ج24. تفسير الشعراوي
كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)
أي: كتب الله على هذا الشيطان المريد، وحكم عليه حُكماً ظاهراً، هكذا (عيني عينك) كما يقال { أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ... } [الحج: 4] أي: تابعه وسار خلفه { فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَىا عَذَابِ السَّعِيرِ } [الحج: 4] يضله ويهديه ضِدّان، فكيف نجمع بينهما؟
المراد: يُضِلُّه عن طريق الحق والخير، ويهديه أي: للشر؛ لأن معنى الهداية: الدلالة مُطْلقاً، فإن دللْتَ على خير فهي هداية، وإن دللتَ على شر فهي أيضاً هداية.
واقرأ قوله سبحانه وتعالى:{ احْشُرُواْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَىا صِرَاطِ الْجَحِيمِ }[الصافات: 22 - 23].
أي: دُلُّوهم وخُذوا بأيديهم إلى جهنم.
ويقول تعالى في آية أخرى:{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ.. }[النساء: 168 - 169].
والسَّعير: هي النار المتوهّجة التي لا تخمد ولا تنطفئ.
ثم يقول الحق سبحانه: { ياأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ.. }.
(/2581)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)
قوله: { ياأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ.. } [الحج: 5].
الريب: الشك. فالمعنى: إنْ كنتم شاكِّين في مسألة البعث، فإليكم الدليل على صِدْقه { فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ.. } [الحج: 5] أي: الخَلْق الأول، وهو آدم عليه السلام، أما جمهرة الناس بعد آدم فخُلِقوا من (نطفة) حية من إنسان حي.
والمتتبع لآيات القرآن يجد الحق - سبحانه وتعالى - يقول مرة في خَلْق الإنسان: { مِّن تُرَابٍ.. } [الحج: 5]، ومرة{ مِن مَّآءٍ.. }[الطارق: 6]، و{ مِّن طِينٍ.. }[الأنعام: 2]، و{ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ.. }[الحجر: 26]، و{ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ.. }[الرحمن: 14] وهذه التي دعتْ المستشرقين إلى الاعتراض على أسلوب القرآن، يقولون: من أيِّ هذه الأشياء خُلِقْتم؟
وهذا الاعتراض ناشيء من عدم فَهْم لغة القرآن، فالتراب والماء والطين والحمأ والمسنون والصلصال، كلها مراحل متعددة للشيء الواحد، فإذا وضعتَ الماء على التراب صار طيناً، فإنْ تركتَ الطين حتى يتخمّر، ويتداخل بعضه في بعض حتى لا تستطيع أنْ تُميِّز عنصراً فيه عن الآخر. وهذا عندما يعطَنُ وتتغير رائحته يكون هو الحمأ المسنون، فإنْ جَفَّ فهو صلصال كالفخار، ومنه خلق اللهُ الإنسان وصوَّره، ونفخ فيه من روحه، إذن: هذه مراحل للشيء الواحد، ومرور الشيء بمراحل مختلفة لا يُغيِّره.
ثم تكلم سبحانه عن الخَلْق الثاني بعد آدم عليه السلام، وهم ذريته، فقال: { مِن نُّطْفَةٍ.. } [الحج: 5] والنطفة في الأصل هي قطرة الماء العَذْب، كما جاء في قول الشاعر:بَقَايَا نِطَافٍ أودَعَ الغيمُ صَفْوَهَا مُثقَّلَةُ الأرجَاء زُرْقُ الجَوانبِولا تظهر زُرْقة الماء إلا إذا كان صافياً لا يشوبه شيء، وكذلك النطفة هي خلاصة الخلاصة، لأن جسم الإنسان تحدث فيه عملية الاحتراق، وعملية الأيض أي: الهدم والبناء بصفة مستمرة ينتج عنها خروج الفضلات المختلفة من الجسم: فالبول، والغائط، والعرق، والدموع، وصَمْغ الأذن، كلها فضلات ناتجة عن احتراق الطعام بداخل الجسم حيث يمتص الجسم خلاصة الغذاء، وينقلها إلى الدم.
ومن هذه الخلاصة يُستخلص منيُّ الإنسان الذي تؤخذ منه النطفة، فهو - إذن - خلاصة الخلاصة في الإنسان، ومنه يحدث الحمل، ويتكَّون الجنين، وكأن الخالق - عز وجل - قد صَفَّاها هذه التصفية ونقَّاها كل هذا النقاء؛ لأنها ستكون أصْلاً لأكرم مخلوقاته، وهو الإنسان.
وهذه النطفة لا تنزل من الإنسان إلا في عملية الجماع، وهي ألذُّ متعة في وجود الإنسان الحيِّ، لماذا؟ لو تأملتَ متعة الإنسان ولذاته الأخرى مثل: لذة الذَّوْق، أو الشم، أو الملمس، فهي لذَّاتٌ معروفة محددة بحاسَّة معينة من حواس الإنسان، أمّا هذه اللذة المصاحبة لنزول المنيِّ أثناء هذه العملية الجنسية فهي لذة شاملة يهتز لها الجسم كله، ولا تستطيع أنْ تُحدِّد فيها منطقة الإحساس، بل كل ذرة من ذرات الجسم تحسها.
لذلك أمرنا ربنا - عز وجل - أن نغتسل بعد هذه العملية؛ لأنها شغلتْ كل ذرة من ذرات تكوينك، وربما - عند العارفين بالله - لا تغفل عن الله تعالى إلا في هذه اللحظة؛ لذلك كان الأمر بالاغتسال بعدها، هو قول العلماء.
أما أهل المعرفة عن الله وأهل الشطح وأهل الفيوضات فيقولون: إن الله خلق آدم من طين، وجعل نَسْله من هذه النطفة الحية التي وضعها في حواء، ثم أتى منها كل الخَلْق بعده، فكأن في كل واحد منا ذرة من أبيه آدم؛ لأنه لو طرأ على هذه الذرة موت ما كان نَسْلٌ بعد آدم، فهذه الذرة موجودة فيك في النطفة التي تلقيها ويأتي منها ولدك، وهي أصْفى شيء فيك؛ لأنها الذرة التي شهدتْ الخَلْق الأول خَلْق أبيك آدم عليه السلام.
وقد قرّبنا هذه المسألة وقلنا: لو أنك أخذت سنتيمتراً من مادة ملونة، ووضعته في قارورة ماء، ثم أخذتَ ترجُّ القارورة حتى اختلط الماء بالمادة الملونة فإن كل قطرة من الماء بها ذرة من هذه المادة، وهكذا لو ألقيتَ القارورة في برميل..الخ.
إذن: فكل إنسان مِنّا فيه ذرة من أبيه آدم عليه السلام، هذه الذرة شهدتْ خَلْق آدم، وشهدتْ العهد الأول الذي أخذه الله على عباده في قوله تعالى:{ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىا أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ.. }[الأعراف: 172].
لذلك؛ يُسمِّي الله تعالى إرسال الرسل بَعْثاً فيقول:{ بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً }[الفرقان: 41] بعثه: كأنه كان موجوداً وله أَصْل في رسالة مباشرة من الله حين أخذ العهد على عبادة، وهم في ظَهْر آدم عليه السلام، كما يخاطب الرسول بقوله:{ فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ }[الغاشية: 21] أي: مُذكِّر بالعهد القديم الذي أخذناه على أنفسنا.
لذلك اقرأ الآية:{ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىا أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىا شَهِدْنَآ.. }[الأعراف: 172].
هذا في مرحلة الذِّرِّ قبل أنْ يأتي الهوى في النفوس{ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـاذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ }[الأعراف: 172 - 173]
إذن: بعث الله الرسل لتُذكِّر بالعهد الأول، حتى لا تحدث الغفلة، وحتى تقيم على الناس الحجة.
ثم يقول تعالى: } ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ.. { [الحج: 5] سمِّيت النطفة علقة؛ لأنها تعلَقُ بالرحم، يقول تعالى في آية أخرى:{ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىا * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىا }[القيامة: 37 - 38].
فالمنيُّ هو السائل الذي يحمل النطفة، وهي الخلاصة التي يتكوَّن منها الجنين، والعَلَقة هنا هي البُويْضَة المخصَّبة، فبعد أنْ كان للبويضة تعلُّق بالأم، وللحيوان المنوي (النطفة) تعلُّق بالأب، اجتمعا في تعلُّق جديد والتقيَا ليتشبَّثا بجدار الرحم، وكأن فيها ذاتية تجعلها تعلَق بنفسها، يُسمُّونها (زيجوت).
ومنها قولهم: فلان هذا مثل العلقة إذ كان ملازماً لك.
بعد ذلك تتحول العلقة إلى مضغة } ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ.. { [الحج: 5] والمضغة: هي قطعة لحم صغيرة قَدْر ما يُمضغ من الطعام، وهو خليط من عِدَّة أشياء، كما لو أكلتَ مثلاً قطعة لحم مع ملعقة خضار مع ملعقة أرز، وبالمضغ يتحوّل هذا إلى خليط، ذلك لأن جسم الإنسان لا يتكَّون من عنصر واحد، بل من ستة عشر عنصراً.
هذه المضغة } مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ.. { [الحج: 5] معنى مخلقة يعني: يظهر عليها هيكل الجسم، وتتشكَّل على صورته، فهذه للرأس، وهذه للذراع، وهذه للرِّجْل وهكذا، يعني تخلَّقتْ على هيئة الأنسان.
أما غير المخلَّقة، فقد عرفنا مؤخراً أنها الخلايا التي تُعوِّض الجسم وتُرقِّعه إذا أصابه عَطَب فهي بمثابة (احتياطي) لإعادة تركيب ما تلف من أنسجة الجسم وترميمها، كما يحدث مثلاً في حالة الجُرْح فإنْ تركتَه لطبيعة الجسم يندمل شيئاً فشيئاً، دون أنْ يتركَ أثراً.
نرى هذا في أولاد الفلاحين، حين يُجرح الواحد منهم، أو تظهر عنده بعض الدمامل، فيتركونها لمقاومة الجسم الطبيعية، وبعد فترة تتلاشى هذه الدمامل دون أنْ تتركَ أثراً على الإطلاق؛ لأنهم تركوا الجسم للصيدلية الربانية.
أما إذا تدخَّلنا في الجُرْح بمواد كيماوية إو خياطة أو خلافه فلا بُدَّ أن يترك أثراً، فترى مكانه لامعاً؛ لأن هذه المواد أتلفت مسام الجسم؛ لذلك نجد مثل هذه الأماكن من الجسم قد تغيرتْ، ويميل الإنسان إلى حَكِّها (وهرشها)؛ لأن هذه المسام كانت تُخرِج بعض فضلات الجسم على هيئة عرق، فلما انسدت هذه المسام سببت هذه الظاهرة. هذا كله لأننا تدخَّلْنا في الطبيعة التي خلقها الله.
إذن: فمعنى } وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ.. { [الحج: 5] هي الصيدلية التي تُعوِّض وتُعيد بناء ما تلف من جسم الإنسان.
ثم يقول سبحانه: } لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىا أَجَلٍ مُّسَمًّى.. { [الحج: 5] أي: نُوضِّح لكم كل ما يتعلَّق بهذه المسألة } وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَآءُ.. { [الحج: 5] وهي المضْغة التي قُدِّر لها أنْ تكون جنيناً يكتمل إلى أنْ يولد؛ لذلك قال: } إِلَىا أَجَلٍ مُّسَمًّى.. { [الحج: 5] أو نسقطه ميتاً قبل ولادته.
فإنْ قلتَ: وما الحكمة من خَلْقه وتصويره، إنْ كان قد قُدِّر له أنْ يموت جنيناً؟ نقول: لنعرف أن الموت أمر مُطْلق لا رابطَ له ولا سِنّ، فالموت يكون للشيخ كما يكون للجنين في بطن أمه، ففي أيِّ وقت ينتهي الأجل.
وقوله تعالى: } ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً.. { [الحج: 5] قال: } نُخْرِجُكُمْ.. { [الحج: 5]بصيغة الجمع ولم يقُلْ: أطفالاً إنما } طِفْلاً.. { [الحج: 5] بصيغة المفرد، لماذا؟ قالوا: في اللغة ألفاظ يستوي فيها المفرد والجمع، فطفل هنا بمعنى أطفال، وقد وردتْ أطفال في موضع آخر في قوله سبحانه:
{ وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ.. }[النور: 59].
وكما تقول هذا رجل عَدْل، ورجال عَدْل. وفي قصة سيدنا إبراهيم - عليه السلام - يتكلم عن الأصنام فيقول:{ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي.. }[الشعراء: 77] ولم يقُلْ: أعداء. وحينما تكلم عن ضَيْفه قال:{ هَؤُلآءِ ضَيْفِي.. }[الحجر: 68] ولم يقل: ضيوفي، إذن: المفرد هنا يُؤدِّي معنى الجمع.
ثم يقول سبحانه: } ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ.. { [الحج: 5] وهكذا، وسبق أنْ تحدَّثنا عن مراحل عمر الإنسان، وأنه يمر بمرحلة الرُّشْد: رُشْد البنية حين يصبح قادراً على إنجاب مثله، ورُشْد العقل حين يصبح قادراً على التصرّف السليم، ويُحسن الاختيار بين البدائل.
ثم تأتي مرحلة الأشد:{ حَتَّىا إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ.. }[الأحقاف: 15] يعني: نضج نُضْجاً من حوادث الحياة أيضاً.
ثم يقول تعالى: } وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّىا وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَىا أَرْذَلِ الْعُمُرِ.. { [الحج: 5] وأرذل العمر يعني رديئه، حين تظهر على الإنسان علامات الخَوَر والضعف } لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً.. { [الحج: 5] لأنه ينسى، وعندها يعرف أن صحته وقوته وسلطانه ليست ذاتية فيه، إنما موهوبة له من الله.
وإذا بلغ الرجل أرذلَ العمر يعود من جديد إلى مرحلة الطفولة تدريجياً، فيحتاج لمَنْ يأخذ بيده ليقوم أو ليمشي، كما تأخذ بيد الطفل الصغير، فإذا تكلّم يتهته ويتلعثم كالطفل الذي يتعلم الكلام.. وهكذا في جميع شئونه.
لذلك يقولون: الزواج المبكر أقرب طريق لإنجاب (والد) يعولُك في طفولة شيخوختك، ولم يقُلْ: ولداً؛ لأنه سيقوم معك فيما بعد بدوْر الوالد، يقولون: لحق والده يعني سنُّهما متقارب.
لكن، لماذا يُرَدُّ بعضنا إلى أرذل العمر دون بعض؟ الحق سبحانه جعلها نماذج حتى لا نقول: يا ليت أعمارنا تطول؛ لأن أعمار الجميع لو طالتْ إلى أرذَلِ العمر لأصبح الأمر صعباً علينا، فمن رحمة الله بنا أنْ خلق الموت.
ثم يقول تعالى: } وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ { [الحج: 5]
أي: كما كان خَلْق الإنسان من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مُضْغة مُخلَّقة وغير مُخلَّقة، ثم أخرجه طفلاً، وبلغ أَشُدَّهُ، ومنهم مَنْ مات، ومنهم مَنْ يُرَدُّ إلى أرذَل العمر، كذلك الحال في الأرض: } وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً.. { [الحج: 5].
هامدة: ساكنة، ومنه قولنا للولد كثيرالحركة: اهمد } فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ.. { [الحج: 5] أي: تحركتْ ذراتُها بالنبات بعد سكونها.
والاهتزاز: تحرُّك ما كنت تظنه ثابتاً، وليس ما كان ثابتاً في الواقع؛ لأن لكل كائن حركة في ذاته، حتى قطعة الحديد الجامدة لها حركة بين ذراتها، لكن ليس لديْك من وسائل الإدراك ما تدرك به هذه الحركة. ولو تأملت المغناطيس لأدركتَ هذه الحركة بين ذراته، فحين تُدلِّك القضيب الممغنط وتُمرِّره على قضيب آخر غير مُمغنط في اتجاه واحد، فإنه يكتسب منه المغناطيسية، وتمرير المغناطيس في اتجاه واحد معناه تعديل للذرات لتحمل شحنة واحدة سالبة أو موجبة، فإن اختلف اتجاه الدَّلْك فإن الذرات أيضاً تختلف.
إذن: في الحديد - رمز الصلابة والجمود - حركة وحياة تناسبه، وإنْ خُيِّل إليك أنه أصمُّ جامد في ظاهرة.
لذلك نقول } هَامِدَةً.. { [الحج: 5] يعني: ساكنة في رَأْي العلم، حيث لا نباتَ فيها ثم } اهْتَزَّتْ.. { [الحج: 5] يعني: زادتْ ورَبَتْ وتحركتْ لإخراج النبات، إنما هي في الحقيقة لم تكُنْ ساكنة مُطْلقاً؛ لأن فيها حركة ذاتية بين ذراتها.
ومعنى: } وَرَبَتْ.. { [الحج: 5] أي: زادت عن حجمها، كما تزيد حبة الفول مثلاً حين تُوضَع في الماء، وتأخذ حظها من الرطوبة، وكذلك في جميع البقول، وهذه الزيادة في حجم الحبة هي التي تفلقها إلى فلقتين في عملية الإنبات، ويخرج منها زبان يتجه إلى أعلى فيكون الساق الذي يبحث عن الهواء، وإلى أسفل فيكون الجذر الذي يبحث عن الماء. وتظل هاتان الفلقتان مصدرَ غذاءٍ للنبتة حتى تقوى، وتستطيع أنْ تمتصَّ غذاءها من التربة، فإذا أدَّتْ هاتان الفلقتان مهمتهما في تغذية النبتة تحوَّلتَا إلى ورقتين، وهما أول ورقتين في تكوين النبتة.
كذلك، نلاحظ في تغذية النبات أنه لا يأخذ كُلَّ غذائه من التربة، إنما يتغذى بنسبة ربما 90 بالمائة من غذائه من الهواء، وتستطيع أن تلاحظ هذه الظاهرة إذا نظرتَ إلى إصيص به زرع، فسوف تجد ما نقص من التربة كمية لا تُذكَر بالنسبة لحجم النبات الذي خرج منها.
وحين تتأمل جذر النبات تجد فيه آية من آيات الله، فالجذر يمتد إلى أن يصل إلى الرطوبة أو الماء، حتى إذا وصل إلى مصدر غذائه توقَّف، ولك أن تنظر مثلاً إلى (كوز الحلبة) فسوف تجد الجذور غير متساوية في الطول، بحسب بُعد الحبة عن مصدر الرطوبة.
} وَرَبَتْ.. { [الحج: 5] أي: زادت وانتفشتْ، كما يحدث في العجين حين تضع فيه الخميرة } وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ { [الحج: 5].
هذه صورة حيَّة واقعية نلاحظها جميعاً عياناً: الأرض تكون جرداء ساكنة، لا حركةَ فيها، فإذا ما نزل عليها الماء تغيرتْ وتحركتْ ذراتها وتشققتْ عن النبات، ولو حتى بالمطر الصناعي، كما نرى في عرفة مثلاً ينزل عليها المطر الصناعي فيخضرُّ الوادي، لكن حينما ينقطع الماء يعود كما كان لعدم موالاة الماء، ولو واليتَ عليها بالماء لصارت غابات وأحراشاً وبساتين كالتي نراها في أوروبا.
والمطر لا يحتاج أنْ تُسوَّى له الأرض؛ لأنه يسْقِي المرتفع والمنخفض على السواء، على خلاف الأرض التي تسقيها أنت لا بُدَّ أن تُسوِّيها للماء حتى يصل إليها جميعاً.
فإذا أنزل الله تعالى المطر على الأرض الجدباء الجرداء تراها تتفتق بالنبات، فمن أين جاءت هذه البذور؟ وكيف لم يُصِبْها العطب، وهي في الأرض طوال هذه الفترات؟ الأرض هي التي تحفظها من العطب إلى أن تجد البيئة المناسبة للإنبات، وهذا النبات الذي يخرج من الأرض دون تدخُّل الإنسان يسمونه (عِذْى).
أما عن نَقْل هذه البذور في الصحراء وفي الوديان، فهي تنتقل بواسطة الريح، أو في رَوَث الحيوانات.
ومعنى: } مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ { [الحج: 5] الزوج: البعض يظن الزوج يعني الاثنين، إنما الزوج كلمة مفردة تدل على واحد مفرد معه مِثْله من جنسه، ففي قوله تعالى:{ وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَىا }[النجم: 45] فكل منهما زوج، وكما نقول: زوج أحذية يعني فردة حذاء معها فردة أخرى مثلها، ومثلها كلمة توأم يعني مولود معه مثله فكل واحد منهما يسمى (توأم) وهما معاً (توأمان) ولا نقول: هما توأم.
وهنا مظهر من مظاهر دِقَّة الأداء القرآني: } كُلِّ زَوْجٍ.. { [الحج: 5] لأن كل المخلوقات، سواء أكانت جماداً أو نباتاً أو حيواناً، لا بُدَّ فيه من ذكر وأنثى، هذه الزوجية قال الله فيها:{ وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ.. }[الذاريات: 49] حتى في الجماد الذي نظنه جماداً لا حركةَ فيه، يتكَّون من زوجين: سالب وموجب في الكهرباء، وفي الذرة، وفي المغناطيس، فكلُّ شيء يعطي أعلى منه، فلا بُدَّ فيه من زوجيْن.
لذلك، فالحق سبحانه وتعالى حينما عالج هذه المسألة عالجها برصيد احتياطي في القرآن، يقول سبحانه:{ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَق الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ }[يس: 36].
فقوله سبحانه:{ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ }[يس: 36] رصيد عالٍ لما سيأتي به العلم من اكتشافات تثبت صِدْق القرآن على مَرِّ الأيام، ففي الماضي عرفنا الكهرباء، وأنها سالب وموجب فقلنا: هذه مما لا نعلم، وفي الماضي القريب عرفنا الذرة فقلنا: هذه مما لا نعلم، وفي الماضي القريب عرفنا الذرة فقلنا: هذه مما لا نعلم، وهذا وجه من وجوه الإعجاز في القرآن الكريم.
إذن: خُذْها قضية عامة: كل شيء يتكاثر إلى أعلى منه، فلا بُدَّ ان فيه زوجية.
فقوله تعالى: } وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ { [الحج: 5] فالزوج من النبات مفرد معه مثله، وهذا واضح في لقاح الذكر والأنثى، هذا اللقاح قد يكون في الذكر وحده، أو في الأنثى وحدها كما في النخل مثلاً، وقد يكون العنصران معاً في النبات الواحد كما في سنبلة القمح أو كوز الذرة.
ولو تأملت نبات الذرة لوجدتَ له في أعلاه (شوشة) بها حبيبات دقيقة تحمل لقاح الذكورة، وفي منتصف العود يخرج الكوز، وبه شعيرات تصل كل شعرة منها إلى حبة من حبات الذرة المصطفة على الكوز، وهذه تحمل لقاح الأنوثة، فإذا هبَّتْ الريح هزَّتْ أعلى العود فتساقطت لقاحات الذكورة على هذه الشعيرات فلقحتها؛ لذلك نرى الحبة التي لا يخرج منها شعرة إلى خارج الغلاف تضمر وتموت؛ لأنها لم تأخذ حظها من اللقاح.
ومعنى: } بَهِيجٍ { [الحج: 5] من البهجة، فالمراد: الشيء حسن المنظر والجميل الذي يجذب الأنظار إليه، وبهجة النظر إلى النبات شائعة لا تقتصر على مَنْ يملكه بخلاف الأكل منه، فحين تمر ببستان أو حديقة تتمتع بمنظرها وجمال ألوانها وتُسَرُّ برائحتها.
وفي النفس الإنسانية ملكات تتغذى على هذه الخضرة، وعلى هذه الألوان وتنبسط لهذا الجمال، ولو لم تكُنْ تمتلكه.
لذلك الحق - سبحانه وتعالى - ينبهنا إلى هذه المسألة في قوله تعالى:{ انْظُرُواْ إِلِىا ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ.. }[الأنعام: 99] أي: أن النظر مشاع للجميع، ثم بعد ذلك اتركوا الخصوصيات لأصحابها، تمتَّعوا بما خلق الله، ففي النفس ملكَات أخرى غير الطعام.
واقرأ أيضاً قوله تعالى في الخيل:{ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ }[النحل: 6] فليست الخيل لحمل الأثقال وفقط، وإنما فيها جمال وأُبَّهة، تُرضِي شيئاً في نفوسكم، وتُشْبِع ملكَة من ملكاتها.
ثم يقول الحق سبحانه: } ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ.. {
.
(/2582)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)
أي: أن ما حدث في خَلْق الإنسان تكويناً، وما حدث في إنبات الزرع تكويناً ونماءً، يردُّ هذا كله إلى أن الله تعالى { هُوَ الْحَقُّ.. } [الحج: 6] فلماذا أتى بالحق ولم يقُلْ الخالق؟ قالوا: لأن الخالق قد يخلق شيئاً ثم يتخلى عنه، أمّا الله - سبحانه وتعالى - فهو الخالق الحق، ومعنى الحق أي: الثابت الذي لا يتغير، كذلك عطاؤه لا يتغير، فسوف يظل سبحانه خالقاً يعطيك كل يوم؛ لأن عطاءه سبحانه دائم لا ينفد.
وإذا نظرتَ إلى الوجود كله لوجدته دروة مكررة، فالله عز وجل قد خلق الأرض وقدَّر فيها أقواتها، فمثلاً كمية الماء التي خلقها الله في الكون هي هي لم تَزِدْ ولم تنقص؛ لأن للماء دورة في الحياة، فالماء الذي تشربه طوال حياتك لا يُنقص في كمية الماء الموجود؛ لأنه سيخرج منك على صورة فضلات ليعود في دورة الماء في الكون من جديد.
وهكذا في الطعام الذي تأكله، وفي الوردة الجميلة الطرية التي نقطفها، كل ما في الوجود له دورة يدور فيها، وهذا معنى:{ وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا.. }[فصلت: 10]
فمعنى:{ الْحَقُّ.. }[الحج: 6] هنا الثابت الذي لا يتغير في الخَلْق وفي العطاء. فلا تظن أن عطاء الله لك شيء جديد، إنما هو عطاء قديم يتكرر لك ولغيرك.
ثم يقول تعالى: { وَأَنَّهُ يُحْيِـي الْمَوْتَىا.. } [الحج: 6] كما قُلْنا في الآية السابقة: { وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً.. } [الحج: 5] أي: ساكنة لا حياةَ فيها، والله وحده القادر على إحيائها؛ لذلك نجد علماء الفقه يُسمُّون الأرض التي نصلحها للزراعة (إحياء الموات) فالله تعالى هو القادر وحده على إحياء كل ميت؛ لذلك يقول بعدها: { وَأَنَّهُ عَلَىا كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [الحج: 6]
وما دام الأمر كذلك وما دُمْتم تشاهدون آية إحياء الموات في الأرض المتية فلا تنكروا البعث وإعادتكم بعد الموت. فيقول تعالى: { وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا.. }.
(/2583)
وَأَنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)
وقد سبق أن أنكروا البعث بعد الموت وقالوا:{ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَآؤُنَا الأَوَّلُونَ }[الصافات: 16 - 17].
فيردُّ عليهم الحق سبحانه: نعم، سنعيدكم بعد الموت، والذي خلقكم من لا شيءَ قادرٌ على إعادتكم من باب أَوْلَى؛ لذلك يقول تعالى:{ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُاْ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ.. }[الروم: 27] والحق سبحانه هنا يخاطبنا على قَدْر عقولنا؛ لأننا نفهم أن الخَلْق من موجود أهون من الخَلْق من عدم، أما بالنسبة للخالق - عز وجل - فليس هناك سَهْل وأسهل، ولا هَيِّن وأهْون.
فقوله تعالى: { وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا.. } [الحج: 7] كأن عملية إحياء الموتى ليست مُنْتهى قدرة الله، إنما في قدرته تعالى كثير من الآيات والعجائب، ومعنى: { لاَّ رَيْبَ فِيهَا.. } [الحج: 7] أي: لا شَكَّ فيها. والساعة: أي: زمن القيامة وموعدها، لكن القيامة ستكون للحساب وللفَصْل بين الناس، فلا بُدَّ من بَعْثهم من القبور؛ لذلك يقول بعدها: { وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ } [الحج: 7].
فكُلُّ ما تقدم ناشيء من أنه سبحانه هو الحق؛ ولأنه سبحانه الحق؛ فهو يُحيي الموتي، وهو على كل شيء قدير، والساعة آتية لا رَيْبَ فيها، وهو سبحانه يبعث مَنْ في القبور.
ثم يقول الحق سبحانه: { ومِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ.. }
(/2584)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8)
تكلمنا في أول السورة عن الجدل بالعلم والموعظة الحسنة وقلنا: العلم إما علم بَدْهي أو علم استدلالي عقليّ، أو علم بالوحي من الله سبحانه، أما هؤلاء الذين يجادلون في الله بغير علم بدهي { وَلاَ هُدًى.. } [الحج: 8] يعني: علم استدلالي عقلي، { وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ } [الحج: 8] يعني: وحي من الله، فهؤلاء أهل سفسطة وجدل عقيم لا فائدة منه، وعلى العاقل حين يصادف مثل هذا النوع من الجدال أن لا يجاريه في سفسطته؛ لأنه لن يصل معه إلى مفيد ، إنما عليه أنْ ينقله إلى مجال لا يحتمل السفسطة.
ولنا في هذه المسألة مثَلٌ وقُدْوة بسيدنا إبراهيم - عليه السلام - حينما جادل النمرود، اقرأ قول الله تعالى:{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ.. }[البقرة: 258]
لقد اتبع النمرودُ أسلوب السَّفْسَطة حين قال{ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ.. }[البقرة: 258] لأنه ما فعل حقيقةَ الموت، ولا حقيقة الحياة، فأراد إبراهيم أن يُلجئه إلى مجال لا سفسطة فيه؛ لينهي هذا الموقف ويسدّ على خَصْمه باب اللدد والتهريج، فقال:{ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ.. }[البقرة: 258] وكانت النتيجة أنْ حَارَ عدو الله جواباً{ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ.. }[البقرة: 258] أي: دُهِش وتحيَّر
.
(/2585)
ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9)
{ ثَانِيَ.. } [الحج: 9] ثَنَى الشيء يعني: لَواه، وعِطْفه: يعني جَنْبه، والإنسان في تكوينه العام له رأس ورقبة وكتفان، وله جانبان وظَهْر، وهذه الأعضاء تُؤدِّي دَوْراً في حياته وحركته، وتدلّ على تصرفاته، فالذي يجادل في الله عن غير علم ولا هدى ولا كتاب منير يَثنِي عنك جانبه، ويَلْوي رأسه؛ لأن الكلام لا يعجبه؛ ليس لأن كلامك باطل، إنما لا يعجبه لأنه أفلس وليست لديه الحجة التي يواجهك بها، فلا يملك إلا هذه الحركة.
لذلك يُسمَّى هذا الجدل " مراءً " ، ومنه قوله تعالى:{ أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىا مَا يَرَىا }[النجم: 12] يعني: أتجادلون رسول الله في أمر رآه؟ والمراء: هو الجَدل العنيف، مأخوذ من (مَرْى الضرع) يعني: حَلْب ما فيه من لبن إلى آخر قطرة فيه، وأهل الريف يقولون عن هذه العملية (قرقر البقرة) يعني: أخذ كل لبنها ولم يَبْقَ في ضرعها شيء.
كذلك المجادل بالباطل، أو المجادل بلا علم ولا حجة تراه يكابر ليأخذ آخر ما عند خَصْمه، ولو كان عنده علم وحجة لأنهَى الموقف دون لجج أو مكابرة.
والقرآن الكريم يعطينا صورة لهذا الجدل والإعراض عن الحق، فيقول سبحانه:{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ }[المنافقون: 5].
والقرآن يعطينا التدرج الطبيعي للإعراض عن الحق الذي يبدأ بلَىِّ الرأس، ثم الجانب، ثم يعطيك دُبُره وعَرْض أكتافه، هذه كلها ملاحظ للفرار من الجدل، حين لا يقوى على الإقناع.
ثم يقول سبحانه: { ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ.. } [الحج: 9] هذه عِلَّة ثَنْى جانبه، لأنه يريد أنْ يُضل مَنِ اهتدى، فلو وقف يستمع لخَصْمه وما يلقيه من حجج ودلائل لانهزم ولم يتمكّن من إضلال الناس؛ لذلك يَثْني عِطْفه هَرَباً من هذا الموقف الذي لا يَقْدر على مواجهته والتصدي له.
فما جزاء هذا الصنف؟ يقول تعالى: { لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ.. } [الحج: 9] والخِزْي: الهوان والذِّلَّة، هذا جزاء الدنيا قبل جزاء الآخرة، ألم يحدث للكفار هذا الخزي يوم بدر؟ ألم يُمسِك رسول الله صلى الله عليه وسلم بقضيب في يده قبل المعركة ويشير به: " هذا مَصرع فلان، وهذا مصرع فلان " ويسمي صناديد الكفر ورؤوس الضلال في قريش؟ وبعد انتهاء المعركة كان الأمر كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصُرِع كلُّ هؤلاء الصناديد في نفس الأماكن التي أشار إليها رسول الله.
ولما قُتِل في هذه المعركة أبو جهل عَلاَهُ سيدنا عبد الله بن مسعود، سبحان الله، عبد الله بن مسعود راعي الغنم يعتلي ظهر سيد قريش، عندها قال أبو جهل - وكان فيه رَمَق حياة: لقد ارتقيتَ مُرْتقىً صَعْباً يا رُوَيْعيَّ الغنم، يعني: ركبتني يا ابن الإيه!! فأيُّ خِزْي بعد هذا؟!
وأبو سفيان بعد أن شفع له العباس رضي الله عنه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأى موكب النبي يوم الفتح، وحوله رايات الأنصار في موكب رهيب مهيب، لم يملك نفسه ولم يستطع أنْ يُخفي ما في صدره، فقال للعباس رضي الله: لقد أصبح مُلْك ابن أخيك قوياً، فقال له: إنها النبوة يا أبا سفيان يعني: المسألة ليست مُلْكاً، إنما هي النبوة المؤيَّدة من الله.
وسيدنا أبو بكر - رضي الله عنه - حينما استأذن عليه القوم في الدخول، فأذِنَ للسابقين إلى الإسلام من العبيد والموالي، وترك بعض صناديد قريش على الباب، (فورِِمَتْ) أنوفهم من هذا الأمر وأغتاظوا، وكان فيهم أبو سيدنا أبي بكر فقال له: أتأذن لهؤلاء وتتركنا؟ فقال له: إنه الإسلام الذي قدمهم عليكم. وقد شاهد عمر هذا الموقف فقال لهم: ما لكم ورِمَتْ أنوفكم؟ وما بالكم إذا أُذِن لهم على ربهم وتأخرتم أنتم.
فالغضب الحقيقي سيكون في الآخرة حين يُنَادى بهؤلاء إلى الجنة، وتتأخرون أنتم في هَوْل الموقف.
واقرأ قوله تعالى:{ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَـائِكَ الْمُقَرَّبُونَ }[ الواقعة: 10 - 11].
ثم يقول تعالى: } وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ { [الحج: 9] فهذا الخِزْيُ الذي رَأَوْه في الدنيا لن يُفلتهم من خِزْي وعذاب الآخرة، ومعنى } عَذَابَ الْحَرِيقِ { [الحج: 9] الحريق: هو الذي يحرق غيره من شِدتّه، كالنار التي أوقدوها لإبراهيم - عليه السلام - وكانت تشوي الطير الذي يمرُّ بها في السماء فيقع مشوياً. ثم يقول الحق سبحانه: } ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ.. {
.
(/2586)
ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10)
{ ذالِكَ.. } [الحج: 10] يعني خِزْي الدنيا وعذاب الحريق في الآخرة بما قدَّمتْ، وبما اقترفت يداك، لا ظُلْماً منّا ولا اعتداء، فأنت الذي ظلمتَ نفسك، كما قال سبحانه:{ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـاكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }[النحل: 118]
وهل أخذناهم دون إنذار، ودون أن نُجرِّم هذا الفعل؟ لأنك لا تعاقب شخصاً على ذنب إلا إذا كنتَ قد نبَّهته إليه، وعرَّفته بعقوبته، فإنْ عاقبته دون علمه بأن هذا ذنب وهذه جريمة فقد ظلمتَه؛ لذلك فأهل القانون يقولون: لا عقوبةَ إلا بتجريم، ولا تجريمَ إلا بنصٍّ.
وقد جاءكم النص الذي يُبيِّن لكم ويُجرِّم هذا الفعل، وقد أبلغتُكم الرسل، وسبق إليكم الإنذار، كما في قوله تعالى:{ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىا نَبْعَثَ رَسُولاً }[الإسراء: 15].
{ ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ.. } [الحج: 10] فهل الذنوب كلها تقديمُ اليد فقط؟
الذنوب: إما أقوال، وإما أفعال، وإما عمل من أعمال القلب، كالحقد مثلاً أو النفاق.. إلخ لكن في الغالب ما تُزَاول الذنوب بالأيدي.
ثم يقول تعالى: { وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ } [الحج: 10] ظلاَّم: صيغة مبالغة من الظلم، تقول: ظالم. فإنْ أردتَ المبالغة تقول: ظلاَّم، كما تقول: فلان آكل وفلان أكُول، فالفعل واحد، لكن ما ينشأ عنه مختلف، والمبالغة في الفعل قد تكون في الفعل نفسه أو في تكراره، فمثلاً قد تأكل في الوجبة الواحدة رغيفاً واحداً، وقد تأكل خمسة أرغفة هذه مبالغة في الوجبة الواحدة، فأنت تأكل ثلاث وجبات، لكن تبالغ في الوجبة الواحدة، وقد تكون المبالغة في عدد الوجبات فتأكل في الوجبة رغيفاً واحداً، لكن تأكل خمس وجبات بدلاً من ثلاث. فهذه مبالغة بتكرار الحدث.
وصيغة المبالغة لها معنى في الإثبات ولها معنى في النفي: إذا قُلْتَ: فلان أكول وأثبتَّ له المبالغة فقد أثبتَّ له أصل الفعل من باب أَوْلَى فهو آكل، وإذا نفيتَ المبالغة فنَفْي المبالغة لا ينفي الأصل، تقول: فلان ليس أكولاً، فهذا لا ينفي أنه آكل. فإذا طبَّقنا هذه القاعدة على قوله تعالى: { وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ } [الحج: 10] فهذا يعني أنه سبحانه وتعالى (ظالم) حاشا لله، وهنا نقول: هناك آيات أخرى تنفي الفعل، كما في قوله تعالى:{ وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً }[الكهف: 49] وقوله تعالى:{ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـاكِن كَانُواْ هُمُ الظَّالِمِينَ }[الزخرف: 76].
كما أن صيغة المبالغة هنا جاءت مضافة للعبيد، فعلى فرض المبالغة تكون مبالغة في تكرار الحدث { بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ } [الحج: 10] ظلم هذا، وظلم هذا، فالمظلوم عبيد، وليس عبداً واحداً.
والظلم في حقيقته أن يأخذ القويُّ حَقَّ الضعيف، ويكون الظلم على قَدْر قوة الظالم وقدرته، وعلى هذا إنْ جاء الظلم من الله تعالى وعلى قَدْر قوته وقدرته فلا شكَّ أنه سيكون ظُلْماً شديداً لا يتحمله أحد، فلا نقول - إذن - ظالم بل ظلام، وهكذا يتمشى المعنى مع صيغة المبالغة.
فالحق سبحانه ليس بظلام للعبيد؛ لأنه بيَّن الحلال والحرام، وبيَّن الجريمة ووضع لها العقوبة، وقد بلَّغَتْ الرسل من بداية الأمر فلا حُجَّةَ لأحد.
ثم يقول الحق سبحانه: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىا حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ.. }
.
(/2587)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)
قوله تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىا حَرْفٍ.. } [الحج: 11] العبادة: أنْ تطيع الله فيما أمر فتنفذه، وتطيعه فيما نهى فتجتنبه، بعض الناس يعبد الله هذه العبادة طالما هو في خير دائم وسرور مستمر، فإذا أصابه شَرٌّ أو وقع به مكروه ينقلب على وجهه { فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَىا وَجْهِهِ.. } [الحج: 11]
والحق سبحانه يريد من عبده أنْ يُقبل على عبادته في ثبات إيمان، لا تزعزعه الأحداث، ولا تهز إيمانه فيتراجع، ربك يريدك عبداً له في الخير وفي الشر، في السراء وفي الضراء، فكلاهما فتنة واختبار، وما آمنتَ بالله إلا لأنك علمتَ أنه إله حكيم عادل قادر، ولا بد أنْ تأخذ ما يجري عليك من أحداث في ضوء هذه الصفات.
فإنْ أثقلتْك الحياة فاعلم أن وراء هذه حكمة إنْ لم تكن لك فلأولادك من بعدك، فلعلهم إنْ وجدوك في سعة وفي خير طَمِعُوا وفسدوا وطَغَوْا، ولعل حياة الضيق وقِلَّة الرزق وتعبك لتوفر متطلبات الحياة يكون دافعاً لهم.
واقرأ قوله تعالى:{ كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَىا * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىا }[العلق: 6 - 7] وقوله تعالى:{ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ }[الأنبياء: 35].
لا بُدَّ أنْ تعرف هذه الحقائق، وأنْ تؤمن بحكمة ربك في كل ما يُجريه عليك، سواء أكان نعيماً أو بُؤْساً، فإنْ أصابك مرض أقعدك في بيتك فَقُلْ: ماذا حدث خارج البيت، أبعدني الله عنه وعافاني منه؟ فلعل الخير فيما تظنه شراً، كما قال تعالى:{ وَعَسَىا أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ.. }[البقرة: 216].
وقد أجرى علماء الإحصاء إحصاءات على بعض بيوتنا، فوجدوا الإخوة في البيت الواحد، وفي ظروف بيئية واحدة وأب واحد، وأم واحدة، حتى التعليم في المدرس على مستوى واحد، ومع ذلك تجد أحد الأبناء مستقيماً ملتزماً، وتجد الآخر على النقيض، فلمَّا بحثوا في سبب هذه الظاهرة وجدوا أن الولد المستقيم كانت فترة تربيته وطفولته في وقت كان والده مريضاً ويلازم بيته لمدة ست سنوات، فأخذ هذا الولد أكبر قِسْط من الرعاية والتربية، ولم يجد الفرصة للخروج من البيت أو الاختلاط برفاق السوء.
وفي نموذج آخر لأحد الأبناء المنحرفين وجدوا أن سبب انحرافه أن والده في فترة تربيته وتنشئته كان تاجراً، وكان كثير الأسفار، ومع ذلك كان يُغْدِق على أسرته، فتربَّى الولد في سَعَة من العيش، بدون مراقبة الأب.
وفي نموذج آخر وجدوا أخوين: أحدهما متفوق، والآخر فاشل، ولما بحثوا أسباب ذلك رغم أنهما يعيشان ظروفاً واحدة وجدوا أن الابن المتفوق صحته ضعيفة، فمال إلى البيت والقراءة والاطلاع، وكان الآخر صحيحاً وسيماً، فمال إلى حياة الترف، وقضى معظم وقته خارج البيت.
والأمثلة في هذا المجال كثيرة.
إذن: فالابتلاءات لها مغانم، ومن ورائها حِكَم؛ لأنها ناشئة وجارية عليك بحكمة ربك وخالقك، وليست من سَعْيك ولا من عمل يدك، وما دامت كذلك فارْضَ بها، واعبد الله بإخلاص وإيمان ثابت في الخير وفي الشر.
ومعنى: } يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىا حَرْفٍ.. { [الحج: 11] والحرف: هو طرف الشيء، كأن تدخل فتجد الغرفة ممتلئة فتجلس على طرف في آخر الجالسين، وهذا عادةً لا يكون معه تمكُّن واطمئنان، كذلك مَنْ يعبد الله على حرف يعني: لم يتمكَّن الإيمان من قلبه، وسرعان ما يُخرِجه الابتلاء عن الإيمان، لأنه عبد الله عبادةً غير متمكنة باليقين الذي يصدر عن المؤمن بإله حكيم فيما يُجريه على عبده.
والآية لم تترك شيئاً من هواجس النفس البشرية سواء في الخير أو في الشر.
وتأمل قول الله تعالى: } فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ.. { [الحج: 11] وكذلك: } وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ.. { [الحج: 11] فأنت لا تقول: أصبتُ الخيرَ، إنما الخير هو الذي أصابك وأتاك إلى بابك، فأنت لا تبحث عن رزقك بقدر ما يبحث هو عنك؛ لذلك يقول تعالى:{ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ.. }[الطلاق: 2 - 3].
ويقول أهل المعرفة: رِزْقك أعلم بمكانك منك بمكانه، يعني يعرف عنوانك أما أنت فلا تعرف عنوانه، بدليل أنك قد تطلب الرزق في مكان فلا تُرزَق منه بشيء، وقد ترى الزرع في الحقول زاهياً تأمل فيه المحصول الوفير، وتبني عليه الآمال، فإذا بعاصفة أو آفة تأتي عليه، فلا تُرزَق منه حتى بما يسدُّ الرَّمَق.
ولنا عبرة ومثَلٌ في ابن أُذَيْنة حين ضاقت به الحال في المدينة، فقالوا له: إن لك صحبة بهشام بن عبد الملك الخليفة الأموي فاذهب إليه ينالك من خير الخلافة، وفعلاً سافر ابن أذينة إلى صديقه، وضرب إليه أكباد الإبل حتى الشام، واستأذن فأَذن له، واستقبله صاحبه، وسأله عن حالة فقال: في ضيق وفي شدة. وكان في مجلس الخليفة علماء فقال له: يا عروة ألست القائل - وكان ابن أُذَيْنَة شاعراً:لَقَد عَلِمت ومَا الإسْرَافُ مِنْ خُلُقِي أَنَّ الذي هُوَ رِزْقي سَوْفَ يأْتِينِي؟وهنا أحسَّ عروة أن الخليفة كسر خاطره، وخَيَّب أمله فيه، فقال له: جزاك الله خيراً يا أمير المؤمنين، لقد ذكَّرت مني ناسياً، ونبَّهْتَ مني غافلاً، ثم انصرف.
فلما خرج ابن أُذيْنة من مجلس الخليفة، وفكَّر الخليفة في الموقف وأنَّب نفسه على تصُّرفه مع صاحبه الذي قصد خَيْره، وكيف أنه رَدَّه بهذه الصورة، فأراد أنْ يُصلِح هذا الخطأ، فأرسل إليه رسولاً يحمل الهدايا الكثيرة، إلا أن رسول الخليفة كلما تبع ابن أُذَيْنة في مكان وجده قد غادره إلى مكان آخر، إلى أنْ وصل إلى بيته، فطرق الباب، وأخبره أن أمير المؤمنين قد ندم على ما كان منه، وهذه عطاياه وهداياه.
وهنا أكمل ابن أُذيْنة بيته الأول، فقال:أسْعَى لَهُ فَيُعَنَّيني تطلُّبه وَلَوْ قَعَدْتُ أَتَانِي لاَ يُعنَّينيكذلك نلحظ في هذه الآية: } فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ.. { [الحج: 11] ولم يقابل الخير بالشر، إنما سماها (فتْنَة) أي: اختبار وابتلاء؛ لأنه قد ينجح في هذا الاختبار فلا يكون شراً في حَقِّه.
ومعنى: } انْقَلَبَ عَلَىا وَجْهِهِ { [الحج: 11] يعني: عكس الأمر، فبعد أنْ كان عابداً طائعاً انقلب إلى الضِّدِّ فصار عاصياً } خَسِرَ الدُّنْيَا وَالأَخِرَةَ.. { [الحج: 11] وخسْران الإنسان لعبادته خسران كبيرٌ لا يُجْبَر ولا يُعوِّضه شيء؛ لذلك يقول بعدها: } ذالِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ { [الحج: 11] فهل هناك خُسْران مبين، وخسران غير مبين؟
نعم: الخسران هو الخسارة التي تُعوَّض، أما الخسارة التي لا عِوضَ لها فهذه هي الخسران المبين الذي يلازم الإنسان ولا ينفكُّ عنه، وهو خُسْران لا يقتصر على الدنيا فقط فيمكن أنْ تُعوِّضه أو تصبر عليه، إنما يمتد للآخرة حيث لا عِوضَ لخسارتها ولا صَبْر على شِدَّتها. فالخسران المبين أي: المحيط الذي يُطوِّق صاحبه.
لذلك نقول لمن فقد عزيزاً عليه، كالمرأة التي فقدت وحيدها مثلاً: إنْ كان الفقيد حبيباً وغالياً فبيعوه غالياً وادخلوا به الجنة، ذلك حين تصبرون على فَقْده وتحتسبونه عند الله، وإنْ كنتم خسرتم به الدنيا فلا تخسروا به الآخرة، فإنْ لطَمْنا الخدود وشَقَقْنَا الجيوب، واعترضنا على قَدَر الله فيه فقد خسرنَا به الدنيا والآخرة.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: " عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير: إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإنْ أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن ".
والصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء مرتبة من مراتب الإيمان، ومرحلة من مراحل اليقين في نفس المؤمن، وهي بداية وعَتَبة يتلوها مراحل أخرى ومراقٍ، حَسْب قوة الإيمان.
اسمع إلى هذا الحوار الذي دار بين أهل المعرفة من الزُّهَّاد، وكيف كانوا يتباروْنَ في الوصول إلى هذه المراقي الإيمانية، ويتنافسون فيها، لا عن مُبَاهاة ومفاخرة، إنما عن نية خالصة في الرُّقي الإيماني.
يسأل أحد هؤلاء المتمكِّنين صاحبه: كيف حال الزهاد في بلادكم؟ فقال: إن أصابنا خير شكرنا، وإن أصابنا شَرٌّ صبرنا، فضحك الشيخ وقال: وما في ذلك؟! إنه حال الكلاب في بَلْخ. أما عندنا: فإنْ أصابنا خير آثرنا، وإنْ أصابنا شَرٌّ شكرنا.
وهذه ليست مباهاة إنما تنافس، فكلاً الرجلين زاهد سالك لطريق الله، يرى نفسه محسوباً على هذا الطَريق، فيحاول أنْ يرتقيَ فيه إلى أعلى مراتبه، فإياك أنْ تظن أن الغاية عند الصبر على البلاء والشُّكْر على العطاء، فهذه البداية وبعدها منازل أعْلَى ومَراقٍ أسمى لمن طلبَ العُلاَ، وشمَّر عن ساعد الجد في عبادة ربه.
انظر إلى أحد هؤلاء الزُّهَّاد يقول لصاحبة: أَلاَ تشتاق إلى الله؟ قال: لا، قال مُتعجباً: وكيف ذلك؟ قال: إنما يُشتاق لغائب، ومتى غاب عني حتى أشتاق إليه؟ وهكذا تكون درجات الإيمان وشفافية العلاقة بين العبد وربه عز وجل.
ثم يقول الحق سبحانه عن هذا الذي يعبد الله على حرف: } يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ.. {.
(/2588)
يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12)
معنى: { مَا لاَ يَضُرُّهُ.. } [الحج: 12] هل الصنم الذي يعبده الكافر من دون الله يمكن أن يضره؟ لا، الصنم لا يضر، إنما الذي يضره حقيقة مَنْ عانده وانصرف عن عبادته، تضره الربوبية التي يعاندها والمجَازي الذي يجازيه بعمله، إذن: فما معنى: { يَضُرُّهُ.. } [الحج: 12] هنا؟
المعنى: لا يضره إن انصرف عنه ولم يعبده، ولا ينفعه إنْ عبده: { ذالِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ } [الحج: 12] نعم ضلال: لأن الإنسان يعبد ويطيع مَنْ يرجو نفعه في أيِّ شيء، أو يخشى ضره في أيِّ شيء.
وقد ذكرنا سابقاً قول بعض العارفين: (واجعل طاعتك لمن لا تستغني عنه)، ولو قلنا هذه المقولة لأبنائنا في الكتب الدراسية، واهتمَّ بها القائمون على التربية لما أغرى الأولاد بعضهم بعضاً بالفساد، ولوقفَ الولد يفكر مرة وألف مرة في توجيهات ربه، ونصائح أبيه وأمه، وكيف أنه سيترك توجيهات مَنْ يحبونه ويخافون عليه ويرجُون له الخير إلى إغراء صديق لا يعرف عنه وعن أخلاقه شيئاً.
لا بُدَّ أنْ نُطعِّم أبناءنا مبادئ الإسلام، ليعرف الولد منذ صِغَره مَنْ يحبه ومَنْ يكرهه، ومَنْ هو أَوْلَى بطاعته.
وتلحظ في الآية أن الضر سابق للنفع: { مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ.. } [الحج: 12] لأن دَرْءَ المفسدة مُقدَّم على جَلْب المصلحة؛ لأن المفسدة خروج الشيء عن استقامة تكوينه، والنفع يزيدك ويضيف إليك، أما الضر فينقصك، لذلك خَيْر لك أنْ تظل كما أنت لا تنقص ولا تزيد، فإذا وقفتَ أمام أمرين: أحدهما يجلب خيراً، والآخر يدفع شراً، فلا شَكَّ أنك ستختار دَفْع الشر أولاً، وتشتغل بدَرْءِ المفسدة قبل جَلْب المصلحة.
وضربنا لذلك مثلاً: هَبْ أن إنساناً سيرمي لك بتفاحة، وآخر سيرميك بحجر في نفس الوقت، فماذا تفعل؟ تأخذ التفاحة، أو تتقي أَذى الحجر؟ هذا هو معنى " دَرْء المفسدة مُقدَّم على جَلْب المصلحة ".
(/2589)
يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)
الأية السابقة تثبت أنه يدعو مَا لا يضُرُّه ومَا لا ينفعه، وهذه الآية تُثبت أنه يدعو مَنْ ضَرُّه أقرب من نَفْعه.
صيغة أفعل التفضيل (أقرب) تدل على أن شيئين اشتركا في صفة واحدة، إلا أن أحدهما زاد عن الآخر في هذه الصفة، فلو قُلْتَ: فلان أحسن من فلان. فهذا يعني أن كلاهما حَسَن، لكن زاد أحدهما عن الآخر في الحُسْن.
فقوله تعالى: { يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ.. } [الحج: 13]
إذن: هناك نَفْع وهو قريب، لكن الضر أقرب منه، فهذه الآية في ظاهرها تُناقِض الآية السابقة، والحقيقة ليس هناك تناقض، ولا بُدَّ أنْ نفهمَ هذه المسألة في ضوء قوله تعالى:{ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً }[النساء: 82].
فالأوثان التي كانوا يعبدونها كان لها سَدَنة يتحكَّمون فيها وفي عابديها، فإذا أرادوا من الآلهة شيئاً قالوا للسدنة: ادعوا الآلهة لنا بكذا وكذا، إذن: كان لهم نفوذ وسُلْطة زمنية، وكانوا هم الواسطة بين الأوثان وعُبَّادها، هذه الواسطة كانت تُدِرُّ عليهم كثيراً من الخيرات وتعطيهم كثيراً من المنافع، فكانوا يأخذون كل ما يُهْدَى للأوثان.
فالأوثان - إذن - سبب في نَفْع سدنتها، لكن هذا النفع قصاراه في الدنيا، ثم يتركونه بالموت، فمدة النفع قصيرة، وربما أتاه الموت قبل أنْ يستفيد بما أخذه، وإنْ جاء الموت فلا إيمانَ ولا عملَ ولا توبةَ، وهذا معنى { ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ.. } [الحج: 13].
لذلك يقول تعالى بعدها: { لَبِئْسَ الْمَوْلَىا وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ } [الحج: 13] كلمة (بئس) تُقَال للذم وهي بمعنى: ساء وقَبُح، والموْلَى: الذي يليك ويقرُب منك، ويُراد به النافع لك؛ لأنك لا تقرِّب إلا النافع لك، إما لأنه يعينك وقت الشدة، ويساعدك وقت الضيق، وينصرك إذا احتجتَ لِنُصْرته، وهذا هو الوليُّ.
وإما أنْ تُقرِّبه منك؛ لأنه يُسليك ويجالسك وتأنس به، لكنه ضعيف لا يقوى على نُصْرتك، وهذا هو العشير.
والأصنام التي يعبدونها بئست المولى؛ لأنها لا تنصرهم وقت الشدة، وبئست العشير؛ لأنها لا تُسليهم، ولا يأنسون بها في غير الشدة.
ثم يقول الحق سبحانه: { إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَاتٍ.. }.
(/2590)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14)
بعد أن تكلَّم الحق - سبحانه وتعالى - عن الكفار وأهل النار ومَنْ يعبدون الله على حَرْف، كان لا بُدَّ أنْ يأتيَ بالمقابل؛ لأن النفس عندها استعداد للمقارنة والتأمل في أسباب دخول النار، وفي أسباب دخول الجنة، وهذا أَجْدى في إيقاع الحجة.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى:{ إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ }[الانفطار: 13 - 14] وقوله تعالى:{ فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً.. }[التوبة: 82]
فذِكْر النعمة وحدها دون أنْ تقابلها النِّقْمة لا تُؤتِي الأثر المطلوب، لكن حينما تقابل النعمة بالنقمة وَسَلْب الضّر بإيجاب النفع فإنَّ كلاهما يُظهر الآخر؛ لذلك يقول تعالى:{ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ.. }[آل عمران: 185] فإنْ آمنتَ لا تُزَحْزح عن النار فقط - مع أن هذه في حَدِّ ذاتها نعمة - لكن تُزَحْزح عن النار وتدخل الجنة.
والإيمان: عمل قلبي ومواجيد تطمئن بها النفس، لكن الإيمان له مطلوب: فأنت آمنتَ بالله، واطمأنَّ قلبك إلى أن الله هو الخالق الرازق واجب الوجود.. إلخ، فما مطلوب هذا الإيمان؟
مطلوب الإيمان أنْ تستمع لأوامره، لأنه حكيم، وتثق في قدرته لأنه قادر، وتخاف من بطشه لأنه جبار، ولا تيأس من بَسْطه لأنه باسط، ولا تأمن قبضه لأنه قابض.
لقد آمنتَ بكل هذه القضايا، فحين يأمرك بأمر فعليك أنْ تستحضر حيثيات هذا الأمر، وأنت واثق أن ربك عز وجل لم يأمرك ولم يَنْهَكَ من فراغ، إنما من خلال صفات الكمال فيه سبحانه، أو صفات الجلال والجبروت، فاستحضر في كُلِّ أعمالك وفي كُلِّ ما تأتي أو تدع هذه الصفات.
لذلك، جمعت الآية بين الإيمان والعمل الصالح: { إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَاتٍ.. } [الحج: 14]
وفي سورة العصر:{ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ.. }[العصر: 1 - 3] ليس ذلك وفقط إنما أيضاً:{ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ }[العصر: 3].
فالتواصي بالحق والصبر على الشدائد من الاستجابة لداعي الإيمان وثمرة من ثماره؛ لأن المؤمن سيتعرَّض في رحلة الحياة لفِتَن كثيرة قد تزلزله، وسيواجه سُخْرية واستهزاءً، وربما تعرَّض لألوان العذاب.
فعليه إذن - أنْ يتمسَّك بالحق ويتواصى به مع أخيه، وعليه أن يصبر، وأنْ يتواصى بالصبر مع إخوانه، ذلك لأن الإنسان قد تعرض له فترات ضَعف وخَوَر، فعلى القوي في وقت الفتنة أنْ ينصحَ الضعيف.
وربما تبدَّل هذا الحال في موقف آخر وأمام فتنة أخرى، فَمنْ أوصيْتَه اليوم بالصبر ربما يوصيك غداً، وهكذا يُثمِر في المجتمع الإيماني التواصي بالحق والتواصي بالصبر.
إذن: تواصَوْا؛ لأنكم ستتعرضون لِهزَّات ليست هزَّات شاملة جامعة، إنما هزَّات يتعرض لها البعض دون الآخر، فإنْ ضعُفْتَ وجدتَ من إخوانك مَنْ يُواسيك: اصبر، تجلَّد، احتسب.
وإياك أنْ تُزحزحك الفتنة عن الحق، أو تخرج عن الصبر، وهذه عناصر النجاة التي ينبغي للمؤمنين التمسك بها: إيمان، وعمل صالح، وتواصٍ بالحق، وتواصٍ بالصبر.
وقوله سبحانه: } تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ.. { [الحج: 14].
الجنات: هي الحدائق والبساتين المليئة بأنواع المتَّع: الزرع، والخضرة، والنضارة، والزهور، والرائحة الطيبة، وهذه كلها بنت الماء؛ لذلك قال } تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ.. { [الحج: 14] ومعنى: } مِن تَحْتِهَا.. { [الحج: 14] أن الماء ذاتيٌّ فيها، لا يأتيها من مكان آخر ربما ينقطع عنها، كما جاء في آية أخرى:{ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ.. }[التوبة: 100].
ثم يقول سبحانه: } إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ.. { [الحج: 14] لأنه سبحانه لا يُعْجِزه شيء، ولا يعالج أفعاله كما يعالج البشر أفعالهم{ إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ }[يس: 82] ولو تأملتَ هذه الآية لوجدتَ الشيء الذي يريده الله ويأمر بكونه موجوداً في الحقيقة، بدليل أن الله تعالى يخاطبه{ يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ }[يس: 82] فهو - إذن - كائن فعلاً، وموجود حقيقةً، والأمر هنا إنما هو لإظهاره في عالم المشاهدة.
ثم يقول سبحانه: } مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ.. {
.
(/2591)
مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15)
(يظنُّ) تفيد عِلْماً غير يقيني وغير مُتأكد، وسبق أنْ تكلَّمنا في نسبة القضايا، فهناك حكم محكوم به ومحكوم عليه، تقول: زيد مجتهد، فأنت تعتقد في نِسْبة الاجتهاد لزيد، فإنْ كان اعتقادك صحيحاً فتستطيع أنْ تُقدِّم الدَليل على صحته فتقول: بدليل أنه ينجح كل عام بتفوق.
أما إذا اعتقد هذه القضية ولم يُقدِّم عليها دليلاً كأنْ سمع الناسَ يقولون: زيد مجتهد. فقال مثلهم، لكن لا دليلَ عنده على صِدْق هذه المقولة، كالطفل الذي نُلقّنه{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }[الإخلاص: 1] هذه قضية واقعية يعتقدها الولد، لكن لا يستطيع أنْ يُقدِّم الدليل عليها إلا عندما يكُبر ويستوي تفكيره.
فمن أين أخذ الطفل هذه القضية واعتقدها؟ أخذها من المأمون عليه: من أبيه أو أستاذه ثم قلَّده. إذن: إنْ كانت القضية واقعة، لكِنْ لا تستطيع أنْ تقيم الدليل عليها فهي تقليد، فإنِ اعتقدتَ قضية واقعة، وأقمْتَ الدليل عليها، فهذا أسمْى مراتب العلم، فإنِ اعتقدتَ قضيةً غير واقعيةٍ، فهذا جهل.
فالجاهل: مَنْ يعتقد شيئاً غير واقع، وهذا الذي يُتعِب الدنيا كلها، ويُشقي من حوله، لأن الجاهل الأميَّ الذي لا يعلم شيئاً، وليست لديه فكرة يعتقدها صفحة بيضاء، تستطيع أنْ تقنعه بالحقيقة ويقبلها منك؛ لأنه خالي الذهن ولا يعارضك.
فإنْ تشككْتَ في النسبة بحيث استوت عندك نسبة الخطأ مع نسبة الصواب، فهذا هو الشَّكُّ، فلا تستطيع أنْ تجزم باجتهاد زيد، ولا بعدم اجتهاده، فإنْ غلب الاجتهاد فهو ظَنٌّ، فإنْ غلب عدم الاجتهاد فهو وَهْم.
إذن: نسبة القضايا إما علم تعتقده: وهو واقع وتستطيع أنْ تقيمَ الدليل عليه، أو تقليد: وهو ما تعتقده وهو واقع، لكن لا تقدر على إقامة الدليل عليه، أو جهل: حين تعتقد شيئاً غير واقع، أو شك: حين لا تجزم بالشيء ويستوي عندك النفي والإثبات، أو ظن: حين تُرجِّح الإثبات، أو وهم: حين تُرجِّح النفي.
فالظن في قوله تعالى: { مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ.. } [الحج: 15] أي: يمرُّ بخاطره مجرد مرور أن الله لن ينصر محمداً، أو يتوهم ذلك - ولا يتوهم ذلك إلا الكفار - لأنهم يأملون ذلك في معركة الإيمان والكفر - مَنْ ظَنَّ هذا الظنَّ فعليه أنْ ينتهيَ عنه؛ لأنه أمر بعيد، لن يحدث ولن يكون.
وقد ظَنَّ الكفار هذا الظن حين رَأَوْا بوادر نصر الإيمان وعلامات فوزه، فاغتاظوا لذلك، ولم يجدوا شيئاً يريح خاطرهم إلا هذا الظن.
لذلك؛ يردُّ الله غيظهم عليهم، فيقول لهم: ستظلون بغيظكم؛ لأن النصر للإيمان ولجنوده مستمر، فليس أمامك إلا أنْ تجعل حبلاً في السماء وتربط عنقك به، تشنق نفسك حتى تقع، فإنْ كان هذا الكيد لنفسك يُنجيك من الغيظ فافعل: { فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَآءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ } [الحج: 15].
لكن ما الغيظ؟ الغيظ: نوع من الغضب مصحوب ومشُوب بحزن وأَسَىً وحَسْرة حينما ترى واقعاً يحدث أمام عينيك ولا يرضيك، وفي الوقت نفسه لا تستطيع أن تفعل شيئاً تمنع به مَا لا يُرضيك.
وهذه المادة (غيظ) موجودة في مواضع أخرى من كتاب الله، وقد استُعْملَتْ حتى للجمادات التي لا تُحسُّ، اقرأ قول الله تعالى عن النار:{ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ.. }[الملك: 8] وقال:{ إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً }[الفرقان: 12] فكأن النار مغتاظة من هؤلاء، تتأهب لهم وتنتظرهم.
والغَيْظ يقع للمؤمن والكافر، فحين نرى عناد الكفار وسُخريتهم واستهزاءهم بالإيمان نغتاظ، لكن يُذهب الله غيْظ قلوبنا، كما قال سبحانه:{ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ.. }[التوبة: 15].
أما غيْظ الكفار من نصْر الإيمان فسوف يَبْقى في قلوبهم، فربُّنا - سبحانه وتعالى - يقول لهم: ثقُوا تماماً أن الله لم يرسل رسولاً إلا وهو ضامن أنْ ينصره، فإنْ خطر ببالكم خلافُ ذلك فلن يُريحكم ويَشْفي غيظكم إلاّ أنْ تشنقوا أنفسكم؛ لذلك خاطبهم الحق سبحانه في آية أخرى فقال:{ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ.. }[آل عمران: 119].
ومعنى: } فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَآءِ.. { [الحج: 15] } فَلْيَمْدُدْ.. { [الحج: 15]: من مدَّ الشيء يعني: أطاله بعد أنْ كان مجتمعاً، ومنه قوله تعالى:{ وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا.. }[الحجر: 19] فكلما تسير تجد أرضاً ممتدة ليس لها نهاية حافَّة.
والسبب: الحبل، يُخرجون به الماء من البئر، لكن هل يستطيع أحد أنْ يربط حبلاً في السماء؟ إذن: علَّق المسألة على محال، وكأنه يقول لهم: حتى إنْ أردتم شَنْق أنفسكم فلن تستطيعوا، وسوف تظلُّون هكذا بغيظكم.
أو: يكون المعنى: } إِلَى السَّمَآءِ.. { [الحج: 15] يعني: سماء البيت وسقفه، كمَنْ يشنق نفسه في سَقْف البيت.
ويمكن أن نفهم (السبب) على أنه أيّ شيء يُوصِّلك إلى السماء، وأيّ وسيلة للصعود، فيكون المعنى: خذوا أيّ طريقة تُوصِّلكم إلى السماء لتمنعوا عن محمد أسباب النصر؛ لأن نَصْر محمد يأتي من السماء فامنعوه، وهذه أيضاً لا يقدرون عليها، وسيظل غيظهم في قلوبهم.
وتلحظ أننا نتكلم عن محمد صلى الله عليه وسلم، مع أن الآية لم تذكر شيئاً عنه، وكل ما جاء في الآية ضمير الغائب المفرد في قوله تعالى: } مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ.. { [الحج: 15] والحديث مُوجَّه للكفار المغتاظين من بوادر النصر لركْب الإيمان، فقوله: } يَنصُرَهُ.. { [الحج: 15] ينصر مَنْ؟ لا بُدَّ أنه محمد، لماذا؟
قالوا: لأن الأسماء حينما تُطلَق تدلُّ على مَعَانٍ، فعندما تقول " سماء " نفهم المراد، وعندما تقول " قلب " نفهم، " نور " نعرف المراد. والأسماء إما اسم ظاهر مثل: محمد وعلي وعمر وأرض وسماء، والأسماء إما اسم ظاهر مثل: أنا، أنت، هو، هم.
والضمير مُبْهم لا يُعيِّنه إلا التكلُّم، فأنت تقول: أنا وكذلك غيرك يقول أنا أو نحن، فالذي يُعيِّن الضمير المتكلّم به حال الخطاب، فعُمدْة الفهم في الضمائر ذات المتكلم وذات المخاطب.فإن لم يكن متكلّماً ولا مخاطباً فهو غائب، فمن أين تأتي بقرينة التعريف للغائب؟
حين تقول: هو، هي، هم. مَن المراد بهذه الضمائر؟ كيف تُعيِّنها؟ إنْ عيَّنْتَ المتكلم بكلامه، والمخاطب بمخاطبته، كيف تُعيِّن الغائب؟ قالوا: لا بُدَّ أنْ يسبقه شيء يدل عليه، كأن تقول: جاءني رجل فأكرمتُه، أكرمت مَنْ؟ أكرمت الرجل الذي تحدثتُ عنه، جاءتني امرأة فأكرمتُها، جاء قوم فلان فأكرمتهم. إذن: فمرجع الضمير هو الذي يدلُّ عليه.
لكن لم يسبق ذِكْر لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الضمير ليُعيِّنه ويدلُّ عليه، نعم لم يسبق ذِكْر لرسول الله، لكن تأمَّل المعنى: الكلام هنا عن النصر بين فريق الإيمان وعلى رأسه محمد صلى الله عليه وسلم، وفريق الكفر وعلى رأسه هؤلاء المعاندون، فالمقام مُتعيّن أنه لا يعود الضمير إلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومثال ذلك قوله تعالى:{ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ.. }[القدر: 1].
فالضمير هنا مُتعيِّن، ولا ينصرف إلا إلى القرآن، ولا يتعين الضمير إلا إذا كان الخاطر لا ينصرف إلى غيره في مقامه.
اقرأ:{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }[الإخلاص: 1] تلحظ أن الضمير سابق على الاسم الظاهر، فالمرجع متأخر، ومع ذلك لا ينصرف الضمير إلا إلى الله، فإذا قِيلَ: هو هكذا على انفراد لا يمكن أن ينصرف إلا لله عز وجل.
كذلك في قوله تعالى:{ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ }[النحل: 61]. على ظَهْر أيِّ شيء؟ الذِّهْن لا ينصرف في هذا المقام إلا إلى الأرض.
وقوله تعالى: } فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ { [الحج: 15] الاستفهام هنا مِمَّنْ يعلم، فهو استفهام للتقرير، ليِقُروا هم بأنفسهم أن غَيْظهم سيظلُّ كما هو، لا يشفيه شيء، وأنهم سيموتون بغيظهم، كما قال تعالى:{ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ.. }[آل عمران: 119].
ثم يقول الحق سبحانه: } وَكَذالِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ.. {.
(/2592)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16)
قوله { أَنزَلْنَاهُ.. } [الحج: 16] أي: القرآن؛ لأن الضمير هنا كما ذكرنا مرجعه مُتعِّين، وما دام مرجعه مُتعيناً فلا يحتاج لذكر سابق. والإنزال يحمل معنى العلو، فإنْ رأيتَ في هذا التشريع الذي جاءك في القرآن ما يشقُّ عليك أو يحولُ بينك وبين ما تشتهيه نفسك، فاعلم أنه من أَعْلى منك، من الله، وليس من مُسَاوٍ لك، يمكن أنْ تستدرك عليه أو تناقشه: لماذا هذا الأمر؟ ولماذا هذا النهي؟ فطالما أن الأمر يأتيك من الله فلا بُدَّ أن تسمع وتطيع ولا تناقش.
ولنا أُسْوة في هذا التسليم بسيدنا أبي بكر لما قالوا له: إن صاحبك يقول: إنه أُسْرِي به الليلة من مكة إلى بيت المقدس، ثم عُرِج به إلى السماء، فما كان من الصِّديِّق إلا أنْ قال: إنْ كان قال فقد صدق، هكذا دون مناقشة، فالأمر من أعلى، من الله.
وقلنا: إنك لو عُدْتَ مريضاً فوجدتَ بجواره كثيراً من الأدوية فسألته: لماذا كل هذا الدواء؟ قال: لقد وصفه الطبيب، فأخذت تعترض على هذا الدواء، وتذكر من تفاعلاته وأضراره وعناصره، وأقحمت نفسك في مسألة لا دَخْلَ لك بها.
هذا قياس مع الفارق ومع الاعتراف بأخطاء الأطباء في وصف الدواء، لكن لتوضيح المسألة ولله المثل الأعلى، وصدق القائل:سُبْحانَ مَنْ يَرِثُ الطَّبِيبَ وطِبَّهُ ويُرِي المريض مَصَارِعَ الآسِيناإذن: حجة كل أمر ليس أن نعلم حكمته، إنما يكفي أنْ نعلم الآمر به.
ومعنى { آيَاتٍ.. } [الحج: 16] أي: عجائب { بَيِّنَاتٍ.. } [الحج: 16] واضحات. وسبق أنْ ذكرنا أنْ كلمة الآيات تُطلَق على معَانٍ ثلاثة: الآيات الكونية التي تُثبِت قدرة الله، وبها يستقر الإيمان في النفوس، ومنها الليل والنهار والشمس والقمر، والآيات بمعنى المعجزات المصاحبة للرسل لإثبات صِدْق بلاغهم عن الله، والآيات التي يتكوَّن منها القرآن، وتُسمَّى " حاملة الأحكام ".
فالمعنى هنا { وَكَذالِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ.. } [الحج: 16] تحمل كلمة الآيات كُلَّ هذه المعاني، فآيات القرآن فيها الآيات الكونية، وفيها المعجزة، وهي ذاتها آيات الأحكام.
ثم يقول سبحانه: { وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ.. } [الحج: 16] وهذه من المسائل التي وقف الناس حولها طويلاً:{ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ.. }[النحل: 93] وأمثالها تمسَّك بها مَنْ ليس لهم حَظٌّ من الهداية، يقولون: لم يُرِدِ الله لنا الهداية، فماذا نفعل؟ وما ذنبنا؟
وهذه وقفة عقلية خاطئة؛ لأن الوَقْفة العقلية تقتضي أنْ تذكر الشيء ومقابله، أما هؤلاء فقد نبَّهوا العقل للتناقض في واحدة وتركوا الأخرى، فهي - إذن - وَقْفة تبريرية، فالضال الذي يقول: لقد كتب الله عليَّ الضلال، فما ذنبي؟ لماذا لم يَقُلْ: الطائع الذي كتب الله له الهداية، لماذا يثيبه؟!
فلماذا تركتم الخير وناقشتم في الشر؟
والمتأمل في الآيات التي تتحدث عن مشيئة الله في الإضلال والهداية يجد أنه سبحانه قد بيِّن مَنْ شاء أنْ يُضلّه، وبين مَنْ شاء أنْ يهديه، اقرأ قوله تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ }[المائدة: 67] إذن: كُفْره سابق لعدم هدايته وقوله:{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَـاسِقِينَ }[المنافقون: 6] وقوله:{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }[القصص: 50].
إنما يهدي مَنْ آمن به، أما هؤلاء الذين اختاروا الكفر واطمأنوا إليه وركنوا، فإن الله تعالى يختم على قلوبهم، فلا يدخلها الإيمان، ولا يخرج منها الكفر، لأنهم أحبُّوه فزادهم منه كما زاد المؤمنين إيماناً:{ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى.. }[محمد: 17].
والهداية هنا بمعنى الدلالة على الخير، وسبق أنْ ضربنا لها مثلاً، ولله تعالى المثَل الأعلى: هَبْ أنك تسلك طريقاً لا تعرفه، فتوقفتَ عند جندي المرور وسألته عن وجهتك فدلَّكَ عليها، ووصف لك الطريق الموصِّل إليها. لكن، هل دلالته لك تُلزمك أنْ تسلك الطريق الذي وُصِف لك؟
بالطبع أنت حُرٌّ تسير فيه أو في غيره. فإذا ما حفظتَ لرجل المرور جميلَهُ وشكرته عليه، ولمس هو فيك الخير، فإنه يُعينك بنفسه على عقبات الطريق، وربما ركب معك ليجتاز بك منطقة خطرة يخاف عليك منها. هذا معنى:{ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ }[محمد: 17].
أما لو تعاليتَ على هذا الرجل، أو اتهمته بعدم المعرفة بمسالك الطرق، فإنه يدعُكَ وشأنك، ويضِنُّ عليك بمجرد النصيحة.
وهكذا.. الحق - سبحانه وتعالى - دَلَّ المؤمن ودَلَّ الكافر على الخير، المؤمن رضي بالله وقَبِل أمره ونَهْيه، وحمد الله على هذه النعمة، فزاده إيماناً وأعانه على مشقة العبادة، وجعل له نوراً يسير على هَدْيه، أما الكافر فقد تركه يتخبّط في ظلمات كفره، ويتردد في متاهات العمى والضلال.
ثم يقول الحق سبحانه: } إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىا وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا.. {.
(/2593)
إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)
هذه فئات ست أخبر الله عنها بقوله: { إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ.. } [الحج: 17] ومعنى الفصل بينهم أن بينهم خلافاً ومعركة، ولو تتبعتَ الآيات التي ذكرت هذه الفئات تجد أن هناك آيتين في البقرة وفي المائدة.
يقول تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَىا وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }[البقرة: 62].
وفي المائدة يُقدِّم الصابئين على النصارى، وفي هذا الموضع تأتي بالرفع بالواو، يقول تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَىا مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }[المائدة: 69].
{ الَّذِينَ آمَنُواْ.. } [الحج: 17] أي: بمحمد صلى الله عليه وسلم، { وَالَّذِينَ هَادُواْ.. } [الحج: 17] أي: اليهود، ثم النصارى وهما قبل الإسلام، أما الصابئون: فهؤلاء جماعة كانوا على دين إبراهيم عليه السلام، ثم عبدوا الكواكب فَسُمُّوا الصابئة لخروجهم عن الدين الحق. أما المجوس: فهم عبدة النار، والذين أشركوا: هم المشركون عَبَدة الأصنام والأوثان.
أما التقديم والتأخير بين النصارى والصابئين، قالوا: لأن النصارى فرقة كبيرة معروفة ولهم نبي، أما الصابئة فكانوا جماعة خرجوا على نبيهم وخالفوه وأتَوْا بعقيدة غير عقيدته، فهم قلَّة، لكن سبقوا النصارى في الترتيب الزمني؛ لذلك حين يراعي السَّبْقَ الزمني يقول: { وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى.. } [الحج: 17] وحين يراعي الكثرة والشهرة، يقول:{ وَالنَّصَارَىا وَالصَّابِئِينَ.. }[البقرة: 62] فكلٌّ من التقديم أو التأخير مُراد لمعنى مُعيَّن.
أما قوله:{ وَالصَّابِئُونَ.. }[المائدة: 69] بالرفع على خلاف القاعدة في العطف، حيث عطفت على منصوب، والمعطوف تابع للمعطوف عليه في إعرابه، فلماذا وسَّط مرفوعاً بين منصوبات؟
قالوا: لا يتم الرفع بين المنصوبات إلا بعد تمام الجملة، فكأنه قال: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى، والصابئون كذلك، فعطف هنا جملة تامة، فهي مُؤخَّرة في المعنى، مُقدَّمة في اللفظ، وهكذا تشمل الآية التقديم والتأخير السابق.
لكن، كيف ينشأ الخلاف بين الأديان؟
ينشأ الخلاف من أن قوماً يؤمنون بإله ويؤمنون بالنبي المبلِّغ عن هذا الإله، لكنهم يختلفون على أشياء فيما بينهم، كما نرى الخلاف مثلاً بين المعتزلة وأهل السنة، أو الجبرية والقدرية، فجماعة تثبت الصفات، وآخرون يُنكرونها، جماعة يقولون: الإنسان مُجْبَر في تصرفاته، وآخرون يقولون: بل هو مختار.
وقد ينشأ الخلاف بين الأديان للاختلاف في النبوات، فأهل الديانات يؤمنون بالإله الفاعل المختار، لكن يختلفون في الأنبياء موسى وعيسى ومحمد مع أنهم جميعاً حَقٌّ. وقد ينشأ الخلاف من الادعاء، كالذين يدَّعُون النبوة كهؤلاء الذين يعبدون النار، أو يعبدون بوذا مثلاً.
فهذه ست طوائف مختلفة ذكرتهم الآية، فما حكم هؤلاء جميعاً بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم؟
نقول: أما المشركون الذين عبدوا الأصنام، وكذلك الذين عبدوا النبوة المدَّعاة، فهؤلاء كفار ضائعون.
أما اليهود والنصارى الذين يؤمنون بإله فاعل مختار، ويؤمنون بنبوة صادقة، فشأنهم بعد ظهور الإسلام، أن الله تعالى أقام لنا تصفية آخر الأمر لهذه الديانات، فمَنْ كان يهودياً قبل الإسلام، ومن كان نصرانياً قبل الإسلام، فإن الله أجْرى لهم تصفية عقدية هي الإسلام، فإنْ كانوا مؤمنين الإيمان الأول بالله تعالى فعليهم أنْ يبدأوا من جديد مؤمنين مسلمين.
لذلك قال بعدها:{ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }[البقرة: 62].
فبعد ظهور الإسلام بدأت لهؤلاء جميعاً - اليهود والنصارى والمجوس والمشركين - حياة جديدة، وفُتِحَتْ لهم صفحة جديدة هم فيها أولاد اليوم، حيث لزمهم جميعاً الإيمان بالله تعالى والإيمان بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وكأن الإسلام تصفية (وأوكازيون إيماني) يجُبُّ ما قبله، وعفا الله عما سلف.
والحق - سبحانه - حينما تكلم عن الأجيال السابقة لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم قال:{ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىا ذالِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشَّاهِدِينَ }[آل عمران: 81] لذلك نبَّه كُلٌّ من موسى وعيسى - عليهما السلام - بوجود محمد صلى الله عليه وسلم وبشَّروا به، بدليل قول الله تعالى:{ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ.. }[البقرة: 89] والمراد اليهود والنصارى.
وقد جاء محمد صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، وجامعاً للأديان كلها في الإسلام الذي زاد عليها ما زاد مما تقتضيه أمور الحياة وتطورات العصر، إلى أن تقوم الساعة.
جاء الإسلام تصفية لهؤلاء، استأنفوها بإيمان، واستأنفوها بعمل صالح، فكان لهم أجرهم كاملاً عند ربهم لا يطعن فيهم دينهم السابق، ولا عقائدهم الفاسدة الكافرة.
أما إنْ حدث خلاف حول النبوات كما تذكر الآية التي نحن بصددها: } إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَىا كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ { [الحج: 17] والفَصْل أن نعرف مِنَ المحقُّ ومَنِ المبطل، وهكذا جمعتْ الآيات بين حالة الاتفاق وحالة الاختلاف وبيَّنَتْ جزاء كل منهما.
فالفصل إما فصل أماكن، وإما فصل جزاءات، قالوا: بالطبع فالحكم بينهم: هذا مُحِقٌّ وهذا مُبطِل سيؤدي إلى اختلاف الأماكن واختلاف الجزاءات.
وقوله تعالى: } إِنَّ اللَّهَ عَلَىا كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ { [الحج: 17] لأن الله تعالى هو الحكَم الذي يفصل بين عباده، والحكم يحتاج إما إلى بينة أو شهود، والشهود لا بُدَّ أن يكونوا عُدولاً، ولا يتحقق العدل في الشهادة إلا بدين يمنع الإنسان أنْ يميل عن الحق، فإن كان الحكم هو الله فلا حاجة لبيِّنة، ولا حاجةَ لشهود؛ لأنه سبحانه يحيط علمه بكل شيء، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض.
ومن العجيب أن الحُكْم والفَصْل من الحق سبحانه يشمل كل السلطات: التشريعية والقضائية والتنفيذية، فحُكْمه سبحانه لا يُؤجَّل ولا يُتحّايل عليه، ولا تضيع فيه الحقوق كما تضيع في سراديب وأدراج المحاكم.
أما حُكْم البشر فينفصل فيه التشريع عن القضاء عن التنفيذ، فربما صدر الحكم وتعطَّل تنفيذه، أما حكم الله فنافذ لا يُؤجِّله شيء.
إذن: المسألة لن تمرَّ هكذا، بل هي محسوبة لك أو عليك.
ثم يقول الحق سبحانه: } أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ.. {.
(/2594)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)
قوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ.. } [الحج: 18] يعني: ألم تعلم؛ لأن السُجود من هذه الأشياء سجود على حقيقته كما نعلمه في السجود من أنفسنا، ولكل جنس من أجناس الكون سجود يناسبه.
وسبق أن تحدثنا عن أجناس الكون وهي أربعة: أدناها الجماد، ثم يليه النبات، حيث يزيد عليه خاصية النمو وخاصية الحركة، ثم يليه الحيوان الذي يزيد خاصية الإحساس، ثم يليه الإنسان ويزيد عليه خاصية الفكر والاختيار بين البدائل.
وكل جنس من هذه الأجناس يخدم ما هو أعلى منه، حيث تنتهي هذه الدائرة بأن كل مَا في كون الله مُسخَّر لخدمة الإنسان، وفي الخبر: " يا ابن آدم خلقتُ الأشياء من أجلك، وخلقتُكَ من أجلي، فلا تشتغل بما هو لك عَمَّنْ أنت له ".
فكان على الإنسان أن يفكر في هذه الميْزة التي منحه ربه إياها، ويعلم أن كل شيء في الوجود مهما صَغُر فله مهمة يؤديها، ودَوْر يقوم به. فأَوْلَى بك أيها الإنسان وأنت سيد هذا الكون أن يكون لك مهمة ، وأن يكون لك دور في الحياة فلستَ بأقلَّ من هذه المخلوقات التي سخَّرها الله لك، وإلاَّ صِرْتَ أقلّ منها وأدنى.
إن كانت مهمة جميع المخلوقات أنْ تخدمك لأنك أعلى منها، فانظر إلى مهمتك لمَنْ هو أعلى منك، فإذا جاءك رسول من أعلى منك ليُنبِّهك إلى هذه المهمة كان عليك أن تشكره؛ لأنه نبَّهك إلى ما ينبغي لك أن تشتغل به، وإلى مَنْ يجب عليك الاتصال به دائماً لذلك فالرسول لا يصح أن تنصرف عنه أبداً؛ لأنه يُوضِّح لك مسائل كثيرة هي مَحَلٌّ للبحث العقلي.
وكان على العقل البشري أن يفكر في كل هذه الأجناس التي تخدمه: ألك قدرة عليها؟ لقد خدمتْكَ منذ صِغَرِك قبل أنْ تُوجِّه إليها أمراً، وقبل أنْ توجدَ عندك القدرة لتأمر أو لتتناول هذه الأشياء، كان عليك أنْ تتنبه إلى القوة الأعلى منك ومن هذه المخلوقات، القوة التي سخَّرَتْ الكون كله لخدمتك، وهذا بَحْث طبيعي لا بُدَّ أن يكون.
هذه الأشياء في خدمتها لك لم تتأبَّ عليك، ولم تتخلف يوماً عن خدمتك، انظر إلى الشمس والقمر وغيرهما: أقالت الشمس يوماً: إن هؤلاء القوم لا يستحقون المعروف، فلن أطلع عليهم اليوم؟!
الأرض: هل ضنَّتْ في يوم على زراعها؟ الريح: هل توقفتْ عن الهبوب. وكلها مخلوقات أقوى منك، ولا قدرةَ لك عليها، ولا تستطيع تسخيرها، إنما هي في قبضة الله - عز وجل - ومُسخَّرة لك بأمره سبحانه، ولأنها مُسخَّرة فلا تتخلف أبداً عن أداء مهمتها.
أما الإنسان فيأتي منه الفساد، ويأتي منه الخروج عن الطاعة لما منحه الله من منطقة الاختيار.
البعض يقول عن سجود هذه المخلوقات أنه سجود دلالة، لا سجوداً على حقيقته، لكن هذا القول يعارضه قول الله تعالى:{ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ.. }[النور: 41].
فلكل مخلوق مهما صَغُر صلاة وتسبيح وسجود، يتناسب وطبيعته، إنك لو تأملت سجود الإنسان بجبهته على الأرض لوجدتَ اختلافاً بين الناس باختلاف الأحوال، وهم نوع واحد، فسجود الصحيح غير سجود المريض الذي يسجد وهو على الفراش، أو جالس على مقعد، وربما يشير بعينه، أو أصبعه للدلالة على السجود، فإن لم يستطع أجرى السجود على خاطره.
