تفسير الشيخ الشعراوي ج7.
وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)
الحق سبحانه
وتعالى خلق الكون وفيه أجناس، وكل جنس يشمل أنواعاً أو نوعين، وتحت كل نوع أفراد.
فإذا ما رأيت جنساً من الأجناس انقسم إلى نوعين، فاعلم أنهما يشتركان في مطلوب
الجنس، ثم يختلفان في مطلوب النوع، ولو كانا متحدين لما انقسما إلى نوعين. كذلك في
الأفراد. وإذا نظرنا إلى الجماد وجدنا الجماد جنسا عاما ولكنه انقسم إلى عناصر
مختلفة، لكل عنصر من هذه العناصر مهمة مختلفة، فمثلاً إذا أردنا إقامة بناء، فهذا
البناء يتطلب رملاً، ويتطلب أسمنتاً، ويتطلب آجُراً، ويتطلب حديداً، فجنس الجماد
كله مشترك في إقامة البناء، ولكن للأسمنت مهمة، وللجبس مهمة، وللرمل مهمة، وللمرو
- وهو الزلط - مهمة، فلا تأخذ شيئا في مهمة شيء آخر. وكذلك انقسم الإنسان إلى
نوعين، إلى ذكورة تتمثل في الرجال، وإلى أنوثة تتمثل في النساء، وبينهما قدر مشترك
يجمعهما كجنس، ثم بينهما اختلاف باختلاف نوعيهما. فلو أردت أن تضع نوعاً مكان نوع
لما استطعت.
إذن فمن العبث أن يخلق الله من جنس نوعين، ثم تأتي لتقول: إن هذا النوع يجب أن
يكون مثل هذا النوع. وأيضاً نعرف ذلك عن الزمن، فالزمن ظرف للأحداث، أي أن كل حدث
لا بد له من زمن، لكن لكل زمن حدث يناسبه. فالزمن وهو النهار ظرف للحدث في زمنه،
والليل أيضاً ظرف للحدث في زمنه. ولكن الليل حدثه السكون والراحة، والنهار حدثه
الحركة والنشاط. فإن أردت أن تعكس هذا مكان هذا أحلت وجمعت بين المتناقضين.
لقد أوضحنا أن الله يلفتنا إلى شيء قد نختلف فيه نختلف فيه بشيء قد اتفقنا عليه،
فيبين لك: هذا الذي تختلف فيه ردّه إلى المتفق عليه. فالزمن لا خلاف في أنك تجعل
الليل سكناً ولباساً وراحة وهدوءاً، والنهار للحركة. وكل الناس يصنعون ذلك. فالحق
سبحانه وتعالى يوضح: كما جعل الزمن ظرفاً لحركة إلا أن حركة هذا تختلف عن حركة
هذا، وهل معنى ذلك أن الليل والنهار نقيضان أو ضدان أو متكاملان؟
إنهما متكاملان؛ لأن راحة الليل إنما جُعلت لتصح حركة النهار. فأنت تنام وترتاح
لتستأنف نشاطاً جديداً. إذن فالليل هو الذي يعين النهار على مهمته.. ولو أن
إنساناً استيقظ ليلة ثم جاء صباحاً لما استطاع أن يفعل شيئاً. إذن فما الذي أعان
حركة النهار؟.. إنه سكون الليل، فالحق سبحانه وتعالى بيّن: أن ذلك أمر متفق عليه
بين الناس جميعاً متدينين وغير متدينين.. فإذا اختلفتم في أن الذكورة والأنوثة يجب
أن يتحدا في العمل والحركة والنوع نقول لكم: لا، هذا أمر متفق عليه في يجب أن
يتحدا في العمل والحركة والنوع نقول لكم: لا، هذا أمر متفق عليه في الزمن، فخذوا
ما اتفقتم عليه دليلاً على صحة ما اختلفتم فيه.
ولذلك ضرب الله المثل فقال:{ وَالْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىا }[الليل: 1].
فعندما يغشي الليل يأتي السكون، وقال الحق بعد ذلك:{ وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىا
}[الليل: 2]{ وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَىا * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىا
}[الليل: 3-4].
أي أن لكل جنس مهمة.
وهكذا نعرف أن الإنسان ينقسم إلى نوعين: الذكورة والأنوثة وفيهما عمل مشترك وخاصية
مشتركة. وأن كلا منهما إنسان له كرامة الإنسان وله حرية العقيدة فلا يوجد رجل يرغم
امرأة على عقيدة، وضربنا المثل بامرأة نوح وامرأة لوط وامرأة فرعون.
إذن فالقدر المشترك هو حرية الاعتقاد، فلا سلطان لنوع على نوع، وكذلك حرية التعقل
في المهمات، وعرفنا كيف أن أم سلمة - رضي الله عنها - أشارت على رسول الله صلى
الله عليه وسلم في غزوة الحديبية إشارة أنقذت المسلمين من انقسام فظيع أمام حضرة
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفنا قصة بلقيس - ملكة سبأ - التي استطاعت أن
تبرم أمراً تخلى عنه الرجال، إذن فمن الممكن أن يكون للمرأة تعقل وأن يكون للمرأة
فكر، وحتى قبل أن يوجد الإسلام كانت هناك نساء لهن أصالة الرأي، وحكمة المشورة في
نوع مهمتها.
فمثلاً يحدثنا التاريخ أن ملك " كندة " سمع عن جمال امرأة اسمها "
أم إياس " بنت عوف بن محل الشيباني، فأراد أن يتزوجها، فدعا امرأة من "
كِندة " يقال لها: " عصام " وكانت ذات أدب وبيان وعقل لسان، وقال
لها: اذهبي حتى تعلمي لي علم ابنة عوف. أي أرسلها خاطبة. فلما ذهبت إلى والدة
" أم إياس " واسمها " أمامة بنت الحارث " وأعلمتها بما جاءت
له. وأرسلت الأم تستدعي الابنة من خيمتها، وقالت لها: هذه خالتك جاءت لتنظر إلى
بعض شأنك فلا تستري عنها شيئاً أرادت النظر إليه من وجه وخلق ونَاطقِِيها فيما
استنطقتك به. فلما اختلت " عصام " بالبنت فعلت مثل ما أمرتها أمها.
وكشفت للخاطبة " عصام " عن كل ما تريد من محاسنها، فقالت الخاطبة كلمتها
المشهورة: " ترك الخداع " ما انكشف القناع " ، وصار هذا القول
مثلاً، أي أن القناع عندما يزول يرى الإنسان الحقيقة، وعادت الخاطبة " عصام
" إلى الملك فسألها: ما وراءك يا " عصام " إنه يسأل: أي خبر جئت به
من عند " أم إياس "؟. فقالت: أبدي المخض عن الزبد. والمخض هو: هزّ
الحليب في القربة ليفصل الزبد عن اللبن. وذلك يعني أن رحلتها قد جاءت بنتيجة.
فقال لها: أخبريني.
قالت: أخبرك حقاً وصدقاً. ووصفتها من شعرها إلى قدمها وصفاً أغرى الملك. فأرسل إلى
أبيها وخطبها وزفت إليه.
وفي ليلة الزفاف نرى الأم العاقلة توصي ابنتها في ميدان عملها، في ميدان أمومتها،
في ميدان أنوثتها، قالت الأم لابنتها: " أي بنية، إن النصيحة لو تركت لفضل
أدب لتركت لذلك منك - أي أنها كأم تثق في أدب ابنتها ولا تحتاج في هذا الأمر
لنصيحة - ولكنها معونة للغافل وتذكرة للعاقل.
إنك غداً ستذهبين إلى بيت لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه. فكوني له أمةً يكن لك
عبداً. واحفظي عني عشر خصال تك لك ذخراً ".
وانظروا إلى الخصال التي استنبطتها المرأة من ميدان رسالتها، تستمر كلمات الأم:
" أما الأولى والثانية: فالمعاشرة له بالسمع والطاعة والرضا بالقناعة، وأما
الثالثة والرابعة: فالتعهد لموقع عينه وموضع أنفه فلا تقع عينه منك على قبيح، ولا
يشم منك إلا أطيب ريح. والخامسة والسادسة: التفقد لوقت طعامه والهدوء عند منامه
فإن تنغيص النوم مغضبة، وحرارة الجوع ملهبة. أما السابعة والثامنة: فالتدبير لماله
والإرعاء على حشمه وعلى عياله. وأما التاسعة والعاشرة: فألا تفشي له سرّاً ولا
تعصي له أمراً؛ فإنك إن أفشيت سرّه لم تأمني غدره، وإن عصيت أمره أوغرت صدره،
وإياك بعد ذلك والفرح إن كان ترحاً والحزن إن كان فرحاً ".
فذهبت أم إياس بهذه النصائح إلى زوجها وأنجبت له البنين والبنات وسعدت معه وسعد
معها.
تلك نصيحة من أم تدل على منتهى التعقل، ولكن في أي شيء؟. في ميدان مهمتها. إذن
فالمرأة يمنحها الله ويعطيها أن تتعقل ولها ميدان ولا يأتي هذا التعقل غالباً إلا
في ميدانها. ولأن ميدان الرجل له حركة تتطلب الحزم، وتتطلب الشدة، والمرأة حركتها
تتطلب العطف والحنان؛ والأمثال في حياتنا اليومية تؤكد ذلك، إن الرجل عندما يدخل
بيته ويحب أن ينام، قد يأتي له طفله صارخاً باكياً، فيثور الأب على زوجته ويسب
الولد ويسب أمه، وقد يقول ألفاظاً مثل: " اكتمي أنفاسه إني أريد أن أستريح
". وتأخذ الأم طفلها وتذهب تربت على كتفه وتسكته، ويستجيب لها الطفل، فهذه
مهمة الأم، ولذلك نجد أن الأحداث التاريخية العصيبة تبرز الرجل في مكانه والمرأة
في مكانها.
فمثلاً: سيدنا إبراهيم عليه السلام أسكن هاجر وابنها إسماعيل بوادٍ غير ذي زرع،
قالت له: أتتركنا في مكان ليس فيه حتى الماء، أهذا نزلته برأيك أم الله أنزلك
فيه؟. قال لها: أنزلني الله هذا المكان. فقالت له: ساذهب كما شئت فإنه لا يضيعنا.
هذه المهمة للمرأة. هاجر مع طفل في مكان ليس فيه مقوم الحياة الأول وهو الماء.
فانظروا عطفها وحنانها، ماذا فعلت؟ لقد سعت بين الصفا والمروة، صعدت الجبل إلى أن
أنهكت قواها.
إن الذي يذهب إلى الحج أو العمرة ويجرب الأشواط السبعة هذه يعرف أقصى ما يمكن أن
تتحمله المرأة في سبيل ابنها؛ لأن هذا موقف عطف وحنان، ابنها يريد أن يشرب.
وكأن الله قال لها: إنك قد سعيت ولكني سأجعل رزقك من حيث لا تحتسبين، أنت سعيت بين
الصفا والمروة، والماء ينبع تحت قدمي ولدك. إذن فصدقت في قولها: إنه لا يضيعنا،
ولو أن سعيها جاء بالماء لظننا جميعاً أن السعي هو الذي يأتي بالماء، ولكن اسع ولا
تعتقد في السعي، بل اعتقد في الرزّاق الأعلى، تلك مسألة ظاهرة في أمنا هاجر.
وحينما جاء موقف الابتلاء بالذبح، اختفت هاجر من المسرح، وجاء دور سيدنا إبراهيم
بحزمه وعزمه ونبوته. ورأي في الرؤيا أنه يذبح ابنه، أين أمه في هذا؟ اختفت من
المسرح؛ لأن هذا موقف لا يتفق مع عواطفها وحنانها. إذن فكل واحد منهما له مهمة.
والنجاح يكون على قدر هذه المهمة. ولذلك يقول الحق: } وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا
فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىا بَعْضٍ { فساعة ترى جنساً أخذ شيئاً
وجنساً آخر أخذ شيئاً، إياك تشغل بالك وتتمنى وتقول: " أريد هذه " ،
ولكن اسأل الله من فضله؛ لأن كلمة " ولا تتمنوا " هي نهي عن أن تتمنى ما
فضل الله به بعضا على بعض، ولذلك يقول: } وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ {.
وما دمت تسأل الله من فضله؛ فهنا أمل أن يعطيك.
وقد يرى البعض هنا مشكلة فيتساءل: كيف ينهانا الله عن أن نتمنى ما فضل الله به
بعضنا على بعض فقال: } وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ
عَلَىا بَعْضٍ { مع أن فضل الله من شأنه أن يفضل بعضنا على بعض بدليل قوله: }
وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ { فضلاً على أنني أطمع في أن أسأل
الله ليعطيني؛ لأنه - سبحانه - ما أمرنا بالسؤال إلاّ ليعطينا.
ونقول: لا، التمني عادة أن تطلب شيئاً يستحيل أو لم تجر به العادة، إنما السؤال
والدعاء هو مجال أن تأتي إلى شيء تستطيع الحصول عليه، فأوضح: لا تذهب إلى منطقة
التمني، ولذلك ضربوا المثل للتمني ببيت الشاعر:
ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيبتمنىّ الشاعر أن يعود الشباب
يوماً فهل هذا يتأتى؟ إنه لا يتأتى. أو أن يقول قائل: ليت الكواكب تدنو لي
فأنظمها، هل يمكن أن يحدث ذلك؟ لا. ولكن هذا القول يدل على أن هذا الشيء محبوب وإن
كان لم تجر به العادة، أو هو مستحيل، إذن فالسؤال يجب أن يكون في حدود الممكن
بالنسبة لك. والحق يوضح: لا تنظروا إلى ما فضل الله به بعضكم على بعض. وما دام
الله قد فضل بعضاً على بعض فليسأل الإنسان لا في منطقة ما فضل الله غيره عليه
ويطلبه لنفسه ويسلبه من سواه، ولكن في منطقة أن توفق في إبراز ما فضلك الله به؛
ولذلك نجد الحق في آيات التفضيل يقول:
{ وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىا بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ }[النحل: 71].
وما هو الرزق؟ هل هو نقود فقط. لا. بل الرزق هو كل ما ينتفع به، فالحلم رزق،
والعلم رزق، والشجاعة رزق، كل هذا رزق، وقوله الحق: } مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ
بَعْضَكُمْ عَلَىا بَعْضٍ { يجعلنا نتساءل: من هو المفضل ومن هو المفضل عليه؟ لأنه
قال: " بعضكم ". لم يبينها لنا، إذن فبعض مفضل وبعض مفضل عليه.
وسؤال آخر: وأي بعض مفضل وأي بعض مفضل عليه؟ إن كل إنسان هو فاضل في شيء ومفضول
عليه في شيء آخر، فإنسان يأخذ درجة الكمال في ناحية، وإنسان يفتقد أدنى درجة في
تلك الناحية، لكنه يملك موهبة أخرى قد تكون كامنة ومكتومة. وهذا يعني التكامل في
المواهب، وهذا التكامل هو أسنان الحركة في المجتمع.
لننتبه إلى التروس، نحن نجد الترس الزائد يدخل في الترس الأقل، فتدور الحركة، لكن
إذا وضعنا ترساً زائدا مقابل ترس زائد مثله فلن تحدث الحركة. إذن فلا بد أن يكون
متميزا في شيء والآخر متميزاً في شيء آخر فيحدث التكامل بينهما، ومثل ذلك قلنا:
الليل والنهار، الليل يعينني على حركة النهار، وقلنا: إن السيف في يد الفارس يضرب
به ويقتل، ولو لم يسنّه خبير في الحدادة ويشحذه ويصقله لما أدى السيف مهمته، وقد
لا يستطيع هذا الخبير في صقل السيوف الذهاب للمعركة، وقد يخاف أن يضرب بالسيف، لكن
له فضل مثل فضل المحارب بالسيف.
إن كل واحد له مهمة يؤديها، والأقدار تعطي الناس مواهبهم المتكاملة وليست المتكررة
المتعاندة، وما دامت المواهب متكاملة فلا أحسد من تفوّق عليّ في مجال ما؛ لأنني
أحتاج إليه، وهو لا يحسدني إن تفوقت عليه في موهبة أو عمل لأنه يحتاج إلى، إذن
فأنا أريده أن يتفوق، وهو يريدني أن أتفوق، وذلك مما يحبب الناس في نعم ومواهب
الناس، فأنا أحب النعمة التي وهبها الله للآخر، وهو يحب النعمة والموهبة التي
عندي.
مثال ذلك عندما نجد رجلا موهوبا في تفصيل الملابس ويحيك أجود الجلابيب فالكل يفرح
به، وهذا الرجل يحتاج إلى نجار موهوب ليصنع له باباً جيداً لدكانه، ومن مصلحة
الاثنين أن تكون كل نعمة عند واحد محمودة، ولذلك سمانا الله " بعضا " و
" بعضا " ويتكون الكل من بعض وبعض، فأنت موهوب في بعض الأمور ولا تؤدي
كل الأمور أبداً، ولكن بضميمة البعض الآخر نملك جميعاً مواهب بعضنا بعضا.
ويتابع الحق: } لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ
مِّمَّا اكْتَسَبْنَ { فمهمة النجاح للرجل أو المرأة هو أن يكون كل منهما صالحاً
ومؤديا للمهمة التي خُلق من أجلها، بعد ذلك يكون حساب الثواب والعقاب وكل واحد على
قدر تكليفه.
فالثواب والعقاب يأتي على مقدار ما يقوم كل مخلوق مما كلف به.
والمثال على اختلاف مهمة الرجل عن مهمة المرأة، يتجلى في أننا نجد الرجل عندما
تغضب امرأته أو تمرض، ويكون عنده ولد رضيع، فهل يستطيع هو أن يرضع الطفل؟ طبعاً
لا؛ لأن لكل واحد مهمة؛ فالعاقل هو من يحترم قدر الله في خلقه، ويحترم مواهب الله
حين أعطاها، وهو يسأل الله من فضله، أي مما فضله به ليعطي له البركة في مقامه.
وحين يقول الحق: } وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ
عَلَىا بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ
مِّمَّا اكْتَسَبْنَ { نلحظ أن هذه تساوي تلك تماماً.
} وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً
{ ومن واسع علمه سبحانه أنه وزع المواهب في خلقه حتى يتكامل المجتمع ولا يتكرر؛
لأن تكرار المجتمع هو الذي يولد الشقاق، أما تكامله فيولد الوفاق، وسبب نزول الآية
} وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىا بَعْضٍ { أن
النساء قلن: إننا لم يكتب علينا الجهاد وأعطانا ربنا نصف الرجل من الميراث، وقد
أوضح الحق من قبل للمرأة أنها أخذت نصف الرجل لأنها محسوبة على غيرها ولن تصرف
وتنفق من دخلها على نفسها، بل سيصرف الرجل وينفق عليها، والمسألة بذلك تكون عادلة.
وكذلك قال الرجال: ما دام الله قد فضلنا في الميراث، وأعطانا ضعف نصيب المرأة
فلعله يفضلنا في الآخرة ويعطينا ضعف ثوابها، فيصنع الرجل العمل الواحد ويريد
الضِّعف!.
وانظر لذكاء المرأة، حينما قالت: ما دام ربنا أعطانا نصف ميراثكم فلماذا لا يعطينا
نصف العقوبة إذن؟ فأوضح لهم الله: اهدأوا } وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ
اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىا بَعْضٍ { أي أن على كل واحد أن يرضي بما قسمه الله
له.
وبعد ذلك يقول الحق: } وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ... {.
(/313)
وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآَتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)
وساعة ترى لفظة " لكل " وتجدها منونة، فاعرف أن هناك حاجة مقدرة، وأصلها
" لكل إنسان " وحذف الاسم وجاء بدلاً منه التنوين، مثل قوله:{ فَلَوْلاَ
إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ }[الواقعة: 83-84].
ونجد التنوين في " حينئذٍ " أي حين بلغت الروح الحلقوم، فحذف حين بلغت
الروح الحلقوم وعوض عنها التنوين في " حينئذٍ " إذن فالتنوين جاء بدلاً
من المحذوف.
وقول الحق: { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ } ، و " الموالي " جمع
" مَوْلى ". وقبل أن تنزل آيات الميراث، آخى النبي بين الأنصار
والمهاجرين، فكانوا يتوارثون بهذه المؤاخاة، وكان هناك شيء اسمه " مولى
المناصرة " وهو أن يستريح اثنان لبعضهما ويقول كل منهما للآخر: أنا أخوك وأنت
أخي، حربي حربك، وسلمي سلمك، ودمي دمك، وترث مني وأرث منك، وتعقل عني وأعقل عنك،
أي أن فعلتُ جناية تدفع عني، وإن فعلتَ أنت جناية أدفع عنك. مؤاخاة.
هؤلاء كان لهم نصيب في مال المتوفي، فالحق يبيّن: لكل إنسان من الرجال والنساء
جعلنا ورثة يرثون مما ترك الوالدان، والأقربون.. أي لهم نصيب من ذلك ولأولياء
المناصرة بعض من الميراث كذلك. فإياكم أن تأتوا أنتم وتقولوا: لا، لا بد أن تعطوهم
نصيبهم الذي كان مشروطاً لهم وهو السدس.
لكن ظل ذلك الحكم؟ لا لقد نسخ وأنزل الله قوله:{ وَأْوْلُواْ الأَرْحَامِ
بَعْضُهُمْ أَوْلَىا بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ }[الأنفال: 75].
فما دام الله قد قال: { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ
الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ }. أي ولكل إنسان من الموالي شيء من آثار ما ترك
الوالدان والأقربون. فإياكم أن تقولوا: هم ذهبوا فلا نعطيهم شيئا، لا ما كانوا
متفقين فيه وعقدوا أيمانهم عليه آتوهم نصيبهم مصداقاً لقوله الحق: { فَآتُوهُمْ
نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَىا كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً } فالله شهيد على
هذه. وشهيد على أنكم تنفذون أو لا تنفذون.
وبعد ذلك جاء ليتكلم في قضية متصلة بقول الحق سبحانه: { وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا
فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىا بَعْضٍ } فقال: { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ
عَلَى النِّسَآءِ... }.
(/314)
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)
{ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ } ، أول ما نلتفت إليه أن بعضهم لم
يفسروا الآية إلاّ على الرجل وزوجته على الرغم من أنَّ الآية تكلمت عن مطلق رجال
ومطلق نساء، فليست الآية مقصورة على الرجل وزوجه، فالأب قوام على البنات، والأخ
على أخواته. ولنفهم أولاً { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ } وماذا تعني؟ وننظر أهذه تعطي
النساء التفوق والمركز أم تعطيهن التعب. والحق سبحانه وتعالى يطلب منا أن نحترم
قضية كونية، فهو الخالق الذي أحسن كل شيء خلقه وأوضح القضية الإيمانية {
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ } والذي يخالف فيها عليه أن يوضح - إن
وجد - ما يؤدي إلى المخالفة، والمرأة التي تخاف من هذه الآية، نجد أنها لو لم ترزق
بولد ذكر لغضبت، وإذا سألناها: لماذا إذن؟ تقول: أريد ابناً ليحمينا. كيف وأنت
تعارضين في هذا الأمر؟
ولنفهم ما معنى " قوَّام " ، القوَّام هو المبالغ في القيام. وجاء الحق
هنا بالقيام الذي فيه تعب، وعندما تقول: فلان يقوم على القوم؛ أي لا يرتاح أبدا.
إذن فلماذا تأخذ { قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ } على أنه كتم أنفاس؟ لماذا لا
تأخذها على أنه سعى في مصالحهن؟ فالرجل مكلف بمهمة القيام على النساء، أي أن يقوم
بأداء ما يصلح الأمر. ونجد أن الحق جاء بكلمة " الرجال " على عمومها،
وكلمة " النساء " على عمومها، وشيء واحد تكلم فيه بعد ذلك في قوله: {
بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىا بَعْضٍ } فما وجه التفضيل؟
إن وجه التفضيل أن الرجل له الكدح وله الضرب في الأرض وله السعي على المعاش،و ذلك
حتى يكفل للمرأة سبل الحياة اللائقة عندما يقوم برعايتها. وفي قصة آدم عليه السلام
لنا المثل، حين حذر الحق سبحانه آدم وزوجته من الشيطان، إبليس الذي دُعي إلى
السجود مع الملائكة لآدم فأبى، وبذلك عرفنا العداوة المسبقة من إبليس لآدم،
وحيثيتها:{ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً }[الإسراء: 61].
وأوضح الحق لآدم: إذا هبطت إلى الأرض فاذكر هذه العداوة. وأعلم أنه لن يتركك،
وسيظل يغويك ويغريك؛ لأنه لا يريد أن يكون عاصياً بمفرده، بل يريد أن يضم إليه
آخرين من الجنس الذي أبى أن يسجد هو لأبيهم آدم يريد أن يغويهم، كما حاول إغواء
آدم:{ إِنَّ هَـاذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ
الْجَنَّةِ }[طه: 117].
وهل قال الحق بعدها: فتشقيا أو فتشقى؟ قال سبحانه:{ فَتَشْقَىا }[طه: 117].
فساعة جاء الشقاء في الأرض والكفاح ستر المرأةوكان الخطاب للرجل. وهذا يدل على أن
القوامة تحتاج إلى تعب، وإلى جهد، وإلى سعي، وهذه المهمة تكون للرجل.
ونلحظ أنه ساعة التفضيل قال: { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ بِمَا
فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىا بَعْضٍ } لقد جاء بـ " بعضهم " لأنه
ساعة فضل الرجل لأنه قوّام فضل المرأة أيضاً لشيء آخر وهو كونها السكن حين يستريح
عندها الرجل وتقوم بمهمتها.
ثم تأتي حيثية القوامة: } وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ {. والمال يأتي
نتيجة الحركة ونتيجة التعب، فالذي يتعب نقول له: أنت قوّام، إذن فالمرأة يجب أن
تفرح بذلك؛ لأنه سبحانه أعطى المشقة وأعطى التعب للجنس المؤهل لذلك. ولكن مهمتها
وإن كانت مهمة عظيمة إلا أنها تتناسب والخصلة المطلوبة أولاً فيها: الرقة والحنان
والعطف والوداعة. فلم يأت بمثل هذا ناحية الرجل؛ لأن الكسب لا يريد هذه الأمور، بل
يحتاج إلى القوة والعزم والشدة، فقول الله: " قوامون " يعني مبالغين في
القيام على أمور النساء.
ويوضح للنساء: لا تذكرن فقط أنها حكاية زوج وزوجة. قدرن أن القيام يكون على أمر
البنات والأخوات والأمهات. فلا يصح أن تأخذ " قوام " على أنها السيطرة؛
لأن مهمة القيام جاءت للرجل بمشقة، وهي مهمة صعبة عليه أن يبالغ في القيام على أمر
من يتولى شئونهن.
} وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ { فإذا كان الزواج متعة للأنثى وللذكر.
والاثنان يستمتعان ويريدان استبقاء النوع في الذرية، فما دامت المتعة مشتركة وطلب
الذرية أيضا مشتركا فالتبعات التي تترتب على ذلك لم تقع على كل منهما، ولكنها جاءت
على الرجل فقط... صداقاً ونفقة حتى ولو كانت المرأة غنية لا يفرض عليها الشرع حتى
أن تقرض زوجها.
إذا فقوامه الرجال جاءت للنساء براحة ومنعت عنهن المتاعب. فلماذا تحزن المرأة منها؟
فـ } الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ { أي قائمون إقامة دائمة؛ لأنه لا
يقال قوّام لمطلق قائم، فالقائم يؤدي مهمة لمرة واحدة، لكن " قوّام "
تعين أنه مستمر في القوامة.
} الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىا
بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ { وما دمنا نكدح ونتعب للمرأة فلا
بد أن تكون للمرأة مهمة توازي ذلك وهي أن تكون سكناً له، وهذه فيها تفضيل أيضاً.
لقد قدم الحق سبحانه وتعالى في صدر الآية مقدمة بحكم يجب أن يُلتزم به؛ لأنه حكم
الخالق الذي أحسن كل شيء خلقه، فأوضح القضية الإيمانية: } الرِّجَالُ قَوَّامُونَ
عَلَى النِّسَآءِ { ثم جاء بالحيثيات فقال: } بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ
عَلَىا بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ { ويتابع الحق: }
فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ { والمرأة الصالحة هي المرأة
التي استقامت على المنهج الذي وضعه لها من خلقها في نوعها، فما دامت هي صالحة تكون
قانتة، والقنوت هو دوام الطاعة لله، ومنه قنوت الفجر الذي نقنته، وندعو ونقف مدة
أطول في الصلاة التي فيها قنوت.
والمرأة القانتة خاضعة لله، إذن فحين تكون خاضعة لله تلتزم منهج الله وأمره فيما
حكم به من أن الرجال قوامون على النساء، } فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ
لِّلْغَيْبِ { وحافظات للغيب تدل على سلامة العفة.
فالمرأة حين يغيب عنها الراعي لها والحامي لعرضها كالأب بالنسبة للبنت والابن
بالنسبة للأم، والزوج بالنسبة للزوجة، فكل امرأة في ولاية أحد لا بد أن تحفظ
غيبته؛ ولذلك فالرسول صلى الله عليه وسلم حينما حدد المرأة الصالحة قال في حديث عن
الدنيا:
" الدنيا كلها متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة ".
لقد وضع صلى الله عليه وسلم قانوناً للمرأة الصالحة يقول فيه:
" خير النساء التي تسرّه إذا نظر وتطيعه إذا أمر ولا تخالفه في نفسها ولا
مالها بما يكره ".
وأي شيء يحتاج الرجل إليه أحسن من ذلك. وكلمة " إن نظرت إليها سرّتك "
إياك أن توجهها ناحية الجمال فقط، جمال المبنى، لا، فساعة تراها اجمع كل صفات
الخير فيها ولا تأخذ صفة ولا تترك صفة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حذرنا من أن
نأخذ صفة في المرأة ونترك صفة أخرى، بل لا بد أن نأخذها في مجموع صفاتها فقال:
" تنكح المرأة لأربع: لما لها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين
تربت يداك ".
المطلوب ألا تنظر إلى زاوية واحدة في الجمال، بل انظر إلى كل الزوايا، فلو نظرت
إلى الزاوية التي تشغل الناس، الزاوية الجمالية، لوجدتها أقل الزوايا بالنسبة إلى
تكوين المرأة؛ لأن عمر هذه المسألة " شهر عسل " - كما يقولون - وتنتهي،
ثم بعد ذلك تبدو المقومات الأخرى. فإن دخلت على مقوم واحد وهي أن تكون جميلة فأنت
تخدع نفسك، وتظن أنك تريدها سيدة صالون! ونقول لك: هذه الصفة أمدها بسيط في عمر
الزمن، لكن ما يبقى لك هو أن تكون أمينة، أن تكون مخلصة، أن تكون مدبرة؛ ولذلك
فالفشل ينشأ في الأسرة من أن الرجال يدخلون على الزواج بمقياس واحد هو مقياس جمال البنية،
وهذا المقياس الواحد عمره قصير، يذهب بعد فترة وتهدأ شِرَّته. وبعد ذلك تستيقظ
عيون الرجل لتتطلع إلى نواحي الجمال الأخرى، فلا يجدها. فيحدث الفشل؛ لذلك لا بد
أن تأخذ مجموعة الزوايا كلها. إياك أن تأخذ زاوية واحدة، وخير الزوايا أن يكون لها
دين. وكذلك المقياس بالنسبة لقبول المرأة للزوج، أيضاً خير الزوايا أن يكون له
دين، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
" إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه إن لا تفعلوا تكن فتنة في الأرض
وفساد عريض ".
وعندما استشار رجل سيدنا الحسن بن علي - رضي الله عنهما - قال: زَوّجها من ذي
الدين، إن أحبها أكرمها، وإن كرهها لم يظلمها.
إذن فالدين يرشدنا: لا بد أن ننظر إلى المسألة التي سيكون لها عمر طويل في الحياة
الممتدة، وبعد ذلك إذا أرادت أن تكون ناجحه فعليها أن ترى إطار نوعيتها وتنبغ فيه،
ومن الممكن إن كان عندها وقت أن توسع دائرة مهمتها في بيتها، فإذا كان عندها أولاد
فعليها أن تتعلم الحياكة وتقوم بتفصيل وحياكة ملابسها وملابس أولادها فتوفر
النقود، أو تتعلم التطريز كي لا تدفع أجرة، أو تتعلم التمريض حتى إذا مرض ولدها
استطاعت أن تمرضه وترعاه، أن تتعلم كي تغني عن مدرس خصوصي يأخذ نقوداً من دخل
الأسرة، وإن بقي عندها وقت فلتتعلم السباكة لتوفر أجرة السباك إذا فسد صنبور ماء،
أو تتعلم إصلاح الكهرباء لتصلح مفتاح الإضاءة.
وتستطيع المرأة أن تقوم بأي عمل وهي جالسة في بيتها وتوفر دخلا لتقابل به المهام
التي لا تقدر أن تفعلها، والمرأة تكون من " حافظات الغيب " ليس بارتجالٍ
من عندها أو باختيار، بل بالمنهج الذي وضعه الله لحفظ الغيب؟
فما المنهج الذي وضعه الله لحفظ الغيب؟ تحافظ على عرضها وعلى مال زوجها في غيبته،
فتنظر المنافذ التي تأتي منها الفتنة وتمتنع عنها، لا تخرج إلى الشوارع إلا لحاجة
ماسة أو ضرورة كي لا ترى أحداً يفتنها أو يفتن بها؛ لأن هذه هي مقدمات الحفظ، ولا
تذهب في زحمة الحياة، وبعد ذلك نقول لها: " حافظي على الغيب " بل عليها
أن تنظر ما بيّنه الله في ذلك. فإن اضطررت أن تخرجي فلتغضي البصر؛ ولذلك قال
سبحانه:{ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ
فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا }[النور:
31].
فالمرأة إن لم تغض النظر يحدث التفات عاطفي؛ لأن كل شعور في الإنسان له ثلاث
مراحل: مرحلة أن يدرك، ومرحلة أن يجد في نفسه، ومرحلة أن ينزع، أي يحول الأمر إلى
سلوك، ونضرب دائماً المثل بالوردة. وأنت تسير ترى وردة في بستان وبمجرد رؤيتك لها
فهذا إدراك، وإذا أعجبتك الوردة وعشقتها وأحببتها فهذا اسمه وجدان. وإذا اتجهت
لتقطفها فهذه عملية نزوعية، فكم مرحلة؟ ثلاث مراحل: إدراك، فوجدان. فنزوع.
ومتى يتدخل الشرع؟ الشرع يتدخل في عملية النزوع دائماً. يقول لك: أنت نظرت الوردة
ولم نعترض على ذلك، أحببتها وأعجبتك فلم نقل لك شيئاً، لكن ساعة جئت لتمدّ يدك
لتأخذها قلنا لك: لا، الوردة ليست لك.
إذن فأنت حرّ في أن تدرك، وحرّ في أن تجد في نفسك، إنما ساعة تنزع نقول لك: لا، هي
ليست لك، وإن أعجبتك فازرع لك وردة في البيت، أو استأذن صاحبها مثلاً.
إذن فالتشريع يتدخل في منطقة النزوع، إلا في أمر المرأة فالتشريع يتدخل من أول
الإدراك؛ لأن الذي خلقنا علم أننا إن أدركنا جمالاً، نظرنا له، وستتولد عندنا
مواجيد بالنسبة للأشياء التي نراها ونشتهيها، وساعة يوجد إدراك واشتهاء، لا يمكن
أن ينفصل هذا عن النزوع؛ لأنك - كرجل - مركب تركيباً كيميائياً بحيث إذ أدركت
جمالاً ثم حدث لك وجدان واشتهاء، فالاشتهاء لا يهدأ إلا بنزوع، فيبيّن لك الشرع:
أنا رحمتك من أول الأمر، وتدخلت من أول المسألة.
وكل شيء أتدخل فيه عند النزوع إلا المرأة فقد تدخلت فيها من أول الإدراك؛ لذلك أمر
الحق الرجل أن يغض البصر، وكذلك أمر المرأة.
لماذا؟ لأنك إن أدركت فستجد، وإن وجدت فستحاول أن تنزع ونزوعك سيكون عربدة في
أعراض الناس، وإن لم تنزع فسيبقى عندك كبت؛ لذلك حسم الحق المسألة من أولها قال:{
قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ
ذالِكَ أَزْكَىا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل
لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ
}[النور: 30-31].
فامنعو المسألة من أول مراحلها لماذا؟ لأنني عندما أرى وردة، ثم قالوا لي: هي ليست
لك فلا تقطفها، فلا يحدث عندي ارتباك في مادتي، لكن عندما يرى الرجل امرأة جميلة
وتدخل في وجدانه فسيحدث عنده النزوع؛ لأن له أجهزة مخصوصة تنفعل لهذا الجمال،
ولذلك يوضح لك الحق: أنا خالقك وسأتدخل في المسألة من أول الأمر، فقوله: } بِمَا
حَفِظَ اللَّهُ { أي بالمنهج الذي وضعه الله للحفظ: ألا أعرض نفسي إلى إدراك،
فينشأ عنه وجدان، وبعد ذلك أفكر في النزوع، فإن نزعت أفسدت، وإن لم تنزع تعقدت،
فيأتي شرّ من ذلك، هذا معنى: } بِمَا حَفِظَ اللَّهُ { ، يعني انظروا إلى المنهج
الذي وضعه الله لأن تحفظ المرأة غيبة زوجها، وهي تحفظه ليس بمنهج من عندها. بل
بالمنهج الذي وضعه خالقها وخالقه.
وها هو ذا الحق سبحانه وتعالى حينما يربّى من عبده حاسة اليقظة قال: } وَاللاَّتِي
تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ { فالنشوز لم يحدث بل مخافة أن يحدث، فاليقظة تقتضي
الترقب من أول الأمر، لا تترك المسألة حتى يحدث النشوز، و " النشوز " من
" نشز " أي ارتفع في المكان. ومنه " النشز " وهو المكان
المرتفع، وما دام الحق قد قال: } الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ {
فالمعنى هنا: مَن تريد أن تتعالى وتوضع في مكانة عالية؟؛ ولذلك فالنشاز حتى في
النغم هو: صوت خارج عن قواعد النغم فيقولون: هذه النغمة النشاز، أي خرجت عن قاعدة
النغمة التي سبقتها. وكذلك المرأة المفروض فيها أنها تكون متطامنة، فإن شعرت أن في
بالها أن تتعالى فإياك أن تتركها إلى أن تصعد إلى الربوة وترتفع. بل عليك التصرف
من أول ما تشعر ببوادر النشوز فتمنعه، ومعنى قوله: } وَاللاَّتِي تَخَافُونَ {
يعني أن النشوز أمر متخوف منه ومتوقع ولم يحدث بعد.
وكيف يكون العلاج؟ يقول الحق: " فعظوهن " أي ساعة تراها تنوي هذا فعظها،
والوعظ: النصح بالرقة والرفق، قالوا في النصح بالرقة: أن تنتهز فرصة انسجام المرأة
معك، وتنصحها في الظرف المناسب لكي يكون الوعظ والإرشاد مقبولاً فلا تأت لإنسان
وتعظه إلا وقلبه متعلق بك.
ولنفترض أن ابناً طلب من والده طلباً، ولم يحضره الأب، ثم جاءت الأم لتشكو للأب
سلوك الابن، فيحاول الأب إحضار الطلب الذي تمناه الابن، ويقول له:
- تعال هنا يا بني، إن الله قد وفقني أن أحضر لك ما طلبت.
وفي لحظة فرح الابن بالحصول على ما تمنى، يقول له الأب: لو تذكرت ما قالته لي أمك
من سلوكك الرديء لما أحضرته لك.
ولو سب الأب ابنه في هذه اللحظة فإن الابن يضحك.
لماذا؟ لأن الأب أعطى الابن الدرس والعظة في وقت ارتباط قلبه وعاطفته به. ولكن نحن
نفعل غير ذلك. فالواحد يأتي للولد في الوقت الذي يكون هناك نفور بينهما، ويحاول أن
يعظه؛ لذلك لا تنفع الموعظة، وإذا أردنا أن تنفع الموعظة يجب أن نغير من أنفسنا،
وأن ننتهز فرصة التصاق عواطف من نرغب في وعظه فنأتي ونعطي العظة.
هكذا " فعظوهن " هذه معناها: برفق وبلطف، ومن الرفق واللطف أن تختار وقت
العظة، وتعرف وقت العظة عندما يكون هناك انسجام، فإن لم تنفع هذه العظة ورأيت
الأمر داخلاً إلى ناحية الربوة؛ والنشوز فانتبه. والمرأة عادة تَدِل على الرجل بما
يعرف فيه من إقباله عليها. وقد تصبر المرأة على الرجل أكثر من صبر الرجل عليها؛
لأن تكوين الرجل له جهاز لا يهدأ إلا أن يفعل. لكن المرأة تستثار ببطء، فعندما
تنفعل أجهزة الرجل فهو لا يقدر أن يصبر، لكن المرأة لا تنفعل ولا تستثار بسرعة،
فأنت ساعة ترى هذه الحكاية، وهي تعرفك أنك رجل تحب نتائج العواطف والاسترسال؛ فأعط
لها درساً في هذه الناحية، اهجرها في المضجع.
وانظر إلى الدقة، لا تهجرها في البيت، لا تهجرها في الحجرة، بل تنام في جانب وهي
في جانب آخر، حتى لا تفضح ما بينكما من غضب، اهجرها في المضجع؛ لأنك إن هجرتها وكل
البيت علم أنك تنام في حجرة مستقلة أو تركت البيت وهربت، فأنت تثير فيها غريزة
العناد، لكن عندما تهجرها في المضجع فذلك أمرٍ يكون بينك وبينها فقط، وسيأتيها ظرف
عاطفي فتتغاضى، وسيأتيك أنت أيضاً ظرف عاطفي فتتغاضى، وقد يتمنى كل منكما أن يصالح
الآخر.
إذن فقوله: } وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ { كأنك تقول لها: إن كنت
سَتُدِلِّينَ بهذه فأنا أقدر على نفسي. ويتساءل بعضهم: وماذا يعني بأن يهجرها في
المضاجع؟. نقول: ما دام المضجع واحداً فليعطها ظهره وبشرط ألا يفضح المسألة، بل
ينام على السرير وتُغلق الحجرة عليهما ولا يعرف أحد شيئاً؛ لأن أي خلاف بين الرجل
والمرأة إن ظل بينهما فهو ينتهي إلى أقرب وقت، وساعة يخرج الرجل وعواطفه تلتهب
قليلاً، يرجع ويتلمسها، وهي أيضاً تتلمسه.
والذي يفسد البيوت أن عناصر من الخارج تتدخل، وهذه العناصر تورث في المرأة عناداً
وفي الرجل عناداً؛ لذلك لا يصح أن يفضح الرجل ما بينه وبينه المرأة عند الأم والأب
والأخ، ولنجعل الخلاف دائماً محصوراً بين الرجل والمرأة فقط. فهناك أمر بينهما
سيلجئهما إلى أن يتسامحا معاً.
} فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ { وقالوا: إن
الضرب بشرط ألا يسيل دما ولا يكسر عظما.. أي يكون ضرباً خفيفاً يدل على عدم الرضا؛
ولذلك فبعض العلماء قالوا: يضربها بالسواك.
وعلمنا ربنا هذا الأمر في قصة سيدنا أيوب عندما حلف أن يضرب امرأته مائة جلدة، قال
له ربنا:{ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ }[ص: 44].
والضغث هو الحزمة من الحشيش يكون فيها مائة عود، ويضربها ضربة واحدة فكأنه ضربها
مائة ضربة وانتهت. فالمرأة عندما تجد الضرب مشوباً بحنان الضارب فهي تطيع من
نفسها، وعلى كل حال فإياكم أن تفهموا أن الذي خلقنا يشرع حكماً تأباه العواطف،
إنما يأباه كبرياء العواطف، فالذي شرع وقال هذا لا بد أن يكون هكذا.
} وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي
الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ { أي ضرباً غير مبرح، ومعنى: غير مبرح أي ألا يسيل
دماً أو يكسر عظماً ويتابع الحق: } فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ
سَبِيلاً {.
فالمسألة ليست استذلالاً. بل إصلاحا وتقويما، وأنت لك الظاهر من أمرها، إياك أن
تقول: إنها تطيعني لكن قلبها ليس معي؛ وتدخل في دوامة الغيب، نقول لك: ليس لك شأن
لأن المحكوم عليه في كل التصرفات هو ظاهر الأحداث. أما باطن الأحداث فليس لك به
شأن ما دام الحق قال " " أطعنكم "؛ فظاهر الحدث إذن أن المسألة
انتهت ولا نشوز تخافه، وأنت إن بغيت عليها سبيلاً بعد أن أطاعتك، كنت قوياً عليها
فيجب أن تتنبه إلى أن الذي أحلها لك بكلمة هو أقوى عليك منك عليها وهذا تهديد من
الله.
ومعنى التهديد من الله لنا أنه أوضح: هذه صنعتي، وأنا الذي جعلتك تأخذها بكلمتيّ
" زوجني.. زوجتك ".. وما دمت قد ملكتها بكلمة مني فلا تتعال عليها؛
لأنني كما حميت حقك أحمى حقها. فلا أحد منكما أولى بي من الآخر، لأنكما صنعتي وأنا
أريد أن تستقر الأمور، وبعد هذا الخطاب للأزواج يأتي خطاب جديد في قول الحق من بعد
ذلك: } وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ... {.
(/315)
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)
وقوله: { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا } يعني أن الشقاق لم يقع بعد، إنما
تخافون أن يقع الشقاق، وما هو " الشقاق "؟ الشقاق مادته من الشق، وشق:
أي أبعد شيئاً عن شيء، شققت اللوح: أي أبعدت نصفيه عن بعضهما، إذن فكلمة "
شقاق بينهما " تدل على أنهما التحما بالزواج وصارا شيئاً واحداً، فأي شيء
يبعد بين الاثنين يكون " شقاقاً " إذ بالزواج والمعاشرة يكون الرجل قد
التحم بزوجه هذا ما قاله الله:{ وَقَدْ أَفْضَىا بَعْضُكُمْ إِلَىا بَعْضٍ
وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً }[النساء: 21].
ويتأكد هذا المعنى في آية أخرى:{ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ
لَّهُنَّ }[البقرة: 187].
وهذا يعني أن المرأة مظروفة في الرجل والرجل مظروف فيها. فالرجل ساتر عليها وهي
ساترة عليه، فإذا تعدّاهما الأمر، يقول الحق: { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ
بَيْنِهِمَا } من الذين يخافون؟.. أهو وليّ الأمر أم القرابة القريبة من أولياء
أمورها وأموره؟ أي الناس الذين يهمهم هذه المسألة.
{ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ
وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ } إنهم البيئة والمجال العائلي، إذن فلا ندع المسائل
إلى أن يحدث الشقاق، كأن الإسلام والقرآن ينبهنا إلى أن كل إناس في محيط الأسرة
يجب أن يكونوا يقظين إلى الحالات النفسية التي تعترض هذه الأسرة، سواء أكان أباً
أم أخاً أم قريباً عليه أن يكون متنبهاً لأحوال الأسرة ولا يترك الأمور حتى يحدث
الشقاق بدليل أنه قال: { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ } وهذا
القول هو لوليّ الأمر العام أيضاً إذا كانت عيونه يقظة إلى أنه يشرف على علاقات كل
البيوت، ولكن هذا أمر غير وارد في ضوء مسئوليات ولي الأمر في العصر الحديث. إذن
فلا بد أن الذي سيتيسر له تطبيق هذا الأمر هم البارزون من الأهل هنا وهناك، وعلى
كل من لهم وجاهة في الأسرة أن يلاحظوا الخط البياني للأسرة، يقولون: نرى كذا وكذا.
ونأخذ حَكَماً من هنا وحكماً من هناك وننظر المسألة التي ستؤدي إلى عاصفة قبل أن
تحدث العاصفة؛ فالمصلحة انتقلت من الزوجين إلى واحد من أهل الزوج وواحد من أهل
الزوجة، فهؤلاء ليس بينهما مسألة ظاهرة بأدلتها، ولم تتبلور المشكلة بعد، وليس في
صدر أي منهما حُكْمٌ مسبق، ويجوز أن يكون بين الزوجين أشياء، إنما الحكَم من أهل
الزوج والحكَم من أهل الزوجة ليس في صدر أي منهما شيء، وما دام الاثنان ستوكل إليهما
مهمة الحكم. فلا بد أن يتفقا على ما يحدث بحيث إذا رأى الاثنان أنه لا صلح إلا بأن
تطلق، فهما يحكمان بالطلاق، والناس قد تفهم أن الحكم هم أناس يُصْلِحُون بين
الزوجين فإن لم يعجبهم الحكم بقي الزوجان على الشقاق، لا.
فنحن نختار حكماً من هنا وحكماً من هناك.
إن ما يقوله الحكمان لا بد أن ننفذه، فقد حصرت هذه المسألة في الحكمين فقال: } إِن
يُرِيدَآ إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَآ {.. فكأن المهمة الأساسية هي
الإصلاح وعلى الحكمين أن يدخلا بنية الإصلاح، فإن لم يوفق الله بينهما فكأن
الحكمين قد دخلا بألا يصلحا.
إن على كل حكم أن يخاف على نفسه ويحاول أن يخلص في سبيل الوصول إلى الإصلاح؛ لأنه
إن لم يخلص فستنتقل المسألة إلى فضيحة له. الذي خلق الجميع: الزوج والزوجة والحكم
من أهل الزوج والحكم من أهل الزوجة قال: } إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ
اللَّهُ بَيْنَهُمَآ { فليذهب الاثنان تحت هذه القضية، ويصرّا بإخلاص على التوفيق
بينهما؛ لأن الله حين يطلق قضية كونية، فكل واحد يسوس نفسه وحركته في دائرة هذه
القضية. وحين يطلق الله قضية عامة فهو العليم الخبير، ومثال ذلك قوله:{ وَإِنَّ
جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ }[الصافات: 173].
إنه سبحانه قال ذلك، فليحرص كل جندي على أن يكون جندياً لله؛ لأنه إن انهزم فسنقول
له: أنت لم تكن جندياً لله، فيخاف من هذه. إذن فوضع القضية الكونية في إطار عقدي
كي يجند الإنسان كل ملكاته في إنجاح المهمة، وعندما يقول الله: } إِن يُرِيدَآ
إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَآ { ، فإياك أن تغتر بحزم الحكمين، وبذكاء
الحكمين، فهذه أسباب. ونؤكد دائماً: إياك أن تغتر بالأسباب؛ لأن كل شيء من المسبب
الأعلى، ولنلحظ دقة القول الحكيم: } يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَآ { فسبحانه لم
يقل: إن يريدا إصلاحاً يوفقا بينهما. بل احتفظ سبحانه لنفسه بفضل التوفيق بين
الزوجين.
ويذيل سبحانه الآية: } إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً { أي بأحوال الزوج،
وبأحوال الزوجة، وبأحوال الحكم من أهله، وبأحوال الحكم من أهلها، فهم محوطون
بعلمه. وعلى كل واحد أن يحرص على تصرفه؛ لأنه مسئول عن كل حركة من الحركات التي
تكتنف هذه القضية؛ فربنا عليم وخبير.
وما الفرق بين " عليم " و " خبير "؟.. فالعلم قد تأخذه من علم
غيرك إنما الخبرة فهي لذاتك.
وبعد أن تكلم الحق على ما سبق من الأحكام في الزواج وفي المحرمات، وأخذنا من
مقابلها المحللات، وتكلم عمن لا يستطيع طولاً وتكلم عن المال.. وحذرنا أن نأكله
بالباطل، وتكلم عن الحال بين الرجل والمرأة، وبعد ذلك لفتنا الحق ووجهنا ونبهنا
إلى المنهج الأعلى وهو قوله سبحانه: } وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ...
{.
(/316)
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)
وعندما يقول لنا الحق: { وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً }
أي: إياكم أن تدخلوا في قضية من هذه القضايا؟ على غير طاعة الله في منهجه..
والعبادة هي: طاعة العابد للمعبود، فلا تأخذها على أنها العبادات التي نفعلها فقط
من: الصلاة والصوم والزكاة والحج؛ لأن هذه أركان الإسلام، وما دامت هذه هي الأركان
والأسس التي بني عليها الإسلام، إذن فالإسلام لا يتكون من الأركان فقط بل الأركان
هي الأسس التي بني عليها الإسلام، والأسس التي بني عليها البيت ليست هي كل
البيت؛لذلك فالإسلام بنيان متعدد. فالذين يحاولون أن يأخذوا من المصطلح التصنيفي،
أو المصطلح الفني في العلوم ويقولون: إن العبادات هي: الصلاة وما يتعلق بها..
والزكاة والصوم والحج؛ لأنها تسمى في كتب الفقه " العبادات " فلقد قلنا:
إن هذا هو الاسم الاصطلاحي، لكن كل أمر من الله هو عبادة.
ولذلك فبعض الناس يقول: نعبد الله ولا نعمل. نقول لهم: العبادة هي طاعة عابد لأمر
معبود، ولا تفهموا العبارة على أساس أنها الشعائر فقط، فالشعائر هي إعلان استدامة
الولاء لله. وتعطي شحنة لنستقبل أحداث الحياة، ولكن الشعائر وحدها ليست كل
العبادة، فالمعاملات عبادة، والمفهوم الحقيقي للعبادة أنها تشمل عمارة الأرض،
فالحق سبحانه وتعالى قال:{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نُودِيَ
لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَىا ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ
الْبَيْعَ }[الجمعة: 9].
كأنه أخرجهم من البيع إلى الصلاة، ولم يخرجهم من فراغ بل أخرجهم من حركة البيع،
وجاء بـ " البيع " لأنه العملية التي يأتي ربحها مباشرة؛ لأنك عندما
تزرع زرعاً ستنتظر مدة تطول أو تقصر لتخرج الثمار، لكن البيع تأتي ثمرته مباشرة،
تبيع فتأخذ الربح في الحال. والبيع - كما نعلم - ينظم كل حركات الحياة، لأن معنى البيع:
أنه وسيط بين منتج ومستهلك، فعندما تبيع سلعة، هذه السلعة جاءت من منتجٍ، والمنتج
يبحث عن وسيط يبيعها لمستتهلك، وهذا المستهلك تجده منتجاً أيضاً، والمنتج تجده
أيضاً مستهلكاً. فالإنتاج والاستهلاك تبادل وحركة الحياة كلها في البيع وفي
الشراء، وما دام هناك بيع ففيه شراء. فهذا استمرار لحركة الحياة. والبائع دائماً
يحب أن يبيع، لكن المشتري قد لا يحب أن يشتري؛ لأن المشتري سيدفع مالاً والبائع
يكسب مالاً، فيوضح الله: أتركوا هذه العملية التي يأتي ربحها مباشرة، ولبّوا
النداء لصلاة الجمعة. لكن ماذا بعد الصلاة؟ يقول الحق:{ فَإِذَا قُضِيَتِ
الصَّلاَةُ فَانتَشِرُواْ فِي الأَرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ
وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }[الجمعة: 10].
إذن فهذا أمر أيضاً. فإن أطعنا الأمر الأول: { فَاسْعَوْاْ إِلَىا ذِكْرِ اللَّهِ
} فالأمر في { فَانتَشِرُواْ فِي الأَرْضِ } يستوجب الطاعة كذلك. إذن فكل هذه
عبادة، وتكون حركة الحياة كلها عبادة: إن كانت صلاة فهي عبادة، والصوم عبادة، وبعد
ذلك.
. ألا تحتاج الصلاة لقوام حياة؟ لا بد أن تتوافر لك مقومات حياة حتى تصلي. وما هي
مقومات حياتك؟ إنها طعام وشراب ومسكن ومَلْبس، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
إذن فجماع حركة الحياة كلها سلسلة عبادة، ولذلك فالحق سبحانه وتعالى يقول:{
اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ
الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا }[هود: 61].
إذن فكل عمل يؤدي إلى عمارة الكون واستنباط أسرار الله في الوجود يعتبر عبادة لله؛
لأنك تخرج من كنوز الله التي أودعها في الأرض ما يلفت الناس إلى الحقيقة الكونية
التي جاء بها الإيمان.
وإياك أن تظن أن العبادة هي فقط العبادة التصنيفية التي في الفقه " قسم
العبادات " و " قسم المعاملات ".. لا، فكله عبادة، لكن الحركات
الحياتية الأخرى لا تظهر فيها العبادة مباشرة؛ لأنك تعمل لنفعك، أما في الصلاة
فأنت تقتطع من وقتك، فسميناها العبادة الصحيحة؛ لأن العمليات الأخرى يعمل مثلها من
لم يؤمن بإله، فهو أيضا يخرج للحياة ويزرع ويصنع.
ولماذا سموها العبادات؟ لأن مثلها لا يأتي من غير متدين. إنما الأعمال الأخرى من
عمارة الكون والمصلحة الدنيوية فغير المتدين يفعلها ولكن كل أمر لله نطيعه فيه
اسمه عبادة. هذا مفهوم العبادة الذي يجب أن يتأكد لنا أن نخلص العمل بالعقول التي
خلقها الله لنا بالطاقات المخلوقة لنا، في المادة المخلوقة وهي الأرض وعناصرها
لنرقي بالوجود إلى مستوى يسعدنا ويرضي الله عنه.
} وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً {. بعدما قال كل هذا
الكلام السابق، لفتنا ربنا إلى قضية يجب أن نلحظها دائما في كل تصرفاتنا هي أن
نأتمر بأمر الله في منهجه، وألا نشرك به شيئاً؛ لأن الشرك يضر قضية الإنسان في
الوجود، فإن كنت في عمل إياك أن تجعل الأسباب في ذهنك أمام المسبب الأعلى.. بل
اقصد في كل عمل وجه الله.
ويضرب الحق المثل لراحة الموحد ولتعب المشرك فقال:{ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً
رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ
يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
}[الزمر: 29].
فهذا عبد مملوك لجماعة، والجماعة مختلفة ومتشاكسة، وهو لا يعرف كيف يوفق بين أوامر
كل منهم التي تتضارب، فإن أرضي هذا، أغضب ذاك. إذن فهو عبد مبدد الطاقة موزع
الجهد، مقسم الالتفاتات، ولكن العبد المملوك لواحد، لا يتلقى أمراً إلا من سيد
واحد ونهياً من السيد نفسه. والحق يشرع القضية لعباده بصيغة الاستفهام، وهو العليم
بكل شيء ليجعل المؤمن به يشاركه في الجواب حتى إذا ما قال الحق: " هل يستويان
"؟ هنا يعرضها الإنسان على عقله ويريد أن يجيب، فماذا يقول؟ سيجيب بطبيعة
الفطرة وطبيعة منطق الحق قائلاً: لا يا رب لا يستويان.
إذن فأنت أيها العبد المؤمن قد قلتها، ولم يفرضها الله عليك. وقد طرحها الحق
سبحانه سؤالاً منه إليك؛ حتى يكون جوابك الذي لن تجد جواباً سواه. فإذا ما كنت
كذلك أيها العبد المؤمن قد ارتحت في الوجود وتوافرت لك طاقتك لأمر واحد ونهي واحد،
هنا تصبح سيداً في الكون، فلا تجد في الكون من يأخذ منك عبوديتك للمكون. وتلك هي
راحتنا في تنفيذ قول الله: } وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً
{ لأن الإشراك بالله - والعياذ بالله - يرهق صاحبه. ويا ليت المشركين حين يشركون
يأخذون عون الله، ولا يأخذون عون الشركاء. لكن الله يتخلى عن العبد المشرك، لأنه
سبحانه يقول:
" أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه
".
الحق إذن يتخلى عن العبد المشرك. وليت العبد المشرك يأخذ حظه من الله كشريك..
وإنما ينعدم عنه حظ الله؛ لأن الله غني أن يشرك معه أحدا آخر. وهكذا يكون المشرك
بلا رصيد إيماني، ويحيا في كد وتعب. ويردف الحق سبحانه وتعالى عبادته بالإحسان إلى
الوالدين فيأتي قوله - جل شأنه -: } وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً { والوالدان
هما الأب والأم؛ لأنهما السبب المباشر في وجودك أيها المؤمن. وما دامت عبادتك لله
هي فرع وجودك، إذن فإيجادك من أب وأم كسببين يجب أن يلفتك إلى السبب الأول؛ إن ذلك
يلفتك إلى من أوجد السلسلة إلى أن تصل إلى الإنسان الأول وهو آدم عليه السلام.
} وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً {.. انظر إلى المنزلة التي أعطاها الله للوالدين،
وهما الأب والأم. والخطاب لك أيها المسلم لتعبد الله، والتكليف لك وأنت فرع
الوجود؛ لأن الخطاب لمكلف، والتكليف فرع الوجود، والوالدان هما السبب المباشر
لوجودك، فإذا صعّدت السبب فالوالدان من أين جاءا؟.. من والدين، وهكذا حتى تصل لله،
إذن فانتهت المسألة إلى الواحد؛ لأن التكليف من المُكلِّف إلى المُكلَّف فرع
الوجود. والوجود له سبب ظاهري هما " الوالدان " ، وعندما تسلسلها تصل
لله إنه - سبحانه - أمر: اعبدني ولا تشرك بي شيئا، وبعد ذلك.. }
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً {.. كلمة " الإحسان " تدل على المبالغة
في العطاء الزائد.. الذي نسميه مقام الإحسان..
} وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً {.. الحق سبحانه وتعالى حينما قرن الوالدين
بعبادته، لأنه إله واحد ولا نشرك به شيئا، لم ينكر أو يتعرض لإيمانهما أو كفرهما؛
لأن هناك آية أخرى يقول فيها:{ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىا أَن تُشْرِكَ بِي مَا
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا
مَعْرُوفاً }[لقمان: 15].
صحيح لا تطعهما ولكن احترمهما؛ لأنهما السبب المباشر في الوجود وإن كان هذا السبب
مخالفاً لمن أنشأه وأوجده وهو الله - جلت قدرته - } وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا
مَعْرُوفاً { والمعروف يصنعه الإنسان فيمن يحبه وفيمن لا يحبه، إياك أن يكون قلبك
متعلقاً بهما إن كانا مشركين، لكن صاحبهما في الدنيا معروفاً؛ ولذلك قال: }
وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا { أي انظر مصلحتهما في أمور الدنيا معروفاً منك.
والمعروف تصنعه فيمن تحب وفيمن لا تحب.
والحق يقول: } وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً {.. ويكررها في آيات متعددة.. فقد
سبق في سورة البقرة أن قال لنا:{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ
لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً }[البقرة: 83].
وبعد ذلك تأتي هذه الآية التي نحن بصددها.. } وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ
تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً {.
وبعد ذلك يأتي أيضاً قوله سبحانه:{ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ
عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً
}[الأنعام: 151].
وبعد ذلك يأتي الحق سبحانه وتعالى فيقول:{ وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ
إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ
وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً }[الأحقاف: 15].
ويأتي أيضاً في سورة العنكبوت فيقول:{ وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ
حُسْناً }[العنكبوت: 8].
لكن إن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعمها، فإن كان الوالدان
مشركين فلا بد أن نعطف عليهما معروفا.. والمعروف كما أوضحنا يكون لمن تحب ومن لا
تحب، ولكن الممنوع هو: الودادة القلبية؛ ولذلك قال:{ لاَّ تَجِدُ قَوْماً
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ }[المجادلة: 22].
ولا يوجد تناقض أو شبه تناقض بين الآية التي نحن بصددها وبين آية سورة المجادلة.
وهناك آيات تكلم فيها الحق وقرن عبادته بالإحسان إلى الوالدين، وهناك آيتان جاء
الأمر فيهما بالتوصية وبالوالدين استقلالا.
وذلك في قوله تعالى:{ وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً
}[الأحقاف: 15].
وفي قوله سبحانه:{ وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً }[العنكبوت:
8].
ففيه " إحسان " وفيه " حسن " ، " الإحسان ": هو أن
تفعل فوق ما كلفك الله مستشعراً أنه يراك. فإن لم تكن تراه فإنه يراك، و "
الإحسان " من " أحسن " ، فيكون معناها أنه ارتضى التكليف وزاد على
كلفه. وعندما يزيد الإنسان على ما كلفه الله أن يصلي الخمس المطلوبة ثم يجعلها
عشرة، ويصوم شهر رمضان، ثم يصوم يومي الاثنين والخميس أو كذا من الشهور، ويزكي حسب
ما قرر الشرع باثنين ونصف في المائة وقد يزيد الزكاة إلى عشرة في المائة، ويحج ثم
يزيد الحج مرتين. إذن فالمسألة أن تزيد على ما افترض الله، فيكون قد أدخلك الله في
مقام الإحسان؛ لأنك حين جربت أداء الفرائض ذقت حلاوتها. وعلمت مما أفاضه الله عليك
من معين التقوى ومن رصيد قوله:{ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ
}[البقرة:282].
علمت أن الله يستحق منك أكثر مما كلفك به؛ ولذلك فبعض الصالحين في أحد سبحاته قال:
" اللهم إني أخشى ألا تثيبني على الطاعة لأنني أصبحت أشتهيها ".. أي
صارت شهوة نفس، فهو خائف أن يفقد حلاوة التكليف والمشقة فيقول: يا رب إنني أصبحت
أحبها، ومفروض منا أننا نمنع شهوات أنفسنا لكنها أصبحت شهوة فماذا أفعل؟
إذن فهذا الرجل قد دخل في مقام الإحسان واطمأنت نفسه ورضيت وأصبح هواه تبعا لما
أمر به الله ورضيه.
ولذلك يجب أن نلحظ أن الحق سبحانه وتعالى حينما تكلم عن المتقين قال:{ إِنَّ
الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ
إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ }[الذاريات: 15-16].
لماذا هم محسنون يا رب؟.
يقول الحق:{ كَانُواْ قَلِيلاً مِّن اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ }[الذاريات: 17].
وهل كلفني الله. ألا أهجع إلا قليلاً من الليل؟ إن الإنسان يصلي العشاء من أول
الليل وينام حتى الفجر، هذا هو التكليف، لكن أن تحلو للمؤمن العبادة، ويزداد
الإيمان في القلب والجوارح، ويأنس العبد بالقرب من الله، فالحق لا يَرُدَّ مثل هذا
العبد بل إنّه يستقبله ويدخله في مقام الإحسان:{ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ
مُحْسِنِينَ * كَانُواْ قَلِيلاً مِّن اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ *
وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ }[الذاريات: 16-18].
وربنا لم يكلفهم بذلك، إنما كلفهم فقط بخمسة فروض. ونعرف قصة الأعرابي الذي قال
للرسول صلى الله عليه وسلم: هل عليّ غيرها؟ قال له: لا، إلا أن تَطّوَّعَ، وذكر له
رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة، فقال: هل عليّ غيرها؟ قال: لا، إلا أن
تطّوّع، قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه. فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أفلح إن صدق ".
وبذلك دخل هذا الأعرابي في نطاق المفلحين. إذن فالذي يزيد على هذا يدخله الله في
نطاق المحسنين.{ كَانُواْ قَلِيلاً مِّن اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ *
وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ
وَالْمَحْرُومِ }[الذاريات: 17-19].
ولنلحظ دقة الأداء، إن الحق لم يذكر أن للمحرومين في أموال المحسنين حقاً معلوماً.
لماذا؟؛ لأن الحق سبحانه - ترك للمحسن الحرية في أن يزيد على نسبة الزكاة التي
يمنحها للسائل والمحروم، وحينما يتكلم سبحانه عن مطلوب الإيمان يقول:{ وَالَّذِينَ
فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ }[المعارج:
24-25].
إذن فالذي يزيد على ذلك ينتقل من مقام الإيمان ليدخل في مقام الإحسان. كأنه يقول
لك في الآية التي نحن بصددها: إياك أن تعمل مع والديك القدر المفروض فقط، بل ادخل
في برّهما والإنعام عليهما والتلطف بهما والرحمة لهما وذلّة الانكسار فوق ما يطلب منك،
ادخل في مقام الإحسان، ثم يأتي في آية أخرى ليرشدنا بعد أن أدخلنا في مقام
الإحسان، إنّه يصف ذلك الإحسان بشيء آخر وهو " الحسن ":{ وَوَصَّيْنَا
الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً }[العنبكوت: 8].
وما هو المقابل " للحسن "؟ إنه " القبح " ، إذن فالحق أدخلنا
في مقام الجمال مرة، وفي مقام الإحسان مرة أخرى، وهنا أكثر من ملحظ يجب ألا يغيب
عن بال المسلم، أولاً: نجد أن المفروض في الشائع الغالب أنّ الوالدين يربيان
أبناءهما، ومن النادر أن يصبح الولد يتيماً ويربيه غير والديه، فقال: الحظ سبب
التربية بعد الوجود، فسبب الوجود: يوجب عليك أن تعطيهما حقوقهما وفوق حقوقهما
وتدخل في مقام الإحسان، ولكنه جاء في آية وعلل ذلك فقال:
{ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً }[الإسراء: 24].
لقد جاء الحق بالتربية حيثية في الدعاء لهما وفي البر التوصية بهما، لكن لو أن
إنساناً أخذ فيك منزلة التربية ولم يأخذ فيك سببية الإيجاد، أله حق عليك أن يكون
كوالديك؟
إن الحق يقول: } كَمَا رَبَّيَانِي { ، فإذا كان والدي لهما هذا الحق، فكذلك من
قام بتربيتي من غير الوالدين له هذا الحق أيضاً! ما دام جاء الحق بالوالدين في علة
الإحسان: } وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً {.. فمرة نلحظ
أنه لا يجيء بمسألة التربية كي نعلم أن الوالدين هما سبب الوجود، ومرة يلفتنا إلى
أن من يتولى التربية يأخذ حظ الوالدين، وشيء آخر: وهو أن الحق سبحانه وتعالى حينما
وصى بالوالدين إحسانا، جاء في الحيثيات بما يتعلق بالأم ولم يأت بما يتعلق بالأب:{
وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً
وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً }[الأحقاف: 15].
هنا جاء الحق بالحيثيات للأم وترك الأب بدون حيثية، وهذا كلام رب؛ لأن إحسان
الوالدة لولدها وجد وقت أن صار جنيناً. فهي قد حافظت على نفسها وسارت بحساب وحرص
فانشغلت به وهو مازال جنيناً. وحاولت أن توفر كل المطالب قبلما يتكون له عقل وفكر.
بينما والده قد يكون بعيداً لا يعرفه إلا عندما يكبر ويصير غلاماً ليربيه لكفاح
الحياة، أما في الحمل والمهد فكل الخدمات تؤديها الأم ولم يكن للطفل عقل حتى يدرك
هذا، إنما بمجرد أن وجد العقل وجد أباه يعايشه ويعاشره، وكلما احتاج إلى شيء قالت
له الأم: أبوك يحققه لك، وكل حاجة يحتاج إليها الطفل يسأل أباه أن يأتيه بها،
وينسي الطفل حكاية أمه وحملها له في بطنها وأنها أرضعته وسهرت عليه؛ لأنه لم يكن
عنده إدراك ساعة فعلت كل ذلك، فمن الذي - إذن - يحتاج إلى الحيثية؟ إنها الأم، أما
حيثية إكرام الأب فموجودة للإنسان منذ بدء وعيه لأنه رأى كل حاجته معه؛ لذلك قال
الحق:{ وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ
كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً
}[الأحقاف: 15].
والطفل لا يعرف حكاية الحمل هذه، وعندما يتنبه يجد أن والده هو الذي يأتي بكل
حاجة، وما دام أبوه هو الذي في الصورة، فتكون الحيثية عنه موجودة، والأم حيثيتها
مغفولة ومستورة، فكان لا بد من أن يذكرنا الله بالحيثية المتروكة عند الإنسان
مكتفياً بالحيثية للأب الموجودة والواضحة عند الابن، ولذلك تجد النبي صلى الله
عليه وسلم حينما يوصيّ قال: أمك ثم أمك ثم أمك، وبعد ذلك قال: ثم أبوك.
كما جاء في الحديث: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " جاء رجل إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك. قال:
ثم من؟ قال: أمك قال ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك ".
ولو حسبتها تجدها واضحة، وأيضا فالأبوة رجولة، والرجولة كفاح وسعي. والأمومة حنان
وستر، فهي تحتاج ألا تخرج لسؤال الناس لقضاء مصالحها، أبوك إن خرج ليعمل فعمله شرف
له. إنما خروج الأم للسعي للرزق فأمر صعب على النفس، فالحق سبحانه وتعالى يقول: }
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً {.. أو " بوالديه حسنا " إنها.. مقرونة
في ثلاث آيات بعبادة الله وعدم الإشراك به، ثم أفردهما بالإحسان في آيتين، ويلاحظ
هنا أن الحق سبحانه وتعالى حينما تكلم قال:{ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىا أَن تُشْرِكَ
بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا }[لقمان: 15].
لكن هذا لا يمنع أن تعطيهما المعروف وما يحتاجان إليه، ونلحظ أن الحق لم يأت لهما
بطلب الرحمة وهما على الشرك والكفر كما طلبها لهما في قوله:{ وَقُل رَّبِّ
ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً }[الإسراء: 24].
لأنهما وإن ربيا جسد الولد فلم يربيا قلبه وإيمانه، فلا يستحقان أن يقول: ارحمهما؛
لأن الحق أراد أن يسع الولد والديه في الدنيا وإن كانا على الكفر.
والحق سبحانه وتعالى حينما يريد أن يشيع الإحسان في الكون كله، يبتدئ بالأقرب
فالقريب فالجار، فقال: } وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَىا {.
إذن ففيه دوائر. ولو أن كل واحد أحسن إلى أبوية. فلن نَجد واحداً في شيوخته مهيناً
أبداً، لذلك يوسع سبحانه دوائر الهمّة الإيمانية فجاء بالوالدين ثم قال بعدها: }
وَبِذِي الْقُرْبَىا { أي صاحب القربى، وما القربى؟ إن كل من له علاقة نَسَبيَّة
بالإنسان يكون قريباً. هذه هي الدائرة الثانية، ولو أن كل إنسان موسعاً عليه وقادراً
أخذ دائرة الوالدين ثم أخذ دائرة القربى فستتداخل ألوان البر من أقرباء متعددين
على القريب الواحد، وما دامت الدوائر ستتداخل، فالواحد القريب سيجد له كثيرين
يقومون على شأنه فلا يكون أحد محتاجا.
وبعد ذلك يتكلم سبحانه عن اليتامى، واليتيم - كما نعلم - هو: من فقد أباه ولم يبلغ
مبلغ الرجال، إنه يحتاج إلى حنان أولي. ولكن بعد أن يبلغ مبلغ الرجال فهو لا
يُعتبر يتيماً؛ فقد أصبح له ذاتية مستقلة؛ ولذلك يتخلى عنه الوصف باليتيم، والذي
تموت أمه لا نسميه " يتيماً " ، لكن اليتيم في الحيوانات ليس من فقد
أباه بل من فقد أمه، وإن كانت طفولة الحيوانات تنتهي بسرعة؛ لأن والدة الحيوان هي
التي ترعاه في طفولته القصيرة نسبياً.
إذن فيتم الحيوان من جهة الأم، والإنسان يتمه هو فَقْد الأب؛ لأن الإنسان أطول
الحيوانات طفولة لأنه مُربيَّ لمهمة أسمى من الحيوانية، وعرفنا من قبل أنك عندما
تأتي لتزرع - مثلاً - فِجلاً.. فبعد خمسة عشر يوماً تأكل منه، لكنك حينما تزرع
نخلة أو تزرع شجرة " مانجو " تمكث كذا سنة، حتى تثمر.. إذن فطول مدة
الطفولة وعدم النسل للمثل يتوقف على المهمة الموكلة للشيء، فإن كانت مهمته كبيرة،
تكن مدة طفولته أطول.
والله سبحانه وتعالى يريد أن يوسع دائرة الإحسان. فإياك أن تقتصر على الوالدين فقط
أو أصحاب القربى فقط. خذ في الدائرة أيضاً " اليتيم " ، لأن اليتيم فقد
أباه، ثم يرى كثيراً من زملائه وأقربائه لهم آباء، ولو لم يوصّ الحق سبحانه وتعالى
بهذا اليتيم لنشأ هذا الولد وفي قلبه جذوة من الحقد على المجتمع، وقد يتمرد على
الله، ويتساءل: لماذا لا يكون لي أب وكل واحد من أقراني له أب يأتيه بحاجته، لكن
حين يرى أنه فقد أباً واحداً ثم وجد في الجو الإيماني آباء متعددين فهو لا يسخط
على أن الله أمات أباه.
إن الذين يخافون أن يموتوا ويتركوا من بعدهم ذرية ضعافا، عليهم بالإحسان إلى
اليتيم. فلو رأى الواحد منا يتيماً يُكَرم في بيئة إيوة إيمانية لما شغل نفسه ولما
خاف أن يموت ويترك ولداً صغيراً، بل يقول الإنسان لنفسه: إن المجتمع فيه خير كثير،
وبذلك يستقبل الإنسان قدر الله بنفس راضية، ولا يؤرق نفسه، وهذه مسألة تشغل الناس
فنقول لكل إنسان قادر: إذا كنت في بيئة إيمانية. واليتيم يجد رعاية من آباء
إيمانيين متعددين فسينشأ اليتيم وليس فيه حقد؛ ولذلك يقول الحق:{ وَلْيَخْشَ
الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ
عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً }[النساء: 9].
لأنك إن رأيت المجتمع الإيماني قد رعى أيتام غيرك فستكون على ثقة من أنه يرعى
أيتامك، فإن جاء الموت أو لم يأت فلا تشغل نفسك به، لكن إذا رأى الإنسان يتيماً
مضيعاً، فهو يعض على أسباب الحياة ويريد أن يأتي بالدنيا كلها لولده، ونقول لمثل
هذا الأب: اعمل لابنك بأن تضع ما تريد أن تدخره له في يد الله؛ لأن الذي خلق آمن
من المخلوق؛ ولذلك قلنا من قبل: إن سيدنا معاوية وسيدنا عمرو بن العاص كانا يجلسان
- في أخريات حياتهما - يتكلمان معاً، فيقول عمرو بن العاص لمعاوية: يا أمير المؤمنين:
ماذا بقي لك من متع الدنيا؟ قال معاوية: أما الطعام فقد سئمت أطيبه، وأما اللباس
فقد مللت ألينه، وحظي الآن في شربة ماء بارد في يوم صائف تحت ظل شجرة.
وهذه كلمة تعطي الإنسان طموحات إيمانية في الكون، فبعدما صار معاوية خليفة وأميراً
للمؤمنين والكل مقبل عليه قال: حظي في شربة ماء بارد في ظل شجرة في يوم صائف، وهذه
توجد عند ناس كثيرين.
كأن الطموح انتهى إلى ما يوجد عند كل أحد: شربة ماء بارد، ثم قال معاوية لعمرو:
وأنت يا عمرو. ماذا بقي لك من متع الدنيا؟ قال عمرو بن العاص: بقي لي أرض خوارة -
يعني فيها حيوانات تخور مثل البقر - فيها عين خرارة.. أي تعطي ماءٌ وفيراً لتروي
الأرض، وتكون لي في حياتي ولولدي بعد مماتي، وكان هناك خادم يخدمهما اسمه "
وردان ". أراد أمير المؤمنين أن يلاطفه فقال له: وأنت يا وردان، ماذا بقي لك
من متاع الدنيا؟ انظروا إلى جواب العبد كي تعرفوا أن الإيمان ليس فيه سيد ومسود،
فقال له: حظي يا أمير المؤمنين: " صنيعة معروف أضعه في أعناق قومٍ كرام لا
يؤدونه إليّ في حياتي " أي لا يرون هذا الجميل لي. حتى تبقي لعقبي في عقبهم.
إذن فحظه صنيعة معروف يضعه في أعناق قوم كرام لا يؤدونه إليه في حياته حتى تكون
لعقبة أي لمن سيترك من أولاده.
كأنه يفهمنا أنه لا شيء يضيع، فكما تمد يدك يمد غيرك يده لك، والرسول صلى الله
عليه وسلم يعطينا هذه المنزلة فيقول: " أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا،
" وأشار بإصبعيه متجاورين " ، أيّ منزلة هذه، فبالله بعد ذلك ألا يبحث
كل واحد منّا عن يتيم يكفله لكي يكون مع النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة. وهذه
المنزلة كانت أمنية كل صحابي.
فقد جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محزون فقال له النبي
صلى الله عليه وسلم: " يا فلان مالي أراك محزونا؟ " فقال: يا نبيَّ الله
شيء فكرت فيه فقال: " ما هو؟ " قال: نحن نغدو عليك ونروح ننظر إلى وجهك
ونجالسك وغداً ترفع مع النبيين فلا نصل إليك، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه
وسلم ونزل عليه جبريل بهذه الآية:
} وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـائِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ
اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ
وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـائِكَ رَفِيقاً { [النساء: 69].
فبعث النبي صلى الله عليه وسلم فبشره ".
فالحق يقول لهؤلاء: لا تحزنوا، فما دمتم تحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم
وتفرحون في الدنيا لأنكم معه فلا تخشوا مسألة وجودكم معه بالجنة فسوف أبعثكم معه
في الجنة، فالمرء مع من أحب، ولذلك أقول لكل مسلم: ابحث عن يتيم تكفله كي تأخذ
المنزلة الإيمانية، المنزلة العلية في الآخرة.
فقد قال عليه الصلاة والسلام: " أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار
بالسبّابة والوسطى وفرّج بينهما ".
فقل لي: إذا عاملنا اليتيم في ضوء هذه التعاليم فماذا يحدث؟ سينتشر التكافل في
المجتمع.
ويقول الحق بعد ذلك: " والمساكين ".. ونعرف أن المساكين.. كما قال
الفقهاء عنهم وعن الفقراء: إن كلهم في حاجة، فهل المسكين هو من لا يملك حاجة، أو
الفقير هو الذي لا يملك حاجة أو يملك دون حاجته. كأن يكون إيراده مثلاً عشرة بينما
حاجتهُ تحتاج إلى عشرين؟ المهم أنه يكون محتاجاً. وكلمة " فقير " مأخوذة
من فقار الظهر أي مصاب بما يقصم الوسط والظهر. وهو اسم معبر.
و " مسكين " أيضاً اسم معبر من المسكنة والسكن أي ليس له استعلاء في
شيء.. مغلوب ومقهور.. فاللفظ نفسه جاءه معبراً، و " الجار " كلمة "
جار " تعني: عدل، كقولنا: جار عن الطريق أي عدل عنه، فكيف أسمى من في جانبي
" جاراً "؟ لأن مَن في جانبك حدد مكاناً له من دنيا واسعة، فيكون قد ترك
الكثير وجاء للقليل، وأصبح جارك، أي أنه عدل عن دنيا واسعة وجاء جانبك، فيسموا
الجار لمن جار، أي عدل عن كل الأمكنة الواسعة وجاء إلى مكان بجانبك.
وهذا الجار يوصي به الله سبحانه وتعالى كما أوصي بالقريب، وباليتيم وبالمسكين،
للجار حقوق كثيرة؛ لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث: " الجيران
ثلاثة: فجار له حق واحد، وهو أدنى الجيران حقا. وجار له حقان، وجار له ثلاثة حقوق:
فأما الذي له حق واحد فجار مشرك لا رحم له، له حق الجوار، وأما الذي له حقان فجار
مسلم له حق الإسلام وحق الجوار، وأما الذي له ثلاثة حقوق فجار مسلم ذو رحم له حق
الإسلام وحق الجوار وحق الرحم ".
ويقول صلى الله عليه وسلم في حق الجار:
" مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه " ".
أي سيجعل له من الميراث، وما هي حدود الجار؟ حدوده: الأقرب بابا إليك، إلى أربعين
ذراعاً، وقالوا: إلى أربعين داراً، هنا يقول الحق: } وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىا
{. فأعطاه حق القربى وحق الجوار، وقال؛ } وَالْجَارِ الْجُنُبِ {. لأن فيه جاراً
قريباً وجاراً بعدياً وقوله: " الجنب " أي البعيد، } وَالصَّاحِبِ
بِالجَنْبِ { " الصاحب " هو المرافق. " بالجَنْب " أي بجانبه.
قالوا: هو الزوجة أو رفيق السفر؛ لأن الرفقاء في السفر مع بعضهم دائماً، أو التابع
الذي يتبعك طمعاً فيما عندك من الرزق سواء كان الرزق مالاً أو علماً أو حرفة يريد
أن يتعلمها منك؛ فهو الملازم لك، والخادم أيضاً يكون " بالجنب " وكل هذا
يوسع الدائرة للإحسان، ولو حسبت هذه الدوائر لوجدتها كلها متداخلة.
وها هو ذا النبي عليه الصلاة والسلام يقول لأبي ذَرٍ رضي الله عنه:
" يا أبا ذر إذا طبختَ مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك ".
والمهم أن تتواصل مع جارك، أو الجار ذي القربى: أي الذي قربته المعرفة، وكثير من
الجيران يكون بينهم ودّ، وهناك جار لا تعرف حتى اسمه، فهذا هو " الجار الجنب
" ، و " الصاحب بالجنب وابن السبيل " وابن السبيل، فقد تقول مثلاً:
فلان بن فلان، كأنك لا تعرف أباه، أو تقول: فلان ابن البلد الفلانية أي لا تعرف
عنه شيئاً سوى أنه منسوب لبلد معين، وعندما تقول: ابن سبيل تعني أنه غريب انقطعت
به كل الأسباب حتى الأسباب التي يمكن أن تعرفه بها، فساعة تراه تقول " ابن
السبيل " أي ابن طريق، ولا تَجد مكانا ينسب إليه إلا الطريق، لا يجد أبا ينسب
إليه، لا يجد أمّا، لا يجد قبيلة، لا تعرف عه شيئا.
} وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ { وسبق أن تكلمنا عن ملك اليمين وقلنا: إن الإسلام
إنما جاء لا ليشرع رقاً.. ولكن جاء لينهي رقاً، ويسد منابعه التي كانت موجودة قبل
الإسلام، ولا يبقى إلا منبع واحد. هذا المنبع الواحد هو الحرب المشروعة، ولماذا لم
يطلقهم؟. لأن الحرب المشروعة عرضة أن يأخذ الخصوم من أبنائي وأنا آخذ من أبنائهم،
فلا أطلق أبناءهم إن جاءوا في يدي حتى يطلقوا أبنائي الذين في أيديهم، ويصير الأمر
إلى المعاملة بالمثل، التي انتهى إليها العالم الحديث وهي تبادل الأسرى.
وقد نهانا الإسلام في ملك اليمين عن أن يقال: " عبدي " بل يقال: فتاي.
ولا يقال: " أمتي " بل يقال: فتأتي، حتى التسمية أراد الشرع أن يهذبها،
كي لا تنصرف العبودية إلا لله.
الحق سبحانه وتعالى جاء بالإسلام والرق كان موجوداً، وله ينابيع متعددة فوق
العشرين، وليس له إلا مصرف واحد هو إرادة السيد، فجاء الإسلام ليصفي الرق، وأول
تصفية لشيء هو أن تسد منابعه. وبدل أن يكون مجرد مصرف واحد، وهي رغبة السيد، جعل
له الإسلام مصارف متعددة، إذن فنكون قد حددنا المنابع في نبع واحد، وعددنا
المصارف.. فالذنب بينك وبين الله تكفره بأن تعتق رقبة، أي أحدثت ظهاراً مثلا تُعتق
رقبة، وهذه رغبة من يريد أن يصفي الرق، فإذا لم توجد عند أي مالك أسباب لتصفية
الرق وظل الفتى أو الفتاة تحت يمينه، فالإسلام يرشدك ويهديك: ما دمت لم تؤثر أن
تعتقه واستبقيته فأحسن معاملته، أطعمه مما تطعم وألبسه مما تلبس، ولا تكلفه ما لا
يطيق، فإن كلفته فيدك معه، وهات لي واحداً يلبس من ملابس سيده ويأكل مثله وعندما
يعمل عملاً فوق طاقته تجدُ يَد السيد بيده.. أليست هذه هي المعاملة الطيبة! قال
الله: } وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ {.
وبعد ذلك يجيء الحق سبحانه وتعالى في ختام الآية بما يدك كبرياء ذي الإحسان، فإياك
أن تكون النعمة أو البذل الذي ستبذله يعطيك في نفسك غرور الاستعلاء؛ لأن غرور
الاستعلاء هذا يكون استعلاء كاذباً. وأنت إذا استعليت على غيرك بأعراض الحياة،
فهذه الأعراض تتغير، ومعنى " أعراض " أنها تأتي وتزول. فالذي يريد أن
يستعلي ويستكبر فعليه أن يستعلي ويستكبر بحاجة ذاتية فيه؛ ولذلك لا يوجد كبرياء
إلا الله، إنما الأغيار من البشر. فنحن نرى من كان قوياً يصير إلى ضعف، ومن كان
غنياً يصير إلى فقر، ومن كان عالماً يصبح كمن لا يعلم:{ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن
بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً }[الحج: 5].
فلا كبرياء إذن لمخلوق، ومن يريد أن يستعلي ويتكبر على غيره فليتكبر - كما قلنا -
بحاجة ذاتية فيه، أي بشيء لا يسلب منه، والخلق كلهم في أغيار، والوجود الإنساني
تطرأ عليه الأغيار، إذن فاجعل الكبرياء لصاحبه، وإياك أن تظن أنه عندما قلنا لك:
اعمل كذا وأحسن لذي القربى واليتامى والمساكين، إياك أن تحبط هذه الأعمال بأن
تستعلي بها؛ لأنها موهوبة لك من الله، وما دامت موهوبة لك من الله فاستح؛ لأن الذي
يتكبر هو الذي لا يجد أمام عينه من هو أكبر منه.
هات واحداً يتكبر لأن عنده مليوناً من الجنيهات ثم دخل عليه واحد آخر عنده أكثر
منه ماذا يفعل؟ إنه يستحي ويتضاءل، ولا يتكبر الإنسان إلا إذا وجد كل الموجودين
أقل منه، لكنه لو ظل ناظراً إلى الله لعلم أن الكبرياء لله وحده.
إذن فعندما يتكبر المتكبر، إنما يفعل ذلك لأن الله ليس في باله. لكن لو كان الحق
المتكبر بذاته في باله لاستحي، فإذا كان في بالك من يعطيك لاستحييت.
إذن فمعنى المتكبر أن ربنا غائب عن باله؛ لذلك يقول الحق في ختام الآية: } إِنَّ
اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً { وما " الاختيال "؟
وما " الفخر "؟
إن المادة كلها تدل على زهو الحركة، ولذلك نسمي الحصان " خيلا "؛ لأنها
تتخايل في حركتها، وعندما يركبها أحد تتبختر به؛ ولذلك نسمي الخيلاء من هذه. إّن
" الاختيال ": حركة مرئية، " والفخر " حركة مسموعة، فالحق
ينهي الإنسان عن أن يمشي بعنجهية، كما نهاه عن أن يسير مائلا بجانبه ولا أن يعتبر
نفسه مصدراً للنعمة حتى لا ينطبق عليه قوله سبحانه:{ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ
عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ
بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ }[الحج: 9-10].
أما الفخر فهو أن يتشدق الإنسان بالكلام فيحكي عما فعل وكأنه مصدر كل عطاء للبشر،
والخيلاء والفخر ممنوعان، وعلى المسلم أن يمتنع عن الحركة المرئية وعن كلام الفخر،
ولماذا جاء الحق بهذا هنا؟ إنه جاء به حتى لا يظن عبد أنه يحسن إلى غيره من
ذاتيته، إنه يحسن مما وهبه الله.
ولا يصح أن تستخدم من أحسنت إليهم وتتخذهم عبيداً؛ لأنّك تحسن عليهم. وعندما تنظر
إلى سيادتك على هؤلاء لأنك تعطيهم، فلماذا لا تنظر إلى سيادة من أعطاك؟ إنك عندما
تفعل ذلك وتنظر إلى سيادة خالقك فإنك قد التزمت الأدب معه وبعدت عن الاختيال
والفخر بما قدمت لغيرك، يقول الحق:
} إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً { [النساء: 36].
وبعدما قال الحق: } وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً { قال: } وَبِذِي الْقُرْبَىا
وَالْيَتَامَىا {.
وتحدث عن البذل والأريحية والجود والسماح وبسط اليد، أتى سبحانه بالحديث عن
المقابل وهو: } الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ... {.
(/317)
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37)
وما معنى البخل؟ إنه مشقة الإعطاء. فعندما يقطع حاجة من خاصة ماله ليعطيها لغيره
يجد في ذلك مشقة ولا يقبل عليها، لكن الكريم عنده بسط يد، وأريحية. ويرتاح للمعروف،
إذن فالبخل معناه مشقة الإعطاء، وقد يتعدى البخل ويتجاوز الحد بضن الشخص بالشيء
الذي لا يضر بذله ولا ينفع منعه؛ لأنه لا يريد أن يعطي. وهذا البخل والشح يكون في
نفس البخيل؛ لأنه أولاً قد بخل على نفسه، فإذا كان قد بخل على نفسه، أتريد أن يجود
على الناس؟
والشاعر يصور بخيلاً اسمه " عيسى " ويريد أن يذمه؛ لأنه بخيل جداً،
ويظهر صورة البخل بأنه ليس على الناس فقط بل على نفسه أيضاً، فيما لا يضر بذله ولا
ينفعه منعه. وما دام يقتر على نفسه فسيكون تقتيره على غيره أمراً متوقعاً:يقتر
عيسى على نفسه وليس بباق ولا خالدفلو يستطيع لتقتيره تنفس من منخر واحدإنه بخيل
لدرجة أنه يفكر لو استطاع أن يتنفس من فتحة أنف واحدة لفعل؛ حتى لا يتنفس بفتحتي
أنفه.
والشاعر الآخر يأتي بصورة أيضاً توضح كيف يمنع البخيل نفسه من الأريحية والإنسانية
فيقول:لو أن بيتك يا بن عم محمد إبر يضيق بها فضاء المنزلوأتاك يوسف يستعيرك إبرة
ليخيط قد قيمصه لم تفعلفالشاعر يصور أن سيدنا يوسف لو جاء إلى هذا البخيل وقال له:
أعطني أبرة لكي أخيط قد القميص الذي مزقته زِليخاء، وهذا البخيل عنده بيت يمتلئ
فِناؤه بالإبر، لضن البخيل ورفض.
إذن فالبخيل: هو من يضيق بالإعطاء، حتى أنه يضيق بإعطاء شيء لا يضر أن يبذله ولا
ينفعه أن يمنعه، ويقول الحق عن البخلاء:{ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ
بِمَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ
لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَللَّهِ مِيرَاثُ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }[آل عمران: 180].
فالحق يجعل للبخيل مما بخل به طوقاً حول عنقه، ولو أن البخيل قد بذل قليلاً، لكان
الطوق خفيفاً حول رقبته يوم القيامة. لكن البخيل كلما منع نفسه من العطاء ازداد
الطوق ثقلاً.
ولقد قال الحق أيضاً عن الذين يكنزون الذهب والفضة:{ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ
الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ
بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَىا عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىا
بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـاذَا مَا كَنَزْتُمْ
لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ }[التوبة: 34-35].
فإن كان اكتنازهم لكميات كبيرة فما سيحمى على النار منها يكون كثيراً، ويكوَوْن
به. إذن فالإنسان لا بد أن يخفف عن نفسه الكيّ، والذين يبخلون لا يكتفون بهذه
الخسيسة الخلقية في نفوسهم بل يحبُّون أيضاً أن تتعدى إلى سواهم كأنهم عشقوا
البخل، ويؤلمهم أن يروا إنساناً جواداً؛ يقول لك البخيل: لا تنفق؛ لأنه يتألم حين
يرى إنساناً جواداً، ويريد أن يَكون الناس كلهم بخلاء؛ كي لا يكون أحد أحسن منه.
إنه يعرف أن الكرم أحسن، بدليل أنه يريد أن يَكون الناس كلهم بخلاء، والبخل: ضن
بما أوتيته على من لم يُؤت. وهل البخل يكون في المال فقط؟. لا، بل يكون في كل
موهبة أوتيتها وتنقص عند غيرك ويفتقر إليها، إن ضننت بها فأنت داخل في البخل.
إن الذي يبخل بقدرته على معونة العاجز عن القدرة، والذي يبخل بما عنده من علمٍ على
من لا يعلم، هذا بخل، والذي يبخل على السفيه حتى بالحلم هذا بخل أيضاً، فإن كانت
عندك طاقة حلم فابذلها. إذن فالبخل معناه: أنك تمنع شيئا وهبه الله لك عن محتاجه،
معلم - مثلا - عنده عشرة تلاميذ يتعلمون الصنعة، ويحاول أن يستر عنهم أسرار
الصنعة؛ يكون قد بخل.
} الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ { والآية معناها يتسع
لكل أمر مادي أو قيمي. ونحن نأخذها أيضاً في المعاني العالية، فالذين أوتوا الكتاب
كانوا يعرفون صفته صلى الله عليه وسلم، ويعرفونه كما يعرفون أبناءهم، فلما جاءهم
مصدقاً لما معهم كفروا برسالته صلى الله عليه وسلم وكتموا معرفتهم به عن الناس،
وكتموا معرفتهم بما جاء به من علم وهو الصادق المصدوق. وهذا بخل في القمة، وبعد
ذلك استمروا يأمرون الناس بالبخل.
وأنتم تعرفون أن الأنصار كانت عندهم الأريحية الأنصارية، وساعة ذهب إليهم
المهاجرون، قاسموهم المال، حتى النعمة التي غرس الله في قلب المؤمن الغيْرة عليها
من أن ينالها أحد حتى ولو كان كارهاً لها، وهي نعمة المرأة؛ لأن الرجل حتى وإن كره
امرأته فهو يغار أن يأخذها أحد، ولكن الأنصار اقتسموا الزوجات، فكم من رجل كان
متزوجاً من أكثر من واحدة، طلق زوجة ليزوجها لمهاجر، فالحق سبحانه وتعالى يصعد
أريحية الأنصار حتى أن الأنصاري يأتي بالمهاجر ويقول له: انظر إلى إحدى زوجتي أو
إحدى زوجاتي فاختر ما يروقك فأطلقها وتتزوجها.
أية أريحية سامية هذه؟ فإذا كنت ذا نعمة وأنت مؤمن فأنت تحب أن تعدي أثر نعمتك إلى
غيرك، فإذا كان عندك سيارة فاخرة قد تحب أن تتصدق بها، لكن المرأة، لا. لكن هذه
الأريحية جاءت من الأنصار وقالوا: هؤلاء مهاجرون وتاركون أهلهم. وكان هذا ارتقاءً
إيمانياً في ذات الأنصار.
لقد جاء إليهم المهاجرون وفيهم شباب يمتلئون فتوة، وكانت قريش قد منعت أهليهم
عنهم، ليس معهم زوجات. فيقول الأنصاري: لماذا لا أطلق إحدى زوجاتي، وليتزوجها أخي
المهاجر لأنفس عن عواطفه. وأقل ما فيها أن أمنع نظره أن يتحول حراماً. لكنَّ
اليهود والمشركين والمنافقين يقولون لهم: لا تنفقوا على من عند رسول الله. ويقول
القرآن الكريم في هذا الموقف:
{ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ عَلَىا مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ
حَتَّىا يَنفَضُّواْ وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَـاكِنَّ
الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ }[المنافقون: 7].
لقد أخطأوا الظن بمن آمنوا برسول الله، ظنوا أنهم ن لم ينفقوا عليهم فسيرتدون عن
إيمانهم. ونسوا أن المؤمنين المهاجرين قد تركوا أموالهم وتركوا بلادهم، فمن ترك
أمواله للهجرة في سبيل الله أيكفر به عندما لا يجد شيئاً؟ لا؛ لأنه ترك كل شيء في
سبيل الله. وها هوذا سيدنا مصعب بن عمير المدلل في قريش، وكانت أمه تغدق عليه
النعمة وهو صاحب العطور، وبعد ذلك يذهب إلى المدينة، فيلبس جلد شاة، فينظر له
النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: انظروا كيف صنع الإيمان بصاحبكم، فعندما
يقول المنافقون كعبد الله بن أبيّ للأنصار: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى
ينفضّوا، يظنون أن المؤمنين يمكن أن يبيعوا إيمانهم بلقمة وكأنهم نسوا أن الذي
يبيع إيمانه باللقمة هو من يُحمل على مبدأُ باطل، لكن من يعتنق ويعتقد مبدأ حق يجد
حلاوته في النفس، وأجره مدخر عند ربه. إنه لا يتحول عنه. قال علي بن أبي طالب رضي
الله عنه:
" فجئت المسجد، فطلع علينا مصعب بن عمير في بردة له مرقوعة بفروة، وكان أنعم
غلام بمكة وأَرْفَهَ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر ما كان فيه من
النعيم، ورأى حاله التي هو عليها فذرفت عيناه عليه، ثم قال: أنتم اليوم خير أم إذا
غُدي على أحدكم بجفنة من خبز ولحم؟ فقلنا: نحن يومئذ خير نُكفَي المؤنة ونتفرغ
للعبادة، فقال: " بل أنتم اليوم خير منكم يومئذ ".
وقلنا: يجب أن تذكروا جيداً أن من حلاوة اليقين وحلاوة الإيمان أن المؤمن يضحّي
بكل شيء في سبيل رفعة الإيمان. لكن أصحاب المبادئ الباطلة لا يدخلون غيرهم فيها
إلا إن دفعوا الثمن مقدماً، أي أنهم يشترونهم. فإذا رأيت مبدأ من المبادئ يشتري
البشر فاعرف أنه مبدأ باطل.. ولو كان مبدأ حق لدفع الإنسان من أجل أن يدخل فيه
نفيس ماله، بل ويضحي في سبيله بنفسه أيضا.
ومن عجائب مبادئ الإسلام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما أخذ العهد لنفسه
في بيعة العقبة، قال له الأنصار: فإن نحن وفَّينا بهذا فماذا يكون لنا؟ كأنهم
يقولون: أنت أخذت مَالك فماذا يبقى لنا؟..
انظروا إلى سمو الإيمان، ويقين المصطفى بأن الإيمان نفسه جائزة، فهل بشرهم بأنهم
سيملكون الأرض؟ هل بشرهم بأن هؤلاء المستضعفين هم الذين سيمكنون فيها؟ لا، بل قال
لهم: لكم الجنة. فلو قال لهم: لكم سيادة الدنيا، لكان في ذلك نظر، صحيح أن الدنيا
دانت وخضعت لهم، لكن منهم من مات قبل أن تدنو له الدنيا وتذل، فأين صدق النبوءة؟
إذن فقد قال لهم عن الشيء المضمون، الشيء الذي يجد المؤمن فيه نفسه من فور أن
يموت.
قال لهم: لكم الجنة. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وحوله عصابة من
أصحابه -: " تعالوا بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا
ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوني في
معروف، فمن وَفَّى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به في الدنيا
فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله فأمره إلى الله إن شاء عاقبه وإن
شاء عفا عنه ".
لم يغرهم بأنهم سيكونون أصحاب سلطان، ولم يقل لهم: أنتم ستجلسون على البُسُط
والدنيا ستدين لكم، إنما قال لهم في أول البيعة: لكم الجنة، فإياكم أن يطمع أحد
منكم في شيء إلا في الجنة؛ ولذلك فالأنصار محبوبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم،
ولما كانت غزوة حنين وأعطى المهاجرين بعضاً من الغنائم ولم يكن للأنصار منها شيء،
وجد الأنصار في نفوسهم. فلفتهم رسول الله لفتة إيمانية وقال لهم:
" ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول
الله إلى رحالكم " فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت أمرأً من الأنصار،
ولو سلك الناس شِعباً وسلكت الأنصار شِعباً آخر لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم
الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار ".
فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا برسول الله قسماً وحظاً ".
أي سمّو إيماني هذا؟ لكن المنافقون قالوا للأنصار: لا تنفقوا أموالكم على من عند
رسول الله حتى ينفضّوا.
لكنّ المؤمنين لم ينفضّوا. إنهم قد تركوا النعيم والأموال في مكة وجاءوا إلى
الهجرة، فهم لم يأتوا ليأخذوا نعيماً مظنوناً محدوداً قليلاً، وحسبهم ما وعدوا به
من نعيم متيقن عريض باق. لقد عرفوا بالإيمان أن نعيم الدنيا إما أن تفوته بالموت
وإمّا أن يفوتك بالتقلب، لكن نعيم الآخرة ليس له حدّ ينتهي عنده، ولا يفوتك ولا
تفوته.
ثم سبحانه يقول: } وَيَكْتُمُونَ مَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ { ، وساعة ترى
شيئاً يكتم شيئاً، لا بد أن تفهم منها أن هذا الكتم معناه: منع شيء يريد أن يخرج
بطبيعته، وكما يقولون: اكتم الدم فلو لم تكتمه يستطرق. كأن المال أو العلم يريد أن
يخرج للناس ولكن أصحابه يكتمونه. وكأن الفطرة الطبيعية في كل رزق سواءً أكان رزقاً
مادياً أم رزقاً معنوياً أنه يستطرق؛ لأن كل شيء مخلوق لخدمة الإنسان، فعندما يأتي
إنسان ويحوز شيئاً مما هو مخلوق لخدمة الإنسان ويحجبه فهو بذلك يمنع الشيء،
المكتوم من رسالته؛ لأن كل شيء مخلوق لخدمة بني آدم، فعندما نعوقه عن هذه الخدمة
فالشيء يحزن، وليتسع ظنكم إلى أن الجمادات تحزن أيضاً.
{ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَآءُ وَالأَرْضُ }[الدخان: 29].
فالسماء والأرض لهما بكاء، ليس بكاء دموع إنما بكاء يعلم الله كنهه وحقيقته، إذن
فقوله: } وَيَكْتُمُونَ مَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ {. كأنه يقول: ما آتاه
لك الله من فضله ليس ملكك، وليس ذاتية فيك، فأنت لم تأت به من عندك. وانظر إلى
الكون حولك تجده كله أغيارا، ألم تر في حياتك قادراً أصبح عاجزاً؟ ألم تر غنياً
أصبح فقيراً؟ فالدنيا دول، وما من واحد إلا ويمر أمام عينيه وفي تاريخه وفي سماع
من يثق بكلامه أنه " كان " هناك غنيٌّ ثم صار فقيراً، فلماذا لا تعتبر
بالأغيار التي قد تمر بك، وبعد أن كان يُطلب منك أن تعطي، صرت في حال يطلب الحق
سبحانه من غيرك أن يعطيك، ادخر لنفسك الآن - بالخير تبذله - حتى إذا جاءتك الأغيار
تجد لك ما ينتظرك.
} الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَآ
آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً {
انظر ماذا فعل فيه البخل، إنه جعل صاحبه كافراً؛ لأن البخيل ستر نعمة كان من
الممكن أن تتسع له ولغيره، فجاء له بالشيء الذي يخيف: } وَأَعْتَدْنَا
لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً { " أعتدنا " أي أعددنا وهيأنا.
فالمسألة موجودة وقد أعدت، والنبي صلى الله عليه وسلم حينما يتكلم عن الجنة يقول:
" عُرضت عليّ الجنة لو مددتُ يدي لتناولت من قطوفها ".
هذه ثقة اليقين في أنها مسألة جاهزة وليست تحت الإعداد، ومن الذي أعد؟ إنه الله،
قوي القوي، قدرة القدر هي التي تُعد، وهو يعدها على قدر سعة قدرته، عذاب مهين؛
لأنه قد يتطاول أحد ويقول: أنا أتحمل العذاب، كما قال الشاعر:وتجلدي للشامتين
أريهمو أني لريب الدهر لا أتضعضعفسبحانه يوضح: لن يلقى البخيل العذاب فقط، بل
سيلقى عذابا مهينا. ثم يأتي الحق سبحانه بالمقابل، يأتي بغير البخيل، فيقول:
} وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ.... {.
(/318)
وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38)
إن هذه الآية الكريمة تتحدث عن الذي ينفق، لكن الغاية غير واضحة عنده. الغاية
ضعيفة لأنه ينفق رئاء الناس، إنه يريد بالإنفاق مراءاة الناس؛ ولذلك يقول العارفون
بفضل الله: اختر من يثمن عطاءك. فأنت عندما تعطي شيئاً لإنسان فهو يثمن هذا الشيء
بإمكاناته وقدراته، سواء بكلمة ثناء يقولها مثلاً أو بغير ذلك، لكن العطاء لله كيف
يُثَمِّنه سبحانه؟ لا بد أن يكون الثمن غالياً.
إذن فالعاقل ينظر لمن سيعطي النعمة، ولنا الأسوة في سيدنا عثمان رضي الله عنه
عندما علم التجار أن هناك تجارة آتية له، جاء كل التجار ليشتروا منه البضاعة ثم
يبيعوها ليربحوا وقال لهم: جاءني أكثر من ثمنكم، وفي النهاية قال لهم: أنا بعتها
لله - إذن فقد تاجر سيدنا عثمان مع الله، فرفع من ثمن بضاعته، فالذي يعطي لرئاء
الناس نقول له: أنت خائب؛ لأنك ما ثمنت نعمتك، بل ألقيتها تافهة الثمن، ماذا سيفعل
لك الناس؟ هم قد يحسدونك على نعمتك ويتمنون أن يأخذوها منك، فلماذا ترائيهم؟ إذن
فهذه صفقة فاشلة خاسرة؛ ولذلك قال الحق:{ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىا مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّةَ }[التوبة:
111].
وما دام سبحانه هو الذي اشترى فلا بد أن الثمن كبير؛ لأنه يعطي النعيم الذي ليس
فيه أغيار، ففي الجنة لا تفوت النعمة مؤمناً، ولا هو يفوتها. فالذي يرائي الناس
خاسر، ولا يعرف أصول التجارة؛ لأنه لم يعرف طعم التجارة مع الله؛ ولذلك شبه عمله
في آية أخرى بقوله:{ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ
فَتَرَكَهُ صَلْداً }[البقرة: 264].
و " الصفوان " هو المروة وجمعه مرو وهي حجارة بيض براقة، والمروة ناعمة
وليست خشنة. لكنْ بها بعض من الثنايا يدخل فيها التراب؛ ولأن المروة ناعمة جداً
فقليل من الماء ولو كان رذاذاً يذهب بالتراب. والذي ينفق ماله رئاء الناس هو من
تتضح له قضية الإيمان ولكن لم يثبت الإيمان في قلبه بعد، فلو كنت تعلم أنك تريد أن
تبيع سلعة وهناك تاجر يعطيك فيها ثمنا أغلى فلماذا تعطيها للأقل ثمنا؟ إنك إن فعلت
فقد خبت وخسرت فأوضح لك الحق: ما دمت تريد رئاء الناس إذن فأنت ليس عندك إيمان
بالذي يشتري بأغلى، فتكون في عالم الاقتصاد تاجرا فاشلاً، ولذلك قلنا: ليحذر كل
واحد حين يعطي أن يخاف من العطاء، فالعطاء يستقبله الله بحسن الأجر، ولكن عليه ألا
يعطي بضجيج ودعاية تفضح عطاءه؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم - ضمن السبعة
الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله:
" رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ".
إنّ العبد الصالح حين يعطي فهو يعلم أن يده هي العليا ويده خير من اليد السفلى،
فليستر على الناس المحتاجين سفلية أيديهم، ولا يجعلها واضحة.
ولكن الحق سبحانه وتعالى لا يريد أن يضيق مجال الإعطاء فقال:{ إِن تُبْدُواْ
الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَآءَ فَهُوَ
خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }[البقرة: 271].
فإبداء الصدقات لا مانع منه إن كان من يفعل ذلك يريد أن يكون أسوة، المهم أن يخرج
الرياء من القلب لحظة إعطاء الصدقة، فالحق يوضح: إياك أن تنفق وفيك رئاء، أما من
يخرج الصدقة وفي قلبه رياء فالله لا يحرم المحتاجين من عطاء معطٍ؛ لأنه سبحانه
يؤكد: خذوا منه وهو الخاسر؛ لأنه لن يأخذ ثواباً، لكن المجتمع ينتفع.
إن الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس هم من الذين } وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ {
لأنه سبحانه هو المعطي، وهو يحب أن يضع المسلم عطاءه في يده } وَلاَ يُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ { فلو كانوا يؤمنون باليوم الآخر لرأوا
الجزاء الباقي، فأنت إذا كنت تحب نعمتك فخذ النعمة وحاول أن تجعلها مثمرة.. أي
كثيرة الثمار، فالذي لم يتصدق من ماله ولم ينفقه حتى على نفسه يكون قد أنهى مسألة
المال وعمر ماله معه عند هذا الحد، أما الذي أنفقه في سبيل الله فسيجده في الآخرة،
فيكون قد أطال عمر ماله.
فالبخيل هو عدو ماله؛ لأنه لم يستطيع أن يثمره، ولذلك يقول رسول الله صلى الله
عليه وسلم في الحديث:
" إن الله تعالى إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم وكل أمةٍ
جاثية، فأول من يدعو به رجل جمع القرآن، ورجل قُتل في سبيل الله، ورجل كثير المال،
فيقول الله للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟
قال: بلى يا رب، قال: فماذا عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل وآناء
النهار، فيقول الله له: كذبت وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله له: بل أردت أن
يُقال: فلان قارئ فقد قيل ذلك، ويؤتي بصاحب المال.... ".
لكن هل قال لك الدين: لا تفعل؟ لا، افعل لينتفع الناس بالرغم منك.
والبخيل عندما يُكَثَّر ماله يكون قد حرّم على نفسه هذا المال ثم يأتي ابن له يريد
أن يستمتع بالمال، ولذلك يقال في الريف: مال الكُنزي للنزُهي، ولا أحد بقادر أن
يخدع خالقه أبداً!! فسبحانه يوضح: أنا أعطيتك نعمة أنت لم تعطها لأحد، لكني سأيسر
السبيل لطائع لي، إياك أن تظن أنك خدعتني عندما بخلت، فبخلك يقع عليك. إذن فأنت قد
ضيقت رزقك بالبخل ولو أنفقت لأعطاك الله خيراً كثيراً " وما أنفقتم من شيء
فهو يخلقه " لكنك تركته لورثتك وسيأخذونه ليكون رزقهم متسعاً، وأيضاً فإنك
حين تمنع المال عن غيرك فأنت قد يسرت سبيلاً لمن يبذل.
كيف؟ لنفترض أن إنساناً كريماً، وكرمه لا يدعه يتوارى من السائل، والناس لها أمل
فيه. وبعد ذلك لم ينهض دخله بتبعاته، فإن كان عنده " فدانان " فهو يبيع
فداناً ليفرج به على المحتاجين، وعندما يبيع الفدان سيشتريه من يكتنز، فيكون
المكتنز قد يسَّر سبيلاً للكريم، فإياك أن تظن أنك قادر على خداع من خلقك وخلق
الكون وأعطاك هذه النعمة، وهذا يشبه صاحب السيئة الذي منّ الله عليه بالتوبة
والرجوع إلى الله، إننا نقول له: إياك أن نعتقد أنك اختلست شهوة من الله أبداً.
أنت اختلست شهوة ستلهبك أخيراً، وتجعلك تفعل حسنات مثلها عشرين مرة، لأنه سبحانه
قد قال:{ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ }[هود: 114].
فأنت لن تضحك على خالقك لأنه سيجعلها وراءك، فتعمل خيراً كثيراً، كذلك البخيل نقول
له: ستيسر سبيلاً لكريم بذّال، والحق سبحانه وتعالى بيّن في آخر الآية السبب الذي
حمله على ذلك، إن الأسباب متعددة. لكن تجمعها كلمة " شيطان " ، فكل من
يمنعك من سبيل الهدى هو شيطان، ابتداءً من شهوات نفسك وغفلة عقلك عن المنهج، إنّها
قرين سوء يزين لك الفحشاء، ويزين لك الإثم، إنّ وراء كل هذه الأمور شيطانا يوسوس
إليك، وكل هؤلاء نسميهم " شيطاناً " لأن الشيطان هو من يبعدك عن المنهج،
وهناك شياطين من الجن، وشياطين من الإنس، فالنفس حين تحدث الإنسان ألاّ يلتزم
بالمنهج؛ لأن التزامه بالمنهج سيفوت عليه فرصة شهوة - هي شيطان. إنّ النفس التي
ترى الشهوة العاجلة وتضيع منها شهوة آجلة لا حدود لها - هي شيطان. فالشيطان إذن هو
الذي جعلهم يبخلون ويأمرون الناس بالبخل.. وهذا الشيطان وساعة يكون قريناً
للإنسان، فمعنى ذلك أنه مقترن به، والقِرن بكسر القاف - هو من تنازله.
وكلمة " قَرْن " تطلق أيضاً على فترة من الزمن هي مائة عام؛ لأنها تقرن
الأجيال ببعضها، فالشيطان قرين أي ملازم لصاحبه ومقترن به، فيقول الحق: } وَمَن
يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قِرِيناً { ، أي بئس هذا القرين لأنه
القرين الذي لا ينفعني ولا يصدني عن مجال ضار.
ولذلك فالناس قد يحب بعضهم بعضا في الدنيا لأنهم يجتمعون على معصية. أما في الآخرة
فماذا يفعلون؟ يقول الحق:{ الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ
إِلاَّ الْمُتَّقِينَ }[الزخرف: 67].
لأن المتقين يعين بعضهم بعضا على الطاعة، فالواحد منهم يقول لصاحبه: كنت تعينني
على الطاعة، كنت توجهني وتذكرني إن غفلت، فيزداد الحب بينهما. لكن الإنسان يلعن من
أغواه وأول من نلعن يوم القيامة نلعن الشيطان، وكذلك الشيطان أول ما يتبرأ يتبرأ
منّا؛ ولذلك فعندما تحين المجادلة نجد الشيطان يقول لمن أغواهم وأضلهم:{ وَمَا
كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ
لِي }
[إبراهيم: 22].
والسلطان هو: القوة العالية التي تجبر مَنْ دونها، فالإنسان تُجبر مادته وبنيته
بسلطان القهر المادي، ويُقهر في اعتقاداته بالدليل والحجة. والإكراه في المادة
إنما يتحكم في القالب، لكنه لا يتحكم في القلب، فقد تكون ضعيفاً أمام واحد قوي
ولكنك تمسك له سوطا وتقول له: اسجد لي. اخضع، فيسجد لك ويخضع. وأنت بذلك تقهر
القالب، لكنك لم تقهر القلب، هذا هو السلطان المادي الذي يقهر القالب، لكن إذا جاء
لك إنسان بالحجج وأقنعك، فهذا قهر إقناع، وقدرة قهر العقول بالإقناع نوع من
السلطان أيضاً.
إذن فالسلطان يأتي من ناحيتين: سلطان يقهر القالب، وسلطان يقهر فقه القلب، فسلطان
القالب يجعلك تخضع قهراً عنك، وسلطان الحجة والبرهان يجعلك تفعل برضي منك،
والشيطان يقول لمن اتبعوه: يا من جعلتموني قريناً لكم لا تفارقوني، أنتم أغبياء؛
فليس ليَ عليكم سلطان، وما كان ليَ من القوة بحيث أستطيع أن أرغمكم على أن ترتكبوا
المعاصي، وما كان عندي منطق ولا حجة لكي أقنعكم أن تفعلوا المعاصي، ولكنكم كنتم
غافلين، أنا أشرت لكم فقط فلست أملك قوة أقهر مادتكم بها، ولا برهان عندي لأسيطر
على عقولكم:{ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ
فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ }[إبراهيم: 22].
إذن فالخيبة منكم وأنتم، ولذلك يقول الحق:{ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ
أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ }[إبراهيم: 22].
ماذا يعني " مصرخكم "؟ إنها استغاثة واحد في أزمة لا يقدر عليها وضاقت
به الأسباب، عندئذ يستنصر بغيره، فيصرخ على غيره، أي يناديهم لإنقاذه ولنجدته،
فالذي يستجيب له ويأتي لإنقاذه يقال له: أزال صراخه، إذن فاصرخه يعني سارع وأجاب
صرخته، والشيطان يقول: إن استنجدتم بي فلن أنجدكم وأنتم لن تنجدوني، فكل واحد منا
عرف مسئوليته وقدرته. وبالنسبة للإنسان فقد قال الحق:{ وَكُلَّ إِنْسَانٍ
أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ }[الإسراء: 13].
فمن يتخذ الشيطان قريناً، " فساء قرينا " وكلمة " ساء " مثل
كلمة " بئس " كلتاهما تستعمل لذم وتقبيح الشيء أي، فبئس أن يكون الشيطان
قريناً لك؛ لأن الشيطان أخذ على نفسه العهد أمام الله ألا يغوي من يطيعه سبحانه
ويغوي مَن سواهم من الناس أجمعين.
وعندما نتأمل الآية، نجد أن الحق يقول: } وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ
رِئَـآءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن
يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قِرِيناً {. فالآية إذن تتناول لونا من
الإنفاق يحبط الله ثوابه. فنفقة المرائي تتعدى إلى نفع غيره لكن لا ينتفع المرائي
منها، بل تكون قد أنقصت من ماله ولم تثمر عند ربه.
والحق يلفتنا إلى أن ذلك كله راجع إلى معوقات الإيمان الذي يتطلب من الإنسان أن
يكون في كل حركات حياته على منهاج ربه، هذه المعوقات تظهر في النفس البشرية وفي
شهواتها التي تزين الإقبال على المعصية للشهوة العاجلة، وتزين الراحة في ترك
الأوامر، والشيطان أيضاً يتمثل في المعوقات، والشيطان كما نعلم: اسم للعاصي من
الجنس الثاني من المكلفين وهم الجن ويتمثل في إبليس وفي جنوده، ويطلق على كل متمرد
من الإنس يقول تعالى: } وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ
الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىا بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً
{ وأنت حين تريد أن تعرف المعوق أهو من نفسك أن تأتيها وحدها، أم معصية إن عزّ
عليك أن تفعلها فأنت تنتقل إلى معصية سواها؟ هل هي معصية ملازمة أو معصية تنتقل
منها إلى غيرها؟
فهب أن إنساناً كانت معصية نفسه في أن يشتهي ما حُرّم عليه، أو أن يسرق مال غيره،
نقول له: أوقفت في المعصية عند هذه بحيث لا تتعداها إلى غيرها؟ يقول نعم.
فبقية المعاصي لا ألتفت إليها. نقول: تلك شهوة نفس، فإن كانت المعصية حين تمتنع
عليك من سرقة مثلاً فأنت تلتفت إلى معصية أخرى. فهذا لون من المعاصي ليس من حظ
النفس، وإما هو حظ الشيطان منك؛ لأن الشيطان يريد العاصي عاصياً على أي لون من
المعصية، فإن عزّ عليه أن يلوي زمامه إلى لون من المعصية، انتقل إلى معصية أخرى
لعلّه يصادف ناحية الضعف فيه.
لكن النفس حين تشتهي فإنها تشتهي شيئاً بعينه، فأنت إذن تستطيع أن تعرف المعوق من
قبل نفسك أم من قبل الشيطان، فإن وقفت عند معصية واحدة لا تتعداها وتلح عليك هذه
المعصية، وكلما عزّ عليك باب من أبوابها تجد باباً آخر لتصل إليها، فتلك شهوة
نفسك. وإن عزّت عليك معصية تنتقل إلى معصية أخرى فهذا من عمل الشيطان؛ لأن الشيطان
لا يريد عاصياً من لون واحد، وإنما يريدك عاصياً على إطلاقك.
وعداوة الشيطان - كما نعلم - هي عداوة مسبقة؛ فقد امتنع اليشطان عن السجود لآدم
بحجة أنه خير من آدم. وحذر الله آدم. ولا بد أن آدم عليه السلام قد نقل هذا
التحذير لذريته وأَعْلَمَهٌم أن الشيطان عدو. ولكن الغفلة حين تسيطر على النفوس
تفسح مجالا للشيطان لينفذ إلى نفس الإنسان، والشيطان - كما نعرف - للطائع ليفسد
عليه طاعته، ولهذا يقول الله عنه:{ لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ
}[الأعراف: 16].
إذن فمقعد الشيطان ليس في الخمارة أو في مكان فساد، إنما يجلس على باب المسجد، لكي
يفسد على كل ذاهب إلى الطاعة طاعته. وهذا معنى: } لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ
الْمُسْتَقِيمَ {؛ ولذلك كانوا يقولون: إن الطوائف الأقلية غير المسلمة في أي بلد
إسلامي لا تحدث بينهم الشحناء، ولا البغضاء، ولا حرق الزروع ولا سمّ الشيطان ضمن
أن هؤلاء وصلوا إلى قمة المعصية فابتعد عن إغوائهم، أما المسلمون فهم أهل الطريق
المستقيم، لذلك يركز الشيطان في عمله معهم، إذن فما دام عمل الشيطان على الطريق
المستقيم فهو يأتي لأصحاب منهج الهداية، أما الفاسق بطبيعته، والذي كَفَرَ كُفر
القمة فالشيطان ليس له عمل معه؛ لأنه فعل أكثر مما يطلب الشيطان من النفس البشرية.
والحق سبحانه وتعالى يقول: } وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَـآءَ
النَّاسِ { أي: أنفقوا وأنقصوا ما لهم فلماذا المراءاة إذن؟ لأن الشيطان قرينهم،
وعندما ينفقون فهذا عمل طاعة، ولماذا يترك لهم هذا العمل ليسلم الثواب لهم؟ فلا بد
أن يفسد لهم هذا العمل الذي عملوه، وهو يقول: } وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ
قَرِيناً فَسَآءَ قِرِيناً { مثل هذا القرين أيمدح أم يذم؟ إنه يذم بطبيعة الحال؛
ولذلك قال الله: } فَسَآءَ قِرِيناً { أي بئس ذلك القرين، فالقرين الذي يلفتك عن
فعل الخير هو الذي بعد أن أنقص مالك بالنفقة أفسد عليك الثواب بالرياء.
(/319)
وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39)
وقوله سبحانه: { وَمَاذَا عَلَيْهِمْ } وأي تبعه ومشقة وضرر عليهم من الإيمان
والإنفاق في سبيل الله؟ إنه سبحانه لم يستفهم منهم عما يصيبهم من ذلك ولكنه - جل
شأنه - يَذُمُّهُمْ ويوبخهم ويصمهم بالجهل والغفلة عما ينفعهم.
فالتلميذ الذي يلعب، فيرسب تقول له: وماذا عليك لو أنك ذاكرت؟! يعني أي ضرر عليك
في هذا، إذن فمعنى ذلك أنها لا تقال إلا لإنسان في قدرته أن يفعل الفعل، فمثل هذا
التلميذ يقدر أن يذاكر. لكننا لا نأتي لإنسان فيه صفة لا دخل له فيها كالقصر في
القامة مثلاً ثم نقول لك: ماذا عليك لو كنت طويلاً؟! هذا قول لا ينفع ولا يصح.
إذن فماذا عليك. لا تقال إلا لمن في قدرته الاختيارية أن يكون كذلك، أما من لا
يكون في قدرته ألا يكون كذلك فلا تقال له. ونقول ذلك لأن طائفة الجبريّة قالت: إن
الذي كفر لا يقدر أن يؤمن فالكافر يظل كافراً، لكنهم لم يلتفتوا إلى قول ربنا: {
وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } فمعنى هذا
القول أن الباب مفتوح. وإلا لو كانوا ملزمين بالكفر لما قال ربنا: { وَمَاذَا
عَلَيْهِمْ }. وهذه الآية لا ترد فقط على مذهب الجبريَّة، بل تهدم مذهب الجبريَّة
كله. فالإنسان ليس مجبراً على فعل وتنتهي المسألة، وكما يقولون: كالريشة في مهب
الريح. ومثلما قال الشاعر:ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل
بالماءنقول لهم: أنتم نسبتم لله - والعياذ بالله - الظلم، فالله سبحانه وتعالى لم
يطلب من الإنسان أن يؤمن به إلا وقد أودع فيه قوة اختيارية تختار بين البديلات.
وأنتم لم تفطنوا إلى حقيقة كتابة كل شيء أزلاً فأخذتم منها الشيء الذي لا بد للناس
أن تنفذه ولم تلتفتوا إلى أن هناك فرقاً بين أن يكون قد كتب ليلزم، وأن يكون قد
كتب لأنه علم.
هو سبحانه كتب لماذا؟ لأنه علم أزلاً أن عبده سيختار كذا ويختار كذا. إذن فالكتابة
ليست للإلزام ولكن لسبق العلم. والعلم صفة انكشاف لا صفة تأثير.
وحتى نوضح ذلك نقول: إن الصفات نوعان: صفة تكشف الأشياء على ما هي عليه بصرف النظر
عن أن تقهر أو لا تقهر، والقدرة صفة إبراز وليست صفة انكشاف، ومثال ذلك عميد
الكلية الذي يأتي فيقول لأستاذ مادة من المواد: جاءت لي مكافأة للطالب النابغ في
مادة كذا، فاصنع اختباراً للطلاب حتى نعطي هذه الجائزة لمن يستحقها. فيقول أستاذ
المادة: لا ضرورة للاختبار لأنني أعلمهم وأعرف مواقعهم من الجدّ ومواقعهم من
الاجتهاد ومواقعهم من فقه العلم، فلان هو الأول وأعطه الجائزة، فلا يقنع عميد
الكلية ويضع هو اختباراً أو يأتي بأساتذة آخرين يضعون الاختبار دون هذا الأستاذ.
وبعد ذلك يفوز الطالب الذي حدده الأستاذ مسبقاً بالدرجة الأولى.
أساعة أجاب الطالب عن الأسئلة التي وضعت له. أكان مع الطالب الذي فاز بالمركز
الأول من يرغمه على أن يكتب المادة العلمية التي جعلته يحصل على الجائزة؟ لا.
فلماذا قال الأستاذ عنه ذلك؟ لأنه علم بمن عنده قدرة من العلم. لقد حكم الأستاذ
أولاً لأنه يعلم.
ولله المثل الأعلى من قبل ومن بعد، فالحق سبحانه وتعالى أعطى للناس الاختيار بين
البديلات، لكنه أوضح: أنا أعلم أن عبدي سيختار كذا وكذا. إذن فهذا سبق علم لا قهر
قدرة. فالقدرة لها تأثير والعلم لا تأثير له ولا قهر. وقول الله هنا: } وَمَاذَا
عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللَّهِ { فقوله: } وَمَاذَا عَلَيْهِمْ { تعني أي ضرر
يلحقهم. كلمة " عليهم " دائماً تكشف للإنسان ما عليه؛ لذلك لا يقول
" لهم " بل يقول: أي ضرر كان يلحقهم لو أنهم آمنوا بالله؛ ولذلك يقول
الحق:{ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُواْ رَبِّهِمْ }[البقرة: 46].
لم يقل سبحانه: الذين يتيقنون. بل إن مجرد الظن بلقاء الله جعلهم يعملون الأعمال
الصالحة، فما بالك إذا كان العبد متيقناً؟ إن المتيقن يقوم بالعمل الصالح من باب
أولى. ولذلك فهذه المسألة أخرجت " المعرّي " عما أتهموه به من أنه ينكر
البعث، صحيح أنه في أول حياته قال:تحطمنا الأيام حتى كأننا زجاج ولكن لا يُعاد لنا
سَبْكُفقالوا: إن قوله " لا يعاد له سبك " معناه أنه ينفي قدرة الحق على
أن يبعثنا مرة ثانية، مع أنه من الممكن أن يتأول فيها، أي لا يعاد لنا سبك في
حياتنا هذه، ونحن لا نرى من مات يعود مرة ثانية. ونقول كذلك: إن هذه قالها في أول
حياته. ولكنه قال في آخر الأمر:زعم المنجم والطبيب كلاهما لا تحشر الأجساد قلت إليكماإن
صح قولكما فلست بخاسر أو صح قولي فالخسار عليكمافهو يطلب من الطبيب والمنجم أن
يكفا عن إفساد العقول بالشك. وهب أنه اعتقد ألا بعث، وواحد آخر اعتقد أن فيه
بعثاً، نقول له: إما أن يجيء بعث فيكذب من قال: لا بعث، وإما ألا يجيء بعث، فإذا
لم يجيء البعث، ما الذي ضر من آمن بالبعث؟ وإذا جاء البعث فمن الذي خسر؟ سيخسر من
أنكره، إذن فالذي ينكر البعث يخسر ولا يكسب، لكن من قال: إن هناك بعثاً لا يخسر،
وهكذا.
وقول الحق: } وَمَاذَا عَلَيْهِمْ { إنه تساؤل عن أي ضرر كان يلحقهم } لَوْ
آمَنُواْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ
{ إن من يعطي الصدقة ويضعها في يد الله يستثمرها عند المعطي، لكن عندما يقوم بذلك
رئاء الناس فهو يثمر عند من لا يعطي، وبذلك يكونون قد خسروا أموالهم وخسروا تثمير
الأموال في يد الله بالثواب في الآخرة.
} وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنْفَقُواْ
مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِم عَلِيماً {. وعلم الله متغلغل
وسبحانه يعلم الخفايا. وسبحانه محيط بكلّ شيء علما؛ لذلك يقول الحق بعد ذلك: }
إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ... {.
(/320)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)
والظلم: الأصل فيه محبة الانتفاع بجهد غيره، فعندما تظلم واحداً فهذا يعني أنك
تأخذ حقه، وحقه ما جاء به بجهده وعرقه، وتأخذه أنت بدون جهد ولا عرق. ويتبع هذا أن
يكون الظالم قوياً. لكن ماذا عن الذي يظلم إنساناً لحساب إنسان آخر؟ إنه لم ينتفع
بظلمه ولكن غيره هو الذي انتفع. وهذا شرّ من الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن
رسول الله عليه السلام قال: " بادروا بالأعمال ستكون فتنا كقطع الليل المظلم
يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً أو يمسي مؤمنا ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من
الدنيا ".
لأن ظلم إنساناً لنفع عبد آخر ولم يأخذ هو شيئاً لنفسه.
إذن فالظلم إما أن يكون الانتفاع بثمرة جهد غيرك من غير كد، وإما أن تنفع شخصا
بجهد غيره، والله سبحانه وتعالى إذا نظرنا إليه - وهو قوة القوى - إذا أراد أن
يظلم - وحاشا لله أن يظلم - فماذا يكون شكل ظلمه؟ إن الظلم يتناسب مع قوة الظالم،
إذن فقوة القوى عندما تظلم فظلمها لا يُطاق، ثم لماذا يظلم؟ وماذا يريد أن يأخذ
وهو من وهب؟ إنه سبحانه مستغنٍ، ولن يأخذ من هذا ليعطي ذاك، فكلهم بالنسبة له
سواء؛ لأنه سبحانه لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً، كلهم متساوون، فلماذا يظلم؟
إن الظلم بالنسبة لله محال عقلياً ومحال منطقياً، فلا يمكن لله أن يضيع عمل حسنة
ولا أن يضاعف سيئة. فهذه لا تتأتى، وتلك لا تتأتى، والله واهب كل النعم للناس
جميعاً. وما دام هو من وهب كل النعم، فسبحانه غير منتفع بآثاره في خلقه. إن الحق
سبحانه وتعالى ينفي عن نفسه الظلم في قوله:{ وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ
لِّلْعَبِيدِ }[فصلت: 46].
فكلمة " ظلاّم " مثل قولنا: فلان " أكّال " وفلان "
نوّام " وهي تختلف عن قولنا: فلان نائم، يعني نام مرة، ولكن " نوام
" فهذا يعني مداومته على النوم كثيراً، أي أنه إما أن يكون مبالغاً في الحدث،
وإما أن يكون مكرراً للحدث، فالمبالغة - كما نعرف - تأتي مرة لأن الحدث واحد لكنه
قوي، ومرة يكون الحدث عادياً لكنه مكرر، هذه هي المبالغة، فقوله سبحانه وتعالى: {
وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ } نفي للمبالغة، وهذا لا يقتضي نفي غير المبالغة. ونقول:
الله لو ظلم لكان ظلمه مناسبا قدرته فيكون كبيراً كثيراً، ولو كان ظالما لشمل ظلمه
وعَمّ الخلق جميعا فيكون كذلك كبيراً كثيراً ولكن الله - سبحانه - يقول: { إِنَّ
اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ }. وسبحانه يحسب السيئة سيئة واحدة. أما
الحسنة فيضاعفها، { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } " مثقال
": يعني ثقل ووزن، والثقل هو: مقدار جاذبية الأرض للشيء.
فعندما يكون وزن الشيء قليلاً وتُلقيه من أعلى، فهو ينزل ببطء، أما الشيء الثقيل
فعندما تلقيه من أعلى فهو ينزل بسرعة؛ لأن قوة الجاذبية له تكون أقوى، والإنسان
منا حين ينظر إلى كلمة " مثقال "؛ ويعبر عنها بأنها وزن، فمعيار الميزان
هنا " الذرة ". وما " الذرة "؟
قال العلماء فيها: هي رأس النملة الصغيرة التي لا تكاد تُرى بالعين المجردة، أو
النملة نفسها. هذه مقولة، أو الذرة كما قال ابن عباس حين سُئل عنها: أخذ شيئاً من
تراب الأرض ثم نفخه، فلما نفخ تطاير التراب في الهواء، فقال لهم: كل واحدة من هذه
اسمها " ذرة " وهو ما نسميه " الهباء " ، ونحن الآن الموجودين
في مكان واحد لا نرى شيئاً من الجو، لكن انظر إلى حزمة ضوئية - أي ثقب تدخل منه
أشعة الشمس - فساعة ترى ثقباً يُدخل أشعة الشمس ترى غباراً كثيراً يسبح. والمهم
أنك لا تراه جارياً إلا في شعاع الشمس فقط، فهو كان موجوداً ونستنشقه، فما الذي
جعلني لا أراه؟. لأنه بلغ من الصغر واللطف مبلغاً فوق طوق العين أن تراه، فالذرة
واحدة من هذا الغبار، واسمه " الهباء " وواحدة الهباء هي الذرة.
إن الحق سبحانه وتعالى يوضح لنا: أن كل شيء موزون إلى أقل درجات الوزن وهو الذرة،
وهي الهباء، ونحن لا نراها إلا في نور محجوز، لأننا في النور القوي لا نرى تلك
الذرات، بل نراها فقط في نور له مصدر واحد ونافذ، والحق سبحانه وتعالى لا يظلم
مثقال ذرة، وهذا تمثيل فقط؛ لأن الذرة يمكن أن تكبر، فالذي يكبر يمكن أن يصغر،
وقال الحق ذلك ولم يكن عند الإنسان المقياس الذي يُفتّت به الذرة، وقد حدث أن
استطاع الإنسان ذلك، فبعد الحرب العالمية الأولى صنعت ألمانيا اسطوانات تحطيم
الجوهر الفرد، أو الجزء الذي لا يتجزأ كما كان يصفه الفلاسفة قديماً، ومعنى جزء لا
يتجزأ أي لا يمكن أن يأتي أقل منه. ولم يلتفتوا إلى أن أي شيء له مادة إن كان يقبل
التكبير فهو أيضاً يقبل التصغير. والمهم أن توجد عند الإنسان الآلة التي تدرك الصغر.
ومثال ذلك عندما صعدت الأقمار الصناعية وأخذوا من الجو صورة لمدينة نيويورك؛ خرجت
الصورة صغيرة لمدينة نيويورك. بعد ذلك كبروا الصورة؛ فأخرجوا أرقام السيارات التي
كانت تسير!. كيف حدث هذا؟ لقد كانت الصورة الصغيرة تحتوي تفاصيل أكثر دقة لا تراها
العين المجردة، وعندما يتم تكبيرها يتضح كل شيء حتى أرقام السيارات وضحت بعد أن
كانت غير ظاهرة، وإن كنت موجوداً في نيويورك في هذه الساعة أكنت تظهر بها؟ لا يمكن
أن تظهر.
. لماذا؟.. لأن صورتك صغرت إلى الحد والقدر الذي لا يمكنك أن تراها وهي بهذا الحجم
وهكذا، فالنور عندما يكون محزوماً، فالحزمة الضوئية التي تدخل إلى مكان ما، لها من
القوة التي تظهر ذرة الهباء الذي لم تكن تراها.
إذن فنور من الله مخلوق ظهرت فيه الذرة، أيخفي على نور الخالق ذرة؟ لا يمكن أن
تخفي عليه سبحانه ذرة؛ لأن النور الذي خلقه أظهر الذرة والهباء الذي كان موجوداً
ولا نراه، فلن يخفي على نور النور ذرة في الأرض.
وهكذا نعرف أن المسألة بالنسبة لله عملية قطعية، وعندما اخترعوا اسطوانة تحطيم
الجوهر الفرد كانت مثل عصارة القصب، ونحن نعرف أن عود القصب يوضع بين عمودين من
الحديد. والعمود الواحد اسمه " اسطوانة " وعندما يضيقون الاسطوانتين ثم
يمررون عود القصب بينهما، فلا بد أن تكون المسافة بينهما ضيقة حتى إذا نفذ عود
القصب يُعصر، إذن فكلما ضيقت بين الاسطوانتين يزداد العصر، وما دامت الاسطوانتان
تجري كل واحدة منهما على الأخرى فهنا فراغ ضئيل جداً، وحاول العلماء الألمان تضييق
الاسطوانتين تضييقاً يفتت لنا هذه الذرة، ونجحوا، وأصبح هناك شيء آخر أقل من
الذرة.
وظن السطحيون الذين يتربصون بالإسلام وبكتاب الله الدوائر، ويريدون أن يجدوا فيه
منفذاً. قالوا: إن الله قال: } فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ
{. على أنها أقل شيء وظهر أن هناك أقل من مثقال ذرة؛ لأن الذرة تحطمت. وقلنا
لهؤلاء: أنتم أخذتم آية ونسيتم آيات، فالقرآن قد جاء معجزة ليواجه مجتمعات شتى من
لدن رسول الله إلى أن تقوم الساعة، فلا بد أن يكون فيه ما يشبع العقول من لدن رسول
الله صلى الله عليه وسلم إلى أن تقوم الساعة. ولو أن عطاء القرآن صُب مرة واحدة في
عصر الرسالة لجاءت القرون التالية وليس للقرآن عطاء. فأراد ربنا أن يكون القرآن هو
المعجزة والمنهج المتضمن للأحكام والكليات، وهذه أمور مفهومة بالنسبة لعهد رسول
الله صلى الله عليه وسلم وإلى أن تقوم الساعة. لكن لا يزال هناك كونيات ونواميس
للحق في الوجود لم تظهر بعد، فسبحانه يعطي كل عصر على قدر اتساع فهمه.
وعندما نعرف أسرار قضية كونية لا يزيد علينا حكم، فعندما نعرف قضية مثلاً كقضية
الذرة وتفتيتها ووجود إشارات لها في القرآن الكريم لا يزيد ذلك علينا أي حكم. بل
ظلت الأحكام كما هي. فالأحكام واضحة كل الوضوح؛ لأن من يفعلها يثاب، ومن لا يفعلها
يعاقب. والناس الذين ستقوم عليهم الساعة مثل الناس الذين عاصروا حضرة النبي عليه
الصلاة والسلام؛ لذلك لا بد أن تكون الأحكام واحدة، فمن ناحية أن القرآن كتاب
أحكام فهذا أمر واضح وضوحاً لا زيادة فيه، ولم يفهم المعاصر لرسول الله حكماً ثم
جاء الإنسان في زماننا ليفهم حكماً آخر، بل كل الأحكام سواء.
والقرآن كمعجزة هو أيضاً معجزة للجميع. ولا بد أن تكون هناك معجزة لكل جيل. ولكل
عصر، ويأتي الإعجاز في الآيات الكونية التي لو لم نعرفها فلن يحدث شيء بالنسبة
للأحكام. مثال ذلك: لو لم نعرف أن الأرض تدور أكان انتفاعنا بالأرض يقل؟ لا.. فنحن
ننتفع بالأرض سواء أعلمنا كرويتها أم لم نعلم، لكن الحق سبحانه وتعالى يواجه
العقول بما يمكن أن تطيقه. فإذا ما ارتقت العقول وتنورت واستنارت بمقتضى طموحاتها
العلمية في الكون. فالقرآن إن لم يؤيدها فهو لا يعارضها.
وعندما فتتوا الذرة قال المشككون: إن ربنا يضرب بالذرة المثل لأصغر شيء } فَمَن
يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ { لكن هناك ما هو أقل من الذرة. ونرد
عليهم: أنتم نظرتم إلى آية ونسيتم آيات. أنتم لم تنتبهوا - كما قلنا - إلى أن من
فتتوا الذرة إلى إلكترونات وأيونات وموجب وسالب حاولوا بعد ذلك أن يفتتوا ما فُتت.
والآية التي نحن بصددها الآن: } إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ {
أرضت العقول التي تعرف الذرة الأصلية هذه واحدة، ولماذا لا نسمع قول الله:{ وَمَا
تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ
عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ
عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَآءِ وَلاَ
أَصْغَرَ مِن ذالِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }[يونس: 61].
إذن فهناك ذرة وهناك أصغر من الذرة، ولم تأخذوا في بالكم أن " أصغر "
هذه أفعل تفضيل، ولا يوجد أصغر إلا إن وجد صغير، إذن فهناك ذرة، وهناك صغير عن
الذرة، وهناك أصغر من الصغير، فهناك إذن ثلاث مراحل، فإن فتتوها فلنا رصيد في
القرآن يقول بالصغر، فإن فتتتم المفتت، فلنا رصيد في القرآن بأصغر؛، لأن كل أصغر
لا بد أن يسبقه صغير، وإن كنت ستفتت المفتت فما زال عندنا رصيد من القرآن يسبق
عقولكم في الابتكار، فإن قلت تفتيت جاز، وإن قلت تجميع جاز؛ لأنها أصغر وأكبر،
تفتيت أو تجميع، والمعقول أنك تقول: لا يغيب الأصغر والصغير، والذرة كذلك لا تغيب
فكيف يعبر عن الأكبر بأنه لا يغيب مع أنه ظاهر وواضح؟.
ونقول لك: إن المتكلم هو ربنا، فالشيء لا يدرك إما لأنه لطيف في غاية الدقة بحيث
لا تتعلق به الباصرة فلا يُرى، وأيضاً لا يُدرك لأنه كبير بصورة أكبر من أن تحيط
به الباصرة، فحين ترى جبلاً كبيراً على بعد اثنين من الكيلو مترات أو ثلاثة فأنت
لا تدركه؛ لأنه أكبر من أن يحيط به إشعاع بصرك، ولكن الأمر بالنسبة لله يختلف فلا
يوجد صغير يَدِقُّ لا يراه، ولا كبير يكبر لا يراه، إذن فلا بد أن تأتي } وَلاَ
أَصْغَرَ مِن ذالِكَ وَلا أَكْبَرَ {.
وفي آية أخرى يقول سبحانه:{ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ
مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ
الْغَفُورُ }[سبأ: 2].
وانظروا إلى دقة الحق في الدر على الإنكار للساعة وهي قضية كونية تنسحب على كل
العصور.. فيقول سبحانه:{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ
قُلْ بَلَىا وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ
مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن
ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }[سبأ: 3].
كان يكفي أن يقول: إن الساعة آتية، لكنه أوضح: اعرفوا أن الساعة آتية، وكل ما
فعلتموه معروف، ولماذا يقولون: لا تأتي الساعة؟ إن هذا لون من تكذيب النفس لأنهم
لم يعملوا على مقتضى ما يتطلبه قيام الساعة، فالذي لم يعمل لذلك يود لأن من مصلحته
ذلك - أن تكون مسألة الساعة كذب؛ لأنه قد عمل أشياء يخاف أن يحاسب عليها، فجاء
سبحانه بالآية لكي تردّ على المقولة وعلى الدافع للمقولة. وكل مقولة لها دافع. لقد
كان الدافع لمقولتهم هو إسرافهم على أنفسهم فلم يقدموا عملاً صالحاً فمن مصلحتهم
الآمالية ألا تأتي الساعة، كي لا يعاقبوا، وسبحانه يعلم أزلا ما فعلوا وردّ على
المقولة وردّ على الدافع الذهني للمقولة، فأوضح سبحانه: أنا عالم كل أمر ولن يغيب
عني عمل من أعمالكم.
وقول الحق في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: } وَإِن تَكُ حَسَنَةً { يعني:
وإن يكن الوزن لحسنة يضاعفها الله، وعندما يحدثنا سبحانه عن الحسنة وأنها تُضاعف
ثم لا يتكلم عن السيئة فها يدل على أن السيئة بمثلها، والحق قد تكلم عن المضاعفة
للحسنة في كثير من الآيات } وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ {.
وفي آية أخرى يقول الحق:{ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ
مِّئَةُ حَبَّةٍ }[البقرة: 261].
وبعد ذلك يقول:{ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ }[البقرة: 261].
ففيه فرق بين نظام حساب الحسنات ونظام حساب السيئات، فالحسنة تضاعف لعشر أمثالها
لسبعمائة ضعف، هذا هو نظام الحساب، وإرادة خالق هذا النظام تعطي كما تريد، إذا كنا
نحن - كبشر - عندما توظف واحداً نقول: أنت تدخل السلم الوظيفي، وتبدأ السلم
الوظيفي من أول درجاته ثم تترقي درجة بعد درجة، ثم يأتي رئيس الدولة ليعينك في
درجة أعلى من ذلك بكثير، فما بالنا بحساب الرب الأعلى؟ إنه يعطي بعملية حسابية
فيها زيادة فضل؛ ولذلك قال بعد هذه الآية: } وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا
وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً { أي إنه سبحانه يعطي من عنده ذلك الأجر
العظيم، وهذا اسمه " محض الفضل " وكيف يسميه الله أجراً مع أنه زائد؟
لأن هذا الفضل جاء تابعا للأجر، فإذا لم يعمل الإنسان هذا العمل فإنه لا يستحق
أجرا، وبالتالي فلا ينال فضلاً وحين يضرب الله الأمثال للناس فذلك لتقريب المعاني؛
لأن الله قاله والله صادق فيما يقول، فيعطي الحق سبحانه وتعالى مُثلاً إيناسية في
الكون، حتى لا تستبعد أن الحسنة تذهب لهذه الأضعاف المضاعفة.
فيوضح لك: هذه الأرض أمامك هات حبة واحدة وضعها في الأرض تخرج لك سبع سنابل وكل
سنبلة فيها مائة حبة فإذا كانت الأرض - وهي مخلوقة لله - أعطت سبعمائة ضعف، فكم
يعطي من خلق الأرض؟ إنه يعطي بغير حساب.
إذن فكلمة " من لدنه " هذه تعطيك الباب الواسع الذي يتناسب مع الله.
فالأرض تعطيك على قدر جهدك، وعلى قدر العناصر الغذائية الموجودة فيها.. والذي عنده
وبيده الخير وخلق كل الكون يوضح: إذا كان خلق من خلقي يعطي حتى الكافر، سبعمائة
ضعف فالذي خلق هذا يعطي للمؤمن أجراً للحسنة بلا حدود؛ ولذلك فالإيناسات التمثيلية
في الكون يتركها الله لتقرب للعقل المعنى البعيد الذي قد يقف فيه. فالإنسان منا
مادة: هي البدن وتحل فيه الروح. وعندما تسحب الروح من البدن، ماذا يصير؟ يصير
الجسد رِمة، ويتحلل لعوامله الأولى وتنتهي منه مظاهر الحياة.
إذن فالروح هي السبب في الحركة، وفي أن كل جهاز يقوم بعمله، وفي النمو، وعندما
تسحب الروح ينتهي الأمر، إن الروح هي التي تدير كل هذا الجسم، والروح لا لون لها،
ولا أحد يراها، ولا يشمها كائن، فكيف ندركها إذن؟
نقول: إن الجوهر الذي يدخل في جسدك ويعطيه الحركة فيديره. أنت لا تراه ولا تحسّه،
وهو غيب بالنسبة لك، فإذا حُدّثت أن ربك غيب فلا تتعجب، فروحك التي بين جنبيك لا
تعرف كُنهها، وعليك إذن أن تصدق عندما يقال لك: ربك ليس بمحدود بمكان وعنما يقول
سبحانه:{ لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ }[الأنعام: 103].
فكلنا نقول: نعم هذا كلام صحيح؛ لأنه إذا كان هناك مخلوق لله وهو الروح لم تدركه
الأبصار، أفتريد أن يُدرَك من خَلَقَ؟ لا يمكن وهو سبحانه من عظمته أنه لا يُدَرك.
وسبحانه يقول: } وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً { ونقف عند كلمة "
من لدنه ". ونعرف أن فيه فرقا بين الإتيان بالناموس - وهو النظام الموضوع -
والعطاء المباشر، وعندما يقول الحق: " من لدنه " فهذا يعني أن الوسائط
تمتنع. ونعلم قصة سيدنا موسى عندما ذهب ليقابل العبد الصالح قال تعالى في وصف
العبد الصالح:{ وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا }[الكهف: 65].
وهذا يعني أن العبد الصالح قد تعلم ليس بوساطة أحد. بل من الله مباشرة، بدليل أن
الذي جاء ليتعلم منه وتعلم منه ثم وقف معه في أمور جاءت على خلاف ما تجري به
النواميس والعادات فكلمة " من لدنا " تعني تجاوز الحجب، والوسائط،
والأنظمة.
والحق سبحانه يحترم أصل عملك ويسمي عطاءه لك " أجراً "؛ لأنه أعطى من
لدنه بعدما أعطى له النصيب المقدر كأجر، وهذا الأجر موصوف بأنه عظيم؛ لأنه مناسب
للمعطي.
ثم يقول الحق: } فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ... {.
(/321)
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)
وساعة تسمع كلمة " كيف " فاعرف أن هناك شيئا عجيبا، تقول مثلاً: أنت
سببت السلطان فكيف إذا واجهوك ووجدته أمامك ماذا تفعل؟ كأن مواجهة السلطان ذاتها
مسألة فوق التصور.. فكل شيء يتعجب منه يؤتى فيه بـ " كيف " ، ومثال ذلك
قوله الحق:{ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ }[البقرة: 28].
وهذا يعني تعجيبا من مصيبة وكارثة هي الكفر بالله، فقولوا لنا: كيف جاءت هذه؟ إنها
مسألة عجيبة، ونقول: فكيف يكون حال هؤلاء الكافرين، كيف يكون حال هؤلاء العٌصاة،
في يوم العرض الأخير، { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ } و
" الشهيد " هو: الذي يشهد ليقرر حقيقة، ونحن نعلم أن الحق أخبرنا:{
وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ }[فاطر: 24].
وهذا النذير شهيد على تلك الأمة أنه بلغها المنهج، ورسول الله صلى الله عليه وسلم
شهيد على أمته أنه بلغ، فقوله: { وَجِئْنَا بِكَ عَلَىا هَـاؤُلاءِ } من هم؟ ننظر
قوله: { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ } وهو رسولها الذي
بلغ عن الله منهجه، وكيف يكون الموقف إذا جاء وقال: أنا أبلغتهم الموقف ولا عذر
لهم لأنني أعلمتهم به، { وَجِئْنَا بِكَ } يا محمد - صلى الله عليك وسلم { عَلَىا
هَـاؤُلاءِ } فهل المعنى بـ " هؤلاء " هم الشهداء الذين هم الرسل أو على
هؤلاء المكذبين لك؟ وتكون أيضاً شهيداً على هؤلاء مثلما أنت شهيد على أمتك؟ إن كلا
من الحالين يصح، لماذا؟
لأن الله جاء بكتابه المعجزة وفيه ما يثبت أن الرسل قد بلغوا أممهم، فكأن الرسول
حين سُجل في كتابه المعجزة وكتابه المنهج أن الرسل قد بلغوا أممهم فهو سيشهد
أيضاً: هم بلغوكم بدليل أن ربنا قال لي في كتاب المعجزة وفي المنهج. ويكون رسولنا
شهيداً على هؤلاء المكذبين الذين أرسل إليهم وهم أمة الدعوة فالمعنى هذا يصلح، وكذلك
يصلح المعنى الآخر. ولا يوجد معنى صحيح يطرد معنى صحيحا في كتاب الله، وهذه هي
عظمة القرآن. إن عظمة القرآن هي في أنه يعطي إشعاعات كثيرة مثل فص الماس، فالماس
غالٍ ونفيس؛ لأنه قاسٍ ويُكسر به وكل ذرة فيه لها شعاع، المعادن الأخرى لها إشعاع
واحد، لكن كل ذرة في الماس لها إشعاع؛ ولذلك يقولون إنه يضوي ويتلألأ، فكل ذراته
تعطي إشعاعاً.
والحق سبحانه وتعالى يوضح: أن حال هؤلاء سيكون فظيعاً حينما يأتي يوم العرض يوم
القيامة، ويقولون: إننا بلغناكم، أو الحق سبحانه وتعالى عرض هذه المسألة بالنسبة
للرسل وأممهم، وبالنسبة لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته أو للأمم كلها،
فنحن أيضاً سنكون شهداء:{ لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ
الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً }[البقرة: 143].
وهذه ميزة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم لأن أمة محمد هي الأمة الوحيدة التي أمنها
الله على أن يحملوا المنهج إلى أن تقوم الساعة، فلن يأتي أنبياء أبداً بعد رسول
الله، فيقول: { لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ
عَلَيْكُمْ شَهِيداً } إذن فنحن بنص هذه الآية أخذنا امتداد الرسالة.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" اقرأ عليّ القرآن فقلت يا رسول الله: أقرأ عليك وعليك أُنزل؟.
قال: نعم إني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية }
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىا هَـاؤُلاءِ
شَهِيداً { فقال: حسبك، فإذا عيناه تذرفان الدموع ".
فإذا كان الشهيد بكى من وقع الآية فكيف يكون حال المشهود عليه؟ الشهيد الذي سيشهد
بكى من الآية، نعم؛ لأنك تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ملئ قلبه رحمة
بأمته؛ ولذلك قلنا: إن حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته جعل ربه يعرض
عليه أن يتولى أمر أمته، بعد أن علم سبحانه مدى عنايته صلى الله عليه وسلم بهذه
الأمة:{ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ }[الشعراء:
3].
فأمر أمته صلى الله عليه وسلم كان يقلقه جداً على الرغم من أن الحق سبحانه قد أوضح
له: أنت عليك البلاغ وليس عليك أن تهدي بالفعل، وهو صلى الله عليه وسلم يعرف هذا.
إنما حرصه ورحمته بأمته جعله يحب أن يؤمنوا، وعليه الصلاة والسلام خاف على أمته من
موقف يشهد فيه عليهم ضمن من سيشهد عليهم يوم الحشر. فلما رأى الحق سبحانه وتعالى
أن رسوله مشغول بأمر أمته قال له: لو شئت جعلت أمر أمتك إليك.
وانظر إلى العظمة المحمدية والفهم عن الله، والفطنة، فقال له: لا يا رب. أنت أرحم
بهم مني.
وكأنه صلى الله عليه وسلم يقول للخالق: " أتنقل مسألتهم في يدي وأنا أخوهم،
إنما أنت ربي وربهم، فهل أكون أنا أرحم بهم منك؟ لقد كان من المتصور أن يقول رسول
الله: نعم أعطني أمر أمتي لكنه صلى الله عليه وسلم قال: يا رب أنت أرحم بهم مني.
فكيف يكون ردّ الرب عليه؟. قال سبحانه: فلا أخزيك فيهم أبداً، وسبحانه يعلم رحمة
سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم بأمته ".
عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا
قول الله عز وجل في إبراهيم: " رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه
مني.. " وقول عيسى عليه السلام: " إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم
فإنك أنت العزيز الحكيم " فرفع يديه وقال: " اللهم أمتي أمتي وبكى، فقال
الله عز وجل: يا جبريل اذهب إلى محمد وربك أعلم فسله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عليه
الصلاة والسلام فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال وهو أعلم، فقال
الله: " يا جبريل اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك ".
} فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا { أي كيف يكون حال هؤلاء العصاة المكذبين.. } إِذَا
جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ { أنه أدّى وبلغ عن الله مراده من خلقه. }
وَجِئْنَا بِكَ عَلَىا هَـاؤُلاءِ شَهِيداً {؟
ويقول الحق من بعد ذلك: } يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ... {.
(/322)
يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)
وساعة ترى " يومئذ " وتجد فيها هذا التنوين فاعلم أنه عوض عن شيء محذوف
والمحذوف هنا أكثر من جملة ويصبح المعنى: يوم إذْ نجيء من كل أمة بشهيد وتكون أنت
عليهم شهيداً، في هذا اليوم { يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ
} لأنهم فوجئوا بعملية كانوا يكذبونها، فلم يكونوا معتقدين أن الحكاية جادة، كانوا
يحسبون أن كلام الرسول مجرد كلام ينتهي، فعندما يفاجئهم يوم القيامة ماذا يكون
موقفهم؟ { يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّىا
بِهِمُ الأَرْضُ } وما معنى { تُسَوَّىا بِهِمُ الأَرْضُ }؟ كما تقول: سأسوِّي
بفلان الأرض؛ أي تدوسه دوسة بحيث يكون في مستوى الأرض.
{ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً }. فكيف لا يكتمون الله حديثا؟ وهو قد قال
في آية أخرى:{ قَالَ اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ }[المؤمنون: 108].
قال الحق ذلك عنهم لأن الأمر له مراحل: فمرة يتكلمون، ويكذبون، فهم يكذبون عندما
يقولون:{ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ }[الأنعام: 23].
وسيقولون عن الأصنام التي عبدوها:{ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى
اللَّهِ زُلْفَى }[الزمر: 3].
إذن فقوله: { وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً } دليل على أن الحديث مندفع ولا
يقدر صاحبه أن يكتمه. فالكتم: أن تعوق شيئاً يخرج بطبيعته من شيء آخر فتكتمه.
والواحد منهم في الآخرة: لا يقدر أن يكتم حديثاً؛ لأن ذاتية النطق ليست في أداة
النطق كما كان الأمر في الدنيا فقط، بل سيجدون أنفسهم وقد قدموا إقرارات بخطاياهم،
وبألسنتهم وبجوارحهم؛ لأن النطق ليس باللسان فقط، فاللسان سيشهد، والجلود تشهد،
واليدان تشهدان، بل كل الجوارح تشهد.
إذن فالمسألة ليست تحت سيطرة أحد، لماذا؟؛ لأن هناك ما نسميه " ولاية
الاقتدار " ، ومعناها أن: هناك قادراً، وهناك مقدور عليه. ولكي نقرب الصورة،
عندما توجد كتيبة من الجيش وعليها قائد. وبعد ذلك قامت الكتيبة في مهمة، والقانون
العام في هذه المهمة: أن يجعل لهذا القائد قادرية الأوامر وعلى الجنود طاعته؛ وألا
يخالفوا الأوامر العسكرية، فإذا أصدر هذا القائد أمراً تسبب في فشل معركة ما، وذهب
الجنود للقائد الأعلى منه، ويسمونه الضابط الأعلى من الضابط الصغير، فيكون للجنود
معه كلام آخر، إنهم يقدرون أن يقولوا: هو الذي قال لنا ونفذنا أوامره.
أقول ذلك لتقريب المعنى لحظة الوقوف أمام الحق سبحانه وتعالى. فحينما خلق سبحانه
الإنسان خلق جوارحه منفعلة لإرادته، وإرادته مكيفة حسب اختياره. فإرادة الطائع
إطاعة أمر واجتناب نهي، وإرادة العاصي على العكس؛ لا يطيع الأمر ولا يتجنب المنهي
عنه فواحد أراد أن يشرب الخمر، فرجله مشت، ولسانه نطق لِلرَّجُلِ الذي يعطيه
الكأس، ويده امتدت وأخذت الكأس وشرب، والجوارح التي تقوم بهذه العملية هي خاضعة
لقادرية إرادته، فقد خلقها ربنا هكذا، وبعد ذلك، حين تذهب إلى من دبر هذا الأمر في
الآخرة تقول له: يا رب هو عمل بي كذا وكذا، لماذا؟ لأن قادرية الإرادة امتنعت:
{ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ }[غافر: 16].
وليس لي ولا لأحد إرادة في الآخرة، وما دام ليس لي إرادة فاليد تتكلم وتعترف: عمل
بي كذا وكذا وكنت يا رب مقهورة لقادرية إرادته التي أعطيتها له فمبجرد ما يريد
فأنا أنفذ. عندما أراد أن أضرب واحداً لم أمتنع. ويعترف اللسان بسبّه لفلان، أو
مدحه لآخر، إذن فكل هذه ولاية القادرية من الإرادة على المقدورات من الجوارح. لكن
إذا ما ذهبت إلى من وهب القادرية للإرادة؛ فلا يوجد أحد له إرادة. فكأن الجوارح
حين تصنع غير مرادات اللله بحكم أنها خاضعة للمريد وهو غير طائع تكون كارهة؛ لذلك
تفعل أوامر صاحبها وهي كارهة، فإذا ما انحلت إرادته وجدت الفرصة فتقول ما حدث:{
وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا اللَّهُ
الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ }[فصلت: 21].
" يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تُسوَّي بهم الأرض " ، لأن
الكافر سيقول:{ يالَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً }[النبأ: 40].
ويقول الحق بعد ذلك: } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ
الصَّلاَةَ... {.
(/323)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)
هنا ينقلنا الحق من الأوامر، من العبادات وعدم الإشراك بالله، من التحذير من
النفقة رئاء الناس وأنه سبحانه لا يظلم أحداً وأننا كلنا سنجتمع أمامه يوم لا ظل
إلا ظله، بعد ذلك أراد أن يصلنا به وصل العِبادية التي تجعلك تعلن ولاءك لله في كل
يوم، خمس مرات، وسبحانه يريدك أن تقبل عليه بجماع عقلك وفكرك وروحك بحيث لا يغيب
منك شيء.
هو سبحانه يقول: { لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىا } ولم يقل: لا
تصلوا وأنتم سكارى؟ أي لا تقاربوا الصلاة ولا تقوموا إليها واجتنبوها، وفيه إشارة
إلى ترك المسكرات، فما معنى { لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىا }؟
معنى ذلك أنهم إذا كانوا لا يقربون الصلاة إذا ما شربوا الخمر، فيكون تحريم
المسكرات لم يأت به التشريع بعد، فقد مرّ هذا الأمر على مراحل؛ لأن الدين حينما
جاء ليواجه أمة كانت على فترة من الرسل أي بعدت صلتها بالرسل، فيجيء إلى أمر
العقائد فيتكلم فيها كلاماً حاسماً باتّاً لا مَرْحليَّة فيه، فالإيمان بإله واحد
وعدم الشرك بالله هذه أمور ليس فيها مراحل، ولا هوادة فيها. لكن المسائل التي
تتعلق بإلف العادة، فقد جاءت الأوامر فيها مرحلية. فلا نقسر ولا نكره العادة على
غير معتادها بل نحاول أن نتدرج في المسائل الخاضعة للعادة ما دام هناك شيء يقود
إلى التعود.
إن الحق سبحانه وتعالى من رحمته بمن يشرع لهم جعل في مسائل العادة والرتابة
مرحليات، فهذه مرحلة من المراحل: { لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ
سُكَارَىا } والصلاة هي: الأقوال والأفعال المعروفة المبدوءة بالتكبير والمنتهية
بالتسليم بشرائطها الخاصة، هذه هي الصلاة، اصطلاحياً في الإسلام وإن كانت الصلاة
في المعنى اللغوي العام هي: مطلق الدعاء.
و " سُكارى " جمع " سكران " وهو من شرب ما يستر عقله، وأصل
المسألة مأخوذة من السَّكرْ ما سد به النهر؛ فالماء حين ينساب يضعون سداً، هذ السد
يمنع تدفق الماء، كذلك الخمر ساعة يشربها تمنع تدفق الفكر والعقل، فأخذ من هذا
المعنى، { لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىا } المفهوم أن الصلاة
تأخذكم خمسة أوقات للقاء الله، والسَّكر والخُمار؛ وهو ما يمكث من أثر المسْكِر في
النفس، وما دام لن يقرب الصلاة وهو سكران فيمتنع في الأوقات المتقاربة بالنهار.
إذن فقد حملهم على أن يخرقوا العادة بأوقات يطول فيها أمد الابتعاد عن السَّكَر.
وما داموا قد اعتادوا أن يتركوها طوال النهار وحتى العشاء، فسيصلي الواحد منهم
العشاء ثم يشرب وينام. إذن فقد مكث طوال النهار لم يشرب، هذه مرحلة من المراحل،
وأوجد الحق سبحانه وتعالى في هذه المسألة مرحليات تتقبلها النفس البشرية. فأول ما
جاء ليتكلم عن الخمر قال:
{ وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً
وَرِزْقاً حَسَناً }[النحل: 67].
ويلاحظ هنا أن السَّكَر " مقدم، على الرزق الموصوف بالحسن، ففيه سكر وفيه
رزق. كأنهم عندما كانوا يأكلون العنب أو البلح فهذا رزق، ووصف الله الرزق بأنه
حسن. لكنهم كانوا أيضاً يأخذون العنب ويصنعون منه خمراً، فقدم ربنا "
السَّكَرَ " لأنهم يفعلون ذلك فيه، ولكنه لم يصفه بالحسن، بل قال: }
تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً { ، لكن كلمة رزق وُصفت بالحسن.
بالله عندما نسمع } سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً { ألا نفهم أن كونه سكراً يعني غير
حسن، لأن مقابل الحسن: قبيح. وكأنه قال: ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه
سكرا أي شرابا قبيحا ورزقاً حسناً، ولاهتمامكم أنتم بالسكر، قدمه، وبعد ذلك ماذا
حدث؟ عندما يريد الحق سبحانه وتعالى أن يأتي بحكم تكون المقدمة له مثل النصيحة؛
فالنصيحة ليست حكماً شرعياً، والنصيحة أن يبين لك وأنت تختار، يقول الحق:{
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ
وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا }[البقرة: 219].
هو سبحانه شرح القضية فقط وأنت حر في أن تختار فقال: } قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ
كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ { ولكن الإثم أكبر من النفع، فهل قال لنا ماذا
نفعل؟ لا؛ لأنه يريد أن يستأنس العقول لترجح من نفسها الحكم، وأن يصل الإنسان إلى
الحكم بنفسه، فسبحانه قال: } وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا { فما دام
الإثم أكبر من النفع فما مرجحات البدائل؟ مرجحات البدائل تظهر لك حين تقارن بين
بديلين ثم تعرف أقل البديلين شرّاً وأكثر البديلين خيراً.
فحين يقول الحق: } فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ
أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا { إذن فهذه نصيحة، وما دامت نصيحة فالخير أن يتبعها
الإنسان ويستأمن الله على نصيحته. لكن لا حكم هنا، فظل هناك ناس يشربون وناس لا
يشربون، وبعد ذلك حدثت قصة من جاء يصلي وقرأ سورة الكافرون، ولأن عقله قد سدّ قال:
قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون فوصلت المسألة ذروتها وهنا جاء الحكم فنحن لا
نتدخل معك سواء سكرت أم لا، لكن سكرك لا يصح أن يؤدي بك أن تكفر في الصلاة، فلا
تقرب الصلاة وأنت مخمور. هذا نهي، وأمر، وتكليف.
} لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىا { وما دام لا نقرب الصلاة ونحن
سكارى فسنأخذ وقتا نمتنع فيه، إذن ففيه إلف بالترك، وبعد ذلك حدثت الحكاية التي
طلبوا فيها أن يفتي الرسول صلى الله عليه وسلم في أمر الخمر، فقالوا للنبي: بيِّن
لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزل قوله الحق:{ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ
وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ
}[المائدة: 90].
إذن فقوله: } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ
وَأَنْتُمْ سُكَارَىا { مرحلة من مراحل التلطف في تحريم الخمر، فحرمها زمناً، هذا
الزمن هو الوقت الذي يلقى الإنسان فيه ربه، إنّه أوضح لك: اعملها بعيداً، لكن
عندما تأتيني فعليك أن تأتي بجماع فكرك وجماع عقلك، } حَتَّىا تَعْلَمُواْ مَا
تَقُولُونَ { فكأن هذه أعطتنا حكماً: أن الذي يسكر لا يعرف ماذا يقول، هذه واحدة،
وما دام لا يعرف ما يقوله، إن كان في المسائل العادية فليقل ما يقول، إنما في
العبادة وفي القرآن فلا يصح أن يصل إلى هذا الحدّ، وعندما تصل إلى هذا الحدّ يتدخل
ربنا فيقول: } لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىا حَتَّىا
تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ {.
ثم جاء بحكم آخر: } وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىا تَغْتَسِلُواْ
{ ومعروف ما هي الجنابة: إنها الأثر الناتج من التقاء الرجل بالمرأة. ويقال: إنها
اللذة التي يغيب فيها الفكر عن خالقه، وهذه لذة يسمونها " جماع اللذات
"؛ لأنها تعمل في البدن تلك الرعشة المخصوصة التي تأخذ خلاصات الجسم؛ ولذلك
قيل: إنه نور عينيك ومخّ ساقِك فأكثر منه أو أقلل يعني أنا أعطيك هذه القدرة وأنت
حرّ ونحن نغتسل لنعيد النشاط إلى النفس البشرية، وليس لأحد شأن بهذه المسائل ما
دامت تتم في ضوء شريعة الله وشأننا في ذلك أن نأتمر بأمر ربنا ونغتسل من الجنابة
سواء فهمنا الحكمة من وراء ذلك أو لم نفهم.
} وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ { إذا كان المراد بالصلاة، فلا تقربوا
الصلاة، بالسكر أو بالجنابة ولم يقل: " لا تصلوا ". والصلاة مكانها
المسجد، فقول: } لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىا حَتَّىا
تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً { ، أي لا تقربوا الصلاة، والقرب عرضة
أن يكون ذهابا للمسجد، فكأنه يقول: لا تذهب إلا إذا كان المسجد لا طريق للماء إلا
منه.
} وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَىا أَوْ عَلَىا سَفَرٍ { أي كان عندكم عذر يمنع من
الماء. } أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الْغَآئِطِ { ، و " الغائط "
هو: الأرض الوطيئة، الهابطة قليلاً، وكانوا يقضون فيها حاجاتهم، وأصبح علماً على
قضاء الحاجة، وكل واحد منا يكنى عنها بأشياء كثيرة فيقول واحد: أنا أريد أن أذهب
إلى " بيت الماء " ويتساءل آخر أين " دورة المياه؟ " وفي هذا
بلطف في الإخبار عن عملية تستقذرها النفس؛ ولذلك نقول في العبارات الشائعة: أنا
ذاهب - أعمل زي الناس - يعني أنا لست بدعاً أن أقضي حاجتي، فكل الناس تعمل هذا.
فربنا سبحانه وتعالى يقول: } أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الْغَآئِطِ أَوْ
لاَمَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً
{ ومن رحمة الله بأمة محمد صلى الله عليه وسلم، ومن لطف الحق بها أن التشريع جاء
ليقبل عليه الإنسان؛ لأنه تشريع فلا تقل لي مثلا: أنا أتوضأ لكي أنظف نفسي ولكننا
نقول لك: هل تتوضأ لتنظف نفسك وعندما تفقد الماء تأتي بتراب لتضعه على وجهك؟ فلا
تقل لي النظافة أو كذا، إنّه استباحة الصلاة بالشيء الذي فرضه الله، فقال لي: توضأ
فإن لم تجد ماءً فتيمم، أينقلني من الماء الذي ينظف إلى أن أمسح كَفَّيَّ بالتراب
ثم ألمس بهما وجهي؟! نعم؛ لأن المسألة أمر من الله فُهمت علّته أو لم تُفهم؛ ولذلك
فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول:
" أعطيت خمساً لم يُعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر وجُعلت
لي الأرض مسجداً طهوراً فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وأحلت لي الغنائم
ولم تحل لأحد قبلي وأعطيت الشفاعة وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس
عامة ".
} فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً { ، أي أن تكون واثقاً أنه ليس عليه نجاسة، }
فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ { ، المسألة فيها " جنب "
وفيها كذا وكذا.. " وتيمم " ، إذن فكلمة } فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ
وَأَيْدِيكُمْ { ليس ذلك معناه أن التيمم خَلَف وبديل عن الوضوء فحسب، ففي الوضوء
كنت أتمضمض، وكنت أستنشق، وكنت أغسل الوجه، وكنت أغسل اليدين، وأمسح الرأس
والأذنين.. مثلاً، وأنا أتكلم عن الأركان والسنن. وفي هذه الآية يوضح الحق: ما
دامت المسألة بصعيد طيب وتراب فذلك يصح سواء أكانت للحدث الأصغر أم للجنابة، إذن
فيكفي أن تمسح بالوجه واليدين.
} فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ { ، وبعض العلماء قال: ضربة واحدة،
وبعضهم قال: ضربتان وكلها تيسير. وهذا التخفيف مناسب لكلمة العفو، فيقول الحق: }
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً { ولكن ماذا حدث هنا ليذكر المغفرة؟ لأنه
غفر وستر علينا المشقة في ضرورة البحث عن الماء ويسر ورخص لنا في التيمم.
ويقول الحق بعد ذلك: } أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ... {.
(/324)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44)
حين يريد الحق سبحانه وتعالى أن يؤكد قضية من قضايا الكون ليمهد لقضية من قضايا
العقائد التي تحرس نظام الكون فهو يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: "
ألم تر ". والرؤية عمل العين - وعمل العين متعلق بانكشاف الأحداث التي تتعرض
لها العين - والشيء المرئي دليله معه؛ لأن الشيء المسموع دليله يؤخذ من صدق قائله،
وصدق قائله أمر مظنون، أيكذب أم يصدق؟ أما المرئي فدليله معه؛ ولذلك قالوا: ليس مع
العين أين، أي أنك إذا رأيت شيئاً فلا تقل: أين هو، وليس الخبر كالعيان، فالخبر
الذي تسمعه ليس كالمشاهدة، إذن فالمشاهدة دليلها معها، فلا يقال: دلل على أن
فلاناً يلبس جلباباً أبيض وأنت تراه.
إذن فحين يريد الحق أن يؤكد قضية يقول: أرأيت. ولذلك فأنت إذا حدثت إنساناً عن
انحراف إنسان آخر. قد يصدقك وقد لا يصدقك، لكن إذا ما رأيت الإنسان يلعب ميسراً أو
يشرب خمراً ثم تقول لمن حدثته من قبل: أرأيت من قلت لك عليه، كأن الرؤية دليل.
والحق سبحانه وتعالى حين يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: " أرأيت
" ننظر إلى الأمر، فإذا كان مشهوداً لرسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:
" أرأيت " ننظر إلى الأمر، فإذا كان مشهوداً لرسول الله صلى الله عليه
وسلم وهو يراه بذلك تكون " أرأيت " على حقيقتها، كما يقول له:{
أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَىا * عَبْداً إِذَا صَلَّىا }[العلق: 9-10].
هو صلى الله عليه وسلم قد رآه، فتكون " أرأيت " على حقيقتها أم ليست على
حقيقتها؟ ولماذا يأتي بهمزة الاستفام " أرأيت "؛ على الرغم من أنه صلى
الله عليه وسلم قد رأى من ينهى إنساناً عن الصلاة ولماذا لم يقل: " رأيت الذي
ينهى عبداً إذا صلى " ، لا؛ لأن الحق يريد أن يؤكد الخبر بمراحل. فمرة يكون
الخبر خبراً تسمعه الأذن، ومرة يكون رؤية تراه، ومرة لا يقول له: أنت رأيت، ولكن
يستفهم منه بـ " أرأيت " لكي ينتظر منه الجواب. وبذلك يأتي الجواب من
المخاطب نفسه وليس من المتكلم، وهذه آكد أنواع البيان وآكد ألوان التحقيق، فحين
يخاطب الحق سبحانه وتعالى بقوله: " أرأيت " نقول: أكان ذلك مشهداً لرسول
الله رآه، فتكون الرؤية على حقيقتها. فإذا كان الأمر لم يكن معاصراً لرسول الله ثم
يخاطب الله رسوله بقوله:{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ
}[الفيل: 1].
ونعلم أن أصحاب الفيل كانوا عام ميلاده صلى الله عليه وسلم، فهو حين يخاطب رسوله
لم يكن المشهد أمامه " فـ { ألم تر } هنا بمعنى أعلمت.
ولماذا عدل هنا عن أعلمت إلى قوله: " ألم تر "؟. لأن الحق سبحانه وتعالى
حين يخاطب رسوله بأمر منه فهو يوضح له: إن أخبرتك بشيء فاعلم أني أصدق من عينك،
فإذا قال سبحانه: " ألم تر " فهذا يعني أنك علمت من الحق سبحانه وتعالى،
وإخبار الحق ليس كإخبار الخلق؛ لأن إخبار الخلق يحتمل الصدق والكذب، لكن إخبار
الحق لا يعني إلا الصدق، إذن فرؤية عينك قد تخونك؛ لأنك قد تكون غافلاً فلا ترى كل
الحقيقة، لكن إذا أخبرك الحق سبحانه وتعالى فسيخبرك بكل زوايا الحقيقة. إذن فإخبار
الحق أوثق وآكد من رؤية العين وسبحانه عندما قال:{ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَىا *
عَبْداً إِذَا صَلَّىا }[العلق: 9-10].
هذه مثلت الأولى، وحين قال سبحانه:{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ
بِأَصْحَابِ الْفِيلِ }[الفيل: 1].
كأنك تراهم الآن، فـ " ألم تر " تعني كأن المشهد أمامك.
إذن فوسائل تأكيد الأشياء: خبر من خلق يحتمل الصدق ويحتمل الكذب. هذه واحدة، ورؤية
من خلق تحتمل أنها استوعبت كل المرئي أو أحاطت ببعضه، أو خبر من خالق أحاط بكل
شيء، فيجب أن يكون الخبر من الخالق أوثق الأخبار في تصديقهم.
} أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ { جاءت هذه
الآية ورسول الله يعاصره قوم من اليهود. ورأى منهم بالفعل أنهم أوتوا نصيباً من
الكتاب؛ لأنهم أهل الكتاب، ومع ذلك يشترون الضلالة؛ ولا يقولون الحق، فيكون هذا
أمرا مشهديا بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وحينما أرسل الله محمداً جعله
ختاماً للأنبياء وختم به ركب النبوة، وهذا يعني: أن النبوة كان لها ركب. وفي كل
عصر من العصور يأتي نبي على مقدار اتساع الحياة، وعلى مقدار التقاء الكائنين في
الحياة، وعلى مقدار الداءات والأمراض التي تأتي في المجتمع، ولكن الله علم أزلاً
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيأتي في فترة ورسالته ومنهجه ينتظم ويضم كل
قضايا الزمن إلى أن تقوم الساعة. وهو زمن يعلم الله أن فوارق المواصلات فيه
ستنتهي، وفوارق الحواجز فيه ستنتهي، فيحدث الخبر في أدنى الشرق وأعلاه فتسمعه في
أدنى الغرب وأعلاه، والخبر في الغرب تسمعه في الشرق. والداء يوجد مرة في أمريكا
وبعد يوم أو يومين يوجد في أي بلد من البلاد.
إذن فالمسافات انتهت، وجعلت المواصلات العالم كقطعة واحدة، إذن فالداءات في
المجتمع القديم لعسر الاتصال كانت تنعزل انعزالاً إقليمياً وكل داء في جماعة قد لا
يصل إلى الجماعة الأخرى، فهؤلاء لهم داء لا يصل إلى الجماعة الأخرى؛ لذلك كان الحق
يرسل رسولاً لكل جماعة ليعالج داءاتها، لكن إذا التحم العالم هذا الالتحام؛ فلا بد
أن يأتي رسول واحد جامع للناس جميعاً؛ لأن قضايا الداءات ستكون واحدة. ونحن نرى
الآن كل يوم عجبا، كلما تحدث حادثة هناك نجدها عندنا.
إذن فلا بد أن تتوحد الرسالة. وحين تتوحد الرسالة فلا يأتي رسول ليستدرك بعد ذلك،
فرسول الله صلى الله عليه وسلم جاء خاتماً؛ ولذلك أخذ الله العهد على كل رسول أن
يبشر قومه بأنه سيأتي رسول خاتم ليكون عند أهل كل ديانة خَلْفية تطمئنهم على أنه
إذا جاء رسول، فقد عرفوا خبر مقدمه ويقولون: لقد قالت لنا رسلنا؛ ولذلك قال الحق:{
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ
وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ
بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ }[آل عمران: 81].
ثم قال:{ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىا ذالِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ
أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشَّاهِدِينَ }[آل
عمران: 81].
إذن فرسول الله مشهود له من كل الرسل؛ ولذلك أكد صلى الله عليه وسلم ديانات كل
الرسل. وجاء دينه بديانات كل الرسل؛ لأنهم معه على منهجه الذي نزل به، والذين
يلتحمون بالإيمان بالسماء بواسطة الرسل السابقين؛ إذا ما جاءهم خبر رسالة محمد صلى
الله عليه وسلم فقد يجعلهم تعصبهم لدينهم ينصرفون عنه، فأعطاهم الحق الخميرة
الإيمانية وأوضح لهم: سيأتي رسول خاتم فتنبهوا يا كل الأقوام إذا ما جاء الرسول
الخاتم فلا بد أن تؤمنوا به. وكان عندهم في كتبهم الدلالات والإخبارات. إذن فالله
أعطاهم نصيباً من الكتاب. وانظروا إلى دقة الأداء القرآني: } أَلَمْ تَرَ { يا
محمد } إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ { جاء هذا القول وهو
يحمل لهم عذرهم إن فاتهم شيء من الكتاب؛ لأنه سيقول في آية أخرى.{ ْوَنَسُواْ
حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ }[المائدة: 13].
وما داموا قد نسوا فهم معذورون، لكن من عندهم كفاية في العلم من الذين } أُوتُواْ
نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ { ، كان المفروض فيهم أن تكون آذانهم مستشرفة إلى صوت
داعية الحق الخاتم، وهذا كان معروفا لهم من قبل؛ لذلك يقول لنا ربنا:{ وَكَانُواْ
مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ }[البقرة: 89].
فهم كانوا يقولون لعبدة الأوثان من العرب: نحن في انتظار النبي الخاتم الذي سيرسله
الله لنسبقكم إلى الإيمان به، فإذا ما سبقناكم إلى الإيمان به وظللتم على كفركم،
سنقتلكم به قتل عاد وإرم. إذن فهم معتصمون بالإيمان بالسماء، فقل لي: إذا قالوا
هذا القول، وهم معروفون أنهم أهل كتاب فلماذا كفروا بالرسول صلى الله عليه وسلم؟
إن كفار قريش لم يقولوا: إننا أهل كتاب، بل كانوا على فترة من الرسل، فكان المفروض
أنه إذا جاء الرسول تسابق أهل الكتاب إلى الإيمان به لأنه سبق لهم أن توعدوا به
العرب. لقد أعطاهم الله منزلة عالية لكنهم من لؤمهم لم ينتفعوا بها؛ فيقول الحق:{
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَىا بِاللَّهِ شَهِيداً
بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ }[الرعد: 43].
لقد جعلكم الحق شهوداً على صدق الدعوة، هو شاهد وأنتم شهود، وهذه منزلة كبيرة،
لكنهم لم يلتفتوا إلى تلك المنزلة وركبوا سفينة العناد الغارقة:
{ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ }[البقرة: 89].
ولكن يجب أن نفطن إلى أن الحق سبحانه وتعالى حينما يرسل قضية عقدية في الكون
فيخالفها مخالف يظن أنه يضار الله، نقول له: لا أنت تفعل ذلك لشهوة في نفسك. لكن
الحق سيجعلها لنصرة الدين الخاتم، وتكون أنت مغفلاً في هذا الموقف. فإياك أن تظن
أنك قادر أن تصادر مرادات الله حين كذبت بمحمد وجعلك ربنا تقول هذه الكلمة
للمشركين من قريش، فانتظر ماذا ستفعل هذه الكلمة؟. لكي تعرف أنت بإنكارك ماذا قدمت
للإيمان. أنت فهمت أنك صادمت الإيمان. لا. أنت أيدت ونصرت الإيمان لكن بتغفيل!
وعليك وزر.
فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلن دعوته من ربه. قال العرب المشركون
الوثنيون: إن هذا النبي هو الذي توعدتنا به اليهود، فهيا نسبق إلى الإيمان به قبل
أن يسبقونا.
إذن أخدموا الإيمان أم لا؟. لقد خدموا الإيمان. إذن فلا يظنن عاصٍ إنه يقدر أن
يطفيء نور الله؛ لأن الله يتم نوره ولو كره الكافرون. ومثال لذلك عندما غير ربنا
القبلة ويوضح: يا محمد أنا أعرف أنك مستشرف ومتشوق إلى أن تتوجه إلى الكعبة، وأنا
قد وجهتك أولاً لبيت المقدس لمعنى. ولكن أنا سأوجهك للكعبة وعليك أن تلاحظ أنني
حين أوجهك إلى الكعبة سيقول السفهاء " وهم اليهود ":{ مَا وَلاَّهُمْ
عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا }[البقرة: 142].
فهم يتساءلون: ما الذي جعلهم يتركون القبلة التي كانوا عليها؟ فإن كانت قبلة
إبراهيم هي الكعبة فلماذا لم يتجه إليها من أول الأمر؟ هم سيقولون هذا الكلام.
ونزل به قرآن يتلى ويسجل. ومن تغفيلهم ساعة تغيرت القبلة قالوا ذلك القول أيضاً،
ولم يلتفتوا إلى أن الحق قال من قبل:{ سَيَقُولُ السُّفَهَآءُ مِنَ النَّاسِ مَا
وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ }[البقرة: 142].
فعلى الرغم من ذكائهم إلا أنهم قالوا هذا الكلام، مما يدل على أن الكفر مظلم
والكافر في ظلام فلا يعرف كيف ينصر نفسه. وجعل الله الكفر وسيلة للإيمان. فلو أنهم
كانوا أذكياء بحق أصحاب بصيرة لكانوا بمجرد أن قال القرآن: } سَيَقُولُ
السُّفَهَآءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ
عَلَيْهَا { ، لجمعوا بعضهم وقالوا: القرآن قال: إننا سنقول كذا وكذا، فهيَّا لا
نقول كي يكون القرآن غير صادق. لكنهم لم يقدروا على ذلك. إذن فالكافر مغفل. هم
يظنون أنهم بكفرهم يطمسون الإيمان بالله. لا؛ لأن الله جعل الكفر وسيلة للإيمان،
والحديث الشريف يقول:
" إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر ".
فالحق سبحانه وتعالى يبيّن: هؤلاء أوتوا نصيباً من الكتاب، وكان المفروض لمن أوتوا
نصيباً من الكتاب أن يكونوا أول من آمن.
لكنهم لم يؤمنوا، هذه أول مرتبة، وليتهم اقتصروا في الشرّ على هذه، وبذلك تقف
المسألة وتظل معلقة بهم، ولكنهم يشترون الضلالة، ليس فقط في نفوسهم بل يريدون أن
يُضلوا غيرهم، وهذه هي المرحلة الثانية، فهناك من يَضِل في ذاته وهو حرّ، لكن أن
يحاول إضلال غيره فهذا كفر مركب. أنت ضَلَلْت وانتهيت، فلماذا تريدني أن أضل؟ لأن
الضال أو المنحرف أو الذي ليس على طريق مستقيم إنما يعرف الطريق المستقيم جيداً.
ولكن الصعوبة في أنه لا يستطيع أن يحمل نفسه عليه. فإذا ما وجد إنساناً مؤمناً فهو
يستصغر نفسه، " لماذا آمن هو وأنا لم أؤمن "؟
إذن فلا أقل من أن يحاول جذبه في صفه حتى لا يكون هو المنحرف الوحيد، فإذا رأيت
مثلاً في بلد من البلاد بعض المنحرفين، ويرون واحداً مستقيماً فهم يتضاءلون أمامه،
وينظرون إليه نظرة حقد، ويقولون: لماذا هو مستقيم؟ لا بد أن نسحبه للانحراف.
ولذلك يجب على المستقيمين أن ينتبهوا جيداً إلى أن شياطين الإنس لن تتركهم في
طاعتهم، بل إنهم سيحاولون أن يستميلوهم؛ لأنه يعزّ عليهم أنهم لا يقدرون على
أنفسهم ويحزّ في نفوسهم أكثر أن يجدوا بشراً مثلهم قد قدر على نفسه واستقام. ولذلك
يقولون: هيا نكون كلنا معاً في المعصية حتى لا يرفع أحد رأسه على الآخر. فلنكن
كلنا كذابين حتى لا يوجد فينا واحد صادق يذلنا. والكذاب كلما رأى الصادق يشعر أن
هناك حربة تنغرز في قلبه!! والخائن ساعة يرى الأمين تكون الرؤية حربة تنزل في
قلبه؛ فيريد أن يكون الكل مثله، هذه معنى } يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ {.
والحق يقول لهم: أنتم أحرار بشرائكم الضلالة وستجدون الجزاء في النار، فلماذا
تريدون أن تضلوا الناس؟ إذن فيجب أن ينتبه أهل الطاعة إلى هذا الأمر، وعندما
يستهزئ أحد من طاعتهم فعليهم أن يلتفتوا إلى قول الحق سبحانه:{ إِنَّ الَّذِينَ
أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ
بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ }[المطففين: 29-30].
وهذا ما يحدث إذا رأى بعض المنحرفين واحداً يذهب إلى المسجد أو يصلي، يقولون له:
" خذنا على جناحك " ويسخرون منه ويستهزئون، لأنهم ساعة يرونه مقبلاً على
الطاعة وهم غير قادرين على أن يكونوا طائعين يتضاءلون أمام أنفسهم؛ لذلك يريدون أن
يكون الكل الكل غير طائع، وهذه هي الصورة التي نراها الآن، وعندما يقابل هؤلاء
أهاليهم يتضاحكون بسرور من أنهم ضايقوا مؤمناً، ويقولون: قابلنا مؤمناً واستهزأنا
به، ويتابع الحق.{ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُواْ إِنَّ هَـاؤُلاَءِ لَضَالُّونَ *
وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ }[المطففين: 30].
فالله سبحانه وتعالى يوضح لنا: أن هؤلاء المستهزئين بالدين يتهمون المتدينين بأنهم
على ضلال. فإياكم أن تيأسوا أمام هؤلاء، إياكم أن تهزموا أمام هؤلاء لأنني سأنتقم
عياناً من هؤلاء، وذلك يأتي يوم الآخرة ويقول الله بعد أن ينزل بهم النكال
والعذاب:
{ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ }[المطففين: 36].
فالحق يتساءل ليأتي الجواب على ألسنتنا، والسؤال هو: هل قدرنا أن نجازيهم على ما
فعلوه فيكم؟ فاسخروا أنتم منهم، واضحكوا عليهم كما سخروا منكم في الدنيا.
وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق: } أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ { وهم اليهود: } يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ { ،
وساعة تسمع كلمة " يشتري " أعرف أن هناك معاوضة ومبادلة، سلعة وثمنا،
فيشترون الضلالة بماذا؟ ماذا سيدفعون؟ الحق يقول في آية أخرى:{ اشْتَرَوُاْ
الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَىا }[البقرة: 16].
أي أنهم دفعوا الهدى ثمناً وأخذوا الضلالة سلعة، وعادة ما ندفعه يضيع من يدنا، وما
نشتريه نأخذه لنا. فحين تشتري سلعة بجنيه. فالجنيه يضيع، بعد أن كان معك أولاً،
فحين يقول: } اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَىا { فهل كان معهم هدى وقدموه
وأخذوا الضلالة؟! نعم، كان معهم هدى الفطرة. فكل واحد عنده هدى الفطرة.
إياك أن تظن أن العقل الواعي ينتظر رسولاً ليدله على الله، إنما هو ينتظر رسولا
ليبلغه مرادات الله منه، ذلك أن الإيمان بالله أمر من أمور الفطرة، فالإنسان عندما
يتفتح وعيه يجد أشياء في الكون تخدمه، خدمة مستقيمة رتيبة، ولا تتخلف عن خدمته
أبداً، هناك شمس تطلع كل يوم، وهواء يمر، أرض عندما تزرعها تعطيك خيراً كثيرا. ألك
قدرة على شيء من هذا؟ هل ادعي إنسان مثلك أن له قدرة عليه؟ كل هذه الكائنات أنت
تطرأ عليها، ولم تأت بها.
وعندما يولد الإنسان ويرى كل هذه النعم موجودة. ألا يؤمن بأنها من عطاء خالق؟
الإنسان فوجيء عندما ولد بوجود النعم. وأيضاً آدم عندما خلق فوجيء بالنعم موجودة،
إذن فهو طرأ عليها، بالله ما دام هو قد طرأ عليها ألا يفكر من الذي أقام هذه النعم
له؟ كان لا بد أن يفكر من الذي صنع له كل هذه النعم، وضربنا من قبل مثلاً بمن
انقطعت به الوسائل وهو في الصحراء ولم يجد ماءً ولم يجد طعاماً، ثم يئس فنام، ثم
استيقظ فوجد مائدة عليها أطايب الطعام، بالله قبلما يأكل ألا ينظر ويفكر ويقول في
نفسه: من الذي أعدّ وأقام تلك المائدة؟ أنت - إذن - وارد على الكون بخيره كله، ولا
أحد قال لك: أنا الذي فعلته، لا أبوك ولا جدك ولا جد جدك قال هذا، فلا بد أن تنتبه
إلى أن له خالقاً.
إذن فالذين اشتروا الضلالة بالهدى، أكان معهم هدى فقدموه وأخذوا الضلالة؟! نعم كان
معهم هدى الفطرة، ولذلك حين سئل الإمام علي - كرّم الله وجهه -: أعرفت ربك بمحمد
أم عرفت محمداً بربك؟
قال: لو عرفت محمداً بربي ما احتجت إلى رسول، إذن فلا يصلح أيضاً أن يقال لأحد
" عرفت ربك بمحمد "؛ لذلك قال علي كرم الله وجهه: ولكني عرفت ربي بربي،
وجاء فبلغني مراد ربي مني.
إذن فقوله: } الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ { ماذا فعلوا؟ باعوا هدى الفطرة
واشتروا الضلالة. وهنا يقول الحق: } أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ
نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ {.
ولم يأت بـ " هدى " هنا، وهذا يدل على أن الفطرة انطمست عندهم انطماسا
بحيث لم يقدموا ثمناً للضلالة من الهدى.
} وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ { والإرادة هي: أن يرجح الشخص المختارُ
حكماً على حكم، ومثال ذلك: أنت أمامك جوربان مثلا، فلك أن تختار واحداً منهما، لكن
لو كان أمامك جورب واحد فإرادتك لا ترجح. إن الإرادة ترجح اختيارا على اختيار، وما
معنى " تضلوا "؟ الضلال يطلق بإطلاقات متعددة، فحواها كلها أن هناك
أمراً من الحق ليس على بالك، فهل يحدث ذلك لأنك نسيته أو عرفته وتعمدت أن تتركه؟.
فالذي نسي هذا الأمر معذور. لكنْ هناك إنسان آخر يعرف هذا الأمر لكنه تعمد أن
يتركه، إذن فالضلال يطلق مرة على النسيان كما في قول الحق:{ أَن تَضِلَّ
إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَىا }[البقرة: 282].
فالضلال هنا نسيان لكن هناك من يضل لأنه يفتقد المنهج الحق ويتشوف ويتطلع إليه
ليتبعه، كما في قوله:{ وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَىا }[الضحى: 7].
أي أن المسائل متشعبة على الإنسان فيرى هذا وذاك، فأوضح الحق لك: لا تتعب نفسك
لأني سأعطيك السبيل المستقيم. إذن فالضلالة لها معان متعددة، وفحواها جميعاً أنها
لا توصلك إلى الغاية، والحق سبحانه وتعالى حينما يعرض قضية إيمانية عقدية معنوية
يستعمل فيها الألفاظ التي يستعملها الناس في الكونيات، ولذلك فما هو السبيل؟.
السبيل - عندنا - هو الطريق، وكلنا حتى غير المؤمنين يعرفون أن الطريق يُصنع ليوصل
إلى غاية، ولكن لا بد أن نعرف الهدف أولاً وبعد ذلك نرصف الطريق ونعبّده، ففيه فرق
بين السبب الدافع والواقع.
نحن قبلما نرصف الطريق نرى إلى أين يذهب؟ إذن فالغاية أولاً وبعد ذلك نلتمس أقصر
طريق يوصلنا إلى المطلوب، وعندما نكتشف أقصر طريق يوصلنا للمطلوب نمهده ونعبّده
لكيلا نتعب الناس، إذن فالسبيل هو: الطريق الموصل إلى الغاية. ولذلك أوضح لنا الحق
أن الطريق إلى الإيمان مستقيم كي لا يأخذ مسافات، فالخط المستقيم هو أقصر الخطوط.
إننا لا بد أن نعرف الغاية قبل أن نعرف السبيل إلى الغاية. وآفة الدنيا وأهلها
أنهم يعيشون فيها ولا يعرفون غاياتهم النهائية، إنما يعرفون غايتهم الجزئية،
فالطالب يريد أن يتعلم كي يكون موظفا، لكي يتزوج ويقيم أسرة، والتاجر يتاجر لكي
يعمل كذا، هذه هي الغايات الجزئية، والذكي هو من لا يذهب للغايات القريبة
المنتهية، بل ينظر إلى الغايات الاخيرة، لأن الناس تختلف في الغايات المنتهية،
فواحد يعيش خمسين سنة، وآخر يعيش ستين عاماً، وثالث يعيش لمدة سنة، إذن فلا بد أن
تنظر إلى الغاية التي سيذهب لها الكل، وآفة الناس أنها تعمل للدنيا، يعني للغايات
القريبة، برغم أن " الدنيا " تعني الأقل والأتفه، ولذلك اسمها "
الدنيا " ، وما دامت " دنيا " إذن فهناك " عليا ".
إن تعب الناس يأتي من أنها تعمل للغايات الدنيا؛ لذلك نقول لكل إنسان: انظر الغاية
العليا التي سيكون الكل شركاء فيها، والكل لا بد أن يصل لها. فإذا ما عرفنا الغاية
العليا نجونا من إرهاق قصر النظر والغرق في الغايات المحدودة، مثلاً: أنت تبعث
ابنك ليتعلم من سن الحضانة ثم إلى الروضة ثم الابتدائي ثم الإعدادي ثم الثانوي ثم
التعليم العالي ثم يتخصص في مجال معين في التعليم العالي، وتصل سنوات عمره إلى
العشرين سنة ليتخرج ويتوظف ويقدر أن يعيش بكده وعرقه، والأب يعمل لهذه الغاية، وقد
لا يصل الابن إلى الوظيفة، وقد يُتعب الابن والده ولا يكمل تعليمه وبذلك تفلت منه
الغاية. لكن نحن نريد الغاية التي لا تفلت، فأنت الآن تعيش في أسباب خلقها لك الحق،
فاجعل غايتك أن تعيش مع الحق.
إنك في الدنيا تعيش مع الأسباب التي خلقها لك الحق، لكنك في الآخرة ستكون مع الحق
نفسه. أنت في الدنيا تعيش بالأسباب، ولكنك تعيش في الآخرة بالمسبب، ومهما ارتقت
أسبابك. فأنت لن تستطيع أن تصل إلى مستوى رفاهة الآخرة. صحيح أنه إذا ارتقت حياتك
في الدنيا فقد تضغط على زر في الحجرة ويأتيك فنجان قهوة، أو تضغط على زر فيأتيك
الأكل، ولكن قل لي مهما ارتقت الحياة أيوجد بحيث إذا خطر الشيء على بالك يأتيك؟ لا
يمكن، وهذا ما سيكون لنا في الآخرة، إذن فهذه هي الغاية الحسنة، ونحن نعيش في
الدنيا مع أسباب الله الممدودة لنا، أما في الآخرة فسوف نعيش مع الله ولذلك أوضح
سبحانه: سأعطي المؤمن والكافر الأسباب في الدنيا، فالكافر عندما يزرع يجد نتاجاً،
وعندما يبحث في الكون وينظر أسراره فالأسرار تتكشف له؛ لأن الأسباب خلقها الله لمن
يأخذ بها سواء أكان مؤمناً أم كافراً. لكن المسبب لا يذهب له إلا من آمن به، أما
الكافر فقد آمن بالأسباب فأخذ الأسباب، ولم يمنعها الله منه:{ مَن كَانَ يُرِيدُ
حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا
نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ }[الشورى: 20].
إذن فهل غايتك أن تبقى مع الأسباب أو تذهب إلى المسبب انظر إلى غايتك الدنيا
القريبة، ستجد أنها قد تنتهي قبل أن تصل إليها ويكون تعبك قد ذهب هباء. ولذلك أخفى
الله الموت وأسبابه وزمنه كي يختبر الإنسان، فهناك من يحقق كل ما رغب فيه وفي آخر
الأمر تنتهي المسألة بالموت، وهو قد أخذ الهباء لأنه لم يؤمن بالمسبب، هب أنه أخذ
الدنيا كلها عنده، نقول له: سيأتيك الموت، يعني إما أن تفارق أنت النعمة وإما أن
تفارقك النعمة، ولكن في الحياة الآخرة أنت لا تفارق النعمة ولا النعمة تفارقك فهذه
- إذن - هي الغاية الحقة، غاية العقلاء.
ومتعتك في دنياك كما قلنا على قدر أسبابك أما متعتك في الآخرة فهي على قدر المسبب،
وسبحانه لا يقادر قدره ولا أحد يماثله في فعله. والعاقل هو من ينظر إلى الغاية
البعيدة.
إذن فالسبيل لا يمكن أن يكون طريقاً إلا إذا علمت الغاية، والذي يجعل الناس تتعب
في الدنيا، أنهم لا يعرفون إلا الغايات القريبة، ولذلك سماها " الدنيا "
ولا يوجد اسم أدنى من ذلك لها، وكان يجب أن يوحي هذا الاسم بأنها فانية وهناك
باقية. إذن فقبلما ترسم السبيل لا بد أن تحدد الغاية. وبعدما تحدد الغاية تختار
السبيل الذي يوصلك للغاية، وهكذا نعرف أن هناك فرقا بين واقع ودافع، الشيء الدافع
هو أن تنصب الغاية أولاً وتحددها، فالتلميذ يجتهد كي ينجح، وينجح لكي يأخذ حظه في
الحياة، وهذه الغاية لا بد أن توجد في ذهنه قبلما يتعلم، وعندما يتصور النجاح
ولذته في ذهنه فهو يبدأ في المذاكرة، وعندما يذاكر يصل إلى الغاية وهي النجاح،
فالغاية نوعان: غاية دافعة، وغاية واقعة، فالغاية الدافعة تسبق الطريق، والغاية
الواقعة تتأخر عن الطريق، ومن الذي يحدد الغاية؟
إن الذي يحدد غاية كل شيء هو من صنعه، وغايتك أنت من الذي يحددها؟ أنت تحدد
الغايات الدنيا، أما الغايات العليا فعليك أن تتركها للأعلى ليحددها وهو الله. وما
دام هو سبحانه الذي يحددها لأنك صنعته وخَلقه؛ لذلك تسأله: أنت سبحانك الذي تعلم
موقعها فهيئ لنا الطريق الذي يوصلنا لها. لا بد إذن من الإيمان إذا ما كانت الغاية
هي أن تعيش مع الحق، والسبيل هو المنهج:{ وَأَنَّ هَـاذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً
فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ
}[الأنعام: 153].
أي أن سبلكم أنتم لا توصلكم إليَّ؛ لأنكم حددتموها بغاياتكم، أمّا أنا فقد حددت
السبيل بغايتي فمن أراد أن يصل إليّ فلينظر إلى طريقي. وكلمة " السبيل "
، و " الطريق " كلها أمور حسية، والحق يستعملها لنا ليدلنا على المعاني
العقدية والمعاني المعنوية يوضحها - سبحانه - بأمور حسية أمامنا، وعندما توجد في
مفترق طرق وتريد أن تصل إلى المنطقة الفلانية. فانحرافك بمقدار ملليمتر واحد في
بداية الطريق، يبعدك عن الهدف، وكلما أمتد بك السير اتسع المشوار وتبعد المسافة،
فأنت تتوه، ونمثل لهذا بشيء بسيط جداً: كلنا نركب القطارات، والقطارات تسير على
قضبان مستقيمة.
فإذا أردنا أن نحول القطار فنحن لا نرفعه ونضعه على قضيب آخر، بل نأتي بتحويلة لا
تتجاوز اثنين من الملليمتر ونقربها إلى حد الالتصاق في القضيب الأصلي، وهذا ما
يفعله " المحولجي " ، فينحرف القطار لينتظم الخط وليصل إلى المحطة
المطلوبة.
ولفتنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بما رواه سيدنا حذيفة - رضي الله عنه
- حينما قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين قد رأيت أحدهما، وأنا
أنتظر الآخر، حدثنا: أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال - أي أن الإيمان فطري -
ثم نزل القرآن، فعلموا من القرآن وعلموا من السنة.
ثم حدثنا رسول الله عن رفع الأمانة قال:
" ينام الرجل النومة فتغيض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل الوكت - وهو اللسعة
التي توجد أثراً على الجلد - ثم ينام الرجل النومة فتغيض الأمانة من قلبه فيظل
أثرها مثل أثر المجْل " (والمجل هو أثر الجمرة التي تظل مدة طويلة على جلد
الإنسان فتسبب ورماً فيه مياه - كجمر دحرجته على رجلك فنفط - أي انتفخ - فتراه
منتبراً وليس به شيء) فيصبح الناس يتبايعون فلا يكاد يوجد أحد منهم يؤدي الأمانة
حتى يقال: " إن في بني فلان رجلاً أميناً ".
ويستمر سيدنا حذيفة قائلاً:
ولقد مر عليّ زمان وما كنت أبالي أيكم بايعت لئن كان مسلماً ليردنه علىّ دينه ولئن
كان نصرانياً ليردنه عليّ ساعيه - أي المحتسب - وأما الآن فما كنت أبايع منكم إلا
فلاناً وفلاناً.
إن الإيمان فطري. إنّ قصارى ما يعطيك هذا الإيمان الفطري أن وراء هذا الكون الدقيق
قوة عظمى؛ فالكون المنظم، الرتيب، الذي لا يدخل تحت طاقتك ولا تحت قدرتك، هذا
الكون يسير على أحسن نظام. والقوة العظمى القادرة التي وراء ذلك الكون تتصف
بالقدرة، وبالعلم، وبالحكمة، وبكل صفات الكمال.
لكن أيعطيك فكرك وعقلك اسم هذه القوة؟ لا يمكن أن يعطي العقل اسم هذه القوة.
أيعطيك فكرك وعقلك مرادات هذه القوة؟ إنك لا تستطيع أن تعرف مرادات هذه القوة إلا
برسول ترسله ليبلغ عنها. والرسول عندما يأتي تقول: إن القوة التي تبحثون عنها،
والتي آمنتم بها إيماناً مجملاً اسمها " الله ". فلا بد أن نصدق الرسول.
فالعقل لا يقول لنا اسم القوة الخالقة. ولكن الذي يقول لنا اسم هذه القوة هو
البلاغ، ويعطينا الحق هذا البلاغ من خلال الرسول بكل مراداته من وجودنا.
وهذا هو أقصر طريق للوصول إلى الحق بعيداً عن تعقيدات الفلسفة أو تعقيدات المنطق،
وسفسطة الجدل، هذا الطريق الذي يثبت أن من يعبد أي قوة غير الله لا حق له في مثل
هذه العبادة.
فالذي يعبد الشمس مثلاً هل يستطيع أن يقول لنا ما هو منهج الشمس الذي تطلبه من
الإنسان؟ وماذا قالت لمن يعبدها جزاءً للفعل الحسن أو عقاباً على الفعل السيئ؟
ماذا تستطيع هذه الشمس أن تفعل لمن لا يعبدها؟. إنها لا تملك ثواباً ولا عقاباً،
ولا منهج لها، وإله بلا منهج لا يصلح أن يكون إلهاً. فالإله لا بد له من منهج يدل
الناس على صواب الفعل وينهي عن سوء الفعل ويملك سلطان الثواب والعقاب. والشمس لا
تملك منهجاً تعطيه، وكذلك الحجر أو القمر.
إذن فهذه الأشياء مخلوقة بدورها من قبل خالق ولا تصلح أن تكون آلهة. ووجود الرسل
المبلغين عن الله دليل على صدق الدعوة. فالحق سبحانه وتعالى يعطينا إيماناً بوجوده
من خلال المنهج.. ونحن قبل البلاغ نعرف أن هناك قوة خالقة لا نعرف اسمها ولا
مرادها؛ ولذلك فعندما يأتي الرسول بالبلاغ فهذه رحمة من الله بالخلق. أما من يحاول
أن يخطط بعقله لحياته بدون الرسول فنقول له: أنت تصيب نفسك وروحك بالتعب ولن تصل
إلى شيء. ونضرب هذا المثل دائماً - ولله المثل الأعلى - هب أننا نجلس في غرفة
والباب مغلق ثم طرق الباب طارق. هنا نتفق نحن الجلوس في الغرفة في أن وراء الباب
طارقاً.
ولكن إذا أردنا تحديد هذا الطارق وتعيينه فسنختلف فيقول قائل: إنه رجل.. ويقول
آخر: لا إنه امرأة. ويقول ثالث: لا. إنه طفل. ويقول رابع: هذا بشير. ويقول خامس:
هذا نذير. ويقول سادس: إنه القادم لنا بالقهوة. ويقول السابع: إنه رجل مكلف بالقبض
علينا.
هكذا نتفق على أن طارقاً بالباب ونختلف في تحديد " من الطارق ". وهكذا
الكون، الكون وراءه قوة هائلة وعندما يحاول الإنسان أن يقول اسم هذه القوة بعقله
أو مرادات هذه القوة فهذا يسبب الخلاف. ولكن حينما ترسل القوة عن نفسها رسولاً
ليقول: إن القوة الخالقة اسمها الله ومرادات الله كذا، ففي ذلك حسم للخلاف.
إن الذي أرهق الفلاسفة ووصل ببعضهم إلى دهاليز التيه، هو أن بعضهم لم يكتف بتعقل
القوة التي خلقت الكون. بل إنهم أرادوا أن يتصوروا القوة وما هياتها ومراداتها.
ونقول: إن نظرة الفلاسفة إلى الخالق لا تصلح؛ لأنهم بتلك النظرة يظلون في التيه،
ولكن البلاغ عن طريق رسول هو الذي يحسم هذه المسألة. والحديث الذي رواه لنا سيدنا
حذيفة عن الأمانة يصور لنا مهمة الإيمان وكيف يتعلم المؤمن من القرآن والسنة،
وعندما يهمل هذا العلم، فما الذي يحدث؟
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يمثل لنا مراحل فقدان الأمانة. وينبهنا: احذروا
من أن تتسلل الانحرافات بنومة قليلة، ثم إلى أخرى أكبر منها، ثم إلى ثالثة أكبر
وأوسع. وشرحنا ذلك بمثل الانحراف المقصود لقطارات السكك الحديدية.
إن قوله الحق سبحانه: } يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ
السَّبِيلَ { كي لا ينفردوا - وحدهم - بالضلال، والحق سبحانه يعطينا مناعة ضد
كلامهم، فهم لهم حظّ من علم الكتاب وهذا قد يجعلنا نحسن الظن بأن لهم صلة بالسماء؛
لأنهم أتباع رسل، فسبحانه يوضح لنا: هؤلاء يريدون أن تضلوا السبيل ويتخذوا من نصيب
الكتاب الذي عندهم وسيلة كي يضلوكم.
وفي عصرنا نجد أن أعدى أعداء أي عقيدة ليسوا أعداءها الظاهرين وإنما أعداؤها من
أنفسهم. لأن عدوّي الظاهر الكافر يجابهني وأنا واثق أنه يريد أن يدس لديني ويدلس
ويحرف فيه، لكن عندما يكون هناك مسلم مثلي يأتي ليكلمني فربما آخذ كلامه على أنه
مسلم؛ ولذلك فخصوم الإسلام يئسوا أن يواجهوا الإسلام مواجهة صريحة؛ ولذلك نجد
الغرب قد توقف الآن عن مسألة الاستشراق، وما بقي من الاستشراق فهذا هو القديم.
وكان المستشرق من هؤلاء يؤلف كتاباً؛ ساعة يقرأه المسلم قد يقول: إنه رجل يعمل على
خدمة العلم وعلى خدمة الثقافة، وخدمة سنة رسول الله. وقد يكتفي هذا المؤلف بأن يدس
في الكتاب الواحد فكرة واحدة بعد أن يجعل القارئ يثق فيه.
وعندما علموا أننا فطنا لهذا دخلوا علينا بالمستغربين. وهم أناس منا ذهبوا إلى
الغرب فأخذوا الداءات من هناك وجاءوا فبثوها في مناهج تعليمنا، وفي برامجنا، وفي
وسائل الإعلام، وفي الصحافة، والواحد من هؤلاء المستغربين يفعل ذلك وهو مسلم،
فيكون محل ثقة، ووجد الغرب أيسر طريق لهم الآن أن يدخلوا إلينا عن طريق بعض
المسلمين الذين أوتوا نصيباً من الكتاب؛ لأن الإنسان سيكون مطمئناً إلى أن هؤلاء
مسلمون؛ فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يبين لنا: أن خصومك الظاهرين أهون عليك من
خصومك المنسوبين إلى دينك؛ لأن هؤلاء يدخلون عليك بالثقة الأولى، ثقة انتسابهم
للإسلام؛ ولذلك يوضح لنا ربنا هذا الأمر لأنه قد يتعب ويصيب المؤمنين بالعنت لذلك
يقول: } أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ {. وهم يعيشون على هذه.
ويقول الحق بعد ذلك: } وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ... {.
(/325)
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45)
فقد يكون عندكم علم بالأعداء فيقال: أنتم عالمون بأعدائكم. لكن الله أعلم بالأعداء
جميعا؛ لأنه قد يكون لك عداوة بينك وبين نفسك، أو عداوة من زوجتك، أو عداوة من
أولادك أو كل هذه العدوات جميعها أو بعضها. وهؤلاء في ظاهر الأمر لا يمكن للإنسان
أن يتبين عداوتهم جميعا، لكن الله أعلم بهم وبما يخفون؛ لذلك يقول: { وَاللَّهُ
أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ }.
وجاء بها بعد قوله: { وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ } أي مخافة أن نقول:
إن هؤلاء أهل كتاب أو مسلمون مثلنا وكذا وكذا. وما دام الله هو الأعلم بالأعداء.
فهو لن يخدعنا ولن يغشنا، فيجب أن ننتبه إلى ما يقوله الحق من أنهم أعداؤنا، ويقول
بعدها: { وَكَفَىا بِاللَّهِ وَلِيّاً } وحين يقول هذا، فالقول يعني أنك لا تريد
وليّاً بعد ذلك، كما يقولون: كفاني فلانٌ؛ أي أنك قد تحتاج إلى هذا وهذا ثم تقول:
لكنَّ فلانا عرفته فكفاني عن كل ذلك، أي لا يحوجني إلى أحد سواه؛ لأنني أجد عنده
الكفاية التي تكفيني في كل حركة حياتي.
{ وَكَفَىا بِاللَّهِ وَلِيّاً }.. نعم كفى به وليّاً لأن غيره من البشر إنما
يملكون الأسباب، والحق سبحانه وتعالى هو الذي خلق الأسباب، فيملك ما هو فوق
الأسباب. ولذلك يقول مطمئنا لنا:{ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً
* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ }[الطلاق: 2].
و " الولي " دائماً هو من يليك مباشرة أي أنه قريب منك. { وَكَفَىا
بِاللَّهِ نَصِيراً } إذن فهناك قريب، وهناك أيضاً نصير، فقد يكون هناك من هو قريب
منك ولا ينصرك، لكن الله وليّ ونصير، فما دامت المسألة مسألة معركة { وَاللَّهُ
أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَىا بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَىا بِاللَّهِ
نَصِيراً } ، كأن الحق ينبهنا: إياكم أن تقولوا إننا نلتمس النصرة عند أحد، اصنعوا
ما في استطاعتكم أن تصنعوه ثم اتركوا ما فوق الاستطاعة إلى الله. ولذلك فالحق
سبحانه وتعالى أوضح لنا: إياكم أن تتخذوا من أعدائكم أولياء، وإياكم أن تقولوا؛
ماذا نفعل ونحن ضعفاء، ونريد أن نكون في حمى أحد، وماذا نفعل في أعدائنا؟ لا
تقولوا ذلك؛ لأن الله أعلمنا: أنا أنصركم بالرعب بأن أُلْقِيَ في قلوب أعدائكم
الخوف فينهزموا من غير سبب وفيهم قوة وغلبة، فإن لم يكن عندكم أسلحة فسأنصركم
بالرعب. وما دام سينصرنا بالرعب فهذه كافية؛ لأنه ساعة ينصرني بالرعب؛ يلقي عدوى
سلاحه وأنا آخذه؛ ولذلك قال: اعملوا ما في استطاعتكم، ولم يقل: أعدوا لخصومكم ما
تحققون به النصر، فهو سبحانه قادر على أن ينصرنا بالرعب:{ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ
الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَآ أَشْرَكُواْ بِاللَّهِ }[آل عمران: 151].
وما دام ألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فوسائلهم كلها تكون للمؤمنين وتنتهي
المسألة.
ويقول الحق بعد ذلك: { مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ... }.
(/326)
مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)
تلك الحق في سورة النساء عن الخلق الأول وأوضح: أنني خلقتكم من نفس واحدة وهي
" آدم " وبعد ذلك خلقت منها زوجها، ثم بثثت منهما رجالا كثيراً ونساء،
والبث الكثير للرجال والنساء لتستديم الخلافة للإنسان، لكن كيف يأتي ذلك؟ أوضح
سبحانه: أريد مجتمعاً قوياً، وإياكم أن يضيع فيه اليتيم. وبعد ذلك ما دمت أريد
استدامة هذا الاستخلاف فليأخذ الأيتام نصيباً، وتكلم - سبحانه - عن التركة، ثم
تكلم عن السفهاء غير المؤتمنين على مالهم، وبعد ذلك تكلم عن كيفية الزواج.
إذن فكل هذه العملية ليبني لنا نظام حياة متكاملاً؛ لأن الخلافة في الأرض تقتضي
دوام هذه الخلافة بالتكاثر، والتكاثر لا يؤدي مراده إلا إذا كان تكاثر أقوياء، أما
تكاثر الضعاف فهو لا ينفع. فإن كان فيكم يتيم لا بدأن تلاحظوه، وإن كان فيكم سفيه
لا يستطيع أن يدبر ماله فدبروا أنتم له ماله، واجتهدوا لتتركوا من حركة حياتكم
للناس الذين سيأتون بعدكم إلى أن تقوى نفوسهم على الحركة. وأوضح سبحانه منهاج
الميراث، وأمر سبحانه: أن تزاوجوا، لكن للتزاوج شروطه وقد أوضحها، ثم أعطانا
المنهج العام: { وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } ، ووضح هذه الأحكام كلها.
وبعد ذلك ما الحكمة في أنه - سبحانه - يرجع بنا مرة ثانية لليهود؟ الحق سبحانه
وتعالى يوفي الأحكام، وإلقاء الأحكام شيء وحمل النفس على مراد الله في الأحكام شيء
آخر، فيوضح لنا: أن هناك ناساً ستعلم الحكم لكنها لا تقدر أن تحمل نفسها عليه،
فإياكم أن تكونوا كذلك. واعلموا أن هناك أناساً عندهم نصيب من الكتاب أيضاً،
ويعلمون مثلكم تماماً، إنما اشتروا الضلالة، إذن فهو شَرَح لنا؛ إنّه الواقع
الملموس ولا يأتينا - سبحانه - بكلام خبري أو إنشائي، قد تقول: يحدث أو لا يحدث،
إنّه يأتيك بأحداث من واقع الكون، وينبهنا: إياكم أن تكونوا مثلهم، فقال: { مِّنَ
الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ } والتحريف: أنك تأتي
باللفظ الذي يحتمل معنيين: معنى خير، ومعنى شرّ، ولكنك تريد منه الشرّ، مثل الذي
يقول: " السام عليكم " - والعياذ بالله - " هي في ظاهرها أنه يقول:
السلام عليكم، لكنه يقول: السام. يعني " الموت " ، إذن ففي اللفظ ما يُلحظ
مَلحظً الخير، ولكن العدو يميله إلى الشرّ.
ومثل هذا ما قالوه للنبي: " قالوا راعنا " وهي من المراعاة، لكنهم كانوا
يأخذونها من الرعونة، فيأتي الأمر: اترك الكلمة التي تحتمل المعنيين. واقطع الطريق
على الكلمة التي تحتمل التوجهين؛ لأن المتكلم، قد يريد بها خيراً وقد يريد بها
شرّاً، فمعنى تحريف الكلام أي أن الكلام يحتمل كذا ويحتمل كذا.
والمثال على ذلك: الرجل الذي ذهب لخياط ليخيط له قَباء - وكان الخياط كريم العين -
أي له عين واحدة - فلم يُعجب الرجُل بِخياطة القَباء فقال: والله ما دمتُ أفتضح
بهذا الثوب الذي خاطه لي أمام الناس فلا بد أن أقول فيه شعراً يفضحه في الناس،
فقال:خاط لي عمرو قَباء ليت عينيه سواءفقوله: ليت عينيه سواء يظهر ماذا؟. هل يا
ترى يتمنى له أن تكون عينه المريضة مثل السليمة؟ أو يتمنى أن تكون العين السليمة
مثل المريضة؟ إذن فالكلام يحتمل الخير والشر، ومثلما حكوا لنا أن واحداً من الولاة
طلب من الخطيب أن يسب سيدنا عليّاً - كرم الله وجهه وآله - وأن يلعنهم على المنبر.
فقال الخطيب: اعفني.
فقال الوالي: لا، عزمت عليك إلاَّ فعلت.
فقال له الخطيب: إن كنت عزمت على إلاّ فعلتُ، فسأصعد المنبر وأقول: طلب مني فلان
أن أسب عليّاً فقولوا معي يلعنه الله.
فقال له: لا تقل شيئاً. فقد فهم الوالي مقصد الخطيب وقدرته على استعمال الكلام على
معنيين.
والحق يقول: } مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ
{. وأريد أن تنتبهوا إلى أن أسلوب القرآن يأتي في بعض المواقع بألفاظ واحدة، ولكنه
يعدل عن عبارة إلى عبارة، فيخيل لأصحاب النظر السطحية أن الأمر تكرار، ولكنه ليس
كذلك، مثلما يقول مرة: } يشترون الضلالة بالهدى { ومرة لا يأتي بالهدى كثمن
للضلالة ويقول: } يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ { ، ولم يلتفتوا إلى أن هدى الفطرة
مطموس عندهم هنا، ومثال آخر هو قول الحق:{ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ
مَوَاضِعِهِ }[المائدة: 41].
وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول سبحانه: } يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن
بَعْدِ مَوَاضِعِهِ { ، فكأن المسألة لها أصل عندهم، فالكلام المنزل من الله وضع -
أولا - وضعه الحقيقي ثم أزالوه وبدَّلوه ووضعوا مكانه كلاما غيره مثل تحريفهم
الرجم بوضعهم الحد مكانه.
أما قوله: } مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ { فتفيد أنهم رفعوا الكلام المقدس من موضعه
الحق ووضعوه موضع الباطل، بالتأويل والتحريف حسب أهوائهم بما اقتضته شهواتهم،
فكأنه كانت له مواضع. وهو جدير بها، فحين حرفوه تركوه كالغريب المنقطع الذي لا
موضع له، فمرة يبدلون كلام الله بكلام من عندهم، ومرة أخرى يحرفون كلام الله
بتأويله حسب أهوائهم.
} وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا {. فهم يقولون قولاً مسموعاً " سمعنا
" ثم يقولون في أنفسهم " إنّا عصينا ". فقولهم: " سمعنا
وعصينا " ففي نيتهم " عصينا " ، إذن فقولهم " سمعنا "
يعني سماع أذن فقط. إنما " عصينا " فهي تعني: عصيان التكليف، وهم قالوا
بالفعل سمعنا جهرا وقالوا عصينا سِرّاً أو هم قالوا: سمعنا، وهم يضمرون المعصية، "
واسمع غير مسمع " ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يُسْمِعُكم، بدليل
أنكم قلتم: سمعنا، فماذا تريدون بقولكم: اسمع؟ هل تطلبون أن يسمع منكم لأنه يقول
كلاماً لا يعجبكم وستردون عليه، أو أنتم تريدون استخدام كلمة تحتمل وجوهاً
فتقلبونها إلى معانٍ لا تليق، مثل قولكم: " غير مُسْمع " ما يسرّك، أو
" غير مسمع " أي لا سمعت؛ لأنهم يتمنون له - معاذ الله - الصمم، وقد
تكون سباباً من قولهم: أسمع فلان فلاناً إذا سبّه وشتمه، فالكلام محتمل.
} وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ { لم يقولوا:
" راعنا " من الرعاية بل من الرعونة، فقال: لا. اتركوا هذا اللفظ؛ لأنهم
سيأخذون منه كلمة يريدون منها الإساءة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و
" اللي ": هو فتل الشيء، والفتل: توجيه شقي الحبل الذي تفتله عن
الاستقامة، وهذا الفتل يعطيه القوة، وهم يعملون هذه العمليات لماذا؟ لأنهم يفهمون
أنها تعطي قوة لهم.
} لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ { ، وما داموا يلوون الكلام عن
الاستقامة فهم يريدون شرّاً، لأن الدين جاء استقامة، فساعة يلويه أحد فماذا يرد؟..
إنه يريد } وَطَعْناً فِي الدِّينِ { ، } وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا { ،
وبدلاً من إضمار المعصية يقولون: } وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا { بدلاً من
" راعنا " ، فـ " انظرنا " لا تحتمل معنى سيئاً.
إذن فمعنى ذلك أن الله سبحانه وتعالى يريد أن يخبر أحباب رسول الله صلى الله عليه
وسلم أن خصومه يأتون بالألفاظ محتملة لذم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لذلك
يوضح: احذروا أن تقولوا الألفاظ التي يقولونها؛ لأنهم يريدون فيها جانب الشر
وعليكم أن تبتعدوا عن الألفاظ التي يمكن أن تحول إلى شرّ. فلو قالوا سمعنا وأطعنا
} وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن { ، وساعة
تسمع كلمة " لكن " فلتعلم أن الأمر جاء على خلاف ما يريده المشرع؛ لأنه
يقول: } وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ { ، لكنهم لم يقولوا، إذن فالأمر جاء على خلاف
مراد المشرع.
} وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ { و " اللعن " هو: الطرد
والإبعاد، فهل تجنىَّ الله عليهم في لعنهم وطردهم؟ لا. هو لم يلعنهم إلا بسبب
كفرهم، إذن فلا يقولن أحد: لماذا لعنهم الله وطردهم وما ذنبهم؟ نقول: لا. هو
سبحانه لعنهم بسبب كفرهم، إذن فالذي سبق هو كفرهم، وجاء اللعن والطرد نتيجة للكفر.
} وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً {.
وساعة تسمع نفي حدث " لا يؤمنون " ثم يأتي استثناء " إلا " ،
فهو يثبت بعض الحدث، تقول مثلاً لا يأكل إلا قليلاً، كلمة " لا يأكل "
نفت الأكل، " وإلا قليلاً " أثبتت بعض الأكل، فهو سبحانه يقول: } فَلاَ
يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً {. والإيمان حدث يقتضي محدثاً هو: من آمن، إذن، فعندي
حدث وفاعل الحدث، فساعة تسمع استثناء تقول: هذا الاستثناء صالح أن يكون للحدث،
وصالح أن يكون لفاعل الحدث، كلمة } فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً { تعني: فلا
يؤمنون إلا إيماناً قليلاً؛ لأنهم يؤمنون قليلاً بالصلاة، وبأنهم لا يعملون يوم
السبت، أما بقية مطلوبات الإيمان فليست في بالهم ولا يؤدونها، أو فلا يؤمنون إلا
قليلاً فقد يكون بعض منهم هو الذي يؤمن، وهذا صحيح عندما نقوله؛ لأن بعضا منهم آمن
بالفعل، ونجد أيضاً أنهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، فيكون إيمانهم قليلاً
بالحدث نفسه.
وهناك أناس منهم بعدما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتُلى القرآن ورأوا
صورته فوجدوه مثلما وُصف عندهم تماما فآمنوا، ولكن هل آمن كل يهود، أو آمن قليل
منهم؟ آمن قليل منهم مثل: عبد الله بن سَلاَم، وكعب الأحبار، إنما عبد الله بن
صُورْيَا، وكعب بن أسد، وكعب بن الأشرف وغيرهم من اليهود فلم يؤمنوا.
إذن فإن أردت أن بعضاً " قليلاً منهم " هو الذي آمن فهذا صحيح، ويصح
أيضاً أن الكافرين منهم كانوا يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، وفي ذلك تعبير من
الحق سبحانه وتعالى نسميه " صيانة الاحتمال "؛ لأن القرآن ساعة ينزل
بمثل هذا القول فمن الجائز - وهذا ما حدث - أن هناك أناساً من اليهود يفكرون في
أنهم يعلنون الإيمان برسول الله، فلو قال: " فلا يؤمنون " فقد لكان من
الصعب عليهم أن يعلنون الإيمان - لكن عندما يقول: " إلا قليلاً " فالذي
عنده فكرة عن الإيمان يعرف أن الذي يخبر هذا الإخبار عالم بدخائل النفوس، فصان
بالاحتمال إعلان هؤلاء القلة للإيمان.
ويقول الحق بعد ذلك: } يَا أَيُّهَآ الَّذِينَ... {.
(/327)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آَمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47)
نعلم أن كل التشريعات التي جاءت من السماء لا يوجد فيها تضارب؛ فالمشرع واحد. ولن
يشرع اليوم شريعة ثم يأتي رسول آخر يشرع شريعة أخرى جديدة. فأصول الاديان كلها
التي جاء بها ركب الرسالات واحدة، ولا تختلف إلا في بعض الأحكام التي تتطلبها ظروف
العصور، وفي التشريع الواحد تتطور الأحكام وخصوصاً ما يتعلق بالعادات. وما كان
الله سبحانه وتعالى الرحيم بعباده يأتي المسألة من المسائل تعرض الناس فيها لعادة فتمكنت
منهم تلك العادة، وأصبحت تقودهم أن يفعلوها ثم يأتي لينهيها بكلمة. لم تأت الكلمة
الفصل إلا في العقيدة. لكن المسائل التي تحتاج لينهيها بكلمة. لم تأت الكلمة الفصل
إلا في العقيدة. لكن المسائل التي تحتاج إلى التعود فالحق يتلطف في أن يخرجها
خروجاً ميسوراً، بمعنى أنه يجعلها مرحليات كي لا توجد فجوة الانتقال.
ويمكننا أن نشبه فجوة الانتقال: مثلما يكون هناك من يدخن السجائر، ويصل معدل
تدخينه في اليوم مائة سيجارة، فإذا قلنا له: اجعله خمسين سيجارة، ثم ثلاثين،
وهكذا، وبذلك نكون قد وزعنا عادته على بعض الزمن، وبدلاً من أن تكون المسافة بين
السيجارة والسيجارة عشر دقائق أو نصف ساعة فلنجعلها ساعة فنكون قد كسرنا جزءاً من
الاعتياد، وكذلك مرحليات الأمور الاجتماعية التي تنشأ من رتابة التعود.
إن الحق سبحانه وتعالى يقول: { يَا أَيُّهَآ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ
آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ }. فالحق يوضح: لم نأت
بحاجة جديدة، بل كلها مما عندكم. قد يقول قائل: ما دامت مما عندهم فما الداعي
لها؟. نقول: لأن هناك جديداً في أقضية العصر التي لم تكن موجودة عندهم، والذي زاد
هو معالجة تلك الأقضية الجديدة، ولكن أصل الإيمان موجود بالقرآن المعجز الذي ينزل
من السماء؛ بالمعجزة بالتوحيد، والقضايا العقدية، كل هذه لا يوجد فيها خلاف.
{ يَا أَيُّهَآ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ } إلزام لهم بالحجة، وتعني: نحن لا
نكلمكم بكلام لا تعرفونه؛ لأنه يقول: { مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ } إنّهم يعلمون
ما معهم جيداً، فكان من الواجب أن يقارنوا ويوازنوا ما جاء لهم من جديد على يد
رسول الله صلى الله عليه وسلم بما عندهم، فإن وجدوه مصدقاً لما عندهم فقد انتهت
المسألة.
ثم انظر إلى التهديد { مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَىا
أَدْبَارِهَآ أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ
أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً } سبحانه يناديهم: بادروا، كما نقول مثلاً: " الحق
نفسك وآمن " ويقول الحق: { مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا
عَلَىا أَدْبَارِهَآ }. والطمس هو: المحو. فالشيء الذي طمس هو الذي مُحي بعدما كان
شيئاً مميزاً، وكلمة " وجوه " وردت في القرآن بمعانٍ متعدددة، فتطلق مرة
في البدن على ما يواجه وهو " الوجه " كما في قوله:
{ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ }[آل عمران: 106].
ونطلق الكلمة مرة على القصد والنية والوجهة، قال تعالى:{ بَلَىا مَنْ أَسْلَمَ
وَجْهَهُ للَّهِ }[البقرة: 112].
و " أسلم وجهه " تعني قصده ووجهته ونيته.
إذن فمرة يطلق الوجه على الوجه الذي به المواجهة، ومرة يطلق على القصد، وما
العلاقة بين القصد، والنية، والوجه؟. لأن الإنسان إذا قصد شيئاً اتجه إليه بوجهه،
وسار له. إذن فالوجه يطلق على هذه الجارحة " الوجه " ، ويطلق على القصد
والنية. وما دام يطلق بإطلاقين فيطلق على الوجه المعروف فينا، ويطلق على القصد
والنية التي توجهنا فالاثنان يصحان.
وقوله: } نَّطْمِسَ وُجُوهاً { لأنه سبحانه أوضح: أنا مكرمكم وجعلت لكم سمات تميزكم،
بشكلها: حواجب، وعينين، وأنفاً جميلاً، وفَماً، بحيث إنك لو أردت أن تخلق هذه
الخلقة، لما استطعت، وسبحانه يعلن: أنا أقدر أن أطمس هذه الوجوه التي تميزكم، بحيث
أردها على الأدبار، فيكون الوجه مثل القفا، وتصبح كقطعة اللحم، هذا إن أردنا
بقوله: " وجوهاً " ، الوجه الذي في البدن.
وإن أردنا بالوجه " القصد " نقول: الذين يشترون الضلالة، والذين يريدون
ان تضلوا السبيل، والذين يحرفون الكلام عن مواضعه، والذين يقولون: " راعنا
" ، والذين يقولون: " اسمع غير مسمع ". أليس لهم وجهة؟ وما وجهتهم
في هذا الموقف وما قصدهم؟
إن قصدهم هو صرف أنفسهم وصرف الناس عن اتباع محمد، فكأنه يقول لهم: بادروا وآمنوا
قبل أن نطمس ونمحو قصدكم فلا يصل إلى منتهاه مِنْ صدكم عن الإيمان برسول الله،
الحقوا أنفسكم قبل أن يحدث ذلك ونلعنكم ونطردكم من رحمتنا، ولذلك نجد سيدنا عبد
الله بن سلام عندما سمع الآية، ذهب إلى رسول الله ويده على وجهه وقال: والله لقد
خفت قبل أن أسلم أن يُطْمس وجهي.
وهذا دليل على أنه آمن بأن الذي قال هذا الكلام قادر على الإنفاذ. وفي عهد سيدنا
عمر - رضي الله عنه - نجد كعب الأحبار يذهب له، ولم تكن الآية قد بلغته، فلما
بلغته ذهب إلى سيدنا عمر وهو واضع يده على وجهه خائفاً أن يُطمس وجهه قبل أن يعلن
إسلامه. وذلك دليل على يقينه من أن الذي قال هذا الكلام قادر على الإنفاذ.
وقد يقول قائل: ولكنْ منهم أناس لم يؤمنوا ولم يحدث لهم هذا الطمس. نقول: أهو قال
سنطمس الوجوه فقط؟ لا، بل قال أيضاً: } أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ
أَصْحَابَ السَّبْتِ { ويكفي أن هناك أناساً اعتقدوا أن الطمس قد يجيء وهم من وجوه
أهل الكتاب ومن أحبارهم، فالذين آمنوا برسول الله من هؤلاء كانوا يعلمون كيد
اليهود، فسيدنا عبد الله بن سلام قبل أن يسلم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
أنا أحب أن أسلم، ولكني أخشى إن أسلمت أن يقول اليهود فيَّ شرّاً فقبل أن أُسلم
أسألهم عني، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبار اليهود: ماذا تقولون في عبد
الله بن سلام؟ قالوا: سيدنا وابن سيدنا وعالمنا وحبرنا ومجدوه، فلما سمع ابن سلام
منهم هذا الكلام قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله فقالوا: هو
ابن كذا وابن كذا وسبوه، فقال ابن سلام: يا رسول الله ألم أقل لك: إنهم قوم بهت.
فقد روى " أن عبد الله بن سلام لما سمع بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم
أتاه فنظر إلى وجهه الكريم فعلم أنه ليس بوجه كذاب، وتأمله فتحقق أنه النبي
المنتظر، فقال له: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول شرائط الساعة؟ وما
أول طعام ياكله أهل الجنة؟ والولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟ فقال عليه السلام:
" أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام أهل
الجنة فزيادة كبد الحوت، وأما الولد فإن سبق ماء الرجل نزعه، وإن سبق ماء المرأة
نزعته " فقال: أشهد أنك رسول الله حقا فقام ثم قال: يا رسول الله، إن اليهود
قوم بهت فإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني عندك، فجاءت اليهود فقال لهم
النبي صلى الله عليه وسلم: أيُّ رجل عبد الله فيكم؟ فقالوا: خيرنا وابن خيرنا
وسيدنا وابن سيدنا وأعلمنا وابن أعلمنا، قال: أرأيتم إن أسلم عبد الله؟ قالوا
أعاذه الله من ذلك، فخرج إليهم عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً
رسول الله، فقالوا: شرنا وابن شرنا وانتقصوه، قال: هذا ما كنت أخاف يا رسول الله
وأحذر " قال سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: ما سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول لأحد يمشي على الأرض: إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام،
وفيه نزل: } قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ
وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىا مِثْلِهِ {.
} مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَىا أَدْبَارِهَآ { فإن
أردنا طمس الوجه حقيقة، فهو الأمر الذي خاف منه عبد الله بن سَلام وكعب الأحبار،
هذا ذهب إلى رسول الله وذاك ذهب إلى عمر، وكل منهما كان يمسك وجهه خشية أن يطمس،
إذن فقوله: } نَّطْمِسَ وُجُوهاً { أي نجعلها مثل " القفا " مجرد قطعة
لحم من غير تمييز، أو نحول بينهم وبين قصدهم أي لا نمكنهم من الوصول إلى ما يريدون
من صدهم الناس عن الإيمان برسول الله.. } مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا
عَلَىا أَدْبَارِهَآ أَوْ نَلْعَنَهُمْ { أو أن نطردهم من رحمتنا ومن ساحة
إيماننا، فيقول الحق:
{ خَتَمَ اللَّهُ عَلَىا قُلُوبِهمْ }[البقرة: 7].
ما داموا هم قد كفروا نقول لكل منهم: ألم تكن تريد أن تكفر؟ والله سيزيد لك الختم
على قلبك وسنعينك على هذه الحكاية أيضاً قال تعالى:{ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ
فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً }[البقرة: 10].
فإذا كنت أنت تريد هذه فسنعطيك ما في نفسك } فَنَرُدَّهَا عَلَىا أَدْبَارِهَآ
أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ السَّبْتِ { وسبحانه يخاطب اليهود،
واليهود يعرفون قصة السبت ويعرفون أنها واقعة حدثت، وطردهم الله وأهلكهم ولعنهم
وأعدّ لهم عذاباً عظيماً. إذن فهو لا يأتيهم بمسألة وعيد بدون رصيد، لا، فهذا وعيد
يسبقه رصيد.. أنتم - يا معشر يهود - تؤمنون به وتذكرونه وله تاريخ عندكم } كَمَا
لَعَنَّآ أَصْحَابَ السَّبْتِ { ، وقصة أصحاب السبت معروفة وإن كانت ستأتي في سورة
أخرى، و " السْبت " وهو السكون والراحة، ومنه السُّبات أي النوم، فسبت
يسبت يعني سكن واستقر وارتاح.
} أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ السَّبْتِ { ، واللعن قالوا فيه:
إنه الطرد والإهانة، وقالوا في معناه: إنه الإهلاك. والذين يحاولون أن يشككوا في
مفهومات آيات القرآن يقولون: أنتم لا تقفون عند معنى واحد للكلمة، إما أن يراد
كذا، وإما أن يراد كذا. نقول لهم: أنتم ليست لكم ملكة في اللغة حتى وإن تعلمتم
اللغة فتعلمكم للغة تعلم صنعة لا تعلم ملكة. وتعلم الصنعة يعطيك القاعدة ولكن لا
يعطيك قدرة وضع اللفظ في معناه الحقيقي ولا بيان المراد منه - واللعن - إذا كان
معناه الطرد - كان يجب أن تفهموا أن الطرد يقتضي طارداً، ويقتضي مطروداً ويقتضي
مطروداً منه.
ومن الذي يَطْرد؟.
ومن الذي يُطرد؟
وعن أي شيء يُطرد؟.
حين تأخذون المعنى على هذا الوضع لا تجدون غضاضة في أن تتعدد معاني الطرد. فهب أنك
تجلس للأكل ثم جاءك كلبك الذي تعتز به للحراسة ليحوم حول مائدتك، ماذا تصنع له؟.
تطرده عن المائدة، ذلك طرد. وهب أنّ ابنك مثلاً صنع شيئاً وعندك ضيوف فأردت أن
تخرجه من المجلس وقلت له: اذهب عند أمك، هذا طرد.
وإذا كان ذنب الابن كبيراً ولك سيطرة فأنت قد تخرجه من البيت فلا يجلس فيه، وهذا
طرد. وإذا كان ذنب الابن لا يُحتمل فأنت تخرجه من الحياة كلها فتكون قد أبعدته من
الحياة كلها. إذن فكل ذلك طرد. فإن أردنا الخزي والهوان يتأتى اللعن، وإن أردنا
الإهلاك فقد هلك منهم الكثير في المعارك ونالوا الخزي؛ لأننا سبينا نساءهم
وبناتهم، وقهرناهم، وأهلكناهم، وأخرجناهم من ديارهم إلى بلاد الشام وإلى أذرعات،
وأهلكهم الله بالموت. إذن فكل معاني الطرد تتأتى. فقد جاء يمس كل الذي حدث لهم،
ولكنه يختلف باختلاف الطارد، وباختلاف المطرود، وباختلاف المطرود منه.
وحين يقول الحق: } كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ السَّبْتِ { فهذا يدل على أن اللعن له
أشياء مختلفة، أنا سآخذ منها لعن أصحاب السبت، والسبت يوم من أيام الأسبوع، أي
وحدة زمنية في الأسبوع، ونلحظ أن بقية أيام الأسبوع السبعة فيها إشارات إلى العدد،
يوم الأحد يعني واحداً ويوم الاثنين تعني اثنين. وهكذا في الثلاثاء والأربعاء
والخميس، ففيه خمسة أيام بأعداد موجودة إلا يومين اثنين لم يؤثر فيهما العدد: يوم
" الجمعة ويوم " السبت " ، وهذان اللفظان أخذا معاني غير العددية،
ولكنهما يأخذان معنى العددية بالبعدية أو القبلية.
يعني عندما نقول مثلاً " الخميس " فيكون يوم الجمعة يعني " ستة،
إنما لم يقل " ستة " وقال " الجمعة " ويوم " السبت
" يكون سبعة، إذن فأنت تستطيع أن تصنع العدد البعدي بعد الأعداد: واحد.
اثنين، ثلاثة، أربعة، خمسة، ستة، سبعة، لكننا نجد أن لهما اسمين مختلفين؛ لأن في
كل واحد منهما حدثاً غلب العددية. فـ " الجمعة " للاجتماع، فتركنا كلمة
" ستة " وأخذنا بدلا منها " الجمعة " ، و " السبت "
للسكون؛ لأن مادتها في اللغة: سبت يسبت، أي سكن وهداً ولم يتحرك، مثل قول الحق:{
وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً }[النبأ: 9].
أي سكوناً وهدوءاً.
والحق سبحانه وتعالى حين يريد ابتلاء بعض خلقه ليعْلَم منازلهم منازلهم من الإيمان
واليقين والانصياع لأوامر الحق، يأتي فيحرم حدثاً في زمن وهو مباح في غير ذلك
الزمن، فقد يحرم الصيد في أحد الأيام وكان مسموحاً بأن يصطادوا في كل يوم. وكانوا
يأتون بالسمك كرزق من البحر، فجاء في هذا اليوم خصوصاً وقال لهم: لا تصطادوا في
هذا اليوم، أي أن يسكنوا عن الحركة، هذا هو " السبت " بمعنى السكون، و
" أصحاب السبت " هم الجماعة الذين اجتمعوا على حادثة تتعلق بالسبت أو
تتعلق بالسكون، أي تتعلق بعدم العمل وبعدم الحركة، وقضية أصحاب السبت شرحها الحق
وتكلم عنها إجمالياً في سورة البقرة:{ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ
مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ }[البقرة: 65].
وقوله هنا: } كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ السَّبْتِ { ، لكن القصة بالتفصيل ذكرها
الحق سبحانه وتعالى وقال مخاطباً رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالله الآمر،
والرسول هو الذي سأله الله أن يسأل، والمسئولون هم أصحاب الحكاية وهم اليهود، وحين
يطلب الحق خبراً مؤكداً من الأخبار، قد يلقيه خبراً فيصدقه أهل اليقين الذين يثقون
في الله ويصدقونه، وقد لا يتركه خبراً، بل يأتي به في صيغة الاستفهام؛ لأنه واثق
أن المستفهم منه لا يجد جواباً إلا الحق الذي يريده سبحانه وتعالى، وعندما يقول
ربنا لنبيه:{ وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ
إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ
شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا
كَانُوا يَفْسُقُونَ }
[الأعراف: 163].
ذلك حدث لا يستطيعون إنكاره، وكان من الممكن أن يقص الله الحدث من عنده، ولكنه
يريد أن يوثق الحدث توثيقاً لا يحتمل إنكار منكر ولا مكابرة مكابر، فأوضح: أنا لا
أقول عن الحدث، ولكن يا محمد اسألهم أنت عن هذه الحادثة فسيكون جوابهم جواباً
مطابقاً لما حدث؛ لأنها مسألة واضحة لا تنكر.
} وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ {. والقِرَى
هو أن تكرم واحداً مقبلاً عليك كضيف مثلاً. ولكن ليس عندك ما يعطيه " قرى
كاملاً " أي ما يقيم حياته لأيام أو شهور، بل عندك " قَرْيَة واحدة
" أي أكلة واحدة تكفيه لوجبة واحدة، فما دام قد مر عليك فأنت تعطيه قرية
واحدة - وجبة واحدة - فإن كانت البلد " أم القرى ": فيكون فيها حاجات
كثيرة؛ أو لأنها أعظم القرى شأناً والقَرْية التي جاء ذكرها في سورة الأعراف يتم
تعريفها بأنها: " حاضرة البحر " والحاضر هو القريب. فيقال: حضر فلان أي
أصبح على مقربة مني، و " الحاضرة " أيضاً هي: التي إن طلبت فيها شيئاً
وجدته، كما قال شوقي - رحمة الله عليه:
ليلي بجانبي كل شيء إذن حضر.
فكذلك " الحضر " معناه: أن كل حاجة فيها موجودة، أما البادية فحاجاتها
تكون على قدر أهلها فقط، ولذلك فـ " حضر " ضد " بادية "
وأخذوا منها " الحواضر " مثل العواصم الآن، إذن فقوله " حاضرة
البحر " تأخذها بمعنى قريبة من البحر، أو أنها هي البلد المتحضر على البحر،
أو الجامعة لأنواع الخير على البحر، وهي التي كانت بين " مدين " و
" الطور " واسمها " أيلة ".
وقصتهم: أن الله أراد أن يبتليهم بشيء وهو: تحريم الصيد في ذلك اليوم، وما دامت
" حاضرة البحر " ، فرزقهم على الصيد، فقال: لا تصطادوا في هذا اليوم،
ولكن الله حين يريد أن يحكم الابتلاء ليعلمَ علم إبراز لخلقه مدى تنفيذهم
للابتلاء، وإلا فهو عالم ماذا سيفعلون. فقال: لا تصطادوا في هذا اليوم. قد يقول
قائل: لماذا حرم هذا الحدث في ذلك الزمن؟. نقول له: أنت تريد أن تعلم من الله أن
كل تحريم له مضارة، نقول لك: لا، فقد يكون تحريم ابتلاء واختبار، ولذلك قال
تعالى:{ فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ
أُحِلَّتْ لَهُمْ }[النساء: 160].
" الطيبات " هي الحلال، لكنهم هم فعلوا ما يستحقون عليه العقاب، فقلنا
لهم: ما دمتم تجاوزتم حدودكم وأخذتم ما ليس حلاً، فجعلتموه حلاً فلا بد أن أجعل من
الحل الذي هو لكم حراماً عليكم، هذه مقابل تلك، فلماذا اجترأت على محرم فأحللته؟
وما دمت قد فعلت ذلك ولم ترتض تحليلي وتحريمي فأنا سآخذ شيئاً من الذي كان حلاً لك
وأحرمك منه.
إذن فلا يتطلب من كل تحريم أن يكون فيه مضارة، إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يكون
الإيمان له أصول ثابتة، ولذلك يقول:{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىا
حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ
انْقَلَبَ عَلَىا وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالأَخِرَةَ ذالِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ
الْمُبِينُ }[الحج: 11].
إذن فالحق لا يريد من الناس أن يعبدوه على حرف.. أي على طرف من الدين بل في وسطه
وقلبه.. أي أنهم على قلق واضطرابات في دينهم لا على سكون وطمأنينة، كالذي على طرف
العسكر والجيش.. فإن أحسٍّ بظفر ونصر وغنيمة سكن واطمأن، وإلاِّ فرّ وطار على
وجهه. هو يريد منك إيماناً حقاً، ولذلك فبعض الناس يقول: سأزكي لأزيد من مالي.
نقول له: اخرج من بالك ظنك أن مالك سيزيد، بل أنت تزكي لأن الله طلب منك أن تزكي.
أما أن يزيد مالك فهذا شيء آخر، فلعل الله يبتلي إيمانك ويريد أن يرى: أأنت مقبلٍ
على الحكم لأن الله قاله، أم لأنه سيعطيك ربحاً زائداً؟ وسبحانه حين يعطي ربحاً
زائداً ستزكيه أيضاً، لكن هو يريد من يقبل على الحكم لأنه سبحانه قد قاله.
وقد حرم الحق سبحانه وتعالى عليهم الصيد يوم السبت بظلم منهم، وكان من الجائز جداً
ألاَّ يكون هناك مغريات على المخالفة، ولكنه أراد أن يبلوهم بلاءً حقاً فيأتي في
اليوم المحرم فيه الصيد ويُكْثِر من السمك، ترى السمكة ظاهرة مثل شراع المركب،
وهذا معناه إغراء بالمخالفة، فلو لم يظهر السمك في هذا اليوم لكانت المسألة عادية،
لكنهم حين ينظرون السمك وقد " شرع " مثل المراكب سابحاً في الماء، }
إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ
يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ {.
إذن فالابتلاء جاء من أكثر من زاوية: يوم سبتهم تأتي الحيتان شُرَّعاً، وفي غير
يوم السبت لا تأتي، وهذا الأمر يجعلهم في حالة قلق. فلو كانوا على اليقين والإيمان
لالتزموا بالأمر.
والله سبحانه وتعالى يريد أن يمحصهم التمحيص الدقيق، فماذا هم فاعلون؟ هم يريدون
أن ينفذوا الأمر، إنما طمعهم المادي يصعب عليهم ألا يصطادوا هاذا السمك الذي
يأتيهم يوم السبت، ولو أنهم وثقوا بعطاء الله في المنع لنجحوا في الاختبار. ذلك أن
الحق قد يجعل في المنع عطاء، لكن مَن الذي يتنبه لذلك؟
لم يقولوا: ما عند الله خير من هذا السمك الشُّرع الذي يأتينا ويلفتنا. لكنهم
احتالوا حيلاً، مثلاً: صنعوا من الإسلاك والحبال " مصايد " و "
جُبًى ".و " ملاقف " يحجزون بها هذا السمك الشُّرع في الماء ثم
يأتون في اليوم التالي فيجدونه محبوساً، وظنوا أنهم بذلك احتالوا على الله ولم
يتفهموا معنى الصيد، فالصيد هو جعل السمك في حيازتك، وما دمت قد عملت بحيث تتمكن
من حيازة السمك في أي وقت تكون قد اصطدت.
إذن فهم يحتالون على الله؛ ولذلك قال سبحانه:{ وَإِذَا قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ
لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً
شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَىا رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ
}[الأعراف: 164].
وهذا دليل على وجود عناصر خير فيما بينهم، وقالت عناصر الخير: اتقوا الله. فقال
لهم آخرون: لِمَ تعظون قوماً لله مهلكهم، إذن فهناك ثلاث جماعات: جماعة خالفوا،
وجماعة أرادوا أن يعظوهم كي لا يقعوا في المخالفة، وجماعة لاموا من يعظونهم
وقالوا: دعوهم ليهلكهم الله أو يعذبهم.. " الله مهلهكم أو معذبهم عذاباً
شديداً " ، فقالت الجماعة التي تعظ: نحن نريد بالوعظ أن يكون لنا عذر أمام
الله بأننا لم نسكت على المنكر ونحن نعمل لأنفسنا. " قالوا معذرة إلى ربكم
" وأيضا فلعلهم يتقون ربّهم بترك ماهم فيه من المعصية والفسق. فماذا حدث؟..
يقول الحق:{ فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ
عَنِ السُوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ
يَفْسُقُونَ }[الأعراف: 165].
وما دام قد قال: " أنجينا " ، فهناك مقابلها وهو " أهلكنا " ،
إذن فجاء هنا " اللعن " بمعنى الهلاك.
ويختم الحق الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: } وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ
مَفْعُولاً { نعم لأن الحق سبحانه وتعالى بقدرته الشاملة وصفات جلاله الكاملة، لا
يتخلف شيء في وجوده عن أمره، فإذا وعد بشيء فلا بد أن يحدث، فأمر الله غير أوامر
البشر، فأوامر البشر هي التي تتخلف أحياناً سواء أكانت وعداً أم وعيداً، لأنك قد
تعد إنساناً بخير، ولكنك ساعة آداء الخير لا تستطيعه، فتكون قدرتك هي التي تحتاج
إلى أداء الخير. أو توعد إنساناً وتهدده بشرّ، وستعمل فيه كذا غداً، وقد يأتيك
غداً مرض يقعدك فلا تستطيع إنفاذ وعيدك.
إذن فأنت قد لا تستطيع إنفاذ شيء من وعدك ولا شيء من وعيدك؛ لأن قدرتك من الأغيار،
وما دامت قدرتكم من الأغيار فقد توجد أو لا توجد. لكن الحق سبحانه وتعالى إذا قال
بوعد أو قال بوعيد أيوجد شيء يغير هذا؟ لا. إذن فساعة يقول ربنا بوعد أو وعيد
فاعرف أن هذا سيحدث في الوعد، أما في الوعيد فإن الله قد يتجاوز عنه كرما وفضلا ما
عدا الشرك بالله.
ونعرف أن الحق سبحانه وتعالى يوزع الأحداث على الزمن، فلا زمن يقيده؛ لأنه يملك كل
الزمن، أما أنت كواحد من البشر فتتكلم عن الحدث حسب زمانه. فإن كان هناك حدث قد
حصل قل أن تتكلم أنت عنه، فتقول: فعل " ماض ". أي أن الحدث قد وقع في
زمن قبل زمن تكلمك، وإن كان الحدث يقع في وقت تكلمك، كان الفعل " مضارعا
" ، والمضارع صالح للحال وللاستقبال، تقول: فلان يأكل.
وذلك يعني أنه يأكل الآن. وإن قلت: " سيأكل " - أي أنه سيأكل بعد قليل،
فإذا قلت عن أمر مستقبل إن هذا الأمر سيحدث، أتملك أنت أن يحدث؟ لا. إذن فالكلام
منك على الاستقبال قد يكذب وقد يصدق، لكن إذا قال الحق وأخبر عن أمر مستقبل وعبّر
عنه بالفعل الماضي فمعنى ذلك أنه حادث لا محالة؛ ولذلك فالزمن عند ربنا مُلغى.
وعندما نقرأ قول الحق سبحانه وتعالى:{ أَتَىا أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ
تَسْتَعْجِلُوهُ }[النحل: 1].
" وأتى " هذه فعل ماض، وقوله: " أتى " يدل على أنه أمر قد حدث
قبل أن يتكلم، وقوله: } فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ { دلّ على أنه لم يحدث، فالذي يشكك
في القرآن يقول: ما هذا الذي يقوله القرآن.؟ يقول: " أتى " وهو لم
يأت؟.. نقول له: هذا الكلام عندك أنت. لكن إذا قال الله: إنه " أتى "
فهو آتٍ لا محالة، فاحكم على الحدث المستقبل من الله على أنه أمر كائن كما يكون
كائناً ماضياً، ما دام قال فلا رادّ لأمره. } أَتَىا أَمْرُ اللَّهِ { فهي تعني
سيأتي. ولا توجد قدرة في خلقه تصرف مراده أو تعجزه عن أن يفعل.
وقوله سبحانه: } وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً { جاء لأنه قال من قبل "
أو نلعنهم " هذه مستقبل. وقد يقول قائل: أن " نلعنهم " تعني أن
اللعنة لم تأت وقد لا تحدث، ونقول: لا؛ لأن أمر الله كان مفعولاً، فإياك أن تأخذ
" نلعن " هذه التي للمستقبل كي تطبقها عند ربنا، لأن الحق سبحانه وتعالى
يوضح لك: أنت الذي عندك المستقبل، والمستقبل قد يقع منك أو لا يقع؛ لأنك لا تملك
أسباب نفسك، تقول: سأعمل الشيء الفلاني غداً. وقد يأتي غداً وتكون أنت غير موجود
هذه واحدة، أو تقول: سأقابل فلانا. وفلان هذا قد لا يكون موجوداً فقد يموت، أو قد
يتغير رأيك ويأتيك الشيء الذي كنت تطلبه قبل أن تتكلم مع ذلك الإنسان، أو قد تقول:
أنا سأنتقم من فلان، وعندما يأتي وقت الانتقام يهدأ قلبك.
إذن فأنت لا تملك شيئاً من هذا، فلا يصح أن تجادل؛ ولذلك يعلمنا الله الأدب مع
الأحداث ومع الكون ومع المكون، ويخرجنا عن أن نكون كذابين فيقول لرسوله:{ وَلاَ
تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذالِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ
}[الكهف: 23-24].
يعلمك الحق ذلك حتى لا تكون كذاباً، فإن قلت: أنا فاعل ذلك غداً ثم لا تفعله، وما
دمت لا تفعله فتكون كذاباً مجترئاً؛ لأنك افترضت في نفسك القدرة على الوجود.
وكل حدث من الأحداث مثلما قلنا: يحتاج إلى " فاعل " ، ويحتاج إلى "
مفعول " يقع عليه، ويحتاج إلى " زمن " ويحتاج إلى " سبب
" ، ويحتاج إلى " قدرة " تبرزه في المستقبل، قل لي بالله عليك:
ماذا تملكه من عناصر الفعل؟
أنت لا تملك وجود نفسك ولا تملك وجود المفعول ولا تملك السبب، ولا تملك القدرة،
ولا تملك شيئاً، فأدباً منك عليك أن تقول: " إن شاء الله " فإن لم يحدث
تقول: أنا قلت إن شاء الله وهو لم يشأ، فتكون قد خرجت من التبعة، ولم تكن كذاباً.
إذن فقول الحق: } وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً { لأنه قال: } أَوْ
نَلْعَنَهُمْ {.و " نلعن " هذا فعل مضارع ويأتي من بعد ذلك، فواحد قد
يقول: إنه سبحانه قال: سيلعن، فهل ستحقق اللعنة؟ نقول له: نعم؛ لأنه قال: }
وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً {. وكذلك ساعة تقرأ أو تقول: } وَكَانَ اللَّهُ
غَفُوراً رَّحِيماً {. فعليك أن تضيف: ولا يزال غفوراً رحيماً، لأن صفة الرحمة لم
توجد له ساعة وجد المرحوم، لا. بل معنى " رحيم " أنه سبحانه يرحم غيره
والذي وُجد ليتلقى رحمته سبحانه إنما جاء بعد أزليَّة رحمة الله ومغفرته. فسبحانه
أزليّ قديم. والصفة أزلية وقديمة بقدمه - سبحانه قبل أن يوجد من يرحمه، وهو لا تأتيه
أغيار. وما دام سبحانه رحيماً قبل أن يُوجِدَ مرحوماً له فإذا أوجد مرحوماً له،
أتنحلّ الصفة أم تبقى؟ إنها باقية دائماً فكان الله ولا يزال غفوراً رحيماً، }
وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً { نعم، لأنه قد يفعله بأسبابه وقد يفعله بدون
أسباب فالأمر متروك لمشيئته فإما أن يوجد الشيء من غير سبب أو يوجده بسبب، والشيء
الموجود بالسبب مخلوق بالمسبب فسبحانه خلق الأسباب.
وبعد ذلك ينتقل الحق سبحانه إلى قضية عقدية أساسية في صلة الإنسان بالحق سبحانه
وتعالى. يقول: } إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ... {.
(/328)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)
هذه من أرجي الآيات في كتاب الله، ولذلك فحينما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ما موجبات الإيمان؟ أي ما الذي يعطينا الإيمان؟ فقال صلى الله عليه وسلم:
" من قال لا إله إلا الله دخل الجنة ".
وعن عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من مات وهو
يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة ".
ونحن نقول إن من يشرك بالله فهو يرتكب الخيانة العقدية العظمى، وقد أخذنا هذا المصطلح
من القوانين الوضعية، وإن كانت القوانين الوضعية ليس غرضها أن تؤكد قضايا دينية،
لكن غفلتهم تجعلنا نلتقط منها أنها تؤكد القضايا الدينية أيضاً. هب أن جماعة قاموا
بحركة، وبعد ذلك استغل واحد منهم الحركة في نفع خاص له، وواحد آخر استغل الحركة في
أن تكون له لا للآخر، أي ينقلب عليه، فالأول القائم على النظام يسميها خيانة عظمى،
أما من لا يقاوم بغرض خلع الحاكم ولكنّه يظلم الناس فقد يعاقبه الحاكم على ما حدث
منه وليس على الخيانة العظمى. إذن ففي قانون البشر أيضاً خيانة عظمى، وفيه انحراف
وهو الذي لا يتعرض للسيادة، لكن أي حركة تتعرض للسيادة يكون فيها قطع رقاب، وكل
أمر آخر إنما يؤخذ بدرجة من العقوبة تناسب ذنبه.
فالحق سبحانه وتعالى يوضح: أصل القضية الإيمانية أن الله سبحانه وتعالى يريد منكم
أن تعترفوا بأنه الإله الواحد الذي لا شريك له، وحين تعترف بأنه الإله الواحد الذي
لا شريك له. فأنت تدخل حصن الأمان، ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في
الحديث الشريف:
" أشهد ألا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك منهما
إلا دخل الجنة ".
وأبو ذر عندما قال للنبي في محاورة بينهما حول هذه الآية، قال له: " ما من
عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال
وإن زنى وإن سرق، قلت وإن زنى وإن سرق؟ قال وإن زنى وإن سرق (ثلاثا) " ثم قال
في الرابعة: على رغم أنف أبي ذر.
لقد كان أبو ذر غيوراً على حدود الله، فهل ساعة قال رسول الله: على رغم أنف أبي
ذر؛ هل هذه أحزنت أبا ذر؟ لا لم تحزنه، ولذلك عندما كان يحكيها ويقولها: من قال لا
إله إلا الله دخل الجنة وإن رغم أنف أبي ذر وهو مسرور، لماذا؟ لأنها فتحت باب رحمة
الحق، لأنه إذا لم يكن هذا فما الفارق بين من اعتقدها وقالها وبين من لم يقلها؟
فلا بد أن يكون لها تمييز.
وكل جريمة موجودة في الإسلام - والحق سبحانه قد جرمها - فهذا يعني أنها قد تحدث.
مثال ذلك.. يقول الحق تبارك وتعالى:{ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ
أَيْدِيَهُمَا }[المائدة: 38].
وهذا يعني أنه من الجائز أن يسرق المؤمن، وكذلك قد يزني في غفلة من الغفلات، وفي
أسس الاستغفار يأتي البيان الواضح: من الصلاة للصلاة كفارة ما بينهما، الجمعة
للجمعة كفارة، الحج كفارة، الصوم كفارة.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: " الصلوات الخمس
والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما لم تُغْشَ الكبائر ".
أي أن ربنا قد جعل أبواباً متعددة للمغفرة وللرحمة، وهو سبحانه يقول: } إِنَّ
اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ { وهذه المسألة ليست لصالحه إنما لصالحكم
أنتم حتى لا تتعدد آلهة البشر في البشر ويرهق الإنسان ويشقى من كثرة الخضوع لكل م
كان قويا عنه، فأعفاك الله من هذا وأوضح لك: لا، اخضع لواحد فقط يكفك كل الخضوع
لغيره، واعمل لوجه واحد يكفك كل الأوجه، وفي ذلك راحة للمؤمن.
إن الإيمان إذن يعلمنا العزة والكرامة، وبدلاً من أن تنحني لكل مخلوق اسجد للذي
خلق الكون كله بصفات قدرته وكماله، فلم تنشأ له صفة لم تكن موجودة هل أنتم زدتم له
صفة؟ لا. فهو بصفات الكمال أوجدكم وبصفات الكمال كان قيوماً عليكم، فأنتم لم
تضيفوا له شيئاً، فكونك تشهد أن لا إله إلا الله. ما مصلحتها بالنسبة لله؟ إن
مصلحتها تكون للعبد فحسب.
ولذلك قلنا: إن الحق سبحانه وتعالى يريد من عباده أن يجتمعوا كل أسبوع مرة؛ لأنك
قد تصلي فرضاً فرضاً في مصنعك أو في مزرعتك أو في أي مكان، إنما يوم الجمعة لا بد
أن تجتمع مع غيرك، لماذا؟ لأنه من الجائز أنك تذل لله بينك وبينه، تخضع وتسجد
وتبكي بينك وبين الله، لكنه يريد هذه الحكاية أمام الناس، لترى كل من له سيادة وجاه
يسجد ويخشع معك لله. وفي الحج ترى كل من له جاه ورئاسة يؤدي المناسك مثلك، فتقول
بينك وبين نفسك أو تقول له: لقد استوينا في العبودية، فلا يرتفع أحد على أحد ولا
يذل له بل كلنا عبيد الله ونخضع له وحده.
إذن فالمسألة في مصلحة العبد، } إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ { ،
لأنه لو غفر أن يشرك به لتعدد الشركاء في الأرض، وحين تعدد الشركاء في الأرض يكون
لكل واحد إله، وإذا صار لكل واحد إله تفسد المسألة، لكن الخضوع لإله واحد نأتمر
جميعاً بأوامره يعزنا جميعا.. فلا سيادة لأحد ولا عبودية لأحد عند أحد، فقوله: } إِنَّ
اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ {.. هذا لمصلحتنا.
} وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ {.
وروى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال أتى وحشيٌّ وهو قاتل سيدنا حمزة في غزوة
أحد، أتى على النبي صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد أتيتك مستجيرا فأجرني حتى
أسمع كلام الله فقال رسول الله: " أتيتني مستجيرا فأنت في جواري حتى تسمع
كلام الله قال: فإني أشركت بالله وقتلت النفس التي حرم الله وزنيت هل يقبل الله
مني توبة؟ فصمت رسول الله حتى نزلت:{ وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ
إِلَـاهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ
بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ
لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلاَّ مَن تَابَ
وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَـائِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ
سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }[الفرقان: 68-70]
فتلاها عليه فقال: أرى شرطاً فلعليَّ لا أعمل صالحا، أنا في جوارك حتى أسمع كلام
الله فنزلت:
} إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ
لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىا إِثْماً عَظِيماً {
[النساء: 48].
فدعا به فتلاعليه قال: فلعلِّي ممن لا يشاء، أنا في جوارك حتى أسمع كلام الله
فنزلت:{ قُلْ ياعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىا أَنفُسِهِمْ لاَ
تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً
إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }[الزمر: 53].
فقال نعم: الآن لا أرى شرطاً فأسلم.
إذن فالمسألة كلها تلطف من الخالق بخلقه، واعتبار عمليات الغفلة عمليات طارئة على
البشر، وما دام الحق يقنن تقنينات فمن الجائز أنها تحدث، لكن إذا حدثت معصية من
واحد ثم استغفر عنها، إياك أن تأتي بسيرتها عنده مرة أخرى وتذكره بها وافرض أن
واحداً شهد زوراً، افرض أن واحداً ارتكب ذنباً، ثم استغفر الله منه وتاب. إياك أن
تقول له: يا شاهد الزور؛ لأنه استغفر من يملك المغفرة، فلا تجعله مذنباً عندك؛ لأن
الذي يملكها انتهت عنده المسألة.
لماذا؟ لكيلا يذلّ الناس بمعصية فعلت، بل العكس؛ إنّ أصحاب المعاصي الذين أسرفوا
على أنفسهم يكونون في نظر بعض الناس هينين محقرين. ولذلك نقول: إن الواحد منهم
كلما لذعته التوبة وندم على ما فعل كُتبت له حسنة، فعلى رغم أنه ذاق المعصية لكنه
مع ذلك تاب عنها، وهذا هو السبب في أن الله يبدل سيئاتهم حسنات، وعندما نعلم أن
ربنا يبدل سيئاتهم حسنات فليس لنا أن نحتقر المسرفين على أنفسهم. بل علينا أن نفرح
بأنهم تابوا، ولا نجعل لهم أثرا رجعيا في الزلة والمعصية.
} وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىا إِثْماً عَظِيماً { و "
الافتراء " هو الكذب المتعمد. لأن هناك من يقول لك قضية على حسب اعتقاده،
وتكون هذه القضية كاذبة، كأن يقول لك: فلان زار فلاناً بالأمس.
هو قال ذلك حسب اعتقاده بأن قالوا له أو رأى أثر للزيارة، على الرغم من أن مثل هذه
الزيارة لم تحدث فيكون كذباً فقط، أما الشرك فهو تعمد الكذب على الله وهذا يطلق
عليه: } افْتَرَىا إِثْماً عَظِيماً { لأنه مخالف لوجدانية الفطرة، كأن وجدانية
الفطرة تقول: لا تقل إلا ما تعرفه فعلاً وأنت متأكد بل عليك ألا تخالف فطرتك
متعمدا وتجعل لله شريكا.
والحق سبحانه وتعالى عندما يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له. إما أن تكون
هذه الكلمة صادقة فننتهي، وإما ألا تكون صادقة - والعياذ بالله - أي أن هناك أحداً
آخر معه، وهذا الآخر سمع أن هناك واحداً يقول: لا إله إلا أنا. أسكت أم لم يسمع؟
إن لم يكن قد سمع فيكون إلهاً غافلاً، وإن كان قد سمع فلماذا لم يعارض ويقول: لا،
لا إله إلا أنا، ويأتي بمعجزة أشد من معجزة الآخر ولم يحدث من ذلك شيء إذن فهذه لا
تنفع وتلك لا تنفع، فـ " لا إله إلا الله " حين يطلقها الله ويأتي بها
رسول الله ويقول الله: أنا وحدي في الكون ولا شريك لي، ولم ينازعه في ذلك أحد
فالمسألة صادقة لله بالبداهة ولا جدال.
} وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىا إِثْماً عَظِيماً { والافتراء كما
يكون في الفعل وفي الكلام ويكون في الاعتقاد أيضاً. " إثم عظيم " ، وهذا
يعني أن هناك إثما غير عظيم، " الإثم العظيم " هو الذي يُخلّ قضية عقدية
واحدة في الكون تشمل الوجود كله هي أنه لا إله إلا الله.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى عوْداً على هؤلاء اليهود: } أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ... {.
(/329)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49)
وتقدم أن أشرنا إلى قول الحق: " ألم تر " ، فإن كانت الصورة التي يخاطب
عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم مرئية أمامه تكن الرؤية على حقيقتها، وإن لم
تكن مرئية أمامه وكان مراد الحق سبحانه أن يعْلمه بها وهي غير معاصرة لرؤياه فالحق
يقول: " أَلَمَ تَرَ " يعني: ألم تعلم، وكأن العلم بالنسبة لخبر الله
يجب أن يكون أصدق مما تراه العين؛ لأن العين قد تكذبه والبصر قد يخدعه، { أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ } و " التزكية " هي أولاً:
التطهير من المعايب وهذا يعني سلب النقيصة، وبعد ذلك إيجاب كمالات زائدة فيها
نماء، والتزكية التي زكُّوا بها أنفسهم أنهم قالوا:{ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ
وَأَحِبَّاؤُهُ }[المائدة: 18].
وجاء الرد عليهم في هذه القضية بقوله الحق:{ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم
بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ }[المائدة: 18].
يعني: إن كنتم أحباءه وأبناءه فلماذا يعذبكم؟ إذن فهذه قضية باطلة، ثم ما فائدة أن
تقولوها لنا؟ أنملك لكم شيئاً؟ إذا كنتم تكذبونها على مَن يملك لكم كل شيء وهو
الله - سبحانه - فما لنا نحن بكم؟ والتزكية التي فعلوها أنهم مدحوا أنفسهم بالباطل
وبرأوا أنفسهم من العيوب وادعوا أنهم أبناء الله وهم ليسوا أبناء الله وليسوا
أحباءه، وقالوا أيضاً:{ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ
نَصَارَىا }[البقرة: 111].
وتلك أيضاً قضية باطلة، وهنا نسأل: هل إذا زكى الإنسان نفسه بحق تكون تلك التزكية
مقبولة؟. نقول: علينا أن نسأل: ما المراد منها؟ إن كان المراد منها الفخر تكن
باطلة، لكن تكون التزكية للنفس واجبة في أمر يحتم ذلك. مثاله: عندما تركب جماعة
زورقاً ويكون القائد أو من يجدف أو يمسك الشراع متوسط الموهبة، ثم قامت عاصفة ولا
يقوي متوسط الموهبة على قيادتها هنا يتقدم إنسان يفهم في قيادة الزوارق أثناء
العواصف ويقول لمتوسط الموهبة: ابتعد عن القيادة فأنا أكثر فهماً وكفاءة وقدرة منك
على هذا الأمر ويزحزحه ويمسك القيادة بدلاً منه، هذه تزكية للنفس، وهي مطلوبة؛ لأن
الوقت ليس وقت تجربة، وهو يزكي نفسه بحق، إذن فهناك فرق بين التزكية بالباطل وبين
التزكية بالحق.
ونحن نعلم قصة سيدنا يوسف، ونعلم قصة رؤيا الملك حيث رأى سبع بقرات سمان يأكلهن
سبع عجاف!! وكان المفروض العكس، انظر إلى الملحظية؛ لأن سنين الجدب ستأكل سنين
الخصب، لكن من الذي يتنبه إلى رموز الرؤيا. فتعبير الرؤيا ليس علماً. بل هبة من
الله يمنحها لأناس ويجعلهم خبراء في فك رموز - شفرة - الرؤيا، ودليل ذلك أن الملك
قال هذه الرؤيا للناس فقالوا له: { أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ } ، و " أضغاث "
مفردها " ضغث " وهو الحشيش المخلوط والمختلف، لكنهم أنفصفوا فقالوا:
{ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ }[يوسف: 44].
لقد أنصفوا في قولهم. لأن الذي يقول لك: لا أعلم فقد أفتى، فما دام قد قال: لا
أدري فسيضطرك إلى أن تسأل لكن سواه، إن قال لك أي جواب فستكتفي به وتتورط، إذن فمن
قال: لا أدري فقد أجاب. فهم عندما قالوا: أضغاث أحلام فقد احتالوا واحتاطوا
لأنفسهم أيضا وقالوا: } وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ { ،
وكان الحق سبحانه وتعالى قد صنع التمهيد ليوسف وهو في السجن عندما دخل عليه
الفتيان:{ وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي
أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي
خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ }[يوسف: 36].
ما الذي جعل الفتيين يعرفان أن يوسف المسجون هذا يعرف تأويل الأحلام؟ لقد قالا
وأوضحنا العلة:{ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ }[يوسف: 36].
ومعنى ذلك أنهما شهدا سمته وسلوكه، وعرفا أنه إنسان مسالم، فلما حَزَبَهما واشتد
عليهما أمرٌ يتعلق بذاتهما قالا: لا يوجد أحسن من هذا الإنسان نسأله، وقلت ولا
أزال أكررها: إن القيم هي القيم، والصادق محترم حتى عند الكذاب، والذي لا يشرب
الخمر محترم عند من يشرب بدليل أنهما عندما حَزَبهما أمر قالا: } إِنَّا نَرَاكَ
مِنَ الْمُحْسِنِينَ {.
وهل يحكم واحد على آخر أنه محسن إلا إذا كان عنده مقياس يعرف به الحسن ويميزه عن
القبح؟ وعندما قالا ذلك الأمر لسيدنا يوسف، كان من الممكن أن يجيبهما إلى تأويل
رؤياهما، ولكن هذه ليست مهمته، بل فكر: لماذا لا يستغل هو حاجتهما إليه لأمر يتعلق
بشخصيهما، وبعد ذلك ينفذ إلى مرادة هو منهما قبل أن ينفذا إلى مرادهما منه، فهو
نبي ومن سلالة أنبياء فأوضح لهما: وماذا رأيتما من إحساني؟ إن عندي أشياء كثيرة:{
قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا
بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا }[يوسف: 37].
فقد زكى نفسه، لكن انظروا لماذا زكى نفسه؟ هو يريد أن يأخذ بيدهما إلى ربه هو،
بدليل أنه قال:{ ذالِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي }[يوسف: 37].
إذن فالتزكية هنا مطلوبة، وقد ردّها لله، وأعلن أن تلك ليست خصوصية لي، بل كل واحد
من خلق الله يستطيع أن يكون مثلي:{ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ }[يوسف: 37].
وبعد ذلك قال:{ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ
}[يوسف: 38].
إذن فمن الممكن أن تكونوا مثلي إذا ما اتبعتم هذا الطريق، بعد ذلك قال لهم:{
أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ }[يوسف:
39].
إذن فهو زكى نفسه أمامهما لكي يأخذهما إلى جانب من زَكَّى، وهو الحق سبحانه وتعالى،
وبعد ذلك عندما علم الملك قال: ائتوني به أستخلصه لنفسي، ويكون مقرباً مني. ثم بعد
ذلك جاءت سنون الجدب التي تنبأ بها أولاً في تفسير الرؤيا، وأشار عليهم بضرورة
الادخار من سنين الخصب لسنين الجدب، لقد كانت التجربة إخباراً لأشياء ستحدث، فلما
وقعت علم أن المسألة ليست تجارب بل هي مسألة دقيقة.
. فقال للملك:{ اجْعَلْنِي عَلَىا خَزَآئِنِ الأَرْضِ }[يوسف: 55].
إذن فقد زكى نفسه، وجاء بالحيثية:{ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ }[يوسف: 55].
لأن هذه المسألة تحتاج حفظاً وعلماً، فهي أمر غير خاضع للتجريب، فيجرب واحد فيخيب،
ويجرب آخر فيخيب، لا، إنها تحتاج لحفظ وعلم، ومثال ذلك أيضاً عندما كان النبي صلى
الله عليه وسلم يقسم الغنائم، قال له المنافقون: اعدل يا محمد! فيقول لهم: والله
إني لأمين في السماء أمين في الأرض، فهو يزكي نفسه، إذن فمتى تكون التزكية مطلوبة؟
أولاً: أن تكون بحق، وأن يكون لها هدف عند من يعلم التزكية وإلى من يعطيك التزكية
ويثني عليك بما فيك وما أنت أهل له فتكون هذه تزكية صحيحة؛ ولذلك يقول الحق:{
فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىا }[النجم: 32].
لأنك تزكي نفسك عند الذي سيعطي الجزاء وهو يعلم، إذن فمن الحمق أن يزكي الإنسان
نفسه في غير المواقف التي يحتاج فيها الأمر إلى تزكية تكون لفائدة المسلمين لا
لفائدته الخاصة، والحق يقول:
} أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن
يَشَآءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً { [النساء: 49].
إنّ الحق سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية، فمن الممكن أن واحداً يتصنع ويتكلف في
نفسه مدّة من الزمن أمامك، لكن هناك أشياء أنت لا تدركها، لكن ربنا عندما يزكي
تكون تزكيته، عن علم وعن خبرة، ومع ذلك أحين يزكون أنفسهم، أهذه محت حسناتهم؟ لا.
فعل الرغم من أنهم زكوا أنفسهم فالحق لن يأخذهم هكذا، ويضيع حسناتهم ولكنهم "
لا يظلمون فتيلا " وهذه مطلق العدالة.
ونعرف أن القرآن نزل بلسان عربي على نبي عربي، والذين باشروه أولاً عرب، ونعرف أن
أغلب إيحاءاته كانت متوافقة مع البيئة، وكان عندهم " النخل " وهي الشجرة
المفضلة؛ لأنها شجرة لا يسقط ورقها، وكل ما فيها له فائدة، فلا يوجد شيء في النخلة
إلا وفيه فائدة.
عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وهي مثَلُ المسلم، حدثوني ما هي؟
فوقع الناس في شجر البادية ووقع في نفسي أنها النخلة " قال عبد الله
فاستحييتُ، فقالوا: يا رسول الله أخبرنا بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" هي النخلة " قال عبد الله: فحدّثْتُ أبي بما وقع في نفسي، فقال: لأن
تكون قلتها أحبُّ إليَّ من أن يكون لي كذا وكذا ".
وللنخلة فوائد كثيرة، فكل ما نأخذه منها نجد له فائدة حتى الليف حولها يحمل الجريد
نأخذه ونصنع منه مكانس وليفاً و " مقاطف " و " كراسي ".
وحينما يطلب سبحانه وتعالى مثالاً على شيء معنوي فهو يأتي بالشيء المحس في البيئة
العربية.
} وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً { و " الفتيل " من " الفتلة "
ومن معناها: الشيء بين الأصابع، فأنت حين تدلك أصابعك مهما كانت نظيفة يخرج بعض
" الوساخات مِثل الفتلة " ، أو " الفتيل " هو: الخيط في شق
نواة البلحة ونواة التمرة، جاء سبحانه وتعالى في القرآن بثلاثة أشياء متصلة
بالنواة.
بـ " الفتيل " هنا، وجاء بـ " النقير ": وهو النقرة الصغيرة
في ظهر النواة ومأخوذة من المنقار، كأنها منقورة، وجاء بـ " قطمير ":
وهي القشرة التي تلف النواة، مثل قشرة البيض الداخلية وهي قشرة ناعمة، إذن ففي
النواة ثلاثة أشياء استخدمها الله. الفتيل و " النقير " ، و "
القطمير ".
والحق يقول:{ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً }[النساء: 53].
إذن فالحق سبحانه وتعالى أخذ من النواة ثلاثة أشياء ويعطينا من الشيء المحس أمامنا
أمثالاً يراها العربي في كل وقت أمامه ويأخذ الحق أيضاً أمثالا من السماء فيأتينا
بمثل: " الهلال " ، يقول في الهلال وهو صغير:{ كَالعُرجُونِ الْقَدِيمِ
}[يس: 39].
فسباطة البلح فيها شماريخ، وفيها يد تحمل الشماريخ، فهذا اسمه " العرجون
" ، والعرجون عندما يكون جديداً يكون مستقيماً، لكنه كلما قَدُمَ ينثني
وينحني، فجاء لهم من الهلال في السماء وأعطاهم مثالاً له في الأرض " كالعرجون
القديم " ، والعرب قد أخذوا أمثالاً كثيرة، لكن هناك حاجات قد لا يُتنبه
إليها مثل قول العربي:وغاب ضوء قُمَيْر كنت أرقبه مثل القُلاَمَة قد قُدَّتْ من
الظُّفرفساعة تقص أظافرك تجدها مقوسة. لكن هذه المسألة لا يتنبه لها كل واحد، فهو
جاء بشيء واضح وقال:: " كالعرجون القديم " إذن فالحق سبحانه وتعالى حين
يعطي مثالاً لأمر معنوي فهو يأتي من الأمر المحس أمامك ليقرب لك المعنى، وعندما
تأكل التمرة لا تلتفت إلى الفتيلة مما يدل على أنها شيء تافه، والنقير والقطمير
كذلك. إذن فربنا أخذ من النواة أمثلة، وأخذ من النخلة أمثلة كي يقرب لنا المعاني.
} وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً {.
ويقول الحق بعد ذلك: } انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ... {.
(/330)
انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50)
وقول الحق { انظُرْ } هي أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكل خطاب لرسول الله
هو خطاب لأمته، وعرفنا من قبل أن " الافتراء ": كذب متعمد { يَفْتَرُونَ
عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ } في قولهم عندما أرادوا أن يزكوا أنفسهم:{ نَحْنُ
أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ }[المائدة: 18].
وقولهم:{ وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ
نَصَارَىا }[البقرة: 111].
{ انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وَكَفَىا بِهِ إِثْماً
مُّبِيناً } ، لماذا؟ لأنك إن تكذب على مثلك ممن قد يصدقك فهذا معقول، لكن إن تكذب
على إله فهذه قحة؛ لذلك قال الحق: { وَكَفَىا بِهِ إِثْماً مُّبِيناً }.
إذن فالكذب مطلقاً هو إثم و الكذب المبين: هو الكذب على الله، والمهم أنه لم
يُفدك.
ثم يقول الحق بعد ذلك: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ... }
(/331)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا (51)
قوله: { أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ } يعني عندهم صلة وعلاقة بالسماء
وبالرسل، وبالكتب المنزلة من السماء على الرسل التي تحمل مناهج الله، ولو كانوا
أناساً ليس لهم مثل هذا الحظ لكان كلامهم هذا معقولاً لانقطاع أسباب السماء عنهم.
إنما هؤلاء عندهم نصيب من الكتاب، وأولى مهمات الكتب السماوية أن تربط المخلوق
بالخالق، وربط المخلوق بالخالق هو ترتيب لقدرات المخلوق وتنميتها؛ لأن أسباب الله
في الكون قد تعزّ عليك، وقد تقفر يدك منها. فإذا لم يكن لك إله تلجأ إليه عند عزوف
الأسباب انهرت، وربما فارقت حياتك منتحراً، لكن المؤمن بالله ساعة تمتنع عنه
أسبابه يقول: لا تهمني الأسباب، لأن عندي المسبب.
إذن فالإيمان بالله يعطيك قوة. والإيمان بالله يقف المؤمنين على أرض صُلبة، فمهما
عزّت أسبابك وانتهت فاذكر المسبب. وحين تذكر المسبب تجد آفاق حياتك رحبة، فالذين
ينتحرون إنما يفعلون ذلك لأن الأسباب ضاقت عليهم، وعلموا أنه لا مناص من أنهم في
عذاب. لكن المؤمن يقول: يا رب، ومجرد أنه يقول: يا رب، فهذا قول يريحه حتى قبل أن
يجاب؛ لأنه التفت إلى مسبب الأسباب حين عزّت عليه الأسباب.
وساعة يلتفت إلى مسبب الأسباب عند امتناع الأسباب فهو يأخذ قوة الإيمان من حيث لا
يحتسب، إنك بمجرد أنك قلت: يا رب تجد نفسك قد ارتاحت؛ لأنك وصلت كل كيانك بالخالق،
وكيانك منه ما هو مقهور لك، ومنه ما هو غير مقهور لك. والكيان نفسه سيأتي في الآخرة
ويشهد على الإنسان.
ستشهد الأرجل والجلود وغيرها من الأبعاض. لأنها في الدنيا كانت مقهورة لإرادتي،
أنا أقول ليدي: افعلي كذا، ولرجلي: اسعي لكذا، وللساني: سب فلاناً، فالله سخر
الجوارح وأمرها: يا جوارح أنت خاضعة لإرادة صاحبك في الدنيا. لكن في يوم القيامة
أيكون لي إرادة على جوارحي؟ لا، ستتمرد عليّ جوارحي:{ وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ
لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ
شَيْءٍ }[فصلت: 21].
وتقول الجوارح لنا: أنتم استخدمتمونا في الدنيا وحملتمونا أن نفعل أشياء نحن
نكرهها، فدعونا اليوم لنشهد، إنها تخرج أسرارها؛ لأن الملك الآن للواحد القهار:{
لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ }[غافر: 16].
انتهت سيطرة الإنسان وليس لأحد غير الله إرادة على الأبعاض.
إذن فالنصيب من الكتاب هو أول شيء يربط المخلوق بالخالق، فإذا ارتبط المخلوق
بالخالق قويت أسبابه، ويستقبل الأحداث بثبات، ويأتيه فرج ربنا، وعندما نقرأ القرآن
يجب أن نلتفت إلى اللقطات العقدية فيه، فقد عرفنا مثلاً: أن سيدنا موسى عندما أراد
أن يأخذ بني إسرائيل من فرعون ويخرج بهم، وقبل أن يصل بهم إلى البحر تنبه لهم قوم فرعون
وجاءوا بجيوشهم، وكان قوم فرعون من ورائهم والبحر من أمامهم، فقال قوم موسى
إيماناً بالأسباب:
{ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ }[الشعراء: 61].
بالله أأحد يكذِّب هذه المقولة؟! لا، فماذا قال موسى عليه السلام؟ لم يقل مثلما
قال قومه، ولكنه نظر للمُسبب الأعلى فقال بملء فيه:{ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي
سَيَهْدِينِ }[الشعراء: 62].
وهل تُكذَّب مقولته؟ لا لا تُكذب؛ لأنه لم يقل: " كَلاَّ " اعتماداً على
أسبابه. فليس من محيط أسبابه أن يخرج من مثل هذا الموقف، بل قال: } إِنَّ مَعِيَ
رَبِّي سَيَهْدِينِ { ، ماذا قال له الله؟
قال له:{ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ }[الشعراء: 63].
لم يقل له: اهجم عليهم واغلبهم، لا. بل قال: } اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ {؛ كي
يعطي الشيء ونقيضه، ولتعرف أن مرادات الحق سبحانه وتعالى تعطي الشيء ونقيضه، ولا
أحد من البشر يقدر أن يصنع مثل ذلك، فلما قال له: اضرب بعصاك البحر، ضرب موسى
البحر بالعصا، وكان موسى يعلم قانون الماء استطراقا وسيولة، لكن ها هي ذي المعجزة
تتحقق:{ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ }[الشعراء: 63].
و " الطود " هو الجبل، والجبل فيه صلابة، والماء فيه رخاوة. فكيف انتقلت
الرخاوة إلى صلابة؟ إن الماء مهمته الاستطراق، أي لا يمكن أن توجد منطقة منخفضة
والماء أعلاها، بل لا بد أن ينفذ منها، وعندما أطاع موسى أمر الله أراد أن يطمئن
بأسباب البشر، فأراد أن يضرب البحر كي يعود البحر مثلما كان؛ حتى لا يأتي قوم
فرعون وراءه فقال له ربنا:{ وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً }[الدخان: 24].
أي: اتركه كما هو على هيئته قارّاً ساكنا؛ لأنني أريد أن يغريهم ما يرون من اليبس
في البحر فينزلوا، فأعيد الماء إلى استطراقه وأُطْبِِقهُ عليهم، فأكون قد أنجيت
وأهلكت بالشيء الواحد.
يقول الحق: } الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ
بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ { وكيف ذلك؟
بعد موقعة أُحد جاء حُيَيّ بن أخطب وكعب بن الأشرف وابن أبي الحقيق، وأبو رافع.
هؤلاء هم صناديد اليهود، وأخذوا أيضاً سبعين من اليهود معهم ونزلوا على أهل مكة،
ونقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول الله. وبعد ذلك نزل كعب ابن الأشرف - زعيمهم -
على أبي سفيان وقال له: نريد أن نتعاهد على أننا نقف أمام محمد. فقال أبو سفيان:
أنت صاحب كتاب، وعندك توراة، وعندك إيمان بالسماء، وعندك رسول، ونحن ليس عندنا
هذا، و " محمد " يقول: إنه صاحب كتاب ورسول، إذن فبينكما علاقة الاتصال
بالسماء، فما الذي يدرينا أنك متفق معه علينا في هذه الحكاية؟ إننا لا نؤمن مكرك،
ولن نصدق كلامك هذا إلا إذا جئت لآلهتنا وأقمت مراسم العبادة عندها فسجدت لها.
و " الجبت والطاغوت " هما صنمان لقريش، وذهب إليهما اليهود أصحاب
التوراة الذين عندهم نصيب من الكتاب وخضعوا لهما، أو " الجبت " هو كل من
يدعو لغير الله سواء أكان شيطاناً أم كاهناً أم ساحراً، فإذا كان هذا هو "
الجبت " فـ " الطاغوت " من " طغى " وهو اسم مبالغة وليس
" طاغياً ".
. بل " طاغوت " وهو الذي كلما أطعته في ظلم ارتقى إلى ظلم اكثر.. وسواء
أكان الجبت والطاغوت صنمين أم إلهين من الآلهة التي يتبعونها، المهم أن وفد اليهود
خضعوا لهم وسجدوا، لكي تصدق قريش عداء اليهود لسيدنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
وبعد ذلك سأل كعب بن الأشرف أبا سفيان: ماذا فعل محمد معكم؟ قال له: فارَق دين
آبائه، وقطع رحمه وتركهم وفر إلى المدينة، ونحن على غير ذلك. نحن نسقي الحجيج،
ونقري الضيف، ونفك العاني - الأسير - ونصل الرحم، ونعمر البيت ونطوف به. وعظّم أبو
سفيان في أفعال قريش!، فقال الذين أوتوا الكتاب - لعداوتهم لمحمد - قالوا لأبي
سفيان وقومه: أنتم أهدى من محمد سبيلا!
ويوضح ربنا: يا محمد انظر لعجائبهم؛ إنهم أوتوا نصيبا من الكتاب، ومع ذلك فعداوتهم
لك ووقوفهم أمام دينك وأمام النور الذي جئت به، جعلهم ينسون نصيبهم من الكتاب،
ويؤمنون بالجبت والطاغوت؛ وهم القوم أنفسهم الذين كانوا يقولون للعرب قديماً: إنه
سيأتي نبي منكم نتبعه ونقتلكم به قتل عاد وإرم. لكن ها هم أولاء يذهبون ويؤمنون
بالطاغوت والجبت، فهل عند مثل هؤلاء شيء من الدين؟
إن الحق سبحانه يريد أن يطمئن رسول الله بأن هؤلاء انعزلوا عن مدد السماء، فإن نشب
بينك وبينهم حرب أو خلاف فاعلم أن الله قد تخلى عنهم لأنهم تركوا النصيب من الكتاب
الذي أوتوه. وإياك أن يأتي في بالك أن هؤلاء أصحاب كتاب.
إن الحق يطمئن رسوله أنه سبحانه قد تخلي عنهم وأن الله ناصرك - يا محمد - فلا
يغرنك أنهم أصحاب مال أو أصحاب علم أو أصحاب ثروات، فكل هذا إلى زوال؛ لأن حظهم من
السماء قد انقطع؛ ولأن الشرك قد حازهم وملكهم وضمهم إليه وقد جعلوا العداوة لك
والانضمام إلى الكفار الذين كانوا يستفتحون عليهم، ببعثك ورسالتك، ثمناً لأن
يتركوا الإيمان.
ويقول الحق بعد ذلك: } أُوْلَـائِكَ الَّذِينَ... {.
(/332)
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52)
وقوله: " أولئك " هي اسم إشارة مكون من " أولاء " التي للجمع،
ومن " الكاف " التي هي لخطاب رسول الله، ونحن - المسلمين - في طي خطابه
صلى الله عليه وسلم، " أولئك " هي للذين أوتوا نصيبا من الكتاب ويؤمنون
بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا: هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا، أو "
أولئك " لكل من اليهود والمشركين، ولنأخذها إشارة لهم جميعاً، في قوله تعالى:
{ أُوْلَـائِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ } و " اللعن " إما أن يكون
" الطرد " ، وإما أن يكون " الخزي " وإما أن يكون "
الإهلاك ".
وكيف يلحق الله الخزي بالكافرين؟ لأنك تجد المد الإسلامي كل يوم يزداد، وهم تتناقص
أرضهم:{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا
}[الرعد: 41].
{ أُوْلَـائِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ }.. إذن فالطارد هو الله، فحين يكون
الطارد مساوياً للمطرود، ربما صادف من يعينه، لكن إذا كان الطارد هو الله فلا معين
للمطرود، { وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ } أي من يطرده ربنا { فَلَن تَجِدَ لَهُ
نَصِيراً }؛ لأن الحق سبحانه وتعالى ما دام قد طرده.. فسبحانه يُدخل في رُوع الناس
كلهم أن يتخلوا عنه لأي سبب من الأسباب فلا ينصره أحد { أُوْلَـائِكَ الَّذِينَ
لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً }. ويقول
الحق بعد ذلك: { أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ... }
(/333)
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53)
وما هي حكاية قوله: { أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ
النَّاسَ نَقِيراً }؟
إنه - سبحانه - يصفهم بفرط البخل وشدة الشح، أي أنهم - في واقع الأمر - ليس لهم
ملك الدنيا وليس لهم - أيضا - ملك الله؛ فالملك له وحده - جل شأنه - يؤتيه من يشاء
وينزعه ممن يشاء ولكنهم لو أعطوا ملك الدنيا وملك الله لبخلوا وضنوا بما في
أيديهم. كما جاء في قوله سبحانه:{ قُل لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ
رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ وَكَانَ الإنْسَانُ
قَتُوراً }[الإسراء: 100].
أي أنكم تخشون الإنفاق حتى لا تقل الأموال عندكم، فلو أخذتم خزائن ربنا فستقولون
لو أخذنا منها وأعطينا الناس لقلَّت! وفحوى العبارة: أن كل هؤلاء سواء أكانوا كفار
قريش أم كبراء اليهود، كانوا يحافظون على مكانتهم وأموالهم؛ لأن رسول الله صلى
الله عليه وسلم جاء ليسوي بين الناس، فمن الذي يحزن؟ الذي يحزن هم الذين كانت لهم
السيادة لأنهم لا يريدون أن تتساوى الرءوس، وياليتهم عندما أخذوا السيادة جعلوها
خيراً للناس، لكنهم لم يفعلوا. فلو كان لهم الملك والأموال لن يُعطوا للناس
نقيراً؛ لأن الإنسان بطبيعته لا ينزل عن جبروته؛ لأن هذا الجبروت يعطيه سلطاناً،
وما دام الجبروت أعطاه سلطاناً فلا يلتفت إلى حقيقة الإيمان، فإن خير الخير أن
يدوم الخير، فليس فقط أن تكون في خير وسلطة لكن اضمن أنه يدوم، وهذا الدوام ستأخذه
بعمر الدنيا وأمدها قليل وعمرك فيها غير مضمون، إذن فدوام الخير هناك في الآخرة:{
لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ }[الواقعة: 33].
فأنتم إن كنتم تحرصون على هذا الجاه، وتريدون أن يكون لكم هذا الملك والجاه
والعظمة فهل أنتم تعطون الناس من خيركم هذا حتى يكون هناك عذر لكم في الحرص على
المال بأن الناس تستفيد منكم؟
فلماذا تريدون أن يديم ربنا عليكم هذه وأنتم في قمة البخل والشح؟ لا يمكن أن
يديمها عليكم.
ولذلك فالحق سبحانه وتعالى يقول في سورة الفجر يوضح هذه العملية:{ فَأَمَّا
الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ
رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّآ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ
فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ }[الفجر: 15-16].
إذن فالذي عنده نعمة يقول: { رَبِّي أَكْرَمَنِ } ، والذي ليس عنده نعمة يقول {
رَبِّي أَهَانَنِ } ، فيقول الحق تعقيباً على القضيتين (كلا).
وما دام سبحانه يقول تعقيباً على القضيتين: (كلا) فمعنى هذا أن كلا الطرفين كاذب؛
فأنت تكذب يا من قلت: إن النعمة التي أخذتها دليل الإكرام، وأنت كذاب أيضاً يا من
قلت: عدم المال دليل الإهانة، فلا إعطاء المال دليل الإكرام، ولا سلب المال دليل
الإهانة. وهي قضية غير صادقة وخاطئة من أساسها.
وقال الحق في حيثيات ذلك:{ كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ }[الفجر: 17].
أي عندكم المال ولا تكرمون اليتيم، إذن فهذا المال هو حجة عليكم، فهو ليس إكراما
لكم بل سيعذبكم به. ويضيف سبحانه:{ وَلاَ تَحَآضُّونَ عَلَىا طَعَامِ الْمِسْكِينِ
}[الفجر: 18].
فكيف يكون المال - إذن - إكراماً وهو سيأتيك بمصيبة؟ فعدمه أفضل؛ فالمال الذي يوجد
عند إنسان ولا يرعى حق الضعفاء فيه هو وبال وشرّ؛ لأن الحق يقول:{ سَيُطَوَّقُونَ
مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ }[آل عمران: 180].
فإن بخلت كثيراً فستطوّق بغُل أشد؛ ولذلك عندما يشتد عليه الغُلّ يقول: يا ليتني
خففت هذا الغل، والحق يتساءل في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها لماذا يتفقون مع
معسكر الشرك، ويتركون النصيب الذي أعطوه من الكتاب، ويذهبون ليقولوا للذين كفروا:
أنتم أهدى من محمد سبيلاً مع أنهم يعلمون بحكم ما عندهم من نصيب الكتاب أن محمداً
على حق؟
لقد كانوا يحافظون على سيادتهم، ومعسكر الشرك يحافظ على سيادته، ونعلم أن اليهود
كانوا في المدينة من أصحاب الثروات، وكانوا يعيشون على الربا، وهم أصحاب الحصون،
وأصحاب الزراعات وأصحاب العلم، إذن فقد أخذوا كل عناصر السيادة. وعندما جاء رسول
الله صلى الله عليه وسلم تزلزلت كل هذه المسائل من تحت أقدامهم، وحزنوا. وكذلك
كفار قريش: كانت لهم السيادة على كل الجزيرة، فلا يستطيع أحد من أي قبيلة في
الجزيرة أن يتعرض لقافلة قريش؛ لأن القبائل تخاف من التعرض لهم، ففي موسم الحج
تذهب كل القبائل في حضن قريش. والمهابة المأخوذة لهم جاءت لهم من البيت الحرام
الذي حفظه الله ورعاه وهزم من أراده بسوء وردّ كيده ودمره تدميرا تاما. كما جاء في
قول الحق سبحانه وتعالى:{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ
* أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً
أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ
مَّأْكُولٍ }[الفيل: 1-5].
وعلّة هذه العملية تأتي في السورة التالية لها، وهي قوله سبحانه:{ لإِيلاَفِ
قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَآءِ وَالصَّيْفِ }[قريش: 1-2].
فلولا أنه سبحانه جعل هذا البيت لعبادته لانتهى وانتهت منهم السيادة فلا يقدرون أن
يذهبوا إلى رحلة الشتاء ولا إلى رحلة الصيف؛ ولذلك يقول سبحانه:{ فَلْيَعْبُدُواْ
رَبَّ هَـاذَا الْبَيْتِ }[قريش: 3].
فسبحانه الذي جعل لهم السيادة والعزّ. وهو:{ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ
وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ }[قريش: 4].
وجاء لهم بثمرات كل شيء، وآمنهم من خوف حين تسير قوافلهم في الشمال وفي الجنوب.
} أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ { فإذا كان لهم هذا النصيب، فلا يأتون
الناس نقيرا أي لا يعطونهم الشيء التافه.
ويقول الحق بعد ذلك: } أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ... {.
(/334)
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54)
والحسد هنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن ربنا قد اصطفاه واختاره للرسالة،
ولذلك قال بعض منهم:{ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـاذَا الْقُرْآنُ عَلَىا رَجُلٍ مِّنَ
الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }[الزخرف: 31].
إذن فالقرآن مقبول في نظرهم، لكن الذي يحزنهم أنه نزل على محمد، وهذا من تغفيلهم،
وهو مثل تغفيل من قالوا:{ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ
عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ }[الأنفال: 32].
لقد تمنوا الموت والقتل رميا بالحجارة من السماء ولم يتمنوا اتباع الحق، وهذا قمة
التغفيل الدال على أنها عصبية مجنونة، ولذلك يقول الحق:{ أَهُمْ يَقْسِمُونَ
رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ }[الزخرف: 32].
وسبحانه يؤكد لنا أنه يختص برحمته من يشاء، فلماذا الحسد إذن؟ إنهم يحسدون الناس
أن جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم، ولو أنهم استقبلوا ما جاء به محمد صلى الله
عليه وسلم استقبالاً عادلاً بعين الإنصاف لوجدوا أن كل ما جاء به هو كلام جميل. من
يتبعه تتجمل به حياته. وكان مقتضي من آتاهم الله من فضله علماً من الكتاب أن
يبشروا برسول الله صلى الله عليه وسلم كما دعاهم إلى ذلك نزل عليهم في كتابهم وأن
يكونوا أول المصدقين به، ولكنهم لم يفعلوا ذلك، بل كذبوا وصدوا عن سبيله
وَفَضَّلوا عليه الكافرين الوثنيين. فقالوا إنهم أهدى من محمد سبيلاً.
والحق سبحانه وتعالى حين يتفضل على بعض خلقه بخصوصيات يحب سبحانه أن تتعدى
الخصوصيات إلى خلق الله؛ لأننا نعرف أن في كل خلق من خلق الله خصوصية مواهب، فإذا ما
تفضل المتفضل بموهبته على الخلق تفضل بقية الخلق عليه بمواهبهم، إذن فقد أخذ مواهب
الجميع حين يعطي الجميع.
وهؤلاء قوم آتاهم الله نصيباً فبخلوا وضنّوا، وليتهم ضنّوا على أمر يتعلق بهم، بل
على الأمر الذي وصلهم بالإله، وهو أنهم أصحاب كتاب عرفوا عن الله منهجه، وعرفوا عن
الله ترتيب مواكب رسله، فيريد الحق سبحانه أن يقول لهم: أنتم أوتيتم نصيباً من
الكتاب فلم تؤدوا حقه، وأيضاً أنكم لو ملكتم الملك فإنكم لن تؤدوا حقه، ولن تعطوا
أحداً مقدار نقير وهو النقرة على ظهر النواة، ولذلك قال:{ أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ
مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً }[النساء: 53].
إذن فلا هم في المعنويات والقيم معطون، ولا هم في الماديات معطون. فإذا كانوا قد
بخلوا بما عندهم من القيم فهم أولى أن يبلخوا بما عندهم من المادة، وبذلك صاروا
قوماً لا خير فيهم أبداً.
ثم يوضح الحق: إذا كان هؤلاء قد أوتوا نصيباً من الكتاب يعرِّفهم سمات الرسول
المقبل الخاتم فما الذي منعهم أن يؤمنوا به أولاً ويؤيدوه؟. لا شك أنه الحسد، على
الرغم من أنه صلى الله عليه وسلم جاء مصدقاً لما معهم، إنهم لا شك حسدوا الرسول
صلى الله عليه وسلم، والحسد لا يتأتى إلا عن قلب حاقد، قلب متمرد على قسمة الله في
خلقه؛ لأن الحسد كما قالوا: هو أن تتمنى زوال نعمة غيرك، ويقابله " الغبطة
" وهي أن تتمنى مثل ما لغيرك، فغيرك يظل بنعمة الله عليه، ولكنك تريد مثلها.
وأنت إن أردت مثلها من الله فلا بد أن تغبطه، والحق يقول:{ مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ
وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ }[النحل: 96].
ولذلك يجب أن يكون الناس في عطاء الله غير حاسدين وغير حاقدين. لكن بعض الناس ربما
حسدوا غيرهم من الذين يعطيهم الأغنياء رغبة في أن يكون ذلك لهم وحدهم فإنك إن كان
عندك كَمٌّ من المال ثم اتصل بك قوم في حاجة فأعطيتهم منه، ربما قال الآخرون ممن
يرغبون في عطائك ويأملون في خيرك: إنك ستنقص مما عندك بقدر ما تُعطي هؤلاء؛ لأن ما
عندك محدود، ولكن هنا العطاء ممن لا ينفد ما عنده، إذن فيعطيك ويعطي الآخرين ولا
ينقص مما عنده شيء.
إذن فالغبطة أمر بديهي عند المؤمن؛ لأنه يعلم أن عطاء الله لواحد لا يمنع أن يعطي
الآخر، ولو أعطي سبحانه كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عنده إلا كما ينقص المخْيط
إذا غمس في البحر، وذلك كما جاء في الحديث القدسي: " يا عبادي لو أن أولكم
وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك
مما عندي إلا كما ينقص المخْيط إذا أدخل البحر ".
} أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىا مَآ آتَاهُمُ { ، فالحسد - كما عرفنا - هو: أن
يتمنى إنسان زوال نعمة غيره، هذا التمني معناه أنك تكره أن تكون عند غيرك نعمة،
ولا تكره أن يكون عند غيرك نعمة إلا إذا كنت متمرداً على من يعطي النعم.
إن أول خطأ يقع فيه الحاسد هو: ردّه لقدر الله في خلق الله، وثاني ما يصيبه أنه
قبل أن ينال المحسود بشرّ منه؛ فقلبه يحترق حقداً. ولذلك قالوا: الحسد هو الذنب أو
الجريمة التي تسبقها عقوبتها؛ لأن كل جريمة تتأخر عقوبتها عنها إلا الحسد، فقبل أن
يرتكب الحاسد الحسد تناله العقوبة؛ لأن الحقد يحرق لبه وربما قال قائل: وما ذنب
المحسود؟.. ونقول: إن الله جعل في بعض خلقه داء يصيب الناس، والحسد يصيبهم في
نعمهم وفي عافيتهم. وما ذنب المقتول حين يوجه القاتل مسدسه ليقتله به؟ هذه مثل
تلك. فالمسدس نعمة من نعم الله عند إنسان ليحمي نفسه به، وليس له أن يستعمله في
باطل.
وهب أن الله سبحانه وتعالى خلق في الإنسان شيئاً يكره النعمة عند غيره، فلماذا لا
يتذكر الإنسان حين يستقبل نعمة عند غيرك أن يقرنها بقوله: (ما شاء الله لا قوة إلا
الله).
فلو قارنت كل نعمة عند غيرك بما شاء الله الذي لا قوة إلا به لرددت عن قلبك سم
حقدك. إنك ساعة ترى نعمة عند غيرك وتقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، فأنت
تتذكر أن الإنسان لم يعط نفسه أي نعمة. إنما ربنا هو الذي أعطاه، وسبحانه قادر على
كل عطاء، ومن الممكن أن يحسد الإنسان. لكن الذي يجد الحسد في نفسه ويريد أن يطفئه،
عليه أن يردّ كل شيء إلى الله، وما دام قد ردّ كل شيء إلى الله فقد عمل وقاية
لنفسه من أن يكون حاسداً. ووقاية للنعمة عند غيره من أن تكون محسودة، والحق سبحانه
وتعالى بين لنا ذلك في قوله سبحانه:{ وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ }[الفلق:
5].
إذن فمن الممكن أن يمتلئ قلب أي واحد منا بالحقد على نعمة وبعد ذلك يحدث منها حسد،
وعلى كل واحد منا أن يمنع نفسه من أن يدخل تيار الحقد على قلبه؛ لأن تيار الحقد
يحدث تغييراً كيماوياً في تكوين الإنسان، وهذا التغيُّر الكيماوي هو الذي يسبب
التعب للإنسان، وما يدرينا أن هذا التوتر الكيماوي من النعمة عند غيره تجعل في نفس
الإنسان وفي مادته تفاعلات، وهذه التفاعلات يخرج منها إشعاع يذهب للمحسود فيقتله؟
لأن الحق سبحاه وتعالى يقول:{ وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ }[الفلق: 5].
وعندما تستعيذ بالله من شر الحاسد ألاّ يصيبك، قد يصيبك، ولكن استعاذتك من شره
تعني أنه إن أصابك فعليك أن تسترجع، فتقول: " إنا لله وإنا إليه راجعون
" وتعلم أن ذلك خير لك؛ فإن أصابك في نعمة فاعلم أن هذه المصيبة فيها خير،
فالحاسد إذا أصابك في شيء من نعم الله عليك، فالشر هو أن تحرم الثواب عليها!!.. فالمصاب
هو من حرم الثواب، فإذا جاءت مصيبة لأي واحد وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون..
اللهم إنك ربي وإنك لا تحب لي إلاّ الخير لأني صنعتك ولم تجر عليّ إلاّ الخير..
لكنني قد لا أستطيع أن أفهم ذلك الخير.
إن المسلم إذا صنع ذلك فالله سبحانه وتعالى يبين له فيما بعد أنها كانت خيراً له،
فإن أصابه في ولده وقال: من يدريني لعل ولدي الذي أماته الله كان سيفتنني فأكفر أو
أسرق له وآخذ رشوة من أجله. لكن الله أخذه مني ومنع عني ذلك الشرّ، أو أن النعمة
قد تطغيني، وقد تجعلني أتجبر على الناس، وقد تجعلني أتطاول وأعتدي على الخلق، فيقول
لي ربنا: امرض قليلا واهدأ. وهكذا نرى أن المصاب لا بد أن يتوقع الخير وأن يسترجع
وأن يقول: لا بد أنه سيأتيني من الابتلاء خير، وقد يقول قائل: نحن نقول:
{ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِن شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ
إِذَا وَقَبَ * وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ
إِذَا حَسَدَ }[الفلق: 1-5].
نقرأ ونكرر هذه السورة ولم يعذنا الله من شرّ الحاسدين. ويحسدنا الحاسدون أيضاً!
نقول له: أنت لم تفهم معنى قوله: } وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ {. إنك تفهمه
على أساس ألا يصيبك حسده، لا.. إن حسده قد يصيبك، لكن عليك أن تعرف قدر الله في
تلك الإصابة وتقول: يا رب إنك أجريتها عليّ لخير عندك لي. فإن فعلتَ ذلك فقد كفيت
شرّاً.
ونحن نعيش في عالم نرى فيه أنه كلما ارتقت الدنيا في العلم بيّن لنا ربنا آيات في
كونه وفي أسرار الوجود تقرب لنا كثيراً من المعاني؛ فالذين يصنعون الآن أسلحة
الفتك والتدمير، كلما يلطف السلاح ويدق ولا يكون داخلاً تحت مرائي البصر، كان
عنيفاً ويختلف عن أسلحة الأزمنة القديمة حيث كان الإنسان يرمي آخر بحجر، ثم آخر
يرمي بمسدس، ثم صار في قدرة دولة أن تصنع قنبلة ذرية لا ينوب أي فرد منها إلا قدر
رأس مسمار لكنها تقتل، إذن فأسلحة الفتك كلما لطفت - أي دقت - عنفت. ونرى الآن أن
الأسلحة كلها بالإشعاع، والإشعاع ليس جِرْماً، وعمل الإشعاع نافذ لكن لا يوجد له
جرم، وكما يقول الأطباء: نجري العملية من غير أن نسيل دماً بوساطة الأشعة، ومثال ذلك
أشعة الليزر، إذن فكلما دقّ السلاح كان عنيفا وفتاكاً.
وهذا مثال يوضح ذلك: لنفرض أنك أردت أن تبني لك قصراً في خلاء، ثم مرّ عليك صديق
فقال: لماذا لم تضع لنوافذ الدور الأول حديداً؟ تقول له: لماذا؟. فيقول لك: هنا
سباع وذئاب. فتضع الحديد ليمنع الذئاب، وآخر يمرّ على قصرك فيقول: إن فتحات الحديد
واسعة وهنا توجد ثعابين كثيرة، فتضيق الحديد. وثالث يقول: هناك بعوض يلسع ويحمل
الميكروبات. فتضع سلكاً على النوافذ.
إذن فكلما دقّ العدو كان عنيفاً فيحتاج احتياطاً أكبر. ونحن نعلم أن الميكروب الذي
لا يُرى يأتي فيفتك بالناس، فالآفة التي تصيب الناس كلما لطفت، - أي دقت وصغرت -
عنفت، فلو كانت ضخمة فمن الممكن أن يدفعها الإنسان قليلاً قليلاً، لكن عندما تصل
إلى مرتبة من الدقة والصغر، هنا لا يستطيع الإنسان أن يدفعها. وأفتك الميكروبات هي
التي تدِق لدرجة أن الأطباء يقولون عن بعض الأمراض: لا نعرف لها فيروساً؛ بمعنى أن
هذا الفيروس المسبب للمرض صار دقيقاً جداً حتى عن معايير المجاهر.
إذن فما الذي يجعلنا نضيق ذرعاً بأن نقدر أن هناك شرارة من ميكروب تخرج من كيماوية
الإنسان الحاقد الحاسد الذي تشقيه النعمة عند غيره، وشرارة الميكروب هذه مثل أشعة
الليزر تتجه لشيء فتفتك به!! ما المانع من هذا؟! إننا نفعل ذلك الآن ونسلط الأشعة
على أي شيء، والأشعة هي من أفتك الأسلحة في زماننا، ولماذا لا نصدق أن كيماوية
الحاسد عندما تهيج يتكون منها إشعاع يذهب إلى المحسود فيفتك به؟ ومثلها مثل أي
نعمة ينعمها ربنا عليك، وبعد ذلك تستعملها في الضرر.
ومثال ذلك الرجل الذي عنده بعض من المال؛ ومع ذلك يغلي حقداً على خصومه. فيشتري
مسدساً أو بندقية ليقتلهم؛ إنه يأخذ النعمة ويجعلها وسائل انتقام، وهذا يأتي من
هيجان الغريزة الداخلية المدبرة لانفعالات الإنسان.
إذن فهؤلاء القوم عندما جاء رسول الله مصدقاً بما عندهم، ما الذي منعهم أن يصدقوه؟
لا شك أنهم حسدوه في أن يأخذ هذه النعمة، ونظروا إلى نعمة الرسالة على أنها مزية
للرسل، وهل كان ذلك صحيحا؟ حقا إنها مزية للرسل ولكنها مع ذلك عملية شاقة عليهم،
والناس في كل الأمم - ما عدا الأنبياء - يورثون أولادهم ما لهم، أما الأنبياء فلا
يورثون أولادهم.
إنهم لا يأتوا ليأخذوا جاهاً، أو ليستعلوا على الناس، بل كلِّفوا بمتاعب جمة. إذن
فأنتم تنظرون إلى السلطة التي أعطاكم الله إياها في مسألة علم الدين. وتجعلونها
أداة للترف والرفاهية وللعنجهية والعظمة، وحين يجيء رسول لكي ينفض عنكم ويخلصكم من
هذه السيطرة، ماذا تفعلون؟ أنتم تحزنون؛ لأنكم أقمتم لأنفسكم سلطة زمنية ولم
تجعلوا أنفسكم في خدمة القيم، وأخذتم عظمة السيطرة فقط، فلما جاء رسول الله يريد
أن يزيل عنكم هذه السيطرة قلتم: لا. لن نتبعه. فإذا كنتم تحسدون النبي عليه الصلاة
والسلام على الرسالة وجعلتموها مسألة يُدَلِّله الله بها أو أنها تعطية سيطرة،
فلماذا الحسد على سيدنا محمد وقد أعطى الله سيدنا إبراهيم الملك، وأعطى لداود
الملك، وأعطى لسليمان الملك، وأعطى ليوسف الملك، فلماذا الحسد إذن عندما أراد الله
سبحانه وتعالى أن يكرم الفرع الثاني من إبراهيم وهو إسماعيل عليه السلام؟
لقد كرم الله سبحانه الفرع الأول في إسحاق وجاء من إسحاق يعقوب، ومن يعقوب يوسف،
ثم جاء موسى وهارون ثم داود وسليمان، كل هؤلاء قد كرموا، وعندما يكرم سبحانه الفرع
الثاني لإبراهيم وهو ذرية إسماعيل ويرسل منهم رسولاً، تحزنون وتقفون هذا الموقف؟
لماذا لا تنظرون إلى أن إسماعيل وفرعه أتى من ذرية إبراهيم، ولماذا اعتبرتم
الرسالة والنبوة نعمة مدللة، ولم تنتبهوا إلى أنها عملية قاسية على الرسول؟ لأن
عليه أن يكون النموذج التطبيقي على نفسه وعلى آله، ولا أحد من أهله يتمتع بذلك بل
العكس؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: " إنا معشر الأنبياء لا نورث ".
ويَحْرِم صلى الله عليه وسلم آل بيته من الزكاة. ويقول صلى الله عليه وسلم أيضاً:
" إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد إنما هي أوساخ الناس ".
وهكذا نرى أنه لم يكن يعمل لنفسه ولا لأولاده.
ويتابع الحق: } فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً { و " الكتاب " هو المنهج الذي ينزل
من السماء، و " الحكمة " هي الكلام الذي يقوله الرسول مفسراً به منهج
الله، ومع ذلك آتاهم الله الملك أيضاً. فسيدنا يوسف صار أميناً على خزائن الأرض،
وأصبح عزيز مصر، وسيدنا داود، وسيدنا سليمان آتاهما الله الملك مع النبوة. إذن
ففيه نبوة وفيه ملك، ومحمد صلى الله عليه وسلم أعطاه ربنا النبوة ولم يعطه الملك
فما وجه الحسد منكم له؟!. ثم ماذا كان موقفكم من أنبيائكم الذين أعطاهم الله
النبوة والملك؟ يجيب الحق: } فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ... {.
(/335)
فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)
وقوله سبحانه: { فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ بِهِ }. والمقصود الإيمان بما جاء في منهج
إبراهيم والرسل الذين جاءوا من بعده الذين آتاهم الله النبوة والملك، أو "
منهم " أي من أهل الكتاب الذين نتكلم عنه من آمن برسول الله صلى الله عليه
وسلم كعبد الله بن سلام، وكعب الأحبار مثلاً، { وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ } أي
أن منهم من كفر بمنهج الله؛ لذلك يقول سبحانه بعدها: { وَكَفَىا بِجَهَنَّمَ
سَعِيراً } فكأن نتيجة الصدّ عن المنهج أنّه لا يأتي بعده إلا العذاب بجهنم ليصلوا
بنارها، وتكون مسعرة عليهم جزاءً على ما فعلوا.
وبعد أن بين الحق سبحانه وتعالى موكب الرسل حينما أرسله الله على تتابع في كونه،
جاء ليذكر الناس بالمنهج، فالمنهج هو الأصل الأصيل في مهمة آدم وذريته؛ لأنه
سبحانه وتعالى قد قال:{ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ
هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَىا }[طه: 123].
وينقل آدم إلى ذريته معلوماته عن حركة الحياة وعن الحق وعن المنهج. إلا أن الله
قدّر الغفلة في خلقه عن منهجه؛ فهذه المناهج تأتي دائماً ضد شهوات النفس الحمقاء
العاجلة، لكن لو نظرت إلى حقيقة المنهج الإلهي فأنت تجده يعطي النفس شهوات لكنها
مُعلاة.
مثال ذلك عندما يقول:{ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىا أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ
خَصَاصَةٌ }[الحشر: 9].
وكل واحد عنده أشياء ويحتاج إليها، لكنه يجد أخاه المؤمن يحتاج إليها أكثر منه
فيؤثره على نفسه، أهو يفضله عن نفسه؟ لا؛ لكنه يعطي هذا الشيء القليل في الفانية
كي يأخذه في الباقية، فأخذ شهوة نفسه لكن بشهوة معلاة، والذي قلنا له: غض طرفك عن
محارم غيرك. ظاهر هذا الأمر أننا نحجبه عن شهوة يشتهيها، لكننا ساعة نحجبك عن شهوة
تشتهيها في حرام الفانية، نريد أن نحقق لك شهوة في حلال الخالدة. فأيهما أعشق
للجَمَالِ؟ الذي ينظر بتفحص للمرأة الجميلة وهي تسير، أم الذي الذي يغض عينه عنها؟
الأعشق للجمال هو الذي غض بصره.
إن الدين لم يأت إلا ضد النفس الحمقاء التي تريد عاجل الأمر وإن كان تافهاً. ويوضح
له: كن للآجل ومعه؛ لأنه يبقى فلا يتركك ولا تتركه، أما أي شهوة تأخذها في هذه
الدنيا فإما أن تتركها وإما أن تتركك، لكن في الآخرة لا تتركها ولا تتركك.
لقد عرف الصالحون الورعون كيف يستفيدون، لكنّ الآخرين هم الحمقى الذين لم
يستفيدوا، فالحق سبحانه وتعالى يوضح لنا أن الحسرة تكون لمن أراح نفسه بشهوة عاجلة
ثم أعقبها العذاب الآجل المقيم، فهذه هي الخيبة الحقة، فالدنيا دار الأغيار، يأتي
للإنسان فيها ما يؤلمه وما يسره، وليس فيها دوام حال أبداً؛ لأنها دنيا الأغيار،
وما دامت دنيا الأغيار فيكون كل شيء فيها متغيراً.
. وما دام كل شيء فيها متغيراً. إذن فالذي في نعمة قد يصيبه شيء من الضر، والذي في
قوة قد يصيبه شيء من الضعف، والذي في ضعف قد تأتيه قوة، وإلا لو ظل الضعيف ضعيفاً
وظل القوى قوياً لما كانت الدنيا أغياراً.
ولذلك يقولون: احذر أن تريد من الله أن يتم عليك نعمته كلها؛ لأنها لو تمت لك
النعمة كلها وأنت في دار الأغيار فانتظر الموت؛ فتمام النعمة هو صعود لأعلى منطقة
في الجبل وأنت في دار الأغيار، فهل تظل على القمة؟ لا، بل لا بد أن تنزل، فإياك أن
تُسرَّ عندما تبلغ المسألة ذروتها؛ لأنه سبحانه وتعالى يوضح: إنكم لا بد أن تأخذوا
هذه الدنيا على أنها معبر، والذي يتعب الناس أنهم لا يحددون الغاية البعيدة، بل
إنهم يحددون الغايات القريبة.
إن من حمق بعض الناس أن يحزن الواحد منهم على فراق حبيب أو قريب له، وخذها
بالمنطق: ما غايتنا جميعاً؟ إنها الموت ونعود إلى خالقنا. وهل عندما نعود إلى
خالقنا نحزن؟ لا، بل يجب أن نسر؛ لأننا في الدنيا مع الأسباب، أما بعد أن ننتقل
إلى الآخرة فنكون مع المسبب. ففي الدنيا تكون مع النعمة وستصبح بعد ذلك مع المنعم،
فما يحزنك في هذا؟ إن هذا يحزنك ساعة أن كنت مع النعمة ولم تُراع المنعم، لكن لو
كنت مع النعمة وراعيت المنعمَ لسررت أنك ذاهب للمنعم.
وإن كانت المسألة هي أن تصل إلى المنعم الحق ونكون في حضانته فلماذا الحزن إذن؟
ومن الحمق أن بعض الناس لا تعامل الحق سبحانه وتعالى كما يعاملون أنفسهم.
هب أن إنساناً من غايته أن يخرج من أسوان إلى القاهرة، إذن فالقاهرة هي الغاية. ثم
جاء واحد وقال له: سنذهب سيراً على الأقدام، وقال الآخر: أنا سآتي بمطايا حسنة
نركبها. وقال ثالث: سآتي بعربة، وقال رابع: سنسافر بطائرة وقال خامس. سنسافر
بصاروخ، إذن فكل وسيلة تقرب من الغاية تكون محمودة، وما دامت غايتنا أن نعود إلى
الحق فلماذا نحزن عندما يموت واحد منا؟ أنت - إذن - تحزن على نفسك ولا تحزن على من
مات، إن الذي يموت بعد أن يرعى حق الله في الدنيا يكون مسروراً لأنه في حضانة الحق
ومع المنعم، وأنت مع النعمة الموقوتة إنّه يسخر منك لأنك حزنت، ويقول: انظر إلى
الساذج الغافل، كان يريدني أن أبقى مع الأسباب وأترك المسبب!
إننا نجد الذين يحزنون على أحبائهم لا يرونهم في المنام أبداً؛ لأن الميت لا تأتي
روحه لزيارة من حزن لأنه ذهب إلى المنعم، وعلى الناس أن تدرك الغاية من الوجود بأن
تكون مع أسباب الحق في الدنيا ثم تصير مع الحق، والموت هو النقلة التي تنقلك من
الأسباب إلى المسبب، فما الذي يحزنك في هذا؟
نحن نقصِّر عليك المسافة.
. فبدلاً من أن تقابلك عقبات الطريق، وقد تنجح أو لا تنجح، وبعضهم يقول: مات وهو
صغير ولم ير الدنيا، نقول لهم: وهل هذه تكون خيراً له أو لا؟ أنت مثلاً كبرت وقد
تكون مقترفاً للمعاصي؛ فلعل الله أخذ الصغير حتى لا يعرضه للتجربة، ضع المسألة
أمامك واجعلها حقيقة.
" عن الحارث بن مالك الأنصاري أنه مرّ برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال
له: كيف أصبحت يا حارث؟ فقال: أصبحت مؤمنا حقا. قال: " انظر ما تقول؛ فإن لكل
شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ فقال: عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلى، وأظمأت نهاري
وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وكأني انظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني
أنظر إلى أهل النار يتضاغوْن فيها فقال: " يا حارث عرفت فالزم، ثلاثا ".
ولنا العبرة في سيدنا حذيفة - رضي الله عنه - حينما سأله رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال له: كيف أصبحت؟ أي كيف حالك الإيماني؟ قال حذيفة: يا رسول الله، عزفت
نفسي عن الدنيا فاستوى عندي ذهبها ومدرها - أي أن الذهب تساوي مع الحصى، هذه هي
مسألة الدنيا - وأضاف حذيفة: وكأني أنظر أهل الجنة في الجنة ينعمون، وإلى أهل
النار في النار يعذبون.
وساعة لا تغيب عن بال سيدنا الحارث صورة الآخرة، فهو يسير في الحياة مستقيماً..
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " عرفت فالزم ".
الحق سبحانه وتعالى حين يذكر لنا بعض الأحكام يذكر لنا أيضاً خبر بعض الناس الذين
يتمردون على الأحكام، ثم يذكرنا بحكاية الجنة والنار؛ ولذلك يقول لنا: } إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُواْ... {.
(/336)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)
و " نصليهم " من الاصطلاء، قد يقول قائل: ما دام يصلي النار وكلنا يعرف
أن نار الدنيا حين تحرق شيئاً ينتهي إلى عدم، وحين ينتهي إلى عدم إذن فلا يوجد
ألم! ونقول: لتنتبه إلى أن الحق سبحانه وتعالى يقول في هذا الأمر { كُلَّمَا
نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ
}.. إذن فالعذاب ليس كنار الدنيا، لأن نار الدنيا تحرق وتنتهي المسألة، أما نار
الآخرة فإنها عذاب سرمدي دائم مكرر { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ
بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ }.. فإذا ما حرّقت
الجلود فإن جلوداً أخرى ستأتي، أهي عين الأولى أم غيرها؟ وحتى أوضح ذلك: أنت عندما
يكون عندك خاتم مثلاً، ثم تقول: أنا صنعت من الخاتم خاتماً آخر، فالمادة واحدة
أيضاً، فهل التعذيب للجلود أو للأعضاء؟ إن العذاب دائماً للنفس الواعية، بدليل أن
الإنسان قد يصيبه ورم فيه بعض الصديد " دُمّل " يتعبه ولا يقدر على
ألمه.. وبعد ذلك يغفل فينام، بمجرد أن ينام فلا ألم. لكن عندما يستيقظ يتألم من
جديد.
إن فالألم ليس للعضو بل للنفس الواعية، بدليل أننا عندما ارتقينا في الطب، قلنا إن
النفس الواعية نستطيع أن نخدرها بحيث يحدث الألم ولا تشعر به، ويفتح "
الدُّمل " بالمشرط ولا يحس صاحبه بأي ألم. وهكذا تجد أن الجلود والأعضاء ليس
لها شأن بالعذاب، إنما هي موصلة للمعذب، والمعذَّب هي النفس الواعية.. بدليل أنها
ستشهد علينا يوم القيامة.. تشهد الجلود والجوارح، وستكون آلة لتوصيل العذاب..
ومسرورة لأنها توصل لهم العذاب.
إنه نظام إلهي فلا تتعجبوا من القرآن، فإن العلم كلّما تقدم هدانا إلى شيء من آيات
الله في الكون. أنتم - الآن - تخدرون النفس الواعية وتشقُّون الجسد بالمشارط كما
يحلو لكم فلا يحدث له ألم، وعرفتم أن الألم ليس للعضو، إنما الألم للنفس الواعية،
إذن فكل الجوارح هي آلات توصِّل الألم للنفس الواعية، وتكون مسرورة؛ لأن النفس
الواعية تعذب، هذه يشبهونها - مثلا - بواحد عنده " حكة " في جلده،
فيهرش، والهرش يسيل دمه فيكون مستلذاً.
إذن فقوله: { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا
لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ } أي أن الجلود تبدل وتنشأ جلود أخرى من نفس مادتها توصل
العذاب للنفس الواعية، وهكذا.
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا
نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ
}. ونحن نعلم أن الحق سبحانه وتعالى أنزل كتاباً هو القرآن، وجعله معجزة ومنهجا،
وهذه هي الميزة التي امتاز بها الإسلام. فمنهج الإسلام هو عين المعجزة، وكل رسول
من الرسل كان منهجه شيئاً ومعجزته كانت شيئا آخر.
إن سيدنا موسى منهجه التوارة ومعجزته: العصا، وسيدنا عيسى منهجه: الإنجيل،
ومعجزته: إبراء الأكمه والأبرص بإذن الله، لكن معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم
كانت القرآن؛ لأن دينه سيكون الامتداد النهائي لآخر الدنيا، ولذلك جعل الله منهجه
هو عين معجزته، لتكون المعجزة دليلاً على صدق المنهج في أي وقت، ولا يستطيع واحد
من أتباع أي نبي سابق على رسول الله أن يقول: إن معجزة الرسول الذي أتبعه هي
منهجه؛ لأن معجزات الرسل السابقين على رسول الله كانت عمليات كونية انتهت مثل عود
كبريت احترق، فمن رآه رآه وانتهى، لكن المسلم يستطيع أن يقف ويعلن بملء فيه: إنَّ
محمداً رسول الله وصادق، وتلك معجزته.
فمعجزة محمد صلى الله عليه وسلم باقية بقاءً أبدياً، ومتصلة به أبداً. أما معجزة
كل رسول سبق رسول الله فقد آدت مهمتها لمن رآها وانتهت، وانفصلت معجزة كل رسول سابق
على رسول الله عن منهجه.
والمنهج القرآني فيه أحكام، والأحكام معناها؛ افعل كذا، ولا تفعل كذا. وهي واضحة
كل الوضوح منذ أن أنزل الله القرآن على رسوله وحتى تقوم الساعة. ومن فعل مطلوب
الأحكام يثاب، ومن لم يفعله يعاقب. وكل الناس سواسية في مطلوب الأحكام إلى أن تقوم
الساعة.
أما الآيات الله الكونية التي لا تتأثر.. فأي فائدة للإنسان إن عرفها أو لم
يعرفها: فقد طمرها الله وسترها في القرآن مع إشارة إليها، لأن العقل المعاصر لنزول
الكتاب لم يكن قادرا على استيعابها في زمن الرسالة. ولو أن القرآن جاء بآية واضحة
تقول: إن الأرض كروية وتدور، بالله ماذا كان المعاصرون لرسول الله يقولون؟ إن
بعضاً من البشر الآن يكذبون ذلك، فما بالنا بالبشر المعاصرون لرسول الله صلى الله
عليه وسلم الذين لو قال لهم رسول الله ذلك لانصرفوا عن اتباع ما جاء به.
لقد كانوا يستفيدون من كروية الأرض، مثلما يستفيد منها الفلاح أو البدوي، ومثلما
يستفيد الناس الآن الذين لم يدرسوا الكهرباء برؤية التليفزيون وضوء المصباح
الكهربائي وغير ذلك من الاستخدامات، دون معرفة علمية بتفاصيل ذلك، إنّ الشمس تسطع
على الدنيا فيتبخر الماء من الأنهار والمحيطات والبحار ليصير سحاباً، ثم ينزل
المطر من السحاب. وكل هذه الآيات الكونية لم يعط الله أسرارها إلا بقدر ما تتسع
العقول، وترك في كتابه ما يدل على ما يمكن أن تنتهي إليه العقول الطموحة بالبحث
العلمي.
وعندما نتعرف نحن - المسلمين - على اكتشاف علمي جديد في الكون، نقول: إن القرآن قد
أشار له، لكن قبل ذلك لا يصح أن نقول ذلك حتى لا يكذب الناس هذا الكتاب المعجز،
فسبحانه القائل:{ بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا
يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ }[يونس: 39].
لو أن القرآن قال: إن كل شيء في الوجود يتكاثر، وفيه موجب وفيه سالب، ذكر وأنثى،
أكانوا يصدقون ذلك؟.
لا؛ لأنهم كانوا لا يعرفون الذكر والأنثى إلا في الرجل والمرأة، ويعرفون ذلك في
الحيوانات؛ وأيضاً في بعض النباتات مثل النخل، لكن هناك نباتات كثيرة لا يعرفون
حكاية التكاثر فيها، ومثال ذلك القمح الذي نزرعه ونأكله، وكذلك الذرة، لم يكونوا
عارفين بأن عنصر الذكورة يوجد في " الشواشي " العليا في كوز الذرة وأن
الهواء يضرب تلك الشواشي فتنزل منها حبوب اللقاح فيخرج الحب، ولذلك نجد الزّارع
الذكي هو الذي يفتح " كوز الذرة " من أعلاه قليلاً حتى يتيح لحبوب
اللقاح أن تصل إلى موقعها. وقد يفتح الفلاح أحد " كيزان الذرة " فيجد
حبة ميتة وسط الحبوب المتراصة ويكشف أنها حبة ليس لها خيط أي لم تتصل بحبوب اللقاح
وهو ما يقولون عنه في الريف " سنة عجوز ".
إذن فكل تكاثر له ذكورة وأنوثة، ولذلك يقول ربنا:{ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَق
الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ
يَعْلَمُونَ }[يس: 36].
وكنا نعرف الأزواج في الأنفس، ثم عرفناها في النبات، وجاء الحق بـ } وَمِمَّا لاَ
يَعْلَمُونَ { لِتُدخل كل شيء، وتكشف الموجب والسالب في الكهرباء، وصرنا نعرف أن
كل كائن فيه ذكر وأنثى، وكلما تقدم العلم فهو يشرح الآيات الكونية.
ومن رحمة الحق سبحانه بعقول الأمة المكلَّفة برسالة محمد لم يشأ أن يجعل نواميسه
في الكون واضحة صريحة حتى لا تقف العقول فيها وتعجز عن فهمها، وخاصة أن الكتاب
واجه أمّة أمّيَّة؛ ليست لها ثقافة. وهب أنه واجه العالم المعاصر، إن هناك قضايا
في الكون لا يعلمها العالم المعاصر، فلو أن القرآن تعرض لها بصراحة لكانت سبباً من
الأسباب التي تصرف الناس عن الكتاب. والقرآن جاء كتاب منهج، والمعجزة أمر جاء
لتأييد المنهج، فلم يشأ أن يجعل من المعجزة ما يعوق عن المنهج، لكنه ترك في الكون
طموحات للعقل المخلوق لله والمادة الكونية المخلوقة لله، وكل يوم يكتشف العقل
البشري أشياء، وهذا الاكتشاف لا يأتي من فراغ، بل يأتي من أشياء موجودة.
إذن فلو رددت أدق أقضية العلم التي يصل إليها العقل المعاصر، ونسبتها في الكون
لرجعت إلى الأمر البديهي. فلا يوجد صاحب عقل ابتكر أو جاء بحاجة جديدة، إنما هو
أعمل عقله في موجود فاستنبط من مقدمات الموجود قضية معدومة، ثم أصبحت القضية
المعدومة مقدمة معلومة ليستنبط منها من يجيء بعد ذلك. ولذلك فالعلماء عادة قوم
يغلبهم طابع التهذيب عندما يقولون: اكتشفنا الأمر الفلاني، يعني كأنه كان موجوداً.
إن الحق سبحانه وتعالى يعطي لنا فكرة تقرب لنا الفهم، فنحن عندما كنا نتعلم
الهندسة مثلاً؛ عرفنا أن الهندسة مكونة من نظريات، تبدأ من نظرية " واحد
" ، وتنتهي إلى ما لا نهاية، وحين جاء لنا مدرس ليبرهن لنا على نظرية "
مائة " ، استخدم في البرهان على ذلك النظرية التسع والتسعين، وعندما كان
يبرهن على النظرية " التسع والتسعين " استعمل ما قبلها.
إذن فكل برهان على نظرية يستند إلى ما قبلها، والعقل الواعي المفكر المستنبط هو
الذي يرتب المقدمات ويستخلص منها النتائج. وكل شيء في الكون يشترك فيه كل الناس.
لكن العقل الذي يرتب ويستنبط يخيل إليه وإلى الناس أنه جاء بجديد، وهو لم يأت
بجديد. بل ولَّد من الموجود جديداً، مثال ذلك الطفل عندما يولد من أبويه، هل هما
جاءا به من عدم؟ لا، بل جاء الولد من تزاوج، وعندما نسلسل الأمر نصل إلى آدم، فمن
الذي جاء بآدم؟. إنه الله.
إذن فالبديهيات التي في الكون هي خميرة كل علم تقدمي وهي من صنع الله الذي أتقن كل
شيء صنعاً، وكل نظرية مهما كانت معقدة في الكون منشؤها من الأمر البديهي، مثال ذلك
البخار؛ عندما اكتشفوه وقبل أن يسيروا به الآلات ماذا حدث؟. كان هناك من يجلس
فالتفت فوجد الإناء الذي به الماء يغلي ثم وجد غطاء الإناء يرتفع وينخفض، وعندما
تعرف على السرّ، اكتشف أن كل بخار يستطيع أن يعطي. قوة دافعة، وبذلك بدأ عصر
البخار. إذن فهو ذكي، وقد أخذ اكتشافه من بديهية موجودة في الكون، فإياك أن تغتر
وتقول: إن العقل هو الذي اخترع، ولكن العقل عمل بالجهد في مطمورات الله في الوجود،
ورتب ورتب ثم أخرج الاكتشاف.
لذلك فعندما يبتكر العقل البشري شيئاً جديداً نقول له: أنت لم تبتكر، بل اكتشفت
فقط، والحق سبحانه وتعالى يترك هذه العملية في الوجود. ويقول:{ سَنُرِيهِمْ
آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىا يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ
الْحَقُّ }[فصلت: 53].
والبشرية عندما تكتشف شيئاً جديداً، نقول لهم: القرآن مسّها وجاء بها، فيقولون:
عجباً هل فعل القرآن ذلك منذ أربعة عشر قرناً، على الرغم من أنه نزل ليخاطب أمة
أمية، وجاء على لسان رسول أميّ. ونقول: نعم.
والآية التي نحن بصددها فيها هذا:
} كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا { [النساء:
56].
والجلود والأحاسيس شرحناها من قبل، ونظرية " الحسّ " - كما نعرف - شغلت
العلماء الماديين، وأرادوا أن يعرفوا كيف نحسّ؟ منهم من قال: نحن نحسّ بالمخ. نقول
لهم: لكن هناك مسائل لا تصل للمخ ونحس بها، بدليل أنه عندما يأتي واحد أمام عيني
ويوجه أصبعه ليفتحها ويثقبها يصل أصبعه أغلق عيني أي أن شيئاً لم يصل للمخ حتى
أحسّ. وبعض العلماء قال: إن الإحساس يتم عن طريق النخاع الشوكي والحركة العكسية،
ثم انتهوا إلى أن الإحساس إنما ينشأ بشعيرات حسية منبطحة مع الجلد؛ بدليل أنك
عندما تأخذ حقنة في العضل، فالحقنة فيها إبرة، ويكون الألم مثل لدغة البرغوث يحدث
بمجرد ما تنفذ الإبرة من الجلد، وبعد ذلك لا تحس.
إذن فمركز الإحساس في الإنسان هو الشعيرات الحسية المنبطحة على الجلد، بدليل أن
ربنا أوضح: أنه عندما يحترق الجلد يمتنع الإحساس، فأنا أبدل لهم الجلد ليستمر
الإحساس: } كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ { أي صارت محترقة احتراقاً تاما وتعطلت
عن الإحساس بالألم، آتيهم بجلد آخر لأديم عليهم العذاب؛ لأنه هو الذي سيوصل للنفس
الواعية فتتألم، إذن فالآية مسّت قضية علمية معملية، لو أن القرآن تعرض لها بصراحة
وجاء بصورة في الإحساس تقول: يا بني آدم محلّ الإحساس عندكم الجلد، لما فهموا
شيئاً. لكنه تركها لتنضج في العقول على مهل.
} كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ
الْعَذَابَ {. فتكون علّة التبديل للجلود التي أحرقت بجلود جديدة كي يدوم العذاب
ويذيل الحق الآية: } إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً { والعزيز: هو الذي لا
يُغلب ولا تَقدر أن تحتاط من أنه يهزمك أبداً، فقد يقول كافر: لقد تلذذنا بالمعصية
مرة لمدة خمس دقائق، ومرة لمدة ساعتين فيما يضيرني أن يحترق جلدي وتنتهي المسألة!!
نقول له: لا إن الذي يعذبك لا يُغلب فسوف يديم عليك العذاب بأن يبدل لك الجلد بجلد
آخر، وسبحانه حكيم. فالمسألة ليست مسألة جبروت يستعمله، لا. هو يستعمل جبروته
بعدالة.
وبعد أن جاء بالعذاب أو بالجزاء المناسب لمن رفضوا الإيمان، لم ينس المقابل؛ لكي
يكون البيان للغايتين: غاية الملتزم وغاية المنحرف. ولذلك يقول الحق بعد ذلك: }
وَالَّذِينَ آمَنُواْ... {.
(/337)
وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)
وفي هذه الآية يصف الحق ثواب الفئة المقابلة للفئة السابقة وهم الذين آمنوا، ونعلم
أن آخر موكب من مواكب الرسالة هو رسالة محمد صلى الله عليه وسلم. إذن فأمة سيدنا
محمد هي أقرب الأمم إلى لقاء الله. فالأمم من أيام آدم أخذت زمناً طويلاً، لكننا
نحن المسلمين قريبون، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم:
" بُعِثْتُ أنا والساعة كهاتين ".
ولذلك لم يقل الحق في الآية: سوف ندخلهم. بل قال: { سَنُدْخِلُهُمْ } ، أما مع
الآخرين فاستخدم سبحانه " سوف " لأنها بعيدة، أو أن هذا كناية وإشارة من
الله لإمهال الكفار ليتوبوا، وعندما يقرب لنا سبحانه المسافة فإنه يغرينا بالطاعة،
المسألة ليست بعيدة، بل قريبة؛ لذلك يعبر عنها: { سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ }.
إن كلمة " الجنة " مأخوذة من " الجَن " ، والستر، و "
الجَنّة " هي البستان الذي به شجرة إذا سار فيه الإنسان يستره، وهو غير
البساتين الزهرية التي تخرج زهراً قريباً من الأرض تمثل ترفا للعيون فقط، أما
الجنة ففيها أشجار عالية كثيفة بحيث لو سار فيها أحد يُستر، ففيها الاقتيات وفيها كل
شيء، فهي تسترك عن أن تلتفت إلى غيرها لأن فيها ما يكفيك، فالذي عنده حاجة لا
تكفيه يتطلع إلى ما يكفيه، لكن من عنده حاجة تكفيه فقد انستر عن بقية الوجود،
والحق سبحانه وتعالى يعطينا صورة عن شيء هو الآن عنا غيب، وسيصير بإذن الله
وبمشيئته مشهداً، ونحن نعرف أن الجنة بها كل ما تتمناه النفس، ورسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: قال الله عز وجل:
" أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر
" مصداق ذلك في كتاب الله { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن
قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }.
ونعلم أن الكائنات الوجودية يعرفها الإنسان بما يناسب إدراكه.. فقال: " ما لا
عين رأت ولا أذن سمعت " ، والعين حين ترى تكون محدودة، لكن السمع دائرته أوسع
من الرؤية، لأنه سيسمع ممن رأى، إنه سمع فوق ما رأى، إذن فدائرة الإدراكات تأتي أولاً:
بأن يرى الإنسان، ثم بأن يسمع، وهو يسمع أكثر مما يرى، وعلى سبيل المثال قد أرى
أسوان لكنني أسمع عن أمريكا، فدائرة السماع أوسع.
وبعد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " ولا خطر على قلب بشر " أي أن ما في
الجنة أكبر من التخيلات، إذن فكم صفة هنا للجنة؟ الأولى قوله: ما لا عين رأت.
والعين مهما رأت فدائرتها محدودة، والثانية: قوله: ولا أذن سمعت فدائرتها أوسع
قليلاً.
والثالثة: قوله: ولا خطر على قلب بشر، وهذا أوسع من التخيلات، فإذا كنت يا حق
سبحانك ستعطينا في الجنة: ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. فبأي
الألفاظ يا ربي تؤدي لنا هذه الأشياء، وألفاظ اللغة إنما وضعت لمعانٍ معروفة، وما
دمت ستأتي بحاجة لم ترها عين، ولم تسمعها إذن ولم تخطر على قلب بشر، فأي الألفاظ
ستؤدي هذه المعاني؟ لقد أوضح صلى الله عليه وسلم: أنّه لا توجد ألفاظ؛ لأن المعنى
يُعرف أولاً ثم يوضع له اللفظ، فكل لفظ وضع في اللغة معروف أن له معنى، لكن ما
دامت الجنة هذه لم ترها عين، ولم تسمعها أذن، ولم تخطر على قلب بشر، فلا توجد
كلمات تعبر عنها، لذلك لم يقل صلى الله عليه وسلم: إن الجنة هكذا بل قال: "
مثل الجنة " أما الجنة نفسها، فليس في لغتنا ألفاظ تؤدي هذه المعاني، وحيث إن
هذه المعاني لا رأتها عين ولا سمعتها أذن ولا خطرت على قلب بشر؛ لذلك فليس في لغة
البشر ما يعطينا صورة عن الجنة، وأوضح الحق سبحانه: سأختار أمراً هو أحسن ما عندكم
وأعطيكم به مثلاً فقال:{ مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَآ
أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ
طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ
عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن
رَّبِّهِمْ }[محمد: 15].
ونحن نرى الأنهار، والحق يطمئننا هنا بأن أنهار الجنة ستختلف فهو سبحانه سينزع
منها الصفة التي قد تعكر نهريتها؛ فقد تقف مياه النهر وتصبح آسنة متغيرة، فيقول: }
أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ { ، إذن فهو يعطيني اسماً موجودا وهو النهر،
وكلنا نعرفه، لكنه يوضح: أنا سأنزع منه الأكدار التي تراها في النهر الحادث في
الحياة الدنيا، وأيضاً فأنهار الدنيا تسير وتجري في شق بين شاطئين، لكن أنهار
الجنة سترى الماء فيها وليس لها شطوط تحجز الماء لأنها محجوزة بالقدرة.. وستجد
أيضاً أنهاراً من لبن لم يتغير طعمه.
إن العربي كان يأخذ اللبن من الإبل ويخزنه في القِرَب، وبعد ذلك ترحل الإبل بعيداً
إلى المراعي وإلى حيث تسافر، وعندما كان الأعرابي يحتاج إلى اللبن فلم يكن أمامه
غير اللبن المخزن في القرب، ويجده متغير الطعم لكنْ لا يجد غيره؛ لذلك يوضح الحق:
سأعطيكم أنهاراً من لبن من الجنة لم يتغير طعمه، ثم يقول: " وأنهار من خمر
" وهم يعرفون الخمر ولنفهم أنها ليست كخمر الدنيا؛ لأنه يقول " مثل
".. ولم يقل الحقيقة فقال: أنهار من خمر لكنها خمر " لذة للشاربين
" ، وخمر الدنيا لا يشربها الناس بلذة، بدليل أنك عندما ترى من يشرب كأس خمر.
. فهو يسكبه في فمه مرة واحدة! ليس كما تشرب أنت كوباً من مانجو وتتلذذ به، إنه
يأخذه دفعة واحدة ليقلل سرعة مروره على مذاقاته لأنه لاذع ومحمض؛ وتغتال العقول
وتفسدها. لكن خمر الآخرة لا اغتيال فيها للعقول.
إذن فحين يعطيني الحق مثلاً للجنة.. فهو ينفي عن المثل الشوائب، ولذلك نجد الأمثال
تتنوع في هذا المجال؛ فالعربي عندما كان يمشي في الهاجرة، ويجد شجرة " نبق
" ويقال لها: " سدر " كان يعتبرها واحة يستريح عندها، ويجد عليها
النبق الجميل، فهو يمد يده ليأكل منها لكنّه قد يجد شوكاً فيتفادى الشوك، وفي بعض
الأحيان تشكه شوكة، وعندما لا يجد في هذا الشجر شوكا يقول: هنا " سدر مخضوض
" أي شجرة نبق لا شوك فيها، والحق يأتي بكل الآفات التي في الدنيا وينفيها عن
جنة الآخرة.
} وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى { وكان العرب يأخذون العسل من الجبال فالنحل
يصنع خلاياه داخل شقوق الجبال، وعندما كانوا يخرجون العسل من الجبال يجدون فيه
رملاً وحصى، فأوضح الحق: ما يعكر عليك العسل هنا في الدنيا أنا أصفيه لك هناك، ومع
أنه مثل لكنه يصفيه أيضاً، ولماذا مثَّل؟.. لأنه ما دام نعيم الجنة " لا عين
رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر " . فتكون لغة البشر كلها لا تؤدي ما
فيها.. لكنه - سبحانه - يعطينا صورة مقربة، ويضرب الله المثل بالصورة المقربة
للأشياء التي تتعالى عن الفهم ليقربها من العقل، ومثال ذلك عندما أراد سبحانه أن
يعطينا صورة لتنوير الله للكون، وليس لنور الله الذاتي، بل لتنوير الله للكون،
فيقول:{ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ
}[النور: 35].
إنه يعطينا مثلاً مقرباً لأن لغتك ليس فيها الألفاظ التي تؤدي الحقيقة، ولذلك
يقول:{ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ }[التوبة: 100].
وما دامت جنات ففيها شجر ملتف وعالٍ، ونحن نعرف أن الشجر لا بد أن يكون في منطقة
فيها مياه؛ لذلك قال: } تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ { لأن ما يجري تحتها قد
يكون آتيا من مكان آخر، ويكون منبعها من مكان بعيد وتجري الأنهار تحت جنّتك، وقد
تظن أن بإمكان صاحب النبع أن يسدّها على جنتك، فيشرح الحق: لا هي جاءت من تحتها
مباشرة.
ويقول الحق عن أهل الجنة: } خَالِدِينَ فِيهَآ { وهو سبحانه وتعالى يخاطب قوماً
شهدوا بعض النعيم في دنياهم من آثار نعمة عليهم، لكنهم شهدوا أيضاً أن النعمة تزول
عن الناس، أو شهدوا أناساً يزولون عن النعمة، فقال سبحانه عن جنة الآخرة: }
خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً { فلا هي تزول عنهم ولا هم يزحزحون عنها.
ويعطينا سبحانه أيضاً صورة من النعيم الذي يوجد عندنا في الدنيا لكنه يزول أيضاً
أن نزول نحن عنه: } لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ { وأزواج جمع "
زوج " ، وعندما يصف الحق سبحانه وتعالى جمعاً فهو يأتي في الصفة بجمع أيضاً
مثل قوله:
{ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ }[سبأ: 13].
لأن " قدور " جمع " قِدر " ولم يقل هنا: وأزواج مطهرات وجاء
بها مفردة لأن الرجل في الدنيا قد يتزوج بأكثر من واحدة فينشأ بين الزوجات
المتعددات ظلال الشقاق فكأنهن متنافرات، فقال: إنهن كلهن سيكنَّ أزواجاً على صورة
واحدة من الطهر، وليس في أي منهن ما يعكر صفو الأزواج كما يكون الأمر في الدنيا،
ولا يقولن واحد: " كيف تقبل المرأة أن يكون لها ضرَة في الآخرة؟ " لأن
الحق سبحانه نزع من الصدور كل ما كان يكدر صفو النفوس في الدنيا فقال:{ وَنَزَعْنَا
مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ }[الأعراف: 43].
إذن فكأنهن - وإن تعددن - في سياق واحد من الطهر مما لا يعكر صفو الزوج، إنّه
يعجبك شكلها، ستعجبك، أخلاقها ليس فيها عيب ولا نقص مما كان يوجد في الدنيا إنها
مطهرة من ذلك كله. إذن فهو يعطيني خلاصة ما يمكن أن يتصور من النعيم في الأزواج.
ويكمل الحق: } وَنُدْخِلُهُمْ ظِـلاًّ ظَلِيلاً {. ولغة العرب إذا أرادت أن تؤكد
معنى فهي تأتي بالتوكيد من اللفظ نفسه، فيقول العربي مثلاً: " هذا ليل أليل
" أي ليل حالك، وعندما يبالغ في " الظل " يقول: " ظليل
". وما هو " الظل "؟. " الظل " هو: انحسار الشمس عن مكان
كانت فيه أو لم تدخله الشمس أصلاً كأن يكون الإنسان داخل كهف أو غار مثلاً.
إن كلمة ظل ظليل يعرفها الذين يعيشون في الصحراء، فساعة يرى الإنسان هناك شجرة فهو
يجلس تحتها ويتمتع بظلها، والظل نفسه قد يكون ظليلاً، مثال ذلك " الخيام
المكيفة " التي يصنعونها الآن، وتكون من طبقتين: الطبقة الأولى تتعرض للشمس
فتتحمل السخونة، والطبقة الثانية تحجز السخونة، ويسمون هذا السقف " السقف
المزدوج ". ويوجد خاصة في الأماكن العالية؛ لأن الشقة على سبيل المثال التي
تعلوها أدوار تكون محمية، لكن الشقق الموجودة في آخر دور خصوصاً في البلاد الحارة
تكون السخونة فيها صعبة وشديدة؛ لذلك يصنعون سقفاً فوق السقف، وبذلك يكون الظل
نفسه في ظل.
ولماذا الإنسان يسعد بالظل تحت شجرة أكثر من سعادته بالظل في جدار؟ لأن الظل في
جدار مكون من طبقة واحدة، صحيح أنه يمنع عنا الشمس لكنه أيضاً يحجب الهواء، لكن
الجلوس في ظل الشجرة يتميز بأن كل ورقة من أوراق الشجرة فوقها ورقة، وأوراقها
بعضها فوق بعض، وكل ورقة في ظل الورقة الأعلى. ولأن كل ورقة خفيفة لذلك يداعبها
الهواء، فتحجب عن الجالس تحت الشجرة حرارة الشمس، وتعطيه هواء أيضاً، هذا هو معنى
قوله: } ظِـلاًّ ظَلِيلاً {.
ولذلك فعندما أراد الشاعر أن يصف الروضة قال:وقانا لفحةَ الرمضاءِ وادٍ سقاه مضاعف
الغيث العميمنزلنا دوحه فحنا علينا حنو المرضعات على الفطيموأرشفنا على ظمأ زلالاً
ألذ من المدامة للنديميصد الشمس أنىّ واجهتنا فيحجبها ويأذن للنسيموالشاعر هنا يصف
الموقف حين يسير الإنسان في صحراء ثم ينزل في وادٍ به دوح وهذا الدوح يَحنو على
الإنسان حنو الأم على طفلها في سن الفطام. وأنه قد سقاهم من مائة ما يلذ. وتصد
الشمس عنهم الأشجار الكثيفة ولكن النسيم يمر بين أوراق الشجر. وهكذا نفهم أن كلمة "
ظل ظليل " ، أي أن الظل في ذاته مظلل.
وبعد أن تكلم الحق عن الغايات التي تنتظر الصنفين من خلقه: الصنف الذي يتأبى على
منهج الله، والصنف الذي يتطامن لمنهج الله: الصنف الأول أعد له الله النار التي
تشوي جلوده ويبدله جلوداً غيرها ليذوق العذاب، والصنف المؤمن الذي أعد الله له
الجنة ذات المواصفات المذكورة. وبعدما يجعل الغاية واضحة في ذهننا من الكلام عن
النار والكلام عن الجنة يلفتنا إلى حكم جديد؛ لأن النفس تكون كارهة للنار ومحبة
للجنة، وعندما يأتي حكم جديد تتعلق النفس به وتنفذه؛ لأنها قريبة العهد، بالترهيب
من النار والترغيب في الجنة، فيجعل الحق هذا الأمر مرة تذييلاً لما تقدم، ومرة
أخرى يجعله تمهيداً لما يأتي؛ كي تستقبل الأحكام الجديدة في ذهنك وتتضح لك الغاية
التي تنتظر مَن التزم، والغاية التي تنتظر من انحرف.
وعندما يأتي الحكم والغاية متضحة في الذهن ومهيئة للإنسان فالتكليف يوضع في بؤرة
الشعور؛ لأن هناك حاجات كثيرة تعلمها النفس البشرية، ورحمة الله بالخلق أن هذا
الرأس الذي فيه حافظة، وفيه ذاكرة، وفيه مخيلة، لا يقدر أن يستوعب كل المعلومات في
بؤرة الشعور مرة واحدة، ولا يمكن أن يجيء لك معنى جديد إلا إذا تزحزح المعنى الذي
كنت مشغولاً به في ذهنك قليلاً عن بؤرة الشعور وذهب إلى حاشية الشعور، فإن بقي
المعنى في مكان فلن يأتي لك خاطر جديد.
إذن فبؤرة الشعور هي التي فيها ما أنت الآن بصدده فلا يمكن أن تتداخل الأفكار في
البؤرة الشعورية، ولذلك عندما تريد أن تستدعي حاجة في بؤرة الشعور. فالمعاني
تتداعى كي تأتي بما في حاشية الشعور إلى بؤرة الشعور. وساعة يأتي ما تريده في بؤرة
الشعور يذهب الخاطر الأول.
إياك أن تظن أن العقل البشري يستطيع أن يواجه في بؤرة الشعور كل المعلومات، لا.
فمن رحمة الله أنه وضع لشعورك نظاما تخزن فيه معلوماتك، ولذلك فأنت قد تتذكر حاجة
من عشر سنوات، فإذا كانت قد ذهبت من فكرك فكيف تذكرتها؟. إذن فهي موجودة لكنها
موجودة في الحواشي البعيدة للشعور.. وعندما تداعت المعاني خرجت الخاطرة أو الحادثة
إلى بورة الشعور؛ ثم تؤدي مهمتها وتذهب؛ وتأتي أخرى في بؤرة الشعور.
إن هذا البشري فيه قوة وطاقة يختزن فيها الأحداث، وعلى الرغم من ذلك تختلف قدرات
الناس، فهناك من يحفظ قصيدة من عشر مرات، وهناك ذهن يحفظ من مرتين، وهناك من يحفظ
من ثلاث مرات. إن الذهن كآلة التصوير " الفوتوجرافي " يلتقط من مرة
واحدة، والمهم فقط أن تكون بؤرة شعورك خالية ساعة الالتقاط. فإن كانت بؤرة شعورك
خالية من غيرها تلتقطها.
أنت تكرر القصيدة أو الآية أو الكلمة كي تحفظها؛ لأنك لو قدرت أن تجعل بؤرة شعورك
مع النص لحفظت النص مباشرة، لكنك لا تحفظ النص؛ لأن هناك خواطر تأتيك فتخطف
التركيز، وتكون بؤرة الشعور مشغولة بسواها فلا تستطيع أن تحفظ المعلومة الجديدة،
فتكرر الحفظ إلى أن تصادف كل جزئية من جزئيات الشعر أو القصيدة أو الآية خلو بؤرة
الشعور؛ لذلك يقولون: هناك طالب يحفظ ببطء، وآخر يحفظ بسرعة، إن الذي يقدر أن يركز
ذاكرته لما هو بصدده، فذهنه يلتقط ما يقرأ من مرة واحدة أما الذي لا يركز فإن حفظه
يكون بطيئا.
وأضرب هذا المثل، وقد يكون أغلبنا مر به، وخصوصاً من تعرض للعلم وللامتحانات: هب
أنك طالب في امتحان، وبعد ذلك دق الجرس لتدخل مكان الأمتحان، ثم جاء زميل لك وقال
لك: القطعة الفلانية سيأتي منها سؤال، وأنت لم تكن قد ذاكرتها، هنا تخطف أي كتاب
وتقرؤها بإمعان، فهل وأنت في هذه الحالة تفكر في ماذا ستأكل على الغداء؟ أو تفكر
في من كان معك بالأمس؟ لا؛ لأن الوقت ضيق ولن يتركز فكرك إلا في هذه القطعة التي
تقرؤها ثم تدخل الامتحان فتجد سؤالاً في القطعة التي ذاكرتها من دقائق ولمدة قصيرة
فتضع الإجابة الصحيحة، وقد لا يعرفها مَن ذاكرها لمدة شهر؛ لأنه ذاكرها وباله
مشغول، أما أنت فتضع إجابة السؤال كما يجب لأنك ذاكرتها وليس في ذهنك غيرها؛ لأن
الوقت ضيق وكانت بؤرة شعورك محصورة فيها.
ومثال آخر: نجد تلميذاً من التلاميذ يشكو من عدم فهمه من أستاذه لكن هناك تلميذ
آخر يفهم، والتلميذ الذي لا يفهم هو من انصرف ذهنه عنه في أثناء الشرح في مسألة
بعيدة عن العلم الذي يدرسه، وعندما يجيء درس جديد، فهو يفاجأ بمعلومات لا بد أن
تستقر وتبني على معلومات سابقة كان ذهنه مشغولاً عنها، فلما شرح المدرس الدرس
الجديد، قال التلميذ الذي لا يفهم: ماذا يقول هذا المدرس؟. لكن التلميذ المنتبه له
والذي يربط المعلومات بعضها ببعض؛ يفهم ما يقوله المدرس، ولذلك فالأستاذ الجيد لا
بد أن يثير الانتباهات دائماً لطلابه، بمعنى أن يفاجئهم، يقول مثلاً كم جملة ثم
يقول للتلميذ: قم، ماذا قلت الآن؟ فيجلس كل تلميذ وَهو عُرضة أن يُسأل، فيخاف أن
يُحرجه الأستاذ، فينتبه للدرس ويجعل بؤرة شعوره مع المدرس دائماً.
فالحق سبحانه وتعالى بعدما تكلم عن النار وعن الجنة وجعل هذا الأمر مستقراً في
بؤرة شعورهم ينزل الأحكام بعد ذلك، ولذلك تجد دائماً بعد أن يذكر سبحانه الجنة
والنار يأتي بعدها بأمهات الأحكام التي إذا نفذوها نالوا الجنة وابتعدوا عن النار.
فبعدما شحنت بؤرة الشعور بالجنة والنار بالغاية المنفرة والغاية المرغبة، هنا يأتي
الحكم، فيقول الله تعالى: } إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ... {.
(/338)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)
وقوله سبحانه: { أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } ، أوجز الله فيها
كل تكاليف السماء لأهل الأرض، لأن الأمانات هي: الأمانة العليا وهي الإيمان بالله،
والأمانة التي تتعلق ببني الجنس، والأمانة التي على النفس لكل الأجناس.
ومعنى الأمانة هو: ما يكون لغيرك عندك من حقوق وأنت أمين عليها، إن شئت فعلتها،
وإن شئت لم تفعلها، أنت تقول: أنا أودعت عند فلان أمانة، هذه الأمانة لو كانت
بإيصال لما كانت أمانة؛ لأن هناك دليلاً، ولو كان ما أودعته عند ذلك الإنسان عليه
شهود لا تكون أمانة. فالأمانة: أن تودع عنده شيئاً، وضميره هو الحكم، إن شاء أقر
بما عنده لك حين تطلبه، وإن شاء لم يقر به، قال الحق:{ إِنَّا عَرَضْنَا
الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن
يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ
ظَلُوماً جَهُولاً }[الأحزاب: 72].
فما هي الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبت أن تحملها ثم حملها
الإنسان، وعلة تحمله لها أنه كان ظلوماً جهولاً؟ إن الكون كما نعلم فيه أجناس،
أدناها الجماد، وأوسطها النبات، وأعلى من الأوسط الحيوان ثم الإنسان، والإنسان هو
سيد هذه الأجناس، لأنها تخدمه جميعها، لكن الجماد والنبات والحيوان لا اختيار لأي
منها في أن يفعل أو لا يفعل، وإنما كل جنس منها قد خلق لشيء ليؤديه، ولا اختيار له
في أن يمتنع عن الأداء.
الأرض والسماوات والجبال لم تقبل أن تكون مختاره أو أن تحمل أمانة وتكون المسألة
فيها راجعة إلى اختيارها إن شاءت فعلت وإن شاءت لم تفعل. وأشفقت الأرض والسماوات
والجبال من حمل الأمانة لعدم الثقة بحالة النفس وقت أداء الأمانة. فيجوز أن يعقد
الكائن العزم عند تحمل الأمانة أن يؤديها، ولكن عند أدائها لا يملك نفسه، فربما
خانته نفسه وجعلته لا يقر بها. لقد احتاطت السماوات والأرض والجبال وقالوا: لا
نريد هذه الأمانة ولا نريد أن نكون مختارين بين أن نفعل أو نترك، نطيع أو نعصي،
وإنما يا رب نريد أن نكون مسخرين لما تحب دون اختيار لنا. فسلمت الأرض والسماوات
والجبال، لكن الإنسان بما فيه من فكر يرجع الاختيار بين البديلات قال: أنا أقبلها
وإن فكري سيخطط لأدائها. ولم يلتفت الإنسان ساعة تحمله الأمانة إلى حالة أدائه
لها.
ومثال ذلك: من الجائز أن يعرض عليك إنسان مبلغاً من المال كأمانة عندك، فأخذته
وأنت واثق أنك ستؤديه حين يطلبه منك، ولكنك ساعة الأداء قد لا تملك نفسك، فقد تمر
بك ظروف فتصرف شيئاً من المال، أو أن تكون - والعياذ بالله - قد خربت ذمتك.
إذن فالإنسان لا يملك نفسه وقت الأداء وإن ملك نفسه وقت الأخذ، فالذين يحتاطون
يقولون: أبعد عنا تحمل الأمانة، فلا نريد أن نحمل لك شيئاً ولكن الإنسان قبل تحمل
الأمانة؛ لأنه " كان ظلوما جهولا " ظلم نفسه وجهل بحالته وقت الأداء،
إذن فالأمانة التي عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وحملها
الإنسان هي أمانة الاختيار التي يترتب عليها التكليف من الله.
؟
إن التكليف محصور في " افعل " و " لا تفعل " ، فإن شئت فعلت
في " افعل " ، وإن شئت لم تفعل في " لا تفعل ". وإن شئت
العكس، ومعنى ذلك أن الأمانة في هذا المعنى مقصورة على ما طلبه الله من الإنسان
وقت العرض. لكنها لم تتعرض للأمانات التي توجد بيننا، والأمانة كذلك هي ما يتعلق
بذمتك بحق غيرك؛ لذلك فحين يعطي إنسان إنساناً شيئاً يصير الآخذ مؤتمناً فإن شاء
أدى وإن شاء لم يؤد.
لكن هناك أمانات أخرى لم يعطها إنسان لإنسان، وإنما أعطاها رب الإنسان لكل إنسان،
فالعلم الذي أعطاه الله للناس أمانة. فهل الذي علمك علماً وأعطاه لك وبعد ذلك قال
لك: أدّه لي، كمثل من يكون مأموناً على مال؟ نقول للعالم: العلم ليس من عندك حتى
تعطيه لغيرك وبعد ذلك يرده لك ولكن الله يجازيك عليه ثواباً وكذلك في الحلم
والشجاعة، ولا تتضح هذه المسائل بين العبد والعبد إلا في المال، لكن في بقية
الأشياء؛ نقول لك: أنت أمين عليها أمام خالقك، وقد أمنك ربنا على هذه الأشياء كي
تؤديها إلا من لا يعلم، فأمنك على قدرةٍ وأمرك: أعطها لمن لا يقدر، وأمنك على علم
وأوضح لك: أعطه لمن لا علم له..
إذن فمن الذي أعطاك هذه الأمانة؟ الله. فليس ضرورياً أن تكون الأمانة من صاحبها
الذي أعطاها لك لتردها إليه، فالأمانة: ما تصير مأموناً عليه مِمن خَلَقَ أو من
مخلوق، فأدها، والأمانة بهذا المعنى أمرها واسع، فاستحقاق الله للتوحيد أمانة
عندك، أهليتك للتكليف من الله حين كلفك أمانة عندك، وأهليتك في المواهب المختلفة
أمانة عندك، فكل إنسان عنده موهبة هو أمين عليها ولا بد أن يؤديها وينقل آثارها لم
لا توجد عنده هذه الموهبة. فربنا أعطى هذا الإنسان قوة عضل، وأعطى ذلك قوة فكر،
وأعطى ثالثاً قوة حلم، وأعطى رابعاً علماً. كل هذه الأشياء أمانات أودعها الله في
خلقه ليتكامل الخلق، فحين يؤدي كل إنسان أمانته لكل إنسان يصبح كل إنسان عنده
مواهب كل الآخرين.
والحق سبحانه وتعالى حينما يقول: } إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ
الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا { نتذكر على الفور قمة الأمانة أن تعبده ولا تشرك به
أحداً، والأمانة في التكاليف التي كلفك الله بها؛ لأنها أمانة لغيرك عندك، وأمانة
عندك لغيرك. فحين يكلفك الله بألا تسرق، يكون قد كلف الناس كلهم ألا يسرقوك.
إن كل أمانة عند غيرك تقابلها أمانة عندك، فإن أديت مطلوبات الأمانة عندك أدى
المجتمع الذي يحيط بك الأمانة التي عنده، وهكذا تكون الأمانة هي: أداء حق في ذمتك
لغيرك.
وقوله تعالى: } إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى
أَهْلِهَا { قيل نزلت في عثمان ابن طلحة ابن أبي طلحة وكان سادن - خادم - الكعبة
وحين دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح أغلق عثمان باب الكعبة وصعد
السطح، وأبى أن يدفع المفتاح إليه وقال لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه فلوى عليُّ
بن أبي طالب - رضي الله عنه - يده وأخذه منه وفتح ودخل رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - وصلى ركعتين، فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح ويجتمع له السقاية
والسِّدانة فنزلت هذه الآية فأمر أن يرده إلى عثمان - رضي الله عنه - ويعتذر له
فقال عثمان لعلي: أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق، فقال لقد أنزل الله فيك قرآنا وقرأ
عليه الآية فأسلم عثمان وهبط جبريل وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
السِّدانة في أولاد عثمان أبداً.
وهذا يقابل الأمانة شيء بعد ذلك اسمه العدل، فلو أدى كل واحد ما لغيره عنده من حق
لما احتجنا إلى عدل، فالعدل إنما ينشأ من خصومة وتقاضٍ، والتقاضي معناه: أن واحداً
أنكر حق غيره. فلو أدى كل واحد منا ما في ذمته من حق لغيره لما وجد تقاضٍ، ولما
وجدت خصومة فلا ضرورة إلى العدل حينئذٍ.
ولكن الحق الذي خلق الخلق وعلم الأغيار فيهم قدر أن بعض الناس يغفل عن هذه القضية
وينشأ منها أن الإنسان قد لا يعطي الحق الذي في ذمته لغيره، فقضي سبحانه بشيء آخر
اسمه " العدل ". ولو أن المسألة الأولى انتهت لما احتجنا للعدل.
إذن فالعدل هو علاج للغفلة التي تصيب البشر من الأغيار التي تطرأ على نفوسهم، فشاء
الله أن يقول: } وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ
{ ، في الأولى لم يقل: إذا أئمنتم فأدوا، لا. بل قال: } إِنَّ اللَّهَ
يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ {. فإذا حدثت منكم غفلة عن هذه فما الذي يحمي هذه
المسألة؟ هنا يأتي العدل وهو أن تقضي بحق في ذمة غيرك لغيره، أي ليس في ذمتك أنت؛
لأنك تحكم كي ترجح مسألة وتضع الأمر في نصابه.
وبذلك نعرف أن مطلوبات أداء الأمانة تكون في شيء عندك تؤدية لغيرك، لكن مطلوبات
العدل: تكون في أشياء في ذمة غيرك لغيرك. ولذلك قال الحق: } وَإِذَا حَكَمْتُمْ
بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ { ، وكما أن آية أداء الأمانة عامة،
كان لا بد أن تكون آية العدل عامة أيضاً.
إن قوله تعالى: } وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ
{ ليست خاصة للحاكم فقط، بل إنّ كل إنسان مطالب بالعدل، فلو كنت مُحَكَّماً من طرف
قوم ورضوا بك أن تحكم فاحكم بالعدل حتى ولو كان الحكم في الأمور التي يتعلق بها
التكريم والشرف والموهبة؛ فليس ضرورياً أن يكون الحكم بالعدل في أمر له قيمة
مادية، مثلاً: سيدنا الإمام علي - رضوان الله عليه وكرم الله وجهه - يرى غلامين
يتحاكمان إلى ابنه الحسن؛ ليحكم بينهما أي الخطين أجمل من الآخر، وهذه المسألة قد
ينظر لها الناس على أنها مسألة تافهة لكنها ما دامت شغلت الطفلين وأراد كل واحد
منهما أن يكون خطه أجمل، فلا بد أن يكون الحكم بالعدل. فقال الإمام على لابنه
الحسن: يا بني انظر كيف تقضي، فإن هذا حكم والله سائلك عنه يوم القيامة.
إن هذا يعطينا صورة في دقة العدل حتى ولو كان الأمر صغيراً. وفي مباريات كرة القدم
تجد الحكم الذي يقول هذه اللعبة تحتسب هدفاً أو لا تحتسب، هذا الحكم يحتاج إلى
مهارة لأنه سيترتب عليها فوز فريق أو هزيمته، بدليل أنك حتى وأنت تراقب الكرة ثم
وجدت الحكم لم يحتسب خطأ تثور عليه.
وهنا أتساءل: لماذا طبقتم قانون الجد في اللعب، ثم تركتم الجد بدون قانون؟ وهذا ما
يحدث. نحن ننقل قوانين الجد إلى اللعب، ونترك الجد في بعض الأحيان بدون قانون، ولو
اعتنينا بهذه كما اعتنينا بتلك. لتساوت الأمور، فالعدل إذن هو حق في ذمة غير لغير
حتى ولو كانت مباراة في اللعب، وما دام الأمر قد شغل طرفين، وجعل بينهما نزاعاً
وخلافا وتسابقاً فعليك أن تنهي هذا الخلاف بالعدل.
ويتابع الحق: } إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ { و " نعما "
يعني نعم ما يعظكم به الله، أي لا يوجد أفضل من هذه العظة التي هي: أداء الأمانة
والحكم بالعدل، فبهذا تستقيم حركة الحياة. فإذا أدى الناس الأمانة فلا نزاع ولا
خلاف، وإذا أدوا عدالة الحكم فإن كان هناك خلاف ينتهي. وقال العلماء: إذا علم
المجتمع أن عدلا يحرس حقوق الناس عند الناس فلن يجرّيء ذلك ظالماً على أن يظلم بعد
ذلك، فيقول الظالم: فلان ظلم ولم يحاكم، فيغري ذلك الظالم أن يزيد في ظلمه، لكن ساعة
يرى الناس أحداً يأخذ حق غيره ثم جاء الحاكم فردعه، ورد الحق لصاحبه فلن يظلم أحد
أحداً.
وسبحانه في أمره هذا لا حاجة له في أن تفعلوا أو لا تفعلوا، فهي أشياء لا تؤثر
عنده في شيء، إنما هي في مصالحكم أنتم بعضكم مع بعض، وأحسن ألوان الأمر هو ما لا
يعود على الآمر بفائدة، لأن الأمر إذا ما كان فيه عود بالفائدة على الآمر قد يشكك
في الأمر.
لكن أن تأمر بأمر ليس لك فيه فائدة فهذا قمة العدل. وقد يوجد إنسان يأمر بما لا
فائدة له فيه، لكنه قد لا يكون واسع العلم ولا واسع الحكمة، والأمر هنا يختلف لأن
الله سبحانه وتعالى ليس له مصلحة في الأمر، هذه واحدة، وأيضاً فهو - سبحانه - واسع
العلم والحكمة؛ لذلك كانت هذه العظة مقبولة جداً، وهي نعمة من الله وأما ما عداها
فبئست العظة؛ لأن الله لا ينتفع بأمره هذا وهو مأمون على العباد جميعاً، والثانية:
أنه قد يوجد غير لا ينتفع بالأمر ولكنه قاصر العلم وقاصر الحكمة فلا نعمت العظة
منه، فقوله: } إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا { يعني: نعم ما يعظكم به الله أن تؤدوا
الأمانات إلى أهلها، وأن تحكموا بالعدل.
ونلحظ الأداء البياني في القرآن في قوله: " تؤدوا " هذه للجماعة، وهذا
يعني أن كل واحد مطالب بهذا الحكم أولا، } وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن
تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ { ، فيكون كل واحد مطالباً بالحكم أيضاً، كأن مهمتكم
الأمانية ليست مقصورة على أن تصونوا حقوقكم بينكم وبين أنفسكم، لا، فأنتم مكلفون
بأن تصونوا الحقوق بين الناس والناس ولو لم يكونوا مؤمنين.
إن قوله: } وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ {. يُفهم منها أيضاً حماية حقوق من
آمن بالإسلام ومن لم يؤمن بدين الإسلام؛ لأن الحق جل وعلا يريد منا أن نؤدي
الأمانة إلى " أهلها " ، ولم يقل " أهلها " المؤمنين أو
الكافرين.
إن كلمة " الناس " هذه تدل على عدالة الأمر من إله هو رب للجميع،
فسبحانه هو الذي استدعى الإنسان للدنيا، والإنسن منه مؤمن ومنه كافر. لكن أحداً لا
يخرج عن نطاق الربوبية لله، فربنا يُربُّ ويرعى كل إنسان - مؤمناً كان أو كافراً -
هو يرزق الجميع ولذلك أمر الكون: يا كون أعط من فَعَلَ الأسبابَ الغاية من المسببات
إن كان مؤمناً أو كافراً. وهذا هو عطاء الربوبية، إنه - سبحانه - رزق الإنسان وسخر
الأشياء له، فهو لم يسخر الكون للمؤمن فقط وإنما سخره للمؤمن وللكافر، فكذلك طلب
منا أن نؤدي الأمانة للمؤن والكافر، وطلب منا أن نعدل بين المؤمن والكافر.
ولنا في الرسول صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة، فقد حدث أن " طعمة ابن
أُبيرق " أحد بني ظُفر سرق درعا من جارٍ له اسمه " قتادة بن النعمان
" ، في جراب دقيق والاثنان مسلمان، إلا أن منافذ الحق لمرتكب الجريمة ضيقة
مهما ظن اتساعها، مثلما نقول: " الجريمة لا تفيد " ، فوضع الدرع المسروقة
في جراب كان فيه دقيق، فجعل الدقيق ينتثر من خرق في الجراب وهو يسير من بيت قتادة
بن النعمان وخبأ الدرع عند يهودي اسمه " زيد بن السمين " ، فلما فطن
قتادة بن النعمان لضياع الدرع قال: سرق الدرع.
سرق الدرع. فتتبعوا الأثر فوجدوه إلى بيت طعمة ابن أبيرق، فحلف ما أخذها وما له
بها علم فتركوه. فتتبعوا الأثر ثانية فوجدوا الدرع عند اليهودي " زيد بن
السمين " فقال اليهودي دفعها إلى طعمة وشهد له ناس من اليهود، ورفع الأمر إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء بنو ظفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فسألوه أن يجادل عن صاحبهم وقالوا: إن لم تفعل هلك صاحبنا وافتضح وبريء اليهودي
فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل وأن يعاقب اليهودي فأنزل الله عليه حكمه
الفصل:{ إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ
النَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً *
وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً * وَلاَ تُجَادِلْ
عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ
خَوَّاناً أَثِيماً }[النساء: 105-107].
أي لا تكن يا محمد مدافعاً عن الخائنين واستغفر الله إن كان هذا الخاطر قد جال
برأسك بأن ترفع رأس مسلم على يهودي؛ لأن الحق أولى من المسلم؛ فما دام هو قبل أن
يخون فلا تجادل عنه، ولماذا طلب بنو ظفر التغاضي عن جريمة مسلم وإلصاقها بيهودي؟
أيستخفون من الناس ولا يستخفون من الله؟ وافرض أن هذه برأتهم عند الناس. أتبرئهم
عند الله؟ ويقول في آية أخرى:{ هَا أَنْتُمْ هَـاؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
}[النساء: 109].
إذن فقول الحق سبحانه وتعالى: } وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن
تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ { لا بد أن نأخذه على أنه مطلب تكليفي من الله للمسلمين
حتى يشيع في كل الناس ولا يخص المؤمنين يتعاملون به فيما بينهم، وإنما يشمل أيضا
ما بين المؤمنين والكافرين، وما بين الكافرين بعضهم مع بعض إن ارتضوا حكم رسول
الله.
} إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً
{ وحين ترون تذييل آية بصفتين من صفات الحق أو باسمين من أسماء الحق، فلا بد أن
تعلموا أن بين الصفتين أو بين الاسمين وبين متعلق الآية علاقة، وهنا يعلمنا الحق
أنه سميع وبصير. بعد أداء الأمانة، والحكم بالعدل بين الناس، لأن الرسول شرح ذلك
حين أمر من يقضي بين الناس أن يسوي بين الخصمين في لحظى ولفظه أي لا ينظر لواحد
دون الثاني، ولا يكرم واحداً دون الآخر، فيسوي بين الاثنين وما دام سيسوي بين
الاثنين، فلا بدْ أن تكون النظرة واحدة، والألفاظ واحدة.
روى أن يهوديا خاصم سيدنا عليا بن أبي طالب كرم الله وجهه إلى أمير المؤمنين عمر
بن الخطاب رضي الله عنه، فنادى أمير المؤمنين عليا فقال: " قف يا أبا الحسن
" فبدا الغضب على عليّ رضي الله عنه، فقال له عمر: " أكرهت أن نسوي بينك
وبين خصمك في مجلس القضاء؟ فقال علي رضي الله عنه: " لا.
لكني كرهتُ منك أن عظمتني في الخطاب فناديتني بكنيتي ولم تصنع مع خصمي اليهودي ما
صنعت معي ".
إذن فحين يقول عمر رضي الله عنه لأبي موسى الأشعري: " آسِ بين الناس في مجلسك
ووجهك ".
فلا بد أن يقوم بتلك التسوية كل حاكم أو محكم بين خصمين فلا يميز ولا يرفع خصما
على خصمه.
و " اللحظ " عمل العين. وهذا يحتاج إلى بصير، واللفظ يحتاج إلى أذن
تسمع، أي إلى سميع، فقال: } إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً {. لماذا قدم
سبحانه هنا سميعاً على بصير؟ لأن ما يُسمع فيه تعبير واضح. أما النظرة فلا يعرفها
إلا من يلاحظ أنه ينظر بحنان وإكبار، وهل وجدت له سبحانه صفة السمع بعد أن وجد ما
يسمعه، وهل وجدت له صفة البصر بعد أن وجد ما يبصره؟ أو أن صفة السمع أزلية قديمة
قبل أن يخلق خلقاً يسمع منه، وأن صفة البصر أزلية قديمة قبل أن يخلق خلقاً ليبصر
أفعالهم؟ إنه سبحانه قديم أزلاً، موجود قبل كل موجود. وصفاته قديمة بقدمه.
إذن ففيه فرق بين أن تقول: سميع وبصير، وسامع ومبصر، فأنت تكون سامعاً إذا وجد
بالفعل من يٌسْمع، إذن فما معنى كلمة " سميع "؟ أن يكون المدرِك على صفة
يجب أن تدرك المسموع إن وجد المسموع وإن لم يوجد المسموع فهو ليس سامعاً فقط، إنما
هو سميع، وكذلك بصير.
وأضرب المثل - ولله المثل الأعلى، وهو منزه عن كل تشبيه - الشاعر الذي يقول
القصيدة، إنه قبلما يقول القصيدة كان شاعراً في ذاته وقال القصيدة بوجود ملكه
الشعر في ذاته. والحق سبحانه وتعالى " غفَّار " قبل أن يخلق الخلق، أي
أنه على صفة تدرك الأمر إن وجد.. وهو غفار قبل أن يوجد الخلق ويرتكبوا ما يغفره،
وهو " سميع بصير " أزلاً. أي قبل أن يخلق الخلق الذين سينشأ منهم ما
يٌُبْصر وينشأ منهم ما يُسْمع.
ويقول الحق بعد ذلك: } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ... {
(/339)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)
هذه الآية كثر كلامنا فيها، وفي كل مناسبة من المناسبات جاء الكلام عنها، ولكن
علينا أيضاً أن نعيد بشيء من الإيجاز ما سبق أن قلناه فيها، الله سبحانه وتعالى
يقول: { أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ } ، ولماذا أطيع الله وأطيع
الرسول؟ لأن فيه الحيثيات المقدمة، فأنت عندما ترى حكما من القاضي تجد أن هناك
حيثيات الحكم أي التبرير القانوني للعقوبة أو للبراءة؛ فيقول القاضي: بما أنه حدث
كذا فقانونه كذا حسب المادة كذا. هذه هي الحيثيات. و " الحيثيات "
مأخوذة من: حيث إنه حدث كذا فحكمنا بكذا. أو حيث إنه لم يحدث كذا فحكمنا بكذا، إذن
فحيثيات الحكم معناها: التبريرات التي تدل على سند الحكم لمن حكم.
هنا يقول سبحانه: { أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ }. وهل الحق
سبحانه وتعالى قال: يا أيها الناس أطيعوا الله وأطيعوا الرسول؟ لا. لم يقل ذلك،
لقد قال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ }. إذن فما دمت قد آمنت بالله إلهاً
حكيماً خالقاً عالماً مكلِّفاً فاسمع ما يريد أن يقوله لك، فلم يكلف الله مطلق
أناس بأن يطيعوه، إنما دعا مطلق الناس أن يؤمنوا به. ومن يؤمن يقول له: أطعني ما
دمت قد آمنت بي.
إذن فحيثية الطاعة لله صلى الله عليه وسلم نشأت من الإيمان بالله وبالرسول. وهذه
عدالة كاملة؛ لأنه سبحانه لا يكلف واحداً أن يفعل فعلاً إلا إذا كان قد آمن به -
سبحانه - مكلِّفاً، آمن به أمراً، أما الذي لا يؤمن به فهو لا يقول له: افعل كذا
ولا تفعل كذا، إنه سبحانه يطالبه أن يؤمن به أولاً، فإذا ما آمن به يقول له: استمع
إلى، ولذلك تجد كل تكليف يصدر بقوله سبحانه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ }.
إن حيثية إطاعة الله وإطاعة الرسول هي: الإيمان به، هذه هي الحيثية الإيمانية
الأولى، أما إن جال ذهنك لتدرك سر الطاعة، فهذا موضوع آخر، ولذلك أوضح: إياكم أن
تقبلوا على أحكام الله بالبحث فيها أولا فإن اقتنعتم بها أخذتموها وإن لم تقتنعوا
بها تركتموها، لا. إن مثل هذا التصرف معناه أنك شككت في الحكم. بل عليك أن تقبل
على تنفيذ أحكامه؛ لأنه سبحانه قالها وأنت مؤمن بأنه إله حكيم. لكن هل ذلك يمنع
عقلك من أن يجول ليقهم الحكمة؟
نقول لك: أنت قد تفهم بعض الحكمة، ولكن ليست كل الحكمة؛ لأن كمالات حكمة الله لا
تتناهى، فقد تعرف جزءاً من الحكمة وغيرك يعرف جزءاً آخر، ولذلك قالوا: إن الفرق
بين أمر البشر للبشر، وأمر الله للمؤمنين به شيء يسير جداً هو: أمر الله للبشر
تسبقه العلة وهي أنك آمنت به، أما أمر البشر للبشر فأنت تقول لمن يأمرك: أقنعني
لماذا أفعل هذه؟؛ لأن عقلك ليس أرقى من عقلي.
فأنت لا تصنع شيئا إلا إذا اقتنعت به. وتكون التجارب قد أثبتت لك أصالة رأى من
تستمع له وأنه لن يغشك.
وهكذا نرى أن طاعتنا لله تختلف عن طاعتنا للمخلوق؛ فنحن نطيع الله لأننا آمنا به
وحينما يطلب سبحانه منا أن نطيعه، ننظر هل هذه الطاعة لصالحنا أو لصالحه؟ فإذا
وثقنا أنه بكل صفات الكمال الموجودة له خلقنا؛ إذن فسبحانه لا يريد صفة جديدة تكون
له؛ لأنه لم يخلقنا إلا بصفات الكمال فيه، وسبحانه قد خلقك دون أن يكون لك حق
الخلق عنده، خلقك بقدرته، وأمدك لاستبقاء حياتك بقيوميته، فحين يطلب منك الإله
الذي يتصف بتلك الكمالات شيئا فهو يطلبه لصالحك، كما ترى أي إنسان من البشر - ولله
المثل الأعلى - يُعني بصنعته ويحب أن تكون صنعته متميزة، فكذلك الحق سبحانه وتعالى
يريد أن يباهي بهذا الخلق. ويباهي بهذا الخلق ليس بالإكراه على أن يفعلوا ما يأمر
به بالتسخير لا. بل بالمحبوبية لأمر الله وأن نعلن بسلوكنا. نحن نحبك يا ربنا.
وإلا فأنت - أيها الإنسان - قد تختار أن تكون عاصيا. وما دمت مخيرا أن تكون عاصياً
ثم أطعت، فهذه تثبت لله صفة المحبوبية لأنه؛ - كما تعرف - هناك فرق بين من يقهر
بقدرته ومن يعطيك الاختيار حتى تأتيه وأنت محب، على الرغم من أنه قادر على أن
يقهرك.
فساعة قال الحق: } أَطِيعُواْ اللَّهَ { معناها: أنه لم يطلب منا شططاً، وكيف نطيع
الله؟ أن نطيعه في كل أمر، وهل أَمَرَ اللهُ خَلْقَه منفردين؟. لا، بل أمرهم
كأفراد وكجماعة، وأعطاهم الإيمان الفطري الذي يثبت أن وراء الكون قوة أخرى خلقته.
وهذه القوة لا يعرف أحد اسمها، ولا مطلوباتها، أو ماذا ستعطي لمن يطيعها؛ إذن فلا
بد أن يوجد مُبلِّغ. ولذلك فأنا أرى أن بعض الفلاسفة قد جانبوا الصواب عندما
قالوا: إن العقل كاف في إدراك الدين، وأقول لهم: لا. العقل كاف في إدراك من ندين
له، ولكن العقل لا يأتي لنا بكيفية الدين ومنهجه.
لذلك لا بد من بلاغ عنه يقول: افعلوا كذا وكذا وكذا، نقول لهؤلاء الفلاسفة: إن
العقل كافٍ في استنباط وجود قوة وراء هذا الكون، أما شكل هذه القوة، واسمها وماذا
تريد؛ فلا أحد يعرف ذلك إلا أن يوجد مبلِّغ عن هذه القوة، ولا بد أن تكون القوة
التي آمنت بها بفطرتك قد أرسلت من يقول: اسمه كذا، ومطلوبه كذا، إذن فقوله: }
أَطِيعُواْ اللَّهَ { يلزم منها إطاعة الرسول.
وبعد ذلك قال: } وَأُوْلِي الأَمْرِ { هنا لم يتكرر لهم الفعل، فلم يقل: وأطيعوا
أولي الأمر لنفهم أن أولي الأمر لا طاعة لهم إلا من باطن الطاعتين: طاعة الله
وطاعة الرسول، ونعلم أن الطاعة تأتي في أساليب القرآن بثلاثة أساليب " أطيعوا
الله وأطيعوا الرسول " و " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول " ، وأطيعوا
الرسول فقط.
إذن فثلاثة أساليب من الطاعة.
الأسلوب الأول: أطيعوا الله والرسول؛ فأمر الطاعة واحد والمطاع هو الله والرسول.
والأسلوب الثاني: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول.
والأسلوب الثالث: أطيعوا الرسول، نعم. فالتكليفات يأمر بها الحق سبحانه وتتأكد
بحديث من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو فعله أو تقريره، وهنا تكون الطاعة
في الأمر لله وللرسول، أو أن الحق قد أمر إجمالاً والرسول عين تفصيلاً؛ فقد أطعنا
الله في الإجمال وأطعنا الرسول في التفصيل فتكون الطاعة لله، وتكون الطاعة للرسول،
أو إن كان هناك أمر لم يتكلم فيه الله وتكلم الرسول فقط. ويثبت ذلك بقول الحق:{
مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ }[النساء: 80].
وقوله تعالى:{ وَمَآ آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ
فَانتَهُواْ }[الحشر: 7].
إذن فهذه تثبت أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة ملاحظ في التشريع: ملحظ
يشرع فيه ما شرع الله تأكيداً له أو أن الله قد شرع إجمالاً، والرسول عين تفصيلا.
والأمثلة على ذلك: أن الله فرض علينا خمس صلوات، وفرض علينا الزكاة، وهذه تكليفات
قالها ربنا؛ والرسول يوضحها: النصاب كذا، والسهم كذا، إذن فنحن نطيع ربنا في الأمر
إجمالاً، ونطيع الرسول في الأمر التفصيلي، أو أنّ الأمر لم يتكلم فيه الله حكماً،
وإنما جاء من الرسول بتفويض من الله، ولذلك فإن قال لك أي إنسان عن أي حكم من
الأحكام: هات دليله من القرآن ولم تجد دليلاً من القرآن فقل له: دليل أي أمر قال
به الرسول من القرآن هو قول الحق:{ وَمَآ آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا
نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ }[الحشر: 7].
هذا دليل كل أمر تكليفي صدر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقد يقول قائل: هناك
فارق بين الأمر الثابت بالسنة والفرض. نقول: لا تخلط بين السنة وهي الأمر الذي إن
فعلته تثاب وإن لم تفعله لا تعاقب، والفرض الذي يجب على المكلفَّ أن يفعله، فإن
تركه أثم وعوقب على الترك، وهذا الفرض جاء به الحق وأثبته بالدليل كالصلوات الخمس
وعدد الركعات في كل صلاة، فالدليل في الفرض هنا ثبت بالسنة وهذا ما يسمى سنية
الدليل؛ وهناك فرق بين سنية الحكم كأن يصلي المسلم قبل الظهر ركعتين وقبل الصبح
ركعتين وفرضية الحكم كصلاة الصبح والظهر.. إذن ففيه فرق بين الشيء الذي إن فعلته
تثاب عليه وإن لم تفعله لا تعاقب عليه والشيء الذي يفرض عليك أداؤه، فإن تركته
أثمت وعوقبت، وأما سنية الدليل فهي شرح ما جاءت به الفروض شرحاً تطبيقياً ليتبعه
المسلمون.
أما الأمر بطاعة أولى الأمر فقد جاءت بالعطف على المطاع دون أمر بالطاعة، مما يدل
على أن طاعة وليّ الأمر ملزمه إن كانت من باطن طاعة الله وطاعة رسوله، وفي ذلك
عصمة للمجتمع الإيماني من الحكام المتسلطين الذين يحاولون أن يستذلوا الناس بقول
الله: } وَأُوْلِي الأَمْرِ { ويدعون أن طاعتهم واجبة، يقول الواحد منهم: ألست ولي
أمر؟. فيرد العلماء: نعم أنت ولي أمر ولكنك معطوف على المطاع ولم يتكرر لك أمر
الطاعة، فدلّ ذلك على أن طاعتك واجبة إن كانت من باطن الطاعتين. فإن لم تكن من
باطن الطاعتين فلا طاعة لك، لأن القاعدة هي " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق
" ، هكذا قال أبو حازم لمسلمة بن عبد الملك حينما قال له: ألسنا ولاة الأمر
وقد قال الله: } وَأُوْلِي الأَمْرِ {. قال: ويجب أن نفطن أيضاً إلى أنها نزعت في
قوله سبحانه: } فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ
وَالرَّسُولِ {. إذن فالحاكم المسلم مطالب أولاً بأداء الأمانة، ومطالب بالعدل،
ومطالب أيضاً أن تكون طاعته من باطن طاعة الله وطاعة رسوله. فإن لم تكن فيه هذه
الشروط، فهو حاكم متسلط.
} فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ { إذن
فالتنازع لا بد من أن يكون في قضية داخلة في نطاق مأمورات الطاعة، ويجب أن يكون
لها مردّ ينهى هذا التنازع } فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ {.
والذين يعرفون هذه الأحكام هم العلماء، فإن تنازع المحكوم مع الحاكم نذهب إلى
العلماء ليبينوا لنا حكم الله في هذه المسألة، إذن فإن أريد بـ " أولي الأمر
" الحاكم، نقول له: } فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ { أي على الحاكم
أن يتبع ما ثبت عن الله والرسول، والحجة في ذلك هم العلماء المشتغلون بهذا الأمر،
وهم الملاحظون لتنفيذ حكم الله بما يعرفونه عن الدين. والحق سبحانه وتعالى حين
يطلب منا ذلك، يريد أن ينهي مسألة التنازع، لأن التنازع يجعل حركات الحياة
متضاربة، هذا يقول بكذا وذلك يقول بكذا، فلا بد أن نرده إلى مردّ أعلى، والحق
يقول:{ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىا أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ
لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ }[النساء: 83].
إذن فقد يكون المراد بأولى الأمر " العلماء ".
نقولك إن الآية الأولى عامة وهي التي جاءت بها طاعة ولي الأمر ضمن طاعة الله
والرسول، والثانية التي تخص الاستنباط يكون المقصود بأولى الأمر هم العلماء.
و أولوا الأمر في القضية الأولى التي عندما نتنازع معهم في أمر نرده إلى الله
والرسول هم الذين يشرفون على تفنيذ أحكام الله، وهذه سلطة تنفيذية، أما سلطة
العلماء فهي تشريعية إيمانية.
} فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ { إذن فالذي لا يفعل ذلك يجازف بأن يدخل في دائرة من لا يؤمن
بالله واليوم الآخر، ونقول لكل منهم: راجع إيمانك بالله واليوم الآخر - ابتداءً في
تلقي الحكم، وإيمانا باليوم الآخر - لتلقي الجزاء على مخالفة الحكم، فالحق لم يجعل
الدنيا دار الجزاء.
وينبهنا الحق في ختام الآية: } ذالِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً { أي في ذلك
خير للحكام وللمحكومين معاً؛ لأن الخير هو أن يقدر الإنسان ما ينفعه في الدنيا
والآخرة، وكل شهوة من الشهوات إن قدَّرت نفعها فلن تنفعك سوى لحظة ثم يأتي منها
الشر.
والتأويل هو: أن تُرْجع الأمر إلى حكمه الحقيقي، من " آل " يئول إذا رجع
} وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً { تعني أحسن مَرْجعاً وأحمد مغبة وأجمل عاقبة؛ لأنك إن
حرصت بما تريد على مصالح دنياك، فما ترجع إليه سيكون فيه شر لك. إذن فالأحسن لك أن
تفعل ما يجعلك من أهل الجنة، أو " وأحسن تأويلا " في الاستنباط، لأن
العلماء سيأخذونه من منطلق مفهوم قول الله وقول الرسول، وأنت ستأخذها بهواك، وفهمك
عن الله يمنعك من الشطط ومن الخطأ.
فإن كنتم تريدون الخير فلاحظوا الخير في كل أحيانه وأوقاته، ولا ينظر الإنسان إلى
الخير ساعة يؤدي له ما في هواه، ولكن لينظر إلى الخير الذي لا يأتي بعده شر. وإذا
ما نظرنا تاريخ الكثير من الحكام ووجدناهم قد أمنوا على انتقادهم في حياتهم بما
فرضوه من القهر والبطش، فلما ماتوا ظهرت العيوب، وظهرت الحملات، إن الواجب على من
يحكم أن يعتبر بما سمع عمن حكم قبله. فالذي حكم قبله كمم الأفواه وكسر الأقلام،
وبعدما انتهى، طالت الألسنة وكتبت الأقلام، فيجب أن نحسن التأويل وأن ننظر إلى
المرجع النهائي، فمن استطاع أن يحمي نفسه في حياته بسطوته وجبروته لا يستطيع أن
يحمي تاريخه وسمعته. إنه بعد أن انتهت السطوة والجبروت قيل فيه ما قيل، ونحن
مازلنا في الدنيا ولم نذهب إلى الآخرة بعد؛ فإذا كان هذا هو جزاء الخلق. فما شكل
جزاء الحق إذن؟!
} ذالِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً { أي مرجعاً وعاقبة.
ويقول الحق بعد ذلك: } أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ... {.
(/340)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60)
نعرف أن { أَلَمْ تَرَ } ألم تعلم، إن كان المعلوم قد سبق الحديث عنه، أو إن كان
المعلوم ظاهراً حادثاً بحيث تراه، ونعرف أن الحق عبّر بـ { أَلَمْ تَرَ } في كثير
من القضايا التي لم يدركها المخاطب وهو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ليدلنا على أن ما يقوله الله - وإن كان خبراً عما مضى - يجب أن تؤمن به إيمانك
بالمرئى لك الآن، لأن الله أوثق في الصدق من عينك؛ فعينك قد تخدعك، لكن حاشا أن
يخدعنا الله.
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ
إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } والمراد هم المنافقون وبعض من أهل الكتاب
الذين زعموا الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم. " والزعم ": مطية
الكذب، فهم { يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ } وهو
القرآن؛ { وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } ، وهو التوراة والإنجيل و { يُرِيدُونَ }
بعد ادعاء الإيمان؛ { أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ } ، والتحاكم إلى شيء
هو: الاستغاثة أو اللجوء إلى ذلك الشيء لينهي قضية الخلاف. فعندما نقول: "
تحاكمنا إلى فلان " ، فمعنى قولنا هذا: أننا سئمنا من آثار الخلاف من شحناء
وبغضاء، ونريد أن نتفق إلى أن نتحاكم، ولا يتفق الخصمان أن يتحاكما إلى شيء إلا
إذا كان الطرفان قد أجهدهما الخصام، فهما مختلفان على قضية، وأصاب التعب كُلاًّ
منهما.
{ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ }. " الطاغوت " -
كما عرفنا - هو الشخص الذي تزيده الطاعة طغياناً، فهناك طاغٍ أي ظالم، ولما رأى
الناس تخافه استمرأ واستساغ الظلم مصداقاً لقول الحق:{ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ
فَأَطَاعُوهُ }[الزخرف: 54].
وهذا اسمه " طاغوت " مبالغة في الطغيان. والطاغوت يطلق على المعتدى
الكثير الطغيان سواء أكان أناساً يُعبدون من دون الله ولهم، تشريعات ويأمرون
وينهون، أم كان الشيطان الذي يُغري الناس، أم كان حاكماً جبّاراً يخاف الناس شرّه،
وأي مظهر من تلك المظاهر يعتبر طاغوتاً. وقالوا: لفظ الطاغوت يستوي فيه الواحد
والمثنى والجمع فتقول رجل طاغوت، ورحلان طاغوت، ورجال طاغوت، يأتي للجمع كقوله
الحق:{ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى
النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ }[البقرة: 257].
ويأتي للمفرد كقوله الحق:
{ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ } [النساء: 60].
إذن فمرة يأتي للجمع ومرة يأتي للمفرد، وفي كل حكم قرآني قد نجا سبباً مخصوصاً نزل
من أجله الحكم، فلا يصح أن نقول: إن حكماً نزل لقضية معينة ولا يُعدَّى إلى غيرها،
هو يُعدَّي إلى غيرها إذا اشترك معها في الأسباب والظروف، فالعبرة بعموم الموضوع
لا بخصوص السبب.
لقد نزلت هذه الآية في قضية منافق اسمه " بشر ".
حدث خلاف بينه وبين يهودي، وأراد اليهودي أن يتحاكم إلى رسول الله، وأراد المنافق
أن يتحاكم إلى " كعب بن الأشرف " ، وكان اليهودي واثقاً أن الحق له ولم
يطلب التحاكم إلى النبي حباً فيه، بل حباُ في عدله، ولذلك آثر مَن يعدل، فطلب حكم
رسول الله، أما المنافق الذي يعلن إسلامه ويبطن ويخفي كفره فهو الذي قال: نذهب إلى
كعب بن الأشرف الطاغوت، وهذه تعطينا حيثية لصدق رسول الله في البلاغ عن الله في
قوله: } وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ {.
وكون اليهودي يريد أن يتحاكم إلى رسول الله، فهذه تدل على ثقته في أن رسول الله لن
يضيع عنده الحق، ولم يطلب التحاكم إلى كبير من كبراء اليهود مثل " كعب بن
الأشرف " لأنه يعرف أنه يرتشي.
ويختم الحق الآية: } وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً {
فهما حين يتحاكمان إلى الطاغوت وهو " كعب بن الأشرف "؛ وبعد ذلك يقضي
لمن ليس له حق، سيغري مثل هذا الحكم كل من له رغبة في الظلم أن يظلم، ويذهب له
ليتحاكم إليه! فالضلال البعيد جاء هنا لأن الظلم سيتسلسل، فيكون على القاضي غير
العادل وزر كل قضية يُحكم فيها بالباطل، هذا هو معنى } ضَلاَلاً بَعِيداً { ، وليت
الضلال يقتصر عليهم، ولكن الضلال سيكون ممتداً.
ويقول الحق بعد ذلك: } وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىا مَآ أَنزَلَ... {.
(/341)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)
وعندما نسمع قول الحق: { تَعَالَوْاْ } ، فهذا يعني نداء بمعنى: اقبلوا، ولكن كلمة
" أقبلوا " تعني الإقبال على المساوي لك، أما كلمة: " تعالوا
" فهي تعني الإقبال على الأعلى. فكأن لقضايا البشر تشريعاً هابطاً؛ لأنه من
صناعة العقل البشري، وصناعة العقل البشري في قوانين صيانة المجتمعات - على فرض
أننا أثبتنا حسن نياتهم وإخلاصهم - تكون على قدر مستوياتهم في الاستنباط واستقراء
الأحداث.
لكن التشريع حينما يأتي من الله يكون عالياً؛ لأنه - سبحانه - لا تغيب عنه جزئية
مهما صغرت، لكن التقنين البشري يوضع لحالة راهنة وتأتي أحداث بعدها تستوجب تعديله،
وتعديل القانون معناه أن الأحداث قد أثبتت قصور القانون وأنه قانون غير مستوعب
للجديد، وهذا ناشيء من أن أحداثاً جدّت لم تكن في بال من قنّن لصيانة المجتمع،
وكان ذهن مشرع القانون الوضعي قاصراً عنها، كما أن تعديل أي قانون لا يحدث إلا بعد
أن يرى المشرع الآثار الضارة في المجتمع، تلك الآثار التي نشأت من قانونه الأول،
وضغطت أحداث الحياة ضغطاً كبيراً ليعدّلوا في الأحكام والقوانين.
أما تشريع الله فهو يحمي المجتمع من أن تقع هذه الأحداث من البداية، هذا هو الفارق
بين تشريع وضعي بشري جاء لينقذنا من الأحداث، وتشريع رباني إلهي يقينا من تلك
الأحداث. فالتشريع البشري كمثل الطب العلاجي. أما التشريع السماوي فهو كالطب
الوقائي، والوقاية خير من العلاج.
لذلك جاء الحق سبحانه وتعالى بالتشريعات التي تقينا وتحمينا من شرّ الأحداث، أي
أنه يمنع عن الإنسان الضرر قبل أن يوجد؛ وبذلك تتحقق رحمته سبحانه لطائفة من البشر
عن أن تعضّهم الأحداث، بينما نجد للقانون الوضعي ضحايا، فيرق قلب المشرعين بعد
رؤية هؤلاء الضحايا ليضعوا التعديل لأحكام وضعوها من قبل، ففي القانون الوضعي نجد
بشراً يقع عليهم عبء الظلم لأنه قانون لا يستوعب صيانة الإنسان صيانة شاملة، وبعد
حين من الزمن يتدخل المشرعون لتعديل قوانينهم، وإلى أن يتم التقنين يقع البشر في
دائرة الغبن وعدم الحصول على العدل. أما الخالق سبحانه فقد برأ وخلق صنعته وهو
أعلم بها؛ لذلك لم يغبن أحداً على حساب أحد؛ فوضع تشريعاته السماوية، ولذلك يقول
الحق:{ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ
}[الإسراء: 82].
" شفاء " إذا وجد الداء من غفلة تطرأ علينا، " ورحمة " وذلك
حتى لا يأتي الداء. الحق سبحانه وتعالى يقول: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ
إِلَىا مَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ
يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً }. إنه - سبحانه - يضع من الأحداث ما يفضحهم فيتصرفون
بما يكشف نفاقهم، وبعد ذلك يخطرهم الرسول ويعرف عنهم المجتمع أنهم منافقون.
وهم } يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً { أي يُعرضون عنك يا رسول الله لأنهم منافقون،
وكل منافق عنده قضيتان: قضية لسانية وقضية قلبية؛ فهو باللسان يعلن إيمانه بالله
وبرسول الله، وفي القلب تتعارض ملكاته عكس المؤمن أو الكافر، فالمؤمن ملكاته
متساندة؛ لأن قلبه انعقد على الإيمان ويقود انسجام الملكات إلى الهدى، والكافر
أيضاً ملكاته متساندة؛ لأنه قال: إنه لم يؤمن ويقوده انسجام ملكاته إلى الضلال،
لكن المنافق يبعثر ملكاته!! ملكة هنا وملكة هناك، ولذلك سيكونون في الدرك الأسفل
من النار، الكافر منطقي مع نفسه، فلم يعلن الإيمان؛ لأن قلبه لم يقنع، وكان من
الممكن أن يقول كلمة الإيمان لكن لسانه لا يرضي أن ينطق عكس ما في القلب، وعداوته
للإسلام واضحة. أما المنافق فيقول: يا لساني.. أعلن كلمة الإيمان ظاهراً؛ كي أنفذ
من هذا الإعلان إلى أغراضي وأن تطبّق عليّ أحكام الإسلام فانتفع بأحكام الإسلام،
وأنا من صميم نفسي إن وجدت فرصة ضد الإسلام فسأنتهزها. ولذلك يقول الحق: }
فَكَيْفَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ... {.
(/342)
فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62)
والمنافقون يواجهون تساؤلاً: لماذا ذهبتم للطاغوت ليحكم بينكم وتركتم رسول الله؟.
فقالوا: نحن أردنا إحساناً، وأن نرفق بك فلا تتعب نفسك بمشكلاتنا، ونريد أن نوفق
توفيقاً بعيداً عنك كيلا تصلك المسائل فتشق عليك، ولم نرد مخالفة لك ولا تسخطاً
على حكمك؛ وهم يقولون هذا بعد أن انفضحوا أمام الناس.
{ فَكَيْفَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ } والمصيبة هي الأمر يطرأ على الإنسان
بما يضرّه في عُرفه؛ ولأنهم منافقون فهم يريدون أن يكون هذا النفاق مكتوماً، فإذا
جاءت حادثة لتفضحهم صارت مصيبة. على الرغم من أنّ الحادثة في واقعها ليست مصيبة.
فعندما نعرف المنافقين ونظهرهم أمام أنفسهم وأمام الناس فنحن نكفي أنفسنا شرّهم.
وهم يريدون بالنفاق أموراً لأنفسهم.
وهكذا يكون الكشف لنفاقهم مصيبة بالنسبة لهم، هم يرون النفاق نفعاً لهم، فبه
يستفيدون من أحكام الإسلام وإجرائها وتطبيقها عليهم، وعندما ينفضح نفاقهم يشعرون
بالمصيبة، مثلهم كمثل الذي ذهب ليسرق، ثم فوجئ وهو داخل المكان ليسرق أن الشرطة
موجودة لتقبض عليه، وهذا في الواقع نعمة لأنها تضرب على أيدي المجرم العابث، لكنها
بالنسبة له مصيبة.
وعندما تحدث لهؤلاء المنافقين مصيبة فهم يحلفون بالله كذباً لأنهم يريدون استدامة
نفاقهم.. ويحاولون أن يعتذروا عما حدث، يحلفون بالله إنهم بالذهاب إلى الطاغوت
وأرادوا الإحسان والتوفيق بينهم وبين خصومهم. لكن الحق يعلم ما يخفون وما يعلنون.
فيقول سبحانه: { أُولَـائِكَ الَّذِينَ... }.
(/343)
أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)
وناهيك بعلم الله، ولذلك يقول ربنا:{ وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ
فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ }[محمد:
30].
يعني: نحن لو شئنا أن نقول لك من هم لقلنا لك ودللناك عليهم حتى تعرفهم بأعيانهم،
ولكن الله ستر عليهم إبقاء عليهم لعلهم يتوبون، ولتعرفنهم من فحوى كلامهم
وأسلوبهم.
{ أُولَـائِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ } لقد ذهبوا ليتحاكموا
إلى الطاغوت، وقد ذهبوا إلى هناك لعلمهم أنهم ليسوا على حق، ولأنهم إن ذهبوا إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فسيحكم بالحق، والحق يضارُّهم ويُضايقهم، فهل كانوا
بالفعل يريدون إحساناً وتوفيقاً، أو كانوا لا يريدون الحق؟. لقد أرادوا الحكم
المزور.
لذلك يأتي الأمر من الحق لرسوله: { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ }؛ لأنك إن عاقبتهم فقد
أخذت منهم حقك، والله يريد أن يبقي حقك ليقتص - سبحانه - لك منهم، وأعرض أيضاً
عنهم لأننا نريد أن يُظهر منهم في كل فترة شيئاً لنعلم المجتمع الإيماني اليقظة
إلى أن هناك أناساً مدسوسين بينهم، لذلك لا بد من الحذر والتدبر. كما أنك إذا
أعرضت عنهم أسقطتهم من حساب دعوتك.
" وعظهم " أي قل لهم: استحوا من أفعالكم. { وَقُل لَّهُمْ فِي
أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً } أي قل لهم قولاً يبلغ الغاية من النفس البشرية
ويبلغ الغاية من الوعظ، أي يوعدهم الوعيد الذي يخيفهم كي يبلغ من أنفسهم مبلغاً،
أو { وَقُل لَّهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً } أي أفضح لهم ما يسترون؛
كي يعرفوا أن الله مطلعك على ما في أنفسهم فيستحوا من فعلهم ولا يفعلوه، قل لهم
ذلك بدون أن تفضحهم أمام الناس؛ لأن عدم فضحهم أمام الناس يجعل فيهم شيئا من
الحياء، وأيضاً لأن العظة تكون ذات أثر طيب إذا كان الواعظ في خلوة مع الموعوظ
فيناجيه ولا يفضحه، ففضح الموعوظ أمام الناس ربما أثار فيه غريزة العناد، لكن
عندما تعظه في السرّ يعرف أنك لا تزال به رحيماً، ولا تزال تعامله بالرفق والحسنى.
{ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ } وإنك لو فعلت ذلك علناً فستعطي
الأسوة لغيرك أن يفعل. والله قد أطلعك على ما في قلوب هؤلاء من الكفر أما غيرك فلا
يطلعه الله على غيب ولو رمى أحداً بذنب أو كفر فلعله لا يصادف الحق والواقع
وتشريعنا يقول لنا: " ادرأوا الحدود بالشبهات ".
والتطبيق لهذا التشريع نجده عندما يتم القبض على سارق، لكن هناك شبهة في الاتهام،
هذه الشبهة يجب أن تفسر في صالح المتهم، وندرأ الحد لوجود شبهة؛ فليس من مصلحة
المسلمين أن نقول كل يوم: إننا قطعنا يد سارق أو رجمنا زانية. لكن إذا افتضحت
الجرائم وليس في ارتكابها شبهة والمسألة واضحة فلا بد أن نضرب على أيدي المجرمين.
فنحن ندرأ الحد بالشبهة حتى لا نلحق ضرراً أو ننال من بريء، ونطق الحد حتى يرتدع
كل من تسول له نفسه أمراً محرّما حتى لا يرتكب الأمر المحرّم. وعندما يقام الحدّ
في أي بيئة، فإنه لا يقام إلا لفترة قليلة وتتراجع بعدها الجرائم، ولا يرى أحد
سارقاً أو زانياً.
إذن فقول الله: } وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً {
يعني: قل لهم ما يهددهم تهديداً يصل إلى أعماق نفوسهم، أو } وَقُل لَّهُمْ فِي
أَنْفُسِهِمْ { بأن تكشف مستورات عيوبهم أو قل لهم في أنفسهم بينك وبينهم؛ لأن هذا
أدعي إلى أن يتقبلوه منك ولا يوغر صدورهم ويثير فيهم غريزة العناد.
ويقول الحق بعد ذلك: } وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ... {.
(/344)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)
الغرض من إرسال الحق للرسول هو أن يعلم الناس شرع الله المتمثل في المنهج، وأن
يهديهم إلى دين الحق. والمنهج يحمل قواعد هي: افعل، ولا تفعل، وما لا يرد فيه
" افعل ولا تفعل " من أمور الحياة فالإنسان حرّ في اختيار ما يلائمة.
وأي رسول لا يأتي بتكليفات من ذاته، بل إن التكليفات تجيء بإذن الله. وهو لا يطاع
إلا بإذن من الله. فالرسول صلى الله عليه وسلم جاء بطاعة الله إلا إن يفوّض من الله
في أمور أخرى، وقد فوّض الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله الحق:{ وَمَآ
آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ }[الحشر: 7].
فالمؤمنون برسالة محمد صلى الله عليه وسلم - إذن -عليهم طاعة الرسول في إطار ما
فوّضه الله والله أذن له أن يشرع.
ويتابع الحق: { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ
فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ
تَوَّاباً رَّحِيماً }. وظلم النفس: أن تحقق لها شهوة عاجلة لتورثها شقاء دائماً.
وظلم النفس أشقى أنواع الظلم، فمن المعقول أن يظلم الإنسان غيره، أما أن يظلم نفسه
فليس معقولاً. وأي عاصٍ يترك واجباً تكليفياً ويقبل على أمرٍ منهي عنه، قد يظن في
ظاهر الأمر أنه يحقق لنفسه متعة، بينما هو يظلم نفسه ظلماً قاسياً؛ فالذي يترك
الصلاة ويتكاسل أو يشرب الخمر أو يرتكب أي معصية نقول له: أنت ظلمت نفسك؛ لأنك
ظننت أنك تحقق لنفسك متعة بينما أورثتها شقاءً أعنف وأبقى وأخلد، ولست أميناً على
نفسك.
والنفس - كما نعلم - تطلق على اجتماع الروح بالمادة، وهذا الاجتماع هو ما يعطي
النفس الإنسانية صفة الاطمئنان أو صفة الأمارة بالسوء، أو صفة النفس اللوامة.
وساعة تأتي الروح مع المادة تنشأ النفس البشرية. والروح قبلما تتصل بالمادة هي
خيّرة بطبيعتها، والمادة قبلما تتصل بالروح خيرة بطبيعتها؛ فالمادة مقهورة لإرادة
قاهرها وتفعل كل ما يطلبه منها. فإياك أن تقول: الحياة المادية والحياة الروحية،
وهذه كذا وكذا. لا.
إن المادة على إطلاقها خيّرة، طائعة، مُسَخَّرة، عابدة، مُسبِّحة. والروح على
إطلاقها كذلك، فمتى يأتي الفساد.. ساعة تلتقي الروح بالمادة ويوجد هذا التفاعل
نقول: أنت يا مكلف ستطمئن إلى حكم الله وتنتهي المسألة أم ستبقى نفسك لوّامة أم
ستستمرئ المعصية وتكون نفسك أمارة بالسوء؟
فمَن يظلم مَن إذن؟. إنه هواك في المخالفة الذي يظلم مجموع النفس من روحها
ومادتها. فأنت في ظاهر الأمر تحقق شهوة لنفسك بالمخالفة، لكن في واقع الأمر أنك
تتعب نفسك، { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ }. ولنعلم أن هناك
فرقاً بين أن يأتي الفاحشة إنسانَ ليحقق لنفسه شهوة. وأن يظلم نفسه، فالحق يقول:
{ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ
اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ
}[آل عمران: 135].
إذن فارتكاب الفاحشة شيء وظلم النفس شيء آخر، " فعل فاحشة " قد متع
إنسان نفسَه قليلاً، لكن من ظلم نفسه لم يفعل ذلك. فهو لم يمتعها ولم يتركها على
حالها، إذن فقد ظلم نفسه؛ لا أعطاها شهوة في الدنيا؛ ولم يرحمها من عذاب الآخرة،
فمثلاً شاهد الزور الذي يشهد ليأخذ واحدٌ حقَّ آخر، هذا ظلم قاسٍ للنفس، ولذلك قال
الرسول: " بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي
كافرا، أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بِعرضٍ من الدنيا ".
} وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ
{. وظلم النفس أيضاً بأن يرفع الإنسان أمره إلى الطاغوت مثلاً، لكن عندما يرفع
الإنسان أمره للحاكم، لا نعرف أيحكم لنا أم لا؛ وقد يهديه الله ساعة الحكم.
إن قوله: } وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ { فالمسألة
أنهم امتنعوا من المجيء إليك يا رسول الله؛ فأول مرتبة أن يرجعوا عما فعلوه، وبعد
ذلك يستغفرون الله؛ لأن الذنب بالنسبة لعدم مجيئهم للرسول قبل أن يتعلق بالرسول
تعلق بمن بعث الرسول، ولذلك يقولون: إهانة الرسول تكون إهانة للمرسِل؛ فصحيح أن
عدم ذهابهم للرسول هو أمر متعلق بالرسول ولكن إذا صعدته تجده متعلقاً بمن بعث
الرسول وهو الله، لأن الرسول لم يأت بشيء من عنده، وبعد أن تطيب نفس الرسول
فيستغفر الله لهم، إذن فأولاً: يجيئون، وثانياً: يستغفرون الله وثالثاً: يستغفر
لهم الرسول.
وبعد ذلك يقول سبحانه: } لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً { إذن فوجدان
الله تواباً رحيماً مشروط بعودتهم للرسول بدلاً من الإعراض عنه ثم أن يَستغفروا
الله؛ لأن الله ما أرسل من رسول إلا ليطاع بإذنه، فعندما تختلف معه لا تقل: إنني
اختلفت مع الرسول؛ لا. إنك إن اختلفت معه تكون قد اختلفت مع من أرسله وعليك أن
تستغفر الله.
ولو أنك استغفرت الله دون ترضية الرسول فلن يقبل الله ذلك منك. فلا يقدر أحد أبداً
أن يصلح ما بينه وبين الله من وراء محمد عليه الصلاة والسلام.
وحين يفعلون ذلك من المجيء إلى الرسول واستغفارهم الله واستغفار الرسول لهم سيجدون
الله تواباً رحيماً، وكلمة " توّاب " مبالغة في التوبة فتشير إلى أن
ذنبهم كبير.
إن الحق سبحانه وتعالى خلق خلقه ويعلم أن الأغيار تأتي في خواطرهم وفي نفوسهم وأن
شهواتهم قد تستيقظ في بعض الأوقات فتنفلت إلى بعض الذنوب، ولأنه رب رحيم بين لنا
ما يمحص كل هذه الغفلة، فإذا أذنب العبد ذنباً أَرَبُّهُ الرحيم يتركه هكذا للذنب؟
لا. إنه سبحانه شرع له العودة إليه؛ لأن الله يحب أن يئوب عبده ويرجع إليه وإن غفل
بمعصيته.
إن الحق سبحانه وتعالى يعلمنا كيف نزيل عنا آثار المعاصي، فقال: } وَلَوْ
أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ { فالعلاج من هذه أن يجيئوك لأنهم
غفلوا عن أنك تنطق وتبلغ من قِبَل الحق في التشريع وفي الحكم، وبعد المجيء
يستغفرون الله ويستغفر لهم الرسول، تأييداً لاستغفارهم لله، حينئذ يجدون الله
تواباً رحيماً.
ويقول الحق بعد ذلك: } فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ... {.
(/345)
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)
إذن لا بد أن نستقبل الإيمان بالإقبال على كل ما جاء به رسول الله، فساعة حكّم
المنافقون غيره برغم إعلانهم للإسلام جاء الحكم بخروجهم من دائرة الإيمان، وعلى
المؤمنين أن يتعظوا بذلك.
ونلحظ في قول الحق: { فَلاَ وَرَبِّكَ } وجود " لا " نافية، وأنه -
سبحانه - أقسم بقوله: { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىا يُحَكِّمُوكَ } ،
ونعلم أن المنافقين قد ذهبوا فحكَّموا غير رسول الله، مع أنهم شاهدون بأنه رسول
الله فكيف يشهدون أنه رسول الله، ثم يحكمون غيره ولا يرضون بقضائه؟ وتلك قضية يحكم
الحق فيها فيقول: لا. هذه لا تكون أبداً. إذن فـ " لا " النافية جاءت
هنا لتنفي إيمانهم وشهادتهم أنه رسول الله؛ لأنهم حكَّموا غيره. فإذا ثبت أنهم شهدوا
أنه رسول الله ثم ذهبوا لغيره ليقضي بينهم إذا حدث هذا. فحكمنا في القضية هو: لا
يكون لهم أبداً شرف شهادة أنه رسول الله.
وبعد ذلك أقسم الحق فقال: { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىا يُحَكِّمُوكَ
فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } ونحن الخلق لا نقسم إلا بالله، لكنه سبحانه له أن يقسم
بما شاء على ما يشاء، يقسم بالمادة الجبلية:{ وَالطُّورِ }[الطور: 1].
ويقسم بالذاريات:{ وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً }[الذاريات: 1].
والذاريات هي الرياح، ويقسم بالنبات:{ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ }[التين: 1].
ويقسم بالملائكة:{ وَالصَّافَّاتِ صَفَّا }[الصافات: 1].
ولكنك إن نظرت إلى الإنس فلن تجده أقسم بأحد من سيد هذا الكون وهو الإنسان إلا
برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقسم بحياته فقال:{ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي
سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ }[الحجر: 72].
و " لعمرك " يعني: وحياتك يا محمد إنهم في سكرتهم يعمهون، أي هم في
غوايتهم وضلالهم يتحيرون فلا يهتدون إلى الحق، وأقسم الله بعد ذلك بنفسه، فقال:{
فَوَرَبِّ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ }[الذاريات: 23].
وساعة يقول: " فورب السماء والأرض ". فلا بد أن يأتي بربويته لخلق عظيم
نراه نحن، ولذلك قال:{ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ
النَّاسِ }[غافر: 57].
يعني إذا فكرت أيها الإنسان في خلق السماوات والأرض لوجدته أكبر من خلق الناس.
وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الله تعالى: { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ
يُؤْمِنُونَ حَتَّىا يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } وهذا تكريم لرسول
الله صلى الله عليه وسلم، ودليل على أن محمداً عليه الصلاة والسلام ذو منزلة
عالية، إياكم أن تظنوا أنه حين قال: " لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق
الناس " أن محمداً قد دخل في الناس، إنّه سبحانه يوضح: لا، سأقسم به كما
أقسمت بالسماء والأرض، { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ } ، ولماذا يقسم برب
السماء والأرض؛ لأن الربّ له قدرة عظيمة هائلة، فهو يخلق ويربي، ويتعهد ويؤدب.
إن خلق السماوات والأرض يكفي فيها الخلق وناموس الكون والتسخير.
لكن عندما يخلق محمداً فلا يريد الخلق والإيجاد فقط، بل يريد تربية فيها ارتقاءات
النبوة مكتملة فيقول له: فوربك الذي خلقك، والذي سواك، والذي رباك، والذي أهَّلَكَ
لأن تكون خير خلق الله وأن تكون خاتم الرسل، ولأن تكون رحمة الله للعالمين، يقسم
بهذا كله فيقول: } فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىا يُحَكِّمُوكَ فِيمَا
شَجَرَ بَيْنَهُمْ { أبعد ما يدخل سبحانه فينا هذه المهابة بالقسم برب رسول الله
نقول: لا نحكم محمداً ومنهجَه في حياتنا؟.
إذن فقوله: } فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىا يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ
بَيْنَهُمْ { وحَكَّم كل مادتها مثل " الحُكْم " و " التحكيم
" و " الحكمة " و " التحكم " وكل هذا مأخوذ من الحَكَمَة
وهي حديدة اللجام الذي يوضع في فم الفرس يمنعه به صاحبه أن يشرد، ويتحكم فيه
يميناً ويساراً، فكذلك " الحِكْمَة " تعوق كل واحد عن شروده في أخذ حق
غيره، فالتحكيم والحكم، والحكمة، كلها توحي بأن تضع الشيء في موضعه الصحيح.
وكلمة " شجر " مأخوذة من مادة (الشين والجيم والراء) وإذا رأيتها فافهم
أنها مأخوذة من الشجر الذي تعرفه. وهناك نباتات تكبر فيلتصق بعضه ببعض فتتشابك،
كما نرى مثلاً شجراً متشابكاً في بعضه، وتداخلت الأفرع مع بعضها بحيث لا تستطيع
أيها الناظر أن تقول: إن هذه ورقة هذه الشجرة أو ورقة تلك الشجرة. وإذا ما أثمرتا
وكانتا من نوع واحد لا تقدر أن تقول: إن هذه الثمرة من هذه الشجرة، ولا هذه الثمرة
من تلك الشجرة، أي أن الأمر قد اختلط.
" وشجر بينهم " أي قام نزاع واختلاط في أمر، فأنت تذهب لتفصل هذه الشجرة
عن تلك، وهذه الثمرة عن تلك الثمرة، وساعة ترى أشجاراً من نوع واحد، وتداخلت مع
بعضها واختلطت، لا يعينك إن كنت جاني الثمرة أن تكون هذه الثمرة التي قطفتها من
هنا أو من هناك، فأنت تأخذ الثمرة حيث وجدت، لا يعنيك أن تكون من هذه أو من تلك،
وإن كنت تستظل تحت شجر لا يعنيك أن تعرف هل جاء هذا الظل من ورق هذه الشجرة أو من
تلك الشجرة، فهذه فائدة اختلاط المتساوي، لكن إذا أردت ورقة شجرة من نوع معين
فأنتقيها لأنني أريدها لأمر خاص.
والخلق كلهم متساوون فكان يجب إن اختلطوا أن تكون المسألة مشاعاً بينهم، لكن طبيعة
النفس الشُحّ، فتنازعوا، ولذلك فالقاضي الذكي يقول للمتخاصِمَيْن: أتريدان أن أحكم
بينكما بالعدل أم بما هو خير من العدل؟ فيفزعان ويقولان: أهناك خير من العدل؟.
يقول: نعم إنه الفضل، فما دامت المسألة أخوة واحدة، والخير عندك كالخير عندي فلا
نزاع، أمَّا إذا حدث الشجار فلا بد من الفصل.
ومن الذي يفصل؟. إنه سيدنا رسول الله بحكم قول الحق: } فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ
يُؤْمِنُونَ حَتَّىا يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ {.
. فالإيمان ليس قوله تقال فحسب وإنما هو قولة لها وظيفة، فأن تقول لا إله إلا الله
وتشهد أن محمداً رسول الله فلا بد أن لهذا القول وظيفة، وأن تُحكِم حركة حياتك على
ضوء هذا القول، فلا معبود إلا الله، ولا آمر إلا الله، ولا نافع إلا الله، ولا ضار
إلا الله، ولا مشرع إلا الله، فهي ليست كلمة تقولها فقط! وينتهي الأمر، ثم عندما
يأتيك أمر يحتاج إلى تطبيقها تفرّ منه. } فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ { بمنهج
الإسلام } حَتَّىا يُحَكِّمُوكَ { فهذا هو التطبيق } فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ {
ولا يصح أن يحكموك صورياً، بل لا بدّ أن يحكموك برضا في التحكيم، } ثُمَّ لاَ
يَجِدُواْ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً { أي ضيقاً } مِّمَّا قَضَيْتَ {. فعندما يحكم
رسول الله لا تتوانوا عن حكمه, ولا تضيقوا به } وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً { أي
يُذْعِنُوا إذعاناً.
إذن فالإيمان لا يتمثل في قول يقال وإنما في توظيف ذلك القول. بأن تلجأ إليه في
العمليات الحركية في الحياة، } فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ { حتى يترجم
الإيمان إلى قضية واقعية اختار الحق لها أعنف ساعات الحرج في النفس البشرية وهي
ساعة الخصومة التي تولد اللدد والميل عن الحق، } فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ
حَتَّىا يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنْفُسِهِمْ
حَرَجاً { لأنه قد يجد حرجاً ولا يتكلم.
وانظروا إلى الثلاثة: الأولى: } وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ
جَآءُوكَ { ، هذه واحدة، } فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ { هذه هي الثانية، }
وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ { هذه هي الثالثة، هذه ممحصات الذنوب، والذي
يدخلك في حظيرة الإيمان ثلاثة أيضاً: } فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىا
يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ { هذه هي الأولى، } ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ
فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ { هذه هي الثانية، و } وَيُسَلِّمُواْ
تَسْلِيماً { هذه هي الثالثة. إذن فالقولان في رسول الله صلى الله عليه وسلم: دخول
حظيرة إيمان، وخروج من غلّ ذنب.
وهنا وقفة لا أبالغ إذا قلت: إنها شغلتني أكثر من عشر سنين، هذه الوقفة حول قول
الله: } وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ
اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً
{ ذلك يا رب تمحيص من عاصر رسولك صلى الله عليه وسلم، فما بال الذين لم يعاصروه؟
فأين الممحص الذي يقابل هذا لمن لم يعاصر حضرة النبي صلى الله عليه وسلم، والرسول
إنما جاء للناس جميعاً، فكيف يوجد ممحص لقوم عاصروا رسول الله ثم يحرم من جاءوا
بعد رسول الله من هذا التمحيص؟
هذه مسألة ظلت في ذهني ولا أجد لها جواباً، إلا أني قلت: لقد ثبت عندي وعند بعض
أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مطمئنا المؤمنين في كافة العصور:
(حياتي خير لكم تُحْدِثون ويُحْدَثُ لكم فإذا أنا مت كانت وفاتي خيرا لكم تُعْرض
عليَّ أعمالكم فإن رأيت خيرا حمدت الله وإن رأيت شرا استغفرتُ لكم).
انظر إلى التطمين في قوله صلى الله عليه وسلم:
" تعرض عليّ أعمالكم فإن رأيت خيراً حمدت الله، وإن رأيت غير ذلك استغفرت لكم
".
فاستغفار الرسول لنا موجود. إذن فما بقي منها إلا أن نستغفر الله، وما بقي إلا
" جاءوك " أي يجيئون لسنتك ولما تركت منها فصلى الله عليه وسلم هو
القائل:
" تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنتي ولن يتفرقا حتى يردا عليّ
الحوض ".
فكما كان الأحياء يجيئونه، فنحن نجيء إلى حكمه وسنته وتشريعه، وهو يستغفر لنا
جميعا، إذن فهذه منتهية، فبقي أن نستغفر الله قائلين: نستغفر الله العظيم الذي لا
إله إلا هو الحيّ القيوم ونتوب إليه.. نفعل ذلك إن شاء الله.
وقوله سبحانه وتعالى: } ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا
قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً { أي لا يجدوا حرجاً عندما يذعنون لأي حكم
تكليفي أو حكم قضائي، والحكم التكليفي نعرفه في: افعل ولا تفعل، أما الحكم القضائي
فهو عندما يتنازع اثنان في شيء وهذا يقتضي أن نقبل الحكم في النزاع إذا ما صدر عن
رسول الله أو عن منهجه. إذن فلا بد أن نسلم تسليماً في الاثنين: في الحكم
التكليفي، وفي الحكم القضائي.
ويقول الحق بعد ذلك: } وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ... {.
(/346)
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66)
وهنا يساوي الحق بين الأمر بقتل النفس والأمر بالإخراج من الديار، فالقتل خروج
الروح من الجسد بقوة قسرية غير الموت الطبيعي، والإخراج من الديار هو الترحيل
القسري بقوة قسرية خارج الأرض التي يعيش فيها الإنسان، إذن فعملية القتل قرينة
لعملية الإخراج من الديار فساعة يُقتل الإنسان فهو يتألم، وساعة يخرج من وطنه فهو
يتألم، وكلاهما شاق على الإنسان، ويأتي الحق بهذين الحكمين اللذين سبقا في قوم
موسى عليه السلام، فالحق يقول:{ وَإِذْ قَالَ مُوسَىا لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ
إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَىا
بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ }[البقرة: 54].
ويقال: إن قوم موسى عندما سمعوا هذا الحكم قام سبعون ألفاً منهم بقتل أنفسهم،
ونعلم أيضاً أن قوم موسى أخرجوا من ديارهم وذهبوا في التيه. يقول سبحانه وتعالى:{
قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي
الأَرْضِ }[المائدة: 26].
أي لا يدخلونها ولا يملكونها. والحق هنا يوضح: أن الإسلام لم يأت بمثل ما جاءت به
الشرائع السابقة التي كانت التوبة فيها تقتضي قتل النفس، تلك الشرائع التي رأت أن
النفس تغوي صاحبها بمخالفة المنهج فلا بد أن يضيعها. ومن لطف الله سبحانه لم يصدر
علينا مثل هذا الحكم، ولذلك فسيدنا عبد الله ابن مسعود، وسيدنا عمار بن ياسر،
وثابت بن قيس؛ كل هؤلاء قالوا: والله لو أمرنا بهذا لفعلنا، وقال سيدنا عمر: والله
لو أمرنا بهذا لفعلنا والحمد لله الذي لم يفعل بنا ذلك. إذن فهذا لطف، إنه بيّن
لهم: لو كتبنا عليهم أن يقتلوا أنفسهم أو يخرجوا من ديارهم كما حدث لقوم موسى.
ماذا كانوا يفعلون؟ لكن ربنا استجاب لدعائهم.{ رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ
إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ
تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ }[البقرة: 286].
لقد استجاب الحق لهم، لكن ماذا كان يحدث منكم لو كتب عليكم ذلك؟ وسبب هذه الحكاية
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم له ابن عمة اسمه " الزبير بن العوام "
وهو من العشرة المبشرين بالجنة، وهناك واحد آخر اسمه " حاطب بن أبي بلتعة
" كانا في المدينة، ومن زار المدينة المنورة يجد هناك منطقة اسمها "
الحرة " وأرضها من حجارة سوداء كأنها محروقة، وفيها بعض " الحيطان
" أي: البساتين؛ لأنهم يسمون البستان " حائطاً " ، فقد كانوا
يخافون من طغيان السيل فيبنون حول الأرض المزروعة حائطاً، يرد عنها عنف السيل
ويحدد الحيازة فيها، فكان لحاطب بن أبي بلتعة أرض زراعية منخفضة عن أرض الزبير بن
العوام، فالسيل يأتي أولاً من عند أرض الزبير ثم ينزل إلى أرض حاطب، ونعلم أن
الأمطار تنزل ومتفرقة في مكان ثم يتجمع الماء في جدول صغير يسمونه " شراج
" ومنه يروون بساتينهم.
فلما جاء السيل وأرادوا أن يرووا بساتينهم حدث خلاف بين الزبير بن العوام وحاطب بن
أبي بلتعة، فأرض الزبير تعلو أرض حاطب وحاطب يريد أن تمر المياه لأرضه أولاً ثم
يروي الزبير أرضه بعد ذلك. فلما تحاكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم
للزبير فقد كان الحق معه، ولم يكن الرسول ليلوي الحق لمجرد القرابة، فمن الناس من
يحكم بالظلم ليشتهر بين الناس بالعدل، فقد يتخاصم ابنه مع واحد آخر والحق مع ابنه،
فلكيلا يقول الناس: إنه جامل ابنه. يحكم على ابنه! وهذا ليس عدلاً؛ فالعدل أن تحكم
بالحق ثم تطلب من ابنك أن يتنازل عن حقه ليصبح عطاؤه لغيره فضلاً. فالشجاعة هي أن
تحكم بالحق، وهناك شجاعة أقوى وهي أن تحكم بالحق، وإن كان على نفسك، لأن الحق أعز
من نفسك.
ونص هذه الواقعة كما أوردها الإمام البخاري في صحيحه بسنده قال: " حدثنا أبو
اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني عروة بن الزبير أن الزبير كان يحدث أنه
خاصم رجلا من الأنصار قد شهد بَدْراً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج من
الحرة كان يسقيان به كلاهما فقال رسول الله عليه وسلم للزبير: اسقِ يا زبير ثم
أرسل إلى جارك، فغضب الأنصاري، فقال: يا رسول الله آنْ كان ابن عمتك؟ فتلون وجه
رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: اسق ثم احبس حتى يبلغ الجدر فاستوعى رسول
الله صلى الله عليه وسلم حينئذ للزبير حقه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل
ذلك أشار على الزبير برأي فيه سعة له وللأنصاري، فلما أحفظ الأنصاري رسول الله صلى
الله عليه وسلم استوعى للزبير حقه في صريح الحكم، قال عروة: قال الزبير: والله ما
أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك } فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىا
يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ {.
فلما حكم رسول الله للزبير بأن يسقي زرعه ثم يرسل الماء إلى جاره لم يعجب ذلك حاطب
بن أبي بلتعة، فقال: لأن كان ابن عمتك، والعربي يقول الكلمة ويترك لنباهة السامع
أن يستنبط الباقي، وكأنه يعني: حكمت له لأنه ابن عمتك. لوى شدقية، فتغير وجه رسول
الله صلى الله عليه وسلم لحظة علمه أن ابن أبي بلتعة لم يقدر عدالة الحق والحكم..
وكان كثير من الناس ممن كانوا يتصيدون للإسلام يقولون: هو قد حكم أولاً أن يروي
الزبير ثم يطلق الماء لحاطب، فلما غضب حاطب بن أبي بلتعة قال له: اسق يا زبير
واستوف حقك، وخذ من الماء ما يكفيك ثم أرسله لجارك، فقالوا: لماذا حكم أولاً بأن
يسقي ثم يرسل الماء إلى جاره ثم عدل في الحكم؟
الناس لم تفهم أن أرض الزبير عالية بينما أرض حاطب منخفضة، وأنتم إذا نظرتم إلى أي
وادٍ؛ تجدون الخضرة والخصب في بطن الوادي وليس في السفح؛ لأن الماء وإن جاء من
الأرض العالية سينزل إلى الأرض المنخفضة، وإذا رويت المنخفض أولا وأعطيته لا يصيب
العالي شيء.
إذن فالحكم الأول كان مبنياً على التيسير والفضل من الزبير، والحكم الثاني جاء
مبنيّاً على العدل، ورسول الله بالحكم الثاني - وهو أن يستوفي الزبير حقه ويأخذ من
الماء ما يكفيه - كأنه قال له: سنعدل معك بعدما كنا نجاملك، فقال الحق سبحانه
وتعالى: } فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىا يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ
بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ
وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً {.
وإذا كان هذا هو الأمر فكيف لو فعلنا بهم مثلما فعل الرسول من الأمم السابقة؟
عندما أمروهم أن يقتلوا أنفسهم أو أن يخرجوا من ديارهم، هذا الحكم لم ينفذه إلا
عدد قليل منهم وهم الثابتون في الإيمان. وهكذا نعلم أن الحق لم يخل الأمة من
ممتثلين ملتزمين يؤدون أمر الله كما يجب.
} وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ { ولو فرضنا أن الله قال:
اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ثم بعد ذلك فعلوه لوجدوا في ذلك الخير عما كان
في بالهم؛ لأن الناس يجب أن تفطن إلى أن تسأل نفسها ما غاية المؤمن حين يؤمن بإله؟
وما غاية هذا الإيمان؟
أنت في دنياك تعيش مع أسباب الله المخلوقة لك، وحين تنتقل إلى الله تعيش مع
المسبب، فما الذي يحزنك عندما قال لك: اقتل نفسك؟ إنه قال لك: اقتل نفسك لماذا؟
لأنك تنتقل للمسبب وتحيا دون تعب.
إن الحكم من الله هو ارتقاء بالإنسان، ونحن في حياتنا الدنيا نجد من يدق الجرس
فيأتيه الطعام، ويدق الجرس فيأتيه الشاي، ويدق الجرس فتأتيه الحلوى. لكن لا يمكن
أن ترتقي الدنيا إلى أن يوجد ارتقاء بحيث إذا خطر الشيء ببال الإنسان وُجد الشيء
أمامه، فلا يدق جرساً ولا يجهد نفسه، فبالله الذي يعيش في الأسباب ثم نريد أن
ننقله إلى أن يعيش مع المسبب، فهل هذه تحزنه؟ لا؛ لأنهم سيجدون: خيرا أكثر.
إنك: لو قارنت الأمر لوجدت الدنيا عمرها بالنسبة لك مظنون، ومحدود، ونعيمك على قدر
إمكاناتك. لكنك حين تنتقل إلى لقاء الله لا تكون محدوداً، لا بعمرك ولا بامكاناتك
بل تعيش زمناً ليس له حدود، وتنعم فيه على قدر سعة فضل الله.
} وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ
وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً {.. وهذا الخير أشد تثبيتاً لغيرهم؛ لأن من يرونهم ينفذون
حكم الله. فلا بد أنهم وثقوا أنهم سيذهبون إلى خير مما عندهم. إذن فهو يثبت من
بعدهم. أو المعنى: لو أنهم فعلوا ما أمروا به من اتباع رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - وطاعته والانقياد له يراه ويحكم به لأنه الذي لا ينطق عن الهوى لكان ذلك
خيرا لهم في دنياهم وأخراهم وأقوى وأشد تثبيتا واستقرار للإيمان في قلوبهم وأبعد
عن الاضطراب فيه.
(/347)
وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67)
فهم إذا فعلوا ما يوعظون به، { وَإِذاً لأَتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّـآ أَجْراً
عَظِيماً } وساعة تسمع " من لدنَّا " اعرف أنها ليست من شأن ولا فعل
الخلق. بل من تفضل الخالق. فالحق سبحانه وتعالى يرسل لنا منهجه بوساطة الرسل، لكنه
يوضح أن بعضاً من الناس منحهم عطفاً وأعطاهم من لدنه علماً، فهو القائل:{
فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا
وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً }[الكهف: 65].
أي أن العلم الذي أعطاه الله لذلك العبد لم يَعْلَمْه موسى، وعطاء الله للعلم خاضع
لمشيئته، ونعرف من قبل أن الحسنات والأعمال لها نظام، فمن يعمل خيراً يأخذ مقابلة
كذا حسنة، ولكنْ هناك أعمال حسناتها من غير حساب ويجازي عليها الحق بفضله هو.
وأضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - نحن نجد ذلك متمثلاً لنا في كثير من
تصرفاتنا، تقول لابنك مثلاً: يا بني كم أجرك عندي من هذا العمل؟ فيقول لك: مائة
جنيه. فتقول له: هذه مائة هي أجرك، وفوقها خمسون من عندي أنا، ماذا تعني " من
عندي أنا " هذه؟ إنها تعني أنه مبلغ ليس له دخل بأجر العمل.
{ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنْفُسَكُمْ } لقد عرفنا
من قبل أن هناك فرقاً بين القتل والموت، صحيح أن كليهما فيه إذهاب للحياة، لكن
الموت: إذهاب للحياة بدون نقض البنية للجسم، ولكن القتل: إذهاب للحياة بنقض البنية
كأن يكسر إنسان رأس إنسان آخر، أو يطلق رصاصة توقف قلبه، وهذا هدم للبنية، والروح
لا تحل إلا في بنية لها مواصفات، والروح لم تذهب أولاً. بل إن البنية هدمت أولاً.
فلم تعد صالحة لسكنى الروح، والمثل المعروف هو مصباح الكهرباء: إنك إن رميت عليه
حجراً صغيراً، ينكسر وينطفئ النور برغم أن الكهرباء موجودة لكنها لا تعطي نوراً
إلا في وعاء له مواصفات خاصة، فإذا ذهبت هذه المواصفات الخاصة يذهب النور، فتأتي
بمصباح جديد له المواصفات الخاصة الصالحة فتجد النور قد جاء.
وكذلك الروح لا تسكن إلا في جسم له مواصفات خاصة، فإن جئت لهذه المواصفات الخاصة
وسيدها المخ، وضربته ضربة قاسية، فقد نقضت البنية، وفي هذه الحالة تغادر الروح
الجسد لأنه غير صالح لها، لكن الموت يأتي من غير نقض للبنية، ومصداق ذلك هو قول
الحق سبحانه وتعالى:{ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ
الرُّسُلُ أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىا أَعْقَابِكُمْ }[آل
عمران: 144].
أي أن هناك أمرين: هناك موت، وهناك قتل، فالموت هو سلب الحياة، والقتل هو سلب
الحياة، ولكن القتل سلب الحياة بعد نقض البنية التي تسكن فيها الروح، ويختلف عن
الموت لأن الموت هو خروج الروح دون قتل، ولذلك يقولون: مات حتف أنفه.
أي مات على فراشه ولم يحدث له أي شيء.
والذي يُقتل في الشهادة يقول فيه ربنا:{ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ }[آل
عمران: 169].
فإذا كان من يقاتل في سبيل الله قد امتثل لأمر الله فسوف يجد فضلاً أكثر، فكيف
يكون جزاء من يقتل نفسه امتثالا لأمر ربه؟ إن امتحان النفس يكون بالنفس، وليس
امتحان النفس بالعدو. وما الميزة في سيدنا إبراهيم؟ هل قال له الحق: أنا سأميت
ولدك؟ أقال له إن واحداً آخر سيقتل ابنك؟ لا، بل قال له: اذبحه أنت. وهذه هي
ارتقاء قتل النفس، فيفدي الحق إسماعيل عليه السلام بكبش عظيم. إذن فإذا جاء الأمر
بأن يقتل الإنسان نفسه فلا بد أن هناك مرتبة أعلى. } وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ
مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً * وَإِذاً
لأَتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّـآ أَجْراً عَظِيماً {. ويقول الحق بعد ذلك: }
وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً... {.
(/348)
وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)
ونحن أمام أمرين: إما أن يقتلوا، وإما أن يخرجوا من ديارهم، فقوله: {
وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } لمن؟ للذي قُتِل أم لمن خَرَج؟ هو قول
لمن أخرج من دياره لأنه مازال على قيد الحياة.
ويقول الحق بعد ذلك: { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ... }.
(/349)
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)
والفعل هنا: " يطع " والمطاع هو: الله والرسول، أي أن هذا الأمر تشريع
الله مع تطبيق رسوله، أي بالكتاب والسنة، وساعة تجد الرسول معطوفاً على الحق بدون
تكرير الفعل فاعلم أن المسألة واحدة.. أي ليس لكل واحد منهما أمر، بل هو أمر واحد،
قول من الله وتطبيق من الرسول لأنه القدوة والأسوة؛ ولذلك يقول الحق في الفعل
الواحد:{ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ
وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن
يَتُوبُواْ يَكُ }[التوبة: 74].
فما أغناهم الله غنىً يناسبه وأغناهم الرسول غنىً يناسبه فالفعل هنا واحد. فالغنى
هنا من الله ورسوله؛ لأن الرسول لا يعمل إلا بإذن ربه وامتثالا لأمره، فتكون
المسألة واحدة.
هناك قضية تعرض لها الكتاب وهي قضية قد تشغل كثيراً من الناس الذين عاصروا رسول
الله صلى الله عليه وسلم، كان مجلسه صلى الله عليه وسلم لا يُصد عنه قادم، يأتي
فيجلس حيث ينتهي به المجلس، فالذي يريد النبي دائما يستمر في جلوسه، والذي يريد أن
يراه كل فترة يأتي كلما أراد ذلك فثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
شديد الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قليل الصبر عنه، فأتاه يوما ووجهه متغير
وقد نحل وهزل جسمه، وعُرِف الحزن في وجهه، فسأله النبي قائلا: ما بك يا ثوبان؟
فقال والله ما بي مرض ولا علة، ولكني أحبك وأشتاق إليك، وقد علمت أني في الدنيا
أراك وقتما أريد، لكنك في الآخرة ستذهب أنت في عليين مع النبيين، وإن دخلت الجنة
كنت في منزل دون منزلك، وإن لم أدخل فذاك حين لا أراك أبدا.
ونص الحديث كما رواه ابن جرير - بسنده - عن سعيد بن جبير قال: " جاء رجل من
الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو محزون - فقال له النبي صلى الله
عليه وسلم: " يا فلان مالي أراك محزوناً "؟ فقال: يا نبي الله شيء فكرت
فيه فقال: " ما هو "؟ قال: نحن نغدو عليك ونروح ننظر إلى وجهك ونجالسك،
وغدا تُرفع مع النبيين فلا نصل إليك، فلم يرد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -
شيئاً فأتاه جبريل بهذه الآية: " ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم
الله عليهم من النبيين ".. فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إليه فبشره.
وكيف يأتى هذه على البال؟! إنه إنسان مشغول بمحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛
وفكر: هل ستدوم له هذه النعمة؟ وتفكر في الجنة ومنازلها وكيف أن منزلة الرسول
ستعلو كل المنازل.
وثوبان يريد أن يطمئن على أن نعمة مشاهدته للنبي صلى الله عليه وسلم لن تنتهي ولن
تزول منه، إنه يراه في الدنيا، وبعد ذلك ماذا يحدث في الآخرة: فإما أن يدخل الجنة
أو لا يدخلها، إن لم يدخل الجنة فلن يراه أبداً. وإن دخل الجنة والنبي في مرتبة
ومكانة عالية. فماذا يفعل؟
انظر كيف يكون الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فالله سبحانه وتعالى يلطف بمثل
هذا المحب الذي شغل ذهنه بأمر قد لا يطرأ على بال الكثيرين، فيقول الحق سبحانه
وتعالى تطمينا لهؤلاء: } وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـائِكَ { أي
المطيعون لله والرسول } مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ
النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ
أُولَـائِكَ رَفِيقاً { والمسألة جاءت خاصة بثوبان، بعد أن نبه الأذهان إلى قضية قد
تشغل بال المحبين لرسول الله، فأنت مع من أحببت، ولكن الأمر لا يقتصر على ثوبان.
لقد كان كلام ثوبان سبباً في الفتح والتطمين لكل الصديقين والشهداء والصالحين. وهي
أصناف تستوعب كل المؤمنين، فأبو بكر الصديق صِدِّيقٌ لماذا؟ لأنه هو: المبالغ في
تصديق كل ما يقوله سيدنا رسول الله، ولا يعرض هذا القول للنقاش أو للتساؤل: أي هذه
تنفع أو لا تنفع؟ فعندما قالوا لسيدنا أبي بكر: إن صاحبك يدعى أنه أتى بيت المقدس
وعاد في ليلة ونحن نضرب إليها أكباد الإبل، ماذا قال أبو بكر؟قال: إن كان قال ذلك
لقد صدق.
لم يعلل صدقه إلا بـ " إن كان قد قال ذلك " ، فهذا هو الصديق الحق،
فكلما قال محمد شيئا صدقه أبو بكر، وأبو بكر - رضوان الله عليه - لم ينتظر حتى
ينزل القرآن مصدقا للرسول - صلى الله عليه وسلم - بل بمجرد أن قال صلى الله عليه
وسلم: إني رسول. قال أبو بكر: نعم. إذن فهو صديق.
لقد كانت هناك تمهيدات لأناس سَبَقوا إلى الإسلام؛ لأن أدلتهم على الإيمان سبقت
بعثة الرسول، هم جربوا النبي عليه الصلاة والسلام، وعرفوه، فَلَمَّا تحدث
بالرسالة، صدقوه على الفور؛ لأن التجارب السابقة والمقدمات دلت على أنه رسول،
ومثال ذلك: سيدتنا خديجة - رضوان الله عليها - ماذا قالت عندما قال لها النبي: إنه
يأتيني كذا وكذا وأخاف أن يكون هذا رَئِيّاً ومَسّاً من الجن يصيبني.
فقالت خديجة: " كلا والله ما يُخزيك الله أبدا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل
الكَلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق ". وهذا أول
استنباط فقهي في الإسلام.
هذا هو معنى " مع النبيين والصديقين " ، } وَالشُّهَدَآءِ { هم الذين
قتلوا في سبيل الله، لكن على المؤمن حين يقاتل في سبيل الله ألا يقول: أنا أريد أن
أموت شهيداً. ويلقي بنفسه إلى التهلكة، إياك أن تفهمها هكذا، فأنت تدافع عن رسالة
ولا بد أن تقاتل عدوك بدون أنك تمكنه من أن يقتلك؛ لأن تمكينه من قتلك، يفقد
المسلمين مقاتلاً.
فكما أن الشهداء لهم فضل؛ فالذين بقوا بدون استشهاد لهم فضل. فالإسلام يريد أدلة
صدق على أن دعوته حق، وهذه لا يثبتها إلا الشهداء.
لكن هل يمكن أن نصبح جميعاً شهداء؟ ومن يحمل منهج الله إلى الباقين؟ إذن فنحن نريد
من يبقى ومن يذهب للحرب، فهذاله مهمة وهذا له مهمة، ولذلك كانت " التقية
" وهي أن يظهر رغبته عن الإسلام ويوالي الكفار ظاهرا وقلبه مطئمن بالعداوة
لهم انتظاراً لزوال المانع وذلك استبقاء لحياته كي يدافع ويجاهد في سبيل الله.؟
وسببها أن الإسلام يريد من يؤكد صدق اليقين في أن الإنسان إذا قتل في سبيل الله
ذهب إلى حياة أفضل وإلى عيش خير، هذا يثبته الشهيد. ولذلك فالحق سبحانه وتعالى
عندما تأتيهم غرغرة الشهادة يريهم ما هم مقبلون عليه، فيتلفظون بألفاظ يسمعها من
لم يقبل على الشهادة؛ فهناك من يقول: هبي يا رياح الجنة، ويقول كلمة يتبين منها أن
ينظر إلى الجنة كي يسمع من خلفه، ومفرد شهداء، إما شهيد وهو الذي قتل في سبيل
الله، وإمّا هي جمع شاهد، فيكون الشهداء هم الذين يشهدون عند الله أنهم بلغوا من
بعدهم كما شهد رسول الله أنه بلغهم.
والمعاني كلها تدور حول معنى أن يشهد شيئاً يقول به وبذلك نعرف أننا نحتاج إلى
الاثنين: من يقتل في سبيل الله، ومن يبقى بدون قتل في سبيل الله؛ لأن الأول يؤكد
صدق اليقين بما يصير إليه الشهيد، والثاني يُعطينا بقاء تبليغ الدعوة فهو شاهد
أيضاً:{ لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ }[البقرة: 143].
و " الصالحين " والصالح هو المؤهل لأن يتحمل لأن يتحمل مهمة الخلافة
الإيمانية في الأرض. فكل شيء يؤدي نفعاً يتركه على حاله، وإن أراد أن يزيد في
النافع فليرق النفع منه، فمثلاً: الماء ينزل من السماء، وبعد ذلك يكون جداول،
ويسير في الوديان، وتمتصه الأرض فيخرج عيوناً، فعندما يرى عيناً للمياه فهو يتركها
ولا يردمها فيكون قد ترك الصالح على صلاحه، وهناك آخر يرقى النفع من تلك النعمة
فيبني حولها كي يحافظ عليها. إذن فهذا قد أصلح بأن زاد في صلاحه.
وهناك ثالث يقول: بدلاً من أن يأتي الناس من أماكنهم متعبين بدوابهم ليحملوا الماء
في القِرَب أو على رءوس الحاملين، لماذا لا أستخدم العقل البشري في الارتقاء بخدمة
الناس لينتقل الماء إلى الناس في أماكنهم، وهنا يصنع الصهاريج العالية ويصلها
بمواسير وأنابيب إلى كل من يريد ماء فيفتح الصنبور ليجد ما يريد. ومن فعل ذلك
يسَّر على الناس، فيكون مصلحاً بأن جاء إلى الصالح في ذاته فزاده صلاحاً.
ويختم الحق الآية بقوله: } وَحَسُنَ أُولَـائِكَ رَفِيقاً {. و " أولئك
" تعني النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ولا توجد رفقة أفضل من هذه،
والرفيق هو: المرافق لك دائما في الإقامة وفي السفر، ولذلك يقولون: خذ الرفيق قبل
الطريق، فقد تتعرض في الطريق لمتاعب وعراقيل؛ لأنك خرجت عن رتابة عادتك فخد الرفيق
قبل الطريق. ونعرف أن الأصل في المسائل المعنوية: كلها منقولة من الحسيات، وفي يد
الإنسان يوجد المرفق.. يقول الحق:{ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى
الْمَرَافِقِ }[المائدة: 6].
وساعة يكون الواحد مرهقاً ورأسه متعباً يتكئ على مرفقه ليستريح، وساعة يريد أن
ينام ولم يجد وسادة يتكئ على مرفقه أيضاً. إذن فالمادة كلها مأخوذة من الرفق،
فالرفيق مأخوذ من الرفقو " المرافق " مأخوذة من الرفق لأنها ترفق بالجسم
وتريحه، وفي كل بيت توجد المرافق وهي مكان إعداد الطعام وكذلك دورة المياه، وفي
الريف تزيد المرافق ليوجد مكان لمبيت الحيوانات التي تخدم الفلاح، وبيوت الفقراء
قد تكون حجرة واحدة فيها مكان للنوم، ومكان للأكل، وقد يربط الفقير حماره في زاوية
من الحجرة، لكن عندما يكون ميسور الحال فهو يمد بيته بالمرافق المكتملة. أي يكون
في المنزل مطبخ مستقل، ومحل لقضاء الحاجة، وحظيرة مستقلة للمواشي، وكذلك يكون هناك
مخزن مستقل، وهذه كلها اسمها " مرافق " لأنها تريح كل الناس.
إذن فقوله: " وحسن أولئك رفيقاً " مأخوذة من الرفق وهو: إدخال اليسر،
والأنس، والراحة، ويكون هذا الإنسان الذي أطاع الله ورسوله بصحبة النبيين،
والصديقين، والشهداء، والصالحين.
وقد يقول قائل: كيف يجتمع كل هؤلاء في منزلة واحدة؛ على الرغم من اختلاف أعمالهم
في الدنيا، أليس الله هو القائل:{ وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىا
}[النجم: 39].
ونقول: ما دام المؤمن أطاع الله وأطاع الرسول، أليس ذلك في سعيه؟ فهذه الطاعة
والمحبة لله ولرسوله هي من سعي العبد؛ وعلى ذلك فلا تناقض بين الآيتين، لأن عمل
الإنسان هو سعيه، ويصبح من حقه أن يكون في معية الأنبياء والصديقين والشهداء
والصالحين. وقد تكون الصحبة تكريما لهم جميعاً ليأنسوا بالصحبة، وهذه المسألة
ستشرح لنا قوله:{ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ }[الأعراف: 43].
فساعة يرى واحد منزلته في الآخرة أعلى من آخر، إياك أن تظن أنه سيقول: منزلتي أعلى
من هذا؛ لأنه ما دام قد ترك الأسباب في الدنيا وعاش مع مسبب الأسباب، فهو من حبه
لله يحب كل من سمع كلام ربنا في الدنيا فيقول لكل محب لله: أنت تستحق منزلتك،
ويفرح لمن منزلته أعلى منه.
وأضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - لنفرض أن هناك فصلاً فيه تلاميذ كثيرة،
بعضهم يحب أن ينجح فقط، وبعضهم يحب العلم لذات العلم، وعندما يجد عشاق العلم
تلميذاً نجيباً، أيكرهونه أم يحبونه؟ إنهم يحبونه ويسألونه ويفرحون به ويقولون:
هذا هو الأول علينا؛ لأنه لا يحب نفسه بل يحب الآخرين، فكذلك المؤمن الذي يكون في
منزلة بالجنة ويرى غيره في منزلة أعلى، إياك أن تقول إن نفسه تتحرك عليه بالغيرة،
لا.
لأنه من حبه لربه وتقديره له يحب من كان طائعاً لله ويفرح له، مثله مثل التلميذ
الذي ينال مرتبة عالية فيحب التفوق للآخرين من غير حقد. وهكذا نجد أن الآية التي
نحن بصدد خواطرنا عنها لا تخدش قول الحق: } وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا
سَعَىا {.
وهناك بحث آخر في قوله الحق: } وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىا {. فـ
" اللام " تفيد الملك والحق، كقولنا: ليس لك عندي إلا كذا، أي أن هذا
حقك، فقوله: } وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىا { أي هي حق للمؤمن وقد
حددت العدل في الحق ولم تحدد الفضل، ولذلك قال بعدها: } ذالِكَ الْفَضْلُ... {.
(/350)
ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)
فالفضل من الله يستمّد حيثيته من سعى الإنسان، فقوله: { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ
إِلاَّ مَا سَعَىا } حددت الحق الذي لك والذي توجبه عدالة التكليف، لكن ربنا لم
يقل: إن هذا العطاء لله من الحق والعدل. بل هو من الفضل، والفضل من الله هو مناط
فرح المؤمن؛ لأنك مهما عملت في التكليف فلن تؤديه كما يجب بالنسبة لله، ولذلك أوضح
سبحانه لنا: تنبهوا.. أنا كلفتكم وقد تعملون وتجتهدون، لكن لا تفرحوا مما سيجمعه
هذا العمل من حسنات، ولكن سيكون فرحكم بما يعطيكم ربكم من فضله قال سبحانه:{ قُلْ
بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا
يَجْمَعُونَ }[يونس: 58].
وذلك الفضل من الله يرد على من يقول: كيف يجيء " ثوبان " أو مَن دون
" ثوبان " ويكون في الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء ومع الصالحين،
ونقول: لو لم تكن منزلته أدنى لما كان في ذلك تفضل، إنه ينال الفضل بأن كانت طاعته
لله ولرسوله فوق كل طاعة، أما حبه لله وللرسول، فهذا من سعيه وعمله بتوفيق الله له
- وما توفيقي إلا بالله - والفضل هو مناط فرح المؤمن { ذالِكَ الْفَضْلُ مِنَ
اللَّهِ وَكَفَىا بِاللَّهِ عَلِيماً }. ونحن نرضى ونفرح ونكتفي بعلم الله؛ لأنه
سبحانه يرتب أحكامه على علم شامل ومحيط، ويعرف صدق الحب القلبي وصدق الودادة، وصدق
تقدير المؤمن لمن زاد عنه في المنزلة.
وبعد أن أمّن الحق لنا داخلية وطننا الإيماني، وتجمعنا الإسلامي بالأصول التي
ذكرها، وهي: أن نؤدي الأمانات، وإذا أدينا الأمانات فلن نحتاج إلى أن نتقاضى، فإذا
غفل بعضنا ولم يؤد أمانة، وحدث نزاع فسيأتي الحكم بالعدل. وبعد ذلك نحتكم في كل
أمورنا إلى الله وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نحتكم إلى الطواغيت، وهات
لي مجتمعا إيمانيا واحدا يؤدي الأمانة ولا يشعر بالاطمئنان.
وعرفنا أن الأمانة هي: حق لغيرك في ذمتك أنت تؤديه، وكل ما عداك غير. وأنت غير
بالنسبة لكل ما عداك، فتكون كلها مسألة في الخير المستطرق للناس جميعا، وإذا حدثت
غفلة يأتي العدل. والعدل يحتاج حكما، وعندما نأتي لنحكم نحتكم لله وللرسول، وإياك
أن تتحاكم إلى الطاغوت. وكان " كعب بن الأشرف " يمثل الطاغوت سابقا،
والآن أيضاً يوجد من هم مثل كعب بن الأشرف. بل هناك طواغيت كثيرة.
إنك إذا رأيت خللاً في العالم الإسلامي فأعلم أن هناك خللاً في تطبيق التكليف
الإسلامي، فكيف تستقيم لنا الأمور ونحن بعيدون عن منهج تكاليف الإسلام المكتملة؟
ولو استقامت الأمور لكانت شهادة بأن هذا المنهج لا ضرورة له. لكن إذا حدث شيء فهذا
دليل صدق التكليف.
وبعد أن طمأننا على المصير الأخروي مع النبيين والصديقين والشهداء أوضح سبحانه:
لاحظوا أن كل رسالة خير تأتي من السماء إلى الأرض ما جاءت إلا لمحاربة فساد وقضاء
على فساد طام في الأرض؛ لأن النفس البشرية إما أن يكون لها وازع من نفسها بحيث
إنها قد تهم مرة بمعصية ثم توبخ نفسها وتعود إلى المنهج، فتكون مناعتها ذاتية،
وإما أن المناعة ليست ذاتية في النفس بل ذاتية في البيئة، فمثلاً نجد واحداً لا
يقدر على نفسه.
لكنه يجد واحداً آخر يقول له: " هذا عيب ". وهذا يعني أن البيئة مازال
فيها خير، وكانت الأمم السابقة قد خلت من المناعة وصارت على هيئة ومسلك واحد وهو
ما يصوره الحق بقوله:{ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ
}[المائدة: 79].
إذن فقد فسدت مناعة الذات، ولا توجد مناعة في المجتمع، فتتدخل - إذن - السماء. لكن
الحق فضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم وميزها على غيرها من الأمم لأن مناعتها
دائماً في ذوات أفرادها. فإن لم تكن في ذوات الأفراد ففي المجموع، فلا يمكن أن
يخلو المجتمع الإيماني من فرد يقول: لا. ولذلك لن يأتي رسول بعد رسول الله صلى
الله عليه وسلم. فلو كانت ستحدث طامة وفسد بها المجتمع ولا نجد فيه من يقول: لا..
لكان ولا بد أن يأتي رسول، لكن محمدا كان خاتم النبيين؛ لأن الله سبحانه وتعالى
فضل أمة محمد بأن جعل وازعها دائماً أما من ذاتها بحيث يرد كل فرد نفسه وتكون نفسه
لوّامة، وإمّا مناعة في المجتمع وكل واحد فيه يوصِي، وكل واحد يوصيَ، واقرأ قول
الحق سبحانه وتعالى:{ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ
آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ
بِالصَّبْرِ }[العصر: 1-3].
تواصوا لماذا؟ لأن النفس البشرية أغيار، فقد تهيج نفسي لأخرج عن المنهج مرة؛ فواحد
آخر ينهاني، وأنا أردها له وأهديه وأرشده إلى الصراط المستقيم، وواحد آخر أخطأ
فأنا أقول له وأنهاه. إذن فقوله: " وتواصوا " يعني: ليكن كل واحد منكم
موصيا وموصى. فكلنا يَنظر بعضنا ويلاحظه؛ مَن ضعف في شيء يجد من يقوِّمه، فلا
ينعدم أن يوجد في الأمة المحمدية موصٍ بالخير ومُوصى أيضا بالخير، وتوجد في النفس
الواحدة أنه موصٍ في موقف ومُوصىً في موقف آخر؛ بحيث لا يتأبى إن وصاه غيره؛ لأنه
كان يوصى بالأمس، وكما قالوا: " رحم الله امرأ أهدى إلى عيوبي ".
وبعد أن استكمل الحق بناء البيئة الإيمانية برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وصرتم
أنتم آخر الأمم. فهو سبحانه يطمئننا على أن الشر لا يطم عندنا وستبقى فينا مناعة
إيمانية حتى وإن لم يلتزم قوم فسيلتزم آخرون. وإن لم يلتزم الإنسان في كل تصرفاته،
فسيلتزم في البعض ويترك البعض، ولو لم تتدخل المساء بمنهج قويم لصار العالم متعبا.
وكيف يتعب العالم؟ إن العالم يتعب إذا تعطلت فيه مناهج الحق الذي استخلفنا في
الأرض. فتطغى مظاهر الجبروت والقوة على مظاهر الضعف. ويتحكم في كل إنسان هواه.
وفي عالمنا المعاصر نرى حتى في الأمم التي لا تؤمن بدين لا تترك شعوبها لهوى
أفرادها، بل ينظمون الحياة بتشريعات قد تتعبهم، ووضعت الأمم غير المتدينة لنفسها
نظاما يحجز هوى النفس، ونقول لهم: أنتم عملتم على قدر فكركم، وعلى قدر علمكم بخصال
البشر، وعلى قدر علمكم بالطبائع وأنتم تجنيتم في هذه؛ لأنكم تقننون لشيء لم تخلقوه
بشيء لم تصنعوه.
وأصل التقنين: أن تقنن لشيء صنعته، كما قلنا: إن الذي يضع برنامج الصيانة لأي آلة
هو من صنع الآلة، فالذي صَنَع التليفزيون أيترك الجزار يضع قانون للتليفزيون
برنامج الصيانة؟ لا، فمن صنع التليفزيون هو الذي يضع قانون صيانته، فما بالنا
بالذي خلقنا؟ إنه هو الذي يضع قانون صيانتي: بـ " افعل ولا تفعل " ،
فأنتم يا بشر تتحكمون في أشياء بأهواء بعض الناس وتقولون: افعل هذه ولا تفعل هذه،
فعلى أي أساس عرفتم شرور المخالفات؟ هل خلقتم أنتم النفس وتعرفون ملكاتها؟ لا.
بدليل أنكم تعدلون قوانينكم، ويحدث التعديل - كما قلنا - لأن المشرع يتبين خطأ
فيستدرك الخطأ، والمشرع البشرى يخطيء لأنه يقنن لما لم يصنع، فإذا كنا لا نريد أن
يظهر خطأ فلنترك التقنين لمن صنع وهو الله.
والتاريخ البشرى يؤكد أن الفساد يطم عندما يتعطل منهج السماء، والسماء تتخل
برسالة، وكل رسالة جاءت كان لها خصوم وهم المنتفعون بالشر، وهؤلاء لن يتركوا منهج
الله يسيطر ليسلبهم هذه الهيمنة والسيطرة والقهر والجبروت والانتفاع بالشر، بل يحاربون
رسالات السماء، ويلفتنا الحق إلى أن أهل الشر والناس المنفلتين من مناهج السماء
وغير المتدينين، سيسببون لكم متاعب، فبعدما توطنون أنفسكم التوطين الإيماني
انتبهوا إلى خصومكم وإلى أعدائكم في الله لقد قال الحق سبحانه وتعالى في هذه
القضية: } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ... {.
(/351)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71)
لا يقال لك: خذ حذرك إلا إذا كان هناك عدو يتربص بك؛ فكلمة: خذ حذرك " هذه
دليل على أن هذا الحذر مثل السلاح، مثلما يقولون: خذ بندقيتك خذ سيفك، خذ عصاك،
فكأن هذه آلة تستعد بها في مواجهة خصومك وتحتاط لمكائدهم، ولا تنتظر إلى أن تغير
عليك المكائد، بل عليك أن تجهز نفسك قبل ذلك على احتمال أن توجد غفلة منك، هذا هو
معنى أخذ الحذر، ولذلك يقول الحق:{ وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن
قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ
}[الأنفال: 60].
وهذا يعني: إياك أن تنتظر حتى يترجموا عداءهم لك إلى عدوان؛ لأنهم سيعجلونك فلا
توجد عندك فرصة زمنية كي تواجههم. فلا بد لكم أيها المؤمنون من أخذ الحذر لأن لكم أعداء،
وهؤلاء الأعداء هم الذين لا يحبون لمنهج السماء أن يسيطر على الأرض. فحين يسيطر
منهج السماء على الأرض فلن يوجد أمام أهواء الناس فرصة للتلاعب بأقدار الناس. ومن
ينتفعون بسيطرتهم وبأهوائهم على البشر فلن يجدوا لهم فرصة سيادة.
{ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُواْ جَمِيعاً } أي لتكن النفرة منكم على مقدار
ما لديكم من الحذر، و " ثبات " جمع ثُبَة وهي الطائفة أي انفروا سَرِيّة
بعد سَرِيَّة و " جميعا " أي اخرجوا كلكم لمواجهة العدو، وعلى ذلك يجب
أن نكون على مستوى ما يهيج من الشر. فإن هاجمتنا فصيلة أو سرية، نفعل كما كان يفعل
رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد كان يرسل سرية على قدر المسألة التي تهددنا،
وإن كان الأمر أكبر من ذلك ويحتاج لتعبئة عامة فنحن ننفر جميعا. ولاحظوا أن الحق
يخاطب المؤمنين ويعلم أن لهم أغياراً قد تأتي في نفوسهم مع كونهم مؤمنين. فقد تخور
النفس عند مواجهة الواقع على الرغم من وجود الإيمان.
ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى في سورة البقرة:{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن
بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ
لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ }[البقرة: 246].
لقد كانوا هم الذين يطلبون القتال، وما داموا هم الذين قد طلبوا القتال فلا بد أن
يفرحوا حين يأتي لهم الأمر من الله بذلك القتال؛ لكن الله أعلم بعباده لذلك قال
لهم:{ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ
}[البقرة: 246].
فأوضح لهم الحق أن فكروا جيدا في أنكم طلبتم القتال وإياكم ألا تقاتلوا عندما نكتب
عليكم هذا القتال لأنني لم أفرضه ابتداء، ولكنكم أنتم الذين طلبتم، ولأن الكلام
مازال نظريا فقد قالوا متسائلين:{ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا }[البقرة: 246].
لقد تعجبوا واستنكروا ألا يقاتلوا في سبيل الله، خصوصاً أنهم يملكون السبب الذي
يستوجب القتال وهو الإخراج من الديار وترك الأبناء، لكن ماذا حدث عندما كتب الحق
عليهم القتال؟:
{ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ
}[البقرة: 246].
لقد هربت الكثرة من القتال وبقيت القلة المؤمنة. وكانت مقدمات هؤلاء المتهربين من
القتال هي قولهم رداً على نبيهم عندما أخبرهم أن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً
فقالوا:{ أَنَّىا يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ
مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ }[البقرة: 247].
كانت تلك أول ذبذبة في استقبال الحكم، فأوضح لهم الحق السرّ في اصطفاء طالوت، فهو
قوي والحرب تحتاج إلى قوة، وهو عالم، والحرب تحتاج إلى تخطيط دقيق؛ فقال سبحانه:{
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ
وَالْجِسْمِ }[البقرة: 247].
وعندما جاءوا القتال أراد الحق أن يمحصهم ليختبر القوي من الضعيف فقال لهم طالوت:{
إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن
لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ
فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ
وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ
وَجُنودِهِ }[البقرة: 249].
والتمحيص هنا ليعرف من منهم يقدر على نفسه وليختبر قوة التحمل عند كل فرد مقاتل،
فليس مسموحاً بالشرب من ذلك النهر إلا غرفة يد. فشربوا من النهر إلا قليلاً منهم،
هكذا أراد الحق أن يصفيهم تصفية جديدة، وعندما رأوا جيش جالوت{ لاَ طَاقَةَ لَنَا
الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ }[البقرة: 249].
وما الضرورة في كل هذه التصفيات؟ لقد أراد الله ألاَّ يَحْمِلَ الدفاع عن منهجه
إلا المؤمنون حقاً، وهم مَنْ قالوا:{ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً
كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ }[البقرة: 249].
وقوله تعالى:{ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ }[البقرة: 251].
لماذا أعطانا ربنا هذه الصورة من التصفيات؟ كي نفهم أن النفس البشرية حين تواجه
بالحكم نظرياً لها موقف، وحين تواجه به تطبيقياً لها موقف ولو بالكلام، وحين تواجه
به فعليا يكون لها موقف، وعلى كل حال فقليل من قليل من قليل هم الذين ينصرهم الله.
إذن فيريد سبحانه أن يربي في نفسونا أنه جل وعلا هو الذي يهزِم، وهو الذي يَغْلِب
مصداقاً لقوله الحق:{ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ }[التوبة:
14].
إذن فالحق سبحانه وتعالى يوضح لنا: أنا قلت لكم انفروا ثبات أو انفروا جميعاً
واعلموا أن النفس البشرية هي بعينها النفس البشرية، وستتعرض للذبذبة حين تواجه
الحكم للتطبيق، ولذلك يأتي هنا بقوله الحق: } وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن
لَّيُبَطِّئَنَّ..... {.
(/352)
وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72)
فساعة ندعو إنساناً منكم للحرب قد يبطئ ويتخاذل، مثلما قال في آية أخرى:{ مَا
لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى
الأَرْضِ }[التوبة: 38].
و " اثاقلتم " تعني: أن هناك من يتثاقل أي ينزل إلى الأرض بنفسه، وعلينا
أن نفرق بين من ينزل بجاذبية الأرض فقط، وبين من يساعد الجاذبية في إنزاله، فمعنى
" أثاقل " أي تباطأ، وركن، وهذا دليل على أنه يريد أن يتخاذل، وهؤلاء لا
يتاطأوا فحسب بل إنهم أقسموا على ذلك. ومنهم من كان يثبط ويُبَطِّئ غيره عن الغزو
كالمنافق عبد الله بن أبيّ.
{ وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ } فافهموا وخذوا هذه المناعة ضد من يعوق
زحف المنهج قبل أن تبدأ المعركة، حتى إذا وقعت المعركة نكون قد عرفنا قوتنا
وأعددنا أنفسنا على أساس المقاتلين الأشداء. لا على من يتباطأون ويتثاقلون، هناك
من يفرح ببقائه حياً عندما يرى هزيمة المسلمين أو قتل بعضهم لأنه لم يكن معهم،
فيظهر الحق أمثال ذلك ويقول: { فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ
أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً }. لقد تراخى وبقي،
وعندما تأتيهم المصيبة من قتل، أو من هزيمة يقول لنفسه: الحمد لله أنني لست معهم.
إذن تثاقله وتخلفه وتأخره عن الجهاد، كان عن قصد وإصرار في نفسه. وهذه قمة التبجح
فهو مخالف لربنا وعلى الرغم من ذلك يقول: أنعم الله عليّ، مثله كمثل الذي يسرق
ويقول: ستر الله عليّ، وهذه لهجة من لم يفهم المنهج الإيماني، فيقول: " قد
أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيداً ". إنه لم يكن معهم ولم يكن شهيداً
ويعتبر هذا من النعمة، ولذلك قال بعض العارفين: إن من قال ذلك دخل في الشرك،
فالمصيبة في نظره إما قتل وإما هزيمة. ثم ماذا يكون موقف المتخاذل المتثاقل المتباطئ
عند الغنيمة أو النصر؟ يقول الحق: { وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ الله... }.
(/353)
وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73)
إذن فالعلّة في قوله: يا ليتني كنت معهم ليست رجوعاً عما كان في نفسه أولاً، بل هو
تحسرّ أن فاتته الغنيمة، وجاء الحق سبحانه وتعالى هنا بجملة اعتراضية في الآية
تعطينا لقطة إيمانية، فيقول: { وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ الله
لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يالَيتَنِي
كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً }.
والجمة الاعتراضية هي قوله: كأن لم تكن بينكم وبينه مودة كأن المودة الإيمانية ليس
لها ثمن عنده، فلو كان لها أدنى تقدير لكان عليه ألا يقول في البداية: أنعم الله
عليّ إذ لم أكن معهم شهيداً، ولكان مع المقاتلين المسلمين، لكنه يرغب في الفوز
والغنيمة فقط، ويبتعد عن المسلمين إذا ما أصابتهم الهزيمة واستشهد عدد منهم.
وبذلك يكشف لنا الحق موقف المتخاذلين ويوضح لنا: إياكم أن تتأثروا بهؤلاء حين
تنفرون ثباتٍ أو حين تنفرون جميعاً. واعلموا أن فيكم مخذلين وفيكم مبطئين وفيكم
متثاقلين، لا يهمهم إلأا أن يأخذوا حظاً من الغنائم، ولذلك يحمدون الله أن هزمتم
ولم يكونوا معكم؛ ويحبون الغنائم ويتمنونها إن انتصرتم ولم يكونوا معكم، إياكم أن
تتأثروا بهذا وقد أعطيتم هذه المناعة حتى لا تفاجأوا بموقفهم منكم وتكونوا على
بصيرة منهم. والمناعات ما هي إلا تربية الجسم، إن كانت مناعة مادية، أو تربية في
المعاني، إن حدث مكروه فأنت تملك فكرة عنه لتبني ردّ فعلك على أساس ذلك.
ونحن عندما يهاجمنا مرض نأتي بميكروب المرض نفسه على هيئة خامدة ونطعِّم به
المريض، وبذلك يدرك ويشعر الجسم أن فيه مناعة، فإذا ما جاء الميكروب مهاجماً الجسم
على هيئة نشيطة، فقوى المقاومة في الجسم تتعارك معه وتحاصر الميكروب، فكأن إعطاء
حقن المناعة دربة وتنشيط لقوى المقاومة في الجسم، وقد أودعها الله في دمك كي تؤدي
مهمتها، كذلك في المعاني يوضح الحق لكم: سيكون منكم من يفعل كذا وكذا، حتى تعدًّوا
أنفسكم لاستقبال هذه الأشياء إعداداً ولا تفاجأون به؛ لأنكم إن فوجئتم به فقد
تنهارون. فإياكم أن تتأثروا بهذا ويقول الحق بعد ذلك: { فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ الَّذِينَ... }.
(/354)
فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)
ومادة: " شرى " ومادة " اشترى " كلها تدل على التبادل
والتقايض، فأنت تقول: أنا اشتريت هذا الثوب بدرهم؛ أي أنك أخذت الثوب ودفعت
الدرهم، وشرى تأتي أيضا بمعنى باع مثل قول الحق:{ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ
دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ }[يوسف: 20].
فالجماعة الذين وجدوا سيدنا يوسف عليه السلام في الجب كانوا فيه من الزاهدين. وبعد
ذلك باعوه بثمن بخس، إذن فـ " شرى " من الأفعال التي تأتي بمعنى البيع
وبمعنى الشراء؛ لأن المبيع والمشتري يتماثلان في القيمة، وكان الناس قديماً
يعتمدون على المقايضة في السلع، فلم يكن هناك نقد متداول، كان هناك من يعطي بعض
الحب ويأخذ بعض التمر، فواحد يشتري التمر وآخر يشتري الحب، والذي جعل المسألة تأخذ
صورة شراء وبيع هو وجود سلع تباع بالمال.
وما الفرق بين السلع والمال؟. السلعة هي رزق مباشر والمال رزق غير مباشر.
فأنت مثلاً تأكل رغيف الخبز وثمنه خمسة قروش، لكن لو عندك جبل من ذهب وتحتاج رغيفا
ولا تجده؛ أينفعك جبل الذهب؟ لا. إذن فالرغيف رزق مباشر؛ لأنك ستأكله، أما الذهب
فهو رزق غير مباشر؛ لأنك تشتري به ما تنتفع به. وبذلك نستطيع أن نحدد المسألة؛
فالسلعة المستفاد منها مباشرة هي رزق مباشر، ندفع ثمنها مما لا ننتفع به مباشرة،
والحق سبحانه وتعالى يريد أن يعقد مع المؤمن به صفقة فيها بيع وشراء. وأنتم تعلمون
أن البائع يعطي سلعة ويأخذ ثمنا، والشارى يعطي ثمنا ويأخذ سلعة، والحق يقول هنا:
{ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا
بِالآخِرَةِ } [النساء: 74].
فالمؤمن هنا يعطي الدنيا ليأخذ الآخرة التي تتمثل في الجنة والجزاء، ومنزلة
الشهداء؛ ولذلك يقول الحق في آية أخرى:{ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي
بَايَعْتُمْ بِهِ }[التوبة: 111].
تلك هي الصفقة التي يعقدها الحق مع المؤمنين، وهو سبحانه يريد أن يعطينا ما نتعرف
به على الصفقات المربحة، فكل منا في حياته يحب أن يعقد صفقة مربحة بأن يعطي شيئاً
ويأخذ شيئاً أكبر منه، ولذلك يقول في آية أخرى:{ يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ
}[فاطر: 29].
هنا أيضاً تجارة، وأنت حين تريد أن تعقد صفقة عليك أن تقارن الشيء الذي تعطيه
بالشيء الذي تأخذه ثم افرق بينهما، ما الذي يجب أن يضحي به في سبيل الآخر؟.
والحق قد وصف الحياة بأنها " الدنيا " ولا يوجد وصف أدنى من هذا، فأوضح
المسألة: إنك ستعطي الدنيا وتأخذه الآخرة، فإذا كان الذي تأخذه فوق الذي تعطيه
فالصفقة - إذن - رابحة، فالدنيا مهما طالت فإلى نهاية، ولا تقل كم عمر الدنيا،
لأنه لا يعنيك أن يكون عمر الدنيا ألف قرن، وإنما عمر الدنيا بالنسبة لكل فرد: هو
مقدار حياته فيها، وإلا فإن دامت لغيري فما نفعي أنا؟.
إذن فقيمة الدنيا هي: مقدار عمرك فيها، ومقدار عمرك فيها مظنون، وعلى الرغم من
ارتفاع متوسطات الأعمار في القرن العشرين، لكن ذلك لا يمنع الموت من أن يأخذ
طفلاً، أو فتى، أو رجلاً، أو شيخاً.
إن عمر الدنيا بالنسبة لكل إنسان هو: مقدار حياته فيها، فلا تقارنها بوجودها مع
الآخرين، إنما قارنها بوجودها معك أنت، وهب أنه متيقن ولكنه محدود بسبعين عاماً
على سبيل المثال، ستجد أن تنعمك خلالها مهما كبر وعظم فهو محدود.
والإنسان منا يظل يُربَّى إلى أن يبلغ الحُلُم. فإذا ما بلغ الحُلُم وأصبحت له
حياة ذاتية، أي أن إرادته لم تعد تابعة للأب أو للأم، بينما في طفولته كان كل
اعتماده على أسرته، أبوه يأتي له بالملبس فيلبسه؛ وبالمطعم فيأكله، ويوجهه فيتوجه،
لكن حينما توجد له ذاتية خاصة يقول لأبيه: هذا اللون لا يعجبني! والأكل هذا لا
يعجبني!! هذه الكلية لن أذهب إليها. ولا توجد للإنسان ذاتية لا إذا وصل إلى مرحلة
من العمر يستطيع أن ينسل مثله، فإذا ما أصبح كذلك نقول له: هذا هو النضج، وهو الذي
يجعل لك قيمة ذاتية.
إنك إذا زرعت شجيرة بطيخ. فأنت ترعاها سقياً وتنظيماً وتسميداً، وهي مازالت صغيرة
وتتعهدها كي لا تخرج مشوهة، حتى تنضج، وساعة تنضج يكون الشغل الشاغل قد انتقل من
الشجيرة إلى الثمرة " البطيخة " فيقال صار لها ذاتية؛ لأنك إن شققتها
لتأكلها تجد " اللب " قد نضج، وإن زرعته تأتي منه شجيرة أخرى.
ولكن إذا ما قطفت الثمرة قبل النضج فأنت قد تجد " اللب " أبيض لم ينضج
بعد، فلا تصلح تلك البذور لأن تأتي وتثمر مثلها، وإذا كان " اللب " نصفه
أبيض ونصفه أسود، فهي لم تنضج تماما، أما إذا وجدت " لبّها " أسمر اللون
داكناً فهو صالح للزراعة والإثمار، وتجد الحلاوة متمشية مع نضج البذرة. فلو كانت
الثمار تنضج قبل البذور لتعجل الخلق أكل الثمرة قبل أن تُربى وتنضج البذور
ولانْقَطَعَ النوع؛ لذلك لم يجعل ربنا حلاوة الثمرة إلا بعد أن تنضج البذور، وكذلك
الإنسان، والحق يقول:{ وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ
فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ }[النور: 59].
وعندما يكون الإنسان طفلاً فنحن نتركه يلهو ويرتع في البيت ويرى هذه وهذه، لكن إذا
كان قادراً على نسل مثله واكتملت رجولته فعليه أن يستأذن، وحين يكون الإنسان بهذا
الشكل تصير له ذاتية، ولنفترض أنه سيعيش عدداً من السنين تبلغ حوالي الخمسة
والخمسين عاماً بعدما صارت له ذاتية ويستطيع النسل إنّه سيقضي مراهقته في التعلم
إلى أن يصبح صالحاً لأن يكسب ويعيش ويتمتع، ثم لنسأل: كم سنة سيتمتع؟ سنجدها عدداً
قليلاً من السنوات.
إذن فالحياة محدودة، والمتعة فيها على قدر إمكاناته، فقد يسكن في شقة من حجرتين أو
في شقة مكونة من ثلاث حجرات، أو في منزل خاص صغيراً أو حتى في قصر، وقد يركب أو
يمشي على قدميه، باختصار على قدر إمكاناته، أما في الأخرة فالموقف مختلف تماماً،
سيسلم نفسه إلى حياة عمرها غير محدود، فإن قارنت المحدود بغير المحدود ستجد الغلبة
للآخرة لأنها متيقنة والنعيم فيها على قدر سعة فضل الله وقدرته، فالأحسن لنا أن
نبيع الدنيا ونأخذ الآخرة، فتكون هذه هي الصفقة الرابحة التي لا تبور.
ولماذا يدخل الله العبد في عملية البيع هذه؟؛ لأن الحق سبحانه وتعالى قبل أن يعرض
عليك الصفقة لتدخل في عملية البيع التي تجهدك إن لم تَقْتُل أو تُقْتَل في سبيل
الله لا بد أن يوضح لك كيفية الغاية التي تأخذ بها الفوز في الآخرة، ولن تأخذ هذا
الفوز بالكلام فقط، ولكن انظر إلى المنهج الذي ستقاتل من أجله، إنّه تأسيس المجتمع
الذي يؤدي كل امريء فيه الأمانة، وهذا الأمر لا يحزن منه إلا من يريد أن يأخذ عرق
الناس ويبني جسمه من كدهم وتعبهم، وهات مجتمعاً لا يؤمن بالله وقل: يأيها الناس
نريد أن يؤدي كل واحد منكم الأمانة التي عنده، نريد أن نحكم بالعدل، فسيفرح أهل
هذا المجتمع.
إذن فلكي نحمي المجتمع لا بد أن نؤدي الأمانة وأن نقيم العدالة. ومن قبل ذلك أمرنا
أن نعبد إلهاً واحداً فلا نتشتت، ثم أوصانا بالوالدين والأقربين، واليتامى
والمساكين.
قل لي بالله عليك: لو لم يكن هذا دينا من السماء، وكان تشريعاً من أهل الأرض،
أهناك أعدل من هذا؟
إن مثل هذا المنهج الذي يكفل أمان الجميع يستحق أن يدافع الإنسان عن تطبيقه. وقبل
أن يفرض علينا القتال أوضح سبحانه: هذا هو المجتمع الذي ستقاتلون من أجله، واعلم
أنك ساعة تذهب إلى القتال، أقصى ما فيها أن تُقتل، فستأخذ صفقة الآخرة، وقصرت
مسافة غاياتك؛ لأن كل شيء إنما يقاس بزمن الغاية له، فإن قتلت فقد قصرت المدة
للوصول إلى الغاية، فتصل إلى الجنة، والحمق هو الذي يصيب الناس عندما يموت عزيز أو
حبيب فيغرقون في الحزن. نقول لهم: ألسنا جميعاً سائرين إلى هذه الغاية، فلماذا
الغرق في الحزن إذن؟.
والحق سبحانه وتعالى يكافئ من يقتل في سبيل الله بحياة في عالم الغيب وفيها رزق
أيضاً. وبعض من الناس يظنون أنهم إن فتحوا قبر الشهيد فسيجدونه حياً يُرزق. ونقول
لهم: إن الحق لم يقل: إن الشهداء أحياء عندكم، بل أحياء عنده في غالم الغيب. والحق
سبحانه يطلب من الذي اقتنع بالإسلام أن ينشره، وأن يعدل المسلمون بين أنفسهم
لتنصلح أمورهم، وأن يواجهوا أصحاب الشرّ الذي لا يعلمون إلا ظاهراً من الحياة.
ولم تأمر السماء بقتال قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان الرسول من
السابقين على محمد صلى الله عليه وسلم يبلغ قومه برسالته، فإن آمنوا فبها ونعمت
وإن لم يؤمنوا تتدخل السماء بالعقاب، بريح صرصر، رجفة، صيحة، خسف الأرض بهم،
إغراق، فالرسول قبل محمد صلى الله عليه وسلم كان يبلغ، والسماء تعاقب من لم يؤمن.
وما وجد قتال إلا إذا اقترحوا هم القتال، مثل بني إسرائيل، قال الحق:{ أَلَمْ تَرَ
إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ
لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ }[البقرة: 246].
هم الذين اقترحوا، لكن القتال الذي يُثَبِّت المبدأ وينشر المنهج لإعلاء كلمة
الله، وسيطرة الخلافة الأمنية الإيمانية على الأرض، لم يشرع إلا على يد رسول الله
صلى الله عليه وسلم. فكأن الله لم يأمن خلقاً على خلق إلا أمة محمد صلى الله عليه
وسلم فقد جعلها أمينة. فأنتم أمناء أن تتولوا عن السماء تأديب المخالف، وبذلك
أخذتم المستوى العالي في المنهج والمستوى العالي في الرسالة. وأكرم الله نبيّه
فقال:{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ }[الأنفال: 33].
فجاء القتال وحارب المسلمون - وهم ضعاف - المجتمعات الفاسدة القوية. والشاعر
يقول:فقوى على الضلال مقيم وقطيع من الضعاف يُجارِيهذا القتال لو لم يجيء به
الدين، أَلاَ تقوم به الأمم التي لا دين لها لإصلاح أمرها؟ إنها تقاتل، فلماذا
يكون مباحاً منهم أن يقاتلوا كي يقرروا مبادئهم، وعندما يأتي الدين ليشرع القتال
يقولون: لا. هذا دين سيف.
نقول لهم: بالله لماذا إذن تحارب الشعوب؟ أنت تجد شعوبا تتحارب وتجد ظلما يحارب
ظلما آخر، فإذا ما وجد عدل ليزحزح ظلما نقف في طريقه؟ لا. وذلك حتى نعرف أن
المسألة مسألة رسالة من السماء لا طغيان ذوات اجتمعوا أو بيتوا مؤامرة لصنع انقلاب
يسيطرون به على الناس.
لقد جاء الإسلام وآمن به الضعاف الذين لا يملكون أن يقاتلوا، فلم يكن باستطاعتهم
أن يحموا حتى أنفسهم؛ ذلك حتى نعرف أن الحق ساعة يأتي، يأتي عادة لا من قوي بل
يأتي من ضعيف تعب كثيراً كي يثبت الإيمان، والإسلام نادى ودعا به رسول الله صلى
الله عليه وسلم في مكة لكنه لم ينتصر كدين ولم يسطع إلا من المدينة. فمكة بلد محمد
وفيها قبيلته قريش التي ألفت السيادة على الجزيرة كلها ولا أحد يستطيع أن يقرب
منها بعدوان، ولم تكن هناك قوة تستطيع أن تعترض قوافلها بالتجارة إلى الجنوب أو
إلى الشمال.
إن أي قبيلة تخاف أن تتعرض لها في الطريق؛ لأن القبائل ستأتي إلى قريش في موسم
الحج، وتخاف كل قبيلة من انتقام قريش، فلو أن الإسلام الذي صاح به رسول الله صلى
الله عليه وسلم انتصر في مكة ربما قالوا: قبيلة عشقت السيادة، ودانت لها أمة العرب
فما المانع من أن تطمح في أن يدين لها العالم كله؟
وأراد الحق أن تكون قريش هي أول من يضطهد رسول الله ويحاربه، والضعاف هم الذين
يتبعونه، وبعد ذلك يأتي النصر لدين الله من مكان بعيد عن مكة من " المدينة
" لتشهد الدنيا كلها أن الإيمان بمحمد هو الذي خلق العصبية لمحمد، ولم تخلق
العصبية لمحمد الإيمان بمحمد، وها هوذا سيدنا عمر كان يسمع قول الله سبحانه:
{ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ }[القمر: 45].
فيقول: أي جمع هذا ونحن لا نقدر أن نحمي أنفسنا؟ ويقول الحق:{ سَنَسِمُهُ عَلَى
الْخُرْطُومِ }[القلم: 16].
فيقول عمر: كيف ونحن لا نقدر أن ندافع عن أنفسنا؟
وبعد ذلك تأتي موقعة " بدر " فتُثْبِت له صدق هذا، والعجيب أن الآية
تنزل وهم لا يستطيعون أن يدافعوا عن أنفسهم، فلا يمكن أن يقال: إن هناك مقدمات
لذلك بحيث تستنتج النتيجة؛ فالمقدمات لا توحي بأي نصر، لكن ربنا هو الذي قال،
ورأوا صحيحاً أن الوليد بن المغيرة ضرُب على أنفه وتركت الضربة علامة على أنفه؛
لأن الذي قال ذلك من قبل قادر على إنفاذ ما يقول بدون قوة تحول دون ذلك أبداً،
وهذا يدلنا على اختبار المبادئ.
إنك تجد أنّ الذي يؤمن بالمبادئ هو الذي يضحي أولاً، يدفع ماله وقد يدفع دياره،
بأن يخرج منها، وقد يدفع نفسه فيقتل، كل ذلك من أجل المبدأ، لكن الأمر يختلف مع
المبادئ الباطلة؛ فقبل أن يدخلها واحد نجده يأخذ الثمن. ومن يروجون للمبادئ
الباطلة يقولون لمن يغررون به: خذا مالاً وعش واستمتع، واشتر أحسن الثياب.
أما أصحاب مبدأ الحق فهم الفقراء الذين يدفعون الثمن، ولهم الحق أن يدفعوا الثمن
لأن المثمن غال، لكن في الباطل لا يعرفون مثمناً. والذي ينظر لمبدأ من المبادئ
الهدامة، يرى كيف يعيش قادتها، بينما الرعية تحيا في بؤس، فيقول: أنا آخذ الثمن
مقدماً؛ والأمر يختلف مع المؤمنين، فهم الذين يدفعون الثمن. لينعموا بالجزاء في
الآخرة.
والحق سبحانه وتعالى حين يشرع القتال لأمة محمد صلى الله عليه وسلم يشرعه أولا
دفاعا، كانوا يطلبون من رسول الله، يقولون: يا رسول الله، إئذن لنا نقاتل على قدر
جهدنا، فيقول: " اصبروا فإني لم أومر بالقتال ".
وبعد ذلك يؤمر بالقتال كي يدافع عن الخلية الإيمانية بعدما ذهبوا إلى المدينة،
ونعلم أن القتال عملية ضرورية في الحياة. فالحق سبحانه هو القائل:{ وَلَوْلاَ
دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ }[البقرة: 251].
وهو القائل:{ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ
صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللَّهِ
كَثِيراً }[الحج: 40].
إذن فدفع الله بعض الخلق بالخلق أمر ضروري واقعي.
وحين يعاب على الإسلام أمر القتال، نقول لهم: إن الحق سبحانه وتعالى حينما شرع هذا
القتال فقد شرعه لأن قوى البغي هي التي تحول دون تطبيق منهج من مناهج العدالة
المعروفة، ولا يستطيع أحد أن يجادل فيها. ولو لم يكن العدل قادمً من السماء لما
كان هناك منهج صالح يحكم الناس، فإذا أراد الله أن يصنع العدل بمنهج أنزله هو،
فلماذا يأتي من يقف في الطريق ويقول للرسول: أنت جئت لكي ترغم الناس أن يؤمنوا
بمنهجك؟!
ويوضح الحق مسيرة الرسول أنه جاء لكي يثبت كرامة الإنسان فهو سيد الأجناس التي
تحيط به، فالجماد مسخر، والنبات مسخر، والحيوان مسخر، وليس لأي منهم حرية في أن
يقول: افعل ولا تفعل، فلا توجد إرادة ولا اختيار عند كل الأجناس إلا عند الإنسان؛
فالحق هو القائل عن أمانة الاختيار.{ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا }[الأحزاب: 72].
إذن فبأي شيء تميز الإنسان على هؤلاء الأجناس؟ تميز عليهم بالعقل، ومهمة العقل أن
يختار بين البديلات، أما إذا كان هناك أمر ليس له بديل، فليس للعقل عمل فيه.
ومثال ذلك: هناك مكان نريد أن نذهب إليه، فيوضح لك إنسان: لا يوجد إلا هذا الطريق،
فهل تفكر أن تذهب عن طريق آخر؟ طبعا لا، إذن فالعقل لا عمل له إلا الاختيار بين
البديلات، فإن لم يكن هناك بديل فلا عمل له. وإذا أراد العقل أن يختار بين
البديلات ألا نضمن له حرية الاختيار أم نقيد حرية الاختيار لديه؟
إنك إن قيدت حرية الاختيار بالإكراه فقد أخذت النعمة التي أعطيتها له، وجعلته
مقهوراً مسخراً مكرهاً؛ ولذلك فالمكره لا يكون له حكم على الأشياء بل هو مجبر
ومسخر.
وما دمت تقول: إن العقل هو الذي يختار بين البديلات، فلا بد أن يكون حق الاختيار
موجوداً، فإن كان في الإنسان عطب كأن يكون مجنونا، فلا اختيار له، وإن كان العقل
موجودا لكنه لم ينضج بعد نقول أيضاً: لا اختيار.
إذن فلا بد أن يكون العقل موجوداً وناضجا للاختيار بين البديلات، ويكون للإنسان
حرية أن يختار، فإن لم يكن العقل موجودا فهو مجنون فلا تكليف له. والمجنون قد سلبه
الله أعز ما أعطى للإنسان وهو العقل، لكن أعفاه الله أن يسأله أحد عن شيء، فيفعل
دون سؤال، فلا تكليف لمجنون، فالتكليف إذن لصاحب العقل الناضج، وكذلك لا تكليف من
قبل البلوغ.
إذن فالإسلام جاء ليحمي كرامة الإنسان في حرية الاختيار، ويعرض عليك أمر الإيمان،
فالذي حمل السيف، لم يحمله ليجبر أحداً على الإيمان، إنما ليرد كيد من أرادوا قهر
الناس، والجزية إنما فرضت لإعفاء غير المسلمين من مسئولية القتال، ولو كان الإسلام
يفرض الإيمان على الناس في البلاد التي فتحها لما وجدنا أتباع أي دين في البلاد
التي دخلها الإسلام.
وهذه شهادة للمسلمين.
إن الإسلام لم يجيء ليفرض دينا وإنما جاء ليحمي حرية اختيار الدين؛ والَّذين
يقولون: إن الإسلام جاء بالسيف نقول لهم: افهموا جيدا، لقد كان المؤمنون الأوائل
ضعافا وظلوا على الضعف مدة طويلة، والبلاد التي فتحت بالإسلام مازال فيها أناس غير
المسلمين، وهذا دليل أن الإسلام جاء ليحمي حرية الاختيار:{ فَمَن شَآءَ
فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ }[الكهف: 29].
ثم نأتي لنقطة أخرى وهي أن الإسلام لم يأخذ الجزية إلا لأن غير المسلم سيستمتع بكل
خيرات بلاد الإسلام، والمسلم يدافع وأيضا يدفع الزكاة والخراج. إذن فالمسألة عدالة
منهج، وعلى ذلك يجب أن نفهم أن قول الحق:
} فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا
بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ
فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً { [النساء: 74].
فالقتال إنما جاء حتى تسيطر مناهج السماء، وسبحانه حينما يقول: } فَلْيُقَاتِلْ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ { فهذا يدلنا على أن هناك قتالاً في غير سبيل الله، كأن يقاتل
الرجل حمية، أو ليعلم مكانه من الشجاعة، فقال الرجل دائماً حسب نيته، ولذلك تساءل
بعض الناس: من الشهيد؟ قال العلماء: هو من قتال لتكون كلمة الله هي العليا فيكون
شهيدا. إذن فالقتال مرة يكون في سبيل الله، ومرة يكون في سبيل النفس، ومرة يكون في
سبيل الشيطان.
يقول الحق: } فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ { أي يبيعون الدنيا ليأخذوا الآخرة، } وَمَن يُقَاتِلْ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً {.
إذن فالذي يدخل القتال هو أمام أمرين اثنين: إما أن يُقْتل من الأعداء، وإما إن
ينتصر، وهذه هي القضية الجدلية التي تنشأ بين معسكر الإيمان ومعسكر الكفر،
والمقاتل من معسكر الإيمان يقول لمعسكر الكفر: أنا أقاتل لإحدى الحسنين: إما أن
أُقْتل فأصبح شهيداً آخذ حياة أفضل من هذه الحياة، وإما أن أنتصر عليك، فلماذا
تتربصون بنا أيها الكفار؟
إن المؤمن يثق أنه فائز بكل شيء؛ فإن قُتل ذهب إلى الجنة وإلى حياة أفضل من
حياتكم، وإما أن ينتصر، والحالتان على سواء من الخير.
وهذا للاستدلال بأن هذا المنهج يراق فيه الدم، وشهادة لهذا الدين بأنه صحيح، وإلا
فلن يذهب أحد للقتال إن لم يكن مقتنعاً بالدين، فكل واحد يعمل لحياته ونفسه، فكل
الأمور بالنسبة للإنسان نفعيه حتى في الدين، ولذلك يقولون: لا تكن أنانيا رخيصا بل
عليك أن تكون أنانيا غاليا، والدين هو ممارسة لأنانية عليا.
ونضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - الذي ليس معه إلا جنيه وهو يحتاج إليه ثم
رأى واحدا في حاجة ماسة، فيقول المؤمن لنفسه: لقد أكلت، وقد يكون هذا الإنسان لم
يأكل بعد فلأعطه الجنية.
بالله أهو يحب الذي أخذ الجنيه عن نفسه؟ لا، بل هو يحب نفسه، لكنها أنانية عليا؛
أنانية معلاة. وسبق أن قلنا: إن الذي يجلس ويرى امرأة جميلة فغض عينه أمره يختلف
عن واحدٍ آخر " يبحلق " ويحدّق وينظر إليها بشدة، فايهما يحب الجمال
أكثر؟ إن الذي غضَّ بصره هو من يحب الجمال أكثر؛ لأنه لا يريدها لحظة فقط، بل
يريدها مستديمة.
فما بالنا بالذي يبيع الدنيا ويقتل في سبيل الله ويأخذ الآخرة التي ليس فيها قتل
أو أي شيء مكدر؟ إذن فهذه أنانية عليا، والحق سبحانه وتعالى يعاملنا بقانون
النفعية، لكنها نفعية عليا وليست نفعية رخيصة أو قصيرة المدى، فيجعلنا نبيع الرخيص
بالثمن الغالي.
ولقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين يقاتلون في سبيل الله وعرض عليه
منظرهم وهو في ليلة الإسراء والمعراج؛ رأى صلى الله عليه وسلم جماعة يزرعون
ويحصدون بعد البذر مباشرة؛ لأن الذي قتل في سبيل الله إنما فعل ذلك إعلاء لكلمة
الله، فلا ينتهي قطفه أبدا للخير الذي بذله، وحياته مستمرة في حياة الملايين. }
وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ
أَجْراً عَظِيماً { وعرفنا أن كل مؤمن يقاتل في سبيل الله إنما يقول لمعسكر الكفر
ما جاء به الحق في قوله:{ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى
الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ
مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ
}[التوبة: 52].
فالمؤمن يعلم أنه إما أن يُقتل ويكون شهيداً، وإما أن يَغلب معسكر الكفر. وهو
يتربص بالكافرين أن يُصيبهم الله بعذاب من عنده أو بأيدي المؤمنين، إذن فالمؤمنون
رابحون على كل حال، والكافرون خاسرون على كل حال.
و " المعرى " قبل أن يهديه الله وكان متشككاً قال:تُحطمنا الأيام حتى
كأننا زجاج ولكن لا يُعاد لنا سبكفقالوا: إنه ينكر البعث، فما دام قد جاء بمثل
يقول فيه إن الإنسان كالزجاج إن تحطم فلن يستطيع أحد أن يعيده إلى سيرته الأولى،
قال ذلك أيام تكبر الفكر، وهذه تأتي في أيام الغرور، ثم جاءت الأحداث لتلويه وتضرب
في فكره وينتهي إلى الإيمان، لكن أكان ضامناً أن يعيش حتى يؤمن؟ فلماذا لم يخلص
نفسه من مرارة تجربة الشك؟ ولكنه بعد أن آمن قال: " هأنذا أموت على عقيدة
عجائز أهل نيسابور. ربنا حَقُّ وربنا سميع وربنا بصير وقال:زعم المنجم والطبيب
كلاهما لا تحشر الأجساد قلت إليكماإن صحّ قولكما فلست بخاسر أو صحّ قولي فالخسار
عليكماأي إن صحّ قولكما على أنه لا بعث وقمت أنا بالأعمال الطيبة في الدنيا، فماذا
أكون قد خسرت؟ إنني لن أخسر شيئاً، وإن صحّ قولي وفوجئتم بالآخرة والبعث فأنا الذي
يكسب والخسران والبوار والعذاب عليكما، إذن فإيماني إن لم ينفعني فلن يضرني،
وكلامكما حتى لو صح - وهو غير صحيح ولا سديد - فلن يضرني.
والحق يقول: } وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ
فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً { وسبحانه هنا يطيل أمد العطاء. انظروا دقة
الأداء القرآني، لأن الذي يتكلم هو الله، ولنر كيفية ترتيب فعل على فعل، فحين أقول
لك: " احضر لي أكرمك " ، فبمجرد الحضور يحدث الإكرام، ولكن إن قلت لك:
" إن حضرت إليّ فسأكرمك " ، فهذا يعني أن الزمن يمتد قليلاً، فلن تكرم
من فور أن تأتي بل أن تحضر عندي وبعد ذلك تأخذ تحيتك، ويأتيك الإكرام بعد قليل.
وإن أردت أنا أن أطيل الزمن أكثر فإني أقول: " إن حضرت إليّ فسوف أكرمك
". إذن فنحن أمام ثلاث مراحل لترتيب الجزاء على الفعل: جزاء يأتي بعد فور
حصول الشرط، وجزاء يأتي بعد زمن يسير تؤديه " السين " ، وجزاء يأتي بعد
زمن أطول تؤديه. " سوف ".
ولم يقل الحق: من يقاتل في سبيل الله نؤتيه أجراً عظيماً، ولم يقل: فسنؤتيه أجراً
عظيما، ولكنه قال: } فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً { وهذا القول سيبقى ليوم
القيامة؛ لذلك كان لا بد أن تأتي " سوف " هنا، وهذا دليل على أنه جزاء
موصول لا مقطوع ولا ممنوع.
وهكذا نرى إحكام الأداء القرآني، والحق سبحانه وتعالى حين يتكلم عن نفسه وذاته،
يأتي بأساليب كثيرة: فمرة يأتي بأسلوب الجمع، ونحن نقول، كما علمونا في النحو:
" النون للتعظيم " كما في قوله:{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ
وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }[الحجر: 9].
لم يقل: أنا أنزلت.. فكل شيء يكون نتيجة فعل من أفعال الله. تأتيه " نون
التعظيم "؛ لأنه سبحانه حين يصنع شيئاً لخلقه من متعة أو من نعيم، يريد صفات
كثيرة: قدرة للإبراز، وعلما لترتيب النعمة، وتدبيرا وحكمة، وبسطا، فيقول هنا:
" نؤتيه " ، لأن الصفات تتكاتف لتعمل الخير، لكنه حين يتكلم عن ذاته
مجرداً عن الفعل. فسبحانه يتكلم بالوحدانية مثل قوله الحق:{ إِنَّنِي أَنَا
اللَّهُ لا إِلَـاهَ إِلا أَنَاْ فَاعْبُدْنِي }[طه: 14].
وكذلك قوله الحق:{ وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى }[طه: 13].
فساعة يتكلم سبحانه عن ذاته فهو يتكلم بالوحدانية، ولا تقل بالإفراد تأدباً مع
الله فليس له شريك أو مثيل، وحينما يتكلم سبحانه عن فعله يأتي بالجمع فيقول:
" نحن " وهذه حلت لنا إشكالات كثيرة، مثلما حدث عند قراءة قول الله
سبحانه وتعالى:{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً
فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا }[فاطر: 27].
لقد جاء سبحانه في صدر الآية: بـ " أنزل " وكان يناسبها أن يأتي بعدها
" أخرج " ، لكنه قال: } فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً
أَلْوَانُهَا { فلماذا هذه " مفردة " وتلك " جمع "؟؛ لأنه
ساعة قال: " أنزلنا من السماء ماءٌ " لم يكن لأحد من خلقه ولو بالأسباب
فعل في إنزال المطر، لكن ساعة أن أنزل المطر، نجد واحداً قد حرث الأرض، وثانياً
بذر، وثالثاً روى الأرض، وكل ذلك من أسباب خلقه، فلم يهضم الله خلقه فقال: }
أنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً { ثم بعد ذلك: أنا وخلقي بما أمددتهم ومنحتهم }
فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا {.
إذن فلا بد أن ننتبه إلى دلالة الكلمة حين تأتي بالمفرد وحين تأتي بالجمع.
وقوله سبحانه: } نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً { يلفتنا إلى أن كل فعل إنما هو حدث
يتناسب مع فاعله أثراً وقوة. فالطفل عندما يصفع آخر لا تكون صفعته في قوة الشاب أو
قوة الرجل، فإذا كان الذي يعطي الأجر مثيلاً لك فسيعطيك أجراً على قدره، لكن إذا
كان من يعطي هو ربنا، فسيعطي الأجر على قدره، ولا بد أن يكون عظيماً. والأجر هو
الشيء المقابل للمنفعة.
وهناك فرق بين الأجر والثمن؛ فالثمن مقابل العين، أما الأجر فهو مقابل المنفعة،
أنا اشتريت هذه، فهذا يعني أني دفعت ثمناً، لكن إن استأجرت شيئاً فهو لصاحبه ولكن
أخذته لأنتفع به فقط، وجزاء الحق لمن يقتل في سبيل الله أهو أجر أم ثمن؟، ونلتفت
هنا أن الحق قد أوضح: أنا لم أثمن مَن قتل، بل نظرت لعمله، فأخذت أثر عمله،
وأعطيته } أَجْراً عَظِيماً {.
وبعد ذلك يقول الحق: } وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ... {.
(/355)
وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75)
والآية تبدأ بالتعجيب، ذلك أنه بعد إيضاح لون الجزاء على القتال في سبيل الله كان
لا بد أن يصير هذا القتال متسقاً مع الفطرة الإنسانية، ونحن نقول في حياتنا
العادية: وما لك لا تفعل كذا؟ كأننا نتساءل عن سبب التوقف عن فعل يوحي به الطبع،
والعقل. فإن لم يفعله الإنسان صار عدم الفعل مستغرباً وعجيباً. فالقتال في سبيل
الله بعد أن أوضح الله أنه يعطي نتائج رائعة، فالذي لا يفعله يصبح مثاراً للتعجب
منه، ولذلك يقول الحق: { وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } أي
لإعلاء كلمة الله، ومرة يأتي القتال وذلك بأن يقف الإنسان المؤمن بجانب المستضعف
الذي أوذي بسبب دينه. ويكون ذلك أيضا لإعلاء كلمة الله.
يقول سبحانه: { وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَالْمُسْتَضْعَفِينَ } أي أن القتال يكون في سبيل الله وفي خلاص المستضعفين، وفي
ذلك استثارة للهمم الإنسانية حتى يقف المقاتل في سبيل رفع العذاب عن المستضعفين،
بل إننا نقاتل ولو من باب الإنسانية لأجل الناس المستضعفين في سبيل تخليصهم من
العذاب؛ لأنهم ما داموا صابرين على الإيمان مع هذا العذاب، فهذا دليل على قوة
الإيمان، وهم أولى أن ندافع عنهم ونخلصهم من العذاب.
ويعطينا سبحانه ذلك في أسلوب تعجب: { وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ } فكأن منطق العقل والعاطفة والدين يحكم أن نقاتل،
فإذا لم نقاتل، فهذه المسألة تحتاج إلى بحث.
وساعة يطرح ربنا مثل هذه القضية يطرحها على أساس أن كل الناس يستوون عند رؤيتها في
أنها تكون مثاراً للعجب لديهم، مثلها مثل قوله الحق:{ كَيْفَ تَكْفُرُونَ
بِاللَّهِ }[البقرة: 28].
يعني كيف تكفرون بربنا أيها الكفار؟ إن هذه مسألة عجيبة لا تدخل في العقل، فليقولوا
لنا إذن: كيف يكفرون بربنا؟
{ وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ
الرِّجَالِ } وكلمة " والمستضعفين " يأتي بعدها " من الرجال "
والمفروض في الرجل القوة، وهذا يلفتنا إلى الظرف الذي جعل الرجل مستضعفاً، ومَنْ
يأتي بعده أشد ضعفاً. { وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ
وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هَـاذِهِ
الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً
وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً } فقد بلغ من اضطهاد الكفار لهم أن يدعوا
الله أن يخرجهم من هذه القرية الظالم أهلها، والقرية هي " مكة ".
وقصة هؤلاء تحكي عن أناس من المؤمنين كانوا بمكة وليست لهم عصبية تمكنهم من الهجرة
بعد أن هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم ممنوعون من أن يهاجروا، وظلوا على
دينهم، فصاروا مسضعفين: رجالاً ونساءً وولداناً، فالاضطهاد الذي أصابهم اضطهاد شرس
لم يرحم حتى الولدان، فيقول الحق للمؤمنين: { وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ
وَالْوِلْدَانِ }:
وهؤلاء عندما استضعفوا ماذا قالوا؟.
قالوا: } رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هَـاذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا
وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً { وعبارة الدعاء تدل على أنهم لن يخرجوا
بل سيظل منهم أناس وثقوا في أنه سوف يأتيهم وليّ يلي أمرهم من المسلمين، فكأنها
أوحت لنا بأنه سيوجد فتح لمكة. وقد كان.
لقد جعل الله لهم من لدنه خير وليّ وخير ناصر وهو محمد - صلى الله عليه وسلم -
فتولاهم أحسن التولي ونصرهم أقوى النصر.
هذه الجماعة من المستضعفين منهم " سلمة بن هشام " لم يستطع الهجرة،
ومنهم " الوليد بن الوليد " و " عياش بن أبي ربيعة " ، و
" أبو جندل بن سهيل بن عمرو ". وسيدنا ابن عباس - رضي الله عنه - قال:
لقد كنت أنا وأمي من هؤلاء المستضعفين من النساء والولدان، وكانوا يضيقون علينا
فلا نقدر أن نخرج، فمثل هؤلاء كان يجب نصرتهم، لذلك يحنن الله عليهم قلوب إخوانهم
المؤمنين ويهيج الحمية فيهم ليقاتلوا في سبيلهم؛ فظلم الكافرين لهم شرس لا يفرق
بين الرجال والنساء والولدان في العذاب.
} الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هَـاذِهِ الْقَرْيَةِ
الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَّنَا
مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً { وكان رسول الله والمسلمون نصراء لهم.
ويقول الحق بعد ذلك: } الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ... {.
(/356)
الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)
وعرفنا أن الطاغوت هو: المبالغ والمسرف في الطغيان، ويطلق على المفرد وعلى المثنى،
وعلى الجمع: فتقول: رجل طاغوت، رجلان طاغوت، رجال طاغوت، والحق يقول:{ اللَّهُ
وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ
وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ }[البقرة: 257].
إذن فالطاغوت يطلق على المفرد وعلى المثنى وعلى الجمع، وهل الطاغوت هو الشيطان؟.
يصح. أهو الظالم الجبار الذي يطغيه التسليم له بالظلم؟ يصحّ، أهو الذي يفرض الشرّ
على الناس فيتقوا شرّه؟ يصحّ، وكل تلك الألوان اسمها " الطاغوت ".
والأسلوب القرآني يتنوع فيأتي مرة ليقول:{ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ
الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَىا كَافِرَةٌ }[آل
عمران: 13].
وانظر للمقابلة هنا: { الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ } ، هنا { آمَنُواْ }
و { كَفَرُواْ } وهنا أيضا في { سَبِيلِ اللَّهِ } و { فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ }
هذه مقابل تلك. لكي نعرف العبارات التي ينثرها ربنا سبحانه وتعالى علينا أن ندرك
فيها الخطفة الإعجازية، قال في هذه الآية: { الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ } مقابلات؛ لأن الكافر مفهوم أنه طاغوت،
ولكن: إذا ذكرت في الثانية مقابلا لمحذوف من الأولى، أو حذفت من الأولى مقابلاً من
الثانية، هذا يسمونه في الأسلوب البياني احتباكا كيف؟
ها هوذا قوله سبحانه وتعالى: { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا
فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَىا كَافِرَةٌ } أي تقاتل في سبيل
الطاغوت، ويقابلها الفئة التي تقاتل في سبيل الله ولا بد أن تكون مؤمنة.
إذن فالكلام كله منسجم، فقال: { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ
الْتَقَتَا فِئَةٌ } وترك صفتها كمؤمنة وقال: { تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ }
وسنعرف على الفور أنها مؤمنة، وربنا يحرك عقولنا كي لا يعطينا المسائل بوضوح مطلق
بل لنعمل فكرنا، كي لا يكون هناك تكرار، ولكي تعرف أنه إذا قال: { فِي سَبِيلِ
اللَّهِ } يعني مؤمناً، وإذا قال: { فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ } يكون كافراً.
ويتابع الحق: { فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ }. أي نصراء الشيطان الذين
ينفخون في مبادئه، والذين ينصرون وسوسته في نفوسهم ليوزعوها على الناس، هؤلاء هم
أولياء الشيطان؛ لأن الشيطان - كما نعرف - حينما حدث الحوار بينه وبين خالقه.
قال:{ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ }[ص: 82].
لكنه عرف حدوده ولزمها فقال:{ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ }[ص: 83].
أي أن من تريده أنت يا رب لا أقدر أنا عليه. وهذه تدلنا على أن المعركة ليست بين
إبليس وبين الله، فتعالى الله أن يدخل معه أحد في معركة، بل المعركة بين إبليس
وبين الخائبين من الخلق، فعندما قال: { فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ
} دلّ على أنه عرف كيف يُقْسِم ويحلف؛ لأن ربنا لو أراد الناس كلهم مؤمنين لما قدر
الشيطان أن يقرب من أحد، لكن ربنا عزيز عن خلقه، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
ومن هنا دخل الشيطان، فالشيطان قد دخل من عزّتك على خلقك سبحانك لأنك لو كنت
تريدهم كلهم مؤمنين لما استطاع الشيطان شيئاً، بدليل قوله: } إِلاَّ عِبَادَكَ
مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ { أي أنا لا أقدر عليهم. ودلّ قَسَم الشيطان أنه دارس
ومنتبه لمسألة دخوله على العباد فقال:{ لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ
الْمُسْتَقِيمَ }[الأعراف: 16].
إذن فالشيطان لن يأتي على الصراط المعوجّ؛ لأن الذي يسير على الصراط المعوج
والطريق الخطأ لا يريد شيطاناً؛ فهو مريح للشيطان، ويعينه على مهمته، فيكون وليّه.
فأولياء الشيطان هم كل المخالفين للمنهج، وهم نصراء الشيطان.
والحق يأمرنا: } فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ {. هؤلاء الذين بينهم وبين
الشيطان ولاء، هذا ينصر ذاك، وذاك ينصر هذا، ويطمئننا الحق على ذلك فيقول: } إِنَّ
كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفا {؛ لأن الشيطان عندما يكيد سيكون كيده في مقابل
كيد ربه، فلا بد أن يكون كيده ضعيفاً جداً بالقياس لكيد الله، وليس للشيطان سلطان
يقهر قالب الإنسان على فعل، ولا يستطيع أن يرغمك على أن تفعل، وليس له حجة يقنعك
بها.
والفرق بين من يكره القالب - قالبك -: أنك تفعل الفعل وأنت كاره. كأن يهددك
ويتوعدك إنسان ويمسك لك مسدساً ويقول لك: اسجد لي - مثلاً - إذن فقد قهر قالبك.
لكن هل يقدر أن يقهر قلبك ليقول: " أحبني "؟. لا يمكن. إذن فالمتجبر
يستطيع أن يكره القالب لكنه لا يقدر أن يقهر القلب، فالذي يقهر القلب هو الحجة
والبرهان، بذلك يقتنع أن يفعل الفعل وليس مرغماً عليه. إذن فالأول يكون قوة،
والثاني يكون حجة.
والحق سبحانه وتعالى يوضح لنا: اعرفوا أن هذا الشيطان ضعيف جداً، فهو لا يملك قوة
أن يرغمك فإذا أغواك تستطيع أن تقول له: لن أفعل.. ولا يستطيع أن يأتي لقلبك ويقول
لك: لا بد أن تفعل ويحملك على الفعل قهرا عنك. فليس عنده حجة يقنعك بها لتفعل، فهو
ضعيف، فلماذا تطيعونه إذن؟. إنكم تطيعونه من غفلتكم وحبكم للشهوة، والشيطان لا
يقهر قلبكم، ولا يقهر قالبكم. بل يكتفي أن يشير لكم!!، ولذلك سيقول الشيطان في
حجته يوم القيامة على الخلق:{ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ
أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي }[إبراهيم: 22].
أي لم يكن لي عليكم سلطان: لا سلطان قدرة أرغمكم على فعلكم بالقالب، ولا سلطان حجة
أرغمكم على أن تفعلوا بالقلب، أي أنتم المخطئون وليس لي شأن، إذن فكيد الشيطان
ضعيف. و " الكيد " - كما نعرف - هو: محاولة إفساد الحال بالاحتيال،
فهناك من يفسد الحال لكن ليس بحيلة، وهناك من يريد أن يفسدها بحيث إذا أمسكت به
يقول لك: لم أفعل شيئاً؛ لأنه يفعل الخطأ في الخفاء.
ويفسد الحال بالاحتيال. والكيد لا يقبل عليه إلا الضعيف.
إن القوي هو من يواجه من يكيد له، فالذي يدسّ السّم لإنسان آخر في القهوة - مثلاً
- هو من يرتكب عملاً لإفساد الحال باحتيال؛ لأنه لا يقدر أن يواجه، أما القوى فهو
يتأبى على فعل ذلك، وحتى الذي يقتل واحداً ولو مواجهة نقول له: أنت خائف، أنت أثبت
بجرأتك على قتله أنك لا تطيق حياته، لكن الرجولة والشجاعة تقتضي أن تقول: أبقيه
وأنا أمامه لأرى ماذا يقدر أن يفعل.
إذن فكيد الشيطان جاء ضعيفاً لأنه لا يملك قوة يقهر بها قالباً، ولا يملك حجة يقهر
بها قلباً ليقنعك، فهو يشير لك باحتيال وأنت تأتيه: ولا يحتال إلا الضعيف. وكلما
كان ضعيفاً كان كيده أكثر، ولذلك كانوا يقولون مثلاً: المرأى أقوى من الرجل لأن
ربنا يقول:{ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ }[يوسف: 28].
ونقول لهم: ما دام كيدهن عظيما؛ إذن فضعفهن أعظم، وإلا فلماذا تكيد؟. ولذلك يبرز
الشاعر العربي هذا المعنى فيقول:وضعيفة فإذا أصابت فرصة قتلت كذلك قدرة الضعفاءلأن
الضعيف ساعة يمسك خصمة مرة. وتمكنه الظروف منه؛ يقول: لن أتركه لأنني لو تركته
فسيفعل بي كذا وكذا. لكن القوى حينما يمسك بخصمه، يقول: اتركه وإن فعل شيئاً آخر
أمسكه وأضربه على رأسه، إذن فإن كان الكيد عظيماً يكون الضعف أعظم.
ويقول الحق بعد ذلك: } أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ
أَيْدِيَكُمْ... {.
(/357)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)
نعرف أن الحق ساعة يقول: " ألم تر " يعني: إن كانت مرئية في زمنها، فلك
أن تتأمل الواقعة على حقيقتها، وإن كانت غير مرئية فمعناها: ألم تعلم، ولكن العلم
بإخبار الله أصدق من العين. وحين يقول الحق: { كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ } لا بد أن
تكون بوادر مدّ الأيدي موجودة، فلن يقال لواحد لم يمد يده: كيف يدك. والكلام هنا
في القتال، فيكون قد كفوا أيديهم عن القتال، بدليل أن الحق سبحانه وتعالى جاء في
المقابل فقال: { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ } إذن فقد قيل لهم: {
كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ } لأن بوادر مدّ الأيدي للقتال قد ظهرت منهم إما قولاً بأن
يقولوا: دعنا يا رسول الله نقاتل، وإما فعلاً بأن تهيأوا للقتال. وعندما يقول
القرآن: { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ } دل هذا القول على وجود زمنين
بصدد هذه الآية: زمن قيل لهم: كفّوا أيديكم، وزمن كُتِبَ عليهم القتال، فنفهم من
هذه أنه كانت هناك بوادر المدّ اليد إلى القتال قبل أن يكتب عليهم القتال والذين
قالوا: دعنا نقاتل هم: ابن عوف وأصحاب له، ولو كان الأمر بالقتال متروكا للرسول
لكان قد أمرهم بمجرد أن قالوا ذلك.
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابا له أتوا النبي صلى
الله عليه وسلم بمكة. فقالوا: يا نبي الله، كنا في عزة، ونحن مشركون، فلما آمنا
صرنا أذلة قال: " إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم " فلما حوله الله
إلى المدينة أمره بالقتال، فكفوا، فأنزل الله { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ
لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ }.
وهذا دليل على أنه منتظر أمر السماء. وبعد ذلك كتب الله عليهم القتال، فلما كتب
عليهم القتال تملص البعض منه.. مصداقاً لقول الحق: { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ
الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ
أَشَدَّ خَشْيَةً } فلماذا هذه الخشية وهم مؤمنون: هل هذا يعني أنهم خافوا الناس
أو رجعوا في الإيمان؟. كما طلب بعض من بني إسرائيل القتال:{ أَلَمْ تَرَ إِلَى
الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ
لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ
عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا
لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا
وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ
قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ }[البقرة: 246].
إذن فعندما تصل المسألة إلى الأمر التطبيقي، قد يدب في نفوسهم الخَوَر والخوف،
والحق سبحانه لم يمنع الأغيار أن تأتي على المؤمن، فما دام الإنسان ليس رسولا ولا
معصوما فلا تقل: فلان عمل كذا أو فلان عمل كذا؛ لأن فلانا هذا لم يدع أنه معصوم،
ولذلك يصح أن تأتي منه الأخطاء، وتأتيه خواطر نفسه، وتأتيه هواجس في رأسه، ويقف
أحياناً موقف الضعف، ولذلك عندما يقول لك واحد: فلانة عملت كذا وفلان عمل كذا، قل
له: وهل قال أحد إن هؤلاء معصومون؟ وما داموا غير معصومين فقد يتأتي منهم هذا.
والله يقول: } إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ { وهذا يعني أنهم ليسوا سواء، ففريق منهم
أصابه الضعف، وفريق آخر بقي على شدته وصلابته في إيمانه لم تلن له قناة ولم ينله
وهن ولا ضعف، ثم انظر أدب الأداء. لم يقل: فلان أو فلان. بل قال: } إِذَا فَرِيقٌ
مِّنْهُمْ { وهذا يستدعي أن يبحث كل إنسان في نفسه، وهذه عملية أراد بها الحق
الستر للعبد، وما دام الستر قد جاء من الرب، فلنعلم أن ربنا أغير على عبده من
نفسه، ولذلك نقول دائما: ساعة يستر ربنا غيب الناس على الناس فهذا معناه: تكريم
للناس جميعا.
وهب أن الله أطلعك على غيب الناس أتحب أن يطَّلع الناس على غيبك؟! لا، إذن فأنت
عندما ترى أن ربنا قد ستر غيبك عن الناس وستر غيب الناس عنك فاعرف أن هذه نعمة
ورحمة؛ لأن الإنسان ابن أغيار، فيصح أن واحداً أساء إليك في نفسه ولم يرغب أن تعرف
ذلك، وأنت أيضاً تريد أن تتخلص منه وتكرهه، فلو أطلعه الله على ما في قلبك، أو
أطلعك على ما في قلبه لكانت معركة يجرح فيه كل منكما كرامة الآخر، لكن ربنا ستر
غيب خلقه عن خلقه رحمة بخلقه.
وأنت أيضاً أيها العبد قد تعصيه ويحب أن يستر عليك، ويأمر الآخرين ألا يتقصوا
أخبارٍ معصيتك له. بالله أيوجد رب مثل هذا الرب؟ شيء عجيب؛ فقد تكون عاصياً له
ويحب أن يستر عليك، ويأمر غيرك: إياكم أن تتبعوا عورات الناس، فقد يكون عندهم بعض
الحياء، ويكونون مستترين في أسمالهم وملابسهم لماذا؟ حتى لا يفقدوا أنفسهم أو
يضلوا طريق التوبة لربهم.
إذن فالحق يرحم المجتمع، ولكن الخيبة من الناس أنهم يلحون على أن يعلموا الغيب
ويبحثوا عمن يكشف لهم الطالع. ونقول لمن يفعل ذلك: يا رجل لقد ستر الله الغيب عنك
نعمة منه عليك، فاجعله مستورا كما أراد الله.
إن الحق سبحانه وتعالى يقول: } إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ
كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً { والواحد من هذا الفريق يخشى القتال
والقتل، ويخاف من الموت؛ لأنه سيأخذه إلى جزاء العمل الذي عمله في الدنيا، ولذلك نجد
أحد الصحابة يقول: أكره الحق.
فتساءل صحابي آخر: كيف تكره الحق؟ قال: أكره الموت ومن منا يحبه!
ولماذا يخشى الناس القتال؟ لأن الله حين يُميت؛ يُميت بدون هدم بنية، ولكن الأعداء
في القتال قد يقطعون جسد الإنسان ويمثلون به، لكن إن استحضر العبد الجزاء على هذه
المُثْلَة تهون عليه المسألة.
} إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ
خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ { وكأنهم قد
نسوا أنهم طلبوا القتال، كي نعرف أن النفس البشرية حين تكون بمنأى عن الشيء تتمناه،
وعندما يأتيها تعارضه.
} وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا
إِلَىا أَجَلٍ قَرِيبٍ { فهل جاء هذا الكلام منهم على سبيل الاستفهام؟ يوضح الله
لنا ذلك: إنهم يقولون: يا رب لماذا ابتليتنا هذا الابتلاء، وقد لا نقدر عليه في
ساعة الخوف من لقاء المعارك:؟ لذلك طلبوا أن يؤجل الله ذلك وأن يجعلهم يموتون حتف
أنوفهم لا بيد العدو، وكلمة } إِلَىا أَجَلٍ قَرِيبٍ { توضح أن كل واحد منهم يعي
تماماً أنه سيموت حتماً، لكن لا أحد منهم يريد أن تنتهي حياته بالقتل.
ولماذا تطلبون التأخير؟ أحُباً في الدنيا ومتاعها؟ ويأتي جواب الحق: } قُلْ
مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ { ولا يصح أن تحرصوا عليه أيها المؤمنون حرصاً يمنعكم
أن تذهبوا لتقاتلوا، فكلكم ستموتون، وكل منا يجازيه ربنا على عمله، أما الذي يُقتل
في سبيل الله فسيجازيه على عمله فوراً، ويعطيه حياة أخرى مقابل الموت. لأنه سيأخذ
الشهادة، ولذلك يأمر الحق رسوله بأن يقول: } قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ { إن
قارنته بما يصل إليه المرء من ثواب عظيم إن قتل في الحرب جهاداً في سبيل الله. قال
بعضهم: إذا كان لا مفر من الموت، فلماذا لا نذهب لنقاتل في سبيل الله، فإن قتلنا
فليكن موتنا بثمن زائد عن عملنا، إذن فهذا تربيب وتنمية للفائدة، ولذلك قال
الحكيم:ولو أن الحياة تبقى لحي لعددنا أضلَّنا الشجعانأي أن الحياة لو كانت تبقى
لحي لكان أضل ناس فينا هم الشجعان الذين يقتلون أنفسهم في الحرب، لكن المسألة ليست
كذلك، والشاعر العربي يقول:ألا أيها الزاجري أحضر الوغي وأن أشهد اللذات هل انت
مُخلديوالمتنبي يقول:أرى كلنا يبغى الحياة لنفسه حريصا عليها مستهاما بها صبافحب
الجبان النفس ورثه التقى وحب الشجاع النفس أورده الحرباإذن فالاثنان يحبان
نفسيهما، لكن هناك فرق بين الحب الأحمق والحب الأعمق.
وعندما ننظر إلى إجمالي السياق في الآية نجد أن الحق سبحانه يربى - في صدر الإسلام
- الفئة المؤمنة تربية إيمانية لا تخضع لعصبية الجاهلية ولا لحمية النفس، ففريق من
المؤمنين بمكة الذين ذاقوا الاضطهاد أحبوا أن يقاتلوا، لكن الرسول صلى الله عليه
وسلم يبلغهم أنه لم يؤمر بالقتال بعد، وأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وأن
يصبروا على ما هم فيه حتى يأذن الله بالقتال، وتلك تربية أولى للفئة المؤمنة؛ لأن
الإسلام جاء وفي نفوس العرب حمية وعصبية وعزة وأنفة، فكلما أهيج واحد منهم في شيء
فزع إلى سيفه وإلى قبيلته وشنها حرباً، فيريد الله سبحانه أن يستل من الفئة
المؤمنة الغضب للنفس والغضب للعصبية والغضب للحمية، وأراد أن يجعل الغضب كله لله.
وحينما جاء الإذن بالقتال، جاء لا ليفرض على الناس عقيدة، ولا ليكرههم على إسلام،
وإنما جاء ليحمي النفس الإنسانية من أن يتسلط عليها الأقوى الذي يريد أن يجعل
الأَضعف تبيعاً له، فأراد سبحانه أن يحرر الاختيار في الإنسان فكان القتال حفاظا
على كرامة الإنسان أن يكون تبيعاً في العقيدة لغيره، وبعد ذلك يعرض قضية عرضاً
عقلياً؛ فمن استجاب له فمرحباً به، ومن لم يستجب فله أن يظل على دينه. وهذا يدل على
أن الإسلام دين منع التسلط على عقائد الناس، وضمن لهم الحرية في أن يختاروا ما
يحبون من العقائد بعد أن بين لهم الرشد من الغي.
وحينما شرع الله القتال فقد شرعه دون أن يكون هناك أدنى تدخل لغضب النفس ولا
لحميتها ولا لعزتها، ويشاء الحق سبحانه وتعالى أن يصور العواطف الإنسانية التي
تواجه الإسلام ويواجهها الإسلام تصويرا طبيعياً. فبين لنا أن الطبع الإنساني يعالج
بالتربية، ولهذا نجد أن بعضاً من الذين طلبوا القتال خافوا: } إِذَا فَرِيقٌ
مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً {.
إذن فهناك فرق بين نظرية أن نقاتل، وأن نخوض القتال بالفعل؛ لذلك تجد أن منهم من
خاف الذهاب إلى القتال خشية أن يُقتلوا، والقتل كما تعلمون: هدم بنية، ولكن الموت
حتف الأنف هو الذي يسحب به الله الروح الإنسانية، دون هدم بنية أو نقص لها. وأيضا
فالقتال يكون مظنة القتل، والخوف من القتال مظنة التراخي في الأجل، فالقتل موت
مقرب أمام المقاتل، لكن الموت حتف الأنف علمه عند الله؛ لذلك قالوا: } رَبَّنَا
لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ {.
فهل كان طلبهم للقتال لقصد الحمية، وسبحانه يريد أن يبرئ المؤمن أن يكون قتاله
للحمية؛ لأنه جل وعلا يريد أن تكون المعركة إيمانية؛ لتكون كلمة الله هي العليا
حتى ولو كان المخالف له صلة نسب أو صلة عصب أو صلة عواطف.
والحق سبحانه وتعالى يريد أن يعلمنا ذلك؛ لأن الأمة الإسلامية ستواجه عنفا شرسا في
تثبيت قاعدة الاختيار الإيماني في البشر، فقال الحق لرسوله صلى الله عليه وسلم إن
قالوا لك ذلك } قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ { ، فالحرص على أن يستبقي المؤمن
نفسه من القتل ليموت بعد أجل قريب يعني أن يريد أن يأخذ من الحياة فرصة أكبر،
فأوضح الحق: لا، ضعوا مقياسا تقيسون به الجدوى، فسبحانه قال:{ إِنَّ اللَّهَ
اشْتَرَىا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ
الّجَنَّةَ }[التوبة: 111].
إنه شراء وبيع. وأيضاً قال سبحانه في الصفقة الإيمانية:{ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَىا
تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ }[الصف: 10].
إذن فالله يعاملنا بملحظ النفعية الإنسانية، واللبق، الفطن، الذكي هو الذي يتاجر
في الصفقة الرابحة أو المضمونة أو التي تكون جدواها والفائدة منها أكثر من سواها.
فلو أننا قارنا الدنيا، لعلمنا أنها مهما طالت لا تؤثر ولا تزيد في عمر الفرد؛ لأن
الدنيا تطول في الزمن، لكنها بالنسبة للأفراد تكون بمقدار عمر كل واحد فيها، لا
بمقدار أعمار الآخرين، فإن دامت للآخرين طويلاً، فما دخل الفرد في ذلك؟
إذن فالدنيا بالنسبة للفرد هي زمن محدد، والله يبشر المؤمن الذي يقتل في سبيله أنه
يأخذ من الصفقة زمناً غير محدود. وأيضاً فالبقاء في الدنيا بدون قتل وإلى أن يموت
الواحد حتف أنفه، هو بقاء مظنون وغير متيقن. ونحن نرى من يموت طفلاً أو شاباً أو
كهلاً. أما الآخرة فهي غير محدودة وهي متيقنة.
إن النعيم في الدنيا يكون على مقدار تصور الفرد للنعيم وإمكانات الفرد في تحقيق
النعيم. وأما النعيم في الآخرة فيكون على المقدار الذي أعده الله لعباده بطلاقة
قدرته وسعة رحمته. فإن قارنا صفقة الدنيا بالآخرة لوجدنا أن متاع الدنيا على فرض
أنه متاع هو قليل بالنسبة للآخرة.
إذن فالحق ينمي فينا قيمة الصفقة الإيمانية، ويعلم أن كل إنسان يحب الخير لنفسه،
فلا يظنن أحد أن الدين جاء ليسلبه الحرية، أو ليستذله، فالدين إنما جاء ليربب
للمؤمن النفعية وينميها له.
ومثال ذلك عندما منع الدين واحداً أن يسرق الآخرين فهو قد منع أيضاً كل الآخرين أن
يسرقوا من أي واحد، وبذلك يكسب كل إنسان حماية الدين له، فحين يمنع الواحد عن فعل
خطأ في حق الآخرين فهو قد منع الآخرين وهم ملايين أن يخطئوا في حقه. فإذا قال
الدين لواحد: لا تمد عينيك إلى محارم غيرك، ففي هذا القول ما يوصي كل غير في
الدنيا: لا تمدوا أعينكم إلى محارم فلان، فالكسب العظيم - إذن - يعود على الفرد.
وقول الحق: } قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىا
{ يوضح لنا عظمة الصفقة الإيمانية، وبعد ذلك يؤكد لنا العدل في قوله: } وَلاَ
تُظْلَمُونَ فَتِيلاً { ونعرف أن الفتيل هو ما فُتل من الأقذار حينما يدعك الإنسان
كفيه معاً، فيخرج ناتجا كالفتلة، أو الفتيل هو الفتلة في بطن النواة، أي لا نظلم
حتى في الشيء التافه. والعدالة هنا بمشروطها؛ لأن الله أوضح أن من يصنع السيئة
يجازي بسيئة مثلها، ومن يصنع حسنة يجازي بعشرة أمثالها أو أكثر.
وهكذا لا ترهق العدالة مؤمناً لأنها تأتي بفضلها، فالحسنة بعشر أمثالها أو أكثر،
وتحسب الحسنة عند الله في ميزان العدالة بما أخذ من الفضل، فلا يقولن واحد: إن
هناك عدلاً من الله بدون فضل.
إذن فقول الحق: } وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً { هو بضميمة الفضل إلى العدل. ولذلك
نحن ندعو الله قائلين: اللهم عاملنا بالفضل لا بالعدل؛ لأن مجرد العدل قد يتعبنا.
وندعو الله: وبالإحسان لا بالميزان؛ لأـنه لو عاملنا بالميزان قد نتعب.
وندعو الله: وبالجبر لا بالحساب، والجبر هو أن يجبرنا الله، وهكذا نرى أن قوله
الحق: } وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً { بلاغ من الحق لنا: أننا سنعدل معكم بالفضل
فتكون السيئة بواحدة، وتكون الحسنة بعشر أمثالها أو أكثر.
وقوله الحق: } وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً { يعين فيما قضي به سبحانه متفضلاً
بالفضل مع العدل. وسبحانه يريد أن يطمئننا على أن قضايا الإيمان يجب أن يحافظ
عليها، فإياك أن تظن أن عملك هو الذي سيعطيك الجزاء، إنما فضل الله هو الذي سيعطيك
الجزاء. يقول الحق:{ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ
فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ }[يونس: 58].
فالفضل هو الذي يُفرح قلب المؤمن. ثم يأتي الحق سبحانه ليرد من بعد ذلك على قضية
قالها المنافقون حينما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحد، ثم قتل من قتل من
المسلمين؛ فقال المنافقون: " لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا "
ففهموا أن العندية عندهم حصن لهم من الموت، وأن الذهاب إلى القتال هو الذي يجلب
الموت. ونعرف أن كل حدث من الأحداث له زمان وله مكان ونسميه الظرف.
إن الذين درسوا " الظرف " في النحو يقولون: " ظرف زمان أو ظرف مكان
" ، فكل حدث من الأحداث لا بد أن يوجد له زمان ومكان. والزمان في الموت مبهم
والمكان في الموت أيضاً مبهم، فظرف حدث الموت زماناً أو مكاناً مبهم، وحين يبهم
الله شيئاً؛ فلا تظنوا أنه يريد أن يخفيه ويُغمضه علينا، إن الحق يبهم الأمر
ليوضحه أوضح بيان، فالإبهام من عنده أوضح بيان، كيف؟.
إنه سبحانه حين يجهلنا بزمن الموت ويخفيه علينا فمعنى ذلك أن الإنسان قد يستقبل
الموت في أي لحظة، وهل هناك بيان أوضح من هذا؟. فحين جهَّلنا بزمن الموت فهو لم
يمنع عنا معرفة زمنه، ولكنه أشاع زمنه في كل زمن، فلا أحد بقادر على الاحتياط من
زمن الموت، وكذلك الحال في مكان الموت.
وها هوذا الحق يقول: } أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ... {.
(/358)
أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)
والحق هنا يتعرض لقضية الموت مع المكان فقال: { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ
الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } فالعقل البشري الذي يتوهم أن
بإمكانه الاحتياط من الموت - مكاناً عليه أن يعي جيداً أنه لا يستطيع ذلك، فوجود
الشخص عند ظرفٍ ما لا يدفع ولا يمنع عنه الموت، فالعندية سواء في معسكر الكفر أو
في معسكر الإيمان لن تمنع حدوث الموت.
والعندية - كما نعلم - تعطي ظرف المكان. فلطافة تغلغل الموت تخترق أي مكان وزمان
ما دام الحق قد قضي به. وأعداء الإنسان في عافيته وفي حياته كثيرون، لكن إن نظرنا
إليها في العنف نجدها تتناسب مع اللطف. فكلما لطف عدو الإنسان ودق؛ كان عنيفا،
وكلما كان ضخماً كان أقل عنفا. فالذي له ضخامة قد يهول الإنسان ويفزعه، ولكن
بإمكان الإنسان أن يدفعه. لكن متى يكون العدو صعباً؟ يكون العدو صعباً كلما صغر
ولطف ولا يدخل تحت الإدراك. فيتسلل إلى الإنسان.
ومثال ذلك: هب أن واحداً يبني بيتاً في خلاء ويمر عليه إنسان ليبارك له وضع أساس
البيت فيقول لصاحب البيت: إنك لم تحتط لمثل هذا المكان، فهو يمتلئ بالذئاب
والثعالب ويجب أن تضع حديداً على النوافذ التي في الدور الأول، وذلك حتى لا تدخل
إليك هذه الحيوانات المفترسة.
ويضع صاحب البيت حديداً على نوافذ الدور الأول. ويجيء واحد ثان ويقول له: لقد فاتك
أن هذا المكان به ثعابين كثيرة وعليك أن تضيق فتحات الحديد، ويفعل ذلك صاحب البيت
ليرد الثعابين. ويجيء ثالث لزيارة صاحب البيت فيقول: إنني أتعجب منك كيف تحترس من
الذئاب والثعابين ولا تحتاط من ذباب هذه المنطقة؟. إنه ذباب سام. وهنا يضع صاحب
البيت سلكاً على النوافذ. ويجيء واحد رابعٍ ليقول لصاحب البيت؛ في هذه المنطقة
حشرات أقل حجماً من الذباب وأكثر عنفاً من البعوض ويمكنها أن تتسلل من فتحات السلك
الذي تضعه على نوافذك، فيخلع صاحب البيت السلك المعلق على نوافذ البيت ويقوم
بتركيب سلك آخر فتحاته أكثر ضيقاً بحيث لا تمر منه هذه الحشرات. إذن فعدوك كلما
لطف ودق عن الإدراك كان عنيفاً.
ولذلك فأخطر المكيروبات التي تتسلل إلى الإنسان، ولا يدري الإنسان كيف دخلت إلى
جسده ولا كيف طرقت جلده، ولا يعرف إصابته بها إلا بعد أن تمر مدة التفريخ الخاصة
بها وتظهر بجسده آلامها ومتاعبها. إنها تدخل جسم الإنسان دون أن يدري، ولا يعرف
لذلك زماناً أو مكاناً.
ويلفتنا سبحانه إلى أن الشيء عندنا كلما لطف ازداد عنفاً، ولا تمنعه المداخل. فما
بالكم بالموت وهو ألطف من كل هذا، ولا أحد يستطيع أن يحتاط منه أبداً.
وما مقابل الموت؟. إنه الحياة حيث توجد الروح في الجسد. وما كنه الروح؟ لا يعرف
أحد كنه الروح على الرغم من أنه يحملها في نفسه، ولا أحد يعرف أين تكون الروح أو
ما شكلها، ولا أحد يعرف من رآها أو سمعها أو لمسها.
وعندما يقبضها الله فإن الحياة تنتهي. والحق هو الذي جعل للحيّ روحاً، وعندما
ينفخها فيه تأتي الحياة.
إن الحق - سبحانه - يلفتنا وينبهنا إلى ذلك فيترك في بعض ماديتنا أشياء لا يستطيع
العلماء بالطب ولا المجاهر أن يعرفوا كنهها وحقيقتها، فنحن لا نعرف - مثلاً -
الفيروس المسبب لبعض الأمراض.
فإذا كان الله قد جعل للإنسان روحاً يهبه بها الحياة، فلماذا لا نتصور أن للموت
حقيقة، فإذا ما تسلل للإنسان فإنه يسلب الروح منه، وبذلك نستطيع أن نفهم قول الحق
سبحانه وتعالى في سورة الملك:{ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ
عَلَىا كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ
لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً }[الملك: 1-2].
إذن فالموت ليس عملية سلبية كما يتوهم بعض الناس، بل عملية إيجابية، وهو مخلوق
بسرّ دقيق للغاية يناسب دقة الصانع. ووصف الحق أمر الموت والحياة في سورة الملك
وقدم لنا الموت على الحياة؛ مع أننا في ظاهر الأمر نرى أن الحياة تأتي أولاً ثم
يأتي الموت. لا، إن الموت يكون أولاً، ومن بعده تكون الحياة. فالحياة تعطي للإنسان
ذاتية ليستقبل بها الأسباب المخلوقة، فيحرث الأرض أو يتاجر في الأشياء أو يصنع ما
يلائم حياته ويمتع به السمع والبصر، فيظن أن الحياة هي المخلوقة أولاً.
ينبهنا ويوضح لنا الحق: لا تستقبل الحياة إلا إذا استقبلت قبلها ما يناقض الحياة،
فيقول لنا عن نفسه: } الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ { وهذا ما يسهل علينا
فهم الحديث القدسي الشريف الذي يشرح لنا كيف يكون الحال بعد أن يوجد أهل الجنة في
الجنة وأهل النار في النار ويأتي الحق سبحانه بالموت في صورة كبش ويذبحه.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
يؤتى بالموت يوم القيامة، فيوقف على الصراط، فيقال: يا أهل الجنة فيطلعون خائفين
وَجِلِين أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه. فيقال: هل تعرفون هذا؟ قالوا: نعم
رَبَّنَا، هذا الموتُ، ثم يُقال: يا أهل النار، فيطلعون فرحين مستبشرين، أن يخرجوا
من مكانهم الذي هم فيه. فيُقال: هل تعرفون هذا؟ قالوا: نعم هذا الموت، فيأمر به
فيًُذبح على الصراط، ثم يقال للفريقين " كلاهما " " خلود فيما
تجدون لا موت فيه أبدا " ".
وتجسيد الموت في صورة كبش معناه أن للموت كينونة. ويعلمنا الله أنه يقضي على
الموت، فنحيا في خلود بلا موت. وينبه الناس الذين كفروا وظنوا أن الذين قتلوا في
سبيل الله لو كانوا عندهم لما ماتوا.
نقول لهم: العندية عندكم لا تمنع الموت. ولو كان من دنا أجله وحان حَيْنه يسكن في
بروج مشيدة لأدركه الموت.
أن الأداء القرآني يتنوع؛ فهناك من الأداء ما نفهمه من الألفاظ، وهناك ما نفهمه من
الهَدْى الأسلوبي للقرآن؛ لأنه خطاب الرب. فالبشر فيما بينهم يتخاطبون بملكات
لغوية وملكات عقلية، لكن عندما يخاطب الحقُّ الخلقَ فسبحانه يخاطب كل ملكات النفس.
ولذلك نجد طفلاً صغيراً يحفظ القرآن ويمتلئ بالسرور، فيسأله واحد من الكبار: ما
الذي يسرك في حفظ القرآن؟. فيجيب الصغير: إنني أحس بالانسجام وكفى. هو لا يعرف
لماذا يحس بالانسجام من سماع القرآن أو حفظه، فالمتحدث هو الله، وسبحانه بقدرته
وجمال كماله يخاطب كل الملكات النفسية.
وسبحانه وتعالى يقول: } أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ { أي أينما
توجدوا يدرككم الموت. وكلمة " يدرككم " دليل على أن الإنسان عندما تدب
فيه الروح ينطلق الموت مع الروح، إلى أن يدركها في الزمن الذي قدره الله. وكلمة
" يدرك " توضح لنا أن الموت يلاحق الروح حتى إذا أدركها سلبها وكما قال
الأثر الصالح عن ملاحقة الموت للحياة: " حتى إذا أدركها جرت، فلا أحد منكم
إلا هو مُدْرَك " ، ولذلك يقول أهل المعرفة والإشراق: " الموت سهم أرسل
إليك وإنما عمرك هو بقدر سفره إليك ".
وهكذا نعرف أن قوله الحق: " يدرككم " تدل على أن الموت يلاحق حياة
الإنسان ويجري وراء روحه حتى يدركها.
ويقول الحق: } وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ {. وعندما نبحث في الحروف
الأصلية لمادة كلمة " البروج " نستطيع أن نرى المعنى العام لها. والحروف
الأصلية في هذه الكلمة هي " الباء " و " الراء " و "
الجيم " وكلها تدل على الارتفاع والظهور.
فيقال: " هذه امرأة فيها بَرَج " أي أن عيونها واسعة وتحتل قدراً كبيراً
من وجهها وتكون واضحة، فالبَرَجُ هو الاتساع والظهور.
والإبراج عادة كان بناؤها مرتفاً كحصون وقلاع نبنيها نحن الآن من الأسمنت والحديد.
والقصد من " مشيدة " أي أنها بروج تم بناؤها بإحكام، فالشي قد يكون
عالياً ولكنه قد يكون هشاً. أما الشيء المشيد فهو من " الشِّيد " وهو
" الجص " ، ومن " الشَّيْد " وهو " الارتفاع " ،
والمقصود أن لبنات البرج تلتحم أبعاضها وأجزاؤها بالجص فهي مرتفعة متماسكة.
إنك إذا رأيت جمعاً وقوبل بجمع فمعنى ذلك أن القسمة تعطينا آحاداً. فساعة يدخل
المدرس الفصل يقول لطلابه: أخرجوا كتبكم. فمعنى هذا القول أن يخرجٍ كل تلميذ
كتابه. وعلى ذلك يكون القياس. فلو بني كل إنسان لنفسه برجاً مشيداً لجاءه الموت.
والجمع مقصود أيضا: أي لو كنتم جميعا معتصمين ببرج محاط ببرج آخر وثالث ورابع،
كأنه حصن محصن فالحصون في بعض الأحيان يتم بناؤها وكأنها نقطة محاطة بدائرة صغيرة.
وحول الدائرة دائرة أخرى أوسع. وبذلك تجد الحصن نقطة محاطة بعدد من الحصون. والموت
يدرك البشر ولو كانوا في برج محاط ببروج. وكلا المعنيين يوضح قدرة الحق في إنفاذ
أمره بالموت.
وساعة يتكلم سبحانه عن الموت وعن الحياة في الجهاد فهو يريد أن يخرج الناس من
الظلمات إلى النور؛ لأن الدين هو نور طارئ على ظلمة، والذين يعيشون في الظلام
يكونون قد ألفوا الظلمة والفوضى وكل منهم يعربد في الآخرين. وعندما جاء الدين فرّ
بعضهم من مجيء النور؛ لأن النور يحرمهم من لذات الضلال؛ ولأن النور يوضح الرؤية.
لذلك يوضح سبحانه وتعالى أنه أتى بالموت ليؤدي حاجتين: الحاجة الأولى: أنّ مَن
يؤمن عليه أن يستحضر الموت لأن جزاءه لا يكون له منفذ إلا أن يموت ويلقى ربه،
ويعلم أن الحاجب بينه وبين جزاء الخالق هو الموت، فساعة يسمع كلمة الموت فهو
يستشرف للقاء الله؛ لأنه ذاهب إلى الجزاء.
والحاجة الثانية: أن غير المؤمن يخاف الموت ويخشاه ولا يستعد له ويخاف أن يلاقي
ربه. إذن فكلمة " الموت " تعطي الرَّغب والرَّهَب. فصاحب الإيمان ساعة
يسمع كلمة الموت يقول لنفسه: إن متاعب الدنيا لن تدوم، أريد أن ألقى ربي.
ولذلك يجب أن يستحضر المؤمنون بالله تلك القضية. وحين يستحضرون هذه القضية يهون
عليهم كل مصاب في عزيز؛ فالإنسان ما دام مؤمناً فهو يعرف أن العزيز الذي راح منه
إما مؤمن وإمَّا غير مؤمن، فإن كان مؤمناً فليفرح له المؤمن الذي افتقده؛ لأن الله
عجَّل به ليرى خيره، فإن حزنت لفقد قريب مؤمن فأنت تحزن على نفسك. وإن كان الذي
ذهب إلى ربه غير مؤمن، فالمؤمن يرتاح من شره. إذن الموت راحة، والذي عمل صالحاً
يستشرف إليه، وهذا رَغَب، أما الكافر فهو خائف؛ وهذا رَهَب.
ولذلك فمن الحمق أن يحزن الإنسان على ميْت، وعليه أن يلتفت إلى قول الحق: }
أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ
مُّشَيَّدَةٍ {.
ويتابع الحق: } وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـاذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ
وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـاذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ
عِندِ اللَّهِ فَمَالِ هَـاؤُلاءِ الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً
{. ومثل هذا الكلام أليق بمن؟
الذي يقول عن الحسنة إنها من عند الله فهو يؤمن بالله وهذه الكلمة لها في ذهنه
تصور. والآية لا تريد هذا الصنف من الناس ولكن بعضهم يريد أن يفرق بين محمد وربه.
فينسب الخير والحسنة لله، وينسب الشر والسيئة لمحمد، وعلى هذا فالذين قالوا مثل
هذا الكلام إما أن يكونوا من المنافقين الذين أعلنوا إسلامهم وولاءهم لرسول الله
وفي قلوبهم الكفر، وإمَّا أن يكونوا من بعض أهل الكتاب لأنهم يؤمنون بالله ولكنهم
لا يعترفون برسول الله صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء وأولئك ينظرون إلى الأمر الذي
فيه خير على أساس أنه من عند الله، ويلقون اتهاماً باطلاً لرسول الله أنه مسئول عن
الشرور التي تحدث لهم.
كأنهم يريدون أن يقيموا انعزالاً بين محمد وربه.
لا. فسبحانه لا يتيح لهم ذلك؛ فقد أنزل قرآناً يتلى إلى أبد الآبدين:{ مَّنْ
يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّىا فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ
عَلَيْهِمْ حَفِيظاً }[النساء: 80].
والحق يقول:{ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ
}[آل عمران: 31].
فلا أحد يملك أن يصنع مضارة بين محمد وربه؛ لأن محمداً رسول من عند الله مبلغ لقول
الله ومنهجه، وسبحانه يقول:{ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ }[التوبة: 74].
والحق سبحانه وتعالى لا يرضى عن عبد يستغفر الله فقط، ولكن لا بد أن يذهب العبد
ويطلب من رسول الله أن يستغفر له الله، فلا أحد يمكنه أن يقيم صلحاً مع الله من
وراء محمد رسول الله، فلا تفرقوا بين أمر الله وأمر رسول الله، ومن يريد أن يصنع
مضارة بين الله ورسوله بأن يقول عن الحسنة إنها من عند الله، وأن السيئة من عند
محمد، فهذا قول خاسر.
ما حكاية هذا القول؟ إنهم إن ذهبوا إلى حرب فغنموا قالوا: " إن الله أسعدنا
بالغنائم ". وإن هُزِِموا قالوا: إن محمدا هو الذي أوقع بنا الهزيمة، وكأن
لمحمد تصرفاً دون تصرف الله. فإياك أن تُخدع بمن يحاول أن يعزل رسول الله صلى الله
عليه وسلم عن ربه.
إن محمداً قد بعثه الله وأنزل عليه القرآن.
وكان رسول الله حين نزلت الدعوة يأمل أن يستجيب له القوم الذين يؤمنون بالله وهم
أهل الكتاب. وكانوا أقرب إلى قلبه من القوم الذين لا يؤمنون بالله وهم المشركون،
وكان هناك معسكران: معسكر الفرس، ومعسكر الروم، وكان معكسر الفرس يعبد النار -
معاذ الله - أما معسكر الروم فهو يؤمن بالله وبالكتب السابقة على رسول الله ولكنه
كافر بمحمد.
والذي يؤمن بالله كان قريباً إلى قلب محمد ممن كفر بالله، وهذا دليل على أن عصبية
محمد قد أتت له من الله. وقد ينصرف المعنى إلى اليهود. فحينما جاء رسول الله صلى
الله عليه وسلم إلى المدينة كان من المصادفة أن تقل ثمارهم ومزارعهم؛ فقالوا:
مزارعنا وثمارنا في نقص منذ قدم هذا الرجل. وهل كان ذلك الأمر مصادفة أو أننا نجد
له تعليلاً مادياً؟
فحينما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أنكروه بعد أن كانوا
يستفتحون به على الذين كفروا، وسلب مجيئة منهم السلطة الزمنية التي كانت لهم؛
لأنهم كانوا أهل مال، ويتعاملون بالربا ويثيرون العصبية، ويتاجرون من أجل أن تظل
لهم السيادة، وهم أهل علم بالكتاب وحاولوا التجارة بكلمات الله.
فكانت لهم السيادة من ثلاث جهات: علمياً ومالياً ومنهجياً.
وعندما جاء الإسلام ألف بين الأوس والخزرج فبارت أسلحتهم وضاعت منهم السلطة التي
صنعوها بالتفرقة، وضاعت منهم سيادة المال؛ لأن الإسلام حرم الربا، وضاعت منهم
سيادة المنهج لأن الإسلام كشف تحريفهم للكتاب وأنزل الله كتابا - وهو القرآن - غير
قابل للتحريف.
وهكذا انتهت وسائل السيطرة، لذلك وقعوا في الحزن وانشغلوا بهذا الهم. وكان الواحد
من اليهود لا يسارر الآخر من اليهود ولا يناجيه إلا في أمر محمد. وما دامت هذه
المسألة قد شغلتهم إلى هذه الدرجة فلا بد أنها قد شغلتهم عن الزراعة والاهتمام
بها.
هم انشغلوا عن الأسباب فكانت النتيجة هي ما حدث. ولكنهم حاولوا إلصاق ذلك برسول
الله صلى الله عليه وسلم، وكان من الصعب عليهم أن يفهموا الأمر الحادث لهم، وإمّا
أن يكون تفسير ذلك هو أن السماء أرادت لهم عقاباً لأنهم حاولوا المكر برسول الله
صلى الله عليه وسلم وذلك شغل وقتهم عن الأخذ بالأسباب. وإمّا أن يكون ذلك من آفة
سماوية فلماذالم يلتفتوا إلى أن دين محمد هو المنقذ لهم مما هم فيه؟
لقد كانوا يستعزون به. لكنهم لم يؤمنوا به (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) فنزل
بهم أكثر من عقاب. فالذين كانوا يتعاملون مع اليهود بالربا امتنعوا عن ذلك، وكذلك
نقصت الزروع والثمار.
إذن فالمسألة جاءتهم بنقص من الأموال؛ فقالوا ما قاله الله مما أورده الحق على
ألسنتهم: } وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـاذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ
وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـاذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ
عِندِ اللَّهِ {. أي كل من الحسنة والسيئة من عند الله وما الحسنة وما السيئة؟
الحسنة هي الظفر والغنيمة والسراء والرخاء والخصب. والسيئة هي الهزيمة والقتل
والضراء والبؤس والجدب. هذا ما فهموه، ونحن - المؤمنين - نفهم الحسنة فهماً
دقيقاً؛ فالحسنة في الشرع هي ما يأمر به الله، والسيئة هي ما ينهى عنه الله؛ بدليل
أن المؤمن قد يصاب في عزيز لديه ثم يقف موقفاً إيمانياً في استقبال هذه المصيبة
ويقول: " إن حزني لن يرده فالأفضل أن أكسب به الجنة ". ويزيد على ذلك:
" يكفيني عزاءَّ الأجرُ عليه، فأنا لم أكن سآخذ منه طيلة حياته مثل الأجر
الذي سآخذه في صبري على مصيبتي فيه ".
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبهنا بقوله: إياك أن تظن أن الحسنة هي ما
تستطيبه نفسك، أو أن السيئة هي ما تشمئز منها نفسك، لا، فالمصاب في عُرْف الشرع هو
من حُرم الثواب.
ولذلك جاء القول: } قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ { أي أن الحسنة والسيئة من عند
الله.
وهل يصنع الله سيئة؟ ونقول: نستغفر الله، فالسيئة في نظر الإنسان والحسنة في نظر
الإنسان، وكلها من عند الله، ولكن إذا نسينا الفعل إلى الله فكل ما يصدر عنه حسن،
وافتقاد المقاييس الصحيحة هو الذي يتعب. وعندما نحاول أن نحسب مثل تلك الأمور
بحساب الكمبيوتر تستقيم لنا النتائج.
ومثال ذلك: تلميذ أهمل في المذاكرة، وفي حضور الدرس لذلك فهو يرسب آخر العام،
ولكنه ينظر إلى الرسوب على أنه سيئة، ولكنها في عرف الحق عموماً حسنة. وحينما وضع
الله قانون أن من لا يستذكر يرسب، فهذا إحياء للحسنة في آلاف غيره، ويكون الراسب
نموذجاً واضحاً ووافياً وتطبيقيا، وخاضعاً لسنة الكون. وكذلك الذي لم يزرع أرضه أو
تكاسل عن الحرث أو أهمل الري، فهو يأتي يوم الحصاد ولا يُؤْتي ثماراً وهذا أمر سيئ
بالنسبة له، أما بالنسبة لقضية الحق الكونية في ذاتها فهي حسنة؛ لأن ذلك يدفع كل
واحد إلى عدم إهمال أي سبب من الأسباب؛ فالمصاب بنتيجة عمله يفسر المصيبة على أنها
سيئة؛ لأن فيها مساءة وإضراراً به، فالمصاب بنتيجة عمله يفسر المصيبة على أنها
سيئة؛ لأن فيها مساءة وإضرارا به، ولكن لو قاس مسها له بما فعله لوجد أن ذلك هو
سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا.
وحين يضع الحق سبحانه وتعالى سنناً في كونه فالذي يأخذ بالأسباب يعطيه، ويحرم
سبحانه من لا يأخذ بالأسباب.
وعندما نقيس الأمور بهذا المقياس نرى الناجح هو المجدّ، والمتكاسل هو الراسب،
والنتيجة كلها من عند الله تقنيناً كونيا.
والحق سبحانه وتعالى حينما يعرض أقوال طرف فإن كان مقراً بما فيه يتركه من غير
تعليق عليه، وإن كانت قضية باطلة يكر عليها بالحجة ليبطلها ويدحضها.
وهذا يلفتنا إلى أن الحق سبحانه وتعالى لا يريد أن نلف قضايا الخصوم لفاً بحيث لا
نعرفها، ولكنه يعرض قضية الخصوم عرضا ثم يكر عليها بالنقد ليربى - كما قلنا -
المناعة الإيمانية، حتى لا تفاجئ قضية كفرية عقيدة إيمانية؛ فسبحانه يعرض قضايا
الكفار ويوضح لنا: سيقولون كذا فقولوا لهم كذا.
مثال ذلك: عندما قالوا: إن الله اتخذ ولداً قال الحق:{ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ
مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً }[الكهف: 5].
فهو سبحانه يعرض قضايا الخصوم؛ لأن الذي يحاول أن يلف قضية الخصوم يكون مشفقاً
منها، لكن من يعرضها ينبه عقل السامع إليها ليبطلها ويقول: " هاي هي ذي نقاط
الضعف في هذه القضية ".
وحينما قالوا: } وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـاذِهِ مِنْ عِندِ
اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـاذِهِ مِنْ عِندِكَ { أرادوا
بهذا القول أن يصنعوا مضارة بين الله ورسوله، فأوضح الحق سبحانه؛ قل لهم يا محمدُ:
" كل من عند الله " ، وتتجلى دقة الحق سبحانه في أنه جعل محمداً صلى
الله عليه وسلم وكيلاً في البلاغ عنه، وكان من الممكن أن يسوق الحق القضية بدون
" قل ".
لكنه سبحانه أراد في هذه أن يوسط رسوله صلى الله عليه وسلم في أنه يقول: " قل
كل من عند الله ". و " كل " تعني: كُلاً من الحسنة ومن السيئة.
ويريد الحق سبحانه وتعالى أن يبين لنا أن قضايا الوجود تتسق مع فطرة الإيمان.
ولقد وقع خلاف طويل بين العلماء في أفعال العباد، وتساءلوا: هل يفعل العبد أي فعل
بنفسه، أو أن الله هو الذي يجري على عباده الأفعال؟. فإذا كان العبد هو الذي يفعل
الفعل فمن العدالة أن يتلقى الثواب أو العذاب جزاء ما قدم. وإذا كان الله هو الذي
يجري كل الأفعال فلماذا يعذبه الله؟. ودخل العلماء في متاهة كبيرة.
وهنا نقول: يجب أن تفهم أن الحق حينما خلق الكون جعل فيه سُنناً، ومن عجيب الأمر
أن السُنن تنتظم وتشمل وتضم المؤمن والكافر مما يدل على أنه لا أحد في كون الله
أولى بربوبية الله من الآخر، فحتى الذين لا يؤمنون بالله أدخلهم الحق في ربوبيته
فأمر الأسباب التي خلقها استجيبي لمن يخدمك وأعطيه المسببات ولا تلتفتي إلى أنه
مؤمن أو كافر لأنني أنا الذي خلقته وأوجدته في الكون، وما دمت أنا الذي أوجدته في
الكون فلا بد أن أتكفل بكل ما يقيم حياته، وأنا سأعرض منهجي، وأقول لعبادي: أنا
أحب هذا الفعل وأنا أكره هذا الفعل فمن يؤمن بي فسيكون له وضعٌ آخر، سيكون عبداً
لله.
إذن فالله بالألوهيّة مناط التكليف لمن يؤمن به، والرب بالربوبية مناط الخلق
والرزق وقيومية الاقتيات للخلق جميعا، لكل العباد؛ فالسنن والنواميس الكونية تخدم
الكل، بدليل أن بعض السنن كانت تحب أن تتمرد لأنها عصبية إيمانية لله. عندما ترى
الله يعطي بعضاً من عباده وهم غير مؤمنين به.
فالسنن والنواميس كجنودٍ لله نجدها متأبية على ابن آدم من عدم شكره لله، لكن الحق
يوضح للخلق المسخر: هم خلقي وأنا الذي استدعيتهم للوجود. فصنع الحق نواميس للكون
تؤدي مهمتها للمؤمن وللكافر جميعا، ثم أنزل سبحانه تكليفاً بوساطة الرسل. ويوضح:
أنا أحب كذا وأكره فالذي يحبني يعمل بتكليفي. إذن فمناط الربوبية غير مناط
الألوهية.
مناط الربوبية خلق من عَدم وإمداد من عُدم. ومناط الألوهية طاعة، والطاعة تقتضي
أمراً ونهياً. فكل ما كان من مدلول الأمر والنهي - الذي هو التكليف - فهذه مطلوبات
الألوهية.
وكل ما كان من مطلوبات السنن الكونية فهو من مناط الربوبية. والسنن الكونية لا
تتخلف أبداً. فمثلا الذي يريد أن ينجح في مادة من المواد في مدرسة ما.
. لا بد أن يحصل على خمسين بالمائة من مجموع الدرجات. ومن يريد أن ينجح في مادة
أخرى لا بد أن يحصل على أربعين بالمائة. وحين تنطبق هذه الشروط على طالب ما. فهل
هذا الطالب هو الذي أنجح نفسه أو أن القانون هو الذي أعطاه النجاح؟
إن القانون هو الذي أعطاه النجاح. وصحيح أن القانون لم يقل للطالب وهو يكتب
الإجابة: إن مستوى إجابته سيحقق له درجات النجاح، إنّه قد بذل جهداً في التحصيل
الدراسي، وحقق له هذا الجهد النجاح في نطاق ما تم تقديره. فالقانون لا ينجح أحداً،
ولا يتسبب في رسوب أحد، ولكن الطالب الذي يبذل جهداً ينجح، والطالب الذي لا يبذل
جهداً يرسب. وعلى ذلك فكل شيء في الوجود له قانونه.
إن اليد المخلوقة لله، لو نظرنا إلى حركتها، لا نعرف كيف تزاول مهمتها. وعندما
يرفع أحدنا شيئاً من الأرض لا أحد فينا - غالباً - يعرف العضلات التي تتحرك لتحمل
هذا الشيء. فالذي فعل حقيقة هو الله. واليد سواء أفعل الإنسان بها خيراً؛ أم
شرّاً، فالفاعل الحقيقي لكل فعل هو الله. وقام الإنسان فقط بتوجيه الطاقة الصالحة
للسلام على واحد، أو لصفع واحد آخر، فاليد صالحة للمهتمين. وعندما يوجه الإنسان
يده للصفع فهو يأخذ عقاباً، وعندما يوجهها للسلام يأخذ ثواباً.
صحيح أن الإنسان ليس له دخل في العمل ذاته ولكن له دخل في توجيه الطاقة الصانعة
للعمل؛ فالثواب أو العقوبة ليست للفعل ولكن لتوجيه الطاقة. والسكين - كمثال آخر -
يذبح بها الإنسان الدجاجة، أو يطعن بها إنساناً، وهي لا تعصي توجيه الإنسان إن ذبح
الدجاجة؛ ولا تعصاه إن طعن إنساناً.
والحق قد خلق قانوناً للسكين أن تذبح، والإنسان يقوم بتوجيه الآله التي خلقها الله
صالحة لأن تذبح إلى الذبح، سواء أكان الذبح فيما حرم الله، أم فيما أحل، إذن فالله
هو الفاعل لكل شيء. وما دام الفعل في نطاق أوامر المكلِّف صاحب السنن فهو الذي
يقوم بكل فعل.
وعندما تدقق النظر تجد أن كل فعل من عند الله، وليس للإنسان سوى توجيه الطاقة؛
فالشاب الذي يذاكر دروسه، لم يخلق عقله ولا خلق عينيه اللتين يقرأ بهما، ولكن عقله
صالح أن يفكر في الأمر الرديء، وعيناه صالحتان لأن ينظر بهما في مجلة هزلية أو
ينظر بهما في كتاب.
إذن فهو ساعة يفعل هذا أو يفعل ذلك هل يفعل ذلك من وراء رَبِّه؟. لا، إنه لم يفعل
شيئاً على الإطلاق سوى توجيه الطاقة التي خلقها الله صالحة لأن تفعل هذا وتفعل
ذاك.
إذن فثوابك وعقابك يكونان على توجيه الطاقة الفاعلة إلى الأمر الصالح أو الأمر
السيء. فعندما يقول ربنا: " كل من عند الله " نقول: هذا حق وصدق؛ فالذي
أهمل في زراعة أرضه ولم يسمدها أو لم يروها وأصابه جدب فهذا نتيجة عدم توجيه
الطاقة المخلوقة لله في مجالها الصحيح.
لكن عندما يمتنع المطر فلا عمل في ذلك للإنسان. فالنواميس الكونية صنعها الله. ومن
يأخذ بأسبابها تعطه وإن أصابت الإنسان سيئة في إطار هذه فهي من عند الإنسان؛ لأنه
لم يأخذ بالأسباب.
وما ينطبق على الفرد ينطبق أيضاً على الجماعة؛ فالذي يلعب الميسر ويأتي له الخراب
والدمار، هذا من نفسه؛ لأنه تلقى الأوامر من الحق بألا يمارس تلك الألعاب. وأي أمة
اشتكت من ضيق الأرض الزراعية وضيق الرزق فهذا بسبب الأمة نفسها؛ لأن القائمين
بالأمر كان عليهم العمل لتنمية الموارد بالنسبة لنمو السكان.
والذي يتعبنا ويرهقنا أننا نتحمل غفلة أجيال، فتجمعت المشكلات فوق رءوس جيلٍ واحد.
ولو أن كل جيل سبق قام بمسئوليته لكانت مهمة الأجيال الحالية أقل تعباً. فما دامت
لدنيا أرض صالحة لأن تنبت كان علينا أن نعدها ونستغل المياه الجوفية في زراعتها.
فالمسألة إذن كسل من أجيال سابقة. وما دام هناك مخزون في المياه الجوفية كان يجب
أن نعمل العقل لنستنبط أسرار الله في الكون. فليس من الضروري أن ينزل المطر، لأن
الحق يقول:{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَسَلَكَهُ
يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ }[الزمر: 21].
وجعل الله للمياه مسارب في الأرض حتى تستطيع البلاد ذات الحرارة الشديدة الوصول
إلى المياه الجوفية ولا تتعرض المياه المنتشرة في مسطحات كبيرة للتبخر. لقد أخفى
الله جزءاً من المياه في الأرض لصالح الإنسان. وفي البلاد الحارة نجد الملح واضحاً
على سطح التربة دليل على أن الحق وضع قانون تقطير المياه العذبة لتكون صالحة للشرب
والزراعة.
وكلنا يعرف قانون التبخر، فعندما نأتي بكوب من المياه وننشره على مسطح حجرة
مساحتها خمسة وعشرون متراً مربعاً فالمياه تتبخر بسرعة. لكن لو تركنا كمية المياه
نفسها في كوب الزجاج فلن تنقص إلا قدراً ضئيلاً للغاية. إذا فكلما زاد المسطح كان
البخر أسرع. وأراد الحق أن تكون ثلاثة أرباع اليابسة من المياه؛ لأن الماء أصل كل
شيء حي. وجعل بعضها من الماء المالح حتى لا تأسن ولا تتغير، وتوجد هذه المياه في
مساحة متسعة حتى تتبخر وتنزل مطراً، فما يجري في الوديان يجري، والمتبقي من المياه
يصنع له الحق مسارب في الأرض لأنه ماء عذب، حتى يستخدم الإنسان ذكاءه الموهوب له
من الله فيستخرج المياه من الأرض، فالحق خلق لنا كل ما يمكن أن يحقق لنا استخراج
قوت الحياة.
وسبحانه القائل:{ قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي
يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ
فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا
فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ }
[فصلت: 9-10].
فإياكم أن تقولوا: إن السكان سيزيدون عن القوت الذي في الأرض، ولكن اعترفوا بخمول
القدرات الإبداعية للاستنباط. فبعد أن يقول الله: } وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا
{ فلا قول يصدَّق من بعد قول الله. وهب أن موظفاً - ولله المثل الأعلى - جاء في
أول الشهر بتموين الشهر كله ووضعه في مخزن البيت، وجاء ظهر اليوم ولم يجد زوجته قد
أَعدَّت الغداء، فماذا يحدث؟ إنه يغضب. ولقد وضع ربنا أقواتنا مخزونة في الأرض،
ونحن لا نعمل بالقدر الكافي على استنباط الخير منها. وسبحانه يوضح لنا: إن الإنسان
إن لم يستفد بالنواميس التي خلقها الله له، ولم ينفذ التكاليف أمراً ونهياً فلسوف
يتعب الإنسان نفسه؛ فتكون معيشته ضنكاً. فسبحانه يقول:{ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً
قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ
مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ
وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ }[النحل: 112].
هذه القرية كانت تتمتع بالأمن والاطمئنان لكنها كفرت بأنعم الله. والكفر في المعنى
العام هو: ألا تشكر النعمة لله. وعندما نمعن النظر بدقة لنرى قانون ربط السبب
بالمسببات، وربط السنن الكونية بالكون والمكون والمكون له نجد أشياء عجيبة، فهذه
القرية كانت آمنة مطمئنة والرزق يأتيها رغداً من كل مكان. إذن فالقرية هي مكان السكن،
وليس مكان السكن فقط هو الذي فيه الرزق بل يأتيها رزقها رغداً من كل مكان، فكأن كل
مكين في بقعة؛ له بقع خالية في مكين آخر تخدمه. وتلك القرية كفرت بأنعم الله.
والكفر في معناه الواضح هو الستر، والقرية التي كفرت بأنعم الله هي التي سترت نعمة
الله، فنعمة الله موجودة ولكن البشر الذين في تلك القرية هم الذين ستروا هذ النعمة
بالكسل وعدم الاستنباط للنعمة وترك استخراجها من الأرض.
أو أن سكان هذه القرية استخرجوا نعمة الله واستنبطوها وستروها عن الخلق، وفساد
الكون إنما يأتي من هذين الأمرين:
أي أن هناك أمماً متخلفة، كسل سكانها عن توجيه طاقاتهم لاستنباط النعم من الأرض.
أو أن هناك أمماً أخرى تملك الثراء والخير وترميه في البحر حتى لا يذهب إلى الأمم
المتخلفة. والخراب الذي نلمسه في علاقات العالم ببعضه البعض يقول لنا: إن العالم
هو القرية التي ضرب الله بها المثل:{ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ
آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ
فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ
بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ }[النحل: 112].
ولنر دقة الأداء القرآني، في قوله: } فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ { ،
ونعلم أن الذي يُذاق هو الطعم. والطعم يكون باللسان وحده: أما اللباس فيعم كل
الجسم، والحق هنا يعطي الإذاقة ولا يكون الذائق هو الفم فقط بل كل الجسم، فالفم
إنما يتناول لصالح بقية الجسم، وعندما لا تصل مادة الحياة إلى بقية الجسم فكل
الجسم يذوق الجوع أيضاً.
والكون المخلوق لله مصنوع على نظام دقيق من أجل أن تسير السنن الكونية في مجالاتها
التي حددها الله، وعندما تنتظم هذه السنن في حركتها فهي تعطي النتائج للإنسان ولو
بعد حين، حتى إن بعض المفسرين والمتكلمين بعمق يقولون: إن الأمراض الوراثية التي
تنتقل من أجيال سابقة إلى أجيال لاحقة كان السبب فيها تقصير آباء واجتراءهم على
أشياء مخالفة لمنهج السماء، فإذا شرع الله سنة كونية للفرد ثم خالفها تصيبه
نتيجتها السيئة من بعد ذلك، وكذلك الأمة والجماعة.
لكن المسائل التي يقف فيها العقل فقط هي المصائب التي تصيب الناس بغير عملهم. وكان
على الفلسفة أن تبحث هذا المجال، أما الدين فهو يقول لنا أسباب تلك المسائل؛
فالشيء الذي له مقدمات من أسباب تكاسل الإنسان عنها، ثم أصابته كارثة فهذا من فعل
الإنسان في نفسه. أما الأشياء التي تأتي قدرية فهذا أمر مختلف. فإذا كان ديننا قد
وضع للإنسان أسباباً كونية وحكمة الإنسان الإيمانية قالت له: افعل ذلك حتى يحدث
كذا، ولا تفعل ذلك حتى لا يحدث كذا فعلى الإنسان أن يعرف أن الله لم يعطه كل ما
يستطيع به استيعاب كل حكمة المكوِّن في الكون، ليلفت سبحانه الإنسان دائما على أن
طلاقة القدرة مازالت موجودة، فيحدث شيء من الأشياء يتساءل فيه الإنسان: ما سبب
ذلك؟ ولماذا؟ ومثال ذلك الزلزال أو البركان أو السيل الجارف والريح العاصف، كل هذه
الأحداث لا دخل للإنسان فيها، وهي أحداث تقول للإنسان:
لو أن المسائل في الكون فيها رتابة أسباب لما ارتبطنا بقوة غيبية خفية نضرع إليها
دائماً لنَسْلَم.
وجاءت بعض مدارس الفلسفة في ألمانيا - مثلا - وقالت: إن وجود الشر في الكون دليل
على أنه لا يوجد إله، فلو كان هناك إله حكيم لما أفلتت منه هذه المسائل، ولما خرج
واحد بعين واحدة ولا خرج أعرج ولا مشوه. وقالت مدرسة أخرى في العصر نفسه: لا. إن
رتابة النظام في الكون دليل على أنه لا يوجد إله، فلو كان هناك إله لخرق القانون
والناموس ولأخرج بعض الأحداث عن هذا الناموس.
وهكذا نرى أنهم يريدون الكفر من أجل الكفر بدليل أن مدرسة أخذت النظام في الكون
كدليل للكفر، ومدرسة أخرى أخذت الشواذ في الكون كدليل على الكفر. وكُلّ من أقطاب
المدرستين إنما يبحث عن سبب للكفر.
ونقول لهم: كلاكما غبي؛ الذي يريد منكم النظام سببا لوجود إله حكيم، والذي يريد
الشذوذ سبباً لوجود إله قادر، هذان الأمران موجودان في الكون، وكلاهما دليل على
وجود الإله الحكيم القادر لو كنتم منصفين.
انظر إلى النظام في الكون الأعلى؛ فلو فسدت فيه مسألة صغيرة لانهدم الكون كله.
انظروا إلى الشمس والمطر والكواكب والنجوم، إنها خاضعة لنظام محكم. فيا من تريد
النظام دليلاً على حكمة مكون، فالنظام موجود، ويا من تريد الشذوذ دليلاً على أن
هناك إلهاً يسيطر على ميكانيكية الكون فهذه أمور موجودة. والشذوذ إنما يتأتى من
الأفراد، فإن شذ فرد فلن يفسد القضية العامة، فالذي يولد بعين واحدة مبصرة سنجد
مئات الملايين امتلكوا البصر كاملاً.
لكن عندما يأتي الشذوذ في نظام الكون وحركة الأفلاك فالذي يحدث هو دمار للعالم.
فمن أراد أن يرى النظام السائد يدل على الحكمة نقول له: انظر إلى الفلك الأعلى.
ومن يريد الشذوذ دليلا على أن هناك قوة تتحكم في ميكانيكية العالم نقول له: هذا
موجود، ولكن الشذوذ موجود في الأفراد. فإن شذ فرد فلا يعطب بقية الأفراد.
ونعرف - أيضا - أن رتابة النعمة قد تلهي الإنسان عن المنعم. فالإنسان منا يظل لمدة
طويلة وأسنانه سليمة فلا يتذكر مسألة أسنانه، لكن إن آلمه ضرس واحد فهو يتذكر أن
له ضرساً، وكذلك إن آلمته إحدى عينيه، أو إذا آلمته كُلْيَته فهو يجري إلى الطبيب.
وهذه أمور لافتة حتى تُخرج الإنسان من رتابة النعمة عليه ليتذكر المنعم بالنعمة.
وعندما نرى إنساناً أكرمه الله بفقدان البصر، فالواحد منا يقول: الحمد لله ويمسك
الإنسان منا عينيه مخافة أن تذهبا، وكذلك عندما نرى أبرص أو أعرج، وهذه هي وسائل
إيضاح في الكون حتى لا تغفل الناس عن المنعم بالنعمة.
فإذا ما نظرنا إلى الأشياء التي تصيب الإنسان فرداً، أو تصيب الأمة كمجموع فنحن
نجدها بما قدمت يدها؛ لأنها صنعت شيئاً يخالف التوجيه. فإن كان هناك شيء خارج عن
قدرة الإنسان فنحن نقول: هذه هي حكمة المكوِّن حتى يلفتنا إلى أنه المنعم. ولهذا
نرى الشواذ في الخلقة قلة ولا كثرة، ويعوض الله من أصيب بشذوذ في شيء بدوام
مَلَكَةٍ في شيء آخر. ولذلك يقول الشاعر:عميت جنيناً والذكاء من العمى فجئت عجيب
الظن للعلم موئلاوغاب ضياء العين للعقل رافداً لعلم إذا ما ضيع الناس حصلاوضربت
المثل مرة ببيتهوفن الموسيقار العالمي الذي أطرب العالم بسمفونياته.. إنّه كان
أصم.
ولذلك نحن نسمع في لغة العامة: كل ذي عاهة جبار. فإذا كان الله قد جعله وسيلة
إيضاح ليلفت الناس إلى نعم الله سبحانه عليها فهو يعوضه بموهبة أخرى ويلتفت الناس
فيها إلى صاحب العاهة فيرون فضل الله عليه أيضاً. إذن فالمصائب التي تحدث وليس
للإنسان دخل فيها هي الملحظ الذي يجب أن نبحثه. وهذه هي مكونات الحكمة كي يلتفت
الإنسان دائما إلى أن الكون غير متروك بلا قيادة.
إن الله خلق الكون وخلق القانون والنواميس ليدلنا على أنه موجود. ولا تزال يده في
الكون. فإذا حدثت حادثة فلا بد أن نلتمس لها حكمة.
والحكمة خرق وخروج عن النواميس يلفت إلى أن فوق ميكانيكية العالم وقوانينها قوة
أخرى تقول لها: " تعطلي ".
ولذلك فمعجزات بعض الرسل من هذا اللون، فطبيعة النار أنها تحرق، ولكنها لم تحرق
سيدنا إبراهيم عليه السلام. أكان مراد الحق سبحانه وتعالى أن ينجِّىَ إبراهيم من
النار؟ لو كان مراده هو نجاة إبراهيم من النار فحسب لما مَكَّن خصومه من أن
يمسكوه. وبعد أن أمسك خصوم سيدنا إبراهيم به، وأشعلوا النار وأججوها. كان باستطاعة
الحق سبحانه أن يأتي بغمامة لا قدرة لخصوم إبراهيم عليها وتمطر مطراً تطفئ النار.
لا. فقد أراد الله النار ناراً متأججة وأن يقدر خصوم إبراهيم عليه ويمسكوا به ولا
تنطفئ النار، وأن يلقوه في النار، وبعد ذلك يوضح الحق:
أنا أزاول سلطاني في الناموس؛ لأني خالق الناموس وأعطله متى شئت، " يا نار
كوني برداً وسلاماً على إبراهيم ". أما لو حدثت المسألة الأولى وانطفأت
النار، لقالوا: آه لو لم تنطفئ النار، وآه لو لم ينزل الماء على النار.
إن الحق أراد أن يدحض كل دعاوي الخصم. فعندما تحدث أحداث لا دخل للإنسان فيها
نقول: دعها لحكمة الخالق لأنه يريد أن يلفت الخلق إلى أنه صاحب اليد العليا في
الكون. فميكانيكية الكون تحير العقول؛ لأنها مضبوطة بدقة، ولكنها لم تفلت من يد
ربنا. ولذلك نرى في بعض الأحيان رياحاً عنيفة تثير الغبار فلا يرى الإنسان شيئاً
على الإطلاق. ومعنى ذلك أن الذرات تراكمت وتراكبت حتى صارت جداراً، ويحدث ذلك مهما
حاولت الأجهزة العلمية التحكم في ذلك أو منعه.
ومن العجيب أن الحق يترك لنا لذعة تقول: لقد كرمتك بالعقل ولكني لم أدع لك كل
الفهم، فقد يوجد صاحب غريزة لا عقل له ويكون أقدر على فهم الأشياء منك أيها
الإنسان.
وعندما يحدث زلزال في منطقة ما، فأول ما يخرج من المكان هي الحمير. وهذا لفت
للإنسان حتى لا يقع فريسة للغرور:{ كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَىا * أَن
رَّآهُ اسْتَغْنَىا }[العلق: 6-7].
فإذا ما رأيت حدثا في الكون ولا دخل للإنسان فيه ولا للأمم دخل فيه؛ فلتعلم أن لله
فيه حكمة حتى يلفتنا إلى المكون الأعلى؛ وحتى لا يظن أحد أن لميكانيكية الكون
رتابة، إنما هي نظام يجريه الله على وفق قدرته وإرادته وحكمته.
ولذلك يقولون: إن العقل الإلكتروني لا يخطئ، وهم لا يعرفون أن من الخيبة ألا يخطئ،
لأنه كما تملؤه وتمده بالمعلومات سيخرج لك هذه المعلومات. ليس له خيار في شيء. أما
العقل البشري فهو قادر على الاستنباط والاستكشاف وعدم ذكر بعض المعلومات التي قد
تضر. هذه هي العظمة.
ويقول بعضهم - كمثال آخر - إن الورد الصناعي لا يذبل، نقول: إن عيبه أنه لا يذبل
لأن الذبول حيوية، وعدم الذبول دليل على أنه لا حياة فيه، وأنّه جمود فقط.
وساعة يجري الحق سبحانه وتعالى شيئاً في كونه ولا دخل لأحد فيه فهو يريد أن يلفت
الكون إلى بقاء القيومية العليا والقدرة الإلهية في الكون؛ حتى لا تغتر بميكانيكية
الكون. ولذلك يعرض القرآن بصيصاً من هذه الأشياء، إذا أخذتها بحكم العقل فهو لا
يقبلها، لكن حين يفسرها من أجراها نجدها في منتهى العقل. مثال ذلك: سيدنا موسى
عندما ذهب إلى العبد الصالح، ما الذي حدث؟.
قال العبد الصالح:{ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً }[الكهف: 67].
ويلتمس العبد الصالح لموسى العذر فيقول له:{ وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىا مَا لَمْ
تُحِطْ بِهِ خُبْراً }[الكهف: 68].
فيقول سيدنا موسى وهو من أولي العزم من الرسل:{ قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ
اللَّهُ صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً }[الكهف: 69].
فيخرق العبد الصالح السفينه. وخرق السفينة في السطحية الفهمية شرّ، وعلى الرغم من
أن سيدنا موسى وعد العبد الصالح بعدم عصيان الأمر وأن يكون صابراً، على الرغم من
ذلك لم يطق حادثة خرق السفينة، فقال للعبد الصالح:{ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ
أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً }[الكهف: 71].
لقد شك سيدنا موسى في ظاهر الأمر، ولكن عندما يدرك الحكمة يجدها عين الخير. فلو لم
يخرق العبد الصالح السفينة لأخذها الملك الظالم الذي يأخذ كل سفينة صالحة وسليمة
غصباَ:{ أَوَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً }[الكهف:
79].
فلو لم يخرقها العبد الصالح لما استرد أصحاب السفينة سفينتهم، وبالخرق للسفينة
ستظل لأصحابها؛ لأن بها عطبا يستطيعون إصلاحه بعد ذلك. إذن، كل شيء يجري على غير
ما تشتهيه سطحية الفهم البشري فلنعلم أنها ما دامت ليست من أحد، وهي من المكون
الأعلى فوراءها حكمة.
وهل يوجد أكثر بشاعة من القتل؟ لقد قتل العبد الصالح غلاماً. ما الحكمة في ذلك؟.
إن الواحد منا يولد له ابن فيكون قرة عين وسندا، وقد يكون هذا الابن سببا في فساد
دين أبيه ويحمله على الكذب والرشوة والسرقة فهذا الابن يقود أباه إلى الجحيم، ومن
الخير أن يبعد الله هذا الولد من طريق الوالد فلا يطغي.
ويقول قائل: وما ذنب الولد؟ نقول: أنت لا تفهم الأمور، لقد ذهبت إلى الحق بدون
تجربة في أن يطيع أو يعصي الله، ذهب إلى رحمة الله مباشرة، وهذا أفضل له. وكان في
ذلك القتل للولد رحمة لوالديه؛ فالشيء إن حدث للنفس إن كان من مخالفة الإنسان
للناموس فيكون الإنسان هو الذي فعل الضر بنفسه.. وكذلك الأمة حين تخالف ناموساً
شرعياً أو كونياً. لكن لو كانت الأمور فوق طاقة البشر فلا بد أن لله فيها حكمة.
وقصة العبد الصالح ومومسى مليئة بالحكم. فقد ذهب الاثنان إلى قرية واستطعما أهلها
أي طلبا من أهلها طعاماً:
{ حَتَّىا إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن
يُضَيِّفُوهُمَا }[الكهف: 77].
ولم يطلب أي منهما نقوداً، وذلك حتى لا تثار الظنون السيئة، ولكن طلبا الطعام
ليأكلاه. وهو أول الحاجات الضرورية للإنسان.
فقالوا لهما: لا لن نعطيكما لأن أهل تلك القرية كانوا لئاماً. ولذلك اتجه العبد
الصالح إلى جدار يريد أن ينقض فأقامه، فقال سيدنا موسى للعبد الصالح: لماذا لا
تأخذ منهم أجراً؟
وأخيراً يوضح العبد الصالح لسيدنا موسى:{ وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ
لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا
وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا
وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي
ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِـع عَّلَيْهِ صَبْراً }[الكهف: 82].
فأهل القرية اللئام الذين طُلِبَ منهم الطعام لم يكونوا قادرين على تحمل أمانة حفظ
الكنز للغلامين. فأمر الله العبد الصالح بحجب الكنز عن أهل تلك القرية. إذن،
فالمسائل إن جرت على الإنسان بسبب منه فهو الذي فعل الضر بنفسه، أما إذا كان الأمر
لا دخل للإنسان فيه فعليه أن يثق بحكمة مَن يجريه وبذلك يستقبل الإنسان كل شيء
يصيبه بالراحة.
إن صاحب الإيمان يلقى الأحداث بقلب قوي. فإن كانت من نفسه فهو يعدل سلوكه، وإن
كانت من ربه فهو يثق بحكمة ربه } قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ { وهذا إيضاح لك
حتى تفهم أن أي فعل هو من عند الله. فليس للإنسان في الطاقة أي فاعلية ولكن
للإنسان توجيه المخلوق من طاقات وجوارح إلى الطاعة أو إلى المعصية.
وما دام كل من عند الله فهو سبحانه يريد لنا أن نتلو العجب من هؤلاء ونقرأه فيقول
سبحانه: } فَمَالِ هَـاؤُلاءِ الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً {
كأن منطق العقل والفكر يقودان إلى ضرورة الفهم. وعندما لا يفهمون ذلك فنحن نستعجب
من عدم فهمهم. ولا نستعجب من عدم فهمهم إلا إذا كان الأمر المطروح أمامهم أمراً
يستوعبه العقل. والحق يقول: } لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً { وساعة تقول
فلان لا يفقه، فهذا معناه أن عقله ممنوع من الفهم. أما عندما نقول: لا يكاد يفقه.
فهو يعني: لا يقرب حتى من الفهم.
والقول الثاني هو الأكثر بلاغة.
ومن بعد ذلك يقول الحق: } مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ... {.
(/359)
مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)
فإن جرت عليك سنة كونية خيراً فهو من الله، أما إن أصابتك سيئة فيما لك فيه دخل
فهي من نفسك. كأن المسألة قسمان: شيء لك فيه دخل، وشيء لا دخل لك فيه. ولا بد أن
تعتبره حسنة لأنه يقيم قضية عقدية في الكون.
فالمؤمن بين لوم نفسه على مصيبة بما له فيه دخل، وثقة بحكمة من يجري ما لا دخل له
فيه وهو الله - سبحانه - { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَآ
أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً }.
ومن هو الرسول؟.
الرسول مبلغ عمن أرسله إلى من أرسل إليه. وما دام رسولاً مبلغاً عن الله فأي شيء
يحدث منه فهو من الله.
وعندما يقول الحق: { وَكَفَىا بِاللَّهِ شَهِيداً } أي لا يضرك يا محمد أن يقولوا:
إن ما أصابهم من سيئة فمن عندك؛ لأنه يكفيك أن يكون الله في صفك؛ لأنهم لا يملكون
على ما يقولون جزاء، وربك هو الذي يملك الجزاء وهو يشهد لك بأنك صادق في التبليغ
عنه وأنّك لم تحدث منك سيئة كما قالوا:
ومن بعد ذلك يقول الحق: { مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ... }.
(/360)
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)
والطاعة للرسول هي طاعة لله، وذلك أمر منطقي؛ لأنه رسول، فمن أطاع الرسول فطاعته
طاعة لله؛ لأن الرسول إنما يبلغ عمن أرسله.
ولذلك ففي المسائل الذاتية التي كان يفعلها سيدنا رسول الله كبشر وبعد ذلك يطرحها
قضية من عنده كبشر، وعندما يثبت عدم صحتها يعطينا رسول الله مثالاً عن أمانته.
فعن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ بقوم يُلَقّحون، فقال: لو
لم تفعلوا لصلح، قال: فخرج شيصا، فمّر بهم، فقال: مَالِنَخْلِكم؟ قالوا: قلت: كذا
وكذا، قال: " أنتم أعلم بأمر دنياكم ".
أي في المسائل الخاضعة للتجربة في المعمل والتي لا دخل للسماء فيها. أما الأمور
الخاضعة لنواميس الكون فلا يتركها للعباد. ومن العجيب أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم حين يتصرف في شيء لم يكن لله فيه حكم مسبق ويعدله له الله بينه وبين نفسه
فمحمد هو الذي يبلغنا بهذا التعديل لنشهد - واقعا - أنه صادق في البلاغ عن الله
ولو كان على نفسه. وجاءت هذه الآية الكريمة بعد قول الحق سبحانه:{ وَأَرْسَلْنَاكَ
لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَىا بِاللَّهِ شَهِيداً }[النساء: 79].
والرسول - كما نعلم - هو من بلغ عن الله شرعه الذي يريد أن يحكم به حركة حياة
الخليفة في الأرض وهو الإنسان. وإذا ما نظرنا إلى المادة المأخوذة من الراء والسين
واللام وجدنا الحق سبحانه وتعالى يقول في آية أخرى.{ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن
قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّىا }[الحج: 52].
إذن فالرسول قد يكون رسولاً بالمعنى المفهوم لنا، وقد يكون نبياً، كلاهما مرسل من
الله. ولكن الفارق أن الرسول يجيء بشرع يؤمر به؛ ويؤمر هو - أيضا - بتبليغه للناس
ليعملوا به، ولكن النبي إنما يرسله الله ليؤكد سلوكاً نموذجياً للدين الذين سبقه؛
فهو مرسل كأسوة سلوكية. ولكن الرسول على إطلاقه الاصطلاحي يأتي بمنهج جديد قد
يختلف في الفروع عن المنهج الذي سبقه. وكلاهما رسول؛ هذا يجيء بالمنهج والسلوك
ويطبقه، والنبي يأتي بالسلوك فقط يطبقه ليكون نموذجاً لمنهج سبقه به رسول.
وإذا كان الحق سبحانه وتعالى قد أرسل الرسل، وجعل خاتم الرسل سيدنا محمدا فمعنى
ذلك أن رسالته صلى الله عليه وسلم ستكون رسالة لا استدراك للسماء عليها، فكيف يعقل
أن تكون رسالته موضوعاً لاستدراك البشر عليها؟
فما دام الله قد ختم به الرسالة، وأنزل عليه قوله: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً
} إذن فلم يعد للسماء استدراك على هذه الرسالة، فكيف يأتي بعد ذلك إنسان معاصر أو
غير معاصر ليقول: لا، إننا نريد أن نستدرك كذا أو نقول: الحكم كذا أو هذا الحكم لا
يلائم العصر إذا كان الله لم يجعل للسماء استداركاً على الرسالة لأن الله أكملها
وأتمها فكيف يسوغ للبشر أن يكونوا مستدركين على الرسالة؟
إن الرسول حين يضاف، يضاف مرة إلى الله، ويضاف مرة إلى المرسل إليهم؛ لأنه واسطة
التعلق بين المُرْسِل والمْرسَل إليه، فإن أردت الإضافة بمعنى " مِن "
الابتدائية؛ تقول: رسول الله، أي رسول مِن الله.
وإن أردت الغاية من الرسالة تقول: رسول إلى الناس أو رسول للناس. إذن فالإضافة
تأتي مرة بمعنى " من " وتأتي مرة بمعنى " اللام " ، وتأتي مرة
بمعنى " إلى ".
وأمر الرسالة ضروري بالنسبة للبشر؛ لأن الإنسان إذا ما استقرى وتتبع الوجود كله
بفطرته وبعقله السليم من غير أن يجيء له رسول، فإنه يهتدي بفطرته إلى أن ذلك الكون
لا يمكن أن يكون إلا عن مُكَوِّن له قدرة تناسب هذه الصفة المحكمة البديعة. ولا بد
أن يكون قيوماً لأنه يمدنا دائماً بالأشياء، لكن أنعرف بالعقل ما تريد هذه القدرة؟
نحن ننتهي فقط إلى أن وراء الكون قوة، هذه القوة لها من القدرة والحكمة والعلم
والإرادة وصفات الكمال ما يجعلها تخلق هذا الكون العجيب على تلك الصورة البديعة
ذات الهندسة الدقيقة، وهذا الكون له غاية. أيمكن - إذن - للعقل أن يضع اسماً لهذه
القوة؟ فكونها قوة يستلزم أن يكون لها قدرة وحكمة، لكنا لا نعرف اسمها، فكان ولا
بد أن يجيء رسول، هذا الرسول يعطي للناس جواب ما شغلهم وهو: ما القوة التي خلقت
هذا الكون وجعلته بهذه الصنعة العجيبة.
ويقف العقل هنا وقفة، فعندما يأتي الرسول ويقول: أنا أدلكم على هذه القوة اسماً
ومطلوباً، كان يجب على الخلق أن يرهفوا آذانهم له؛ لأنه سيحل لهم ذلك اللغز الذي
رأوه بأنفسهم وأوقعهم في الحيرة - المؤمن منهم والكافر يؤمن بهذا - لأنه يجد نفسه
في كون تخدمه فيه أجناس أقوى منه، ولا تتخلف عن خدمته أبداً، وأجناس لا تدخل تحت
طاقته ولا تحت قدرته وتصنع له أشياء لا يفهم عقله كيف تعمل، فكان الواجب أن يؤمن.
لقد ضربنا مثلاً وقلنا: لو أن إنساناً وقعت به طائرة أو انقطع به طريق في صحراء،
وليس معه زاد ولا ماء، وبعد ذلك جلس فغلبه النوم فنام، ثم استيقظ فوجد مائدة
منصوبة فيها أطايب الطعام وفيها الشراب السائغ. بالله قولوا لي: ألا يشتغل عقله
بالفكر فيمن جاء بالأطعمة قبل أن يتناول منها شيئاً؟ لذلك كان من الواجب قبل أن
ننتفع بهذه الأشياء أن نلفت ذهننا: من الذي صنع هذه الصنعة؟! ومع ذلك تركنا الله
فترة حتى نفكر، حتى إذا جاء رسول يقول: القوة التي تبحث عنها بعقلك هذه اسمها كذا
ومطلوبها منك كذا، وأنت كائن ومخلوق لها أولاً وإليها تعود أخيراً.
وخلاصة المسألة أن الله سبحانه وتعالى قبل أن يخلق الخلق أعد لهم مائدة الكون،
وفيها الأجناس التي تخدمه - كما قلنا -: سلسلة الأجناس وخدمتها تجعلك تتعجب
وتتساءل: كيف يخدمني الأقوى مني؟
الشمس التي لا تدخل تحت قدرتي، والقمر الذي لا أستطيع أن أتناوله، والريح التي لا
أملك السيطرة عليها، والأرض التي لا أستطيع أن أتفاهم معها، كيف تؤدي لي هذه
الخدمات؟. لا بد أن يكون هناك من هو أقوى مني ومنها هو الذي سخرها لخدمتي. وهل
رأيت شيئاً من هذه الأشياء امتنع أن يؤدي لك الخدمة أو سخرها لخدمتي. وهل رأيت
شيئاً من هذه الأشياء امتنع أن يؤدي لك الخدمة أو نقص منها شيئاً؟. لم يحدث؛ لأنها
مسخرة، فإذا جاء رسول من الله ليحل لنا لغز هذه الحياة ويدلنا على موجدها، كان يجب
أن نفتح له آذاننا ونسمعه، فإذا ما قال لي: الذي خلق لك الكون هو الله، والذي خلقك
هو الله وهو صانعك، وأرسلني بمنهج لك كي تؤدي مهمتك كما ينبغي فافعل كذا ولا تفعل
كذا، وأنت صائر إليه ليحاسبك على ما فعلت، وهذا المنهج هو خلاصة الأديان كلها.
ولذلك يكون مجيء الرسول ضرورياً وبعد ذلك يؤيده سبحانه بمعجزة تثبت صدقه، وما دام
قد أرسله بالمنهج الذي هو: افعل ولا تفعل، فهذا يعني أن تطيع هذا الرسول، ويقول
ربنا في آية أخرى:{ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ
اللَّهِ }[النساء: 64].
أي ليست الطاعة ذاتية له، إنما الطاعة صادرة من الله، ورسول الله صلى الله عليه
وسلم يتميز عن سائر الرسل؛ لأن معجزته التي تؤيد صدقة في بلاغة عن الله هي عين
كتاب منهجه في الأصول، وكل الرسل كانت على غير ذلك. كان الرسول يأتي بمعجزة ويأتي
بكتاب منهج، العصا واليد البيضاء كانت لموسى هذه معجزته؛ ولكن منهجه في "
التوراة " ، إذن فالمعجزة منفصلة عن المنهج.
سيدنا عيسى معجزته - مثلاً -: أنَّه يبرئ الأكمة والأبرص، لكن كتاب منهجه "
الإنجيل " ، إلا سيدنا رسول الله فإن معجزته وهي القرآن هي عين منهجه؛ لأن
الله أراد للدين الخاتم ألا تنفصل فيه المعجزة من المنهج.
إن معجزات الرسل السابقين على رسول الله من رآها يؤمن بها، والذي لم يرها يسمع
خبراً عنها، وإن كان واثقاً ممن أخبره يصدقه، وإن لم يكن واثقا - لأنها ليست أمامه
- فلا يصدقه، ولولا أن الله أخبرنا بهذه المعجزات في القرآن لكان من الممكن أن نقف
فيها.
أما معجزته صلى الله عليه وسلم فباقية بقاء منهجه، ويستطيع كل مسلم أن يقول في آخر
عمر الدنيا: محمد رسول الله وتلك معجزته، أما غيره من الرسل فلا يأتي أحد ويقول:
فلان رسول الله وتلك معجزته، لأنها حدثت وانتهت، أما القرآن فهو باق بقاء الرسالة
والكون.
والرسول صلى الله عليه وسلم حين يأتي بالبلاغ عن الله فالحق يبيّن لنا: أنا أرسلت
الرسول ليطاع. والمنطق أن يقول القرآن: } مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ
اللَّهَ {؛ لأن الرسول جاء مبلغاً عن الله؛ فالمباشر لنا هو رسول الله، وعرفنا من
قبل أنه إذا ما توارد أمر الطاعة من الله مع أمر مع رسوله نطيع الاثنين، وإذا كان
الله قد جاء بأمر إجمالي كالزكاة والحج، وجاء الرسول ففصل، فنطيع الله في الأمر
الإجمالي ونطيع الرسول في الأمر التفصيلي، وإذا كان الله لم يجيء بحكم لا مجمل ولا
مفصل، فقد جاء التشريع من الرسول بالتفويض الذي فوض الله فيه رسوله بقوله:{ وَمَآ
آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ }[الحشر: 7].
فالرسول الوحيد الذي أعطاه الله تفويضاً في التشريع هو محمد رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وكل الرسل بلغوا عن الله ولم يبلغ واحد منهم عن نفسه شيئاً إلا سيدنا
رسول الله، فقد فوّضه الله سبحانه وتعالى بقوله: } وَمَآ آتَاكُمُ الرَّسُولُ
فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ { - إذن فللرسول مهمة داخلة في إطار
القرآن أيضاً، ومثال ذلك في حياتنا نجد من يقول لموظف: إن الموظف الذي يغيب خمسة
عشر يوماً في قانون الدولة يفصلونه، فيأتي موظف ومعه دستور البلاد ليرد ويقول: هذا
هو الدستور وقد قرأته فلم أجد فيه هذا القانون، وهذا الكلام الذي تقوله عن فصل
الموظف غير دستوري.
نقول له: إن الدستور قال في هذه المسألة: وتؤلف هيئة تنظم أعمال العاملين في هذا
المجال، إذن فبالتفويض توجد هيئة تضع نظاماً ليطبق على العاملين فتكون هذه من
الدستور، فكل بنود قانون العاملين تدخل في التفويض الذي نص عليه في الدستور
للهيئات أو للجان التي تضع التشريعات الفرعية، فكذلك إذا قيل لك: هات دليلاً من
القرآن على أن صلاة المغرب ثلاث ركعات وأن الفجر ركعتان، وأن الظهر أربع ركعات،
وأن العشاء أربع ركعات، هات دليلاً من القرآن على هذه، تقول: دليلي من القرآن: }
وَمَآ آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ { ،
والرسول صلى الله عليه وسلم كي يضمن سلامة المنهج من هذه التحريفات التي يفترونها
يقول:
" لا أُلْفِينَّ أحدكم متكئا على أريكته، يأتيه أمرٌ مما أمرْت به، أو
نَهيْتُ عنه، فيقول: لا أدري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه ".
وفي رواية أخرى: عن المقْدَام بن معد يكرب قال: " قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: ألا هل عسى رجلٌ يَبْلُغُه الحديثُ عَني وهو متكئ على أريكته، فيقول:
بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالاً اسْتَحْلَلْناهُ، وما وجدنا فيه
حراما حرمناه، وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله ".
أروى هذا الحديث عن الرسول كي تعرفوا غباء القائلين بهذا، ولنقل لهم: قولكم هذا
دليل على صدق الرسول، بالله فلو لم يأت واحد بمثل قولكم بأنه لا يوجد إلا القرآن؛
بالله ماذا كنا نقول للمحدثين الذين رووا حديث رسول الله، ولو لم يقولوا هذا
لقلنا: النبي قال: يتكئ رجل على أريكته ويتحدث، ولم يتكلم أحد بما يخالف هذا الكلام.
إذن فوجود هؤلاء دليل صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما دام الله قد أرسله
صلى الله عليه وسلم منه إلى خلقه فيكون مع هذه الرسالة الطاعة والطاعة هي:
الاستجابة للطلب. وأنواع الطلب كما يقول الذين يشتغلون في البلاغة والنحو كثيرة،
فمرة تتمنى شيئاً مستحيلاً مثل قول القائل: ليت الكواكب تدنوا ليّ فأنظمهاليت
الكواكب تدنو لي فأنظمها عقود مدح فما أرضي لكم كَلِميوالكواكب لن تنزل بطبيعة
الحال، أو كقول الشاعر:ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيبهذا لون من
الطلب يدل على أن الطلب محبوب، لكنه لا يقع وقد يقع، وكذلك الاستفهام طلب شيء لأنك
تستفهم عن شيء كقولك لمن تزوره: مَن عندك؟. وأما أن تطلب شيئا ليفعل فهذا هو
الأمر، أو تطلب شيئاً ليجتنب فهذا هو النهي، فتكون الطاعة هي: أن تجيب طالباً إلى
ما طلب.
والطالب إما أن يطالب بأمر لتفعله وإما بنهي لتجتنبه. وإذا أطلقت الطاعة إطلاقاً
عاماً فهي لا تنصرف إلا لطاعة العبد لربه، وبعد ذلك تقول: الولد أطاع أباه، الطالب
أطاع أستاذه، العامل أطاع معلمه، فهذه طاعة مضافة إلى مطاع، لكن إن أطلقت كلمة
الطاعة فهي تنصرف إلى طاعة العبد لله، وهذه أسلم أنواع الطاعات، لماذا؟
لأن أمر كل آمر، أو نهي كل ناهٍ؛ قد يشكك فيه أنّه أمرك بكذا ليعود عليه بالفائدة،
أو نهاك عن كذا ليعود عليه بالفائدة، لكن إذا كان الذي طلب منك هو في غني عن عملك
وعن انتهائك، فهذه مسألة لا يكون فيها شبهة، فالذي يشكك الإنسان في الطاعة هو
المخافة أن يكون الطالب قد طلب أمراً يعود عليه بالمنفعة، أو نهي عن أمر يعود على
الناهي بالمنفعة أو يدفع عنه مضرّة. لكن إذا كان الطالب له كل صفات الكمال المطلق
قبل أن توجد أنت، فوجودك وعملك وعدم عملك لا يعود عليه بشيء، فتكون هذه هي أسلم
أنواع الطاعة.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من
أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله.. ".
إن المنافقين هم الذين يتعبهم وجود نور لأنهم ألفوا الحياة في ظلام، ويرهقهم وجود
عدل؛ لأنهم استمرأوا الحياة في المظالم، لذلك فهم يحاولون أن يتصيدوا شيئاً ليقفوا
في أمر هذه الدعوة، فقالوا: أما سمعتم لصاحبكم.
إنه قارب الشرك.. يقول: لا تعبدوا إلا الله ومع ذلك يريد أن يجعل من نفسه رباً له
حب وله طاعة.
وينزل الحق على رسوله قوله: " من يطع الرسول فقد أطاع الله ".
إذن فالطاعة هنا ليست ذاتية للرسول؛ لأنها إما بلاغ عن الله في النص الجزئي، وإما
بلاغ عن الله في التفويض الكلي، وما دامت بلاغا من الله في التفويض الكلي فيكون
الله قد أمنه أن يشرع: " من يطع الرسول فقد أطاع الله ".
ما هو مقابل الطاعة؟. إنه التوليّ والعصيان، ورأينا الناس تنقسم تجاه الرسول إلى
قسمين: قسم يطيعه في " افعل ولا تفعل " ، وما لم يرد فيه: " افعل
ولا تفعل "؛ فهو داخل في حكم المباحات؛ إن شئت فعلته وإن شئت لم تفعله؛
فالذين يستجيبون للرسول أي يطيعونه في " افعل ولا تفعل " هم من أقبلوا
على المنهج. والذين لا يطيعونه فقد " تولوا " أي أعرضوا وصدّوا.
انظروا إلى الحق سبحانه وتعالى كيف يحمي نفسية الرسول فيقول سبحانه: } وَمَن
تَوَلَّىا فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً { فالذي يتولى ولا يطيع
الرسول، فالحق لم يرسلك يا محمد لترغمهم على الإيمان.
وهناك فرق بين " أرسلناك لهم " أو " أرسلناك إليهم " و "
أرسلناك عليهم ". فـ " أرسلناك لهم " تعني أنك تبلغ فقط، إنما
" عليهم " فهي تعني لتحملهم على كذا، أي يجب أن تنتبه يا محمد إنا
أرسلناك للناس - لا على الناس - لتبلغهم، فمن شاء فليطع ومن شاء فليعص، فلا تجهد
نفسك وتظن أننا أرسلناك عليهم لترغمهم على أن يؤمنوا، فتكلف نفسك أمراً ما كلفك
الله به:{ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ
}[البقرة: 272].
والحق يقول أيضاً:{ فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم
بِمُصَيْطِرٍ }[الغاشية: 21-22].
وفي آية أخرى يقول:{ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ }[ق: 45].
" جبار " يعني تجبرهم على أن يطيعوا. فالإجبار يتنافى مع التكليف
ويتنافى مع دخول الإيمان طواعية ويتنافى مع الاختيار. } فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ
عَلَيْهِمْ حَفِيظاً { والحفيظ هو: الحافظ بمبالغة، تقول مثلاً: هذا حافظ مال
فلان، وهذا حفيظ مال الناس جميعاً يعني عنده مبالغة في الحفظ، إذن فالمبالغة جاءت
في تكرير الحدث فهو يحفظ لذلك الإنسان ولغيره. والحق يؤكد ذلك لمصلحته صلى الله
عليه وسلم؛ لأنه سبحانه بين لنا شغل رسول الله بأمته، وأنه يحب أن يكونوا جميعا
مؤمنين ملتزمين مطيعين، ولذلك يقول الحق:{ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ
يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ }[الشعراء: 3].
إنهم لا يؤمنون، فيوضح له سبحانه: أرح نفسك، فعليك البلاغ فقط وهكذا يخفف الله
مهمة الرسول.
ونجد أغلب عتابات الله لرسول الله، لا لأنه خالف، ولكن لأنه حَمْلَ نفسه فوق ما
تفرضه عليه الرسالة، مثل من يثيرون قصة ابن أم مكتوم، فيقولون: النبي أخطأ ولذلك
قرعه الله ووبخه.
نقول لهم: كان الرسول يرغب أن يؤمن به صناديد قريش العتاة الكافرون، وجاءه ابن أم
مكتوم مؤمناً ويريد أن يستفهم، وكان من الأسهل أن يتعرض لابن أم مكتوم ولا يتعرض
للصناديد الذين يخالفونه! لكن النبي صلى الله عليه وسلم ترك السهل وذهب للصعب،
فكأنه سبحانه يتساءل: لماذا أتعبت نفسك. " وما عليك ألا يزكي " أي ما
الذي يجعلك تتعب، إذن فهو يلومه لصالحه لا لأنه خالف.
فكأن الحق سبحانه وتعالى حينما يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: } فَمَآ
أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً { ، إنما قاله ليخفف عن الرسول. إذن. الحفيظ هو
الذي يحافظ على من يبلغه أمر الله وأن يكون سائراً على منهج الله. إن أراد أن
ينحرف يعدله، فيوضح سبحانه: أنا لم أرسلك حفيظاً عليهم، أنا أرسلتك لتبلغهم، وهم
أحرار يدخلون في التكليف أو لا يدخلون.
إذن فالحفيظ هو المهيمن والمسيطر، كما قال في الآيات الأخرى: والمسيطر أو الجبار
هو الذي يحملهم على الإيمان.. والكلام في الطاعة المقصودة لله. وأن تنفذ جوارحك ما
يأمر به سبحانه فيما تسمعه أذنك وما ينطق به لسانك، وليست الطاعة أن تقول: يا رسول
الله نحن طائعون، وبعد ذلك تحاول أن تخدش هذه الطاعة بأن تجعلها طاعة لسان وليست
طاعة جوارح. فطاعة اللسان دون الجوارح غير محسوبة من الإيمان.
ولهذا يقول الحق بعد ذلك: } وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ... {.
(/361)
وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)
هنا يوضح الحق لرسوله: ستتعرض لطائفة من أمة الدعوة وهم الذين أمرك الله أن تدعوهم
إلى الدخول في الإسلام، - أما أمة الإجابة فهم الذين استجابوا لله وللرسول وآمنوا
فعلا - إن هؤلاء يقولون لك حين تأمرهم بشيء أو تطلب منهم شيئاً أمراً أو نهياً: {
وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ } يعني: أمرنا وشأننا طاعة، أي أمرك مطاع، { فَإِذَا
بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ } ،
ويقال: برز أي خرج للبَرَاز، والبَرَاز هي: الأرض الفضاء الواسعة، ولذلك يقول
المقاتل لمن يتحداه: ابرز لي، أي اخرج من الكن أو الحصن، وكان العرب سابقاً لا
يقضون حاجتهم في بيوتهم، فإذا أرادوا قضاء حاجتهم ذهبوا إلى الغائط البعيد، وجاء
من هذه الكلمة لفظ يؤدي قضاء الحاجة في الخلاء.
{ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ } أي خرجوا، فهم يديرون أمر الطاعة التي أمروا
بها في رءوسهم فيجدونها شاقة، فيبيتون أن يخالفوا، ونعرف أن كلمة " بَيْت
" تعني المأوى الذي يؤوي الإنسان. وأحسن أوقات الإيواء هو الليل، فسموا البيت
الذي نسكنه " مبيتاً " لأننا نبيت عادة في البيت المقام في مكان والمكون
من حجرات؛ والمستور، ويقولون: هذا الأمر بُيِّت بليل، أي دبروه في الليل، وهل
المراد ألا يبيتوا في النهار؟ لا، لكن الشائع أن يبيتوا في ليل. يفعلون ذلك وهم
بعيدون عن الأعين، فيدبرون جيداً؛ وإن كان المقصود هو التبييت في ظلام فهذا المعنى
يصلح أيضاً، وإن كان سراً فالمعنى يصح أيضا.
إذن فالأصل في التبييت إنما يكون في البيت. والأصل أن تكون البيتوتة ليلا، ومدار
المادة كلها الاستخفاء، فإذا بُيت في ظلام نقول: إنه بُيت بليل، وإذا بُيِّتَ سراً
نقول: بُيِّتَ بليل أيضاً.
{ وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ
مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ } يعني قالت طائفة: أمرنا وشأننا طاعة لما تقول:
أو أطعناك طاعة ولكنهم يبيتون غير ما تقول فهم إذن على معصية. { وَاللَّهُ
يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ } وسبحانه يكتب نتيجة علمه، وجاء بكلمة " يكتب
" حتى يعلموا أن أفعالهم مسجلة عليهم بحيث يستطيعون عند عرض كتابهم عليهم أن
يقرأوا ما كتب فيه، فلو لم يكن مكتوباً فقد يقولون: لا لم يحدث، وكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يحذر من هذه الطائفة، لأنها ستثبط أمر الدعوة، لذلك يوضح الحق:
إنك لن تُنصَرَ بمن أرسلت إليهم وإنما تنصر بمن أرسلك، فإياك أن ينال ذلك من
عزيمتك أو يثبطها نحو الدعوة. فإذا حدث من طائفة منهم هذا فـ " أعرض عنهم
" أي لا تخاطبهم في أمر من هذه الأمور ودعهم ودع الانتقام لي؛ لأنني سأنصرك على
الرغم من مخالفتهم لك، واتجه إلى أمر الله الذي أرسلك.
ونعلم أن المصلحة في كل الرسالات إنما تكون عند من أرسل، ولكن المرسل إليه قد
تتعبه الدعوة الجديدة؛ لأنها ستخرجه عن هوى نفسه، ومستلزمات طيشه، فالذي أرسلك يا
محمد هو الضامن لك في أن تنجح دعوتك.
} فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَىا بِاللَّهِ وَكِيلاً {
لماذا؟ لأن الذين يؤمنون بك محدودو القدرة، ومحدودو الحيلة، ومحدودو العدة، ولكن
الذي أرسلك يستطيع أن يجعل من عدد خصومك ومن عُدَّة خصومك جنوداً لك، وينصرك من
حيث لا تحتسب. ولذلك فالحق سبحانه وتعالى بدأ قضية الإسلام وكان المؤمنون بها قلة،
فلو جعلهم كثرة لقالوا: كثرة لو اجتمعت على ظلم لنجحت، ولكن عندما تكون قلة وتنجح،
فهذا فأل طيب ويشير على أنك لست منصوراً بهؤلاء وإنما أنت منصور بمدد الله.
ويقول الحق بعد ذلك: } أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ.... {.
(/362)
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)
وإذا سمعت كلمة " أفلا " فأعلم أن الأسلوب يقرّع من لا يستعمل المادة
التي بعده. { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ } أي كان الواجب عليهم أن يتدبروا
القرآن، فهناك شيء اسمه " التدبر " ، وشيء اسمه " التفكر " ،
ثالث اسمه " التذكر " ، ورابع اسمه " العلم " ، وخامس اسمه
" التعقل " ، ووردت كل هذه الأساليب في القرآن، " أفلا يعلمون
" ، " أفلا يعقلون " ، " أفلا يتذكرون " ، " أفلا
تتكفرون ". هي إذن تدبر، تفكر، تذكر، وتعقل، وعلم.
وحين يأتي مخاطبك ليطلب منك أن تستحضر كلمة " تدبر "؛ فمعنى هذا أنه
واثق من أنك لو أعملت عقلك إعمالاً قوياً لوصلت إلى الحقيقة المطلوبة، لكن الذي
يريد أن يغشك لا ينبه فيك وسائل التفتيش، مثل التاجر الذي تدخل عنده لتشتري
قماشاً، فيعرض قماشه، ويريد أن يثبت لك أنه قماش طبيعي وقوي وليس صناعياً، فيبله
لك ويحاول أن يمزقه فلا يتمزق، إنه ينبه فيك الحواس الناقدة، فإذا نبه فيك الحواس
الناقدة فمعنى ذلك: أنه واثق من أن إعمال الحواس الناقدة في صالح ما ادعاه، ولو
كان قماشه ليس في صالح ما ادعاه لحاول خداعك، لكنه يقول لك: انظر جيداً وجرب.
والحق يقول: { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ } والتدبر هو كل أمر يُعرض على
العقل له فيه عمل فتفكر فيه لتنظر في دليل صدقه، هذه أول مرحلة، فإذا ما علمت دليل
صدقة فأنظر النتيجة التي تعود عليك لو لم تعملها؛ و " تتدبر " تعني أن
تنظر إلى أدبار الأشياء وأعقابها، فالرسول يبلغك: الإله واحد، إبحث في الأدلة
بفكرك، فإذا ما انتهيت إليها آمنت بأن هناك إلهاً واحداً. وإياك أن تقول إنها
مسألة رفاهية أو سفسطة؛ لأنك عندما تنظر العاقبة ماذا ستكون لو لم تؤمن بالإله الواحد.
سيكون جزاؤك النار.
إذن فتدبرت تعني: نظرت في أدبار الأشياء وحاولت أن ترى العواقب التي تحدث منها،
وهذه مرحلة بعد التفكر. فالتفكر مطلوب أن تتذكر ما عرفته من قبل إن طرأ عليك
نسيان. فالتفكر يأتي أولاً وبعد ذلك يأتي التدبر. وأنت تقول - مثلاً - لابنك: لكي يكون
مستقبلك عاليا وتكون مهندسا أو طبيبا عليك أن تذاكر وتجتهد، فيفكر الولد في أن
يكون ذا مكانة مثل المتفوقين في المهن المختلفة في المجتمع، ويبذل الجهد.
إذن فأول مرحلة هي: التفكر، والثانية هي: التدبر، فإذا غفلت نقول لك: تذكر ما فكرت
فيه وانتهيت إليه وتدبر العاقبة، هذه كلها عمليات عقلية: فالتفكير يبدأ بالعقل،
والعقل ينظر أيضاً في العاقبة ثم تعمل الحافظة لتذكرك بما فات وبما كان في بؤرة
الشعور ثم انتقل إلى حاشية الشعور، فإذا كنت قد تعقلت الأمر لذاتك يقال: عقلته.
فإن فهمت ما عقله غيرك فقد علمت ما عقله فلان.
إذن فليس ضروريا أن تكون قد انتهيت إلى العلم بعقلك، بل أنت أخذت حصيلة تعقل غيرك،
ولذلك عندما ينفي ربنا عن واحد العلم فإنه قد نفي عنه التعقل من باب أولى؛ ذلك أن
العلم يعني قدرته على تعقل قدرات غيره، دون الوصول إلى قوانينها وقواعدها وأصولها،
إنه فحسب يعلم كيف يستفيد وينتفع بها، وفي حياتنا اليومية نجد أن الأمي ينتفع
بالتليفزيون وينتفع بالكهرباء، أي انتفع بعلم غيره. لكنه لا يتعقل قدرات ذلك
العَالِم. إذن فدائرة العلم أوسع؛ لأنك تعرف بعقلك أنت. أما في دائرة العلم فإنك
تعلم وتفهم ما عقله سواك.
ولذلك فعندما يأتي ربنا ليعرض هذه القضية يقول:{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا
مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ
أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ }[البقرة:
170].
وفي المعنى نفسه يأتي في آية أخرى عندما يقول لهم:{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ
تَعَالَوْاْ إِلَىا مَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا
مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ }[المائدة: 104].
في الآية الأولى قال سبحانه: " لا يعقلون " لأنهم قالوا: " بل نتبع
ما ألفينا عليه آباءنا " بدون طرد لغيره، وفي الثانية قالوا: " حسبنا ما
وجدنا عليه آباءنا " بإصرار على رفض غيره والخضوع لسواه، فقال: " لو كان
آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون " ، وسبحانه هنا نفي عن آبائهم العلم الذي
هو أوسع من نفي التعقل؛ لأن نفي التعقل يعني نفي القدرة على الاستنباط. لكنه لا
ينفي أن ينتفع الإنسان بما استنبطه غيره.
} أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ
لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً {.. والحق سبحانه وتعالى حينما يحث
المستمعين للاستماع إلى كلامه وخاصة المخالفين لمنهجه أن يتدبروا القرآن، معناه
أنه يحب منهم أن يُعملوا عقولهم فيما يسمعون؛ لأن الحق يعلم أنهم لو أعملوا عقولهم
فيما يسمعون لانتهوا إلى قضية الحق بدون جدال، ولكن الذي يجعلهم في مواقف يعلنون
الطاعة } فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ
الَّذِي تَقُولُ { ، إن هذا دليل على أنهم لم يتدبروا القرآن، وقوله الحق: }
أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ { تأتي بعد تلك الآية، كأنها جاءت ودليلها يسبقها، فهم لو
تدبروا القرآن لعلموا أن الرسول صادق في البلاغ عن الله وأن هذا كلام حق.
وبالله حين يبيتون في نفوسهم أو يبيتون بليل غير الذي قالوه لرسول الله، فمن الذي
قال لرسول الله: إنهم بيتوا هذا؟!
إذن فلو تدبروا مثل هذه لعلموا أن الذي أخبر رسول الله بسرائرهم وتبييتهم ومكرهم
إنما هو الله، إذن فرسول الله صادق في التبليغ عن الله، وما دام رسول الله صادقا
في التبليغ عن الله، فتعود للآية الأولى } مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ
اللَّهَ { ، وكل الآيات يخدم بعضها بعضاً، فالقرآن حين نزل باللسان العربي شاء
الله ألا يجعل كل مستمع له من العرب يؤمن به أولا؛ لأنهم لو آمنوا به جميعا أولاً
لقالوا: إيمانهم بالقرآن جعلهم يتغاضون عن تحدي القرآن لهم.
لكن يظل قوم من المواجهين بالقرآن على كفرهم، والكافر في حاجة إلى أن يُعَارِض
ويُعارَض. فإذا ما وجد القرآن قد تحداه أن يأتي بمثله، وتحداه مرة أن يأتي بعشر
سور من مثله، وتحداه بأن يأتي بأقصر سورة من مثله، هذا هو التحدي للكافر.. ألا
يهيج فيه هذا التحدي غريزة العناد؟ ولم يقل منهم أحد كلمة، فما معنى ذلك؟ معناه:
أنهم مقتنعون بأنه لا يمكن أن يصلوا لذلك واستمروا على كفرهم وكانوا يجترئون
ويقولون ما يقولون. ومع ذلك فالقرآن يمر عليهم ولا يجدون فيه استدراكاً.
كان من الممكن أن يقولوا: إن محمدا يقول القرآن معجز وبليغ وقد أخطأ في كذا وكذا.
ولو كانوا مؤمنين لأخفوا ذلك، لكنهم كافرون والكافر يهمه أن يشيع أي خطأ عن
القرآن، وبعد ذلك يأتي قوم ليست لهم ملكة العربية ولا فصاحة العربية، ليقولوا إن
القرآن فيه مخالفات! فكيف يتأتى لهم ذلك وليس عندهم ملكة العربية، ولغتهم لغة
مصنوعة، وليس لهم ملكة فصاحة، فكيف يقولون: إن القرآن فيه مخالفات؟ لقد كان العرب
الكافرون أولى بذلك، فقد كانت عندهم ملكة وفصاحة وكانوا معاصرين لنزول القرآن، وهم
كافرون بما جاء به محمد ولم يقولوا: إن في القرآن اختلافاً!! هذا دليل على أن
المستشرقين الذين ادعوا ذلك يعانون من نقص في اللغة.
ونقول لهم: لقد تعرض القرآن لأشياء ليُثبت فصاحته وبلاغته عند القوم الذين نزل لهم
أولا. فمنهم من سيحملون منهج الدعوة، ثم حمل القرآن معجزات أخرى لغير الأمم
العربية، فمعجزة القرآن ليست فصاحة فقط، وإلا لقال واحد: هو أعجز العرب، فما شأن
العجم والرومان؟ ونقول له: أكل الإعجاز كان في أسلوبه؟ لا، الإعجاز في أشياء تتفق
فيها جميع الألسنة في الدنيا؛ لأنه يأتي ليثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
بشهادة خصومه لم يبارح الجزيرة إلا في رحلة التجارة للشام، ولم يثبت أنه جلس إلى
معلم، وكلهم يعرف هذا، حتى الغلطة التي أخطأوا فيها، جاء ربنا بها ضدهم فقال:{
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ
الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـاذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ
}[النحل: 103].
يقصدون بـ " بشر " هذا غلاماً كان لحويطب بن عبد العزى قد أسلم وحسن
إسلامه، أو غلاما آخر روميّاً أو سلمان الفارسي، فأوضح الحق: تعقلوا جيدا، فمحمد
لم يجلس إلى معلم، ولم يذهب في رحلات.
وبعد ذلك جاء القرآن تحدياً لا بالمنطق ولا باللغة ولا بالفصاحة ولا بالبيان فحسب،
بل بالأمر الشامل لكل العقول وهو كتاب الكون. ووقائعه وأحداثه التي يشترك فيه كل
الناس.
والكون - كما نعرف - له حجب، فالأمر الماضي حجابه الزمن الماضي والذي كان يعيش
أيامه يعرفه، والذي لم يكن في أيامه لا يعرفه، إذن فأحداث الماضي حجبها الزمن
الماضي، وأحداث المستقبل حجزها المستقبل؛ لأنها لم تقع بعد. والحاضر أمامنا، فيجعل
له حاجزاً هو المكان، فيأتي القرآن في أساليبه يخرق كل هذه الحجب، ثم يتحدى على
سبيل المثال ويقول:{ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَىا مُوسَى
الأَمْرَ وَمَا كنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ }[القصص: 44].
وسبحانه يقول:{ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُواْ عَلَيْهِمْ
آيَاتِنَا }[القصص: 45].
وسبحانه يقول:{ وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ
بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ }[العنكبوت: 48].
وكل " ما كنتط في القرآن تأتي بأخبار عن أشياء حدثت في الماضي. بالله لو
كانوا يعلمون أنه علم أو جلس إلى معلم، أكانوا يسكتون؟ طبعا لا، لأن هناك كفاراً
أرادوا أي ثغرة لينفذوا منها، وبعد ذلك يأتي القرآن لحجاب الزمن المستقبل ويخرقه،
يحدث ذلك والمسلمون لا يقدرون أن يحموا أنفسهم فيقول الحق:{ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ
وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ }[القمر: 45].
حتى أن عمر بن الخطاب يقول: أي جمع هذا؟ وينزل القرآن بآيات تتلى وتسجل وتحفظ..
وتأتي غزوة " بدر " ويهزم الجمع فعلاً. وتنزل آية أخرى في الوليد ابن
المغيرة الجبار المفتري:{ سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ }[القلم: 16].
ويتساءل بعضهم: هل نحن قادرون أن نصل إليه؟ وبعد ذلك تأتي غزوة " بدر "
فينظرون أنفه فيجدون السيف قد خرطه وترك سمة وعلامة عليه، فمن الذي خرق حجاب الزمن
المستقبل؟ إنه الله. وليس محمداً، فإذا تدبرتم المسائل حق التدبر لعلمتم أن محمداً
ما هو إلا مبلغ للقرآن، وأن الذي قال القرآن هو الإله الذي ليس عنده ماضٍ ولا حاضر
ولا مستقبل، بل كل الزمن له، ويأتي القرآن فيقول:{ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ
لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ }[المجادلة: 8].
هم قالوا في أنفسهم ولم يسمع لهم أحد، ثم ينزل القرآن فيخبر بما قالوه في أنفسهم..
فماذا يقولون إذن؟ وهم لو تدبروا القرآن لعلموا أن الحق سبحانه وتعالى هو الذي
أخبر رسول الله بما قالوا في أنفسهم.. فهذه الآية } أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ
{ جاءت بعد } فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ
الَّذِي تَقُولُ { ، إذن فقد فُضحوا، فلو كانوا يتدبرون لعلموا أن الله الذي أرسل
رسوله بالهدى ودين الحق هو الذي أخبره بما بيتوا، والذين لا يفهمون اللغة يطيرون
فرحاً باختلاف توهموا أنه موجود بالقرآن، يقولون: إن الحدث الواحد المنسوب إلى
فاعل واحد لا ينفي مرة ويثبت مرة أخرى، فإن نفيته لا ثتبته، وإن أثبته لا تنفه،
لكن القرآن فيه هذا.
وهييء لهم ذلك في قول الحق:{ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ
رَمَىا }[الأنفال: 17].
و " ما رميت " هو نَفَي " الرمي " ، و " إذ رميت "
أَثْبت " الرمي " وجاء القرآن بالفعل وهو " رميت " ، والفاعل
هو " رسول الله صلى الله عليه وسلم " فكيف يثبت الفعل مرة وينفيه مرة في
آية واحدة؟ ونقول لهم: لأنكم ليس عندكم ملكة العربية قلتم هذا الكلام، أما من عنده
ملكة العربية وهي أصيلة وسليقة وطبيعة وسجية فيه، فقد سمع الآية ولم يقل مثل هذا
الكلام، مما يدل على أنه فهم مؤداها.
ثم لماذا نبتعد ونقول من أيام الجاهلية، لنأخذ من حياتنا اليومية مثلاً، أنت إذا
ما جئت مثلاً لولدك وقلت له: ذاكر لأن الامتحان قد قرب، وأنا جالس معك لأرى هل
ستذاكر أو لا. فيأخذ الولد كتابه ويجلس إلى مكتبه وبعد ذلك يفتح الكتاب ويقلب
الأوراق ويهز رأسه. وبعد مدة تقول له: تعال انظر ماذا ذاكرت. فتمسك الكتاب وتسأله
سؤالين فيما ذاكر.. فلا يجيب، فتقول له: ذاكرت وما ذاكرت. أي أنك فعلت شكلية
المذاكرة، ولا حصيلة لك في موضوع المذاكرة.
قولك: " ذاكرت " هو إثبات للفعل، وقولك: " وما ذاكرت " هو نفي
للفعل. فإذا جاء فعل من فاعل واحد مثبت مرة ومنفي مرة من كلام البليغ. فاعلم أن
جهة الإثبات غير جهة النفي.
وقوله الحق: } وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ { فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم
عندما جاء إلى المعركة أخذ حفنة من الحصى، وجاء ورمي بها جيش العدو.
إذن فالعملية الشكلية قام بها النبي صلى الله عليه وسلم، لكن أَلِرَسول الله قدرة
أن يُرسل الحصى إلى كل جيش العدو؟ إن هذه ليست في طاقته، فقول الحق: } وَمَا
رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ رَمَىا {. أنت أخذت شكلية الرمي، أما
موضوعية الرمي فهي لله سبحانه وتعالى.
ويأتي مثلاً في آية أخرى يقول:{ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
}[الروم: 6].
وهذا نفي. ثم يقول بعدها مباشرة:{ يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا }[الروم: 7].
وتتساءلون أيقول: " لا يعلمون ".. ثم يقول: " يعلمون " بعدها
مباشرة؟ نعم فهم لا يعلمون العلم المفيد، وقوله: } يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا { أنهم لا يعلمون بواطن الأمور ولا عواقبها. فإذا جاء فعل
فثبت مرة ونفي مرة أخرى فلا بد أن الجهة منفكة.
مثال ذلك هو قول الحق:{ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ
جَآنٌّ }[الرحمن: 39].
ثم يقول القرآن في موقع آخر:{ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ }[الصافات:
24].
ومعناها أنهم سيُسألون. ونقول: اجعلوا عندكم ملكة العربية، ألا يسأل الأستاذ
تلميذه.
إذن فالسؤال قد يقع من العالم ليُعْلم ما عند المسئول ويُقِرُّ به، وليس ليَعْلَم
العالم ما عند المسئول، وعندما يقول ربنا: } وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ
{.. فإياكم أن يذهب ظنكم إلى أن الله يسأل لأنه لا يعلم، وإنما يسأل ليقرركم لتكون
حجة الإقرار أقوى من حجة الاختبار. إذن فإن رأيت شيئاً نفي، وأثبت في مرة أخرى
فاعلم أن الجهة منفكة. وحينما نتكلم عن إعجاز القرآن نجده يقول:{ وَلاَ
تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ
}[الأنعام: 151].
وجاء في الآية الثانية وقال ربنا:{ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم }[الإسراء:
31].
قد يقول من لا يملك ملكة اللغة: فأيهما بليغة؟ إن كانت الأولى فالثانية ليست
بليغة، وإن كانت الثانية فالأولى ليست بليغة.
نقول له: أنت أخذت عجز كل آية فقط. وعليك أن تأخذ عجز كل آية مع صدرها. صحيح أن
عجز الآية مختلف؛ لأنه يقول في الأولى: } نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ { وفي
الثانية يقول: } نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم {. ولكن هل صدر الآية متحد؟ لا،
فصدر كل آية مختلف؛ لأنه قال: } وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ
نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ {. فكأن الإملاق موجود.. حاصل؛ لذلك شغل
المخاطب برزقه قبل أن يشغل برزق ولده.. ويخاف أن يأتي له الولد فلا يجد ما يطعمه.
لأنه هو نفسه فقير. فيطمئنه الله على رزقه أولا ثم بعد ذلك يطمئنه على رزق من
سيأتي: } نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ {.. لكن في الآية الثانية لم يقل
ذلك.. بل قال } وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ { كأنه يخاف أن
يفقد ماله ويصير فقيراً عندما يأتي الولد، وما دام قد قال: } خَشْيَةَ إِمْلاقٍ {
فهذا يعني أن الإملاق غير موجود، ولكنه يخاف الإملاق إن جاء الولد، يخاف أن يأتيه
الولد فيأتيه الفقر معه، فأوضح الحق له: لا تخف فسيأتي الولد برزقه.. } نَّحْنُ
نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم { إذن إن نظرت إلى الآية عجزها مع صدرها.. تجد العلاقة
مكتملة، ويحاول بعضهم أن يجد منفذاً للطعن في بلاغة القرآن فيتساءل لماذا يقول
الحق في آية في القرآن:{ وَاصْبِرْ عَلَىا مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ
الأُمُورِ }[لقمان: 17].
وفي سورة ثانية يقول:{ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ
الأُمُورِ }[الشورى: 43].
ونقول لهم: أنتم لم تفهموا الآيات على حقيقتها. ففي الآية الأولى يقول: }
وَاصْبِرْ عَلَىا مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ { أي في
المصائب التي لا غريم لك فيها. وما دام ليس لك غريم فيها.. فماذا تفعل؟ لكن إذا
كان لك غريم وخصم فقد تتحرك نفسك بأن تنتقم منه. ولذلك فانتبه لقوله الحق: }
وَاصْبِرْ عَلَىا مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ { يناسب
الموقف الذي لا يوجد فيه غريم، وفي الآية الثانية: } إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ
الأُمُورِ { فالآية تناسب الموقف الذي فيه غريم لأنك ستصبر على المصيبة وعلى من
عملها من غريم؛ لأنك كلما رأيته تهيج نفسك وهذا يحتاج لتأكيد الصبر بقوة، وتلك هي
كلمات المستشرقين الذين يريدون الطعن في القرآن ويقولون لنا: أنتم تنظرون للقرآن
بقداسة لكنكم لو نظرتم إليه بتفحص لوجدتم أن فيه اختلافات كثيرة، نقول لهم: قولوا
لنا المخالفات، ونحن رددنا على هذا في ثنايا خواطرنا عن القرآن، ومنهم من يقول لك
مثلاً: القرآن عندما تعرض لقضية خلق السماوات والأرض جاءت كل الآيات لتؤكد أن الله
سبحانه خلقها في ستة أيام.
. لكنهم يقولون عندما نذهب إلى آيات التفصيل في قوله:{ قُلْ أَإِنَّكُمْ
لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ
أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا
وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً
لِّلسَّآئِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَىا إِلَى السَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا
وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ *
فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَىا فِي كُلِّ سَمَآءٍ
أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ
تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ }[فصلت: 9-12].
نجدها ثمانية أيام فقالوا: هذا خلاف. نقول لهم: أنتم لم تفهموا. فسبحانه حين قال:
} قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ { ، فهل تكلم عما
تستقيم به الحياة على الأرض؟ إنه عندما تكلم عن الأرض يقول: } قُلْ أَإِنَّكُمْ
لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ
أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا
{ ، فهذه تكون تتمة الأرض لأنه يتكلم عن الأرض.. } وَجَعَلَ فِيهَا { أي الأرض.. }
رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا {.. وكل
ذلك في الأرض.. إذن فالمرحلة الثانية مرحلة تتمة خلق الأرض فسبحانه خلق الأرض كجرم
أولاً، وبعد ذلك جعل فيها الرواسي وجعل فيها الأقوات وبارك فيها. في كم يوما؟ في
أربعة أيام فكأن اليومين الأولين دخلا في الأربعة، لأن هذه تتمة خلق الأرض.
ولله المثل الأعلى، مثلما تقول: سرت من هنا إلى الإسماعيلية في ساعة، وإلى بورسعيد
في ساعتين، فقولك: إلى بورسعيد في ساعتين، يعني أن الساعة الأولى تم حسابها، إذن
فهؤلاء المستشرقون لم يفهموا معطيات القرآن؛ لذلك يقول سبحانه: } أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ
الْقُرْآنَ { فإن وجدت شيئا ظاهريا يثير تساؤلا في القرآن فأعمل عقلك، وأعمل فكرك
كي تعرف أن التناقض في فهمك أنت وليس التناقض في القرآن؛ لأنه مِنْ عند مَن إذا قص
واقعا قصه على حقيقته، وعند مَن لا يغيب شيء عنه، لا حجاب الزمن الماضي، ولا حجاب
الزمن المستقبل، ولا حجاب المكان، ولا حجاب المكين } أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ
الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً
كَثِيراً { ، فالقرآن كتاب كبير به أربع عشرة ومائة سورة، بالله هاتوا أي أديب من
الأدباء كي يكتب هذا، ثم انظروا في فصاحته، إنّكم ستجدونه قويا في ناحية وضعيفا في
ناحية أخرى، وبعد ذلك قد تجدونه أخل بالمعنى، وقال كلمتين هنا ثم جاء بما يناقضهما
بعد ذلك! مثلما فعل أبو العلاء المعري عندما قال:
تحطمنا الأيام حتى كأننا زجاج ولكن لا يعاد لنا سبكوكان أيام قوله هذا: ينكر
البعث.
وعندما رجع إلى صوابه بعد ذلك قال:زعم المنجم والطبيب كلاهما لا تحشر الأجساد قلت
إليكماإن صح قولكما فلست بخاسر أو صحّ قولي فالخَسار عليكماإذن فالتناقض يأتي مع
صاحب الأغيار الذي كان له رأي أولاً ثم عدلته التجربة أو الواقع إلى رأي آخر. لكن
ربنا سبحانه وتعالى لا يتغير ومعلومه لا يتغير فهو الحق، إذن فالتناقض يأتي إما من
واحد يكذب؛ لأن الواقع لم يحكمه، وإما من واحد هو في ذاته متغير، فرأى رأياً ثم
عدل عنه، فيكون متغيراً. لكن الحق سبحانه وتعالى لا يتغير.. ويقول على الواقع
الحق: } أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ
اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً {.
والواقع أيضاً أننا نجد كل قضية قرآنية تعرض كنص من نصوص القرآن أنزله الله على
رسوله.. هذه القضية القرآنية في كون له تغيرات، والتغيرات بعضها يكون من مؤمن
بالقرآن، وبعضها يكون من غير مؤمن بالقرآن، فهل رأيت قضية قرآنية ثم جاءت قضية
الكون حتى من غير المؤمنين فكذبتها؟. لا، هم في الغرب مثلاً بعد الحرب العالمية
الأولى اخترعوا أسطوانة تحطيم الجوهر الفرد والجزء الذي لا يتجزأ.. وكانت تلك أول
مرحلة في تفتيت الذرة، ونجد القرآن يضرب المثل بالذرة، وأنها أصغر شيء في قوله
سبحانه:{ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ }[الزلزلة: 7].
وضع العلماء أيديهم على قلوبهم لأن الذرة قد تفتت. فوجد ما هو أصغر من الذرة!!
ووجدنا من قرأ القرآن.. وقال: إن القرآن نزل في عصر كان أصغر شيء فيه " الذرة
" عند العربي القديم، والله يعلم أزلا أن العلم سيطمح ويرتقي ويفتت الذرة،
فقال:{ عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي
السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ
إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }[سبأ: 3].
لقد تدبر صاحب هذا القول القرآن وفهم عن الله الذي تتساوى عنده الأزمنة، فالمستقبل
مثل الماضي، ليس عنده علم مستقبل وعلم حاضر وعلم ماضٍ، وأوضح لنا: أن هناك ما هو
أصغر من الذرة. فلو فتتوا المفتت منها لوجدنا في القرآن له رصيداً.
تعالوا للقضايا الاجتماعية مثلاً. تجدوا أي قضية قرآنية يجتمع لها خصوم القرآن
ليجدوا مطعناً، فنجد من لم يفهموا من المسلمين يجرون وراءهم ويقولون: هذه الأمور
لم تعد ملائمة للعصر، ثم نجد أعداء الإسلام يواجَهُون بظروف لا يجدون حلاً
لمشكلاتهم إلا ما جاء في القرآن.
} أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ
لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً {.
ومثال آخر: بعض الناس يقولون: هناك اختلاف في القراءات.. مثل قوله تعالى:{
مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ }[الفاتحة: 4].
ويقول: هناك من يقرؤها " مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ".. لكن هناك ما يُسمى
" تربيب الفائدة " لأن كلمة " مالك " وكلمة " مَلِك
" معناهما واحد، والقرآن كيف يكون من عند غير الله؟ } أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ
الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ { - أي القرآن - " من عند غير الله " أغير الله
كان يأتي بقرآن؟! لا. إنما القرآن لا يأتي إلا من الله سبحانه وتعالى، } وَلَوْ
كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً {.
إن قوله سبحانه: } أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ { تكريم للإنسان، فكأن
الإنسان قد خلقه الله ليستقبل الأشياء بفكر لو استعمله استعمالاً حقيقياً لانتهى
إلى مطلوبات الحق، وهذه شهادة للإنسان، فكأن الإنسان مزود بآلة فكرية.. هذه الآلة
الفكرية لو استعملها لوصل إلى حقائق الأشياء، ولاحق لا يريد منا إلا أن نعمل هذه
الآلة: } أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ
اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً { فالقرآن كلام الله، وكلام الله
صفته، وصفة الكامل كاملة، والاختلاف يناقض الكمال. فمعنى الاختلاف أنك تجد آية
تختلف مع آية أخرى، فكأن الذي قال هذه نسي أنه قالها!! وبعد ذلك جاء بأمر يناقضها،
ولو كان عنده كمال لعرف ما قال أولاً كي لا يخالفه ثانياً.
إذن فلا تضارب ولا اختلاف في القرآن؛ لأنه من عند الله.
وبعد ذلك يقول الحق: } وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ...
{.
(/363)
وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)
الحق سبحانه وتعالى يربي الأمة الإيمانية على أسلوب يضمن ويؤمّن لهم سرّية حركتهم
خاصة أنهم قوم مقبلون على صراع عنيف ولهم خصوم أشداء، فيربيهم على أن يعالجوا
أمورهم بالحكمة لمواجهة الجواسيس. فيقول: { وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ }. أي إذا
جاءهم خبر أمر من الأمور يتعلق بالقوم المؤمنين أو بخصومهم، وعلى سبيل المثال:
يسمعون أن النبي عليه الصلاة والسلام سيخرج في سرية إلى المنطقة الفلانية، وقبيلة
فلان تنتظره كي تنضم إليه، وعندما يسمع الضعاف المنافقون هذا الخبر يذيعونه.
فيحتاط الخصوم بمحاصرة القبيلة التي وعدت الرسول أن تقاتل معه كي لا تخرج، أو
يقولون مثلاً: إن النبي سيخرج ليفعل كذا فيذيعوا أيضاً هذا الخبر! فأوضح لهم الحق:
لا تفعلوا ذلك في أي خبر يتعلق بكم كجماعة ارتبطت بمنهج وتريد هذا المنهج أن
يسيطر؛ لأن هذا المنهج له خصوم.
إياكم أن تسمعوا أمراً من الأمور فتذيعوه قبل أن تعرضوه على القائد وعلى من رأى
القائد أنهم أهل المشورة فيه، فقوله: { وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ }
يقصد به أن المسألة تكون في صالحهم { أَوِ الْخَوْفِ } أي من عدوهم { أَذَاعُواْ
بِهِ }.
كلمة " أذاعة " غير كلمة " أذاع به " ، فـ " أذاعه
" يعني " قاله " ، أما " أذاع به " فهي دليل على أنه
يقول الخبر لكل من يقابله، وكأن الخبر بذاته هو الذي يذيع نفسه، فهناك أمر تحكيه
وتنتهي المسألة، أما " أذاع به " فكأن الإذاعة مصاحبة للخبر وملازمة له
تنشره وتخرجه من طيّ محدود إلى طي غير محدود.. أو من آذان تحترم خصوصية الخبر إلى
آذان تتعقب الخبر، ثم يقول: { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ } فالرسول أو من
يحددهم الرسول صلى الله عليه وسلم هم الذين لهم حق الفصل فيما يقال وما لا يقال: {
لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } والاستنباط مأخوذ من "
النَبْط " وهو ظهور الشيء بعد خفائه، واستنبط أي استخرد الماء مجتهدا في ذلك
والنَبَط هو أول مياه تخرج عند حفر البئر فنقلت الكلمة من المحسات في الماء إلى
المعنويات في الأخبار. وصرنا نستخدم الكلمة في المعاني، وكذلك في العلوم. مثلما
تعطي الطالب مثلاً تمريناً هندسياً، وتعطيه معطياته، ثم يأخذ الطالب المعطيات
ويقول بما أن كذا = كذا.. ينشأ منه كذا، فهو يستنبط من موجودٍ معدوماً.
وهنا يوضح الحق لهم: إذا سمعتم أمراً يتعلق بالأمن أو أمراً يتعلق بالخوف، فإياكم
أن تذيعوه قبل أن تعرضوه على رسول الله صلى الله عليه وسلم أو تعرضوه على أولياء
الأمر الذين رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم بعض السلطة فيه؛ لأنهم هم
الذين يستنبطون.
. هذا يقال أو لا يقال.
ويقول الحق: } وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ
الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً { كأنهم أذاعوا بعض أحداث حدثت، لكنهم نجوا منها
بفضل من الله سبحانه وتعالى وبعض إلهاماته فكان مما أذاعوا به ما حدث عندما عقد
رسول الله صلى الله عليه وسلم - العزم على أن يذهب إلى مكة فاتحاً.. وكان رسول
الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزوة وَرَّى بغيرها.. أي أنه لا يقول الوجهة
الحقيقية كي يأخذ الخصوم على غرة، وعندما يأخذ الخصوم على غرة يكونون بغير إعداد،
فيكون ذلك داعياً على فقدانهم قدرة المقاومة.
وانظروا إلى الرحمة فيما حدث في غزوة الفتح، فقد أمر رسول الله المسلمين بالتجهيز
لغزو مكة حتى إذا ما أبصر أهل مكة أن رسول الله جاء لهم بجنود لا قبل لهم بها؛
يستكينون ويستسلمون فلا يحاربون وذلك رحمة بهم. وكان " حاطب بن أبي بلتعة
" قد سمع بهذه الحكاية فكتب كتاباً لقريش بمكة، وأخذته امرأة وركبت بعيرها
وسارت. وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلى ومن معه وقال لهم: إن هناك امرأة
في روضة خاخ معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش يخبرهم بقدومنا إلى مكة،
فذهبوا إلى الظعينة فأنكرت، فهددها سيدنا عليٌّ وأخرج من عقاصها - أي من ضفائر
شعرها - الكِتَاب، فإذا هو كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش، فاستحضر رسول الله
صلى الله عليه وسلم حاطباً وقال له: أهذا كتابك؟. قال: نعم يا رسول الله، فقال:
وما دعاك إلى هذا؟ قال: والله يا رسول الله لقد علمت أن الله ناصرك، وأن كتابي لن
يقدم ولن يؤخر. وأنا رجل ملصق في قريش ولم أكن من أنفسهم ليس لي بها عصبية ولي بين
أظهرهم ولد وأهل فأحببت أن أتقدم إلى قريش بيد تكون لي عندهم يحمون بها قرابتي وما
فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام فقال له النبي: قد
صدقت.
إذن فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يبني القضايا الإيمانية وخاصة ما يتعلق بأمر
المؤمنين مع أعدائهم على الصدق، ولا يستقيم الأمر أن يفشي ويذيع كل واحد الكلام
الذي يسمعه، بل يجب أن يردوا هذا الكلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى
أولى الأمر لأنهم هم الذين يستنبطون ما يناسب ظرفهم من الأشياء، ربما أذنوا لكم في
قولها، أو أذنوا بغيرها إذا كان أمر الحرب والخداع فيها يستدعي ذلك. وهذا يدل على
أن الحق سبحانه وتعالى وإن كان قد ضمن النصر والغلبة لهم وأوضح: أنا الوكيل وأنا
الذي أنصر ولا تهابوهم، إلا أنه سبحانه يريد أن يأخذ المؤمنون بالأسباب..
وبكفايتهم به على أنه هو الناصر.
} وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ
إِلاَّ قَلِيلاً { وهذا يدل على أن هذه المسألة قد حدثت منهم ولكن فضل الله هو
الذي سندهم وحفظهم فلم يجعل لهذه المسألة مغبة أو عاقبة فيما يسؤوهم. } وَلَوْلاَ
فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ
قَلِيلاً { ونعرف أنه كلما جاء فعل من الأفعال وجاء بعده استثناء. فنحن ننظر: هل
هذا الاستثناء من الفاعل أو من الفعل؟.. وهنا نجد قوله الحق: } لاَتَّبَعْتُمُ
الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً { فهل كان اتباع الشيطان قليلاً أي اتبع الشيطان قلة
وكثيرون لم يتبعوا الشيطان. فهل نظرت إلى القلة في الحدث أو في المحدِث للحدث؟.
فإن نظرت إلى القلة في الحدث فيكون: لاتبعتم الشيطان إلا اتباعاً قليلاً تهتدون
فيه بأمر الفطرة، وإن أردت القلة في المحدث: } لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ
قَلِيلاً { أي إلاَّ نفرا قليلا منكم سلمت فطرتهم فلا يتبعون الشيطان.
فقد ثبت أن قوماً قبل أن يرسل ويبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جلسوا ليفكروا
فيما عليه أمر الجاهلية من عبادة الأوثان والأصنام، فلم يرقهم ذلك، ولم يعجبهم،
فمنهم من صَدّ عن ذلك نهائياً، ومنهم من ذهب ليلتمس هذا العلم من مصادره في البلاد
الأخرى، فهذا " زيد بن عمرو بن نفيل " ، وهذا " ورقة بن نوفل
" الذي لم يصدق كل ما عرض عليه، و " أمية بن أبي الصلت " ، و
" قُسّ بن ساعدة " ، كل هؤلاء بفطرتهم اهتدوا إلى أن هذه الأشياء التي
كانت عليها الجاهلية لا تصح ولا يستقيم أن يكون عليها العرب فهؤلاء كانوا قلة
وكانوا يسمون بالحنفاء والكثير منهم كان يعبد الأصنام ثم أكرمهم الله ببعثة رسول
الله صلى الله عليه وسلم.
إذن فقول الحق: } وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ
لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً { أي لأن الحق سبحانه وتعالى بفضله
ورحمته لن يدع مجالاً للشيطان في بعض الأشياء.. بل يفضح أمر الشيطان مع المنافقين.
فإذا ما فضح أمر الشيطان مع المنافقين أخذكم إلى جانب الحق بعيداً عن الشيطان،
فتكون هذه العملية من فضل الله ورحمته.
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه مخاطباً سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: }
فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ... {.
(/364)
فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84)
وحين ترى جملة فيها الفاء فاعلم أنها مسببة عن شيء قبلها، وإذا سمعت مثلاً قول
الحق سبحانه وتعالى:{ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ }[عبس: 21].
ومعنى ذلك أن القبر جاء بعد الموت، فإذا وجدت " الفاء " فاعرف أن ما
قبلها سبب فيما بعدها، ويسمونها " فاء السببية ".
فما الذي كان قبل هذه الآية لتترتب عليه السببية في قول الله سبحانه لسيدنا رسول
الله: { فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ } نقول: ما
دام الأمر جاء " فقاتل " فعلينا أن نبحث عن آيات القتال المتقدمة، ألم
يقل قبل هذه الآية:{ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ
الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ
أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً }[النساء: 74].
والآية الثانية:{ وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ }[النساء: 75].
إذن أمر القتال موجود من الله لمن؟ لرسول الله، والرسول يبلغ هذا الأمر للمؤمنين
به، والرسول يسمعه من الله مرة واحدة؛ لذلك فإنّه صلى الله عليه وسلم أول من يصدق
أمر الله في قوله: { فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ }. ثم ينقلها إلى
المؤمنين، فمن آمن فهو مصدق لرسول الله في هذا الأمر. فالرسول هو أول منفعل
بالقرآن فإذا قال الحق:{ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ
الْحَيَاةَ الدُّنْيَا }[النساء: 74].
أو عندما يقول له الحق:{ وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
}[النساء: 75].
وما دام الرسول صلى الله عليه وسلم هو أول منفعل بأوامر الله، فإذا جاءه الأمر
فعليه أن يلزم نفسه أولاً به، وإن لم يستمع إليه أحد وإن لم يؤمن به أحد أو لم
يتبعه أحد، وهذا دليل على أنه واثق من الذي قال له: { وَمَا لَكُمْ لاَ
تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } وما دام صلى الله عليه وسلم هو أول منفعل
فعليه أولاً نفسه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بإقباله على القتال وحده، إنما يدل مَن
سمع القرآن على أن الرسول الذي نزل عليه هذا القرآن، أول مصدق، ومحمد لن يغش نفسه.
فقبل أن يأمر المؤمنين أن يقاتلوا، يقاتل هو وحده. ولذلك نجد أن سيدنا أبا بكر
الصديق - رضوان الله عليه - حينما انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق
الأعلى وحدثت الردة من بعض العرب، وأصرّ خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم على
أن يقاتل المرتدين وقال: لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله
عليه وسلم لجالدتهم عليه بالسيف. وحاول بعض الصحابة أن يثني أبا بكر الصديق عن
عزمه فقال: والله لو عصت يميني أن تقاتلهم لقاتلتهم بشمالي.
إذن فقول الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: { فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ }
ينبهنا إلى أن هناك فرقاً بين البلاغ وبين تنفيذ المبلَّغ.
وما دام الرسول صلى الله عليه وسلم قد سمع من الله، فهو ملزم بتطبيق الفعل أولاً،
وبعد ذلك يبلغ الرسول المؤمنين، فمن استمع إليه فعل فعله.
وقول الحق: } لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ { هو تكليف بالفعل لا بالبلاغ فقط،
فالرسول يبلغ، لكن أن يفعل المؤمنون ما بلغهم به عن الله أو لا يفعلوا فهذا ليس من
شأنه ولا هو مكلف به. ولكن على الرسول أن يلزم ويكلف نفسه ليقاتل في سبيل الله. }
فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ {.
أمعني ذلك أن يترك الرسول الذين آمنوا به لنفوسهم؟. لا فالحق قد أوضح: عليك أيضاً
أن تحرضهم على القتال فلا تتركهم لنفوسهم: } وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى
اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ { ومعنى " حرض " مأخوذ
من " الحُرْض " وهو ما به إزالة العوائق وما ينطف الأيدي والملابس مما
يرين عليها ويعلوها من الوسخ والدنس، فعليك يا رسول الله أن تنظر في أمر صحابتك
وأتباعك وتعرف لماذا لا يريدون أن يقاتلوا، وعليك أن تنفض عنه الموانع وتزيل
العوائق التي تمنعهم أن يقاتلوا.
} وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ
{ ، وكأن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يقول لرسوله: إنك لا تنصر بالكثرة المؤمنة
بك، ولكن المؤمنين هم ستر ليد الله في النصر، فالنصر منه سبحانه:{ وَمَا النَّصْرُ
إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ }[آل عمران: 126].
وورود كلمة " بأس " في الآية التي نحن بصددها، يراد بها القوة والشدة في
الحرب، ويراد بها المكيدة، ويراد بها هزيمة الأعداء. فكلمة " بأس " فيها
معانٍ متعددة. والحق يبلغ رسوله: إنك يا محمد لا تكلف إلا نفسك وإياك أن يخطر على
بشريتك: كيف أقاتل هؤلاء وحدى فإن القوم المؤمنين معك وإذا ما دخلوا القتال فهم لا
ينصرونك ولكنهم يسترون يد الله في النصر:{ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ
بِأَيْدِيكُمْ }[التوبة: 14].
ولماذا لا ينصر الله المؤمنين والرسول مباشرة دون قتال لغيرهم من الكفار
والمشركين؟. لأن النصر لو جاء بسبب غيبي من الحق ربما قالوا ظاهرة طبيعية قد
نشأت.. ولكن الحق يريد أن يظهر أن القلة المؤمنة هي التي غلبت، فالمؤمن يقبل على
الأسباب ولا ينسى المسبب، فحينما نظر المسلمون إلى الأسباب فقط في " حنين
" ، وقال بعضهم: لن نهزم عن قلة فنحن كثير، هنا ذاق المسلمون طعم الهزيمة
أولاً، وبعد أن أعطاهم الحقُّ الدرس التأديبي أولاً.. نصرهم ثانياً. والحق يقول:{
وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً
}[التوبة: 25].
وهذا لفت للمؤمنين أن يكونوا مع الأسباب ويتذكروا المسبب دائماً؛ لأن الأسباب إنما
تأتي فقط لإثبات أن الله مع المؤمنين فلو أن المؤمنين انتصروا بأي سبب غيبي آخر
لقال الأعداء: إن هذا الذي حدث هو ناتج ظاهرة طبيعية.
والفرق بين الظاهرة الطبيعية والظاهرة المادية في الخصوم ما حدث لسيدنا إبراهيم
عليه السلام. فلم يرد الحق مجرد إنقاذ سيدنا إبراهيم من النار؛ لأن الأمر لو كان
كذلك لما مَكَّن أعداء إبراهيم عليه السلام من القبض عليه.. ولو فعل الحق ذلك لقال
أعداء سيدنا إبراهيم: آه لو كنا قد أمسكنا به، ولكان ذلك فرصة لكفرهم.
ولكن الحق يجعلهم يمسكون بإبراهيم عليه السلام: وَتَرَكَ النارَ تتأجج، ويقطع
سبحانه الأسباب:{ قُلْنَا يانَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَىا إِبْرَاهِيمَ
}[الأنبياء: 69].
هذه هي النكاية، فلو جاء إنقاذ إبراهيم بطريق غير ذلك من الأمور الغَيبية غير
المادة المحسة، لوجد خصوم إبراهيم المخارج لتبرير هزيمتهم.
ولذلك فالحق سبحانه وتعالى يوضح لرسوله: يا محمد أنا الذي أرسلتك، ولم أكِلَك إلى
نصرة من يؤمن بك، وإنني قادر على نصرك وحدك بدون شيء، ولكن أردت لأمتك التي آمنت
بك أن ينالها يُمْنُ الإيمان بك فيستشهد بعضها، فتثاب الأمة، وتنتصر فتعلو وترتفع
هامتها على العرب، فلو كان الأمر مقصوراً على نصر رسول الله لنصره الله دون حرب أو
جهاد.
وقول الحق سبحانه: } عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ
وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً { أي أنه سبحانه قادر على أن يوقف
ويمنع حرب وكيد الكافرين فيُبطله ويهزمهم. وهذا ما حدث، فبعد موقعة " أحد
" التي ماعت نهايتها ولا يستطيع أحد أن يحدد مَن المنتصر فيها ومن المهزوم؛
لأن رسول الله قد انتصر أولاً، ثم خالف الرماة أمر رسول الله، فحدث خلل في صفوف
المقاتلين المسلمين، ولكن لم يبق المحاربون من قريش في مكان المعركة، وأيضا لم
يتجاوزوها إلى داخل المدينة، ولذلك لم تنته معركة أُحُد بنصر أَحَد. وبعد ذلك
هددوا بأن الميعاد في بدر الصغرى في العام القادم.
ومر العام، وجاء الميعاد، وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرج، فلما طالب
بالخروج وجد كسلاً من القوم، ولم يطعه إلا سبعون رجلاً، وخرجوا إلى المكان المحدد.
وأثبتوا أنهم لم يخافوا الموقف، وقذف الله الرعب في قلب أبي سفيان وقومه فلم
يخرجوا. إذن فربنا قادر أن يكلف بأس الذين كفروا، فقد أقام رسول الله في المكان،
وجلس مع المقاتلين وكان معهم تجارة وباعوها وغنم المسلمون الكثير من هذه التجارة.
} عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللَّهُ أَشَدُّ
بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً { وكلمة " عسى " في اللغة تأخذ أوضاعاً
متعددة، فـ " عسى " معناها في اللغة الرجاء، كقول واحد: عسى أن يجيء
فلان. أي: أرجو أن يجيء فلان. أو قول واحد مخاطباً صاحباً له: عسى أن يأتيك فلان
بخير. وهذا رجاء أن يأتي فلان إلى فلان بعض الخير، وقد يأتي فلان بالخير وقد لا
يأتي، لكن الرجاء قد حدث.
وقد يقول واحد لصاحبه: عسى أن آتيك أنا بخير. هنا يكون الرجاء أكثر قوة؛ لأن
الرجاء في الأولى في يد واحد آخر غير المتحدث، أما الخير هنا فهو في يد المتحدث.
لكن أيضمن المتحدث أن توجد له القوة والوجود حتى يأتي بالخير لمن يتحدث إليه؟
إنه صحيح ينوي ذلك ولكنه لا يضمن أن توجد عنده القدرة.
وإذا قال قائل: عسى الله أن يأتيك بالفرج. هذه هي الأوغل في الرجاء. لكن هل من
يقول ذلك واثق من أن الله يجيب هذا الرجاء؟. قد يجيب الله وقد لا يجيب وفقاً
لإرادة الله لا المعايير من يرجو أو المرجو له. أما عندما يقول الحق عن نفسه: }
عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ { فهذا هو القول البالغ
لنهايات كل الرجاءات. فـ " عسى " بمراحلها المختلفة تبلغ قمتها عندما
يقول الحق ذلك.
وهكذا نرى مراحل " عسى ". أن يقول قائل: عسى أن يفعل لك فلان خيراً. هذه
مرحلة أولى في الرجاء، وأن يقول قائل: عسى أن آتيك أنا بخير. هذه مرحلة أقوى في
الرجاء، فقد يحب الإنسان أن يأتي بالخير لكن قد تأتي له ظروف تعوقه عن ذلك. وإن
يقول قائل: عسى الله أن يفعل كذا، هذه مرحلة أكثر قوة؛ لأن الخير فيها منسوب إلى
القوة العليا، لكن هذا الرجاء قد يجيبه الله وقد لا يجيبه.
والأقوى على الإطلاق هو أن يقول الله عن نفسه: } عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ
الَّذِينَ كَفَرُواْ { و " عسى " بالنسبة لله رجاء محقق لأنه إطماع من
الله عز وجل، والإطماع منه واجب تحققه لأنه - سبحانه - هو الذي يحثنا ويدفعنا إلى
الطمع في فضله لأنه كريم، وهو القائل سبحانه: } عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ
الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً { لأن أصحاب
البأس من الخلق هم أهل أغيار، فالقوي منهم قد يضعف أو يصاب ببعض من الرعب فتخلخل
عظامه. أما واهب الفعل وواهب القوى لخلقه فهو القادر على أن يفعل فهو الأشد بأساً
وهو سبحانه أشد تنكيلاً.
وساعة يسمع الإنسان أي شيء من مادة " نكل " فعليه أن يعرف أنها مأخوذة
من " النِكْل " وهو القيد. وعندما يوقع الحاكم - مثلا - العذاب على
مرتكب لجريمة، والشخص الذي يرى هذا العذاب يخاف من ارتكاب مثل هذه الجريمة، فكأن
الحاكم قد قيدهم بالعذاب الذي أنزله بأول مجرم أن يفعلوا مثل فعله. ولذلك يقال على
ألسنة الحكام: سأجعل من فلان نَكالاً. أي أن القائل سيعذب فلاناً، بحيث يكون عبرة
لمن يراه فلا يرتكب جريمة مثلها أبداً خوفا من أن تنزل به العقوبة التي نزلت ولحقت
بَمن فعل الجريمة.
إذن فالتنكيل والنكال والنِكل كلها راجعة إلى القيد الذي يمنع إنساناً أن يتحرك
نحو الجريمة، أو قيد يمنع الإنسان أن يرجع إلى الجريمة التي فعلها أولاً، أو أن
هذا القيد وهو العذاب الذي عوقب به مرتكب الجريمة يكون ماثلا أمام الناس يحذرهم من
الوقوع فيها كي لا تنالهم عقوبتها ونكالها.
إن الحق سبحانه وتعالى حين خلق الخلق ووزع عليهم فضل المواهب فلا يوجد واحد قد جمع
كل المواهب؛ لأن فكر الإنسان وطاقته وزمنه وظروفه شاء الله أن تختلف وشاء سبحانه
ألا يجعل الإنسان موهوباً في كل مجال، وحين يوزع الله على كل عبد جزءاً من المواهب
ويعطي العبد الآخر جزءا آخر حتى يتكامل العباد معاً. فلو أن صاحب موهبة تجمعت لديه
مواهب الآخرين لاستغنى كل إنسان عن مواهب الآخرين، والله يريد منا مجتمعاً
متسانداً متكافلاً متكاملاً، فما أفقده أنا أجده عند غيري. فتجد بارعاً في الهندسة
وعندما يصاب هذا المهندس البارع بألم فهو يطلب طبيبا، والطبيب الذي يريد بناء
عيادة يطلبها من المهندس. وكلاهما يطلب مشورة المحامي في كتابة العقود، وكل هؤلاء
في حاجة إلى من يقيم البناء، والذين يقيمون البناء من مهن متعددة أخرى يحتاج بعضهم
إلى بعض.
إذن لا يوجد فرد واحد قادر على أن يقوم بكل هذه العمليات بمفرده، ولو أن هناك واحداً
يستطيع كل ذلك لما احتاج إلى أحد، ولو حدث ذلك لكان التفكك في المجتمع. ولذلك جاء
قول الحق:{ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ
بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً }[الزخرف: 32].
والناس حين تنظر لتفضيل الله لبعض الناس على بعض درجات ينظرون إلى ذلك في مجال
المال فقط.. ونقول لمن يظن ذلك: - أنت مخطئ، فإن فضلك الله في القوة والجسم فهذه
رفعة، وإن فضلك في العلم فذلك رفعة أيضاً، وإن فضلك في الحلم فهذه رفعة، إن تفضيل
الحق لك في أي مجال هو رفعة لك، فأنت كعبد تكون مفضلاً؛ ومفضلاً عليك.
إذن فحين يقول الحق: } وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ {. قد يسأل
إنسان: أي بعض مرفوع وأي بعض مرفوع عليه؟. ونقول: كل واحد مرفوع بموهبته، وغيره
مرفوع عليه بموهبته.
ومن القصور أن ننظر إلى التفضيل في مجال المال فقط، فلا يصح أن ننظر إلى هذه
الزاوية وحدها ولكن لننظر من كل الزوايا. وعندما ننظر في الزوايا جميعها نجد الفرد
مرفوعاً في شيء، ومرفوعاً عليه في أشياء، وكل منا مسخر لغيره. إذن فعندما خلق الله
العباد جعل كُلاًّ منهم مسخراً للآخر، وما دام الأمر كذلك، فيجب ألا يُترك الفرد
في البيئة الإيمانية فذاً، بل على كل ذي موهبة يفقدها غيره أن يمده بهذه الموهبة.
فبعد أن كان فذاً - أي فرداً - يصير شَفْعَاً. والشَّفْعُ - كما نعلم - هو ضم شيء
إلى مثله، فما ضم إلى غيره ليصيرا زوجا فهو شَفْع بخلاف الوتر فإنه الواحد.
فإذا كان الواحد منا موهوباً فليضم موهبته للثاني، حتى يصبح الاثنان شَفْعاً،
وبذلك ينطبق عليه قول الحق: } مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ
نَصِيبٌ... {.
(/365)
مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85)
وما هي الشفاعة الحسنة؟ الذين من الريف يعرفون مسألة " الشُّفْعَة " في
العرف. فيقال: فلان أخذ هذه الأرض بالشفعة. أي أنه بعد أن كان يملك قطعة واحدة من
الأرض، اشترى قطعة الأرض المجاورة لتنضم لأرضه، فبدلاً من أن تكون له أرض واحدة صارت
له أرضان.
وعندما يأتي واحد لشراء أرض ما، فالجار صاحب الأرض المجاورة يقول: أنا أدخل
بالشفعة، أي أنه الأولى بملكية الأرض. إذن فمعنى يشفع، هو من يقوم بتعدية أثر
الموهبة منه إلى غيره من إخوانه المؤمنين ولهذا فإنه يكون له نصيب منها.
فالشفاعة الحسنة هي التوسط بالقول في وصول إنسان إلى منفعة دنيوية أو أخروية أو
إلى الخلاص من مضرّة وتكون بلا مقابل. إذن فكل واحد عنده موهبة عليه أن يضم نفسه
لغير الموهوب، فبعد أن كان فرداً في ذاته صار شفعاً. ولذلك يقال: فلان سيشفع لي
عند فلان، أي أنه سيضم صوته لصوت المستعين به. والحق سبحانه وتعالى فيما يرويه
سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله قال لسيدنا داود: إن الرجل ليعمل
العمل الواحد أحكِّمه به في الجنة.
أي أن رجلاً واحداً يؤدي عملا ما، فيعطيه الله فضلاً بأن يقوم بتوزيع الأماكن على
الأفراد في الجنة، وكأنه وكيل في الجنة، أي أنه لا يأخذ منزلا له فقط، ولكنه يتصرف
في إعطاء المنازل أيضاً، فتساءل داود: يا رب ومن ذلك؟ قال سبحانه: مؤمن يسعى في
حاجة أخيه يحب أن يقضيها قضيت أو لم تقض.
قال صلى الله عليه وسلم: " من مشى في حاجة أخيه وبلغ فيها كان خيرا له من
اعتكافه عشر سنين، ومن اعتكف يوما ابتغاء وجه الله تعالى جعل الله بينه وبين النار
ثلاثة خنادق أبعد مما بين الخافقين ".
ذلك لأن العبد الذي سعى في قضاء حاجة أخيه يكون قد أدى حق نعمة الله فيما تفضل به
عليه، ويكون من أثر ذلك أنه لا يسخط أو يحقد غير الواجد للموهبة على ذي الموهبة.
وبذلك فسبحانه يزيل الحقد من نفس غير الموهوب على ذي الموهبة؛ فغير الموهوب يقول:
إن موهبة فلان تنفعني أنا كذلك، فيحبّ بقاءها عنده ونماءها لديه.
ويقول الحق: { مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا }
ثم يأتي الحق بالمقابل، فهو سبحانه لا يشرع للأخيار فقط، ولكنه يضع الترغيب
للأخيار ويضع الترهيب للأشرار، فيقول: { وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً
يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا }.
ولنر المخالفة والفارق بين كلمة " النصيب " وكلمة " الكفل ".
كلمة " النصيب " تأتي بمعنى الخير كثيرا. فعندما يقول واحد: أنت لك في
مالي نصيب.
هذا القول يصلح لأي نسبة من المال. أما كلمة " كفل " فهي جزء على قدر
السيئة فقط. وهذا هو فضل من الله، فمن جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، وهذا نصيب
كبير. ومن جاء بالسيئة فلا يجزي إلا مثلها.
وهذه الآية قد جاءت بعد تحريض الرسول للمؤمنين على القتال، أي أنك يا رسول الله
مُطالب بأن تضم لك أناساً يقاتلون معك؛ فتلك شفاعة حسنة سوف ينالون منها نصيباً
كبيرا وثوابا جزيلا.
أما قول الحق: } وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا
{ أي يكون له جزء منها، أي يصيبه شؤم السيئة، أما الجزاء الكبير على الحسنة فيدفع
إلى إشاعة مواهب الناس لكل الناس. وما دامت مواهب الناس مشاعة لكل الناس فالمجتمع
يكون متسانداً لا متعانداً، ويصير الكل متعاوناً صافي القلب، فساعة يرى واحد
النعمة عند أخيه يقول: " سيأتي يوم يسعى لي فيه خير هذه النعمة ".
ولذلك قلنا: إن الذي يحب أن تسرع إليه نعم غيره فليحب النعم عند أصحابها. فإنك
أيها المؤمن إن أحببت نعمة عند صاحبها جاءك خيرها وأنت جالس. وإذا ما حُرمت من
آثار نعمة وهبها الله لغيرك عليك فراجع قلبك في مسألة حبك للنعمة عنده، فقد تجد
نفسك مصاباً بشيء من الغيرة منها أو كارهاً للنعمة عنده، فتصير النعمة وكأنها في
غيرة على صاحبها، وتقول للكاره لها: " إنك لن تقربني ولن تنال خيري ".
ويختم الحق الآية: } وَكَانَ اللَّهُ عَلَىا كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً { جاء هذا
القول بعد الشفاعة الحسنة والشفاعة السيئة، وفي ذلك تنبيه لكل العباد: إياكم أن
يظن أحدكم أن هناك شيئاً مهما صغر يفلت من حساب الله، فلا في الحسنة سيفلت شيء،
ولا في السيئة سيضيع شيء. وأخذت كلمة " مُقيتاً " من العلماء أبحاثاً
مستفيضة. فعالم قال في معناها: إن الحق شهيد، وقال آخر: " إن الحق حسيب
" ، وقال ثالث: إن " مقيتاً " معناها " مانح القوت "
ورابع قال: " إنه حفيظ " وخامس قال: " إنه رقيب ".
ونقول لهم جميعاً: لا داعي للخلاف في هذه المسألة، فهناك فرق بين تفسير اللفظ
بلازم من لوازمه وقد تتعدد اللوازم، فكل معنى من هذه المعاني قد يكون صحيحاً، ولكن
المعنى الجامع هو الذي يكون من مادة الكلمة ذاتها. و " مُقيت " من
" قاته " أي أعطاه القوت، ولماذا يعطيهم القوت؟ ليحافظ على حياتهم، فهو
مقيت بمعنى أنه يعطيهم ما يحفظ حياتهم، ومعناها أيضاً: المحافظ عليهم فهو الحفيظ.
وبما أنه سبحانه يعطي القوت ليظل الإنسان حياً، فهو مشاهد له فلا يغيب المخلوق عن
خالقه لحظة، وبما أنه يعطي القوت للإنسان على قدر حاجته فهو حسيب.
وبما أنه يرقب سلوك الإنسان فهو يجازيه.
إذن كل هذه المعاني متداخلة ومتلازمة؛ لذلك لا نقول اختلف العلماء في هذا المعنى،
ولكن لنقل إن كل عالم لاحظ ملحظاً في الكلمة، فالذي لاحظ القوت الأصلي على صواب،
فلا يعطي القوت الأصلي إلا المراقب لعباده دائماً، فهو شهيد، ولا يعطي أحداً قوتاً
إلا إذا كان قائماً على شأنه فهو حسيب. وسبحانه لا يُقيت الإنسان فقط ولكن يقيت كل
خلقه، فهو يقيت الحيوان ويلهمه أن يأكل صنفاً معيناً من الطعام ولا يأكل الصنف
الآخر.
إننا إذا رأينا العلماء ينظرون إلى " مقيت " من زوايا مختلفة فهم جميعا
على صواب، سواء من جعلها من القوت أو من الحفظ أو من القدرة أو من المشاهدة أو من
الحساب، وكل واحد إنما نظر إلى لازم كلمة " مقيت " وسبحانه يقيت كل شيء،
فهو يقيت الإنسان والحيوان والجماد والنبات.
ونجد علماء النبات يشرحون ذلك؛ فنحن نزرع النبات، وتمتص جذور النبات العناصر
الغذائية من الأرض، وقبل أن يصبح للنبات جذورٌ، فهو يأخذ غذاءه من فلقتي الحبة
التي تضم الغذاء إلى أن ينبت لها جذر، وبعد أن يكبر جذر النبات فالفلقتان تصيران
إلى ورقتين، وسبحانه على كل شيء مقيت، ويقول العلماء من بعد ذلك: إن الغذاء قد
امتصه النبات بخاصية الأنابيب الشعرية. أي أن النبات يمتص الغذاء من التربة بواسطة
الجذور الرفيعة التي تمتص الماء المذاب فيه عناصر الغذاء. وفتحة الأنبوبة في
الأنابيب الشعرية لا تسع إلا مقدار الشعرة، وعندما توضع في الإناء فالسائل يصعد
فيها ويرتفع الماء عن مستوى الحوض، وعندما تتوازى ضغوط الهواء على مستويات الماء
فالماء لا يصعد.
ومثال ذلك: عندما نأتي بماء ملون ونضعه في إناء، ونضع في الإناء الأنابيب الشعرية،
فالسائل الملون يصعد إلى الأنابيب الشعرية، ولا تأخذ أنبوبة مادة من السائل، وتترك
مادة بل كل الأنابيب تأخذ المادة نفسها. لكن شعيرات النبات تأخذ من الأرض الشيء
الصالح لها وتترك الشيء غير الصالح. وهو ما يقول عنه علماء النبات " ذلك هو
الانتخاب الطبيعي ". ومعنى الانتخاب هو الاختيار، والاختيار يقتضي عقلاً يفكر
ويرجح، والنبات لا عقل له، ولذلك كان يجب أن يقولوا إنه " الانتخاب الإلهي
" ، فالطبيعة لا عقل لها ولكن يديرها حكيم له مطلق العلم والحكمة والقيومية.
وسبحانه يقول عن ذلك:{ يُسْقَىا بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىا
بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذالِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }[الرعد: 4].
فالفلفل يأخذ المادة المناسبة للحريفية، والقصب يأخذ المادة التي تصنع حلاوته،
والرمان يأخذ المادة الحمضية. هذا هو الانتخاب الإلهي.
} وَكَانَ اللَّهُ عَلَىا كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً { وساعة تسمع " كان الله
" فإياك أن تتصور أن لـ " كان " هنا ملحظاً في الزمن، فعندما نقول
بالنسبة للبشر " كان زيد غنياً " فزيد من الأغيار وقد يذهب ثراؤه. لكن
عندما نقول " كان الله " فإننا نقول: " كان الله ومازال " ،
لأن الذي كان ويتغير هو من تدركه الأغيار. وسبحانه هو الذي يُغَيِّر ولا
يَتَغَيَّر، وموجود منذ الأزل وإلى الأبد. وحين أوضح لنا سبحانه الشفاعة وأمرنا أن
يعدي الواحد منا مواهبه إلى غيره فذلك حتى تتساند قدرات المجتمع لأنه يربب الفائد
للعبد المؤمن ويرببها للجميع.
ويقول الحق بعد ذلك: } وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ... {.
(/366)
وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)
الحق هنا يريد أن يربب معنى الحياة. فما معنى: " حُييتم "؟ الكلام
السطحي الأولى فيها: إذا حياك واحد وقال لك: " السلام عليكم " أن ترد السلام.
وكان العرب قديماً يقولون: حياك الله. وبعد أن جاء الإسلام جعل التحية في اللقاء
هي السلام:{ تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ }[الأحزاب: 44].
أو كما قال الحق في موقع آخر:{ فَسَلِّمُواْ عَلَىا أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ
عِندِ اللَّهِ }[النور: 61].
ولنفهم معنى كلمة " حياك ". مادة الكلمة هي " الحاء " ، و
" الياءان " ، ومنها كلمة " حياة " ، التي منها حياتنا.
والحياة إذا نظرنا إليها قد تأخذ معنىً سطحياً عند الناس وهو ما نشأ عنه الحس
الحركي وهي أول ظاهرة فينا، وبعد ذلك في الحيوان، وإن ارتقيت في الفهم تجد أن كلمة
" الحياة " تنتظم كل أجناس الوجود حتى الجماد، لكن الإنسان لا يتعرف إلى
الحياة إلا في المظهر الحسي والحركي، ولكن لكل كائن حياة تناسبه.
وعندما كانوا يعلموننا في المدارس علم المغناطيسية كنا نرى تجربة المغناطيس ونأتي
بقضيب مغناطيسي، ثم نأتي ببرادة الحديد، ونسير به في اتجاه واحد وذلك حتى نرتب
الجزئيات ترتيباً يتناسب مع اتجاه المغناطيسية في القضيب الحديدي. هذا القضيب الذي
نراه مادة جامدة في نظرنا، ولكن توجد فيها ذرات دون إدراك الإنسان تتكيف بحركة
خاصة بها، ويُعاد ترتيب السالب منها والموجب ولا توجد قدرة عند المشاهد لها كي
يدرك حركتها.
وحتى يقربها المدرسون إلى ذهن التلاميذ، جاءوا بأنبوبة زجاجية ووضعوا فيها برادة
الحديد وجاءوا بالقضيب الممغنط ومرّروه بجانب البرادة، فرأى التلاميذ البرادة وهي
تتقافز إلى أن تستقر، وهنا يتعلم التلاميذ أن برادة الحديد غير الممغنطة عندما يمر
عليها القضيب الممغنط في اتجاه واحد فذراتها تترتب على أساس واضح، حتى تصير
ممغنطة.
وهذا دليل الحس؛ فقد انقلبت السوالب في جهة والموجبات في جهة.. فالقضيب المغناطيسي
له حركة ولكننا لا ندرك حسه ولا حركته لأننا لا نملك المِقاييس اللازمة لذلك.
ومثال آخر: لنفترض أننا نتحرك وجاءت طائرة من أعلانا والتقطت صورة لنا. وعندما
يأخذون الصورة من قريب، فهم يرون الحركة، لكن كلما ابتعدت الطائرة فنحن لا نرى
الحركة حتى تصير نقطة بعيدة وكأنها ثابتة. وهي ليست ثابتة، وإنما هي متحركة بصورة
دقيقة جداً لدرجة أنها لا تُدرك. فكل شيء - إذن - فيه حياة خاصة تناسبه، وكل شيء
له الحس والحركة الخاصة به. وعندما نأتي للقرآن، نرى كيف عالج هذه القضية فيقول:{
كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ }[القصص: 88].
استثنى القول وجه الله. أي ذاته، فكل شيء ما عداه هالك.
ومعنى " هالك " أي ليس فيه حياة، وما دام كل شيء يهلك فهذا دليل أن في
كل شيء حياة، حتى يأتي الإذن من الحق أن تذهب الحياة من كل شيء إلا وجهه سبحانه،
وقد يتساءل إنسان ومن الذي قال: إن كلمة " هالك " تعني ليس فيه حياة؟
نقول: إن القرآن حين يتعرض لقضية لا يقسم العلوم إلى أبواب ولكنه يضع في كل آية
جزئية تشرح لنا ما خفي علينا في جزئية أخرى كي نفهم القرآن متكامل، فيقول الحق:
{ ِلِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىا مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ
}[الأنفال: 42].
فيكون الهلاك ضد الحياة.
ونحن إذا ما نظرنا إلى الصناعات التي نصنعها، وليكن البلاستيك مثلاً، إننا نصنع
منه أواني للغسيل أو لخلافه، وأول ما نشتريه للاستعمال نجده زاهي اللون، وبعد
استعماله لفترة يزول عنه البريق ويصبح شاحب اللون، فما الذي حدث له؟. لقد تغير. ما
الذي أحدث التغيير؟. يقال: الاستعمال وأشعة الشمس وغير ذلك. إذن ففيه حس لأنه
تَأَثّر وحركةلأنه تغيّر، وكذلك الأحجار الكريمة والمرمر والرخام وغيرها يقدرون
عمرها بمئات السنين وأحياناً بآلاف السنين، وكلما طال عمرها تغير لونها من الحياة
والتفاعلات.
وعندما نمسك ورقة ونضعها تحت المجهر فإننا نرى عدداً هائلاً من الغرف الصغيرة، ولا
حصر لهذه الغرف، ويقول المؤمن:{ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ
}[المؤمنون: 14].
فكل شيء في الوجود له حياة تناسبه، إذ استقريتها وتتبعتها بدقة واستطعت أن توجد
الآلات التي تستنبط والتي تساعد على الإدراك فإنك ترى الحركة وتشاهدها بالحس.
إلا أن الحياة بالنسبة لأرقى الأجناس - وهو الإنسان - المنتفع بكل كائن حي في
الكون، هذه حياة تنتهي في ميعاد مجهول بالنسبة للإنسان معلوم بالنسبة لله. وأراد
الله أن يكلفه تكليفاً إن استمع إليه ونفذه فهو سبحانه يعطيه حياة لا تنتهي.
وعندما نقيس الحياة التي لا تنتهي فالحياة التي تنتهي، فأي منهما جديرة بأن تسمي
حياة؟ إنها الحياة الأخرى التي لا تنتهي، ولذلك يقول الحق:{ وَإِنَّ الدَّارَ
الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ }[العنكبوت: 64].
هذه هي الحياة الحقة، وإلا فما قيمة هذه الحياة الدنيا التي تهددك فيها الآفات والآلام
والاضطرابات والأسقام والأمراض، وبعد ذلك تنتهي، فيوضح الحق:خذ حياة لا مقطوعة ولا
ممنوعة، فهذه هي الحياة حقاً، ولذلك فالحق عندما تعرض لهذه المسألة أوضح: إياكم أن
تعتقدوا أن هذه الحياة الدنيا هي التي أريدها لكم، أنا أريد لكم حياة أخلد من هذه،
ولذلك قال:{ اسْتَجِيبُواْ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ
}[الأنفال: 24].
هو يخاطبهم إذن فهم أحياء بالقانون المتعارف عليه، وأنهم إن لم يستجيبوا إلى ما
دعاهم إليه الحق والرسول لن يأخذوا لوناً أرقى من الحياة، وهي حياة لا تهددها
الآفات ولا الأثفال ولا الأمراض ولا الفناء، إنها الحياة الحقة، ولذلك يسميها الحق
" الروح " لأنّها تحرك الجسم وتعطيه حياة وإن كانت تنتهي فيقول:
{ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي }[ص: 72].
هذه أولى مراحل الحياة الممنوحة للمؤمن والكافر.
ويسمى سبحانه الحياة الأكبر منها والتي لا تنتهي يسميها الحق (روحاً) أيضاً:{
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا }[الشورى: 52].
وهذه هي التي سوف تعطي الحياة الأرقى. الأولى اسمها " روح " تعطي حياة
فانية. والثانية هي " روح " أيضاً، إنها ما أوحي الله به، لأن الناس إذا
عملوا به يحيون حياة دائمة خالية من الشقاء والكدر. إذن فقوله: } إِذَا دَعَاكُم
لِمَا يُحْيِيكُمْ { هي دعوة إلى الحياة الخالدة، والحياة الأبدية السعيدة في
الآخرة مرهونة بأن يلتزم الإنسان منهج الله في حياته، وإن كانت منتهية.
والحياة الدنيا يرى الإنسان فيها الأغيار والأسقام والمهيجات، فإذا جاء له من
يطمئنه ومن ينفي عنه القلق والخوف فكأنه يحسن حياته. وكلمة " حياك الله
" أو " السلام عليكم " تعني: " كن آمناً مطمئناً " وإلا
فما قيمة الحياة بدون أمن واطمئنان؟.
إذن فكلمة " حياك الله " أو " السلام عليكم " أي الأمان
والاطمئنان لك. فأنت لا تعرف هل يجيء القادم إليك بخير أو بشر، لكن ساعة يقول:
السلام عليكم، فقد يجعل بهذه التحية الأمان في قلب المتلقى به ويشعر بقيمة حياته.
إذن فقوله الحق: } وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ
أَوْ رُدُّوهَآ { يعني: إذا رببتم حياتكم بالتحية التي هي السلام والتي تضمن الأمن
والاطمئنان عليكم رد التحية. فكلمة " تحية " إعطاء لقيمة الحياة، وكذلك
كلمة " حيوا " أي أعط من أمامك شيئاً من الحياة المستقرة الآمنة
المطمئنة. فالحياة بدون أمن وبدون اطمئنان، كلا حياة.
والشاعر العربي يقول:ليس من مات فاستراح بميْت إنما الميْت ميّت الأحياءفقول الحق:
} وَإِذَا حُيِّيتُم { أي أنه إذا رببتم حياتكم وبوركتم بالأمن وبالسلام }
فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ { أي عليكم أن تردوها إما بالتحية
مثلها وإما بأفضل منها. والعلماء عندما جاءوا ليتكلموا عن هذا، قصروا المسألة على
تحيات اللقاء. فمن قال لك: السلام عليكم، فقل له: وعليكم السلام ورحمة الله. أي
أنك تزيد عليه.
عن سلمان الفارسي قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا
رسول الله، فقال: وعليك السلام ورحمة الله، ثم جاء آخر فقال: السلام عليك يا رسول
الله ورحمة الله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليك السلام ورحمة الله
وبركاته، ثم جاء آخر فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، فقال له:
وعليك: فقال له الرجل: يا رسول الله - بأبي أنت وأمي - أتاك فلان وفلان فسلما عليك
فرددت عليهما أكثر مما رددت علي، فقال: إنك لم تدع لنا شيئاً قال الله تعالى: }
وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ {
فرددناها عليك.
وعندما تكلم العلماء في مسألة السلام، صنفوا لها فقالوا: الماشي يسلم على القاعد.
والراكب يسلم على الماشي، والصغير يسلم على الكبير. والمبصر يسلم على الكفيف.
والقليل يسلم على الكثير. وكل خطاب موجه للمؤمنين ينتظم ويشمل ذكورهم وإناثهم إلا
أن يكون الحكم مما يخص النساء.
وهنا يقول الحق: } وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ
أَوْ رُدُّوهَآ { أللنساء تحية؟ نعم، لهن تحية، المرأة تحيي المرأة، والمرأة تحيي
زوجها، والمرأة تحيي محارمها، والمرأة العجوز التي لا إربة فيها تبدأ التحية
وتردها، أما المرأة الشابة فهي لا تبدأ أحداً بالسلام ولا ترد السلام. لا تبدأ
بالسلام إلا إذا كان معها مثلها؛ لأنهم يقولون: المرأة على المرأة عين أكثر من ألف
رجل، أي أن المرأة تحرس المرأة أكثر من ألف رجل، فعندما تكون معها مثيلتها تحفظها،
ولذلك يقال: إن المرأة إن بدأت بالسلام أو ردت السلام فذلك حرام، وإذا بدأها واحد
بالسلام أو رد عليها السلام فذلك مكروه. لماذا؟ لأن بَدْءَها له إثارة، ولكنه إذا
بدأ هو بالسلام فليس ضرورياً أن تستجيب. فإن كان معها أحد أو جماعة تُؤمن عليها
فلا حرج من أن ترد السلام.
وقالوا: وإذا كان الذي يلقى السلام ويبدأه به غير مؤمن؟ النبي عليه الصلاة والسلام
أوضح أنهم يلوون في الكلام، فإذا قالوا لكم: " السلام " فقولوا: وعليكم.
وذلك يعني إن قالوها كلمة طيبة لها معنى طيب فأهلاً بها وعليهم مثلها، وإن كانت
كلمة خبيثة كقولهم: " السام عليكم " فقولوا: " وعليكم "؛ لأن
السام معناها الموت، فلكيلا يستهزئوا بكم، قولوا: وعليكم. وبعض العلماء قال المقصود
بـ } فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ { أي بالنسبة للمؤمن، و " ردوها "
بالنسبة للكافر.
لكن أتلك هي التحية فقط؟. إذا كان الذي حياك بقول وأمّنك بقول، فكيف لا تحذر من
يؤمن بالقول نفاقاً، يظهر لك الأمن ثم يقول: السلام عليكم، ومعه الضر؟. كما أن
الحق علمنا أن نرد التحية بمثلها لأن نقل القضايا من قولية إلى فعلية هي المحك
والأساس، فإذا حياك إنسان بخير عنده فعلى المسلم أن يقدم التحية بخير منها، وإن لم
يستطع فليرد على الأقل بمثلها، وعندما يرد الإنسان بمثلها يصبح التكارم بين الناس
إن لم يزد فهو لم ينقص، ويكون الخير متنامياً، فإذا قدم إنسان خيرا لإنسان آخر،
وردّ عليه بعمل أفضل منه، ففي ذلك نماء للخير، وإن لم يستطع فليرد بمثل العمل
وبذلك لا ينقص من خيره، فيكون خير كل إنسان محجوزاً على نفسه؛ لأنه ما دام سيعطي
التحية ويأخذ على قدر ما يعطي، فكأنه لم ينقص من خيره شيئاً.
والحق سبحانه وتعالى حين يسخِّى النفوس في أن تعطي أكثر مما حييت به، فهذا يبين أن
المؤمن في البيئة الإيمانية إنما يتكاثر خيره، لأنّه كلما فعل خصلة خير فهي تعود
عليه بالخير.
ولذلك فهناك أناس كثيرون إذا أرادت خيراً من أحد، أعطته خيراً يناسب قدرها، ليعطي
هو خيراً يناسب قدره، وهذه تحدث كثيراً خصوصاً مع الملوك، ومثال ذلك: كان المواطن
السعودي يقول للملك عبد العزيز آل سعود: أريد أن تشرب القهوة عندي، ويذهب الملك
عبد العزيز آل سعود ليشرب القهوة، ويؤدي لصاحب الدعوة خدمة تعادل القهوة مليون
مرة، فكل من يحيي الملك يرد عليه التحية بأكثر منها.
إذن فقول الحق سبحانه وتعالى: } وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ
بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ { وجاءت كلمة " أو ردوها " من أجل أن
يطمئن من قدم تحية أنه سيجد رد تحيته أو أكثر منها.
والحق سبحانه وتعالى عندما يرى خلقه المؤمنين به يتكارمون، فهو يضعها في الحساب؛
لذلك يقول سبحانه: } إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَىا كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً { فالحساب
لا ينتهي عند أن يرد المؤمن التحية أو يؤدي خيراً منها، ولكن هناك جزاءً أعلى
وأفضل عند مليك مقتدر.
وفي تناولنا لمسألة التحية عَلِمْنَا أن كلمة التحية وهي " السلام عليكم
" معناها أمان واطمئنان، والأمان والاطمئنان كلاهما يعطي الحياة بهجة،
فالحياة بدون أمن أو اطمئنان ليس لها قيمة. فكأن إشاعة السلام بقولنا: "
السلام عليكم " أو " السلام عليكم ورحمة الله " أو " السلام
عليكم ورحمة الله وبركاته " تجعل المجتمع مجتمعا صفائيا، وما دام المجتمع كله
مجتمعا صفائيا، فخير أي واحد يكون عند الآخر. ويتعدى ذلك إلى أن يطلب المؤمن خير
الله لأخيه المؤمن.
إن الإنسان حين يصعد التحبة بعد قوله: السلام عليكم " بإضافة " ورحمة
الله وبركاته " فهو يربط النفس البشرية برباط إيماني بالحق سبحانه وتعالى.
وبذلك تتذكر وتعي أن الخلق عيال الله، وسبحانه يحب أن يكون خلقه منسجمين بالعلاقات
الطيبة فيما بينهم، وعندما يكون الخلق على علاقة طيبة بعضهم مع بعض فسبحانه يعطيهم
من خيره أكثر وأكثر.
} وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَىا كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً { ومن الطبيعي أن نفهم أن رد
التحية يعني أن نقول: تحية مثل التي قالها لنا، فالرد ليس مقصوداً به أن نرد
التحية نفسها، ولكننا نقول مثلها. فالضمير مبهم ويوضحه مرجعه.
مثال ذلك أن تقول: " لقيت رجلاً فأكرمته " هنا الضمير مبهم ويوضحه
مرجعه، مثال آخر " تصدقت بدرهم ونصفه " فهل معنى ذلك أنني تصدقت بدرهم
ثم استرددته وقسمته قسمين وتصدقت بنصفه؟ لا، إن معنى ذلك هو أنني تصدقت بدرهم،
ونصف مثل الدرهم، فإذا قال الحق: } فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ
{ أي ردوا التحية بأفضل منها أو بمثل التي تتلقاها، فإذا ما قيل لك: " السلام
عليكم " فقل " وعليكم السلام ".
والحق سبحانه وتعالى يبلغ المؤمنين: لا تظنوا أيها المؤمنين أني بخلقي لكم وإعطائي
لكم حرية الاختيار في الإيمان أو في الفعل أو في الترك إياكم أن تظنوا أني لا
أحاسبكم بل سأجازيكم بالثواب على الطاعة وبالعقاب على المعصية، فحين آمركم بفعل،
فمعناه أنني خلقتكم صالحين أن تفعلوا، وحين أنهاكم عن فعل فمعناه أنني خلقتكم
صالحين ألا تفعلوا.
إذن فعندما يأتي أمر؛ فمعنى هذا أن الذي خلقني علم أزلاً بصلاحيتي لتنفيذ هذا
الفعل أو عدم تنفيذه.. أي صلاحيتي أن أطيع وأن أعصى، إذن فهناك فعل يقول الحق
للعبد فيه: " افعله " ، وفعل يقول له فيه: " لا تفعله " ،
والمخالفات والمعاصي إنما تنشأ من نقل " افعل " في مجال " لا تفعل
" ، ومن نقل " لا تفعل " في مجال " افعل " ، هذا هو معنى
المعصية. والحازم لا يأخذ الاختيار الممنوح له ليحقق شهواته بوساطة هذا الاختيار،
بل لا بد أن يضع بجانب الاختيار أنه مردود إلى من أعطاه الاختيار.
وحين تعلم أيها العبد أنك مردود وراجع ومصيرك إلى من أعطاك الاختيار وأنه سوف
يجازيك، فإنك لن تنقل أمراً من مجال " لا تفعل " إلى مجال " افعل
" أو من مجال افعل إلى مجال لا تفعل. فلو أخذت الاختيار لتريح نفسك لحظة وهي
فانية، فكيف تتعب نفسك في الباقية؟ فإن أردت أن تكون حازماً وعاقلاً فلا تفعل ذلك؛
فالمؤمن يمتلك الكياسة والفطنة فلا يُقْدِمُ على مثل هذا.
وبعد ذلك يقول سبحانه: } اللَّهُ لا إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ... {.
(/367)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)
وهذا يعني: أنّه لا يوجد إله آخر سيأتي ليتدخل وينهى المسائل من خلف ظهر الخالق
الأعلى سبحانه: { اللَّهُ لا إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ } فليس هناك إله سواي، لا تشريع
يرسم صلاح البشر إلا تشريعي وسترجعون إليّ، وليس هناك واحد يقول: " افعل
" " ولا تفعل " ، والآخر يقول بالعكس، إنه إلا واحد، والأمر منه بـ
" افعل " هو الأمر الوحيد الصالح للإنسان. والنهي منه بـ " لا تفعل
" هو النهي الوحيد الذي يجب على العاقل أن يتجنبه، ولذلك تجده يقول:{ قُلْ
ياأَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنتُمْ
عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ * وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلاَ أَنتُمْ
عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ }[الكافرون: 1-6].
إنه سبحانه يوضح: ليس هناك مضارة بين دينين، دين للكافرين، ودين للمؤمنين، لا، بل
هو دين ومنهج واحد صالح للإنسان هو منهج التوحيد جاءت به الرسل جميعا وختم
بالإسلام الذي لا دين بعده، ولذلك جاء بعدها مباشرة:{ إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ
وَالْفَتْحُ }[النصر: 1].
ويأتي بعد ذلك بسورة المسد:{ تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَآ أَغْنَىا
عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَىا نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ
حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ }[المسد: 1-5].
أما كان أبو لهب يقدر أن يقول بعدها: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول
الله؟ كان يقدر، ولو قالها لشكك في هذه الآية، ولقالوا: إنه لن يصلي ناراً ذات
لهب. إن هذا الأمر كان له فيه اختيار، ولم يوفقه الله إلى أن يقولها ولو نفاقاً،
لماذا؟ لأن الحق قال بعد هذه الآية مباشرة:{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }[الإخلاص:
1].
أي فليس إله آخر يرد أمره سبحانه وتعالى: { اللَّهُ لا إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ
لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىا يَوْمِ الْقِيَامَةِ }. وكلمة " يجمع " تعني أنه
يخرجنا مع بعضنا من قبورنا جميعا، ويحشرنا جميعاً أمامه، وقد تعني " ليجمعنكم
" أي ليحشرنكم من قبوركم لتلقي جزاء يوم القيامة.
لماذا جاء هذا القول؟ جاء لكي يتفحصه العاقل، فلا يأخذ انفلات نفسه من منهج الله
إلا بملاحظة الجزاء على الانفلات من المنهج، فلو أخذ نفسه منفلتاً عن منهج الله
بدون أن يقدر الجزاء لكان أحمق وأخرق.
ولذلك قلنا: إن الذين يسرفون على أنفسهم في المعصية لا يستحضرون أمام عيونهم
الجزاء على المعصية. ولذلك يقولون كل الجرائم إنما تتم في غفلة صاحبها عن الجزاء؛
فالمجرم يرتكب جريمته وهو مقدر السلامة لنفسه، والسارق يذهب إلى السرقة وهو مقدر
السلامة، لكن لو وضع في ذهنه أنه من الممكن أن يتم القبض عليه لما فعلها أبدا.
والحق سبحانه وتعالى يوضح: إياك يا من تريد - بالاختيار الذي أعطيته لك - الانحراف
عن منهجي أَلاَّ تقدر الجزاء على هذه المخالفة. بل عليك أن تأخذها قضية واضحة،
واسأل كم ستعطيك المعصية من نفع وكم سيعُطيك الله من خير على الطاعة، وضع الاثنين
في كفتي ميزان؛ فالذي يعطيك الخير الأبقى افعله، وابتعد عما لا يعطيك الخير بل إنه
يوقعك في الشقاء والشر.
} اللَّهُ لا إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىا يَوْمِ الْقِيَامَةِ
{ ويوم القيامة هو اليوم الذي قال فيه الحق:{ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ
الْعَالَمِينَ }[المطففين: 6].
ولماذا يوم القيامة؟ لأن آخر مظهر من مظاهر دنيا الناس أنهم حين يموتون ينامون،
وهذا ما نراه، وبعد ذلك ندخله إلى القبر ولا نعرف كيف يأتي قائماً من نومه إلا
بقول الحق: } لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىا يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ {.
أي يجب أن يكون الإيمان بيوم القيامة لا شك فيه؛ لأنك لو قدرت أن العالم الذي خلقه
الله مختاراً، إن شاء فعل الخير وإن شاء فعل الشر، وهو - سبحانه - زود العباد بالمنهج،
وجعل لهم الاختيار، وأنه - سبحانه - هو القادر على الجمع يوم القيامة لو قدرت هذا
لا متبما طلبه الله منك.
ونضرب هذا المثل لا للتشبيه، ولكن للتقريب - ولله المثل الأعلى - الوالد يعطي ابنه
جنيهاً ويقول له: اشتر ما تريد، ولكن لاحظ أنك إن اشتريت شيئاً مفيداً فسأكافئك،
وإن اشتريت شيئاً فاسداً كأوراق اللعب أو غيرها فسأعاقبك.
ساعة أعطى الوالد ابنه القوة الشرائية وقال له: انزل اشتر ما تريد، والابن ساعة
اشترى أوراق اللعب. هل هذا الشراء قد تم قهراً عن أبيه؟ لا؛ لأن الأب هو من أعطاه
الاختيار، لكن الابن فعل فعلاً غير محبوب لأبيه.
فما بالنا بالعبد عندما يعطيه الحق الاختيار؟ ولو أراد الله الناس جميعاً على
هدايةٍ لجعلهم كالملائكة، ولما جرؤ ولا قَدَرَ أحد أن يفعل معصية. فالعاصي عندما
يرتكب المعصية إنما يفعلها لأن الله خلق له الاختيار. ولذلك فعندما يقول واحد: كل
فعل من الله، هو صادق. ولماذا يتعذب مرتكب المعصية مع أنّه يوجه آلة الاختيار إلى
ما تصلح له؟ ونقول إنّه وجهها مخالفاً لأمر الله، فالسكين للذبح، إن ذُبحت بها
دجاجة لما استحق الذابح على ذلك عقاباً، لكن لو ذبحنا بها إنساناً لوقعنا في محظور
يشبهه الحق بقتل الناس جميعاً. فالذي جاء بالسكين إلى المنزل هل نقول له: "
أنت أتيت بأداة الجريمة "؟ لا؛ لأنه جاء بأداة صالحة لأن تكون أداة لذبح ما
يحل ذبحه أو أداة لجريمة. إذن فحتى المختار لم يفعل اختياره إلا من باطن أن الله
خلقه مختاراً.
لكن هل ألزمه الحق سبحانه وتعالى يفعل المعصية؟ لا، فسبحانه أوضح لك: هذا لا أحبه،
وهذا أحبه.
واختيارك له مجال، ولك أن تختار الشيء الذي يأتي بالنفع ولا يأتي بالضرر أو أن
تختار عكس ذلك.
} اللَّهُ لا إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىا يَوْمِ الْقِيَامَةِ
لاَ رَيْبَ فِيهِ { هذا خبر من الله. والكلام الخبري عندنا يحتمل الصدق والكذب
لذاته، لكن لأن الخبر من الله فهو صادق. أما الكلام في ذاته فيحتمل الصدق ويحتمل
الكذب، ولذلك يذيل الحق الآية بما يلي: } وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً {
وهل الصدق فيه تفاضل؟. ليس في الصدق تفاضل، فمعنى الصدق مطابقة الكلام للواقع،
فالإنسان قبل أن يتكلم وهو عاقل، يدير المسألة التي يريد الكلام فيها ليُعمل العقل
فيها، وبعد هذا ينطق بالكلام.
إذن ففي الكلام نسبة ذهنية، ونسبة كلامية، ونسبة واقعية، فعندما يقول واحد: "
زيد مجتهد " هو قبل أن يقول ذلك جاء في ذهنه أنه مجتهد، وهذه هي "
النسبة الذهنية " ، وعندما ينطقها صاحبها تكون " نسبة كلامية " ،
ولكن هل صحيح أن هناك واحداً اسمه " زيد " وأنه مجتهد؟. إن طابقت النسبة
الواقعية كُلاًّ من النسبة الذهنية والنسبة الكلامية يكون الكلام صدقاً. وإن لم
يكن هناك أحد اسمه زيد ولا هو " مجتهد " لا تتطابق النسبة الخارجية
الواقعية مع النسبتين " الذهنية والكلامية " فيكون الكلام كذباً. فالصدق
يقتضي أن تتطابق النسبة الكلامية مع الواقع، أي مع النسبة الخارجية الحاصلة.
ولماذا يكذب الكذاب إذن؟. ليحقق لنفسه نفعاً يفوّته ولا يحققه الصدق في نظره أو
يدفع عنه ضُرّاً. مثال ذلك: يكسر الابن شيئاً في المنزل كمنضدة. فالأب يقول لابنه:
هل كسرت هذه المنضدة؟. وينكر الابن: لا ألم أكسرها. هو يريد أن يحقق لنفسه نفعاً
أو يدفع عنها ضرراً وهو الإفلات من العقاب، لأنه يعلم أن الصدق قد يسبب له عقاباً.
ولا يحمله على الكذب إلا تفويت مضرة قد تصيبه من الصدق فيلجأ إلى الكذب. ويقول
كلاماً يخالف الواقع.
إذن هو يريد أن يحقق لنفسه نفعاً أو يدفع عن نفسه ضرراً. والذي ينفع الإنسان لا بد
أن يكون أقوى منه، وكذلك الذي يضرّه. لكن بالنسبة لله لا يوجد من يسبب له سبحانه
نفعاً ولا ضراً. إذن فإذا قال الله فقوله الصدق؛ لأن الأسباب التي تدفع إلى الكذب
هو - سبحانه - منزه عنها.
وإذا كان الحق يعطينا الكلام الذي يوضح لنا واقع الحياة ويعطينا الكلام الذي لا
يدخل في واقع حياتنا ويصف لنا الغيب الذي لا يدخل في نطاق ما نراه، إذن فهو يكلمنا
كثيراً.
فقوله الحق: } وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً { مؤكد بالنسبة لنا. وأفعل
التفضيل هنا لا تأتي للتمييز بين كلام صادق وكلام أصدق، ولكن لنعرف أن كلام الله
لنا كثير.
فالتكثير هنا إنما يجيء من ناحية كثرة الكلام، لا من ناحية أن هناك كلاماً صادقاً
وكلاماً أصدق.
والتفاوت قد يوجد في الصدق أيضاً، كيف؟. لنفرض أن إنساناً رأي حادثة يقتل فيها
إنسان إنساناً آخر، فيشهد الشاهد بأنه رأى الدم ينزف من القتيل إثر التحام القاتل
به، ولكن هناك شاهد آخر يروي كل التفاصيل التي بدأت من قبل المشاجرة بين القاتل
والقتيل إلى أن صار هناك قاتل وقتيل. وهكذا نجد أن الشاهد الثاني أشمل في الصدق من
الشاهد الأول صحيح أن الشاهد الأول قال شهادة صادقة، لكن شهادة الشاهد الثاني أشمل
في القضية نفسها.
إذن فقوله الحق: } وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً { أي أن الحق هو الأصدق
بمعنى أنّ إخباره لنا جاء بالشمول الكامل، وهو صدق لا تفاوت فيه، فالصدق هو مطابقة
النسبة الكلامية للواقع، وما دام هو كذلك فليس هناك صادق وأصدق، ولكن أفعل التفضيل
تأتي في " أصدق " باعتبار أن كمية الصدق الصادرة لا حدود لها وأنّه
سبحانه يعلم الأشياء على وفق ما هي عليه أي بشمول كامل. وخلقه إن حدث منهم صدق في
شيء فقد يحدث منهم الكذب في شيء آخر. فقد تقول قضية تعلم أنها صدق، ولكنها في
الواقع لا تكون صدقاً.
ومثلاً؛ فقد يقول القائل: زار فلان فلاناً بالأمس. هو اعتقد ذلك لأنه رأى حجرة
الاستقبال في بيت فلان مضاءة فسأل عن الزائر فقيل له: " فلان " فهو يروى
خبر هذه الزيارة على وفق ما يعتقد، ولا يقال: إن القائل قد كذب.
إننا يجب أن نفرق بين " الخبر " وبين " المخبر " ، كيف؟, إذا
قلنا: " زيد مجتهد " ، أيوجد واحد اسمه زيد ومجتهد بالفعل؟ هذا اسمه
الواقع. وهل أنت تعتقد هذا؟. إذن فالإنسان هنا يحتاج إلى أمرين: معرفة وجود الشيء،
واعتقاد الشيء، وبذلك يكون الخبر صادقاً والمخبر صادقا أيضاً.
وافرض أنك أخبرت أن زيداً مجتهد بناءً على أن أحداً قد أخبرك بذلك ولكنه لم يكن
كذلك، أنت هنا صادق وفق اعتقادك. لكن الخبر غير صادق في الواقع. إذن ففيه فرق بين
صدق الخبر وصدق المخبر. فإذا التقى الاعتقاد بالواقع صدق الخبر وصدق المخبر. وإذا
كان الخبر موافقاً للواقع ومخالفاً للاعتقاد فالخبر صادق كموقف المنافقين الذين
قال الحق فيهم:{ إِذَا جَآءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ
لَرَسُولُ اللَّهِ }[المنافقون: 1] هذه القضية واقعة صادقة وأعلنوا هم ذلك، ولكن
الحق أضاف:{ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ }[المنافقون:
1].
فالقضية صادقة ولكنهم كاذبون؛ لأنهم قالوها بلا اقتناع فكانوا كاذبين. والدقة هنا
توضح الفرق بين صدق الخبر وكذب الاعتقاد. إذن فصدق المخبر أن يطابق الكلام الاعتقاد.
والتكذيب واضح في قولهم: " نشهد "؛ وليس في مقول القول وهو }
لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ {.
فالشهادة تقتضي أن يواطئ ويوافق اللسان القلب ولذلك عندما يقرأ بعض الناس القرآن
دون فهم اللغة العربية.. فيفهم بالسطحية هذه الآية فهما خاطئاً:{ إِذَا جَآءَكَ
الْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ
إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ
}[المنافقون: 1].
فكيف يشهد الله أنهم كاذبون، على الرغم من أنه سبحانه يعلم مثلما شهد المنافقون؟.
ونرد: إن الخبر هنا لم يكن كذباً، ولم يقل الحق ما يكذب الخبر، لكنه أوضح صدق
الخبر وكذب المنافقين في شهادتهم لأنهم يظهرون غير ما يبطنون ويعتقدون، فالتكذيب
منصب على شهادتهم لا على خبر أن محمداً رسول الله.
} اللَّهُ لا إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىا يَوْمِ الْقِيَامَةِ
لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً {.
إنّ المؤمن يعتقد أن يوم القيامة لا شك فيه، فيوم القيامة يجب منطقياً ألا يوجد شك
فيه؛ لأنه لو كان هناك ريب لكان الذين انحرفوا في الحياة الدنيا وولغوا في أعراض
الناس وأخذوا أموالهم وعاثوا في الأرض فساداً هم الذين كسبوا وفازوا، ويكون
الطيبون والأخيار قد عاشوا في سذاجة. فالمنطق يقتضي أنه ما دام قد وُجد أناس قد
ظلموا واعتدوا، وأناس أعتدى عليهم، فلا بد أن يكون هناك حساب. ولا يكون هناك حساب
إلا إذا انتهت حكاية الموت، بالإحياء والحشر والخروج إلى لقاء الله. ودليل هذا من
الجاحدين أنفسهم، كيف؟.
نحن نعرف أن المجتمعات غير المتدينة يضع قادتها القوانين التي تكفل حماية حركة
المجتمع. هم يضعون مثل هذه القوانين، ومن يخالفها يتم حسابه وعقابه. فإذا كان
العقاب يمنع المجاهرة بالجريمة، فماذا يكون الموقف؟ إن الماهر إذن هو من يفلح في
المدارة عن عيون قادة هذا المجتمع، ويستر نفسه عنهم حتى لا يناله العقاب.
إن هذه المجتمعات الملحدة تضع التقنينات لحماية نفسها، فماذا تفعل هذه المجتمعات
في الذين ستروا أنفسهم؟. هم بقانون هذه المجتمعات كان يجب أن يعاقبوا، وكان يجب أن
تقولوا أنتم أن هناك مكاناً آخر وداراً أخرى يتم فيها عقاب من أفلت منا. فأنت أيها
الملحد قد قننت لمن خالف تقنينك عقوبة. وهذا إن وقعت عليه عينك، وقبضت عليه يدك،
فما قولك فيمن لم تقع عليه عينك ولم تقبض عليه يدك؟.
إذن فنحن أهل الإيمان عندما نقول للملحد: إننا نكمل لك تفكيرك الناقص ونقول لكل
الخلق: إنكم إن عَمَّيْتُم على قضاء الأرض فلن تعَمّوا على قضاء السماء الذي لا
تخفي عليه خافية. إذن فغير المؤمن بمنهج نأخذ منه الدليل على ضرورة المنهج. وعلى
غير المؤمن بالمنهج أن يشكر أهل الإيمان؛ لأننا نحن أهل الإيمان قد أكملنا له نقصاً
في تقنين البشر، وهذا لحماية المجتمع من الكيد بالجريمة والستر بالمخالفة.
} وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً { أي لا أحد أصدق من الله في الحديث. و
" أصدق " جاءت كأفعل تفضيل لا لأن هناك صدقاً يعلوه صدق أصدق، بل الصدق
واحد؛ لأنه مطابقة النسبة الكلامية للواقع، ولكن " أصدق " هنا لكثرة
الحديث الذي حدثنا الله به عما نشهد من عالم الملك ومما لا نشهد من عالم الملكوت،
فإن تحدث الناس فإنما يتحدثون في عالم الملك الذي يدركونه بحواسهم، ولكن الله إذا
حدثنا فسبحانه يحدثنا عن عالم الملكوت أيضاً، فالله أصدق حديثاً؛ لأنه أكثر من
حدّث.
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: } فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ... {.==
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق