحدثوا عن مجلس يشبه دار الندوة في هذه المدن.

وفي القرآن الكريم: "فاعف عنهم، واستغفر لهم، وشاورهم في الأمر"، و " أمرهم شورى بين هم ". وفي هاتين الآيتين دلالة على الأخذ بمبدأ المشورة، وان الحكم شورى. وحكم قريش في مكة، هو حكم المشاورة وأخذ الرأي، لهذا كانوا يتشاورون فيما بينهم حينما كانوا يعتزمون اتخاذ قرار تجاه الرسول. وقد بينت ان أصحاب الرأي والمشورة هم "الملا" وعِلية القوم ومن عرف بجودة الحكم والفطنة والذكاء.

وكانت القرى الأخرى تستشير ذوي الحل والعقد. وكذلك فعلت القبائل. فقد كان سيد القبيلة يطلب من وجوه قبيلته ابداء رأيهم في القضايا المهمة من أمور الحرب والسلم. وكان سادات القبيلة، يجتمعون للنظر في امر اختيار رئيس، إذا مات رئيس وليس له وريث، أو وقع خلاف فيما بين أعضاء بيت الرئيس على الرئاسة. وقد حث العرب على الأخذ بالرأي والمشورة، حتى لا يقع المرء في الخطأ والتهلكة. والرأي: للنظر والتدبر والتفكير. وقد قدمه العرب على الشجاعة، فجعلوه قبلها، لأن الشجاعة لا تنجح ما لم يكن للشجاع رأي ونظر في كيفية التغلب على خصمه.

المشاورة

وقد كرهت العرب والحكماء مشاورة من اعترته الشواغل، وألمت به النوازل، مع وفور عقله وحزمه، فقال "قس بن ساعدة الإيادي لابنه: لا تشاور مشغولا" وإن كان حازماً، ولا جائعاً وإن كان فهماً، ولا مذعوراً وإن كان ناصحاً، ولا مهموما وإن كان عاقلاً، فالهمّ يُعقل العقلَ فلايتولد منه رأي ولاتصدق به روية". و "قال الأحنف بن قيس: لا تشاور الجائع حتى يشبع، ولا العطشان حتى يروى، ولا الأسير حتى يطلق، ولا المقلّ حتى يجد،ولا الراغب حتى ينجح".

وكانت العرب تخمد الأناة في الرأي، واجالة الفكرة فيه وعدم التسرع.

"و كان عامر بن الظرب حكيم العرب يقول: دعوا الرأي يغب حتى يختمر، وإياكم والرأي الفطير".

واجتمع رو ساء بني سعد إلى أكثم بن صيفي يستشيرونه فيما دهمهم يوم الكلاب، فقال: إن وهن الكبر قد فشا في بدني، وليس معي من حدة الذهن ما أبتدئ به الرأي، ولكن اجتمعوا وقولوا، فإني إذا مرّ بي الصواب عرفته".

حكم سادات القبائل

وحكم سيد القبيلة حكماً يتوقف على شخصيته ومكانته، فإذا كان السيد قويا حازماً مهيباً رفع مكانة القبيلة، وصيرّ لها منزلة بين القبائل، وقد يفرض ارادتها على القبائل الأخرى. أما إذا كان ضعيفاً فاتر الهمة بارداً بليداً، طمع فيه الطامعون، وقد يكون سبباً في تشتت كلمة القبيلة وفي تجزئتها وهبوط مكانتها بين القبائل. فالرئيس هو الذي يخلق القبيلة ويعز مكانتها، وهذا هو سر ظهور قبائل كبيرة بصورة مفاجئة، ثم اختفاء أمرها وهبوط منزلتها بعد أمد. وسر ذلك ان الذي يرفع من شأن القبائل أو يخفض من منزلتها هو "سيد القبيلة"،فهو روحها، وهو الذي يمنحها إكسير الحياة.

وليس حكم سيد القبيلة، حكماً مطلقاً، لا مشورة فيه ولا أخذ رأي، بل الحكم في القبائل حكماً مستمداً من رأي وجهاء القبائل وعقلائها وفرسانها وألسنتها المتبينة، فهو حكم "ملأ القبيلة". وقد يكون بيت رئيس القبيلة، هو مجلسها وموضع حكمها. وإذا حدث حادث اجتمع عقلاء القوم في مجلس الرئيس وتباحثوا في الأمر. ويقال لمجلس القبيلة "عهرو" "ع ه ر و" في اللهجة القتبانية، يعقد للنظر فيما يقع للقبيلة من أمر جليل، مثل فرض ضرائب أو زيادتها، أو إعلان حرب، أو ما شاكل ذلك من أمور.

ونجد مثل هذه المجالس عند جميع القبائل. فإذا حدث للقبيلة حادث، تجمع سادتها للتباحث في الأمر، ولاتخاذ ما يرون اتخاذه من رأي. ولما كانت القبيلة منتشرة لا تستقر في واحد، صارت مضارب سادات الأحياء اندية تلك الأحياء، يجتمع فيها وجوه المضرب للسمر وللبت فيما قد يقع بين الحيّ من خلاف. وبهذه الطريقة يفصل في الخصومات وفي كل ما يحدث للحي من أمر.

ويروي أهل الأخبار شعراً زعموا أن "لقيطاً الإيادي"، قاله في كيفية الحكم وسياسة الرعية، فيه هذه الأبيات: فقـــلّـــدوا أمـــركـــم لـــلّـــه دركــــــم  رحـب الـذراع بـأمـر الـحـرب مـضـطـــلـــعـــا

لا مـتـرفـــاً إن رخـــاء الـــعـــيش ســـاعـــده  ولا إذا عــض مـــكـــروه بـــه خـــشـــعـــا

ما زال يحـــلـــب درّ الـــدهـــر أشـــطـــــره  يكـون مـتـبــعـــا ًطـــوراً ومُـــتـــبَّـــعـــا

حتى استمرت على شزر مريرته مستحصد الرأي لاقحما ًو لا ضرعا

حكم الملوك

و تتلخص نظرة الجاهلية بالنسبة إلى حكم الملوك فيما يأتي: الملك مالك والتابع مملوك، واجبه تقديم حقوق الملك للملوك وحق الملك الطاعة وفي ضمن الطاعة: ألإخلاص له، والعمل بما يفرضه على التابع من حقوق وواجبات. وليس للرعية الإمتناع عن دفع ما في عنقها من حقوق لملوكها أو ساداتها: سادات القبائل.

وليس لأحد حق مطالبة ملكه بدفع مال له، لا بصورة ثابتة معينة مقررة، ولا بصور أخرى. إنما الملوك والسادات احرار، لهم ان يعطوا ولهم ان يمسكوا، وما يدخل خزانتهم وما يأتيهم من ربح من تجارة أو مغنم من حروب أو من عشور ومكوس وضرائب اخرى، هو من حقهم وهو من ملكهم الخاص بهم.

وكل ما يعود للحكومة، هو لهم. لنفهم هم الحكومة، والحكومة الرؤساء.

وفي الحديث: " ومأكول حمير من آكلها ؛ المأكول: الرعية، الآكلون الملوك جعلوا أموال الرعية لهم مأكلة، اراد ان عوام اهل اليمن خير من ملوكهم".

و "الآكال: مآكل الملوك. وآكال الملوك: مأكلهم وطعمهم: والأكل: ما يجعله الملوك مأكلة". والمأكولون إذن هم الرعية، يأكلهم ملوكهم، مما يأخذونه منهم من حقوق وبما يفرضونه عليهم من واجبات، والآكلون هم الملوك، لأنهم يأكلون ولا يعطون.

والحاكم ملك كان أو سيد قبيلة، هو حاصل المحيط الذي نشأ فيه والبيئة التي عاش بين اهلها، لذلك نراه مستبداً إلى اخر حدّ من جهة، ونراه عطوفاً غافراً للذنوب من جهة اخرى. وهو القانون والسلطة التنفيذية والتشريعية ولا رادّ لحكمه وقضائه، إلا التوسلات والوساطات وشفاعة الشفاع، فإن تأثر بالشفاعة غيررأيه وإن اصر على رأيه فلا راد لحكمه. وحكم هذا شأنه يكون خاضعاً لمزاج الحاكم ولدرجة هدوء أعصابه واتزانه، فإن كان الملك عاطفياً منفعلاً سريع التاثر، صار عهده عهد مشاكل ومؤامرات يكون قبل الأشخاص فيه من الأمور البسيطة. وما يومي البؤس والنعيم، إلا مثل على عقلية الحكم في ذلك الوقت. وفي حكم كهذا تكثر فيه بالطبع الوشايات والمؤامرات، إذ يستغله الحساد وأصحاب الذكاء في الايقاع بخصومهم، كالذي فعلوه من الايقاع بين النعمان والشاعر النابغة صديقه والمقرب اليه، وكالذي فعلوه من الإيقاع بين "عمرو بن هند" وهو ملك متهور قلق، وبين سادات القبائل مما سبب إلى غزوهم والى استهتار بعض القبائل بحكمه وخروجه على طاعته.

وقتل الأشخاص من أبسط الأمور بالنسبة إلى أولئك الحكام، فإذا أزعجهم شخص أو هجاهم شاعر أو انتقصهم احد،فقد يكون القتل جزاءً له في الغالب.

وإذا كان امر الملك يقتل إنسان، قتل، ما لم يشفع له شفيع قويّ مؤثر. وإذا كان امر الملك يقتل الشخص في الحال، قتل دون تأخر. ولا رادّ لحكمه، فهو الحاكم وهو المنفذ للاحكام. ولا اعتبار لمنزلة الشخص الذي سيقتل، والشيء الذي يؤجل الموت أو يبعده عن شخص ما، هو هروبه إلى رجل منافس لهذا الحاكم كاره له، أو له دالة عليه، فينقذ لجوؤه إلى ذلك الشخص رقبته من سيف الجلاد.

وللملك إحراق من يشاء إذا أراد، والتمثيل بجسم عدوّه. وقد رأينا جملة ملوك من ملوك "آل لخم" و "آل غسان" وقد عرفوا "بمحرق" لأنهم حرقوا أعداءهم بالنار. لم يحرقوا بيوتاً، بل بشراً، وقد رأينا بعض الروايات،وهي تنسب إلى "المنذر بن ماء السماء" قتل راهبات وقعن في الأسر من غسان ليكنّ قرابين قربهن إلى العزى. ورأينا امر "عمرو بن هند" بذبج تسعة وتسعين رجلاً من تميم على قمة "أوارة"، لأنه حلف يمنيا لينتقمن منهم بقتل مائة رجل منهم، واحراقهم بالنار. فقيل له المحرق. وضرب بفعله المثل في قصة يروونها عن هذا المثل: إن الشقي وافد البراجم.

وقد اشتهر "الجلندي" ملك "عمان" بظلمه، حنى ضرب به المثل. فقيل "أظلم من الجلنديّ" و "ظلم الجلنديّ". وقيل انه هو الذي ذكره الله في كتابه، فقال: " وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً ".

ويذكر أهل الأخبار ان الملوك إذا ارادت قتل شخص، لبست جلود النمر وجلست تتفرج على من يراد قتله. ويعبر عن ذلك بالتنمر.

اصول التشريع وسن القوانين

لا نملك اليوم نصوصاً في أصول التشريع وقواعده عند الجاهليين. إذ لم يعثرعلى نص خاص بهذا الموضوع. غير ان في بعض النصوص اشارات عابرة، يمكن ان نستنبط منها شيئاً عن قواعد التشريع عند العرب قبل الإسلام. وفي جملة هذه النصوص بعض النصوص القتبانية، و منها النص الموسوم بGlaster 1606.

والعرب من الشعوب التي تميل إلى الأخذ بالرأي، واستشارة ذوي إلى رأي والخبرة والسن. فنجد سيد القبيلة يستشير سادات القبيلة ووجوهها في الأمور الخطيرة التي تقع لقبيلته. كما نجد المدن والقرى تستنير برأي أولي الأمر في المشكلات التي تقع لها، لحلها وفقاً لما يستقر عليم رأي ساداتها. وفي العربية الجنوبية نجد للقبائل مجالسها كذلك، حيث يجتمع اصحاب الرأي في القبيلة، للنظر فيما يقع لقبيلتهم من امرو وقضايا خطيرة يحب أخذ الرأي فيها. وكان للملوك مستشارون يتشارون في القضايا التي يعرضها الملك عليهم، بالاضافة إلى "المزاود" والمجالس الاخرى.

وقد استشار الملوك اصحاب الأرض من طبقة "طبنن" "الطبن". والمستشارون الذين عرفوا ب "فقضت" و "بتل"، كانوا يجمعونهم لأخذ رأيهم في امور الأرض وفي مسائل اخرى. كما استشاروا كبار رجال المعابد من درجة "رشو" و "شوع". وكان لرأي هؤلاء أهمية كبيرة بالنسبة للملوك، لما كان لهم من نفوذ وكامة في المجتمع.

ولم يكتف الملوك بأخذ رأي الطبقات المذكورة عند إقرار قانون، بل كانوا يرسلون آرائها ووجهة نظرها إلى مجالس القبائل وإلى سادات ووجوه المدن والقرى والمستوطنات للوقوف عليها ولبيان رأيهم فيها، وذلك في القضايا العامة التي تشمل كل الدولة، مثل تنظيم امور استثمار الارض وفرض الضرائب والقوانين التجارية، لتدرس وتعالج على ضوء مصالح كل المتنفذين من ذوي الرأي والجاه في المملكة، على قدر الامكان، وليكون في الامكان تطبيقها وتنفيذها دون كبير اعتراض. ومتى جاء رأيهم ووقف الملك على كل الاراء واحاط علماً بها، عمل برأيه فيها واتخذ قراراً باتاً بموجبها. ويعبر عن اتخاذ قراره هذا بلفظة "جزمن" أي "الجزم". جزم الملك برأيه وامضائه لاصدار ذلك القانون، ويأمر عندئذ بتدوينه، ويعبر عن ذلك بجملة "سطرن ذت يدن"، أي "وقد كتب القرار بيده"، كناية انه، امر بتدوينه ونشره، فكأن يده ذاتها قد سطرته، وقد تدون جمل اخرى في هذا المعنى، مثل "تعلمه ذت يدن" و "تعلمه يدن" أي وقعه بيده، بمعنى امضاه وختمه بختمه، وذلك على ما يفعل رؤساء الدول من التوقيع تحت نص القوانين والاوامر،لاكسابها صبغة رسمية. وتذكر بعد اسم الملك بأسماء بعض رجال الحاشية وكبار السادات واعضاء المزاود، ممن يكونون قد ساهموا في اصدار القانون، ولهم قوة تنفيذية في المملكة. على نحو ما نفعل من ذكر اسم رئيس الوزراء والوزراء المختصين ممن لهم علاقة بتنفيذ القانون بعد اسم رئيس الدولة، دلالة على موافقتهم عليها، واقرارهم لها.

وبعد الانتهاء من موافقة الملك عليه بتثبيت اسمه عليه يدون وتحفظ نسخاً منه في خزائن الحكومة للرجوع اليها، ويقرأ القانون على الناس للاطلاع عليه. ثم يكتب على احجار تثبت في جدار الساحات الكبيرة التي يجتمع فيها، لاسيما ساحات ابواب المدن والقرى التي تكون عند المداخل، وهي ساحات الاعلان ويكون القانون بذلك ملزماً واجب التنفيذ، وعلى موظفي الحكومة والرعية العمل بما جاء فيه.

وفي حالات سن القوانين التي تخص قبيلة واحدة او مكاناً معيناً، يجتمع المجلس الاستشاري "المزود" لتلك القبلية او المكان، ثم يتداول في الامر، وقد يحضره الملك بنفسه، وقد يحضره ممثل او ممثلون عنه. واذا اتخذ المجلس قراراً في امر ما، فله الحق بأصداره بأسم الملك، كما ان له الحق بأصداره بأسمه، أي بأسم المجلس الاستشاري الذي اتخذ القرار. واذا صدر بأسم الملك دلّ ذلك على انه قانون رسمي وافقت الدولة عليه، اما في حالة اغفال الاشارة الى اسم الملك في القرار، فإن ذلك يدل على انه قانون خاص خصص بالموضع الذي أصدر المجلس قراره فيه. وتطبق احكامه عليه وحده.

ومن حق المجالس، اقرار القوانين القديمة وتثبيتها، كما ان لها حق إلغائها

او تعديلها ويصدر قرارها بقانون. ومن حقها ايضاً العفو عن المحكوم عليهم، عفواً كليا أو جزئيا. وتنظيم حقوق الارض بقوانين يصدرها عند الحاجة وحسب مقتضيات الأحوال.

ومن الصعب علينا في الوقت الحاضر تثبيت اسماء الهيئات المشرعة في العربية الجنوبية، أي الهيئات التي كان من حقها سن القوانين ووضع الانظمة. لأننا نجد في نصوص المسند اسماء مؤسسات سنت قوانين ووضعت أنظمة في جباية الضرائب وفي تنظيم معاملات ألبيع والشراء والأرض. مثل" ذو عهرو" "عهرو" في قبيلة "فيشن" "فيشان" من قبائل سبأ و "مسخنن" "مسخنان " في سبأ كذلك. ومؤسسات أخرى لا نعرف الآن من أمرها شيئاً يذكر. يظهًر أنها كانت مجالس ومؤسسات ذات طابع محلي تشمل صلاحيتها الموضع الذي تكون فيه وكان من حقها تشريع ما ترى ضرورياً بالنسبة الى تنظيم الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لذلك المكان.

ويستنبط من تعدد المجالس و الجمعيات ومن الاعمال التي قامت بها، أن الحكم في العربية الجنوبي قبل الميلاد كان حكماً قريبا من الحكم "الديقراطي" الشعبي. وان سلطات الملوك كانت مقيدة ببعض القيود، فلم يكن الملك يصدر أمراً إلا بعد أخذ رأي المجالس المختصة واستشارتها وأخذ موافقتها. والمجالس المذكورة وإن كانت في الواقع مجالس كبار اصحاب الارض وأصحاب الجاه والنفوذ، ولا راي لسواد الناس فيها. وكان للملوك نفوذ عليها و دخل في قراراتها، و لا سيما الملوك الكبار اصحاب الشخصية، إلا ان وجودها على تلك الصورة وعلى هذا النحو من الحكم، هو خير بكثير من عدم وجودها ومن حكم لا يستند على أي مجلس ولا على أية أستشارة او رأي، كما كاذ الوضع عند بعض الشعوب التي حكمها حكام مستبدون، حكموا شعوبهم حكماً فرديا ًتعسفياً،لم يستند على رأي، لا رأي النخبة من الأمة، ولا رأي الشعب.

ودام الحال على هذا المنوال إلى القرن الثاني للميلاد تقريباً، ثم تبدّ ل وتغير.فلما جاء القرن الثالث تقلص ظل حكم الأخذ بالشورى والرأي، حتى زال هذا الحكم، واختفى ذكر "المزاود"، ولم نسمع بعد ذلك لها خبراً. ويظهر ان العربية الجنوبية قد سارت على الطريق التي سلكها ملوك اليونان وقياصرة "رومة" من التنكر للحكم "الديمقراطي" والابتعاد عنه، للاخذ بمبدأ حكم "الفرد"، وهيمنة الحاكم الأعلى على كل شيء. فلما بسط ملوك سبأ وذو ريدان وحضرموت سلطانهم على أرضين واسعة، وكونوا لهم جيشاً كثير العدد غزوا به امارات و المخاليف،ازداد بذلك ملكهم، واتسع مالهم، وقضوا على من كان له رأي ونفوذ في المجالس حتى زالت المعارضة وصار الأمر بأيديهم، وبأيدي من يرضون عنهم ممن يأتمر بأمرهم. وبزوال قوة أصحاب المجالس، زال حكم الرأي والشورى الذي كان يحدّ بعض التحديد من سلطان الملوك، ويمنعهم من وضع القوانين من دون أخذ رأيهم، وصار الحكم إلى رأي الملوك وإلى رأي الأقوياء من كبار أصحاب "المخاليف".

ومما ساعد على زوال حكم الأخذ بالمشورة والرأي واستبداد الملوك وكبار رجال الاقطاع بالحكم هو تدفق الأعراب من الحجاز ونجد وسواحل الخليج إلى العربية الجنوبية وازدياد عددهم فيها، ولا سيما بعد انهيار حكم مملكة كندة وارتحالهم من منازلهم إلى العربية الجنوبية، فازداد بذلك نفوذ الأعراب واستغلهم الملوك للقضاء على نفوذ الأعراب الملوك والأذواء وذوي الاقطاع والنفوذ والجاه، حتى صار لهم نفوذ واسع في المملكة، وغدوا فوة اعترف الملوك بها، فأشاروا اليها في لقبهم الرسمي الذي صار على هذا النحو: ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت وأعرابها في الأطواد والتهائم.

وقد استغل سادة الأعراب حاجة أهل الحكم والمتنافسون عليه اليهم، ببراعة ودهاء. فصاروا يؤيدون من يغدق عليهم بالمال، ومن يفتح لهم المجال للغزو والسلب والنهب ومن يزيد على غيره في اعطاء المال لهم. وأخذوا يتنقلون من جهة إذ أخرى. يعيشون بالأمن في وقت كان الأمن فيه مضطرباً قلقاً. يهاجمون المدن والقرى والحكومات. وهذا ما أقلق بال الحكومات والرعية، وجعل الناس يخشون على حياتهم ومالهم، ويعيشون بقلق، في ظل حكومات صغيرة عديدة، لا هَم لها سوى مخاصمة بعضها بعضاً والتناحر، على عادة الحكومات المتنافسة الصغيرة في التكالب فيما بينها تكالب الكلاب.

وقد امتاز هذا العهد بكثرة حروبه وبكثرة ظهور الثورات فيه. وفي محاربة الملوك إلى قضاء معظم أوقات حكمهم في مكافحة تلك الثورات وفي محاربة الاقطاعيين الذين أراد الملوك تقليص نفوذهم.وهذا مما جسر الحبش، على العربية الجنوبية، فدخلوا قوة فاتحة فيها. ووضع مثل هذا لا يساعد على قيام حكم "ديمقراطي" ولو بشكل هزيل. وقد أثرت هذه الحروب والاضطرابات على وضع العربية الجنوبية، فأخرتها كَثيراً، وقضت على ما كَان فيها من حضارة، وجعلت البلاد بلاد حكومات: حكومات قبائل قرى ومخاليف وعشائر. ولو ان الحكم هو للملوك أو للاحباش أو للفرس. وبقي الحال على هذا المنوال حتى ظهر الإسلام، فقضى الحكم الاجنبي في العربية الجنوبية.

ولم يتمكن الحبش من حكم العربية الجنوبية كلها. ولم يكن من السهل عليهم حكها لطبيعة اًرضها ولتركز الاقطاع فيها، وهو نظام لازم تأريخها من قبل ظهور الحم المركَزي المنظم فيها، حتى صار من تراث تلك البلاد المميز لها في التأريخ. لقد اقتصر حكم الحبش في أليمن على مدن رئيسية معينة: كونت منطقة متصلة، أما خارجها فكان الحكم فيها بيد "الأقيال" الذين ركزوا حكمهم وقووه بتآزرهم وتعاونهم. وبقي الحال على هذا المنوال ايام الفرس أيضاً. بل استطيع ان أقول إن حكم الفرس كان حكماً شكَليا، مقتصراً على بعض المواضيع، أما الحكم الواقعي فكان للاقيال. ولا عبرة لما نقرأه في الموارد الإسلامية من استيلاء الفرس على اليمن، لأن هذه المواد تناقض نفسها حين تذكر أسماء الأقيال الذين كانوا يحكمون مقاطعات واسعة في ايام حكم الفرس لليمن، وكان منهمُ من لقب نفسه بلقب ملك، وكان له القول والفعل في أرضه، ولا سلطان للعامل الفارس عليه.

حكومات مدن

استعلمت لفظة "حكومة" بالمعنى المجازى، فلم يكن للمدن حكومات بالمعنى المفهوم من الحكومة في الزمن الحاضر، أي رئيس مفروض على المدينة بحكم الوراثة أو بحكم القوة، أو رئيس منتخب ينتخبه أبناء المدينة أو ساداتها وأشرافها لأجل معلوم أو لأجل غير معلوم.

ولم يكن لهذه المدن موظفون نيطت بهم أعمال معينة و واجبات محددة عليهم القيام بها، في مقابل أجور تدفع لهم. ولم يكن فيها مؤسسات ثابتة مثل المحاكم والشرطة لضبط الأمن والضرب على أيدي من يخلون بالأمن ويخرجون على أوامر المجتمع وقوانينه ولم يكن فها ما يشبه أعمال الحكومة المعروفة عندنا، لأن مجتمع ذلك العهد يختلف عن مجتمعنا الحديث.

فمكة مثلاً، وقد كانت من أبرز مدن الحجاز في القرن السادس للميلاد، لم تكن ذات حكومة. لم يكن يحكمها ملك ولم يحكمها رئيس، وكذلك كان أمر "يثرب" و "الطائف" وسائر قرى العربية الغربية. لم يكن فها أي شيء من هذه المؤسسات الثابتة التي تكون الحكومة، والتي تتعاون لتدبير أمور الناس.

وكل ما كان في مكة، أسر، يعبر عنها ب" آل" و"بني"، فيقال: "ال عبد المطلب" و"آل عبد شمس" و"آل هاشم"،و"بنو عبد المطلب" و "بنو عبد شمس" و "بنو هاشم" " وهكذا، تستوطن شعابا خصصت بها.

وكل "شعِب" لمجتمع قائم بنفسه، له سادته وأشرافه، وهم وجوه الشعب، وأصحاب الحل والعقد في هذا المجتمع.

ويقوم وجوه الشعب بفض ما يحدث بين أبناء الشِعْب من خلاف، وبالنظر في أمر المخالفين لأعرَاف الشعب وعاداته، وأحكامهم غير إلزامية ولا تسندها قوة تنفيذية، بل تنفذ حكم الَأعراف والأصول المرعية:وحكم وجاهة هؤلاء الرؤساء و مكانتهم عند الشعب.

أما إذا حدث حادث تجاوز مداه حدود "الشِعب"، فشمل شِعباَ آخر أو عدة "شعاب"، فيكون أمر النظر فيه لسادات "الشعاب" التي يعنيها الأمر، فيجتمعون عندئذ للنظر في الامر وللبت فيه بحكمة وبأناة قدر المكان، مراعاة للجوار، واقرارا للسلم. وإذا أخفق المجتمعون في اتخاذ قرار، توسط بينهم وسطاء محايدون لفض ذلك النزاع بالتي هي أحسن.

وقد ينشب خلاف بين الأحياء على أمور تمس المصالح الكبيرة الخاصة يالأسر، فتفعل هذه الأحياء عندئذ ما لم تفعله القبائل، تلجأ الى حلفائها، أو نجدد أحلافها، أو تعقد حلفاً جديداً لتدافع به عن مصالحها،كالذي كان من أمر "حلف المطيبين" وما كان من اًمر "الاحلاف"، أو من "حلف الفضول".

أما ما يعلق بأمر المدينة كلها، كأمر مكة مثلاً، من امور تتعلق بأحوال السلم أو الحرب. فيترك النظر في ذلك الى "الملا" "ملاء مكة" مثلاً. وهم وجوه مكة وسادتها من كل الاسر، فيجتمعون في "دار الندوة" او في دور الرؤساء للنظر القضايا والبت فيها، فيبين الرؤساء اراهم ويتناقشون فيها، فأذا اتفقوا على شيئ الزموا انفسهم تنفيذه، وان لم يتفقوا على شيئ وكان النزاع بين المجتمعين حاداً حاول كل فريق تأليف جبهة قوية لمقابلة الجبهة المعارضة، ولمنعها من الاعتداء عليها، وقد يعمد المتخاصمون الى مقاطعة بعضهم بعضاً، مقاطعة اقتصادية واجتماعية، كالذي حدث من مقاطعة اغلب قريش لال هاشم وال المطلب، بسبب تمسك ابي طالب بابن اخيه الرسول ودفاعه عنه، فما كان من بقية قريش الا ان قررت مقاطعة "ابي طالب" ومن آزروه وانضم اليه.

ونجد في مكة نوعاً من التخصص في الامور. والظاهر ان ذلك انما كان عن استئثار بعض الرجال البارزين بعمل من الاعمال، ثم انتقل ذلك منه الى ورثتهم بالارث او بالاتفاق او بالنص، ثم صار سنة اتفق عليها، كالذي ورد من امر "الرفادة" وهي ما كانت تخرجه قريش من اموالها وترفد به منقطع الحاج. وقد عرفت الرفادة انها شيئ كانت قريش تترافد به في الجاهلية، فيخرج كل انسان مالاً بقدر طاقته، فيجمعون من ذلك مالاً عظيماً ايام الموسم، فيشترون به للحاج الجزر والطعام والزبيب للنبيذ، فلا يزالون يطعمون الناس حتى تنقضي ايام موسم الحج. وكانت الرفادة لبني هاشم. وذكر ان اول من قام بالرفادة "هاشم بن عبد مناف" وسمي هاشماً لهشمه الثريد.

وكالذي ورد في امر "السقاية"، سقاية الحاج، وقد عرفت انها مأثرة من مآثر قريش في الجاهلية. وهي ما كانت قريش تسقية الحجاج من الزبيب المنبوذ في الماء، وكان يليها "العباس بن عبد المطلب" في الجاهلية والإسلام.

وكالذي جاء أمر "السدانة" مع "الحجابة". والسادن: خادم الكعبة وبيت الأصنام. وكانت السدانة في الجاهلية لبني عبد الدار، فأقرها النبيّ لهم في الإسلام. السدنة هم الذين يتولون فتح باب الكعبة واغلاقها وخدمتها.

وأما "الحجاب" فهم سدنة البيت أيضاً. وذكر ان الفرق بين السادن والحاجب ان الحاجب يحجب وأذنه لغيره، والسادن يحجب واذنه لنفسه والحجبة هم حجبة البيت. ورد في آلحديث: " قالت بنو قصيّ فينا الحجابة، يعنون حجابة الكعبة " وهي سدانتها، وتولي حفظها، وهم الذين بأيديهم مفاتيحها". وكالذي ذكر من أمر "الندوة"، والندوة التجِمع والجماعة. و "دار الندوة": دار الجماعه، سميت من النادي. وكانوا إذا حز بهم أمر، ندوا اليها فأجتمعوا للتشاور.

وكالذي روي من أمر "المشورة". وذلك أن رؤساء قريش كانوا إذا أرادوا أمراً استشاروا ذوي الرأي والعقل والحنكة، ومن هؤلاء "يزيد بن زمعة بن ألأسود"، وهو من "بني أسد". فكانوا اذا ارادوا أمراً ذهبوا اليه، وعرضوه عليه. فإن وافقه والاهم عليه وإلا تخير. وكانوا له أعوانآَ. وقد أسلم،واستشهد بالطائفْ.

ومن الاعمال التي كانت في مكة "الاشناق". وهي الديات والمغرم. وكانت لأبي بكر، وهو من "بني تيم" فكان إذا احتمل، شيئا ًفسأل فيه قريشاً صدقوه وأمضوا حمالة من نهض معه. وإن احتملها غيره خذلوه. ويدل حذا على أن تقدير الأشناق لم يكن ثابتاً، بل كان يعود الى تقدير صاحب الأشناق. كمايدل أن غيره قد قام به.

ومن أعمال مكة "السفارة" وذلك أن أهل مكة كانوا إذا وقعت بينهم وبين غيرهم حرب بعثوا سفيراً، وإن نافرهم حيّ لمفاخرة جعوا ا لهم منافراً لينافرهم.

وكانت السفارة والمنافرة في "بني عدي" عند ظهور الإسلام. وكان الذي يتولاها إذ ذاك "عمر بن الخطاب". وذكر أهل الأخبار أن "بني سهم" "الحارث بن قيس" " وكانت ا اليه الحكومة والأموال المحجرة التي سموها لآلهتهم،والتي كانوا يخصصونها من مغانمهم في السلم وفي الحرب.

ومن أعمالهم "الأيسار"، وهي "الأزلام" " وقد ذكر أهل الأخبار أنها كانت في "بني جمح"، ويتولاها منهم "صفوان بن أمية". فكَان لايُسبق بأمر عام حتى يكون هو الذي تسييره على يديه.

ومن الاعمال الأخرى التي ذكرها أهل الأخبار "العمارة". وكان الذي يتولاهاعند ظهور الإسلام "العباس". وكان ينهى الناس من أن يتكلم احدهم في المسجد الحرام بهجر ولا رفث ولا أن يرفع صوته.

وأشار أهل الأخبار الى ما يسمى ب "حُلوْان النفر" وقالوا إن العرب لم تكن تملك عليها في الجاهلية أحداً، فإن كانت حرب اقرعوا بين أهل الرياسة، فمن خرجت عليه القرعة أحضروه صغيراً كان أو كبيراً. فلما كان يوم الفجار أقرعوا بين بني هاشم، فخرج منهم العباس، وهو صغير، فأجلسوه على المجن.

وقد كانت سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام وحلوان النفر في بني هاشم. واهتم أهل مكة بأمر الحروب والدفاع عن مدينتهم. ويقتضي ذلك وجود أناس لهم خبرة وتجربة في الحرب، ولهم رأي في أحوالها وأصولها وحيلها وخدعها.

فالحرب خدعة، ولا بد للقائد من اللجوء إلى الخدع والحيل الحربية للتغلب على خصمه. ونطراً لضرورة التهيؤ للحرب في أيام السلم، أوجد أهل مكة بعض الأعمال وعهدوا إلى أصحابها القيام بها. منها القبة والأعنة وخزن الأسلهحة وحمل اللواء والقيادة.

أما "القبة" فإنهم كانوا يضربونها ثم يجمعون اليها ما يجهزون به قريشاً. وأما "الأعنة"، فيكون صاحبها على خيل قريش في الحرب. وكانتا إلى "خالد بن إلوليد" وهو من "بني مخزوم" عند ظهور الإسلام.

وذكر ان قريشاً كانوا يحفطون الأسلحة عند "عبدالله بن جدعان"، فإذا احتاجوا إلى السلاح وزعه فيهم. فبيتهه مخزن قريش للاسلحة. ويذكر ان القبائل كانت إذا حنضرت المواسم أودعت سلاحها "عبدأللّه بن جدعان"، فإذا انتهى الموسم وقررت العودة استعودته منه، وذلك لأمانته ولشرفه ولوثوق الناس به.

ومن الأعمال التي لها علاقة بالحرب: "اللواء". وذكر ان "عثمان بن طلحة" وهو من "بني عبد الدار" كان اليه اللواء والسدانة مع الحجابة، ويقال: والندوة أيضفاً. و كانت هذه في "بني عبد الدار". وورد في خبر آخر ان راية "العقاب" وهي راية قريش، كانت عند "أبي سفيان" وهو من "بني أمية". و "العقاب" راية للنبي، كَما ورد في الحديث. وذكر ان إلعقأب علم ضخم " يعقد للولاة شبه بالعقاب الطائر.

والقيادة: قيادة جيش مكة. وقد كانت إلى بني أمية في الغالبْ. ولكن العادة ان يتولى سادات مكهً قيادة أحيائهم في القتال. فيقود سيد كل شعب أبناء شعبه ويوجههم حيث يرى في المعركة. أما التنسيقَ بين خطط المقاتلين لانجاح المعَركة فيكون أمره الى من تسلمه قريش قيادتها العامة في الحرب من الرجال المحاربين أصحاب الرأي في الحروب. وكان "حرب بن أمية"قائد قريش في الفجار وفي ذات نكيف.

ويجب ان نضيف الى ما تقدم قيادة قوافل قريش، وقد كان أمر"عير قريش" إلى "أبي سفيان" ضد ظهور الإسلام. و "عير قريش" قافلتها. وقد كانت رئاسة القوافل من الأعمال الهامة في ايام الجاهلية. وعندما تعود القافلة سالمة غانمة يستقبل قائدها استقبال الأبطال. وقد أشير في الكتابات اللحيانية والتّدمرية إلى "رئيس القافلة"،على انه من الشخصيات المهمة ا البارزة في تدمر وعند اللحيانيين.

وكذلك كان أمر قائد قافلة قريش ولا شلك. وورد في الكتابات النبطية لقب آخرغير لقب: "زعيم القافلة" هو "زعيم السوق"، سأتحدث عنه فيما بعد. وذكر ان من أعمال قريش في الجاهلية، عمل يقال له "العمارة". و كَان إلى "العباس بن عبد المطلب"، بالاضافة إلى السقإية. وقد خرجت عليه القرعة يوم الفجار، فنصب رئيساً على "بني هاشم". وكان من عادة قريش والعرب - كما يزعم أهل الأخبار - انهم لم يكونوا يملّكون أحداً عليهم. فإن كان حرب أقرعوا بين أهل الرئاسة، فمن خرجت عليه ألقرعة أحضروه، صغيراً كان أو كبيراً. فلما خرجت القرعة على العباس،وهو صغير،جاءوا به،فأجلسوه على المجن.

و "العمارة" عمارة البيت. وقد عدّت من مفاخر قريش. و قد أشير اليها في القّرآن: )أجعلتم سقاية الحج وعمارة المسجد الحرام، كمن آمن بالله واليوم الآخر(. وقد ورد ان ممن تولاها "العباس بن عبد المطلب " و "شيبهْ بن عثمان ". وذكر ان "المشرَكين قالوا: عمارة البيت وقيام على السقاية خيرٌ ممن آمن وجاهد. وكانوا يفخرون بالحرم ويستكبرون به من أجل إنهم أهله، وعمّاره. فذكر اللّه استكبارهم واعراضَهم".

أما بخصوص نظام الحكم في يثرب، فإنه لا يختلف عن طريقة نظام الحكم في مكة، فلم يكن لأهل يثرب عند ظهور الإسلام رئيس وقد حاول بعض ساداتها من الأوس والخزرج تنصيب أنفسهم ملوكاً على المدينة، غير أنهم لم يفلحوا في مسعاهم فلم ينصبوا ملوكاً عليها. والظاهر أن للمنافسة الشديدة العنيفة التي كانت بين الأوس والخزرج على الزعامة والرئاسة يداً في عدم تمكين أي أحد من سادة أ يثرب من الانفراد بزعامة المدينة وبالسيادة عليها. وقد يكون لوجود اليهود بيثرب يد في تعميق الخلاف بين "أولاد قيلة"، إذ لم يكن من مصلحتهم اتفأقهم واجماعهم على اختيار رئيس واحد قوي. فالرئيس القوي سيبسط نفوذه همن غير شك على يهود يثرب أيضاً، ويستذلهم ويجعلهم أتباعاً له. أما في حالة تشتت كلمتهم وتشاحنهم فستكون لليهود إمكانية إثارة فريق على فريق، والاستفادة من سياسة فرق تسد". وبذلك يكون أمرهم ونهيهم في أيديهم بدلاّ من أن يكون في أيدي "صاحب يثرب".

وقد حاول أهل يثرب من الأوس والخزرج حل " مشكلة الحكم في مدينتهم حلاً وسطاً، على قاعدة:أن من الأوس أمير ومن الخزرج. أمير. يحكمان حكما مشتركاً، أو على التوالي، كأن يحكم سيد الأوس سنة، تم يترك الحكم لسيد الخزرج يحكم السنة التالية " ثم يعود فينسحب ليتولى الحكم سيد الأوس وهكذا، غير أن الحل لم ينجح ايضأَ، وبقيت المشكلة: "مشكلة الحكم" مستعصية غير محلولة حتى دخل ألرسول يثرب، فحلّها حلاً أزعج بعض من كان طامعاً في الحكم وكان يرغب ان يكون سيد يثرب.

هذا ولم نعثر في الأخبار الواردة الينا من يثرب، على خبر يفيد وجود "ناد" في هذه المدينة على شاكلة "دار الندوة" أو نوادي الملا. والظاهر أنه قد كان للنفرة الشديدة الني كانت بين الحيين: الأوس والخزرج يد في عدم ظهور مجلس حكم موحد في هذه المدينة. فبغض كل حيّ للحيّ جعل الاتفاق فيما بينهما على تكوين مجلس واحد من "ملا" المدينة أمراً صعباَ، على حين كان ذلك ممكناًً بالنسبة لأهل مكة، لأنهم كانوا كتلة واحدة، ومصلحتهم في حكم مشترك هي مصلحة عامة. ولم تكن المنافسات عندهم بين الأسر شديدة حادة، لذلك كان من الممكن اجتماع سادات الأسر في مجلس واحد، لا سيما وهم تجار، ومن مصلحة إلتاجر تْمشية الأمور وتصريفها بالطرق السلمية، وحلها بغير تعنت ولا تشدد وغطرسة.

وكان أمر "الطائف" في أيدي "ملا المدينة". يديرون شؤونها في أيام السلم والحرب، ولم يرد في الأخبار أن أهل الطائف توجوا رجلاً عليهم، فجعلوه ملكاً، ولم يرد فيها أيضاً انهم رأسوا رئيساً عليهم، بل كانت الرئاسة في عدد من الرؤساء، هم سادات البطون والأحياء. ولكَل رئيس كلمته في حيّه الذي يقيم فيه.

الفصل الثالث والخمسون

حقوق الملوك وحقوق سادات القبائل

وبعد أن تكلمت على أصول الحكم عند الجاهليين وعلى الأشخاص الذين. كانوا يتولون إدارة الحكم وتصريفها، وجب أن أتكلم على حقوق الملوك وحقوق سادات القبائل على أتباعهم،أي الواجبات التي يجب أن يؤديها الأتباع إلى ساداتهم وحكامهم من طاعة ومن مال، فأقول:

حقوق الملوك

والملك هو السلطة العليا في المملكة وهو الموجه والمدير المدبر لأمورها. وله على أتباعه حقوق، منها: حق التسليم والخضوع والطاعة. فطاعة الملك طاعة واجبة.

وله حق جباية الشعب، أي اًخذ الضرائب منه: ضرائب على الزراعة،وضرائب على التجارة، وحق إعلان النفير والحرب، والامتناع عن دفع حقوق الملوك المتفق عليها، والخروج على أمره هو خروج على الحق والقانون.

هذا وانا نأسف إذ نقول اننا لا نملك كتابات جاهلية تتحدث عن حقوق الملوك وعلم الواجبات التي على الشعب القيام بها تجاههم، فما نتحدث به عن هذا الموضوع مستمد من بعض الأوامر والإرادات التي أصدرها ملوك من العربية الجنوبية، في تنظيم الأعمال وفي كيفية التجارة والاتجار أو في الضرائب التي على التاجر أو المزارع أداوها للملوك، وبعض آخر أخذ من كتب أهل الأخبار والتواريخ وكتب الشعر والنثر، وفيها نتف وردت عرضأَ عن بعض حقوق الملوك وسادات القبائل في الجاهلية الملاصقة للاسلام.

والملك هو قائد شعبه إيام السلم وايام الحرب، يرأس جيشه في القتال ويختار من يشاء لقيادة الجيش. وهو القاضي الأعلى والحاكم فيما يقع بينهم من خلاف.

وهو الرئيس الروحي لأمته وكاهنها في الأصل. غير ان الملوك تركَوا هذه القيادة الروحية، أي الزعامة الدينية لغيرهم، وهم رؤساء الدين، واحتفظوا بالسلطة الزمنية الني تشمل سلطة القيادة والحكم.

بيت المال

والملك هو صاحب اْرض الدولة والقيّم عليها. وله حق منح الأرض لمن يشاء وانتزاعها عمن يشاء، أو تأجيرها لمن يرى. والأرض عند العرب الجنوبيين هي ملك الآلهة، وليس على وجه الأرض ملك لإنسان. غير أن هذا لا يعني ان الأرض ومن عليها ملك لرجال الدين باعتبار انهم ألسنة الآلهة الناطقة على هذه الأرض والممثلون لهم في هذا العالم، َفهم وحدهم إذن لهم حق ادارة الأرض واستغلالها، وذلك لأن الملوك سلبوهم هذا الحق واستبدوا به ومارسوه ونصبوا أنفسهم خلفاء على الأرض، وصاروا أوصياء الالهة على أموالها. وهكَذا فسرت قاعدة "المال مال الآلهة" تفسيراً يجعل حق الأشراف على "مال الآلهة" في هذه الأرض للملوك ولأصحاب السلطان الفعلي الحاكمين حكماً بقانون القوة، أما رجال الدين الذين يجب ان يكَونوا هم خلفاء الآلهة على الأرض والمنفذين لأوامرها، فقد خضعوا لحكم الواقع، ورضوا بما حصلوا عليه من حقوق وامتيازات، وساروا إلى جانب الملوك في الغالب، لتشابه المصلحتين، وحصل الترضي على اعطائهم حقوقأ وامتيازات واسعة، واستقلالاً في إدارة اموال المعابد، بحيث لا يكون للحكومة اي سلطان عليها، وهي مستثناة من دفع الضرائب التي يجب على سائر الناس دفعها الىْ الحكومة، فصار المعبد من ثم سلطة ذات ثرأء وسلطان تلي سلطة الحكومة ولها ضرائب يدفعها المؤمنون المتقون.

والملوك هم من كبار أصحاب الملك في الدولة، فإلى جانب حقهم المتقدم في اعتبارهم خلفاء الالهة على الأرض في ادارة ملكها، نجدهم يمتلكون أرخضاً وآسعة وأملاكاً شاسعة ويتاجرون باسمهم،فيرسلون القوافل لتجارة. والأرض التي يمتلكها الملوك، هي أرضون خاضعة لهم مباشرة، لأنها ملكهم الخاص. ومعنى ذلك ان منفعتها تكون خاصة بهم. فلا يصرف منها على المصلحة العامة، إلا إذا أراد المك ان يتبرع بذلك رضاءً، وله بالطبع أن يهدي منها ما يشاء الى من يشاء، كما يفعل أي مالك، وهو يؤجر ارضه لمن يريد. ويقال لما يدفع له في مقابل ذلك "نحلث".

والأرضون المفتوحة عنوة هي من حق الدولة، تضاف إلى أملاكها وتسجل باسمها وتعدّ من "بيت المال"، ويكون حق النظر في أمرها والإشراف عليها واستغلالها للملك، لأنه رئيس الدولة وحاكمها، وله الخيار في كيفية التصرف بها. له أن يعطيها للاقيال في مقابل ضريبة حربية يقدمونها له تسمى "ساولت." أو في مقابل ايجار يتفق عليه يقال له "ثوبت"، وله أيضاً أن يبيعها متى شاء، ويعبر عن ذلك ب "شامت" أي بيع.

ويراد بضريبة "ساولت" أي الضريبة الحربية، تعهد أصحاب الأرض بتقديم المحاربين إلى الدولة، ويتفق على العدد وعلى وقت التقديم، ويسجل ذلك في عقد الآتفاق. ويقوم أصحاب العقد بالانفاق عليهم وبتقديم كل ما يحتاج المحارب اليه من عدة وسلاح. واالغالب ان يقوم بذلك المحارب نفسه، لأنه رجل مسخر مأمور، فهو من أتباع صاحب الأرض ينتزعه سيده من أرضه، ويرسله إلى الخدمة وقت الحاجة اليه.

ولما فتح "كرب ايل وتر" ملك سبأ أرض أوسان ودهس،وفتح عنوة كل أرضى"عبدان" ومدنها وقراها وأوديتها وحصونها ومراعيها، صارت كل هذه الأرضين وما عليها من محاربين ومن مدنين أحرار عبيد ملكاً لدولة سبأ وسجلت في جملة مقتنياتها. ويلاحظ ان سلطنة العوالق العليا عدت "وادي عبدان" الذي هو في جنوب "نصاب" من "أرض الدولة" أي من أملاك السلطان ومن أرض "بيت المال" ورقبتها بيد "سلطان العوالق".

وبالاضافة إلى الأرضين المفتوحة عنوة،ضم ملوك سباً إلى أملاك الدولة أرضين اشتروها شراءً، واشتروا كل ما كان عليها من ناس وحيوان وزرع. فقد كان المشتغلون بالأرض يعدون تابعين لها فيباعون معها وهم ملك لها. وهم طبقة خاصة من طبقات عبيد الأرض.

ولم تتحدث الكتابات عن حقوق الملك وعن مدى صلاحياته في الحكم، ولكننا نستطيع ان نقول قولاً عاماً إن سلطات الملك كانت كسلطات الملوك الاخرين في الأقطار الأخرى، تتوقف على شخصية الملك وسلطانه وقدرته، فهو ملك ذو سلطان واسع مطلق، أوامره قوانين، وارادته مطاعة، يحد سلطان المتنفذين ويخضعهم لحكمه إن كان الملك صاحب شخصية قوية وعزم،وهو مغلوب على أمره يحكم اسماً إن كان ضعيفأ خائر العزم، وتحكم المملكة العناصر القوية صاحبة السلطان من ابناء الأسرة المالكة، أو من سادات القبائل أو رجال الدين، فعلى هذه الأجوال إذن كانت تتوقف سلطات الملك وأعماله في المملكة.

وللملوك حق يسمى "حق الإحماء". فإذا اعجب الملك بأرض أو بعشب، أعلن حمايته لتلك الأرض، أو لذلك العشب، فلا يِسمح عندئذ لأحد بدخول "الحمى" اي المكان المحمي دون اذن الملك أو الشخص المخول من الملك بهذا الحق. ويدخل فيَ هذا الحق حق حماية الحيوان أو النبات. وكان ملوك الحيرة يحمون الأرضين والحيوانات،كالإبل والخيل والكباش،، فتكون لهم، لا يسمحون لغيرهم بالانتفاع منها. ولما وثب "علباء بن ارقم اليشكري" على كبش للنعمان ابن المنذر، كان من أحماه، أي جعله حمى، فذبحه، حمل إلى النعمان، فاعتذر اليه وعفا عنه.

وكان "النعمان بن المنذر" يحمي مواضع عديدة قرب الحيرة وعلى مبعدة منها. ترعى فيها إبله وبهائمه، منها أرض "سحيل". أرض بين الكوفة والشام.

أموال الدولة

ذكرت ان الأرض هي ملك الآلهة في نظر العرب الجنوبيين، وان "المكروبن" والملوك هم خلفاء إلالهة على الأرض، وهم المسؤولون عن الأرض وعن الملك وعن تطبيق أوامر الالهة ونواهيها بن الناس. وهم حماة الملكية. وكل أرض الدولة هي ملك الحاكم من حيث المبدأ،والحاكم هو الذي يقر الملكية ويثبتها لأتباعه ويحافط عليها.

والملكية بصورة عامة، إما أن تكون ملكية الدولة، وإما أن تكون ملكية الملك أو الحكام، أي أملاكهم الخاصة بهم المسجلة باسمهم، وإما ان تكون من أملاك المعابد، من أوقاف وغيرها وإما أن تكون من ملكية أشخاص وهي: أملاك ثابتة، أي غير منقولة، مثل أرض وبئر وحدائق وبساتين، وأموال منقولة مثل: بهائم وأثاث وغير ذلك مما يمكن نقله من مكان إلى مكان.

وأعني بأرض الدولة، أرض الفتوح. وهي كل أرض تفتتح عنوة، فتعد مالا من أموال الدولة، وتسجل باسم الدولة، كأن تسجل باسم شعب مَعين أو شعب سبأ، وتقيد عند تسجيلها باسم الهة ذلك الشعب، باعتبار انها هي المالك الحقيقي الشرعي. وتقوم الحكومة بإدارتها وبالاشراف عليها وباستغلالها واستثمارها إما مباشرة، أي بتعينن موظفين لإدارتها، وإما بإعطائها اقطاعا أو كراءً إلىغير ذلك من طرق الاستثمار. ويسجل وارد هذه الأملاك باسم الدولة ويدخل في خزانتها، وينفق منه على المشاريع العامة، وفي ضمنها رواتب الموظفين وأجورالمشتغلين في إدارة هذه الأملاك.

ويمكن تسمية أرض الدولة بأرض السلطان أو أرض "ميرى" أو "أرض سنَية" في المصطلح الحديث.

ومن أملاك الدولة: الصوافي. وهي الأرضين التي استولي عليها وكانت تابعة لحكومة سابقة. فتكون حقاً من حقوق الدولة المنتصرة وغنيمة لها. وتدخل فيها الأملاك واللأرض التي جلا عنها أهلها أوماتوا ولا وارث لها. ففد كان الملوك يستصفون الأرضين التي يستولون عليها بالقوة ويجعلونها ملكاً لهم. وهي غير "الصفايا"، أي ما يختاره الرئيس من المغنم ويصطفيه لنفسه قبل القسمة من فرس أو سيف أو غيره.

والصوافي في الإسلام: الأملاك والأرض التي جلا عنها أهلها أو ماتوا ولا وارث لها. والضياع التي يستخلصها السلطان لخاصته. وكانت "صفية" بنت "حيي" من الصفايا، اصطفاها الرسول لنفسه من غنيمة "خيبر".

أموال الملوك

وإلى جانب أموال الدولة، توجد اموال الملوك. وهي اموالهم الخاصة بهم

والمسجلة بأسمائهم لأنها ملك لهم. يتصرفون بها تصرفاً مباشراً، أو يؤجرونها لأتباعهم في مقابل أجر يقال له "نحلت". والعادة ان الذي يستأجرها هم كبار الناس وسادات المجتمع يأخذونها منهم بشروط سهلة، ثم يؤجرونها لمن هم دونهم بشروط صعبة، للاستفادة من الفرق بين سعري الإيجارين. وقد يؤجرالملوك إلى قبيلة، وتكون القبيلة مسؤولة كلها امامه على الأرض. فيذكر في العقد اسم القبيلة المستأجرة باعتبار أنها هي التي أجرت ذلك الملك. إلا أن الغالب هو أن سادات القبائل، هم الذين يتصرفون بالأرض المستأجرة، فيؤجرونها إلى اتباعهم بشروط ثقيلة. ليربحوا من الفرق. ويكونون هم المسؤولين عن تقديم ال "نحلت" أي بدل الإيجار إلى الملوك.

ويحدث في كثير من الأوقات ان كبار الاقطاعيين وكبار سادات القبائل، يستأثرون بأملاك الدولة وبأملاك الملوك، ويتصرفون بها تصرفاً اعتباطياً،ولا تتمكن الحكومة من عمل شيء تجاههم لنهم أقوياء، لذلك تضطر الدولة إلى مداراتهم ومسايستهم، بأن تأخذ منهم "نحلت" "نحلة"، أي أجراً رمزياَ، يكون بمثابة اعتراف منهم بأن الأرض التي استأثروا بها هي ملك للدولة وللملوك.ويقومون هم باستغلالها وبالتصرف بها كيف يشاؤون. ولا يزال هذا الوضع معروفاً حتى اليوم، فقد كان سادات القبائل قد وضعوا أيديهم على أرضين "حكومية" أي "ميري"، وتصرفوا بها وكأنها ارض تملك "طابو" في مقابل اجر رمزى زهيد، ومنهم من استولى عليها وسجلها باسمه، فصارت ملكاً صرفاً له. بعد بذله مبلغاً زهيداً اعتبر ثمناً لتلك الأرض.

الأوقاف

وقد كانت المعابد اوقاف حبست عليها، ولها موظفون لجياية غلتها، وهي أوقاف قديمة سجلت باسم المعابد منذ كان الكهان "المكربون" يتولون أمور الحكم. وأوقاف كان يحبسها الآغنياء الأتقياء في حياتهم أو بعد وفاتهم على المعابد، قربةً إلى الآلهة. وهي معفوة من الضرائب، فلا تدفع للحكومة اي ضريبة. لانها أملاك المعبد. ويدفع المستغلون للاوقاف حق التصرف بالاوقاف إلى المعبد، لأنه هو المالك الشرعي للوقف. كما ساتحدث عن ذلك بالقسم الخاص بالمعبد.

وكان أهل الجاهلية يحبسون السوائب والبحائر والحوامي وما ألشبهها، فلا يعتدي عليها ولا يستغلها احد. فلما جاء الإسلام، نزل القرآن بإحلال ما كانوا محرمون منها وإطلاق ما حبسوا. وعرف ذلك ب "الحبس". وكانوا في الجاهلية يحبسون مال الميت ونسائه. كانوا إذا كرهوا النساء لقبح أو قلة مال حبسوهن عن الأزواج لأن أولياء الميت كانوا اولى بهن عندهم. " وفي حديث ابن عباس: لما نزلت آية الفرائض قال النبي، صلى الله عليه وسلم: لا حبسى بعد سورة النساء، أي لا يوقف مال ولا يزوى عن وارثه "، إشارة إلى ما كانوا يفعلونه في الجاهلية من حبس مال الميت ونسائه.

وكانوا يحبسون الأرض والنخل والكروم وغير ذلك على أصنامهم، ويجعل بعضهم غلتها على ابناء السبيل.وذكر ان "الحبس"يقع على كل شيء وقفه صاحبه وقفا محرماً لا يورث ولا يباع من ارض ونخل وكرم ومُستغل.

سمات الملك

وكانوا يسَمون إبل الملوك وماشيتهم بسمة خاصة، لتكون علامة على انها من ملك الملوكَ والدولة. كما كان إلأشخاص يَسِمون إبلهم وماشيتهم بسمات خاصة بهم، لتكون دلالة على تبعيتها لصاحب "الميسم". والوسم أثر الكي.والميسم: هو الحديدة التي يكوى بها، واسم للالة التي يوسم بها. والأصل في الوسم أن يكون بكي، ثم أطلقوه على كل علامة، مثل قطع في أذن أو قرمة تكون علامة، أو ضروب الصور.وكان الرسول يسم إبل الصدقة بميسم، أي يعلم عليها بالكي.

ووضعوا الريش علامة وسمة لجمالهم، ليعرف من يراها انها من إبل الملوك، فلا يقترب منها. وكانوا إذا أرادوا تشريف أحد، حملوه على هذه الإبل أو أهدوه منها. "ومن المجاز: أعطاه،اي النعمان النابغة مائة من عصافيره بريشها،. اي بلباسها وأحلاسها. وذلك لأن الرحال لها كالريش أو لأن الملوك كانت إذا حبت حباءً جعلوا من أسنمهّ الإبل ريشاً، وقبل ريش قنعامة، ليعرف انه من حباء الملك". وذكر ان الملوك كانوا يضعون الريش في أسنمة الإبل وتغرز فيها، وكانت تجعل الريش علامة لحباء الملك تحميها بذلك وتشرف صاحبها.

وقد عرفت إبل المك "النعمان بن المنذر" بأصالتها وبجودة جنسها وبنجابتها. وذكر ان أكرم فحل كان للعرب من الإبل كان يسمى عصفوراً، وتسمى أولاده عصافر النعمان. وكان إذا وهب منها لأحد عدّ ذلك تقديراً وتعظيماً له. حتى كانوا يقولون: "حباه بكذا وكذا من عصافيره"، و "وهب له مائة من عصافره". وذكر ان من فحول إبل "النعمان" الأخرى "داعر" و "شاغر"و "ذو الكبِلين".

ولأهمية السمات في ذلك الوقت، وضعوا لها أسماء، ذكرت في كتب اللغة ولأخبار. منها: السطاع، والرقمة، و الخبا ط، والكشا ح، والعلاط، وقيدا لفرس، والشعب، و المشيطفة، والمعفاة، والقرمة، والجرفة، والخطاف،والدلو والمشط، والفرتاج، والثؤثور، والدماغ، والصداع، واللجام،والهلال، والخراش، والعراض، واللحاظ، و التلحيظ، والتحيين، والصقاع،و الدمع.

اتجار الملوك وسادات القبائل

ولم تكن الموارد المذكورة لتسدّ حاجة الملوك، وسادات القبائل، لذلك عمدوا إلى موارد أخرى لاستنباط المال منها، فعمدوا إلى التجارة وتربية الأنعام وإلى إقامة بعض المصانع وتنمية أرض التاج وزراعتها لبيع حاصلها وساهموا في البيع والشراء في الاسواق، فكان لهم وكلاء ينقلون أموال الملوك إلى الأسواق لبيعها فيها، ولشراء ما يحتاج اليه الملك من تجارة أخرى يستطيع تصريفها في أسواق أخرى، تكون هذه البضائع عزيزة ثمينه فيها، ولم يكن الاتجار بالأسواق أمراً خاصاً بالملوك العرب، وإنما كان ذلك عرفأَ متبعاً عند غيرهم من الملوك، مثل الأكاسرة والقباصرة وملوك العبرانيين.

فمن ذللث ما روي من انه كان للنعمان بن المنذر وغيره لطائم، عير تحمل الطيب والمسلك وبز التجارة، تذهب إلى الأسواق لبيعها فيها، ولتأتي بتجارة جديدة. وقد ذكر ان "اللطيمة" وعاء الطيب أو سوقه، وقيل كل سوق بحلب اليها غير ما يؤكل من حر الطيب والمتاع غير الميرة: لطيمة. والميرة لما يؤكل. والطأئم هي الأسواق التي تباع فيها العطريات. وفي جملة ما يباع فيها "بالات" المسك، أي اًوعية المسك.

ويظهر من نصوص المسند اًن الملوك كانوا قد أسسوا دوراَ للنسيج، يباع ما تنتجه في الأسواق. وقد اشتهرت اليمن بأنسجتها المختلفة المتعددة. فكانت دور النسيج من جملة الموارد التي تأتي بالمال الى أولئك الملوك.

غنائم الحروب

وللملوك مورد آخر من موارد دخلهم، هو غنائم الحروب. فإن ما يغنمه جيشهم من مال وأشياء ثمينة واًسرى يكون ملكاً للملوك،وإذا فاض عدد الأسرى عن حاجة الملوك باعوهم في أسواق النخاسة، للاستفادة من ثمن بيعهم. أما إذا قرر الملك الاحتفاظ. بالأسرى، فإنهم يستخدمون في أعمال كثيرة، مثل الخدمة م في الجيش، أو الاشتغال بشق الطرق وانشاء الأبنية والعمل في الأرض، إلى غير ذلك من أعمال يشغلون بها باعتبار انهم رقيق. وقد يهدي منهم الملوك إلى المقربين اليهم، ولا سيما بعد انتهاء الحرب أو الغزو واحصاء الأسرى، فقد يختار الملك لنفسه أجل الأسيرات. وقد يعطيهن هدايا إلى من يشاء من قواد جيشه ومن كبار موظفيه والمقربين البه.

وتشمل غنائم الحرب كل ما يقع في أيدي المنتصر من غنيمة، لا فرق عنده إن كانت من أموال الحكومة الخاسرة أو من أموال سيد القبيلة المغلوب، أو من أموال الأتباع والرعية. فقانونهم في الحرب ان كل ما يقع في أيدي الغالب هو ملك له، ان كانت الغنيمة من أموال الحكومة أو من أموال الرعية فالرعية ملك للملك، وملكها ملك للغالب بحق القوة، وهي نفسها ملك له يتصرف بها كيف يشاء. لذلك تكون غنائم الحروب مورداً حسناً بالنسبة للغالب، لا سيما إذا كان المغلوب من أصحاب الثراء والمال ومن الحضر.

وكان الأمير في الجاهلية يأخذ الربع من الغنيمة، وجاء الإسلام فجعله الخمس وجل له مصارف. ومنه قول: عدي بن حاتم الطائي: ربعت في الجاهلية وخمست في الإسلام. أي قدمت الجيش في الحالين.

الاقطاع والاقطاعيون

والاقطاع معروف بين الجاهليين، وخاصة بين أهل العربية الجنوببة. وقد كان اقطاعاً للارض لتستغل زراعة، واقطاعاً لاستغلال ما فيها من ماء أو معدن مثل الملح. وكان الملوك يقطعون أملاك الدولة لمن شاعوا، كما فعل المعبد ذلك، إذ كان يقطع الأرض المحبوسة باسمه لمن يشاء من الناس.

وقد كانت العادة في اليمن جارية بإقطاع المعادن والمياه لأصحاب السلطان، كأن يقطع "الملح" لشخص ليستغله، فيشغل من يريد في استخراجه وبيعه. وقد وردت في الكتابات الجاهلية إشارات إلى استغلال معادن الملح، والى إقطاعها الأشخاص يستخرجون الملح منها في مقابل أجر يدفع عن ذلك الإقطاع. وقد بقيت هذه العادة إلى الإسلام، فقد ورد في كتب الحديث: أن "الأبيض بن حمال" استقطع رسول الله ملح مأرب،فأقطعه. ولما ذكر "الأقرع بن حابس" للرسول أنه قد ورد ذلك الملح ورآه، وانه مثل الماء العد بالأرض، من ورده أخذه، وان إقطاعه له يمنع الناس من وروده، فاعتدهُ الرسول صدقة، وجعله مثل الماء العِدّ.

والإقطاع يكون تمليكاً وغير تمليك. فإذا كان تمليكاً، صار له ليس لأحد حق مزاحمته عليه ولا استثماره، ويكون عندئذ ملكه. وله حق تأجيره. لغيره أو اعطائه في مقابل حق يعينه في الحاصل والناتج.وقد كان الملوك في العربية الجنوبية يقطعون أصحاب الجاه والسلطان وسادات القبائل الإقطاعات،فتولد من هذا الإقطاع كبار أصحاب الأرض، وصار لهم سلطان واسع بحكم ما حصلوا عليه من مال وقوة وجاه. حتى صاروا يتدخلون في شؤون الدولة الداخلية.

وأما الإقطاع الثاني، وهو إقطاع من غير تمليك فإنه إقطاع لأمد قد يحدد بزمن، وقد لا يحدد بزمن، وذلك بشروط تثبت وتحدد في عقد الاتفاق،كأن يتفق على أن يقدمّ من يقطع له الإقطاع ثلث الحاصل أو الغلة أو الربع أو ما شابه ذلك، أو أن يقدم مبلغاً مقطوعاً أو عيناً يذكر ويثبت مقداره، أو خدمةا معين للدولة أو للمعبد القطاعي صاحب الملك مثل تقديم عدد معين من المحاربين وقت الطلب ومقدار معين من مال أو عين.

وقد لا يستغل الإقطاعي اقطاعياته، وإنما يقوم بإقطاعها للاقطاعيين الصغار، أو يؤجرها لمن هم دونهم في المكانة ليقوموا هم باستغلال ما استأجروه، وقد يعطيها للفلاحين للاشتغال بها بشروط يتفق عليها معهم. ويكون الإقطاعي قد استفاد من إقطاعه من غير تعبِ أو جهد.

وفي الكتابات الجاهلية ان سادات القبائل كانوا يملكون اقطاعيات واسعة يديرونها باسم قبائلهم، وقد تزيد اقطاعياتهم عن حاجات القبيلة، لذلك يؤجرونها لقبائل اخرى تكون في حاجة إلى الأرض في مقابل خدمات تؤديها للقبيلة المؤجرة صاحبة الأرض وفي مقابل حقوق عينية تثبت وتعين وتدفع عند حلول الآجال المعينة في العقد. وتعتبر القبيلة التي تستغل الارض نفسها تابعة للقبيلة التي تملك الأرض.

وللفقهاء اراء في الاقطاع في الإسلام، بأنواعه: اقطاع التمليك، واقطاع الإرفاق، واقطاع الموََات.

وقد عاش الاقطاعيون على استغلالهم لخيرات الأرضين الواسعة التي امتلكوها، والتي درت عليهم أموالاً طائلة، خلقت لهم قوة مهابة في البلاد، صيّرت بعضهم حكومة في داخل حكومة. عاشوا في قلاع وقصور حصينة حمتها حصون متينة، لهم أتباعهم وحرسهم، وصارت لهم سطوة لا تقل عن سطوة كبار رجال الدين، بل زادت على سطوتهم فيما بعد الميلاد، حيث صاروا ينافسون الملوك ويَتحدَّون إرادتهم في كثير من الأحايين، مما أقلق الوضع السيامي، وهز صرح الحكومات. وأوجد مجالاً لتدخل الأحباش في شؤون اليمن.

حقوق سادات القبائل وامتيازاتها

ولسادات القبائل بحكم منازلهم ومكانتهم في قومهم امتيازات وحقوق، ولهم في مقابلها واجبات عليهم أدبياً تبعة القيام بها لرعيتهم، وهم أفراد القبيلة.

وفي جملة حقوق سيد القبيلة حق "المرباع" وهو حقه في أخذ ربع الغنائم إذا وقع الغزو. وأخذ "المرباع" هو من أمارات الفخر والجاه والرئاسة عند العرب ولذلك كان يتباهى به من له هذا الحق، ويفتخر أهله بهذا الحق، لأنه من سيماء الرئاسة والشرف. وقد افتخر "الزبرقان بن بدر التميمي" أمام الرسول بأنه من حي كرام، فلا حي يعادلهم منهم الملوك وفيهم يقسم الربع، أي انهم كانوا يأخذون ر الغنيمة خالصا، وهو المرباع. وكان "عديّ بن حاتم" ممن يأكل "المرباع". ويروى ان الرسول قال له: "انك لتأكل المرباع وهولا يحل لك في دينك".

وقد عرف سادات القبائل الذين يأخذون المرباع ب "ذوي الاكال"، ولهم مقام عندهم بالطبع، ولهذا منحوا امتيازات في الغنائم، فوقّتهم على سائر الناس. وقد ذكرهم "ابن حبيب السُّكري"، فقال عنهم: "ذوو الآكال من وائل. وهم أشراف كانت ألملوك تقطعهم القطائع. فاًما مضر، فكانوا لقاحالا يدينون للملوك إلا بعض تميم ممن كان باليمامة،ما صاقبها. فذوو الآكال: قيس بن مسعود بن قيس بن خالد بن عبدالله ذي الجدين بن عمرو بن الحارث ابن همام بن مرّة بن ذهل بن شيبان. وكان كسرى أطعمه الأبلة وثمانين قرية من قراها، ويزيد بن مسهر بن أصرم بن ثعلبة بن أسعد بن همام بن مُرّة بن ذهل بن شيبان، والحارث بن وعلة بن المجالد بن يثربي بن الزبّان بن الحارث ابن مالك بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة ".

وذوو الاكال، سادة الأحياء الآخذين للمرباع وغيره. قال الأعشى: حولي ذوو الآكال من وائل  كالليل من باد ومن حاضر

والمرباع حق قديم نجده عند أكبر القبائل، وظل إلى مجيء الإسلام،لا ينازعها عليه منازع من القبيلة، فكان الحارث بن عبدالله بن بكر بن يشكر المعروفون بالغطاريف ياخذون ربع ما يغنم الأزد جميعاً، لأن الرئاسة في اللأزد كانت لهم.

ومن أكل "المرباع" "عامر الضحيان"، وكان سيدّ "النمر بن قاسط"في الجاهلية وصاحب مرباعهم.

ومن "المرباع" جاءت "الرباعة"، بمعنى الرئاسة. يقال هو على رباعة قومه، أي سيدّهم. ويقال: ما في بني فلان من يضبط رباعته غير فلان، أي أمره وشأنه الذي عليه. ويقال: لا يقيم رباعة القوم غير فلان. و"الرباعة" الحال والطريقة والإستقامة. وفي كتاب الرسول للمهاجرين والأنصار: انهم أمة واحدة على رباعتهم. أي على استقامتهم. واًمرهم الذي كانوا عليه.

ولسيد القبيلة حق اخر مفروض على قبيلته، هو حق "الصفايا"، وهو ما يصطفيه الرئيس لنفسه من الغنيمة من فرس وسلاح أو جارية وغير ذلك من الأموال قبل القسمة. وكانت "صفيةّ بنت حيي" في جملة الصفايا التي اصطفاها الرسول لنفسه يوم خيبر، ومنه قيل للضياع التي يستخلصها السلطان لخاصته "الصوافي". وقيل: الصفايا ما يصطفيه الرئيس لنفسه دون أصحابه مثل الفرس، وما لايستقيم أن يقسم على الجيش لقلته،كثرة الجيش. وقيل أيضاً الصفى أن يصطفى الرئيس لنفسه بعد الربع شيئأً كالناقة والفرس والجارية.والصفى في الإسلام على تلك الحالة.

ثم له حق "النشيطة"، وهو ما أصاب من الغنيمة قبل أن يصير إلى مجتمع الحي. وقيل: النشيطة من الغنيمة، ما أصاب الرئيس في الطريق قبل أن يصير إلى بيضة القوم. وقيل: ما يغنمه العزاة في الطريق قبل بلوغهم المواضع التي قصدوها، أو ما أنشط من الغنائم ولم يوجفوا عليه بخيل ولا ركاب.

وأما الفضول، وهو حق آخر من حقوق الرئيس، فهو ما عجز أن يقسم لقلته وما فضل عن القسم فيخصص به، كالبعير والفرس ونحوهما.

وقد أشير إلى حقوق سيد القبيلة المدكورة في هذا البيت من الشعر المنسوب إلى عبد الله بن عنمة الضبي، أو إلى الأفوه الأودي: لك المرباع منا والصـفـايا  وحكمك والنشيطة والفضول

الحمى

ولسيد القبيلة حق "الحمى"، وهو من أمارات عزه وشرفه وسيادته. فكان إذا مر سيد قبيلة برمضة أعجبته، أو بغدير أعجبه، أعلن حمايته عليها أو عليه إلى حد يعينه ويثبته، فلا يقترب أحد من ذلك الحد، وهو في ذلك مثل الملوك في هذا الحق. ولهذا لم يتمتع بهذا الحق إلا سادات القبائل الكبار أصحاب العز والجاه وكثرة العدد، مثل "كليب وائل" سيد ربيعة، وكانت رئاسة مضر وربيعة له في أيامه، وكان من عزه انه إذا مر بمكان أعجبه كنع كليباً له ثم رمى به هناك، فلا يسمع عواء ذلك الكليب أحد، فيقرب ذلك الموضع. فكان يقال: "أعز من كليب وائل".

وقد تفرد العزيز من سادات القبائل بالحى،وعدّ وه من أمارات العز والمنعة، فلا يناله إلا كبار سادات القبائل. وذكر ان "كليب وائل كان متغطرساً، حتى كانت غطرسته هذه سبب قتله. والى ظلمه وتعسفه، وأخذه الحمى، أشار "العباس بن مرداس" يقوله: كماكان يبغيها كليب بظلـمـه  من العزحتى طاح وهو قتيلها

على وائل اذ يترك الكلب نابحاً  وإذ يمنع الأفناء منها حلولهـا

والحمى الأرض التي تحمى من الناس فلا يرعى فيها إلا بموافقة من حماها. وقد،جعله بعضهم: "موضع فيه كلأ محمى من الناس أن يُرعى". وذكروا أنه "كان الشريف من العرب في الجاهلية إذا نزل بلداً في عشيرته استعوى كلباً فحمى لخاصته مدى عواء الكلب لايشركه فيه غيره، فلم يرعه معه أحد.وكان شريك القوم في سأئر المراتع حوله ".

ويظهر من غربلة ما ورد في الآخبار عن "الحمى"، أنه كان على نوعن: حمى دائم أو طويل الأجل، وهو الأرض المخصبة الجيدة المنبتة التي تتوفر فيها المياه، أو تكون المياه فيها قربية من سطح الأرض، فينتقيها كبار سادات القبائل ويجعلونها حمى دائماّ لهم ولأسرتهم، وقد يحولونه إلى ملك لهم، يتوارث توارث الإرث، ويكون لمن هو من الأسرة التي حمته، أو لمن خصمص الحمى باسمه. ومن هذا القبيل "حمى ضرية"، مرعى لإبل الملوك، ومراعي الملوك الأخرى.

وحمى آخر، يكون قصير الأجل بالنسبة للحمى الأول. فقد يحمى لموسم وقد يحمى لمواسم فأجله سرتبط بأجل الغيث الذي ينزل عليه. فإذا جاد ووصل الأرض وأنبتها نباتاً حسناً وكساها بساطاً أخضر، بقي حامي الحمى به، وإد انحبس المطر عنه، وجفَّ كل شيء به، ورفع ذلك البساط عنه، وظهرت عبوسة الرمال والتربة المتهشمة من نحته، فقد يهرب حاميه منه ليفتش عن أرض أخرى يعيش عليها، فيصير الحمى عندئذ بلا حام، إلا إذا عاد الغيث اليه، وعاد صاحبه ليجدد عهده به، وليثبت حق حمايته عليه، وإلا، فقد يصير في حماية شخص آخر قد ينزل به قبله، ويكون لديه من القوة والمنعة ما لا يستطيع أحد من زعزعته عنه.

ولا بد وان نحدد حدود الحمى وان تثبت له أنصاب وعلامات، حتى يكون الناس علي بينة من حسوده فلا يدخلونه. ونجد في الكتب التي دوّنها الرسول للوفود الي زارته، والتي حمى لها أحمية، حدوداً ومعالم دونت أسماؤها فيها، وقد تثبتت مساحتها في بعض الكَتب، مما يدل على ان مايرويه أهل الأخبارمن قصة تعيين حدود الحمى بعواء كلب أو بركضة فرس أسطورة من أساطير أهل الأخبار.

ومن أشهر مواضع الحمى في جزيرة العرب: حمى ضرية. وقد عرف في ايام ملوك كندة ب "الشرف" وهو "كبد نجد"، وكانت به منازل الملوك من بني آكل المرار. ثم عرف ب "ضرية" في وقت لا نستطيع نحديده تماماً، ويذكر علماء اللغة ان "ضرية" امرأة سمي الموضع بها، وهو بأرض نجد، وبه يئر. ويظهر ان اسم "ضرية" كان معروفاً في ايام ملوك كندة من بني آكل المرار، ولكنه كان اسم موضع من مواضع الشرف، ثم اشتهر، فسمي به هذا الحمى: حمى ضرية. وذكر بعض أهل الأخبار ان "ضرية" أكبر الأحماء، وقد سميّ ب "ضرية بنت ربيعة بن نزار.". قال "ابن السكيت": "الشرف كبد نجد و كَان من منازل الملوك من بني آكل المرار من كندة. وفي الشرف حمى ضرية وضرية بئر. وفي الشرف الربذة وهي الحمى الأيمن. وفي الحديث ان عمر حمى الشرف والربذة ". ويظهر من هذا الوصف ان "الشرف" أرض واسعة بنجد. منها الربذة وهو الحمى الأيمن لمن يتجه إلى الجنوب فيوجه وجهه نحو البحر العربي ويجعل قفاه إلى العراق وبادية الشام وبلاد الشام، ومنها حمى "ضرية"الشهير.

وذكران أول من حمى "ضرية" في الإسلام "عمر" حماها، لإبل الصدقة وظهر الغزاة، وكان ستة أميال من كل ناحية من نواحي ضرية وضرية في وسطها. و"ضرية" من مياه "الضباب" في الجاهلية، وكانت لذي الجوشن الضبابي، والد شمر بن ذي الجوشن قاتل الحسينْ. وورد أنها كانت حمى "كليب بن وائل"، وان في ناحية منه قبره، وكان الناس يقصدونه.

ومن الحمى، حمى فيد. قرب أجأ وسلمى جبلي طيء، على طريق حاج العراق إلى مكة. وذكر أن فيداً فلاة في الأرض بين أسد وطيء في الجاهلية، فلما قدم "زيد الخيل" على رسول الله أقطعه "فيد". وبها قرية "فيد"،سميت ب "فيد بن حام" أول من نزلها. وهي من القرى الجاهلية.

وقد أشار "ياقوت" إلى أحماء أخرى. منها حمى الربذة وحمى النير وحمى ذو العثرى وحمى النقيع. وذكر أن ب "النير" قبر كليب وائل. وأن الخليفة "عمر" حمى "النقيع" لخيل المجاهدين ولنعم الفيء، فلا يرعاها غيرها.

ولا يعقل أن يكون "كليب وائل" أول من حمى الحمى في الجاهلية. والظاهر ان شطط "كليب" وتعسفه" في الإكثار من الحمى، وشدة منعه الناس الغرياء

من الرعي في احمائه، جعل أهل الأخبار ينسبون مبدأ الإحماء اليه. وقد تكون لفظة "كليب" التي صارت وكأنها اسم كليب مع أنها لقب في الأصل، هي التي أوحت إلى ذهب أهل الأخبار، بابتكار قصة استنباح "كليب" جهرواً، ليكون مدى انقطاع سماع نباحه وعوائه نهاية الحمى، أي حدوده. ونجد بعض أهل الأخبار يجعلون حدود الحى المواضع التي تصل اليها الخيل وهي جارية، فتقف عندها من التعب. فيكون الحمى بهذه الطريقة أكبر وأوسع من الحى المحدد بنباح كاب.

وفي أرض "بني أسد" "حزن"، كانت ترعى فيه إبل الملوك. وهو قف غليظ بعيد من المياه، فليس ترعاه الشياه ولا الحمر، وليس فيه دمن ولا روث. اليه أشير في قول الأعشى: ما روضة من رياض الحزن معشبة  خضراء جاد عليه مسيل هـطـل

ويتبين من دراسة ما أورده أهل الأخبار عن الحمى، أن الأحماء لم تكن أرضين صغيرة حدودها ضيقة بحدود مدى سماع عواء الكلب، بل انها كانت أكثر من ذلك بكثير. كانت مقاطعة كبيرة تظم آباراً وعيوناً وقرى في بعض الأحيان. وقد حصل عليها أصحابها من الحروب والغزو في الأصل. فعندما يغزو سيد قبيلة، قبيلة أخرى، كان يختار لنفسه خيرة الأرضين فيجعلها في حماه. فنشأ الحمى في الأصل هو من الحروب والغزو، أي من الغنائم التي تقع في أيدي المنتصر، ومن الهبات التي يعطيها ملك لأشراف شعبه ولقادته في السلم أو في الحروب، فتحمى لهم ولا يدخلها أحد غيرهم، إذ صار حكمها حكم الملك.

وذكر أن الملوك إذا جاءتها الخرائط بالظفر، غرزت فيها قوادم ريش اسود.

دواوين الدولة

ولا بد وأن يكون لكل حكومة مهما كان حجمها وشأنها دواوين وسوائر لتنفيذ ما تقرره من أوامر وأحكام، ولجباية ما تفرضه من حقوق على رعينها،ولاحقاق الحق بين الرعية وللدفاع عن حدودها ولضبط الأمن في أرضها، ولا يمكن تصوروجود حكومة، بدون وجود ما ذكرته.

وقد سبق لي أن ذكرت ان قصور الملوك في العربية ألجنوبية كانت موضع حكمهم ومقر عملهم، ولهذا السببُ ذكرت أسماؤها في القوانين،لتكنى بذلك عن صدررها بأمر من الملك وبموافقته عليها. والمفروض ان أولئلك الملوك كانوا قد خصصوا جناحاً أو أجنحة فيها لجلوسهم مع مستشاريهم وكبار موظفيهم للنظر في شؤون الحكم، أو لاستقبال الرسل والوفود الذين يقصدونهم من الخارح أو من داخل المملكة لمقابلتهم ولعرض ما جاؤوا به من رسائل أو طلبات عليهم، وان هنالك مواضع في يجلس فيها الملوك للاستماع إلى شكاوي الناس وظلاماتهم، ومواضع لجلوس الكتاّب وموظفي القصر، ومواضع لخزن السجلات والوثائق. فقصور الملوك، اذن هي بهذا المعنْى، دار الحكم الأولى في تلك الحكومات، والمرجع الأول للرعية في علاقتها وصلتها بصاحب المملكة.

ذلك ما كان بالنسبة إلى عواصم الملوك، أما بالنسبة الى بقية أجزاء المملكة، فإن الحكم فيها هو إلى ولاة وعمال ثم إلى من هم دونهم في المنزلة والدرجة.وبيوتهم هي دور حكمهم يجلس العامل أو الوالي أو "الكبير" في جناح من بيته، ليأتيه من يريد مقابلته من موظفين وكتبة ليقصوا عليه ماعندهم من أخبار وطلبات، وليملي عليهم ما يراه من أحكام وأوامر. وفي هذا البيت أيضا ًيستقبل الضيوف وأعيان البلد وأصحاب الشكاوي والمراجعات. وفيها يقيم مع عائلته. فبيوت الحكام اذن، هي دور اقامة ودور حكم وقضاء بين الناس في ان واحد.

وأما ما ورد في روايات أهل الأخبار من أن ملوك الحرة كانوا قد اتخذوا قصورهم مكاناً للنظر في أمور رعيتهم، ولاستقبال الرسل والوفود، وللاستماع إلى ظلامات الناس وشكاويهم، وانهم كانوا قد أوكلوا أمر ادخال الرعية عليهم إلى حجاب معينين، لا يسمحون لأحد بالدخول على الملك إلا بعد أخذ اذن منه بذلك، فإنه يدل على أن ملوك الحيرة كانوا مثل ملوك العربية الجنوبية ومثل ملوك ذلك الوقت قد اتخذوا بيوتهم داراً للحكم وداراً للاقامة. وان قصر الملك هو أيضاً دار الحكم بين الناس، والمشروع للاحكام.

وإذا أخذنا بما ورد في كتب أهل الأخبار من أن "دار الندوة" كانت مرجع

اهل مكة في كل أمر من أمورهم صغر أم كبر، حتى أن "الجارية إذا حاضت أدخلت دار الندوة، ثم شق عليها بعض ولد عبد مناف بن عبد الدار ثم درعها إياه وانقلب بها إلى أهلها فيحجبها. وكان عامر بن هاشم بن عبد ماف عبد الدار يسمى محيضا، جاز لنا القول إن تلك الدار كانت دار حكومة.

اليها يرجع أهل مكة في منازعاتهم وفي خصوماتهم وفي أمور سامهم وحربهم. وأن أبناء قصيّ كانوا قد وزعوا أعمالها بينهم على نحو ما سطره أهل الأخبار.

ولفظة "ديوان" من الألفاظ المستعملة في الجاهلية عند عرب العراق، ويذكرعلماء اللغة أنها من الألفاظ المعربة عن الفارسية. وقد كان للفرس دواوين في جملتها ديوان خاص للنظر في أمور العرب، واجبه النظر في صلات "كسرى"مع ملوك الحيرة وسادات القبائل. وليه "زيد" والد "عدي بن زيد العبادي"،فلما توفى "زيد" وليه ابنه من بعده، ثم وليه "زيد بن عدي بن زيد"، بعد مقتل والده على يد "النعمان بن المنذر". ولا أستبعد وجود الدواوين في حكومة الحيرة. فقد كان لها كتّاب تولوا أمور ديوان المراسلة بين ملوك الحيرة، والفرس، وأمور المراسلة فيما بين ملوك الحيرة وبين عمالهم على الأرضين التابعة لهم وبينهم وبن سادات القيائل. أما ما ورد في أخبار أهل الأخبار من أن الخليفة "عمر بن الخطاب"، هو أول من أمر بتدوين الدواوين، فإنهم قصدوا بذلك موضوع تأسيس ديوان العطاء وموضوع تدوين الدواوين في الإسلام. مما لا مجال للبحث عنه في هذا المكان. وورد اسم "الديوان" في الحديث. ذكرا"ّ.

لم أن الرسول قال: "إن للّه حراساً، فحراسه في السماء الملائكة، وحراسه في الأرض الذين يأخذون الديوان ".

صاحب السر

وذكر علماء اللغة ان الملوك كانوا يسرّون أمورهم إلى من يثقون به من رجالهم أو المقربين اليهم. وقد عرف صاحب سر الملك ب "الناموس"، وذكر بعضهم ان "الناموس" هو صاحب سر الخير، وان "الجاسوس" هو صاحب سر الشر.

الموظفون

ودون الملك أناس يختلفون في المنزلة والمكانة،عهدت اليهم أمور ادارة الحكومة والشعب. وهم نوعان: موطفون مدنيون، واجبهم النظر في الأمور المدنية.

وموظفون عسكريون، واجبهم إعداد الجيش والدفاع عن حدود الدولة والقضاء ا على الفتن والاضطرابات، وتوسيع رقعة أرض الدولة عند الطلب.

وإني آسف إذ أقول إن من غير الممكن في الزمن الحاضر تثبيت درجات الوظائف، وتعيين سلالمها من أدنى درجة الى أعلى درجة، لعدم وصول كتابات جاهلية الينا فيها حصر تلك الدرجات وعدّها وترتيبها، لهذا سأحاول ترتيبها على حسب ما وصل الينا من شأنها من مختلف الكتابات، وعلى وفق ما ورد من اسماء بعضها في المسند أو في روايات أهل الأخبار، وعلى حسب اجتهاد الياحثين الذين توصلوا اليه باستنادهم إلى المرجعين المذكورين، وإذا سألتني عن المصدر الذي استقيت منه أسماء الوظائف والدرجات النى أذكرها هنا، فإني أقول: لقد حصلت عليها من ورودها في الكتابات التي عثر عليها المنقبون في مواضع من العربية الجنوبية وفي أعالي الحجاز وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب أخذتها من هذه الكتابات، وعينت درجتها ومكانتها بالاستناد إلى المعنى المستنبط من النصوص. وبالقياس أحياناً إلى المفردات الواردة في معاجم اللغة أو في اللغات السامية الأخرى حيث يرد ما يماثلها في تلك اللغات علماً لوظائف معروفة، بقيت أسماء بعض منها معروفة أو متداولة إلى يومنا هذا.

ونستطيع أن نقول بالقياس إلى ما هو مألوف في قصور الملوك المعاصرين لملوك الجاهلية أن كبار متولي أمور قصور الملوك وكبار قادة الجيش، كانوا من أقرب الناس إلى الملوك،ومن أكثر الناس تأثيراً فيهم، وذلك بحكم اتصالهم بهم والتصاقهم بالعرش. فكانت لهم كلمة مسموعة عندهم. فهم من الصنف الممتاز من اًصناف الموظفين، ولهم أثر خطير في تأريخ تلك الحكومات.

وتحتلف درجات المشرفين على ما أمور القصور الملكية، فمنهم الحرس الخاص الذي يتولى حراسة القصر، ومنهم الخدم والطباخون، ومنهم من اختص بخدمة الملك وحده، كأن يقوم بتقديم الطعام اليه، ومنهم من اختص بتقديم الشراب اليه، أو يتولى أمر الحجابة له، ومنهم من كان يكتب له، أو يخدم زوجاته وذريته، إلى غير ذلك من أعمال اقتضتها طبيعة تلك القصور وعضمة الملك ومنزلته وقدعرف كل هؤلاء"عبيد الملك"عند بعض الشعوب.

والطبقة المذكورة، وإن كانت من الطبقات الدنيا بالنسبة لطبقات المجتمع، وظيفتها الطبخ وتقديم الأشربة والأطعمة وإلسهر على راحة الملك وضيوفه، إلا أن رهطاً منها تمكن مع ذلك من لعب دور كبير في أمور المملكة، وفي مقدرات الناس،بفضل استخدام ذكائهم وقربهم من الملك ووًجودهم بحضرته بصورة دائمة، من.التاثير على سيّدهم وتوجيهه الوجهة التي يريدونها. كما تمكنوا من الحصول على مكانة كبيرة عند قومهم، باتصالهم بحكم مراكزهم بأعيان الناس. وبنوال جوائزهم وهباتهم، ليفتحوا بذلك لهم الباب للوصول إلى الملك في كل وقت.

ثم بإيصالهم أخبار المجتمع ولا سيما سادته إلى الملك وبأخبارهم هذه صار في امكانهم ابعاد شخص أو تقريبه من الملك، واهلاك شخص أو اسعاده برضاء ملكه عنه.

الكبراء

وأعلى مناصب الدولة ودرجاتها الإدارية هي درجة "كبير" أي كبير. ويجب أن أكون حذراً جداً في التعبير. فكلمة "كبر" "كبير"، ليست منصباً أو وظيفة أو درجة بالمعنى المفهوم من هذه الألفاظ الاصطلاحية في الزمن الحاضر، ولكنها لفظة عامة قد تعني ممثل ملك على مقاطعة، مثل "كبرددن" أي "كبير"أرض "ديدان" في حكومة "معين" وتقع في أعالي الحجاز، وهي "العلا"، وقد تعني موظفاً كبيراً من رجال الملك المقربين اليه، عينه الملك واختاره لتنفيذ أوامره وأحكامه، أو للاشراف على إدارة أملاكه وأمواله وتدبير شؤون قصره، أو لاعداد ما يلزم من اعاشة جيش وتقدم ما يحتاجه اليه. وقد تعني درجة عليا من درجات رجال الدين، أو كبيراً من تناط به شؤون إدارة أملاك المعابد وأموالها. وقد تعني سيد قبيلة، أو رجلاً كبيراً عيّنه الملك منسوباً عنه ليشرف على تصريف أمور الحكم على قبيلته. وقد تعني "الكبير" المسؤول عن تصريف أمور المدن. فقد كان الذي يسيرّ أمور مدينة "تمنع" مثلاً مسؤولاًّ درجته درجة "كبر" "كبير" واتضح من بعض الكتابات ان مدينة "ميفعة" "ميفعت" الحضرمية كانت تحت حكم "كبير".

وقد أشير إلى وجود "كبر" "كبير" في سبأ، كان يتولى درجة دينية.

إذ كان من كَبار رجال الدين. وورد اسم "كبير" آخر كان عمله ادارة بساتين الملك ومزارعه والإشراف عليهاْ. وورد اسم "كبر" كان عمله الإشراف على أعمال الصرف والانفاق على الجيوش. وورد اسم "كبير" آخر كان يتولى رئاسة قبيلة، فيستنتج من هذه اللأمثلة ان لفظة "كبر" لا يقصد بها درجة معينة من كبار الموظفين، بل أريد بها علية قوم وأعيانهم وكبارهم، ولهذا أطلقت على من ذكرت أعيان سبأ وعلى المنازل الكبيرة التي كان على رأسها كبير من كبراء الناس من رجال دين ومن عسكريين ومن موظفين أو مدنيين غير موظفين.

والكبراء بالطبع هم من أصحاب الجاه العريض والوجاهة والمنزلة والثراء، وهم كبار الأحرار في الأرض، ولأهميتهم ومكانتهم أرخ الناس حوادثهم وما وقع لهم بأيامهم، وقد حملت الكتابات أسماء طائفة منهم: دلالة على ما كان لهم من اسم وسلطان في ذلك العهد.

ومن أشهر الكبراء، "كبر خلل"، أي كبير خليل. وخليل عشيرة قديمة. و قد ذكر كبيرها في الكتابات السبئية القديمة،كما ذكر في الكتابات المتأخرة كذلك. وقد أرخ بهؤلاء الكبراء عدد من الكتابات السبئية. ويظهر أن "كبر خلل" "كبير خليل" كان كاهناً، أي رجل دين في الأصل، يشرف علب معبد "عثتر ذ ذبن " "عثتر ذو ذبن". ويقدم الذبائح إلى هذا المعبد، ويدعو الالهة لإنزال الغيث، ودعوته الهته لإنزال المطر، هي بمثابة صلاة الاستسقاء.

وقد كان يحكم حضرموت في النصف الأول من القرن السادس للميلاد "كبير"، "كبر حضرموت" وقد ذكر في نص "أبرهة" في جملة من وفد على أبرهة بعد اتمام سد " مأرب".

الاقيان

جمع "قين"، وتتألف طبقتهم من الأمراء ومن ممثلي الملك في المدن، ومن

الموظفين ومن رجال الدين من درجة "رشو". وقد ذهب "ويبر" Weber إلى أن "القين" وال "رشو" هما شىء واحد. أما "هارتمن" Hartmann فيرى أن القين غير الرشو فهو وظيفة دنيوية ومركز حكومي. أما "الرشو" فإنه منزلة دينية، فهو "كاهن" إلهَ ما وتعني رئاسة دينية. وقد يستعمل "قين" لأداء المعنين. أما "رشو"، فإنه لا يستعمل إلا في الأمور الدينية وفي التعبير عن منزلة كهنوتية. وذهب بعض الباحثين إلى ان "القين" "رشو" أيضاً، أي رجل دين،ولكنه تخصص بالأمور الادارية والمالية للمعابد. وقد يتولى قيادة الناس في الحروب أيضاً.

وقد ورد في نص عثر عليه في "حرم بلقيس" اسم كاهن عرف ب "تبعكرب" "تبع كرب"، كان رجل دين أي "رشو" و "قينا" في الوقت نفسه على "سحر". ويدل ذلك على ان رجل الدين هذا كان يجمع بين سلطتين: سلطة دينية هي درجة "رشو"، وسلطة زمنية هي عرجة "قين".

وفهم من بعض نصوص المسند ان " القين" كان يساعد الملك في ادارة بعض الاعمال، كما كان ينوب عنه في ادارهَ المدينة أو المعبد. وفهم من نصوص أخرى انه كان يدير أملاك المعابد،وانه كان يتولى قيادة الجيش أو تهيئة ما يحتاج اليه. واستدل من تعداد هذه الأعمال المدونة في النصوص، ان عمل "القين" لم يكن عملاً معيناً محدوداً بحدود وقيود، وانما كان يشمل كل عمل وشغل كان الملك يعهد به إلى أحد الأقيان. أي ان القين لم يكن موظفاً يشغل وظيفة معينة محددهّ، بل كان من كبار رجال الدولة ومن السادات، له مواهب وكفاءات وله قرب وحظوة عند الملك، فإذا احتاج الملك الى انجاز عمل ما، كلف أحد أقيانه القيام به.

والقين دون الكبر في الدرجة، فقد جاء في بعض الكتابات ان الأقيان كَانوا يخضعون للكبراء، كما يتبين ذلك من كتابات عثر عليها في "شبام اقيان" "شبم اقين"، ومن كتابات أخرى عثر عليها في "عمران" من "مرثد" من قبيلة"بكيل".

وقد كان الأقيان طبقة خاصة من طبقات أهل الحظوة والنفوذ "الارستقراطية" في الدولة وفي المجتمع، لها رأي مسموع بين الناس وكلمة نافذة عند الملك. وهم من جماعة أصحاب الأملاك والاقطاع، قد يعطون أرضهم لغيرهم لاستغلالها مقابل أجر "اثوبت"، أي كراء. وقد يستغلون أرضهم بأنفسهم، بتشغيل فلاحيهم وخدمهم ورقيقهم بها، فيكون حاصلها لهم، لا ينازعهم فيه منازع.

الأقيال

والأقيال هم طبقة من كبار الإقطاعيين من أصحاب الأرضين الواسعة، ومن رؤساء القبائل كذلك والسادات الكبار. وكانوا يتمتعون بسلطان واسع، ويقال للواحد منهم: "قول" في المسندَ، و "قيل" في عربيتنا. والجمع "اقول"، أي أقيال.

وقد جاء فيء كتابات المسند ذكر أقيال عديدين، مثل أقيال "سمعي، وأقيال "بكيل" من "ال مرثد". وقد كان على مدينة "صرواح" حاكم درجته درجة قيلْ. وورد ذكر "اًقيال حمير" في "حصن غراب"، وذكر الأقيال في نص "أبرهة"، كما ورد في نصوص عديدة أخرى.

و "القول" في الأصل المتحدث باسم قوم أو جماعة من فروع قبيلة. كأن يكون رئيس حيّ أو عشيرة أو ما شاكل ذلك من القبيلة،ثم توسع نفوذه وازداد شأنه حتى صار في منزلة "كبر" كبير، بل حل محله. وعند ظهور الإسلام، كان للاقيال النفوذ الأوسع في العربية الجنوبية، حتى حكموا المخاليف، كالذي يظهر لنا بجلاء من وصف أهل الأخبار لنظام الحكم في اليمن عند ظهور الإسلام.

وقد لقب أكثرهم نفسه بلقب "ملك"، مع أنه دون الملك في الحكم وفي امتلاك الأرض بكثير. بل كان حكم بعضهم أقل من حكم سيد قبيلة.

وذكر علماء اللغة أن "المقول": المقيل بلغة أهل اليمن، وهو دون الملك الأعلى، والجمع "أقوال" و "اقيال". وذكر منهم: أن القيل هو الملك النافذ القول والأمر، وقيل: الأقيال، ملوك اليمن دون الملك الأعظم، واحدهم قيَل، يكون ملكاً على قومه ومخلافه ومحجره. وقد سمى قيلاً لأنه إذا قال قولاً نفذ قوله. وعرف أنه الملك من ملوكِ حمير يقول ما شاء. وقد كتب الرسول إلى "وائل بن حجر" ولقومه: " من محمد رسول الله الى الأقوال العبَاهلة، وفي رواية الى الأقيال العبَاهلة ".

وذكر علماء اللغة أن العبَاهلة، هم الذين أقروا على ملكهم لا يزالون عنه، وعباهلة اليمن ملوكهم الذين أقروا على ملكهم.

ووردت في النصوص السبئية لفظة "قبت"، يظن أفها بمعنى "نائب الملك" "نائب ملك".

وجاء في بعض النصوص المعينية ذكر منصب، عنوانه "حفيه نفس" "ح ف ي ه ن ف س" "حفي نفس" "حافي نفس"،يظهر ان صاحبه كان مكلفاً أن يعمل أعمالاً خاصة، مثل النظر،في شؤون الماء، أي في توزيعه، وفي الخصومات التي قد تقوض أجله، ومثل القيام بالاشراف على الأبنية والأعمال العامة وافتتاحها باسم الملكْ.

ويظهر من بعض النصوص المعينية أيضاً انه كان يعاون هذا الموظف القضائي موظفان، وضعا تحت إمرته، يقال لمنصبهما "ربقهى معن"، ربما كانا بمثابة كاتبين عنده.

ويظهر ان حكومة "معَين" كانت قد كلفت جماعة أخرى النظر في شؤون الري عرفت ب "اهل طبنتم" وب "اطبنو". وإذا علمنا مما للمياه من شأن في بلاد العرب، عرفنا السبب الذي جعل ملوك "معين" يعتنون عناية خاضة بشؤون الرى حتى جعلوا لها موطفين خاصين واجبهم رعاية هذه الشؤون.

ويرد في الكتايات ذكر منصب، يقال له: "مقتوي"، والجمعع "مقتت".

ويعبر عنه ب "مقتوى ملكن"، أي "مقتوي إلملك". ويظن بعض الباحثين ان المقتوي أو "مقتوي الملك"، هو ضابط كبير، أو هو تعبير عن قائد أو مشاور عسكري، اختصاصه تقديم الرأي ألى الملك في الأمور الحربية وقيادته للجيش، فهو معتمد الملك في هذه الأمور. وقد تؤدي اللفظة معنى"أمير" في العرف الإسلامي في صدر الإسلام. وهو من تشد اليه قيادة الجيش وإدارة الادارة التي توكل اليه وتحدد له حدود "جنده".

وقد أظهرت نصوص المسند وجود "مقتوت" أيضاً، أي نساء مقتويات.

وقد فسرها الباحثون ب "كاهنة".

وعرف من يقوم بإدارة وحدة من الوحدات الإدارية ب "سمخض" ومعناها "مدير"، فيكون المعنى: مدير أرض، ويكون واجبه الإشراف على الأرض التي وُكل أمر إدارتها اليه، فواجبه إذن هو واجب سياسي وإداري، وأما وظيفته، فيقال لها "سمخضت ارض"، أو "سخضت" "سمخضة"، ومعناها إدارة أرض، أو "إدارة".

ويعنى مصطلح "امنهت" "امنهات" "اهل امنهتن" المعيني، منصباً دينياً مختصاً بالإشراف على معامل المعابد،تتولاه امرأة، ويقابل "امنت ذ عثتر" "امنت ذي عثتر" في القتبانية. وقد ورد معه مصطلح "منوت" "منوات" في بعض الكناباتْ.

ومن الوظائف وظيفة "ملوطن ملك" "ملوطن"، وقد تعني وظيفة إدارية تنظر في شؤون أملاك الملك. وقد ورد ذكرها في النصوص السبئية المتأخرة.

وأما مصطلح "اذن قنى" الذي ورد في أحد النصوص: "اذن قنى ملك حضرمت"، "اذن قنى ملك حضرمرت"فقد يعني المأذون بإدارة مقتنيات الملك وامواله.

واما "حشرو"، فقد تعني جماعة واجبهم جمع الحشر للدولة. وقد يكون لهذه اللفظة علاقة مع ما ورد في الموارد الإسلامية عن "الحشر" و "الحشور". فقد جاء في الحديث: "إن وفد ثقيف اشترطوا أن لا يعشروا ولا يحشروا"، " أي لا يندبون إلى المغازي ولا تضرب عليهم البعوث، وقيل: لآ يحشرون إلى عامل إلزكاة ليأخذ صدقة أموالهم، بل يأخذها في أماكنهم، ومنه حديث صلح أهل نجران:على أن لا يحشروا، وحديث النساء: لا يعشرون ولايحشرون يعني للغزاة، فإن الغزو لا يجب عليهن ". فالحشر إذن قد يكون موظفاً خصحص بحباية الضرائب، أو بجمع الحشور أي الناس الذين يحشرون ويجمعون للحروب أو للقيام بأعمال اجبارية، فهم مثل "السخرة" الذين يجمعون جمعاً لأداء أعمال من غير اجر وهو "الحاشر" في لغتنا.

واما الذي يتولى جباية الضرائب والاشراف على الموظفين الذين توكل الجباية اليِهم، فيقال له: "نحل"ويقال لوظيفته "نحلت".ويذكر كل علماء اللغة ان "النحلة" بمعنى العطية،وان النحل اعطاؤك الإنسان شيئاً بلا استعاضة، وعمّ به بعضهم جميع أنواع العطاء.ويظهرمن هذا التفسير ان له بعض الصلة بمعنى اللفظة في المسند، وان المراد منها في اللغات العربية الجنوبية أخذ المال من الناس. فقد كان الملوك يعطون الأرض لأتباعهم والمقربين لديمهم ممن يخدمونهم لاستغلالها، وذلك في مقابل دفع تعويض عام، فيقوم هؤلاء باستغلال ما أعطي لهم بأنفسهم، أو بتأجر الأرض قطعاً إلى من هم في خدمتهم، فيأخذون الربح لهم،ويقدمون ما اتفق عليه مع الملك إلى خزانته.

ويصرف الموظفون الذين يجمعون حصة الحكومة المخصصهّ باسم الجيش، من الحبوب ب "ساولت" "س ا و ل ت". وهي ضريبة عسكرية يؤديها المزارعون من الحضر والأعراب إلى الحكومة، لتموين الجيش ببعض مايحتاح اليه من طعام. وتعرف هذه الضريبة العسكرية بتلك التسمية كذلك. فهي ضرببة من ضرائب غلات الأرض.

ويظهر من بعض الكتابات ان بعض الاقطاعات كانت في ادارة مجلس يتألف من ثمانية أشخاص عرفوا ب "ثمنيتن" أي "الثمانية"، فهم بمثابة مجلس مديري شركة يدير أمور تلك المقاطعة، أو بمثابة مشروع زراعي تعاوني، يتعاون فيه الأشخاص بإدارة ذلك المشروع، وقد تكون هنالك اقطاعات بإدارة أناس يزيد عددهم على هذا العدد أو ينقص عنه.

وقد ذهب "رودوكناكس" Rhodokanakis إلى احتمال وجود طبقة خاصة من الموظفين عرفت ب "ابعل سير"، كانت تحكم إلى جانب الطبقة المثمنة المؤلفة من الأشخاص الثمانية.

وظهر من النصوص القتبانية وجود جماعة من الموظفين نيطت بهم مهمة الإشراف على إدارة المعابد وتمشية شؤون الأوقاف المحبوسة على المعبد. يقال لها "اربى"، والواحد هو "ربي". ومهمته أيضاً جمع الأعشار والنذور التي تقسم إلى المعابد. فهم كهيئات "الأوقاف" في البلاد العربية والإسلامية في الوقت الحاضر.

وذكر علماء اللغة "المحاجر"، وقالوا عنهم: إنهم أقيال اليمن، وهم الاحماء،كان لكل واحد منهم حمى لا يرعاه غيره. وأن المحجر ما حول القرية. ويظهر أنهم قصدوا بهم أصحاب الإحماء، أي الإقطاع، الذين استقطعوا الأرضين واستخلصوها لأنفسهم، ولم يسمحوا لأحد بالدخول اليها للرعي أو للاستفادة منها بغير اذن منهم.فهم أصحاب الإقطاع والإحماء. فحجروا بذلك على خيرة الأرضين المحيطة بالقّرى، وجعلوها خاصة بهم لا يرعاها غيرهم، لما كان لهم من نفود وسلطان.

هذا ما عرفناه من أصول الحكم عند العرب الجنوبيين. أما بالنسبة إلى العرب الشماليين، فإن معارفنا بنظام الحكم عندهم نزر يسير، لعدم ورود شيء ما عن نظام الحكم في "الحيرة" أو في مملكة الغساسنة في كتابة جاهلية. أما أخبار أهل الأخبار، فإنها قليلة في هذا الموضوع،وهي لا تنص على نظم الحكم عندها نصاً، وإنما تشير اليها إشارة، وتومىء إيماء، ولذلك لا تقدم إلينا رأياً واضحاً صحيحاً في أصمول الحكم عند العرب الشماليين.

ويظهر من أخبار الأخباريين عن ملوك الحيرة ان أولئك الملوك لم يكونوا مثل لا ملوك اليمن من حيث استشارة المجالس وتوزيع أعمال الحكومة. وطبيعي أن يكون هنالك فرق بين أصول الحكم في العربية الجنوبية، وأصول الحكم في الحيرة، لما بين طبيعتي الحكومتين من اختلاف في نواح عديدة، تجعل وجود الإختلاف في نظم الحكم أمراً لا بد منه. فإدارة الحكم في "الحيرة" متأثرة بالنظم السياسية الساسانية، وظروف البادية والبداوة وهي الغالية على سواد التابعين لملوك الحيرة، ولا يمكن تطبيق ما يطبق في المجتمع الحضري على المجتمع البدوي.

لم وإذا أخذنا "الردافه" على أنها منصب أو منزلة ودرجة خاصة في حكومة "الحيرة"، فإننا نستطبع أن نقول إنها أسمى وظائف تلك الحكومة أو أعلى درجاتها، وأنها من المنازل العليا عند ملوكهم.فقد ذكر أهل الأخبار أن الردف هو الذي يجلس على يمين الملك. فإذا شرب الملك، شرب الردف قبل الناس، وإذا غزا الملك،، قعد الردف في موضعه، وكان خليفته على الناس حتى ينصرف، وإذا عادت كتيبة الملك، أخذ الردف ربع الغنيمة. وكان للردف أن يخلف الملك إذا قام عن مجلس الحكم، فينظر بين الناس بعده. وذكر: ان هناك ردافة أخرى، ولكنها دون الردافة المتقدمة، وهي أن يردف الملك الردف على دابته في صيد أو غيره من مواضع الأنس، ولكن الأولى أنبل.

وقد عرف "عروة بن عتبة بن جعفر بن كلاب" ب "رديف الملوك"، ومعنى هذا انه عاش وخالط عدداً من ملوك ايامه،وذكر انه كان رحّالاً اليهم.

ولذلك عرف ب "عروة الرحّال". وذكر ان "ردافة الملوك: كانت من العرب في بني عتاب بن هرمي بن رياح بن يربوع، فورثها بنوهم كابراً عن كابر حتى قام الإسلام، وهي أن يثنى بصاحبها في الشراب، وإن غاب الملك خلفه في المجلس، ويقال: إن أرداف الملوك في الجاهلية بمنزلة الوزراء في الإسلام، والردافة كالوزارة. قال لبيد من قصيدة:

وشهدت أنجية الأفاقة عالـياً  كَعْبى وأرداف الملوك شهود

وكان "سدوس بن شيبان" رديفماً، "فكانت له ردافة آكل المرار". وقد كانت الردافة معروفة عند "ملوك كندة" أيضاً. وقد رووا أن "أبا حنش عصم بن النعمان التغلبي"، كان رديفاً للملك "شرحبيل بن الحارث بن عمرو الملك المقصور بن آكل المرار الكندي". وقد احتفظ بنو سدوس" بهذا الحق: حق ردافة ملوك كندةْ.

ولا يوجد نظام خاص في "الردافة"، ولكن نظراً لما للردافة من مكانة ومنزلة، جرت العادة ألا تعطى إلا للرجال الذين لهم مكانة عند الناس ولهم عقل وشخصية، وقد تنتقل من ألأب إلى الابن، وقد تنحصر في قبيلة واحدة، فإذا أراد الملك نقلها إلى قبيلة أخرى، ولم يأخذ رأي تلك القبيلة في نقلها منها،زعلت القبيلة وثارت إن كانت قوية ووقع الشر بينها وبين الملك، أو بينها وبين القبيلة الأخرى التي نازلتها على الردافة.

وللرديف، بحكم اتصاله بالملك وبقربه منه وبتقديمه الرأي له، أثر في توجه الملك وفي اتخاذه القرارات، لا سيما إذا كان الملك ضعيفاً فاتر الهمة، ليس له رأي. والرديف بهذا المعنى المستشار والوزير. وقد ذكر أن الردافة بهذا المعنى عرفت في الإسلام أيضاً. روي أن "عثمان" كان يُدعى "رديفاً" في إمارة عمر. وذكرعلماء اللغة أن "الأرداف: الملوك في الجاهلية، والاسم منه الردافة"، وكانت الردافة في الجاهلية لبني يربوع.. خصصها ملوك الحيرة بهم ولم يعطوها لأحد غيرهم، حتى ان كانوا مثل بني يربوع من تميم. ولا بد وأن يكون لهذا التخصيص سبب إذ لا يعقل أن يكون جاء "بني يربوع" عفواَ. فهو فضل وتفضيل، وقضية التفضيل والتقديم، قضيه حسّاسة جداً ويحسب لها ألف حساب عند العرب. لما لها من مسّ بالمنازل وبكرامة القبائل والسادات، وقد ذهبت أرواح بسبب تقديم ملك سيدّ قبيلة على سيد آخر في موضع جلوسه منه أن جعله أقرب اليه منه وفي جهته اليمنى لأن في هذا التقديم على عرفهم إِيثار لمن قدم وتفضيل له على بقية الحضور. فهل يعقل إذن أن يكون ملوك الحيرة قد أعطوا "الردافة" لبني يربوع عفواً ومن غير أسباب حملتهم على تخصيصها فيهم. لقد حاول بعض ملوكهم تحويلها من أصحابها إلى قوم اخرين، ومنهم قوم مثل " بني يربوع" من تميم. لكنهم هاجوا وماجوا وهددوا. فاضطر أولئلك علىابقاء الحال على ما كان عليه.

ويمكن اعتبار "الحجابة" وصاحبها "الحاجب" من الدرجات المهمة في "الحيرة" فقد كان "الحاجب" هو الذي يتولى إدخال الناس والاذن لهم بالدخول على الملوك. وكان في إمكانه التعجيل بإدخال من يريد على الملك، وتأخير من ينفر منه من الدخول عليه وربما منعوه من الوصول اليه. لذلك كَان الذين يقصدون الملوك يتقربون إليه ويتوددون له ليكون شفيعاً لهم عندهم وواسطة في التقرب اليهم. وطالما تعرض الحاجب لذم شاعر وهجائه، إذا أخره عن الدخول على الملوك أو حال بينه وبين الوصول اليه، أو كان سبباً في اثارة غضب الملك على الشاعر.

وقد ذكر علماء اللغة انه لما كان الملك محجوباً عن الناس، فلا يصلون اليه إلا بإذن من الحاجب، لذلك حصر، أي حبس عن رعيته، فقيل له الحصير.

وقد كان للنعمان بن المنذر "ملك العرب" حاجب ورد اسمه في شعر للنابغة، هو "عصام بن شهر" من رجال "جرم"، ذكر انه قد كانت له منزلة عند النعمان. حتى انه إذا أراد أن يبعث بألف فارس بعث بعصام، مما يدل على انه كان يوكل اليه أمر قيادة جيشه أيضاً. وقد ضرب به المثل، ورد: "ما ورائك يا عصام"، يعنون به إياه. وورد: "كن عصامياً ولا تكن عظامياً يريدون به قوله: نفس عصام سودت عصاما  وصيرّته ملكاً همـامـا

وعلمته الكر والإقدامـا

وقوله ولا تكن عظامياً، أي ممن يفتخر بالعظام النخرة".

وقد ورد في أخبار الرسل الذين أوفدهم رسول الله إلى الملوك، ان "شجاع ابن وهب" رسول رسول الله إلى "الحارث بن أبي شمر الغساني" ليدعوه إلى الإسلام، اتصل بحاجبه، وانتظر حتى جاء له الاذن بمقابلته فدخل عليه. وبقيت "الحجابة" من المنازل الرفيعة في مكة وفي الأماكن المقدسة الأخرى.

فبيد "الحاجب" تكون مفاتيح الكعبة ومفاتيج الخزانة الخاصة بالمعبد وهي درجة ترزق صاحبها رزقاً حسناً وربحاً مادياً، فضلاً عن الربح المعنوي ياعتبار انه صاحب الصنم أو الأصنام وبيده أمر المعبد. لذلك قالت بنو قصي: فينا الحجابة. تفتخر على غيرها. ويظهر من الحديث: "ثلاثٌ من كنّ فيه من الولاة اضطلع بأمانته وأمره: إذا عدل في حكمه، ولم يحتجب دون غيره، وأقام كتاب الله في القريب والبعيد "ْ، ومن اشتراط "عمر" على كل من كان يعينه عاملا، ألا يتخذ حاجباً، ومن تحذيره لمعاوية وغيره من اتخاذ الحجاب. ان الحجاب، أي احتجاب الحكام في الجاهلية عن الناس وعدم دخول أحد عليهم بغير اذن منه، كان معروفاً فاشياً، وان أصحاب الحاجات والمراجعين من الناس كانوأ يلاقون صعوبات جمة في الوصول إلى حكامهم، وقد يقفون اياماً ثم يسمح لهم بالدخول عليهم، وقد لا يسمح لهم بذلك. ونظراً لما في ذلك من تعسف بحق الرعية نهى الإسلام عنه، وأمر الحكام بوجوب فتح أبواب بيوتهم للناس ليستمعوا إلى ظلاماتهم وإلى ما هم عليه، من حال.

وفي كتب أهل الأخبار تأييد لهذا الرأي، إذ فيها تذكر إن الشعراء وغيرهم كانوا يقفون أياماً بأبواب ملوك الحيرة أو الغساسنة يلتمسون الأذن بالدخول على الملوك، ولا يأذن الحاجب لهم بالدخول عليهم، حتى أضطر البعض منهم على التعهد للحاجب بإعطائه نصيباً ما سيعطيه الملك له إن يسّر له أمر الدخول عليه. ومنهم من كان يقدم للحاجب هدية ترضيه حتى يسمح له بالدخول دون إبطاء، مما اضطر بعضا، الشعراء على نظم الأشعار في هجاء الحاجب والملك الذي يراد، الوصول إليه. وتجد مثل هذه الشكاوي عن حجاب ملوك اليمن.

ويظهر إن ملوك الحيرة كانوا يستوزرون الوزراء ليستشيروهم في الأمور، فقد ورد إن "زرارة بن عدس" كان من عمرو بن هند كالوزير له. وقد وردت كلمة "وزير" في القران الكريم بمعنى المؤازر الذي يشد أزر صاحبه فيحمل عنه ما حمله من الأثقال، والذي يلتجئ الأمير إلى رأيه وتدبيره، فهو ملجأ له ومفزع. وجاء في حديث "السقَّيفة": "نحن الأمراء وأنتم الوزراء"، مما يدل على إن الوزارة كانت معروفة عند الجاهليين.

وورد أن "التأمور" وزير الملك لنفوذ أمرهْ. ولم يذكر علماء اللغة الموضع الذي استعملت فيه هذه اللفظة.

وقد كان لملوك الحيرة عُمّالاً يديرون بالنيابة عنهم أمور الأرضين التابعة لهم. ف "العامل" هو نائب الملك على تلك الأرض. وقد ذكر أنه كان لملوك الحيرة "عمال" على البحرين كالذي رووه في قص مقتل الشاعر "عبيد بن الأبرص". وقد عرف علماء اللغة العامل بأنه هو الذي يتولى أمور الرجل في ماله وملكه وعمله ومنه قيل للذي يستخرج الزكاة "عامل"، وللساعي الذي يستخرج الصدقات من أربابها "العامل" والعامل هو الخليفة عن الشخص.

وقد استعمل المسلمون لفظة "العامل" وبقوا يستعملونها أمداً. وعين الرسول عمالاً على الصدقات. واستعملت بمعنى أوسع أيضاً، شمل الضرائب والإدارة.

وأطلق "الطبري" لفظة "العامل" على ملوك الحيرة، فنجد في كتابه جملة: "من عمال.."، وورد أن "امرأ القيس" كان عاملاً للفرس، وكان يحكم الحجاز.

ويذكر علماء اللغة أن "العمالة": رزق العامل الذي جعل له على ما قلد من العمل.

والولاية بمنزلة الإمارة، والولي هو الذي يتولى إدارة شؤون الولاية. وقد استعملت في الإدارة الإسلامية. واستعملت لفظة "الأمير" في معنى من يتولى إمارة الجيش، فقيل "امراء الجيش" وهم كِبار القادة الذين توكل اليهم مهمة تسيير الجيش وإدارته في السلم وفي الحرب.

وتؤدي لفظه "الوكيل" معنى العامل أيضاً. جاء في نص "العمارة" "ووكلهن فرسولروم"، أي " ووكل لفارس وللروم". ولكنني لا أستطيع أن أجزم بأن لفظة "الوكيل" كانت مستعملة اصطلاحاً مقرراً مثل لفظة "عامل" في ذلك العهد، أي سنة "328" للميلاد، وهي سنة تدوين النص.

ومن الدرجات المهمة من الوجهة العسكرية والإدارية "الخفارة"، بمعنى الحراسة والمراقبة. والخفر هو المجير والحارس والحامي والأمان. وكان ملوك الحيرة قد عينوا "الخفراء" على المواضع الحساسة لحمايتها والدفاع عنها. وقد كان الساسانيون قد عينوا خفراء منهم ومن العرب لحماية الحدود، ولما حاصر "خالد بن الوليد" "عين التمر" وتغلب عليها قتل "هلال بن عقبة"، وكان خفيراً بها.

وقد أشير اليها في كتب الرسول، إذ ذكر أنه أخفر "سعير بى ن العداء الفريعي" أحد المواضع.

ويظهر من أخبار أهل الأخبار أن ملوك الحيرة لما كانوا قد اتخذوا لهم أمناء، فقد لقب "هانىء بن قبيصة" ب "أمين النعمان بن المنذر". و "الأمين" المؤتمن الحافظ، فلعلهم قصدوا أنه كان المؤتمن. على أسراره والمستشار، يستشيره في مسائله والحافط لها،أو أنه كان الأمين على أمواله وما يأتيه من جباية وخراج، أو الكاتم لأسراره والمدوّن لرسائله،فهو كاتب الدولة في ذلك إلعهد.

وعرف "قبيصة بن مسعود" ب "وافد المنذر". ويظهر أن المنذر كان يكلفه بالوفادات، أي بالذهاب موفداً عنه. في مهمات وأعمال يحتاج قضاؤها إلى ذهاب موفد ليتكلم عن الملك وبأسمله. و "الوافد"هو السابق والارسال،ويقال: هم على أوفاد أي على سفر. وقد يقال إن "قبيصة" إنما عرف ب "وافد المنذر"، لأنه كان ممن يكثر الوفادة عليه، فيجد له ترحيباً وأبواباً مفتوحة، فعرف بذلك. فيكون بهذا المعنى من الرجال المقربين إلى الملك. ولا علاقة له بمهمة الايفاد إلى الملوك وسادات القبائل بمهمات سياسية،أي بمهمة رسول وسفير.

وقد استعمل عرب العراق الألفاظ الفارسية المستعملة في ادارة الحكومة الساسانية لأنها هي المصطلحات الرسمية والألقاب الني يحملها الموظفون وتشير إلى منازلهم ودرجاتهم، ومنها درجة "قهرمان" "القهرمان". والكلمة فارسية، وقد دخلت العربية وعُربت. ذكر علماء اللغة انها تعني المسيطر الحفيظ على من تحت يديه والقائم بأمور الرجل ومن أمناء الملك وخاصته. وفي الحديث: كتب إلى قهرمانه. وقد ورد ان "علي بن أبي طالب" قال لدهقان من أهل "عين التمر"، وكان قد أسلم: "ا أما جزية رأسك فسنرفعها، وأما أرضك فللمسلمين. فإن شئت فرضنا لك، وإن شئت جعلناك قهرماناً لنا".

و "دهقان" من الألفاط الني عرفها عرب العراق كذلك. وذكر بعض علماء اللغة ان الدهقان التاجر. ويراد بدهقان حاكم ضيعة أو بلدة. وهي من "ده" بمعنى "ضيعة" و "قان" "خإن" بمعنى رئيس قبيلة في الفارسية القديمة.

فالدهقان هو رئيس موضع، وقد كان الساسانيون قد نصبوا الدهاقين على العراق وعلى قرى غالب أهلها من العرب، فكانوا يخاطبونهم باسم منصبهم: دهقان.

وأشير إلى وجود وظيفة "كاتب" عند الفرس، واجبه تولي أمور المراسلة بالعربية والفارسية فيما بين العرب والفرس. وقد ذكر "الطبري" ان "كسرى" جعل ابنْ "عديَ بن زيد العبادي" في مكان أبيه،"فكان هو الذي يلي ما كتب به الى أرض العرب، وخاصة الملك، وكانت له من العرب وظيفة موظفة في كل سنة: مهران أشقران والكمأة الرطبة في حينها واليابسة، والأقسط والأدم وسائر تجارات العرب، فكان زيد بن عدي بن زيد يلي ذلك، وكان هذا عمل عدي" . وقد أشير الى وجود كتاب عند ملوك الحيرة تولوا لهم أمر تدوين المراسلات وما يأمر به إلملوك. ولا يعقل ألا يكون لهم ديوان خاص بالمراسلة على نمط ما كان عند الساسانيين، وظيفته تولي ما يكتب به ملوك الحيرة إلى الملوك الساسانيين، وترجمة ما يرد من الساسانيين اليهم من كتب. وتولي أمور المراسلة بين ملوك الحيرة وبين سادات القبائل. فقد كانت الرسائل تترى بين أولئك الملوك وسادات القبائل، كما يظهر ذلك من كتب أهل الأخبار.

وكان للملوك خاتم عرف ب " خاتم الملك" يكون في ايديهم. يظهر انهم استخدموه للتوقيع على الكتب وقد عرف ب "الحلق" وكذلك عرف "الحلق" ب "خاتم الملك الذي يكون في يده". وكان من شأنهم، أنهم إذا أمروا يكتابة كتاب، ختموا عليه ب"الختام"، وهو الطين أو الشمع، حى لا يفتح ولا يمكن لأحد فتحه، وإلا كسر الخاتم، وعرف أن الكتاب قد فتح، وأن سره عرفْ.

وألمعروف أن "الشرطة"، لم،تكن معروفة عند الجاهليين،وأنها من المستحدثات الإدارية التي ظهرت في الإسلام. ولكن أهل الأخبار يروون حديثاً نسبوه الى الرسول هو: "الشرط كلاب النار". وهو حديث لو صح أنه من قول الرسول، فإفه يدل على وقوف أهل الحجاز على "الشرطة"، ويذكر علماء اللغة أن الشرطة سمّوا بذلك لأنهم أعلموا أنفسهم بعلامات يعرفون بها. وذ كروا أن واحد الشرط هو الشرطي، واستدلوا على ذلك بقول الدهناء امرأة العجاج: واللّهِ لولا خشـية الأمـير  وخشية الشرطي والترتور

أعوذ بـالـلّـه وبـالأمـير  من عامل الشرطة و الأترور

وقد ذهب "ابن قتيبة" إلى وجود "الشرطة" في أيام الجاهلية، إذ قال في أثناء حديثه عن المثل "على يدي عدل": "هو: عدل بن فلان من سعد العشيرة، وكان على شرطة تبع، فإذا غضب على رجل دفعه اليه. فقال الناسُ لكل شيء يخاف هلاكه. هو على يدي عدل".واختلف في اسم والده، فقيل هو جزء "جر". وقيل لكل ما يئس منه: وضع على يدي عدل.

وقد عرف الحراس في اليمن. منهم من كان يتولى أمر حراسة الملوك، إذا ذهبوا إلى مكان، أو خرجوا لصيد،ومنهم من كان يتولى أمر حراسة قصورهم، ومنهم من تولى أمر حراسة أبواب المدن والاسوار حتى لا يدخل المدينة عدو"،ولا يهرب منها سارق أو مجرم، وكان لملوك الحيرة والغساسنة وسادات القبائل حراس، يسرون معهم لمنع من يريد إلحاق الأذى بهم. وإذا تجولوا استببعهم الحراس والخدم. وذكر ان "خشرم بن الحبّاب" كان من حراس الرسول.

ويقال لمن يطوف بالليل لحراسة الناس "العس" و "المعسس". فهم نوع من أنواع الحرس، تخصص بالحراسة ليلاً.

وأما "الدرابنة"، فهم البوّابون، أي الذين يقفون على الباب، لمنع الغرباء ومن فيه ريبة من الدخول إلى البيوت. واللفظة من الألفاط المعربة عن الفارسية،وقد ذكرت في شعر نسب الى المثقب العبدي: فأبقى باطلي والجدّ منها  كدكان الدراابنة المطين

ويقال لمن يطوف بالليل لحراسة الناس "العس" و "العسس"، فهم نوع من انواع الشرطة، أو من المحافظين على الأمن، تخصصوا بالحرإسة ليلاَ.

وذكر علماء اللغة ان من مرادفات "الشرطي" "الجلواز". و "الجلواز": الثؤرور "التؤرور"، وقيل هو الشرطي. وجلوزته: خفته بين يدي العامل في ، ذهابه:إيابه. وذكروا ان "التؤرور: العون يكون مع السلطان بلا رزق، وقيل: هو الجلواز".وذكر "عكرمة" في تفسير )له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله" "الجلاوزة يحفظون الأمراء".

وقد اتخذ حكام العربية الجنوبية السجون لتأديب خصومهم بسجنهم بها. واستعملت لسجن الخصوم السياسيين واللأعداء في الغالب. لذلك كانوا يتشددون في حراستها وفي عزلها عن الناس حتى لا يتمكن احد من الهروب منها. وقد يجعلونها في قلاعهم وحصونهم، زيادة في الحذر وفي نراقبة المساجين، وقد يتوفى السجين في سجنه من سوء حالة السجن ومن الجوع والعطش. ويقال لحارس السجن "حصق" في اللغة العربية الجنوبيةْ.

وذكر بعض علماء اللغة ان النبط تسمي "المحبوس"، "المهزرق"، و "الحبس" "الهزروقي". ولا يستبعد أن يكون عرب العراق قد عرفوا هذا المصطلح.

إذ ذكروا ان "إلمهرزق: المحبوس،نبطية تكلمت بها العرب،وكذلك المحرزق". وان "الهرزق" "الحبس". وقال بعض العلماء: "المهزرق والمهرزق يقالان معأ.

كما وردا في بيت الأعشى: هنالك ما أنجاه عـزة مـلـكـه  بساباط حتى مات وهو مهرزق.

وترد لفظة "عوق" بمعنى المحبوس في النصوص الصفوية. وقد كان الروم. يقبضون على من يغير على أرضهم من الصفويين وغيرهم ويودعونهم السجون. ومنهم من كان يفر منها، ويكتب ذكرى هروبه من سجن الروم على الحجارة.

وقد كان لملوك الحيرة "سجون"، منها سجن "الصنيّن" وقد أشير اليه في الشعر الجاهلي. ولا بد أن يكون لهم موظفون أودعوا اليهم مهمة المحافظة على السجون ومراقبة المساجين حتى لا يهربوا، ووكلوا اليهم أمر تعذيبهم وقتلهم أو سمهم عند صدور أمر الملك بذلك. كما فعلوا بعديّ بن زيد العباديّ. ويقال آ للسجن: الحصير،لأنه يحصرالناس ويمنعهم من الخروج،و"الحبس".

ويقال للذي يتولى أمر القبيلة أو الجماعة من الناس يلي امورهم، وينقل إلى الملك أحوال الناس "العريف". وكان للملوك "عرفاء"، هم بثابة عيونهم

على القبائل. ويظهر من بعض الأخبار أن العرافة كانت نوعاً من الرئاسة والزعامة والدرجة.فقد ورد في كتب الحديث: ان شيخاً كان صاحب ماء جعل لقومه مئة من الإبل على أن يسلموا،فأسلموا، وقسم الإبل بينهم. وبدا له أن يرتجعها منهم، فأرسل ابنه إلى النبي، وأوصاه بأن يقول له: "أبي شيخ كبير، وهوعريف الماء، وإنه يسألك أن تجعل لي العرافة بعده".فلما قص الخبرعلى الرسول، قال الرسول له: " إن بدا له أن يسلمها اليهم، فليسلمها، وإن بدا له أن يرتيجعها منهم، فهوأحق بها منهم.فإن اسلموا، فلهم إسلالمه 3 وإن لم يسلموا، قوتلوا على الإسلام". فقال: " إن أبي شيخ كبير، وهو عريف الماء، وإنه يسْاْلك أن تجعل لي العرافة بعده ". فقال الرسول: "إن العرافة حق، ولا بد للناس من عرفاء. ولكن العرفاء في النار".

وورد أن العريف:النقيب، وهو دون الرئيس، وان عريف القوم سيدّهم، والعريف: القيم والسيد لمعرفته بسياسة القوم، ولتدبيره أمر تابعيه. وعرفوا "النقيب" بهذا التعريف أيضأَ، فقالوا إنه العريف، وهو شاهد القوم وضمينهم والمقدم عليهم الذي يتعرف أخبارهم وينقب عن أحوالهم.

و "العريف" من المصطلحات العسكرية أيضاًَ، المستعملة في تنظيمات الجيش.

وقد أقر الرسول مما كان متبعاً من أمر تقسيم الجيش الى وحدات. فعرّف على كل عشرة رجلاً وأمرّ على الأعشار رجالاً من الناس لهم وسائل في الإسلام. هم العرفاء.

و "النقيب"، شاهد القوم، وهو ضمينهم وعريفهم ورأسهم، لأنه يفتش أحوالهم ويعرفها. وفي التنزيل: "وبعثنا منهم اثني عشر نقيباًَ". ولما بايع الأنصار رسول الله، جعل عليهم اثني عشر نقيباً، ليتولوا أمر المسلمين بيثرب وليكونوا شهوده عليهم، وليقوموا بالدعوة فيها إلى الإسلام. ويظهر ان لهذه اللفظة صلة بلفظة Nacebus التي وردت في بعض المؤلفات أليونانية في حديثها عن العرب. ونجد في العهد المنسوب إلى "خالد بن الوليد" المعطى إلى أهل الحيرة والمدون في تأريخ الطبري، جملة: "وهم نقباء أهل الحيرة"، وقصد الشارح بها رؤساء الحيرة الذين صالحوا "خالد" على أداء الجزية، وهم: عديّ وعمرو أبناء عدي بن زيد العبادي، وعمرو بن عبد المسيح، واياس بن قبيصة وحيريّ "جبريّ" بن آكال.

وفي ورود اللفظة في القرآن الكريم، واختيار الرسول لنقباء أمرهم على مسلمي يثرب قبل هجرته اليها، وفي:ورودها في عهد "خالد" مع أهل الحيرة، دلالة على انها كانت شائعة معروفة في الحجاز، بمعنى رئيس وسيد قوم والمسؤول عن جماعة.

أما "الرائد"، فهو الذي يتقدم الناس لطلب الماء والكلا للنزول عليه.

وقد نصب "عمر" "سلمان الفارسي" رائداً وداعية على الجيش الذي أرسله إلى العراق.

ولا بد وان يكون للملوك خزان يتولون خزن أموال الملك والاشراف على مدخولاته ومصروفاته. وكلمة "خزانة" من الألفاظ المعروفة في العربية. وقد كان الناس يخزنون أموالهم في خزائن. ومنها أوعية يجمعون فيها المال المخزون.

وقد كان لهؤلاء الملوك جباة يجبون لهم حقوق الملك على الرعية، من أعشارالتجارة، ومن غلات الأرض.

وهناك طبقة من السادة كانت لهم منزلة ومكانة في أهلهم ودرجة محترمة عند الملوك، فقربوهم اليهم وأدنوهم منهم. وقد عرفوا ب "قرابين الملك" واحدهم قربان. يجلسون مع الملك على سريره لنفاستهم وجلالتهم. وذكر ان "القربان":جليس الملك الخاص، أي المختص به. و "قرابين الملك" وزراؤه وجلساؤه وخاصته.

وقد عرفنا من كتابات "تدمر" أسماء بعض الوظائف التي كان يتولاها الموظفون في القيام بإدارة الأعمال العامة للمدينة. وقد أشرت اليها في حديثي عن تلك المدينة، وكانت "تدمر" قد سارت على خطة المدن اليونانية في ادارة شؤونها.، وهي خطة عمل بها الرومان أيضاً مع بعض التغيير الذي يناسب جو "الانبراطورية" الرومانية. ويلاحظ ان أهل "تدمر" اسعملوا المصطلحات اليونانية أيضاً في تسمية الوظائف.

ويمكن أن نقول إن عرب بلاد الشام كانوا قد سارو"على وفق النظم اليونانية - الرومانية في إدارة الحكم، لوجود جاليات يونانية كبيرة العدد من مدن الشام وقراها، ولاتصال عرب هذه الديار باليونان والرومان، مما جعلهم يختارون نظم اليونان والرومان في إدارة الحكم وفي إدارة الجيش، ونجد أثر هذا التأثر حتى في لغة أهل الحجاز، فنجد فيها ألفاظاً عديدة دخلت العربية قبل الإسلام بزمن طويل، فعربت. وذلك في الأمور التي أختص بها اليونانُ الرومان ولم تكن معروفة عند العرب.

بطانة الملك

والبطانة السريرة يسرها الرجل، والصاحب للسموّ الذي يشاور في الأحوال.

وقد أشير اليها في الحديث. ويقال لها الوليجة،وهو الذي يختص بالولوج والاطلاع على باطن الأمر. وذكرت "البطانة" فيَ القران. بمعنى مختصين بقوم،ويستبطن بهم الأمور. فهم النخبة الخاصهَ التي يركن اليها في السرّاء والضرّاء وفي أخذ الرأي.

ول "سقاة" الملوك حظوة عند الملوك بحكم قربهم منهم واتصالهم بهم، ولاسيما، وقت شرابهم، ويسمعون من أفواههم وبخاصة في أوقات الشراب أموراً لا يبيحون بها في وقت صحوهم وشعورهم. وقد كانت "السقاية" منزلة رسمية كبيرة عند الفرس والاشوريين والعبرانيين. وقد استعمل اللخميون والغساسنة السقاة، لإسقائهم الشراب ولإسقاء ضيوفهم أيضاً.

ولا يستبعد وجود "الخصيان" في قّصور الملوك والأشراف. فقد كان من عادة الناس، في ذلك الوقت استخدامهم فى البيوت. فكانوا يدخلون على مخدرات الملوك والسادات، ويتصلون بهن، لّخدمة البيت. ولهذا لجأ الملوك الي شراء الخصيان، أو اخصاء مماليكَهم حتى يكونوا بمأمن من اتصالهم بالقصر ودخولهم على نسائهم.

ادارة المملكة

لا نستطبع أن نتكلم بوجه صحيح مضبوط عن كيفية إدارة المملكة عندالجاهليين وعن طرق توزيع الأحمال وتقسيم المملكة إلى وحدات إدارية يديرها الموظفون، وعن أسماء تلك الوحدات. إذ لم يصل أي شيء عن ذلك الينا في كتابات المسند أو الكتابات الجاهلية الأخرى. كما لم يصل الينا أى شيء عن النظم الإدارية الجاهلية في كتب أهل الأخبار والتواريخ.

وفي كتب اللغة و الأدب مصطلحات ذات معان إدارية مثل "الطسوج" و "الكور" وردت فيها عرضاً، غير أن ما أورده علماء اللغه عنها لا يبين لنا بوضوح استعمالها ولا الأزمنة التي استعملت فيها، ولا المراد منها. فهم يقولون عن "الطسوج"، الطسوج: الناحية وربع الدانق. وقيل مقدار من الوزن، وقيل معرب واحد من طساسيج السواد. فنحن إذن أمام معان ثلاثة: هي جزء من دانق أو درهم، ومقدار من الوزن وجزء من أرض. والمعنى الثالث هو المعنى الملائم لبحثنا، لأنه يدل على وحدة إداريهَ، كانت مستعملة في العراق بتأثير الحكم الفارسي.

وأما "الكور" فجمع "كورة". قال علماء اللغة انها المدينة والصقع، والمخلاف. وهي القرية من قرى اليمن والكلمة من أصل يوناني،هو "خورة" Khora بمعنى ناحية من بلد، أي مصر. ولم يشر علماء اللغة إلى انها كانت مستعملة في جزيرة العرب. ولعل العربية أخذتها من التسيمات الإدارية لبلاد الشام.

وجاء في أثناء حديث "ألطبري" عن فتح "أمغيشيا" وعن سير خالد بن الوليد اليها، أنها كانت مصراً كالحيرة. وورد في كتب اللغة والأخبار أن "عمر" كان قد مصر الأمصار منها البصرة والكوفة. وذكر علماء اللغة أن المصر الحد. ويظهر من ذلك أن "أمغيشيا" كانت مصراً، أي من إمارات الحدود، التي أقيمت على ألحدود المغربية للدولة الساسانية لحمايتها من الروم ومن غارات الأعراب وغزوهم. وكان اهلها على النصرانية. وان لفظة "مصر" كانت تؤدي هذا المعنى عند ظهور الإسلام.

ولا تظهر التقسيمات الإدارية إلاّ في حكومة كبيرة تحكم مساحة واسعة نوعا ما.

لذا نستطيع أن نتحدث باطمئنان عن وجود تقسيمات ادارية في العربية الجنوبية، لأن حكوماتها كانت قد حكمت أرضين متسعة نوعاً ما، وجعلت البلاد في حكم موظفين تولوا ادارتها. وقسموها إلى وحدات ادارية. أما في الحجاز، فلما كان الغالب عليها عند ظهور الإسلام نظام القرى والمدن، لذلك، فلا يمكن أن نجد فيه شيئاً من هذا التقسيم. وأما ملوك الحيرة، فقد عينوا عمالاً على الاقاليم التي حكموها. ولكن أهل الأخبار لم يذكروا شيئاً عن أنواع العمالات وعن درجات حكامها. لذلك لا نستطيع ألتحدث عنها بشيء.

ولقد سبق لي أن ذكرت أسماء بعض الوظالئف والمناصب في الممالك العربية الجنوبية.

فقلت مثلا" إن درجة "كبر" أي "كبير" هي من المناصب العالية عند العرب الجنوبيين، و "الكر" هو في مقام "محافط" و "متصرف" و "عامل" في مصطلحات الدول العربية في يومنا هذا. ولا أستبعد أن تكون تلك الدول قد أطلقت لفظة "كبر" على الوحدة الادارية التي كانت تحت حكم الكبير.

و "المخلاف"، هي الكلمة التي ترد في كتب علماء اللغة والأخبار عن التقسيمات الادارية الجغرافية لليمن، إذ يذكرون ان "المخلاف" مثل "الكورة" بالنسبة لأهل اليمن، وان اليمن كانت مقسمة إلى مخاليف.

ويعبر عن القرى بالأعراض، والواحد عرض. جاء في بعض كتب عبد الملك بن مروان لعماله: "وليتك المدينة وأعراضها "، أي قراها ونواحيها. وللقرى والمدن حدود ومعالم. خارجها ضاحيتها. وأما داخلها فجوفها، وهو من شعاب، ومن "ربعات". والربع و "الربعة" المحلة والشِعب وجماعة الناس.

وقد أشير إلى "الرباع" في الكتاب الذي أمر الرسول بتدوينه بين "قريش" وأهل يثرب.

ويظهر ان الجاهليين قد عرفوا لفظة "الدسكرة"، بدليل ورودها في الحديث.

وقد ذكر بعض علماء اللغة انها بناء كالقصر حوله بيوت ومنازل للخدم والحشم. وخصصه بعضهم بالملوك. وقال قوم: القرية. ويظهر انهم أخذوها من الفارسية، فهي فيها مدينة وضيعة كبيرة.

و "الضواحي" النواحي، وضواحي الروم ما ظهر من بلادهم. وضواحي مدينة أو قرية ما كان خارج السور أو خارج حدود المدينة أو القرية. وضواحي قريش، النازلون بظواهر مكة، ولذلك قيل لقريش النازلة بظواهر مكهّ، قريش الظواهر. وأهل الضاحية، أو أهل الضواحي، هم أهل البادية، والساكنون على سيف الحضارة وحدودهاْ. وكانت الحكومات تحسب لهم حساباً، وتراقب أحوالهم، خشية مهاجمتهم الحضر.

موارد الدولة

ولا بد لكل دولة من موارد تستعين بها في ادارة امورها وفي الانفاق على التابعين لها المكلفين القيام بأعمالها من موظفين ومستخدمن مدنيين وعسكريين ويدخل في هذه الموارد كل ما يحصل عليه الملك أو سيد القبيلة من أرباح ودخل يرد من استغلال الأرض والأملاك الخاصة، ومن الأتجار، ومن الضرائب التي تفرض على التجار والمواطنين والزرّ اع، ومن الغنائم، إلى غير ذلك من واردات تجمع وتقدم الى الحكام ملوكاً كانوا أو سادات قبائْل أو رؤساء مدن. أضف إلى ذلك"الجزية" التي كانت الحكومات تفرضها على من تحاربه أو تغزوه فتنتصر عليه، ثم تنسحب من أرضه على ان يدفع "جزية" يقررها المنتصر تتناسب مع حال المغلوب.

ولم يكن من المعتاد في تلك الأيام التفريق بين "الخزينة الخاصة" و "الخزينة العامة"، أو بين الوارد الخاصة بالملك، مما يجبى من أملاكه وعن اتجاره وبين الوارد الذي يجب ان يصرف وينفق على الأعمال العامة التي تمس الشعب كله، مثل انشاء الطرق والحصون وادامة الجيش واغاثة المحتاج وما شابه فلك، فإن الحاكم في ذلك الزمن كان يرى ان كل ما يجبى يعود اليه، لا فرق عنده بين الخزينة الخاصة والخزينة العامة، وان الانفاق يتوقف على رأيه، إن شاء وهب هذا مالاً وأقطع هذا ارضاٌ، وان شاء صادر مال شخص وضمه اليه، ولا حق لأحد ان يعترض عليه. فأموال الدولة هي امواله والخزينة هي خزينته،وهو الذي يأمر بالإنفاق. وما يعطيه للشعراء ثواباً على مدحهم له، أو ما يقدمه من أموال للمنافع العامة وللنفقات الخاصة بالجيش وبمرافق الدولة،يكون كله بأمره وبموافقته، يتصرف كما يتصرف اي مالك كَان بملكه.

وقد اختار الملوك لهم رجالاً وكلوا لهم امر ادارة أملاكهم واستثمارها، كما وكلوا لاخرين. أمر الاتجار بأموالهم، إذ كان الملوك يتاجرون ايضاً في الداخل وفي الخارج، كما وكلوا للموظفين امر جباية الضرائب واستحصالها من الزرّأع ومن التجار، فكانوا يذهبون إلى المزارع لتقدير حصص الحكومة كما كانوا يقفون في الأسواق لأخذ العشر من المبيعات. وهناك موظفون يقيمون عند الحدود وعند ملتقى الطرق لأخذ حق المرور من القوافل.

" وقد وجدت بعضالحكومات مثل حكومة "رومة" ان طريقة تعيين الجباة لجباية الضرائب، هي طريقة تكلف الدولة اموالاً تزيد على الاموال التي تردها من الجباية، لان الجباة كانوا يسرقون اموال الجباية ويسيؤن الاستعمال، وان الشدة معهم لم تنفع شيئاً، لذلك عمدت إلى وضع الجباية في "المزايدة العلنية" بأن يعلن عنها، فيتقدم من يرغب في أخذها، فيزيد على غيره ممن ينافسه، وهكذا حتى ترسو على آخر المتزايدين، فيتولى هو جمع الجباية عن طريق تعيينه موظفين يقومون بجباية الضرائب المقررة، فيقدم هو للحكومة المبلغ الذي رسا عليه، ويأخذ الفضل لنفسه وقد تألفت في "رومة" شركات كبيرة خصصت نفسها بأمور جباية الضرائب من المقاطعات الواسعة التابعة لانبراطورية "رومة" وكانت تتزايد فما بينها حينما تعرض الحكومة جباية الضرائب في "المزاد".

وقد فعلت هذه الشركات كل ما اًمكنها فعله لجمع أكثر ما يمكن جمعه من أموال من المكلفين لتغطية مبلغ التعهد الذي أعطته للحكومة وللحصول على أرباح مفرطة لها، بأن أرهقت كاهل المكلف بأخذ أضعاف ما حدد من مقدار الصريبة، ولم تنفع الرقابة الحكومية التي وضعتها الحكومة على هذه الشركات وعلى الجباة، ذلك لأن "الحكام" حكام الولايات ومن بيدهم أمر الرقابة المالية ومن كان بيده أمر النظر في عرض الجباية على المتزايدين كانوا مرتشين، فكانوا يغضون الطرف عن تعسف الجباة ولا ينصفون المشتكين من الناس منهم. وقد ضج الناس من أصحاب المكس، وأشير إلى ظلمهم في الإنجيل، وعدّوا من أصحاب الإثم أهل الخطيئة Sinners فكانوا من المبغَضين. وقد ندد بهم و بظلمهم في كتب الحديث.

وقد عين "الأباطرة" أحياناَ عمالاً Procurator على المقاطعات للاشرأف على جمع الجباية، وعينوا موظفين في الموانئ والثغور لجباية الضرائب عن الأموال المصدرة التي تصدر الى الخارج، وعن الأموال الني تستورد إلى الانبراطورية، ومن التجار الرومان، أو التجار الأجانب.

وقد وردت في النصوص العربية الجنوبية مصطلحات لها علاقة بالضرائب وبألأرباح، منها مصطلح "نعمت"، أي "نعمة"، وتعني هنا ما أنعم به على الإنسان، أي ما يحصل عليه من السوق، وما يربحه من تجارته. فهي بمعنى الربح. وللحكومة أو القبيلة أو لأصحاب السوق حق أخذ نصيب مقرر من هذه "النعم"،أي الأرباح. ويعبر عن النصيب الذي تأخذه الحكومة من الأرباح ب "زعرتم" "زعرت" "زعرة"،من أصل "زعر". وتعني"زعر" قَلّ وتفرَّق، فكأن العرب الجنوبيين عبًّروا عن نصيب الحكومة بهذه اللفظة، لأن ما يدفع للحكومة هو مما يقلل من المبلغ ويصغره، فالربح اذن هو "نعمتم"، "نعمة"، "نعمت"، وهو كل ربح يصيب أحداً. وأما ما يؤخذ عن الأرباح ويدفع للحكومة: فهو "زعرتم" "زعرت" "زعرة"،أي ضريبة.

وترد لفظة "همد"بمعنى الضريبة في العربيات الجنوبية، أي ما يفرز ويعطى للحكومة أو للمعبد أو للسادات القبائل،والارضين التي يهيمنون عليها. و "الهميد" في عربية القرآن الكريم "المال المكتوب عليك في الديوان" و "المال المكتوب على الرجل في الديوان" فيقال: هاتوا صدقته، وقد ذهب المال و "الصدقة". وهذا التفسير قريب من المعنى المقصود من اللفظة في العربيات الجنوبية.

وقد أخذت حكومات العربية الجنوبية بطريقة تعيين موظفين خاصين بجمع الضرائب وبالأشراف على الجباة وعلى كيفية الجباية، كما أخذت بطريقة ايداع الجباية الى الإقطاعيين وسادات القبائل، فهم الذين يجمعون الحقوق من أتباعهم، ويقدمونها إلى الحكومة. وذلك بالالتزام. وللحكومة موظفون واجبهم التحقق من أن هؤلاء الملتزمين لا يأكلون حق الحكومة، ويأخذون من أموال الجباية النصيب الأكبر، ولا يقدمون للدولة الا شيئاً قليلاً من استحقاقها.

وفي كل الحالات المذكورة كان المكلف يرهق بدفع الضرائب إرهاقاً، ويجبر على دفع ضرائب تزيد على طاقته خاصة، وقد كانت الضرائب متنوعة عديدة. ضرائب للحكومة، وضرائب للمعبد، وضرائب للسيد صاحب الأرض، أو سيد القبيلة، ثم عليه السخرة أي العمل الإجباري دون مقابل وعليه الانخراط في سلك المحاربين حين الطلب، فأثر كل ذلك في الوضع الاقتصادي، وفي المجتمع العام تأثيراً كبيراً،و نهك السواد الأعظم من الناس، مما جعلهم يتذمرون من الحكام والحكومة والسادات،ولا يؤدون ما عليهم من واجبات وخدمات عامة الا مكرهين.

ولعل هذا الإرهاق الذي نزل بالرعية في دفع الضرائب، هو الذي حملها على اطلاق "الآكل" و "الآكال" و "آكال الملوك" و "مآكل الملوك" على ما يجعله الملوك مأكلة لهم، لأنهم جعلوا أموال الرعية لهم مأكلة، و اما "المأكول"، فهو الرعية، لأن الملوك تأكل أموالهم. فالملوك تأخذ ولا تعطي، والرعية تعطي ولا تأخذ ولا تستفيد مما تدفعه لملوكها من ضرائب أية فائدة.

والضريبة في تعريف علماء اللغة: ما تؤخذ في الأرصاد والجزية ونحوها، مثل ما يؤديه العبد إلى سيده من الخراج المقرر عليه،ومن الضرائب: ضرائب الأرضين وهي ضرائب الخراج عليها، وضرائب الإتاوة التي تؤخذ من الناس.

وعرف علماء اللغة الإتاوة: أنها الرشوة والخراج، وقال بعضهم: كل ما أخذ بكره، أو قسم على موضع الجباية وغيرها، فهو اتاوة. وفي ذلك قال "حُنَيّ بن جابر التغلبي": ففي كل أسواق الـعـرإق إتـاوة  وفي كل ما باع أمرؤ مكس درهم

وذكر "ابن فارس" أن "الإتاوة" من الألفاظ التي زالت بزوال معانيها، فهجرت لذلك.

ويقال للإتاوة: الأريان. والاريان بمعنى الخراج أيضاً. وقد ذكرت اللفظة في شعر "الحيقطان"،شاعر اليمانية،وكان قد قال قصيدة يرد فيها على الشاعر "جرير"، فهجا بها قريشاً، وكان مما قال فيها: وقلتم لقاح لا نؤدي إتاوة=فإعطاء اريان من الفرّ أيسر فقال: قلتم إنا لقاح ولسنا نؤدي الخراج و الاريان،فإعطاء الخراج، أهون من الفرار و اسلام الدار للأحابيش، وأنتم مثل عدد من جاءكم المرار الكثيرة.

ويقصدون باللقاح الحي لم يدينوا للملوك ولم يملكوا ولم يصبهم في الجاهلية سبأ.

والإتاوة في الأصل الجباية عامة. أي جباية كل شيء. وهي كلمة عامة تشمل أخذ كل عطاء،أي كل ما يؤخذ طوعاً أو كرهاً عن شيء، فتشمل الخراج والجزية والجباية والرشوة،وما يفرض تعنتاً وزوراً،والمكوس. والخراج إتاوة. يقال أدى إتاوة أرضه، أي خراجها، والجباية إتاوة. يقال ضربت عليهم الاتاوة، اي الجباية، وهي بمعنى الرشوة. يقال شكم فاه بالإتاوة، أي الرشوة. وتدخل فيها الرشوة أي الماء. وجاء في قول الجعدي: موالي حلفٍ لا موالي قرابة  ولكن قطيناً يسألون الاتاويا

أي هم خدم يسألون الخراج.

وقد ذكر "الجاحظ" الإتاوة في جملة ما ترك الناس في الإسلام من ألفاظ الجاهلية، إذ تركوها، وأحلوا لفظة "الخراج" محلها.

وكانت قريش تأخذ ممن نزل عليها في الجاهلية شيئاً. كانت تأخذ بعض ثيابه أو بعض بدنته التي ينحر، إتاوة. ولما خرج "ظويلم" الملقب ب ""مانع الحريم" في الجاهلية يريد الحج، فنزل على المغيرة بن عبد الله المخزومي،فأراد المغيرة أن يأخذ منه ما كانت قريش تأخذ ممن نزل عليها في الجاهلية، امتنع عليه "ظويلم" وقال: يا رب،هل عندك من غفيره  إنّ مني مانعه المـغـيره

ومانع بعد منـي ثـبـيره  ومانعي ربّـي أن أزوره

وذلك سمي "الحريم". وظويلم الذي منع "عمرو بن صرمة" الإتاوة التي كان يأخذها من غطفان.

ويعبر في عربية القرآن الكريم عن الشيء الذي يخرجه القوم في السنة من مالهم بقدر معلوم ب "الخرج" و ب "الخراج"، فهو إتاوة تؤخذ من أموال الناس. و "الخرج" كما يقول علماء اللغة أعم من الخراج، وجعل الخرج بازاء الدخل. والخراج مختص في الغالب بالضريبة على الأرض. وقيل: العبد يؤدي خرجه، أي غلته، والرعية تؤدي الى الأمير الخراج. وقد خصصت لفظة "الخراج" في الإسلام بما وضع على رقاب الأرض، وخصصت الجزية بما يدفع عن الرأس. و "الخرج"،مما يدفعه الرقيق إلى سيده وماله عن خراجه. وقيل: هو الأجرة، وان الخرج من الرقاب، والخراج من الأرض. وأرض الخراج تتميز عن أرض العشر في الملك والحكم.

ويقابل "الخراج" بالمصطلح الإسلامي لفظة pnoros في اليونانية، فهي ضريبة الأرض عند اليونان. وقد كان البيزنطيون قد فرضوا "الخراج" على غلة الأرض يدفعها كل من خضع لهم. وكان يدفعها عرب الشام لهم أيضاً، لأنهم كانوا في حكمهم. وأما عرب العراق، فقد دفعوا "الخراج" إلى الفرس. ويقال للخراج "خرجا" في لغة بني إرم،ووردت في "التلمود" بلفظ: "خرجه" و "خرجا". وهي عند الساسانيين خراج الأرض، أي الضريبة الخاصة بحاصل الأرض. ولكن الفرس القدماء لم يكونوا في القديم يفرقون بين الخراج والجزية، أي ضريبة الرأس، بل كانوا يطلقونها على الضريبتين. وقد وردت لفظة "خرجا" في التلمود بمعنى ضريبة الرأس،وأطلق "التلمود" على ضريبة الأرض اسم "طسقه" "طسقا" Taska "ط س ق". وهي بهذا المعنى عند الفرس. وقد أخذ العبرانيون اللفظة من الفرس. وقد كتب "عمر" إلى "عثمان بن حنيف" في رجلين من أهل الذمة أسلما: "إرفع الجزية عن رؤوسهما، وخذ الطسق من أرضيهما". وعرف علماء العربية "الطسق" بأنه شبه الخراج، له مقدار معلوم، وما يوضع من الوظيفة على الجريان من الخراج المقرر على الأرض. وقد ذكروا أن اللفظة فارسية معربة.

وقد وردت لفظة "الخرج" و "الخراج" في القرآن الكريم، مما يدل على ان اللفظتين كانتا معروفتين عند أهل الحجاز قبل نزول الوحي على الرسول، وانهما كانتا من الألفاظ المستعملة عندهم في الأمور المالية المتعلقة بدفع الضرائب إلى الحكومات والى ذوي السلطان. ويرى بعض،المستشرقين ان الجاهليين أخذوا اللفظة من "بني إرم"،وانهم وقفوا على "خرجه"، "خرج" و "خرجا"، وحولوهما إلى "خرج" و "خراج".

ولما فتح المسلمون العراق و الشام،أبقوا النظم المالية والإدارية على ما كانت عليه في أول الأمر، لأنها نظم قديمة، لم يكن من السهل تغييرها و تبديلها، فكان "الخراج" في جملة ما أبقي من النظم المالية. وقد دفع عيناً أي غلة، فكان محتسب الخراج،يذهب إلى القرى عند دنو أجل دفع الخراج، فيأخذه من المزارعين عيناً، كأن يدفع بُرّاً أو شعيراً، أو مالاً، أي نقداً بالدنانير أو الدراهم. ثم غاب الدفع نقداً على الدفع عيناً،وصار هذا النقد مورداً مهماً من موارد بيت المال.

والجزية من الألفاظ المستعملة عند الجاهليين كذلك، بدليل ورودها في القرآن الكريم. وقد خصصت في الإسلام بما يؤخذ من أهل الذمة على رقابهم.

وقد كان الجاهليون يأخذون الجزية من المغلوبين، وكانت عندهم الضريبة التي تؤخذ عن رؤوس المغلوبين، يدفعونها إلى الغالب. فدفعتها القبائل المغلوبة للقبائل الغالبة، على أساس الرؤوس.

والظاهر أن المسلمين في صدر الإسلام لم يكونوا يفرقون بين الخراج والجزية،فقد استعملوا الخراج عن الرؤوس وعن الأرض، كما استعملوا لفظة "الجزية" بمعنى خراج الأرض، ورد في الحديث: " من أخذ أرضاً بجزيتها".

وأشار الطبري إلى أن "المثنى"،وضع على أهل الحيرة بعد كفرهم وارتدادهم "أربعمائة ألف سوى الحَرَزة". و يذكر علماء اللغة أن "الحرزة" خيار المال لأن صاحبها يحرزها ويصونها. والحرائز من الإبل التي لا تباع نفاسة بها.

وجعلها بعضهم "الخرزة". وقالوا انها نوع من جزية الرؤوس، كانت معروفة في زمن الأكاسرة،يؤديها كل من لم يدخل في جند الحكومة.

و "المكس"، دراهم تؤخذ من بائع السلع في أسواق الجاهلية. ويقال لجابي المكس: صاحب المكس،و الماكس و المكاّس.و المكس الجباية. و"الماكس" الذي يتولى المكس. قال العبديُّ في الجارود: أيا ابن المعلّى خلتنا أم حسبتـنـا  صراريَّ نعطي الماكسين مكوسا

وكان "الماكس"،ويقال له العشاّر،يشتط في كثير من الأحيان، ويظلم الناس في الجباية، إذ يزيد عليهم في المقدار، فكانوا لذلك مكروهين، حتى لقد ورد في الحديث:"لا يدخل صاحب مكس الجنة ".

وقد أشير إلى المكس والى الإتاوة التي تؤخذ من أسواق العراق في شعر "جابر ابنُُ حنيّ": أفي كلّ أسواق الـعـرِاق إتـاوة  وفي كلّ ما باع امرؤُ مكسُ درهم

فإن ملوك العرب كانت تأخذ من التجار في البرّ والبحر، وفي أسواقهم، المكس،وكانوا يظلمونهم في ذلك. ولذلك قال جابر بن حنيّ، وهو يشكو ذاك في الجاهلية ويتوعد، وهو قوله: ألا تستحي منّا ملـوك وتـتـقـي  محارمنا لا يبـوو الـدم بـالـدم

وفي كل أسواق الـعـراق إتـاوة  وفي كل ما باع امرؤ مكس درهم

ولهذا زعم الأعراب أن اللّه لم يدع ماكساً إلاّ أنزل به بلية، وأنه مسخ منهم اثنين ضبعاً وذئباً. فلهذه القرابة تسافدا وتناجلا،وإن اختلفا في سوى ذلك.فمن ولدهما السمع و العِسبار. وفي هذا المعنى قول الشاعر: مسَخَ الماكسين ضبعاً وذئباً  فلهذا تناجلا أم عـمـرو

وضريبة "العشر" هي ضريبة معروفة بين الجاهليين، فقد كانت الحكومات تتقاضى عشر ما حصل عليه التاجر من ربح في البيع والشراء، وكان المتولون أمور الأسواق يتقاضون العشر كذلك. وقد أشير اليها في كتابة قتبانية،حيث كانت حكومة قتبان تتقاضى هذه الضريبة من المعاملين في البيع والشراء،إذ كانت تأخذ عشر الأموال، وتوسعت في ذلك حتى عمت هذه الضريبة على كل ربح أو وارد يصيبه الرجل سواء أكان ذلك من البيع والشراء أم من الإجازة والإرث.

وقد كانت هذه الضريبة مقررة في كل جزيرة العرب وفي خارجها، ففي كل سوق من الأسواق عشارون يجبون العشر ممن يبيع ويشتري،بأمر المشرف على السوق ومن في أرضه تقام، ويقدم ما يجمع اليه. ومن أخذ العشر من التاجر، قيل لجابيه: العشار والمعاشر، وهو الذي يعشر الناس.

وقد كان التجار العرب الذين يقصدون بلاد الشام للاتجار في أسواقها يدفعون العشر إلى العشارين،ففي "بُصرى" وغزّة، وهما أشهر الأسواق في تلك البلاد بالنسبة إلى العرب، كان تجار العرب يؤدون ضريبة العشر إلى الجباة الذين عيّنهم الروم، كذلك كان يعشر أصحاب الأسواق من يفد عليها من التجار.

ويؤخذ العشر عيناً أو نقداً بحسب الثمن. ولما كان النقد قليلاً إذ ذاك كان الدفع عيناً هو الغالب في أداء هذه الضريبة. وقد أبطل الإسلام هذه الضريبة،وعدّها من سيماء أهل الجاهلية، وجعل رفعها من التخفيف الذي جاء به دين الله. وقد ذكر المحدثون أحاديث في إبطالها وفي ذم من يعشر الناس. بل ورد في بعضها جواز قتل العشّار. وبظهر ان أهل الجاهلية كانوا يشتطون في أخذها ويسرفون في ظلم التجار وأصحاب السوق في أخذها، فذموّا العشار وهجوه. ودعوا عليه. وقد ذكر بعض أهل الأخبار ان "سهيلاً" كان عشاراً على طريق اليمن ظلوماً، فمسخه الله كوكباً.

وكان مما يفعله العشّارون وضع "المآصر" على مفترقات وملتقيات الطرق وعلى المواضع المهمة من الأنهار ليؤصروا السابلة وأصحاب السفن، ولتؤخذ منهم العشور.

وقد عرف من،كان يقوم بالتقدير والخرص ب "الحازر" و الخارص ". لأنه كان يحزر المال ويقدر ما يجب أخذه منه ومن غلة الزرع بالحدس والتقدير.وكان الحازر يشتد في أخذ الخزرة ويتعسف على الناس. وقد نهى النبي عن ذلك والحازر مثل العشار والخارص من المكروهين عند الجاهليين. و "الخارص" المقدر والمخمن، ومنه خرص النخل والتمر، لأن الخرص، إنما هو تقدير بظن لا احاطة. وما يدفع عن الأرض والنخل الخرص. يقال:كم خرص أرضك،وكم خرص نخلك، وفاعل ذلك الخارص. وكان النبي يبعث الخرّاص لخرص نخيل خيبر عند ادراك ثمرها، فيحزرونه رطباً كذا وثمراً كذا.

وكان أهل الحجاز وبقية جزيرة العرب، يدفعون العشر عن غلات أرضهم. فلما جاء الإسلام، اقر ذلك، وجعل ارض العرب ارض عشر. ولم يدخلها الخلفاء في أرض الخراج.

ويعبر عن الضريبة التي تقابل ضريبة "الكمارك" في مصطلحنا،بلفظة Telos،و ب Telonion عن "الكمرك"،أي الموضع الذي تؤخذ به الضرائب "الكمركية" من التجار. وكان الرومان واليونان قد أقاموا "كمارك" على حدودهم مع البلاد العربية وضعوا فيها جباة لجباية العرب القادمين من جزيرة العرب للاتجار.

ولما كان من الصعب على الروم جباية العشور والحقوق الأخرى من العرب، وكلوا أمر الجباية إلى سادات القبائل والأمراء في الغالب، ممن يعتمدون عليهم وممن لهم قبيلة قوية تخشاها القبائل الأخرى، وقد كان أمد هذا الايكال يتوقف على أهمية الشخص ومكانته ومنزلة قبيلته، فإذا مات وترك خلفاً ضعيفاً،أو فقدت قبيلته سلطانها، حتى طمعت فيها قبائل أخرى أقوى منها، ووجدوا ألا أمل لهم في هذا الشخص، فإنهم ينبذونه ويعطون الجباية إلى شخص آخر. وقد كان "سلامة بن روح بن زنباع الجذامي"، أحد من أولى إليهم الروم العشور،وقد هجاه "حسان بن ثابت" فوصفه بأنه "دمية" في لوح باب،وانه بئس الخفير، وانه غادر خدّاع،ولا ينفك أي جذامي يغدر ويخدع ما دام "ابن روح" حياً.

وقد أقر العشر في الإسلام، ولكن بأسلوب آخر، فأخذ من "خثعم"،كما أخذ من أهل "دومة الجندل ". وأخذ أيضاً من حمير، فقد جاء في كتاب الرسول إلى رؤسائهم الحارث بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال والنعمان قيل ذي رعين ومعافر وهمدان: "وأعطيتم من المغانم خمس الله، وسهم الرسول وصفيه،وما كتب على المؤمنين من الصدقة من العقار، عشر ما سقت العين وسقت السماء، وعلى ما سقى الغرب نصف العشر. وإن في الإبل الأربعين ابنة لبون، وفيَ ثلاثين من الإبل ابن لبون ذكر، وفي كل خمس من الإبل شاة،وفي كل عشر من الإبل شاتان 000".وعقد مثل ذلك مع بني الحارث بن كعب.

والكلام على العشر في الإسلام، وعلى الأرضين التي كانت تدفع العشر، يخرجنا من بحثنا هذا، وللفقهاء كلام طويل مسهب في هذا الموضوع، فعلى كتب الخراج مثل كتاب الخراج للقاضي أبي يوسف وكتاب الخراج ليحيى بن آدم القرشي، وكتب الفقه والأحكام أحيل القارئ الراغب في الوقوف على العشر في الإسلام.

والعشر من الضرائب القديمة المعروفة عند الشعوب القديمة من ساميين وغيرهم،وتكاد تكون من أقدم الضرائب المعروفة في التأريخ،وهي "اشرو" Ish-ru-u في النصوص الآشورية و "معشير" Ma,asher، في العبرانية، وقد كان الآشوريون يتقاضون العشر من التمر والحبوب عيناً، كما كانوا يتقاضونه ذهباً.

وقد كانت معظم الشعوب الهندوجرمانية والسامية وغيرها تعشر أموالها: تعشر الماشية، والأثمار، وكل ما تملكه وما تضمه في الحرب،وتخصصه باسم آلهتها.فالعشر زكاة قديمة أدتها الشعوب الى آلهتها تقرباً اليها وتطهيراً لأموالها، فهي من أقدم الضرائب عند الإنسان.

وقد خصص العشر ب "يهوه" إلهَ اسرائيل وحده، يجمعها اللاويون باسمه،ولكننا نجد أن العبرانيين دفعوا العشر في بعض الأحيان إلى الملوك كذلك.

ويمكن رد الأسباب التي دعت العبرانيين إلى تخصيص العشر بالله "يهوه " إلى اعتقاد العبرانيين أن الله هو مالك كل شيء،وأن الأرض والعالم كله له، مانح الخصب والحياة، وأنه الكائن الأعلى، ولهذا خصصوا عشر ما ينتجه العبراني لله، ثم لسبب آخر نشأ فيما بعد،هو تقرب العبرانيين الى إلههم بهذا العشر،عبادة له وتقرباً اليه.وذلك كما يفهم من الآيات الواردة عن العشر في التوراة.

وتدفع القبائل الضعيفة إتاوة الى القبائل الكبيرة أو إلى الملوك، تكون بمثابة حق الحماية والاعتراف بالسيادة. ولهذا كانت القبائل التي لا تدفع إتاوة تتباهى وتفتخر لأن ذلك يدل على عزتها ومنعتها ويقال: إن الأوس والخزرج ابنيّ قيلة،لم يؤديا إتاوة قسط في الجاهلية الى أحد من الملوك. فلما كتب إليهم تبع يدعوهم إلى طاعته ويتوعدهم،لم يجيبوه،وتحارب معهم، ثم ارتحل عنهم.

وكانت للغطاريف على دوس إتاوة يأخذونها كل سنة، حتى إن الرجل منهم كان يأتي بيت الدوسي،فيضع سهمه أو نعله على الباب ثم يدخل.

ويقال للقوم الذين قهروا على أمرهم، واضطروا إلى أداء ضريبة لمن قهرهم "النخة"،وصاروا "نخة" له.

ولا بد لي من الإشارة هنا إلى جباية كانت الحكومات تأخذها عيناً عن الحبوب والزراعة، للإنفاق منها على إعاشة الجيش. وقد عرفت ب "س ا و ل ت"،"ساولت". ذكرت في النصوص السبئية والقتبانية. فهي ضريبة عينية تؤخذ من الزراعة، يجبيها موظفون يعرفون ب "ساولت"،فهم جّماع هذه الضريبة.

وكان ملاك الجاهلية قد وضعوا "الوضائع" على رعيتهم، من الزكوات والمغنم في الحروب،يستأثرون به. وقد أشير اليها في الحديث. ورد في حديث "طهفة بن زهير النهدي"، أن الرسول قال: "لم يا بني نهد ودائع الشرك و وضائع الملك. أي ما وضع عليهم في ملكهم من الزكوات. أي لكم الوظائف التي نوظفها على المسلمين لا نزيد عليكم فيها شيئاً. وقيل معناه: ما كان من ملوك الجاهلية يوظفون على رعيتهم ويستأثرون به في الحروب وغيرها من المغنم. أي لا نأخذ منكم ما كان ملوككم وظفوه عليكم، بل هو لكم".

و الوضائع: أثقال القوم. وأما الوضائع الذين وضعهم كسرى، فهم شبه الرهائن، كان يرتهنهم وينزلهم بعض بلاده. وقيل: الوضائع قوم كان كسرى ينقلهم من أرضهم فيسكنهم أرضاً أخرى، حتى يصيروا بها وضيعة أبداً. وهم الشحن والمسالح.

والودائع: العهود والمواثيق. ويحتمل أن تكون كل ما يستودع من رهائن، من مال وبنين، ليكون رهينة على الوفاء بالعهد والموعد.

وذكر "الجاحظ" ان في جملة ما ترك من ألفاظ الجاهلية التي لها صلة بالجباية والمال "الحُملان"، ويراد بها الرشوة وما يؤخذ للسلطان. والحُملان ما يحمل على الشيء من أجر، و "الحمالة" الدية أو الغرامة التي يحملها قوم عن قوم.

ويظهر من شعر العبديّ: أيا ابن المعلى خلتنا أم حسبتـنـا  صراريُّ نعطى الماكسينُ مكوسا

ان أصحاب السفن وهم "الصراريون"،كانوا يعطون المكس عن البضائع التي تحملها سفنهم، حين وصولها إلى المواني.

الأشناق والأوقاص

ودفع الجاهليون فى ضرائب أخرى، منها: "الأشناق" و "الأوقاص". وقد خص بعض العلماء "الأشناق" بالإبل: فإذا كانت من البقر، فهي "الأوقاص". وقد تحدث العلماء عن حدود الأشناق والأوقاص في الإسلام. وفي كتب الفقه أبواب خاصة بهما.

وكان منهم من تحايل في سبيل التخلص من أداء ما عليه من الأشناق و الأوقاص. وقد كتب الرسول إلى "وائل بن حجر": لا خلاط، ولا وراط،ولاشناق ولا شغار. وعينّ الرسول الحدود فيهما. و الوراط: الخديعة والغش.

وليس في استطاعتنا تعيين الضرائب المجباة، وتحديدها تحديداً مضبوطاً، فقد كانت تختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة. ثم إن العادة أن تؤخذ الضريبة من القبيلة أو العشيرة مجتمعة، أي ان رئيس القبيلة أو العشيرة هو الذي يتولى تقديم ما على القبيلة من ضرائب إلى الحكومة، ويختلف ذلك أيضاً بحسب صلة الرئيس بالحكومة، وبحسب قوته و مركزه السياسي لدى المسؤولين. والرئيس هو الذي يعين نصيب أفراد القبيلة من الضرائب، وذلك بعد اتفاقه مع الحكومة على ما هو مفروض على القبيلة دفعه لها، وبعد موافقة مجلس القبيلة على ما فرض على القبيلة دفعه إلى الحكومة.

هذه هي الضرائب التي كانت تدفع عن التعامل والاتجار. وهناك ضرائب أخرى أوجب دفعها إلى سادات القبائل في مقابل حماية القوافل وضمان مرور التجارة في أرضهمَ بأمان وسلام، وهي ضرائب حق المرور. وإلا تعرضت التجارة للنهب والسلب، وتعرض أصحاب القافلة للخطر والهلاك. ولحماية التجارة يتفق التجار عادة مع سادات القبائل التي تمر القوافل في أرضهم على دفع جعالة في مقابل تقديم الحماية لها والمحافظة على سلامتها، وبذلك تمر بأمن وسلام.

وفي "قتبان" نجد نفوذ المعبد على الأهلين كبيراً. وللمعبد أرضون واسعة تدرّ عليه دخلاً كبيراً، وله ضرائب تبلغ عشر الدخل والميراث والمشتريات.بالإضافة الى النذور والعطايا التي يتبرع بها الأغنياء له. وقد حفظت النصوص القتبانية وثائق عديدة تتعلق بما كان يتقاضاه المعبد من زكاة وأموال تزكيةً لأعمالهم ولأنفسهم، باسم الآلهة التي لها سلطان كبير على الناس.

ولما كانت النقود قليلة إذ ذاك، كان دفع الضرائب عيناً في الغالب. ويعبر عن ذلك ب "دعتم". أما إذا كان الدفع نقداً، فيعبر عن ذلك ب "ورقم".

أي "ورق".

وقد كانت الحكومة تضع يدها على المحصول أحياناً أو على البضاعة المهربة أو البضاعة التي يمتنع أصحابها عن دفع الضريبة عنها ويعبر عن ذلك ب "رزم".

تقدير الغلات الزراعية.

،كان تقدير حصة الحكومة من الغَلاّت الزراعية، بواسطة خبراء الحكومة وموظفيها المسؤولين عن جمع الضرائب، وذلك لأنهم كانوا يذهبون إلى المزارع والبساتين إبان إدراك النبات وقيل حصاده أو جَنيه، ثم يخمنونه ويقدرون مقدار ما يجب دفعه للحكومة. وطالما أدت هذه الطريقة إلى الأضرار بالفلاح، إذ يجوز أن يتعرض الزرع لآفات زراعية وللتلف والضرر، فيقل الحاصل كثيراً، ولا يستطيع تحمل دفع ما قدر عليه، ولكن جباة الضرائب يأخذون حصة الحكومة منه كما قدروها دون نقص، فإذا امتنع المكلف، أخذ حاصله حتى يستوفى منه ما قدروه عليه.

ولم يكن من حق الفلاح حصاد زرعه وحمله إلى مخزنه أو جني ثمر زرعه ونقله الى الأسواق والتصرف به ما لم يره جباة الضرائب لأخذ حصة الحكومة العينية. وقد استتبع هذا النظام تعيين عدد كبير من جباة الضرائب، وانشاء مخازن لنقل حصص الحكومة اليها. وتستهلك الحكومة جزءاً من هذا الحاصل، وتدفع قسماً منه إلى موظفيها فالمدفوع لهم، هو مرتباتهم وأجر عملهم. أما الباقي فيباع في الأسواق، أو يُصدَّ ر لبيعه في البلدان الخارجية، ولا سيما الحاصل المهم الثمين.

ويتقاضى المعبد في "معين" جملة ضرائب من الرؤساء وسائر الناس. لكل ضريبة اسم،مثل "كبودت" و "اكرب" و "عشر" و "فرع". وبعض هذه الضرائب تجبى عن حاصل الأرض وغلتها، وبعضها عن التجارة والأعمال الأخرىَ مثل الصناعات. ولم يشترط دفعها كلها عيناً أو نقداً، بل كانت تدفع عملاً أحياناً، أي أن المكلفين بدفع الضرائب وجمعها من أتباعهم يقدمون الفعلة والصناع وعمال البناء أحياناً إلى الحكومة، أو إلى المعبد، للقيام بالأشغال العامة بالمجان بدلاً من تقديم الضرائب نقداً أوعيناً. وذلك متى وافق المعبد على ذلك واعتبر الآلهة راضية عن انشاء ذلك العمل.

وكانت الحكومات العربية الجنوبية تتقاضى ضرائب عن المغازل ودور النسيج. ويظهر ان أهل الحجاز كانوا يعرفون هذه الضريبة أيضاً. وقد ورد ان الرسول فرض في كتاب لقوم من اليهود ربع المغزل، أي ربع ما غزل.

الركاز

أغلب العلماء في الإسلام ان الركاز دفين اهل الجاهلية، أي الكنز الجاهلي. وقال بعض العلماء الركاز المعادن كلها.فمن استخرج منها شئ فلمستخرجها أربعة أخماسه ولبيت المال الخمس. وكذلك المال العادي يوجد مدفوناً، هو مثل المعدن سواء، فحكم الركاز تأدية خمسه لبيت المال. أما بالنسبة إلى الجاهليين، فلا توجد عندنا نصوص جاهلية في بيان نصيب الحكومات منه.ويظهر من مطالبة سادات أهل مكة "عبد المطلب" بنصيبهم من الكنز الذي عثر عليه عند حفره بئر زمزم، ان حجتهم في المطالبة لم تكن تستند على قانون سابق، بل ارتكزت على ان الكنز لم يعثر عليه في أرض ملك، رقبتها لعبد المطلب، حتى يستأثر به، وانما عثر عليه في أرض مقدسة مشاعة، تخص البيت الحرام واهل مكة كلهم،لذلك وجب إشراك غيره به ومعنى هذا ان من يعثر على كنز في ملك له،يكون من حقه ونصيبه، لا تشاركه قريش فيه. وقد وجد "عبد الله بن جدعان" كنزاً، سبق ان أشرت اليه، فلم يعط سادة قريش منه شيئاً، وكان من عادة،اهل مكة نبش المواضع العادية بحثاً عن الكنوز، ولم تجد في الأخبار المروية عن ذلك ما يفيد بمشاطرة قريش لمن يعثر على كنز،معنى ان من يستخرج شيئاً من الدفائن يكون ما يستخرجه من نصيبه، لا تأخذ مكة منه نصيبا. وكيف تتمكن من ذلك، لأن من يعثر على كنز لا يظهره للناس، خشية اغتصابهم له.وان من شاهد أحداً يستخرج كنزاً استعمل حق القوة في الاستحواذ عليه أو على نصيب منه.

النذور والصدقات

وما تحدثت عنه هو الضرائب المفروضة التي يجب على من تشمله دفعها. أما النذور والصدقات، فهي هبة يقدمها المتمكن طوعاً للتقرب إلى آلهته أو شعوراً بمسؤولية أدبية يقتضيه واجب المروءة تجاه الضعفاء. والصدقة: ما تصدقت به على الفقراء وقد أشير اليها في القرآن الكريم. وقد تؤدي معنى "الزكاة".ووردت في معنى "المهر" أيضاً أي الصداق الذي يقدم إلى المرأة. ويظهر أن الجاهليين كانوا يستعملونها في معنى التصدق على المحتاج والسائل.

وأما الزكاة، فهي ما يخرج من المال لتطهيره، فهي تزكية اختيارية للمال وطهارة له. وقد جعلها الإسلام فريضة على المسلم المتمكن بحسب الأنصبة المقررة في الشرع. وهي "زكوتو" Zakutu عند البابليين. وقد نص عليها في العهد القديم. وهي أن يقدم أصحاب الزرع من أول ثمرهم إلى الكاهن ليقدمه إلى الرب، وأن يسمح للفقراء بالتقاط ما يجدونه على الأرض مهملاً من بقايا الزرع،وأن يعطى الكهنة واليتامى والفقراء والغرباء والأرامل والمحتاجين عشر محاصيل الأرض. وقد كثرت الإشارة اليها في العهد الجديد.

وإذا اعتددنا العشر الذي كان يقدمه العرب الجنوبيون إلى المعبد من حاصل عملهم، لصرفه على المعبد وفي الأعمال الخيرية زكاة، ففي استطاعتنا أن نقول إنها كانت مفروضة على المتمكن فرضاً، أي على نحو ما تجده في الإسلام. غير ان من الجاهليين من كان يقدم زكاة المال من ماشية وإبل وزرع طوعاً واختياراً تقرباً إلى الآلهة، يقدمها إلى المعابد تخصيصاً باسم الأصنام. ومن هذا القبيل السائبة والحامي الوصيلة ونحو ذلك، مما خصصه الجاهليون لآلهتهم تطوعاً، وذلك تزكية لأموالهم وأملاً في نماء أموالهم الجديدة وحدوث البركة فيها.

السخرة

وكان من حق الدولة وسادات الأرض والقبائل تسخير الناس في الأعمال التي يريدون القيام بها بلا عوض ولا أجر ولا دفع مقابل عن العمل الذي يؤمرون القيام به. ونظام السخرة شائع معروف عند جميع الأمم. وقد كان معمولاّ به عند بعض الشعوب الى عهد قريب. فكان من حق الحكومة إكراه أتباعها وأخذهم بالقوة وسوقهم للقيام بأداء أي عمل تريده. وفي ضمن ذلك المباني العامة و القصور.

وبها تم انشاء معظم المباني الفخمة مثل الأهرام والمعابد، حيث لا يكلف العمل بهذه الطريقة الحكومة كثيراً، فالعمال مسخرون لا يدفع لهم شيء، وعليهم أداء عملهم بسرعة و حمل أكثر ما يمكن حمله،و الا انهالت عليهم سياط المراقبين.

ويدخل في هذه السخرة، السخرة العسكرية، أي القبض على أي شخص عند الحاجة وسوقه الى القتال، وذلك من غير مقابل أيضاً. وقد كابد سواد الناس منها عنتاً شديداً لفقرهم ولعدم وجود شيء عندهم تعتمد أسرهم عليه في،معيشتها إذا غاب المعيل أو مات، ولهذا لم يحارب المحاربون إلا قصراً وخشية ورهبة، وكانوا يهربون من هذه "السخرة" بالرغم مما قد يتعرض له الهارب من عقوبة شديدة قد تصل إلى القتل.

واجبات الدولة

واجبات الدولة كثيرة، فإن عليها ان تحفظ الأمن في الداخل، وتحمي الحدود من مهاجمة الأعداء لها، وتصد كل غزو يقع عليها، وعليها ان تحقق العدالة، وتقتص من الجناة وتعاقب المجرمين، وعليها أن تقيم الأبنية العامة وتفتح الطرق، إلى غير ذلك من الواجبات التي نعرفها عن الغاية من نشوء الحكومات.

ونحن لا نستطيع ان نتحدث في الزمن الحاضر عن جهاز حفظ الأمن الداخلي،أي جهاز "الشرطة" الذي تناط به مهمة القبض على المجرمين وتعقب اللصوص والقتلة وما إلى ذلك من شؤون لعدم ورود شيء عن هذا الموضوع في الكتابات.

ولكننا لا نستطيع نفي وجود علم للجاهليين الحضر بالشرطة. فلا بد وان يكون لهم علم بأجهزة الأمن المخصصة بالقبض على المجرمين وتعقب آثارهم، أي الشرطة. وقد كان لهم اتصال بالعراق وببلاد الشام. ويظهر من كتب اللغة ان لفظة " الشرطي" و "شرطة" كانت معروفة بين الناس عند ظهور الإسلام. "وفي حديث ابن مسعود: وتشرط شرطة للموت لا يرجعون إلا غالبين. وهم أول طائفة من الجيش تشهد الوقعة، وقيل: بل صاحب الشرطة في حرب بعينها".

وقد كان لملوك الحيرة سجون يسجنون بها من يتجاسر عليهم ومن يخالف أمرهم ويعارضهم ويخرج على العرف. ومن سجونهم "الصنّين". وفيه سجن "عدي بن زيد العبادي". وقد ذكر انه كان موضعاً بظاهر الكوفة. وذكر بعضهم انه بلد، ذكره الشاعر بقوله: ليتَ شعري ! متىَ تخِبّ بي النا  قة بين العُذيَب فالـصِـنّـين

ولم يعين موضعه. ويظهر انه لم يكن بعيداً عن الحيرة. ولعله كان حصناً حصيناً منعزلاً عن الناس،به حرس كثيرون يحرسونه، لهذا اتخذ سجناً ومحبساً.

ويظهر من شعر لعدي بن زيد العبادي،ان ملوك الحيرة، كانوا قد نظموا

لهم حرساً يحرسونهم ويحرسون مؤسسات الحكومة المهمة مثل "السجون"،والأشخاص المسؤولون عن الأمن والأخبار، ليرسلوا ما قد يحدث من أمور إلى الملوك والحكام.

وقد عرف "العسس" عند الجاهليين أيضاً، وهم المسؤولون عن حفظ الناس من أهل الريبة والكشف عنهم. والعُس: نفض الليل كل عن أهل الريبة. وكان الخليفة "عمر" يعس بالمدينة، أي يطوف بالليل يحرس الناس ويكشف اهل الريبة.

البريد

وقد عرف "البريد" بين الجاهليين. ويذكر علماء اللغة أن اللفظة من الألفاظ المعربة عن الفارسية، وأن أصلها "بريده دم"، أي محذوف الذنب، لأن بغال البريد كانت محذوفة الأذناب كالعلامة لها، ثمُ سمي الرسول الذي يركبه بريداً، والمسافة التي بين السكتين بريداً. والسكة موضع كان يسكنه "الفُيوج" المرتبون من بيت أو قبة أو رباط، وكان يرتب في كل سكة بغال، وبعد ما بين السكتين فرسخان، وقيل أربعة. فالبريد إذن بمعنى رسول،وموضع البريد، والشئ الذي يرسل مع البريد، أي الرسول حامل البريد، ودابة البريد.

إني أنصُّ العيس حتى كأنني  عليها بأجواز الفلاة، بريدا

ومن أعمال صاحب البريد إرسال الأخبار إلى من عينهم في هذا المنصب، فهم موظفون مخبرون، من اعمالهم اطلاع كبار الموظفين والامراء والملوك على الاحوال العامة للمكان الذي يقع في ضمن عملهم واختصاصهم، وأخبار الجهات المسؤولة عن الأعمال المشبوهة التي قد تدبر ضد الدولة، وعن تصرفات كبار الموظفين، خشية انفرادهم في الحكم واعلانهم العصيان على الدولة.

ونسب "الجاحظ" إلى " امرىء القيس" قوله: ونادمت قيصر في ملكه  فأوجهني وركبت البريدا

إذا ما ازدحمنا على سكة  سبقت الفرانق سبقاً بعيدا

وقد نسب غيره إلى "امرىء القيس" أيضاً قوله: على كل مقصوص الذنابي معاودٍ  بريد الشرى بالليل، من خيل بربرا

ومعنى هذا، إن صح بالطبع أن الشعر المذكور هو لامرىء القيس حقاً، أنه عرف البريد واستعمله، وقد رأى خيل البريد. وهي تقص ذنابها ليكون ذلك علامة على انها من خيل البريد.

وقد اشير الى البريد في الحديث: جاء " لا تقصر الصلاة في اقل من اربعة برد "، وهي ستة عشر فرسخاً، والفرسخ ثلاثة أميال، والميل أربعة آلاف ذراع. وورد في إلحديث أيضاً "لا أخيس بالعهد ولا أحبس البرد"، اي لا احبس الرسل الواردين علي. وورد إذا أبردتم الي بريداً فاجعلوه حسن الوجه حسن الاسم. وعرفت الطرق التي يسير بها رسل البريد ب "سكك البريد". كل سكة منها اثني عشر ميلاً.

وقد أشير إلى البريد في فى شعر ينسب إلى "ورقة بن نوفل"، يقال انه قاله حينما مات "عثمان بن ألحويرث" عند "ابن جفنة الغساني"، فاتهمت بنو أسد "ابن جفنة" بقتله. وعرف "أبو قيس" ب "راكب البريد".

وتحدث "الجاحظ" عن "البريد" في أيام الساسانين، فقال: "وكانت البُرد منظومة إلى كسرى،من أقصى بلاد اليمن إلى بابه،أيام وهرز،وأيام قتل مسروق عظيم الحبشة "ْ. "وكذلك كانت برد كسرى إلى الحيرة: إلى النعمان والى آبائه. وكذلك كانت برده إلى البحرين: إلى المكعبر مرزبان الزارة، والى مشكاب، والى المنذر بن ساوى، وكذلك.كانت برده إلى عمان، والى الجلندي بن المستكبر. فكانت بادية العرب وحاضرنها مغمورتين ببرده، إلا ما كان من ناحية الشام ؛ فإن تلك الناحية من مملكة خثعم وغسان ألروم، إلا أيام غلبت فارس على الروم، ولذلك صرنا نرى النواويس ب الشام ات إلى القسطنطينية.

وهل كانت برد كسرى إلى وهرز، وباذام،وفيروز بن الديلمي والي اليمن، والى المكعبر مرزبان الزارة، والى النعمان بالحيرة، إلا البغال ? وهل وجدوا شياً لذلك أصلح منها".

فالبغال هي وسيلة نقل البريد في ذلك الوقت. تتوقف في محطات البريد لتبدل البغال التعبة ببغال أخرى، وليبدل حملة البريد كذلك. وهكذا إلى آخر محطة. فهي سكك تمتد مسافات طويلة.ولما كان من الصعب على البغل اختراق الصحارى ذات الرمال البعيدة الغور والتي تقل فيها المياه، لزم أن تكون طريق البريد ممتدة في الأرضين التي يكثر وجود الماء فيها، وتتوفر فيها الآبار، وفي مواضع مأمونة قليلة الرمال.

ويظهر أن الجاهليين قد أخذوا نظم بريدهم من الفرس، وأن ملوك الحيرة

وغيرهم استخدموها في ادارتهم لدولتهم، بدليل ما يذكره علماء اللغة من أن لفظة "البريد" كلمة فارسية عربت فصارت على هذا النحو. واصها "بريده دم"، أي محذوف الذنب، لأن بغال البريد كانت محذوفة الأذناب كالعلامة لها،فأعربت وخففت، ثمُ سميّ الرسول الذي يركبه بريداً. والمسافة التي بين السكتين بريداً، والسكة موضع كان يسكنه الفيوج المرتبون من بيت أو قبهَ أو رباط، وكان يرتب في كل سكة بغال، وبعد ما بين السكتين فرسخان، وقيل أربعة ولعل ما ورد في شعر امرىء القيس من "على كل مقصوص الذنابيّ"، إشارة إلى تفسير كلمة "بريده دم".

وقد ذكر علماء اللغة ان "الفيج" رسول السلطان على رجله، فارسي معرب. وقيل هو الذي يسعى بالكتب. والجمع "فيوج" واشاروا الى ورودها في شعر لعدي بن زيد، زعموا انه قاله هو: ام كيف جزت فيوجاً، حولهم حرس  ومريضاً، بابه بالشـك صـرار?

قيل الفيوج الذين يدخلون السجن ويخرجون يحرسون.

ويظهر أنهم فَرّ قوا هنا بين "البريد"، أي الرسول الراكب، الذي ينقل البربد إلى مسافات، وبين "الفيج" الرسول الذي يسير على رجليه، وهو لا يمكن بالطبع أن يقطع أميالاّ كثيرة. فهوبريد محلي ينقل الاخبار الى مسافات غير بعيدة. وقد يكون مخبراً، ينقل ما يحدث ويقع بسرعة إلى المراجع العالية. فالفيوج، لصوص الأخبار وبريد ماشٍ ينقل الكتب إلى الجهات المختصة في الوقت نفسه. ويظهر من شعر "عدي" المذكور، أن "الفيوج" كانوا يقفون للناس بالمرصاد، براقبون الحركات ويدرسون السكنات حولهم حرس منتبه، يحرسونهم من احتمال محاولة أعداء الحكومة ايقاع أي أذى بهم، أو الدخول أو الخروج إلى الأماكن الحساسة التي كانوا يلازمونها، ويسترقون أخبارها واخبار من يدخل ويخرج منها.

وأما الأبنية العامة،مثل المباني الحكومية، فقد كانت الحكومات العربية الجنوبية تقوم مستقلة بانشائها، وتنفق عليها أموالها ومن مواردها الخاصة. وتقوم بإنشائها بالاتفاق مع السلطات الدينية في أحيان أخرى. بأن تسهم تلك السلطات في تحمل نفقات البناء كلها أو جزء منها وقد يكون ذلك في مقابل نزول الحكومة عن بعض الحقوق إلى المعبد. وقد تقوم الحكومة بإنشائها بالأتفاق مع كبار المتمولين، أصحاب الأرض والثراء.

وتقوم المدن والقبائل والحكومات بالاستدانة من أموال المعبد ومن الضرائب التي تدفع اليها، للانفاق منها على إقامة الأبنية العامة والمشروعات الأخرى، على أن تعاد تلك الديون الى المعبد. ولم ترد في الكتابات اشارات إلى موقف المعابد من هذه الديون: أكانت تتقاضى أرباحاً عليها أي ربا، أم كانت تعطيها قرضاً حسناً من غير فائض. ويعبر عن ضرئب المعبد التي نجبى من الناس بلفظة "كبودت". وأما الدين، فيعبر عنه ب "دينم" "دين" كذلك، كما جاء في هذه الجملة: "بكبودت دين عتثر"، أي "بالضرائب التي داينها"أقرضها" الإله عتثر".

حماية الحدود

ومن واجبات الدولة تثبيت حدودها والمحافطة عليها من كل اعتداء، وذلك بمراقبة الحدود ووضع حاميات عسكرية عليها، من "مسالح" و "مناظر" وبناء قلاع في الثغور لحمايتها من المغيرين وصدهم. وتبنى هذه التحصينات في الخطوط الأمامية وعلى مبعدة من الأماكن الكبيرة المأهولة حتى يكون في وسعها صد المغيرين، أو وقفهم حتى تأتي نجدات كبيرة من الجيوش لمحاربة الغزاة، ويكون في وسع أهل القرى والمدن الهرب بأنفسهم وأموالهم إلى مواضع آمنة.

و "المسالح" مواضع المخافة. والمسلحة كالثغر والمرَْقب يكون فيها أقوام يرقبون العدو لئلا يطرقهم على غرة، فإذا رأوه أعلموا أصحابهم ليتأهبوا له. ومسلحة ألجند خطاطيف لهم بين أيديهم ينفضون لهم الطريق، ويتجسسون خبر العدو ويعلمون علمهم، لئلا يهجم عليهم، ولا يدعون واحداً من العدو يدخل بلادهم. وذكر انه كان أدنى مسالح فارس إلى العرب "العذُيب". فالمسالح اذن، هي الخطوط الأمامية من خطوط الدفاع عن بلد ما، ونقاط الأمان فيها، ومحل جمع المعلومات عن تحركات ونيات العدو. بها حاميات مقيمة وظبفتها الأولى الاستطلاع واخبار الجيش بقدوم عدو ما، ومشاغلته إلى وصول القوات المدافعة الكبيرة.

و "المنظرة" "موضع الربيئة" وهي المرقبة، وتكون في مواضع مشرفة مثل رأس تل أو جبل يبنى عليه بناء يجعل فيه رقباء ينظرون العدو ويحرسونه، ليتوقوا غدره وشره. فإذا أراد الاغارة، أرسلت "النظيرة" "النظورة" رسالة تحذير للتهيؤ لصد العدو. والظاهر ان اتخاذ المناظر في المواضع العالية المشرفة، هو الذي جعل علماء اللغة يفسرون المناظر بأنها أشراف الأرض لأنه ينظر منها.

و "المراقب" و "المرقبة" الموضع المشرف، يرتفع عليه الرقيب، و"الرقيب" الحارس الحافظ، و "رقيب القوم": حارسهم، وهو الذي يشرف على مرقبة ليحرسهم. وذكر علماء اللغة ان المرقبة هي المنظرة في رأس جبل أو حصن، فهي في المعاني المتقدمة.

و "الثغر" الموضع الذي يكون حداً فاصلا" بين الحكومتين. وهو موضع المخافة من أطراف البلاد. و "الثغرة": الثلمة،" وكل فرجة في جبل أو بطن أو طريق مسلوك. ويظهر من هذا التعريف ان الثغور هي المواضع الخطرة من الحدود، لأنها تكون بمثابة الفرجة أو الثلمة فيها يتسنى للعدو منها التسلل بسهولة الى أرض عدوه، ولهذا تجب حراستها والعناية بها، بوضع حاميات بها لتشغل العدو ولتصده من الولوج اليها.

وقد أقام الفرس والروم "مناظر" على حدودهم، على أبعاد لا يكون ما بينها بعيداً حتى يكون في وسع حماة "المناظر" أن يتعاونوا، ويقسموا العون للمنظرة التي تهدد بالخطر. وأقام الروم "طرقاً" ممهدة بين هذه المناظر، ليسهل على القوات السير عليها بسرعة لنجدة المناظر وحماية الحدود.

وتلجأ الحكومات إلى اقامة استحكامات أخرى لوقاية الحدود من مهاجمة عدو لها، مثل اقامة الخنادق في بعض المواضع الخطيرة المهددة من الحدود لمنع المغيرين من عبورها، كالذي يذكره أهل الأخبارعن "خندق سابور" الذي أقامه لمنع الأعراب من العبور بقصد الغزو، ومثل اقامة بعض الحواجز والأسوار في الممرات والأودية، وربايا في المواضع المشرفة، لمراقبة حركات الأعداء وصدهم من المرور من هذه الأماكن.

ضرب النقود

ذكرت فيما سلف أن ملوك العرب الجنوبين، ضربوا النقود، وأن في المتاحف وفي الخزائن الخاصة ببعض الناس نقوداً تعود إلى أولئك الملوك. أما بالنسبة إلى الأماكن الأخرى مثل مكة أو يثرب، فإننا لا نستطيع ان نتحدث بأي شيء عن ضرب النقود عندهم، لعدم عثور العلماء على نقد ضرب في هذه الأماكن، ولعدم ورود إشارة إلى وجود ذلك في موارد أهل الأخبار. والذي يستخلصى من هذه الموارد ان أهل تلك المواضع، كانوا يتعاملون بعملة الروم والفرس. وهي الدنانير والدراهم. كما سأتحدثء عن ذلك في الموضع المناسب عندما سأتحدث عن الأحوال الاقتصادية. ولم أجد في روايات أهل الأخبار ما يشير الى تعامل أهل مكة أو يثرب بنقود حبشية أو بنقود ضربت في العربية الجنوبية، ولم أجد فيها ولا في كتب السير والتواريخ أن المسلمين ضربوا النقد في ايام الرسول.

ولم أسمع بضرب ملوك الحييرة أو الغساسنة للنقود، ولم يعثر الباحثون كما أعلم - على نقد ضرب في عهود هؤلاء الملوك. والظاهر أنهم كانوا يتعاملون بالعملات الفارسية والرومية. وربما كان الفرس والروم قد منعوا أولئلك الملوك من ضرب النقود، لبواعث سياسية واقتصادية. ولكني لأ أريد ان أجزم بأن ا "آل لخم" و " آل غسان" لم يضربوا النقد بتاتاً، استناداً الى عدم وصول نقد ضرب في أيامهم الينا حتى هذه الأيام، أو إلى عدم اشارة أهل الأخبار إلى وجوده عندهم، فقد يعثر في المستقبل على نقود تعود إلى أيامهم، هي الان في مخابئها، مسفونة تحت الأتربة، ثم إن أهل الأخبار لم يتحدثوا عن كل شيء، حتى نتخذ سكوتهم عن ضرب ملوك الحيرة والغساسنة للنقود حجة على عدم وجود ضرب السكة عندهم.

والسكة: حديدة منقوشة كتب عليها يضرب عليها الدراهم. والضرب الطبع، يقال: ضرب الدرهم، أي طبعه، على سبيل المجاز. و "اضطرب، بمعنى سأل ان يضرب له. وفي الحديث انه صلى الله عليه وسلم، اضطرب خاتماً من حديد. أي سأل ان يضرب له ويصاغ ". والنقد تمييز الدراهم واخراج الزيف منها وأما الطبع فالسك. يقال طبع السكّاك الدرهم أي سكه. وهناك مصطلحات أخرى لها صلة بالنقد، ترد في كتب الحديث واللغة يظهر منها، أنه قد كان للجاهليين ولأهل مكة بصورة خاصة وقوف على النقد، وانهم كانوا يتعاملون بها، ولهم علم بكيفية صنعها.

قواعد السلوك

وللجاهليين اداب اصطلحوا عليها بالنسبة لتعاملهم مع الملوك وسادات القبائل، فمن قواعدهم المقررة: ان الملوك لا تجز نواصيهاْ. وذلك لأن جزّ النواصي بالنسبة للعرب تعبير عن الازدراء بالشخص الذي جزت ناصيته، ولما كان للملوك حرمة، فلا تجزّ نواصيهم، ولا تجزّ نواصي سادات القبائل كذلك. وقد حدث ان جزّت نواصي بعض الملوك، أو اخوتهم، أو أبنائهم، أو سادات القبائل، إلا ان هذا العمل هو عمل شاذ، لا يقدم عليه، إلا لأن العداوة بين الملك وبين من قبضوا عليه أو على أقربائه أو سادات القبائل، كانت عداوة شديدة عميقة، بحيث جاوزت حد العرف فخضعت لأحكام العواطف والاْهواء.

ومن قواعد اداب السلوك التي يجب على الملوك وسادات القبائل بل على كل انسان التأدب بها والتمسك بقواعدها، تجنب الغدر وإذا كان الغدر عيباً بالنسبة للسوقة وللسواد، فكم يكون الغدر معيباً بالنسبة للملوك ولسادات القبائل ولكرام الناس.

العلاقات الخارجية

لم تصل الينا حتى الآن نصوص في أصول آداب السلوك بالنسبة للعلاقات الخارجية بين الدول،أي علاقات ما بين حكومات الدول العربية والدول الأجنبية.

ولا نعرف لذلك طرق العرف السياسي الذي كان متبعاً عندهم فيَ استقبال "الرسل" و الوفود" الذين كانوا يفدون على قصور الملوك بأمر من ساداتهم ملوك الحكومات الأجنبية من أعاجم وعرب. ولكننا نستطيع ان نقول قياساً على المألوف عند العرب، انهم كانوا يبالغون في إكرامهم وفي ضيافتهم، وفقاً للتقاليد العربية ولظروفهم وامكانياتهم المحلية. وكانوا يستمعون بإنصات إلى كلامهم، ثم يردون عليهم رداً جميلاّ، إن حاز كلامهم موقعاً حسناً في نفوس الملوك، ورداً يناسب ما جاء في خطاب الرسل من تهديد أو وعد ووعيد، إن استعملوا التهديد وألوعد في خطبهم. ومتى عادوا اكرموا إكراماً خاصاً، ومنحوا ألطافاٌ وهدايا على الطريقة المتبعة في ذلك العهد، وقد يحملون أولئك الرسل هدايا خاصة لمن أوفدهم اليهم، يرفقونها بكتب جوابية في بعض الاحيان، أو برسائل شفوية تبلغ للرسل ليبلغوها هم لساناً أو كتابة الى موفديهم.

و "الوفد"، القوم الغادمون للقاء العظماء، وجماعة مختارة للتقدم في لقاء العظماء. ويقال وفده الأمير الى إلأمير الذي فوقه، أي ورد رسولاً. وقد كان سادات القبائل يرسلون وفوداً عنهم الى إلملوك أو إلى سادات قبائل أخرى في مهام مختلفة، مثل عقد حلف أو تفاوض أو تهديد لإعلان حرب أو لتهنئة أو لتعزية أو لبيعة وما شاكل ذلك من أمور. وقد اخذت الوفود تترى على الرسول بيثرب لما استحكم وإشتد أمر الإسلام.

وقد يكون. الرسول المرسل إلى بلاد العرب لا يعرف العربية، فيكون من الضروري إرسال مترجم معه يتقن العربية، ليقوم بأعمال الترجمة. وقد دوّنت الموارد اليونانية أسماء بعض الرسل الذين أرسلهم ملوك البيزنطيين الى اليمن أو إلى الغساسنة أو المناذرة، للقيام بمهمات خاصة، ولاجراء مفاوضات في أمور تتعلق بالمصالح اليونانية العربية،وقد نصوا أيضاَ على أسماء بعض، المترجمين الذين رافقوهم إلى ملوك العرب أو الى سادات القبائل. ويظهر أنهم كانوا يختارونهم من رجال الدين النصارى الذين كانت لهم صلات وعلاقات وثيقة بالعرب، ومنهم من كان من أصل عربي.

وكان من عادة سادات القبائل والملوك العرب، انهم إذا أرادوا ارسال ممثل عنهم الى الحكام الأجانب، لمفاوضاتهم في امور تخصهم، اختاروا من عرف بالذكاء والفطنة من أتباعهم للقيام بهذه المهمات التي تحتاج إلى ذكاء ولباقة وحسن تصرف. وهم في هذا الباب مثل غيرهم يراعون أن يكون رسولهم ممن يتقنون لغة من سيرسل اليه، وان يكون من خواصهم ومن أتباعهم، حتى لا يبوح بأسرار مهمة لأعدائهم. وأما إذا تعذر هذا الشرط، فكانوا يختارون مترجمين ثقات عرباً أو عجماً لمرافقة الرسول، وللتكلم بلسانه، ولنقل ما يقوله الأعاجم للرسول. ونجد في الموارد اليونانية ان عرب بلاد الشام، أرسلوا رجال دين عنهم الى حكام بلاد الشام أو الى القسطنطينية لمفاوضة الروم في المهمات التي كانوا يكلفون بها. ويظهر أنهم إنما لجأوا الى هؤلاء، لأنهم كانوا يتقنون اليونانية ولأنهم نصارى، والروم نصارى كذلك. ولبعضهم صلات برجال الكنيسة في القسطنطينية، فيساعد الدين في تسهيل حل ألمشكلات.

وقد يذهب ملك عربي أو سيد قبيلة لزيارة الحكاّم الأعاجم في مواضع حكمهم، أو في أماكن أخرى يتفقون عليها. فإذا لم يكن متقناً ذلك الملك أو سيد القبيلة للغة الحاكم الذيَ سيزوره أخذ مترجماً معه ليكون لسانه الناطق باسمه واذنه التي تفسر له أقوال الحكّام والأجانب. ويظهر من الموارد اليونانية أن من الملوك الغساسنة من كان يتقن اليونانية، فلما زار بعض منهم القسطنطينية، تكلم بها وتباحث مع رجال الدين الييزنطيين في أمور اللاهوت بهذه اللغة.

والقاعدة العامة في العرف السياسي عند الجاهليين، أن الموفد لا يهان و لا يعتدى عليه ولا يقتل. وكذلك كان هذا العرف سارياً على رسل الملوك وسادات القبائل وعلى الوفود التي ترسلها القبائل إلى الملوك أو الرسل الذين يرسلهم سادات القبائل بعضهم إلى بعض.وطالما نقرأ في كتب اهل الأخبارجملاً مثل: " لولا أنك رسول لقتلناك "، تشير إلى احترام العرب لرسالة الرسل والموفدين. وقد كان بعض الرسل يسيئون الأدب أو لا يحسنون التصرف مع من أرسلوا اليه، فيثيرونهم، ومع ذلاك، فإن من يهاج منهم يحاول جهد إمكانه ضبط نفسه، والتحكم في أعصابه، حتى لا يتههور على الرسول، فيتهم بسوء الأدب بإهانة ضيفه،اويتهم بالغدر. وإذا كان بعضهم قد غدر بالرسل،فإن هذا الغدر لا يمثل العرف العام، وإنما هو غدر، والغدر لؤم، وقد يقع اللؤم من لئيم.

ولفظة "رسول" والجمع "رسل" هي من الألفاظ العربية القديمة المستعملة في عالم السياسة عند العرب. وردت في نص "أبرهة"، الذي أشار فيه إلى وفود أتت، اليه من مأرب لتهنئته بمناسبة اتمامه سد "مأرب"، فكان من بينهم رسل النجاشي وملك الروم وملك الفرس وملك الحيرة "المنذر" وملك الغساسنة "الحارث بن جبلة" و "أبو كرب بن جبلة". وفي هذا النص ملاحظة مهمة جداً جديرة بالعناية إذ أطلق هذا النص على مندوب النجاشي وملك الروم لفظة "محشكت" أما رسل الملوك العرب المذكورين فقد أطلق عليهم اللفطة العربية "رسل". أي ا، أنه استعمل ثلاثة مصطلحات سياسية في هذا النص لمفهوم واحد، هو رسل أرسلوا من ساداتهم لحضور ذلك الاحتفال.

وقد يذهب الظن إلى ان النص إنما استعمل تلك المصطلحات الثلاثة، لأنها مصطلحات للغات أولئلك الموفدين، فاستعمل لفظة "محشكت" لأن الحبش كانوا يطلقونها على معنى "رسول" في لغتهم وهذا كلام معقول، ولكن ما باله أطلق تلك اللفظة على رسول ملك الروم ايضاً مع انها كلمهّ غريبة عن اليونانية لم يستعملها اليونان، ولم يستعمل النص المصطلح الرسمي اليوناني المستعمل في اليونانية للسفير ? ثم ما بال النص يطلق لفظة "تنبلت" على رسول ملك الفرس، واللفظة أيضاً غير فارسية وغير مستعملة عند الساسانيين أفلا يدل ذلك على أن النص لم يأخذ بالمصطلحات السياسية المقررة عند الحبش والروم والفرس للسفير، وإنما اخذ بشيء اخر، هو اهم من ذلك بكثير، لا صلة له بما ذهب هذا الظن اليه، بل لسبب سياسي مهم، هو ان مندوب ملك النجاشي في نظر ابرهة اهم وأقدم في المنزلة من أي مندوب آخر من المندوبن الذين وصلوا اليه، لذلك قدّمه في الذكر على بقية المندوبين، وأطلق عليه لفظه "محشكت"، لأنها في معنى رسول ذي أهمية كبيرة، وله ميزات على الرسل الاخرين، فهو رسول ملك له صلة خاصة قوية، به، ثم ثنى بذكر رسول ملك الروم، لأن الروم أصدقاء وحلفاء الحبش وأبرهة ولهم صلات قوية به، ثم ان ملك الروم مثل ملك الحبشة وأبرهة على النصرانية، فبينه وبين الروم رابطة الاخوة بالدين، فذكر لذلك مندوبهم بعد مندوب النجاشي واستعمل لفظة "محشكت"، لما لهذه الكلمة من معنى خاص في معجم ألفاظ السياسة. وذكر مندوب ملك الفرس بعد مندوب ملك الروم، لأن صلة الفرس بالحبش، لم تكن على درجة صلة الروم بهم، ثم انهم يختلفون عنهم في الدين ويعارضونهم في السياسة، لذلك أخره عن مندوب الروم، وأطلق عليه لفظة تشير إلى أنها دون لفظة "محشكت" في الدرجة والتقدير. ولكنها فوق لفظة "رسل" "رسول" "رسل" في الأهمية والدرجة والمكانة على كل حال.

لأن ملوك الفرس أكثر شأناً في عالم السياسة من المنذر ومن الحارث ومن أبي كرب لذلك استعمل هذه اللفظة لرسول ملك فارس واستعمل كلمة "رسل" لمندوبي الملوك العرب.

وفي العربية لفظة أخرى تؤدي معنى "رسول"، هي لفظة "سفير". ويذكر علماء العربية أن السفير: الرسول والمصلح بين القوم. وكان أهل مكة إذا وقعت بينهم وبين غيرهم حرب أو خصومة، بعثوا سفيراً. وكانت السفارة في "بني عديّ".

ويقال للرسول "اسى" في العربيات الجنوبية، تعبيراً عن رسول يرسل بمهمة خاصة.

ولجلوس رجال الوفود عند الملوك وسادات القبائل اهمية كبيرة عند العرب، فالمقدم على الناس يكون أيمن الملك أو ايمن سيد القبيلة، وهكذا. وجلوسه هذا على هذأ النحو وعلى هذا العرف هو علامة ايضاً، له على غيره. ويقوم الحجاب أو من اليه امر استقبال الوفود بتطبيق هذه القاعدة مراعاة شديدة، وقد يتولى الملك ذلك بنفسه، فيطلب من كَبير القوم أو ممن يريد تشريفه وتفضيله على غيره الجلوس إلى جانبه الأيمن، ويفتخر عندئذ من ناداه الملك بالجلوس إلى يمينه فخراً شديداً، ويتباهى بهذا التقديم على غيره، وتعتز قبيلته به، فتقدم الرجال عند الملوك والسادات من امارات الشرف والعز. وقد يخلق مثل هذا التقديم للملك مشكلات خطيرة، إذ يزعل الباقون من هذا التفضيل، خاصة إذا كانت بينهم وبين من قدم عليهم عداوة أو منافسة، فيرون في هذا التقديم ازدراء بهم وإهانة متعمدة قد وجهت أليهم. وقد يتركون مجلس الملك.، ويقع ما يقع بين الملك وبين إلمنزعجين، أو بين من قدم ومن قدم عليهم.

ومن آيات تكريم رئيس الوفد، ان ألملك كان إذا وضع الشراب،بدأ بالشرب أولاً، فإذا إنتهى اسقى من كأسه من يراه أفضل القوم، وهو رئيسهم، أو انه يأمر السقاة أو يشير اليهم اشارة واضحة أو خفية بتقديم من يراه أهلاً للتقديم، ومعنى هذا انه أفضل الوفد. وقد أثار هذا التقديم مشكلات خطيرة للوفود المتنافسة التي كانت تفد على الملوك، وإلى الملوك أنفسهم، ولا سيما املوك الذين تحكمت اعصابهم بهم، مثل "عمرو بن هند" و "النعمان بن المنذر". وقد قتل "عمرو بن هند"، كما سبق ان تحدثت عن ذلك بسبب تهوره وانسياقه لعواطفه، إذ دعا الشاعر "عمرو بن هند" وامه لزيارته، وكان ينوي الاساءة اليه، لأنه كان فخورأ متعززاً بنفسه، فأمر الملك أمه بأن تكلف أم الشاعر بخدمتها، وهي من أعز النساء في قومها ولانها من بيت رئاسة، فلما صرخت "واذلاه"، وسمع ابنها الصرخة، ثار على الملك فقتله.

وكان من عادة ملوك الحيرة، انهم يتخذون للوفود عند انصرافهم مجلساً: يطعمون فيه ضيوفهم، ويسقو فيها الخمور، وقد تغنى فيه القيان، ثم يعطي الملوك الخلع والهدايا لاعضاء الوفود، وقد يخلعون عليهم الخلع الملكية، يعطونها لخاصة من حضر دلالة على زيادة تقديرهم لهم. ويتباهى من يناله هذا الحظ السعيد بتلك الملابس ويحتفظ بها للاعتزاز.

وقد جرت العادة بإنزال الوفود في دار الضيافة، ليعتنى بالضيوف الوافدين ولينالوا حريتهم وراحتهم بها. ويظهر ان من عادة إلعرب إذ ذاك ان الوفد منهم إذا انتهت مهمته وقرر الرجوع إلى اهله، عملت له وليمة في آخر يومه،وقدمت له هدية، وتسلم له رسالة ان احتيج إلى ذلك. وقد اتبعت هذه العادة في يثرب حينما أخذت الوفود تترى على الرسول لمبايعته ب الإسلام. فقد اتخذ الرسول داراً خاصة بيثرب لتكون داراً تنزل بها الوفود، عرفت ب "دار رملة بنت الحارث" امرأة من بني النجّار. ويظهر انها كانت داراً واسعة، بدليل ما ورد من ان ا الرسول حبس، بها "بنو قريظة" لما نزلوا إلى حكمه. ولا يمكن إنزال عشرات من الناس بها لو لم تكن داراً واسعة كبيرة. كما كان الرسول يأمر المكلف بأمر الوفود بإعطائهم بم جوائز يعينها له،فيعطى مقدار ما يأمره به الرسول، وما يكتبه لهم من اقطاع.

صكوك المسافرين

هي جواز السفر في اصطلاح هذا اليوم. كان على المسافر حمله معه لئلا يتعرض به أحد، يمنحها الملوك وسادات القبائل،وتختم بختمها، فلا يتحرش احد بحاملها. ويؤمن على سلامته. وإذا اعتدى عليه معتد طالب صاحب الجواز بحقه من المعتدي عليه.وتعطى مثل هذه الصكوك للوفود وللنابهين من الناس من أصحاب المكانة والجاه.

وقد يكون الجواز شيئاً غير مكتوب. فقد كان "جواز" أهل مكة ومن كان في حلفهم لحاء شجر الحرم، يعقدونه في أعناقهم أو في أعناق ابلهم، ليكون علامة على أنهم من "قريش" أو من قوم لهم عهد وعقد معهم فلا يتجاسر أحد على التحرش بهم. للعهود المعقودة بين قريش وبين سادات القبائل، بعدم تحرش احد برجل من اهل مكة أو ممن يكون في جوارهم ومن له عهد معهم.

وقد يكون الجواز شيئاً بسيطاً عصا أو سهم أو اي شيء آخر. يعطيه شخص شخصاً اخر ليكون جواز أمان وسلام، إذا ابرزه لم يتحرش أحد به.

ويكون محرماً، اي مسالماً لا يجوز لأحد الاعتداء عليه لأنه في حرمة صاحب الجواز، ولا تهتك لصاحبه حرمة. ولما جاء الإسلام، جعل المسلمين محرماً.

جاء في الحديث: "كل مسلم عن مسلم محرم "، و "كل مسلم عن مسلم محرم، اخوان نصيران". معناه ان المسلم ممسك عن مال المسلم وعرضه ودمه. وانه معتصم ب الإسلام ممتنع بحرمته ممن أراده وأراد ماله. فكل واحد هو في الإسلام امن.

ومن عادة ملوك الحيرة اعطاء "القطوط" للناس، وهي صكوك الجوائز، أي كتب تخرج للناس فيها جوائز الملك، فيقبضون مقدار ما كتب فيها. وقد ذكرها الاعشى في قوله: ولا الملك النعام يوم لـقـيتـه  بغبطته يعطي )القطوط( ويأفق

وذكر ان القط: الصك بالجائزة والكتاب، وقيل: هو كتاب المحاسبة، وفي ذلك يقول امية بن ابي الصلت: قوم لهم ساحة الـعـرا  ق جميعاً، والقط والقلم

الفصل الرابع والخمسون

الغزو وأَيام العرب

الغزو

والغزو في تعريف علماء اللغة: الطلب. وهو مورد من أهم موارد الرزق عند الأعراب، لا سيما في سني انحباس السماء وانقطاع الغيث وغضب السماء على الأرض ونفورها منها، حيث تقطع غرامها بها، فتحبس عنها دموعها المعبرة عن شوق السماء إلى الأرض وعن مكانهم المنكوب إلى مكان آخر فيه ماء: بئر أو ماء جار، أو عين دائمة والاستيلاء عليه عنوةً وقهراً، أو صلحأَ بغيرقتال، وذلك إذا وجد أصحاب الماء أن من غير الممكن لهم، مقاومة الغزاة، وأن خير ما يفعلونه للحفاظ على حياتهم، هو ترضية الغازين والتودد اليهم، وارضائهم من غير حرب ولا قتال، وفي ذلك توفيق بين مصلحة الغازين والقارين.

وقد يقع الغزو لأسباب أخرى لا علاقة لها بانحباس المطر، بل بسبب طمع القبائل بعضها في بعض، ولا سيما القبائل التي ترتبط بروابط حلف مع قبائل أخرى. والعادة أن القبائل القوية تطمع في القبائل الضعيفة لتأخذ منها ما عندها من مال ورزق. فتغزوها لتستولي على ما طمعت به، وقد تنجح وقد تفشل وتخسر. والقبائل الضاربة على أطراف الحضارة، تطمع في الحضر لما عندهم من رزق حرمت منه، من رزق وافر ومن ماء ومن وسائل عيش رغيدة، فتغزوهم ولهذا صار من اللازم على الحضر تعزيز أنفسهم، بناء حصون وآطام ومناظر لمراقبة الغزاة، وبشراء سلاح لا يتوفر عند الأعراب من سيوف ماضية صلبة حادة، ومن اتخاذ حرس من ألرقيق والمرتزقة ليساعدهم في الدفاع عن حاضرهم، أضف إلى ذلك شراء سادات القبائل الضاربين حولهم بالمال وبالهدايا وبالألطاف، لمنع أعرابهم من التحرش بهم، ولمنع الأعراب الغرباء الذين قد يطمعون فيهم من الدنوّ منهم.

أضف إلى ما تقدم من أسباب وقوع الغزو:أثر العلاقات الشخصية بين سادات القبائل، من زواج وطلاق، ومن حسد وتنافس، ومن كلمة نابية قد تثير حرباً بين قلبي شخصين متنافرين، ومن عمل سفيه جاهل يثير غزواً وحرباً بسبب عصبية قومه له، ودفاع الجانب الاخر عن صاحبهم حمية وغيرة. الى غير ذلك من عوامل معقولة مفهومة وعوامل تافهة سخيفة نجد لها مع ذلك مكانة في القلوب فتثير غزواً وتسبب نكبة لأناس مساكين فقراء، لا دخل لهم في كل خصومة، وكل ما لهم أنهم من قوم غضب عليهم قوم آخرون، فزادوا في تعاس إخوانهم المغزوين.والغازي والمغزو مع ذلك معدم محروم من النعم التي وهبتها اطبيعة لغيرهم من البشر، بأن جعلتهم في أرضين خصبة ذات ماء وخيرات وجو حسن، أما هؤلاء التعساء أبناء البادية، فلم يجدوا أمامهم من رزق متيسر سهل سوى الرزق عن طريق هذا الغزو.

فالغزو إذن هو حاصل ظروف طبيعية واقتصادية واجتماعية، ألمت بالأعراب واجبرتهم على ركوب هذا المركب الخشن. كارهين ام مختارين فليس للاعرابي للمحافظة على حياته ولتأمين رزقه غير هذا الغزو. وقد بقي يغزو حتى في الإسلام، مع منع الإسلام له لا يجد فيه مع ذلك غضاضة ولا بأساً. وهو ان امتنع اليوم منه وطلقه، فأنه لم يتركه عن ارادة واختيار وطيب خاطر، وانما امتنع منه لانه يعلم انه ان قام به، فأن هنالك حكومات اقوى منه، لها اسلحة لا يملكها ولا يستطيع التغلب عليها، وعلى رأسها الطائرات، ستفتك به فتكاً ذريعاً، وتكرهه على الخضوع لاحكامها، وعلى الاستسلام لها، وعلى تجريده مما يملكه ومما يستولي عليه لذلك خنس وسكت عن الغزو.

ومن هذا الغزو، غزو وقع في الجاهلية بين قْبائل صغيرة، لذلك لم ينل من أهل الأخبار حظاً من الذكر و الرعاية والعناية، ولم يجد له مكاناً بارزاً في صفحات كتب الأخبار، وغزو كبير خلد الشعر الجاهلي ذكره، فأخذ رواة الشعر يتسقطون أخباره، ويجمعون ما وعته ذاكرة رواة الأخبار من أمره، فوجد له مكاناً فسيحاً رحباً في شروح الشعر الجاهلي وفي كتب إلأخبار والأدب وقد عرف مثل هذا الغزو الخالد ب "أيام العرب" وب "ايام القبائل". وقد ذكر صاحب كتاب "الفهرست" أسماء جماعة من علماء الأخبار ألفّوا فيها، وشغلوا أنفسهم بجمع أخبارها، دوّنوها في كتب وفي جملتها مدونات عن أخبار ايام وقعت بين بطون قبيلة واحدة.

وقد تداول الجاهليون أخبار الغزو، وصيرت القبائل المنتصرة ألأيأم التي انتصرت فيها ملاحم، تعيد قصها في مجالسها وأنديتها، وقد زخرفت قصصها بأخبار الشجعان الذين برزوا فيها، وبالغت في أخبار شجاعتهم حتى طغت على أخبار الغزو نفسه، وصار البطل رمزا للقبيلة، تستمد منه الشجاعة والإقدام في النصر وفي الهزائموالخسائر. فالنصر كما نعلم لا يدوم لاحد، ورب قبيلة وكر عليها طير السعد فسعدها الحظ بالنصر، ثم طار عنها، لأن الأيام الحلوة لاتدوم أبداً. وقد تصاب القبيلة المنتصرة بنكسة،فتعوض عن ذكرى خسارتها، بذكرها انتصارها في الماضي، فيكون الماضي خير مسل لها عن مرارة الهزيمة،وأحسن مشجع وباعث على النصر في غزو المستقبل.

وقد أمدتنا أخبار الغزو بأسماء عدد من أبطال الجاهلية عرفوا بالشجاعة،لا تزال أخبار بعضهم تروى وتقص على الناس. وتقرأ قصتهم في المجالس مثل قصة "عنترة" التي حصلت على النصيب الاوفر من الشهرة والذكر من بين القصص المروي عن أبطال الجاهلية، وهو قصص مهما قيل عنه، ومما ورد فيه من مبالغات، فإنه لا يصل إلى درجة القصص المروي عن أبطال الفرس، القدماء أو اليونان أو الرومان أو العبرانيين في المبالغة بشجاعتهم وبقوة أجسامهم الخارقة.

لقد فرضت الطبيعة على العربي أن يكون محارباً غازياً،فقد حرمته من خيرات هذه الدنيا ومن طيبات ما تنبت الأرض. حرمته من وجود حكومة تحميه وتدافع عنه وحرمته حتى من وسائل الدفاع عن النفس. فجعلته لا يملك شيئأ يكنّ اليه في البوادي ليحمي به نفسه من الرياح السموم ومن أشعة الشمس القاسيةو الحيوانات الوحشية، وجعلته يقابل المرض بمفرده، إذ ليس في البادية طبيب حاذق دارس. فلم يكن أمامه والحالة هذه إلا أن يعلّم نفسه الصبر، وان يصّير محارباً غإزياً لا يبالي بالنصر او بالخسارة، بالحياة أو بالموت. إن خسر هذه المرة، حاول تعويض الخسارة بجولة جديدة وهكذا. لأنه إن يئس وجلس واستسلم للزمان، أكله جار له يطمع في ماله مهما كان،فهو لا بد له من استعداد لغزو جديد.

وفقر البادية قد حدد في الوقت نفسه من غرام الأعراب في الغزو. إذ حعل اسلحتهم محدودة وامكانياتهم في القتال دون امكانيات الحضر يكثير. لذا صار غزوهم للحضر كرٌ سريع وفرّ بأقصى ما يكون من السرعة، للنجاة بما حصلوا عليه من سلب، او للنجاة بأنفسهم من القتل في حالة الخسارة والهزيمة. ولهذا كانوا يحسبون اْلف حساب حين يريدون غزو حدود الحكومات التكبيرة، ولا يقدمون عليه إلا بعد درس وتأمل ووقوف على مواطن الضعف والثغرات في خطوط الدفاع لتلك الحكومات. اما غزوهم بعضهم بعضاً، فأن اسلحتهم فيه متساوية متكافئة. سيوف ورماح ورمي بالسهام. والذي يكسب النصر فيه، من له عدد وافر كثير وخيل وفرسان شجعان، يأخذون الخصم بمباغتة ومفاجأة.

الخيل

وللخيل نصيب كبير ولا شك في الغزو وفي اكثاره في جزيرة العرب إذ صارت سبباً من أسباب توسيع رقعة الغزو والحروب. فالقبيلة ألتي تمتلك عدداً كبيراً من الخيل يكون لها النصر في الغالب، لأن الخيل سريعة الحركة وهي تمكن الفارس من مقارعة خصمه بسرعة، ومن ملاحقة الراجل والوصول اليه بسهولة، فلا يكون أًمامه عندئذ سوى المقاومة أو القتل أو الوقوع في الأسر. وبفضل الخيل ظهر الأبطال الفرسان، الذين نقرأ أسماءهم في أخبار الأيام. والحصان مثل البطل، يجب عده من ابطال معارك تلك الايام. فقد مكن القبائل الغنية من بسط نفوذها على القبائل الضعيفة. فالجمل ثقيل الحركة بطئ السير بالنسبة للفرس، وفي أمكان من لديه عدد كبير من الخيل غزو القبائل التي لا تمتلك مثل هذا العدد من الخيل، حتى وإن امتلكت عدداً كبيراً من الإبل والرجال. لما ذكرته من سرعة حركة الخيل ومن مرونتها في القتال وفي الكر وفي الف، ثم لصبرها ولتحمل أعصابها على ظيط نفسها في القتال بالنسبة إلى الجمل الذي يهيج بسرعة فتثور أعصابه، فيولي لا يبالي إلى حيث يوجهه هياجه، ملقياً براكبه عن ظهره في بعض الأحيان، أو يذهب طائشاً مسرعاٌ، لا يخضع لتوجيه راكبه له. والجمل إذا هاج صار من الصعب على صاحبه الامساك بزمامه وتوجيهه حيث يريد.

وقد اشتهر بعض الناس بالعدو، من هؤلاء: "سليك بن السلكة" المعروف ب "سليك المقانب". وكانت أمه سوداء. وهو أحد أغربة العرب، وأعدى الناس، لا يشق غباره، وقد أشير اليه في الشعر. وقد استفيد منهم في الغزو، فكان منهم المخبرون المتلصصون لأخبار الغزاة أو المغزوين. وكان منهم من يباغت ويفر، فلا يلحق به ماش. فاذا لحقه احد اتبعه في عدوه، حتى اذا تعب انقض،عليه.

الجمل

وقد أكون مقصراً هنا إذا أهملت الحديث عن صديق جزيرة العرب وأليفها الحبيب: الجمل. لقد تحدثت عنه في الجزء الأول من هذا الكتاب في أثناء تحدثي عن جزيرة العرب وعن ثرواتها بما فيه الكفاية، ولكنني لا زلت بحاجة إلى التحدث عنه بشيء لم أذكره في ذلك المكان، وسأذكره هنا لما له من صلة بهذا الموضع.

والأبل هي المال عند العرب. وبها كانوا يقدرون أثمان الأشياء ويتعاملون في تجارتهم و في اسواقهم. فالجمل عندهم هو وحيدة قياسية في البيع وفي الشراء. وفي تقدير الحقوق كالديات والفدية والمهور والاراشة وما شاكل ذلك. وبمقدار ما يملك الإنسان من جمال تقدر ثروته وينظر إلى غناه،لأنه الحيوان الوحيد الذي في إمكانه قطع البواديَ بخيلاء، رافع الرأس، غير عابىء بما يكون تحت أخفاف أرجله من رمال، هازىء بالعطش إذ هو صبور عليه، لمدة لا يمكن أن يباريه في طولها حيوان آخر. ثم هو يحمل الإنسان ويحمل متاعه. وهو طعام الإنسان إن مضه الجوع، أو جاءه ضيف كبير. وهو يشرب حليب،النوق ويجد فيه شفاءً وعافية وتعويضاً عن الماء والطعام. فلا عجب إذن إن اتخذ الأعرآبي الجمل مقياساً نلثم للثروة والمال.

والإبل على منازل ودرجات فيها الجمل الأصيل المقدر وفيها اجمل الحرود المبتذل. وخير الإبل عندهم: الإبل الحمراء، لأنها أصبر من غيرها على الهواجر، والعرب تفتخر بعدد ما عندها من الجمال الحمر، لغلاء ثمنها بالنسبة إلى الجمال الأخرى ومن هنا ضرب العرب بها المثل حين قالوا: لا ما أحب ان لي بمعاريض الكلم حمر النعم "ا. فالمراد بحمر النعم: الإبل الحمراء.

والإبل الصهباء من الإبل الجيدة الشريفة في نظر ! العرب. "قال ابن الأعرابي: تقول قريش: الإبل صهبها وأدمها، يذهبون في ذلك إلى تشريفها على سائر الإبل. وقد أوضحوا ذلك بقولهم: خير الإبل: صهبها وحمرها. فجعلوها خير الإبل". وقيل الأصهب من الابل الذي يخالط بياض حمرة. وهو ان يحمر أعلى الوبر ويبيض أجوافه. وقد عرفت هذه الإبل بسرعتها. والصهباء الناقة الصهابية.

وفي الحديث: كان يرمي الجمار على ناقة صهباء. وإبل صهابية منسوبة إلى فحل اسمه "صهاب"، أولد الإبل الصهابية.

وعدت ألإبل الرمكاء، من أبهى إبل العرب. وأما النوق الخور، فهي النوق التي تمتاز عن غيرها بكثرة ألبانها، وتكون ألوانها بين الغبرة والحمرة وفي جلودها رقة. وقد عدت من الجمال الرقيقة الحسنة. قالت العرب: الحمر من الإبل أطهرها جلداً والورق أطيبها لحماً والخور أغزرها لبناً. وقد قال بعض العرب: "الرمكاء بهياء والحمراء صبراء والخوّارة غزراء ".

ويقسم اهل الاخبار الابل الى ثلاثة اصناف: يماني، وعراب، وبختي. فاليماني هو النجيب وينزل بمنزلة العتيق من الخيل. والعرابي كالبرذون. والبختي كالبخل.

وذكر أن في الإبل ما هو وحشي وانها تسكن أرض وبار، وهي غير مسكونة بالناس. وتسمى الإبل الوحشية "الحوشي". ويذكرون أنها من بقايا إبل "عاد" وثمود. والمهرية منسوبة الى "مهرة"، وهي سريعة إلعو، ويعلفونها من قديد سمك يصطاد من بحر عمان، وذكروا أن "الحوشي" الوحشيّ من الإبل وغيرها. منسوب إلى بلاد ألجن من وراء رمل "يبرين"، لا يمرّ بها أحد من الناس. وقيل هم من بني الجن. وقيل هي فحول جن، تزعم العرب أنها ضربت في نعم بني مهرة بن حيدان فنتجت النجائب المهرية من تلك الفحول الوحشية،فنسبت اليها، فهي لا يكاد يدركها التعب.

ولتحمل الإبل الجوع والعطش ولصلاحها على المشي في البوادي صارت خير أليف للعرب. وقد اشتهر بعض منها، لاشتراكه في الغزو والحروب. وكانوا يسابقون بين الإبل. وسابق الرسول بين،الإبل، وكانت ناقته القصواء سريعة الجري فسبقت مراراً. وتعدّ لحوم الإبل من اللحوم الطيبة عند الجاهليين. أما أليهود، فكهانوا يحرمون عليهم أكل لحومها. وذكر "النويري" أن من الناس من قال:"إن العرب إنما اكتسبت الأحقاد لأكلها لحوم الجمال ومداومتها "، لاتهامهم الجمل بالحقد واللؤم، وبعدم نسيانه الإساءة.

والجمل من الحيوانات القانعة الصابرة. وهو الحيوان الوحيد الذي رضي بمرافقته الأعراب ومصادقتهم منذ آلاف السنين. ولولا هذا الجمل لما كان في استْطاعة العرب اختراق جزيرتهم، والتنقل فيها من مكان إلى مكان. وبفضله اتصل عرب جزيرة العرب بعضهم ببعض وقامت المستوطنات في مواضع نائية منعزلة من بلاد العرب وقهر العربي ظهر باديته. وتكونت فيها تجارة بريّة. وطرق برية طويلة يخترقها الجمل بغير كلل ولا ملل صابراً على العطش حتى يصل إلى مرحلة بعيدة فيها يكون فيها ماء وفي استطاعة الجمل تحمل العطش مدة أربعة أو خمسة أيام في الصيف، ومدة خمسة وعشرين يوماً في الشتاء. لانه بختزن الماء في جوفه ويعيش.عليه. حتى صار هذا الماء المخزون في جوف البعير سنداً للاعراب وأملهم الوحيد في انقاذ حياتهم عند اشتداد العطش بهم، وانقطاع الماء عنهم. ولما عبر خالد بن الوليد البادية لفتح بلاد الشام اختزن الماء في اجواف الابل، لقلة الماء في البادية، فلما اشتد العطش بجيشه، ذبح بعض الابل واسقى من الماء المخزون في اجوافها، وبفضله تمكن الجيش من الصمود امام اهوال العطش ومن الوصول إلى بلاد الشام بسلام. وهكذا ساهم هذا الحيوان في انتصار خالد على جيش الروم.

ولا زال الجمل عماد الأعراب في حياتهم. ولا يمكن أن نتصور وجود أعرابية بغير جمل وقد أناط إنسان القرن العشرين به أعمالاٍ جديدة لم يكن يعرفها، فعهد إليه نقل الآلات الحديثة ومنتوجات حضارة هذا القرن في البوادي فنجح في أدائها أحسن نجاح. ومع ذلك، فان الزمن ضده، فالجمل بطئ لا تتناسب سرعته وسرعة عصور السرعة وطفرات التطور الحديث ولا بد وأن يأتي عليه يوم سيحال فيه على التقاعد عن العمل، فيقل بذلك وجوده، ويصير مكانه في حدائق الحيوان.

ولتمييز الإبل وتعيين أصحابها، وسمت بسمات وعلمت بعلامات عرفت عندهم ب "سمة" و "سمات"، توسم في الخد والعنق والفخذ، على صور شتى، مثل المشط والدلو والخطاف، أي على صورة هذه الأشياء. ويكون وسم الإبل بالميِسم: حديدة تحمى فيكوى بها، فتترك أثراً على الموضع الذي كوي. وذكر ان الوسم أثر.، أثر كيةّ، يقال: موسوم، أي قد وسم بسمة يعرف بها، إما كيةّ، وإما قطع اذن أو قرمة تكون علامة له. والوسام والسمة ما وسم به الحيوان من ضروب الصور. وفي الحديث انه كان يسم إبل الصدقة، أي يعلم عليها بالكي.

وسمات الإبل: السطاع، والرقمة، والخباط، والكشاح، والعلاط، وقيد الفرس، والشعب، والمشيطفة، والمعفاة، والقرمة والجرفة، والخطاف والدلو، والمشط، و الفرتاج، و الثؤثور، والدماغ، والصداع، و اللجام، والهلال، و الخراش، و العراض، و اللحاظ، والتلحيظ، و التحجين، والصقاع، و الدمع.

ويقع الغزو في وجه الصباح في الغالب، ولذلك يقال: طصبحوا ب ..." أي اتوا صباحاً. وقد يقال: "صبحه بكذا"، أي بعدد يذكر من رجال الغزو. ومن ذلك قول بجير بن زهير المزني: صبحناهم بألف من سـلـيم  وسبع من بني عثمان وافى

أي أتيناهم صباحاً بألف رجل من "بني سليم".

أيام العرب

عرفت الحروب والمناوشات التي وقعت بين القبائل بعضها مع بعض، أو بين ملوك اليمن والقبائل أو بين الفرس والعرب أو بين الملوك العرب والقبائل ب "الأيام" وب "ايام العرب". وهذه الأيام تؤلف - في الواقع - القسط الأكبر من علم الأخباريين بتأريخ الجاهلية، ومادتها القصص الذي تناقله الناس عمن شهدوها، وحفظوه في صدورهم، إلى أن كان التدوين فدوّن. وهو مادة محبوبة تناولها الناس في الجاهلية و الإسلام بلذة وشوق، فكَونت هي والشعر الجاهلي من أهم المجالس. "قيل لبعض أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ما كنتم تتحدثون به إذا خلوتم في مجالسكم قال: كنا نتناشد الشعر، ونتحدث بأخبار جاهليتنا"، وأهم أخبار الجاهلية هي هذه الأيام.

ومادة هذه الأيام عربية خالصة، يتخللها شعر قيل بالمناسبة في تلك الأيام في الفخر والحماسة وفي هجاء الخصم والانتقاص منه. والفضل هو لهذا الشعر في حفظ اًخبار تلك الأيام، وصيانتها من النسيان، لاضطرار الراوي والسامع إلى الاطلاع على المناسبة التي قيلت فيها تلك الأشعار. وعلى هذه المادة العربية اعتماد المؤرخ في تدوين تأريخ العرب في الجاهلية، وتتبع التطورات السياسيه التي حدثت قبيل الإسلام.

وفي شعر المخضرمين وشعر الشعراء الإسلاميين الذين نبغوا في العهد الأموي مادة تفيدنا في الوقوف على خبر تلك الأيام. فقد حفظ تفاخر الشعراء بقبائلهم ومهاجاة بعضهم لبعضّ اثار تلك الأيام، فدونت في شعر الهجاء والتباهي والتفاخر، وزاد بذلك علمنا الذي أخذناه من أخبار الأيام ومن الشعر الجاهلي الذي أشر فيه اليها.

وموضوع كموضوع الأيام، لا بد أن يقبل العلماء عليه اقبالاً كبيراً، وهذا ما وقع، فألف فيه جماعة، منهم "أبو عبيدة" المتوفى سنة "210" أو "211" للهجرة، وأدخله قوم في مؤلفاتهم، فأفردوا له باباً أو أبواباً، ولكنا لا نملك حتى اليوم كتاباً قديماً قائماّ بذاته في الأيام. وكل ما نملكه هو هذه الأبواب الداخلة في بطون كتب الأدب في الغالب وفي بعض كتب التأريخ والجغرافيا، سأشير اليها في أثناء حديثي عن الشهر من هذه الأيام.

وقد أشار "ابن النديم" وغيره إلى أسماء مؤلفين ألّفوا كتباً في أيام العرب. منهم من ألف عنها كلها، ومنهم من ألف عن بعضها. ومنهم من ألف في أيام قبائل معينة. لكنها لم تطبع، ولعل من بينها من قد يطبع في المستقبل. وقد ورد أن "أبا الفرج الأصبهاني" قد استقصى أيام العرب في كتاب أفرده لذلك، فكانت أيامه ألفاً وسبعمائة يوم.

ولكن هذه الأيام غير منسقة ويا للاسف، ولا مبوّبة على حسب ترتيب الوقوع، وتسلسل الزمن. ثم إن من الصعب استخراج مستند منها يمكن الاعتماد عليه في تصنيف هذه الأيام، وتنظيمها على أساس تأريخي، مع انها مادة المؤرخ الذي يريد كتابة تأريخ جزيرة العرب قبل الإسلام ودراسة التطور السياسي فيها. وقد حاول المستشرقِون تنسيقها وترتيبها على أساس تواريخ الوقوع، فلم يفلحوا إلى الان في الوصول الى نتيجة مرضية. ولو كانت لدينا معارف عن أحوال من أسهم فيها وأجّج نارها ومن قال شعراً فيها، ثنير لنا السبيل لتثبيت التأريخ وضبط المدنين، لصار في امكاننا ضبطها وتعين تواريخها استناداً إلى هذا المروي عن أولئك. ولكن ما نعرفه عن هؤلاء الرجال، وهم أبطالها وأصحابها، لايقل غموضاً وابهاماً من حيث التواريخ والسنين عن غموض تواريخ تلك الأيام وإبهامها، ولذلك فكل ما يقال عن تواريخ الأيام وترتيبها والسنين التي وقعت فيها، هو حدس وتخمين. وسيبقى الحال على ذلك، حتى تتهيأ مادة جديدة كنصوص جاهلية مدونة أو موارد أخرى قد تتعرض لتلك الأيام بتأريخها أو بتأريخ من اشترك فيها على وجه مضبوط صحيح. وعندئذ يكون في الآمكان تدوينها على نحو علمي يشرح لنا تطور الحوادث عند العرب قبيل الإسلام.

ولوجود مجال واسع للعب العاطفة في أخبار الأيام، تجب دراسة الروايات على حذر، والتفتيش - على قدر الامكان - عن روايات مثعددة عن اليوم الواحد، للمقارنة والمقابلة والغربلة. وليس هذا بأمر ميسور،لأن الروايات والأخبار محدودة، وهي ترجع بآخرةٍ إلى نفر تستطيع حصرهم. فهذه الأبواب، وإن كانت متعددة منثورة بين مؤلفات، دونها مؤلفون مختلفون، إلا انها أخذت من ذلك النفر، فهي لم تأت لهذا السبب في ثناياها بشيء جديد.

وفي هذا النفر المذكور، نفر منحاز متحزب، يشايع قومه، ويريد نسبة الغلب والتفوق لهم، والغض جهد إمكانه من خصوم قومه ومن الأطراف التي خاصمت قومه واشتبكت معها في قتال، وهو مكثر بالنسبة لجماعته، مبالغ يسند مبالغاته بكلام منثور ومنظوم، ليثبت صحة قوله، ولهذا وجب الانتباه لهذه الناحية والحذر من تصديق كل رواية وإِن نسبت إلى خيرة من نثق بعلمهم من الرواة.

وهذه الأيام ليست حروباً بالمعنى المفهوم من الحرب، فإن منها ما هو مجرد مناوشات أو مهاترات وغزوات لم يسقط فيها إلا بضعة أشخاص، ومنها أيام وقعت في عدة سنين كانت تثار فيها الحرب حينما تتجدد المناسبات، وتنتهي بتسويه، يتفق فيها على دفع ديات القتلى وانهاء المشكلات الني كانت السبب في إثارة تلك الحرب، فاذا ما انتهت، بقيت القبيلة المنتصرة تفتحر بيومها وبأيامها، وباسماء أبطالها الذين رفعوا اسمها فيها. وطالما جرّ التباهي والتفاخر القبائل إلى حرب جديدة، بسبب جواب قد يصدر من سفيه عابث لا يرضيه سماع ذلك الفخر، أو من قبيلة مغلوبة لم يكن من السهل عليها أو على أفرادها سماع هذا الكلام.

والنابه من هذه الأيام، معدود عند بعض العلماء محدود. وقد حصرها "أبو عبيدة" في الأيام الكبيرة العظيمة، التي ساهم فيها عدو كبير من الفرسان. وجعلها:يوم الكلاب، ويوم ربيعة، ويوم جبلة، ويوم ذي قار.

واكثر اسباب هذه الايام، هو عسف حكام القبائل القوية في القبائل الضعيفة الخاضعة لهم، بسبب الاتاوة التي كانوا يلحون في جبايتها غير مفكرين في الظروف والاوقات، او بسبب نزاع على ماء ومرعى، او اخذ بثأر، او محاولة للتخلص من حكم القبائل على القبيلة بظهور شخصية قوية فيها، وامثال هذه من اسباب، قد يكون بينها سبب تافه سخيف، يؤدي الى ازعاج المتخاصمين بسبب النزعات العاطفية التي تتغلب عند القبائل في غالب الاحوال على العقول.

والعادة أن يعُنون اليوم باسم الموضع الذي حدثت فيه المعركة، أو بالشيء البارز في تلك الحرب، أو بأسم القبائل التي اشتركت فيه. ومن هذه الأيام ما وقع بين قبائل قحطانية، ومنها ما وقع بين قبائل عدنانية، ومنها ما وقع بين قبائل قحطانية وقبائل يرجع النسّابون نسبها إلى مضر وربيعة، وإلى معدّ والى، عدنان، فهي أيام وقعت إذن بين جماعتين هما فيَ عرف النسابين من جدين، هما: قحطان وعدنان. وهما جدا كل العرب الأحياء.

ومن الأيام التي وقعت بين القبائل القحطانية: يوم البردان، ويوم الكلاب

الأول وعين أباغ ويوم حليمة ويوم اليحاميم، وأيام الأوس والخزرج. وأما أيام القحطانيين والعدنانين، فمنها: يوم البيضاء، ويوم طخفة، ويوم أوارة الأول، ويوم أوارة الثاني، ويوم السلاّن، ويوم خزار ويوم حجر، ويوم الكلاب الثاني، ويوم فبف الريح، ويوم ظهر الدهناء.

وأما الأيام التي وقعت بين القبائل العدنانية، فمنها ما وقع بين قبائل ربيعة فيما بينها، ومنها ما وقع بين ربيعة وتميم، ومنها ما وقع بين قبائل قيس فيما بينها، ومنها ما وقع بين قيس وكنانة، ومنها ما وقع بين قيس وتميم، ومنها أيام ضبة وغيرهم.

وهناك أيام وقعت بين العرب والفرس مثل يوم الصفقة ويوم ذي قار. وقد تحدثت عن الأيام التىِ وقعت بين القبائل القحطانية، وعن الأيام التي وقعت بين العرب والفرس في الأماكن المناسبة الخاصة بها. فلست أجد حاجة هاهنا إلى الكلام عليها مرة ثانية، وسأقتصر هنا على الأيام الأخرى.

والأيام بين ما يسمى بالقبائل العدنانية أكَثر بكثير من الأيام التي وقعت بين القبائل القحطانية، وسبب ذلك هوانها أكثر بداوة وأعرابية من القبائل الثانية، وأن من طبع البداوة: الفردية والخصومة والتنازع والتحاسد، بسبب ضيق العيش وقلة المال وتحول القبائل من مكان الىا مكان وراء الماء والكلا. لذلك قل اجتماع العدنانيين تحت رئاسة رئيس واحد، وتقاتلوا وتخاصموا، وفضلوا الخضوع لحكم رئيس بعيد عنهم على الخضوع لرئيس منهم، لأن النفسية الأعرابية ترى في خضوع أعرابي لأعرابي من جنسه استكانة ومذلة.أما خضوعها لحكم غريب عنها، فليس فيه شيء من ذلك، ولهذا خضعت لملوك المناذرة أو الغساسنة أو لكندة أو للتبابعة، ونفرت من الخضوع لرئيس عدناني لعقدة التنافس والتناحر بين ذوي القربى.

والقبائل العدنانية، قبائل خشنة شديدة المراس، القتال عندها طبيعة، ولو اتحدت وجمعت كلمتها ووحدت أمرها، لكانت قوة لا تغلب، ولكنها، وهي على هذه الصفة من التخاذل، والتنافر، صارت خاضعة لحكم القحطانيين، وأخصّهم التبابعة على ما يذكره الرواة. فكانوا يعينون عليهم حكاماً وينصبون عليهم أمراء منهم، بل يذكر أهل الأخبار أن العدنانيين كانوا يذهبون هم أنفسهم إلى أولئك التبابعة أحياناً يطلبون منهم تنصيب شخص منهم،أو تعيين أمر عليهم من أصحاب المنزلة والمكانة، لأنهم سئموا من التقاتل والتشاحن، بقوا على ذلك دهراً حتى سئموا حكم التبابعة والقحطانيين لهم، فثاروا عليهم كما يذكر أهل الأخبار.

وساًقتصر في هذا الفصل على الأيام المهمة التي كان لها في شؤون السياسة القبلية شأن وخطر. أما الأيام الصغيرة التي لم يكن لها شأن يذكر، فأدع الحديث عنها إلا بقدره. وأما الخامل منها، فسأترك أمره إلى كتب الأخبار والأدب، لعدم وجود مكان لها في حديثنا العام عن تأريخ العرب قبل الإسلام.

ومن أمهات الأيام التي وقعت بين القحطانيين و العدنانيين: يوم طخفة، ويوم أوارة الأول، ويوم أوارة الثاني، ويوم السلاّن، ويوم خزاز، ويوم حجر، ويوم الكلاب الثاني، ويوم فيف الريح، ويوم ظهر الدهناء. وقد تحدثت عن بعضها في أثناء كلامي على ملوك الحيرة أو الغساسنة، و سأتحدث عما لم أتناوله من قبل.

ومن الأيام التي وقعت بين قبائل قحطانية وقبائل عدنانية، يوم يسمى ب "يوم البيضاء" "البيداء" وكان سببه مجيء مذحج، وهي قبيلة قحطانية من اليمن، قاصدة متسعاً من الأرض وموطناً جديداً صالحاً، فاصطدمت بقبائل معد النازلة بتهامة، وتهامة هي موطن معد القديم فيَ عرف أهل الأخبار، فبرزت لها قبيلة عدوان ورئيسها يومئذ عامر بن الظرب العدواني. جمع عامر هذا من كان في تهامة من قبائل معد،وهاجم مذحجًا فغلبها في موضع "البيضاء". يقول الأخباريون إن هذا اليوم هو أول يوم اجتمعت فيه معد تحت راية واحدة، هي راية عامر ابن الظرب. وقد اجتمعت بعدها مرتين تحت راية واحدة: مرة تحت راية ربيعة ابن الحارث في قضاعة، ومرة أخرى تحت راية كليب بن ربيعة. فهذه المعركة هي من المعارك القديمة التي وقعت بين العدنانيين والقحطانيين على رأي الأخباريين.

وعامر بن الظرب هذا، رجل يعدّه الأخباريون من قدماء حكماء العرب وأئمتهم الذين تحاكم اليهم الناس، وصارت أحكامهم سنة يتبعونها. وقد ذكرأهل الأخبار أنه أول من قرعت له العصا. ويرون في تفسير ذلك أنه كان قد كبر و هرم، وكان الناس يأتون مع ذلك اليه ليحكموه فيما يقع بينهم من خلاف.

فقال له أحد أولاده: " إنك ربما أخطأت في الحكم فيحمل عنك "، فقال عامر: "فاجعلوا لي أمارة أعرفها، فإذا زغت فسمعتها رجعت إلى الصواب ": فجعلوا قرع العصا أمارة ينبهونه بها. فكان يجلس قدام بيته ويقعد ابنه في البيت ومعه العصا، فإذا زاغ أو هفا قرع له الجفنة فيرجع إلى الصواب.

ولأهل الأخبار قصص عن عامر، فقد ذكروا أنه كان أول من جلس على منبر أو سرير وتكلم، ولجلوسه على منبر، سموّه ذا الأعواد، ونسبوا اليه أحكاماً وحكما" وأقوالاً وعمراً طويلاً، وعدّ وه من الفصحاء البلغاء، وجعلوا أقواله مضرباً للأمثال.

وأخذ رؤساء معدّ على عاتقهم الخروج على طاعة حكام اليمن، أو من عينه هؤلاء الحكام عليهم،وذلك بعد ما تبين لهم من ضعف الحكم في اليمن ومن تقاتل المتنفذين فيها بعضهم مع بعض، ومن تدهور الأحوال هناك. وكانت اليمن قد ولت "زهير بن جناب" زعيم كلب على قبائل معد. وكلب من قبائل قضاعة، فوافقت معد على تعيينه وخضعت لحكمه، وأخذت تؤدي الإتاوة له. وكان يخرج في حاشية لجمع الإتاوة، فأصاب معداً ضيق شديد، وأجدبت أرضهم، فتأخروا عن الدفع، فجاءهم زهير و ألحَّ في مطالبتهم، فشكوا عجزهم،وطلبوا إمهالهم والتخفيف عنهم. فما كان منه إلاّ أن منعهم النُّجْعة والمرعى، فنقموا منه، وأصابهم من ذلك بلاء، فغضب عليه رجل منهم من بني "تيم الله"، اسمه زيابة، واندس اليه وهو نائم فطعنه، وظن أنه قتله، ورجع إلى قومه فاخبرهم بخبره، ولكن "زهيراً" لم يصب بسوء، ونجا من الطعنة، وكان قد أخمد أنفاسه ولم يتحرك حتى يوهم "زيابة" أنه قتله ومات، ثم أوعز إلى حاشيته أن يعلنوا أنه مات، وشاع خبر موته بين الناس ولكنه كان قد فَرَّ مع حاشيته إلى قومه، حيث جمع جمعهم، ثم هجم بهم على بكر وتغلب،وقاتلهم قتالاّ شديداً أدى إلى هزيمة بكر، ثم إلى هزيمة تغلب من بعدها،وأسر "كليباَ" و "مهلهلا" ابنيْ ربيعة، وجماعة من أشراف تغلب. فتأثرت قبائل ربيعة من هذه الهزيمة، وعينت "ربيعة بن مُرٌة بن الحارث بن زهير التغلبي"، والد "كليب" و "مهلهل" رئيساً عليها، فحمل ربيعة ومن انقاد اليه على زهير، واسترجع الأسرى،ولكن زهيراً لم يلبث أن عاد إلى ما كان عليه من جمع الإتاوة من معد.

وإذا أخذنا برأي الأخباريين القائلين إن تعيين زهير بن جناب على بكر وتغلب ابني وائل كان بأمر أبرهة الذي غزا نجداً، وتوسع فيها، فجاءه زهير ليتقرب اليه، وليعينه على بعض القبائل، يكون حكم زهير على هذا القول في القرن السادس للميلاد.

وفي عهد رئاسة "كليب بن ربيعة"، جددت قبائل ربيعة محاولاتها للتخلص من حكم اليمن، وكان "كليب" شخصية قوية، فاختارته قبائل معد رئيساً عليها، واجتمعت تحت لوائه، والتقت باليمن في "يوم خزار " فانتصرت معد فيه، وعدَّ من أيامها الكبرى قبل الإسلام. ونظرت معد إلى كليب نظرة تجلة و إحترام، وجعلت له قسم الملك وتاجه وطاعته، لأنه وحدّهم وأنقذهم من تعسف اليمن بهم.

وقد داخل "كليب بن ربيعة" زهو شديد بعد هذا النصر، وبعد سيادته بني معد، فبغى على قومه، وصار يتعسف في احماء الحمى، فلا يرعى حماه اًحد، ولا يصاد فيه ولا ترَِدُ إبل مع إبله، ولا توقد نار مع ناره، وبقي كذلك حتى قتله "جساّس بن مرّة الوائلي"، فتوالت الحروب بين تغلب وبكر وائل بسبب ذلك.

وقد اختلف الأخباريون في هذا اليوم، واختلفوا في اسم قائد قبائل معد فيه، واختلفوا في اسم مَلك اليمن الذي في عهده وقع، واختلفوا في زمن وقوعه، وفي سببه، فقالوا: إن رئيس معد فيه هو "كليب بن ربيعة"، و قالوا: بل هوُ زرارة بن عدس، وقالوا: لا، وإنما هو ربيعة بن الأحوص بن جعفر. ويذكر بعضهم أنه وقع بعقب يوم السّلاّن،وأنه كان لجموع ربيعة ومضر وقضاعة على مذحج وغيرهم من اليمن.

وذكر جماعة من أهل الأخبار، أن "الأحوص بن جعفر بن كلاب"، كان على نزِار كلها يوم خزاز، ثم ذكرت ربيعة أخيراً من الدهر أن كليباً كان على نزار. وتوسطت جماعة بين الرأيين، فقالت: كان كليب على ربيعة، وكان الأحوص على مضر.

وسبب اختلافهم في ذلك هو دور العصبيات القبلية، والنزعات العاطفية عند الرواة. ذكر أهل الأخبار ان جماعة من وجوه أهل البصرة، كانوا يتجالسون يوم الجمعة ويتفاخرون ويتنازعون في الرياسة يوم خزاز، فتعصب كل قوم لرئيس من الرؤساء الذين ذكرت. وقد تحاكموا إلى "عمر بن العلاء" وكانوا في مجلسه، فقال: ما شهدها عامر بن صعصعة ولا دارم بن مالك، ولا جُشمَ بن يكر، اليوم أقدم من ذلك. ولقد سألت عنه، فما وجدت أحداً من القوم يعلم من رئيسهم ومَنْ الملكْ. وقد أنكر بعضهم اْن يكون لكليب بن ربيعة دور بارز فيه. والظاهر أن روايات الرواة عن هذا اليوم، وهي شفوية بالطبع،كانت متضاربة تضارباً كبيراً بسبب بعد عهد ذاكرتهم عنه، كما كانت متنافرة بسبب العواطف والنزعات القبلية، وتعصب كل راوٍ لقبيلته. فلما جاء مدوّنو الأخبار لجمع ما في حافظة رواة القبائل عن هذا اليومً، وجدوا اختلافاً كبيراً، حاولوا جهد امكانهم التوفيق بينه، واستخراج قصة موحدة عنه، فجاؤوا بهذا الذي جاؤوا به.

وترجع رواية من روايات أخبار هذا اليوم،سبب وقوعه إلى جباية اًهل اليمن لقبائل معدّ. "كان الرجل منهم يأتي،ومعه كاتب وطنفسة يقعد عليها، فيأخذ من اموال نزار ما شاء، كعمال صدقاتهم اليوم،.وكان أول يوم امتنعت معد عن الملوك: ملوك حمير". فلما ضجرت نزار وبقية قبائل معد من هذه الجباية القاسية، ومن هذا التعسف، هاجت على اليمن، وأعلنت عصيانها على القحطانيين، فوقع هذا اليوم. أوقدت ناراً على خزاز ثلاث ليال، ودخنت ثلاثة أيام. فلما أحست مذحج باجتماع "معد"، سارت على نزار ومن انضم اليها من معد، فوقع يوم خزار.

وجاء في رواية أخرى، ان سبب هذا اليوم هو احتباس ملك من ملوك اليمن أسرى من مضر وربيعة وقُضاعة، وامتناعه عن فك أسرهم، وذلك في عهد "كليب". فجاءه وفد من بني معد فيهم: سدَُوس بن شيبان بنُ ذهل، وعوف بن محلّم بن ذهل بن شيبان، وعوف بن عمرو بنُ جشم بن ربيعة بن زيد مناة، وجشم بن ذهل بن هلال. فلقبهم رجل من بهراء يسمى عبيد بن قُراد، وكان في الأسر وكان شاعراً، فسألهم أن يدخلوه في عدّة من يسألون.

فكلموا الملك فيه وفي الأسرى، فوهبهم لهم، وأبقى الملك بعض أفراد الوفد رهائن حتى يأتي الباقون برؤساء قومهم ليأخذ عليهم مواثيق الطاعة. فرجع الباقي إلى قومهم وأخبروهم الخبر، فاجتمعت ربيعة ومعد تحت راية "كليب بن ربيعة" "كليب وائل"، فسار ومعه "السفاح التغلبي" وهو سلمة بن خالد بن كعب ابن زهير بن تيم بن أسامة بن مالك بن بكر بن حبيب بن تغلب، وقد جعله "كليب" على مقدمة معد، وأمر "كليب" أن توقد النار على خزاز،ليهتدوا بها. فلما سمعت مذحج باجتماع ربيعة، استعدت هي ومن يليها من قبائل اليمن للقتال، وساروا اليهم. فلما سمع أهل تهامة بذلك انضموا إلى ربيعة، و ساروا كلهم إلى خزاز. فلما التقى الطرفان، اقتتلوا قتالاً شديدا، فانهزمت مذحج شرهزيمة فيه.

و لياقوت الحموي رواية أخرى في سبب وقوع هذا اليوم، فهو يقول إن مضر و ربيعة اجتمعت على أن يجعلوا منهم ملكاً يقضي بينهم،فكلٌ أراد أن يكون منهم،ثم تراضوا أن يكون من ربيعة ملك ومن مضر ملك،ثم أراد كل بطن من ربيعة ومن مضر أن يكون الملك منهم، ثم اتفقوا أن يتخذوا ملكاً من اليمن، فطلبوا ذلك إلى بني آكل المرار من كندة، فملكوا أولاد الحارث بن حجر الكندي عليهم، ثم ما لبثوا أن ثاروا عليهم وقتلوهم، فكان حديث يوم الكلاب.

ولم يبق من ولد الحارث غير سلمة، فجمع جموع اليمن وسار ليقتل نزاراً، وبلغ ذلك نزاراً فاجتمع بنو عامر وبنو وائل، وتغلب وبكر، ويلغ الخبر كليب وائل، فجمع ربيعة، وقدم على مقدمته السفاح التغلبي، فكان يوم خزاز،وقد انتصر بنو نزار فيه على القبائل اليمانية. وهذه الرواية قريبة جداً من رواية "اليعقوبي" عن هذا اليوم.

وقد أشار "عمرو بن كلثوم التغلبي" إلى هذا اليوم، وافتخر به، كما افتخر ب "كليب وائل "، وذكر اًن قومه أعانوا نزاراً في محاربتهم اليمن في ذلك اليوم. وذكر بعض أهل الأخبار أنه "لولا عمرو بن كلثوم ما عُرف يوم خزاز". وذلك لذكره له في شعره.

وقد ذكر هذا اليوم عدد آخر من الشعراء منهم "زهير" والسفاّح التغلبي، وهو سلمة بن خالد من الجرارين للجيوش، وقد قاد قومه يوم كاظمة، وقيل له السفّاح لأنه سفح المزاد أي صبَّها في ذلك اليوم حتى يقاتلَ قومه قتال المستميت، وكان من خطباء حرب بكر وتغلب.

وذهب بعض أهل الأخبار الى أن يوم خزاز هو "أعظم يوم التقت فيه العرب في الجاهلية". وهو رأي يعبر عن وجهة نظر العدنانيين بالطبع. ففي هذا اليوم انتصرت نزار ومن انضم اليها من قبائل مَذحج ومن انضاف اليها من قبائل اليمن ولم يسبق لقبائل نزار،وهي مضر وربيعة وبقية معدّ أن تغلبت على القبائل الكبرى المنظمة المنتمية إلى اليمن. فكان يوم نصرها هذا من أعظم الأيام عندها، بعث فيها روح المقاومة والاعتماد على النفس في مقاومة القبائل القوية الي تنسب نفسها إلى اليمن.

وإذا أخذنا برأي القائلين إن يوم خزار كان عقب يوم السلاّن، يكون هذا اليوم قد وقع أيام النعمان بن المنذر، اي في أواخر اًيام المناذرة وفي النصف الثاني من القرن السادس للميلاد، إذ يذكر الأخباريون أن سبب وقوع يوم السلاّن هو ان بني عامر بن صعصعة كانوا قوماً حمساً، أي متشددين في دينهم، لقاحاً لا يدينون للملوك. وكان من عادة النعمان بن المنذر أن يجهز كل عام لطيمة لتباع بعكاظ، فتعرّض لها بنو عامر، فغضب النعمان، وبعث عليهم وَبْرةَ الكلبي أخاه لأمه ومعه الصنائع والوضائع وجماعة من بني ضبة بن أد والرباب وتميم، وانضم اليهم ضرار بن عمرو وأولاده، وهم فرسان شجعان، وحبيش ابن دلف، وطلب منهم أن يذهبوا إلى عكاظ فإذا فرغوا من البيع، وانسلخت الأشهر الحرم، قصدوا بنيَ عامر بنواحي السلاّن.

فلما فرغوا من عكاظ، علمت بخطتهم قريش، وأرسل عبد الله بن جدعان قاصداً أخبر بني عامر بغرض القوم، فحذروا وتهيأوا للحرب، وتحرزوا ووضعوا العيون، وسلموا قيادتهم لفارس شهير معروف هو عامر بن مالك المعروف بملاعب الأسنة. فلما التقوا تغلبوا على قوة النعمان وهزموها، وأخذوا وبرة أسيراً. ولم يفكوه من أسره إِلا بألف بعير وفرس ويدخل يوم الكلاب الثاني في عداد هذه الأيام. وقد وقع عقب يوم الصفقة، وقع بين تميم وبني سعد و الرباب وبين مذحج ومن التف حولها من قبائل اليمن.

فلما بلغ مذحج ما حل بتميم بالمشقر وبهجر بعد الصفقة، وما سمعته من تخوفهم من انتقام كسرى كل مرة ثانية منهم ومن دوران العرب عليهم، مشى رجال مذحج بعضهم إلى بعض، وقالوا: اغتنموا بني تميم، ثم بعثوا الرسل في قبائل اليمن وأحلافها من قضاعة، ثم سألت مذحج كاهنها المأمور "الحارثي" في أمر هذا الهجوم فنهاها، ولكنها لم تأخذ برأيه، بل سارت طامعة في تميم، وقد جمعت اثني عشر ألف مقاتل، من مذحح وهمدان و كندة: وهو أعظم جيش أخرجه العرب كما يقول علماء الأخبار.وكان من رجالهم يزيد بن عبد المدّان، ويزيد ابن المخرم، ويزيد بن الكيشم "الكيسم" "اليكسم" بن المأمور "المأموم"، ويزيد بن هوبر وهم كلهم حارثيون، ومعهم عبد يغوث الحارثي، وأقبلت بنو سعد والرباب. ورئيس الرباب النعمان بن جسّاس ورئيس سعد بن قيس بن عاصم،والتقت في أوائل الناس بجموع مذحج وهمدان وكندة، واختلطوا واقتتلوا قتالاً شديداً انتهى في آخر النهار بمقتل "النعمان بن جساس". وقد دفع مقتله بني تميم على الثبات والوقوف للأخذ بالثأر، حتى تمكنت من الانتقام لنفسها، بأن انتصرت على اليمن. فأسر "عبد يغوث بن وقاص الحارثي"، "عبد يغوث ابن صلأة الحارثي" سيد "بني الحارث"، وقتل خمسة من أشراف اليمن، وأخذت الرباب "عبد يغوث" وقتلته بقتل "النعمان بن جساس". وهكذا انتهى هذا اليوم بفوز بني تميم. وكان رئيسها في هذا القتال: قيس بن عاصم. ويسمى الكلاب الثاني: يوم جز الدوابر.. و دعاه "ابن رشيق القيرواني" ب "يوم الشعيبة ".

ونعت بعض أهل الأخبار اليزيديين الأربعة المذكورين وهم قادة القوم: يزيد ابن هوبر، ويزيد بن عبد المدّ ان، ويزيد بن المأموم، ويزيد بن المخرم،

ب "أربعة أملاك". ويدل ذلك على انهم كانوا يلقبون بلقب ملك، وأن"بني الحارث" كانوا قد نصبوهم عليهم، وإن كان لقب "ملك" لا يتجاوزفي الواقع لقب "شيخ" في عرف هذا اليوم.

وكان من ابرز رجال تميم في هذا اليوم سبعة من رؤسائهم، هم: أكثم بن صيفي، والأحيمر "الأعيمر" بن يزيد بن مُرّة المازني، وقيس بن عاصم المنقري، وأبير بن عصمة التيمي، والنعمان بن جساس "الحسحاس." التيمي، وأبين بن عمرو السعدي، والزبرقان بن بدر السعدي. وبرز فيه اسم "مصاد بن ربيعة بن الحارث" و "عصمة بن أبير التيمي" وهو الذي أسر "عبد يغوث"، و "قبيصة بن ضرار الضبيّ"، وهو الذي شدّ على "ضمرة بن لبيد الحماسي الكاهن" فطعنه وخرّ صريعاً،فقال له قبيصة: ألا انبأك تابعك بمصرعك اليوم.

وأما "الكلاب الأول"، فكان لسلمة ين الحارث بن عمرو المقصور،ومعه: بنو تغلب والنمر بن قاسط، وسعد بن زيد مناة والصنائع، على أخيه "شرحبيل ابن الحارث بن عمرو"، ومعه بكر بن وائل بن حنظلة بن مالك، وبنو أسد، وطوائف من بني عمرو بن تميم، والرباب. فقتل "شرحبيل"، قتله "أبو حنش عاصم بن النعمان الجشمي"، ويقال: بل قتله "ذو الثنيةّ حبيب ابن عُتبة الجشمي".

ومن هذه الأيام يوم "فيف الريح"، وهو موضع بأعلى نجد، وقع بين مذحج وعامر. وسببه أن "بني عامر " كانوا يطلبون " بني الحارث بن كعب " بأوتار كثيرة، فجمع لهم الحصين بن يزيد الحارثي، وكان يغزو بمن تبعه من قبائل مذحج وأقبل في بني الحارث وجُعفي، وزبيد، ومراد، وقبائل سعد العشيرة، ومراد، وصداء، ونهد، واستعانوا بقبائل خَثعم وعليهم أنس بن مدرك، فخرج شهران وناهس وأكلب عليهم أنس بن مدرك، وأقبلوا يريدون بني عامر، وهم منتجعون "فيف الريح"، ومع مذحج النساء والذراري، حتى لا يفروا، إما ماتوا جميعاً.فاجتمعت بنو عامر كلها الى عامر بن الطفيل "عامر بن مالك ملاعب الأسنة"، والتقى الجمعان في قتال لم يعط نصراً بيناً لأحد الطرفين، إذ وقع القتل في الفريقين، ولم يستقلّ بعضهم عن بعض غنيمة، وكان الصبر والشرف لبني عامر. وممن قتل أو جرح فيه: الصُميل بن الأعور الكلابي، وحسيل بن عمرو الكلابي، وخليف بن عبد العزى النهدي، وكعب الفوارس بن معاوية بن عبادة بن البكاء، وعامر بن الطفيل.

ومن أيام القحطانيين مع العدنانيين "يوم ظهر الدهناء". كان أوس بن حارثة بن لأم سيداً في قومه طيء، مطاعاً فيهم، جواداً معروفاً. جباه النعمان ابن المنذر حلة على العادة المتبعة عند ملوك الحيرة في تكريم الرؤساء الذين يفدون عليهم، وفضله على غيره، بأن طلبه وكان غائباً دون قوم من السادة الأشراف، فاغتاظ حساده من ذلك وأوعزوا إلى بعض الشعراء بهجائه،فهجاه بشر بن ابي خازم وهو من بني أسد، وأسرف في هجائه، فاغتاظ أوس من ذلك، وجمع قومه. من طيء، وأوقع ببني أسد بظهر الدهناء، وقتل منهم قتلاً ذريعاً، فانهزمت منه، وهرب بشر، فجعل لا يأتي حياً يطلب جوارهم إلا امتنع من إجارته على أوس إلى ان التجأ إلى أم أوس، فأجارته، وأجاره أوس عندئذ، وعفا عنه، ومنّ عليه وأعطاه وحباه، فانقلب مادحاً له.

والأيام التي ذكرها الأخباريون عن حروب العدنانيين مع ملوك اليمن للحصول على استقلالهم، قليلة. ولا يعني حكم اليمن للعدنانيين أن تبابعة اليمن كانوا يحكمون تلك القبائل حكماَ مباشراً، وانما هو في الواقع وكما يظهر من غربلة هذه الروايات حكم كان يتسع ويتقلص تبعاً لقدرة الحكام وشخصياتهم، ولاتفاقاتهم مع سادات تلك القبائل،ولأن القبائل العدنانية هي قبائل بدوية في الغالب لا تستقرعلى حال، ومن طبع البداوة التنازع والتخاصم. ثم إن سادات القبائل كانوا كما هو شاًنهم في كل وقت متنافسين متخاصمين، لذلك وجد ملوك اليمن، وهم ملوك شعب أكثريته مستقرة، من السهل عليهم التدخل في شؤون تلك القبائل بتأييد هذا الرئيس على منافسه، وبتعيين رئيس من رؤساء القبائل الكبيرة على قبيلة أو جملة قبائل أخرى ضعيفة أو متخاصمة، لتهيئة الحال واقرار الأمن. فصار من العادة بين القبائل العدنانية، بل بين القبائل القحطانية كذلك، أو بين كبار سادات القبائل، أن يلجأوا إلى التبابعة للتدخل في الخصومات واقرار الأمن بالحكم بين المتخاصمين، أو بعيين رجل محترم كبير من اليمن أو من غير اليمن عليهم.ونجد بين روايات الأخباريين روايات تؤيد هذا الرأي.

ويدخل الأخباريون في أيام العدنانيين مع القحطانيين الأيام التي وقعت بين القبائل العدنانية وبين ملوك الحيرة لاعتدادهم من قحطان. وكذلك يدخل أهل الأخبار في أيام القحطانية مع العدنانية، والأيام التي وقعت بين ملوك بني سليح والغساسنة من بعدهم وبين القبائل العدنانية، والأيام التي وقعت بين كندة وبين القبائل العدنانية.

وإذ أسلفت الكلام على ايام تلك الحكومات مع القبائل العدنانية في المواضع المناسبة، فإني أكتفي بالاشارة اليها، على أمل الرجوع إلى تلك الأماكن لمن يريد الوقوف عليها.

أما أشهر اًيام القحطانيين، فالأيام التي وقعت بين المناذرة والغساسنة، والأيام التي وقعت بين هؤلاء الملوك وملوك كندة وأمرائها، ثم الأيام التي وقعت بن القبائل المنتسبة إلى اليمن، مثل الأيام التي وقعت بين الأوس والخزرج، والأيام التي وقعت بين قبائل طيء، وأمثال ذلك. ولما كنت قد تحدثت عن معظم هذه الأيام، فسأكتفي بما تحدثت عنها، وأتحدث عن النابه من بقية الأيام فقط مما لم أتحدث عنه سابقا.

وتؤلف الأيام التي وقعت بين القبائل العدنانية الجزء الأكبر من أيام العرب، وهي أهمها وأغناها بالشعر والأمثال والقصص. وكان لتميم وبكر وتغلب أثر خطير فيها. وأشهر هذه الحروب، الحرب المسماة بحرب البسوس، وقعت بين بكر وتغلب ودامت أربعين عاماً على ما يذكره الأخباريون.

وتغلب وبكرهما من قبائل ربيعة، لذلك تكون حرب البسوس من الحروب التي وقعت بين قبائل ربيعة، لأن أيام العدنانيين هي أيام وقعت بين قبائل ربيعة وحدها، وأيام وقعت بين قبائل من ربيعة وقبائل من مضر، وأيام وقعت بين قبائل مضر.

وذكر بعض أهل الأخبار أن أشهر أيام بكر وتغلب، خمسة أيام مشاهير. أولها يوم عنيزة و تكافأوا فيه، والثاني يوم واردات، وكان لتغلب على بكر.

والثالث يوم الحنو، وكان لبكر على تغلب. والرابع يوم القصيبات، وكان لتغلب على بكر. والخامس يوم قِضة، وهو آخر أيامهم، وكان لبكر. وفيه أسر مهلهل بن ربيعة.

وتولد من هذه الحرب قصص وشعر، ونسب إلى أبطال الأيام التي وقعت فيها، وأمثلةُ ذكر انها قيلت في المناسبات، صارت على العادة أمثلة شائعة بين الناس.

وليست حرب البسوس في الواقع حرباً واحدة، انما هي حروب عدة وقعت في تلك المدة المذكورة وفي اوقات متقطعة إلى أن انقطعت بوساطة المنذر بن السماء وتدخله بين الفريقين.

والذي أثار نيران هذه الحرب هو جسّاس بن مرة بن ذهل بن شيبان أخو "جليلة" امرأة كليب بن ربيعة سيد قومه تغلب، وذلك بقتله كليباً، لأنه أدمى ضرع ناقة للبسوس خالة جساس، إذ كانت ترعى في أرض حماها كليب ومنع الرعي فيها إلا لإبله. وقد أثار عمل كليب هذا غضب جساس، فقتله، وثارت بذلك الحرب بين تغلب وبكر قوم جساس.

وكليب بن ربيعة، أو "كليب وائل" كما يعرف عند بعض أهل الأخبار،

هو وائل بن ربيعة بن الحارث بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو ابن غنم بن تغلب. رجل صلب قويّ، تمكن بمواهبه وبقدرته من السيطرة على قبائل ليست السيطرة عليها بأمر سهل يسير، ومن إقامة نفسه ملكاً عليها، ومن أخذ الإتاوة من القبائل، ومن الانتصار على قبائل اليمن في يوم خزاز. وبقي على ذلك دهراً، حتى داخله و هو شديد، فأخذ يبغي على القبائل ويشتط في أخذ الإتاوة منها وفي اتخاذ خيرة الأرضين المخصبة أحماء لا يجوز لإبل غيره الرعي فيها، ولا الاستيلاء على مواضع الماء، حتى ضجرت الناس منه، فكانت نتيجته ما تقدم.

وأخذ المهلهل "واسمه عدي بن ربيعة"، وهو أخو كليب على نفسه عهداً بأن يترك النساء، والغزل، والقمار، والشراب، حتى يثأر بقتل أخيه، وجمع قومه، ووقعت حروب. ومهلهل هذا هو أول من هلهل الشعر، أي أرقه على حد رواية أهل الأخبار.

وقد أقام أصحاب "كليب" قبة رفيعة على قبره، تكريماً له. شأن الجاهليين في ذلك الزمن من إقامة القباب على قبور الكبار.

وفي جملة الأيام التي يدخلها أهل الأخبار في حرب البسوس: يوم النهي، ويوم الذنائب، ويوم واردات، ويوم عنيزة، ويوم القصيبات، ويوم تحلاق اللمم.

وكما كان كليب سيد تغلب، كذلك كان زهير ين جذيمة العبسي سيد قيس عَيٌلان. وقيس عيلان قبائل كبرى عديدة، كان لها شأن بين القبائل وخطر، ترأس غطفان، وقادها كلها وساد على عبس وذبيان، ولمكانته هذه ولسؤدده تزوج اليه النعمان بن امرىء القيس ملك الحيرة، فتوسع بذلك نفوذه وعظمت منزلته عند القبائل، ولا سيما القبائل المتصلة به والقبائل الخاضعهّ لملوك الحيرة.

واتفق ان أحد أولاد زهير - واسمه شأس - كان عائداً من زيارته للنعمان ومعه هدايا ثمينة وألطاف فاخرة حباه بها النعمان، فطمع به رجل من غنيّ اسمه "رياح بن الأسك الغنوي" وقتله بموضع منعح. فلما علم بذلك أبوه، أخذ بقتل كل من وقعت عليه يده من غنيّ. وغزت بنو عبس غنياً ومعها الحصين بن زهير أخو شأس، فطلبت غنيّ من رياح ترك أرضها والارتحال عنها، وصار هذا القتل سبباً لإثارة البغضاء بين عبس وغنيّ لما أوقعه زهير بغنيّ من القتل.

ويوم منعج ويسمى أيضاً ب "يوم الردهة"، من الأيام التي وقعت بين قبائل قيس. ومن هذه الأيام: يوم النفراوات "النفرات"، ويوم بطن عاقل وداحس والغبراء، والرقم، والنتاءة، وحوزة الأول، وحوزة الثاني، واللوى.

وكان زهير يأخذ الإتاوة من هوازن كرهاً،تدفعها اليه كل عام بسوق عُكاظ وهي مكرهة. وكانت هوازن تعترف بسيادته عليها وتعتبره رباً، وهي يومئذ لا خير فيها، وإنما هي رعاة الشاء في الجبال. فإذا كانت أيام عكاظ أتاهما زهير، ويأتيها الناس من كل وجه، فتأتيه هوازن بالإتاوة التي عليهم، فيأتونه بالسمن والأقط والغنم، ثم إذا تفرق الناس نزل بالنفراوات. فلما كان الدفع، ذهب زهير على عادته لأخذ الإتاوة، انتهز "خالد بن جعفر بن كلاب" هذه الفرصة، فذهب إلى هوازن، وحرضها على زهير. فلما بلغ زهير أطراف بلاد هوازن، باغته خالد بن جعفر ومعه جمع من هوازن، فقتل زهير، ورجع به أبناؤه إلى بلادهم ليدفنوه. وقط عرف اليوم الذي قتل فيه زهير بيوم النفراوات.

وعزمت غطفان على الأخذ بثأر زهير من خالد، فخاف خالد على نفسه منها، وفرّ إلى الحيرة ليستجير بالنعمان في رواية،أو بالأسود بن المنذر في رواية أخرى. عندئذ تعهد الحارث بن ظالم المريّ. وهو فاتك معروف، لبنى زهير بقتل خالد إذا كفت غطفان عن هوازن، وقد برَّ بوعده، إذ اغتاله وهو في قبة كان النعمان قد أمر بنصبها له. وذلك ببطن عاقل، فعرف اليوم به. فلما علم بذلك النعمان، أمر بطلبه ليقتله بجاره، وأخذت هوازن تطالب به لتقتله بسيدها خالد.

ففرّ الحارث إلى بني دارم من تميم، واستجار بضمرة بن ضمرة بن جابر ن قطن، فأجاره ضمرة على النعمان وهوازن، فكان ذلك سببأ لتجهيز النعمان جيشاً على بني دارم انتقاماً منها لتجاسرها على ايواء من يطلب قتله.

وورد في رواية أخرى أن لجوء "الحارث بن ظالم" كان إلى "معبد بن زرارة"، وأن بني تميم استاءت من لجوئه إليه، لأنه أوى هذا المشؤوم الأنكد، وأغرى بهم الأسود ملك الحيرة، وخذلوه غير بني ماوية وبني عبد الله بن دارم.

وجاء في خبر أن "الحارث بن ظالم" كان عند "حاجب بن زرارة بن عدس بن عبد الله بن دارم". وقد وعده النصرة والمنعة. وبلغ الأحوص بن جعفر الكلابي أخو خالد بن جعفر، مكان الحارث بن ظالم، فسار على تميم، حتى أدركها ب "حرحان"، فاقتتلوا اقتتالاً شديداً، وانهزمت بنو تميم، وأسر معبد بن زرارة، أسره عامر والطفيل ابنا مالك بن جعفر بن كلاب. فوفد لقيط بن زرارة في فدائه، وعرض عليهما مئتي بعير في فدائه، فامتنعا قائلين: أنت سيّد الناس، وأخوك معبد سيد مضر، فلا تقبل فيه إلا دية ملك. فأبى أن يزيدهم، ورجل لقيط عن القوم ومنع بنو عامر معبداً عن الماء وضارّوه حتى مات هزالاً.وورد في رواية انه أبى أن يطعم في شيئا أو يشرب حتى مات هزالاً.

وأمر النعمان جيشه بالتوجه إلى بني دارم، وانضم اليه الأحوص بن جعفر أخو خالد، ومعه جمع بني عامر، للانتقام من الحارث قاتل خالد. فعلمت بنو دارم بمجيء الجيش، واستعدوا للقتال، فلما التقى الجمعان، قتلت بنو مالك ابن حنظلة "ابن الخمس التغلبي" رئيس جيش النعمان، وصبرت بنو دارم، وأقبل قبس بن زهير فيمن معه، فانهزمت بنو عامر، وانهزم جيش النعمان، وعادوا إلى ديارهم، وكان رئيس بني دارم زرارة بن عدس سيّد بني تميم.

وهناك روايات أخرى عن هذا الحادث وعن الحارث ذكرتها في الفصول السابقة.

وصارت الرئاسة إلى قيس بعد مقتل والده "زهير بن جذيمة العبسيّ"، ويصفه الأخباريون بجودة الرأي وبحسن التجارب،ويقولون إنه لذلك عرف ب "قيس الرأي"، ويذكرون له في ذلك أقوالاً وحكماً ونصائح، ويروون طائفة من ذلك، ولا سيما مما قاله في مناسبات حرب داحس والغبراء.

ويذكر أهل الأخبار أن قيس بن زهير بن جذيمة العبسي، كان قد سار الى المدينة ليتجهز لقتال عامر، والأخذ بثاًر أبيه، فأتى "أحيحة بن الجُلاح" ليشتري منه درعاً موضونة، فقال له: لا أبيعها، ولولا أن تذمني بنو عامر لوهبتها منك، ولكن خذها بابن لبون. ففعل ذلك، وأخذ الدرع، ووهبه أحيحة أدراعاً، و عاد قيس الى قومه، فاجتاز بالربيع بن زياد العبسي، فدعاه إلى مساعدته.على الأخذ بثأره، فأجابه إلى ذلك. فلما أراد فراقه، نظر إلى عيبته فقال: ما في حقيبتك ? قال: متاع عجيب،لو أبصرته لراعك،وأناخ راحلته، وأخرج الدرع، فأخذها ومنعها من قيس، ولم يعطه اياها، وترددت الرسل بينهما. فلما طالت الأيام على ذلك، سيّر قيس أهله إلى "مكة، فأغار قيس على نعم الربيع، واستاق منها أربع مئة بعير، وسار بها إلى مكة وباعها من عبد الله ابن جدعان واشترى بها خيلاّ، وتبعه الربيع فلم يلحقه، فكان فيما اشترى من الخيل داحس والغبراء.

وقد اقترن اسم قيس بهذه الحرب الشهيرة التي يتناقل الناس قصصها الطريفة حتى اليوم، وهي حرب ثارت بين عبس و ذبيان بسبب إختلاف على سباق خيل كان قد تراهن عليه حذيفة بن بدر بن فزارة سيد ذبيان و قيس بن زهير، اشتركت فيه خيار خيل قيس و حذيفة وفي مقدمتها داحس والغبراء والخطار والحنفاء. وقد ادعى كل واحد من المتنافسين أن فرسه كان السابق، وانه هو الكاسب للرهان في قصص طويل يتخلله شعر وكلام وجواب. وانتهى النزاع الى ما ينتهي اليه كل نزاع من هذا القبيل، وهي الحرب.

وهي حرب استمرت سنين،قتل فيها حذيفة بن بدر وعدة رؤساء،واشركت فيها شيبان وضبة وأسد وغطفان وقبائل أخرى، كما ساهم فيها ملك هجر، وامتدت إلى أن اتصلت بالإسلام. وللشاعر زهير بن أبي سلمى ذكر فيها. ولم تنته إِلا بتوسط الرؤساء حيث سوّيت بدفع الديات، وبإنهاء تلك الحرب التي شغلت تلك القبائل وأقلقت الأمن لذلك السبب التافه على زعم قول الرواة.

وفي جملة حروب داحس والغبراء، يوم العذق، وهو ماء، انهزمت فيه فزارة، وقُتلوا قتلاً ذريعاً، وأسر حذيفة، فاجتمعت غطفان وسعت للصلح، فاصطلحوا على أن يهدر دم بدر بن حذيفة بدم مالك أخي قيس، وتساووا فيما بقي، فأطلق حذيقة من أسره.

ثم وقعت حرب أخرى، مثل يوم "البوار"، وكان الفوز فيه لعبس على فزارة وأسد وغطفان، و يوم الهباءة، ويوم الجراجر، إلى غير ذلك من أيام.

ولامتداد هذه الحرب سنين عديدة، وانتشارها خارج نطاق حدود قبيلتي عبس وذبيان، شملت أرضين واسعة، وتخللتها جملة أيام لها اسماؤها. وهي بالطبع كلها من أيام هذه الحرب: حرب داحس والغبراء.

وإذا قرأت قصة داحس والغبراء، قرأت قصص شجاعة بطل مغوار أظهرشجاعة فائقة في هذه الحرب، وكان له فيها شعر، هو عنترة بن شدّاد العبسي. وقصص شجاعة عنترة معروفة حتى اليوم،مشهورة، يسمعها الناس بشوق ورغبة، وهي عندهم أشهر من قصص داحس والغبراء: هذه الحرب التي خلد اسمها هذا الشعر وأمثاله.

وفي يوم الرقم، غزت بنو عامر غطفان وعليهم عامر بن الطفيل شاباً لم يرأس بعد، فخرجت اليهم بنو مُرّ ة بن عوف، وأشجع، وناس من فزارة،وكلهم من غطفان، فقاتلوا بني عامر، وتغلبوا عليهم. وفَرّ عامر بن الطفيل، وشنق الحكم بن الطفيل نفسه، ليتخلص بذلك من الأسر. ويروي الأخباريون لعروة ابن الورد وللنابغة الذبياني ولعامر بن الطفيل شعراً ذكروا أنهم قالوه في هذا اليوم.

وقد منيت بنو عامر بهزيمة أخرى يوم النتاءة، وكانت قد خرجت إلى غطفان تريد الأخذ بثأرها من هزيمة يوم الرقم، فأغارت على نعم بني عبس وذبيان وأشجع فأخذوها، فتعقبتها عبس وأشجع وفزارة حينما عادوا بالغنائم، والتحموا بها، وأوقعوا بها هزيمة كبيرة، وقتلت كثيراً منهم، ونجا عامر بن الطفيل بفرسه المشهور المسمى الورد.

وقد منيت بنو عامر بهزيمة أخرى يوم شواحط الذي وقع بين بني عامر وبني محارب بن خصفة، وذلك حينما أغارت جماعة من بني عامر على بلاد غسان.

ويعدّ عامر بن الطفيل من فرسان العرب المشاهير. وهو من المعاصرين للرسول، وقد تعرّض لنفر من أصحاب رسول الله كان الرسول قد أرسلهم بناءً على رغبة "أبي براء عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب" ملاعب الأسنة. وكان سيد بني عامر بن صعصعة،وذلك ليعلّموا أهل نجد الإسلام ويفقهوهم في الدين. وقد تعهد للرسول بأن يحميهم، وأن يكونوا في جواره. فلما بلغ النفر "بئر معونة "عدا عليهم "عامر بن الطفيل" فقتلهم، واستاء من ذلك أبو براء.

ووقعت بينُ سليَم وغطفان حرب بسبب مقتل معاوية بن عمرو بن الشريد السُلمي، يوم حوَْزة الأول، وكان سبب هذا اليوم تأثر معاوية من كلام امرأة من بنيُ مر"ة كانت جميلة وسيمة دعاها لنفسه، وقد رآها بعكاظ، فامتنعت، فغزا لذلك بنيُ مرة. فلما علمت بنو مرة بقدومه عليهم، تجهزوا له وقتلوه. فقرر صخر بن عمرو الشريد السُلمي الانتقام من قتلة أخيه، فأغار على بني مرة في يوم حوزة الثاني، وقتل دريد بن حرملة أخا هاشم بن حرملة رئيس بني مرة. ثم قتل رجل من بني جشم هو عمرو بن قيس الجشمي هاشم بن حرملة،فاستراحت بذلك بنوُ سليم، وسرّت الخنساء بمقتل هاشم، ولها شعر كثير في رثاء أخويها معاوية وصخر.

وقد توفي صخر على أثر إصابته بجرح ظل يفتك به مدة طويلة، أصيب به في غزوة غزا بها بني أسد بن خزيمة. فتعقبته بنو أسد لتخلص إبلها منه،وكان قد اكتسحها منهم في هذا الغزو، فلما كان في موضع ذات الأثل، لحقت به وجرحته فقضى هذا الجرح عليه.

ومن أيام هوازن وغطفان يوم اللّوى، وقد قتل فيه عبد الله بن الصمة أخو دريد بن الصمة. وكان عبدالله قد غزا مع بني جشم وبني نصر أبناء معاوية بن بكر بن هوازن غطفان، فظفر بهم وساق أموالهم. وبينما كان عائداً بغنائمه، فاجأته عبس وفزارة وأشجع في موضع اللوّى، فقتلوه واستعادوا ما كان قد غنمه منهم، وجرح دريد أخوه. فلما شفي دريد من جرحه، أغار على غطفان لينتقم منها لمقتل أخيه، وقتل رجالاً منهم، واستاق جملة أسرى. وقد عرف هذا اليوم بيوم الغدير.

ويذكر أهل الأخبار أنه قد كان بين "دريد بن الصمة" و "ربيعة بن مكدم" يوم، عرف ب "يوم الظعَّينة". وكان دريد قد خرج في فوارس من "بني جُشَمَ" حتى إذا كان في واد يقال له: "الأحزم " وهم يريدون الغارة على بني كنانة،رفع له رجل في ناحيًة الوادي ومعه ظعينة، فأرسل فرساناً من فرسانه ليأتوا اليه بخبره، فلم يعودوا، فذهب "دريد" بنفسه اليه ليراه، فأخذ الرجل منه رمحه وخلىّ، ثم انصرف دريد إلى أصحابه، ثم لم تلبث "بنو كنانة" أن أغارت على بني جُشمَ، فقتلوا وأسروا "دريد بن الصمة"، وكان الرجل الذي أخذ رمح دريد يوم الظعينة، هو "ربيعة بن مكدم"، فلما سأل "دريد" وهو في الأسر عنه، قيل له: "قتلته بنو سليم"، ثم أطلق، وجهز، ولحق بقومه. فلم يزل كافاً عن غزو بنى فراس حتى هلك.

ولدريد يوم مع غطفان عرف ب "يوم الصلعاء". وقد انتصرت فيه هوازن على غطفان، وقتل فيه دريدُ ذؤاب بن زيد بن قارب.

ودريد بن الصمّة من الفرسان المعروفين كذلك، وقد ترأس قومه في عدة غزوات. ويعده الأخبارّيون في جملة البرص الأشراف، وهو ممن أدرك الإسلام.

و "ربيعة بن مكدّم" فارس مشهور، وهو فارس بني كنانة، وبنو كنانة من أنجد العرب، عرفوا بالشجاعة حتى قيل إن الرجل منهم يعدل بعشرة من غيرهم. وصادف أن قتلت "بنو فراس" رجلين من بني سُليَمْ، فحقدت بنو سليم عليهم. فلما كان ظعن من بني كنانة ب "الكديد"، وفيهم ربيعة بن مكدّم، تلقاهم قوم من "بني سلُيم"، فاقتتلوا معهم، وقتل ربيعة في ذلك اليوم. ولما دفن عقر على قبره. وكان "يعقر على قبره في الجاهلية، ولم يعقرعلى قبر أحد غيره".

ولما قتلت بنو سليم "ربيعة بن مكدّم"، غزا "مالك بن خالد بن صخر ابن الشريد" سيد "بنيُ سليم" "بني كنانة". وكان بنوُ سُليم قد توّجوا مالكاً وأمروه عليهم، حتى عرف ب "ذي التاج". فأغار "ذو التاج" على "بني فراس" وهم من "بني كنانة" ب "بزرة". وكان رئيس بني فراس "عبد الله بن جدل"، فدعا "عبد الله" "ذا التاج" إلى البراز، فشدّ عليه، وقتله. وعرف هذا اليوم ب " يوم فزارة ". و ب " يوم بزرة".

ثم إن بني الشريد حرّموا على أنفسهم النساء والدهن أو يدركوا ثأرهم من كنانة فأغار "عمرو بن خالد بن صخِّر بن الشريد"، بقومه على بني فراس، فقتل منهم نفراً، وسبى سبباً فهم ابنة مكدّم أخت ربيعة بن مكدّم.

وتميم من القبائل التي يرد اسمها في الأيام. ومن هذه الأيام عدة أيام وقعت بينها وبين قبائل ربيعة وأيام أخرى وقعت بينها وبين قيس. ومن أيامها مع قبائل ربيعة: يوم الوقيط ويوم ثيَتل "نبَتل "، ويوم جدود، ويوم زرود، ويوم ذي طلوح، ويوم الغبيط، ويوم قشاوة، ويوم زبالة، ويوم مبايض، ويوم الزورين، و يوم عاقل.

أما يوم الوقيظ،فكان بين اللهازم من ربيعة وبين تميم. وأما "ثيتل" "نبتل" فيذكر مع يوم النباج أيضاً، وهما يومان متقاربان وقعا في موضعين متقاربين.

وقد وقعا بسبب خروج قيس بن عامر المنقري رئيس مقاعس بجماعته ومعه سلامة ابن ظرب رئيس الأجارب لغزو بكر بن وائل. فلما وصلا إلى النباج وثيتل، وجدا اللهازم وبني ذهل بن ثعلبة وعجل بن لجيم وعنزة بن أسد بهذين الموضعين، فأغار قيس على أهل النباج واقتتل معهم، فانهزمت بكر. فعاد قيس بغنائم عديدة فوجد سلامة، وهو في موضعه لم يغر بعد على من بثيتل من ناس، فأغار قيس عليهم، وسلم ما غنمه إلى سلامة.

ووقع يوم جدود بسبب عزم الحارث بن شريك على غزو بني سليط بن يربوع.جمع الحارث بني شيبان وذهلاً واللهازم ثم سار بهم إلى أرض بني يربوع راجياً مباغتتهم. ولكنه ما كاد يصل إلى بلادهم حتى شعروا به، وهاجوا عليه. فلم يتمكن من غزوهم، فتركهم وذهب نحو بني رُبيَعْ بن الحارث بجدود، فأغار عليهم، وأصاب سبياً ونعماً. فبعث بنو ربيع صريخاً إلى بني كليب بن يربوع يطلب العون، فلم يجيبوهم، فذهب الصريخ إلى بني منقر بن عبيد، فركبوا في الطلب، ولحقوا بكر بن وائل واصطدموا بهم وانتصروا عليهم فرجعوا بأموال وغنائم وبما كانت بكر بن وائل سلبته من بني ربيع بن الحارث. وكان رئيس بني يربوع في هذا اليوم: قيس بن عاصم المنقري.

ويعد الحارث بن شريك من الجرارين في ربيعة، ويعرف بالحوفزان. وفي يوم ذي طلوح وقع أسيراً في أيدي بني يربوع. فلما غزا مع قومه بني يربوع في هذا اليوم، كانت يربوع يقظة عارفة بعزم بكر. فأخذوا بكراً على غرة،وسقط الحوفزان أسيراً فجزت ناصيته،ودفع مئتين من الإبل حتى فدى نفسه من الأسر.

وأما قيس بن عاصم المنقري، فهو من سادات "منقر" من تميم، ويعد من سادات أهل الوبر، ومن حلماء بني تميم، وممن حرّم الخمر على نفسه في الجاهلية.

ولما أغار حزيمة "خزيمة" بن طارق التغلبي على بني يربوع، وهم بزرود، واستاق إبلهم، كانت نتيجة غزوته هذه أن تعقب بنو يربوع أثره وأسروه،واستنقذوا ما كان قد أخذ، ثم أسروه ولم ينج إلا بعد جز ناصيته ودفع مئة من الإبل.

وكان يوم "ذي طلُوح" وهو موضع في حزَْن بني يربوع بين الكوفة وفَيد، لبني يربوع من تميم على بكر من ربيعة. وقد أخذ "الحارث بن شريك" أسيرأَ، أخذه حنظلة بن بشر، وكان نقيلاً في بني بشر، فاختصم عبد الله بن الحارث، وعبد عمرو بن سنان في الحارث، فحكم الحارث في أمر نفسه،فأعطى كل واحد منهما مئة من الإبل، وجعل ناصيته لحنظلة بن بشر.

وانتصرت بنو يربوع على بكر في يوم الإياد كذلك، وكانت بكر قد أقبلت من عند عامل عين التمر قاصدة بني يربوع، ومعها من الرؤساء بسطام بن قيس فارس بكر وهانىء بن قبيصة ومفروق بن عمرو، فأحست بنو يربوع بمجيء بكر، وقاتلهم في موضع الإياد، وقتلت جماعة من فرسان بكر، وأسرت قوماً منهم: هانىء بن قبيصة الذي فدى نفسه، فنجا.

وقد كان بسطام بن قيس مع الحارث بن شريك - الحوفزان - ومفروق بن عمرو في يوم الغبيط، وفيه غزت بنو شيبان بلاد تميم، غزوا بني ثعلبة بن يربوع وثعلبة بن سعد بن ضبةّ، وثعلبة بن عدي بن فزارة، وثعلبة بن سعد بن ذبيان، وكانوا متجاورين بصحراء فلَجْ، فهزمت الثعالب، وأصابوا فيهم، واستاقوا إبلاً من نعمهم. ثم ساروا في أرض بني مالك بن زيد مناة من تميم، فاكتسحوا إبلهم، فركبت عليهم بنو مالك، وعليهم عتيبة بن الحارث اليربوعي،والأحيمرابن عبد الله، وأسيد بن حباءة، وأبو مرحب، وجزء بن سعد الرياحي،وربيع والحلُيس وعمارة بنو عتيبة بن الحارث، ومالك بن نويرة وغيرهم، فأدركوهم بغبيظ المَدرَة، فقاتلوهم حتى هزموهم، وأخذا ما كانوا استاقوا من آبالهم، وقتلت بنو شيبان أبا مرحب ثعلبة بن الحارث وألح عتيبة بن الحارث، وأسيد ابن حباءة، والأحيمر بن عبد الله على بسطام بن قيس حتى وقع بسطام في أسر عتيبة. وقد وافق بسطام على دفع دية هي ثلاث مئة بعير وأن تجز ناصيته وعلى أن يعاهد بعدم غزو بني شيبان، فأفرج عنه.

وغزا بسطام بن قيس رئيس بني شيبان بني يربوع في يوم قُشاوة، "يوم نعف قشاوة " وقد انتصر فيه على جماعة من بني يربوع، وعاد مع بعض الغنائم.

ويعدّ هذا اليوم من وقعات بسطام المعدودة. قال ابن الأنباري: "كان لبسطام أربع وقعات: أسر يوم الصحراء، وظفر يوم قشاوة، وانهزم يوم العظالى، و قتل يوم النقاء".

وقد استحر القتل قي تغلب ومن كان معهم من تميم، وذلك في يوم بارق. وكان سببه أن بني تغلب والنمر بن قاسط وأناساً من تميم اقتتلوا حتى نزلوا ناحية بارق من أرض السواد، وأرسلوا وفداً منهم إلى بكر بن وائل يطلبون إليهم الصلح، فاجتمعت شيبان ومن معهم، وقرروا الاستفادة من هذه الفرصة، وعزموا على مباغتة القوم، فقال: زيد بن شريك الشيباني إني أجرت أخوالي وهم النمر بن قاسط، فأمضوا جواره، وساروا وأوقعوا ببني تغلب وتميم، فقتلوا منم مقتلة عظيمة، لم تصب تغلب بمثلها، واقتسموا الأسرى والأموال، وكان من أعظم الأيام عليهم.

وقد اصطدمت بنو شيبان ببعض بطون تميم في يوم زبالة كذلك. وقد حضر هذا اليوم الأقرع بن حابس، وأخوه فراس، وهما من تميم، وكانت تميم هي البادئة بغزو بكر بن وائل. اصطدمت بهم في موضع زبالة، فنزلت الهزيمة بتميم، وأسر الأقرع وفراس أخو الأقرع، أسرهما بنو تيم اللّه وهم من بكر.

ثم لقي بنو تيم الله بني شيبان وهم من بكر أيضاً ومعهم بنو رباب، فانتزع بسطام بن قيس رئيس بني شيبان الأقرع وأخاه منهم، وصاروا أسيرين لبسطام.

ثم افتدى الأقرع واًخوه أنفسهما من بسطام، وعاهداه على إرسال الفداء، فأطلقهما ولكنهما لم يرسلا له الفداء.

والأقرع بن حابس،فارس مشهور من فرسان تميم، ويعد من حكام العرب. وقد اتصل حكمه في عكاظ إلى الإسلام. ويعد أيضاً من الساسة الجرارين، ومن المؤلفة قلوبهم من تميم.

وكان يوم مبايض من الأيام المهمة التي وقعت بين بني شيبان من بكر، وبين ابني تميم، وقد دارت الدائرة فيه على تميم. وألحقت بها خسائر فادحة. وسبب هذا اليوم أن فارسا من فرسان تميم يدعى طريف بن تميم العنبري كان قد وافى عكاظ في الشهر الحرام، وكان قد قتل رجلا من بني شيبان، فتعقبه ابن ذلك الرجل، ليأخذ ثأر ابيه منه.

وصادف ان وقع نزاع بين بي مره بن ذهل بن شيبان وبين بني ربيعة بن ذهل بن ثيبان كاد يؤدي بينها إلى حرب، فقرر هانىء ابن مسعود رئيس بني ربيعة - حقناً للدماء - الارتحال بقومه، والنزول على ماء مبايض. فلما سمع طريف العنبري بنزول ربيعة على هذا الماء، نادى قومه للاغارة على ربيعة، ما دامت منفردة، وليس لها في هذا الموضع نصير، لإضعاف بكر ابن وائل وللإنتقام منها. فعلمت ربيعة بذلك، فاستعدت للقتال. فلما هاجمت تميم ربيعة، كان بنو شيبان على استعداد، فألحقوا بتميم خسارة لم تصب بمثلها، فلم يفلت منهم إلا القليل. وانهزم طريف فتعقبه ابن الشيباني الذي قتله طريف، فقتله. فكان هذا اليوم من أهم الأيام التي وقعت بين بني شيبان وتميم. واسم قاتل "طربف"، هو "حصيصة الشيباني"، "حصيصة بن شراحيل".

و كان سادة تميم الذين قادوهم في هذا اليوم ثلاثة رؤساء، هم: أبو الجدعاء الطّهُوي على بني حنظلة، وابن فدكي المنِقري على بن سعد، وطريف بن عمرو علي بني عمرو بن تميم.

وكان يوم الزوربن من ايام بكر على تميم كذلك. وكانت بكر تنتجع أرض تميم، ترعى بها إذا أجدبوا، فإذا أرادوا الرجوع، أخذوا كل ما وجدوه أمامهم واستاقوه معهم. فلما كثر اعتداء بكر على تميم، تفاقم الشر بينهما وعظم حتى صار لا يلقى بكريّ تميمياً إلأ قتله، ولا يلقى تميمي بكريأَ إلا قتله.

ثم عزمت تميم على التخلص من أذى بكر ومنعها من الرعي في أرضها، فحشدت واستعدت لقتال بكر، واستعدت بكر لقتال تميم. فلما اصطدم الجمعان تغلبت بكر على تميم، وقتلت منهم مقتلة عظيمة.

ويذكر أهل الأخبار ان سبب تسمية يوم الزورين بهذه التسمية، هو ان بني تميم كانوا قد وضعوا بكرَ يْن مجللين مقيدين، بن.الصفين، وقالوا: هذان زَوْرانا، أي إلهانا، فلا نفرّ حتى يفرّا، وجعلوا عندهما من يحفظهما. فلما أبصر البكريون الزورين هجموا على حراسهما وأخذوا البعيرين وذبحوهما، أو ذبحوا أحدهما وتركوا الآخر يضرب في شولهم. فارتبكت تميم وانهزمت شر هزيمة.

وكان المقدم على بكر "عمرو بن قيس بن مسعود الشيباني"، المشهور ب "أبي مفروق"، قدمته "بكر" عليهم، فحسده سائر ربيعة، وأرادوا ازاحته عن الرئاسة، إذ كانوا يريدون أن يجعلوا على كل حي رجلاً منهم، وأن يكون كل حي على حياله، فأصر ابنه "مفروق" عليه بمخالفتهم، وبقي رئيساً عليهم كلهم: فلما كان القتال، برك بين الصفن، وقال أناَ زوْرُكم، فقاتلوا عني، ولا تفرِّوا حتى أفرّ. ولم يكن الحوفزان بن شريك يومئذ في القتال، فقد كان في أناس من بني ذهل بن شيبان غازياً في بني دارهم. وممن اشترك فيه: حنظلة بن سيار العجلي، وحمدان بن عبد عمرو العبسي، وأبو عمرو ابن ربيعة بن ذهل بن شيبان. وقتل فيه من بني تميم أبو الرئيس النهشلي، وهو ساداتهم.

وقد أكَثر الشعراء في ذكر هذا اليوم لا سيما الأغلب العجلي، وذكره الأعشى أيضاً.

وكان سبب يوم عاقل ان "الصمةّ بن الحارث الجشُمي"أغار على بني حنظلة بعاقل، فأسره الجعدين الشماخ أحد بني عدي بن مالك بن حنظلة، وهزم جيشه، وأبطأ الصمة في فدائه فجزّ الجعد ناصيته وأغلظ في الكلام عليه، فضرب الصمة عنقه. فمكث الصمة زمانا، ثم غزا بني حنظلة، فأسره الحارث ابن بيبة المجاشعي "الحارث بن نبيه المجاشعي" وهزم جيشه ثم أجاره الحارث من إساره ذلك، وخرج الحارث بالصمة إلى بني يربوع من بني حنظلة ليشتري الصمة أسراء قومه. فلما رأى "أبو مرحب"، وهو ثعلبة بن الحارث،الصمة، وكان يعرف انه غدر بالجعد ظ خنس عنه، وأخذ سيفه ثم جاء فضرب به بطن الصمة فأثقله.

وأما أشهر الأيام التي وقعت بن قيس وتميم، فيوم الرحرحان، ويوم شعب جبلة، ويوم ذي نجب، ويوم الصرائم، ويوم الرغام، ويوم جزع ظلال، و،وم المروت.

أما يوم رحرحان، فقد أشرت اليه سابقاً وهو يوم وقع في أعقاب قتل الحارث بن ظالم المري خالد بن جعفر الكلابي، وكان سببه ان قوم الحارث ابن ظالم انكروا عليه فعله، ولاموه على عمله فتجنبهم وهرب منهم، ولحق بتميم فأجاروه، فاستاءت بنو عامر من ذلك، وطلبت من بني تميم تسليم الحارث اليهم. فلما أبوا، جاءت بنو عامر تريد مباغتة تميم، وكانت تميم قد علمت بمسيرها اليهم فأرسلوا بما عندهم من أثقال وأهل إلى بلاد بني بغيص. ولما كانوا في موضع

رحران، التقوا ببني عامر ورئيسهم الاحوص، فدارت الدائرة على بني تميم، واسر منهم معبد بن زرارة: اسره عامر والطفيل ابنا مالك بنِ جعفر بن كلاب. وشاركهما في أسره رجل من غنىّ يقال، له:أبو عميرة عصمه بن وهب،وكان اخا طفيل من الرضاعة وفي اسرهم مات معبد. شدوا عليه القيد وبعثوا به إلى الطائف خوفاً من بي تميم ان يستنقذوه.

وأخذ لقيط بن زرارة يستعد ويجمع العدة، لينتقم من بني عامر، وليأخذ منهم بثأر أخيه معبد الذي أسر في يوم رحرحان، ثم هلك لمنع بني عامر الماء عنه. فذهب الى النعمان بن المنذر وأسمه في الغنائم، فأجابه. ثم ذهب إلى الجون الكلبي ملك هجر، فأجابه أيضاً. ثم توجه إلى كل من عرف بعدائه لبني عامر وعبس، فأوغر صدره عليهم، ومنّاه بالغنيمة والنصر، فانضمت اليه بنو ذبيان لعدائها لعبس بسبب حرب داحس والغبراء، وبنو أسد للحلف الذي كان بينهم وبين بني ذبيان. فلما مضى الحول على يوم رحرحان، انهالت الجيوش على لقيط، فوصل جيش الجون الكلبي وعليه عمرو ومعاوية ابناه، ووصل جيش النعمان وعليه أخوه لأمه حسّان بن وبرة الكلبي،وأقبل الحليفان أسد وذبيان وعليهم حصن بن حذيقة، وأقبل شرحببل بن أسر بن الجون بن آكل المرار في جمع من بني كندة وسار سادات تميم: حاجب بن زرارة، ولقيط بن زرارة، وعمرو بن عمرو، و الحارث بن شهاب، ومعهم أحلافهم ومن انضم اليهم، يقصدون بني عامر، فنتج عن ذلك جمع لم يكن في الجاهلية أكثر منه.

وعرفت بنو عامر بمجيء الجمع، فاستعدت له وتحصنت في شعب جبلة. اخبرها بذلك كرب بن صفوان السعدي، وكان شريفاً من أشراف قومه لم يخرج مع الجمع، فخافوا من تخلفه عنهم، وعرفوا انه دبرّ في ذلك أمراً،وانه يقصد إخبار بي عامر. فأخذا عليه العهد بألا يفشي سر مسيرهم هذا لبنى عامر.وقد سار كرب بن صفوان إلى بني عامر، وأظهر لهم علائم هجوم بني تميم عليهم، دون أن يقول لهم شيئاً عنه لئلا يخلف وعده. فعرفوا به، واستعدوا له. وبينما كَان القوم على وشك الوصول إلى ديار بني عامر، عادت بنو أسد فغيرت رأيها من الاشتراك في هذا الهجوم، ورجعت عنهم، ولم يسر مع لقيط منهم إلا نفر يسير.

ولما وصل بنو تميم واحلافهم الى شعب جبلة، كان بنو عامر على أتم استعداد للقاء وقد احتموا في مواضع منيعة حصينة من الشعب. ولما دخلوه يريدون الفتك ببني عامر وعبس،-باغتهم هؤلاء بهجوم مفاجئ افسد عليهم خطط قتالهم فارتدوا مذعورين تتعقبهم سيوف بني عامر. فكانت هزيمة فادحة نزلت بتميم وبمن كان معهم من الأحلاف كلفت لقيطاً حياته، وأوقعت حاجباً في الأسر، وأوقعت غيره في الأسر كذلك.

وقد وقع هذا اليوم في عام مولد النبي علىَ بعض الروايات، أي سنة 570 للميلاد، وبعد عام من يوم الرحرحان. وقد اشار بعض الرواة الى اشتراك عمرو بن الجون ومعاوية بن الجون في هذا اليوم، والى عقد معاوية بن الجون الألوية، فكان بنو أسد وبنو فزارة بلواء مع معاوية بن الجون. وكان بنو عمرو ابن تميم مع لواء حاجب بن زرارة، وكان لوا، الرباب مع حسان بن همام،وعقد لجماعة من بطون تميم مع لقيط بن زرارة، وكان عمرو بن الجون أول من قتل في هذا اليوم.

واسر أخوه معاوية بن الجون، كما، اسر عمرو بن عمرو بن عدس وحاجب بن زرارة. وقد حمل عنترة على لقيط.، فضربه بسيفه، ثم فدى حاجب.بن زرارة بخممس مئة من الإبل، وفدى عمرو بن عمر بمئتين.

وقد كان يوم جبلة في عام واحد مع يوم رحرحان على رواية، ويقصدون بهذا اليوم يوم رحرحان الثاني تمييزاً له.عن يوم رحرحان الأول الذي غزا فيه يثربي ابن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم بن عامر بن صعصعة، وفي يوم رحرحان الثاني على هذه الرواية، كان أسر معبد بن زراره وقد نقل إلى الطائف خوفاً من بني تميم أن يستنقذوه.

وبعد مرور عام على يوم جَبلَة طمعت بنو عامر في غزو بني تميم والايقاع بها، فذهبت إلى حسان بن كبشة الكندي، وعلى رأسها ملاعب الأسنة عامر ابن مالك بن جعفر وطفيل بن مالك بن جعفر وعمرو بن الأحوص بن جعفر ويزيد بن الصعق وقدامة بن سلمة بن قشير وعامر بن كعب بن أبي يكر بن كلاب، تطمعه في الغنيمة وفي الأموال الوافرة والسبي إن انضم اليها وساعدها في الغزو، فغلبه طمعه ووافق على السير معهم إلى بني حنظلة بن مالك بن تميم. وبلغ الخبر بني حنظلة، فتركوّا ديارهم برأي عمرو بن عمرو بن عدس، وكانت في أعلى ذو نجب. وأما في أسفله،فكان بنو يربوع،وهم من تميم كذلك. فلما بلغ حسان ومن معه من الجيش ألموضع، اقتتلوا مع بني يربوع، فشدّ "حشيش بن نمران الرياحي" على حسان وضرب بالسيف على رأسه فقتل،وانهزم اصحابه، وأسر يزبد بن الصعق، وانهزمت بنو عامر وصنائع ابن كبيشة، فكان النصر فيه لبني تميم.

وفي رواية أن بني عامر استنجدت بمعاوية بن الجون الكندي، فأنجدهم بابنيه عمرو وحسان وبجيشه، فقتل في ذلك اليوم عمرو بن معاوية الكندي، وأسر حسان ابن معاوية الكندي، وقتل عامة الكنديين.

وفي رواية أخرى ان حسان بن معاوية آكل المرار، هو الذي اشترك في هذا اليوم، وقد قتل فيه:قتله حشيش بن نمران من بني رباح بن يربوع. وفي رواية أخرى انه كان في جملة من وقع في الأسر، وان المقتول رجل آخر هو عمرو بن معاوية.وقد قتل في هذا اليوم عمرو بن الأحوص رئيس بني عامر يومئذ قتله خالد بن مالك النهثملي.

وفي يوم الصرائم، وهو يوم يسمى أيضاً بيوم بني جذيمة وبيوم ذات الجرف، أغارت فيه بنو عبس على ربيعة بن مالك بن حنظلة، فأتى "الصريخ" بني يربوع، فركبوا في طلب بني عبس، ؤأدركوهم بذات الجرف فقتلوا منهم جملة قتلى وأسروا بعض الرؤساء.

وكان لبني تميم يوم آخر على بني عبس وعامر، وهو يوم مأزق "ملزق" ويسمى أيضاً بيوم السوبان. وذللك بعد أن قاتلت تميم جميع من أتى بلادها من القبائل، وهم إياد وبلحارث بن كعب، وكلب، وطيء، وبكر، وتغلب وأسد، واخر من أتاهم بنو عبس وبنو عامر. ويظهر ان تميماً حاربت هذه القبائل للتخلص منها، وكانت تنزل في ديارها للانتجاع في أرضها،وهى اًرضون خصبة واسعة، فكلفها ذلك عدة حروب.

وقد انتصرت تميم على عامر في يوم المروت " وكان سسببه نزاع بسيط وقع بين "قعنب بن الحارث بن عمرو بن همام اليربوعي" وبين "بجير بن عبدالله العامري" بسبب نسب فرس " أدى الى غزو بجير لبني العنبر من تميم، ثم إلىملاحقة بني يربوع لبجير وجماعته من بني عامر، والى سقوط عدد من إلقتلى من بني عامر واسترداد ما كان بنو عامر قد غنموه. وقد ضرب "قعنب بن عتاب" رأس "بجير" فأطاره.

وانتصرت بنو يربوع على بني كلاب من قيس في يوم الرغام. وذلك ان "عتيبة بن الحارث بن شهاب" أغار في بني ثعلبة بن يربوع على طوائف من بني كلاب. وكان أنس بن عباس الأصم أخو بني رعْل مجاوراً في بني كلاب، وكان بين بتي ثعلبة بن يربوع، وبين بني رعل عهد ألا يسفك دم، ولا يؤكل مال. فجاء الكلابيون الى انس بن عباس ألاصم راجين منه أن يذهب إلى بني "ثعلبة" ليحبسهم عنهم حتى يتدبروا أمرهم ويستعدوا للقتال. فذهب أنس اليهم وقابل حنظلة بن الحارث شقيق عتيبة بن الحارث، و كلمه في أمر ما بينه وبين بني ثعلبة من عهد ث فأجيب الى طلبه، وتباطأ،في أخذ ما سلبه منه بنو ثعلبة من الابل حتى جاءت فوارس بني كلاب، فحمل "الحوثرة بن قيس" وهو من فرسان بني كلاب على "حنظلة بن الحارث" فقتله، فحمل فرسان من بني ثعلبة بن يربوع على إلحوثرة، فأسروه، ودفعوه الى عتيبة فقتله، وهزم الكلابيون.

ومضى بنو ثعلبة بالإبل والغنائم، واتبعهم "أنسى بن عباس" رجكاء أن يصيب منهم غرةً، فيأخذ منهم ما يريد. ولما مرّ بالطريق، تغفله "عتيبة" وأسره، وأتى به اصحابه وأراد اصحاب عتيبة قتله، ولكنه، أبى أن يفعل بل قبل من أنس الفداء ففدى نفسه بمئتي بعير.

وأما يوم جِزْع ظلال "طلال"، فكان النصر فيه لفزارة، وهم من قيس كذلك على بني تميم. وكان عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري قد أغار بقومه فزارة، ومعه مالك بن حمار الشمخي من بني شمخ بن فزارة، على التيم وعدي وثور أطحل من بنى عبد مناة، فأصاب غنائم كثيرة ورجع بأسرى عديدين أطلقهم فيما بعد. فما مضت مدة، بلغه أن النعمان بن جساس التيمي وعوف بن عطية وسبيع بن الخطيم، وهم سادة تيم، وابن المخيط وهو سيد بنى عدي تيم، انطلقوا إلى بني سعد بن زيد مناة وضبّة يستمدونهم ويسألونهم النصّر فركَب عيينة بن حصن مع قومه، وأغار على التيم، فقتلوا منهم قتلاً شديدأَ وأخذوا سبياً كثيراً. واحتفلوا بانتصارهم هذا بشرب الخمر. وكان نساء تيم ومن كان معهن من رجالهن ينقلون زقاق الخمر اليهم. ولم يسقوا تيماً محقرة لهم. ثم مضى زمن فردّ بنو فَزارة السبي إلى تيم، وأطلقوا الرجال بغير فداء.

ومن أيام ضبةّ وغيرهم: يوم النسار، ويوم الشقيقة، ويوم بزاخة، ودارة مأسل، والنقيعة.

وكان سبب يوم السار جدب حل بأرض مضر، وخصب أصاب بلاد بني سعد والرباب، مع غيث غامر. فالما وقع ذلك الغيث، أقبلت عامر بن صعصعة ومن معهم من هوازن إلى بني سعد، وكانوا يواصلونهم بالنسب، فسألوهم أن يرعوهم ومن معهم من هوازن ففعلوا.

فما اجتمعت بنو سعد والرباب وهوازن ومن معها، قال بعضهم لبعض: انه ما اجتمع مثل عدتنا قط إلا كانت بينهم أحداث، فليضمن كل حي ضامن، فكان الضامن لما كان في سعد والرباب الأهتم، وهو سنان بن سميّ بن خالد، وكان الضامن على هوازن قرة بن هبيرة بن عامر بن صعصعة. فرعوا ذلك الغيث حيناً، حتى وقع شر، سببه أن "الختف" وهو رجل من بني ضبة قتل رجلاً من بني قشير، فوقع الشر ووقعت الحرب، واجتمع بنو سعد مع بني عامر، واستمدوا بني أسد فأمدوهم، والتقوا مع "بني ضبة" بالنسار فاقتتلوا، فصبرت عامر، واستحر بهم القتل، وانفضت بنو سعد وهربت، ثم هرب بنو عامر. وقتل في هذا اليوم: شريح بن مالك القشري، رأس بني عامر، ووقع سبي منهم فيَ أيدي خصومهم.

وقد وقع يوم النسار بعد يوم جبلة، وذلك لأن الأحاليف، وهم غطفان وبنو أسد وطيء شهدوا يوم النسار بعدما تحالفت الأحاليف، وحضره حصن بن حذيفة، وكان حصن رئيس الأحاليف، كما جاء ذلك في شعر لزهير بن أبي ُسلمى. هذا ما يراه الرواة وأهل الأخبار من علماء قيس وبني أسد، ويؤيده أبو عبيدة. أما الرباب ورواة ضبة، فترى ان يوم النسار كان قبل يوم جبلة ويفند أبو عبيدة رأي الرباب. ويقول اْبو عبيدة: كان حاجب بن زرارة على بني تميم يوم النسار ويوم الجفار، و أن "لقيطا قبل يوم جبلة، ولو كان حياً ما نقدمه فيه حاجب بن زرارة، وإنما نبّه أبو عكرمة بعد أبي نهشل، وكانا قبل مبعث النبي بسبع وعشرين سنة. وكان عام جبلة مولد النبي".

وذكر "المسعودي" أن "بني عامر بن صعصعة" كانوا يؤرخون بيوم شعب جبلة. وكان قبل الإسلام بنيف وأربعين سنة.

وقد كان يوم شعب جبلة بين بني عامر وأحلافها من عبس وبين من سار اليهم من تميم، وعلَيهم حاجب ولقيط ابنا زرارة بن عدس بن زيد بن عبد الله ابن دارم، ومن عاضدهما من اليمن مع ابنيّ الجون الكندبين.

وما في رواية أبي عبيدة أو غيره من أن مولد النبي كان في عام جبلة , وهم. فالرجال الذين أسهموا في ذلك اليوم، كانوا قد هلكوا قبل ذلك بأمد، ولم يدركوا أيام الرسول.وقد ذكر أن يوم جبلة كان قبل الإسلام بسبع وخمسين سنة. وقد غضبت بنو تميم وخجلت مما نزل ببني عامر من عار بسبب هذا اليوم، وحلف "ضمرة بن ضمرة النهشلي"، وهو من سادات بني تميم على أن يترك الخمر ويحرمه عليه حتى يأخذ بثأره من بني أسد، فهيأ نفسه وعبأ قومه لقتالهم، والتقى بهم في يوم ذات الشقوق، وانتصر فيه عليهم، وفرح بهذه النتيجة، و اباح لنفسه عندئذ شرب الخمر.

ولما كان على رأس الحول من يوم النسار اجتمع من العرب من كان شهد النسار. وكان رؤساؤهم بالجفار، الرؤساء الذين كانوا يوم النسار، إلا أن بني عامر تقول كان رئيسهم بالجفار "عبدالله بن جعدة بن كعب بن ربيعة"، فالتقوا يالجفار، واقتتلوا، وصبرت تميم، فعظم فيها القتل وخاصة في بني عمرو ابن تميم. وكان يوم الجفار يسمى "الصيلم" لكثرة من قتل به.

وفي يوم الجفار التقت بكر بتميم على رواية، والتقى الأحاليف في ضبة و اخوتها الرباب وأسد وطيء على بني عمرو بن تميم في رواية أخرى، واستحر القتل يومئذ في بني عمرو بن تميم على هذه الرواية، فكان النصر فيها للاحاليف.

وفي يوم السِتار، وهو يوم كان بين بكر بن وائل وبني تميم،.قتل قيس بن عاصم و قتادة بن سلمة "مسلمة" الحنفي فارس بكر, وكان قتادة من الجرارين في ربيعة.

ولضبّة نصر آخر، كان في يوم الشقيقة على بني شيبان. وقد قتل فيه بسطام بن قيس سيد بني شيبان. وكان ذلك بسبب قيام بسطام بغارة على بني ضبة وطمعه في إبل مالك بن المنتفق الضبّي. فلما رأت ضبة بسطاما، وهو يغير على الإبل، هاجمته فوقع قتيلاً، فولت بنو شيبان مهزومة تاركة ما استولت عليه وعدداً من رجالها بين قتيل وأسير. ويعرف هذا اليوم باسم آخر هو: "نقا الحسن".

وانتصرت ضبة على أياد في يوم يسمى بيوم بزُاخة. وقد كان بسبب إغارة ُمحرق الغساني وأخوه في اياد وطوائف من العرب من تغلب وغيرهم على بني ضبة ب "بزاخة" فاقتتلوا قتالا شديداً حمل فيه "زيد الفوارس" على محرق فأسره، وأسرت بنو ضبة أخاُ حبيش بن دلف السيدي، فقتلتهما وهزم من كان معهما، وأصيب ناس منهم فيه.

وفي بعض الروايات أن يوم بزاخة هو يوم إصم. وهو يوم كان لبني عائذة ابن مالك بن بكر بن سعد بن ضبة على الحارث بن مزيقيا الملك الغساني، وهو عمرو بن عامر، وفيه قتل ابن مزيقيا، فانهزم أصحابه هزيمة منكرة. وفي رواية أخرى ان هذا اليوم كان مع عبد الحارث من ولد مزيقيا.

وأما يوم "دارة مأسل"، فكان لضبّة على بني عامر، غزا "عتبة بن شتيُر بن خالد الكلابي" بني ضبة، فاستاق نعمهم. وقتل "زيد الفوارس" "حصن بن ضرار الضبي"، وكان يومئذ حدثاً لم يذكر. فجمع أبوه ضرار قومه، وخرج ثائراً على بني عمرو بن كلاب , فأفلت منه "عتبة بن شُتير" وأسر أباه "شتُير بن خالد" فأمر ضرار ابنه "أدهم" أن يقتله.

وانتصرت ضبةّ على بني عبس في يوم النقيعة، ويسمى أيضاً يوم أعيار. وقد كان بنو عبس قد أغاروا فيه برئاسة عمارة بن العبسي على إبل لبني ضبَّة، ومعه جيش من بني عبس، فأطردوا إبلهم، وركبت عليهم بنو ضبة،فأدركوهم في المرعى، فحمل "شرحاف بن المثلم بن المشخرة العائذي الضبي" على عمارة ففتله، واستنقذت بنو ضبة فيه إبلها من "بني عبس". ويعرف عمارة ب "عمارة الوهاب".

ومن الأيام التي وقعت بين "قيس" و "كنانة": يوم الكديد، ويوم برزة وحروب الفجار. أما يوم الكديد ويوم برزة، فقد تحدثت عنهما قبل قليل. وأما حروب الفجار فإليك ما جاء عنها.

العادة في الجاهلية ألا قتال في الأشهر الحرم لقدسيتها ومكانتها، فهي أشهر حرم يستريح فيها الأفراد والقبائل من القتال , ويكون الإنسان فيها آمناً على نفسه وماله، فيظهر فيها الفرسان المعروفون بسفكهم الدماء دون خوف وإن كانوا يتقنعون بقناع حين حضورهم الأسواق مثل عكاظ خوفا من وقوف طلاب الثأر على حقيقتهم، فيتعقبون خطاهم، فيفتكون بهم بعد انتهاء الأشهر الحرم. ويذهب في هذه الأشهر الناس إلى الأسواق للامتيار، والى الكعبات للحج إلى الأصنام، ثم يعودون إلى منازلهم مع انتهاء الأيام الحرم خشية حلول الأشهر الأخرى فيتعرضون لطمع الطامعين وغزو الغازين.

ومع ما لهذه الأشهر من الحرمة، فقد وقعت فيها حروب عرفت بحروب الفجار وبأيام الفجار، لأن من اشترك فيها كان قد فجر فيها بانتهاكه قدسية هذه الأشهر الحرم. ولكنها على ما يظهر من وصف الإخباريين لها لم تكن حروباً كبيرة واسعة، انما كانت مناوشات ومهاترات وقعت لأسباب تافهة بسيطة. ففي الفجار الأول لم يرق فيه دم، وانما محاورات وخصومة كلامية بن كنانة وهوازن بسبب حادث بسيط لا يستوجب في الواقع خصومة ولا اشتباكات. فقد تطاول"بدر بن معشر الغفاري" "بدر بن معسر الغفاري" على الناس , بأن جلس بعكاظ في الموسم والعرب مجتمعة فيه، ثم مد رجله وقال: أنا أعز العرب، فمن زعم انه أعز مني فليضربها بالسيف. فوثب رجل من "بني نصر بن معاوية" اسمه "الأحمر بن هوازن" فضربه بالسيف على ركبته فقطعها، فتحاور الحياّن: أهل المضروب مع أهل الضارب عند ذلك. حتى كاد أن يكون بينهما الدماء، ثم تراجعوا ورأوا ان الخطب يسير.

وفي الفجار الثانية وقعت بينهم دماء يسيرة.وكان سببه عبث شباب من قريش وكنانة بامرأة من بني عامر بن صعصعة وكانت وضيئة حسانة رأوها بسوق عكاظ، فأرادوا منها أن تكشف لهم عن برقعها، فثارت ونادت: "يا آل عامر"، ونادى الشباب قومهم، فالتحموا في قتال لم يكن هذا الحادث ليوجبه , ثم انتهى بتوسط "حرب بن أمية" "الحارث بن أمية" باحتمال دماء القوم.

أما الفجار الثالث، فكان بسبب دين كان لرجل من بني جشم بن بكر بن هوازن على رجل من كنانة، فلواه به، ولم يعطه شيئا منه. فلما أعياه، وافاه في سوق عكاظ بقرد، وجعل ينادي:" من يبيعنى مثل هذا الربّاح بمالي على فلان بن فلان الكناني. من يعطيني مثل هذا بمالي على فلان بن فلان الكناني! رافعاً صوته بذللك، فلما أكثر من ندائه، مرّ به رجل من بني كنانة، فقتل القرد، فهتف الجُشمي: "يا آل هوازن"، وهتف الكناني: "يا ا ل كنانة" وتجمع الحيّان حتى تحاجزوا، ولم يكن بينهم قتلى، ثم كفوا وقالوا: " أفي رباح تريقون دماءكم، وتقتلون أنفسكم ?" وأصلح عبدالله بن جدعان بينهما.

ووقع الفجار الآخر بسبب رجل خليع سكير فاسق، اًتعب قومه فخلعوه وتبرأوا منه فخرج منهم، وصار يتنقل من قبيلة إلى قبيلة ومن سيد إلى سيد يطلب الحماية والجوار. فلما لفظه الجميع، وتعبوا منه، ذهب إلى مكة مستجيراً بحرب بن أمية، فحالفه، وأحسن جواره. ثم شرب بمكة، وعاد إلى سيرته الأولى، فهمّ حرب بخلعه، فخرج من مكة، وذهب عنه إلى الحيرة. فما كان هناك، عرض على النعمان بن المنذر أن يتولى له حماية لطيمته،ويجيزها له على أهل الحجاز.

وسمع بذلك عروة الرحال، وهو يومئذ رجل هوازن، فاحتقر أمر هذا الخليع: "البراض بن قيس الكناني"، فقال للملك: أكلب خليع يجيزها للك ? أبيت اللعن، أنا أجيزها لك على أهل الشيح والقيصوم في أهل نجد وتهامة. فدفعها النعمان إليه، وخرج عروة بها، والبراض بن قيس بتعقبه. فلما كان بأوارة غافله البراض، فقتله، واستاق اللطيمة إلى خيبر. ولما بلغ خبر مقتل عروة كنانة وهوازن، هاج ا الطرفان، واشتبكا في قتال وقع بموضع نجلة، فاقتتلوا حتى دخلت قريش الحرم، وجنّ عليهم الليل فكفوا.

وجرّ عمل هذا الخليع إلى وقوع جملة أيام أخرى، أدت افا اضطراب الامن في مواسم أمن ما كان يحدث فيها قئال. فبعد عام من يوم نخلة، تجمعت قريش وكنانة بأسرها والأحابيش ومن لحق بهم من بني أسد بن خزيمة ن لملاقاة سليم وهوازن، ووزع عبدالله بن جُدعان السلاح على الشجعان الفرسان المعروفين بالشجاعهٌ والصبر، وسلحَّ يومئذ مئة كميّ بأداة كاملة،سوى من سلَح من قومه واجتمعوا بموضع شمطة من عكاظ في الايام التي تواعدوا فيها على قرن الحول.

وترأس المتقاتلين المتواعدين سادات ذلك الوقت المعروفون. وعلى كنانة كلها حرب بن أمية، ومعه عبدالله بن جُدعان وهشام بن المغيرة وهما على الميمنة والميسرة، وعلى هوازن وسُليم كلها مسعود بن معتب الثقفي. وفي بني عامر ملاعب الأسنة أبو براء، وفي بني نصر وسعد وثقيف سبُيع بن ربيع، وفي بني جشم إلصمة والد دريد وفي غطفان عوف بن أبي حارثة، وفي بني سُليم عباس ابن زغل، وفي فهم.وعدوان كدام بن عمرو.

وكانت الدائرة في أول النهار لكنانةء على هوازن، حتى إذا كان آخر النهار تداعت هوازن وصابرت، وانكشفت كنانة فاستحر القتل فيهم، فقبْل منهم تحت رايتهم مئة رجل، ولم يقتل من قريش أحد يذكر، فكان هذا اليوم لهوازن على كنانة وقريش.

وقد وقع الفجار الثاني بعد الفيل بعشرين سنة، وبعد موت عبد المطلب باثنتي عشرة سنة على رواية. ويعد كل من أيام العرب المشهورة، وهو أشهر من يوم جبلة الذي وقع قبله في بعض الروايات.

وعادت هوازن وكنانة إلى الحرب، والتقوا على قرن الحول في اليوم الثالث من أيام عكاظ، واقتتلوا وكانت الهزيمة على كنانة. وقد عرف هذا اليوم بيوم العبلاء.

وقد تأثرت كنانة من الهزيمة التي لحقتها في يومي شمطة والعبلاء، وأخذت تستعد للانتقام من هوازن، فتكتل رؤساؤها واشتروا الاسلحة، وحمل عبد الله بن جدعان مثري قريش وغنيها يوّمئذ ألف رجل من بني كنانة على ألف بعير. وتولى قيادة كل بطن رئيسه ثم سارت. على رأس الحول من اليوم الرابع من ايام عكاظ.

قاصدة هوازن، فالتقت بها واشتبكت معها في قتال كاد يهرب فيه بنو كنانة، لولا صبر بني مخزوم وبلاؤها بلاءً حسناً. وخشيت قريش أن يجري عليها ماجرى يوم العبلاء، فقيد حرب وسفيان وأبو سفيان بنو أمية بن عبد شمس أنفسهم وقالوا: لا نبرح حتى نموت مكاننا أو نظفر واقتتل الناس قتالاً شديداً، وحملت قريش وكنانة على قيس من كل وجه حتى انهزمت، وانتصرت بذلك كنانة وقريش على بني هوازن. وعرف هذا اليوم بيوم عكاظ.

ولما انهزمت ثقيس، دخلوا خباء "سبيعة بنت عبد شمس" امرأة "مسعود ابنُ معتب الثقني" مستجييرن بها، فأجار "حرب بن أمية" جيرانها،واستدارت قيس نجبائها حتى كثروا، فلم يبق أحد لا نجاة عنده إلا دار بخبائها فقيل لذلاك الموضع: مدار قيس، وكان يضرب به المثل، فتغضب قيس.

وقد التقت كنانة وقريش بقيس في يوم آخر يسمى يوم الحيرة، وكان على بكر بن عبد مناة، رئيسهم جثامة بن قيس أخو بلعاء بن قيس ذلك لوفاة بلعاء. أما الرؤساء الآخرون، فبقوا كما كانوا في اليوم الماضي. وبعد قتال اتفقوا على الصلح وتسوية الديات، وانصرف الناس من الحرب.

هذه ايام من ايام عديدة اخرى ترد أسماؤها في كتب الأخبار وإلتواريخ، نرى أن أسبابها طبيعة البداوة، وفقر البادية، وحاجة الناس إلى الماء والمرعى والاعتبارات الاجتماعية وما شاكل ذلك من اسباب أدت الى وقوع تلك !لأيام. وقد علقت ذكراها بأذهان الرواة، لأنها وقعت في عهد لم يكن بعيداً جداً عن الإسلام، وقد وقعت بالطبع مئات من هذه الأيام " محيت أخبارها من ذاكرة حفظة الأخبار ورواتها، لأنها وقعت في عهد بعيد عن الإسلام أو في أمكنة بعيدة لم يصل مداها إلى جماّع الأخبار في الإسلام، فلم يضبطوها في جملة هذا الذي ضبطوه. والذي نجده من قراءة أسماء الأيام المذكورة ومن أخبارها، ان معظمها مما كان قد وقع في الحجاز أو في نجد أو العراق والبادية وبلاد الشام والبحرين. أما الأيام التي وقعت في العربية الجنوبية فقلما نجد لها ذكراً عند الأخبارين، خاصة أيام حضرموت وعمان، مما يدل على عدم وصول أخبار هذه الأرضين إلى علم الأخباريين. والواقع ان علم أهل الأخبار والتأريخ بهذه البلاد ضعيف جداً، حتى في باب علمهم عنها في الإسلام، وهو أمر يؤسف عليه.

وتتخلل هذه الأيام أسماء الرجال المشهورين ممن كان لهم أثر خطير فيها، وهم قادتها ومساعير نيرانها ومكوّنو تأريخ الجزيرة قبل الإسلام. وشأن هؤلاء الرجال من حيث بعدهم وقربهم عن الإسلام، شأن أيامهم، فأكثرهم من أهل القرن السادس للميلاد، وممن ماتوا في عهد لم يكن بعيداً عن الإسلام، أي في النصف الثاني من هذا القرن. لقد صنع القصاصون ومحبو المبالغات من رواة القبائل، على عاداتهم، هالة من الأقاصيص والأساطير لأولئك الرجال، حملت بعض المستشرقين على الشك في حقيقة بعضهم. ولكن وجود القصص الخرافي لا يمنع من الاعتراف بوجود شخص كات قد عاش ومات، وكان له أثر ظاهر في قومه وأعمال أثرت في مواطنيه، وجعلتهم يوسعونها ويكبرونها إلى أن صنعوها بقصصهم بهذا الشكل الذي وصل إلى الأخباريين،بنقلهم الرجال من عالم الحقيقة إلى عالم الخرافة والخيال.

لقد خلدت تلك الأيام أسماء رجال أثروا تأثيراً مهماً في الحياة السياسية البدوية.

لقَد أنجز بعضهم أعمالاً لم تنجزها قبائلهم، فتمكنوا من بسط نفوذهم على كثير من القبائل ومن جمعها تحت رئاسته بفضل زعامته وشخصيته. فهذا زهير بن جناب الكلبي تجتمع عليه قضاعة وننضوي تحت لوائه، ويفرض الإتاوة على قبائل أخرى من غير قضاعة، ويحارب غطفان وبكراً وتغلب وبني القين بن جسر، وهي من القبآئل الكبيرة المعدودة، ثم ينتصر عليها. وهذا كليب بن وائل وهو من معاصري زهير بن جناب ومن المنافسين له، ومن رجال النصف الأول من القرن السادس للميلاد، يجمع شمل قبائل ربيعة - وهي قبائل متنافرة متخاصمة - تحت رايته، ثم يجمع شمل معد ويضمها كلها اليه، فتكون له الرئاسة على كل قبائلها، وهو بذلك أحد النفر الذين اجتمعت عليهم معد.

ومن النفر الذين اجتمعت معدّ عليهم: عامر بن الظرب بن عمرو بن بكر ابن يشكر بن الحارث -وهو عدوان بن قيس كيلان - وربيعة بن مرة بن زهير ابن جشم بن بكر بن حبيب بن كلب، وكان قائد معد يوم السلان بين أهل اليمامة واليمن.

ولمع في هذه الأيام اسم حذيفة بن بدر، واسم حمل أخيه، وكان سيّدي بني فزارة. وقد عرف حذبفة ب "رب" معد، وقاد قومه بني فزارة في عدة أيام، هي: يوم النسار، ويوم الجفار، وحرب داحس والغبراء حيث قتل فيها في يوم الهباءة.

وقد راينا عدة رجال آخرين يتزعمون قومهم في هذه الأيام، مثل بسطام بن قيس رئيس بني شيبان،وهو من مشاهير الفرسان،وأحد الفرسان الثلاثة المعدودين، وهم: عامر بن الطفيل، وعتيبة بن الحارث وبسطام، وربيعة بن مرة بن الحارث التغلبى، والهذيل بن هبيرة الثعلبي من ثعلبة بن بكر، والحوفزان، وهو الحارث بن شّريك بن عمرو بن الشيباني، والحارث بن وعلة الذهلي، وأبحر بن جابر العِجلي، وقيس بن حسان بن عمرو بن مرثد أخو بني قيس بن ثعلبة، وقتادة بن مسلمة الحنفي، وأثال بن حجربن النعمان بن مسلمة الحنفي، والهذيل ابن عمران التغلبي.

وقد دوّنت الأيام أسماء جماعة من سادات تميم ممن ترأسوا قومهم. ولقبائل تميم مكان في هذه الأيام. ويظهر انها كانت من القبائل البارزة في القرن السادس للميلاد. ومن هؤلاء: زرارة بن عدس من بني دارم. وقل قاد تميماّ وغيرها في يوم شويحط إلى عذرة بن سعد هذيم، ولقيط بن زرارة، وقد قاد تميماً كلها إلا بني سعد بن زيد مناة إلى بني عامر بن صعصعة يوم جبلة، والأقرع ابن حابس، وقد قاد حنظلة كلها يوم الكلاب الأولى، عدا أسماء آخرين تجدهم مذكورين في أخبار الأيام.

وطبيعي أن يكون للفرسان وللفتّاك وللشعراء المقام لأول بين أسماء الرجال الذين اسماؤهم في هذه الايام. وان لم يكونوا من بيوتات شهيرة معروفة، لها في الرياسة ذكر ومقام، فأعمال المرء كافية لتخليد اسمه بين المشاهير. وإذا كان للشاعر عمل التشجيع والحث على الاقدام، وإلهاب نار الحاسة في النفوس، فإن للفارس والفاتك واجباً مهمأَ في هذه الأيام،فإنهم يقررون في الغالب مصير الحروب ولا سيما الفرسان الفتاك الذين يختارون كباش القوم، فينقضون عليهم ويفتكون بهم، وبعملهم هذا تنتهي الحرب في الغالب بهزيمة تحل في الجبهة إلتي تتضعضع بسقوط الرئيس. فان لسقوط الرئيس صريعاً شأناً كبيراً عند القبائل. فالرئيس هو الرمز المعنوي للقبيلة، فمتى سقط الرئيس انهارت معنوياتها وخارت قواها ولا تستطيع عندئذ الثبات في الميدان،، فيهرب أفرادها في غالب الأحوال، ويكون النصر للجانب الذي أسعده الحظ بوجود فارس عنده قتل رئيس خصمه.

وإذ كان للخيل أثر في حروب تلك الأيام، في الهجوم والدفاع وفي الكر والفر، فإن.القبيلة كانت تملك فرساناً وعدداً وافرا من الخيل، هي القبيلة المنتصرة الرابحة إلتي يخشى بأسها، فلا يطمع فيها الطامعون، ولا يهاجمها مهاجم بسهولة، ولها يكون الفخر على القبائل بكثرة ما لديها من خيل ومن فرسان، لأن للفرس و الفارس شأناً كبيرا في سرعة كسب الحرب، وتفتيت جبهة العدو، واحداث ثغُرَ في صفوفه، تؤدي الى تشتيت شمله وبعثرته ثم هزيمته هزيمة منكرة. وهي لقوتها هذه لم تكن تعتمد على غيرها في الحروب والغزو،"إلا إذا قابلت بالطبع قوة كبيرة من القبائل لايمكن التغلب عليها إلا بالتعاون مع القبائل الأخرى فعندئذ تضطر إلى البحث عن حليف.

الفروسية

والفارس فخر القبيلة، لأنه المدافع عنها في الحروب والمهاجم الكاسر للأعداء. وهو أهم من الراجل في القتال، لما له من اثر في كسب النصر وفي إيقاع الرعب والفوضى في صفوف العدو. ولهذا فخرت القبائل بفرسانها، وفي كثرة الفرسان في القبيلة دلالة على عظمتها وقوتها. نظراً لغلاء ثمن الفرس، ولأهميته في تطوير الحرب وفي توجيهها. وإنهائها في صالح من له اكبر عدد من الفرسان.

ومن حسن حظ القبيلة أن يكون بها عدد وافر من الفرسان، وعدد من الشعراء. فالفارس فنان القبيلة في الحرب وفارسها في الطعان وحامي الذمار والعرض، والشاعر فارس الكلام، يؤجج نيران العواطف ويلهب جذوة الحماس في النفوس، ويدفع الفارس إلى الإقدام، وبذلك يساعد في كسب النصر لقبيلته، وفي الدفاع عن عرض القبيلة بسلاحه الموزون المقفى.

وقد حفظت ذاكرة أهل الأخبار أسماء جماعة من فرسان الجاهلية، دوّنت في كتبهم، فوصلت بفضل تدوينهم لها إلينا. وعلى رأس من دوّنوا أسماءهم في الشهرة وبعد الصيت: "عنترة بن شداد العبسي" الذي لا يزال الناس يضربون به المثل في الشجاعة. وهو أحد " أغربة العرب" وهم ثلاثة: أولهم هو، وثانيهم "خفاف" و اسم أمه "ندبة"، وثالثهم " السليك" واسم أمه "السلكة"، وأم الثلاثة إماء سود. كانت أم "عنترة" أمة سوداء، اسمها "زبيبة"، فلما كبر أغار بعض أحياء العرب على قوم من "عبس"، فأصابوا منهم. فتبعهم العبسيون، فلحقوهم فقاتلوهم وفيهم عنترة. فقال له أبوه "كر يا عنترة"، فقال: " العبد لا يحسن الكر إنما يحسن الحلاب والصر "، وذلك أن العرب في الجاهلية كانت إذا كان لأحدهم ولد من أمة استعبده، فعدّ "عنترة" من العبيد.

فقال له: كر وأنت حر. فقاتلهم واستنقذ ما في أيدي القوم من الغنيمة،فادعاه أبوه بعد ذلك، واسمه "عمرو بن شداد". فنسب إليه.

وقد برز اسمه في حرب "داحس والغبراء". وقد قتل فيها ضمضماً المريّ، أبا الحصين بن ضمضم. وقد كان مصيره القتل كذلك. وتزعم "طيء" ان قاتله منها. ويزعمون ان الذي قتله "الأسد الرهيف".

ومن مشاهير الفرسان " ربيعة بن مكدم" وهو من بني فراس بن غنم بن مالك بن كنانة. وقد عرف "بنو فراس" بالشجاعة والنجدة. وقد كان يعقر على قبره تعظيماً له وتقديراً. مر على قبره "حسان بن ثابت"، فقال فيه شعراً.

و "ملاعب الأسنة "، وهو "عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب "، "أبو براء".وهو ممن اشتهر بالفروسية كذلك، وكان سيداًَ في قومه. ذكر انه أخذ أربعين مرباعاً في الجاهلية.وفي ذلك دلالة على ما كان له من مقام في قومه. قيل انه سمي "ملاعب الأسنة" بقول أوس بن حجر: ولاعب أطراف الأسنة عامر  فراح له حظ الكتيبة أجمع

وقد عرف ب "ملاعب الرماح" كذلك. وقد لقب بهذا اللقب في شعر الشاعر "لبيد".

وذكر "السكري"، "عامرَ بن مالك" في جملة من اجتمعت عليه هوازن. ولم تجتمع هوازن كلها في الجاهلية إلا على أربعة نفر من "بني جعفر ابن كلاب" وهم: "خالد بن جعفر بن كلاب" بعد قتله "زهير بن جذيمة ابن رواحة" و "عروة الرحال بن عتيبة بن جعفر" و "الأحوص بن جعفر" و "عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب". و "عامر بن الطفيل بن مالك بن كلاب العامري"، من فرسان الجاهلية المعروفين أيضاً، وهو ابن أخي عامر بن مالك ملاعب الأسنة، وقد أدرك الإسلام فكان في جملة من وفد مع قومه في سنة تسع من الهجرة على الرسول.

وكان قد أضمر الغدر برسول اللّه. ولكنه لم يتمكن منه. ثم قال لرسول الله: أتجعل لي نصف ثمار المدينة وتجعلني ولي الأرض بعدك فأسلم ? فأبى عليه رسول الله. فانصرف عامر وقال: واللّه لأملأنها عليك خيلاً ورجالا. وكان متعجرفاً متغطرساٌ، لما ناله من مكانة عند قَومه. حتى زعم أهل الأخبار ان اسمه كان قد طار إلى خارج جزيرة العرب، حتى بلغ "قيصر"، فكان "قيصر" إذا قدم عليه قادم من العرب قال ما بينك وبين عامر بن الطفيل ? حتى وفد عليه " علقمة ابن علاثة" فانتسب له، فقال: ابن عم عامر بن الطفيل، فغضب علقمة.

ورجع ونافر "عامر ين الطفيل" في قصص من هذا القصص المألوف وروده عن أهل الأخبار.

وروى بعض أهل الأخبار، أن "عامر ين الطفيل لما مات نصبت بنو عامر نصاباً ميلاً في حمي على قبره، لاتنشر فيه راعية ولايرعى ولا يسلكه راكب ولا ماش. تعظيماّ لقبره واحتراماً لذكراه.

وذكر "أبو عبيدة"، أن "عامر بن الطفيل"، أحد فرسان العرب المعروفين و "فرسان العرب ثلاثة: فارس تميم: عتيبة بن الحارث بن شهاب، وكان يقال له صيّاد الفوارس وسم الفوارس، وفارس ربيعة: بسطام بن قيس ابن مسعود، وفارس قيس:عامر ين الطفيل ملاعب الأسنة. فأما ملاعب الرماحفأبو براء عامر ين مالك بن جعفر". وذكر أن "عامر بن مالك بن جعفر"، "أبو براء"، بعث إلى رسول اللّه يسأله أن يوجه إليه قوماً يفقهونهم في الدين، فبعث إليهم قوماً من أصحابه، فعرض لهم "عامر بن الطفيل" " فقتلهم يوم "بئر معونة" فاغتم أبو براء لذلك، وقلق لاغفار عامر بن الطفيل بقتلهم ذمته.

ومات "عامر بن الطفيل"، وهو منصرف من عند رسول الله، ودعا "أبو براء" قينتين له، واستدعى "لبيداً"، وأخذ يشرب حتى أثقله الشراب، فاتكأ على سيفه حتى فاضت نفسه، فرثاه "لبيد"، ودعاه ب "ملاعب الرماح". وقد عدّه أهل الأخبار في جملة "من كان يركب الفرس الجسام فتخط إبهاماه في الأرض"، وفي جملة "العوارن الأشراف". وقد نافر "عامر ابن الطفيل" "علقمة بن علاثة" عند "هرم بن قطبة بن سنان".

وزُعم انه كان في جملة من أوفدهم "النعمان بن المنذر" الى "كسرى" ليبينوا له مكارم العرب. وفي الوفد: أكثم بن صيفي، وحاجب بن زرارة، والحارث بن عبّاد البكري، وعمرو بن الشريد السلمي " وخالد بن جعفر الكلابي،وعلقمة بن علاثة. فتكلم في جملة من تكلم منهم. ودوّن أهل الأخبار كلامهم وأجوبة كسرى عليه، وكأنهم كانوا كتّاب محضر، دونوه بالنص! وله منافرة مع "علقمة بن علاثة"، كان حكمها "هرم بن قطبة بن سنان" الفزاريَ. وقد سجل أهل الأخبار حديثها بالنص كذلك.

ويعدّ "زيد الخيل" من مشاهير فرسان العرب كذلك، واسمه "زيد بن مهلهل بن زيد بن منهب الطائي". وهو من سادات "طيء" ومن الشعراء.وكان بينه وبين "كعب بن زهير" هجاء، لأن كعباً اتهمه بأخذ فرس له.

قدم في وفد طيء، وهو سيدهم على الرسول. فلما انتهوا إليه كلموه. وعرض عليهم الإسلام فأسلموا. ثم بدل الرسول اسمه فسماه زيد الخير. وكلمه فأعجبه فلما ولى عائداً من عنده إلى وطنه قال الرسول: " ما ذكر لي رجل من العرب بفضل ثم جاءني إلا رأيته دون ما يقال فيه إلا ما كان من زيد الخيل، فإنه، يبلغ فيه كل ما فيه"، وقطع له "فيداً" وأرضين معه.وكتب له بذلك.فلما عاد من المدينة وانتهى إلى ماء من مياه نجد يقال له: "قردة" أصابته الحمى، حمى يثرب الشهيرة المكناة عندهم ب " أم ملدم"، فمات بها.

وكان كما يصفه أهل الأخيار طويلاً جسيماً وسيماً يركب الفرس العظيم الطويل فتخط رجلاه في الأرض كأنه راكب حماراً. أسر عامر بن الطفيل وجز ناصيته."قيل له زيد الخيل لطول طراده بها وقيادته لها". وقد عدّه "ابن حبيب" في جملة المتعممين مخافة النساء على أنفسهم لجمالهم.

ومن الفرسان " عمرو بن معد يكرب "، وهو ممن وفد على رسول الله في قومه من "زبيد". فأسلم ثم ارتد بعد وفاة الرسول. فلما سّير الخليفة "أبو بكر" جيشاً على المرتدين انهزم "عمرو بن ودّ"، ثم أخذ أسيراً الى الخليفة، فأنبه فعاد إلى الإسلام واشترك في معركة "اليرموك" ثم في معركة "القادسية" وتوفى سنة "21" من الهجرة. ويعد "فارس اليمن". ونعته "ابن حبيب " ب "فارس العرب".

ومنهم: "دريد بن الصمة"، وهو من " بني جشم". وله أخبار مع "بني كنانة"، وقد أسرته بنو فراس من "بني كنانة"، فلما عرفته امرأة منهم وهي امرأة "ربيعة بن مكدم"، توسلت إلى قومها بفك أسره، لمساعدته لها في وقت شدة وهو لا يعرفها وهي لا تعرفه، ثم جهزته ولحق بقومه. وقد عدّه "ابن حبيب" من "أشراف العميان" و "البرص الأشراف".

وزيد الفوارس من هذا الرعيل الشهير من فرسان الجاهلية. وكان الرؤساء في قومه. وشهد يوم " القرنتين" ومعه ثمانية عشر من ولده يقاتلون معه. وهو من سادات "بكر بن سعد بن ضبة ". وهو " زيد الفوارس بن حصين بن ضرار الضبي ". وقد طالت رياسته.

ومنهم "عمرو بن كلثوم " الشاعر الشهير قاتل " عمرو بن هند " ملك الحيرة وصاحب المعلقة. وينتهي نسبه الى " تغلب "، وهو أحد فتاك العرب وأخوه " مرة " هو الذي قتل " المنذر بن النعمان "، وأمه " أسماء بنت مهلهل بن ربيعة ". وقد ساد قومه وهو ابن خمس عشرة سنة، ومات وهو ابن مائة وخمسين سنة.

ومن الفرسان الشجعان " أمية بن حرثان الكناني "، وكان من سادات قومه، وقد أدرك النبي وأسلم، وله ولد اسمه " كلاب بن أمية " دخل في الإسلام كذلك.

ومن الفرسان " الشنفري الحارثي " وهو من الشعراء وأحد العدّائين. والعداؤون من العرب: السليك، والشنفري، والمنتشر بن وهب، وأوفى بن مطر. ولكن المثل سار من بينهم بالسليك. والعرب تضرب به المثل، وتزعم انه والشنفري أعدى من رئي. ويزعمون انهما كانا يسبقان الأفراس، ويصيدان الظباء عدواً. وقد عرف السليك ب "سليك المقانب " ومقانب أمه، وكانت أمه سوداء، وسليك أيضاً أسود، وهو أحد أغربة العرب.

ولمع في هذه الأيام اسم حذيفة بن بدر، واسم حمل أخيه، وكانا سيدي بني فزارة. وقد عرف حذيفة ب "رب" معد، وقاد قومه بني فزارة في عدة أيام هي: يوم النسار، ويوم الفجار، وحرب داحس والغبراء حيث قتل فيها يوم الهباءة.

وقد دونت الأيام أسماء جماعة من سادات تميم ممن ترأسوا قومهم. ولقبائل تميم مكان خطير في هذه الأيام. ويظهر أنها كانت من القبائل البارزة في القرن السادس للميلاد. ومن هؤلاء: زرارة بن عدس من بتي دارم. وقد قاد تميماً وغيرها في يوم شويحط إلى عذرة بن سعد هذيم، ولقيط بن زرارة، وقد قاد تميماً كلها إلا بني سعد بن زيد مناة إلى بني عامر بن صعصعة يوم جبله، والأقرع اين حابس، وقد قاد حنظلة كلها يوم الكلاب الأول، عدا أسماء آخرين تجدهم مذكورين في أخيار الأيام.

الخيل

وللخبل أهمية كبيرة في جزيرة العرب، إنها سيارة ذلك اليوم، بل ربما كانت أهم منها عند العربي: يركبها ويحارب عليها بسهولة وبسرعة لا تتوفر في الجمل ويستطيع أن يسابق بها الإبل، ويفر ممن يريد اللحاق به لشرّ ينويه تجاهه ولذلك كانت للخيل مكانة كبيرة عند الجاهليين في السلم وفي الحرب، حتى كان الرجل منهم يبيت طاوياً ويشبع فرسه ويؤثره على نفسه وأهله وولده. فالخيل وقاية للنفس، والمعاقل التي يأوي إليها، والخير عندهم معلق بنواصي الخيل.

ويرجع أهل الأخبار تأريخ لم ركوب الخيل الى "اسماعيل بن ابراهيم"،يزعمون أنه اًول من ركبها،وكانت الخيل وحوشاً لا تركب. فذهب إلى موضع "أجياد"، وهو موضع بمكة يلى الصفا، وكان موطناًله، فركب ظهور الجياد. وركب الناس منذ ذلك العهد الخيل. فاسماعيل على زعمهم هو أول راكب للخيل. ويلاحظ أن راوي هذا الخبر أراد اقناع السائل بصحة جوابه، فربط بن ركوب ظهور الجياد وبين موضع أجياد، ليبدو الجواب منطقياً مقبولاً.

وقد مدحت العرب الخيل العراب.أي الخيول العربية الأصيلة، التي لم تهجن، ولم يختلط في دمها دم غريب. وقد مدحت الخيل الشقر، وذلك لسرعتها، ومدحت بعدها الحصان الأدهم الأرثم المحجل الطلق اليد اليمنى. وقيل للخيل الكريمة الأصيلة "العتاق من الخيل" و "الخيل العتاق" وقد كانت الخيل من جملة وسائل كسب الحروب. والفريق الذي يملك أكبر عدد من الخيل في المعركة يكسب الحرب. وذلك لسرعتها ولما تحدثه تحركات المحارب على ظهرها من أثر في صفوف جيش العدو. ولهذا عدّ بعض الباحثين دخول الخيل الى جزيرة العرب تطوراً خطيراً في أسلوب القتال عند العرب، أحدث تغييراً خطيراً في طرق القتال وصار عاملاً مهماً من العوامل التي أدت الى انتشار القتال والغزو في بلاد العرب. وصار في امكان القبيلة التي تملك خيلاً جيدة كثيرة أن تتفوق على غيرها في الغزو، حتى إذا كانت القبيلة كبيرة، لأن العدد الكثير وان كان ذا أهمية في النصر، ولكنه لا يستطيع أن يقف أمام الفرسان، إن كان المحاربون من المشاة أو كان أكثرهم منهم. إذ لا يستطيع الثبات أمام صولات وجولات الفرسان الذين يشتتون شمل الصفوف ويمزقون الجمع، ويمهدون لمن وراءهم من المشاة فرصة الانقضاض على الفارين المنهزمين.

ولأهمية الخيل عند العرب ألّف كَثير من العلماء كتباً فيها، نجد ذكرهم في "الفهرست" لابن النديم. ومن هؤلاء "ابن الكلبي" صاحب كتاب "أنساب الخيل "و "ابن الأعرابي" صاحب كتاب "أسماء الخيل".

ووضعوا جرائد ومشجرات في أنساب الخيل. حرصاً منهم على المحافظة على أصالتها وبقاء جنس ما عندهم نقياً نظيفاً. ومنعوا الفحول الجيدة منها من الاتصال بالأفراس الرديئة أو الأفراس المجهولة التي ليس لها نسب معروف.

حتى لا يتولد من هذا الاتصال نسل رديء هجين. بل حرص صاحب الحصان الجيد على ألاّ يعطيه لأحد ليتصل بفرسه حتى وإن كانت غاية فى النجابة، وذلك خشية أن ينسل نسلا" فاخراً لغيره ولا يكون له منه شيء. ولا تزال هذه العادة معروفه عند العرب حتى الآن، فهم يحفظون أنساب خيولهم حفظا عجيبا، من غير رجوع إلى جريدة نسب أو شجرة من شجرات النسب. كما يحافظون على النسل الجيد من الخيول العربية، ويعتنون به عناية فائقة، إذ يرون أنه زينة وبهجة للمرء، ومن ملذات الحياة في هذه الدنيا.

ومن دلائل عناية الجاهليين بالخيل ما نجده في اللغة من ألفاظ وكلمات كثيرة تخص الخيل. تخص أسماءها وأسماء أعضاء جسمها وحركاتها وسكناتها وأوصافها وألوانها، حتى انهم لم يتركوا شيئاً له علاقة بها إلا ذكروه. فلا عجب إذن إذا ما ألفوا فيها الرسائل والكتب وتحدثوا عنها حديثاً طويلاً في الجاهلية وفي الإسلام.

وقد اشتهرت بعض الجياد في الجاهلية بشدة عَدوِها فلا تدانيها في العدو خيول أخرى، وفي مقدمتها فرس عرف ب "زاد الركب " "زاد الراكب "، قالوا إن أصل فحول العرب من نتاجه. وقد زعم ابن الكلبي أنه من بقية جياد سليمان ابن داود، وأن وفداً من "الأزد"، وكانوا أصهاره، وفدوا عليه، فما فرغوا من حوائجهم سألوه أن يعطيهم فرساً من تلك الخيل، فأعطاهم فرساً كانوا لا ينزلون منزلا" إلا ركبه أحدهم للقنص، فلا يفلته شيء وقعت عينه عليه من ظبي أو بقر أو حمار، إلى أن قدموا بلادهم فقالوا: ما لفرسنا هذا اسم إلا زاد الراكب، فسموه زاد الراكب، فأصل فحول العرب من نتائجه.

واشتهر فرس آخر بسرعته وبشدة عدوه اسمه "أعوج "، زعم انه من نسل "زاد الراكب". قيل: انه كان سريعاً جداً لا يدانى في العدَوٌ. وكان فحلاً لغني بن أعصر. وقد عرف ب "أعوج الأكبر".

وكان "أعوج" الأصغر أولاً لكندة، ثم أخذته" "سليم" وصار لبني عامر ثم لبني هلال. وأمه "سبل" لغني، وأم "سبل" "سوادة" "البشامة"، وأم "سوادة" "القسامة"، وكانت لجعدة. وكان أعوج طويل القوائم سريع العدو. ولهم أيضاً "الفياض". وقد اشتهر نسله، واكتسب شهرة فى العتاق من الخيل.

ومن خيل العرب المشهورة: "الغراب" و "الوجيه" و "لاحق" و "المذهب" و "مكتوم"، كانت كلها لغني. وذكر ان "الوجيه" و "لاحق" لبني أسد، وقيل لبني سعد. و "الأعنق" فحل من خيل العرب، أنجب سلالة نسبت إليه عرفت ب "بنات أعنق".

ومن خيل العرب الشهيرة الأخرى: "قيد" و "حلاب" لبني تغلب. و"الصريح" لبني نهشل، وزعم انه كان لآل المنذر، و "جلوى" لبني ثعلبة بن يربوع، وذو العقال لبني رياح ين يربوع، وهو أبو "داحس". وكان "داحس " و "الغبراء" لبني زهير. والغبراء خالة داحس وأخته من أبيه. و "ذو العقال" و "قرزل" و "الخطّار" و "الحنفاء" لحذيفة بن بدر.. والحنفاء هي أخت داحس من أبيه وأمه. و "قرزل" آخر للطفيل ين مالك.

و "حذفة " لخالد بن جعفر بن كلاب، وحذفة أيضاً لصخر بن عمرو بن الشريد. و "الشقراء" لزهير بن جذيمة العبسي و "الزعفران" لبسطام بن قيس، و "الوريعة" " الوديقة" و "نصاب" و "ذو الخمار" لمالك بن نويرة، و "الشقراء" أخرى لأسيد بن حناءة السليطي، و "الشيط" لأنيف بن جبلة الضبى، و " ألوحيف" "الوجيف" لعامر بن الطفيل، و "الكلب" و "المزنوق" والورد له أيضاً، و "الخنثى" "خنثى" لعمرو بن عمرو بن عدس، و "الهداج" فرس الريب بن شريق السعدي، و "جزة" فرس يزيد بن سنان المرّ ي فارس غطفان، و "النعامة" للحارث بن عباد.

و "ابن النعامة" لعنترة، و "النحام" فرس "السليكة بن للسليك السعدي" و "العصا" فرس جذيمة بن مالك الأزدي، و "الهراوة" لعبد القيس بن أفصى و "اليحموم" فرس النعمان بن المنذر، و "كامل" فرس زيد الخيل، و "الزبد" "الربد" "الريد" فرس الحوفزان، وهو أبو "الزعفران" فرس بسطام، و "العرادة" "الحمالة" فرس الكلحبة اليربوعي.

و "القطيب" و "البطين" فرسان كانا للعرب، و "اللعاب" "العباية" فرسا حريّ بن ضمرة، و "المدعاس" فرس النواس بن عاسر المجاشعي، و "صهبى" فرس النمر بن تولب، و "حافل " فرس مشهور، ذكره "حرب بن ضرار" و "العسجدي" لبني اًسد، و "الشموس " فرس زيد ابن خذاق "حذاق" العبدي، و "الضيف" لبني تغلب، و "هرارة العزاب" فرس الريان بن حويص العبدي، جاءت سابقة طول أربع عشرة سنة، فتصدق بها على العزّاب يتكسبون عليها في السباق والغارات، و "الحرون" فرس تنسب اليه الخيل، وكان لمسلم بن عمرو بن أسد "أسيد الباهلي"، و "الزليف" فرس مشهور، وهو من نسل "الحرون" و "مناهب" فرس تنسب إليه الخيل أيضاً، و "العلهان" فرس أبي مليل "مليك" عبد الله بن الحارث اليربوعي.

وذكر أن أفراس العرب الشهيرة أفراس عرفت ب "الكامل" منها: فرس لميمون بن موسى المري، وقال بعضهم بل كان لامرىء القيس. وفرس لرفاد ابن المنذر الضبى، وفرس الهلقام الكلبي، وفرس الحوفزان بن شريك الشيباني، وفرس سنان بن أبي حارثة المريّ، وفرس زيد الفوارس الضبي، وفرس شيبان النهدي، وفرس زيد الخيل الطائي.

ومن أفراس العرب: فرس عرفت ب "الكاملة"، وهي بنت البعيث، فرس عمرو بن معد يكرب. وفرس ليزيد بن قنان الحارثي.

وكان للرسول تسع عشرة فرساً، اشترى بعضاً منها، وتقبل بعضاً منها هدية.

وقد اشترى "الضرس" من أعرابي بعشر أوراق، وسماه النبي "السكب" وهو فرسه يوم أحد، ليس مع المسلمين فرس غيره. واشترى "المرتجز" و "البحر"، وقد اشتراه من تجار قدموا من اليمن، فسبق عليه مرات. واشترى "سبحة" من أعرابي من "جهينة" بعشرة من الإبل.

ومن الخيل الني أهديت للرسول: "اللحيف" "اللخيف" "النحيف"، أهداه له: "فروة بن عمرو" من أرض البلقاء، وقيل أهداه له: "ربيعة بن أبي البراء" و "الظرب"، أهداه له "فروة بن عمرو بن النافرة الجذامي"، و "الورد"، أهداه له "تميم الداري"، و "المراوح" أهداه له وفد من الرهاويين، و "اللزاز" أهداه له "المقوقس".

ويدفعنا الكلام في تعداد أسماء خيول العرب الشهيرة في الجاهلية إلى ذكر جريدة طويلة بأسمائها. ترد في كتب الخيل وفي كتب المعجمات والأدب، ولما كان هذا الموضوع معروفاً ومدوّناً ولا صلة له بالعقلية وبالحياة الجاهلية لذالك اكتفيت بما أوردته عنها في هذا المكان، ولمن أراد المزيد الرجوع إلى الموارد المذكورة.

الفصل الخامس والخمسون

الحروب

ترك المصريون والآشوريون والبابليون واليونان والرومان وغيرهم آثاراً كثيرة، فيها صور معارك وأسلحة ومعدات وجنود مقاتلين أو مستأسرين أو منتصرين، أفادت الآثاريين والعلماء في تكوين رأي في حروب تلك الأمم والآلات التي استعانت بها في قتالها. أما الجاهليون فلم يتركوا، ويا للاسف، إلا نزراً يسيراً من الآثار فيه صور حروب أو جنود أو معدات قتال، لهذا صار علمنا بالحروب عندهم مستمداً من تلك النصوص القليلة ومن نصوص معدودة وردت في الآثار الآشورية أو البابلية وفيها إشارات إلى العرب، ومن موارد أعجمية مكتوبة تحدثت عن حروب وقعت مع العرب، ومن الموارد الإسلامية.

ولفظة "الحرب"، وتجمع على حروب، هي اللفظة الشائعة المعروفة عند الجاهليين للخروج لمحاربة العدو والاصطدام به. وترادفها لفظة "ضر" وتجمع على "اضرو" في اللهجات اليمانية. وهناك لفظة أخرى هي "غزو" وتعني الخروج لمحاربة العدو. فهي في معنى الحرب والغزو. وترد في اللهجات العربية الجنوبية أيضاً. ويراد ب "غزت"، غزوات في عربيتنا، أي في حالة الجمع. وب "غزوي" غزوتين اثنتين. وأما لفظة " هغرو" فتعني أغاروا على قوم، والغارة هي "هغر" في العربية الجنوبية.

وترد لفظة "حربت" "ح ر ب ت".بمعنى معركة، وحرباً واحدة في اللغة السبئية. وأما "حريب" فتعني الحروب والمعارك، أي جمع "حرب". وأما "حرب" فتعني المحاربة وحارب والحرب.

وتطلق لفظ قي "ضبا" في السبئية بمعنى الحرب، وبمعنى إعلان الحرب أيضاً. ووردت لفظة "ضبات "، بمعنى مقاتلين ومحاربين. وترد لفظة "تادم"، بمعنى الشروع في قتال والاستعداد لحرب.

ويقال للحرب "ضرر" في اللحيانية. أما لفظة "الحرب"، فتعني السطو والسرقة، بالإضافة إلى معنى الحرب التي تعني الخصام والقتال.

ويعبر عن لفظة قاتل بلفظتي "سبا" و "جنب" في السبئية. وتؤدي لفظة "حرب" هذا المعنى أيضاً، إذ أنها تعني حارب. و "جنب"، بمعنى قتال وتعارك وتحارب.

ويقال للحرب "حرب" في اللهجة الصفوية، أي على نحو ما تجده في اللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم.

ويعبر عن الحملة أو الغزوة بلفظة "برث" في السبئية. ويقال لها "خرجت" أيضاً. ويراد ب "خرجت" ثورة كذلك. ويعبر عن الحملة والغزوة بلفظة "منشا" في بعض الأحيان. ويعبر عنها بلفظة "مبسا" "مسبأ".كذلك. كما يقال "مقرن" أيضاً.

والعرب تقول: الحرب غشوم، لأنها تنال غير الجاني. وتصيب أناساً لا علاقة لهم بها ولا صلة، فهي لا تعرف التفريق بين الجاني ومن لا ذنب لهْ. "وقد عرف علماء اللغة الجيش بأنه الجند، أو جماعة الناس في الحرب والجمع جيوش. وقالوا الجيش: العسكر. فالمراد بالجيش اذن الجماعة المقاتلة التي تخرج للقتال. وترد لفظة "جيش" في العربيات الجنوبية كذلك. وتجمع على "اجيش" "أجيش" فيها، أي في مقابل "جيوش" و "الجيوش" في عربيتنا، ويذكر علماء اللغة ان الجيش واحد الجيوش، ويراد به جماعة الناس في الحرب.

وترد لفظة "خمس" "خميس" في العربيات الجنوبية بمعنى الجيش. وترد في عربية القرآن الكريم كذلك. فقد ورد ان الخميس الجيش،أو الجيش الجرار، أو الجيش الخشن. وذكر بعض علماء اللغة ان العرب سمت الجيش خميساً لأنه مكون من خمس فرق: المقدم والقلب والميمنة والميسرة والساقة،. وقالوا: بل سمي الجيش خميساً لأنه يخمس فيه الغنائم. والظاهر ان الأصل في "الخميس"، الجيش المنظم الكبير الذي يحارب بإمرة وبنظام. وتجمع لفظة "خمس" أي "جيش" في العربية الجنوبية على "اخمس" أي جيوش.

ويعبر عن الجيش بلفظة أخرى هي: عسكر.و "العسكر". وأما الموضع الذي يعسكر فيه فهو "المعسكر".

ويطلق الجاهليون على الجيش الكَثير الذي لا يسير إلا زحفاً من كثرته "الجرار" ويطلقون على الجيش العظيم كلا "الجحفل". ويقولون "جيّش الجيش" و"جيَش فلان الجيوش" للتعبير عن التعبئة وتحضير المحاربين لقتال العدو.

وللعرب آداب وقواعد في الحرب ، يطلبون من المحاربين اتباعها لكسب الحرب.قيل لأكثم بن صيفي: صف لنا العمل في الحرب، قال: أقلوا الخلاف على أمرائكم، فلا جماعة لمن اختلف عليه. واعلموا أن كثرة الصياح من الفشل، فتثبتوا، فإن أحزم الفريقين الركين، ورب عجلة تعقب ريثاً، وادرعوا الليل، فإنه أخفى للويل، وتحفظوا من البياتْ. وقال عتبة بن ربيعة يوم بدر لما رأى عسكر رسول الله، صلى اللّه عليه وسلم: أما ترونهم خرساً لا يتكلمون،يتلمظون تلمظ الحيات.

و "المعسكر" هو موضع تجمع العسكر وموضع نزولهم فيه. ويقال له "حيرت" "حيرة" في السبئية.

وتقول العرب: إن الشجاعة وقاية والجبن مقتلة. وأعتبر من ذلك أن من يقتل مُدبراً أكثر من يقتل مقبلاً. وتقول أيضاً: الشجاع موقى، والجبان مُلقى. فاستقبال الموت عندهم،خير من استدباره. ولم يكونوا يهتمون بالكثرة قد اهتمامهم بالألفة بين المحاربين، وبالعمل يداً واحدة وكأنهم بنية مرصوصة. قيل لعنترة: كم كنتم يوم الفروق ? قال: كنا مئة، لم نكثر فنتكل، ولم نقل فنذلّ.

وللحرب عند الجاهليين أسباب عديدة، يدخل في ضمنها ضنك العيش في البادية مما يحمل القبائل على التناحر والتقاتل فيما بينها للحصول على الماء والكلا، وهما عماد الحياة في البادية، أو الحصول على غنيمة. ويعبر عن هذه الحروب ب "الغزو". والواحدة "غزو". وهي تعتمد على مبدأ المباغتة في الغالب.

أما الحروب،فإنها الحروب الكبيرة التي تقع بين دول وحكومات. كما أن الغارة،.هي غزو مفاجىء يفاجىء به العدو عدوّه، ليأخذه على غرة، ولينتزع منه ما يجده عنده من مال.

وقد كانت القبائل تغير بعضها على بعض، ثم تتراجع حاملة ما حصلت عليه من غنائم وأسلاب، وقد ترجع وهي مسلوبة مهزومة، في حالة تمكن من أريد إيقاع الغارة به من الدفاع عن نفسه، ومن تغلبه على المغير ورده خائباً على ألأعقاب.

وتكون الغارات في وجه الصبح في الغالب، حتى يؤخذ من يراد الإغارة عليه بغرة ويفاجأ بالغارة مفاجأة. وقد يقصد في الليل من غير أن يعلم، فيؤخذ بغتة، والاسم "البيَات". و "بيت القومَ والعدو: أوقع بهم ليلاً". وقد أشير إلى "البيات" في الحديث. فقد كان المسلمون يصيبون في البيات من ذراري المشركين، فسألوا الرسول حكمه فيهم. فكان حكمه: "هم منهم" و "هم من آبائهم".

والغارة دفع الخيل على من يراد الإغارة عليهم. يقال أغار على القوم غارة واغارة، دفع عليهم الخيل. فتكون الغارة بالخيل في الأخص. ويقال أغار إغارة الثعلب، إذا أسرع ودفع في عدوّه. فالغارة غير الغزو والحرب، تكون سريعة في الغاب يعقبها رجوع سريع.

ويعبر عن الغارة بلفظة "تادم" في العربيات الجنوبية. وتطلق على كل حملة عسكرية أيضاً.

ولا تقتصر الغارات على غارات قطعات الجيش على العصاة والثوار، بل قد تقوم بها قبيلة على قبيلة، وقد يقوم بها أفراد، لأسباب مختلفة. وقد يقوم بها اللصوص والصعاليك، يغيرون على أحياء العرب وعلى السابلة للحصول على مغنم. وكان.بعض أصحاب الغارات يمعنون في الغارة فيبتعدون عن منازلهم. ويعدّون "بُعد الغارة" نوعاً من أنواع الشجاعة والفروسية، لما تكتنف المغير من أخطار ومهالك. وكان "مروان بن زنباع"، ويقال له: "مروان القرظ" من "مشهوري أهل الجاهلية في بُعد إلغارة.

وكانت الغارات والغزوات من، أهم وسائل الإعاشة والحصول على مغانم بالنسبة للقبائل النازلة على حدود الحضارة أو على مقربة منها. مثل حدود العراق أو حدود بلاد الشام. وتكثر الغارات في سني الجدب والقحط وانحباس المطر. فلا يبق أمام تلك القبائل للبقاء على حياتها سوى النزوح إلى أماكن أخرى مخصبة معشبة، ويؤدي ذلك إلى التقاتل مع القبائل الأخرى النازلة في تلك الأرضين، أو مع قوات الحدود التي تحاول رد تلك القبائل خشية غزوها للحضر أو لمن يقيم وراء الحدود من أعراب. لذلك استعملت حكومات العراق وبلاد الشام جملة وسائل لكبح جماح الأعراب الغزاة في جملتها حماية الحدود ب "مسالح" بنيت في أطراف البوادي وفي نهايات إلطرق التي توصل إلى الحضر، تضع بها قوات مقاتلة نظامية وغير نظامية من الأعراب أصحاب الإبل لمقاتلة الأعراب، وتقديم الأطعمة والميرة من المستودعات المقامة في "المسالح" و "القصور" إلى سادات القبائل لسد ما عندها من نقص في الطعام، وبإقامة إمارات عربية، تودع اليها أمور تأمين الأمن في إلبادية وحماية الحدود من غارات الأعراب.

المحاربون

والمحاربون على نوعين:أحرار وعبيد ولذلك نجد بعض الكتابات العربية الجنوبية تشير إلى هذين النوعين من المقاتلين، مما يدل على كثرة عدد العبيد الذين يؤمرون بالقتال في ذلك الزمن. جاء في نص "كرب ايل وتر" الموسوم ب Glaser IOOOA "وجيش عبدان من أحرار ورقيق". وورد هذا التعبير في نصوص أخرى تعبيراً عن وجود عدد كبير وربما أفواج من المقاتلين العبيد في جيوش ذلك الزمن.

والسخرة هي الطريقة الغالبة في التجنيد، فإذا وقع خطر، طلب الملك من الأقيال والرؤساء تسخير من يتمكنون تسخيره للقتال. ويبقى المسخر في الخدمة حتى تنتهي الحرب. ولما كان المسخرون قد أجبروا على القتال إجباراً، وهم من الطبقات الدنيا في الغالب، وليس لهم ما يقتاتون به، لذلك، كثرت حوادث التهرب من الجيش،والفرار منه فْي أثناء القتال. ووضع مثل هذا يؤثر على مصير الحرب بالطبع.

ويتولى الحرب والجيش أناس مدربون على أسلوب القتال لهم خبرة بالحروب، أو سادات قوم عليهم واجب قيادة قومهم عند ظهور غزو أو خطر أو حرب، ويعرف مثل هؤلاء بقادة، والواحد "قائد".وكان بعض قادة الجيش عند العرب الجنوبيين يحملون درجة "مقتوي"، وهي منزلة خاصة في درجات القيادة العسكرية وورد "مقتوي ملكن"، أي "مقتوى الملك"، بمعنى "قائد الملك". والظاهر أن هذه الدرجة كانت خاصة ممن يختارهم الملوك لقيادة الجيوش. فإذا اختار الملك شخصاً من الجيش أو من سادات القبائل أو من أصحاب الأرض لأمر يراه فيه، وعينه لقيادة الجيش، عبر عن مكانته هذه ب "مقتوي" وب "مقتوى الملك". وقد عرف علماء اللغة هذه اللفظة، غير أنهم عبروا عنها بلفظة "مغالب". ولم يبنيوا ما المراد من "مغالب".

ويقال للضابط الذي يقود الجيش، أو قطعة منه "اسود"، وذلك في اللغة السبئية.

وقد كان لطبقة قواد الجيش شأن كبير، وسلطان واسع، ويعرف القائد ب "ق س د ن" "قسدن"، أي "القاسد" أيضاً. وقد ظل هذا الاستعمال معروفاً في العهد الحبشي كذلك، لوروده في نص "أبرهة". ولكن هذا لا يعني أن "القاسد" كان عسكرياً محترفاً، مختصاً بقيادة الججش، فقمد كان القواد من رؤساء العشائر ومن الوجهاء والكبراء يقودون أتباعهم في أثناء الحروب. أما في أثناء السلم، فيعودون إلى أعمالهم الاعتيادية، كإدارة الأرض أو القبيلة. ولهذا ففي استطاعتنا أن نقول إن من بين قواد الجيش أناساً لم يكونوا من المتخصصين بالقيادة وبشؤون الحرب، وإنما هم قواد متطوعون وسادات قبائل تضطرهم مراكزهم إلى قيادة أتباعهم في أمثال هذه المناسبات.

وقد فهم بعض الباحثين أنها تعني المحاربين من النوعين: الأشراف والقادة من أصحاب الدرجات الرفيعة العالية، والمحاربين المحترفين للحرب، حتى صارت الجندية حرفة لهم، يعيشون منها. فهم طبقة عسكرية خاصة محترفة على نحو ما كان عند "البطالمة" بمصر وعند غير البطالمة من جيوش ودول. ولكن أكثر الباحثين يرون ان ال "قسمد" هم الطبقة الرفيعة من الأشراف وقادة الجيوش. وعرف المكلف بإدارة موقع من المواقع العسكرية، والذي يتولى أمر ادارة حاميته "امر". أي "آمر" "الآمر"، وربما الأمير. و عرف الضابط الذي يتولى قيادة جماعة من الجيش به "اسود". وأما "قدم"، فإنه المقدم، الذي يقود قطعة من الجيشْ، وربما قصد به من يتولى أمر قيادة مقدمة الجيش. ويعبر بلفظة "قتدم" عن تأمير ال "قدم" وتنصيبه في وظيفته. أي امراً على قطعة الجيش. ويعبر عن التقدم للهجوم على العدو أي على الهدف المقصود من الحملة، بلفظهّ "تقدم".

وقد عرف القادة الذين قادوا ألف رجل فما فوق ب "الجرّارين". ذكر "محمد بن حبيب السكري"، ان العرب لم تكن تسمي الرجل جراراً، حتى يرأس ألفاً. ومن هؤلاء "المطلب بن عبد مناف بن قصي" قاد "بني عبد مناف" وأحلافها من الأحابيش يوم "ذات نكيف". و "بلعاء بن قيس الكناني" قاد "بني عبد مناة" يوم "ذات نكيف" ويوم المشلل ويوم الفجار.

و أبو سفيان صخر بن حرب" قاد قريشاً وكنانة يوم أحد ويوم الخندق. و "عامر بن الظرب العدواني" قاد ربيعة ومضر وقضاعة كلها يوم للبيداء. و "مالك بن عوف النصري"، و "عوف بن عبدالله بن عامر بن جذيمة" و "ربيعة بن حذار الأسدي" و "زرارة بن عدس" التميمي، و "لقيط ابن زرارة" و "الأقرع بن حابس"، و "النعمان بن مجاشع" الدارمي، و "النمر بن حمّان" السعدي، و "الأضبط بن قريع بن عوف" السعدي، و "محلم بن سويط الضبي"، وذكر، انه الرئيس الأول،: أول من سار في أرض مضر برئاسته، وغزا العراق وبه كسرى، حتى بلغ العذيب. ومن بقية الجرارين في مضر: "قيس بن عاصم السعدى" و "وزهير بن جذيمة العبسي" و "عمرو بن جؤية بن لوذان الفزاري" و "بدر بن عمرو" و "حذيفة بن بدر" و "عيينة بن حصن" و "خالد بن جعفر بن كلاب" و "الأحوص بن جعفر" العامري.

والجرارون من ربيعة: "ربيعة بن مرة بن الحارث بن زهير التغلبي"، وابنه "كليب وائل،" و "الهذيل بن هبيرة" و "الحوفزان" وهو "- الحارث ابن شريك" و "بسطام بن قيس " و "الحارث بن وعلة الذهلي" و "أبجر ابن جابر العجلي" و "قيس بن حسان بنْ عمرو بن مرثد" و "قتادة بن مسلمة الحنفي" و "أثال بن حجر بن النعمان بن مسلمة الحنفي" و "الهذيل ابن عمران التغلبي.

والجرّارون من قضاعة: "ذياد بن هبولة"، "زياد بن هبولة"، و "داوود اللثق بن هالبة"، و "زهير بن جناب"، و "رزاح بن ربيعة ابن حرام"، وهو اخو "قصي بن كلاب" لأمه، و "عميرة بن أوس ابن ثعلبة بن عوف بن كعب بن ذهل"، وكان يدعي الملك، و "الأشل بن عمرو"، و "الثعيل".

والجرّارون من اليمن: "كرز بن عبدالله بن عامر" من بجيلة، و "عبد يغوث بن وقاص بن صلاءة الحارثي" من مذحج، و "الأشعث بن قيس الكندي"، و "شراحيل بن أصهب الجعفي"، و "يزيد بن أنس بن الديان الحارثي"، و "ذو الغصة الحارثي"، و "مخرم بن حزن بن يزيد الحارثي"، و "العباب الحارثي"، و "حجر بن يزيد بن سلمة الكندي" و "قيس ابن سلمة الكندي" و "الزوير: علقمة بن سلمة بن مالك الكندي"، و "حسان ابن عمرو بن الجون الكندي"، و "معاوية بن شرحبيل بن أخضر الكندي"، و "حُديج بن جفنة بن قتيرة السكوني"، و "هبيرة بن المكشوح بن عبد يغوث المرادي" و "فروة ين مسيك المرادي".

وسار قادة الجيوش ومتولوا ادارة المعارك على قاعدة "الحرب خدعة". ومعناها خدع العدو وايهامه للتغلب عليه، كأن يشيع قائد الجيش أنه سيسلك،الطريق الفلاني، فيرسل بالفعل قوة صغيرة، وهو يضمر خطة أخرى، بأن يأمر القوة الكبرى بسلوك طريق آخر، فيفاجىء العدو وهو غير متأهب، أو يؤخذ على غرة وهو لا يدري باحتمال قدوم الجيش من هذا المكان.

ولما كانت "المباغتة" من أهم وسائل كسب الحرب والحصول على الربح، كان من أهم أسباب نجاحها التكتم والتستر ومعرفة قوة العدو ومواضع ضعفه، عمد الجاهليون إلى استخدام العيون للتجسس على العدو، يرسلونهم في صور شتى، في صورة تجار أو مسافرين أو على هيأة سرايا صغيرة تقتص آثار العدو وتسأل من يرون من المسافرين عن علمهم بأحوال العدو، أو تقبض ربايا العدو ليحققوا معهم وليحصلوا منهم عن معلومات. تفيدهم في إعداد خطة الحرب أو الغزو. وفي ضوء هذه المعلومات يرتب القادة طريقة مباغتة العدو ومحاربته لانزال الضربة القاصمة به. وإذا أحس انسان بوجود غارة، أو رأى قوماً يتقدمون لمفاجأة قومه بغارة، فعليه الإسراع لإبلاِغ قومه بها قبل أن يفاجئهم العدو بغارته وهم على غير استعداد لها، وكان من عادتهم أن الرجل إذا رأى الغارة قد فاجأتهم وأراد إنذار قومه تجرد من ثيابه وأشار بها ليعلم ان قد فاجأهم أمر. ويقال لذلك الرجل "النذير العريان"، ثم صار مثلاً لكل أمر يخاف من مفاجأته.

ويقال للشخص الذي ينذر قومه بدنو عدو منهم، ويزحف مغير عليهم، "الصريخ". يسرع "الصريخ" إلى قومه قدر إمكانه ليبلغهم بخبر ذلك العدو قبل مباغتته لهم. ونظراً إلى ما للصريخ من أهمية بالنسبة إلى نتائج الغزو، يتخذ المغيرون كل وسائل الحذر والتكتم والبحث عن النذر والصريخين لكيلا يفلتوا منهم فيذهبوا إلى قومهم وهم هدف الغزو أو إلى غيرهم ممن قصدوا بالغزو فيحذرونهم منهم،ويكونوا عندئذ فيَ حالة تأهب واستعداد لمقابلة المغيرين، أو لمباغتتهم بهجوم معاكس عليهم، أو بنصب كمائن لهم قد تلحق أذى بهم، وقد تؤدي إلى عكس ما قصد من ذلك الغزو.

ويعبر عن المباغتة والمفاجأة وأخذ العدو على حين غرة بحيث لا يشعر إلا والعدو يهاجمه بلفظة "بحض" في السبئية.

ويُقال لمن ينذر قومه بقرب،وقوع غزو وبدنو عدوّ منهم: "القاصد". و "القاصد"، هو من يقصد أحداً طلباً لحاجة أو تسهيلاً لأمر، أو لإجراء وساطة.

وكانوا إذا أرادوا حرباً، وتوقعوا جيشاً عظيماً، وأرادوا الاجتماع أوقدوا ليلاً على جبل أو أي مرتفع من الأرض ناراً، ليبلغ الخبر أصحابهم. وإذا جدوا في جمع عشائرهم إليهم أوقدوا نارين. وقد عرفت هذه النار بنار الحرب.

وقد استعانت الحكومات بحماية حدودها بوضع قوات عسكرية في المواضع العسكرية الخطيرة التي تكون لها أهمية كبيرة من الوجهة "السوقية" في تعبئة الجيش للحرب،وعرفت مثل هذه المواضع ب "المناظر". وهي مواضع تقيم بها حاميات تراقب منها حركات الأعداء وتحركات الأعراب. وتكون الحاجز الأول الذي يمنع العدو من التقدم.

ونحن لا نكاد نعلم شيئاً عن أسس تنظيم الجيش في الحكومات الجاهلية، لعدم ورود نصوص واضحة في ذلك. ولصلة ملوك الحيرة بالفرس ولصلة ملوك الغساسنة بالروم، لا استبعد تدريب الفرس، لجيش الحيرة وتقسيمه واعداده وَ فْقَ نظم الجيوش الفارسية وأساليبها على القتال، وتدريب الروم لجيش الغساسنة وَ فقْ أنظمتهم وقوانينهم العسكرية. وقد ذكر أهل الأخبار أن النعمان بن المنذر، ملك خمس كتائب، يحارب بها، هي: "الوضائع" وقوامها قوم من الفرس كان كسرى يضعهم عْندهُ عُدة ومدداً، فيقيمون سنة عند الملك من ملوك لخم. فإذا كان في رأس الحول ردهم إلى أهلهم، وبعث بمثلهم. وكتيبة يقال لها "الشهباء" وهي أهل بيت الملك، وكانوا بيض الوجوه، يسمون الأشاهب. وكتيبة ثالثة، يقال لها "الصنائع"، وهم صنائع الملك، أكثرهم من بكر بن وائل. وكتيبة رابعة، يقال لها "الرهائن"، وهم قوم كان يأخذها من كل قبيلة، فيكونون رهنأَ عنده، ثم يوضع مكانهم مثلهم. والخامسة "دوسر"، و هي كتيبة ثقيلة تجمع فرساناً وشجعاناً من كل قبيلة.

ويظهر من بعض تفاسير علماء اللغة للفظة "الوضائع"، أن "الوضيعة" جماعة من الجند تجعل في كورة لا يغزون منها، أي حامية. وأما الصنائع، فطوائف من الناس يصطنعهم الملك، ويكونون عوناً له وجنداً يحارب بهم. فهم من المرتزقة. وقد تستعين القبائل بطوائف من قبائل أخرى للقتال معها. وقد استعان "سلمة بن الحارث بن عمرو المقصور" ب "بني تغلب" و "النمر ين قاسط" و "سعد بن زيد مناة" وب "الصنائع" على أخيه "شرحبيل"، وذلك يوم "ا لكلاب" الأول.

وقد أشار "الزبيدي" إلى كتيبة دعاها "الملحاء"، قال عنها: "والملحاء": كتيبة كانت لآل المنذر من ملوك الشام. وهما كتيبتان. إحداهما هذه والثانية الشهباء. قال عمرو بن شأس الأسدي: يفلقن رأس الكوكب الضخم بعدما تدور رحى الملحاء في الأمر ذي البزل.

وقد أخطأ "الزبيدي" في جعل "آل المنذر" من ملوك الشام. وقصد ب "الملحاء" "الدرسر". بدليل قوله في موضع آخر: "والدوسر: اسم كتيبة للنعمان بن المنذر ملك العرب ". وقد تعرض في مكان آخر من كتابه إلى كتيبة الشهباء فقال: "والأشاهب بنو المنذر لجمالهم. قال الأعشى: وبنو المنذر الأشاهب بالحي  رة يمشون غدوة بالسيوف

قلت: وهم إحدى كتائب النعمان بن المنذر. وهم بنو عمه واخوانه واخواتهم. سموّا بذلك لبياض وجوههم".

ويظهر من شعر للمثقب العبدي، قاله يمدح عمرو بن هند: ضربت دوسر فيه ضربة  أثبتت أولاد ملك فاستقر

ان هذه الكتيبة كانت موجودة في أيام الملك "عمرو بن هند". وذكر بعض علماء اللغة ان "دوسر: اسم كتيبة كانت للنعمان بن المنذر.، وأنشد للمثقب العبدي يمدح عمرو بن هند. وكان نصرهم على كتيبة النعمان". ولا بد وأن يكون في هذه الكلمات خطأ أو نقص: إذ لا يعقل أن يكون "عمرو بن هند" قد حكم أيام "النعمان بن المنذر". وقد يكَون قصد أحد ملوك الغساسنة، أو ان الأخباريين أقحموا اسم أحد الملكين خطأ في هذا الشرح.

والكتيبة عشر "اللجيون" عند الرومان. ولذلك كان عددها يختلف حسب اختلاف عدد اللجيون. وعلى الأغلب كانت ما بين "400" الى "600" جندي. وقد كان عدد اللجيون "6" آلاف جندي في أيام الانبراطورية، من الفرسان وبقية الأصناف المساندة. ويقسم "اللجيون" المكوّن من الفرسان إلى عشر كتائب، عدد كل كتيبة من "600" فارس. تعرف ب Coforts، وتقسم كل كتيبة Cohort إلى عشرة أقسام. ويسير النظام العسكري عند الرومان وفقاً للطريقة العشرية في تكون الجيش. وقد يتألف "اللجيون" من "7000" جندي، "0 0 2 6" منهم من المشاة و" 730 " من الفرسان ومن بقية التبع.

وحكومات اليمن والحيرة والغساسنة،تكاد تكون الحكومات الوحيدة الني ملكت جيوشاً مدربة نظامية، أي جيوشاً مستعدة في كل وقت للدخول في الحروب.

فلكل حكومة من هذه الحكومات كتائب مدربة في استطاعتها القتال. وهي كتائب من الفرسان وكتائب من المشاة، ولها رؤساء يشرفون على تدريبها وتسييرها وقت القتال. وهي بإشراف ضباط يتولون قيادتها بأمر من الملوك.

أما أهل القرى والمدن، فكان لهم، قوادهم وحملة رايتهم في الحرب، غير أننا لم نسمع بوجود جيش نظامي مدرب عندهم، ولم نسمع بوجود كتائب مقاتلة مستعدة للقتال أو للدفاع حين صدور الأمر اليها. بل كلّ ما وجدناه في كتب أهل الأخبار أن أسراً معروفة عهد اليها بحماية الراية والمحافظة عليها، فإذا وقع خطر،أخرج حفظتها تلك الراية ليرفعوها في القتال فتكون عندئذ شعاراً لهم وروحاً معنوية ذات أهمية، فإذا سقط حاملها أخذها غيره وهكذا كانوا يتناوبون في حملها. وسقوط الراية له أثر كبير في معنوية المحاربين.

ويظهر من دراسة ما أورده علماء اللغة والأخبار عن تشكيلات الجيش عند بقيهّ الجاهليين، أن الجاهليين لم يكونوا يسيرون على نظام معين في تكوين الجيش وفي عدد وحداته، بل كانوا يتركون أمر ذلك إلى الظروف والى رأي القادة الذين توكل إليهم أمور إدارة المعارك. وذلك لأنهم لم يكونوا يملكون جيوشاً نظامية ثابتة، فقد كانت القبائل تقاتل حين تدعى الى القتال أو حين يقع غزو عليها، فيهب كل فرد منها للدفاع عن قبيلته، أو في المساهمة في الغزو، يشترك في ذلك النساء والصغار أيضاً، ولا سيما في حالات الدفاع عن النفس. حتى المدن والقرى لم يكن لها جيش ثابت، ولا قادة يدربون المقاتلين على أساليب القتال، ولا وحدات ثابتة تقيم في ثكنات ومعسكرات. بل كان شأنها شأن القبائل، إذا هوجمت، هبّ أفرادها رجالاّ ونساءً كهولاً وصغاراً في الدفاع عن مدينتهم،

يقوم كل واحد منهم بسوره حسب طاقت!ه وقدرته. وكذلك كان الحال في حالات الهجوم، أي حين تهاجم المدينة عدواً لها، يشترك في هجومها كل متمكن من القتال، قياماً بواجبه الأدبي المفروض عليه. وليس لهذا الجيش المحارب تدريب عكري سابق، ولا وحدات معينة، إنما تكون إمرة سوقه وتسيره، بأيدي الشجعان الأذكياء: ومن سبق له أن برز في قتال سابق، وأبرز مكانه فيه.

وحتى في أيام الرسول لم يكن للمسلمين جيش ثابت منظم، له وحدات على شكل فرق وكتائب وأفواج وسرايا، وثكنات ومعسكرات، وضباط. يعرف كل ضابط منهم وحدته وعدد جنوده. إنما كان المسلمون كلهم جنوداً، إذا دعاهم الرسول إلى القتال لبوّا نداءه. وقد يكون فيهم الكهل والشاب والتاجر والمزارع ومن لا عمل له. الفارس بفرسه، والراكب على جمله، والراجل ماشياً، كل يحارب في سبيل الله. والرسول هو القائد الأعلى، وهو الذي يعين الأهداف والخطط، وهو الذي يختار القادة ومسيري المعركة إذ لا قادة ثابتون. وكان يستشير ذوي الرأي والخبره في المواضع التي يقصدها وفي إدارة الحرب مع العدو. وإذا كَانت المعركة معركة مبارزة، نظر الرسول إلى من معه، واختار منهم من يصلح للمبارزة. وكان إذا أراد ارسال سراياه، اختار للسرية رجلاً من أصحابه فأمره عليها. وأرسل معه من يختارهم ليكونوا له جنوداَ. ولم يكن عدد أفراد السرية ثابتاً، بل كان مختلفاً. ويتوقف العدد على حسب تقدير الرسول للموقف.

ويظهر من الشعر الجاهلي ان الأعراب كانوا يهابون من الالتحام بالجيوش النظامية، لعدم قدرتهم وكفاءتهم في مقابلتها، لما لها من تنظيم وتديب وسلاح.

وقد تركت "الدوسر" و "الشهباء" أثرأَ في ذاكرتهم، نجده في شعرهم، مع ان الكتيبتين لم تكونا على مستوى عال من التدريب والتسليح. وقد كانوا يخشون من الالتحام بالجيوش الآشورية والبابليةّ والرومية، لتفوق تلك الجيوش، عليهم، فإذا تعقبتهم هربوا إلى البادية، حيث يجدون لهم عندئذ المأوى الصالح الأمين المناسب لهم، للوقوف أمام الجيش النظامي. ويكون وقوفهم أمامه على هيئة كرّ وفرّ، وهجوم من جوانب مختلفة. فإن وجدوا جلداً من ذلك الجيش وقوة ضاربة، هربوا إلى قلب البادية.

ويظهر مما ذكره "سترابو" عن الجيوش العربية الجنوبية، انها لم تكن مدربة على القتال، ولم تكن مجهزة بأسلحة حسنة حديثة بالنسبة إلى أسلحة الرومان في ذلك الوقت. ولم تكن منظمة ومقسمة. إلى وحدات محاربة يسيرّ أمورها ويوجهها في القتال ضباط لهم خبرة وعلم بأساليب القتال. ولهذا تقدم الجيش الروماني بكل سهولة نحو اليمين، دون أن يجد أمامه مقاومة تذكر، مع ان جيشهم لم يكن من الجيوش الحسنة التنظيم، المدربة تدريباً حسنا، لمقاومة الجيوش النظامية ونجد في تغلب "الحبش" ودخولهم العربية الجنوبية وتحكمهم بها مراراً، ما يؤيد أن العربية الجنوبية لم تكن تملك جيشأَ منظماً مدرباً على مقاتلة الجيوش النظامية، وانما كانت تملك "عساكر" تعرف قتال الأعراب وأهل القوى، بأسلحة لم تحاول الحكومات تحسينها وتجديدها وفقاً لتطورالسلاح في العالم. مع العلم ان الجيش أنفسهم لم يكونوا أصحاب جيوش منظمة ولا مدربة تدريباً حسناً، ولا مزودة بأسلحة جيدة حديثة على طراز أسلحة اليونان والرومان والفرس. وقد تحكموا مع ذلك في اليمن حتى جاءهم الفرس، فأخرجوهم منها قبيل الإسلام، مع ان الذين أخرجوهم كانوا من قطاع الطرق ومن المتصعلكة، وقد جاؤوهم بسفن قديمة، ولم يكونوا من المحاربين النظاميين المدربين على القتال.

ويظهر أن حكّام العربية الجنوبية،كانوا يعتنون بجمع العساكر وتكوين، الجيوش للقضاء على خصومهم،ولكنهم لم يحفلوا بأمر تنظيم الجيش وتدريبه وتجديده وتحسين سلاحه. مع أن أمر التنظيم والتدريب والتسليح وكيفية استخدام الجندي لسلاحه، من أهم أمور التغلب في الحروب والإنتصار على الأعداء. ولهذا كانوا يتغلبون على خصومهم في العربية الجنوبية وعلى القبائل، لأنهم دونهم بكثير في المستوى وفي الإمكانيات. ولما كانت حروبهم حروبأَ داخلية، لم تتجاوز حدود جزيرة العرب، وإذا تجاوزتها، كان اتجاهها سواحل إفريقية، وهي بلاد غير متقدمة ولا تملك جيوشاً نظامية مدرّبة، لذلك لم يحفل أولئك الحكام بأمر الانفاق على الجيش لتنظيمه وتدريبه وتحسين سلاحه ومستواه ووضعه في ثكنات صحية وتجهيزه بالعربات وبالخيل، لتعطي السرعة للجيش في القتال والحماية اللازمة للمشاة. وبقوا يسيرون على الطريقة التقليدية التي أملتها طبيعة أرضهم عليهم من الاعتماد على عساكر "اسد" الملك وعلى عساكر الاقطاعيين وعلى المرتزقة وعلى الحشور الذين يجمعون جمعاً عند وقوع حرب.

ولم يعتن العرب الجنوبيون بتحسين السفن وتجديدها وتحصينها للمحافظة بها على سواحلهم الطَويلة. فما ظهر الرومان والبيزنطيون في البحر الأحمر، لم يتمكنوا من الوقوف أمامهم. فانتزعوا منهم السيادة على هذا البحر بسهولة، واتصلوا بالسواحل الإفريقية وبلغوا "سيلان" وسواحل الهند. وفقد العرب ما كان لهم من ممتلكات في السواحل الإفريقية المقابلة. بل صارت سواحلهم عرضة لهجمات سكان تلك السواحل، ولتدخل الحبش مراراً في بلادهم. مع أن الحبش أنفسهم لم يكونوا أصحاب سفن جيدة كبيرة، ولا اسطول قوي،حتى أن الروم ساعدوهم بأسطولهم في نقل قواتهم لاحتلال اليمن. ولم يرد في روايات أهل الأخبار ولا في أخبار الموارد اليونانية ما يفيد بتصدي السفن العربية الجنوبية للمغيرين الأحباش، ولا بوقوع أية معركة بحرية بين العرب والحبش أو غيرهم في البحر. ويدل نزول الحبش على السواحل العربية بيسر وسهولة على عدم وجود تحصينات بحرية على السواحل، وعلى ضعف الجيش في ذلك العهد.

ولطبيعة بلاد العرب أثر كبير بالطبع في ظهور هذا التخلف الملحوظ في بناء القوة العسكرية. فمعظم أرض جزيرة العرب أرضون سهلة منبسطة لا يجد فيها أصحابها مواضع طبيعية يتحصنون بها في حالتي الدفاع والهجوم. لذلك صار القتال فيها وجهاً لوجه، والتغلب فيه للمحارب الذي يملك وسائل الحرب السريعة من إبل وخيل وعدة. ثم إن الفقر العام الذي ساد جزيرة العرب آنذاك وفقرها من ناحية الموارد الطبيعية وتغلب الجفاف والحرارة عليها، جعلت العرب كتلاً، أي شعوباً وقبائل، مشتتة مبعثرة، تعيش حول ما تجده من ماء ومن مورد رزق، وكأنها أمم متباينة، لضيق أفق المعيشة فيها، ولتقاتلها فيما بينها على الماء وموارد الرزق الشحيحة. وأوضاع مثل هذه لا تساعد على التجمع وعلى تكوين دولة قوية كبيرة، تجمع جيشاً قوياً مدربا ذا عدة وعدد، يستطيع الصمود أمام الجيوش النظامية المدربة التي تملكها الحكومات الغنية مثل حكومات البيزنطيين والفرس،الني غذت جيوشها بالمال وبالجنود المحترفين المدربين على القتال وبالضبط المتخصصين بشؤون الحرب وبالعدد والعدة المتطورة وبالمال. ولهذا لم تتمكن "عساكر" الجاهليين من الوقوف أمام الجيوش النظامية، لتفوق هذه الجيوش عليها في التنظيم وفي التدريب وفي السلاح وفي كيفية استعمال الأسلحة: واستغلال المواقف وتطبيق العلم على الأرض التي يقع فيها القتال، وفي التغذية والعناية بأحوال الجندي.

ولهذا تحاشت الاشتباك مع الجيوش النظامية في خارج حدود بلادها، وجمّدت قتالها وحصرته في الغزو وفي القتال الداخلي، أي في قتال العرب بعضهم بعضاً، وهو قتال لم يستوجب تطوير الأسلحة وتحسينها، كما يستوجبه قتال الجيوش النظامية الكبيرة، وقد اعتمد على شجاعة الفرد، وعلى الحماس، وعلى ذكاء السادة في الاستفادة من المواقف ومن توجيه فرسان الحرب.

أما المقاتلون فهم متطوعون، تطوّعوا للقتال للدفاع عن مواطنهم، ومجبرون، عليهم الخروج للقتال لأنهم تبع، وقد أمروا به أمراً، ومن هؤلاء الرقيق. ولما كان القتال بسيطا لذلك كان واجب المقاتل متوقفاً على قابليته العقلية والجسمية.

ولا نجد في كتب أهل الأخبار ما يفيد بوجود تدريب للفريقين أثناء السلم ولا في أثناء الحرب، بل يدخل المحارب الحرب كما يدخل المتشاجرون أي شجار، وهناك يستعمل ذكاءه في اختيار الدور الذي يناسبه، فقد يظهر مهارة وحنكة وشجاعة فيرتفع اسمه بين قومه، وقد يقوم بدور المشجع بالكلام، وقد يقوم بأدوار بسيطة ساذجة. فإذا انتهى القتال عاد الناس إلى حياتهم الأولى، عادوا إلى بيوتهم وهي ثكناتهم الوحيدة التي جاؤوا منها.

وترد لفظة "كتيبة" والجمع "كتائب" في الشعر الجاهلي، تعبيراً عن تنظيم وتكتل في صفوف الجيش. فقد ورد أن "حجر بن أم قطام" قاد كتيبة"فارسية" على رواية، أو أنه كان نظم كتيبة مسلحة بأسلحة من دروع وبيض من صنع الفرس. ووردت أخبار أخرى تتحدث عن وجود كتائب عند سادات قبائل قوية، دلالة على أخذ القبائل القوية بنظام تكتيل الجيش وتصنيفه وتقسيمه إلى كتائب في القتال لتلقي الرعب في نفوس الأعداء، ولا سيما في نفوس الأعراب الذين لم تساعدهم ظروفهم على انشاء مثل هذه التنظيمات العسكرية.

ويعبر عن"الكتائب" بلفظ "المقانب" أيضاً. واذا كان الجيش ما بين الثلاثين إلى الأربعين أو قدر أربعين رجلاً أو خمسين، قيل له "المنسر".

ويذكر علماء اللغة ان الكتيبة انما سميت كتيبة، لاجتماعها وانضمام بعضها إلى بعض، فهي اذن كتلة كبيرة من الجيش. وعرفوها بأنها القطعة العظيمة من الجيش، والجمع: كتائب. وعرف بعض علماء اللغة الكتيبة بأنها جماعة الخيل إذا أغارت مكونة من المئة الى الألف.

وعرفت الكتيبة ب "جأواء" كذلك، وقيل: الجأواء كتيبة كثيرة الدروع. وذكر بعض، علماء اللغة أن المنسر ما بين ثلاثين فارساً إلى أربعين. بينما جعله بعض آخر، ما زاد على خمسمائة حتى يبلغ الثمانمائة، فيكون حبشياً. ويظهر من تفاسير علماء اللغة للفظة " المقنب، أن المقنب تكون في الخيل خاصة. قالوا: "والمقنب من الخيل جماعة منه ومن الفرسان. وقيل ما بين الثلاثين إلى الأربعين أو زهاء ثلثمائة... وقيل دون المائة ". وورد: المقنب جماعة من الخيل تجتمع للغارة. قال لبيد: وإذا تواكلت المقانب لم يزل  بالثغر منا منسر معـلـوم

والسرية في تعريف علماء اللغة قطعة من الجيش، تسري في خفية ليلاٌ، لئلا ينذر بهم العدو فيحذروا. وهي من خمس أنفس إلى ثلثمائة، أو يبلغ أقصاها أربعمائة. وقيل هي من مائة إلى خمسمائة، فما زاد فمنسر، فإن زاد على ثمانمائة فجيش، فإن زاد على أربعة آلاف فجيش جرّار، وإن كانت من الخيل، فتكون نحواً من أربعمائة. وقيل سموّا سرّية لأنهم يكوّنون خلاصة العسكر وخيارهم من الشيء السري، وهوالنفيس.

وقد اختلف في عدد رجال "الحضيرة". فقيل: الحضيرة الأربعة والخمسة يغزون. وقيل: السبعة والثمانية. وقيل: العشرة فمن دونهم. وذكر ان "الحضيرة" مقدمة الجيش.

وأما "النفيضة" فالجماعة يبعثون ليكشفوا هل ثمَّ عدو أو خوف. وذكر ان "النفيضة" الذين يتقدمون الخيل، وهم الطلائع.وتؤدى لفظة "مصر" معنى القطعة من الجيش، والحملة وذلك في السبئية. ويقال لقائد الكتيبة "كبش الكتيبة". وكبش القوم رئيسهم وسيدهم. فهو سيد الكتيبة وقائدها.

ويعبر عن المحارب والمقاتل بلفظة "جندي" وب "اسد" "أسد" في العربيات الجنوبية والجمع "اسدم" أي جنود. وقد يكون الجندي حراً وقد يكون عبداً أي رقيقا ومولى، وقد وردت جملة "اسد املكن" أي "أسود الملوك" بمعنى "جنود الملك" و "عسكر الملوك"، وذلك تمييزاً لهم عن الجنود الآخرين الذين كان يجندهم الأقيال والأذواء وسادات القبائل.

ويقصد ب "اسد" أي جندي، الجندي النظامي أي المحارب الذي اتخذ الجندية عملاً له. ولهذا نجد النصوص لا تستعملها إلا في هذا المعنى،وذلك للتمييز بينه وبين المحاربين الآخرين المتطوعين أو المكرهين على الدخول في القتال أو المؤجرين أو المحاربين من أهل القبائل أو من أهل المدن الذين يهبّون للقتال عند دنو خطر على أهلهم أو قراهم. وتكون اعاشة هؤلاء الجنود على من يأمرهم بالخدمة في جيشه بالطيع، من ملك أو مكرب أو مدينة أو قرية أو سيد أرض.

وأما إذا كان المحارب رقيقاً كائناً ما كان جنسه أو لونه، وأشرك في القتال،

فيعبر عنه ب "ادومت " "ادمت"، أي "ادم" و "أوادم"، بمعنى الخدم المملوكين. فلسيد القبيلة ولكبار أصحاب الأرض والملاكين والأغنياء "أدم" أي خدم، يخدمونهم ويقاتلون عنهم في الغزو وفي الحرب وفي الدفاع عن النفس. ولم يكن هؤلاء "الأدم" من العسكريين المحترفين.

وأما إذا كان المحارب أجيراً يؤجر نفسه لمن هو فوقه لخدمته أو للقتال عنه، فإذا وقع قتال طلب منه الدخول فيه، للقتال في سبيل صاحبه قيل له: "اجر" أي "أجير، والجمع "اجر" و "اجرم"، أي أجراء.

وليس لدينا أخبار عن معامل تعمل فيها "الشكة"، أي السلاح كله للحكومات أو للقبائل في الجاهلية. غير أني لا استبعد وجودها في اليمن. فقد كانت حكومات اليمن، حكومات منظمة تُعْنى بمثل هذه الأمور التي هي من ضرورات الدولة. أما القبائل، فقد كان المحاربون فيها هم الذين يجهزون أنفسهم بالسلاح. وقد يكون ذلك السلاح عصيا يقاتلون بها،وقد لا يكون لدى المحارب أي شيء منه سوى الحجارة التي يجدها أمامه، فيتراشق بها مع الأعداء. أما سادات القبائل والأغنياء، فقد كانوا يشترون أسلحتهم ويخزنونها إلى وقت الحاجة. فإذا ظهرت وزعوها في أولادهم وخدامهم ومواليهم للقتال.

وإذا عزمت قبيلة على غزو قبيلة أخرى وجب على كل بالغ سليم الغزو معها، كما أن على كل فرد من القبيلة المهاجمة أن يقوم بواجبه في الدفاع عنها، وهذا واجب كل رجل في القرى والمدن أيضاً. فقد كان على رجال كل قرية أو مدينة الدفاع عن أنفسهم، ورد غزوات الغازين. لاستقلال كل قرية أو مدينة في أمورها وشؤونها، ووقوع كاهل الدفاع عن نفسها على عاتقها. وعلى كل مواطن لذلك، بدوي أو حضري أن يهيئ نفسه في أيام الحروب والغزوات للدفاع عن نفسه وعن مواطنيه، وأن يقوم بعمل الجندي في هذه الأيام.

وقد يقعد بعض الرجال من الأغنياء، أو من المسنين عن المساهمة في الحرب أو الغزو، فيدفعون جعلاً في مقابل ذلك لرجال يحاربون عنهم، فيكون الجعل لهم ويكون ما قد يقع في أيديهم من غنائم لهم أيضاً. وقد يتفق على ذلك بأن يجعل المقيم للغازي شيئاً. وقد كرهت الجعائل في الإسلام. وفي الحديث أنها سحت. وهي ما تجعل للغازي إذا غزا عنك بجعائل. قال سليك بن شقيق الأسدي: فأعطيتُ الجِعالة مستميتـاً  خفيفَ الحاذِ من فتيٌانِ جَرٌم

واذا قامت قبيلة بغزو قبيلة ما، قام رجالها من ذوي الرأي والمعرفة بالمعارك بإعداد خطط غزو العدو ومهاجمته ومباغتته وترؤسه وعلى شجعانها قيادة الغازين المحاربين. أما القبيلة التي تتعرض للغزو، فيقوم ذوو الرأي والخبرة العسكرية فيها بإعداد الخطط للدفاع عن نفسها، وردّ الاعتداء عنها. وفي حالة الأحلاف يعد ذوو الرأي والخبرة العسكرية في الحلف خطط الهجوم أو الدفاع، ويشترك الحلف في إعداد المحاربين وقيادتهم.

والغالب ان الذي يقوم بقيادة المحاربين وتوجيههم في المعارك هم من أسر توارثت ذلك، وصارت القيادة وكأنها حق لها. فإذا وقع غزو، أو أرادت قبيلة ما غزو قبيلة أخرى، نهض رجال الرأي في الحرب بإعداد الخطة والتشاورفي الرأي لكسب المعركة. وقد كانت قريش قد وكلت أمر حربها وقيادة محاربيها إلى "آل حرب". ولكن ذلك لا يعني عدم تغيير القادة وإبدالهم، وتعيين قادة جدد من أسر أخرى، فقد كانوا يفعلون ذلك أيضاً عند الضرورات.

ولم تكن قوات القبائل في مستوى القوات النظامية من حيث التسليح والقابلية في القتال. فأسلحة رجال القبائل بسيطة وبدائية في الغالب لفقرها وعوزها وهي غير منتظمة ولا مدربة على القتال تدريباً فنياً، وإنما يقوم فنها على الإغارة والمباغتة، فإذا وجدت مقاومة ما فرّ ت وولت،لأنها لا تتحمل المقاومة والوقوف في وجه العدو مدة طويلة، ولا تستطيع الصبر على ذلك. وهي من هذه الناحية قادرة على إِلحاق الأذى بالقوات النظامية في حروب الصحارى،فتقوم بمباغتة العدو وأخذه بالمفاجأة، فإذا وجدت مقاومة منه أو أخذت ما كانت تصبو اليه من غنيمة، عادت مسرعة إلى معقلها، لتحتمي به، ولتوزع ما غنمته وفق العادة والعرف.

والغزو مصدر مهم من مصادر الإعاشة بالنسبة إلى الأعراب، يلجأون اليه في أيام الشدة والمحنة لغناء أهل القرى والمدن بالنسبة إلى أهل البادية، صارت هذه المواضع هدفاً مقصوداً للإعراب، ومصدراً من مصادر الرزق عندهم، ولا سيما المواضع الواقعة على حدود الأرضين الغنية الخصبة، كالعراق وبلاد الشام. وقد أدركت الدول الحاكمة في العراق وفي بلاد الشام هذه الحاجة، فاستغلتها، فأخذ الروم يشترون رؤساء القبائل، يدفعون لهم رشاوى وهدايا ومنحاً ومرتبات لحماية حدودهم من تحرش رجالهم بها، ولمهاجمة حدود أعدائهم الفرس، ولمقاومة القبائل التي يرسلها الساسانيون لمهاجمة بلاد الشام.

وفعل الفرس مثل ذلك، فدفعوا المنح والمرتبات والهدايا لرؤساء قبائلهم،ودفعوهم على مهاجمة حدود بلاد الشام، وقد اضطرت القرى والمدن في جزيرة العرب إلى مهاجمة القبائل القوية النازلة بقربها، والى محالفتها بدفع إتاوات لها في مقابل عدم التحرش بها وحمايتها من تحرش القبائل الأخرى الطامعة بها، وفي مقابل مرور قوافلها في أرضها. وبذلك أمنت على سلامتها وعلى أموالها بعقد هذه العهود والمواثيق.

ولضرورة الدفاع عن النفس، وللوقوف أمام طمع القبائل القوية في القبائل الضعيفة، اضطرت أكثر القبائل إلى التحالف والتكتل لمنع الغزو فيما بينها، والى مقاومة أي غزو يقع عليها. وقد أطلق العرب على كل قبيلة تحارب وحدها دون محالفة قبيلة أخرى "الجمرة". وذكر أن "الجمرة"، هي القبيلة التي لا يقل عدد فرسانها عن ثلاثمئة فارس، وهو عدد يدل على قوة القبيلة وشدة البأس.

وذكر الأخباريون أن "جمرات العرب" ثلاث: بنو ضبة بن أد، وبنو نمير ابن عامر، وبنو الحارث بن كعب. فطفئت جمرتان، وبقيت جمرة واحدة: طفئت بنو ضبة لأنها حالفت الرباب، وطفئت بنو الحارث لأنها حالفت،مذحج، وبقيت نمر لأنها لم تحالف.

والغالب على أسلوب القتال عند الجاهليين: الكرّ و الفرّ، و ذلك بأن يهاجم المحاربون عدوّهم ثم يتراجعون بسرعة وكأنهم قد فروا خوفأَ منه، ثم يعودون فيكرون عليه، يضعون مكاناً يكون مركز ثقلهم والملجأ لهم، يلتجئوون إليه، ثم ينطلقون منه للكر على العدو. وقد اتبعوا أيضاً أسلوب القتال صفوفاً، بأن يقف المحاربون صفوفاً، يحاربون دون كر ولا فرّ.

ولا بد للمحارب من أسلحة يحارب بها ويدافع بها عن نفسه. ويستعمل العرب لفظة سلاح وعدة المحارب في مقابل A rms=Armour في الانكليزية و"ملديم" Malddim و "كليم" Kelim و"حليضه" Hallizah في العبرانية. ويراد بها كل ما يستعمله ويحمله الجندي من وسائل الحرب من هجوم ودفاع.

والسيف هو السلاح الرئيسي في القتال. استعمل في الهجوم وفي الدفاع عن النفس. ويطلق العبرانيون عليه وعلى الخنجر لفظة "خ ر ب" "خريب".

وقد يكون السيف قصيراً أيضاً. وهو ذو حد واحد وذو حدين. وقد يكون رأسه مدبباً حاداٌ يستعمل للطعن. أما الضرب فيكون بحد السيف. والسيوف الجيدة هي السيوف المصنوعة من الفولاذ ومن الحديد النقي الجيد. وقد اشتهرت سيوف اليمن، وبعض السيوف المستوردة من الخارج. ويقال لحديدة السيف "النصل"، وتقابل هذه اللفظة لفظة "لهب" "لهيب" في العبرانية، من أصل "لهب"، وذلك للمعان السيف الذي يشبه اللهب عند عرضه في الشمس.

وللسيف أسماء كثيرة ترد في كتب اللغة، بعضها أسماء وبعضها نعوت وصفات صارت في منزلة الأسماء للسيف. ومن أسماء السيف: "الجنثى" والجمع: "الجنثية"، يقال انها انما سميت جنثية نسبة إلى الجنثي، وهو الحدّاد.

ويعرف الحدّاد بالقين عند الجاهليين. أما الذي يقوم بصقل السيف، فهو "الصيقل".

وقد اشتهرت أنواع من السيوف عند العرب، تفاخروا بها، لجودتها وشدة وقعها في العدو. ومن هذه السيوف المشهورة: "السيوف المشرفية". قيل: انها سميت بذلك نسبة إلى "المشارف" جمع مشرف، ويراد بها قرى للعرب تدنو من الريف. وقيل: لأنها من مشارف الشام. وقيل: نسبة إلى موضع من اليمن. وقيل بل نسبة إلى "مشرف" رجل من ثقيف.

وردّ "ابن رشيق القيرواني" قول من نسب السيوف المشرفية إلى مشارف الشام أو مشارف الريف، وذهب إلى انها نسبة إلى "مشرف"، من قرى اليمن.

وعرفت سيوف "بصرى" بالجودة كذلك، ويقال للسيف المنسوب اليها "بصُري". وقد مسحها "الحصين بن الحمُام المُري"، وأثنى على القيون الذين أخرجوا "صفائح بُصرى"، أي السيوف.

واشتهرت السيوف السماة ب "السريجية" بجودتها كذلك، ويقال: إنها نسبة إلى "سُريَج" رجل من بني أسد. وهو أحد بني معرّض بن عمرو بن أسد ابن خزيمة وكانوا قيوناً.

واشتهرت سيوف اليمن كذلك، فقيل للسيف "يمان" و "يماني"، إذا صنع باليمن. والظاهّر أنها لّماعة بيض، ولذلك قيل "بيض يمانية" يمدحون تلك السيوف.

واشتهرت بعض السيوف في الجاهلية، بقيت شهرتها خالدة في الإسلام. ومن هذه السيوف، سيف عرف ب "الصمصامة"، وهو سيف عمرو بن معد يكرب. وسيف عرف ب "ذي الفقار" ارتبط اسمه باسم علي بن أبي طالب، وكان قد استولى عليه في معركة "بدر"، أخذه من العاصي بن منبه.

وكان في أصحاب رسول الله صحابيّ اشتغل بعمل السيوف في الجاهلية هو "خباب بن الأرت ". وكان من المسلمين الأولين الذين أعلنوا إسلامهم، وعذبوا فيه.

ويتبين من دراسة وتقصي مصادر السيوف عند العرب الجاهليين، أن العرب كانوا آنذاك يستوردونها من أماكن مختلفة، وأن استيرادها كان تجارة مربحة.

وأن تجارها كانوا يفتشون في كل مكان من أسواق العالم المعروفة بصنع وبيع الأسلحة لشراء الأسلحة منها. فاستورد بعضهم أنواعاً من السيوف المصنوعة من الهند وقد عرف السيف الجيد المصنوع بالهند ب "المهند". واشتهر الروم بصنع السيوف الجيدة، وكذلك الفرس.

وقد تفنن في تزويق السيوف وفي اكسائها بماء الذهب أو الفضة، وقد اشتهرت الروم بإكساء السيوف ماء الذهب، ويقال لذلك "الدجال".

والخنجر أقصر من السيف، ويستعمل، في المباغتة في الغالب وفي الهجوم وفي الدفاع عن النفس. وهو مثل السيف أيضاً ذو حد وذو حدين، ويوضع في قراب يحمل في وسط الجسم. وهو لا يزال كَثير الاستعمال لسهولة استعماله وإخفائه على حين قلّ استعمال السيوف، أو مات، لعدم ملاءمتها للقتال الحديث. ولرخص الخناجر، بالنسبة إلى السيوف، كانت كثيرة الاستعمال حملها معظم الناس حتى الفقراء لحماية أنفسهم من أذى الإنسان والحيوان. وقد استعملت في أثناء الالتحام بالحروب، حيث يشتبك المحاربون بعضهم ببعض، فيكون الخنجر من الأسلحة الملائمة للفتك بالعدو.

والرمح: سلاح يستعمل لطعن العدو، يستعمله الفارس،في الغالب. له رأس منبل حاد، يطعن به. وقد يكون له رأس آخر، يثبت به في الأرض. وهو يختلف طولاً ووزناً. وهو من الأسلحة القديمة، ولا يزال معروفاً، تستعمله بعض القبائل والشعوب البدائية. يصنع من حديد أو من معدن آخر، كما يكون من أعواد الأشجار القوية أو القصب القوي. وأجود الرماح عند العرب، "الرماح الآزنية "، أو "الرماح اليزنية"، يقال انها نسبت إلى "ذي يزن" الملك. وهو على رأي بعض الأخباريين أول من اتخذ أسنة الحديد، فنسبت اليه وانما كانت أسنة العرب قرون البقر.

وعرفت الرماح ذوات السنان بالأسنة. وهي ايضأَ أنواع، منها نوع يسمى "الأسنة القعضبية" نسبة إلى رجل اسمه "قعضب" من "قُشير". ونوع يسمى "الأسنة الشرعبية"، ينسب إلى "شرعب". وإلى هذه الأسنة أشار "الأعشى" في هذا البيت: ولدن من الخطيّّ فيهـا أسـنةُ  ذخائر مما سنّ أبزى وشرعب

ويذكر أهل الأخبار ان الرماح الشرعبية، منسوبة إلى بطن من بطون حمير يقال لهم "شرعب بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد قيس".

و الرماح "ألخطية"، من الرماح الجيدة المعروفة وتنسب إلى "الخط".

والخط هو خط هجر، تحمل اليه الرماح من بلاد الهند، فتقوم به. فنسبت اليه.

و "الرماح الردينية" وهي من الرماح الجيدة المشهورة أيضاً، يقال إنها نسبة إلى "ردينة" امرأة كانت تعمل الرماح.

ويقال للرمح "المنجل" أيضاً. واشتهر نوع آخر من الرماح عرف ب"الرمح السمهري" والجمع: "الرماح السمهرية". ذكروا أنها منسوبة إلى "سمهر"، وكان صنعاً يصنع الرماح، وكانت امرته "ردينة" تبيعها.

وتستعمل القنا في القتال أيضًاً. ويظهر أنها نوع من أنواع القصب القوي الذي لا ينثني ولا ينكسر، يكسى رأس القناة برأس من معدن مدبب حاد ليطعن به. ويستعمل القناة للفارس والراجل.

ويقال للقنا، "قانه" Kanah في العبرانية وkanna=Canna في اليونانية

ويراد بها القصب، وهو ينبت في مواضع كثيرة من مصر، وفي الأرضين التي تكثر فيها الرطوبة والمياه، وقد اشتهرت بعض أنواع القصب بالمتانة والقوة. ولهذا استخدمت سلاحاً من أسلحة الطعان.

واستعملت الحراب في الطعن وفي زرق العدو بها. وقد ذكر أهل الأخبار أن الحبشة كانت تحسن الطعن بها، وأن العبيد المجلوبين منها والذين كانوا بمكة، كانوا قد اشتهروا بالطعن في الحراب، ومنهم "وحشي" قاتل حمزة. وهو عبد حبشي زرق حربته ورمى بها حمزة فأصابه.

وكما تعتمد الجيوش الحديثة على أسلحة الرمي، اعتمد الجاهليون على أسلحة هي بمنزلة البنادق والرشاشات في اسلحة هذه الأيام، هي القسي والسهام. والقوس، هي الآلة التي تمسك باليد ويشد وترها شداً قوياً، ليرمي السهم إلى العدو المراد رميه. وكلما كان الشدِّ قوياً، صارت الرمية بعيدة مؤثرة. وقد يكون السهم من غصن أو من خشب، وقد يكون من معدن مثل حديد أو نحاس. ويتخذ الوتر من مادة قابلة للتوتر وللشدّ، حتى يكون في قدرته رمي السهم.

إلى مسافة بعيدة وبقوة. أما السهم، فقد يكون من شجر، وقد يكون من معدن، ويكون له رأس مدبب ليصيب به الهدف. وقد يسم رأس السهم، فينفذ السم منه إلى الجرح، فيصيب به الجريح إصابة قاتلة.

وقد عدّت الرماية من جملة الخصال العالية في الشخص المكملة للانسان. وقد اشتهر في الجاهلية قوم بدقة رمايتهم، وبصحة اصابتهم الأهداف، إذا أرادوا رمي أحد اخرجو النبل، فرموه بها، وقلما يخطئون. واذا ارادوا وصف رجل بدقة الرمي، قالوا فيه: "كان من أرمى الناس". وكانت الرماية دراسة يتعلمها الرامي من رماة ماهرين. فكان أهل الحيرة والفرس يعلمون أولادهم الرمي بالنشاب، ليكونوا من الرماة المهرة. يستعملون فنهم هذا في قهر أعدائهم وفي الصيد وفي الحروب. وقد كانت الجيوش تضم فرقاً من الرماة، تكون لهم أهمية كبيرة جداٌ في تقرير نهاية الحرب، لأنهم عنصر فعال قوي في التأثير في المحاربين.

وقد استعان الفرس والروم والرومان بالرماة الماهرين من العرب،فكوّنوا منهم فرقاً خاصة في جيوشهم، وظيفتها الهجوم على العدو ورميه بالسهام للفتك به. فكانت السهام تقوم مقام نار البنادق والرشاشات في أسلحة هذا اليوم. وقد أشار الكتبة "الكلاسييون" إلى كتائب الرماة العرب التي كوّنها الروم والرومان.

وقد عرف بعض الرماة بدقة إصابتهم الهدف، فكانوا يصيبون بسهامهم ونبلهم أدق الأهداف. وقد اشتهر هؤلاء ب "رماة الحدق"، أي المهرة في الرمى، فلا يخطئون الحدق. وفي كتب الأخبار قصص عن دقة إصابة هؤلاء الرماة. ولخطورة الرمي في القتال، ولأهمية هذا السلاح في مصير الحروب ونتائجها، أعطاه الإسلام أهمية كبيرة. وقد ورد في الحديث: " وأعدوا لهم ما استطعتم. من قوة، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي ". وورد أيضاً: أن الرسول كان يحث أصحابه علىتعلم الرماية واتقانها، وقد كان في صفوف قريش والوثنيين جماعهّ من الرماة المهرة الذين يصيبون الأهداف.

واشتهرت أنواع من القسي، منها: "القسي الماسخية"، نسبة إلى رجل من بني نصر بن الأزد اسمه "ماسخة"، وقيل: "نبيشة بن الحارث".

ذكر أنه أول من عملها. وتنسب القسي أيضاً إلى "زارة" وهى امرأة "ماسخة".

وفي هذه القسي قال الشاعر: شرعت قسي الماسخي رجالنا  بسهام يثرب أو سهام الوادي

وذكر أهل الأخبار نوعاً من الخشب سموه "الشريانْ"، ذكروا أنه خشب تتخذ منه القسي العربية.

وأجود السهام التي وصفتها العرب، "سهام بلاد"، "سهام بلام"، و "سهام يثرب"،وهما قريتان من حجر اليمامة. وقد ذكرها الأعشى في شعره. ومن "النبل" الجيد نبل يقال له "رقميات"، وقد نسبت إلى "الرقم"، وهو موضع دون المدينة، ويقال سهام مرقومة.

وتريش النبال بريش الطيور، وتوضع عليها ريش نسر أحياناً. وتحفظ السهام والنبال في محفظة، يقال لها: "الكنانة". وأشهرها الكنائن المعروفة ب"الكنائن الزغرية"، وهي منسوبة إلى "زغر"، موضع بالشأم، تعمل كنائن حمر مذهبة. وقد ذكرها أبو دؤاد الإيادي في شعره: ككنانة الزُغرى زينها  من الذهب الدلامص

ومن مشاهير الرماة عمرو بن عبد المسيح الطائي، وكان أرمى العرب. وفد إلى النبي، وفيه يقول امرؤ القيس: ربَّ رامٍ من بني ثعل  مخرج كفيه من ستره

واشتهر "القارة" بالرمي، فقيل: إنهم أرمى حي في العرب، ولهم يقال: "قد أنصف القارة من راماها ".

والقسي هي سلاح الصياد في الجاهلية، فهي بمثابة "البندقية" في هذا اليوم، يأخذها الصياد معه وفي كنائنه، ثم ينتظر، فإذا شاهد صيداً رماه. ولهذا نجد المولعين بالصيد يذكرونها في شعرهم وفي وصفهم لمطاردة الحيوانات.

ومن القسي الجيدة الني تركت أثراً في ذاكرة الشعراء "العتل" واحدها "عتلة" وقد عرفت بأنها القسي الفارسية.

واستعمل الصعاليك واللصوص السهام سلاحاً فتاكاً في ابتزاز المال وسلب المسافرين. والرامي الجيد الرماية، متغلب على خصومه، لأنه يرمي وهو على بعد ممن يرميه، فلا يصيبه سيف أو رمح. وبذلك صعب على من لا يحسن الرماية التغلب عابر الرماة.

والرمي بالحجارة والحصى، سلاح مهم مؤثر في العدو في ذلك الزمان. فقد كان المحاربون يرمون عدوهم بآلة ما زال الأطفال والفلاحون يستعملونها،يطلقون عليها لفظة "معجان" في العراق. وهي عبارة عن قطعة من جلد أو قماش تشد من طرفيها بحبلين أو خيطين. فإذا أراد الرامي الرمي، وضع حجراً صغيراً أو حصاة في الجلد أو القماش، وأمسك بطرفي الحبلين غير المشدودين بالقاعدة،وأخذ يحركهما تحريكاً دائرياً بشدة، ثم يطلق أحد الحبلين بسرعة لينطلق الحجر إلى الهدف المراد، فيصيبه. ويطلق على هذه لفظة "قلع." في العبرانية " وهي أبسط أنواع آلات الرمي بالحجارة. ويستعملها الفلاحون والرعاة أيضاً لطرد الطيور والحيوانات. ويسمونها في بلاد الشام "المقلاع".

وقد كان على المحارب التدرب على الرمي وعلى الطعن،ليكون محارباً ناجحاً، ذا خبرة في القتال، فلا يتمكن منه عدو بسهولة. وفي جملة الوسائل التي كان يتسرب عليها: "الدريئة."، وهي حلقة يتعلم عليها الطعن والرمي. قال عمرو ابن معديكرب: ظللت كأني للرمـاح دريئة  أقاتل عن أبناء جرم وفرت

ولا بد للمحاربين من أسلحة واقية، يتقون بها ضربات أعدائهم. وما يرمونهم به من حجارة وسهام. والترس من أقدم الأسلحة الواقية، يعلقه المحارب على ظهره أو على كتفه، فإذا احتاج إليه، أمسكه بإحدى يديه، ليتقي به ضربات خصمه. ويصنع من الحديد في الغالب، ولارتفاع ثمنه، لم يستعمله إلا المحاربون الشجعان المعروفون والمحاربون الموسرون. واستعمل الترس المصنوع من الخشب ومن الجلود الثخينة، مثل جلود الجمال والبقر وبعض أنواع الأسماك والحيوانات الوحشية ذوات الجلود الغليظة.

وبعض الأتراس،دائرية على هيأة قرص، ومعظم أنواع الأتراس عند الجاهليين وعند العرب الإسلاميين هي من هذا النوع،وبعضها على هيأة مستطيل أو مستطيل ذي رأس مدور أو ثابت أو غير ذلك، وفي ضهر الترس حلقة أو موضع يدخل المحارب يده فيه ليمسك به الترس، ويتصل به حبل أو سلسلة ليعلق المحارب به أو بها الترس على جسمه. ويعرف الترس بالدرقة وبالمجن كذلك. وقد ذكر امرؤ القيس المجن فقال: لها جبهة كسراة المِجنَ  حذقه الصانع المقتدر

ويقال له: "العنبر" كذلك.

ويقال للمجن "ماكين" "ماجن" Magen في العبرانية. وهو قرص دائري الشكل خفيف يحمله المحارب بيده ليدافع به عن نفسه وللاتقاء به من ضربات العدو. ويقال له "كليبوس" Clypeus عند الرمان.

والدروع هي من أسلحة الوقاية، يتدرع بها المحارب، ليقي بها نفسه من ضربات خصمه. وقد تكون للظهر وللصدر، تحمي ظهر المحارب وصدره، وقد تكون للصدر فقط، فيقي المحارب بالدرع ضربات المحارب من رمح أو سيف. فلا ينال به صدره ويعرف أهل الأخبار الدرع بأنها القميص المتخذ من الزرد. وتعرف الدروع عند العبرانيين ب "شريون" Shiryon. ويلبس الدرع كالثوب فيقي الجسم من الضربات.

وقيل للدروع "الخرصان" كذلك، والواحد خرص، وقد سموا الدرع خرصاً لأنه حَلق، كما سموا الحلقة التي في الأذن خرصاً. وقيل للدرع سابغة أيضاً. وقيل للرماح الخرصان كذلك.

ومن الدروع المعروفة: "الدروع الحطمية" نسبة الى حطمة بن محارب بن عمرو بن وديعة. وقيل: نسبة إلى "حطم" أحد بني عمرو بن مرثد من بني قيس بن ثعلبة. و "الدروع السلوقية"، هي نوع آخر من الدروع المشهورة، يقال: انها نسبة إلى "سلوق" وهي قرية باليمن عرفت بدروعها. وقد ذكر النابغة الدروع السلوقية في شعره، وأشار "ابن مقبل" إلى نوع من أنواع الدروع دعاها "المشرفية" من صنعة مشرف، ومشرف جاهلي، وهم يدعون إلى ثقيف. كما عرف نوع آخر من الدروع اشتهر باسم "القردماني"، وذكر بأنه فارسي، وان أصله بالفارسية "كردماند".

وقد نسبت الدروع الجيدة الممتازة إلى "داوود" و "سليمان" فورد في شعر للحطيأة: فيه الرماح وفيه كل سابغة  جدلاء مبهمة من نسج سلام

وورد في شعر للنابغة: وكل صموت نثلة تبـعـية  ونسجُ سليم كل قضّاء ذائل

ويلاحظ ان البيت المنسوب إلى "الحطيأة" ينتهي بلفظة "داوود" بدلاً من "سلام" وهو "سليمان" في بعض الروايات. والمعروف ان "داوود" هو الذي اشتهر بعمل "الدروع" لا "سليمان" على حد قول أهل الأخبار. وقد أشيرإلى صنع "داوود" للدروع في بيت شعر "لبشامة بن عمرو"، وقد وصف دروعه بأنها "موضونة"، أي مضاعفة ثخينة، تسمع للقواضب فيها صليلاً، كما أشير الى ذلك في بيت شعر ينسب إلى "الحصين بن الحمُام المري"، حيث نسب نسج الدروع إلى " داوود". والغالب عند الجاهلين نسبة إلى الدروع إلى "داوود". وأما لفظة "سليم" الواردة في بيت "النابغة"، فتعني "سليمان" أيضاً.

ونحن لا يهمنا في هذا المكان أمر صانع هذه الدروع، إنما الذي يهمنا هنا هو أثر القصص اليهودي والدعاية الإسرائيلية في نفوس الجاهليين، مما يدل على أن اليهود المهاجرين الى جزيرة العرب كانوا قد غرسوا بذور الدعاية اليهودية بين الجاهليين حتى تؤثر فيهم، فكان من أثره مثل هذا القصص الذي نجده في شعر الجاهليين وفي قصصهم المدون في الإسلام.

ولا يستبعد أن يكون في اتجار يهود الحجاز بالأسلحة واستيرادهم إياها من بلاد الشام لبيعها للعرب أو للاحتفاظ بها لتهديد من يطمع فيهم ولمقاومته، أثر في ظهور مثل هذا القصص، وفي نسبة الأسلحة الجيدة إلى "داوود" أو "سليمان". وعرفت الدروع المصنوعة باليمن بالجودة كذلك.وقد نسبت بعضها إلى التبابعة، فقيل "نثلة تبعية" يريدون بلفظة "نثلة" درع. وقيل "مسفوحة تبعية" أي "درع تبعية" منسوبة إلى "تبع".

و "التسبغة" هي: زرد مشبك الحلق متصل بالبيضة يطرح على الظهر ليستر العنق، فلا تؤثر فيه الضربات والطعن.

ومن الأدوات التي استخدمها المحاربون "البيضة"، وهي غطاء يوضع على الرأس لحمايته من السيوف والحجارة والعصي وما شابه ذلك. وهي لا بد أن تكون مصنوعة من مواد واقيه تحفظ الرأس من الأخطار، كاًن تكون مصنوعة من الحديد أو المواد المعدنية الأخرى أو من الجلود الثخينة.

وقد عرفت "البيضة" المستديرة ب "تركة". وورد في شعر "مزرد بن ضرار الذبياني" "تركة حميرية "، أي منسوبة الى حمير، مما يشير إلى اشتهار هذا النوع من آلة وقاية الرأس.

والعمائم خوذ المحاربين عند الجاهليين. فإذا خاض المحارب معركة ما إعتم بعمامة، وقد يضع عليها ريشة، وقد يتحنك بذؤابتها، ولم تكن عمائم الحرب ذوات لون واحد، بل كانت ذوات ألوان، قد يدخل المحارب الحرب وعلى رأسه عمامة يختلف لونها عن لون العمامة التي لبسها قبلاً. وقد تحدث أهل الأخبار عن أنواع العمائم التي لبسها المحاربون في القتال.

ولكن هذا لا يعني ان الجاهليين كانوا لا يستعملون الخوذ في حروبهم. لقد كان عرب العراق وعرب بلاد الشام واليمن يستعملونها أيضاً، واذا كانت الخوذ قليلة الاستعمال، في معظم أنحاء جزيرة العرب، فإنما يعود سبب ذلك إلى غلاء ثمنها، لأنها من المعدن في الغالب، ولعدم وجود حاجات ملحة اليها هناك. وقد لبس الرومان واليونان خوذا مصنوعة من النحاس ومن البرنز. واستعملت الخوذ المعمولة من الخشب ومن الجلود والكتان واللباد وبعض المواد الأخرى. وقد تفنن صانعوها في زخرفتها وفي أشكالها،وعلى هذه الزخرفة والمواد المصنوعة منها يتوقف سعر الخوذ بالطيع.

وأما "المجن" و "الترس" و "الدرقة"، فبمعنى واحد، وهي لوقاية الجسم من ضربات السيوف. ويصنعها العرب من الجلود في الغالب.

ويقال للزرد الذي ينسج على قدر الرأس ويلبس تحت القلنسوة "المغفر".

وقد لبس محاربو اليونان والساسانيون البسة واقية لتقي جسمهم من ضربات السيوف وطعن الرماح ومن تساقط السهام عليهم، كما حموا ارجلهم وافراسهم ايضاً بأوقية خاصة، بعضها من جلد وبعضها من اقمشة او من معدن. وقد استخدموا ملابس خاصة صنعت من الزرد أي من خلقات معدنية، وتدرعوا بألواح من معدن حموا بها اجسامهم، وبالواح من الجلود الثخينة المدبوغة دبغاً خاصاً لتقاوم الضربات، وعطوا بها اجسام خيولهم في بعض الاحيان لئلا تصاب، فيسقط بسقوطها الفارس، ويعجز عن القتال.

وقد اشتهرت "ترسة الروم" بكبرها وشدتها، وقد اشير اليها في شعر "ابن مقبل".

ومن عادات العرب في الحروب انذار من يريدون محابتهم، كأن يقولون لمن يريدون محاربته: انا ننذرك بحرب. وهم يفتخرون بذلك، اذ يرون ان الانذار بالحرب من سيماء القوة والشجاعة، ومن علامات الجبن والضعف. وقد ينذرون عدوهم ويتواعدون معه على الالتقاء في زمن معين وفي مكان معين للحرب. فأذا جاء الاجل التقوا في المكان المعين وتحاربوا فيه.

وتبدأ الحرب عادة بأعلان حالة النفير أي خالة التجمع والتهيؤ للقتال او للذهاب الى الحرب. ويكون ذلك بالتبويق، أي بالنفخ ببوق من معدن او قرن حيوان او آلة من خشب، او بدق الطبول والدفوف او بضرب اعواد من خشب، او بالصياح لاعلام الناس بدنو عدو او ظهور خطر او استعداد للقيام بغزو ما، فيجتمع عندئذ كل قادر على القتال متمكن منه حاملاً معه كل ما يحتاج اليه من معدات للقتال، راكبا او راجلاً لأخذ دوره فيه والقيام بالعمل الذي يوكل به اليه وقد يلحق النساء بالمقاتلين فيقمن بأعداد الطعام لهم واعداد ما يحتاجونه اليه من خدمات وليس لهؤلاء المقاتلين من اجور ومرتبات غير الغنائم التي تصيبهم والاسلاب التي تقع في ايديهم فتكون ملكا لهم لان القتال واجب على كل مواطن متمكن محتم عليه والامتناع منه جبن ومخالفة لقوانين المجتمع واعرافه.

وللجيوش الوية ورايات يحملها اشجع المقاتلين والمعروفونبصبرهم على القتال.واذا قتل خامل الراية قام اخر من الشجعان بحملها ويستميت المقاتلون في الدفاع عن رايتهم فسقوط الراية على الارض او في يد العدو معناه هزيمة اصحابها وعجزهم عن القتال وخور عزيمة المقاتلين عن القتال في النهاية وتلك امارات الهزيمة والفرار.

ولا يشترط في الاعلام والبيارق والرايات ان تكون قديمة متوارثة فقد تعقد عند بدء الخرب، يعقدها الرؤساء ويسلمونها الى اشجع الناس لتكون سنداً للمحاربين ورمزاً يستمدون منه العون والقوة وتسمى بأسماء قد يتصايحون بها عند احتدام القتال وذلك لاثارة النفوس وبعث الحمية فيها على القتال اما امر لون الراية وطولها وعرضها فذلك من شأن الرؤساء والمشايخ وزعماء القوم.

ومما يدل على اهمية الراية عند العرب وعلى مكانتها عندهم انهم كانوا يسمون لواء الحرب ورايتهم التي يجتمعون تختها للجيش اماً وكانوا يجتمعون لها في النزول والرحيل وعند لقاء العدو.

ولما تحدث الخرث بن حلزة اليشكري عن يوم الشقيقة وعن مجيء معد مع قيس بن معد يكرب ذكر احياء معد التي اشتركت معه كانت تحمل معها الويتها ولكل حي لواء.

وكانت لقريش راية يحتفظون بها ويقاتلون تختها تسمى العقاب وهي راية قريش واذا كانت عند رجل اخرحها اذا حميت الحرب فاذا اجتمعت قريش على احد اعطوه العقاب وان لم يجتمعوا على احد اخذها صاحبها فقدموه ولم تكن قريش بدعاً في ذلك فقد كانت للقبائل وللحكومات رايات اخرى يتوارثونها ويحافظون على تسميتها وتحتفظ بها اسر خاصة او سادات قبائل تعتز بذلك وتعدها من اعظم درجات الفخر والتكريم.

ولأهمية القائد في المعارك كانوا يحيطونه بحرس ويجعلون اكثر ثقلهم حوله ويكون موضعه في القلب في الغالب ليشرف على القتال تخميه المؤخرة من الخلف والمقدمة من الامام ويوضع اللواء عنده ويخمل بين يديه وكان المسلمون يحملون "العنزة" بين يدي الرسول، وربما جعلوها قبلة.

وقد كان القادة يستعينون قبل الدخول في القتال بمخبرين يرسلونهم إلى العدو للحصول على معلومات عن قواتهم وعن مواقعهم وعن مدى استعدادهم للحرب. وكذلك كان للقبائل ولأهل المدن مخبرون يرسلونهم لاستطلاع الأحوال ولتحذيرهم من احتمال وقوع غزو مفاجىء عليهم، أو لتقدير مقدار الغازين أو المحاربين للاستعداد والتهيؤ. فهم "جواسيس" إذن، يذهبون للتجسس ولاستراق الأخبار حتى يكون من أرسله على حذر وبينة من أمره، ويقال للواحد منهم منذر" في السبئية، لأنه ينذر قومه وينبههم بقرب وقوع حادث عليهم.

ويقال للشخص الذي بتسقط أخبار العدو ويبحث عن مواضع ضعفه وعن حركاته وسكناته: "العين" و "الربىء" و "الجاسوس". وقد كانوا يتنكرون ويتسترون كي يخفوا هويتهم ويحصلوا على ما يحتاجون الحصول عليه من معلومات ليرتبوا بموجبها خططهم الحربية. روي أن "عمرو بن سفيان الكلابي"، جاء بني خزاعة في زي رجل من بني هلال، وأظهر أنه جاء يريد جيرتهم، وكانوا قد غزوا قومه وساقوا إبلهم، فقبلوا ايواءه، وبقي عندهم أمدا، حتى جمع كل ما احتاج اليه من معلومات عنهم، ثم خرج منهم وعاد إلى قومه فاستفادوا بما كان قد جمعه عن بني خزاعة، وغزوهم وانتصروا عليهم.

وذكر أنه كان لكليب وائل عينأَ في تغلب، كان يتجسس له ويرسل له الأخبار عن هذه القبيلة. وأن "عمرو بن ربيعه" ارسل سدوس بن شيبان وصليع بن عبد غم إلى معسكر "زياد" ملك الشام، ليحتجسسا عليه ويأتيا له بالأخبارْ. وهناك امثلة كثيرة من هذا النوع تتحدث عن عيون كانت القبائل ترسلهم إلى القبائل المعادية لها لتأتي، لها بالأخبار عنها وبنوَاياها العدوانية وعن خططها في الغزو.

وقد يكون الرجل بين قومٍ، فيسمع بخبر عزمهم على غزو قومه، فيرسل رسالة رمزية في الغالب أو شفوية ليحذر قومه منه. وقد يكون. المنذر أسيراً في أيدي القوم، فلا يستطيع الهروب من مؤسريه ليخبر أهله بعزم آسريه على غزوهم فيعمد إلى "الشيفرة" وإلى إلرموز و الكنايات و التعابير التي تفهم القوم مراده من الرسالة، فيحتاطوا للامر ويستعدوا للقتال.

وفي يوم "شعب جبلة" كان "كرب بن كعب بن زيد مناة"، وهو من بنْي تميم، قد علم بخطط أعداء قومه، وكانوا قد أخذوا عليه عهداً وميثاقا بالا يتكلم ولايخبر قومه عن عزمهم فعمد إلى الرمز والاشارة، بأن وضع ترابا في صرة، وشوكاٌ قد كسرت رؤوسه، وحنظلة موضوعة و وطب معلق فيه لين، فلما رأى القوم ذلك، علموا انه يقول لهم: إن القوم كَالتراب عدداً لكن شوكتهم قليلة، وانهم قريبون منهم، فعليهم أن يحتاطوا للأمر، فاحتاطوا منه " واستعدوا للامر.

وكان الأعور، وهو ناشب بن بشامة العنبري أسيراً في قيس بن ثعلبة، فلما سمع بأن اللهازم تجمعت وهم: قيس وتيم اللآت ومعها عجل بن لجيم وعنزة بن أسد، تريد غزو بني تميم، قال لاسريه اعطوني رجلاء أرسله الى أهلي أوصيهم ببعض حاجتي. فقالوا له: ترسله ونحن حضور. قال نعم. فأتوه بغلام مولد. فقال اتيتموني بأحمق. فقال الغلام: والله ما أنا بأحمق. فقال: إني أراك مجنوناً. قال: والله ما أنا بمجنون. ثم صار يكلمه ويسأله، ثم اوصاه بأمور لا يفهم منها أن فيها إشارات ورموز، ووافق القوم على ذهاب الغلام الى قوم ناشب، فلما كلمهم بما قاله ناشب للغلام لم يدروا ما أراد: فأحضروا "الحارث"، فقص عليه الغلام قصة ما جرى له مع ناشب ففهم المراد. ثم قال للغلام: أبلغه التحية، وابلغه انا سنوصي بما اوصى به. ثم قال لبني العنبر إنه يحذركم من غزو قريب فاستعدوا وارتحلوا عن ديارهم وبذلك نجوا من خطر الغزو.

وهناك أمثلة عديدة من هذا القبيل حذر بها الناس من رجال ونساء قومهم من غزو سمعوا به، فخلصوا قومهم منه او جعلهم يستعدون له. وقد استعمل المحذرون التراب أو الرمل " للدلالة على كثرة العدو. واستعملوا اشَوْ كَ للدلالة على القوة وعلى شوكة العدو وعبروا بالشوك الذي تكسر رؤوسه، بشوكة العدو، إلا أنه عدو لا يخشى جانبه، لأنه غير متحد ولا متفق. وقد استمدت القبائل هذه الرموز من محيطها التي عاشت فيه،فاتخذتها أدوات للتحذير والإنذار.

ويستعين القادة بادلاء ليقدموا لهم المعلومات عن الطرق الموصلة إلى المواضع التي يريدون مقاتلة أصحابها بها، أو للسير في مقدمة قافلة الجيش للوصول إلى المكان المطلوب. وللدليل أهمية كبيرة في القتال ولذلك استعان بهم المحاربون. ويقال للدليل "دلل" في العربية الجنوبية، والأغلب أنهم كانوا ينطقونها على نحو ما ننطقها بها في عربيتنا. وأما الجمع ف "دلول، أي أدلاء.

وكان لا بد لكل قائد من الاستعانة بدليل إذا ما أراد التفويز، فقد يهلك الجيش من العطش والجوع ويخطىء هدفه أو يصير فريسة في مخالب من يقصده، إن لم يستعن بدليل خريت مجرب، له علم بالبادية علمه ببته. وكان للقبائل أدلاء عركوا المفاوز وخبروها وعرفوا معالمها ومواضع الماء فها، وكان لهؤلاء فضل على قبائلهم، لا يقل عن فضل الفرسان عليها، لأنهم ما. أسباب النصر. ولما كتب "أبو بكر" إلى "خالد ين الوليد" يأمره بالمسير إلى بلاد الشام، دلّ على "رافع بن عميرة الطائي" وكان دليلا خريتاً، وبفضل علمه بالطريق وبنصحه القيم لخالد في كيفية عبور المفازة، وصل الجيش سالماً إلى بلاد الشام.

وقد فعل الجاهليون ما تفعله القوى المتحاربة في كل وقت من اللجوء إلى التأثير في خصومهم باستخدام "الحرب النفسية". أي التأثر في نفوس الخصوم حتى يشعر انه دون خصمه، كأن يتظاهر بأن عدده أقوى وأكثر عدداً من عدد خصمه، بتوسيع رقعة معسكره وايقاد النيران الكثيرة وإحداث أصوات مرتفعة، تشعر المتلصص للاخبار ان الجيش جرار، وان عدده كبير. وبذلك يخافه خصمه وترتعب نفسه. ولما نزل المسمون "حمراء الأسد"، "كانوا يوقدون تلك الليالي خمسمائة نار،، وذهب صوت معسكرهم ونيرانهم في كل وجه، فكبتَ الله تعالى عدوهم".

ويعمد الجيش أو القسم منه إلى التستر وألتخفي لمباغتة العدو ومفاجأته، كأن نقص ورقتين الى أية هزيمة بالمعنى المفهوم إنما ينسحب أحد الطرفين ويتراجع إلى مكانه فتنتهي بذلك تلك الحرب.

وإذا برز المبارز، فيعلم على رأسه في الغالب، بأن يلبس سامة خاصة أو عصابة او يضع ريشة. يتباهى بها، وقد يستعملون الخوذ، إلا أنها كانت قليلة الاستعمال لدى الاعراب، لغلاء ثمنها عندهم. وقد كان "أبو دجانة" يختال عند الحرب إذا كانت، وكان إذا أعلم رأسه بعصابة له حمراء، علم الناس أنه سيقاتل.

ويقسم المحاربون قواتهم إلى مجنبة وقلب: مجنبة يمنى تهاجم أو تحمي الجانب الأيمن، ومجنبة يسرى تحارب وتدافع عن الجانب الأيسر من المحاربين. أما القلب، فيكون واجبه الهجوم أو الدفاع من الوسط، أي وسط الجيش. وقد تقوم المجنبتان بالهجوم لتطويق العدو وحصره في دائرة، تضيق عليه. وفي معركة "يوم نخلة" من أيام الفجار، كان حرب بن أمية في القلب، وعبد الله بن جدعان وهشام بن المغيرة في المجنبتين.

وتوضع أمام الجيش أو المحاربين مقدمة، تتقدم المقاتلين، يكون واجبها حماية القسم الأكبر من الجيش الذي يكون وراءها، وارسال المعلومات عن العدو واشغاله بالقتال إن وقع حتى يأتي المحاربون. ويقال للمقدمة "مقدمت"، أي "مقدمة" في السبئية، وللذي يتولى أمرها ويقودها: "قدم".

ويقال لطليعة الجيش، وهي التي تتقدم الجيش، للقاء العدوّ وللوقوف على أمره وخبره "نذيرة الجيش".

ولما ندب رسول الله المسلمين لفتح مكة، قسمّ الجيش الى جنبتين،،وهما: الميمنة والميسرة، والقلب بينهما. وكان ترتيب الجيش إذ ذاك على خمس فرق: المقدمة والقلب والميمنة والميسرة والساقة. ولهذا كان يسمى خميسأ. وجعل رسول الله على "الحسر"، وهم الذين لا دروع عليهم "أبا عبيدة". ويقال لهم "البياذقة"، وهم الرجالة، واللفظة فارسية معربة، سموا بذلك لخفة حركتهم وانهم ليس معهم ما يثقلهم. وقد كانت اللفظة معروفة في أيام الرسول. وهم رجالة لا دروع عليهم، أي حسراً.

وقد استخدمت هذه التعبئة الخماسية في اللقاءات الكبيرة، أي في الاشتباكات الضخمة، التي ممكن أن نسميها "حروباً"، أما في الغارات وفي الغزو فكانوا يتبعون طريقة المباغتة والهجوم من كل جانب يمكن الهجوم منه.

ويقال للقطعة من الجيش يّمرّ قدّام الجيش الكبير "منسرت" "منسرة"في السبئية، ويراد بها "المنسر" في عنبيتنا. ورد في النص: jamme 631 "ومنسرت خمسن"، أي "ومنسرة الجيش"، أو "ومنسر الجيش" بتعبير أفصح.

ويذكر علماء اللغة ان "الكردوس" القطة من الخيل العظمية. والكراديس الفرق منها. فالكردوس إذن حسب هذا التعريف القطعة من القوات الراكبة المحاربة.

وقد كان النظام العشري في تنظيم الجيش، هو النظام المتبع في الأرضين التابعة للانبراطورية اليونانية وفي الأرضين المتأثرة بثقافتها، فلا يستبعد أن يكون تأليف الجيش في اليمن في أيام احتلال الحبش لها على هذا الأساس أيضاً. وأصغر وحدة عسكرية وفق هذا التقسيم، هي الوحدة المكونة من خمسة جنود، تليها وحدة مؤلفة من عشرة ثم من مضاعفات العشرة. ويحكم كل وحدة ضابط يدير شؤونها ويقوم بتدريبها وبالاشراف على سيرها و ادارتها في أثناء السلم وفي أثناء القتال.

وقد يكَون القتال صفوفاً، بأن يتقدم المحاربون فيحاربون صفاً صفاً، وذلك إذا كان المحاربون كثيرين. والى هذا النظام أشير في القرآن الكرم: "إن اللَه محب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم. بنيان مرصوص ". وقدّ اتبع علي بن أبي طالب هذه الطريقة في يوم صفّين. وأشار اليها في خطبته في أصحابه يعلمهم كيفية القتال.

أما في حروب القبائل وغزو بعضها بعضأَ، فتكون المباغتة هي الأساس في الحرب، وتقوم على مهاجمة العدو بغتة ومفاجأة وهو في عقر داره أو في الموضع المتجمع فيه. وتتوقف المباغتة على حساب القائد وعلى حنكته في تقديره موقف عدوه. ويكون للماء الفضل الأكبر في النصر وكسب الحرب، لما له من شأن خاص في البوادي. لذلك كان يحسب له سادات القبائل الذين يقودون قبائلهم في القتال والغزو حساباً كبيرا، فيحمون معهم مقادير كبيرة مهنه تكفيهم المدة التي يقدرونها للقتال، أو يحاولون استباق عدوهم إلى مواضع الماء للسيطرة عليها، فإذا جاء العدو حرم الماء واضطر إلى استهلاك ما يحمله منه. وقد يؤدي نفاده إلى هزيمته وفراره. ويقال للمباغتة ولأخذ العدو بصورة مفاجئة "بحض" في لغة المسند.

ويعبر عن الحملة، أي عن الجماعة من الجيش تزحف على عدو ب "برث" في المسند.

وقد عرف قادة الجيوش أهمية طبيعة الأرض في كسب النصر وفي الدفاع. لذلك كانوا إذا تحاربوا تسابقوا إلى مواضع الماء لتكون في مؤخرتهم حتى يستقوا منها لي يمنعوا العدو من الشرب منها، كما كانوا يضعون الشمس عند ظهورهم حنى لا تؤثر على أعينهم، ويرتقون المرتفعات حتى يصب على العدو الارتقاء إليهم بفعل الحجارة أو النبال التي ترمى عليه. فلما كان يوم شعب جبلة صعدت بنو عامر إلى الشهب، ووضعت نساءها وما معها من الإبل والمؤن عليه. وكانت قد أعطشت إبلها وعقلتها، وصارت هي دونه. فلما وقع القتال: اشتد عمدت بنو عامر إلى الحيلة وإلى تنفيذ خطة كانت قد وضعتها فأخذت تتابع وتزحف نحو أعلى الشعب، وصار العدو يتعقبها حتى بلغوا وسط الجبل. فقال الأحوص قائد بني عامر، حلوا عقل الإبل ثم احدروها، واتبعوا آثارها، وليتبع كل رجل منكم بعيره حجرين أو ثلاثة ففعلوا، ثم صاحوا بها فلم يفجأ الناس إلا الإبل تريد الماء والرعي وجعلوا يرمونهم بالحجارة والنبل وأقبلت الإبل تحطم كل شيء مرت به. فانحط العدو منهزماً، فلما بلغ السهل لم يكن لأحد منه همة إلاّ أن يذهب على وجهه، فجعلت بنو عامر تقتلهم وتصرعهم بالسيف فانهزم عدوهم شر هزيمة.

ولتقوية معنويات المحاربين في أوقات العسر والخطر، ولبعث الحمية في نفوسهم يقيد الرؤساء أنفسهم بقيود، مجتمعين أو فرادى، ثم يعلنون أنهم لا يبرحون مكانهم هذا حتى يهلكوا أو يربحوا. وقد كان العجم يضعون السلاسل في أرجل المحاربين لمنعهم من الفرار، ولإجبارهم على الاستماتة في القتال.

وقد كان كثير من المحاربين يأخذون زوجاتهم وذراريهم معهم في المعارك، ينقلونهم معهم وكأنهم ذاهبون إلى سفر أو رحيل إلى بلاد جديدة. وحكمتهم من ذلك أن الرجل منهم إذا رأى خلفه أهله وماله، قائل عنهم. ولعلهم كانوا يستعينون بهم في جمع الغنائم والأسلاب وحراسة ما يقع في يد المحارب من أسرى.

وكانوا يضعون أسَرهم وإِبلهم ومؤنهم وظعائنهم في مؤخرة الجيش، وذلك حتى تكون في مأمن من العدو بعيدة عنه، وتكون بذلك مدعاة لنصر.

وقد استعانوا بالنساء في حروبهم، وأوكلوا إليهن أعمال الإسعاف وضرب العدو وقاتلته في أوقات الشدّة. فلما قاتلت "بكر بن وائل" "بني تغلب"، قال "الحارث بن عباد" للحارث بن همام بن مرة، وكان على "سكر بن وائل": "إن القوم مستقلون قومك، وذلك زادهم جراءة عليكم فقاتلهم بالنساء! قال له الحارث بن همام: وكيف قتال النساء? قال: قلد كل امرأة إداوةّ من ماء وأعطها هراوة واجعل جمعهن من ورائكم فإن ذلكم يزيدكم اجتهاداً وعلموا بعلامات يعرفنها، فإذا مرت امرأة على صريع منكم عرفته بعلامته فسقته من الماء وكشفته وإذا مرّت على رجل من غيركم ضربته باهراوة فقتلته وأتت عليه فأطاعوه. وحلقت بنو بكر يومئذ رؤوسها استبسالاً للموت وجعلوا ذلك علامة بينهم وبين نسائهم، واقتتل الفرسان قتالاً شديداً، وانهزمت بنو تغلب ولحقت بالظعن بقية يمومها واتبعموا سرعان بكر بن وائل".

وقد اشركوا اصنامهم معهم في الحروب، واشركوا معهم لتمن عليهم بالنصر والتاييد. وقد سقطت اصنام القبائل العربية اسيرة بايدي الاشورين، وكانوا قد حملوها معهم للتبرك بها ولاكتساب النثصر، فاسرها الاشوريون. واظطر الاعراب على مراجعتهم لاعادتهم اليهم. وفي يوم "الزورين"،وهو لبكر على تميم، اخذت تميم بعيرين مجللين، فعقلوهما، وقالوا هذان زورنا، أي إلهانا لن نفر حتى يفرا، وهزمت تميم ذلك اليوم. وأخد البكران فنحر أحدهما وترك الآخر يضرب في شولهم. ويذكر إن "الزور" كل ما يبعد من دون الله،كالزون. والزون الصنم.

والفرسان هم الة الحرب الحاسمو، وعليهم يقع معظم ثقل المعارك وقد كانت معظم معارك الجاهلية معارك فرسان، يكون المحاربون الاخرون فيها وكانهم متفرجون، يساهمون في المعركة بأصوات التشجيع والحث على الاستماتة في القتال،. وقد يدخل القائد نفسه المعركة ليقاتل خصمه وللفرس بالطبع منزلة كبيرة في نفوس قومه، لأنه هو المدافع والمهاجم والآخذ بالثأر.

وقد حفظت كتب الأخبار أسماء جماعة من فرسان للجاهلين وشجعانها ممن كان لهم شأن يذكر في الشجاعة في تلك الايام، من هؤلاء: ربيعة بن مكدم من بني فراس بن غنم بن ملك بن كنانة، وكان كما يقول أهل الأخبار يعقر على فبرة في الجاهلية، ولم يعقر على قبر أحد غيرة فعلوا ذلك تكريما وتعظيما له. وقد ذكر قبره وعقر الناس عليه في شعر بعض الشعراء.

ومن بقية فرسان العرب في الجاهلية: عنترة الفوارس،بن الحارث ابن شهاب، وأبو براء عامر بن مالك ملاعب الأسنة، وزيد الخيل، وبسطام ابن قيس، واحمير السعدي، وعامر بن الطفيل، عمرو بن عبد ود، وعمرو ابن معد يكرب، وبسطام بن. مسعود الشيباني سيد شيبان، قتله عاصم بن خليفة. الضبيّ يوم الشقيقة.

ويقال للفارس، أي لراكب الفرس "فرس" في العربية الجنوبية، ولمّا كانت الكتابة العربية الجنوبية لا تشكل الحروف ولا تضبط كيفية النطق بها، لذلك فمن الجائز أن العرب الجنوبيين كانوا ينطقون بها على نحو ما تنطق بها في عربيتنا أي "فارس". وأما الجمع في تلك اللهجة، فهو "افرس" "أفرس"، أي "فرسان".

وقد كانت لسرعة الفرسان أهمية كبيرة في نتائج القتال. إذ كانوا ينقضون على المحاربين المشاة وعلى المدن أو القبائل انقضاض الصواعق، ويربكوا الخصم فيمهدوا بذلك لمشاتهم من التغلب على العدو. ويظهر من الكتابات التي يعود عهدها إلى ما قبل الميلاد أن عدد الفرسان في الجيوش العربية الجنوبية المحاربة لم يكن كبيراً، وأن أكبر عدد منها لم يتجاوز عن بضع مئات. وسبب. ذلك على ما يظهر قلة وجود الخيل إذ ذاك. ولا يستبعد أن يكون استيراد الخيل إلى هناك من عهد غير بعيد بعداً كبيراً عن الميلاد.

أما الذين يقاتلون وهم على ظهور حيوانات أخرى، كالجمل وهو في الغالب، فيقال لهم "ركبم" "ركب"، أي "راكب". وقد عرف العرب بقتالهم وهم على ظهور الجمال. وفي الكتابات الآشورية وكتابات المسند صور عرب وهم يحاربون من على ظهور جمالهم، وذلك لقلة وجود الخيل عندهم في ذلك الوقت.

وللجاهلين آراء في كيفية الاستفادة من الخيل في القتال، فكان خالد بن الوليد لا يقاتل إلا على أنثى، لأنها أقل صهيلاً من الفحل، وكانوا يستحبون أناث الخيل في الغارات وفي "البيات" أي الإغارة على العدو لبلاً،ولما خفي من أمور الحرب. وكانوا يستحبون فحول الخيل في الصفوف والحصون والسير والعسكر ولما ظهر من أمور الحرب، وكانوا يستحون خصيان الخيل في الكمين والطلائع، لأنها أصبر وأبقى في الجهد.

ويعبر عن الجرح ب "زسخنت" "زخنة"، وب "زسخن" عن فصل يجرح، وذلك في العربية الجنوبية.

التحصينات

وتدافع بعض المستوطنات، مثل قرى الريف والمدن، عن نفسها بإنشاء تحصينات تقيها من هجمات عدوّ ما. وتشمل هذه التحسينات حفر خندق وإقامة أسوار، وإنشاء أبراج وحصون وآطام وأمثال ذلك. وقد كانت مدينة الطائف ذات سور حصين، تغلق أبوابه آناء الليل وأيام الخطر، وقد تحصنت به ثقيف يوم حاصرهم الرسول. وقد عثر على آثار أسوار في خرائب مدن اليمن، تدل على إن تلك المدن كانت مسورة محصنة، وقد عثر على آثار قلاع وحصون وأبراج في تلك الأسوار على مسافات وأبعاد معينة تشير إلى إنها كانت لتحصين السور وللدفاع عنه ولضرب الأعداء عند محاولتهم الدنو منه.

وتعرف أبراج السور المقامة لحمايته ولتقويته ولضرب العدو منه ب "فنوت" في العربيات الجنوبية، ويطلق العبرانيون هذه اللفظة على مثل هذا البرج أيضاً.

ويقال للحصن والبرج "مكدل" "مجدل" في العبرانية. وبهذا المعنى ترد اللفظة في عربيتا كذلك. وقد ذكر علماء اللغة ان الاجتدال: البنيان، وجاء في شعر للأعشى: في مجدل سدّ بنيانـه  يزل عنه ظفر الطائر

وتستعين القرى بالمجادل في الدفاع عن نفسها، وتكوّن أبراج مراقبة أيضا، يراقب منهاالعدو، وتكون مواضع دفاع لأهل القرى، أو العشر، حيث لا أسوار تحمي ولا خنادق تعيق العدو من التقدم.

ويعبر عن تحصن المواضع وتقويتها لتتمكن من الدفاع عن نفسها بلفظة "تمنع" في السبئية، أي إكساب الموضع مناعة.

ولم يكن في وسع الحكومات أو الإمارات والمشيخات تحصين كل المستوطنات والقرى لما يتطلب ذلك من جهد ومال. ولقلة عدد سكان هذه الأماكن قلة تجعل من الصعب عليهم أن يقوموا وحدهم بإنشاء حصون وإقامة تحصينات وبناء أسوار وحفر خنادق. ولذلك احتمى سكان أمثال هذه المستوطنات بحصون الإقطاعيين الذين أقاموها لحماية ممتلكاتهم وأموالهم وأهليهم وذراريهم، وبوسائل دفاع أخرى لا تكلفهم كثيراً لضمان سلامتهم وسلامة أموالهم ومقتنياتهم في السلم والحرب.

أما المستوطنات الكبيرة، من درجة مدينة، فإنها تحاط في الغالب بأسوار لها أبواب تغلق، في الليل، فلا يسمح بالدخول أو الخروج منها، ويحافظ عليها، ولا سيما في أثناء الخطر، حرّاس يسهرون عليها لمنع أي عدوّ طامع في المدينة من الوصل إليها. ويقال لهذه المدن "هكر" "هجر" في العربيات الجنوبية. فحيث ترد لفظة "هكر" في المسند فإنما تعني مدينة ذات أحياء وسكان كثرين، ولها أسوار في الغالب تحميها من هجمات الأعداء.

وتعبر العبرانية عن المدينة المحصنة المحاطة بسور، بلفظة "عر"، وذلك لتمييزها عن المدن المحصنة بحصون، والتي يقال لها "عر مبصر" Ir Mibsar، وعن القرية التي يقال لها "حصر" "حصور" و "قره" "قريت"، وتكون غير مسورة. أما "العر" في العربية الجنوبية. فبمعنى "حصن"، وموضع محصن. وتطلق اللفظة على المواضع المحصنة بعر، أي حصن " أي في معنى قريب من المعنى الوارد في العبرانية. وتذكر كتب اللغة أن العرار: القتال، وأن العرة الشدة في الحرب. فللفظة صلة بالقتال إذن. ويوجد موضع يقع في ملتقى طرق يقع في "وادي مسيلة" يسمى "حصن العرّ بني على مرتفع صخري بارز كان حصنا مهماّ لحماية الأرضين المحيطة به ولحماية للقوافل للتي تمر بهذا الوادي المهم. ولا تزال بقايا هذا الحضن باقية،وقد أقيمت جدره من حجارة صلدة نضدت بعضها فوق بعض تنضيداً جيداً، وقد صقلت الأحجار صقلاً يدل على مهارة، وقد تألف الحصن من غرف كثيرة، ويبلغ طوله "95" متراً. وبه اثار معبد، وآبار لاستخراج الماء منها للشرب وللاستعمال.

ويعبر عن المانع الذي يحول بين العدو وبين الدنو من المكان الذي يريده ب "حبل" في العبرانية.- أي "الحائل" ويراد به الخندق. وقد ورد في كتب اللغة ان "الحيل" الماء المستنقع في بطن وادٍ. و "الحائل" هو المانع، أي الحاجز الذي يحجز أهل الموضع الذي تحصن اًلناس به عن عدوهم، وهو سور أو خندق أو أي شيء آخر يتخذ للدفاع عن النفس.

ومن بين الحوائل والموانع التي استعملها.الجاهليون لصد العدو من الزحف على بلادهم أو التسلل إلى أرضهم سد الممرات الجبلية والأودية ومفارق الطرق المهمة، ببناء جدر وأسوار لتحول بين المرور وللتسلل إلا بأمر وتخويل، ويكون المرور عندئذ من الأبواب المخصصة للعبور فقط. ومن أمثلة ذلك سد "أبنة" "لبنة" الذي أقيم في وادي "أبنة" ليسد الطريق على القادمين أو الذاهبين من "شبوة" إلى ميناء "قنا" "قنى" "قانة" cane المهم. وقد بنى عند مضيق يبلغ عرضة "80 ا" متراً، أما ارتفاعه فجعل حوالي خمسة أمتار، فاْما ثخنه فحوالي المترين، وقد بني بحجارة مصقولة صقلاً جيداً ورصف رصفاً حسناً وربط بينها ملاط قوي شد الأحجار شداً. وقد جعل له باب عرضه خمسة اًمتار يمكن غلقها بإحكام، ولزيادة مقاومتها توضع صفوف من الأحجار الثقيلة خلفها أيام الخطر، فتسد بها وتكون وكأنها قد سدت بجدار قوي سميك. وهناك آثار جدر أخرى أقيمت لغايات مماثلة تقع في "وادي العروس" "وادي عروس" وفي "عنصاص" ويرجع تأريخها إلى حوالي القرن الثالث قبل الميلاد.

وتختلف الأسوار من حيث المتانة و التحصينات والمواد التي تْبنى بها باختلاف قدرة المدن المالية، فبعضها ذات أسوار ثخينة متينة، لها تحصينات قوية، يحتمي بها المدافعون لمقاومة المهاجمين ولرميهم بمعدات المقاومة، لها مزاغل و فتحات ينظر منها المدافعون إلى أعدائهم، فإذا اقتربوا من السور، رموهم بالسهام وبالحجارة وبالمواد المشتعلة، وسكبوا عليهم الماء الحار او الزيت المغلي إذا ارادوا إحداث ثغرة فيه و قلع الأبواب وكسرها.

وعند أبواب الحصن أو أبواب المعابد أو المباني العامة أو الشعاب، تكون رحاب، يتخذها سكان المدن مواضع يبيعون فيها ويشترون وأماكن للتجمع. وتعرف الواحدة ب "رحبة" وتسمى "رحبوت" ? "رحب" في العبرانية. وفيها تعقد الاجتماعات العامة، وتجمع الناس لسماع الأخبار، وفيها تنفذ الأحكام العامة، مثل تنفيذ أحكام الاعدام والاعلان بالمجرمين. وتكون مرابد تنعقد فيها الأسواق أيام الأسبوع، أو في أيام خاصة منه، أو في السنة.

وأبواب المدة المسورة، هي المنافذ الوحيدة التي يدخل منها الناس ويخرجون. وتختلف في السعة، فبعضها أبواب واسعة فيَ كل منها مصراعان، ولبعضها مصراع واحد. وتكون ثخينة متينة، وقد تقوى بكسوتها، بطبقة من حديد أو، من معدن آخر، ليكون في امكانها مقاومة المهاجمين، فلا تِتحطم وتنهار بسرعة، ولا تأكَلها النار، وتغلق بمغاليق متينة. تقوى بحجارة وبأخشاب متينه عند حدوث خطر ما. وأما المجازات التي تلي الأبواب وتؤدي إلى الرحاب، فهي مختلفة الأشكال. ويحتمي بها المدافعون أيام الخطر لأَ لسدها، ولشد أزر الأبواب على الوقوف صامدة أمام المهاجمين. وقد يواجه الباب، جدار متين، يجل المجاز على هيأة غرفة، يخرج الناس ويدخلون في ركن من أركانها يربط بن المجاز والرحبة المؤدية الى الشعاب. وذلك ليكون من العسير على المهاجمين الولوج في المدينة عند تمكنهم منَ تحطيم الابواب. وقد يقوى الباب ببرج يبنى فوقه، يكمن فيه ألمقاومون، لرمي العدو ولإلحاق الأذى به إذا ما حاول مهاجمة الباب.

وتسدّ منافذ شعاب المدن بأبواب كذلك،لتقي من في الشعاب من أخطار الأشرار والمعتدين. وتغلق هذه الأبواب في الليالي. وقد تحاط الشعاب بسور يمتع الناس من الدخول الى الشعب إلا من الباب المؤدي اليه. وفي المدن الملكية، تحاط قصور الملوك ومخازنهم ومداخرهم بأسوار قوية تحميهم من المعتدين. وقد تبنى قلاع في مواضع مرتفعة من المدن، أو على تلال صناعية ليقاوم منها الناس عند انهيار المقاومة الخارجية، فتكون بذاك آخر وسائل المقاومة قبل الاستسلام.

أما القرى، فيدافع عنها بحصون وآطام وبمجادل وذلك لفقر أهلها وعدم تمكنهم من إقامة سور قوي يحمي القرية. وقد كان يهود الحجاز الساكنون في شمال المدينة، قد حصنوا قراهم بآطام يلجأون اليها وّيحتمون بها أيام الخطر. وقد عرفت هذه الحصون عندهم ب " آطام" و واحدها "أطم". وأما القرية، فهي "قرية" في العبرانية، وتسمى ب "قريتا Keritha " في لغة بني إرم.

ويقال للحصن "الأجم" والجمع "آجام"، وقد ورد ذكر الأجم في شعر لامرىء القيس: وتيماء لم يترك بها جذع نخلة  ولا أجماً إلا مشيداً بجنـدلِ

ويقال للحصن "الأطم" كذلك، والجمع آطام. ولا تزال آثار آطام جاهلية باقية في الحجاز وفي نجد وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب وفي "وادي الحفر" بنجد، ويعرف ب "حضر بني حسين"،آثار قصور وآطام جاهلية وآبار كثيرة. وذكر بعض علماء اللغة أن الآطام: القصور والحصون، وخصصها بعض آخر بالدور المسطحة السقوف. وقد اشتهر "الأبلق"،وهو حصن "السموأل ابن عادياء" في التأريخ،وهو في تيماء. وورد اممه في شعر للاعشى مدح به السموأل. وكانت الأوس والخزرج تتمنع بالآطام،وتحارب عليها، وقد أرخت بحرب وقعت فيما بينهم بها، فقالوا: "عام الاطام"،وقد أخربت في أيام عثمان. ويقال للأطم: الأجم أيضاً.

فكانت الآطام هي وسائل الدفاع عند أهل يثرب، إذ لم يكن حولها سور يحميها من غزو الأعداء. فكانوا إذا حوصروا أو وقع غزو عليهم، لجأوا إلى آطامهم يتحصنون بها ويقذفون من أعاليها بما عندهم من وسائل دفاع لمنع العدو من الدنو منهم ولإلحاق الأذى به. وهي جملة آطام تملكها البيوتات العريقة وسادات الشعوب المكونة ليثرب والقائمة على أساس التقسيم العشائري.

والآطام بيوت السادات ورؤساء القوم، يلجأ اليها الناس للدفاع عن أنفسهم وعنها وقت الخطر. ويظهر من شعر أوس بن مغراء السعدي: بثَ الجنود لهم في الأرض يقتلهم  ما بين بصرى إلى آطام نجـران

أن نجران كانت ذات آطام كذلك.

وذكر أن باليمن حصن يعرف بأطم الأضبط، وهو الأضبط بن قريع بن عوف بن سعد بن زيد مناة. كان أغار على أهل صنعاء وبنى بها أطماً. ونسبوا له شعراً، من هذا الشعر الذي يحمل طابع العصبية القبلية، والحقد على اليمن. يذكر فيه أنه شفى نفسه من "ذوي يمن"، بالطعن في اللبات والضرب، واباح بلدتهم، وأقام حولاً كاملاً يسبى، وبنى أطماً في بلادهم ليثبت تغلبه عليهم، وليكون أمارة على قهره لهم.

وقد اشتهر أطم "الضاحي" بالمدينة. وهو أطم بناه "أحيحة بن الجلاّح" من سادات يثرب ب "العصبة" في أرضه التي يقال لها "القنانة".

وكان دفاع اًهل الحيرة عن مدينتهم وفق هذه الخطة أيضاً. فقد كانت المدينة "قصوراً" كل قصر لعائلة كبيرة، هو مسكن لها، وهو مخزن ومستودع وحصن تتحصن به عند وقوع خطر على المدينة. وبه مواضع في اعلى القصر لرمي الأعداء، ويلجأ أتباع أصحاب القصور إلى هذه القصور أيضاً للمساهمة في الدفاع عنها وفي حماية أنفسهم من الأذى. ولما حاصر المسلمون الحيرة، كان حصارهم لها هو حصار قصورها،فكانوا يحاربون القصور حتى غلب المسلمون أهلها فاستسلمت عندئذ لهم.

ولحماية السور ولمنع العدو من الوصول اليه والدنو منه، سفر خندق حوله، ليمنع الغزاة والمحاربين من الوصول الِيه. يحفر عميقاً وعريضاً جهد الامكان، فعلى عرضه ومقاومته تتوقف مقاومته للعدو. ولما حاصر المشركون المدينة، أمر الرسول بحفر خندق حولها، ليمنع المشركين من الوصول اليها. وقد ذكر: أن سلمان الفارسي، هو الذي أشار على الرسول بحفر الخندق، بعد أن تباحث مع أصحابه في الوسائل التي يجب اتخاذها لحماية المدينة. وزعم أهل الأخبار: أن أهل الحجاز لم يكن لهم علم بالخنادق، وأن المسلمين كانوا في قلق شديد وخوف من تغلب قريش عليهم، فذكر سلمان لهم طريقة أهل بلاده في الدفاع عن مدنهم، فأخذوا برأيه. فلما رأت قريش الخندق، عجزت عن اقتحامه،ونجت يثرب منهم به. وزعموا أيضاً: أن لفظة الخندق، هي لفظة معربة عن الفارسية. وإذا أخذنا برأي هؤلاء أصحاب الأخبار، وجب اعتبار تأريخ دخولها إلى العربية منذ هذا الحادث إذن. ويطلق العبرانيون لفظة "حيل"، أي حائل، على الخندق.

وانا أشك كثيراً في موضوع جهل أهل مكة والمدينة بأمور الخنادق، وفي قصة أن "سلمان الفارسي" كان أول من علم المسلمين حفر الخنادق، وذلك لأن أهل اليمن كانوا قد أحاطوا مدنهم بالخنادق لتعوق المهاجمين عن بلوغ الأسوار، كما أن أهل فلسطين كانوا يحيطون مدنهم بالخنادق أيضاً،وقد كان لأهل الحجاز اتصال وعلاقات بالمكانين وبالعراق أيضاً، وقد زاروا مدناً أحيطت بالخنادق، فلا يعقل أن يكونوا على غفلة من أمرها. والظاهر أن الرسول كان قد جمع أصحابه حين داهمه المشركون ليستشيرهم بصورة عاجلة في كيفية الدفاع عن "يثرب" بعد أن هددها الكفار، فبين كل صحابي رأيه، وكان من رأي "سلمان" حفر خندق ليحول بيتهم وبين دخول المدينة، فأخذوا الرسول برأيه، وحفر الخندق، وبه سميت المعركة "معركة الخندق". فصوّر "سلمان الفارسي"،وكأنه أول من علم أهل الحجاز حفر الخنادق.

ويظن أن لفظة "خبزت" التي ترد في النصوص المعينية و،غيرها إنما تعني "خنادق" و منخفضات صنعت لحماية الأسوار والمتاريس،والقلاع حتى تمنع العدو و والمهاجمين من الدنوّ منها.

وتؤدي لفظة "صحفت" معنى خندق أيضا، وربما تؤدي معنى حاجز مائي يملأ بالماء حتى يمنع المهاجمين من الدنو إلى الموضع المحصن.

وقد كان الأغنياء وأهل القرى والمدن يستخدمون رقيقهم في الدفاع عنهم.

وقد كان أهل مكة مثلاً قد جعلوا من أحابيشهم قوة عسكرية تحارب معهم. وتقاتل عنهم بأسلحتهم وبطريقة قتالهم التي ألفوها في بلادهم،.مثل القتال بالحراب، أو الرمي بالنشاب. وقد عرف هؤلاء بالأحابيش. ولعلهّم استخدموا الرقيق الأبيض المجلوب من بلاد الروم ومن أماكن أخرى في تنظيم أمور الدفاع وإدارة القتال لخبرتهم ودرايتهم في أساليب القتال المدنية، كالذي فعله الرسول من استشارته سلمان الفارسي في أمر الدفاع عن المدينة يروم حاصرتها قريش، فكان أن أشار عليه بحفر خندق حولها لي يعوق تقدم قريش من المدينة، ففعل كما يشير الى ذلك أهل السير والأخبار.

والمصانع الأبنية وقد وردت "مصانع" في الآية الكريمة )( وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون(. بمعنى الحصون المنيعة. و "مصنعت" "مصنعة" في الحميرية بمعنى حصن. وذلك كما في هذه الجملة المقتبسة كل من نص "أبرهة" المدوّن على سد مأرب: "مصنعت كدر"، أي "حصن كدر". ولا تزال لفظة "مصنعة" مستعمله حتى اليوم في العربية الجنوبية في معنى قلعة وحصن. وقد اشتهرت حمير بمصانعها.

والمصانع: القرى التي ويظهر أنها إنما دعيت بذلك لوجود المصانع بها. واحدتها: مصنعة. أي حصن. يدافع به عن المتجمعين حوله.

و "القلعة" على ما يظهر من أقوال علماء اللغة، الحصن على الجبل، والحصن الممتنع في جبل، والحصن المشرف. تبنى في المواضع المرتفعة لتشرف على ما تحتها، ولتراقب العدوّ، وتكون بها حامية، وقد يتحصن بها أهل الموضع عند دنو خطر عليهم، فيصعب على العدو الوصول اليهم، لوعورة الأرض، وامتناع القلعة، وتسلط من فيها على من يريد بلوغهم، بما يمطرونه به من أسلحة الدفاع.

و "الحصن" ما يتحصن به. يتخذ في مواضع حصينة مثل المرتفعات وعلى الأنهار وعند الآجام، لزيادة حصانته، وقد يتخذ في مواضع خطرة مكشوفة ليدافع عنها. فيحصن بتحصينات قوية من سور متين وجدر سميكة ومتاريس وابراج، لتصد من يريد مهاجمته. وتكون الحصون برية وبحرية : ولا تزال آثار حصون جاهلية قائمة في مواضع من جزيرة العرب، صنع بعض منها من "اللبن" والطين، وذلك في البوادي وفي المواضع التي لا توفر بها الحجارة، والمواضع الفقيرة التي يصعب على أهلها بناء حصونهم من الآجر.

و "البرج" الحصن، وقيل: بروج سور المدينة والحصن، بيوت تبنى على السور ؛وقد تسمى بيوت تبنى على نواحي أركان القصر بروجاً. وتكون البروج مرتفعة. وقد تبنى منفردة، ولكن الأغلب بناؤها على الأسوار. والكلمة من الألفاظ المعربة عن اليونانية.

وكان يهود الحجاز قد ابتنوا الحصون و الآطام، للدفاع عن أنفسهم وأموالهم في السلم والْحرب. فكانوا يخزنون فيها أموالهم وحصادهم وثمرهم وكل غال ثمين عندهم، وكانوا يدخلون اليها عند الظلام، فينامون فيها، خشية غزو أحد لهم، واعتداء غريب عليهم. فإذا طلع الصبح، خرجوا إلى مزارعهم ومواضع عملهم للاشتغال فيها إلى وقت المغيب. وكانوا يدخلون اليها حيواناتهم كذلك خشية سلبها ونهبها. أما في الغزو وفي القتال، فكانوا يعتصمون بها ويقذفون مهاجمهم بالصخور والحجارة وبوسائل الدفاع الأخرى من أعالي الحصون ومن الأبراج المشيدة فوقها. وقد وردت في كتب السير والتأريخ أسماء عدد من حصون اليهود في خيبر وفي أماكن أخرى وذلك في غزوات الرسول ليهود.

ويعبر عن الحراس الذين يحرسون شيئاً ويدافعون عنه، مثل حراس الحصون والقلاع وأبواب المدن أو حرس الضباط والكبار بلفظة "مسجت" "مسكت" "مسكة" في السبئية أي في معنى "الماسكة"، وأما المفرد ف"مسج" "مسك"، أي الماسك.

وقد استعمل الجاهليون آلات القذف والرمي وآلات الهدم الثقيلة في حروبهم كما يفعل الناس لهذا العهد. وهي آلات تبدو بسيطة مضحكة بالنسبة إلى آلات الخراب والتدمير المستعملة في الزمن الحاضر. قد يخجل الإنسان من التحدث عنها لأبناء هذا الزمان، ولكننا حين نتحدث عن الماضي وعن الأناس الماضين، فإننا لا نتحدث عنهم كما نتحدث عن أناس زماننا ولا نقيس انتاجهم على انتاجنا، وذلك لوجود فارق دقيق هو فارق الزمن. وهذا الفارق هو التطور الكبير الذي يقع للانسان كلما تقدم به الزمان ومرت عليه التجارب والاختبارات التي يطور الإنسان بها نفسه دوماً ويزيد في علمه علماً جديداً لم يكن معروفاً عند القدماء. وسيأتي زمان تكون فيه اختراعات القرن العشرين، الاختراعات التي نفخر بها اليوم، ألاعيب أطفال بالنسبة الى اختراعات ذلك الوقت، واختراعات ذلك الزمان ألاعيب أطفال بالنسبة إلى من يأتي بعدهم، وهكذا إلى آخر الزمان. ولهذا لا نستطيع قياس الماضي على الحاضر بما أوجده من اكتشافات واختراعات على هذا النحو. وإنما نتحدث عن الماضي على أنه مرحلة من مراحل التطور اليشري، ودور مستمر لهذا التأريخ الذي لا نعرف مبدأه ولا منتهاه.

وفي جملة هذه الآلات، الدبابة. وهي عبارة عن خشبة ثقيلة تعلق من وسطها ببرج من خشب مقام على عجلات ليمكن تحريكه نحو الهدف المراد هدمه أو سحبه منه أو نقله إلى أي مكان آخر. وقد غطى رأس الخشبة المتجه نحو الخارج، أي الرأس المتخذ للهدم، بغطاء من الحديد، ليكون سريعاً فعالاّ في هدم المكان الذي يوجه اليه. ويقوم أشخاص يكمنون في الدبابة بتحريك الخشبة نحو الهدف، وذلك بتحريكها نحو الأمام والخلف بقوة، لتحدث ثغرة فيه و يختفي هؤلاء تحت ستار مثل سقف من خشب أو من جلود، ليحميهم من الحجارة أو السهام أو النيران أو المواد الساخنة التي يرميها المدافعون عليهم، لمنعهم من الاقتراب من السور، ومن هدمه. وقد أشير إلى هذه الدبابات في فتح المسلمين لخيبر وفي حصار الطائف، فذكر أن اليهود كانوا قد اختزنوا في حصن الصعب من حصون النطأة في بيت فيه تحت الأرض منجنيق ودبابات. وذكر أن المسلمين لما كان يوم الشدخة عند جدار الطائف، دخل نفر منهم.تحت دبابة، ثم زحفوا بها إلى جدار الطائف ليخرقوه، فأرسلت عليهم ثقيف سكك الحديد محماة بالنار، فخرجوا من تحتها، فرمتهم ثقيف بالنبل،، فقتلوا منهم رجالاّ وقد يكتفي المحاربون بسحب خشبة ضخمة نحو السور تحمل بعد ذلك على الاكتاف، فيضرب بها السور، ثم يتراجع حاملوها قليلاً ثم يتقدمون ليضربوا بها السور، وهكذا إلى أن يتمكنوا من أحداث ثغرة فيه. و "القفع"، ضبر تتخذ من خشب يمشي بها الرجال إلى الحصون في الحرب. وقيل هي الدبابات التي يقاتل تحتها.

واستخدم "الكبش" في القتال،استخدم في اليمن بصورة خاصة، استخدم سلاحاً من الأسلحة الثقيلة في قتال المدن والجيوش النظامية، وهو من خشب مكسو بجلود البقر مدبوغة بالقرظ، أو من جلود الإبل. يحتمي به المحاربون المشاة في هجومهم على الأعداء المتحصنين.

وقد وردت لفظة "كبش" في قول الشاعر "الحارث بن حلزة اليشكري": حول قيس مستلئمين بكبش  قرظي كأنـه عـبـلاء

وفسرت لفظة "الكبش" المذكورة ب "السيد" وهو تفسير أرى أن فيه تكلفا واضحاً وبعداً من المعنى، وأن الصواب هو أنها الآلة الحربية المذكورة، وأن الشاعر أراد ببيته المذكور وصف جماعة "قيس بن معد يكرب" الذين كانوا ملتفين حوله، مستلئمين بكبش من جلود سميكة غليظة مدبوغة بالقرظ، مرتفع عال حتى علباء، أي هضبة من ارتفاعه. والكبش بالنسبة للاعراب من الأسلحة ااتي يقل استعمالها عندهم، وهي من الأسلحة المانعة المؤثرة، ولذلك ذكرها الشاعر في شعره. وقد جاء بها "قيس" من اليمن ولا شك.

ومن آلات القذف والرمي إلى مسافات، المنجنيق. ويوضع فوق الأسوار لاستخدامه في رمي العدو المتقدم نحو ألحصن، أو في السفن لرمي سفن الأعداء أو في الأبراج أو في الخطوط الأمامية لرمي الأعداء المهاجمين. فهو في مقام المدفعية عندنا. وقد ورد في أخبار حصار المسلمين للطائف ان الرسو ل رمى أهل الطائف بالمنجنيق، وَكان أول من رمي في الإسلام بالمنجنيق على إحدى روايات أهل الأخبار.وورد أن اليهود كانوا يستعملون المنجنيق، في الدفاع عن حصونهم. ويرجع بعض أهل الأخبار تأريخ استعمال المنجنيق في الجاهلية إلى "جذيمة الأبرش"، فهم يذكرون اِّنه أول من رمى بالمنجنيق.

والعرادة من آلات الحرب كذلك، وهي صغيرة شبه المنجنيق.

عرف السور بالحائط كذلك. والحائط هو ما محيط بالشيء. وقد دعي سور الطائف بحائط الطائف في بعض كتب السير، وذلك لأنه يحيط بالمدينة. وقد كانت به أبواب تغلق في الليل. ولما اقترب منه المسلمون رماهم المدافعون عنه بالسهام، وكانوا يكمنون فوقه فقتل أناس من.المسلمين. و يكون أعلى الجدار الخارجي عالياً وبه فجوات صغيرة ليكمن ورائه المدافعون ولينظروا من خلال هذه الفجوات الأعداء، وليرموهم منها. ويبنى السور سميكاً في أسفله، ثم يقل سمكه في أعلاه وذلك ليكون من الصعب على المهاجمين احداث فتحة فيه أو هدمه.

ويكون عرضه في أعلاه كافياً لاختباء المدافعين ولمرورهم بسهولة. وتبنى أبراج في العادة فوقه للمراقبة ولرمي الأعداء، يختلف عددها باختلاف المدن، و باختلاف استطاعة البلدة وما تتخذه من وسائل لحماية نفسها من الأعداء.

ولحمل أهل المدن والقرى المحصنة على الاستسلام يتخذ المهاجمون أساليب الحيل ووسائل مختلفة للتضييق عليهم، وفي جملة ذلك قطع المياه عن المكان المحاصر إن كان الماء في خارجه. وذلك بسدّ المجرى وتخريب الآبار و الاحاطةٌ بالماء لمنع الناس من الدنوّ منه، وبحرق المزارع والبساتين الواقعة في خارج المكان المحاصر، أو يقطع أشجارها وبأخذ الغلات،و بقطع كل اتصال للمكان بالخارج، وبالتشدد في ذلك حتى يضطر المحاصرون إلى الاستسلام أو عقد صلح مع المهاجمين. وقد كانت خطة حرق المزارع والبساتين من أهم العوامل المؤثرة على المحاصرين.، وذلك نظراً للخسائر المادية التي تلحقهم والتي لا يمكن تعويضها إلا بجهود وبأتعاب السنين.

ولجأ المحاربون الجاهليين الى سياسة حبس الميرة عن القبائل أو القرى والمدن لاخضاعهم واجبارهم على ترك المقاومة والاستسلام. يفعلون ذلك كما تفعل. الدول الحديثة في مقاطعة بعض الحكومات في الحرب وفي السلم لاجبارها على ترك سياستها أو على الاستسلام. وقد قاطعت قريش بني هاشمم حينما دخلوا في الشعب لاجبارهم على ترك الرسول وخذلانه على نحو ما هو معروف.

كما وجهوا خططهم السوقية نحو النقاط الضيفة من مواضع الدفاع للمكان الذي يراد الاستيلاء عليه، مثل الأبواب والثلم التي قد تكون في الأسوار أو الحصون للاستفادة فى منها في مهاجمته. والأبواب، هي من أهم الأهداف بالنسبة للمهاجم، لذلك، تتخذ مختلف الوسائل للتغلب عليها، برميها بالنار، أو بالحجارة، أو بضربها بالدبابات والأقفاع.أو باستخدام السلالم أو الحبال لارتقاء المواضع المنخفضة من السور، كما يركن الى حفر الأنفاق تحت السور، للدخول منها إلى الموضع المحاصر، وقد يعمد إلى صنع تل من تراب، أو إلى تكويم أحجار بعضها فوق بعض، أو بناء مرتفع يصل إلى علوّ السور أو أعلى منه، ليرمي منه الأحجار والقذائف على المحاصرين، فيكون في امكان المهاجمين، مهاجمة السور من الأرض بارتقائه من الموضع المقابل للمرتفع، أو بعمل ثقب فيه، يدخل المهاجمون منه إلى الداخل، وبذلك ينقل المهاجم الحرب إلى داخل الموضع المحاصر ويتمكن من التغلب عليه.

أما النظم العسكرية عند أهل اليمن، فكانت على هذا النحو: الملك، هو القائد الأعلى للجيش، والرئيس الأعلى له، يعلن الحرب، ويأمر بعقد الصلح، ويعين القادة الذين يتولون إدارة القتال، لضمان اانصر، و هو الذي يأمر القبائل بتقديم الجنود، على مقدار ما اتفق عليه.

وقد يقوم الملك نفسه بقيادة الجيوش واجراء العمليات الحربية، وقد يترك ذلك إلى قوّاده، يقومون بها ويديرونها بحسب علمهم وخبرتهم بالحروب. والقائد هو "قسد" أي "قاسد" في لغتهم. وقد يعبر عنه ب "اسد" في بعض الأحيان ة الا أن هذه اللفظة تعني "الجندي" و "الجنود" في الغالب.

وكان على المحارب أن يهيئ له سلاحه، فإذا لم يكن لديه هذا السلاح منح مالأً لشرائه به، يتعهد بإعادته فيما بعد. وكان على القبيلة أن تهيئ المقاتلين اللازمين للقتال، وترسلهم إلى جبهات القتال للقتال مع الجنود الآخرين.

ولسنا نعلم كيف كَان يقاتل العرب الجنوبيون، و كيف كانوا يعطون خططهم الحربية في التغلب على العدو، لعدم تعرضَ كتابات المسند لذلك، فلم يرد الينا نص.

ويعبر عن الصلح بلفظة "سلم"، وهي في معنى "سلم" في عربيتنا. فالسلم هو الصلح الذي يلي الحرب بعد الانتهاء منها، كما انه السلم في الأوقات الأخرى أي الأوقات الاعتيادية.

ويعبر عن الحذر من العدو بلفظة "حذر"، وهي تؤدي معنى الدفاع كذلك، ف "حذر" تعني دافع ضد عدو. واذا سار شخص ما خلف زعيم أو قائد، يقال لذلك "تبع" و "تبعو" بمعنى سار مع القائد وساروا في حرب مثلاٌ، وتقدم أو تقدموا نحو العدو.

ويعبر عن التراجع والانسحاب بلفظة "ضويم" "ضوى"، وتعني الهزيمة كذلك. وهي نقيض معنى "متسك" التي تعني التمسك بالشيء والاستيلاء عليه. و "امتسك ب". ويعبر عن الهزيمة بلفظة "سحت" كذلك. كما يعبر عنها بلفظة "تشوع".

وقد يتبع المحاربون طريقة حرب العصابات، وذلك بأن ينقسم الجيش إلى أحزاب وفلول مستقلة تنتشر في أماكن متباعدة، وتقاتل بمفردها أو تتعاون فيما بينها عند الحاجة، وهي تحمي نفسها بالالتجاء إلى المواضع الطبيعية الحصينة مثل المستنقعات والأدغال والجبال وأطراف الممرات الوعرة، وذلك لكي تخفي نفسها عن العدو فلا يراها إلا وهي مباغتة له. ويقال للعصابة هذه: "حزب" في السبئية، وأما الجمع ف "احزب".

وتتبع الطريقة المذكورة عندما يواجه عدو عدواً يرى انه لا يستطيع الوقوف أمامه ومحاربته، أو في حالة التريث والانتظار إلى ساعة مجيء مدد وعون، أو في حالات الهزيمة. فتشتت القوات المغلوبة قواتها إلى "أحزاب" وتشغل جيش العدو المتفوق عليها بجبهات عديدة لغاية إرباكه واضعاف قوته، وتبقى تحارب حرب عصابات حتى ترى رأيها الأخيرة فتقرر الصلح أو الاستسلام وقد تجمع فلولها ثانية وتظهر مرة أخرى في ميدان قتال جديد، ففي كتابات المسند أمثلة كثيرة من هذا القبيل.

وقد وردت في النصوص المعينية لفظة "غزتس" بمعنى غزوة، كما في هذه الجملة: "غزتس عم مسبا"، بمعنى "في غزوته مع المسبين". ويظهر ان هذا النص قد دوّن في غزاة قام بها صاحب النص، وقد أخذوا معهم جماعة من السبي. وهذا النص هو من النصوص المعينية التي عثر عليها في مدائن صالح.

ويقال للحواجز التي يضعها المحاربون في شوارع المدينة أو في الطرق أو التي يقيمونها في ساحات المعارك لإعاقة حركات العدو "حجزت"، أي "حاجزة". ولا تقتصر عمل هذه الحواجز على الأغراض العسكرية وحدها بالطبع بل تقام لأغراض عديدة أخرى، مثل الحواجز التي تقام لحجز المواشي والحيوانات وما شابه ذلك.

ولا يشترط بالطبع في الحواجز أن تكون عالية مرتفعة أو قائمة عريضة، فقد تكون منخفضة وعندئذ تكون على هيأة موانع لإعاقة الإنسان أو الحيوان من المرور. وقد تكون خندقاً حفر حول المدينة أو حول مكان يراد حمايته ومحافظته من التطاول عليه. فيقف هذا الخندق حاجزاً مانعاً يمنع الجنود والجيوش من التقدم نحو الهدف أو المدينة أو الموضع الذي يراد الاستيلاء عليه ? ويقال له عندئذ "خبزت" وبهذا المعنى عرف في كتب اللغة، فقد ورد في القاموس المحيط "خ ب ز": "خبز" الرهل والمكان المنخفض المطمئن من الأرض.

وقد بنى اليمانيون حصونهم في الهضاب والمرتفعات والجبال، ليكون من الاسهل الدفاع عنها. وحول هذه الحصون وبحمايتها بنى الناس بيوتهم، فتحولت هذه الأماكن اامحماة بالقلاع والحصون إلى مواضع حصينة تدافع عن نفسها وترمي من يحاول، الوصول اليها بالسهام وبوسائل الدفاع الأخرى، فيتكبد المهاجم خسائر، ويلاقي صعوبات كبيرة في الوصول اليها. ويقال لمثل هذه الحصون والقلاع "محفدن" و "محفدم" والأولى معرفة والثانية منكرة.

وتزود الحصون بكل وسائل الدفاع وما يحتاج اليه أصحابها والمدافعون عنها من ماء وزاد ووسائل دفاع. ولهذا تجد في الحصون آباراً ومخازن للمياه، ليستفيد منها المدافعون، ولا يتمكن المهاجمون من منع الماء عنهم. أما الزاد، فيخزن في العادة في مخازن خاصة لهذه الغاية أيضاَ. وأما وسائل الدفاع فتكون بانشاء أبراج فوق أسوار الحصن، يكمن فيها المدافعون لرمي العدو منها، وببناء فتحات صغيرة رفيعة لمراقبة العدو منها، ولرميه بالسهام.

ومن وسائل الدفاع التي لجأ اليها أهل العربية الجنوبية لإعاقة المحاربين من التقدم نحو هدفهم، انشاء حواجز على هيأة جسر تبنى في المضيقات والممرات، بحيث إذا وصل اليها العدو لم يتمكن من الاستمرار في سيره نحو عدوه، فينهال عليه حماة تلك الحواجز بالحجارة والسهام وما شاكل ذلك من أسلحة. وترى بقايا مثل هذه الجدار في مواضع عديدة من اليمن وحضرموت حتى اليوم. ومن جملة ما عثر عليه بقايا جدار أقيم في وادي "لبنا" شمال ميناء حضرموت القديم "قنا" "قانه" "قني". أقامه حكّام حضرموت المكربون قبل القرن الرابع قبل الميلاد، وذلك لحماية حضرموت من غزوات الحميريين وغيرهم. وعثر على بقايا جدار في القسم الجنوبي من "وادي بيحان"، وعلى بقايا جدار آخر يقع في "وادي أنصاص" جنوب "شبوة"، وذلك لحمايتها، من الغارات.

والنصر ضد الهزيمة. وترادفها لفظة "شرح" في اللهجات العربية الجنوبية، كما في هذه الجملة "يوم شرح سبا"، أي "يوم نصر سبأ".

وبعد انتهاء الحرب توزع الغنائم بين المحاربين المنتصرين، ويعطى الرئيس إذا غنم الجيش معه "المرباع" أي ربع الغنيمة. وقد رده الإسلام خمساً، بنزول الأمر بالخمس في القرآن الكريم.

واذا وقع أحد في أيدي عدو وأسر فيقال له عندئذ "أسر". ويعبر عنه ب "اخذ" في السبئية في حالة المفرد، وب "اخذتم" "أخذت" "اخذيت" في حالة الجمع. وتطلق هذه اللفظة على الأسرى الذين يقعون في الأسر من دون قتال، وذلك عند اكتساح جيش أو غزاة جيش العدو أو مكان ما، فيؤخذ من فيه من ناس من غير قتال ولا مقاومة. فهم مثل الغنائم الني تقع في أيدي الغزاة والمحاربين يؤخذون دون قتال. أما الذين يؤخذون بعد مقاومة وبقتال، فيقال لهم: "سبيم" أي "سبى"، بمعنى "مسبى". وأما الجمع ف "اسبى" أي سبايا. وأما الاسباء فيعبر عنه ب "يسبيو"، وتعني "يسبي" و "يسبون".

وكانوا يكبّلون أيدي الأسرى والسبي ب "الكبل" 0 القيد من أي شيء كان، وذلك لاحتباسهم حتى لا يهربوا. وقد ذكر بعض علماء العربية "أن الكبل غير عربي.. وقد صرح به أقوام". ولفظة "كبل" هي "كبلو"،Keblo و "كيبل" Kebel في لغة بني إرم وفي العبرانية، أي "القيد". وقد كانوا يكتفّونهم بالحبال وبكل شيء يكون عندهم يشد به وثاق الأسر، فلا يفلت من اسره. و "الكتاف" الحبل. و "الوثاق" ما يشد به كالحبل وغيره. كما كانوا يكتّفون الأسرى بالقدّ. والقد السير الذي يقدّ من جلد،فتشد به أطراف الأسر شداً شديداً حتى لا يتمكن من الهروب.

ولما بعث رسول الله خيلا قبل نجد، فجاءت ب "ثمامة بن أثال الحنفي" سيد أهل اليمامة مأسوراً " أمر به رسول اللّه، فربطوه بسارية من سواري المسجد ثم منّ عليه فأطلقوه واًسلم، لأنه لم يكن في زمن الرسول سجن. فكانوا يحبسون الاسير في المسجد او الدهليز حيث امكن فلما كان زمن علي بن ابي طالب أحدث السجن بالكوفة، وكانْ أول من أحدثه في الإسلام. وذكر ان "ثمامة" كَان عرض، لرسول الله فأراد قتله، فلما قبض عليه أسلم، فلما أسلم قدم مكة معتمراً، فقال: والذي نفسي بيد لا تأتيكم حبة من اليمامة، وكانت ريف اهل مكة، حتى يأذن رسول الله له. ورجع إلى اليمامة ومنع الميرة عن قريش، وقد ثبت على إشلامه، لما ارتد أهل المامة، وارنحل هو ومن أطاعه من قومه، فلحقلإ ا بالعلاء بلأت الحضرجمب، فقاتل معه المرتدين من أهل البحرين، فلما ظفروا اشترى تمامة حلةَّ كانت لكبيرهم فرآها عليه ظ س من "يني قي، بن ثعلبة"، فثهلنوا انه هو الذ.ئي قله وسلب." فضلوه. وكَان له هم اسمه "عامر بن سلمة بن عبيد بات ثعلجة الحنقي". وقد دخل في الإسلام.

ويسبق المبشرون الجيش المنتصر بزف خبر النصر للحكام وللناس. يسرعون بأقصى ما يمكنهم من السرعة لنقل النبأ، ولنيل جوائْز البشرى. وهي "البشارة" ما يعطاه المبشر. ويعبر عن البشرى ب "تبشرت" في العربية الجنوبية، أي "التبشرة" يقوم ال "هبشر"، أي المبشر بإبلاغ البشرى لمن يراد ايصالها اليها.

ويعبر عما يقع في أيدي المغيرين أو المحاربين أو الغزاة أو المنتصرين من أموال ب " مهرج"، أي غنيمة حرب، وذلك للمفرد وب "مهرجت" "مهرجة" في حالة الجمع، أي غنائمْ.

وتطبق هذه اللفظة على الغنائم التي تؤخذ بقتال وبعد مقاومة، أما الغنائم التي يحصل عليها المحاربون بعد القتال وبعد الهزيمة التي تنزل بالمغلوب، فيقال لها "غنم" و "غنم" وذلك في المفرد، أي للغنيمة الواحدة، وأما في حالة التعبير عن الجمع فيقال "غنمت"، أي غنائم.

ونظراً الى ما للمنزلة الاجتماعية من أهمية كبيرة في المجتمع العربي. لذلك كان الشريف يسأل من يريد أسره عن اسمه ونسبه، حتى إذا وجد أنه من العبيد والموالي أبى الاستسلام له،لأن في استسلام الرجل لمن هو دونه في المنزلة والمكانة مذلة كبرى وإهانة ولهذا كان الرجل الذي يشعر أنه في وضع حر ج وأنه مأسور لا محالة يبقى يراوغ خصمه ويحاول الافلات منه ومن أسره جهد امكانه حتى آخر نفس، له، وقد يسأل شخصاً آخر يرى عليه امارة الوجاهة والشرف بأن يأسره خشية الفضيحة والعار من وقوعه أسيرا في يد عبد جلف، أو صعلوك لا مكانة له في المجتمع. ومن ذلك ما وقع لحاجب بن زرارة، إذ أدركه لا الزهدمان، فقال له: استأسر وقد قدروا علته، فقال ومن أنتما ? قالا، الزهدمان. فقال: لا أستأسر اليوم لمولين. وبينما هم كذلك، إذ ادركهم مالك ذو الرقيبة ابن سلمة من قشير، فقالّ لحاجب: استأسر، فقال: ومن أنت ? قال أنا مالك ذو الرقيية فقال: أفعل فلعمري ما ادركتني حتى كدت أكون عبداً. فألقى اليه رمحه واعتنقه زهدم عن فرسه فصاح حاجب واغوثاه، ثم تخاصم مالك والزهدمان في شأن أسر حاجب، واجتمع القوم وحكموا حاجباً في أمر من أسره، فاختار مالك، وحكم له، وذلك لأنه كان حراً شريفأَ. ثم فك أسره، بأن أعطى فدية عن نفسه لمالك وفديتين أصغر منها ان الزهدميين.

ولم تكن "المثلة" بقتيل الحرب أو بالأسير محرمة في قوانين ذلك اليوم. فقد كانوا في يمثلون بقتلى الحرب وبالأسرى بتقطيع أجزاء جسمهم، وتشويه الجسم. يفعلون ذلك بالأسير حتى يموت، وهو يشاهد أعضاءه تقطع قطعاً من جسمه. وفي "يوم الرقم" انهزم الحكم بن الطفيل في نفر من أصحابه " فيهم "خوات ابن كعب" حتى انتهوا إلى ماء يقال له: المرورًات، فقطع العطش أعناقهم فماتوا، وخنق الحكم بن الطفيل نفسه مخافة المتلة، فقال في ذلك عرُوة بن الورد: عجبت لهم إذ يخنقون نفوسهـم  ومقتلهم تحت الوغى كان أعذرا

والقاعدة في الغزو والحروب والغارات، أن القاتل يأخذ سلب المقتول. يأخذ ما يجده عنده، وقد أقر ذلك في الإسلام، فجعل السلب للقاتل لا ينازعه في ذلك منازع، إن ثبت أنه هو القاتل.

والحروب من أهم الموارد الممونة للرقيق عند الشعوب القديمة، وفي جملتهم الجاهليين. فقد كان الشخص يتخذ من يقع في يده رقيقاً له، واذا لم يمنّ عليه بالعفو، أو لم يتمكن المأًسور من دفع فدية عن نفسه، صار عبداً مملوكاً لمن وقع في يده، إن شاء باعه، وإن شاء احتفظ به رقيقا، يخدمه ما دام عبداً. وقد عمد المحاربون إلى إِحراق المغلوبين في بعض الأحيان. فقد جمع المنذر بن امرىء القيس أسرى في الحظائر ليحرقهم، فسمي أبا حوط الحظائر.

وقد عرف بعض،ملوك الحيرة بحرق من وقع في أيديهم من المغلوبين، أو حرق مواضعهم وهم فيها لذلك عرفوا ب "محرق". وعقوبة الحرق من العقوبات المعروفة عند الأمم القديمة مثل الرومان والعبرانيين، ينزلونها في المحاربين جزاءً لهم، وإخافة لغيرهم ودعاية لهم، حتى لا يتجاسر أحد فيعلن الثورة على المحرقين، فيحل،عندئذ بهم عذاب التحريق.

وكان بعض الاشخاص يقومون بالغارات بمفردهم أو بجمع من الناس،فيفاجئون الناس الآمنين أو رجال القوافل، ومن هؤلاء: شراحيل بن الأصهب، وكان كما يقول أهل الأخبار أبعدَ العرب غارةً، كان يغزو من حضرموت إلى البلقاء في مئة فارس من بني أبيه، فقتله بنو جعدة.وكان قد أزعج قبائل معد وغيرها كما يظهر ذلك من شعر نابغة بني جعدة: أرحنا معدّ اً من شراحيل بعـدمـا  أراها مع السبح الكواكب مظهرا

وعلقمة الحراب أدرك ركضـنـا  بذي الرمث إذا صام النهار وهجرا

وقد يعمد المنتصر إلى أخذ رهائن من المغلوب لتكون رهناً لديه بالطاعة والخضوع. فإذا خان بعهده، تعرضت الرهينة التهلكة. وتؤخذ الرهائن في أيام السلم أيضا. يأخذها الملوك ممن يخشونهم ومن السادات لتكون ضماناً لديهم بالطاعة وبعدم مسهم بمصالحهم. وقد عرف "الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصيّ" ب "الرهين"، "وإنما لقب به لأنه كان رهينة قريش عند أبي يكسوم الحبشي. وولده النضر بن الحارث من مسلمة الفتح. وأخوه النضر بن الحارث قتله عليّ، رضي الله تعالى عنه، بالصفراء بعد رجوعهم من بدر بأمر من النبي، صلى الله تعالى عليه وسلم، وبنته قتيلة رثت أباها بالأبيات القافية، وليس فيها ما يدل على إسلامها".

وللطيرة أثر كبير في نظر الجاهليين في كسب الحرب وخسرانها، فقد رسخ في عقولهم أن لها تأثيراً مباشراً في الغزو والحروب. وان كلمة طيبة تسمع ساعة الاستعداد للغزو، أو عطسة يعطسها إنسان، أو نعيب غراب ينعب ساعة الهجوم أو ما شاكل ذلك من علامات يتفاءل أو يتشاءم منها، تؤثر في مصير الغزو وتتحدث للغازين عن مصير ما سيقومون به. لذلك فقد كانوا ربما نبذوا الغزو إذا ظهر أمامهم ما يخطر منه، وكانوا ربما أسرعوا بالهجوم إن ظهر أمامهم ما يفسرونه بأنه يمن وتفاؤل وحث على الإقدام في العمل. ولم يكن هذا الاعتقاد من عقائد العرب وحدهم، فقد كانت الشعوب الأخرى تتطير كذلك. وتحسب للطيرة حساباً عند شروعها بحرب.ونجد في الكتب القديمة قصصاً عن الطيرة وأثرها في الحروب عند اليونان والرومان والفراعنة والفرس.

ورسخ في عقول أهل الجاهلية ان في وسع الكهنة التنبؤ عن نتائج الغزو أو الحروب.، لما للكهنة من اتصال بالارباب والارواح المخبرة عن المغيبات وعما سيقع في المستقبل فكانوا لذلك يسألونهم في كثير من الاحايين عن رأيهم في غزو يريدون القيام به قيل الشروع به حتى اذا باركه الكاهن قاموا به والا تركوه ونجد في كتب الادب واهل الاخبار اخباراً ترجع سبب الهزيمة او سبب انتصارهم الى مخالفة اولئك القوم لرأي كاهنهم فكانت الهزيمة والى العمل برأيه فوقع من ثم لهم النصر لأن للكهنة علم بالمغيبات.

الفصل السادس والخمسون

في الفقه الجاهلي

عرفت "مدّونة جستنيان" Institute de justinien" "الفقه" بأنه ".معرفة الأمور الإلهية والأمور البشرية، والعلم بما هو حق شرعاً ومما هو غير حق".

و "الفقه" في اصطلاح المسلمين هو: استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، أو التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد، أو العلم بأحكام الشريعة، وهو اصطلاح ظهر بالطبع في الإسلام. أما بالنسبة إلى الجاهليين فإننا لا نستطيع أن نأتي بتحديد علم ثابت به، لعدم وصول شيء منهم في هذا المعنى الينا.

وقد وردت اللفظة لغة بمعنى العلم والتبحر في الشيء والإحاطة به. ووردت في سورة التوبة كلمة يتفقهوا )فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين". ومن هذا المعنى جاءت لفظة "الفقه" في الإسلام.

وأنا اقصد بمصطلح "الفقه" هنا الأحكام الني نظمت العلاقات بين الجاهلين، وبيّنت الحلال في عرفهم من الحرام. وأقصد بالحلال كل مباح أباحه أهل الجاهلية لأنفسهم، وبالحرام كل ما حرموه عليها. فللجاهليين شرائعهم الخاصة بهم. وأنا هنا أريد أن أبحث عن شرائعهم التي ثبتت الأحكام بحسب اجتهادهم وعرفهم وسنتهم، وأريد بالأحكام "قوانينهم" التي وضعوها وساروا عليها في تثبيت المحظور أو المباح " أي الحرام والحلال.

وكلامنا في الفقه الجاهلي هو كلام لم نستنتجه من "قوانين" أو مدونات قانونية Codex juris أو من كتب في فقه الجاهليين أو من تعليمات جاهلية مدونة،وانما أخذناه في الغالب من الألفاظ الفقهية التي تعبر عن آراء قانونية وردت في كتب الفقه والحديث والتفسير،وما شاكل ذلك من موارد إسلامية، ومن أقوال وأحكام نسبها أهل الإسلام لرجال من أهل الجاهلية، فيها قواعد فقهية. ومن بعض أوامر وأحكام أصدرها ملوك العرب الجنوبيون قبل الإسلام في تنظيم التجارة وفي كيفية جباية الأموال. وسبب عدم أخذنا من موارد فقهية جاهلية هو عدم وصول مدونات قانونية الينا حتى الان، فليست لدينا ويا للاسف مدونات مثل "قوانين حمورابي" أو "مدونة جستنيان"، أو مثل ما كتبه "ديودورس" في الشريعة المصرية. فما نكتبه في التشريع الجاهلي، مستمد مما ذكرته ومن أوامر و إرادات ملكية وأحكام وردت في المسند في نواح خاصة من نواحي التشريع مثل كيفية جباية الضرائب. عن الأرض أو التجارة، أو نواح معينة من البيوع والقتل وغير ذلك. فهي خاصة بحالة معينة من حالات التشريع، لا قوانين عامة على نحو ما نفهمه من القوانين.

ولما كانت القوانين وليدة الظروف والحاجات اختلف التشريع في أيام الجاهلية باختلاف القبائل والأماكن، وطبيعة البيئة. فأهل اليمن بنظام حكمهم المستقر، وبحكوماتهم التي كانت تهيمن على مناطق واسعة كانوا يختلفون في أصول تشريعهم عن أهل مكة أو أهل يثرب. وكل من هؤلاء هم قُطّان مدن، حكمهم هو حكم مسن قائم على أساس اراء رؤساء الأحياء والشعاب. ثم إن "حكم هؤلاء، يختلف أيضاً عن حكم القبيلة والعشيرة، أعني حكم الأعراب.

ولعدم وجود حكومات منظمة قوية في معظم أنحاء جزيرة العرب، لا يمكن تصور وجود هيئات قضائية ومؤسسات حكومية ذوات قوانين مدوّ نة، للفصل في ااخصومات، وللانزال العقوبات الجزائية الرادعة في المخالفين، على نحو ما نراه في حكومات هذا اليوم. كما أننا في شك من وجود نصوص قانونية مدونة في مثل هذه الأماكن على مثال قوانن "جستنيان" مثلاّ، أو القوانين التي سنها الأكاسرة. فمثل هذه ا القوانين والأنظمة الدقيقة المنظمة المعقدة لا يمكن أن تظهر إلا في المجتمعات السياسية المنظمة المعقدة التي تهيمن عليها حكومة ذات مجتمع منظم يشعر بحاجته الى حكم منظم يعين حقوق الحكام وحقوق المواطنين.

غير أنّ هذا لا يعني عدم وجود أحكام لردع المخالفين والزائغين، وعدم وجود أحكام لتنظيم العلاقات في المجتمع، وتعيين حقوق الحكام والمحكومين، وعدم وجود أناس لهم علم بعرف البلاد.فلكل مجتمع مهما كانت حالته من السذاجة قوانين وأناس لهم علم بتطبيق تلك القوانين على المخالفين. والقوانين في المجتمعات الصغيرة البسيطة، هي العرف والعادة المتوارثة عن الأباء و الأجداد. وإذا كانت مثل هذه المجتمعات لا تملك محاكم دائمة ذات موظفين ولا سجلات وقوانين ثابتة مكتوبة على نمط المحاكم لهذا العهد فإنها تملك في الواقع محاكم، وتملك حكاما.

ففي الممدن مثل مكة ويثرب، وهي مدن تحكم نفسها بنفسها ونستطيع ان نسمي حكوماتها بحكومات مدن، يحكم الرؤساء والأشراف المدينة، ويفضون المنازعات. وفق العرف والعادة. يجتمعون في مكان.معين، مثل "دار الندوة"، أو في المعبد، أو في بيوت الوجهاء " للنظر في الخصومات وفي المشكلات التي تقع في البلد " او يتولى رؤساء الشعب، أي الحارة والمحلة فضَّ المنازعات ااتي تنشأ بين أفراد الشعب في الغالب. أما إذا وقعت الخصومات بين أبناء شعاب مختلفة، فقد يتّفق رؤساء المحلات على فض الخصومة بينهم باللجوء الى المحكمين يختارونهم من غيرهم ممن يرضى عنهم المتخاصمون ويكونون في نظرهم محايدين لا علاقة بهم بهذا النزاع وقد يخال النزاع على رؤساء البلد او الحي للنظر فيه ويشترط بالطبع على المتخاصمين كلهم الاذعان لقضاء الحكام والتسليم بما يحكمونه من حكم.

ولسذاجة الحياة وعدم تعقدها في معظم أنحاء جزيرة العرب، كانت طبيعة التشريع عند الجاهليين ساذجة غير معقدة والقوانين قليلة تتناسب مع طبعة حياة ذلك العهد، تقتصر على المشكلات التي تحدث في مثل تلك البيئة وفي ظروف تشبه تلك ااظروف. فلا نرى لذلك قوانين معقدة عديدة في معالجة مشكلات الارض ومشكلات الصناعة والاقتصاد وتنظيمات المدن الكبيرة وما يتكون ويتولد فيها من اجرام ومخالفات.

ولما كانت الطبيعة الاعرابية هي الطبيعة التي تغلبت على حياة اكثر سكان جزيرة العرب، نبع مفهوم الحق عند الأعراب ومفهوم كيفية استحصاله وأخذه من المحيط الذي عاش الأعرابي فيه. فصار الحق في نظره القدرة أو القوة. فالقوي القادر على حمل السلاح هو صاحب ألحق لأن في استطاعته انتزاع حقه والدفاع عن نفسه متى تعرّض للظلم. وهو بقوته لا يخشى ظلم ظالم. وعلى هذا اامبدأ بنيت اكثر أحكام ااجاهلية في تقويم الحق وتقديره في مثل دفع الديات، وفي حقوق الإرث وفي مفهوم السرقة، كما سأتحدث عن ذلك فيما بعد. فالقدرة هي سبب من اهم اسباب تحقيق الحق، وأخذ الحق وانتزاعه من المغتصبين ثم عامل آخر، هو العصبية بأنواعها من ابسط درجة فيها الى اعلاها، فإنها عامل آخر من عوامل الدفاع عن الحق وعن استحصاله، لعدم وجود حكومة نظامية تقوم بتحقيق الحق، فقامت العصبية مقامها في استحصال الحق وفي تأديب الخارج على العرف، الذي هو القانون.

واما النواحي القانونية والتشريع قفي العربية الجنوبية وسائر الأنحاء الأخرى من جزيرة العرب، فلم ترد الينا من كتابات وبحوث فيها. فلتكوين رأي فيها اذن، لا بد لنا من اللجوء إلى الكتابات التي لها علاقة بهذه النواحي، مثل الكتابات التي تحمل طابع الأوامر والنواهي وعقود التملك من ضيع وثراء، والقبوريات اي الكتابات الني تخص تملك القبور،فتمنع الغرباء من الدفن فيها والتجاوز عليها والتطاول عليها بإحداث تغيير وتبديل في شكل القبر وفي هيأته، ومن كتابات مماثلة اخرى. فقد وردت في هذه مصطلحات و تعابير قانونية، يمكن ان نستنتج ً منها، وان نكون رأياًَ قانونياً بدراستها ومقارنتها بالتشريعات الواردة عند الشعوب الأخرى وعند القبائل الساكنة في مختلف أنحاء بلاد العرب، وبالتشريع الإسلامي.

ومن هذه المصطلحات الحقوقية لفظة "احلى" و " احل" بمعنى "أحلّ" في عربيتنا، وهي تشير الى لفظة "الحلال" التي هي ضد الحرام المعروفة في القوانين وفي الفقه. وقد وردت في النص الموسوم بMe 36 هذه العبارة: " هن بخطات نكرح اخلى ذ ينقل قبرن عمر خرقن وارخن"، ومعناها: هذا بخطيئة نكرح وود لمن يحل وينقل أي يغير القبَر. عمر السنين والأزمان، وتعني لفظة عمر الدوام والتأييد واما خطأت الخطيئة فأنها بالمعنى المفهوم منها عند النصارى تقريباً فهي بمعنى التعدي على الشريعة وعدم الامتثال لها والاثم وبمعنى اللعنة في الإسلام فيكون المعنى الجملة المتقدمة على هذه الصورة: " هذا بلعنة الالهين نكرح وود لمن يحل أي يجوز تغيير القبر ابد السنين والايام وتعني "لفظة" نقل التغيير والتبديل".

وهناك لفظتان تردان في الكتابات القبورية والإعلانية في بعض الأحيان، هما "مسرس" و "سنكَرس". وتعني اللفظة الأولى: يبعد وينقل. أما الثانية فتعني يغير ويزيل معالم الاشياء، وتد ترد بعد الكلمة هذه العبارة "يومي أرضم" أي أيام الارض، بمعنى ما دامت الارض.

ووردت لفظهّ "خطات" في نص قتباني، هو أمر ملكَي أصدره الملك: "شهر هلل بن مذرأ كرب". وقد جاء في هذا الأمر أن الملك سينزل عقوبات بالمخالفين لهذا الأمر. واستخدمت هذه اللفظة في أداء هذا المعنىْ.

وفي السبئية لفظة "حجك" "حكك"، وتعني القانون. وربما تؤدي معنى "حكّ" أي "حق". أي ما كان ضد الباطل.

وقد فسّر "رردوكناكس لفظة "حلكم"، "حلك" الواردة في نص قتبانيّ عرف بكتابة "كحلان" ب "قانون" و ب "نظام". وفسّر لفظة أخرى وردت معها هي "سحر" بمعنى أمر به. وأما لفظة "حرج"، فقد فسرها بمعنى أصدره وأخرجه. وقد وردت الألفاظ الثلاثة في ابتداء قانون أصدره "شهر هلال" ملك قتبان لتنظيم أمور الزراعة والملك في بلاده.

ووردت لفظة "نتذر" بعد لفظة "تنخيو" في بعض الكتابات ا. وقد ذهب بعض العلماء إلى ان لفظة "تنخيو" التي تعني الإعلان والإشهار، ليكون ذلك معلوماً لدى الناس، انما يراد بها التنبيه على شيء قد تتولد منه نتائج غير طيبة، فهي بمثابة انذار وتخويف وتحذير. وبهذا المعنى ايضاً لفظة "تنذر" بمعنى انذار و نذر.

وقد اختتمت بعض الأوامر والارادات الملكية القتبانية بهذه الجملة: "قدمن وتعلماي يد 0000"، ومعناها: "أمام. وعلمته يد"، اي ووقعته يد. ويراد بها ان الارادة الملكية قد كتبت أمامه، وان يد الملك قد وقعه، فهو أمر صدر بإرادته وأمره.

فنحن هنا أمام نص قانوني، صدر باسم ملك من الملوك،امر هو بإصداره، ودوّن أمامه، وشهد هو بنفسه عليه، ووقعته يده، دلالة على شهادته بصحته وبأنه نص شرعي ملكي معترف به. فعلى أتباعه السير وفقاً لأحكامه ولما جاء فيه.

وفي كتابة مثل هذه العبارات القانونية دلالة على وجود فهم للقانون وإدراك له عند العرب الجنوبيين.

وتطلق لفظة "بل" على المباح بلغة حمير. وأما "البسل"، فهي من الألفاظ الني تدخل في باب الأضداد، فهي تعني الحرام كما تعني الحلال.

وفي شريعة أهل الجاهلية حلال وحرام، مباح ومحظور، ويراد بالحلال كل ما أباحه العرف، مما لم يتعارض مع تقاليدهم و مألوفهم، اما ما تعارض منه معه، فهو حرام محظور ويعاقب المخالف المرتكب للمحرمات ولما حرمته شريعتهم. ومعنى الحلال والحرام الاصطلاحي هو المعنى الوارد في القرآن الكريم نفسه. غير أن الإسلام حدد الحرام والحلال وفق قواعد الشرع،أي أن الإسلام ندب المصطلحين وحددهما وفق قواعده. أما الجاهلية، فحددتهما وفق عرفها.

ومن المصطلحات التي لها علاقة بالحياة الاجتماعية لفظة "ثوب" أي "ثواب"،و "أجر". ترد بهذا المعنى في الكتابات ذات الصبغة الدينية. ولفظة "تعمن" و تعني "النعم" و "نعمة".

وعثر في الكتابات الثمودية وفي اللحيانية على نصوص تتعلق بحق الملكية. فعثر على نص، ثمودي يشير إلى ملكية بئر. وعثر في اللحيانية على وثائق تتعلق بملكية ارض وعقار كما عثر على وثيقة، وجد أنها وصل أي اعتراف بتسلم مال. كما عثر على وثائق تتعلق بالقانون الجنائي. منها وثائق تتعلق بقتل، ووثائق تتعلق بعقوبات القتل وبالدية ووثائق تتخدث عن ازدياي الجرائم والخروج عن القوانين في ديدان.

وتدل هذه الوثائق على وجود أصول القانون والمحافظة على الحقوق عند عرب أعالي الحجاز. وإن كُنا لا نستطيع في الوقت الحاضر تقديم أي رأي عن أصول التشريع عندهم أو التحدث عن وجود قوانين مثبتة مدو نة في معالجة الحق العام والحق الخاص أو الجرائم أو أصول المرافعات على نحو ما نجده عند الأمم المعاصرة لهم، أو الشعوب التي عاشت قبلهم، فوضعت شرائع وصلت نصوص بعضها الينا مثل شريعة حمورابي المعروفة.

وقد عثر الباحثون على نصوصٍ تشريعية،أصدرها ملوك ا لعربية الجنوبية وأمروا بإعلانها على الملا، عمل بموجبها وهي حتى الان قليلة العدد. ومع ذلك، فقد أعطتنا فكرة مجملة عن أصول التشريع عند العرب الجنوبيين. وقد صدرت هذه التشريعات بأمر الملوك. فهم الذين أمروا بسنها وبتشريعها وبتنفيذ ما جاء فيها. ويعبر عن القانون، أو سن القوانين بلفظة "سن" وتقابل كلمة Law أي قانون في الانكليزية. و "السنة" في عربيتنا: الطريقة. وهي من القواعد الأساسية الأربع في الفقه الإسلامي. فللفظة صلة اذن بلفظة "سن" في العربية الجنوبية.

ويظهر من الأوامر والاحكام الملكية المدونة بالمسند، ان الحكومات العربية الجنوبية كانت حكومات مشرّعة، نظمت اْعمالها وأعمال مواطنيها بتشريعات عينت بموجبها حقوق الحكومة على الناس وحقوق الناس مع بعضهم وواجباتهم تجاه حكومتهم، وذلك بحسب امكانية المجتمع لذلك العهد، وقد أدركت شأن نشر القوانين والأحكام ووجوب إِبلاغها للناس، فأمرت بتدوينها على الحجر، أي بحفرها فيها، ووضع الأحجار المدونة في مواضع بارزة ليقف عليها الناس ويفقهوا ما ورد فيها من أحكام وأوامر، فلا يقبل عندئذ عذر لمعتذر إذا خالفها، كذلك تجد الناس يعبرون عن حقهم في الشيء بتدوين ذلك الحق وإعلانه "، فعند شراء رجل بيتاً او أرضاً، أو عند بنائه بيتاً، كان يكتب ذلك على الحجر ويضع الحجر في محل بارز من جدار البيت الخارجي ليطلع الناس على تملك صاحب الملك له. ويدل هذا الاعلان على وجود فكرة التقنين والتشر.يع وادراك الحق عند العرب الجنوبيين.

وإذا أبرمت الحكومات العربية الجنوبية قانوناً، واذا أصدرت أمراً أو نظاماً، أمرت بتدوين نسخ من القانون أو الأمر أو النظام، لحفظها في ديوان الوثائق، لتكون مرجعاً يرجع اليه. وتعلن نسخ منها على الناس. ليقف الجمهور على ما جاء فيها.

وتعدّ الساحات المنشأة أمام اًبواب المدن المكان المختار لنشر الأوامر والقوانين على الناس، نظراً الى كونها محلات عامة يتجمع فيها أهل المدينة في الغالب، وقد تعقد فيها المحاكمات والاجتماعات العامة. فإذا صدر أمر حكومي أو قانون كتب على الحجر، ثم يبنى على جدار المدينة عند الباب ليقف عليه الناس. وقد عثر المنقبون على قانونين قتبانيين في تحديد عقوبة القتل، وقد بنيا في الجهة اليسرى من باب مدينة "تمنع" العاصمة ليقف عليهما من حضر هذا المكان من سكان العاصمة أو القادمين اليها، كما عثر المنقبون على أسماء جماعة من رجال مدينة "مريمت" "مريمة" وقد دوّنت على حجر بني على جدار باب المدينة ليقف عليها الناس،لأنهم قاموا بغزو رجعوا منه بغنائم كثيرة، أعطوا منها نصيباً كبيراً، فلكي يقف أهل المدينة على كيفية توزيع الغنائم وكمياتها دونت تلك الكتابة..

وتلعب أبواب المدن دوراً خطيراً في أصول التشريٍع عند الساميين. فقد كانت موضع اعلان القوانين، ومحل ابلاغه للناس. فهي بمثابة "الجرائد الرسمية" المخصصة بنشر القوانين في عرف هذا اليوم. وهي مواضع المحاكمة أيضاً، حيث يجلس الحكام للنظر في خصومات المتخاصمين. وهي مواضع عقد العقود أيضاً، من بيع وشراء. ويصف الاصحاح الرابع من سفر "راعوت" لنا، كيف ان "بوعز" جلس عند باب المدينة وأمر عشرة من شيوخ المدينة ليكونوا شهوداً لاجراء عملية بيع وشراء.

ومن الملاحظ على القانون القتباني انه أخذ بمبدأ ان تنفيذ القوانين هو حق من حقوق "الملك"، أو من يخوله حق التنفيذ. ويراد ب "الملك" الدولة، أو ما يسمى ب "السلطان" في الفقه " الإسلامي. فلا يجوز لأي أحد غير مخول تخويلاً قانونياً من الملك أي الدولة تنفيذ قانون أو أخذ أي حق مدعي بدون اذن رسمي من مرجع قضائي وسلطة مخولة. فالدولة وحدها هي التي تنظر في أمر الخصومات وفيما يقع بين الناس من خلاف. وهي وجهة نظر كل حكومة متحضرة، تريد إشاعة العدل والأمن في حدودها والقضاء على الفوضى والفتن التي قد تقع فيما لو قام كل انسان بأخذ ما يدعيه من حق لنفسه بنفسه، وبدون مراجعة حكومة و سلطان.

وأنا اذ أستعمل لفظة الفقه " الجاهلي، فلا أعني ان الجاهليين عامةً، كانوا كلهم يسيرون وفق فقه واحد وأحكام واحده تطبق على جميعهم، تطبيق الأحكام العامة في الدولة الواحدة. فكلام مثل هذأ لا يمكن أن يقال بالنسبة إلى الجاهلية فقد كان الجاهليون قبائل في الغالب، وهم أهل الوبر. وللقبائل أعراف وأحكام وقوانين تتباين بتباين الأمكنة، من انعزال في البادية أو قرب من الحضر أو اتصال بالأعاجم. وأما اهل المدر، فمنهم من كان يعيش في قرية والحكم فيها لا يتجاوز حدود القرية. ومنهم من عاش في ممالك أو إمارإت، والحكم فيها لم يبلغ كل جزيرة العرب بأي حال من الأحوال. وقد انحصرت أحكامها لذلك في الحدود. التي بلعتها قوتهم ووصل اليها سلطانهم الفعلي لا غير.

وإذا أردنا أن نتحدث بلغة هذا العصر عن اًصول التشريع الجاهلي، أي عن المنابع التي أمدت فقه الجاهلية بالأحكام، فإننا نرى أنها استمدت من العرف، ومن الدين، ومن اًوامر أولي الأمر ومن أحكام ذوي الرأي.

أما "العرف"، فهو ما استقر في النفوس وتلقاه المحيط بالرضى والقبول، وسلم به وسار عليه " في بعض الأحيان. وذلك لأخذه طابع القانون من حيث لزوم التنفيذ والإطاعة. وهو معروف عند أكثر الشعوب، وقد اكتسبت بعض الأعراف درجة القوانين عند كثير من الأمم، لمرور زمن طويلة على استعمالها، ولتعارف الناس عليها، لكونها معقولة منطقية لا تتعارض و روح الزمن وعدالة التشريع.

وقد أشير إلى العرف في القرآن الكريم: ) خذ العفو وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين(. وقد ذهب بعض العلماء إلى أن المراد من "العرف" هنا: الإحسان. وقد ألغى الإسلام بعض العرف الجاهلي، وأقرّ بعضاً منه، لعدم تعارضه مع قواعد الدين.

ولا تزال القبائل تطبق "العرف العشائري" حتى اليوم في فضَّ ما يقع بين أفرادها وبينها من خلاف وخصومات. وهي تتجنب جهد إمكانها مراجعة الحكومات لأنها تنفر من تطبيق القوانين عليها، بالرغم من إلغاء "العرف العشائريَ" أو "القضاء العشائري" كما هو معروف في بعض البلاد العربية، وعدم اعتراف تلك الحكومات به. وذلك لرسوخ هذا العرف في نفوسها، وظهوره من تربتها، ولكونه موروثاً من الاباء والأجداد، فهو أقرب اليهم والى نفوسهم من القوانين الحديثة، وإن كانت أقرب إلى الحق والعقل من العرف.

ولا تزال بعض مصطلحات العرف الجاهلي باقية حيَّة تستعملها القبائل حتى اليوم في الأغراض والمعاني التي كانت عند الجاهلين. وحبذا لو عني علماء القانون عندنا بضبط العرف المستعمل في بلاد العرب في الزمن الحاضر ودراسته دراسة علمية تحليلية، فإن لهذه الدراسة شأناً كبيراً في دراسة التشريع العربي في الجاهلية. وللسنة أهمية كبيرة في الفقه الجاهلي. واراد بها الطريقة، وترد في القرآن "سنة الأولين" و "سنة الله".

وترد لفظة "السنن" ! في الموارد الإسلامية. وكذلك "السنة" التي هي المورد الثاني في الفقه الإسلامي تستنبط منه الأحكام بعد القرآن. ولا بد أن تكون لها نفس المكانة عند الجاهليين. وقد ورد في القرآن الكريم: )وما منع الناش، أن يؤمنوا اذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين(، دلالة على مكانة سنّة الأباء في عقّلية الجاهليين. فما ورد في سنتهم هو قانون يعمل به. وورودها بهذا المعنى يدل على انها كانت تؤدي معناً خاصاً عند الجاهليين. ولعلها كانت مصطلحاً من مصطلحات الفقه عندهم.

وسنة، الجاهليين هي طريقهم في الحياة وما ورثوه عن آبائهم من عرف وأحكام،وما قرروا السير عليه من قوانين القبيلة في تنظيم حقوق القبيلة والأفراد، وما يقرره عقلائهم من القرارات لا تغير،ولا تبدل إلا للضرورة وبقرار يصدره أصحاب العقل والبصيرة والرأي والسن فيها. ولا يزال العمل بها حتى اليوم. ويقال لها "السانية" في اصطلاح قبائل العراق.

وأقصد ب "الدين" ما كان يدين به أكثر الجاهليين من شريعة التعبد للاوثان والتقرب للاصنام، فقد وضع سدنة المعابد والكهان أحكاماً لأتباعهم على انها أحكام ملزمة يكون مخالفها في حكم المخالف للعرف. وهي بالطبع أقوى وأظهر عند أهل الحضر، لمباعدة محيطهم على ظهور الشعور الديني الجماعي فيه، عكس محيط البداوة الذي تباعد فيه أهله، وتبعثرت بيوته، فلم يساعد على ظهور هذا الشعور الديني الجماعي فيه.

وبين الجاهليين يهود ونصارى، مهما قيل في يهوديتهم أو نصرانيتهم من العمق أو الضحالة، فإنه لا بد أن يكون لديانتهم دخل في تنظيم حياتهم وفي أحكام مجتمعاتهم ولا سيما فيما يخص قوانين الأحوال الشخصية المقررة في الديانتين.

وأقصد بأوامر أولي الأمر، أوامر أصحاب الحلّ والعقد من ملوك وسادات قبائل ورؤساء "الملا" و "الندوة". فقد كانت أوامرهم أحكاماً تتبع فيَ زمني السلم والحرب. وهم مشرعون ومنفذون: وقد صارت قوانين متبعة. وأشير إلى بعض منها في الموارد الإسلامية.

وقد وصلت الينا أوامر ملكية قتبانية في تنظيم الجباية والتجارة، كما وصلت كتابات فيها تشريعات تخص النواحي القانونية سأتحدث عنها في المواضع المناسبة.

أما أحكام ذوي الرأي فأريد بها أحكام فقهاء الجاهلية الذين عرفوا بالأصالة في الرأي وبالمقدرة في استنباط الأحكام المناسبة في فض المنازعات والخصومات. ولا أريد بتعبير "فقهاء الجاهلية"، طبقة خاصة من علماء الفقه أي القانون، على نمط علماء الفقه عند الرومان أو اليونان أو فقهاء الإسلام،تخصصت بالفقه وبشرائع الجاهليين، وإنما أقصد بهم أولئك الذين طلب اليهم أن يكونوا حكماً بين الناس، لوجود صفات خاصة بهم جعلتهم أهلاً للقضاء والحكم فيما يشجر بينهم من خلاف. وهم سادات القبائل واشرافها والكهّان.

وفي فقه الجاهلية أحكام كثيرة، وضعها مشرعون محترمون عند قومهم، وجرت عندهم مجرى القوانين - وقد نص أهل الأخبار عليها كما نصوا على أسماء قائليها. وقد ذكروا بين تلك الأحكام أحكاماً أقرها وثبتها الإسلام. من ذلك حكمهم في "الخنثى" " وهو حكم حكم به "عامر بن الظرب إلعدواني"، و "ذرب بن حوط بن عبد الله بن أبي حارثة بن حي الطائي"، وقد أقر الإسلام حكمهما، ومثل حكم "ذي المجاسد" وهو "عامر بن جشم بن غنم لبن حبيب" في توريث البنات. فقد كانت العرب مصفقة على توريث ألبنين دون البنات، فورث ذو المجاسد، وهو الذي قرر ان للذكر مثل حظ الأنثيين.

وقد وافق حكمه حكم الإسلام.

إننا لم نسمع حتى الآن بوجود مفتين،أَي فقهاء كلفوا إبداء آراء في معضلات تقع فتعرض، عليهم لايجاد حلول ومخارج قانونية لها. ولم نسمع أيضاً بوجود حكام كلفوا رسمياً من الدولة القضاء بين الناس، ولا أستبعد العثور في المستقبل على كتابات في اليمن وفي بقية العربية الجنوبية قد تكشف النقاب عن وجود مثل هذه الوظائف هناك، وذلك لأن الحكومات التي ظهرت فيها كانت حكومات منظمة، لها شرائع، ولها صلات مع العالم الخارجي، فلا يستبعد تعيينها أناساً عرفوا بالكياسة وبالرأي السديد وبالعلم في الفقه للحكم بين الناس ولوضع القوانين التي تحتاج اليها الحكومة.

إن عدم تدوين الجاهليين لفقههم، أو عدم وصول شيء مدون منه الينا، لا يكون دليلاً على عدم وجود فقه لديهم أو على عدم وجود منطق فقهي لديهم أو يكون دليلاّ على سذاجة فقهم وبداءته، فإن انعدام التدوين لا يكون دليلاً على عدم وجود رأي فقهي عند قوم، فقد كان أهل "لقدمونبا" مثلاً وهم من اليونان "يميلون الى الاعتماد على ذاكرتهم يستحفظونها من الأنظمة ما يعتدونه قوانين واجبة المراعاة "، عكس أهل "أثينة" الذبن كانوا ضدهم، فإنهم كانوا يدونون القوانين ويكتبونها للرجوع اليها. وقد أخذت أحكام "لقدمونيا" الشفوية في التشريع بنظر الاعتبار واعتبرت في المدونات القانونية.

ولا بد أن يكون بين الجاهليين "تعامل" و "عرف" متبع في أمور عديدة من أمور الحياة التي عاشوا فيها في مثل حقوق مرور القوافل من مناطق نفوذ القبائل، وحقوق الجباية عن الأموال المستوردة أو المصدرة وفي موضوع العقوبات وما شاكل ذلك.

وقد ذكرت بأن العلماء قد عثروا على بعض كتابات هي أوامر ملكية في الجباية، فلا يستبعد عثورهم في المستقبل على ألواح ومدونات في الفقه.

ومكان مثل مكة اشتهر أهله بالحذق في التجارة وبثراء بعضهم ثراء كبيراً، وبتعاملهم مع الشرق والغرب،مع الساسانيين ومع البيزنطيين ومع اليمن، وباكتنازهم الذهب والفضة، وبعقدهم العقود وبوجود الكتّاب بينهم، وبوجود الرقيق الأبيض عندهم، من ذلك النوع الذي يقرأ ويكتب والذي له وقوف على كتب الأولين، إن مكاناً مثل هذا لا يمكن أن يكون بلا فقه وبلا قوانين ومحاكم يتحاكمون بها.

وكيف يكون ذلك فقد خاطب اللهُ رسوله بقوله: ) يستفتونك في النساء، قل: اللهُ يفتيكم فيهن "، و "يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة "و "لا تستفت فيهم منهم أحداً"، وغير ذلك من مواضع فيها معنى الإفتاء. وقد ذكر العلماء أن "الكلالة" اسم لما عدا الولد والوالد من الورثة، وأن رسول الله سئل عن الكلالة فقال:من مات وليس له ولد ولا والد. وأن بعض العلماء فسَّر الكلالة بأنها مصدر يجمع الوارث والموروث جميعاً. وقوم يستفتون في المواريث ويستفتون في النساء هل يعقل ألا يكون لهم فقه وقوانين.

وفي القرآن آيات مثلُ:" وقضى بينهم بالحق وهم لا يظلمون "، و " فاقض ما أنت قاض"، و " لولا كلمة الفصل لقضي بينهم " و" فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون"، وايات أخرى تشير الى وجود فكرة القضاء بين الناس، والى الحكم بينهم بالقسط. فهلَ كان الله يخاطب قوماً بهذه الايات لو كان المخاطبون قوماً يجهلون العدل، ولا يفقهون شيئاً عن القضاء? اللهم لا.

وفي القراَن الكريم. "يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه. وليكتب بينكم كاتب بالعدل، ولا يأبَ كاتبٌ أن يكتب كما علمه اللّه فليكتب وليمْلل الذي عليه الحق وليتقِ الله ربه ولا يبخس منه شيئاً. فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً أو لا يستطيع أن يمل هو فليُملل وليته بالعدل، واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر احداهما الأخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دُعوا ولا تسئموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله، ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألاّ ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم، فليس عليكم جناح الا تكتبوها واشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهبد وان تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلّمكم الله والله بكل شيء عليم. وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة فإن آمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي أوتمن أمانته وليتق اللّه ربه ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قبله والله بما تعملون عليم ". وهي في تنظيم الدين والتداين وفي الشهادة على الدين وفي شادات الشهود. في الرهان وهي كلها من صميم عمل قريش. ولا بد وأن يكون لقريش أحكام في تنظيم الأعمال التجارية من بيوع وشراء وعقود مشاركات وأمثال ذلك ولو مقياس يناسب تجارة مكة في ذلك العهد.

ولا أستبعد أن تكون لأهل يثرب أحكام وقوانين في تنظيم الزراعة وفي كيفية التعامل فيما بينهم وفي الربا وبينهم قوم من يهود، وقد كانوا يتاجرون ويشتغلون بالحرف وبالربا، لأن مجتمعها مجتمع منظم لا بد أن تكون له قوانين وفقه ضابط للمعاملات.

وقد ذهب المستشرق "كولدتزيهر" إلى أن الإسلام قد أقرّ بعض فقه الجاهليين وأحكامهم، مما لم يتعارض مع مبادىء الإسلام. فأخذ -على رأيه - من قوانين أهل مكة أحكامها وأخذ من فقه أهل المدينة، وهو في نظره أقل تطوراً من فقه أهل مكة، ولذلك فإن فقه أهل الحجاز كان من جملة المنابع التي عرف منها الفقه الإسلامي.

وأنا لا أتوقع احتمال عثور العلماء على شريعة أو شرائع في القانون عم تطبيقها بلاد العرب كلها، ولا أؤمل عثورهم على مدوّنة تشبه "مدونة جوستنيان" في القوانين وضعت لتطبق على كل الجاهليين، ذلك لأن ظهور قوانين عامة منظمة ومركزة ومبوبة، يستدعي وجود حكومة منظمة ذات سلطان مطاع، يشمل سلطانها كل بلاد العرب، ووجود شعب واحد يشعر بتبعيته تجاه حكومته، أو وجود شعور بخوف تجاه تلك السلطة يضطر الناس إلى العمل وفق أحكامها وما تصدره من أوامر،وذلك على نحو ما نراه في الانبراطورية الرومانية والامبراطورية البيزنطية ونحوهما. وإذ كان ما تحدثنا عنه غير موجود ولا معروف في بلاد العرب، لم تظهر قوانين عامة تشمل أحكامها كل العرب. وكل ما ظهر انما هو قوانين خاصة طبقت في حدود مناطق الدولة أو القبيلة أو القرية أو الحلف.

ولما كانت القوانين والشرائع من نبات المحيط، ومحيط جزيرة العرب محيط قبائلي مجتمعاته صغيرة متناثرة متباعدة ومشكلاته محصورة في ضمن إطار حياتهم، فإن المعضلات القانونية عندهم تكاد تكون معدودة نابعة من ظروف جزيرة العرب في الغالب، ومعالجاتها وأحكامها نابعة أيضاً من هذه الظروف نفسها، فهي وفق معيشة الجاهليين وأحوالهم الدينية والاجتماعية والاقتصادية والزراعية، ولا يمكن أن نجد فيها ما نراه في قوانين اليونان والرومان من تصنيف وتبويب وتعقيد لاختلاف الحياة وتباين المحيط ونوع الحكم.

العدل.

الغاية من وضع الأحكام وأمر المجتمع بتطبيق ما جاء فيها، هي ضبط ذلك المجتمع ومنع أفراده من تجاوز بعضهم على حقوق بعض آخر وسلبهم ما يملكون، وذلك لاشاعة "العدل" ورفع الاعتداء الذي هو "الظلم" وهو نقيض العدل. فمن أجل تحقيق "العدالة" سنت الشرائع والأحكام. والعدالة هي المساواة وعدم الانحياز.

وقد نصت شرائع الجاهليين على وجوب تحقيق العدالة بإعطاء كل ذي حق حقه وانصافه. غير ان فكرة "العدالة" تختلف بين البشر باختلاف الأوضاع والازمنة. فقد يكون حكمٌ عدلاً عند قوم، ويكون باطلاً أي ظالماً عند قوم آخرين. وقد يكون عدلاً في زمان ويكون باطلاً في زمان اخر، لان الظروف التي استوجبتا ضيار الحق حقا والعدل عدلا، تغيرت فتبدلت، فأبطلته أو صار ظلماً في نظر الناس. ومن هنا أبطل الإسلام بعض أحكام الجاهلية، وهذب بعضاً منها، وأقر بعضاً آخر، وذلك لتغير الظروف بمجيء الإسلام وتغير النظر ان أصول العدالة.

لقد صيرت المعيشة القبلية الني عاش فيها اكثر العرب في الجاهلية مفهوم "العدل" أو "الحق" عندهم بصورة تختلف عن مفهومنا نحن للحق والعدل، فالعدالة عندهم لم تكن تتحقق وتؤخذ إلا بالقوة، لذلك أثرت "القوة" تأثيراً كبيراً في تحديد مفهوم "العدل" و "الحق"، فلكي ينال الإنسان حقه كَان عليه ان يجاهد بنفسه وبذويَ قرابته وعشيرته للحصول على مما يدعيه من حق ويثبته. وهو لا يحصل عليه في الغالب إلا بتهديد ووعيد وبوساطة أو باستعمال للقوة. وضخامة البيت او العشيرة أو للقبيلة، هي من جملة مسببات الحصول على الحق بفرضه فرضاً، لذلك صارت القوة هي معيار الحق والعدل، وصار القوي المنيع هو صاحب الحق في الغالب.

ولما كان الرجل أقوى من المرأة، وقد منح نفسه حق سن الأحكام، صار الحق في الجاهلية في جانبه، فرفع نفسه عنها في أكثر الأحكام، وحرمها الميراث حتى لا يذهب الإرث الى غريب، و قايضها بديونه أو بجناية تقع منه كما في "فصل الدم" وفي زواج البدل وفي منع المرأة من الزواج إلا من قريبها لوجود حق الدم عليها " وفي منع زواج زوجات الاباء.إلا برضى ابناء الأب وذوي قرابته، لأنه أحق بالزواج منها، وغير ذلك من أمور، جعل المرأة عرضاً وملكاً، حتى حرم الإسلام كثيراً من هذه السنن الجاهلية التي لم يكن الجاهليون يرون أنها تنافي مبدأ العدالة، لأن ظروفهم الاجتماعية لم تكن توحي اليهم أن اعتبار المرأة دون الرجل في الحقوق شيئاً منافياً للحق والعدل، فقد وجدوا أن الطبيعة خلقتها دونهم في القوة، فجعلوها من ثم دونهم في الحقوق، ولم يسن امامها بالطبع غير الاستسلام.

فالحق هو القوة، والعدل هو القوة، ولن ينال امرؤ حقه إلا إذا كان مالكاً لذلك الحق وهو القوة على تحصيل الحق. وبهذا الحكم للحق، حرم المرأة من ميراثها كما ذكرت، كما حرم من هو دون سن البلوغ، ومن لا يستطيع القتال من هذا الحق أيضاً. فلم يحرم القانون الجاهلي المرأة وحدها ودون غيرها من الإرث، لمجرد انها امرأة، بل حرم الأولاد منه ايضاً ما داموا دون سن القتال. فقد وجد المشرع الجاهلي ان من الحيف اعطاء الطفل إرثاً، وهو طفل لا يستطيع الطعن بالرمح ولا الضرب بالسيف، لذلك حرمه منه ما دام طفلاً، وحرم الكبار منه ما داموا لا يستطيعون الطعن ولا الضرب بالسيف والذب عن الحق. ولا سيما عن حق الأهل والقبيلة،الذي هو الحق العام. لذلك حرم المعتوه ايضاً من حق الإرث، لأنه معتوه لا يستطيع حمل السيف والدفاع عن الحق.

ومن هذه النظرة اخذوا مبدأ تفاوت الحقوق ت بأن جعلوا تقدير الحق على اساس درجات الإنسان ومكانته، ومنزلة القبيلة ومكانتها، فدية الملك مثلا" أعلى من دية سيد القبيلة، ودية سيد القبيلة فوق ديات الآخرين، وهكذا على حسب الدرجات، ودية سيد قبيلة قوية هي أكثر من دية سيد قبيلة ضعيفة، ودية رجل من سواد قبيلة قوية هي ضعف دية رجل من درجته ومنزلته في قبيلة ضعيفة، وسبب هذا التباين في الحق هو أن مفهوم الحق عند الجاهليين كان يقوم على أساس الاعتبارين المذكورين:كمكانة المرء ودرجة القبيلة، ولا يقتصر اصل تفاوت الحق هذا على "الديات" اي على التعويض عن الضرر فقط، بل اقر التشريع الجاهلي رأَي "التفاوت في الحق" في كل الحقوق الأخرى، مثل حقوق الغنائم الني يحصل عليها المنتصرون من الغزو أو الحرب. فأعطت الملك حقوقاً خاصة في الغنائم، ووضعت لسادات القبائل أنصبة معينة فيما يقع في ايدي افراد القبيلة من غنائم، بان جعلت لهم: النشيطة وهي ما اصيب من الغنيمة قبل ان يصير الى مجتمع الحي، والصفايا وهي ما يصطفيه الرئيس، والفضول وهو ما عجز ان يقسم لقلته فيخصص بسيد القبيلة، والمرباع وهو حق سيد القبيلة في أخذ ربع الغنائم. وقد جمعت هذه الحقوق في هذا البيت: لك المرباع منا وألصـفـايا  وحكمك والنشيطة والفضول

وأعطى التشريع الجاهلي الملوك وسادات القبائل والأشراف حق "الحمى"، لا يشاركهم فيه مشارك ولا يرعاه احد غيرهم. بل يكون صاحب الحمى شريك القوم في سائر المراتع حوله.

واخذت شرائع الجاهليين بمبدأ ان الإنسان: إما حر وإما عبد اي رقيق مملوك، والرقيق هو ملك سيده، ولذلك، فإن ما يكون له أو ما يكون عليه يختلف في القوانين عما يكون للاحرار من حقوق وأحكام.

وهو مبدأ لم يكن خاصاً بالجاهليين وحدهم، ولكن كان عاماً في ذلك الزمن اخذت به جميع الأمم. وقد نُص عليه في القوانين الرومانية واليونانية وفي الشريعة اليهودية. والعبد، هو كما قلت ملك صاحبه، وهو "ملك يمين"، إلا ان يمنّ عليه بالحرية، فيكون حراً. أما إذا بقي عبداً في ملك صاحبه، فإن نسله يكونون عبيداً بالولادة ايضاً. والعبدة، ايَ المملوكة تكون ملكاً لسيدها،يتصرف بها كما يشاء. ومن حقه الاتصال بها دون حاجة إلى عقد زواج، لأنها ملك، والمالك يتصرف بملكه على نحو ما يحب.

ويعبر عن "الحر" ب "حرم" أي "حرٌ" في اللهجات العربية الجنوبية، أما الرقيق، فقد عبر عنهم ب "ادم"، أو "اوادم" بالمصعطلح العراقي، وب "عبدم"، اي "عبد". ويقال لعبدة "امت"، اي "أمة". فالأمة هي الأنثى المملوكة في تلك اللهجات.

وقد اشير إلى هذا التقسيم الطبقي في النصوص التشريعية التي اصدرها حكام العربية الجنوبية، وذلك بأن نص فيها على ان تلك الأحكام تطبق على الأحرار وعلى العبيد، أو على الأحرار دون العبيد، أو على العبيد دون الأحرار، والنص على ذلك فيها امر ضروري لتوضيح الحقوق والالتزامات بالنسبة إلى مجتمع ذلك الوقت، ولتعرف بذلك الواجبات المفروضة على كل فرد من أفراده.

والعبودية حسب القوانين وراثية، فابن العبد عبد، وابنة العبدة عبدة،وهكذا تنتقل العبودية بالوراثة في الأجيال دون انقطاع، ولن يقطعها ويقضي عليها إلا تنازل مالك العبد عن عبده وممن يتبعه من نسله تنازلاَ شرعياً بإعلان يعلن عن ذلك وبكتاب يكتب في بعض الأحيان. وسبب ذلك ان العبد ملك يمين، وملك اليمين مثل كل ملك. والملك حق مقدس للفرد لايجوز الاعتداء عليه.

والحر قد يصير عبداً، ولو ولد حر الرقبة. فإذا أفلس رجل، ولم يتمكن من الوفاء بما عليه من دين عليه تأديته لدائنيه، واذا وقع في سباء أو أسر، صار عبداً. إلا إذا قبل الدائن اعفاءه من ديونه، أو من " آسره عليه، فردّه الى اهله أو دفع فدية عن نفسه، كما سأتحدث عن ذلك فيما جد.

وأخذ التشريع الجاهلي بمبدأ ان ما يطبق على افراد القبيلة من قوانين واحكام يكون خاصاً بالقبيلة.اما مما يطبق على الأشخاص الذين يكونون من قبيلتين مختلفتين أو من قبائل عديدة فإنه يكون خاضعاً للعرف، المقرر بين القبائل، فهو قريب مما يسمى بالقوانين الدولية في الزمن الحاضر. اما القوانين التي تطبق في القبيلة، فإنها تشبه قوانين الدولة الواحدة. فالشخص إذا ما ارتكب عملاً مخالفا داخل حدود قبيلته اي مع افراد القبيلة، عومل وفق أحكام القبيلة. أما إذا ارتكبها مع شخص من قبيلة أخرى، عومل وفق العرف القبلي، لا وفق عرف القبيلة.

المسؤولية "التبعة": الأصل في المسؤولية وفي الحق هو: كل امرىء وما عمله، اي إن الفاعل الذي يقع منه فعل يكون هو المسؤول عن فعله. هذا هو الأصل في المسؤولية إلا أن التشريع الجاهلي أخذ أيضاً بمبدأ انتقال المسؤولية من الفاعل إلى ذوي قرابته الاْدنين، ثم الأبعدين، فالعشيرة أو القبيلة في حالة عدم التمكن من القصاص أي من اخذ الحق من الفاعل. وذلك بقانون العصبية. فالجماعة التي هي "القبيلة" تكون مسؤولة بعرف العصبية في النهاية عن كل عمل يقوم به احد أفرادها لارتباطها ب "العصبية" وعلى كل افرادها تحمل مسؤولية أي فرد من افرادها وضمان أداء ما يقع عليه من حق في حالة امتناعه، أو عدم تمكنه هو أو ذوي قرابته من تنفيذ أداء الحق.

فالقاتل مثلاً إذا لم يسلم للاقتصاص منه يقتله، أو لم يتمكن اهل القتيل من قتله، انتقل حق اهل القتيل إلى قتل اقرب الناس اليه ثم الأبعد وهكذا، أخذاً بثأر القتل. ويؤدي ذلك إلى التوسع في القتل في الغالب، مع عدم سقوط حق ذوي القتيل في البحث عن القاتل لقتله، لأن الأصل في كل جريمة هو الفاعل الأصل. وفي الديات، تؤخذ من اهل القاتل في الأصل، فإن لم يتمكنوا فمن ذوي قرابتهم الأدنين ثم الأقرباء الأبعدين على العصبات حتى تصل إلى حدود العشيرة أو القبيلة بقانون العصبية، فيوزع مقدار الدية على أفراد القبيلة كلٌ على حسب مركزه، وهي تعقل بذلك عن أبنائها، ويحمل أفرادها بقدر ما يطيقون. ويقال لذلك "المعاقلة".

وقد ذكر ان العقل: الدية، سميت عقلا" لأن الدية كانت عند العرب في الجاهلية إبلاً لأنها كانت أموالهم. فسميت الدية عقلاً، لأن القاتل كان يكلف ان يسوق الدية إلى فناء ورثة المقتول، فيعقلها بالعقل، ويسلمها إلى أوليائه. وقد جرت عادة الجاهليين ان اهل القرية لا يعقلون عن اهل البادية ولا اهل البادية عن اهل القرية، فكل طبقة ملزمة بالعقل عن طبقتها.

وقد ورد في نص قانوني مدون بالمسند ان الجماعة تكون مسؤولة عن أية جريمة تقع في حماها إذا لم يعرف الجاني، أو إذا لم يسلم الى الحاكم. ومعنى هذا لزوم إسهام "الجماعة" في البحث عن المجرمين للاقتصاص منهم،وإلا اعتبرت مسؤولة عن الضرر الذي وقع بفعل الجاني. فإذا وقع قتل في مكان ما ولم يعرف القاتل أو لم يسلم إلى الحاكم، أمهله اهله أربعة ايام للبحث عنه ولتسليمه، فإن لم يسلم يصادر حصاد الجماعة أو يصادر ما عندهم من مال، ويودع في خزانة الحكومة أو المعبد رهناً، إلى صدور حكم الملك أو الحاكم بالقضية.

وغاية المشرع من وضع هذا القانون هو إشراك الجماعة مع الحكومة في تعقب المجرمين والقبض عليهم، ثم التعويض على أهل القتيل بدفع الدية، اي ثمن الضرر الذي لحق بهم في حالة عدم التمكن من الوصول إلى القاتل لأخذ حق الدم منه.

وتكون الطوائف مسؤولة كذلك عما يلحق أفرادها من أضرار، فإذا مات شخص في اثناء قيامه بعمل كلف إياه أو اصيب بضرر في اثناء أدائه ذلك العمل، وكان ذلك الرجل معدماً، فعلى طائفته دفع تعويض عما أصابه يوضع في خزانة المعبد.

سقوط المسؤولية

ولا تسقط مسؤولية الأهل عن جرائم ابنائهم، ولا مسؤولية القبيلة عن افعال افرادها إلا إذا اسقطت "العصبية" عنهم. على أن يعلن عن إسقاطها في الأماكن العامة وبصورة صحيحة شرعية. ليكون ذلك معروفاً بين الناس. وإلا بقيت المسؤولية قائمة في رقبة من تقع عليهم. ومتى "خلع" الخليع واشهد الشهود على خلعه صار أقرباؤه واهل قبيلته في حل منه.، ليس لهم تلبية ندائه واستغاثته وإلا تحملوا وزره من جديد.

ومتى خلع الإنسان سقطت عندئذ مسؤوليات عمله عن اهله واقربائه، وحصرت به وحده. وعليه ان يحمي نفسه بنفسه، وان يدافع عن جرائره بيده. ويقال لهذا الإنسان "الخليع". فإذا قتل لا يسأل اي احد من قومه عن عمله. وإذا قُتِلَ ذهب دمه هدراً. ولهذا قاسى الخليع حياة قاسية شديدة تنتهي بهلاكه في الغالب نتيجة خروجه على أنظمة قومه وقوانينهم. اللهم إلاّ إذا تاب ورجع عن غيهّ ووجد من يؤويه ويحميه. من اهله أو غيرهم،يحتمل ما قد يقع في المستقبل منه، ويدفع فداء ما وقع منه واصلاح ما احدثه من أضرار.

وإذا وجد "الخليع" من يكفله وينعم عليه بحق الجوار انتقلت مسؤولية عمله إلى منَْ منَ عليه بجواره، وعلى المجير عندئذ تحمل كل تبعة تصدر من ذلك الخليع، ما دام يتحمل حق الدفاع عنه وحمايته.

إزالة الضرر

إزالة الضرر، حق عام من حقول الحقوق في القانون يشمل إزالة كل ضرر يلحق بشخص من تعدّ يقع على ملكه أو ظلم يلحق به، أو من اعتداء حيوان يصير عليه أو على ملكه. إلى غير ذلك من أضرار متعمدة أو غير متعمدة تلحق بمضرور. وقد قررت سنة الجاهليين إزالة الضرر وتعويض المتضرر. كما قررت ذلك كل القوانين والأديان للشعوب الأخرى. لأن الضرر ظلم، والظلم يجب أن يزال.

والضرر المتعمد، هو الضرر الذي يقع من شخص مسؤول عن تصرفاته، اي من انسان عاقل مالك لزمام نفسه، تعمّد إلحاق ضرر بشخص آخر، أما الضرر الغير المتعمد فهو الضرر الذي يقع من مثل هذا الشخص من دون تعمد ولا قصد أو غاية. فضرره أخف من الضرر الأول، لأن عنصر الجريمة غير موجودة فيه. ويدخل في الضرر العمد، كل ضرر يأمر به انسان حر أتباعه من امثال النساء والأطفال والرقيق والحيوان إلحاقه عمداً بشخص آخر، فعنصر الجريمة متوفر في أفعال هؤلاء. ولما كان هؤلاء تبع، فتقع مسؤولية فعلهم على سيدهم بالدرجة الأولى، لأنه هو المسؤول شرعاً عنهم، بحكم ولايته لهم، وتبعيتهم له.

كما يكون مسؤولاً أيضا عن كل ضرر يقع عنهم من غير عمد للسبب المذكور. ولا تسقط العقوبة عن التبع ايضاً. فقد فرضت شرائع الجاهليين عقوبات على التبع لما يقع منه من ضرر متعمدا اوعن خطأ.

ومن قبيل الضرر الخطأ، إهمال السيطرة على الماء كإغفال أمر السدود، فإذا سال الماء إلى أرض أخرى فألحق ضرراً بها وجب على صاحبه دفع تعويض عن الضرر الذي ألحقه الماء بالمالك صاحب الأرض المتضررة. ومن هذا القبيل أيضاً سقوط بناء أو حائط على شخص، وسقوط عامل يشتغل أجيراً لصاحب بناء، فيجب في مثل هذه الأحوال إزالة الأضرار الني تقع بدفع تعويض لمن وقع الضرر عليه أو لمن يعيله أو يرثه في حالة الوفاة. ويزال الضرر الذي قد يقع في البيوع وفي الشراء بسبب غش وخداع أو مخالفة لوصف. فإذا باع بائع شيئاً ثم تبين أن في المباع عيباً لم ينبه البائع المشتري عليه ولم يخبره به مع علمه به، فمن حق المشتري ارجاع المباع إن أراد، لوجود ذلك العيب فيه، وللمشتري حق المطالبة بإزالة الضرر عنه بتعويضه عن ضرره إن شاء ذلك. ومن هذا القبيل إزالة الضرر عن الجار إذا وقع تعدّ عليه بالتجاوز على أرضه أو بإيذائه أو بالانتفاع بملكه بصورة تؤذي ملك جاره أو تقلق راحته. فيجب في مثل هذه الأحوال إزالة الضرر وتعويضه عن الخسائر التي نجمت عنه.

الولاية -

والولي هو من يتولى أمر غيره، ويكون ولياً شرعياً عليه. فالأب هو ولي أمر أبنائه، لأنه هو المسؤول الطبيعي عنهم. والجدّ هو ولي أمر أحفاده في حالة وفاة ابنه أو غيابه والأعمام أولياء أمور أولاد الاخوة في حالة غيابهم أو وفاتهم، والأخ الأكبر البالغ هو ولي أمر أخوته القصر. وهكذا حسب العصبات.

وتعلم الولاية للولي حق الاشراف على شؤون المولى عليهم. وللاب حق مطلق في الولاية على أبنائه. له أن يتصرف بهم كيف يشاء. حتى في حق الحياة، فيقدم ابنه قرباناً للالهة إن نذر ذلك. والوأد مثل على ذلك. وكان من حق الأب رهن أولاده في مقابل دين له أو تنفيذ عهد عليه. ومن حقه تأديب أولاده على النحو الذي يريده. ويدخل في ضمن ذلك الضرب والطرد والخلع والحرمان من الإرث، وحق اختيار الزوج للبنت وأخذ مهر ابنته. وتلك حقوق أقرتها شرائع أكثر الأمم في ذلك العهد.

الملك والملك حق مقدس. معترف به في الجاهلية. فمن يملك شيئاً، امتنع على غيره التصرف به، إلا باذن من مالكه وبتخويل منه، وإلا عدّ المتجاوز مغتصباً أو سارقاً. ويعبر عن الملك والتملك بلفظة "قن" و "قنى" في العربية الجنوبية. وتؤدي لفظة "هقنى" و "سقنى" معنى "قنى" في عربيتنا، أي فعل ماض يؤدي معنى "امتلك". وأما "اقتنى"، فتعني الأملاك، وتعني لفظة "قنيت"، المقتنيات وألأملاك في كتابات الصفويين. وقدُ عبر بها عن معنى "رقيق" أي عبد، وذلك لأن العبد هو في حكم ملك يمين. وهناك لفظة أخرى في هذا المعنى أيضاً، وهي لفظة "عسى"، فهي تعني امتلك وملك و اقتنى.

واذا اشترى أحدهم ملكاً: أرضاً أو عقاراً أشار اليه وأعلن عنه وعن حدوده وعن أوصافه. وقد وصلت الينا كتابات عربية جنوبية عديدة هي عبارة عن وثائق تملك، أي "سندات تملك" "سندات طابو" في اصطلاح أهل العراق في الزمن الحاضر، حددت وأشارت إلى معالمه ومحتوياته بدقة. وقد استعملت بعض الألفاظ الدالة على الإعلان والإخبار للناس ليقفوا على ذلك، مثل لفظة "علم" ومعناها "أعلم" و "أعلن"، ليكون ذلك مفهوماً، فلا يعذر من يريد التطاول على الملك، ولا يحتج بأنه لا يعلم عن مخالفته، لما جاء في الوثيقة المكتوبة التي توضع في محل بارز وفي واجهة الملك ليقرأها المارة.

ويعبر في بعض اللهجات العربية الجنوبية عن الأرض المستغلة للزراعة بلفظة "أرضت"، أي "أرض"، وبلفظة أخرى هي: "صربت" وذلك في اللهجة القتبانية، والجمع "صروب"، وتؤدي معنى أرض زراعية مملوكة.

والأموال هي ملك لصاحبها، وتقسم إلى اْموال منقولة، وهي التي يمكن نقلها بتنقل الملك من صاحب المال، وأموال غير منقولة، وهي الأموال الثابتة. وهي مثل الأرض والدور وغير ذلك. وأما الأموال المنقولة، فمثل الإبل والخيل والمواشي والثياب وأدوات البيت. والغالب في المال عند الأعراب هو الإبل، ولذلك نجد أن تعاملهم كان بها. واذا ذكر المال، انصرف الذهن إلى الإبل، لأنها أعز ما يملكون. ولهذا قيم بها القيم، وعليها وضعت مقادير الديات والأفدية و المهور.

ولدينا اليوم نصوص تتعلق بتملك الأرض وبكيفية توزيعها وايجارها واستثمارها، وأوامر ملكية في تأييد وتثبيت قوانين سابقة بخصوص حقوق التملك، ومعنى ذلك اقرارها على ما كانت عليه. وهي تفيدنا - على قلتها - فائدة كبيرة في تكوين رأي عن حقوق الملك والتملك عند العرب الجنوبيين.

وكل إنسان حرّ عاقل، هو إنسان مالك لنفسه حرّ في تصرفه وفي ألتصرف في ماله، ولكنه معرض إلى فقدان حريته في الوقت نفسه،بموجب سلطان القانون. فالقانون الذي قدس الحرية الشخصية وحق الملكية وفي مقدمتها حق أن كل انسان حرّ، هو إنسان حرّ، أجاز في الوقت نفسه حق سلب هذا الحق وإبطاله، وتحويل الإنسان من إنسان حر، إلى إنسان مملوك، أي رقيق. فإذا وقع إنسان حرّ في سبي إنسان آخر، صار ملكاً لمن سباه، وعلى المسبي ارضاء سابيه للمنّ عليه بفك أسره ومنحه الحرية. وذلك إما بالمنّ عليه منّاً دون مقابل وثمن، واما بشراء نفسه بفداء يقدمه الى سابيه يرضيه ويطمعه حتى يفك أسره، وإلا صار في ملكه وفي عداد مواليه، إلا إذا هرب، وفلت من تعقب آسره له، وتمكن من الوصول إلى وطنه. فيكون حراً اذ ذاك. ولأسر الأسير بالطبع حق بيعه وحق استخدامه، لأنه انسان رقيق. وقد أجاز ذلك القانون بيع المدين أيضا إذا لم يتمكن المدين من الوفاء بدينه، كما أجاز له حق بيع نفسه أو بيع من هم في رعايته وتربيته متىْ شاء. ومتى بيع الشخص فقد حريته،وصار في عداد الرقيق.

الملك ملك الآلهة

والملك ملك الآلهة وكل شيء على هذه الأرض، من مال وعقار هو ملك للالهة. للانسان حق الانتفاع به وانمائه لخيره في مقابل شكره لها وتأدية الفرائض التي فرضتها الآلهة عليه. ومنها دفع ضريبة حق الانتفاع عن هذا التملك إلى الجهات المسؤولة عن رعاية حقوق الآلهة، وهي المعابد ومن يتكلم باسمها وهم رجال الدين. وهذه النظرة إلى الملك التي نجدها عند العرب الجنوبيين، قريبة جداً من النظرة الإسلامية التي تلخص في ان المال مال الله، وان الملك ملك الله، وان الأرض ومن عليها أرض الله وان الناس عبيده.

أما ملك الإنسان فهو بتفويض من الآلهة وبتخويل شرعي منها. وذلك بالحق الشرعي الذي أمرت به. وبحق الانتقال الشرعي الذي أمرت الالهة به، بالإرث أو بالشراء أو بتنازل جهة مخولة شرعية عن حقها في ملكَية ذلك الشيء اليه، وبما أشبه ذلك. فالملك عندئذ يكون ملكه، وهو حق مقدس له، لايجوز لأحد منازعته عليه ومطالبته به بغير حق ولا وجه شرعي. هو في ملكه وفي حيازته وله حق الانتفاع به. وتؤدي لفظة "جول" معنى ملك وتملك وحيازة وحق الانتفاع المطلق بالملك. فالملك هو ملك الإنسان من حيث الحيازة والتصرف والحق، أي من الناحية العملية، ولكنه ملك الآلهة، مالكة كل لشيء من حيث الوجهة النظرية و الأصل.

والملك حق مقدس أبدي، لا ينتقل من مالكه إلى غيره إلا بطرق شرعية وموافقة واختيار مثل بيعه أو اهدائه أو التنازل عنه ومما شابه ذلك، وهو ينتقل بطريق الإرث الشرعي إلى الورثة. لأن الآلهة أمرت بألإرث، وجعلت حماية حق الملك في رعايتها وحماها. ومن هذا القبيل ملكية المقابر. حيث يعدّ القبر ملكاً خاصاً بصاحبه وبمن أمر ونص على دفنه معه وهو في حياته فلا يجوز تغيير ملكيته ولا دفن أي غريب فيه ما لم يأذن أحد من المالكين بدفنه فيه. ولهذا وضعت تحت حماية الآلهة، وطلب منها أن تنزل العمى والعور والمرض وكل أنواع الأذى ممن يتطاول على حرمة المقابر،فيقبر غريباً فيها أو يغير من معالمها أو يزيل شاخص القبر المثبت فوق القبور. فالقبر أرض وقف حبست على أصحابه الشرعيين. وكما أن للوقف حرمة في الإسلام، فلا يجوز التطاول عليه، كذلك هو شأن القبرعند الرب الجاهلين من جنوبيين ومن نبط و صفويين ومن قوم ثمود ولحيانيين وغيرهم، لا يجوز مسه بأي سوء ولا أحداث أي تغيير في معالمه ولا أزالته لأنه ملك حبس على من أقامه وبناه واشترى أرضه أو أقامه في ملكه.

الحكَام: ويعرف من يحكم بين الناس فيما يشجر بينهم من خلاف وخصومة ب "الحَكَم" و ب "الحاكم"، لأنه يحكم بالشيء، أي يقضي بأنه كذا، سواء ألزم أحداً به، أو لم يلزمه. والجمع "حكَام". وما يصدره الحاكم من رأيّ وقرار هو "حُكمْ"، لأنه يقضي بشيء على شيء. والمتنازعون "يحكَمون" الحاكم، ليحكم بينهم. فهو "محكم" والجمع "محكمون" وإذا عرضت قضية على حاكم، فإنه "يحكم" فيها بما يراه. وإذا فرغ من النظر فيها وعمل رأيه، أصدر "حكمه" فيها.

وقد جاء في القرآن الكريم في موضوع التحكيم وحدوث الشقاق: "وان خفتم شقاق بينهما، فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلهما إن يريدا اصلاحاً يوفق الله بينهما ". والعادة عند الجاهلية وفي العرف القبلي حتى اليوم، انتخاب كل طرف من الطرفين المتخاصمين "حكماً" أو "جملة محكمين" يرضى الطرفان عنهم ويثقان بنزاهتهم وبعدلهم وبعدم انحيازهم إلى أحد الطرفين، فتعرض عليهم،القضية للفصل فيها. ويقال لذلك "التحكيم"، ولمن ينظرون فيه "المحكمون"، وتقابل كلمة "حكم" لفظة Arbitrator في الانكليزية.

وقد نعت اللّه ب "خير الحاكمين" و ب "أحكم الحاكمين" في القرآن. ورأى بعض العلماء وجود فرق بين "حكم" و "حاكم". فقال: "ويقال حاكم وحكام لمن يحكم بين الناس ". قال الله تعالى: " وتدلوا بها إلى الحكام" والحكم المتخصص بذلك، فهو أبلغ. قال الله تعالى: " أ فغير الله ابتغى حكماّ "، وقال عزّ وجلّ: "فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها". وإنما قال حكماً ولم يقل حاكماً تنبيهاً أن من شرط الحكمين أن يتوليا الحكم عليهم ولهم بحسب ما يستصوبانه من غير مراجعة لهم في تفضيل ذلك .

ومنهم من جعل "الحكم" الشخص الذي ينظر في العرف،و "الحاكم" الشخص الذي ينظر في القوانين، أي في مقابل "A just Ruler" في الانكليزية، ولكن هذا المفهوم متأخر، وليس من المؤكد إذا كان الجاهليون قد فرقوا بين الشخصين..

ويذكر علماء اللغة ان الحاكم انما سمي حاكماً، لأنه يحكم بين الناس ويمنع الظالم من الظلم. وأصل الحكومة رد الرجل عن الظلم. والحكم القضاء بالعدل. وفي هذا المعنى قال النابغة: واحكم كحكم فتاةِ الحي إذ نظرت  إلى حمام سراع وارد الثـمـدِ

والمحاكمة المخاصمة إلى الحاكم. والحكمة: القضاة، لأنهم يقضون بين الناس ويفصلون في الأمر، ولذلك يقال: قضى الحاكم بكذا، أو قضى القاضي بكذا. وقد ورد: "القضاء عسر" في معنى الحكم. وقد استعملت لفظة "القضاء" في الإسلام في معنى "الحكم" بين الناس، واستعملت كلمة "القاضي" في مكان "الحاكم"، إذا أخذت "الحاكم" معنى خاصاً في الإسلام. وليست لدينا فكرة واضحة عن مدى استعمال لفظتي "القضاء" و "القاضي" في الناحية الفقهية عند الجاهليين. غير اننا نجد في القرآن للكريم: "فاقض ما أنت قاضٍ"، كما نجد أهل الأخبار يذكرون ان "عامر بن الظرَِب العدَواني" اشتهر بين الجاهليين ب "حاكم العرب" وب " قاضي العرب ". واذا صح ان الجاهليين أطلقوا حقاً عليه اللقب الثاني، فتكون كلمة "قاضي" في معنى "حاكم" عندهم، و انها كانت مستعملة عندهم بهذا المعنى.

ورب العائلة وسيدها هو القاضي بينها والحاكم الذي له حق الحكم فيما يقع بين أفراد العائلة التابعين له من خلاف. فإذا وقع خلاف بين عائلة ما،هرع المتخاصمون إلى وجيههم وسيدهم المطاع فيهم، يعرضون عليه ما وقع بينهم، ويرجون منه ان يكون حكماً بينهم، يحسم ما حدث. وبعد أن يستمع إلى حجج الطرفين ويسمع بنفسه ما قد يقوله الناس في الموضوع، يكوّن رأيه، ويصدر حكمه. في الموضوع. وعلى المتخاصمن إطاعة قراره، لأن الخروج عليه وعدم الامتثال له، معناه إهانته والغض من شأنه، ولهذا فهو لن يسكت عن ذلك، ولن يرض أتباعه ومن أقر له بالرئاسة والزعامة بوقوع مثل هذه الإهانة.

و اذا وقع خلاف بين عوائل من عشيرة واحدة أو من قبيلة واحدة، اجتمع وجوه هذه العوائل لحله ولإصدار حكمهم بشأنه. وقد يتفقون على تعيين حكم غريب محايد لا صلة له بالطرفين المتخاصمين، وذلك فيما إذا كان الخلاف حاداً أو كان مما يتناول أًموراً تلعب العواطف والعوامل النفسية دوراً بحلها. وينطبق ذلك على الخصومات التي تقع بين القبائل القريبة أو البعيدة، حيث يترك أمر النظر في الخصومات إلى المحكمين المختارين من الأطراف المتنازعة نفسها، أو من فريق محايد آخر لا علاقة له " ولا صلة بذلك الخلاف. ويكون اختيار المحكمين بموافقة الفريقين المتنازعين عليهم وبرضاء تام منهم به وبحكمه. فإذا وافق الطرفان المتخاصمان على اختيار الحاكم أو المحكم ورافق الحاكم أو المحكمون على النظر في الدعوى، عينوا موضعاً ووقتاً للنظر في القضية ولسماع البينات، ثم لإصدار الحكم بعد الوقوف على حجج الخصماء.

وقد أسهم "الكهان" وهم رجال الدين عند الجاهليين في تطوير التشريع الجاهلي وفي القضاء بين الناس، فقد كانوا حكاماً يحكمون ويقضون فيما يقع بين الناس من خصامات. وقد ساعدت منازلهم ولا شك في القضاء، نظراً لسمو مننزلتهم، ولكونهم ألسنة الآلهة على اللأرض. وقد كان سلطانهم بن أهل القرى أوسع وأقوى منه بين أهل الوبر. ولا يستبعد لذلك أن يكون حكمهم بين أهل الحضر أ كَثر وأقوى من حكمهم بين أهل البادية، ففي البادية كان الحكم في أيدي سادات القبائل وأشرافها في الغالب، ولما كانت المعابد هي مواضع تجمع الكهان وممارستهم أعمالهم فأن من الجائز لنا ان نعدّ تْلك المعابد محاكم من محاكم الجاهليين إذ ذاك.

وتذكر كتب أهل الأخبار أن أحكام بعض هؤلاء الحكام خلدت بين الناس وصارت متبعة عندهم،كالقوانين، وأن قومهم ساروا عليها إلى أن جاء الإسلام. وذلك يدل على مكانة الحَكَم في نفوس الجاهليين ومدى احترامهم له، وأنّ الحكام كانوا عند الجاهليين بمثابة سلطة تشريعية تضع للناس الأحكام والقوانين وقد ذكرت أمثلة من بعض تلك الأحكام التي صارت قانوناً للناس ساروا عليه. ونحن نأسف على أنها لم تأت بأمثلة كثيرة منها تقفنا على نواحي التشربع ومنطقه وفلسفته عند الجاهليين.

ولم يقتصر حكم هؤلاء وغيرهم على الفصل في الخصومات والمنازعات بسبب حوادث قتل أو سلب ونهب واعتداء على عرض أو سرقة أو ما شابه ذلك، بل شمل حكم التحكيم في أمور أخرى مهمة كان خطرها في ذلك العهد أعظم وأشد من خطر هذه الأمور المذكورة، مثل الحكم في التفاخر بالأنساب والاياء والأجداد والحكم في شعر الشعراء، وفي الآعتداء على الجوار والمنافرات، و أمثال ذلك من قضايا كان لها وزن كبير في المجتمع.

ومن أشهر المنافرات التي ذكرها أهل الأخبار، المنافرة المعروفة:- "منافرة عامر بن الطفيل مع علقمة بن علاثة" عند هرم بن قطبة بن سنان الفزاري، ومنافرة بني هلال وبني فزارة، ومنافرة الفقعسي وضمرة، ومنافرة جرير البجلي وخالد بن أرطاة الكلبي، وغيرها. وقد أثارت بعض المنافرات حروباً بين المتنافرين كما كان بين الحكّام أناس عقلاء تمكنوا بحكمتهم وبعقولهم من تهدئة الحال واحلال السلم بين المتخاصمين.

ولم يفرق الجاهليون بين الرجل والمرأة في الاحتكام، بل كانوا يحتكمون إلى المرأة أيضا. يقبلون حكمها قبولهم لحكم الحكم الرجل. وقد ذكرت كتب الأخبار أسماء بعض حكيمات العرب مثل: ابنة الخس، وجمعة بنت حابس الإيادي، وصحر بنت لقمان،وخصيلة بنت عامر بن الظرب العدواني، وحذام بنت الريان.

وفي كتب أهل الأخبار أقوال منسوبة الى هؤلاء، مسجعة على طريقة سجع الكهان ذكر ان أكثرها صارت مثلاً " ولا يزال بعضها حيا، وبعضه ه من نوع الكلام المروي عن الحكماء. وهو يمثل الحكمة وتجارب الحياة في بساطة وبأسلوب يلائم الطبيعة السهلة التي عاش فيها الناس في ذلك العهد وفي ظروف في مثل ظروف جزيرة العرب.

قرع العصا

ونجد في كتب أهل الأخبار خبراً طريفاً رووه بمناسبة كلامهم عن "عامر بن الظرب العدواني" وعن "عمرو بن حممة الدوسي"، فقالوا عن كل واحد منهما: "وضربت به العرب المثل في قرع العصا"، وقالوا أيضاً: وهو "أول من قرعت له العصا". وحاولوا ايجاد تفسير لذلك، فقالوا: وانما قالت العرب ذلك، لأن كل واحد منهما كبر في السن وصار يذهل، فاتخذ له من يوقظه فيقرع العصا، فيرجع اليه فهمه. وهو تفسير مقبول عند أهل الأخبار معقول في نطرهم، لكنه في الواقع من هذه التفسيرات المألوفة الني يكثر ورودها عن أهل الأخبار، حين يسألهم سائل عن اسم قديم أو خبر قديم، فيصنعون له هذه ا لمصنوعات.

والذي أراه ان هذه الأشعار التي أشارت إلى "قرع العصا" إن صح انها من نظم اولئك الجاهليين، انما تشير إلى عادة كانت عند سادات القبائل والملوك والحكام من حمل "الصولجان"، والعصي دلالة على الحكم والسيادة.فالعصي تشير إلى الحكم والتأديب وكان الحكام يحملونها أو يحملها مساعدوهم عند قيامهم بالحكم بين الناس إشارة إلى سلطة الحاكم. فكان الحاكم إذا أراد اصدار حكمه أو ردع من يتطاول بالكلام في حضرة الحاكم أو يحدث ضوضاء وجلبة أثناء المحاكمة يقرع بعصاه الأرض أو أي شيء آخر، أو يأمر تابعه بقرع العصا، كما يفعل حكام هذا اليوم إذ يقرعون كرسي القضاء بمقرعة حين يريدون تنبيه الحضور إلى أمر مهم، أو إسكات المتكلمين المتطاولين أو من يعبث بنظام المحكمة، فينبه إلى مخالفته هذه بقرع المقرعة مثلما كان يفعل حكام الجاهلية من قرعهم الأرض أو أي شيء آخر بالعصا.

ملابس الحكام

ونحن لا نستطيع في الوقت الحاضر أن نتحدث عن لباس حكام العرب أثناء حكمهم بين المتخاصمين، لأن مواردنا ضنينة جداً بأخبارها في هذا الباب. ولأننا لا نملك نصوصاً جاهلية فيها أخبار عن اداب وطريقة لبس الحكام او رسوم ومحور الحكّام، حتى نستنبط منها صورة عن ملابسهم وعن كيفية جلوسهم عند، الحكم بين الناس. غير أن في بطون كتب أهل الأخبار بعض إشارات تفيد أن الحكام كانوا لا يفارقون الوبر، وذلك جرياً على عادة العرب في أن يتخذوا لكل حالة لبوسها، وفي أن يتخذ السادات و اليارزون في المجتمع لهم ألبسة تميزهم عن سواد الناس.

و" العدل" من أول الصفات الني يجب أن تتوفر في "الحاكم". وقد ورد في القرآن الكربم: )وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل(. وأشير إلى لزومه ولزوم العدالة في مواضع عديدة أخرى. وكذلك كان شأن الجاهليين في لزوم توفر العدل عند الحكام حتى يصلح للحكم وفي مراعاة العدالة عون اصدار الأحكام. ووردت في القران الكريم لفظة "اقسطوا" بمعنى اعدلوا، وقيل: "القسط" هو النصيب بالعدل كالنصف والنصفة، و "القسطاس" الميزان، ويعبر به عن العدالة كما يعبر عنها بالميزان. )وزنوا بالقسطاس المستقيم(.

إنصاف المظلوم

وفد كان في جملة العوامل التي حملت أهل مكة أو "قصي" كما يقول أهل الأخبار على تأسيس "دار الندوة"، النظر في الخصومات والبت فيها، وإنصاف المظلومين الذين لا نصير لهم ولا شفيع من ظلم المتنفذين الظالمين، أي أنها كانت بمثابة محكمة تقضي بين الناس، وتلزم الظالمين والمعتدين والمخالفين والخارجين على النظام العام بإطاعة المجتمع وعدم الخروج عليه، كما كانت دار تشريع وسن قوانين. ومعنى هذا أن أهل مكة، وهم حضر مستقرون شعروا بالحاجة إلى وجود قوانين وأنظمة ومحكمة دائمة لتفصل في الخصومات، وتنصف الناس، وتقر العدل والأمن والطمأنينة بينهم وقد وجدوا أن هذه الحاجة لا تتم ولا تنهض إلا بتثبيت العرف والعادة واختيار محل يجتمع فيه فقهاء هذا العرف و عرافه، للفصل فيما بين الناس على وفقه، و الاجتهاد في سن القوانين تحفظ العدل بين الناس، وتأخذ بحقوق الضعفاء من الأقوياء.

وما حلف الفضول الذي عقد في دار ثري مكة و وجيهها "عبداللّه بن جدعان" لنصرة المظلوم ومساعدته على الأخذ بحقه، واتخاذ قرار فيه بإجماع الرؤساء لا ليكونن مع المظلوم حتى بؤدى اليه حقه ما بل بحر صوفة، وفي التأسي في المعاش له، إلا تعبير واضح، وحركة اصلاحية، وتعبير عملي عن شعور المدينة. وجوب تحقيق العدل و انصاف الضعفاء المظلومين والأخذ بمبدأ العدالة في المجتمع. وهو من أخطر المبادىء ولا شك ومن أهم الأعمال التي كانت في مكة في هذا العهد. وقد أثر هذا الحلف في الرسول أثراً كبيراً? علىَ حداثة سنه، وكان كلما تذكره يعدّ ه من أهم الأحداث والأعمال في تلك الأيام، وقد عاشت روح الحلف وظهرت في مبدأ تحقيق العدالة في الإسلام.

إن هذا الشعور بوجوب تحقيق العدالة ونشرها، هو دلبل عن دافع نشأ عند أهل مكة بوجوب تأسيس ادارة مدنية، وحكومة تنظم شؤون المدينة وتديرها بأسلوب مدني استشاري يشترك فيه رؤساء مكة وملؤها. محل في محل الفوضى التي عمت المدينة من استغلال كل قوي لنفوذه للحكم والتحكم في الناس كيف يشاء. وقد ذكر بعض أهل الأخبار ان الذي حمل أهل مكة على التحالف في دار "عبد اللّه بنُ جدعان"، أن قريشاً "في الجاهلية حين كثر فيهم الزعماء وانتشرت فيهم الرياسة وشاهدوا من التغالب والتجاذب ما لم يكفهم عنه سلطان، عقدوا حلفاً على رد المظالم وإنصاف المظلوم من الظالم". وكان سببه "ان رجلا من اليمن من بني زبيد قدم مكة معتمراً ببضاعة، فاشتراها منه رجل من بني سهم، وقبل انه العاص بن وائل فلوى الرجل بحقه، فسأله ماله أو متاعه، فامتنع عليه فقام على الحجر وأنشد بأعلى صوته: يالَ قصي لمظلوم بضاعـتـه  ببطن مكة نائي الدار والنـفـر

واشعث محرم لم تقض حرمته  بين المقام وبين الحجر و الحَجر

أقائم من بي سهم بـذمـتـهـم  أو ذاهب في ضلالٍَ مال معتمر

ثم قيس بن في شيبة السلمي باع متاعا على أَبيّ بن خلف فلواه وذهب بحقه، فاستجار برجل من بني جمح فلم يجره، فقال قيس: يالَ قصي كيف هذا في الحرم  وحرمة البيت وأحلاف الكرم

أظلم لا يمنع عني من ظلم فقام أبو سفيان و العباس بن عبد المطلب فردّا عليه ماله، واجتمعت بطون قريش، فتحالفوا في دار عبد الله بن جدعان على رد المظالم بمكة وان لا يظلم أحد إلا منعوه وأخذوا للمظلوم حقه.

وهكذا نجد ان الاستغاثة بالأسر وبذوي الجاه والنفوذ، من جملة العوامل التي تعيد الحق إلى من أخذ منه وتنصف المظلوم. وقد كان من العار على شخص يستنجد بهم أو بسيد من ساداتهم، ثم لا يغاث، لأن "المروءة" وهي من دين الجاهلية تقضي على الرجل الحر، إجابة اغاثة المظلوم ونصرته بالأخذ بحقه. حتى إذا لم يكن من قبيلة ذلك الرجل. ومن صرخ باسمه في ناد أو في محل عام، استغاثة واستنجاداً، تم لا يجيب نداء الصارخ، يكون قد قام في نظر قومه بعمل قبيح يجعله سبة للناس ومعرة، لذلك كان لا بد لمن يستغاث به من إجابة طلب المستغيث.

حكام العرب

ولكل قبيلة حكّام يتحاكمون اليهم. ولأهل القرى والريف حكامهم أيضاً، وهم من شعاب القرية، أي أحيائها. فإذا تخاصم أهل الشعب، تدخل حكامهم، أو حكام شعاب القرية الأخرى للفصل في الخصومة ولفض النزاع. ووجهاء للشعاب هم نواب الشعاب وألسنتها الناطقة والمحامون عن الناس. وهم الذين ينظرون في الخصومات بناء على طلب المتخاصمين، وبفضل تدخلهم هذا تفض المنازعات وتؤخذ الحقوق ويصان العدل والأمن. وقد تعرض "اليعقوبي" لموضوع "حكام العرب"، فقال: وكان للعرب حكام ترجع اليها في أمورها وتتحاكم في منافراتها ومواريثها ومياهها ودمائها. لأنه لم يكن دين يرجع إلى شرائعه،فيحكمون أهل الشرف والصدق والأمانة والرئاسة والمجد والتجربة.

من أهم الشروط التي يجب أن تتوفر في الحاكم: العدل، لأن الحاكم إذا لم يحكم بالعدل صار جائراً وصار حكمه حكماً ظالماً، فيخرج بذلك عن جادة العدالة. ولهذا عرف بعض العلماء "الحكم" ب "القضاء بالعدل"، فأخرجوا الحكم الجائر من مفهوم الحكم.

وربط أهل الأخبار "الحكم" ب "الحكمة"، وجعلوا بينهما سبباً ونسباً. وقالوا: "الحكمة: العدل في القضاء كالحكم. والحكمة: العلم بحقائق الأشياء على ما هي عليه والعمل بمقتضاها. وجعلوا "الحكام" "حكماء"، لهم أقوالّ وأمثلة في الحكم وفي تهذيب النفس والعقل، حتى انهم إذا ذكروا الحكام. تصدوا بهم حكماء العرب في الجاهلية، و اذا تحدثوا عن االحكماء، عنوا من اشتهر وعرف وورد اسمه الينا من حكام الجاهلية. وذلك لأنهم ربطوا بين الحكم والحكمة. ورأوا في الحاكم الرجل العادل البصير الحكيم الذي ينفذ الى أسرار الأمور ويعمل بحقائق الأشياء، فحكمه حكمة، وقوله مثلٌ يعمل به، لما فيه من عمق وتبصر ونفاذ إلى داخل الأشياء، لأنه صار عن حكيم حليم راجح العقل، عقله فوق مستوى العقول. فهو حاكم وحكيم: "فيلسوف" "يفلسف" المعضل المشكل، والأمر المتنازع عليه المشبه فيه، ويستنبط من كل ذلك نتائج منطقية تكوّن رأيه في الأمور وحكَمه وحكمته، حفظ يعضها أهلها الأخبار فدوّنوها في كتبهم، وبفضل تدوينهم هذا وقفا على هذه الأحكام.

ونجد في العربية جملة تؤدي معنى الحكم بين الناس، هي جملة: "القضاء بين الناس". فالقضاء بين الناس، هو الحكم بينهم، ويقال لمن يقضي بينهم: "القاضي". والقاضي هو القاطع للامور المحكم لها، وهو الحاكم. و "القضاء" "الحكم". و "قضاة العرب" هم "حكام العرب " على هذا التفسير.

وقد أقرّ الإسلام بعض الأحكام الجاهلية، وهذّب بعضاً آخر، ونسخ بعضا وحرمه ويقيدنا هذا الإقرار أو التهذيب أو التحريم والمنع في الوقوف على النواحي القانونية عند الجاهليين، ومعرفة معاملاتهم. ومن هذه الأمور المذكورة ما يدخل ا في باب العقوبات والجزاء، ومنها ما يقع في المعاملات المدنية بين الناس، كما تفيدنا المصطلحات الفقهية القديمة كثراً في تكوين رأي في أصول التشريع عند الجاهليين.

أقدم حكام العرب

وقد جعل "اليعقوبي" "الأفعى الجرهمي"، أقدم حاكم حكم بين العرب وقضىبينهم. فقال: " وكان أول من استقضي اليه فحكم، الأفعى بن الأفعى الجرهمي. وهو الذي حكم بين بني نزار في ميراثهم،. وهو كذلك من أقدم حكام العرب في أغلب روايات أهل الأخبار. وذكر "اليعقوبي" بعده: "سليمان بن نوفل، ثم معاوية بن عروة، ثم صخر بن يعمر بن نفاثة بن عدي ابن الدئل، ثم الشدّاخ وهو يعر بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، وسويد بن ربيعة بن حذار بن مرّة بن الحارث ابن سعد ومخاشن بن معاوية بن شريف بن جروة بن أسيد بن عمرو بن تميم، وكان يجلس على سرير من خشب، فسمي ذا الأعواد، وأكثم بن صيفي بن رباح بن الحارث بن مخاشن، وعامر بن الظرب بن عمرو بن عياذ بن يشكر ابن عدوان بن عمرو بن قيس، وهرم بن قطبة بن سياّر الفزاري، وغيلان بن سلمة بن معتب الثققي، وسنان بن أبي حارثة المري، والحارث بن عبّاد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة، وعامر بن الضحيان بن الضحاك بن النمر بن قاسط، والجعد بن صبرة الشيباني، ووكيع بن سلمة بن زهير الإيادي، وهو صاحب الصرح بالحزورة، وقس بن ساعدة الإيادي،وحنظلة بن نهد القضاعي، وعمرو بن حمحمة الدوسي. وكان في قريش حكام منهم: عبد المطلب، وحرب بن أمية، و الزبير بن عبد المطلب، و عبدالله بن جدعان والوليد بن المغيرة المخزومي". والذين ذكرهم "اليعقوبي" وغيره من أهل الأخبار من الحكام، هم من اشتهر وعرف بالقضاء وبالإفتاء في الجاهلية القريبة من الإسلام. وممن تمكنت ذاكرة أهل الأخبار من اصطيادهم. وهناك ولا شك حكام آخرون عاشوا في العربية الجنوبية وفي العربية الشرقية وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب، لم يصل خبرهم إلى علم أهل الاخبار، فصرنا نحن من ثم في جهل من أمرهم.

وبين الحكام الذين ذكرت أسماؤهم، حكام اشتهر ذكرهم، وذاع اسمهم بين قبائل عديدة.، لما عرف عنهم من شدة ذكاء وعلم ونباهة في الحكم، وفي كيفية الفصل في الخصومات، ولما اشتهروا به وعرفوا من النزاهة في القضاء ومن عدم التحيز في اعطاء الأحكام. ولهذا حكمتهم قبائل بعيدة عنهم. من هؤلاء: "عامر بن الظرب العدواني" الذي قيل عنه انه "كان من حكماء العرب، لاتعدل بفهمه فهماً، ولا بحكمه حكماً". ومثل "أكثم بن صيفي"، الذي قيل عنه "انه كان قاضى في العرب يومئذ. ومثل "الأفعى الجرهمي" الذي تخاصم اليه المتخاصمون من قبائل مختلفة ومن مواضع بعيدة عن نجران.

هؤلاء الحكام لم يكونوا يحكمون بقانون مدوّن، ولا بشريعة مكتوبة، ولا بموجب كتب سماوية، انما يرجعون إلى عرفهم وتجاربهم وفراستهم في الأمور، وما يستنبطه اجتهادهم من القياس على الأشياء برد الأمور إلى مشابهاتها. فكانت أحكامهم أحكام طبع وسليقة، أتت من غير تكلفٍ ولا تعنت. ولهذا قبلت لموافقتها للطبع، وصارت سنّة متبعة وعرفاً من الأعراف. وبينها أحكام ثبتها الإسلام.

المحاكم

وفي الأمثال العربية: "في بيته يؤتى الحكم". فبيت الحاكم هو محكمته، إذ ليست في مواطن القبيلة محكمة ثابتة يجلس فيها الحكام للنظر في الخصومات. ولا يمكن أن تنشأ في منازل الأعراب محاكم من هذا النوع. وكل منازلها بيوت من وبر، متناثرة هنا وهناك. وما يحدث بينها محل في الغالب بتوسط الجيران وأهل البيوت، إلا في الخصومات الكبيرة وهي قليلة في الغالب، وتعرض على عقلاء القوم، وسادات القبيلهّ للنظر فيها. فإذا حدثَ حدث ما يأتي الخصوم أو "أهل الخير" و "الوساطة" إلى بيت "حكم" يطلبون منه التوسط لإصدار حكم في ذلك الخلاف. فبيته هو المحكمة، به يتحاكمون وبه يستمعون إلى الحكم. وتكون "نوادي" القبيلة أو القرى أو المدن، محاكم أيضا، يفد عليها من له خصومة، ليعرضها على ذوي الأمر والنهي والسادة، للبت في خصومتهم ولانصافهم. وقد يجلس السادة في بيوتهم أو في قباب لهم يضربونها تكون لهم مجالس يمضون فيها أمورهم الخاصة وأعمالهم، ويحكمون فيها أيضاً بين الناس. روي أن "أبا أزيهر بن أنيس الدّوسي" كان يقعد هو وأبو سفيان في أيامهما في قبة لهما، فيصلحان بين من حضر ذلك المكان الذي هما به.

تنفيذ الاحكام

وليس للحاكم قوة تنفيذية تنفذ ما يصدره من أحكام. إنه لا يملك شرطة تنفذ حكمه، ولا قوات أخرى تنفذ ما يصدره من أحكام محق المحكوم عليهم، وتأخذ الحق من المعتدي والظالم. والقوة التنفيذية الوحيدة التي يستند اليها الحكم في تنفيذ حكمه، هي العهود والمواثيق التي يأخذها من المتخاصمين بوجوب طاعة حكمه مهما كان، وتطبيقه، وعدم الخروج عليه. ولهذا لا يقبل الحكم النظر في قضية ومنازعة وخصومهّ، إلا بعد اتفاق المتخاصمين أولاً على قبوله حَكمَا"، وتعهدهم أمامه وأمام شهود يقبولهم لكل حكم يصدره مهما كان. فقوة الحكم إذن قوة معنوية، وكلمة شرف تصدر من المتخاصمين بإطاعة الأب، وكسر الكلمة معناه، خروج على الألوف، وتعريض بسمعة الناكث بالعهد، تلحق به الأذى وتعريض بالحكم، الذي لا يسكت بالطبع على إلحاق الإهانة به.

فالضامن في تطبيق العدل والعدالة بين الناس هو تعهد المتخاصمين بإطاعة أحكام الحكام،ثم شخصية الحاكم ومنزلته ومصلحة الطرفين في فض النزاع حتى لا يستفحل ويطول، إذ كان على المتخاصمين أنفسهم وجوب البحث عن حاكم عاقل كيسِّ ليفض الخصام، فكان عليهم أنفسهم البحث عنه، ولهذا كان من اللازم تعهدهم بتنفيذ ما يصدره من حكم وما يبت فيه من رأي.

ومما ذكرته.خاص بحكام الأعراب وبمواضع البداوة، أما بالنسبة إلى العرب الجنوبيين، فلا أستطيع تعميم ما قلته عليهم، لاختلاف نظم الحكم عندهم عن، نظم الحكم عند الاعراب. ففي العربية الجنوبية حكومات وقوانين وتشربع. وفي محيط فيه تشريع، لا بد وأن يكون فيه حكم حكومي، وحكم حكام حكومين، وتنفيذ أحكام. أي ان تنفيذ الأحكام يكون إلزامياً وقسرياً بقوة الحكومة وبقوة ما عندها من سلطة. فالحاكم في العربية الجنوبية حاكم معين، يستمد حكمه من حكم القانون. ويستند تنفيذ حكمه على هيبة الحكومة وعلى قوة القانون.

ويظهر من نص معيني ناقص ويا للاسف، أن المعينيين كانوا يحاكمون الأشخاص في محاكم تسمى "معذر" "معنرن" "م ع ذ رن". وهي مجالس المدن أو القرى، فيحاكم من يراد محاكمته فيها وفقاً للقوانين "سذ مرت" "س ذ م ر ت" فإذا أصدر "المعذر" قراراً بحق شخص فيه حكم أو فيه تبرئة، أعلن القرار على الناس. وتصدر القرارات وتعلن الأحكام باسم الالهة. وقد جرت العادة بأن ا يقدم الشخص ذبيحة يتقرب بها إلى الإله "ود" في مقابل النظر في أمره.

وفي محيط حضري، فيه شرائع وتقنين وأحكام، لا بد وأن تؤلف فيه محاكم للحكم بين الناس وللنظر في مخالفات المخالفين لاُحكامها ولما تصدره من قوانين، ولبت في تهرب التجار أو الزراع من دقع ما عليهم من ضرائب وحقوق إلى الحكومة. ولا يستبعد أن يعثر المستقيل على نصوص قد تتحدث عن وجود محاكم وحكام وكتبة كانوا يدوّنون أحكام ما يصدره أولئك الحكام في أمور المتحاكمين.

ونظراً إلى ما نجده في أخبار أهل الأخبار من تحكيم المتحاكمين لسدنة المعابد وللكهان في خصوماتهم، ومن لجوئهم الى الأصنام للاستفسار منها عن السرقات وعن القتول، وعن الأشخاص الذين ارتكبوا الجنايات، فإن باستطاعتنا اعتبار المعابد محاكم مثل أي محاكم أخرى يكون من حقها الفصل في نزاع المتنازعين.

أصول المحاكمات وكيفية النظر في الدعاوي

ولما كان المتخاصمون هم الذبن يقررون الرجوع إلى التحاكم لفض الخصومات، بدلا من حلها عن طريق القوة، لعدم وجود شرطة معينة ودوائر تكره المتخاصمين على مراجعة القضاء الحكومي الالزامي، فإن شكليات التحكيم كانت بسيطة تتناسب مع بساطة الحياة. فللمتخاصمين أن يختاروا حَكَماً يرضونه أو جملة محكمين مقبولين من الطرفبن، بأن يختار كل طرف محكماً أو محكمين، على أن يوافق على اختيارهم الطرف الثاني أيضاً. وإذا ما تم الاختيار برضاء الطرفين أخذ الحكام أو المحكمون عهداً من المتخاصمين جميعا بوجوب السمع والطاعة وعدم الاعتراض على قرارات الحكم، فإن وافقوا وأعطوا كلمتم بالموافقة، عيّن الحكام أو المحكمون وقت المحاكمة للاستماع إلى بينات كل طرف وما عنده من أدلة وشهود. وقد تأخذ المحاكمات زماناً طويلاً، واذا ما انتهى الطرفان من عرض حججهما، أعمل الحاكم رأيه أو المحكمون آراءهم للنطق بقرار الحكم الذي يكون تنفيذه إلزامياً لا بقوة القانون، ولكن بقوة المسؤولية الأدبية والكلمة التي أعطاها الطرفان بوجوب السمع والطاعة لما يصدر مهن حكم.

وقد عرفت قاعدة "البينة على من ادعى واليمين على من أنكر" عند الحكام الجاهليين أو عند بعضهم،وهى قاعدة تفيد ان الأصل في الإنسان براءة الذمة. ويتفق مع قاعدة "الحجة على من ادعى لا على من أنكر" الواردة في القوانين الرومانية واليونانية.

ويكون أهل الأخبار إن "قيس بن ساعدة الإيدي" أحد الحطباء المشهورين والحكام المعروفين، هو الذي وضع قاعدة "البينة على من ادعى واليمين على من أنكر"، فصارت سنة منذ ذلك اليوم.

هذا، ولا بد لي من التنبيه إلى العهود والوصايا التي وضهت في صدر الإسلام في كيفية الحكم بين الناس, مثل وصايا الرسول إلى الصحابة في كيفية الحكم بين الناس، ومثل عهد "عمر" إلى "أبي موسى الأشعري" وعهد "علي" إلى قاضيه "شريح" وأمثال ذلك من أومامر، لما فيها من أصول في المحاكمات كانت سنّة متبعة عند الحكم الجاهلية، وقد أقرها الإسلام، لأنها أصول من أصول المنطق والطبع في الحكم وفي النظر في أمور الناس.

القسم

فإذا ادعى مدعٍ دعوى على شخص، ولم تكن لديه بينة، فليس له إلا أن يطلب من الناكر القسم، فإن أبى حكم عليه بالأداء. هذه سنة الجاهليين في الحكم. وقد حكم الرسول على المدعين بإظهلر بينتهم، فإن عجزوا طلب من المدعى عليهم القسم بأن خصمومهم مبطل وأنن الحق في جانبهم. وقد اشتكى بعص المدعين للرسول من أن حصومهم فجرة لا يبالون بما يحلفون ولا يتورعون من قسم كاذب، ولكن الرسول حكم بأنهم ما داموا قد عجزوا عن الاثبات ببينة، فليس لهم سمى تحليف خصمومهم مهما كانوا.

فعلى من يدعي وجود حق له على شخص اثبات ما يدعيه بلأدلة والبراهين، أما الطرف الثاني الذي ينكر ذلك الحق، فعليه أداء اليمين. فإذاعجز المدعي عن اثبات حقه، وطلب من المدعى عليه أداء اليمين، وجب عليه أداء اليمين، أي القسم. ويكون ذلك القسم بالآلهة أو بالآباء، والغالب أن يكون في موضع ذي حرمة وقدسية، كان يكون في معبد، وأمام صنم، أو عند قبر مثل قبر سيد قبيلة أو قبر والد من يقسم، وأمثال ذلك. وصورة هذا القسم مثل: وحق هذا البيت، أو وحق هبل، أو وحق أبي أو وتربة أبي.

ويعرف القسم باليمين أيضاً، وذكَر علماء اللغة أن العرب إنما سمت القسم يمينا، لأن من عادتها في القسم أنها كانت إذا تحالفت ضرب كل امرىء منهم يمينه على يمين صاحبه، أو انهم كانوا يتماسحون بايمانهم، فيتحالفون. ومن هنا أطلقوا على القسم اليمين. ولذلك قيل: "أعطاه صفقة يمينه على هذا الأمر.ثم سموّا الحلف يميناً على هذا المعنى. وانثوا اليمين على تأنيث اليد، فقالوا: حلف يميناً برة ّ، ويميناً فاجرة.

وقد ورد ذكر "اليمين" في بيت لزهير بن أبي سلمى، هو: وإن الحق مقطعه ثلاث  يمين أو نفار أو جلاء

وقد جمع هذا البيت طرق أخذ الحق و اثباته عند الجاهليبن. فإما يمين، وإما منافرة، وهي المحاكمة، وإما الجلاء.

ومن اليمين: اليمين الغموس.

فاليمين المعروفة، والنفار المنفرة إلى الحكام، وهي المحاكمة اليهم ليفصلوا بالحق، والجلاء: البينة التي تجلو الشك والشبهة فتغني عن اليمبن وعن التحاكم. وقد قالوا: "يمين جلواء" و "حلفة جلواء" و "بينة جلواء" أي يتجلى بها الحق وينكشف. وذكر ان "عمر" كان يعجب من حسن هذا التقسيم ويردد بيت "زهير" من التعجب. ورووا انه قال: "لو أدركته لوليته القضاء لمعرفته بما تثبت به الحقوق.

ونوع من اليمين عرف ب اليمين الأصر. وهو أن يخلف بطلاق أو عتاق أو نثر. وهو من أثقل الايمان وأضيقها مخرجاً في الإسلام. يجب الوفاء به، ولا يعوض عنه بكفّارة. وعن "ابن عمر": من حلف على يمين فيها أصر فلا كفارة بها.

وذكر "النابغة الذبياني" اليمين في شعر له. قال فيه: حلفتُ يميناً غير ذي مثَـنْـوية  ولا عِلمَ إل احسن ظن بصاحب

والمثنوية: الاسثناء في اليمين.

واليمين الغموس اليمين الكاذبة الفاجرة. وهي اليمين الكاذبة التي تقطع بها الحقوق. وعدّت اليمين الغموس من أعظم الكبائر في الإسلام. وهو ان يحلف الرجل، وهو يعلم انه كاذب ليقتطع بها مال غيره. وقيل اليمين الغموس، هي ان يحلف على أمر ماض انه كان ولم يكن. وذكر ان الرسول ذكر "الغموس" فقال: "الغموس تدع الديار بلاقع".

هذا وقد جمع "أبو اسحاق ابراهيم بن عبدالله النجيرمي الكاتب، أيمان أهل الجاهلية في كراسة دعاها "أيمان العرب في الجاهلية". وقد ذكر في مقدمته لها، ان العرب كانت في الجاهلية على مذاهب في أيمانها، وذلك على حسب عقيدتها ودينها. فكان معظمها ممن يدين الله لذلك كان قسمها بالله تعالى، والقسم به عندهم أعظم الأيمان، ولذلك قال "النابغة الذبياني": حلفت فلم اترك لنفسك ربـية  وليس وراء الله للمرء مذهبْ

وكان من قسمهم به قولهم: "والله، فإنها تملأ الفم، وترقئ الدم، اي تبرىء الظنين بالدم من الدم فيرقأ سَمه، اي يسكن محقوناً في مسكه فلا يراق، وقولهم لا لا والذي يراني من فوق سبعة أرقعة، اي من فوق سبع سماوات. ويؤيد هذا القسم ما جاء في حديث الرسول انه قال لسعد بن معاذ لما حكم في بني قريظة: "لقد حكمت فيهم بحكم الله من قوق سبعة أرقعة. وقولهم " لا والذي شق الرجال للخيل، والجبال للسيل. وقولهم لا لا والذي شقهن خمساً من واحدة "، يعني أصابع يده إذا حلف فرفع يده وفرق أصابعه. ومن ايمانهم ايضاً قولهم " لا والذي وجهي زَمَم بيته "، وقولهم "لا والذي لا يواريني منه خَمَر" والخمر ما واراك من شجر، والمعنى: لا يواريني منه شيءْ. وقولهم: لا لا والذي لا يواريني منه غيب "، وقولهم "لا والذي لا يتقي بوجاح، أي لا يستتر منه وجاح فيتقي به. والوجاح كل ما حال بينك وبين شيء من ستر أو ثوب أو حائط أو غير ذلك. وقولهم: " لاوالذي لا اتقبه إلا بمقتله "، أي كيف رمت أن اتقيه فهناك المقتل. وقولهم: لا والذي أخرج العذق من الجريمة، والنار من الوثيمة.

ومن ايمان هذه الطبقة المؤلهة: "،لا والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة لا، وقولها " لا والني سمك السماك "، و لا والذي يراني من حيث ما نظر "، و لا و فالق الإصباح وباعث الأرواح، وقولها لا ومجري الرياح، و لا ومجرى الإلهة "، أي الشمس وقولها " لا يأتمر له جُدولي والجُدول الأعضاء، أي ان أعضائي كلها جند لله تعالى عليّ.

ومن ايمانهم: لا ومقطع القطر و لا ومميت الرياح،و لا مجري البحر "، و لا ومنشىء السحاب، و لا والذي دحا الأرض و لا والذي سجد له النجم والشجر، و لا والذي حجت له العمائر، والعمارة الحي الكبير، و والذي ذابت له الشعور، و لا وفاطر الأشباح و لا والذي يرصدني أنى سلكت لا، ولا ورب الشمس والقمر،ولا ورب البيت والحجر، و لا والذي أخرح الماء من الحجر، والنار من الشجر" و لا ورازق الأنام، و لا ورب النور والظلام، و لا ورب الحل والحرام و لا ورب الحل و الإحرام. قال مهلهل: قتلوا كليباً ثم قالوا ألا اربعوا  كذبوا ورب الحلّ والإحرام

ومن أيمانهم لا والذي أممنه من كل أوب، و لا والراقصات ببطن مرّ، و والذي رقصن ببطحائه، و لا والراقصات ببطن جمع، و لا والذي نادى الحجيج له، و لا وقائتي نفسي، اي الذي جعل نفسي قوتاً لمدة حياتي. و لا لا وقائت نفسي القصر، يريد قصر العمر، و يمين الله لقد كان كذا و ايمن الله، و " ايم الله" و م الله لقد كان ذاك" و ايم الله، و " ايمن الله، وايمن الكعبة، و "رب الراقصات.ومن ذلك قولهم: عمرك الله على ذلك،و قعيدك الله،و لا قعيدك الله، و لا ورافعها بغير عمد،لا وسامكها، لا وباسطها،لا وماهدها وداحيها، و لا والذي أمد اليه بيد قصيرة و لا والذي كل الشعوب تدين له و لا والذي يراني ولا أراه، و حرام الله و "يمين الله لا و أقسم باللّه و أقسم بالله قسماً صادقاً،وقسماً باراً،.ومما يؤيد قسمهم هذه الطائفة باللهِ ما جاء في القرآن: )وأقسموا بالله جهد أيمانهم(.

من قسم عبدة الأوثان والأصنام قولهم لا و اللات والعزى،و لا ومناة وكذلك قسمهم ببقية الأصنام. وربما أقسموا بما يعتر لها.

وأقسموا بالماء والسماء والنجوم، وبظواهر طبيعية اخرى، كقولهم لا والسماء ولا والماء، لا والآيبات، لا والطارقات، لا والراكعات، لا والسابحات لا. والسابحات النجوم، و لا ونفنف اللوح، والماء المسفوح، والفضاء المندوح، والنور الموجوح، اي المحجوب. والنفنف ما بين السماء والأرض، وكل هواء بين رأس جبل واسفله، واللوح الهواء بين السماء والأرض، المسفوح المصبوب، وعنى به البحر، والفضاء يعني الأرض، والمندوح الموسع. وكأنهم عظموا هذه الأشياء لأن بها قوام العالم.

ومن ايمانهم: لا والذي اكتع له، أي احلف به. و "لا وجدك"، والجد الحظ، و "لعمرك"، أي القسم بالعمر، كما أقسموا يقولهم: "وعيشك". والعرب تقول في الفسم: لعمري ولعمرك، وورد في القرآن الكريم "لعمرك"، أي لحياتك. وجاء لعمر اللهّ وعمر اللّه.

وقد أقسموا بالرأس، أي برأس الإنسان، وبالعيش وبالخبز والملح إلى غير ذلك من ايمان. يغلب على بعضها طابع السذاجة والبساطة، وبعضها مضحكة لا تصلح أن تكون مادة لقسم، لكنهم كانوا يقسمون بها كما يقسمون بالأمور المهمة في نظرنا.

وذكر "النجيرمي" أن قسم "كهان العرب" كان بالسماء والماء والأرض والهواء، والنور والضياء، والظلمة، وبغير ذلك. وقد أقسم "سواد بن قارب السوسي" بقوله: أقسم بالضياء والحلك، والشروق والدلك.

ومن ايمانهم: "بإصر وأصر ليكونن ذلك، و الإصر العهد، ومعنى اصر: ختم لازم. والالّ: العهد.

و "جير" في الإيجاب بمعنى نعم وأجل ويمين. وقالوا: "لا جير"، بمعنى "جير"، أي قسم. كما قالوا: لا أقسم. بمعنى: أقسم".

وعوض من أسماء الدهر، وقد حلفوا به. و "الدم"، يمين كانوا يحلفون بها في الجاهلية. يعني دم ما يذبح على النصب. وفي حديث الوليد بن المغيرة: والدم ما هو بشاعر، يعني النبي. ولتوكيد اليمين وتلبيته، وايجاب الحالف على نفسه أمام الناس بالوفاء بما أقسم به وفاء تاماً، لا مهاودة فيه، استعملوا بعض الصيغ مثل: " قسماً لأفعلن ذاك، ويميناً وألِيّة، ونحباً، وعهداً، ونذراً، وموثقاً، وميثاقاً، وحقاً، ولحقاً، ولبميناً، ولقسماً وقال آخرون: لحق لأفعل.

ومن العبارات التي استعملها الجاهليون في توكيد ايمانهم قولهم: "عهد لا يزيده طلوع الشمس إلا شداً، وطول الليالي إلا مداً ". و لا ما بل بحرٌ صوفة، و ما أقام رضوى.

واذا أوجب شخص على نفسه يميناً، قالوا: أوذم فلان يميناً و أبدع يميناً. وإذا ترك الشخص "اللام" التي هي آلة القسم، صار يمينه بمنزلة النفي للفعل كقوله: آلى فلان يفعل و آلى يفعل و آليت أفعل. فهو قسم على ترك الفعل: لأن اليمين بمنزله النفي للفعل حتى يأتي باللام التي هي أداة، القسم. كقولك لا آليت لأفعلن " وكذلك قولك: واللهِ أفعل، وأقسمت افعل، وهذا مما يغالط به ويجوز على كثير من الناس.

وقالوا: "لا خير في يمين لا مخارم لها، أي لا مخارج لها. وإذا حلف الرجال قالوا: جلا ابو فلان وتحللّ أبا فلان، اي استثن.

وكانت العرب تسمي الإستثناء في اليمين: "التحليل". وسمته "المثنوية" كذلك. وتؤدي جملة: "لا جرم" معنى قسم ويمين. وهي كلمة كانت في الأصل بمنزلة لا بد ولا محالة، فجرت على ذلك وكثر استعمالهم إياها، حنى صارت بمنزلة حقاً لأفعلن. ومن العرب من يحصلها من أولها ب "ذا"،فيقول:لا ذا جرِم. وكان اكثر حلف عرب الحجاز باللات و العزى، وربما جنحوا عن صورة القسم إلى ضرب من التعليق. مثل أن يقول: إن فعلت كذا فعلي كذا، أو فأنا كذا، أو فأكون مخالفاً لكذا أو خارجاً على كذا أو داخلاً في كذا، وما أشبه ذلك.

وقد كانت العرب تأتى في نظمها ونثرها عند حلفها بالتعليق بإضافة المكروه إلى مواقعة ما يحذرونه، من هلاك الأنفس والأموال وفساد الأحوال، وما يجري مجرى ذلك.

وقد ذكر ان الأعراب لا يحلفون أبدأَ يميناً إلا على هذا النحو: لا أورد اللّه لك صافياً، ولا أصدر لك وارداً، ولا حططت رحلك، ولا خلعت نعلك، يعني إن فعلت كذا.

ومن بعض أيمان شعراء الجاهلية، قول النابغة الذبياني: ما إن أتيتُ بشيء أنت تكرهـه  إذا ًفلاَ رفعت سوطي إلي يدي

وقول عدي بن زيد: فإن لم تهلكوا فثكلت عـمـرا  وجانبتُ المُروّق والسمـاعـا

و لا ملكت يداي عنان طرف  ولا أبصرت من شمس شعاعا

ولا وضعت إلي على خـلاء  حَصان يوم خلوتها قـنـاعـاْ

ومن أسماء "الأيمان" النوافل. ونفل: حلف، والتنفيل التحليف. يحكى أن "منقذ بن الطماح الأسدي" المعروف ب "الجميح" لقيه "يزيد بن الصعق" فقال له يزيد: هجوتني. فقّال: لا والله. قال: فانفل. قال: لا انفل. فضربه يزيد. وأصل النفل النفي، وسميتَ اليمين في "القسامة" نفلاً، لأن القصاص ينفى بها. وفي حديث القسامة: "قال لأولياء المقتول: أترضون بنفل خمسين من اليهود ما قتلوه ". ويقال نفلته فنفل، أيَ حلفته فحلف.

وقد ألفّ العلماء في "نوافل" العرب. وقد أورد "ابن النديم" أسماء جملة مؤلفات نسبها لابن الكلبي في نوافل القبائل. منها: "كتاب نوافل قريش" و" نوافل إياد" و "نوافل كنانة" و "نوافل أسد" و "نوافل تميم" و "نوافل قيس." و "نوافل ربيعة" و "نوافل قضاعة" و "نوافل اليمن" و "نوافل من نفل من عاد وثمود والعماليق وجرهم".

وكانت الجاهلية إذا تحالفت، تحالفت عند "الحطيم"، فكانت قريش ومن إليها تأتي إليه وتحلف عنده، وتعتقد أن الكاذب هالك. ويذكر أهل الأخبار انهم كانوا بعد طوافهم بالبيت يأتون للحلف، وبعد أن خلف به عند الركن، يأتون الى الحطيم، فيلقي الحالف فيه سوطه أو نعله أو قوسه، بعد أن يحلف،علامة لعقد حلقه، ويعتقدون أن الحالف الآثم سيهلك، وتتعجل له العقوبة بعد قسمه هذا. وقد ذكر أن الحطيم هو ما بين الحجر الأسود والمقام وزمزم.

وقد ذكر أهل الأخبار بيتاً لزهير بن أبي سلمى، ذكروا أنه أقسم فيه بمكة، وهذا البيت هو: فتجمع أيمن منّا ومنكـم  بمقسمة تمور بها الدماء

وقد ذكر علماء اللغة أن "أيمن" و "اًيمان" جمع يمين. وأن "ايمن الله" و "ايم اللهِ"، و "هيم الله"، و "أم الله"، و "من الله"، و"م الله"، و"ليم الله"، و"ليمن الله"، من أدوات القسم التي أقسم بها الجاهليون.

وذكروا أن "زهيراً" قصد بلفظة "مقسمة" مكة، حيث ينحر بها الجزور فتمور بها الدماء. وذكر أن "مقسمة" اليمين التي تؤخذ عند الدم للقسامة، فإذا كان القوم عشرة ردّت اليمين عليهم حتى تكون خمسين قسامة.

وبعض هذه الأيمان أيمان غريبة غير مستعملة ولا مستساغة في عرف هذا اليوم، مثل: "ورب المُخيسات" و "رب البدن". وهي أيمان أقسم بها "حسان ابن ثابت" في شعر قال في "آل جفة".

والخوف من العاقبة السيئة التي تحل بحالف اليمن الكاذبة، هي التي ردعت الجاهليين من الحلف كذباً. ولذلك امتنعوا من الحلف وتجتبوه جهد أمكانهم. م ويظهر أن الجاهليين كانوا يخافون جداً من القسم، أي اليمين، لاعتقادهم أن لم الحانث بالقسم هالك لا محالة، إن لم يكن عاجلاً فآجلاً. ولا زال الأعراب يخشون أداء اليمين، وهم يفضلون خسران قضيتهم على أداء اليمن.

عقد الأيمان

ونظراً إلى ما للأيمان من أهمية ومكانة، وقدسية في نظر الحالف والشاهد، صاروا إذا أرادوا القسم وأداء اليمين، أدوها في مراسيم مؤثرة وفي ظروف خاصة وفي مكان ذي قدسية في النفوس، وبحضور كهان أو أناس لهم منزلة ومكانة، حتى يكون للقسم روعة وهيبة، تتناسبان مع مكانته وقدسيته عندهم.

والغالب عند عقد الأيمان عقدها على النار، وذلك انهم يحضرون من يريد أداء القسم ومن سيكون شاهداً على صحة القسم، ومن يقوم بأخذ القسم وبإجراء طقوسه على يديه. ثم يوقدون ناراً، يدنون منها حتى تمحشهم أو تكاد تحرقهم، وعدّدوا منافع النار ودعوا على ناقض تلك اليمين والناكث لذلك العهد بحرمان تلك المناقع، ويهولون بها على من يستخف بحقوقها، ويتوعدونه بحرمان مرافقها، وفي ذلك نكد العيش وحرمان الحياة. وكان الرجل القيم بأمر تلك النار ويسمى "الهول"، يطرح في النار ملحاً، وأحياناً ملئاً وكبريتاً، يهول بها على الحالف وقد يطرح في النار البخور، أو يلقي فيها الأخشاب النفيسة ذوات الروائح الطيبة الزكية. فإذا استشاطت قال للحالف: "هذه النار تهدد تلك"، وأمثال هذه الكلمات، ليلقي الروع في نفس الحالف، فلا يحلف كذباً، ولا يتجرأ على الإثم بأداء اليمين باطلاً.

فإن كان اليمن لتحليف شخص عن شيء ينكره مثل سرقة أو قتل أو ما شابه ذلك، هدد سادن النار بتلك النار، فإن كان الشخص مبطلاً، كأن يكون قد قام بالسرقة، نكل وامتنع عن أداء القسم بنفي وقوع الفعل منه، وإن كان بريئاً حلف، ولهذا سموها "نار المهول" أو "نار الهولة" أو "المهولة". وفي هذا المعنى جاء في قول الشاعر "أوس بن حجر": إذا استقبلته الشمس صدّ بوجهه  كما صدّ عن نار المهولِ حالف

وقد أشار "الكميت" إلى هذه النار أيضاً بقوله: كهولة ما أوقد الحالفون  لدى الحالفين وما هوّلوا

عقد الأحلاف

وكانوا في الجاهلية اذا تحالفوا وتعاهدوا أوقدوا ناراً، كل نحو ما ذكرت، وتحالفوا عندها، ويتصافحون ويقولون: "الدم الدم، واسم الهدم الهدم"، والمعنى دماؤنا دماؤكم وهدمنا هدمكم، أي فما هدم لكم من بناء أو شأن فقد هدم لنا وما أريق لكم من دم فقد أريق لنا، يلزمنا من نصرتكم ما يلزمنا من نصرة انفسنا. ولما كان الحلف بين الرسول والأنصار، قال لهم الرسول: "الدم الدم والهدم الهدم".

وكان من شأنهم إذا تحالفوا أن يغمسوا أيديهم في الدم. كالذي كان من أمر حلف "لعقة الدم"، حيث غز المتحالفون أصابعهم في جفنة مملوءة دماً، ثم لعقوها، فسموا لعقة الدم. وكالذي ذكر من أمر "خثعم"، من أنهم إنما سموا خثعماّ لأنهم غمسوا أيديهم في دم جزور. أو الذي ذكروه من قصة قتلى "الهجرس" ل "جسّاس بن مرّة بن ذهل بن شيبان". وقد عرف قوم من "بني عامر بن عبد مناة بن كنانة" ب "لعقة الدم".

وكانوا ربما تعاقدوا وتحالفوا وتعاهدوا على الملح. والملج عندهم شيئان: ملح الأدام الذي يتملح به، واللبن. وذلك أنه سواء عندهم أن يجتمعوا على طعام وملح أو على شرب لبن. هذا عندهم ممالحة. ولذلك سموّا اللبن ملحاُ، فقالوا من البابين جميعاً: "بيننا ملح".

وربما تعاقدوا وتعاهدوا وتحالفوا بغمز أصابعهم في جفنة مملوءة طيباً، ثم يمسحون أصابعهم عند الكعبة أو عند صنم من الأصنام،أو في موضع آخر مقدس، كالذي فعله قوم من "بني عبد مناف" تحالفوا وتعاهدوا بغمز أيديهم في جفنة مملوءة طيباً، ثم مسحوا الكعبة بأيديهم توكيداً على أنفسهم، فسمّوا "المطيبين" وعرف الحلف ب "حلف المطيبين". وكالذي ذكر من أمر "الرباب"، لأنهم أدخلوا أيديهم في ربّ وتعاقدوا وتحالفوا عليه.

وقد بايعت نساء قريش الرسول بعد فتح مكة، على جفنة ماء، فذكر أهل الأخبار أن إناء فيه ماء وضع بين يدي الرسول، "فإذا أخذ عليهن وأعطينه غمس يده في الإناء ثم أخرجها، فغمس النساء أيديهن فيه. ثم كان بعد ذلك يأخذ عليهن، فإذا أعطينه ما شرط عليهن، قال:اذهبن فقد بايعتكن، لا يزيد على ذلك".

وقد يعقد الحلف في بيت أو في معبد، وقد يعقدونه على طعام يجتمعون عليه ثم يعمدون إلى عقد الحلف بمراسيم خاصة،كالذي كان من أمر "حلف الفضول"، لا فبعد ان أكل الحاضرون من أهل مكة في دار "عبد الله بن جُدعان" الطعام، عمدوا إلى ماء من ماء زمزم، فجعلوه في جفنة، ثم غسلوا به أركان البيت، وجمعوا ماء الغسيل في تلك الجفنة ثم أتوا به فشربوه. وبذلك تم عقد الحلف، وصار واجباً على المتحالفين.

الاشتراط.

والاشتراط بين شخصين أو بين أكثر من ذلك عقد صحيح لذلك يجب تنفيذه. وذلك كأن تشترط المرأة على من يتقدم اليها ليكون بعلاً، بأن يكون أمر الطلاق بيدها تطلقه متى شاءت، ومتى وافق الرجل على هذا الشرط، صار حق الطلاق من حقوق المرأة بموجب هذا الزواج. كذلك يقع الاشتراط في البيوع وفي العقود وعلى المتبايعين والمتعاقدين تنفيذ ما اتفق عليه من شروط. وقد نهى الإسلام عن بيع شيء واحد بشرطين. إذ اشترط أن يكون البيع بشرط واحد. مثال ذلك قولك: بعتك هذا الثوب نقداً بدينار ونسيئة بدينارين. وهو كالبيعتين في بيعة. وهو بيع من بيوع أهل الجاهلية.

ولم يكن أهل الجاهلية يرون في الشروط التي يشترطها أحد المتعاقدين على الأخر، ما يعارض الحق والعدل، إذا كان فيها جوراً أو غموضاً أو لبساً أو عموماَ. لأنهم يرون ان الموافقة هي تسليم بالحق وبالصحة، وما دام الطرفان قد وافقا على الشروط واتفقا عليها، فلا ظلم في العقد ولا جور فيه. وان كل ما يتفق عليه ويسلم به، هو حق. إذ لا إكراه في ذلك ولا غبن. لأن الموافقة هي إيجاب وقبول،ومتى تمت صارت عقداً شرعاً ملزماً لا نكول فيه ولا رجعة.

الشهود

والشهود هم الأشخاص الذين يشهدون أمام الحاكم بما عندهم من شهادة والشهود والأشهاد هم الذين يؤدون الشهادة، أي يبينون علمهم عن الشيء الذي سيدلون رأمهم عنه. والشهادة خبر قاطع، يستعين به الحاكم في تكوين رأيه وابداء حكمه عند النظر في قضية يستدعي ابداء رأي فيها. وفي القرآن الكرم إشارات إلى الشهود والشهادة والى استعانة الجاهليين بالشهود عند التحاكم أمام الحكام. والشهادة المتقدمة هي الشهادة الشفوية التي تكون أمام الحاكم. غير ان هناك شهادات مكتوبة. ع كأن يكتب الإنسان شهادته كتابة، أو ان يشهد على صحة عقد وقوانين وأوامر وغير ذلك. فيكتب اسم الشاهد دلالة على انه يشهد على صحة ما هو مدوّن في الصحيفة، وانه حضر بنفسه ما كتب وشهد لذلك على صحة ما جاء فى المكتوب. ونجد في الأوامر الملكية عند العرب الجنوبيين شهادات كبار الموظفين وّأعضاء المجالس وسادات القبائل على ما صدر من قانون وأمر، أي على صحة توقيع وأمر الملك، ومن انه أمر به بحضورهم. كما نجد في كتب الرسول إلى القبائل والوفود، جملة "وشهد فلان" أو "وشهد فلان بن فلان"، مما يظهر ان هذه الطريقة من الشهادة كانت طريقة من طرق التأييد على صحه الشيء والتوثيق لما هو مكتوب عند الجاهليين.

ولا بد لقبول شهادة شاهد من شروط يجب أن تتوفر فيه. حذر الكذب في الشهادة فهناك أشخاص لا يمكن الأخذ بشهادتهم. ومن هؤلاء شهود الزور. أي الشهود البطل، الذين يشهدون شهادات باطلة لا أصل لها. فمثل هؤلاء موجودون عند كل الأمم وفي كل الأديان وفي كل الأزمان. ولكل شريعة شروط تضعها فيمن يمكن الاستمآع إلى شهادته وفيمن يجب رفض شهادته. فقد اشترطت الشريعة اليهودية في قبول شهادة الشهود، ألا يكون الشاهد مقامراً ولا من الاكلين للربا ولا من الذين يقامرون في سباق الخيل ولا من الذين يخالفون حرمة السبت وأحكام الشريعة، وأضاف اليهم بعض العلماء الرعاة لأنهم يسمحون لقطعان ماشيتهم بالرعي في أرض حرام لا تخصهم، ولا لجباة الضرائب والعشارون، لكذبهم وتعسفهم في جمع الضرائب، ولا ألفلاحين الذين يزرعون أرض غيرهم. ولا المرأة إلى غير ذلك من شروط اختلفت باختلاف أوجه نظر الفقهاء.

وعلى الشاهد ألاّ يغير في شهادته ولا يبدل فيها، وإلا طعن بشهادته. وعليه ألا يتراجع عنها بعد ان يؤديها والا يكذب فيها. ولهذا كان المتخاصمون يناقشون الشهود، ويطعنون في شهادتهم إن وجدوا فيهم مغمزاً ومطعناً، وعليهم أن يؤدوا يميناً بأنهم صادقون في شهادتهم وسيقولون إلحق والصدق.

وإذا نكص شخص عن شهادة أراد أداءها أو يمين وجبت عليه، فيقال عنه إنه "نكل". وإذا نقض أحدهم عهده فهو ناكث له. والنكث نقض لما اتفق طرفان عليه. وهو خيانة يزدرى صاحبها عليها ويعاب.

تسجيل العقود

وكانوا يسجلون العقود والعهود والمواثيق والأحلاف والأمور المهمة التي يتفقون عليها ويلزمون أنفسهم بتنفيذها بصحائف خاصة يحفظونها عندهم للرجوع اليها عند الاختلاف وقد عرفت هذه الصحف بأسماء منها "المهارق"، و "الصحف"، و "الكتب". أما صحفهم التي كانوا يسجلون عليها حساباتهم وتجاراتهّم وما كان لهم من ديون ورهون وأمثال ذلك من معاملات، فقد عرفت بي " صكوك" وكتب. وإذا اختلفوا على شيء رجعوا إلى ما هو مكتوب فحكموا به.

وتدوّن العقود التي قد تعقد بين السيد ومملوكه في كتب، ويعبر عن ذلك ب "مكاتبة الرقيق". واليها أشير في القرآن الكريم: "والذين يبتغون الكتاب مما ملكت ايمانكم فكاتبوهم".

القسامة

ومن لفظة "القسم"، وردت "القسامة"، ويراد بها حلف معين عند التهمة بالقتل على الاثبات أو النفي، وقد كانت مستعملة عند الجاهلين. فإذاُ قتل شخص ولم يعرف قاتله،ولم تظهر على معرفة القاتل بينة ظاهرة ثابتة عادلة كاملة، وأعتقد اهل القتيل والمطالبون بحق دمه أن فلاناً قتله، لعلامة دلتهم على ذلك، أو لخبر سمعوه أو للطخ دم وجد في شخص كان قد مرَ بالقاتل أو اشتبه به، أو لعداوة سابقة، أو لوجود رجل مشكوك في أمره في دار القتيل وقت وقوع القتل، أو الرسالة حملها رجل تخبر باسم القاتل، وأمثال ذلك، فإن اهل القتيل والمطالبين بثأره ودمه، يستعملون عندئذ "القسامة". وذلك بأن يحلف خمسون من اولياء القتيل خمسين يميناُ أن فلاناً قتله، انفرد بقتله ما شركه في دمه احد.

فإذا حلفوا خمسين يمينأَ، استحقوا دية قتيلهم، وان ابوا ان يحلفوا مع اللوث الذي أدلوا به، حلف المدعى عليه انه بريء، وإن نكل المدعى عليه عن اليمين خير ورثة القتيل تسليمه اليهم لقتله، أو اخذ الدية من مال المدعى عليه.

ومن أمثلة ما ذكره أهل الأخبار عن القسامة والعقوبة المعجلة التي تلحق بصاحب اليمين الكاذبة، ما ذكروه عن استئجار رجل من قريش، اسمه خداش بن عبدالله ابن أبي قيس العامري في رواية، رجلاً من بني هاشم، فانطلق الأجر معه في إبله إلى الشام فمر به رجل من بني هاشم قد انقطعت عروة جوالقه، فقال للاجير: أغثني بعقال أشد به عروة جوالقي، فأعطاه عقالاً، فشد به جوالقه. فلما نزلوا، عقلت الإبل، إلا بعيراً واحداً. فقال الذي استأجره: ما شأن هذا البعير لم يعقل من بين الإبل. قال الأجير: ليس له عقال. قال المستأجر له:

فأين عقاله ? فحذفه بعصا،.كان فيها أجله. فمر رجل من أهل اليمن، فقال: أتشهد الموسم ? قال: ما أشهد، وربما شهدته. قال: هل أنت مبلغ عني رسالة مرة من الدهر ? قال: نعم. قال: فكنت إذا شهدت الموسم فناد: يا آل قريش. فإذا أجابوك، فناد يا آل بني هاشم، فإن أجابوك، فاسَأل عن أبي طالب، فأخبره ان فلاناًَ قتلني في عقال. ومات المستأجر. فلما قدم الذي استأجره، أتى أبو طالب، فقال له: ما فعل صاحبنا ? قال: مرض، فأحسنت القيام عليه، وتوفيَ فوليت دفنه. قال أبو طالب: قد كان أهل ذاك منك، فمكث حيناً. ثم ان الرجل اليماني الذي أوصى اليه أن يبلغ عنه، وافى الموسم، فقال: يا آل قريش. قالوا له هذه قريش. قال: يا آل بني هاشم. قالوا: هذه بنو هاشم. قال: أين ابو طالب ? قالوا: هذا ابو طالب. قال له: أمرني فلان ان ابلغك رسالة: إن فلاناً قتله في عقال. فأخبره بالقصة، وخداش يطوف بالبيت، لا يعلم بما كان. فقام رجال من بني هاشم إلى خداش فضربوه، وقالوا: قتلت صاحبنا، فحمد. وأتاه ابو طالب، فقال له: اختر منا إحدى ثلاث: ان شئت ان تؤدي مئة من الإبل، فإنك قتلت صاحبنا، وإن شئت حلف خمسون من قومك انك لم تقتله، فإن أبيت، قتلناك به. فأتى قومه، فقالوا نحلف، فأتته امرأة من بني هاشم كانت تحت رجل منهم، قد ولدت له، فقالت: يا أبا طالب، أحب ان تجيز ابني هذا من اليمين، وتعفو عنه برجل من الخمسين، ولا تصبر يمينه حيث تصبر الأيمان. ففعل. فأتاه رجل منهم، فقال: يا أبا طالب، أردت خمسين رجلاً أن يحلفوا مكان مئة من الإبل، يصيب كل رجل بعيران. هذان بعيران، فاقبلهما عني، ولا تصبر يميني حيث تصبر الأيمان، فقبلهما. وجاء ثمانيهَ وآربعون فحلفوا. ويذكر رواة هذا الخبر انهم كذبوا في يمينهم، فما حال الحول ومن الثمانية والأربعين عين تطرف.

الفصل السابع والخمسون

الاحوال الشخصية

وأقصد بها الحقوق التي تتعلق بالشخص وبعلاقته بأسرته. مثل الزواج والطلاق والوفاة والميراث وحقوق الزوجة أو الزوج وحقوق الوالد على ولده وحقوق الولد، وأمثال ذلك مما يدخل في الفقه الإسلامي في "باب المناكحات"، وهو باب من أبواب قسم "المعاملات".

وبفضل إقرار الإسلام بعض أحكام الجاهليين في الزواج وفي الطلاق وفي الوفاة وفي الميراث وتحريم أحكام أخرى مع الاشارة اليها، جمع أهل التفسير والحديث والاخبار طائفة من أحكام الجاهليين القريبين للاسلام والمعاصرين له، خاصة أحكام أهل المدينتين: مكة ويثرب، ومن سكن في جوارهما من أهل المدر والوبر. وكل كل ما ذكرنا اعتمادنا. غير ان تلك المادة لا تزال خاماً بكراً، وبها حاجة شديدة إلى الغربلة والنقد والتنسيق.

وما سنذكره في هذه الصفحات، لا يعني شمول هذا الوصف عموم الجاهليين في كل الأوقات وفي كل أنحاء الجزيرة، انما هو قول خاص بالجاهليين القريبين من الإسلام والمعاصرين له والساكَنين في الحجاز،ولا سيما في المدينتين المذكورتين.

أما قدماء الجاهليين ممن عاشوا قبل الميلاد والجاهليين الذين عاشوا في جنوب جزيرة العرب أو في شرقيها، فلا نستطيع أن نقول إن ما نذكره هنا منتزع من صميم حياتهم، فهو يمثل ما كان عندهم كل التمثيل، لأن المواد التي أشرت اليها لا تصل إلى حدودهم، وليس لها قدرة الوصول اليهم، فليس من حقنا إذن تعميم ما سنقوله على جميع الجاهليين.

النكاح

ويعبر عن الزواج ب "النكاح" في الفقه الإسلامي. والنكاح هو العقد في الأصل، ثم استعير للجماع. وقد عبر في القرآن الكريم عن الزواج في المعنى الشائع عندنا من "الزوج" والزوجة. أما في حالة التزويج وعقد العقد لغرض الدخول على المرأة، فقد عبر عن ذلك ب "النكاح" وب "نكح" وبأمثال ذلك، ومن هنا أًطلق الفقهاء في الفقه على الزواج "النكاح" وعلى الباب المختص بذلك "المناكحات"، وعبر عنه ب "العقد" وب "الوطء" كذلك.

أما إذا كان الاتصال بين الرجل والمرأة اتصالا" جنسياً بغير عقد ولا خطبة، فهو زنا، ويقال للمرأة عندئذ "زانية" و "بغي" و "فاجرة" و "عاهرة" و "معاهرة" و "مسا فحة"..

ولا بد للزواج من أن يكون برضى الطرفين وبموافقتهما، وبموافقة الوالدين أو المتولى للامر. واذا كان أحد الطرفين أو كلاهما قاصراً فلا بد من أخذ موافقة القيّم على أمره، وإلا، تعرّ ض الرجل والمرأة أو أحدهما للمسؤولية. هذا هو الأصل في الزواج عند الجاهليين أيضاً، غير ان الرجل قد ينهب المرأة باتفاق مع البنت أو غصباً فيأخذها، وهذا ما يسيء إلى أهل البنت ويلحق بهم الأذى، إلا ان الطرفين قد يتفقان فيما بعد على الزواج.

ولولي الأمر إجبار البنت على الزواج بمن يريد أو يوافق عليه لأن يكون بعلاَ لها، وليس لها مخالفته. وقد يسمح لها بإبداء رأيها في الزوج وفي الزواج، ويكون ذلك في الأسر المحترمة في الأكثر، وعند أولياء الأمور الذين ليس لهم من البنات غير واحدة أو اثنتين، وعند وجود دالة للبنت على ولي أمرها.

والرجال قوامون على النساء. أما المرأة، فهي للبيت، والرجل هو "رب البيت" وسيده والمسؤول عنه،وله الكلمة على شؤونه. وهو القيم الطبيعي المسؤول عن تربية أولاده. وهو المسؤول عن إعالة زوجه وأولاده. والزوج تبع لبعلها، وعليها إطاعة أوامره، ما دامت أوامره لا تنافي الخلق والمألوف، وبيتها هو "بيت الزوجية". ولسيادة الرجل على بيته وزوجه،قيل له في كثير من اللغات السامية، وفي جملتها اللغة العربية "بعل". فالرجل هو بعل المرأة.

ومن تلده الزوج يكون للبعل، فهو في ولايته، وله رعايته، وعليه تربيته حتى يبلغ أشده. وهو مسؤول أيضاً عن رعاية أحفاده بعد ابنه. أما أولاد ابنته فإنهم في رعاية أبيهم الذي يكون وحده المسؤول عنهم، لأنه بعل زوجه، وهو رب بيته.

وللحق المتقدم لم تمانع شرائع الجاهليين في وأد البنات أو قتل الأولاد،ولم تعدَّ من يئد البنت أو يقتل ابنه قاتلاً، ولم تؤاخذه على فعله، حتى الأمهات لم يكن من حقهن منع الاباء من وأد بناتهن، أو قتل أولادهن، لأن الزوج هو وحده صاحب الحق والقول الفصل فيمن يولد له، وليس لامرأته حق الإعتراض عليه ومنعه.

ولهذا الحق لم يكن للولد الاعتراض على ما يفرضه أبوهم عليهم من حقوق، ولا مخالفة أوامره ونواهيه. فبوسع والدهم فرض ما يراه عليهم من عقوبات، فلا يمنعه منها إلا قوة الولد وتوسط الناس. فإذا اشتد عود الولد، وقوي ساعده صار الحق إلى جانبه، وصار في وسعه معارضة والده، ولن يكون في إمكان الوالد فعل شيء بعد بلوغ ابنه سوى خلعه والتنصل منه على رؤوس الأشهاد.

القاعدة للعامة في الازدواج

والقاعدة العامة في الازدواج مراعاة علاقة الأصل بالفرع، فلا يجوز نكاح الأب لابنته، ولا الجد لحفيدته، ولا يجوز للام أن تتزوج ابنها، ولا للجدة أن تتزوج حفيدها، ولا للأخ أن يتزوج أخته، مراعاة لعلاقة الأصل بالفرع، أي لعلاقة الدم. ومن يفعل ذلك يكون آثماً مؤاخذاً على فعله.

ويراعى هذا التحريم حتى في حالات التبني، لاكتساب التبني الصفة المقررة للابن الطبيعي، فلا يجوز للمتبني أن يتزوج ابنة المتبنى لأنه اتخذه ابناً له. ومحرم على الرجل أن يتزوج ابنة أخيه، أو ابنة أخته. أما ولد الأخوين أو ولد الأختين أو ولد الأخ والأخت، فالزواج بينهم مباح. ويحرم نكاح العمة كما يحرم نكاح الخالة، وذلك لأنهما في درجة الأصول. ويحرم بصورة عامة كل نكاح يقع بين المحارم.

ومن القبيح عندهم الجميع بين الأختين، وأن يخلف الرجل على امرأة أبيه، ويسمّون هذا ألفعل من فعول "الضيزن". قد عرف هذا الزواج بنكاح المقت.

وقد حرم هذا النكاح في الإسلام. فقد ورد أن "كبشة بنت معن بن عاصم" امرأة "أبي قيس بن الأسلت" انطلقت إلى الرسول فقالت.: "إن أبا قيس قد هلك، وإن ابنه من خيار الحي قد خطبنى. فسكت الرسول، ثم نزلت الأية "ولا تنكحوا ما نكح اباؤكم من النساء"، فهي أول امرأة حرمت على ابن زوجها.

وذكر "السهيلي" أن ذلك الزواج كان مباحاً في الجاهلية بشرع متقدم، ولم يكن من الحرمات التي انتهكوها ولا من العظائم التي ابتدعوها، لأنه أمر كان في عمود نسب رسول الله، فكنانة تزوّج امرأة أبيه خزيمة، وهي برة بنت مرّ. فولدت له النصر بن كنانة. وهاشم أيضاً قد تزوج امرأة أبيه واقدة، وقد قال عليه السلام: "أنا من نكاح لا من سفاح". ولذلك قال سبحانه: )ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف(. أي إلاّ ما سلف من تحليل ذلك قبل الإسلام. وفائدة هذا الاستثناء ألاّ يعاب نسب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم،وليعلم أنه لم يكن في أجداده من كان لغية ولا من سفاح".

وذكر علماء التفسير، ان أهل الجاهلية كانوا يحرمون ما يحرم إلا امرأة الأب والجمع بين الأختينْ. وأسلم "فيروز الديلمي"، وتحته اختان، فقال له النبي: اختر أيهما شئت، وجمع "أبو أحيحة" سعيد بن العاص بن أمية، بين صفية وهند بنتي المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم، وجمع "قسي"، وهو ثفيف ابن منبه، آمنة وزينب بنتي عامر بن الظرب في نكاح واحد. وجمع "هنام بن سلمة" العائشي، أخو بني تيم اللات بن ثعلبة بن عكابة بين اختين.

ويقدم "ابن العم" على غيره في زواج ابنة عمه، ولا يزال متقدما على غيره. وقد تجبر البنت على الزواج به في حالة عدم رغبتها من الزواج، وقد لآ يتركها تتزوج من غيره إلا بإرضائه، وقد يكون هذا ألإرضاء بدفع ترضية له.

الصداق

والزواج المألوف المتعارف عليه عند غالبية الجاهلين، هو نكاح الناس اليوم. وهو أن يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها، أي يعين صداقها ويسمى مقداره ثم يعقد عليها. وكانت قريش وكثير من قبائل العرب على هذا المذهب في النكاح. وما يدفع يسمى "الصداق""أو "المهر".

ويعد الصداق أي المهر فريضة لازمة عند الجاهلين لصحة عقد الزواج، إذ هو علامة من علاماته، ودلالة على شرعيته. وكانوا لا يقرون زواجاً ولا يعترفون بشرعيته إلا إذا كان بمهر. فإذا لم يكن هناك مهر، عدّ بغياً وسفاحاً وزنا، فالمهر هو أيضاً علامة شرف، وكون المرأة حرة محصنة لها كامل الحقوقْ.

ولا يشترط دفع المهر إذا كانت المرأة قد وقعت في أسر آسر فتزوجها لأنها أسيرته، فهي ملكه، وله حق الدخول بها بغير مهر، ولو كانت في عصمةرجل آخر، لأن الأسر يبطل عصمة الزواج.

"وكانوا يخطبون المرأة إلى أبيها أو أخيها أو عمها، أو بعض بني عمها. وكان يخطب الكفي إلى الكفي. فإن كان أحدهما أشف من الآخر في الحسب، أرغب له في المهر. وإن كان هجيناً خطب إلى هجين. فزوجه هجينة مثله. فيقول الخاطب إذا أتاهم: أنعموا صباحاً. ثم يقول: نحن أكفاؤكم ونظراؤكم. فإن زوجتمونا فقد أصابنا رغبة وأصبتموها. وكنا لصهركم حامدين. وإن رددتمونا لعلة نعرفها، رجعنا عاذرين. وإن كان قريب القرابة منه أو من قومه، قال لها أبوها أو أخوها، إذا حملت اليه: أيسرت وأذكرت ولا آنثت ! جعل الله منك عدداً وعزّاً وجلداً. أحسني خلقك وأكرمي زوجك. وليكن طَيبك الماء. واذا تزوجت في غربة قال لها: لا أيسرت ولا أذكرت، فإنك تدنين البعداء، وتلدين الأعداء. أحسني خلقك وتحببيَ إلى أحمائك. فإن لهمَ عليك عيناً ناظرة، واذناً سامعة. وليكن طيبك الماء".

والأصل في المهر عند الجاهليين دفعه للمرأة، غير أن ولي أمرها هو الذي يأخذه لينفق منه على ما يشتري لتأخذه المرأة معها إلى بيت الزوجية. وقد يأخذ ولي أمرها "المهر" لنفسه، ولا يعطي المرأة منه شيئاً، لاعتقاده أن ذلك حق يعود اليه. ولذلك نهي عنه في الإسلام. وللمرأة حق استرداد مهرها إذا فسخ الزوج عقد الزواج، أو إذا طلقها، إلا إذا كان ذلك بسبب الزنا فيسقط.

وإذا كان المهر مؤجلاً كَلاً أو بعضاً، فيكون ديناً في عنق الزوج، وإذا توفي وجب دفعه لامرأته من تركته.

وليس للمهر حدّ معلوم، لا حدّ أعلى ولا حدّ أدنى، بل يتوقف ذلك على الاتفاق. وتراعى في ذلك الحالة المالية للرجل في الغالب. ولما كانت النقود قليلة في ذلك العهد، كان المهر عيناً في الأكثر، وتدخل فيه الأرض. وقد بلغ المهر مئة من الإبل أو خمسين ومئة بعض الأحيان. وقد كان بوزن من ذهب أو فضة في بعض الأحيان.

ويجوز للرجل استرداد مهره من تركة زوجه. إن ماتت في حياته. وله حق مطالبة أهلها بردّ مهرها اليه في حالة عدم وجود تركة لها.

وليس في زواج الشغار، مهر حقيقي. لأنه زواج مقايضة. وهو أن يزوّج الرجلُ وليتّه في مقابل تزويجه وليةّ من سيتزوج وليته. فليس في هذا الزواج مهر بالمعنى المعروف.

وذكر ان أهل الجاهلية كانوا لا يعطون النساء من مهورهن شيئاً، وان الرجل إذا زوّج ابنته استجعل لنفسه جعلاً يسمى "الحلوان"، وكانوا يسمون ذلك الشيء الذي يأخذه "النافجة" ويقولون للرجل: "بارك الله لك في النافجة". وروي ان العرب كانت تقول في الجاهلية "للرجل إذا ولدت له بنت: هنيئاً لك النافجة، أي المعظمة لمالك،وذلك انه يزوجها فيأخذ مهرها من الإبل، فيضمها إلى إبله، فينفجها أي يرفعها ويكثرها".

والحلوان أن يزوج الرجل ابنته أو أخته أو امرأة ما بمهر مسمى، على أن ُيجعل له من المهر شيء مسمى، وكانت العرب تعير به. وقيل إن حلوان المراة: مهرها.

والصداق المهر، و "الصدقة" مهر المرأة، وقد ورد النهي في الحديث عن الغلو فيُ صدق النساء،مما يدل على ان من الجاهليين من كان يبالغ في الصداق. ويستخلص مما جاء في أخبار أهل الأخبار عن المهر، ان أهل الجاهلية لم يكونوا على عرف واحد بالنسبة إلى حق الانتفاع من المهر، فمنهم من كان يعطيه كله للمرأة، ومنهم من كان يعطيه كله ويزيد عليه إكرامأَ لابنته أو من ولي أمرها، ومنهم من كان يأكله كله أو بعضاً منه.

ويطهر من وثيقة معينة أن ملوك معين كانوا يصدرون أوامرهم بالموافقة على عقود الزواج على نحو ما تفعل الحكومات من اصدار وثائق عقود الزواج. ولكننا لا نملك وثيقة تثبت أن المرأة كانت تكره على الزواج من شخص لا تريد التزوج منه. بل ليظهر أن المرأة كانت مثل الرجل عند المعينين لها حق النظر في أمر اختيار الزوجْ.

أنواع الزواج

والزواج المألوف بين الجاهلين، هو زواج هذا اليوم. أي الزواج القائم على الخطبة والمهر، وعلى الايجاب والقبول. وهو ما يسمى بزواج البعولة، وهو زواج منظم، رتبّ الحياة العائلية وعيّن واجبات الوالدين والبنوة. وهو الذي أقره الإسلام. يكون الرجل بموجبه بعلا للمرأة فهي في حمايته وفي رعايته.وللزوج في هذا الزواج أن يتزوج من النساء ما أحب من غير حصر، وله أن يكتفي بزوج واحدة. وأمر عدد الأزواج راجع اليه والى حواه بالنساء.

وزواج البعولة هو الزواج الذي كان شائعاَ بين الجاهليين في كل أنحاء جزيرة العرب، خاصة عند ظهور الإسلام، وبين أهل الحضر وأهل الوير. ويرجع"روبرتسن سمث" W.R. Smith أسباب شيوع هذا الزواج وظهوره إلى الحروب والى وقوع النساء في الأسر،ويكون الأولاد بحسب هذا النوع من الزواج تابعين للاب، يلتحقون به، ويأخذونٍ نسبه. وهو على نوعين: نوع يكتفي فيه الرجل بالتزوج بامرأة واحدة وهو ما يسمى ب Monogamy، ونوع آخر يتزوج بموجبه الرجل عدداً غير محدود من النساء، أي أكثر من زوجة واحدة في آن واحد وهو ما يسمى بpolygamy ، أي زواج تعدد الزوجات.

ويحصل الرجل في هذا الزواج على زوجة بالتراضي مع أهلها، حيث يتم ذلك بخطبة ومهر، أو بالحرب حيث يحصل المنتصرون على أسرى فيختار الرجل له واحدة من بينهن متى ولدت له أولاداً صارت زوجاً له. وصار هو بعلاً لها. ويلاحظ أن النصوص العربية الجنوبية دعت الزوج بعلاً، أما الزوجة فدعتها "بعلت" "بعلة"، ومعناها ان المرأة في حيازة الزوج وملكه.

ولذلك عوملت الزوجة بعد وفاة زوجها معاملة "التركة" أي ما يتركه الإنسان بعد وفاته، لأنها كانت في ملك زوجها وفي يمينه. ومن هنا كان للأخ أن يأخذ زوجة أخيه إذا مات ولم يكن له ولد، لأن الأخ هو الوارث الشرعي لأخيه،فهو يرث لذلك زوجة أخيه التي هي في بعولته، ويرث ابن الأخ هذا الحق عن أبيه.

نكاح الضيزن

وهذه النظرة المتقدمة بالنسبة إلى الزوجة، دفعت إلى نكاح أطلق عليه المسلمون"نكاح المقت"، وعرف ب "نكاح الضيزن" كذلك. وهو نكاح معروف من أنكحة الجاهليين. "ذلك انهن في الجاهلية كانت إحداهن إذا مات زوجها كان ابنه أو قريبه أولى بها من غيره ومنها بنفسها، إن شاء نكحها، وإن شاء عضلها فمنعها من غيره ولم يزوجها حتى تموت". وظل هذا شأنهم إلى أن نزل الوحي بتحريم ذلك. وقد تناوب ثلاثة من "بني قيس بن ثعلبة" امرأة أبيهم، فعيرّهم ذلك "أوس بن حجر التميمي"، إذ قال: والفارسية فيهم غير منكرة  فكلهم لأبيه ضيزن سلف

وهذا الزواج على أنه كان معروفاً وقد مارسه أناس معروفون كان ممقوتاً من الأكثرية، ولذلك عرف ب "زواج المقت"، وأطلقوا على الرجل الذي يخلف امرأة أبيه إذا طلقها أو مات عنها وقبل من يزاحم أباه فيَ امرأته "الضيزن". وقالوا لولد الذي يولد من هذا الزواج مقتي ومقيت.

وطريقة أهل "يثرب" في إعلان دخول زوجات المتوفى في ملك ألابن أو الأخ أو بقية الأقرباء من ذي الرحم إذا لم يكن للمتوفى أبناء أو اخوة، هو بإلقاء الوارث ثوبه على المرأة، فتكون عندئذ في ملكه، إن شاء تزوجها، وإن شاء عضلها، أي منعها من الزواج من غيره حتى تموت، فيرث ميراثها، إلا أن تفتدي نفسها منه بفدية ترضيه.

وقال "الطبري" في تفسير: "لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً": "كانت الوراثة في أهل يثرب بالمدينة ههنا، فكان الرجل يموت فيرث ابنه امرأة أبيه كما يرث أمه لا يستطيع أن يمنع. فإن أحب أن يتخذها اتخذها كما كان أبوه يتخذها، وإن كره فارقها، وإن كان صغيراً حبست اليه حتى يكبر فإن شاء أصابها وإن شاء فارقها، فذلك قول الله تبارك وتعالى: )لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها(.وذكر أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته فيعضلها حتى تموت أو تردّ اليه صداقها"، وورد عن "السدّ ي" قوله: "إن الرجل في الجاهلية كان يموت أبوه أو أخوه أو ابنه، فإذا مات وترك امرأته، فإن سبق وارث الميت، فألقى عليها ثوبه، فهو أحق بها أن ينكحها بمهر صاحبه أو ينكحها فيأخذ مهرها، وإن سبقت فذهبت الى أهلها فهم أحق بنفسها ".

وقال "الضحّاك": "كانوا بالمدينة إذا مات حميم الرجل وترك امرأة ألقى الرجل عليها ثوبه فورث نكاحها وكان أحق بها، وكان ذلك عندهم نكاحاً، فإن شاء أمسكها حتى تفتدى منه. وكان هذا في الشرك "، وروي عن "ابن عباس" أنه قال: " كان الرجل إذا مات وترك جارية، ألقى عليها حميمه ثوبه فمنعها من الناس، فإن كانت جميلة تزوّجها، وإن كانت قبيحة حبسها حتى تموت فيرثها". فلهذا الظلم الفادح الذي كان ينزل بالمرأة بسبب ضعفهاوبسبب عرف الجاهلية في الحق، منع ذلك في الإسلام.

قال "محمد بن حبيب": "وكان الرجل إذا مات، قام أكبر ولده فألقى ثوبه على امرأة أبيه، فورث نكاحها. فإن لم يكن له حاجة فيها، تزوجها بعض اخوته بمهر جديد". ولكن أهل الأخبار لا يذكرون إن الاخوة يدفعون لها مهراً جديداً، فقد يكون هذا المهر الجديد الذي أشار "محمد بن حبيب" اليه،هو ترضية للابن الأكبر بسبب تنازله عن حقه الشرعي في امرأة أبيه الى من له رغبة فيها من اخوته الباقين، على ألا يكون كل من أبنائها بالطبع، و انما هم من زوجات أخرى. وقد فرّ ق الإسلام بين رجال ونساء آبائهم، وهم كثير ".

وذكر أن آية: )يا ايها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً(، نزلت في "كبيشة بنت معن بن عاصم" من الأوس، توفي عنها "أبو قيس بن الأسلت"، فجنح عليها ابنه، فجاءت النبي، فقالت: يا نبي اللّه لا أنا ورثت زوجي، ولا أنا تركت فأنكح فنزلت هذه الآية في منع ذلك. وحرّ م هذا الزواج في الإسلام، ومن تزوج امرأة ابيه وهو مسلم قتل وأدخل ماله في بيت المال.

وقد كان العبرانيون يتزوجون زوجات آبائهم كذلك، استمروا على ذلك حتى بعد السبي. كذلك عرفت هذه العادة بين الرومان والسريان.

نكاح المتعة

وأشار أهل الأخبار إلى وجود انواع اخرى من الزواج، الغالب عليها سقوط الصداق والخطبة منها، وهي: نكاح المتعة، وهو نكاح إلى أجل،فإذا انقضى وقعت الفرقة. وقد كان هذا النوع من الزواج معروفاً عند ظهور الإسلام. وقد أشير اليه في القرآن الكريم:)فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة،ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة، إن الله كان عليما حكيماً(.

وللفقهاء آراء في المتعة، ولا تزال معروفة في بعض المذاهب. ومن دوافع حدوث هذا الزواج التنقل والأسفار والحروب، حيث يضطر المرء الى الاقتران بامرأة لأجل معين على صداق. فإذا انتهى الأجل، انفسخ العقد. وعلى المرأة أن تعتدّ كما في أنواع الزواج الأخرى قبل اْن يسمح لها بالاقتران بزوج آخر. فهو كزواج البعولة، فيما سوى الاتفاق على أجل معين يحدد مدة الزواج.

وينسب أولاد المتعة إلى أمهاتهم في الغالب، وذلك بسبب اتصالهم المباشر بالأم ولارتحال الأب عن الأم في الغالب إلى أماكن أخرى قد تكون نائية، فتنقطع الصلات بين الأب والأم ولهذا يأخذ الأولاد نسب الأم ونسب عشيرتها.

نكاح البدل

ونكاح البدل: وهو أن يقول الرجل للرجل: "إنزل لي عن امرأتك،وأنزل لك عن امرأتي". فهو زواج بطريق المبادلة بغير مهر.

نكاح الشغار

ونكاح الشغار: وهو أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الاخر ابنته، ليس بينهما صداق. وذلك كأن يقول الرجل للرجل: زوجني ابنتك، وأزوجك ابنتي، أو زوجني أختك وأزوجك أختي. وعرفه بعض العلماء على هذا النحو: "الشغار، بكسر الشين: نكاح كان في الجاهلية، وهو أن تزوج الرجل امرأة.، كانت على أن يزوجك أخرى بغير مهرا. وخص بعضهم به القرائب،فقال: لا يكون الشغار إلاّ أن تنكحه وليتك على أن ينكحك وليته". فكان الرجل يقول للرجل:شاغرني،أي: زوجني أختك أو بنتك أو من تلي أمرها حتى أزوجك اختي أو بنتي أو من إليَّ أمرها ولا يكون بينهما مهر. وقد نهى عنه الإسلام. وورد "ان اناسا كانوا يعطى هذا الرجل أخته، ويأخذ اخت الرجل، ولا يأخذون كثير مهر". "وكان ذلك منَ أولياء النساء، بأن يعطي الرجل اخته الرجلَ على ان يعطيه الآخر اخته،على ان لا كثير مهر بينهما،فنهوا عن ذلك". والغالب انه مثل "البدل" بدون مهر. وهو معروف حتى اليوم مع ورود النهي عنه، ولا سيما بين الطبقات الفقيرة والأعراب. وللوضع الاقتصادي والاجتماعي دخل كبير في هذا الزواج، لعدم وجود المهر، إذ حل التقايض فيه محل المهر. ولهذا لم ينظر اليه نظرة استهجان لوجود هذا التقايض فيه الذي يقوم مقام المهر.

نكاح الاستبضاع

وأشار أهل الاْخبار إلى نوع غريب من الزواج، سموّه "نكاح الاستبضاع". وهو - على ما يزعمون - ان يقول رجل لامرأته إذا طهرت من طمثها: ارسلي إلى فلان فاستبضعي منه، لتحملي منه. ويعتزلها زوجها،ولا يمسها أبداً حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا حملها أصابها زوجها إذا أحب، وانما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد، لأنهم كانوا يطلبون ذلك من اكابرهم ورؤسائهم في الشجاعة أو الكرم أو غير ذلك فكان هذا النكاح الاستبضاع.

كَذلك كان بعض اصحاب الجواري على ما يرويه اصحاب الأخبار ايضا، يكلفون جواريهم الاتصالَ برجل معين من اهل الشدة والقوة والنجابة، ليلدن ولداً منه يكون في يمينه وملكه. والغاية من هذا النوع من التكليف الحصول على اولاد اقوياء يقومون بخدمة الرجل المالك، إن شاء استخدمهم في بيته وفي ملكه، وإن شاء باعهم وربح منهم، فهي تجارة كان يمارسها المتاجرون بالرقيق للربح والكسب.

واما ما اشار اليه اهل الأخبار من وجود زواج دعوه زواج الرهط، وزواج آخر قالوا له "زواج صواحبات الرايات"، فلا يمكن عدهما زواجاً بالمعنى المفهوم من الزواج لأنهما في الواقع نوع من انواع البغاء، وخاصة "زواج صواحبات الرايات". وقد عرفوا الزواج الأول بأنه زواج يجتمع فيه الرهط ما دون العشرة، فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها، وذلك برضاء منها وتواطؤ بينهم وبينها، فإذا حملت ووضعت، ارسلت اليهم فلم يستطيع رجل منهم ان يمتنع حتى يجتمعوا عندها، فتقول لهم: قد عرفتم الذي من أمركم،وقد ولدت،ثم تسمي احدهم وتقول له: فهو ابنك يا فلان، فيلحق به ولدها،ولا يستطيع ان يمتنع به الرجل. وقد قيل إن هذا يكون إن كان المولود ذكراً، وإلا فلا تفعل لما عرف من كراهتهم للبنت وخوفاً من قتلهم للمولودة.

ويقال لهذا النوع من الزواج زواج "تعدد الأزواج" Polyandry، في الانكليزية، وذلك لوجود امرأة واحدة فيه وعدد من الرجال تختارهم المرأة، التي تكون زوجة مشتركة بينهم، وهي عكس زواج الPolygamy، أي زواج تعدد النساء للرجل الواحد، حيث يتزوج الرجل الواحد بموجبه عدداً من النساء، بعلاّ لهن.

و عَرفوا "زواج صواحبات الرايات" بأنه نكاح يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمنع من جاءها، وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علماً، فمن ارادهن دخل عليهن. فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها، جمعوا لها، ودعوا لهم "القافة"، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون، فاستلحقه به، ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك. وذكر ان تلك الرايات كانت رايات حمراً. فالنكاحين المتقدمين ليسا في الواقع زواجاً بالعرف الشائع عند غالبية الجاهليين وإنما هو سفاح، وقد عُدّ في القرآن الكريم "زنا"، ولو كان فيه استحقاق الولد بوالد. فليس في هذا الزواج صداق ولا خطبة على عادة العرب، ومن يفعله من الرجال، لم يكن يقصد به زواجاً بمعنى الأزواج وبالدرجة الأولى، وإنما التسلية وتحقيق شهوة بثمن، ولهذا فهما من أبواب الزنا والسفاح.

وقد تعرض " السكّري" لموضوع "صاحبات الرايات"، فقال: "ومن سنتهم أنهم كانوا يكسبون بفروج إمائهم. وكَان لبعضهم راية منصوبة في اسواق العرب، فيأتيها الناس فيفجرون بها. فأذهب الإسلام ذلك وأسقطه فيما اسقط، ولهنّ اولاد ونسل كثير معروف".

وممن أشار إلى وجود إباحة تعدد الأزواج للزوج الواحدة في شرائع الجاهليين، "سترابو". ذكر ان الاخوة كانوا،يشتركون في كل في شيء، في المال وفي الزوج. فللاخوة جميعهم زوج واحدة تكون مشتركة بينهم. ولكن الرئاسة تكون للاخ الأكبر. وإذا اراد احد الاخوة الاتصال بالزوجة، وضع عصاه على باب الخيمة، لتكون علامة تفهم الآخرين ان احدهم في داخلها، فلا يدخلها،وهم جميعاً يحملون العصي معهم. أما في الليل فتكون الزوجة من نصيب الولد الأكبر. وهم يعاشرون أمهاتهم معاشرة جنسية. وذكر انهم يعاقبون الزاني عقاباً شديدا. يعاقبونه بالموت. والزاني في عرفهم هو الشخص الغريب، يعاشر امرأة من اصل غريب عنه.

وذهب بعض العلماء إلى ان اشتراك الأخوة في زوج واحدة، وهو ما يعبر عنه ب Fraternal polyandry عند علماء الاجتماع، على نحو ما أشار "سترابون" اليه، هو زواج يعدّ مرحلة وسطى بين تعدد الأزواج Polyandry البدائي الذي لم يكن مقيداً بقيود وبين الزواج المقيد المعروف، زواج البعولة، وهو اختصاص المرأة بزوج واحد، أي الزواج الذي اباحته الأديان السماوية. وكان شائعاً بين غالبية الجاهليين القريبين من الإسلام وعند ظهور الإسلام. وليس بمستبعد ان يكون "سترابون" قد قصد ب "زواج الأخوة" الزواج المعروف ب Le virate Marriage عند علماء الاجتماع،. وهو زواج الأخ زوجة أخيه بعد وفاته، وهو زواج نشأ على رأي علماء الاجتماع من زواج ال Polyandry. وهو معروف عند العرب وعند العبرانيين والحبش وغيرهم.

وحينما يتوفى الزوج عند العبرانيين، تاركا له زوجاً دون ولد، يأخذ الأخ ارملة اخيه، فإذا ولدت له ولداً عدّ المولود للاخ المتوفى. وللباحثين آراء عن اصل هذا الزواج وفي الأسباب التي أدت إلى وقوعه. وهو في رأي "جيمس فريزر" صفحة من صفحات اشتراك الأخوة في زوج واحدة، واشتراك الأخوة في تزوج الأخوات، وهو متمم لما سماه ب Sororate.

والجمع بين الأختين زوجين لرجل واحد، زواج معروف عند الجاهليين. وهذا الزواج هو صورة معكوسة لزواج الأخوة مشتركاً في زوج واحدة، فلم يكن هناك رادع قانوني يمنع الرجل من التزوج من الأخوات في زمن واحد ومن الجمع بينهن في صعيد الزوجية، وفي بعولة رجل واحد. وهو في جملة أنواع الزواج الذي نهى عنه الإسلام.

وتعدد الأزواج للزوج الواحدة يسبب مشكلة خطيرة في قضية تعيين أبوة الأولاد إذ يكون من الصعب في اكثر الحالات إثبات ذلك، ولهذا نسبوا الى الأمهات في الغالب. وهذا ما بعرف بالأمومة. وزواج مثل هذا يكون داخلياً، اي في أفراد العشيرة الواحدة، ويعاقب مرتكبه عقاباً صارماً إذا كان من عشيرة غريبة، إذ يعد ذلك نوعاً من الزنا. ويكون هذا الزواج مؤقتا في الغالب، ينتهي أجله بارتحال اهل المرأة وانتقالهم من مكان إلى آخر.

وقد أشار "أميانوس مارسيلينوس" Ammianus Marcellinusإلى زواج قال انه موجود عند العرب، تزف العروس إلى زوجها ومعها حربة وخيمة، وقال انها تستطيع ان تعود إلى بيتها بعد مدة إذا رغبت في ذلك. وقد ذهب "جورج برتن" George Barton إلى ان هذا الزواج الذي يذكره هذا المؤرخ القديم هو من نوع الزواج المتقدم.

إن هذا الزواج يجعل المرأة تعيش مع أهلها وبين أبويها وإخوتها ومعها اولادها،ولهذا يكون نسب الأطفال هو نسب الأم،ولهذا صار الخال اقرب اليهم من العم. ومن هنا نرى ان للخال شأناً كبيراً بالقياس إلى الأطفال عند السامين.

ويظن بعض علماء الاجتماع المحدثين ان من الأسباب الني دعت إلى شيوع تعدد الازواج للزوج الواحدة، هو قلة عدد النساء بالقياس الى الرجال، وذلك بسبب الوأد، ولكن كيف نتمكن من إثبات انتشار عادة الوأد بين جميع العرب وفي كل العهود?ثم من الذي يثبت لنا انه كان من سعة الانتشار بحيث احدث مشكلة خطيرة في عدد النساء بالقياس إلى الرجال ?ثم إن هذا النوع من الزواج كان معروفاً عند غير العرب من الأمم، ولا زال معروفاً عند بعض القبائل الإفريقية، وهو في نظرهم نوع من انواع الزواج، وهم لا يمارسون مع ذلك الوأد ! وقد نص في الآية )حُرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن، فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم، وان تجمعوا بين الأختين، إلا ما قد سلف، إن الله كان غفوراً رحيما(. ونص في الآية.)ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلاّ ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً(، وذلك بسبب النسب والصهر والرضاع. ونزول الوحي بتحريم الزواج بالمذكورات، يبعث على الظن أن من الجاهليين من كان يتصل اتصالاً جنسياً بهن. غير أن من العلماء من يقول إن الجملة "انشائية، وليس المقصود منها الأخبار عن التحريم في الزمان الماضي "، بمعنى أنها ليست حكاية عن تجويز الجاهليين الاقتران بالنساء المذكورات، وتحريم الإسلام له، وإنما الآية تقرير وتوضيح للتحريم والمحرمات على سبيل العدّ والحصر، لا الحكاية والإبطال لأحكام سابقة لظهور الإسلام.

وللآيتين شأن خاص بالقياس إلى بحثا في زواج الجاهليين، ولهذا كان لشرح أسباب نزولهما والعوامل التي دعت إلى نزول الوحي بهما، والغاية من نزول الحكم بالتحريم، شأن كبير عند الباحث في هذا الموضوع، غير أن غالبية المفسرين لم تتعرض للبحث في هذه المسأله، ويا للاسف، وإنما تبسطت في أمور لغوية وفقهية لا تزيل الغموض عن الأسباب الني دعت إلى النص على التحريم، وعن آراء الجاهليين في الزواج بالمذكورات في الآية، إذ أن التحريم يعني وقوع الإباحة عند من حرّم ذلك عليهم إلى حين نزول الوحي: ولا سيما أن المفسرين قد ذكروا أمثلة تشير إلى ان بعضهم قد تزوج ممن ورد ذكره في تلك الآية. ثم ان بعضه من النوع المعروف المألوف عند بعض الأمم، وما زال معروفاً حتى الآن، وأن بعض ما حرم في الإسلام جائز في ديانات أخرى، ومنها اليهودية والنصرانية، فليس بغريب ولا بعيب إذا كان موجوداً بعضه عند الجاهليين.

والاتصال الجنسي بين الأولاد والأمهات شيء قليل الوقوع عند البشر.

ولم تبحه ديانة من الديانات، وهو غير معروف في العرب، ولم يشر اليه أهل الأخبار. أما ما ذكره "سترابون"، فلعلّ المراد منه الزواج بزوجات الآباء بعد موتهم، أي أنه ذكر الأمهات على سبيل التجوز، وهو زواج المقت الذي كان معروفاً في الجاهلية وعند غير الجاهليين، إلى ان نهى عنه الإسلام.

واما زواج الأخوة بالأخوات، فهو معروف وثابت وما زال معروفاً حتى الآن في "سيام" وفي بورما وسيلان وأوغندا وأماكن اخرى. وقد كان عند الفرس والمصرَيين، وخاصة بين أفراد الأسر المالكة والاشراف. والظاهر ان ذلك لاعتقادهم ضرورة المحافظة على نقاوة الدم وخصائص الاسرة. خاصة وقد كانت عقيدة القدماء أن تلك الطبقات مقدسة مؤلهة، فلا يجوز إهراق دمها في دم أوطأ منه.

وقد ذهب "موركن" " Morgan" وآخرون إلى ان زواج الأخ بأخته، هو الزواج المألوف العام الذي كان شائعاً بين البشر،وانه المرحلة السابقة للزواج المألوف. أما زواج الآباء ببناتهم، فهو معروف ومذكور ولكنه قليل، وقد أشير إلى وجوده عند بعض، الشعوب ومنهم المجوس والمصريين،ذكر ذلك اليونان والرومان. وأشار الأخباريون إلى تزوج "حاجب بن زُرارة" ابنته دختنوس" لمجوسيته،وذكروا انه أولدها، وأوردوا في ذلك شعراً وقصصاً، ثم ذكروا انه ندم بعد ذلك على عمله، وانه فعل ذلك بتأثير المجوسية التي دان بها، وحاجب بن زرارة هو من تميم. فالمجوسية على زعم اهل الأخبار هي التي أباحت لحاجب الاقتران بابنته.

ودعوى الأخباريين هذه فيها نظر، والشعر المذكور والقصص الذي يورده أهل الأخبار يحتاج إلى اثبات. وقد رأينا كثيراً منه تعمله معامل الوضع، وقد ثبت وضعه، وليس بمستبعد أن يكون ما ذكره هؤلاء هو من هذا القبيل. وضعه خصوم تميم للطعن فيها، وإلحاق مثلبة بها، ثم رَوجه وأشاعه الطالبون لمثالب القبائل من العرب، وقد كانوا يبحثون عن أمثال هذه السقطات، وهم جماعة لهم رأي في الدين وفي السياسة معروف مشهور.

وفي بعض الاْخبار أن "دختنوس" كانت ابنة "لقيط بن زرارة التميمي"، وأنها كانت تحت "عمرو بن عدس" سمّاها أبوها "دختنوس" باسم ابنة كسرى. وأن البيتين اللذين ينسبهما أهل الأخبار الى "حاجب"، ويزعمون أنه قالها حين نكح ابنته وهما: يا ليت شعري عنك دختنوس  إذا أتاها الخبر المرمـوس

انسحب الذيلين، أم تميس ?  لا بل تميس، إنها عـروس

لم يكونا لحاجب، بل كانا من رجز "لقيط" وقد قالهما يوم شعب جبلة عند موته، وجعلت بنو عامر يضربونه، وهو ميت، وقد رووهما على هذه الصورة: يا ليت شعري اليوم دختنوس  إذا أتاها الخبر المرمـوس

أتحلق القرون، أم تمـيس?  لا بل تميس إنها عـروس

وذكروا أن "دختنوس" أخذت ترثي أباها بأبيات ذكروها. وليس في كل هذه القصة أية اشارة إلى تزوج لقيط بابنته، بل هي تنص على ان زوجها كان "عمرو بن عدس". وأن قصة زواج "حاجب" بابنته قصة مصنوعة.

وقد أشار أهل الأخبار إلى نوع آخر من الزواج قالوا له "نكاح الخدن".

وقد أشير اليه في القرآن الكريم )وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان(، ومعناها اتحاذ أخلاء في السر، وذلك باتخاذ الرجل صديقة له، أو اتحاذ المرأة صديقاً لها. ويكون ذلك بالطبع بتراضٍ واتفاق و "ذات الحدن" هي من اتخذت لها صديقاً واحداً، وقد نهي عن اتخاذ الأخدان في جملة ما نهى عنه الإسلام. وكان الرجل في الجاهلية يتحذ حدناً لجواريه، ليحدث الجارية ويصاحبها ويؤنسها لكي لا تستوحش، وقد يتصل بها، وقد نهى عن هذا النوع من المحادنة أيضاً الإسلام.

و"نكاح الخدن" لا يمكن عدّه نكاحاّ وإن أطلق الأحبار عليه صفة النكاح، لأنه أو يكن بعقد وخطبة، وانما كان صداقة، وآية ذلك ورود "ولا متخذات أخذان" بعد جملة "غير مسافحات" في القران الكريم، والنهي عن القتران بصاحبات الأخذان والمسافحات، لأنهن غير محصنات، فحكم صاحبة الحدن هة حكم المسافحة في الجاهلية على السواء.

وقد ذكر علماء التفسير إن "أهل الجاهلية يحرمون ما ظهر من الزنا ويستحلون ما خفى. ويقولون أما ما ظهر منه، فهو لؤم، وأما ما خفى، فلا بأس بذلك". فالزنا عند أهل الجاهلية، الزنا العلني، فهو عيب عندهم، أما اتحاذ الحدن فلا يعد عيباً، لان المرأة تصادق الرجل، والرجل يصادق المرأة، وقد وقع عن قبول ورضى، فهو عمل حلال، ولا بأس به.

نكاح الظعينة

وإذا سبى رجل امرأة، فله أن يتزوجها إن شاء، وليس لها أن تأبى علية ذلك، لأنها في سبائه، وهي في ملك سابيها. ويكون هذا الزواج بغير حطبة ولا مهر، لأنها مملوكة وليس لها خيار.

أمر الجاهلية في نكاح النساء

وقد لخص "السكري" أمر النكاح في الجاهلية بقوله:" وكان أمر الجاهلية في نكاح النساء على أربع: امرأة تخطب فتزوج. وامرأة يكون لها خليل يختلف اليها، فإن ولدت قالت: هو لفلان، فيتزوجها بعد هذا. وامرأة ذات راية يختلف اليها، فإن جاء اثنان فوافياها في طهر واحد ألزمت الولد واحداً منهما، فهذه تدعي المقسمة. والرجل يقع على أمة قوم، فيبتاع ولدها فيرغب فيدعيه ويشتريها فيتخذها امرأة".

تعدد الزوجات

وقد أباح الجاهليون للرجل تعدد الزوجات، والجمع بين أي عدد شاء من الأزواج دون تحديد. أما الاكتفاء بامرأة واحدة أو باثنتين أو أكثر، فذلك أمر خاص يعود اليه.كما أباح التشريع الجاهلي للرجل امتلاك أي عدد يشاء من الإماء. وتكون الأمة ملكاً للرجل، لأنه اشتراها بذات يمين، وهي ملكه ما دامت أمة في ملك سيدها، فليس لها حقوق الزوجة، ولا تعدّ الأمة زوجة، إلا إذا اعتقها مالك رقبتها وتزوّجها. فعندئذ تكون له زوجة له بمحض قرار الرجل وإرادته.

وقد روى علماء التفسير"أن قريشا كان الرجل منهم يتزوج العشر من النساء والأكثر والأقل". ورووا أن "الرجل في الجاهلية يتزوج العشرة فما دون ذلك"، وأنهم " كانوا في الجاهلية ينكحون عشراً من النساء الأيامى"، وأنهم "كانوا في جاهليتهم لا يرزأون من مال اليتيم شيئاً.وهم ينكحون عشراً من النساء، وينكحون نساء آبائهم"، ولم يكونوا يعدلون بين نسائهم، بل يفضلون بعضاً على بعض، فجاء النهي عن ذلك في القرآن.

وكان مما حدده الإسلام من مبدأ تعدد الزوجات، أن قيد العدد بأربع، وهو تبديل لسنة الجاهليين. فلما نزل الأمر بالتحديد، اضطر من كان قد تزوج بأكثر منه على تطليق الزائد والاكتفاء بالحد القانوني الذي أقره الإسلام وهو أربعة. روي أن "غيلان بن سلمة الثقفي" كَان قد تزوج في الجاهلية بعشر نساء، فلما أسلم، أمره رسول الله بتطليق الزائد وبالتقيد بما جاء في حكم القرآن.وقد أمر الرسول "الحارث بن قيس"، أن يختار من نسائه أربعاً، ويطلق بقيتهن، وكانت عنده ثماني نسوة. وكان "مسعود بن معتب" و "معتب بن عمرو ابن عمير"، و "عروة بن مسعود"، و "سفيان بن عبد الله"، و "أبو عقيل مسعود بن عامر بن معتب"، وكلهم من ثقيف، وقد تزوجوا عشَر نسوة، فنزل غيلان وسفيان وأبو عقيل للاسلام عن ست ست، وأمسكوا أربعا أربعاً.ومات عروة مسلما، ولم يكن أمر بالنزول عن نسائه.

الطلاق

وكما كان الزواج، كذلك كان الطلاق عند الجاهليين. ولا بد أن تكون له قواعد وعرف وأسباب.. وفد ذكر ان عادة أهل الجاهلية أن يقول الرجل لزوجته إذا طلقها: "حبلك على غاربك". أي خليت سبيلك، فاذهبي حيث شئتِ، ويقول: "أنتِ مُخلَّى كهذا البعير"، و "الحقي بأهلك"، و "اذهبي فلا أنده سربك"، و "اخترت الضباء على البقر"، و "فارقتك"، أو "سرحتك"، أو الخلية، أو البرية، ومما شاكل ذلك من عبارات.

ومصطلحات الطلاق هذه مصطلحات نابعة من صميم محيط جزيرة العرب،آثار البداوة عليها واضحة جلية، والروح الأعرابية ظاهرة فيها بارزة، وما الأمثلة المتقدمة إلا نماذج من تلك المصطلحات.

وورد ان الجاهليين كانوا يقولون للمرأة: أنت خلية، كناية عن الطلاق،فكانت تطلق منه. وكانوا يقولون: أنتِ برية أنت خلية، فتطلق بها المرأة.

والطلاق من المصطلحات الجاهلية القديمة، وهو يعني عندهم تنازل الرجل من كل حقوقه الني كانت على زوجه ومفارقته لها.

والطلاق الشائع بين اهل مكة عند ظهور الإسلام، هو طلاق المرأة ثلاثا على التفرقة: وينسب أهل الأخبار سنهُ الى اسماعيل بن ابراهيم، فكان أحدهم يطلق زوجته واحدة، وهو أحق الناس بها، ثم يعود اليها إن شاء، ثم يطلقها ثانية: وله أن يعود اليها إن رغب، حتى إذا استوفى الثلاث انقطع السبيل عنها، فتصبح طالقة طلاقا بائناً ومعنى هذا عدم إمكان الرجوع الى الزوجة بعد وقوع الطلاق الثالث مهما أوجد المطلق له من أعذار. ويذكر أهل الأخبار قصة وقعت للاعشى حينما أتاه قوم زوجه وطلبوا منه تطليقها، ولم يقبلوا منه طلاقها إلا بعد ثلاث تطليقات، اعادها ثلاث مرات. فعد طلاقه لها طلاقاً بائناً.

ويظهر ان الجاهليين كانوا قد أوجسوا حلا لهذا الطلاق الشاذ، فأباحو للزوج أن يرجع زوجه اليه بعد الطلاق الثالث،ولكن بشرط أن تتزوج بعد وقوع الطلاق الثالث من رجل غريب، على أن يطلقها بعد اقترانها به، وعندئذ يجوز للزوج الأول أن يعود اليها بزواج جديد. ولذلك عرف الطلاق البائن: أنه الذي لا يملك الزوج فيه استرجاع المرأة إِلا بعقد جديد. وقد ذكر في كتب الحديث ويقال في الإسلام للرجل الذي يتزوج المطلقة بهذا الطلاق ليحلهّا لزوجها القديم "المحلل" ويقال لفاعله "التيس المستعار" و "المجحش". وهو جلّ مذموم عند الجاهليين ومحرم في الإسلام. لم يعمل به إلا بعض الجهلاء من الناس،ممن لبست لهم سيطرة على أنفسهم، بل يعملون أعمالاً ثم يندمون على ما فعلوه.

وهناك نوع آخر من الطلاق يسميه أهل الأخبار ب "الظهار". ذكروا أنه إنما دعي ظهِاراً من تشبيه الرجل زوجته أو ما يعبر به عنها أو جزء شائع بمحرم عليه تأبيداً، كأن يقول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر امي أو كبطنها، أو كفخذها أو كفرجها، أو كظهر أختي،أو عمتي، وما شابه ذلك، فيقع بذلك الظهِار. وقد أشير اليه في القرآن الكريم: )والذين يظاهرون منكم من نسائهم، ما هن أمهاتهم إن امهاتهم إلاّ اللآئي ولدنهم، وانهم ليقولون منكراً من القول وزوراً (. وهو طلاق يظهر أنه كان شائعاً فاشياً بين الجاهليين، سبب انتشاره التسرع، والتهور، وعدم ضبط النفس، والانفعالات العاطفية.

وكان الظهار من أشد طلاق أهل الجاهلية، وكان في غاية التحريم عندهم. فكان الرجل إذا ظاهر امرأته، بأن قال لها: أنت علي كظهر أمي، حرمت عليه، وصارت طالقاً، فلما كان الإسلام، ظاهر "أوس بن الصامت" أخو عبادة بن الصامت امرأته "خولة بنت ثعلبة بن مالك"، فنزل الأمر بجعل كفارة فيه، ولم يجعله طلاقاً، كما كانوا يعتمدونه في جاهليتهم.

فإذا تخاصموا مع نسائهم أو مع أقربائها، اقسموا يمين الظهار. وقد كان هذا اليمين من أيمان أهل الجاهلية خاصة. ولهذا الطلاق باب في كتب الحديث والفقه في أحكام الطلاق، وقد نهى عنه الإسلام وأوجب الكفاّرة على من ظاهر من امرأته.

وأشار أهل الأخبار إلى نوع آخر من أنواع الطلاق ذكروا انه كان من طلاق أهل الجاهلية سموّه "الإيلاء"، وهو القسم على ترك المرة مدة، مثل شهور أو سنة أو سنتين،أو أكثر، لا يقترب في خلالها منها، وقد أشير اليه في رواية تنسب إلى ابن عباس.

وفي كتب الحديث وكتب الفقه باب خاص في هذا الطلاق. وقد منع الإسلام الترابص مدة تزيد على أربعة أشهر. وقد جعله طلاقاً مؤجلا".

والطلاق حق من حقوق الرجل، يستعمله متى شاء. أما الزوجة، فليس لها حق الطلاق، ولكنها تستطيع خلع نفسها من زوجها بالاتفاق معه على ترضية تقدمها اليه، كأن يتفاوض أهلها أو ولي أمرها أو من توسطه للتفاوض مع الزوج في تطليقها منه في مقابل مال أو جُعْل يقدم اليه. فإذا وافق عليه وطلقها، يقال عندئذ لهذا النوع من الطلاق "الخلع". وقد ذكر أهل الأخبار ان أول خلع كان، هو خلع عامر بن الظرب، وذلك انه زوّج ابنته من ابن أخيه عامر بن الحارث بن الظرب، فلما دخلت عليه: نفرت منه.

فالخلع اذن، هو طلاق يقع بدفع مال، تدفعه المرأة أو أقرباؤها للرجل في مقابل تخلية سبيلها وافتداء نفسها به. ويسًجل في هذا الباب ما تدفعه زوج الأب المتوفى إلى ابنه الذي يتزوجها بعد وفاة أبيه من مال مقابل فراقه لها، وتطليقه إياهاْ.

وكان من الجاهليين من يطلق زوجته، ويفارقها، غير انه لم يكن يسمح لها بالتزوج من غيره حميّة وغيرة، ويهددها ويهدد أهلها إن حاولت الزواج، أو يرضي أهلها وأولياءها بالمال. فلا يجيزوا لها الزواج وقد نهى عن ذلك الإسلام.

وقد يهمل الرجل زوجته، فلا يراجعها ولا يطلقها، ويظل مفارقا لها، الى أن ترضيه بدفع شيء له، فيسمح لها عندئذ- بالطلاق وبالزواج من غيره ويقال لذلك "العضْل". و "كان العضل في قريش بمكة. ينكح الرجل المرأة الشريفة فلعلّها لا توافقه فيفارقها، على أن لا تتزوج إلا بإذنه فيأتي بالشهود، فيكتب ذلك عليها، ويشهد، فإذا خَطبَها خاطب فإن أعطته وأرضته أذن لها، وإلاّ عضلها". وقد حرم العضل في جملة ما حرم من أحكام الجاهليين في الإسلام.

ومن العضل الذي هو منع المرأة من الزواج، أنهم كانوا في الجاهلية إذا مات زوج احداهن، كان ابنه أو قريبه أولى بها من غيره، ومنها بنفسه إن شاء نكحها وإن شاء عضلها. فمنعها من غيره ولم يزوجها حتى تموت.

و"الحميم" الذي كان يرث الرجل إذا كان في الجاهلية، هو الصديق والقريب، والقريب المشفق الذي يهتم لأمر حميمه. ولم يذكر العلماء كيف كان يرث الحميم حميمه، هل كان ذلك عن وصية، أو عن عدم وجود قريب نسب، أو انه حق من حقوق اهل الجاهلية فرضوها بالنسبة إلى الحميم ? وكان الرجل من أهل الجاهلية يطلق الثلاث والعشر:وأكثر ذلك،ثم يراجع ما كانت في العدة، لا حدّ في ذلك، فتكون امرأته. ذكر أن رجلا من الأنصار غضب " على امرأته، فقال لهإ لا أقربك ولا تحلين مني. قالت:كيف ? قال: أطلقك حتى إذا دنا أجلك راجعتك، ثم أطلقك، فإذا دنا راجعتك" وطلق رجل امرأته حتى إذا كادت أن تحل ارتجعها، ثم استأنف بها طلاقاً بعد ذلك ليضارها بتركها حتى إذا كان قبل انقضاء عدتها راجعها، وصنع ذلك مراراً. فما علم الله ذلك منه، جعل الطلاق ثلاثاً. مرتين، ثم بعد المرتين إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان ". وذكر "كَان الطلآق قبل أن يجعل الله الطلاق ثلاثاً، ليس له أمد. يطلق الرجل امرأته مائة، ثم إن أراد ان يراجعها قبل ان تحل كَان ذلك له ". وقد حرم الإسلام هذا الضرر، في الآية: "ا الطلاق مرتين، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ".

والطلاق هو بأيدي الرجال، كما سبق أن ذكرت، بيدهم حلّه وعقده،.

أما النساء فلهن العدة، ولذلك كان بعض النسوة يشترطن على أزواجهن أن يكون أمرهن بإيديهن، إن شئن أقمن، وإن شئن تركن معاشرتهم وأوقعن الطلاق، وذلك لشرفهن وقدرهن. ومن هؤلأء النسوة: سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش الخزرجية، وفاطمة بنت الخرشب الأنمارية، وأم خارجة صاحبة المثل: أسرع من نكاح أم خارجة، ومارية بنت الجعيد، وعاتكة بنت مهرة، والسوا بنت الأعبس. وقد عرفن بكثرة ما أنجبن من ذرية في العرب،وقد تزوجن جملة رجال.

وطريقة طلاق المرأة للرجل في الجاهلية، طريقة طريفة لا كلام فيها ولا خطاب. "كان طلاقهن انهن إن كن في بيت من شعر حوَّلن الخباء،إن كان بابه قبل المشرق حولنه قبل المغرب. وإن كان قبل اليمن حوانه قبل الشام، فإذا رأى ذلك الرجل علم انها قد طلقته، فلم يأتها". وهذه إلطريقة هي طريقة أهل الوبر في الطلاق. ومتى طلقت المرأة زوجها، تركت داره والحي الذي يسكنه، لتعود إلى بيتها والحي الذي تنتمي اليه.

ولما كان الطلاق بيد الرجل في الغالب، لذلك كان أهل الزوجة يكرهون زوجها أحياناً على تطليقها، إذا أرادوا تطليقها منه، بتخويفه أو بضربه أو بما شاكل ذلك من طرق حتى يرضخ لأمرهم، ويعدّ ذلك طلاقاً مشروعاً عندهم، وإن كان قد وقع كرهاً ومن غير رضى الزوج، وعدّ طلاق الغاضب والسكران والهازل طلاقاً عند بعض الجاهليين لصدور صيغة الطلاق من الرجل وتفوهه به.

هذا وللظروف الاجتماعية والاقتصادية التي كانت سائدة في ذلك الوقت دخل كبير في الطلاق. فالطلاق كان سهلاً على ما يظهر، وكان عقوبة أحياناً يوقعها الرجل بامرأته لمسائل بسيطة تافهة، انتقاماً منها أو من ذوي قرابتها لأسباب لا علاقة لها بالزوجية وبالحياة العائلية في أكثر الأحيان، كما ان الفقر والجهل كانا عاملين مهمين في وقوع الطلاق. وإلا فما ذنب امرأة تطلق مثلاً، لأنها منجبة للبنات، لآ تلد إلا البنات، أو لأنها تلد البنات أكثر من الأولاد. وطالما يكون الطلاق من عصبية وهياج ومن سلطان غضب، وحين يهدأ روع المرء يندم على ما فرط منه، و،لذلك شدد الإسلام فيه مع اباحته له لضرورته بأن جعله أبغض الحلال إلى اللّه.

الرجعة

وإذا طلق فلان فلانة طلاقاً يملك فيه الرجعة، يقال: ارتجع المرأة وراجعها مراجعة ورِجاعاً: رجعها الى نفسه بعد الطلاق. والإسم الرجعة.

الحيض

وقد كان لا أهل الجاهلية لا تساكنهم حائض في بيت ولا تؤاكلهم في إناء، "وكانوا في أيام حيضهن يجتنبون اتيانهن في مخرج الدم، ويأتونهن في أدبارهن". وكانوا يتجنبون أن تصبغ المرأة رأس زوجها، أو ان تؤاكله طعامه " أو ان تضاجعه في فراشه، ولا يسمح للحائضة بدخول الكعبة أو بالطواف بها أو بمس الأصنام، لأنها غير طاهرة. بل كان منهم من يعتزل زوجه في بيته، فلا يقترب أو يدنو منها. فهم في ذلك على أمر شديد. وذكر بعض علماء التفسير "أن العرب في المدينة وما والاها كانوا قد استنوّا بسنة بني اسرائيل في تجنب الحائض ومساكنتها ". فما سألوا الرسول عن الحيض أنزل الله: )ويسألونك عن المحيض، قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقّربوهن حتى يطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله". فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه.

ونلاحط وجود بعض التناقض في روايات أهل الأخبار في موضوع الحيض واقتراب الرجل من المحيضة، فبيما هم يذكرون أن الرجل كان لا يؤاكل زوجته ولا يقترب منها، ولا يسمح لها أن تصبغ رأسه أو ان تضاجعه، نراهم يذكرون أنهم كانوا يجتنبون اتيانهن في مخرج الدم، ويأتونهن في أدبارهن، وهذا ما يتفق مع ذلك التشدد المنسوب اليهم، إلا أن يكونوا قد قصدوا به قوماً آخرين غير أهل يثرب، كأهل مكة، فنقول عندئذ إنهم لم يكونوا على تشدد أهل المدينة في موضوع الحيض، وإنما امتنعوا فيه من اتيان أزواجهم من حيث امر الله: إلى اتيانهن في أدبارهن لعلة الدم. أما بالنسبة إلى بقية العرب، ولا سيما الأعراب، فنحن لا نستطيع أن نتحدث عن ذلك بشيء لعدم وجود موارد لدينا فيها أي شيء عنده.

العدة

وعلى المرأة في الإسلام اتخاذ "العدة" عند طلاقها وعند موت زوجها، والغاية من ذلك المحافظة على النسب، وعلى الدماء كراهة أن تختلط بالزواج إلعاجل بعد الطلاق أو الموت، فوضعوا لذلك مدة لا يسمح فيها للمرأة خلالها بالزواج تسمى "العدة". "وعدة المرأة ايام قروئها، وعدتها أيضاً ايام احدادها على بعلها وإمساكها عن الزينة شهوراً كان أو اقراءً أو وضع حمل حملته من زوجها".

وقد ذكر في الحديث ان المطلقة لم تكن لها عدة، فأنزل الله تعالى العدة، للطلاق والمتوفى زوجها، اي ان عدة المطلقة لم تكن معروفة في الجاهلية، وانما فرضت في الإسلام. فكانت المرأة المطلقة تتزوج في الجاهلية دون مراعاة لعدة، واذا كاانت حاملاً، عد حملها مولوداً من زوجها الجديد. ويكون الزوج عندئذ والداً شرعياً لذلك المولود، وان كانت الأم تعرف ان حملها هو من بعلها الأول.

"وقد ولد منهن عدة على فرش أزواجهن من آزواجهن الأولين. فمن اولئك ان سعد ين زيد مناة بن تميم، تزوج الناقمية وهي حامل من معاوية بن بكر ابن هوازن، فولدت على فراش سعد، صعصعة. فلما مات سعد، منعه بنوه ميراثه فلحق بأصله". "ومنهم ربيعة بن عاصم بن جزء بن عبد الله بن عامر ابن عوف ابن عقيل. كانت أمه من جعفى، فكانت تحت "الفغُار" الجعفى، وهو هبيرة بن النعمان. فطلقها وهي حامل بربيعة. فتزوجها عاصم. فولدت بعد ثلاثة أشهر على فراشه. فخاصمه فيه الفغار إلى عمر بن الخطاب، رحمه الله. فقضى بربيعة للفغار، بقول امه انه من جعفي. وقضى فيه على انه للعقيلي، لأنه ولد على فراشه". "ومنهم محمد بن عمير بن عطارد بن حاجب بن زرارة، وكان عمير سبى أم محمد هذا في أول الإسلام، وهي حامل من مالك بن عوف النصري، فولدت محمدا على فراش عمير، فلحق به". وقد تعرّ ض "السكري" لهذا الموضوع، فقال: " وهذا في قريش والعرب كثير. ولو أردنا استقصاءه لكثر.

وأما "عدة" المتوفى عنها زوجها عند الجاهليين، فهي مدة حدادها حولا" كاملا". وقد أبطلها الإسلام. إذ جعل العدة للطلاق والوفاة، كما نص عليها في كتب الفقه. وقد ذكر ان المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشاً ولبست شرّ ثيابها ولم تمس طيباً حتى تمرّ بها سنة، ثم تؤتى بدابة حمار أو طائر فتفتض به، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمى بها ثم تراجع بعد ما شاءت من طيب أو غيره.

وذكر أن المعتدة كانت لا تمس ماء ولا تقلم ظفراً ولا تزيل شعراً، ولا تستعمل طيباً، ولا كحلاّ، ثم تخرج بعد الحول بأقبح منظر. وكانت إذا رمدت، أو اشتّكت عين لها، فلا يجوز لها أن تكتحل او ان تعالجها. وفي ذلك يقول لبَيد: وهُمُ ربيع للمجـاور فـيهـمُ  والمرملات إذا تطاول عامها

وإذا طلقت المرأة وهي عالقة من زوجها، وتزوجها زوج آخر، فولدت له مولوداً في وقت لا يمكن أن يعدَ المولود فيه من زوجها الثاني، عدّ المولود ولداً للزوج الجديد. أما الإسلام " فقد اعتبره ولداً للزوج المطلق.

النفقة

ويظهر من كَتب الحديث أن الجاهليين لم يكونوا يؤدون نفقة للمطلقة، ولم يكونوا يجعلون شيئاً لها للسكن ولا للنفقة في الطلاق البائن.

النسب

وينسب الولد في العرف الجاهلي إلى الأب. وعرفهم في ذلك "الولد للفراش". وهو يرث والده. ولهذا ألحق أولاد الزنا بابائهم فنسبوا اليهم. أما إذا كثر أزواج المرأة، فيلحق المولود بالوالد، حسب قول المرأة أو حسب الشبه إن وقع خلاف في ذلك.

والاستلحاق معروف في الجاهلية. وهو ان يعترف رجل بأبوته الحقيقية لولد، ويدعيه ابناً له، فيلحق هذا الابن به. ورد في الحديث: "ان النبي صلى اللّه عليه وسلمَ قضى ان كل مستحق استلحق بعد أبيه الذي يدعى له، فقد لحق بمن استلحقه"، "وذلك انه كان لأهل الجاهلية إما بغايا، وكان سادتهن يلمّون بهن فإذا جاءت احداهن بولد ربما ادعاه السيد والزاني، فألحقه النبي، صلى الله عليه وسلم بالسيد، لأن الأمة فراش كالحرة،فإن مات السيد ولم يستلحقه ثم استلحقه ورثته بعده، لحق بأبيه، وفي ميراثه خلاف.

واذا استلحق الرجل ولد أمته به، صار ولده. لأن سادات الإماء كانوا يتصلون بإمائهم في الجاهلية من غير عقد زواج، باعتبار ان الأمة ملك مالكها وسيدها، فله حق إلحاق أبنائها به إن شاء.

التبني

وقد اعترفت شريعة الجاهليين ب "التبني"، فيجوز لأي شخص كان أن يتبنى، ويكون للمتُبني الحقوق الطبيعية الموروثة المعترف بها للابناء. و يكون بهذا التبني فرداً في العائلة التي تبنته، له حق الانتماء والانتساب اليها. وهو يتم بالاتفاق والتراضي مع والد الطفل أو ولي أمره أو صاحبه: مالكه، وذلك بالنزول عن كل حق له فيه، ومتى تم ذلك وحصل التراضي، يعلن المتبني عن تبنيه للطفل وإلحاقه به، فيكون عندئذ في منزلة ولده الصحيح في كل الحقوق. والعادة إشهاد جماعة من الناس على التبني حتى لا يحدث نزاع على المتبنى فيما بعد. ولم يرد في روايات أهل الأخبار ذكر عدد الشهود الواجب إشهادهم على صحة التبنيّ. فقد كانوا يعلنون عنه في الأماكن العامة وفي المناسبات وفي بيوتهم الخاصة كما ذكرت. والتبني معروف عند جميع الأمم. وقد وضعت شرائعهم له قواعد وقوانين كي تحفظ حقوق اصحاب المولود وحقوق المتبني وحقوق المُتبنى، قلا يضيع حق من حقوق هؤلاء.

ويقع التبني جمع وجود أولاد للمتنبي، وليست له حدود من جهة العمر.

الزنا

والخيانة الزوجية تستوجب عقوبة صارمة، لأنها زنا، وعقوبتها الموت عند العرب، كما اشار إلى ذلك "س ترابون" في اثناء كلامه على ا لعرب. والزاني هو من يتصل بامرأة محصنة غريبة عنه. وقد كان العبرانيون يعاقبون الزاني والزانية بالرجم بالحجارة حتى الموت وهما يعاقبان هذه العقوبة في الإسلام، ولا أستبعد اًن تكون هذه العقوبة عقوبة جاهلية أقرها الإسلام في جملة ما أقر من احكام كان يسير عليها الجاهليون.

وقد كان الزنا معروفاً في الجاهلية يفعله الرجال علناً، إذ لم يكن هذا النوع من الزنا محرماً عندهم. واذا ولد مولود من الزنا وألحقه الزاني بنفسه، عد ابناً شرعياً له، له الحقوق التي تكون للابناء من الزواج المعقود بعقد. ولا يعد الزنا نقصاً بالنسبة للرجل ولا يعاب عليه، لأن الرجل رجل، ومن حق الرجال الاتصال بالنساء. وقد كانوا يفتخرون به.

وذكر ان أول من حكم ان الولد للفراش في الجاهلية أكثم بن صيفي حكيم العرب، ثم جاء الإسلام بتقريره. فقد ورد في الحديث: "الولدَ للفراش وللعاهر الحجر.

ويذكر أهل الأخبار أن الرجم لم يكن معروفاً بين الجاهليين، وان اول من رجم "ربيع بن حدان" ثم جاء الإسلام بتقريره في المحصن.

ولا يوجد لدينا رأي واضح عن قذف الرجل زوجته واتهامه إياها بالزنا. أما في الإسلام فقد شرع "الملاعنة". والإمام يلاعن بينهما. ويبدأ بالرجل، ثم يثني بالمرأة. فإذا تم التلاعن بانت منه ولم تحل له أبدأَ، وإن كانت حاملاً فجاءت بولد فهو ولدها ولا يلحق بالزوج.

والزنا الذي يعاقب عليه الجاهليون، هو زنا المرأة المحصنة من رجل غريب بغير علم زوجها. وهو خيانة وغدر. أما زنا الإماء، فلا يعدّ عيباً إذا كان بعلم مالكهن وبأمره. وقد مر الكلام عليه في مواضع من هذا الفصل، كما مرّ الَكلام على بنوة المولود من الزنا. لذلك عيرت المرأة الحرة المحصنة، ان زنت ومست به.

وورد في كتب الحديث والسير، أن " طفيل بن عمرو بن طريف" الدوسي: لما جاء الى رسول الله وأسلم، سال: " ان دوساً غلب عليها الزنا والربا، فادع الله عليهم. فقال اللهم اهد دوساً".

أما الرجل، فلا يلحقه أذى إن زنى بامرأة. بل كان كما قلت يفتخر باتصاله بالنساء، ويعدّ ذلك من الرجولة. وليس لامرأته ملاحقته شرعاً على زناه.

وقد يلحقه أذى من ذوي امرأة محصنة إن زنى بها، انتقاماً منه،لهدره شرفهم وإلحاقه الضرر بهم.

كسب الزانية

يعود كسب الزانية إلى مولاها ومن يملك رقبتها، لأنها مملوك، والمملوك وما يملك ملك سيده. وكانوا يكرهون إمائهم - كما ذكرت - على البغاء، فأنزل الله تعالى )ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً، لتبتغوا عرض الحياة الدنيا( والعرض هو كسب البغي. فحرم ذلك في الإسلام. وكان المالك يفرض على الأمة ضريبة تؤديها بالزنا. وقيل لا تكون المساعاة إلاّ في الإماء. وقد أبطل الإسلام ذلك، ولم يلحق النسب بها، وعفا عما كان منها في الجاهلية ممن ألحق بها. ومن ساعى في الجاهلية، فقد لحق بعصبته.

وأتى في نساء أو إماء ساعين في الجاهلية فأمر بأولادهن " أن يقوّمواعلى آبائهم ولا يسترقوا، أي أن تكون قيمتهم على الزانين لموالي الإماء،ويكونوا أحراراً لاحقي الأنساب بابائهم الزناة.

الوصية

والوصية: ما أوصيت به، وسميت وصية لاتصالها بأمر الميت، وذلك بأن يكتب الرجل ما يراه بشأن ما يتركه بعد وفاته. ويكون من يعهد اليه أمر تنفيذ ما جاء في الوصية وصياً ولم يكن صاحب الوصية مقيداً بقيود بالنسبة لكيفية توزيع ثروته، لأن المال ملك صاحبه وله أن يتصرف به كيف يشاء. ويجوز للموصي إن شاء حرمان من يشاء من الورثة الشرعيين من إرثهم، وإشراك من يشاء في الإرث. وله أن يوصي بإعطاء كل إرثه إلى شخص واحد، وأن يحرم من الإرث كل المستحقين الشرعيين.

ويكون الابن الأكبر هو المقدم على سائر أولاد المتوفى، والمشرف على تقسيم الميراث وادارة التركة و حمل اسم الميت وتمثيله، ولذلك تنتقل الإمارة أو الرئاسة، أو الزعامة الى الابن الأكبر في العادة إن كان المتوفى أميراً أو رئيساً. وتقديم الابن الأكبر على سائر الأبناء، عادة سامية قديمة حتى انها تمنحه زيادة في الميراث عن بقية اخوته.

الإرث

وأسباب الميراث: النسب والتبني والموالاة.

ويراعى في الوراثة من النسب، درجة القرابة،أي صلة الرحم حسب درجاتها ومقدار التحامها بالشخص المتوفى. فتأتي البنوة أولاً، فالأبوة، فالأخوة، ثم العمومة. وقد قدمت الاخوة أولاً لأنها الصق القرابات بالمتوفى، لذلك تقدم على كل قرابة أخرى.

والقاعدة العامة في الميراث عند الجاهليين هو أن يكون الإرث خاصاً بالذكور الكبار دون الاناث، على أن يكونوا ممن يركب الفرس ويحمل السيف، أي المحارب. "كان أهل الجاهلية لا يورثون الجواري ولا الصغار من الغلمان. لا يرث الرجل من ولده إلا من أطاق القتال. "لأن أهل الجاهلية، كانوا لا يقسمون من ميراث الميت لأحد من ورثته بعده، ممن. كان لا يلاقي العدو ولا يقاتل في الحروب من صغار ولا النساء منهم، و كانوا يخصون بذلك المقاتلة دون الذرية.

وقد جاء في الأخبار ما يجعل المرأة في ضمن تركة المتوفى وذلك إذا لم تكن أم ولد. ويكون من حق الابن البكر التزوج بها، وإذا لم تكن له نفس بها، انتقل حقه فيها إلى الولد الثاني. وإذا لم يرغب فيها انتقل حقه الى بقية الورثة بحسب قربهم من الميت وحقهم في الميراث. ومن حق الولد البك أيضاً منع المرأة من التزوج إلاّ بعد ارضائه، وكذلك من حق بقية الورثة المطالبة بهذا الحق إذا لم صارت زوج المتوفى المذكور من حقهم، لأنها من تركة ميتهم، والتركة هي تركتهم وملكهم، ولا يجوز لأحد مجادلتهم في هذا الحق.

والأخبار متضاربة في موضوع إرث المرأة والزوجة في الجاهلية، وأكثرها أنها لا ترث أصلاً. غير أن هناك روايات يفهم منها اًن من الجاهليات من ورثن أزواجهم.

وذوي قرباهن، وأن عادة حرمان النساء الإرث لم تكن سنة عامة عند جميع القبائل. ولكن كانت عند قبائل دون قبائل. وما ورد في الأخبار تخص على الأكثر أهل الحجاز.

العصبة

ويرث العصبة وهم أقرباء الميت من الرجال، وهم مقدمون على الاخوات في الإرث. فإذا توفي الرجل، ولم يكن له من الذكور من يرثه ولا أب، يصرف إرثه إلى اخوته أو عصبته،ان لم يكن له إخوة، ولا يدفع الى الأخوات. فلما جاء الإسلام، جعل للبنات والنساء حقاً في الميراث، ويسمى هذا الإرث أ "إرث الكلالة".

وقيل: العصبة: هم الذين يرثون الرجل عن كلالة من غير والد ولا ولد." وهم الأقارب من جهة الأب، وعصبة الرجل: أولياؤه الذكور من ورثته.

فالأب طرف والابن طرف، والعم جانب والأخ جانب. والجمع العصبات. وقد قال "ابن الاثير" في تعريف "الكلالة": الأب والابن طرفان للرجل إذا مات ولم يخلفهما، فقد مات عن ذهاب طرفيه، فسمي ذهاب الطرفين: كلالة. وقيل ما لم يكن من النسب لحاً فهو "كلالة". والعرب تقول: لم يرثه كلالة، أي لم يرثه عن عرض بل عن قرب واستحقاق. وهم يفتخرون بوراثة قرب، لأنها إنما جاءت عن نسب قريب وعن اب، وفي ذلك يقول عامر بن الطفيل: وما سودّتني عامر عن كلالة  أبى الله أن أسمو بأم ولا أب

وكانوا إذا قالوا: "هو ابن عم كلالة"، قصدوا بعيد النسب.وان أرادوا القرب قالوا: هو ابن عم دنية. فالكلالة معروفة في الجاهلية فهذّبها الإسلام ونزل النص عليها وفي تعيينها في القران.

وقد ذهب بعض العلماء إلى ان "الكلالة" كل من لا ولد له ولا والد. وقيل ما لم يكن من النسب لحاً فهو كلالة. وقالوا: هو ابن عم الكلالة وابن عم كلالة.

وقال بعضهم إذا لم يكن ابن العم لحاً، وكان رجلا من العشيرة قالوا هو ابن عمي الكلالة، وابن عم كلالة. وهذا يدل على ان العصبة وان بعدوا كلالة.

أو الكلالة من تكلل نسبه بنسبك كإبن العم وشبهه. يقال هو مصدر من تكله النسب، أي تطرفه كأنه أخذ أحد طرفيه من جهة الولد والوالد، وليس له منهما أحد، فسمي بالمصدر. أو هي الأخوة للأم. تقول لم يرثه كلالة أي لم يرثه عن عرض بل عن قرب.

وقد ذكرت الكلالة في موضعين من القرآن الكريم: " وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة و له أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس ". و " يستفتونك.قل: الله يفتيكم في الكلالة. إن امرؤ هلك، ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك ". فجعل الكلالة هنا الأخت للأب والأم والاجرة للاب والأم. وجعل للاخت الواحدة نصف ما ترك الميت وللاختين الشين وللاخوة والأخوات جميع المال بينهم للذكر مثل حظ الانثيين. وجعل للاخ والأخت من الأم في الآية الأولى الثلث لكل واحد منهما. السدس فبين بسياق الايتين أن الكلالة تشتمل على الأخوة للام مرة، ومرة على الأخوة والأخوات للام والأب. ودل قول الشاعر أن الأب ليس بكلالة، وأن سائر الأولياء من العصبة بعد الولد كلالة: وهو قوله: فإن أبا المرء أحمى لـه  ومولى الكلالة لا يخضب

أراد أن أبا المرء أغضب له إذا ظلم. وموالي الكلالة وهم الاخوة والأعمام وبنو الأعمام وسائر القرابات لا يغضبون للمرء غضب الأب. او الكلالة بنو العم الأباعد، أو الكلالة من القرابة ما خلا الوالد والولد. أو هي من العصبة من ورث منه الاخوة للام. وقد لخص بعضهم اراء العلماء في الكلالة في أقوال سبعة.

إرث النساء

وهناك رواية تذكر أن أول من جعل للبنات نصيباً في الإرث من الجاهليين هو "ذو المجاسد" عامر بن جشم بن غنم بن حبيب بن كعب بن يشكر، ورّث ماله لولده في الجاهلية، فجعل للذكر مثل حظ الانثيين فوافق حكمه حكم الإسلام.

ويذكر علماء الأخبار أن رجلاً من الأنصار مات قبل نزول آية المواريث، وترك أربع بنات، فأخذ بنو عمه ماله كله. فجاءت امرأته النبي تشتكي مما فعله بنو عم المتوفى ومن سوء حالها وعدم تمكنها من إعالة بناتها، فنزل الوحي )للرجال نصيب مما ترك الوالدان و الأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان و الأقربون". ثم نزلت آية الميراث: لا يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين(. وبذلك انتفت سنة الجاهليين في عدم توريث البنات.

وقد نزلت الآيتان من أجل ان أهل الجاهلية كَانوا يورثون الذكور دون الاناث. فكان "النساء لا يرثن في الجاهلية من الآباء، وكان الكبر يرث ولا يرث الصغر، وإن كان ذكراً". وقد ذَكر بعض العلماء ان آية: "للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون"، "نزلت في أم كحة وابنة كحة وثعلبة وأوس ابن سويد، وهم من الأنصار. كان أحدهم زوجها والآخر عم ولدها. فقالت: يا رسول الله توفي زوجي وتْركتي وابنته، فلم نورث فقال عم ولدها: يا رسول الله لا تركب فرساً، ولا نحمل كلا. ولا تنكأ عدواً يكب عليها، ولا تكتسب. فنزلت للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون. وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون، مما قلّ منه أو كثر، نصيباً مفروضاً". وذكروا ان نزول الآية "يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين"، انما كان "لأن أهل الجاهلية كانوا لا يقسمون من ميراث الميت لأحد من ورثته بعده ممن كان لا يلاقي العدو ولا يقاتل في الحروب من صغار ولده ولا للنساء منهم. و كانون يخصون بذلك المقاتلة دون الذرية، فأخبر الله جل ثناؤه ان ما خلفه الميت بين من سمي وفرض له ميراثاً في هذه الآية.وفي اخر هذه السورة فقال: في صغار ولد الميت و كبارهم واناثهم لهم ميراث أبيهم، إذا لم يكن له وارث غيرهم للذكر مثل حظ الانثيين". وذكر انه "لما نزلت الفرائض التي فرض الله فيها مما فرض للولد الذكر والأنثى والأبوين كرهها الناس أو بعضهم، وقالوا: تعطى المرأة الربع والثمن، وتعطى الابنة النصف، ويعطى الغلام الصغير وليس من هؤلاء أحد يقاتل القوم ولا يحوز الغنيمة، اسكتوا عن هذا الحديث لعل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ينساه أو نقول له فيغيره،فقال بعضهم: يا رسول الله أ نعطي الجارية نصف ما ترك أبوها، وليست تركب الفرس ولا تقاتل القوم ? ونعطي الصبي الميراث، وليس يغني شيئاً، وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية لا يعطون الميراث إلا من قاتل، ويعطونه الأكبر فالأكبر". وعجز اليتامى عن الدفاع، وعن تحصيل حقهم في الميراث، جعل الورثة الكبار يأكلون اموالهم وحقوقهم، ولا يؤدون لهم نصيباً في الإرث. ولهذا وبخ القرآن الكريم أهل الجاهلية على اكلهم أموال اليتامى، وحرم ذلك عليهم، وحافظ على نصيبهم فيه، وحمى اليتيم ودافع عنه كثيراً، وقد كان الرسول نقسه يتيما، لاقى من قومه ما يلاقيه كلّ يتيم.

ويرث في شريعة أهل الجاهلية المُتبَنوّن. فإذا مات المُتبنى وترك إرثاً ورثه من تبناه، وان مات المتبني، أيَ الشخص الذي تبنى المتبنى، ورثه ايضا تماماً كما لو كانت البنوة بنوة طبيعية.حتى إنهم كانوا يراعون ذلك في أحكام الزواج. والحلف كالموالاة من أسباب الإرث في نظر الجاهليين لأن القاعدة أن حليف القوم منهم. وابن اخت القوم منهم، ولا بد لعقد الحلف من اشهاد شهود عليه. ليقف الناس عليه. وفي مكة كان الناس يعقدونه في الكعبة، ومن أنواع الحلف، أو الموالاة كما يعبر عن ذلك أيضاً، "مولى العقد أو مولى الموالاة. وذلك تمييزاً له عن مولى الولادة أو مولى الرحم، وعن مولى العتق أو مولى العتاقة.

واذا مات الرقيق وترك إرثاً، صار إرثه لمالكه. وإذا مات المعتق ورثه معتقه.

ميراث السائبة

والسائبة العبد الذي يقول له سيدّه: لا ولاء لأحد عليك، أو أنت سائبة. يريد بذلك عتقه وأن لا ولاء لأحد عليه. وقد يقول له: أعتقتك سائبة أو أنت حرّ سائبة، فإذا مات فترك مالاً، ولم يدع وارثاً، فإن أهل الجاهلية كانوا يسيبون، وان أهل الإسلام لا يسيبون.

وحرم الهجين من حق الإرث في الغالب. كذلك السائبة، وهم الرقيق الذي اعتق بغير ولاء.

الفصل الثامن والخمسون

الملك والإعتداء عليه

الملكية

والملكية حق محترم عند الجاهليين، ولصاحب الملكية حق المحافظة على ما يملك والدفاع عنه.وتدخل في ملكية الإنسان كل ما ملكه أو استولى عليه ولم ينتزعه منه أحد، مثل الغنائم والسلب والأسر وما شابه ذلك. وعلى المالك الدفاع عن حقه في ملكه واثباته. ومن أنواع الملكية: تملك العقار، وبقية الأشياء الثابتة، والأموال المنقولة.

ويعبر عن تملك الإنسان لشيء ما، وعن اقتنائه لملك بلفظة "اقنى" "أقنى"، أي أملاك وممتلكات. وعن لفظة "اقنيس"، بمعنى ممتلكاته وأملاكه وذلك في اللهجة المعينية. ويعبر عنها بلفظة "اقنيم" في اللهجة السبئية. وأما لفظة "ذقنى" فتعني ما امتلكه وما يمتلكه. فذي بمعنى الذي، وما هي ما الموصولة في عربيتنا. و "قني" بمعنى مقتنيات.

والملكية نوعان: ملكية ثابتة وملكية متنقلة. ومن النوع الأول العقار،مثل الدور والأرض. ومن النوع الثاني المال، وهو الإبل عند الجاهليين بصورة خاصة والمواشي بالنسبة للمزارعين. والرعاة وأهل المدن، واثاث البيت، سواء كان البيت مستقراً مثل بيوت أهل المدر أو متنقلاً مثل بيوت أهل الوبر. وأغلب ملك الأعراب هو ملك متنقل. وذلك لأن الحياة التي يحيونها هي حياة تنقل، أما الملك الثابت، أي الأرض، فإنه ملك لهم ما داموا فيه، فإذا ارتحلوا عنه، انتقلت ملكيتهم إلى الأرض الجديدة الني ينزلون بها فيمتلكونها طوعاً، أي من غير مقاومة، أو بحق السيف.

ويدخل في باب الملك كل شيء وضع ليستفاد منه أو ليدل على حماية ملك،أو يفهم من وضعه انه ذو فائدة وان له صاحباً، كجدران الأملاك وحيطان البساتين أو سور القرى أو الرجمات، وهي أحجار القبور. وقد عثر المنقبون على رجام في مواضع مختلفة من جزيرة العرب، كتب عليها: ان لعنة الالهة على من يرفع هذا الحجر عن موضعه وعلى من يغيره أو يأخذه أو يتصرف به. كما سألوا الآلهة بأن تنزل الأمراض ومنها العمى والبرص وأنواع الأذى، والشر بكل من يتطاول على هذه الرجام، أو على معالم القبور أو القبور وذلك لأنها ملك. ولا يجوز لأحد التصرف بملك غيره بأي وجه من الوجوه.

الشفعة

وقد أخذ الجاهليون بحق الشفعة في شراء الملك، كالدور والأرض. وقد أقرها الإسلام أيضاً.

ا لرق.

الأصل في الإنسان أن يولد حراً، إلا أن يكون من رقيق، يولد عندئذ رقيقاً، ويكون ملكاً لمالك والديه. والانسان الحر، هو حر في تصرفاته وفي أمواله، وفي كل شيء. أما الرقيق، أي العبد، فإنه يكون ملكاً لمالكه، ليس له حق التصرف بنفسه إلا بإذن مالكه، لأنه ملك سيده، فإذا تصرف بنفسه، أضر بحق سيده في تملكه له. وفي ذلك تجاوز على حقوق الملكية، وإن كان الرقيق انسانا مثل سيده له حس وشعور، إلا انه فقد حريته بسقوطه في الرق، وصار ملكاً لمالكه، وحكمه حكم الأشياء المملكة، وليس له أن يتصرف بأي شيء يعود اليه ولا أن يتصرف بنفسه، أي بجسمه إلا بموافقة سيده وإقراره لأنه سيده ومالك رقبته.

ولما كان الرقيق ملكاً ومن حق المالك أن يتصرف بملكه كيف يشاء، صار من حق المالك بيع رقيقه أو اهدائه، أي اعطاءه هبة الى من يشاء دون حاجة الى أخذ ذلك الرقيق، كما كان من حقه عتق رقبته. كما كان له حق الاستمتاع بالإماء واكراههن على البغاء للاتيان بالمال أو لإنجاب الأولاد. ولم يكن للرقيق أن يملك شيئًا، لأن الرقيق وما يملكه ملك للمالك. ولم يكن للرقيق حق التوريث لا إذ لا مال له، لأنه وما يملكه ملك مالكه. فإرثه لسيده وحده.

وقد حرم الإسلام على مالك الرقيق دفع إمائه على البغاء. وقد نزلت الحرمة في القرآن: )ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً (. وكان سبب نزول هذه الآية أنهم "كانوا في الجاهلية يكرهون اماءهم على الزنا، يأخذون أجورهن. فقال الله لا تكرهوهن على الزنا من أجل المنالة في الدنيا". "وذكرأن هذه الآية أنزلت في عبد الله بن أبي بن سلول حين أكره امته مسيكة على الزنا "، وكانت تكره ذلك وحلفت أن لا تفعله فأكرهها لتأتيه بمزيد من المال. فنزلت الآية في تحريم ذلك.

ومن معاني "الرق"، "العبودية" Slavery، و تقابلها لفظة "عبوداه" Abodah في العبرانية. والمفرد "عبد" Abed في العبرانية اًيضاً. والذكر "مملوك". أما الأنثى، فإنها "أمة". والرق ملك العبيد والرقيق المملوك منهم وجمعه أرقاء. والمملوك، هو الرقيق، فيقال عبد مملوك، و "المِلْكة" تختص بملك العبيد. ويعبر عن العبد بلفظة "المدين" أيضاً. أما "الأمة" فيقال لها: "المدينة".

ويعبر عن المملوك بلفظة "ادم" في العربيات الجنوبية، إذا كَان المملوك ذكرا وب "أمت" إذا كان أنثى. وتقابل لفظة "ادم" لفظة "أو ادم " و "أوادمنا"، في لهجة أهل العراق، التي تعني " الخدم" و "خدمنا". وأما لفظة "أمت"، فإنها "أمة" في عربيتنا أيضاً، وهي المملوكة.

ويعبر عن الرقيق بلفظة "عبد" في اللحيانية " أي بالتعبير المستعمل في عربيتنا وترد اللفظة في لغة بني إرم وفي لغة النبط كذلك.

واستعملت اللحيانية لفظهَ "هغلم" "ها - غلام" "ها - غلم"، أي "الغلام" تعبيراً عن "مملوك"، أي انسان غير حرّ. وقد قدم أحد اللحيانيين ثلاثة غلمان ليكونوا في خدمة ألإلهَه "ذو غابت" "ذو غابة". وليس لصاحب هؤلاء الغلمان أية حاجة لأن يأخذ رأيهم في تقرير مصيرهم، وفي تحويل رقبتهم من ملكه إلى ملك معبد ذلك الإلهَ، لأنه مالكهم وللمالك أن يفعل بملكه ما يشاء.

ولمالك الأسير، حق التصّرف بأسره، كما يشاء، يجوز له بيعه لقبض ثمنه في أي مكان وفي أي زمان يشاء ويختار، ليس لرقيقه حق الاعتراض على مالكه، لأنه "ملك يمين"، ويجوز له ابقاؤه عنده وفي ملكه ليعهد اليه القيام بأي عمل يكَلفه إياه، مهما كان شانه، سواء أكان عملا" محترماً أم عملاً وضيعاً، لأنه مملوك، وليس لمملوك حق الاعتراض على مالكه. ويجوز أن يتفضل عليه بمنحه الحرية، فيكون انساناً حرا. ويجوز له أن يقّاضي أهل الأسير ثمن أسيرهم، ومتى قبض ثمنه أعاده إلى أهله، وصار حراً. ويقال لأخذ عوض عن الأسير لفك أسره "الفداء".

ولا يشترط في الأسر أن يكون في حالة الحرب فقط،فقد يقع في سلم أيضاً، فإذا أدرك انسان انساناً اخر من قبيلة معادية وتمكن منه صار أسيره. كما ان ما يقع في أيدي المغيرين في الغارات والغزوات من أشخاص يكونون في حكم المأسورين. أما "السبي"، فإنه ما يسبى بعد الحرب، وحكمه حكم الأسر. والغالب عند الجاهليين هو فداء أسراهم، أي دفع فدية عن الأسرى أو مقايضتهم أسيراً بأسير، أو بحسب الاتفاق إن كان هناك أسرى عند الطرفين. ولا يقع الرق في الغالب إلا في حالات الأشخاص الضعاف الذين لا أهل لهم، أو الذين هم من عشائر مستضعفة أو بعيدة، أو في حالات الذين وقعوا أسرى في غارات مفاجئة من أناس يقيمون في أماكن بعيدة أو نهبوا وهم صغار، فلم يكن بالمستطاع ملاحقتهم، فيكونون بذلك رقيقاً، وهو في القليل،كالذي حدث ل "زيد بن حارثة الكلبي"، الذي تبناه الرسول. وقد كان مولى لخديجة زوج الرسول.

وليست في الأفدية قواعد معينة في فداء النفس، وانما سارت على التعامل وعلى التشدد والتساهل وفق منزلة الشخص الأسير. ويكون ما للأسير مما عند ملكاً لآسره، وقد وقع "قيس بن عيزارة" أسيراً في أيدي "فهم" فأخذ سلاحه "تأبط شرا".

ووقع "ثابت بن المنذر" والد "حسان بن ثابت" شاعر الرسول في أسر "مُزيَنة"، فعرض عليهم الفداء، "فقالوا:.لا نفاديك إلا بتيس، ومزينة تسب بالتيوس، فأبى وأبوا. فلما طال مكثه، أرسل إلى قومه أن اعطوهم أخاهم، وخذوا أخاكم". وقصده بذلك التعريض بمزينة.

وقد بقي السباء معروفاً حتى أيام "عمر" فمنعه بقوله: "لا سباء على عربي".

ويذكر أن "أبا وجزة يزيد بن عبيد" من "سُليَم"، وقع أبوه في سباء في الجاهلية،في سوق ذي المجاز. فلما كبر، استعدى عمر، فأصدر أمره المذكور.

والمنبع الأول للرقيق الحروب والغزوات. فبعد الحرب والغزوات يؤخذ من يقع في أيدي المحاربين من الرجال والنساء والأطفال "أسرى"، و يكونون غنائم لآسريهم. أما العدد الضخم منهم الذي يقع في أيدي الجيش ولا يكون في استطاعة المحارب أن يفرض ملكيته عليه، وذلك بوضعه تحت حيازته، فيكون ملكاً للحكومة أو للقبيلة، تتصرف به على وفق قوانينها وقواعد أحكامها ورأيها.

والمنبع الثاني من منابع الرقيق، أسواق النخاسة، ومنها أسواق تقع في بلاد العرب نفسها، يؤتى بالرقيق اليها لبيعه فيها، واسواق تقع في خارج بلاد العرب، يذهب اليها النخاسون لشراء ما فيها من هذه البضاعة البشرية. ولما كان الرقيق المشترى هو من أماكن بعيدة ومن غير العرب، كان مضطراً إلى استرضاء سيده وخدمته على النحو الذي يرضيه ابقاء على حياته. وحكم هذا الرقيق هو حكم أي شيء يشتريه إنسان بماله اي انه ملك صاحبه، ولصاحبه حق التصرف به كيف يشاء، إن شاء باعه وإن شاء جعله في خدمته،وليس للرقيق أي حق في الاعتراض، وإن كان بشراً ذلك لأنه رقيق. وقوانين الرق في ذلك الزمن وفي سائر أنحاء العالم تعد الرقيق ملكاً لا يختلف في طبيعته عن أي نوع من أنواع الملكية.

ونوع آخر من أنواع الرقيق، تكوّن من بيع الآباء لأبنائهم عن حاجة، كان تكون الأسرة في عسر وضيق،فلا يكون أمامها غير بيع أبنائها لسدّ حاجتهم ولضمان معيشة الأبناء، ولا يكون ذلك بالطبع إلاّ عند الطبقات الضعيفة.

ومنبع آخر من منابع تكو ن الرقيق في الجاهلية هو الديْن. فقد كان من حق الدائن بيع مدينه إن لم يتمكن من الابقاء بدينه، فيكون رقيقاً.

والولادة من المنابع الني مونت الجاهليين بالرقيق كذلك. فما ينسله الرقيق يصير رقيقاً ايضاً، وملكاً لمالك الرقيق. إذ لا يقتصر الرق على رقبة الرقيق الأصل، بل يشمل كل ما ينجبه وما ينجبه أحفاده وأحفاد أحفادهم وهكذا فالرق عبودية أبدية، ما لم يمنّ مالك الرقيق على رقيقه بالعتق، فتنقطع العبودية عندئذ عنه وعن نسله. واذا استولد المالك أمته فولدت له مولوداً، أعجبه واعترف به ولداً عدّ ابناً شرعياً له، فيكون هذا الاعتراف عتقاً لرقبة ابنه،واستلحاقاً للولد بنسب المالك.

زوال الرق

تفك رقبة الرقيق عند فك أسره عنوة، كأن تغزو قبيلة المأسور قبيلة الآسر، فتأخذ أسراها عنوة، فيتخلص الأسير بذلك من الأسر، أي من الرق ويصير حراً، وتسقط عنه كل ما كان لسيده من حقوق عليه. وكان أهل الأسير يتحايلون بمختلف الطرق لتخليص أسيرهم من أسره، فإن نجحوا في تخليصه، صارأسيرهم حراً، وإن فر الأسير من آسره، ولم يتمكن آسره من القبض عليه، صار فراره حرية له. وتفك الرقبة بدفع فدية ترضي الآسر،إذا قبضها، صار الأسير حراً.

الاباق

الاباق: هرب العبد من سيده. ويراد بالعبد المملوك من غير أسر ولا سبي. ويعد اباقه هذا خروجاً على القانون والحق، ولصاحبه حق القبض عليه وإنزال ما يراه به من عقوبة. وفي جملتها حق قتله. واذا اشتراه شخص آخر، أو وقع في أسره، فلمالكه الأول حق استرداده، لأنه عبد ابق، وهو في ملكه، وحيازته من غير اذن منه سرقة.

الكتابة

والكتابة والمكاتبة أن يكاتب الرجل عبده أو أمته على مال ينجمه عليه،ويكتب عليه أنه إذا ادى نجومه، في كل نجم كذا وكذا، فهو حرّ، فإذا أدى جميع ما كاتبه عليه، فقد عتق. وولاؤه لمولاه الذي كاتبه.

العتق

العتق خلاف الرق، وهو الحرية. وهو أن يمنّ السيد المالك على مملوكه بفك رقبته. فإذا عتق ارتبط بسيده برابط الولاء، ويقال عندئذ "مولى عتاقة" و "مولى عتيق" و "مولاة عتيقة"، و "موال عتقاء" و "نساء عتائق".

ويبقى العتيق منسوباً إلى معتقه، الذي يعقل عنه ويرثه. أما إذا أعتقه من دون وضع حدّ للولاء عليه، فيسقط عنه شرط الولاء، فلا يعقل مولاه عنه،وتسقط كل حقوق الولاء عن العتيق وعن معتقه.

الأموال الثابتة

وفي ضمنها البيوت،وهي تباع وتشترى وتؤجر أو ترهن بحسب رغبة صاحبها. ولأجل إثبات حق تملك الأفراد للبيوت، كانوا يثبتون أحجاراً مكتوبة على واجهة البيت في بعض الأحيان، يدون عليها اسم مالك البيت ، والمعمار الذي بنى البيت والزمان الذي بني فيه، أو الزمان الذي أجريت فيه ترميمات عليه والحجر عندهم في مقام سند التملك في أيامنا هذه.

وتوضع على حدود الملك. ولا سيما حدود الحقول والبساتين علامات، يقال لها "أرف" في اللحيانية، وذلك منعاً لكل تجاوز قد يقع على الملك أو فضول قد يقع من الغرباء.

والأُرفة في لغتنا الحد بين الأرضين وفصل ما بين الدور والضياع. وكان أهل الحجاز لا يرون الشفعة للجار. و "الأرفي"، الماسح الذي يمسح الأرض ويعلمها بحدود.

وتعد المقابر ملكاً خاصاً بصاحب القبر، وبأهله، لذلك لا يجوز دفن غريب فيها، إلا بإذن من أهل الميت وذوي قرابته وًمن أصحاب المقبرة. وكثيرأَ ما تقرأ في الكتابات جملاً، مثل: "بني هكفر، له ول ورثه"، ومعناها "بني هذا القبر، أو هذه المقبرة له، ولورثته". ومثل "اخذو هقبر ذه هم وأخوهم"، ومعناها "أخذوا هذا القبر لهم ولأخيهم". وكثيراً ما في الكتابات تلعن من يتجاوز على ملكية القبر وعلى حق المقبور فيه،وتتوعده بالويلات والثبور، وترجو من الآلهة أن تنزل بمن "يعور" يزيل أحجار القبور عن أماكنها عذابها وغضبها عليهم. وتعدّ شواخص القبورّ شهادة لقبر المتوفي وسند تملك للقبر أو للمقبرة، فلا يجوز الاعتداء على القبر، لأنه ملك خاص.

العقوبات: والأصل في العقوبات، هو "القصاص" Retaliation أي العقوبة بالمثل، وهو أصل نجده عند سائر الشعوب السامية، ونجده مدوّنا في "شريعة حمورابي"، بل نجده في قوانين الرومان كذلك. وفي أشير اليه في القرآن الكريم: )ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب، لعلكم تتقون( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن، والجروح قصاص " وفي الآية: )وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به(. فالجزاء يجب أن يكون من جنس العمل.

ويعمل بالقصاص في الجروح كذلك، وقد أشير الى ذلك في الآية المتقدمة كما ترى.

وتكون العقوبات في يد الملك أو المعبد أو الكبراء ورؤساء العشائر، فهؤلاء هم الذين يفرضون العقوبات على المخالفين ويصدرون أوامرهم بعقاب المستحقين، فلم تكن هناك اذن سلطة مركزية واحدة تقوم بتنفيذ الأحكام والحكم بين الناس. ويمكن أن نقول إن كل سلطة من السلطات كانت تقوم بتطبيق ما تراه بحق المخالفين لقوانينها وأنظمتها وأوامرها، فللمعبد ويمثله رجال الدين بالطبع حق الحكم بين الناس في المخالفات التي لها صلة بأمور الدين وبالمعبد وبالعقود الي تعقد مع المستأجرين والمتعاقدين، ويتوقف تنفيذ ذلك بالطبع على مركز رجال الدين ومدى نفوذهم في ذلك العهد،ويقوم رئيس القبيلة بالحكم بين أفراد قبيلته بموجب الأنظمة والقوانين العرفية والعشائرية، وبجمع الضرائب من قبيلته، ويتوقف سلطانه على شخصيته ومركزه وعلى مراكز الحكومة وما لها من هيبة في نفوس الناس والقبائل.

ولضمان تنفيذ القوانين والأوامر والعقود، حتّمت السلطات الدينية والسلطات الحكومية على المؤمنين والمواطنين الالتزام والوفاء بالعهود وإطاعة قوانين الدولة. وهددت السلطات الدينية بإنزال العقوبات الإلهية على المخالفين.وتكون هذه العقوبات عقوبات دنيوية تنزلها السلطات الدينية الممثلة والمتكلمة باسم الآلهة على سطح الأرض. وهي متنوعة متعددة قد تكون جسيمة، وقد تكون مادية، وقد تكون معنوية، وذلك بحرمان المخالف من زيارة المعابد،،وبامتناع رجال الدين من إقامة الشعائر الدينية له ومقاطعته وإيصاء المجتمع المؤمن بمقاطعته كذلك، وبذلك تهبط منزلته الاجتماعية،ويصبح مزدرى في نظر المجموع. وفي هذا الازدراء عقوبة كافية بالطبع.

يضاف إلى ذلك العقوبات الني تنزلها الآلهة عليه، وقد تكون أهم في نظره وأخطر من تلك العقوبات المذكورة، مثل إنزال أمراض أو مهالك به وبأمواله وما يملكه، وهو ما يخشاه الإنسان ويبتعد عنه طبعاً، ولهذا نجده يحاول جهد إمكانه ترضية آلهته والتقرب اليها بمختلف الوسائل لإرضائها ولكسب عطفها ورضائها عنه.

وأما العقوبات الحكومية، فهي متنوعة كذلك تتنوع بحسب درجة المخالفة ومقدار الضرر الذي يتولد منها.

وتقابل لفظة "عقوبة" لفظة "تنكرم" "تنكر" في بعض لهجات العرب الجنوبية، ويراد بها إنزال ما يستحق من عقوبة بشخص ارتكب عملاً مخالفاً.

أما الغرامات، أي العقوبات المالية التي تفرض على شخص من الأشخاص، فيقال لها "ظلعم" "ظلع"،في بعض تلك اللهجات. ووردت لفظة أخرى، هي "من"، ولفظة ثانية هي "ذمنت" "ذ م ن ت"، يرى علماء العربيات الجنوبية انهما في معنى "عقوبة" و "جزاء".

و يعبر عن الجزاء الذي يحكم الحاكم بأدائه إلى من حكم له بلفظة "خطا" و "خطات" "خطئة" "خطيئة".ويراد بها ما يجب على المحكوم عليه دفعه من غرامات وتعويض. وقد وردت هذه اللفظة في نصوص المسند.

والقصاص عند الجاهليين عقوبة قلما طبقت، للاعراف القبلية التي كانت تعتبر تسليم القاتل الحر إلى أهل القتيل لقتله مثلبة، وتسليم مرتكب عمل ما إلى من وقع الفعل عليه، نقيصة وضعفاً وسبّة، تلحق آل مرتكب الفعل. لذلك، كان الثأر، هو الرادع لارتكاب الجرائم عند الجاهليين.

وإذا قتل حر عبداً، أو جرحه أو آذاه، فليس لأهل العبد طلب القصاص، وليس لمالكه أن يطلب قتل القاتل به، لأنه عبد والقاتل حر. و قد كان من الصعب عليهم، تصور مقاضاة عبد لحر على أساس القصاص، وإنما ينصف على أساس الدية والتعويض عن الخسارة بدفع مال، لقد استصعبوا ذلك حتى في الإسلام. فلما لطمت ابنة النضر أخت الربيع جارية، فكسرت سنّها، فأمر الرسول بالقصاص. قالت أم الربيع: يا رسول الله أيقتص من فلانة?? ??? لا والله لا يقتص منها. فقال النبي سبحان الله يا أم الربيع، كتاب الله القصاص.

فقالت لا والله، لا يقتص منها أبداً. فعفا القوم وقبلوا الدية.

??????الجرائم

وقد????????? وضعت كل المجتمعات على اختلاف درجاتها، بدائية كانت أو منقسمة عقوبات لردع المجرمين وزجرهم وتأديبهم لكيلا يجرموا بحق أنفسهم وبحق مجتمعهم. وهي تتلاءم بالطبع مع واقع المجتمع والظروف الملمة به. كما ان الجرائم تكون منبثقة من واقع المحيط الذي يعيش المجرم فيه.

ويمكن حصر هذه الجرائم في الجرائم التي ترتكب ضد الدين، أي دين القوم وعقيدتهم، وفي الجرائم الني ترتكب ضد المجتمع، أي ضد العرف والعادات،في مثل الزواج والطلاق والاحوال الشخصية وفي القضايا التي تخص الآداب وفي الجرائم الني تخص الاعتداء على الجسد كالقتل والجروح والضرب. وفي الجرائم المتعلقة بالاعتداء على حقوق الغير مثل الخيانة والغدر وعدم الوفاء بالأمانات والسلب والنهب والسرقات ونشل الناس، وفي الجرائم المتعلقة بالملك.

وتعاقب شريعة الجاهليين كما تعاقب أية شريعة مدنية ودينية المخالف بعقوبات رادعة تكون متناسبة مع جرمه وعمله، وتكون العقوبات بالطبع متناسبة مع مستوى المجتمع وتفكير رجاله. والظاهر ان المعاقبين كانوا أحياناً يقسون على المخالفين في فرض عقوباتهم، فيظلمونهم، ويعذبونهم عذاباً لا يتناسب مع ما قاموا به من جرم، بدليل ورود آيات في القرآن الكريم تحث من بيدهم الأمر على ألا يعاقبوا عقاباً يتجاوز حدود المخالفة: )وان عاقبتم، فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به(، )ومن عاقب بمثل ما عوقب به(. وقد ذكر علماء التفسير ان الآية الأولى تأمر"ان من ظلم بظلامة،فلا يحلّ له أن ينال ممن ظلمه أكثر مما نال الظالم منة".

وان الله يقول للمؤمنين"وإن عاقبتم أيها المؤمنون من ظلمكم واعتدى عليم، فعاقبوه بمثل الذي نالكم به ظلمكم من العقوبة". وقد نزلت بعد أحد حيث قتل حمزة ومثل به، فلما "رأى المسلمون ما فعل المشركون بقتلاهم يوم أحد من بقر البطون وقطع المذاكير والمثلة السيئة " قالوا: لئن أظفرنا اللّه بهم لنفعلن و لنفعلن. فأنزل الله فيهم ولئن صبرتم لهو خير للصابرين. واصبر وما صبرك إِلا بالله". ونزلت الآية الأخرى في "قوم من المشركين لقوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم، وكان المسلمون يكرهون القتال يومئذ في الأشهر الحرم،فسأل المسلمون المشركين أن يعَفوا عن قتالهم من أجل حرمة الشهر،فأبى المشركون ذلك وقاتلوهم، فبغوا عليهم وَثبت المسلمون لهم، فنصروا عليهم، فأنزل الله هذه الآية".

ومن العقوبات التي جاءت بها الشريعة الجاهلية عقوبة: إقامة الحدود على الجناة،وذلك بالتعزير، وهو الجلد، جلد المخالف الذي لا تكون مخالفته جناية، بل مخالفة بسيطة في مثل مخالفة أوامر الوالدين أو الولي الشرعي وفي الاعتداء على الغير بالشتم و السباب والتحرش بالناس وماشاكل ذلك من أمور. وعقوبة دفع الغرامات وتعويض الضرر، وعقوبة السجن على الجنايات المهمة، وعقوبة الطرد من البيت أو من المدينة أو من أرض القبيلة والخلع والتبري من الشخص، والحبس في البيت، وعقوبات القصاص. والقصاص هو القود. و القَوَد قتل النفس بالنفس. وقد عبر الفقهاء عن القصاص في القتل ب " قصاص في النفس "، وعبروا عن القصاص فيما هو دون القتل ب " قصاص فيما دون النفس ".

?القتل

القتل نوعان: القتل المتعمد، والقتل الخطأ. وقد فرق الجاهليون بين النوعين.

فالقتل الخط أ لا يمكن أن يكون في درجة القتل العمد. وقد قسم الفقهاء في الإسلام القتل إلى خمسة أقسام: قتل العمد، وقتل شبيه العمد، وقتل الخطأ، وقتل قائم مقام الخطأ، وقتل بسبب.

وقد نص على القصاص، أي على وجوب قتل القائل ومعاقبة الجاني بنوع جنايته، بمعاقبته بنفس الفعل الذي فعله بالمجنى عليه في بعض الكتابات الجاهلية، ومن هذا القبيل وجوب قتل القاتل، لأنه أزهق نفساً بشرية، وعقوبة من يزهق الناس، ويقضي على حياة إنسان إزهاق روحه، أي قتله قصاصاً لما جنته يده بحق إنسان.

والقتل العمد، يقاص بالقتل، وهو أن يطلب أهل القتيل من أهل القائل تسليمه اليهم لقتله: ويقال لذلك "القَوَد" وبذلك يغسل دم القتيل. والقاعدة القانونية عند الجاهليين أن "الدم لا يغسل إلا بالدم". فهو تطبيق قاعدة القصاص.

وإذا كان القاتل من بيت دون بيت القتيل، فإن أهل القتيل لا يكتفون في كثير من الأحايين بالقَوَد، أي بقتل القائل، ولكن يطلبون قتل شخص آخر مع القاتل، أي قتل شخصين في مكان القتيل وقد لا يقبلون بهذا الحل أيضاً لاعتقادهم بأن الرجلين مع ذلك دون القتيل في المنزلة وفي الكفاءة، فيعمدون هم أنفسهم إلى الاخذ بثار القتيل، وذلك باستعراضهم فيما بينهم رجال قبيلة القاتل، لاختيار رجل يقتلونه يرون أنه في م منزلة القتيل، فإن اختاروه ووجدوه، والغالب أنهم يختارون جملة رجال، أرسلوا من يغتال ذلك الشخص المسكين الذي وقع اختيارهمّ عليه لقتله فيغتالونه ليكون كبش الفداء عن القتيل.

ويقال للقتيل "هرج" "هرك" في اللهجة القتبانية، وقد وردت في القوانين القتبانه بصورة تعبر عن "القتل" عامة دون تعيين نوعه، كما في اللغة العبرانية، حيث تؤدي لفظة "هرك" "هرج" فيها هذا المعنى. والظاهر أن المشرع وضع تقدير "القتل" إذا كان قتلا عمداً أو قتلاً خطأ إلى اجتهاد "الملك" الذي هو "الحاكم" الأعلى والى من وكل إليهم أمر القضاء بين الناس.

ولكن هذا لا يعني أن القتبانيين أو غيرهم من العرب الجنوبيين، لم يكونوا يفرقون بين القتل العمد والقتل الخطأ، أيَ القتل الذي يقع دون عمد ولا تحضير سابق ولا تفكير فيه. فقد كانوا يفرقون بين أنواع القتل ويحاسبون القاتل على هذا الأساس. وقد كانت كل القوانين في ذلك العهد تفرق ايضاً في أنواع القتلى،فتجعل القتل الخطأ دون القتل العمد في الدرجة وفي الحكم المترتب عليه.

ويعبر عن القتل في اللحيانية بلفظهَ "خلس" "خليس" أيضاً. وقد ورد في بعض الكتابات اللحيانية ان فلانأَ قتل فلان،وقد حددت بعض الكتابات الوقت الذي تم فيه القتل. ويعبر عن القتل بلفظة "قتل" كذلك، وعن المقتول بلفظة "همقتل"، أي القتيل.

وعثر على نص قتباني هو قانون في تحديد عقوبة القتل والقاتل جاء فيه: أي شخص يقتل شخصاً وكان من شعب قتبان أو من قبائل تابعة أو محالفة لها يعاقب بعقوبة القتل، إلا إذا قرر الملك عقوبة اخرى مستمدة من شريعة "تمنع،وعلان،و صيرم". ويقصد بشريعة "تمنع، وعلان، و صيرم"، العرف المتبع عند أهل "تمنع" أي العاصمة وعند جماعة "وعلان" وعند أهل "صيرم". فللملك أن يعاقب بالعقوبات المقررة عند هؤلاء، إذا لم يقرر الأخذ بمبدأ القصاص.

وقد استثنى القانون المذكور قتلة القتلة الفارين من تطبيق عقوبة القتل أو العقوبات التبعية الأخرى عليهم، إذا كان قتلهم في أثناء فرارهم وعصيانهم حكم الملك، أو حكم من خوله "الملك" تطبيق "العدالة" بين الناس. فإذا فرّ قاتل، وأبى تطبيق ما صدر من حكم عليه، وقتل وهو في هذه الحالة،لم يحاسب القاتل على قتله له، ولا يعاقب بأية عقوبة من أجل ما قام به من قتله انساناً آخر. والظاهر ان المشرع القتباني قد أخذ بالظروف المحلية التي كانت سائدة إذ ذاك، من سهولة هرب القتلة وتهديدهم الأمن والنظام، فلم يعاقب قتلتهم بأية عقوبة،وذلك ليقضي على القتلة العصاة وليخيفهم. وليخيف الطائشين من الاقدام على جرائم القتل. ولعله نظر إلى القاتل نظرته إلى انسان مجرم لا قيمة له في الحياة، لأنه شرير مؤذٍ، لذلك لم يفكر في مؤاخذة قاتل شخص على هذا النحو على عقوبته هذه.

وجاء في القانون المذكور أن كل من يرتكب جرماً أو يعمل عملا مخلاً بالأمن، أو يعرقل تنفيذ أوامر الملك لتعطيلها وإيقافها، سواء كانت معلنة أو غير معلنة، ثم فرّ وقتل فلا يؤاخذ قاتله على قتله، ولا تؤخذ دية دمه منه.

وقد افتتح النص ونشر باسم الملك الذي أصدره، وهو الملك "يدع أب ذبيان بن شهر" ملك قتبان، وباسم "مزود" قتبان، أي ملأ قتبان، أصحاب الرأي والمشورة، وباسم "فقضت" و "بتل" قتبان وباسم "ردمان" و "أملك" "أملوك" "الأملوك"، و "مضحيم" "مضحي" و "يحر" و "بكلم" "بكيل"، وباسم القبائل الأخرى الخاضعة لحكم الملك. واختتم بجملة: "وتعلماي وشهد وتعلماي أيدي...". وهي جملة تعني: ووقع الملك على الوثيقة بيده وأمر بإعلانها، وشهد على ذلك ووقع عليها المذكورون من الملأ أعضاء المزود، ومن السادات أصحاب المشورة والرأي وقد ذكرت أسماؤهم بعد اسم الملك، لأنهم وافقوا عليها وصادقوا على تشريعها، وبتصديق الملك وأشراف مملكته وأعضاء "المزود" على القوانين تكتسب صفة قانونية، ويجب تطبيقها عندئذ.

وتدخل جريمة الانتفاضة على السلطان، أي الثورة في جملة الجرائم التي يعاقب القائم بها بعقوبة القتل. إلاّ إذا عفا السلطان عن فاعلها. وقد جاء في نص سبئي أن احد سادات القبائل ثار على الملك، ثم عفا الملك عنه. فذهب الى المعبد وتوسل الى إلَه "سبأ" أن يغفر له ذنبه. فأمر عندئذ بتقديم جاريهَ إلى معبد "المقه" إلَه سبأ،تكفيراً مما قام به من ذنب تجاه سيده، وأن يتوب عما فعل من إثم. وهناك أمثلة أخرى من هذا القبيل.

قتل القائل

ويكون قتل القاتل عند الجاهليين بحد السيف. أما طرق القتل الأخرى في مثل الشنق أو الصلب على خشبة،فإنها من العقوبات التي لم تكن مألوفة بين العرب. والصلب على الخشبة، أي الصليب من طرق القتل المألوفة عند الرومان.

وأما "الرجم"، أي إماتة الشخص برجمه بالحجارة، فإنه من العقوبات المعروفة عند العبرانيين، وقد نص على العقوبات التي يعاقب الإنسان عليها فيَ الرجم في التوراة.

وقد ورد أن من الجاهليين من عاقب بالصلب. فقد قتل المشركون "خبيب ابن عدي" الأنصاري بصلبه على خشبة، وبطعنه بالرماح حتى مات. وصلب "هلال بن عقة"، وصلب غيرهما، ويكون الصلب بتعليق الشخص وربطه على خشبة، وطعنه بالحربة حتى يموت مصلوباً.

وورد أن رسول الله قتل "عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس"، بعرق الظبية منصرفة من بدر. فأمر بصلبه. فهو أول مصلوب في الإسلام. وقد عرف الصلب في الإسلام. وهو كناية عن تعليق الإنسان بعد قتله على خشبه،أو شجرة أو محل مرتفع ليراه الناس. وقد صلب خالد بن الوليد "عقة بن جشم بن هلال النمري" بعين التمر.

وورد أن الصلب كان في الجاهلية عقوبة قاطع الطريق.

وقد ورد في القرآن الكريم ما يفيد وجود "الصلب" وتقطيع الأيدي والأرجل: عند الجاهلين. فقد ورد في سورة المائدة: )إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله، ويسعون في الأرض فساداً، أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض (. وقد ذكر علماء التفسير أن هذه الآية نزلت في "العرنيين"، أو قوم من "عكل" قدموا على رسول الله، فاجتووا المدينة،فأمر لهم رسول الله بلقاح وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها، فانطلقوا، فلما صحوا، قتلوا راعي رسول الله واستاقوا النعم، وكفروا بعد اسلامهم فبلغ النبيّ خبرهم، فأرسل في آثارهم، فأتي بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون. وكانوا قطعوا يدي الراعي ورجليه، وغرزوا الشوك في عينيه حتى مات وأدخل المدينة ميتاً. وكان هذا الفعل سنة ست من الهجرة.

كذلك كان القتل بإزهاق الروح بالرجم من العقوبات المعروفة عند الجاهليين، فقد قتل المشركون "عبد الله بن طارق"، رجماً بالحجارة، أوثقوا أطرافه، فلما نزع يده من رباطه، قتلوه رجما بالحجارة. ولكن هذه العقوبة من العقوبات القليلة التي لجأ اليها أهل الجاهلية، فلا نستطيع اعتبارها من نوع القتل المألوف عند العرب.

والخنق معروف عند الجاهليين، لكنه قليل الاستعمال في العقوبات. وقد ذكر ان "النعمان بن المنذر"، أمر بخنق عدي بن زيد العبادي حتى مات. ويكون بخنق الشخص بحبل يضيق على رقبته ويشد حتى يموت أو بقماش أو بجلد أو باليد وبأمور أخرى عديدة. وقد خنقت بعض النساء رجالا انتقاماً منهم. ويستعمل عند وجود فرصة سانحة كأن يكون الشخص نائماً أو عند عثور شخص لا سلاح عنده على عدو له، فوجد ان الفرصة الوحيدة المواتية له للقضاء عليه هي باخناقه، وقد يستعمل في حالة الدفاع عن النفس.

وقد عرفت "المثلة" عند الجاهليين. يقال مثل بفلان، نكل به تنكيلاّ، بقطع أطرافه والتشويه به. ومثل بالقتيل جدع أنفه وأذنه أو مذاكيره أو شيئاً من أطرافه. وقد مثل ب "حمزة" عم النبي، لما قتله "وحشي". وقد نهى الإسلام عن المثلة بالانسان وبالحيوان.

القتل الخطأ

ومن أنواع القتل الخطأ: القتل الذي يقع نتيجة وقوع اضطراب وثورات أو هجوم بحيث يصعب تشخيص القاتل، وكذلك القتل بسبب هجوم حيوان على شخص. فيكون صاحبه مسؤولاَ عن القتل، لأنه مالكه. أو بسبب ضرب شخص شخصاً بحجر أو بشيء آخر، ولم يكن متعمداً قتله أو رميه به أو بذلك الشيء، وإنما أصابه خطأ فقتله. وقد عينت القوانين حدود هذه الأنواع من القتل، وتركت تقدير مقدار العقوبة والتعويض إلى "الملك" وذلك في العربية الجنوبية، ويقوم الحكام مقام الملك فيَ النظر في هذه الأمور. أما أمره عند العرب الشماليين فإلى العرف والعادة والحكام.

السجن.

ولما كان من الصعب بل من غير الممكن للقبائل الحكم بالسجن على المجرمين. لعدم توفر السجون عندها لجأت إلى عقوبة الطرد، أي طرد المجرم إلى مكان ما يقرر لمدة معينة بحيث لا يسمح للمجرم بالمجيء الى منازل القبيلة خلال مدة الطرد. وهي عقوبة معروفة عند العبرانيين وعند غيرهم من الساميين وغير الساميين مثل الرومان، ولا تزال عقوبة الإبعاد والإجلاء معروفة ومستعملة عند القبائل.وتسمى اليوم ب "الجلوة" "الجلو" "الجلي" عند بعض عشائر العراق.

وأما في المدن، فإن الأخبار تتحدث عن وجود السجون فيها. فإذا حكم على أحد بالسجن أودع فيه. وقد عرف السجانون بالحدادين كذلك، وذلك لأنهم كانوا يمنعون الناس من حرياتهم، وكانوا يضعون القيود في أيديهم وأرجلهم،والقيود هي من صنع الحدادين.

وقد أشير الى السجن، أي "المحبس" و "الحبس" في القرآن الكريم، مما يدل على وجود السجن في مكة وعلى وجود السجون في الحجاز.

وتوضع السلاسل في أيدي اللصوص والأشرار والمساجين وفي أرجلهم لمنعهم من الهرب. وقد تربط السلسلة برجل السجين من جهة وبجدار السجن أو الباب من جهة أخرى كي لا يتمكن من الهروب. وتتصل نهاية السلسلة بطوق، تطوق به يدا السجين او رجلاه. واستعملت أطواق النحاس كذلك. ويعبر عن وضع السلسة في يدي السجين أو رجله بكلمة "كبل". وهو تعبير مستعمل في الارمية و في العبرانية كذلك..

وقد عاقب سادات الأسر المخالفين والخارجين على الطاعة بحبسهم في بيوتهم. وذلك بربط المحبوس بالسلاسل فلا يخرج ولا يغادر مكانه. وقد كان أهل مكة يحبسون من يستحق الحبس فيَ بيوتهم، بربطه بسلسلة.حتى لا يتمكن من مغادرة محبسه وقد حبسوا بعض من أسلم من الشبان، عقوبة لهم. ونظرا إلى صعوبة تطبيق الحبس في البادية لا أستطيع أن أتحدث عقوبة الحبس عند الاعراب.

وفي السبئية لفظة "خصق"،وتعني السجان و محافظ السجن.و معنى هذا وجود السجون عند العرب الجنوبيين.

وقد كانت لملوك الحيرة سجون يسجنون بها من يغضبون عليهم من الناس. وقد تحدثت عن ذلك في أثناء كلامي عن "الدولة"و في مناسبة الكلام على سجن "عدي بن زيد العبادي" ب "الصنين". ولا استبعد ان يكون للغساسنة سجون ايضا،يرمون بها المخالفين لهم.

وقد كانت السجون العربية الجنوبية في قلاعَ الملوك والأقيال والأذواء وفي المباني العامة المحصنة، حيث يودع السجين في أماكن منيعة حتى لا يتمكن من الهروب منها، يحرسها سجانون.وبين من يسجن عدد من المعارضين للحكام والثوار والمشاغبين على السلطة القائمة، أي مجرمين سياسيين، يبقون في سجونهم ما دام الحكام غير راضين عنهم. وقد يموت بعض منهم وهم في سجونهم.

وورد في الأخبار أن السجن لم يكن في زمن الرسول بيثرب، و لا في أزمان أبي بكر وعمر وعثمان، وكان يحبس في المسجد او في الدهليز. حيث أمكن. فلما كان زمن "علي بن أبي طالب"، أحدث السجن في الكوفة. وكان أول من احدثه في الإسلام، وسماه "نافعا"، ولم يكن حصينا،فنقبه اللصوص،وانفلتوا. وبنى آخر وسمّاه "مخيسا" من التخييس وهو التذليل. وقد ورد في أخبار أخرى، أن "نافع بن عبد الحارث الخزاعي" من عمال "عمر"، اشترى داراً من "صفوان بن أمية "" للسجن بمكة. ومعنى هذا أن السجن كان معروفا قبل أيام "عثمان" و "علي".

وقد ورد في بعض الأخبار أن "عمر" أول من حبس في السجون. " وقال أحبسه حتى أعلم منه التوبة، ولا أنفيه من بلد إلى بلد فيؤذيهم ". وذلك لأن العرب كانت تستعمل " التغريب "، أي النفي في موضع السجن، لسهولة النفي، و صعوبة السجن.

الجلد

وعرفت عقوبة الجلد عند الجاهليين، ولا سيما عند الحضر، فقد عاقبوا بالجلد. وقد أشير اليها في الكتابات العربية الجنوبية، إذ ورد في اتفاقية من الاتفاقيات المتعلقة ب "الوقف" أن الطرف الثاني، وهو الشخص المتعاقد مع الحكومة أو المعبد، إذا تماهل أو امتنع عن دفع ما عليه من حقوق نص عليها، عوقب بغرامة مقدارها "خمسة رضى"، أو بجلده خمسين جلدة بالعصا.

"وذ يخذلن فلن غل ينكرون خمس رضيم فاو خمس سبطم لاحد انسم"،ومعناها "والذي يتخاذل أو يقصر في العمل يعاقب بخمس رضى، أو بخمسين جلدة عصا لكل انسان".

وقد كان من حق الوالد جلد ولده عقاباً لهم لما يفعلونه من مخالفات. ويستعمل السوط في الجلد في الغالب، كما عاقب سادات القبائل أتباعهم بجلدهم. والسوط هو المقرعة أيضا.

الخلع والطرد

وإذا أسرف الإنسان في ارتكاب الجرائم وبقي مستهتراً بارتكاب الموبقات لا يبالي ولا يحاسب نفسه على أفعاله وأعماله، ولا يتبع نصائح أهله وعشيرته وأوامرهم، فقد يؤدي ذلك به إلى خلعه وطرده من أهله، معاقبة له وتخلصا من جرائره ومن المسؤولية التي قد تتولد لأهله من أعماله هذه. ويكون ذلك بإعلانه للناس في المحلات العامة وفي المواسم وبإشهاد شهود على ذلك حتى يعرف الناس، فتسقط المسؤولية عن أهل الطريد.

ويعبر أهل العربية الجنوبية عن ذلك بلفظة "طردن" أي الطريد، كما يعبرون عنه أحياناً بلفظة "ثبرن"، أي "المثبر"، وهو الذي يثبر الناس ويقوم بأعمال مثبرة فيزعجهم ويتعدى عليهم بذلك. وهم يطردون مثل هؤلاء الأشخاص ويثبرون منهم. ويعلنون عن الطرد، ليقف الناس على اسم الطريد، فيتجنبونه أو ينزلون به ما يستحق من عقاب، إذا ارتكب عملاً مؤذياً لهم.

وقد نفى أهل الحجاز خلعاءهم إلى "حضوضى"، وهو جبل عرف بنفي الخلعاء اليه. وربما كانت هنالك امكنة أخرى في جزيرة العرب اتخذت منفى ينفى اليه الخلعاء عقاباً لهم.

والطرد أو الخلع أو اللعن، معناه رفع كل أنواع المسؤولية القانونية المترتبة على آل الخليع والطريد والملعون وكذلك عن قبيلته إن خلعته أيضاً. فإذا ارتكب جناية صار وحده المسؤول عنها، فلا يحميه أو يدفع عنه أحد. إذ اسقط أهله عنهم كل ما كان عليهم من حقوق "العصبية" تجاهه. فإذا قتل أو اعتدى عليه فلا أحد يسأل عن أهله، أو يأخذ عندئذ بحقه، لسقوط العصبية عنه. ويكون عندئذ معرضاً للقتل في أية لحظة،مطارداً من الناس لفرط جرائره، فهو كالمجرم الفار من العدالة، الذي أسقطت عنه الجنسية، لايجد أحداً يؤويه، ولا مكاناً يقبله، خشية إِلحاق الأذى به.

ويكون الخلع والطرد علناً وبإشهاد شهود. والأغلب أن يعلن عنه في المواسم بأن يقف الأب الذي يريد خلع ابنه وسط الناس، ثم يقول: "خلعت ابني.. فإن جر لم أضمن، وان جر عليه لم أطلبه".

ويعرف الخلعاء بأسماء أخرى تدل على الصعلكة والازدراء. مثل الصعاليك. وذكر أن "صعاليك العرب" ذؤبانها ويقال الذؤبان والضليلين.

التغريب

والتغريب: النفي عن البلد أو الأرض، وكانوا يستعملون هذه العقوبة في حق من يستهتر بعرف القبيلة ويقوم بأعمال منكرة ولا يصلح نفسه فكانوا يحكمون عليه بالجلاء عن أرض القبيلة والابتعاد عنها مدة تحدد وتعين. وقد لا تحدد. فهو نفي وإجلاء. وقد بقيت هذه العقوبة في الإسلام فأمر الرسول بالتغريب وأمر الخلفاء به كذلك.

وقد عرف التغريب الجماعي عند الجاهليين وفي الإسلام. وهو إجلاء جماعة من موضع سكنهم. فقد كان الفرس يجلون القبائل المعادية لهم عن مواضعها ويرسلونهم إلى أماكن أخرى. وفعل الروم ذلك بالعرب أيضاً، كما فعلت حكومات اليمن ذلك بالقبائل الثائرة. وفد أجلى "عمر" أهل الذمة عن جزيرة العرب، فسموا "جالية". وعرفوا ب "الجالية"، ولزمهم هذا الامر أينما حلوا، ثم لزم كل من لزمته الجزية من أهل الكتاب بكل بلد وان لم يجلوا عن أوطانهم.

الدية

وأخذ الفقه الجاهلي بأصل تعويض الضرر وازالته عمن وقع الضرر عليه، وذلك بدفع تعويض عادل يرضى عنه، أو ترضى عنه ورثته في حالة وفاة من وقع الاعتداء عليه، ويقال لذلك "الدية".

أما في اللحيانية، يختال لها "ودي"، وعن أداء الدية لأهل القتيل "ودي"، و "وديو" بصيغة الفعل الماضي. وتعني لفطة "ودي"، دفع الدية وأعطاها في عربيتنا.

والأصل في الدية أخذها من القاتل إن كان قادراً، فإن لم يكن قادرأَ على حملها، وقع حملها على ذوي "العصبة"، أي على أقربائه وذوي رحمه حسب رابطة ألدم. لذلك تكون "العصبة" في الديات، كما تكون في الإرث.

ونختلف الدية باختلاف درجات القبائل ومنازل الناس، فقد تكون عشرة من الإبل، وقد تبلغ ألفاً. فإذا كان القتيل من سواد الناس ومن القبائل الصغيرة الضعيفة كانت ديته قليلة. أما إذا كان من أشراف القبيلة زادت ديته عن ذاك تبعاً لمنزلة القتيل ولمكانته. وإذا كان القتيل ملكاً، كانت ديته ألفاً من الإبل، وتسمى هذه الدية "دية الملوك".

وتكون دية "الصريح" دية كاملة، وهي عشرة من الإبل كما ذكرت إذا كانْ القتيل من سواد الناس. أما إذا كان القتيل "حليفاً"، فتكون ديته عندئذ نصف دية الصريح أي خمساً من الإبل. وأما إذا كان القتيل "هجيناً"، فتكون، ديته نصف دية الصريح. وتكون دية المرأة نصف دية الرجل.

وكانت بعض القبائل قد حددت هي دية قتلاها، وفرضتها فرضاً، فكانت تأخذ عن دية قتيلها ديتين أو أكثر أحياناً، وتدفع دية واحدة لغيرها، وذلك بسبب قوتها وبطشها. روي أن "الغطاريف"، وهم قوم "الحارث بن عبد الله ابن بكر بن يشكر" كانوا يأخذون للمقتول منهم ديتين، ويعطون غيرهم دية واحدة إذا وجبت عليهم. وكان لبني "عامر بن بكر بن يشكر" وهم من "الغطاريف" أيضاً، وقد عرف "عامر" المذكور ب "الغطريف" ديتان، ولسائر قومه دية.

وورد أن "بني الأسود بن رزن" كانوا يؤدون في الجاهلية ديتين ديتين، ويؤدي غيرهم من "بني الدليل" دية دية، وذلك لفضلهم. ف "بنو الأسود" هم الذين حددوا ذلك المقدار وثبتوه، ولم يكن هذا التحديد عن ضعف، وإنما هو رغبة منهم في الافضال على ذوي القتيل الذين يكونون من غيرهم تلطفاً لهم، وترفعاً منهم عن المساومة في دماء القتلى.

وذكر أن بعض حكام العرب كانوا يحكمون في الديات بمئة من الإبل. وقد نسب بعضهم هذا الحكم إلى "أبي سياّرة العدواني"، الذي كان يفيض بالناس من المزدلفة، قيل إنه أول من جعل الدية مائة من الإبل. ونسب بعض آخر هذا إلحكم الى "عبد المطلب" فقالوا إنه أول من سن الدية مئة من الإبل، فأخذت به قريش والعرب، وأقره رسول الله في الإسلام.

وكانت "قريظة" و "النضر" في الجاهلية إذا قتل الرجل من بني النضير قتلته بنو قريظة، قتلوا به منهم، فإذا قتل الرجل من بني قريظة قتلته النضر أعطوا ديته ستين وسقاً من تمر. وذلك بسبب الفرق في المنزلة والمكانة.

وقد ورد في بعض الكتابات اللحيانية ان القتلة دفعوا دية القتلى لأهلهم الشرعيين الذين لهم حق المطالبة باسم، وقسموا قرابين و "خرجا" خراجاً أي مبلغاً إجبارياً من مواد عينية إلى الآلهة عن ذلك الدم، وقدموا قرابين وضعوها على قبر القتيل. وبهذه الطريقة حسموا دم القتيل.

ويلاحظ ان اللحيانيين استعملوا مصطلح "خرج" أي "الخراج" للتعبير عن الجزاء الذي يجب أن يفرض على القاتل ليقدمه جزاء قتله انساناً.

وقد عرفت "الدية" عند العرب الجنوبيين كذلك، ولم تحدد في القوانين، وإنما ترك أمر مقدارها إلى "الملك" أو إلى الحكام المفوضين، وبضمنهم سادات القبائل والأقيال والأذواء، يأخذونها بحسب العرف المقرر عند القبائل التي يعنيها الأمر وتعطى لأصحاب القتيل الشرعيين.

وورد في نص سبئي قديم يعود عهده الى أيام "المكربين"، حكم بدفع دية مقدارها "200" إلى المعبد، تعويضاً عن دم شخص فقير، لم يعرف قاتله، يدقعها آلى القتيل في عشر سنوات. ولم يحدد النص نوع الدية، مع انه عينّ مقدارها.

ويعبر عن الدية بلفظة أخرى هي "الملة"وب "العقل"، يقال:"عقل القتيلَ يعقله عقلاً: وداه، وعقل عنه: أدى جنايته، وذلك إذا لزمته دية فأعطاها عنه". سميت الدية عقلاّ "لأن الدية كانت عند العرب في الجاهلية إبلاً لأنها كانت أموالهم، فسميت الدية عقلا لأن القاتل كان يكلف أن يسوق الدية إلى فناء ورثة المقتول فيعقلها بالعقل ويسلمها إلى أوليائه"، ويقال للذين يتعاقلون على دفع الدية: "العاقلة". وكان مما جاء في كتب الرسول إلى القبائل: هم على معاقلهم الأولى، أي الديات التي كانت في الجاهلية يؤدونها كما كانوا، يؤدونها في الجاهلية على مراتب آبائهم. وفي الحديث: كتب بين قريش والأنصار كتاباً فيه المهاجرون من قريش على رباعيتهم يتعاقلون بينهم معاقلهم الأولى. أي يكونون على ما كانوا عليه من أخذ الديات وإعطائها.

العاقلة

والعاقلة، هم العصبة، وهم القرابة من قبل الأب الذين يحملون الديات. وقيل: القبيلة، إلا انهم حما يحملون بقدر ما يطيقون.

ولا يعقل حاضر على باد. وورد أن "عمر" قال: " إنا لا نتعاقل المضغ بيننا، معناه، ان أهل القرى لا يعقلون عن أهل البادية، ولا أهل البادية عن أهل القرى ". ويظهر أن هذا كان حكم الجاهليين أيضاً، أو حكم بعض منهم في أصول دفع الديات.

وليس في اسقاط اش الجنين دية عند بعض الجاهليين. ورد ان امرأتين من هذيل اقتتلتا فركلت إحداهما الأخرى بحجر فأصاب بطنها، وهي حامل، فقتلت ولدها الذي في بطنها، فاختصموا إلى الرسول، فقضى أن دية ما في بطنها غرة عبد أو أمة. فقال ولي المرأة التي غرمت: " كيف أغرم يا رسول اللّه من لاشرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل فمثل ذلك يطل ".

وورد في الحديث: " من لا أكل ولا شرب ولا استهل، ومثل ذلك يطل والطل: هدر الدم، وقيل هوأن لا يثأر به أو تقبل ديته. وفي الحديث أيضاً، أن رجلاً عض يد لم جل فانتزع يده من فيه فسقطت ثناياه فطلّها رسول الله، أي أهدرها وأبطلها..

وإذا تنوزل عن الجراحة والدم بدفع الدية، قيل لذلك أرش الجراحة، أي ديتها. ومتى تم الاتفاق وحصل التراضي بدفع الدية، انتهى الدم، ويعبر عن ذلك ب "الفصل" وما زال هذا التعبير مستعملا بين عشائر العراق.

فالأرش اذن دية ما دون النفس، أي القتل كدية الجروح. فهو تعويض عن الضرر الذي يلحق بالعضو المصاب. ويختلف الأرش عند الجاهليين باختلاف التلف الذي أصاب عضو الإنسان، وباختلاف منازل الناس والقبائل. وهو على العموم دون الدية، لأن الدية تعويض عن قتل، أي هلاك أصاب جسم الإنسان كله، بينما الأرش تعويض عن جزء من جسم.

وفي الحديث: في أرش الجراحات الحكومة. ومعنى الحكومة في أرش الجراحات التي ليس فيها دية معلومة: أن يجرح الإنسان في موضع في بدنه مما يبقى شينه ولا يبطل العضو، فيقتاس الحاكم أرشه بأن يقول:"هذا المجروح لو كان عبداً غير مشين هذا الشين بهذه الجراحة كانت قيمته ألف درهم، وهو مع هذا الشين قيمته تسعمائة درهم، فقد نقصه الشين عُشر قيمته،فيجب على الجارح عشر ديته في الحر، لأن المجروح حر، وهذا وما أشبهه بمعنى الحكومة"، التي تستعمل في أرش الجراحات، وتؤدي لفظة "ارش" في اللحيانية معنى "عوض،"، ودَفعَ بدلاً. وهي من المصطلحات القانونية الواردة في الكتابات. فإذا بدل انسان شيئاً بشيء عبر عن ذلك بلفظة "أرش". ولا أستبعد أن يكون اللحيانيون قد استعملوها في التعبير عن التنازل عن الجراحة والدم بعد دفع الدية.

ويعوض عن الضرر الذي يلحقه إنسان بإنسان آخر مثل قطع عضو من أعضاء جسمه أو إلحاق جز به أو جراحة مؤذية بدفع "دية" عن الضرر. أما الجراحة التي لا تكون مؤذية، ولا تلحق ضررا، فلا يدفع عنها دية، ويعبر عن ذلك ب "الخماشة"، و "الخماشة" ما ليس له ارش معلوم من الجراحات، أو هو دون الدية، كقطع يد أو اذن أو نحوه. أي جرح أو ضرب أو نهب، أو نحو ذلك من أنواع الأذى. والخماشات: الجراحات والجنايات. وهي كل ما كان دون القتل وإلدية.

ويقال لما يدفع عن الجراحات "نذراٌ". وذكر أن النذر لا يكون إلا في، الجراح صغارها وكبارها وهي معاقل تلك الجراح.

وقد نص في القوانين العربية الجنوبية على تعويض الجروح والأضرار التي تلحق بالجسم كذلك، فورد فيها: "ثوب بقبتن"، أي "ثياب بمقتنيات"، ويراد بذلك أن يعوض بمال. ويقدر ما يدفع من المال إلى من نزل به الضرر بحسب شأن الجرح ومقدار الضرر، يقدره الحكام وعرّاف القبيلة، وقد سادت شريعة الجاهليين في معاقبة المجرمين في الجرائم الأخرى التي ليست قتلاً على أسس التعويض وإصلاح الضرر والسجن والخلع والنفي ومعاقبة الفاعل عقاباً يناسب عمله وما صدر فه.

واذا عجزت عصبة القائل عن دفع دية القتيل، وقد حملها على أقرباء العصبة، فإن نأوا بها وجب على القبيلة تحملها. ويدخل فيها سيد القبيلة. فالقبيلة وحدة اجتماعية قائمة بذاتها وعليها لذلك تحمل مسؤوليات أفرادها. ولهذا توزع الديات على أفرادها إن ثبت عدم تمكن أقرباء القاتل من دفعها.

وتدفع الدية الى "ولي القتيل" أو إلى أوليائه الشمرعيين، أي الذين لهم حق المطالبة بدم القتيل. وهم وحدهم لهم حق الفصل في موضوع الدم.

ولا تقع جناية العبد على مولاه، وانما تقع جنايته في رقبته. فلا يعقل سيده عنه، ولا تتحمل عصبة سيده عنه أي شيء في حالة عدم تمكن سيده من أداء "العقل"، أي الدية، إنْ قتل العبد شخصاً. وللفقهاء في الإسلام في استيفائها منه خلاف.

وعند اعتصام القاتل وامتناع أهله أو عشيرته عن تسليمه إلى أهل القتيل للاقتصاص منه بقتله، وعدم رضاء أهل القتيل بأخذ "الدية" منه أو من أهله غسلاً للدم، يلجأ أهل القتيل افلى "إلأخذ بالثأر"، وهو مبدأ معروف عند الشعوب السامية، وذلك بأن يتربص أهل القتيل بالقاتل حتى يجدوه فيقتلوه، أو يتربصوا بأقرب الناس اليه إن لم يجدوا القاتل فيقتلونه ويؤدي هذا الثأر إلى وقوع عدد من القتلى في الغالب من الجانبين، وقد يؤدي إلى وقوع قتال بين العشائر والقبائل. ويدفع أهل القتيل على اصرأرهم على الأخذ بالثأر عقيدة قديمة متوارثة، هي أن الروح منفصلة عن الجسم، فإذا قتل القتيل، خرجت روحه وصارت هامةً، تحوم حول قبره، تقول ج أُسقوني، ولن تستقر حتى يؤخذ بثأره، وإلا بقيت تحوم حوله، ويلحق الأذى عندئذ بأهل القتيل. فخوف أهل القتيل من هذه العاقبة السيئة، يدفعهم على الإصرار على الأخذ بالثأر.

وقد روى أهل الأخبار قصصاً عن الأخذ بالثأر. وكيف كان الجاهليون لا يرتاحون ولا يهجعون الا بعد أخذهم في "الثأر المنيم". وقد ذكروا أن العرب ضربت المثل برجل اسمه "بيهس" في الأخذ بالثأر.

للذحل

والذحل اثأر أو طلب مكافأة بجناية جُنيت عليك أو عداوة أتيت اليك، أو العداوة والحقد.

الشدخ

وقد يبطل الحاكم الدماء ويقال لذلك: "الشدخ". وأصل الشدخ الكسر والفضح. وقد عرف "يغمر بن عوف" ب "الشداخ"، سميّ بذلك لما شدخ من دماء خزاعة حين حكّموه..

ومن الأحكام الطريقة المتعلقة بجرائم القتل، حكم المسؤولية التي تقع على الجماعة أي جماعة أرض يقع فيها قتل، يختفي فيها أثر القاتل، وينكل أهلها عن تسليمه في خلال مدة حددها القانون بأربعة أيام. فإذا مضت المدةْ ولم يعثر فيها على القاتل أو لم يسلم إلى الحكومة، صودرت غلات الجماعة وأخذ حصادهم، حتى يبت الملك، أو الجهات المسؤولة، أي الحكام في الأمر، وفي تعيين نوع العقوبة والدية التي ستفرض على الجماعة. وتودع الأموال الصادرة في مخازن الدولة أو مخازن المعبد، أو تباع إن لم لكن في الامكان حفظها، ويحفظ ثمنها، إلى أن يبت الملك أو الحكام في الأمر.

ويظهر ان الغاية الني توخاها المشرع من إصداره هذا القانون، هو قطع دابر احتماء القتلة، بعشائرهم أو بمن يلجأون اليهم، وفرارهم من تنفيذ عقوبة القانون عليهم. ثم لاكراه الجماعات على مساعدة السلطة في البحث عن المجرمين.

التعقية

الأصل في القتل القصاص، وذلك كما ذكرت. أما الدية، فلا يقبلها إلا الضعفاء، وكانوا يعيرون من يأخذها بأنهم باعوا دم قتيلهم بمال. ولهذا كان يأبى أولياء المقتول من قبول الدية إذا كانوا أقوياء. أما الضعفاء، فقد وجدوا لهم حيلة شرعية ومخرجاً من المخارج في دفع ذم الناس لهم بقبولهم الديات، وذلك بلجوئهم إلى ما يقال له: التعقية في تبرير أخذهم دية قتيلهم. "والتعقية هي أن يقول آل القتيل لال القاتل: بيننا وبينكم علامة،فيقول الآخرون: ما علامتكم ? فيقولون أن نأخذ سهماَ فنرمي به نحو السماء، فإن رجع الينا مضرجاً بالدم، فقد نهينا عن أخذ الدية، وإن رجع كما صعد، فقد أمرنا بأخذها. وحينئذ يقبلون الدية. وهم يعلمون أن السهم سيرجع كما صعد من غير دم. ولكنهم يريدون عذراً في قبول الدية: يعتذرون به أمام الناس من تعييرهم لهم، وكانت علامة قبولهم بأخذ الدية، مسح اللحية، فإن مسح اللحية علامة الصلح. قال ابن الأعرابي: ما رجع ذلك السهم قط إلاّ نقياً، ولكنهم يعتذرون به عند الجهال".

قال المتنخل الهذلي: عقوا بسهمٍ فلم يشعر به اًحـد  ثم استفاؤوا وقالوا:حبذا الوضحُ

يقول: "رموا بسهمٍ نحو الهواء إشعاراً انهم قد قبلوا الدية ورضوا بها عوضاً عن الدم، والوضح اللبن، أي قالوا حبذا الإبل التي نأخذها بدلاً من دم قتيلنا فنشرب ألبانها".

الاشناق

وقد يحمل أحد الأجواد دفع الدية عن اهل القاتل، وقد يطلب المساعدة من قبيلته كي يكملوا عدة الدية أو الغرم. ويقال لهذا الفعل: الأشناق. ويعد دفع الأشناق من مكرمات الرجال، وكانوا يفتخرون بذلك على سائر الناس. وقد كانت قريش قد اختارت قوماً عهدت اليهم "الأشناق". يجمعون من أهل مكة المال، ليدفع في مساعدة من لا يتمكن من دفع الدية.

الحمالة

ويقال لمن يحمل الدية أو الغرامة عن قوم ليصلح بينهم "الحمالة". "ومنه الحديث: لا تحل المسألة إلا لثلاثة. ورجل تحمل حمالة بين قوم. وهو أن تقع حرب بين قوم وتسفك دماء فيتحمل رجل الديات ليصلح بينهم". والحميل الكفيل الضامن دفع الديات. وعليه دفعها، لأن الحمالة التزام، ولا يمكن التخلص من عقد بغير وفاء.

السعاة

وكانت العرب تسمي أصحاب الحمالات لحقن الدماء وإطفاء النائرة سعاة، لسعيهم في صلاح ذات البين، ومنه قول زهير: سعى ساعياً غيظ بن مرة، بعدما  تَبزََّلَ ما بين العشيرة بـالـدم

والعرب تسمي مآثر أهل الشرف والفضل مساعي.

القسامة

لا حكم بغير بينة تثبت بالدليل القاطع أن القاتل قتل القتيل. و لا يطالب بالقود ان لم يثبت أن القاتل قد قتل القتيل وأنه مسؤول عن دمه.

أما إذا قُتل رجل في موضع أو بين قوم ولم يعرف قاتله،ويرى أولياء المقتول أن دم صاحبهم في اصحاب هذا الموضع أو القوم وأن القاتل بينهم، ولا تشهد على قتل القاتل إياّه بينة عادلة كاملة، فيجيء أولياء المقتول فيدعون قبلَ رجل أنه قتله ويدلون بلوث من البينة غير كاملة، وذلك أن يوجد المدعى عَليه متلطخاً بدم القتيل في الحال التي وجد فيها ولم يشهد رجل عدل أو امرأة ثقة أن فلاناً قتله، أو يوجد القتيل في دار القاتل وقد كان بينهما عداوة ظاهرة قبل ذلك، فإذا قامت دلالة من هذه الدلالات سبق إلى قلب من سمعه أن دعوى الأولياء صحيحة، فيستحلف أولياء القتيل خمسين يميناً، أن فلاناً الذي ادعوا قتله انفرد بقتل صاحبهم ما شركه في دمه أحد،فإذا حلفوا خمسين يميناً استحقوا دية قتيلهم، فإن أبوا ان يحلفوا مع اللوث الذي أدلوا به حلف المدعى عليه وبريء. وإن نكل المدعى عليه عن اليمن خير ورثة القتيل بين قتله أو أخذ الدية من مال المدعى عليه.

وورد أن القسامة: "أن يقسم من أولياء الدم خمسون نفراً على استحقاقهم دم صاحبهم إذا وجدوه قتيلاً بين قوم ولم يعرف قاتله، فإن لم يكونوا خمسين أقسم الموجودون خمسين يميناً، ولا يكون فيهم صبي ولا امرأة ولا مجنون ولا عبد، أو يقسم بها المتهمون على نفي القتل عنهم، فان حلف المدعون استحقوا الدية، وان حلف المتهمون لم تلزمهم الدية".

وورد: في "حديث عمر، رضي الله عنه: القسامة توجب العقل، أي توجب الدية لا القود. وفي حديث الحسن: القسامة جاهلية، أي كان أهل الجاهلية يدينون بها. وقد قررها الإسلام. وفي رواية: القتل بالقسامة جاهلية، أي أن أهل الجاهلية كانوا يقتلون بها أو أن القتل بها من أعمال الجاهلية ". وورد أن رسول اللّه "أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية ".

وقد يحلف بعض الناس يميناً، أي يمين القسامة، ويدفع البعض الاخر ما يصيبه من الدية بدلاً من القسم، بأن يؤدي الدية عوضاً عن اليمن.لاعتقادهم أن من يحلف كاذباً أصابه مكروه وشر.

ومن أمثلة ما ذكره أهل الأخبار عن القسامة والعقوبة المعجلة التي تلحق بصاحب اليمين الكاذبة، ما ذكروه عن استئجار رجل من قريش، اسمه خداش بن عبد اللّه ابن أبي قيس العامري في رواية، رجلاً من بني هاشم، فانطلق الأجير معه في إبله إلى الشام، فمر رجل به من بني هاشم قد انقطعت عروة جوالقه، فقال للاجير: أغثني بعقال أشدّ به عروة جوالقي، فأعطاه عقالاً، فشد به جوالقه. فلما نزلوا، عقلت الإبل، إلا بعيراً واحداً. فقال الذي استأجره: ما شأن هذا البعير لم يعقل من بين الإبل ? قال الأجير:ليس له عقال.قال المستأجر له: فأين عقاله ? فحذفه بعصا، كان فيها أجله. فمر به رجل من أهل اليمن فقال: أتشهد الموسم ? قال: ما أشهد، وربما شهدته. قال. هل أنت مبلغ عني رسالة مرة من الدهر ? قال: نعم. قال: فكنت إذا شهدت الموسم فناد: يا آل قريش ? فإذا أجابوك، فنادَ: يا آل بني هاشم ? فإن أجابوك، فاسأَل عن أبي طالب، فأخبره ان فلاناً قتلني في عقال. ومات المستأجر.. فلما قدم الذي استأجره، أتاه أبو طالب، فقال له: ما فعل صاحبنا ? قال: مرض، فأحسنت القيام عليه، وتوفي، فوليت دفنه. قال أبو طالب: قد كان أهل ذاك منك، فمكث حيناً. ثم ان الرجل اليماني الذي أوصى اليه أن يبلغ عنه، وافى الموسم، فقال: يا آل قريش ? قالوا له: هذه قريش. قال: يا آل بني هاشم ? قالوا: هذه بنو هاشم. قال: أين أبو طالب ? قالوا: هذا أبو طالب. قال له. أمرني فلان أن أبلغك رسالة: ان فلاناً قتله في عقال. فأخبره بالقصة، و خداش يطوف بالبيت، لا يعلم بما كان. فقام رجال من بني هاشم الى خداش، فضربوه، وقالوا: قتلت صاحبنا، فجمد. وأتاه أبو طالب، فقال له: اختر منا إحدى ثلاث: إن شئت أن تؤدي مئة من الإبل، فإنك قتلت صاحبنا، وان شئت حلف خمسون من قومك أنك لم تقتله، فإن أبيت، قتلناك به. فأتى قومه، فقالوا: نحلف، فأتته امرأة من بني هاشم كانت تحت رجل منهم، قد ولدت له، فقالت: يا أبا طالب، أحب أن تجيز ابني هذا من اليمين وتعفو عنه برجل من الخمسين، ولا تصبر يمينه حيث تصبر الايمان. ففعل. فأتاه رجل منهم، فقال: يا أبا طالب، أردت خمسين رجلا" أن يحلفوا مكان مئة من الإبل يصيب كل رجل بعيران. هذان بعيران، فاقبلهما عني ولا تصبر يميني حيث تصبر الايمان، فقبلهما. وجاء ثمانية وأربعون فحلفوا. ويذكر رواة هذا الخبر انهم كذبوا في يمينهم، فما حال الحول ومن الثمانية والأربعين عين تطرف.

وقد ذكر "السكّري" القصة المذكورة، لكنه نسب القسامة فيها إلى "الوليد ابن المغيرة". فذكر أنه لما أقبل أولئك الحي الذين كان "عامر" عهد اليهم بما عهد، وأخبروا "بني عبد مناف" خبر عامر. عمدوا إلى "خداش" فضربوه، وصاح الناس: الله الله يا بني عبد مناف. ثم تناهوا وتناصفوا، و صاروا في أمره الى "ا لوليد بن المغيرة"، وهو يومئذ أسن قريش. فحكم بالقسامة. وذكر في ذلك أبيات شعر نسبها إلى "أبي طالب". وذكر أن بعض أهل الأخبار قال إنهم رضوا بحكم "أبي سفيان"، وروى في ذلك بيت أبي طالب: هلم إلى حكم ابن حرب فإنه  سيحكم فيما بيننا ثم يفعـل

الحيوان المؤذي

لا يقتل صاحب حيوان إذا قتل حيوانه انسانا آخر، إذ لا دخل لصاحبه في فعله، فتسقط عنه مسؤولية العقوبة المثلية، وعليه دفع تعويض عن فعل حيوانه، وترضية أصحاب القتيل إذا كان صاحبه معه، كأن يكون راكباً له أو مصطحباً له، إذ كان من الواجب عليه الانتباه إلى حيوانه ووجوب سيطرته عليه حتى لا يحدث أذى بالناس.

وقد أقر الإسلام هذا المبدأ. فجاء في الحديث: "العجماء جرحها جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس". أي جرح البهيمة واتلافها شيئاً هدر، لا ضمان على صاحبها إذا لم يوجد منه تفريط، أما إذا وجد كما في صورة كونه راكباً عليها أو قائداً لها أو سائقاً ففيه ضمان.

السرقة

عرف علماء اللغة السرقة larceny بأنها أخذ انسان ما ليس له أخذه في خفاء. وعرفت "مدونة جوستنيان" السارق بأنه "من انتزع بالقوة مالا" مملوكاً للغير". وقد عاقبت شرائع الشرق الأدنى السارق بعقوبات صارمة في الغالب. وقد فرضت الشريعة الموسوية على السارق ان يرد خمسة أضعاف من البقر وأربعة من الغنم عوضاً عن كل رأس مسروق. واذا لم يكن لدى السارق ما يكفيه لاعطاء هذا الجزاء، يباع فترد القيمة من ثمنه. وكان على السارق أن يدفع أحياناً سبعة أضعاف ما سرق. وقد أمرت برد الأشياء المأخوذة عن طريق الخيانة والغش أو اللقطة أو المغتصبة مع زيادة الخمس على قيمتها.

ويدخل في باب السرقة في الشريعة الموسوية السطو ليلاً على البيوت، وإزالة علامات الحدود لاغتصاب ملك مجاور لزيادة ملك المغتصب، والتلاعب في الكيل وفي الميزان والأبعاد أي القياسات والدخول عنوة في ملك شخص لا يملك حق دخول ملكه وإحراق ملك الغير، وقد قررت الشريعة المذكورة معاقبة المعتدي في هذه الحالات بإصلاح الضرر وبدفع تعويض مناسب.

والسارق عند العرب من جاء مستتراً إلى حرز فأخذ منه ما ليس له، فإن أخذ من ظاهر فهو مختلس ومستلب ومنتهب ومحترس، فإن مَنعَ مما في يديه فهو غاصب. والسرقة عيب عند الجاهليين، أما الاستيلاء على مال الغير عنوة، أي باستعمال القوة، فلا يعد سرقة، بل هو اغتصاب وانتهاب إذا كان في داخل القبيلة، أما إذا كان اغتصاب مال شخص من قبيلة أخرى ليس لها حلف ولا جوار ولا عقد مع قبيلة المغتصب، فيعد مغنماً ومالاً حلالاً. ولا يرى المغتصب فيه أي دناءة، بل قد يعدّ ذلك شجاعة وفخراً، لأنه أخذه عن قوة وجدارة، وعلى صاحب الحق أخذ حقه بنفسه، أو بمساعدة اًهله أو أبناء عشيرته.

أما بالنسبة الى شريعة الجاهليين في معاقبة السارق، فليست لدينا فكرة واضحة عنها وبالنسبة إلى عقوبته عند جميع الجاهلين. أما اهل مكة، وهم من قريش، فقد كانوا يعاقبون السارق بقطع يده. ويظهر من روايات الأخباريين أن هذه العقوبة سنت في وقت لم يكن بعيد عهد عن الإسلام، إذ يذكرون أن أول من سنهّا هو "عبد المطلب". ومنهم من يرجع سنها إلى "الوليد بن المغيرة"، فيقولون إنه أول من قطع يد السارق، فصار عمله هذا سنة في معاقبة السرقة، وقطع رسول الله في الإسلام. وروي أن اول سارق قطعه رسول الله في الإسلام، من الرجال: "الخيار بن عدي بن نوفل بن عبد مناف"، ومن النساء "مرة بنت سفيان بن عبد الأسد" من "بني مخزوم".

وذكر "محمد بن حبيب"، ان العرب "كانوا يقطعون يد السارق اليمنى"، "وقطعت قريش رجالاً في الجاهلية في السرق". منهم "وابصة بن خالد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم"، و "عوف بن عبيد بن عمر بن مخزوم"، و "مرار"، ثم سرق فرجم حتى مات، و "الخيار بن عدي بن نوفل بن عبد مناف"، وعبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب،قطع في سرقة إبل، ومدرك بن عوف بن عبيد بن عمر بن محروم، ومليح بن شريح بن الحارث ابن أسد، ومقيس بن قيس بن عدي السهمي، وكانا سرقا حلي الكعبة في الجاهلية، فقطعا.

ويلاحظ أن ثلاثة من السرّاق المذكورين كانوا من عائلة واحدة هي عائلة "عمر بن مخزوم". وأن سارقين من هؤلاء السراق الثلاثة كانا أباً وابناً. فالأب هو "عوف بن عبيد بن عمر بن مخزوم"، والابن هو "مدرك بن عوف بن عبيد بن عمر بن مخزوم".

وذكر أهل الأخبار أن أشهر سارق عرف عند الجاهليين، هو سارق اسمه "شظاظ". فقالوا: شظاظ أسرق رجل عند العرب.

ونحن لا نستطيع أن نتحدث عن موقف بقية العرب من عقوبة قطع يد السارق، لأننا لا نملك موارد تتحدث عن ذلك.

ويعاقب العبرانيون السارق بدفع خمسة أمثال المسروق إذا كان ثورا ً،ويدفع أربعة أمثاله إذا كان المسروق خروفاً أو نعجة، وذلك إذا كان السارق قد باع الحيوان أو قتله. أما إذا كان ذلك الحيوان لا يزال في أيدي السارق، فيعاقب عندئذ بدفع مثلي المسروق.

وفكرة معاقبة السارق بدفع مثلى المسروق أو جملة أمثاله فكرة موجودة عند الجاهليين أيضاً، ولا تزال معروفة في العرف القبلي. فيدفع السارق أربعة أمثال المسروق عند أكثر العشائر العراقية في الزمن الحاضر، ويسمون ذلك "المربعة". وهي في الواقع من بقايا العرف الجاهلي في السرقة. وقد جعل القانون الروماني عقوبة السرقة المكشوفة، أي السرقة التي يمسك فيها صاحبها وهو في حال السرقة أربعة أمثال المسروق، رقيقاً كان السارق أو حراً، أما السرقة المستورة، وهي السرقة التي يعثر عليها عند السارق، فجزاؤها المثلان.

وإذا أنكر السارق السرقة وأصر على إنكاره، ولم يتمكن المسروق من إثبات وقوع السرقة منه، ولكنه يرى مع ذلك انه هو السارق، فعلى المسروق أن يطالب السارق بأداء يمين يقسم فيه انه لم يسرقه وانه لا يعرف بها، فإذا أنكر ولم يرض بالقسم، فعليه دفع المسروق أو قيمته على وفق العرف. والعرب يخشون من اليمين كثيراً، حتى انهم إذا جوبهوا به، فإنهم يفضلون الاعتراف بالسرقة وإلاقرار بها على أداء اليمين.

ويعبر عن السارق بلفظة أخرى، هي "اللص" والمصدر اللصوصية. وزعم بعض علماء اللغة ان كلمة "لص" هي بلغة طيء وبعض الأنصار، ويرى بعض المستشرقين انها من الألفاظ المعربة عن اليونانية،من أصل Liatis، أي "لص" في لغة الإغريق. وقد أخذها الجاهليون عن طريق اتصالهم بالروم في بلاد الشام، حيث كانوا يقبضون على من كان يغير على الحدود وعلى القوافل بقصد السرقة والسلب، فيسمونهم Liatis، ويعاقبونهم عقوبة صارمة، فأخذ الجاهليون هذا المصطلح منهم.

ويعبر عن أخذ المال المسروق والحصول عليه وديعة أو شراءً مع علم المستلم له أنه مسروق ب "دشش " في لغة المسند.

وأما النهب، فأخذ مال الغير، وذلك بالغارات، أو باعتراض الناس في السبل والطرق. وأما السلب، فهو ما يستلبه الإنسان من إنسان آخر، في مثل الحرب أو القتل. ولهما أحكام تختلف باختلاف الظروف التي يقع فيها السلب والنهب. ففي أثناء الحروب، يكون النهب والسلب من الأعمال المألوفة التي تبيحها القوانين، وقد يبيح القادة ذلك لجنودهم، وقد يعينون مدة يبيحون فيها سلب العدو ونهب ما في مكانه. ومن حق القاتل في الحرب سلب ما على القتيل من سلاح ولباس،، وما يحمله من كل شيء.

قاطع الطريق

ذكر "محمد بن حبيب" ان العرب يصلبون قاطع الطريق، وقد صلب "النعمان بن المنذر" رجلاً من "بني عبد مناف بن دارم"، من تميم كان يقطع الطريق.

الصلح

ويحاول الحكام جهدهم تسوية الخلافات بالتي هي أحسن، وذلك بفطنتهم وبذكائهم بالتوفيق بين المتخاصمين وبعقد الصلح بينهم، لدفن ما وقع بين الطرفين من خلاف. وقد ورد:"الصلح سيد الأحكام ". وبهذه الطريقة المسالمة ينهى الخلاف وتدفن الأحقاد.

ومن طرقهم في ذلك: الدفن. "وطريقتهم فيه أن تجتمع أكابر قبيلة الذي يدفن بحضور رجال يثق بهم المدفون له، ويقوم منهم رجل، فيقول للمجني عليه: نريد منك الدفن لفلان، وهو مقر بما أهاجك عليه، ويعدد ذنوبه التي أخذ بها ولا يبقى منها بقية، ويقر الذي يدفن ذلك القائل على أن هذا جملة ما نقمه على المدفون له، ثم يحفر بيده حفيرة في الأرض، ويقول: قد ألقيت في هذه الحفرة ذنوب فلان التي نقمتها عليه، ودفنتها له دفني لهذه الحفرة،ثم يردّ تراب الحفيرة اليها حتى يدفنها بيده. وهو كثيراً متداول بين العرب،ولا يطمئن خاطر المذنب منهم إلاّ به، إلا أنه لم تجرِ للعرب فيه عادة بكتابة بل يكتفي بذلك الفعل بمحضر كبار الفريقين، ثم لو كانت دماء أو قتلى عفيت وعفت بها آثار الطلائب ".

المال

مال أهل البادية: النعم. والمال في الأصل ما يملك من الذهب والفضة ثم أطلق على كل ما يقتنى ويملك من الأعيان، وأكثر ما يطلق المال عند العرب على الإبل، لأنها كانت اكثر أموالهم. وبها قدرت الديات والفديات والمهر،وبعددها قدرت ثروة الأغنياء، أما النقود،من ذهب وفضة: فقد كانت معروفة عند الجاهليين، ولا سيما فيما بعد الميلاد، إلا انها لم تكن كثيرة في الأسواق،ولهذا كانت طريقة المقايضة هي الطريقة الغالبة في معاملات البيع والشراء.

التمليك

التمليك بعوض، والتمليك بغير عوض. وكلا النوعين معروفان عند أهل الجاهلية. فالتمليك بعوض، كأن يعوض عن حق الملك بثمن نقداً، أو عوضاً، أي بمال اخر مقايضة عن الملك وهو في الغالب. فيتنازل صاحب الملك عن ملكه إلى من عوضه. وأما التمليك بغير عوض، فيكون بتنازل الملك عن ملكه لغيره أي لمن يشاء طوعاً واختياراً بغير ثمن لا عوض، ويسلم إلى من تنوزل له عن حق التملك فيكون ملكاً صحيحاً له.

ا لعمري

العمريّ ما يجعل لك طول عمرك أو عمره، كأن يدفع الرجل إلى أخيه داراً فيقول له هذه لك عمرك أو عمري أيّنا مات دفعت الدار إلى أهله. وكان ذلك فعلهم في الجاهلية. فأبطل ذلك النبي، وأعلمهم ان من أعمر شيئاً أو رقبة في حياته، فهو لورثته من بعده. وللفقهاء كلام في هذا الموضوع.

حرمة الأماكن المقدسة

وللاماكن المقدسة كبيوت العبادة والقبور حرمة عند أهل الجاهلية، ويعتبر المستهتر بها مخالفاً للعرف والسنّة، فيؤدب. ومن سننهم ان الرجل في الجاهلية إذا أحدث حدثاً فلجأ إلى الحرم لم يحج. وكان إذا لقيه ولي الدم في الحرم قيل: هو صرورة فلا تهجه. واذا اعتدى عليه، يكون المعتدي قد ارتكب جرما.

الحبوس

والحبس كل شيء وقفه صاحبه وقفا ًمحرما لا يباع ولا يورث من نخل أو كرم أو أرض أو مستغل أو حيوان، يحبس أصله وتصرف غلته وما يأتيه من نماء ومال على ما حبس عليه. وقد كان أهل الجاهلية يحبسون السوائم و البحائر والحوامي وغيرها على الأصنام وعلى بيوت عبادتهم. فلما جاء الإسلام، قيد الحبس بما يكون في سبيل اللّه وانتفاع المسلمين، وحرم عبوس الجاهلية.

وقد حبس الجاهليون أرضين لمعابدهم وأصنامهم جعلوها "حمى" لآلهتهم،لا يجوز لأحد ارتيادها للرعي فيها ولاستثمارها لأنها حبس على الصنم أو على المعبد. ترعى فيها السائمة التي حبست على الصنم أو المعبد. فلما جاء الإسلام حرم هذا الحبس، لأنه لغير الله. وأحل محله "الوقف" الذي هو لله.

وحبسوا النخل للمحتاج ولأبناء السبيل، يلتقط تمره بغير اذن، ولا يجوز منع أحد منه. كذلك حبسوا الماء لمن يحتاج اليه، يأخذ منه دون بدل، لشدة حاجة الناس اليه، فالحبوس بمنزلة الأوقاف في الإسلام.

اللقطة

اللقطة الذي تجده ملقى فتأخذه. وتكون اللقطة لواجدها ما لم يأت شخص ببينة واضحة على انها له. فعلى لاقطها إعادتها إلى صاحبها أي مالكها. وقد يقع نزاع على لقطة كأن يدعي شخص بأن اللقطة هي حلاله وملكه، وقد التقطها شخص وادعى انها له، أو انه وجدها لقطة فهي له. أو ان يتنازع متنازعون على اللقطة بأن يدعي كل واحد انها له، لأنه هو الذي وجدها. فتكون البينة حجة في هذه الخصومات، حتى يفض محكم ذلك النزاع.

الركاز

وللجاهلين رأي في الركاز، وهو دفين أهل الجاهلية، فمن وجده صار من حقه. ولهم رأي في المعادن. وسأتحدث عنهما في اثناء حديثي عن الحياة الاقتصادية قبل الإسلام.

الفصل التاسع و الخمسون

العقود و الالتزامات

يجب على الإنسان الوفاء بالعقود وبالالتزامات، مهما كانت، ما دامت قد تمت برضاء الطرفين وباختيارهما. ومن هذه العقود عقود الزواج والديون والشركات والمزارعة وغير ذلك. وقد تعقد العقود بغير كتاب، أي باتفاق لساني، وقد تتم بكتاب يدون عليه ما اتفق عليه، وقد يشهد على العقد شهود.

ويكتب العقد، أي الاتفاق إذا أريد أن يكون كتابة، على كتاب قد يكون صحيفة. يدوّن فيه كل ما اتفق عليه.ويعبر عن صحيفة العقود بلفظة "ص ل ت" "صلت" و "ص ل و ت" في بعض اللهجات العربية الجنوبية. ومن معانيها "سمع"، وتؤدي معنى أن موقعي العقد قد سموا شروط العقد وعرفوها، فهم على علم بها وشهادة.

وإذا تم التكاتب ودوّنت كل الشروط التي اتفق عليها،ختم عليها المتعاقدون. وقد فعلوا ذلك في المعاهدات وفي الاتفاقيات وفي عقود التجارة والمعاملات الأخرى. وقد يكتب العقد كاتب قد يذكر اسمه دلالة على أنه شاهد عدل على صحة العقد. ويقوم الخاتم مقام الإمضاء المستعمل في هذا اليوم. وقد يكتب اسم الرجل، ثم توضع صورة الخاتم تخته.

وربما لا يكون الخاتم مكتوبا، بل يكون محفورا، حفرت عليه صور. فقد ورد أن في خاتم أنس بن مالك نقش ذئب أو "ثعلب"، وكان خاتم عمران ابن الحصن نقشه تمثال رجل متقلد سيفاً. ويختم به على الطين. وقد ورد: أن عمر بن الخطاب نهى أن يكتب في الخواتيم شيء من العربية.

وفي العربيات الجنوبية لفظة "جزم"، وترد في كتب العقود والالتزامات، وتعني القطع، وقطع انسان عهداً على نفسه وامضاءً له، كما نقول "جزم اليمين:أمضاه" وأما لفظة "تجزم" فمعناها عقد عقداً، أو أمضى يميناً واتفاقاً.

وتختم نصوص الاتفاقيات والعهود في بعض كتابات العربية الجنوبية بلفظة "صدق" أحياناً، دلالة على اكتسابها الصفة الشرعية وموافقة المتعاقدين التامة. وهي في معنى "صودق" التي تدون في نهاية المعاهدات والاتفاقيات في بعض الأحيان.

وتحفظ صكوك العقود عند الطرفين، وقد تودع في الأماكن المقدسة ودور العبادة، وذلك في الأمور المهمة، مثل الأحلاف وما يتعلق بالمجموع. وقد أودعت قريش الوثيقة الني كتبتها بمقاطعة "بني هاشم" في جوف الكعبة كما ورد ذلك في كتب السير. وقد عير "الحارث بن حلِزّة اليشكري"، قوماً غدروا ونقضوا العهد بقوله: حذر الجور والتعدي وهل ينق  ض ما في المهارق الأهواء

أي: إن كانت أهواؤكم زينت لكم الغدر بعد ما تحالفنا وتوافقنا، فكيف تصنعون بما في الصحف مكتوباً عليكم.

وأشار شاعر آخر، هو "قيس بن الخطيم" إلى كتب دوّن فيها حلف.

البيوع

ولدينا نص مهم من ايام الملك "شمريهرعش" موجه إلى أهل سبأ والى أهل مأرب وما والاها في تنظيم البيوع. وهو قانون مهم جداً، حددت فيه واجبات البائع والمشتري وحكم البضاعة في اثناء التعامل، أي قبل اتمام صفقة البيع. وقد حدد القانون المدة التي يعد فيها البيع تاماً ناجزا، بمدة شهر واحد، لا يجوز بعدها التراجع عن البيع أبداَ، وبين القانون حكم الحيوان الهالك في اثناء المدة التي يحق للمشتري فيها ارجاع ما اشتراه إلى البائع فحددها بمدة سبعة ايام،فإن مضت هذه الأيام وهلك الحيوان في حوزة المشتري فعليه دفع الثمن كاملاً إلى البائع، ولا يحق له الاعتراض عليه والاحتجاج بأن الحيوان قد هلك في أثناء مدة أجاز له القانون فسخ عقد الشراء فيها. ويطبق حكم هذا القانون على الإنسان أيضاً،فإذا اشترى شخص عبداً أو عبدة، روعي في بيعهما وفي شرائهما احكام هذه المواد.

وتعرّض القانون لحالة إرجاع المشتري ما اشتراه إلى بائعه، ورده عليه في خلال المدة الني سمح بها القانون وهي الشهر فما دون، مثل عشرين يوماً أو عشرة اًيام، فجوّز ذلك، بشرط أن يقوم المشتري بدفع تعويض للبائع يعادل قيمة اجازة الحيوان أو الرقيق في خلال تلك المدة التي بقي فيها في حوزة المشتري.

فالقانون السبئي اذن قد أخذ بقاعدة "الخيار" في البيع،في بيع الأجسام الحية: الإنسان، والإبل، والغنم، والبقر. وحدد مدة "الخيار" هذه بشهر واحد، إذا تم الشهر، ولم يرُجع المشتري ما اشتراه إلى البائع، عدّ البيع تاماً ناجزاً،وفي مدة الخيار هذه يكون المبيع ملكاً للبائع، وعلى المشتري دفع تعويض مناسب للبائع في حالة إرجاع المبيع إلى صاحبه تعويضاً يقدر بقدر العرف المتبع في حالة ايجار ذلك الرقيق أو الحيوان، كما ان على المشتري ان يدقع بدل العبد أو الحيوان المتوفى إذا كانت الوفاة قد وقعت في أثناء وجود العبد أو الحيوان في حيازة المشتري.

وغاية المشرع من هذا الخيار هو التأكد من أن المبيع خال من العيب سالم من كل مرض أو نقص، ونجد هذا الخيار في نصوص أخرى.

وباب "بيع الخيار" من الأبواب المهمة في كتب الفقه وفي القوانين لما يترتب عليه من مسؤوليات ونتائج بالنسبة للبائعين وللمشترين.

ونجد في القوانين التي أصدرها الملك "شمر يهرعش" في حوالي السنة 300 للميلاد، مواد وضعت لتشجيع التجارة وتنشيط البيع، وقد منعت بعضها التعامل في الأسواق اثناء الليل، وذلك حتى يتسنى لموظفي الحكومة المسؤولين عن البيوع استيفاء حق الحكومة في العشر، عن كل بيع. وقد تعرضت بعض مواد القوانين لأجور النقل التي ينفقها التاجر على تجارته لايصالها إلى السوق، والمصاريف التي تنفق على الحيوان وعلى المرافق له من مكان البيع حتى موضع الإيصال، أو من موضع التاجر الى السوق، حيث تضاف على سعر كلفة البيع. وتعرضت أيضاً إلى تعيين الطرق التي تنال بها الحكومة حقوقها من أرباح التجار.

وقد وصلت الينا عقود بيوع حددت فيها محتويات المبيع وحدوده، وأكثر ما تستعمل هذه العقود في بيوع العقارات. ويقال لعقد الشراء "شامتن علم"، أي "اعلام الشراء". وتحدد الأرض المبيعة بحدود، تعلم ب "أوثان"، والمفرد "وثنن" أي "الوثن"، وهي أنصاب قد تكتب لتدل على حد الأرض.

وتحدد شروط الشراء وأوصافها بعقود، وخاصة في أمور شراء البيوع المهمة الثمينة مثل شراء بيوت أو اًرض أو مزارع أو آبار، وتدون الشروط في "عقود الشراء"، وتسمى "شمتن علم" "شامتن علم"، أي "إعلام الشراء" في العربيات الجنوبية. وتدون في هذه العقود أوصاف الشيء المشترى وحدوده ومقداره وما يتعلق به من فروع لها علاقة بتعيين صفة الشيء المشترى. فإذا كان ذلك الشيء مزرعة مثلاً، تذكر حدودها وأوصافها ومساحتها والماء الذي تروى به: سيحاً أو بواسطة مثل بئر أو مسايل ماء ونحو ذلك. ليكون ذلك معلوماً عند المشتري والبائع، فإذا وقع خلاف يرجع إلى نص إعلام الشراء "شامتن علم"، ويحكم الحاكم بين المتخاصمين بموجب مادوّن فيه.

ولدينا نص من نصوص إعلام الشراء، حدد فيه "بنو رشين" "بنو رشيان" الشروط التي وضعوها عند شرائهم أرضاً مغروسة بالنخيل "نخلن". حددوا فيه كل شيء بدقة وعناية. حددوا موضع الأرضين التي اشتروها. وهي بستان "نخلن" "نخل" اسمها "مبحرن" "المبحر" وتقع على "معبر" قناة "ظلم"، وبستان أخرى اسمها "سطرن"، تتصل بالبستان الأولى. وحددوا السواقي التي تسقي البسُتانين المشتراتين، من المنابع التي تأخذ منها الماء إلى مجراها في الملكين المشترين.:وحددوا حقوقهم في الأشجار المغروزة على جانبي مسايل الماء، وحق الانتفاع بالماء، وحق عائدية الأثمار من الاشجار المغروزة على جانبي المسايل إلى غير ذلك من أمور تتعلق بحقهم في الماء وفي المساقي المؤدية إلى البساتين وفي تملكهم للبساتين.

وفي جملة تحديد الحدود ورسمها على الأرض، وضع أعلام على الحدود، تقد، من حجر في الغالب، يقال لها "وثن" في العربيات الجنوبية. تذكر وتحدد مواقعها في عقود الشراء. وقد يكتب عليها تأريخ الشراء، لتكون بمثابة "صكوك تملك". ولا يجوز التطاول عليها بنزعها من مكانها أو بتغيير مواضعها أو التلاعب في أماكنها، لأنها حق. وقد أمرت الآلهة بقدسية الحق وبقدسية التملك، لذلك فهي تغضب وتلعن وتصيب بالأذى أي شخص يحرف الأعلام ويغيرها من أماكنها الشرعية التي نصبت بها وثبتت عليها. ومن هنا نجد انها وضعت في حماية الالهة وفي رعايتها، وفي مقابل ذلك يتقرب المالك إلى الآلهة بقربان يضحيه اليها. وقد ورد أن رجلاّ قدم قرباناً ضحاه إلى الإله "المقه"، لأنه حفظ له "وثن" ملكه.

ويقال للاعلام التي توضع بين الشيئين من الحدود "المنار". وتوضع لتحديد معالم الطرق أيضاً، حتى يتعرف عليها المسافرون ورجال القوافل. وقد كان بعض الناس يتجاوزون على ملك غيرهم، بالتجاوز على أرض جارهم بتحويل الأعلام "وثنن" من أماكنها، وتثبيتها في مواضع أخرى، لذلك جاء في الحديث: لعن الله من غير منار الأرض، أي أعلامها. والمنار ال "وثن" في العربية الجنوبية.

الهبة

والقاعدة العامة في الهبة، أنها عطية خالية من الأعواض والأغراض، ولهذا فانها لا تسترجع ولا يؤمل الحصول على مقابل لها. ويقال للمكثر منها وهاّباً. وقد كان الجاهليون مثل أي أمة أخرى يتواهبون فيما بينهم. ولا تكون الهبة عن إكراه وقد كان البعض يهبون هبات على أمل الحصول على تعويض أو زيادة، وأكثر هؤلاء من الأعراب. ولذلك جاء في الحديث: " لقد هممت أن لا أتهب إلاّ من قّرشي أو أنصاري أو ثقفي، أي لا أقبل هبة إلا من هؤلاء، لأنهم اًصحاب مدن وقرى، وهم أعرف بمكارم الأخلاق ". فقد "رأى النبي صلى الله عليه وسلم، جفاء في أخلاق البادية، و ذهابا عن المروءة، وطلباً للزيادة على ما وهبوا فخصّ أهل القرى العربية خاصة بقبول الهدية منهم، دون أهل البادية لغلبة الجفاء على أخلاقهم، وبعدهم من ذوي النهي والعقول".

والقاعدة العامة في الهبات، أنها عطاء إذا تصرف به، فلا يصح لمن وهبه أن يطلب ارجاعه. لأنه وهبه عن طيب خاطر وليس عن جبر وإكراه. أما إذا أجبر شخص على اعطاء شخص آخر شي على أنه هدية، فلا يعد ما أعطى هدية، وإنما يكون غصباً. ومن حق صاحب ذلك الشيء المطالبة بإعادته اليه، إن أثبت بالبينة أن ما يطالب به قد اغتصب منه. لأن الغصب ظلم والظلم يجب أن يزال.

الدين

والدين، وهو كل شيء غير حاضر ويجمع على ديون. ودنت الرجل بمعنى اقرضته. وذكر ان الدين ما له أجل، وما لا أجل له فقرض. والمُعرض من يستدين من أمكنه. ولم يبال أن لا يؤديه ولا ما يكون من التبعة. والقرض ما يتجازى به الناس بينهم ويجمع على قروض. والقراض المضاربة حجازية. والغرم الدين. والغريم الغارم والجمع غرماء. وعسرتُ الغريمَ أعسر. و أعسرته واستعسرته طلبت معسوره ولم أرفق به إلى ميسوره. والتبعة و التباعة والمتابعة، الشيء لك فيه بغية شبه ظلامة ونحوها. وتابعته بمال طالبته.والتليةّ بقية الدين. وتسلم الدين من قبضه وكذلك أسلفت الدين وسلفته. وقضيت الغريم دينه، أديته اليه. وتقاضيته الدين قبضته. و الضمار من الدين ما كان بلا أجل معلوم. وتمككت على الغريم ألححت. وبرئت من الدين براءة.

وقد يقع الدين ويتم بالاتفاق الشفوي، فلا يدون في كتاب،وذلك لثقة الدائن بالمدين، وقد يدون على صحيفة، ويشهد على صحته شهود. وعلى المدين وفاء الدين بأجله، ويجوز تأخيره بالطبع باتفاق الطرفين.

وقد حكمت بعض الشعوب ببيع المدين إذا لم يتمكن من تسديد ديونه،في فيصير بذلك رقيقاً. أما الجاهليون، فقد كان منهم من يبيع المدين استيفاءً لدينه الذي في ذمته. وقد منع ذلك في الإسلام.

وقد أعطت شرائع الجاهليين شأناً كبيرا لوفاء الدين، فحتمت الالهة بلزوم وفائه وعُد عدم الوفاء مخالفة لأوامر من الالهة. ولذلك نجد المدين يذكر في كتابات تسديد الديون أنه وفى بدينه كما أمرته الآلهة بذلك. وتقوم المعابد نفسها بتقديم الديون لمن يحتاجها، وتعين مدة للسداد، وقد كانت المعابد بمثابة "البنوك" في ذلك العهد، تقرض الناس الأموال في مقابل ربح، وتسجل الدين باسم إلهَ المعبد الذي تم فيه عقد الدين. وقد كانت ذات أموال طائلة تنميها بالإقراض وبالمعاملات المالية الأخرى التي تقوم بها بنوك هذا اليوم.

وإذا لم يتمكن المدين من تسديد ما عليه من دين، صودر كل ما يملكه المدين في وقت الدين من مال وملك وكل ما سيملكه في المستقبل حتى يستوفي دينه. وتكون زوجه مسؤولة أيضاً عن هذا الدين، فإذا كان لديها مال أو ملك يستولي عليه ليدفع تعويضاً عن ديون زوجها، ويكون الأولاد مسؤولين أيضاً عن ديون والدهم، فيصادر كل ما يملكون من مال وملك وفاء لديون والدهم.

ويحدث في الغالب ان يأخذ الدائن ما عند المدين من رقيق لتشغيله والاستفادة منه ما دام المدين مديناً له، بل قد يأخذ زوج المدين لتشغيلها عنده حتى يوفي زوجها دينه للدائن. وتبلغ أسرة المدين وعشيرته بعدم تمكن المدين الذي هو منهم من تسديد ديونه، لتقوم هي بمعاونته في دفع ديونه، أو تتحمل هي مسؤولية دفع تلك الديون.

ويقال للدين "لوت" "لوأت" في المعينية. و "لواه دينه" مطله، في عربيتنا، أي في معنى قريب من هذا المعنى.

وعلى من يستعير شيئاً اعادة ما استعاره إلى صاحبه. ويعبر عن الاستعارة ب "المعاورة" و ب "العارية". و ب "عر" في بعض اللهجات العربية الجنوبية. واذا نكل شخص عن اعادة ما استعاره، فيكون حكمه حكم المستدين،أي يكون ناكثاً بما اتفق عليه جاحداً فضل انسان قدمه اليه.

وتأتي لفظة "قرض" في اللحيانية كذلك، بالمعنى المفهوم من الكلمة في عربيتنا.

ويعبر عمّا يقدمه المدين إلى الدائن من أموال أو من رقيق أو ما شابه ذلك، ليكون وديعة وضماناً لدى الدائن في مقابل سداد الدين ووفائه ب "لون" و"لوتن" أو مساناة، ومنه تنجيم المكاتب. وكانت العرب إذا رأت الهلال، قالت: لا مرحباً بمحل الدين ومقرب الآجال، لاضطرارهم إلى دفع ديونهم عند رؤية الأهلة.

الكفيل والكفالة

والكافل والكفيل الضامنُ والجمع كفل و كفلاء. و أكفلت فلاناً المال ضمنته. إياه و الضمين الكفيل والجمع ضمناء، والأذين الكفيلْ. و فلان قنعان لي أي رضى يقنع به ان اخذ بكفالة أو دم أو شهادة و حكم. والغرير الكفيل.لا وأنا لك رهن بكذا، أي كفيل. ويقال للكفيل "القبيل" كذلك، وهو الضامن. و "القبيل" العريف أيضاً.

وعلى الكفيل دفع ما بذمة المدين من دين كفله وتعهد للدائن بأدائه اليه في حالة عجز المدين أو نكوله أو امتناعه عن دفعه. فإن الكفالة عقد وعلى المتعاقدين لا الوفاء بالعقود. ولهذا كان الكفيِل في الجاهلية كالمدين الأصيل في وجوب وفائه يدين المدين. وقد يكون الكفيل جملة اشخاص، اي جملة كفلاء تعهدوا جميعاً بالوفاء عن المدين كون المدين حالة كون المدين شركاء أو عائلة واحدة أو ما شابه ذلك، فتكون المسؤولية عامة، ويجوز قيام واحد منهم بالوفاء عن الجميع في حالة موافقة جميع المتعاقدين.

القبالة

وكل من تقبل بشيء مقاطعة وكتب عليه بذلك الكتاب، فعمله "القبالة"، والكتاب المكتوب عليه هو القبالة. وقد كانوا يتقبلون القبالات رجاء الحصول على ربح ومغنم. وقد نهي عن ذلك في الإسلام. ورد في حديث "ابن عباّس": إياكم والقبالات فإنها صغار وفضلها ربا. وهو أن يتقبل بخراج أو جباية أكثر مما أعطى، فذلك الفضل ربا. فإن تقبل وزرع فلا بأس.

والرهان أو الرهن معروف و شائع بين الجاهليين، وهو ما يوضع وثيقة للدين. وقد أشر اليه في القران الكريم، وأقر في الإسلام. ويعبر عنه ب "فقدون" "فقدى" عند العبرانيين. ولا يتم الرهن إلا بالقبض، أي بتسليم المرهون إلى الدائن. وفي جملة ما يرهن السلاح والذهب والفضة والأرض والزرع والأشخاص مثل النساء والأولاد والرقيقْ. ويقال عند تخليص الرهن فككت الرهن وفديت الرهن، بمعنى فصلته وتخلصت منه، بدفع فديته وبدله وعوضه.

وقد كان الرهن معروفاً شائعاً بين أهل يثرب ومكة، فكانوا يبيعون الطعام في مقابل رهن يوضع عند البائع حتى يؤدي المشتري الثمن، أي حتى الوفاء. وللوضع الاقتصادي إذ ذاك دخل كبير ولا شك في شيوع الرهن عند الجاهليين، وفي استماله في معاملات البيع والشراء.

وقد كان من حق المرتهن الاستيلاء على الرهن، إذا مضى أجل الرهن ولم يدفع الراهن ما عليه.كما يجوز له بيع الرهن ومطالبة الراهن بالفرق إن لم يستكمل الرهن المبلغ الذي رهن الرهن عليه.

وقد استعمل رهن الاشخاص في الأمور السياسية في الغالب، إذ كان المقهورون من الملوك والأشراف وسادات القبائل يضعون أبنائهم أو أقرب الناس اليهم رهائن لدى الغالبين تكون وديعة عندهم وضماناً نحسن سلوكهم وبعدم خروجهم على طاعة الغالبين. كما استعمل في مقابل الضمان والكفالة بدفع ثمن الدم، أي الدية، وثمن فك الرقبة،أي الفدية إلى ان يؤدى المال المتفق عليه. فقد رهن "أبو أحيحة ابن العاصي" "أبانا" ابنه بني عامر بن لؤي في دم أبي ذئب. وقد رهنت قريش كما يقول أهل الأخبار " الحرث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف" عند "أبي يكسوم" الحبش، وعرف لذلك ب "الرهينة".

وأما "المراهنة" والرهان فالمخاطرة والرهان في الخيل أكثر وقد نهي عنهما في الإسلام. لما كانا يؤديان اليه من وقوع خصومات بين المراهنين، ولما كان يقع من تحايل وتلاعب في الرهان وفي الخيل المتسابقة. حيث يتواطأ مع راكبي الخيل على تقديم الخيول المتسابقة أو تأخيرها إلى غير ذلك من حيل أضرت بحقوق المتراهنين. وقد كانوا يخاطرون على المال بجعله خطراً بين المتراهنين. فيقع تلاعب فيه.

ويقال لها "المناحبة" كذلك، وكانت شائعة فاشية بين الجاهليين. وقد ناحب "أبو بكر" "أبى بن خلف" على عشر قلائص ثم زاد العدد حتى جعله مئة إن انتصر الروم على الفرس، وكان "أبي" قد راهنه بانتصار الفرس على الروم: بدوام نصرهم هذا، فتراهنا على أن يدفع الخاسر العدد الذي اتفق عليه. ويقال لتلك المقامرة. يقال: "قمرت الرجل إذا لاعبته فغلبته. وقد كانت المراهنة من الأمور المباحة في الجاهلية، وعلى المقامر الوفاء بما ألزم نفسه به من شروط المقامرة، لأنه ألزم نفسه بها،، ويجب على الإنسان الوفاء بما عاهد غيره به. فلما جاء الإسلام، حرمت المقامرة، لما فيها من ضررْ.

الودائع

والوديعة ما يستودع من مال وغيره، والوديع العهد،والودائع والعهود والمواثيق. وقد أشير اليها في نصوص المسند. ويظهر منها أنهم كانوا يشهدون الآلهة على حسن الأداء وعلى الوفاء بشروط الوديعة، واعادتها تامة كاملة عند الوفاء، إن اتفق على ذلك في شروط الايداع. ويعبرون عن اشهاد الآلهة على الوديعة وعلى شروط الوفاء بلفظهً "ستوثق"، أي الوثوق و الاستيثاق.

ويقال للوديعة "دعت" و "ديعت" قي العربيات الجنوبية، ويجب على من أودعت الوديعة اليه المحافظة عليها وتسليمها إلى صاحبها على هيأتها يوم أخذها. وقد أشير إلى حكم "الوديعة" في نص دونه "شمر يهرعش"، إلا أن تلفاً أصاب أكثر ما يتعلق بالموضوع، بحيث لم يبق منه غير كلمات، حرمنا الوقوف على حكمها في أيام ذلك الملك.

لقوانين التجارية

وتعد التجارة من أشرف الأعمال عند العرب، نجد سادتهم يحترفونها ويساهمون في تكوين الشركات للاتجار،ويسافرون بين جزيرة العرب وخارجها للبيع والشراء. ومع ذلك فإننا لا نملك ويا للاسف قوانين مدونة في تنظيم التجارة وفي أصول وقواعد الاتجار، وفي كيفية تنظيم التجارة وفي تعاملهم بعضهم مع بعض وفي العقود التي كانوا يعقدونها في تنظيمها إلى غير ذلك من أمور تتعلق بالتجارة و الاتجار.

وكل ما لدينا في الوقت الحاضر، قانون أصدره الملك "شهر هلل" "شهر هلال" في تنظيم التجارة وفي واجبات التاجر والضرائب التي يجب أن يدفعها إلى الحكومة. أمر بإعلانه وتدوينه ليقف عليه تجار عاصمته مدينة "تمنع"، وهي "كحلان" في الوقت الحاضر، وليقف عليه التجار الذين يقصدون عاصمته أيضاً يقصد الاتجار وقد دوّنه على حجر يبلغ طوله مترين، ونصبه في الحي التجاري من العاصمة، وهو الحي المعروف ب "شكر".

وقد جاء فيه ان على من يريد الاشتغال بالتجارة في منطقة "شمر" أن يقدم "عرباً" "عرب"، أي "عربوناً" وضماناً، وان يقيم في هذه المنطقة ويتعامل بالتجارة بها وحدها، وبالأسعار السائدة فيها. وللقتبانيين العاملين في التجارة في هذه المنطقة حق الشراء من الخارج أيضاً.

وتطرق النص إلى الفروق التي قد تحدث في الأسعار، والى الخسائر التي قد تلحق بالحزينة من جراء انخفاض الضرائب التي ستنشأ من الفروق بين الأسعار ومن المضاربات، فأوجب على سيد شمر، أي على القائم بأمر هذه المنظمَة التجارية بأن يدفع تعويضاً عن ذلك. كما تحدث عن "العربون" اي الضمان الذي يقدمه التاجر في مقابل حق اشتغاله بالتجارة ولضمان عدم تلاعبه أو تحايله في البيع والشراء.

وتحدث عن العقوبات ومن جملتها حق مصادرة الأموال وبيوت التجار، وفي حالة ما إذا كان ضمانهم غير كاف أو أقل من المطلوب، وعن الظروف اليَ قد تتجاوز فيها العقوبات التي قد تفرض على التاجر مقدار الضمان المقدم.

كما تحدث عن التاجر الذي يضع "عربوناً" في تمنع، ثم يقوم بالاتجار مع

تجار غرباء غير قتبانين أو مع الناس الساكنين في المناطق الأخرى، فإن للقتبانيين المتضاربين بهذا الاتجار ولسلطات "شمر" أي المنطقة المخصصة بالتجارة من مدينة "تمنع" حق مقاضاة هؤلاء التجار وفقاً للقانون.

ثم تطرق القانون إلى وجوب العناية بهذه المنطقة التجاريه من "تمنع" ووجوب مراقبة تجارتها، والى منع الاتجار بها في أثناء الليل، وإيقاف كل بيع وشراء ازاء الليل. ووجوب مغادرتها ليلا. لأن حق الاتجار محصور بالملك، وهو الذي يحدد التجارة وأوقاتها.

وغاية المشرع من تشريع القانون المتقدم، ضبط الأسعار وحماية السوق من التلاعب، وتنظيم الجباية وحماية مصالح الحكومة فيها. ونجد في بعض الكتابات السبئية قوانين وضعت في تنظيم نقل الماشية من المناطق المعينية إلى "مأرب" عاصمة سبأ. فتطرقت إلى كيفية نقل الماشية والى حقوق أصحاب الأرض التي تمر الماشية بها، والى وجوب تأمين الماء والأكل ولمن يحرسها لايصالها إلى عاصمة سبأ. ثم الى الضرائب التي تؤخذ عنها، لدفعها إلى الحكومة والى المعبد.

الربا

والربا شائع معروف عند الجاهلين،وذلك لفقر معظم الناس مما آل إلى استدانتهم من ذوي المال بفائض مرتفع جداً. ولما كان أكثر المدينين ضعفاء الحال، ولا يكون في إمكانهم دفع المال في أجله المحدد، اشتط الدائنون المرابون في ابتزاز الأرباح، فصاروا يتقاضون رباً فاحشاً عن المبلغ وأرباحه، دون شفقة ولا رحمة لعدم وجود أحكام وقوانين تحدد مبالغ الأرباح. فليست للفائدة التي تؤخذ عن الربا حدود، فالحد الأعلى غير معروف، بل هو يتوقف على حاجة المدين وعلى استغلال الدائن لتلك الحاجة، فيزيد المرابي في الربا قدر إمكانه وبحسب رأيه في حالة المدين وفي حاجته إلى الدين. أما الحكومات والهيئات التشريعية فليس لها رأي في هذا الحد، ولم نعثر على قانون أو خبر في تحديد الربح المستحصل من الربا.

ويعدّ الربح المفروض على الدين، الذي هو رباه، جزء من الدين، إذا امتنع المدين من أدائه للمرابي، يكون ناكلاً بموجبه للعهد، وعليه دفعه، دفعه للدين، وإذا كان المرابي قاسياً قوياَ استحصله من المدين اليه بالقوة، وقد يؤجله عليه على أن يدفع ربا عن هذا التأجيل.

وعرف "الربا" ب "اللياط"، لأنه ملتصق بالبيع وليس ببيع، ولأنه لاصقا بصاحبه لا يقضيه ولا يوضع عنه. وكان "أبو لهب" قد لاط للعاصي بن هشام ابن المغيرة بأربعة آلاف درهم كانت له عليه أفلس بها فاستأجره بها على أن يجزي عنه بعثه فخرج عنه وتخلف أبو لهب من الذهاب إلى بدر.

ومن أمثلة الريا في الجاهلية، ما ذكر في بعض كتب الحديث: كان الربا في الجاهلية أن يكون للرجل على الرجل الحق إلى أجل، فإذا جل الأجل، قال: أتقضي أم تربي فإن قضى أخذ، وإلا زاده في حقه،وأخر عنه في الأجل.

وقد حرم الإسلام "الربا" وأبطل اباحة الجاهلين له. فنزل الأمر بتحريمه في القرآن، وأبطل رسول الله كل ربا كان في الجاهلية في خطبة الوداع. وقد قسّم العلماء الربا إلى ثلاثة أنواع: ربا الفضل، وهو البيع مع زيادة أحد العوضين على الاخر، وربا اليد، وهو البيع مع تأخير قبضهما أو قبض. أحدهما، وربا النسأ، وهو البيع لأجل. وقد حرم الإسلام كل هذه الأنواع. وللربا حديث اخر، سيكون في اثناء كلامي على الحياة الاقتصادية عند الجاهليين.

الاجارة

والإجارة ما أعطيت من أجر في عمل. والأجرة: الكراءْ. وهو اتفاق يتم مقابل مبادلة منفعة، أو عمل بمال. كأن يشغل رجل رجلاً لأداء عمل ما في مقابل أجر يتفق عليه. يدفع للاجير اما عيناً، أي من العمل الذي قام به، كأن يعطي كيلاَ يتفق عليه من قمح يقوم بطحنه، أو أرغفة خبز مما يخبزه أو شيئاً من ذبيحة يكلف بذبحها، أو ان يدفع له نقداً، أي بالنقود أو بعين، كأن يدفع له تمراً أو قماشاً أو ما شابه ذلك في مقابل أجر العمل الذي كلف به، لقلة النقود في ذلك الوقت. كأن يدفع لعامل البناء أو النجار تمراً أو شعيراً أو لبناً أو ما شابه ذلك في مقابل أجر عمله.

السعاه

والسعاة ولاة الصدقة ؛ ويقال لعامل الصدقات ساعً، وسعى المصدق يسعى سعاية، إذا عمل على الصدقات وأخذها من أغنيائها وردّها في فقرائها، قال عمرو بن العدّاء الكلبي:

سعى عقالاً فلم يترك لنـا سـبـداً  فكيف لو قد سعى عمرو عقالين?

وفي حديث وائل بن حجر: إنّ وائلا يسُتسعى ويترفل على الأقوال، أي يستعمل على الصدقات ويتولى استخراجها من أربابها، وبه سميّ عامل الزكاة الساعي.

احكام البيع والشركة

وللجاهليين أحكام في البيوع والشراء والشركات، وفي العمل، وفسخ البيع، وفي الافلاس، وفي الخسارة، وغير ذلك مما يتعلق بالتجارة. سأتحدث عنها عند بحثي عن الحالة الاقتصادية عند العرب قبل الإسلام.

أما بالنسبة إلى المكاييل والأوزان والأبعاد، فقد كانت مختلفة. لكل مدينة أو قرية موازينها ومكاييلها ومقاييس أبعادها. كما سأتحدث عن ذلك في القسم الخاص بالناحية الاقتصادية.

قوانين القبائل والعلاقات الخارجية

والقبائل كالدول لها قوانين وضعتها للتعامل فيما بينها. وتشبه قوانيهنا هذه القوانين الدولية والعرف الذي تسير عليه الدول في كيفية التعامل فيما بينها في مثل عقد محالفات أو اتفافيات حق المرور: مرور الأشخاص ومرور السابلة وقوافل التجار. فلا تسمح القبيلة بمرور شخص غريب في أرضها، أو بمرور قافلة في الأرض الخاضعة لها إلا إذا كان المار من قبيلة لها حلف مع هذه القبيلة أو لها عقود واتفاقيات معها، أو كان للمار جوار مع أحد أبناء ألقبيلة. ثم ان على القوافل أن تؤدي للقبيلة حق المرور في مقابل السماح لها بالمرور في أرضها بأمن و سلام.

وتعتمد القوافل في اجتيازها أرض القبائل على العهود التي تأخذها من سادات القبائل بأن يسمح لها بالمرور في أرض سيد القبيلة بسلام وأمان. فتكون القافلة امنة في تلك الأرض إلى المدى الذي يصل اليه نفوذ سيد القبيلة، فإذا اجتازتها دخلت في عهد سيد قبيلة آخر، وهكذا حتى تصل مكانها المقصود. وهي عهود تعقد يتفق فيها على مقدار ما يدفع لكل قبيلة في مقابل حق تأمين ألأمن للقافلة.

فقد كان تجار مكة يعقدون عقوداً ويعهدون عهوداً مع سادات القبائل في مقابل حق مرور قوافلهم بحرية وأمان في أرض القبيلة. فإذا وقع اعتداء على القافلة قام سيد القبيلة برد الاعتداء ورفع الظلم عنها وإعادة ما أخذ منها اليها. ويعبر عن ذلك "الحبال" وب "حبل الجوار". والحبال: العهود والمواثيق.

وكان للاكاسرة ولملوك الحيرة تجارات مع اليمن ومع أماكن أخرى ذات أسواق، كانوا يرسلون تجارتهم بقوافل تولى حراستها رجال عرفوا بالشجاعة وبالبطش والشدة ليحذرهم من يريد التحرش بالقافلة، وكان هؤلاء حبال جوار مع سادات القبائل، م لما كان للاكاسرة ولملوك الحيرة عهود مع القبائل التي تمر قوافلهم بها، لحماية قوافلهم من التعرض لها بسوء. فهذه الحبال: حبال الجوار، هي عهود ومواثيق يجب على الطرفن المتعاقدين احترامها وتقديسها، وهي في كالاتفاقيات والمعاهدات التي تعقد فيما بين الدول في تنظيم العلافات الودية، وتنظيم التجارات ودفع حق المرور "الترانزيت".

وهناك اتفاقيات تجارية عقدت بين أهل مكة وبين حكام اليمن في تنظيم التجارة وتسهيل الاتجار لتجار الطرفين المتعاقدين وتنظيم ما يجبى من التجار في مقابل حق الآتجار وعن أرباح البيع والشراء، باتباع قاعدة الأفضلية في المعاملة والتعامل على أساس المقابلة بالمثل وحماية الجار من كل اعتداء قد يقع عليهم. ويظهر انه قد كان لأهل مكة عقود وعهود تجارية مع ملوك الحيرة أيضاً.

أما مع أسواق بلاد الروم، فقد حدد الروم لهم أسواقاً معينة سمحوا لهم بالمجيء اليها والاتجار بها في مقابل دفع ضريبة العشُر.

معاملة الرسل

ويقوم الرسل والسفراء بالاتصالات بين القبائل وبين القبائل والحكومات، وعلى من يرسل اليهم الرسل والسفراء حق حمايتهم وحق عدم التعرض لهم بأي سوء، حتى في حالة الغضب وفشل الرسالة. ويعبر عن المبعوث السياسي ب "تنبلت" و ب "محشكت" وب "رسل" في العربية الجنوبية. ولهم حصانة "دبلوماسية" حسب العرف السياسي بالنسبة،لذلك الوقت كذلك. والاعتداء على رسول أو سفير يعد غدراً وعملاً قبيحاً.

الامان

ومن طرق تأمين الخائف والمحافظة على النفس والأموال عقود الأمان التي يعطيها الملوك أو سادات القبائل أو الأفراد، لتكون أماناً لمن يحملها وصكوكاً بالمحافظة على أموالهم وأنفسهم، بجاه وباسم صاحب صك الأمان. ولهذا كان لا يسافر من لا وجه له إلا بكتاب أمان يحمله معه ليراه من سيمر بأرضه. وقد لا يكون كتاب الأمان كتاباً مدوناً بل علامة أو شعاراً معروفاً من الشخص الذي أعطى ذلك الأمان، أو كلمة سر أو اعلاناً شفوياً يسمعه الناس. فيلزم هذا الأمان معطيه المحافظة على عهد الأمان والدفاع عن حقوقه إذا ما تعرض إلى مكروه.

وعليه مقاضاة من تجاسر على الأمن أو ألحق به ضرراً أو إهانة لأنه رجل آمن، ما يصيبه يكون كأنه قد أصاب صاحب الأمان.

قوانين الغزو والحروب

لم تصل الينا كتابات جاهلية عن سن العرب في الغزو والحروب، وعن كيفية وجوب تعامل المتحاربين في أثناء القتال وبعده. وما ندونه هو حاصل دراستنا لبعض ما ورد في النصوص عن الحروب التى وقعت في العربية الجنوبية، ولما جاء في روايات أهل الأخبار عن أيام العرب في الجاهلية.

لا تمنع قواننن الغزو في أيام الجاهلية المحارب من حرق المستوطنات: مستوطنات خيام أو قرى أو مدن. ولا من حرق المزارع والحيوانات، لإلقاء الرعب في النفوس ولإكراه الخصم على ترك القتال والاستسلام. ولا من نقل الناس نقلاً جماعياً وإجلائهم عن أماكانهم إلى أماكن أخرى بعيدة. ونجد في الآثار الآشورية صور اشوريين وقد أشعلوا النيران في خيام الأعراب. ونقرأ قي كتابات ملوك العرب الجنوبيين انهم كانوا يأمرون بإحراق القرى والمدن ودكّها دكاً، لأنهم قاوموهم ودافعوا عن أنفسهم دفاعاً شديداً، وقد أحرق ودمر "عمر يهرعش" "شمر يرعش"، قرى ومدناً كثيرة، فزالت بذلك من عالم الوجود، ولم تدب اليها الحياة مرة أخرى، وقد أدت حروب الملوك الكثيرة، وثورات القبائل وأهل المدر على الحكومات الى تدهور الاستقرار في اليمن،والى إضعاف حكوماتها، مما ساعد على تدخل الأجانب في شؤونها، والى توسع رقعة البداوة، وتراجع الحضارة منها، والى خراب القرى والمدن.

ومن حق المنتصر في عرف تلك الأيام ان يفعل في المغلوب ما يشاء. لا يمنعه عن ذلك مانع لانه غالب وخصمه مغلوب، والحق في يد الغالب. فكان في جملة ما يفعله المنتصر، إباحة القرى والمدن، مدة بعينها: يوماً أو يومين أو ثلاثة، أو مدة لا تحدد. يكون كل ما يقع في خلالها في أيدي الجنود المنتصرين ملكاً لهم من مال وانسان وحيوان، لهم أن يأخذوا ولهم أن يقتلوا، ولهم ان ا يؤسروا. كما كان من حق القائد ان يأمر جيشه بقتل أولئك المغلوبين، لا يرى في ذلك بأساً ولا عملا" ينافي الانسانية، لأن الحرب حرب ماحقة،"لا تفرق بين بشر وحيوان أو جماد. والغالب يفعل بالمغلوب ما يشاء، ولو كان المغلوب هو المنتصر فعل بخصمه أيضاً ما يفعله المنتصر به.

الأسر والسبي

إذا وقع شخص في أسر أو في سباء، صار المأسور أو المسبى في ملك اسره أو سابيه. إلا إذا وافق الآسر أو السابي على أن يمنّ على المسبي أو الأسير بفك رقبته، أو بقبول مال يدفع عنه لفك رقبته يقال له : فدية. أو بمفاداته بشخص آخر وقع فى أسر أو فى سباء أهل الأسير أو من وقع السباء عليه،فيفادى المأسور أو المسبي عندئذ بالمأسور أو المسبى الآخر. ويوثق الأسرى وثاقاً شديداً، حتى لا يهربوا، ثم ينقلون إلى بيوت آسريهم لينظروا في أمرهم، أما إذا كان الأسرى جماعة فيؤخذوا بعد انتهاء الحرب إلى مقرات الجيوش والعوام للنظر في أمرهم.ومنهم من قد يمنّ عليهم بفك أسرهم ومنهم من يعطون هبة للقادة وللمحاربين، أو يبادلون بأسرى حرب كانوا في أيدى المغلوبين، أو بفدون بمال أو بوسائل أخرى.

وليست للفدية حدود معلومة، ولا قواعد ثابتة بل تتوقف على مبدأ المساومة. وتتوقف هذه المساومة على منزلة الأسير أو المسبى وعلى مكانته الاجتماعية: وعلى مقدار استعداد أهله لدفع مال الفدية عنه. وقد تصل إلى جملة مئات من الإبل، وقد تزيد على الألف. وتتوقف كذلك على مقدار صلابة الآسر أو الجيش المنتصر. وقد يفادى رجل بمال كثير إذا كان ملكاً أو سيد قبيلة، وقد يفادى بعدد من الأسرى هم في أيدي جماعة الملك الأسير، يكون أسره إذ ذاك سبباً في فك رقبة عدد من الأسرى.

وروي أن بعض السادات كانوا يفكون أسر الأسرىَ بفداء يقدمونه عنهم. ومن هؤلاء "حاجب بن زرارة"، وهو من تميم. فقد ذكر أنه كان أكثر العرب فداء". ويقال "فلان قيد مائة" و "عقال مائة" إذا كان فداؤه إذا أسر مائة من الإبل. قال يزيد بن الصعق.

أساور بيض الدارعين وابـتـغـى  عقال المئين في الصياع وفي الدهر

وإذا قيل: "عقال المئين"، قصدوا الشريف الذي إذا أسر فدي بمئين من الابلْ.

وقد نهى عمر عن سباء العرب، وذلك حينما استعداه أبو وجزة يزيد بن عبيد، ليأخذ بحقه ممن استرقه، فأنجده، وأصدر حكمه: "لا سباء على عربي".

وطالما نقرأ في الكتب مثل هذه العبارة: " أصابني سباء في الجاهلية كما يصيب العرب بعضها من بعض".

الرهائن

وقد يحتفظ الاسر بأسره، فلا يوافق على أخذ فدية عنه، بل يحتفظ به. عنده ليكون له "رهينة". وقد تجبره قبيلته على ابقائه لديه ليكون رهينة، حتى تستفيد منه في الظروف المناسبة. بأن تهدد أهل الرهينة أو قبيلته بقتله إن لم تستجب لمطالبها ولا توفي بما تريده القبيلة منها.

وهناك نوع آخر من الرهائن، فرضته الظروف السياسية والاجتماعية والعسكرية على أهل جزيرة العرب،ويكون ذلك بتقديم سادات الناس من حضر ومن أعراب، أبنائهم إلى الملوك والحكّام ليكونوا رهائن لديهم على الخضوع والطاعة لهم. وهو عرف قانوني بقي معروفاً في الإسلام. وقد احتفظ ملوك الحيرة والغساسنة برهائن عندهم، ليكونوا ضماناً لديهم بإطاعة آبائهم وأقريائهم سادات القبائل لهم، فلا يثوروا عليهم ولا يعتدوا على عربهم أو على حدود مملكتهم. وقد يكون الرهائن أطفالاً، وذكر أن "الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار ابن قصي"، كان رهينة قريشي عند "أبي يكسوم الحبشي"، وقد عرف لذلك ب "الرهين".

الودائع

الوديعة: العهد. والودائع: العهود. ومنه كتاب النبي: لكم يا بني نهد، ودائع الشرك ووضائع المال. أي العهود والمواثيق ويقال نوادع الفريقان: إذا تعاهدوا على ترك القتال. ويجب عدم الاخلال بالودائع، لأنها عقود وعهود. والنكث بالعهود من سجايا الأنذال.

وللجاهلين احكام في البيوع وفي الاتجار وفي حق الأرض وغير ذلك، سيأتي الكلام عليها في مواضعه من الحياة الاقتصادية، لذلك فلا داعي للتحدث عنها هنا، ما دمت سأتكلم عنها في ذلك المكان، لصلتها الوثيقة به.

الفصل الستون

حكام العرب

الحاكم منفذ الحكم بين الناس، والذي يمنع الظالم من الظلم. وهو في معنى "القاضي"، الذي هو القاطع للامور المحكم لها. وحكام العرب، هم الذين حكموا بينهم فيما حدث من خلاف، وما وقع لهم من خصومات. وقد كان لكل قبيلة حكام، عرفوا برجاحة عقولهم وبسعة مداركهم وبوقوفهم على أعراف قومهم، وبعدلهم وانصافهم، وبترفعهم عن الظلم والدنايا، فتحاكموا اليهم.

ومنهم من طار اسمه إلى خارج مواطن قبيلته، فتحاكم اليه أبناء القبائل الأخرى، لما وجدوا فيه من صفات الحكم العادل والنزاهة والسلامة والصدق في اعطاء الحكم.

ولم يكن الحكم بن الناس والقضاء بينهم، عملاً رسمياً من أعمال الحكومة، بمعنى ان الحاكم موظف من موظفي الدولة، كما هو في الوقت الحاضر، وكما وقع في الإسلام، وانما كان القضاء أمراً يعود إلى الناس، إن شاءوا رجعوا إلى عقلاء الحي لفض ما قد يقع بين أهل الحي من خلاف، وإن شاءوا اختاروا حكماً يرتضونه لكي يقضي بينهم في الخصومة، فيقضي فيما بينهم برأيه وبرجاحته عقله، ثم ينتهي واجبه، وهم لا يختارون حكماً، إلا لوجود خلال حميدة فيه تؤهله للحكم، مثل العدل والفهم والحنكة، والفطنة،وسرعة إدراك أسباب الحق.

ولهذا صار الرجل الذي تتوفر فيه الصفات التي يجب أن تكون في الحاكم، مرجعاً لأصحاب الخصومات، يرجعون اليه لعمق تفكيره ولرجاحة عقله في استنباط الحكم الذي يرضي ويقنع الطرفين، ولم يكن هذا الحاكم من رؤساء القبيلة بالضرورة وانما قد يكون من الذين برزوا في مجتمعهم وأظهروا مقدرة في فهم طبائع قومهم وأعرافهم وأنساجهم وامتازوا عن غيرهم بسعة الفهم والادراك.

وحكام العرب إما حكام منحوا مواهب ومزايا، جعلت الناس يركنون اليهم في حل المشكلات، وإما كهان، لجأ الناس اليهم يستفتونهم في الحكم فيما يقع بينهم من شجار، لاعتقادهم بصحة أحكامهم، وأما "عراف"، وإما فقهاء ومفتون، أي رجال دين، كالقلامسة، يقتون في أمور الدين.

ويلاحظ أن أهل الجاهلية كانوا يطلقون على الذي ينظر في الخصومات "الحكم" و "الحاكم". أما في الإسلام فقد تغلبت لفظة "القاضي" عليه. وصار القاضي هو الذي يقضي بين الناس في جميع الأمور القضائية من مدنية وجزائية، ثم عاد الناس في هذه الأيام فخصصوا "الحاكم" بمن يحكم في القوانين الجزائية والمدنية، و "القاضي" بمن يقضي في الأمور المتعلقة بالأحوال الشخصية التي لها علاقة بأمور الدفن كالزواج والطلاق والإرث.

وذكر علماء اللغة أن "الفتِاحة"، الحكومة والقضاء قال الأشعر الجعفيّ: ألا من مبلغّ عمراً رسولاً=فإنّي عن فتاحتكم غني وأن الفتح، الحكم بين الخصمين في لغة حمير. يقال فتح الحاكم بينهم إذا حكم. وإذا تجاوز الحاكم العدل وتباعد عن الحق، يقال: شط عليه في حكمه. و "الشطط" مجاوزة القدر في بيع أو طلب أو احتكام. و "الجور" الظلم والتعدي على الغير، وإذا شط الحاكم على شخص، يكون قد جار عليه وظلمه، وما أنصفه في حكمه.

ويجب على الحاكم أن يحكم بين الناس بالقسط، حكم "الميزان"، فلا يجوز في العدالة: أن يرجح كفة على أخرى. ولهذا قيل: الميزان العدل، وجعل رمزاً للعدالة. قال تعالى )وزنوا بالقسطاس المستقيم (. والقسطاس الميزان، وقيل هو أقوم الموازين وأعدلها.

وكانت العادة ان يلجأ اليتيم والضعيف إلى ذوي رحمه، أو إلى أبناء حيهّ، للحصول على ظلامته. فيتدخل أهل المروءة والانصاف في الأمر، لإكراه الظالم على إنصاف المظلوم. ورد أنه "كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غنم اليتيم، ويجعل مكانها الشاة المهزولة. ويقول شاة بشاة، ويأخذ الدرهم الجيد ويطرح "مكانه المزيف، ويقول درهم بدرهم ". ومنهم من كان يأكل مال اليتيم والضعيف، ويجبر اليتيمة على الزواج به، للحصول على مالها، وقد منع ذلك في الإسلام.

وحكام العرب في الجاهلية: أكثم بن صيفي بن رباح، وحاجب بن زرارة ابن عدس، والأقرع بن حابس، أبي عيينة، وربيعة بن مخاشن، وضمرة ابن ضمرة "ضمرة بن أبي ضمرة" التميمي، هؤلاء كانوا حكام تميمْ.

و "الأفعى بن الحصين بن غنم بن رهم بن الحارث الجرهمي"، و "عينية بن حصن بن حذيفة"، و "حرملة بن الأشعر المريّ"، وهرِم بن قطبة بن سنان بن عمرو الفزاري، وبشر بن عبد الله بن حبان، وأبي سفيان بن حرب ابن أمية، وأبي جهل بن هشام، وأنس بن مدرك، و "عامر بن الظرب" العدواني، و غيلان بن سلمة بن معتب الثقفي وهما حكمان لقيس، وهاشم ابن عبد مناف، وعبد المطلب، وأبو طالب، والعاص بن وائل القرشي، "العاصي"، والعلاء بن حارثة بن نضلة بن عبد العزى القرشي، هؤلاء كانوا حكاماً لقريش. وربيعة بن حذار الأسدي، ويعمر بن الشدّاح "يعمر الشداخ" الكناني، هؤلاء كانوا حكاماً لكانة. وكان من حكامهم أيضاً: صفوان بن أمية، وسلمة بن نوفل الكناني، ومالك بن جبير العامري، وعمرو ابنُ حممة الدوسي، والحارث بن عباد الربيعي، والقلمس الكناني،وذي الاصبع العَدواني.

وقد تعرض "اليعقوبي" لموضوع حكام العرب، فقال: "وكان للعرب حكّام ترجع اليها في أمورها وتتحاكم في منافراتها ومواريثها ومياهها ودمائها، لأنه لم يكن دين يرجع إلى شرائعه، فكانوا يحكمون أهل الشرف والصدق والأمانة والرئاسة والسن والمجد والتجربة. وكان أول من استقضى فحكم: الأفعى بن الأفعى الجرهمي، وهو الذي حكم بين بني نزار في ميراثهم. ثم سليمان بن نوفل ثم معاوية بن عروة، ثم صخر بن يعمر بن نفاثة بن عدي بن الدئل، ثم الشداخ،وهو يعمر بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة ابن كنانة، وسويد بن ربيعة بن حذار بن مرة بن الحارث بن سعد، ومخاشن ابن معاوية بن شريف بن جروة بن أسيد بن عمرو بن تميم، وكان يجلس على سرير من خشب فسمي ذا الأعواد، وأكثم بن صيفي بن رياح بن الحارث بن مخاشن، وعامر بن الظرب بن عمرو بن عياذ بن يشكر بن عدوان بن عمرو بن قيس، وهرم بن قطبة بن سيّار الفزاري، وغيلان بن سلمة بن معتب الثقفي، وسنان بن أبي حارثة المري، والحارث بن عباد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة،وعامر بن الضحيان بن الضحاك بن النمر بن قاسط، والجعد بن صبرة الشيباني: ووكيع بن سلمة بن زهير الايادي، وهو صاحب الصرح بالحزورة، وقس بن ساعدة الايادي، وحنظلة بن نهد القضاعي، وعمرو بن حممة الدوسي. وكان في قريش حكام، منهم: عبد المطلب، وحرب بن أمية، والزبير بن عبد المطلب، وعبد ألله بن جدعان، والوليد بن المغيرة المخزومي.

وكان في نساء العرب أيام الجاهلية حاكَمات اشتهرن بإصابة الحكم وفصل ألخصومات وحسن الرأي في الحكومة. منهن: صحر بنت لقمان، وابنة الخس، وجمعة بنت حابس الايادي، وخصيلة بنت عامر بن الظرب العدواني، وحذام بنت الريان.

ويذكر اهل الاخبار ان "ابنة الخس"، هي "هند بنت الخس الايادية" وهي جاهلية قديمة، وقد ادركت "القلمس" الكناني، ونسبوا لها اسجاعاً كثيرة، وقالوا انها كانت تحاجي الرجال. ورووا لها شعراً قليلاً. و"الخس"، والد هذه الحكيمة، هو الخس بن خابس بن قريط الايادي. وذكر بعضهم لنه من العماليق. وقد اختلف في تسميتها فقيل: هند وقيل جمعة، وقد جاء عنها الامثال. وكانت معروفة بالفصاحة.

وقد نسبوا لها حديثاً في وصف المرأة وفي وصف الرجل، كما ذكروا لها كلاماً مع والدها، حين سألها عن اسئلة.

وذكر بعض اهل الاخبار ان "جمعة بنت حابس الايادي" هي اخت "ابنة الخس" والدها "حابس" رجل من اياد، او هو "الخس بن حابس" وذكر بعض اخر، ان "جمعة" ليست اخت "هند" وانما هناك حاكمة اخرى وزعموا ان "صحر بنت لقمان" كانت عاقلة اشتهرت بالعقل والكمال والفصاحة وكانت العرب تتحاكم عندها فيما يقع بينهم من خلاف في الأنساب وغيرها. وكان والدها "لقمان". وبعضهم يقول غير ذلك. وأخوها "القيم". ويذكر بعضهم أن لقمان قتلها.

أما "الأفعى الجرهمي"، فقد جعله بعض أهل الأخبار من أول الحكام، وهو الذي حكم بين "بني نزار بن معد" في ميراثهم على حد زعم أهل الأخبار، وهم مضر وربيعة وإياد وانمار. وكان منزله نجران من اليمن. ومن ولده السيد والعاقب أسقفا نجران في ايام الرسول. وجعله "اليعقوبي" من أقدم من حكم عند العرب في خلاف، إذ قال عنه: "وكان أول من استقضى اليه فحكم: الأفعى بن الأفعى الجرهمي. وهو الذي حكم بين بني نزار في ميراثهم". وجعله "المسعودي" ملكاً من ملوك نجران.

وكان أكثم بن صيفي من حكام تميم، ذكر انه أدرك الإسلام، ولما سمع بأمر النبي، وكان إذ ذاك شيخاً، بعث ابنه "حبيشاً" إلى النبي ليأتي في بخبره، فلما جاء به، جمع قومه وخطب فيهم، ودعاهم إلى الإسلام. ونسبوا له أمثلة،منها: مقتل الرجل بني فكّيه.، وجمعوا له تسعة وعشرين مثلاً أو أكثر من ذلك. ونسبوا له كلاماً مع "كسرى". ونسب له "الجاحظ" بيتاً في الزهد، هو: نُربّي ويهلك آباؤنـا  وبينا نربّي بنينا فنينا

وزعم أهل الأخبار انه عاش تسعين و مئة سنة، ومنهم من استقل هذا العمر واستصغره، فجعله ثلثمائة وثلاثين سنة.

ولأكثم صلات وعلاقات بالنعمان بن المنذر ملك الحيرة. وكان الملك قد اختاره في جملة من اختارهم لمحادثة "كسرى" في أمر العرب على ما يذكره أهل الأخبار.

ونسب أهل الأخبار اليه حكماً زعموا أنه قالها للملك "النعمان" في أصول الحكم وفي كيفية إدارة شؤون الرعية في حقوق الراعي. وزعم أن "الحارث بن أبي شمر الغساني"، طلبه ليكون في الألسنة الموهوبة التي تكلم "هرقل" عظيم الروم عند زيارته له. وذكر أنه كان يحث على التآلف والوحدة وجمع الشمل، ونبذ التخالف والتنافر. ونسبوا له أقوالا في ذلك. وفي أصول الحروب والقيادة وأمثال ذلك، مما يحتاج اليه المجتمع في ذلك العهد.

وذكر أن سادة نجران كانوا يتصلون به، وكذلك ملك "هجر". وأن سادات جهينة ومزينة وأسلم و خزاعة، كانوا يسألونه الرأي والاستشارة.

وحاجب بن زرارة بن عدس من حكّام تميم، ومن البلغاء الفصحاء في زمانه وممن وفد على "كسرى" من سادات تميم، وكان له كلام معه. وكان في جملة من توسط عنده ليسمح لقومه أن يدخلوا الريف. فسمح لهم بذلك. وقد هلك. قبل الإسلام. فصار ابنه "عطارد" سيد تميم. وقد أدرك عطارد الإسلام،وذهب الى الرسول، فأسلم. وكان حاجب بن زرارة يقال له ذو القوس،وذلك أن تميما أقحطوا، فارتحل حاجب إلى كسرى، فسأله أن يأذن له، أن ينزل حول بلاده. فقال: إنكم أهل غدر ! فقال: أنا ضامن. فقال: ومن لي بأن تفي? قال أرهنك قوسي، فأذن لهم دخول الريف. فلما مات حاجب، رحل عطارد بن حاجب إلى كسرى، يطلب قوس أبيه، فردها عليه وكساه حلّة. فلما وفد إلى النبي عطارد، وأسلم على يديه أهداها للنبي، فلم يقبلها،فباعها. وقال عمر: يا رسول الله لو اشتريتها فلبستها لوفود العرب وللعيد،فقال: إنما يلبس الحرير في الدنيا من لاخلاق له في الآخرة. وقد ارتد عطارد مع من ارتد من بني تميم بعد النبي وتبع سجاح، ثم عاد إلى الإسلام.

وكان "الأقرع بن حابس بن عقال بن محرر بن سفيان" التميمي المجاشعي الدارمي من حكام تميم، أسمه "فراس"، وانما قيل له الاقرع لقرع كان برأسه. وكان شريفاً في الجاهلية والإسلام. وفد على النبي، وهو من المؤلفة قلوبهم وقد حسن إسلامه. وقد نادى النبيّ، من وراء الحجرات يا محمد، فلم يجبه. فقال: والله يا محمد إن حمدي لزين، وإن ذمي لشين. فقال رسول اللّه: ذلكم الله. وفي هذا الحادث نزلت الآية : )إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون(. وذكر انه كان مجوسياً قبل ان يسلم. وان "عيينة" والأقرع استقطعا أبا بكر أرضاً، فقال لهما عمر: انما كان النبي، صلى الله عليه وسلم " يتألفكما على الإسلام. فأما الآن فاجهدا جهدكما، وقطع الكتاب.وقد عاش إلى زمن عثمان.

واليه تحاكم "الفرافصة" الكلبي، وجرير بن عبد الله، وقد نفر "الأقرع" جرير على الفرافصة بن الأحوص الكلبي.

وكان ربيعة بن مخاشن من حكام تميم البارزين في أنساب قومه، كما كان من خطبائهم وفصحائهم. وهو من "بني أسيد بن عمرو بن تميم"، وكان يجلس على سرير من خشب في قبة من خشب، فسميّ ذا الأعواد. واليه أشار الأسود ابن يعفر بقوله: ولقد علمتُ سوى الذين نبأتني  ان السبيل سبيل ذا الأعـواد

وذكر انه كان مرجع قومه، وعالمهم بالأنساب، وزعم قومه انه أول من قرعت له العصا. وكان أبوه "مخاشن" حكماً أيضاً.

وكان ضمرة بن ضمرة بن جابر بن قطن ين نهشل بن دارم التميمي من حكام تميم المعروفين. وكان قومه يلجأون اليه فيمن كانوا يلجأون اليهم عند أخذ الرأي. ذكر أنه حكم فأخذ رشوة فغدر. وأنه كان من رجال بني تميم لسانا وبياناً. وكان اسمه شق بن ضمرة، فسماه بعض ملوك الحيرة ضمرة. والرشوة ما يعطيه الشخص الحاكم أو غيره ليحكم له، أو يحمله على ما يريد. وقد عرف ب "شقة".

ومن حكّام "تميم" "الأحنف بن قيس السعدي التميمي".واسمه "الضحاك ابن قيس" وقيل "صخر بن قيس"، ويكنى "أبا بحر" وهو ممن أدرك النبي. وكان من الحلماء الدهاة الحكماء العقلاء. وقد ضرب بحلمه المثل. "قال رجل للاحنف بن قيس: بمَ سدت قومك وأنت أحنف أعور ? قال: بتركي ما لا يعنيني، كما عناك من أمري ما لا يعنيك". وذكر أنه هو القائل:" لا تزال العرب بخير ما لبست العمائم، وتقلّدت السيوف وركبت الخيل،ولم تأخذها حميةّ الأوغادً. قيل: وما حمية الأوغاد ? قال: أن يروا الحلم ذلاً،والتواهب ضيماً".

وكان عامر بن الظرب العدواني من حكام قيس. وذكر انه كان أول من قرعت له العصا. ونسبوا له حكماً وأمثالاً منها: ربّ أكلة تمنع أكلات. ورب زارع لنفسه حاصد سواه، ومن طلب شيء وجده... إلى أمثلة أخرى من أمثلة في الحكم والمواعظ وفي كيفية السر في هذه الحياة. وذكر انه هو الذي جعل الدية مائة من الإبل، وجعله "محمد بن حبيب" في طليعة "أئمة العرب".

وذكر انه التقى ب "حممة بن رافع الدوسي" عند ملك من ملوك حمير "فقال: تساءلا حتى أسمع ما تقولان"، فجرى بينهما كلام في الحكم وفي أمور الحياة.

وقد اختلف أهل الأخبار في أول من قرعت له العصا. فقال بعض منهم هو "عامر بن الظرب العدواني"، وقال بعض اخر، هو "قيس بن خالد بن ذي الجدين". وهو قول ربيعة، أو "عمرو بن حممة" الدوسي، وهو قول تميم، أو "عمرو بن مالك". وذكر ان قيساً كانوا لا يعدلون بفهم عامر بن الظرب فهماً ولا بحكمه حكما. فلما طعن في السن، أو بلغ ثلثمائة سنة، أنكر من عقله شيئاً، فقال لبنيه: انه كبرت سني وعرض لي سهو، فاذا رأيتموني خرجت من كلامي لي أخذت في غيره، فأقرعوا لي المجن بالعصا. وقيل كانت له ابنة يقال لها خصيلة، فقال لها إذا أنا خولطت، فاقرعي لي العصا. فأتى عامر بخنثى ليحكم فيه، فلم يدر ما الحكم، فجعل ينحر لهم ويطعمهم و يدافعهم بالقضاء " فقالت خصيلة ما شأنك قد أتلفت مالك? فخبرها انه لا يدري ما حكم الأنثى، فقالت اتبعه مباله. وذكر "محمد بن حبيب"، انه حكم في الخنثى حكماً جرى الإسلام به. وذكر بعض اخر ان "العرب لا يكون بينها نائرة ولا عضلة في قضاء.، إلا أسندوا ذلك اليه، ثم رضوا بما قضى فيه. فاختصم اليه في بعض ما كانوا يختلفون فيه في رجل خنثى له ما للرجل، وله ما للمرأة. فقالوا: انجعله رجلا أو امرأة، ولم يأتوه بأمر كان أعضل منه. فقال: حتى انظر في أمركم، فوالله ما نزل بي مثل هذه منكم يا معشر العرب، فاستأخروا عنه، فبات ليلته ساهراً يقلب أمره وينظر في شأنه، لا يتوجه له منه وجه.

وكانت له جارية يقال لها سخيلة ترعى عليه غنمه"، فلما رأت سهره وقلقه وقلة قراره على فراشه، سألته عن حاله، فقال: ويحك اختصم إليّ في ميراث خنثى أجعله رجلا أو امرأة. فقالت: سبحان الله ! لا أبالك اتبع القضاء المبال. اقعده، فإن بال من حيث يبول الرجل، فهو رجل، وإن بال من حيث تبول المرأة، فهي امرأة. فسرَّ بهذا الجواب.

ومن حكّام قيس: "هرَِم بن قطبة بن سياّر بن عمرو". وهو العشراء ابن جابر بن عقيل. واليه تنافر "عامر بن الطفيل"، وعلقمة بن علاثة. وسنان بن أبي حارثة بن مرة.

ويذكر أهل الأخبار أيضاً أن "ذرب بن حوط بن عبد الله بن أبي حارثة الطائي"، كان حاكما شهيراً في الجاهلية، وقد حكم "عامر بن الظرب" في الخنثى.وذكروا أن الشاعر "أدهم بن أبي الزهراء" الطائي، وهو من الشعراء في الإسلام، ذكَره في شعر له، حيث قال: منّا الذي حكم الحكوم فوافقت  في الجاهلية سنة الإسـلام

وقد أدخل "ذرب" واسمه "سويد بن مسعود بن جعفر بن عبد الله بن طريف ابن حيي" الشاعر، في جملة من حكم في الجاهلية بحكم، فوافق حكمه السنة.

ومن حكّام العرب المعروفين وأحد المعمرين "عمرو ين حممة بن رافع الدوسي" من الأزد. ذكروا أنه عمرّ طويلاّ، وانه ذو الحلم الذي ضرب به العرب المثل، وانه هو الذي قرعت له العصا. وذكر "ابن دريد" أنه وفد إلى النبي. ولم يذكر أحد غيره أنه وفد عليه. بل الذي عليه الآخرون أنه مات في الجاهلية بعد عمر طويل، إذ ذكروا أنه كان احد المعمرّين، حتى أوصل بعضهم عمره إلى حوالي الأربعمائة سنة، فذكر أنه عاش ثلاثمائة وتسعين سنة. وذكروا انه عرف ب "ذي الحلم" وأنه هو الذي ضربت به العرب المثل في قرع العصا،لأنه بعد أن كبر صار يذهل فاتخذوا له من يوقظه بقرع العصا، فيرجع اليه فهمه. وأنه هو الذي أشار اليه "الحارث بن وعلة" بقوله: وزعمتم أن لا حُلـوم لـنـا  إن العصا قرعت لذي الحلم

ويذكر اهل الأخبار ان الذين يزعمون ان "عمرو بن حممة" هو الذي كان يقال له: "ذو الحلم"، وانه هو اول من قرعت له العصا، انما هم أهل اليمن، وذلك تعصباً منهم اليه. ويظهر من ذلك ان العصبية القبلية قد لعبت دوراً في هذه القصة: قصة اول من قرعت له العصا، فزعم القيسيون ان اول من قرعت له العصا، هو "عامر بن الظرب العدواني": وزعم اهل اليمن، انه "عمرو بن حممة".

وقد كان له قبر معروف، تزوره المارة، ذكر ان "الهدم بن امرئ القيس ابن الحارث بن زيد، أبو كلثوم بن الهدم" الذي نزل عليه النبي، و "عتيك ابن قيس بن هيشة بن أمية بن معاوية"، و "حاطب بن قيس ين هيشة" الذي كانت بسببه حرب حاطب، مرّوا بقبره قادمين من الشام،فعقروا رواحلهم على قبره، وقال كل واحد منهم شعراً في رثائه.

ونعرف حكماً آخر من حكاّم "عدوان"، عرف ب "ذي الاصبع العدواني" وهو "حرثان بن محرث"، أو "حرثان بن عمرو"،أو "حرثان بن الحارث"، أو "حرثان بن السموأل بن محرث بن شبابة"، إلى غير ذلك من أقوال.

وقد عدّه أهل الأخبار من الشعراء المعمرين، وأعطاه "ابو حاتم السجستاني" عمراً،جعله ثلثمائة سنة بالتمام والكمال.

وغيلان بن سلمة الثقفي، أحد حكام قيس في الجاهلية، وهو شريف شاعر. قالوا إنه كانت له ثلاثة ايام: يوم يحكم بين الناس، ويوم ينشد فيه شعره،ويوم ينظر فيه إلى جماله، وجاء الإسلام وعنده عشر نسوة فخيره النبي فاختار أربعا، وكان ممن أسلم. وذكر انه وفد على كسرى، فكان بينه وبين غيلان كلام أعجبه، فأكرمه وقدمه وسهل تجارته وتجارة من كان معه. وكان فيهم أبو سفيان فيَ بعض الروايات، وأرسل معه من بنى له أطماً بالطائف. وكان غنياً صاحب تجارة. وقيل انه أحلب من نزل فيه: " على رجل من القريتين عظيم ".

وذكر عنه أن "بني عامر" أغاروا على ثقيف بالطائف، فاستنجدت ثقيف ببني نصر بن معاوية، وكانوا حلفاءهم، فلم ينجدوهم، فخرجت ثقيف إلى بني عامر وعليها "غيلان"، فقاتلت "بني عامر"، وانتصرت عليهم وخلد "غيلان" هذا القتال في شعر رووه له.

واشير إلى اسم قاض آخر عرف واشتهر في الجاهلية، اسمه "حذار"، وهو "ربيعة بن حذار" الأسدي من "بني أسد بن خزيمة". وقد نعت ب "قاضي العرب". وكان حكماً من حكام "بني أسد"، واليه مرجعهم في امورهم ومشورتهم. واليه نافر "خالد بن مالك بن تميم النهشلي" "القعقاع بن معبد التميمي"، فنفر القعقاع، و له ولد اسمه: "سويد بن ربيعة بن حذار" كان حاكماً كذلك.

ومن حكام "طيء" "ابن صعترة الطائي". وكان من الحكام الكهان.

وممن اشتهر بالقضاء بين الناس من "إياد": "وكيع بن سلمة بن زهر بن إياد"، وهو صاحب الصرح بحزورة مكة وقد أكثروا فيه فقالوا كان كاهناً، وقالوا كان صديقاً من الصديقين. وذكروا له أقوالاً ووصية لقومه من إياد، جاء فيها: "اسمعوا وصيتي: الكلام كلمتان. والأمر بعد البيان. من رشد فاتبعوه ومن غوى فارفضوه، وكل شاة معلقة برجلها"، فكان اول من قال هذه الكلمة فذهبت مثلاً.

وقد ذكر عنه، أنه كان ولي أمر البيت بعد جرهم، فبنى صرحاً بأسفل مكة وجعل فيه أمة يقال لها "حزورة" وبها سميّت حزورة مكة وجعل في الصرح سلما، فكان يرقاه، ويزعم أنه يناجي ربه، ونسبوا له أمورا كثيرة. ومن كلامه على ما يزعمه أهل الأخبار "مرضعة وفاطمة، ووادعة وقاصمة، والقطيعة والفجيعة، وصلة الرحم وحسن الكلم" " وقوله: "زعم ربكم ليجزين بالخير ثوابا، وبالشر عقابا، إن كل من في الأرض عبيد لمن في السماء. هلكت جرهم وربلت إياد،وكذلك الصلاح والفساد ". وذكر انه لما مات، نعي على الجبال.

ومن حكّام اياد: قيس بن ساعدة ألايادَي الشهير. وذكر أنه أول من قال: "أما بعد"، وسأتكلم عنه في أثناء كلامي على الخطباء البلغاء.

ومن حكام "كَنانة" "صفوان بن امية"، و "سلمى بن نوفل الكناني"، وكان من المعاصرين ل "عامر بن الظرب العدواني". وجعل "صفوان بن امية بن محرث الكْناني" في عداد من حرّم الخمر في الجاهلية تكرما وصيانة لأنفسهم. ونسبوا له شعراً في سبب تركه لهاْ.

ومن حكام "كنانة": "يعمر بن عوف الشدّاخ الكناني"، وكان خبيراً بالأنساب و بالأحساب والأخبار وحكما من حكام كنانة. وهو الذي شدخ دماء خزاعة. وكانت قريش قاتلت خزاعة وأرادت اخراج خزاعة من مكة، فتراضى الفريقان بيعمر. فحكم بينهم بشدخ الدماء بين قريش وخزاعة، وعلى ألا يخرج خزاعة من مكة. وورد في رواية اخرى، انه حكم ان كل دم اصاب قريش من خزاعة موضوع، وكل ما اصاب خزاعة من قريش ففيه الدية، وان قصيا أولى بالكعبة وأمر ممكة من خزاعة.

ومن حكام "كنانة" "القلمس الكناني". وكان من نسأة الشهور، كان يقف عند "جمرة العقبة"، ثم يعلن حكمه بنسىء الشهور، كأن يحلّ أحد الصفرين ويحرم صفر المؤخرة، وكذلك في الرجبين، يعني رجبا وشعبان.فهو من الحكام ومن النسأة. قال "محمد بن حبيب": " نسأة الشهور من كنانة وهم القلامسة، واحدهم قلمس، وكانوا فقهاء العرب والمفتتن لهم في دينهم له".

وكان عبد المطلب من حكام قريش " وكان يقال له "الفيّاض" لجوده، و "مطعم طير السماء"، لأنه كان يرفع من مائدته للطير والوحوش في رؤوس الجبال، وكان ممن حرم الخمر على نفسه في الجاهلية. وكان يأمر بترك الظلم والبغي، ويحث قومه على مكارم الأخلاق، وينهاهم عن دنيئات الأمور. وتؤثر عنه سنن جاء القرآن بأكثرها وجاءت السنة به، منها الوفاء بالنذر، والمنع من نكاح المحارم، وقطع يد السارق، والنهي عن قتل الموؤودة، وتحريم الخمر والزنا وأن لا يطوف بالبيت عريان.

وقد روت كتب الأدب والأخبار بعض الأحكام التي حكم بها حكام العرب،فصارت سنة للناس نهجوا عليها، منها: قطع يد السارق،وقد زعموا ان أول من سنّ ذلك هو "الوليد بن المغيرة" أو "عبد المطلب"، فقطع رسول الله في الإسلام. والقسامة وقد حكم بها "الوليد بن المغيرة" كذلك و "تحريم الخمر" وقد حكم بهذا التحريم جملة حكام، منهم "الوليد بن المغيرة" وعبد المطلب،و "المنع من نكاح المحارم"، و "النهي عن قتل الموؤودة" وتحريم الزنا،وأن لا يطوف إنسان بالبيت عريان، وتنسب هذه الأحكام إلى عبد المطلب،.

ولا بد ان يكون الوليد بن المغيرة من الرجال المبجلين المشهورين في ايامه بسداد الرأي، ولهذا اكتسب إجلال الجميع له ونال تقدير الناس، حتى قيل: ان الناس كانوا يقولون في الجاهلية: لا وثوبي الوليد الخلق منهما والجديد. واليه تحاكم "بنو عبد مناف" في مقتل "عمرو بن علقمة بن عبد المطلب"، حيث اتهموا "خداش بن عبد الله بن أبي قيس بن عبد ودّ بن نصر بن مالك بن حسل" ثم بقتله. وكان "عمرو بن علقمة" أجيرا لخداش بن عبد الله، خرج معه إلى الشام، ففقد خداش حبلاً، فضرب عمراً بعصا، فقضى عليه. فتحاكم" بنو عبد مناف" فيه إلى الوليد ين المغيرة، فقضى ان يحلف خمسون رجلا من بني عامر بن لؤي عند البيت: ما قتله خداش، فحلفوا، إلا حويطب بن عبد العزى. فإن أمه افتدت يمينه، فيقال إن من حلف هلك، قبل ان يحول عليه الحول. وقد تحدثت عن هذه القصة في أثناء كلامي على "القسامة". وذكر انه، عرف بين قومه ب "العدل".

وذكر ان "عامر الضحيان بن سعد بن الخزرج بن النمر بن قاسط"، كان يجلس للناس في الضحى، فيقضي بين المتخاصمين، فسمى الضحيان. وكان سيد قومه في الجاهلية وصاحب مرباعهم. وكانت ربيعة تغزو المغازي وهو في منزله، فتبعث له نصيبه مما تصيبه ولنسائه حصة، إعظاماً لهْ.

ومن حكم "مالك بن جبير العامري" قوله: "على الخبير سقطت.وهو مثل اشتهر وعرف بين العرب، ولازال الناس يتمثلون به. وكان "نفيل بن عبد العزيز" من حكام قريش. واليه تنافر "عبد المطلب" و"حرب بن اًمية"،فنفرعبدالمطلب على حرب.وأمه حبشية.

وقد ذكر "أبو حنيفة الدينوري" اسم رجل من أهل الجاهلية، قال عنه إنه كان فقيه العرب في الجاهلية، وإنه كان من عدوان أو من إياد. قدم في قوم معتمراً أو حاجاً، فلما كان على مرحلتين من مكة قال لقومه وهم في نحر الظهيرة من أتى إلى مكة غداً في مثل هذا الوقت كان له أجر عمرتين فصكّوا الإبل صكة شديدة حتى أتوا مكة من الغد في ذلك الوقت..

فالرجل المذكور ان صحت رواية "الدينوِري" عنه فقيه من الفقهاء وحاكم كان بين الناس. ومعنى هذا وجود الفقه عند الجاهليين بالمعنى المفهوم من الكلمة في الإسلام..

وأكثر من ذكرت، هم ممن أدركوا الإسلام، وسمعوا بخبر الرسول. وقد زعم أن بعضهم عمرّ عدة مئات من السنين. ويظهر ان ذاكرة اهل الأخبار لم تع من اخبار الاحكام الذين عاشوا قبل الإسلام بزمن طويل، فاقتصر علمها على هؤلاء وأمثالهم ممن عاش في الفترة الملاصقة للاسلام.

وقد نسب أهل الأخبار إلى الحكام المذكورين علم بأنساب الناس وأحسابهم. كما نسبوا لهم الفصاحة والبلاغة والبيان. وكلها من مستلزمات ومن ضروريات الحاكم في ذلك الوقت. كان من واجبه العلم بأنساب الناس وأحسابهم، لأن المنافرات والمفاخرات، هي من اهم المحاكمات في ذلك الوقت. ولكي يكون حكم الحاكم فيها صحيحاً دقيقاً كان لا بد له من الوقوف على احوال الناس وعلى مئاثرهم ومفاخرهم في ذلك الوقت. وكان عليه أن يكون فصيحاً بليغاً، لأن الناس كانوا يقيمون وزناً للكلام آنذاك، ومن يحسن الاختيار في الكلام، ويحسن صياغة الكلم، يكون ذا أثر فعال في نفوس المستمعين وفي اصدار الأحكام.

ويتبين من دراسة ما ينسب إلى اولئك الحكام من أحكام "قريش"أي "مكة"، وكذلك حكام أهل المدن. كانوا حكاماً بالمعنى المفهوم من "الحاكم"، فأحكامهم هي أحكام قانونية، مقتبسة من منطق العدالة والحق. وهي تشريع مدني ينسجم مع التشريع المدني للامم المتحضرة. وسبب ذلك على ما يظهر هو ان البيئة التي عاش فيها هؤلاء الحكام، هي بيئة حضرية، وقد كانوا انفسهم من الحضر، ولكثير منهم وقوف على أحوال الأمم الأخرى، ولهم علم بالكتب وببعض اللغات الأعجمية وبالديانات وبالاراء، وفي جملتها القوانين، فتأثروا أو تأثر بعضهم بتلك المؤثرات.

وقد روت كتب الأدب والأخبار بعض الأحكام التي حكم بها حكام العرب، فصارت سنّة للناس نهجوا عليها، منها. قطع يد السارق، وقد زعموا ان اول من سن ذلك هو "الوليد بن المغيرة" أو "عبدالمطلب،، فقطع رسول الله في الإسلام. والقسامة وقد حكم بها "الوليد بن المغيرة" كذلك، و "تحريم الخمر" وقد حكم بهذا التحريم جملة حكام، منهم "الوليد بن المغيرة" و"عبد المطلب"، و "المنع من نكاح المحارم"،و"النهي عن قتل الموؤودة"،وتحريم الزنا، وان لا يطوف انسان بالبيت عريان،وتنسب هذه الأحكام الى عبد المطلب.

وذكر اهل الأخبار ان أولى من ورث البنات في الجاهلية، فأعطى البنت سهماً والابن سهمين "ذو المجاسد اليشكري".

وأنا إذ أذكر الأحكام التي حكمها حكام الجاهلية، فاتبعت عندهم،لا أقصد انها صارت احكاماً عامة، مشت بين جميع العرب، فكلام مثل هذا،هو كلام مغلوط، لا يمكن ان يقال، على الرغم من التعميم الذي يذكره اهل الأخبار، مثل قولهم "وكانوا يقطعون يد السارق اليمنى ويصلبون قاطع الطريق". وقولهم "وكانوا يغتسلون من الجنابة"، وأمثال ذلك. فقد عودنا اهل الأخبار على هذا التعميم، الذي أخذوه من أفواه الرواة دون نقد ولا تمحيص. واية ذلك انهم يعودون فيناقضون أنفسهم وما قالوه في مواضع اخرى، مما يدل على انهم نسوا ما قالوه سابقاً ولم يفطنوا إلى هذا التناقض، ولم يحاولوا نقد الروايات.

ولهذا فحكمنا في هذه الأمور، هو ان الأحكام المذكورة هي رأي واجتهاد، قد يتبعه بعض وقد يخالفه بعض آخر، يكون اتباعه في الموضع الذي عاش فيه الحاكم فأحكامهم لهذا أحكام محلية، قد تصير عرفاً، إذا انتزعت من صميم الواقع ومن عقلية المحيط.

القضاء بعكاظ

وكانت سوق عكاظ مجتمعاً للتقاضي في الأمور المهمة عند الجاهليين. حتى الشعر كانوا يتقاضون فيه، يعرض شاعر شعره على الحاكم، ويعرض شاعر آخر منافس له شعره عليه ثم يسمعان رأي الحكم في ايهما اشعر. وذكر ان القضاء بعكاظ كان لبني تميم. وقد جمعت تميم الموسم إلى ذلك. وكان ذلك يكون في أفخاذها كلها. ويكون الرجلان يليان هذا من الأمرين جميعاً، عكاظ على حدة والموسم على حدة. فكان من اجتمع له الموسم والقضاء "سعد بن زيد مناة بن تميم"، تم تولى ذلك "حنظلة بن زيد بن مناة"، ثم تولإه "ذؤيب بن كعب بن عمرو بن تميم"، ثم "مازن بن مالك بن عمرو بن تميم"، ثم "ثعلبة بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة"، ثم "معاوية شريف ابن جُروة بن أسيد بن عمرو بن تميم"، ثم "الأظبط بن قريع بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة"، ثم "صلصل بن أوس بن مخاشن بن معاوية بن شريف بن جروة بن اسيد"، ثم "سفيان بن مجاشع بن دارم بن مالك بن حنظلة". فكان سفيان آخر تميمي إجتمع له الموسم والقضاء بعكاظ. فمات سفيان، فافترق الأمر، فلم يجتمع الموسم والقضاء لأحد منهم حتى جاء الإسلام. فكان "محمد ابن سفيان بن مجاشع" يقضي بعكاظ. فصار ميراثاً لهم. فكان آخر من قضى بينهم الذي وصل إلى الإسلام "الأقرع بن حابس بن عقال بن محمد بن سفيان". وأجاز بالموسم بعد "صلصل بن أوس"، "العلاق، بن شهاب بن لأي"من بني "عُوافة بن سعد بن زيد مناة". فكان آخر من أفاض بهم "كرب ابن صفوان بن جناب بن شجنة بن عطارد بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة". وله يقول أوس بن مغراء القريعي: ولا يريمون في التعريف موقفهم  حتى يقال: أجيزوا آل صفوانـا

ويتبين مما تقدم، ان القضاء بعكاظ كان حقاً من حقوق "تميم" لا ينازعهم. في ذلك منازع. إذا هلك قاض اخذ مكانه ابنه أو رجل آخر من الأسرة التي اختصت بالقضاء بين الناس، والتي كان لها امر "الحكومة"، فنحن هنا إذن امام اناس تخصصوا بأمور القضاء بين الوافدين إلى عكاط، ممن كان عندهم امر معضل، ثم يريدون حله وفضه. ولا يد لمثل هذا الحاكم من ان يكون محترم الجانب، مهاب المكانة، واقفاً على الأحساب والأنساب واحوال الناس وعلى الأعراف حتى يحترم قراره ويطاع.

ولا بد وان يكون لتميم نفوذ في هذه الأرضين،اكسبها حق الحكومة بعكاظ، ولا بد ان يكون نفوذ بمكة وعند قريش، جعل لها الموسم. فرئاسة الموسم،من الرئاسات الكبيرة ذات الشأن عند قريش ومن هم في جوارهم، ولا يعقل تسليمها لتميم لو لم يكن لها نفوذ سابق بمكة وصلات شديدة بقريش. صلات تتجلى بالتصاهر الموجود بين قريش وتميم. ومن يدري فلعل تميماً كانوا بمكة،ثم ارتحلوا عنها إلى مواضع اخرى ? ولا استبعد احتمال جلوس الحكام في الأسواق الأخرى للحكم بين الناس فيما يقع بينهم من خلاف، في امور السوق من بيع وشراء واختلاف على سلع، أو من تنافر أو من تخاصم وتنازع. فهذه الأسواق هي مواسم يلتقي فيها كل من يتعامل بها من الناس فيجدون فيها فرصة لحل ما بينهم من خلاف، فيلجأون الى من يكون في السوق من ألحكام، للحكم بينهم. وقد يتولى الفصل في الخصومات الناشئة عن التعامل والتبايع حكاّم السوق،وهم الذين يتحكمون في السوق ويشرفون عليها ويتقولون جبايتها والمحافظة على أرواح من يحضرها من الناس.

وقد تقع مظالم في هذه الأسواق وفي غيرها، فعلى الحكام اخذها من الظالم وإرجاع الظلامة إلى من وقعت عليه. والظلامة ما تطلبه عند الظالم. ويطالب المظلوم بظلامته مطالبة اهل الثأر بثأرهم، ويعدون الظلم نقصاً يلحق من وقع الظلم عليه. وإذا لم ينصف لجأ إلى اهله وابناء عشيرته لنصره ومعاونته على اخذ حقه من المظالم. فكانت الأسواق من المجتمعات المناسبة للنظر في المظالم.

الفصل الحادي و الستون

أَديان العرب

وللعرب قبل الإسلام مثل سائرالشعوب الأخرى تعبدوا الالهة، وفكروا في وجود قوى عليا لها عليهم حكم وسلطان، فحاولوا كما حاول غيرهم التقرب منها ولسترضاءها بمختلف الوسائل والطرق، ووضعوا لها اسماء وصفات.، وخاطبوها بألسنتهم وبقلوبهم، سلكوا في ذلك جملة مسالك، هي ما نسميها في لغاتنا بالأديان.

وتقابل كلمة "دين" العربية لفظة religion في الانكليزية من أصل لاتيني هو religere أو religare وآراء العلماء المعنيين بتاريخ الأديان وفلسفتها على اختلاف كبير جداً في وضع حد علمي مقبول بين الجميع لموضوع الدين، وربما لا يوجد موضوع في العالم أختلفت في تحديده الآراء كهذا الموضوع: موضوع ماهية الدين وتعريفه، حتى صار من المستحيل وضع إطار يتفق عليه لصورة يحمع على أنها تمثل الدين. والشيء الوحيد الذي يمكن أن يفعله كاتب، هو أن يكتب رأيه بوضوح فيما يعنيه من "الدين"، فلذا فعل ذلك، صار من المعروف ما قصد صاحبه منه.

وقد عرّف بعض العلماء الدين أنه إيمان بكائنات روحية تكون فوق الطبيعة والبشر،يكون لها أثر في حياة هذا الكون. وعرفه آخرون أنه أستمآلة وأسترضاء لقوى هي فوق البشر، يؤمن أنها تدير وتدبر سير الطبيعة وسير حياة الإنسان. وهو عند بعض آخر شعور وتفكير عند فرد أو جماعة بوجود كائن أو كائنات إلهية، والصلة التي تكون بين هذا الفرد أو تلك الجماعة وبين الكائن أو الكائنات الإلهية. وهو يطاق بهذا الآعتبار على الإسلام كما يطلق على اليهودية والنصرانية وعلى المجوسية وعلى غيرها من أديان سواء أكانت سماوية أم غير سماوية كما يصطلح على ذلك بعض العلماء.

وهناك تعريفات وحدود كثيرة أخرى للدين نشأت من اختلاف أنظار الباحثين بالقياس إلى مفهوم الدين. فهناك مسائل كثيرة مختلف فيها: هل تدخل في نطاق حدود الدين أو لا كما ان مفهومه قد تغير عند الغربيين باختلاف العصور. وليس من السهل وضع حدود معينة لمعنى الدين، فإن وجهات نظر الأديان نفسها تختلف في هذا الباب. وللدين في نظر الشعوب البدائية مفهوم يختلف كل الاختلاف عن مفهوم الدين عند غيرهم، ومفهومه في نظر الأقوام المتقدمة يختلف باختلاف دينها وباختلاف وجهة نظرها إلى الحياة. وهناك أمور تدخل في حدود الدين عند بعض أهل الأديان، على حين انها من الأمور الأخلاقية أو من أمور الدولة في نظر بعض آخر، ومن هنا تظهر الصعوبات في تعيين المسائل التي تعدّ من صلب الدين في نظر الجميع.

وللدين مهما قيل في تعريفه، شعائر تظهر على أهله، فتميزهم عن أتباع الديانات الأخرى،كما في العبادات والمأكولات والمعابد واللغات وما شاكل ذلك، ولهذه الأمور أثر بالطبع في النواحي الاجتماعية والثقافية، إذ تطبع أتباع الدين بطابع مميز خاص.

وقد زعم بعض المستشرقبن ان لفظة "الدين" من أصل أعجمي، وأنها من الألفاظ المعربة، أصلها فارسي هو "دَينا" Daena. وقد دخلت في العربية قبل الإسلام بمدة طويلة. وترد لفظة "دين" بمعنى الحشر في الإرمية والعبرانية كذلك. وهي "دينو" في الإرمية. وتقابل لفظةDaino الإرمية لفظة الديان في العربية. وهي بمعنى القاضي في هذه اللغة. وتعني لفظة "دين" القضاء في اللغة البابلية. و "ديان" "ديونو" Dayono، الحاكم والمجازي والقاضي في لغة بني ارم. وهي بهذا المعنى في العربيه أيضاً.

والدين في تعريف علماء اللغة: العادة و الشأن. تقول العرب: ما زال ذلك ديني وديدني، أي عادتي. والدين بمعنى الطاعة والتعبد.. قد ورد قي الحديث: "كان على دين قومه"، أي كان على ما بقي فيهم من إرث ابراهيم، من الحج والنكاح والميراث، وغير ذلك من أحكام الايمان. وجاء: "كانت قريش ومن دان بدينهم،أي اتبعهم في دينهم ووافقهم عليه،واتخذ دينهم له ديناً وعبادة". ومن "دبن" الدياّن، بمعنى الحكم القاضي والقهار. ومن ذلك مخاطبة "الأعشى الحرمازي" الرسول بقوله: يا سيد الناس وديّان العرب.

والديان: الله، ومن أسماء الله.

وقد وردت هذه اللفظة في المعنى المفهوم منها في الإسلام في بيت شعر ينسب الى أميّة بن أبي الصلت.هو: كلّ دين يوم القيامة عند الل  ه إلاً دين إلحنـيفة زور.

غير أننا لا نستطيع أن نحكم بورودها في شعر أمية ما لم نثبت أن ذلك للشعر هو من شعره حقاًً، وأنه ليس بشعر إسلامي صنع ووضع على لسانه، فقد وضعت أشعار وقصائد على لسانه وعلى لسان غيره من للشعراء.

ووردت بهذا المعنى أيضاً في النصوص الثمودية. وردت في نص سجله رجل من قوم ثمود، توسل فيه إلى الاله "ودّ"، أن يحفظ له دينه، "ال ه دي ن ي ق.ي د"، ووردت في نص آخر جاء فيه: "بدين ود امت"، أي "بدين ودّ أموت"، أو "على دينُ ود أموت" فاللفظة إذن من الألفاظ اللعربية الواردة في النصوص الثمودية، وقد يعثر عليها في نصوص جاهلية مدوّنة يلهجات عريية أخرى.

ويصنف بعض العلماء،الأديان، إلى صنفين:أديان بدائية Primitive Religions، وأديان عليا The Higher Religions، غير لن هذا التقسيم لا يستند إلى التسلسل الزماني، وإنما يقوم على أساس دراسة أحكلم الدين وعقائده وعمق أفكاره. فالأديان التي تقوم على افكار بدائية وعلىاللسحر Magic وعلى المبالغة في التقديس وتقديم القرابين Sacred،والتي تنحصر عبادتها بأفراد قرية أو قبيلة واحدة، وأمثاله ذلك مما يشرحه علماء تأريخ الأديان وعلماء فلسفة الأديان، هي من أديان الصنف الأول. فإذا توسع مجال الدين وشمل قبائل عديدة، وتعمق في احكامه وفي تشريعه وفلسفته، وصار الإله أو الآلهة الها ذا سلطان واسع أو آلهة ذات سلطان ولسع عد" الدين من الأديان العليا.

وأما تقسيم الأديان إلى أديان قبيلية Tribal Religions و"أديان قومية" National Religions "وأديان مطلقة عامة" "Absolute Religions" "Universal Religions" فانه، وأن كان تقسيماً واضحاً ظاهراً بالقياس الى الطرق الاخرى لتقسيم الأديان، يرد عليه أنه تقسيم بني على أسس وحدود ليست لها أرض صلبة فى جوهر الدين وأركانه، فهو بعيد عن المبادىء الأساسية التي تجب مراعاتها في تقسيم كل علم أو موضوع. كذلك تجابه للتقسيم الثلاثي للأديان إلى أديان "الطبيعة" Nature Religion. و "ديانة الشريعة" Geztzes Religion، و "ديانة الخلاص" Erlosungs Religion عند بعض العلماء الألمان صعوبات كبيرة تجعل السير على أساسه في درلسة تطور الدين أمرأ عسيرا شاقاً.

وتستند دراسات علماء تاريخ الأديان لتطور الأديان والأدوار التي مرت بها إلى درلسة أمور كثيرة تاريخية ونفسية واجتماعية واقتصادية،ولهم في ذلك جملة طرق، منها طربقة الدرلسات آلمقارنة The comparative Method، وهي تعتمد كما يتين من أسمها على المقارنات بين الأديان، فتتناول جميع النواحي بالبحث، لتجد ما بينها من مطابقات وّمفارقات. ومنها طرق البحث التأريخي والاجتماعي Historical and Sociological Methods وتستند إلى الدراسات للتأريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والجغرافية وللعوامل الأخرى، للناس وللمنطقة للتي عاشوا فيها، وأثر كل هذه العوامل في نمو الافكار الدينية وظهورها، وطرق عديدة أخرى تذكر في كتب تواريخ الأديان.

وقد تقدمت دراسة تأريخ الأديان تقدما كبيراً، ولا سيما بعد اتساع أساليب الطرق التجريبيهّ والبحوث المقارنة والتحليل النفسي في هذه الدراسة. وظهر بحث جديد شائق طريف، هو "فلسفهّ الدين" The Philosophy of Religion أفاد كثيراً في معرفة دراسة تطور الأديان ومبادئها الأساسية، كما ظهرت فروع أخرى كهذا الفرع لها صلة بدراسة الدين وتقدمه، كالفرع النفسي الذي يعتمد على الدرلسات النفسية للدين، وهو فرع نستطيع أن نسميه ب "علم النفس الديني" The Psychology of Religion في الانكليزية و Religionspsycologic في الألمانية. وكالفرع الذي يعتمد على أساليب بحث الاجتمآع وطرقه لدراسة الدين باعتبار أن الدين نفسه ظاهرة من ظواهر الحياهّ الاجتماعية.

وهناك عوامل عديدة لها أثرها في تطور الأديان، وفي "تكييفها"، منها أثر العوامل "الطبغرافية" Topographic Factors و أثر "المحيط" Climatic Factor وأثر الحالات النفسية في تكييف الدين، وفي تصور الناس لآالهتهم. ولهذا تصور اليونان مثلا آلهتهم على شاكلتهم،. تصوروها ذات أخلاق وصفات تشبه أخلاق البشر وصفاتهم، تتخاصم وتتصادق وتتباغض ويحسد بعضها بعضاً، تشرب الخمر وتحزن وتفرح، وتسرق أيضاً. ونجد في ال "ايدا" Edda نفسية الشعوب الشمالية الأوروبية ممثلة في الأساطير التي تتحدث عن الآلهة والأبطال.

ويظهر أثر العوامل المذكورة في الديانة الهندية القديمة، وهي من الديانات الآرية، وفي الديانة المجوسية، وهي من أهل السهول وديانات أهل الجبال، وبين ديانات الساميين الشماليين وديانات الساميين الجنويين، يظهر في الأساطبر "Mythology" وفي تصور آلالهة وتقديمها وتاخيرها وما شابه ذلك من أمور.

ولشكل المجتمع أثره كذلك في تطوير الدين وفي أحكامه. فمجتع يقوم على الزراعة يختلف في تفكيره عن مجتمع يعيش على الصناعة أو على الرعي في بوادٍ واسعة، كذلك للسياسة ولأشكال المجتمعات السياسية دخل في تطور الأديان. وقد كان التعاون وثيقاً جداً في الأيام الماضية خاصة بين السلطات الزمنية وبين السلطات الدينية حتى كان الحكام الزمنيون كهاناً في كثير من الأوقات، كما حدث أن وقع اختلاف بين اللسلطتين أدى إلى حدوث تغيبر في عقيدة الحكومة أو أكثرية الشعب.

وطالما أدى قهر مدينة أو قبيلة أو شعب إلى قهر آلهتها معها وموتها، والى عبادة آلهة القاهرين المتغلبين باعتبار أنها أقوى وأعظم شأناً من آلهة المغلوبن التي لم تتمكن من حمايتهم من تعديات الغالبين. وقد تبقى تلك الآلهة فتندمج في آلهة المغيرين، فيزداد بذلك العدد، وتتعدد الالهة، وتختلط الأساطير بعضها ببعض وتتداخل. ولهذه الناحية أهمية كبيرة في تحليل عناصر هذه الأساطير، ورجعها إلى منابعها الأولى. كذلك يكون للجوار وللصلات التأريخية والروابط الثقافية أئر في ديانات الشعوب وفي "تكييفها" ويكون للثقافة خاصة آثر بارز في هذا التوجيه. غير أن للاديان كذلك أثرها في توجيه الأفراد والقبائل والشعوب، وفيما ينتج عن عمل الإنسان من مجتمعات وسياسة وثقافة واقتصاد. فهذه نواحٍ يجب أن تلاحظ كلّها في دراستنا لتأريخ الأديان. هذا ويجب ألاّ نتصور أن أديان العرب قبل الإسلام لم تتأثر بمؤثرات خارجية. فلم تأخذ من الأمم والشعوب التي اتصلت بها شيئاً، جرياً على نظرية القائلين بعزلة العرب وبعدم اتصالهم بالخارج، وبانهم بدو، لا علم لهم ولا رأي ولا دين. وهي نظرية نشأت عن عدم وقوف القائلين بها بأحوال العرب قبل الإسلام. وإذا وافق أولئك على أن اليهودية والنصرانية كانتا في جزيرة العرب قبل الإسلام كما نص على ذلك القرآن الكريم، وأن من العرب من نهان على دين يهود، وأن منهم من كان على دين النصارى، فلن يستطيعوا إنكار ورود اليهودية والنصرانية إلى العرب من الخارج بعمل الهجرة والتبشير والاتصال بفلسطين والعراق. وسيوافقون أيضاً على أن الوثنيين قد تأثروا كذلك بوثنية غيرهم،كما نص على ذلك الاخباريون وانهم أثروا في غيرهم أيضاً.

إن معارفنا عن أديان العرب قبل الإسلام مستمدة في الدرجة الأولى من النصوص الجاهلية بلهجاتها المتعددة من معينية وسبئية وحضرمية وأوسانية وقتبانية وثمودية ولحيانية وصفوية، وهي نصوص ليس من بينها نص واحد ويا للاسف في أمور دينية مباشرة، مثل نصوص صلوات أوأدعية دينية أو بحوث في العقائد وما شابه ذلك. غير أن هذه النصوص المذكورة،ومعظمها كما قلت سابقاً في أمور شخصية، حوت مع ذلك أسماء آلهة ذكرت بالمناسبة، وبفضلها عرفنا أسماء آلهة لم يصل خبرها إلى علم الأخباريين ؛ لأن ذكرها كان قد انطمس وزال قبل الإسلام.

ومن هذه النصوص استطعنا أن نستخرج آلهة القبائل العربية القديمة، وأن نرجعها إلى المواضع التي كانت تتعبد بها لها، وأن نعين العصور التي كان الناس فيها يتعبدون لها على وجه التقريب.

كذلك تعدّ الكتابات والنقوش المدونة ببعض اللغات الأعجمية كالآشورية والعبرانية واليونانية واللاتينية ولغة بني إرم، مورداً مفيداً لمعرفة أديان العرب قبل الإسلام بعد النصوص العربية. فقد وعت أسماء أصنام ةديمة نصت عليها، وبذلك ساعدتنا في الوقوف على عبادتها وعلى من تعبّد لها من قبائل.

وأما أديان العرب قببل الإسلام وعند ظهوره، فالقرآن الكريم هو مرجعنا في هذا الباب. فنيه ذكر لما كان عليه الناس ولا سيما أهل مكة ويثرب والحجازمن عبادات وآراء، وفيه أسماء بعض الأصنام الكبرى التي كانت تتعبد لها القبائل.

وفي تفسير القرآن الكريم تفصيل وشرح لما جاء موجزاً في الآيات البينات، ويضاف إلى ذلك ما ورد عن هذا الباب في الحديث.

وفي الشعر المنسوب إلى الشعراء الجاهليين اشارات إلى بعض عقائد الجاهليين، والى بعض الأصنام، تعرض لها شّراح الدواوين بالمناسبات، وترد هذه الإشارات في القصص المروى عن أخبار الجاهليهَ وعن أنساب قبائلها وأيامها وامثال ذلك وفي كتب الأدب و اللغة والمعجمات، وهي تعيننا بالطبع على زيادة مادتنا في هذا الوضوع.

ويضاف إلى ذلك ما ورد في كتب السير والمغازي وفي كتب التواريخ من كتب خاصة مثل تأريخ مكة، ومن كتب عامة عن عبادات القوم قبل الوحي وفي أثناء الوحي وعن أمر الرسول بتحطيم الأصنام والأوثان. وقد ورد بهذه المناسبة أوصاف يعضها، وذكرت بعض المواضع التي كانت قائمة فيها، والقبائل التي كانت تتعبد لها، وما أدير حول بعضها من قصص، أو ما قيل عنها في الجاهلية وفي تحطيمها من أقوال.

ومما يجب علينا ملاحظته، لن الشعر الجاهلي الذي أمدنا بفيض من معارف قيمة عن الجاهلية القريبة من الإسلام، لم بمدنا بشيء مهم عن الحياة الدينية عند الجاهلين، فكأنه أراد مجاراة من دخل في الإسلام في التنصل من أيام الجاهلية ومن للتبرؤ منها، ومن غض النظر عن ذكر أصنام حرمها الإسلام. وقد ذهب بعض المستشرقين إلى ان رواة الشعر في الإسلام، قد أغفلوا أمرالشعر الجاهلي الذي مجد الأصنام والوثنية، وأهملوه، فلم يرووه، فمات، وان بعضاً منهم قد هذب ذلك للشعر وشذبه، فحذف منه كل ما له علاقة بالأصنام والوثتية، ورفع منه لسماء الأصنام، وأحل محلها اسم الله، حيث يرد اسم الصنم. فما فيه اسم الله في الشعر الجاهلي،.كلن اسم صنم في الأصل.

وقد الف بعض العلماء مؤلفات خاصة في الأصنام، وصل إلينا منها كتاب "الأصنام" لابن الكلبي. أما المؤلفات الأخرى، فلم يصل للينا منها إلا الاسم.

وممن ألف في هذا الموضوع ابو الحسن علي بن الحسين بن فضيل ين مروان، والجاحظ. وقد استفاد ياقوتّ الحموي في كتابه "معجم البلدان" من كتاب "الأصنام" لابن الكلبي، وأورد ما أخذه منه في الكتاب، أما النسخة التي اعتمد الحموي عليها، فكانت في عالم مشهور وبروايته هو الجوالقي.

وقد تعرض ابن الكلي لذكر الوثنية والأصنام فى مؤلفاته الأخرى عرضاً، وأشار "ياقوت الحموي" في بعض المواضع إلى رواياّت أخرى لابن الكلبي عن الأصنلم، ذاكراً انها ليست من كتاب "الأصنام". كما استقى من منيع آخر، هو محمد بن حبيب.

وقد ألف أبو عبد الله الحسين بن محمد بن جعفر الخالع كتاباً في أديان العرب وأرائهم، اسمه "آراء للعرب وأديانها"، وقف عليه ابن أبي الحديد، وأشار إلى بعض هفوات رآها فيه. وللجاحظ مؤلف اسمه "أديان العرب" استفاد منه أيو الفتح محمد بن عبد للكريم الشهرستاني. وبالرغم من فضل من تقدم ممن ذكرت وممن لم أذكر، على دارس التاريخ الديني للجاهليين فإنهم عفا الله عنهم، لم يتعمقوا تعمقاً كافياً في بحوثهم عن الوثنية، ولم يتحرشوا بها في الغالب، إلا بسبب اتصالها بالإسلام، ثم إن في كثير مما ذكروه عن الوثنية طابع السذاجة وأسلوب الصنعة. وهو في أحوال الوثنية في الحجاز وعند القبائل التي ورد لها ذكر في حوادث الإسلام في أيام الرسول، في مثل قدوم وفود سادات القبائل على النبي، وأمر الرسول بتحطيم الأصنام. ولهذا لا نجد للوثنية في بقية مواضع جزيرة العرب، مكاناً فيما كتبه أولئك العلماء عن الأصنام والأوثان أو الزندقة. ثم إن في الذي ذكروه وكتبوه تناقض محير، وتنافر عجيب، يجعلك تشعر، ان رواة تلك الأخبار، لم يكونوا يملكون يومئذ أدوات النقد لصقل ما سمعوه من أفواه الرواة، وما نقلوه عمن أدرك الجاهلية من أقول، أو انهم كانوا يعمدون إلى الوضع أحياناً: لصنع أجوبة عن أسئلة وجهت اليهم في أمور لم يأتهم علم بها من قبل.

خذ ما ذكره "الطبري" في تفسيره عن اللات والعزى ومناة، تجده يروي أقوالاً ذكر سندها تتناقض فيما بينها بشان هذه الأصنام، وبشأن بيوتها ومواضعها، مما يدل على أن رواة تلك الأخبار لم يكونوا على علم بأخبارها ولا وقوف على حقيقتها، بدليل أن كل واحد منهم ناقض غيره فيما قاله، وأن أحدهم يذكر خبراً ثم يعود فيذكر ما يناقضه. حدث كل ذلك في أمور كانت باقية إلى ما بعد فتح مكة، فكيف حالهم اذن في الأمور البعيدة نوعاً ما عن الإسلام.

ولا تتناول الموارد الإسلامية بعد، إلا الوثنية القريبة من الإسلام والوثنية التي كانت متفشية بين قبائل الحجاز في الغالب، وبين القبائل التي اعتمد عليها رواة الأخبار في جمع اللغةوالأخباز لذلك لا نجد فيها ذكراً للوثنية البعيدة عن الإسلام، فلم يرد فيها مثلاً أي شيء عن "المقه" إله سبأ الأكبر ولا عن بقية الآلهة العربية الجنوبية الكبيرة مثل "عثتر"، وعن دين العرب الجنوبيين وشعائرهم، ولاعن معبودات قبائل العربية الشرقية: أو قبائل العراق أو بلاد الشام في الأزمنة البعيدة أو القريبة من الإسلام.

وأما أخبارها عن اليهودية والنصرانية، فقليلة جداً، قصتها وروتها لما لها من تماس وصلة بما جاء في القرآن الكريم، أو لما لها من علاقة بأيام الرسول. ولهذا صارت خرساء صامتة بالنسبة إلى أحوال أهل الكتاب في بقية أنحاء جزيرة العرب أو في العراق وفي بلاد الشام. فلم تتحرش بهم إلا بقدر. وبسبب ذلك صارت معارفنا عنهم قليلة جداً. وقد كان في إمكان أهل الأخبار جمع معلومات واسعة عن النصرانية في العراق قبل الإسلام، برجوعهم إلى رجال الدين النصارى الذين كانوا في الحيرة وفي مواضع أخرى من العراق، وهم رجال لهم علم واسع بهذه الأمور، لكن اختلافهم عنهم في الدين على ما يظهر، وانصرافهم إذ ذاك عن رواية كلّ ما يتعلق بالأمور الجاهلية خلا ما يتعلق يالنواحي القبلية وبالنواحي الأدبية واللغوية، كانا من العوامل التي أدت إلى غض نظرهم عن البحث في هذه الأمور.

وبفضل إقرار الإسلام لبعض أحكام وشعائر الجاهلين، استطعنا الوقوف كل جانب من أحكامهم و شرائعهم. فعرفنا بذلك بعض شعائر الحج من حجّ مكة، وبعض أحكامهم وآرائهم في الدين ووجهة نظرهم إلى الحلال والحرام، والتقرب إلى بيوت الأرباب وفي ذلك. وما كان في وسعنا الوقوف عليها لولا تعرض الإسلام لها بالإقرار والتثبيت. أو بالتحريم والنهي،فأشير إلى كلّ ذلك في القرآن الكريم وفي كتب التفسير وأسباب النزول والحديث.

وقد عُني المستشرقون بهذا الموضوع، فكتبوا بحثوا فيه ومن هؤلاء "ولهوزن" J.Wellhausen صاحب كتاب "بقابا الوثنية العربية" Arabischen Heidentumes و "دتلف نيلسن" Ditlef Nielsion و " لودولف كويل " Ludolf Krehi وَغيرهم.

وقد اعتمد "ولهوزن" على ما نقله "ياقوت الحموي" من كتاب الأصنام ومن غيره، ذلك لأن كتاب الأصنام لم يكن مطبوعاً ولا معروفاً ايام اْلف "ولهوزن" كتابه عن الوثنية العربية.

ويعدّ كتاب "ولهوزن" أوسع مؤلف في موضوعه كتبه المستشرقون عن الوثنية العربية. وقد كتب المستشرقون حديثاً جملة بحوث عن الأصنام العربية التي عثر عليها في الكتابات فات ذكرها في كتاب "ولهوزن"، لأن أكثر النصوص الجاهلية لم تكن قد نشرت يومئذ، ولأن كثيراً منها قد نشر حديثاً، فلم يكن في استطاعة "ولهوزن" بالطبع أن يبحث في شيء من التفصيل في الوثنية ببلاد العرب الجنوبية. لذلك كان أكثر ما جاء في كتاب "ولهوزن" مستمداً من روايات الأخباريين. فمن الضروري إضافة هذه البحوث الجديدة إلى ما كتبه هو وأمثاله، لنحصل على صورة شاملة عن أديان العرب قبل الإسلام.

وتفيد الأعلام الجاهلية المركبةTheophorus Names المدونة في للنصوص الجاهلية وفي الموارد الإسلامية فائدة كبيرة في معرفة الأصنام، وفي تكوين فكرة عنها. ففيها أسماء آلهة، وفيها بعض الصفات الإلهية التي كان يطلقها الناس على آلهتهم. وفي هذه الأسماء المركبة عند بقية للشعوب السامية كذلك. ومن مقارنة هذه الأسماء بعضا ببعض، استخرج العلماء آلهة اشترك في عبادتها جميع الساميين. ونعني ب Theophorus Names الاعلامَ المركية من أسماء آلهة ومن كلمات اخرى مثل "عبد" و "عطية" و "امرئ" و "أوس" و "عائذ" و "جار" و "عوذ" و "وهب". ترد قبل اسم الإلهَ أو بعده، فيتألف منها ومن أسماء الآلهة أسماء أعلام، مثل عبد الأسد،وعبد الله، وعبد سعد، وعبد العزّى، وعبد محرق، وعبد ذي الشرى، وعبد يغوث، وعبد ودّ، وعبد قيس، وعبد شمس، وامرىء القيس، وأمثال ذلك من أعلام.

ومعظم هذه الأعلام المدونة في مؤلفات الإسلاميين، لسماء أشخاص عاشوا في الجاهلية القريبة من الإسلام، حفظتها ووعتها ذاكرة الرواة، ومنهم تناقلها أهل الأخبار. والغالب عليها الابتداء بكلمة "عبد" للرجال و "أمت" أي أمة للنساء، ترد قبل اسم الصنم. أما الأسماء المبتدأة بكلمات أخرى غير "عبد"، فمثل "أحمس الله" و "امرئ مناة"، و "امرئ القيس"، و "أنس الله" و "أوس الله"، و "تيم اللات"، و "خيليل"، و "زيد اللات" ؛ و "زيد مناة"، و " سعد لللات"، و "سعد مناة"، و "سعد ودّ " و "سعد العشيرة"، و "سكن اللات"، و "سلم اللات"، و "شراحيل" و "شرحيل"، و "شرحبيل"، و "شكم اللات"، و "شهميل"، و "شيع للقوم"، و "عائذ الله"، و "عمرو لللات"، و "عوذ مناة" و "عينيل"، و "قسميل"، و "مطرويل"، و "وهب لللات". وهي قليلة من حيث الاستعمال بالقياس إلى الأعلام المبتدأة ب "عبد.

ويلاحظ على بعض الأعلام المركبة، مثل عمرو اللات، وعوف إيل، وجد اللات، وسعد مناة، وودّ ايل، ان الكلمات الأولى من هذه الأسماء تتأخر في أعلام أخرى ؛ فتسبق بكلمة توضع قبلها فيتكون منها علم مركب جديد كما في الأسماء آلاتية: عبد عمرو، وعبد عوف، وعبد جد، وعبد سعد، وعبد ودّ، وقد كانت متقدمة في الأعلام الأولى. أما في هذه الأعلام فصارت في المنزلة الثانية.

وهذه الأسماء التي حفظتها ذاكرة أهل الأخبار، تخالف أكثر الأعلام العربية والسامية القديمة المدوّنة في النصوص وفي مؤلفات اليونان والرومان والسريان وغيرهم من حيث الصيغ والتراكيب. فقد ابتدأت هذه الأعلام كما رأينا بكلمات تلتها أسماء الآلهة. أما الأعلام القديمة، فقد كانت على العكس تبدأ باسم الصنم،وبعده الألفاظ الأخرى، مثل: "الشرح" "ايل شرح" و "إليفع" "ايل يفع" و "الذرح" "ايل ذرح" و "الكرب" "ايل كرب" و "السمع" "ايل سمع" و "اليثع "ايل يثع" وأمثال ذلك. أو تبدأ.كلمات ثم تليها أسماء الأصنام، إلا أنها ليست في حالة الإضافة، بل على صورة الإخبار والفاعلية، مثل "يذكر ايل" و "يثع ايل" و "يدع ايل" و "يشرح ايل" و"يسمع ايل"، و "ايل" "ال" هنا هو اسم الإله " ال" "ايلو" المعروف عند جميع الساميين.

وقد يوضع حرف الجر، وهو "اللام" "لامد" في الاسم، ليدل على تعلق الاسم بالإلَه، مثل "لحي عثت" في النصوص العربية الجنوبية، وقد عثر على طائفة من هذه الأعلام في الكتابات الفينيقية والعبرانية.

وقد تهمل الكلمة الثانية من الاسم المركب، ويقتصر على اللفظة الأولى، كما في: أوس، وزيد، ووهب، وتيم،، وسعد، ونصر، وعائذ، وعبد، وأمثال ذلك من أعلام. فإنها اختصار ل "أوس الله"، و " زيد اللات"، و "زيد مناة"، و "وهب اللات"، و "تيم اللات"، و "سعد مناة" و "سعد ودّ "، و "سعد اللات"، و "نصر اللات"، و "عاثذ الله" و "عبد ود"، وغير ذلك. وقد يحدث العكس، فتسقط الكلمة الأولى، وتبقى الكلمة الثانية التي هي اسم الإلهَ، ويصير هذا الاسم اسماً لشخص أو لأسرة أو لقبيلة، مثل: مناف، وغنم، وشمس، وإسا ف، ونائلة، وزهرة، وقيس، وعُطارد، وهبل، وجدّ، وأمثال ذلك. فإن هذه هي أسماء آلهة في الأصل، سبقت بكلمات مثل "عبد"، ثم أهملت هذه الكلمات الأولى، وبقيت أسماء الآلهة حية، ولكنها صارت أسماء لأشخاص وأسر وقبائل، تسبقها لفظة "بنو" في بعض الأحيان، لتدل على الانتماء إلى ذلك الاسم. ولهذا الانتماء أهمية كبيرة في نظر الباحثين في فلسفة الأديان وتأريخها.

ويلاحظ أن بعض الأعلام المركبة المبتدأة ب "عبد " مثلاَ، لا تتكون كلمتها الثانية من اسم إلهَ، إنما تكون اسم موضع أو اسم شخص أو اسم جماد، مثل: عبد حارثة، وعبد المطلب، وعبد أمية، وعبد الدار، وعبد الحارث، وعبد ألحجر، وما شاكل ذلك. ولبعض العلماء تفاسير وتعليلات في العوامل التي أدّت الى هذه التسميات: منها أن بعض هذه الأسماء هو لآلهة قديمة، نسيت فظن أنها أسماء أشخاص: وأن بعض آخر منها هو أسماء أشخاص كانت لهم قدسية أو منزلة خاصة، فتبرك الناس بتسمية أولادهم عبيداً لهم، وهو شيء يحدث حتى الآن، إذ نقول عبد المسيح، وعبد الرسول وعبد علي، وعبد الأمير، وعبد الزهرة. وعبد محمد، وان بعضا اخر هو مسميات لمجتمعات، مثل عبد اهله، و عبد العشيرة، و سعد العشيرة، أو أنه نسبة الى طوطم أو جماد مقدس في نظر الناس.

وقد قضى الإسلام على الأسماء الوثنية، كما قضى كثير من معالم الجاهلية، فأستبدل من أسلم اسمه الجاهلي الذي له صلة بصنم أو بشرك ياسم إسلاميِ، وبذلك زالت تلك اتسميات. كما زالت أكثر التسميات اليهودية والنصرانية بدخول أصحابها في الإسلام. وهذا شيء مألوف في تاريخ الإنسان. فقد قضت اليهودية على الأسماء الوثنية القديمة، وعوضت عنها بأسماء يهودية ذات صلة بالتوراة " وقضت النصرانية على الأعلام الوثنية أو طورتها لتكون ملائمة مع النصرانية، وهكذا.

حدث في الأديان الأخرى، بل وهذا ما يحدث اليوم في كثير من أنحاء العالم القلقة عند وقوع انقلابات سياسية، جث تتناول الأسماء أيضاً بالتغيير والتبديل، لتناسب الوضع الجديد.

وقد ذكر أهل الأخبار أسماء عدد من الصحابة، كانت أسماؤهم ذات صلة بالأصنام، فلما أسلموا أبدلها الرسول بأسماء اسلاميه. فقد كان أسم كاتب النبي "عبد الله بن الأرقم بن أبي الأرقم" "عبد يغوث" فلما أسلم دعي "عبد الله". وكان اسم "عبد الله بن أصرم بن عمرو بن شعيثة" الهلالي "عبد عوف بن أصرم"، فلما قدم على النبي، فقال، من أنت ? قال عبد عوف. قال النبي: أنت عبد اللَه، فأسلم. ونجد غيرهما وقد أبدل الرسول أسماءهم، حتى صار من يسلم يبدل اسمه إن كان له صلة بصنم، حتى ماتت الأسماء الجاهلية التي هي من هذا القبيل.

والأساطير Myth=Mythos، ونعني بها هنا الخرافات والأقاصيص، المتعلقة بالآلهة Legand. هي مصدر مهم لمعرفة تطور الأديان وتطور فكرة الالوهية عند الشعوب. وهي قد تكون شعراً، وقد تكون نثراً، وفي كلتا الحالتين تكون مادة خصبة للباحثين.

ومعارفنا عن الأساطير العربية الدينية قليلة جداً. وهذا مما حمل بعض المستشرقين على القول بأن العرب لم تكن لهم أساطير دينية عن آلهتهم، كما كان عند غيرهم من الأمم كاليونان والرومان والفرس وعند بقية الآريين، بل حتى عند بعض الشعوب السامية الأخرى مثل البابليين. وفي رأيي أننا لا نستطيع أن نجزم في مثل هذه الأمور، لأن أحكامنا عن اليونان والرومان والبابليين إنما استنبطناها من نصوص ومؤلفات وصلت إلينا. أما العرب الجاهليون، فلم يصل إلينا منهم حتى الآن نص ما في هذا الموضوع، يمكننا من الحكم بعدم وجود الأساطير الدينية عند العرب الوثنيين.

ومشكلتنا أننا لا نملك كما قلت نصوصاً دينية جاهلية، ولا كتباً كتبها يونان أو لاتين أو سريان أو غيرهم عن أساطير العرب في الجاهلية نستطيع استخراج حكم منها عن أساطير العرب. ولكن هذآ الوضع لا يخولنا نفي وجود الأساطير عند العرب، بحجة بداوتهم وضيق أفقهم وبساطة تفكيرهم، كما أنه لا يخولنا أيضاً الحكم بوجود أساطير عندهم من طراز عال كما نجده عند اليونان مثلا. ويتبين من بعض روايات الأخباريين، وهي قليلة، أن العرب كانت لهم أساطير كالذي رووه من أن "العيَوق" عاق "الدبران" لما ساق إلى الثريا مهراً، وهي نجوم صغار نحو عشرين نجماً، فهو يتبعها اًبداً خاطباً لها، ولذلك سموا هذه النجوم القلاص وكالذي رووه عن "العَبُور" و "الغُميصاء" و"سهُيل". وقد كانت هذه النجوم مجتمعة، فانحدر سهُيَل فصار يمانيأَ، وتبعته العَبوُر فعبرت المجرَةَ، وأقامت الغُميَصْاء فبكت لفقد سهيل حتى غمصت.وكالذي رووه من أن "الز هرة" كانت امرأة جسناء، فصعدت إلى السماء ومسخت نجماً، وأمثال ذلك من قصص يظهر أنه من يقايا قصص أطول قديم.

وإذ. لم تصل إلينا نصوص دينية جاهلية، صعب علينا تكوبن فكرة صحيحة عن مفهوم الدين عند العرب، وعن كيفية عبادتهم لآلهتهم، وعن كيفية تصورهم للآلهة، خاصةً عند العرب الذين عاشوا قبل الميلاد.

وقد تعنينا أسماء الآلهة والأعلام المركبة في تكوين وجهة نظر عن صفات آلهة الجاهليين. فكلمات مثل "ودّ" و "شرح" و "سعد" و "سمع"، أو تعابير شل "ذت حمم" "ذات حميم" و " ذت صنتم" "ذات صنتم " و "ذت رحبن" "ذات رحبن" و "ذت بعدن" "ذات بعدن" "وذ قبضم" "ذو قبضم" وما شابه ذلك، لا بد أن تكون لها معان خاصة تشير إلى صفات الآلهة التي قيلت لها، فتفيدنا في فهم عبادة الجاهليين وتفًكيرهم في تلك الآلهة. وإذا كانت بعض أسماء الآلهة أو صفاتها واضحة مفهومة تمكن الاستفادة منها في تكوين فكرة عن الآلهة، فإن هناك بعضاً آخر يحيط بمعناه الغموض، فلا نستطيع شرح معناه أو ترجمته إلى اللغات الأخرى. وليس من المعقول بالطبع عدم وجود مدلول أو مراد لأسماء هذه الآلهة عند من وضعها لها، ونسبها اليها، وانما المعقول هو ان هذه المسميات نسيت بتقادم الزمن وبزوال دولتها وعظمتها من الوجود، وضاعت معالمها، فلم يبق منها إلا الأسماء المجردة. ولعل معانيها كانت غامضة حتى على من كان يتعبد لها، لاختفائها منذ زمن طويل، وعدم ورود نصوص مدونة إلى المتعبدين لها في هذه المعاني،وهذا شيء مألوف معروف. وتختلف نظرة الإنسان إلى الخالق والخلق باختلاف تطوره ونمو عقله، ولهذا نجد فكرة "الله" "الإلَه" التي تقابل كلمة Deus في اللاتينية وكلمة Theos في اليونانية وكلمة God في الانكليزية، تختلف باختلاف مفاهيم الشعوب ودرجات تقدمها. فهي عند الشعوب البدائية القديمة والحديثة في شكل يختلف عن مفهومها عند الشعوب المتحضرة. كذلك اختلفت عند سكنة البوادي عن سكنة الجبال والهضاب،ويختلف مفهوم فكرة الله عند الشعوب السامية عنها عند للشعوب الآرية، لأسباب عديدة يذكرها علماء تاًريخ الأديان. بل يختلف هذا المفهوم في داخل الشعب الواحد، يختلف فيه باختلاف ثقافة الإنسان وتقدم مداركه العقلية، فتصور كل انسان خالقه على قدر عقله ودوجة ثقافته، صوره وكأنه مرآة صافية لنفسه ولدرجة نمو عقله. ومن هنا قيل: ان الإنسان يصنع إلهه بنفسه، أي يصوره على نحو صورته ومبلغ تفكيره.

يقول " أكسينوفان" Xenophanes: "تصور الأحباش آلههتهم فطس الأنوف، سوداً. وتصور أهل "تراقية" Thracians آلهتهم ذوي عيون زرق وشعر أحمر. وزعم اليونان أن تصورهم للالهة هو التصور للصحيح، أما تصور الزنوج وأهل تراقية عن آلهتهم، فهو تصور فاسد باطل ! ولو كان للماشية والخيل والسباع أيد تتمكن من الرسم والنحت، لرسمت الخيل آلهتها على صورة خيل،ولنحتت تماثيلها على صورتها، ولرسمت الماشية ونحتت آلهتها على صورتها وهيئتها، تماماً كما يصور الإنسان وينحت آلهته على صورته وقدر إدراكه. كل صنف يتصور ويرى آلهته على صورته". وقد نسب اليونان إلى آلهتهم كل الصفات والأعمال الانسانية المعروفة بين اليونانيين، فتصوروهم على هيئة بشر، لهم الفضائل، ولهم الرذائلْ، يتزوجون وينسلونُ ويحبون ويعشقون ويسرقون ويكرهون ويتخاصمون بينهم ويتحاسدون ويقومون بأقبح الأعمال كما يفعل الإنسان.

وهناك أشكال عديدة للعبادة، تمثل تعدد وجهة نظر الإنسان بالقياس إلى مفهوم الألوهية لديه. فهناك عبادة تسمى عبادة آباء القبائل، حيث أسبغ على أجداد القبائل ما يسبغ عادةً على الآلهة من نعوت وصفات. وتجد هذه العبادة عند القبائل البدائية. وقد يكون هؤلاء الأجداد أجدادا حقيقيين، وقد يكونون أشخاصاً خلقتهم الأساطير. ومهما يكن من شيء، فقد أعطي هؤلاء صفات الربوبية ونعوتها، و نظر إليهم نظرة من فيه قوى خارقة ذات هيمنة على العالم والخلق. وقد اصطلح على تسمية هذه العبادة ب All Fathers في الانكليزية وب Verehrung des Stammesvaters و ب Urvaters في الالمانية، لأنها تقوم على أساس عبادة الأجداد.

وأله بعض الناس الظواهر الطبيعية، لتوهمهم أن فيها قوى Spirit روحية كامنة مؤثرة في العالم وفي حياة الإنسان،مثل الشمس والقمر وبعض النجوم الظاهرة. وقد كانت الشمس والقمر أول الأجرام السماوية التي لفتت أنظار البشر اليها، لما في الشمس من أثر بارز في الزرع والأرض وفي حياة الإنسان بصورة مطلقة. كذلك للقمر أثره في نفس الإنسان بما يبعثه من نور يهدي الناس في الليل، ومن أثر كبير يؤثر في حس البشر. فكانا في مقدمة الأجرًام السماوية التي أّلهها الإنسان. عبدهما مجردين في بادىء الأمر، أي دون أن يتصور فيهما ما يتصور من صفات ومن أمور غير محسوسة هي من وراء الطبيعة. فلما تقدم وزادت مداركه في أمور ما وراء الطبيعة، تصور لهما قوى غير ُمدْركة، وروحاً، وقدرة، وصفات من الصفات التي تطلق على الآلهة. فخرجتا من صفتهما المادية البحتة ومن طبيعتهما المفهومة، وصارتا مظهراً لقوى روحية لا يمكن إدراكها، إنما تدرك من أفعالهما ومن أثرهما في هذا الكون.

وإذا كانت هذه العبادة قد اقتصرت على الظواهر الطبيعية البارزة المؤثرة، فإن هناك توسعاً في هذه العبادة تراه عند بعض الأقوام البدائية، يصل إلى حد تقديس الأحجار والأشجار والآبار والمياه وأمثال ذلك، إذ تصوروا وجود قوى روحية كامنة فيها، فعبدوها على أن لها أثرا خطيراً في حياتهم. ونجد في أساطير الشعوب البدائية أن الإنسان من نسل الحيوان ومن الأشجار أيضاً، كذلك تجد أمثلة عديدة من هذا القبيل في أساطير اليونان والرومان والساميين.

وهناك الشرك، وهو عبادة آلهة عديدة، كما ان هناك عقيدة التوحيد التي تدين بوجود إله واحد خالق لهذا الكون. وليس للشرك با الطبع عدد معين من الالهة، فقد يكون بضعة آلهة، وقد يكون عشرات. والشرك هو الدين المعاكس لدين التوحيد، ويعرف بإسم: Polytheism في الانكليزبة من كلمة Polys اليونانية ومعناها"كثير" و "تعدد"، ومن كلمة يونانية ثانية هي Theos وتعني "الإلَه" "الآلهة". ويختلف الشرك عن عقيدة ال Polydaemonism القائلة بوجود ألأرواح والجن من حيث الطبيعة Nature، كما يختلف عن أد.يان التوحيد Monotheism من حيث القول بتعدد الآلهة، وعن القائلين بمبدأ "الحلول" "Panatheism " من حيث حلول الإلَه في الخلق والخلق في الإلَه.

وتطلق في العربية كلمة "إله" على الإله الواحد، وكلمة "آلهة" في حالة الجمع، أي في حالة القول بوجود آلهة عديدة. وتقابل كلمة "إلهَ" كلمة "اياوه" Eloh=Eloah في العبرانية الواردة في سفر "أيوب". ومنها كلمة"إيلوهيم" Elohim في حالة الجمع، أي آلهة المستعملة في العهد القديم بالقياس إلى آلهة الوثنيين. وكلمة "إله" لا تعني على كل حال إلهاً معيناً على نحو ما تعنيه لفظة "الله" في العربية التي يراد بها اللّه الواحد الأحد ليس غير.

أما "الله"، وهي كلمة الجلالة، فهي "اسم علم" خاص به على رأي، وهي "علم مرتجل" في رأي آخر.. وقد ذهب ألرازي إلى انه من أصل سرياني أو عبراني. أما أهل الكرفة فرأوا انه من "ال إله"، أي من أداة التعريف "ال" ومن كلمة "إله". وهناك آ راء لغوية أخرى في أصل هذه اللفظة.

ولم يعثر على لفظة "الله" في نصوص المسند، وإنما عثر في النصو ص الصفوية على هذه الجملة: "ف ه ل ه"، وتعني "فالله" أو "فيا الله" و "الهاء" الأولى هي أداة التعريف في اللهجة الصفوية. وقد وردت الجملة على صورة أخرى في بعض الكتابات الصفوية. وردت على هذا الشكل.: "ف ه" ل ت"، أي "فالات" فيا الآت" أيَ في حالة التأنيث. وتقابل "اللات"، وهي صم مؤنث معروف ذكر كذلك في القرآن الكريم.

ويظن بعض المستشرقين أن "الله" هو اسم صنم كان بمكة، أو أنه "إلَه" أهل مكة، بدليل ما يفهم من القرآن الكريم في مخاطبته ومجادلته أهل مكة من اقرارهم بأن الله هو خالق الكون.

وترد في العربية كلمة أخرى من الكلمات المختصة بالخالق، هي "ربّ "وجمعها "أرباب". وهي من الكلمات العربية الجاهلية المذكورة بكثرة في القرآن الكريم، ولها معنى خاص في اللاهوت وفي الأدب العربي للنصرانىِ. وتقابل كلمة Lord في الانكليزية. وكلمة "بعل"، و "ادون" في اللغات السامية الأخرى. ويذكر علماء اللغة أن "الربّ" هو الله، هو رب ّ كل شيء، أي مالكه. وله الربوبية على جميع الخلق، لا شريك له، وهو ربّ الأرباب، ومالك الملوك والأملاك، ولا يقَال الرب " في غير الله، إلا بالإضافة.

وقد قال الجاهليون: "الربّ" للملك. قال الحارث بن حلزة: وهو الرب، والشهيد على يو  م الحيارين، والبلاء بـلاءْ

ويظهر ان لفظة "الرب" و "رب" كانت بمعنى "سيد" ومالك عند الجاهليين، ولم تكن تعني العلمية عندهم. أي ألوهية خاصة بالله، وهي تؤدي معنى "بعل" عندهم ايضاً. فكانوا يطلقونها على الإلهَ والالهَة وعلى الإنسان باعتباره سيداً ومالكاً. أما هذا التخصص الذي يذكره علماء اللغة، فقد حدث في الإسلام من الاستعمال الوارد في القرآن الكريم.

و "ربّ " البيت"، الله، وكذلك: "رب هذا البيت. و "رب الدار"، أي مالكها، وكل من ملك شيئاً، فهو ربه. وبهذا المعنى "هو رب الأرباب" أما "الربة"، فعنوا بها الصخرة التي كانت تعبدها ثقيف بالطائف. وكان لهم بيت يسمّونه "الربة." و "بيت الرية"، يضاهي "بيت الله" بمكة. فلما أسلموا هدمه "المغيرة". و "الربة": كعبة كانت بنجران، لمذحح وبني الحارث ين كعب يعظمها الناس.

وأما "بعل"، فمعناها مالك وصاحب ورب في اللهجات السامية. فترد بعل الموضع الفلاني، أي صاحب: ذلك الموضع وربه. ومؤنث الكلمة هو "بعلت". وترد كلمة "بعل" بمعنى زوج في العربية، وقد وردت بهذا المعنى في مواضع من القرآن الكريم، وأما الزوجة، فهي "بعلت" "بعلة" أي في حالة التأنيث.

ولما كانت لفظة بعل تعني الرب والصاحب، صار اسم الموضع يرد بعد "بعل"، فيقال: "بعل صور"، و "بعل لبنان"، و "بعل غمدان"، أي رب المواضع المذكورة وصاحبها وسيدها. أما اذا وردت اللفظة مستقلة دون ذكر اسم الموضع المنسوب اليها بعدها، فتعني عندئذ رب وإلهَ، اي رب الجماعة المتعبدة المؤمنة بهْ.

وقد ورد في القرآن الكريم في صدد الكلام عن الياس Elijah )وانّ إلباسَ لَمنَِ المرسلين. إذ قال لقومه: ألا تتقون ? أتدعون بعلاً وتذرون أحسن الخالقين(، وقد ذهب الطبري في تفسير "بعل" في هذه الآية إلى أن بعلاً تعني رباً في لغة أهل اليمن، أو ان المراد ببعل صنم.

ومن رأي "روبرتسن سمث"، Robertson Smith أن العرب اقتبسوا المعنى الديني لبعل من الأقوام السامية المجاورة لهم مثل سكّان "طور سيناء" أو موضع آخر، أخذوه من تلك الأقوام التي عرفت باشتغالها بالزراعة، ولا سيما زراعة النخيل، وان هذا المعنى دخل اليهم بدخول زراعة النخيل إلى بلاد العرب. وأنه استعمل عند العرب المزارعين. أما البدو والرعاة، فإنهم لم يستخدموا تلك اللفظة بالمعنى المذكور. وهو رأي يخالف رأي بعض المستشرقين من أمثال "نولدكه" Noldeke و "ولهوزن" Wellhousen الذين يرون أن عبادةّ "بعل" هي عبادة سامية قديمة كانت معروفة عند قدماء العرب منذ أقدم العهود.

ويرى بعض المستشرقين ان لفظة "بعل" أطلقت خاصة على الأرض التي لا تعتمد في زراعهّا على الأمطار أو على وسائل الري الفنية، بل على المياه الجوفية وعلى الرطوبة في التربة، فينبت فيها خير أنواع النخيل والأثمار، فهي تمثل الخصب والنماء. والظاهر ان الساميين كانوا يخصصون أرضهم بالالهة، لتمنّ عليهم بالبركة واليمن، فتكون في حمى ذلك الإلَهً "بعل الموضع الفلاني". ومن هنا صارت جملة "بعل سميم" "بعل سمن" "بعل سمين" تعني "رب السماء"، ويعنى بذلك المطر الذي هو أهم واسطة من وسائط الإسقاء والخصب والنماء في جزيرة العرب وفي البلاد التي يسكنها الساميون. ورأى مستشرقون آخرون ان جملة "أرض بعل" تعني الأرض التي تسقى بالأمطار.

وذكر العلماء أن لفظة "الال" بمعنى الربوبية، و اسم الله تعالى. وأن كل اسم آخره "ال" أو "ايل" فمضاف إلى الله تعالى، ومنه "جبرائيل" و "ميكائيل". وذكر أن "أبا بكر" لما سمع سجع "مسيلمة"، قال: هذا كلام لم يخرج من ال ولا بر، أي لم يصدر عن ربوبية. وقد ذهب بعض علماء اللغة إلى أن اللفظة "ايل" من المعربات. عربت عن العبرانية، وهي فيها اسم الله. وهي من الألفاط العامة التي ترد في اللغات السامية، ولا يعرف معناها على وجه مضبوط، ويظن أنها بمعنىْ "القادر" و "العزيز" والقهار، والقوي، والحاكم. وترد في الشعر وفي أسماء الأعلام في الغالب. وقلما نجدها ترد في النثر.

وقد وردت في نصوص المستد وفي نصوص أخرى ألفاظ كثيرة مثل "ود" و "سمع" أ ي "سميع" و "حكم" أ ي "حكيم"، و "حلم" أي حليم" و "علم" أي "عالم" و "عليم"، و "رحم" أي "رحيم"، و "رحمنن" أي "الرحمن"، وأمثال ذلك. ذكرت على صورة أسماء آلهة. لكنها في الواقع صفاتها لا أسماؤها. ذكرت في مقام ذكر أسماء الالهة، كما يقول المسلم في دعائه ربه يا سميع ويا حكيم ويا رحيم. وهي صفات وردت في القرآن الكريم.

وعلى من يريد الوقوف على رأي الجاهليين في "طبائع آلهتهم وفي تعيين صفاتها، حصر هذه الصفات وضبطها، وتعيين مدلولها، وهي صفات تدل على معانٍ خلقية مجردة. وسنتمكن بذلك من الوقوف على نظرة الجاهليين إلى آلهتهم، ومن تعيين وتثبيت عددها إذ سيظهر لنا من هذه الدراسة ان أكثر تلك الأسماء ليست أسماء آلهة، وانما هي صفات لها، وان الكلمات التي لا بشك في كونها أسماء صحيحة قليلة جداً، ربما لا يتجاوز عددها الثلاثة، هي الثالوث. ومن يدري ? فقد تكون في النتيجه اسمأ لإلَه واحد، وعندئذ يمكن أن نتوصل إلى نتيجة علمية بالقياس إلى عقيدة الشرك أو التوحيد عند العرب الجاهليين.

وبحد الإنسان اليوم سذاجة مضحكة في بعض العقاثد الدينية التي كانت عند الشعو ب القديمة، ويستصعب تصور اعتقاد الناس بها، وهو ينسى أن هذه العقائد أو بعضها على الأقل، لا تزال معروفة بين بعض قباثل افريقية وأستراليا،وأماكن أخرى من العالم، وان العقل الانساني في تطور مستمر، وان هناك بشراً يؤمنون بعقائد ورثوها عن آبائهم لا تقل غرابة عن غرابة بعض المعتقدات التي نؤاخذ بها قدماء البشر، مع أنهم من الشعوب المتقدمة في الحضارة وفي المدنية، ومن القرن الذي نفتخر بتسميته بقرن العقوق على الأم، والهروب منها إلى بيوت أخرى، تكون بعيدة عنها، سابحة في هذا الفضاء.

وقد يصعب على الإنسان اليوم تصور وجود فاثدة أو ضرر من اشياء جامدة لا يمكن قطعاً أن تضرً أو تنفع، ولكن القدماء تصوروه مع ذلك واعتقدوه. فقدسوا الأحجار والأشجار والحيوانات، وقد"سوا الأرواح والأموات من الآباء والأجداد والقديسين، وتعبنّدوا لها. ولهذه العبادات أسماء علمية خاصة اصطلح على تسميتها العلماء.

والدين هو إيمان وعمل: إيمان بوجود قوى هي فوق طاقة البشر، لها تأثير في حياته وفي مقدراته ؛ وعمل في أداء طقوس معينة تعين شكلها الأديان للتقرب إلى الآلهة ولاسترضائها. والإيمان هو قبل العمل بالطبع، فلا بد للقيام بالشعائر، أو باًداء العمل، من وجود إيمان عند الشخص أو الأشخاص بوجود إلَه أو آلهة. حتى يقوم بعمل ديني. فالعمل تابع للأيمان، ونتيجة من نتائجه، وهو شعاره ومظهره. وهو أبرز عند الأقوام البدائية من الأيمان لدرجة عقليتها ومجال تفكيرها الضيق. ومن العمل: الرقص، والأفراح الدينية و السحر، والقرابين، والحج، والصلوات.

وقد أقر الإسلام أشياء من أمور الدين كان يمارسها الجاهليون في جاهليتهم، لأنها لا تتعارض مع مبادئ الإسلام. ودراسة أمثال هذه الأشياء توضح لنا نواحي خافية علينا في الزمن الحاضر من الحياة الدينية عند الجاهليين، لذلك أرى من الضروري تتبع هذه الأشياء لتدوين تاريخ صحيح للدين عند الجاهليين.وأرى من الضروري كذلك تتبع الأساطير والعادات الموروثة التي لها صلة وعلاقة بالدين الجاهلي بين الأعراب والحضر في كل أصقاع جزيرة العرب، ولا سيما القزى العربية النائية عن العمران المنعزلة عن الأعاجم، فإن معظم هذه الأساطير والتقاليد هي من بقايا الوثنية العربية القديمة، بقيت جذورها ثابتة راسخة في الآفئدة حتى اليوم.

ولا بد أيضا لدراسة الدين عند الجاهليين دراسة صحيحة من الرجوع إلى أصول الأشياء، وأعني بأصول الأشياء هنا ديانة الساميين الأولى بشكلها البدائي القديم. فمن تلك الشجرة تفرعت أديان الشعوب إلسامية، وفي ذلك الدين نجد الأصول والأسس التي بنيت عليها الديانات الفروع.

أما كيف نتمكن من الرجوع إلى الأصل ومن معرفة ديانة الساميين القديمة، فموضوع ليس بالسهل اليسير، ونحن، وان كنا نملك بعض المؤلفات والبحوث عن أديان الساميين، لا نستطيع أن نجرؤ فنقول ان البحث قد نضج فيه، وان القوم قد استوفوه من أطرافه وأكملوه، بل ان كثيراً مما تطرق اليه العلماء هو موضع جدل واختلاف، ولن يمكن التوصل إلى نتائج مقبولة معقولة إلا اذا تمكن الباحثون من الحصول على وثائق جديدة تكشف النقاب عن أديان قدماء الساميين.

وللتوصل إلى تكوين رأي عن أديان الساميين القديمة لا بد من دراسة النصوص الدينية السامية كلها. ودراسة كل ما له صلة بالدين عند الساميين، ومقارنة الأديان السامية بعضها ببعض ومراجعة الأصول اللغوية للمصطلحات الدينية عند جميع الشعوب السامية للتوصل منها إلى الأسس العميقة المدفونة التي أقيم عليها بنيان ديانة الساميين. ثم لا بد أيضاً من دراسة المؤثرات الخارجية التي أثرت في الساميين من عوامل طبيعية ومن عوامل أخرى غير طبيعية ومن الأثر الثقافي الذي كان "لغير الساميين في الساميين.

ويتبين من دراسة الأساطير السامية وجود شكل من أشكال التوحيد Henoteism عند القبائل السامية البدائية يمثل في اعتقاد القبيلة بوجود إلهَ لها واحد أعلى، غير ان هذا لا يعني نفي اعتقآدها بتعدد الالهة. فإننا نرى ان تلك القبائل كانت تعتقد، في الوقت نفسه، بالأرواح كأنها كائنات حيه ذات أثر وسلطان في مصير هذا الكون. وفي ضمنه الإنسان، وبآلهة مساعدة للالَه الكبير.

والديانات السامية، وإن كانت في الأصل من ديانة قديمة،قد تطورت وتغيرت بعوامل عديدة من العوامل التي تؤثر في كل المجتمعات البشرية فتحدث فيها انقلاباً في التفكير وفي طراز الحياة. ومن هذه العوامل المؤثرات الخارجية والمحيط الجديد. وسنجد ان ديانة العرب الجنوبيين، وإن كانت في الأصل من تلك الديانة السامية.

العقول النيرة التي هزأت بالأوثان وبديانات قومهم. وان رجالاً منهم كانوا على الحنيفية، يريدون بها ديانة التوحيد، وان آخرين بشّروا بالوثنية، وأشاعوها بين العرب، لما كان لهم من مكانة ونفوذ. وان رجالاً من الجاهليين كانوا على ملة اليهودية ودين المسيح. وان قوماً من أهل الجاهلية كانوا على عبادة "الله" و "الرحمان"، وكل المذكورين كانوا ممن مهد الجادة اذن لظهور ا لاسلام.

وقد أدى ظهور الإسلام إلى ظهور مصطلحات جديدة وموت مصطلحات قدبمة، وصارت هذه المصطلحات من علائم الوثنية. ولا بد لنا للوقوف على صورة أوضح للحياة الدينية عند الجاهليين من وجوب دراسة الألفاظ الجاهلية ذات المعاني الدينية بجمعها وتبويبها وتثبيت معانيها، فبهذه الدراسة نستطيع الوقوف على مبلغ تغلغل الحياة الدينية في نفوس الجاهليين، ومعرفة مدى تعمقهم في الدين وفهمهم له.

ومن الدراسات التي يجب أن تنال منا الرعاية والعناية لمعرفة الحياة الدينية وتطورها عند الجاهليين معرفة صحيحة، دراسة المصطلحات الدينية بحسب اللهجات العربية، وأماكن تلك اللهجات، وأسماء الأصنام أو الأوثان، ومعتقدات سكان تلك الأرضين في هذه الأيام، فإن دراسة مثل هذه تفيدنا فائدة كبيرة في معرفة أسس الحياة الدينية عند الجاهليين، وفي معرفة اختلاف العرب أو اتفاقهم في العقائد وفي الأمور الدينية، ومعرفة العوامل والأسباب النبي أدت الى ذلك، ثم معرفة المؤثرات الخارجية في الحياة الدينية للجاهليين. وبتثبيت هذه وأمثالها وبمقارنتها بأسماء أصنام الأقوام المجاورة وآلهتهم ومصطلحاتهم، نستطيع فهم كثير من الأمور الغامضة من الحياة الدينية عند ألعرب وعند تلك الأقوام، وفهم الاحتكاك العقلي والصلات الروحية التي كانت بين تلك الشعوب قبل الإسلام.

إن الأخباريين عفا الله عنهم، لم يعنوا بتنسيق هذا الذي توصلوا اليه ورووه لنا من آراء الجاهليين في الدين. فرووا روايات مختلفة متناقضة أو مقتضبة اقتضاباً مخلاً وجاءوا بأمور تثبت ان أولئك الأخباريين لم يكونوا على مستوى عال من اللنقد والتعمق في دزاسة الأخبار، وانهم كانوا يروون أخبارهم بالمعنى المفهومً من الأخبار. يأخذون ما يقال لهم فيروونه على نحو ما سمعوه وإن كان فيما يروونه ما يخاللف المنطق والفهق السليم. والاستسلام للروايات داء يذهب بالفائدة. منها، ويعود على المؤرخ بأفدح الأضرار. ولهذا نجد أنقسنا في موضوع أديان العرب قبل الإسلام في زوبعة عاتية وعاصفة مليئة بالرمال نتخبط فيها للحصول على مخرج نخرج منه، وليس لنا إلا الأمل. بالخروج من هذه العاصفة العاتية المتعبة في وقت ما.

وهذا الذي أورده أهل الأخبار عن أهل الجاهلية على ما فيه من تناقض، وتضارب واقتضاب، هو كما رأينا مادتنا الوحيدة عن الحياة الدينية عند عرب الجاهلية قبيل الإسلام وعند ظهوره، ولا سيما بالنسبة إلى عرب الحجاز وعرب الشام والعراق. وهناك روايات لم نستفد منها حتى الآن، لصعوبة التوصل اليها، لا لكونها في بطون المخطوطات، ولهذا بصعب الحصول عليها. فإن الكثير منها قد طبع، وهو في متناول الأيدي، إنما صعوبتها في كونها في كتب مطبوعة طبعاً على الطريقة القديمة بلا نظام ولا ترتيب ولا تبويب فنيّ ولا فهرست لما في الكتاب المطبوع من مواد ومن أسماء أشخاص أو أصنام أو أوثان أو ما شابه ذلك. وليس أمام المؤرخ في هذه الحالة إلاً أن يقرأ تلك الكتب من بسملتها حتى منتهاها، ليحصل منها في النهاية على كلمة أو كلمتين أو خبر أو أخبار، ولكن كيف يتمكن المؤرخ من قراءة كتب ضخمة كتفسير الطبري وكتب التفاسير الأخرى وشروح الحديث وكتب التواريخ والطبقات وبقية الكتب إذا كان الكتاب يتألف من أكثر من عشرة أجزاء، وهي كلها بلا فهرست للاعلام ولا لما في الكتاب من فوائد ومواد. لا يتمكن المؤرخ بالطبع من قراءة كلّ هذه الموارد المذكورة مع تساوي عمره بسائر أعمار الناس، ولو مدّ الله في عمره وصيّره إنساناً آخر ذا عمر طويل من أعمار الناس الذين أرخهم "السجستاني" في كتاب المعمرين، لتمكن من الإحاطة ببعض تلك الموارد على الأقل. غير أن عمر المؤرخ ويا للاسف مثل أعمار سائر الناس، قصير محدود، فليس في إمكانه الإحاطة بما ورد في هذه الكتب الواسعة المجهولة، على ظهورها في عالم الوجود ووجودها في خزانة كتب المؤرخ وفي يد أي شخص يريد الحصول عليها، لأن الموضوع ليس موضوع وجود كتاب مطبوع أو مخطوط، إنما هو اكتشاف ما في المطبوع أو المخطوط من آراء وأخبار وأعلام.

ما دام الوضع على هذا الحال وما دامت أكثر كتبنا غير مفهرسة ولا منسقة، فليس في استطاعة المؤرخ أن يأتي بشيء كثير يشفي غليل من يريد المزيد من المعرفة عن الحالة الدينية عند العرب قبل الإسلام. وهذا امر بؤسف له بالطبع كثيراً. وسيأتي بعدنا من يضيفون إلى هذا العلم البسيط الذي توصلنا اليه علماً كثيراً، ثم يتوصل من بعدهم إلى أكثر من ذلك ولا شك. ومن يدري ? فلعلهّم يتوصلون إلى كتابات جاهلية تغنيهم عن كل هذا الذي اخذناه من موارد إسلامية كتبت بعد الجاهلية بعشرات السنين. وليس لنا، وسنكون بالطبع من الماضين، إلاّ أن ندعو لمن ياتي بعدنا بالتوفيق والنجاح التام.

الفصل الثاني والستون

التوحيد والشرك

كانت العرب في الجاهلية على أديان ومذاهب: كان منهم من آمن بالله، وآمن بالتوحيد، وكان منهم من آمن بالله، وتعبد للاصنام، اذ زعموا أنها تقربهم اليه. وكان منهم من تعبد للاصنام، زاعمين أنها تنفع وتضر، وأنها هي الضارة النافعة. وكان منهم من دان باليهودية والنصرانية، ومنهم من دان بالمجوسية، ومنهم من توقف، فلم يعتقد بشيء، ومنهم من تزندق، ومنهم من آمن بتحكم الألهة في الإنسان في هذه الحياة، وببطلان كل شيء بعد الموت.، فلا حساب ولا نشر ولا كتاب، ولا كل شيء مما جاء في الإسلام عن يوم ا لدين.

ومذهب أهل الأخبار، أن العرب كانوا على دين واحد، هو دين ابراهيم، دين الحنيفية ودين التوحيد. الدين الذي بعث باًمر اللّه من جديد، فتجسد وتمثل في الإسلام. وكان العرب مثل غيرهم، قد ضلوا الطريق، وعموا عن الحق، وغووا بعبادتهم الأصنام. حببها لهم الشيطان، ومن اتبع هواه من العرب، وعلى رأسهم ناشر عبادة الأصنام في جزيرة العرب: "عمرو بن لحي".

وذهب "رينان" Renan إلى ان العرب هم مثل سائر الساميين الآخرين موحدون بطبعهم، وان ديانتهم هي من ديانات التوحيد. وهو رأي بخالفه فيه نفر من المستشرقين.

وقد أقام "رينان" نظريته هذه في ظهور عقيدة التوحيد عند الساميين من دراسته للالهة التي تعبد لها الساميون، ومن وجود.أصل كلمة "ال" "ايل" في لهجاتهم، فادعى ان الشعوب السامية كانت تتعبد لإلهَ واحد هو "ال" "ايل" الذي تحرف اسمه بين هذه اللهجات، فدعي بأسماء أبعدته عن الأصل، غير ان أصلها كلها هو إلَه واحد، هو الإله "ال" "ايل".

و "التوحيد" الايمان بإلَه واحد أحد لا شريك له، منفرد بذاته في عدم المثل والنظير. لا يتجزأ ولا يثنى ولا يقبل الانقسام. ويقال للديانة التي تدين بالتوحيد: Monotheism في اللغات ألأوروبية، من أصل يوناني هو Monos، بمعنى "واحد"، و Theos بمعنى "إلَه"، لأنها تقول بوجود إلَه واحد. ويتمثل القول في التوحيد في اليهودية وفي الإسلام.

والشرك في تفسير العلماء الإسلاميين، ان يجعل لله شريكأَ في ربوبيته "، غير الله مع عبادته، والايمان بالله وبغيره، فصاروا بذلك مشركين. ومن الشرك ان تعدل بالله غيره، فتجعله شريكاً له. ومن عدل به شيئاً من خلقه فهو مشرك، لأن اللّه وحده لا شريك له ولا ند له ولا نديد. ويقال له Polytheism=Polytheisums في اللغات الأوروبية. من أصل يوناني هو "Polys، ومعناه كثرة وتعداد، و Theos بمعنى "إلَه". فيكون المعنى،: القول بتعدد الالهة، أي الشرك. نقيض القول بالتوحيد Montheismus. فالشرك هو الدين المعاكس لدين التوحيد. ويختلف عن عقيدة ال Polydoemonism القائلة بوجود الأرواح والجن من حيث الطبيعة Nature، وبوجود أثر لها في حياة الإنسان، كما يختلف عن القائلين بمبدأ "الحلول" Pantheism من حيث حلول الإلهَ في الخلق والخلق في الإلهَ.

وقد ذهب أهل الأخبار إلى أن العرب الأولى كانت على ملة ابراهيم، من الايمان بإلَه واحد أحد، اعتقدت به، وحجّت إلى بيته، وعظمت حرمه، وحرمة الأشهر الحرم، بقيت على ذلك، ثم سلخ بهم إلى أن عبدوا ما استحبوا ونسوا ما كانوا عليه، واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل غيره، فعبدوا الأوثان، وابتعدوا عن دين آبائهم وأجدادهم، حتى أعادهم الإسلام اليه.

ونظرية أن العرب جميعاً كانوا في الأصل موحدين، تم حادوا بعد ذلك عن التوحيد فعبدوا الأوثان وأشركوا، نظرية يقول بها اليوم بعض العلماء مثل "ويليم شميد" Wilhelm Schmidt الذي درس أحوال القبائل البدائية وأنواع معتقداتها، فرأى ان عقائد هذه القبائل البدائية الوثنية ترجع بعد تحليلها وتشريحها ودرسها إلى عقيدة أساسية قائمة على الاعتقاد بوجود "القديم الكل " أو "الأب الأكبر". الذي هو في نظرها العلة والأساس. فهو إلهَ واحد. وتوصل إلى أن هذه العقيدة هي عقيدة سبقت التوحيد، ثم ظهر من بعدها الشرك. وقد أطلق عليها في الألمانية مصطلح Urmonotheismus أي التوحيد القديم.

ويأخذ بهذه النظرية علماء اللاهوت وبعض الفلاسفة، وفي الكتب السماوبة تأييد لها أيضاً. فالشرك وعبادة الأصنام بحسب هذه النظرية، نكوص عن التوحيد، ساق اليه الانحطاط الذي طرأ على عقائد الإنسان فأبعده عن عبادة الله.

اننا لا نستطيع ان نتحدث عن عقيدة التوحيد عند العرب قبل الإسلام استناداً إلى ما لدينا من كتابات جاهلية، لعدم ورود شيء عن ذلك. فالنصوص التي وصلت إلينا، هي نصوص فيها أسماء أصنام، وليس فيها مايفهم منه شيء عن التوحيد عند العرب قبل الميلاد وبعده، إلا ما ورد في النصوص العربية الجنوبية المتاخرة من عبادة الإلهَ "ذ سموى" "ذو سموى"، أي صاحب السماء، بمعنى إلهَ السماء. وهي عبادة ظهرت متأخرة في اليمن بتأثير اليهودية والنصرانية اللتين دخلتا اليمن ووجدتا لهما أتباعاً هناك، بل حتى هذه العبا دة لا نستطيع أن نتحدث عنها حديثاً يقينياً، فنقول انها عبادة توحيد خالص تعتقد بوجود إله واحد على فهو ما يفهمه أهل القول بالتوحيد.

وقد ذكرت جملة "ذ سموى" في نص مع الإله "تالب ربمم" تالب ريام"، رب قبيلة "همدان". ويدل ذكر اسم هذا الإلَه مع اسم إلهَ آخر على ان عقيدة التوحيد لم تكن قد تركزت بعد، وانها كانت في بدء تكوينها، فلما اختمرت فيَ رؤوس القوم، ذكرت وحدها في النصوص المتأخرة، دون ذكر أسماء الأصنام الأخرى، مما يشير إلى حدوث هذا التطور في العقائد، والى ظهور عقيدة التوحيد والايمان بإلهَ السماء عند جماعة من العرب الجنوبين. وقد أكملت هذه العقيدة بأن صار إله السماء رب السماء والأرض.

ولم يكن "ذ سموى"، "ذ سمى اله"، "ذو السماء إلهَ" أي "صاحب السماء"، أو "إلهَ السماء"، أو "رب السماء"، إلَه جماعه معينة أو إله قبيلة مخصوصة، بل هو إلَه ولدته عقيدة جديدة ظهرت في اليمن بعد الميلاد على ما يظن تدعو إلى عبادة إلهَ واحد هو "ربّ السماء"، فهو إلهَ واحد مقره السماء. ويرى بعض المستشرقين أن هذه العقيدة هي نتيجة اتصال أهل اليمن باليهودية والنصرانية على اْثر دخولهما العربية الجنوبية، فظهرت جماعة تأثرت بالديانتين تدعو إلى عبادة إله واحد هو "رب السماء".

وأما عبادة "الرحمن" "رحمنن"، فهي عبادة توحيد، ظهرت من جزيرة العرب فيما بعد الميلاد. وقد وردت كلمة "رحمنن"، أي "الرحمن"، في نص يهودي كذلك وفي كتابات "ابرهة"، وردت في نصوص عربية جنوبية أخرى وفي نصوص عثر عليها في أعالي الحجاز. وقد كان أهل مكة على علم بالرحمن، ولا شك، باتصالهم باليمن وباليهود. ولعلهم استخدموا الكلمة في معنى اللّه. وإن ذكر علماء اللغة أو علماء التفسر أن اللفظة لم تكن معروفة عند أهل مكة في الجاهلية.

وقد جاء في النص اليهودي المذكور: "الرحمن الذي في السماء واسرائيل وإلهَ اسرائيل رب يهود". وقد حمل هذا النص بعض الباحثين على القول بأن العرب الجنوبيين قد أخذوا هذه الكلمة وفكرتهم عن الله من اليهودية، وان فكرة التوحيد هذه إنما ظهرت بتأثر اليهودية التي دخلت إلى اليمن. غير ان من الباحثين من رأى خلاف هذا الرأي. رأى ان افتتاح النص بذكر الرحمن، ثم اشارته بعد ذلك إلى إلهَ يهود، وورود كلمة "الرحمن" في نص آخر يعود إلى سنة "468" للميلاد. كتبه صاحبه شكراً للرحمن الذي ساعده في بناء بيته: كل هذه وأسباب أخرى، تناقض رأي القائلين بأن عقيدة الرحمن عقيدة اقتبست من اليهود.

وقد ذكر بعض علماء اللغة ان "الرحمن" اسم من أسماء الله مذكور في الكتب الأول، وأن اللفظة عبرانية الأصل، وأما "الرحيم" فعربية. وذكروا ان "الرحمن" اسم مخصص باللَه، لا يجوز أن يسمى به غيره. وقد أنشدوا للشنفرى أو لبعض الجاهلية الجهلاء: ألا ضربت تلك الفتاة هجينهـا  ألا قضب الرحمن ربي يمينهاْ

فيظهر من هذا البيت أن الشاعر كان يدين بعبادة الرحمن. ونجد مثل هذه العقيدة في قول سلامة بن جندل الطهويّ: عجلتم علينا عجلتينا عليكـم  ومايشأ الرحمن يعقدويطلق.

فإن ذلك يعني أن قوماً من الجاهليين كانوا يدينون بعبادة "الرحمن". ومما يؤيد هذا الرأي ما ورد من أن بعض أهل الجاهلية سموا أبناءهم عبد الرحمن، وذكروا أن "عامر بن عتوارة" سمى ابنه "عبد الرحمَن".

وقد وردت لفظة "الرحمن" في شعر ينسب إلى "حاتم الطائي" هو: كلوا اليوم من رزق الإلهَ وأيسروا  وإن على الرحمان رزقكم غـداَ

وحاتم من المتألهة، ويعده اليعض من النصارى و "الرحمن" نعت من نعوت الله في النصرانية، من أصل "رحمونو"، Rahmono، فهل عبر شاعرنا بهذه اللفظة عن هذا المعنى النصراني ?

"وقد زعم بعضهم أن العرب لا تعرف الرحمن حتى ردّّ الله عليهم ذلك بقوله: قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياً ما تدعوا فله الأسماء الحسنى. ولهذا قال كفّار قريش يوم الحديبية لما قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لعلي: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم. فقالوا: لا نعرف الرحمن ولا الرحيم. رواه البخاري. وفي بعض الروايات: لا نعرف الرحمن إلاّ رحمن اليمامة".

وذكر أن المشركين سمعوا النبيّ يدعو ربه، يا رينا الله ويا ربنا الرحمن، فظنوا أنه يدعو إلهين، فقالوا: هذا يزعم أنه يدعو واحداً، وهو يدعو مثنى مثنى. وأن أحدهم سمع الرسول يقول في سجوده: يا رحمن يا رحيم فقال لأصحابه: انظروا ما قال ابن أبي كبشة دعا الرحمن الذي باليمامة. وكان باليمامة رجل يقال له الرحمان.

ولم يذكر أهل الأخبار شيئاً عن ذلك الشخص الذي زعموا انه كان يُعرف ب "رحملن اليمامة". لكنهم ذكروا ان "مسيلمة الكذاب"، كان يقال له رحمان اليمامة. فهل عنوا ب "رحمان اليمامة" مسيلمة نفسه، أم شخصاً آخر كان يدعو لعبادة "الرحمان" قبله ? وورد ان قريشاً قالوا للرسول: "انا قد بلغنا انك إنما يعلمك رجل باليمامة، يقال له الرحمن ولن نؤمن به أبدا". فنزل فيهم قوله: "كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا اليك، وهم يكفرون بالرحمن، قل هو ربي لا إلهَ إلا هو عليه توكلت واليه متاب". وذكر بعض أهل الأخبار: كلن مسيلمة بن حبيب الحنفي، قد تسمى بالرحمن في الجاهلية، وكان من المعمرين، وذلك قبل أن يولد عبد الله أبو رسول الله.

وورد في بعض أقوال علماء التفسير ان اليهود قالوا: "ما لنا لا نسمع في القرآن اسماً هو في التوراة كثير. يعنون الرحمان، فنزلت الاية".

ويرى المستشرقون ان عبادة "الرحمن" "رحمنن"، إنما ظهرت بين الجاهليين بتأثير دخول اليهودية والنصرانية بينهم.

وقد ذكر "اليعقوبي" أن تلبية "قيسى عيلان"، كانت على هذا النحو: "لبيك اللهم لبيك، لبيك أنت الرحمان، أتتك قيس عيلان، راجلها والركبان"وأن تلبية عك والأشعرين، كانت: نحج للرحمان بيتاًعجباً  مستترا ًمغبباً محجباً

وفي التلبيتين المذكورتين دلالة على اعتقاد القوم بإلهَ واحد، هو الرحمان. ولم ترد لفظة "الرحمان" إلاّ مفردة، فليس لها جمع، لأنها تعبير عن توحيد، وليس في التوحيد تعدد، فالتعدد شرك. على عكس لفظة "رب"، التي تؤدي معنى إله"، وهي تعبير عن اعتقاد، لا اسم علم لإله، ولذلك وردت لفظة "أرباب" بمعنى آلهة تعبيراً عن تعدد الآلهة، وهو الشرك. وقد كان الجاهليون يقولون: ربيّ وربك وربنا وأربابنا، كما يقولون إلهي وإلاهلك وآلهتنا.

وقد تكون كلمة "ه رحم" "هارحيم"، أي الرحيم" الواردة في النصوص الصفوية وفي النصوص السبئية اسم إلَه، وقد تكون صفة من صفات الآلهة على نحو ما تؤديه كلمة "الرحيم" من معنى في الإسلام.

وللعلماء آراء في ظهور عبادة الشرك. ورأي رجال الدين منهم، ان الناس كانوا أمة واحدة في الدين، كانوا على التوحيد جميعاً، ثم ضلّوا فعبدوا جملة آلهة وصاروا مشركين. أما غيرهم من العلماء الذين يستندون إلى الملاحظات ودراسة أحوال القبائل البدائية وعلى فروع العلوم الأخرى المساعدة مثل علم النفس وعلم الاجتماع، فيرون ان عقيدة التوحيد ظهرت متأخرة بالنسبة إلى ظهور الوثنية والشرك. ظهرت بعد أن توسعت مدارك الإنسان، فشعر أن ما كان يتصوره من وجود قوى روحانية عليا في الأشياء التي عبدها لم يكن سوى وهم وخداع، وصار يقتصد في الشرك، إلى أن اهتدى إلى عبادة إلهَ واحد.

ظهور الشرك

هناك عدة عوامل دعت إلى ظهور الشرك، أي تعدد الآلهة، وأثرت في تعدد الآلهة. هناك عوامل طبيعية وعوامل رسيّة Characteristics، وعوامل سياسية وعوامل تاريخية واجتماعية واقتصادية وعو امل اخرى، كل هذه أثرت في شكل الشرك وفيِ تعدد الآلهة وفي كيفية تصور الناس لآلهتهم. ولا يعني هذا انها اثرت كلها مجتمعة وفي آن واحد، إنما يعنى ان ظهور الشرك وشكله هو نتيجة غوامل متعددة واسباب مختلفة أثرت في ظهوره وفي تكوين صورة الآلهة في نظر المؤمنين بها المتعبدين لها.

وإناّ لنجد وجهة نظر الشعوب عن الآلهة أو الإلَه تختلف باختلاف ثقافتها ومستواها الاجتماعي، وللوضع السياسي دخل كبير في الشرك وفي عدد الالهة وفي شكل الدين. لقد كان لكل قبيلة إلهَ خاص بتلك القبيلة يحميها من الأعداء ومن المكاره، ويدافع عنها في الحروب والملمات، ويعطيها النصر. كما كان للقرى والمدن آلهتها الخاصة بها. فإذا تحالفت القبائل أو القرى أو المدن تحالفت آلهتها معها، وكوّ نت حلفناً وصداقة متينة بينها. أما إذا تحاربت هذه القبائل أو القرى او المدن، فيكون لهذه الحرب أثر كببر في مستقبل الآلهة وفي عددها. فقد ينصرف المغلوبون عن آلهتهم إلى عبادة آلهة أخرى، لأنها أصبحت ضعيفة لا قدرة لها على الدفاع عن عَبدَتها. وقد يتأثر الغالبون بعبادة المغلوبين الذين خضعوا لهم، فيضيفون آلهة المغلوبين إلى آلهتهم، فيزيد بذلك عدد الآلهة، ولا سيما إذا كان المغلوبون أصحاب ئقافة عالية، وكان لهم ادب وفن.

والعادة أن آلهة القبائل أو المدن الرئيسية تكون هي الآلهة الرئيسية للحلف أو في المملكة. ويكون إلَه القبيلة ذات النفوذ أو العاصمة عندئذ، هو إلهَ الحكومة الكبير. أما الالهة الأخرى، فتكون دونه في المنزلة، ولهذا يرد اسمها في الغالب بعد اسم الإلهَ الكبير.

كذلك يجب ألاننسى عامل الجوار والاتصال الثقافي في ظهور الشرك، فكثيراً ما يؤدي هذا الاتصال إلى اقتباس آلهة المجاورين واضافتها إلى مجموعة الآلهة عند ذلك الشعب، فيزيد بذلك عدد الالهة أو ينقص. فقد تطغى الألهة الجديدة المقتبسة على الآلهة القديمة، ويقّل شأن بعضها فيهمل، ثم يموت اسمها. وقد يحدث ذلك بطريق الحرب أيضاً، كما ذكرت، فيتغير العدد بذلك.

ولرجال الدين ولسادات القبائل ع وللأمراء وللملوك أثر في ظهور الشرك. كان في إمكانهم اقرار مستقبل الألهة بإضافة آلهة جديدة على الآلهة القديمة، أو بابعاد إله " أو آلهة عن عبادة قومهم، فيزيد أو ينقص بذلك عدد ألآلهة. وقد كان سادات القبائل والوجوه يغيرّون عبادة أتباعهم بإدخال عبادة إلَه جديد، يأخذونه من زيارتهم لبلد غريب، كأن يكون أحدهم قد أصيب بمرض وهو في ذلك البلد، فيشار عليه بالتعبد وبالتقرب لإله ذلك البلد أو لأحد آلهته، فيصادف أن يشفى، فيظن أنه شفى ببركة ذلك الإله وبقدرته وقوته، فيتقرب له ويتعبد له، فإذا أعاد حمل عبادته إلى أتباعه، فيعبد عندهم. ويضاف على آلهتهم، ويصير أحدهم وقد يطغى اسمه عليها، وذلك حسب درجة تعلق سيد القبيلة به، وحسب درجة ومكانة" سيد القبيلة بين الناس. وتأريخ الجاهلية مليء بحوادث تبديل آلهة بسبب تبديل سادات القبائل ووجوه الناس لعقائدهم ولآلهتهم، فتدخل القبيلة كلها في العبادة الجديدة. وقد كان اسلام قبائل برمتها، بسبب دخول سيدها في الإسلام، فالناس تبع لساداتهم ولقادتهم، و " الناس على دين ملوكهم " كما هو معروف ومشهور في أقوال العرب.

ومعظم أسماء الآلهة صفات للآلهة لا اسم علم لها، فودّ ورضى والمقه وذات حميم وأمثالها، هي صفات في الأصل، مضى عليها الزمن، فاستعملت استعمال الأسماء الأعلام. وظن أنها آلهة قائمة بذاتها. فلما جاء الباحثون وجمعوها حسبوها أسماء آلهة، فزاد بذلك عدد الآلهة، واعتبرت الأسماء الكثيرهّ من سيماء الإفرإط في الشرك. بينما هي صفات لإلهَ، أو آلهة لا يزيد عددها على ثلاثة، هي الثالوث الكواكبي المقدس الذي تعبدوا له.

ولا بد لنا من الإشارة إلى اصطلاح أطلقه "ماكس مولر" Max Muler على مرحلة من العبادة هي بين بين، لا هي توحيد Monotheism ولا هي شرك Polytheism، بل هي مرحلة تعبد فيها الإنسان على رأى هذا الباحث إلى إله واحد هو إلَه القبيلة، مع الاعتقاد بوجود آلهة أخرى. وهذا الاصطلاح هو Henotheismus. وقد رأى "فلاّ يدلر" Pfleidler أن الساميين لم يكونوا-موحدين بطبعهم كما ذهب "رينان" إلى ذلك، بل كانوا يدينون بإلهَ قومي، ومن هذه العقيدة ظهر التوحيد الخالص كما حدث عند الاسرائيليين.

وفي القرآن الكريم إشارات إلى أنواع من الشرك كان عليه الجاهليون، وفيه تعريف لمعنى الشرك، فالشرك في قوله تعالى: )أيشركون ما لايخلق شيئاًوهم يخلقون، ولا يستطيعون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون( عبادة الأصنام المصنوعة من الحجارة أو الخشب أو المعادن، أي مما لا روح له وقابل للكسر. وفي بعض الآيات أن من أنواع الشرك القول بأن الجن هم شركاء لله. ومن أنواعه أيضاً القول بأن الملائكة هم شركاء لله وبناته. وفي آيات أخرى.ان من الشرك اتخاذ آلهة أخرى مع الله. والالهة هنا شيء عام. فيه تاًليه الكواكب وعبادة الأشياء غير المنظورة، أي غير المادية وعبادة الأصنام.

وفي القرآن الكريم جواب عن فلسفة القوم وتعليلهم لعبادة الأصنام واتخاذهم "أولياء" من دون الله، إذ يقولون جواباً عن الاعتراض الموجه اليهم في عبادة غر الله: )والذين اتخذوا من دونه أولياء. ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى. ان الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون"(. ويتبين من هذه الاية ومن آيات أخرى ان فريقاً من العرب كانوا يعتقدون بوجود الله، وانه هو الذي خلق الخلق، وأن له السيطرة على تصرفات عباده وحركاتهم، ولكنهم عبدوا الأصنام وغيرها، واتخذوا الأولياء والشفعاء لتقربهم إلى الله زلفى.

وفي كتاب الله مصطلحات لها علاقة بعبادة الشرك، منها "شركاء" جمع "شريك"، وهو من اتخذه المشركون شريكاً مع الله. و "أنداد" "ومن الناس من يتخذ من دون الله انداداً يحبونهم كحب الله" " وجعلوا لله أنداداً ليضلوا عن سبيله. قل: تمتعوا، فإن مصيركم ا إلى النار". و "أولياء" و "وليّ" و "ولياً" و "شفعاء" و "شهداء". فهذه الكلما ت وأمثالها تعبر عن عقائد الجاهليين قبيل الإسلام. وعن اعتقادهم في عبادة أشياء اخرى مع الله كانوا يرون انها تستحق العبادة، وانها في مقابل الله في العرف الإسلامي، أو انها شركاء في ادارة الكون أو انها مساعدة لله.

والشرك في تفسير العلماء المسلمين، أن تعدل بالله غيره، فتجعله شريكاً له. فهو يشمل أشياء عديدة. منها عبادة الكواكب، أي عبادة القوى الطبيعية، وعبادة الجن والملائكة والأمور الخفية، ويمعنى آخر عبادة القوى الخفية، أو القوى الروحية، وعبادة الأمور المادية كالأصنام والأحجار، باعتبار انها تشفع للانسان عند الالهة، وعبادة الإنسان والحيوان، إلى غير ذلك من عبادات.

ومن العبادات التي يجب أن يشار اليها عبادات اصطلح علماء الأديان على تسميتها بمسميات حديثة، تمثل عقائد قديمة، ولبعضها أتباع أحياء يرزقون. ولبعض منها آثار ومظاهر، دخلت في الأديان الباقية، وصبغت بصبغتها، وهي من بقايا العقاثد الدينية البدائية التي رسخت في النفوس وفي القلوب حتى صار من الصعب على الإنسان أن يتخلص منها، فبقيت راسخة تحت مسميات جديدة. ومن تلك العقائد: ال Shamanism و Tatemism،و Fetishism، و Ancestor-worshipو Animism، وغيرها من مسميات سيرد الحديث عنها في هذا الكتاب.

أما اد "شمانية"، فقد أخذت من كلمة "شمن" Saman ومعناها كاهن أو طبيب "شمان"، أو من كلمة Shemen التي معناها صنم أو معبد، أو من أصل آخر. ويراد بها اليوم ديانة تعبد بالشرك، أي تعدد الآلهةPolythesim، أو بعبادة الأرواح Polydomonism مع عبادة الطبيعة Nature - worship لاعتقادها بوجود أرواح كامنة فيها. ويعتقد في هذا الدين أيضا بوجود إلهَ أعلى هو فوق جميع هذه الأرواح والقوى المؤلهة، وبتأثير السحر.

ويستعين ال "شمن"، وهو الكاهن أي رجل الدين، بالقوى الخارقة التي لديه والتي لا يملكها الرجل الاعتيادي في اعتقاد أبناء هذه العقيدة في الاتصال با الأرواح وبما وراء الطبيعة للتأثير فيها. ولدى هذا الكاهن أرواح مأمورة بين يديه للقيام بما يطلب منها القيام به. وهو يمارس أعمالاً سحرية للتأثير في الأرواح. فالسحر في هذا الدين أهمية ومقام. ويقوم ال "شمن" عند أكثر المتدينين بهذا الدين بأعمال اطبيب.

وأما "الطوطمية"، فقد تحدثت عنها في الجزء الأول من هذا الكتاب..وقد بينت عقيدتها في "الطوطم"، ورأي ألعلماء في كيفية ظهور المجتمع "الطوطمي"، وهو مجتمع يقوم على أساس الجماعة أو القبيلة، يرتبط أفراده برباط ديني مقدس، هو رباط "الطوطم"، رمز الجماعة.

وأما ال Fetishism من أصل Factitus، بمعنى السحر، اي القوة المؤثرة الخفية،Magic، فالباحثين في تاًريخ الأديان آراء متعددة في تعريفها وفي تثبيت حدودها. والرأي الغالب الشائع بينهم انها عبادة أو تقديس للأشياء المادية الجامدة التي لا حياة فيها لاعتقاد أصحابها بوجود قوة سحرية فيها ؛ وقوى غير منظورة في تلك الأشياء تلازمها ملازمة مؤقتة أو دائمة. ويحمل Fetish "البد" لجلب السعد إلى صاحبه. وهو في نظر "تيلور" Dr. Tylor بمثابة "إله البيت" وقوة فاعلة خفية تطرد الخبائث. عن صاحبه، وتجلب الخير له. ولحدوث الأحلام ونشوئها في نظر الأقوام البدائية دخل كبير في رأي العلماء في ظهور هذه العقيدة.

وأصحاب هذه العقيدة لا ينظرون الى تلك الأشياء المادية على انها نفسها ذات قوة فعالة خفية، وانها الرمز أو الصورة للالهَ المنسوب ذلك الشىء اليه، بل هم يرون ان تلك الأشياء لسمت سوى منازل أو مواضع لاستقرار تلك القوى المؤثرة التي يكون لها دخل في إسعاد الإنسان. وهو يقدس الأشياء المادية كالحجارة مهما كانت صغيرة أو كبيرة، مهندمة ومصقولة صقلتها يد الإنسان، ومستها أو لم تمسها يد، بل كانت على نحو ما وجدها في شكلها الطبيعي لأنه حينما يتقرب إلى تلك الحجارة، لا يتقرب اليها نفسها، بل يتقرب إلى الروح التي تحل فيها.

فالروح هي المعبودة، لا الحجر الذي تحل الروح فيه، وليس الحجر أو المواد الأخرى إلا بيتاً أو فندقاً تنزل الروح فيه.

أما عبادة الأسلافAncestor worship، فهي فرع من أهم فروع، الدين في نظر بعض العلماء، بل هي الأساس الذي قام عليه الدين،في نظر آخرين،ولا سيما عند "سبنسر" H. Spencer. وأما الأسباب التي دعت البشر إلى هذه العبادة، فهي الحب والتقدير للابطال والرؤساء والأمل في استمرار دفاعهم عنهم وحمايتهم للجماعة التي تنتمي اليها كما كانت تفعل في حياتها وردّ أذى الاعداء الأموات منهم والأحياء. فتمجيد الأبطال والخوف منهم، هو الذي حمل البشر على عبادة الأسلاف، على رأي. وهناك من رأى إن تمجيد الأبطال والاشادة بذكرهم، هو الذي أوجد هذه العبادة، ومنهم من نسبها إلى الخوف منهم حسب.

وسواء أكان منشأ هذه العبادة الحب والتقدير أو الخوف أو كلاهما،فأن. أساس هذه العقيدة هو إلايمان ببقاء الروح، روح إلميت، وان بإمكان هذه الروح نفع الأحياء أو إلحاق الأذى بهم. ورؤية الأحياء وّسماع توسلاتهم ودعواتهم لها.

فالميت وإن كان قد دفن،في قبره وغيب بين التراب، إلآ انه يسمع ويعي، فروحه حية وبإمكانه النفع والضر. وهذه العقيدة هي التي حملت بعض الشعوب على مخاطبة الأرواح من فجوات مخصوصة في الأرض ومن مواضع أخرى لاستشارتها في بعض الأمور التي تهمها، وللتحدث معها ?في مسائل خطيرة كتقديم مشورة أو أخذ رأي أو استفسارعن اسم قاتل أو سارق. ولهذه الغاية اتخذت مواضع مقدسة Oracle يتقرب فيها إلى الأرواح وللاستفسار منها. فكان في اليونان مثلاً موضع شهير عرف بإسمThesprotia، وموضع آخر عرف بأسمPhigalia في "أركاديا" Arcadia. وكان في ايطاليا موضع للتنبؤ يقع على بحيرة "أفبرنوس"Avernus وكانت العامة في هذا الموضع أن يتقرب الراغبون في استشارة الأرواح إلى الموضع المقدس بتقديم ضحية، وعندئذ ينام الساثل في الموضع المقدس، فتظهر له الروح في المنامء، فتحدثه بما يحتاج اليه.

ولعبادة السلف علاقة بعبادة الأصنامIdolatry. ويلاحظ ان عبادة السلف تقود أتباعها في بعض الأحيان إلى الاعتقاد بأن قبيلتهم تنتمي إلى صلب جد واحد، أصله حيوان في رأي الأكثرين، أو من النجوم في بعض الأحيان. وهذا مايجعل هذه العقيدة قريبة من "الطوطمية".

ولهذه العبادة أثر كبير في نظام أصحابها الاجتماعي، إذ هي تربط الأجيال الحاضرة بالأجيال الماضية بروابط متينة، وتؤلف من أصحاب هذا المذهب وحدة قوية، كما ان لها أثراً مهماً في الأسرة، فهي في الواقع عبادة تخص الأسرة قبل كل شيء.

ومعارفنا عن عبادة السلف عند الجاهليين قليلة، ويمكن أن نستنتج من أمر النبي بتسوية القبور ونهيه عن اتخاذها مساجدَ ومواضع للصلاة ان الجاهليين كانوا يعبدون أرواح أصحاب هذه القبور ويتقربون اليها. ولعل في عبارة "قبر ونفس" أو "نفس وقبر" الواردة في بعض النصوص الجاهلية ما يؤيد هذا الرأي، فإن النفس هي الروح.

ومن اثار عبادة السلف عند العلماء حلق الرأس وإحداث جروح فئ الجسد واحتفالات دفن الموتى ولبس المسوح والعناية بالقبور والصلاة عليها أو إقامة شعائر دينية فوقها أو علإمات خاصة بالميت أو الموتى للتقديسْ. ونحن اذا استعرضنا روايات الأخباريين. نجد آثار هذه العبادة معروفة بين الجاهليين.

وقد أشار أهل الاخبار إلى قبور اتخذت مزارات،كانت لرجال دين ولسادات قبائل يقسم الناس بها، ويلوذون بصاحب القبر ويحتمون به، كالذي كان من أمر ضريح "تميم بن مرّ "، جدّ "تميم"، وكالذي ذكروه من أمر "لللات" من أنه كان رجلاً في الأصل، اتخذ قبره معبداً ثم تحول الرجل إلى صنم. ونجد في كتب الحديث نهياً عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها. وقد أشارت إلى اتخاذ اليهود والنصارى قبور سادتهم وأوليائهم مساجد، تقربوا اليها، لذلك نهي أهل الإسلام من التشبه بهم في تعظيم القبور، كما نهى عن تكليل القبور وتجصيصها، والتكليل رفع القبر وجعله كالكلّة، وهي الصوامع والقباب التي تبنى على القبور.

وأما Animism، فهو اعتقاد بوجود أرواح مؤثرة في الطبيعة كلها Nature، ولذلك يؤله كثيراً من المظاهر الطبيعية المرئية وغير المرئية منها، لاعتقاده بوجود قوى هي فوق الطبيعية، منها ما يكون في جسم، وهو "النفس" Saul منها ما لا يكون في الأجسام وهو "الروح" Spirit.

ويمكن تقسيم هذه للعبادة إلى ثلائة أصناف: عبادة النفس، نفس الإنسان أو الحيوان وخاصة منها عبادة الأموات Necrology، وعبادة الأرواح Spiritism، وعبادة الأرواح التي تحلّ في المظاهر الطبيعية، إما بصورة مؤقتة وإما بصورة دائمة Naturism.

والاراء في هذه المعتقدات لا تزال في مراحلها الأولى، وهي موضع جدل بين العلماء، لأنها قائمة على أساس الملاحظات والتجارب التي حصلوا عليها من دراساتهم لأحوال المجتمعات البدائية لهنود امريكا ولقباثل افريقية واسترالية، ولا يمكن بالطبع حدوث اتفاق في الدراسات الاستقصائية المبنية على المشاهدات والملاحظات. وإذ كانت هذه الدراسات غير مستقرة وغير نهائية حتى الآن، فقد صعب بالطبع تطبيقها على معتقدات العرب قبل الإسلام، وزاد في هذه الصعوبة قلة معلوماتنا في هذه الأمور. وليس من الممكن في نظري أن نتوصل إلى نتائج علمية غير قابلة للاخذ والرد في هذه الموضوعات في الزمن الحاضر، بل ولا في المستقبل القريب، ما لم يحدث ما ليس في الحسبان، من ألعثور على نصوص دينية تكشف لنا عن عقائد الجاهليين.

ونستطيع ان نقول إجمالاً ان من الجإهليين من كان يدين بعبادة الأرواح على اختلاف طرقها، وبؤمن بأثرها. وللعلماء من مفسريَن ولغويين وغيرهم تفاسير عديدة للروح، تفيدنا كثيراً في معرفة آراء الجاهليين عنها، كما ان للاخبارين قصصاً عنها وعن استقلالها وانفصالها عن الجسد بعد الموت واتصالها بالقبر وغير ذلك، يمكن أن تكون موضوع دراسة قيمة لمن يربد التبسط في دراسة هذه ا لأمور.

عبادة الكواكب

وقد رأى بعض العلماء ان عبادة أهل الجاهلية هي عبادة كواكب في الأصل. وأن أسماء الأصنام والالهة، وإن تعددت وكثرت، إللا انها ترجع كلها إلى ثالوث سماوي، هو: الشمس والقمر والزهرة. وهو رمز لعائلة صغيرة، تتألف من أب هو القمر، ومن أم هي الشمس، ومن ابن هو الزهرة. وذهبوا إلى أن أكثر أسماء الالهة، هي في الواقع نعوت لها، وهي من قبيل ما يقال له الأسماء الحسنى لله في الإسلام.

وقد لفت الجرمان السماويان: الشمس والقمر، نظر الإنسان اليهما بصورة خاصة، لما أدرك فيهما من أثر في الإنسان وفي طباعه وسحنه وعمله، وفي الجو الذي يعيش فيه، وفي حياة زرعه وحيوانه، وفي تكوين ليله ونهاره والفصول التي تمر عليه. فتوصل بعقله يوم ذاك إلى انه نفسه، وكل ما يحيط به، من فعل هذين الجرمين ومن أثر أجرام أخرى أقل شأناً منهما عليه. فنسب اليها نموه وتكوينه وبرءه وسقمه، وحياة زرعه وماشيته، ورسخ في عقله انه إن تقرب وتعبد لهما، ولبقية الأجرام، فإنه سيرضيها، وستغدق عليه بالنعم والسعادة والمال والبركة في البنين، فصار من ثم عابد كوكب.

ونجد في حكاية كيفية اهتداء "ابراهيم" إلى عبادة إله واحد، الواردة في سورة الأنعام، تفسيراً لسبب تعبد الإنسان للأجرام إلسماوية. )وإذ قال ابراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناماً الهة ? إني أراك وقومك في ضلال مبين. وكذلك نُري ابراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين. فلما جنّ عليه الليل، رأى كوكباً، قال: هذا ربي، فلما أفل، قال: لا أحب الآفلين. فلما رأى القمر بازغاً، قال: هذا ربي، فلما أفل، قال: لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين. فلما رأى الشمس بازغة، قال: هذا ربي، هذا أكبر، فلما أفلت، قال: يا قومِ إني بريء مما تشركون. إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين (. فقد لفت ذلك الكوكب نظر ابراهيم، وبهره بحسن منظره وبلونه الزاهي الخالب، فتعبد له، واتخذه رباً، فلما أفل، ورأى كوكباً آخر أكبر حجماً وأجمل منظراً منه، تركه، وتعبد للكوكب الاخر، وهو القمر. فلما أفل، ورأى الشمس بازغة، وهي أكبر حجماً وأظهر أثراً وأبين عملاً في حياة الإنسان وفي حياة زرعه وحيوانه وجوّه ومحيطه، ترك القمر وتعبّد للثسس، فيكون قد تعبّد لثلاثة كواكب، قبل أن يهتدي إلى التوحيد، هي القمر والشمس، والمشتري أو الزهرة على ما جاء في أقوال المفسرين.

ويشير القرآن الكريم في موضع آخر إلى عبادة الجاهليين للاجرام السماوية، ولا سيما الشمس والقمر، ففيه: ) ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر، لا تسجدوا للشمس ولا للقمر، واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون ) وهذه الأجرام السماوية الثلاثة هي الأجرام البارزة الظاهرة التي بهرت نظر الإنسان، ولا سيما الشمس والقمر. والزهرة، وإن كانت غير بارزة بروز الشمس والقمر، غير أنها ظاهرة واضحة مؤثرة بالقياس إلى بقية الأجرام ذات مظهر جذاب، ولون باهر خلاب، وقد يكون هذا المظهر الجميل الأخاذ هو الذي جعلها ابناً للشمس والقمر في أساطير العرب الجنوبيين واعتبر الجاهليون القمر أباً في هذا إلثالوث، وصار هو الإلهَ المقدم فيه، وكبير الألهة. وصارت له منزلة خاصة في ديانة العرب الجنوبيين. وهذا ما حدا ببعض المستشرقين إلى إطلاق ديانة القمر على ديانة العرب الجنوبيين على سبيل التغليب، وعلى الذهاب إلى لن هذا المركز الذي يحتله القمر في ديانة العربية الجنوبية لا نجدة في أديان الساميين الشماليين، مما يصح أن تجعله من الفروق المهمة التي تميز الساميين الجنوبيين عن الساميين الشماليين.

ويرجع أولئك المستشرقون هذا التباين الظاهر ين عبادة الساميين الجنوبيين وعبادة الساميين الشماليين وتقدم القمر على الشمس عند العرب الجنوبيين إلى الاختلاف في طبيعة الأقاليم والى التبآين في الثقافة، ففي العربية الجنويية يكون القمر هادياً للناس ومهدئاً للاعصاب، وسميراً لرجال القوافل من التجار وأصحاب الأعمال في الليالي اللطيفة المقمرة، بعد حرّ شديد تبعثه أشعة الشمس المحرقة، فتشل الحركة في النهار، وتجعال من الصعب على الناس الاشتغال فيه، وتميت من يتعرض لأشعتها الوهاجة في عز الصيف القايظ. إنها ذات حميم حقاً، فلا عجب إذا ما دعيت ب "ذت حمم"، "ذات حميم"، "ذات الحميم" عنداللعرب الجنوبيين. ولذلك، لا يستغرب إذا قدمه العرب الجنوبيون في عبادتهم على الشمس، وفضلوه عليها. واذا كَانت الشمس مصدراً لنموّ النباتات نموّاً سريعاً في شمال جزيرة العرب، فإن أشعة الشمس الوهّاجة المحرقة تقَفُ نموّ أكثر المزروعات في صيف العربية الجنوبية، وتسبب جفافها واختفاء الورد والزهر في هذا الموسم، فلا بد أن يكون لهذه الظاهرة أثر في العقلية التي كونت تلك الأساطير.

ويرى "هومل" أن ديانات جميع الساميين الغربين والعرب الجنوببين هي ديانة عبادة القمر أي أن القمر فيها مقدم على الشمس، وهو عكس ما نجده في ديانة البابليين. ويعلل ذلك ببقاء الساميين الغربيين بدواً مدة طوبلة بالقياس الى البابليين. ويلاحظ أيضاً أن الشمس هي أنثى، وأما القمر فهو ذكر عند الساميين الغربيين، وهو بعكس ما نريده عند البابليين.

ونجد في حكاية كيفية اهتداء "ابراهيم" إلى عبادة إله واحد، الواردة في سورة الأنعام، تفسيراً لسبب تعبد الإنسان للأجرام إلسماوية. )وإذ قال ابراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناماً الهة ? إني أراك وقومك في ضلال مبين. وكذلك نُري ابراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين. فلما جنّ عليه الليل، رأى كوكباً، قال: هذا ربي، فلما أفل، قال: لا أحب الآفلين. فلما رأى القمر بازغاً، قال: هذا ربي، فلما أفل، قال: لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين. فلما رأى الشمس بازغة، قال: هذا ربي، هذا أكبر، فلما أفلت، قال: يا قومِ إني بريء مما تشركون. إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين (. فقد لفت ذلك الكوكب نظر ابراهيم، وبهره بحسن منظره وبلونه الزاهي الخالب، فتعبد له، واتخذه رباً، فلما أفل، ورأى كوكباً آخر أكبر حجماً وأجمل منظراً منه، تركه، وتعبد للكوكب الاخر، وهو القمر. فلما أفل، ورأى الشمس بازغة، وهي أكبر حجماً وأظهر أثراً وأبين عملاً في حياة الإنسان وفي حياة زرعه وحيوانه وجوّه ومحيطه، ترك القمر وتعبّد للثسس، فيكون قد تعبّد لثلاثة كواكب، قبل أن يهتدي إلى التوحيد، هي القمر والشمس، والمشتري أو الزهرة على ما جاء في أقوال المفسرين.

ويشير القرآن الكريم في موضع آخر إلى عبادة الجاهليين للاجرام السماوية، ولا سيما الشمس والقمر، ففيه: ) ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر، لا تسجدوا للشمس ولا للقمر، واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون ) وهذه الأجرام السماوية الثلاثة هي الأجرام البارزة الظاهرة التي بهرت نظر الإنسان، ولا سيما الشمس والقمر. والزهرة، وإن كانت غير بارزة بروز الشمس والقمر، غير أنها ظاهرة واضحة مؤثرة بالقياس إلى بقية الأجرام ذات مظهر جذاب، ولون باهر خلاب، وقد يكون هذا المظهر الجميل الأخاذ هو الذي جعلها ابناً للشمس والقمر في أساطير العرب الجنوبيين واعتبر الجاهليون القمر أباً في هذا إلثالوث، وصار هو الإلهَ المقدم فيه، وكبير الألهة. وصارت له منزلة خاصة في ديانة العرب الجنوبيين. وهذا ما حدا ببعض المستشرقين إلى إطلاق ديانة القمر على ديانة العرب الجنوبيين على سبيل التغليب، وعلى الذهاب إلى لن هذا المركز الذي يحتله القمر في ديانة العربية الجنوبية لا نجدة في أديان الساميين الشماليين، مما يصح أن تجعله من الفروق المهمة التي تميز الساميين الجنوبيين عن الساميين الشماليين.

ويرجع أولئك المستشرقون هذا التباين الظاهر ين عبادة الساميين الجنوبيين وعبادة الساميين الشماليين وتقدم القمر على الشمس عند العرب الجنوبيين إلى الاختلاف في طبيعة الأقاليم والى التبآين في الثقافة، ففي العربية الجنويية يكون القمر هادياً للناس ومهدئاً للاعصاب، وسميراً لرجال القوافل من التجار وأصحاب الأعمال في الليالي اللطيفة المقمرة، بعد حرّ شديد تبعثه أشعة الشمس المحرقة، فتشل الحركة في النهار، وتجعال من الصعب على الناس الاشتغال فيه، وتميت من يتعرض لأشعتها الوهاجة في عز الصيف القايظ. إنها ذات حميم حقاً، فلا عجب إذا ما دعيت ب "ذت حمم"، "ذات حميم"، "ذات الحميم" عنداللعرب الجنوبيين. ولذلك، لا يستغرب إذا قدمه العرب الجنوبيون في عبادتهم على الشمس، وفضلوه عليها. واذا كَانت الشمس مصدراً لنموّ النباتات نموّاً سريعاً في شمال جزيرة العرب، فإن أشعة الشمس الوهّاجة المحرقة تقَفُ نموّ أكثر المزروعات في صيف العربية الجنوبية، وتسبب جفافها واختفاء الورد والزهر في هذا الموسم، فلا بد أن يكون لهذه الظاهرة أثر في العقلية التي كونت تلك الأساطير.

ويرى "هومل" أن ديانات جميع الساميين الغربين والعرب الجنوببين هي ديانة عبادة القمر أي أن القمر فيها مقدم على الشمس، وهو عكس ما نجده في ديانة البابليين. ويعلل ذلك ببقاء الساميين الغربيين بدواً مدة طوبلة بالقياس الى البابليين. ويلاحظ أيضاً أن الشمس هي أنثى، وأما القمر فهو ذكر عند الساميين الغربيين، وهو بعكس ما نريده عند البابليين.

والشمس، هي من أول الأجرام السماوية التي لفتت اليها أنظار البشر بتأثيرها في الإنسان وفي الزرع والنماء. وهذا التاًثير البارز جعل البشر يتصور في الشمس قدرة خارقة وقوة غير منظورهّ كامنة فيها، فعبدها وألّهها، وشاد لها المعابد، وقدّم لها القرابين. وهي عبادة فيها تطور كبير ورقي في التفكير إذا قيست بالعبادات البدائية التي كان يؤديها الإنسان للاحجار والنباتات والأرواح.

وقد تعبّد العرب للشمس في مواضع مختلفة في جزيرة العرب. وترجع عبادتها إلى ما قبل الميلاد، في زمن لا نستطيع تحديده، لعدم وجود نصوص لدينا يمكن أن تكشف لنا عن وقت ظهور عبادة الشمس عند العرب. وعبدها أقوام آخرون من غير العرب من الساميين، مثل البابليين والكنعانيين والعبرانيين. وقد أشير في مواضع عديدة من العهد القديم الى عبادة الشمس بين العبرانيين، وجعل الموت عقوبة لمن يعبد الشمس. ومع ذلك، عبدت في مدن يهوذا. وقد اتخذت جملة مواضع لعبادة الشمس فيها عرفت ب "بيت شمس" Beth Shemesh.

والشمس أنثى في العربية، فهي إِلهة، أما في كتابات تدمر فهي مذكر، ولذلك فهي إله ذكر عند التدمريين. ويرى " ولهوزن" Wellhousen أن ذلك حدث بمؤثرات خارجية. وكانت عبادة الشمس شائعة بين التدمريين. وورد في الكتابات التي عثر عليها في "حوران" أسماء أشخاص مركبة من شمس وكلمة أخرى، ويدلّ على ذلك شيوع عبادتها عند أهل تلك المنطقة. وذكر "سترابو"أن Helios أي الشمس، هي الإله الأكبر عند النبط.. ولكن الكتابات النبطية لا تؤيد هذا الرأي. والإله الأكبر فيها هو "اللات". فلعل "سترابو" قصد ب Helios اللات. وإذا كان هذا صحيحاً، فتكون اللات هي الشمس.

والشمس من الأصنام التي تسمى بها عدد من الأشخاص، فعرفوا ب "عبد شمس".

وقد ذكر إلأخباريون أن أول من تسمى به سبأ الأكبر، لأنه أول من عبد الشمس، فدعي ب" عبد شمس". وقد ذكر ان بني تميم تعبدت له. وكان له بيت، وكانت تعبده بنو أدّ كلها: ضَبّة، وتميم، وعديّ، وعُطل: وثور، وكان سدنته من بني أوس بن مخاشن ين معاوية ين شُريف بن حروة ابن أسيد بن عمرو بن تميم، فكسره هند بن أبي أهالة وصفوان بن أسيد بن الحلاحل بن أوس بن مخاشن.

وذكر أن "عبد شمس"، اسم أُضيف إلى شمس السماء، لأنهم كانوا يعبدونها. والنسبة "عبشمي." وكانت العرب تسميّ الشمس "الإلهة" تعظيماً لها، كما يظهر ذلك من هذا الشعر: تروّحنا من اللعباء قسراً  فاعجلنا الإلاهة أن تؤوبا

على مثل ابن مية فانعياه  تشق نواعم البشر الجيوبا

ويقال لها "لاهة" بغير ألف ولام.

وعرفت الشمس ب " ذُكاء" عند الجاهليين. وقد تصور أهل الجاهلية الصبح ابناً للشمس تارة، وتصوروه تارة حاجباً لها. فقيل حاجب الشمس. وقيل يقال للصبح ابن ذكاء لأنه من ضوئها.

وكانوا يستقبلون الشمس ضحى. ذكر " الأسقع " الليثي، انه خرج إلى والده، فوجده جالساً مستقبل الشمس ضحى، وإذا تذكرنا ما أورده اهل الأخبلر عن صلاة الضحى، وهي صلاة كانت تعرفها قريش، ولم تنكرها، أمكننا الربط بين استقبال الشمس ضحى وبين هذه الصلاة.

وقد لاحظ بعض السياح ان آثار عبادة الشمس والقمر لاتزال كامنة في نفوس بعض الناس والقبائل،حيث تتجلى في تقدير هذين الكوكبين وفي تأنيب من يتطاول عليهما بالشتم أو بكلام مسيء وفي تعظيمها من بين سائر الكواكب تعظيماً يشيرإلى انه من بقايا الوثنية القديمة على الرغم من إسلام أولئك المعظمين.

ويلي الشمس والقمر "الزهرة"، وهي ذكر في النصوص العربية الجنوبية، ويسمى "عثتر". وهو بمثابة "الابن" للشمس والقمر. وهذا الثالوث الكوكبي يدل، في رأي الباحثين في أديان العرب الجنوبيين، على أن عبادة العربية الجنوبية هي عبادة نجوم. وهو يمثل في نظرهم عائلة إلهية مكونة من ثلاثة أرباب، هي: الأب وهو القمر، والأبن وهو الزهرة، والأم وهي الشمس.

والشمس، هي من أول الأجرام السماوية التي لفتت اليها أنظار البشر بتأثيرها في الإنسان وفي الزرع والنماء. وهذا التاًثير البارز جعل البشر يتصور في الشمس قدرة خارقة وقوة غير منظورهّ كامنة فيها، فعبدها وألّهها، وشاد لها المعابد، وقدّم لها القرابين. وهي عبادة فيها تطور كبير ورقي في التفكير إذا قيست بالعبادات البدائية التي كان يؤديها الإنسان للاحجار والنباتات والأرواح.

وقد تعبّد العرب للشمس في مواضع مختلفة في جزيرة العرب. وترجع عبادتها إلى ما قبل الميلاد، في زمن لا نستطيع تحديده، لعدم وجود نصوص لدينا يمكن أن تكشف لنا عن وقت ظهور عبادة الشمس عند العرب. وعبدها أقوام آخرون من غير العرب من الساميين، مثل البابليين والكنعانيين والعبرانيين. وقد أشير في مواضع عديدة من العهد القديم الى عبادة الشمس بين العبرانيين، وجعل الموت عقوبة لمن يعبد الشمس. ومع ذلك، عبدت في مدن يهوذا. وقد اتخذت جملة مواضع لعبادة الشمس فيها عرفت ب "بيت شمس" Beth Shemesh.

والشمس أنثى في العربية، فهي إِلهة، أما في كتابات تدمر فهي مذكر، ولذلك فهي إله ذكر عند التدمريين. ويرى " ولهوزن" Wellhousen أن ذلك حدث بمؤثرات خارجية. وكانت عبادة الشمس شائعة بين التدمريين. وورد في الكتابات التي عثر عليها في "حوران" أسماء أشخاص مركبة من شمس وكلمة أخرى، ويدلّ على ذلك شيوع عبادتها عند أهل تلك المنطقة. وذكر "سترابو"أن Helios أي الشمس، هي الإله الأكبر عند النبط.. ولكن الكتابات النبطية لا تؤيد هذا الرأي. والإله الأكبر فيها هو "اللات". فلعل "سترابو" قصد ب Helios اللات. وإذا كان هذا صحيحاً، فتكون اللات هي الشمس.

والشمس من الأصنام التي تسمى بها عدد من الأشخاص، فعرفوا ب "عبد شمس".

وقد ذكر إلأخباريون أن أول من تسمى به سبأ الأكبر، لأنه أول من عبد الشمس، فدعي ب" عبد شمس". وقد ذكر ان بني تميم تعبدت له. وكان له بيت، وكانت تعبده بنو أدّ كلها: ضَبّة، وتميم، وعديّ، وعُطل: وثور، وكان سدنته من بني أوس بن مخاشن ين معاوية ين شُريف بن حروة ابن أسيد بن عمرو بن تميم، فكسره هند بن أبي أهالة وصفوان بن أسيد بن الحلاحل بن أوس بن مخاشن.

وذكر أن "عبد شمس"، اسم أُضيف إلى شمس السماء، لأنهم كانوا يعبدونها. والنسبة "عبشمي." وكانت العرب تسميّ الشمس "الإلهة" تعظيماً لها، كما يظهر ذلك من هذا الشعر: تروّحنا من اللعباء قسراً  فاعجلنا الإلاهة أن تؤوبا

على مثل ابن مية فانعياه  تشق نواعم البشر الجيوبا

ويقال لها "لاهة" بغير ألف ولام.

وعرفت الشمس ب " ذُكاء" عند الجاهليين. وقد تصور أهل الجاهلية الصبح ابناً للشمس تارة، وتصوروه تارة حاجباً لها. فقيل حاجب الشمس. وقيل يقال للصبح ابن ذكاء لأنه من ضوئها.

وكانوا يستقبلون الشمس ضحى. ذكر " الأسقع " الليثي، انه خرج إلى والده، فوجده جالساً مستقبل الشمس ضحى، وإذا تذكرنا ما أورده اهل الأخبلر عن صلاة الضحى، وهي صلاة كانت تعرفها قريش، ولم تنكرها، أمكننا الربط بين استقبال الشمس ضحى وبين هذه الصلاة.

وقد لاحظ بعض السياح ان آثار عبادة الشمس والقمر لاتزال كامنة في نفوس بعض الناس والقبائل،حيث تتجلى في تقدير هذين الكوكبين وفي تأنيب من يتطاول عليهما بالشتم أو بكلام مسيء وفي تعظيمها من بين سائر الكواكب تعظيماً يشيرإلى انه من بقايا الوثنية القديمة على الرغم من إسلام أولئك المعظمين.

ويلي الشمس والقمر "الزهرة"، وهي ذكر في النصوص العربية الجنوبية، ويسمى "عثتر". وهو بمثابة "الابن" للشمس والقمر. وهذا الثالوث الكوكبي يدل، في رأي الباحثين في أديان العرب الجنوبيين، على أن عبادة العربية الجنوبية هي عبادة نجوم. وهو يمثل في نظرهم عائلة إلهية مكونة من ثلاثة أرباب، هي: الأب وهو القمر، والأبن وهو الزهرة، والأم وهي الشمس.

ويذكرون أن بعض طيء عبدوا " الثربا "،وبعض قبائل ربيعة عبدوا "المرزم"، وأن "كنانة" عبدت القمر. ويتبين من بعض الأعلام المركبة، مثل: عبد الثريا، وعبد نجم، أن الثريا ونجماً، كانا صنمين معبودين في الجاهلية. وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن " النجم " المذكور في سورة " النجم ": )والنجم اذا هوى( : الثريا "والعرب تسمي الثريا نجماً". وقال بعض آخر: "إن النجم ههنا الزهرة، لأن قوماً من العرب كانوا يعبدونها".

وعبدَ بعض الجاهليين " المريخ "، واتخذوه إلهاً، كما عبد غيرهم "سهيلا "Canapus و "عطارد" Merkur و "الأسد" Lion و "زحل".

وقد ذكر أهل الأخبار، ان أهل الجاهلية يجعلون فعلا للكواكب حادثاً عنه. فكانوا يقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا، وكأنوا يجعلون لها أثراً في الزرع وفي الإنسان، فاًبطل ذلك الإسلام، وجعله من أمور الجاهلية. جاء في الحديث: " ثلاث من أمور الجاهلية: الطعن في الأنساب، والنباحة، والاستسقاء بالأنواء".

ومن مظاهر الشرك المتجلي في التعبد للأمور الطبيعية الملموسهّ، عبادة الشجر، وهي عبادة شائعة معروفة عند الساميين. وقد أشار "ابن الكلبي" إلى نخلة " نجران"، وهي نخلة عظيمة كان أهل البلد يتعبدون لها، " لها عيد في كل سنة. فإذا كان ذلك العيد علقوا عليها كل ثوب حسن وجدوه وحليّ للنساء، فخرجوا اليها يوماً وعكفوا عليها يوما ". ومنها العزى وذات أنواط. يحدثنا أهل الأخبار عن ذات أنواط، فيقولون: " ذالت أنواط: شجرة خضراء عظيمة، كانت الجاهلية تأتيها كل سنة تعظيماً لها، فتعلق عليها أسلحتها وتذبح عندها، وكانت قريبة من مكة. وذكر انهم كانوا إذا حجّوا، يعبقون أرديتهم عليها، ويدخلون الحرم بغير أردية، تعظيماً للبيت،ولذلك سميت ذات انواط.

وقد روي ان بعض الناس قال يا رسول الله، اجل لنا ذات انواط كما لهم ذات أنواط. ونستطيع أن نقول إن آثار عبادة الشجر لا تزال باقية عند الناس. تظهر في امتناع بعضهم وفي تهيبهم من قطع بعض الشجر، لاعتقادهم أنهم إن فعلوا ذلك أصيبوا بنازلة تنزل بهم ويمكروه سيحيق بهم. ولذلك تركوا يعض الشجر كالسدر فلم يتعرضوا له بسوء.

وتعبد بعض أهل الجاهلية لبعض الحيوانات. فقد ورد أن جماعة الشاعر "زيد الخيل"، وهم من طيء، كانوا يتعبدون لجمل أسود. فما وفد وفدهم على الرسول، قال لهم: "ومن الجمل الأسود الذي تعبدونه من دون الله عزّ وجل. وورد أن قوماً كانوا بالبحرين عرفوا ب "الأسبذين"، كانوا يعبدون الخيل. ذكر أنهم قوم من المجوس، كانوا مسلحة لحصن المشقر من أرض البحرين. فهم فرس. وأن بعض القبائل مثل "إياد"، كانت تتبرك بالناقة".

الشفاعة

والشفاعة من أهم مظاهر الشرك عند الجاهليين. وأقصد بالشفاعة هنا، ما ورد في القرآن الكريم من تبرير أهل الجاهلية لتقربهم إلى الاْصنام بأنهم ما يتعبدون لها إِلا-لتقربهم إلى الله: )ويعبدون من دون الله مالا يضرًهم ولا ينفعهم، ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله(. )والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى اللهَ زلفى. إنّ الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون(. فهم يحاجّون الرسول، ويَدافعون عن التقرب إلى الأصنام، بقولهم: إِنها تشفع عند الله، فهي شفيعة، فهم لا يعبدرن الأصنام إذن، ولا يشركون بالخالق، وإنما هم يتقربون اليه بها. فهي الواسطة بينهم وبين الله.

الأصنام

ومن جملة ما كان يتوسط به الجاهليون لالهتهم ليكونوا شفعاء لهم عندها، التمائبل المصنوعة من الفضة أو الذهب أو الحجارة الثمينة والخشب. ومن عادتهم انهم كانوا يدونون ذلك على الحجارة، فيكتبون عدد الماثيل وأنواعها وأسماء الآلهة أو اسم الإلهَ الذي قدمت له تلك الأشياء واسم الناذر، ويشار الى السبب الداعي إلى ذلك، كان يذكر بأن أصحابها توسلوا إلى الإلهَ أو الألهة المذكورة برجائهم الذي طلبوه، فأجيبت مطالبهم، ولذللك قسموا هذه النذور، فهي وفاء لدين استحق عليهم بسبب ذلك النذر وتلك الشفاعة.

ولا بد لنا من الاشارة هنا إلى ان الأصنام كانت تدافع عن قبائلها وتذب عنها وتحامي عنها في الحرب، كما يدافع سيد القبيلة عن قبيلته، وان أبناء القبيلة و أبناؤها وأولادها، ولذللك كانوا يقولون عنها "اب" "أب" في كتاباتهم، ويكتبون عن أنفسهم "أبناء الصنم...". وفي الشعر الجاهلي أمثلة عديدة تشير إلى اعتقاد القوم باشراك آلهتهم معهم في الحرب وفي انتصارهم لهم. ففي الحرب التي وقعت بين "بني أنعم" و "بني غطيف" بشاًن الصنم "يغوث"، يقول الشاعر: وسارَ بنا يغوثُ إلى مراد  فناجزناهمُ قبل الصباح

وطبيعي أن يعد أغداء القبيلة أعداء لصنم القبيلة، وأعداء الصنم أعداء للقبيلة، فأعداء الآله وأعداء القبيلة هم خصوم لا بمكن التفريق بينهم.

وفي معركة أَحد، وهي من المعارك الحربية المهمة التي جرت بين الإسلام والوثنية على مستقبل العرب الديني، نادى أبو سفيان بأعلى صوته: "اعلُ هُبْل ! علُ هبل !"، ليبعث الحماسة في نفوس الوثنيين، وليستغيث بصنمه في الدفاع عن أتباعه المؤمنين به. أما المسلمون، فاستنجدوا بالله، إذ ردّوا عليه رد"ة قوية عالية: "الله أعلى وأجل". فقال أبو سفيان: "ألا لنا العزى ولا عُزى لكم". فاًجابه المسلمون: " الله مولانا ولا مولى لكم ".

وفي الحروب يحارب كل إله عن قبيله، ويجهد نفسه في الدفاع عنها في سبيل حصولها على النصر. ولهذا السب كانت القبائل والجيوش تحضر أوثانها أو صور آلهتها أو رموزها الدينية المقدسة معها في الحروب. تتبرك بها وتستمد منها العون والنصر. ولما حارب الأعراب الملك "سنحاريب" ملك آشور، حملوا أصنامهم: "دبلت" "دبلات" Diblat، و "دية" Daia=Daja و "نوخيا" Nuhaia و "ابير يلو" Ebirilla "عثر قرمية" Atar Kurumaia معهم لتدافع عنهم،ولتحارب معهم الاشوريين. ولكن الآشوريين غلبوهم وانتصروا عليهم واخذوا غنائم وأسرى منهم، كان في جملتها هذه إلأصنام المسكينة، التي وقعت في الأسر وبقيت في أسرها إلى أن توفي "سنحاريب" وتولى ابنه "أسرحدون" الحكم، فاسترضى الأعراب هذا الملك وجاءوا بهدايا كثيرة، رجاء استرضائه لإعادة أصنامهم اليهم، فرقّ على حالهم وأعاد اليهم تلك الأصنام السيئة الحظ، التي كتب عليها أن تسجن،وتمكنت من استنشاق ريح الحرية من جديد. وسقطت أصنام الأعراب مرة أخرى في أسر الآشوربين، وذلك في أيام "أسرحدون"، فلما انضم "لبلي" "ليل" Laili ملك "يادي" "يادع" "يدي" "يدع" Jadi=Jadi إلى الثاثرين على حكم هذا الملك، لحقت بهم الهزبمة، وسقطت أصنامه أسيرة في أيدي الآشوريين، وأخذت إلى "نينوى"، فلم يجد الملك "ليل" "ليلي" أمامه من سبل سوى الذهاب إلى عاصة الملك لاسترضائه، حيث طلب العفو والصفع عما بدر منه، فقبل "أسرحدون" منه ذلك، وتآخى معه، وأعاد اليه أصنامه.

وكان في جملة الأصنام التي شاء سوء طالعها الوقوع في أسر الاشورين الصنم اتر سمين" "اترسما ئن" "A-tar-sa-ma-a-in"Atarsamin". و "اتر" هو "عتر"، فيكون المراد به "عتر السماء" عتر السماوات، ويدل ذلك على أنه إلَه السماء. وكان قد وقع أسيراً في أيديهم ايام الملك "أسرحدون"، فلما توفي الملك وانتقل عرشه إلى ابنه "أشور بانبال"، جاء Uaite العربي اليه، وهو أحد سادات القبائل إلى الملك،وصالحه وأرضاه، فأعاد اليه أصنامه ومنها الصنم ا لمذكور.

وطالما كان يعرض حمل المحاربن أصنامهم معهم في الحروب إلى وقوع تلك الأصنام في الأسر، تقع كما يقع الإنسان في الأسر. بل يكون أسر الأصنام في نظرهم أشدّ وقعاً في نفوسهم من أسر الإنسان. إنها آلهة تدافع وتحامي، إنها آلهة القبيلة كلّها، فأسرها معناه في عرفهم أسر القبيلة كلها، فأسر الآلهة شيء كبير بالنسبة إلى القبيلة. وقد أشرت إلى استيلاء الاشورين على أصنام قبائل "عريبي" التي حاربتهم، والى أخذها أسيرة إلى أرض آشور، والى مفاوضة الأعراب معهم على الصلح في مقابل إعادة تلك الأصنام اليهم. فلما أعيدت الأصنام إلى أصحابها، كنب الاشوريون عليها كتابة تخبر بوقوعها في الأسر، وبانتصار آلهة اشور عليها، لتكون نذيراً للمؤمنين بها، يحذرهم من حرب ثانية توقع هذه الأصنام في أسر جديد.

وقد أشير إلى "خيل اللات" في مقابل "خيل محمد"، في شعر لأبي سفيان ابن الحارث بن عبد المطلب، إذ قال:

لعمرك إني يوم احمل راية  لتغلب خيل الله خيل محمد

ومن أمثلة العرب: "لا تفر حتى تفر القبة"، أو "لا نفر حتى تفر القبة". ويراد بالقبة: قبة الصنم، أي خيمة الصنم النبي تحمل مع المحاربين وتضَرب في ساحة القتال، ليطوف حولها المحاربون،يستمدون منها العون والنصر.كما كانوا يستشيرون الأصنام عند القتال، ويأخذون برأيها فيما تأمر به.

وحمل الأصنام مع القبيلة في ترحالها وفي حروبها وغزواتها يستلزم بذل عناية خاصة بها للمحافظة عليها من الكسر ومن تعرضها لأي سوء كان. وعند نزول القبيلة في موضع ما توضع الأصنام في خيمتها، وهي خيمة تقوم مقام المعبد الثابت عند أهل المدن. وتكون للخيمة بسبب ذلك قدسية خاصة، وللموضع الذي تثبت عليه حرمة ما دامت الخيمة فوقه "وقد كانت معابد القبائل المتنقلة كلها في الأصل على هذا الطراز. ولم يكن من السهل على أهل الوبر تغيير طراز هذا المعبد،واتخاذ معبد ثابت، لخروج ذلك على سنن الآباء و الأجداد. ولذلك لم يرض العبرانيون عن المعبد الثابت الذي أقامه سليمان، لما فيه من نبذ للخيمة المقدسة التي كانت المعبد القديم لهم وهم في حالة تنقل من مكان الى مكان.

واعتقاد القبائل أن أصنامها هي التي تجلب لها النصر والخسارة، كان سبب يؤدي في بعض الأحيان الى الإعراض عن الصنم. المحبوب ونبذه، نتيجة لانهزام للقبيلة،إذ يتبادر إلى ذهن تلك القبيلة أن تلك الهزيمة التي نزلت بها إنما كانت بسبب ضعف ربها واستكانتهّ وعدم اقتداره في الدفاع عنها، ولذلك تقرر الاستغناء عنه والتوجه إلى رب قوي جديد. وقد يكون ذلك الرب هو ربّ الفبيلة المنتصرة، أو رب قبيلة من القبائل التي عرفت بتفوّقها في الحروب، فيكون التوفيق حليف ذلك الرب. وهكذا الأرباب في نظر قبائل تلك الأيام كالناس لها حظوط، والحظ هو دائماً في جانب القوي.

وكان على كهّان صنم القبيلة المغلوبة ايجاد تفسير لعلة الهزيمة التي لحقت بعبدة ذلك الصنم، والبحث عن عذر يدافعون به عن الصنم، ويلقون اللوم فيه على أتباعه، لتبرئة ذمته وابعاد المؤمنين به عن الشك في قدرته وعظمته. فكان من اعذارهم، أن الهزيمة عقاب من الإلهَ أرسله إلى أتباعه لابتعادهم عن أوامره ونواهيه، ولعدم إطاعتهمء احكام دينه، ولمخالفتهم اراء رجال دينهم وكهانه. ولن تنقشع عنهم النكبة، ويكتب لهم النصر، إلا إذا تابوا وعملوا بأوامر الكهّان وأرضوا الالهة، وعملوا بما أوجبته شريعتهم عليهم. وهكذا يلوم الكهان للناس، دفاعاً عن التهم التي خلقوها باًنفسهم، وحماية لمصالحهم القائمة على استغلال تلك المخترعات، التي نعتوها آلهة وأصناماً.

ولما كانت الالهة آلهة قبائل، كان نبذ الفرد لإلهَه معناه كنبذه لقبيلته وخروجه على إجماعها، فلا يسع شخصاً أن يغير عبادة- إله القبيلة إلا اذا خرج على قبيلته وتعبدّ لإلهَ آخر. فان تغيير عبادة الأفراد لأصنامهم في نظر قدماء الساميين امر إد، هو بمثابة تبديل الجنسية في العصر الحاضر. إن عبادة الأصنام عبادة موروثة يرثها الأبناء عن الاباء، وليست بشيء اختياري، فليس للرجل أن يختار الصنم الذي يريده بمحض مشيئته. إن الصنم دين وهو رمز للقبيلة، والمحامي المدافع عن شعبه، والرابطة التي تربط بين الأفراد، فالخروج عليه معناه خروج على ارادة الشعب، وتفكيك لوحدته، وهو مما لا يسمح به وإلاتعرّض الثائرالى العقاب.

نعم، كان في إمكان أصحاب الكلمة والسيادة والرئاسة تغيير اصنام القبيلة، أبى تبديل دينها، كما سنرى فيما بعد فهؤلاء هم سادة، والناس تبع لسادتهم وفي المثل: "الناس على دين ملوكهم". لقد اضاف سادة أصناماً إلى قبائلهم، فعبدت وتمسك أتباعهم بعبادتها.، وكأنهم قد تلقوا أوامرهم من السماء، ونبذت قبائل بعض أصنامها، بأمر من سادتها. ودخلت قبائل في الإسلام، لدخول سيدها فيه، ودخلت أخرى قبل ذلك في النصرانية، بتنصر سادتها،بكلمة أقنعت الرئيس، أو بعد محاورة، أو بإبلال من مرض قيل له انه كان ببركة ذلك الدين، فدخل أتباعه في ذلك الدين من غير سؤال ولا جواب.

عبادة الأصنام

ويتبين من غربلة روايات الأخباريين ان عبادة الأصنام كانت منتشرة انتشاراً واسعاً قبيل الإسلام،حتى كان أهل كل دارٍ قد اتخذوا صنماً في دارهم يعبدونه. "فإذا أراد الرجل منهم سفرا، تمسح به حين يركب،فكان ذلك آخر ما يصنع حين يتوجه إلى سفره، واذا قدم من سفره تمسح به، فكان أول ما يبدأ به قبل أن يدخل على أهله.وقد كان أشق شيء في نظر قريش نبذ تلك الأصنام وتركها وعبادة إله واحد )وعجبوا ان جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب. أجعل الآلهة إلهاً واحداً، ان هذا لشيء عجاب. وانطلق الملأ منهم ان امشوا واصبروا على آلهتكم ان هذا لشيء يراد. ما سمعنا بهذا في الملّة الاخرة إن هذا إلا اختلاق(.

يقول ابن الكلبي: "واشتهرت العرب في عبادة الأصنام فمنهم من اتخذ بيتاً، ومنهم من اتخذ صنماً. ومن لم يقدر عليه ولا على بناء البيت، نصب حجراً أمام الحرم وأمام غيره مما استحسن، ثم طاف به كطوافه بالبيت... فكان الرجل إذا سافر فنزل منزلاً، أخذ أربعة أحجار، فنظر إلى أحسنها فاتخذه ربا ً، وجعل ثلاث أثافي لقدره. فإذا ارتحل تركه، فإذا نزل منزلاً آخر، فعل مثل ذلك. فكانوا ينحرون ويذبحون عند كلها ويتقربون اليها. وروي أنه لم يكن حيّ من أحياء العرب إلا وله صنم يعبد يسمونه: "أنثى بني فلان. ومنه قوله تعالى: )إن يدعون من دونه إلاً إناثاً(. والإناث كل شيء ليس فيه روح مثل الخشبة والحجارة". وقد كان المشركون يعبدون الأصنام. "ويسمونها بالإناث الاسماء كاللات والعزى ونائلة ومناة وما أشبه ذلك.

ولم يذكر "ابن الكلبي" العوامل التي دفعت بعبدة الأحجار إلى اختيار أربعة أحجار من بين عدد عديد من الأحجار، ثم اختيار حجر واحد من بين هذه الأحجار الآربعة المختارة. فهل أخذ هذا العدد من نظرية العناصر الأربعة التى وضعها الفيلسوف "امبدوكلس" " Emedokles " "490 - 430 قبل الميلاد". نظرية أن الكون قد تكوّن من عناصر أربعة هي: النار، والماء، والهواء، والتراب، فكانوا يختارون لذلك أربعة أحجار، تمثل هذه القوى الأربع المكونة على رأي الناس في "ذلك الوقت لأساس الكون ثم يختارون حجراً واحداً من بينها يكون أحسنها وأجملها، ليكون رمزاً لها، وممثلاً للاله.

وقد كان من الجاهليين من يختار الأحجار الغريبة فيتعبد لها فإذا رأوا حجراً أحسن وأعجب تركوا الحجارة القديمة وأخذوا الحجارة الجديدة. فال "ابن دريد": "الحارث بن قيس: وهو الذي كان اذا وجد حجراً أحسن من حجر أخذه فعبده. وفيه نزلت: أفرأيت من اتخذ إلهه هواه". فهذه هي عبادة الأحجار عند الجاهلين.

ولدينا أمثلة عديده تفيد أن كثيراً من الجاهليلين كانوا قى يحتفظون في بيوتهم بأصنام يتقربون إليها كل يوم، ولا يعني ذلك بالطبع ان تلك الأصنام كانت اصناماً كبيرة منحوتة نحتاً فنياً، بل كان أكثرها تماثيل صغيرة وبعضها أحجاراً غير منسقة ولامنحوتة خشباً جيداً وانما هي أحجار تمثل الصنم الذي يتقرب اليه ألمرء. روي ان "أحمر بن سواء بن عدي السَّدُوسي" كان له صنم يعبده، فعمد اليه فألقاه في بئر، ثم جاء إلى الرسول فأسلمْ.

وكان بين الجاهليين قوم كرهوا الأصنام وتأففوا منها، رأوا انها لا تنفع ولا تضر ولا تشفع، فلم يتقربوا،اليها، وقالوا بالتوحيد، ومن هؤلاء "مالك بن التيهان"، وهو من الأنصار ومن المسلمين الأولين الذين دخلوا في الإسلام من أهل "يثرب"، و "أسعد بن زرارة".

وقد شك بعض المستشرقين في وجود أصنام عند العرب الجنوبيين، ويظهر أن - الذي حملهم على قول هذا القول، هو ما رأوه من تعبد العرب الجنوبيين لإلهة منظورة في السماء هي الكواكب الثلاثة المعروفة، فذهبوا الى انتفاء الحاجة لذلك إلى عبادة أصنام ترمز ا الى تلك الآلهة.وعندي أن،في اصدار رأي في هذا الموضوع نوع من التسرع، لأننا لم نقم حتى اليوم بحفريات علمية عميقة في مواضع الآثار في العربية الجنوبية حتى نحكم حكماً مثل هذا لا يمكن إصداره الا بعد دراسات علمية عميقة لمواضع الاثار.، فلربما تكشف دراسات المستقبل عن حلَ مثل هذه المشكلإت، إن الإسلام قد هدّ م الأصنام وأمر بتحطيمها، فذهبت معالمها، إلا أنه. من الممكن احتمال العثور على عدد منها، لا زال راقداً تحت التربة، لأنه من الأصنام القديمة التي دفنت في التربة قبل الإسلام بسبب دمار حلّ بالموضع الذي عبد فيه،أو من الأصنام التي وصلت اليها أيدي الهدم، فطمرت في الأتربة، وعلى كلّ فالحكم في هذا الرأي هو كما ذكرت للمستقيل وحده، وعليه الاعتماد. والرأي الذائع ببن الأخباربين عن كيفية نشوء عبادة الاصنام قريب منت رأي بعض العلماء المحدثين في هذا الموضوع. عندهم أن الناس لم يتعبدوا في القديم وفي بادىء بدء الاصنام، ولم يكولَوا ينظرون اليها على أنها أصنام تعبد " إنما صوروها أو نحتوها لتكون صورة أو رمزاً تذكرهم أو يذكرهم بالإلهَ أو الآلهة الأشخاص الصالحين. فلما مضى عهد طويل عليها، نسي الناس أصلها، ولم يعرفوا أمرها فاتخذوها أصناماً وعبدوها من دون الله. وتحملنا رواياتهم في بعض الأحيان على الاعتقاد أنه ربما كانوا يعتقدون بعقيدة المسخ، كالذي رووه عن الصنمين إساف ونائلة من أنهما "رجل وامرأة من جرهم، وأن إسافاً وقععليها في الكعبة فمسخا، وبعقيدة التقمص كالذي رووه عن الصنم اللات من أنه كان -إنسانأ من ثقيف،فلما مات قال لهم عمرو بن لحيّ: لم يمت، ولكن دخل في الصخرة. ثم أمرهم بعبادتها وأن يبنوا عليها بنياناً يسمى اللات". لو كالذي رووه عن إلأصنام ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، من أن هؤلاء كانوا نفراً من بني آدم صالحين، "وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلم ماتوا قال أصحابهم للذين كانوا يقتدرن بهم لو صوّ رناهم كان لشوق لنا إلى للعبادة اذا ذكرناهم، فصوروهم فلما ماتوا ودب اليهم ابليس، فقال إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر فعبدو هم".

وهذه العقيدة هي التي خلقت للاخبارين جملة قصص عن وجود ارواح كامنة في تلك الأصنام، كانت تتحدث إلى الناس، وهي التي أوحت اليهم بذلك القصص للذي رووه بمناسبة أمر النبي بهدم الأصنام، من خروج جن من أجوافها حينما قام بهدمها المسلمون. وقد كان أولئك الجنة على وصفهم إناثاً، وللغالب انهن على هيأة زنجيات شمطاوات عجائر، وقد نثرن شعورهن، وهي صور مرعبة ولا شك في نظر الناس، ومن عادة الناس منذ القديم أن يمثلوا الجنة على هيأة نساء طاعنات في السن مرعبات.

والخوف من هذه الأرواح أو الجنة التي كانت تقيم في أجواف الأصنام على راي الجاهليين، حمل بعض من عهد اليهم تحطيم تلك الأصنام على التهيب من الإقدام على مثل ذلك العمل خشية ظهورها وفتكها بمن تجاسر عليها. وهذا الخوف هو الذي "اوحى اليهم ولا شك برواية القصص المذكور".

ويمثل الصنم قوة عليا هي فوق الطبيعة، وقد يظن انها كامنة فيه، وتكون الأصنام على أشكال مختلفة، قد تكون على هيأة بشر، وقد تكون على هيأة حيوان أو أحجار أو أشكال أخرى، ولهذه الأصنام عند عابديها مدلولات وأساطير. وهي تصنع من مواد مختلفة، من الحجارة ومن الخشب ومن المعادن ومن أشياء أخرى بحسب درجة تفكير عبدتها وتأثرهم بالظواهر الطبيعيهّ والمؤثرات اليَ تحيط بهم. وقد تستخدم خُشُبُ خاصة تؤخذ من اشجار ينظر اليها. نظرة تقديس واحترام في عمل الأصنام منها. ويتوقف صنعها على المهارة التي يبديها الفنان في الصنع. ويحاول الفنان في العادة ان يعطيها شكلاً مؤثراً له علاقة بالأساطير القديمة وبالكائن الذي سيمثله الصنم. وقد يكون الصنم من حجارة طبيعية عبدها عن أجداده كأن يكون من حجارة البراكين، وقد يكون من النيازك عبدها لظنه بوجود قوة خارقة فيها.

ولعبادة الأصنام صلة وثيقة بتقديس الصور Images. وكذلك بصور السحر Magical Images. فكل هذه الأشكال الثلاثة هي في الواقع عبادة. ونعني هنا بتقديس الصور، الصور المقدسة التي تمثل أسطورة دينية أو رجالاً مقدسين كان لهم شأن في تطور العبادة، أو جاءوا بديانة، وأمثال ذلك، فأحب المؤمنون بهم حفظ ذكراهم وعدم نسيانهم أو الابتعاد عنهم، وذلك بحفظ شيء يشير اليهم ويذكرهم بهم، وهذا الشىء قد يكون صورة مرسومة، وقد يكون صورة محفورة أو منحوتة أو مصنوعة على هياًة تمثال أو رمز يشير إلى ذلك المقدس. فالصور المرسومة إذن، هي نوع من العبادة أيضاً، ينظر الها نظرة تقديس و إجلال.

وتجد في روايات أهل الأخبار عن منشأ عبادة الأصنام عند العرب ما يؤيد هذا الرأي، فهناك رواية طريفة عن الصنم "سواع" تزعم أن سواعاً كان ابناً لشيث، وأن يغوث كان ابناً لسواع، وكذلك كان يعوق ونسر، كلما هلك الأول صورت صورته وعظمت لموضعه من الدين. ولما عهدوا في دعائه من الإجابة. فلم يزالوا هكذا حتى خلف الخلوف، وقالوا: ما عظّم هؤلاء آباءنا إلا لأنها ترزق وتنفع وتضر، واتخذوها آلهة. وهناك رواية أخرى تزعم أن الأوثان التي كانت في قوم نوح، كانت في الأصل أشخاصاً صالحين من قوم نوح. فلما هلكوا، أوحى الشيطان إلى قومهم أن ان أنصبوا في مجالسهم التي كانوا يجلسونها انصاباً، وسموها بأسمائها، ففعلوا، فلم تعبد، حتى اذا هلك اولئلك وتنوسخ العلم بها عبدت.

وهنالك روايات عن أصنام جعلتها أشخاصاً مسخوا حجراً، فعبدوا أصناماً، وصاروا شركاء للّه، تعبد لها، لأنها في نظرهم تنفع وتضر.

ونجد في أخبار فتح مكة ان الرسول حينما دخل الكعبة رأى فيها صور الأنبياء والملائكة، فأمر بها فمحيت. ورأى فيها ستين وثلاث مئة صنم مرصعة بالرصاص، وهبل أعظمها، وهو وجاه الكعبة على بابها، وإساف ونائلة حيث ينحرون ويذبحون، فأمر بها فكسرت.

أما هذه الصور، فقيل انها صور الرسل والأنبياء، و بينها صورة "ابراهيم" وفي يده الأزلام يستقسم بها.

الأصنام

والصنم في تعريف علماء اللغة هو ما اتخذ إلهاً من دون الله،وما كان له صورة كالتمثال "مثال"، وعمل من خشب، أو ذهب، أو فضة، أو نحاس، أو حديد، أو غيرها من جواهر الأرض. وقال بعضهم: الصنم جثة متخذة من فضة، أو،.نحاس، أو ذهب، أو خشب، أو حجارة، متقربين به إلى الله، فالشرط فيه أن يكون جثة: جثة انسان أو حيوان. وقيل: الصنم الصورة بلا جثة. وذكر ان الصنم ما كان من حجر أو غيره. وعرف بعضهم الصنم بأنه ما كان له جسم أو صورة فإن لم يكن له جسم أو صورة، فهو وثن. و "الصنمة."، الصورة التي تعبد. وقد كان "المنطبق" صنماً من نحاس أجوف يكلمون من جوفه.

ووردت لفظة "صنم" في كتابات عثر عليها في أعالي الحجاز، اسم علم لإله ازدهرت عبادته بصورة خاصة بمدينة "تيماء"، ويرجع بعض المستشرقين تأريخ ازدهار عبادة هذا الصنم إلى حوالي سنة"600" قبل الميلاد. وقد ورد اسمه علماً لأشخاص في الكتابات اللحيانية. ورمز عنه برأس ثورَ في كتابات قوم ثمود.

وقد وردت كلمة "أصنام" و "أصناماً" و "الأصنام" و "أصنامكم" في القرآن الكريم، بحسب مواقع الكلمهّ في الجملة.

وذكر علماء اللغة أن كلمة "صنم" ليست عربية أصيلة، وإنما هي معربة وأصلها "شمن" "شنم"، ولكنهم لم يذكروا اسم اللغة التي عربت منها. وترد اللفظة في اللهجات العربية الجنوبية، وردت "صلمن" في نصوص المسند بمعنى"صنم" و "تمثال"، و "مثال". ووردت في لهجات عربية أخرى. وهي "صلمو" Salmo في لغة بني ارم، ومعناها "صورة". من أصل "صلم" بمعنى "صوّر"، وتقابل "صلم" في العبرانية.

وقد ورد في قصص أهل الأخبار أن "بني حنيفة" تعبدوا لصنم من حيس، فعبدوه دهراً طويلا،.ثم جاعوا فأكلوه، فقال الشعراء في ذلك شعراً يعيرون به " بني حنيفة" لأكلهم ربهم زمن المجاعة. وهو في رأيي من القصص، الذي يضعه الخصوم في خصومهم للاستهزاء بهم.

الوثن

وأما كلمة "وثن"، فهي من الكلمات العربية القديمة الواردة في نصوص المسند. ويظهر من استعمال هذه الكلمة في النصوص مثل: "وليذبحن وثنن درا بخرفم ذبصم صححم انثيم وذكرم"، أي "وليذبح للوثن مرة فىٍ السنة ذبحا صحيحاً، أنثى أو ذكراً ". ان الوثن هو الذي يرمز إلى الإلَه، أي بمعنى الصنم في القرآن الكريم.

الصلم

ويظهر من استعمال كلمتي "صلمن" "الصلم" "صلم" و "وثنن " "الوثن" ان هناك فرقاً بين الكلمتين في نصوص المسند، فإن كلمة "صلمن، تعني في الغالب تمثالاً يصنع من فضه، أو من ذهب، أو من نحاس، أو من حَجر، أو من خشب، أو من أية مادة أخرى ويقدم إلى الآلهة لتوضع في معابدها تقًربا اليها، لاجابتها دعاء الداعين بشفائهم من مرض أو قضاء حاجة، أي انها تقدم نذوراً. أما الوثن، فإنه الصنم في لهجتنا، اي الرمز الذي يرمز به إلى الإله، والذي يتقرب له الناس.

والوثن في رأي بعض العلماء، لفظة مرادفة لصنم. وقال بعض آخر: "المعمول من الخشب أو الذهب والفضة أو غيرها من جواهر الأرض صنم، وإذا كان من حجارة، فهو وثن ". وذكر بعض آخر ان الصنم ما كان له صورة جعلت تمثالأ، والوثن ما لا صورةٍ له. "وقيل ان الوثن ما كان له جثة من خشب أو حجر أو فضة ينحت ويعبد، والصنم صورة بلا جثة. وقيل: الصنم ما كان على صورة خلقة البشر، والوثن ما كان على غيرها". "وقال آخرون: ما كان له جسم أو صورة، فصنم، فإن لم يكن له جسم أو صورة، فهو وثن. وقيل: الصنم من حجارة أو غيرها، والوثن ما كان صورة مجسمة. وقد يطلق الوثن على الصليب وعلى كل ما يشغل عن الله". وقال بعض آخر: " يقال لكل صنم من حجر أو غيره صنم، ولا يقال وثن إلا لما كان من غير صخرة كالنحاس ونحوه ". وذكر بعض آخر: " أصل الأوثان عند العرب، كل تمثال من خشب أو حجارة أو ذهب أو فضة أو نحاس أو نحوها، وكانت العرب تنصبها وتعبدها ".

وذكر علماء اللغة أن "الودع" وثن. ولم يذكروا شيئاً عنه غير ذلك. وقد أطلق "الأعشى" على الصليب "الوثن"، إذ قال: تطوف العفـاة بـأبـوابـه  كطوف النصارى ببيت الوثن

"أراد بالوثن الصليب". "قال عديّ بن حاتم: قدمت على النبي، صلى اللّه عليه وسلم، وفي عنقي صليب من ذهب، فقال لي: القِ هذا الوثن عنك، أراد به الصليب، كما سمّاه الأعشى وثنا".

فنحن اذن أمام آراء متباينة في معنى "الصنم"، و "الوثن". منهم من جعل الصنم مرادفاً للوثن، أي في معنى واحد، ومنهم من فرّق بينهما، ومنهم من جعل الصنم وثناً والوثن صنماً. والظاهر ان مردّ هذا الاختلاف، هو اختلاف استعمال القبائل للكلمتين، فلما جمع علماء اللغة معانيهما، وقع لهم هذا التباين وحدث عندهم هذا الاختلاف في الرأي.

وترد في كتب الأدب واللغة لفظة "البعيم ". اسم صنم، والتمثال من الخشب، وقيل الدمية من الصمغ. والمثال الشبه، وما جعل مثالاً لغيره، والتمثال. وهو الشيء المصنوع مشبهاً بخلق واذا قدرته على قدره. وذكر انها الأصنام. وفي هذا المعنى وردت في القرآن الكريم: "ما هذه التماثيل ? أي الأصنام. وقوله تعالى:) من محاريب وتماثيل، هي صور للأنبياء(. وذكر: التماثيل للاصنام، والصورة، والشيء المصنوع مشبهاً بخلق من خلق اللّه. أي انسان أو حيوان أو نبات. ويعبر عن التمثال والمثال.بلفظة "امثلن" في العربيات الجنوبية. وردت في النصوص لمناسبة تقديم أصحابها تماثيل إلى الالهة لتوضع في معابدها وفاء لنذور نذروها لها.

و "الدمية" الصورة المنقشة من الرخام، أو عام من كل شيء، أو الصورة عامة. والصنم، والأصنام دمى. ومن أيمان الجاهلية: لا والدمى،-يريدون الأصنام، وذكر ان "الدمية" ما كان من الصمغ.

و " البد ّ" الصنم الذي يعبد، فارسي معرب. عرب من " بت " بمعنى"صنم". وذكر ان "البد"، بيت الصنم والتصاوير أيضاً.

وقد اشتغل بعض أهالي مكة بصنع الأصنام. فكان "عكرمة بن أبي جهل" ممن يعملها بمكة. وكان الأعراب اذا جاءوا مكة أو المواضع الحضرية الأخرى اشتروا الأصنام منها للتعبد لها.

هيأة الأصنام

وقد وصف "ابن الكلبي"، وهو الراوية الرئيس والعالم الكبير بالأصنام هيأة بعض الأصنام، فذكر مثلاٌ أن الصنم "هبل"، كان،على صورة إنسان، مكسور اليد اليمنى، أدركته قريش فجعلت له يداً من ذهب. فهو تمثال إنسان اذن نحت من حجر أحمر أو وردي، لا يستبعد أن يكون من عمل بلاد الشام أو من عمل الفنانين اليونان، واستورد من هناك، فنصب في جوف الكعبة. استورده أحد سادة "مكة" وهو "عمرو بن لحيّ" على رواية أهل الأخبار، أو غيره، لما رأى فيه من حسن الصنعة ودقة النحت. فوضعه في موضعه. ولم يذكر أهل الأخبار سبب كسر اليد اليمنى للصنم، هل كان ذلك بسبب حادث، أو بسبب أسطوري. وأما "اللات" فصخرة بيضاء منقوشة، في رواية أكثر الأخبار. وتمثال من حجر على رواية. وأما العزى، فهناك رواية تذكر أنها كانت صنماً، أي تمثالاً، ولكنها لم تعين صورته على نحو ما تحدثت عنها في الفصل الخاص بالأصنام. واما "ود" فقد كان تمثال رجل كأعظم ما يكون من الرجال، قد ذبر عليه حلتان، متزر بحلة، مرتد بأخرى، عليه سيف قد تقلده، وقد تنكب قوساً، وبين يديه حربة فيها لواء، ووفضة فيها نبل. وأما "سواع"، فكان صنماً على صورة امرأة. ولا يستبعد أن يكون من بين الأصنام الباقية ما كان على صورة حيوان. فقد كان الصنم "نسر" يمثل النسر.

وأقصد بالأصنام في هذا المكان أصنام المعابد، أي الأصنام التي كان الناس يتقربون أليها بالتعبد والنذور. وأما الأصنام الصغيرة، وهي التماثيل التي كان يتعبد لها الناس في بيوتهم أو يحملونها معهم في أسفارهم أو يحملونها معهم حيث ذهبوا تبركاً بها. فقد كانت كثيرة، لا يخلو منها انسان، وكانوا يتقربون بها إلى الأصنام الكبيرة. وقد عثر المنقبون على عدد كبير منها، وهي متًفاوتة في الحجم وفي الروعة ودقة الصنع والاتقان.

عبادة للأصنام

ونظرية "ابن الكلبي" ومن لف لفه من الأخباريين ان نسل اسماعيل بن ابراهيم لما تكاثر بمكة حتى ضاقت بهم، وقعت يينهم الحروب والعداوات، فاًخرج بعضهم بعضاً، فتفسحوا في البلاد التماساً للمعاش. وكان كلما ظعن من مكة ظاعن حمل معه حجراً من حجارة الحرم، تعظيماً للحرم وصبابة بمكة. فحيثما حلّوا، وضعوه وطافوا به كطوافهم بالكعبة، تيمناً منهم بها وصبابة بالحرم وحُباً له. وهم بعد يعظمون الكعبة ومكة، ويحجون ويعتمرون، على إرث ابراهيم واسماعيل.

"ثم سلخ بهم إلى ان عبدوا ما استحبوا، ونسوا ما كانوا عليه، واستبسدلوا ابراهيم واسماعيل غيره، فعبدوا الأوثان، وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم من قبلهم، وانتجثوا ما كان يعبد قوم نوح منها، على أرث ما بقي فيهم من ذكرها، وفيهم على ذلك بقايا من عهد ابراهيم واسماعبل يتنسكون بها: من تعظيم البيت، والطواف به، والحج والعمرة، والوقوف على عَرَ فَة ومزدلفة، واهداء البدن، والإهلال بالحج والعمرة، مع أدخالهم فيه ما ليس منه".

فكان أول من غير دين اسماعيل، فنصب الأوثان، وسيب السائبة، ووصل الوصيلة، وبحر البحيرة، وحمى الحامية، عمرو بن ربيعة، وهو لحي بن حارثة ابن عمرو بن عامر الأزدي، وهو أبو خزاعة.

وكانت أم عمرو بن لحيّ، فهيرة بنت عامر عمرو بن الحارث بن عمرو الجرهمي، ويقال: قمعة بنت مضاض الجرهمي.

وكان الحارث هو الذي يلي أمر الكعبة. فلما بلغ عمرو بن لحيّ، نازعه في الولاية، وقاتل جرهماً ببني اسماعيل، فظفر بهم، وأجلاهم عن الكعبة،ونفاهم عن بلاد مكة، وتولى حجابة البيت بعدهم.

ثم إنه مرض مرضاً شديداً، فقيل له: إن بالبلقاء من الشام حمّة إن أتيتها، برأت. فأتاها، فاستحم بها، فبرأ. ووجد أهلها يعبدون الأصنام، فقال: ما هذه ? فقالوا: نستسقي بها المطر، ونستنصر بها على العدو. فسألهم أن يعطوه منها، ففعلوا. فقدم بها مكة، ونصبها حول الكعبة. ثم أخذ عمرو ابن لحيّ في توزبع الأصنام على القبائل. وبذلك شاعت عبادة الأصنام بين الناس.

هذه رواية شهيرة معروفة بين الأخباربين عن منشأ عبادة الأصنام وانتشارها عند العرب. وفي رواية أخرى: "كان أول من اتخذ تلك الأصنام، من ولد اسماعيل وغيرهم من الناس، وسموّها بأسمائها على ما بقي فيهم من ذكرها حين فارقوا دين اسماعيل هُذيل بن مدركة". فنسبت هذه الرواية اتخاذ الأصنام إلى هذيل.

وهناك روايات أخرى في هذا المعنى تتفق مع الرواية الأولى من حيث الجوهر ولا تختلف معها إلا في بعض التفاصيل ؛ ففي رواية ان" عمرو بن لحيّ "حينما قدم "مآباً" من أعمال البلقاء، وهي يومئذ بأيدي العماليق، ووجدهم يتعبدون للأصنام، سألهم أن يعطوه صنماً منها ليسير به إلى أرض العرب ليعبدوه، فأعطوه الصنم هبل، فأخذه، وقدم به إلى مكة فنصبه. وأمر الناس بعبادته. فعينت هذه الرواية القوم الذين ذهب اليهم "عمرو بن لحيّ "، والموضع الذيَ نزل به، وثبتت اسم الصنم الذي اخذه منهم. وهي زيادات لم نجدها في كتاب الأصنام.غير ان تشابه عبارات هذه الرواية التي ذكرها "ابن هشام" مع رواية " ابن الكلبي"، يدل على ان المنبع واحد، وانما الخلاف هو في ذكر بعض الفروع، وفي اختصار بعض المواضع، والإطناب في مواضع أخرى.

وفي رواية أخرى عن "ابن الكلبي" كذلك، وهي في كتابه الأصنام، ترجع أيضاً عبادة الأصنام إلى عمرو بن لحيّ، غير انها تروي الخبر في صيغة أخرى، فتقول: "وكان عمرو بن لحيّ، وهو ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن ثعلبة بن امرىء القيس بن مازن بن الأزد، وهو أبو خزاعة، وأمه فهيرة بنت الحارث، ويقال إنها كانت بنت الحارث بن مضاض الجرهمي، وكان كاهناً. وكان قد غلب على مكة وأخرج منها جرهماً، وتولى سدانتها.

وكان له رئي من الجن، وكان يكنى أبا ثمامة، فقال له: عجل بالمسير والظعن من يمامة، بالسعد والسلامة ! قال: جير، ولا إقامة.

قال: ايت ضَفَّ جُدّة، تجد فيها أصناماً معدة، فاًوردها تهامة ولا تهاب، ثم ادع عبادتها قاطبة. فأتى شطً دجلة، فاستشارها، ثم حملها حتى ورد تهامة، وحضر الحجّ، فدعا العرب إلى عبادتها قاطبة.

فأجابه عوف بن عُذرة بن زيد اللآت بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة ابن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، فدفع اليه ودّاً. فحمله إلى وادي القرُى، فأقره بدومة الجندل. وسمىّ ابنه عبد ودً. فهو اول من ُسميّ به، وهو أول من سميّ عبد ودّ، ثم سمعة العرب به بعد.

فهذه الرواية هي علىشاكلة الرواية الأولى في منشأ عبادة الأصنام بين العرب قبل الإسلام بحسب رأي الأخباريين بالطبع، سوى اختلافها عنها في المكان الذي اخذت الأصنام منه. فهنا "جُدَّة" على ساحل البحر الأحمر، وهناك البلقاء من أعمال الشام. والموضعان، وإن كانا يختلفان موقعاً، يتفقان في شيء واحد هو وقوعهما على حدّ مقصود، يرده الأجآنب منذ القدم للاتجار. فهل يعني هذا استيراد تلك الأصنام من الخارج، من بلاد الشام أو من مصر، وانها كانت من عمل اهل الشام أو اهل مصر أو من عمل الروم أو الرومان ? وتذكر رواية أخرى ان "عمرو بن لحيّ"، إنما جاء بالصنم "هبل"، من "هيت" بالعراق حتى وضعه في الكعبة.

وعمرو بن لحيّ هو على اختلاف الروايات أول من غير دين اسماعيل،فنصب الأوثان، وسيب الساثبة، ووصل الوصيلة، وحمى الحامي. فقأ عين عشرين بعيراً، فصارت العادة أن يفقأ عين الفحل من الإبل إذا بلغت الإبل ألفاً. فإذا بلغت ألفين، فقئت العين الأخرى. وقد نسب اليه كلام طويل. وزُعم له عمر مديد، وقصص أخرجه من عالم الواقع إلى عالم القصص والأساطير، ورجع عصره إلى ايام" العماليق" والى ايام "سابور ذي الأكتاف". وذكر ان العرب جعلته "رباً لا يبتدع لهم بدعة إلا اتخذوها شرعة، لأنه كان يطعم الناس ويكسو في الموسم، فربما نحر في الموسم عشرة آلاف بدنة وكسا عشرة آلاف حلة"، وذكروا انه كان ملكاً على الحجاز، "وكان كبير الذكر في ايامه، الى غير ذلك من قصص يروونه عنه.

وذكر "المسعودي"، ان "عمرو بن لحيّ" حين خرج إلى الشام ورأى قوماً يعبدون الأصنام، فأعطوه منها صنماً فنصبه على الكعبة،وأكثر من الأصنام، وغلب على العرب عبادتها،انمحت الحنيفية منهم إلا لماماً، ضج العقلاء في ذلك، فقال "شحنة بن خلف" "سحنة بن خلف الجرهمي" : يا عمرو إنك قد أحدثت آلـهة  شتى بمكة حول البيت أنصابا

وكان للبيت ربّ واحـد أبـداً  فقد جعلت له في الناس أربابا

لتعرفن بأن الله فـي مـهًـلٍ  سيصطفي دونكم للبيت حجابا

وكان "عمرو بن لحي" كاهناً على ما يذكره أهل الأخبار : وهو من "خزاعة"، التي انخزعت من اليمن. ثبت حكمه على مكة، بعد أن انتزع الحكم من جرهم، وغلب قومه عليها، فصاروا يطبعونه ويتبعون ما يضعه لهم. وقد نسبوا اليه وضع بقية الأصنام، مثل اللات واساف ونائلة، فهو على رأي أهل الأخبار مؤسس هذه الأصنام التي بقيت إلى أيام النبي، والتي حطمت بأمره عام الفتح، وباستيلاء المسلمين على المواضع الأخرى.

وذكر أهل الأخبار أن "عمرو بن لحي" كان أول من غيرَّ تلبية "ابرهيم". وكانت: "لبيك لا شريك لك لبيك"، فجعلها: "لبيك اللهم لبيك، إلا شريك هو لك، تملكه وما لك"، وقد كان "ابليس" قد ظهر له في صورة شيخ نبيّ على بعير أصهب، فسايره ساعة، ثم لبى ابليس، فلبى "عمرو" تلبيته حتى خدعه. فلباها الناس على ذلكْ.

وقد قيل إنه بلغ بمكة وفي العرب من الشرف ما لم يبلغ عربي قبله ولا بعده في الجاهلية مبلغه. ويظهرر أنه كان من أصحإب الحول والسلطان والجاه،ولذلك ترك هذاّ الأئر في روايات أهل الأخبار. واني أرى أنه لم يكن بعيد عهد عن الإسلام، وإلا لمَ حفظت ذاكرة أهل الأخبار أخبارها عنه. والظاهر أنه كان كاهناً من الكهان، ورجلا كبيراً من رجال الدين.

وروي أن الرسول ذكر أن "عمر بن لحي ين قمعة" كان أول من غيرّ دين اسماعيل، فنصب الأوثان، وسيب السائبة، ووصل الوصيلة.

ولست أظن أن الرواة قد أقحموا اسم "عمرو بن لحي " في قصة انتشار الأصنام في جزيرة العرب اقحاماً من غير أصل ولا أساس، فلا بد من أن تكون للرجل صلة ما بعبادة الأصنام عند الجاهليين، ولا بد أن يكون من الرجال الذين عاشوا في عهد غير بعيد عن الإسلام، لا قبل ذلك بكثير كما يدعي الأخباريون، فما كان خبره ليصل اليهم على هذا النحو لو كان زمانه بعيدأَ عنهم البعد الذي تصوروه. وأنا لا أستبعد احتمال شراء "عمرو بن لحيّ" للاصنام من بلاد الشام ومجيئه بها إلى الحجاز، ونصبه لها في الكعبة وفي مواضع أخرى، لما وجده من حسن صنعة التماثيل في تلك البلاد ومن جودة حجارتها، فاشترى عدداً منها، لتنصب في المحجات، فنسبت عبادة الأصنام اليه.

وزعموا أن "ابن أبي كبشة": "جزء بن غالب بن عامر بن الحارث ابن غبشان الخزاعي"، كان ممن أدخل الشرك إلى العرب، وخالف دين التوحيد. لقد ذكروا أنه دعا إلى عبادة "الشعرى العبور".

وليست عبادة الأصنام والأوثان عبادة خاصة بالعرب، بل هي عبادة كانت معروفة عند غيرهم من الشعوب السامية، وعند غير الساميين، كما أنها لا تزال موجودة قائمة حتى الآن.

وكانت قريش تتعبد وتتقرب إلى أصنام قبائل أخرى، على شرط المثل، أيَ أن تتقرب تلك القبائل وتتعبد لأصنام قريش. فقد ذكر "السكرى" أن قريشا كانت تعبد صاحب كنانة، وبنو كنانة يعبدون صاحب قريش. وقد تمكنت قريش بفضل هذه السياسة الحكيمة من جمع أصنام للعرب وضمها في الكعبة، وهذا ما جعل القبائل تعظم هذا المجمع، وتحج اليه كل سنة مرة، في موسم الحح، بالإضافة إلى الأيام الأخرى من أيام السنة، حيث تقع فيها للعمرة. فربحت من ذلك ربحاً معنوياً ومادياً، وصارت مكة سوقاً مستقرة، ثابتة، يقصدها الناس في كل وقت.

الحلف بالاصنام والطواغيتَ

ولعقيدتهم المذكورة في الأصنام، كانوا يحلفون بها وبالطواغيت. والظَاهر أن هذه العادة بقيت في نفوسهم حتى في الإسلام. فقد ورد في الحديث: " أنه قال من حلف بغير الله، فقال في حلفه باللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله"، و "من حلف، فقال في حلفه واللات والعزى. فليقل : لا إلَه إلاّ الله"، ومن قال لصاحبه: تعال -أقامرك فليتصدق". وكانت ألسنتهم تسبقهم، لما اعتادته. من زمن الجاهلية من الحلف بالصنام.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

دليلك إلى المواقع الإسلامية المنتقاة بأكثر من ( 42 ) لغة !!

دليلك إلى المواقع الإسلامية المنتقاة بأكثر من ( 42 ) لغة !! اللغة الرابط اللغة الأذرية http://www.islamhouse.com/s/9357 ...