فإذا كان السجود يختلف بهذه الصورة في الجنس الواحد حَسْب حالة وقدرته وطاقته، فلماذا نستبعد أن يكون لكل جنس سجوده الخاص به، والذي يتناسب مع طبيعته؟
وإذا كان هذا حال السجود في الإنسان، فهل ننتظر مثلاً أن نرى سجود الشمس أو سجود القمر؟! ما دام الحق - سبحانه وتعالى - قال إنها تسجد، فلا بُدَّ أن نؤمن بسجودها، لكن على هيئة لا يعلمها إلا خالقها عز وجل.
بالله، لو جلس مريض يصلي على مقعد أو على الفراش، أتعرف وهو أمامك أنه يسجد؟ إذن: كيف نطمع في معرفة كيفية سجود هذه المخلوقات؟
ومن معاني السجود: الخضوع والطاعة، فمَنْ يستبعد أن يكون سجود هذه المخلوقات سجوداً على الحقيقة، فليعتبر السجود هنا للخضوع والانقياد والطاعة، كما تقول على إنسان متكبر: جاء ساجداً يعني: خاضعاً ذليلاً، ومنه قوله تعالى:{ ثُمَّ اسْتَوَىا إِلَى السَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ }[فصلت: 11].
إذن: لك أن تفهم السجود على أيِّ هذه المعاني تحب، فلن تخرج عن مراده سبحانه، ومن رحمة الله أنْ جعل هذه المخلوقات خاضعة لإرادته، لا تنحلّ عنها أبداً ولا تتخلف، كما قال سبحانه:{ إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً }[الأحزاب: 72].
ونحن نتناقل الآن، ونروي بعض حوارات السالكين وأهل المعرفة وأصحاب الفيوضات الذين فَهِموا عن الله وتذوَّقوا لذَّة قُرْبه، وكانوا يتحاورون ويتنافسون لا للمباهاة والافتخار، إنما للترقي في القرب من الله.
جلس اثنان من هؤلاء العارفين وفي فَمِ أحدهم نَخْمة يريد أنْ يبصقها، وبدتْ عليه الحيرة، وهو ينظر هنا وهناك فقال لَه صاحبه: أَلْقِها واسترحِ، فقال: كيف وكلما أردتُ أنْ أبصقها سمعت الأرض تُسبِّح فاستحيْتُ أنْ أُلقيها على مُسبِّح، فقال الآخر - ويبدو أنه كان في منزلة أعلى منه - وقد افتعل البَصْق وقال: مُسبِّح في مُسبِّح.
إذن: فأهل الكشف والعارفون بالله يدركون هذا التسبيح، ويعترفون به، وعلى قدر ما لديك من معرفة بالله، وما لديك من فَهْم وإدراك يكون تلقِّيك وتقبُّلك لمثل هذه الأمور الإيمانية.
والحق - سبحانه وتعالى - حين قال: } أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ.
. { [الحج: 18] معلوم أن مَنْ في السموات هم الملائكة ولسنْا منهم، لكن نحن من أهل الأرض ويشملنا حكم السجود وندخل في مدلولة، فلماذا قال بعدها: } وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ.. { [الحج: 18].
كلمة: } وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ.. { [الحج: 18] تُبيّن أن لنا قهريةً وتسخيراً وسجوداً كباقي أجناس الكون، ولنا أيضاً نطقة اختيار. فالكافر الذي يتعوَّد التمرُّد على خالقه: يأمره بالإيمان فيكفر، ويأمره بالطاعة فيعصي، فلماذا لا يتمرد على طول الخط؟ لماذا لا يرفض المرض إنْ أمرضه الله؟ ولماذا لا يرفض الموت إنْ حَلَّ به؟
إذن: الإنسان مُؤتمِر بأمر الله مثل الشجر والحجر والحيوان، ومنطقة الاختيار هي التي نشأ عنها هذا الانقسام: كثير آمن، وكثير حَقَّ عليه العذاب.
لكن، لماذا لم يجعل الله - سبحانه وتعالى - الخَلْق جميعاً مُسخَّرين؟
قالوا: لأن صفة التسخير وعدم الخروج عن مرادات الله تثبت لله تعالى صفة القدرة على الكل، إنما لا تُثبت لله المحبوبية، المحبوبية لا تكون إلا مع الاختيار: أن تكون حُرَّا مختاراً في أنْ تُؤمنَ أو تكفر فتختار الإيمان، وأنْ تكون حُراً وقادراً على المعصية، لكنك تطيع.
وضربنا لذلك مثلاً - ولله المثل الأعلى -: هَبْ أن عندك عبدين، تربط أحدهما إليك في سلسلة مثلاً، وتترك الآخر حُراً، فإن ناديتَ عليهما أجاباك، فأيهما يكون أطْوعَ لك: المقهور المجبر، أم الحر الطليق؟.
إذن: التسخير والقهر يُثبت القدرة، والاختيار يُثبت المحبة.
والخلاف الذي حدث من الناس، فكثير منهم آمن، وكثير منهم حَقَّ عليه العذاب، من أين هذا الاختلاف يا رب؟ مما خلقتُه فيك من اختيار، فمَنْ شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، فكأن كفر الكافر واختياره؛ لأن الله سَخَّره للاختيار، فهو حتى في اختياره مُسخَّر.
أما قوله تعالى: } وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ.. { [الحج: 18] يعني: باختياراتهم، وكان المفروض أن يقول في مقابلها: وقليل، لكن هؤلاء كثير، وهؤلاء كثير أيضاً.
ومعنى: } حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ.. { [الحج: 18] حقَّ: يعني ثبتَ، فهذا أمر لا بُدَّ منه، حتى لا يستوي المؤمن والكافر:{ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ }[القلم: 35] إذن: لا بُدَّ أنْ يعاقب هؤلاء، والحق يقتضي ذلك.
وقوله سبحانه: } وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ { [الحج: 18] لأن أحقيَّة العذاب من مُساوٍ لك. قد يأتي مَنْ هو أقوى منه فيمنعه، أو يأتي شافع يشفع له، وكأن الحق - سبحانه وتعالى - يُيئَّسُ هؤلاء من النجاة من عذابه، فلن يمنعهم أحد.
فمَنْ أراد الله إهانته فلن يُكرمه أحد، لابنُصْرته ولا بالشفاعة له، فالمعنى: } وَمَن يُهِنِ اللَّهُ.. { [الحج: 18] أي: بالعذاب الذي حَقَّ عليه وثبت } فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ.. { [الحج: 18] يعني: يكرمه ويُخلِّصه من هذا العذاب، كذلك لا يوجد مَنْ يُعِزه؛ لأن عِزَّته لا تكون إلا قَهْراً عن الله، وهذا مُحَال، أو يكون بشافع يشفع له عند الله، ولا يشفع أحد عند الله إلا بإذنه سبحانه.
لذلك، نقول: إن الحق سبحانه يُجير على خَلْقه ولا يُجَار عليه، يعني: لا أحد يقول لله: هذا في جواري؛ لذلك ذيَّلَ الآية بقوله تعالى: } اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ { [الحج: 18].
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: } هَـاذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُواْ.. {.
(/2595)
هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19)
كلمة خَصْم من الألفاظ التي يستوي فيها المفرد والمثنى والجمع، وكذلك المذكر والمؤنث كما في قوله تعالى{ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُواْ الْمِحْرَابَ }[ص: 21].
ويقول تعالى:{ خَصْمَانِ بَغَىا بَعْضُنَا عَلَىا بَعْضٍ.. }[ص: 22].
والمراد بقوله: { خَصْمَانِ.. } [الحج: 19] قوله تعالى:{ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ.. }[الحج: 18] والخصومة تحتاج إلى فَصْل بين المتخاصمين، والفَصْل يحتاج إلى شهود، لكن إنْ جاء الفَصْل من الله تعالى فلن يحتاج إلى شهود{ وَكَفَىا بِاللَّهِ شَهِيداً.. }[النساء: 79]
وإنْ جاء عليهم بشهود من أنفسهم، فإنما لإقامة الحجة ولتقريعهم، يقول تعالى:{ وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ.. }[فصلت: 21].
فإنْ قلتَ: كيف تشهد الجوارح على صاحبها يوم القيامة وهي التي فعلت؟
نقول: هناك فَرْق بين عمل أريده وعمل أؤديه، وأنا أبغضه وضربنا لذلك مثلاً - ولله المثل الأعلى - بالقائد الذي يأمر جنوده، وعليهم أنْ يُطيعوه حتى إنْ كانت الأوامر خاطئة، فإنْ رجعوا إلى القائد الأعلى حكَوْا له مَا كان من قائدهم؛ ذلك لأن القائد الأعلى جعل له ولاية عليهم، وألزمهم طاعته والائتمار بأمره.
فالخالق - عز وجل - جعل لإرادة الإنسان ولاية على جوارحه، فالفعل - إذن - للإرادة، وما الجوارح إلا أداة للتنفيذ. فحينما تريد مثلاً أنْ تقوم، مجرد أن تريد ذلك تجد نفسك قائماً دون أنْ تفكر في حركة القيام أو العضلات التي تحركتْ لتؤدي هذا العمل، مع أنها عملية مُعقَّدة تتضافر فيها الإرادة والعقل والأعصاب والأعضاء، وأنت نفسك لا تشعر بشيء من هذا كله، وهل في قيامك أمرتَ الجوارح أنْ تتحرَّك فتحركتْ؟
فإذا كانت جوارحك تنفعل لك وتطاوعك لمجرد الإرادة، أفلا يكون أوْلى من هذا أنْ ينفعل خَلْق الله لإرادة الله؟
إذن: العمدة في الأفعال ليستْ الجوارح وإنما الإرادة، بدليل أن الله تعالى إذا أراد أنْ يُعطِّل جارحة من الجوارح عطّل الإرادة الآمرة، وقطعها عن الجارحة، فإذا هي مشلولة لا حركةَ فيها، فإنْ أراد الإنسان تحريكها بعد ذلك فلن يستطيع، لماذا؟
لأنه لا يعلم الأبعاض التي تُحرِّك هذه الجارحة، ولو سألتَ أعلم الناس في علم الحركة والذين صنعوا الإنسان الآلي: ما الحركة الآلية التي تتم في جسم الإنسان كي يقوم من نومه أو من جِلْسته؟ ولن يستطيع أحد أنْ يصفَ لك ما يتم بداخل الجسم في هذه المسألة.
أما لو نظرتَ مثلاً إلى الحفَّار، وهو يُؤدِّي حركات أشبه بحركات الجسم البشري لوجدتَ صبياً يشغله باستخدام بعض الأزرار، ويستطيع أنْ يصِفَ لك كل حركة فيه، وما الآلات التي تشترك في كل حركة. فَقُلْ لي بالله: ما الزر الذي تضغط عليه لتحرك يدك أو ذراعك؟ ما الزر الذي تُحرِّك به عينيك، أو لسانك، أو قدمك؟ إنها مجرد إرادة منك فينفعل لك ما تريد؛ لأن الله تعالى خلقك، وجعل لإرادتك السيطرة الكاملة على جوارحك، فلا تستبعد أنْ تنفعل المخلوقات لله - عز وجل - إنْ أراد منها أنْ تفعلَ.
حتى العذاب في الآخرة ليس لهذه الجوارح والأبعاض، إنما العذاب للنفس الواعية، بدليل أن الإنسان إذا تعرَّض لألم شديد لا يستريح منه لا أنْ ينام، فإذا استيقظ عاوده الألم، إذن: فالنفس هي التي تألم وتتعذَّب لا الجوارح.
والحق سبحانه هو الذي يفصل بين هذيْن الخصميْن، كما قال سبحانه في آية أخرى{ إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ.. }[الحج: 17].
لذلك يقول الإمام علي رضي الله عنه وكرَّم الله وجهه: أنا أول مَنْ يجثو بين يدي الله يوم القيامة للفصل ومعي عبيدة بن الحارث وحمزة بن عبد المطلب. هؤلاء في جانب وفي الجانب المقابل: عتبة ابن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة.
لماذا؟ لأن بين هؤلاء كانت أول معركة في الإسلام، وهذه أول خصومة وقعتْ فيه، ذلك لأنهم في معركة بدر أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً للمبارزة، وكانت عادتهم في الحروب أنْ يخرج أقوياء القوم وأبطالهم للمبارزة بدل أنْ يُعذِّبوا القوم ويشركوا الجميع في القتال، ويعرِّضوا أرواح الناس جميعاً للخطر.
ومن ذلك ما حدث بين علي ومعاوية - رضي الله عنهما - في موقعة صِفِّين حيث قال علي لمعاوية: ابرز إليَّ يا معاويةُ، فإنْ غلبتني فالأمر لك، وإنْ غلبتُك فاجعل الأمر لي، فقال عمرو بن العاص وكان في صفوف معاوية: والله، يا معاوية لقد أنصفك الرجل، وفي هذا حَقْنٌ لدماء المسلمين في الجانبين.
فنظر معاوية إلى عمرو وقال: والله يا عمرو ما أردْتَ إلا إن أبرز له فيقتلني، ويكون لك الأمر من بعدي، وما دُمْتَ قد قلتَ ما قلتَ فلا يبارزه غيرك فاخرج إليه.
فقام عمرو لمبارزة علي، لكن أين عمرو من شجاعة علي وقوته؟ وحمل عليٌّ على عمرو حملة قوية، فلما أحسَّ عمرو أن علياً سيضربه ضربة تميته لجأ إلى حيلة، واستعمل دهاءه في صَرْف عليٍّ عنه، فكشف عمرو عن عورته، وهو يعلم تماماً أن علياً يتورع عن النظر إلى العورة، وفعلاً تركه علي وانصرف عنه، ونجا عمرو بحيلته هذه.
وقد عبَّر الشاعر عن هذا الموقف فقال:وَلاَخَيْرَ في رَدٍّ الرَّدَى بِدَنيَّةٍ كَما رَدَّهَا يَوْماً بِسَوْأَتِهِ عَمْرُوويقول الشريف الرضي - وهو من آل البيت - في القصيدة التي مطلعها:أرَاكَ عَصِيَّ الدَّمْعِ شِيمَتُكَ الصَّبْر أَما لِلْهَوَى نَهْيُ عليْكَ ولاَ أَمْربَلَى أَنَا مُشْتَاقٌ وعِنْدي لَوْعَةٌ وَلكِنْ مِثْلي لاَ يُذَاعُ لَهُ سِرُّوفيها يقول:وَإنَّا أُنَاسٌ لاَ تَوسُّطَ بَيْنَنَا لَنَا الصَّدْرُ دُون العَالَمينَ أو القَبْرُ
نعود إلى بدر، حيث اعترض الكفار حينما أخرج لهم رسول الله بعض رجال الأنصار فقالوا: هؤلاء نكرات من الأنصار، نريد أن تُخرِج لنا أَكْفَاءنا من رجال قريش، فأخرج لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وحمزة وعبيد بن الحارث بن عبد المطلب، وأخرجوا هم عتبة وشيبة والوليد، وكان ما كان من نُصْرة المسلمين وهزيمة المشركين.
وهذا هو اليوم الذي قال الله فيه:{ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }[آل عمران: 123].
إذن: فبدر كانت فَصْلاً دنيوياً بين هذيْ الخصْمين، ويبقى فَصْل الآخرة الذي قال فيه الإمام علي: " أنا أول مَنْ يجثو بين يدي الله يوم القيامة للفصل ".
ومعنى: } اخْتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمْ.. { [الحج: 19] أي: بسبب اختلافهم في ربهم، ففريقٌ يؤمن بوجود إله، وفريقٌ يُنكره، فريق يُثبت له الصفات، وفريق ينفي عنه هذه الصفات، يعني: انقسموا بين إيمان وكفر.
ثم يُفصِّل القول: } فَالَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ { [الحج: 19].
} قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ.. { [الحج: 19] كأن النار تفصيل على قَدْر جسومهم إحكاماً للعذاب، ومبالغةً فيه، فليس فيها اتساع يمكن أنْ يُقلِّل من شِدَّتها، وليست فضفاضة عليهم.
ثم } يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ { [الحج: 19] والحميم: الماء الذي بلغ منتهى الحرارة، حتى صار هو نفسه مُحْرِقاً من شِدَّة حَرّه، ولكَ أنْ تتصور ماءً يَغليه ربنا عز وجل!!
وهكذا يجمع الله عليهم ألوان العذاب؛ لأن الثياب يرتديها الإنسان لتستر عورته، وتقيه الحر والبرد، ففيها شمول لمنفعة الجسم، يقول تعالى:{ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ }[النحل: 112].
فالإذاقة ليستْ في اللباس، إنما بشيء آخر، واللباس يعطي الإحاطة والشمول، لتعم الإذاقة كُلَّ أطراف البدن، وتحكم عليه مبالغةً في العذاب.
(/2596)
يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20)
قلنا: إن هذا الماء بلغ من الحرارة منتهاها، فلم يغْلِ عند درجة الحرارة التي نعرفها، إنما يُغلِيه ربه الذي لا يُطيق عذابَه أحدٌ. وأنت إذا صببتَ الماء المغلي على جسم إنسان فإنه يشوي جسمه من الخارج، إنما لا يصل إلى داخله، أمّا هذا الماء حين يُصَبُّ عليهم فإنه يصهر ما في بطونهم أولاً، ثم جلودهم بعد ذلك، فاللهم قِنَا عذابك يوم تبعث عبادك.
(/2597)
وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21)
المقامع: هي السياط التي تقمع بها الدابة، وتَرْدعها لتطاوعك، أو الإنسان حين تعاقبه، لكنها سياط من حديد، ففيها دلالة على الذِّلَّة والانكسار، فضلاً عن العذاب.
ثم يُبيِّن الحق سبحانه مهمة هذه المقامع، فيقول: { كُلَّمَآ أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا.. }.
(/2598)
كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)
الحق - سبحانه وتعالى - يُصوّر حال أهل النار وما هم فيه من العذاب ومن اليأس في أن يُخفف عنهم، فإذا ما حاولوا الخروج من غَمِّ العذاب جاءتهم هذه السياط فأعادتهم حيث كانوا، والإنسان قد يتعود على نوع من العذاب فيهون عليه الأمر، كالمسجون مثلاً الذي يُضْرب بالسياط على ظهره، فبعد عدة ضربات يفقد الإحساس ولا يؤثر فيه ضَرْب بعد ذلك.
وقد أجاد المتنبي في وصف هذا المعنى حين قال:رَمَاني الدَّهْرُ بالأَرْزَاءِ حتّى كَأنِّي فِي غِشَاءٍ مِنْ نِبَالِفكنتُ إذا أَصَابتْني سِهَامٌ تكسَّرتْ النِّصَالُ علَى النِّصَاللكن أنَّى يُخفَّف عن أهل النار، والحق سبحانه وتعالى يقول:{ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ.. }[النساء: 56].
ففي إعادتهم تيئيس لهم بعد أنْ طمِعوا في النجاة، وما أشدّ اليأس بعد الطمع على النفس؛ لذلك يقولون: لا أفجعَ من يأسٍ مقمع، بعد أمل مُقْمِع. كما يقول تعالى:{ وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ.. }[الكهف: 29] ساعة يسمعون الإغاثة يأملون ويستبشرون، فيأتيهم اليأس في{ بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوجُوهَ.. }[الكهف: 29].
وقوله تعالى: { وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ } [الحج: 22] الحريق: الشيء الذي يحرق غيره لشدته.
وبعد أن تحدثتْ الآياتُ عن الكافرين، وما حاق بهم من العذاب كان لا بُدَّ أنْ تتحدَّث عن المقابل، عن المؤمنين ليُجري العقلُ مقارنةً بين هذا وذاك، فيزداد المؤمن تشبُّثاً بالإيمان ونُفْرةً من الكفر، وكذلك الكافر ينتبه لعاقبة كُفْره فيزهد فيه ويرجع إلى الإيمان، وهكذا ينتفع الجميع بهذه المقابلة، وكأن الحق سبحانه وتعالى يعطينا في آيات القرآن وفي المقابلات وسائل النجاة والرحمة.
يقول الحق سبحانه وتعالى: { إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ.. }.
(/2599)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23)
يُبيِّن الحق سبحانه وتعالى مَا أعدّه لعباده المؤمنين حيث السكن: { جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ.. } [الحج: 23] والزينة: { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً.. } [الحج: 23] واللباس: { وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } [الحج: 23] فجمع لهم نعيم السَّكَن والزينة واللباس.
وفي الآخرة يُنعَّم الرجال بالحرير وبالذهب الذي حُرِّم عليهم في الدنيا، وهنا قد يعترض النساء، وما النعيم في شيء تنعّمنا به في الدنيا وهو الحرير والذهب؟
نعم تتمتعْن بالحرير والذهب في الدنيا، أمّا في الآخرة فهو نوع آخر ومتعة كاملة لا يُنغِّصها شيء، فالحلي للمرأة خالصٌ من المكدِّرات، وباقٍ معها لا يأخذه أحد، ولا تحتاج إلى تغييره أو بيعه؛ لأنه يتجدّد في يدها كل يوم، فتراه على صياغة جديدة وشكل جديد غير الذي كان عليه. كما قلنا سابقاً في قوله تعالى عن أهل الجنة:{ قَالُواْ هَـاذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ.. }[البقرة: 25].
فحسبوا أن طعام الجنة وفاكهتها كفاكهة الدنيا التي أكلوها من قبل، فيُبيِّن لهم ربهم أنها ليستْ كفاكهة الدنيا{ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً.. }[البقرة: 25] يعني: أنواعاً مختلفة للصنف الواحد.
ثم يقول الحق: { وَهُدُواْ إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ.. }.
(/2600)
وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)
(هُدُوا) هداهم الله، فالذي دلّهم على وسائل دخول الجنة والتمتّع فيها بالسكن والزينة واللباس كذلك يهديهم الآن في الجنة ويدلّهم على كيفية شُكر المنعم على هذه النعمة، هذا معنى: { وَهُدُواْ إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ.. } [الحج: 24] هذا القول الطيب لخَّصته آيات أخرى، ومنها قوله تعالى:{ الْحَـمْدُ للَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ.. }[الزمر: 74].
وقوله:{ الْحَمْدُ للَّهِ.. * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ.. }[فاطر: 34 - 35].
وقوله:{ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ.. }[فاطر: 34]
فحين يدخل أهل الجنةِ الجنةَ، ويباشرون النعيم المقيم لا يملكون إلا أنْ يقولوا: الحمد لله، كما يقول الحق سبحانه عنهم:{ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }[يونس: 10].
وقالوا: { الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ.. } [الحج: 24] هو كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، فهذه الكلمة هي المعشوقة التي أتتْ بنا إلى الجنة، والمعنى يسَع كل كلام طيب، كما قال سبحانه:{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَآءِ }[إبراهيم: 24].
ثم يقول تعالى: { وَهُدُواْ إِلَىا صِرَاطِ الْحَمِيدِ } [الحج: 24] أي: هداهم الله إلى طريق الجنة، أو إلى الجنة ذاتها، كما قال في آية الكافرين:{ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ.. }[النساء: 168 - 169].
ثم يقول الحق سبحانه: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.. }.
(/2601)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)
انتقلتْ بنا الآيات إلى موضوع جديد: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ.. } [الحج: 25] بصيغة الماضي، لأن الكفر وقع منهم فعلاً { وَيَصُدُّونَ.. } [الحج: 25] بصيغة المضارع، والقياس أن نقول: كفروا وصَدُّوا، لكن المسألة ليست قاعدة ولا هي عملية آلية؛ لأن الصدَّ عن سبيل الله ناشيء عن الكفر وما يزال صدُّهم مستمراً.
ومعنى { عَن سَبِيلِ اللَّهِ.. } [الحج: 25] أي: عن الجهاد { وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.. } [الحج: 25] لأنهم منعوا المسلمين من دخوله، وكان في قبضتهم وتحت سيطرتهم، وهذا ما حدث فعلاً في الحديبية حينما اشتاق صحابة رسول الله إلى أداء العمرة والطواف بالبيت الذي طالت مدة حرمانهم منه، فلما ذهبوا منعهم كفار مكة، وصدُّوهم عن دخوله.
{ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.. } [الحج: 25] كلمة حرام يُستفاد منها أنه مُحرَّم أنْ تفعل فيه خطأ، أو تهينه، أو تعتدي فيه. وكلمة (الحَرَام) وصف بها بعض المكان وبعض الزمان، وهي خمسة أشياء: نقول: البيت الحرام وهو الكعبة، والمسجد الحرام، والبلد الحرام، ثم المشعر الحرام. وهذه عبارة عن دوائر مركز الكعبة، هذه أماكن، ثم الخامس وهو زمن: الشهر الحرام الذي قال الله فيه: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ.. } [الحج: 25]
وحُرْمة الزمان والمكان هنا لحكمة أرادها الخالق سبحانه؛ لأنه رَبٌ رحيم بخَلْقه يريد أن يجعل لهم فرصة لِستْر كبريائهم، والحدّ من غرورهم، وكانت تنتشر بين القوم الحروب والصراعات التي كانت تُذْكي نارها عادات قبلية وسعار الحرب، حتى أن كِلاَ الفريقين يريد أنْ يُفني الآخر، وربما استمروا في الحرب وهم كارهون لها، لكن يمنعهم كبرياؤهم من التراجع والانسحاب.
لذلك جعل الله سبحانه لهذه الأماكن والأزمنة حُرْمة لتكون ستاراً لهذا الكبرياء الزائف، ولهذه العزة البغيضة. وكل حَدَث يحتاج إلى زمان وإلى مكان، فحرَّم الله القتال في الأشهر الحرم، حتى إذا ما استعرت بينهم حرب جاء شهر حرام، فأنقذ الضعيف من قبضة القوى دون أنْ يجرح كبرياءه، وربما هَزّ رأسه قائلاً: لولا الشهر الحرام كنت فعلتُ بهم كذا وكذا.
فهذه - إذن - رحمة من الله بعباده، وستار يحميهم من شرور أنفسهم ونزواتها ويَحْقِن دماءهم.
وما أشبه كبرياءَ العرب في هذه المسألة بكبرياء زوجيْن تخاصما على مَضَض، ويريد كل منهم أنْ يأتي صاحبه، لكن يمنعه كبرياءه أن يتنازل، فجلس الرجل في غرفته، وأغلق الباب على نفسه، فنظرتْ الزوجة، فإذا به يرفع يديه يدعو الله أنْ تُصالحه زوجته، فذهبتْ وتزيَّنَتْ له، ثم دفعت الباب عليه وقالت - وكأن أحداً يُجبرها على الدخول - (مُوديَّانِي فين يا أم هاشم)
وكذلك، جعل في المكان محرماً؛ لأن الزمن الحرام الذي حرم فيه قتال أربعة أشهر: ثلاثة سرد وواحد فرد، الفرد هو رجب، والسرد هي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم.
فحرَّم أيضاً القتال في هذه الأماكن ليعصم دماء الخَلْق أنْ تُراقَ بسبب تناحر القبائل بالغِلِّ والحِقْد والكبرياء والغرور.
يقول تعالى في تحريم القتال في البيت الحرام:{ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّىا يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَآءُ الْكَافِرِينَ }[البقرة: 191].
فلعلَّهم حين تأتي شهور التحريم، أو يأتي مكانه يستريحون من الحرب، فيدركون لذة السلام وأهمية الصلح، فيقضون على أسباب النزاع بينهم دون حرب، فسُعَار الحرب يجُرُّ حرباً، ولذة السلام وراحة الأمن والشعور بهدوء الحياة يَجُرُّ مَيْلاً للتصالح وفضّ مثل هذه المنازعات بالطرق السلمية.
والمتأمل في هذه الأماكن التي حرَّمها الله يجدها على مراتب، وكأنها دوائر مركزها بيت الله الحرام وهو الكعبة، ثم المسجد الحرام حولها، ثم البلد الحرام وهي مكة، ثم المشعر الحرام الذي يأخذ جزءاً من الزمن فقط في أيام الحج.
أما الكعبة فليست كما يظنُّ البعض أنها هذا البناء الذي نراه، الكعبة هي المكان، أما هذا البناء فهو المكين، فلو نقضْتَ هذا البناء القائم الآن فمكان البناء هو البيت، هذا مكانه إنْ نزلْتَ في أعماق الأرض أو صعدْتَ في طبقات السماء.
إذن: فبيت الله الحرام هو هذه البقعة من الأرض حتى السماء، أَلاَ ترى الناس يُصَلُّون في الأدوار العليا، وهم أعلى من هذا البناء بكثير؟ إنهم يواجهون جَوَّ الكعبة، لا يواجهون الكعبة ذاتها، لماذا؟ لأن الكعبة ممتدة في الجو إلى ما شاء الله.
ثم يلي البيت المسجد، وهو قطعة أرض حُكرت على المسجدية، لكن هناك مسجد بالمكان حين تقيمه أنت، وتجعل له بناء مثل هذا البناء الذي نتحدث فيه الآن يسمى " مسجد " بالمكان، أو مسجد بالمكين حين يضيق علينا هذا المسجد فنخرج نصلي في الشارع فهو في هذه الحالة مسجد، قالوا: ولو امتد إلى صنعاء وتواصلتْ الصفوف فكلُّه مسجد.
نعود إلى " ما دار بين المسلمين والمشركين يوم الحديبية، فقد صدَّ الكفار المسلمين عن بيت الله الحرام وهم على مَرْمى البصر منه، فاغتاظ المسلمون لذلك، ورأى بعضهم أن يدخل مكة عُنْوة ورَغْماً عنهم.
لكن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم سِرٌّ بينه وبين ربه عز وجل، فنزل على شروطهم، وعقد معهم صُلْحاً هو " صلح الحديبية " الذي أثار حفيظة الصحابة، وعلى رأسهم عمر بن الخطاب، فقال لرسول الله:يا رسول الله، ألسنا على الحق؟ قال صلى الله عليه وسلم: " بلى " قال: أليسوا هم على باطل؟ قال: فلِمَ نُعْطِى الدنيّة في ديننا؟ ".
وكان من بنود هذا الصلح: إذا أسلم كافر ودخل في صفوف المسلمين يرده محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا ذهب مسلم إليهم لا يردونه إلى المسلمين.
وكان للسيدة أم المؤمنين أم سلمة - رضوان الله عليها - موقف عظيم في هذه الشدة، ورَأْي سديد ردَّ آراء الرجال إلى الرُّشْد وإلى الصواب، وهذا مما نفخر به للمرأة في الإسلام، ونردّ به على المتشدِّقين بحقوق المرأة.
فلما عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فُسْطاطه مُغْضباً فقال لأم سلمة: " هلك المسلمون يا أم سلمة، لقد أمرتهم فلم يمتثلوا " يعني امرهم بالعودة دون أداء العمرة هذا العام.
فقالت السيدة أم المؤمنين: يا رسول الله، إنهم مكروبون، فقد مُنِعُوا عن بيت الله وهم على مَرْأىً منه، لكن اذهب يا رسول الله إلى ما أمرك به ربك، فافعل فإذا رأوْك فعلْتَهُ علموا أن الأمر عزيمة - يعني لا رجعةَ فيه - وفعلاً أخذ رسول الله بهذه النصيحة، فذهب فحلق، وذبح هدية وفعل الناس مثله، وانتهت هذه المسألة.
لكن قبل أنْ يعودوا إلى المدينة شاءتْ إرادة الله أنْ يخبرهم بالحكمة في قبول رسول الله لشروط المشركين مع أنها شروط ظالمة مُجْحفة:
أولاً: في هذا الصلح وهذه المعاهدة اعتراف منهم بمحمد ومكانته ومنزلته، وأنه أصبح مساوياً لهم، وهذا مكسب في حَدِّ ذاته.
ثانياً: اتفق الطرفان على وقف القتال بينهم لعدة سنوات، وهذه الفترة أعطتْ المسلمين فرصة كي يتفرغوا لاستقبال الوفود ونَشْر دين الله.
ثالثاً: كان في إمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ يدخلهم مكة رَغْماً عن أهلها، وكان في مقدوره أن يقتلهم جميعاً، لكن ماذا سيكون موقف المؤمنين من أهل مكة والذين يسترون إيمانهم ولا يعرفهم أحد؟ إنهم وسط هؤلاء الكفار، وسينالهم ما ينال الكفار، ولو تميَّز المؤمنون من الكفار أو خرجوا في جانب لأمكن تفاديهم.
اقرأ قوله تعالى:{ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً }[الفتح: 25].
ثم يقول تعالى عن المسجد الحرام: } الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ.. { [الحج: 25] أي: جميعاً } سَوَآءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ.. { [الحج: 25] العاكف فيه يعني: المقيم، والباد: القادم إليه من خارج مكة، ومعنى } سَوَآءً.. { [الحج: 25] يعني: هذان النوعان متساويان تماماً.
لذلك نقول للذين يحجزون الأماكن لحسابهم في بيت الله الحرام خاصة، وفي بيوت الله عامة: أريحوا أنفسكم، فالمكان محجوز عند الله لمن سبق، لا لمن وضع سجادته، وشغل بها المكان.
وقد دَعَتْ هذه الآية: } سَوَآءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ.. { [الحج: 25] البعض لأنْ يقول: لا يجوز تأجير البيوت في مكة، فمَنْ أراد أن ينزل في بيت ينزل فيه دون أجرة حتى يستوي المقيم والغريب.
وهذا الرأي مردود عليه بأن البيوت مكان ومكين، وأرض مكة كانت للجميع حين كان المكان حُراً يبني فيه من أراد، أمَّا بعد أن بنى بيتاً، وسكنه أصبح مكيناً فيه، لا يجوز لأحد دخوله إلا بإذنه وإرادته.
وقد دار حول هذه المسألة نقاش بين الحنظلي في مكة والإمام الشافعي، حيث يرى الحنظلي أنه لا يجوز تأجير البيوت في مكة؛ لأنها حسب هذه الآية للجميع، فردَّ عليه الشافعي رضي الله عنه: لو كان الأمر كذلك لما قال سبحانه في المهاجرين:{ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ.. }[الحشر: 8].
فنسب الديار إليهم. ولَمَا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل مكة: " وهل ترك لنا عقيل من دار أو من ربع؟ " وكوْنُ عقيل يبيع دُورهم بعد أن هاجروا، فهذا دليل على ملكيتهم لها. لذلك رجع الحنظلي إلى رأي الشافعي.
هذا مع أن الآية تعني البيت فقط، لا مكة كلها، فما كان الخلاف ليصل إلى مكة كلها.
ثم يقول تعالى: } وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ { [الحج: 25] الإلحاد قد يكون في الحق الأعلى، وهو الإلحاد في الله عز وجل، أما هنا فيُراد بالإلحاد: الميْل عن طريق الحقِّ، وقوله: } بِظُلْمٍ.. { [الحج: 25] الظلم في شيء لا يسمو إلى درجة الكفر، والإلحاد بظلم إنْ حدث في بيت الله فهو أمر عظيم؛ لأنك في بيت ربك (الكعبة).
وكان يجب عليك أن تستحي من مجرد حديث النفس بمعصية، مجرد الإرادة هنا تُعَدُّ ذنباً؛ لأنك في مقام يجب أنْ تستشعر فيه الجلال والمهابة، فكما أعطى الله لبيته مَيْزة في مضاعفة الحسنات، كذلك عظَّم أمر المعصية وأنت في رحاب بيته، فتنبَّه لهذه المسألة.
حتى في أمثال أهل الريف يقولون: (تيجي في بيت العالم وتسكر) يعني: السُّكْر يُتصوَّر في بيت أحد العصاة، في بيت فاسق، في خمارة، لكن في بيت عالم، فهذا شيء كبير، وجرأة عظيمة. لماذا؟
فللمكان حُرْمة بحُرمة صاحبة، فإذا كان للمكان حُرْمة بحُرْمة صاحبه، والبيت منسوب إلى الله، فأنت تعصي ربك في عُقْر داره، وأيْ جرأة أعظم من الجرأة على الله؟
وهذه خاصية للمسجد الحرام، فكُلُّ المساجد في أي مكان بيوت الله، لكن هناك فَرْق بين بيت الله باختيار الله، وبيت الله باختيار عباد الله؛ لذلك جُعل بيتُ الله باختيار الله (البيت الحرام) هو القِبْلة التي تتجه إليها كل بيوت الله في الأرض.
فما عاقبة الإلحاد في بيت الله؟ } نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ { [الحج: 25] إنهم سيذوقون العذاب بأمر من الحق دائماً وأبداً، والإذاقة أشد الإدراكات تأثيراً، وذلك هو العذاب المهين، والذوق هو الإحساس بالمطعوم شراباً كان أو طعاماً، إلا أنه تعدى كل مُحسٍّ به، ولو لم يكن مطعوماً أو مشروباً، ويقول ربنا عز وجل:{ ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ }[الدخان: 49].
أي: ذق الإهانة والمذلة، لا مما يُطعم أو مما يُشرب، ولكن بالإحساس، فالإذاقة تتعدى إلى كل البدن، فالأنامل تذوق، والرِّجْل تذوق، والصدر يذوق، والرقبة تذوق. وهذا اللون من إذاقة الذل والإهانة في الدنيا لهؤلاء مجرد نموذج بسيط لشدة عقاب الله.
وعذاب الآخرة سيكون مهولاً، والعذاب هو إيلام الحس. إذا أحببت أن تديم ألمه، فأبْقِ فيه آلة الإحساس بالألم.
(/2602)
وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)
ما دام الكلام السابق كان حول البيت الحرام، فمن المناسب أنْ يتكلم عن تاريخه وبنائه، فقال سبحانه: { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَالْقَآئِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } [الحج: 26] معنى بَوَّأه: أي: جعله مَبَاءةً يعني: يذهب لعمله ومصالحه، ثم يبوء إليه ويعود، كالبيت للإنسان يرجع إليه، ومنه قوله تعالى:{ وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ.. }[البقرة: 61].
وإذ: ظرف زمان لحدث يأتي بعده الإخبار بهذا الحدث، والمعنى خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اذكر يا محمد الوقت الذي قيل فيه لإبراهيم كذا وكذا. وهكذا في كل آيات القرآن تأتي (إذ) في خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بحدث وقع في ذلك الظرف.
لكن، ما علاقة المباءة أو المكان المتبوّأ بمسألة البيت؟ قالوا: لأن المكان المتبوّأ بقعة من الأرض يختارها الإنسان؛ ليرجع إليها من متاعب حياته، ولا يختار الإنسان مثل هذا المكان إلا توفرتْ فيه كل مُقوِّمات الحياة.
لذلك يقول تعالى في قصة يوسف عليه السلام:{ وَكَذالِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ.. }[يوسف: 56]
وقال في شأن بني إسرائيل:{ وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ.. }[يونس: 93] فمعنى: { بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ.. } [الحج: 26] أي: جعلناه مبَاءة له، يرجع إليه من حركة حياته بعد أنْ أعلمنَاهُ، ودَلَلْناه على مكانه.
وقلنا: إن المكان غير المكين، المكان هو البقعة التي يقع فيه ويحلُّ بها المكين، فأرض هذا المسجد مكان، والبناء القائم على هذه الأرض يُسمَّى " مكين في هذا المكان ". وعلى هذا فقد دَلَّ الله إبراهيم عليه السلام على المكان الذي سيأمره بإقامة البيت عليه.
وقد كان للعلماء كلام طويل حول هذه المسألة: فبعضهم يذهب إلى أن إبراهيم عليه السلام هو أول مَنْ بنى البيت. ونقول لأصحاب هذا الرأي: الحق - تبارك وتعالى - بوَّأ لإبراهيم مكان البيت، يعني: بيَّنه له؛ كأن البيت كان موجوداً، بدليل أن الله تعالى يقول في القصة على لسان إبراهيم:{ إِنَّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ.. }[إبراهيم: 37].
وفي قوله تعالى:{ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ.. }[البقرة: 127]
ومعلوم أن إسماعيل قد شارك أباه وساعده في البناء لما شَبَّ، وأصبح لديه القدرة على معاونة أبيه، أمّا مسألة السكن فكانت وإسماعيل ما يزال رضيعاً، وقوله تعالى:{ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ.. }[إبراهيم: 37] يدل على أن العِنْدية موجودة قبل أنْ يبلغَ إسماعيل أنْ يساعد أباه في بناية البيت، إذن: هذا دليل على أن البيت كان موجوداً قبل إبراهيم.
وقد أوضح الحق - سبحانه وتعالى - هذه المسألة في قوله تعالى:{ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ }
[آل عمران: 96].
وحتى نتفق على فَهْم الآية نسأل: مَنْ هُم الناس؟ الناس هم آدم وذريته إلى أن تقوم الساعة، إذن: فآدم من الناس، فلماذا لا يشمله عموم الآية، فالبيت وُضِع للناس، وآدم من الناس، فلا بُدَّ أن يكون وَُضِع لآدم أيضاً.
إذن: يمكنك القول بأن البيت وَُضِع حتى قبل آدم؛ لذلك نُصدِّق بالرأي الذي يقول: إن الملائكة هي التي وضعتْ البيت أولاً، ثم طمسَ الطوفانُ معالم البيت، فدلَّ الله إبراهيم بوحي منه على مكان البيت، وأمره أنْ يرفعه من جديد في هذا الوادي.
ويُقال: إن الله تعالى أرسل إلى إبراهيم سحابة دَلَّتْه على المكان، ونطقتْ: يا إبراهيم خُذْ على قدري، أي: البناء.
ولو تدبرتَ معنى:{ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ.. }[البقرة: 127] الرَّفْع يعني: الارتفاع، وهو البعد الثالث، فكأن القواعد كان لها طُول وعَرْض موجود فعلاً، وعلى إبراهيم أنْ يرفعها.
لكن لماذا بوَّأ الله لإبراهيم مكان البيت؟
لما أسكن إبراهيم ذريته عند البيت قال:{ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ.. }[إبراهيم: 37] كأن المسألة من بدايتها مسألة عبادة وإقامة للصلاة، الصلاة للإله الحقِ والربِّ الصِّدْق؛ لذلك أمره أولاً: } أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَالْقَآئِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ { [الحج: 26] والمراد: طَهِّر هذا المكان من كل ما يُشعِر بالشرك، فهذه هي البداية الصحيحة لإقامة بيت الله.
وهل كان يُعقل أنْ يدخل إبراهيم - عليه السلام - في الشرك؟ بالطبع لا، وما أبعدَ إبراهيمَ عن الشرك، لكن حين يُرسِل الله رسولاً، فإنه أول مَنْ يتلقَّى عن الله الأوامر ليُبلِّغ أمته، فهو أول مَنْ يتلقى، وأول مَنْ يُنفذ ليكون قدوةً لقومه فيُصدِّقوه ويثقوا به؛ لأنه أمرهم بأمر هو ليس بنَجْوة عنه.
ألا ترى قوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:{ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ.. }[الأحزاب: 1] وهل خرج محمد صلى الله عليه وسلم عن تقوى الله؟ إنما الأمر للأمة في شخص رسولها، حتى يسهُلَ علينا الأمر حين يأمرنا ربنا بتقواه، ولا نرى غضاضةً في هذا الأمر الذي سبقنا إليه رسول الله؛ لأنك تلحظ أن البعض يأنف أن تقول له: يا فلان اتق الله، وربما اعتبرها إهانة واتهاماً، وظن أنها لا تُقال إلا لمَنْ بدر منه ما يخالف التقوى.
وهذا فَهْم خاطئ للأمر بالتقوى، فحين أقول لك: اتق الله. لا يعني أنني أنفي عنك التقوى، إنما أُذكِّرك أنْ تبدأ حركة حياتك بتقوى الله.
إذن: قوله تعالى لإبراهيم عليه السلام: } أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً.. { [الحج: 26] لا تعني تصوُّر حدوث الشرك من إبراهيم، وقال } شَيْئاً.. { [الحج: 26] ليشمل النهيُ كُلَّ ألوان الشرك، أياً كانت صورته: شجر، أو حجر، أو وثن، أو نجوم، أو كواكب.
ويؤكد هذا المعنى بقوله: } وَطَهِّرْ بَيْتِيَ.. { [الحج: 26] والتطهير يعني: الطهارة المعنوية بإزالة أسباب الشرك، وإخلاص العبادة لله وحده لا شريكَ له، وطهارة حِسّية ممّا أصابه بمرور الزمن وحدوث الطوفان، فقد يكون به شيء من القاذورات مثلاً.
ومعنى } لِلطَّآئِفِينَ.. { [الحج: 26] الذين يطوفون بالبيت: } وَالْقَآئِمِينَ.. { [الحج: 26] المقيمين المعتكفين فيه للعبادة } وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ { [الحج: 26] الذين يذهبون إليه في أوقات الصلوات لأداء الصلاة، عبَّر عن الصلاة بالركوع والسجود؛ لأنهما أظهر أعمال الصلاة.
ثم يقول الحق سبحانه: } وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً.. {
.
(/2603)
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)
أمر الله نبيه إبراهيم بعد أنْ رفع القواعد من البيت أنْ يُؤذِّن في الناس بالحج، لماذا؟ لأن البيت بيت الله، والخَلْق جميعاً خَلْق الله، فلماذا تقتصر رؤية البيت على مَنْ قُدِّر له أنْ يمرّ به، أو يعيش إلى جواره؟
فأراد الحق - سبحانه وتعالى - أنْ يُشيع هذه الميْزة بين خَلْقه جميعاً، فيذْهبوا لرؤية بيت ربهم، وإنْ كانت المساجد كلها بيوت الله، إلا أن هذا البيت بالذات هو بيت الله باختيار الله؛ لذلك جعله قبْلة لبيوته التي اختارها الخَلْق.
إن من علامات الولاء بين الناس أنْ نزور قصور العظماء وعِلْية القوم، ثم يُسجل الزائر اسمه في سِجلِّ الزيارات، ويرى في ذلك شرفاً ورِفْعة، فما بالك ببيت الله، كيف تقتصر زيارته ورؤيته على أهله والمجاورين له أو مَنْ قُدِّر لهم المرور به؟
ومعنى { أَذِّن.. } [الحج: 27] الأذان: العلم، وأول وسائل العلم السماع بالأذن، ومن الأذن أُخذ الأذان. أي: الإعلام. ومن هذه المادة قوله تعالى:{ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ.. }[إبراهيم: 7] أي: أعلم؛ لأن الأذن وسيلة السماع الأولى، والخطاب المبدئي الذي نتعلَّم به؛ لذلك قبل أنْ تتكلَّم لا بُدَّ أنْ تسمع.
وحينما أمر الله إبراهيم بالأذان لم يكُن حول البيت غير إبراهيم وولده وزوجته، فلمَنْ يُؤذِّن؟ ومَنْ سيستمع في صحراء واسعة شاسعة وواد غير مسكون؟ فناداه ربه: " يا إبراهيم عليك الأذان وعلينا البلاغ ".
مهمتك أنْ ترفَع صوتك بالأذان، وعلينا إيصال هذا النداء إلى كل الناس، في كل الزمان، وفي كل المكان، سيسمعه البشر جميعاً، وهم في عالم الذَّرِّ وفي أصلاب آبائهم بقدرة الله تعالى الذي قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:{ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ رَمَىا.. }[الأنفال: 17].
يعني: أَدِّ ما عليك، واترك ما فوق قدرتك لقدرة ربك. فأذَّنَ إبراهيم في الناس بالحج، ووصل النداء إلى البشر جميعاً، وإلى أن تقوم الساعة، فَمنْ أجاب ولَبَّى: لبيك اللهم لبيك كُتِبَتْ له حجة، ومَنْ لبَّى مرتين كتِبت له حجَّتيْن وهكذا، لأن معنى لبيك: إجابةً لك بعد إجابة.
فإنْ قُلْتَ: إن مطالب الله وأوامره كثيرة، فلماذا أخذ الحج بالذات هذه المكانة؟ نقول: أركان الإسلام تبدأ بالشهادتين: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ثم الصلاة، ثم الزكاة، ثم الصوم، ثم الحج، لو نظرتَ إلى هذه الأركان لوجدتَ أن الحج هو الركن الوحيد الذي يجتهد المسلم في أدائه وإنْ لم يكُن مستطيعاً له فتراه يوفر ويقتصد حتى من قُوته، وربما حرمَ نفسه لِيُؤدِّي فريضة الحج، ولا يحدث هذا ولا يتكلفه الإنسان إلا في هذه الفريضة، لماذا؟
قالوا: لأن الله تعالى حكم في هذه المسألة فقال: أَذِّن - يأتوكَ، هكذا رَغْماً عنهم، ودون اختيارهم، أَلاَ ترى الناس ينجذبون لأداء هذه الفريضة، وكأن قوة خارجة عنهم تجذبهم.
وهذا معنى قوله تعالى:{ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ.. }[إبراهيم: 37] ومعنى تهوي: تأتي دون اختيار من الْهُويِّ أي: السقوط، وهو أمر لا يملكه الإنسان، كالذي يسقط من مكان عالٍ، فليس له اختيار في ألاَّ يسقط.
وهكذا تحِنُّ القلوب إلى بيت الله، وتتحرَّق شَوْقاً إليه، وكأن شيئاً يجذبها لأداء هذه الفريضة؛ لأن الله تعالى أمر بهذه الفريضة، وحكم فيها بقوله } يَأْتُوكَ.. { [الحج: 27] أما في الأمور الأخرى فقد أمر بها وتركها لاختيار المكلف، يطيع أو يعصي، إذن: هذه المسألة قضية صادقة بنصِّ القرآن.
وبعض أهل الفَهْم يقولون: إن الأمر في: } وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ.. { [الحج: 27] ليس لإبراهيم، وإنما لمحمد صلى الله عليه وسلم - الذي نزل عليه القرآن، وخاطبه بهذه الآية، فالمعنى{ وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ.. }[الحج: 26] يعني: اذكر يا مَنْ أُنْزل عليه كتابي إذْ بوأنا لإبراهيم مكان البيت، اذكر هذه القضية } وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ.. { [الحج: 27] فكأن الأمر هنا لمحمد صلى الله عليه وسلم.
لذلك لا نشاهد هذا النسك في الأمم الأخرى كاليهود والنصارى، فهم لا يحجون ولا يذهبون إلى بيت الله أبداً، وقد ثبت أن موسى - عليه السلام - حج بيت الله، لكن لم يثبت أن عيسى عليه السلام حَجَّ، بدليل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " " يُوشك أنْ ينزل ابن مريم، ويأتي حاجاً، ويزور قبري، ويُدفن هناك ".
فقال رسول الله: " ويأتي حاجاً " لأنه لم يمت، وسوف يدرك عهد التكليف من رسول الله حين ينزل من السماء، وسيصلي خلف إمام من أمة محمد صلى الله على جميع أنبياء الله ورُسُله.
ومن المسائل التي نحتجُّ بها عليهم قولهم: إن الذبيح إسحق، فلو أن الذبيح إسحق كما يدَّعون لكانت مناسك الذبح والفداء ورَمْي الجمار عندكم في الشام، أمّا هذه المناسك فهي هنا في مكة، حيث كان إسماعيل.
ثم تذكَّروا جيداً ما قاله كتابكم المقدس في الأصحاح 23، 24 من أن الحق - سبحانه وتعالى - أوحى إلى إبراهيم أن يصعد على جبل فاران، ويأخذ ولده الوحيد ويذبحه، فالوحيد إسماعيل لا إسحق؛ لأن الله فدى إسماعيل، ثم بشَّر إبراهيم بإسحق.
ومن حكمة الله - عز وجل - أنْ جعل في كذب الكاذب مَنْفذاً للحق، وثغرات نصل منها إلى الحقيقة؛ لذلك يقول رجال القضاء: ليست هناك جريمة كاملة أبداً، لا بُدَّ أنْ يترك المجرم قرينة تدلُّ عليه مهما احتاط لجريمته، كأن يسقط منه شيء ولو أزرار من ملابسه، أو ورقة صغيرة بها رقم تليفون.. إلخ، لذلك نقول: الجريمة لا تفيد؛ لأن المجرم سيقع لا محالة في يد مَنْ يقتصُّ منه.
ولرجال القضاء ووكلاء النيابة مقدرة كبيرة على استخلاص الحقيقة من أفواه المجرمين أنفسهم، فيظل القاضي يحاوره إلى أنْ يجد في كلامه ثغرةً أو تضارباً يصل منه إلى الحقيقة.
ذلك لأن للصدق وجهاً واحداً لا يمكن أنْ يتلجلج صاحبه أو يتردد، أمّا الكذب فله أكثر من وجه، والكاذب نفسه لو حاورتَهُ أكثر من مرة لوجدتَ تغييراً وتضارباً في كلامه؛ لذلك العرب يقولون: إنْ كنتَ كذوباً فكُنْ ذَكُوراً. يعني: تذكَّر ما قُلْته أولاً، حتى لا تُغيِّره بعد ذلك.
ومن أمثلة الكذب الذي يفضح صاحبه قَوْلُ أحدهم للآخر: هل تذكر يوم كنا في مكان كذا ليلة العيد الصغير، وكان القمر ظهراً!! فقال: كيف، يكون القمر مثل الظهر في آخر الشهر؟
وقد يلجأ القاضي إلى بعض الحِيَل، ولا بُدَّ أنْ يستخدم ذكاءه لاستجلاء وجه الحق، كالقاضي الذي احتكم إليه رجلان يتهم أحدهما الآخر بأنه أخذ ماله أمانة، ثم أخذها لنفسه ودفنها في موضع كذا وكذا، فلما حاور القاضي المتهم أنكر فانصرف عنه، وتوجَّه إلى صاحب الأمانة، وقال له: اذهب إلى المكان، وابحثْ لعلَّك تكون قد نسيتَه هنا أو هناك.
أو لعلّ آخر أخذه منك، فذهب صاحب المال، وفجأة سأل القاضي المتهم: لماذا تأخر فلان طوالَ هذا الوقت؟ فردَّ المتهم: لأن المكان بعيدٌ يا سيادة القاضي. فخانتْه ذاكرته، ونطق بالحق دون أن يشعر.
ثم يقول تعالى: } يَأْتُوكَ رِجَالاً.. { [الحج: 27] ورجالاً هنا ليست جَمْعاً لرجل، إنما جمع لراجل، وهو الذي يسير على رِجْلَيْه } وَعَلَىا كُلِّ ضَامِرٍ.. { [الحج: 27] الضامر: الفَرَس أو البعير المهزول من طول السفر.
وتقديم الماشين على الراكبين تأكيد للحكم الإلهي } يَأْتُوكَ.. { [الحج: 27] فالجميع حريص على اداء الفريضة حتى إنْ حَجَّ ماشياً.
وقوله: } يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ { [الحج: 27] أي: من كل طريق واسع } عَميِقٍ { [الحج: 27] يعني: بعيد.
ثم يقول الحق سبحانه: } لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ.. {.
(/2604)
لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28)
كلمة { مَنَافِعَ.. } كلمة عامة واسعة تشمل كل أنواع النفع: مادية دنيوية، أو دينية أُخروية، ولا ينبغي أنْ نُضيِّق ما وسَّعه الله، فكُلُّ ما يتصل بالحج من حركات الحياة يُعَد من المنافع، فاستعدادك للحج، وتدبير نفقاته وأدواته وراحلته فيها منافع لك ولغيرك حين توفر لأهلك ما يكفيهم حتى تعود.
ما يتم من حركة بيع وشراء في مناطق الحج، كلها منافع متبادلة بين الناس، التاجر الذي يبيع لك، وصاحب البيت الذي يُؤجِّره لك، وصاحب السيارة التي تنقلك.
إذن: المنافع المادية في الحج كثيرة ومتشابكة، متداخلة مع المنافع الدينية الأخروية، فحين تشتري الهَدْي مثلاً تؤدي نُسُكاً وتنفع التاجر الذي باع لك، والمربِّي الذي ربَّى هذا الهَدْي، والجزار الذي ذبحه، والفقير الذي أكل منه.
إذن: لا يتم الحج إلا بحركة حياة واسعة، فيها نَفْع لك وللناس من حيث لا تدري، ولك أنْ تنظرَ في الهدايا التي يجلبها الحجاج معهم لأهليهم وذويهم، خاصة المصريين منهم، فترى بعضهم ينشغل بجَمْع هذه الأشياء قبل أنْ يُؤدِّي نُسُكه ويقضي معظم وقته في الأسواق، وكأنه لن يكون حاجاً إلا إذا عاد مُحمّلاً بهذه الهدايا.
لذلك يأتي إلينا بعض هؤلاء يسألون: أنا عليَّ دَم مُتْعة وليس معي نقود، فماذا أفعل؟ يريد أن يصوم. صحيح: كيف سيُؤدي ما عليه وقد أنفق كُلَّ ما معه؟ فكنت أقول له: اعْطِني حقيبة سفرك، وسأبيع ما بها، ولن أُبقي لك إلا ما يكفيك من نفقات حتى تعود.
أليست هذه كلها من المنافع؟
ومن منافع الحج ان الحاجَّ منذ أنْ ينوي أداء هذه الفريضة ويُعِد نفسه لها إعداداً مادياً، وإعداداً نفسياً معنوياً، فيحاول أنْ يُعيد حساباته من جديد، ويُصلح من نفسه ما كان فاسداً، وينتهي عَمَّا كان يقع فيه من معصية الله، ويُصلِح ما بينه وبين الناس، إذن: يجري عملية صَقْل خاصة تُحوِّله إلى إنسان جديد يليق بهذا الموقف العظيم، ويكون أهْلاً لرؤية بيت الله والطواف به.
ومن الإعداد للحج أنْ يتعلّم الحاجُّ ما له وما عليه، ويتأدب بآداب الحج فيعرف محظوراته وما يحرُم عليه، وأنه سوف يتنازل عن هِنْدامه وملابسه التي يزهو بها، ومكانته التي يفتخر بها بين الناس، وكيف أن الإحرام يُسوِّي بين الجميع.
يتعلم كيف يتأدب مع نفسه، ومع كل أجناس الكون من حوله، مع نفسه فلا يُفكّر في معصية، ولا تمتدّ يده حتى على شعره من شعره، أو ظُفْر من أظافره ولا يقْربُ طيباً، ولا حتى صابونة لها رائحة.
والعجيب أن الحاج ساعة يدخل في الإحرام يحرص كل الحرص على هذه الأحكام، وأتحدى أيَّ إنسان ينوي الحج ويأخذ في الإحرام به، ثم يفكر في معصية؛ لأنه يُعِدُّ نفسه لمرحلة جديدة يتطهر فيها من الذنوب، فكيف يكتسب المزيد منها وقد أتى من بلاد بعيدة ليتطهر منها؟
وفي الحجِّ يتأدب الحاج مع الحيوان، فلا يصيده ولا يقتله، ومع النبات فلا يقطع شجراً.
يتأدب حتى مع الجماد الذي يعتبره أَدْنى أجناس الكون، فيحرص على تقبيل الحجر الأسود، ويجتهد في الوصول إليه، فإنْ لم يستطع أشار إليه بيده.
إن الحج التزام وانضباط يفوق أيَّ انضباط يعرفه أهل الدنيا في حركة حياتهم، ففي الحج ترى هذا الإنسان السيد الأعلى لكل المخلوقات كَمْ هو منكسر خاضع مهما كانت منزلته، وكم هي طمأنينة النفس البشرية حين تُقبِّل حجراً وهي راضية خاضعة، بل ويحزن الإنسان إذ لم يتمكن من تقبيل الحجر.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: } وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ.. { [الحج: 28] يذكروا اسم الله؛ لأن كل أعمال الحج مصحوبة بذكر الله وتلبيته، فَمَا من عمل يُؤدِّيه الحاجّ إلا ويقول: لبيك اللهم لبيك. وتظل التلبية شاغله ودَيْدنه إلى أنْ يرمي جمرة العقبة، ومعنى " لبيك اللهم لبيك " أن مشاغل الدنيا تطلبني، وأنت طلبتني لأداء فَرْضِك عليَّ، فأنا أُلبِّيك أنت أولاً؛ لأنك خالقي وخالق كل ما يشغلني ويأخذني منك.
والأيام المعلومات هي: أيام التشريق.
ومعنى: } عَلَىا مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ.. { [الحج: 28] أي: يشكرون الله على هذا الرزق الوقتي الذي يأكلون منه ويشربون، ويبيعون ويشترون في أوقات الحج. أو يشكرون الله على أنْ خلقَ لهم هذه الأنعام، وإنْ لم يحجُّوا، ففي خَلْق الأنعام - وهي الإبل والبقر والغنم والماعز - وتسخيرها للإنسان حكمة بالغة، ففضلاً عن الانتفاع بلحمها وألبانها وأصوافها وأوبارها اذكروا الله واشكروه أنْ سخَّرها لكم، فلولا تسخير الله لها لَمَا استطعتُم أنْ تنتفعوا بها، فالجمل مثلاً هذا الحيوان الضخم يقوده الطفل الصغير، وينُيخه ويحمله في حين لم يستطع الإنسان تسخير الثعبان مثلاً أو الذئب.
لذلك يقول تعالى:{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ.. }[يس: 71 - 72].
لذلك نذكر الله ونشكره على ما رزقنا من بهيمة الأنعام استمتاعاً بها أَكْلاً، أو استمتاعاً بها بَيْعاً أو زينة، كما قال تعالى:{ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ }[النحل: 6].
ولولا أن الله تعالى ذَلَّلها لِخدمتك ما استطعْتَ أنت تذليلها والانتفاع بها؛ لذلك من حكمة الله أنْ يترك بعض خَلْقه غير مُسْتأنس، ولا يمكن لك بحال أن تستأنسه أو تُذلّله لتظل على ذِكْر لهذه النعمة؛ وتشكر الله عليها.
وسبق أن ضربنا مثلاً بالبرغوث، وهو أَدْنى هذه المخلوقات، ولا تكاد تراه، ومع ذلك لا تقدر عليه، وربما أقضَّ مَضْجعك، وأقلق نومك طوال الليل. وتلمس هذه النعمة في الجمل الذي يقوده الصبي الصغير، إذا حرن منك فلا تستطيع أن تجعله يسير رغماً عنه، أو صَالَ فلا يقدر عليه أحد، وقد يقتل صاحبه ويبطش بمَنْ حوله.
إذن: لا قدرة لك عليه بذاتك، إنما بتذليل الله يمكن الانتفاع به، فتسوقه إلى نَحْره، فيقف ساكناً مُسْتسلماً لك.
والمتأمل في حال الحيوانات التي أحلها الله لنا يجد امرها عجيباً، فالحيوان الذي أحلَّه الله لك تظل تنتفع به طوال عمره، فإذا ما تعرّض لما يُزهِق روحه، ماذا يفعل؟ يرفع رأسه إلى أعلى، ويعطيك مكان ذَبْحه، وكأنه يقول لك: أنا في اللحظات الأخيرة فاجتهد في أنْ تنتفع بلحمي، وأهل الريف إذا شاهدوا مثل هذه الحالة يقولون: طلب الحلال يعني الذبح. أما الحيوان الذي لا يُذبح ولا يُحله الله فيموت مُنكَّس الرأس؛ لأنه لا فائدة منه.
هذا الحيوان الذي نتهمه بالغباء ونقول أنه بهيم.. الخ لو فكرتَ فيه لَتغيَّر رأيّك، فالحمار الذي نتخذه رَمْزاً للغباء وعدم الفَهْم تسوقه أمامك وتُحمِّله القاذورات وتضربه فلا يعترض عليك ولا يخالفك، فإنْ نظفْته وزيَّنْتَه بلجام فضة، وبردعة قطيفة تتخذه رُكُوبة وزينة ويسير بك ويحملُك، وأنت على ظهره، فإنْ غضبتَ عليه واستخدمْته في الأحمال وفي القاذورات تحمَّل راضياً مطيعاً..
وانظر إلى هذا الحمار الذي نتخذه مثالاً للغباء، إذا أردتَ منه ان يقفز قناة أوسع من مقدرته وإمكانياته، فإنه يتراجع، ومهما ضربتَه وقسْوتَ عليه لا يُقدِم عليها أبداً؛ لأنه يعلم مدى قفزته، ويعلم مقدرته، ولا يُقدِم على شيء فوق ما يطيق - وبعد ذلك نقول عنه: حمار!!
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: } وَأَطْعِمُواْ الْبَآئِسَ الْفَقِيرَ.. { [الحج: 28].
البائس: هو الذي يبدو على مِحْنته وشكله وزِيِّه أنه فقير محتاج، أما الفقير فهو محتاج الباطن، وإنْ كانَ ظاهره اليُسْر والغِنَى، وهؤلاء الفقراء لا يلتفت الناس إليهم، وربما لا يعلمون حالهم وحاجتهم، وقد قال الله فيهم:{ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً.. }[البقرة: 273].
والمعنى: كُلُوا مما يُبَاح لكم الأكل منه، وهي الصدقة المحضة، أو الهدية للبيت غير المشروطة بشيء، يعني: لا هي دم قِرَان أو تمتُّع، ولا هي فدية لمخالفة أمر من أمور الإحرام، أو كانت نذراً فهذه كلها لا يؤكَل منها.
إذن: كلوا من الصدقة والتطوع، وأطعموا كذلك البائس والفقير، ومن رحمة الله بالفقراء أنْ جعل الأغنياء والمياسير هم الذين يبحثون عن الذبائح ويشترونها ويذهبون لمكان الذبح ويتحمَّلون مشقة هذا كله، ثم يبحثون عن الفقير ليعطوه وهو جالس في مكانه مستريحاً، يأتيه رِزْقه من فَضْل الله سهلاً وميسّراً.
لذلك يقولون: من شرف الفقير أنْ جعله الله ركناً من أركان إسلام الغنيّ، أي: في فريضة الزكاة، ولم يجعل الغني ركناً من أركان إسلام الفقير.
ثم يقول الحق سبحانه: } ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ.. {
.
(/2605)
ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)
{ لْيَقْضُواْ.. } [الحج: 29] كلمة قضاء تُقال، إما لقضاء الله الذي يقضيه على الإنسان مثلاً، وهو أمر لازم محكوم به، وإما قضاء من إنسان بين متخاصمين، وأول شيء في مهمة القضاء أن يقطع الخصومة، كأن المعنى { لْيَقْضُواْ.. } [الحج: 29] أي: يقطعوا.
ومعنى { تَفَثَهُمْ.. } [الحج: 29] لما نزل القرآن بهذه الكلمة لم تكن مستعملة في لسان قريش، ولم تكن دائرة على ألسنتهم، فسألوا عنها أهل البادية، فقالوا: التفَثُ يعني: الأدران والأوساخ التي تعلَقُ بالجسم، فقالوا: والله لم نعرفها إلا ساعةَ نزل القرآن بها.
فالمراد - إذن - ليقطعوا تفثهم أي الأدران التي لحقتهم بسبب التزامهم بأمور الإحرام، حيث يمكث الحاجُّ أيام الحج مُحْرِماً لا يتطيب، ولا يأخذ شيئاً من شعره أو أظافره، فإذا ما أنهى أعمال الحج وذبح هَدْية يجوز له أنْ يقطع هذا التفث، ويزيل هذه الأدران بالتحلُّل من الإحرام، وفِعْل ما كان محظوراً عليه.
وقوله تعالى: { وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ.. } [الحج: 29] يعني: طواف الإفاضة، والطواف: أنْ تدور حول شيء بحيث تبدأ وتنتهي، وتبدأ وتنتهي، وهكذا، وقد وصف البيت بأنه عتيق، وكلمة عتيق استعملت في اللغة استعمالات واسعة، منها: القديم، وما دام هو أول بيت وُضِع للناس فهو إذن قديم، والقِدَم هنا صفة مدح؛ لأنها تعني الشيء الثمين الذي يُحافظ عليه ويُهتَم به.
كما نرى عند بعض الناس أشياء ثمينة ونادرة يحتفظون بها ويتوارثونها يسمونها " العاديات " مثل: التحف وغيرها، وكلما مَرَّ عليها الزمن زادتْ قميتها، وغلا ثمنها.
والعتيق: الشيء الجميل الحسن، والعتيق: المعتوق من السيطرة والعبودية لغيره، فما المراد بوصف البيت هنا بأنه عتيق؟
وَصْف البيت بالقِدَم يشمل كُلَّ هذه المعاني: فهو قديم؛ لأنه أول بيت وُضِع للناس، وهو غالٍ ونفيس ونادر حيث نرى فيه مَا لا نراه في غيره من آيات، ويكفي أن رؤيته والطواف به تغفر الذنوب، وهو بيت الله الذي لا مثيلَ له.
وهو كذلك عتيق بمعنى معتوق من سيطرة الغير؛ لأن الله حفظه من اعتداء الجبابرة، ألاَ ترى قصة الفيل، وما فعله الله بأبرهة حين أراد هَدْمه؟ حتى الفيل الذي كان يتقدَّم هذا الجيش أدرك أن هذا اعتداءٌ على بيت الله، فتراجع عن البيت، وأخذ يتوجَّه أي وجهة أرادوا إلا ناحية الكعبة.
ويُقال: إن رجلاً تقدّم إلى الفيل. وقال في أذنه: ابْرُك محمود - اسم الفيل - وارجع راشداً فإنك ببلد الله الحرام. وقد عبَّر الشاعر عن هذا الموقف، فقال:حُبِسَ الفيل بالمُغَمَّسِ حَتَّى ظَلَّ يعوي كأنه مَعْقُورثم ينزل الله عليهم الطير الأبابيل التي ترميهم بالحجارة حتى الموت.
لذلك لما ذهب عبد المطلب جَدُّ الرسول صلى الله عليه وسلم ليُكلِّم أبرهة في الإبل المائة التي أخذها من إبله، قال أبرهة: لقد كنتُ أهابك حين رأيتُك، لكنك سقطت من نظري لما كلَّمتني في مائة بعير أصبْتها لك، وتركتَ البيت الذي فيه مجدُكم وعزكم.
فماذا قال عبد المطلب؟ قال: أما الإبل فإنها لي، أما البيت فله رَبٌّ يحميه.
البعض يتهم عبد المطلب لمقالته هذه بالسلبية، وليست هذه سلبية من كبير قريش، إنما ثقةً منه في حماية الله لبيته؛ لذلك رَدَّه إلى أقوى منه، وكأنه قال: إنْ كنتُ أحميه أنا، فسأحميه بقوتي وقدرتي وحيلتي، لكنني أريد أنْ أرعبه بقدرة الله وقوته، وما سلَّمتُ البيت إلاَّ وأنا واثق أن ربَّ البيت سيحميه، وهذه تُزلزل العدو وتُربكه.
وما أشبه موقف عبد المطلب بموقف موسى عليه السلام، لما قال له قومه:{ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ }[الشعراء: 61] فقال في يقين وثقة:{ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ }[الشعراء: 62].
إذن: لم يكُنْ عبد المطلب سلبياً كما يتهمه البعض، بل كان إيجابياً من النوع الراقي، فلو كان إيجابياً بالمعنى الذي تريدون لأعطتْه هذه الإيجابية منعةً بقوته هو، إنما تصرُّفه وما تعتبرونه سلبية أعطاه منعةً بقدرة الله وقُوَّته سبحانه؛ لذلك تدخَّلتْ فوراً جنود السماء.
لكن لماذا الطواف والدوران حول الكعبة؟
قالوا: لأن المسلم وهو غائب عن الكعبة يُصلِّي لجهتها، كلّ حسب موقعه منها، فتجد المسلمين في كل أنحاء العالم يتجهون نحوها، كل من ناحية، هذا من الشمال، وهذا من الجنوب، وهذا من الشرق، وهذا من الغرب، يعني بكل الجهات الأصلية والفرعية.
فإذا ما ذهبتَ إلى الكعبة ذاتها، وتشرفتَ برؤيتها، فهل تستقبلها من نفس المكان الذي كنتَ تتجه إليه في صلاتك وغيرك وغيرك؟ إذن: فكل اتجاهات الكعبة سواء لك ولغيرك، كما قال تعالى:{ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ.. }[البقرة: 115] فليس هناك مكان أَوْلَى من مكان؛ لذلك نطوف حول البيت.
ثم يقول الحق سبحانه: } ذالِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ.. {
.
(/2606)
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)
{ ذالِكَ.. } إشارة إلى الكلام السابق بأنه أمْر واضح، لكن استمع إلى أمر جديد سيأتي، فهنا استئناف كلام على كلام سابق، فبعد الكلام عن البيت وما يتعلَّق به من مناسك الحج يستأنف السياق:{ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ.. }[الحج: 30] فالحق - سبحانه - يريد لعبده أنْ يلتزمَ أوامره بفعل الأمر واجتناب النهي، فكُلُّ أمر لله يَحرُم عليك أن تتركه، وكلّ نَهْي يحرم عليك أنْ تأتيه، فهذه هي حرمات الله التي ينبغي عليك تعظيمها بطاعة الأمر واجتناب النهي.
وحين تُعظِّم هذه الحرمات لا تُعظمها لذاتها، فليس هناك شيء له حُرْمة في ذاته، إنما تُعظِّمها لأنها حرمات الله وأومره؛ لذلك قد يجعل الالتزام بها مُتغيّراً، وقد يطرأ عليك ما يبدو متناقضاً في الظاهر.
فالوضوء مثلاً، البعض يرى فيه نظافة للبدن، فإذا انقطع الماء وعُدِم وجوده حَلَّ محلّه التيمُم بالتراب الطاهر الذي نُغبِّر به أعضاء التيمم، إذن: ليس في الأمر نظافة، إنما هو الالتزام والانقياد واستحضار أنك مُقْبل على أمر غير عادي يجب عليك أنْ تتطَّهر له بالوضوء، فإنْ أمرتُكَ بالتيمم فعليك الالتزام دون البحث في أسباب الأمر وعِلّته.
وهكذا يكون الأدب مع الأوامر وتعظيمها؛ لأنها من الله، ولِمَ لا ونحن نرى مثل هذا الالتزام أو رياضة التأديب في الالتزام في تعاملاتنا الطبيعية الحياتية، فمثلاً الجندي حين يُجنَّد يتعلم أول ما يتعلم الانضباط قبل أنْ يُمسِك سلاحاً أوْ يتدرب عليه، يتعلم أن كلمة " ثابت " معناها عدم الحركة مهما كانت الظروف فلو لَدغه عقرب لا يتحرك.
ويدخل المدرب على الجنود في صالة الطعام فيقول: ثابت فينفذ الجميع.. الملعقة التي في الطبق تظل في الطبق، والملعقة التي في فم الجندي تظل في فمه، فلا ترى في الصالة الواسعة حركة واحدة. وهذا الانضباط الحركي السلوكي مقدمة للانضباط في الأمور العسكرية الهامة والخطيرة بعد ذلك.
إذن: فربُّك - عز وجل - أَوْلَى بهذا الانضباط؛ لأن العبادة ما هي إلا انضباط عابد لأوامر معبود وطاعة مطلقة لا تقبل المناقشة؛ لأنك لا تؤديها لذاتها وإنما انقياداً لأمر الله، ففي الطواف تُقبِّل الحجر الأسود، وفي رمي الجمار ترمي حجراً، وهذا حجر وذاك حجر، هذا ندوسه وهذا نُقبِّله فَحَجر يُقَبَّل وحَجر يُقَنْبل؛ لأن المسألة مسألة طاعة والتزام، هذا كله من تعظيم حرمات الله.
لذلك الإمام علي - رضي الله عنه - يلفتنا إلى هذه المسألة فيقول في التيمم: لو أن الأمر كما نرى لكان مسح باطن القدم أَوْلَى من ظاهرها؛ لأن الأوساخ تعلق بباطن القدم أولاً.
وقد ذكرنا في الآيات السابقة أن الحرمات خمس: البيت الحرام، والمسجد الحرام، والبلد الحرام، والمشعر الحرام، والشهر الحرام، وحرمات الله هي الأشياء المحرمة التي يجب الاَّ تفعلها.
ثم يُبيَّن الحق سبحانه جزاء هذا الالتزام: } فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ.. { [الحج: 30] الخيرية هنا ليست في ظاهر الأمر وعند الناس أو في ذاته، إنما الخيرية للعبد عند الله.
ثم يقول سبحانه: } وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَىا عَلَيْكُمْ.. { [الحج: 30] قد تقول: كيف وهي حلال من البداية وفي الأصل، قالوا: لأنه لما حرَّم الصيد قد يظن البعض أنه حرام دائماً فلا ينتفعون بها، فبيَّن سبحانه أنها حلال إلا ما ذُكر تحريمه، ونصَّ القرآن عليه في قوله تعالى:{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ.. }[المائدة: 3].
وقوله تعالى:{ وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ.. }[الأنعام: 121].
ومعنى: } فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ.. { [الحج: 30] الرجْس: النجاسة الغليظة المتغلغلة في ذات الشيء. يعني: ليست سطحية فيه يمكن إزالتها، وإنما هي في نفس الشيء لا يمكن أنْ تفصلها عنه.
} وَاجْتَنِبُواْ.. { [الحج: 30] لا تدل على الامتناع فقط، إنما على مجرد الاقتراب من دواعي هذه المعصية؛ لأنك حين تقترب من دواعي المعصية وأسبابها لا بُدَّ أن تداعبك وتشغل خاطرك، ومَنْ حام حول الشيء يوشك أنْ يقع فيه، لذلك لم يقُل الحق - سبحانه وتعالى - امتنعوا إنما قال: اجتنبوا، ونعجب من بعض الذين أسرفوا على أنفسهم ويقولون: إن الأمر في اجتنبوا لا يعني تحريم الخمر، فلم يَقُلْ: حُرِّمَتْ عليكم الخمر.
نقول: اجتنبوا أبلغ في النهي والتحريم وأوسع من حُرِّمَتْ عليكم، لو قال الحق - تبارك وتعالى - حُرّمت عليكم الخمر، فهذا يعني أنك لا تشربها، ولكن لك أن تشهد مجلسها وتعصرها وتحملها وتبيعها، أما اجتنبوا فتعني: احذروا مجرد الاقتراب منها على أيِّ وجه من هذه الوجوه.
لذلك، تجد الأداء القرآني للمطلوبات المنهجية في الأوامر والنواهي من الله يُفرِّق بين حدود ما أحلَّ الله وحدود ما حرَّم، ففي الأوامر يقول:{ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا.. }[البقرة: 229].
وفي النواهي يقول:{ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا.. }[البقرة: 187].
ففي الأوامر وما أحلَّ الله لك قِفْ عند ما أحلَّ، ولا تتعداه إلى غيره، أمَّا المحرمات فلا تقترب منها مجردَ اقتراب، فلما أراد الله نَهْي آدم وحواء عن الأكل من الشجرة قال لهما:{ وَلاَ تَقْرَبَا هَـاذِهِ الشَّجَرَةَ.. }[البقرة: 35].
وبعد أن أمر الحق سبحانه باجتناب الرجْس في عبادة الأصنام قال: } وَاجْتَنِبُواْ قَوْلَ الزُّورِ { [الحج: 30] فقرن عبادة الأوثان بقول الزُّور، كأنهما في الإثم سواء؛ لذلك النبي صلى الله عليه وسلم سلَّم يوماً من صلاة الصبح، ثم وقف وقال: " ألا وإن شهادة زور جعلها الله بعد الأوثان ".
لماذا؟ لأن في شهادة الزور جماع لكل حيثيات الظلم، فساعةَ يقول: ليس للكون إله، فهذه شهادة زور، وقائلها شاهد زور، كذلك حين يظلم أو يُغير في الحقيقة، أو يذمُّ الآخرين، كلها داخلة تحت شهادة الزور.
ولما عدَّد النبي صلى الله عليه وسلم الكبائر، قال: " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله. قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين - وكان متكئاً فجلس - فقال: ألا وقول الزور ألا وقول الزور، قال الراوي: فما زال يكررها حتى قلنا (ليته سكت) أو حتى ظننا أنه لا يسكت ".
ويقولون في شاهد الزور: يا شاهد الزور أنت شر منظور، ضلَّلتَ القُضاة، وحلفت كاذباً بالله.
ومن العجيب في شاهد الزور أنه أول ما يسقط من نظر الناس يسقط من نظر مَنْ شهد لصالحه، فرغم أنه شَهِد لصالحك، ورفع رأسك على خَصْمك لكن داستْ قدمك على كرامته وحقَّرته، ولو تعرَّض للشهادة في قضية أخرى فأنت أول مَنْ تفضحه بأنه شهد زوراً لصالحك.
ثم يقول سبحانه: } حُنَفَآءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَآءِ.. {
.
(/2607)
حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)
اكتفتْ الآية بذكر صفتين فقط من صفات كثيرة على وجه الإجمال، وهما حنفاء لله، غير مشركين به، وحنفاء: جمع حنيف، مأخوذة من حنيف الرِّجل يعني: تقوُّسها وعدم استقامتها، فيقال: فيه حَنَف أي: ميْل عن الاستقامة، وليس الوصف هنا بأنهم مُعْوجون، إنما المراد أن الاعوجاج عن الاعوجاج استقامة.
لذلك وُصِف إبراهيم - عليه السلام - بأنه{ كَانَ حَنِيفاً.. }[آل عمران: 67] يعني: مائلاً عن عبادة الأصنام.
وقلنا: إن السماء لا تتدخَّل برسالة جديدة إلا حين يَعمُّ الفسادُ القومَ، ويستشري بينهم الضلال، وتنعدم أسباب الهداية، حيث لا واعظَ للإنسان لا من نفسه وضميره، ولا من دينه، ولا من مجتمعه وبيئته؛ ذلك لأن في النفس البشرية مناعةً للحق طبيعية، لكن تطمسها الشهوات، فإذا عُدِم هذا الواعظ وهذه المناعة في المجتمع تدخَّلَتْ السماء بنبي جديد، ورسالة جديدة، وإنذار جديد؛ لأن الفساد عَمَّ الجميع، ولم يَعُدْ أحد يعِظُ الآخر ويهديه.
وهذا المعنى الذي قال الله فيه:{ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ }[المائدة: 79]
ومن هنا شهد الله لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أنها خير أمة أُخرِجَتْ للناس؛ لأن المناعة للحق فيها قائمة، ولها واعظ من نفسها يأمر بالخير، ويأخذ على يد المنحرف حتى يستقيم؛ لذلك قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: " الخير فيَّ وفي أمتي إلى يوم القيامة ".
والمعنى: الخير فِيَّ حصراً وفي أمتي نَثْراً، فرسول الله صلى الله عليه وسلم جمع خصال الخير كله، وخَصه الله بالكمال، لكن مَنْ يُطيق الكمال المحمدي من أمته؟ لذلك نثر الله خصال الخير في جميع أمة محمد، فأخذ كلّ واحد منهم صفةً من صفاته، فكماله صلى الله عليه وسلم منثور في أمته: هذا كريم، وهذا شجاع، وهذا حليم.. إلخ.
ولما كان لأمة محمد هذا الدور كان هو خاتم الأنبياء؛ لأن أمته ستؤدي رسالته من بعده، فلا حاجة - إذن - لتدخل السماء برسالة جديدة إلى أن تقوم الساعة.
إذن نقول: الرسل لا تأتي إلا عند الاعوجاج، يأتون هم لِيُقوِّموا هذا الاعوجاج، ويميلون عنه إلى الاستقامة، هذا معنى الحنيف أو { حُنَفَآءَ للَّهِ.. } [الحج: 31].
وهذه الصفة هي مقياس الاستقامة على أوامر الله لا على أوامر البشر، فنحن لا نضع لأنفسنا أسبابَ الكمال ثم نقول: ينبغي أن يكون كذا وكذا، لا إنما الذي يضع أسباب الكمال للمخلوق هو الخالق.
والحق - سبحانه وتعالى - ليس مراده من الفعل أنْ يُفعل لذاته ولمجرد الفعل، إنما مراده من الفعل أنْ يُفعل لأنه أمر به، وقد أوضحنا هذه المسألة بالكافر الذي يفعل الخير وينفع الناس والمجتمع، لكن ليس من منطلق الدين وأمر الله، إنما من منطلق الإنسانية والمكانة الاجتماعية والمهابة والمنزلة بين الناس، ومثل هذا لا يجحفه الله حَقه، ولا يبخسه ثواب عمله، يعطيه لكن في الدنيا عملاً بقول الله تعالى:
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً }[الكهف: 30].
لكن لا حَظَّ لهؤلاء في ثواب الآخرة؛ لأنهم عملوا للمجتمع وللناس وللمنزلة، وقد أخذوا المقابل في الدنيا شُهْرة وصيتاً ذائعاً، ومكانة وتخليداً.
وفي الحديث القدسي يقول الحق سبحانه لهم: " لقد فعلْتَ ليُقال وقد قيل " وانتهت المسألة.
والحق - تبارك وتعالى - ضرب لنا عدة أمثلة لهؤلاء، فقال:{ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىا إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ.. }[النور: 39].
فعمل الكافر كالسراب يتراءى له من بعيد، يظن من ورائه الخير، وهو ليس كذلك، حتى إذا ما عاين الأمر لم يجد شيئاً، وفُوجِئ بوجود إله عادل لم يكُنْ في باله يوم عمل ما عمل.
وفي آية أخرى يقول سبحانه:{ مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَىا شَيْءٍ.. }[إبراهيم: 18].
وقال:{ كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىا شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ.. }[البقرة: 264].
وهل ينبت المطر شيئاً إذا نزل على الحجر الصَّلد الأملس؟ هكذا عمل الكافر، فمن أراد ثواب الآخرة فليحقق معنى } حُنَفَآءَ للَّهِ.. { [الحج: 31] ويعمل من منطلق أن الله أمر.
إذن: العمل لا يُفعَل؛ لأنه حسن في ذاته، إنما لأن الله أمرك به، بدليل أن الشارع سيأمرك بأمور لا تجد فيها حُسْناً، ومع ذلك عليك أنْ تلتزم بها لتحقق الانضباط الذي أراده منك الشارع الحكيم، وبعد ذلك سينكشف لك وجه الحُسْن في هذا العمل، وتعلم الحكمة منه.
خذ مثلاً موقف الإسلام من اليتيم، وقد حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على رعايته وإكرامه وكفالته حتى أنه قال: " أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة، وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى " فكافل اليتيم قرين لرسول الله في الجنة.
ففي هذا الموقف حِكَم كثيرة، قد لا يعلمها كثير من الناس؛ لأن اليتيم فقد أباه وهو صغير، ونظر فلم يَجِدْ له أباً، في حين يتمتع رفاقه بأحضان آبائهم، فإذا لم يجد هذا الصغير حناناً من كل الناس كأنهم آباؤه لتربّي عنده شعور بالسُّخْط على الله والاعتراض على القدر الذي حرمه دون غيره من حنان الأب ورعايته.
لذلك يريد الإسلام أن ينشأ اليتيم نشأة سويّة في المجتمع، لا يسخط على الله، ولا يسخط على الناس؛ لأنهم جميعاً عاملوه كأنه ولد لهم.
وهناك ملحظ آخر: حين ترى مكانة اليتيم، وكيف يرعاه المجتمع وينهض به يطمئن قلبك إنْ فاجأك الموت وأولادك صغار، هذه مناعات يجعلها الإسلام في المجتمع: مناعة في نفس اليتيم، ومناعة فيمَنْ يرعاه ويكفله.
وكفالة اليتيم وإكرامه لا بُدَّ أنْ تتم في إطار } حُنَفَآءَ للَّهِ.. { [الحج: 31] فيكون عملك لله خالصاً، دون نظر إلى شيء آخر من متاع الدنيا، كالذي يسعى للوصاية على اليتيم لينتفع بماله، أو أن له مطمعاً في أمه.. إلخ فهذا عمله كالذي قُلْنا: (كسراب بقيعة) أو كرماد اشتدت به الريح أو كحجر أملس صَلْد لا ينبت شيئاً.
فإنْ حاول الإنسان إخلاص النية لله في مثل هذا العمل فإنه لا يأمن أنْ يخالطه شيء، كما جاء في الحديث الشريف: " اللهم إني أستغفرك من كل عمل أردت به وجهك فخالطني فيه ما ليس لك ".
الصفة الثانية التي وصف الله بها عباده المؤمنين: } غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ.. { [الحج: 31] فالشرك أمر عظيم؛ لأن الحق - تبارك وتعالى - كما قال في الحديث القدسي - أغنى الشركاء عن الشرك، فكيف تلجأ إلى غير الله والله موجود؟
لذلك يقول سبحانه في الحديث القدسي: " أنا أغنى الشركاء عن الشرك، مَنْ عمل عملاً أشرك فيه معي غيري، تركته وشِرْكه ".
ويعطينا الحق سبحانه بعدها صورة توضيحية لعاقبة الشرك: } وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَآءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ.. { [الحج: 31].
خرَّ: يعني سقط من السماء لا يُمسكه شيء، ومنه قوله تعالى:{ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ.. }[النحل: 26].
وفي الإنسان جمادية؛ لأن قانون الجاذبية يتحكم فيه، فإنْ صَعِد إلى أعلى لا بُدَّ أنْ يعود إلى الأرض بفعل هذه الجاذبية، لا يملك أنْ يُمسِك نفسه مُعلَّقاً في الهواء، فهذا أمر لا يملكه وخارج عن استطاعته، وفي الإنسان نباتية تتمثل في النمو، وفيه حيوانية تتمثل في الغرائز، وفيه إنسانية تتمثل في العقل والتفكير والاختيار بين البدائل، وبهذه كُرِّم عن سائر الأجناس.
وتلحظ أن (خرَّ) ترتبط بارتفاع بعيد } خَرَّ مِنَ السَّمَآءِ.. { [الحج: 31] بحيث لا تستطيع قوة أنْ تحميه، أو تمنعه لا بذاته ولا بغيره، وقبل أنْ يصل إلى الأرض تتخطفه الطير، فإنْ لم تتخطفه تهوي به الريح في مكان بعيد وتتلاعب به، فهو هالك هالك لا محالةَ، ولو كانت واحدة من هذه الثلاث لكانت كافية.
وعلى العاقل أنْ يتأمل مغزى هذا التصوير القرآني فيحذر هذا المصير، فهذه حال مَنْ أشرك بالله، فإنْ أخذتَ الصورة على أنها تشبيه حالة بحالة، فها هي الصورة أمامك واضحة، وإنْ أردتَ تفسيراً آخر يُوضِّح أجزاءها: فالسماء هي الإسلام، والطير هي الشهوات، والريح هي ريح الشيطان، يتلاعب به هنا وهناك. فأيُّ ضياع بعد هذا؟ ومَنْ ذا الذي ينقذه من هذا المصير؟
ثم يقول سبحانه: } ذالِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ.. {
.
(/2608)
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)
{ ذالِكَ.. } [الحج: 32] كما قلنا في السابقة: إشارة إلى الكلام السابق الذي أصبح واضحاً معروفاً، ونستأنف بعدها كلاماً جديداً تَنبَّه له.
{ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ.. } [الحج: 32] الشعائر: جمع شعيرة، وهي المعالم التي جعلها الله لعباده لينالوا ثوابه بتعظيمها، فالإحرام شعيرة، والتكبير شعيرة، والطواف شعيرة، والسَّعْي شعيرة، ورمْي الجمار شعيرة.. إلخ. وهذه أمور عظّمها الله، وأمرنا بتعظيمها.
وتعظيم الشيء أبلغ وأشمل من فِعْله، أو أدائه، أو عمله، عَظَّم الشعائر يعني: أدَّاها بحبٍّ وعشْق وإخلاص، وجاء بها على الوجه الأكمل، وربما زاد على ما طُلِبَ منه.
ومثالنا في ذلك: خليل الله إبراهيم، عندما أمره الله أنْ يرفع قواعد البيت: كان يكفيه أنْ يبني على قَدْر ما تطوله يده، وبذلك يكون قد أدّى ما أُمِر به، لكنه عشق هذا التكليف وأحبَّه فاحتال للأمر ووضع حجراً على حجر ليقف عليه، ويرفع البناء بقدر ما ارتفع إليه.
فمحبة أمر الله مَرْقي من مراقي الإيمان، يجب أن نسموَ إليه، حتى في العمل الدنيوي: هَبْ أنك نُقِلْتَ إلى ديوان جديد، ووصل إلى عِلْمك أن مدير هذا الديوان رجل جادّ وصعب، ويُحاسب على كل صغيرة وكبيرة، فيمنع التأخير أو التسيّب أثناء الدوام الرسمي، فإذا بك تلتزم بهذه التعليمات حرفياً، بل وتزيد عليها ليس حباً في العمل، ولكن حتى لا تُسئَل أمام هذا المدير في يوم من الأيام.
إذن: الهدف أنْ نؤدي التكاليف بحُبٍّ وعِشْق يُوصِّلنا إلى حب الله عز وجل؛ لذلك نجد من أهل المعرفة مَنْ يقول: رُبَّ معصية أورثتْ ذلاً وانكساراً خَيْر من طاعة أورثت عِزاً واستكباراً.
فالمهم أن نصل إلى الله، أن نخضع لله، أنْ نذِلّ لعزته وجلاله، والمعصية التي تُوصِّلك إلى هذه الغاية خير من الطاعة التي تُسلِمك للغرور والاستكبار.
هذه المحبة للتكاليف، وهذا العشق عبَّر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال: " وجُعلَتْ قُرَّة عيني في الصلاة " لذلك نَعَي القرآن على أولئك الذين{ إِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَىا يُرَآءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً.. }[النساء: 142].
وابنته فاطمة - رضي الله عنها - كانت تجلو الدرهم وتلمعه، فلما سألها رسول الله عما تفعل، قالت: لأنني نويتُ أنْ أتصدَّق به، وأعلم أنه يقع في يد الله قبل أنْ يقع في يد الفقير. هذا هو التعظيم لشعائر الله والقيام بها عن رغبة وحب.
وفي عصور الإسلام الأولى كان الناس يتفاضلون بأسبقهم إلى صلاة الجماعة حين يسمع النداء، وبآخرهم خروجاً من المسجد بعد أداء الصلاة، ولك أن تقيس حال هؤلاء بحالنا اليوم. هؤلاء قوم عظَّموا شعائر الله فلم يُقدِّموا عليها شيئاً.
وقد بلغ حُبُّ التكاليف وتعظيم شعائر الله بأحد العارفين إلى أنْ قال: لقد أصبحتُ أخشى ألا يثيبني الله على طاعته، فسألوه: ولماذا؟ قال: لأنني أصبحتُ أشتهيها يعني: أصبحتْ شهوة عندي، فكيف يُثاب - يعني - على شهوة عندي؟!
لذلك أهل العزم وأهل المعرفة عن الله إذا ورد الأمر من الله وثبت أخذوه على الرَّحْب والسِّعَة دون جدال ولا مناقشة، وكيف يناقشون أمر الله وهم يُعظِّمونه؟ ومن هنا نقول للذين يناقشون في أمور فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل تعدُّد زوجاته مثلاً ويعترضون، بل ومنهم مَنْ يتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لا يليق.
نقول لهم: ما دُمْتُم آمنتم بأنه رسول الله، فكيف تضعون له موازين الكمال من عند أنفسكم. وتقولون: كان ينبغي أنْ يفعل كذا، ولا يفعل كذا؟ وهل عندكم من الكمال ما تقيسون به فِعْل رسول الله؟ المفروض أن الكمال منه صلى الله عليه وسلم ومن ناحيته، لا من ناحيتكم.
ثم يقول سبحانه: } فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ { [الحج: 32] ليست من تقوى الجوارح، بل تقوى قلب لا تقوى قالب، فالقلب هو محلُّ نظر الله إليك، ومحلُّ قياس تعظيمك لشعائر الله.
وسبق أنْ ذكرنا أن الله تعالى لا يريد أنْ يُخضِع قوالبنا، إنما يريد أنْ يُخضع قلوبنا، ولو أراد سبحانه أنْ تخضع القوالب لخصعتْ له راغمة، كما جاء في قوله تعالى:{ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ * إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ }[الشعراء: 3 - 4].
وأنت تستطيع أنْ تُرغِم مَنْ هو أضعف منك على أيِّ شيء يكرهه، إنْ شئتَ سجد لك، لكن لا تملك أنْ تجعل في قلبه حباً أو احتراماً لك، لماذا؟ لأنك تجبر القالب، أمّا القلب فلا سلطةَ لك عليه بحال.
ثم يقول الحق سبحانه: } لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَىا أَجَلٍ مُّسَمًّى.. {
.
(/2609)
لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)
يعني: ما دامت هذه المسائل من شعائر الله ومن تقوى القلوب فاعملوها وعظِّموها؛ لأن لكم فيها منافع عرفتها أو لم تعرفها، وربما تعرف بعضها ولا تعرف الباقي؛ لأنه مستور عنك ولو أنك لا تعلم قيمة الجزاء على هذه الشعائر، فقيمة الجزاء على العمل بحسب أنفاس الإخلاص في هذا العمل.
ومعنى { إِلَىا أَجَلٍ مُّسَمًّى.. } [الحج: 33] ما دام الحق - سبحانه وتعالى - ذَيَّل الآية بقوله { ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَىا الْبَيْتِ الْعَتِيقِ.. } [الحج: 33].
إذن: فالمراد هنا شعيرة الذَّبْح، ولا يخفى ما فيها من منافع حيث ننتفع بصوفها ووبرها ولبنها ولحمها، ونتخذها زينة وركوبة.
كل هذا { إِلَىا أَجَلٍ مُّسَمًّى.. } [الحج: 33] يعني: زمن معلوم، وهو حين تقول وتنوي: هذه هدية للحرم، ساعة تعقد هذه النية فليس لك الانتفاع بشيء منها، لا أنت ولا غيرك؛ لذلك يُميِّزونها بعلامة حتى إنْ ضلت من صاحبها يعرفون أنها مُهْداة لبيت الله، فلا يأخذها أحد.
وما دامت هذه منافع إلى أجل مسمى، فلا بُدَّ أنها المنافع الدنيوية، أما المنافع الأخروية فسوف تجدها فيما بعد في الآخرة.
ثم يقول سبحانه: { ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَىا الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } [الحج: 33] أي: بعد هذا الأجل المسمى ينتهي بها المطاف عند الحرم حيث تُذبَح هناك.
وقد كان للعلماء كلامٌ حول هذه الآية: { ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَىا الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } [الحج: 33] حيث قالوا: محل الذَّبْح في مِنَى، وليس في مكة، والآية تقول، محلها البيت العتيق.
نقول: الأصل كما جاء في الآية أن الذبح في مكة وفي الحرم، إلا أنهم لما استقذروا الذَّبْح في الحرم بسبب ما يُخلفه من قاذورات ودماء وخلافه نتيجة هذه العملية، فرُؤي أن يجعلوا الذبح بعيداً عن الحرم حتى يظل نظيفاً، وهذا لا يمنع الأصل، وهو أنْ يكون الذَّبْح في الحرم، كما جاء في آية أخرى:{ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ.. }[المائدة: 95] وفي الحديث الشريف: " مكّةُ كلُّها مَنْحرٌ ".
ثم يقول الحق سبحانه: { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً لِّيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَىا مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ.. }
.
(/2610)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)
المنسك: هو العبادة، كما جاء في قول الله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام:{ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.. }[الأنعام: 162].
ومعنى { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً.. } [الحج: 34] لأن الشعائر والمناسك والعبادات ليس من الضروري أنْ تتفق عند جميع الأمم، بل لكل أمة ما يناسبها، ويناسب ظَرْفها الزمني والبيئي.
لذلك، فإن الرسل لا تأتي لتُغير القواعد والأسس التي يقوم عليها الدين؛ لأن هذه القواعد وهذه الأسس ثابتة في كل رسالات السماء، لا تتبدل ولا تتغير بتغيُّر الرسل.
يقول تعالى:{ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىا بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىا وَعِيسَىا أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ.. }[الشورى: 13].
هذا في الأصول العَقَدية الثابتة، أما في الفرعيات فنرى ما يصلح المجتمع، وما يناسبه من طاعات وعبادات.
ثم يُبيِّن الحق سبحانه الحكمة من هذه المناسك: { لِّيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَىا مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ.. } [الحج: 34] أي: يذكروا الله في كل شيء، ويشكروه على كل نعمة ينالونها من بهيمة الأنعام.
لذلك نذكر الله عند الذبح نقول: بسم الله، الله أكبر، لماذا؟ لأن الذبح إزهاق روح خلقها الله، وما كان لك أنْ تزهقها بإرادتك، فمعنى " بسم الله والله أكبر " هنا أنني لا أزهق روحها من عندي، بل لأن الله أمرني وأباحها لي، فالله أكبر في هذا الموقف من إرادتك، ومن عواطفك.
ونرى البعض يأنف من مسألة الذَّبْح هذه، يقول: كيف تذبحون هذا الحيوان أو هذه الدجاجة؟ يدَّعي الرحمة والشفقة على هذه الحيوانات، لكنه ليس أرحم بها من خالقها، وما ذبحناها إلا لأن الله أحلَّها، وما أكلناها إلا بسم الله، بدليل أن ما حرمه الله علينا لا نقرب منه أبداً.
وهل أنا أكرم القطة عن الأرنب، فأذبح الأرنب وأترك القطة؟ وهل احترم الكلب عن الخروف؟ أبداً، المسألة مسألة تشريع وأمر ثبت عن الله، فَعَليَّ أنْ أُعظِّمه وأُطيعه.
وقوله تعالى: { عَلَىا مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ.. } [الحج: 34] الرزق يعني: أنه تعالى أوجدها لك، وملكك إياها، وذَلَّلها لك فاستأنسْتها وسخّرها لك فانتفعتَ بها، ولولا تسخيره ما انقادتْ لك بقُوتك وقدرتك.
ثم يقول سبحانه: { فَإِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ.. } [الحج: 34] يعني: إن اختلفت الشرائع من أمة لأمة فإيَّاك أنْ تظنَّ أن هذا من إله، وهذا من إله آخر، إنما هو إله واحد يشرِّع لكل أمة ما يناسبها وما يصلحها؛ لأن التشريعات السماوية تأتي علاجاً لآفات اجتماعية.
والأصل الأصيل هو إيمان بإله واحد فاعل قادر مختار، يُبلِّغ عنه رسول بمعجزة تُبيِّن صدقه في التبليغ عن الله. هذا أصل كل الديانات السماوية، كذلك قواعد الدين وأساسياته واحدة مُتفق عليها، فالسرقة والزنا وشهادة الزور.
. إلخ كلها مُحرَّمة في كل الأديان.
لكن، هناك أمور تناسب أمة، ولا تناسب أخرى، والمشرِّع للجميع إله واحد، الناس جميعاً من لَدُن آدم وإلى أنْ تقومَ الساعة عياله، وهم عنده سواء، لذلك يختار لكلٍّ ما يُصلحه.
ألا ترى ربَّ الأسرة كيف يُنظِّم حياة أولاده - ولله المثل الأعلى - فيقول: هذا يفعل كذا، وهذا يفعل كذا، وإذا جاء الطعام قال: هذا يأكل كذا وكذا لأنه مريض مثلاً، لا يناسبه طعام الآخرين، ويأمر الأم أنْ تُعِدَّ لهذا المريض ما يناسبه من الطعام. ذلك لأنه رَاعٍ للجميع مسئول عن الجميع، وعليه أنْ يراعيَ مصلحة كل واحد منهم على حِدَة.
إذن: اختلاف التشريعات في هذه المسائل الجزئية بين الأمم لا يعني تعدُّد الآلهة كلاَّ وحاشا لله، بل هو إله واحد، يعطي عبادة كُلاً على حسب حاجته، كي يتوازنَ المجتمع ويستقيم حاله.
نذكر أنه كان عند طبيب الوحدة الصحية دورقان، في كل منهما مزيج معين، وكان يعطي كل المرضى مع اختلاف أمراضهم من هذين النوعين فقط؛ لذلك كانت عديمة الجدوى، أما الآن فالطبيب الماهر لا بُدَّ أن يُجري على مريضه الفحوص والتحاليل اللازمة ليقف على مرضه بالتحديد، ثم يصف العلاج المناسب لهذه الحالة بمقادير دقيقة تُبرئ المرض ولا تضرُّ المريض من ناحية أخرى.. كذلك الأمر في اختلاف الشرائع السماوية بين الأمم.
وما دام أن إلهكم إله واحد، وما دُمْتم عنده سواء، وليس منكم مَنْ هو ابنٌ الله، ولا بينه وبين الله قرابة. إذن: } فَلَهُ أَسْلِمُواْ.. { [الحج: 34] يعني: أَسلِموا كل أموركم لله، فإنْ أمر فعظِّموا أمره، وخذوه على الرَّحْب والسَّعَة، فإنْ ترك مجالاً لاختيارك فاصنع ما تشاء. ولا تنسَ أن الله تعالى أعطاك فرصة للترقِّي الإيماني، وللترقِّي الإحساني، وفتح لك مجال الإحسان إنْ أردتَ.
ثم يقول سبحانه: } وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ { [الحج: 34] المخبت: في المعنى العام: يعني الإنسان الخاشع الخاضع المتواضع لكل أوامر الله، والمعنى الدقيق للمخبت: هو الذي إذا ظُلم لا ينتصر لنفسه، عملاً بقول الله تعالى:{ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ }[الشورى: 43] هكذا بلام التوكيد.
أما في وصية لقمان لولده:{ وَاصْبِرْ عَلَىا مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ }[لقمان: 17] بدون توكيد لماذا؟
قالوا: لأن لقمان يوصي ولده بالصبر على ما أصابه، والمصائب قسمان: مصيبة تصيب الإنسان، وله فيها غريم هو الذي أوقع به المصيب، وهذه يصاحبها غضب وسعار للانتقام، ومصيبة تصيب الإنسان وليس له غريم كالمرض مثلاً، فإنْ كان له غريم فالصبر أشدُّ، لذلك احتاج إلى التوكيد، على خلاف المصيبة التي ليس أمامك فيها غريم، فهي من الله فالصبر عليها أهونُ من الأولى.
ومع ذلك جعل الحق - سبحانه وتعالى - للنفس البشرية منافذ تُنفِّس من خلالها عن نفسها، حتى لا يختمر بداخلها الغضب، فيتحول إلى حقد وضغينة، قد تؤدي إلى أكثر مما وقع بك؛ لذلك أباح لك الرد لكن حبَّبك في مَرَاقٍ أخرى، هي أجدى لك، فقال تبارك وتعالى:
{ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }[آل عمران: 134] وهذه مراحل ثلاث، تختار منها بحَسْب فَهْمك عن الله وقُربْك منه:
الأولى:{ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ.. }[آل عمران: 134] يعني: تكظم غيظك في نفسك، دون أنْ تترجم هذا الغيظ إلى عمل نزوعيّ فتنتقم، فالغيظ - إذن - مسألة وجدانية في القلب، وموجود في مواجيد نفسه، وهذه مرحلة.
الثانية:{ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ.. }[آل عمران: 134] يعني: لا ينتقم، ولا حتى يجعل للغَيْظ مكاناً في نفسه، فيُصفِّيها من مشاعر الحَنَق والغيظ راضياً.
الثالثة:{ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }[آل عمران: 134] وهي أعلى المراتب، وهي ألا تكتفي بالعفو، بل وتُحسِن إلى مَنْ أساء إليك، والبعض يقول: هذا ضد طباع البشر، نعم هي ضد طباع البشر العاديين، لكن الذين يعرفون الجزاء، ويعرفون أنهم بذلك سيكونون في حضانة ربهم يهون عليهم هذا العمل، بل ويُحبون الإحسان إلى مَنْ أساء.
لذلك؛ فالحسن البصري - رضوان الله عليه - لما بلغه أنَّ شخصاً نال منه في أحد المجالس - وكان الوقت بواكير الرُّطَب - أرسل خادمه إليه بطبق من الرطب، وقال له: بلغني أنك أهديْتَ إليَّ حسناتك بالأمس.
ومعلوم أن الحسنات أغلى وأثمن بكثير من طبق الرُّطَب. ومن هنا يقولون: ما أعجب من الذي يُسيء إلى مَنْ أساء إليه، لأنه أعطاه حسناته، وهي خلاصة عمله، فكيف يُسِيء إليه؟!
وكأن الحق سبحانه يريد أنْ يُحدِث توازناً في المجتمع، ويقضي على دواعي الحقد وأسباب الضغائن في النفس البشرية، فحين تُحسِن إلى مَنْ يُسِيء إليك فإنك تجتثّ جذور الكُرْة والحِقْد من نفسه، كما قال سبحانه وتعالى:{ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ }[فصلت: 34] فقد أخرجتَ خَصْمك من قالب الخصومة، إلى قالب الولاية والمحبة.
فالمخْبِت المتواضع لله. أما غير المخبِت فتراه متكبراً (يتفرعن) على مَنْ حوله، ويرى نفسه أعظم من الجميع، ولو أنه استحضر جلال ربه لخشع له، وتواضع وانكسر لخَلْقه، فالتكبر دليل غفلة عن عظمة الله، كأنه لم يشهد خالقه.
إذن: تستطيع أن تقول أن الإخبات على نوعين: إخبات لله بالخضوع والخشوع والتعظيم لأوامره، وإخبات لخَلْق الله، بحيث لا ينتصر لظلمه ولا يظلم، إنما يتسامح ويعفو؛ لأنه يعلم جيداً أنه إذا ظُلِم من مخلوق تعصَّب له الخالق.
ولك أن تنظر إلى أولادك إذا ظلم أحدهم الآخر فإلى مَنْ تنحاز، ومع مَنْ تتعاطف؟ لا شك أنك ستميل إلى المظلوم، وتحنو عليه، وتريد أنْ تُعوِّضه عَمَّا لحقه من الظلم، حتى إن الظالم ليندم على ظُلْمه؛ لأنه ميَّز أخاه المظلوم عليه، وربما تمنى أنْ يكونَ هو المظلوم لا الظالم.
كذلك حال المخبِت يرى أن الخَلْق جميعاً عيال الله، وأن أحبّهم إليه أرأفهم بعياله؛ لذلك يعفو عَمَّن ظلمَه، ويترك أمره لله رب الجميع، كما أن المظلوم إذا رَدَّ الظلم فإنه يَردُّه بقوته ومقدرته هو، إنما إنْ ترك الردَّ لله جاء الردُّ على مقدار قوته سبحانه.
مَلْحظ آخر ينبغي أن يتنبه له المظلوم قبل أن يُفكِّر في الانتقام، وهو: مَنْ يدريك لعلك ظلمتَ أنت أيضاً دون أنْ تدري، لعل للناس عندك مظالم لا تشعر بها، وليست في حُسبْانك، فالمسألة - إذن - لك وعليك.
لذلك يقول الحق سبحانه في الحديث القدسي: " يا ابن آدم دعوتَ على مَنْ ظلمك ".
وهذا مباح لك بقوله تعالى{ لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ.. }[النساء: 148] يعني: أعطيناك فرصة أنْ تدعو على من ظلمك.
ثم يقول سبحانه: " ودعا عليك مَنْ ظلمتَه، فإنْ شئتَ أجبناك وأجبنا عليك، وإن شئت أخَّرتكُما للآخرة فيسعكُما عَفْوي ".
فالمخبت يستحضر هذا كله، ويركن إلى العفو والتسامح؛ ليأخذ رَبَّه عز وجل في صفه؛ لذلك يقولون: لو علم الظالم ما أعده الله للمظلوم من الكرامة لضَنَّ عليه بالظلم.
فحين ترى المظلوم يعفو عنك ويتسامح معك، فلا تظن أنك أخضعته لك، إنما هو خضع لله الذي سيرفعه عليك، ويُعْلي رأسه عليك في يوم من الأيام.
لذلك من أنماط السلوك السوي إذا تشاجر اثنان يقول أحد العقلاء: لكما أب نرد عليه، أو لكما كبير نرجع إليه في هذه الخصومة.
ثم يقول الحق سبحانه: } الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَىا مَآ أَصَابَهُمْ.. {
.
(/2611)
الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)
يُبيِّن لنا الحق سبحانه بعض صفات المختبين، فهم { الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ.. } [الحج: 35] (وَجِلت): يعني خافت، واضطربت، وارتعدت لذكر الله تعظيماً له، ومهابة منه.
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه وتعالى:{ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ }[الرعد: 28].
فمرة يقول { وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ.. } [الحج: 35] ومرة{ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ }[الرعد: 28]، لماذا؟ لأن ذكر الله إنْ جاء بعد المخالفة لا بُدَّ للنفس أنْ تخاف وتَوْجَل وتضطرب هيبةً لله عز وجل، أما إنْ جاء ذِكْر الله بعد المصيبة أو الشدة فإن النفس تطمئنُّ به، وتأنَسُ لما فيها من رصيد إيماني ترجع إليه عند الشدة وتركَنُ إليه عند الضيق والبلاء، فإنْ تعرَّضَت لمصيبة وعزَّتْ أسبابُ دَفْعها عليك تقول: أنا لي رب فتلجأ إليه، كما كان من موسى - عليه السلام - حين قال:{ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ }[الشعراء: 62].
{ وَالصَّابِرِينَ عَلَىا مَآ أَصَابَهُمْ.. } [الحج: 35] ومعنى أصاب: يعني جاء بأمر سيء في عُرْفك أنت، فتعده مصيبة؛ لأننا نُقدِّر المصيبة حَسْب سطحية العمل الإيذائي، إنما لو أخذتَ مع المصيبة في حسابك الأجر عليها لهانَتْ عليك وما أعتبرتَها كذلك؛ لذلك في الحديث الشريف يقول صلى الله عليه وسلم: " المصاب من حرم الثواب ".
هذا هو المصاب حقاً الذي لا تُجبَر مصيبته، أما أنْ تُصاب بشيء فتصبر عليه حتى تنالَ الأجر فليس في هذا مصيبة.
ثم يقول سبحانه: { وَالْمُقِيمِي الصَّلاَةِ.. } [الحج: 35] لأن الصلاة هي الولاء الدائم للعبد المسلم، والفرض الذي لا يسقط عنه بحال من الأحوال، فالشهادتان يكفي أنْ تقولها في العمر مرة، والزكاة إنْ كان عندك نِصَاب فهي مرة واحدة في العام كله، والصيام كذلك، شهر في العام، والحج إنْ كنتَ مستطيعاً فهو مرة واحدة في العمر، وإنْ لم تكُنْ مستطيعاً فليس عليك حج.
إذن: الصلاة هي الولاء المستمر للحق سبحانه على مَدار اليوم كله، وربك هو الذي يدعوك إليها، ثم لك أنْ تُحدِّد أنت موعد ومكان هذا اللقاء في حَضْرته تعالى؛ لأنه سبحانه مستعد للقائك في أيِّ وقت.
وتصور أن رئيس الجمهورية أو الملك مثلاً يدعوك ويُحتِّم عليك أنْ يراك في اليوم خمس مرات لتكون في حضرته، والحق سبحانه حين يدعو عباده للقائه، لا يدعوهم مرة واحدة إنما خمس مرات في اليوم والليلة؛ لأنه سبحانه لا يتكلف في هذه العملية تكرار لقاءات، فهو سبحانه يَلْقَى الجميع في وقت واحد.
ولما سئل الإمام علي - رضي الله عنه -: كيف يُحاسب اللهُ كلَّ هؤلاء الناس في وقت واحد؟ قال: كما أنه يرزقهم جميعاً في وقت واحد.
وقوله تعالى: { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } [الحج: 35] لا ينفقون من جيوبهم، إنما من عطاء الله ورزقه.
ومن العجيب أن الله تعالى يعطيك ويهبُكَ ويُغدِق عليك تفضلاً منه سبحانه، فإذا أرادك تُعين محتاجاً قال لك:{ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً.. }[الحديد: 11]
وكأن الله تعالى يقول لنا: أنا لا أعود في هبتي ولا عطائي، فأقول: أعْطِ ما أخذتَه لفلان، بل إنْ أعطيتَ الفقير من مالك فهو أيضاً لك مُدَّخر لا يضيع، فرِزْقك الذي وهبك الله إياه مِلْكك، ولا نغبنك في شيء منه أبداً، فربّك يحترم ملكيتك ويحترم جزاء عملك وجدِّك واجتهادك.
نقول - ولله المثل الأعلى -: كالرجل الذي يحتاج مبلغاً كبيراً لأحد الأبناء فيأخذ من الباقين ما معهم وما ادخروه من مصروفاتهم على وَعْد أنْ يُعوِّضهم بدلاً منها فيما بعد.
لذلك يقول بعدها:{ فَيُضَاعِفَهُ لَهُ.. }[الحديد: 11] فيعاملك ربك بالزيادة؛ لذلك يقول البعض: إن الله تعالى حرَّم علينا الربا وهو يعاملنا به، نعم يعاملك ربك بالربا ويقول لك: اترك لي أنا هذا التعامل؛ لأنني حين أزيدك لا أنقص الآخرين، ولا أُنقِص مما عندي، ولا أُرِهق ضعيفاً ولا محتاجاً ولا أستغلّ حاجته.
والصدقة في الإسلام تأمينٌ لصاحبها ضد الفقر إن احتاج، فأخوَفُ ما يخافه المرءُ الحاجة عند الكبَر، وعدم القدرة على الكَسْب، وعند الإعاقة عن العمل، يخاف أنْ ينفد ماله، ويحتاج إلى الناس حال كِبَره.
وعندها يقول له ربه: اطمئن، فكما أَعطيْتَ حال يُسْرك سيعطيك غيرُك حال عَوَزِك وحاجتك.
إذن: أخذ منك ليعطيك، وليُؤمِّن لك مستقبل حياتك الذي تخاف منه.
الصدقة في الإسلام صندوق لتكافل المجتمع، كصندوق التأمين في شركات التأمين، فإذا ما ضاقت بك أسباب الرزق وشكوْتَ الكِبَر والعجز نقول لك: لا تحزن فأنت في مجتمع مؤمن متكافل، وكما طلبنا منك أنْ تعطي وأنت واجد طلبنا من غيرك أنْ يعطيَك وأنت مُعْدم.
ثم يقول الحق سبحانه: } وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا.. {
.
(/2612)
وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)
بعد أن تكلم الحق سبحانه وتعالى في النفقة مِمَّا رزقكم الله تكلَّم في النفقة في البُدْن، والبُدْن: جمع بَدَنة، وهي الجمل أو الناقة، أو ما يساويهما من البقر، وسمَّاها بَدَنة إشارة إلى ضرورة أنْ تكون بدينة سمينة وافرة، ولا بُدَّ أنْ تراعي فيها هذه الصفة عند اختيارك للهَدْي الذي ستُقدمه لله، واحذر أن تكون من أولئك الذين يجعلون لله ما يكرهون، إنما كُنْ من الذين قال الله لهم:{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ.. }[البقرة: 267] وقوله تعالى: { فَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَآفَّ.. } [الحج: 36] أي: اذكروا الله بالشكر على أنْ وهبها وذلَّلها لكم، واذكروا اسم الله عليها حين ذَبْحها.
ومعنى { صَوَآفَّ.. } [الحج: 36] يعني: واقفةً قائمة على أرْجُلها، لا ضعفَ فيها ولا هُزَال، مصفوفة وكأنها في معرض أمامك. وهذه صفات البُدْن الجيدة التي تناسب هذه الشعيرة وتليق أنْ تُقدَّمْ هَدْياً لبيت الله.
ومعنى: { فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا.. } [الحج: 36] وجبَ الشيء وجباً يعني: سقط سقوطاً قوياً على الأرض، ومعلوم أن البَدَنة لا تُذبح وهي مُلْقاة على الأرض مثل باقي الأنعام، وإنما تُنْحر وهي واقفة، فإذا ما نُحِرَتْ وقعتْ على الأرض وارتمتْ بقوة من بدانتها.
{ فَكُلُواْ مِنْهَا.. } [الحج: 36] وقلنا: إن الأكل لا يكون إلا من الهَدْي المحض والتطوع الخالص الذي لا يرتبط بشيء من مسائل الحج، فلا يكون هَدْيَ تمتُّع أو قِرَان، ولا يكون جِبْراً لمخالفة، ولا يكون نَذْراً.. إلخ.
وعِلَّة الأمر بالأكل من الهَدْي؛ لأنهم كانوا يتأففون أنْ يأكلوا من المذبوح للفقراء، وكأن في الأمر بالأكل منها إشارة لوجوب اختيارها مما لا تعافه النفس.
ومعنى: { الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ.. } [الحج: 36] القانع: الفقير الذي يتعفَّف أنْ يسأل الناس، والمعترّ: الفقير الذي يتعرَّض للسؤال.
ثم يقول سبحانه: { كَذالِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.. } [الحج: 36] يعني: سخّرناها لكم، ولو في غير هذا الموقف، لقد سخَّرها الله لكم منذ وُجِد الإنسان؛ لذلك عليكم أنْ تشكروا الله على أنْ أوجدها وملّككم إياها، وتشكروه على أنْ سخَّرها وذلَّلها لكم، وتشكروه على أنْ هداكم للقيام بهذا المنسك، وأداء هذه الشعيرة وعمل هذا الخير الذي سيعود عليكم بالنفع في الدنيا وفي الآخرة.
ثم يقول الحق سبحانة: { لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَـاكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىا مِنكُمْ.. }
.
(/2613)
لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)
ذلك لأنهم كانوا قبل الإسلام حين يذبحون للأوثان يُلطّخون الصنم بدماء الذبيحة، كأنهم يقولون له: لقد ذبحنا لك، وها هي دماء الذبيحة، وفي هذا العمل منهم دليل على غبائهم وحُمْق تصرفهم، فهم يروْن أنهم إذا لم يُلطِّخوه بالدم ما عرف أنهم ذبحوا من أجله.
وهنا ينبه الحق - سبحانه وتعالى - إلى هذه المسألة: { لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا.. } [الحج: 37] يعني: لا يأخذ منها شيئاً، وهو سبحانه قادر أنْ يعطي الفقير الذي أمرك أنْ تعطيه، ويجعله مثلك تماماً غير محتاج.
إنما أراد سبحانه من تباين الناس في مسألة الفقر والغنى أن يُحدِث توازناً في المجتمع، فالمجتمع ليس آلة ميكانيكية تسير على وتيرة واحدة، إنما هي حياة بشر لا بُدَّ من هذه التفاوتات بين الناس، ثم تتدخّل الشرائع السماوية فتأخذ من القوى وتعطي الضعيف، وتأخذ من الغني وتعطي الفقير.. وساعتها، نقضي على مشاعر الحقد والحسد والبغضاء والأَثَرة.
فحين يعطي القويُّ الضعيفَ من قوته لا يحسده عليها، ويتمنى له دوامها؛ لأن خيرها يعود عليه، وحين يعطي الغنّي مما أفاض الله عليه للفقير يُؤلِّف قلبه، ويجتثّ منه الغِلَّ والحسد، ويدعو له بدوام النعمة.
لا بد من هذا التفاوت ليتحقق فينا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص، يشدُّ بعضه بعضاً ".
لذلك، ترى صاحب النعمة الذي ينثر منها على غيره، إنْ أصابته في ماله مصيبة يحزن له الآخرون ويتألمون بألمه؛ لأن نعمته تفيض عليهم، وخيرُه ينالهم. وأهل الريف إلى عهد قريب كان الواحد منهم يُربِّي البقرة أو الجاموسة؛ ليحلب لبنها، وكان لا ينسى الجيران وأهل الحاجة، فكانوا يدعُونَ الله له أنْ يبارك له في ماله، وإنْ أصابته ضرَّاء في ماله حَزِنوا من أجله.
إذن: حين تفيض من نعمة الله عليك على مَنْ حُرِم منها تدفع عن نفسك الكثير من الحقد والحسد، فإنْ لم تفعل فلا أقلَّ من إخفاء هذا الخير عن أعْيُنِ المحتاجين حتى لا تثير حفائظهم، وربما لو رآك الرجل العاقل يُردعه إيمانه فلا تمتدّ عيناه إلى ما في يدك، إنما حين يراك الأطفال الصغار تحمل ما حُرِموا منه، أو رأوا ولدك يأكل وهم محرومون هنا تكون المشكلة وقوله تعالى: { وَلَـاكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىا مِنكُمْ.. } [الحج: 37] واتقاء الله هو اتباع منهجه، فيُطاع الله باتباع المنهج فلا يُعصي، ويُذكر فلا يُنسى، ويُشكر فلا يُكفر، وطريق الطاعة يوجد في اتباع المنهج بـ " افعل " و " لا تفعل " ، ولكن النعم التي خلقها الله قد تشغل العبد عن الله، والمنهج يدعوك أنْ تتذكر في كل نعمة مَنْ أنعم بها، وإياك أنْ تُنسيَك النعمةُ المنعِمَ.
ثم يقول تبارك وتعالى: } كَذالِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَىا مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ { [الحج: 37]
تلحظ هنا مسألة المتشابهات يقف عندها العلماء الذين يبحثون في القرآن الكريم، ففي الآية السابقة ذَيَّلها الحق سبحانه بقوله: } كَذالِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ { [الحج: 36].
هذه المتشابهات يقف عندها العلماء الذين يبحثون في القرآن ويُقلِّبون في آياته؛ لذلك يجمعون مثل هذه المتشابهة التي تتحدث في موضوع واحد ويُرتِّبونها في الذِّهن؛ لذلك لا يُؤتمنون على الحِفْظ، ومن هنا قالوا: ينبغي لمَنْ أراد حِفْظ القرآن أنْ يدعَ مسألة العلم جانباً أثناء حِفْظه، حتى إذا نسي كلمةً وقف مكانه لا يتزحزح إلى أنْ يعرفها، أمّا العالم فربما وضع مرادفها مكانها، واستقام له المعنى.
والمراد بقوله تعالى: } لِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَىا مَا هَدَاكُمْ.. { [الحج: 37] يعني: تذكرونه وتشكرونه على ما وفّقكم إليه من هذه الطاعات } وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ.. { [الحج: 37] بشِّر يعني: أخْبِرْ بشيء سَارٍّ قبل مَجِيء زمنه، ليستعد له المبشَّر ويفرح به، كذلك الإنذار: أن تخبر بشيء سيء قبل حلوله أيضاً؛ ليستعد له المنذر، ويجد الفرصة التي يتلافى فيها خطأه، ويُجنِّب نفسه ما يُنذَر به، ويُقبل على ما يُنجِيه.
و } الْمُحْسِنِينَ.. { [الحج: 37]: جمع مُحسِن، والإحسان: أعلى مراتب الإيمان، وهو أنْ تُلزِم نفسك بشيء من طاعة الله التي فرضها عليك فوق ما فرض، فربُّك عز وجل فرض عليك خمس صلوات في اليوم والليلة، وفي إمكانك أنْ تزيد من هذه الصلوات ما تشاء، لكن من جنس ما فرض الله عليك، لا تخترع أنت عبادة من عندك، كذلك الأمر في الصوم، وفي الزكاة، وفي الحج، وفي سائر الطاعات التي ألزمك الله بها، فإنْ فعلت هذا فقد دخلتَ في مقام الإحسان.
وفي الإحسان أمران: مُحسن به وهو العبادة أو الطاعة التي تُلزِم نفسك بها فوق ما فرض الله عليك، ودافعٌ عليه، وهو أن تؤدي العمل كأن الله يرقبك، كما جاء في حديث جبريل: " والإحسان أنْ تعبدَ الله كأنك تراه، فإنْ لم تكُنْ تراه فإنه يراك ".
فمراقبتك لله ومراعاتك لنظره تعالى إليك، يدفعك إلى هذا الإحسان، أَلاَ ترى العامل الذي تباشره وتُشرِف عليه، وكيف يُنهِي العمل في موعده؟ وكيف يُجيده؟ على خلاف لو تركتَه وانصرفْتَ عنه.
فإنْ لم تَصِل إلى هذه المرتبة التي كأنك ترى الله فيها، فلا أقلَّ من أنْ تتذكر نظره هو إليك، ومراقبته سبحانه لحركاتك وسكناتك.
لذلك، في سورة الذرايات:{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ }[الذاريات: 15 - 16] ثم يُفسِّر سبب هذا الإحسان:{ كَانُواْ قَلِيلاً مِّن اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ }[الذاريات: 17-19].
ومَنْ يلزمك بهذه الكاليف؟ لك أنْ تصلي العشاء ثم تنام إلى الفجر، كذلك لم يُلزمك بالاستغفار وقت السَّحَر، ولم يلزمك بصدقة التطوع. إذن: هذه طاعات فوق ما فرض الله وصلَتْ بأصحابها إلى مقام الإحسان، وأعلى مراتب الإيمان، فليُشمِّر لها مَنْ أراد.
ثم يقول الحق سبحانه: } إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُواْ.. {.
(/2614)
إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)
صَدْر الآية: { إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُواْ.. } [الحج: 38] يُشْعِرنا أن هناك معركة، والمعركة التي يدافع الله فيها لا بُدَّ أنها بين حق أنزله، وباطل يُواجهه، وقد تقدَّم قبل ذلك أن قال تبارك وتعالى:{ هَـاذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمْ.. }[الحج: 19].
وما دام هناك خصومة فلا بُدَّ أنْ تنشأ عنها معارك، هذه المعارك قد تأخذ صورة الألفاظ والمجادلة، وقد تأخذ صورة العنف والقوة والشراسة والالتحام المباشر بأدوات الحرب.
ومعركة النبي صلى الله عليه وسلم مع معارضيه من كفار مكة لم تقف عند حَدِّ المعركة الكلامية فحَسْب، فقد قالوا عنه - صلوات الله وسلامه عليه: ساحر، وكاهن، ومجنون، وشاعر، ومُفْتر.. إلخ ثم تطوَّر الأمر إلى إيذاء أصحابه وتعذيبهم، فكانوا يأتون رسول الله مَشْدوخين ومجروحين فيقول لهم صلى الله عليه وسلم: " لم أومر بقتال، اصبروا اصبروا، صبراً صبراً.. ".
إلى أنْ زاد اعتداء الكفار وطََفَح الكَيْل منهم أَذن الله لرسوله بالقتال، فقال:{ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىا نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ }[الحج: 39].
فقوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُواْ.. } [الحج: 38] صيغة يدافع: مبالغة مِنْ يدفع، معنى يدفع يعني: شيئاً واحداً، أو مرة واحدة، وتنتهي المسألة، أمّا يدافع فتدل على مقابلة الفعل بمثله، فالله يدفعهم وهم يقابلون أيضاً بالمدافعة، فيحدث تدافع وتفاعل من الجانبين، وهذا لا يكون إلا في معركة.
والمعركة تعني: منتصر ومنهزم، لذلك الحق - تبارك وتعالى - يُطمئن المؤمنين أنه سيدخل المعركة في صفوفهم، وسيدافع عنهم.
فقوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُواْ.. } [الحج: 38] أمر طبيعي؛ لأن الحق سبحانه ما كان ليُرسِل رسولاً، ويتركه لأهل الباطل يتغلَّبون عليه، وإلاّ فما جَدْوى الرسالة إذن؛ لذلك يُطمئِن الله تعالى رسوله ويُبشِّره، فيقول:{ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ }[الصافات: 171 - 173].
وقال:{ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ.. }[الحج: 40].
وقال:{ إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ }[محمد: 7].
فهذه كلها آيات تُطمئِن المؤمنين وتُبشِّرهم، وقد جاءتْ على مراحل لحكمة أرادها الحق سبحانه، فمنعهم عن القتال في البداية لحكمة، ثم جعل القتال فيما بينهم، وقبْل أنْ يأذنَ لهم في قتال أعدائهم لحكمة: هي أنْ يَبْلوا المؤمنين ويُمحِّصهم ليُخرِج من صفوفهم أهل الخَوَر والجُبْن، وضعيفي الإيمان الذين يعبدون الله على حَرْف، ولا يبقى بعد ذلك إلا قويُّ الإيمان ثابتُ العقيدة، الذي يحمل راية هذا الدين وينسَاح بها في بقاع الأرض؛ لأنها دعوة عالمية لكل زمان ولكل مكان إلى أنْ تقوم الساعة، ولما كانت هذه الدعوة بهذه المنزلة كان لا بُدَّ لها من رجال أقوياء يحملونها، وإلا لو استطاع الأعداءُ القضاءَ عليها فلن تقومَ لدين الله قائمة.
إذن: كان لا بُدَّ أن يُصفِّي الحقُ سبحانه أهلَ الإيمان كما يُصفِّي الصائغُ الذهبَ، ويُخرِج خَبَثه حين يضعه في النار، كذلك كانت الفِتَن والابتلاءات لتصفية أهل الإيمان وتمييزهم، لكن بالقتال في صَفٍّ واحد.
ثم يقول سبحانه: } إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ { [الحج: 38] فكأن الحق - سبحانه وتعالى - أصبح طرفاً في المعركة، والخوَّان: صيغة مبالغة من خائن، وهو كثير الخيانة وكذلك كفور: صيغة مبالغة من كافر.
ومعنى الخيانة يقتضي أن هناك أمانةً خانها. نعم، هناك الأمانة الأولى، وهي أمانة التكليف التي قال الله فيها:{ إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ.. }[الأحزاب: 72] فلقد خانَ هذه الأمانة بعد أنْ رَضِي أنْ يكونَ أهْلاً لها.
وهناك أمانة قبل هذه، وهي العهد الذي أخذه الله على عباده، وهم في مرحلة الذَّرِّ:{ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىا أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىا شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـاذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ.. }[الأعراف: 172 - 173].
فإنْ قالوا: نعم هذه أمانة، لكنها بعيدة، ومَنْ مِنَّا يذكرها الآن؟
نقول: ألم تُقِرُّوا بأن الله خلقكم، وأوجدكم من عدم، وأمدكم من عُدم؟ كما قال سبحانه:{ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ.. }[الزخرف: 87] كما أقرُّوا بخَلْق السماوات والأرض وما فيها من خيرات لله عز وجل، فكان وفاء هذا الإقرار أنْ يؤمنوا، لكنهم مع هذا كله كفروا، أليست هذه خيانة للأمانة عاصروها جميعاً وعايشوها وأسهموا فيها؟
والكَفُور: مَنْ كفر نِعَم الله وجَحَدها.
وما دام هناك الخوَّان والكفُور فلا بُدَّ للسماء أنْ تُؤيِّد رسولها، وأنْ تنصره في هذه المعركة أولاً، بأنْ تأذنَ له في القتال، ثم تأمره بأخذ العُدة والأسباب المؤدية للنصر، فإنْ عزَّتْ المسائل عليكم، فأنا معكم أؤيدكم بجنود من عندي.
وقد حدث هذا في بَدْء الدعوة، فأيَّد الله نبيه بجنود من عنده، بل أيَّده حتى بالكافر المعاند: ألم يكُن دليل رسول الله في الهجرة كافراً؟ ألم ينصره الله بالحمام وبالعنكبوت وهو في الغار؟ ألم ينصره بالأرض التي ساخَتْ تحت أقدام فرس " سُرَاقة " الذي خرج في طلبه؟
هذه جنود لم نَرها، ولم يُؤيَّد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بعد أن استنفد أسبابه، ولو أراد سبحانه لَطوَّع لرسوله هؤلاء المعاندين، فما رفع أحد منهم رأسه بعناد لمحمد، إنما الحق - تبارك وتعالى - يريد أنْ يعطيه طواعية ويخضع له القوم، ألم يقُلْ سبحانه وتعالى:{ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ }[الشعراء: 4].
وقلنا: إن الله تعالى يريد أنْ يُخضِع قلوب عباده لا قوالبهم، فلو أخضعهم الله بآية كونية طبيعية كالريح أو الصاعقة أو الخَسْف، أو غيره من الآيات التي أخذتْ أمثالهم من السابقين لقالوا: إنها آفاتٌ طبيعية جاءتنا، لكن جعل الله بين الفريقين هذه المواجهة، ثم يسَّر لحزبه وجنوده أسباب النصر.
قال سبحانه:{ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ }[التوبة: 14].
ثم يقول الحق سبحانه: } أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ.. {
.
(/2615)
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)
ودفاع الحق سبحانه عن الحق يأخذ صوراً متعددة، فأول هذا الدفاع: أنْ أَذِن لهم في أنْ يقاتلوا. ثانياً: أمرهم بإعداد القوة للقتال:{ وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ.. }[الأنفال: 60].
والمراد أنْ يأخذوا بكل أسباب النصر على عدوهم، وأن يستنفدوا كل ما لديهم من وسائل، فإنِ استنفدتم وسائلكم، أتدخَّل أنا بجنود من عندي لا ترونها، فليس معنى أن الله يدافع عن الذين آمنوا أن تدخُلَ السماء لحمايتهم وهم جالسون في بيوتهم، لا إنما يأخذون بأسباب القوة ويسعَوْنَ ويبادرون هم أولاً إلى أسباب النصر.
ومعنى { أُذِنَ.. } [الحج: 39] أنهم كانوا ينتظرون الأمر بالقتال، ويستشرفون للنصر على الأعداء، لكن لم يُؤذَن لهم في ذلك، فلما أراد الله لهم أنْ يقاتلوا أَذن لهم فيه، فقال تعالى: { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىا نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } [الحج: 39].
وعِلّة القتال أنهم ظُلِموا، لذلك أمرهم ربهم - تبارك وتعالى - أنْ يقاتلوا، لكن لا يعتدوا، كما قال سبحانه:{ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ.. }[البقرة: 190 - 191].
إذن: أمرهم أولاً بالصبر، وفي المرحلة الأولى بأنْ يقاتلوا لِردِّ العدوان، وللدفاع عن أنفسِهم دون أنْ يعتدوا، وفي المرحلة الثانية سيقول لهم:{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ }[التوبة: 123].
وقوله تعالى: { وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىا نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } [الحج: 39] بأسباب يُمكِّنهم منها، أو بغير أسباب فتأتيهم قوة خفية لا يروْنها، وقد رأوا نماذج من ذلك فعلاً.
ثم يقول الحق سبحانه: { الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا اللَّهُ.. }
.
(/2616)
الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)
فلو أنهم أُخْرِجوا بحقٍّ كأنْ فعلوا شيئاً يستدعي إخراجهم من ديارهم، كأنْ خدشوا الحياء، أو هددوا الأمْن، أو أجرموا، أو خرجوا على قوانين قبائلهم لكانَ إخراجهُم بحقٍّ.
إنما الواقع أنهم ما فعلوا شيئاً، وليس لهم ذَنْب { إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا.. } [الحج: 40] هذه المقولة اعتبرها القوم ذَنْباً وجريمة تستحق أنْ يخرجوهم بها من ديارهم.
كما قال سبحانه في أهل الأخدود:{ وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ }[البروج: 8].
وفي آية أخرى:{ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ.. }[المائدة: 59].
وفي قصة لوط عليه السلام:{ قَالُواْ أَخْرِجُواْ آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ }[النمل: 56].
إذن: أخرجوهم، لا لأنهم أهل نجاسة ومعصية، إنما لأنهم أناسٌ يتطهَّرون، فالطهارة والعفة جريمتهم التي يُخْرَجُون من أجلها!! كما تقول: لا عيْبَ في فلان إلا أنه كريم، أو تقول: لا كرامةَ في فلان إلا أنه لِصٌّ. فهذه - إذن - صفة لا تمدح، وتلك صفة لا تذم.
لقد قلب هؤلاء الموازين، وخالفوا الطبيعة السويّة بهذه الأحكام الفاسدة التي تدل على فساد الطباع، وأيّ فساد بعد أنْ قَلَبوا المعايير، فكرهوا ما يجب أنْ يُحب، وأحبوا ما يجب أن يكره؟ ولا أدلَّ على فساد طبائعهم من عبادتهم لحجر، وترْكهِم عبادة خالق السماوات والأرض.
ثم يقول تعالى: { وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللَّهِ كَثِيراً.. } [الحج: 40]
وفي آية أخرى يُبيِّن الحق سبحانه نتيجة انعدام هذا التدافع:{ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ.. }[البقرة: 251].
والفساد إنْ حدث بين الناس في حركة الحياة فيمكن أنْ يُعوَّض ويُتدارك، أما إنْ تعدّى الفساد إلى مُقوِّمات اليقين الإيماني في الأرض فَكرِه الناس ما يربطهم بالسماء، وهدموا أماكن العبادة، فهذه الطامة والفساد الذي لا صلاحَ بعده، فكأن الآيتين تصوران نوعاً من الإيغال في الفساد، والاتّضاع في الجرائم.
وتفسد الأرض حين ينعدم هذا التدافع، كيف؟ هَبْ أن ظالماً مسْتبداً في بلد ما يستعبد الناس ويمتصّ خيراتهم بل ودماءهم دون أنْ يردَّه أحد، لا شكَّ أن هذا سيُحدث في المجتمع تهاوناً وفوضى، ولن يجتهد أحد فوق طاقته، ولمن سيعمل وخيره لغيره؟ وهذا بداية الفساد في الأرض.
فإنْ قُلْنا: هذا فساد بين الناس في حركة حياتهم يمكن أنْ يصلح فيما بعد، فما بالك إن امتدَّ الفساد إلى أماكن الطاعات والعبادات، وقطع بين الناس الرباط الذي يربطهم بالسماء؟
إنْ كان الفساد الأول قابلاً للإصلاح، ففساد الدين لا يصلح، لأنك خرَّبْتَ الموازين التي كانت تُنظِّم حركة الحياة، فأصبح المجتمع بلا ميزان وبلا ضوابط يرجع إليها.
ونلْحظُ في قوله تعالى: { وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ.
. { [الحج: 40] جاءت قضية عامة لكل الناس، فلم يخصْ طائفة دون أخرى، فلم يَقُلْ مثلاً: لولا دَفْع الله الكافرين بالمؤمنين، إنما قال مُطلْق الناس؛ لأنها قضية عامة يستوي فيها الجميع في كل المجتمعات.
كذلك جاءت كلمة (بعض) عامة؛ لتدل على أن كلاَ الطرفين صالح أن يكون مدفوعاً مرة، ومدفوعاً عنه أخرى، فَهُمْ لبعض بالمرصاد: مَنْ أفسد يتصدى له الآخر لِيُوقِفه عند حَدِّه، فليس المراد أن طائفة تدفع طائفة على طول الخط.
ومثال ذلك قوله تعالى:{ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ.. }[الزخرف: 32] دون أنْ يُحدِّد أيّهما مرفوع، وأيهما مرفوع عليه؛ لأن كلاً منهما مرفوع في شيء، ومرفوع عليه في شيء آخر؛ ذلك لأن العباد كلهم عيال الله، لا يُحابي منهم أحداً على أحد.
انظر الآن إلى قوة روسيا في الشرق وقوة أمريكا في الغرب، إنهما مثال لقوله تعالى: } وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ.. { [الحج: 40] فكلٌّ منهما تقف للأخرى بالمرصاد، ترقبها وترصُد تحركاتها وتقدّمها العسكري، وكأن الله تعالى جعلها لحماية سلامة الآخرين أنْ تقف كُلٌّ منهما موقفَ الحذَر والخوف من الأخرى.
وهذا الخوف والترقُّب والإعداد هو الذي يمنع اندلاع الحرب بينهما، فما بالك لو قامت بينهما حرب أسفرت عن منتصر ومهزوم؟ لا بُدَّ أن المنتصر سيعيثُ في الأرض فساداً ويستبد بالآخرين، ويستشري ظُلْمه لعدم وجود مَنْ يُردِعه.
ومن رحمة الله بالمؤمنين أنْ يكيد الظالمين بالظالمين بكل ألوانهم وفنونهم، ويؤدِّب الظالم بمَنْ هو أشد منه ظُلْماً؛ ليظلّ أهلُ الخير بعيدين عن هذه المعركة، لا يدخلون طَرَفاً فيها؛ لأن الأخيار لا يصمدون أمام هذه العمليات، لأنهم قوم رِقَاق القلوب، لا تناسبهم هذه القسوة وهذه الغِلْظة في الانتقام.
اقرأ قول الله تعالى:{ وَكَذالِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }[الأنعام: 129].
وهكذا يُوفِّر الله أهل الخير، ويحْقِن دماءهم، ويُريح أولياءه من مثل هذه الصراعات الباطلة.
لذلك لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة دخولَ المنتصر، بعد أنْ أخرجه قومه منها، وبعد أنْ فعلوا به وبأصحابه الأفاعيل، كيف دخلها وهو القائد المنتصر الذي تمكَّن من رقاب أعدائه؟
دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة مُطأطيء الرأس، حتى لتكاد رأسه تلمس قربوس السرج الذي يجلس عليه، تواضعاً منه صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك قال أبو سفيان لما رأى رسول الله في هذا الموقف، قال للعباس: لقد أصبح مُلْك ابن أخيك عظيماً.
وبعد أن تمكَّن رسول الله من كفار مكة، وكان باستطاعته القضاء عليهم جميعهم، قال: " يا معشر قريش، ما تظنُّون أَنِّي فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، قال: فاذهبوا فأنتم الطلقاء ".
فأيُّ رحمة هذه؟ وأيُّ لين هذا الذي جعله الله في قلوب المؤمنين؟ وهل مِثْل هذا الدين يُعارَض ويُنْصَرف عنه؟
إذن: يُسلِّط الحق - تبارك وتعالى - الأشرار بعضهم على بعض، وهذه آية نراها في الظالمين في كل زمان ومكان، ويجلس الأخيار يرقبون مثل هذه الصراعات التي يُهلِك الله فيها الظالمين بالظالمين.
ثم يقول سبحانه وتعالى: } لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ.. { [الحج: 40] صوامع جمع صومعة، وهي مكان خاصٌّ للعبادة عند النصارى، وعندهم مُتعبَّد عام يدخله الجميع هو الكنائس، أما الصَّومعة فهي مكان خاص لينفرد فيه صاحبه وينقطع للعبادة، ولا تكون الصَّوْمعة في حضر، إنما تكون في الجبال والأودية، بعيداً عن العمران لينقطع فيها الراهب عن حركة حياة الناس، وهي التي يسمونها الأديرة وتوجد في الأماكن البعيدة.
وقد حرم الإسلام الرهبانية بهذا المعنى؛ لأنها رهبانية ما شرّعها الله، كما قال سبحانه:{ وَرَهْبَانِيَّةً ابتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَآءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا.. }[الحديد: 27].
ومعنى: } وَبِيَعٌ.. { [الحج: 40] البِيعَ هي الكنائس.
فالحق - سبحانه وتعالى - مَا نَعَى عليهم الانقطاع للعبادة، لكن نعى عليهم انقطاعهم عن حركة الحياة، وأسباب العيش؛ لذلك قال:{ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا.. }[الحديد: 27].
وقد أباح الإسلام أيضاً الترهُّب والانقطاع للعبادة، لكن شريطة أن تكون في جَلْوة يعني: بين الناس، لا تعتزل حركة الحياة، إنما تعبَّد الله في كل حركة من حركات حياتك، وتجعل الله تعالى دائماً في بالك ونُصْب عينيك في كُلِّ ما تأتي، وفي كل ما تدَع، إذن: هناك فَرْق بين مَنْ يعبد الله في خَلْوته، ومَنْ يعبد الله في جَلْوته.
لذلك سيدنا عمر - رضي الله عنه - قال عن الرجل الذي لازم المسجد للعبادة وعرف أن أخاه يتكفّل به ويُنفق عليه، قال: أخوه أعبد منه. كيف؟
قالوا: لأنك تستطيع أنْ تجعل من كل حركة لك في الحياة عبادة، حين تُخِلص النية فيها لله عز وجل. ولك أن تقارن بين مؤمن وكافر، كلاهما يعمل ويجتهد لِيقُوتَ نفسه وأهل بيته، ويحيا الحياة الكريمة، وهذا هدف الجميع من العمل، لكن لو أن المؤمن اقتصر في عمله على هذا الهدف لاستوى مع الكافر تماماً.
إنما للمؤمن فوق هذا مقاصد أخرى تكمن في نيته وضميره، المؤمن يفعل على قَدْر طاقته، لا على قَدْر حاجته، ثم يأخذ ما يحتاج إليه ويُنفِق من الباقي ويتصدَّق على مَنْ لا يقدر على الحركة الحياتية.
لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:{ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَـاةِ فَاعِلُونَ }[المؤمنون: 1 - 4] هل يعني: مُؤدُّون فقط؟ لا، بل إن المؤمن يتحرك ويعمل ويسعى، وفي نيته مَنْ لا يقدر على السَّعْي والعمل، فكأنه يُقبل على العمل ويجتهد فيه، وفي نيته أنْ يعمل شيئاً لله بما يفيض عن حاجته من ناتج عمله وهذا ما يُميِّز المؤمن في حركة الحياة عن الكافر.
وأذكر مرة أننا جئنا من الريف في الشتاء في الثلاثينيات لزيارة سيدنا الشيخ الحافظ التيجاني، وكان مريضاً - رحمه الله ورضي الله عنه - وكان يسكن في حارة، وفضَّلنا أن نأخذ (تاكسي) يُوصِّلنا بدل أن نمشي في وَحْل الشتاء، وعند مدخل الحارة رفض سائق (التاكسي) الدخول وقال: إن أجرة التوصيل لا تكفي لغسيل السيارة وتنظيفها من هذا الوَحْل، وبعد إلحاح وافق وأوصلنا إلى حيث نريد، فأعطيناه ضِعْف أجرته، لكني قبل أن أنصرف قلتُ له: أنت لماذا تعمل على هذا (التاكسي) ولماذا تتعب؟ قال: من أجل مصالحي ومصالح أولادي، فقلت له: وما يُضيرك إنْ زِدْتَ على ذلك وجعلْتَ في نيتك أنْ تُيسِّر بعملك هذا على الناس؟ فاهتمّ الرجل ولبسته الكلمة فقال: والله لا اردُّ راكباً أبداً.
ومعنى:{ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَـاةِ فَاعِلُونَ }[المؤمنون: 4] لم يقل مؤدون؛ لأن{ فَاعِلُونَ }[المؤمنون: 4] تعني: أن نيتهم في الفعل أنْ يفعلوا على قَدْر طاقتهم ويجتهدوا لتوفير شيء بعد نفقاتهم يتصدقون منه.
إذن: حرَّم الإسلام الرهبانية التي تَحرِم المجتمع من مشاركة الإنسان فقال صلى الله عليه وسلم: " لا رهبانية في الإسلام " لأنه اعتبر كل حركة مقصودٍ منها صالحُ المجتمع كله حركةً إيمانية عبادية، ومن هنا كان العمل عبادة.
وقد وضع العلماء شروطاً لمَنْ أراد الانقطاع للعبادة: أولها: ألاَّ يأخذ نفقته من أحد، بمعنى أن يعمل أولاً لِيُوفِّر احتياجاته طوال فترة انقطاعه، وصدق (إقبال) حين قال:لَيْسَ زُهْداً تصوف من تقي فرَّ من غَمْرة الحيَاةِ بدينإنما يُعرَفُ التصَوفُ في الـ سُّوق بمالٍ ومَطْمعٍ وفُتُونثم يقول تعالى: } وَصَلَوَاتٌ.. { [الحج: 40] وهذه لليهود يُسمُّون مكان التعبد: صَالوتاً. لكن، لماذا لم يرتبها القرآن ترتيباً زمنياً، فيقول: لهدمت صلوات وصوامع وبيع؟ قالوا: لأن القرآن يُؤرِّخ للقريب منه فالأبعد.
} وَمَسَاجِدُ.. { [الحج: 40] وهذه للمسلمين } يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللَّهِ كَثِيراً.. { [الحج: 40].
وما دام الحق سبحانه ذكر المساجد بعد الفعل } لَّهُدِّمَتْ.. { [الحج: 40] فهذا دليل على أنه لا بُدَّ أن يكون للمسلمين مكان يُحكر للعبادة، وإنْ جُعِلَتْ الأرض كلها لهم مسجداً وطَهُوراً، ومعنى ذلك أنْ تصلي في أيِّ بقعة من الأرض، وإنْ عُدِم الماء تتطهر بترابها، وبذلك تكون الأرض مَحَلاً للعبادة ومَحَلاً لحركة الحياة وللعمل وللسَّعْي، فيمكنك أن تباشر عملك في مصنعك مثلاً وتُصلِّي فيه، لكن الحق سبحانه يريد منا أن نُخصِّص بعض أرضه ليكون بيتاً له تنقطع منه حركة الحياة كلها، ويُوقَف فقط لأمور العبادة.
لذلك قال صلى الله عليه وسلم: " مَنْ بنى لله مسجداً ولو كمِفْحَصِ قَطَاةٍ بنى الله له بيتاً في الجنة ".
فقوله تعالى: } لَّهُدِّمَتْ.. وَمَسَاجِدُ.. { [الحج: 40] تدل على مكان خاص للعبادة وإلاَّ لو اعتُبرَتْ الأرضُ كلها مسجداً، فماذا تهدم؟
وعليه، فكل مكان تُزاوَل فيه أمورٌ غير العبادة لا يُعتبر مسجداً، كأماكن الصلاة التي يتخذونها تحت العمارات السكنية، هذه ليست مساجد، والصلاة فيها كالصلاة في الشارع وفي البيت؛ لأن المسجد (مكان) وما يُبنى عليه (مكين).
والمسجدية تعني: المكان من الأرض إلى السماء، بدليل أننا في بيت الله الحرام نصلي فوق سطح المسجد، ونتجه لجوِّ الكعبة، لا للكعبة ذاتها، لماذا؟ لأن جَوَّ الكعبة إلى السماء كعبة، وكذلك لو كنا في مخابيء أو في مناجم تحت الأرض؛ لأن ما تحت الكعبة من الأرض كعبة. وكذلك في المسْعَى مَسْعَى.
إذن: المسجد ما حُكِر للعبادة، وخُصِّص للمسجدية من أرضه إلى سمائه، وهذا لا يُمارس فيه عمل دنيوي ولا تُعقد فيه صفقة.. إلخ.
أما أنْ نجعل المسجد تحت عمارة سكنية، وفوق المسجد مباشرة يباشر الناس حياتهم ومعيشتهم بما فيها من هَرج ولَهْو، حلال وحرام، وطهارة ونجاسة، ومعاشرة زوجية.. إلخ فهذا كله يتنافى مع المسجدية التي جعلها الله حِكْراً للعبادة من الأرض إلى السماء. فلنُسَمِّ هذه الأماكن: مُصلّى. ولا نقول: مسجد.
ثم يصف الحق سبحانه المساجد بقوله: } يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللَّهِ كَثِيراً.. { [الحج: 40] لأن ذِكْر الله في المساجد دائم لا ينقطع، ونحن لا نتحدث عن مسجد، ولا عن مساجد قُطْر من الأقطار، إنما المراد مساجد الدنيا كلها من أقصى الشرق لأقصى الغرب، ومن الشمال للجنوب.
ولو نظرتَ إلى أوقات الصلوات لرأيتَ أنها مرتبطة بحركة الفلك وبالشمس في الشروق، وفي الزوال، وفي الغروب، وباعتبار فارق التوقيت في كل بلاد الله تجد أن ذِكْر الله دائم لا ينقطع أبداً في ليل أو نهار، فأنت تُؤذِّن للصلاة، وغيرُك يقيم، وغيركما يصلي، أنت تصلي الظهر، وغيرك يصلي الصبح أو العصر، بل أنت في الركعة الأولى من الصبح، وغيرك في الركعة الثانية، أنت تركع وغيرك يسجد.
إذن: هي منظومة عبادية دائمة في كل وقت، ودائرة في كل مكان من الأرض، فلا ينفكّ الكون ذاكراً لله. أليس هذا ذِكْراً كثيراً؟ أليستْ كلمة (الله أكبرُ) دائرة على ألسنة الخلق لا تنتهي أبداً؟
ثم لما كان دَفْع الله الناسَ بعضهم ببعض ينتج عنه معركة تُسْفر عن منتصر ومنهزم، قال سبحانه: } وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ.. { [الحج: 40] فإنْ كان التدافع بين الكفار فإنه لا ينتهي، وإنْ كان بين حقٍّ لله وباطل حكم الله بأنه باطل لا بُدَّ أن تنتهي بنُصْرة الحق، وغالباً لا تطول هذه المعركة؛ لأن الحق دائماً في حضانة الله، إنما تطول المعارك بين باطل وباطل، فليس أحدهما أَوْلَى بنُصْرة الله من الآخر، فيظل كل منهما يطحن في الآخر، وإنْ لم تكن حرباً ساخنة كانت حرباً باردة، لماذا؟ لأنه لا يوجد قويٌّ لا هوى له يستطيع أن يفصل فيها، وطالما تدخّل الهوى تستمر المعركة.
يبقى في القسمة العقلية المعركة بين حق وحق، وهذه لا وجودَ لها؛ لأن الحق واحد في الوجود، فلا يمكن أنْ يحدث تصادم أبداً بين أهل الحق.
والحق - تبارك وتعالى - في نُصْرته لأوليائه يستطيع أن ينصرهم دون حرب، ويُهلك أعداءهم، لكن الحق سبحانه يريد أنْ يأخذوا هم بأسباب النصر؛ لذلك يُعلّمهم أصول هذه المسألة، فيقول سبحانه:{ فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىا إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىا تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـاكِن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ.. }[محمد: 4].
ومعنى{ أَثْخَنتُمُوهُمْ.. }[محمد: 4] يعني: جعلتموهم لا يقدرون على الحركة{ فَشُدُّواْ الْوَثَاقَ.. }[محمد: 4] لا تُجهِزوا عليهم، ولا تقتلوهم، إنما شُدُّوا قيودهم واستأسِروهم، وهذه من رحمة الإسلام وآدابه في الحروب، فليس الهدف القتل وإزهاق الأرواح ثم{ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً.. }[محمد: 4] مَنّاً إنْ كان هناك تبادل للأسرى. فأنت تمنُّ وهو يمنُّ. والفداء أنْ يفدي نفسه.
وكانت هذه المسألة حجة لنا حينما نتحدث عن الرقِّ في الإسلام، ونرد على هؤلاء الذين يحلو لهم اتهام الإسلام، ويستخدمون في ذلك السفسطة والمراوغة اللغوية لإقناع الناس بأن الإسلام ساهم في نِشْر الرقِّ والعبودية.
ونقول: لقد جاء الإسلام والرق موجود ومنتشر لم يُشرِّعه الإسلام، ولم يُوجِدْه بداية، حيث كانت أسباب الرق كثيرة، وأسباب الاستعباد متعددة: فَمنْ تحمّل دَيْناً وعجز عن سدادة يُسْتعبد لصاحب الدين، ومَنْ عمل ذنباً وخاف من عقوبته أخذوه عبداً، ومَنْ اختطفه الأشرار في الطريق جعلوه عبداً.. إلخ.
فلما جاء الإسلام عمل على سَدِّ منابع الرقِّ هذه، وجعل الرقَّ مقصوراً على الحرب المشروعة. ثم فتح عدة مصارف شرعية للتخلُّص من الرق القائم، حيث لم يكُنْ موجوداً من أبواب العتق إلا إرادة السيد في أنْ يعتق عبده، فأضاف الإسلام إلى هذا الباب أبواباً أخرى، فجعل العتق كفارة لبعض الذنوب، وكفارة لليمين، وكفارة للظِّهار، وحثَّ على الصدقة في سبيل العتق، ومساعدة المكاتب الذي يريد العتق ويسعى إليه.. إلخ.
فإذا لم تعتق عبدك، فلا أقل من أن تطعمه من طعامك، وتُلْبسه من ملبسك، ولا تُحمِّله ما لا يطيق، وإنْ حمَّلْته فأعِنْه، وكما يقول النبي صلى الله عليه وسلم " إنما هم إخوانكم ".
ونلاحظ على الذين يعيبون على الإسلام مسألة الرقِّ في الحروب أنهم يقارنون بين الرِّق والحرية، لكن المقارنة هنا ليستْ كذلك، المقارنة هنا بين الرق والقتل؛ لأنه لا يُسترقّ إلا مَنْ قدر المسترقُّ عليه وتمكَّن منه في المعركة، وكان باستطاعته قَتْله، لكن رحمة الله بعباده منعتْ قتله، وأباحت أَخْذه رقيقاً، فالنفعية للمقاتل المنتصر يقابلها حَقْن دم الآخر، ثم بعد انتهاء الحرب نحثُّ على عتقه، ونفتح له أبواب الحرية.
إذن: لا تقارن بين عبد وحر، إنما قارن بين العبودية والقتل: أيهما أقلّ ضرراً؟
لذلك قال تعالى:
{ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَىا مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }[التوبة: 14 - 15].
هذه نتائج سِتٌّ للأمر{ قَاتِلُوهُمْ.. }[التوبة: 14] وجواب الأمر مجزوم بالسكون كما في (يُعذِّبْهم) ومجزوم بحذف حرف العلة كما في (وَيُخْزِهِم)، والخزي لأنهم كانوا مغترين بقوتهم، ولديهم جبروت مفتعل، يظنون أَلاَّ يقدر عليهم أحد، وكذلك في: ينصركم، ويشف، ويذهب.
ثم قطع السياقُ الحكمَ السابق، واستأنف كلاماً جديداً، وإنْ كان معطوفاً على ما قبله في اللفظ، وهذا مظهر من مظاهر الدقة في الأداء القرآني، ومَلْحَظ لرحمة الله تعالى حتى بالكفار، فقال تعالى:{ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَىا مَن يَشَآءُ.. }[التوبة: 15] هكذا بالرفع، لا بالجزم فقطع الفعل (يتوب) عما قبله؛ لأن الله تعالى لم يشأ أن يشرِّك بينهم حتى في جواب الأمر.
وحتى على اعتبار أنهم هُزِمُوا، وكُسِرت شوكتهم، وضاعتْ هيبتهم، لعلهم يفيقون لأنفسهم، ويعودون للحق، وهذه من رحمة بالكافرين في معاركهم مع الإيمان.
لكن، لماذا يتوب الله على الكفار ويرحمهم وهم أعداء دينه وأعداء نبيه؟ قالوا: لأنه سبحانه وتعالى ربهم وخالقهم، وهم عباده وعياله، وهو أرحم بهم، ومرادات الله في الخَلْق أن يكونوا جميعاً طائعين.
لذلك، يقول سبحانه في الحديث القدسي: " قالت السماء: يا رب ائذن لي أن أسقط كسفاً على ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك، وقالت الأرض: يا رب ائذن لي أن أخسف بابن آدم فقد طَعِم خيرك ومنع شكرك، وقالت الجبال: يا رب ائذن لي أن أسقط على ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك، وقالت البحار: يا رب ائذن لي أن أغرق ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك " ".
فالكون كله ناقم على الكافرين، متمرد على العصاة، مغتاظ منهم، فماذا قال الحق - تبارك وتعالى - لهم؟ قال سبحانه: " دعوني وخَلْقي، لو خلقتموهم لرحمتموهم، فإنْ تابوا إليَّ، فأنا حبيبهم، وإنْ لم يتوبوا فأنا طبيبهم ".
نعود إلى قوله تعالى: } وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ.. { [الحج: 40] وما دام أن النصر من عند الله فإياكم أنْ تبحثوا في القوة أو تقيسوا قوتكم بقوة عدوكم، فلربك عز وجل جنود لا يعلمها إلا هو، ووسائل النصر وأنت في حضانة الله كثيرة تأتيك من حيث لا تحتسب وبأهْون الأسباب، أقلّها أن الله يُريكم أعداءكم قليلاً ويُكثِّر المؤمنين في أعين الكافرين ليفتَّ ذلك في عَضُدهم ويُرهبهم ويُزعزع معنوياتهم، وقد يحدث العكس، فيرى الكفار المؤمنين قليلاً فيجترئون عليهم، ويتقدمون، ثم تفاجئهم الحقيقة.
إذن:{ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ.. }[المدثر: 31] فلا تُعوِّل فقط على قوتك وتحسب مدى تكافُئِك مع عدوك، دَعْكَ من هذه الحسابات، وما عليك إلا أنْ تستنفد وسائلك وأسبابك، ثم تدع المجال لأسباب السماء.
وأقلُّ جنود ربك أنْ يُلقي الرعب في قلوب أعدائك، وهذه وحدها كافية، ويُرْوى أنهم في إحدى المعارك الإسلامية تغيرت رائحة أفواه المسلمين، وأحسُّوا فيها بالمرارة لطول فترة القتال، فأخرجوا السواك يُنظفِّون أسنانهم، ويُطيِّبون أفواههم، عندها قال الكفار: إنهم يسنُّون أسنانهم ليأكلونا، وقذف الله في قلوبهم الرعب من حيث لا يدرون.
ثم يقول تعالى: } إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ { [الحج: 40] عزيز: يعني لا يُغلب، وما دام أن الله تعالى ينصر مَنْ نصره فلا بُدَّ أن تنتهي المعركة بالنصر مهما خارتْ القوى ومهما ضَعُفتْ، ألم يكُن المسلمون في مكة ضعفاء مضطهدين، لا يستطيع واحد منهم أن يرفع رأسه بين الكفار؟
ولما نزل قول الله تعالى وهم على هذه الحال:{ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ }[القمر: 45] تعجب عمر بفراسته وعبقريته: أيُّ جمع هذا الذي سيُهزم ونحن غير قادرين حتى حماية أنفسنا؟ فلما رأى يوم بدر قال: صدق الله{ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ }[القمر: 45].
فما دام أن الله قوي عزيز فلا بُدَّ أن ينصركم، وهذه مسألة محكوم بها أزلاً:{ كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِي.. }[المجادلة: 21].
فإذا تمَّتْ لكم الغَلَبة، فاعلموا أن لك دَوْراً، أَلاَ وهو: } الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَـاةَ.. {
.
(/2617)
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
معنى: { مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ.. } [الحج: 41] جعلنا لهم سلطاناً وقوة وغَلَبة، فلا يَجترئ أحد عليهم أو يزحزحهم، وعليهم أنْ يعلموا أن الله ما مكَّنهم ونصرهم لذاتهم، وإنما ليقوموا بمهمة الإصلاح وينقوا الخلافة الإنسانية في الأرض من كُلِّ ما يُضعِف صلاحها أو يفسده.
لذلك، سيدنا سليمان عليه السلام كان يركب بساط الريح يحمله حيث أراد، فداخله شيء من الزهو، فمال به البساط وأوشك أنْ يُلقيه، ثم سمع من البساط مَنْ يقول له: أُمِرْنا أن نطيعك ما أطعتَ الله.
والممكَّن في الأرض الذي أعطاه الله البأْس والقوة والسلطان، يستطيع أنْ يفرض على مجتمعه ما يشاء، حتى إنْ مُكِّن في الأرض بباطل يستطيع أنْ يفرض باطله ويُخضِع الناس له، ولو إلى حين.
فماذا يُناط بالمؤمن إنْ مُكِّن في الأرض؟
يقول تعالى: { الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُواْ الصَّلاَةَ.. } [الحج: 41] ليكونوا دائماً على ذكْر وولاء من ربهم الذي وهبهم هذا التمكين؛ ذلك لأنهم يترددون عليه سبحانه خَمْس مرات في اليوم والليلة.
{ وَآتَوُاْ الزَّكَـاةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ } [الحج: 41] فهذه أسس الصلاح في المجتمع والميزان الذي يسعد به الجميع.
{ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ } [الحج: 41] يعني: النهاية إلينا، وآخر المطاف عندنا، فمَن التزم هذه التوجيهات وأدَّى دوره المنُوط في مجتمعه، فبها ونِعْمتْ، ومَنْ ألقاها وراء ظهره فعاقبته معروفة.
ثم يُسلِّي الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم حتى لا يهتم بما يفعله قوم من كفر وعناد ومجابهة للدعوة: { وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ.. }
.
(/2618)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42)
{ وَإِن يُكَذِّبُوكَ.. } [الحج: 42] يعني: في دعوتك فيواجهونك، ويقفون في سبيل دعوتك ليبطلوها، فاعلم أنك لست في ذلك بِدْعاً من الرسل، فقد كُذِّب كثير من الرسل قبلك، وعليك أَلاَّ تلاحظ مسألة التكذيب منفصلةً عن عاقبته، نعم: كذب القوم لكن كيف كانت العاقبة؟ اتركناهم أم أخذناهم أَخْذ عزيز مقتدر؟
فلا تحزن، فسوف يحلُّ بهم ما حَلَّ بسابقيهم من المكذِّبين والمعاندين.
وقلنا: إن الرسول يتحمّل من مشقة الرسالة وعناء الدعوة على قَدْر رسالته، فكلُّ رسل الله قبل محمد كان الرسول يُرْسَل إلى قومه خاصة، وفي مدة محدودة، وزمان محدود، ومع ذلك تعبوا كثيراً في سبيل دعوتهم، فما بالك برسول بُعِثَ إلى الناس كافة في كل زمان وفي كل مكان، لا شَكَّ أنه سيتحمل من التعب والعناء أضعاف ما تحمِّله إخوانه من الرسل السابقين.
وكأن الحق - تبارك وتعالى - يُعد رسوله صلى الله علية وسلم ويُوطِّنه على تحمُّل المشاقِّ من بداية الطريق حتى لا تفتّ في عَضُده حين يواجهها عند مباشرة أمر الدعوة، يقول له: ليست السيادة أمراً سهلاً، إنما دونها متاعب وأهوال ومصاعب فاستعد، كما تنبه ولدك: انتبه، فالامتحانات ستأتي هذا العام صعبة، فالوزارة تريد تقليل عدد المتقدمين للجامعة، فاجتهد حتى تحصل على مجموع مرتفع، وحين يسمع الولد هذا التنبيه يُجمع تماسكه، ويجمع تركيزه، فلا يهتز حين يواجه الامتحانات.
ثم يذكر الحق - تبارك وتعالى - نماذج للمكذِّبين للرسل: { وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَىا فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ.. }
.
(/2619)
وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44)
نلحظ هنا أن الحق سبحانه ذكر المكذبين، إلا في قصة موسى فذكر المكذَّب، فلم يَقُل: وقوم موسى بل قال: وكُذِّب موسى، لماذا؟ قالوا: لأن مهمته كانت أصعب حيث تعرَّض في دعوته لمنِ ادَّعى الألوهية ذاتها.
وقوله تعالى: { فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ.. } [الحج: 44] أمليت: أمهلْتُ حتى ظنوه إهمالاً، وهو إمهال بأنْ يمدّ الله لهم، ويطيل في مدتهم، لا إكراماً لهم، ولكن ليأخذهم بعد هذا أخْذ عزيز مقتدر، وفي آية أخرى يُوضِّح لنا هذه البرقية المختصرة، فيقول سبحانه:{ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً.. }[آل عمران: 178]
وفي هذا المعنى يقول أيضاً:{ فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ }[التوبة: 55].
إذن: لا تغتر بما في أيديهم؛ لأنه فتنة، حتى إذا أخذهم الله كانت حسرتهم أكبر، فمن عُدم هذه النعم لا يتعلق قلبه بها، ولا يألَم لفقدها.
وقد حدث شيء من هذا في أيام سعد زغلول، وكان أحد معارضيه يشتمه ويتطاول عليه، لكن فوجئ الجميع بأنه يُولِّيه منصباً مرموقاً في القاهرة، فتعجّب الناس وسألوه في ذلك فقال: نعم، وضعته في هذا المنصب ليعرف العلو والمنزلة حتى يتحسَّر عليها حين تُسْلَب منه، وتكون أنكى له. يعني: يرفعه إلى أعلى حتى يهوي على رقبته، لأنه ما فائدة أن توقعه من على الحصيرة مثلا ً؟!!
ثم يقول تعالى: { فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } [الحج: 44] الحق سبحانه يُلقِي الخبر في صورة استفهام لتقول أنت ما حدث وتشهد به.
والمراد: أعاقبناهم بما يستحقون؟
والنكير: هو الإنكار على شخص بتغيير حاله من نعمة إلى نقمة، كالذي يُكرمك ويُواسيك ويَبَشُّ في وجهك ويُغدق عليك، ثم يقطع عنك هذا كله، فتقول: لماذا تنكَّر لي فلان؟ يعني: قطع عني نعمته.
وكأن الحق - تبارك وتعالى - يريد أن ينتزع مِنَّا الإقرار بقدرته تعالى على عقاب أعدائه ومُكذِّبي رسله، وهذا المعنى جاء أيضاً في قوله تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَىا أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُواْ إِنَّ هَـاؤُلاَءِ لَضَالُّونَ * وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ }[المطففين: 29 - 36] يعني: هل جُوزي الكفار بما عملوا؟ وهل استطعنا أنْ نعاقبهم بما يستحقون من العذاب؟
{ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } [الحج: 44] أي: إنكاري لموقفهم من عدم أداء حقوق النعمة فبدَّلها الله عليهم نقمة.
ثم يقول الحق سبحانه: { فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىا عُرُوشِهَا.. }
.
(/2620)
فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)
قوله تعالى: { فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ.. } [الحج: 45] (كأيِّن) أداة تدل على الكَثْرة مثل: كم الخبرية حين تقول: كَمْ أحسنتُ إليك. تعني مرات عديدة تفوق الحصر، فهي تدل على المبالغة في العدد والكمية، ومنها قوله تعالى:{ وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ.. }[آل عمران: 146].
والقرية: اسم للمكان، وحين يُهلِك الله القرية لا يُهلك المكان، إنما يهلك المكين فيه، فالمراد بالقرية أهلها، كما ورد في قوله تعالى:{ وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا.. }[يوسف: 82] أي: اسأل أهل القرية.
ويحتمل أن يكون المعنى: اسأل القرية تُجبك، لأنك لو سألتَ أهل القرية فلربما يكذبون، أمَّا القرية فتسجل الأحداث وتُخبِر بها كما حدثت.
وقد يتعدى الهلاك إلى القرية ذاتها، فيغير معالمها بدليل قوله تعالى:{ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُواْ.. }[النمل: 52].
ومعنى: { أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ.. } [الحج: 45] أي: بسبب ظُلْمها، ولا يُغيِّر الله ما بقوم حتى يُغيِّروا ما بأنفسهم، وفي آية أخرى يقول تعالى:{ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ }[النحل: 112].
فهلاك القُرَى لا بُدَّ أن يكون له سبب، فلما وقع عليها الهلاك أصبحت { خَاوِيَةٌ عَلَىا عُرُوشِهَا.. } [الحج: 45] الشيء الخاوي يعني: الذي سقط وتهدَّم على غيره، وقوله: { عَلَىا عُرُوشِهَا.. } [الحج: 45] يدل على عِظَم ما حَلَّ بها من هلاك، حيث سقط السقف أولاً، ثم انهارت عليه الجدران، أو: أن الله تعالى قَلَبها رأساً على عَقِب، وجعل عاليها سافلها.
وقوله سبحانه: { وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ.. } [الحج: 45] البئر: هو الفجوة العميقة في الأرض، بحيث تصل إلى مستوى الماء الجوفيّ، ومنه يُخرجون الماء للشُّرْب وللزراعة.. إلخ ومنه قوله تعالى:{ وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ.. }[القصص: 23] أي: البئر الذي يشربون منه.
والبئر حين تكون عاملة ومُسْتفاداً منها تلحظ حولها مظاهر حياة، حيث ينتشر الناس حولها، وينمو النبات على بقايا المياه المستخرجة منها، ويحوم حولها الطير ليرتوي منها، أما البئر المعطّلة غير المستعملة فتجدها خَرِبة ليس بها علامات حياة، وربما تسفو عليها الرياح، وتطمسها فتُعطَّل وتُهجَر، فالمراد معطلة عن أداء مهمتها، ومهمة البئر السُّقيا.
{ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ } [الحج: 45] القصر: اسم للمأوى الفَخْم؛ لأن المأوى قد يكون خيمة، أو فسطاطاً، أو عريشة، أو بيتاً، أو عمارة، وعندما يرتقي الإنسان في المأوى فيبني لنفسه شيئاً خاصاً به، لكن لا بُدَّ له أنْ يخرج لقضاء لوازم الحياة من طعام وخلافه، أما القصر فيعني مكان السكن الذي يتوفر لك بداخله كل ما تحتاج إليه، بحيث لا تحتاج إلى الخروج منه، يعني: بداخله كل مُقوِّمات الحياة. ومنه: سميت الحور مقصورات في قوله تعالى:{ حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ }
[الرحمن: 72] يعني: لا تتعداها ولا تخرج منها.
و } مَّشِيدٍ { [الحج: 45] من الشيد، وهو الجير الذي يستعمل كَمُونَةٍ في بناء الحجر يعني: مادة للصق الحجارة، وجَعْلها على مستوى واحد، وقديماً كان البناء بالطوب اللَّبن، والمونة من الطين، أما في القصور والمساكن الفخمة الراقية فالبناء بالحجر، والمشيد أيضاً العالي المرتفع، ومنه قولهم: أشاد به يعني: رفعه وأعْلى من مكانته، والارتفاع من مَيْزات القصور، ومعلوم أن مقاسات الغرف في العمارات مثلاً غيرها في القصور، هذه ضيقة منخفضة، وهذه واسعة عالية.
وفي قوله تعالى } وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ { [الحج: 45] دليل على أن هؤلاء المهلْكين كانوا من أصحاب الغِنَى والنعيم، ومن سكان القصور ومِنْ عِلْية القوم.
ثم يقول الحق سبحانه: } أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا.. {
.
(/2621)
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)
السَّيْر: قَطْع مسافات من مكان إلى آخر، ويسمونه السياحة، والحق سبحانه يدعو عباده إلى السياحة في أنحاء الأرض؛ لأن للسياحة فائدتين:
فإما أنْ تكون سياحة استثمارية لاستنباط الرزق إنْ كنتَ في مكان يضيق بك العيش فيه، كهؤلاء الذين يسافرون للبلاد الأخرى للعمل وطلب الرزق.
وإما أن تكون سياحة لأَخْذ العبرة والتأمل في مخلوقات الله في مُلْكه الواسع ليستدل بخَلْق الله وآياته على قدرته تعالى.
والسياحة في البلاد المختلفة تتيح لك فرصة ملاحظة الاختلافات من بيئة لأخرى، فهذه حارة وهذه باردة، وهذه صحراء جرداء وهذه خضراء لا يوجد بها حبة رمل، لذلك يخاطبنا ربنا تبارك وتعالى:{ قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُواْ.. }[الأنعام: 11]
فالعطف في الآية بـ (ثُمَّ) يدل على أن للسياحة مهمة أخرى، هي الاستثمار وطلب الرزق، ففي الآية إشارة إلى الجمع بين هاتين المهمتين، فحين تذهب للعمل إياك أنْ تغفل عن آيات الله في المكان الذي سافرت إليه، وخُذْ منه عبرة كونية تفيدك في دينك.
وفي آية أخرى يقول سبحانه:{ قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَاْنظُرُواْ.. }[النمل: 69]
العطف هنا بالفاء التي تفيد الترتيب، يعني: سيروا في الأرض لتنظروا آيات الله، فهي خاصة بسياحة الاعتبار والتأمل، لا سياحة الاستثمار وطلب الرزق.
لذلك يقولون في الأمثال: (اللي يعيش ياما يشوف، واللي يمشي يشوف أكثر) فكلما تعددتْ الأماكن تعددت الآيات والعجائب الدالة على قدرة الله، وقد ترى منظراً لا يؤثر فيك، وترى منظراً آخر يهزُّك ويُحرِّك عواطفك، وتأملاتك في الكون.
وقوله: { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ.. } [الحج: 46] تعني وتؤكد أنهم ساروا فعلاً، كما تقول: أفلم أُكرمك؟ ولا تقول هذا إلا إذا أكرمته فعلاً، وقد حدث أنهم ساروا فعلاً في البلاد أثناء رحلة الشتاء والصيف، وكانوا يمرون على ديار القوم المهلكين، كما قال تعالى:{ وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ.. }[الصافات: 137].
يعني: أنتم أهل سَيْر وترحال وأهل نظر في مصير مَنْ قبلكم، فكيف يقبل منكم الانصراف عن آيات الله؟
{ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَـاكِن تَعْمَىا الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } [الحج: 46] فما داموا قد ساروا وترحلَّوا في البلاد، فكيف لا يعقلون آيات الله؟ وكيف لا تُحرِّك قلوبهم؟
ولنا وقفة عند قوله تعالى: { فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ.. } [الحج: 46] وهل يعقِل الإنسانُ بقلبه؟ معلوم أن العقل في المخ، والقلب في الصدر.
نعم، للإنسان وسائل إدراك هي الحواس التي تلتقط المحسَّات يُسمُّونها تأدُّباً مع العلم: الحواس الخمس الظاهرة؛ لأن العلم أثبت للإنسان في وظائف الأعضاء حواساً أخرى غير ظاهرة، فحين تُمسِك بشيئين مختلفين يمكنك أن تُميِّز أيهما أثقل من الآخر، فبأيِّ حاسة من الحواس الخمس المعروفة توصلْتَ إلى هذه النتيجة؟
إنْ قُلْتَ بالعين فدعْها على الأرض وانظر إليها، وإنْ قُلْتَ باللمس فلك أنْ تلمسها دون أنْ ترفعها من مكانها، إذن: فأنت لا تدرك الثقل بهذه الحواس، إنما بشيء آخر وبآلة إدراك أخرى هي حاسة العَضَلِ الذي يُميِّز لك الخفيف من الثقيل.
وحين تذهب لشراء قطعة من القماش تفرك القماش بلطف بين أناملك، فتستطيع أنْ تُميِّز الثخين من الرقيق، مع أن الفارق بينهما لا يكاد يُذْكَر، فبأيِّ حاسة أدركْتَه؟ إنها حاسة البَيْن. كذلك هناك حاسة البُعْد وغيرها من الحواسّ التي يكتشفها العلم الحديث في الإنسان.
فلما يدرك الإنسان هذه الأشياء بوسائل الإدراك يتدخَّل العقل ليغربل هذه المدركات، ويختار من البدائل ما يناسبه، فإنْ كان سيختار ثوباً يقول: هذا أنعم وأرقّ من هذا، وإنْ كان سيختار رائحة يقول: هذه ألطف من هذه، إنْ كان في الصيف اختار الخفيف، وإنْ كان في الشتاء اختار السميك.
وبعد أن يختار العقل ويوازن بين البدائل يحكم بقضية تستقر في الذِّهْن وتقتنع بها، ولا تحتاج لإدراك بعد ذلك، ولا لاختيار بين البدائل، وعندها تنفذ ما استقر في نفسك، وارتحْتَ إليه بقلبك.
إذن: إدراك بالحواس وتمييز بالعقل ووقوف عند مبدأ بالقلب، وما دام استقر المبدأ في قلبك فقد أصبح دستوراً لحياتك، وكل جوارحك تخدم هذا المبدأ الذي انتهيتَ إليه، واستقر في قلبك ووجدانك.
لكن، لماذا القلب بالذات؟ قالوا: لأن القلب هو الذي يقوم بعملية ضَخِّ سائل الحياة، وهو الدم في جميع إجزاء الجسم وجوارحه، وهذه الجوارح هي أداة تنفيذ ما استقر في الوجدان؛ لذلك قالوا: الإيمان محلّه القلب، كيف؟ قالوا: لأنك غربلْتَ المسائل وصفَّيْت القضايا إلى أن استقرت العقيدة والإيمان في قلبك، والإيمان أو العقيدة هي ما انعقد في القلب واستقرَّ فيه، ومن القلب تمتد العقيدة إلى جميع الأعضاء والحواس التي تقوم بالعمل بمقتضى هذا الإيمان، وما دُمْتَ قد انتهيتَ إلى مبدأ وعقيدة، فإياك أنْ تخالفه إلى غيره، وإلاَّ فيكون قلبك لم يفهم ولم يفقه.
وكلمة } يَعْقِلُونَ بِهَآ.. { [الحج: 46] تدل على أن للعقل مهام أخرى غير أنه يختار ويفاضل بين البدائل، فالعقل من مهامه أنْ يعقل صاحبه عن الخطأ، ويعقله أنْ يشرد في المتاهات، والبعض يظن أن معنى عقل يعني حرية الفكر وأنْ يشطح المرء بعقله في الأفكار كيف يشاء، لا، العقل من عِقَال الناقة الذي يمنعها، ويحجزها أنْ تشرُدَ منك.
ثم يقول سبحانه: } أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا.. { [الحج: 46] كيف ولهؤلاء القوم آذان تسمع؟ نعم، لهم آذان تسمع، لكن سماع لا فائدة منه، فكأن الحاسَّة غير موجودة، وإلا ما فائدة شيء سمعتَه لكن لم تستفد به ولم تُوظِّفه في حركة حياتك، إنه سماع كعدمه، بل إن عدمه أفضل منه؛ لأن سماعك يقيم عليك الحجة.
} فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَـاكِن تَعْمَىا الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ { [الحج: 46] فعمي الأبصار شيء هيِّن، إذا ما قِيسَ بعمى القلوب؛ لأن الإنسان إذا فقد رؤية البصر يمكنه أنْ يسمع، وأنْ يُعمل عقله، وأنْ يهتدي، ومَا لا يراه يمكن أنْ يخبره به غيره، ويَصِفه له وَصْفا دقيقاً وكأنه يراه، لكن ما العمل إذا عَميَتْ القلوب، والأنظار مبصرة؟
وإذا كان لعمى الأبصار بديل وعِوَض، فما البديل إذا عَمي القلب؟ الأعمى يحاول أنْ يتحسَّس طريقه، فإنْ عجز قال لك: خُذْ بيدي، أما أعمى القلب فماذا يفعل؟
لذلك، نقول لمن يغفل عن الشيء الواضح والمبدأ المستقر: أعمى قَلْب. يعني: طُمِس على قلبه فلا يعي شيئاً.
وقوله: } الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ { [الحج: 46] معلوم أن القلوب في الصدور، فلماذا جاء التعبيرهكذا؟ قالوا: ليؤكد لك على أن المراد القلب الحقيقي، حتى لا تظن أنه القلب التفكيريّ التعقليّ، كما جاء في قوله تعالى:{ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم.. }[آل عمران: 167]
ومعلوم أن القَوْل من الأفواه، لكنه أراد أن يؤكد على القول والكلام؛ لأن القول قد يكون بالإشارة والدلالة، فالقول بالكلام هو أبلغ أنواع القول وآكده؛ لذلك قال الشاعر:جِرَاحَاتُ السِّنَانِ لَهَا الْتِئَامٌ ولاَ يُلْتَامُ مَا جَرَح اللسَانُويقولون: احفظ لسانك الذي بين فكَّيْك، وهل اللسان إلا بين الفكَّيْن؟ لكن أراد التوكيد على القول والكلام خاصة، لا على طرق التفاهم والتعبير الأخرى.
ثم يقول الحق سبحانه: } وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ.. {
.
(/2622)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)
ألم يقولوا في استعجال العذاب:{ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ.. }[الأنفال: 32].
وقالوا:{ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ }[الأعراف: 70].
ولا يستعجل الإنسانُ العذابَ إلا إذا كان غَيْرَ مؤمن به، المؤمن بالعذاب - حقيقةً - يخاف منه، ويريد أنْ يبطئ عنه أو أنْ ينجوَ منه. والمعنى: { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ.. } [الحج: 47] أنهم يظنون أنَّه إنْ توعّدهم الله بالعذاب فإنه سيقع لِتَوِّه. لذلك، الحق سبحانه يصحح لهم هذا الفهم، فيقول: { وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ.. } [الحج: 47] فلا تتعجلوا توعّدكم به، فهو واقع بكم لا محالة؛ لأنه وَعْد من الله، والله لا يُخلِف وعده، لكن اعلموا أن اليوم عند الله ليس كيومكم، اليوم عندكم أربع وعشرون ساعة، أما عند الله فهو كألف سنة من حسابكم أنتم للأيام.
واليوم زمن يتسع لبعض الأحداث، ولا يسع أكثر مما قدِّر أن يُفعل فيه من الأحداث، أما اليوم عند الله - عَزَّ وجَلَّ - فيسع أحداثاً كثيرة تملأ من الزمن ألف سنة من أيامكم؛ ذلك لأنكم تزاولون الأعمال وتعالجونها، أما الخالق سبحانه فإنه لا يزاول الأفعال بعلاج، وإنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له: كُنْ فيكون، ففِعْلُك يحتاج إلى وقت، أما فِعْل ربك فبكلمة كُنْ. وقد شاء الحق سبحانه أنْ يعيشَ هؤلاء في عذاب التفكير في هذا الوعيد طول عمرهم، فيُعذّبون به قبل حدوثه.
إذن: لا تظن أن العذاب الذي توعّدكم به سيحدث اليوم أو غداً، لا؛ لأن حساب الوقت مختلف.
ألم تقرأ قول الله تعالى لنبيه موسى - عليه السلام - لمَّا دعا على قومه:{ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَىا أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَىا قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّىا يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ.. }[يونس: 88]
قال له ربه:{ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا.. }[يونس: 89].
ويقول المفسرون: حدثتْ هذه الإجابة لموسى بعد أربعين سنة من دعوته عليهم.
وفي موضع آخر يقول تعالى:{ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَآءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ }[السجدة: 5].
وتزيد هذه المدة في قوله سبحانه:{ تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ }[المعارج: 4] لماذا؟ لأن الزمن عندكم في هذه الحالة مُعطَّل، فأنتم من هَوْل ما تروْنَ تستطيلون القصير، ويمر عليكم الوقت ثقيلاً؛ لذلك تتمنون الانصراف ولو إلى النار.
كما أن صاحب النعيم يستقصر الطويل، ويمر عليه الوقت كأنه لمح البصر، ومن ذلك ما تلاحظه من قِصَر الوقت مع الأحبة وطوله مع الأعداء ومَنْ لا يهواه قلبك، ولهذه المسألة شواهد كثيرة في شعرنا العربي، منها قول أحدهم:حَادِثَاتُ السُّرورِ تُوزَنُ وَزْناً وَالبَلايَا تُكَال بالقُفْزَانوقول الآخر:لَمْ يَطُلْ لَيْلِي ولكِنْ لَمْ أَنَمْ ونَفَى عَنِّي الكَرَى طَيْفٌ أَلَمّويقول ابن زيدون:إنْ يَطُلْ بعدَكَ لَيْلِي فَلَكَمْ بِتُّ أشكُو قِصَرَ الليْلِ مَعَكثم يقول سبحانه: { وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ.. }
.
(/2623)
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)
{ وَكَأَيِّن.. } [الحج: 48] قلنا: تدل على الكثرة يعني: كثير من القرى، { أَمْلَيْتُ.. } [الحج: 48]: أمهلتُ، لكن طوال الإمهال لا يعني الإهمال؛ لأن الله تعالى يُملي للكافر ويُمهله لأجل، فإذا جاء الأجل والعقاب أخذه.
{ ثُمَّ أَخَذْتُهَا } [الحج: 48] وأخْذُ الشيء يتناسب مع قوة الآخذ وقدرته وعنف الانتقام بحسب المنتقم، فإذا كان الآخذ هو الله عز وجل، فكيف سيكون أَخْذه؟
في آية أخرى يوضح ذلك فيقول:{ أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ }[القمر: 42] لا يُغَالب، ولا يمتنع منه أحد، وكلمة الأَخْذ فيها معنى الشدة والعنف والقَهْر.
ثم يقول سبحانه: { وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ } [الحج: 48] يعني: المرجع والمآب، فلن يستطيعوا أنْ يُفلِتوا.
إذن: الإملاء: تأخير العذاب إلى أجل معين، كما قال سبحانه:{ فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً }[الطارق: 17].
هذا الأجل قد يكون لمدة، ثم يقع بهم العذاب، كما حدث في الأمم السابقة التي أهلكها الله بالخسْف أو بالغرق.. الخ، أما في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فيكون الإملاء بأحداث سطحية في الدنيا، كالذي حَلَّ بالكفار من الخِزْي والهوان والهزيمة وانكسار شوكتهم، أمّا العذاب الحقيقي فينتظرهم في الآخرة.
لذلك يقول الحق - تبارك وتعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم: لا تستبطئ عذابهم والانتقام منهم في الدنيا، فما لم تَرَهُ فيهم من العذاب في الدنيا ستراه في الآخرة:{ فَـإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ }[غافر: 77]
ثم يقول الحق سبحانه: { قُلْ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَآ.. }
.
(/2624)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49)
والإنذار نوع من الرحمة، لأنك تخبر بشرٍّ قبل أوانه، ليحذره المنذَر، ويحاول أنْ يُنجي نفسه منه، ويبتعد عن أسبابه، فحين أُذكّرك بالله، وأنه يأخذ أعداءه أخْذَ عزيز مقتدر، فعليك أنْ تربأ بنفسك عن هذه النهاية، وأن تنجوَ من دواعي الهلاك.
ومعنى { مُّبِينٌ } [الحج: 49] محيط، لا يترك صغيرة ولا كبيرة.
(/2625)
فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50)
وطالما آمنوا وعملوا الصالحات فقد انتفعوا بالنذراة، وأثمرتْ فيهم، فآمنوا بالله إلهاً فاعلاً مختاراً له صفات الكمال المطلق، ثم عملوا على مقتضى أوامره؛ لذلك يكون لهم مغفرة إنْ كانت أَلَمَّتْ نفوسهم بشيء من المعاصي، ويكون لهم رزق كريم. والكريم هو البذَّال، كأن الرزق نفسه وصل إليهم بكرم وزيادة، كما أن الكريم هو الذي تظل يده مبسوطة دائماً بالعطاء، على حَدِّ قول الشاعر:وَإِنِّي امْرؤٌ لاَ تَسْتَقِرُّ دَرَاهِمِي عَلَى الكَفِّ إِلاَّ عَابِرَات سَبِيلفالرزق نفسه كريم؛ لأنه ممدود لا ينقطع، كما لو أخذت كوب ماء من ماء جارٍ، فإنه يحلُّ محلَّه غيره على الفور، وهكذا.
(/2626)
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)
السعي: عمل يذهب إلى غاية، فإنْ كان قطع مسافة نقول: سِرنْا من كذا إلى كذا، وإنْ كان في قضية علمية فكرية، فيعني: أن الحدث يعمل من شيء بداية إلى شيء غاية.
والسَّعْيُ لا يُحمد على إطلاقه، ولا يُذَمُّ على إطلاقه، فإنْ كان في خير فهو محمود ممدوح، كالسعي الذي قال الله فيه:{ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً }[الإسراء: 19]، وإنْ كان في شَرٍّ فهو قبيح مذموم، كالسعي الذي قال الله تعالى فيه:{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىا مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّىا سَعَىا فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ.. }[البقرة: 204 - 205].
أما السعاية فعادة تأخذ جانب الشر. وتعني: الوشاية والسّعي بين الناس بالنميمة، تقول: فلان سَعَّاء بين الخلق يعني: بالشر ينقله بين الناس بقصْد الأذى، وهؤلاء إنْ عَلِموا الخير أخفَوْه، وإنْ علموا الشر أذاعوه، وإن لم يعلموا كذبوا.
لذلك، نقول عَمَّا ينتج من هذه السعاية من الشر بين الناس: هذا آفة الآخِذ، يعني: الذي سمع الشرَّ ونقله وسعى به، وكان عليه أنْ يحبسه ويُخفِيَه، حتى لا تنتشر هذه الرذيلة بين الخَلْق.
وقد وشى واشٍ بمهام بن عبد الله السلولي إلى زياد بن أبيه، وكان زياد جباراً فقال للواشي: أأجمع بينك وبينه؟ فلم يجد الواشي بُدَّاً من أنْ يقول: نعم، فكيف ينكر ما قال؟! ولعله قال في نفسه: لعل الله يقضي أمراً يُخرِجني من هذه (الورطة) قبل هذه المواجهة؟ ثم أرسل زياد إلى ابن همام فأُتِي به، وقد جعل زياد الواشي في مجلسه خلف ستار، وأُدخِل همام، فقال له: يا همام بلغني أنك هجوْتني، فقال: كلا، أصلحك الله ما فعلتُ: ولا أنت لذلك بأهْل، فكشف زياد الستار وقال: هذا الرجل أخبرني أنك هجوتني، فنظر ابن همام، فإذا هو صديق له يجالسه، فقال له:أنتَ امْرؤٌ إمّا ائتمنْتكَ خَالِياً فَخُنْتَ وَإِمّا قُلْتَ قَوْلاً بِلاَ عِلْمِفَأُبْتَ مِنَ الأَمْرِ الذي كَانَ بينَنَا بمنزلةٍ بيْنَ الخِيَانَةِ والإثْمِيعني: أنت مذموم في كل الأحوال؛ لأنك إما خُنْتَ أمانة المجلس والحديث ولم تحفظ سِراً فضفضْتُ لك به، وإمَّا اختلقْتَ هذا القوْل كذباً وبلا علم.
وعندها خلع زياد على همام الخُلَع، لكنه لم يعاقب الواشي، وفي هذا إشارة إلى ارتياحهم لمن ينقل إليهم، وأن آذانهم قد أخذتْ على ذلك وتعوَّدَتْ عليه.
ومعنى { فِي آيَاتِنَا } [الحج: 51] والآيات إما كونية، كالشمس والقمر، وإما معجزات، وإما آيات الأحكام، وسَعَوْا فيها يعني: قالوا فيها قِوْلاً باطلاً غير الحق، كما يسعى الواشي بالباطل بين الناس، فهؤلاء إنْ نظروا في آيات الكون قالوا: من صنع الطبيعة.
وإنْ شاهدوا معجزة على يد نبيٍّ قالوا: سحر وأساطير الأولين، وإنْ سمعوا آيات الأحكام تُتْلى قالوا: شعر. وهم بذلك كله يريدون أنْ يُفسِدوا على أهل الإيمان إيمانهم، ويصدُّوا عن سبيل الله.
ومعنى } مُعَاجِزِينَ { [الحج: 51] جمع لاسم الفاعل معاجز مثل: مقاتل، وهي من عَاجَزَ غير عجز عن كذا يعني: لم يقدر عليه، عَاجَزَ فلانٌ فلاناً يعني باراه أيُّهما يعجز قبل الآخر، فعاجزه مثل باراه ليثبتَ أنه الأفضل، ومثل: سابقه ونافسه.
إذن: فالمعاجزة مفاعلة ومشاركة، وكلمة نافسه الأصل فيها من النفَس الذي نأخذه في الشهيق، ونُخرِجه في الزفير، والذي به يتأكسد الدم، وتستمر حركة الإنسان، فإن امتنع التنفس يموت؛ لأن الإنسان يصبر على الطعام ويصبر على الماء، لكنه لا يصبر على الهواء ولو لنفَس واحد.
وقد حدثتْ هذه المعاجزة أو المنافسة بين سيدنا عمر وسيدنا العباس رضي الله عنهما: قال عمر للعباس: أتُنافسني في الماء، يعني: نغطس تحت الماء وننظر أيهما يُعجِز الآخر، ويتحمل عملية توقُّف النفَس، ومثل هذه المنافسة قد يحتال عليها الإنسان إنْ كتم نفسَه وهو في جَوِّ الهواء، أما إنْ نزل تحت الماء حيث ينعدم الهواء، فكيف سيحتال على هذه المسألة؟ وتحت الماء لا يكون إلا الهواء الذاتي الذي اختزنه كل منهما في رئته، ومثل هذه المنافسة أيهما أفسح صَدْراً من الآخر، وأيُّهما أكثر تحمُّلاً تحت الماء. هذه هي المعاجزة.
فمعنى } سَعَوْاْ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ.. { [الحج: 51] أي: يظنون أنهم قادرون أن يُعجزونا، فحين نأتي إليهم بكلام بليغ مُعْجز يختلقون كلاماً فارغاً ليعجزونا به، فأنّى يكون لهم ذلك؟ وأنّى لهم أنْ يطعنوا بكلامهم على كلام الله؟
ثم يُبيّن جزاء هذا الفعل وهذه المكابرة: } أُوْلَـائِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ { [الحج: 51] فهذا حُكْم الله فيهم قضية واضحة من أقصر الطرق، فمَنْ ذَا الذي يُعجِز الله؟
ثم يقول الحق سبحانه: } وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّىا أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ.. {
.
(/2627)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)
أثارت هذه الآية جَدلاً طويلاً بين العلماء، ودخل فيه كثير من الحشْو والإسرائيليات، خاصة حول معنى { تَمَنَّى } [الحج: 52] وهي تَرد في اللغة بمعنيين، وما دام اللفظ يحتمل معنيين فليس أحدهما أَوَْلَى من الآخر إلا بمدى استعماله وشيوعه بين جمهور العربية، ويأتي التمني في اللغة بمعنى القراءة، كما ورد في قول حسان بن ثابت في رثاء عثمان بن عفان رضي الله عنهما:تمنَّى كِتابَ الله أوَّلَ لَيْلةٍ وآخِرَهَا وَافَاهُ حَتْم المقَادِرِيعني: قُتِل عثمان وهو يقرأ القرآن، وهذا المعنى غريب في حمَلْ القرآن عليه لعدم شيوعه.
وتأتي تمنى بمعنى: أحب أن يكون الشيء، وهذا هو القول المشهور في لغة العرب. أما بمعنى قرأ فهو غير شائع، ويُردّ هذا القول، وينقضه نَقْضاً أولياً مبدئياً قوله تعالى: { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ.. } [الحج: 52].
ومعلوم أن الرسول ينزل عليه كتاب يمكن أن يقرأه، أمّا النبي فلا ينزل عليه كتاب، بل يعمل بشرع مَنْ سبقه من الرسل. إذن: فما دام الرسول والنبي مشتركْين في إلقاء الشيطان، فلا بُدَّ أن تكون الأمنية هنا بمعنى: أحب أن يكون الشيء، لا بمعنى قرأ، فأيُّ شيء سيقرأ النبي وَليس معه كتاب؟
والذين فهموا التمني في قوله تعالى: { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّىا أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ } [الحج: 52] أنه بمعنى: قرأ، سواء أكانوا من العلماء المتعمِّقين أو السطحيين، قالوا: المعنى إذا قرأ رسولُ الله القرآنَ تدخّل الشيطان في القراءة، حتى يُدخِل فيها ما ليس منها.
وذكروا دليلاً على ذلك في قوله تعالى:{ أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّىا * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَىا }[النجم: 19 -20] ثم أضافوا: والغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى. وكأن الشيطان أدخل في القرآن هذا الكلام، ثم نسخه الله بعد ذلك، وأحكم الله آياته.
لكن هذا القول يُشكِّك في قضية القرآن، وكيف نقول به بعد أن قال تعالى في القرآن:{ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَىا قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ }[الشعراء: 193 - 194].
وقال:{ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ }[الحاقة: 44 - 47].
إذن: الحق سبحانه وتعالى حفظ قرآنه وكلامه من أمثال هذا العبث، وكيف نُدخِل في القرآن هذه الكفريات؟ وكيف تستقيم عبارتهم: والغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى مع قول الله تعالى:{ أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّىا * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَىا * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَىا * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَىا }[النجم: 19 - 22] كيف ينسجم هذا وذاك؟
فهذا الفهم في تفسير الآية لا يستقيم، ولا يمكن للشيطان أنْ يُدخِل في القرآن ما ليس منه، لكن يحتمل تدخُّل الشيطان على وجه آخر: فحين يقرأ رسول الله القرآن، وفيه هداية للناس، وفيه مواعظ وأحكام ومعجزات، أتنتظر من عدو الله أنْ يُخلِي الجو للناس حتى يسمعوا هذا الكلام دون أنْ يُشوِّش عليهم، ويُبلبل أفكارهم، ويَحُول بينهم وبين سماعه؟
فإذا تمنّى الرسول يعني: قرأ ألقى الشيطان في أُمنيته، وسلَّط أتباعه من البشر يقولون في القرآن: سِحْر وشِعْر وإفْك وأساطير الأولين: فدَوْر الشيطان - إذن - لا أنْ يُدخِلَ في كلام الله ما ليس منه، فهذا أمر لا يقدر عليه ولا يُمكِّنه الله من كتابه أبداً، إنما يمكن أنْ يُلقِي في طريق القرآن وفَهْمه والتأثر به العقبات والعراقيل التي تصدُّ الناس عن فَهْمه والتأثر به، وتُفسِد القرآن في نظر مَنْ يريد أن يؤمن به.
لكن، هل محاولة تشويه القرآن هذه وصَدّ الناس عنه جاءت بنتيجة، وصرفتْ الناس فعلاَ عن كتاب الله؟
لقد خيَّبَ الله سَعيْه، ولم تقف محاولاته عقبة في سبيل الإيمان بالقرآن والتأثر به؛ لأن القرآن وجد قلوباً وآذاناً استمعتْ وتأملتْ فآمنت وانهارتْ لجلاله وعظمته وخضعتْ لأسلوبه وبلاغته، فآمنوا به واحداً بعد الآخر.
ثم يقول تعالى: } فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ { [الحج: 52] يعني: ألغى وأبطل ما ألقاه الشيطان من الأباطيل والعقبات التي أراد بها أنْ يصدَّ الناس عن القرآن، وأحكمَ الله آياته، وأوضح أنها منه سبحانه، وأنه كلام الله المعْجز الذي لو اجتمعتْ الإنس والجنُّ على أنْ يأتوا بمثله ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
هذا على قول مَنِ اعتبر أن } تَمَنَّى { [الحج: 52 ] بمعنى: قرأ.
أما على معنى أنها الشيء المحبوب الذي نتمناه، فنقول: الرسول الذي أرسله الله تعالى بمنهج الحق إلى الخَلْق، فإنْ كان قادراً على تطبيق المنهج في نفسه فإنَّ أُمنيته أنْ يُصدَّق وأنْ يُطاع فيما جاء به، أمنيته أنْ يسود َمنهجه ويُسيطر ويسُوس به حركة الحياة في الناس.
والنبي أو الرسول هو أَوْلى الناس بقومه، وهو أحرصهم على نَفْعهم وهدايتهم، والقرآن خير يحب للناس أن يأخذوا به عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ".
لكن، هل يترك الشيطان لرسول الله أنْ تتحقق أُمنيته في قومه أَمْ يضع في طريقه العقبات، ويُحرِّك ضده النفوس، فيتمرّد عليه قومه حيث يُذكِّرهم الشيطان بما كان لهم من سيادة ومكانة سيفقدونها بالإسلام؟
وهكذا يُلْقي الشيطان في أُمنية الرسول } إِلاَّ إِذَا تَمَنَّىا أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ { [الحج: 52] وما كان الشيطان ليدع القرآن ينفذ إلى قلوب الناس أو حتى آذانهم، أليس هو صاحب فكرة:{ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـاذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْاْ فِيهِ.. }[فصلت: 26].
إن الشيطان لو لم يُلْق العراقيل في سبيل سماع القرآن ويُشكّك فيه لآمن به كل مَنْ سمعه؛ لأن للقرآن حلاوةً لا تُقَاوم، وأثراً ينفذ إلى القلوب مباشرة.
ومع ذلك لم يَفُتّ ما ألقى الشيطان في عَضُد القرآن، ولا في عَضُد الدعوة، فأخذت تزداد يوماً بعد يوم، ويزداد عدد المؤمنين بالقرآن المصدِّقين به، المهم أن نتنبه: كيف نستقبل القرآن، وكيف نتلقاه، لا بد أن نستقبله استقبالَ الخالي من هوى، فالذي يفسد الأحكام أنْ تُستقبل وتدخل على هوى سابق.
وسبق أن قلنا: إن الحيز الواحد لا يسع شيئين في وقت واحد، لا بُدَّ أنْ تُخرِج أحدهما لتُدخِل الآخر، فعليك - إذن - أنْ تُخلِي عقلك وفكرك تماماً، ثم تستقبل كلام الله، وابحث فيه كما شئت، فسوف تنتهي إلى الإيمان به شريطة أنْ تُصفِّي له قلبك، فلا تُبق في ذِهْنِك ما يُعكِّر صَفْو الفطرة التي خلقها الله فيك، عندها سيأخذ القرآن طريقه إلى قلبك، فإذا أُشْرِب قلبُك حُبَّ القرآن، فلا يزحزحه بعد ذلك شيء.
ولنا في إسلام سيدنا عمر مثالٌ وعِظَة، فلما سمع القرآن من أخته لأول مرة، وقد أغلق قلبه على كفره لم يتأثر به، وضربها حتى أَدْمى وجهها، وعندها رَقَّ قلبه، وتحركت عاطفته نحو أخته، وكأن عاطفة الحب زحزحتْ عاطفة العداوة، وكشفت عن صفاء طَبْعه، فلما سمع القرآن بعدها آمن به على الفور.
كذلك، إنْ أردت أنْ تناقشَ قضية الإيمان أو الكفر، وأنْ تختار بينهما؛ لأنهما يجتمعان أبداً، ولا بُدَّ أنْ تختار، فحين تناقش هذه القضية وأنت مُصِرٌّ على الكفر فلن تصل إلى الإيمان؛ لأن الله يطبع على القلب المُصِرَّ فلا يخرج منه الكفر، ولا يدخله الإيمان، إنما أخرِجْ الكفر أولاً وتحرّر من أَسْره، ثم ناقش المسائل كما تحب.
كما قال تعالى:{ قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَىا وَفُرَادَىا ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ.. }[سبأ: 46].
أما أنْ تناقش قضية، وفي ذهْنك فكرة مُسبقة، فأنت كهؤلاء الذين قال الله فيهم:{ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىا إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً.. }[محمد: 16] يعني: ما الجديد الذي جاء به، وما المعجزة في هذا الكلام؟ فيأتي الرد:{ أُوْلَـائِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَىا قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُواْ أَهْوَآءَهُمْ * وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ }[محمد: 16 - 17].
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه عن القرآن:{ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى.. }[فصلت: 44].
فالقرآن واحد، لكن المستقبل مختلف، وقد ذكرنا أنك حين تريد أن تبرد كوب الشاي الساخن فإنك تنفخ فيه، وكذلك إنْ أردتَ أنْ تُدفِئ يديك في برد الشتاء فإنك أيضاً تنفخ فيها، كيف - إذن - والفاعل واحد؟ نعم، الفاعل واحد، لكن المستقبل للفعل مختلف.
وقوله تعالى: } مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ { [الحج: 52].
(من) هنا للدلالة على العموم وشمول كل الأنبياء والرسل السابقين، فكل نبي أو رسول يتمنى يعني: يودّ ويحب ويرغب أن ينتشر دينه ويُطبِّق منهجه، ويؤمن به جميع قومه، لكن هيهات أنْ يتركه الشيطان وما أحبَّ، بل لا بُدَّ أنْ يقف له بطريق دعوته ليصدَّ الناس عنه ويصرفهم عن دعوته ومنهجه، لكن في النهاية ينصر الله رسُله وأنبياءه، وينسخ عقبات الشيطان التي ألقاها في طريق الدعوة، ثم يُحكِم الله آياته، ويؤكدها ويظهرها، فتصير مُحْكَمة لا ينكرها أحد.
وساعةَ تسمع كلمة } أَلْقَى { [الحج: 52] فاعلم أن بعدها عقبات وشروراً، كما يقول تعالى:{ وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ إِلَىا يَوْمِ الْقِيَامَةِ }[المائدة: 64].
ومما قاله أصحاب الرأي الأول في تفسير } تَمَنَّى { [الحج: 52] وأنها بمعنى قرأ: يقولون: إن الله تعالى يُنزِل على رسوله صلى الله عليه وسلم أشياء تُثبت بشريته، ثم يمحو الله آثار هذه البشرية ليبين أن الله صنعه على عينه، حتى إنْ همَّتْ بشريته بشيء يعصمه الله منها.
لذلك يقول صلى الله عليه وسلم: " يَرِدُ عليَّ فأقول: أنا لست كأحدكم، ويُؤخذ مِنِّي فأقول: ما أنا إلا بشر مثلكم ".
إذن: فالرسول بشر إلا أنه يوحى إليه ما يعصمه من زلاَّت البشر.
ومن بشريته صلى الله عليه وسلم أنه تعرّض للسحر، وهذه واقعة لا تُنكر، وقد ورد فيها أحاديث صحيحة، وقد كاد الكفار لرسول الله بكل أنواع الكيد: استهزاءٌ، وسباباً، واضطهاداً، وإهانة، ثم تآمروا عليه بليل ليقتلوه، وبيَّتوا له، فلم يفلحوا قال تعالى:{ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ }[الأنفال: 30].
وكاد الله لرسوله وأخرجه من بينهم سالماً، وهكذا فضح الله تبييتهم وخيّب سَعْيهم، وفشلَتْ محاولاتهم الجهرية والسرية فلجئوا إلى السحرة ليفعلوا برسول الله ما عجزوا هم عنه، وعملوا لرسول الله سحراً في مُشْطٍ ومُشَاطة من شعره صلى الله عليه وسلم وطلع نخلة ذكر ففضحهم الله، وأخبر رسوله بذلك فأرسل الإمام علياً فأتى به من بئر ذروان.
وكأن الحق سبحانه يريد أنْ يُبيِّن لنا بشرية الرسول، وأنه يجري عليه ما يجري على البشر، لكن ربه لا يترك بشريته وحدها، وإنما يعصمه بقيوميته.
وهذا المعنى هو ما قصده أصحاب الرأي الأول: أن الرسول يطرأ عليه ما يطرأ على البشر العادي، لكن تتدخّل السماء لتعصمه ونحن نختار الرأي الآخر الذي يقول أن تمنى بمعنى ودَّ وأحب.
ثم تختتم الآية بقوله تعالى: } وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ { [الحج: 52] عليم بكيد الشيطان، وتدبيره، حكيم في علاج هذا الكيد.
(/2628)
لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53)
ولسائل أن يقول: إذا كان الله تعالى ينسخ ما يُلقي الشيطان، فلماذا كان الإلقاءُ بدايةً؟
جعل الله الإلقاء فتنةً ليختبر الناس، وليُميِّز مَنْ ينهض بأعباء الرسالة، فهي مسئولية لا يقوم بها إلا مَنْ ينفذ من الفتن، وينجو من إغراءات الشيطان، ويتخطى عقباته وعراقيله؛ لذلك قال تعالى عنهم:{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ }[آل عمران: 110].
وما تبوأتُم هذه المنزلة إلا لأنكم أهلٌ لحمْل هذه الأمانة، تمرُّ بكم الفتن فتهزأون بها ولا تزعزعكم؛ لذلك قال تعالى: { لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } [الحج: 53] أي: نفاق، فإنْ تعرَّض لفتنة انقلب على وجهه. يقول كما يقولون: سحر وكذب وأساطير الأولين.
وكذلك فتنة { وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ } [الحج: 53] وهم الذين فقدوا لين القلب، فلم ينظروا إلى الجميل عليهم في الكون خَلْقاً وإيجاداً وإمداداً، ولم يعترفوا بفضل الله عليهم، ولم يستبشروا به ويأتوا إليه.
ونحن نلحظ الولد الصغير يأنس بأمه وأبيه، ويركن إليهما؛ لأنه ذاق حنانهما، وتربَّى في رعايتهما، فإنْ ربَّته مثلاً المربية حتى في وجود أمه فإنه يميل إليها، ويألف حضنها، ولا يلتفت لأمه، لماذا؟ لأنه نظر إلى الجميل، من أين أتاه، ومَنْ صاحب الفضل عليه فرقَّ له قلبه، بصرف النظر مَنْ هو صاحب الجميل.
فهؤلاء طرأوا على كَوْن الله، لا حَوْلَ لهم ولا قوة، فاستقبلهم بكل ألوان الخير، ومع ذلك كانت قلوبهم قاسيةً مُتحجِّرة لا تعترف بجميل.
ثم يقول سبحانه: { وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } [الحج: 53] فهم ظالمون أولاً لأنفسهم حين نظروا إلى منفعة عاجلة قليلة، وتركوا منفعة كبيرة دائمة. والشِّقاق: الخلاف، ومنه قولنا: هذا في شِقٍّ، وهذا في شِقٍّ، يعني: غير ملتئمين، وليْته شِقَاق هَيِّن يكون له اجتماع والتئام، ليته كشِقَاق الدنيا بين الناس على عَرَضٍ من أعراض الحياة، إنما هم في شقاق بعيد. يعني: أثره دائم، وأثره فظيع.
إذن: العلة الأولى لما يُلقِي الشيطان أن يكون فتنة. أما العلة الثانية ففي قوله تعالى: { وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ.. }
.
(/2629)
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)
قوله تعالى: { وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ } [الحج: 54] يعني: يتأكدوا تأكيداً واضحاً أن هذا هو الحق، مهما شوَّشَ عليه المشوِّشُون، ومهما قالوا عنه: إنه سحر، أو كذب، أو أساطير الأولين؛ لأن الله سيُبطل هذا كله، وسيقف أهل العلم والنظر على صِدْق القرآن بما لديهم من حقائق ومقدمات واستدلالات يعرفون بها أنه الحق.
وما دام هو الحق الذي لم تزعزعه هذه الرياح الكاذبة فلا بُدّ أن يؤمنوا به { فَيُؤْمِنُواْ بِهِ } [الحج: 54] ثم يتبع هذا الإيمان عملٌ وتطبيق { فَتُخْبِتَ لَهُ } [الحج: 54] يعني: تخشع وتخضع وتلين وتستكين.
ثم يقول سبحانه: { وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِلَىا صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [الحج: 54].
فمسألة كيد الشيطان وإلقائه لم تنته بموت الرسول، بل هو قاعد لأمته من بعده؛ فالشيطان يقعد لأمة محمد كلها، ولكل مَنْ حمل عنه الدعوة.
يقول تعالى:{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىا بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ }[الأنعام: 112].
يعني: دعهم جانباً فالله لهم بالمرصاد، فلماذا - إذن - فعلوه؟ وما الحكمة؟ يقول تعالى:{ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ.. }[آل عمران: 141].
وقال:{ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ }[الأنعام: 113]
فمهمة الشيطان أنْ يستغلّ ضعاف الإيمان، ومَنْ يعبدون الله على حرف من أصحاب الاحتجاجات التبريرية الذين يريدون أنْ يبرروا لأنفسهم الانغماس في الشهوة والسير في طريق الشيطان، وهؤلاء يحلو لهم الطعن في الدين، ويتمنون أن يكون الدين والقيامة والرب أوهاماً لا حقيقة لها، لأنهم يخافون أن تكون حقيقة، وأن يتورطوا بأعمالهم السيئة ونهايتهم المؤلمة، فهم - إذن - يستبعدون القيامة ويقولون:{ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ }[الصافات: 16].
لماذا؟ لأنه يريد أنْ يبرر سلوكه، إنه يريد أنْ يُخرِج نفسه من ورطة، لا مخرج منها، وهؤلاء يتبعون كل ناعق، ويجْرُون وراء كل شبهة في دين الله يتلقفونها ويرددونها، ومرادهم أن يهدموا الدين من أساسه.
نسمع من هؤلاء المسرفين على أنفسهم مثلاً مَنْ يعترض على تحريم الميتة وأكل الذبيحة، وهذا دليل على خميرة الشرك والكفر في نفوسهم، ولهم حجج واهية لا تنطلي إلا على أمثالهم من الكفرة والمنافقين، وهذه مسألة واضحة، فالموت غير القتل، غير الذبح.
الموت: أن تخرج الروح أولاً دون نَقْض بِنْية الجسم، وبعد خروج الروح ينقض بناء الجسد، أما القتل فيكون بنقض البنية أولاً، ويترتب على نَقْض البنية خروج الروح، كأن يُضرب الإنسان أو الحيوان على رأسه مثلاً، فيموت بعد أنْ اختلّ مخه وتهشَّم، فلم يعُدْ صالحاً لبقاء الروح فيه.
يقول تعالى:{ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ.. }
[آل عمران: 144] إذن: فالموت غير القتل.
وقد مثَّلْنا لذلك بضوء الكهرباء الذي نراه، والذي يسري في الأسلاك، ويظهر أثره في هذه اللمبات، نحن لا نعرف حتى الآن كُنْه هذه الكهرباء وماهية هذا الضوء، إنما نراه وننعَم به، فإذا ما كُسِرت هذه اللمبة ينطفئ النور؛ لأنها لم تعُدْ صالحة لاستقبال هذا النور، رغم أنه موجود في الأسلاك، إذن: لا يظهر نور الكهرباء إلا في بنية سليمة لهذا الشكل الزجاجي المفرَّغ من الهواء.
كذلك الروح لا تسكن الجسم، ولا تبقى فيه إلا إذا كانت له مواصفات معينة، فإن اختلَّتْ هذه المواصفات خرجتْ الروح من الجسد.
أما الذبح فهو أيضاً إزهاق روح، لكن بأمر الله خالقها وبرخصة منه سبحانه، كأن يُقتلَ إنسان في قصاص، أو في قتال مشروع، أو نذبح الحيوان الذي أحلَّه الله لنا وأمرنا بذبحه، ولولا أمْر الله بذبحه ما ذبحناه، ولولا أحلَّه ما أكلناه، بدليل أننا لا نأكل ما لم يحِل لنا من الحيوانات الأخرى.
والذين يجادلون في عملية الذَّبْح الشرعية، ويُزهقون أرواح الحيوان بالخنق مثلاً غفلوا عن الحكمة من الذبح: الذبح إراقة للدم، وفي الدم مواد ضارة بالإنسان يجب أن يتخلص منها بتصفية دم ذبيحته؛ لأن بها كمية من الدم الفاسد الذي لم يمرّ على الكلية لتنقيه.
فالمسلم حريص على أن يحمل منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحريص على أن يسود هذا المنهج حركة الحياة، لكن لن يدَعَه الشيطان يُحقِّق هذه الأمنية، كما لم يدع رسوله صلى الله عليه وسلم من قبل، فكيْده وإلقاؤه لم ينتهِ بموت الرسول، وإنما هو بَاقٍ، وإلى أنْ تقومَ الساعة.
لذلك يقول تعالى في الآية بعدها: } وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى.. {
.
(/2630)
وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)
قوله: { فِي مِرْيَةٍ } [الحج: 55] يعني: في شك من هذا، لذلك قلنا: إن أتباع رسوله صلى الله عليه وسلم مُكلَّفون من الله بأنْ يكونوا امتداداً لرسالته:{ لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً.. }[البقرة: 143] شهداء أنكم بلَّغتم كما كان الرسول شهيداً عليكم، فكلٌّ مِنَّا كأنه مبعوث من الله، وكما شهد رسول الله عليه أنه أبلغه، كذلك هو يشهد أنه بلَّغ من بعد رسول الله؛ لذلك جاءت هذه الآية للأمرين ليكون الرسول شهيداً عليكم، وتكونوا شهداء على الناس.
والحق - سبحانه وتعالى - حينما حمَّلنا هذه الرسالة قال: ما دُمْتم امتداداً لرسالة الرسول، فلا بُدَّ أنْ تتعرَّضوا لما تعرَّض له الرسول من استهزاء وإيذاء وإلقاء في أمنياتكم، فإنْ صمدتم فإن الله تعالى ينسخ ما يُلقي الشيطان، وينصر في النهاية أولياءه، وسيظل الإسلام إلى أنْ تقوم الساعة، وسيظل هناك أناس يُعَادُون الدين ويُشكِّكون فيه، وسيظل الملحدون الذين يُشكِّكون الناس في وجود الله يخرجون علينا من حين إلى آخر بما يتناقض ودين الله كقولهم: إن هذا الكون خُلِق بالطبيعة، وترى وتسمع هذا الكلام في كتاباتهم ومقالاتهم.
ولم يَسْلم العلم التجريبي من خرافاتهم هذه، فإنْ رأوا الحيوان منسجماً مع بيئته قالوا: لقد أمدته الطبيعة بلون مناسب وتكوين مناسب لبيئته.
وفي النبات حينما يقفون عند آية من آياته مثلاً:{ يُسْقَىا بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىا بَعْضٍ فِي الأُكُلِ.. }[الرعد: 4] يقولون: إن النبات يتغذى بعملية الانتخاب، يعني النبات هو الذي ينتخب ويختار غذاءه، ففي التربة الواحدة وبالماء الواحد ينمو النبات الحلو والمر والحمضي والحريف، فبدل أنْ يعترفوا لله تعالى بالفضل والقدرة يقولون: الطبيعة وعملية الانتخاب.
وقد تحدثنا مع بعض هؤلاء في فرنسا، وحاولنا الرد عليهم وإبطال حججهم، وأبسطها أن عملية الانتخاب تحتاج إلى إرادة واعية تُميِّز بين الأشياء المنتخبة، فهل عند النبات إرادة تُمكِّنه من اختيار الحلو أو الحامض؟ وهل يُميز بين المرِّ والحريف؟
إنهم يحاولون إقناع الناس بدور الطبيعة ليبعدوا عن الأذهان قدرة الله فيقولون: إن النبات يتغذّى بخاصية الأنابيب الشعرية يعني: أنابيب ضيقة جداً تشبه الشعرة فسميت بها ، ونحن نعرف أن الشعرة عبارة عن أنبوبة مجوفة. وحين تضع هذه الأنبوبة الضيقة في الماء، فإن الماء يرتفع فيها إلى مستوى أعلى؛ لأن ضغط الهواء داخل هذه الأنبوبة لضيقها أقلّ من الضغط خارجها لذا يرتفع فيها الماء، أما إنْ كانت هذه الأنبوبة واسعة فإن الضغط بداخلها سيساوي الضغط خارجها، ولن يرتفع فيها الماء.
فقُلْنا لهم: لو أحضرنا حوضاً به سوائل مختلفة، مُذَاب بعضها في بعض، ثم وضعنا به الأنابيب الشَّعْرية، هل سنجد في كل أنبوبة سائلاً معيناً دون غيره من السوائل، أم سنجد بها السائل المخلوط بكل عناصره؟
لو قمتَ بهذه التجربة فستجد السائل يرتفع نعم في الأنابيب بهذه الخاصية، لكنها لا تُميِّز بين عنصر وآخر، فالسائل واحد في كل الأنابيب، وما أبعد هذا عن نمو النبات وتغذيته.
وصدق الله حين قال:{ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىا * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىا }[الأعلى: 2 - 3].
إذن: ما أبعدَ هذه التفسيرات عن الواقع! وما أجهلَ القائلين بها والمروِّجين لها! خاصة في عصر ارتقى فيه العلم، وتقدّم البحث، وتنوَّعت وسائلة في عصر استنارتْ فيه العقول، واكتُشِفت أسرار الكون الدالة على قدرة خالقه عز وجل، ومع ذلك لا يزال هناك مبطلون.
والحق سبحانه وتعالى يقول: } وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّىا تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً.. { [الحج: 55].
فهم - إذن - موجودون في أمة محمد إلى أنْ تقومَ الساعة، وسنواجههم نحن كما واجههم رسول الله، وسيظل الشيطان يُلقِي في نفوس هؤلاء، ويوسوس لهم، ويوحي إلى أوليائه من الإنس والجن، ويضع العقبات والعراقيل ليصدَّ الناس عن دين الله. هذا نموذج من إلقاء الشيطان في مسألة القمة، وهي الإيمان بالله.
كما يُلقِي الشيطان في مسألة الرسول، فنجد منهم مَنْ يهاجم شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف وهو الأميّ يقود أمة ويتهمونه ويخوضون في حقِّه، وفي مسألة تعدُّد زوجاته صلى الله عليه وسلم..الخ مِمّا يُمثِّل عقبة في سبيل الإيمان به صلى الله عليه وسلم.
ونعجب لهجوم هؤلاء على رسول الله طالما هم كافرون به، إن هذا الهجوم يحمل في طياته إيماناً بأنه رسول الله، وإلا لَمَا استكثروا عليه ولَمَا انتقدوه، فلو كان شخصاً عادياً ما تعرَّض لهذه الانتقادات.
لذلك لا تناقش مثل هؤلاء في مسألة الرسول، إنما في مسألة القمة، ووجود الإله، ثم الرسول المبلِّغ عن هذا الإله، أمّا أنْ تخوض معهم في قضية الرسول بدايةً فلن تصلَ معهم إلى حَلٍّ؛ لأنهم يضعون مقاييس الكمال من عندهم، ثم يقيسون عليها سلوكيات رسول الله، وهذا وَضْع مقلوب، فالكمال نأخذه من الرسول ومن فِعْله، لا نضع له نحن مقاييس الكمال.
ثم يُشكِّكون بعد ذلك في الأحكام، فيعترضون مثلاً على الطلاق في الإسلام، وكيف نفرق بين زوجين؟ وهذا أمر عجيب منهم فكيف نجبر زوجين كارهين على معاشرة لا يَبْغُونها، وكأنهما مقترنان في سلسلة من حديد؟ كيف وأنت لا تستطيع أنْ تربط صديقاً بصديق لا يريده، وهو لا يراه إلا مرة واحدة في اليوم مثلاً؟ فهل تستطيع أن تربط زوجين في مكان واحد، وهما مأمونان على بعض في حال الكراهية؟
ويُخيِّب الله سَعْيهم، ويُظهر بطلان هذه الأفكار، وتُلجِئهم أحداث الحياة ومشاكلها إلى تشريع الطلاق، حيث لا بديلَ عنه لحلِّ مثل هذه المشاكل.
وقد ناقش هؤلاء كثيراً في قوله تعالى:
{ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىا وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ }[التوبة: 33].
وفي قوله:{ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ }[الصف: 8]{ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ }[الصف: 9].
يقولون: ومع ذلك لم يتم الدين، ولا يزال الجمهرة العالمية في الدنيا غَيْر مؤمنين بالإسلام، يريدون أنْ يُشكِّكوا في كتاب الله. وهذا القول منهم ناشيء عن عدم فَهْم للآية، ولمعنى{ لِيُظْهِرَهُ }[التوبة: 33] فهي لا تعني أن ينتصر الإسلام على كل ما عداه انتصاراً يمحو المخالفين له.
إنما يُظهِره يعني: يكتب له الغلبة بصدق حُجَجه وقضاياه على كُرْه من الكافرين والمشركين، فهم - إذن - موجودون، لكن يظهر عليهم، ويعلو دين الإسلام، ويضطرون هم للأخذ بقوانينه وتشريعاته حَلاً لمشاكلهم، وكَوْنهم يتخذون منه حلاً لمشاكلهم وهم كافرون به أبلغ في الردِّ عليهم لو آمنوا به، فلو آمنوا بالإسلام ما كان ليظهر عليهم ويعلوهم.
فما كنتم تُشكِّكون فيه وتقولون إنه ما كان يصدر من إله ولا رسول، فها هي الأيام قد عضّتكم بأحداثها وتجاربها وألجأتكم إلى هذا الحكم الذي تعارضونه، وها أنتم تُشرِّعون بتشريع الإسلام وأنتم كافرون به، وهذا دليل ظهوره عليكم.
ومعنى } حَتَّىا تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً { [الحج: 55] يعني: فجأة، وقد تكلَّم العلماء في معنى الساعة: أهي يوم القيامة، أم يوم يموت الإنسان؟ الساعة تشمل المعنيين معاً، على اعتبار أن مَنْ مات فقد قامت قيامته حيث انقطع عمله، وموت الإنسان يأتي فجأة، كما أن القيامة تأتي فجأة، فهما - إذن - يستويان.
لكن، إنْ كانت الساعة بغتة تفجؤهم بأهوالها، فما العلامات الصُّغْرى؟ وما العلامات الكبرى؟ أليست مقدمات تأذن بحلول الساعة، وحينئذ لا تُعَدُّ بغتة؟ قالوا: علامات الشيء ليست هي إذن وجودة، العلامة تعني: قُرْب موعده فانتبهوا واستعِدُّوا، أما وقت حدوثه فلا يعلمه أحد، ولا بُدَّ أنْ يأتي بغتة رغم هذه المقدمات.
ثم يقول الحق تعالى: } أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ { [الحج: 55] البعض اعتبر: } عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ { [الحج: 55] يعني القيامة، وبالتالي فالساعة تعني الموت، وآخرون يقولون: } عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ { [الحج: 55] المراد يوم بدر الذي فصل الله فيه بين الحق والباطل.
وهذا اجتهاد يُشْكرون عليه، لكن لما نتأمل الآية: } وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ { [الحج: 55] يعني: المرية مستمرة، لكن بدراً انتهت، المرية ستظل إلى أن تقوم الساعة.
ولا مانعَ أن تكون الساعة بمعنى القيامة، واليوم العقيم أيضاً هو يوم القيامة، فيكون المدلول واحداً، لأن هناك فرقاً بين زمن الحدث والحدث نفسه، فالساعة هي زمن يوجد فيه الحدث وهو العذاب، فالساعة أولاً ثم يأتي العذاب، مع أن مجرد قيام الساعة في حَدِّ ذاته عذاب.
ومعنى } عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ { [الحج: 55] العقيم: الذي لا يلد، رجل كان أو امرأة، فلا يأتي بشيء بعده، ومنه قوله تعالى عن سارة امرأة إبراهيم عليه السلام:
{ عَجُوزٌ عَقِيمٌ }[الذاريات: 29] وكذلك يوم القيامة يوم عقيم، حيث لا يوم بعده أبداً، فهي نهاية المطاف على حَدِّ قول أحدهم: حَبَتْهُم به الدنيا وأدركَها العُقْم.
أو{ عَقِيمٌ }[الذاريات: 29] بمعنى: أنها لا تأتي بخير، بل بشرٍّ، كما في قوله تعالى:{ وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ }[الذاريات: 41 - 42].
ذلك لأن الريح حين تهبُّ ينتظر منها الخير، إما بسحابة مُمطرة، أو تحريك لقاح الذكورة بالأنوثة{ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ }[الحجر: 22] أما هذه فلا خَيْر فيها، ولا طائل منها، ولتها تقف عند عدم النفع، ولكن تتعدَّاه إلى جَلْب الضُّر{ مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ }[الذاريات: 42] فهي تدمر كل شيء تمرُّ عليه.
وكما جاء في قوله سبحانه:{ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هَـاذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأْصْبَحُواْ لاَ يُرَىا إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ }[الأحقاف: 24 - 25].
فالمعنى - إذن - } عَقِيمٍ { [الحج: 55] لا خيرَ فيها ولا نفع، بل فيها الشر والعذاب، أو عقيم يعني: لا يأتي يوم بعده؛ لأنكم تركتم دنيا الأغيار، وتقلّب الأحوال حال بعد حال، فالدنيا تتقلَّب من فقر إلى غنى، ومن صحة إلى مرض، ومن صِغَر إلى كِبَر، ومن أَمْن إلى خوف، وتتحول من صيف إلى شتاء، ومن حر إلى برد، ومن ليل إلى نهار.. وهكذا.
أما في الآخرة فقد انتقلتم مِن عالم الأغيار الذي يعيش بالأسباب إلى عالم آخر يعيش مع المسبِّب سبحانه، وإلى يوم آخر لا يومَ بعده، كأنه عَقِم أن يكون له عَقِب من بعده أو مثيل له، كما لو حضرتَ حفلاً مثلاً قد استكمل ألوان الكمال والنعم، فتقول: هذا حدث لا يتكرر يعني: عقيم لا يأتي بعده مثله.
وإذا كنتَ في الدنيا تعيش بالأسباب التي خلقها الله لك، فأنت في الآخرة ستجلس مستريحاً تتمتع بالمسبِّب عَزَّ وجَلَّ، ويكفي أن يخطر الشيء ببالك، فتراه بين يديك؛ ولأن القيامة لا أغيارَ فيها ولا تقلّب، فسيظل الجميع كلٌّ على حاله في سِنٍّ واحدة، لا يشيب ولا يهرم، ولا يمرض ولا يموت.
ألاَ ترى إلى قوله تعالى في نساء الجنة:{ إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً * لأَصْحَابِ الْيَمِينِ }[الواقعة: 35 - 38].
والكاره لزوجته في الدنيا لأنها كانت تتعبه نقول له: لا تقِسْ زوجة الدنيا بزوجة الآخرة؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول:{ لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ }[النساء: 57].
أي: مطهرة من كل ما كنتَ تكرهه فيها في الدنيا شكلاً وطَبْعاً وخُلقاً، فأنت الآن في الآخرة التي لا يعكر نعيمها كَدَر.
ثم يقول الحق سبحانه: } الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ.. {
.
(/2631)
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56)
ولقائل أنْ يقول: أليس الملْك لله يومئذ، وفي كل يوم؟ نعم، الملْك لله في الدنيا وفي الآخرة، لكن في الدنيا خلق الله خَلْقاً وملّكهم، وجعلهم ملوكاً من باطن مُلْكه تعالى، لكنه مُلْك لا يدوم، كما قال سبحانه:{ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىا كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }[آل عمران: 26].
إذن: ففي الدنيا ملوك مَلّكهم الله أمراً من الأمور، ففيها ملك للغير، أمّا في الآخرة فالملْك لله تعالى وحده:{ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ }[غافر: 16].
وفي القيامة { الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ.. } [الحج: 56] فقد رَدَّ الملْك كله إلى صاحبه، ورُدَّت الأسباب إلى مُسبِّبها.
ومعنى { يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ.. } [الحج: 56] أن هناك خصومةً بين طرفين، أحدهما على حق، والآخر على باطل، والفَصْل في خصومات الدنيا تحتاج إلى شهود، وإلى بينة، وإلى يمين فيقولون في المحاكم: البينة على المدَّعي واليمين على مَنْ أنكر، هذا في خصومات الدنيا، أما خصومات الآخرة فقاضيها الحق - سبحانه وتعالى - الذي يعلم السرَّ وأخفى، فلا يحتاج إلى بينة ولا شهود ولا سلطة تُنفِّذ ما حكم به.
محكمة الآخرة لا تحتاج فيها إلى مُحامٍ، ولا تستطيع فيها أنْ تُدلِّس على القاضي، أو تُؤجِّر شاهد زور، لا تستطيع في محكمة الآخرة أن تستخدم سلطتك الزمنية فتنقض الحكم، أو تُسقطه؛ لأن الملْك يومئذ لله وحدة، والحكم يومئذ لله وحدة، هو سبحانه القاضي والشاهد والمنفِّذ، الذي لا يستدرك على حكمه أحد.
وما دام هناك حكومة، فلا بُدَّ أن تسفر عن محكوم له ومحكوم عليه، ويُوضِّحهما قوله تعالى: { فَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ } [الحج: 56].
وهؤلاء هم الفائزون الذين جاء الحكم في صالحهم.
(/2632)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57)
وهؤلاء هم الجبابرة وأصحاب السيادة في دنيا الكفر والعناد، والذين حكم الله عليهم بالعذاب الذي يُهينهم بعد عِزَّتهم وسلطانهم في الدنيا، وتلحظ أن العذاب يُوصَف مرة بأنه أليم، ومرة بأنه عظيم، ومرة بأنه مُهين.
فالعذاب الأليم الذي يُؤلم صاحبه، لكنه قد يكون لفترة ثم ينتهي، أما العذاب العظيم فهو الدائم، والمهيمن هو الذي يُذِله ويدوس كرامته التي طالما اعتز بها. وأنت تجد الناس يختلفون في تقبُّل ألوان العذاب: فمنهم مَنْ لا يؤثر فيه الضرب الموجع ولا يحركه، لكن تؤلمه كلمة تجرح عِزَّته وكرامته. لذلك جاء العذاب هكذا ألواناً؛ ليستوعب كل صنوف الملَكات النفسية، ويواجه كُلَّ نفس بما يؤلمها.
ثم تكلم الحق سبحانه عن أمر كان لا بُدَّ أن نعرفه، فالمسلمون الأوائل في مكة أُخرِجوا من ديارهم وأبنائهم وأموالهم لأنهم قالوا: ربنا الله، ولا شَكَّ أن للوطن وللأهل والبيئة التي نشأ فيها المرء أثراً في ملكات نفسه، لا يمكن أنْ يُمحَى بحال، فإنْ غاب عنه اشتاق إليه وتمنَّى العودة، وكما يقول الشاعر:بَلَدِي وَإنْ جَارَتْ عليَّ عَزيزَةٌ أَهْلِي وإنْ ضَنُّوا عليَّ كِرَامُلذلك، فطالب العالم عندما يترك بلده إلى القاهرة يقولون: لا بُدَّ له أنْ يرجع، ولو أن تعضَّه الأحداث والشدائد، فيعود ليطلب من أهله العون والمساعدة، أو حتى يعود إليها في نهاية المطاف ليدفنوه في تراب بلده.
وقالوا: إن سيدنا سليمان - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - لما تفقَّد الطير{ فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَآئِبِينَ * لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ }[النمل: 20 - 21].
ذلك لأنه نبي، فالمسألة ليستْ جبروتاً وتعذيباً، دون أن يسمع منه. وقالوا: إن الطير سأل سليمان: كيف يعذب الهدهد؟ قال: أضعه في غير بني جنسه، وفي غير المكان الذي يألفه، يعني: في غير موطنه.
يقول تعالى: { وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُواْ أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً.. }
.
(/2633)
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58)
وفي موضع آخر يقول تعالى:{ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا اللَّهُ }[الحج: 40] هؤلاء تحملوا الكثير ، وتعبوا في سبيل عقيدتهم، فلا بُدَّ أنْ يُعوِّضهم الله عن هذه التضحيات، لذلك يقول هنا: { وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُواْ أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً } [الحج: 58] وأوضحنا أن الموت غير القتل: الموت أن تخرج الروح دون نَقْضٍ للبنية، أما القتل فهو نَقْض للبِنْية يترتب عليه خروج الروح.
{ لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً.. } [الحج: 58] تعويضاً لهم عَمَّا فاتوه في بلدهم من أهل ومال، كما يُعوّض الحاكم العادل المظلوم فيعطيه أكثر ممَّا أُخِذ منه؛ لذلك يقول سبحانه في موضع آخر:{ وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ اللَّهِ.. }[النساء: 100].
لأن مَنْ قُتِل فقد فاز بالشهادة ونال إحدى الحُسنْيين، أما مَنْ مات فقد حُرِم هذا الشرف؛ لذلك فقد وقع أجره على الله، وما بالك بأجر مُؤدِّيه ربك عز وجل؟ وكما لو أن رجلاً مُتْعباً يسير ليس معه شيء ولا يجد حتى مَنْ يقرضه، وفجأة سقطت رِجْله في حفرة فتكَّدر وقال: حتى هذه؟! لكن سرعان ما وجد قدمه قد أثارتْ شيئاً في التراب له بريق، فإذا هو ذهب كثير وقع عليه بنفسه.
ويُروْى أن فضالة حضرهم وهم يدفنون شهيداً، وآخر مات غير شهيد، فرأوْه ترك قبر الشهيد وذهب إلى قبر غير الشهيد، فلما سألوه: كيف يترك قبر الشهيد إلى غير الشهيد؟ قال: والله ما أبالي في أيِّ حفرة منهما بُعثْت ما دام قد وقع أجري على الله، ثم تلا هذه الآية:{ وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ اللَّهِ.. }[النساء: 100].
ثم يقول سبحانه: { وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } [الحج: 58] حين يصف الحق سبحانه ذاته بصفة، ثم تأتي بصيغة الجمع، فهذا يعني أن الله تعالى أدخل معه الخَلْق في هذه الصفة، كما سبق أنْ تكلمنا في قوله تعالى:{ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ }[المؤمنون: 14].
فقد أثبت للخَلْق صفة الخَلْق، وأشركهم معه سبحانه في هذه الصفة؛ لأنه سبحانه لا يبخس عباده شيئاً، ولا يحرمهم ثمرة مجهودهم، فكل مَنْ أوجد شيئاً فقد خلقه، حتى في الكذب قال{ وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً.. }[العنكبوت: 17].
لأن الخَلْق إيجاد من عدم، فأنت حين تصنع مثلاً كوب الماء من الزجاج أوجدتَ ما لم يكن موجوداً، وإن كنت قد استخدمت المواد المخلوقة لله تعالى، وأعملتَ فيها عقلك حتى توصلْتَ إلى إنشاء شيء جديد لم يكُنْ موجوداً، فأنت بهذا المعنى خالق حسن، لكن خلق ربك أحسن، فأنت تخلق من موجود، وربك يخلق من عدم، وما أوجدتَه أنت يظل على حالته ويجمد على خلْقتك له، ولا يتكرر بالتناسل، ولا ينمو، وليست فيه حياة، أما خَلْق ربك سبحانه فكما تعلم.
كذلك يقول سبحانه هنا: } وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ { [الحج: 58] فأثبت لخَلْقه أيضاً صفة الرزق، من حيث هم سَبَب فيه، لأن الرزق: هو كل ما ينتفع به حتى الحرام يُعَدُّ رزقاً؛ لذلك قال تعالى:{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ.. }[البقرة: 172].
نقول: فالعبد سبب في الرزق؛ لأن الله تعالى هو خالق الرزق أولاً، ثم أعطاك إياه تنتفع به وتعمل فيه، وتعطي منه للغير، فالرزق منك مناولة عن الرازق الأول سبحانه، فأنت بهذا المعنى رازق وإنْ كرهوا أنْ يُسمَّي الإنسان رازقاً، رغم قوله تعالى: } وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ { [الحج: 58] لماذا؟ قالوا: حتى لا يفهم أن الرزق من الناس.
لذلك نسمع كثيراً من العمال البسطاء، أو موظفاً صغيراً، أو بواب عمارة مثلاً حين يفصله صاحب العمل، يقول له: يا سيدي الأرزاق بيد الله. كيف وقد كنت تأخذ راتبك من يده ومن ماله؟ قالوا: لأنه نظر إلى المناوِل الأول للرزق، ولم ينظر إلى المناوِل الثاني.
أما الرزق الحسن الذي أعدَّه الله للذين هاجروا في سبيله، فيوضحه سبحانه في قوله: } لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ.. {
.
(/2634)
لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)
لأن الرزق قد يكون حسناً لكنه لا يُرضِي صاحبه، أما رزق الله لهؤلاء فقد بلغ رضاهم، والرضا: هو اقتناع النفس بشيء تجد فيه متعة، بحيث لا تستشرف إلى أعلى منه، ولا تبغي أكثر من ذلك.
لذلك بعد أنْ ينعَم أهل الجنة بنعيمها، مِمَّا لا عَيْنٌ رأتْ، ولا أذن سمعتْ، ولا خطر على قلب بشر، بعدها يتجلَّى الحق - سبحانه - عليهم فيقول لعباده المؤمنين: يا عبادي أرضيتم؟ فيقولون: وكيف لا نرضى وقد أعطيْتنا ما لم تُعْطِ أحداً من العالمين؟ قال: ألا أعطيكم أفضل من هذا؟ قالوا: وهل شيء أفضل مما نحن فيه؟ قال: نعم، أُحِلُّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً.
ومن ذلك قوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:{ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىا }[الضحى: 5].
وقوله تعالى:{ ياأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىا رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً }[الفجر: 27 - 28].
يبالغ في الرضا، حيث يتعداك الرضا إلى أن تكون عيشتك نفسها راضية، وكأنها تعشقك هي، وترضى بك.
ثم يقول سبحانه: { وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ } [الحج: 59].
عليم: بما يستحقه كل إنسان عند الحساب من النعيم، ثم يزيد مَنْ يشاء من فضله، فليس حساب ربك في الآخرة كحسابكم في الدنيا، إنما حسابُه تعالى بالفضل لا بالعدل.
وحليم: يحلم على العبد إنْ أساء، ويتجاوز للصالحين عن الهَفَوات، فإنْ خالط عملك الصالح سوء، وإنْ خالفت منهج الله في غفلة أو هفوة، فلا تجعل هذا يعكر صفو علاقتك بربك أو يُنغِّص عليك طمأنينة حياتك؛ لأن ربك حليم سيتجاوز عن مثل هذا على حَدِّ قولهم (حبيبك يبلع لك الزلط).
لذلك " لما وَشَى أحد المؤمنين للكفار في فتح مكة، وهَمَّ عمر أن يقتله فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: افعلوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم ".
ويكفي أنهم خرجوا بأنفسهم واقتحموا معركة غير متكافئة في العدد والعُدَّة، ألا نذكر لهم هذا الموقف؟ ألم يقل الحق سبحانه:{ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ.. }[هود: 114] ومَنِ ابتُلِي بشيء يضعف أمامه، فليكن قوياً فيما يقدر عليه، وإنْ غلبك الشيطان في باب من أبواب الشر فشمِّر له أنت في أبواب الخير، فإن هذا يُعوِّض ذاك.
ثم يقول الحق سبحانه: { ذالِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ.. }
.
(/2635)
ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)
{ ذالِكَ } [الحج: 60] يعني: هذا الأمر الذي تحدثنا فيه قد استقر، وإليك هذا الكلام الجديد { وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ.. } [الحج: 60].
الحق - سبحانه وتعالى - خلق الإنسان وجعل فيه ملكات مختلفة ليؤدي خلافته في الأرض بحركات متوازنة، فخلق لنا عواطف وجعل لها مهمة، هذه العواطف لا يحكمها قانون. وخلق لنا أيضاً غرائز ولها مهمة، لكن محكومة بقانون تعلية الغرائز عند الخلق، فإياك أنْ تتعدى بغريزتك إلى غير المهمة التي خلقها الله لها.
فمثلاً، غريزة حب الطعام جعلها الله فيك لاستبقاء الحياة، فلا تجعلها غرضاً أصيلاً لذاتها، فتأكل لمجرد أنْ تلتذَّ بالأكل؛ لأنها لذة وقتية تعقبها آلام ومتاعب طويلة. وهذه الغريزة جعلها الله في النفس البشرية منضبطة تماماً كما تضبط المنبّة مثلاً، فحين تجوع تجد نفسك تاقتْ للطعام وطلبته، وإنْ عطشتْ مالتْ نفسك نحو الماء، وكأن بداخلك جرساً يُنبِّهك إلى ما تحتاجه بنيتك من مُقوِّمات استبقائها.
حب الاستطلاع غريزة جعلها الله فيك لتنظر بها وتستطلع ما في الكون من أسرار دالة على قدرة الله وعظمته، فلا تتعدى هذا الغرض، ولا تحرِّك هذه الغريزة إلى التجسُّس على الخَلْق والوقوف على أسرارهم.
التناسل غريزة جعلها الله لحِفْظ النوع، فلا ينبغي أنْ تتعدى ما جعلت له إلى ما حرَّم الله.
الغضب غريزة وانفعال قَسْري لا تختاره بعقلك تغضب أو لا تغضب، إنما إنْ تعرضتَ لأسبابه فلا تملك إلا أنْ تغضب، ومع ذلك جعل له حدوداً وقنَّن له وأمر فيه بضبط النفس وعدم النزوع.
الحب والكُرْه غريزة وعاطفة لا تخضع لقانون، ولا يحكمها العقل، فلك أن تحب وأن تكره، لكن إياك أنْ تتعدَّى هذه العاطفة إلى عمل عقليٍّ ونزوع تعتدي به أو تظلم.
لذلك يقول تعالى:{ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ.. }[المائدة: 8].
لأن هذه المسألة لا يحكمها قانون، وليس بيدك الحب أو الكره؛ لذلك لما قابل سيدنا عمر قاتل أخيه قال له عمر: أَدِرْ وجهك عني فإنِّي لا أحبك. وكان الرجل عاقلاً فقال لسيدنا عمر: أَوَ عَدمُ حبك لي يمنعني حقاً من حقوقي؟ قال عمر: لا، فقال الرجل: إنما يبكي على الحب النساء. يعني أحب أو اكره كما شِئْتَ، لكن لا تتعدَّ ولا تحرمني حقاً من حقوقي.
فهل وقفنا بالغرائز عند حدودها وأهدافها؟ لو تأملتَ مثلاً الغريزة الجنسية التي يصِفُها البعض بِمْلء فيه يقول: غريزة بهيمية.. سبحان الله أَلاَ تستحي أنْ تظلم البهائم لمجرد أنها لا تتكلّم، وهي أفهم لهذه الغريزة منك، أَلاَ تراها بمجرد أن يُخصِّب الذكَر أُنثاه لا يقربها أبداً، وهي لا تمكِّنه من نفسها إذا ما حملَتْ، في حين أنك تبالغ في هذه الغريزة، وتنطلق فيها انطلاقاً يُخرِجها عن هدفها والحكمة منها؟ على مثل هذا أن يخزى أن يقول مثل هذه المقولة، وألاَّ يظلم البهائم، فمن الناس مَنْ هم أَدنْى من البهائم بكثير.
وما يقال عن غريزة الجنس في الحيوان يقال كذلك في الطعام والشراب.
إذن: الخالق سبحانه خلق الغرائز فيك، ولم يكبتها، وجعل لها منافذ شرعية لتؤدي مهمتها في حياتك؛ لذلك أحاطها بسياج من التكليف يُنظِّمها ويحكمها حتى لا تشرد بك، فقال مثلاً في غريزة الطعام والشراب:{ يَابَنِي ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ.. }[الأعراف: 31].
وقال في غريزة حب الاستطلاع:{ وَلاَ تَجَسَّسُواْ.. }[الحجرات: 12] وهكذا في كل غرائزك تجد لها حدوداً يجب عليك ألاَّ تتعداها.
لذلك قلنا في صفات الإيمان وفي صفات الكفر أن الله تعالى يصف المؤمنين بأنهم{ أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ.. }[الفتح: 29] لأنهم يضعون كل غريزة في موضعها فالشدة مع الأعداء، والرحمة مع إخوانهم المؤمنين، ويقف عند هذه الحدود لا يقلب مقاييسها، ويلتزم بقول الحق سبحانه وتعالى{ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ.. }[المائدة: 54].
وكأن الخالق عز وجل يُسوِّينا تسوية إيمانية، فالمؤمن لم يُخلَق عزيزاً ولا ذليلاً، إنما الموقف هو الذي يضعه في مكانه المناسب، فهو عزيز شامخ مع الكفار، وذليل مُنكسِر متواضع مع المؤمنين.
ويتفرع عن هذه المسألة مسألة ردِّ العقوبة إذا اعتُدِي عليك: } وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ.. { [الحج: 60].
الحق - سبحانه وتعالى - هو خالق النفس البشرية، وهو أعلم بنوازعها وخَلَجاتها؛ لذلك أباح لك إن اعتدى عليك أنْ تردَّ الاعتداء بمثله، حتى لا يختمر الغضب في نفسك، وقد ينتج عنه ما هو أشد وأبلغ في ردِّ العقوبة، يبيح لك الرد بالمثل لتنتهي المسألة عند هذا الحد ولا تتفاقم، فمَنْ ضربك ضربة فلك أنْ تُنفِّس عن نفسك وتضربه مثلها، لك ذلك، لكن تذكرَّ المثلية هنا، لا بد أن تكون تامة، كما قال سبحانه في موضع آخر:{ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ.. }[النحل: 126].
وهل تستطيع أن تضبط هذه المثلية فتردّ الضربة بمثلها؟ وهل قوتك كقوته، وحِدَّة انفعالك كحِدَّة انفعاله؟ ولو حدث وزدْتَ في ردِّك نتيجة غضب، ماذا تفعل؟ أتسمح له أنْ يردَّ عليك هذه الزيادة؟ أم تكون أنت ظالماً معتدياً؟
إذن: ماذا يُلجئك لمثل هذه المتاهة، ولك في التسامح سِعَة، وفي قول الله بعدها:{ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ }[النحل: 126] مَخْرج من هذا الضيق؟
وسبق أنْ حكينا قصة المرابي اليهودي الذي قال لطالب الدَّيْن: إن تأخرت في السداد أشترط عليك أنْ آخذ رطلاً من لحمك. وجاء وقت السداد ولم يُوف المدين، فرفعه الدائن إلى القاضي وأخبره بما اشترطه عليه، فقال القاضي: نعم من حقك أن تأخذ رطلاً من لحمه لكن بضربة واحدة بالسكين تأخذ رطلاً، إنْ زاد أو نقص أخذناه منك.
إذن: مسألة المثلية هنا عقبةٌ تحدُّ من ثورة الغضب، وتفتح باباً للارتقاءات الإيمانية، فإنْ كان الحق سبحانه سمح لك أن تُنفِّس عن نفسك فقال:{ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا.. }[الشورى: 40] فإنه يقول لك: لا تنسَ العفو والتسامح{ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }[آل عمران: 134].
لذلك، فالآية التي معنا تلفتنا لَفْتةً إيمانية: } وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ.. { [الحج: 60] واحدة بواحدة } ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ.. { [الحج: 60] يعني: زاده بعد أنْ ردَّ العدوان بمثله وظلمه واعتدى عليه } لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ.. { [الحج: 60] ينصره على المعتدي الذي لم يرتَض حكم الله في رَدِّ العقوبة بمثلها.
وتلحظ في قوله تعالى مخايل النصر بقوله } إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ { [الحج: 60] مع أن الصفة التي تناسب النُّصْرة تحتاج قوة وتحتاج عزة، لكنه سبحانه اختار صفة العفو والمغفرة ليلفت نظر مَنْ أراد أنْ يعاقب إلى هذه الارتقاءات الإيمانية: اغفر وارحم واعْفُ؛ لأن ربك عفو غفور، فاختار الصفة التي تُحنِّن قلب المؤمن على أخيه المؤمن.
ثم أليس لك ذنب مع الله؟{ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ.. }[النور: 22] فما دُمْت تحب أن يغفر الله لك فاغفر لعباده، وحين تغفر لمَنْ يستحق العقوبة تأتي النتيجة كما قال ربك عز وجل:{ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ }[فصلت: 34].
فالحق سبحانه يريد أن يشيع بيننا الصفاء النفسي والتلاحم الإيماني، فأعطاك حقَّ رَدِّ العقوبة بمثلها لتنفِّس عن نفسك الغيظ، ثم دعاك إلى العفو والمغفرة.
ثم يقول الحق سبحانه: } ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ.. {
.
(/2636)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61)
{ ذالِكَ.. } [الحج: 61] يعني ما قُلْته لك سابقاً له دليل، فما هو؟ أن الله يأخذ من القوي ويعطي للضعيف، ويأخذ من الطويل ويعطي للقصير، فالمسألة ليست ثابتة (أو مكانيكا) وإنما خلقها الله بقدر. والليل والنهار هما ظرفا الأحداث التي تفعلونها، والحق سبحانه { يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ.. } [الحج: 61].
يولج الليل يعني: يُدخِل الليل على النهار، فيأخذ منه جزءاً جزءاً فيُطوِّل الليل ويُقصِّر النهار، ثم يُدخِل النهار على الليل فيأخذ منه جزءاً جزءاً، فيُطوِّل النهار ويُقصِّر الليل؛ لذلك نراهما لا يتساويان، فمرة يطول الليل في الشتاء مثلاً، ويقصر النهار، ومرة يطول النهار في الصيف، ويقصر الليل. فزيادة أحدهما ونَقْص الآخر أمر مستمر، وأغيار متداولة بينهما.
وإذا كانت الأغيار في ظرف الأحداث، فلا بُدَّ أن تتغير الأحداث نفسها بالتالي، فعندما يتسع الظرف يتسع كذلك الخير فيه، فمثلاً عندنا في المكاييل: الكَيْلة والقدح والوَيْبة وعندنا الأردب، وكل منهما يسَعُ من المحتوى على قدر سعته. وهكذا كما نزيد أن ننقص في ظرف الأحداث نزيد وننقص في الأحداث نفسها.
ثم تُذيَّل الآية بقوله سبحانه: { وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } [الحج: 61] سميعٌ لما يقال، بصيرٌ بما يفعل، فالقول يقابله الفعل، وكلاهما عمل، والبعض يظن أن العمل شيء والقول شيء آخر، لا؛ لأن العمل وظيفة الجارحة، فكل جارحة تؤدي مهمتها فهي تعمل، عمل العَيْن أن ترى، وعمل الأذن أنْ تسمع، وعمل اليد أن تلمس، وعمل الأنف أن يشُم، وكذلك عمل اللسان القول، فالقول للسان وحده، والعمل لباقي الجوارح وكلاهما عمل، فدائماً نضع القول مقابل الفعل، كما في قوله تعالى:{ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ }[الصف: 2].
والسمع والبصر هما الجارحتان الرئيسيتان في الإنسان، وهما عمدة الحواس كلها، حيث تعملان باستمرار على خلاف الشَّم مثلاً، أو التذوق الذي لا يعمل إلا عدة مرات في اليوم كله.
(/2637)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)
{ ذالِكَ.. } [الحج: 62] أي الكلام السابق أمر معلوم انتهينا منه { بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ.. } [الحج: 62] والحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير أبداً، فكُلُّ ما سِوى الله - عز وجل - يتغير، وهو سبحانه الذي يُغيِّر ولا يتغير؛ ولذلك أهل المعرفة يقولون: إن الله تعالى لا يتغير من أجلكم، لكن يجب عليكم أنْ تتغيروا أنتم من أجل الله.
وما دام أن ربك - عز وجل - هو الحق الثابت الذي لا يتغير، وما عداه يتغير، فلا تحزن، ويا غضبان ارْضَ، ويا مَنْ تبكي اضحك واطمئن؛ لأنك ابن أغيار، وفي دنيا أغيار لا تثبت على شيء؛ لذلك فالإنسان يغضب إذا أُصيب بعقبة في حياته يقول: لو لم تكُنْ هذه!! نقول له: وهل تريدها كاملة؟ لا بُدَّ أنْ يصيبك شيء؛ لأنك ابن أغيار، فماذا تنتظر إنْ وصلْت القمة لا بُدَّ أنْ تتراجع؛ لأنك ابن أغيار دائم التقلُّب في الأحوال، وربك وحده هو الثابت الذي لا يتغير.
ثم يقول سبحانه: { وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ.. } [الحج: 62] كل مَا تدعيه أو تعبده من دون الله هو الباطل، يعني الذي يَبْطُل، كما جاء في قوله تعالى:{ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً }[الإسراء: 81] يعني: يزول ولا يثبت أبداً { وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } [الحج: 62] العلي يعني: كل خَلْقه دونه. وكبير يعني: كل خَلْقه صغير.
ومن أسمائه تعالى { الْكَبِيرُ } [الحج: 62] ولا نقول أكبر إلا في الأذان، وفي افتتاح الصلاة، والبعض يظن أن أكبر أبلغ في الوصف من كبير، لكن هذا غير صحيح؛ لأن أكبر مضمونه كبير، إنما كبير مقابله صغير، فهو سبحانه الكبير؛ لأن ما دونه وما عداه صغير.
أما حين يناديك ويستدعيك لأداء فريضة الله يقول: الله أكبر؛ لأن حركة الحياة وضروريات العيش عند الله أمر كبير وأمر هام لا يغفل، لكن إنْ كانت حركة الحياة والسعي فيها أمر كبيراً فالله أكبر، فربُّك يُخرجك للصلاة من عمل، ويدعوك بعدها إلى العمل:{ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُواْ فِي الأَرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ.. }[الجمعة: 10].
ثم يقول الحق سبحانه: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً.. }
.
(/2638)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63)
{ أَلَمْ تَرَ.. } [الحج: 63] إنْ كانت للأمر الحِسِّي الذي تراه العين، فأنت لم تَرَهُ ونُنبهك إليه، وإنْ كانت للأمر الذي لا يُدرَك بالعين فهي بمعنى: ألم تعلم. وتركنا العلم إلى الرؤية لنبين لك أن الذي يُعلِّمك الله به أوثق مما تهديك إليه عَيْنك.
فالمعنى: ألم تعلم وألم تنظر؟. المعنيان معاً.
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً.. } [الحج: 63] فهذه آية تراها، لكن ترى منها الظاهر فقط، فترى الماء ينهمر من السماء، إنما كيف تكَّون هذا الماء في طبقات الجو؟ ولماذا نزل في هذا المكان بالذات؟ هذه عمليات لم تَرَها، وقدرة الله تعالى واسعة، ولك أن تتأمل لو أردتَ أنْ تجمع كوب ماء واحد من ماء البخار، وكم يأخذ منك من جهد ووقت وعمليات تسخين وتبخير وتكثيف، فهل رأيتَ هذه العمليات في تكوين المطر؟
إذن: رأيت من المطر ظاهرة، لذلك يلفتك ربك إلى ما وراء هذا الظاهر لتتأمله.
لذلك؛ جعل الخالق - عز وجل - مسطح الماء ثلاثة أرباع الكرة الأرضية، فاتساع مُسطَّح الماء يزيد من البَخْر الذي ينشره الله تعالى على اليابس، كما لو وضعتَ مثلاً كوبَ ماء في غرفتك، وتركتَه مدة شهر أو شهرين، ستجد أنه ينقص مثلاً سنتيمتراً، أما لو نثرتَ الكوب على أرض الغرفة فسوف يجفّ بعد دقائق.
إذن: فاتساع رقعة الماء يزيد من كمية البخار المتصاعد منها، ونحن على اليابس نحتاج كمية كبيرة من الماء العَذْب الصالح للزراعة وللشرب..الخ، ولا يتوفر هذا إلا بكثرة كمية الأمطار.
ثم يُبيِّن سبحانه نتيجة إنزال الماء من السماء: { فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً.. } [الحج: 63] يعني: تصير بعد وقت قصير خضراء زاهية. دون أن يذكر شيئاً عن تدخُّل الإنسان في هذه العملية، فالإنسان لم يحرث ولم يبذر ولم يَرْو، إنما المسألة كلها بقدرة الله، لكن من أين أتت البذور التي كوَّنَتْ هذا النبات؟ ومَنْ بذرها ووزَّعها؟ البُذور كانت موجودة في التربة حيَّة كامنة لم يُصِبْها شيء، وإنْ مَرَّ عليها الزمن؛ لأن الله تعالى يحفظها إلى أنْ تجد الماء وتتوفَّر لها عوامل الإنبات فتنبت؛ لذلك نُسمِّي هذا النبات (العِذْى)؛ لأنه خرج بقدرة الله لا دَخْل لأحد فيه.
وتولَّتْ الرياح نَقْل هذه البذور من مكان لآخر، كما قال تعالى:{ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ.. }[الحجر: 22] ولو سلسلْتَ هذه البذرة ستجدها من شجرة إلى شجرة حتى تصل إلى شجرة أُمٍّ، خلقها الخالق سبحانه لا شجرةَ قبلها ولا بذرة. لذلك يُرْوى أن يوسف النجار وكان يرعى السيدة مريم عليها السلام ويشرف عليها، ويقال كان خطيبها - لما رآها حاملاً وليس لها زوج سألها بأدب: يا مريم، أتوجد شجرة بلا بذرة؟ قالت: نعم الشجرة التي أنبتتْ أول بذرة.
ثم يقول سبحانه: } إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ { [الحج: 63] اللطْف هو دِقَّة التناول للأشياء، فمثلاً حين تريد أن تدخل خيطاً في إبرة، تجد الخيط لا ينفذ من ثقبها لأول مرة، فتحاول أنْ تُرفِّق من طرف الخيط وتبرمه حتى يدِقّ فينفذ من الثقب، فالخيط بعد أنْ كان غليظاً أصبح لطيفاً دقيقاً.
ويقولون: الشيء كلما لَطُف عَنُف، في حين يظن البعض أن الشيء الكبير هو القوي، لكن هذا غير صحيح، فكلما كان الشيء لطيفاً دقيقاً كان خطره أعظم، أَلاَ ترى الميكروب كيف يصيب الإنسان وكيف لا نشعر به ولا نجد له ألماً؟ ذلك لأنه دقيق لطيف، وكذلك له مدخل لطيف لا تشعر به؛ لأنه من الصِّغَر بحيث لا تراه بالعين المجردة.
والبعوضة كم هي هيِّنة صغيرة؛ لذلك تُؤلمك لدغتها بخرطومها الدقيق الذي لا تكاد تراه، وكلما دَقَّ الشيء احتاج إلى احتياط أكثر لتحمي نفسك من خطره، فمثلاً إنْ أردتَ بناء بيت في الخلاء أو منطقة نائية، فإنك ستضطر أنْ تضع حديداً على الشبابيك يحميك من الحيوانات المفترسة كالذئاب مثلاً، ثم تضع شبكة من السلك لتحميك من الفئران، فإن أردْتَ أن تحمي نفسك من الذباب والبعوض احتجت إلى سِلْك أدق، وهكذا كلما صَغُر الشيء ولطف احتاج إلى احتياط أكثر.
فاللطيف هو الذي يدخل في الأشياء بلطف؛ لذلك يقولون: فلان لطيف المدخل يعني: يعني: يدخل لكل إنسان بما يناسبه، ويعرف لكل إنسان نقطة ضَعْف يدخل إليه منها، كأن معه (طفاشة) للرجال، يستطيع أن يفتح بها أي شخصية.
لكن، ما علاقة قوله تعالى } إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ { [الحج: 63] بعد قوله: } فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً.. { [الحج: 63]؟ قالوا: لأن عملية الإنبات تقوم على مَسَامّ وشعيرات دقيقة تخرج من البذرة بعد الإنبات، وتمتصّ الغذاء من التربة، هذه الشعيرات الجذرية تحتاج إلى لُطْف، وامتصاص الغذاء المناسب لكل نوع يحتاج إلى خبرة، كما قال تعالى:{ يُسْقَىا بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىا بَعْضٍ فِي الأُكُلِ.. }[الرعد: 4].
فالأرض تصبح مُخضَرَّة من لُطْف الحق سبحانه، ومن خبرته في مداخل الأشياء، لذلك قال بعدها: } إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ { [الحج: 63].
ولدِقّة الشعيرات الجذرية نحرص ألاَّ تعلو المياه الجوفية في التربة؛ لأنها تفسد هذه الشعيرات فتتعطن وتموت فيصفرُّ النبات ويموت.
ثم يقول الحق سبحانه: } لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ.. {
.
(/2639)
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64)
فما في السموات وما في الأرض مِلْك لله تعالى، ومع ذلك لا ينتفع منها الحق سبحانه بشيء، إنما خلقها لمنفعة خَلْقه، وهو سبحانه غنيٌّ عنها وغنيٌّ عنهم، وبصفات الكمال فيه سبحانه خلق ما في السماوات وما في الأرض؛ لذلك قال بعدها: { وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } [الحج: 64].
وصفات الكمال في الله تعالى موجودة قبل أنْ يخلق الخَلْق، وبصفات الكمال خلق، وملكيته تعالى للسماوات وللأرض، ولما فيهما ملكية للظرف وللمظروف، ونحن لا نملك السماوات، ولا نملك الأرض، إنما نملك ما فيهما من خيرات ومنافع مما ملّكنا الله له، فهو الغني سبحانه، المالك لكل شيء، وما ملَّكنا الله له، فهو الغني سبحانه، المالك لكل شيء، وما ملَّكنا إلا من باطن مُلْكه.
والحميد: يعني المحمود، فهو غني محمود؛ لأن غنَاه لا يعود عليه سبحانه، إنما يعود على خَلْقه، فيحمدونه لغنَاه، لا يحقدون عليه، ومن العجيب أن الحق سبحانه يُملِّك خَلْقَه من مُلْكه، فمَن استخدم النعمة فيما جُعلتْ له، ومَنْ أعطى غير القادر من نعمة الله عليه يشكر الله له، وهي في الأصل نعمته. ذلك لأنك أنت عبده، وقد استدعاك للوجود، وعليه سبحانه أنْ يتولاّك ويرعاك.
فإن احتاج غير القادر منك شيئاً، قال تعالى:{ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً.. }[البقرة: 245].
فاعتبره قرضاً، وهو ماله، لكنه ملّكك إياه؛ لذلك لا يسلبه منك إنما يأخذه قرضاً حسناً ويضاعفه لك؛ لأنه غنيٌّ حميد أي: محمود، ولا يكون الغنى محموداً إلا إذا كان غير الغني مستفيداً من غِنَاه.
ثم يقول الحق سبحانه: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ.. }
.
(/2640)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)
هذه الآية امتداد للآية السابقة، فما في السماء وما في الأرض مِلْك له سبحانه لكنه سخَّره لمنفعة خَلْقه، فإنْ سأل سائل: فلماذا لا يجعلها الله لنا ويُملكنا إياها؟ نقول: لأن ربك يريد أنْ يُطمئِنك أنه لن يعطيها لأحد أبداً، وستظل مِلْكاً لله وأنت تنتفع بها، وهل تأمن إنْ ملّكها الله لغيره أنْ يتغيّر لك ويحرمك منها؟ فأمْنُك في أن يظل الملْك لله وحده؛ لأنه ربك ومُتولّيك، ولن يتغير لك، ولن يتنكّر في منفعتك.
وقوله تعالى: { وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ.. } [الحج: 65] الفُلْك: السفن، تُطلق على المفرد وعلى الجمع، تجري في البحر بأمره تعالى، فتسير السفن بالريح حيث أمرها الله، كما قال سبحانه:{ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ.. }[البقرة: 164] وهذه لا يملكها ولا يقدر عليها إلا الله، وقال في آية أخرى:{ إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَىا ظَهْرِهِ.. }[الشورى: 33].
وتأمَّل دِقَّة الأداء القرآني من الله الذي يعلم ما كان، ويعلم ما يكون، ويعلم ما سيكون، فلقائل الآن أنْ يقول: لم نَعُد في حاجة إلى الريح تُسيِّر السفن، أو توجهها؛ لأنها أصبحت تسير الآن بآلات ومحركات، نعم السفن الآن تسير بالمحركات، لكن للريح معنى أوسع من ذلك، فالريح ليست هذه القوة الذاتية التي تدفع السفن على صفحة الماء، إنما الريح تعني القوة في ذاتها، أياً كانت ريحاً أم بُخَاراً أم كهرباء أم ذرة.. إلخ.
بدليل قوله تعالى:{ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ.. }[الأنفال: 46] يعني: تذهب قوتكم أيًا كانت هذه القوة حتى الصياد الذي يركب البحر بقارب صغير يُسيِّره بالمجاديف بقوة يده وعضلاته هي أيضاً قوة، لا تخرج عن هذا المعنى.
وهكذا يظل معنى الآية صالحاً لكل زمان ولكل مكان، وإلى أن تقوم الساعة.
والريح إنْ أُفردَتْ دلَّتْ على حدوث شَرٍّ وضرر، كما في قوله تعالى:{ وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ }[الذاريات: 41].
وقوله:{ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ.. }[الأنفال: 46]
وقوله:{ بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ }[الأحقاف: 24]
وإنْ جاءت بصيغة الجمع دلَّت على الخير، كما في قوله تعالى:{ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ.. }[الحجر: 22].
وسبق أنْ تحدثنا عن مهمة الريح في تماسك الأشياء وقيامها بذاتها، فالجبل الأشمّ الذي تراه ثابتاً راسخاً إنما ثبتَ بأثر الريح عليه، وإحاطته به من كل جانب، بحيث لو فُرِّغ الهواء من أحد جوانب الجبل لانهار، وهذه هي الفكرة التي قامت عليها القنبلة، فالهواء هو الذي يقيم المباني والعمارات ويثبتها؛ لأنه يحيطها من كل جانب، فيُحدِث لها هذا التوازن، فإنْ فُرِّغ من أحد الجوانب ينهار المبنى.
ثم يقول سبحانه: { وَيُمْسِكُ السَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ.. } [الحج: 65] فالسماء مرفوعة فوقنا بلا عَمَد، لا يمسكها فوقنا إلا الله بقدرته وقيوميته أنْ تقع على الأرض إلا بإذنه تعالى، كما قال في آية أخرى:
{ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ.. }[فاطر: 41].
} إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ { [الحج: 65] فمن صفاته تعالى الرأفة والرحمة، والفَهْم السطحي لهاتين الصفتين يرى أنهما واحد، لكن هما صفتان مختلفتان، فالرأفة تزيل الآلام، والرحمة تزيد الإنعام، والقاعدة أن درْء المفسدة مُقدَّم دائماً على جَلْب المصلحة، فربك يرأف بك فيزيل عنك أسباب الألم قبل أن يجلب لك نفعاً برحمته.
وسبق أن أوضحنا هذه المسألة بمثل: قلنا هَبْ أن واحداً يرميك بحجر، وآخر يرمي لك تفاحة، فأيُّهما يشغلك أولاً؟ لا شكَّ ستُشغل بالحجر، كيف تقي نفسك من ضرره ثم تحاول أن تنال هذه التفاحة؟
لذلك قال تعالى:{ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلاكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَىا أَجَلٍ مُّسَمًّىا.. }[النحل: 61].
ثم يقول سبحانه: } وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ.. {
.
(/2641)
وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66)
الحق - تبارك وتعالى - يُذكّرنا ببعض نعمه وببعض العمليات التي لو تتبعناها لوقفنا بمقتضاها على نِعَم الله علينا، ولم نَنْسها أبداً.
أولها: { وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ.. } [الحج: 66] والإحياء: أن يعطي المحيي ما يُحييه قوة يؤدي بها المهمة المخلوق لها. والإحياء الأول في آدم - عليه السلام - حين خلقه ربه وسوّاه ونفخ فيه من روحه، ثم أوجدنا نحن من ذريته.
{ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ.. } [الحج: 66] وكما أن الخَلْق آية من آيات الله، فكذلك الموت آية من آيات الله، نراها ونلمسها، وما دُمْتَ تُصدِّق بآية الخَلْق وآية الموت، وتراهما، ولا تشك فيهما، فحين نقول لك إن بعد هذا حياة أخرى فصدِّق؛ لأن صاحب هذه الآيات واحد، والمقدمات التي تحكم أنت بصدقها يجب أنْ تؤدي إلى نتيجة تحكم أيضاً بصدقها، وها هي المقدمات بين يديك صادقة.
لذلك يقول تعالى بعدها: { ثُمَّ يُحْيِيكُمْ.. } [الحج: 66] والإحياء يُطلَق في القرآن على معانٍ متعددة، منها الحياة المادية التي تتمثل في الحركة والأكل والشرب، ومنها الحياة في الآخرة التي قال الله عنها:{ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ.. }[العنكبوت: 64].
وهذه الحياة الحقيقية؛ لأن حياة الدنيا تعتريها الأغيار، ويتقلَّب فيها الإنسان بين القوة والضعف، والصحة والمرض، والغنى والفقر، والصِّغَر والكِبَر، وبعد ذلك يعتريها الزوال، أما حياة الآخرة التي وصفها الله بأنها الحيوان يعني: مبالغة في الحياة، فهي حياة لا أغيار فيها ولا زوالَ لها.
إذن: لديك حياتان: حياة لِبنْية المادة وبها تتحرك وتُحِس وتعيش، وحياة أخرى باقية لا زوالَ لها.
لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ.. }[الأنفال: 24] كيف - إذن - ونحن أحياء؟ قالوا: لما يحييكم ليست حياة الدنيا المادية التي تعتريها الأغيار، إنما يحييكم الحياةَ الحقيقية في الآخرة، الحياة الباقية التي لا تزول، التي قال الله عنها:{ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ }[العنكبوت: 64] يعني: العلم الحقيقي الذي يهدي صاحبه.
فإن كانت الحياة المادية الدنيوية بنفْخ الروح في الإنسان، فبِمَ تكون الحياة الثانية{ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ.. }[الأنفال: 24].
قالوا: هذه الحياة تكون بروح أيضاً، لكن غير الروح الأولى، إنها بروح القرآن الذي قال الله فيه:{ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا.. }[الشورى: 52] وسمَّى المَلك الذي ينزل به روحاً:{ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ }[الشعراء: 193].
فالروح الثانية التي تُحييك الحياة الحقيقية الخالدة هي منهج الله في كتابه الكريم، إن اتبعته نِلْتَ هذه الحياة الباقية الخالدة وتمتعتَ فيها بما لا عَيْن رأت، ولا أذن سمعتْ، ولا خطر على قلب بشر، وهي لا مقطوعة ولا ممنوعة.
ثم يقول سبحانه: { إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ } [الحج: 66] كفور: صيغة مبالغة من كافر، والكفور الذي لم يعرف للمنعِم حَقّ النعمة، مع أنه لو تبيَّنها لما انفكَّ أبداً عن شكر المنعم سبحانه.
والإنسان يمرُّ بمراحل مختلفة بين الحياة والموت، كما جاء في قوله تعالى:{ قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىا خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ }[غافر: 11]، فمتى سيقولون هذا الكلام؟
قالوا: هذا يوم القيامة، وقد أحياهم الله من موت العدم، فأحياهم في الدنيا ثم أماتهم، ثم أحياهم في الآخرة، فهناك موت قبل إيجاد، وموت بعد إيجاد، ثم يأتي البعث في القيامة. وقوله تعالى: } وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ.. { [الحج: 66] قضية قالها الخالق - عز وجل - ولم يدعها أحد لنفسه مع كثرة الكفار والملاحدة والأفاقين في كل زمان ومكان، لم نسمع مَنِ ادَّعَى مسألة الخَلْق، وهذه قضية يجب أن نقف عندها وأن نبحث: لماذا لم يظهر مَنْ يدَّعي ذلك؟ وإذا لم يَدَّع الخَلْق أحدٌ، ولم يدَّع الإحياء أحد، فمَنْ - إذن - صاحب الخَلْق والإحياء والإماتة؟
إذا كان الناس يهتمون ويؤرخون لأيِّ مخترع آلة مثلاً، فيقولون: مخترع الكهرباء فلان وعاش في بلدة كذا، وكان من أمره كذا وكذا، وتعلم في كذا، وحصل على كذا..الخ فكيف بمَنْ خلقكم وأحياكم من عدم؟ خاصة وهذه المسألة لم يتبجح بادعائها أحد فثبتت القضية له سبحانه وتعالى.
ثم يقول الحق سبحانه: } لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ وَادْعُ إِلَىا رَبِّكَ.. {
.
(/2642)
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67)
الحق - سبحانه وتعالى - خلق آدم عليه السلام خليفة له في الأرض، وأجرى له تدريباً على مهمته بالأمر الإلهي والنهي الإلهي، وأخبره بعداوة الشيطان له ولذريته، وحذَّره أن يتبع خطواته، وقد انتهت هذه التجربة بنزول آدم من الجنة إلى الأرض ليباشر مهمته كخليفة لله في أرضه على أنْ يظلَّ على ذِكْر من تجربته مع الشيطان. وقد سخَّر الله له كل شيء في الوجود يخدمه ويعمل من أجله.
ثم أنزل الله عليه منهجاً، يعمل به لتستقيم حركة حياته وحياة ذريته، وذكَّره بالمنهج التدريبي السابق الذي كلَّفه به في الجنة، وما حدث له لما خالف منهج ربه، حيث ظهرت عورته:{ وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ.. }[الأعراف: 22].
كذلك إنْ خالفت هذا المنهج الإلهي في الدنيا ستظهر عوراتكم لذلك إذا رأيت أيّ عورة في المجتمع في أيّ ناحية: في الاجتماع، في الاقتصاد، في التربية، فاعلم أن حكماً من أحكام الله قد عُطِّل، فظهرت سوأة من سوءات المجتمع؛ لأن منهج الله هو قانون الصيانة الذي يحميك وينظم حياتك لتؤدي مهمتك في الحياة.
كما لو دخلتَ بيتك فوجدتَ آلة من آلات البيت لا تؤدي مهمتها، فتعلم أن بها عطلاً فتذهب بها إلى المهندس المختص بصيانتها، كذلك إن تعطل في حياتكم شيء عن أداء مهمته فردُّوه إلى صاحب صيانته إلى الله وإلى الرسول، وهذا منطق حازم يعترف به الجميع المؤمن والكافر أن ترد الصنعة إلى صانعها، وإلى العالِم بقانون صيانتها، وأنت لم يدّع أحد أنه خلقك، فحين يحدث فيك خَلَل، فعليك أنْ تذهبَ إلى ربك وخالقك.
لذلك " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر قام إلى الصلاة " ، ومعنى " حزبه أمر " يعني: شيء فوق طاقته وأسبابه، يُهرَع إلى الصلاة ليعرض نفسه على ربه عز وجل، فإنْ وجدتَ في نفسك خللاً في أي ناحية، فما عليك إلا أنْ تتوضأ، وتقف بين يدي ربك ليصلح ما تعطل فيك.
وإن كان المهندس يُصلح لك الآلة بشيء مادي، ولو قطعة صغيرة من السلك، فإن ربك عز وجل غَيْب، وعلاجه أيضاً غَيْب يأتيك من حيث لا تدري.
ومنهج الله الذي وضعه لصيانة خَلْقه فيه أصول وفيه فروع، الأصول: أن تؤمن بالإله الواحد الفاعل المختار، وهذه قاعدة ما اختلف عليها أيٌّ من رسالات السماء أبداً، كما يقول تعالى:{ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىا بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ.. }[الشورى: 13].
فهذه أصول لا يختلف عليها دين من الأديان، لكن لما كان الناس منثورين في شتى بقاع الأرض، تعيش كل جماعة منهم منعزلةً عن الأخرى لبُعْد المسافات وانعدام وسائل الاتصال والالتقاء التي نراها اليوم، والتي جعلتْ العالم كله قرية واحدة، ما يحدث في أقصى الشرق تراه وتسمع به في أقصى الغرب، وفي نفس الوقت.
لما عاش الناس هذه العزلة لا يدري أحد بأحد لدرجة أنهم كانوا منذ مائتي عام يكتشفون قارات جديدة.
وقد نشأ عن هذه العزلة أنْ تعددت الداءات بتعدد الجماعات، فكان الرسول أو النبي يأتي ليعالج الداءات في جماعة بعينها يُبعَث إلى قومه خاصة، فهذا ليعالج مسألة الكيل والميزان، وهذا ليعالج طغيان المال، وهذا ليعالج انحراف الطباع وشذوذها، وهذا ليعالج التعصب القبلي.
أما رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فجاءت في بداية التقاء الجماعات هنا وهناك، فكانت رسالته صلى الله عليه وسلم عامة للناس كافة، وتجد أصول الرسالات عند موسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام أصولاً واحدة، أمّا الفروع فتختلف باختلاف البيئات.
لكن، لما كان في علمه تعالى أن هذه العزلة ستنتهي، وأن هذه البيئات ستجتمع وتلتقي على أمر واحد وستتحد فيها الداءات؛ لذلك أرسل الرسول الخاتم لهم جميعاً على امتداد الزمان والمكان.
وفي هذه الآية: } لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ.. { [الحج: 67] أي: أن الحق سبحانه جعل لكل أمة من الأمم التي بعث فيها الرسل مناسك تناسب أقضية زمانهم؛ لأنهم كانوا في عزلة بعضهم عن بعض، كما جاء في قوله تعالى:{ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً.. }[المائدة: 48] فالشرائع تختلف في الفروع المناسبة للزمان وللمكان وللبيئة، أما الأخلاق والعقائد فهي واحدة، فالله عز وجل إله واحد في كل ديانات السماء، والكذب مُحرَّم في كل ديانات السماء لم يأْتِ نبي من الأنبياء ليبيح لقومه الكذب.
والمنسك: المنهج التعبدي، ومنه قوله تعالى:{ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }[الأنعام: 162].
{ هُمْ نَاسِكُوهُ.. }[الحج: 67] يعني: فاعلوه.
ثم يقول سبحانه: } فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ.. { [الحج: 67] كأنْ يقولوا: أنت رسول ونحن أيضاً نتبع رسولاً، له منهج وله شريعة، نعم: لكن هذه شريعة خاتمة جاءت مهيمنة على كل الشرائع قبلها، ومناسبة لمستجدّات الأمور.
لذلك يُطمئن الحق - تبارك وتعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم - بعدها: } وَادْعُ إِلَىا رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَىا هُدًى مُّسْتَقِيمٍ { [الحج: 67] يعني: أطمئن، فأنت على الحق وادْعُ إلى ربك؛ لأنك على هدى مستقيم سيصل إليهم إنْ لم يكن إيماناً فسيكون إصلاحاً وتقنيناً بشرياً تلجئهم إليه أحداث الحياة ومشاكلها، فلن يجدوا أفضل من شرع الله يحكمون به، وإنْ لم يؤمنوا.
وكأن الحق سبحانه يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: لا تنازعهم ولا ينازعونك، وخُذ ما أمرك الله به:{ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ }[الحجر: 94] الذين يجادلونك وينازعونك في الرسالة، وسوف تحدث لهم أقضية بقدر ما يُحدِثون من الفجور ويلجئون إلى شرعك وقانونك ليحلوا به مشاكلهم.
والهدى وُصِف بأنه مستقيم، لأنه هدى من الله صنعه لك، هدى الخالق الذي يعلم ملَكات النفس الإنسانية كلها، وشرع لكل ملكة ما يناسبها، وأحداث الحياة ستضطرهم إلى ما قنن الله لخلافته في الأرض.
ثم يقول الحق سبحانه: } وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ.. {
.
(/2643)
وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68)
الجدل: مأخوذ من جَدْل الحبل بعضه على بعض لتقويته، وإنْ كانت خيطاً رفيعاً نبرمه فنعطيه سُمْكاً وقوة؛ لذلك الخيط حين نبرمه يقلّ في الطول؛ لأن أجزاءه تتداخل فيكون أقوى، فالجدْل من تمتين الشيء وتقويته، وكذلك الجدال؛ فهو محاولة تقوية الحجة أمام الخَصْم.
وفي آية أخرى:{ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.. }[النحل: 125] فالمعنى: إنْ جادلوك بعد التي هي أحسن فقُلْ { اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ } [الحج: 68] يعني: ردهم إلى الله واحتكم إليه؛ لذلك جاء بعدها: { اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.. }
.
(/2644)
اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69)
لاحظ أن الحق سبحانه لم يقُلْ: يحكم بيننا وبينكم كما يقتضي المعنى؛ لأنكما طرفان تتجادلان. وكأن الحق - تبارك وتعالى - يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: أتركهم فسوف يختلفون هم فيما بينهم، ولن يظل الخلاف معك؛ لأن الخلاف في شيء واحد ينشأ عن هوى النفس، وهوى النفس ينشأ من الحرص على السلطة الزمنية، يعني: أرحْ نفسك، فربُّك سيحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون.
ثم يقول الحق سبحانه: { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَآءِ وَالأَرْضِ.. }
.
(/2645)
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)
هذه قضية حكم بها الحق سبحانة لنفسه، ولم يدَّعِها أحد، فلا يعلم ما في السماء والأرض إلا الله، وهذه الآية جاءت بعد الحكم في المنازعة فربما اعترض أحد وقال: ما دام الأمر من الله أحكاماً تنظم حركة الحياة وقد جاء كل رسول بها، فما ضرورة أنْ يجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس كافة.
وقلنا: إن الدين نوعان: نوع لا يختلف باختلاف الرسل والأمم والعصور، وهذا في القضايا العامة الشاملة التي لا تتغير، وهي العقائد والأصول والأخلاق، ونوع آخر يختلف باختلاف العصور والأمم، فيأتي الحكم مناسباً لكل عصر، ولكل أمة.
وما دام الحق سبحانه هو الذي سيحكم بين الطرفين قال: { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَآءِ وَالأَرْضِ.. } [الحج: 70] أعلم كل شيء كائن في الوجود ظاهره وباطنه، فأنا أحكُم عن علم وعن خبرة.
{ إِنَّ ذالِكَ فِي كِتَابٍ.. } [الحج: 70] والعلم شيء، والكتاب شيء آخر، فما دام الله تعالى يعلم كل شيء، وما دام سبحانه لا يضل ولا ينسى، فما ضرورة الكتاب؟
قالوا: الكتاب يعني به اللوح المحفوظ الذي يحوي كل شيء.
وفي آية أخرى قال:{ كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ * فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ }[عبس: 11 - 15].
حتى القرآن نفسه في ذلك الكتاب:{ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ }[البروج: 21 - 22].
وقال تعالى:{ يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ }[الرعد: 39] ويقول تعالى:{ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }[الأنعام: 59].
فضرورة الكتاب ليدلّك وليدلّ الملائكة المطَّلعين على أن الأشياء التي تحدث مستقبلاً كتبها الله أزلاً، فالذي كتب الشيء قبل أنْ يكون، ثم جاء الشيء موافقاً لما أكبر دليل على عِلْمه وإحاطته.
إذن: مجيء الكتاب لا ليساعدنا على شيء، إنما ليكون حُجَّة عليك، فيقال لك:{ اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىا بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً }[الإسراء: 14] ها هو تاريخك، وها هي قصتك، ليس كلاماً من عندنا، وإنما فعلْك والحجة عليك.
وعِلْم الله تعالى في قوله: { يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَآءِ وَالأَرْضِ.. } [الحج: 70] يحمل الوعد والوعيد في وقت واحد، وهذا من عجائب الأداء القرآني، أنْ يعطي الشيء ونقيضه، كيف؟ هَبْ أن عندك ولديْن اعتدى أحدهما على الآخر في غَيبتك، فلما عُدْتَ أسرعا بالشكوى، كل من صاحبه، فقلتَ لهما: اسكتا لا أسمع لكما صوتاً. وقد عرفت ما حدث وسأرتب لكل منكما ما يناسبه وما يستحقه على وَفْق ما علمت، لا شكَّ عندها أن المظلوم سيفرح ويستبشر، وأن الظالم سيخاف ويتغير لونه.
إذن: فعلم الله بكل شيء في السماء والأرض وإحاطته سبحانه بما يجري بين خَلْقه وَعْد للمحق، ووعيد للمبطل.
ثم يقول سبحانه: { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً.. }
.
(/2646)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71)
كأن العبادة - وهي: طاعة أمر واجتناب نهي - يجب أن تكون صادرة من أعلى منا جميعاً، فليس لأحد منا أن يُشرِّع للآخر، فيأمره أو ينهاه؛ لأن الأمر من المساوى لك لا مُرجح له، وله أنْ يقول لك: لماذا أنت تأمر وأنا أطيع؟ أما إنْ جاء الأمر من أعلى منك فأنت تطيع بلا اعتراض، ومعك الحجة أن الأمر من أعلى منك فأنت تطيع بلا اعتراض، ومعك الحجة أن الأمر من أعلى، تقول: أبي أمرني بكذا وكذا، أو ربي أمرني بكذا وكذا، أو نهاني عن كذا وكذا.
إذن: كل دليل على حكم الفعل أو الترك لا بُدَّ أنْ يكون مصدره من الحق سبحانه وتعالى، فهو الأعلى مني ومنك، وإذا انصعْتَ لأمره ونهيه فلا حرجَ عليَّ ولا ضرر؛ لأنني ما انصعت لمساوٍ إنما انصعت لله الذي أنا وأنت عبيد له، ولا غضاضةَ في أن نتبع حكمه.
لذلك في حِكَم أهل الريف يقولون: (اللي الشرع يقطع صباعه مَيْخُرش دم) لماذا؟ لأنك ما قطعته أنت إنما قطعه الله، فليس الأمر تسلط أو جبروت من أحد، وليس فيه مذلّة ولا استكانة لأحد.
ومعنى: { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ.. } [الحج: 71] يعني: يعبدون غيره تعالى { مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً.. } [الحج: 71] السلطان: إما سلطان قَهْر، أو سلطان حجة، سلطان القهر أن يقهرك ويجبرك على ما لم تُرِدْ فِعْله، أما سلطان الحجة فيقنعك ويُثبِت لك بالحجة أن تفعل باختيارك، وهذه الآلهة التي يعبدونها من دون الله ليس لها سلطان، لا قَهْر ولا حُجّة.
لذلك؛ في جدل إبليس يوم القيامة للذين اتبعوه يقول لهم:{ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي.. }[إبراهيم: 22] يعني: كنتم على إشارة فاستجبتم لي، وليس لي عليكم سلطان، لا قوة أقهركم بها على المعصية، ولا حجة أقنعكم بها.
ثم يقول تعالى: { وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ.. } [الحج: 71] يعني: علم الاجتهاد الذي يستنبط الأحكام من الحكم المُجْمل الذي يُنزله الحق تبارك وتعالى، وهذه هي حجة العلم التي قال الله تعالى عنها:{ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىا أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ.. }[النساء: 83] يعني: أهل العلم.
إذن: العبادة لا بُدَّ أن تكون بسلطان من الله نصاً قاطعاً وصريحاً لا يحتمل الجدل، وإما أنْ تكونَ باجتهاد أُولِي العلم.
وقوله تعالى: { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ } [الحج: 71] لم يقُلْ سبحانه: لن ينتصر الظالمون، ولم ينْفِ عنهم النصر؛ لأن هذه مسألة مُسلمة إنما لا يفزع لنصرتهم أحد، فلن ينتصروا ولن ينصرهم أحد، ولا يفزع أحد لينصر أحداً إلا إذا كان المنصور ضعيفاً.
ثم يقول سبحانه: { وَإِذَا تُتْلَىا عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمُنْكَرَ.. }
.
(/2647)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)
تصور هذه الآية حال الكفار عند سماعهم لكتاب الله وآياته من رسول الله أو صحابته، فإذا سمعوها { تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمُنْكَرَ.. } [الحج: 72] أي: الكراهية تراها وتقرؤها في وجوههم عُبُوساً وتقطيباً وغضباً وانفعالاً، ينكر ما يسمعون، ويكاد أن يتحول الانفعال إلى نزوع غضبي يفتك بمَنْ يقرأ القرآن لما بداخلهم من شر وكراهية لما يتلى عليهم.
لذلك قال تعالى بعدها: { يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا.. } [الحج: 72] والسَّطْو: الفَتْك والبطش؛ لأن العمل الوجداني الذي يشغل نفوسهم يظهر أولاً على وجوههم انفعالاً يُنبيء بشيء يريدون إيقاعه بالمؤمنين، ثم يتحول الوجدان إلى نزوع حركي هو الفتك والبطش.
(قُلْ) في الرد عليهم: ماذا يُغضِبكم حتى تسطوا علينا وتكرهوا ما نتلو عليكم من كتاب الله. والغيظ والكراهية عند سماعهم القرآن دليل على عدم قدرتهم على الرد بالحجة، وعدم قدرتهم أيضاً على الإيمان؛ لذلك يتقلَّبون بين غيظ وكراهية.
لذلك يخاطبهم بقوله: { قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذالِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ.. } [الحج: 72] يعني: مالي أراكم مغتاظين من آيات الله كارهين لها الآن، والأمر ما يزال هيِّناً؟ أمجرد سماع الآيات يفعل بكم هذا كلّه؟ فما بالكم حينما تباشرون النار في الآخرة، الغيظ الذي تظنونه شرّاً فتسطُون علينا بسببه أمر بسيط، وهناك أشرّ منه ينتظركم { النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ.. } [الحج: 72]
وما أشبه هذا بموقف الصِّدِّيق أبي بكر حينما أوقف صناديد قريش بالباب، وقدّم عليهم المستضعفين من المؤمنين، فغضبوا لذلك وورِمَتْ أنوفهم، فقال لهم: أَوَرِمتْ أنوفكم أنْ قدمتهم عليكم الآن، فكيف بكم حين يُقدمهم الله عليكم في دخول الجنة؟
وكلمة { وَعَدَهَا.. } [الحج: 72] الوعد دائماً يكون بالخير، أما هنا فاستُعملَتْ على سبيل الاستهزاء بهم والتقليل من شأنهم، كما قال في آية أخرى:{ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }[الانشقاق: 24] فساعةَ أن يسمع البُشْرى يستشرف للخير، فيفاجئه العذاب، فيكون أنكَى له.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى:{ وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوجُوهَ.. }[الكهف: 29] لأن انقباض النفس ويأسها بعد بوادر الانبساط أشدّ من العذاب ذاته.
وقوله: { وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [الحج: 72] أي: ساءت نهايتكم ومرجعكم.
.
(/2648)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)
قُلنْا: الضرب إيقاع شيء على شيء بقوة، ومنه نقول: ضربنا الدينار يعني: بعد أن كان قطعة من الذهب أو الفضة مثلاً أصبح عملةً معروفة متداولة.
والمثل: تشبيه شيء غير معلوم بشيء آخر معلوم وعجيب وبديع يَعْلَق في الذهن، كما نصف لك إنساناً لم تَرَهُ بإنسان تعرفه. نقول هو مثل فلان. وهكذا كل التشبيهات: شيء تريد أن تعلمه للمخاطب وهو لا يعلمه.
ومنه قوله تعالى:{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ }[البقرة: 17]
وقوله تعالى:{ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }[الأعراف: 176]
وقوله تعالى:{ مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ }[العنكبوت: 41].
إذن: الأمثال: إعلام بشيء معلوم ليصل العلم فيه إلى شيء مجهول، وكلمة (مثَل) استقلَّتْ بأن يكون المثَل بديعاً في النسج، بليغاً موجزاً، بحيث تتناقله الألسنة بسرعة في كلمات معدودة.
فلو وجدَت مثلاً تلميذاً مُهملاً تكاسل طوال العام، ولم يذاكر، فلما حضر الامتحان راح يجتهد في المذاكرة، فتقول له: (قبل الرماء تملأ الكنائن) يعني: قبل أنْ تصطاد بالسهام يجب أنْ تُعِدّها أولاً وتملأ بها كنانتك، فهذا مثَلٌ يُضرَب للاستعداد للأمر قبل حلوله.
ومن أمثلة أهل الريف يقولون: (أعْطِ العيش لخبازه ولو يأكل نصفه) ويُضرب لمن يجعل الصنعة عند غير صانعها والمتخصص فيها.
ويقولون فيمَنْ يُقصِّر في الأمر المنوط به: (باب النجار مخلع).
وحين ترسل مَنْ يقضي لك حاجة فيفلح فيها ويأتي بالنتيجة المرجوة يقول لك: (أبدى المخْضُ عن الزبد) والمخضُ عملية خَضِّ اللبن في القِرْبة لفَصْل الزُّبْد عن اللبن.
وهكذا، المثل قَوْل موجز بليغ قيل في مناسبته، ثم استعمله الناس لخِفَّته وجماله وبلاغته في المواقف المشابهة، والمثَل يظل على حالة الأول لا يغير، ويجب الالتزام بنصِّه مع المفرد والمثنى والجمع، ومع المذكر والمؤنث، فمثلاً إنْ أرسلتَ رسولاً يقضي لك حاجة، فعندما يعود تقول له: (ما وراءك يا عصام) هكذا بالكسر في خطاب المؤنث مع أنه رجل، لماذا؟ لأن المثَل قيل أول ما قيل لمؤنث، فظلَّ على هذه الصيغة من التأنيث حتى ولو كان المخاطَبُ مذكَّراً.
وقصة هذا المثَل أن الحارث ملك كندة أراد أن يتزوج أم إياس، وبعثَ مَنْ تخطبها له، وكان اسمها عصام، فلما ذهبت إليها قالت لها أمها: إن فلانة جاءت تخطبك لفلان، فلا تخفي عنها شيئاً، ودعيها تشمُّك إنْ أرادت، وناطقيها فيما استنطقتْك به، فلما دخلتْ على الفتاة وأرادت أن ترى جسمها خلعتْ ثوبها، وكشفتْ عن جسمها، فقالت المرأة: (ترك الخداع من كشف القناع) فسارت مثلاً، ثم عادت إلى الحارث فاستقبلها متعجلاً ردَّها فقال: (ما وراءكِ يا عصام) يعني: ما الخبر؟ فظلَّ المثل هكذا للمؤنث، وإن خُوطِب به المذكر.
والحق - تبارك وتعالى - يضرب لكم هذا المثل ويقول: خذوه في بالكم، وانتبهوا له، وافتحوا له آذانكم جيداً واعقلوه؛ لأنه سينفعكم في علاقتكم برسول الله وبالمؤمنين.
والخطاب هنا مُوجَّه للناس كافّة، لم يخُصّ أحداً دون أحد: } ياأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ.. { [الحج: 73] فلم يقُل يا أيها المؤمنون؛ لأن هذا المثَلَ مُوجَّه إلى الكفار، فالمؤمنون ليسوا في حاجة إليه } فَاسْتَمِعُواْ لَهُ.. { [الحج: 73] يعني: انصتوا وتفهَّموا مراده ومرماه، لتسيروا في حركتكم على وَفْق ما جاء فيه، وعلى وَفْق ما فهمتم من مغزاه.
فما هو هذا المثَل؟
} إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ.. { [الحج: 73].
أي: الذين تعبدونهم وتتجهون إليهم من دون الله } لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً.. { [الحج: 73] وهو أصغر المخلوقات } وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ.. { [الحج: 73] يعني: تضافرَتْ جهودهم، واجتمع أمرهم جميعاً لا واحداً واحداً، وهذا ترقٍّ في التحدي، حيث زاد في قوة المعاند.
كما ترقَّى القرآن في تحدِّي العرب، فتحداهم أولاً بأنْ يأتوا بمثل القرآن، ولأن القرآن كثير تحدّاهم بعشر سور فما استطاعوا، فتحدَّاهم بسورة واحدة فلم يستطيعوا.
ثم يترقى في التحدي فيقول: اجمعوا كل فصحائكم وبلغائكم، بل والجن أيضاً يساعدونكم ولن تستطيعوا:{ قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَىا أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـاذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ.. }[الإسراء: 88].
وقوله تعالى: } لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً.. { [الحج: 73] جاءت بنفي المستقبل فلم يقُلْ مثلاً: لم يخلقوا، فالنفي هنا للتأبيد، فهم ما استطاعوا في الماضي، ولن يستطيعوا أيضاً فيما بعد حتى لا يظن أحد أنهم ربما تمكّنوا من ذلك في مستقبل الأيام، ونفي الفعل هكذا على وجه التأبيد؛ لأنك قد تترك الفعل مع قدرتك عليه، إنما حين تتحدَّى به تفعل لتردّ على هذا التحدِّي،فأوضح لهم الحق سبحانه أنهم لم يستطيعوا قبل التحدي، ولن يستطيعوا بعد التحدي.
ثم يقول تعالى: } وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ.. { [الحج: 73] فقد تقول: إن عملية الخَلْق هذه عملية صعبة لا يُتحدَّى بها، لذلك تحداهم بما هو أسهل من الخَلْق } وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ.. { [الحج: 73] وهل يستطيع أحد أن يُعيد ما أخذه الذباب من طعامه على جناحيه أو رجله أو خرطومه؟
وكانوا يذبحون القرابين عند الأصنام، ويضعون أمامها الطعام ليباركوه، فكانت الدماء تسيل عندها وتتناثر عليها، فيحطّ عليها الذباب، ويأخذ من هذه الدماء على أَرْجُله النحيفة هذه أو على أجنحته أو على خرطومه، فتحدَّاهم أن يعيدوا من الذباب ما أخذه، وهذه مسألة أسهل من مسألة الخَلْق.
ولك أنْ تُجرِّب أنت هذه العملية، إذا وقع ذباب على العسل الذي أمامك، فلا بُدَّ أن يأخذ منه شيئاً ولو كان ضئيلاً لا يُدرَك ولا يُوزَن ولا تكاد تراه، لكن أتستطيع أنْ تُمسِك الذبابة وتردّ ما أخذتْ منك؟
لذلك يقول تعالى بعدها: } ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ { [الحج: 73] يعني: كلاهما ضعيف، فالذباب في ذاته ضعيف وهم كذلك ضعفاء، بدليل أنهم لن يقدروا على هذه المسألة، لكن هناك ضعيف يدَّعي القوة، وضعيف قوته في أنه مُقِرٌّ بضعفه، فالذباب وإنْ كان ضعيفاً إلا أن الله تعالى قال فيه:{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا.. }[البقرة: 26] يعني: ما فوقها في الصِّغر، ليس المراد ما فوقها في الكبر كالعصفور مثلاً.
ثم يقول الحق سبحانه: } مَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ.. {
.
(/2649)
مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)
يعني: هؤلاء الكفار الذين عبدوا من دون الله آلهة لا تستطيع أن تخلق ذباباً، ولا تستطيع حتى أنْ تردَّ من الذباب ما أخذه، هؤلاء ما عرفوا لله قدره، ولو عرفوا قَدْر الله ما عبدوا غيره.
والقَدْر: يعني مقدار الشيء، وقلنا: إن مقادير الأشياء تختلف حسب ما تريده من معرفة المقادير، فالطول مثلاً له مقياس يُقَاس به مقدار الطول، لكن هذا المقياس يختلف باختلاف المقيس، فإنْ أردتَ أنْ تقيسَ المسافة بين القاهرة والأسكندرية مثلاً لا تستخدم المللي أو السنتيمتر ولا حتى المتر، إنما تستخدم الكيلومتر، فإنْ أردت شراء قطعة من القماش تقول متر، أما إنْ أردتَ صورة شخصية تقول سنتيمتر.
إذن: لكل شيء مقدار يُقدَّر به، ومعيار يُقاس به، فإنْ أردتَ المسافة تقيس الطول، فإنْ أردت المساحة تقيس الطول في العرض، فإنْ أردتَ الحجم تقيس الطول في العرض في الارتفاع، الطول بالمتر والمساحة بالمتر المربع، والحجم بالمتر المكعب. كذلك في الوزن تُقدِّره بالكيلو أو الرطل أو الجرام.. إلخ.
وقدر تأتي بمعنى: ضيَّق، كما جاء في قوله تعالى:{ وَأَمَّآ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ.. }[الفجر: 16].
ويقول الحق سبحانه وتعالى:{ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ اللَّهُ.. }[الطلاق: 7].
والمقدار كما يكون في الماديات يكون أيضاً في المعنويات، فمثلاً تعبر عن الزيادة المادية تقول: فلان كبر يعني شَبَّ وزاد، أما في المعنويات فيقول الحق سبحانه: كَبُر{ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ.. }[الكهف: 5] يعني: عَظُمتْ.
والحق - تبارك وتعالى - ليس مادة؛ لأنه سبحانه فوق المادة، فمعنى المقدار في حقه تعالى عظمته في صفات الكمال فيه { مَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ.. } [الحج: 74] ما عظّموه حَقَّ التعظيم الذي ينبغي له، وما عرفوا قَدْره، ولو عرفوا ما عبدوا غيره، ولا عبدوا أحداً معه من هذه الآلهة التي لا تخلق ذباباً، ولا حتى تسترد ما أخذه منهم الذباب، فكيف يُسَوُّون هؤلاء بالله ويقارنونهم به عز وجل؟ إنهم لو عرفوا لله تعالى قَدْره لاستحيوا من ذلك كله.
ثم تُذيَّل الآية بقوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [الحج: 74] فما مناسبة هاتين الصفتين للسياق الذي نحن بصدده؟
قالوا: لأن الحق - سبحانه وتعالى - تكلَّم في المثَل السابق عَمَّنْ انصرفوا عن عبادته سبحانه إلى عبادة الأصنام وقال:{ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ }[الحج: 73] فقال في مقابل هذا الضعف إن الله لقويُّ، قوة عن العابد؛ لأنه ليس في حاجة إلى عبادته، وقوة عن المعبود لأنه لو شاء حَطَّمه، وما دُمْتم انصرفتم عن الله وعبدتم غيره، فهذا فيه مُضارَّة، وكأن هناك معركة، فإنْ كان كذلك فالله عزيز لا يغالب.
والآية: { مَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ.. } [الحج: 74] وردتْ في عدة مواضع في كتاب الله، منها:
{ وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىا بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ.. }[الأنعام: 91] فلم يعرفوا لله تعالى قَدْره لأنهم اتهموه، وله سبحانه كمال العدل، فكيف يُكلف عباده بعبادته، ولا يبلغهم برسول؟ وهو سبحانه القائل:{ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىا نَبْعَثَ رَسُولاً }[الإسراء: 15].
فحين يقولون:{ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىا بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ.. }[الأنعام: 91] كأنهم يصِفُون الحق سبحانه بأنه يُعذِّب الناس دون أنْ يُبلِّغهم بشيء. ويردّ عليهم في هذه المسألة:{ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَىا.. }[الأنعام: 91].
وفي موضع آخر:{ وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ.. }[الزمر: 67].
ونقول: قَدّرَه حَقَّ قدره، وقَدَره قَدْره، كأن الأمور تختلف في تقدير الأشياء، فمثلاً تنظر إلى حجرة فتقول: هذه تقريباً 5×4هذا تقدير إجمالي تقريبي، إنما إنْ أخذت المقياس وقدَّرْتَ تقديراً حقيقياً، فقد تزيد أو تنقص، فالأول تقول: قدَّرْت الحجرة قَدْرها. والآخر تقول: قدرت الحجرة حَقَّ قَدرها.
وعليه فإنك إنْ أردت أنْ تُقدِّر الله تعالى حَقَّ قَدْره فإنك تقدِّره على قَدْر استيعاب العقل البشري، إنما قَدْره تعالى حقيقة فلا تحيط به؛ لأن كمالاته تعالى لا تتناهى ولا تُدرَك إدراكاً تاماً.
ومن ذلك ما سبق أن ذكرناه عن علم اليقين وعين اليقين وحقِّ اليقين. ولما نزل قوله تعالى:{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ.. }[آل عمران: 102] قال بعض الصحابة: ومَنْ يقدر على ذلك إنها مسألة صعبة أن نتقي الله التقوى الكاملة التي يستحقها عز وجل، فأنزل الله تعالى:{ فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ.. }[التغابن: 16] ونزلت:{ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا.. }[البقرة: 286].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أثنى على الله تعالى يقول: " سبحانك، لا نحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك ".
لماذا؟ لأنه لا يملك أحد مهما أُوتِي من بلاغة الأسلوب أنْ يُثني على الله الثناء المناسب الذي يليق به سبحانه، ومن رحمة الله تعالى بعباده أن تحمل عنهم هذه المسألة فأثنى الحق سبحانه على نفسه، وعلَّمنا كيف نثني عليه سبحانه، فإذا ما تحدث البليغ وأثنى على الله بفنون القول والثناء، فإن العييَّ الذي لا يجيد الكلام يطمئن حيث يُثِني على ربه بما علمه من الثناء، وما وضعه من صيغ يقولها الفيلسوف، ويقولها راعي الشاة.
ولولا أن الله تعالى علَّمنا صيغة الحمد في سورة الفاتحة فقال:{ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }[الفاتحة: 2] ما تعلمنا هذه الصيغة، فتعليم الله لعباده صيغة الحمد في ذاتها نعمة تستحق الحمد، والحمد يستحق الحمد، وهكذا في سلسلة لا تنتهي، ليظل الحق - تبارك وتعالى - محموداً دائماً، ويظل العبد حاملاً دائماً.
وبعد أن تكلم الحق سبحانه عن مسألة الألوهية وما ينبغي لها من صفات الكمال المطلق، وحذر أنْ نُدخِل عليها ما ليس منها وما لا يستحقها، وهذه قمة العقائد، وبعد أن نؤمن بالإلهيات بهذا الصفاء ونُخلِّص إيماننا من كل ما يشوبه لا بُدَّ من البلاغ عن هذه القوة الإلهية التي آمنا بها، والبلاغ يكون بإرسال الرسل.
لذلك قال سبحانه: } اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ.. {
.
(/2650)
اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75)
إذن: المرحلة الثانية في الإيمان بعد الإيمان بالقمة الإلهية الإيمان بالرسل { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ.. } [الحج: 75].
والاصطفاء: اختيار نخبة من كثير، واختيار القليل من الكثير دليل على أنها الخلاصة والصفوة، كما يختلف الاصطفاء باختلاف المصطفي، فإنْ كان المصطفِي هو الله تعالى فلا بُدَّ أنْ يختار خلاصة الخلاصة.
والاصطفاء سائر في الكون كله، يصطفي من الملائكة رسلاً، ومن الناس رسلاً، ويصطفي من الزمان، ويصطفي من المكان، كما اصطفى رمضان من الزمان، والكعبة من المكان. ولم يجعل الحق سبحانه الاصطفاء لتدليل المصطفى على غيره، إنما ليُشيع اصطفاءَه على خَلْق الله، فما اصطفى رمضان على سائر الزمن - لا ليدلل رمضان - إنما لتأخذ منه شحنة تُقوِّي روحك، وتُصفِّيها بقية الأيام، لتستفيد من صالح عملك فيها.
وقد يتكرر الاصطفاء مع اختلاف متعلق الاصطفاء؛ لذلك وقف المستشرقون عند قول الله تعالى:{ يامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىا نِسَآءِ الْعَالَمِينَ }[آل عمران: 42].
يقولون: ما فائدة تكرار الاصطفاء هنا؟ ولو تأملنا الآية لوجدنا فَرْقاً بين الاصطفاء الأول والآخر: الاصطفاء الأول اصطفاء؛ لأنْ تكوني عابدة تقية متبتلة منقطعة في محرابك لله، أما الاصطفاء الآخر فاصطفاء على نساء العالمين جميعاً، بأن تكوني أماً لمولود بلا أب، فمُتعلِّق الاصطفاء - إذن - مختلف.
وتنقسم الملائكة في مسألة الاصطفاء إلى ملائكة مُصْطفاة، وملائكة مُصْطَفًى منها. وفي آية أخرى يقول تعالى:{ جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً.. }[فاطر: 1] يعني: كلهم لهم رسالة مع عوالم أخرى غيرنا.
أما في الآية التي معنا، فالكلام عن الملائكة الذين لهم صلة بالإنسان أمثال جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل، والحفظة الكاتبين والمكلفين بحفظ الإنسان، فالله تعالى يصطفي هؤلاء، أما الباقون منهم فالله مصطفيهم لعبادته فهم مُهيِّمون لا يدرون عن هذا الخلق شيئاً، وهم الملائكة العالون الذين قال الله عنهم في الحديث عن إبليس:{ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ }[ص: 75] يعني: الذين لم يشملهم الأمر بالسجود؛ لأن لهم مهمة أخرى.
ثم يقول تعالى: { إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } [الحج: 75] السمع يتعلق بالأصوات، والبصر يتعلق بالأفعال، وهما كما قلنا عُمْدة الحواسِّ كلها، والحق سبحانه في قوله: { سَمِيعٌ بَصِيرٌ } [الحج: 75] يُبيّن لنا أن رسله سيُوَاجَهُون بأقوال تؤذيهم واستهزاء، وسيُقَابلون بأفعال تعرقل مسيرة دعوتهم، فليكُنْ هذا معلوماً حتى لا يفُتّ في عَضُدهم، وأنا معهم سميع لما يُقال، بَصير بما يفعل، فهُمْ تحت سمعي وبصري وكلاءتي.
(/2651)
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)
{ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } [الحج: 76] ما أمامهم، ويعلم أيضاً ما خلفهم، فليعمل الإنسان ما يشاء، فعِلْم الله محيط به.
{ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ } [الحج: 76] فالمرجع في النهاية إليه سبحانه، فالحق - تبارك وتعالى - لم يخلق خَلْقه ليتركهم هَمَلاً، إنما خلقهم لحكمة، وجعل لهم نهاية يُجازَي فيها كُلٌّ بعمله، فمَن تعب ونصب في سبيل دعوة الله وتحمّل المشاقّ في مساندة رسل الله فله جزاؤه، ومَنْ جابههم وعاندهم سواء بالأقوال السَّابّة الشاتمة المستهزئة، أو بالأفعال التي تعوق دعوتهم، فله أيضاً ما يستحق من العقاب.
وبعد أن حدَّثنا ربنا عز وجل عن الإلهيات وعن الرسل التي تُبلِّغ عنه سبحانه، يُحدثنا عن المنهج الذي سيأتون به لينظم حركة حياتنا، هذا المنهج موجز في افعل كذا، ولا تفعل كذا، وهو لا يشمل في أوامره ونواهيه كل حركات الحياة. فالأوامر والنواهي محصورة في عِدَّة أمور، والباقي مباح؛ لأن الله تعالى وضع الأوامر والنواهي في الأصول التي تعصم حركة الحياة من الأهواء والنزوات، وترك الباقي لاختيارك تفعله على أيِّ وجه تريد.
لذلك نرى العلماء يجتهدون ويختلفون في مثل هذه الأمور التي تركها الله لنا، ولو أراد سبحانه لأنزل فيها حكماً محكماً، لا يختلف عليه أحد. ولك أن تقول: ولماذا ترك الحق سبحانه هذه الأمور تتضارب فيها الأقوال، وتختلف فيها الآراء، وتحدث فيها نزاعات بين الناس؟
قالوا: هذا مراد الله؛ لأن الله تعالى خلق الإنسان مُسخَّراً في أشياء، ومختاراً في أشياء أخرى، فللناس أن يتركوا المجتهد يجتهد ما وسعه الاجتهاد، ثم يحكمون على ما وصل إليه أنه حق، وآخر يجتهد ويقررون أنه باطل؛ لأن الله لو أراده على لون واحد لقاله، إنما تركه محتملاً للآراء.
إذن: أراد سبحانه أن تكون هذه الآراء لأن الإنسان كما هو محكوم بقهر في كثير من الكونيات وله اختيار في بعض الأمور، كذلك الحال في التكليف، فهو مقهور في الأصول التي لو حاد عنها يفسد العالم، ومختار في أمور أخرى يصحّ فِعْلها ويصحّ تَرْكها.
يقول تعالى في هذا المنهج: { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ارْكَعُواْ وَاسْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ.. }
.
(/2652)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)
النداء في ضَرْب المثل السابق كان للناس كافَّة؛ لأنه يريد أنْ يَلفِت عُبَّاد الأصنام إلى هذا المثَل، ويُسْمعهم إياه، أمَّا هنا فالكلام عن منهج ودستور مُوجَّه، خاصّة إلى الذين آمنوا، لأنه لا يُكلَّف بالحكم إلا مَنْ آمن به، أما مَنْ كفر فليس أَهْلاً لحمل هذه الأمانة؛ لذلك تركه ولم ينظم له حركة حياته. وكما قلنا في رجل المرور أنه يساعد مَن استعان به ووثق فيه، فيدلّه ويرشده، أما مَنْ شكَّ في كلامه وقلّلَ من شأنه يتركه يضل في مفترق الطرق.
فإذا ناداك ربك بما يكلفك به، فاعلم أن الجهة مُنفكّة، كما في قوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ.. }[النساء: 136].
وقد اعترض على أسلوب القرآن في هذه الآية بعض الذين يأخذون الآيات على ظاهرها، يقولون: كيف يخاطبهم بيا أيها الذين آمنوا ثم يقول: آمِنوا، كيف وهم يؤمنون بالفعل؟
قالوا: المراد يا أيها الذين آمنوا قبل سماع الحكم الجديد ظَلُّوا على إيمانكم في الحكم الجديد، واستمِرّوا على إيمانكم؛ لذلك إذا طلبتَ شيئاً ممَّنْ هو موصوف به فاعلم أن المراد الدوام عليه.
كما أن هناك فَرْقاً بين الإيمان بالحكم وبين تنفيذ الحكم، فقد تؤمن بالحكم أنه من الله ولا تشكّ فيه ولا تعترض عليه، لكنك لا تنفذه وتعصاه، فمثلاً في الحج يقول تعالى:{ وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ.. }[آل عمران: 97] الذي لله تعالى على عباده أنْ يحجوا البيت{ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً.. }[آل عمران: 97] وهذا شرط ضروري، فلا تكليفَ بلا استطاعة، ثم يقول:{ وَمَن كَفَرَ }[آل عمران: 97].
فهل يعني هذا أن مَنْ لم يحج فهو كافر؟
قالوا: لا، لأن المراد: لله على الناس حكم يعتقده المؤمن، بأن لله على الناس حج البيت، فمن اعتقد هذا الاعتقاد فهو مؤمن، أما كونه ينفذه أو لا ينفذه هذه مسألة أخرى.
ثم يبدأ أول ما يبدأ في التكليف بمسألة الصلاة: { ارْكَعُواْ وَاسْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ.. } [الحج: 77] لقد جاء الرسل من عند الله بتكاليف كثيرة، لكن خَصَّ هنا الصلاة لأنها التكليف الذي يتكرر كل يوم خمس مرات، أما بقية التكاليف فهي موسمية: فالصوم شهر في العام كله، والحج مرة في العمر كله لمن استطاع، والزكاة عند خروج المحصول لمن يملك النصاب أو عند حلول الحَوْل.
إذن: تختلف فريضة الصلاة عن باقي الفرائض؛ لذلك خَصَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمَنْ تركها فقد كفر ".
ويقول: " الصلاة عماد الدين ".
وخصَّها الحق - تبارك وتعالى - بظرف تشريعي خاص، حيث فُرِضت الصلاة بالمباشرة، وفُرِضت باقي الفرائض بالوحي.
وضربنا لذلك مثلاً - ولله المثل الأعلى - قلنا: إن رئيس العمل يمكن أن يرسل لك ورقة يقول: افعل كذا وكذا، فإنْ كان أمراً هاماً اتصل بك تليفونياً، وأخبرك بما يريد لأهميته، فإنْ كان الأمر أهم من ذلك وجاء من جهة أعلى يقول لك: تعال عندي لأمر هام، ويُكلِّفك به مباشرة، وكذلك على حسب الأهمية يوجد ظرف التشريع.
فالصلاة لم تأت بالوحي كباقي الفرائض، إنما جاءت مباشرة من المُوحِي سبحانه وتعالى؛ لأنها ستكون صلة بين العبد وربه، فشاء أن يُنزّهَها حتى من هذه الواسطة، ثم ميَّزها على غيرها من التكاليف، فجعلها الفريضة التي لا تسقط عن المسلم بحال أبداً. فقد تكون فقيراً فلا تلزمك الزكاة، وغير مستطيع فلا يلزمك حج، ومريض أو مسافر فلا يلزمك صوم.
أما الصلاة فلا يُسقِطها عنك شيء من هذا كله، فإنْ كنت غير قادر على القيام فلك أنْ تُصلِّي قاعداً أو مضطجعاً أو راقداً، تشير بطرفك لركوعك وسجودك، ولو حتى تجري أفعال الصلاة على قلبك، المهم أن تظلّ ذاكراً لربك متصلاً به، لا يمر عليك وقت إلا وهو سبحانه في بالك.
وقلنا: إن ذكر الله في الأذان والإقامة والصلاة ذِكْر دائم في كل الوقت لا ينقطع أبداً، فحين تصلي أنت الصبح مثلاً غيرك يصلي الظهر، وحين تركع غيرك يسجد، وحين تقول: بسم الله الرحمن الرحيم. غيرك يقول: الحمد لله رب العالمين.. الخ.
فهي عبادة متداخلة دائمة لا تنقطع أبداً؛ لذلك يقول أحد أهل المعرفة مخاطباً الزمن: يا زمن فيك كل الزمن. يعني: في كل جزئية من الزمن الزمن كله، كأنه قال: يا ظُهْر، وفيك العصر، وفيك المغرب، وفيك العشاء، وهكذا العالم كله يدور بعبادة لله لا تنتهي.
وذكر من الصلاة الركوع والسجود؛ لأنهما أظهر أعمال الصلاة، لكن الركوع والسجود حركات يؤديها المؤمن المخلص، ويؤديها المنافق، وقد كان المنافقون أسبق الناس إلى الصفوف الأولى؛ لذلك أراد الحق سبحانه أنْ يُميِّز هذا من هذا، فقال: } وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ.. { [الحج: 77].
فليست العبرة في حركات الركوع والسجود، إنما العبرة في التوجّه بها إلى الله، وإخلاص النية فيها لله، وإلا أصبحت الصلاة مجرد حركات لا تعدو أن تكون تمارين رياضية كما يحلو للبعض أن يقول: الصلاة فيها تمارين رياضية تُحرِّك كل أجزاء الجسم، نعم هي كما تقولون رياضة، لكنها ليست عبادة، العبادة أن تؤديها لأن الله تعالى أمرك بها.
ثم يقول تعالى: } وَافْعَلُواْ الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ { [الحج: 77].
والخير كلمة عامة تشمل كل أوامر التكليف، لكن جاءت مع الصلاة على سبيل الإجمال، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فالخير - إذن - كلمة جامعة لكل ما تؤديه وظائف المناهج من خير المجتمع؛ لأن المنهج ما جاء إلا لينظم حركة الحياة تنظيماً يتعاون ويتساند لا يتعاند، فإنْ جاء الأمر على هذه الصورة سَعِد المجتمع بأَسْره.
ولا تنْسَ أن المنهج حين يُضيِّق عليك ويُقيِّد حركتك يفعل ذلك لصالحك أنت، وأنت المستفيد من تقييد الحركة؛ لأن ربك قيّد حركتك وضيَّق عليك حتى تُلحِق الشر بالآخرين، وفي الوقت نفسه ضيّق على الآخرين جميعاً أن يتحركوا بالشر ناحيتك، وأنت واحد وهم كثير، فمن أجل تقييد حركتك قيّد لك حركة الناس جميعاً، فمَنِ الكاسب في هذه المسألة.
الشرع قال لك: لا تسرق وأنت واحد وقال للناس جميعاً: لا تسرقوا منه، وقال لك: غُضّ بصرك عن محارم الغير وأنت واحد. وقال لكل غير: غُضُّوا أبصاركم عن محارم فلان، فكل تكليف من الله للخَلْق يعود عليك.
فالمعنى: } وَافْعَلُواْ الْخَيْرَ { [الحج: 77] أي: الذي لا يأتي منه فساد أبداً، وما دامت الحركات صادرة عن مراد لهوى واحد فإنها تتساند وتتعاون، فإنْ كان لك هوى ولغيرك هوى تصادمتْ الأهواء وتعاندت، والخير: كل ما تأمر به التكاليف المنهجية الشرعية من الحق تبارك وتعالى.
ثم يقول سبحانه: } لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ { [الحج: 77] لكن، أين سيكون هذا الفَلاَح: في الدنيا أم في الآخرة؟
الفلاَح يكون في الدنيا لمن قام بشرع الله والتزم منهجه وفعل الخير، فالفَلاح ثمرة طبيعية لمنهج الله في أيِّ مجتمع يتحرك أفرادُه في اتجاه الخير لهم وللغير، مجتمع يعمل بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " وعندها لن ترى في المجتمع تزاحماً ولا تنافراً ولا ظلماً ولا رشوة.. الخ هذا الفلاح في الدنيا، ثم يأتي زيادة على فلاح الدنيا فلاح الآخرة.
إذن: لا تظنوا التكاليف الشرعية عِبْئاً عليكم؛ لأنها في صالحكم في الدنيا، وبها فلاح دنياكم، ثم يكون ثوابها في الآخرة مَحْض الفضل من الله.
وقد نبهنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه المسألة فقال: " لا يدخل أحدكم الجنة بعمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أنْ يتغمّدني الله برحمته " ذلك لأن الإنسان يفعل الخير في الدنيا لصالحه وصالح دنياه التي يعيشها، ثم ينال الثواب عليها في الآخرة من فضل الله كما قال تعالى:{ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ.. }[النساء: 173].
وقوله تعالى: } لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ { [الحج: 77] نعرف أن لعل أداة للترجي، وهو درجات بعضها أرْجى من بعض، فمثلاً حين تقول: لعل فلاناً يعطيك، فأنت ترجو غيرك ولا تضمن عطاءه، فإنْ قلت: لعلِّي أعطيك. فالرجاء - إذن - في يدك، فهذه أرجى من سابقتها، لكن ما زلنا أنا وأنت متساويين، وربما أعطيك أولاً، إنما حين تقول: لعل الله يعطيك فقد رجوْتَ الله، فهذه أرجى من سابقتها، فإذا قال الله تعالى بذاته: لعلي أعطيك فهذا أقوى درجات الرجاء وآكدها؛ لأن الوعد من الله والرجاء فيه سبحانه لا يخيب.
ثم يقول الحق سبحانه: } وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ.. {
.
(/2653)
وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
معنى { حَقَّ جِهَادِهِ.. } [الحج: 78] كالذي قلناه في{ مَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ }[الحج: 74] لأن الجهاد أيضاً يحتاج إلى إخلاص، وأنْ تجعل الله في بالك، فربما خرجتَ لمجرد أن تدفع اللوم عن نفسك وحملتَ السلاح فعلاً ودخلت المعركة، لكن ما في بالك أنها لله وما في بالك إعلاء كلمة الله، كالذي يقاتل للشهرة وليرى الناس مكانته، أو يقاتل طمعاً في الغنائم، أو لأنه مغتاظ من العدو وبينه وبينه ثأر، ويريد أن ينتقم منه ، هذه وغيرها أمور تُخرِج القتال عن هدفه وتُفرغه من محتواه.
لذلك لما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليذكر، والرجل يقاتل ليُرى مكانه، فمَنْ في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " " وهذا هو حق الجهاد، وأنت فيه حكَم على نفسك، لأن ميزان ذلك في يدك
. وقد تسأل: ولماذا الجهاد؟ قالوا: لأنك إذا انتفعتَ بالمنهج تطبيقاً له بعد التحقيق الذي أتى به الرسل تنفع نفسك، لكن ربك - عز وجل - يريد أنْ يُشيع النفع لمن معك أيضاً، وهذا لا يتأتّى إلا بالجهاد بالنفس أو المال أو أي شيء محبوب، وإلا فكيف ستربح الصفقة التي قال الله تعالى عنها:{ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّةَ.. }[التوبة: 111].
وكما أن للجنود في ساحة القتال مهمة، كذلك لمن قعد ولم يخرج مهمة: الجندي حين يقتحم الأهوال والمخاطر ويُعرِّض نفسه للموت، فهذا يعني أنه دخل المعركة وما عرَّض نفسه للموت، فهذا يعني أنه ما دخل المعركة وما عرَّض نفسه للقتل إلا وهو واثق تمام الثقة، أن ما يذهب إليه بالقتل خير مما يناله بالجُبْن، وهذا يشجع الآخرين ويحثّهم على القتال.
لذلك، في غزوة بدر لما سمع الصحابي كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أجر الشهيد وكان في فمه تمرة يمصُّها، فقال: يا رسول الله، أليس بيني وبين الجنة إلا أنْ أُقتل في سبيل الله؟ قال: نعم، فألقى التمرة من فيه وخرج لتوِّه إلى الجهاد لأنه واثق تمام الثقة أن ما سيذهب إليه بالشهادة خير مما ترك.
أما الذين بَقَوْا ولم يخرجوا، فمهمتهم أن يحملوا المنهج، وأنْ يحققوه، وإلا لو خرج الجميع إلى القتال واستشهدوا جميعاً، فمَنْ يحمل منهج الله وينشره؟
وجاءءت كلمة الجهاد عامة لتشمل كل أنواع الجهاد، فإذا ما أثمر الجهاد ثمرته وتعلبنا على الكفر فلم يَعُدْ هناك كفار، أو خَلَّوْا طريق دعوتنا وتركونا، وأحبوا أنْ يعيشوا في بلادنا أهل ذمة، فلا داعي - إذن - للقتال، ويتحول الجهاد إلى ميدان آخر هو جهاد النفس.
لذلك قال تعالى بعدها: } هُوَ اجْتَبَاكُمْ.. { [الحج: 78] يعني: اختاركم واصطفاكم لتكونوا خير أمة أُخرجت للناس، وثمن هذا الاجتباء أن نكون أهلاً له، وعلى مستوى مسئوليته، وأنْ نحقق ما أراده الله منّا.
كما ننصح جماعة من أهل الدعوة الذين حملوا رايتها، نقول لهم: لقد اختاركم الله، فكونوا أَهْلاً لهذا الاختيار، واجعلوا كلامه تعالى في محلّه.
ثم يقول سبحانه: } وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ.. { [الحج: 78] يعني: ما اجتباكم ليُعنتكم، أو ليُضيِّق عليكم، أو ليُعسِّر عليكم الأمور، إنما جعَل الأمر كله يُسْر، وشرعه على قَدْر الاستطاعة، ورخَّص لكم ما يُخفِّف عنكم، ويُذهِب عنكم الحرج والضيق، فمَنْ لم يستطع القيام صلى قاعداً، ومَنْ كان مريضاً أفطر، والفقير لا زكاة عليه ولا حج.. الخ.
كما قال سبحانه في موضع آخر:{ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ.. }[البقرة: 220] لكنه سبحانه ما أعنتكم ولا ضَيَّق عليكم، وما كلَّفكم إلا ما تستطيعون القيام به.
وقوله تعالى: } مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ { [الحج: 78] كلمة (ملة) جاءت هكذا بالنصب، لأنها مفعول به لفعل تقديره: (الزموا) مِلة أبيكم إبراهيم؛ لأنكم دعوته حين قال:{ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ.. }[البقرة: 128]
ومن دعوة إبراهيم عليه السلام:{ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ.. }[البقرة: 129] لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " أنا دعوة أبي إبراهيم، وبُشْرى عيسى ".
يعني: من ذريته وذرية ولده إسماعيل{ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا.. }[البقرة: 128] أعطنا التكاليف، وكأنه مُتشوِّق إلى تكاليف الله، وهل يشتاق الإنسان للتكليف إنْ كان فيه ضيق أو مشقة؟
وكذلك كان صحابة النبي صلى الله عليه وسلم يعشقون تكاليف الإسلام، ويسألون عنها رسول الله رغم قوله لهم: " ذروني ما تركتكم " إلا أنهم كانوا يسألون عن أمور الدين ليبنوا حياتهم الجديدة، لا على ما كانت الجاهلية تفعله، بل على ما أمر به الإسلام.
ولنا مَلْحظ في قوله تعالى: } مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ.. { [الحج: 78].
نقول: الإسلام انقياد عَقَديٌّ للجميع، وفي أمة الإسلام مَنْ ليس من ذرية إبراهيم، لكن إبراهيم عليه السلام أبٌ لرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، والرسول أب لكل مَنْ آمن به؛ لأن أبوة الرسول أبوة عمل واتباع، كما جاء في قول الله تعالى في قصة نوح عن ابنه:{ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ.. }[هود: 46].
ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم أباً لكل مَنْ آمن به سَمَّى الله زوجاته أمهات للمؤمنين، فقال سبحانه:{ النَّبِيُّ أَوْلَىا بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ.. }[الأحزاب: 6].
وما دامت الأزواج أمهات، فالزوج أب، وبناءً على هذه الصلة يكون إبراهيم عليه السلام أباً لأمة الإسلام، وإنْ كان فيهم مَنْ ليس من سلالته.
ونجد البعض ممَّنْ يحبون الاعتراض على كلام الله يقولون في مسألة أبوة الرسول لأمته: لكن القرآن قال غير ذلك، قال في قصة زيد بن حارثة:
{ مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ.. }[الأحزاب: 40] فنفى أن يكون محمد أباً لأحد، وفي هذا ما يناقض كلامكم.
نقول: لو فهمتم عن الله ما اعترضتُم على كلامه، فالله يقول: ما كان محمد أباً لأحدكم، بل هو أب للجميع، فالمنفيّ أن يكون رسول الله أباً لواحد، لا أن يكون أباً لجميع أمته. وقال بعدها:{ وَلَـاكِن رَّسُولَ اللَّهِ.. }[الأحزاب: 40] وما دام رسول الله، فهو أب للكل.
ثم يقول تعالى عن إبراهيم عليه السلام: } هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ.. { [الحج: 78] يعني: إبراهيم عليه السلام سماكم المسلمين، فكأن هذه مسألة واضحة وأمْر معروف أنكم مسلمون منذ إبراهيم عليه السلام: } وَفِي هَـاذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ.. { [الحج: 78].
وفي موضع آخر يحدث تقديم وتأخير، فيقول سبحانه:{ لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً }[البقرة: 143].
لماذا؟ قالوا: لأن رسول الله بلَّغ رسالة الله، وأشهد الله على ذلك حين قال: " اللهم قد بلغت، اللهم فاشهد " أشهد أنِّي بلغتُ، وهو صلى الله عليه وسلم يريد من أمته أن يكون كل شخص فيها حاملاً لهذه الرسالة، مُبلِّغاً لها حتى يسمع كلام الرسول مَنْ لم يحضره ولم يَرَهُ، وهكذا يكون الرسول شهيداً على مَنْ آمن به، ومَنْ آمن شهيداً على مَنْْ بلّغه.
لذلك من شرف أمة محمد أولاً أنه لا يأتي بعده رسول؛ لأنهم مأمونون على منهج الله، وكأن الخير لا ينطفيء فيهم أبداً. وقلنا: إن الرسل لا يأتون إلا بعد أنْ يعُمَّ الفساد، ويفقد الناس المناعة الطبيعية التي تحجزهم عن الشر، وكذلك يفقدها المجتمع كله فلا ينهى أحد أحداً عن شر؛ عندها يتدخل الحق سبحانه برسول ومعجزة جديدة ليُصلح ما فسد.
فختام الرسالات بمحمد صلى الله عليه وسلم شهادة أن الخير لا ينقطع من أمته أبداً، ومهما انحرف الناس سيبقى جماعة على الجادة يحملون المنهج ويتمسكون به ويكونون قدوة لغيرهم. لذلك حدَّد رسول الله هذه المسألة فقال: " الخير فيَّ حصراً، وفي أمتي نثراً " فالخير كله والكمال كله في شخص رسول الله، ومنثور في أمته.
ثم يعود السياق إلى الأمر بالصلاة: } فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَـاةَ.. { [الحج: 78] لأنها الفريضة الملازمة للمؤمن، وفيها إعلاء الولاء المكرر في اليوم خمس مرات، وبها يستمر ذِكْر الله على مدى الزمن كله لا ينقطع أبداً في لحظة من لحظات الزمن حين تنظر إلى العالم كله، وتضم بعضه إلى بعض.
والمتأمل في الزمن بالنسبة للحق - تبارك وتعالى - يجده دائماً لا ينقطع، فاليوم مثلاً عندنا أربع وعشرون ساعة، واليوم عند الله ألف سنة مما تعدُّون، واليوم في القيامة خمسون ألف سنة، وهناك يوم اسمه يوم الآن أي: اللحظة التي نحن فيها، وهو يوم الله الذي قال عنه:
{ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ }[الرحمن: 29] لذلك يقول: ما شغل ربك الآن وقد صَحَّ أن القلم قد جَفَّ؟ قال: " أمور يبديها ولا يبتديها، يرفع أقواماً، ويضع آخرين ".
فيوم الآن يوم عام، لا هو يوم مصر، ولا يوم سوريا، ولا يوم اليابان إذن: في كل لحظة يبدأ لله يوم ينتهي يوم، فيومه تعالى مستمر لا ينقطع.
ونقرأ في الحديث النبوي الشريف: " إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مُسِيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مُسيء الليل ".
نهار مَنْ؟ وليل مَنْ؟ فالنهار والليل في الزمن دائم لا ينقطع، وفي كل لحظة من لحظات الزمن ينتهي يوم ويبدأ يوم، وينتهي ليل ويبدأ ليل. إذن: فالله تعالى يده مبسوطة دائماً لا يقبضها أبداً، كما قال سبحانه:{ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ.. }[المائدة: 64]
ثم يقول سبحانه: } وَاعْتَصِمُواْ بِاللَّهِ { [الحج: 78] الجئوا إليه في الشدائد، وهذا يعني أنكم ستُواجهون وتُضطهدون، فما من حامل منهج لله إلا اضُطهد، فلا يؤثر فيكم هذا ولا يفُتُّ في عَضُدكم، واجعلوا الله ملجأكم ومعتصمكم في كل شدة تداهمكم، كما قال سبحانه:{ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ }[هود: 43].
واعتصامكم بالله أمر لا تأتون إليه بأنفسكم إنما } هُوَ مَوْلاَكُمْ { [الحج: 78] يعني: المتولّي لشأنكم، وما دام هو سبحانه مولاكم } فَنِعْمَ الْمَوْلَىا وَنِعْمَ النَّصِيرُ {
.
(/2654)
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)
لما قال الحق - تبارك وتعالى - في الآية قبل السابقة من سورة الحج{ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.. }[الحج: 77] ولعلَّ تفيد الرجاء، أراد سبحانه أن يؤكد هنا على فلاح المؤمنين فقال: { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } [المؤمنون: 1] وأن الرجاء من الله واقع ومؤكد، لذلك جاء بأداة التحقيق { قَدْ } التي تفيد تحقُّق وقوع الفعل، وهكذا تنسجم بداية سورة (المؤمنون) مع نهاية سورة (الحج).
وقوله تعالى هناك{ تُفْلِحُونَ }[الحج: 77] وهنا { أَفْلَحَ } [المؤمنون: 1] مادة (فلح) مأخوذة من فلاحة الأرض، والفَلْح هو الشق؛ لذلك قالوا: إن الحديد بالحديد يفلح، وشَقُّ الأرض: إهاجتها وإثارتها بالحرث، وهذه العملية هي أساس الزرع، ومن هنا سُمِّي الزرع حَرْثاً في قوله سبحانه:{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىا مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّىا سَعَىا فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ }[البقرة: 204 - 205].
ومعنى أفلح: فاز بأقصى ما تتطلع إليه النفس من خير.
والأرض حين تحرثها تكون خالية ليس فيها شيء يُهْلَك، إذن: المراد بالحرث هنا الزرع الناتج عن عملية الحرث، والتي لا بُدَّ منها كي تتم عملية الزراعة؛ لأنك بالحرث تثير التربة ليتخللها الهواء، فيزيد من خصوبتها وصلاحها لاستقبال البذرة، وسبق أن تحدثنا عن عملية الإنبات، وكيف تتم، وأن النبات يتغذى على فَلْقتي البذرة إلى أن يصبح له جذر قوي يستطيع أن يمتصّ من التربة، فإن ألقيتَ البذرة في أرض صماء غير مثارة فإن الجذر يجد صعوبة في اختراق التربة والامتصاص منها.
فالحق - تبارك وتعالى - يعطينا صورة من واقعنا المشاهد، ويستعير من فلاحة الأرض ليعبر عن فلاح المؤمن وفوزه بالنعيم المقيم في الآخرة، فالفلاح يحرث أرضه ويسقيها ويرعاها فتعطيه الحبة بسبعمائة حبة، وهكذا سيكون الجزاء في الآخرة:{ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }[البقرة: 261].
فإذا كانت الأرض المخلوقة لله عز وجل تعطي كل هذا العطاء، فما بالك بعطاء مباشر من خالقك وخالق الأرض التي تعطيك؟ وكما أن الفلاح إذا تعب واجتهد زاد محصوله، كذلك المؤمن كلما تعب في العبادة واجتهد زاد ثوابه وتضاعف جزاؤه في الآخرة
.
(/2655)
الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)
كان أول ظاهرية الفلاح في الصلاة، وما يزال الحديث عنها موصولاً بما قاله ربنا في الآيات السابقة:{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ارْكَعُواْ وَاسْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ.. }[الحج: 77] وقال بعدها:{ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَـاةَ.. }[الحج: 78].
وهنا جعل أول وصف للمؤمنين الذين أفلحوا { الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ } [المؤمنون: 2] فلم يقل مثلاً: مؤدون؛ لأن أمر أداء الصلاة في حق المؤمنين مفروغ منه، العبرة هنا بالهيئة والكيفية، العبرة بالخشوع والخضوع وسكينة القلب وطمأنينته واستحضار الله الذي تقف بين يديه.
كما تقول لولدك: اجلس أمام المعلم باهتمام، واستمع إليه بإنصات، فأنت لا توصيه بالذهاب إلى المدرسة أو حضور الدرس، فهذا أمر مفروغ منه؛ لذلك تهتم بجوهر الموضوع والحالة التي ينبغي أن يكون عليها.
والخشوع أن يكون القلب مطمئناً ساكناً في مهمته هذه، فلا ينشغل بشيء آخر غير الصلاة؛ لأن الله ما جعل لرجل من قلبين في جوفه، وما دام في حضرة ربه عز وجل فلا ينبغي أن ينشغل بسواه، حتى إن بعض العارفين لمعنى الخشوع يقول: إن الذي يتعمد معرفة مَنْ على يمينه أو مَنْ على يساره في الصف تبطل صلاته.
ولما دخل سيدنا عمر - رضي الله عنه - على رجل يصلي ويعبث بلحيته، فضربه على يده وقال: لو خشع قلبك لخشعتْ جوارحك.
ذلك لأن الجوارح تستمد طاقتها من القلب ومن الدم الذي يضخه فيها، فلو شغل القلب عن الجوارح ما تحركت.
لذلك لما سأل أحد الفقهاء صوفياً: ما حكم مَنْ سها في صلاته؟ قال: حكمه عندنا أم عندكم؟ قال: ألنا عند ولكم عند؟ قال: نعم، عند الفقهاء مَنْ يسهو في الصلاة يجبره سجود السهو، أما عندنا فمَنْ يسهو في الصلاة نقتله. يعني مسألة كبيرة.
ثم ألاَ يستحق منك ربك وخالقك أن تتفرغ له سبحانه على الأقل وقت صلاتك، وهي خمس دقائق في كل وقت من الأوقات الخمسة، وقد تركك باقي الوقت تفعل ما تشاء؟ اتستكثر على ربك أن تُفرِّغ له قلبك، وأن تستحضره سبحانه، وهذه العملية في صالحك أنت قبل كل شيء، في صالحك أن تكون في جلوة مع ربك تستمد منه سبحانه الطاقة والمعونة، وتتعرض لنفحاته وإشراقاته وتقتبس من أنواره وأسراره؟
ومن حرص أهل التقوى على سلامة الصلاة وتمامها قال أحدهم لصاحبه الذي يحرص على أنْ يؤم الناس: لماذا تحرص على الإمامة وأنت تعرف أن طالب الولاية لا يُولَّى؟ قال: نعم أحرص عليها لأخرج من الخلاف بين الشافعي الذي قال بقراءة الفاتحة خلف الإمام، وأبي حنيفة الذي قال بأن قراءة الإمام قراءة للمأموم، فأحرص على الإمامة حتى أقرأ أنا، ولا أنشغل بهذا الخلاف.
(/2656)
وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)
اللغو: الكلام الذي لا فائدة منه، ويُطلق أيضاً على كل فعل لا جدوى منه، وفي موضع آخر يقول تعالى:{ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً }[الفرقان: 72] لا يشغلون به ولا يأبهون له، وحكى القرآن عن الكفار عند سماعهم القرآن قولهم:{ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـاذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْاْ فِيهِ.. }[فصلت: 26].
لذلك جعل الحق - تبارك وتعالى - من نعيم الجنة:{ لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً * إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً }[الواقعة: 25 - 26] كأن من المعايب في الدنيا ومن مصائبها أن نسمع فيها لغواً كثيراً لا فائدة منه، وفي آية أخرى يقول عن خمر الآخرة التي لا تُذهب العقل، ولا تجعل صاحبها يهذي بلغو الكلام:{ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ }[الطور: 23].
و { مُّعْرِضُونَ } [المؤمنون: 3] الإعراض في الأصل تجنّب الشيء، وهو صورة لحركة إباء النفس لشيء ما. وأهل المعرفة يضعون للغو مقياساً، فيقولون: كل عمل لا تنال عليه ثواباً من الله فهو لغو.
لذلك احرص دائماً أن تكون حركتك كلها لله حتى تُثَابَ عليها، كصاحبنا الذي دخل عليه رجل وقصده في قضاء أمر من الأمور وهو لا يملك هذا الأمر، لكن أراد أنْ يستغل فرصة الخير هذه، وأن يكون له ثواب حتى في حركة الامتناع عنه، فرفع يده: اللهم إنه عبد قصد عبداً وأنا آخذ بيده وأقصد رباً، فاجعل تصويب خطئه في قصدي تصويباً لقصدك. يعني: أنا وإنْ كنتُ لا أقدر على قضائها إلا أنني أدخل بها على الله من هذه الناحية.
(/2657)
وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4)
الزكاة أولاً تطلق على معنى التطهير، كما جاء في قول الحق تبارك وتعالى:{ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا }[التوبة: 103] لأن الغفلة قد تصيب الإنسان حال جمع المال، فيخالط ماله ما فيه شبهة مثلاً، فيحتاج إلى تطهير، وتطهير المال يكون بالصدقة منه.
والزكاة بمعنى النماء، فبعد أن تُطهر المال تُنمِّيه وتزيده، كما جاء في قوله تعالى:{ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا }[الشمس: 9] يعني: نمِّى ملَكة الخير فيها، ورقَّاها وصعَّدها بأن ينظر إلى العمل إنْ كان سينقص منك في الظاهر، إلا أنه سيجلب لك الخير فيما بعد، فترتقي بذلك ملكَات الخير في نفسك.
لذلك لما تكلم الحق سبحانه عن الربا، وهو الزيادة جمع المتناقضات في آية واحدة، فالربا يزيد المال ويأخذ المرابي المائة مائة وعشراً، في حين تنقص الزكاة من المال في الظاهر، فالمائة بعد الزكاة تصبح سبعة وتسعين ونصفاً، ثم تأتي الآية لتضع أمامك المقياس الحقيقي:{ يَمْحَقُ اللَّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ }[البقرة: 276]، فالربا الذي تظنه زيادة هو مَحْقٌ، والذي تظنه نقصاً هو بركة وزيادة ونماء.
وفي آية أخرى يقول تعالى:{ وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ }[الروم: 39] أي: الذين يضاعف الله لهم ويزيدهم.
وكما أمرنا ربنا - تبارك وتعالى - بالخشوع في الصلاة أمرنا كذلك في الزكاة، فلم يقل: مؤدون. ولكن { فَاعِلُونَ } [المؤمنون: 4] وهذه من تربية مقامات العبادة في الإنسان، فأنت حين تصلي ينبغي أن تخشع وتخضع في صلاتك لله، وكذلك حين تُزكّي تُرقِّي ملكَة الخير في نفسك، فحين تعمل وتسعى لا تعمل على قَدْر حاجتك، وإنما على قَدْر طاقتك، فتأخذ من ثمرة سَعْيك حاجتك، وفي نيتك أن تُخرِج من الباقي زكاة مالك وصدقتك، فالزكاة - إذن - في بالك وفي نيتك بدايةً.
ثم يقول الحق سبحانه: { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ.. }
.
(/2658)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5)
الفروج: جمع فَرْج، والمقصود سَوْءَتَا كُلٍّ من الرجل والمرأة، وقد أمر الله تعالى بحفظها على المهمة التي خُلقت من أجلها، ومهمة هذه الأعضاء إما إخراج عادم الجسم من بول أو غائط، أو العملية الجنسية وهدفها حِفْظ النسل، وعلى الإنسان أن يحفظ فرجه على ما أحلّه له في قوله تعالى: { إِلاَّ عَلَىا أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ.. }
.
(/2659)
إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6)
أي: يحفظون فروجهم إلا على أزواجهم؛ لأن الله أحلها { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ.. } [المؤمنون: 6] ومِلْك اليمين حلال لم يَعُد له موضع، ولم يَعُد له وجود الآن، وقد حرم هذا القانون البشري الدولي، فلم يعد هناك إماء كما كان قبل الإسلام، فهذا حكم مُعطّل لم يَعُدْ له مدلول، وفرق بين أن يُعطّل الحكم لعدم وجود موضوعه وبين أن يُلْغى الحكم، فمِلْك اليمين حكم لم يُلْغ، الحكم قائم إنما لا يوجد له موضوع.
ولتوضيح هذه المسألة: هَبْ أنك في مجتمع كله أغنياء، ليس فيهم فقير ولا مستحق للزكاة عندها تقول: حكم الزكاة مُعطّل، فهي كفريضة موجودة، لكن ليس لها موضوع.
وبعض السطحيين يقولون: لقد ألغى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سهام المؤلفة قلوبهم، والحقيقة أنه ما ألغى ولا يملك أن يُلغي حكماً من أحكام الله، إنما لم يجد أحداً من المؤلّفة قلوبهم ليعطيه، فالحكم قائم لكن ليس له موضوع، بدليل أن حكم تأليف القلوب قائم ومعمول به حتى الآن في بلاد المسلمين، وكثيراً ما نحاول تأليف قلوب بعض الكُتّاب وبعض الجماعات لنعطفها نحو الإسلام، خاصة وغيرنا يبذلون قصارى جهودهم في ذلك. إذن: فسَهْم المؤلفة قلوبهم ما زال موجوداً ويُعمل به.
كما نسمع مَنْ يقول: إن عمر - رضي الله عنه - عطَّل حَدَّ السرقة في عام الرمادة، وهذا ادعاء مخالف للحقيقة؛ لأنه ما عطّل هذا الحد إنما عطَّل نصاً وأحيا نصاً؛ لأن القاعدة الشرعية تقول: ادرأوا الحدود بالشبهات. وما دام قد سرق ليسُدَّ جَوْعته فلم يصل إلى نصاب السرقة، فالسرقة تكون بعد قدر يكفي الضرورة.
ولقائل أن يقول: إذا دارت حرب بين المؤمنين والكافرين وأسروا منا وأسرنا منهم، ألا يوجد حينئذ مِلْك اليمينِ؟ نقول: نعم يوجد مِلْك اليمين، لكن ستواجهك قوانين دولية ألزمتَ نفسك بها وارتضيتها تقول بمنع الرقِّ وعليك الالتزام بها، لكن إنْ وُجِد الرقُّ فمِلْك اليمين قائم وموجود. وهذه المسألة يأخونها سُبّة في الإسلام، وكيف أنه يبيح للسيد كذا وكذا من مِلْك يمينه.
وهذا المأخذ ناشيء عن عدم فهم هؤلاء للحكمة من مِلْك اليمين، وأن كرامة المملوكة ارتفعت بهذه الإباحة، فالمملوكة أُخِذت في حرب أو خلافه، وكان في إمكان مَنْ يأخذها أن يقتلها، لكن الحق سبحانه حمى دمها، ونمَّى في النفس مسألة النفعية، فأباح لمَنْ يأسرها أن ينتفع بها وأحلّها له أيضاً.
ولك أن تتصور هذه الأَمَة أو الأسيرة في بيت سيدها ومعه زوجة أو أكثر وهي تشاهد هذه العلاقات الزوجية في المجتمع من حولها، إن من حكمة الله أن أباح لسيدها معاشرتها؛ لأنها لن ترى لربة البيت بعد ذلك مزيّة عليها؛ لأنهما أصبحا سواء، فإذا ما حملتْ من سيدها فقد أصبحتْ حُرَّة بولدها، وكأن الحق سبحانه يُسيِّر الأمور تجاه العِتْق والحرية. ألاَ تراه بعد هذا يفتح باب العتق ويُعدِّد أسبابه، فجعله أحد مصارف الزكاة وباباً من أبواب الصدقة وكفَّارة لبعض التجاوزات التي يرتكبها الإنسان.
ثم يقول سبحانه: { فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } [المؤمنون: 6] يعني: لا نمدحهم ولا نذمُّهم، وكأن المسألة هذه في أضيق نطاق.
ثم يقول الحق سبحانه: { فَمَنِ ابْتَغَىا وَرَآءَ ذالِكَ.. }
.
(/2660)
فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)
{ ابْتَغَىا }: طلب، { وَرَآءَ ذالِكَ }: غير ما ذكرناه من الأزواج ومِلْك اليمين.
وسبق أن ذكرنا أن كلمة { وَرَآءَ } استُعمْلت في القرآن لمعَان عدة، فهي هنا بمعنى غير الأزواج ومِلْك اليمين. ومن ذلك أيضاً قوله سبحانه:{ ..وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَالِكُمْ }[النساء: 24] يعني: حرَّمْت عليكم كذا وكذا، وأحلَلْتُ لكم غير ما ذُكِر.
وتُستعمل وراء بمعنى بَعْد؛ لأن الغيرية قد تتحد في الزمن، فيوجد الاثنان في وقت واحد، أمّا البعدية فزمنها مختلف، كما قوله تعالى:{ وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ }[هود: 71] يعني: من بعده؛ لأن الزمن مختلف.
وتأتي وراء بمعنى: خلف، كما في قوله تعالى:{ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ }[آل عمران: 187] يعني: جعلوه خلف ظهورهم.
وتأتي وراء أيضاً بمعنى أمام، كما في قوله تعالى:{ وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً }[الكهف: 79] ومعلوم أن الملك كان أمامهم ينتظر كل سفينة تمرُّ به فيأخذها غَصْباً.
وقوله تعالى:{ مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ.. }[ابراهيم: 16] وجهنم أمامه، وستأتي فيما بعد، ولم تَمْضِ فتكون خلفه.
ومعنى: { فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْعَادُونَ.. } [المؤمنون: 7] أي: المعتدون المتجاوزون لما شُرع لهم، وربنا - تبارك وتعالى - حينما يُحذِّرنا من التعدي يُفرِّق بين التعدي في الأوامر، والتعدي في النواهي، فإنْ كان في الأوامر يقول:{ فَلاَ تَعْتَدُوهَا }[البقرة: 229].
وإن كان في النواهي يقول:{ فَلاَ تَقْرَبُوهَا }[البقرة: 187].
ثم يقول الحق سبحانه: { وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ.. }
.
(/2661)
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8)
{ رَاعُونَ }: يعني يحافظون عليها ويراعونها بالتنفيذ، والأمانة: كل ما استُؤمِنْت عليه، وأول شيء استؤمِنتَ عليه عهد الإيمان بالله الذي أخذه الله عليك، وما دُمْت قد آمنت بالإله فعليك أن تُنفِّذ أوامره.
إذن: هناك أمانة للحق وأمانة للخَلْق، أمانة الحق التي قال الله تعالى عنها:{ إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً }[الأحزاب: 72].
فما دُمْتَ قد قبلت تحمُّل الأمانة، فعليك الأداء.
أما العهد: فكل ما يتعهد به الإنسان في غير معصية ويلزمه الوفاء بما عاهد به؛ لأنك حين تعاهد إنساناً على شيء فقد ربطْتَ حركته وقيدتها في دائرة إنفاذ هذا العهد، فحين تقول لي: سأقابلك غداً في المكان الفلاني في الوقت الفلاني لعمل كذا وكذا، فإنني سأُرتِّب حركة حياتي بناءً على هذا الوعد، فإذا أخلفتَ وعدك فقد أطلقتَ نفسك في زمنك وتصرفت حسْب راحتك، وقيَّدْت حركتي أنا في زمني وضيَّعت مصالحي، وأربكت حركة يومي؛ لذلك شدَّد الإسلام على مسألة خُلْف الوعد.
(/2662)
وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9)
في الآيات السابقة تحدِّث عن الصلاة من حيث هيئة الخشوع والخضوع فيها، وهنا يذكر الصلاة من حيث أدائها والحفاظ عليها؛ لأن الحفظ يعني أن تأخذ كل وقت من أوقات الصلاة بميلاده وميلاد الأوقات بالأذان، لكن البعض يقولون: إن الوقت مُمْتدُّ، فالظهر مثلاً مُمْتد من أذان الظهر إلى قبل أذان العصر، وهكذا في باقي الصلوات.
نقول: نعم هذا صحيح والوقت مُمتد، لكن مَنْ يضمن لك الحياة إلى آخر الوقت؟ مَنْ يضمن لك أن تصلي العشاء مثلاً قبل أذان الفجر؟ نعم، تظل غير آثم إلى آخر لحظة إذا تمكنتَ من الصلاة وصلَّيْتَ، لكن هل تضمن هذا؟ كالذي يستطيع أن يحج، إلا أنه أخّر الحج إلى آخر أيامه، فإنْ حج فلا شيء عليه، لكنه لا يضمن البقاء إلى أنْ يحج؛ لذلك يجب المبادرة بالحج عند أول استطاعة حتى لا تأثم إنْ فاتك وأنت قادر.
(/2663)
أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10)
{ أُوْلَـائِكَ } [المؤمنون: 10] يعني: أصحاب الصفات المتقدمة، وهم ستة أصناف: الذين هم في صلاتهم خاشعون، والذين هم عن اللغو معرضون، والذين هم للزكاة فاعلون، والذين هم لفروجهم حافظون، والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون، والذين هم على صلواتهم يحافظون.
هؤلاء هم الوارثون، والإرْث: أَخْذ حق من غير عقد أو هبة؛ لأن أَخْذ مال الغير لا بُدَّ أن يكون إما ببيع وعقد، وإما هبة من صاحب المال. لذلك سألوا الوارث: أهذا حقك؟ قال: نعم، قالوا: فما صكُّك عليه؟ يعني: أين العقد الذي أخذته به؟ قال: عقدي وصَكّي:{ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ }[النساء: 11] فهو عقد أوثق وأعلى من تعاقد البشر.
وما دام عقدي من الحق - تبارك وتعالى - فلا تقُلْ: إن الميراث مأخوذ بغير عقد؛ لأنه قائم على أوثق العقود، وهو العقد من الله.
وكثيراً ما يخرج الناس في مسألة الميراث عما شرع الله حُباً في المال واستئثاراً به، أو بخلاً على مَنْ جعل له الشرع نصيباً، فمَنْ كان عنده البنون والبنات يعطي البنين ويحرم البنات، ومَنْ كان عنده بنات يكتب لهُنَّ ما يملك حتى يحرم إخوته وأعمامهم من حقهم في ماله، وهذا كثيراً ما يحدث في المجتمع.
ويجب عليك أن تتنبه لمسألة الميراث وتحترم شرع الله فيه وتقسيم الله للمال، فقد وهبك الله المال وتركك تتصرف فيه طوال حياتك، وليس لك أن تتصرف فيه أيضاً بعد موتك، عليك أنْ تدعَ المال لصاحبه وواهبه يتصرف فيه؛ لذلك قال الله تعالى عن الإرث:{ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ }[النساء: 11] يعني: ليست من أحد آخر، وما دامت من الله فعليك أنْ تمتثل لها وتنفذها، وحين تتأبَّى عليها فإنك تتأبَّى على الله وترفض قِسْمته.
والمتأمل في مسألة الإرث يجد الخير كل الخير فيما شرعه الله، ومَنْ كان يحب البنين فليُعْط البنات حتى لا يفسد علاقة أولاده من بعده، ويأتي إلينا بعض الرجال الذين أخذوا كل مال أبيهم وحَرَموا منه البنات، يقولون: نريد أن نُصحِّح هذا الخطأ ونعيد القسمة على ما شرع الله.
ونجد عند بعض الناس إشراقات إيمانية، فإنْ رفض بعض الإخوة إعادة التقسيم على شرع الله يقول: أنا أتحمل ميراث أخواتي من مالي الخاص، ومثل هؤلاء يفتح الله عليهم ويبارك لهم فيما بقي؛ لأنهم جعلوا اعتمادهم على الله فيزيدهم من فضله ويُربي لهم القليل حتى يصير كثيراً، أما مَنِ اعتمد على ما في يده فإن الله يكِلُه إليه.
ونعجب من الذي يجعل ماله للبنات ليحرم منه إخوته، نقول له: أنت لستَ عادلاً في هذا التصرف، يجب أن تعاملهم بالمثل، فلو تركت بناتك فقراء لا مال لهن، فمَنْ يعولهُنَّ ويرعاهن من بعدك؟ يعولهن الأعمام.
إذن: لتكُنْ معاملة بالمثل.
والحق - تبارك وتعالى - حين يُورث هذه الأصناف يورثهم بفضله وكرمه، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: " لا يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته ".
أما قوله تعالى:{ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }[النحل: 32] فهذا خاص بمجرد دخول الجنة، أما الزيادة فهي من فضل الله{ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ }[النساء: 173]
ومن أسمائه تعالى (الوارث) وقال:{ وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ }[الأنبياء: 89] فماذا يرث الحق سبحانه وتعالى مِنَّا؟
لقد خلق الله الخَلْق، وأعطى للناس أسباب ملكيته، ووزَّع هذه الملكية بين عباده: هذا يملك كذا، وهذا يملك كذا من فضل الله تعالى. فإذا كان يوم القيامة عاد الملْك كله إلى صاحبه، وكان الحق سبحانه وتعالى هو الوارث الوحيد يوم يقول:{ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ }[غافر: 16].
والله خير الوارثين؛ لأن الوارث يأخذ ما ورثه لينتفع هو به، لكن الحق سبحانه يرث ما تركه للغير ليعود خَيْره عليهم ويزيدهم، ويعطيهم أضعافاً مضاعفة، وإذا كان يعطيهم في الدنيا بأسباب فإنه في الآخرة يرث هذه الأسباب، ويعطيهم من فضله بلا أسباب، حيث تعيش في الجنة مستريحاً لا تعبَ ولا نصبَ ولا سَعْيَ، وما يخطر ببالك تجده بين يديك دون أنْ تُحرِّك ساكناً.
إذن: البشر يرثون ليأخذوا، أمّا الحق سبحانه فيرث ليعطي؛ لذلك فهو خير الوارثين.
فأيُّ شيء يرثه المؤمنون الذين توفرت فيهم هذه الصفات؟ يجيب الحق سبحانه: } الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ.. {
.
(/2664)
الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)
إذن: الحق سبحانه ورَّثهم في الفانية ليعطيهم الفردوس الخالد في الآخرة، والفردوس أعلى الجنة، فورث الحق لينفع عباده ويُصعِّد النفع لهم، ففي الدنيا كنا ننتفع بالأسباب، وفي الآخرة ننتفع بغير أسباب، الحق ورث ليعطي، لا مِثْل ما أخذ إنما فوق ما أخذ؛ لأننا نأخذ في الميراث ما يفنى، ولله تعالى يعطينا في ميراثه ما يبقى.
لكن مِمَّنْ يرثون الفردوس؟
قالوا: الحق - تبارك وتعالى - عندما خلق الخَلْق، وجعل فيهم الاختيار بين الإيمان والكفر، وبين الطاعة والمعصية رتَّبَ على ذلك أموراً، فجعل الجنة على فرض أن الخَلْق كلهم مؤمنون، بحيث لو دخلوا الجنة جميعاً ما كانت هناك أزمة أماكن ولا زحام، وكذلك جعل النار على فرض أن الخَلْق كلهم كافرون، فلو كفر الناس جميعاً لكان لكل منهم مكانه في النار.
وعليه فحين يدخل أهل الجنةِ الجنةَ يتركون أماكنهم في النار، وحين يدخل أهل النارِ النارَ يتركّون أماكنهم في الجنة، فيرث أهل النار الأماكن الشاغرة فيها، ويرث أهل الجنة الأماكن الشاغرة فيها.
والفردوس أعلى مكان في الجنة، لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول " إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة " ذلك؛ لأن الفردوس جنة على أعلى رَبْوة في الجنة. يعني: في مكان مُميّز منها، والعلو في مسألة المسكن والجنان أمر محبوب في الدنيا، الناس يُحبون السُّكْنى في الأماكن العالية، حيث نقاء الهواء ونقاء الماء، أَلاَ تراهم يزرعون في المرتفعات، وإنْ كانت الأرض مستوية يجعلون فيها مصارف منخفضة تمتصُّ الماء الزائد الذي يفسد الزرع؛ لذلك يقول سبحانه:{ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ }[البقرة: 265].
كذلك الأرض المرتفعة لا تُسْقَى بالماء الغمر، إنما تُسْقَى من ماء السماء الذي يغسل الأوراق قبل أن يروي الجذور، فيكون النبات على أفضل ما يكون؛ لذلك يقول عنها رب العزة:{ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ }[البقرة: 265].
ومعلوم أن الأوراق هي رئة النبات، وعليها تقوم عملية التمثيل الضوئي التي يصنع منها النبات غذاءه، فإذا ما سُدَّت مسام الأوراق وتراكم عليها الغبار فإن ذلك يُقلِّل من قدرة النبات على التنفس، مثل الإنسان حينما يُصَاب بشيء في رئته تزعجه وتُقلِّل من كفاءته.
وفي الفردوس ميزة أخرى هي أن الحق سبحانه وتعالى هو الذي غرس شجرها بيده، كما كرَّم آدم عليه السلام فخلقه بيده تعالى، فقال:{ ياإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ.. }[ص: 75].
ويُروى أن الحق - تبارك وتعالى - لما خلق الفردوس، وغرس أشجارها بيده قال للفردوس: تكلمي، فلما تكلمت الفردوس قالت:{ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ }[المؤمنون: 1].
ثم يقول تعالى: { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [المؤمنون: 11] لأن نعيم الجنة باقٍ ودائم لا ينقطع، وقد عرفنا أن نعيم الدنيا موقوت مهما أُوتِي الإنسان منه، فإنه منقطع زائل، إما أنْ يتركك بالفقر والحاجة، وإما أنْ تتركه أنت بالموت، لذلك يقول تعالى في نعيم الآخرة:
{ لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ }[الواقعة: 33].
وهكذا نلحظ على استهلال هذه السورة أن الحق سبحانه بدأ بالكلام عن الفلاح في الآخرة كأنه قدَّم ثمرة الإيمان أولاً، ووضع الجزاء بداية بين يديك كأنه سبحانه يقول لك: هذا جزاء مَنْ آمن بي واتبع منهجي. كما جاء في قوله تعالى في استهلال سورة (الرحمن):{ الرَّحْمَـانُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ البَيَانَ }[الرحمن: 1 - 4] كيف وقد خلق الله الإنسان أولاً، ثم علَّمه القرآن؟
قالوا: لأن الذي يصنع صنعة يضع لها قانونها، ويُحدِّد لها مهمتها أولاً قبل أن يشرع في صناعتها، فمثلاً - ولله المثل الأعلى - الذي يصنع الثلاجة، قبل أن يصنعها حدد عملها ومهمتها وقانون صيانتها والغاية منها.
والقرآن هو منهج الإنسان، وقانون صيانته في حركة الحياة؛ لذلك خلق الله المنهج ووضع قانون الصيانة قبل أن يخلق الإنسان.
(/2665)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12)
سبق أن تكلمنا عن خَلْق الإنسان، وعرفنا أن الخالق - عز وجل - خلق الإنسان الأول، وهو آدم عليه السلام من طين، ومن أبعاضه خلق زوجه، ثم بالتزاوج جاء عامة البشر كما قال تعالى:{ وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً }[النساء: 1].
ومسألة خَلْق السماء والأرض والناس مسألة احتفظ الله بها، ولم يطلع عليها أحد، كما قال سبحانه:{ مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً }[الكهف: 51].
فلا تُصْغ إلى هؤلاء المضلين في كل زمان ومكان، الذين يدَّعون العلم والمعرفة، ونسمعهم يقولون: إن العالم كان كتلة واحدة تدور بسرعة فانفصل عنها أجزاء كوَّنَت الأرض.. الخ وعن الإنسان يقولون: كان أصله قرداً، إلى آخر هذه الخرافات التي لا أساس لها من الصحة.
لذلك أعطانا الله تعالى المناعة الإيمانية التي تحمينا أنْ ننساق خلف هذه النظريات، فأخبرنا سبحانه خبر هؤلاء وحذرنا منهم؛ لأنهم ما شهدوا شيئاً من الخَلْق، ولم يتخذهم الله أعواناً فيقولون مثل هذا الكلام. إذن: هذا أمر استأثر الله بعلمه، فلا تأخذوا علمه إلاَّ مما أخبركم الله به.
وكلمة الإنسان اسم جنس تطلق على المفرد والمثنى والجمع، والمذكر والمؤنث، فكل واحد منا إنسان، بدليل أن الله تعالى استثنى من المفرد اللفظ جمعاً في قوله تعالى:{ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ.. }[العصر: 1 - 3] فاستثنى من المفرد الجماعة.
ومعنى { خَلَقْنَا } [المؤمنون: 12] أوجدنا من عدم، وسبق أن قلنا: إن الله تعالى أثبت للبشر صفة الخَلْق أيضاً مع الفارق بين خَلْق الله من عدم وخَلْق البشر من موجود، وخَلْق الله فيه حركة وحياة فينمو ويتكاثر، أما ما يخلق البشر فيجمد على حاله لا يتغير؛ لذلك وصف الحق سبحانه ذاته فقال: { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } [المؤمنون: 14].
أما قَوْل القرآن حكايةً عن عيسى عليه السلام:{ أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ.. }[آل عمران: 49] فهذه من خاصياته عليه السلام، والإيجاد فيها بأمر من الله يُجريه على يد نبيه.
فالمعنى: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ.. } [المؤمنون: 12] أي: الإنسان الأول، وهو آدم عليه السلام { مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ.. } [المؤمنون: 12] والسلالة: خلاصة الشيء تُسَلُّ منه كما يُسَلُّ السيف من غِمْده أي:الجراب الذي يُوضَع فيه، فالسيف هو الأداة الفتاكة الفاعلة، أما الغِمْد فهو مجرد حافظ وحامل لهذا الشيء الهام.
فالسلالة - إذن - هي أجود ما في الشيء، وقد خلق الله الإنسان الأول من أجود عناصر الطين وأنواعه، وهي زُبْد الطين، فلو أخذتَ قبضة من الطين وضغطتَ عليها بين أصابعك يتفلَّتْ منها الزبد، وهو أجود ما في الطين ويبقى في قبضتك بقايا رمال وأشياء خشنة.
" ولما أحب سيدنا حسان بن ثابت أنْ يهجوَ قريشاً لمعاداتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إئذن لي يا رسول الله أنْ أَهْجُوهم من على المنبر فقال صلى الله عليه وسلم: أتهجوهم وأنا منهم؟ فقال حسان: أسلُّك منهم كما تُسَلُّ الشعرة من العجين ".
وتُطلَق السلالة على الشيء الجيد فيقولون: فلان من سلالة كذا، وفلان سليل المجد. يعني: في مقام المدح، حتى في الخيل يحتفظون لها بسلالات معروفة أصيلة ويُسجِّلون لها شهادات ميلاد تثبت أصالة سلالتها، ومن هنا جاءت شهرة الخيل العربية الأصيلة.
وقد أثبت العلم الحديث صِدْق هذه الآية، فبالتحليل المعمليّ التجريبي أثبتوا أن العناصر المكوِّنة للإنسان هي نفسها عناصر الطين، وهي ستة عشر عنصراً، تبدأ بالأكسوجين، وتنتهي بالمنجنيز، والمراد هنا التربة الطينية الخصْبة الصالحة للرزاعة؛ لأن الأرض عامة بها عناصر كثيرة قالوا: مائة وثلاثة عشر عنصراً.
(/2666)
ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13)
يعني: بعد أن جعلناه بشراً مُسْتوياً فيه روح جعلناه يتكاثر من نفسه، وكما خلقناه من خلاصة الطين في الإنسان الأول نخلقه في النسْل من خلاصة الماء وأصفى شيء فيه، وهي النطفة؛ لأن الإنسان يأكل ويشرب ويتنفس، والدم يمتص خلاصة الغذاء، والباقي يخرج على هيئة فضلات، ثم يُصفَّى الدم ويرشح في الرئة وفي الكلى، ومن خلاصة الدم تكون طاقة الإنسان وتكون النطفة التي يخلق منها الإنسان. إذن: فهو حتى في النطفة من سلالة مُنْتقاة.
والنطفة التي هي أساس خَلْق الإنسان تعيش في وسط مناسب هو السائل المنوي، لذلك قال سبحانه:{ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى }[القيامة: 37] ثم جعلنا هذه النطفة { فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ } [المؤمنون: 13] قرار: يعني مُستقر تستقر فيه النطفة، والقرار المكين هو الرحم خلقه الله على هذه الهيئة، فحصّنه بعظام الحوض، وجعله مُعدّاً لاستقبال هذه النطفة والحفاظ عليها.
(/2667)
ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)
يقول العلماء: بعد أربعين يوماً تتحول هذه النطفة إلى علقة، وسُمِّيَتْ كذلك لأنها تعلَق بجدار الرحم، والعلماء يسمونها الزيجوت، وهي عبارة عن بويضة مُخصَّبة، وتبدأ في أخذ غذائها منه.
ومن عجائب قدرة الله في تكوين الإنسان أن المرأة إذا لم تحمل ينزل عليها دم الحيض، فإذا ما حملتْ لا ترى الحيض أبداً، لماذا؟ لأن هذا الدم ينزل حين لم تكُنْ له مهمة ولا تستفيد به الأم، أمَا وقد حدث الحمل فإنه يتحول بقدرة الله إلى غذاء لهذا الجنين الجديد.
ثم يقول سبحانه: { فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً.. } [المؤمنون: 14] وهي قطعة صغيرة من اللحم على قَدْر ما يُمضَغ، وسبق أن قلنا: إن المضغة تنقسم بعد ذلك إلى مُخلَّقة وغير مُخلَّقة، كما قال تعالى في الآية الأخرى:{ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ.. }[الحج: 5] هذا على وجه التفصيل، أما في الآية التي معنا فيُحدِّثنا عن أطوار الخلق عامة، حتى لا نظن أن القرآن فيه تكرار كما يدَّعِي البعض.
المضْغة المخلَّقة هي التي يتكّون منها جوارح الإنسان وأعضاؤه، وغير المخلَّقة تظل كما قلنا: احتياطياً لصيانة ما يتلف من الجسم، كما يحدث مثلاً في الجروح وما شابه ذلك من عطب يصيب الإنسان، فتقوم غير المخلَّقة بدورها الاحتياطي.
ثم يقول تعالى: { فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ.. } [المؤمنون: 14] لأنه كان في كل هذه الأطوار: النطفة، ثم العلقة، ثم المضغة، ثم العظام واللحم ما يزال تابعاً لأمة متصلاً بها ويتغذّى منها، فلما شاء الله له أنْ يُولَد ينفصل عن أمه ليباشر حياته بذاته؛ ولذلك نجد لحظة انفصال الجنين عن أمه في عملية الولادة مسألة صعبة؛ لأنه سيستقبل حياة ذاتية تستلزم أن تعمل أجهزته لأول مرة، وأول هذه الأجهزة جهاز التنفس.
ومن رحمة الله بالجنين أن ينزل برأسه أولاً ليستطيع التنفس، ثم يخرج باقي جسمه بعد ذلك، فإن حدث العكس ونزل برجليه فربما يموت؛ لأنه انفصل عن تبعيته لأمه، وليس له قدرة على التنفس ليحتفظ بحياته الذاتية الجديدة؛ لذلك في هذه الحالة يلجأ الطبيب إلى إجراء عملية قيصرية لإنقاذ الجنين من هذا الوضع، وقبل أن يختنق.
ولما كانت مسألة خَلْق الإنسان فيها كثير من العِبَر والآيات ودلائل القدرة طوال هذه المراحل التي يتقلّب فيها الإنسان، ناسب أنْ تختم الآية بقوله تعالى: { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } [المؤمنون: 14] لأنك حين تقف وتتأمل قدرة الله في خَلْق الإنسان لا تملك إلا أنْ تقول: سبحان الله، تبارك الله الخالق.
" لذلك يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قرأ هذه الآية سبق عمر فقال (فتبارك الله أحسن الخالقين) فقال صلى الله عليه وسلم للكاتب: اكتبها فقد نزلتْ "
، لأنها انفعال طبيعي لقدرة الله، وعجيب صُنْعه، وبديع خلقه، وهذا نوع من التجاوب بين السليقة العربية واللسان العربي وبين أسلوب القرآن الذي جاء بلسان القوم.
ويقال: إن سيدنا معاذ بن جبل نطق بها أيضاً، وكذلك نطق بها رجل آخر هو عبد الله بن سعد بن أبي السرح، مع اختلاف في نتيجة هذا النطق: لما نطق بها عمر ومعاذ رضي الله عنهما كان استحساناً وتعجباً ينتهي إلى الله، ويُقِرّ له سبحانه بالقدرة وبديع الصُّنْع.
أما ابن أبي السرح فقد قالها كذلك تعجباً، لكن لما وافق قولُه قولَ القرآن أُعْجِب بنفسه، وادعى أنه يُوحَى إليه كما يُوحَى إلى محمد، ولم لا وهو يقول كما يقول القرآن، ومع ذلك هو ما يزال مؤدباً يدَّعي مجرد أنه يوحى إليه، لكن زاد تعاليه وجَرَّه غرور إلى أنْ قال: سأنزل مثلما أنزل الله، فليس ضرورياً وجود الله في هذه المسألة، فارتدّ والعياذ بالله بسببها، وفيه نزل قول الله تعالى:{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىا عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ اللَّهُ.. }[الأنعام: 93].
" وظل ابن أبي السرح إلى فتح مكة حيث شفع فيه عثمان رضي الله عنه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى رسول الله حِرْص عثمان عليه سكت، ولم يقُلْ فيه شيئاً، وعندها أخذه عثمان رضي الله عنه وانصرف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لصحابته: " أما كان فيكم مَنْ يُجهز عليه؟ " فقالوا: يا رسول الله لو أومأتَ لنا برأسك؟ يعني: أشرْتَ إلينا بهذا، انظر هنا إلى منطق النبوة، قال صلى الله عليه وسلم: " لا ينبغي أن يكون لنبي خائنة الأعين " يعني: هذا تصرُّف لا يليق بالأنبياء، فلو فعلتموها من أنفسكم كان لا بأس.
ثم بعد ذلك تحل بركة عثمان على ابن أبي السرح فيُؤمن ويَحْسُن إسلامه، ثم يُولِّي مصر، ويقود الفتوحات في إفريقيا، ويتغلب على الضجة التي أثاروها في بلاد النوبة، وكأن الله تعالى كان يدخره لهذا الأمر الهام.
وبعد هذه العجائب التي رأيناها في مراحل خَلْق الإنسان وخروجه إلى الحياة والإقرار لله تعالى بأنه أحسن الخالقين، يُذكِّرنا سبحانه بأن هذه الحياة لن تدوم، فيقول تبارك وتعالى: } ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذالِكَ لَمَيِّتُونَ {
.
(/2668)
ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15)
ولك أنْ تسأل: كيف يُحدِّثنا الحق - تبارك وتعالى - عن مراحل الخَلْق، ثم يُحدِّثنا مباشرة عن مراحل الموت والبعث؟
نقول: جعلهما الله تعالى معاً لتستقبل الحياة وفي الذِّهْن وفي الذاكرة ما ينقض هذه الحياة، حتى لا تتعالى ولا تغفل عن هذه النهاية ولتكُنْ على بالك، فتُرتِّب حركة حياتك على هذا الأساس.
ومن ذلك أيضاً قول الله تعالى:{ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىا كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً.. }[الملك: 1 - 2] كأنه سبحانه ينعى إلينا أنفسنا قبل أنْ يخلق فينا الحياة، وقدَّم الموت على الحياة حتى الحياة وتستقبل قبلها الموت الذي ينقضها فلا تغتر بالحياة، وتعمل لما بعد الموت.
وقد خاطب الحق - سبحانه وتعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله:{ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ }[الزمر: 30] البعض يظن أن ميَّت بالتشديد يعني مَنْ مات بالفعل، وهذا غير صحيح، فالميِّت بتشديد الياء هو ما يؤول أمره إلى الموت، وإنْ كان ما يزال على قيد الحياة، فكلنا بهذا المعنى ميِّتون، أمّا الذي مات بالفعل فهو ميْت بسكون الياء، ومنه قول الشاعر:لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَراحَ بِمَيْتٍ إنما الميْتُ ميِّتُ الأحْياءِومعنى: { بَعْدَ ذالِكَ } [المؤمنون: 15] يعني: بعد أطوار الخَلْق التي تقدمت من خَلْق الإنسان الأول من الطين إلى أنْ قال سبحانه:{ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ }[المؤمنون: 14].
والمتأمل في هذه الآية وهي تُحدِّثنا عن الموت الذي لا ينكره أحد ولا يشكّ فيه أحد، ومع ذلك أكدها الحق - تبارك وتعالى - بأداتين من أدوات التوكيد: { ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذالِكَ لَمَيِّتُونَ } [المؤمنون: 15] فأكّدها بإنّ وباللام، ومعلوم أننا لا نلجأ إلى التوكيد إلا حين يواجهنا منكر، فيأتي التأكيد على قَدْر ما يواجهك من إنكار، أما خالي الذهن فلا يحتاج إلى توكيد.
تقول مثلاً لخالي الذهن الذي لا يشك في كلامك: يجتهد محمد، فإنْ شك تؤكد له بالجملة الاسمية التي تفيد ثبوت واستقرار الصفة: محمد مجتهد، وتزيد من تأكيد الكلام على قدر الإنكار، فتقول: إن محمداً مجتهد، أو إن محمداً لمجتهد، أو والله إن محمداً لمجتهد. هذه درجات للتأكيد على حسْب حال مَنْ تخاطبه.
إذن: أكّد الكلام عن الموت الذي لا يشكّ فيه أحد، فقال: { ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذالِكَ لَمَيِّتُونَ } [المؤمنون: 15] ومع ذلك لما تكلَّم عن البعث وهو محلّ الشك والإنكار قال سبحانه: { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ }
.
(/2669)
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)
ولم يقُلْ: لتبعثون كما قال{ لَمَيِّتُونَ }[المؤمنون: 15] فكيف يؤكد ما فيه تصديق وتسليم، ولا يؤكد ما فيه إنكار؟
قالوا: نعم؛ لأن المتكلم هو الله تعالى، الذي يرى غفلتكم عن الموت رغم وضوحه، فلما غفلتم عنه كنتم كالمكذِّبين به المنكرين له، لذلك أكد عليه، لذلك يقال: " ما رأيت يقيناً أشبه بالشك من يقين الناس بالموت " فالكل يعلم الموت ويعاينه، لكن يبعده عن نفسه، ولا يتصوّره في حقه.
أما البعث والقيامة فأدلتها واضحة لا يصح لأحد أنْ ينكرها؛ لذلك جاءت دون توكيد: { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ } [المؤمنون: 16] فأدلة البعث أوضح من أن يقف العقل فيها أو ينكرها؛ لذلك سأطلقها إطلاقاً دون مبالغة في التوكيد، أمّا مَنْ يتشكك فيه أو ينكره، فهذا نؤكد له الكلام، فانظر إلى بصر الحق - سبحانه وتعالى - بعقليات خَلْقه وبنفوسهم ومَلَكَاتهم.
ثم يقول الحق سبحانه: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ.. }
.
(/2670)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)
نلحظ أن للعدد سبعة مواقف في هذه السورة وأسراراً يجب أن نتأملها، ففي استهلال السورة ذكر سبحانه سبعة أصناف:{ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ.. }[المؤمنون: 1 - 2].
وفي مراحل خَلْق الإنسان نجده مَرَّ بسبعة أطوار: سلالة من طين، ثم نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظاماً، ثم لحماً، ثم أنشأناه خَلْقاً آخر.
وهنا يقول: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ.. } [المؤمنون: 17].
وفي موضع آخر قال:{ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ.. }[الطلاق: 12].
فهذه سبعة للغاية، وسبعة للمغيَّا له، وهو الإنسان، وسبعة للسماوات والأرض المخلوقة للإنسان.
وطرائق: جمع طريقة أي: مطروقة للملائكة، والشيء المطروق ما له حجم يتسع بالطَّرْق، كما تطرق قطعة من الحديد مثلاً، فانظر إلى السماء واتساعها. وقُلْ: سبحان مَنْ طرقها.
وتلحظ أن الحق سبحانه لم يذكر هنا الأرض، لماذا؟ قالوا: لأن الأرض نقف عليها ثابتين لا نخاف من شيء، إنما الخوف من السماء أنْ تندكّ فوقنا؛ لذلك يقول سبحانه بعدها: { وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ } [المؤمنون: 17] فلن نغفل عن السماء من فوقكم، وسوف نُمسكها بأيدينا، كما قال سبحانه:{ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ.. }[فاطر: 41].
ثم يعطينا الحق - تبارك وتعالى - الدليل الحسيّ على هذه الآية، وكيف أن الله تعالى رفع السماء فوقنا بلا عَمَد، ومثال ذلك الطير يُمسكه الله في السماء:{ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَـانُ.. }[الملك: 19].
نعلم أن الطير يطير في السماء بحركة الجناحين التي تدفع الهواء وتقاوم الجاذبية فلا يسقط، كالسباح الذي يدفع بذراعيه الماء ليسبح، فإذا ما قبض الطائر جناحيه ومع ذلك يظل مُعلّقاً في السماء لا يسقط فمَنْ يُمسِكه في هذه الحالة؟ هذه صورة تشاهدونها لا يشكّ فيها أحد، فإذا قلت لكم أني أمسك السماء أن تقع على الأرض فصدّقوا وآمنوا، واستدلوا على الغيب بالمشاهد.
وكأن الحق سبحانه في قوله: { وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ } [المؤمنون: 17] يقول: اطمئنوا إلى السماء من فوقكم، فقد جعلتُ لها التأمينات اللازمة التي تُؤمِّن معيشتكم تحت سقفها، اطمئنوا لأنها بأيدينا وفي رعايتنا.
لكن، ما المراد بقوله { عَنِ الْخَلْقِ } [المؤمنون: 17] أهو الإنسان أم خَلْق السماء؟ المراد: ما كُنَّا غافلين عن خَلْق السماء، فبنيناها على ترتيبات ونظم تحميكم وتضمن سلامتكم.
والغفلة: تَرْك شيء لأنه غاب عن البال، وهذه مسألة لا تكون أبداً في حق الله - عز وجل - لأنه لا تأخذه سِنَة ولا نوم.
ثم يقول الحق سبحانه: { وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ.. }
.
(/2671)
وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18)
يقول تعالى عن الماء: { وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ.. } [المؤمنون: 18] فهل الماء مَقرُّه السماء؟ لا، الماء مقرُّه الأرض، كما جاء في قول الله تعالى:{ قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ.. }[فصلت: 9 - 10].
لما يستدعي الخالق - عز وجل - الإنسان إلى هذا الوجود جعل له في الأرض مُقوِّمات استبقاء حياته من الهواء والقوت والماء، والإنسان كما قلنا يستطيع أن يصبر على الطعام، وصبره أقل على الماء، لكن لا صبرَ له على الهواء؛ لذلك شاءت قدرة الله ألاّ يُملّكه لأحد؛ لأنه مُقوِّم الحياة الأول، فالغلاف الجوي والهواء المحيط بالأرض تابع لها وجزء منها داخل تحت قوله:{ وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا.. }[فصلت: 10] بدليل أنهم حينما يخرجون عن نطاق الأرض يمتنع الهواء.
ومن حكمة الخالق - عز وجل - وقدرته أنْ جعل الماء على الأرض مالحاً؛ لأن الملح أساس في صلاح الأشياء التي يطرأ عليها الفساد، فالماء العذب عُرضة للتغيُّر والعطن، وبالملح نصلح ما نخشى تغيُّره فنضعه على الطعام ليحفظه ونستخدمه في دباغة الجلود.. الخ
لذلك قال الشاعر:يَا رِجَالَ الدينِ يا مِلْحَ البَلَدِ مَنْ يُصلح الملحَ إذَا المِلْحُ فَسَدإذن: أصل الماء في الأرض، لكن ينزل من السماء بعد عملية البَخْر التي تُصفيه فينزل عَذْباً صالحاً للشرب وللري، وقلنا: إن الخالق سبحانه جعل رقعة الماء على الأرض أكبر من رقعة اليابسة حتى تتسع رقعة البَخْر، ويتكون المطر الذي يكفي حاجة أهل الأرض.
ومن رحمة الله بنا أن ينزل الماء من السماء { بِقَدَرٍ } [المؤمنون: 18] يعني: بحساب وعلى قَدْر الحاجة، فلو نزل هكذا مرة واحدة لأصبح طوفاناً مُدمّراً، كما حدث لقوم نوح ولأهل مأرب. وفي موضع آخر يقول سبحانه:{ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ }[الحجر: 21].
ثم يقول سبحانه: { فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ.. } [المؤمنون: 18] لأننا نأخذ حاجتنا من ماء المطر، والباقي يتسرب في باطن الأرض، كما قال سبحانه:{ فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ }[الزمر: 21] ومن عجيب قدرة الله في المياه الجوفية أنها تسير في مسارب مختلفة، بحيث لا يختلط الماء العَذْب بالماء المالح مع ما يتميز به الماء من خاصية الاستطراق، والعاملون في مجال حفر الآبار يجدون من ذلك عجائب، فقد يجدون الماء العَذْب بجوار المالح، بل وفي وسط البحر لأنها ليست مستطرقة، إنما تسير في شعيرات ينفصل بعضها عن بعض.
والمياه الجوفية مخزون طبيعي من الماء نُخرجه عند الحاجة، ويُسعِفنا إذا نَضُبَ الماء العَذْب الموجود على السطح { فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ.
. { [المؤمنون: 18] ليكون احتياطياً لحين الحاجة إليه، فإذا جَفَّ المطر تستطيعون أن تستنبطوه.
ثم يُذكِّرنا الحق سبحانه بقدرته على سَلْب هذه النعمة } وَإِنَّا عَلَىا ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ { [المؤمنون: 18] يعني: سيروا في هذه النعمة سَيْراً لا يُعرِّضها للزوال، وقال في موضع آخر:{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ }[الملك: 30]
وحين تَعُدّ نِعَم الله التي أمتنّ علينا بها بداية من نعمة الماء: } وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ { [المؤمنون: 18] تجدها أيضاً سبعة.
ويبدو أن لهذا العدد أسراراً في هذه السورة، فقد ذكر من أوصاف المؤمنين سبعة، ومن مراحل خَلْق الإنسان سبعاً، ومن السماء والأرض سبعة، وهنا يذكر من نعمه علينا سبعة؛ لذلك كان للعلماء وقفات عند هذا العدد بالذات.
وأذكر ونحن في المملكة السعودية وكنت أستاذاً في كلية الشريعة ومعي بعض الأساتذة ورئيس بعثتنا الشيخ زكي غيث - رحمه الله وغفر الله له - ورئيس بعثة المعارف الأستاذ صلاح بك الباقر، وكان دائماً ما يجلس معنا شيخ علماء المملكة في هذا الوقت السيد إسحق عزوز، وكان يجمعنا كل ليلة الفندق الذي نقيم فيه، وكنا نتدارس بعض قضايا العلم.
وقد أثار الشيخ إبراهيم عطية قضية هذا العدد في القرآن الكريم، وكان يقرأ في تفسير القرطبي فوجد فيه: قال عمر بن الخطاب لابن عباس: يا ابن عباس أتعرف متى ليلة القدر؟ فقال ابن عباس: أغلب الظن أنها ليلة السابع والعشرين، فلما سمعنا هذا الكلام قلنا: هذه سبعة، وهذه سبع وعشرون، فلما اختلفنا اقترح علينا الشيخ محمد أبو علي - أطال الله عمره - أن نذهب لنصلي في الحرم بدل أن نصلي في الفندق عملاً بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان كلما حزبه أمر يقوم إلى الصلاة، وقلنا: ربما يفتح الله علينا في هذه المسألة.
وبعد أن صلينا جلسنا نناقش هذه المسألة، فإذا برجل لا نعرفه على سمة المجاذيب غير مهتم بنفسه، يجلس بجوارنا ويُنصت لما نقول، ثم شاركنا الكلام وقال: ألم يقُل رسول الله صلى الله عليه وسلم: " التمسوها في العشر الأواخر من رمضان " إذن: فدعكم من العشرين يوماً، واحسبوا في العشر الأواخر، ثم نظرنا فلم نجده، كأن وحدة الزمن التي توجد بها ليلة القدر هي هذه العشر، وكأنها بهذا المعنى ليلة السابع، وهذه أيضاً من أسرار هذا العدد{ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ }[يوسف: 76].
أطال الله في عمر مَنْ بقي من هؤلاء، وغفر الله لمن ذهب.
ثم يقول الحق سبحانه: } فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ.. {
.
(/2672)
فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19)
الجنة: المكان المليء بالأشجار العالية والمزروعات التي تستر مَنْ يسير فيها، أو تستره عن الخارج، فلا يحتاج في متطلبات حياته إلى غيرها، فهي من الكمال بحيث تكفيه، فلا يخرج عنها. واختار هذه الأنواع { نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ } [المؤمنون: 19] لما لها من منزلة عند العرب، وقال { فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ } [المؤمنون: 19] لأنه لم يحصر جميع الأنواع.
(/2673)
وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآَكِلِينَ (20)
الطور: جبل منسوب إلى سيناء، وسيناء مكان حسن؛ لأن الله بارك فيها، والطور كلَّم الله عليه موسى، فهو مكان مبارك، كما بارك الله أرض بيت المقدس فقال:{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىا بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَىا الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ }[الإسراء: 1].
ومعنى { تَنبُتُ بِالدُّهْنِ } [المؤمنون: 20] الدهن هو الدَّسَم، والمراد هنا شجرة الزيتون التي يستخرجون منها الزيت المعروف { تَنبُتُ بِالدُّهْنِ } [المؤمنون: 20] الدهن هو الدَّسَم، والمراد هنا شجرة الزيتون التي يستخرجون منها الزيت المعروف { وَصِبْغٍ لِّلآكِلِيِنَ } [المؤمنون: 20] يعني: يتخذونه إداماً يغمسون فيه الخبز ويأكلونه، وهو من أشْهَى الأكلات وألذّها عند مَنْ يزرعون الزيتون في سيناء وفي بلاد الشام، وقد ذُقْنا هذه الأكْلة الشهيرة في لبنان، عندما ذهبنا إليها في موسم حصاد الزيتون.
(/2674)
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21)
الأنعام: يُراد بها الإبل والبقر، وألحق بالبقر الجاموس، ولم يُذكَر لأنه لم يكُنْ موجوداً بالبيئة العربية، والغنم وتشمل الضأن والماعز، وفي سورة الأنعام يقول تعالى:{ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ.. }[الأنعام: 143].
ويقال فيها: أنعام ونَعَم (بفتح النون والعين)
والعبرة: شيء تعتبرون به وتستدلُّون به على قدرة الله وبديع صُنْعه في خَلْق الأنعام.
لكن، ما العبرة في خَلْق هذه الأنعام؟ الحق - سبحانه وتعالى - تكلَّم عن خَلْق الإنسان، وأنه تعالى خلقه من صفوة وخلاصة وسلالة من الطين ومن النطفة، وهكذا في جميع أطوار خَلْقه. وفي الأنعام ترى شيئاً من هذا الاصطفاء والاختيار، فالأنعام تأكل من هنا وهناك وتجمع شتى الأنواع من المأكولات، ومن هذا الخليط يخرج الفَرْث، وهو مُنتِن لا تطيق رائحته ويتكون دم الحيوان، ومن بين الفَرْث والدم يُصفِّي لك الخالق - عز وجل - لبناً خالصاً، وهذه سلالة أيضاً وتصفية.
قال تعالى:{ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ }[النحل: 66].
ونلحظ أن الآية التي معنا تقول: { نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهَا } [المؤمنون: 21] وفي آية النحل:{ نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ }[النحل: 66] ذلك لأننا نأخذ اللبن من إناث الأنعام ليس من كل الأنعام، فالمعنى { مِّمَّا فِي بُطُونِهَا } [المؤمنون: 21] أي: الإناث منها و{ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ }[النحل: 66] أي: بطون البعض؛ ولذا عاد الضمير مذكراً. { نُّسْقِيكُمْ } [المؤمنون: 21] من سقى، وفي موضع آخر{ فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ }[الحجر: 22] من الفعل أسقى. البعض يقول إنهما مترادفان، وهما ليسا كذلك لأن لكل منهما معنى، فسقى يعني: أعطاه الشراب، أمَّا أسقى فيعني جهز له ما يشربه لحين يحب أن يشرب.
لذلك لما تكلَّم الحق سبحانه عن شراب الجنة، قال:{ وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً }[الإنسان: 21].
ولما تكلم عن ماء المطر قال سبحانه:{ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ }[الحجر: 22] يعني: جعله في مستودع لحين الحاجة إليه.
كما قلنا في (مُرضِع) بالكسر، و (مُرضَع) بالفتح، فمرضع بالكسر للتي ترضع بالفعل، ومنه قوله تعالى:{ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ }[الحج: 2].
أما مرضَع بالفتح، فهي الصالحة للرضاعة.
ثم يقول تعالى: { وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } [المؤمنون: 21] نلحظ أن آية النحل ركزت على مسألة تصفية اللبن من بين فَرْث ودم، أما هنا فقد ركزت على منافع أخرى للأنعام، فكل آية تأخذ جانباً من الموضوع، وتتناوله من زاوية خاصة، نوضح ذلك لمن يقولون بالتكرار في القرآن الكريم، فالآيات في الموضوع الواحد ليست تكراراً، إنما هو تأسيس بلقطات مختلفة، كل لقطة تؤدي في مكانها موقعاً من العِظَة والعبرة، بحيث إذا جمعتَ كل هذه المكررات الظاهرة تعطيك الصورة الكاملة للشيء.
والمنافع في الأنعام كثيرة: منها نأخذ الصوف والوبر، وكانوا يصنعون منه الملابس والفرش والخيام، قبل أن تُعرف الملابس والمنسوجات الحديثة، ومن ملابس الصوف سُميت الصوفية لمَنْ يلبسون الثياب الخشنة، وهم الآن يصنعون من الصوف ملابس ناعمة كالحرير يرتديها المترفون.
ومن منافع الأنعام أيضاً الجلود والعظام وغيرها، يقول تعالى:{ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَىا حِينٍ }[النحل: 80].
} وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ { [المؤمنون: 21] أي: لحماً، وذكر اللحم في آخر هذه المنافع؛ لأنه آخر ما يمكن الانتفاع به من الحيوان، وسبق أنْ ذكرنا أن الحيوان الذي أحلّه الله لنا إذا تعرض لما يزهق روحه، فإنه يرفع لك رقبته، ويكشف لك عن موضع ذَبْحه كأنه يقول لك: أسرع واستفد مني قبل أنْ أموت.
وفي لقطة أخرى لمنافع الأنعام يقول سبحانه:{ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىا بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ }[النحل: 7] إذن: كل آية تحدثت عن الأنعام تعطينا فائدة لتظل مربوطاً بالقرآن كله.
(/2675)
وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)
{ وَعَلَيْهَا } [المؤمنون: 22] أي: على الدواب تُحملون، فنركب الدواب، ونحمل عليها متاعنا، لكن لما كانت الأرض ثلاثة أرباعها ماء، فإن الحق - سبحانه وتعالى - ما تركنا في البحر، إنما حملنا فيه أيضاً { وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ } [المؤمنون: 22] فكما أعددتُ لكم المطايا على اليابسة الضيقة أعددتُ لكم كذلك ما تركبونه في هذه المساحة الواسعة من الماء.
ولما كان الكلام هنا عن الفُلْك فقد ناسب ذلك الحديث عَمَّنْ له صلة بالفُلْك، وهو نوح عليه السلام: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىا قَوْمِهِ فَقَالَ ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ.. }
.
(/2676)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23)
بعد أنْ حدَّثنا القرآن الكريم عن خَلْق الإنسان وخَلْق الحيوان، وحدثنا عن بعض نعمه التي امتنّ بها علينا تدرج بنا إلى صناعة الفُلْك؛ لأنه قد يسأل سائل: وكيف تكون هذه الفُلْك أي: تخلق كالإنسان والحيوان بالتوالد، أم تنبت كالزرع؟ فأوضح الخالق سبحانه لأنه وُجدت بالوحي في قوله تعالى:{ فَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا }[المؤمنون: 27].
ومعنى{ بِأَعْيُنِنَا }[المؤمنون: 27] أنها صنعة دقيقة، لم يترك فيها الحق سبحانه نبيَّه يفعل ما يشاء، إنما تابعه ولاحظه ووجَّهه إلى كيفية صناعتها والمواد المستخدمة فيها، كما قال سبحانه:{ وَحَمَلْنَاهُ عَلَىا ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ }[القمر: 13] وهي الحبال، كانوا يربطون بها ألواح الخشب، ويضمون بعضها إلى بعض، أو المسامير تُشَدُّ بها الألواح بعضها إلى بعض.
لكن، مهما أُحكِمَتْ ألواح الخشب بعضها إلى بعض، فلا بُدَّ أنْ يظل بينها مسامّ يتسرب منها الماء، فكيف نتفادى ذلك في صناعة الفُلْك خاصة في مراحلها البدائية؟ يقولون: لا بُدَّ لصانع الفُلْك أنْ يجفف الخشب جيداً قبل تصنيعه فإذا ما نزل الخشبُ الماءَ يتشرب منه، فيزيد حجمه فيسدّ هذه المسام تماماً، ولا يتسرب منها الماء.
ومن عجائب القرآن ومعجزاته في مسألة الفُلْك قوله تعالى:{ وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَئَاتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلاَمِ }[الرحمن: 24] يعني: كالجبال العالية. وهذه الفُلْك لم تكُنْ موجودة وقت نزول القرآن إنما أخبر الله بها، مما يدل على أنه تعالى الذي امتنّ علينا بهذه النعمة، علم ما يمكن أن يتوصل إليه الإنسان من تطور في صناعة الفلك، وأنها ستكون عالية شاهقة كالجبال.
وطالما أن الكلام معنا عن الفُلْك، فطبيعي ومن المناسب أن نذكر نوحاً عليه السلام؛ لأنه أول من اهتدى بالوحي إليه إلى صناعة الفُلْك، فقال سبحانه: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىا قَوْمِهِ.. } [المؤمنون: 23] لما تكلم الحق سبحانه عما في الأنعام من نِعَم وفوائد، لكنها تؤول كلها - بل والدنيا معها - إلى زوال، أراد سبحانه أن يعطينا طرفاً من الحياة الباقية والنعيم الدائم الذي لا يزول فذكر منهج الله الذي أُرسِل به نوح، وهو واحد من أولى العَزْم من الرسل.
والإرسال: هو أنْ يكلِّف مُرسِل مُرْسَلاً إلى مُرْسَل إليه، فالمكلف هو الحق سبحانه، والمكلف بالرسالة نوح عليه السلام، والمرسل إليهم هم قومه، والله لا يرسل إلى قوم إلا كانوا يهمونه، وكيف لا وهم عباده وخَلْقه، وقد جعلهم خلفاء له في الأرض؟
والذي خلق خَلْقاً، أو صنع صَنْعة لا بُدَّ أنْ يضع لها قانون صيانتها، لتؤدي مهمتها في الحياة، وتقوم بدورها على الوجه الأكمل، كما مثَّلنا لذلك - ولله تعالى المثل الأعلى - بصانع الثلاجة أو التلفزيون حين يضع معه كتالوجاً يحوي تعليمات التشغيل وطريقة الصيانة وكيفية إصلاح الأعطال.
فالذي خلق الإنسان وجعله خليفة له في الأرض أَوْلَى بهذا القانون وأَوْلَى بصيانة خَلْقه؛ لذلك يقول سبحانه في الحديث القدسي: " يا ابن آدم، خلقت الأشياء كلها من أجلك، وخلقتُك من أجلي، فلا تشتغل بما هو لك عما أنت له " يعني: ما دام كل شيء من أجلك يعمل لك ويُؤدِّي مهمته، فعليك أيضاً أن تؤدي مهمتك التي خلقتُك من أجلها.
لذلك وضع لك ربُّك قانون صيانتك بافعل كذا ولا تفعل كذا، فعليك أن تلتزم الأمر فتؤديه فهو سِرُّ الجمال في الكون، وسِرُّ السعادة والتوافق في حركة الحياة، وعليك أن تجتنب النهي فلا تقربه؛ لأنه سيؤدي إلى قُبْح، وسيكشف عورة من عورات المجتمع، أما الأمور التي سكت عنها فأنت حُرٌّ فيها تفعل أو لا تفعل؛ لأن ذلك لا يأتي بقبيح في المجتمع، وهذه المسائل تُسمَّى المباحات، وقد تركها الله لحريتك واختيارك.
والحق - تبارك وتعالى - لما استدعى الإنسان إلى هذا الكون خلق له مقومات حياته من مُقوِّمات استبقاء الحياة من طعام وشراب وهواء واستبقاء النوع بالتناسل، وقد شمل قانون الصيانة كل هذه المقومات، فنظمها وحدد ما يحل وما يحرم. فقال: كُلْ هذه ولا تأكل هذه، واشرب هذا ولا تشرب ذاك، ولو شاهدنا المخترعين في مسائل المادة نجد الصانع يحدد مقومات صنعته، فمثلاً هذا الجهاز يعمل على 110 فولت، وهذا يعمل 220 فولت، وهذه الآلة تعمل بالبنزين، وهذه بالسولار، فلو غيَّرت في هذه المقومات تفسد الآلة ولا تؤدي مهمتها.
كذلك - ولله المثل الأعلى - عليك أن تلتزم بقانون ومنهج خالقك عز وجل، ولا تَحِدْ عنه، وإلا فسد حالك وعجزتَ عن أداء مهمتك في الحياة. فإن أردنا أن تستقيم لنا الخلافة التي خلقنا الله لها وهي خلافة مُصلحة لا مُفسدة، فعلينا بقانون الصيانة الذي وضعه لنا خالقنا عز وجل.
لذلك، إنْ رأيت في المجتمع عورة ظاهرة في أي ناحية من نواحي الحياة فاعلم أنها نتيجة طبيعية للخروج عن منهج الله، وتعطيل حكم من أحكامه، فمثلاً حين ترى الفقراء والجوْعى والمحاويج فاعلم أن في الأمر تعطيلاً لحكم من أحكام الله، فهم إما كسالى لا يحاولون السَّعْي في مناكب الأرض، وإما غير قادرين حرمهم القادرون واستأثروا بالثروة دونهم.
البعض يقول: إذا كان الحق سبحانه قد حرَّم علينا بعض الأشياء، فلماذا خلقها؟ ويُمثِّلون لذلك بالخنزير مثلاً وبالخمر. وخطأ هؤلاء أنهم يظنون أن كل شيء خُلِق ليُؤكل، وهذا غير صحيح؛ لأن الله تعالى خلق هذه الأشياء لمهمة تؤديها في الحياة، وليس بالضرورة أنْ تُؤكل، فالخنزير خلقه الله لينظف البيئة من القاذورات، لذلك لا تراه يأكل غيرها.
أما الخمر فلم تُخلق خمراً، إنما هي ثمرة العنب الحلوة التي تؤكل طازجة، أخذها الإنسان وتدخّل في هذه الطبيعة وأفسدها بتخميره، فصار الحلال بذلك محرماً.
نعود إلى قول الله تعالى: } وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىا قَوْمِهِ { [المؤمنون: 23] القوم: هم الرجال، خاصة من المجتمع، وليس الرجال والنساء، بدليل قوله تعالى:{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىا أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىا أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ.. }[الحجرات: 11] فالنساء في مقابل القوم أي: الرجال.
ومن ذلك قول الشاعر:وَمَا أََدْرِي وسَوْفَ أَخَالُ أَدْرِي أَقَوْمٌ آلُ حِصنٍ أَمْ نِسَاءُلكْن هل أُرسِل نوح عليه السلام إلى الرجال دون النساء؟ أُرسِل نوح إلى الجميع، لكن ذُكِر القوم لأنهم هم الذين سيحملون معه أمر الدعوة ويسيحون بها، ويُبلّغونها لمن لهم ولاية عليهم من النساء، والرجال مَنُوط بهم القيام بمهام الأمور في عمارة الكون وصلاحه.
والإضافة في } قَوْمِهِ.. { [المؤمنون: 23] بمعنى اللام يعني: قوم له؛ لأن الإضافة تأتي بمعنى من مثل: أردب قمح يعني من قمح، وبمعنى في مثل: مكر الليل يعني في الليل، وبمعنىاللام مثل: قلم زيد يعني لزيد.
فالمعنى هنا: قوم له؛ لأنه منهم ومأمون عليهم ومعروف لهم سيرته الأولى، فإذا قال لهم لا يتهمونه، إذن: فمن رحمة الله بالخَلْق أن يرسل إليهم واحداً منهم، كما قال سبحانه:{ لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ.. }[التوبة: 128] ففي هذا إيناس وإلْفٌ للقوم على خلاف ما إنْ كان الرسول مَلَكَاً مثلاً، فإن القوم يستوحشونه ولا يأنسون إليه.
لذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يُسمَّى بين قومه وقبل بعثته بالصادق الأمين؛ لأنه معروف لهم ماضيه وسيرته ومُقوِّمات حياته تُشجِّع على أنْ يُصدِّقوه فيما جاء به، وكيف يصدقونه في أمر الدنيا، ولا يُصدقونه في البلاغ عن الله؟
إذن: } إِلَىا قَوْمِهِ { [المؤمنون: 23] أننا لم نأْتِ لكم برسول من جنس آخر، ولا من قبيلة أخرى، بل منكم، وتعرفون ماضيه وتاريخه، فتأنسون بما يجيء به، ولا تقفون منه موقف العداء.
أو يكون المعنى: إلى قوم منه؛ لأنهم لا يكونون قوماً قوّامين على شئون إصلاح الحياة، إلا إذا استمعوا منهجه، فهم منه؛ لأنهم سيأخذون منه منهج الله.
ثم يقول سبحانه: } فَقَالَ ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُهُ.. { [المؤمنون: 23] (يا قوم) استمالة وتحنين لهم } اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُهُ.. { [المؤمنون: 23] والعبادة طاعة عابد لأمر معبود، والعبادة تقتضي تكليفاً بأمر ونهي. فالألوهية تكليف وعبادة، أما الربوبية فعطاء وتربية؛ لذلك قال سبحانه{ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }[هود: 34] أي: ربكم جميعاً: ربّ المؤمن، وربّ الكافر، ربّ الطائع، ورب العاصي.
وكما قلنا: الشمس والقمر والأرض والمطر.. الخ كلها تخدم الجميع، لا فرْقَ بين مؤمن وكافر؛ لأن ذلك عطاء الربوبية، وإنْ سألت الكافر الجاحد: من خلقك؟ من رزقك؟ فلن يملك إلا أن يقول: الله، إذن: فليخْزَ هؤلاء على أعراضهم، وليعلموا أنه تعالى وحدة المستحق للطاعة وللعبادة.
فمقتضيات الربوبية والإيمان بها تقتضي أن نؤمن بالألوهية.
كما أن الطفل الصغير ينشأ بين أبيه وأمه ويشبّ، فلا يجد غيرهما يخدمه ويقضي حاجته ويُوفِّر متطلباته، بل ويزيل عنه الأذى ويسهر على راحته. كل ذلك بروح سعيدة ونفس راضية مطمئنة، ربما يجوعان لتشبع، ويعريان لتكسى، ويحرمان نفسيهما ليوفرا لك الحياة الكريمة، فإذا ما كبر الصغير وبلغ الحُلُم ومبلغ الرجال نجده يعقُّهما، ويخرج عن طاعتهما، ويأخذه من أحضانهما أصدقاء السوء، ويُزيّنون له التمرد على أبيه وأمه.
ونقول لمثل هذا العاق: اخْزَ على عِرْضك واسْتَحِ، فليس هكذا يكون رد الجميل، وأين كان هؤلاء الأصدقاء يوم أنْ كنتَ صغيراً تحتاج إلى من يعولك ويميط عنك الأذى، ويسهر على راحتك؟ قد كان ينبغي عليك ألاَّ تسمع إلا لمن أحسن إليك.
وهذا مثال لتوحيد الألوهية وتوحيد الربوبية - ولله المثل الأعلى - فكيف تأخذ من ربك عطاء الربوبية، ثم تتمرد عليه سبحانه في الألوهية، فتعصي أمره وتكفر بنعمه؟ كان من الواجب عليك الوفاء للنعمة.
ولا بد أن تعلم أن ربك - عز وجل - مأمون عليك في التكليف بالأمر والنهي، لأنك عبده وصنعته، وأنك حين تُؤدِّي ما عليك تجاه الألوهية لا ينتفع الله سبحانه من ذلك بشيء، إنما تعود منفعتها عليك، وهكذا إذا ما رددت أمور الطاعة والعبادة والتكاليف لوجدتها تعود في النهاية أيضاً إلى عطاء الربوبية؛ لأنها تعود عليك أنت بالنفع.
فنحن نأخذ الأوامر والنواهي على أنها تكاليف وأعباء يقتضيها الإيمان بالألوهية، نقول: نعم هي تكاليف من الله لكن لصالحك، فلو أنصفتَ لوجدتَ الألوهية من الربوبية، فحين يُحرِّم مثلاً عليك شرب الخمر ويحميك من فساد العقل، هل ينتفع سبحانه من ذلك بشيء؟
لذلك يقول تعالى عن هؤلاء:{ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ.. }[لقمان: 25].
ويقول:{ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ.. }[الزخرف: 87].
فما دام هو سبحانه خالقكم ورازقكم وخالق السموات والأرض، فلماذا تعصونه؟ وهل نقص عصيانكم من مُلْكه شيئاً؟ وهل زاد في مُلْكه شيء بطاعة مَنْ أطاع؟ هل زاد في مُلْك الله بطاعة الطائعين أرض أو سماء، أو شمس أو قمر؟
إن الحق سبحانه قبل أن يخلقكم خلق لكم بصفات الكمال فيه كل مُقوِّمات حياتكم واستدعاكم إلى كون مُعَدٍّ لاستقبالكم ولمعيشتكم. إذن: فربُّكَ - عز وجل - لا تنفعه طاعة، ولا تضره معصية.
لذلك يقول في الحديث القدسي: " يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم وشاهدكم وغائبكم اجتمعوا في صعيد واحد، وسألني كل واحد مسألته فأعطيتها له ما نقص ذلك مما عندي إلا كمغرز إبرة أحدكم إذا غمسه في البحر، وذلك أنِّي جواد واجد ماجد، عطائي كلام، وعذابي كلام، إنما أمري لشيء إذا أردتُه أن أقول له: كن فيكون ".
إذن: حين تطيعني فالخير لك؛ لأنك ضمنتَ بهذه الطاعة حياة أخرى خالدة باقية بعد هذه الحياة الفانية التي مهما أترفت فيها فهي إلى زوال، فإما أنْ تفوت نعيمها بالموت، وإما أنْ يفوتك بالحاجة والفقر، أما في الآخرة فالنعيم دائم بَاقٍ لا يفوتك ولا تفوته؛ لأنها نعمة لا مقطوعة ولا ممنوعة.
لذلك قال سبحانه:{ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ }[العنكبوت: 64] فكأن عطاء الألوهية ربوبية متعدية إلى زمن آخر غير زمن الدنيا، فلا تظن أن طاعتك ستفيدني في شيء، أو أن معصيتك ستضرني بشيء، ومن هنا قال تعالى:{ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـاكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }[النحل: 118].
وقوله تعالى: } مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُهُ { [المؤمنون: 23] أي: معبود غيره } أَفَلاَ تَتَّقُونَ { [المؤمنون: 23] هذا استفهام يحمل معنى التهديد والتوبيخ، لكن كيف يُوبِّخهم وهو لم يَزَلْ في مرحلة الأمر بعبادة الله، ولم يسمع منهم بعد بوادر الطاعة أو العصيان؟ قالوا: يبدو أنه رأى منهم إعراضاً فأمرهم بتقوى الله.
والتقوى معناها أنْ تجعل بينك وبين ربك وقاية تقيك صفات جبروته وقَهْره وتحميك من أسباب بَطْشه وانتقامه، فلست مطيقاً لهذه الصفات. والوقاية التي تجعلها بينك وبين هذه الصفات هي أن تنفذ منهج الله بطاعة الأوامر واجتناب النواهي.
ومن عجيب تركيبات التقوى في القرآن الكريم أنْ يقول سبحانه:{ وَاتَّقُواْ اللَّهَ }[البقرة: 194] ويقول:{ فَاتَّقُواْ النَّارَ.. }[البقرة: 24] قالوا: نعم اتق الله، واتق النار؛ لأنك تتقي الله من متعلقات صفات قهره وغضبه ومنها النار، فحين تتقي الله بالمنهج فقد اتقيْتَ النار أيضاً.
ثم يقول سبحانه: } فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ مَا هَـاذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ.. {
.
(/2677)
فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24)
الملأ: من الملء يعني: الشيء الذي يملأ الشيء، فالملأ يعني الذين يملأون العيون بشرفهم ومكانتهم وعظمتهم وأبهتِهم، ومن ذلك قولهم: فلان مِلءُ العين، أو مِلْءُ السمع والبصر، ويقولون للرجل إذا بلغ في الحُسْن مبلغاً: فلان قَيْد العيون يعني: حين تراه لا تصرف بصرك إلى غيره من شِدَّة حسنه كأنه قيَّد بصرك نحوه. أما في المقابل فيقولون: فلان تتقحمه العين ولا تراه وكأنه غير موجود.
إذن: الملأ: هم الذين يملؤون صدور المجالس أُبَّهة وفخامة ووجاهة وسيادة، لكن، لماذا هؤلاء بالذات هم الذين تعصَّبوا ضده وواجهوه؟
قالوا: لأن منهج الله ما جاء إلا لإصلاح ما فسد في الكون وما استشرى فيه من شر، فالحق - تبارك وتعالى - يُنزِل منهجاً على لسان رسول أول، ويطلب من قومه أن يُبلِّغوا منهج رسولهم من بعده، لكن تأتي الغفلة على هذا المنهج فيخرج الناس عنه ويأتي خروجهم عن منهج ربهم على عِدَّة صور:
فمنهم مَنْ يخرج عن منهج ربه ويصنع الذنب، إلا أنه يعاود نفسه ويراجعها ويلومها وسرعان ما يتوب ويندم، فزاجره من نفسه وواعظه من داخله، وهؤلاء الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً.
ومنهم مَنْ يخرج على منهج ربه خروجاً لا رجعةَ له ولا زاجر، وهذا نسميه بلغتنا (فاقد) يعني: لم يَعُدْ له زاجر من شرع ولا من ضمير. ويبقى بعد ذلك زاجر المجتمع حين يرى مثل هؤلاء الخارجين عن منهج الحق عليه أنْ يتصدَّى لهم، ويقاطعهم ولا يودهم ولا يحترمهم، وإلا لو ظَلَّ المنحرف ومرتكب القبائح على حاله من احترام الناس وتقديرهم، ولو ظلَّ على مكانته في المجتمع لتمادى في غَيِّه وأسرف على نفسه وعلى مجتمعه فيستشري بذلك الشر في المجتمع، ويعُمّ الفساد وتشيع الفوضى.
ألاَ ترى الشرع الحكيم حين جعل الدية في القتل على العاقلة يعني: عائلة القاتل، لا على القاتل وحده؟ لماذا؟ لكي يأخذوا على يد ولدهم إن انحرف أو بدَتْ عنده بوادر الاعتداء؛ لأنهم جميعاً سيحملون هذه التبعة.
ونقول: خُصَّ الملأ بالذات؛ لأنهم هم المنتفعون بالشر والفساد في المجتمع، ومن مصلحتهم أنْ يستمر هذا الوضع لتبقى لهم سلطتهم الزمنية ومكانتهم؛ لذلك هم أول مَنْ يقابلون الرسالات بالجحود والنكران. ألم يقل الحق سبحانه عنهم في آية أخرى:{ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا.. }[هود: 27].
فهؤلاء الذين يُسمُّونهم أراذل هم المستضعفون والفقراء والمطحونون والمهمومون بأمور الخَلْق والدين والقيم، فما إنْ تسمع آذانهم عن رسالة إلا تلهَّفوا عليها وارتموا في أحضانها لأنها جاءت لتنقذهم؛ لذلك يكونون أول مَنْ يؤمن. وإنْ جاء المنهج لإنصاف هؤلاء، فقد جاء أيضاً لينزع من أصحاب السلطان والقهر والجبروت سلطانهم وتعاليهم، فلا بُدَّ أن يواجهوه ويعاندوه.
ومعنى: } الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ.. { [المؤمنون: 24] كفروا: يعني جحدوا وجود الله } مَا هَـاذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ { [المؤمنون: 24] فأول شيء صَدَّهم عن الرسول كونه بشراً، إذن: فماذا كنتم تنتظرون؟ وقد شرح هذا المعنى في قوله تعالى:{ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَىا إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً }[الإسراء: 94].
ولا بُدَّ في الرسول أن يكون من جنس المرسَل إليهم؛ ليصح أن يكون لهم أُسْوة، فيقلدوه ويهتدوا به، وإلا لو جاء الرسول مَلكاً فكيف تتحقق فيه القدوة؟ وكيف تطيعونه وأنتم تعلمون أنه مَلَكٌ لا يأكل ولا يشرب ولا يتناسل، وليست لديه شهوة، ولا مُقوِّمات المعصية؟
ولنفرض أن الله نزَّل عليكم ملَكاً، فكيف ستشاهدونه وتتلقوْن عنه؟ لا بُدَّ - إذن - أن يأتيكم في صورة رجل لتتمكنوا من مشاهدته والتلقِّي عنه، وهكذا نعود في نقاش هذه المسألة إلى أنه رجل؛ لذلك قال سبحانه:{ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ }[الأنعام: 9] وتظل الشبهة باقية.
إذن: من الحُمْق أن نقول بأن يكون الرسول مَلَكاً.
أما قولهم: } بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ { [المؤمنون: 24] نعم، هو بشر، لكن ليس كمثلكم، فأنتم كاذبون في هذه المثلية، لأنه بشر اصطفاه الله بالوحي؛ لذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يؤخذ مني فأقول: ما أنا إلا بشر مثلكم، وأُعْطَى من الله فأقول: أنا لست كأحدكم ".
ويقول تعالى لرسول الله صلى الله عليه وسلم:{ قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىا إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ }[فصلت: 6] ومن هنا كانت الأفضلية في أنه بَشر يُوحَى إليه، وما بشريته إلا للإيناس والإلْف.
ثم يتابع الحق سبحانه مقالة هؤلاء الكافرين من قوم نوح: } يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ { [المؤمنون: 24] يتفضّل: يعني ينسب نفسه إلى الفضل والشرف والسيادة ليكون متبوعاً وهم تابعون } وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ { [المؤمنون: 24] يعني: لو شاء أنْ يرسل رسولاً } لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً { [المؤمنون: 24] أي: رسلاً، وقد رَدَّ الله تعالى عليهم هذا القول، فقال تبارك وتعالى:{ قُل لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَآءِ مَلَكاً رَّسُولاً }[الإسراء: 95].
ثم يقولون: } مَّا سَمِعْنَا بِهَـاذَا فِي آبَآئِنَا الأَوَّلِينَ { [المؤمنون: 24] المراد بهذا: يعني أن يأتي مَنْ يقول اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، لأن آباءنا الأولين كانوا يعبدون الأصنام، ولم يأْتِ مَنْ يقول لنا هذا الكلام مثل نوح.
وهذا دليل على أنهم مُقلِّدون للآباء، ليس لديهم تفكير واستقلال في الرأي ينظرون به إلى الأشياء نظرة الحق والعدالة، وفي موضع آخر قال تعالى عنهم:{ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىا أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىا آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ }[الزخرف: 23].
ولو تأملنا حال المجتمعات، ومنها مجتمعنا الذي نعيش فيه لوضح لنا كذب هؤلاء في ادعائهم التقليد للآباء، كيف؟ تأمل حال الأجيال المختلفة تجد كل جيل له راية وتطلعاته ورغباته التي ربما اختلف فيها الأبن عن أبيه، فالأبناء الآن لهم رأي مستقل، فالولد يختار مثلاً الكلية التي يرغبها، الملابس التي يحبها، وإنْ خالفتْ رأي أبيه، بل ويصل الأمر إلى اتهام الآباء بالجمود والتخلف إنْ لزم الأمر، وهذا موجود في كل الأجيال.
إذن: لماذا لم تقولوا في مثل هذه الأمور: إنا وجدنا آباءنا على أمة؟ لماذا كانت لكم ذاتية ورأْيٌ مستقل في أمور الدنيا دون أمور الدين؟ إنكم تتخذون الذاتية فيما يُلبِّي رغباتكم وشهواتكم وانحرافاتكم، وتتخذون التقليد فيما يُقلِّل تكليفكم؛ لأن التكليف سيُقيِّد هذه الرغبات والشهوات ويقضي على هذه الانحرفات؛ لذلك يتمرد هؤلاء على منهج الله.
لذلك، نعجب لما نراه ونسمعه من حال أبنائنا اليوم، وكيف أفلتَ الزمام من الآباء والأمهات، فالشاب يسير على هواه في أمور انحرافية، فإن وجَّهه أبوه أعرض عنه واتهمه بأنه من جيل قديم وقد ذهب زمانه بلا رجعة، وقد تعدى الأمر من الأولاد إلى البنات، فصِرْن أيضاً يتمردْنَ على هذه القيم ولا يهتممن بها.
فقولهم: } مَّا سَمِعْنَا بِهَـاذَا فِي آبَآئِنَا الأَوَّلِينَ { [المؤمنون: 24].
فقولهم:{ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىا أُمَّةٍ }[الزخرف: 23] هم كاذبون أيضاً في هذه المقولة؛ لأنهم لو صَدَقوا لقلَّدوهم في كل شيء وما عليهم في أمور الدنيا وفي أمور الدين والقيم والأخلاق.
لذلك الحق - تبارك وتعالى - يعالج هذه القضية في مواضع عدة من كتابه الكريم، وبأساليب مختلفة، منها قوله سبحانه:{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ.. }[البقرة: 170].
لأن هذا يريحهم من مشقة التكاليف، وإنْ كانت العبادة: طاعة عابد لمعبود في أمره ونهيه، فما أسهلَ عبادة الأصنام؛ لأنها آلهة كما يدعون لكن ليس لها منهج، وليس معها تكاليف، فبأيِّ شيء أمرك الصنم؟ وعن أيِّ شيء نهاك؟ وماذا أعدَّ من جزاء لمن أطاعه؟ وماذا أعدَّ من عقاب لمن عصاه، إذن: معبود بلا منهج وبلا تكاليف، وهذا دليل كذبهم في عبادة الأصنام وغيرها من آلهتهم.
الم يقولوا:{ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى }[الزمر: 3] فهذا حُمْق وسَفَه وجهل؛ لأن الكلام منطقياً لا يستقيم، كيف تقولون نعبدهم وليس لهم منهج، وليس لهم تكاليف، والعبادة طاعة عابد لمعبود؟
إذن: ما هو إلا خِوَاء وإفلاس عقديّ؛ لذلك يردُّ الحق - تبارك وتعالى - عليهم فيقول سبحانه:{ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ }[البقرة: 170].
وفي موضع آخر يقول - سبحانه وتعالى - عنهم:{ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ.. }[المائدة: 104] وهذه أبلغ من سابقتها، لأنهم يُصعِّدون كفرهم ويُصِرون عليه، فقولهم:{ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ.. }[البقرة: 170] فلربما يراجعون أنفسهم فيهتدون إلى الحق، ويخالفون الآباء.
لكن هنا:
{ حَسْبُنَا.. }[المائدة: 104] يعني: كافينا، ولن نغيره ولن نحيد عنه؛ لذلك يأتي كل آية بما يناسبها: ففي الأولى قال تعالى رداً عليهم:{ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً }[البقرة: 170] وفي الأُخْرى قال رداً عليهم:{ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً.. }[المائدة: 104].
فذكر العقل في الأولى؛ لأن الإنسان يأتمر فيه بنفسه، وذكر في الأخرى العلم؛ لأن الإنسان في العلم يأتمر بعقله، وعقل العلم أيضاً، فالعلم - إذن - أوسع من العقل؛ لذلك ذكره مع قولهم{ حَسْبُنَا.. }[المائدة: 104] الدالة على المبالغة والإصرار على الكفر.
كما نلحظ عليهم في قولهم: } مَّا سَمِعْنَا بِهَـاذَا.. { [المؤمنون: 24] أن الغفلة قد استحكمت فيهم؛ لأن نوحاً عليه السلام يعتبر الجد الخامس بعد آدم عليه السلام، فبينهما فترة طويلة، فكيف ما سمعوا طوال هذه الفترة برسول أو نبي، يقول: اعبدوا الله ما لكم من إله غيره؟
(/2678)
إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25)
{ إِنْ هُوَ.. } [المؤمنون: 25] يعني: ماهو و { جِنَّةٌ }: يعني جنون، وهو ستر العقل الذي ستر العقل الذي يسيطر على حركة الإنسان في الحياة فيسير حسب تقنيناتها (افعل كذا) و (لا تفعل كذا)، أما المجنون فيعمل ما يخطر له دون أنْ يعرض الأعمال على العقل أو التفكير؛ لذلك من عدالة الله في خَلْقه أننا لا نؤاخذ المجنون على تصرُّفاته حين يعتدى على أحد منا بالسبِّ أو الضرب مثلاً، ولا نملك إلا أن نبتسم له، وندعو الله أن يعافينا مما ابتلاه به.
فإنْ كان هذا الحال المجنون في حركة حياته، فهل يكون ذو الخلق الذي يسير وَفْق قوانين الحياة ومحكوماً بنظم وقيم خلقية، هل يكون مجنوناً؟ ومن العجيب أن تهمة الجنون هذه سائرة على لسان المكذِّبين للرسل في كل زمان ومكان، وقد اتُّهِم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فردَّ الله عليهم ونفى عن رسوله هذه الصفة في قوله:{ ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلَىا خُلُقٍ عَظِيمٍ }[القلم: 1 - 4].
فكيف يكون ذو الخلق مجنوناً؟ ولو كان صلى الله عليه وسلم مجنوناً، فلماذا استأمنوه على ودائعهم ونفائسهم، واطمأنوا إليه، وسمَّوْه الصادق الأمين؟ إنهم ما فعلوا ذلك إلا لأنهم يعلمون خُلقه، وأنه محكوم بقيم من الحق والخير لا تتزحزح.
وما دام الأمر لا يعدو أن يكون رجلاً به جِنَّة { فَتَرَبَّصُواْ بِهِ حَتَّىا حِينٍ } [المؤمنون: 25] أي: انتظروا واتركوه وشأنه، فربما عاد إلى صوابه، وترك هذه المسألة من تلقاء نفسه حين يرانا منصرفين عنه غير مُهتمين به، أو دَعُوه فإنْ كان على حق ونصرة الله وأظهر أمره عندها نتبعه، وإنْ كانت الأخرى فها نحن مُعرِضون عنه من بداية الأمر.
(/2679)
قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26)
بعد أنْ كذَّبه قومه دعا الله ان ينصره { بِمَا كَذَّبُونِ } [المؤمنون: 26] يعني: انصرني بسبب تكذيبهم، واجعل تكذيبهم لا مدلولَ له فينتصر عليهم رغم تكذيبهم، أو: يا رب عوِّضني بتكذيبهم نصراً، يعني: أبْدِلني من كذبهم نصراً، كما تقول: اشتريت كذا بكذا، فأخذت هذا بدل هذا.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: { فَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا.. }
.
(/2680)
فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27)
استجاب الله تعالى دعاء نبيه نوح - عليه السلام - في النُّصْرة على قومه، فأمره بأن يصنع الفلك. والفُلْك هي السفينة، وتُطلق على المفرد والجمع، قال تعالى:{ فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ }[الشعراء: 119] وقال:{ وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }[فاطر: 12] فدلَّتْ مرة على المفرد، ومرة على الجمع.
وقوله تعالى: { بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا.. } [المؤمنون: 27] دليل على أن نوحاً - عليه السلام - لم يكن نجاراً كما يقول البعض، فلو كان نجاراً لهداه عقله إلى صناعتها، إنما هو صنعها بوحي من الله وتوجيهاته ورعايته، كما قال سبحانه:{ وَلِتُصْنَعَ عَلَىا عَيْنِي }[طه: 39] فالمعنى: اصنع الفُلْك، وسوف أوفقك إلى صناعتها، وأهديك إلى ما يجب أن يكون، وأُصحِّح لك إنْ أخطأت في وضع شيء في غيرموضعه، إذن: أَمَرْتُ وأَعَنْتُ وتابعتُ. والوحي: هو خطاب الله لرسوله بخفاء.
ثم يقول تعالى: { فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ } [المؤمنون: 27].
وهنا لم يتعرض السياق للفترة التي صنع فيها نوح السفينة، والتي جاءت في قوله تعالى:{ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ }[هود: 38] ذلك لأنهم لا يعلمون شيئاً عن سبب صناعتها.
وفي موضع آخر يُعْلِمنا - سبحانه وتعالى - عن كيفية صُنْعها فيقول:{ وَحَمَلْنَاهُ عَلَىا ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ }[القمر: 13] وقلنا: إن الدُّسُر: الحبال التي تُضَمُّ بها ألواح الخشب بعضها إلى بعض شريطة أن تكون جافة، وتُضَم إلى بعضها بحكمة حتى إذا ما نزل الماء وتشرَّبت منه يزيد حجمها فتسدُّ المسام بين الألواح، كما نراهم مثلاً يصنعون براميل الزيت من شرائح الخشب.
وقد صنع أحدهم سفينة من البَرْدى بهذه الطريقة، وسافر بها إلى أمريكا واستخدم فيها الحبال بدلاً من المسامير.
ثم يقول سبحانه: { فَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا.. } [المؤمنون: 27] يعني: بإنجاء المؤمنين بك، وإهلاك المكذبين { وَفَارَ التَّنُّورُ.. } [المؤمنون: 27] والتنور: هو الفرن الذي يخبزون فيه الخبز، ويقال: إنه كان موروثاً لنوح من أيام آدم، يفور بالماء يعني: يخرج منه الماء، وهو في الأصل محلٌّ للنار، فيخرج منه الماء وكأنه يغلي. لكن هل كل الماء سيخرج من التنور؟ الماء سيخرج من كل أنحاء الأرض وسينزل من السماء، وفوران التنور هو إيذان بمباشرة هذه العملية وبداية لها.
إذا حدث هذا { فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ.. } [المؤمنون: 27] يعني: احمل وأدخل فيها زوجين ذكراً وأنثى من كل نوع من المخلوقات، كما في قوله تعالى:{ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ }[المدثر: 42] يعني: أدخلكم، وقال سبحانه:{ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ.. }[القصص: 32] يعني: أدخلها، وقال سبحانه:{ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ }[الحجر: 12].
ومن مادة (سلك) أخذنا في أعرافنا اللغوية.
نقول: سلَّك الماسورة أو العين يعني: أدخل فيها ما يزيل سدَّتها.
والتنوين في } مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ.. { [المؤمنون: 27] يعني: من كل شيء نريد حِفْظ نوعه واستمراره؛ لأن الطوفان سيُغرق كل شيء، والحق - تبارك وتعالى - يريد أن يحفظ لعباده المؤمنين مُقوِّمات حياتهم وما يخدمهم من الحيوانات والأنعام وجميع أنواع المخلوقات الأخرى من كل ما يلِدُ أو يبيض.
ومعنى } زَوْجَيْنِ { [المؤمنون: 27] ليس كما يظنُّ البعض أن زوج يعني: اثنين، إنما الزوج يعني فرد ومعه مثله، ومنه قوله تعالى:{ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ.. }[الأنعام: 143 - 144].
فسمَّى كلَّ فرد من هذه الثمانية زوجاً؛ لأن معه مثله.
هذا في جميع المخلوقات، أما في البشر فلم يقُلْ زوجين، إنما قال } وَأَهْلَكَ { [المؤمنون: 27] أياً كان نوعهم وعددهم، لكن الأهلية هنا أهلية نسب، أم أهلية إيمانية؟
الأهلية هنا يُراد بها أهلية الإيمان والاتباع، بدليل أن الله تعالى شرح هذه اللقطة في آية أخرى، فقال على لسان نوح عليه السلام:{ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي.. }[هود: 45].
فقال له ربه:{ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ }[هود: 46]
فبنوة الأنبياء بنوة عمل واتباع، فإنْ جاءت من صُلْبه فأهلاً وسهلاً، وإنْ جاءت من الغير فأهلاً وسهلاً. " لذلك النبي صلى الله عليه وسلم يقول عن سلمان الفارسي: " سلمان منا آل البيت " " فقد تعدى أن يكون مسلماً إلى أن صار واحداً من آل البيت.
وكذلك أدخل فيها أهلك من النسب بدليل أنه استثنى منهم: } إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ { [المؤمنون: 27] وكان له امرأتان، واحدة كفرت به وخانته هي وولدها كنعان، والتي ذُكرت في قول الله تعالى في سورة التحريم:{ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا.. }[التحريم: 10].
وكنعان هو الذي قال: سآوي إلى جبل يعصمني من الماء وهذه اللقطة لم تذكر هنا؛ لأن أحداث القصة جاءت مُفرَّقة في عِدَّة مواضع، بحيث لو جُمعت تعطي الصورة العامة للقصة، فإنْ قُلْتَ: فلماذا لم تأتِ مرة واحدة كما في قصة يوسف عليه السلام؟
نقول: جاءت قصة يوسف كاملة في موضع واحد ليعطينا بها الحق - سبحانه وتعالى - نموذجاً للقصة الكاملة المحبوكة التي تدل على قدرته تعالى على الإتيان بالقصة مرة واحدة لمن أراد ذلك، فإنْ أردتها كاملة فنحن قادرون على ذلك، وها هي قصة يوسف، إنما الهدف من القصص في القرآن هو تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى:{ كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً }
[الفرقان: 32]؛ لأنه صلى الله عليه وسلم سيقابل مواقف تكذيب وعداء وعناد من قومه، وسيتعرض لأزمات شديدة ويحتاج إلى ما يُسلِّيه ويُثبِّته أمام هذه الأحداث.
لذلك جاءت لقطات القصص القرآني في عدة مواضع لتسلية رسول الله ، والتخفيف عنه كلما تعرَّض لموقف من هذه المواقف، وبجَمْع هذه اللقطات المتفرقة تتكون لديك القصة الكاملة المستوية.
وقد أدخل نوح معه زوجته الأخرى المؤمنة وأولاده: سام وحام ويافث وزوجاتهم، فهؤلاء ستة ونوح وزوجه فهم ثمانية، ومعهم اثنان وسبعون من المؤمنين وأصول الإيمان الباقي مع نوح عليه السلام.
ولما كان الحكم بغرق مَنْ كفر من أهله أمراً لا استئناف فيه، قال تعالى بعدها:{ وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ }[هود: 37] لكن ظلموا مَنْ؟ ظلموا أنفسهم حين كفروا بالله، والحق سبحانه يقول:{ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }[لقمان: 13].
صحيح أنت حين كفرت أخذتَ حقَّ الله في أنه واحد أحد موجود، وإله لا معبود غيره، وأعطيتَه لغيره، لكن هذا الظلم لم يضر الله تعالى في شيء إنما أضرَّ بك وظلمتَ به نفسك، ومنتهى الحُمْق والسفه أن يظلم الإنسان نفسه.
ثم يقول سبحانة: } فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ للَّهِ.. {
.
(/2681)
فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28)
{ اسْتَوَيْتَ } [المؤمنون: 28] يعني: استعليتَ وركبتَ أنت ومَنْ معك على الفُلْك واطمأنّ قلبك إلى نجاة المؤمنين معك { فَقُلِ الْحَمْدُ للَّهِ } [المؤمنون: 28] فلا بد للمؤمن أن يستقبل نِعَم الله عليه بالحمد، وبألاَّ تُنسيه النعمةُ جلالَ المنعِم، فساعةَ أنْ يستتب لك الأمر على الفُلْك وتطمئن بادر بحمد الله.
وفي موضع آخر يقول سبحانه:{ وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَىا ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذالِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }[يونس: 12].
وكأن الحق - تبارك وتعالى - يعطينا حصانة، ويجعل لنا أسوة بذاته سبحانه، حتى إذا ما تعرضنا لنكران الجميل ممَّنْ أحسنَّا إليه لا نغضب؛ لأن الناس ينكرون الجميل حتى مع الله عز وجل.
لذلك لما قال موسى - عليه السلام - يا ربّ أسألك أَلاّ يُقال فيَّ ما ليس فيَّ. يعني: لا يتهمني الناس ظلماً، فردَّ عليه ربه عز وجل: " يا موسى، كيف ولم أصنع ذلك لنفسي ".
إذن: فهذه مسألة لا يطمع فيها أحد، ولو أن كل فاعل للجميل يضِنُّ به على الناس لأنهم ينكرونه لَفَسد الحال، وتوقفت المصالح بين الخَلْق، وضَنَّ أهل الخير بخيرهم؛ لذلك وضع لنا ربنا - عز وجل - الأُسْوة بنفسه سبحانه.
والإنسان إنْ كان حسيساً لا يقف عند إنكار الجميل، إنما يتعدّى ذلك فيكره مَنْ أحسن إليه ويحقد عليه، ذلك لأن الإنسان مجبول على حب النفس والتعالي والغطرسة، فإذا ما رأى مَنْ أحسن إليه كرهه؛ لأنه يدكُّ فيه كبرياء نفسه، ويَحدُّ من تعاليه.
ومن هنا قالوا: " اتق شرَّ من أحسنت إليه " لماذا؟ لأنه يخزَى ساعة يراك، وهو يريد أنْ يتعالى، ووجودك يكسر عنده هذا التعالي.
إذن: وطِّنْ نفسك على أن الجميل قد يُنكَر حتى لو كان فاعله رب العزة سبحانه، فلا يحزنك أنْ يُنكَر جميلك أنت.
وعن ذلك قال الشاعر:يَسِير ذَوُو الحاجَاتِ خلفَكَ خُضَّعاً فَإنْ أدركُوهَا خلَّفوكَ وهَرْوَلُواوأفضلُهم مَنْ إنْ ذُكِرْت بسيءٍ توقَّفَ لا ينفي وقد يتقوّلفَلا تَدعِ المعْروفَ مهما تنكَّروا فَإنَّ ثوابَ اللهِ أرْبَى وأجزَلُفالمعنى: إذا استويتَ أنت ومَنْ معك، واستتبَّ لك الأمر على الفُلْك، فإياك أنْ تغتَرّ أو تنأى بجانبك فتنسى حَمْد الله على هذه النعمة؛ لذلك أمرنا حين نركب أي مركب أن نقول: " بسم الله مجريها ومرساها " لأنك ما أجريتها بمهارتك وقوتك، إنما باسم الله الذي ألهم، وباسم الله الذي أعان، وباسم الله الذي تابعني، ورعاني بعينه، وما دُمْتَ تذكر المنعم عند النعمة وتعترف لصاحب الفضل بفضله يحفظها لك.
أما أنْ تنكرها على صاحبها، وتنسبها لنفسك، كالذي قال:{ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىا عِلْمٍ عِندِي.. }[القصص: 78] فيقول: ما دام الأمر كذلك، فحافظ أنت عليه.
حتى في ركوب الدَّابّة يُعلِّمنا صلى الله عليه وسلم أنْ نقول: " سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون ".
وقوله تعالى: { الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [المؤمنون: 28] وذكر النجاة لأن دَرْءَ المفسدة مُقدَّم على جَلْب المنفعة.
ثم يُعلِّمه ربه دعاءً آخر يدعو به حين تستقر به السفينة على الجُودي، وعندما ينزل منها ليباشر حياته الجديدة على الأرض: { وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ.. }
.
(/2682)
وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29)
وفي موضع آخر قال سبحانه:{ قِيلَ يانُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَىا أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ.. }[هود: 48] لأنك ستنزل منها وليست هي مكان معيشتك.
وكذلك دعا النبي صلى الله عليه وسلم فقال كما حكى القرآن:{ وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ.. }[الإسراء: 80].
فلا بُدَّ أن تذكر في النعمة المنعِمَ بها، لذلك فالذين يُصابون في نعم الله عليهم بأعين الحاسدين، ثِقْ تمام الثقة أنهم حين رأوْا نعمة الله عليهم لم يذكروا المنعِم بها، ولو أن الإنسان حين يرى نعمة من نعم الله عليه في ماله أو ولده فيقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، ووضع النعمة في حماية المنعم لضمِن دوام نعمته وسلامتها من أعين الحاسدين؛ لأنه وضعها تحت قانون الصيانة الإلهية.
ومعنى: { مُنزَلاً مُّبَارَكاً.. } [المؤمنون: 29] الشيء المبارك: الذي يعطي فوق ما يتصور من حجمه، كأن يعيش شخص براتب بسيط عيشة كريمة ويُربِّي أولاده أفضل تربية، فيتساءل الناس: من أين ذلك؟ ونقول: إنها البركة التي تحلّ في القليل فيصير كثيراً، صحيح أن الوارد قليل لكن يُكثِّره قلة المنصرف منه.
وقد مثّلنا لذلك بواحد يرتزق من الحلال، فيُيسِّر الله أمره، ويقضي مصالحه بأيسر تكلفه، فإذا مرض ولده مثلاً يشفيه الله بقرص أسبرين وكوب من الشاي، ولا يفزع لمرضه؛ لأنه مطمئن القلب، راضي النفس، واثق في معونة الله. أما الذي يتكسب من الحرام ويأكل الرشوة.. الخ إنْ مرض ولده يُهرع به إلى الأطباء ويتوقع في ولده أخطر الأمراض، فإنِ ارتشى بعشرة صرف عليها مائة.
وسبق أن قلنا: إن هذه البركة هي رزق السَّلْب الذي لا يزيد من دخلك، إنما يُقلِّل من مصروفاتك.
وكلمة { وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ } [المؤمنون: 29] أم أنه سبحانه المُنزِل الوحيد؟ الله خير المنزلين يعني: أباح أن يقال للعبد أيضاً مُنزِل حين يُنزل شخصاً في مكان مريح، كأن يُسكنه مثلاً في شقة مريحة، أو يستقبله ضيفاً عليه.. الخ. وإنْ كنتَ منزِلاً بهذا المعنى، فالله عز وجل هو خير المنزلين؛ لأنه سبحانه حين يُنزلك ينزل على قَدْره تعالى، وعلى قَدْر كرمه وعطائه.
إذن: الحق - تبارك وتعالى - لم يضِنّ عليه خَلْقه أنْ يصفهم بما وصف به نفسه، فلم يضنّ عليك أنْ يصفك بالخَلْق فقال:{ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ.. }[المؤمنون: 14] فأثبت لك صفة الخَلْق، لأنك توجد معدوماً مع أنك تُوجده من موجود الله، كأنْ تصنع من الرمل والنار كوباً من الزجاج مثلاً، لكن ما توجده يظل جامداً على حالته لا ينمو ولا يتناسل، وليست فيه حياة، ومع ذلك سماك ربك خالقاً، وكذلك قال:{ وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ }[الأنبياء: 89] وقال:{ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ }[آل عمران: 54].
وكما أن الله عز وجل لم يضنّ عليك بهذه الصفات، فلا تضنّ عليه سبحانه بأنه خير المنزلين، وخير الوارثين، وخير الماكرين، وأحسن الخالقين.
ثم يقول الحق سبحانه: { إِنَّ فِي ذالِكَ لآيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ }
.
(/2683)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)
{ فِي ذالِكَ.. } [المؤمنون: 30] يعني: فيما تقدم { لآيَاتٍ.. } [المؤمنون: 30] عبر وعظات وعجائب، لو فكّر فيها المرء بعقل محايد لانتهى إلى الخير { وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ } [المؤمنون: 30] فلا تظن أن الابتلاء مقصور على الظلمة والكافرين الذين أخذهم الله وأهلكهم، فقد يقع الابتلاء بمَنْ لا يستحق الابتلاء، وحين يبتلي اللهُ أهلَ الخير والصلاح فما ذلك إلا ليزداد أجرهم وتُرفع مكانتهم ويُمَحّص إيمانهم.
ومن ذلك الابتلاءات التي وقعت بالمسلمين الأوائل، فإنها لم تكُنْ كراهية لهم أو انتقاماً منهم، إنما كانت تصفية لمعدنهم وإظهاراً لإيمانهم الراسخ الذي لا يتزعزع؛ لأنهم سيحملون دعوة الله إلى أنْ تقوم الساعة، فلا بُدَّ من تمحيصهم وتصفيتهم.
كما قال سبحانه:{ أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ }[العنكبوت: 2] لا، لابُدَّ من الابتلاء الذي يُميِّز الصادقين ممَّنْ يعبد الله على حَرْف، لا بُدَّ أن يتساقط هؤلاء من موكب الدعوة، ولا يبقى إلا المؤمنين الراسخون على إيمانهم الذين لا تزعزعهم الأحداث.
إذن: المعنى { وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ } [المؤمنون: 30] يعني: أهل الإيمان الذين لا يستحقون العذاب؛ لأننا نحب أن نرفع درجاتهم ونُمحِّص إيمانهم ليكونوا أَهْلاً لدعوة الله؛ لذلك يقول الحق - تبارك وتعالى - في الحديث القدسي: " وعزتي وجلالي، لا أُخرج عبدي من الدنيا وقد أردتُ به الخير حتى أوفيه ما عمله من السيئات، من مرض في جسمه وخسارة في ماله، وفقد في ولده، فإذا بقيتْ عليه سيئة ثقَّلت عليه سكرات الموت حتى يأتيني كيوم ولدته أمه.. وعزتي وجلالي، لا أخرج عبدي من الدنيا وقد أردتُ به الشر حتى أوفيه ما عمله من الحسنات، صحةً في جسمه، وبركة في ماله وولده، فإذا بقيتْ له حسنة خففتُ عليه سكرات الموت حتى يأتيني وليست له حسنة ".
إذن: فالابتلاء كما يكون انتقاماً من الكفرة والظلمة يكون كذلك تربيباً للنفع، وتمحيصاً للإيمان، وإرادة للثواب.
ثم يقول الحق سبحانه: { ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ }
.
(/2684)
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ (31)
أي: من بعد قوم نوح عليه السلام، وقلنا: إن القرن: الزمن الذي يجمع أُنَاساً متقاربين في مسائل الحياة، وانتهى العلماء إلى أن القرن مائة عام، أو إلى ملك مهما طال، أو رسالة مهما طالتْ، كلها تسمى قَرْناً.
ثم يقول الحق سبحانه: { فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ.. }
.
(/2685)
فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32)
جاء بعد قوم نوح عليه السلام قوم عاد، وقد أرسل الله إليهم سيدنا هوداً عليه السلام، كما جاء في قوله تعالى:{ وَإِلَىا عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً.. }[الأعراف: 65] وقد دعاهم بنفس دعوة نوح: { أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُهُ.. } [المؤمنون: 32] وقال لهم أيضاً: { أَفَلاَ تَتَّقُونَ } [المؤمنون: 32].
إذن: هو منهج مُوحَّد عند جميع الرسالات، كما قال سبحانه:{ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىا بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىا وَعِيسَىا أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ.. }[الشورى: 13].
فدين الله واحد، نزل به جميع الرسل والأنبياء، فإنْ قلتَ: فما بال قوله تعالى:{ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً.. }[المائدة: 48].
نقول: نعم، لأن العقائد والأصول هي الثابتة التي لا تتغير: اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، أمّا المنهج والشريعة الخاصة بالفروع فهي محلُّ التغيير بين الرسل؛ لأنها أمور تتعلق بحركة الحياة، والحق - تبارك وتعالى - يعطي لكل بيئة على لسان رسولها ما يناسبها وما يعالج أمراضها وداءاتها.
والشِّرْعة: هي القانون الذي يحكم حركة حياتك، أمّا الدين فهو الأمر الثابت والموحّد من قبل الله - عز وجل - والذي لا يملك أحد أنْ يُغيِّر فيه حرفاً واحداً.
لذلك، كانت آفة الأمم أنْ يجعلوا أنفسهم فِرَقاً مختلفة وأحزاباً متباينة، وهؤلاء الذين قال الله فيهم:{ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ.. }[الأنعام: 159].
وتأمل:{ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ.. }[الأنعام: 159] ولم يقُلْ: فرّقوا شريعتهم ولا منهجهم، ذلك لأن الدين واحد عند الله، أمّا المناهج والشرائع فهي مجال الاختلاف على حَسْب ما في الأمة من داءات، فهؤلاء كانوا يعبدون الأوثان، وهؤلاء كانوا يُطفِّفون الكيل والميزان، وهؤلاء كانوا يجحدون نِعَم الله.. الخ.
وسبق أنْ أوضحنا أن اختلاف الداءات في هذه الأمم ناتج عن العزلة التي كانت تبعدهم، فلا يدري هذا بهذا، وهم في زمن واحد. أمّا في رسالة الإسلام - هذه الرسالة العامة الخاتمة - فقد جاءت على موعد من التقاء الأمم وتواصل الحضارات، فما يحدث في أقصى الشمال يعرفه مَنْ في أقصى الجنوب؛ لذلك توحدت الداءات، فجاء رسول واحد خاتم بتشريع صالح لجميع الزمان ولجميع المكان، وإلى قيام الساعة.
وآفة المسلمين في التعصُّب الأعمى الذي يُنزِل الأمور الاجتهادية التي ترك الله لعباده فيه حريةً واختياراً منزلةَ الأصول والعقائد التي لا اجتهادَ فيها، فيتسرَّعون في الحكم على الناس واتهامهم بالكفر لمجرد الاختلاف في وجهات النظر الاجتهادية.
نقول: من رحمة الله بنا أنْ جعل الأصول واحدة لا خلافَ عليها، أما الفروع والأمور الاجتهادية التي تتأتّى بالفهم من المجتهد فقد تركها الله لأصحاب الفهم،{ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىا أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ.. }
[النساء: 83].
وإلا لو أراد الحق سبحانه لَمَا جعل لنا اجتهاداً في شيء، ولجاءتْ كل مسائل الدين قهرية، لا رَأْيَ فيها لأحد ولا اجتهاد، أمّا الحق - سبحانه وتعالى - فقد شاءت حكمته أن يجمعنا جَمْعاً قهرياً على الأمور التي إنْ لم نجمع عليها تفسد، أما الأمور التي تصلح على أي وجه فتركها لاجتهاد خَلْقه.
فعلينا - إذن - أنْ نحترم رأي الآخرين، وألاَّ نتجرأ عليهم بل لنحترم ما اختاره الله لنا من حرية الفكر والاجتهاد.
وأُسْوتنا في هذه المسألة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسلف هذه الأمة في غزوة الأحزاب، فلما هَبَّتْ الريح على معسكر الكفار فاقتلعت خيامهم وشتتت شملهم وفَرُّوا من الميدان انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، لكن سرعان ما أمره ربه بالتوجه إلى بني قريظة لتأديبهم، وأخبره - سبحانه وتعالى - أن الملائكة ما زالت على حال استعدادها، ولم يضعوا عنهم أداة الحرب، فجمع رسول الله الصحابة وقال لهم: " مَنْ كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة ".
وفعلاً، سار الصحابة نحو بني قريظة فيما بين العصر والمغرب، فمنهم مَنْ خاف أنْ يدركه المغرب قبل أنْ يصلي العصر، فصلى في الطريق ومنهم مَن التزم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بألاَّ يصلي إلا في بني قريظة، حتى وإن أدركه المغرب، حدث هذا الخلاف إذن بين صحابة رسول الله وفي وجوده، لكنه خلاف فرعي، لَمَّا رفعوه إلى رسول الله وافق هؤلاء، ووافق هؤلاء، ولم ينكر على أحد منهم ما اجتهد.
إذن: في المسائل الاجتهادية ينبغي أن نحترم رأي الآخرين؛ لذلك فالعلماء - رضي الله عنهم - وأصحاب الفكر المتزن يقولون: رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأْي غيري خطأ يحتمل الصواب. فليت المسلمين يتخلصون من هذه الآفة التي فرَّقتهم، وأضعفتْ شوكتهم بين الأمم. ليتهم يذكرون دائماً قول الله تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ.. }[الأنعام: 159].
ولما تكلم الحق - تبارك وتعالى - عن مسألة الوضوء، قال سبحانه:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ.. }[المائدة: 6].
نلحظ أنه تعالى عند الوجه قال{ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ.. }[المائدة: 6] دون أن يحدد للوجه حدوداً، لماذا؟ لأن الوجه لا خلافَ عليه بين الناس، لكن في الأيدي قال:{ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ.. }[المائدة: 6] فحدد اليد إلى المرفق؛ لأنها محل خلاف، فمن الناس مَنْ يقول: الأيدي إلى الكتف. ومنهم مَنْ يقول: إلى المرفق. ومنهم مَنْ يقول: هي كف اليد.
لذلك حدَّدها ربنا - عز وجل - ليُخرِجنا من دائرة الخلاف في غَسْل هذا العضو، ولو تركها - سبحانه وتعالى - دون هذا التحديد لكانَ الأمر فيها مباحاً: يغسل كل واحد يده كما يرى، كذلك في الرأس قال سبحانه:{ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ.. }[المائدة: 6] وتركها لاحتمالات الباء التي يراها البعض للإلصاق، أو للتعدية، أو للتبعيض.
إذن: حين ترى مخالفاً لك في مثل هذه الأمور لا تتهمه؛ لأن النص أجاز له هذا الاختلاف، وأعطاه كما أعطاك حقَّ الاجتهاد.
ثم قال الحق سبحانه: } َوَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِلِقَآءِ الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيـاةِ الدُّنْيَا.. {
.
(/2686)
وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33)
تكلمنا عن معنى { َالْمَلأُ } [المؤمنون: 33] وهم عَيْن الأعيان وأصحاب السلطة والنفوذ في القوم، والذين يضايقهم المنهج الإيماني، ويقضي على مكانتهم، ويقف في وجه طغيانهم وسيطرتهم واستضعافهم للخلق.
{ َوَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ.. } [المؤمنون: 33] تماماً كما حدث مع سابقيهم من قوم نوح { َوَكَذَّبُواْ بِلِقَآءِ الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيـاةِ الدُّنْيَا.. } [المؤمنون: 33] مادة: ترف مثل فرح، نقول: ترف الرجل يترف إذا تنعّم، فإذا زِدْتَ عليها الهمزة (أترف) نقول: أترفته النعمة، أترفه الله، يعني: كانت النعمة سبب طغيان، ووسَّع الله عليه في النعمة ليتسع في الطغيان.
وفي هذا المعنى ورد قوله تعالى:{ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ.. }[الأنعام: 44] يعني من منهج الحق{ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىا إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُواْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ }[الأنعام: 44].
ذلك، ليكون الأَخْذ أقوى وأعنف وأبلغ في الإيلام والحسرة، وسبق أن ذكرنا تشبيهاً أضحك الحاضرين كثيراً، ولله تعالى - المثل الأعلى -، قلنا: إن الله تعالى إذا أراد أنْ يُوقع معانداً لا يُوقعه من فوق الحصيرة، إنما يوقعه من فوق كرسي عالٍ ومكانة رفيعة، ليكون (الهُدْر) أقوى وأشدّ.
فإن أخذ الإنسان العادي الذي لا يملك ما يتحسرعليه من مال أو جاه أو منصب، فالأمر هيِّن، أمّا حين يُرقِّيه ويُعِلي منزلته ويُترِفه في النعيم، ثم يأخذه على هذه الحال فلا شكَّ أنه أخْذ عزيز مقتدر، وهذا أشدُّ وأنكَى.
إذن: أترفناهم يعني: وسَّعنا عليهم وأمددناهم بالنعم المختلفة ليزدادوا في كفرهم وطغيانهم، على حَدِّ قوله تعالى:{ َفَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّىا حِينٍ * أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ }[المؤمنون: 54 - 56].
إن الله تعالى يمدُّ لهؤلاء في وسائل الغيّ والانحراف ليزدادوا منها، ويتعمقوا في آثامها لنتعمق نحن في عذابهم والانتقام منهم.
ثم يحكي القرآن عنهم هذه المقولة التي سارت على ألسنتهم جميعاً في كل الرسالات: { َمَا هَـاذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ.. } [المؤمنون: 33] وكأن هذه الكلمة أصبحتْ لازمة من لوازم المكذِّبين للرسل المعاندين لمنهج الله، ثم يؤكدون على بشرية الرسول فيقولون: { َيَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ } [المؤمنون: 33] ألم يقُل كفار مكة لرسول الله صلى الله عليه وسلم:{ مَالِ هَـاذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ.. }[الفرقان: 7].
سبحان الله، كأنهم يتكلمون بلسان واحد مع اختلاف الأمم وتباعد الأزمان، لكن كما يقولون: الكفر ملة واحدة.
(/2687)
وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34)
خاسرون إنْ أطعتم بشراً مثلكم، لكنه بشر ليس مثلكم، إنه بشر يُوحَى إليه، فأنا لا أتبع فيه بشريته، إنما أتبع ما ينزل عليه من الوحي.
.
(/2688)
أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35)
إنهم ينكرون البعث بعد الموت الذي يعدهم به نبيهم، لكن ما الإشكال في مسألة البعث؟ أليست الإعادة أهونَ من البَدْء؟ وإذا كان الخالق - عز وجل - قد خلقكم من لا شيء فلأنْ يُعيدكم من الرفات أهون، وإن كانت كلمة أهون لا تليق في حق الله تعالى؛ لأنه سبحانه لا يفعل أموره عن علاج ومزاولة، إنما عن كلمة " كُنْ " لكن الحديث في هذه المسألة يأتي بما تعارفتْ عليه العقول، وبما يُقرِّب القضية إلى الأذهان.
(/2689)
هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36)
{ هَيْهَاتَ.. } [المؤمنون: 36] اسم فعل بمعنى بَعُد، يعني بَعُد هذا الأمر، وهو أن نرجع بعد الموت، وبعد أن صِرْنا عظاماً ورُفَاتاً.
والكلمة في اللغة إما اسم أو فعل أو حرف: الاسم ما دَلَّ على معنى مستقل بالفهم غير مرتبط بزمن، فحين تقول: سماء نفهم أنها كل مّا علاك فأظلَّك. والفعل كلمة تدل أيضاً على معنى مستقل بالفهم لكنه مرتبط بزمن، فحين نقول: أكل نفهم المقصود منها، وهي متعلقة بالزمن الماضي، أما الحرف فكلمة تدل على معنى غير مستقل بذاته، فالحرف (على) يدل على معنى الاستعلاء، لكن استعلاء أي شيء؟
فالمعنى - إذن - لا يستقل بذاته، إنما يحتاج إلى مَا يوضحه، كذلك (في) تدل على الظرفية، لكن لا تُحدد بذاتها هذه الظرفية، كذلك من للابتداء وإلى للغاية، ولكل من الاسم والفعل والحرف علامات خاصة يُعرف بها.
وغير هذه الثلاثة قسم رابع جاء مخالفاً لهذه القاعدة؛ لذلك يسمونه الخالفة وهو اسم الفعل مثل (هيهات) أي بَعُد، فهو اسم يدل على معنى الفعل دون أن يقبل علامات الفعل، ومثله شتان بمعنى تفرق، أف بمعنى أتضجّر.. الخ.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى عنهم أنهم قالوا: { إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا.. }
.
(/2690)
إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37)
لقد استبعد هؤلاء أمر البعث؛ لأنهم لا يعتقدون في حياة غير حياتهم الدنيا، فالأمر عندهم محصور فيها { إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا.. } [المؤمنون: 37] إن: حرف نفي يعني. ما هي، كما جاء في قوله تعالى:{ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ.. }[المجادلة: 2] يعني: ما أمهاتهم إلا اللائي ولدْنَهم.
وقوله: { نَمُوتُ وَنَحْيَا.. } [المؤمنون: 37] قد يظن البعض أنهم بهذا القول يؤمنون بالبعث، لأنهم قالوا: (نموت ونحيا) فكيف يُنكرونه؟
والمراد: نموت نحن، ويحيا من خلف بعدنا من أولادنا، بدليل قولهم بعدها: { إِوَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ }.
(/2691)
إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38)
يعني: الرجل الذي أخبركم بمسألة البعث { افتَرَىا عَلَىا اللَّهِ كَذِباً.. } [المؤمنون: 38] وعجيب منهم هذا القول، فهم يعرفون الله ويعترفون { افتَرَىا عَلَىا اللَّهِ.. } [المؤمنون: 38] فكيف يكون إلهاً دون أنْ يُبلغكم رسالة على لسان رسوله؟ وإلاَّ، فكيف يكون إلهاً دون أنْ يُبلغكم رسالة على لسان رسوله؟ وإلاَّ، فكيف ستعرفون منهج الله؟ قالوا: بالعقل، لكن العقل في هذه المسألة لا يصح.
وسبق أنْ مثَّلنا لذلك - ولله المثل الأعلى: هَبْ أننا نجلس في حجرة مغلقة ودَقَّ جرس الباب، لا شكَّ أننا سنتفق جميعاً على أن طارقاً بالباب، وهذا يسمى " تعقل " ، لكنا سنختلف في التصوُّر: أهو رجل؟ أم امرأة؟ أم طفل، أهو بشير أم نذير؟.... الخ.
إذن: نتفق حين نقف عند التعقُّل، لكن كيف نعرف مَنْ بالباب؟ نجعله هو يخبر عن نفسه حين نقول: مَنِ الطارق؟ يقول: أنا فلان، وجئتُ لكذا وكذا. فمَنِ الذي يبلغ عن التعقل؟ صاحبه.
وكذلك عقلك يؤمن بأن الكون له خالق واحد تدلُّ عليه آيات الكون، فأنتَ لو نظرتَ إلى لمبة الكهرباء هذه التي تنير غرفة واحدة، وتأملَ لوجدتَ وراءها مصانع وعدداً وآلات وعمالاً ومهندسين ومخترعين، ومع ذلك لها قدرة محدودة، ولهّا عمر افتراضي وربما كسرت لأيِّ سبب وطفئتْ.
أفلا تنظر كذلك إلى الشمس وتتأمل ما فيها من آيات وعجائب، وكيف أنها تنير نصف الكرة الأرضية في وقت واحد دون أنْ تتعطلَ ودون أنْ تحتاج إلى صيانة أو قطعة غيار، ومع ذلك لم يدَّعها أحد لنفسه، أفلاَ يدل ذلك على أن وراء هذا الخَلْق العظيم خالقاً أعظم؟
إذا كنا نُؤرِّخ لمكتشف الكهرباء ومخترع المصباح الكهربائي، ونذكر ماذا صنع؟ وكيف توصّل إلى ما توصّل إليه، أليس يجدر بنا أنْ نبحث في خالق هذا الكون العجيب؟
إنك لو حاولتَ أنْ تنظر إلى قرص الشمس أثناء النهار، فإنَّ نظرك يكلُّ ولا تستطيع، وإذا اشتدت حرارتها لا يطيقها أحد، مع أن بينك وبين الشمس ثماني دقائق ضوئية، كل ثانية فيها ثلاثمائة ألف كيلومتر، فأيّ طاقة هذه التي تنبعث من الشمس؟
ومن عجائبها أيضاً أنك تشعر بحرارتها على الأرض المنبسطة فإذا ما ارتفعت فوق جبل مثلاً أو منطقة عالية تقلّ درجة الحرارة مع أنك تقترب من الشمس، على خلاف ما لو أوقدتَ ناراً مثلاً فتجد أن حرارتها تنخفض كلما ابتعدت عنها، أما الشمس فكلما اقتربت منها قلَّتْ درجة الحرارة، فمَنْ يقدر على هذه الظاهرة؟
فإذا جاء مَنْ يخبرني أنه خالق هذه الشمس أقول له: إذن هي لك، إلى أن يأتي منازع يدَّعيها لنفسه، ولم يأت منازع يدَّعيها إلى الآن.
وقولهم: { افتَرَى.. } [المؤمنون: 38] مبالغة منهم في حقِّ رسولهم؛ لأن الافتراء: تعمُّد الكذب، والكذب كما قلنا: أن يأتي الكلام مخالفاً للواقع، وقد يأتي الكلام مخالفاً للواقع لكن حسب علم صاحبه، فهو في ذاته صادق.
(/2692)
قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39)
سبحان الله، كأن تاريخ الرسالات يعيد نفسه مع المكذِّبين، وكأنه (أكلشيه) ثابت على ألسنة الرسل: اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، فيتهمونه ويُكذِّبونه ويقولون: ما أنت إلا بشر مثلنا، فتأتي النهاية واحدة: ربِّ انصرني بما كذَّبون، يعني: أبدلني بتكذيبهم نَصْراً.
هذه قَوْلة هود - عليه السلام - حين كذَّبه قومه، وقوْلة نوح، وقوْلة كل نبي كذَّبه القوم؛ لأن الرسول حين يُكذَّب من الرسل إليهم لا يفزع إلا إلى مَنْ أرسله؛ لأن مَنْ أرسله وعده بالنصرة والتأييد:{ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ }[الصافات: 173].
وقال:{ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ.. }[الحج: 40] وقال سبحانه:{ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ }[الصافات: 171 - 172].
فالمعنى: انصرني لأنك أرسلتني، وقد كذَّبني القوم بعد أن استنفدتُ في دعوتهم كل أسبابي، ولم يَعُدْ لي بهم طاقة، ولم يَعُد لي إلا معونتك. والإنسان حين يستنفد كل الأسباب التي منحه الله إياها دون أن يصل إلى غايته فقد أصبح مضطراً داخلاً في قوله سبحانه:{ أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ.. }[النمل: 62].
إذن: لا تلجأ إلى الله إلا بعد أنْ تؤدي ما عليك أولاً، وتفرغ كل ما طاقتك في سبيل غايتك، لكن لا تقعد عن الأسباب وتقول: يا رب فالأرض أمامك والفأس في يدك ومعك عافية وقدرة، فاعمل واستنفد أسبابك أولاً حتى تكون في جانب المضطر الذي يُجيب الله دعاءه.
لذلك نسمع كثيراً مَنْ يقول: دعوتُ الله ولم يستجب لي، ونقول له: أنت لم تَدْعُ بدعاء المضطر، أنت تدعو بدعاء مَنْ في يده الأسباب ولكنه تكاسل عنها؛ لذلك لا يُستجاب لك.
وهذه نراها حتى مع البشر، ولله تعالى المثل الأعلى: هَبْ أنك صاحب مال وتجارة وجاءتك بضاعة من الجمرك مثلاً، وجلست تراقب العمال وهم يُدخِلونها المخازن، فليس من مهامك الحمل والتخزين فهذه مهمة العمال، لكن هَبْ أنك وجدت عاملاً ثقُلَ عليه حِمْله وكاد الصندوق أن يوقعه على الأرض، ماذا يكون موقفك؟ لا شكَّ أنك ستفزع إليه وتأخذ بيده وتساعده؛ لأنه فعل كل ما في وُسْعه، واستفرغ كل أسبابه وقواه، فلم تضِنّ أنت عليه بالعون.
كذلك ربك - عز وجل - يريد منك أن تؤدي ما عليك ولا تدعه لشيء قد جعل لك فيه أسباباً؛ لأن الأسباب يد الله الممدودة لخَلْقه، فلا ترد يد الله بالأسباب لتطلب الذات بلا أسباب.
لذلك جاء قول الرسل الذين كُذبوا: { قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي.. } [المؤمنون: 39] ليس وأنا قاعد متخاذل متهاون، ولكن { بِمَا كَذَّبُونِ } [المؤمنون: 39] يعني: فعلت كل مَا في وُسْعي، ولم يَعُدْ لي بهم طاقة.
فتأتي الإجابة على وجه السرعة: { قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ }.
(/2693)
قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40)
{ عَمَّا قَلِيلٍ.. } [المؤمنون: 40] يعني: بعد قليل، فـ (عن) هنا بمعنى بعد، كما جاء في قوله تعالى:{ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ }[الانشقاق: 19] يعني: بعد طبق.
أما { مَّا.. } [المؤمنون: 40] هنا فقد دلَّتْ على الظرف الزمني؛ لأن المراد بعد قليل من الزمن.
{ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ } [المؤمنون: 40] حين يقع بهم ما كانوا به يُكذِّبون، ويحلّ عليهم العذاب يندمون، لأنهم لن يستطيعوا تدارك ما فاتهم، فليس أمامهم إذن إلا الندم، وهذه المسألة دلَّتْ على أن الفطرة الإنسانية حين لا تختلط عليها الأهواء تنتهي في ذاتها إلى الحق، وإنْ أخرجها الغضب إلى الباطل، فإنها تعود إلى توازنها وإلى الجادة حين تهدأ ثورة الغضب.
والحق - تبارك وتعالى - يعطينا أدلةً وإشارات حول هذه القضية في قصة ولدي آدم عليه السلام فيقول:{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ ءَادَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ }[المائدة: 27].
إلى أنْ قال سبحانه:{ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ.. }[المائدة: 30] فجاء القتل أثراً من آثار الغضب، والمفروض أنه بعد أن قتله شفى نفسه، وينبغي له أن يُسَرَّ لأنه حقق ما يريد، لكن{ فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ }[المائدة: 31].
أي: بعد أن هدأتْ ثورة الغضب بداخله ندم على ما فعل، لماذا؟ لأن هذه طبيعة النفس البشرية التي لا يُطغيها ولا يُخرجها عن توازنها إلا الهوى، فإنْ خرج الهوى عادت إلى الاستقامة وإلى الحق، وكأن الله تعالى خلق في الإنسان مقاييس يجب ألاَّ تُفسدها الأهواء ولا يُخرِجها الغضب عن حَدِّ الاعتدال، لذلك يقولون: آفة الرأي الهوى.
لقد استيقظ قابيل، لكن بعد أنْ رأى عاقبة السوء التي وصل إليها بتسرُّعه، لكن الذكي يستيقظ قبل رَدِّ الفعل.
لكن، لماذا اختار لهم وقت الصباح بالذات: { لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ } [المؤمنون: 40] المتتبع لما حاق بالأمم المكذِّبة من العذاب والانتقام يجد أنه غالباً ما يكون في الصباح، كما قال تعالى:{ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَآءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ }[الصافات: 176 - 177].
وقال سبحانه:{ وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ }[القمر: 38].
وقال سبحانه:{ فَتَنَادَوْاْ مُصْبِحِينَ }[القلم: 21].
ذلك، لأن الصباح يعقب فترة النوم والخمول الحركي، فيقومون من نومهم فيفاجئهم العذاب، ويأخذهم على حين غفلة وعدم استعداد للمواجهة، على خلاف إنْ جاءهم العذاب أثناء النهار وهم مستعدون.
وندمهم على أنهم كذَّبوا أمراً ما كان ينبغي أن يُكذِّب وقد جَرَّ عليهم الوَيْلات، والندم على خير فات من طبيعة النفس البشرية التي عادةً ما تغلبها الشهوة ويُغريها الحمق بردِّ الحق، ويمنعها الكِبْر من الانصياع للرسول خاصة وهو بشر مثلهم، ويريد في ظنهم أنْ يستعلي عليهم، لكن حين يواجهون عاقبة هذا التكذيب ونتيجة هذا الحمق يندمون، ولاتَ ساعة مَنْدم.
إذن: فشهوة النفس تجعل الإنسان يقف موقفاً، إذا ما جُوزي عليه بالشدة يندم أنه لم يُنفذ ولم يطع، يندم على غطرسته في موقف كان ينبَغي عليه أنْ يتنازل عن كبريائه؛ لذلك يقولون: من الشجاعة أنْ تجبن ساعة.
ويحسن ذلك إذا كنت أمام عدو لا تقدر على مجابهته، ونذكر للرئيس الراحل السادات مثل هذا الموقف حين قال: لا أستطيع أن أحارب أمريكا، فالبعض فهم هذا القول على أنه ضَعْف وجُبْن، وهو ليس كذلك، إنما هو شجاعة من الرجل، شجاعة من نوع راقٍ؛ لأن من الشجاعة أيضاً أن تشجع على نفسك، وهذه شجاعة أعلى من الشجاعة على عدوك، وتصور لو دخل السادات مثل هذه الحرب فهُزِم كيف سيكون ندمه على شجاعة متهورة لا تحسب العواقب. وقد رأينا عاقبة الجرأة على دخول حرب غير متكافئة.
ثم يقول الحق سبحانه: } فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَآءً.. {.
(/2694)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)
ما دام الحق - تبارك وتعالى - توعّدهم وحدَّد لهم موعداً، فلا بُدَّ أن يقع بهم هذا الوعيد في الوقت ذاته، وإلاَّ لو مَرَّ دون أن يصيبهم ما يندمون لأجله لانهدم المبدأ من أساسه، ما دام أن الله تعالى قالها وسجَّلها على نفسه سبحانه في قرآن يحفظه هو.
{ عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ }[المؤمنون: 40] فلا بُدَّ أن ينزل بهم العذاب في الصباح.
لذلك { فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ.. } [المؤمنون: 41] لا بالظلم والعدوان، وفي موضع آخر قال سبحانه عنهم:{ وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ }[الحاقة: 6] والمعنيان يلتقيان، لأن الريح الصرصر لها صوت مزمجر كأنه الصيحة والصراخ.
{ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَآءً.. } [المؤمنون: 41] الغثاء: ما يحمله السيل من قش وأوراق وبقايا النبات، فتكون طبقة طافية على وجه الماء تذهب بها الريح في إحدى الجوانب، والغثاء هو الزَّبَد الذي قال الحق سبحانه وتعالى عنه:{ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ.. }[الرعد: 17].
وفي الحديث الشريف قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: " يوشك أن تتداعَى عليكم الأمم كما تتداعَى الأكلة إلى قصعتها - يعني: يدعو بعضهم بعضاً لمحاربتكم كأنكم غنيمة يريدون اقتسامها - فقالوا: أمِنْ قِلَّة نحن يا رسول الله؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل " يعني: شيئاً هيِّناً لا قيمةَ له يذهب سريعاً.
وقوله تعالى: { فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [المؤمنون: 41] أي: بُعداً لهم عن رحمتنا ونعيمنا الذي كُنَّا نُمنِّيهم به ونَعِدهم به لو آمنوا، وليس البُعد عن العذاب؛ لأن البعد مسافة زمنية أو مكانية، نقول: هذا بعيد، أي: زمنه أو مكانه، المراد هنا البُعْد عن النعيم الذي كان ينتظرهم إنْ آمنوا.
والظلم: كما قلنا أخذْ حَقِّ الغير، والشرك هو الظلم الأعظم؛ لأنه ظلم في مسألة القمة، والبعض من السطحيين يظن أن الشرك ظلم عظيم؛ لأنك ظلمتَ الله سبحانه وتعالى، لأنك أنكرتَ وجوده وهو موجود، وأشركتَ معه غيره وهو واحد لا شريك له، نعم أنت ظلمتَ، لكن ما ظلمتَ الله؛ لأنه سبحانه لا يظلمه أحد، وإنْ كان الظلم - كما نقول - أَخْذ حَقِّ الغير، فحقُّ الله محفوظ وثابت له سبحانه قبل أن يُوجَد مَنْ يعترف له بهذا الحق، حقُّ الله ثابت مهما علاَ الباطل وتبجَّح أهل الضلال.
لذلك يقول عز وجل:{ وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَىا.. }[التوبة: 40] وفي المقابل:{ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا.. }[التوبة: 40] ولم يقُل قياساً على الأولى: وكلمةَ الله العليا؛ لن معنى ذلك أن كلمة الله مرفوعةً على صورة الجملة الاسمية الدالّة على الثبوت{ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا.. }[التوبة: 40] أي: دائماً ومهما عَلَتِ كلمة الكافرين. لماذا؟
قالوا: لأن عُلُو كلمة الكافرين في ذَاته عُلُوٌّ لكلمة الله، فإذا علا الكفر واستشرى شرُّه وفساده يعض الناس ويُوقِظ غفلتهم ويُنبههم إلى خِسَّة الكفر ودناءته وما جرّه عليهم من ظلم وفساد فينكروه ويعودوا إلى جادة الطريق، وإلى الحق الثابت لله عز وجل.
إذن: فكلمة الله هي العليا مهما كانت الجولة لكلمة الذين كفروا، وكما يقولون: والضد يُظهر حُسْنه الضدّ. والله عز وجل لا يُسْلِم الحق، ولكن يتركه ليبلو غَيْره الناس عليه، فإنْ لم يغاروا عليه غار هو عليه.
وما داموا ما ظلموا الله، ولا يستطيعون ذلك، فما ظلموا إلا أنفسهم، وإنْ عُقل ظلمك لغيرك وأخذك لحقه فلا يُعقَل ظلمك لنفسك؛ لأنه أبشع أنواع الظلم وأبلغها.
(/2695)
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آَخَرِينَ (42)
قبل عدة آيات قال الحق تبارك وتعالى:{ ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ }[المؤمنون: 31] فجاءتْ قرناً بصيغة المفرد؛ لأن الحديث مقصور على عاد قوم هود، أما هنا فقال تعالى: { ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً.. } [المؤمنون: 42] لأن الكلام سيأتي عن أمم ورسالات مختلفة ومتعددة، فجاءت (قروناً) بصيغة الجمع، متتابعة أو متعاصرة، كما تعاصر إبراهيم ولوط، وكما تعاصر موسى وشعيب عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.
ثم يقول الحق سبحانه: { مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ }.
(/2696)
مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43)
تأملوا هذه الآية جيداً وارْعَوْها انتباهكم، فلكل أمة أجلٌ تنتهي عنده تماماً، مثل أجَل الأفراد الذي لا يتقدّم ولا يتأخّر، فقرْن بعد قَرْن، وأمة بعد أمة، تمرُّ بأطوار شتى كأطوار حياة الإنسان، ثم تنتهي إلى زوال ويعقبها غيرها.
فلكل أمة رسول يحمل إليها دعوة الله ومنهجه ويجاهد في سبيل نشرها إلى أنْ ينصره الله وتنتشر دعوته ويتمسَّك الناس بها، ثم تصيبهم غفلة وفتور عن منهج الله، فينصرفون عنه ويختلفون ويتفرقون، فيكون ذلك إيذاناً بزوالها ثم يخلفها غيرها؟
كذلك في مسألة الحضارات التي تندثر ليحلَّ محلَّها حضارات أخرى أقوى، نسمع عن حضارة قديمة في مصر وفي الصين وفي اليمن، نسمع عن الحضارة الرومانية والفينيقية.. الخ حضارات تتوالى وتأخذ حظها من الرُّقيِّ والرفاهية، وتُورِث أصحابها رخاوة وطراوة، وتبدلهم بالجَلَد والقوة لِيناً وضَعْفاً، فيغفلوا عن أسباب رُقيِّهم وتقدُّمهم، فتنهدم حضارتهم ويحلُّ محلَّها أقوى منها وأصلب.
وهذا مثال ونموذج في حضارة بلغت أوج عظمتها:{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاَدِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُواْ الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِى الأَوْتَادِ }[الفجر: 6 - 10].
وإلى الآن، ونحن نرى آثار الحضارة الفرعونية، وكيف أنها تجذب انتباه أصحاب الحضارات الحديثة وتنال إعجابهم، فيأتون إليها من كل أنحاء العالم، مع أن حضارة عاد كانت أعظم منها؛ لأن الله تعالى قال في حقها:{ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاَدِ }[الفجر: 8].
ومع ذلك لا نرى لهم أثراً يدل على عِظَم حضارتهم، ولم يكُنْ لهذه الحضارة مناعة لتحمي نفسها، أو تحتفظ لها بشيء، فانهارت وبادتْ ولم يَبْقَ منها حتى أثر.
كذلك أتباع الرسل يمرُّون بمثل هذه الدورة، فبعد قوة الإيمان تصيبهم الغفلة ويتسرب إليهم الضعف وسوء الحال، إلى أن يرسل الحق سبحانه رسولاً جديداً.
{ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ } [المؤمنون: 43].
المعنى في الجملة الأولى واضح، فأيُّ أمة لا يمكن أنْ تسبق أجلها الذي حدَّده الله لها، ولا يمكنْ أن تنتهي أو تقوَّص قبل أنْ يحلَّ هذا الأجل.
لكن ما المراد بقوله سبحانه: { وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ } [المؤمنون: 43] كيف يتأتَّى ذلك؟ فهمنا: لا تسبق أجلها يعني أجلها أن تقوض بعد عشرين سنة، فلا يمكن أن تُقوَّض قبل خمس عشرة، أما كونها تستأخر بعد أن بلغتْ العشرين إلى عشرة، فكيف يتم ذلك؟
نقول: لا تستأخر يعني: من حيث الحكم هي لا تسبق الأجل وهي محكوم عليها بأنها لا تستأخر؛ لأن الاستئخار بعد بلوغ الأجل مستحيل، كما لو قلنا: شخص بلغ سِنَّ العشرين لا يقدر أن يموت في العاشرة. فالمعنى: الأصل فيه أنه لا يستأخر.
ثم يقول الحق سبحانه: { ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً.. }.
(/2697)
ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44)
{ تَتْرَا.. } [المؤمنون: 44] يعني: متوالين يتبع بعضهم بعضاَ؛ لذلك ظنَّها البعض فعلاً وهي ليست بفعل، بدليل أنها جاءت في قراءة أخرى (تتراً) بالتنوين والفعل لا يُنوَّن، إذن: هي اسم، والألف فيها للتأنيث مثل حُبْلى.
أضِفْ إلى ذلك أن التاء الأولى تأتي في اللغة بدلاً من الواو، كما جاء في الحديث الشريف من نصيحة النبي صلى الله عليه وسلم: " احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجدْه تجاهك - أو وجاهك " يعني: مواجهك.
فإذا أُبدلَتْ التاء الأولى في (تتراً) واواً تقول (وتراً) يعني: متتابعين فَرَْداً، والوتر هو الفَرْد.
ثم يقول سبحانه: { كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ.. } [المؤمنون: 44] فهذه طبيعة ولازمة من لوازم المرسل إليهم، وما من رسول أُرسل إلى قوم إلا كذّبوه، ثم يلجأ إلى ربه:{ قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ }[المؤمنون: 39].
ولو لم يُكذَّب الرسول ما كان هناك ضرورة لإرساله إليهم، وما جاء الرسول إلا بعد أن استشرى الباطل، وعَمَّ الطغيان، فطبيعي أنْ يُكذِّب من هؤلاء المنتفعين بالشر المستفيدين من الباطل والذين يدافعون عنه بكل قواهم، وكأن تكذيبهم للرسل دليل على صواب مجيء الرسل، وإلا لما كان هناك ضرورة لرسالات جديدة.
وقوله تعالى: { فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً.. } [المؤمنون: 44] يعني: يمضي واحد ويأتي غيره من الرسل، أو نهلك المكذِّبين ثم يأتي بعدهم آخرون، فيكذبون فنهلكهم أيضاً.
{ وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ.. } [المؤمنون: 44] أحاديث: إما جَمْعاً لحديث كما نقول: أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو جمع: أحدوثة. وهي المقولة التي يتشدَّق بها الجميع، وتلوكُها كل الألسنة، ومن ذلك قول الإنسان إذا كثُر كلام الناس حوله: (جعلوني حدوتة) يعني على سبيل التوبيخ والتقريع لهم.
فقوله: { وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ.. } [المؤمنون: 44] كأنه لم يبْقَ منهم أثر إلا أنْ نتكلم عنهم، ونذكرهم كتاريخ يُحْكَى، وفي موضع آخر قال تعالى:{ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ.. }[سبأ: 19].
ثم يقول تعالى عنهم كما قال عن سابقيهم: { فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } [المؤمنون: 44] يعني: بُعْداً لهم عن رحمة الله، وبُعْداً لهم عن نعيم الله الذي كان ينتظرهم، ولو أنهم آمنوا لنالوه.
ثم يقول الحق سبحانه: { ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَىا وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا.. }.
(/2698)
ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45)
تكررت قصة موسى - عليه السلام - كثيراً ومعه أخوه هارون، كما قال:{ اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي }[طه: 31 - 32] والبعض يظن أن موسى جاء برسالة واحدة، لكنه جاء برسالتين: رسالة خاصة إلى فرعون ملخّصها:{ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ.. }[طه: 47].
وجاء له بمعجزات تثبت صِدْق رسالته من الله، ولم يكن جدال موسى لفرعون في مسألة الإيمان جزءاً من هذه الرسالة، إنما جاء هكذا عرضاً في المناقشة التي دارتْ بينهما.
والرسالة الأخرى هي رسالته إلى بني إسرائيل متمثلة في التوراة.
وقوله: { بِآيَاتِنَا.. } [المؤمنون: 45] قلنا: إن الآيات جمع آية، وهي الشيء العجيب الملفت للنظر الفائق على نظرائه وأقرانه، والذي يكرم ويفتخر به. والآيات إما كونية دالّة على قدرة الله في الخَلْق كالشمس والقمر.. إلخ كما قال سبحانه:{ وَمِنْ آيَاتِهِ الَّيلُ وَالنَّهَارُ.. }[فصلت: 37].
ومهمة هذه الآيات الكونية أنْ تلفت نظر المخلوق إلى بديع صنع الخالق وضرورة الإيمان به، فمنها نعلم أن وراء الكون البديع خالقاً وقوة تمده وتديره، فَمنْ يمدُّ هذه الشمس بهذه القوة الهائلة؟ إن التيار الكهربائي إذا أنقطع تُطْفأ هذه اللمبة، فمَنْ خلق الشمس من عدم، وأمدِّها بالطاقة من عدم؟
إذن: وراء هذا الكون قوة ما هي؟ وماذا تطلب منا؟ وهذه مهمة الرسول أنْ يُبلغنا، ويُجيب لنا عن هذه الأسئلة.
وتُطلق الآية أيضاً على المعجزة التي تثبت صِدْق الرسول في البلاغ عن الله.
وتُطلق الآية على آيات القرآن الحاملة للأحكام والحاوية لمنهج الله إلى خَلْقه.
ثم يقول تعالى: { وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } [المؤمنون: 45] فعطف { وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } [المؤمنون: 45] على { بِآيَاتِنَا } [المؤمنون: 45] وهذا من عطف الصفة على الموصوف لمزيد اختصاص؛ لأن الآيات هي السلطان، فالسلطان: الحجة. والحجة على الموجود الأعلى آيات الكون، والحجة على صِدْق الرسول المعجزات، والحجة على الأحكام الآيات الحاملة لها.
وسَمَّى معجزة موسى عليه السلام (العصا) سلطاناً مبيناً أي: محيطاً؛ لأنها معجزة متكررة رأينا لها عدة حالات: فهذه العصا الجافة مرة تنقلب إلى حيّة تلقَفُ الحيّات، ومرة يضرب بها البحر فينفلق، ومرة يضرب بها الحجر فيتفجر منه الماء، وفوق ذلك قال عنها:{ وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىا }[طه: 18].
ومن معاني السلطان: القَهْر على عمل شيء أو الإقناع بالحجة لعمل هذا الشيء، لذلك كانت حجة إبليس الوحيدة يوم القيامة أن يقول لأتباعه:{ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي.. }[إبراهيم: 22] يعني: كنتم رَهْن الإشارة، إنما أنا لا سلطان لي عليكم، لا سلطانَ قهر، ولا سلطان حجة.
لذلك قال في النهاية:{ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ.. }[إبراهيم: 22] والإنسان يصرخ إذا فزَّعه أمر لا حيلة له به، فيصرخ استنفاراً لمعين يُعينه، فمَنْ أسرع إليه وأعانه يقال: أصرخه. يعني: أزال سبب صراخه.
(/2699)
إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46)
{ فِرْعَوْنَ.. } [المؤمنون: 46] لقب لكل مَنْ كان يحكم مصر، مثل كِسْرى في الفرس، وقيصر في الروم، وتكلَّمنا عن معنى (الملأ) وهي من الامتلاء، والمراد القوم الذين يملؤون العيون مهابةً ومنزلةً، وهم أشراف القوم وصدور المجالس، ومنه قولهم: فلان قَيْد النواظر يعني: مَنْ ينظر إليه لا ينصرف عنه إلى غيره.
وقوله تعالى: { فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً عَالِينَ } [المؤمنون: 46] والاستكبار غير التعالي، فالمستكبر يعلم الحكم ويعترف به، لكن يأبى أنْ يطيعه، ويأنف أن يصنع ما أمر به، أما العالي فهو الذي يظن أنه لم يدخل في الأمر من البداية.
ومن هنا جاء قوله تعالى لإبليس لما أبى السجود لآدم:{ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ }[ص: 75]
والعالون هم الملائكة المهيّمون في الله، والذين لا يدرون شيئاً عن آدم وذريته.
(/2700)
فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47)
اعترضوا أيضاً هنا على بشرية موسى وهارون كما حدث من الأمم السابقة، إنهم يريدون الرسول مَلَكَاً، كما جاء في موضع آخر:{ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَىا إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً }[الإسراء: 94].
ومن الغباء أن يطلبوا ملَكاً رسولاً، فلو جاءهم الرسول ملكاً، فكيف سيكون أسْوة للبشر؟ وكيف سيروْنَه ويتلقّوْن عنه؟ إذن: لا بُدَّ أنْ يأتيهم في صورة بشر؛ لذلك يقول تعالى:{ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ }[الأنعام: 9]
وستظل الشبهة قائمة، فما الذي يجعلك تُصدِّق أنه مَلَك؟
وقوله تعالى: { وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ } [المؤمنون: 47] يعني: كيف نؤمن لموسى وهارون وقومهما - أي: بني إسرائيل - خدم لنا، يأتمرون بأمرنا، بل ونُذلّهم ونُذبِّح أولادهم، ونستحيي نساءهم، ونسومهم سوء العذاب؟
وسمّى ذلك عبادة، لأن مَنْ يخضع لإنسان، ويطيع أمره كأنه عبده.
(/2701)
فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48)
أي: بالغرق، وهذه قصة مشهورة معروفة، وجعلها الله مُثْلة وعِبرةً.
(/2702)
وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49)
{ الْكِتَابَ.. } [المؤمنون: 49] أي: التوراة، وفيه منهج الهداية { لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } [المؤمنون: 49] أي: يأخذون الطريق الموصّل للغاية الشريفة المفيدة من أقصر طريق.
ثم يقول الحق سبحانه: { وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً.. }.
(/2703)
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً وَآَوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)
بعد أن أعطانا هذه اللقطة الموجزة من قصة موسى وهارون انتقل إلى المسيح ابن مريم، والقرآن في حديثه عن عيسى عليه السلام مرة يقول: ابن مريم، ومرة يقول: عيسى بن مريم. وتسمية عيسى عليه السلام بأمه هي التي جعلتْ سيدتنا وسيدة نساء العالمين مريم ساعة تُبشَّر بغلام تستنكر ذلك، وتقول: كيف ولم يمسسني بشر؟ ولم يخطر ببالها أنها يمكن أنْ تتزوّج وتُنجب، لماذا؟ لأن الله سماه ابن مريم، وما دام سماه بأمه، إذن: فلن يكون له أب.
وليس أصعب على الفتاة من أن تجد نفسها حاملاً ولم يمسسها رجل؛ لأن عِرْض الفتاة أغلى وأعزّ ما تملك، لذلك مهّد الحق - تبارك وتعالى - لهذه المسألة، وأعدَّ مريم لاستقبالها، وأعطاها المناعة اللازمة لمواجهة هذا الأمر العجيب، كما نفعل الآن في التطعيم ضد الأمراض، وإعطاء المناعة التي تمنع المرض.
فلما دخل زكريا - عليه السلام - على مريم فوجد عندها رزقاً لم يأْتِ به، وهو كفيلها والمسئول عنها، سألها:{ أَنَّىا لَكِ هَـاذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ.. }[آل عمران: 37] وكان هذا الردّ من مريم عن فَهْم تام لقضية الرزق، ولم يكُنْ كلام دراويش، بدليل أنها قالت بعدها:{ إِنَّ اللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }[آل عمران: 37].
وفي هذا الموقف درس لكل أب ولكل وليّ أمر ورب أسرة أن يسأل أهل بيته عن كل شيء يراه في بيته ولم يأْتِ هو به، حتى لا يدعَ لأولاده فرصة أنْ تمتد أيديهم إلى ما ليس لهم.
لقد انتفع زكريا - عليه السلام - بهذا القول وانتبه إلى هذه الحقيقة، نعم زكريا يعلم أن الله يرزق مَنْ يشاء بغير حساب، لكن ذلك العلم كان معلومة في حاشية الشعور، فلما سمعها من مريم خرجتْ إلى بُؤرة شعوره، وعند ذلك دعا الله أن يرزقه الولد وقد بلغ من الكِبَر عِتياً، وامرأته عاقر.
وكذلك انتفعت بها مريم حين أحسَّتْ بالحمل دون أن يمسسْها بشر فاطمأنتْ؛ لأن الله يرزق مَنْ يشاء بغير حساب.
وقوله تعالى: { وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ.. } [المؤمنون: 50] فأخبر سبحانه عن المثنى بالمفرد { آيَةً.. } [المؤمنون: 50] لأنهما مشتركان فيها: مريم آية لأنها أنجبت من غير زوج، وعيسى آية لأنه وُلِد من غير أب، فالآية إذن لا تكون في أحدهما دون الآخر، وهما فيها سواء.
لذلك يراعي النص القرآني هذه المساواة فيُقَدِّم عيسى في آية: { وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً.. } [المؤمنون: 50] ويقدم مريم في آية أخرى:{ وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ }[الأنبياء: 91] هذه العدالة في النص لأنهما سواء في الخيرية لا يتميز أحدهما على الآخر.
والآية هي الأمر العجيب الذي يُثبت لنا طلاقة قدرة الخالق في الخَلْق، وحتى لا يظن البعض أن مسألة الخَلْق مسألة (ميكانيكية) من أب وأم، لذلك كان وجه العجب في خَلْق عيسى أن يخرج عن هذه القاعدة ليجعله الله دليلاً على قدرته تعالى، فإنْ أراد أنْ يخلق خلق من العدم، أو من أب فقط، أو من أم فقط، وحتى في اكتمال العنصرين يوجد الأب والأم، لكن لا يوجد الإنجاب، إذن: المسألة إرادة لله عز وجل، وطلاقة لقدرة إلهية لا حدودَ لها.
يقول سبحانه:{ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً.. }[الشورى: 50].
والآن نلاحظ أن البعض يحاول منع الإنجاب بشتى الوسائل، لكن إنْ قُدِّر له مولود جاء رغم أنف الجميع، ورغم إحكام وسائل منع الحمل التي تفننوا فيها.
ثم يقول سبحانه: } وَآوَيْنَاهُمَآ إِلَىا رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ.. { [المؤمنون: 50] من الطبيعي بعد أن حملتْ مريم بهذه الطريقة أنْ تُضطهد من قومها وتُطارد، بل وتستحي هي من الناس وتتحاشى أن يراها أحد، ألا ترى قوله تعالى عن ابنة شعيب:{ فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَآءٍ.. }[القصص: 25] على استحياء، لأنها ذهبت لاستدعاء فتىً غريب عنها، فما بالك بمريم حين يراها القوم حاملاً وليس لها زوج؟ إنها مسألة أصعب ما تكون على المرأة.
لذلك لما سئل الإمام محمد عبده وهو في باريس: بأيِّ وجه قابلتْ عائشة قومها بعد حادثة الإفك؟ فألهمه الله الجواب وهداه إلى الصواب، فقال: بالوجه الذي قابلتْ به مريمُ قومَها وقد جاءتْ تحمل ولدها؛ ذلك لأنهم أرادوا أنْ يأخذوها سُبة ومطعناً في جبين الإسلام.
ولما كانت مريم بهذه الصفة تولاها الله ودافع عنها، فهذا يوسف النجار وكان خطيب مريم حين يرى مسألة حَمْلها، وهو أَغْير الناس عليها بدل أنْ يتشكك فيها ويتهمها يتحوّل قلبه عليها بالعطف، كما قال تعالى:{ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ.. }[الأنفال: 24].
فإذا به يخدمها ويحنُو عليها؛ لأن الله أنزل المسألة على قلبه منزل الرضا، وكل ما قاله في مجادلة مريم وفي الاستفسار عَمَّا حدث بطريقة مهذبة: يا مريمُ أرأيتِ شجرة بدون بذرة؟ فضحكتْ مريم وقد فهمت ما يريد وقالت: نعم الشجرة التي أنبتت أول بذرة إنه كلام أهل الإيمان والفهم عن الله.
لذلك آواها الله وولدها } وَآوَيْنَاهُمَآ إِلَىا رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ { [المؤمنون: 50] وساعةَ تسمع كلمة الإيواء تفهم أن شخصاً اضطر إلى مكان يلجأ إليه ويأوي إليه، وكذلك كانت مريمُ مضطرة تحتاج إلى مكان يحتويها وهي مضطهدة من قومها. ولا بُدَّ في مكان الإيواء هذا أنْ تتوفر فيه مُقوِّمات الحياة، خاصة لمثل مريم التي تستعد لاستقبال وليدها، ومقومات الحياة: هواء وماء وطعام.
فانظر كيف أعدَّ الحق - سبحانه وتعالى - لمريم مكان الإيواء: } وَآوَيْنَاهُمَآ إِلَىا رَبْوَةٍ.
. { [المؤمنون: 50] وهي المكان العالي عن الأرض المنخفض عن الجبل، فهو معتدل الجو؛ لأنه بين الحرارة في الأرض المستوية والبرودة في أعلى الجبل.
} ذَاتِ قَرَارٍ.. { [المؤمنون: 50] يعني: توفرتْ لها أسباب الاستقرار من ماء وطعام، فالماء يأتيها من أعلى الجبال ويمرُّ عليها ماءً معيناً، يعني: تراه بعينك، والطعام يأتيها من ثمار النخلة التي نزلت يجوارها.
ومعلوم أن الربوة هي أنسب الأماكن حيث يمر عليها الماء من أعلى، ولا يتبقى فيها مياه جوفية تضرُّ بمزروعاتها؛ لأنها تتصرف في الأرض المنخفضة عنها.
لذلك ضرب لنا الحق - تبارك وتعالى - المثل للأرض الخصبة التي تؤتي المحصول الوافر، فقال:{ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ.. }[البقرة: 265].
إذن: اختار الله تعالى لمريم القرار الذي تتوفر فيه مقومات الحياة على أعلى مستوى بحيث لا تحتاج أن تنتقل منه إلى غيره.
وبعد ذلك يتكلم الحق - سبحانه وتعالى - عن قضية عامة بعد أن تكلَّم عن القرار ومُقوِّمات الحياة، وهي الطعام والشراب والهواء، فناسب ذلك أن يتكلم سبحانه عن المطعم: } ياأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً.. {.
(/2704)
يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)
لكن، كيف يخاطب الحق - تبارك وتعالى - الرسل جميعاً في وقت واحد؟ نقول: لأن القرآن الكريم هو كلام الله القديم، لم يأْتِ خاصاً بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأنْ نزل عليه فهو إذن خطاب لكل رسول جاء.
وبعد أن أمرهم الحق سبحانه بالأكل من الطيب أمرهم بالعمل الصالح: { وَاعْمَلُواْ صَالِحاً.. } [المؤمنون: 51] ثم يقول سبحانه: { إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } [المؤمنون: 51] كأن الحق سبحانه يقول: اسمعوا كلامي فيما آمركم به، فأنا عليم وخبير بكل ما يُصلحكم؛ لأنني الخالق الذي أعلم كيف تستقيم بنيتكم للحركة الصالحة للخير، ولا تستقيم بنيتكم للحركة الصالحة للخير إلا إذا أخذتم المطعم من الحلال الطيب.
وكما قلنا: إن صانع الآلة يضع لها الوقود المناسب لتشغيلها، وإلاّ تعطلتْ عن أداء مهمتها.
فلكي تؤدي الصالح في حركة حياتك عليك أنْ تبدأ بالمطْعَم الطيب الذي يبني ذراتك من الحلال، فيحدث انسجاماً بين هذه الذرات، وتعمل معاً متعاونة غير متعاندة، وإن انسجمتْ ذراتُك وتوافقتْ أعانتك على الصالح.
فإنْ دخل الحرام إلى طعامك وتلوثتْ به ذراتُك تنافرتْ وتعاندت، كما لو وضعتَ للآلة وقوداً غير ما جُعِل لها، فافهموا هذه القضية؛ لأنني أنا الخالق فآمِنُوا لي كما تؤمنون بقدرة الصانع حين يصنع لكم صناعة، ويضع لكم قانون صيانتها.
إذن: أمر الحق سبحانه أولاً رسله بالأكل من الطيبات؛ لأن العمل الصالح يحتاج إلى جهاز سليم متوافق من داخله؛ لذلك في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أن أم عبد الله أخت شداد بن أوس، أرسلت إلى النبي في يوم صامه وهو حارّ شيئاً من اللبن يفطر عليه، وهو صلى الله عليه وسلم يعلم أنها فقيرة لا تَملك شيئاً فأرسل إليها: من أين لك هذا اللبن؟ فأرسلت إليه: من شاة عندي، فبعث إليها: ومن أين لك بالشاة؟ قالت: اشتريتها بمال دبّرته. فشرب رسول الله من اللبن.
وإنْ كنا نحن لا نتحرى في مَطْعمنا كُلَّ هذا التحري، لكن هذا رسول الله الذي يُنفذ منهج الله كما جاءه، وعلى أكمل وجه. وفي الحديث الشريف: " أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: { ياأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } [المؤمنون: 51] وقال: { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ.. } [البقرة: 172] ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِّي بالحرام، فأنَّى يُستجاب لذلك؟ ".
نعم، كيف يُستجاب له وهو يدعو الله بجهاز إرسال فاسد مُشوّش دَنَّسه وخالطه الحرام؟
وفي حديث سيدنا سعد رضي الله عنه لما قال لرسول الله: يا رسول الله ادْعُ الله لي أنْ أكون مُستجاب الدعوة، فقال صلى الله عليه وسلم: " يا سعد أطِبْ مطعمك تكُنْ مُستجاب الدعوة ".
ثم يُذيِّل الحق سبحانه هذه الآية بقوله تعالى: { إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } [المؤمنون: 51] يعني: أعلم ما يُصلحكم، وما يجلب لكم الخير.
ثم يقول الحق سبحانه: { وَإِنَّ هَـاذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً.. }.
(/2705)
وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)
بعد أن تكلَّم الحق - سبحانه وتعالى - عن المعركة بين الإيمان والكفر أراد هنا أن يتكلم عن معركة أخرى لا تقلّ خطورة عن الأولى، وهي معركة الفُرْقة والاختلاف بين صفوف المؤمنين، ليحذرنا من الخلافات التي تشقُّ عصانا، وتفُتُّ في عَضُد الأمة وتُضِعفها أمام أعدائها، ونسمعهم الآن يقولون عنَّا بعدما وصلنا إليه من شيع وأحزاب - ليتفقوا أولاً فيما بينهم، ثم يُبشِّروا بالإسلام.
الأمة: الجماعة يجمعهم زمن واحد أو دين واحد، وتُطلَق على الفرد الواحد حين تجتمع فيه خصال الخير التي لا تجتمع إلا في أمة، لذلك سمَّى الله تعالى نبيه إبراهيم أمة في قوله تعالى:{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }[النحل: 120].
أما قوله سبحانه:{ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً.. }[المائدة: 48] فكيف نقول: إنها أمة واحدة؟
قالوا: لأن الدين يتكّون من أصول وعقائد، وهذه واحدة لا تختلف باختلاف الأديان، وأخلاق وفروع. وهذه تختلف من دين لآخر باختلاف البيئة؛ لأنها تأتي بما يناسب حركة الحياة في كل عصر.
يقول تعالى:{ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىا بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىا وَعِيسَىا أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ.. }[الشورى: 13]
إذن: فالأمة واحدة يعني في عقائدها وإن اختلفتْ في الشريعة والمنهج، والأحكام الجزئية التي تتعرض لأقضية الحياة. ومن ذلك قوله تعالى: { وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ.. } [آل عمران: 50].
وكانوا في الأمم السابقة إذا وقعت نجاسة على ثوب يقطعون الموضع الذي وقعت عليه، فلما جاء الإسلام خفَّف عن الناس هذا العَنت، وشرع لهم أنْ يغسلوه فيطهر.
وما دام أن أمتكم أمة واحدة { وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } [المؤمنون: 52] يعني: اتقوا الله في هذه الأمة الواحدة وأبقوا على وحدتها، واحذروا ما يُفرِّقها من خلافات حول فروع إن اختلف البعض عليها اتهموا الآخرين بالكفر؛ لأنهم يريدون أنْ يَنْهبوا من الدين الجامع سلطة زمنية لأنفسهم.
والحق - تبارك وتعالى - يقول:{ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ.. }[الأنعام: 159].
فالأمور التي أحكمها الله باللفظ الصريح المُحْكَم أصول لا خلافَ عليها ولا اجتهادَ فيها، وأما الأمور التي تركها سبحانه للاجتهاد فيجب أن نحترم فيها اجتهاد الآخرين، وإلا لو أراد الحق سبحانه لجعل الأمر كله مُحْكماً لا مجالَ فيه لرأي أو اجتهاد.
ومعنى { وَأَنَاْ رَبُّكُمْ.. } [المؤمنون: 52] أن من عطاء ربوبيتي أنْ جعلْتُ لكم أموراً محكمة وعقائد ثابتة؛ لأن الاختلاف فيها يفسد المجتمع، وتركتُ لكم أموراً أخرى تأتون بها أو تتركونها، كُلٌّ حسب اجتهاده؛ لأن الاختلاف فيها لا يترتب عليه فساد في المجتمع، وسبق أن مثَّلنا لهذه الأمور.
وقوله: { فَاتَّقُونِ } [المؤمنون: 52] يعني: بطاعة الأمر، فما أحكمتُه فأَحْكِموه، وما جعلتُ لكم فيه اجتهاداً فاقبلوا فيه اجتهاد الآخرين.
لكن، هل سمعنا قوْل الله وأطعْنَا؟ يقول سبحانه: { فَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً.. }.
(/2706)
فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53)
{ زُبُراً } [المؤمنون: 53] يعني: قطعاً متفرقة، ومنه{ آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ.. }[الكهف: 96].
{ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } [المؤمنون: 53] يعني: كل جماعة تتعصب لرأيها وتفرح به، وكأنها على الحق وغيرها على الباطل، يريدون أن تكون لهم سلطة زمنية بين الناس، ويُصوِّرون لهم أنهم أتوْا بما لم يأت به أحد من قبلهم، وتنبّهوا إلى ما غفل عنه الآخرون.
{ بِمَا لَدَيْهِمْ.. } [المؤمنون: 53] بالرأي الذي يريدونه، لا بالحكم الذي يرتضيه الحق سبحانه وتعالى.
من ذلك قولهم: إن الصلاة في مسجد به قبر أو ضريح باطلة، وأن ذلك شرك في العبادة.. إلخ ولو أن الأمر كما يقولون فليهدموا القبر في المدينة.
إن على هؤلاء الذين يثيرون مثل هذه الخلافات أنْ يتفهموا الأمور على وجهها الصحيح، حتى لا نكون من الذين قال الله عنهم: { فَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } [المؤمنون: 53].
وما أفسد استقبال الأديان السابقة على الإسلام إلا مثل هذه الخلافات، وإلاّ فكل دين سبق الإسلام وخصوصاً الموسوية والعيسوية قد بشَّرَتْ بمحمد صلى الله عليه وسلم، وكانوا وهم أهل كتاب ورسالة وعلى صلة بالسماء - يجادلون أهل الكفر من عبدة الأصنام يقولون: لقد أطلَّ زمان نبي يظهر فيكم نتبعه ونقتلكم به قتل عاد وإرم.
ومع ذلك:{ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ.. }[البقرة: 89] لماذا؟ لأنهم يريدون أن يحتفظوا بسلطتهم الزمنية.
كيف لا ينكرون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان أحدهم يستعد لتنصيب نفسه ملكاً على المدينة يوم أنْ دخلها رسول الله، فأفسد عليه ما أراد؟
(/2707)
فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54)
{ فَذَرْهُمْ.. } [المؤمنون: 54] يعني: دَعْهم، والعرب لم تستعمل الماضي من هذين الفعلين، فورد فيهما يدع ويذر. وقد ورد هذا الفعل أيضاً في قوله تعالى:{ وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُوْلِي النَّعْمَةِ.. }[المزمل: 11].
وفي قوله تعالى:{ فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَـاذَا الْحَدِيثِ.. }[القلم: 44].
والمعنى: ذرهم لي أنا أتولى عقابهم، وأفعل بهم ما أشاء، أو: ذرهم يفعلون ما يشاءون ليستحقوا العقاب، وينزل بهم العذاب.
والغمرة: جملة الماء التي تغطي قامة الرجل وتمنع عنه التنفس، فلا يبقى له من أمل في الحياة إلا بمقدار ما في رئته لأكبر قدر من الهواء؛ لذلك يحرص الإنسان على أنْ يُمرِّن نفسه على أن تتسع رئته لأكبر قدر من الهواء.
ومن ذلك أخذت كلمة المنافسة، وأصلها أن يغطس اثنان تحت الماء ليختبر كل منهما الآخر: أيّهما يبقى فترة أطول تحت الماء ودون تنفس.
ويقول تعالى:{ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ }[المطففين: 26] وتستطيع أن تُجري مع نفسك هذه المنافسة، بأن تأخذ نفساً عميقاً ثم تعد: واحد، اثنان وسوف ترى مقدار ما في رئتك من الهواء.
فالمعنى: ذَرْهم في غبائهم وغفلتهم فلن يطول بهم الوقت؛ لأنهم كمن غمره الماء، وسرعان ما تنكتم أنفاسه ويفارق الحياة؛ لذلك قال تعالى بعدها: { حَتَّىا حِينٍ } [المؤمنون: 54] والحين مدة من الزمن قد تطول، كما في قوله تعالى:{ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا.. }[إبراهيم: 25].
وقد تقتصر كما في قوله تعالى:{ فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ }[الروم: 17] وكأن الله تعالى عَبّر بالغمرة ليدل على أن حينهم لن يطول.
ثم ينتقل السياق ليعالج قضية قد تشغل حتى كثيراً من المؤمنين: { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ.. }.
(/2708)
أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)
هذه قضية شغلت كثيراً من المؤمنين حين يروْنَ الكافرين بالله مُرفَّهين مُنعّمين، في يدهم المال والنفوذ، في حين أن المؤمنين فقراء، وربما تشكّك البعض واهتزَّ إيمانه لهذه المتناقضات.
ونقول لهؤلاء: لم تكن هذه صورة المؤمنين في الماضي، إنهم سادوا الدنيا بعلومهم وثقافاتهم وازدهرتْ حضارتهم على مدى ألف سنة من الزمان، فلما تخلَّوْا عن دينهم وقِيَمهم حَلَّ بهم ما هم فيه الآن.
لقد تقدم علينا الآخرون؛ لأنهم أخذوا بأسباب الدنيا، وينبغي علينا نحن المسلمين أن نأخذ أيضاً بهذه الأسباب؛ لأنها من عطاء الربوبية الذي لا يُحرم منه لا مؤمن ولا كافر، فَمنْ أحسنه نال ثمرته وأخذ خيره.
قال سبحانه:{ مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ }[الشورى: 20] والأسباب يد الله الممدودة لخَلْقه، فَمنْ ردَّ يد الله إليه فلا بُدَّ أن يشْقى في رحلة الحياة.
وقد يكون تنعُّم هؤلاء مجرد ترف يجرُّهم إلى الطغيان، كما جاء في قوله تعالى:{ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىا إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُواْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ }[الأنعام: 44].
لذلك فالحق - تبارك وتعالى - يعالج هنا هذه المسألة: { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ.. } [المؤمنون: 55 - 56] أيظنون أن هذا خير لهم؟ لا، بل هو إمهال واستدراج ليزدادوا طغياناً.
وفي موضع آخر يقول سبحانه:{ وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا }[التوبة: 85].
وقوله تعالى: { بَل لاَّ يَشْعُرُونَ } [المؤمنون: 56] (بل): تفيد الإضراب عما قبلها وإثبات ما بعدها، إضراب عن مسألة تنعُّم هؤلاء؛ لأنها نعمة موقوته وزائلة، وهي في الحقيقة عليهم نقمة، لأنهم لا يشعرون، لا يشعرون أن هذه النعمة لا تعني محبتهم ورضانا عنهم، ولا يشعرون بالمكيدة وبالفخ الذي يُدبَّر لهم.
وسبق أن أوضحنا أن الله تعالى حين يريد الانتقام من عدوه يُمدّه أولاً، ويُوسِّع عليه ويُعلي مكانته، حتى إذا أخذه كان أَخْذه مؤلماً وشديداً.
وقوله تعالى: { نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ.. } [المؤمنون: 56] المسارعة ترد في كتاب الله على مَعَانٍ: مرة يتعدَّى الفعل بإلى، مثل:{ وَسَارِعُواْ إِلَىا مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ.. }[آل عمران: 133] ومرة يتعدى بفي، مثل: { يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ.. } [المؤمنون: 61] فما الفرق بين المعنيين؟
سارع إلى كذا: إذا كنتَ خارجاً عنه، وتريد أن تخطو إليه خُطّىً عاجلة، لكن إنْ كنتَ في الخير أصلاً وتريد أنْ ترتقي فيه تقول: سارع في الخيرات. فالأولى يخاطب بها مَنْ لم يدخل في حيِّز الخير، والأخرى لمنْ كان مظروفاً في الخير، ويريد الارتقاء.
(/2709)
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57)
الخشية: هي أشد الخوف، والإنسان قد يخاف من شيء، لكن يبقى عنده أمل في النجاة، ويتوقّع من الأسباب ما ينقذه ويُؤمِّن خوفه، لكن حين تخاف من الله فهو خوف لا منفذَ للأمل فيه، ولا تهبُّ فيه هَبّة تُشعرك بلطف.
ومعنى { مُّشْفِقُونَ } [المؤمنون: 57] الإشفاق أيضاً الخوف، وهو خوف يُمدَح ولا يُذم؛ لأنه خوف يحمل صاحبه ويحثّه على تجنُّب أسباب الخشية بالعمل الصالح، إنه إشفاق من الذنب الذي يستوجب العقوبة، كالتلميذ الذي يذاكر ويجتهد خوفاً من الرسوب، وهكذا حال المؤمن يخاف هذا الخوف المثمر الممدوح الذي يجعله يأخذ بأسباب النجاة، وهذا دليل الإيمان.
أمّا الإشفاق بعد فوات الأوان، والذي حكاه القرآن عن المجرمين:{ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ ياوَيْلَتَنَا.. }[الكهف: 49] فهذا إشفاق لا فائدة منه؛ لأنه جاء بعد ضياع الفرصة وانتهاء وقت العمل، فقد قامت القيامة ونُشِرت الكتب ولا أملَ في النجاة إذن.
ثم يقول الحق سبحانه: { وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ.. }.
(/2710)
وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59)
نلحظ في هذه الآيات أن الحق سبحانه حدثنا عن الإشفاق والخشية، ثم عن الإيمان بآيات الله، ثم في النهاية عن مسألة الشرك. وقد تسأل: لماذا لم يبدأ بالتحذير من الشرك؟
نقول: لأن الشرك المراد هنا الشرك الخفي الذي يقع فيه حتى المؤمن، والذي قال الله فيه:{ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ }[يوسف: 106] فلا تظن أن الشرك فقط أن تجعل لله شريكاً، أو أن تسجد لصنم، فمن الشرك شرك خفي دقيق يتسرب إلى القلب ويخالط العمل مهما كان صاحبه مؤمناً.
لذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم يُعلِّمنا الأدب في هذه المسألة، فيقول في دعائه: " اللهم إني أستغفرك من كل عمل أردتُ به وجهك فخالطني فيه ما ليس لك ".
فالإنسان يشرع في العمل ويخلص فيه النية لله، ومع ذلك يتسرب إليه شيء من الرياء وتزيين الشيطان؛ لذلك وصف النبي صلى الله عليه وسلم الشرك الخفي بأنه أخفى من دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء.
كما أن الشرك الأكبر لا يتصور مِمَّن هذه الصفات المتقدمة صفاته.
ثم يقول الحق سبحانه: { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ.. }.
(/2711)
وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60)
{ يُؤْتُونَ.. } [المؤمنون: 60] يعني المال، وقال بعدها: { مَآ آتَواْ.. } [المؤمنون: 60] حتى لا يجعل لها حداً، لا العُشْر ولا نصف العُشر، يريد سبحانه أن يفسح لأريحية العطاء وسخاء النفس، لذلك جاءت { مَآ آتَواْ.. } [المؤمنون: 60] هكذا مُبْهمة حتى لا نظن أنها الزكاة، ونعرف أن الله تعالى يفتح المجال للإحسانية والتفضُّل، وهذا هو مقام الإحسان الذي قال الله تعالى عنه:{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ }[الذاريات: 15 - 16].
والمحسن: الذي يلزم نفسه من الطاعات فوق ما ألزمه الله، لكن من جنس ما فرض الله عليه، فإن كان الفرض في الصوم شهر رمضان يصوم المحسن رمضان ويزيد عليه؛ لذلك تجد الدقة في الأداء القرآني، حيث يقول بعدها:{ كَانُواْ قَلِيلاً مِّن اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ }[الذاريات: 17 - 18].
وهذه أمور فوق ما فرض الله عليهم، ولم يطلب منك أن تقوم الليل لا تنام، لكن صَلِّ العشاء ونَمْ حتى الفجر، وهذه المسألة واضحة في قوله تعالى بعدها:{ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ }[الذرايات: 19] ولم يقل (معلوم) لأن الآية لا تتكلم عن الحق المعلوم وهو الزكاة، إنما عن الصدقة والتطوع فوق ما فرض الله.
والإبهام في { مَآ.. } [المؤمنون: 60] جاء أيضاً في قول الله تعالى:{ فَغَشِيَهُمْ مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ }[طه: 78] ولم يحدد مقدار الماء الذي غشيهم، وترك المسألة مبهمة ليكون المعنى أبلغ، ولتذهب الظنون في هَوْلها كل مذهب.
لكن؛ ما داموا قد أعْطوا ومدُّوا أيديهم للآخرين بالعطاء، فلماذا يقول تعالى: { وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ.. } [المؤمنون: 60].
نقول: لأن العبرة ليست بمجرد العمل، إنما العبرة بقبول العمل، والعمل لا يُقبل إلا إذا كان خالصاً لوجه الله لا يخالطه رياء ولا سمعة، فهم إذن يعملون ويتحرَّوْن الإخلاص وأسباب القبول ويتصدّق أحدهم بالصدقة، بحيث لا تعلم شماله ما أنفقتْ يمينه، ومع ذلك يخاف عدم القبول، وهذه أيضاً من علامات الإيمان.
وكأن ربك عز وجل يَغَار عليك أنْ تعمل عملاً لا تأخذ عليه أجراً؛ لأنك إنْ رأيت الناس في شيء من العمل تركك الله وإياهم تأخذ منهم الجزاء، فهذا إذن جَهْد مُهْدر لا فائدة منه، وهذه المسألة لا يرضاها لك ربك.
وفي الحديث القدسي: " الإخلاص سِرٌّ من أسراري أودعته قلب مَنْ أحببت من عبادي، لا يطلع عليه مَلَك فيكتبه، ولا شيطان فيفسده ".
والوجل: انفعال قسري واضطراب يطرأ على العضو من خوف أو خشية، والخوف شيء يخيفك أنت، أما الخشية فهي أعلى من الخوف، وهي أن تخاف ممن يوقع بك أذى أشد مما أنت فيه.
ومن أهل التفسير مَنْ يرى أن الآية { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ.
. { [المؤمنون: 60] جاءت في الرجل الذي يسرق، والذي يزني، والذي يشرب الخمر، لكن قلبه وَجلٌ من لقاء الله وخشيته، فما يزال فيه بقية من بقايا الإيمان والحياء من الله تعالى. وقالوا: إن عائشة رضي الله عنها فهمت هذا من الآية.
لكن هذا الفهم لا يستقيم مع قوله تعالى } يُؤْتُونَ.. { [المؤمنون: 60] أي: يؤتون غيرهم، فهناك إذن مُؤتٍ ومُؤْتىً له، ولو أراد السرقة والزنى وشرب الخمر لقال: يَأْتُون.
فالمراد: يؤتون غيرهم ما عليهم من الحق، سواء أكانت هذه الحقوق لله تعالى كالزكاة والكفارات والنذور والحدود، أو كانت متعلقة بالعباد كالودائع والأمانات والعدالة في الحكم بينهم.. الخ فيؤدي المؤمن ما عليه من هذه الحقوق، وقلبه وَجِلٌ أَلاَّ يصاحب الإخلاص عمله فلا يقبل.
ثم يقول تعالى: } أَنَّهُمْ إِلَىا رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ { [المؤمنون: 60] فالمؤمن يؤدي ما عليه، ومع ذلك تراه خائفاً وَجِلاً؛ لأنه يثق في الرجوع إلى الله والوقوف بين يديه سبحانه، وهو ربه الذي يُجازيه على قّدْر إخلاصه، ويخاف أيضاً أن يفتضح أمره إنْ خالط عملَه شيءٌ من الرياء؛ لأن ربه غيور لا يرضى معه شريكاً في العمل، وهو سبحانه يعلم كل شيء ويحاسب على ذرات الخير وعلى ذرات الشر.
وهناك أعمال في ظاهرها أنها من الدين، لكن في طيها شيء من الرياء، وإنْ لم يَدْرِ الإنسان به، ومن ذلك قولهم: أفعل هذا لله ثم لك، أو: توكلت على الله وعليك.. الخ، فهذه العبارات وأمثالها تحمل في طياتها معاني الشرك التي ينبغي أن نُنزِّه الله منها، فلا نعطف على الله تعالى أحداً حتى لا نشركه مع الله، ولو عن غيرقصد.
لذلك يقول تعالى:{ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ }[يوسف: 106] ويوم القيامة يطمئن أهل الإخلاص إلى الجزاء، ويُفَاجأ أهل الشرك والرياء بوجود الله تعالى، ولم يكن على بالهم حين عملوا:{ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىا إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ.. }[النور: 39] إذن: ما دُمْنَا سنفاجأ بوجود الحق، ولا شيء غير الحق، فليكُنْ عملنا للحق، ولا شيء لغير الحق.
} أُوْلَـائِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ.. {.
(/2712)
أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)
{ أُوْلَـائِكَ.. } [المؤمنون: 61] أي: أصحاب الصفات المتقدمة { يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ.. } [المؤمنون: 61] وفرْق بين أسرع وسارع: أسرع يُسرع يعني: بذاته، إنما سارع يسارع أي: يرى غيره يسرع، فيحاول أنْ يتفوق عليه، ففيه مبالغة وحافز على المنافسة.
وسبق أنْ أوضحنا الفرق بين سارع إلى وسارع في، فمعنى { يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ.. } [المؤمنون: 61] أنهم كانوا في حيِّز الخيرات ومظروفين فيه، لكن يحاولون الارتقاء والازدياد من الخيرات للوصول إلى مرتبة أعلى.
وقوله تعالى: { وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ } [المؤمنون: 61] هل المسارعة هي عِلَّة أنهم سبقوا إلى الخيرات، أم أنْ سَبْقهم إلى الخيرات عِلّة المسارعة؟
في اللغة يقولون: سبب ومُسبب، وشرط وجزاء، وعلة ومعلول. فحين تقول: إنْ تذاكر تنجح، فالمذاكرة سبب النجاح، لكن هل سبقت المذاكرةُ النجاح؟ لا، بل وُجد النجاح أولاً في بالك، واستحضرت مميزاته وكيف ستكون منزلتك في المجتمع وبين الناس، وبذلك وجد عندك دافع وخاطر، ثم أردت أنْ تحققه واقعاً، فذاكرت للوصول إلى هذا الهدف.
إذن: فكل شرط وجواب: الجواب سبب في الشرط، والشرط سبب في الجواب، الجواب سبب في الشرط دافعاً له، والشرط سبب في الجواب واقعاً وتنفيذاً، فالنجاح وُجد دافعاً على المذاكرة، والمذاكرة جاءت واقعاً ليتحقق النجاح.
وكذلك في { أُوْلَـائِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ } [المؤمنون: 61] فالمعنى: القصد أنْ يسبق فسارع، سارع في الواقع ليسبق بالفعل، لكن السبْق قبل المسارعة؛ لأن الذهن متهيء له أولاً وحقائقه واضحة.
إذن: الشرط والجزاء، والسبب والمسبب، والعلة والمعلول تدور بين دافع هو الجواب، وواقع هو الشرط.
ومعنى: { وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ } [المؤمنون: 61] يعني: هم أهل لهذا العمل وقادرون عليه، كما لو طلبتُ منك شيئاً فتقول لي: هذا شيء صعب فأقول لك: وأنت لها.
ثم يقول الحق سبحانه: { وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ.. }.
(/2713)
وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62)
بعد أن تكلم الحق سبحانه عن المسارعة والمنافسة بيَّن أنها على قَدْر الوُسْع والطاقة، وأنه سبحانه ما كلّفك إلا بعد عِلْمه بقدرتك، وأنك تسع هذا التكليف، فإياك أنْ تنظر إلى الحكم فتقول: أنا أسعه أو لا أسعه، لكن أنظر إلى التكليف: ما دام ربك قد كلّفك فاعلم أنه في وُسْعك، وحين يعلم منك ربك عدم القدرة يُخفِّف عنك التكليف دون أنْ تطلب أنت ذلك. والأمثلة على تخفيف التكاليف واضحة في الصلاة والصوم والحج.. الخ.
والآن نسمع مَنْ يقول: لم تَعُد الطاقة في هذا العصر تسع هذه التكاليف، فالزمن تغيّر، والأعمال والمسئوليات كثرت، إلى غير ذلك من هذه الأقوال التي يريد أصحابها التنصّل من شرع الله. ونقول ما دام التكليف باقياً فالوُسْع بَاقٍ، والحق - سبحانه وتعالى - أعلم بوُسْع خَلْقه وطاقاتهم.
إذن: أنا أنظر أولاً إلى التكليف، ثم أحكم على الوُسْع من التكليف، ولا أحكم على التكليف من الوُسْع.
ثم يقول سبحانه: { وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } [المؤمنون: 62] المراد هنا كتاب أعمالنا الذي سجّل فيه كل شيء قدّمته الأيدي، لكن: ما الحكمة من تسجيل الأعمال؟ وهل يُكذِّب العباد ربهم عز وجل فيما سُجِّل عليهم؟
قالوا: الحكمة من تسجيل الأعمال أن تكون حجة على صاحبها، وليعلم أن الله ما ظلمه شيئاً؛ لذلك سيقول له ربه:{ اقْرَأْ كِتَابَكَ.. }[الإسراء: 14] يعني: بنفسك حتى تُقام عليك الحجة، ولا يكون عندك اعتراض.
ثم قال بعدها: { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } [المؤمنون: 62] لأن الظلم لا يُتصوّر من الحق - سبحانه وتعالى - فالظلم نتيجة الحاجة، وأنت تظلم غيرك حين تريد أن تنتفع بأثر الغير في الخير زيادة عَمَّا عندك، فالظلم إذن نتيجة الحاجة، والحق سبحانه هو المعطي، وهو الغني الذي لا حاجةَ له إلى أحد، فلماذا يظلم؟
كذلك قد يظلم الضعيف ليأخذ ما في يد غيره ليسُدّ حاجته أو شهوته، ولو كان قوياً لكفى نفسه بمجهوده.
ثم يقول الحق سبحانه: { بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَـاذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ.. }.
(/2714)
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63)
{ بَلْ.. } [المؤمنون: 63] حرف يدل على الإضراب عن الكلام السابق، وإثبات الحكم للكلام بعدها. والغَمْرة كما قلنا: هي جملة الماء الذي يعلو قامة الإنسان حتى يمنع عنه التنفس ويحرمه الهواء، وهو أول مُقوِّم من مُقوِّمات الحياة.
فالإنسان يصبر على الطعام شهراً، ويصبر على الماء من ثلاثة أيام لعشرة، إنما لا يصبر على النَّفَس إلا بمقدار ما يحتويه الصدر من الهواء، فإنْ كان كانت رئتك سليمة تتسع لأكبر كمية من الهواء، وتستطيع أنْ تتحمل عدم التنفس لفترة أطول، أما إن كانت الرئة مُعتَلّة، فإنها لا تتسع لكمية كبيرة، وسرعان ما ينتهي الهواء ويموت الإنسان.
ومن التنفس جاءت المنافسة، كما في قوله تعالى:{ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ }[المطففين: 26] ثم استُعمِلَتْ لكل عمل تُنافِس فيه غيرك؛ لأن الهواء هو العنصر الأساسي في الحياة.
لذلك الخالق - عز وجل - حينما خلق هذه البِنْية الإنسانية جعل لها نظاماً فريداً في وقودها وغذائها على خلاف صَنْعة البشر، فلو منعتَ البنزين مثلاً عن السيارة توقفتْ، أمّا صنعة الخالق - عز وجل - فالجسم يأخذ حاجته من الطعام والماء، ثم يختزن الباقي لوقت الحاجة، وقد علم الحق سبحانه شهوتك وحبك للطعام وللشراب، وأخذْك منهما فوق حاجتك، فإنْ غاب عنك الطعام تغذَّى جسمك من هذا المخزن الرباني.
لذلك نرى البعض حين يتأخر عنه الطعام يقول: نفس انصدت عن الأكل، والحقيقة أنه أكل فعلاً، وتغذى من مخزون الطعام والشراب في جسمه.
ومن حكمة الله أن الطعام الفائض يُختزن في صورة واحدة هي الشحم، الذي يتحول تلقائياً إلى أيِّ عنصر آخر يحتاجه الجسم، فإذا انتهى الشحم تغذّى الجسم على اللحم والعضلات، ثم على العظام، وهي آخر مخزن للقوت في جسم الإنسان؛ لذلك جاء في قصة زكريا عليه السلام:{ قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً }[مريم: 4].
أما الهواء فليس له مخزن إلا بقدْر ما تتسع له الرئة، فإذا نفد منها الهواء بشهيق وزفير فلا حيلة فيه، ومن رحمة الله بعباده ألاّ يُملِّك الهواء لأحد، فقد يملك الطعام وربما يملك الماء، أمّا الهواء الذي يحتاجه في كل نفَس، فقد جعله الله مِلْكاً للجميع، حتى لا يمنعه أحد عن أحد؛ لأنك لا تستطيع أن تحتال له كما تحتال للطعام وللشراب، ولو غضب عليك مالك الهواء لمتّ قبل أنْ يرضى عنك.
ونلحظ هنا أن الغمرة لا تحتويهم هم، إنما تحتوي القلوب: { بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ.. } [المؤمنون: 63] وهذه بلوى أعظم؛ لأن القلب محلٌّ لحصيلة المدركات التي يأخذها العقل، ويُميِّز بينها ويختار منها ويُرجّح، ثم تتحول هذه المدركات إلى عقائد تستقر في القلب وعلى هَدْيها تسير في حركة الحياة.
لذلك إنْ كان القلب نفسه في الغمرة فالمصيبة أشدّ والبلاء أعظم؛ لأنه مُسْتودع العقائد والمبادئ التي تُنير لك الطريق.
والقلب هو محلُّ نظر الله إلى عباده، لذلك يقول سبحانه:{ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا.. }[الأعراف: 179].
وقال سبحانه:{ خَتَمَ اللَّهُ عَلَىا قُلُوبِهمْ.. }[البقرة: 7] لأنهم أحبوا الكفر واطمأنوا إليه، ولأنه سبحانه ربٌّ متولٍّ ربوبية الخلق، يعطيهم ما أراداوا حتى إنْ كان كفراً؛ لذلك ختم على قلوبهم حتى لا يدخلها إيمان ولا يخرج منها كفر؛ لأنهم عشقوا الكفر وأحبّوه.
لذلك نقول لأهل المصائب الذين يُصابون في غَالٍ أو عزيز فيحزنون عليه، ويبالغون بإقامة المآتم والسرادقات، ويقيمون ذكرى الخميس والأربعين وغيرها، وربما كان الابن عاقاً لوالديه في حياتهما، فإذا مات أبوه أو أمه أقام المآتم وشغل الناس، وهو كما قال الشاعر:لاَ أَعْرِفنَّك بعْد الموتِ تَنْدِبني وفِي حََيَاتي مَا بَلَّغْتَني زَادَاأو الأم التي فقدت وحيدها مثلاً، فتعيش حزينة مُكدّرة، وكأنها عشقتْ الحزن وأحبّته، نحذر هؤلاء وننصح كل حزين أن يُغلق باب الحزن بمسامير الرضا والتسليم، فالحزن إنْ رأى بابه مُوارباً دخل وظَلّ معك ولازمك.
وسبق أن وضحنا أن الحق سبحانه لا يرفع بلاءً عن عبده حتى يرضى به، ولنا القدوة في هذه المسألة بأبينا إبراهيم - عليه السلام - حين ابتلاه ربه بذبح ولده في رؤيا رآها، واعتبرها هو تكليفاً، ورضي بقدر الله وسلم لأمره، ثم أخبر ولده ووحيده بهذه الرؤيا حتى لا يحرمه هذا الأجر ولا يأخذه على غِرّة، فيتغير قلبه عليه:{ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَـاذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ }[الصافات: 103 - 107].
فبعد أن رضي إبراهيم وولده بقضاء الله رفع عنهما البلاء، وجاءهما الفداء من الله لإسماعيل، بل وزاده بأنْ بشّره بولد آخر هو إسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب، أجيال متعاقبة جاءتْ فضلاً من الله وجزاءً على الرضا بقضائه وقدره، وما أحسن ما قال الشاعر في هذا الموقف:
سَلِّمْ لربك حُكْمه فَلحكْمةٍ يَقْضِيِه حتّى تسْتريح وتَغْنَماواذكُرْ خليلَ اللهِ في ذَبْح ابنهِ إذْ قالَ خالقُه فَلمّا أسْلَماإذن: إذا كانت القلوب نفسها في غمرة، فقد خرب جهاز العقائد والمبادئ، وينشأ عن خرابه خراب حركة الحياة وانحراف السلوك. وقد أخذ القلب هذه الأهمية؛ لأنه معمل الدم، ومصدر سائل الحياة، فإنْ فسدَ لا بُدَّ أنْ ينضح على باقي الجوارح، فتفسد هي الأخرى، ولو كان القلب صالحاً فلا بُدّ أ نْ ينضحَ صلاحه على الجوارح كلها فتصلح، كما جاء في الحديث الشريف: " ألا إن في الجسد مُضْغة إذا صَلُحت صَلُح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب ".
ثم يقول سبحانه: } وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذالِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ { [المؤمنون: 63] يعني الأمر لا يتوقف بهم عند مسألة العقائد، إنما لهم أعمال أخرى كثيرة سيقعون فيها، فالحق سبحانه لا يذكر لهم إلا قمم المخالفات ونماذج منها، إنما في علمه تعالى وفي لوحه المحفوظ أنهم سيفعلون كذا ويفعلون كذا، وإنْ كانوا هم أنفسهم لا يعلمون أن ذلك سيحدث منهم لكن ربهم - عز وجل - يعلم بطلاقة القدرة ما كان وما سيكون.
ومن عجائب قدرة الله أنه سبحانه يحكم على عبده الكافر أنه سيعمل كذا وكذا، ومع ذلك لم يعاند أحد الكفار، فيقول: إن الله حكم عليَّ بكذا، ولكني لن أفعل فيكون حكم الله عليه غير صحيح؛ لأن الحق سبحانه لا يتحكم فيما يجريه علينا فحسب، وإنما في اختيار العبد ومراده، مع أن العبد حُرٌّ في أن يفعل أو لا يفعل.
وهذه القضية واضحة في قوله تعالى عن أبي لهب:{ تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَآ أَغْنَىا عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَىا نَاراً.. }[المسد: 1 - 3] تفيد المستقبل، فقد حكم الحق سبحانه عليه أنه سيكون في النار، وكان أبو لهب في أمة ومَجْمع من القوم الكافرين، ومنهم مَنْ آمن فمن يضمن أن يسمع أبو لهب هذا الحكم ومع ذلك لا يؤمن ويموت كافراً؟
ثم ألم يَكُنْ بإمكان هذا (المغفل) أن يقف على ملأ ويقول: " لا إله إلا الله محمد رسول الله " ويدخل في الإسلام، فيكون الحكم فيه غير صحيح؟ لكن هذا كلام الله وحكمه القديم لا يُردّ ولا يخالفه أحد مهما كان أمره في يده وهو قادر على الاختيار، هذا من طلاقة قدرة الله في فِعْله وعلى خَلْقه في أفعالهم.
فالمعنى: } هُمْ لَهَا عَامِلُونَ { [المؤمنون: 63] حكم لا يُرد ولا يُكذَّب، حتى وإنْ أخبر به صاحبه؛ لأن علم الله تعالى مستوعبٌ لما كان ولما سيكون، وكأن الحق سبحانه يقول: إن طلاقة القدرة ليست فيما أفعله فحسب، إنما يفعله غيري مِمَّنْ أعطيتُه حرية الاختيار.
ثم يقول الحق سبحانه: } حَتَّىا إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ.. {.
(/2715)
حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64)
يعني: بعد أن أشركوا بالله وكفروا به، وبعد أنْ أصبحتْ قلوبهم في غمرة وعمىً إذا مسَّهم شيء من العذاب يجأرون ويصرخون، ومَنْ ذا الذي يطيق لفحة أو رائحة من عذاب الله؟
ومعنى { أَخَذْنَا.. } [المؤمنون: 64] كلمة الأخذ لها مجال واسع في كتاب الله، والأَخْذ: هو الاستيلاء بعنف على شيء هو لا يحبّ أنْ تستولي عليه، والأَخْذ يُوحي بالعنف والشدة، بحيث لا يستطيع المأخوذ الإفلات مهما حاول.
ومن ذلك قوله تعالى:{ أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ }[القمر: 42] يعني: أخذاً شديداً يتململ منه فلا يستطيع الفكاك.
وقوله:{ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ.. }[هود: 67].
ويقول:{ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ }[هود: 102].
ومعنى: { مُتْرَفِيهِمْ.. } [المؤمنون: 64] من الترف وهو التنعُّم؛ لأن الحياة تقوم على ضروريات تستبقي الحياة وكماليات تُسعدِها وتُرفِّهها وتُثريها، فالمتْرَف مَنْ عنده من النعيم فوق الضروريات، يقال: ترِف الرجل يتَرف من باب فَرِح يفرح، وأترفته النعمة إذا أطغته، وأترفه الله يعني: وسّع عليه النعمة وزاده منها. وعلى قدر الإتراف يكون الأخذ أبلغَ والألم أشدَّ.
وسبق أن ذكرنا قول الله عز وجل:{ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ.. }[الأنعام: 44] يعني: من منهج الله، لم نُضيِّق عليهم إنما:{ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىا إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُواْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ.. }[الأنعام: 44 - 45].
فهنا تكون النكاية أشدّ، والحسرة أعظم.
والكلام هنا عن كفار قريش، فكيف أخذهم الله وهم في ترف من العيش، حيث تصبُّ عندهم كل خيرات الجزيرة حتى عاشوا عيشة الترف والتنعم؟
أخذهم الله حال ترفهم بالقَحْط والسنين؛ لذلك لما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم أُترفوا بالنعمة وطغَوْا بها قال: " اللهم اشْدُدْ وطأتك على مُضَر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف ".
واستجاب الله تعالى دعاء نبيه، فأصابهم الجدب والقَحْط حتى أكلوا الجيف و (العِلْهز) وهو شعر الذبيحة أو وبرها المخلوط بدمها بعد أنْ جَفَّ وتجمد تحت حرارة الشمس، وهذا هو المراد بقوله تعالى: { حَتَّىا إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ.. } [المؤمنون: 64].
وقوله تعالى: { إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ.. } [المؤمنون: 64].
يصرخون ويضجّون، فهذا أبو سفيان بعد أن أكلوا الجيف والفضلات يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد ألستَ رحمةً للعالمين؟ إذن: فادْعُ الله أنْ يُفرِّج عنا، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه حتى فرج عنهم.
أو: يراد بالعذاب هنا ما حدث لهم يوم بدر، حيث أذلَّهم الله، فقتل منهم مَنْ قتل، وأسر مَنْ أسر، وانهارت سيادتهم وضاعت هيبتهم، وقد كانوا يُعذِّبون المؤمنين ويقتلونهم، ويقيمونهم في حَرِّ الشمس ويضعون الأحجار الكبيرة فوق بطونهم، حتى أنزل الله تعالى في هذه الحالة القاسية التي يعانيها المؤمنون:{ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ }
[القمر: 45].
فيستقبلون الآية بتعجُّب: حتى يقول عمر: أيُّ جمع هذا الذي سيُهزم، فليس هناك أيّ بادرة لنصر المؤمنين، فلما جاء يوم بدر ورأى المؤمنون ما حاق بالكافرين قال عمر نفسه: صدق الله، سيُهزم الجمع وقد هُزِم.
وقوله تعالى: } إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ { [المؤمنون: 64] يجأر: يصرخ بصوت عالٍ، والإنسان لا يصرخ إلا إذا كان في محنة لا تقدر أسبابه على دفعها، فيصرخ طلباً لمن ينجده، ويرفع صوته ليُسمِع كل مَنْ حوله، كما يقولون (يجعر).
والجؤار مثل الخوار يعني: يصيحون مثل العجول بعد ما كانوا رجالاً وسادة وطغاة، فلماذا لم تظلّوا سادة، لماذا تصرخون الآن؟ وكان المنتظر منهم في وقت الشدة أنْ يتماسكوا، وأن يتجلّدوا حتى لا يشمت بهم العبيد والفقراء الذين آمنوا، كما يقول الشاعر:وتجلُّدِي للِشَّامِتينَ أُرِيهُمو أَنِّي لريْبِ الدهْرِ لا أتضعْضَعُلكن، هيهات فقد حاق بهم العذاب، ولن يخدعوا أنفسهم الآن، فليس أمامهم إلا الصراخ يطلبون به المغيث والمنجي من المهالك.
ثم يقول الحق سبحانه: } لاَ تَجْأَرُواْ الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ {.
(/2716)
لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65)
يرد عليهم الحق سبحانه: { لاَ تَجْأَرُواْ الْيَوْمَ.. } [المؤمنون: 65] لأن مَنْ يجأر ينادي مَنْ ينصره وأنتم لن تُنصروا { إِنَّكُمْ مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ } [المؤمنون: 65] لا تُنصرون من جهتنا؛ لأني أنصر أوليائي، وأنصر رسلي، وأنصر مَنْ ينصرني، فاقطعوا الظن في نصري لكم؛ لأنني أنا الذي أنزلتُ بكم ما جعلكم تجأرون بسببه، فكيف أزيله عنكم؟
وفي موضع آخر يتكلم الحق سبحانه عن أهل الكفر الذين تمالئوا عليه، وشجّع بعضهم بعضاً على التجرّؤ على القرآن وعلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويُصفِّقون لمن يخوض في حقهما:{ احْشُرُواْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَىا صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ }[الصافات: 22 - 26].
إذن: لا تجأروا لأنكم لن تُنصروا مِنّا، وكيف ننصركم بجؤاركم هذا، وقد انصرفتم عن آياتي؟
(/2717)
قَدْ كَانَتْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66)
كيف تستغيثون بالله وتجأرون إليه وأنتم تُلْقى عليكم آياته تشرح لكم وتثبت لكم وجود الله بالآيات الكونية، وتثبت لكم صِدْق الرسول بالمعجزات، وتحمل لكم منهج الله في الآيات حاملة الأحكام، ولكنكم عميتم عن ذلك كله.
ومعنى { فَكُنتُمْ عَلَىا أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ } [المؤمنون: 66] العقب: مؤخرة القدم، فبدل أن يمشي إلى الأمام كما خلقه الله وجعل له كشافات يُبصر بها الطريق، ويهتدي إلى موضع قدميْه، إذا به يمشي للخلف على عَقبه، وكأنهم أُخِذوا أَخْذاً غَيَّر عندهم دولاب السير، لماذا؟ لأنهم عَمُوا عن أسباب الهداية، فصاروا يتخبطون في متاهات الحياة على غير هدى، كمَنْ يسير بظهره لا يعرف مواقع قدميْه، وهكذا فعلوا هم بأنفسهم.
وهذا التراجع يسمونه في قيادة السيارات (مارشادير)، ويحتاج فيه الإنسان لمن يُوجِّهه ويرشد حركته يميناً أو شمالاً؛ لأنه لا يرى.
فالمعنى: لا تَلُمْ إلا نفسك حيث حرمتها من أسباب الهداية، فبعد أنْ جاءتك وأصبحت بين يديك أغمضتَ عنها عينيك.
وفي موضع آخر قال سبحانه عن الشيطان:{ فَلَمَّا تَرَآءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىا عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنْكُمْ.. }[الأنفال: 48].
(/2718)
مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)
مادة: كبر تأتي بكسر الباء للدلالة على العمر تقول: كَبِر فلان. يعني: كان صغيراً ثم كبر، وبضم الباء للشيء المعنوي وللقيم، كما في قوله تعالى:{ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ.. }[الكهف: 5] يعني: عظمت.
ومعنى الاستكبار افتعال الكِبر وطلبه، مثل: استفهم يعني: طلب الفَهْم، في حين هو ليس كبيراً في ذاته، فهو محتاج إلى غيره. فالكبير في ذاته مَنْ تكون عنده وتتوفر له في ذاته مُقوِّمات الحياة وضرورياتها وترفها، لا يستمدها من أحد.
لكن الإنسان ضروريات حياته، وأسباب ترفه موهوبة له من غيره، فلا يصح له أنْ يتكبّر، فمَنْ أراد أن يتكبّر فليتكبّر بشيء ذاتي فيه من صحة أو مال أو سلطان... الخ، وهذه كلها أمور موهوبة لك، فالصحيح قد يصبح سقيماً، والغني قد يصبح فقيراً.
لذلك، فالكبرياء لله تعالى وحده؛ لأنه الواهب للغير، والمتفضِّل على الخَلْق بما يمكن أنْ يتكبروا به، ومن صفات جلاله وكماله سبحانه (المتكبر)؛ لأنه سبحانه رب الخَلْق أجمعين، ومن مصلحة الخلق أن يكون المتكبر هو الله وحده، حتى لا يرفع أحد رأسه على خَلْقه ويتكّبر عليهم.
وهكذا يحمي الحق سبحانه خَلْقه من خَلْقه، فإنْ تكبّر عليك ربك، وأجري عليك قدراً؛ لأنك فعلت شيئاً وأنت واحد، فاعلم أنه يتكبر على الآخرين جميعاً وهم كثيرون، إنْ فعلوا بك هذا الشيء، إذن: فصفة الكبرياء لله عز وجل في صالحك.
ومثَّلْنا لذلك، ولله المثل الأعلى: من مصلحة الأسرة ألاّ يكون لها إلا كبير واحد يُرجَع إليه، ومن أقوال العامة (اللي ملوش كبير يشتري له كبير) لأنه الميزان الذي تستقيم به الأمور ويُسيِّر دفّة الحياة.
وقلنا: إن من أسمائه تعالى (الكبير) ولا نقول: الأكبر مع أنها صيغة مبالغة، لماذا؟ لأن أكبر صيغة مبالغة عندنا نحن البشر، نقول: هذا كبير وذاك أكبر، وهذا قويٌّ وذاك أقوَى، ولا يقال هذا في صفته تعالى لأنك لو قُلْت: الله أكبر لكان المعنى أنك شرَكت معه غيره، فهو سبحانه أكبر وغيره كبير، لذلك لا تُقال: الله أكبر إلا في النداء للصلاة.
إذن: المستكبر: الذي يطلب مؤهلات كبْر وليس لذاتيته شيء من هذه المؤهلات، والإنسان لا ينبغي له أن يتكبر إلا إذا ملك ذاتيات كبره، والمخلوق لا يملك شيئاً من ذلك.
ومعنى { مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ.. } [المؤمنون: 67] الهاء في (به) ضمير مُبْهم، يُعرَّف بمرجعه، كما تقول: جاءني رجل فأكرمته، فالذي أزال إبهام الهاء مرجعه إلى رجل. وفي الآية لم يتقدم اسم يعود عليه الضمير، لكن الكلام هنا عن الرسول الذي أُرسل إليهم، والقرآن الذي أُنزل عليهم معجزة ومنهاجاً، إذن: لا يعود الضمير إلا إلى واحد منهما.
أو: أن الضمير في (به) يعود إلى بيت الله الحرام، وقد كان سبباً لمكانة قريش ومنزلتهم بين العرب، وأعطاهم وَضْعاً من السيادة والشرف، فكانوا يسيرون في رحلات التجارة إلى اليمن وإلى الشام دون أن يتعرض لهم أحد، في وقت انتشر فيه بين القبائل السَّلْب والنهب والغارة وقطع الطريق.
وما كانت هذه المنزلة لتكون لهم لولا بيت الله الحرام الذي يحجُّه العرب كل عام، وخدمته وسدانته في أيدي قريش؛ لذلك استكبروا به على الأمة كلها، ليس هذا فقط، إنما تجرأوا أيضاً على البيت.
ويقول تعالى بعدها: } سَامِراً تَهْجُرُونَ { [المؤمنون: 67] السامر: الجماعة يسْمُرون ليلاً، وكانوا يجتمعون حول بيت الله ليلاً يتحدثون في حق النبي صلى الله عليه وسلم، يشتمونه ويخوضون في حقه، وفي حق القرآن الذي نزل عليه.
وليتهم يسمرون عند البيت بالخير إنما بهُجر، والهُجْر هو فُحْش الكلام في محمد صلى الله عليه وسلم وفي القرآن.
فأمر هؤلاء عجيب: كيف يفعلون هذا وهم في رحاب بيت الله الذي جعل لهم السيادة والمنزلة؟ كيف يخوضون في رسول الله الذي جاء ليطهر هذا البيت من الأصنام ورجسها؟ إنه سوء أدب مع الله، ومع رسوله، ومع القرآن، يصدق فيه قول الشاعر:أُعلِّمهُ الرمايةَ كُلَّ يوْمٍ فَلَمّا اشْتَدَّ سَاعِدُه رَمَانِيوكَمْ علِّمتُه نَظْمَ القَوافِي فَلَمَّا قَالَ قَافِية هَجَانِيلقد استكبر هؤلاء على الأمة كلها بالبيت، ومع ذلك ما حفظوا حُرْمته، وجعلوه مكاناً للسَّمَر وللهُجْر وللسَّفَه وللطيْش، ولكل مَا لا يليق به، فالقرآن عندهم أساطير الأولين، ومحمد عندهم ساحر وكاهن وَشاعر ومجنون.. وهكذا.
والحق - سبحانه وتعالى - يُنبِّهكم إلى أن ضروريات حياتكم هِبةٌ منه سبحانه وتفضُّل، فحينما جاءكم أبرهة ليهدم هذا البيت العتيق، وينقل هذه العظمة وهذه القداسة إلى الحبشة، ولم يكن لكم طاقة لردِّه ولا قدرةَ على حماية البيت، فلو هدمه لضاعتْ هيبتكم وسيادتكم بين القبائل، ولتجرأوا عليكم كما تجرأوا على غيركم، لكن حمى الله بيته، ودافع عن حرماته، حتى إن الفيل نفسه وعى هذا الدرس، ووقف مكانه لا يتحرك نحو البيت خاصة، ويوجهونه في أي ناحية أخرى فيسير.
ويُرْوَى أن أحدهم قال للفيل يخاطبه: ابْرك محمود وارجع راشداً - يعني: انفد بجلدك؛ لأنك في بلد الله الحرام، وكما قال الشاعر:حُبِسَ الفِيلُ بالمغَمَّس حَتَّى صَارَ يحبُو كَأنَّهُ مَعْقُورُوهكذا ردّهم الله مقهورين مدحورين، وحفظ لكم البيت، وأبقى لكم السيادة.
لذلك لاحظ الانتقال من سورة الفيل إلى سورة قريش، يقول تعالى:{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ }[الفيل: 1 - 5] يعني: مثل التبن والفُتَات الذي تذروه الرياح.
ثم يقول في أول قريش:{ لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ }[قريش: 1] يعني ما حَلَّ بأصحاب الفيل، فاللام في (لإِيلاَف) لام التعليل، يعني: حَلَّ ما حَلَّ بأصحاب الفيل لتألف قريش ما اعتادته من رحلة الشتاء والصيف{ إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَآءِ وَالصَّيْفِ.. }[قريش: 2] وما دام أن الله تعالى قد حماكم وحمى لكم البيت، وحفظ لكم السيادة كان ينبغي عليكم أنْ تعبدوه وحده لا شريك له{ فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـاذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ }[قريش: 3 - 4].
ثم يقول الحق سبحانه: } أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ الْقَوْلَ أَمْ جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ.. {.
(/2719)
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69)
في هذه الآية والآيات بعدها يريد - سبحانه وتعالى - أن يُوبّخهم بعدة أمور واحد بعد واحد بعد الآخر.
أولها: { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ الْقَوْلَ.. } [المؤمنون: 68] فالاستفهام هنا للتوبيخ وللتقريع: ماذا جرى لهؤلاء؟ أفلم يعقلوا القول الذي جاءهم في القرآن، وهم أمة الفصاحة والبلاغة والبيان، وأمة القول بكل فنونه حتى أقاموا له المواسم والمعارض وعلَّقوه على الجدار؟
لذلك لا يُعقل ألاَّ تفهموا القرآن، وقد جاءكم بأسلوب على مستوى أعلى من البلاغة والفصاحة، لا بُدَّ أنكم فهمتموه ووعيْتُم ما فيه، بدليل قولكم:{ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـاذَا الْقُرْآنُ عَلَىا رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }[الزخرف: 31].
وهكذا الكذاب يسرقه طبعه، وينمّ منطقه عما في ضميره، فاعتراضكم ليس على القرآن إنما على محمد؛ لأنه فقير من أوسط القوم، فالمسألة - إذن - منازعة سيادة وسلطة زمنية، لكن ألم يَدْرِ هؤلاء أن محمداً صلى الله عليه وسلم ما جاء ليسلبهم سلطتهم، أو يعلو هو عليهم، إنما جاء ليحكمهم بمنهج الله، ويتحمل هو الأذى والتعب والمشقة في سبيل راحتهم وسعادتهم؟
لقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم ليأخذ الحكم ويحمل منهج الله تكليفاً لا تشريفاً، بدليل أنه عاش في مستوى أقلّ منكم، فلا ترى رسول الله إلا أقلهم طعاماً وأقلهم شراباً، أقلهم لباساً وأثاثاً، حتى أقاربه كانوا فقراء، ومع ذلك حرَّم عليهم الزكاة التي أباحها لعامة المسلمين الفقراء، كذلك يرث الناس وهم لا يرثون.
وبعد ذلك كله تقولون:{ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـاذَا الْقُرْآنُ عَلَىا رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }[الزخرف: 31] يبدو أنكم ألِفْتم العبودية للعظماء وللجبابرة، ألِفتم العبودية لغير الله، وعَزَّ عليكم أن يحرركم الله من هذه العبودية على يد رجل منكسر فقير منكم، جاء ليصلحكم ويخرجكم من العبودية للمخلوق إلى العبودية للخالق عز وجل.
ألم يقُلْ أحد رؤوس الكفر عن القرآن: " والله إن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يُعْلى عليه ".
إذن: { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ الْقَوْلَ.. } [المؤمنون: 68] توبيخ، لأنهم فهموا القرآن، لكن حسدوا محمداً صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليه، وأن ينال دونهم هذه المكانة، كما قال سبحانه:{ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىا مَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ.. }[النساء: 54].
الأمر الثاني: { أَمْ جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ آبَآءَهُمُ الأَوَّلِينَ } [المؤمنون: 68] يعني: جاءهم أمر غريب لا عهدَ لهم به، وهو أن يأتي رسول من عند الله، وهذه المسألة معروفة لهم، فمنهم إبراهيم عليه السلام، ومنهم إسماعيل وهم مؤمنون بهما، إذن: ليست مسألة عجيبة، بل يعرفونها جيداً، لكن ما منعهم في الأولى منعهم في هذه، إنه الحسد لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لذلك يقول تعالى:{ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ.. }
[الزخرف: 87].
الأمر الثالث: } أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ { [المؤمنون: 69].
يعني: أنزَلَ عليهم رسولٌ من السماء لا يعرفون سيرته وخُلقه ونسبه ومسلكه قبل أنْ يُبعث؟ إنهم يعرفونه جيداً، وقبل بعثته سَمَّوْه " الصادق الأمين " وارتضَوْا حكومته بينهم في مسألة الحجر الأسود، وكانوا يأتمنونه على ودائعهم ونفائس أموالهم، ولم يجربوا عليه كذباً أوخيانة أو سَقْطة من سقطات الجاهلية.
وقد شرحت هذه المسألة في قول الله تعالى:{ لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ.. }[التوبة: 128] يعني: من جنسكم، ومن نوعكم، ومن قبيلتكم، ليس غريباً عنكم وهو معروف لكم: سلوكه وسيرته وخُلقه، وإذا لم تُجرِّبوا عليه الكذب مع الخَلْق، أتتصورون منه أنْ يكذب على الخالق؟
وهل رسول الله في أول بعثته لَمَّا أخبر الناس أنه رسول الله جاء القرآن ليحمل الناس على الإيمان به؟ لا، إنما جاء ليتحدى مَنْ لم يؤمن، أما مَنْ آمن بداية، بمجرد أنْ قال محمد: أنا رسول الله قال: صدقت، وأنه لم يكذب أبداً؛ لذلك كان المقياس عند الصحابة أن يقول رسول الله، فإنْ قال فالمسألة منتهية لأنه صادق لا يشكّ أحد منهم في صِدْقه.
لذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما قال أبو بكر في مسالة الإسراء والمعراج: إنْ كان قال فقد صدق، يحملها رسول الله تقديراً لأبي بكر ويقول: " كنت أنا وأبو بكر في الجاهلية كفرسَىْ رهان " يعني: في الخُلُق الطيب والسلوك السَّويِّ " فسبقتُه للنبوة فاتبعني، ولو سبقني هو لاتبعتُه ".
" ولما نزل جبريل - عليه السلام - على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول الوحي فأجهده، فذهب إلى السيدة خديجة - رضي الله عنها - وحكى لها ما حدث له كأنه يستفهم منها عَمَّا حدث ولم يخبرها أنه رسول من عند الله، ومع ذلك أخذته إلى ورقة بن نوفل، وكان على علم بالكتب السابقة، فلما سمع ورقة بن نوفل ما حدث قال: إنه الناموس الذي كان ينزل على موسى وليتني أكون حياً إذ يُخرجك قومك، فقال صلى الله عليه وسلم: " أَوَمُخرجِيّ هم؟ " قال: " ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عُودِي، وإنْ يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزّراً ".
ومع ذلك يظل رسول الله صلى الله عليه وسلم خائفاً قلقاً أن يكون هذا شيئاَ من الشيطان، فتُطمئِنه السيدة خديجة، فهذا لا يعقل مع رسول الله، لذلك تقول له: " إنك لتصلُ الرحم، وتُكسِب المعدوم، وتحمل الكَلَّ، وتعين على نوائب الدهر، والله لن يخذلك الله أبداً ".
ومن هنا أعتبروا السيدة خديجة أول مجتهدة في الإسلام؛ لأنها اجتهدتْ واستنبطتْ من مقدمات رسول الله قبل البعثة دليلاً على صِدْقه بعد البعثة؛ لذلك كانت أول مَنْ سُمِّيت بأم المؤمنين، حتى قال بعض العارفين: خديجة أم المؤمنين بما فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه في هذه السِّن كان في حاجة إلى أم أكثر من حاجته إلى عروس صغيرة تُدلِّله، وقد قامت خديجة - رضي الله عنها - فعلاً بدور الأم لرسول الله فاحتضنته، وطمأنته ووقفت إلى جواره في أشدِّ الأوقات وأحرجها.
كما نلحظ في الآية: } أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ.. { [المؤمنون: 69] فأضاف الرسول إليهم يعني: رسول لهم، أما في الإضافة إلى الله تعالى: رسول الله، فالمعنى رسول منه ، وهكذا يختلف المعنى باختلاف الإضافة.
(/2720)
أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70)
والمسألة الرابعة في توبيخ الله لهم: { أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ.. } [المؤمنون: 70] يعني: جنون، والجنون أنْ تتعطل الآلة العقلية التي تزن الحركات على وفق النفع والضر، فتفعل الخير النافع، وتترك الشر الضارّ. ولننظر: أيّ خصلة من خصال الجنون في محمد صلى الله عليه وسلم.
ودَعْكَ من قضية الدين والإله إنما خُذْ خُلقه، والخلُق أمر يتفق عليه الجميع ويحمدونه، حتى وإنْ كانوا ضد صفته، فالكذاب يحب الصادق، ويعترف أن الصدق شرف وكرامة، والبخيل يحب الكريم، والغضوب يحب الحليم، أَلاَ ترى الكاذب يزاول كذبه على الناس، لكن لا يحب مَنْ يكذب عليه؟
أَلاَ ترى شاهد الزور ينقذ غيره بشهادته، ومع ذلك يسقط من نظره ويحتقره، حتى إن أهل الحكمة ليقولون: إن شاهد الزور ترتفع رأسك على الخصم بشهادته، وتدوس قدمك على كرامته، ومَنْ جعلك موضعاً للنقيصة فقد سقطت من نظره، وإنْ أعنْتَه على أمره.
إذن: فالأخلاق مقاييسها واحدة، فقيسوا محمداً بأخلاقه، لا بالدين والرسالة التي جاء بها، انظروا إلى خُلقه فيكم، ولن يستطيع واحد منكم أنْ يتهمه في خُلقه بشيء، وما دام لا يُتَّهم في خُلقه فلا يُتهم كذلك في عقله؛ لأن العقل هو ميزان الخُلق وأساسه.
لذلك يقول ربه - عز وجل - في حقِّه:{ ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلَىا خُلُقٍ عَظِيمٍ }[القلم: 1 - 4] فخلُقك العظيم أكبر دليل على أنك لستَ مجنوناً.
إذن: محمد بريء من هذه التهمة، والمسألة كلها كما قال تعالى: { بَلْ جَآءَهُمْ بِالْحَقِّ.. } [المؤمنون: 70] فهذا عيبه في نظرهم؛ لأن الحق يغيظ أهل الباطل المنتفعين منه، والبعض يرى الحق في الخير الذي يأتيه، فإنْ كان في شيء لا ينتفع منه فهو شَرٌّ؛ لذلك إنْ أردتَ أنْ تحكم على خَصْلة فاحكم عليها وهي عليك، لا وهي لك، فمثلاً أن تكره الكاذب سواء كذب لك أو كذب عليك، إذن: فخُذْ المسائل على أنها لك وعليك.
والحق - سبحانه وتعالى - حينما قيّد حركتك في النظر إلى محارم الآخرين، لا تتبرم ولا تقُلْ: منعني متعة النظر.. الخ، لكن انظر إلى أنه قيّد عينيك وأنت واحد، وقيَّد عيون الآخرين عن محارمك وهم كثيرون.
ويقول تعالى بعدها: { وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ } [المؤمنون: 70] وطبيعي أن يكره أهل الباطل الذين استشرى ظلمهم وطغيانهم، يكرهون الحق الذي جاء ليعدل الميزان، ويُقوِّم المعْوج في حركة الحياة، وكراهية أهل الباطل لرسول الله كان ينبغي أن تكون معيار تصديق له لا تكذيب به، ينبغي أن نقول: طالما أن أهل الباطل يكرهون هذا فلا بُدَّ أنه الحق وإلاّ ما كرهوه.
(/2721)
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71)
إذن: فالمسائل لا تسير على هَوَى المخلوق، إنما على مرادات الخالق؛ لأن الخالق سبحانه هو صانع هذا الكون، وكلُّ صانع يغَارُ على صَنْعته، وهذا مُشَاهد حتى في صنعة البشر، ولك أنْ تتصوّر ماذا يحدث لو أفسدتَ على صانعٍ ما صنعَه.
وعدالة الأشياء أن تسير على وَفْق مرادات الصانع، لا هوى المصنوع؛ لأن الأهواء تملكها الأغيار، فالإنسان لو سار في حركة حياته على وَفْق هواه لأخذ مَا ليس له، ولَقبل الرشوة، ومال إلى الفِسْق والانحراف؛ لأنه في الظاهر يرى أنه منتفع بهذا ولا ينظر العاقبة والمحصلة النهائية، لقد نظر إلى متعة زائلة موقوته، ونسي تبعة ثقيلة لن يقدر عليها فيما بعد.
لذلك يقول الحق سبحانه: { وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ.. } [المؤمنون: 71] ولك أن تقول: نعم، اتباع الأهواء يُفسِد الأرض، ويُفسِد حركة الحياة فيها، لكن كيف يُفسِد السماء؟ وهل لأحد قدرة عليها؟
ونقول: ألم يكُنْ من أمنيات هؤلاء:{ وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىا تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً.. }[الإسراء: 90 - 92].
إذن: من أهوائهم أنْ تتهدّم السماء، ولو حتى على رؤوسهم، وأي فساد بعد هذا، وهكذا لو اتبعتَ أهواءهم لفسدَتْ السموات والأرض، ليس هذا وفقط بل { وَمَن فِيهِنَّ.. } [المؤمنون: 71] حيث سيتعدّى فسادهم ليشمل كل ما في الوجود.
لذلك يقيد النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأهواء في قوله: " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به " لأنه صلى الله عليه وسلم:{ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىا * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىا }[النجم: 3 - 4].
وقد توقف بعض المستشرقين مُعترِضاً على هذه الآية{ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىا }[النجم: 3] يقولون: يعني كلامه كله صحيح، فلماذا يُعدِّل له ربه بعض الأحكام؟ ومعنى ذلك أن الحكم المعدّل حين نطق به كان ينطق عن هوى.
ولو فهم هؤلاء معنى الهوى ما كان منهم هذا الاعتراض، فالهوَى أن تعرف الحق، لكن هواك يصرفك عنه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكُنْ يعرف في هذه المسائل حُكْماً وانصرف عنه، إنما نطق وحكم على مقتضى ما فهم في أمر لم ينزل فيه من الله شيء، ثم نزل الحكم من الله ليُعدِّل اجتهاد رسوله.
إذن: لم يكُنْ لرسول الله هَوَىً ينطق بمقتضاه، وفي تعديل الحق سبحانه لرسوله، وتبليغ الرسول لأمته بهذا التعديل أكبر دليل على صِدْقه صلى الله عليه وسلم وأمانته في البلاغ عن ربه، وإلاَّ فلم يكُنْ أحد ليعلم هذا التعديل، لو أخفاه رسول الله تعصّباً لنفسه، أو لدفْع الخطأ عنه.
ومن ذلك قوله تعالى:{ ياأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ.. }[التحريم: 1] ويقول سبحانه:{ عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ.. }[التوبة: 43].
وكان بوسع رسول الله أن يكتم هذه الآيات التي تعاتبه وتُعَدُّ مأخذاً عليه، لكنه صلى الله عليه وسلم كان أميناً يقول ما له وما عليه، لذلك يقول عن ربه:{ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ }[الحاقة: 44 - 46].
ثم يقول تعالى: } بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ { [المؤمنون: 71] و (بل) تفيد الإضراب عن الكلام السابق، وإثبات كلام جديد بعدها، والذكْر هنا يعني: الشرف والصِّيت والمكانة العالية، كما جاء في قوله تعالى عن القرآن:{ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ.. }[الزخرف: 44].
وقوله تعالى:{ لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }[الأنبياء: 10] فكان يجب عليهم أن يحتضنوا هذا القرآن، ويرفعوه فوق رؤوسهم، ففيه مجدهم وشرفهم وعِزَّتهم، والعرب بدون القرآن لا ذِكْرَ لهم، فقد كانوا أمة أمية تعيش على الترحال والتنقل، ولا تستقر إلا على منابع الماء ومواضع الكلأ، كانوا بَدْواً تنتشر فيما بينهم الحروب والغارات وقَطْع الطريق، كان الواحد منهم يسرق ليُكرم ضيفه بما سرق.
وهذه من الأمور العجيبة في عادات العرب في الجاهلية، فلم يكن لديهم منهج يحكم حياتهم، عجيب أنْ ترى حب الغارة والاعتداء مع الشهامة والكرام في طبيعة واحدة، فهو يفعل ما يعِنُّ له، وما يخطر بباله، فالمسألة ليست محكومة عندهم بقانون، حتى قال فيهم الشاعر:لا تمدحَنَّ ابْنَ عبَّادٍ وإنْ هطلَتْ كَفَّاهُ بالجُود حتَّى أشبَه الدِّيَمَافَإنَّها خطرَاتٌ من وَسَاوِسِهِ يُعْطي ويمنَع لاَ بُخْلاً ولاَ كرَمَاومن أشهر قصائد الشعر العربي في الكرم هذه القصيدة التي تأصَّل فيها هذا الخُلق حتى عند الأطفال، وحتى أن الأب يهِمُّ بذبح ولده للضيف، لأنه لم يجد ما يذبحه لِقرَاه.
ويقول فيها الشاعر:وَطَاوٍ ثَلاثاً عَاصِبِ البطن مُرْملٍ ببيداءَ لم يَعْرف بها ساكنٌ رَسْماأَخِي جَفْوةٍ فيه من الأُنْسِ وَحْشةٌ يرى البُؤْس فِيَها مِنْ شراسته نُعْميرَأَى شبحاً وِسْط الظّلام فَرَاعَه فَلما رأَى ضَيْفاً تشمَّر واهْتماوقَالَ هَيَّا ربّاه ضَيْف ولا قِرَى!! بحقِّك لاَ تحرمْه تالليلةَ اللّحْمَاوأفرد في شِعْب عَجُوزاً إزَاءَهَا ثَلاثَة أَشْباحٍ تَخَالهموا بُهْمَاحُفاةً عُراةً مَا اغتذَوْا خُبْز مَلَّة ولاَ عَرفُوا للبُرِّ مُذْ خُلِقوا طعْمافَقالَ ابنُه لَمَّا رآهُ بحيْرةٍ أيَا أبْتِ اذْبحْني ويسِّر لَهُم طُعْماولاَ تَعتذِرْ بالعُدم على الذِي طَرَا يظنُّ لَنَا مَالاً فيُسِعُنا ذمّافروَّى قليلاً ثُمَّ أحجمَ بُرْهةً وَإنْ هُوَ لم يذبح فَتَاهُ فَقَد همَّافبَيْنَا هُمَا عَنَّتْ على البُعْد عَانَةٌ قَد انتظمتْ من خَلْف مِسْحلها نَظْماعطَاشاً تريد الماءَ فانْسَابَ نحوهَا علَى أنَّه مِنْها إلىَ دَمِها أَظْمافَأَمهلَها حتَّى تروَّتْ عِطاشُها وأرسَل فيها من كِنَانتِه سَهمْافَخَرَّت نَحُوصٌ ذَات جحش قَدْ اكتنزَتْ لَحْماً وقد طُبِّقَتْ شحْمافَيَا بشْرَهُ إذْ جرَّها نَحْو قومهِ ويَا بشْرهُم لما رأوا كَلْمها يَدْمَىوباتَ أبُوهم من بَشَاشتِه أباً لَضَيْفِهموا والأمم مِنْ بِشْرها أُمَّا
لقد تأصلتْ خَصْلة الكرم في العربي، حتى في الأطفال الصغار، فهو وإنْ كان فقيراً لكن لا يحب أن يُعرف عنه الفقر، يحب أن يظهر في صورة الغني الكريم المعطاء، وإنْ ناقض ذلك صفات أخرى ذميمة فيه.
والشاهد أنهم جماعة تناقضتْ خصالهم، وقد عاشوا في أمية تامة فلم يعالجوا حضارة، وهذه حُسِبت لهم بعد ظهور الإسلام وبعثة النبي صلى الله عليه وسلم من بينهم، فكيف لمثل هؤلاء أنْ يأتوا بهذه المعاني والأساليب العالية التي تحكم العالم كله؟ ولو كانوا أهلَ علم وحضارة لقالوا عنهم وعن الإسلام: إنه قفزة حضارية.
ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قارئاً لقالوا: قرأ لفلان وفلان، كما حكى عنهم الحق سبحانه وتعالى:{ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ.. }[النحل: 103].
إذن: فذِكْر العرب وشرفهم ومجدهم وكرامتهم في القرآن، ومع ذلك لم يعملوا حتى لمصلحتهم، ولم يهتموا بهذا القرآن، إنما أعرضوا عنه } فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ { [المؤمنون: 71].
أي: عن القرآن، وهذا دليل أنهم كانوا مغفلين، لا يعرفون حتى مصلحتهم.
ثم يقول الحق سبحانه: } أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ.. {.
(/2722)
أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72)
(الخَرْج): ما يخرج منك طواعية، أما الخراج فهو ما يخرج منك رغماً عنك، والزيادة في المبنى تدل على الزيادة في المعنى، فالخراج أبلغ من الخَرْج. والمراد بقوله تعالى: { أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ.. } [المؤمنون: 72] إنْ كنتَ تريد خَرْجاً فلا تأخذه من أيديهم، إنما خُذْه من ربك، فما عندهم ليس خَرْجاً بل خراج { فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ.. } [المؤمنون: 72].
فلا تأخذ الرزق إلا من يد الخير والبركة؛ لأن الحق سبحانه لا يمنُّ على خَلْقه برزق يرزقهم به، فهو سبحانه قد استدعاهم إلى الحياة؛ لذلك تكفّل سبحانه بأرزاقهم، كما لو دعوتَ صديقاً إلى طعام فإنك تُعِدُّ له ما يكفي عشرة، فما بالك حينما يُعِدُّ لك ربك عز وجل؟
ثم يُذيِّل الحق سبحانه الآية بقوله تعالى { وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } [المؤمنون: 72] وهذه أحدثتْ إشكالاً عند البعض؛ لأن الحق سبحانه جعل لخَلْقه شراكة في صفة الرزق، فغيره سبحانه يرزق أيضاً، لكن هو خير الرازقين؛ لأنه يرزق الخَلْق بأصول الأشياء التي يرزقون منها غيرهم، فإنْ كنتَ ترزق غيرك مثلاً طعاماً فهو سبحانه أصل هذا الطعام ومصدره.
هو سبحانه خالق التربة، وخالق الماء، وخالق الهواء، وخالق البذرة، وما عليك إلا أنْ أعملتَ عقلك، واستخدمتَ الطاقات التي منحك الله إياها، فأخرجتَ هذا الطعام، فلو أنك جِئْتَ لأهلك بحاجيات المطبخ ولوازم المعيشة طوال الشهر من دقيق وسمن وأرز وسكر.. إلخ وقامت زوجتُك وقامت زوجتُك بإعداد الطعام أتقول: إن الزوجة هي التي جاءت بالطعام؟
لذلك يقول العلماء وأهل المعرفة: نَزِّهوا ألسنتكم عن قول: فلان رازق، ودَعُوها لقول الله تعالى؛ لأنه سبحانه هو خالق الرزق، وواجد أصوله، وما أنت إلا مُنَاول للغير.
وتلحظ أنه تعالى أضاف الخَراج إلى الربوبية التي تفيد الرعاية والعناية والتربية، فما دام الخراجُ خراجَ ربك يا محمد، فهو خراج كثير وعطاء لا ينفد.
(/2723)
وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73)
الصراط المستقيم: الطريق المعتدل الذي لا عوجَ فيه ولا أمتاً، فكيف إذن يتأبون عليك ويقفون في طريقك وأنت تدعوهم إلى الصراط المستقيم؟ وإن انتفع بالصراط المعوج واحد فسوف ينتفع بالصراط المستقيم الملايين.
ومن ذلك ما سبق أن أوضحناه من أنه يجب عليك أن تنظر إلى ما أعطاه لك التشريع قبل أنْ تنظر إلى ما أخذه منك، فالشرع حين يأخذ منك وأنت غني يعطيك وأنت فقير، ويأمرك برعاية اليتيم ليرعى أولادك من بعدك إنْ تركتَهم وهم صغار.
فالشرع - إذن - يُؤمن حياتك ويجعلك تستقبل مقادير الله بالرضا؛ لأنك في مجتمع إيماني لن يتخلى عنك إن افتقرت، ولن يترك أولادك إنْ تيتَّموا، فالمجتمع الإيماني إنْ مات فيه الأب كان الجميع لليتيم آباء. أما إنْ ضاع اليتيم في مجتمع الإيمان فإن ذلك يفتح الباب للسخط على قدر الله، ويُغري ضعاف الإيمان أنْ يقولوا: ما الحكمة في أن يأخذ أباهم ويتركهم عالة لا يتكفل بهم أحد؟
(/2724)
وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74)
{ الصِّرَاطِ.. } [المؤمنون: 74] هو الطريق المستقيم الذي يُؤدِّي إلى الغاية بأقلّ مجهود، وفي أقل وقت ويوصلك إلى أفضل غاية. والطريق يأخذ حظه من العناية والاهتمام بقدر الغاية الموصِّل إليها، فالطريق من القاهرة إلى الإسكندرية غير الطريق بين القرى والنُّجوع.
ومعنى: { لَنَاكِبُونَ } [المؤمنون: 74] يعني: منحرفون عن الطريق، ولهم حَظٌّ في الاعوجاج وعدم الاستقامة؛ لذلك مَنْ يريد الصدق (تعال دوغري) يعني: من الطريق الذي لا اعوجاجَ فيه ولا مراوغةَ.
لكن، ما الذي جعلهم يتنكّبون الطريق المستقيم الذي يُنظِّم لهم حركة الحياة، ويجعلها تتساند لا تتعاند، ويعود مجهود الفرد على الباقين؟ لماذا يحرِمون أنفسهم من مزايا هذا الطريق؟
قالوا: لأنهم مكذبون بالآخرة، ولو لم يكونوا مكذبين بالآخرة لآمنوا واتبعوا منهج الله؛ لأنهم سيئولون إلى الله أيلولةً، تعطي المحسن جزاءه وتعطي المسيء جزاءه. فالذي أفسد هؤلاء أنهم اتبعوا أهواءهم، وظنوا أن الدنيا هي الغاية وهي نهاية المطاف، وغفلوا عن الآخرة، وأنها دار النعيم الحقيقي الذي لا يفوتُك ولا تفوته.
كما قال عنها الحق سبحانه وتعالى:{ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ }[العنكبوت: 64] يعني: الحياة الحقيقية.
ثم يقول الحق سبحانه: { وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّواْ فِي طُغْيَانِهِمْ.. }.
(/2725)
وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75)
يعني: لو حدث هذا لعادوا إلى ما كانوا عليه، كما قال سبحانه في موضع آخر:{ وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَىا ضُرٍّ مَّسَّهُ.. }[يونس: 12].
وليْتَه اكتفى عند هذا الحدِّ، إنما يتعدّى هذا، كما جاء في قوله تعالى:{ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً.. }[الزمر: 8] يقول كما قال قارون:{ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىا عِلْمٍ عِندِي.. }[القصص: 78] يعني: هذا بمجهودي وتعبي، وقد كلمت فلاناً، وفعلت كذا وكذا.
لذلك كان طبيعياً أن يقول له ربه: ما دُمْتَ قد أوتيتَهُ على علم عندك، فاحفظه بعلم عندك قال تعالى:{ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ.. }[القصص: 81].
فأين الآن عِلْمك؟ وأيُّ علم هذا الذي لا يستطيع أن يحتفظ بما أتى به؟ ومعلوم أن استنباط الشيء أصعب من حفْظه وصيانته.
ومعنى { لَّلَجُّواْ.. } [المؤمنون: 75] تمادوا { فِي طُغْيَانِهِمْ.. } [المؤمنون: 75] والطغيان: مجاوزة الحدِّ؛ لأن الله تعالى جعل لكل شيء في الوجود حَدَّاً مرسوماً لا ينقص ولا يزيد، فإن اتبعتَ هذا الحدّ الذي رسمه الله لك استقمتَ واستقامتْ حركة حياتك بلا منازع، ولو طغى الشيء أفسد حركة الحياة، حتى لو كان الماء الذي جعل الله منه كل شيء حيٍّ، لو طغى يُغرق ويُدمّر بعد أنْ كان سر الحياة حال اعتداله. ومنه قوله سبحانه:{ إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَآءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ }[الحاقة: 11].
ويقال لمن جاوز الحدَّ: طاغية بتاء التأنيث الدالة على المبالغة، فإنْ تجاوز هذه أيضاً نقول: طاغوت.
ثم تأتي نتيجة التمادي في الطغيان { يَعْمَهُونَ } [المؤمنون: 75] يعني: يتحيرون ويَعْمَوْن عن الرُّشْد والصواب، فلا يُميّزون بين خير وشر.
ثم يقول الحق سبحانه: { وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُواْ لِرَبِّهِمْ.. }.
(/2726)
وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76)
استكان فلان لا تقال إلا لمَنْ كان مُتحركاً حركةً شريرة، ثم هدأ وسكن، نقول: فلان (انكَنّ) أو استكان وأصلها (كوْن) فالمعنى: طلب وجوداً جديداً غير الوجود الذي كان عليه، أو حالاً غير الحال الذي كان عليه أولاً، فقبل أنْ يستكين ويخضع كان لا بُدَّ مُتمرِّداً على ربه.
والوجود نوعان: وجود أولي مطلق، ووجود ثَانٍ بعد الوجود الأولي، كما نقول مثلاً: وُلِد زيد يعني وُجِد زيد وجوداً أولياً، إنما على أيِّ هيئة وُجد؟ جميلاً، قبيحاً.. هذه تحتاج إلى وجود آخر، تقول: كان زيدٌّ هكذا فعل وفاعل لا يحتاج إلى إخبار آخر لأنها للوجود الأول، لكن حين نقول: كان زيد مجتهداً، فهذا هو الوجود الثاني وهو الاجتهاد، وهو وجود ناتج عن الوجود الأول.
فكان الأولى هي كان التامة التي وردتْ في قوله تعالى:{ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىا مَيْسَرَةٍ.. }[البقرة: 280] أي: وُجِد ذو عُسْرة، ولا تحتاج في هذه الحالة إلى خبر.
ونقول: تمنّى فلان على الله أنْ يُوجَد له ولد، فكان محمد، يعني: وُجِد. أما كان الناقصة فتحتاج إلى خبر؛ لأن (كان) فِعْل يدل على زمان الماضي، والفعل لا بُدَّ أنْ يدل على زمن وحدث؛ لذلك لا بُدَّ لها من الخبر الذي يعطي الحدث تقول: كان زيد مجتهداً، فجاء الخبر ليكمل الفعل الناقص، فكأنك قلتَ: زيد مجتهد.
ومعنى { فَمَا اسْتَكَانُواْ لِرَبِّهِمْ.. } [المؤمنون: 76] أن خضوعهم واستكانتهم لم تكُنْ لأنفسهم ولا للناس، إنما استكانة لله بأخْذ أوامره بمنتهى الخضوع وبمنتهى الطاعة، لكنهم ما فعلوا وما استكانوا، لا في حال الرحمة وكَشْف الضر، ولا في حال الأَخْذ والعذاب، وكان عليهم أن يعلموا أن الله غيَّر حاله معهم، ومقتضى ذلك أن يُغيِّروا هم أيضاً حالهم مع الله، فيستكينوا لربهم ويخضعوا لأوامره.
{ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ } [المؤمنون: 76] الضراعة: هي الدعاء والذلّة والخضوع لمن أخذ بيدك في شيء، كما جاء في قوله تعالى:{ فَلَوْلا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ.. }[الأنعام: 43] يعني: لجئوا إلى الله وتوجَهوا إليه بالدعاء والاستغاثة.
(/2727)
حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)
لقد فشلتْ معهم كل المحاولات، فما أجدَتْ معهم الرحمة واستمروا على غَلْوائهم، وما أجدى معهم العذاب وما استكانوا بعد أن أخذهم الله به، إذن: لم يَبْقَ لهم حجة ولا أملٌ في النجاة، ففتح الله عليهم { بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ.. } [المؤمنون: 77] يعني: أصابتهم محنة كأنهم من وراء باب مُغْلق تفاجئهم { إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } [المؤمنون: 77] آيسون من النجاة مُتحسِّرون على ما فاتهم.
ثم يقول الحق سبحانه: { وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ.. }.
(/2728)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78)
الحق - سبحانه وتعالى - يقول: خلقتُ عبادي من عدم، وأمددتهم بأقوات الحياة ومقوماتها من عدم، ثم جعلتُ لهم منهجاً ينظم حركة حياتهم ويصُون بنيتهم، لأن صاحب الصنعة أعلم بصنعته، وأعلم يما يصلحها، ويعرف غايتها التي خلقها من أجلها، فالذي صنع الثلاجة مثلاً هل صنعها أولاً ثم قال لنا: انظروا في أيِّ شيء تفيدكم هذه الآلة؟ لا، إنما قبل أن يصنعها حدّد مهمتها، والغاية منها، وكذلك خلق الله، ولله المثل الأعلى.
والذي خلق وحَدَّد الغاية أعلم بقانون الصيانة الذي يحمي صنعته من الفساد، ويجعلها تؤدي مهمتها على أكمل وجه، فإنْ خالفت قانون الصيانة الذي وضعه لك ربك تفسد حياتك وتتعطّل عن أداء مهمتك التي خلقت لها، وهي عبادة الله وحده لا شريك له:{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ }[الذاريات: 56].
لذلك أمركم إن اختلفتم في شيء أنْ تردوه إلى الله وإلى الرسول، كما ترد الآلة إلى صانعها العالم بطبيعتها وبمواطن الخلل فيها، ونستنبط من هذه المسألة: إذا رأيتَ خللاً في الكون أو فساداً في ناحية من نواحيه، وإذا رأيت عورة من العورات قد ظهرتْ فاعلم أن حُكْماً لله قد عُطِّل.
فمثلاً إنْ رأيتَ فقيراً جائعاً عارياً فإما أنه قادر على العمل لكنه قعد عن السعي وخالف قوله تعالى:{ فَامْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ }[الملك: 15] أو: أن القادرين العاملين حرموه حقّه الذي جعله الله له في أموالهم، وخالفوا قوله تعالى:{ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ }[الذاريات: 19].
لذلك، فالحق - سبحانه وتعالى - يُجري على عباده من المقادير ما يحفظ لهم توازن الحياة ويسُدُّ حاجة المحتاجين، كما نرى مثلاً أحد الأثرياء يترك بلده، وينتقل إلى بلد آخر يضع فيها أمواله وثرواته، وليس هناك لهذه النقلة إلا أنها خاطر سلَّطه الله عليه ليحفظ به توزيع المال في المجتمع، ولو حسبتها لوجدتَ أن هذا المكان زادت فيه حصيلة الزكاة عن حاجة المحتاجين، فانتقل إلى بلد آخر قلَّت فيه الأموال عن حاجة الفقراء والمحتاجين.
وبعد ذلك لم يتركك ربك، بل عرض لك الآيات التي تلفتك إليه، وتُحنِّنك إلى التعرُّف عليه، وهي إما آيات كونية عجيبة تدل على قدرة الله تعالى، أو معجزات تثبت صِدْق الأنبياء في البلاغ عن الله؛ لأن الله تعالى لا يخاطب عباده كل واحد بمفرده، إنما يرسل رسولاً ليُبلِّغهم ثم يُؤيِّده بالمعجزة الدالة على صِدْقه في البلاغ.
فحين تنظر في آيات الكون وتستدل بها على وجود خالق قادر لكنك لا تعرف مَنْ هو هذا الخالق يأتي الرسول ليقول لك: إنه الله، وقد ضربنا لذلك مثلاً - ولله المثل الأعلى: هَبْ أن أحداً دَقَّ الباب ونحن جلوس بالداخل فما الذي يحدث؟ نتفق نحن جميعاً على أن طارقاً بالباب.
لكن مَنْ هو؟ لا أحد يعلم.
فالاتفاق هنا في التعقُّل، وأن هناك قوةً خلف الباب تدقّه، لكن مَنْ هو؟ وماذا يريد؟ لا بُدَّ لمعرفة هذه المسائل من بلاغ عن هذه القوة، وإياك أنْ تقول بالظن: هذا فلان وأنا أقول هذا فلان، إنما علينا أن ننتظر البلاغ منه لنعرف مَنْ هو، وما عليك إلا أنْ تقول: مَنْ بالباب وسوف يخبرك هو عن نفسه، وعن سبب مجيئه، وماذا يريد. ثم بعد ذلك تأتي الآيات التي تحمل منهج الله، وتخبرك أنه يريد منك كذا وكذا.
الشاهد: أن هذه الآيات كلها تحتاج إلى وسائل لإدراكها، تحتاج إلى سمع وبصر لنراها ونسمعها، ثم تحتاج إلى عقل لنفكر فيها ونتأملها؛ لذلك يقول سبحانه: } وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ.. { [المؤمنون: 78].
السمع والبصر من الحواس التي سماها العلماء احتياطاً الحواس الخمس الظاهرة أي: أن هناك حواسَّ أخرى لم يكتشفوها، وفعلاً اكتشفها العلم بعد ذلك كحاسة العضل التي تميز بها الثقل، وحاسة البين التي تميز بها الغليظ من الرقيق في الثياب مثلاً، فهذه الأشياء لا تستطيع التعرّف عليها بالحواسِّ الخمس المعروفة.
وعُمْدة الحواس: السمع والبصر؛ لأنه إذا جاءني رسول يُبلِّغني عن الله لا بُدَّ أن أسمع منه، فإنْ كنتَ مؤمناً بإله فقد اكتفيتَ بحاسة السمع، وإنْ كنتَ غير مؤمن تحتاج إلى بصر لتبصر به آياته الدالة على وجوده وقدرته، وتستدل بالصَّنْعة على الصانع، وبالخِلْقة على الخالق، وتقف على ما في كوْن الله من الدقة والإحكام والهندسة والإبداع.
وهذه مهمة العقل بعد أن تحولت المسموعات والمرئيات إلى قضايا ومبادئ عقلية تحكم حياتك، كما لو رأيتَ النار بعينك ثم لمستها بيدك فأحرقتك فتكوَّنت لديك قضية عقلية مُؤدّاها أن النار لها خاصية الإحراق فلا تلمسها بعد ذلك، وهذه تراها حتى في الطفل الصغير حينما يعجبه قرن الشطة مثلاً فيقضمه فيشعر بحرارته وألمه.
فإن رآه بعد ذلك يقول (أوف)، فهذه اللفظة بالنسبة للطفل قضية عقلية تكوَّنَتْ لديه نتيجة تجربة استقرتْ في فؤاده، وأخذها مبدأً يسير عليه في كل حياته، وهكذا من المحسّات ومن تجارب الحياة تتكوَّن لديك قضايا عقلية تستفيد بها فيما بعد.
إذن: من وسائل الإدراك تتكوَّن المبادئ والقضايا التي يأخذها العقل، ويفاضل بينها حتى ينتهي إلى قضية ومبدأ يستقر في القلب ونُسمِّيها عقيدة يعني: شيء معقود عليه لا ينحلّ.
وحين تتأمل حديث القرآن عن الحواس تجده يُرتِّبها دائماً هذا الترتيب: السمع والبصر والفؤاد لأنها عُمْدة الحواس، فالشمُّ مثلاً والتذوق واللمس لا نحتاج إليه إلا قليلاً، أما السمع والبصر فعليهما تقوم مسألة الدعوة: السمع لسماع البلاغ، والبصر لنرى آيات الله الدالة على قدرته تعالى.
وقد أثبت العلم الحديث هذا الترتيب للسمع والبصر والفؤاد مما يدلُّ على أنه ترتيب من خالق عن حكمة وعلم وقدرة، بحيث لا يأتي واحد منها قبل الآخر، كما أثبت علماء وظائف الأعضاء صِدْق هذا الترتيب، فأوّل أداة تؤدي مهمتها في الإنسان هي الأذن ثم العين، وتعمل من ثلاثة إلى عشرة أيام من الولادة، ثم من السمع والبصر توجد القضايا التي يعمل فيها العقل.
إذن: فهذا ترتيب خَلْقي وتكويني. كما أن السمع وهو أول حاسّة تؤدي مهمتها في الإنسان هو أيضاً الإدراك الوحيد الذي يصاحب الإنسان في كل أطواره، فالأذن تسمع مثلاً حتى في حالة النوم على خلاف العين؛ ذلك لأن بالسمع يتم الاستدعاء، لذلك تظل تؤدي مهمتها حتى في حال النوم.
كما أن العين لا ترى في الظلام ولها غطاء طبيعي ومغاليق تحجب الرؤية، وليست الأذن كذلك، فالصوت إذا خرج تسمعه جميع الآذان، أما المرئيّ فقد يوجد معك في نفس المكان ولا تراه وقد يراه غيرك، إذن: فالمسموع واحد والمرائي متعددة، لذلك قال سبحانه: } السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ.. { [المؤمنون: 78].
فليس لك خيار في السمع، لكن لك خيار في الرؤية، فالمبصرات تتعدد بتعدُّد الأبصار، لكن السمع لا يتعدد بتعدُّد الأسماع.
لذلك من إعجازات البيان القرآني في قصة أهل الكهف أن الله تعالى ضرب على آذانهم في الكهف ليناموا ولا تزعجهم الأصوات في هذه الصحراء الدويّة، ولو بقي لهم السمع كشأن الخَلْق جميعاً لما استقر لهم قَرَار طوال هذه الفترة الطويلة، ولأفزعتهم الأصوات.
يقول الحق سبحانه وتعالى:{ فَضَرَبْنَا عَلَىا آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً }[الكهف: 11].
كذلك من آيات الإعجاز في القرآن الكريم أن جميع الآيات التي ذكرتْ السمع والبصر ذكرتْه بهذا الترتيب: السمع والأبصار، إلا في آية واحدة في موقف القيامة قالوا:{ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا.. }[السجدة: 12].
فقدَّم البصر على السمع؛ لأن في القيامة تفجؤهم المرائي أولاً قبل أنْ تفجأهم الأصوات، وهذه من مظاهر الدقة في الأداء القرآني المعجز.
وكأن الحق سبحانه يقول: لا عُذْر لك عندي فقد أعطيتُك سمعاً لتسمع البلاغ عني من الرسول، وأعطيتُك عَيْناً لتلتفت إلى آيات الكون، وأعطيتُك فؤاداً تفكر به، وتنتهي إلى حصيلة إيمانية تدلُّك على وجود الخالق عز وجل.
إذن: ما أخذتُك على غِرَّة، ولا خدعتُك في شيء، إنما خلقتُك من عدم، وأمددتُك من عُدم، ورتبتُ لك منافذ الإدراك ترتيباً منطقياً تكوينياً، فأيُّ عذر لك بعد ذلك.. وإياكم بعد هذا كله أنْ تشغلكم الأهواء، وتصْرفكم عن البلاغ الذي جاءكم على لسان رسولنا.
والمتأمل في تركيب كل من الأذن والعين يجد فيهما آيات ومعجزات للخالق - عز وجل - ما يزال العلماء لم يصلوا رغم تقدُّم العلوم إلى أسرارها وكُنْهها.
ثم يقول سبحانه في ختام الآية: } قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ { [المؤمنون: 78] لأن هذه نِعَم وآلاء وآيات لله، كان ينبغي أن تشكر حَقَّ الشكر.
البعض يقول في معنى } قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ { [المؤمنون: 78] أنه تعالى عبَّر عن عدم الشُّكْر بالقلة، وهذا الفهم لا يستقيم هنا؛ لأن الله تعالى أثبت لعباده شكراً لكنه قليل، وربك - عز وجل - يريد شكراً دائماً يصاحب كل نعمة ينعم بها عليك، فساعة ترى الأعمى الذي حُرِم نعمة البصر يتخبَّط في الطريق تقول الحمد لله، تقولها هكذا بالفطرة؛ لأنك تعيش وتتقلب في نعَم الله، لكن لا تتذكرها إلا حين ترى مَنْ حُرِم منها.
لذلك، إنْ أردتَ أنْ تدوم لك النعمة فاعقلها بِذكْر الله المنعم قُلْ عند النعمة، أو عند رؤية ما يعجبك في أهل أو مال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، أَلاّ ترى أن الله تعالى جعل الحسد لينبهنا: إنْ أردتَ صيانة النعمة فلا تنسَ المنعِمَ؛ لأنه وحده القادر على حِفْظها وصيانتها، وجعلتَ حفظها إلى مَنْ صنعها. ولا يُصاب الإنسان في النعمة إلا إذا غفل عن المنعم وترك الشُّكْر عليها.
وأذكر أنه كان في قريتنا رجل من أهل الفهم عن الله، وكان يملك ثلث فدان يزرعه المزروعات التقليدية، وفي أحد الأعوام زرعه قطناً، فجاءت عليه الدودة وكادت تهلكه، فكلَّمه والدي في مسألة الدودة هذه فقال له: يا عم متولي لا تقلق فأنا أؤدي صيانتها يعني: أُخرِج منها الزكاة.
ثم يقول الحق سبحانه: } وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ.. {.
(/2729)
وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79)
{ ذَرَأَكُمْ.. } [المؤمنون: 79] بثكم ونشركم في أنحاء الأرض لتعمر كلها، وتعجب حين ترى أناساً متشبثين بالجبال والصحراء القفر الجرداء، ولا يرضون بها بديلاً، ويتحملون في سبيل البقاء بها العَنَت والمشقة، حتى إنك لتقول: لماذا لا يتركون هذا المكان إلى مكان خصب.
وقد رأينا مثل هؤلاء الذين صبروا على أقدار الله في بلادهم، رأيناهم في اليمن بعد أن أغرقها سيل العرم، وكانت تُسمَّى " اليمن السعيد " ورأيناهم في السعودية وفي الكويت، وحكى لنا أهل هذه البلاد ما كانوا فيه من الضيق وقسوة الحياة، ثم جاءتهم عاقبة صبرهم، وجعل الله - سبحانه وتعالى - هذه الجبال وهذه الصحراوات أغنى بلاد الدنيا؛ لأنهم رَضُوا في الأولى بقضاء الله، فأبدلهم بصبرهم على لأواء الصحراء نعيماً، لو حُرِم منه المنعّمون في الدنيا لماتوا من البرد.
ذلك لأن الخالق - عز وجل - نثر خيراته في كل أنحاء الأرض بالتساوي، فكل قطعة طولية من الأرض فيها من الخيرات مثل ما في القطعة الأخرى، وفي يوم من الأيام كان أصحاب الزرع هم أصحاب المال وأصحاب السيادة، ثم تغيرت هذه الصورة بظهور خَيْرات أخرى غير الزراعة، فالخيرات - إذن - مطمورة في أنحاء الأرض لكن لها أوان تظهر فيه.
إذن: فبَثُّ الخليقة ونشْرُها في أنحاء الأرض له حكمة أرادها الخالق عز وجل.
ثم يقول الحق سبحانه: { وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } [المؤمنون: 79] يعني: لا تفهموا أنكم بنشركم في الأرض وتفريقكم فيها أنكم تفلتون منا، أو أننا لا نقدر على جمعكم مرة أخرى، فكما نشرناكم لحكمة نجمعكم لحكمة لا يخرج من أيدينا أحد.
ثم يقول الحق سبحانه: { وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلاَفُ.. }.
(/2730)
وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80)
{ يُحْيِي وَيُمِيتُ.. } [المؤمنون: 80] فِعْلان لا بُدَّ أن ينشآ بعد وجود الحياة ووجود الموت، فالخالق - عز وجل - يُوجِد الحياة أولاً، ويوجد الموت، ثم يجري حدثاً منهما على ما يريده.
والحياة سبقتْ الموت في كل الآيات، إلا في آية واحدة في سورة تبارك:{ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ.. }[الملك: 2] وعِلَّة ذلك أن الله تعالى يعطي للإنسان بالحياة إرادةً تُنشِيء الحركة في كل أجهزته، ولك أن تتأمل: ما الذي تفعله إنْ أردتَ أن تقوم من مكانك؟ ماذا تفعل إنْ أردتَ تحريك يدك أو قدمك؟ إنها مجرد إرادة وتتحرك أعضاؤك دون أن تدري أو تُجهد نفسك للقيام بهذه الحركات، ودون أن تباشر أي شيء.
إذن: بمجرد إرادتك تنفعل لك الجوارح وأنت مخلوق لربك، فإذا كان المخلوق يفعل ما يريد بلا معالجة، فكيف نستبعد هذا في حقِّه - سبحانه وتعالى - ونكذب أنه يقول للشيء: كُنْ فيكون، مع أننا نفعل ما نريد بجوارحنا بمجرد الإرادة، ودون أن نأمرها بشيء أو نقول شيئاً، والله سبحانه وتعالى يقول للشيء: كُنْ فيكون، وأنت تفعل دون أن تقول.
وقد قدَّم الحق سبحانه الموتَ في هذه الآية:{ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ.. }[الملك: 2]؛ لأن الحياة ستُورث الإنسانَ غروراً في سيطرة إرادته على جوارحه فيطغى، فأراد ربه - عز وجل - أن يُنبهه: تذكّر أنني أميتُ؛ ليستقبل الحياة ومعها نقيضها، فيستقيم في حركة الحياة.
وصفة الخَلْق والإماتة صفات لله قديمة قبل أنْ يخلق شيئاً أو يميت شيئاً؛ لأنها صفات ثابتة لله قبل أنْ يباشر متعلقات هذه الصفات كما قلنا، ولله المثل الأعلى: الشاعر حين يقول قصيدة قالها لأنه شاعر ولا نقول: إنه شاعر لأنه قال هذه القصيدة، فلولا صفة الشعر فيه ما قال.
وكما أن الحياة مخلوقة، فالموت كذلك مخلوق، وقد يقول قائل: إذا أطلقتَ رصاصة على شخص أردَتْهُ قتيلاً فقد خلقتَ الموت.
نقول: الحمد لله أنك لم تدَّع الإحياء واكتفيتَ بالموت، لكن فَرْق بين الموت والقتل، القتل نَقْض للبِنْية يتبعه إزهاق للروح، أما الموت فتخرج الروح أولاً دون نَقْض للبنية.
لذلك يقول سبحانه:{ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىا أَعْقَابِكُمْ.. }[آل عمران: 144].
والنمرود الذي حَاجَّ إبراهيم - عليه السلام - في ربه أمر بقتل واحد وتَرْك الآخر، وادَّعى أنه أحيا هذا، وأمات هذا، وكانت منه هذه الأعمال سفسطة لا معنى لها، ولو كان على حَقٍّ لأمرَ بإحياء هذا الذي قتله؛ لذلك قطع عليه إبراهيم- عليه السلام - هذا الطريق ونقله إلى مجال آخر لا يستطيع المراوغة فيه.
إذن: هَدْم البِنْية يتبعه خروج الروح؛ لأن للروح مواصفات خاصة، بحيث لا تحل إلا في بنية سليمة، وقد أوضحنا هذه المسألة - ولله المثل الأعلى - بلمبة الكهرباء، فقوة الكهرباء كامنة في الإسلاك لا نرى نورها إلا وضعنا اللمبة مكانها، ويكون لها مواصفات بحيث لا تضيء إلا إذا توفرتْ لها هذه الصفات، فإنْ كُسِرَت ينطفيء نورها.
ثم يقول تعالى: } وَلَهُ اخْتِلاَفُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.. { [المؤمنون: 80] الليل يحل بغياب الشمس وحلول الظُّلْمة التي تمنع رؤية الأشياء، وقديماً كانوا يظنون أن الرؤية تتم حين يقع شعاع من العين على المرئي، ثم جاء العالم المسلم الحسن بن الهيثم، فأثبت خطأ هذه النظرية، وقرر أن الرؤية تتم حين يقع شعاع من المرئيّ على العين فتراه، بدليل أنك لا ترى الشيء إنْ كان في الظلام.
وظُلْمة الليل تنبهنا إلى أهمية الضوء الذي لا بُدَّ منه لنهتدي إلى حركة الحياة، والإنسان يواجه خطورة إنْ سار في الظلام؛ لأنه إمِّا أن يصطدم بأضعف منه فيحطمه، أو بأقوى منه فيؤلمه ويؤذيه.
إذن: لا بُدَّ من وجود النور لتتم به حركة الحياة والسَّعْي في مناكب الأرض، وكذلك لا بُدَّ من الظُّلْمة التي تمنع الإشعاع عن الجسم، فيستريح من عناء العمل، وقد أثبت العلم الحديث خطر الإشعاعات على صحة الإنسان.
لذلك يقول تعالى: } وَلَهُ اخْتِلاَفُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.. { [المؤمنون: 80] فجعلهما يختلفان ويتعاقبان ليؤدي كل منهما وظيفته في الكون، يقول تعالى:{ وَالْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىا * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىا }[الليل: 1 - 2] وطالما أن لكل منهما مهمته، فإياك أن تقلب الليل إلى نهار، أو النهار إلى ليل؛ لأنك بذلك تخالف الطبيعة التي خلقك الله عليها، وانظر إلى هؤلاء الذين يسلكون هذا المسلك فيسهرون الليل حتى الفجر، وينامون النهار حتى المغرب، وكم أحدثوا من فساد في حركة الحياة، فالتلميذ ينام في الدرس، والعامل ينام ويُقصِّر في أداء عمله.
والنبي صلى الله عليه وسلم يُنبِّهنا إلى هذه المسألة في قوله: "... أطفئوا المصابيح إذا رقدتم " لأن الجسم لا يأخذ راحته، ولا يهدأ إلا في الظلمة، فيصبح الإنسان قوياً مستريحاً نشيطاً، واقرأ قول الله تعالى:{ وَجَعَلْنَا الَّيلَ لِبَاساً * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً }[النبأ: 10 - 11].
ومن دِقَّة الأداء القرآني أن يراعي هؤلاء الذين يعملون ليلاً، وتقتضي طبيعة أعمالهم السَّهَر، مثل رجال الشرطة وعمال المخابز وغيرهم، فيقول تعالى:{ وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِالَّيلِ وَالنَّهَارِ.. }[الروم: 23] فالليل هو الأصل، والنهار لمثل هؤلاء الذين يخدمون المجتمع ليلاً؛ لذلك عليهم أن يجعلوا من النهار ليلاً صناعياً، فيغلقوا النوافذ ويناموا في مكان هادئ؛ ليأخذ الجسم حظه من الراحة والهدوء.
إذن: الليل والنهار ليسا ضِدّيْن، إنما هما خَلْقان متكاملان لا متعاندان، وهما كالذكَر والأنثى، يُكمل كل منها الآخر، لا كما يدَّعي البعض أنهما ضدان متقابلان؛ لذلك بعد أن أقسم الحق سبحانه بالليل إذا يغشى، وبالنهار إذا تجلَّى، قال:
{ وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَىا * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىا }[الليل: 3 - 4] فالليل والنهار كالذكر والأنثى لكل منهما مهمة في حركة الحياة.
واختلاف الليل والنهار من حيث الضوء والظُّلْمة والطول والقِصَر وفي اختلاف الأماكن، فالليل لا ينتظم الكون كله، وكذلك النهار، فحين يكون عندك لَيْل فهو عند غيرك نهار، يقول تعالى:{ يُولِجُ الْلَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي الْلَّيْلِ.. }[فاطر: 13].
وينتج عن هذا تعدُّد المشارق والمغارب بتعدُّد الأماكن بحيث كل مشرق يقابله مغرب، وكل مغرب يقابله مَشْرق، لدرجة أنهم قالوا: ينشأ ليل ونهار في كل واحد على مليون من الثانية.
وينشأ عن هذا كما قلنا استدامة ذِكْر الله على مدى الوقت كله، بحيث لا ينتهي الأذان، ولا تنتهي الصلاة في الكون لحظة واحدة، فأنت تصلي المغرب، وغيرك يصلي العشاء.. وهكذا. إذن: فالحق سبحانه يريد أن يكون مذكوراً في كل الكون بجيمع أوقات الصلاة في كل وقت.
حتى إن أحد الصوفية وأهل المعرفة يقول مخاطباً الزمن: يا زمن وفيك كل الزمن. يعني: يا ظهر وفيك عصر ومغرب وعشاء وفجر، لكن عند غيري.
ومن اختلاف الليل والنهار ينشأ أيضاً الصيف الحار والشتاء البارد، والحق سبحانه وتعالى كلف العبيد كلهم تكليفاً واحداً كالحج مثلاً، وربط العبادات كلها بالزمن الهجري، فالصيف والشتاء يدوران في الزمن، ويتضح هذا إذا قارنت بين التوقيت الهجري والميلادي، وبذلك مَنْ لم يناسبه الحج في الصيف حَجَّ في الشتاء؛ لأن اختلاف التوقيت القمري يُلون السنة كلها بكل الأجواء.
لذلك قالوا: إن ليلة القدر تدور في العام كله؛ لأن السابع والعشرين من رمضان يوافق مرة أول يناير، ومرة يوافق الثاني، ومرة يوافق الثالث، وهكذا.
ومن اختلاف الليل والنهار أنهما خِلْفة، كما قال تعالى:{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ الَّيلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً }[الفرقان: 62].
فنحن نرى الليل يخلُف النهار، والنهار يخلُف الليل، لكن احكم القضية في كل أطوار زمنها، فما دام الحق - سبحانه وتعالى - جعل الليل والنهار خِلْفة، فلا بُدَّ أن يكون ذلك من بداية خلقهما، فلو وُجِد الليل أولاً ثم وُجِد النهار، فلا يكون الليل خِلْفة؛ لأنه لم يسبقه شيء، فهذا يعني أنهما خُلقا معاً، فلما دار الزمن خلف بعضهما الآخر، وهذا لا ينشأ إلا إذا كانت الأرض مُكوَّرة، بحيث يجتمع فيها الليل والنهار في وقت واحد، فالذي واجه الشمس كان نهاراً، والذي واجه الظلمة كان ليلاً.
ثم يقول سبحانه: } أَفَلاَ تَعْقِلُونَ { [المؤمنون: 80] لأن هذه المسائل كان يجب أن تعقلوها خاصة، وقد كانت اختلافات الأوقات مَبْنية على التعقل، أما الآن فهي مَبْنية على النقل، حيث تقاربت المسافات، وصِرْنا نعرف فارق التوقيت بيننا وبين جميع أنحاء العالم بالتحديد.
كذلك كان الناس في الماضي ينكرون نظرية كروية الأرض، حتى بعد أن التقطوا لها صوراً أظهرت كرويتها وجدنا من مفكرينا من ينكر ذلك.
ونقول: لماذا نقف هذا الموقف من نظريات ثابتة قد سبق قرآنُنَا إلى هذا القول؟ ولماذا نعطي الآخرين فكرة أن ديننا يغفل هذه المسائل، مع أنه قد سبق كل هذه الاكتشافات؟
ولو تأملتَ قوله تعالى:{ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ.. }[الرعد: 3] لوجدت فيه الدليل القاطع على صِدْق هذه النظرية؛ لأن الأرض الممدودة هي التي لا تنتهي إلى حافة، وهذا لا يتأتّى إلا إذا كانت الأرض كروية بحيث تسير فيها، لا تجد لها نهاية حتى تصل إلى الموضع الذي منه بدأت، ولو كانت الأرض على أي شكل آخر غير الكروي مثل المربع أو المستطيل لكان لها نهاية. لكن لم تتوفر لنا في الماضي الآلات التي تُوضِّح هذه الحقيقة وتُظهرها.
إذن: الحق سبحانه في قوله: } أَفَلاَ تَعْقِلُونَ { [المؤمنون: 80] ينبهنا إلى ضرورة إعمال العقول في المسائل الكونية؛ لأنها ستوفر علينا الكثير في الطريق إلى الله عز وجل، ولماذا يُعمِل الإنسان عقله ويتفنّن مثلاً في ارتكاب الجرائم فَيُرتب لها ويُخطط؟ لكن الله تعالى يكون له بالمرصاد فيُوقِعه في مَزْلَق، فيترك وراءه منفذاً لإثبات جريمته، وثغرة تُوصِّل إليه؛ لذلك يقول رجال القضاء: ليست هناك جريمة كاملة، وهذه مهمة القاضي أو المحقق الذي يحاور المجرم ليصل إلى هذه الثغرة.
وكأن الحق - سبحانه وتعالى - يقول: لقد استخدمتَ عقلك فيما لا ينبغي، وسخَّرْته لشهوات نفسك، فلا بُدَّ أن أوقعك في مزلق ينكشف فيه أمرك، فإنْ سترتها عليك مرة فإياك أنْ تتمادى، أو تظنّ أنك أفلتَّ بعقلك وترتيبك وإلاَّ أخذتُك ولو بجريمة لم تفعلها؛ لأنك لا تستطيع أن تُرتِّب بعقلك على الله، وعدالته سبحانه فوق كل ترتيب.
كما لو فُضِح إنسان بأمر هو منه بريء، ولحقه الأذى والضرر بسبب هذه الإدانة الكاذبة، فتأتي عدالة السماء فيستر الله عليه فضيحة فعلها جزاءً لما قد أصابه في الأولى، وهذه مسألة لا يفعلها إلا رب.
والحق - سبحانه وتعالى - حينما يُنبِّه العقل ويثيره: تفكّر، تدبّر، تعقّل، ليدرك الأشياء الكونية من حوله، فهذا دليل على أنه سبحانه واثق من صَنْعته وإبداعه لكونه؛ لذلك يثير العقول للبحث وللتأمل في هذه الصنعة.
وهذه المسألة نلاحظها فيمَنْ يعرض صَنْعته من البشر، فالذي يتقن صَنْعته يعرضها ويدعوك إلى اختبارها والتأكد من جودتها على خلاف الصنعة الرديئة التي يلّفها لك صانعها، ويصرفك عن تأملها حتى لا تكتشف عيبها.
فحين ينبهك ربك إلى التأمل في صَنْعته فعليك أنْ تدرك المغزى من هذه الإثارة لتصل إلى مراده تعالى لك.
ثم يقول الحق سبحانه: } بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُونَ ==
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق