السبت، 13 مايو 2023

ج13وج14وج15.كتاب الكشاف أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري

ج13وج14وج15.  كتاب الكشاف أبو القاسم

 محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري

طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3)

{ طس } قرىء : بالتفخيم والإمالة ، و { تِلْكَ } إشارة إلى آيات السورة والكتاب المبين : إما اللوح ، وإبانته : أنه قد خط فيه كل ما هو كائن فهو يبينه للناظرين فيه إبانة . وإما الصورة . وإما القرآن ، وإبانتهما : أنهما يبينان ما أودعاه من العلوم والحكم والشرائع ، وأنّ إعجازهما ظاهر مكشوف ، وإضافة الآيات إلى القرآن والكتاب المبين : على سبيل التفخيم لها والتعظيم ، لأنّ المضاف إلى العظيم يعظم بالإضافة إليه . فإن قلت : لم نكر الكتاب المبين؟ قلت : ليبهم بالتنكير فيكون أفخم له ، كقوله تعالى : { فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ } [ القمر : 55 ] . فإن قلت : ما وجه عطفه على القرآن إذا أريد به القرآن؟ قلت : كما تعطف إحدى الصفتين على الأخرى في نحو قولك : هذا فعل السخي والجواد الكريم ، لأنّ القرآن هو المنزل المبارك المصدّق لما بين يديه ، فكان حكمه حكم الصفات المستقلة بالمدح ، فكأنه قيل : تلك الآيات آيات المنزل المبارك آي كتاب مبين . وقرأ ابن أبي عبلة : «وكتابٌ مبينٌ» بالرفع على تقدير : وآيات كتاب مبين ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه . فإن قلت : ما الفرق بين هذا وبين قوله : { الرَ تِلْكَ ءايات الكتاب وَقُرْءانٍ مُّبِينٍ } [ الحجر : 1 ] ؟ قلت : لا فرق بينهما إلا ما بين المعطوف والمعطوف عليه من التقدّم والتأخر ، وذلك على ضربين : ضرب جار مجرى التثنية لا يترجح فيه جانب على جانب ، وضرب فيه ترجح ، فالأول نحو قوله تعالى : { وَقُولُواْ حِطَّةٌ } [ البقرة : 58 ] ، [ الأعراف : 161 ] ، { وادخلوا الباب سُجَّدًا } [ البقرة : 58 ] ، [ الأعراف : 161 ] ومنه ما نحن بصدده . والثاني : نحو قوله تعالى : { شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم } [ آل عمران : 18 ] ، { هُدًى وبشرى } في محل النصب أو الرفع ، فالنصب على الحال ، أي : هادية ومبشرة؛ والعامل فيها ما في تلك من معنى الإشارة ، والرفع على ثلاثة أوجه ، على : هي هدى وبشرى ، وعلى البدل من الآيات ، وعلى أن يكون خبراً بعد خبر ، أي : جمعت أنها آيات ، وأنها هدى وبشرى . والمعنى في كونها هدى للمؤمنين : أنها زائدة في هداهم . قال الله تعالى : { فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا } [ التوبة : 124 ] فإن قلت : { وَهُم بالأخرة هُمْ يُوقِنُونَ } كيف يتصل بما قبله؟ قلت : يحتمل أن يكون من جملة صلة الموصول ، ويحتمل أن تتم الصلة عنده ويكون جملة اعتراضية ، كأنه قيل : وهؤلاء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة : هم الموقنون بالآخرة ، وهو الوجه . ويدل عليه أنه عقد جملة ابتدائية وكرّر فيها المبتدأ الذي هو { وَهُمْ } حتى صار معناها : وما يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح ، لأنّ خوف العاقبة يحملهم على تحمل المشاق .

إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5)

فإن قلت : كيف أسند تزيين أعمالهم إلى ذاته ، وقد أسنده إلى الشيطان في قوله : { وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم } [ النمل : 24 ] ، [ العنكبوت : 38 ] ؟ قلت : بين الإسنادين فرق ، وذلك أنّ إسناده إلى الشيطان حقيقة ، وإسناده إلى الله عز وجل مجاز ، وله طريقان في علم البيان . أحدهما : أن يكون من المجاز الذي يسمى الاستعارة . والثاني : أن يكون من المجاز الحكميّ ، فالطريق الأوّل : أنه لما متعهم بطول العمر وسعة الرزق . وجعلوا إنعام الله بذلك عليهم وإحسانه إليهم ذريعة إلى اتباع شهواتهم وبطرهم وإيثارهم الروح والترفة ، ونفارهم عما يلزمهم فيه التكاليف الصعبة والمشاق المتعبة ، فكأنه زين لهم بذلك أعمالهم . وإليه أشارت الملائكة صلوات الله [ وسلامه ] عليهم في قولهم : { ولكن مَّتَّعْتَهُمْ وَءابَاءهُمْ حتى نَسُواْ الذكر } [ الفرقان : 18 ] والطريق الثاني : أن إمهاله الشيطان وتخليته حتى يزين لهم ملابسة ظاهرة للتزيين ، فأسند إليه لأن المجاز الحكميّ يصححه بعض الملابسات ، وقيل : هي أعمال الخير التي وجب عليهم أن يعملوها : زينها لهم الله فعمهوا عنها وضلوا ، وعزى إلى الحسن . والعمه : التحير والتردّد ، كما يكون حال الضال عن الطريق . وعن بعض الأعراب : أنه دخل السوق وما أبصرها قط ، فقال : رأيت الناس عمهين ، أراد : متردّدين في أعمالهم وأشغالهم { سُوء العذاب } القتل والأسر يوم بدر . و { الأخسرون } أشدّ الناس خسراناً؛ لأنهم لو آمنوا لكانوا من الشهداء على جميع الأمم ، فخسروا ذلك مع خسران النجاة وثواب الله .

وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)

{ لَتُلَقَّى القرءان } لتؤتاه وتلقنه { مِن } عند أيّ { حَكِيمٌ } وأيّ { عَلِيمٌ } وهذا معنى مجيئهما نكرتين . وهذه الآية بساط وتمهيد ، لما يريد أن يسوق بعدها من الأقاصيص وما في ذلك من لطائف حكمته ودقائق علمه .

إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7)

{ إِذ } منصوب بمضمر ، وهو : اذكر ، كأنه قال على أثر ذلك : خذ من آثار حكمته وعلمه قصة موسى . ويجوز أن ينتصب بعليم . وروي أنه لم يكن مع موسى عليه السلام غير امرأته ، وقد كنى الله عنها بالأهل ، فتبع ذلك ورود الخطاب على لفظ الجمع ، وهو قوله : { امكثوا } [ طه : 10 ] . الشهاب : الشعلة . والقبس : النار المقبوسة ، وأضاف الشهاب إلى القبس لأنه يكون قبساً وغير قبس . ومن قرأ بالتنوين : جعل القبس بدلاً ، أو صفة لما فيه من معنى القبس . والخبر : ما يخبر به عن حال الطريق ، لأنه كان قد ضله . فإن قلت : سآتيكم منها بخبر ، ولعلي آتيكم منها بخبر : كالمتدافعين : لأنّ أحدهما ترجّ والآخر تيقن . قلت : قد يقول الراجي إذا قوي رجاؤه : سأفعل كذا ، وسيكون كذا مع تجويزه الخيبة . فإن قلت : كيف جاء بسين التسويف؟ قلت : عدة لأهله أنه يأتيهم به وإن أبطأ ، أو كانت المسافة بعيدة . فإن قلت : فلم جاء بأو دون الواو؟ قلت بنى الرجاء على أنه إن لم يظفر بحاجتيه جميعاً لم يعدم واحدة منهما : إمّا هداية الطريق؛ وإما اقتباس النار ، ثقة بعادة الله أنه لا يكاد يجمع بين حرمانين على عبده ، وما أدراه حين قال ذلك أنه ظافر على النار بحاجتيه الكليتين جميعاً ، وهما العزَّان : عز الدنيا ، وعز الآخرة .

فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8)

{ أَنَ } هي المفسرة : لأنّ النداء فيه معنى القول . والمعنى : قيل له بورك فإن قلت : هل يجوز أن تكون المخففة من الثقيلة وتقديره : نودي بأنه بورك . والضمير ضمير الشأن؟ قلت : لا ، لأنه لا بدّ من «قد» . فإن قلت : فعلى إضمارها؟ قلت : لا يصح؛ لأنها علامة لا تحذف . ومعنى { بُورِكَ مَن فِى النار وَمَنْ حَوْلَهَا } بورك من في مكان النار ، ومن حول مكانها . ومكانها : البقعة التي حصلت فيها وهي البقعة المباركة المذكورة في قوله تعالى : { نُودِىَ مِن شَاطِىء الوادى الأيمن فِى البقعة المباركة } [ القصص : 30 ] وتدل عليه قراءة أبيّ . «تباركت الأرض ومن حولها» . وعنه : «بوركت النار»؛ والذي بوركت له البقعة ، وبورك من فيها وحواليها حدوث أمر ديني فيها : وهو تكليم الله موسى واستنباؤه له وإظهار المعجزات عليه؛ وربّ خير يتجدّد في بعض البقاع ، فينشر الله بركة ذلك الخير في أقاصيها ، ويبث آثار يمنه في أباعدها ، فكيف بمثل ذلك الأمر العظيم الذي جرى في تلك البقعة . وقيل : المراد بالمبارك فيهم : موسى والملائكة الحاضرون . والظاهر أنه عامّ في كل من كان في تلك الأرض وفي تلك الوادي وحواليهما من أرض الشام ، ولقد جعل الله أرض الشام بالبركات موسومة في قوله : { ونجيناه وَلُوطاً إِلَى الأرض التى بَارَكْنَا فِيهَا للعالمين } [ الأنبياء : 71 ] وحقت أن تكون كذلك ، فهي مبعث الأنبياء صلوات الله [ وسلامه ] عليهم ومهبط الوحي إليهم وكفاتهم أحياء وأمواتاً . فإن قلت : فما معنى ابتداء خطاب الله موسى بذلك عند مجيئه؟ قلت : هي بشارة له بأنه قد قضى بأمر عظيم تنتشر منه في أرض الشام كلها البركة { وسبحان الله رَبّ العالمين } تعجيب لموسى عليه السلام من ذلك ، وإيذان بأنّ ذلك الأمر مريده ومكوّنه رب العالمين ، تنبيهاً على أن الكائن من جلائل الأمور وعظائم الشؤون .

يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)

الهاء في { إِنَّهُ } يجوز أن يكون ضمير الشأن ، والشأن { أَنَا الله } مبتدأ وخبر . و { العزيز الحكيم } صفتان للخبر . وأن يكون راجعاً إلى ما دل عليه ما قبله ، يعني : أنّ مكلمك أنا ، والله بيان لأنا . والعزيز الحكيم : صفتان للمبين ، وهذا تمهيد لما أراد أن يظهره على يده من المعجزة ، يريد : أنا القويّ القادر على ما يبعد من الأوهام كقلب العصا حية ، الفاعل كل ما أفعله بحكمة وتدبير .

وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11)

فإن قلت : علام عطف قوله : { وَأَلْقِ عَصَاكَ } ؟ قلت : على بورك؛ لأن المعنى : نودي أن بورك من في النار ، وأن ألق عصاك : كلاهما تفسير لنودي . والمعنى : قيل له بورك من في النار ، وقيل له : { أَلْقِ عَصَاكَ } . والدليل على ذلك قوله تعالى : { وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ } [ القصص : 31 ] بعد قوله : { أَن يا موسى إِنّى أَنَا الله } [ القصص : 30 ] على تكرير حرف التفسير ، كما تقول : كتبت إليك أن حج وأن اعتمر ، وإن شئت أن حج واعتمر . وقرأ الحسن : ( جأن ) على لغة من يجدّ في الهرب من التقاء الساكنين ، فيقول : شأبَّة ودأبَّة . ومنها قراءة عمرو بن عبيد «ولا الضألين» { وَلَمْ يُعَقّبْ } لم يرجع ، يقال : عقب المقاتل ، إذا كرّ بعد الفرار . قال :

فَمَا عَقَّبُوا إذْ قِيلَ هَلْ مِنْ مُعَقِّبٍ ... وَلاَ نَزَلُوا يَوْمَ الكَرِيهَةِ مَنْزِلا

وإنما رعب لظنه أن ذلك لأمر أريد به ، ويدل عليه { إِنّى لاَ يَخَافُ لَدَىَّ المرسلون } و { إِلا } بمعنى «لكن» لأنه لما أطلق نفي الخوف عن الرسل ، كان ذلك مظنة لطروّ الشبهة ، فاستدرك ذلك . والمعنى : ولكن من ظلم منهم أي فرطت منه صغيرة مما يجوز على الأنبياء ، كالذي فرط من آدم ويونس وداود وسليمان وإخوة يوسف ، ومن موسى بوكزة القبطي ، ويشك أن يقصد بهذا التعريض بما وجد من موسى ، وهو من التعريضات التي يلطف مأخذها . وسماه ظلماً ، كما قال موسى : { رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فاغفر لِى } [ القصص : 16 ] والحسن ، والسوء : حسن التوبة ، وقبح الذنب . وقرىء : «ألا من ظلم» ، بحرف التنبيه . وعن أبي عمرو في رواية عصمة : حسناً .

وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12)

و { فِى تِسْعِ ءايات } كلام مستأنف ، وحرف الجرّ فيه يتعلق بمحذوف . والمعنى : اذهب في تسع آيات { إلى فِرْعَوْنَ } ونحوه :

فَقُلتُ إلَى الطَّعَامِ فَقَالَ مِنْهُمْ ... فَرِيقٌ نَحْسُدُ الإِنسَ الطَّعَامَا

ويجوز أن يكون المعنى : وألق عصاك ، وأدخل يدك : في تسع آيات ، أي : في جملة تسع آيات وعدادهنّ . ولقائل أن يقول : كانت الآيات إحدى عشرة : ثنتان منها اليد والعصا ، والتسع : الفلق ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، والطمسة ، والجدب في بواديهم ، والنقصان في مزارعهم .

فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13)

المبصرة : الظاهرة البينة . جعل الإبصار لها وهو في الحقيقة لمتأمّليها ، لأنهم لابسوها وكانوا بسبب منها بنظرهم وتفكرهم فيها . ويجوز أن يراد بحقيقة الإبصار : كل ناظر فيها من كافة أولي العقل ، وأن يراد إبصار فرعون وملئه . لقوله : { واستيقنتها أَنفُسُهُمْ } [ النمل : 14 ] أو جعلت كأنها تبصر فتهدي ، لأنّ العمي لا تقدر على الاهتداء ، فضلاً أن تهدي غيرها . ومنه قولهم : كلمة عيناء ، وكلمة عوراء ، لأن الكلمة الحسنة ترشد ، والسيئة تغوي . ونحوه قوله تعالى : { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السماوات والأرض بَصَائِرَ } [ الإسراء : 102 ] فوصفها بالبصارة ، كما وصفها بالإبصار . وقرأ عليّ بن الحسين رضي الله عنهما وقتادة : «مَبصرة» ، وهي نحو : مجبنة ومبخلة ومجفرة ، أي : مكاناً يكثر فيه التبصر .

وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)

الواو في { واستيقنتها } واو الحال ، وقد بعدها مضمرة ، والعلو : الكبر والترفع عن الإيمان بما جاء به موسى ، كقوله تعالى : { فاستكبروا وَكَانُواْ قَوْماً عالين } [ المؤمنون : 46 ] ، { فَقَالُواْ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عابدون } [ المؤمنون : 47 ] وقرىء : «عليا» و«عليا» بالضم والكسر ، كما قرىء : «عتيا» ، و«عتيا» ، وفائدة ذكر الأنفس : أنهم جحدوها بألسنتهم ، واستيقنوها في قلوبهم وضمائرهم والاستيقان أبلغ من الإيقان ، وقد قوبل بين المبصرة والمبين ، وأي ظلم أفحش من ظلم من اعتقد واستيقن أنها آيات بينة واضحة جاءت من عند الله ، ثم كابر بتسميتها سحراً بيناً مكشوفاً لا شبهة فيه .

وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15)

{ عِلْمًا } طائفة من العلم أو علماً سنياً غزيراً . فإن قلت : أليس هذا موضع الفاء دون الواو ، كقولك : أعطيته فشكر ، ومنعته فصبر؟ قلت : بلى ، ولكن عطفه بالواو إشعار بأن ما قالاه بعض ما أحدث فيهما إيتاء العلم وشيء من مواجبه ، فأضمر ذلك ثم عطف عليه التحميد ، كأنه قال : ولقد آتيناهما علماً فعملا به وعلماه وعرفا حق النعمة فيه والفضيلة { وَقَالاَ الحمد لِلَّهِ الذى فَضَّلَنَا } . والكثير المفضل عليه : من لم يؤت علماً . أو من لم يؤت مثل علمهما . وفيه : أنهما فضلا على كثير وفضل عليهما كثير . وفي الآية دليل على شرف العلم وإنافة محله وتقدم حملته وأهله ، وأن نعمة العلم من أجل النعم . وأجزل القسم ، وأن من أوتيه فقد أوتي فضلاً على كثير من عباد الله ، كما قال : { والذين أُوتُواْ العلم درجات } [ المجادلة : 11 ] ، وما سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( 794 ) «ورثةُ الأنبياءِ» إلا لمداناتهم لهم في الشرف والمنزلة ، لأنهم القوّام بما بعثوا من أجله . وفيها أنه يلزمهم لهذه النعمة الفاضلة لوازم ، منها : أن يحمدوا الله على ما أوتوه من فضلهم على غيرهم . وفيها التذكير بالتواضع ، وأن يعتقد العالم أنه وإن فضل على كثير فقد فضل عليه مثلهم . وما أحسن قول عمر : كلّ الناسِ أفقهَ منْ عمر .

وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)

ورث منه النبوّة والملك دون سائر بنيه - وكانوا تسعة عشر - وكان داود أكثر تعبداً ، وسليمان أقضى وأشكر لنعمة الله { وَقَالَ ياأيها الناس } تشهيراً لنعمة الله ، وتنويهاً بها ، واعترافاً بمكانها ، ودعاء للناس إلى التصديق بذكر المعجزة التي هي علم منطق الطير ، وغير ذلك مما أوتيه من عظائم الأمور . والمنطق : كل ما يصوت به من المفرد والمؤلف ، المفيد وغير المفيد . وقد ترجم يعقوب بن السكيت كتابه بإصلاح المنطق ، وما أصلح فيه إلا مفردات الكلم ، وقالت العرب : نطقت الحمامة ، وكل صنف من الطير يتفاهم أصواته ، والذي علمه سليمان من منطق الطير : هو ما يفهم بعضه من بعض من معانيه وأغراضه . ويحكى أنه مر على بلبل في شجرة يحرك رأسه ويميل ذنبه ، فقال لأصحابه : أتدرون ما يقول؟ قالوا : الله ونبيه أعلم : قال يقول : أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء . وصاحت فاختة فأخبر أنها تقول : ليت ذا الخلق لم يخلقوا . وصاح طاووس ، فقال يقول : كما تدين تدان . وصاح هدهد ، فقال يقول : استغفروا الله يا مذنبين . وصاح طيطوي ، فقال يقول : كل حيّ ميت ، وكل جديد بال . وصاح خطاف فقال يقول : قدّموا خيراً تجدوه . وصاحت رخمة ، فقال تقول : سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه . وصاح قمري ، فأخبر أنه يقول : سبحان ربي الأعلى . وقال : الحدأ يقول : كل شيء هالك إلا الله . والقطاة تقول : من سكت سلم . والببغاء تقول : ويل لمن الدنيا همه . والديك يقول : اذكروا الله يا غافلين . والنسر يقول : يا ابن آدم عش ما شئت آخرك الموت . والعقاب يقول : في البعد من الناس أنس . والضفدع يقول : سبحان ربي القدوس . وأراد بقوله : { مِن كُلّ شَىْء } كثرة ما أوتي ، كما تقول : فلان يقصده كل أحد ، ويعلم كل شيء ، تريد : كثرة قصاده ورجوعه إلى غزارة في العلم واستكثار منه . ومثله قوله : { وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء } [ النمل : 23 ] . { إِنَّ هذا لَهُوَ الفضل المبين } قول وارد على سبيل الشكر والمحمدة ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( 795 ) « أَنا سيدُ ولدِ آدمَ ولا فخر » أي : أقول هذا القول شكراً ولا أقوله فخراً . فإن قلت : كيف قال علمنا وأوتينا وهو من كلام المتكبرين؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن يريد نفسه وأباه . والثاني : أن هذه النون يقال لها نون الواحد المطاع - وكان ملكاً مطاعاً - فكلم أهل طاعته على صفته وحاله التي كان عليها ، وليس التكبر من لوازم ذلك ، وقد يتعلق بتجمل الملك وتفخمه ، وإظهار آيينه وسياسته مصالح ، فيعود تكلف ذلك واجباً . وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل نحواً من ذلك إذا وفد عليه وفد أو احتاج أن يرجح في عين عدوّ . ألا ترى كيف أمر العباس رضي الله عنه بأن يحبس أبا سفيان حتى تمرّ عليه الكتائب .

وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17)

روي أن معسكره كان مائة فرسخ في مائة : خمسة وعشرون للجنّ ، وخمسة وعشرون للإنس ، وخمسة وعشرون للطير ، وخمسة وعشرون للوحش ، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب ، فيها ثلثمائة منكوحة . وسبعمائة سرية ، وقد نسجت له الجنّ بساطاً من ذهب وإبريسم فرسخاً في فرسخ ، وكان يوضع منبره في وسطه وهو من ذهب ، فيقعد عليه وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة ، فيقعد الأنبياء على كراسي الذهب والعلماء على كراسي الفضة ، وحولهم الناس وحول الناس الجنّ والشياطين ، وتظله الطير بأجنحتها حتى لا يقع عليه الشمس ، وترفع ريح الصبا البساط فتسير به مسيرة شهر . ويروى أنه كان يأمر الريح العاصف تحمله ، ويأمر الرخاء تسيره ، فأوحى الله إليه وهو يسير بين السماء والأرض : إني قد زدت في ملكك لا يتكلم أحد بشيء إلا ألقته الريح في سمعك ، فيحكى أنه مر بحرّاث فقال : لقد أوتي آل داود ملكاً عظيماً ، فألقته الريح في أذنه ، فنزل ومشى إلى الحرّاث وقال : إنما مشيت إليك لئلا تتمنى مالا تقدر عليه ، ثم قال : لتسبيحة واحدة يقبلها الله ، خير مما أوتي آل داود { يُوزَعُونَ } يحبس أولهم على آخرهم ، أي : توقف سلاف العسكر حتى تلحقهم التوالي فيكونوا مجتمعين لا يتخلف منهم أحد ، وذلك للكثرة العظيمة .

حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18)

قيل : هو واد بالشام كثير النمل . فإن قلت : لم عدّي { أَتَوْا } بعلى؟ قلت : يتوجه على معنيين أحدهما؛ أن إتيانهم كان من فوق ، فأتى بحرف الاستعلاء ، كما قال أبو الطيب :

وَلَشُدَّ مَا قَرُبَتْ عَلَيْكَ الأَنْجُمُ ... لما كان قرباً من فوق . والثاني : أن يراد قطع الوادي وبلوغ آخره ، من قولهم : أتى على الشيء إذا أنفذه وبلغ آخره كأنهم أرادوا أن ينزلوا عند منقطع الوادي ، لأنهم ما دامت الريح تحملهم في الهواء لا يخاف حطمهم . وقرىء «نُمُلة يا أيها النمل» ، بضم الميم وبضم النون والميم ، وكان الأصل : النمل ، بوزن الرجل ، والنمل الذي عليه الاستعمال : تخفيف عنه ، كقولهم : «السبع» في السبع . قيل : كانت تمشي وهي عرجاء تتكاوس ، فنادت : { ياأيها النمل } : الآية ، فسمع سليمان كلامها من ثلاثة أميال . وقيل : كان اسمها طاخية . وعن قتادة أنه دخل الكوفة فالتف عليه الناس ، فقال : سلوا عما شئتم ، وكان أبو حنيفة رحمه الله حاضراً - وهو غلام حدث - . فقال : سلوه عن نملة سليمان ، أكانت ذكراً أم أنثى؟ فسألوه فأفحم ، فقال أبو حنيفة : كانت أنثى ، فقيل له : من أين عرفت؟ قال : من كتاب الله ، وهو قوله : { قَالَتْ نَمْلَةٌ } ولو كانت ذكراً لقال : قال نملة . وذلك أنّ النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على الذكر والأنثى ، فيميز بينهما بعلامة ، نحو قولهم : حمامة ذكر ، وحمامة أنثى ، وهو وهي . وقرىء : «مسكنكم ولا يحطمنكم» بتخفيف النون ، وقرىء : «لا يحطمنكم» بفتح الحاء وكسرها . وأصله : يحتطمنكم . ولما جعلها قائلة والنمل مقولاً لهم كما يكون في أولي العقل : أجرى خطابهم مجرى خطابهم . فإن قتل : لا يحطمنكم ما هو؟ قلت : يحتمل أن يكون جواباً للأمر ، وأن يكون نهياً بدلاً من الأمر ، والذي جوّز أن يكون بدلاً منه : أنه في معنى : لا تكونوا حيث أنتم فيحطمكم ، على طريقة : لا أرينك ههنا ، أراد : لا يحطمنكم جنود سليمان ، فجاء بما هو أبلغ ، ونحوه : عجبت من نفسي ومن إشفاقها .

فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)

ومعنى { فَتَبَسَّمَ ضاحكا } تبسم شارعاً في الضحك وآخذاً فيه ، يعني أنه قد تجاوز حدّ التبسم إلى الضحك ، وكذلك ضحك الأنبياء عليهم [ الصلاة ] السلام . وأما ما روي :

( 796 ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه فالغرض المبالغة في وصف ما وجد منه من الضحك النبوي ، وإلا فبدوّ النواجذ على الحقيقة إنما يكون عند الاستغراب ، وقرأ ابن السميفع : «ضحكا» فإن قلت : ما أضحكه من قولها؟ قلت : شيئان ، إعجابه بما دل من قولهما على ظهور رحمته ورحمة جنوده وشفقتهم ، وعلى شهرة حاله وحالهم في باب التقوى ، وذلك قولها : { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } تعني أنهم لو شعروا لم يفعلوا . وسروره بما آتاه الله مما لم يؤت أحداً : من إدراكه بسمعه ما همس به بعض الحكل الذي هو مثل في الصغر والقلة ، ومن إحاطته بمعناه ، ولذلك اشتمل دعاؤه على استيزاع الله شكر ما أنعم به عليه من ذلك ، وعلى استيفاقه لزيادة العمل الصالح والتقوى . وحقيقة { أَوْزِعْنِى } اجعلني أزع شكر نعمتك عندي ، وأكفه وأرتبطه لا ينفلت عني ، حتى لا أنفك شاكراً لك . وإنما أدرج ذكر والديه لأنّ النعمة على الولد نعمة على الوالدين ، خصوصاً النعمة الراجعة إلى الدين ، فإنه إذا كان تقيا نفعهما بدعائه وشفاعته وبدعاء المؤمنين لهما كلما دعوا له ، وقالوا : رضي الله عنك وعن والديك . وروي أن النملة أحست بصوت الجنود ولا تعلم أنهم في الهواء ، فأمر سليمان الريح فوقفت لئلا يذعرن حتى دخلن مساكنهنّ ، ثم دعا بالدعوة . ومعنى { وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصالحين } واجعلني من أهل الجنة .

وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21)

{ أَمْ } هي المنقطعة : نظر إلى مكان الهدهد فلم يبصره ، فقال : { مَالِيَ لاَ أَرَى } على معنى أنه لا يراه وهو حاضر لساتر ستره أو غير ذلك ، ثم لاح له أنه غائب فأضرب عن ذلك وأخذ يقول : أهو غائب؟ كأنه يسأل عن صحة ما لاح له . ونحوه قولهم : إنها لإبل أم شاء ، وذكر من قصة الهدهد أنّ سليمان حين تم له بناء بيت المقدس تجهز للحج بحشرة ، فوافى الحرم وأقام به ما شاء ، وكان يقرّب كل يوم طول مقامه بخمسة آلاف ناقة وخمسة آلاف بقرة وعشرين ألف شاة ، ثم عزم على السير إلى اليمن فخرج من مكة صباحاً يؤم سهيلاً؛ فوافى صنعاء وقت الزوال؛ وذلك مسيرة شهر ، فرأى أرضاً حسناء أعجبته خضرتها ، فنزل ليتغدّى ويصلي فلم يجدوا الماء ، وكان الهدهد قناقنه ، وكان يرى الماء من تحت الأرض كما يرى الماء في الزجاجة فيجيء الشياطين فيسلخونها كما يسلخ الإهاب ويستخرجون الماء ، فتفقده لذلك ، وحين نزل سليمان حلق الهدهد فرأى هدهداً واقعاً ، فانحط إليه فوصف له ملك سليمان وما سخر له من كل شيء ، وذكر له صاحبه ملك بلقيس ، وأنّ تحت يدها اثنى عشر ألف قائد تحت كل قائد مائة ألف وذهب معه لينظر فما رجع إلا بعد العصر ، وذكر أنه وقعت نفحة من الشمس على رأس سليمان فنظر فإذا موضع الهدهد خال فدعا عريف الطير وهو النسر فسأله عنه فلم يجد عنده علمه ، ثم قال لسيد الطير وهو العقاب : عليَّ به ، فارتفعت فنظرت ، فإذا هو مقبل فقصدته . فناشدها الله وقال : بحق الذي قوّاك وأقدرك عليَّ إلا رحمتيني ، فتركته وقالت : ثكلتك أمك ، إنّ نبي الله قد حلف ليعذبنك؛ قال : وما استثنى؟ قالت : بلى قال : أوليأتيني بعذر مبين ، فلما قرب من سليمان أرخى ذنبه وجناحيه يجرّها على الأرض تواضعاً له ، فلما دنا منه أخذ برأسه فمدّه إليه ، فقال : يا نبي الله؛ اذكر وقوفك بين يدي الله؛ فارتعد سليمان وعفا عنه؛ ثم سأله . تعذيبه : أن يؤدّب بما يحتمله حاله ليعتبر به أبناء جنسه . وقيل : كان عذاب سليمان للطير أن ينتف ريشه ويشمسه . وقيل : أن يطلي بالقطران ويشمس . وقيل : أن يلقى للنمل تأكله . وقيل : إيداعه القفص . وقيل : التفريق بينه وبين إلفه . وقيل : لألزمنه صحبة الأضداد . وعن بعضهم : أضيق السجون معاشرة الأضداد . وقيل : لألزمنه خدمة أقرانه . فإن قلت : من أين حل له تعذيب الهدهد؟ قلت : يجوز أن يبيح له الله ذلك . لما رأى فيه من المصلحة والمنفعة؛ كما أباح ذبح البهائم والطيور للأكل وغيره من المنافع؛ وإذا سخر له الطير ولم يتم ما سخر له من أجله إلا بالتأديب والسياسة : جاز أن يباح له ما يستصلح به .

وقرىء : «ليأتينني» و «ليأتينن» والسلطان : الحجة والعذر . فإن قلت : قد حلف على أحد ثلاثة أشياء : فحلفه على فعليه لا مقال فيه ، ولكن كيف صح حلفه على فعل الهدهد؟ ومن أين درى أنه يأتي بسلطان ، حتى يقول والله ليأتيني بسلطان؟ قلت : لما نظم الثلاثة «بأو» في الحكم الذي هو الحلف : آل كلامه إلى قولك : ليكونن أحد الأمور ، يعني : إن كان الإتيان بالسلطان لم يكن تعذيب ولا ذبح ، وإن لم يكن كان أحدهما ، وليس في هذا ادّعاء دراية ، على أنه يجوز أن يتعقب حلفه بالفعلين وحيٌّ من الله بأنه سيأتيه بسلطان مبين ، فثلث بقوله : { أَوْ لَيَأْتِيَنّى بسلطان مُّبِينٍ } عن دراية وإيقان .

فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22)

{ فَمَكَثَ } قرىء : بفتح الكاف وضمها { غَيْرَ بَعِيدٍ } غير زمان بعيد ، كقوله : عن قريب . ووصف مكثه بقصر المدّة للدلالة على إسراعه خوفاً من سليمان ، وليعلم كيف كان الطير مسخراً له ، ولبيان ما أعطي من المعجزة الدالة على نبوّته وعلى قدرة الله تعالى { أَحَطتُ } بإدغام الطاء في التاء بإطباق وبغير إطباق : ألهم الله الهدهد فكافح سليمان بهذا الكلام على ما أوتي من فضل النبوّة والحكمة والعلوم الجمة والإحاطة بالمعلومات الكثيرة ، ابتلاء له في علمه ، وتنبيهاً على أنّ في أدنى خلقه وأضعفه من أحاط علماً بما لم يحط به ، لتتحاقر إليه نفسه ويتصاغر إليه علمه ، ويكون لطفاً له في ترك الإعجاب الذي هو فتنة العلماء وأعظم بها فتنة ، والإحاطة بالشيء علمها : أن يعلم من جميع جهاته لا يخفى منه معلوم . قالوا : وفيه دليل على بطلان قول الرافضة إنّ الإمام لا يخفى عليه شيء ، ولا يكون في زمانه أحد أعلم منه «سبأ» . قرىء بالصرف ومنعه . وقد روي بسكون الباء . وعن ابن كثير في رواية «سبا» ، بالألف كقولهم : ذهبوا أيدي سبا . وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ، فمن جعله اسماً للقبيلة لم يصرف ، ومن جعله اسماً للحيّ أو الأب الأكبر صرف . قال :

مِنْ سَبَإ الْحَاضِرِينَ مَأْرِبَ إذ ... يَبْنُونَ مِنْ دُونِ سَيْلِهِ الْعَرِمَا

وقال :

الُوَارِدُونَ وَتَيْمٌ فِي ذُرَي سَبَإ ... قَدْ عَضَّ أَعْنَاقَهُمْ جِلدُ الْجَوَامِيسِ

ثم سميت مدينة مأرب بسبإ ، وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث ، كما سميت معافر بمعافر بن أدّ . ويحتمل أن يراد المدينة والقوم . [ ( بنبأ يقين ) ] والنبأ : الخبر الذي له شأن . وقوله : { مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ } من جنس الكلام الذي سماه المحدّثون البديع ، وهو من محاسن الكلام الذي يتعلق باللفظ ، بشرط أن يجيء مطبوعاً . أو يصنعه عالم بجوهر الكلام يحفظ معه صحة المعنى وسداده ، ولقد جاء ههنا زائداً على الصحة فحسن وبدع لفظاً ومعنى . ألا ترى أنه لو وضع مكان بنبإ بخبر ، لكان المعنى صحيحاً ، وهو كما جاء أصح ، لما في النبإ من الزيادة التي يطابقها وصف الحال .

إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)

المرأة بلقيس بنت شراحيل ، وكان أبوها ملك أرض اليمن كلها ، وقد ولده أربعون ملكاً ولم يكن له ولد غيرها ، فغلبت على الملك ، وكانت هي وقومها مجوساً يعبدون الشمس . والضمير في { تَمْلِكُهُمْ } راجع إلى سبإ ، فإن أريد به القوم بالأمر ظاهر ، وإن أريدت المدينة فمعناه تملك أهلها . وقيل في وصف عرشها : كان ثمانين ذراعاً في ثمانين وسمكه ثمانين . وقيل ثلاثين مكان ثمانين ، وكان من ذهب وفضة مكللاً بأنواع الجواهر ، وكانت قوائمه من ياقوت أحمر وأخضر ودرّ وزمرّد ، وعليه سبعة أبيات على كل بيت باب مغلق . فإن قلت : كيف استعظم عرشها مع ما كان يرى من ملك سليمان؟ قلت : يجوز أن يستصغر حالها إلى حال سليمان ، فاستعظم لها ذلك العرش . ويجوز أن لا يكون لسليمان مثله وإن عظمت مملكته في كل شيء ، كما يكون لبعض أمراء الأطراف شيء لا يكون مثله للملك الذي يملك عليهم أمرهم ويستخدمهم . ومن نوكي القصاص من يقف على قوله : { وَلَهَا عَرْشٌ } ثم يبتدىء { عظِيمٌ وَجَدتُّهَا } يريد : أمر عظيم ، أن وجدتها وقومها يسجدون للشمس ، فرّ من استعظام الهدهد عرشها ، فوقع في عظيمة وهي مسخ كتاب الله . فإن قلت : كيف قال : { وَأُوتِيتْ مِن كُلِّ شَىْءٍ } مع قول سليمان { وَأُوتِينا مِن كُلّ شَىْء } [ النمل : 16 ] كأنه سوّي بينهما؟ قلت : بينهما فرق بين؛ لأن سليمان عليه السلام عطف قوله على ما هو معجزة من الله ، وهو تعليم منطق الطير ، فرجع أوّلاً إلى ما أوتي من النبوّة والحكمة وأسباب الدين ، ثم إلى الملك وأسباب الدنيا ، وعطفه الهدهد على الملك فلم يرد إلا ما أوتيت من أسباب الدنيا اللائقة بحالها فبين الكلامين بون بعيد . فإن قلت : كيف خفي على سليمان مكانها وكانت المسافة بين محطه وبين بلدها قريبة ، وهي مسيرة ثلاث بين صنعاء ومأرب؟ قلت : لعل الله عز وجل أخفى عنه ذلك لمصلحة رآها ، كما أخفى مكان يوسف على يعقوب .

وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)

فإن قلت : من أين للهدهد التهدي إلى معرفة الله ، ووجوب السجود له ، وإنكار سجودهم للشمس وإضافته إلى الشيطان وتزيينه؟ قلت : لا يبعد أن يلهمه الله ذلك كما ألهمه وغيره من الطيور وسائر الحيوان المعارف اللطيفة التي لا يكاد العقلاء الرجاح العقول يهتدون لها ، ومن أراد استقراء ذلك فعليه بكتاب الحيوان ، خصوصاً في زمن نبيّ سخرت له الطيور وعلم منطقها ، وجعل ذلك معجزة له . من قرأ بالتشديد أراد : «فصدّهم عن السبيل» لئلا يسجدوا فحذف الجار مع أن . ويجوز أن تكون «لا» مزيدة ، ويكون المعنى : فهم لا يهتدون إلى أن يسجدوا . ومن قرأ بالتخفيف ، فهو «ألا يسجدوا» . ألا للتنبيه ، ويا حرف النداء ، ومناداه محذوف ، كما حذفه من قال :

أَلاَ يَا اسْلَمِي يَا دَارَ مَيٍّ عَلَى الْبِلَى ... وفي حرف عبد الله وهي قراءة الأعمش : «هلا» ، و«هلا» : بقلب الهمزتين هاء . وعن عبد الله : «هلا تسجدون» بمعنى ألا تسجدون على الخطاب . وفي قراءة أبيّ : «ألا تسجدون لله الذي يخرج الخبء من السماء والأرض ويعلم سركم وما تعلنون» ، وسمي المخبوء بالمصدر : وهو النبات والمطر وغيرهما مما خبأهُ عز وعلا من غيوبه . وقرىء : «الخب» ، على تخفيف الهمزة بالحذف . والخبا ، على تخفيفها بالقلب ، وهي قراءة ابن مسعود ومالك بن دينار . ووجهها : أن تخرج على لغة من يقول في الوقف : هذا الخبو ، رأيت الخبا ، ومررت بالخبي ، ثم أجري الوصل مجرى الوقف ، لا على لغة من يقول : الكمأة والحمأة؛ لأنها ضعيفة مسترذلة . وقرىء : «يخفون ويعلنون» بالياء والتاء . وقيل : من أحطت إلى العظيم هو كلام الهدهد . وقيل : كلام رب العزة . وفي إخراج الخبء : أمارة على أنه من كلام الهدهد لهندسته ومعرفته الماء تحت الأرض ، وذلك بإلهام من يخرج الخبء في السموات والأرض جلت قدرته ولطف علمه ، ولا يكاد تخفى على ذي الفراسة النظار بنور الله مخائل كل مختص بصناعة أو فنّ من العلم في روائه ومنطقه وشمائله ، ولهذا ورد : ما عمل عبد عملاً إلا ألقى الله عليه رداء عمله . فإن قلت : أسجدة التلاوة واجبة في القراءتين جميعاً أم في إحداهما؟ قلت؛ هي واجبة فيهما جميعاً ، لأنّ مواضع السجدة إما أمرٌ بها ، أو مدحٌ لمن أتى بها ، أو ذمٌ لمن تركها ، وإحدى القراءتين أمر بالسجود ، والأخرى ذم للتارك . وقد اتفق أبو حنيفة والشافعي رحمهما الله على أنّ سجدات القرآن أربع عشرة ، وإنما اختلفا في سجدة ص : فهي عند أبي حنيفة سجدة تلاوة . وعند الشافعي : سجدة شكر . وفي سجدتي سورة الحج وما ذكره الزجاج من وجوب السجدة مع التخفيف دون التشديد ، فغير مرجوع إليه . فإن قلت : هل يفرق الواقف بين القراءتين؟ قلت : نعم إذا خفف وقف على { فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ } ثم ابتداء { أَلاَّ يَسْجُدُواْ } ، وإن شاء وقف على «ألا» ثم ابتدأ { يَسْجُدُواْ } وإذا شدّد لم يقف إلا على { العرش العظيم } . فإن قلت : كيف سوّى الهدهد بين عرش بلقيس وعرش الله في الوصف ب ( العظيم ) ؟ قلت : بين الوصفين بون عظيم ، لأنّ وصف عرشها بالعظم : تعظيم له بالإضافة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك . ووصف عرش الله بالعظم : تعظيم له بالنسبة إلى سائر ما خلق من السموات والأرض . وقرىء : «العظيم» بالرفع .

قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28)

{ سَنَنظُرُ } من النظر الذي هو التأمل والتصفح . وأراد : أصدقت أم كذبت ، إلا أن { كُنتَ مِنَ الكاذبين } أبلغ ، لأنه إذا كان معروفاً بالانخراط في سلك الكاذبين كان كاذباً لا محالة ، وإذا كان كاذباً اتهم بالكذب فيما أخبر به فلم يوثق به ، { تَوَلَّ عَنْهُمْ } تنح عنهم إلى مكان قريب تتوارى فيه ، ليكون ما يقولونه بمسمع منك . و { يَرْجِعُونَ } من قوله تعالى : { يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْض القول } [ سبأ : 31 ] يقال : دخل عليها من كوّة فألقى الكتاب إليها وتوارى في الكوّة . فإن قلت : لم قال : فألقه إليهم ، على لفظ الجمع؟ قلت : لأنه قال : وجدتها وقومها يسجدون للشمس ، فقال : فألقه إلى الذين هذا دينهم ، اهتماماً منه بأمر الدين ، واشتغالاً به عن غيره . وبني الخطاب في الكتاب على لفظ الجمع لذلك .

قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)

{ كَرِيمٌ } حسن مضمونة وما فيه ، أو وصفته بالكرم ، لأنه من عند ملك كريم أو مختوم . قال صلى الله عليه وسلم :

( 797 ) " كرم الكتاب ختمه " . ( 798 ) " وكان صلى الله عليه وسلم يكتب إلى العجم ، فقيل له : إنهم لا يقبلون إلا كتاباً عليه خاتم ، فاصطنع خاتماً " عن ابن المقفع : من كتب إلى أخيه كتاباً ولم يختمه فقد استخف به . وقيل : مصدّر ببسم الله الرحمن الرحيم [ إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ] : هو استئناف وتبيين لما أُلْقِيَ إليها ، كأنها لما قالت : إني أُلْقِيَ إليّ كتاب كريم ، قيل لها : ممن هو؟ وما هو؟ فقالت : إنه من سليمان وإنه : كيت وكيت . وقرأ عبد الله : «وإنه من سليمان وإنه» عطفاً على : إني . وقرىء : «أنه من سليمان وأنه» ، بالفتح على أنه بدل من كتاب ، كأنه قيل : ألقى إليّ أنه من سليمان . ويجوز أن تريد : لأنه من سليمان ولأنه ، كأنها عللت كرمه بكونه من سليمان ، وتصديره باسم الله . وقرأ أبيّ : «أنْ من سليمان وأنْ بسم الله» ، على أن المفسرة . وأن في { أَلاَّ تَعْلُواْ } مفسرة أيضاً . لا تعلوا : لا تتكبروا كما يفعل الملوك . وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما بالغين معجمة من الغلو : وهو مجاوزة الحد . يروى أنّ نسخة الكتاب من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ : السلام على من اتبع الهدى ، أما بعد : فلا تعلوا عليّ وائتوني مسلمين ، وكانت كتب الأنبياء عليهم السلام جملاً لا يطيلون ولا يكثرون ، وطبع الكتاب بالمسك وختمه بخاتمه ، فوجدها الهدهد راقدة في قصرها بمأرب ، وكانت إذا رقدت غلقت الأبواب ووضعت المفاتيح تحت رأسها ، فدخل من كوة وطرح الكتاب على نحرها وهي مستلقية . وقيل : نقرها فانتبهت فزعة . وقيل : أتاها والقادة والجنود حواليها ، فرفرف ساعة والناس ينظرون حتى رفعت رأسها ، فألقى الكتاب في حجرها ، وكانت قارئة كاتبة عربية من نسل تبع بن شراحيل الحميري؛ فلما رأت الخاتم ارتعدت وخضعت ، وقالت لقومها ما قالت : { مُسْلِمِينَ } منقادين أو مؤمنين .

قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32)

الفتوى : الجواب في الحادثة ، اشتقت على طريق الاستعارة من الفتى في السن . والمراد بالفتوى ههنا : الإشارة عليها بما عندهم فيما حدث لها من الرأي والتدبير ، وقصدت بالانقطاع إليهم والرجوع إلى استشارتهم واستطلاع آرائهم : استعطافهم وتطييب نفوسهم ليمالئوها ويقوموا معها { قَاطِعَةً أَمْراً } فاصلة . وفي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه : «قاضية» أي لا أبت أمراً إلا بمحضركم . وقيل : كان أهل مشورتها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً : كل واحد على عشرة آلاف .

قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)

أرادوا بالقوة : قوّة الأجساد وقوّة الآلات والعدد . وبالبأس : النجدة والبلاء في الحرب { والأمر إِلَيْكِ } أي هو موكول إليك ، ونحن مطيعون لك ، فمرينا بأمرك نطعك ولا نخالفك كأنهم أشاروا عليها بالقتال . أو أرادوا : نحن من أبناء الحرب لا من أبناء الرأي والمشورة ، وأنت ذات الرأي والتدبير ، فانظري ماذا ترين : نتبع رأيك .

قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36)

لما أحست منهم الميل إلى المحاربة ، رأت من الرأي الميل إلى الصلح والابتداء بما هو أحسن ، ورتبت الجواب ، فزيفت أولاً ما ذكروه وأرتهم الخطأ فيه ب { إِنَّ الملوك إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً } عنوة وقهراً { أَفْسَدُوهَا } أي خرّبوها - ومن ثمة قالوا للفساد : الخربة - ، وأذلوا أعزتها ، وأهانوا أشرافها؛ وقتلوا وأسروا ، فذكرت لهم عاقبة الحرب وسوء مغبتها ثم قالت : { وكذلك يَفْعَلُونَ } أرادت : وهذه عادتهم المستمرة الثابتة التي لا تتغير ، لأنها كانت في بيت الملك القديم ، فسمعت نحو ذلك ورأت ، ثم ذكرت بعد ذلك حديث الهدية وما رأت من الرأي السديد . وقيل : هو تصديق من الله لقولها ، وقد يتعلق الساعون في الأرض بالفساد بهذه الآية ويجعلونها حجة لأنفسهم . ومن استباح حراماً فقد كفر ، فإذا احتج له بالقرآن على وجه التحريف فقد جمع بين كفرين { مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ } أي مرسلة رسلاً بهدية أصانعه بها عن ملكي { فَنَاظِرَةٌ } ما يكون منه حتى أعمل على حسب ذلك ، فروي : أنها بعثت خمسمائة غلام عليهم ثياب الجواري ، وحليهنّ الأساور والأطواق ، والقِرَطَة راكبي خيل مغشاة بالديباج محلاة اللجم والسروج بالذهب المرصع بالجواهر ، وخمسمائة جارية على رماك في زي الغلمان ، وألف لبنة من ذهب وفضة ، وتاجاً مكللاً بالدرّ والياقوت المرتفع والمسك والعنبر ، وحقاً فيه درّة عذراء ، وجزعة معوجة الثقب ، وبعثت رجلين من أشراف قومها : المنذر بن عمرو ، وآخر ذا رأي وعقل ، وقالت : إن كان نبياً ميز بين الغلمان والجواري ، وثقب الدرّة ثقباً مستوياً ، وسلك في الخرزة خيطاً ، ثم قالت للمنذر : إن نظر إليك نظر غضبان فهو ملك؛ فلا يهولنك ، وإن رأيته بشاً لطيفاً فهو نبيّ ، فأقبل الهدهد فأخبر سليمان ، فأمر الجنّ فضربوا لبن الذهب والفضة ، وفرشوه في ميدان بين يديه طوله سبعة فراسخ ، وجعلوا حول الميدان حائطاً شرفه من الذهب والفضة ، وأمر بأحسن الدواب في البر والبحر فربطوها عن يمين الميدان ويساره على اللبن ، وأمر بأولاد الجن وهم خلق كثير فأقيموا عن اليمين واليسار ، ثم قعد على سريره والكراسيّ من جانبيه ، واصطفت الشياطين صفوفاً فراسخ ، والإنس صفوفاً فراسخ ، والوحش والسباع والهوام والطيور كذلك ، فلما دنا القوم ونظروا : بهتوا ، ورأوا الدواب تروث على اللبن ، فتقاصرت إليهم نفوسهم ورموا بما معهم ، ولما وقفوا بين يديه نظر إليهم بوجه طلق وقال : ما وراءكم؟ وقال : أين الحقّ؟ وأخبره جبريل عليه السلام بما فيه فقال لهم : إن فيه كذا وكذا ، ثم أمر الأرضة فأخذت شعرة ونفذت فيها ، فجعل رزقها في الشجرة . وأخذت دودة بيضاء الخيط بفيها ونفذت فيها ، فجعل رزقها في الفواكه . ودعا بالماء فكانت الجارية تأخذ الماء بيدها فتجعله في الأخرى ثم تضرب به وجهها ، والغلام كما يأخذه يضرب به وجهه ، ثم رد الهدية وقال للمنذر : ارجع إليهم ، فقالت : هو نبيّ وما لنا به طاقة ، فشخصت إليه في اثني عشر ألف قيل ، تحت كل قيل ألوف .

وفي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه : «فلما جاءوا» { أَتُمِدُّونَنِ } وقرىء : بحذف الياء والاكتفاء بالكسرة بالإدغام ، كقوله : { أتحاجوانى } وبنون واحدة : أتمدوني . الهدية : اسم المهدَي؛ كما أن العطية اسم المعطي ، فتضاف إلى المهدي والمهدى إليه ، تقول هذه هدية فلان ، تريد : هي التي أهداها أو أهديت إليه ، والمضاف إليه ههنا هو المهدي إليه . والمعنى : أن ما عندي خير مما عندكم ، وذلك أن الله آتاني الدين الذي فيه الحظ الأوفر والغنى الأوسع ، وآتاني من الدنيا ما لا يستزاد عليه ، فكيف يرضى مثلي بأن يمدّ بمال ويصانع به { بَلْ أَنتُمْ } قوم لا تعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا؛ فلذلك { تَفْرَحُونَ } بما تزادون ويُهدي إليكم ، لأن ذلك مبلغ همتكم وحالي خلاف حالكم؛ وما أرضى منكم بشيء ولا أفرح به إلا بالإيمان وترك المجوسية . فإن قلت : ما الفرق بين قولك : أتمدني بمال وأنا أغنى منك ، وبين أن تقوله بالفاء؟ قلت : إذا قلته بالواو ، فقد جعلت مخاطبي عالماً بزيادتي عليه في الغنى واليسار ، وهو مع ذلك يمدني بالمال . وإذا قلته بالفاء ، فقد جعلته ممن خفيت عليه حالي ، فأنا أخبره الساعة بما لا أحتاج معه إلى إمداده ، كأني أقول له : أنكر عليك ما فعلت ، فإني غني عنه . وعليه ورد قوله : { فَمَا ءاتاني الله } . فإن قلت : فما وجه الإضراب؟ قلت : لما أنكر عليهم الإمداد وعلل إنكاره ، أضرب عن ذلك إلى بيان السبب الذي حملهم عليه : وهو أنهم لا يعرفون سبب رضا ولا فرح؛ إلا أن يهدي إليهم حظ من الدنيا التي لا يعلمون غيرها . ويجوز أن تجعل الهدية مضافة إلى المهدي ، ويكون المعنى : بل أنتم بهديتكم هذه التي أهديتموها تفرحون فرح افتخار على الملوك ، بأنكم قدرتم على إهداء مثلها . ويحتمل أن يكون عبارة عن الردّ ، كأنه قال : بل أنتم من حقكم أن تأخذوا هديتكم وتفرحوا بها .

ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)

{ ارجع } خطاب للرسول . وقيل : للهدهد محملاً كتاباً آخر { لاَّ قِبَلَ } لا طاقة . وحقيقة القبل : المقاومة والمقابلة ، أي : لا يقدرون أن يقابلوهم . وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه : لا قبل لهم بهم . الضمير في منها لسبأ . والذل : أن يذهب عنهم ما كانوا فيه من العزّ والملك . والصغار : أن يقعوا في أسر واستعباد ، ولا يقتصر بهم على أن يرجعوا سوقة بعد أن كانوا ملوكاً .

قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38)

يروي : أنها أمرت عند خروجها إلى سليمان عليه السلام ، فجعل عرشها في آخر سبعة أبيات بعضها في بعض في آخر قصر من قصور سبعة لها . وغلقت الأبواب ووكلت به حرساً يحفظونه ، ولعله أوحى إلى سليمان عليه السلام باستيثاقها من عرشها ، فأراد أن يغرب عليها ويريها بذلك بعض ما خصه الله به من إجراء العجائب على يده ، مع إطلاعها على عظيم قدرة الله وعلى ما يشهد لنبوّة سليمان عليه السلام ويصدقها . وعن قتادة : أراد أن يأخذه قبل أن تسلم ، لعلمه أنها إذا أسلمت لم يحلّ له أخذ مالها . وقيل : أراد أن يؤتى به فينكر ويغير ، ثم ينظر أتثبته أم تنكره؟ اختباراً لعقلها .

قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39)

وقرىء : «عفرية» والعفر ، والعفريت ، والعفرية ، والعفراة ، والعفارية من الرجال : الخبيث المنكر ، الذي يعفر أقرانه . ومن الشياطين : الخبيث المارد . وقالوا : كان اسمه ذكوان { لَقَوِىٌّ } على حمله { أَمِينٌ } آتى به كما هو لا اختزل منه شيئاً ولا أبدله .

قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)

{ الذى عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الكتاب } [ هو ] رجل كان عنده اسم الله الأعظم ، وهو : يا حي يا قيوم ، وقيل : يا إلهنا وإله كل شيء إلهاً واحداً لا إله إلا أنت . وقيل : يا ذا الجلال والإكرام ، وعن الحسن رضي الله عنه : الله . والرحمن . وقيل : هو آصف بن برخيا كاتب سليمان عليه السلام ، وكان صديقاً عالماً . وقيل : اسمه أسطوم . وقيل : هو جبريل . وقيل : ملك أيد الله به سليمان . وقيل : هو سليمان نفسه ، كأنه استبطأ العفريت فقال له : أنا أريك ما هو أسرع مما تقول . وعن ابن لهيعة : بلغني أنه الخضر عليه السلام : علم من الكتاب : من الكتاب المنزل ، وهو علم الوحي والشرائع . وقيل : هو اللوح . والذي عنده علم منه : جبريل عليه السلام . وآتيك - في الموضعين - يجوز أن يكون فعلاً واسم فاعل . الطرف : تحريكك أجفانك إذا نظرت ، فوضع موضع النظر . ولما كان الناظر موصوفاً بإرسال الطرف في نحو قوله :

وَكُنْتَ إِذَا أَرْسَلْتَ طَرْفَكَ رَائِدَاً ... لِقَلْبِكَ يَوْمَاً أَتْعَبتْكَ الْمَنَاظرُ

وصف بردّ الطرف ، ووصف الطرف بالارتداد . ومعنى قوله : { قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } [ أي ] أنك ترسل طرفك إلى شيء ، فقبل أن تردّه أبصرت العرش بين يديك : ويروى : أن آصف قال لسليمان عليه السلام : مدّ عينيك حتى ينتهي طرفك ، فمدّ عينيه فنظر نحو اليمين . ودعا آصف فغار العرش في مكانه بمأرب ، ثم نبغ عند مجلس سليمان عليه السلام بالشام بقدرة الله ، قبل أن يردّ طرفه . ويجوز أن يكون هذا مثلاً لاستقصار مدّة المجيء به ، كما تقول لصاحبك : افعل كذا في لحظة ، وفي ردّة طرف ، والتفت ترني ، وما أشبه ذلك : تريد السرعة . { يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ } لأنه يحط به عنها عبء الواجب ، ويصونها عن سمة الكفران ، وترتبط به النعمة ويستمد المزيد . وقيل : الشكر ، قيد للنعمة الموجودة ، وصيد للنعمة المفقودة . وفي كلام بعض المتقدمين : إن كفران النعمة بوار ، وقلما أقشعت ناقرة فرجعت في نصابها ، فاستدع شاردها بالشكر ، واستدم راهنها بكرم الجوار . واعلم أن سبوغ ستر الله متقلص عما قريب إذا أنت لم ترج لله وقاراً { غَنِىٌّ } عن الشكر { كَرِيمٌ } بالإنعام على من يكفر نعمته ، والذي قاله سليمان عليه السلام عند رؤية العرش شاكراً لربه ، جرى على شاكلة أبناء جنسه من أنبياء الله والمخلصين من عباده يتلقون النعمة القادمة بحسن الشكر ، كما يشيعون النعمة المودعة بجميل الصبر .

قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43)

{ نَكِّرُواْ } اجعلوه متنكراً متغيراً عن هيئته وشكله ، كما يتنكر الرجل للناس لئلا يعرفوه ، قالوا : وسعوه وجعلوا مقدّمه مؤخره ، وأعلاه أسفله . وقرىء : «ننظر» بالجزم على الجواب ، وبالرفع على الاستئناف { أتهتدى } لمعرفته ، أو للجواب الصواب إذا سئلت عنه ، أو للدين والإيمان بنبوّة سليمان عليه السلام إذا رأت تلك المعجزة البينة ، من تقدّم عرشها وقد خلفته وأغلقت عليه الأبواب ونصبت عليه الحرَّاس . هكذا ثلاث كلمات : حرف التنبيه ، وكاف التشبيه ، واسم الإشارة . لم يقل : أهذا عرشك ، ولكن : أمثل هذا عرشك؛ لئلا يكون تلقيناً { قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ } ولم تقل : هو هو ، ولا ليس به ، وذلك من رجاحة عقلها ، حيث لم تقطع في المحتمل { وَأُوتِينَا العلم } من كلام سليمان وملئه : فإن قلت : علام عطف هذا الكلام ، وبم اتصل؟ قلت : لما كان المقام - الذي سئلت فيه عن عرشها وأجابت بما أجابت به - مقاماً أجرى فيه سليمان وملؤه ما يناسب قولهم : { وَأُوتِينَا العلم } نحو أن يقولوا عند قولها كأنه هو : قد أصابت في جوابها وطبقت المفصل ، وهي عاقلة لبيبة ، وقد رزقت الإسلام ، وعلمت قدرة الله وصحة النبوّة بالآيات التي تقدّمت عند وفدة المنذر ، وبهذه الآية العجيبة من أمر عرشها - عطفوا على ذلك قولهم : وأوتينا نحن العلم بالله وبقدرته ، وبصحة ما جاء من عنده قبل علمها ، ولم نزل على دين الإسلام شكراً لله على فضلهم عليها وسبقهم إلى العلم بالله والإسلام قبلها { وَصَدَّهَا } عن التقدم إلى الإسلام عبادة الشمس ونشؤها بين ظهراني الكفرة؛ ويجوز أن يكون من كلام بلقيس موصولاً بقولها : { كَأَنَّهُ هُوَ } والمعنى : وأوتينا العلم بالله وبقدرته وبصحة نبوّة سليمان عليه السلام قبل هذه المعجزة أو قبل هذه الحالة ، تعني : ما تبينت من الآيات عند وفدة المنذر ودخلنا في الإسلام ، ثم قال الله تعالى : وصدها قبل ذلك عما دخلت فيه ضلالها عن سواء السبيل . وقيل : وصدها الله - أو سليمان - عما كانت تعبد بتقدير حذف الجار وإيصال الفعل [ إنها ] وقرى : «أنها» بالفتح على أنه بدل من فاعل صد . أو بمعنى لأنها .

قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)

الصرح : القصر . وقيل : صحن الدار . وقرأ ابن كثير «سأقيها» بالهمزة . ووجهه أنه سمع سؤقا ، فأجري عليه الواحد . والممرد : المملس ، وروي أن سليمان عليه السلام أمر قبل قدومها فبني له على طريقها قصر من زجاج أبيض ، وأجرى من تحته الماء ، وألقي فيه من دواب البحر السمك وغيره ، ووضع سريره في صدره ، فجلس عليه وعكف عليه الطير والجن والإنس ، وإنما فعل ذلك ليزيدها استعظاماً لأمره ، وتحققاً لنبوته ، وثباتاً على الدين . وزعموا أنّ الجن كرهوا أن يتزوجها فتفضي إليه بأسرارهم ، لأنها كانت بنت جنية . وقيل : خافوا أن يولد له منها ولد تجتمع له فطنة الجن والإنس ، فيخرجون من ملك سليمان إلى ملك هو أشدّ وأفظع ، فقالوا له : إن في عقلها شيئاً ، وهي شعراء الساقين ، ورجلها كحافر الحمار فاختبر عقلها بتنكير العرش ، واتخذ الصرح ليتعرف ساقها ورجلها ، فكشفت عنهما فإذا هي أحسن الناس ساقاً وقدماً لا أنها شعراء ، ثم صرف بصره وناداها { إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوارِيرَ } وقيل : هي السبب في اتخاذ النورة : أمر بها الشياطين فاتخذوها ، واستنكحها سليمان عليه السلام ، وأحبها وأقرّها على ملكها وأمر الجن فبنوا لها سيلحين وغمدان ، وكان يزورها في الشهر مرة فيقيم عندها ثلاثة أيام ، وولدت له . وقيل : بل زوجها ذا تبع ملك همدان ، وسلطة على اليمن ، وأمر زوبعة أمير جن اليمن أن يطيعه ، فبنى له المصانع ، ولم يزل أميراً حتى مات سليمان { ظَلَمْتُ نَفْسِى } تريد بكفرها فيما تقدّم ، وقيل حسبت أن سليمان عليه السلام يغرقها في اللجة فقالت : ظلمت نفسي بسوء ظني بسليمان عليه السلام .

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46)

وقرىء : «أن اعبدوا» ، بالضم على إتباع النون الباء { فَرِيقَانِ } فريق مؤمن وفريق كافر . وقيل أريد بالفريقين صالح عليه السلام وقومه قبل أن يؤمن منهم أحد { يَخْتَصِمُونَ } يقول كل فريق : الحق معي . السيئة : العقوبة ، والحسنة : التوبة ، فإن قلت : ما معنى استعجالهم بالسيئة قبل الحسنة؟ وإنما يكون ذلك إذا كانتا متوقعتين إحداهما قبل الأخرى؟ قلت : كانوا يقولون لجهلهم : إن العقوبة التي يعدها صالح عليه السلام إن وقعت على زعمه ، تبنا حينئذٍ واستغفرنا - مقدّرين أن التوبة مقبولة في ذلك الوقت - . وإن لم تقع ، فنحن على ما نحن عليه ، فخاطبهم صالح عليه السلام على حسب قولهم واعتقادهم ، ثم قال لهم : هلا تستغفرون الله قبل نزول العذاب؟ { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } تنبيهاً لهم على الخطأ فيما قالوه؛ وتجهيلاً فيما اعتقدوه .

قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)

وكان الرجل يخرج مسافراً فيمر بطائر فيزجره ، فإن مر سانحاً تيمن ، وإن مر بارحاً تشاءم ، فلما نسبوا الخير والشر إلى الطائر ، استعير لما كان سببهما من قدر الله وقسمته : أو من عمل العبد الذي هو السبب في الرحمة والنقمة . ومنه قالوا : طائر الله لا طائرك ، أي : قدر الله الغالب الذي ينسب إليه الخير والشر ، لا طائرك الذي تتشاءم به وتتيمن ، فلما قالوا : اطيرنا بكم ، أي : تشاءمنا وكانوا قد قحطوا { قَالَ طائركم عِندَ الله } أي سببكم الذي يجيء منه خيركم وشركم عند الله ، وهو قدره وقسمته ، إن شاء رزقكم وإن شاء حرمكم . ويجوز أن يريد : عملكم مكتوب عند الله ، فمنه نزل بكم ما نزل ، عقوبة لكم وفتنة . ومنه قوله : { طائركم مَّعَكُمْ } [ يس : 19 ] ، { وَكُلَّ إنسان ألزمناه طَائِرَهُ فِى عُنُقِهِ } [ الإسراء : 13 ] . وقرىء : «تطيرنا بكم» ، على الأصل . ومعنى : تطير به : تشاءم به . وتطير منه : نفر منه { تُفْتَنُونَ } تختبرون . أو تعذبون . أو يفتنكم الشيطان بوسوسته إليكم الطيرة .

وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53)

{ المدينة } الحجر . وإنما جاز تمييز التسعة بالرهط لأنه في معنى الجماعة ، فكأنه قيل : تسعة أنفس . والفرق بين الرهط والنفر : أن الرهط من الثلاثة إلى العشرة ، أو من السبعة إلى العشرة . والنفر من الثلاثة إلى التسعة وأسماؤهم عن وهب : الهذيل بن عبد رب . غنم بن غنم . رباب بن مهرج . مصدع بن مهرج . عمير بن كردبة . عاصم بن مخرمة . سبيط بن صدقة . سمعان بن صيفي . قدار بن سالف : وهم الذين سعوا في عقر الناقة ، وكانوا عتاة قوم صالح عليه السلام ، وكانوا من أبناء أشرافهم { وَلاَ يُصْلِحُونَ } يعني أن شأنهم الإفساد البحت الذي لا يخلط بشيء من الصلاح كما ترى بعض المفسدين قد يندر منه بعض الصلاح { تَقَاسَمُواْ } يحتمل أن يكون أمراً وخبراً في محل الحال بإضمار قد ، أي : قالوا متقاسمين : وقرىء : «تقسموا» وقرىء : «لتبيتنه» ، بالتاء والياء والنون ، فتقاسموا - مع النون والتاء - يصح فيه الوجهان . ومع الياء لا يصح إلا أن يكون خبراً . والتقاسم ، والتقسم : كالتظاهر ، والتظهر : التحالف . والبَيَات : مباغتة العدو ليلاً . وعن الإسكندر أنه أشير عليه بالبيات فقال : ليس من آيين الملوك استراق الظفر ، وقرىء : «مهلك» بفتح الميم واللام وكسرها من هلك . ومهلك بضم الميم من أهلك . ويحتمل المصدر والزمان والمكان ، فإن قلت : كيف يكونون صادقين وقد جحدوا ما فعلوا ، فأتوا بالخبر على خلاف المخبر عنه؟ قلت كأنهم اعتقدوا أنهم إذا بيتوا صالحاً وبيتوا أهله فجمعوا بين البياتين ثم قالوا : ما شهدنا مهلك أهله؛ فذكروا أحدهما : كانوا صادقين ، لأنهم فعلوا البياتين جميعاً لا أحدهما وفي هذا دليل قاطع على أن الكذب قبيح عند الكفرة الذين لا يعرفون الشرع ونواهيه ولا يخطر ببالهم . ألا ترى أنهم قصدوا قتل نبي الله ولم يرضوا لأنفسهم بأن يكونوا كاذبين حتى سووا للصدق في خبرهم حيلة يتفصون بها عن الكذب . { مَكْرِهِمْ } : ما أخفوه من تدبير الفتك بصالح عليه السلام وأهله . ومكر الله : إهلاكهم من حيث لا يشعرون . شبه بمكر الماكر على سبيل الاستعارة . روي أنه كان لصالح مسجد في الحجر في شعب يصلي فيه ، فقالوا : زعم صالح عليه السلام أنه يفرغ منا إلى ثلاث ، فنحن نفرغ منه ومن أهله قبل الثلاث . فخرجوا إلى الشعب وقالوا : إذا جاء يصلي قتلناه ثم رجعنا إلى أهله فقتلناهم ، فبعث الله صخرة من الهِضَبّ حيالهم ، فبادروا ، فطبقت الصخرة عليهم فم الشعب . فلم يدر قومهم أين هم ولم يدروا ما فعل بقومهم ، وعذب الله كلاً منهم في مكانه ، ونجى صالحاً ومن معه . وقيل : جاءوا بالليل شاهري سيوفهم ، وقد أرسل الله الملائكة ملء دار صالح فدمغوهم بالحجارة : يرون الحجارة ولا يرون رامياً { أَنَّا دمرناهم } استئناف . ومن قرأ بالفتح رفعه بدلاً من العاقبة ، أو خبر مبتدإ محذوف تقديره : هي تدميرهم . أو نصبه على معنى : لأنا . أو على أنه خبر كان ، أي : كان عاقبة مكرهم الدمار { خَاوِيَةً } حال عمل فيها ما دل عليه تلك . وقرأ عيسى بن عمر : «خاوية» بالرفع على خبر المبتدإ المحذوف .

وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)

{ و } اذكر { لُوطاً } أو أرسلنا لوطاً لدلالة ( ولقد أرسلنا ) عليه . و { إِذْ } بدل على الأول ظرف على الثاني . { وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ } من بصر القلب ، أي : تعلمون أنها فاحشة لم تسبقوا إليها ، وأن الله إنما خلق الأنثى للذكر ولم يخلق الذكر للذكر ، ولا الأنثى للأنثى ، فهي مضادّة لله في حكمته وحكمه ، وعلمكم بذلك أعظم لذنوبكم وأدخل في القبح والسماجة . وفيه دليل على أن القبيح من الله أقبح منه من عبادة؛ لأنه أعلم العالمين وأحكم الحاكمين . أو تبصرونها بعضكم من بعض ، لأنهم كانوا في ناديهم يرتكبونها معالنين بها ، لا يتستر بعضهم من بعض خلاعة ومجانة ، وإنهماكاً في المعصية ، وكأن أبا نواس بني على مذهبهم قوله :

وَبُحْ بِاسْمِ مَا تَأْتِي وَذَرْنِي مِنَ الْكُنَى ... فَلاَ خَيْرَ فِي اللَّذَّاتِ مِنْ دُونِهَا سِتْرُ

أو تبصرون آثار العصاة قبلكم وما نزل بهم . فإن قلت : فسرت تبصرون بالعلم وبعده { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } فكيف يكونون علماء وجهلاء؟ قلت : أراد : تفعلون فعل الجاهلين بأنها فاحشة مع علمكم بذلك . أو تجهلون العاقبة . أو أراد بالجهل . السفاهة والمجانة التي كانوا عليها فإن قلت : { تَجْهَلُونَ } صفة لقوم ، والموصوف لفظه لفظ الغائب ، فهلا طابقت الصفة الموصوف فقرىء بالياء دون التاء؟ وكذلك بل أنتم قوم تفتنون؟ قلت : اجتمعت الغيبة والمخاطبة ، فغلبت المخاطبة ، لأنها أقوى وأرسخ أصلاً من الغيبة .

فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)

وقرأ الأعمش : «جوابُ قومه» ، بالرفع . والمشهورة أحسن { يَتَطَهَّرُونَ } يتنزهون عن القاذورات كلها ، فينكرون هذا العمل القذر ، ويغيظنا إنكارهم . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هو استهزاء { قدرناها } قدّرنا كونها { مِنَ الغابرين } كقوله : { قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الغابرين } [ الحجر : 60 ] فالتقدير واقع على الغبور في المعنى .

قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)

أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتلو هذه الآيات الناطقة بالبراهين على وحدانيته وقدرته على كل شيء وحكمته ، وأن يستفتح بتحميده والسلام على أنبيائه والمصطفين من عباده . وفيه تعليم حسن ، وتوقيف على أدب جميل ، وبعث على التيمن بالذكرين ، والتبرك بهما ، والاستظهار بمكانهما على قبول ما يلقى إلى السامعين وإصغائهم إليه ، وإنزاله من قلوبهم المنزلة التي يبغيها المسمع . ولقد توارث العلماء والخطباء والوعاظ كابراً عن كابر هذا الأدب ، فحمدوا الله عزّ وجل وصلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام كل علم مفاد وقبل كل عظة وتذكرة ، وفي مفتتح كل خطبة ، وتبعهم المترسلون فأجروا عليه أوائل كتبهم في الفتوح والتهاني وغير ذلك من الحوادث التي لها شأن . وقيل : هو متصل بما قبله ، وأمر بالتحميد على الهالكين من كفار الأمم والصلاة على الأنبياء عليهم السلام وأشياعهم الناجين . وقيل : هو خطاب للوط عليه السلام ، وأن يحمد الله على هلاك كفار قومه ، ويسلم على من اصطفاه الله ونجاه من هلكتهم وعصمه من ذنوبهم [ آلله خيرٌ ما يشركون ] معلوم أن لا خير فيما أشركوه أصلاً حتى يوازن بينه وبين من هو خالق كل خير ومالكه ، وإنما هو إلزام لهم وتبكيت وتهكم بحالهم ، وذلك أنهم آثروا عبادة الأصنام على عبادة الله ، ولا يؤثر عاقل شيئاً على شيء إلا لداع يدعوه إلى إيثاره من زيادة خير ومنفعة ، فقيل لهم ، مع العلم بأنه لا خير فيما آثروه ، وأنهم لم يؤثروه لزيادة الخير ولكن هوى وعبثاً ، لينبهوا على الخطأ المفرط والجهل المورط وإضلالهم التمييز ونبذهم المعقول وليعلموا أنّ الإيثار يجب أن يكون للخير الزائد . ونحوه ما حكاه عن فرعون { أَمْ أَنَا خَيْرٌ مّنْ هذا الذى هُوَ مَهِينٌ } [ الزخرف : 52 ] مع علمه أنه ليس لموسى مثل أنهاره التي كانت تجري تحته . ثم عدّد سبحانه الخيرات والمنافع التي هي آثار رحمته وفضله ، كما عدّدها في موضع آخر ثم قال : هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء . وقرىء : «يشركون» بالياء والتاء . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( 799 ) أنه كان إذا قرأها يقول : " بل الله خير وأبقى وأجل أكرم " .

أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)

فإن قلت : ما الفرق بين أم وأم في { أَمْ مَا تُشْرِكُونَ } و { أَمَّنْ خَلَقَ السماوات } ؟ قلت : تلك متصلة؛ لأنّ المعنى : أيهما خير . وهذه منقطعة بمعنى بل والهمزة ، لما قال تعالى : آلله خير أم الآلهة؟ قال : بل أمّن خلق السموات والأرض خير؟ تقريراً لهم بأن من قدر على خلق العالم خير من جماد لا يقدر على شيء . وقرأ الأعمش : أمَن ، بالتخفيف . ووجهه أن يجعل بدلاً من الله ، كأنه قال : أمّن خلق السموات والأرض خير أم ما تشركون؟ فإن قلت : أي نكتة في نقل الإخبار عن الغيبة إلى التكلم عن ذاته في قوله فَأَنْبَتْنَا؟ قلت : تأكيد معنى اختصاص الفعل بذاته ، والإيذان بأنّ إنبات الحدائق المختلفة الأصناف والألوان والطعوم والروائح والأشكال مع حسنها وبهجتها بماء واحد . لا يقدر عليه إلا هو وحده . ألا ترى كيف رشح معنى الاختصاص بقوله : { مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا } ومعنى الكينونة : الانبغاء . أراد أن تأتي ذلك محال من غيره ، وكذلك قوله : { بَلْ هُمْ } بعد الخطاب : أبلغ في تخطئة رأيهم . والحديقة : البستان عليه حائط : من الإحداق وهو الإحاطة . وقيل ( ذات ) ؛ لأنّ المعنى : جماعة حدائق ذات بهجة ، كما يقال : النساء ذهبت . والبهجة : الحسن ، لأنّ الناظر يبتهج به { أءلاه مَّعَ الله } أغيره يقرن به ويجعل شريكاً له . وقرىء : «أإلها مع الله» ، بمعنى : أتدعون ، أو أتشركون . ولك أن تحقق الهمزتين وتوسط بينهما مدّة ، وتخرج الثانية بين بين { يَعْدِلُونَ } به غيره أو يعدلون عن الحق الذي هو التوحيد .

أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)

{ أَمَّن جَعَلَ } وما بعده بدل من ( أمن خلق ) فكان حكمهما حكمه { قَرَاراً } دحاها وسوّاها للاستقرار عليها { حَاجِزاً } كقوله : برزخاً .

أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)

الضرورة : الحالة المحوجة إلى اللجإ . والإضرار : افتعال منها . يقال : اضطرّه إلى كذا ، والفاعل والمفعول : مضطر . والمضطر الذي أحوجه مرض أو فقر أو نازلة من نوازل الدهر إلى اللجإ والتضرع إلى الله . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هو المجهود . وعن السدّي : الذي لا حول له ولا قوة . وقيل : المذنب إذا استغفر . فإن قلت : قد عم المضطرين بقوله : { يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ } وكم من مضطرّ يدعوه فلا يجاب؟ قلت؛ الإجابة موقوفة على أن يكون المدعوّ به مصلحة ، ولهذا لا يحسن دعاء العبد إلا شارطاً فيه المصلحة . وأما المضطر فمتناول للجنس مطلقاً ، يصلح لكله ولبعضه ، فلا طريق إلى الجزم على أحدهما إلا بدليل ، وقد قام الدليل على البعض وهو الذي أجابته مصلحة ، فبطل التناول على العموم { خُلَفَآءَ الأرض } خلفاء فيها ، وذلك توارثهم سكناها والتصرف فيها قرنا بعد قرن . أو أراد بالخلافة الملك والتسلط . وقرىء : «يذكرون» بالياء مع الإدغام . وبالتاء مع الإدغام والحذف . وما مزيدة ، أي : يذكرون تذاكراً قليلاً . والمعنى : نفي التذكر ، والقلة تستعمل في معنى النفي .

أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63)

{ يَهْدِيكُمْ } بالنجوم في السماء ، والعلامات في الأرض : إذا جنّ الليل عليكم مسافرين في البر والبحر .

أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)

فإن قلت : كيف قيل لهم : { أَمَّن يَبْدَؤُاْ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ } وهم منكرون للإعادة؟ قلت : قد أزيحت علتهم بالتمكين من المعرفة والإقرار ، فلم يبق لهم عذر في الإنكار { مّنَ السمآء } الماء { و } من { الأرض } النبات { إِن كُنتُمْ صادقين } أنّ مع الله إلهاً ، فأين دليلكم عليه؟

قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)

فإن قلت : لم رفع اسم الله ، والله يتعالى أن يكون ممن في السموات والأرض؟ قلت : جاء على لغة بني تميم ، حيث يقولون : ما في الدار أحد إلا حمار ، يريدون : ما فيها إلا حمار ، كأن أحداً لم يذكر . ومنه قوله :

عَشِيَّةَ مَا تُغنِي الرِّماحُ مَكَانَهَا ... وَلاَ النَّبْلُ إلاَّ الْمَشْرَفِيُّ الْمُصَمّمُ

وقولهم : ما أتاني زيد إلا عمرو ، وما أعانه إخوانكم إلا إخوانه . فإِن قلت : ما الداعي إلى اختيار المذهب التميمي على الحجازي؟ قلت : دعت إليه نكتة سَرية . حيث أخرج المستثنى مخرج قوله : إلا اليعافير ، بعد قوله : ليس بها أنيس ، ليؤول المعنى إلى قولك : إن كان الله ممن في السموات والأرض ، فهم يعلمون الغيب ، يعني : أنّ علمهم الغيب في استحالته كاستحالة أن يكون الله منهم ، كما أنّ معنى ما في البيت : إن كانت اليعافير أنيساً ففيها أنيس ، بتاً للقول بخلوّها عن الأنيس . فإن قلت : هلا زعمت أنّ الله ممن في السموات والأرض ، كما يقول المتكلمون : الله في كل مكان ، على معنى أنّ علمه في الأماكن كلها ، فكأن ذاته فيها حتى لا تحمله على مذهب بني تميم؟ قلت : يأبى ذلك أن كونه في السموات والأرض مجاز ، وكونهم فيهن حقيقة ، وإرادة المتكلم بعبارة واحدة حقيقة ومجازاً غير صحيحة ، على أنّ قولك : من في السموات والأرض ، وجمعك بينه وبينهم في إطلاق اسم واحد : فيه إيهام تسوية ، والإيهامات مزالة عنه وعن صفاته تعالى . ألا ترى كيف قال صلى الله عليه وسلم لمن قال :

( 800 ) ومن يعصهما فقد غوى : " بئس خطيب ا لقوم أنت " وعن عائشة رضي الله عنها :

( 801 ) " من زعم أنه يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية " ، والله تعالى يقول : { قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله } . وعن بعضهم : أخفى غيبه عن الخلق ولم يطلع عليه أحداً؛ لئلا يأمن أحد من عبيده مكره . وقيل : نزلت في المشركين حين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت الساعة { أَيَّانَ } بمعنى متى ، ولو سمي به : لكان فعالاً ، من آن يئين ولا نصرف . وقرىء : «إيان» بكسر الهمزة .

بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)

وقرىء : «بل أدَّرك» ، «بل ادَّراك» ، «بل ادَّارك» ، «بل تدارك» ، «بل أأدرك» بهمزتين «بل آأدرك» ، بألف بينهما . «بل أدرك» ، بالتخفيف والنقل «بل ادّرك» بفتح اللام وتشديد الدال . وأصله : بل أدّرك؟ على الاستفهام «بلى أدرك» ، «بلى أأدرك» ، «أم تدارك» ، «أم أدرك» فهذه ثنتا عشرة قراءة : وأدّارك : أصله تدارك ، فأدغمت التاء في الدال . وادّرك : افتعل . ومعنى أدرك علمهم : انتهى وتكامل . وادّارك : تتابع واستحكم . وهو على وجهين ، أحدهما : أن أسباب استحكام العلم وتكامله بأن القيامة كائنة لا ريب فيه ، قد حصلت لهم ومكنوا من معرفته ، وهم شاكون جاهلون ، وهو قوله : { بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ } : يريد المشركين ممن في السموات والأرض؛ لأنهم لما كانوا في جملتهم نسب فعلهم إلى الجميع ، كما يقال : بنو فلان فعلوا كذا وإنما فعله ناس منهم . فإن قلت : إن الآية سيقت لاختصاص الله بعلم الغيب ، وأن العباد لا علم لهم بشيء منه وأن وقت بعثهم ونشورهم من جملة الغيب وهم لا يشعرون به ، فكيف لاءم هذا المعنى وصف المشركين بإنكارهم البعث مع استحكام أسباب العلم والتمكن من المعرفة؟ قلت : لما ذكر أن العباد لا يعلمون الغيب ، ولا يشعرون بالبعث الكائن ووقته الذي يكون فيه ، وكان هذا بياناً لعجزهم ووصفاً لقصور علمهم : وصل به أن عندهم عجزا أبلغ منه ، وهو أنهم يقولون للكائن الذي لا بدّ أن يكون - وهو وقت جزاء أعمالهم - لا يكون ، مع أن عندهم أسباب معرفة كونه واستحكام العلم به . والوجه الثاني : أن وصفهم باستحكام العلم وتكامله تهكم بهم ، كما تقول لأجهل الناس : ما أعلمك!على سبيل الهزؤ ، وذلك حيث شكوا وعموا عن إثباته الذي الطريق إلى علمه مسلوك ، فضلاً أن يعرفوا وقت كونه الذي لا طريق إلى معرفته : وفي : أدرك علمهم ، وادارك علمهم : وجه آخر ، وهو أن يكون أدرك بمعنى انتهى وفنى ، من قولك : أدركت الثمرة؛ لأن تلك غايتها التي عندها تعدم : وقد فسره الحسن رضي الله عنه باضمحل علمهم وتدارك ، من تدارك بنو فلان : إذا تتابعوا في الهلاك فإن قلت ، فما وجه قراءة من قرأ : بل أأدرك على الاستفهام؟ قلت : هو استفهام على وجه الإنكار لإدراك علمهم ، وكذلك من قرأ : أم أدرك . وأم تدارك؛ لأنها أم التي بمعنى بل والهمزة . فإن قلت : فمن قرأ : بلى أدرك ، وبلى أأدرك؟ قلت : لما جاء ببلى ، بعد قوله : { وَمَا يَشْعُرُونَ } كان معناه : بلى يشعرون ، ثم فسر الشعور بقوله : أدرك علمهم في الآخرة على سبيل التهكم الذي معناه المبالغة في نفي العلم ، فكأنه قال : شعورهم بوقت الآخرة أنهم لا يعلمون كونها ، فيرجع إلى نفي الشعور على أبلغ ما يكون .

وأما من قرأ : بلى أأدرك؟ على الاستفهام فمعناه : بلى يشعرون متى يبعثون ، ثم أنكر علمهم بكونها ، وإذا أنكر علمهم بكونها لم يتحصل لهم شعور بوقت كونها؛ لأنّ العلم بوقت الكائن تابع للعلم بكون الكائن { فِى الأخرة } في شأن الآخرة ومعناه . فإن قلت : هذه الاضرابات الثلاث ما معناها؟ قلت : ما هي إلا تنزيل لأحوالهم : وصفهم أولاً بأنهم لا يشعرون وقت البعث ، ثم بأنهم لا يعلمون أن القيامة كائنة ، ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية فلا يزيلونه والإزالة مستطاعة . ألا ترى أن من لم يسمع اختلاف المذاهب وتضليل أربابها بعضهم لبعض : كان أمره أهون ممن سمع بها وهو جاثم لا يشخص به طلب التمييز بين الحق والباطل ، ثم بما هو أسوأ حالاً وهو العمى ، وأن يكون مثل البهيمة قد عكف همه على بطنه وفرجه ، لا يخطر بباله حقاً ولا باطلاً . ولا يفكر في عاقبة . وقد جعل الآخرة مبدأ عماهم ومنشأه فلذلك عدّاه بمن دون عن؛ لأنّ الكفر بالعاقبة والجزاء هو الذي جعلهم كالبهائم لا يتدبرون ولا يتبصرون .

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68)

العامل في { إِذآ } ما دلّ عليه { أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ } وهو نخرج؛ لأنّ بين يدي عمل اسم الفاعل فيه عقابا وهي همزة الاستفهام ، وإن ولام الابتداء وواحدة منها كافية ، فكيف إذا اجتمعن؟ والمراد : الإخراج من الأرض . أو من حال الفناء إلى الحياة ، وتكرير حرف الاستفهام بإدخاله على «إذا» و«إن» جميعاً إنكار على إنكار ، وجحود عقيب جحود ، ودليل على كفر مؤكد مبالغ فيه . والضمير في إن لهم ولآبائهم؛ لأنّ كونهم تراباً قد تناولهم وآبائهم . فإن قلت : قدّم في هذه الآية { هذا } على { نَحْنُ وَءابآؤُنَا } وفي آية أخرى قدّم { نَحْنُ وَءابَآؤُنَا } على { هذا } ؟ قلت : التقديم دليل على أن المقدّم هو الغرض المتعمد بالذكر ، وإن الكلام إنما سيق لأجله ، ففي إحدى الآيتين دلّ على أن اتخاذ البعث هو الذي تعمد بالكلام ، وفي الأخرى على أن اتخاذ المبعوث بذلك الصدد .

قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70)

لم تلحق علامة التأنيث بفعل العاقبة؛ لأنّ تأنيثها غير حقيقي؛ ولأنّ المعنى : كيف كان آخر أمرهم؟ وأراد بالمجرمين : الكافرين ، وإنما عبر عن الكفر بلفظ الإجرام ليكون لطفاً للمسلمين في ترك الجرائم وتخوّف عاقبتها ألا ترى إلى قوله : { فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ } [ الشمس : 14 ] وقوله : { مِّمَّا خطيئاتهم أُغْرِقُواْ } [ نوح : 25 ] . { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } لأنهم لم يتبعوك ، ولم يُسلموا فيَسلموا وهم قومه قريش ، كقوله تعالى : { فَلَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ على ءاثارهم إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً } [ الكهف : 6 ] . { فِى ضَيْقٍ } في حرج صدر من مكرهم وكيدهم لك ، ولا تبال بذلك فإن الله يعصمك من الناس . يقال : ضاق الشيء ضيقاً وضيقاً ، بالفتح والكسر . وقد قرىء بهما والضيق أيضاً : تخفيف الضيق . قال الله تعالى : { ضَيِّقاً حَرَجاً } [ الأنعام : 125 ] قرىء مخففاً ومثقلاً ويجوز أن يراد في أمر ضيق من مكرهم .

وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72)

استعجلوا العذاب الموعود فقيل لهم { عسى أَن يَكُونَ } ردفكم بعضه وهو عذاب يوم بدر فزيدت اللام للتأكيد كالباء في { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ } [ البقرة : 195 ] أو ضمن معنى فعل يتعدى باللام نحو : دنا لكم وأزف لكم ، ومعناه : وتبعكم ولحقكم ، وقد عدي . بمن قال :

فَلَمَّا رَدِفْنَا مِنْ عُمَيْرٍ وَصَحْبِهِ ... تَوَلَّوا سِرَاعاً وَالمَنِيَّةُ تُعْنِقُ

يعني : دنونا من عمير ، وقرأ الأعرج : ردف لكم ، بوزن ذهب ، وهما لغتان ، والكسر أفصح . وعسى ولعل وسوف - في وعد الملوك ووعيدهم - يدل على صدق الأمر وجدّه وما لا مجال للشكّ بعده ، وإنما يعنون بذلك : إظهار وقارهم وأنهم لا يعجلون بالانتقام؛ لإدلالهم بقهرهم وغلبتهم ووثوقهم أنّ عدوّهم لا يفوتهم ، وأن الرمزة إلى الأغراض كافية من جهتهم؛ فعلى ذلك جرى وعد الله ووعيده .

وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73)

الفضل والفاضلة : الإفضال . ولفلان فواضل في قومه وفضول . ومعناه : أنه مفضل عليهم بتأخير العقوبة ، وأنه لا يعاجلهم بها ، وأكثرهم لا يعرفون حق النعمة فيه ولا يشكرونه ولكنهم بجهلهم يستعجلون وقوع العقاب : وهم قريش .

وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74)

قرىء تكنّ . يقال : كننت الشيء وأكننته : إذا سترته وأخفيته ، يعني : أنه يعلم ما يخفون وما يعلنون من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكايدهم ، وهو معاقبهم على ذلك بما يستوجبونه .

وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75)

سمي الشيء الذي يغيب ويخفى : غائبة وخافية ، فكانت التاء فيهما بمنزلتها في العافية والعاقبة . ونظائرهما : النطيحة ، والرمية ، والذبيحة : في أنها أسماء غير صفات . ويجوز أن يكونا صفتين وتاؤهما للمبالغة ، كالراوية في قولهم : ويل للشاعر من راوية السوء ، كأنه قال : وما من شيء شديد الغيبوبة والخفاء إلا وقد علمه الله وأحاط به وأثبته في اللوح . المبين : الظاهر البين لمن ينظر فيه من الملائكة .

إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77)

قد اختلفوا في المسيح فتحزبوا فيه أحزاباً ، ووقع بينهم التناكر في أشياء كثيرة حتى لعن بعضهم بعضها ، وقد نزل القرآن ببيان ما اختلفوا فيه لو أنصفوا وأخذوا به وأسلموا ، يريد : اليهود والنصارى { لِلْمُؤْمِنِينَ } [ أي ] لمن أنصف منهم وآمن ، أي : من بني إسرائيل . أو منهم ومن غيرهم .

إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78)

{ بَيْنَهُم } بين من آمن بالقرآن ومن كفر به . فإن قلت : ما معنى يقضي بحكمه؟ ولا يقال زيد يضرب بضربه ويمنع بمنعه؟ قلت . معناه بما يحكم به وهو عدله ، لأنه لا يقضي إلا بالعدل ، فسمى المحكوم به حكماً . أو أراد بحكمته - وتدل عليه قراءة من قرأ بحكمه : جمع حكمة . { وَهُوَ العزيز } فلا يردّ قضاؤه { العليم } بمن يقضي له وبمن يقضي عليه ، أو العزيز في انتقامه من المبطلين ، العليم بالفصل بينهم وبين المحقين .

فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)

أمره بالتوكل على الله وقلة المبالاة بأعداء الدين ، وعلل التوكل بأنه على الحق الأبلج الذي لا يتعلق به الشكّ والظنّ . وفيه بيان أنّ صاحب الحق حقيق بالوثوق بصنع الله وبنصرته ، وأن مثله لا يخذل . فإن قلت : { إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى } يشبه أن يكون تعليلاً آخر للتوكل ، فما وجه ذلك؟ قلت : وجهه أن الأمر بالتوكل جعل مسبباً عما كان يغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة المشركين وأهل الكتاب : من ترك اتباعه وتشييع ذلك بالأذى والعداوة ، فلاءم ذلك أن يعلل توكل متوكل مثله ، بأن اتباعهم أمر قد يئس منه ، فلم يبق إلا الاستنصار عليهم لعداوتهم واستكفاء شرورهم وأذاهم ، وشبهوا بالموتى وهم أحياء صحاح الحواس ، لأنهم إذا سمعوا ما يتلى عليهم من آيات الله - فكانوا أقماع القول لا تعيه آذانهم وكان سماعهم كلا سماع - : كانت حالهم - لانتفاء جدوى السماع - كحال الموتى الذين فقدوا مصحح السماع؛ وكذلك تشبيههم بالصمّ الذين ينعق بهم فلا يسمعون . وشبهوا بالعمى حيث يضلون الطريق ولا يقدر أحد أن ينزع ذلك عنهم ، وأن يجعلهم هداة بصراء إلا الله عز وجل . فإن قلت : ما معنى قوله : { إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ } ؟ قلت : هو تأكيد لحال الأصم ، لأنه إذا تباعد عن الداعي بأن يولي عنه مدبراً كان أبعد عن إدراك صوته . وقرىء : «ولا يسمع الصمّ» «وما أنت بهاد العمى» ، على الأصل . وتهدي العمى . وعن ابن مسعود : «وما أن تهدي العمى» ، وهداه عن الضلال . كقولك : سقاه عن العيمة أي : أبعده عنها بالسقي ، وأبعده عن الضلال بالهدى { إِن تُسْمِعُ } أي ما يجدي إسماعك إلا على الذين علم الله أنهم يؤمنون بآياته ، أي : يصدقون بها { فَهُم مُّسْلِمُونَ } أي مخلصون من قوله : { بلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } [ البقرة : 112 ] يعني : جعله سالماً لله خالصاً له .

وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)

سمى معنى القول ومؤداه بالقول ، وهو ما وعدوا من قيام الساعة والعذاب ، ووقوعه : حصوله . والمراد : مشارفة الساعة وظهور أشراطها وحين لا تنفع التوبة . ودابة الأرض : الجساسة . جاء في الحديث :

( 802 ) أنَّ طولَها ستونَ ذراعاً ، لا يدركُها طالبٌ ، ولا يفوتُها هاربٌ . وروي : لها أربعٌ قوائمٌ وزغبٌ وريشٌ وجناحان وعن ابن جريج في وصفها : رأس ثور ، وعين خنزير ، وأذن فيل ، وقرن إبل ، وعنق نعامة ، وصدر أسد ، ولون نمر ، وخاصرة هرّ ، وذنب كبش ، وخف بعير . وما بين المفصلين : اثنا عشر ذراعاً بذراع آدم عليه السلام . وروي : لا تخرج إلا رأسها ، ورأسها يبلغ أعنان السماء ، أو يبلغ السحاب . وعن أبي هريرة : فيها من كل لون ، وما بين قرنيها فرسخ للراكب . وعن الحسن رضي الله عنه : لا يتم خروجها إلا بعد ثلاثة أيام . وعن علي رضي الله عنه : أنها تخرج ثلاثة أيام ، والناس ينظرون فلا يخرج إلا ثلثها . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه سئل :

( 803 ) من أين تخرج الدابة؟ فقال : " من أعظم المساجدِ حرمةً على اللَّهِ " يعني المسجد الحرام . وروي :

( 804 ) أنها تخرج ثلاث خرجات : تخرج بأقصى اليمن ثم تتمكن ، ثم تخرج بالبادية ثم تتكمن دهراً طويلاً ، فبينا الناس في أعظم المساجد حرمة وأكرمها على الله ، فما يهولهم إلا خروجها من بين الركن حذاء دار بني مخزوم عن يمين الخارج من المسجد ، فقوم يهربون وقوم يقفون نظارة . وقيل : تخرج من الصفا فتكلمهم بالعربية بلسان ذلق فتقول { أَنَّ الناس كَانُوا بئاياتنا لاَ يُوقِنُونَ } يعني أن الناس كانوا لا يوقنون بخروجي؛ لأنّ خروجها من الآيات ، وتقول : ألا لعنة الله على الظالمين . وعن السدي : تكلمهم ببطلان الأديان كلها سوى دين الإسلام . وعن ابن عمرو رضي الله عنه : تستقبل المغرب فتصرخ صرخة تنفذه ، ثم تستقبل المشرق ، ثم الشام ثم اليمن فتفعل مثل ذلك . وروي : تخرج من أجياد . وروي :

( 805 ) بينا عيسى عليه السلام يطوف بالبيت ومعه المسلمون ، إذ تضطرب الأرض تحتهم [ حتى ] تحرك القنديل ، وينشق الصفا مما يلي المسعى ، فتخرج الدابة من الصفا ومعها عصا موسى وخاتم سليمان ، فتضرب المؤمن في مسجده ، أو فيما بين عينيه بعصا موسى عليه السلام ، فتنكت نكتة بيضاء فتفشو تلك النكتة في وجهه حتى يضيء لها وجهه أو فتترك وجهه كأنه كوكب درّي ، وتكتب بين عينيه : مؤمن : وتنكت الكافر بالخاتم في أنفه ، فتفشو النكتة حتى يسودّ لها وجهه وتكتب بين عينيه : كافر . وروي :

( 806 ) فتجلو وجه المؤمن بالعصا وتحطم أنف الكافر بالخاتم ، ثم تقول لهم : يا فلان ، أنت من أهل الجنة . ويا فلان ، أنت من أهل النار . وقرىء : «تكلمهم» من الكلم وهو الجرح .

والمراد به : الوسم بالعصا والخاتم . ويجوز أن يكون تكلمهم من الكلم أيضاً ، على معنى التكثير . يقال : فلان مكلم ، أي مجرّح . ويجوز أن يستدل بالتخفيف على أنّ المراد بالتكليم : التجريح ، كما فسر : لنحرقنه ، بقراءة عليّ رضي الله عنه : لنحرقنه ، وأن يستدل بقراءة أبيّ : تنبئهم . وبقراءة ابن مسعود : تكلمهم بأنّ الناس ، على أنه من الكلام . والقراءة بإن مكسورة : حكاية لقول الدابة ، إما لأنّ الكلام بمعنى القول . أو بإضمار القول ، أي : تقول الدابة ذلك . أو هي حكاية لقوله تعالى عند ذلك . فإن قلت : إذا كانت حكاية لقول الدابة فكيف تقول بآياتنا قلت : قولها حكاية لقول الله تعالى . أو على معنى بآيات ربنا . أو لاختصاصها بالله وأثرتها عنده ، وأنها من خواص خلقه : أضافت آيات الله إلى نفسها ، كما يقول بعض خاصة الملك : خيلنا وبلادنا ، وإنما هي خيل مولاه وبلاده . ومن قرأ بالفتح فعلى حذف الجار ، أي : تكلمهم بأن .

وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83)

{ فَهُمْ يُوزَعُونَ } يحبس أوّلهم على آخرهم حتى يجتمعوا فيكبكبوا في النار . وهذه عبارة عن كثرة العدد وتباعد أطرافه ، كما وصفت جنود سليمان بذلك . وكذلك قوله : { فَوْجاً } فإن الفوج الجماعة الكثيرة . ومنه قوله تعالى : { يَدْخُلُونَ فِى دِينِ الله أَفْوَاجاً } [ النصر : 2 ] وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أبو جهل والوليد بن المغيرة ، وشيبة بن ربيعة : يساقون بين يدي أهل مكة ، وكذلك يحشر قادة سائر الأمم بين أيديهم إلى النار . فإن قلت : أي فرق بين من الأولى والثانية؟ قلت : الأولى للتبعيض ، والثانية للتبيين ، كقوله : { مِنَ الأوثان } [ الحج : 30 ] .

حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85)

الواو للحال ، كأنه قال : أكذبتم بها باديء الرأي من غير فكر ولا نظر يؤدي إلى إحاطة العلم بكنهها ، وأنها حقيقة بالتصديق أو بالتكذيب . أو للعطف ، أي : أجحدتموها ومع جحودكم لم تلقوا أذهانكم لتحققها وتبصرها؛ فإن المكتوب إليه قد يجحد أن يكون الكتاب من عند من كتبه ، ولا يدع مع ذلك أن يقرأ ويتفهم مضامينه ويحيط بمعانيه { أمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }

بها للتبكيت لا غير . وذلك أنهم لم يعملوا إلا التكذيب ، فلا يقدرون أن يكذبوا ويقولوا قد صدّقنا بها وليس إلا التصديق بها أو التكذيب . ومثاله أن تقول لراعيك - وقد عرفته رويعي سوء - أتأكل نعمي ، أم ماذا تعمل بها؟ فتجعل ما تبتدىء به وتجعله أصل كلامك وأساسه هو الذي صحّ عندك من أكله وفساده ، وترمي بقولك : أم ماذا تعمل بها ، مع علمك أنه لا يعمل بها إلا الأكل؛ لتبهته وتعلمه علمك بأنه لا يجيء منه إلا أكلها ، وأنه لا يقدر أن يدعي الحفظ والإصلاح؛ لما شهر من خلاف ذلك . أو أراد : أما كان لكم عمل في الدنيا إلا الكفر والتكذيب بآيات الله ، أم ماذا كنتم تعملون من غير ذلك؟ يعني أنه لم يكن لهم عمل غيره ، كأنهم لم يخلقوا إلا للكفر والمعصية ، وإنما خلقوا للإيمان والطاعة : يخاطبون بهذا قبل كبهم في النار ثم يكبون فيها ، وذلك قوله : { وَوَقَعَ القول عَلَيْهِم } يريد أن العذاب الموعود يغشاهم بسبب ظلمهم ، وهو التكذيب بآيات الله ، فيشغلهم عن النطق والاعتذار ، كقوله تعالى : { هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ } [ المرسلات : 35 ] .

أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)

جعل الإبصار للنهار وهو لأهله . فإن قلت : ما للتقابل لم يراع في قوله : { لِيَسْكُنُواْ } و { مُبْصِراً } حيث كان أحدهما علة والآخر حالاً؟ قلت : هو مراعي من حيث المعنى ، وهكذا النظم المطبوع غير المتكلف؛ لأن معنى مبصراً : ليبصروا فيه طرق التقلب في المكاسب .

وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87)

فإن قلت : لم قيل : { فَفَزِعَ } دون فيفزع؟ قلت : لنكتة وهي الإشعار بتحقق الفزع وثبوته وأنه كائن لا محالة ، واقع على أهل السموات والأرض؛ لأنّ الفعل الماضي يدل على وجود الفعل وكونه مقطوعاً به . والمراد فزعهم عند النفخة الأولى حين يصعقون { إِلاَّ مَن شَآءَ الله } إلا من ثبت الله قلبه من الملائكة ، قالوا : هم جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وملك الموت - عليهم السلام . وقيل : الشهداء . وعن الضحاك : الحور ، وخزنة النار ، وحملة العرش . وعن جابر : منهم موسى عليه السلام ، لأنه صعق مرّة . ومثله قوله تعالى : { وَنُفِخَ فِى الصور فَصَعِقَ مَن فِى السماوات وَمَن فِى الأرض إِلاَّ مَن شَآء الله } [ الزمر : 68 ] . وقرىء : «أتوه» . «وأتاه» «ودخرين» ، فالجمع على المعنى والتوحيد على اللفظ . والداخر والدخر : الصاغر . وقيل : مع الإتيان حضورهم الموقف بعد النفخة الثانية . ويجوز أن يراد رجوعهم إلى أمره وانقيادهم له .

وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)

{ جَامِدَةً } من جمد في مكانه إذا لم يبرح . تجمع الجبال فتسير كما تسير الريح السحاب ، فإذا نظر إليها الناظر حسبها واقفه ثابتة في مكان واحد { وَهِىَ تَمُرُّ } مرّاً حثيثاً كما يمر السحاب . وهكذا الأجرام العظام المتكاثرة العدد : إذا تحرّكت لا تكاد تتبين حركتها ، كما قال النابغة في وصف جيش :

بِأَرْعَنَ مِثْلِ الطَّوْدِ تَحْسَبُ أَنَّهُمْ ... وُقُوفٌ لِحَاجٍ وَالرِّكَابُ تَهَمْلَجُ

{ صُنْعَ الله } من المصادر المؤكدة ، كقوله : { وَعَدَ الله } [ النساء : 95 ] . و { صِبْغَةَ الله } [ البقرة : 138 ] إلا أن مؤكده محذوف ، وهو الناصب ليوم ينفخ ، والمعنى : ويوم ينفخ في الصور وكان كيت وكيت أثاب الله المحسنين وعاقب المجرمين ، ثم قال : صنع الله ، يريد به : الإثابة والمعاقبة . وجعل هذا الصنع من جملة الأشياء التي أتقنها وأتى بها على الحكمة والصواب ، حيث قال : صنع الله { الذى أَتْقَنَ كُلَّ شَىْءٍ } يعني أن مقابلته الحسنة بالثواب والسيئة بالعقاب : من جملة إحكامه للأشياء وإتقانه لها ، وإجرائه لها على قضايا الحكمة أنه عالم بما يفعل العباد وبما يستوجبون عليه ، فيكافئهم على حسب ذلك . ثم لخص ذلك بقوله : { مَن جآءَ بالحسنة } إلى آخر الآيتين ، فانظر إلى بلاغة هذا الكلام ، وحسن نظمه وترتيبه ، ومكانة إضماده ، ورصانة تفسيره وأخذ بعضه بحجزة بعض ، كأنما أفرغ إفراغاً واحداً ولأمر مّا أعجز القوي وأخرس الشقاشق . ونحو هذا المصدر إذا جاء عقيب كلام ، جاء كالشاهد بصحته والمنادي على سداده ، وأنه ما كان ينبغي أن يكون إلا كما قد كان . ألا ترى إلى قوله : { صُنْعَ الله } ، و { صِبْغَةَ الله } [ البقرة : 138 ] ، و { وَعَدَ الله } [ النساء : 95 ] و { فِطْرَةَ الله } [ الروم : 30 ] : بعدما وسمها بإضافتها إليه بسمة التعظيم ، كيف تلاها بقوله : { الذى أَتْقَنَ كُلَّ شَىْءٍ } ، { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً } [ البقرة : 138 ] { لا يخلف الله الميعاد } [ الزمر : 20 ] { لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله } [ الروم : 30 ] وقرىء : «تفعلون» ، على الخطاب . { فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا } يريد الإضعاف وأنّ العمل يتقضى والثواب يدوم ، وشتان ما بين فعل العبد وفعل السيد . وقيل : فله خير منها ، أي : له خير حاصل من جهتها وهو الجنة ، وعن ابن عباس؛ الحسنة كلمة الشهادة . وقرىء : { يَوْمَئِذٍ } مفتوحاً مع الإضافة؛ لأنه أضيف إلى غير متمكن . ومنصوباً مع تنوين فزع . فإن قلت : ما الفرق بين الفزعين؟ قلت : الفزع الأوّل : هو ما لا يخلو منه أحد عند الإحساس بشدّة تقع وهول يفجأ ، من رعب وهيبة ، وإن كان المحسن يأمن لحاق الضرر به؛ كما يدخل الرجل على الملك بصدر هياب وقلب وجاب وإن كان ساعة إعزاز وتكرمة وإحسان وتولية . وأمّا الثاني : فالخوف من العذاب . فإن قلت : فمن قرأ { مِّن فَزَعٍ } بالتنوين ما معناه؟ قلت : يحتمل معنيين . من فزع واحد وهو خوف العقاب ، وأمّا ما يلحق الإنسان من التهيب والرعب لما يرى من الأهوال والعظائم ، فلا يخلون منه؛ لأن البشرية تقتضي ذلك . وفي الأخبار والآثار ما يدل عليه . ومن فزع شديد مفرط الشدّة لا يكتنهه الوصف : وهو خوف النار . أمن : يعدي بالجار وبنفسه ، كقوله تعالى : { أفأمنوا مَكْرَ الله } [ الأعراف : 99 ] . وقيل : السيئة : الإشراك . يعبر عن الجملة بالوجه والرأس والرقبة ، فكأنه قيل : فكبوا في النار ، كقوله تعالى : { فَكُبْكِبُواْ فِيهَا } [ الشعراء : 94 ] ويجوز أن يكون ذكر الوجوه إيذاناً بأنهم يكبون على وجوههم فيها منكوسين { هَلْ تُجْزَوْنَ } يجوز فيه الالتفات وحكاية ما يقال لهم عند الكب بإضمار القول .

إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)

أمر رسوله بأن يقول : { أُمِرْتُ } أن أخص الله وحده بالعبادة ، ولا أتخذ له شريكاً كما فعلت قريش ، وأن أكون من الحنفاء الثابتين على ملة الإسلام { وَأَنْ أَتْلُوَاْ القرءان } من التلاوة أو من التلوّ كقوله : { واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ } [ يونس : 109 ] ، [ الأحزاب : 2 ] . والبلدة : مكة حرسها الله تعالى : اختصها من بين سائر البلاد بإضافة اسمه إليها؛ لأنها أحبّ بلاده إليه ، وأكرمها عليه؛ وأعظمها عنده . وهكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم حين خرج في مهاجره ، فلما بلغ الحزورة استقبلها بوجهه الكريم فقال :

( 807 ) " إني أعلم أنك أحب بلاد الله إلى الله . ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت " وأشار إليها إشارة تعظيم لها وتقريب ، دالاً على أنها موطن نبيه ومهبط وحيه . ووصف ذاته بالتحريم الذي هو خاص وصفها ، فأجزل بذلك قسمها في الشرف والعلو ، ووصفها بأنها محرّمة لا ينتهك حرمتها إلا ظالم مضادّ لربه { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادِ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الحج : 25 ] لا يختلى خلاها ، ولا يعضد شجرها ، ولا ينفر صيدها . واللاجىء إليها آمن . وجعل دخول كل شيء تحت ربوبيته وملكوته كالتابع لدخولها تحتهما . وفي ذلك إشارة إلى أن ملكاً ملك مثل هذه البلدة عظيم الشأن قد ملكها وملك إليها كل شيء : اللهم بارك لنا في سكناها ، وآمنا فيها شرَّ كل ذي شرّ ، ولا تنقلنا من جوار بيتك إلا إلى دار رحمتك . وقرىء : «التي حرّمها» . واتل عليهم هذا القرآن : عن أبيّ «وأن أتل» : عن ابن مسعود . { فَمَنِ اهتدى } باتباعه إياي فيما أنا بصدده من توحيد الله ونفي الأنداد عنه ، والدخول في الملة الحنيفية ، واتباع ما أنزل عليّ من الوحي؛ فمنفعة اهتدائه راجعة إليه لا إليّ { وَمَن ضَلَّ } ولم يتبعني فلا عليّ ، وما أنا إلا رسول منذر ، وما على الرسول إلا البلاغ . ثم أمره أن يحمد الله على ما خوّله من نعمة النبوّة التي لا توازيها نعمة ، وأن يهدّد أعداءه بما سيريهم الله من آياته التي تلجئهم إلى المعرفة ، والإقرار بأنها آيات الله . وذلك حين لا تنفعهم المعرفة . يعني في الآخرة . عن الحسن وعن الكلبي : الدخان ، وانشقاق القمر . وما حلّ بهم من نقمات الله في الدنيا . وقيل : هو كقوله : { سَنُرِيهِمْ ءاياتنا فِى الأفاق وفى أَنفُسِهِمْ } الآية [ فصلت : 53 ] . وكل عمل يعملونه ، فالله عالم به غير غافل عنه لأنّ . الغفلة والسهو لا يجوزان على عالم الذات ، وهو من وراء جزاء العالمين . قرىء : «تعملون» ، بالتاء والياء .

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( 808 ) " مَن قرأَ طس سليمانَ كانَ لَهُ مِنَ الأجرِ عشرَ حسناتٍ بِعددٍ مِنْ صدّقَ سليمانَ وكذَب به وهود وشعيبِ وصالحٍ وإبراهيمَ ، ويخرجُ منْ قبرِهِ وهو ينادِي لاَ إلهَ إِلاَّ الله " .

طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3)

{ مِن نَّبَإِ موسى وَفِرْعَوْنَ } مفعول نتلو ، أي : نتلو عليك بعض خبرهما { بالحق } محقين ، كقوله تنبت بالدهن { لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } لمن سبق في علمنا أنه يؤمن ، لأنّ التلاوة إنما تنفع هؤلاء دون غيرهم .

إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)

{ إِنَّ فِرْعَوْنَ } جملة مستأنفة كالتفسير للمجمل ، كأن قائلاً قال : وكيف كان نبؤهما فقال : إن فرعون { عَلاَ فِى الارض } يعني أرض مملكته قد طغى فيها وجاوز الحدّ في الظلم والعسف { شِيَعاً } فرقا يشيعونه على ما يريد ويطيعونه ، لا يملك أحد منهم أن يلوي عنقه . قال الأعشى :

وَبَلْدَةٍ يَرْهَبُ الْجَوَّابُ دُلْجَتَهَا ... حَتَّى تَرَاهُ عَلَيْهَا يَبْتَغِي الشِّيَعَا

أو يشيع بعضهم بعضاً في طاعته . أو أصنافاً في استخدامه يتسخر صنفاً في بناء وصنفاً في حرث وصنفاً في حفر ، ومن لم يستعمله ضرب عليه الجزية ، أو فرقاً مختلفة قد أغرى بينهم العداوة ، وهم بنو إسرائيل والقبط . والطائفة المستضعفة : بنو إسرائيل : وسبب ذبح الأبناء : أنّ كاهناً قال له : يولد مولود في بني إسرائيل يذهب ملكك على يده . وفيه دليل بيّن على ثخانة حمق فرعون ، فإنه إن صدق الكاهن لم يدفع القتل الكائن ، وإن كذب فما وجه القتل؟ و { يَسْتَضْعِفُ } حال من الضمير في { وَجَعَلَ } أو صفة لشيعا . أو كلام مستأنف . و { يُذَبِّحُ } بدل من يستضعف . وقوله : { إِنَّهُ كَانَ مِنَ المفسدين } بيان أنّ القتل ما كان إلا فعل المفسدين فحسب ، لأنه فعل لا طائل تحته ، صدق الكاهن أو كذب .

وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)

فإن قلت : علام عطف قوله : { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ } وعطفه على { نتلو } و { يَسْتَضْعِفُ } غير سديد؟ قلت : هي جملة معطوفة على قوله : { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى الأرض } لأنها نظيرة «تلك» في وقوعها تفسيراً لنبأ موسى وفرعون ، واقتصاصاً له . { وَنُرِيدُ } : حكاية حال ماضية . ويجوز أن يكون حالاً من يستضعف ، أي يستضعفهم فرعون ، ونحن نريد أن نمنّ عليهم . فإن قلت : كيف يجتمع استضعافهم وإرادة الله المنة عليهم؟ وإذا أراد الله شيئاً كان ولم يتوقف إلى وقت آخر ، قلت : لما كانت منة الله بخلاصهم من فرعون قريبة الوقوع ، جعلت إرادة وقوعها كأنها مقارنة لاستضعافهم { أَئِمَّةً } مقدّمين في الدين والدنيا ، يطأ الناس أعقابهم . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : قادة يقتدى بهم في الخير . وعن مجاهد رضي الله عنه : دعاة إلى الخير ، وعن قتادة رضي الله عنه : ولاة ، كقوله تعالى : { وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً } [ المائدة : 20 ] . { الوارثين } يرثون فرعون وقومه ملكهم وكل ما كان لهم . مكن له : إذا جعل له مكاناً يقعد عليه أو يرقد ، فوطأه ومهده ونظيره : أرّض له . ومعنى التمكين لهم في الأرض وهي أرض مصر والشام : أن يجعلها بحيث لا تنبو بهم ولا تغث عليهم؛ كما كانت في أيام الجبابرة ، وينفذ أمرهم ، ويطلق أيديهم ويسلطهم . وقرىء : «ويرى فرعون وهامان وجنودهما» ، أي : يرون { مّنْهُمْ مَّا } حذروه : من ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد مولود منهم .

وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)

اليم : البحر . قيل : هو نيل مصر . فإن قلت : ما المراد بالخوفين حتى أوجب أحدهما ونهى عن الآخر؟ قلت : أما الأوّل فالخوف عليه من القتل؛ لأنه كان إذا صاح خافت أن يسمع الجيران صوته فينموا عليه . وأما الثاني ، فالخوف عليه من الغرق ومن الضياع ومن الوقوع في يد بعض العيون المبثوثة من قبل فرعون في تطلب الولدان ، وغير ذلك من المخاوف . فإن قلت : ما الفرق بين الخوف والحزن؟ قلت : الخوف غم يلحق الإنسان لمتوقع . والحزن : غم يلحقه لواقع وهو فراقه والإخطار به ، فنهيت عنهما جميعاً ، وأومنت بالوحي إليها ، ووعدت ما يسليها ويطامن قلبها ويملؤها غبطة وسروراً : وهو ردّه إليها وجعله من المرسلين . وروي : أنه ذبح في طلب موسى عليه السلام تسعون ألف وليد . وروي : أنها حين أقربت وضربها الطلق وكانت بعض القوابل الموكلات بحبالى بني إسرائيل مصافية لها ، فقالت لها : لينفعني حبك اليوم ، فعالجتها ، فلما وقع إلى الأرض هالها نور بين عينيه ، وارتعش كل مفصل منها ، ودخل حبه قلبها ، ثم قالت : ما جئتك إلا لأقبل مولودك وأخبر فرعون ، ولكني وجدت لابنك حباً ما وجدت مثله فاحفظيه ، فلما خرجت جاء عيون فرعون ، فلفته في خرقة ووضعته في تنور مسجور ، لم تعلم ما تصنع لما طاش من عقلها ، فطلبوا فلم يجدوا شيئاً ، فخرجوا وهي لا تدري مكانه ، فسمعت بكاءه من التنور ، فانطلقت إليه وقد جعل الله النار عليه برداً وسلاماً . فلما ألح فرعون في طلب الولدان أوحى الله إليها فألقته في اليم . وقد روي أنها أرضعته ثلاثة أشهر في تابوت من بردي مطلي بالقار من داخله .

فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8)

اللام في { لِيَكُونَ } هي لام كي التي معناها التعليل ، كقولك : جئتك لتكرمني سواء بسواء ولكن معنى التعليل فيها وارد على طريق المجاز دون الحقيقة ، لأنه لم يكن داعيهم إلى الالتقاط أن يكون لهم عدوّاً وحزناً ، ولكن : المحبة والتبني ، غير أن ذلك لما كان نتيجة التقاطهم له وثمرته ، شبه بالداعي الذي يفعل الفاعل الفعل لأجله ، وهو الإكرام الذي هو نتيجة المجيء ، والتأدب الذي هو ثمرة الضرب في قولك : ضربته ليتأدّب . وتحريره : أن هذه اللام حكمها حكم الأسد ، حيث استعيرت لما يشبه التعليل ، كما يستعار الأسد لمن يشبه الأسد . وقرىء : «وحزناً» وهما لغتان : كالعُدم والعَدم { كَانُواْ خاطئين } في كل شيء ، فليس خطؤهم في تربية عدوّهم ببدع منهم . أو كانوا مذنبين مجرمين ، فعاقبهم الله بأن ربي عدوّهم ومن هو سبب هلاكهم على أيديهم . وقرىء : «خاطين» ، تخفيف خاطئين ، أو خاطين الصواب إلى الخطأ .

وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)

روي أنهم حين التقطوا التابوت عالجوا فتحه ، فلم يقدروا عليه ، فعالجوا كسره فأعياهم ، فدنت آسية فرأت في جوف التابوت نوراً ، فعالجته ففتحته ، فإذا بصبيّ نوره بين عينيه وهو يمصّ إبهامه لبناً فأحبوه ، وكانت لفرعون بنت برصاء ، وقالت له الأطباء : لا تبرأ إلا من ، قبل البحر ، يوجد فيه شبه إنسان دواؤها ريقه ، فلطخت البرصاء برصها بريقه فبرأت . وقيل لما نظرت إلى وجهه برأت ، فقالت : إن هذه لنسمة مباركة ، فهذا أحد ما عطفهم عليه ، فقال الغواة من قومه : هو الصبي الذي نحذر منه ، فأذن لنا في قتله ، فهمّ بذلك فقالت آسية { قُرَّةُ عَيْنٍ لّى وَلَكَ } فقال فرعون : لك لا لي . وروي في حديث :

( 809 ) " لو قالَ هوَ قرّةُ عين لي كما هُوَ لَكَ ، لهداهُ اللَّهُ كما هداهَا " ، وهذا على سبيل الفرض والتقدير ، أي : لو كان غير مطبوع على قلبه كآسية لقال مثل قولها ، ولأسلم كما أسلمت : هذا إن صح الحديث تأويله ، والله أعلم بصحته . وروي أنها قالت له : لعله من قوم آخرين ليس من بني إسرائيل . { قُرَّةُ عَيْنٍ } : خبر مبتدأ محذوف ولا يقوى أن تجعله مبتدأ و { لاَ تَقْتُلُوهُ } خبراً ، ولو نصب لكان أقوى . وقراءة ابن مسعود رضي الله عنه دليل على أنه خبر ، قرأ : «لا تقتلوه قرّة عين لي ولك» ، بتقديم ( لا تقتلوه ) . { عسى أَن يَنفَعَنَا } فإنّ فيه مخايل اليمن ودلائل النفع لأهله ، وذلك لما عاينت من النور وارتضاع الإبهام وبرء البرصاء ، ولعلها توسمت في سيماه النجابة المؤذنة بكونه نفاعاً . أو نتبناه ، فإنه أهل للتبني ، ولأن يكون ولداً لبعض الملوك . فإن قلت : { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } حال ، فما ذو حالها؟ قلت : ذو حالها آل فرعون . وتقدير الكلام : فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً ، وقالت امرأة فرعون كذا وهم لا يشعرون أنهم على خطأ عظيم في التقاطه ورجاء النفع منه وتبنيه . وقوله : { إِنَّ فِرْعَوْنَ } الآية : جملة اعتراضية واقعة بين المعطوف والمعطوف عليه ، مؤكدة لمعنى خطئهم . وماأحسن نظم هذا الكلام عند المرتاض بعلم محاسن النظم .

وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11)

{ فَارِغاً } صفراً من العقل . والمعنى : أنها حين سمعت بوقوعه في يد فرعون طار عقلها لما دهمها من فرط الجزع والدهش . ونحو قوله تعالى : { وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء } [ إبراهيم : 43 ] أي جوّف لا عقول فيها ومنه بيت حسان :

أَلاَ أَبْلِغْ أَبَا سُفْيَانَ عَنِّي ... فَأَنْتَ مُجَوَّفٌ نَخِبٌ هَوَاءُ

وذلك أن القلوب مراكز العقول . ألا ترى إلى قوله : { فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا } [ الحج : 46 ] ويدل عليه قراءة من قرأ : فرغاً . وقرىء : «قرعاً» أي خالياً من قولهم : أعوذ بالله من صفر الإناء وقرع الفناء . وفرغاً ، من قولهم : دماؤهم بينهم فرغ ، أي هدر ، يعني : بطل قلبها وذهب ، وبقيت لا قلب لها من شدّة ما ورد عليها { لَتُبْدِى بِهِ } لتصحر به . والضمير لموسى والمراد بأمره وقصته ، وأنه ولدها { لَوْلا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا } بإلهام الصبر ، كما يربط على الشيء المنفلت ليقرّ ويطمئن { لِتَكُونَ مِنَ المؤمنين } من المصدقين بوعد الله ، وهو قوله : { إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ } إليك ويجوز : وأصبح فؤادها فارغاً من الهم ، حين سمعت أن فرعون عطف عليه وتبناه إن كادت لتبدي بأن ولدها؛ لأنها لم تملك نفسها فرحاً وسروراً بما سمعت ، لولا أنا طامنا قلبها وسكنَّا قلقه الذي حدث به من شدّة الفرح والابتهاج ، لتكون من المؤمنين الواثقين بوعد الله لا بتبني فرعون وتعطفه . وقرىء : «مؤسى» ، بالهمزة : جعلت الضمة في جارة الواو وهي الميم كأنها فيها ، فهمزت كما تهمز واو وجوه { قُصّيهِ } اتبعي أثره وتتبعي خبره . وقرىء : «فبصرت» بالكسر يقال بصرت به عن جنب وعن جنابة ، بمعنى : عن بعد . وقرىء : «عن جانب» ، «وعن جنب» . والجنب : الجانب . يقال : قعد إلى جنبه وإلى جانبه ، أي : نظرت إليه مزورة متجانفة مخاتلة . { وهم لا يشعرون } وهم لا يحسون بأنها أخته ، وكان اسمها مريم .

وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)

التحريم : استعارة للمنع؛ لأنّ من حرم عليه الشيء فقد منعه . ألا ترى إلى قولهم : محظور . وحجر ، وذلك لأن الله منعه أن يرضع ثدياً ، فكان لا يقبل ثدي مرضع قط ، حتى أهمهم ذلك . والمراضع : جمع مرضع ، وهي المرأة التي ترضع . أو جمع مرضع ، وهو موضع الرضاع يعني الثدي أو الرضاع { مِن قَبْلُ } من قبل قصصها أثره . روي أنها لما قالت : { وَهُمْ لَهُ ناصحون } قال هامان : أنها لتعرفه وتعرف أهله ، فقالت : إنما أردت وهم للمك ناصحون والنصح : إخلاص العمل من شائب الفساد ، فانطلقت إلى أمها بأمرهم ، فجاءت بها والصبيّ على يد فرعون يعلله شفقة عليه وهو يبكي يطلب الرضاع ، فحين وجد ريحها استأنس والتقم ثديها ، فقال لها فرعون : ومن أنت منه فقد أبى كل ثدي؟ إلا ثديك؟ قالت : إني امرأة طيبة الريح طيبة اللبن ، لا أوتي بصبي إلا قبلني ، فدفعه إليها وأجرى عليها ، وذهبت به إلى بيتها ، وأنجز الله وعهده في الردّ ، فعندها ثبت واستقرّ في علمها أن سيكون نبياً . وذلك قوله : { وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ } يريد . وليثبت علمها ويتمكن . فإن قلت : كيف حل لها أن تأخذ الأجر إلى إرضاع ولدها؟ قلت : ما كانت تأخذه على أنه أجر على الرضاع ، ولكنه مال حربيّ كانت تأخذه على وجه الاستباحة . وقوله : { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } داخل تحت علمها . المعنى : لتعلم أن وعد الله حق ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أنه حق فيرتابون . ويشبه التعريض بما فرط منها حين سمعت بخبر موسى ، فجزعت وأصبح فؤادها فارغاً يروى أنها حين ألقت التابوت في اليم جاءها الشيطان فقال لها : يا أم موسى ، كرهت أن يقتل فرعون موسى فتؤجري ، ثم ذهبت فتوليت قتله ، فلما أتاها الخبر بأن فرعون أصابه قالت : وقع في يد العدوّ ، فنسيت وعد الله . ويجوز أن يتعلق { ولكن } بقوله : { وَلِتَعْلَمَ } ومعناه : أن الردّ إنما كان لهذا الغرض الديني ، وهو علمها بصدق وعد الله . ولكنّ الأكثر لا يعلمون بأن هذا هو الغرض الأصلي الذي ما سواه تبع له من قرّة العين وذهاب الحزن .

وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)

{ واستوى } واعتدل وتمّ استحكامه ، وبلغ المبلغ الذي لا يزاد عليه ، كما قال لقيط :

واستحملوا أَمْرَكُمْ لِلهِ دَرُّكُمُو ... شَزْرَ الْمَرِيرَةِ لاقَمحاًوَلاَ ضَرَعَا

وذلك أربعون سنة ، ويروى :

( 810 ) أنه لم يبعث نبيّ إلا على رأس أربعين سنة . العلم . التوراة . والحكم : السنة . وحكمة الأنبياء : سنتهم . قال الله تعالى : { واذكرن مَا يتلى فِى بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءايات الله والحكمة } [ الأحزاب : 34 ] وقيل : معناه أتيناه سيرة الحكماء العلماء ، وسمتهم قبل البعث ، فكان لا يفعل فعلاً يستجهل فيه .

وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17)

المدينة : مصر . وقيل : مدينة منف من أرض مصر . وحين غفلتهم : ما بين العشاءين . وقيل : وقت القائلة . وقيل : يوم عيد لهم هم مشتغلون فيه بلهوهم . وقيل : لما شبّ وعقل أخذ يتكلم بالحق وينكر عليهم ، فأخافوه ، فلا يدخل قرية إلا على تغفل . وقرأ سيبويه : «فاستعانه» { مِن شِيعَتِهِ } ممن شايعه على دينه من بني إسرائيل . وقيل : هو السامريّ { مِنْ عَدُوّهِ } من مخالفيه من القبط ، وهو فاتون ، وكان يتسخر الإسرائيلي لحمل الحطب إلى مطبخ فرعون . والوكز : الدفع بأطراف الأصابع . وقيل : بجمع الكف ، وقرأ ابن مسعود : «فلكزه» باللام { فقضى عَلَيْهِ } فقتله . فإن قلت : لم جعل قتل الكافر من عمل الشيطان وسماه ظلماً لنفسه واستغفر منه؟ قلت : لأنه قتله قبل أن يؤذن له في القتل ، فكان ذنباً يستغفر منه . وعن ابن جريج : ليس لنبي أن يقتل ما لم يؤمر { بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَىَّ } يجوز أن يكون قسماً جوابه محذوف ، تقديره : أقسم بإنعامك عليّ بالمغفرة لأتوبنّ { فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لّلْمُجْرِمِينَ } وأن يكون استعطافاً ، كأنه قال : رب اعصمني بحق ما أنعمت عليّ من المغفرة ، فلن أكون إن عصمتني ظهيراً للمجرمين . وأراد بمظاهرة المجرمين : إما صحبة فرعون وانتظامه في جملته وتكثيره سواده حيث كان يركب بركوبه كالولد مع الوالد ، وكان يسمى ابن فرعون . وإما مظاهرة من أدت مظاهرته إلى الجرم والإثم ، كمظاهرة الإسرائيلي المؤدية إلى القتل الذي لم يحل له . وعن ابن عباس : لم يستثن فابتلى به مرّة أخرى . يعني : لم يقل : ( فلن أكون ) إن شاء الله . وهذا نحو قوله : { وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الذين ظَلَمُواْ } [ هود : 113 ] وعن عطاء : أنّ رجلاً قال له : إنّ أخي يضرب بقلمه ولا يعدو رزقه . قال : فمن الرأس ، يعني من يكتب له؟ قال : خالد بن عبد الله القسري : قال : فأين قول موسى؟ وتلا هذه الآية . وفي الحديث :

( 811 ) " ينادي مناد يوم القيامة : أين الظلمة وأشباه الظلمة وأعوان الظلمة ، حتى من لاق لهم دواة أو بري لهم قلماً ، فيجمعون في تابوت من حديد فيرمي به في جهنم " وقيل معناه : بما أنعمت عليّ من القوة ، فلن استعملها إلا في مظاهرة أوليائك وأهل طاعتك والإيمان بك . ولا أدع قبطياً يغلب أحداً من بني إسرائيل .

فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)

{ يَتَرَقَّبُ } المكروه وهو الاستقادة منه ، أو الإخبار وما يقال فيه ، ووصف الإسرائيلي بالغيّ؛ لأنه كان سبب قتل رجل ، وهو يقاتل آخر . وقرىء : «يبطش» ، بالضم . والذي هو عدوّ لهما : القبطي؛ لأنه ليس على دينهما ، ولأن القبط كانوا أعداء بني إسرائيل . والجبار : الذي يفعل ما يريد من الضرب والقتل بظلم ، لا ينظر في العواقب ولا يدفع بالتي هي أحس : وقيل : المتعظم الذي لا يتواضع لأمر الله ، ولما قال هذا : أفشى على موسى فانتشر الحديث في المدينة ورقي إلى فرعون ، وهموا بقتله .

وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)

قيل : الرجل : مؤمن آل فرعون ، وكان ابن عم فرعون ، و { يسعى } يجوز ارتفاعه وصفاً لرجل ، واتتصابه حالاً عنه؛ لأنه قد تخصص بأن وصف بقوله : { مِنْ أَقْصَى المدينة } وإذا جعل صلة لجاء ، لم يجز في { يسعى } إلا الوصف . والائتمار : التشاور . يقال : الرجلان يتآمران ويأتمران ، لأن كل واحد منهما يأمر صاحبه بشيء أو يشير عليه بأمر . والمعنى : يتشاورون بسببك { لَكَ } بيان ، وليس بصلة الناصحين .

فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22)

{ يَتَرَقَّبُ } التعرّض له في الطريق . أو أن يلحق .

{ تِلْقَاء مَدْيَنَ } قصدها ونحوها . ومدين : قرية شعيب عليه السلام ، سميت بمدين بن إبراهيم ، ولم تكن في سلطان فرعون ، وبينها وبين مصر مسيرة ثمان ، وكان موسى لا يعرف إليها الطريق قال ابن عباس : خرج وليس له علم بالطريق إلا حسن ظنه بربه . و { سَوَاءَ السبيل } وسطه ومعظم نهجه . وقيل : خرج حافياً لا يعيش إلا بورق الشجر ، فما وصل حتى سقط خف قدمه . وقيل : جاءه ملك على فرس بيده عنزة ، فانطلق به إلى مدين .

وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)

{ مَاءَ مَدْيَنَ } ماءهم الذي يستقون منه ، وكان بئراً فيما روي . ووروده : مجيئه والوصول إليه { وَجَدَ عَلَيْهِ } وجد فوق شفيره ومستقاه { أُمَّةً } جماعة كثيفة العدد { مِنَ الناس } من أناس مختلفين { مِن دُونِهِمُ } في مكان أسفل من مكانهم . والذود : الطرد والدفع وإنما كانتا تذودان؛ لأنّ على الماء من هو أقوى منهما فلا يتمكنان من السقي . وقيل : كانتا تكرهان المزاحمة على الماء . وقيل : لئلا تختلط أغنامهما بأغنامهم ، وقيل : تذودان عن وجوههما نظر الناظر لتسترهما { مَا خَطْبُكُمَا } ما شأنكما . وحقيقته : ما مخطوبكما ، أي : مطلوبكما من الذياد ، فسمى المخطوب خطباً ، كما سمى المشئون شأناً في قولك : ما شأنك؟ يقال : شأنت شأنه ، أي : قصدت قصده . وقرىء «لا نسقي» و«يصدر» . و«الرعاء» بضم النون والياء والراء . والرعاء : اسم جمع كالرخال والثناء . وأما الرعاء بالكسر فقياس ، كصيام وقيام { كَبِيرٌ } كبير السن { فسقى لَهُمَا } فسقى غنمهما لأجلهما . وروي أن الرعاة كانوا يضعون على رأس البئر حجراً لا يقله إلا سبعة رجال . وقيل : عشرة . وقيل : أربعون . وقيل : مائة ، فأقله وحده . وروي أنه سألهم دلواً من ماء فأعطوه دلوهم وقالوا : استق بها ، وكانت لا ينزعها إلا أربعون ، فاستقى بها وصبها في الحوض ودعا بالبركة ، وروىغنمهما وأصدرهما وروي أنه دفعهم عن الماء حتى سقى لهما . وقيل : كانت بئراً أخرى عليها الصخرة . وإنما فعل هذا رغبة في المعروف وإغاثة للملهوف . والمعنى : أنه وصل إلى ذلك الماء وقد ازدحمت عليه أمّة من أناس مختلفة متكاثفة العدد ، ورأى الضعيفتين من ورائهم مع غنيمتهما مترقبتين لفراغهم ، فما أخطأت همته في دين الله تلك الفرصة ، مع ما كان به من النصب وسقوط خف القدم والجوع ، ولكنه رحمهما فأغاثهما ، وكفاهما أمر السقي في مثل تلك الزحمة بقوّة قلبه وقوّة ساعده ، وما آتاه الله من الفضل في متانة الفطرة ورصانة الجبلة وفيه مع إرادة اقتصاص أمره وما أوتي من البطش والقوّة وما لم يغفل عنه ، على ما كان به من انتهاز فرصة الاحتساب ، ترغيب في الخير ، وانتهاز فرصه ، وبعث على الاقتداء في ذلك بالصالحين والأخذ بسيرهم ومذاهبهم . فإن قلت : لم ترك المفعول غير مذكور في قوله : { يَسْقُوْنَ } و { تَذُودَانِ } و { نَسْقِى } ؟ قلت : لأن الغرض هو الفعل لا المفعول . ألا ترى أنه إنما رحمهما لأنهما كانتا على الذياد وهم على السقي . ولم يرحمها لأن مذودهما غنم ومسقيهم إبل مثلاً ، وكذلك قولهما { لاَ نَسْقِى حتى يُصْدِرَ الرعاء } المقصود فيه السقي لا المسقي . فإن قلت : كيف طابق جوابهما سؤاله قلت : سألهما عن سبب الذود فقالتا : السبب في ذلك أنا امرأتان ضعيفتان مستورتان لا نقدر على مساجلة الرجال ومزاحمتهم ، فلا بد لنا من تأخير السقي إلى أن يفرغوا ، وما لنا رجل يقوم بذلك ، وأبونا شيخ قد أضعفه الكبر فلا يصلح للقيام به : أبلتا إليه عذرهما في توليهما السقي بأنفسهما .

فإن قلت : كيف ساغ لنبيّ الله الذي هو شعيب عليه السلام أن يرضى لابنتيه بسقي الماشية؟ قلت : الأمر في نفسه ليس بمحظور ، فالدين لا يأباه . وأما المروءة ، فالناس مختلفون في ذلك ، والعادات متباينة فيه ، وأحوال العرب فيه خلاف أحوال العجم ، ومذهب أهل البدو فيه غير مذهب أهل الحضر ، خصوصاً إذاكانت الحالة حالة ضرورة { إِنّى } لأي شيء { أَنزَلْتَ إِلَىَّ } قليل أو كثير ، غث أو سمين ل { فَقِيرٌ } وإنما عُدي فقير باللام؛ لأنه ضمن معنى سائل وطالب . قيل : ذكر ذلك وإن خضرة البقل يتراءى في بطنه من الهزال ، ما سأل الله إلا أكلة . ويحتمل أن يريد : إني فقير من الدنيا لأجل ما أنزلت إليّ من خير الدين وهو النجاة من الظالمين . لأنه كان عند فرعون في ملك وثروة : قال ذلك رضا بالبدل السني ، وفرحا به ، وشكراً له ، وكان الظل ظل سمرة { عَلَى استحياء } في موضع الحال ، أي : مستحيية متخفرة وقيل . قد استترت بكم درعها . روي أنهما لما رجعتا إلى أبيهما قبل الناس وأغنامهما حفل بطان قال لهما : ما أعجلكما؟ قالتا : وجدنا رجلاً صالحاً رحمنا فسقى لنا ، فقال لإحداهما : اذهبي فادعيه لي ، فتبعها موسى فألزقت الريح ثوبها بجسدها فوصفته ، فقال لها : امشي خلفي وانعتي لي الطريق ، فلما قص عليه قصته قال له . لا تخف فلا سلطان لفرعون بأرضنا . فإن قلت : كيف ساغ لموسى أن يعمل بقول امرأة ، وأن يمشي معها وهي أجنبيه؟ قلت : أما العمل بقول امرأة فكما يعمل بقول الواحد حرّاً كان أو عبداً ذكراً كان أو أنثى في الأخبار ، وما كانت إلا مخبرة عن أبيها بأنه يدعوه ليجزيه . وأما مماشاته امرأة أجنبية فلا بأس بها في نظائر تلك الحال ، مع ذلك الاحتياط والتورّع . فإن قلت : كيف صح له أخذ الأجر على البرّ والمعروف؟ قلت : يجوز أن يكون قد فعل ذلك لوجه الله وعلى سبيل البر والمعروف . وقيل إطعام شعيب وإحسانه لا على سبيل أخذ الأجر ، ولكن على سبيل التقبل لمعروف مبتدإ . كيف وقد قص عليه قصصه وعرفه أنه من بيت النبوّة من أولاد يعقوب؟ ومثله حقيق بأن يضيَّف ويكرم خصوصاً في دار نبيّ من أنبياء الله ، وليس بمنكر أن يفعل ذلك لاضطرار الفقر والفاقة طلباً للأجر . وقد روي ما يعضد كلا القولين : روي أنها لما قالت : ليجزيك ، كره ذلك ، ولما قدّم إليه الطعام امتنع وقال : إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بطلاع الأرض ذهباً ، ولا نأخذ على المعروف ثمناً ، حتى قال شعيب : هذه عادتنا مع كل من ينزل بنا .

وعن عطاء ابن السائب : رفع صوته بدعائه ليسمعهما ، فلذلك قيل له : ليجزيك أجر ما سقيت ، أي؛ جزاء سقيك . والقصص : مصدر كالعلل ، سمي به المقصوص . كبراهما : كانت تسمى صفراء ، والصغرى : صفيراء . وصفراء : هي التي ذهبت به وطلبت إلى أبيها أن يستأجره ، وهي التي تزوجها . وعن ابن عباس : أن شعيبا أحفظته الغيرة فقال : وما علمك بقوّته وأمانته؟ فذكرت إقلال الحجر ونزع الدلو ، وأنه صوّب رأسه حين بلغته رسالته وأمرها بالمشي خلفه . وقولها : { إِنَّ خَيْرَ مَنِ استجرت القوى الامين } كلام حكيم جامع لا يزاد عليه ، لأنه إذا اجتمعت هاتان الخصلتان؛ أعني الكفاية والأمانة في القائم بأمرك فقد فرغ بالك وتم مرادك؛ وقد استغنت بإرسال هذا الكلام الذي سياقه سياق المثل ، والحكمة أن تقول استأجره لقوّته وأمانته . فإن قلت : كيف جعل خير من استأجرت اسماً لإنّ والقوي الأمين خبراً؟ قلت : هو مثل قوله :

أَلاَ إِنَّ خَيْرَ النَّاسِ حَيًّا وَهَالِكَا ... أَسِيرُ ثَقِيفٍ عِنْدَهُمْ فِي السَّلاَسِلِ

في أن العناية هي سبب التقديم ، وقد صدقت حتى جعل لها ما هو أحق بأن يكون خبراً اسماً ، وورود الفعل بلفظ الماضي للدلالة على أنه أمر قد جرب وعرف . ومنه قولهم : أهون ما أعملت لسان ممخ . وعن ابن مسعود رضي الله عنه : أفرس الناس ثلاثة : بنت شعيب ، وصاحب يوسف ، في قوله : { عسى أَن يَنفَعَنَا } [ يوسف : 21 ] وأبو بكر في عمر . روي أنه أنكحه صفراء . وقوله : { هَاتَيْنِ } فيه دليل على أنه كانت له غيرهما { تَأْجُرَنِى } من أجرته إذا كنت له أجيراً ، كقولك : أبوته إذا كنت له أبا ، و { ثَمَانِىَ حِجَجٍ } ظرفه . أو من أجرته كذا ، إذا أثبته إياه . ومنه : تعزية رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( 812 ) « أجرَكم اللَّهُ ورحمكم » وثماني حجج : مفعول به ، ومعناه : رعية ثماني حجج فإن قلت : كيف صح أن ينكحه إحدى ابنتيه من غير تمييز؟ قلت : لم يكن ذلك عقداً للنكاح ، ولكن مواعدة ومواصفة أمر قد عزم عليه ، ولو كان عقداً لقال : قد أنكحتك ولم يقل : إني أريد أن أنكحك . فإن قلت : فكيف صح أن يمهرها إجارة نفسه في رعية الغنم ، ولا بد من تسليم ما هو مال؟ ألا ترى إلى أبي حنيفة كيف منع أن يتزوج امرأة بأن يخدمها سنة وجوّز أن يتزوجها بأن يخدمها عبده سنة ، أو يسكنها داره سنة ، لأنه في الأول : مسلم نفسه وليس بمال ، وفي الثاني : هو مسلم مالاً وهو العبد أو الدار ، قلت : الأمر على مذهب أبي حنيفة على ما ذكرت . وأما الشافعي : فقد جوّز التزوّج على الإجارة لبعض الأعمال والخدمة ، إذا كان المستأجر له أو المخدوم فيه أمراً معلوماً ، ولعلّ ذلك كان جائزاً في تلك الشريعة . ويجوز أن يكون المهر شيئاً آخر ، وإنما أراد أن يكون راعي غنمه هذه المدّة ، وأراد أن ينكحه ابنته ، فذكر له المرادين ، وعلق الإنكاح بالرعية على معنى : إني أفعل هذا إذا فعلت ذاك على وجه المعاهدة لا على وجه المعاقدة .

ويجوز أن يستأجره لرعية ثماني سنين بمبلغ معلوم ويوفيه إياه ، ثم ينكحه ابنته به ، ويجعل قوله : { على أَن تَأْجُرَنِى ثَمَانِىَ حِجَجٍ } عبارة عما جرى بينهما { فَإِنْ أَتْمَمْتَ } عمل عشر حجج { فَمِنْ عِندِكَ } فإتمامه من عندك . ومعناه : فهو من عندك لا من عندي ، يعني : لا ألزمكه ولا أحتمه عليك ، ولكنك إن فعلته فهو منك تفضل وتبرع ، وإلا فلا عليك { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ } بإلزام أتمّ الأجلين وإيجابه . فإن قلت : ما حقيقة قولهم : شققت عليه ، وشق عليه الأمر؟ قلت : حقيقته أن الأمر إذا تعاظمك فكأنه شق عليك ظنك باثنين ، تقول تارة : أطيقه ، وتارة : لا أطيقه . أو وعده المساهلة والمسامحة من نفسه ، وأنه لا يشق عليه فيما استأجره له من رعي غنمه ، ولا يفعل نحو ما يفعل المعاسرون من المسترعين ، من المناقشة في مراعاة الأوقات ، والمداقة في استيفاء الأعمال ، وتكليف الرعاة أشغالاً خارجة عن حدّ الشرط ، وهكذا كان الأنبياء عليهم السلام آخذين بالأسمح في معاملات الناس . ومنه الحديث :

( 813 ) « كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم شريكي ، فكان خير شريك لا يداري ولا يشاري ولا يماري » وقوله : { سَتَجِدُنِى إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصالحين } يدل على ذلك ، يريد بالصلاح : حسن المعاملة ووطأة الخلق ولين الجانب . ويجوز أن يريد الصلاح على العموم . ويدخل تحته حسن المعاملة ، والمراد باشتراط مشيئة الله بما وعد من الصلاح : الاتكال على توفيقه فيه ومعونته ، لا أنه يستعمل الصلاح إن شاء الله ، وإن شاء استعمل خلافه { ذلك } مبتدأ ، و { بَيْنِى وَبَيْنَكَ } خبره ، وهو إشارة إلى ما عاهده عليه شعيب ، يريد . ذلك الذي قلته وعاهدتني فيه وشارطتني عليه قائم بيننا جميعاً ، لا نخرج كلانا عنه ، لا أنا عما شرطت عليّ ولا أنت عما شرطت على نفسك . ثم قال : أي أجل من الأجلين قضيت : أطولهما الذي هو العشر ، أو أقصرهما الذي هو الثمان { فَلاَ عُدْوَانَ عَلَىَّ } أي لا يعتدي عليّ في طلب الزيادة عليه . فإن قلت : تصوّر العدوان إنما هو في أحد الأجلين الذي هو الأقصر وهو المطالبة بتتمة العشر ، فما معنى تعليق العدوان بهما جميعاً؟ قلت : معناه كما أني إن طولبت بالزيادة على العشر كان عدواناً لا شك فيه ، فكذلك إن طولبت بالزيادة على الثمان . أراد بذلك تقرير أمر الخيار ، وأنه ثابت مستقرّ ، وأن الأجلين على السواء : إما هذا وإما هذا من غير تفاوت بينهما في القضاء وأما التتمة فموكولة إلى رأيي : إن شئت أتيت بها ، وإلا لم أجبر عليها .

وقيل : معناه فلا أكون متعدّياً ، وهو في نفي العدوان عن نفسه ، كقولك : لا إثم عليّ ، ولا تبعة عليّ . وفي قراءة ابن مسعود : أي الأجلين ما قضيت . وقرىء : «أيما» بسكون الياء ، كقوله :

تنَظَّرْتُ نَصْراً وَالسِّمَاكَيْنِ أَيْهُمَا ... عَلَيَّ مِنَ الْغَيْثِ اسْتُهِلَّتْ مَوَاطِرُهْ

وعن ابن قطيب : عدوان ، بالكسر . فإن قلت : ما الفرق بين موقعي ( ما ) المزيدة في القراءتين؟ قلت : وقعت في المستفيضة مؤكدة لإبهام ، أيّ : زائدة في شياعها : وفي الشاذة تأكيداً للقضاء ، كأنه قال : أي الأجلين صممت على قضائه وجردت عزيمتي له . الوكيل : الذي وكل إليه الأمر ، ولما استعمل في موضع الشاهد والمهيمن والمقيت ، عدي بعلى لذلك . روي أنّ شعيباً كانت عنده عصى الأنبياء فقال لموسى بالليل : ادخل ذلك البيت فخذ عصا من تلك العصي . فأخذ عصا هبط بها آدم من الجنة ، ولم يزل الأنبياء يتوارثونها حتى وقعت إلى شعيب ، فمسها وكان مكفوفاً ، فضنّ بها فقال : غيرها ، فما وقع في يده إلا هي سبع مرات ، فعلم أنّ له شأناً . وقيل : أخذها جبريل بعد موت آدم فكانت معه حتى لقي بها موسى ليلاً . وقيل : أودعها شعيباً ملك في صورة رجل ، فأمر بنته أن تأتيه بعصا ، فأتته بها فردها سبع مرّات فلم يقع في يدها غيرها ، فدفعها إليه ثم ندم لأنها وديعة ، فتبعه فاختصما فيها ، ورضيا أن يحكم بينهما أوّل طالع ، فأتاهما الملك فقال : ألقياها فمن رفعها فهي له ، فعالجها الشيخ فلم يطقها؛ ورفعها موسى . وعن الحسن : ما كانت إلا عصا من الشجر اعترضها اعتراضاً . وعن الكلبي : الشجرة التي منها نودي شجرة العوسج ، ومنها كانت عصاه . ولما أصبح قال له شعيب : إذا بلغت مفرق الطريق فلا تأخذ على يمينك ، فإنّ الكلأ وإن كان بها أكثر ، إلا أنّ فيها تنيناً أخشاه عليك وعلى الغنم ، فأخذت الغنم ذات اليمين ولم يقدر على كفها ، فمشى على أثرها فإذا عشب وريف لم ير مثله ، فنام فإذا بالتنين قد أقبل ، فحاربته العصا حتى قتلته وعادت إلى جنب موسى دامية ، فلما أبصرها دامية والتنين مقتولاً أرتاح لذلك ، ولما رجع إلى شعيب مسّ الغنم ، فوجدها ملأى البطون غزيرة اللبن ، فأخبره موسى ففرح وعلم أنّ لموسى والعصا شأنا ، وقال له : إني وهبت لك من نتاج غنمي هذا العام كلّ أدرع ودرعاء ، فأوحى إليه في المنام : أن أضرب بعصاك مستقى الغنم ، ففعل؛ ثم سقى فما أخطأت واحدة إلا وضعت أدرع ودرعاء ، فوفى له بشرطه .

فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)

( 814 ) سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيُّ الأجلَينِ قضَى موسَى؟ فقال : « أبعدهما وأبطأهما » وروي أنه قال :

( 815 ) « قَضى أوفَاهُما ، وتزوّج صغرَاهُما » وهذا خلاف الرواية التي سبقت . الجذوة باللغات الثلاث . وقرىء بهنّ جميعاً : العود الغليظ ، كانت في رأسه نار أو لم تكن ، قال كُثَيِّرُ :

بَاتَتْ حَوَاطِبُ لَيْلَى يَلْتَمِسْنَ لَهَا ... جَزْلَ الْجُذَى غَيْرَ خَوَّارٍ وَلاَ دَعِرِ

وقال :

وَأَلْقَى عَلَى قَبْشٍ مِنَ النَّارِ جَذْوَةً ... شَدِيداً عَلَيْهِ حَرُّهَا وَالْتِهَابُهَا

{ مِن } الأولى والثانية لابتداء الغاية ، أي : أتاه النداء من شاطىء الوادي من قبل الشجرة . و { مِنَ الشجرة } بدل من قوله : من شاطىء الوادي ، بدل الاشتمال؛ لأنّ الشجرة كانت نابتة على الشاطىء ، كقوله تعالى : { لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ } [ الزخرف : 33 ] وقرىء : { البقعة } بالضم والفتح . و { الرهب } بفتحتين ، وضمتين ، وفتح وسكون ، وضم وسكون : وهو الخوف . فإن قلت : ما معنى قوله : { واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب } ؟ قلت : فيه معنيان ، أحدهما : أنّ موسى عليه السلام لما قلب الله العصا حية : فزع واضطرب ، فاتقاها بيده كما يفعل الخائف من الشيء ، فقيل له : إنّ إتقاءك بيدك فيه غضاضة عند الأعداء . فإذا ألقيتها فكما تنقلب حية ، فأدخل يدك تحت عضدك مكان اتقائك بها ، ثم أخرجها بيضاء ليحصل الأمران : اجتناب ما هو غضاضة عليك ، وإظهار معجزة أخرى . والمراد بالجناح : اليد؛ لأنّ يدي الإنسان بمنزلة جناحي الطائر . وإذا أدخل يده اليمنى تحت عضد يده اليسرى ، فقد ضمّ جناحه إليه . والثاني : أن يراد بضم جناحه إليه : تجلده وضبطه نفسه . وتشدّده عند انقلاب العصا حية حتى لا يضطرب ولا يرهب ، استعارة من فعل الطائر؛ لأنه إذا خاف نشر جناحيه وأرخاهما . وإلا فجناحاه مضمومتان إليه مشمران . ومنه ما يحكى عن عمر بن عبد العزيز أنّ كاتباً له كان يكتب بين يديه ، فانفلتت منه فلتة ريح ، فخجل وانكسر ، فقام وضرب بقلمه الأرض ، فقال له عمر : خذ قلمك ، واضمم إليك جناحك ، وليفرخ روعك ، فإني ما سمعتها من أحد أكثر مما سمعتها من نفسي . ومعنى قوله : ( من الرهب ) من أجل الرهب ، أي : إذا أصابك الرهب عند رؤية الحية فاضمم إليك جناحك : جعل الرهب الذي كان يصيبه سبباً وعلة فيما أمر به من ضم جناحه إليه . ومعنى : { واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ } ، وقوله : { اسلك يَدَكَ فِى جَيْبِكَ } على أحد التفسيرين : واحد . ولكن خولف بين العبارتين ، وإنما كرّر المعنى الواحد لاختلاف الغرضين ، وذلك أن الغرض في أحدهما خروج اليد بيضاء وفي الثاني : إخفاء الرهب . فإن قلت قد جعل الجناح وهو اليد في أحد الموضعين مضموماً وفي الآخر مضموماً إليه ، وذلك قوله : { واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ } وقوله :

{ واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ } [ طه : 22 ] فما التوفيق بينهما؟ قلت : المراد بالجناح المضموم . هو اليد اليمنى ، وبالمضموم إليه : اليد اليسرى وكلّ واحدة من يمنى اليدين ويسراهما : جناح . ومن بدع التفاسير : أنّ الرهب : الكم ، بلغة حمير وأنهم يقولون : أعطني مما في رهبك ، وليت شعري كيف صحته في اللغة؟ وهل سمع من الأثبات الثقات الذين ترتضي عربيتهم؟ ثم ليت شعري كيف موقعه في الآية؟ وكيف تطبيقه المفصل كسائر كلمات التنزيل؟ على أن موسى عليه السلام ما كان عليه ليلة المناجاة إلا زرمانقة من صوف لا كمي لها { فَذَانِكَ } قرىء مخففاً ومشدّداً ، فالمخفف مثنى ذاك . والمشدّد مثنى ذلك ، { برهانان } حجتان بينتان نيرتان . فإن قلت : لم سميت الحجة برهانا؟ قلت : لبياضها وإنارتها من قولهم للمرأة البيضاء . برهرهة ، بتكرير العين واللام معا . والدليل على زيادة النون قولهم : أبره الرجل ، إذا جاء بالبرهان . ونظيره تسميتهم إياها سلطاناً من السليط وهو الزيت ، لإنارتها .

قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34)

يقال : ردأته : أعنته . والردء : اسم ما يعان به ، فعل بمعنى مفعول كما أن الدفء اسم لما يدفأ به . قال سلامة بن جندل :

وَرِدْئي كُلُّ أبْيَضَ مَشْرَفِيٍّ ... شَحِيذِ الْحَدِّ عَضْبٍ ذِي فُلُولِ

وقرىء : «رداً» على التخفيف ، كما قرىء «الخب» { رِدْءاً يُصَدّقُنِى } بالرفع والجزم صفة وجواب ، ونحو { وَلِيّاً يَرِثُنِى } سواء . فإن قلت : تصديق أخيه ما الفائدة فيه؟ قلت : ليس الغرض بتصديقه أن يقول له : صدقت ، أو يقول للناس : صدق موسى ، وإنما هو أن يلخص بلسانه الحق ، ويبسط القول فيه ، ويجادل به الكفار ، كما يفعل الرجل المنطيق ذو العارضة ، فذلك جار مجرى التصديق المفيد ، كما يصدّق القول بالبرهان . ألا ترى إلى قوله : «وَأَخِى هَرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنّى لِسَاناً فَأَرْسِلْهِ مَعِىَ » ، وفضل الفصاحة إنما يحتاج إليه لذلك ، لا لقوله : صدقت ، فإنّ سحبان وباقلا يستويان فيه ، أو يصل جناح كلامه بالبيان ، حتى يصدّقه الذي يخاف تكذيبه ، فأسند التصديق إلى هرون ، لأنه السبب فيه إسناداً مجازياً . ومعنى الإسناد المجازي : أن التصديق حقيقة في المصدّق ، فإسناده إليه حقيقة وليس في السبب تصديق ، ولكن استعير له الإسناد لأنه لابس التصديق بالتسبب كما لابسه الفاعل بالمباشرة . والدليل على هذا الوجه قوله : { إِنّى أَخَافُ أَن يُكَذّبُونِ } وقراءة من قرأ : «ردءا يصدقوني» . وفيها تقوية للقراءة بجزم يصدقني .

قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35)

العضد : قوام اليد ، وبشدّتها تشتد . قال طرفة :

أَبَنِي لُبَينَى لَسْتُمُو بِيَدٍ ... إِلاَّ يَداً لَيْسَتْ لَهَا عَضُدُ

ويقال في دعاء الخير : شدّ الله عضدك . وفي ضده؛ فت الله في عضدك . ومعنى { سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ } سنقويك به ونعينك ، فإمّا أن يكون ذلك لأن اليد تشتد بشدة العضد . والجملة تقوى بشدة اليد على مزاولة الأمور . وإمّا لأنّ الرجل شبة باليد في اشتدادها باشتداد العضد ، فجعل كأنه يد مشتدة بعضد شديدة { سلطانا } غلبة وتسلطا . أو حجة واضحة { بأاياتنآ } متعلق بنحو ما تعلق به في تسع آيات ، أي اذهبا بآياتنا . أو بنجعل لكما سلطانا ، أي : نسلطكما بآياتنا . أو بلا يصلون ، أي : تمتنعون منهم بآياتنا . أو هو بيان للغالبون لا صلة ، لامتناع تقدم الصلة على الموصول . ولو تأخر : لم يكن إلا صله له . ويجوز أن يكون قسماً جوابه : لا يصلون ، مقدماً عليه . أو من لغو القسم .

فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36)

{ سِحْرٌ مُّفْتَرًى } سحر تعمله أنت ثم تفتريه على الله . أو سحر ظاهر افتراؤه . أو موصوف بالافتراء كسائر أنواع السحر وليس بمعجزة من عند الله { وفي آياتنا } حال منصوبة عن هذا ، أي : كائناً في زمانهم وأيامهم ، يريد : ما حدثنا بكونه فيهم ، ولا يخلو من أن يكونوا كاذبين في ذلك ، وقد سمعوا وعلموا بنحوه . أو يريدوا أنهم لم يسمعوا بمثله في فظاعته . أو ما كان الكهان يخبرون بظهور موسى ومجيئه بما جاء به . وهذا دليل على أنهم حجوا وبهتوا ، وما وجدوا ما يدفعون به ما جاءهم من الآيات إلا قولهم هذا سحر وبدعة لم يسمعوا بمثلها .

وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37)

يقول : { ربى أَعْلَمُ } منكم بحال من أهله الله للفلاح الأعظم ، حيث جعله نبياً وبعثه بالهدى ، ووعده حسن العقبى : يعني نفسه ، ولو كان كما تزعمون كاذباً ساحراً مفترياً لما أهله لذلك ، لأنه غني حكيم لا يرسل الكاذبين ، ولا ينبىء الساحرين ، ولا يفلح عنده الظالمون . و { عاقبة الدار } هي العاقبة المحمودة . والدليل عليه قوله تعالى : { أُوْلَئِكَ لَهُمْ عقبى الدار جنات عَدْنٍ } [ الرعد : 22-23 ] وقوله : { وَسَيَعْلَمُ الكفار لِمَنْ عُقْبَى الدار } [ الرعد : 42 ] والمراد بالدار : الدنيا ، وعاقبتها وعقباها : أن يختم للعبد بالرحمة والرضوان وتلقي الملائكة بالبشرى عند الموت . فإن قلت : العاقبة المحمودة والمذمومة كلتاهما يصح أن تسمى عاقبة الدار؛ لأنّ الدنيا إمّا أن تكون خاتمتها بخير أو بشر ، فلم اختصت خاتمتها بالخير بهذه التسمية دون خاتمتها بالشر؟ قلت : قد وضع الله سبحانه الدنيا مجازاً إلى الآخرة وأراد بعباده أن لا يعملوا فيها إلا الخير ، وما خلقهم إلا لأجله ليتلقوا خاتمة الخير وعاقبة الصدق ، ومن عمل فيها خلاف ما وضعها الله فقد حرف؛ فإذاً عاقبتها الأصلية هي عاقبة الخير . وأما عاقبة السوء فلا اعتداد بها؛ لأنها من نتائج تحريف الفجار . وقرأ ابن كثير : «قال موسى» بغير واو ، على ما في مصاحف أهل مكة ، وهي قراءة حسنة؛ لأنّ الموضع موضع سؤال وبحث عما أجابهم به موسى عليه السلام عند تسميتهم مثل تلك الآيات الباهرة : سحراً مفترى . ووجه الأخرى : أنهم قالوا ذلك . وقال موسى عليه السلام هذا ، ليوازن الناظر بين القول والمقول ، ويتبصر فساد أحدهما وصحة الآخر :

وَبِضِدِّهَا تَتَبَيَّنُ الأشْيَاءُ ... وقرىء : «تكون» ، بالياء والتاء .

وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)

روى أنه لما أمر ببناء الصرح ، جمع هامان العمال حتى اجتمع خمسون ألف بناء سوى الأتباع والأجراء ، وأمر بطبخ الآجر والجص ونجر الخشب وضرب المسامير ، فشيدوه حتى بلغ ما لم يبلغه بنيان أحد من الخلق ، فكان الباني لا يقدر أن يقف على رأسه يبني ، فبعث الله تعالى جبريل عليه السلام عند غروب الشمس ، فضربه بجناحه فقطعه ثلاث قطع : وقعت قطعة على عسكر فرعون فقتلت ألف ألف رجل ، ووقعت قطعة في البحر وقطعة في المغرب ، ولم يبق أحد من عماله إلا قد هلك . ويروى في هذه القصة : أنّ فرعون ارتقى فوقه فرمى بنشابة نحو السماء ، فأراد الله أن يفتنهم فردّت إليه وهي ملطوخة بالدم؛ فقال : قد قتلت إله موسى ، فعندها بعث الله جبريل عليه السلام لهدمه ، والله أعلم بصحته . قصد بنفي علمه بإله غيره : نفي وجوده ، معناه : { مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرِى } [ الأعراف : 59 ] كما قال الله تعالى : { قُلْ أَتُنَبّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى السموات وَلاَ فِى الارض } [ يونس : 18 ] معناه بما ليس فيهن ، وذلك لأنّ العلم تابع للمعلوم لا يتعلق به إلا على ما هو عليه ، فإذا كان الشيء معدوماً لم يتعلق به موجود ، فمن ثمة كان انتفاء العلم بوجوده لا انتفاء وجوده . وعبر عن انتفاء وجوده بانتفاء العلم بوجوده . ويجوز أن يكون على ظاهره ، وأنّ إلها غيره غير معلوم عنده ، ولكنه مظنون بدليل قوله : { وَإِنّى لاظُنُّهُ مِنَ الكاذبين } ، وإذا ظنّ موسى عليه السلام كاذباً في إثباته إلهاً غيره ولم يعلمه كاذباً ، فقد ظنّ أن في الوجود إلهاً غيره ، ولو لم يكن المخذول ظاناً ظناً كاليقين ، بل عالماً بصحة قول موسى عليه السلام لقول موسى له : { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السموات والأرض بَصَائِرَ } [ الإسراء : 102 ] لما تكلف ذلك البنيان العظيم ، ولما تعب في بنائه ما تعب ، لعله يطلع بزعمه إلى إله موسى عليه السلام ، وإن كان جاهلاً مفرط الجهل به وبصفاته ، حيث حسب أنه في مكان كما كان هو في مكان ، وأنه يطلع إليه كما كان يطلع إليه إذا قعد في عليته ، وأنه ملك السماء كما أنه ملك الأرض . ولا ترى بينة أثبت شهادة على إفراط جهله وغباوته وجهل ملئه وغباوتهم : من أنهم راموا نيل أسباب السموات بصرح يبنونه ، وليت شعري؛ أكان يلبس على أهل بلاده ويضحك من عقولهم ، حيث صادفهم أغبى الناس وأخلاهم من الفطن وأشبههم بالبهائم بذلك؟ أم كان في نفسه بتلك الصفة؟ وإن صحّ ما حكى من رجوع النشابة إليه ملطوخة بالدم ، فتهكم به بالفعل ، كما جاء التهكم بالقول في غير موضع من كتاب الله بنظرائه من الكفرة . ويجوز أن يفسر الظن على القول الأوّل باليقين ، كقوله :

فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنُّوا بِأَلفِيْ مُدَجَّجِ ... ويكون بناء الصرح مناقضة لما ادعاه من العلم واليقين ، وقد خفيت على قومه لغباوتهم وبلههم . أولم تخف عليهم ، ولكن كلا كان يخاف على نفسه سوطه ، وسيفه ، وإنما قال : { فَأَوْقِدْ لِى ياهامان عَلَى الطين } ولم يقل : اطبخ لي الآجر واتخذه ، لأنه أوّل من عمل الآجر ، فهو يعلمه الصنعة ، ولأن هذه العبارة أحسن طباقاً لفصاحة القرآن وعلوّ طبقته وأشبه بكلام الجبابرة . وأمر هامان وهو وزيره ورديفه بالإيقاد على الطين منادى باسمه بيا في وسط الكلام . دليل التعظيم والتجبر . وعن عمر رضي الله عنه أنه حين سافر إلى الشام ورأى القصور المشيدة بالآجر فقال : ما علمت أن أحداً بنى بالآجر غير فرعون . والطلوع والإطلاع : الصعود . يقال : طلع الجبل وأطلع : بمعنى .

وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40)

الاستكبار بالحق : إنما هو لله تعالى ، وهو المتكبر على الحقيقة ، أي : المتبالغ في كبرياء الشأن . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما حكى عن ربه :

( 816 ) « الكبرياء ردائي والعظمةُ إزاري ، فمن نازعني واحداً منهما ألقيتُه في النار » وكلُ مستكبر سواه فاستكباره بغير الحق { يَرْجَعُونَ } بالضم والفتح { فأخذناه وَجُنُودَهُ فنبذناهم فِى اليم } من الكلام الفخم الذي دل به على عظمة شأنه وكبرياء سلطانه . شبههم استحقاراً لهم واستقلالاً لعددهم ، وإن كانوا الكثر الكثير والجم الغفير ، بحصيات أخذهنّ آخذ في كفه فطرحهنّ في البحر . ونحو ذلك قوله : { وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ شامخات } [ المرسلات : 27 ] ، { وَحُمِلَتِ الأرض والجبال فَدُكَّتَا دَكَّةً واحدة } [ الحاقة : 14 ] ، { وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ والارض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مطويات بِيَمِينِهِ } [ الزمر : 67 ] وما هي إلا تصويرات وتمثيلات لاقتداره ، وأن كل مقدور وإن عظم وجل ، فهو مستصغر إلى جنب قدرته .

وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)

فإن قلت : ما معنى قوله : { وجعلناهم أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النار } ؟ قلت : معناه : ودعوناهم أئمة دعاة إلى النار ، وقلنا : إنهم أئمة دعاة إلى النار ، كما يدعي خلفاء الحق أئمة دعاة إلى الجنة . وهو من قولك : جعله بخيلاً وفاسقاً ، إذا دعاه وقال : إنه بخيل وفاسق . ويقول أهل اللغة في تفسير فسقه وبخله : جعله بخيلاً وفاسقاً . ومنه قوله تعالى : { وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إناثا } [ الزخرف : 19 ] ومعنى دعوتهم إلى النار : دعوتهم إلى موجباتها من الكفر والمعاصي { وَيَوْمَ القيامة لاَ يُنصَرُونَ } كما ينصر الأئمة الدعاة إلى الجنة . ويجوز : خذلناهم حتى كانوا أئمة الكفر . ومعنى الخذلان : منع الألطاف ، وإنما يمنعها من علم أنها لا تنفع فيه ، وهو المصمم على الكفر الذي لا تغني عنه الآيات والنذر ، ومجراه مجرى الكناية؛ لأنّ منع الألطاف يردف التصميم ، والغرض بذكره : التصميم نفسه ، فكأنه قيل : صمموا على الكفر حتى كانوا أئمة فيه دعاة إليه وإلى سوء عاقبته . فإن قلت : فأي فائدة في ترك المردوف إلى الرادفة؟ قلت : ذكر الرادفة يدل على وجود المردوف فيعلم وجود المردوف مع الدليل الشاهد بوجوده ، فيكون أقوى لإثباته من ذكره . ألا ترى أنك تقول : لولا أنه مصمم على الكفر مقطوع أمره مثبوت حكمه لما منعت منه الألطاف ، فبذكر منع الألطاف يحصل العلم بوجود التصميم على الكفر وزيادة ، وهو قيام الحجة على وجوده . وينصر هذا الوجه قوله : { وَيَوْمَ القيامة لاَ يُنصَرُونَ } كأنه قيل : وخذلناهم في الدنيا وهم يوم القيامة مخذولون ، كما قال : { وأتبعناهم فِى هَذِهِ الدنيا لَعْنَةً } أي طرداً وإبعاداً عن الرحمة { وَيَوْمَ القيامة هُمْ مِّنَ المقبوحين } أي من المطرودين المبعدين .

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)

{ بَصَائِرَ } نصب على الحال . والبصيرة : نور القلب الذي يستبصر به ، كما أن البصر نور العين الذي تبصر به ، يريد : آتيناه التوراة أنواراً للقلوب ، لأنها كانت عمياء لا تستبصر ولا تعرف حقا من باطل . وإرشاداً؛ لأنهم كانوا يخبطون في ضلال { وَرَحْمَةً } لأنهم لو عملوا بها وصلوا إلى نيل الرحمة { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } إرادة أن يتذكروا ، شبهت الإرادة بالترجي فاستعير لها . ويجوز أن يراد به ترجي موسى عليه السلام لتذكرهم ، كقوله تعالى : { لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ } [ طه : 44 ] .

وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44)

{ الغربى } المكان الواقع في شق الغرب ، وهو المكان الذي وقع فيه ميقات موسى عليه السلام من الطور وكتب الله له في الألواح . والأمر المقضي إلى موسى عليه السلام : الوحي الذي أوحى إليه؛ والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : وما كنت حاضراً المكان الذي أوحينا فيه إلى موسى عليه السلام ، ولا كنت { مِنَ } جملة { الشاهدين } للوحي إليه ، أو على الوحي إليه؛ وهم نقباؤه الذين اختارهم للميقات ، حتى تقف من جهة المشاهدة على ما جرى من أمر موسى عليه السلام في ميقاته . وكتبة التوراة له في الألواح ، وغير ذلك .

وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45)

فإن قلت : كيف يتصل قوله : { وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُوناً } بهذا الكلام؟ ومن أي وجه يكون استدراكاً له؟ قلت : اتصاله به وكونه استدراكاً له ، من حيث أن معناه : ولكنا أنشأنا بعد عهد الوحي إلى عهدك قرونا كثيرة { فَتَطَاوَلَ } على آخرهم : وهو القرن الذي أنت فيهم { العمر } أي أمد انقطاع الوحي واندرست العلوم ، فوجب إرسالك إليهم ، فأرسلناك وكسبناك العلم بقصص الأنبياء وقصة موسى عليهم السلام ، كأنه قال : وما كنت شاهداً لموسى وما جرى عليه ، ولكنا أوحينا إليك . فذكر سبب الوحي الذي هو إطالة الفترة؛ ودلّ به على المسبب على عادة الله عز وجل في اختصاراته؛ فإذاً هذا الاستدراك شبيه الاستدراكين بعده { وَمَا كُنتَ ثَاوِياً } أي مقيماً { فِى أَهْلِ مَدْيَنَ } وهم شعيب والمؤمنون به { تَتْلُو عَلَيْهِمْ ءاياتنا } تقرؤها عليهم تعلماً منهم ، يريد : الآيات التي فيها قصة شعيب وقومه ، ولكنا أرسلناك وأخبرناك بها وعلمناكها .

وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46)

{ إِذْ نَادَيْنَا } يريد مناداة موسى عليه السلام ليلة المناجاة وتكليمه ، و { لَكِن } علمناك { رَحْمَةً } وقرىء : «رحمة» ، بالرفع : أي هي رحمة { مَا ءاتاهم } من نذير في زمان الفترة بينك وبين عيسى وهي خمسمائة وخمسون سنة ، ونحوه قوله : { لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ } [ يس : 6 ] .

وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)

{ لَوْلاَ } الأولى امتناعية وجوابها محذوف ، والثاني تحضيضية ، وإحدى الفاءين للعطف ، والأخرى جواب لولا ، لكونها في حكم الأمر ، من قبل أن الأمر باعث على الفعل ، والباعث والمحضض من واد واحد . والمعنى : ولولا أنهم قائلون إذا عوقبوا بما قدّموا من الشرك والمعاصي : هلا أرسلت إلينا رسولاً ، محتجين علينا بذلك : لما أرسلنا إليهم ، يعني : أن إرسال الرسول إليهم إنما هو ليلزموا الحجة ولا يلزموها ، كقوله : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل } [ النساء : 165 ] ، { أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ } [ المائدة : 19 ] ، { لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتِّبِعَ ءاياتك } . فإن قلت : كيف استقام هذا المعنى وقد جعلت العقوبة هي السبب في الإرسال لا القول ، لدخول حرف الامتناع عليها دونه؟ قلت : القول هو المقصود بأن يكون سبباً لإرسال الرسل ، ولكن العقوبة لما كانت هي السبب للقول وكان وجوده بوجودها ، جعلت العقوبة كأنها سبب الإرسال بواسطة القول ، فأدخلت عليها لولا ، وجيء بالقول معطوفاً عليها بالفاء المعطية معنى السببية ، ويؤول معناه إلى قولك : ولولا قولهم هذا إذا أصابتهم مصيبة لما أرسلنا ، ولكن اختيرت هذه الطريقة لنكتة : وهي أنهم لو لم يعاقبوا مثلاً على كفرهم وقد عاينوا ما ألجئوا به إلى العلم اليقين : لم يقولوا : { لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً } وإنما السبب في قولهم هذا هو العقاب لا غير لا التأسف على ما فاتهم من الإيمان بخالقهم . وفي هذا من الشهادة القوية على استحكام كفرهم ورسخوه فيهم ما لا يخفى ، كقوله تعالى : { وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } [ الأنعام : 28 ] . ولما كانت أكثر الأعمال تزاول بالأيدي : جعل كل عمل معبراً عنه باجتراح الأيدي وتقدم الأيدي وإن كان من أعمال القلوب ، وهذا من الاتساع في الكلام وتصيير الأقل تابعاً للأكثر وتغليب الأكثر على الأقل .

فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48)

{ فَلَمَّا جَاءهُمُ الحق } وهو الرسول المصدق بالكتاب المعجز مع سائر المعجزات وقطعت معاذيرهم وسدّ طريق احتجاجهم { قَالُواْ لَوْلا أُوتِىَ مِثْلَ مَا أُوتِىَ موسى } من الكتاب المنزل جملة واحدة ، ومن قلب العصا حية وفلق البحر وغيرهما من الآيات؛ فجاءوا بالاقتراحات المبنية على التعنت والعناد ، كما قالوا : لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك ، وما أشبه ذلك { أَوَ لَمْ يَكْفُرُواْ } يعني أبناء جنسهم ومن مذهبهم مذهبهم وعنادهم عنادهم ، وهم الكفرة في زمن موسى عليه السلام { بِمَا أُوتِىَ موسى } وعن الحسن رحمه الله : قد كان للعرب أصل في أيام موسى عليه السلام ، فمعناه على هذا : أو لم يكفر آباؤهم { قَالُواْ } في موسى وهرون { سِحْرَانِ تظاهرا } أي تعاونا . وقرىء : «إظهاراً» على الإدغام . وسحران . بمعنى : ذوا سحر . أو جعلوهما سحرين مبالغة في وصفهما بالسحر . أو أرادوا نوعان من السحر { بِكُلٍّ } بكل واحد منهما . فإن قلت : بم علقت قوله من قبل في هذا التفسير؟ قلت : ب ( أولم ) يكفروا ، ولي أن أعلقه بأوتي ، فينقلب المعنى إلى أن أهل مكة الذين قالوا هذه المقالة كما كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن فقد كفروا بموسى عليه السلام وبالتوراة ، وقالوا في موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام : ساحران تظاهرا . أو في الكتابين : سحران تظاهرا؛ وذلك حين بعثوا الرهط إلى رؤساء اليهود بالمدينة يسألونهم عن محمد صلى الله عليه وسلم ، فأخبرهم أنه نعته وصفته ، وأنه في كتابهم ، فرجع الرهط إلى قريش فأخبروهم بقول اليهود ، فقالوا عند ذلك : ساحران تظاهرا .

قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49)

{ هُوَ أهدى مِنْهُمَا } مما أنزل على موسى عليه السلام ومما أنزل عليّ . هذا الشرط من نحو ما ذكرت أنه شرط المدل بالأمر المتحقق لصحته؛ لأنّ امتناع الإتيان بكتاب أهدى من الكتابين أمر معلوم متحقق لا مجال فيه للشكّ . ويجوز أن يقصد بحرف الشكّ : التهكم بهم .

فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)

فإن قلت : ما الفرق بين فعل الاستجابة في الآية ، وبينه في قوله :

فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ ... حيث عدّى بغير اللام؟ قلت : هذا الفعل يتعدّى إلى الدعاء بنفسه وإلى الداعي باللام ، ويحذف الدعاء إذا عدّي إلى الداعي في الغالب ، فيقال؛ استجاب الله دعاءه أو استجابة له ، ولا يكاد يقال : استجاب له دعاءه . وأما البيت فمعناه : فلم يستجب دعاءه ، على حذف المضاف . فإن قلت : فالاستجابة تقتضي دعاء ولا دعاء ههنا . قلت : قوله فأتوا بكتاب أمر بالإتيان والأمر بعث على الفعل ودعاء إليه ، فكأنه قال : فإن لم يستجيبوا دعاءك إلى الإتيان بالكتاب الأهدى ، فاعلم أنهم قد ألزموا ولم تبق لهم حجة إلا اتباع الهوى ، ثم قال : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ } لا يتبع في دينه إلا { هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ الله } أي مطبوعاً على قلبه ممنوع الألطاف { إِنَّ الله لاَ يَهْدِى } أي لا يلطف بالقوم الثابتين على الظلم الذين اللاطف بهم عابث . وقوله بغير هدى في موضع الحال ، يعني مخذولاً مخلى بينه وبين هواه .

وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)

قرىء : { وَصَّلْنَا } بالتشديد والتخفيف . والمعنى : أن القرآن أتاهم متتابعاً متواصلاً ، وعداً ووعيداً ، وقصصاً وعبراً ، ومواعظ ونصائح : إرادة أن يتذكروا فيفلحوا . أو نزل عليهم نزولاً متصلاً بعضه في أثر بعض . كقوله : { وَمَا يَأْتِيهِم مّن ذِكْرٍ مّنَ الرحمن مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ } [ الشعراء : 5 ]

الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52)

نزلت في مؤمني أهل الكتاب وعن رفاعة بن قرظة : نزلت في عشرة أنا أحدهم . وقيل : في أربعين من مسلمي أهل الإنجيل : اثنان وثلاثون جاؤوا مع جعفر من أرض الحبشة ، وثمانية من الشام ، والضمير في { مِن قَبْلِهِ } للقرآن .

وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53)

فإن قلت : أي فرق بين الاستئنافين إنه وإنا؟ قلت : الأوّل تعليل للإيمان به ، لأن كونه حقاً من الله حقيق بأن يؤمن به . والثاني : بيان لقوله : { ءَامَنَّا بِهِ } لأنه يحتمل أن يكون إيماناً قريب العهد وبعيده ، فأخبروا أن إيمانهم به متقادم؛ لأنّ آباءهم القدماء قرؤوا في الكتب الأول ذكره وأبناءهم من بعدهم { مِن قَبْلِهِ } من قبل وجوده ونزوله { مُسْلِمِينَ } كائنين على دين الإسلام؛ لأن الإسلام صفة كل موحد مصدّق للوحي .

أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54)

{ بِمَا صَبَرُواْ } بصبرهم على الإيمان بالتوراة والإيمان بالقرآن . أو بصبرهم على الإيمان بالقرآن قبل نزوله وبعد نزوله . أو بصبرهم على أذى المشركين وأهل الكتاب . ونحوه { يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ } [ الحديد : 28 ] ، { بالحسنة السيئة } بالطاعة المعصية المتقدمة . أو بالحلم الأذى .

وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)

{ سلام عَلَيْكُمْ } توديع ومتاركة . وعن الحسن رضي الله عنه : كلمة حلم من المؤمنين { لاَ نَبْتَغِى الجاهلين } لا نريد مخالطتهم وصحبتهم فإن قلت : من خاطبوا بقولهم { وَلَكُمْ أعمالكم } ؟ قلت : اللاغين الذين دل عليهم قوله : { وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو } .

إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)

{ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ } لا تقدر أن تدخل في الإسلام كل من أحببت أن يدخل فيه من قومك وغيرهم ، لأنك عبد لا تعلم المطبوع على قلبه من غيره { ولكن الله } يدخل في الإسلام { مَن يَشَآءُ } وهو الذي علم أنه غير مطبوع على قلبه ، وأن الألطاف تنفع فيه ، فيقرن به ألطافه حتى تدعوه إلى القبول { وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين } بالقابلين من الذين لا يقبلون . قال الزجاج : أجمع المسلمون أنها نزلت في أبي طالب ، وذلك أن أبا طالب قال عند موته :

( 817 ) يا معشر بني هاشم ، أطيعوا محمداً وصدِّقوه تفلحوا وترشدوا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « تأمرهم بالنصيحة لأنفسهم وتدعها لنفسك » ؟ قال : فما تريد يا ابن أخي؟ قال : « أريد منك كلمة واحدة فإنك في آخر يوم من أيام الدنيا : أن تقول لا إله إلا الله ، أشهد لك بها عند الله » قال : يا ابن أخي ، قد علمت إنك لصادق ، ولكني أكره أن يقال : خرع عند الموت ، ولولا أن تكون عليك وعلى بني أبيك غضاضة ومسبة بعدي ، لقلتها ، ولأقررت بها عينك عند الفراق ، لما أرى من شدّة وجدك ونصيحتك ، ولكني سوف أموت على ملة الأشياخ عبد المطلب وهاشم وعبد مناف .

وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)

قالت قريش ، وقيل : إن القائل الحرث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف : نحن نعلم أنك على الحق ، ولكنا نخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب بذلك وإنما نحن أكلة رأس ، أي : قليلون أن يتخطفونا من أرضنا ، فألقمهم الله الحجر . بأنه مكن لهم في الحرم الذي آمنه بحرمة البيت وآمن قطانه بحرمته ، وكانت العرب في الجاهلية حولهم يتغاورون ويتناحرون ، وهم آمنون في حرمهم لا يخافون ، وبحرمة البيت هُم قارّون بواد غير ذي زرع ، والثمرات والأرزاق تجبى إليهم من كل أوب ، فإذا خولهم الله ما خولهم من الأمن والرزق بحرمة البيت وحدها وهم كفرة عبدة أصنام فكيف يستقيم أن يعرضهم للتخوّف والتخطف ، ويسلبهم الأمن إذا ضموا إلى حرمة البيت حرمة الإسلام وإسناد الأمن إلى أهل الحرم حقيقة ، وإلى الحرم مجاز { يجبى إِلَيْهِ } تجلب وتجمع . قرىء : بالياء والتاء . وقرىء : «تجنى» ، بالنون ، من الجني . وتعديته بإلى كقوله : يجني إليّ فيه ، ويجني إلى الخافة . وثمرات : بضمتين وبضمة وسكون . ومعنى الكلية : الكثرة كقوله : { وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء } [ النمل : 23 ] { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } متعلق بقوله { مِّن لَّدُنَّا } أي قليل منهم يقرون بأنّ ذلك رزق من عند الله ، وأكثرهم جهلة لا يعلمون ذلك ولا يفطنون له ولو علموا أنه من عند الله لعلموا أن الخوف والأمن من عنده . ولما خافوا التخطف إذا آمنوا به وخلعوا أنداده . فإن قلت : بم انتصب رزقاً؟ قلت : إن جعلته مصدراً جاز أن ينتصب بمعنى ما قبله؛ لأنّ معنى { يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَىْءٍ } ويرزق ثمرات كل شيء : واحد ، وأن يكون مفعولاً له . وإن جعلته بمعنى : مرزوق ، كان حالاً من الثمرات لتخصصها بالإضافة ، كما تنتصب عن النكرة المتخصصة بالصفة .

وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58)

هذا تخويف لأهل مكة من سوء عاقبة قوم كانوا في مثل حالهم من إنعام الله عليهم بالرقود في ظلال الأمن وخفض العيش ، فغمطوا النعمة وقابلوها بالأشر والبطر ، فدمّرهم الله وخرّب ديارهم . وانتصبت { مَعِيشَتَهَا } إمّا بحذف الجار وإيصال الفعل ، كقوله تعالى : { واختار موسى قومه } [ الأعراف : 155 ] وإمّا على الظرف بنفسها ، كقولك : زيد ظني مقيم . أو بتقدير حذف الزمان المضاف ، أصله : بطرت أيام معيشتها ، كخفوق النجم ، ومقدم الحاج : وإمّا بتضمين { بَطِرَتْ } معنى : كفرت وغمطت . وقيل : البطر سوء احتمال الغنى : وهو أن لا يحفظ حق الله فيه { إِلاَّ قَلِيلاً } من السكنى . قال ابن عباس رضي الله عنهما : لم يسكنها إلا المسافر ومارّ الطريق يوماً أو ساعة ويحتمل أنّ شؤم معاصي المهلكين بقي أثره في ديارهم ، فكل من سكنها من أعقابهم لم يبق فيها إلا قليلاً { وَكُنَّا نَحْنُ الوارثين } لتلك المساكن من ساكنيها ، أي : تركناها على حال لا يسكنها أحد ، أو خرّبناها وسوّيناها بالأرض .

تَتَخَلَّفُ الآثَارُ عَنْ أَصْحَابِهَا ... حِيناً وَيُدْرِكُهَا الْفَنَاءُ فَتَتْبَعُ

وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)

وما كانت عادة ربك أن يهلك القرى في كل وقت { حتى يَبْعَثَ فِى } القرية التي هي أمّها ، أي : أصلها وقصبتها التي هي أعمالها وتوابعها { رَسُولاً } لإلزام الحجة وقطع المعذرة ، مع علمه أنهم لا يؤمنون؛ أو وما كان في حكم الله وسابق قضائه أن يهلك القرى في الأرض حتى يبعث في أمر القرى يعني مكة رسولاً وهو محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء . وقرىء : «أمها» بضم الهمزة وكسرها لا تباع الجرّ ، وهذا بيان لعدله وتقدسه عن الظلم ، حيث أخبر بأنه لا يهلكهم إلا إذا استحقوا الهلاك بظلمهم ، ولا يهلكهم مع كونهم ظالمين إلا بعد تأكيد الحجة والإلزام ببعثة الرسل ، ولا يجعل علمه بأحوالهم حجة عليهم ، ونزه ذاته أن يهلكهم وهم غير ظالمين ، كما قال تعالى : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ } [ هود : 117 ] فنصّ في قوله : { بظلم } أنه لو أهلكهم وهم مصلحون لكان ذلك ظلماً منه ، وأنّ حاله في غناه وحكمته منافية للظلم ، دلّ على ذلك بحرف النفي مع لامه ، كما قال الله تعالى : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إيمانكم } [ البقرة : 143 ] .

وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60)

وأي شيء أصبتموه من أسباب الدنيا فما هو إلا تمتع وزينة أياماً قلائل ، وهي مدة الحياة المتقضية { وَمَا عِندَ الله } وهو ثوابه { خَيْرٌ } في نفسه من ذلك { وأبقى } لأنّ بقاءه دائم سرمد وقرىء : «يعقلون» بالياء ، وهو أبلغ في الموعظة . وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن الله خلق الدنيا وجعل أهلها ثلاثة أصناف : المؤمن ، والمنافق ، والكافر؛ فالمؤمن يتزوّد ، والمنافق يتزين ، والكافر يتمتع .

أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)

هذه الآية تقرير وإيضاح للتي قبلها . والوعد الحسن : الثواب؛ لأنه منافع دائمة على وجه التعظيم والاستحقاق ، وأي شيء أحسن منها ، ولذلك سمى الله الجنة بالحسنى . و { لاَقِيهِ } كقوله تعالى : { ولقاهم نَضْرَةً وَسُرُوراً } ، وعكسه { فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً } [ مريم : 59 ] { مِنَ المحضرين } من الذين أحضروا النار . ونحوه : { لَكُنتُ مِنَ المحضرين } [ الصافات : 57 ] ، { فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } [ الصافات : 127 ] قيل : نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي جهل . وقيل : في علي وحمزة وأبي جهل . وقيل : في عمار بن ياسر والوليد بن المغيرة . فإن قلت : فسر لي الفاءين وثم ، وأخبرني عن مواقعها . قلت : قد ذكر في الآية التي قبلها متاع الحياة الدنيا وما عند الله وتفاوتهما ، ثم عقبه بقوله : { أَفَمَن وعدناه } على معنى : أبعد هذا التفاوت الظاهر يسوّي بين أبناء الآخرة وأبناء الدنيا ، فهذا معنى الفاء الأولى وبيان موقعها . وأمّا الثانية فللتسبيب : لأن لقاء الموعود مسبب عن الوعد الذي هو الضمان في الخير . وأمّا «ثم» فلتراخي حال الإحضار عن حال التمتيع ، لا لتراخي وقته عن وقته . وقرىء : «ثم هو» بسكون الهاء ، كما قيل عضْد في عضُد . تشبيهاً للمنفصل بالمتصل ، وسكون الهاء في : فهو : وهو ، ولهو : أحسن؛ لأنّ الحرف الواحد لا ينطق به وحده فهو كالمتصل .

وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62)

{ شُرَكَائِىَ } مبني على زعمهم ، وفيه تهكم ، فإن قلت : زعم يطلب مفعولين ، كقوله :

. . . . وَلَمْ أَزْعُمْكِ عَنْ ذَاكَ مَعْزِلاَ ... فأين هما؟ قلت : محذوفان ، تقديره : الذين كنتم تزعمونهم شركائي . ويجوز حذف المفعولين في باب ظننت ، ولا يصح الاقتصار على أحدهما .

قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63)

{ الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول } الشياطين أو أئمة الكفر ورؤوسه . ومعنى حق عليهم القول : وجب عليهم مقتضاه وثبت ، وهو قوله : { لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ } [ هود : 119 ] ، [ السجدة : 13 ] و { هَؤُلاءِ } مبتدأ ، و { الذين أَغْوَيْنَا } صفته ، والراجع إلى الموصول محذوف ، و { أغويناهم } الخبر ، والكاف صفة مصدر محذوف ، تقديره : أغويناهم ، فغووا غيا مثل ما غوينا ، يعنون : أنا لم نغو إلا باختيارنا ، لا أن فوقنا مغوين أغوونا بقسر منهم وإلجاء . أو دعونا إلى الغيّ وسوّلوه لنا ، فهؤلاء كذلك غووا باختيارهم؛ لأن إغواءنا لهم لم يكن إلا وسوسة وتسويلاً لا قسراً وإلجاء ، فلا فرق إذاً بين غينا وغيهم . وإن كان تسويلنا داعياً لهم إلى الكفر ، فقد كان في مقابلته دعاء الله لهم إلى الإيمان بما وضع فيهم من أدلة العقل ، وما بعث إليهم من الرسل وأنزل عليهم من الكتب المشحونة بالوعد والوعيد والمواعظ والزواجر ، وناهيك بذلك صارفاً عن الكفر وداعياً إلى الإيمان ، وهذا معنى ما حكاه الله عن الشيطان { إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِى فَلاَ تلوموني ولوموا أنفسكم } [ إبراهيم : 22 ] والله تعالى قدّم هذا المعنى أوّل شيء ، حيث قال لإبليس { إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين } [ الحجر : 42 ] . { تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ } منهم وما اختاروه من الكفر بأنفسهم ، هوى منهم للباطل ومقتاً للحق ، لا بقوّة منا على استكراههم ولا سلطان { مَا كَانُواْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ } إنما كانوا يعبدون أهواءهم ويطيعون شهواتهم . وإخلاء الجملتين من العاطف ، لكونهما مقرّرتين لمعنى الجملة الأولى .

وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66)

{ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ } لوجه من وجوه الحيل يدفعون به العذاب . أو لو أنهم كانوا مهتدين مؤمنين ، لما رأوه . أو تمنوا لو كانوا مهتدين . أو تحيروا عند رؤيته وسدروا فلا يهتدون طريقا . حكى أوّلا ما يوبخهم به من اتخاذهم له شركاء ، ثم ما يقوله الشياطين أو أئمتهم عند توبيخهم لأنهم إذا وبخوا بعبادة الآلهة ، اعتذروا بأن الشياطين هم الذي استغووهم وزينوا لهم عبادتها ، ثم ما يشبه الشماتة بهم من استغاثتهم آلهتهم وخذلانهم لهم وعجزهم عن نصرتهم ، ثم ما يبكتون به من الاحتجاج عليهم بإرسال الرسل وإزاحة العلل { فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الانباء } فصارت الأنباء كالعمى عليهم جميعاً لا تهتدي إليهم { فَهُمْ لاَ يَتَسَاءلُونَ } لا يسأل بعضهم بعضاً كما يتساءل الناس في المشكلات ، لأنهم يتساوون جميعاً في عمى الأنباء عليهم والعجز عن الجواب . وقرىء : «فعميت» ، والمراد بالنبأ : الخبر عما أجاب به المرسل إليه رسوله ، وإذاكانت الأنبياء لهول ذلك اليوم يتتعتعون في الجواب عن مثل هذا السؤال ، ويفوّضون الأمر إلى علم الله ، وذلك قوله تعالى : { يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ علام الغيوب } [ المائدة : 109 ] فما ظنك بالضُّلال من أممهم .

فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67)

{ فَأَمَّا مَن تَابَ } من المشركين من الشرك ، وجمع بين الإيمان والعمل الصالح { فعسى أَن } يفلح عند الله ، و«عسى» من الكرام تحقيق . ويجوز أن يراد : ترجي التائب وطمعه ، وكأنه قال : فليطمع أن يفلح .

وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)

الخيرة من التخير ، كالطيرة من التطير : تستعمل بمعنى المصدر هو التخير ، وبمعنى المتخير كقولهم : محمد خيرة الله من خلقه { مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة } بيان لقوله : { وَيَخْتَارُ } لأنّ معناه : ويختار ما يشاء ، ولهذا لم يدخل العاطف . والمعنى : أنّ الخيرة لله تعالى في أفعاله ، وهو أعلم بوجوه الحكمة فيها ، ليس لأحد من خلقه أن يختار عليه . قيل : السبب فيه قول الوليد بن المغيرة : { لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] يعني : لا يبعث الله الرسل باختيار المرسل إليهم . وقيل : معناه ويختار الذي لهم فيه الخيرة ، أي : يختار للعباد ما هو خير لهم وأصلح ، وهو أعلم بمصالحهم من أنفسهم ، من قولهم في الأمرين : ليس فيهما خيرة لمختار . فإن قلت : فأين الراجع من الصلة إلى الموصول إذا جعلت ما موصولة؟ قلت : أصل الكلام : ما كان لهم فيه الخيرة ، فحذف «فيه» كما حذف ، منه في قوله : { إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الامور } [ الشورى : 43 ] لأنه مفهوم { سبحان الله } أي الله بريء من إشراكهم ومايحملهم عليه من الجراءة على الله واختيارهم عليه ما لا يختار .

وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)

{ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ } من عداوة رسول الله وحسده { وَمَا يُعْلِنُونَ } من مطاعنهم فيه . وقولهم : هلا اختير عليه غيره في النبوّة { وهُوَ الله } وهو المستأثر بالإلهية المختص بها ، و { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } تقرير لذلك ، كقولك : الكعبة القبلة ، لا قبلة إلا هي . فإن قلت : الحمد في الدنيا ظاهر فما الحمد في الآخرة؟ قلت : هو قولهم : { الحمد للَّهِ الذى أَذْهَبَ عَنَّا الحزن } [ فاطر : 34 ] ، { الحمد للَّهِ الذى صَدَقَنَا وَعْدَهُ } [ الزمر : 74 ] { وَقِيلَ الحمد لِلَّهِ رَبّ العالمين } [ الزمر : 75 ] والتحميد هناك على وجه اللذة لا الكلفة . وفي الحديث :

( 818 ) « يلهمونَ التسبيحَ والتقديس » { وَلَهُ الحكم } القضاء بين عباده .

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)

{ أَرَءيْتُمْ } وقرىء : «أريتم» : بحذف الهمزة ، وليس بحذف قياسي . ومعناه : أخبروني من يقدر على هذا؟ والسرمد : الدائم المتصل ، من السرد وهو المتابعة . ومنه قولهم في الأشهر الحرم : ثلاثة سردٍ ، وواحد فرد ، والميم مزيدة . ووزنه فعمل . ونظيره . دلامص ، من الدلاص . فإن قلت : هلا قيل : بنهار تتصرفون فيه ، كما قيل : { بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ } ؟ قلت ذكر الضياء وهو ضوء الشمس : لأن المنافع التي تتعلق به متكاثرة ، ليس التصرف في المعاش وحده ، والظلام ليس بتلك المنزلة ، ومن ثمة قرن بالضياء { أَفَلاَ تَسْمَعُونَ } لأنّ السمع يدرك ما لا يدركه البصر من ذكر منافعه ووصف فوائده ، وقرن بالليل { أَفلاَ تُبْصِرُونَ } لأنّ غيرك يبصر من منفعة الظلام ما تبصره . وأنت من السكون ونحوه { وَمِن رَّحْمَتِهِ } زاوج بين الليل والنهار لأغراض ثلاثة : لتسكنوا في أحدهما وهو الليل ، ولتبتغوا من فضل الله في الآخر وهو النهار ولإرادة شكركم .

وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74)

وقد سلكت بهذه الآية طريقة اللف في تكرير التوبيخ باتخاذ الشركاء : إيذان بأن لا شيء أجلب لغضب الله من الإشراك به ، كما لا شيء أدخل في مرضاته من توحيده . اللهم فكما أدخلتنا في أهل توحيدك ، فأدخلنا في الناجين من وعيدك .

وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)

{ وَنَزَعْنَا } وأخرجنا { مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا } وهو نبيهم : لأن أنبياء الأمم شهداء عليهم ، يشهدون بما كانوا عليه { فَقُلْنَا } للأمة { هَاتُواْ برهانكم } فيما كنتم عليه من الشرك ومخالفة الرسول { فَعَلِمُواْ } حينئذٍ { أَنَّ الحق لِلَّهِ } ولرسوله ، لا لهم ولشياطينهم { وَضَلَّ عَنْهُم } وغاب عنهم غيبة الشيء الضائع { مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } من الكذب والباطل .

إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)

{ قارون } اسم أعجمي مثل هرون ، ولم ينصرف للعجمة والتعريف ، ولو كان فاعولاً من قرن لانصرف . وقيل : معنى كونه من قومه أنه آمن به . وقيل : كان إسرائيلياً ابن عم موسى : هو قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب . وموسى بن عمران بن قاهث . وقيل : كان موسى ابن أخيه ، وكان يسمى المنور لحسن صورته ، وكان أقرأ بني إسرائيل للتوراة ، ولكنه نافق كما نافق السامري وقال : إذا كانت النبوّة لموسى عليه السلام ، والمذبح والقربان إلى هرون فمالي؟ وروي : أنه لما جاوز بهم موسى البحر وصارت الرسالة والحبورة لهرون يقرّب القربان ويكون رأساً فيهم وكان القربان إلى موسى فجعله موسى إلى أخيه وجد قارون في نفسه وحسدهما ، فقال لموسى : الأمر لكما ولست على شيء ، إلى متى أصبر؟ قال موسى : هذا صنع الله قال : والله لا أصدق حتى تأتي بآية ، فأمر رؤساء بني إسرائيل أن يجيء كل واحد بعصاه ، فحزمها وألقاها في القبة التي كان الوحي ينزل عليه فيها ، وكانوا يحرسون عصيهم بالليل ، فأصبحوا وإذا بعصا هرون تهتز ولها ورق أخضر ، وكانت من شجر اللوز ، فقال قارون : ما هو بأعجب مما تصنع من السحر { فبغى عَلَيْهِمْ } من البغي وهو الظلم . قيل : ملكه فرعون على بني إسرائيل فظلمهم . وقيل : من البغي وهو الكبر والبذخ : تبذخ عليهم بكثرة ماله وولده . وقيل : زاد عليهم في الثياب شبراً . المفاتح : جمع مفتح بالكسر : وهو ما يفتح به . وقيل هي الخزائن ، وقياس واحدها : مفتح بالفتح . ويقال : ناء به الحمل ، إذا أثقله حتى أماله . والعصبة : الجماعة الكثيرة والعصابة : مثلها . واعصوصبوا : اجتمعوا . وقيل : كانت تحمل مفاتيح خزائنه ستون بغلاً ، لكل خزانة مفتاح ، ولا يزيد المفتاح على أصبع . وكانت من جلود . قال أبو رزين يكفي الكوفة مفتاح ، وقد بولغ في ذكر ذلك بلفظ : الكنوز ، والمفاتح ، والنوء ، والعصبة ، وأولى القوة . وقرأ بُديل بن ميسرة : لينوء بالياء . ووجهه أن يفسر المفاتح بالخزائن ، ويعطيها حكم ما أضيفت إليه للملابسة والاتصال ، كقولك ذهبت أهل اليمامة . ومحل إذ منصوب بتنوء { لاَ تَفْرَحْ } كقوله : { وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءاتاكم } [ الحديد : 23 ] وقول القائل :

وَلَسْتُ بِمِفْرَاحٍ إذَا الدَّهْرُ سَرَّنِي ... وذلك أنه لا يفرح بالدنيا إلا من رضي بها واطمأن . وأمّا من قلبه إلى الآخرة ويعلم أنه مفارق ما فيه عن قريب ، لم تحدّثه نفسه بالفرح . وما أحسن ما قال القائل :

أَشَدُّ الغمِّ عِنْدِي فِي سُرُورٍ ... تَيَقَّنَ عَنْهُ صَاحِبُهُ انْتِقَالاَ

{ وابتغ فِيمَا ءاتَاكَ الله } من الغنى والثروة { الدار الاخرة } بأن تفعل فيه أفعال الخير من أصناف الواجب والمندوب إليه ، وتجعله زادك إلى الآخرة { وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ } وهو أن تأخذ منه ما يكفيك ويصلحك { وَأَحْسِن } إلى عباد الله { كَمَا أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ } أوأحسن بشكرك وطاعتك لله كما أحسن إليك . والفساد في الأرض : ما كان عليه من الظلم والبغي . وقيل إن القائل موسى عليه السلام . وقرىء : «واتبع» .

قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)

{ على عِلْمٍ } أي على استحقاق واستيجاب لما فيّ من العلم الذي فضلت به الناس ، وذلك أنه كان أعلم بني إسرائيل بالتوراة . وقيل : هو علم الكيمياء . عن سعيد بن المسيب : كان موسى عليه السلام يعلم علم الكيمياء ، فأفاد يوشع بن نون ثلثه ، وكالب بن يوفنا ثلثه ، وقارون ثلثه ، فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه فكان يأخذ الرصاص والنحاس فيجعلهما ذهبا . وقيل : علم الله موسى علم الكيمياء ، فعلمه موسى أخته ، فعلمته أخته قارون . وقيل : هو بصره بأنواع التجارة والدهقنة وسائر المكاسب . وقيل : { عِندِى } معناه : في ظني ، كا تقول الأمر عندي كذا ، كأنه قال : إنما أوتيته على علم ، كقوله تعالى : { ثُمَّ إِذَا خولناه نِعْمَةً مّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ } [ الزمر : 49 ] ثم زاد { عِندِى } أي هو في ظني ورأيي هكذا . يجوز أن يكون إثباتاً لعلمه بأنّ الله قد أهلك من القرون قبله من هو أقوى منه وأغنى ، لأنه قد قرأه في التوراة ، وأخبر به موسى ، وسمعه من حفاظ التواريخ والأيام كأنه قيل : { أَوَ لَمْ يَعْلَمْ } في جملة ما عنده من العلم هذا ، حتى لا يغتر بكثرة ماله وقوّته . ويجوز أن يكون نفياً لعلمه بذلك؛ لأنه لما قال : أوتيته على علم عندي ، فتنفج بالعلم وتعظم به . قيل : أعنده مثل ذلك العلم الذي ادعاه ورأى نفسه به مستوجبة لكل نعمة ، ولم يعلم هذا العلم النافع حتى يقي به نفسه مصارع الهالكين { وَأَكْثَرُ جَمْعاً } للمال ، أو أكثر جماعة وعدداً . فإن قلت : ما وجه اتصال قوله : { وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المجرمون } بما قبله؟ قلت : لما ذكر قارون من أهلك من قبله من القرون الذي كانوا أقوى منه وأغنى ، قال على سبيل التهديد له : والله مطلع على ذنوب المجرمين ، لا يحتاج إلى سؤالهم عنها واستعلامهم . وهو قادر على أن يعاقبهم عليها ، كقوله تعالى : { والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [ آل عمران : 153 ] وغيرها ، { والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } [ البقرة : 283 ] ، [ المؤمنون : 51 ] ، [ النور : 28 ] وما أشبه ذلك .

فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79)

{ فِى زِينَتِهِ } قال الحسن : في الحمرة والصفرة . وقيل : خرج على بغلة شهباء عليها الأرجوان وعليها سرج من ذهب ، ومعه أربعة آلاف على زيه . وقيل : عليهم وعلى خيولهم الديباج الأحمر ، وعن يمينه ثلثمائة غلام ، وعن يساره ثلثمائة جارية ، بيض عليهنّ الحلي والديباج . وقيل : في تسعين ألفاً عليهم المعصفرات ، وهو أوّل يوم رؤي فيه المعصفر : كان المتمنون قوماً مسلمين وإنما تمنوه على سبيل الرغبة في اليسار والاستغناء كما هو عادة البشر . وعن قتادة : تمنوه ليتقربوا به إلى الله وينفقوه في سبل الخير . وقيل : كانوا قوماً كفاراً . الغابط : هو الذي يتمنى مثل نعمة صاحبه من غير أن تزول عنه . والحاسد : هو الذي يتمنى أن تكون نعمة صاحبه له دونه فمن الغبطة قوله تعالى : { ياليت لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِىَ قارون } ومن الحسد قوله : { وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْض } [ النساء : 32 ] وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم :

( 819 ) هل يضر الغبط؟ فقال : « لا إلا كما يضر العضاه . . . . . . . الخبط » والحظ : الجدّ ، وهو البخت والدولة : وصفوه بأنه رجل مجدود مبخوت ، يقال : فلان ذو حظ ، وحظيظ ، ومحظوظ ، وما الدنيا إلا أحاظ وجدود .

وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81)

ويلك : أصله الدعاء بالهلاك ، ثم استعمل في الزجر والردع والبعث على ترك ما لا يرتضى ، كما استعمل : لا أبا لك . وأصله الدعاء على الرجل بالأقراف في الحث على الفعل . والراجع في { وَلاَ يُلَقَّاهَا } للكلمة التي تكلم بها العلماء . أو للثواب ، لأنه في معنى المثوبة أو الجنة ، أو للسيرة والطريقة ، وهي الإيمان والعمل الصالح { الصابرون } على الطاعات وعن الشهوات وعلى ما قسم الله من القليل عن الكثير . كان قارون يؤذي نبي الله موسى عليه السلام كل وقت ، وهو يداريه للقرابة التي بينهما ، حتى نزلت الزكاة فصالحه عن كل ألف دينار على دينار ، وعن كل ألف درهم على درهم فحسبه فاستكثره فشحت به نفسه ، فجمع بني إسرائيل وقال : إنّ موسى أرادكم على كل شيء ، وهو يريد أن يأخذ أموالكم ، فقالوا : أنت كبيرنا وسيدنا ، فمر بما شئت ، قال : نبرطل فلانة البغيّ حتى ترميه بنفسها فيرفضه بنو إسرائيل ، فجعل لها ألف دينار . وقيل : طستاً من ذهب . وقيل : طستاً من ذهب مملوءة ذهباً . وقيل : حكمها فلما كان يوم عيد قام موسى فقال : يا بني إسرائيل ، من سرق قطعناه ، ومن افترى جلدناه ، ومن زنى وهو غير محصن جلدناه ، وإن أحصن رجمناه ، فقال قارون : وإن كنت أنت؟ قال : وإن كنت أنا ، قال : فإنّ بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة ، فأحضرت ، فناشدها موسى بالذي فلق البحر ، وأنزل التوراة أن تصدق ، فتداركها الله فقالت : كذبوا ، بل جعل لي قارون جعلاً على أن أقذفك لنفسي ، فخرّ موسى ساجداً يبكي وقال : يا رب ، إن كنت رسولك فاغضب لي . فأوحى إليه : أن مر الأرض بما شئت ، فإنها مطيعة لك . فقال : يا بني إسرائيل ، إنّ الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون ، فمن كان معه فليلزم مكانه ، ومن كان معي فليعتزل ، فاعتزلوا جميعاً غير رجلين ثم قال : يا أرض خذيهم ، فأخذتهم إلى الركب ، ثم قال : خذيهم ، فأخذتهم إلى الأوساط ، ثم قال : خذيهم ، فأخذتهم إلى الأعناق ، وقارون وأصحابه يتضرعون إلى موسى عليه السلام ويناشدونه بالله والرحم ، وموسى لا يلتفت إليهم لشدّة غضبه ، ثم قال : خذيهم ، فانطبقت عليهم . وأوحى الله إلى موسى : ما أفظك : استغاثوا بك مراراً فلم ترحمهم ، أما وعزتي لو إياي دعوا مرة واحدة لوجدوني قريباً مجيباً ، فأصبحت بنو إسرائيل يتناجون بينهم : إنما دعا موسى على قارون ليستبد بداره وكنوزه ، فدعا الله حتى خسف بداره وأمواله { مِنَ المنتصرين } من المنتقمين من موسى عليه السلام ، أو من الممتنعين من عذاب الله . يقال : نصره من عدوه فانتصر ، أي : منعه منه فامتنع .

وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)

قد يذكر الأمس ولا يراد به اليوم الذي قبل يومك ، ولكن الوقت المستقرب على طريق الاستعارة { مَكَانَهُ } منزلته من الدنيا ( وي ) مفصولة عن كأن ، وهي كلمة تنبُّهٍ على الخطأ وتندُّم . ومعناه : أن القوم قد تنبهوا على خطئهم في تمنيهم وقولهم : { ياليت لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِىَ قارون } وتندموا ثم قالوا : { وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون } أي : ما أشبه الحال بأن الكافرين لا ينالون الفلاح ، وهو مذهب الخليل وسيبويه . قال :

وَيْ كَأَنَّ مَنْ يَكُنْ لَهُ نَشَبٌ يُحْ ... بب وَمَنْ يَفْتَقِرْ يَعِشْ عَيْشَ ضُرِّ

وحكى الفراء أنّ أعرابية قالت لزوجها : أين ابنك؟ فقال : وي كأنه وراء البيت . وعند الكوفيين أنّ «ويك» بمعنى : ويلك ، وأنّ المعنى ألم تعلم أنه لا يفلح الكافرون . ويجوز أن تكون الكاف كاف الخطاب مضمومة إلى وي ، كقوله :

. . . وَيْكَ عَنْتَرُ أَقْدِمِ ... وأنه بمعنى لأنه ، واللام لبيان المقول لأجله هذا القول ، أو لأنه لا يفلح الكافرون كان ذلك ، وهو الخسف بقارون ، ومن الناس من يقف على ( وي ) ويبتدىء ( كَأَنَّهُ ) ومنهم من يقف على «ويك» . وقرأ الأعمش «لولا منّ الله علينا» . وقرىء : { لَخَسَفَ بِنَا } وفيه ضمير الله . ولا نخسف بنا ، كقولك : انقطع به . ولتخسف بنا .

تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)

{ تِلْكَ } تعظيم لها وتفخيم لشأنها ، يعني : تلك التي سمعت بذكرها وبلغك وصفها . لم يعلق الموعد بترك العلو والفساد ، ولكن بترك إرادتهما وميل القلوب إليهما ، كما قال : { وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الذين ظَلَمُواْ } [ هود : 113 ] فعلق الوعيد بالركون . وعن علي رضي الله عنه : إنّ الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه ، فيدخل تحتها . وعن الفضيل أنه قرأها ثم قال : ذهبت الأماني ههنا . وعن عمر بن عبد العزيز أنه كان يردّدها حتى قبض . ومن الطماع من يجعل العلوّ لفرعون ، والفساد لقارون ، متعلقاً بقوله : { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى الأرض } [ القصص : 4 ] ، { وَلاَ تَبْغِ الفساد فِى الأرض } [ القصص : 77 ] ويقول : من لم يكن مثل فرعون وقارون فله تلك الدار الآخرة ، ولا يتدبر قوله : { والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ } كما تدبره عليّ والفضيل وعمر .

مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84)

معناه : فلا يجزون ، فوضع { الذين عَمِلُواْ السيئات } موضع الضمير؛ لأن في إسناد عمل السيئة إليهم مكرراً . فضل تهجين لحالهم ، وزيادة تبغيض للسيئة إلى قلوب السامعين { إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } إلا مثل ما كانوا يعملون ، وهذا من فضله العظيم وكرمه الواسع أن لا يجزي السيئة إلا بمثلها ، ويجزي الحسنة بعشر أمثالها وبسبعمائة ، وهو معنى قوله : { فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا } .

إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85)

{ فَرَضَ عَلَيْكَ القرءان } أوجب عليك تلاوته وتبليغه والعمل بما فيه ، يعني : أن الذي حملك صعوبة هذا التكليف لمثيبك عليها ثواباً لا يحيط به الوصف . و { لَرَادُّكَ } بعد الموت { إلى مَعَادٍ } أي معاد ليس لغيرك من البشر وتنكير المعاد لذلك : وقيل : المراد به مكة : ووجهه أن يراد رده إليها يوم الفتح : ووجه تنكيره أنها كانت في ذلك اليوم معاداً له شأن ، ومرجعاً له اعتداد؛ لغلبة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها ، وقهره لأهلها ، ولظهور عز الإسلام وأهله وذل الشرك وحزبه . والسورة مكية ، فكأن الله وعده وهو بمكة في أذى وغلبة من أهلها : أنه يهاجر به منها ، ويعيده إليها ظاهراً ظافراً . وقيل : نزلت عليه حين بلغ الجحفة في مهاجره . وقد اشتاق إلى مولده ومولد آبائه وحرم إبراهيم ، فنزل جبريل فقال له : أتشتاق إلى مكة؟ قال : نعم ، فأوحاها إليه . فإن قلت : كيف اتصل قوله تعالى : { قُل رَّبّى أَعْلَمُ } بما قبله؟ قلت : لما وعد رسوله الردّ إلى معاد ، قال : قل للمشركين : { رَّبّى أَعْلَمُ مَن جَاء بالهدى } يعني نفسه وما يستحقه من الثواب في معاده { وَمَنْ هُوَ فِى ضلال مُّبِينٍ } يعنيهم وما يستحقونه من العقاب في معادهم .

وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86)

فإن قلت : قوله : { إِلاَّ رَحْمَةً مّن رَّبّكَ } ما وجه الاستثناء فيه؟ قلت : هذا كلام محمول على المعنى ، كأنه قيل : وما ألقى عليك الكتاب إلا رحمه من ربك . ويجوز أن يكون إلا بمعنى لكن للاستدراك ، أي : ولكن لرحمة من ربك ألقي إليك .

وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87)

وقرىء : «يصدنك» ، من أصدّه بمعنى صدّه ، وهي في لغة كلب . وقال :

أُنَاسٌ أَصَدُّوا النَّاسَ بِالسَّيْفِ عَنْهُمُو ... صُدُودَ السَّوَاقي عَنْ أُنُوفِ الْحَوَائِمِ

{ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ } بعد وقت إنزاله وإذ تضاف إليه أسماء الزمان ، كقولك : حينئذٍ وليلتئذٍ ويومئذٍ وما أشبه ذلك . والنهي عن مظاهرة الكافرين ونحو ذلك من باب التهييج الذي سبق ذكره .

وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)

{ إِلاَّ وَجْهَهُ } إلا إياه . والوجه يعبر به عن الذات .

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( 820 ) « مَنْ قَرأَ طاسم القصص كانَ لَهُ الأجرُ بعددِ مَنْ صدَّقَ موسى وكذَّبَ بهِ ، ولمْ يبقَ ملكٌ في السمواتِ والأرضِ إلاّ شهدَ لَهُ يومَ القيامةِ أنّه كانَ صادِقاً أنّ كلَّ شيءٍ هالكٌ إلاَّ وجهُه ، لهُ الحكمُ وإليه ترجعُونَ » .

الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)

الحسبان لا يصح تعليقه بمعاني المفردات ، ولكن بمضامين الجمل . ألا ترى أنك لو قلت : حسبت زيداً وظننت الفرس : لم يكن شيئاً حتى تقول : حسبت زيداً عالماً؛ وظننت الفرس جواداً ، لأنّ قولك : زيد عالم ، أو الفرس جواد : كلام دال على مضمون ، فأردت الإخبار عن ذلك المضمون ثابتاً عندك على وجه الظن لا اليقين ، فلم تجد بدّا في العبارة عن ثباته عندك على ذلك الوجه ، من ذكر شطري الجملة مدخلاً عليهما فعل الحسبان ، حتى يتم لك غرضك . فإن قلت : فأين الكلام الدال على المضمون الذي يقتضيه الحسبان في الآية؟ قلت : هو في قوله : { أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } وذلك أن تقديره : أحسبوا تركهم غير مفتونين ، لقولهم : آمنا ، فالترك أول مفعولي حسب؛ ولقولهم : آمنا ، هو الخبر . وأما «غير مفتونين» فتتمة الترك ، لأنه من الترك الذي هو بمعنى التصيير ، كقوله :

فَتَرَكْتُهُ جَزَرَ السِّبَاعِ يَنُشْنَهُ ... ألا ترى أنك قبل المجيء بالحسبان ، تقدر أن تقول : تركهم غير مفتونين ، لقولهم : آمنا ، على تقدير : حاصل ومستقر ، قبل اللام . فإن قلت : { أَن يَقُولُواْ } هو علة تركهم غير مفتونين ، فكيف يصح أن يقع خبر مبتدأ؟ قلت : كما تقول خروجه لمخافة الشر ، وضربه للتأديب ، وقد كان التأديب والمخافة في قولك : خرجت مخافة الشر ، وضربته تأديباً : تعليلين . وتقول أيضاً : حسبت خروجه لمخافة الشر ، وظننت ضربه للتأديب ، فتجعلهما مفعولين كما جعلتهما مبتدأ وخبراً . والفتنة : الامتحان بشدائد التكليف : من مفارقة الأوطان ، ومجاهدة الأعداء ، وسائر الطاعات الشاقة ، وهجر الشهوات والملاذ ، وبالفقر؛ والقحط ، وأنواع المصائب في الأنفس والأموال ، وبمصابرة الكفار على أذاهم وكيدهم وضرارهم . والمعنى : أحسب الذين أجروا كلمة الشهادة على ألسنتهم وأظهروا القول بالإيمان : أنهم يتركون بذلك غير ممتحنين ، بل يمحنهم الله بضروب المحن ، حتى يبلو صبرهم ، وثبات أقدامهم ، وصحة عقائدهم ، ونصوع نياتهم ، ليتميز المخلص من غير المخلص ، والراسخ في الدين من المضطرب ، والمتمكن من العابد على حرف ، كما قال : { لتبلونّ في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذىً كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور } [ آل عمران : 186 ] وروي أنها نزلت في ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جزعوا من أذى المشركين . وقيل في عمار بن ياسر : وكان يعذب في الله . وقيل : في ناس أسلموا بمكة ، فكتب إليهم المهاجرون : لا يقبل منكم إسلامكم حتى تهاجروا ، فخرجوا فتبعهم المشركون فردّوهم ، فلما نزلت كتبوا بها إليهم؛ فخرجوا فاتبعهم المشركون فقاتلوهم ، فمنهم من قتل ومنهم من نجا . وقيل : في مهجع بن عبد الله مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وهو أوّل قتيل من المسلمين يوم بدر ، رماه عامر بن الحضرمي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( 821 )

« سيد الشهداء مهجع ، وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة » فجزع عليه أبواه وامرأته { وَلَقَدْ فَتَنَّا } موصول بأحسب أو بلا يفتنون ، كقولك : ألا يمتحن فلان وقد امتحن من هو خير منه ، يعني : أن أتباع الأنبياء عليهم السلام قبلهم ، قد أصابهم من الفتن والمحن نحو ما أصابهم . أو ما هو أشدّ منه فصبروا ، كما قال : { وَكَأَيّن مّن نَّبِىّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ . . . } الآية [ آل عمران : 146 ] وعن النبي صلى الله عليه وسلم :

( 822 ) « قد كان مَن قبلكم يؤخذ فيوضع المنشار على رأسه فيفرق فرقتين ، وما يصرفه ذلك عن دينه؛ ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ، ما يصرفه ذلك عن دينه » { فَلَيَعْلَمَنَّ الله } بالامتحان { الذين صَدَقُوا } في الإيمان { وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين } فيه . فإن قلت : كيف وهو عالم بذلك فيما لم يزل؟ قلت : لم يزل يعلمه معدوماً ، ولا يعلمه موجوداً إلا إذا وجد ، والمعنى : وليتميزن الصادق منهم من الكاذب . ويجوز أن يكون وعداً ووعيداً ، كأنه قال : وليثيبن الذي صدقوا وليعاقبنّ الكاذبين . وقرأ علي رضي الله عنه والزهري : وليعلمنّ ، من الإعلام ، أي : وليعرفنهم الله الناس من هم . أو ليسمنهم بعلامة يعرفون بها من بياض الوجوه وسوادها ، وكحل العيون وزرقتها .

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4)

{ أَن يَسْبِقُونَا } أي يفوتونا ، يعني أنّ الجزاء يلحقهم لا محالة ، وهم لم يطمعوا في الفوت ، ولم يحدّثوا به نفوسهم ، ولكنهم لغفلتهم وقلة فكرهم في العاقبة وإصرارهم على المعاصي : في صورة من يقدر ذلك ويطمع فيه . ونظيره { وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى الأرض } [ العنكبوت : 22 ] ، { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ } [ الأنفال : 59 ] . فإن قلت : أين مفعولا «حسب»؟ قلت : اشتمال صلة أن على مسند ومسند إليه سدّ مسدّ المفعولين؛ كقوله تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة } [ البقرة : 214 ] ويجوز أن يضمن حسب معنى قدر وأم منقطعة . ومعنى الإضراب فيها : أن هذا الحسبان أبطل من الحسبان الأوّل ، لأن ذاك يقدر أنه لا يمتحن لإيمانه ، وهذا يظن أنه لا يجازى بمساويه { سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } بئس الذي يحكمونه حكمهم هذا . أو بئس حكماً يحكمونه حكمهم هذا ، فحذف المخصوص بالذم .

مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5)

لقاء الله : مثل للوصول إلى العاقبة ، من تلقي ملك الموت ، والبعث ، والحساب ، والجزاء : مثلت تلك الحال بحال عبد قدم على سيده بعد عهد طويل ، وقد اطلع مولاه على ما كان يأتي ويذر ، فإما أن يلقاه ببشر وترحيب لما رضي من أفعاله ، أو بضد ذلك لما سخطه منها ، فمعنى قوله : { مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء الله } : من كان يأمل تلك الحال . وأن يلقى فيها الكرامة من الله والبشر { فَإِنَّ أَجَلَ الله } وهو الموت { لآتٍ } لا محالة؛ فليبادر العمل الصالح الذي يصدق رجاءه ، ويحقق أمله ، ويكتسب به القربة عند الله والزلفى { وَهُوَ السميع العليم } الذي لا يخفى عليه شيء مما يقوله عباده ومما يفعلونه ، فهو حقيق بالتقوى والخشية . وقيل : { يَرْجُو } : يخاف من قول الهذلي في صفة عسّال :

إِذَا لَسَعْتُه الدَّبْرُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا ... فإن قلت : فإن أجل الله لآت ، كيف وقع جواباً للشرط؟ قلت : إذا علم أن لقاء الله عنيت به تلك الحال الممثلة والوقت الذي تقع فيه تلك الحال هو الأجل المضروب للموت : فكأنه قال : من كان يرجو لقاء الله فإن لقاء الله لآت ، لأن الأجل واقع فيه اللقاء ، كما تقول : من كان يرجو لقاء الملك فإن يوم الجمعة قريب ، إذا علم أنه يقعد للناس يوم الجمعة .

وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6)

{ وَمَن جَاهَدَ } نفسه في منعها ما تأمر به وحملها على ما تأباه { فَإِنَّمَا يجاهد } لها ، لأن منفعة ذلك راجعة إليها ، وإنما أمر الله عز وجل ونهى ، رحمة لعباده وهو الغني عنهم وعن طاعتهم .

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7)

إما أن يريد قوماً مسلمين صالحين قد أساءوا في بعض أعمالهم وسيئاتهم مغمورة بحسناتهم فهو يكفرها عنهم ، أي يسقط عقابها بثواب الحسنات ويجزيهم أحسن الذي كانوا يعملون ، أي : أحسن جزاء أعمالهم : وإما قوماً مشركين آمنوا وعملوا الصالحات ، فالله عز وجل يكفر سيئاتهم بأن يسقط عقاب ما تقدم لهم من الكفر والمعاصي ويجزيهم أحسن جزاء أعمالهم في الإسلام .

وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)

«وصى» حكمه حكم «أمر» في معناه وتصرفه . يقال : وصيت زيداً بأن يفعل خيراً ، كما تقول : أمرته بأن يفعل . ومنه بيت الإصلاح :

وَذُبُيَانِيَّةٍ وَصَّتْ بَنِيهَا ... بِأَنْ كَذَبَ القَرَاطِفُ وَالْقُرُوفُ

كما لو قال : أمرتهم بأن ينتهبوها . ومنه قوله تعالى : { ووصى بِهَا إبراهيم بَنِيهِ } [ البقرة : 132 ] أي وصاهم بكلمة التوحيد وأمرهم بها ، وقولك : وصيت زيداً بعمرو ، معناه : وصيته بتعهد عمرو ومراعاته ونحو ذلك ، وكذلك معنى وقوله : { وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً } : وصيناه بإيتاء والديه حسناً ، أو بإيلاء والديه حسناً؛ أي : فعلا ذا حسن ، أو ما هو في ذاته حسن لفرط حسنه ، كقوله تعالى : { وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا } [ البقرة : 83 ] وقرىء : «حسنا» ، و«إحسانا» ويجوز أن تجعل «حسنا» من باب قولك : زيداً ، بإضمار «أضرب» إذا رأيته متهيئاً للضرب ، فتنصبه بإضمار أولهما . أو أفعل بهما ، لأن التوصية بهما دالة عليه ، وما بعده مطابق له ، كأنه قال : قلنا : أوْ لِهما معروفاً و { فَلاَ تُطِعْهُمَا } في الشرك إذا حملاك عليه . وعلى هذا التفسير إن وقف على { بوالديه } وابتدأ { حُسْنًا } حسن الوقف ، وعلى التفسير الأول لا بد من إضمار القول ، معناه : وقلنا إن جاهداك أيها الإنسان { مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } أي لا علم لك بإلهيته . والمراد بنفي العلم : نفي المعلوم ، كأنه قال : لتشرك بي شيئاً لا يصح أن يكون إلها ولا يستقيم : وصاه بوالديه وأمره بالإحسان إليهما ، ثم نبه بنهيه عن طاعتهما إذا أراداه على ما ذكره ، على أن كل حق وإن عظم ساقط إذاجاء حق الله ، وأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، ثم قال : إليّ مرجع من آمن منكم ومن أشرك ، فأجازيكم حق جزائكم . وفيه شيئان ، أحدهما : أن الجزاء إليّ ، فلا تحدث نفسك بجفوة والديك وعقوقهما لشركهما ، ولا تحرمهما برّك ومعروفك في الدنيا ، كما أني لا أمنعهما رزقي . والثاني : التحذير من متابعتهما على الشرك ، والحث على الثبات والاستقامة في الدين بذكر المرجع والوعيد . روي :

( 823 ) أن سعد بن أبي وقاص الزهري رضي الله عنه حين أسلم قالت أمّه وهي حمنة بنت أبي سفيان بن أمية بن عبد شمس يا سعد ، بلغني أنك قد صبأت ، فوالله لا يظلني سقف بيت من الضح والريح؛ وإن الطعام والشراب عليّ حرام حتى تكفر بمحمد وكان أحبّ ولدها إليها فأبى سعد وبقيت ثلاث أيام كذلك ، فجاء سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا إليه ، فنزلت هذه الآية والتي في لقمان والتي في الأحقاف ، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يداريها ويترضاها بالإحسان . وروي أنهانزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي ، وذلك :

( 824 ) أنه هاجر مع عمر بن الخطاب رضي الله عنهما مترافقين حتى نزلا المدينة ، فخرج أبو جهل بن هشام والحرث بن هشام أخواه لأمه أسماء بنت مخرمة : أمرأة من بني تميم من بني حنظلة فنزلا بعياش وقالا له : إن من دين محمد صلة الأرحام وبر الوالدين ، وقد تركت أمّك لا تطعم ولا تشرب ولا تأوي بيتاً حتى تراك ، وهي أشدّ حباً لك منا فاخرج معنا ، وفتلا منه في الذروة والغارب فاستشار عمر رضي الله عنه فقال : هما يخدعانك ، ولك عليّ أن أقسم مالي بيني وبينك ، فما زالا به حتى أطاعهما وعصى عمر ، فقال له عمر : أما إذ عصيتني فخذ ناقتي ، فليس في الدنيا بعير يلحقها ، فإن رابك منهما ريب فارجع ، فلما انتهوا إلى البيداء قال أبو جهل : إن ناقتي قد كلت فاحملني معك .

قال : نعم ، فنزل ليوطىء لنفسه وله ، فأخذاه وشدّاه وثاقاً ، وجلده كل واحد منهما مائة جلدة ، وذهبا به إلى أمه فقالت : لا تزال في عذاب حتى ترجع عن دين محمد ، فنزلت .

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)

{ فِى الصالحين } في جملتهم . والصلاح من أبلغ صفات المؤمنين ، وهو متمني أنبياء الله . قال الله تعالى حكاية عن سليمان عليه السلام { وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصالحين } [ النمل : 19 ] وقال في إبراهيم عليه السلام : { وَإِنَّهُ فِى الاخرة لَمِنَ الصالحين } [ البقرة : 130 ] ، [ النحل : 122 ] ، [ العنكبوت : 27 ] أو في مدخل الصالحين وهي الجنة ، وهذا نحو قوله تعالى : { وَمَن يُطِعِ الله والرسول فَأُوْلَئِكَ مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم } الآية [ النساء : 69 ] .

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)

هم ناس كانوا يؤمنون بألسنتهم ، فإذا مسهم أذى من الكفار وهو المراد بفتنة الناس ، كان ذلك صارفاً لهم عن الإيمان ، كما أن عذاب الله صارف للمؤمنين عن الكفر . أو كما يجب أن يكون عذاب الله صارفاً ، وإذا نصر الله المؤمنين وغنمهم اعترضوهم وقالوا : { إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ } أي مشايعين لكم في دينكم ، ثابتين عليه ثباتكم ، ما قدر أحد أن يفتننا ، فأعطونا نصيبنا من المغنم . ثم أخبر سبحانه أنه أعلم { بِمَا فِى صُدُورِ العالمين } من العالمين بما في صدورهم ، ومن ذلك ما تكن صدور هؤلاء من النفاق ، وهذا إطلاع منه للمؤمنين على ما أبطنوه ، ثم وعد المؤمنين وأوعد المنافقين ، وقرىء : «ليقولنّ» بفتح اللام .

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)

أمروهم باتباع سبيلهم وهي طريقتهم التي كانوا عليها في دينهم ، وأمروا أنفسهم بحمل خطاياهم فعطف الأمر على الأمر ، وأرادوا : ليجتمع هذان الأمران في الحصول أن تتبعوا سبيلنا وأن نحمل خطاياكم . والمعنى : تعليق الحمل بالاتباع ، وهذا قول صناديد قريش : كانوا يقولون لمن آمن منهم : لا نبعث نحن ولا أنتم ، فإن عسى كان ذلك فإنا نتحمل عنكم الإثم . ونرى في المتسمين بالإسلام من يستنّ بأولئك فيقول لصاحبه - إذا أراد أن يشجعه على ارتكاب بعض العظائم : افعل هذا وإثمه في عنقي . وكم من مغرور بمثل هذا الضمان من ضعفة العامّة وجهلتهم - ومنه ما يحكى أنّ أبا جعفر المنصور رفع إليه بعض أهل الحشو حوائجه ، فلما قضاها قال : يا أمير المؤمنين ، بقيت الحاجة العظمى . قال : وما هي؟ قال شفاعتك يوم القيامة ، فقال له عمرو بن عبيد رحمه الله : إياك وهؤلاء ، فإنهم قطاع الطريق في المأمن . فإن قلت : كيف سماهم كاذبين ، وإنما ضمنوا شيئاً علم الله أنهم لا يقدرون على الوفاء به ، وضامن ما لا يعلم اقتداره على الوفاء به ، لا يسمى كاذباً لا حين ضمن ولا حين عجز ، لأنه في الحالين لا يدخل تحت حدّ الكاذب وهو المخبر عن الشيء لا على ما هو عليه؟ قلت : شبه الله حالهم حيث علم أن ما ضمنوه لا طريق لهم إلى أن يفوا به ، فكان ضمانهم عنده لا على ما عليه المضمون بالكاذبين الذين خبرهم لا على ما عليه المخبر ، عنه . ويجوز أن يريد أنهم كاذبون ، لأنهم قالوا ذلك وقلوبهم على خلافه ، كالكاذبين الذين يعدون الشيء وفي قلوبهم نية الخلف { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ } أي أثقال أنفسهم { وَأَثْقَالاً } يعني أثّقالا أخر غير الخطايا التي ضمنوا للمؤمنين حملها ، وهي أثقال الذين كانوا سبباً في ضلالهم { وَلَيُسْئَلُنَّ } سؤال تقريع { عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } أي يختلقون من الأكاذيب والأباطيل . وقرىء : «من خطيآتهم» .

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15)

كان عمر نوح عليه السلام ألفاً وخمسين سنة ، بعث على رأس أربعين ، ولبث في قومه تسعمائة وخمسين ، وعاش بعد الطوفان ستين . وعن وهب : أنه عاش ألفاً وأربعمائة سنة . فإن قلت : هلا قيل : تسعمائة وخمسين سنة؟ قلت : ما أورده الله أحكم . لأنه لو قيل كما قلت ، لجاز أن يتوهم إطلاق هذا العدد على أكثره ، وهذا التوهم زائل مع مجيئه كذلك ، وكأنه قيل : تسعمائة وخمسين سنة كاملة وافية العدد ، إلا أنّ ذلك أخصر وأعذب لفظاً وأملأ بالفائدة ، وفيه نكتة أخرى : وهي أنّ القصة مسوقة لذكر ما ابتلي به نوح عليه السلام من أمّته وما كابده من طول المصابرة ، تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتثبيتاً له ، فكان ذكر رأس العدد الذي لا رأس أكثر منه ، أوقع وأوصل إلى الغرض من استطالة السامع مدّة صبره . فإن قلت : فلم جاء المميز أوّلاً بالسنة وثانياً بالعام؟ قلت : لأنّ تكرير اللفظ الواحد في الكلام الواحد حقيق بالاجتناب في البلاغة ، إلا إذا وقع ذلك لأجل غرض ينتحيه المتكلم من تفخيم أو تهويل أو تنويه أو نحو ذلك . و { الطوفان } ما أطاف وأحاط بكثرة وغلبة ، من سيل أو ظلام ليل أو نحوهما . قال العجاج :

وَغَمَّ طُوفَانُ الظَّلاَمِ الأَثْأَبَا ... { وأصحاب السفينة } كانوا ثمانية وسبعين نفساً : نصفهم ذكور ، ونصفهم إناث ، منهم أولاد نوح عليه السلام : سام ، وحام ، ويافث ، ونساؤهم . وعن محمد بن إسحق : كانوا عشرة . خمسة رجال وخمس نسوة . وقد روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم :

( 825 ) « كانوا ثمانية : نوح وأهله وبنوه الثلاثة » والضمير في { وجعلناها } للسفينة أو للحادثة والقصة .

وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18)

نصب { إِبْرَاهِيمَ } بإضمار اذكر ، وأبدل عنه { إِذْ } بدل الاشتمال؛ لأنّ الأحيان تشتمل على ما فيها . أو هو معطوف على { نُوحاً } وإذ ظرف لأرسلنا ، يعني : أرسلناه حين بلغ من السنّ والعلم مبلغاً صلح فيه لأن يعظ قومه وينصحهم ويعرض عليهم الحق ويأمرهم بالعبادة والتقوى وقرأ إبراهيم النخعي وأبو حنيفة رحمهما الله . «وإبراهيم» ، بالرفع على معنى : ومن المرسلين إبراهيم { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } يعني : إن كان فيكم علم بما هو خير لكم مما هو شر لكم . أو إن نظرتم بعين الدراية المبصرة دون عين الجهل العمياء : علمتم أنه خير لكم وقرىء : «تخلقون من خلق» بمعنى التكثير في خلق . وتخلقون ، من تخلق بمعنى تكذب وتخرص . وقرىء : «إفكاً» ، [ و ] فيه وجهان : أن يكون مصدراً ، نحو : كذب ولعب . والإفك : مخفف منه ، كالكذب واللعب من أصلهما ، وأن يكون صفة على فعل ، أي خلقاً إفكا ، أي ذا إفك وباطل . واختلاقهم الإفك : تسميتهم الأوثان آلهة وشركاء لله أو شفعاء إليه . أو سمى الأصنام : إفكا ، وعملهم لها ونحتهم : خلقاً للإفك . فإن قلت : لم نكر الرزق ثم عرفه؟ قلت : لأنه أراد لا يستطيعون أن يرزقوكم شيئاً من الرزق ، فابتغوا عند الله الرزق كله . فإنه هو الرزاق وحده لا يرزق غيره { إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } وقرىء : بفتح التاء ، فاستعدوا للقائه بعبادته والشكر له على أنعمه ، وإن تكذبونني فلا تضرونني بتكذيبكم ، فإنّ الرسل قبلي قد كذبتهم أممهم ، وما ضرّوهم وإنما ضروا أنفسهم ، حيث حلّ بهم ما حل بسبب تكذيب الرسل : وأما الرسول فقد تم أمره حين بلغ البلاغ المبين الذي زال معه الشكّ ، وهو اقترانه بآيات الله ومعجزاته . أو : وإن كنت مكذباً فيما بينكم فلي في سائر الأنبياء أسوة وسلوة حيث كذبوا ، وعلى الرسول أن يبلغ وما عليه أن يصدق ولا يكذب ، وهذه الآية والآيات التي بعدها إلى قوله : { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ } محتملة أن تكون من جملة قول إبراهيم صلوات الله عليه لقومه ، وأن تكون آيات وقعت معترضة في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وشأن قريش بين أوّل قصة إبراهيم وآخرها . فإن قلت : إذا كانت من قول إبراهيم فما المراد بالأمم قبله؟ قلت : قوم شيث وإدريس ونوح وغيرهم ، وكفى بقوم نوح أمّة في معنى أمم جمة مكذبة ، ولقد عاش إدريس ونوح وغيرهم ، وكفى بقوم نوح أمّة في معنى أمم جمة مكذبة ، ولقد عاش إدريس ألف سنة في قومه إلى أن رفع إلى السماء . وآمن به ألف إنسان منهم على عدد سنيه ، وأعقابهم على التكذيب .

أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22)

فإن قلت : فما تصنع بقوله : { قُلْ سِيرُواْ فِى الارض } ؟ قلت : هي حكاية كلام حكاه إبراهيم عليه السلام لقومه ، كما يحكي رسولنا صلى الله عليه وسلم كلام الله على هذا المنهاج في أكثر القرآن فإن قلت : فإذا كانت خطاباً لقريش فما وجه توسطهما بين طرفي قصة إبراهيم والجملة؟ أو الجمل الاعتراضية لا بد لها من اتصال بما وقعت معترضة فيه؟ ألا تراك لا تقول : مكة وزيد أبوه قائم خير بلاد الله؟ قلت : إيراد قصة إبراهيم ليس إلا إرادة للتنفيس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن تكون مسلاة له ومتفرجا بأنّ أباه إبراهيم خليل الله كان ممنوّا بنحو مامني به من شرك قومه وعبادتهم الأوثان ، فاعترض بقوله : وإن تكذبوا ، على معنى إنكم يا معشر قريش إن تكذبوا محمداً فقد كذب إبراهيم قومه وكل أمة نبيها؛ لأن قوله : { فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مّن قَبْلِكُمْ } لا بد من تناوله لأمّه إبراهيم ، وهو كما ترى اعتراض واقع متصل ، ثم سائر الآيات الواطئة عقبها من أذيالها وتوابعها ، لكونها ناطقة بالتوحيد ودلائله ، وهدم الشرك وتوهين قواعده ، وصفة قدرة الله وسلطانه ، ووضوح حجته وبرهانه قرىء : { يَرَوْاْ } بالياء والتاء . ويبدىء ويبدأ . وقوله : { ثُمَّ يُعِيدُهُ } ليس بمعطوف على يبدىء ، وليست الرؤية واقعة عليه ، وإنما هو إخبار على حياله بالإعادة بعد الموت ، كما وقع النظر في قوله تعالى : { فانظروا كَيْفَ بَدَأَ الخلق ثُمَّ الله يُنشِىء النشأة الأخرة } على البدء دون الإنشاء ، ونحوه قولك : ما زلت أوثر فلاناً وأستخلفه على من أخلفه ، فإن قلت : هو معطوف بحرف العطف ، فلا بد له من معطوف عليه ، فما هو؟ قلت : هو جملة قوله : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِىءُ الله الخلق } وكذلك : وأستخلفه ، معطوف على جملة قوله : ما زلت أوثر فلاناً ذلك يرجع إلى ما يرجع إليه هو في قوله : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم : 27 ] من معنى يعيد . دل بقوله { النشأة الاخرة } على أنهما نشأتان ، وأن كل واحدة منهما إنشاء ، أي : ابتداء واختراع ، وإخراج من العدم إلى الوجود ، لا تفاوت بينهما إلا أن الآخر إنشاء بعد إنشاء مثله ، والأولى ليست كذلك . وقرىء «النشأة» و«النشاءة» كالرأفة والرآفة ، فإن قلت : ما معنى الإفصاح باسمه مع إيقاعه مبتدأ في قوله : { ثُمَّ الله يُنشِىءُ النشأة الأخرة } بعد إضماره في قوله : كيف بدأ الخلق؟ وكان القياس أن يقال : كيف بدأ الله الخلق ثم ينشىء النشأة الآخرة؟ قلت : الكلام معهم كان واقعاً في الإعادة ، وفيها كانت تصطك الركب ، فلما قرّرهم في الإبداء بأنه من الله ، احتج عليهم بأن الإعادة إنشاء مثل الإبداء ، فإذا كان الله الذي لا يعجزه شيء هو الذي لم يعجزه الإبداء ، فهو الذي وجب أن لا تعجزه الإعادة ، فكأنه قال : ثم ذاك الذي أنشأ النشأة الأولى هو الذي ينشىء النشأة الآخرة ، فللدلالة والتنبيه على هذا المعنى أبرز اسمه وأوقعه مبتدأ { يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ } تعذيبه { وَيَرْحَمُ مَن يَشَاءُ } رحمته ، ومتعلق المشيئتين مفسر مبين في مواضع من القرآن وهو من يستوجبهما من الكافر والفاسق إذا لم يتوبا ، ومن المعصوم والتائب { تُقْلَبُونَ } تردون وترجعون { وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ } ربكم أي لا تفوتونه إن هربتم من حكمه وقضائه { فِى الارض } الفسيحة { وَلاَ فِى السماء } التي هي أفسح منها وأبسط لو كنتم فيها ، كقوله تعالى :

{ إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أقطار السموات والأرض فانفذوا } [ الرحمن : 33 ] ، وقيل : ولا من في السماء كما قال حسان رضي الله عنه :

أَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ مِنْكُم ... وَيَمْدَحُهُ وَيَنْصُرُهُ سَوَاءُ

ويحتمل أن يراد : لا تعجزونه كيفما هبطتم في مهاوي الأرض وأعماقها ، أو علوتم في البروج والقلاع الذاهبة في السماء ، كقوله تعالى : { وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } [ النساء : 78 ] أو لا تعجزون أمره الجاري في السماء والأرض أن يجري عليكم ، فيصيبكم ببلاء يظهر من الأرض أو ينزل من السماء [ ومالكم من دون الله من ولي ولا نصير ] .

وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)

{ بأايات الله } بدلائله على وحدانيته وكتبه ومعجزاته ولقائه والبعث { يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِى } وعيد ، أي ييأسون يوم القيامة ، كقوله : { وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُبْلِسُ المجرمون } [ الروم : 12 ] . أو هو وصف لحالهم؛ لأنّ المؤمن إنما يكون راجياً خاشياً ، فأما الكافر فلا يخطر بباله رجاء ولا خوف . أو شبه حالهم في انتفاء الرحمة عنهم بحال من يئس من الرحمة : وعن قتادة رضي الله عنه : إن الله ذمّ قوماً هانوا عليه فقال : { أُوْلَئِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِى } وقال : { إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون } [ يوسف : 87 ] فينبغي للمؤمن أن لا ييأس من روح الله ولا من رحمته ، وأن لا يأمن عذابه وعقابه صفة المؤمن أن يكون راجياً لله عز وجل خائفاً .

فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24)

قرىء : «جواب قومه» بالنصب والرفع { قَالُواْ } قال بعضهم لبعض . أو قاله واحد منهم وكان الباقون راضين ، فكانوا جميعاً في حكم القائلين . وروي أنه لم ينتفع في ذلك اليوم بالنار ، نعني : يوم ألقي إبراهيم في النار ، وذلك لذهاب حرّها .

وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25)

قرىء على النصب بغير إضافة وبإضافة ، وعلى الرفع كذلك ، فالنصب على وجهين : على التعليل ، أي لتتوادّوا بينكم وتتواصلوا ، لاجتماعكم على عبادتها واتفاقكم عليها وائتلافكم ، كما يتفق الناس على مذهب فيكون ذلك سبب تحابهم وتصادقهم . وأن يكون مفعولاً ثانياً ، كقوله : { اتخذ إلهه } [ الفرقان : 43 ] ، [ الجاثية : 23 ] أي اتخذتم الأوثان سبب المودّة بينكم ، على تقدير حذف المضاف . أو اتخذتموها مودّة بينكم ، بمعنى مودودة بينكم ، كقوله تعالى : { وَمِنَ الناس مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبّ الله } [ البقرة : 165 ] وفي الرفع وجهان : أن يكون خبراً لأنّ على أن ما موصولة . وأن يكون خبر مبتدأ محذوف . والمعنى : أنّ الأوثان مودّة بينكم ، أي : مودودة ، أو سبب مودّة . وعن عاصم : مودّة بينكم : بفتح بينكم مع الإضافة ، كما قرىء : { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 94 ] ففتح وهو فاعل . وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه : أوثاناً إنما مودّة بينكم في الحياة الدنيا ، أي : إنما تتوادّون عليها ، أو تودّونها في الحياة الدنيا { ثُمَّ يَوْمَ القيامة } يقوم بينكم التلاعن والتباغض والتعادي : يتلاعن العبدة . ويتلاعن العبدة والأصنام ، كقوله تعالى : { وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً } [ مريم : 82 ] .

فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26)

كان لوط ابن أخت إبراهيم عليهما السلام ، وهو أول من آمن له حين رأى النار لم تحرقه { وَقَالَ } يعني إبراهيم { إِنِّى مُهَاجِرٌ } من «كوثى» وهي من سواد الكوفة إلى «حرّان» ثم منها إلى فلسطين ، ومن ثمة قالوا : لكل نبي هجرة ولإبراهيم هجرتان ، وكان معه في هجرته : لوط ، وامرأته سارة ، وهاجر وهو ابن خمس وسبعين سنة { إلى رَبِّى } إلى حيث أمرني بالهجرة إليه { إِنَّهُ هُوَ العزيز } الذي يمنعني من أعدائي { الحكيم } الذي لا يأمرني إلا بما هو مصلحتي .

وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)

{ أَجْرُهُ } الثناء الحسن ، والصلاة عليه آخر الدهر والدرية الطيبة والنبوّة ، وأن أهل الملل كلهم يتولونه . فإن قلت : ما بال إسماعيل عليه السلام لم يذكر ، وذكر إسحق وعقبه؟ قلت : قد دلّ عليه في قوله : { وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِ النبوة والكتاب } وكفى الدليل لشهرة أمره وعلوِّ قدره . فإن قلت : ما المراد بالكتاب؟ قلت : قصد به جنس الكتاب ، حتى دخل تحته ما نزل على ذريّته من الكتب الأربعة : التي هي التوراة والزبور والإنجيل والقرآن؟

وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)

{ وَلُوطاً } معطوف على إبراهيم ، أو على ما عطف عليه . و { الفاحشة } الفعلة البالغة في القبح . و { مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مّن العالمين } جملة مستأنفة مقررة لفحاشة تلك الفعلة ، كأن قائلاً قال : لم كانت فاحشة؟ فقيل له : لأن أحداً قبلهم لم يقدم عليها اشمئزازاً منها في طباعهم لإفراط قبحها ، حتى أقدم عليها قوم لوط لخبث طينتهم وقذر طباعهم . قالوا لم ينزُ ذكر على ذكر قبل قوم لوط قط . وقريء : إنكم ، بغير استفهام في الأوّل دون الثاني : قال أبو عبيدة : وجدته في الإمام بحرف واحد بغير ياء ، ورأيت الثاني بحرفين الياء والنون وقطع السبيل : عمل قطاع الطريق ، من قتل الأنفس وأخذ الأموال . وقيل : اعتراضهم السابلة بالفاحشة . وعن الحسن : قطع النسل بإتيان ما ليس بحرث . و { المنكر } عن ابن عباس رضي الله عنهما هو الخذف بالحصى ، والرمي بالبنادق ، والفرقعة ، ومضغ العلك ، والسواك بين الناس ، وحل الأزرار ، والسباب ، والفحش في المزاح . وعن عائشة رضي الله عنها : كانوا يتحابقون وقيل السخرية بمن مرَّ بهم . وقيل : المجاهرة في ناديهم بذلك العمل ، وكل معصية فإظهارها أقبح من سترها ، ولذلك جاء : من خرق جلباب الحياء فلا غيبة له . ولا يقال للمجلس : ناد ، إلا ما دام فيه أهله ، فإذا قاموا عنه لم يبق نادياً { إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } فيما تعدناه من نزول العذاب . كانوا يفسدون الناس بحملهم على ما كانوا عليه من المعاصي والفواحش طوعاً وكرهاً ولأنهم ابتدعوا الفاحشة وسنوها فيمن بعدهم ، وقال الله تعالى : { الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله زدناهم عَذَابًا فَوْقَ العذاب بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ } [ النحل : 88 ] فأراد لوط عليه السلام أن يشتد غضب الله عليهم ، فذكر لذلك صفة المفسدين في دعائه .

وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32)

{ بالبشرى } هي البشارة بالولد . والنافلة : وهما إسحق ويعقوب . وإضافة مهلكو إضافة تخفيف لا تعريف . والمعنى الاستقبال . والقرية : سدوم التي قيل فيها : أجور من قاضي سدوم { كَانُواْ ظالمين } معناه أنّ الظلم قد استمر منهم إيجاده في الأيام السالفة ، وهم عليه مصرون ، وظلمهم : كفرهم وألوان معاصيهم { إِنَّ فِيهَا لُوطاً } ليس إخباراً لهم بكونه فيها ، وإنما هو جدال في شأنه : لأنهم لما عللوا إهلاك أهلها بظلمهم : اعترض عليهم بأن فيها من هو بريء من الظلم ، وأراد بالجدال : إظهار الشفقة عليهم ، وما يجب للمؤمن من التحزن لأخيه ، والتشمر في نصرته وحياطته ، والخوف من أن يمسه أذى أو يلحقه ضرر . قال قتادة : لا يرى المؤمن ألا يحوط المؤمن ، ألا ترى إلى جوابهم بأنهم أعلم منه { بِمَن فِيهَا } يعنون : نحن أعلم منك وأخبر بحال لوط وحال قومه ، وامتيازه منهم الامتياز البين ، وأنه لا يستأهل ما يستأهلون ، فخفض على نفسك وهوّن عليك الخطب . وقريء { لَنُنَجّيَنَّهُ } بالتشديد والتخفيف ، وكذلك منجوك .

وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33)

{ أَن } صلة أكدت وجود الفعلين مترتباً أحدهما على الآخر في وقتين متجاورين لا فاصل بينهما؛ كأنهما وجدا في جزء واحد من الزمان ، كأنه قيل : كما أحس بمجيئهم فاجأته المساءة من غير ريث ، خيفة عليهم من قومه { وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا } وضاق بشأنهم وبتدبير أمرهم ذرعه أي طاقته ، وقد جعلت العرب ضيق الذراع والذرع : عبارة عن فقد الطاقة ، كما قالوا : رحب الذراع بكذا ، إذا كان مطيقاً له ، والأصل فيه أنّ الرجل إذا طالت ذراعه نال ما لا يناله القصير الذراع ، فضرب ذلك مثلاً في العجز والقدرة .

إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)

الرجز والرجس : العذاب ، من قولهم : ارتجز وارتجس إذا اضطرب ، لما يلحق المعذب من القلق والاضطراب . وقريء { مُنزِلُونَ } مخففاً ومشدّداً { مِنْهَا } من القرية { ءَايَةً بَيِّنَةً } هي آثار منازلهم الخربة . وقيل : بقية الحجارة . وقيل : الماء الأسود على وجه الأرض . وقيل : الخبر عما صنع بهم { لِقَوْمِهِ } متعلق بتركنا أو ببينة .

وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37)

{ وارجوا } وافعلوا ما ترجون به العاقبة . فأقيم المسبب مقام السبب . أو أمروا بالرجاء : والمراد : اشتراط ما يسوّغه من الإيمان ، كما يؤمر الكافر بالشرعيات على إرادة الشرط . وقيل : هو من الرجاء بمعنى الخوف . والرجفة : الزلزلة الشديدة . وعن الضحاك : صيحة جبريل عليه السلام؛ لأنّ القلوب رجفت لها { فِي دَارِهِمْ } في بلدهم وأرضهم . أو في ديارهم ، فاكتفى بالواحد لأنه لا يلبس { جاثمين } باركين على الركب ميتين .

وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38)

{ وَعَاداً } منصوب بإضمار «أهلكنا»لأن قوله : { فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة } يدل عليه ، لأنه في معنى الإهلاك { وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم } ذلك : يعني ما وصفه من إهلاكهم { مِّن } جهة { مساكنهم } إذا نظرتم إليها عند مروركم بها . وكان أهل مكة يمرون عليها في أسفارهم فيبصرونها { وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ } عقلاء متمكنين من النظر والافتكار . ولكنهم لم يفعلوا . أو كانوا متبينين أن العذاب نازل بهم لأن الله تعالى قد بين لهم على ألسنة الرسل عليهم السلام ، ولكنهم لجوا حتى هلكوا .

وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)

{ سابقين } فائتين ، أدركهم أمر الله فلم يفوتوه .

الحاصب : لقوم لوط ، وهي ريح عاصف فيها حصباء . وقيل : ملك كان يرميهم . والصيحة : لمدين وثمود . والخسف : لقارون . والغرق : لقوم نوح وفرعون .

مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42)

الغرض تشبيه ما اتخذوه متكلاً ومعتمداً في دينهم وتولوه من دون الله ، بما هو مثل عند الناس في الوهن وضعف القوّة . وهو نسج العنبكوت . ألا ترى إلى مقطع التشبيه وهو قوله : { وَإِنَّ أَوْهَنَ البيوت لَبَيْتُ العنكبوت } ؟ فإن قلت : ما معنى قوله : { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } وكل أحد يعلم وهن بيت العنكبوت؟ قلت : معناه لو كانوا يعلمون أن هذا مثلهم وأن أمر دينهم بالغ هذه الغاية من الوهن . ووجه آخر : وهو أنه إذا صحّ تشبيه ما اعتمدوه في دينهم ببيت العنكبوت ، وقد صح أن أوهن البيوت بيت العنكبوت ، فقد تبين أن دينهم أوهن الأديان لو كانوا يعملون . أو أخرج الكلام بعد تصحيح التشبيه مخرج المجاز ، فكأنه قال : وإن أوهن ما يعتمد عليه في الدين عبادة الأوثان لو كانوا يعلمون . ولقائل أن يقول : مثل المشرك الذي يعبد الوثن بالقياس إلى المؤمن الذي يعبد الله ، مثل عنكبوت يتخذ بيتاً ، بالإضافة إلى رجل يبني بيتاً بآجر وجص أو ينحته من صخر ، وكما أن أوهن البيوت إذا استقريتها بيتاً بيتاً بيت العنكبوت ، كذلك أضعف الأديان إذا استقريتها ديناً ديناً عبادة الأوثان لو كانوا يعلمون . قرىء : «تدعون» بالتاء والياء . وهذا توكيد للمثل وزيادة عليه ، حيث لم يجعل ما يدعونه شيئاً { وَهُوَ العزيز الحكيم } فيه تجهيل لهم حيث عبدوا ما ليس بشيء؛ لأنه جماد ليس معه مصحح العلم والقدرة أصلاً ، وتركوا عبادة القادر القاهر على كل شيء ، الحكيم الذي لا يفعل شيئاً إلا بحكمة وتدبير .

وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)

كان الجهلة والسفهاء من قريش يقولون إنَّ ربّ محمد يضرب المثل بالذباب والعنكبوت ، ويضحكون من ذلك ، فلذلك قال : { وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ العالمون } أي لا يعقل صحتها وحسنها وفائدتها إلا هم ، لأنّ الأمثال والتشبيهات إنما هي الطرق إلى المعاني المحتجبة في الأستار حتى تبرزها وتكشف عنها وتصوّرها للأفهام ، كما صوّر هذا التشبيه الفرق بين حال المشرق وحال الموحد وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تلا هذه الآية فقال :

( 826 ) « العالمُ مَنْ عقلَ عنِ اللَّهِ فعملَ بطاعَتِهِ واجتنبَ سخطهِ »

خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44)

{ بالحق } أي بالغرض الصحيح الذي هو حق لا باطل ، وهو أن تكونا مساكن عبادة وعبرة للمعتبرين منهم ، ودلائل على عظم قدرته : ألا ترى إلى قوله : { إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ } ونحوه قوله تعالى : { وَمَا خَلَقْنَا السماء والارض وَمَا بَيْنَهُمَا باطلا } [ ص : 27 ] ثم قال : { ذلك ظَنُّ الذين كَفَرُواْ } [ ص : 27 ] .

اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)

الصلاة تكون لطفاً في ترك المعاصي ، فكأنها ناهية عنها . فإن قلت : كم من مصل يرتكب ولا تنهاه صلاته؟ قلت الصلاة التي هي الصلاة عند الله المستحق بها الثواب : أن يدخل فيها مقدّماً للتوبة النصوح ، متقياً؛ لقوله تعالى : { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين } [ المائدة : 27 ] ويصليها خاشعاً بالقلب والجوارح ، فقد روي عن حاتم : كأنّ رجلي على الصراط والجنة عن يميني والنار عن يساري وملك الموت من فوقي ، وأصلي بين الخوف والرجاء؛ ثم يحوطها بعد أن يصليها فلا يحبطها ، فهي الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر . وعن ابن عباس رضي الله عنهما :

( 827 ) « من لم تأمره صلاته بالمعروف وتنهه عن المنكر لم يزدد بصلاته من الله إلا بعداً » وعن الحسن رحمه الله : من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر ، فليست صلاته بصلاة ، وهي وبال عليه . وقيل : من كان مراعياً للصلاة جرّه ذلك إلى أن ينتهي عن السيئات يوماً ما ، فقد روي أنه

( 828 ) قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنّ فلاناً يصلي بالنهار ويسرق بالليل ، فقال : « إنّ صلاته لتردعه » وروي

( 829 ) أنّ فتى من الأنصار كان يصلي معه الصلوات ، ولا يدع شيئاً من الفواحش إلا ركبه ، فوصف له فقال : « إن صلاته ستنهاه » فلم يلبث أن تاب . وعلى كل حال إنّ المراعي للصلاة لا بدّ أن يكون أبعد من الفحشاء والمنكر ممن لا يراعيها . وأيضاً فكم من مصلين تنهاهم الصلاة عن الفحشاء والمنكر ، واللفظ لا يقتضي أن لا يخرج واحد من المصلين عن قضيتها ، كما تقول : إنّ زيداً ينهى عن المنكر فليس غرضك أنه ينهى عن جميع المناكير ، وإنما تريد أنّ هذه الخصلة موجودة فيه وحاصلة منه من غير اقتضاء للعموم { وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ } يريد : وللصلاة أكبر من غيرها من الطاعات ، وسماها بذكر الله كما قال : { فاسعوا إلى ذِكْرِ الله } [ الجمعة : 9 ] وإنما قال : ولذكر الله : ليستقلّ بالتعليل ، كأنه قال : وللصلاة أكبر ، لأنها ذكر الله . أو ولذكر الله عند الفحشاء والمنكر وذكر نهيه عنهما ووعيده عليهما أكبر ، فكان أولى بأن ينهى من اللطف الذي في الصلاة . وعن ابن عباس رضي الله عنهما ولذكر الله إياكم برحمته أكبر من ذكركم إياه بطاعته { والله يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } من الخير والطاعة ، فيثيبكم أحسن الثواب .

وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)

{ بالتى هِىَ أَحْسَنُ } بالخصلة التي هي أحسن : وهي مقابلة الخشونة باللين ، والغضب بالكظم . والسورة بالأناة ، كما قال : { ادفع بالتى هِىَ أَحْسَنُ } [ المؤمنون : 96 ] ، { إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ } فأفرطوا في الاعتداء والعناد ولم يقبلوا النصح ولم ينفع فيهم الرفق . فاستعملوا معهم الغلظة ، وقيل : إلا الذين آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم : وقيل إلا الذين أثبتوا الولد والشريك وقالوا : يد الله مغلولة . وقيل : معناه ولا تجادلوا الداخلين في الذمّة المؤدّين للجزية إلا بالتي هي أحسن ، إلا الذين ظلموا فنبذوا الذمّة ومنعوا الجزية ، فإن أولئك مجادلتهم بالسيف . وعن قتادة : الآية منسوخة بقوله تعالى : { قاتلوا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الاخر } [ التوبة : 29 ] ولا مجادلة أشد من السيف : وقوله : { وَقُولُواْ ءامَنَّا بالذى أُنزِلَ إِلَيْنَا } من جنس المجادلة بالتي هي أحسن . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :

( 830 ) « ما حدّثكم أهل الكتاب فلا تصدّقوهم ولا تكذبوهم ، وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله ، فإن كان باطلاً لم تصدّقوهم ، وإن كان حقاً لم تكذبوهم » .

وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47)

ومثل ذلك الإنزال { أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب } أي : أنزلناه مصدّقاً لسائر الكتب السماوية ، تحقيقاً لقوله : آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم . وقيل : كما أنزلنا الكتب إلى من كان قبلك أنزلنا إليك الكتاب { فالذين ءاتيناهم الكتاب } هم عبد الله بن سلام ومن آمن معه { وَمِنْ هَؤُلاءِ } من أهل مكة وقيل : أراد بالذين أوتوا الكتاب الذين تقدموا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب . ومن هؤلاء ممن في عهده منهم { وَمَا يَجْحَدُ باياتنآ } مع ظهورها وزوال الشبهة عنها ، إلا المتوغلون في الكفر المصممون عليه . وقيل : هم كعب بن الأشرف وأصحابه .

وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)

وأنت أميّ ما عرفك أحد قط بتلاوة كتاب ولا خط { إِذاً } لو كان شيء من ذلك ، أي ، من التلاوة والخط { لارتاب المبطلون } من أهل الكتاب وقالوا : الذي نجده في كتبنا أمي لا يكتب ولا يقرأ وليس به . أو لارتاب مشركو مكة وقالوا : لعله تعلمه أو كتبه بيده . فإن قلت : لم سماهم مبطلين ، ولو لم يكن أمّياً وقالوا : ليس بالذي نجده في كتبنا لكانوا صادقين محقين؟ ولكان أهل مكة أيضاً على حق في قولهم لعله تعلمه أو كتبه فإنه رجل قارىء كاتب؟ قلت : سماهم مبطلين لأنهم كفروا به وهو أميّ بعيد من الريب ، فكأنه قال : هؤلاء المبطلون في كفرهم به لو لم يكن أمّياً لارتابوا أشدّ الريب ، فحين ليس بقارىء كاتب فلا وجه لارتيابهم . وشيء آخر : وهو أن سائر الأنبياء عليهم السلام لم يكونوا أمّيين ، ووجب الإيمان بهم وبما جاؤوا به ، لكونهم مصدقين من جهة الحكيم بالمعجزات ، فهب أنه قارىء كاتب فمالهم لم يؤمنوا به من الوجه الذي آمنوا منه بموسى وعيسى عليهما السلام؟ على أن المنزلين ليسا بمعجزين ، وهذا المنزل معجز ، فإذاً هم مبطلون حيث لم يؤمنوا به وهو أمي ، ومبطلون لو لم يؤمنوا به وهو غير أمي . فإن قلت : ما فائدة قوله : { بِيَمِينِكَ } قلت ذكر اليمين وهي الجارحة التي يزاول بها الخط : زيادة تصوير لما نفى عنه من كونه كاتباً . ألا ترى أنك إذا قلت في الإثبات؛ رأيت الأمير يخط هذا الكتاب بيمينه ، كان أشد لإثباتك أنه تولى كتبته ، فكذلك النفي { بَلِ } القرآن { ءايات بينات فِى صُدُورِ } العلماء به وحفاظه ، وهما من خصائص القرآن : كون آياته بينات الإعجاز ، وكونه محفوظاً في الصدور يتلوه أكثر الأمة ظاهراً : بخلاف سائر الكتب ، فإنها لم تكن معجزات ، وما كانت تقرأ إلا من المصاحف . ومنه ما جاء في صفة هذه الأمة

( 831 ) «صدورهم أناجيلهم» { وَمَا يَجْحَدُ } بآيات الله الواضحة ، إلا المتوغلون في الظلم المكابرون .

وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52)

قرىء «آية» و«آيات» أرادوا : هلا أنزل عليه آية مثل ناقة صالح ومائدة عيسى عليهما السلام ونحو ذلك { إِنَّمَا الايات عِندَ الله } ينزل أيتها شاء ، ولو شاء أن ينزل ما تقترحونه لفعل { وَإِنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ } كلفت الإنذار وإبانته بما أعطيت من الآيات ، وليس لي أن أتخير على الله آياته فأقول : أنزل عليّ آية كذا دون آية كذا ، مع علمي أنّ الغرض من الآية ثبوت الدلالة ، والآيات كلها في حكم آية واحدة في ذلك ، ثم قال : { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ } آية مغنية عن سائر الآيات - إن كانوا طالبين للحق غير متعنتين -هذا القرآن الذي تدوم تلاوته عليهم في كل مكان وزمان فلا يزال معهم آية ثابتة لا تزول ولا تضمحلّ . كما تزول كل آية بعد كونها ، وتكون في مكان دون مكان [ إن في ذلك ] إنّ في مثل هذه الآية الموجودة في كل مكان وزمان إلى آخر الدهر { لَرَحْمَةً } لنعمة عظيمة لا تشكر [ وذكرى ] وتذكرة { لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } وقيل : أولم يكفهم ، يعني اليهود : أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم بتحقيق ما في أيديهم من نعتك ونعت دينك . وقيل :

( 832 ) إنّ ناساً من المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتف قد كتبوا فيها بعض ما يقود اليهود ، فلما أن نظر إليها ألقاها وقال : كفى بها حماقة قوم أو ضلالة قوم أن يرغبوا عما جاءهم به نبيهم إلى ما جاء به غير نبيهم ، فنزلت . والوجه ما ذكرناه { كفى بالله بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً } أني قد بلغتكم ما أرسلت به إليكم وأنذرتكم ، وأنكم قابلتموني بالجحد والتكذيب { يَعْلَمُ مَا فِى السماوات والارض } فهو مطلع على أمري وأمركم ، وعالم بحقي وباطلكم { والذين ءامَنُواْ بالباطل } منكم وهو ما تعبدون من دون الله { وَكَفَرُواْ بالله } وآياته { أولئك هُمُ الخاسرون } المغبونون في صفقتهم حيث اشتروا الكفر بالإيمان ، إلا أن الكلام ورد مورد الإنصاف ، كقوله : { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِى ضلال مُّبِينٍ } [ سبأ : 24 ] وكقول حسان :

فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ ... وروي أنّ كعب بن الأشرف وأصحابه قالوا : يا محمد ، من يشهد لك بأنك رسول الله ، فنزلت .

وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)

كان استعجال العذاب استهزاء منهم وتكذيباً ، والنضر بن الحرث هو الذي قال : اللَّهم أمطر علينا حجارة من السماء ، كما قال أصحاب الأيكة : فأسقط علينا كسفاً من السماء { وَلَوْلاَ أَجَلٌ } قد سماه الله وبينه في اللوح لعذابهم ، وأوجبت الحكمة تأخيره إلى ذلك الأجل المسمى { لَّجَاءهُمُ العذاب } عاجلاً . والمراد بالأجل : الآخرة ، لما روي

( 833 ) أنّ الله تعالى وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يعذب قومه ولا يستأصلهم ، وأن يؤخر عذابهم إلى يوم القيامة . وقيل : يوم بدر . وقيل : وقت فنائهم بآجالهم { لَمُحِيطَةٌ } أي ستحيط بهم { يَوْمَ يغشاهم العذاب } أو هي محيطة بهم في الدنيا : لأنّ المعاصي التي توجبها محيطة بهم . أو لأنها مآلهم ومرجعهم لا محالة فكأنها الساعة محيطة بهم . و { يَوْمَ يغشاهم } على هذا منصوب بمضمر ، أي : يوم يغشاهم العذاب كان كيت وكيت . { مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } كقوله تعالى : { لَهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ النار وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ } [ الزمر : 16 ] ، { وَيَقُولُ } قرىء بالنون والياء { مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي جزاءه .

يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56)

معنى الآية : أنّ المؤمن إذا لم يتسهل له العبادة في بلد هو فيه ولم يتمش له أمر دينه كما يحب فليهاجر عنه إلى بلد يقدّر أنه فيه أسلم قلباً وأصح ديناً وأكثر عبادة وأحسن خشوعاً . ولعمري إن البقاع تتفاوت في ذلك التفاوت الكثير ، ولقد جربنا وجرّب أوّلونا ، فلم نجد فيما درنا وداروا : أعون على قهر النفس وعصيان الشهوة وأجمع للقلب المتلفت وأضم للهم المنتشر وأحث على القناعة وأطرد للشيطان وأبعد من كثير من الفتن وأضبط للأمر الديني في الجملة - من سكنى حرم الله وجوار بيت الله ، فللَّه الحمد على ما سهل من ذلك وقرب ، ورزق من الصبر وأوزع من الشكر . وعن النبي صلى الله عليه وسلم

( 834 ) « مَنْ فَرَّ بدينهِ مِنْ أَرْضٍ إِلى أرضِ وإنْ كانَ شبراً منَ الأَرْضِ؛ استوجَبَ الجنةَ وكانَ رفيقَ إبراهيم ومحمدٍ » وقيل : هي في المستضعفين بمكة الذين نزل فيهم : { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله واسعة فتهاجروا فِيهَا } [ النساء : 97 ] وإنما كان ذلك لأنّ أمر دينهم ما كان يستتب لهم بين ظهراني الكفرة { فَإِيَّاىَ فاعبدون } في المتكلم ، نحو : إياه ضربته ، في الغائب وإياك عضتك ، في المخاطب . والتقدير : فإياي فاعبدوا : فاعبدون . فإن قلت : ما معنى الفاء في { فاعبدون } وتقديم المفعول؟ قلت : الفاء جواب شرط محذوف؛ لأنّ المعنى : إنّ أرضي واسعة فإن لم تخلصوا العبادة لي في أرض فاخلصوها لي في غيرها ، ثم حذف الشرط وعوّض من حذفه تقديم المفعول ، مع إفادة تقديمه معنى الاختصاص والإخلاص .

كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57)

لما أمر عباده بالحرص على العبادة وصدق الاهتمام بها حتى يتطلبوا لها أوفق البلاد وإن شسعتْ ، أتبعه قوله : { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت } أي واجدة مرارته وكربه كما يجد الذائق طعم المذوق . ومعناه : إنكم ميتون فواصلون إلى الجزاء ، ومن كانت هذه عاقبته لم يكن له بد من التزود لها والاستعداد بجهده .

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59)

{ لَنُبَوّئَنَّهُمْ } لننزلنهم { مِنَ الجنة } علالي . وقرىء «لنثوّينهم» من الثواء وهو النزول للإقامة . يقال : ثوى في المنزل ، وأثوى هو ، وأثوى غيره وثوى : غير متعد ، فإذا تعدى بزيادة همزة النقل لم يتجاوزه مفعولاً واحداً ، نحو : ذهب ، وأذهبته . والوجه في تعديته إلى ضمير المؤمنين وإلى الغرف : إمّا إجراؤه مجرى لننزلنهم ونبوئنهم . أو حذف الجار وإيصال الفعل : أو تشبيه الظرف المؤقت بالمبهم . وقرأ يحيى بن وثاب : «فنعم» ، فزيادة الفاء { الذين صَبَرُواْ } على مفارقة الأوطان والهجرة لأجل الدين . وعلى أذى المشركين ، وعلى المحن والمصائب ، وعلى الطاعات ، وعن المعاصي [ وعلى ربهم يتوكلون ] ولم يتوكلوا في جميع ذلك إلا على الله تعالى .

وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)

لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسلم بمكة بالهجرة ، خافوا الفقر والضيعة . فكان يقول الرجل منهم : كيف أقدم بلدة ليس لي فيها معيشة ، فنزلت . والدابة : كل نفس دبت على وجه الأرض ، عقلت أو لم تعقل . { تَحْمِلُ رِزْقَهَا } لا تطيق أن تحمله لضعفها على حمله { الله يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ } أي لا يرزق تلك الدواب الضعاف إلا الله ، ولا يرزقكم أيضاً أيها الأقوياء إلا هو وإن كنتم مطيقين لحمل أرزاقكم وكسبها ، لأنه لو لم يقدركم ولم يقدّر لكم أسباب الكسب ، لكنتم أعجز من الدواب التي لا تحمل ، وعن الحسن { لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا } لا تدّخره ، إنما تصبح فيرزقها الله . وعن ابن عيينة : ليس شيء يخبأ إلا الإنسان والنملة والفأرة . وعن بعضهم : رأيت البلبل يحتكر في حضنيه . ويقال : للعقعق مخابىء إلا أنه ينساها { وَهُوَ السميع } لقولكم : نخشى الفقر والضيعة { العليم } بما في ضمائركم .

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61)

الضمير في { سَأَلْتَهُمْ } لأهل مكة { فأنى يُؤْفَكُونَ } فكيف يصرفون عن توحيد الله وأن لا يشركوا به ، مع إقرارهم بأنه خالق السموات والأرض .

اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62)

قدر الرزق وقتره بمعنى إذا ضيقه . فإن قلت : الذي رجع إليه الضمير في قوله : { وَيَقْدِرُ لَهُ } هو من يشاء ، فكأن بسط الرزق وقدره جعلا لواحد . قلت : يحتمل الوجهين جميعاً : أن يريد ويقدر لمن يشاء ، فوضع الضمير موضع من يشاء ، لأن { مَن يَشَآءُ } مبهم غير معين ، فكان الضمير مبهماً مثله ، وأن يريد تعاقب الأمرين على واحد على حسب المصلحة { إنَّ الله بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ } يعلم ما يصلح العباد وما يفسدهم .

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)

استحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه ممن أقر بنحو ما أقروا به؛ ثم نفعه ذلك في توحيد الله ونفي الأنداد والشركاء عنه ، ولم يكن إقراراً عاطلاً كإقرار المشركين؛ وعلى أنهم أقروا بما هو حجة عليهم حيث نسبوا النعمة إلى الله وقد جعلوا العبادة للصنم ، ثم قال : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } ما يقولون وما فيه من الدلالة على بطلان الشرك وصحة التوحيد . أو لا يعقلون ما تريد بقولك الحمد لله ، ولا يفطنون لم حمدت الله عند مقالتهم؟

وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64)

{ هذه } فيها ازدراء للدنيا وتصغير لأمرها ، وكيف لا يصغرها وهي لا تزن عنده جناح بعوضة . يريد : ما هي لسرعة زوالها عن أهلها وموتهم عنها إلا كما يلعب الصبيان ساعة ثم يتفرقون { وَإِنَّ الدار الاخرة لَهِىَ الحيوان } أي ليس فيها إلا حياة مستمرة دائمة خالدة لا موت فيها ، فكأنها في ذاتها حياة . والحيوان : مصدر حي ، وقياسه حييان ، فقلبت الياء الثانية واواً ، كما قالوا : حيوة ، في اسم رجل ، وبه سمى ما فيه حياة : حيوانا [ كما ] قالوا : اشتر من الموتان ولا تشتر من الحيوان . وفي بناء الحيوان زيادة معنى ليس في بناء الحياة ، وهي ما في بناء فعلان من معنى الحركة والاضطراب ، كالنزوان والنغصان واللهبان ، وما أشبه ذلك . والحياة : حركة ، كما أن الموت سكون ، فمجيئه على بناء دال على معنى الحركة ، مبالغة في معنى الحياة ، ولذلك اختيرت على الحياة في هذا الموضع المقتضى للمبالغة { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } فلم يؤثروا الحياة الدنيا عليها .

فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)

فإن قلت : بم اتصل قوله { فَإِذَا رَكِبُواْ } ؟ قلت : بمحذوف دلّ عليه ما وصفهم به وشرح من أمرهم ، معناه : هم على ما وصفوا به من الشرك والعناد { فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } كائنين في صورة من يخلص الدين لله من المؤمنين ، حيث لا يذكرون إلا الله ولا يدعون معه إلها آخر . وفي تسميتهم مخلصين : ضرب من التهكم { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر } وآمنوا عادوا إلى حال الشرك واللام في { لِيَكْفُرُواْ } محتملة أن تكون لام كي ، وكذلك في { وَلِيَتَمَتَّعُواْ } فيمن قرأها بالكسر . والمعنى : أنهم يعودون إلى شركهم ليكونوا - بالعود إلى شركهم - كافرين بنعمة النجاة ، قاصدين التمتع بها والتلذذ لا غير ، على خلاف ما هو عادة المؤمنين المخلصين على الحقيقة : إذا أنجاهم الله أن يشكروا نعمة الله في إنجائهم ، ويجعلوا نعمة النجاة ذريعة إلى ازدياد الطاعة ، لا إلى التمتع والتلذذ ، وأن تكون لام الأمر وقراءة من قرأ وليتمتعوا بالسكون تشهد له . ونحوه قوله تعالى : { اعملوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ فصلت : 41 ] . فإن قلت : كيف جاز أن يأمر الله تعالى بالكفر وبأن يعمل العصاة ما شاءوا ، وهو ناه عن ذلك ومتوعد عليه؟ قلت : هو مجاز عن الخذلان والتخلية ، وأن ذلك الأمر متسخط إلى غاية . ومثاله أن ترى الرجل قد عزم على أمر ، وعندك أنّ ذلك الأمر خطأ ، وأنه يؤدي إلى ضرر عظيم ، فتبالغ في نصحه واستنزاله عن رأيه ، فإذا لم تر منه إلا الإباء والتصميم ، حردت عليه وقلت [ له ] : أنت وشأنك وافعل ما شئت ، فلا تريد بهذا حقيقة الأمر . وكيف والآمر بالشيء مريد له ، وأنت شديد الكراهة متحسر ، ولكنك كأنك تقول له : فإذ قد أبيت قبول النصيحة ، فأنت أهل ليقال لك : افعل ما شئت وتبعث عليه ، ليتبين لك - إذا فعلت - صحة رأي الناصح وفساد رأيك .

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67)

كانت العرب حول مكة يغزو بعضهم بعضاً ، ويتغاورون ، ويتناهبون ، وأهل مكة قارّون آمنون فيها ، لا يغزون ولا يغار عليهم مع قلتهم وكثرة العرب ، فذكرهم الله هذه النعمة الخاصة عليهم ، ووبخهم بأنهم يؤمنون بالباطل الذي هم عليه ، ومثل هذه النعمة المكشوفة الظاهرة وغيرها من النعم التي لا يقدر عليها إلا الله وحده مكفورة عندهم .

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68)

افتراؤهم على الله [ تعالى ] كذباً : زعمهم أن لله شريكاً . وتكذيبهم بما جاءهم من الحق : كفرهم بالرسول والكتاب . وفي قوله : { لَمَّا جَاءهُ } تسفيه لهم ، يعني : لم يتلعثموا في تكذيبه وقت سمعوه ، ولم يفعلوا كما يفعل المراجيح العقول المثبتون في الأمور : يسمعون الخبر فيستعملون فيه الروية والفكر . ويستأنسون إلى أن يصح لهم صدقه أو كذبه { أَلَيْسَ } تقرير لثوائهم في جهنم ، كقوله :

أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا ... قال بعضهم : ولو كان استفهاماً ما أعطاه الخليفة مائة من الإبل . وحقيقته : أن الهمزة همزة الإنكار دخلت على النفي ، فرجع إلى معنى التقرير ، فهما وجهان ، أحدهما : ألا يثوون في جهنم ، وألا يستوجبون الثواء فيها ، وقد افتروا مثل هذا الكذب على الله ، وكذبوا بالحق هذا التكذيب والثاني : ألم يصح عندهم أن في جهنم مثوى للكافرين ، حتى اجترؤوا مثل هذه الجرأة؟ .

وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)

أطلق المجاهدة ولم يقيدها بمفعول . ليتناول كل ما يجب مجاهدته من النفس الأمّارة بالسوء والشيطان وأعداء الدين { فِينَا } في حقنا ومن أجلنا ولوجهنا خالصاً { لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } لنزيدنهم هداية إلى سبل الخير وتوفيقاً ، كقوله تعالى : { والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى } [ محمد : 17 ] وعن أبي سليمان الداراني : والذين جاهدوا فيما علموا لنهدينهم إلى ما لم يعلموا . وعن بعضهم : من عمل بما يعلم وفق لما لا يعلم . وقيل : إن الذي نرى من جهلنا بما لا نعلم ، إنما هو من تقصيرنا فيما نعلم { لَمَعَ المحسنين } لناصرهم ومعينهم .

وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( 835 ) « مَنْ قَرأَ سورةَ العنكبوتِ كانَ لَهُ منَ الأَجرِ عشرُ حسناتٍ بعددِ كلِّ المؤمنينَ والمنافقينَ » .

الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)

القراءة المشهورة الكثيرة { غُلِبَتِ } بضم الغين . وسيغلبون بفتح الياء . والأرض : أرض العرب ، لأن الأرض المعهودة عند العرب أرضهم . والمعنى : غلبوا في أدنى أرض العرب منهم وهي أطراف الشام . أو أراد أرضهم ، على إنابة اللام مناب المضاف إليه ، أي : في أدنى أرضهم إلى عدوّهم . قال مجاهد : هي أرض الجزيرة ، وهي أدنى أرض الروم إلى فارس . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الأردن وفلسطين . وقريء «في أداني الأرض» والبضع ما بين الثلاث إلى العشر عن الأصمعي . وقيل :

( 836 ) احتربت الروم وفارس بين أذرعات وبصرى ، فغلبت فارس الروم ، فبلغ الخبر مكة فشق على النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين؛ لأن فارس مجوس لا كتاب لهم والروم أهل الكتاب ، وفرح المشركون وشمتوا وقالوا : أنتم والنصارى أهل الكتاب ، ونحن وفارس أميون ، وقد ظهر إخواننا على إخوانكم ، ولنظهرنّ نحن عليكم ، فنزلت . فقال لهم أبو بكر رضي الله عنه : لا يقرر الله أعينكم ، فوالله لتظهرنّ الروم على فارس بعد بضع سنين فقال له أبيّ بن خلف : كذبت يا أبا فصيل ، اجعل بيننا أجلاً أُناحبك عليه . والمناحبة : المراهنة فناحبه على عشر قلائص من كل واحد منهما ، وجعلا الأجل ثلاث سنين ، فأخبر أبو بكر رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " البضع ما بين الثلاث إلى التسع ، فزايده في الخطر ومادّه في الأجل " فجعلاها مائة قلوص إلى تسع سنين . ومات أُبيُّ من جرح رسول الله ، وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية ، وذلك عند رأس سبع سنين . وقيل :

( 837 ) كان النصر يوم بدر للفريقين ، فأخذ أبو بكر الخطر من ذرية أبيّ ، وجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : تصدّق به . وهذه الآية من الآيات البينة الشاهدة على صحة النبوّة ، وأن القرآن من عند الله لأنها إنباء عن علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله . وقرىء : «غلبهم» بسكون اللام . والغلب والغلب مصدران كالجلب والجلب ، والحلب والحلب . وقريء : «غلبت الروم» بالفتح ، وسيغلبون ، بالضم . ومعناه أن الروم غلبوا على ريف الشام وسيغلبهم المسلمون في بضع سنين . وعند انقضاء هذه المدّة أخذ المسلمون في جهاد الروم ، وإضافة غلبهم تختلف باختلاف القراءتين ، فهي في إحداهما إضافة المصدر إلى المفعول . وفي الثانية إضافته إلى الفاعل . ومثالهما { مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ } [ البقرة : 85 ] ، { وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ } [ الحج : 47 ] . فإن قلت : كيف صحت المناحبة وإنما هي قمار؟ قلت : عن قتادة رحمه الله تعالى أنه كان ذلك قبل تحريم القمار . ومن مذهب أبي حنيفة ومحمد : أن العقود الفاسدة من عقود الربا وغيرها جائزة في دار الحرب بين المسلمين والكفار . وقد احتجا على صحة ذلك بما عقده أبو بكر بينه وبين أبيّ بن خلف { مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ } أي في أوّل الوقتين وفي آخرهما حين غلبوا وحين يغلبون ، كأنه قيل : من قبل كونهم غالبين ، وهو وقت كونهم مغلوبين .

ومن بعد كونهم مغلوبين ، وهو وقت كونهم غالبين ، يعني أن كونهم مغلوبين أوّلاً وغالبين آخراً ليس إلا بأمر الله وقضائه { وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس } [ آل عمران : 140 ] وقرىء : «من قبل ومن بعد» على الجرّ من غير تقدير مضاف إليه واقتطاعه . كأنه قيل : قبلاً وبعداً ، بمعنى أوّلاً وآخراً { وَيَوْمَئِذٍ } ويوم تغلب الروم على فارس ويحل ما وعده الله عزّ وجل من غلبتهم { يَفْرَحُ المؤمنون بِنَصْرِ الله } وتغليبه من له كتاب على من لا كتاب له . وغيظ من شمت بهم من كفار مكة . وقيل : نصر الله : هو إظهار صدق المؤمنين فيما أخبروا به المشركين من غلبة الروم وقيل نصر الله أنه ولي بعض الظالمين بعضاً وفرق بين كلمهم ، حتى تفانوا وتناقصوا ، وفلّ هؤلاء شوكة هؤلاء وفي ذلك قوّة للإسلام . وعن أبي سعيد الخدري : وافق ذلك يوم بدر ، وفي هذا اليوم نصر المؤمنين { وَهُوَ العزيز الرحيم } ينصر عليكم تارة وينصركم أخرى .

وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)

{ وَعْدَ الله } مصدر مؤكد ، كقولك : لك عليّ ألف درهم عرفاً : لأنّ معناه : أعترف لك بها اعترافاً ، ووعد الله ذلك وعداً؛ لأنّ ما سبقه في معنى وعد . ذمّهم الله عزّ وجل بأنهم عقلاء في أمور الدنيا ، بله في أمر الدين ، وذلك أنهم كانوا أصحاب تجارات ومكاسب . وعن الحسن . بلغ من حذق أحدهم أنه يأخذ الدرهم فينقره بأصبعه ، فيعلم أرديء أم جيد . وقوله : { يَعْلَمُونَ } بدل من قوله : { لاَ يَعْلَمُونَ } وفي هذا الإبدال من النكتة أنه أبدله منه ، وجعله بحيث يقوم مقامه ويسدّ مسدّه ، ليعلمك أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل ، وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا . وقوله : { ظاهرا مّنَ الحياة الدنيا } يفيد أن للدنيا ظاهراً وباطناً ، فظاهرها ما يعرفه الجهال من التمتع بزخارفها والتنعم بملاذها . وباطنها وحقيقتها أنها مجاز إلى الآخرة : يتزود منها إليها بالطاعة والأعمال الصالحة . وفي تنكير الظاهر : أنهم لا يعلمون إلا ظاهراً واحداً من جملة الظواهر . و«هم» الثانية يجوز أن يكون مبتدأ . و { غافلون } خبره ، والجملة خبر «هم» الأولى ، وأن يكون تكريراً للأولى ، وغافلون خبر الأولى . وأية كانت فذكرها مناد على أنهم معدن الغفلة عن الآخرة ومقرّها ومعلمها ، وأنها منهم تنبع وإليهم ترجع .

أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8)

{ فِى أَنفُسِهِمْ } يحتمل أن يكون ظرفاً ، كأنه قيل : أولم يحدثوا التفكر في أنفسهم ، أي : في قلوبهم الفارغة من الفكر ، والتفكر لا يكون إلا في القلوب ، ولكنه زيادة تصوير لحال المتفكرين ، كقولك : اعتقده في قلبك وأضمره في نفسك ، وأن يكون صلة للتفكر ، كقولك : تفكر في الأمر وأجال فيه فكره . و { مَّا خَلَقَ } متعلق بالقول المحذوف ، معناه : أولم يتفكروا فيقولوا هذا القول . وقيل : معناه : فيعلموا ، لأنّ في الكلام دليلاً عليه { إِلاَّ بالحق وَأَجَلٍ مُّسَمًى } أي ما خلقها باطلاً وعبثاً بغير غرض صحيح وحكمة بالغة ، ولا لتبقى خالدة : إنما خلقها مقرونة بالحق مصحوبة بالحكمة ، وبتقدير أجل مسمى لا بد لها من أن تنتهي إليه ، وهو قيام الساعة ووقت الحساب والثواب والعقاب . ألا ترى إلى قوله تعالى : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خلقناكم عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ } [ المؤمنون : 115 ] كيف سمي تركهم غير راجعين إليه عبثاً . والباء في قوله : { إِلاَّ بالحق } مثلها في قولك : دخلت عليه بثياب السفر ، واشترى الفرس بسرجه ولجامه ، تريد : اشتراه وهو ملتبس بالسرج واللجام ، غير منفك عنهما . وكذلك المعنى ما خلقها إلا وهي ملتبسة بالحق مقترنة به ، فإن قلت : إذا جعلت { فى أَنفُسِهِمْ } صلة للتفكر ، فما معناه؟ قلت : معناه : أولم يتفكروا في أنفسهم التي هي أقرب إليهم من غيرها من المخلوقات ، وهم أعلم وأخبر بأحوالها منهم بأحوال ما عداها ، فتدبروا ما أودعها الله ظاهراً وباطناً من غرائب الحكم الدالة على التدبير دون الإهمال وأنه لا بد لها من انتهاء إلى وقت يجازيها فيه الحكيم الذي دبر أمرها على الإحسان إحساناً وعلى الإساءة مثلها ، حتى يعلموا عند ذلك أن سائر الخلائق كذلك أمرها جار على الحكمة والتدبير وأنه لا بد لها من الانتهاء إلى ذلك الوقت ، والمراد بلقاء ربهم : الأجل المسمى .

أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9)

{ أَوَلَمْ يَسِيرُواْ } تقرير لسيرهم في البلاد ونظرهم إلى آثار المدمّرين من عاد وثمود وغيرهم من الأمم العاتية ، ثم أخذ يصف لهم أحوالهم وأنهم { كانوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ الأرض } وحرثوها قال الله تعالى : { لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرض } [ البقرة : 71 ] وقيل لبقر الحرث : المثيرة . وقالوا : سمي ثوراً لإثارته الأرض وبقرة؛ لأنها تبقرها أي تشقها { وَعَمَرُوهَا } يعني أولئك المدمّرون { أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا } من عمارة أهل مكة ، وأهل مكة : أهل واد غير ذي زرع ، ما لهم إثارة الأرض أصلاً ولا عمارة لها رأساً فما هو إلا تهكم بهم ، وبضعف حالهم في دنياهم؛ لأنّ معظم ما يستظهر به أهل الدنيا ويتباهون به أمر الدهقنة ، وهم أيضاً ضعاف القوى ، فقوله : { كانوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً } أي عاد وثمود وأضرابهم من هذا القبيل ، كقوله : { أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذى خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً } [ فصلت : 15 ] وإن كان هذا أبلغ ، لأنه خالق القوى والقدر . فما كان تدميره إياهم ظلماً لهم ، لأنّ حاله منافية للظلم ، ولكنهم ظلموا أنفسهم حيث عملوا ما أوجب تدميرهم .

ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)

قرىء «عاقبة» بالنصب والرفع . و { السواأى } تأنيث الأسوأ وهو الأقبح ، كما أنّ الحسنى تأنيث الأحسن . والمعنى : أنهم عوقبوا في الدنيا بالدمار ، ثم كانت عاقبتهم سوأى؛ إلا أنه وضع المظهر موضع المضمر ، أي : العقوبة التي هي أسوأ العقوبات في الآخرة ، وهي جهنم التي أعدّت للكافرين . و { أَن كَذَّبُواْ } بمعنى لأن كذبوا . ويجوز أن يكون أن بمعنى : أي؛ لأنه إذا كان تفسير الإساءة التكذيب والاستهزاء كانت في معنى القول ، نحو : نادى . وكتب ، وما أشبه ذلك . ووجه آخر : وهو أن يكون { أساءوا السواأى } بمعنى اقترفوا الخطيئة التي هي أسوأ الخطايا ، و { أَن كَذَّبُواْ } عطف بيان لها ، وخبر كان محذوف كما يحذف جواب لما ولو ، إرادة الإبهام .

اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11)

{ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي إلى ثوابه وعقابه . وقرىء بالتاء والياء .

وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13)

الإبلاس : أي يبقى بائساً ساكناً متحيراً . يقال : ناظرته فأبلس . إذا لم ينبس وبئس من أن يحتجّ . ومنه الناقة المبلاس : التي لا ترغو . وقريء «يبلس» بفتح اللام ، من أبلسه إذا أسكته { مِّن شُرَكآئِهِمْ } من الذين عبدوهم من دون الله { وَكَانُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ كافرين } أي يكفرون بآلهتهم ويجحدونها . أو وكانوا في الدنيا كافرين بسببهم . وكتب { شفعاؤا } في المصحف بواو قبل الألف ، كما كتب { عُلَمَاء بَنِي إِسْرائيلَ } [ الشعراء : 197 ] وكذلك كتبت { الساوأى } بألف قبل الياء إثباتاً للهمزة على صورة الحرف الذي منه حركتها .

وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)

الضمير في { يَتَفَرَّقُونَ } للمسلمين والكافرين ، لدلالة ما بعده عليه . وعن الحسن رضي الله عنه : هو تفرّق المسلمين والكافرين : هؤلاء في عليين ، وهؤلاء في أسفل السافلين - وعن قتادة رضي الله عنه : فرقة لا اجتماع بعدها { فِى رَوْضَةٍ } في بستان ، وهي الجنة . والتنكير لإبهام أمرها وتفخيمه . والروضة عند العرب : كل أرض ذات نبات وماء . وفي أمثالهم : أحسن من بيضة في روضة ، يريدون : بيضة النعامة { يُحْبَرُونَ } يسرون . يقال : حبره إذا سرّه سروراً تهلل له وجهه وظهر فيه أثره ، ثم اختلفت فيه الأقاويل لاحتماله وجوه جميع المسارّ؛ فعن مجاهد رضي الله عنه : يكرمون ، وعن قتادة : ينعمون . وعن ابن كيسان : يحلون . وعن أبي بكر بن عياش : التيجان على رؤوسهم . وعن وكيع : السماع في الجنة . وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم :

( 838 ) أنَّه ذكرَ الجنةَ وما فيها منَ النعيم ، وفي آخرِ القوم أعرابيّ فقال : يا رسولَ اللَّهِ ، هل في الجنةِ من سماع؟ قالَ : " نعم يا أَعرابي ، إنّ في الجنة لنهراً حافتاه الأبكار من كلِّ بيضاء خوصانية ، يتغنين بأصواتٍ لم تسمعّ الخلائق بمثلها قط ، فذلكَ أفضلَ نعم الجنة " قال الراوي : فسألت أبا الدرداء : بم يتغنين؟ قال : بالتسبيح . وروي :

( 839 ) «إنّ في الجنة لأشجاراً عليها أجراس من فضة ، فإذا أراد أهل الجنة السماع بعث الله ريحاً من تحت العرش فتقع في تلك الأشجار ، فتحرك تلك الأجراس بأصوات لو سمعها أهل الدنيا لماتوا طرباً» { مُحْضَرُونَ } لا يغيبون عنه ولا يخفف عنهم ، كقوله : { وَمَا هُم بخارجين مِنْهَا } [ المائدة : 37 ] ، { لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ } [ الزخرف : 75 ] .

فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19)

لما ذكر الوعد والوعيد ، أتبعه ذكر ما يوصل إلى الوعد وينجي من الوعيد والمراد بالتسبيح ظاهره الذي هو تنزيه الله من السوء والثناء عليه بالخير في هذه الأوقات لما يتجدّد فيها من نعمة الله الظاهرة . وقيل : الصلاة . وقيل لابن عباس رضي الله عنهما : هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ قال : نعم ، وتلا هذه الآية { تُمْسُونَ } صلاتا المغرب والعشاء { تُصْبِحُونَ } صلاة الفجر { وَعَشِيّاً } صلاة العصر . و { تُظْهِرُونَ } صلاة الظهر . وقوله : { وَعَشِيّاً } متصل بقوله : { حِينَ تُمْسُونَ } وقوله : { وَلَهُ الحمد فِى السماوات والأرض } اعتراض بينهما . ومعناه : إنّ على المميزين كلهم من أهل السموات والأرض أن يحمدوه . فإن قلت : لم ذهب الحسن رحمه الله إلى أنّ هذه الآية مدنية؟ قلت : لأنه كان يقول : فرضت الصلوات الخمس بالمدينة وكان الواجب بمكة ركعتين في غير وقت معلوم . والقول الأكثر أنّ الخمس إنما فرضت بمكة . وعن عائشة رضي الله عنها :

( 840 ) " فرضت الصلاة ركعتين فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أقرّت صلاة السفر ، وزيد في صلاة الحضر " وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( 841 ) " من سره أن يكال له بالقفيز الأوفي فليقل : { فسبحان الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ( 17 ) } . . . الآية " وعنه عليه السلام :

( 842 ) " من قال حين يصبح : { فسبحان الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } إلى قوله : { وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ } أدرك ما فاته في يومه . ومن قالها حين يمسي أدرك ما فاته في ليلته " ، وفي قراءة عكرمة : «حينا تمسون وحينا تصبحون» والمعنى : تمسون فيه وتصبحون فيه . كقوله : { يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا } [ البقرة : 48 ] بمعنى فيه { الحى مِنَ الميت } الطائر من البيضة ، و { الميت مِنَ الحى } البيضة من الطائر . وإحياء الأرض : إخراج النبات منها { وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ } ومثل ذلك الإخراج تخرجون من القبور وتبعثون . والمعنى : أنّ الإبداء والإعادة متساويان في قدرة من هو قادر على الطرد والعكس من إخراج الميت من الحيّ وإخراج الحي من الميت وإحياء الميت وإماتة الحي . وقرىء «الميت» بالتشديد . «وتخرجون» ، بفتح التاء .

وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)

{ خَلَقَكُم مّن تُرَابٍ } لأنه خلق أصلهم منه . و { إِذَآ } للمفاجأة . وتقديره : ثم فاجأتهم وقت كونكم بشراً منتشرين في الأرض . كقوله : { وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء } [ النساء : 1 ] ، { مِّنْ أَنفُسِكُمْ أزواجا } لأنّ حوّاء خلقت من ضلع آدم عليه السلام ، والنساء بعدها خلقن من أصلاب الرجال . أو من شكل أنفسكم وجنسها ، لا من جنس آخر ، وذلك لما بين الاثنين من جنس واحد من الإلف والسكون ، وما بين الجنسين المختلفين من التنافر { وَجَعَلَ بَيْنَكُم } التوادّ والتراحم بعصمة الزواج ، بعد أن لم تكن بينكم سابقة معرفة ، ولا لقاء ، ولا سبب يوجب التعاطف من قرابة أو رحم . وعن الحسن رضي الله عنه : المودة كناية عن الجماع ، والرحمة عن الولد ، كما قال : { وَرَحْمَةً مِّنَّا } [ مريم : 21 ] وقال : { ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ } [ مريم : 2 ] . ويقال : سكن إليه ، إذا مال إليه ، كقولهم : انقطع إليه ، واطمأن إليه - ومنه السكن . وهو الإلف المسكون إليه . فعل بمعنى مفعول . وقيل : إن المودة والرحمة من قبل الله وإن الفرك من قبل الشيطان .

وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22)

الألسنة : اللغات ، أو أجناس النطق وأشكاله . خالف عزّ وعلا بين هذه الأشياء حتى لا تكاد تسمع منطقين متفقين في همس واحد ، ولا جهارة ، ولا حدّة ، ولا رخاوة ، ولا فصاحة ، ولا لكنة ، ولا نظم ، ولا أسلوب ، ولا غير ذلك من صفات النطق وأحواله ، وكذلك الصور وتخطيطها ، والألوان وتنويعها ، ولاختلاف ذلك وقع التعارف ، وإلا فلو اتفقت وتشاكلت وكانت ضرباً واحداً لوقع التجاهل والالتباس ، ولتعطلت مصالح كثيرة ، وربما رأيت توأمين يشتبهان في الحلية ، فيعروك الخطأ في التمييز بينهما ، وتعرف حكمة الله في المخالفة بين الحليّ وفي ذلك آية بينة حيث ولدوا من أب واحد ، وفرّعوا من أصل فذ ، وهم على الكثرة التي لا يعلمها إلا الله مختلفون متفاوتون . وقريء «للعالمين» بفتح اللام وكسرها ، ويشهد للكسر قوله تعالى : { وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ العالمون } [ العنكبوت : 43 ] .

وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)

هذا من باب اللفّ [ والنشر ] وترتيبه : ومن آياته منامكم وابتغاؤكم من فضله بالليل والنهار ، إلا أنه فصل بين القرينين الأوّلين بالقرينين الآخرين . لأنهما زمانان ، والزمان والواقع فيه كشيء واحد ، مع إعانة اللفّ على الاتحاد . ويجوز أن يراد : منامكم في الزمانين ، وابتغاءكم فيهما ، والظاهر هو الأول لتكرّره في القرآن ، وأسدّ المعاني ما دل عليه القرآن يسمعونه بالآذان الواعية .

وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24)

في { يُرِيكُمْ } وجهان : إضماران ، وإنزال الفعل منزلة المصدر ، وبهما فسر المثل : تسمع بالمعيدي خير من أن تراه . وقول القائل :

وَقَالُوا مَا تَشَاءُ فَقُلْتُ أَلْهُو ... إِلَى الإِصبَاحِ آثَرَ ذِي أَثِيرِ

{ خَوْفًا } من الصاعقة أو من الإخلاف { وَطَمَعًا } في الغيث . وقيل : خوفاً للمسافر ، وطمعاً للحاضر ، وهما منصوبان على المفعول له . فإن قلت : من حق المفعول له أن يكون فعلاً لفاعل الفعل المعلل؛ والخوف والطمع ليسا كذلك . قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن المفعولين فاعلون في المعنى ، لأنهم راءون ، فكأنه قيل : يجعلكم رائين البرق خوفاً وطمعاً . والثاني : أن يكون على تقدير حذف المضاف ، أي : إرادة خوف وإرادة طمع ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه . ويجوز أن يكون حالين؛ أي : خائفين وطامعين . وقرىء «ينزل» بالتشديد .

وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26)

{ وَمِنْ ءاياته } قيام السموات والأرض واستمساكهما بغير عمد { بِأَمْرِهِ } أي بقوله : كونا قائمتين . والمراد بإقامته لهما : إرادته لكونهما على صفة القيام دون الزوال . وقوله : { إِذَا دَعَاكُمْ } بمنزلة قوله : يريكم ، في إيقاع الجملة موقع المفرد على المعنى ، كأنه قال : ومن آياته قيام السموات والأرض ، ثم خروج الموتى من القبور إذا دعاهم دعوة واحدة : يا أهل القبور اخرجوا . والمراد سرعة وجود ذلك من غير توقف ولا تلبث ، كما يجيب الداعي المطاع مدعوّه ، كما قال القائل :

دَعَوْتُ كلَيْباً دَعْوَةً فَكَأَنَّمَا ... دَعَوْتُ بِهِ ابْنَ الطَّوْدِ أَوْ هُوَ أَسْرَعُ

يريد بابن الطود : الصدى ، أو الحجر إذا تدهدى ، وإنما عطف هذا على قيام السموات والأرض بثم ، بياناً لعظم ما يكون من ذلك الأمر واقتداره على مثله ، وهو أن يقول : يا أهل القبور ، قوموا؛ فلا تبقى نسمة من الأوّلين والآخرين إلا قامت تنظر ، كما قال تعالى : { ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ } [ الزمر : 68 ] . قولك : دعوته من مكان كذا ، كما يجوز أن يكون مكانك يجوز أن يكون مكان صاحبك ، تقول : دعوت زيداً من أعلى الجبل فنزل عليّ : ودعوته من أسفل الوادي فطلع إليّ . فإن قلت : بم تعلق { مِّنَ الأرض } أبالفعل أم بالمصدر؟ قلت : هيهات ، إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل . فإن قلت : ما الفرق بين إذا وإذا؟ قلت : الأولى للشرط ، والثانية للمفاجأة ، وهي تنوب مناب الفاء في جواب الشرط . وقرىء «تخرجون» بضم التاء وفتحها { قانتون } [ أي ] منقادون لوجود أفعاله فيهم لا يمتنعون عليه .

وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)

{ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } فيما يجب عندكم وينقاس على أصولكم ويقتضيه معقولكم؛ لأنّ من أعاد منكم صنعة شيء كانت أسهل عليه وأهون من إنشائها ، وتعتذرون للصانع إذا خطيء في بعض ما ينشئه بقولكم : أوّل الغزو أخرق ، وتسمون الماهر في صناعته معاوداً ، تعنون أنه عاودها كرّة بعد أخرى؛ حتى مرن عليها وهانت عليه . فإن قلت : لم ذكر الضمير في قوله : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } والمراد به الإعادة؟ قلت : معناه : وأن يعيده أهون عليه . فإن قلت : لم أخرت الصلة في قوله : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } وقدّمت في قوله : { هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ } [ مريم : 21 ] ؟ قلت : هناك قصد الاختصاص وهو محزه ، فقيل : هو عليّ هين ، وإن كان مستصعباً عندكم أن يولد بين همّ وعاقر؛ وأما ههنا فلا معنى للاختصاص ، كيف والأمر مبني على ما يعقلون من أنّ الإعادة أسهل من الابتداء؛ فلو قدمت الصلة لتغير المعنى . فإن قلت : ما بال الإعادة استعظمت في قوله : { ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ } حتى كأنها فضلت على قيام السموات والأرض بأمره ، ثم هوّنت بعد ذلك؟ قلت : الإعادة في نفسها عظيمة ، ولكنها هوّنت بالقياس إلى الإنشاء . وقيل الضمير في عليه للخلق . ومعناه : أنّ البعث أهون على الخلق من الإنشاء ، لأن تكوينه في حدّ الاستحكام ، والتمام أهون عليه وأقل تعباً وكبداً ، من أن يتنقل في أحوال ويندرج فيها إلى أن يبلغ ذلك الحدّ . وقيل : الأهون بمعنى الهين . ووجه آخر : وهو أن الإنشاء من قبيل التفضل الذي يتخير فيه الفاعل بين أن يفعله وأن لا يفعله ، والإعادة من قبيل الواجب الذي لا بدّ له من فعله ، لأنه لجزاء الأعمال وجزاؤها واجب ، والأفعال : إما محال والمحال ممتنع أصلاً خارج عن المقدور ، وإما ما يصرف الحكيم عن فعله صارف وهو القبيح ، وهو رديف المحال؛ لأنّ الصارف يمنع وجود الفعل كما تمنعه الإحالة . وإما تفضل والتفضل حالة بين بين ، للفاعل أن يفعله وأن لا يفعله . وإما واجب لا بدّ من فعله ، ولا سبيل إلى الإخلال به ، فكان الواجب أبعد الأفعال من الامتناع وأقربها من الحصول . فلما كانت الإعادة من قبيل الواجب ، كانت أبعد الأفعال من الامتناع . وإذا كانت أبعدها من الامتناع ، كانت أدخلها في التأني والتسهل ، فكانت أهون منها . وإذا كانت أهون منها كانت أهون من الإنشاء { وَلَهُ المثل الأعلى } أي الوصف الأعلى الذي ليس لغيره مثله قد عرف به . ووصف في السموات والأرض على ألسنة الخلائق وألسنة الدلائل ، وهو أنه القادر الذي لا يعجز عن شيء من إنشاء وإعادة وغيرهما من المقدورات ، ويدل عليه قوله تعالى : { وَهُوَ العزيز الحكيم } أي القاهر لكل مقدور { الحكيم } الذي يجري كل فعل على قضايا حكمته وعلمه . وعن مجاهد { المثل الأعلى } قول لا إله إلا الله ، ومعناه : وله الوصف الأعلى الذي هو الوصف بالوحدانية . ويعضده قوله تعالى : { ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مّنْ أَنفُسِكُمْ } [ الروم : 28 ] وقال الزجاج : { وَلَهُ المثل الأعلى فِى السماوات والأرض } أي : قوله تعالى : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } قد ضربه لكم مثلاً فيما يصعب ويسهل . يريد : التفسير الأوّل .

ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)

فإن قلت : أي فرق بين الأولى والثانية والثالثة في قوله تعالى : { مِّنْ أَنفُسِكُمْ } ، { مِّن مَّا مَلَكَتْ أيمانكم } ، { مِّن شُرَكَاءَ } ؟ قلت : الأولى للابتداء ، كأنه قال : أخذ مثلاً وانتزعه من أقرب شيء منكم وهي أنفسكم ولم يبعد ، والثانية للتبعيض ، والثالثة مزيدة لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي . ومعناه : هل ترضون لأنفسكم - وعبيدكم أمثالكم بشر كبشر وعبيد كعبيد - أن يشارككم بعضهم { فِى مَا رزقناكم } من الأموال وغيرها ما تكونون أنتم وهم فيه على السواء ، من غير تفضلة بين حرّ وعبد : تهابون أن تستبدوا بتصرف دونهم ، وأن تفتاتوا بتدبير عليهم كما يهاب بعضكم بعضاً من الأحرار ، فإذا لم ترضوا بذلك لأنفسكم ، فكيف ترضون لرب الأرباب ومالك الأحرار والعبيد أن تجعلوا بعض عبيده له شركاء؟ { كذلك } أي مثل هذا التفصيل { نُفَصِّلُ الأيات } أي نبينها : لأن التمثيل مما يكشف المعاني ويوضحها؛ لأنه بمنزلة التصوير والتشكيل لها . ألا ترى كيف صوّر الشرك بالصورة المشوّهة؟ .

بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29)

{ الذين ظلموا } أي أشركوا ، كقوله تعالى : { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] ، { بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي اتبعوا أهواءهم جاهلين لأنّ العالم إذا ركب هواه ربما ردعه علمه وكفه . وأما الجاهل فيهيم على وجهه كالبهيمة لا يكفه شيء { مَنْ أَضَلَّ الله } من خذله ولم يلطف به ، لعلمه أنه ممن لا لطف له ، فمن يقدر على هداية مثله . وقوله : { وَمَا لَهُم مِّن ناصرين } دليل على أن المراد بالإضلال الخذلان .

فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)

{ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينَ } فقوِّم وجهك له وعدِّ له ، غير ملتفت عنه يميناً ولا شمالاً ، وهو تمثيل لإقباله على الدين ، واستقامته عليه ، وثباته ، واهتمامه بأسبابه ، فإنّ من اهتم بالشيء عقد عليه طرفه ، وسدّد إليه نظره ، وقوّم له وجهه ، مقبلاً به عليه . و { حَنِيفاً } حال من المأمور . أو من الدين { فِطْرَتَ الله } أي الزموا فطرة الله . أو عليكم فطرة الله . وإنما أضمرته على خطاب الجماعة لقوله : { مُنِيبِينَ إِلَيْهِ } ومنيبين : حال من الضمير في : الزموا . وقوله : ( واتقوه وَأَقِيمُواْ . . . وَلاَ تَكُونُواْ ) معطوف على هذا الضمير . والفطرة : الخلقة . ألا ترى إلى قوله : { لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله } والمعنى : أنه خلقهم قابلين للتوحيد ودين الإسلام ، غير نائين عنه ولا منكرين له ، لكونه مجاوباً للعقل ، مساوقاً للنظر الصحيح ، حتى لو تركوا لما اختاروا عليه ديناً آخر ، ومن غوى منهم فبإغواء شياطين الإنس والجن . ومنه قوله صلى الله عليه وسلم :

( 843 ) " كل عبادي خلقت حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم وأمروهم أن يشركوا بي غيري " وقوله عليه السلام :

( 844 ) " كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهوّدانه وينصرانه " ، { لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله } أي ما ينبغي أن تبدّل تلك الفطرة أو تغير . فإن قلت : لم وحد الخطاب أوّلاً ، ثم جمع؟ قلت : خوطب رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً ، وخطاب الرسول خطاب لأمته مع ما فيه من التعظيم للإمام ، ثم جمع بعد ذلك للبيان والتلخيص { مِنَ الذين } بدل من المشركين «فارقوا دينهم» تركوا دين الإسلام . وقرىء : «فرّقوا دينهم» بالتشديد ، أي : حعلوه أدياناً مختلفة لاختلاف أهوائهم { وَكَانُواْ شِيَعاً } فرقاً ، كل واحدة تشايع إمامها الذي أضلها { كُلُّ حِزْبٍ } منهم فرح بمذهبه مسرور ، يحسب باطله حقاً - ويجوز أن يكون { مِنَ الذين } منقطعاً مما قبله ، ومعناه : من المفارقين دينهم كل حزب فرحين بما لديهم ، ولكنه رفع فرحون على الوصف لكل ، كقوله :

وَكُلُّ خَلِيلٍ غَيْرُ هَاضِمِ نَفْسِهِ ...

وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34)

الضر : الشدّة من هزال أو مرض أو قحط أو غير ذلك . والرحمة : الخلاص من الشدّة . واللام في { لِيَكْفُرُواْ } مجاز مثلها في { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً } [ القصص : 8 ] . { فَتَمَتَّعُواْ } نظير { اعملوا مَا شِئْتُمْ } [ فصلت : 40 ] { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } وبال تمتعكم . وقرأ ابن مسعود : وليتمتعوا .

أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35)

السلطان : الحجة ، وتكلمه . مجاز ، كما تقول : كتابه ناطق بكذا ، وهذا مما نطق به القرآن . ومعناه الدلالة والشهادة ، كأنه قال : فهو يشد بشركهم وبصحته . وما في { بِمَا كَانُواْ } مصدرية أي : بكونهم بالله يشركون . ويجوز أن تكون موصولة ويرجع الضمير إليها . ومعناه : فهو يتكلم بالأمر الذي يسببه يشركون ، ويحتمل أن يكون المعنى : أم أنزلنا عليهم ذا سلطان ، أي : ملكاً معه برهان فذلك الملك يتكلم بالبرهان الذي بسببه يشركون .

وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36)

{ وَإِذَا أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً } أي نعمة من مطر أو سعة أو صحة { فَرِحُواْ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } أي بلاء من جدب أو ضيق أو مرض - والسبب فيها شؤم معاصيهم - قنطوا من الرحمة .

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)

ثم أنكر عليهم بأنهم قد علموا أنه هو الباسط القابض ، فما لهم يقنطون من رحمته ، وما لهم لا يرجعون إليه تائبين من المعاصي التي عوقبوا بالشدّة من أجلها ، حتى يعيد إليهم رحمته .

فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38)

حق ذي القربى : صلة الرحم . وحق المسكين وابن السبيل : نصيبهما من الصدقة المسماة لهما . وقد احتج أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية في وجوب النفقة للمحارم إذا كانوا محتاجين عاجزين عن الكسب . وعند الشافعي رحمه الله : لا نفقة بالقرابة إلا على الولد والوالدين : قاس سائر القرابات على ابن العم ، لأنه لا ولاد بينهم . فإن قلت : كيف تعلق قوله : { فَئَاتِ ذَا القربى } بما قبله حتى جيء بالفاء؟ قلت : لما ذكر أنّ السيئة أصابتهم بما قدّمت أيديهم ، أتبعه ذكر ما يجب أن يفعل وما يجب أن يترك { يُرِيدُونَ وَجْهَ الله } يحتمل أن يراد بوجهه ذاته أو جهته وجانبه ، أي : يقصدون بمعروفهم إياه خالصاً وحقه ، كقوله تعالى : { إِلاَّ ابتغاء وَجْهِ رَبّهِ الأعلى } [ الليل : 20 ] أو يقصدون جهة التقرّب إلى الله لا جهة أخرى ، والمعنيان متقاربان ، ولكن الطريقة مختلفة .

وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)

هذه الآية في معنى قوله تعالى : { يمحق الله الربا ويربي الصدقات } [ البقرة : 278 ] سواء بسواء ، يريد : وما أعطيتم أكلة الربا { مِّن رِباً لِّيَرْبُوَاْ فى } أموالهم : ليزيد ويزكو في أموالهم ، فلا يزكو عند الله ولا يبارك فيه { وَمَآ ءَاتَيْتُم مِّن زكاوة } أي صدقة تبتغون به وجهه خالصاً ، لا تطلبون به مكافأة ولا رياء وسمعة { فأولائك هُمُ المضعفون } ذوو الإضعاف من الحسنات . ونظير المضعف : المقوى والموسر ، لذي القوّة واليسار : وقرىء بفتح العين . وقيل نزلت في ثقيف ، وكانوا يربون . وقيل : المراد أن يهب الرجل للرجل أو يهدي له ، ليعوّضه أكثر مما وهب أو أهدى ، فليست تلك الزيادة بحرام ، ولكن المعوّض لا يثاب على تلك الزيادة . وقالوا : الربا ربوان : فالحرام : كل قرض يؤخذ فيه أكثر منه : أو يجرّ منفعة . والذي ليس بحرام : أن يستدعى بهبته أو بهديته أكثر منها . وفي الحديث : المستغزر يثاب من هبته وقرىء : «وما أتيتم من ربا» بمعنى : وما غشيتموه أو رهقتموه من إعطاء ربا . وقرىء : «لتربوا» ، أي : لتزيدوا في أموالهم ، كقوله تعالى : { وَيُرْبِى الصدقات } أي يزيدها . وقوله تعالى : { فأولائك هُمُ المضعفون } التفات حسن ، كأنه قال لملائكته وخواص خلقه : فأولئك الذين يريدون وجه الله بصدقاتهم : هم المضعفون . فهو أمدح لهم من أن يقول : فأنتم المضعفون . والمعنى : المضعفون به ، لأنه لا بد من ضمير يرجع إلى ما ، ووجه آخر : وهو أن يكون تقديره : فمؤتوه أولئك هم المضعفون . والحذف لما في الكلام من الدليل عليه ، وهذا أسهل مأخذاً ، والأوّل أملأ بالفائدة .

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)

{ الله } مبتدأ وخبره { الذى خَلَقَكُمْ } أي الله هو فاعل هذه الأفعال الخاصة التي لا يقدر على شيء منها أحد غيره ، ثم قال : { هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ } الذين اتخذتموهم أنداداً له من الأصنام وغيرها { مَّن يَفْعَلُ } شيئاً قط من تلك الأفعال؛ حتى يصح ما ذهبتم إليه ، ثم استبعد حاله من حال شركائهم . ويجوز أن يكون { الذى خَلَقَكُمْ } صفة للمبتدأ ، والخبر : هل من شركائكم ، وقوله : { مِن ذلكم } هو الذي ربط الجملة بالمبتدأ ، لأن معناه : من أفعاله ومن الأولى والثانية والثالثة : كل واحدة منهنّ مستقلة بتأكيد ، لتعجيز شركائهم ، وتجهيل عبدتهم .

ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)

{ الفساد فِى البر والبحر } نحو : الجدب ، والقحط ، وقلة الريع في الزراعات والربح في التجارات ، ووقوع الموتان في الناس والدواب ، وكثر الحرق والغرق ، وإخفاق الصيادين والغاصة ، ومحق البركات من كل شيء ، وقلة المنافع في الجملة وكثرة المضارّ . وعن ابن عباس : أجدبت الأرض وانقطعت مادّة البحر . وقالوا : إذا انقطع القطر عميت دواب البحر . وعن الحسن أنّ المراد بالبحر : مدن البحر وقراه التي على شاطئه . وعن عكرمة : العرب تسمي الأمصار البحار . وقرىء : «في البر والبحور» { بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى الناس } بسبب معاصيهم وذنوبهم ، كقوله تعالى : { وَمَا أصابكم مِّن مُّصِيبَةٍ فيِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } [ الشورى : 30 ] وعن ابن عباس { ظَهَرَ الفساد فِى البر } بقتل ابن آدم أخاه . وفي البحر بأن جلندي كان يأخذ كل سفينة غصباً ، وعن قتادة : كان ذلك قبل البعثه ، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع راجعون عن الضلال والظلم . ويجوز أن يريد ظهور الشر والمعاصي بكسب الناس ذلك . فإن قلت : ما معنى قوله : { لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الذى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } ؟ قلت أمّا على التفسير الأول فظاهر ، وهو أنّ الله قد أفسد أسباب دنياهم ومحقها ، ليذيقهم وبال بعضهم أعمالهم في الدنيا قبل أن يعاقبهم بجميعها في الآخرة ، لعلهم يرجعون عما هم عليه ، وأمّا على الثاني فاللام مجاز ، على معنى أنّ ظهور الشرور بسببهم مما استوجبوا به أن يذيقهم الله وبال أعمالهم إرادة الرجوع ، فكأنهم إنما أفسدوا وتسببوا لفشوّ المعاصي في الأرض لأجل ذلك . وقرىء : «لنذيقهم» بالنون .

قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)

ثم أكد تسبب المعاصي لغضب الله ونكاله : حيث أمرهم بأن يسيروا في الأرض فينظروا كيف أهلك الله الأمم وأذاقهم سوء العاقبة لمعاصيهم ، ودل بقوله : { كَانَ أَكْثَرُهُمُ مُّشْرِكِينَ } على أنّ الشرك وحده لم يكن سبب تدميرهم ، وأنّ ما دونه من المعاصي يكون سبباً لذلك .

فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43)

القيم : البليغ الاستقامة الذي لا يتأتى فيه عوج { مِنَ الله } إمّا أن يتعلق بيأتي ، فيكون المعنى : من قبل أن يأتي من الله يوم لا يردّه أحد ، كقوله تعالى : { فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا } [ الأنبياء : 40 ] أو بمردّ ، على معنى : لا يردّه هو بعد أن يجيء به ، ولا ردّ له من جهته . والمردّ : مصدر بمعنى الردّ { يَصَّدَّعُونَ } يتصدّعون : أي يتفرقون ، كقوله تعالى : { وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } [ الروم : 14 ] .

مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)

{ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ } كلمة جامعة لما لا غاية وراءه من المضارّ . لأنّ من كان ضاره كفره؛ فقد أحاطت به كلّ مضرّة { فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ } أي يسوّون لأنفسهم ما يسوّيه لنفسه الذي يمهد فراشه ويوطئه ، لئلا يصيبه في مضجعه ما ينبيه عليه وينغص عليه مرقده : من نتوء أو قضض أو بعض ما يؤذي الراقد . ويجوز أن يريد : فعلى أنفسهم يشفقون ، من قولهم في المشفق : أمّ فرشت فأنامت . وتقديم الظرف في الموضعين للدلالة على أنّ ضرر الكفر لا يعود إلا على الكافر لا يتعدّاه . ومنفعة الإيمان والعمل الصالح : ترجع إلى المؤمن لا تتجاوزه { لِيَجْزِىَ } متعلق بيمهدون تعليل له { مِن فَضْلِهِ } مما يتفضل عليهم بعد توفية الواجب من الثواب؛ وهذا يشبه الكناية ، لأن الفضل تبع للثواب ، فلا يكون إلا بعد حصول ما هو تبع له : أو أراد من عطائه وهو ثوابه؛ لأن الفضول والفواضل هي الأعطية عند العرب . وتكرير { الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } وترك الضمير إلى الصريح لتقرير أنه لا يفلح عنده إلا المؤمن الصالح . وقوله : { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الكافرين } تقرير بعده تقرير ، على الطرد والعكس .

وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)

{ الرياح } هي الجنوب والشمال والصبا ، وهي رياح الرحمة . وأما الدبور ، فريح العذاب . ومنه قوله صلى الله عليه وسلم :

( 845 ) « اللَّهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً » وقد عدد الأغراض في إرسالها ، وأنه أرسلها للبشارة بالغيث ولإذاقة الرحمة ، وهي نزول المطر وحصول الخصب الذي يتبعه ، والروح الذي مع هبوب الريح وزكاء الأرض . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( 846 ) « إذا كثرت المؤتفكات زكت الأرض » وإزالة العفونة من الهواء ، وتذرية الحبوب ، وغير ذلك { وَلِتَجْرِىَ الفلك } في البحر عند هبوبها . وإنما زاده { بِأَمْرِهِ } لأن الريح قد تهب ولا تكون مؤاتية ، فلا بد من إرساء السفن والاحتيال لحبسها ، وربما عصفت فأغرقتها { وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } يريد تجارة البحر؛ ولتشكروا نعمة الله فيها . فإن قلت : بم يتعلق وليذيقكم؟ قلت : فيه وجهان : أن يكون معطوفاً على مبشرات على المعنى ، كأنه قيل : ليبشركم وليذيقكم . وأن يتعلق بمحذوف تقديره : وليذيقكم ، وليكون كذا وكذا : أرسلناها .

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)

اختصر الطريق إلى الغرض بأن أدرج تحت ذكر الانتصار والنصر ذكر الفريقين ، وقد أخلى الكلام أوّلاً عن ذكرهما . وقوله : { وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين } تعظيم للمؤمنين ، ورفع من شأنهم ، وتأهيل لكرامة سنية ، وإظهار لفضل سابقة ومزية ، حيث جعلهم مستحقين على الله أن ينصرهم ، مستوجبين عليه أن يظهرهم ويظفرهم ، وقد يوقف على { حَقّاً } . ومعناه : وكان الانتقام منهم حقاً ، ثم يبتدأ : { عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين } ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم :

( 847 ) « ما من امرىء مسلم يردّ عن عرض أخيه إلا كان حقاً على الله أن يردّ عنه نار جهنم يوم القيامة » ثم تلا قوله تعالى : { وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين } .

اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49)

{ فَيَبْسُطُهُ } متصلاً تارة { وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً } أي قطعاً تارة { فَتَرَى الودق يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ } في التارتين جميعاً . والمراد بالسماء . سمت السماء وشقها ، كقوله تعالى : { وَفَرْعُهَا فِى السماء } [ إبراهيم : 24 ] ، وبإصابة العباد : إصابة بلادهم وأراضيهم { مِن قَبْلِهِ } من باب التكرير والتوكيد ، كقوله تعالى : { فَكَانَ عاقبتهما أَنَّهُمَا فِى النار خالدين فِيهَا } [ الحشر : 17 ] . ومعنى التوكيد فيه : الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول وبعد ، فاستحكم بأسهم وتمادى إبلاسهم فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم بذلك .

==============

ج14. كتاب : الكشاف أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري

فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)

قرىء : «أثر» و«آثار» على الوحدة والجمع . وقرأ أبو حيوة وغيره : «كيف تحيي» ، أي : الرحمة { إِنَّ ذلك } يعني إنّ ذلك القادر الذي يحي الأرض بعد موتها ، هو الذي يحي الناس بعد موتهم { وَهُوَ على كُلّ شَىْء } من المقدورات قادر ، وهذا من جملة المقدورات بدليل الإنشاء .

وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)

{ فَرَأَوْهُ } فرأوا أثر رحمة الله . لأنّ رحمة الله هي الغيث ، وأثرها : النبات . ومن قرأ بالجمع : رجع الضمير إلى معناه؛ لأنّ معنى آثار الرحمة النبات ، واسم النبات يقع على القليل والكثير ، لأنه مصدر سمي به ما ينبت . ولئن : هي اللام الموطئة للقسم ، دخلت على حرف الشرط ، و { لَّظَلُّواْ } جواب القسم سدّ مسدّ الجوابين ، أعني : جواب القسم وجواب الشرط ، ومعناه : ليظلنّ ذمّهم الله تعالى بأنه إذا حبس عنهم القطر قنطوا من رحمته وضربوا أذقانهم على صدورهم مبلسين ، فإذا أصابهم برحمته ورزقهم المطر : استبشروا وابتهجوا ، فإذا أرسل ريحاً فضرب زروعهم بالصفار ، ضجوا وكفروا بنعمة الله . فهم في جميع هذه الأحوال على الصفة المذمومة ، كان عليهم أن يتوكلوا على الله وفضله ، فقنطوا . وأن يشكروا نعمته ويحمدوه عليها ، فلم يزيدوا على الفرح والاستبشار . وأن يصبروا على بلائه ، فكفروا . والريح التي اصفرّ لها النبات : يجوز أن تكون حروراً وحرجفاً ، فكلتاهما مما يصوح له النبات ويصبح هشيماً . وقال : مصفرّاً : لأنّ تلك صفرة حادثة . وقيل : فرأوا السحاب مصفراً ، لأنه إذا كان كذلك لم يمطر .

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)

قرىء : بفتح الضاد وضمها ، وهما لغتان . والضم أقوى في القراءة ، لما روى ابن عمر رضي الله عنهما : قال :

( 848 ) قرأتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضَعف ، فأقرأني من ضُعف . وقوله : { خَلَقَكُمْ مّن ضَعْفٍ } كقوله : { خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ } [ الأنبياء : 37 ] يعني أنّ أساس أمركم وما عليه جبلتكم وبنيتكم الضعف { وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً } [ النساء : 28 ] أي ابتدأناكم في أوّل الأمر ضعافاً . وذلك حال الطفولة والنشء حتى بلغتم وقت الاحتلام والشبيبة ، وتلك حال القوّة إلى الاكتهال وبلوغ الأشدّ ، ثم رددتم إلى أصل حالكم وهو الضعف بالشيخوخة والهرم . وقيل : من ضعف من النطف ، كقوله تعالى : { مّن مَّاء مَّهِينٍ } [ السجدة : 8 ] ، [ المرسلات : 20 ] وهذا الترديد في الأحوال المختلفة ، والتغيير من هيئة إلى هيئة وصفة إلى صفة : أظهر دليل وأعدل شاهد على الصانع العليم القادر .

وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55)

{ الساعة } القيامة ، سميت بذلك لأنها تقوم في آخر ساعة من ساعة الدنيا ، أو لأنها تقع بغتة وبديهة . كما تقول : «في ساعة» لمن تستعجله ، وجرت علماً لها كالنجم للثريا ، والكوكب للزهرة . وأرادوا : لبثهم في الدنيا ، أو في القبور ، أو فيما بين فناء الدنيا إلى البعث . وفي الحديث :

( 849 ) " ما بينَ فناءِ الدُّنيا إلى وقتِ البعثِ أربعَونَ " قالوا : لا نعلم أهي أربعون سنة أم أربعون ألف سنة؟ وذلك وقت يفنون فيه وينقطع عذابهم ، وإنما يقدّرون وقت لبثهم بذلك على وجه استقصارهم له . أو ينسون أو يكذبون أو يخمنون { كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ } أي مثل ذلك الصرف كانوا يصرفون عن الصدق والتحقيق في الدنيا ، وهكذا كانوا يبنون أمرهم على خلاف الحق . أو مثل ذلك الإفك كانوا يؤفكون في الاغترار بما تبين لهم الآن أنه ما كان إلا ساعة .

وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)

القائلون : هم الملائكة ، والأنبياء . والمؤمنون { فِى كتاب الله } في اللوح . أو في علم الله وقضائه . أو فيما كتبه ، أي : أوجبه بحكمته . ردّوا ما قالوه وحلفوا عليه ، وأطلعوهم على الحقيقة ثم وصلوا ذلك بتقريعهم على إنكار البعث بقولهم : { فهذا يَوْمُ البعث ولكنكم كُنتمْ لاَ تَعْلَمُونَ } أنه حق لتفريطكم في طلب الحق واتباعه . فإن قلت : ما هذه الفاء؟ وما حقيقتها؟ قلت : هي التي في قوله :

فَقَدْ جِئْنَا خُرَاسَانَا ... وحقيقتها : أنها جواب شرط يدل عليه الكلام ، كأنه قال : إن صح ما قلتم من أن خراسان أقصى ما يراد بنا فقد جئنا خراسان ، وآن لنا أن نخلص ، وكذلك إن كنتم منكرين البعث فهذا يوم البعث ، أي فقد تبين بطلان قولكم . وقرأ الحسن يوم البعث ، بالتحريك { لاَّ ينفَعُ } قرىء بالياء والتاء { يُسْتَعْتَبُونَ } من قولك : استعتبني فلان فأعتبته . أي : استرضاني فأرضيته ، وذلك إذا كنت جانياً عليه . وحقيقة أعتبته : أزلت عتبه . ألا ترى إلى قوله :

غَضِبَتْ تَمِيمٌ أَنْ تُقَتِّلَ عامِرٌ ... يَومَ النِّسَارِ فَأَعْتَبُوا بِالصِّيْلَمِ

كيف جعلهم غضابا ، ثم قال : فأعتبوا ، أي : أزيل غضبهم . والغضب في معنى العتب . والمعنى : لا يقال لهم أرضوا ربكم بتوبة وطاعة ، ومثله قوله تعالى : { لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ } [ الجاثية : 35 ] . فإن قلت : كيف جعلوا غير مستعتبين في بعض الآيات ، وغير معتبين في بعضها ، وهو قوله : { وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مّنَ المعتبين } [ فصلت : 24 ] ؟ قلت : أما كونهم غير مستعتبين : فهذا معناه . وأما كونهم غير معتبين ، فمعناه : أنهم غير راضين بما هم فيه ، فشبهت حالهم بحال قوم جنى عليهم ، فهم عاتبون على الجاني غير راضين عنه ، فإن يستعتبوا الله : أي يسألوه إزالة ما هم فيه ، فما هم من المجابين إلى إزالته .

وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)

{ وَلَقَدْ } وصفنا لهم كل صفة كأنها مثل في غرابتها ، وقصصنا عليهم كل قصة عجيبة الشأن ، كصفة المبعوثين يوم القيامة ، وقصتهم ، وما يقولون وما يقال لهم ، وما لا ينفع من اعتذارهم ولا يسمع من استعتابهم ، ولكنهم - لقسوة قلوبهم ومج أسماعهم حديث الآخرة - إذا جئتهم بآية من آيات القرآن ، قالوا : جئتنا بزور وباطل ، ثم قال : مثل ذلك الطبع يطبع الله على قلوب الجهلة . ومعنى طبع الله : منع الألطاف التي ينشرح لها الصدور حتى تقبل الحق ، وإنما يمنعها من علم أنها لا تجدي عليه ولا تغني عنه ، كما يمنع الواعظ الموعظة من يتبين له أنّ الموعظة تلغو ولا تنجع فيه ، فوقع ذلك كناية عن قسوة قلوبهم وركوب الصدأ والرين إياها ، فكأنه قال : كذلك تقسو وتصدأ قلوب الجهلة ، حتى يسموا المحقين مبطلين ، وهم أعرق خلق الله في تلك الصفة { فاصبر } على عداوتهم { إِنَّ وَعْدَ الله } بنصرتك وإظهار دينك على الدين كله { حَقٌّ } لا بد من إنجازه والوفاء به ، ولا يحملنك على الخفة والقلق جزعاً مما يقولون ويفعلون فإنهم قوم شاكون ضالون لا يستبدع منهم ذلك وقرىء بتخفيف النون وقرأ ابن أبي إسحاق ويعقوب : «ولا يستحقنك» ، أي : لا يفتننك فيملكوك ويكونوا أحق بك من المؤمنين .

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( 850 ) " مَن قرأَ سورةَ الرومِ كانَ لَهُ منَ الأَجرِ عشرُ حسناتٍ بعددِ كلِّ ملكٍ سبحَ اللَّهُ بينَ السماءِ والأرضِ وأدركَ ما ضيَّع في يومِهِ وليلتِه "

الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)

{ الكتاب الحكيم } ذي الحكمة . أو وصف بصفة الله تعالى على الإسناد المجازي . ويجوز أن يكون الأصل : الحكيم قائله ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، فبانقلابه مرفوعاً بعد الجر استكن في الصفة المشبهة { هُدًى وَرَحْمَةً } بالنصب على الحال عن الآيات ، والعامل فيها : ما في تلك من معنى الإشارة . وبالرفع على أنه خبر بعد خبر ، أو خبر مبتدأ محذوف { لّلْمُحْسِنِينَ } للذين يعملون الحسنات وهي التي ذكرها : من إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والإيقان بالآخرة ونظيره قول أوس :

الأَلْمَعِيُّ الَّذِي يَظُنُّ بِكَ الظَّنَّ ... كَأَنْ قَدْ رَأَى وَقَدْ سَمِعَا

حكى عن الأصمعي : أنه سئل عن الألمعي فأنشده ولم يزد . أو للذين يعملون جميع ما يحسن من الأعمال ، ثم خص منهم القائمين بهذه الثلاث بفضل الاعتداد بها .

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)

اللهو كل باطل ألهى عن الخير وعما يعني و { لَهْوَ الحديث } نحو السمر بالأساطير والأحاديث التي لا أصل لها ، والتحدث بالخرفات والمضاحيك وفضول الكلام ، وما لا ينبغي من كان وكان ، ونحو الغناء وتعلم الموسيقار ، وما أشبه ذلك . وقيل : نزلت في النضر بن الحرث ، وكان يتجر إلى فارس ، فيشتري كتب الأعاجم فيحدث بها قريشاً ويقول : إن كان محمد يحدثكم بحديث عاد وثمود فأنا أحدثكم بأحاديث رستم وبهرام والأكاسرة وملوك الحيرة ، فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن . وقيل : كان يشتري المغنيات ، فلا يظفر بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته فيقول : أطعميه واسقيه وغنيه ، ويقول : هذا خير مما يدعوك إليه محمد من الصلاة والصيام وأن تقاتل بين يديه . وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم :

( 851 ) " لا يحلُّ بيعُ المغنياتِ ولا شراؤُهن ولا التجارةُ فيهنّ ولا أثمانهنّ " وعنه صلى الله عليه وسلم :

( 852 ) " ما مِنْ رجلٍ يَرفعُ صوتَه بالغناءِ إلا بَعث اللَّهُ عليهِ شيطانَين : أحدُهما على هذا المنكبِ والآخرُ على هذا المنكبِ ، فلا يزالان يضربانهِ بأَرجلِهِما حتى يكونَ هو الذي يسكتُ " ، وقيل : الغناءُ منفدة للمال ، مسخطة للرب ، مفسدة للقلب . فإن قلت : ما معنى إضافة اللهو إلى الحديث؟ قلت : معناها التبيين ، وهي الإضافة بمعنى من ، وأن يضاف الشيء إلى ما هو منه ، كقولك : صفّة خز وباب ساج . والمعنى : من يشتري اللهو من الحديث؛ لأن اللهو يكون من الحديث ومن غيره ، فبين بالحديث . والمراد بالحديث . الحديث المنكر ، كما جاء في الحديث :

( 853 ) " الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش " ويجوز أن تكون الإضافة بمعنى «من» التبعيضية ، كأنه قيل : ومن الناس من يشتري بعض الحديث الذي هو اللهو منه . وقوله : { يَشْتَرِى } إما من الشراء ، على ما روى عن النضر : من شراء كتب الأعاجم أو من شراء القيان . وإما من قوله : { اشتروا الكفر بالإيمان } [ آل عمران : 177 ] أي استبدلوه منه واختاروه عليه . وعن قتادة : اشتراؤه : استحبابه ، يختار حديث الباطل على حديث الحق . وقرىء : { لِيُضِلَّ } بضم الياء وفتحها . و { سَبِيلِ الله } دين الإسلام أو القرآن . فإن قلت : القراءة بالضم بينة ، لأن النضر كان غرضه باشتراء اللهو : أن يصدّ الناس عن الدخول في الإسلام واستماع القرآن ويضلهم عنه ، فما معنى القراءة بالفتح؟ قلت : فيه معنيان ، أحدهما : ليثبت على ضلاله الذي كان عليه ، ولا يصدف عنه ، ويزيد فيه ويمدّه ، فإن المخذول كان شديد الشكيمة في عداوة الدين وصدّ الناس عنه . والثاني : أن يوضع ليضل موضع ليضل ، من قبل أن من أضل كان ضالاً لا محالة ، فدل بالرديف على المردوف . فإن قلت : ما معنى قوله : { بِغَيْرِ عِلْمٍ } قلت : لما جعله مشترياً لهو الحديث بالقرآن قال : يشتري بغير علم بالتجارة وبغير بصيرة بها ، حيث يستبدل الضلال بالهدى والباطل بالحق .

ونحوه قوله تعالى : { فَمَا رَبِحَت تجارتهم وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } [ البقرة : 16 ] أي : وما كانوا مهتدين للتجارة بصراء بها : وقرىء { وَيَتَّخِذَهَا } بالنصب والرفع عطفاً على يشتري . أو ليضل ، والضمير للسبيل؛ لأنها مؤنثة ، كقوله تعالى : { وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله مَنْ ءامَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا } [ الأعراف : 86 ] . { ولى مُسْتَكْبِراً } زاما لا يعبأ بها ولا يرفع بها رأساً : تشبه حاله في ذلك حال من لم يسمعها وهو سامع { كَأَنَّ فِى أُذُنَيْهِ وَقْراً } أي ثقلاً ولا وقر فيهما ، وقرىء : بسكون الذال . فإن قلت : ما محل الجملتين المصدرتين بكأن؟ قلت : الأولى حال من مستكبراً والثانية من لم يسمعها : ويجوز أن تكونا استئنافين ، والأصل في كأن المخففة : كأنه ، والضمير : ضمير الشأن .

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)

{ وَعْدَ الله حَقّا } مصدران مؤكدان ، الأوّل : مؤكد لنفسه والثاني مؤكد لغيره؛ لأن قوله : { لَهُمْ جنات النعيم } في معنى : وعدهم الله جنات النعيم ، فأكد معنى الوعد بالوعد . وأما { حَقّاً } فدال على معنى الثبات : أكد به معنى الوعد ، ومؤكدهما جميعاً قوله : { لَهُمْ جنات النعيم } { وَهُوَ العزيز } الذي لا يغلبه شيء ولا يعجزه ، يقدر على الشيء وضده ، فيعطى النعيم من شاء والبؤس من شاء ، وهو { الحكيم } لا يشاء إلا ما توجبه الحكمة والعدل { تَرَوْنَهَا } الضمير فيه للسموات ، وهو استشهاد برؤيتهم لها ، غير معمودة على قوله : { بِغَيْرِ عَمَدٍ } كما تقول لصاحبك : أنا بلا سيف ولا رمح تراني فإن قلت : ما محلها من الإعراب؟ قلت : لا محل لها لأنها مستأنفة . أو هي في محل الجرّ صفة للعمد أي : بغير عمد مرئية ، يعني : أنه عمدها بعمد لا ترى ، وهي إمساكها بقدرته { هذا } إشارة إلى ما ذكر من مخلوقاته . والخلق بمعنى المخلوق . و { الذين مِن دُونِهِ } آلهتهم ، بكتهم بأن هذه الأشياء العظيمة مما خلقه الله وأنشأه . فأروني ماذا خلقته آلهتكم حتى استوجبوا عندكم العبادة ، ثم أضرب عن تبكيتهم إلى التسجيل عليهم بالتورّط في ضلال ليس بعده ضلال .

وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)

هو لقمان بن باعورا : ابن أخت أيوب أو ابن خالته . وقيل : كان من أولاد آزر ، وعاش ألف سنة ، وأدرك داود عليه السلام وأخذ منه العلم ، وكان يفتي قبل مبعث داود عليه السلام ، فلما بعث قطع الفتوى ، فقيل له؟ فقال : ألا أكتفي إذا كفيت؟ وقيل : كان قاضياً في بني إسرائيل ، وأكثر الأقاويل أنه كان حكيماً ولم يكن نبياً ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : لقمان لم يكن نبياً ولا ملكاً ، ولكن كان راعياً أسود ، فرزقه الله العتق ، ورضي قوله ووصيته ، فقص أمره في القرآن لتمسكوا بوصيته . وقال عكرمة والشعبي : كان نبياً . وقيل : خيّر بين النبوّة والحكمة فاختار الحكمة . وعن ابن المسيب : كان أسود من سودان مصر خياطاً ، وعن مجاهد : كان عبداً أسود غليظ الشفتين متشقق القدمين . وقيل : كان نجاراً . وقيل : كان راعياً وقيل : كان يحتطب لمولاه كل يوم حزمة . وعنه أنه قال لرجل ينظر إليه : إن كنت تراني غليظ الشفتين فإنه يخرج من بينهما كلام رقيق ، وإن كنت تراني أسود فقلبي أبيض . وروي أن رجلاً وقف عليه في مجلسه فقال : ألست الذي ترعى معي في مكان كذا؟ قال : بلى . قال ما بلغ بك ما أرى؟ قال : صدق الحديث والصمت عما لا يعنيني . وروي أنه دخل على داود عليه السلام وهو يسرد الدرع وقد لين الله له الحديد كالطين ، فأراد أن يسأله فأدركته الحكمة فسكت ، فلما أتمها لبسها وقال : نعم لبوس الحرب أنت . فقال : الصمت حكمة وقليل فاعله ، فقال له داود : بحق ما سميت حكيماً . وروي أن مولاه أمره بذبح شاة وبأن يخرج منها أطيب مضغتين ، فأخرج اللسان والقلب ، ثم أمره بمثل ذلك بعد أيام وأن يخرج أخبث مضغتين فأخرج اللسان والقلب ، فسأله عن ذلك؟ فقال : هما أطيب ما فيها إذا طابا ، وأخبث ما فيها إذا خبثا . وعن سعيد بن المسيب أنه قال لأسود : لا تحزن ، فإنه كان من خير الناس ثلاثة من السودان : بلال ومهجع مولى عمر ، ولقمان . { أن } هي المفسرة ، لأنّ إيتاء الحكمة في معنى القول ، وقد نبه الله سبحانه على أنّ الحكمة الأصلية والعلم الحقيقي : هو العمل بهما وعبادة الله والشكر له ، حيث فسر إيتاء الحكمة بالبعث على الشكر { غَنِىٌّ } غير محتاج إلى الشكر { حَمِيدٌ } حقيق بأن يحمد وإن لم يحمده أحد .

وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)

قيل : كان اسم ابنه «أنعم» وقال الكلبي : «أشكم» وقيل : كان ابنه وامرأته كافرين ، فما زال بهما حتى أسلما { لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } لأنّ التسوية بين من لا نعمة إلا هي منه ، ومن لا نعمة منه البتة ولا يتصوّر أن تكون منه - ظلم لا يكتنه عظمه .

وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)

أي { حَمَلَتْهُ } تهن { وَهْناً على وَهْنٍ } كقولك رجع عوداً على بدء ، بمعنى؛ يعود عوداً على بدء ، وهو في موضع الحال . والمعنى : أنها تضعف ضعفاً فوق ضعف ، أي : يتزايد ضعفها ويتضاعف؛ لأنّ الحمل كلما ازداد وعظم ، ازدادت ثقلاً وضعفاً . وقرىء : «وهنا على وهن» . بالتحريك عن أبي عمرو . يقال : وهن يوهن . ووهن يهن وقرىء : «وفصله» { أَنِ اشكر } تفسير لوصينا { مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } أراد بنفي العمل به نفيه ، أي : لا تشرك بي ما ليس بشيء ، يريد الأصنام ، كقوله تعالى : { مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَىْء } [ العنكبوت : 42 ] . { مَّعْرُوفاً } صحابا ، أو مصاحباً معروفاً حسناً بخلق جميل وحلم واحتمال وبر وصلة ، وما يقتضيه الكرم والمروءة { واتبع سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَىَّ } يريد : واتبع سبيل المؤمنين في دينك ولا تتبع سبيلهما فيه - وإن كنت مأموراً بحسن مصاحبتهما في الدنيا - ثم إليّ مرجعك ومرجعهما ، فأجازيك على إيمانك وأجازيهما على كفرهما ، علم بذلك حكم الدنيا وما يجب على الإنسان في صحبتهما ومعاشرتهما : من مراعاة حق الأبوة وتعظيمه ، وما لهما من المواجب التي لا يسوغ الاخلال بها ، ثم بين حكمهما وحالهما في الآخرة . وروي : أنها نزلت في سعد ابن أبي وقاص وأمّه . وفي القصة : أنها مكثت ثلاثاً لا تطعم ولا تشرب حتى شجروا فاهاً بعود . وروي أنه قال : لو كانت لها سبعون نفساً فخرجت ، لما ارتددت إلى الكفر . فإن قلت : هذا الكلام كيف وقع في أثناء وصية لقمان؟ قلت : هو كلام اعترض به على سبيل الاستطراد ، تأكيداً لما في وصية لقمان من النهي عن الشرك . فإن قلت : فقوله : { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً على وَهْنٍ وفصاله فِى عَامَيْنِ } كيف اعترض به بين المفسر والمفسر؟ قلت : لما وصى بالوالدين : ذكر ما تكابده الأمّ وتعانيه من المشاق والمتاعب في حمله وفصاله هذه المدّة المتطاولة ، إيجاباً للتوصية بالوالدة خصوصاً . وتذكيراً بحقها العظيم مفرداً ، ومن ثمّ

( 854 ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن قال له : من أبر؟ " أمّك ثم أمّك ثم أمّك " ثم قال بعد ذلك " ثم أباك " وعن بعض العرب أنه حمل أمه إلى الحج على ظهره وهو يقول في حدائه بنفسه :

أحْمِلُ أُمِّي وَهِيَ الْحَمَّالَهْ ... تُرْضِعُنِي الدُّرَّةَ وَالْعُلاَلَه

ْوَلاَ يُجَازَى وَالِدٌ فَعَالَهْ ... فإن قلت : ما معنى توقيت الفصال بالعامين؟ قلت : المعنى في توقيته بهذه المدة أنها الغاية التي لا تتجاوز ، والأمر فيما دون العامين موكول إلى اجتهاد الأم : إن علمت أنه يقوى على الفطام فلها أن تفطمه ، ويدل عليه قوله تعالى : { والوالدات يُرْضِعْنَ أولادهن حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة } [ البقرة : 233 ] وبه استشهد الشافعي رضي الله عنه على أن مدة الرضاع سنتان ، لا تثبت حرمة الرضاع بعد انقضائهما ، وهو مذهب أبي يوسف ومحمد . وأما عند أبي حنيفة رضي الله عنه . فمدة الرضاع ثلاثون شهراً . وعن أبي حنيفة : إن فطمته قبل العامين فاستغنى بالطعام ثم أرضعته ، لم يكن رضاعاً . وإن أكل أكلاً ضعيفاً لم يستغن به عن الرضاع ثم أرضعته ، فهو رضاع محرم .

يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)

قرىء { مِثْقَالَ حَبَّةٍ } بالنصب والرفع ، فمن نصب كان الضمير للهنة من الإساءة أو الإحسان ، أي : إن كانت مثلاً في الصغر والقماءة كحبة الخردل ، فكانت مع صغرها في أخفى موضع وأحرزه كجوف الصخرة أو حيث كانت في العالم العلوي أو السفلي { يَأْتِ بِهَا الله } يوم القيامة فيحاسب بها عاملها { إِنَّ الله لَطِيفٌ } يتوصل علمه إلى كل خفي { خَبِيرٌ } عالم بكنهه . وعن قتادة : لطيف باستخراجها ، خبير بمستقرّها . ومن قرأ بالرفع : كان ضمير القصة ، وإنما أنث المثقال لإضافته إلى الحبة ، كما قال :

كَمَا شَرِقَتْ صَدْرُ الْقَنَاةِ مِنَ الدَّمِ ... وروي أنّ ابن لقمان قال له : أرأيت الحبة تكون في مقل البحر - أي : في مغاصه - يعلمها الله؟ فقال : إنّ الله يعلم أصغر الأشياء في أخفى الأمكنة : لأنّ الحبة في الصخرة أخفى منها في الماء . وقيل : الصخرة هي التي تحت الأرض ، وهي السجين يكتب فيها أعمال الكفار . وقرىء : «فتكن» بكسر الكاف . من وكن الطائر يكن : إذا استقر في وكنته ، وهي مقره ليلاً .

يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)

{ واصبر على مَا أَصَابَكَ } يجوز أن يكون عاماً في كل ما يصيبه من المحن ، وأن يكون خاصاً بما يصيبه فيما أمر به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : من أذى من يبعثهم على الخير وينكر عليهم الشر { إِنَّ ذلك } مما عزمه الله من الأمور ، أي : قطعه قطع إيجاب والزام . ومنه الحديث :

( 855 ) « لاصِيامَ لمنْ لم يعزمِ الصيامَ مِنَ الليلِ » أي لم يقطعه بالنية : ألا ترى إلى قوله عليه السلام :

( 856 ) « لمنْ لم يبيتِ الصيامَ » ومنه :

( 857 ) « إنّ اللَّهَ يحبُّ أَنْ يؤخذَ برخصهِ كما يحبُّ أَنْ يؤخذَ بعزائمِهِ » ، وقولهم : عزمة من عزمات ربنا . ومنه : عزمات الملوك . وذلك أن يقول الملك لبعض من تحت يده : عزمت عليك إلا فعلت كذا ، إذا قال ذلك لم يكن للمعزوم عليه بدّ من فعله ولا مندوحة في تركه . وحقيقته : أنه من تسمية المفعول بالمصدر ، وأصله من معزومات الأمور ، أي : مقطوعاتها ومفروضاتها . ويجوز أن يكون مصدراً في معنى الفاعل ، أصله : من عازمات الأمور ، من قوله تعالى : { فَإِذَا عَزَمَ الأمر } [ محمد : 21 ] كقولك : جد الأمر ، وصدق القتال . وناهيك بهذه الآية مؤذنة بقدم هذه الطاعات ، وأنها كانت مأموراً بها في سائر الأمم ، وأنّ الصلاة لم تزل عظيمة الشأن ، سابقة القدم على ما سواها ، موصى بها في الأديان كلها .

وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)

تصاعر ، وتصعر : بالتشديد والتخفيف . يقال : أصعر خدّه ، وصعره ، وصاعره : كقولك أعلاه وعلاه وعالاه : بمعنى . والصعر والصيد : داء يصيب البعير يلوي منه عنقه . والمعنى : أقبل على الناس بوجهك تواضعاً ، ولا تولهم شق وجهك وصفحته ، كما يفعل المتكبرون . أراد : { وَلاَ تَمْشِ } تمرح { مَرَحاً } أو أوقع المصدر موقع الحال بمعنى مرحا . ويجوز أن يريد : ولا تمش لأجل المرح والأشر ، أي لا يكن غرضك في المشي البطالة والأشر كما يمشي كثير من الناس لذلك ، لا لكفاية مهم ديني أو دنيوي . ونحوه قوله تعالى : { وَلاَ تَكُونُواْ كالذين خَرَجُواْ مِن ديارهم بَطَراً وَرِئَاء الناس } [ الأنفال : 47 ] . والمختال : مقابل للماشي مرحاً . وكذلك الفخور للمصعر خدّه كبراً { واقصد فِى مَشْيِكَ } واعدل فيه حتى يكون مشيا بين مشيين : لا تدب دبيب المتماوتين ، ولا تثب وثيب الشطار . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( 858 ) " سرعةُ المشي تذهبُ بهاءَ المؤمنِ " وأما قول عائشة في عمر رضي الله عنهما «كان إذا مشى أسرع» فإنما أرادت السرعة المرتفعة عن دبيب المتماوت . وقرىء : «وأقصد» بقطع الهمزة ، أي : سدّد في مشيك من أقصد الرامي إذا سدّد سهمه نحو الرمية { واغضض مِن صَوْتِكَ } وانقص منه واقصر؛ من قولك : فلان يغض من فلان إذا قصر به ووضع منه { أَنكَرَ الأصوات } أوحشها ، من قولك : شيء نكر ، إذا أنكرته النفوس واستوحشت منه ونفرت . والحمار مثل في الذم البليغ والشتيمة ، وكذلك نهاقه . ومن استفحاشهم لذكره مجرداً وتفاديهم من اسمه : أنهم يكنون عنه ويرغبون عن التصريح به ، فيقولون : الطويل الأذنين ، كما يكنى عن الأشياء المستقذرة : وقد عدّ في مساوىء الآداب : أن يجري ذكر الحمار في مجلس قوم من أولى المروءة . ومن العرب من لا يركب الحمار استنكافاً وإن بلغت منه الرجلة ، فتشبيه الرافعين أصواتهم بالحمير ، وتمثيل أصواتهم بالنهاق ، ثم إخلاء الكلام من لفظ التشبيه وإخراجه مخرج الاستعار - وإن جعلوا حميراً وصوتهم نهاقاً - مبالغة شديدة في الذم والتهجين وإفراط في التثبيط عن رفع الصوت والترغيب عنه . وتنبيه على أنه من كراهة الله بمكان . فإن قلت : لم وحد صوت الحمير ولم يجمع؟ قلت : ليس المراد أن يذكر صوت كل واحد من آحاد هذا الجنس حتى يجمع ، وإنما المراد أن كل جنس من الحيوان الناطق له صوت ، وأنكر أصوات هذه الأجناس صوت هذا الجنس ، فوجب توحيده .

أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)

{ مَا فِى السماوات } الشمس والقمر والنجوم والسحاب وغير ذلك { وَمَا فِى الأرض } البحار والأنهار والمعادن والدواب وما لا يحصى { وَأَسْبَغَ } وقرىء بالسين والصاد ، وهكذا كل سين اجتمع معه الغين والخاء والقاف ، تقول في سلخ ، صلخ ، وفي سقر : صقر ، وفي سالغ صالغ وقرىء : «نعمه» . «ونعمة» ، «ونعمته» . فإن قلت : ما النعمة؟ قلت : كل نفع قصد به الإحسان ، والله تعالى خلق العالم كله نعمة؛ لأنه إما حيوان ، وإما غير حيوان . فما ليس بحيوان نعمة على الحيوان ، والحيوان نعمة من حيث أنّ إيجاده حياً نعمة عليه . لأنه لولا إيجاده حياً لما صح منه الانتفاع ، وكل ما أدى إلى الانتفاع وصححه فهو نعمة . فإن قلت : لم كان خلق العالم مقصوداً به الإحسان؟ قلت : لأنه لا يخلقه إلا لغرض ، وإلا كان عبثاً ، والعبث لا يجوز عليه ولا يجوز أن يكون لغرض راجع إليه من نفع؛ لأنه غني غير محتاج إلى المنافع ، فلم يبق إلا أن يكون لغرض يرجع إلى الحيوان وهو نفعه . فإن قلت : فما معنى الظاهرة والباطنة؟ قلت : الظاهرة كل ما يعلم بالمشاهدة ، والباطنة ما لا يعلم إلا بدليل ، أو لا يعلم أصلاً ، فكم في بدن الإنسان من نعمة لا يعلمها ولا يهتدي إلى العلم بها ، وقد أكثروا في ذلك : فعن مجاهد : الظاهرة ظهور الإسلام والنصرة على الأعداء ، والباطنة : الأمداد من الملائكة . وعن الحسن رضي الله عنه : الظاهرة : الإسلام . والباطنة الستر . وعن الضحاك : الظاهرة : حسن الصورة ، وامتداد القامة . وتسوية الأعضاء . والباطنة : المعرفة . وقيل : الظاهرة البصر ، والسمع ، واللسان ، وسائر الجوارح الظاهرة . والباطنة : القلب ، والعقل ، والفهم ، وما أشبه ذلك . ويروى في دعاء موسى عليه السلام : إلهي ، دلني على أخفى نعمتك على عبادك؛ فقال : أخفى نعمتي عليهم النفس . ويروى : أن أيسر ما يعذب به أهل النار : الأخذ بالأنفاس .

وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)

معناه { أ } يتبعونهم { وَلَوْ كَانَ الشيطان يَدْعُوهُمْ } أي في حال دعاء الشيطان إياهم إلى العذاب .

وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22)

قرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه : «ومن يسلم» بالتشديد ، يقال : أسلم أمرك وسلم أمرك إلى الله . فإن قلت : ماله عدّي بإلى ، وقد عدّي باللام في قوله : { بلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } [ البقرة : 112 ] ؟ قلت : معناه مع اللام : أنه جعل وجهه وهو ذاته ونفسه سالماً لله ، أي خالصاً له . ومعناه - مع إلى - : أنه سلم إليه نفسه كما يسلم المتاع إلى الرجل إذا دفع إليه . والمراد : التوكل عليه والتفويض إليه { فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى } من باب التمثيل : مثلت حال المتوكل بحال من أراد أن يتدلى من شاهق ، فاحتاط لنفسه بأن استمسك بأوثق عروة من حبل متين مأمون انقطاعه { وإلى الله عاقبة الأمور } أي هي صائرة إليه .

وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24)

قرىء : «يحزنك» ، و«يحزنك» من حزن ، وأحزن . والذي عليه الاستعمال المستفيض : أحزنه ويحزنه . والمعنى : لا يهمنك كفر من كفر وكيده للإسلام ، فإن الله عزّ وجلّ دافع كيده في نحره ، ومنتقم منه ، ومعاقبه على عمله { إِنَّ الله } يعلم ما في صدور عباده ، فيفعل بهم على حسبه { نُمَتّعُهُمْ } زماناً { قَلِيلاً } بدنياهم { ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إلى عَذَابٍ غَلِيظٍ } شبه إلزامهم التعذيب وإرهاقهم إياه باضطرار المضطرُّ إلى الشيء الذي لا يقدر على الانفكاك منه . والغلظ : مستعار من الأجرام الغليظة . والمراد . الشدّة والثقل على المعذّب .

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)

{ قُلِ الحمد لِلَّهِ } إلزام لهم على إقرارهم بأنّ الذي خلق السموات والأرض هو الله وحده ، وأنه يجب أن يكون له الحمد والشكر . وأن لا يعبد معه غيره ، ثم قال : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أنّ ذلك يلزمهم ، وإذا نبهوا عليه لم ينتبهوا { إِنَّ الله هُوَ الغنى } عن حمد الحامدين المستحق للحمد ، وإن لم يحمدوه .

قرىء : «والبحر» بالنصب عطفاً على اسم إنّ ، وبالرفع عطفاً على محل إن ومعمولها على معنى : ولو ثبت كون الأشجار أقلاماً ، وثبت كون البحر ممدوداً بسبعة أبحر . أو على الابتداء والواو للحال ، على معنى . ولو أنّ الأشجار أقلام في حال كون البحر ممدوداً ، وفي قراءة ابن مسعود : و«بحر يمدّه» على التنكير ، ويجب أن يحمل هذا على الوجه الأوّل . وقرىء : «تمدّه» و«يمدّه» بالتاء والياء . فإن قلت : كان مقتضى الكلام أن يقال : ولو أنّ الشجر أقلام ، والبحر مداد . قلت : أغنى عن ذكر المداد قوله : يمدّه ، لأنه من قولك : مدّ الدواة وأمدّها ، جعل البحر الأعظم بمنزلة الدواة ، وجعل الأبحر السبعة مملوءة مداداً ، فهي تصب فيه مداداً أبداً صباً لا ينقطع . والمعنى : ولو أنّ أشجار الأرض أقلام ، والبحر ممدود بسبعة أبحر . وكتبت بتلك الأقلام وبذلك المداد كلمات الله ، لما نفدت كلماته ونفدت الأقلام والمداد ، كقوله تعالى : { قُل لَّوْ كَانَ البحر مِدَاداً لكلمات رَبّى لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ كلمات رَبّى } [ الكهف : 109 ] . فإن قلت : زعمت أنّ قوله : { والبحر يَمُدُّهُ } حال في أحد وجهي الرفع ، وليس فيه ضمير راجع إلى ذي الحال . قلت : هو كقوله :

وَقَدِ اغْتَدَى وَالطَّيْرُ فِي وُكُنَاتِهَا ... و : جئت والجيش مصطف . وما أشبه ذلك من الأحوال التي حكمها حكم الظروف . ويجوز أن يكون المعنى : وبحرها ، والضمير للأرض . فإن قلت : لم قيل : { مِن شَجَرَةٍ } على التوحيد دون اسم الجنس الذي هو شجر؟ قلت : أريد تفصيل الشجر وتقصيها شجرة شجرة ، حتى لا يبقى من جنس الشجر ولا واحدة إلا قد بريت أقلاماً . فإن قلت : الكلمات جمع قلة ، والموضع موضع التكثير لا التقليل . فهلا قيل : كلم الله؟ قلت : معناه أنّ كلماته لا تفي بكتبتها البحار ، فكيف بكلمه؟ وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أنها نزلت جواباً لليهود لما قالوا : «قد أوتينا التوراة وفيها كل الحكمة» وقيل : إن المشركين قالوا : إنّ هذا - يعنون الوحي - كلام سينفد ، فأعلم الله أن كلامه لا ينفد . وهذه الآية عند بعضهم مدنية ، وأنها نزلت بعد الهجرة ، وقيل هي مكية ، وإنما أمر اليهود وفد قريش أن يقولوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ألست تتلو فيما أنزل عليك : أنا قد أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء { أَنَّ الله عَزِيزٌ } لا يعجزه شيء { حَكِيمٌ } لا يخرج من علمه وحكمته شيء ، ومثله لا تنفد كلماته وحكمه .

مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)

{ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحدة } إلا كخلقها وبعثها ، أي : سواء في قدرته القليل والكثير ، والواحد والجمع ، لا يتفاوت ، وذلك أنه إنما كانت تتفاوت النفس الواحدة والنفوس الكثيرة العدد : أن لو شغله شأن عن شأن وفعل عن فعل ، وقد تعالى عن ذلك { إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ } يسمع كل صوت ويبصر كل مبصر في حالة واحدة ، لا يشغله إدراك بعضها عن إدراك بعض ، فكذلك الخلق والبعث .

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30)

كل واحد من الشمس والقمر يجري في فلكه ، ويقطعه إلى وقت معلوم : الشمس إلى آخر السنة ، والقمر إلى آخر الشهر . وعن الحسن : الأجل المسمى : يوم القيامة . لأنه لا ينقطع جريهما إلا حينئذٍ . دلّ أيضاً بالليل والنهار وتعاقبهما وزيادتهما ونقصانهما وجرى النيرين في فلكيهما كل ذلك على تقدير وحساب . وبإحاطته بجميع أعمال الخلق : على عظم قدرته وحكمته . فإن قلت : يجري لأجل مسمى ، ويجري إلى أجل مسمى : أهو من تعاقب الحرفين؟ قلت : كلا ، ولا يسلك هذه الطريقة إلا بليد الطبع ضيق العطن . ولكن المعنيين : أعني الانتهاء والاختصاص كل واحد منهما ملائم لصحة الغرض؛ لأنّ قولك يجري إلى أجل مسمى : معناه يبلغه وينتهي إليه . وقولك : يجري لأجل مسمى : تريد يجري لإدراك أجل مسمى ، تجعل الجري مختصاً بإدراك أجل مسمى . ألا ترى أن جري الشمس مختص بآخر السنة . وجري القمر مختص بآخر الشهر . فكلا المعنيين غير ناب به موضعه { ذلك } الذي وصف من عجائب قدرته وحكمته التي يعجز عنها الأحياء القادرون العالمون . فكيف بالجماد الذي تدعونه من دون الله ، إنما هو بسبب أنه هو الحق الثابت إلهيته . وأنّ من دونه باطل الإلهية { وَأَنَّ الله هُوَ العلى } الشأن { الكبير } السلطان . أو ذلك الذي أوحى إليك من هذه الآيات بسبب بيان أنّ الله هو الحق ، وأنّ إلها غيره باطل ، وأنّ الله هو العليّ الكبير عن أن يشرك به .

أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31)

قرىء : «الفلك» بضم اللام . وكل فعل يجوز فيه فعل ، كما يجوز في كل فعل فعل ، على مذهب التعويض . وبنعمات الله : بسكون العين . وعين فعلات يجوز فيها الفتح والكسر والسكون { بِنِعْمَتِ الله } بإحسانه ورحمته { صَبَّارٍ } على بلائه { شَكُورٍ } لنعمائه ، وهما صفتا المؤمن ، فكأنه قال : إنّ في ذلك لآيات لكل مؤمن .

وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)

يرتفع الموج ويتراكب ، فيعود مثل الظلل ، والظلة : كل ما أظلك من جبل أو سحاب أو غيرهما وقريء : كالظلال ، جمع ظلة . كقلة وقلال { فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ } متوسط في الكفر والظلم ، خفض من غلوائه ، وانزجر بعض الانزجار . أو مقتصد في الإخلاص الذي كان عليه في البحر ، يعني أنّ ذلك الإخلاص الحادث عن الخوف ، لا يبقى لأحد قط ، والمقتصد قليل نادر . وقيل : مؤمن قد ثبت على ما عاهد عليه الله في البحر . والخثر : أشد الغدر . ومنه قولهم : إنك لا تمدّ لنا شبراً من غدر إلا مددنا لك باعاً من ختر ، قال :

وَإِنَّكَ لَوْ رَأَيْتَ أَبَا عُمَيْر ... مَلأْتَ يَدَيْكَ مِنْ غَدْرٍ وَخَتْرِ

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)

{ لاَّ يَجْزِى } لا يقضي عنه شيئاً . ومنه قيل للمتقاضي : المتجازي . وفي الحديث في جذعة بن نيار :

( 859 ) " تجزِي عنكَ ولا تجزِي عنْ أحدٍ بعدَك " وقرىء : «لا يجزىء» لا يغني . يقال : أجزأت عنك مجزأ فلان . والمعنى : لا يجزى فيه ، فحذف . { الغرور } الشيطان . وقيل : الدنيا وقيل : تمنيكم في المعصية المغفرة . وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه : الغرّة بالله : أن يتمادى الرجل في المعصية ويتمنى على الله المغفرة . وقيل : ذكرك لحسناتك ونسيانك لسيئاتك غرة . وقرىء بضم الغين وهو مصدر غره غروراً ، وجعل الغرور غارًّا ، كما قيل : جدّ جدّه . أو أريد زينة الدنيا لأنها غرور . فإن قلت : قوله : { وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً } وارد على طريق من التوكيد لم يرد عليه ما هو معطوف عليه . قلت : الأمر كذلك؛ لأنّ الجملة الإسمية أكد من الفعلية ، وقد انضم إلى ذلك قوله : { هُوَ } وقوله : { مَوْلُودٌ } والسبب في مجيئه على هذا السنن : أنّ الخطاب للمؤمنين وعليتهم : قبض آباؤهم على الكفر وعلى الدين الجاهلي ، فأريد حسم أطماعهم وأطماع الناس فيهم : أن ينفعوا آباءهم في الآخرة ، وأن يشفعوا لهم ، وأن يغنوا عنهم من الله شيئاً؛ فلذلك جيء به على الطريق الآكد . ومعنى التوكيد في لفظ المولود : أن الواحد منهم لو شفع للأب الأدنى الذي ولد منه ، لم تقبل شفاعته ، فضلاً أن يشفع لمن فوقه من أجداده؛ لأنّ الولد يقع على الولد وولد الولد؛ بخلاف المولود فإنه لمن ولد منك .

إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)

روي :

( 860 ) أنّ رجلاً من محارب وهو الحارث بن عمرو بن حارثة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أخبرني عن الساعةِ متَى قيامُها ، وإنّي قد ألقيتُ حباتِي في الأرض وقدْ أبطأتُ عنَّا السماءُ ، فمتَى تمطرُ؟ وأخبرنِّي عنِ امرأتِي فقدْ اشتملتْ ما في بطنِها ، أذكرُ أمْ أنثى؟ وإنِّي علمْتُ ما علمْتُ أمس ، فما أعملُ غداً؟ وهذا مولدِي قد عرفتُه ، فأينَ أموتُ؟ فنزلَتْ وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم :

( 861 ) " مفاتحُ الغيبِ خمسٌ " وتلا هذه الآية . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : من ادعى علم هذه الخمسة فقد كذب ، إياكم والكهانة فإن الكهانة تدعو إلى الشرك والشرك وأهله في النار . وعن المنصور أنه أهمه معرفة مدّة عمره ، فرأى في منامه كأن خيالاً أخرج يده من البحر وأشار إليه بالأصابع الخمس ، فاستفتى العلماء في ذلك ، فتأوّلوها بخمس سنين ، وبخمسة أشهر ، وبغير ذلك ، حتى قال أبو حنيفة رحمه الله : تأويلها أنّ مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله ، وأن ما طلبت معرفته لا سبيل لك إليه { عِندَهُ عِلْمُ الساعة } أيان مرساها { وَيُنَزّلُ الغيث } في إبانه من غير تقديم ولا تأخير ، وفي بلد لا يتجاوزه به { وَيَعْلَمُ مَا فِى الأرحام } أذكر أم أنثى ، أتام أم ناقص ، وكذلك ما سوى ذلك من الأحوال { وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ } برّة أو فاجرة { مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً } من خير أو شر ، وربما كانت عازمة على خير فعملت شراً . وعازمة على شر فعملت خيراً { وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ } أين تموت ، وربما أقامت بأرض وضربت أوتادها وقالت : لا أبرحها وأقبر فيها . فترمي بها مرامي القدر حتى تموت في مكان لم يخطر ببالها ، ولا حدّثتها به ظنونها . وروي أنّ ملك الموت مرّ على سليمان فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم النظر إليه ، فقال الرجل من هذا؟ قال : ملك الموت ، فقال : كأنه يريدني . وسأل سليمان أن يحمله على الريح ويلقيه ببلاد الهند ، ففعل . ثم قال ملك الموت لسليمان كان دوام نظري إليه تعجباً منه ، لأني أمرت أن أقبض روحه بالهند وهو عندك . وجعل العلم لله والدراية للعبد . لما في الدراية من معنى الختل والحيلة . والمعنى : أنها لا تعرف - وإن أعملت حيلها - ما يلصق بها ويختص ولا يتخطاها ، ولا شيء أخص بالإنسان من كسبه وعاقبته ، فإذا لم يكن له طريق إلى معرفتهما ، كان من معرفة ما عداهما أبعد . وقرىء : «بأية أرض» . وشبه سيبويه تأنيث «أيّ» بتأنيث كل في قولهم : كلتهن .

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( 862 ) " مَن قرأَ سورَة لقمان كانَ له لقمانُ رفيقاً يومَ القيامةِ وأُعطي من الحسناتِ عشراً عشراً بعدد منْ عمل بالمعروفِ ونهَى عن المنكر " .

الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)

{ الم } على أنها اسم السورة مبتدأ خبره { تَنزِيلُ الكتاب } وإن جعلتها تعديداً للحروف ارتفع { تَنزِيلُ الكتاب } بأنه خبر مبتدأ محذوف : أو هو مبتدأ خبره { لاَ رَيْبَ فِيهِ } والوجه أن يرتفع بالابتداء ، وخبره { مِن رَّبّ العالمين } و { لاَ رَيْبَ فِيهِ } : اعتراض لا محل له . والضمير في { فِيهِ } راجع إلى مضمون الجملة ، كأنه قيل : لا ريب في ذلك ، أي في كونه منزلاً من رب العالمين ويشهد لوجاهته قوله { أَمْ يَقُولُونَ افتراه } لأنّ قولهم : هذا مفترى ، إنكار لأن يكون من رب العالمين ، وكذلك قوله : { بَلْ هُوَ الحق مِن رَّبّكَ } وما فيه من تقدير أنه من الله وهذا أسلوب صحيح محكم : أثبت أولاً أن تنزيله من رب العالمين ، وأن ذلك ما لا ريب فيه ، ثم أضرب عن ذلك إلى قوله : { أَمْ يَقُولُونَ افتراه } لأن «أم» هي المنقطعة الكائنة بمعنى : بل والهمزة ، إنكاراً لقولهم وتعجيباً منه لظهور أمره : في عجز بلغائهم عن مثل ثلاث آيات منه ، ثم أضرب عن الإنكار إلى إثبات أنه الحق من ربك . ونظيره أن يعلل العالم في المسألة بعلة صحيحة جامعة ، قد احترز فيها أنواع الاحتراز . كقول المتكلمين : النظر أوّل الأفعال الواجبة على الإطلاق التي لا يعرى عن وجوبها مكلف ، ثم يعترض عليه فيها ببعض ما وقع احترازه منه ، فيرده بتلخيص أنه احترز من ذلك ، ثم يعود إلى تقرير كلامه وتمشيته . فإن قلت : كيف نفى أن يرتاب في أنه من الله ، وقد أثبت ما هو أطم من الريب ، وهو قولهم : { افتراه } ؟ قلت : معنى { لاَ رَيْبَ فِيهِ } أن لا مدخل للريب في أنه تنزيل الله : لأن نافي الريب ومميطه معه لا ينفك عنه وهو كونه معجزاً للبشر ، ومثله أبعد شيء من الريب . وأما قولهم : { افتراه } فإما قول متعنت مع علمه أنه من الله لظهور الإعجاز له ، أو جاهل يقوله قبل التأمل والنظر لأنه سمع الناس يقولونه : { مَّا أتاهم مّن نَّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ } كقوله : { مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ } [ يس : 6 ] وذلك أن أن قريشاً لم يبعث الله إليهم رسولاً قبل محمد صلى الله عليه وسلم . فإن قلت : فإذا لم يأتهم نذير لم تقم عليهم حجة . قلت : أما قيام الحجة بالشرائع التي لا يدرك علمها إلا بالرسل فلا ، وأما قيامها بمعرفة الله وتوحيده وحكمته فنعم؛ لأن أدلة العقل الموصلة إلى ذلك معهم في كل زمان { لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } فيه وجهان : أن يكون على الترجي من رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان { لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ } [ طه : 44 ] على الترجي من موسى وهرون عليهما السلام ، وأن يستعار لفظ الترجي للإرادة .

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4)

فإن قلت : ما معنى قوله : { مَا لَكُمْ مّن دُونِهِ مِن وَلِيّ وَلاَ شَفِيعٍ } قلت : هو على معنيين ، أحدهما : أنكم إذا جاوزتم رضاه لم تجدوا لأنفسكم ولياً ، أي : ناصراً ينصركم ولا شفيعاً يشفع لكم . والثاني : أن الله وليكم الذي يتولى مصالحكم ، وشفيعكم أي ناصركم على سبيل المجاز ، لأن الشفيع ينصر المشفوع له . فهو كقوله تعالى : { وَمَا لَكُم مّن دُونِ الله مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ } [ البقرة : 107 ] فإذا خذلكم لم يبق لكم وليّ ولا نصير .

يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)

{ الأمر } المأمور به من الطاعات والأعمال الصالحة ينزله مدبراً { مِنَ السماء إِلَى الأرض } ثم لا يعمل به ولا يصعد إليه ذلك المأمور به خالصاً كما يريده ويرتضيه إلا في مدة متطاولة؛ لقلة عمال الله والخلص من عباده وقلة الأعمال الصاعدة ، لأنه لا يوصف بالصعود إلا الخالص ودل عليه قوله على أثره { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } أو يدبر أمر الدنيا كلها من السماء إلى الأرض : لكل يوم من أيام الله وهو ألف سنة ، كما قال : { وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ } [ الحج : 47 ] ، { ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ } أي يصير إليه ، ويثبت عنده ، ويكتب في صحف ملائكته كل وقت من أوقات هذه المدّة : ما يرتفع من ذلك الأمر ويدخل تحت الوجود إلى أن تبلغ المدة آخرها ، ثم يدبر أيضاً ليوم آخر ، وهلم جرا إلى أن تقوم الساعة . وقيل : ينزل الوحي مع جبريل عليه السلام من السماء إلى الأرض . ثم يرجع إليه ما كان من قبول الوحي أو ردّه مع جبريل ، وذلك في وقت هو في الحقيقة ألف سنة؛ لأن المسافة مسيرة ألف سنة في الهبوط والصعود؛ لأن ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة سنة ، وهو يوم من أيامكم لسرعة جبريل؛ لأنه يقطع مسيرة ألف سنة في يوم واحد ، وقيل : يدبر أمر الدنيا من السماء إلى الأرض إلى أن تقوم الساعة ، ثم يعرج إليه ذلك الأمر كله؛ أي يصير إليه ليحكم فيه { فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ } وهو يوم القيامة . وقرأ ابن أبي عبلة : «يعرج» على البناء للمفعول . وقرىء : «يعدون» بالتاء والياء .

ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)

{ أَحْسَنَ كُلَّ شَىْءٍ } حسنه ، لأنه ما من شيء خلقه إلا وهو مرتب على ما اقتضته الحكمة وأوجبته المصلحة؛ فجميع المخلوقات حسنة وإن تفاوتت من حسن وأحسن ، كما قال : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } [ التين : 4 ] وقيل : علم كيف يخلقه من قوله : قيمة المرء ما يحسن . وحقيقته . يحسن معرفته أي يعرفه معرفة حسنة بتحقيق وإتقان . وقريء «خلقه» على البدل ، أي : أحسن ، فقد خلق كل شيء . وخلقه : على الوصف ، أي : كل شيء خلقه فقد أحسنه . سميت الذرية نسلاً؛ لأنها تنسل منه ، أي : تنفصل منه وتخرج من صلبه ونحوه قولهم للولد : سليل ونجل ، و { سواه } قوّمه ، كقوله تعالى : { فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } [ التين : 4 ] ودل بإضافة الروح إلى ذاته على أنه خلق عجيب لا يعلم كنهه إلا هو ، كقوله : { وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الروح . . . . . } الآية [ الإسراء : 85 ] ، كأنه قال : ونفخ فيه من الشيء الذي اختص هو به وبمعرفته .

وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)

{ وَقَالُواْ } قيل القائل أبي بن خلف ، ولرضاهم بقوله أُسند إليهم جميعاً . وقرىء : «ائنا» ، و«أنا» ، على الاستفهام وتركه { ضَلَلْنَا } صرنا تراباً ، وذهبنا مختلطين بتراب الأرض ، لا نتميز منه ، كما يضل الماء في اللبن أو غبنا { فِى الأرض } بالدفن فيها . من قوله :

وَآبَ مُضِلُّوهُ بِعَيْنٍ جَلِيَّةٍ ... وقرأ علي وابن عباس رضي الله عنهما : «ضللنا» بكسر اللام . يقال : ضل يضل وضل يضل . وقرأ الحسن رضي الله عنه : صللنا ، من صلّ اللحم وأصلّ : إذا أنتن . وقيل : صرنا من جنس الصلة وهي الأرض . فإن قلت : بم انتصب الظرف في { أَءذَا ضَلَلْنَا } ؟ قلت : بما يدل عليه ( لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ ) وهو نبعث . أو يجدد خلقنا . لقاء ربهم : هو الوصول إلى العاقبة ، من تلقى ملك الموت وما وراءه ، فلما ذكر كفرهم بالإنشاء . أضرب عنه إلى ما هو أبلغ في الكفر ، وهو أنهم كافرون بجميع ما يكون في العاقبة ، لا بالإنشاء وحده : ألا ترى كيف خوطبوا بتوفي ملك الموت وبالرجوع إلى ربهم بعد ذلك مبعوثين للحساب والجزاء ، وهذا معنى لقاء الله على ما ذكرنا والتوفي : استيفاء النفس وهي الروح . قال الله تعالى : { الله يَتَوَفَّى الأنفس } [ الزمر : 42 ] وقال : أخرجوا أنفسكم ، وهو أن يقبض كلها لا يترك منها شيء . من قولك : توفيت حقي من فلان ، واستوفيته إذا أخذته وافياً كاملاً من غير نقصان . والتفعل والاستفعال : يلتقيان في مواضع : منها : تقصيته واستقصيته ، وتعجلته واستعجلته . وعن مجاهد رضي الله عنه : حويت لملك الموت الأرض ، وجعلت له مثل الطست ، يتناول منها حيث يشاء . وعن قتادة : يتوفاهم ومعه أعوان من الملائكة . وقيل : ملك الموت : يدعو الأرواح فتجيبه ، ثم يأمر أعوانه بقبضها .

وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)

{ وَلَوْ تَرَى } يجوز أن يكون خطاباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفيه وجهان : أن يراد به التمني ، كأنه قال : وليتك ترى ، كقوله صلى الله عليه وسلم للمغيرة :

( 863 ) « لو نظرت إليها » والتمني لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما كان الترجي له في { لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } لأنه تجرع منهم الغصص ومن عداوتهم وضرارهم ، فجعل الله له تمني أن يراهم على تلك الصفة الفظيعة من الحياء والخزي والغم ليشمت بهم ، وأن تكون لو الامتناعية قد حذف جوابها ، وهو : لرأيت أمراً فظيعاً . أو : لرأيت أسوأ حال ترى . ويجوز : أن يخاطب به كل أحد ، كما تقول : فلان لئيم ، إن أكرمته أهانك ، وإن أحسنت إليه أساء إليك ، فلا تريد به مخاطباً بعينه ، فكأنك قلت : إن أكرم وإن أحسن إليه ، ولو وإذ : كلاهما للمضي ، وإنما جاز ذلك؛ لأن المترقب من الله بمنزلة الوجود المقطوع به في تحققه ، ولا يقدر لنرى ما يتناوله ، كأنه قيل : ولو تكون منكم الرؤية ، وإذ ظرف له . يستغيثون بقولهم { رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا } فلا يغاثون ، يعني : أبصرنا صدق وعدك ووعيدك وسمعنا منك تصديق رسلك . أو كنا عمياً وصماً فأبصرنا وسمعنا { فارجعنا } هي الرجعة إلى الدنيا { لأتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا } على طريق الإلجاء والقسر ، ولكننا بنينا الأمر على الاختيار دون الاضطرار ، فاستحبوا العمى على الهدى ، فحقت كلمة العذاب على أهل العمى دون البصراء ألا ترى إلى ما عقبه به من قوله : { فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ } فجعل ذوق العذاب نتيجة فعلهم : من نسيان العاقبة ، وقلة الفكر فيها ، وترك الاستعداد لها . والمراد بالنسيان : خلاف التذكر ، يعني : أن الانهماك في الشهوات أذهلكم وألهاكم عن تذكر العاقبة وسلط عليكم نسيانها ، ثم قال : { إِنَّا نسيناكم } على المقابلة ، أي : جازيناكم جزاء نسيانكم . وقيل : هو بمعنى الترك ، أي : تركتم الفكر في العاقبة ، فتركناكم من الرحمة ، وفي استئناف قوله إنا نسيناكم وبناء الفعل على إن واسمها تشديد في الانتقام منهم . والمعنى فذوقوا هذا أي ما أنتم فيه من نكس الرؤوس والخزي والغم بسبب نسيان اللقاء ، وذوقوا العذاب المخلد في جهنم بسبب ما عملتم من المعاصي والكبائر الموبقة .

إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)

{ إِذَا ذُكّرُواْ بِهَا } أي وعظوا : سجدوا تواضعاً لله وخشوعاً ، وشكراً على ما رزقهم من الإسلام { وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبّهِمْ } ونزهوا الله من نسبة القبائح إليه ، وأثنوا عليه حامدين له { وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } كما يفعل من يصر مستكبراً كأن لم يسمعها ، ومثله قوله تعالى : { إِنَّ الذين أُوتُواْ العلم مِن قَبْلِهِ إِذَا يتلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبّنَا } [ الإسراء : 107 ] . { تتجافى } ترتفع وتتنحى { عَنِ المضاجع } عن الفرش ومواضع النوم ، داعين ربهم عابدين له؛ لأجل خوفهم من سخطه وطمعهم في رحمته ، وهم المتهجدون . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسيرها :

( 864 ) " قيام العبد من الليل " وعن الحسن رضي الله عنه : أنه التهجد . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( 865 ) " إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة جاء مناد ينادي بصوت يسمع الخلائق كلهم : سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم . ثم يرجع فينادي : ليقم الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع؛ فيقومون وهم قليل ، ثم يرجع فينادي : ليقم الذين كانوا يحمدون الله في البأساء والضراء ، فيقومون وهم قليل ، فيسرحون جميعاً إلى الجنة ، ثم يحاسب سائر الناس " وعن أنس بن مالك رضي الله عنه : كان أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء الآخرة . فنزلت فيهم . وقيل : هم الذين يصلون صلاة العتمة لا ينامون عنها { مَّآ أُخْفِىَ لَهُم } على البناء للمفعول . ما أخفى لهم على البناء للفاعل ، وهو الله سبحانه ، وما أخفى لهم . وما نخفي لهم . وما أخفيت لهم : الثلاثة للمتكلم ، وهو الله سبحانه . وما : بمعنى الذي ، أو بمعنى أي . وقرىء : «من قرّة أعين» «وقرات أعين» . والمعنى : لا تعلم النفوس - كلهنّ ولا نفس واحدة منهنّ لا ملك مقرب ولا نبيّ مرسل - أيّ نوع عظيم من الثواب ادخر الله لأولئك وأخفاه من جميع خلائقه ، لا يعلمه إلا هو مما تقربه عيونهم ، ولا مزيد على هذه العدة ولا مطمح وراءها ، ثم قال : { جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } فحسم أطماع المتمنين ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم :

( 866 ) " يقولُ اللَّهُ تعالَى : أعددتُ لعبادِي الصالحينَ ما لاَ عينُ رأتْ ولا أذنَ سمعَت ولا خطر على قلبِ بشرٍ ، بَلْهَ ما أطلعتُهم عليهِ . اقرؤُوا إن شئتمُ : فلا تعلمُ نفسُ ما أخفيَ لهمُ منْ قرةِ أعينٍ " وعن الحسن رضي الله عنه : أخفى القوم أعمالاً في الدنيا ، فأخفى الله لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت .

أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)

{ كَانَ مُؤْمِناً } و { كَانَ فَاسِقاً } محمولان على لفظ من و { لاَّ يَسْتَوُونَ } محمول على المعنى ، بدليل قوله تعالى : { أَمَّا الذين ءَامَنُواْ } { وَأَمَّا الذين فَسَقُواْ } ونحوه قوله تعالى : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ } [ محمد : 16 ] و { جنات المأوى } نوع من الجنان؛ قال الله تعالى : { وَلَقَدْ رَءاهُ نَزْلَةً أخرى عِندَ سِدْرَةِ المنتهى عِندَهَا جَنَّةُ المأوى } [ النجم : 15 ] سميت بذلك لما روي عن ابن عباس رضي الله عنه قال : تأوي إليها أرواح الشهداء . وقيل : هي عن يمين العرش . وقرىء : «جنة المأوى» ، على التوحيد { نُزُلاً } عطاء بأعمالهم . والنزل : عطاء النازل ، ثم صار عاماً { فَمَأْوَاهُمُ النار } أي ملجؤهم ومنزلهم . ويجوز أن يراد : فجنة مأواهم النار ، أي النار لهم ، مكان جنة المأوى للمؤمنين؛ كقوله : { فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عمران : 21 ] ، [ التوبة : 34 ] ، [ الإنشقاق : 24 ] ، { العذاب الأدنى } عذاب الدنيا من القتل والأسر ، وما محنوا به من السنة سبع سنين . وعن مجاهد رضي الله عنه ، عذاب القبر . و { العذاب الأكبر } عذاب الآخرة ، أي : نذيقهم عذاب الدنيا قبل أن يصلوا إلى الآخرة { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } أي يتوبون عن الكفر ، أو لعلهم يريدون الرجوع ويطلبونه . كقوله تعالى : { فارجعنا نَعْمَلْ صالحا } [ السجدة : 12 ] وسميت إرادة الرجوع رجوعاً ، كما سميت إرادة القيام قياماً في قوله تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة } [ المائدة : 6 ] ويدل عليه قراءة من قرأ : «يرجعون» على البناء للمفعول . فإن قلت : من أين صح تفسير الرجوع بالتوبة؟ و«لعل» من الله إرادة ، وإذا أراد الله شيئاً كان ولم يمتنع ، وتوبتهم مما لا يكون ، ألا ترى أنها لو كانت مما يكون لم يكونوا ذائقين العذاب الأكبر؟ قلت : إرادة الله تتعلق بأفعاله وأفعال عباده ، فإذا أراد شيئاً من أفعاله كان ولم يمتنع ، للاقتدار وخلوص الداعي . وأما أفعال عباده : فإما أن يريدها وهم مختارون لها ، أو مضطرون إليها بقسره وإلجائه ، فإن أرادها وقد قسرهم عليها فحكمها حكم أفعالها ، وإن أرادها على أن يختاروها وهو عالم أنهم لا يختارونها لم يقدح ذلك في اقتداره ، كما لا يقدح في اقتدارك إرادتك أن يختار عبدك طاعتك وهو لا يختارها ، لأنّ اختياره لا يتعلق بقدرتك ، وإذا لم يتعلق بقدرتك لم يكن فقده دالاً على عجزك . وروي في نزولها :

( 867 ) «أنه شجر بين علي بن أبي طالب رضي الله عنه والوليد بن عقبة بن أبي معيط يوم بدر كلام ، فقال له الوليد : اسكت فإنك صبيّ : أنا أشبّ منك شباباً ، وأجلد منك جلداً ، وأذرب منك لساناً ، وأحدّ منك سناناً ، وأشجع منك جناناً ، وأملأ منك حشواً في الكتيبة . فقال له علي رضي الله عنه : اسكت ، فإنك فاسق ، فنزلت عامة للمؤمنين والفاسقين ، فتناولتهما وكل من كان في مثل حالهما . وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما : أنه قال للوليد : كيف تشتم علياً وقد سماه الله مؤمناً في عشر آيات؟ وسماك فاسقاً؟ .

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)

ثم في قوله : { ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا } للاستبعاد . والمعنى : أنّ الإعراض عن مثل آيات الله في وضوحها وإنارتها وإرشادها إلى سواء السبيل والفوز بالسعادة العظمى بعد التذكير بها مستبعد في العقل والعدل ، كما تقول لصاحبك : وجدت مثل تلك الفرصة ثم لم تنتهزها استبعاداً لتركه الانتهاز . ومنه ثم في بيت الحماسة :

لاَ يَكْشِفُ الغُمَّاءَ إلاَّ ابْنُ حُرَّةٍ ... يَرَى غَمَرَاتِ المَوْتِ ثُمَّ يَزُورُهَا

استبعد أن يزور غمرات الموت بعد أن رآها واستيقنها واطلع على شدّتها . فإن قلت : هلا قيل : إنا منه منتقمون؟ قلت : لما جعله أظلم كل ظالم ثم توعد المجرمين عامة بالانتقام منهم ، فقد دلّ على إصابة الأظلم النصيب الأوفر من الانتقام ، ولو قاله بالضمير لم يفد هذه الفائدة .

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25)

{ الكتاب } للجنس والضمير في { لّقَائِهِ } له . ومعناه : إنا آتينا موسى عليه السلام مثل ما آتيناك من الكتاب ، ولقيناه مثل ما لقيناك من الوحي ، فلا تكن في شك من أنك لقيت مثله ولقيت نظيره كقوله تعالى : { فَإِن كُنتَ فِي شَكّ مّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءونَ الكتاب مِن قَبْلِك } [ يونس : 94 ] ونحو قوله : { مّن لّقَائِهِ } وقوله : { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى القرءان مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ } [ النمل : 6 ] وقوله : { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَابًا يلقاه مَنْشُوراً } [ الإسراء : 13 ] . وجعلنا الكتاب المنزل على موسى عليه السلام { هُدًى } لقومه { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ } الناس ويدعونهم إلى ما في التوراة من دين الله وشرائعه ، لصبرهم وإيقانهم بالآيات . وكذلك لنجعلنّ الكتاب المنزل إليك هدى ونوراً ، ولنجعلنّ من أمّتك أئمة يهدون مثل تلك الهداية لما صبروا عليه من نصرة الدين وثبتوا عليه من اليقين . وقيل : من لقائك موسى عليه السلام ليلة الإسراء أو يوم القيامة وقيل : من لقاء موسى عليه السلام الكتاب ، أي : من تلقيه له بالرضا والقبول . وقرىء : «لما صبروا» «ولما صبروا» أي لصبرهم . وعن الحسن رضي الله عنه : صبروا عن الدنيا . وقيل : إنما جعل الله التوراة هدى لبني إسرائيل خاصة ، ولم يتعبد بما فيها ولد إسماعيل عليه السلام { يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ } يقضي ، فيميز المحق في دينه من المبطل .

أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26)

الواو في { أَوَ لَمْ يَهْدِ } للعطف على معطوف عليه منوي من جنس المعطوف ، والضمير في { لَهُمْ } لأهل مكة . وقرىء بالنون والياء ، والفاعل ما دلّ عليه { كَمْ أَهْلَكْنَا } لأنّ كم لا تقع فاعلة ، لا يقال : جاءني كم رجل ، تقديره : أو لم يهد لهم كثرة إهلاكنا القرون . أو هذا الكلام كما هو بمضمونه ومعناه ، كقولك : يعصم لا إله إلا الله الدماء والأموال . ويجوز أن يكون فيه ضمير الله بدلالة القراءة بالنون . و { القرون } عاد وثمود وقوم لوط { يَمْشُونَ فِى مساكنهم } يعني أهل مكة ، يمرون في متاجرهم على ديارهم وبلادهم . وقرىء : «يمشون» بالتشديد .

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27)

{ الجرز } الأرض التي جرز نباتها أي قطع : إمّا لعدم الماء ، وإمّا لأنه رعي وأزيل ، ولا يقال للتي لا تنبت كالسباخ : جرز . ويدل عليه قوله : { فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً } وعن ابن عباس رضي الله عنه : إنها أرض اليمن . وعن مجاهد رضي الله عنه : هي أبين . { بِهِ } بالماء { تَأْكُلُ } من الزرع { أنعامهم } من عصفه { وَأَنفُسِهِمْ } من حبه . وقرىء : «يأكل» بالياء .

وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)

الفتح : النصر ، أو الفصل بالحكومة ، من قوله : { رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا } [ الأعراف : 89 ] وكان المسلمون يقولون إنّ الله سيفتح لنا على المشركين . ويفتح بيننا وبينهم ، فإذا سمع المشركون قالوا : { متى هذا الفتح } أي في أيّ وقت يكون { إِن كُنتُمْ صادقين } في أنه كائن . و { يَوْمَ الفتح } يوم القيامة وهو يوم الفصل بين المؤمنين وأعدائهم ، ويوم نصرهم عليهم ، وقيل : هو يوم بدر . وعن مجاهد والحسن رضي الله عنهما : يوم فتح مكة . فإن قلت : قد سألوا عن وقت الفتح ، فكيف ينطبق هذا الكلام جواباً على سؤالهم . قلت : كان غرضهم في السؤال عن وقت الفتح ، استعجالاً منهم عن وجه التكذيب والاستهزاء ، فأجيبوا على حسب ما عرف من غرضهم في سؤالهم فقيل لهم : لا تستعجلوا به ولا تستهزؤا ، فكأني بكم وقد حصلتم في ذلك اليوم ، وآمنتم فلم ينفعكم الإيمان ، واستنظرتم في إدراك العذاب فلم تنظروا . فإن قلت : فمن فسره بيوم الفتح أو يوم بدر كيف يستقيم على تفسيره أن لا ينفعهم الإيمان ، وقد نفع الطلقاء يوم فتح مكة وناساً يوم بدر . قلت : المراد أنّ المقتولين منهم لا ينفعهم إيمانهم في حال القتل ، كما لم ينفع فرعون إيمانه عند إدراك الغرق { وانتظر } النصرة عليهم وهلاكهم { إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ } الغلبة عليكم وهلاككم ، كقوله تعالى : { فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبّصُونَ } [ التوبة : 52 ] وقرأ ابن السميفع رحمه الله : منتظرون ، بفتح الظاء . ومعناه : وانتظر هلاكهم فإنهم أحقاء بأن ينتظر هلاكهم ، يعني أنهم هالكون لا محالة . أو وانتظر ذلك؛ فإن الملائكة في السماء ينتظرونه .

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( 868 ) " مَنْ قرأ «آلم تنزيل» « وتبارك الَّذِي بيدهِ الملك» ، أُعطي من الأجرِ كأنما أحيا ليلةَ القدرِ " ، وقالَ :

( 869 ) " منْ قرأَ آلام تنزيل في بيته لمّ يدخلِ الشيطانَ بيته ثلاثةَ أيامٍ " .

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3)

( 870 ) عن زرّ قال : قال لي أبيّ بن كعب رضي الله عنه : كم تعدّون سورة الأحزاب؟ قلت : ثلاثاً وسبعين آية . قال : فوالذي يحلف به أبيّ بن كعب ، إن كانت لتعدل سورة البقرة أو أطول . ولقد قرأنا منها آية الرجم : ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم ) ، أراد أبيّ رضي الله عنه أنّ ذلك من جملة ما نسخ من القرآن . وأمّا ما يحكى : أن تلك الزيادة كانت في صحيفة في بيت عائشة رضي الله عنها فأكلتها الداجن فمن تأليفات الملاحدة والروافض . جعل نداءه بالنبيّ والرسول في قوله : { ياأيها النبى اتق الله } { ياأيها النبى لِمَ تُحَرّمُ } [ التحريم : 1 ] ، { ياأيها الرسول بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ } [ المائدة : 67 ] وترك نداءه باسمه كما قال : يا آدم ، يا موسى ، يا عيسى ، يا داود : كرامة له وتشريفاً ، وربئاً بمحله وتنويهاً بفضله . فإن قلت : إن لم يوقع اسمه في النداء فقد أوقعه في الإخبار في قوله : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله } [ الفتح : 29 ] ، { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ } [ آل عمران : 144 ] . قلت : ذاك لتعليم الناس بأنه رسول الله وتلقين لهم أن يسموه بذلك ويدعوه به ، فلا تفاوت بين النداء والإخبار ، ألا ترى إلى ما لم يقصد به التعليم والتلقين من الأخبار كيف ذكره بنحو ما ذكره في النداء { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ } [ التوبة : 128 ] ، و { وَقَالَ الرسول يارب } [ الفرقان : 30 ] ، { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [ الأحزاب : 21 ] ، { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوب : 62 ] ، { النبى أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ } [ الأحزاب : 6 ] . { إِنَّ الله وملائكته يُصَلُّونَ عَلَى النبى } [ الأحزاب : 56 ] ، { وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالْلهِ والنَّبِىّ } [ المائدة : 81 ] ، اتق الله : واظب على ما أنت عليه من التقوى ، واثبت عليه ، وازدد منه ، وذلك لأن التقوى باب لا يبلغ آخره { وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين } لا تساعدهم على شيء ولا تقبل لهم رأياً ولا مشورة ، وجانبهم واحترس منهم ، فإنهم أعداء الله وأعداء المؤمنين ، لا يريدون إلا المضارّة والمضادّة . وروي :

( 871 ) أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وكان يحب إسلام اليهود : قريظة والنضير وبني قينقاع وقد بايعه أناس منهم على النفاق فكان يلين لهم جانبه ويكرم صغيرهم وكبيرهم . وإذا أتى منهم قبيح تجاوز عنه . وكان يسمع منهم فنزلت . وروي :

( 872 ) أن أبا سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وأبا الأعور السلمي قدموا عليه في الموادعة التي كانت بينه وبينهم ، وقام معهم عبد الله بن أبيّ ومعتب بن قشير والجد بن قيس ، فقالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم : ارفض ذكر آلهتنا وقل إنها تشفع وتنفع وندعك وربك ، فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين وهموا بقتلهم ، فنزلت : أي اتق الله في نقض العهد ونبذ الموادعة ، ولا تطع الكافرين من أهل مكة والمنافقين من أهل المدينة فيما طلبوا إليك .

وروي أنّ أهل مكة دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يرجع عن دينه ويعطوه شطر أموالهم ، وأن يزوّجه شيبة بن ربيعة بنته ، وخوفه منافقو المدينة أنهم يقتلونه إن لم يرجع . فنزلت { إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً } بالصواب من الخطإ ، والمصلحة من المفسدة { حَكِيماً } لا يفعل شيئاً ولا يأمر به إلا بداعي الحكمة { واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ } في ترك طاعة الكافرين والمنافقين وغير ذلك { إِنَّ الله } الذي يوحي إليك خبير { بِمَا تَعْمَلُونَ } فموح إليك ما يصلح به أعمالكم ، فلا حاجة بكم إلى الاستماع من الكفرة . وقرىء : «يعملون» بالياء ، أي : بما يعمل المنافقون من كيدهم لكم ومكرهم بكم { وَتَوَكَّلْ عَلَى الله } وأسند أمرك إليه وكله إلى تدبيره { وَكِيلاً } حافظاً موكولاً إليه كل أمر .

مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)

ما جمع الله قلبين في جوف ، ولا زوجية وأمومة في أمرأه ، ولا بنوّة ودعوة في رجل . والمعنى : أن الله سبحانه كما لم ير في حكمته أن يجعل للإنسان قلبين ، لأنه لا يخلو إما أن يفعل بأحدهما مثل ما يفعل بالآخر من أفعال القلوب فأحدهما فضلة غير محتاج إليها ، وإما أن يفعل بهذا غير ما يفعل بذاك ، فذلك يؤدي إلى اتصاف الجملة بكونه مريداً كارهاً . عالماً ظاناً . موقناً شاكاً في حالة واحدة - لم ير أيضاً أن تكون المرأة الواحدة أُمًّا لرجل زوجاً له؛ لأن الأم مخدومة مخفوض لها جناح الذل ، والزوجة مستخدمة متصرف فيها بالاستفراش وغيره كالمملوكة وهما حالتان متنافيتان ، وأن يكون الرجل الواحد دعياً لرجل وابنا له : لأنّ البنوّة أصالة في النسب وعراقة فيه ، والدعوة : إلصاق عارض بالتسمية لا غير ، ولا يجتمع في الشيء الواحد أن يكون أصيلاً غير أصيل ، وهذا مثل ضربه الله في زيد بن حارثة وهو رجل من كلب سبي صغيراً . وكانت العرب في جاهليتها يتغاورون ويتسابون . فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة ، فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهبته له ، وطلبه أبوه وعمه ، فخير فاختار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأعتقه . وكانوا يقولون : زيد بن محمد ، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية ، وقوله : { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ } [ الأحزاب : 40 ] وقيل : كان أبو معمر رجلاً من أحفظ العرب وأرواهم ، فقيل له : ذو القلبين ، وقيل : هو جميل بن أسد الفهري . وكان يقول : إن لي قلبين . أفهم بأحدهما أكثر مما يفهم محمد ، فروي أنه انهزم يوم بدر ، فمرّ بأبي سفيان وهو معلق أحدى نعليه بيده والأخرى في رجله . فقال له : ما فعل الناس؟ فقال : هم ما بين مقتول وهارب . فقال له : ما بال إحدى نعليك في رجلك والأخرى في يدك؟ فقال : ما ظننت إلا أنهما في رجليّ ، فأكذب الله قوله وقولهم ، وضربه مثلاً في الظهار والتنبي . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : كان المنافقون يقولون : لمحمد قلبان فأكذبهم الله . وقيل : سها في صلاته ، فقالت اليهود : له قلبان : قلب مع أصحابه ، وقلب معكم . وعن الحسن : نزلت في أن الواحد يقول : نفس تأمرني ونفس تنهاني . والتنكير في رجل ، وإدخال من الاستغراقية على قلبين تأكيدان لما قصد من المعنى ، كأنه قال : ما جعل الله لأمة الرجال ولا لواحد منهم قلبين البتة في جوفه . فإن قلت : أي فائدة في ذكر الجوف؟ قلت : الفائدة فيه كالفائدة في قوله : { القلوب التى فِى الصدور } [ الحج : 46 ] وذلك ما يحصل للسامع من زيادة التصوّر والتجلي للمدلول عليه ، لأنه إذا سمع به صور لنفسه جوفاً يشتمل على قلبين ، فكان أسرع إلى الإنكار .

وقرىء : «اللايىء» ، بياء وهمزة مكسورتين ، و«اللائي» بياء ساكنة بعد الهمزة : وتظاهرون : من ظاهر . وتظاهرون . من اظاهر ، بمعنى تظاهر . وتظهرون : من اظهر ، بمعنى تظهر . وتظهرون : من ظهر ، بمعنى ظاهر كعقد بمعنى عاقد . وتظهرون : من ظهر ، بلفظ فعل من الظهور . ومعنى ظاهر من امرأته : قال لها : أنت عليّ كظهر أمي . ونحوه في العبارة عن اللفظ : لبى المحرم ، إذا قال لبيك . وأفف الرجل : إذا قال : أُف وأخوات لهنّ . فإن قلت : فما وجه تعديته وأخواته بمن؟ قلت : كان الظهار طلاقاً عند أهل الجاهلية . فكانوا يتجنبون المرأة المظاهر منها كما يتجنبون المطلقة ، فكان قولهم : تظاهر منها تباعد منها بجهة الظهار ، وتظهر منها : تحرز منها . وظاهر منها : حاذر منها ، وظهر منها : وحش منها . وظهر منها : خلص منها . ونظيره : آلى من امرأته ، لما ضمن معنى التباعد منها عدّي بمن ، وإلا فآلى في أصله الذي هو بمعنى : حلف وأقسم ، ليس هذا بحكمه . فإن قلت : ما معنى قولهم : أنت عليّ كظهر أمي؟ قلت : أرادوا أن يقولوا : أنت عليّ حرام كبطن أمي . فكنوا عن البطن بالظهر؛ لئلا يذكروا البطن الذي ذكره يقارب ذكر الفرج ، وإنما جعلوا الكناية عن البطن بالظهر لأنه عمود البطن . ومنه حديث عمر رضي الله عنه : يجيء به أحدهم على عمود بطنه : أراد على ظهره . ووجه آخر : وهو أن إتيان المرأة وظهرها إلى السماء كان محرّماً عندهم محظوراً . وكان أهل المدينة يقولون : إذا أتيت المرأة ووجهها إلى الأرض جاء الولد أحول ، فلقصد المطلق منهم إلى التغليظ في تحريم امرأته عليه ، شبهها بالظهر ثم لم يقنع بذلك حتى جعله ظهر أمّه فلم يترك . فإن قلت : الدعيّ فعيل بمعنى مفعول ، وهو الذي يُدعى ولداً فما له جمع على افعلاء ، وبابه : ما كان منه بمعنى فاعل ، كتقى وأتقياء ، وشقيّ وأشقياء ، ولا يكون ذلك في نحو رمى وسمى . قلت : إن شذوذه عن القياس كشذوذ قتلاء وأسراء ، والطريق في مثل ذلك التشبيه اللفظي { ذلكم } النسب هو { قَوْلُكُم بأفواهكم } هذا ابني لا غير من غير أن يواطئه اعتقاد لصحته وكونه حقاً . والله عز وجل لا يقول إلا ما هو حق ظاهره وباطنه ، ولا يهدي إلا سبيل الحق . ثم قال ما هو الحق وهدى إلى ما هو سبيل الحق ، وهو قوله : { ادعوهم لأبَائِهِمْ } وبين أن دعاءهم لآبائهم هو أدخل الأمرين في القسط والعدل ، وفي فصل هذه الجمل ووصلها : من الحسن والفصاحة مالا يغني على عالم بطرق النظم . وقرأ قتادة : «وهو الذي يهدي السبيل» . وقيل : كان الرجل في الجاهلية إذا أعجبه جلد الرجل وظرفه : ضمه إلى نفسه وجعل له مثل نصيب الذكر من أولاده من ميراثه ، وكان ينسب إليه فيقال : فلان ابن فلان { فَإِن لَّمْ تَعْلَمُواْ } لهم آباء تنسبونهم إليهم { ف } هم { فإخوانكم فِى الدين } وأولياؤكم في الدين فقولوا : هذا أخي وهذا مولاي ، ويا أخي ، ويا مولاي : يريد الأخوّة في الدين والولاية فيه { مَّا تَعَمَّدَتْ } في محل الجرّ عطفاً على ما أخطأتم .

ويجوز أن يكون مرتفعاً على الابتداء ، والخبر محذوف تقديره : ولكن ما تعمدت قلوبكم فيه الجناح . والمعنى : لا إثم عليكم فيما فعلتموه من ذلك مخطئين جاهلين قبل ورود النهي ، ولكن الإثم فيما تعمدتموه بعد النهي . أو لا إثم عليكم إذا قلتم لولد غيركم يا بنيّ على سبيل الخطإ وسبق اللسان ، ولكن إذا قلتموه متعمدين . ويجوز أن يراد العفو عن الخطإ دون العمد على طريق العموم ، كقوله عليه الصلاة والسلام :

( 873 ) « ما أخشَى عليكُم الخطأَ ولكنْ أخشَى عليْكُم العمدَ » وقوله عليه الصلاة والسلام :

( 874 ) « وُضع عن أمّتي الخطأُ والنسيانْ وما أكرهُوا عليه » ثم تناول لعمومه خطأ التبني وعمده . فإن قلت : فإذا وجد التبني فما حكمه؟ قلت : إذا كان المتبني مجهول النسب وأصغر سناً من المتبنى ثبت نسبه منه ، وإن كان عبداً له عتق مع ثبوت النسب ، وإن كان لا يولد مثله لمثله لم يثبت النسب ، ولكنه يعتق عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ، وعند صاحبيه لا يعتق . وأما المعروف النسب فلا يثبت نسبه بالتبني وإن كان عبداً عتق { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } لعفوه عن الخطأ وعن العمد إذا تاب العامد .

النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6)

{ النبى أولى بالمؤمنين } في كل شيء من أمور الدين والدنيا { مّنْ أَنفُسِهِمْ } ولهذا أطلق ولم يقيد ، فيجب عليهم أن يكون أحبّ إليهم من أنفسهم ، وحكمه أنفذ عليهم من حكمها ، وحقه آثر لديهم من حقوقها ، وشفقتهم عليه أقدم من شفقتهم عليها ، وأن يبذلوها دونه ويجعلوها فداءه إذا أعضل خطب ، ووقاءه إذا لقحت حرب ، وأن لا يتبعوا ما تدعوهم إليه نفوسهم ولا ما تصرفهم عنه ، ويتبعوا كل ما دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصرفهم عنه ، لأنّ كل ما دعا إليه فهو إرشاد لهم إلى نيل النجاة والظفر بسعادة الدارين وما صرفهم عنه ، فأخذ بحجزهم لئلا يتهافتوا فيما يرمي بهم إلى الشقاوة وعذاب النار . أو هو أولى بهم ، على معنى أنه أرأف بهم وأعطف عليهم وأنفع لهم ، كقوله تعالى : { بالمؤمنين رَءوفٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة : 128 ] وعن النبي صلى الله عليه وسلم :

( 875 ) " ما مِنْ مؤمنٍ إلاّ أنا أولى بهِ فِي الدنيا والآخرةِ . اقرؤوا إنْ شئتم { النبى أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ } فأيما مؤمن هلك وترك مالاً فليرثه عصبته من كانوا ، وإن ترك ديناً أو ضياعاً فإليّ " وفي قراءة ابن مسعود : «النبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم» . وقال مجاهد : كل نبيّ فهو أبو أمّته . ولذلك صار المؤمنون إخوة؛ لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم أبوهم في الدين { وأزواجه أمهاتهم } تشبيه لهنّ بالأمهات في بعض الأحكام ، وهو وجوب تعظيمهنّ واحترامهن ، وتحريم نكاحهن : قال الله تعالى : { وَلاَ أَن تَنكِحُواْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً } [ الأحزاب : 53 ] وهنّ فيما وراء ذلك بمنزلة الأجنبيات ، ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها : لسنا أمهات النساء . تعني أنهنّ إنما كنّ أمّهات الرجال ، لكونهنّ محرّمات عليهم كتحريم أمّهاتهم . والدليل على ذلك : أنّ هذا التحريم لم يتعد إلى بناتهنّ ، وكذلك لم يثبت لهنّ سائر أحكام الأمهات . كان المسلمون في صدر الإسلام يتوارثون بالولاية في الدين وبالهجرة لا بالقرابة ، كما كانت تتألف قلوب قوم بإسهام لهم في الصدقات ، ثم نسخ ذلك لما دجا الإسلام وعزّ أهله ، وجعل التوارث بحق القرابة { فِى كتاب الله } في اللوح . أو فيما أوحى الله إلى نبيه وهو هذه الآية . أو في آية المواريث . أو فيما فرض الله كقوله : { كتاب الله عَلَيْكُمْ } [ النساء : 24 ] . { مِنَ المؤمنين والمهاجرين } يجوز أن يكون بياناً لأولى الأرحام ، أي : الأقرباء من هؤلاء بعضهم أولى بأن يرث بعضاً من الأجانب . ويجوز أن يكون لابتداء الغاية . أي : أولو الأرحام بحق القرابة أولى بالميراث من المؤمنين بحق الولاية في الدين ، ومن المهاجرين بحق الهجرة . فإن قلت : مم استثنى { أَن تَفْعَلُواْ } ؟ قلت : من أعم العام في معنى النفع والإحسان ، كما تقول : القريب أولى من الأجنبي إلا في الوصية ، تريد : أنه أحق منه في كل نفع من ميراث وهبة وهدية وصدقة وغير ذلك ، إلا في الوصية . والمراد بفعل المعروف : التوصية لأنه لا وصية لوارث وعدى تفعلوا بإلى ، لأنه في معنى : تسدوا وتزلوا والمراد بالأولياء : المؤمنون والمهاجرون للولاية في الدين { ذَلِكَ } إشارة إلى ما ذكر في الآيتين جميعاً . وتفسير الكتاب : ما مر آنفاً ، والجملة مستأنفة كالخاتمة لما ذكر من الأحكام .

وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)

{ و } اذكر حين { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين } جميعاً { ميثاقهم } بتبليغ الرسالة والدعاء إلى الدين القيم { وَمِنْكَ } خصوصاً { وَمِن نُّوحٍ وإبراهيم وموسى وَعِيسَى } وإنما فعلنا ذلك { لِّيَسْأَلَ } الله يوم القيامة عند تواقف الأشهاد المؤمنين الذين صدقوا عهدهم ووفوا به ، من جملة من أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى { عَن صِدْقِهِمْ } عهدهم وشهادتهم ، فيشهد لهم الأنبياء بأنهم صدقوا عهدهم وشهادتهم وكانوا مؤمنين . أو ليسأل المصدقين للأنبياء عن تصديقهم . لأن من قال للصادق : صدقت ، كان صادقاً في قوله . أو ليسأل الأنبياء ما الذي أجابتهم به أممهم . وتأويل مسألة الرسل : تبكيت الكافرين بهم ، كقوله : { أأنْتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين مِن دُونِ الله } [ المائدة : 116 ] . فإن قلت : لم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم على نوح فمن بعده قلت هذا العطف لبيان فضيلة الأنبياء الذين هم مشاهيرهم وذراريهم ، فلما كان محمد صلى الله عليه وسلم أفضل هؤلاء المفضلين : قدم عليهم لبيان أنه أفضلهم ، ولولا ذلك لقدم من قدمه زمانه . فإن قلت : فقد قدم عليه نوح عليه السلام في الآية التي هي أخت هذه الآية ، وهي قوله : { شَرَعَ لَكُم مّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } [ الشورى : 13 ] ثم قدم على غيره . قلت : مورد هذه الآية على طريقة خلاف طريقة تلك ، وذلك أنّ الله تعالى إنما أوردها لوصف دين الإسلام بالأصالة والاستقامة فكأنه قال : شرع لكم الدين الأصيل الذي بعث عليه نوح في العهد القديم ، وبعث عليه محمد خاتم الأنبياء في العهد الحديث ، وبعث عليه من توسط بينهما من الأنبياء المشاهير . فإن قلت : فما المراد بالميثاق الغليظ؟ قلت : أراد به ذلك الميثاق بعينه . معناه : وأخذنا منهم بذلك الميثاق ميثاقاً غليظاً . والغلظ : استعارة من وصف الأجرام ، والمراد : عظم الميثاق وجلالة شأنه في بابه . وقيل الميثاق الغليظ : اليمين بالله على الوفاء بما حملوا . فإن قلت : علام عطف قوله : { وَأَعَدَّ للكافرين } ؟ قلت : على أخذنا من النبيين ، لأن المعنى أن الله أكد على الأنبياء الدعوة إلى دينه لأجل إثابة المؤمنين . وأعد للكافرين عذاباً أليماً . أو على ما دل عليه { لِّيَسْأَلَ الصادقين } كأنه قال : فأثاب المؤمنين وأعد للكافرين .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)

{ اذكروا } ما أنعم الله به عليكم يوم الأحزاب وهو يوم الخندق { إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ } وهم الأحزاب ، فأرسل الله عليهم ريح الصبا . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( 876 ) " نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور " { وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا } وهم الملائكة وكانوا ألفاً : بعث الله عليهم صبا باردة في ليلة شاتية ، فأخصرتهم وسفت التراب في وجوههم ، وأمر الملائكة فقلعت الأوتاد ، وقطعت الأطناب ، وأطفأت النيران ، وأكفأت القدور ، وماجت الخيل بعضها في بعض ، وقذف في قلوبهم الرعب ، وكبرت الملائكة في جوانب عسكرهم ، فقال طليحة بن خويلد الأسدي : أما محمد فقد بدأكم بالسحر ، فالنجاء النجاء ، فانهزموا من غير قتال ، وحين سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقبالهم ضرب الخندق على المدينة ، أشار عليه بذلك سلمان الفارسي رضي الله عنه ، ثم خرج في ثلاثة آلاف من المسلمين فضرب معسكره والخندق بينه وبين القوم ، وأمر بالذراري والنساء فرفعوا في الآطام واشتدّ الخوف ، وظن المؤمنون كل ظن ، ونجم النفاق من المنافقين حتى قال معتب بن قشير : كان محمد يعدنا كنوز كسرى وقيصرولا نقدر أن نذهب إلى الغائط . وكانت قريش قد أقبلت في عشرة آلاف من الأحابيش وبني كنانة وأهل تهامة وقائدهم أبو سفيان ، وخرج غطفان في ألف ومن تابعهم من أهل نجد وقائدهم عيينة بن حصن . وعامر بن الطفيل في هوازن ، وضامتهم اليهود من قريظة والنضير ، ومضى على الفريقين قريب من شهر لا حرب بينهم إلا الترامي بالنبل والحجارة ، حتى أنزل الله النصر { تَعْمَلُونَ } قرىء بالتاء والياء { مّن فَوْقِكُمْ } من أعلى الوادي من قبل المشرق : بنو غطفان { وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ } من أسفل الوادي من قبل المغرب : قريش تحزبوا وقالوا : سنكون جملة واحدة حتى نستأصل محمداً { زَاغَتِ الأبصار } مالت عن سننها ومستوى نظرها حيرة وشخوصاً . وقيل : عدلت عن كل شيء فلم تلتفت إلا إلى عدوّها لشدة الروع . الحنجرة : رأس الغلصمة وهي منتهى الحلقوم . والحلقوم : مدخل الطعام والشراب ، قالوا : إذا انتفخت الرئة من شدة الفزع أو الغضب أو الغمّ الشديد : ربت وارتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة ، ومن ثمة قيل للجبان : انتفخ سحره . ويجوز أن يكون ذلك مثلاً في اضطراب القلوب ووجيبها وإن لم تبلغ الحناجر حقيقة { وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا } خطاب للذين آمنوا . ومنهم الثبت القلوب والأقدام ، والضعاف القلوب : الذين هم على حرف ، والمنافقون : الذين لم يوجد منهم الإيمان إلا بألسنتهم فظن الأولون بالله أنه يبتليهم ويفتنهم فخافوا الزلل وضعف الاحتمال ، وأمّا الآخرون فظنوا بالله ما حكى عنهم . وعن الحسن : ظنوا ظنوناً مختلفة : ظن المنافقون أنّ المسلمين يستأصلون ، وظنّ المؤمنون أنهم يبتلون . وقرىء «الظنون» بغير ألف في الوصل والوقف وهو القياس ، وبزيادة ألف في الوقف زادوها في الفاصلة ، كما زادها في القافية من قال :

أَقِلِّي اللَّوْمَ عَاذِلَ وَالعِتَابَا ... وكذلك الرسولا والسبيلا . وقرىء بزيادتها في الوصل أيضاً ، إجراء له مجرى الوقف . قال أبو عبيد : وهنّ كلهنّ في الإمام بألف . وعن أبي عمرو إشمام زاي زلزلوا . وقرىء : «زلزالاً» بالفتح . والمعنى : أنّ الخوف أزعجهم أشد الإزعاج .

وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14)

{ إِلاَّ غُرُوراً } قيل قائله : معتب بن قشير حين رأى الأحزاب قال : يعدنا محمد فتح فارس والروم ، وأحدنا لا يقدر أن يتبرز فرقا ، ما هذا إلا وعد غرور { طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ } هم أوس بن قيظي ومن وافقه على رأيه . وعن السدي عبد الله بن أبيّ وأصحابه . ويثرب : اسم المدينة . وقيل : أرض وقعت المدينة في ناحية منها { لاَ مُقَامَ لَكُمْ } قرىء بضم الميم وفتحها ، أي لا قرار لكم ههنا ، ولا مكان تقيمون فيه أو تقومون { فارجعوا } إلى المدينة : أمروهم بالهرب من عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقيل : قالوا لهم : ارجعوا كفاراً وأسلموا محمداً ، وإلا فليست يثرب لكم بمكان . قرىء : «عورة» بسكون الواو وكسرها ، فالعورة : الخلل ، والعورة : ذات العورة ، يقال : عور المكان عوراً إذا بدا فيه خلل يخاف منه العدو والسارق . ويجوزأن تكون { عَوْرَةٌ } تخفيف : عورة ، اعتذروا أنّ بيوتهم معترضة للعدو ممكنة للسراق لأنها غير محرزة ولا محصنة ، فاستأذنوه وليحصنوها ثم يرجعوا إليه ، فأكذبهم الله بأنهم لا يخافون ذلك ، وإنما يريدون الفرار { وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ } المدينة . وقيل : بيوتهم ، من قولك : دخلت على فلان داره { مّنْ أَقْطَارِهَا } من جوانبها ، يريد : ولو دخلت هذه العساكر المتحزبة التي يفرون خوفاً منها مدينتهم وبيوتهم من نواحيها كلها . وانثالت على أهاليهم وأولادهم ناهبين سابين ، ثم سئلوا عند ذلك الفزع وتلك الرجفة { الفتنة } أي الردة والرجعة إلى الكفر ومقاتلة المسلمين ، لأتوها : لجاؤها وفعلوها . وقرىء : «لآتوها» لأعطوها { وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَا } وما ألبثوا إعطاءها { إِلاَّ يَسِيراً } ريثما يكون السؤال والجواب من غير توقف . أو وما لبثوا بالمدينة بعد ارتدادهم إلا يسيراً ، فإن الله يهلكهم . والمعنى : أنهم يتعللون بإعوار بيوتهم ، ويتمحلون ليفروا عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، وعن مصافة الأحزاب الذين ملؤوهم هولاً ورعباً؛ وهؤلاء الأحزاب كما هم لو كبسوا عليهم أرضهم وديارهم وعرض عليهم الكفر وقيل لهم كونوا على المسلمين ، لسارعوا إليه وما تعللوا بشيء ، وما ذاك إلا لمقتهم الإسلام . وشدة بغضهم لأهله ، وحبهم الكفر وتهالكهم على حزبه .

وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16)

عن ابن عباس : عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم . وقيل : هم قوم غابوا عن بدر فقالوا : لئن أشهدنا الله قتالاً لنقاتلنّ . وعن محمد بن إسحق عاهدوا يوم أحد أن لا يفرّوا بعدما نزل فيهم ما نزل { مَسْئُولاً } مطلوباً مقتضى حتى يوفى به { لَّن يَنفَعَكُمُ الفرار } مما لا بدّ لكم من نزوله بكم من حتف أنف أو قتل . وإن نفعكم الفرار مثلاً فمنعتم بالتأخير : لم يكن ذلك التمتيع إلا زماناً قليلاً . وعن بعض المروانية : أنه مرّ بحائط مائل فأسرع ، فتليت له هذه الآية فقال : ذلك القليل نطلب .

قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17)

فإن قلت : كيف جعلت الرحمة قرينة السوء في العصمة ولا عصمة إلا من السوء؟ قلت : معناه أو يصيبكم بسوء إن أراد بكم رحمة ، فاختصر الكلام وأجرى مجرى قوله :

مُتَقَلِّداً سَيْفاً وَرُمْحَا ... أو حمل الثاني على الأوّل لما في العصمة من معنى المنع .

قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20)

{ المعوقين } المثبطين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم المنافقون : كانوا يقولون { لإخوانهم } من ساكني المدينة من أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس ، ولو كانوا لحماً لالتهمهم أبو سفيان وأصحابه ، فخلوهم و { هَلُمَّ إِلَيْنَا } أي قربوا أنفسكم إلينا . وهي لغة أهل الحجاز : يسوّونَ فيه بين الواحد والجماعة . وأمّا تميم فيقولون : هلمّ يا رجل ، وهلموا يا رجال ، وهو صوت سمي به فعل متعدّ مثل احضر وقرب { قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ } [ الأنعام : 15 ] { إِلاَّ قَلِيلاً } إلا اتياناً قليلاً يخرجون مع المؤمنين يوهمونهم أنهم معهم ، ولا تراهم يبارزون ويقاتلون إلا شيئاً قليلاً إذا اضطرّوا إليه ، كقوله : { مَّا قَاتَلُواْ إِلاَّ قَلِيلاً } ، { أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ } في وقت الحرب أضناء بكم ، يترفرفون عليكم كما يفعل الرجل بالذاب عنه المناضل دونه عند الخوف { يَنظُرُونَ إِلَيْكَ } في تلك الحالة كما ينظر المغشى عليه من معالجة سكرات الموت حذراً أو خوراً ولواذاً بك ، فإذا ذهب الخوف وحيزت الغنائم ووقعت القسمة : نقلوا ذلك الشحّ وتلك الضنة والرفرفة عليكم إلى الخير - وهو المال والغنيمة - ونسوا تلك الحالة الأولى ، واجترؤا عليكم وضربوكم بألسنتهم وقالوا : وفروا قسمتنا فإنا قد شاهدناكم وقاتلنا معكم ، وبمكاننا غلبتم عدوّكم وبنا نصرتم عليهم . ونصب { أَشِحَّةً } على الحال أو على الذمّ . وقرىء : «أشحة» ، بالرفع . و«صلقوكم» بالصاد . فإن قلت : هل يثبت للمنافق عمل حتى يرد عليه الإحباط؟ قلت : لا ولكنه تعليم لمن عسى يظن أنّ الإيمان باللسان إيمان وإن لم يوطئه القلب ، وأن ما يعمل المنافق من الأعمال يجدي عليه ، فبين أنّ إيمانه ليس بإيمان ، وأنّ كل عمل يوجد منه باطل . وفيه بعث على إتقان المكلف أساس أمره وهو الإيمان الصحيح ، وتنبيه على أن الأعمال الكثيرة من غير تصحيح المعرفة كالبناء على غير أساس ، وأنها مما يذهب عند الله هباء منثوراً . فإن قلت : ما معنى قوله : { وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً } وكل شيء عليه يسير؟ قلت : معناه : أن أعمالهم حقيقة بالإحباط ، تدعو إليه الدواعي ، ولا يصرف عنه صارف { يَحْسَبُونَ } أنّ الأحزاب لم ينهزموا ، وقد انهزموا فانصرفوا عن الخندق إلى المدينة راجعين لما نزل بهم من الخوف الشديد ودخلهم من الجبن المفرط { وَإِن يَأْتِ الأحزاب } كرّة ثانية . تمنوا لخوفهم مما منوا به هذه الكرّة أنهم خارجون إلى البدو حاصلون بين الأعراب { يَسْئَلُونَ } كل قادم منهم من جانب المدينة عن أخباركم وعما جرى عليكم { وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ } ولم يرجعوا إلى المدينة وكان قتال - لم يقاتلوا إلا تعلة رياء وسمعة . وقرىء : «بدّي» على فعَّل جمع باد كغاز وغزَّي . وفي رواية صاحب الإقليد : «بديّ» ، بوزن عديّ . ويساءلون ، أي : يتساءلون . ومعناه : يقول بعضهم لبعض : ماذا سمعت؟ ماذا بلغك؟ أو يتساءلون الأعراب كما تقول : رأيت الهلال وتراءيناه : كان عليكم أن تواسوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنفسكم فتوازروه وتثبتوا معه ، كما آساكم بنفسه في الصبر على الجهاد والثبات في مرحى الحرب ، حتى كسرت رباعيته يوم أحد وشجّ وجهه .

لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)

فإن قلت : فما حقيقة قوله : { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } . وقرىء : «أسوة» بالضم؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أنه في نفسه أسوة حسنة ، أي : قدوة ، وهو الموتسى [ به ] ، أي : المقتدى به ، كما تقول : في البيضة عشرون منا حديد ، أي : هي في نفسها هذا المبلغ من الحديد . والثاني : أن فيه خصلة من حقها أن يؤتسى بها وتتبع . وهي المواساة بنفسه { لّمَن كَانَ يَرْجُو الله } بدل من لكم ، كقوله : { لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ ءامَنَ مِنْهُمْ } [ الأعراف : 75 ] يرجو الله واليوم الآخر : من قولك رجوت زيداً وفضله ، أي : فضل زيد ، أو يرجو أيام الله . واليوم الآخر خصوصاً . والرجاء بمعنى الأمل أو الخوف { وَذَكَرَ الله كَثِيراً } وقرن الرجاء بالطاعات الكثيرة والتوفر على الأعمال الصالحة ، والمؤتسى برسول الله صلى الله عليه وسلم : من كان كذلك .

وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)

وعدهم الله أن يزلزلوا حتى يستغيثوه ، ويستنصروه في قوله : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم } [ البقرة : 214 ] فلما جاء الأحزاب وشخص بهم واضطربوا ورعبوا الرعب الشديد { قَالُواْ هذا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ } وأيقنوا بالجنة والنصر . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال :

( 877 ) قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه : « إنّ الأحزاب سائرون إليكم تسعاً أو عشراً » أي : في آخر تسع ليال أو عشر ، فلما رأوهم قد أقبلوا للميعاد قالوا ذلك . وهذا إشارة إلى الخطب أو البلاء { إيمانا } بالله وبمواعيده { وَتَسْلِيماً } لقضاياه وأقداره .

مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)

نذر رجال من الصحابة أنهم إذا لقوا حرباً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا ، وهم : عثمان بن عفان ، وطلحة بن عبيد الله ، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ، وحمزة ، ومصعب بن عمير ، وغيرهم ، رضي الله عنهم : { فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ } يعني حمزة ومصعباً { وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ } يعني عثمان وطلحة . وفي الحديث :

( 877 ) « من أحب أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة » فإن قلت : ما قضاء النحب؟ قلت : وقع عبارة عن الموت؛ لأنّ كل حي لا بدّ له من أن يموت . فكأنه نذرٌ لازم في رقبته ، فإذا مات فقد قضى نحبه ، أي : نذره . وقوله : { فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ } يحتمل موته شهيداً ، ويحتمل وفاءه بنذره من الثبات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . فإن قلت : فما حقيقة قوله : { صَدَقُواْ مَا عاهدوا الله عَلَيْهِ } ؟ قلت : يقال : صدقني أخوك وكذبني ، إذا قال لك الصدق والكذب . وأمّا المثل : صدقني سنّ بكره . فمعناه : صدقني في سن بكره ، بطرح الجار وإيصال الفعل ، فلا يخلو { مَا عاهدوا الله عَلَيْهِ } إما أن يكون بمنزلة السنّ في طرح الجار ، وإمّا أن يجعل المعاهد عليه مصدوقاً على المجاز ، كأنهم قالوا للمعاهد عليه : سنفي بك ، وهم وافون به فقد صدقوه ، ولو كانوا ناكثين لكذبوه ولكان مكذوباً { وَمَا بَدَّلُواْ } العهد ولا غيروه ، لا المستشهد ولا من ينتظر الشهادة ، ولقد

( 878 ) ثبت طلحة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد حتى أصيبت يده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أوجب طلحة » وفيه تعريض بمن بدلوا من أهل النفاق ومرض القلوب : جعل المنافقون ، كأنهم قصدوا عاقبة السوء وأرادوها بتبديلهم ، كما قصد الصادقون عاقبة الصدق بوفائهم لأنّ كلا الفريقين مسوق إلى عاقبته من الثواب والعقاب ، فكأنهما استويا في طلبهما والسعي لتحصيلهما . ويعذبهم { إِن شَاء } إذا لم يتوبوا { أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } إذا تابوا { وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ } الأحزاب { بِغَيْظِهِمْ } مغيظين ، كقوله : { تَنبُتُ بالدهن } [ المؤمنون : 20 ] . { لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً } غير ظافرين ، وهما حالان بتداخل أو تعاقب . ويجوز أن تكون الثانية بياناً للأولى أو استئنافاً { وَكَفَى الله المؤمنين القتال } بالريح والملائكة { وَأَنزَلَ الذين } ظاهروا الأحزاب من أهل الكتاب { مِن صَيَاصِيهِمْ } من حصونهم . والصيصية ما تحصن به ، يقال لقرن الثور والظبي : صيصية ، ولشوكة الديك ، وهي مخلبه التي في ساقه ، لأنه يتحصن بها . روي

( 880 ) أنّ جبريل عليه السلام أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم - صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأحزاب ورجع المسلمون إلى المدينة ووضعوا سلاحهم - على فرسه الحيزوم والغبار على وجه الفرس وعلى السرج ، فقال : ما هَذَا يا جبريلُ؟ قال : من متابعة قريش : فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح الغبار عن وجه الفرس وعن السرج ، فقال : يا رسول الله ، إن الملائكة لم تضع السلاح ، إن اللَّهَ يأمرُكَ المسير إلى بني قريظة وأنا عامد إليهم ، فإن الله داقهم دق البيض على الصفا ، وإنهم لكم طعمة فأذن في الناس : أَنْ مَنْ كانَ سَامعاً مطيعاً فَلاَ يصلي العصرَ إلا في بني قريظةَ .

فما صلى كثير من الناس العصر إلا بعد العشاء الآخرة ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحاصرهم خمساً وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : تنزلون على حكمي؟ فأبوا ، فقال : على حكم سعد بن معاذ؟ فرضوا به ، فقال سعد : حكمت فيهم أن تقتل مقاتلهم وتسبي ذراريهم ونساؤهم ، فكبر النبي صلى الله عليه وسلم وقال : " لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة " ثم استنزلهم وخندق في سوق المدينة خندقاً . وقدمهم فضرب أعناقهم وهم من ثمانمائة إلى تسعمائة وقيل كانوا ستمائة مقاتل وسبعمائة أسير . وقرىء : «الرعب» ، بسكون العين وضمها . وتأسرون ، بضم السين . وروي

( 881 ) أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل عقارهم للمهاجرين دون الأنصار ، فقالت الأنصار في ذلك ، فقال : «إنكم في منازلكم» ، وقال عمر رضي الله عنه : أما تخمس كما خمست يوم بدر؟ قال : " لا ، إنما جعلت هذه لي طعمة دون الناس " قال : رضينا بما صنع الله ورسوله { وَأَرْضاً لَّمْ } عن الحسن رضي الله عنه : فارس والروم . وعن قتادة رضي الله عنه : كنا نحدث أنها مكة . وعن مقاتل رضي الله عنه : هي خيبر . وعن عكرمة : كل أرض تفتح إلى يوم القيامة . ومن بدع التفاسير : أنه أراد نساءهم .

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)

( 882 ) أردن شيئاً من الدنيا من ثياب وزيادة نفقة وتغايرن ، فغم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت . فبدأ بعائشة رضي الله عنها - وكانت أحبهنّ إليه - فخيرها وقرأ عليها القرآن ، فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة ، فرؤي الفرح في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم اختارت جميعهنّ اختيارها ، فشكر لهنّ الله ذلك ، فأنزل { لاَّ يَحِلُّ لَكَ النساء مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ } [ الأحزاب : 52 ] . روي أنه قال لعائشة :

( 883 ) " إنِّي ذاكرٌ لكَ أمراً ، ولا عليك أنْ لا تعجلي فيه حتّى تستأمري أبويْكَ " ثم قرأَ عليها القرآنَ فقالَت : أفي هذا أستأمر أبويَّ ، فإنِّي أريدُ الله ورسولَهُ والدارَ الآخرةَ .

( 884 ) وروي أنها قالت : لا تخبر أزواجك أنِّي اخترتك ، فقال : " إنما بعثني الله مبلغاً ولم يبعثني متعنتاً " فإن قلت : ما حكم التخيير في الطلاق؟ قلت : إذا قال لها اختاري ، فقالت : اخترت نفسي . أو قال : اختاري نفسك ، فقالت : اخترت ، لا بد من ذكر النفس في قول المخير أو المخيرة - وقعت طلقة بائنة عند أبي حنيفة وأصحابه ، واعتبروا أن يكون ذلك في المجلس قبل القيام أو الاشتغال بما يدل على الإعراض ، واعتبر الشافعي اختيارها على الفور وهي عنده طلقة رجعية وهو مذهب عمر وابن مسعود . وعن الحسن وقتادة الزهري رضي الله عنهم : أمرها بيدها في ذلك المجلس وفي غيره ، وإذا اختارت زوجها لم يقع شيء بإجماع فقهاء الأمصار . وعن عائشة رضي الله عنها :

( 885 ) خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه ولم يعده طلاقاً . وروي : أفكان طلاقاً . وعن عليّ رضي الله عنه . إذا اختارت زوجها فواحدة رجعية ، وإن اختارت نفسها فواحدة بائنة وروي عنه أيضاً أنها إن اختارت زوجها فليس بشيء . أصل تعال : أن يقوله من في المكان المرتفع ، لمن في المكان المستوطيء ، ثم كثر حتى استوت في استعماله الأمكنة . ومعنى تعالين : أقبلن بإرادتكن واختياركن لأحد أمرين ، ولم يرد نهوضهنّ إليه بأنفسهنّ . كما تقول : أقبل يخاصمني ، وذهب يكلمني . وقام يهددني { أُمَتّعْكُنَّ } أعطكنّ متعة الطلاق . فإن قلت : المتعة في الطلاق واجبة أم لا؟ قلت : المطلقة التي لم يدخل بها ولم يفرض لها في العقد ، متعتها واجبة عند أبي حنيفة وأصحابه ، وأما سائر المطلقات فمتعتهن مستحبة وعن الزهري رضي الله عنه : متعتان ، إحداهما : يقضي بها السلطان : من طلق قبل أن يفرض ويدخل بها . والثانية : حق على المتقين من طلق بعد ما يفرض ويدخل ، وخاصمت امرأة إلى شريح في المتعة فقال : متعها إن كنت من المتقين ولم يجبره . وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه : المتعة حق مفروض . وعن الحسن رضي الله عنه : لكل مطلقة متعة إلا المختلعة والملاعنة ، والمتعة : درع وخمار وملحفة على حسب السعة والإقتار ، إلا أن يكون نصف مهرها أقل من ذلك ، فيجب لها الأقل منهما . ولا تنقص من خمسة دراهم؛ لأن أقل المهر عشرة دراهم فلا ينقص من نصفها . فإن قلت : ما وجه قراءة من قرأ : «أمتعكنّ وأسرحكنّ» بالرفع؟ قلت : وجهه الاستئناف { سَرَاحاً جَمِيلاً } من غير ضرار طلاقاً بالسنة { مِنكُنَّ } للبيان لا للتبعيض .

يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31)

الفاحشة : السيئة البليغة في القبح وهي الكبيرة . والمبينة : الظاهرة فحشها ، والمراد كل ما اقترفن من الكبائر : وقيل هي عصيانهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشوزهنّ ، وطلبهن منه ما يشق عليه أو ما يضيق به ذرعه ويغتم لأجله وقيل : الزنا ، والله عاصم رسوله من ذلك ، كما مرّ في حديث الإفك ، وإنما ضوعف عذابهنّ لأن ما قبح من سائر النساء كان أقبح منهنّ وأقبح؛ لأن زيادة قبح المعصية تتبع زيادة الفضل والمرتبة وزيادة النعمة على العاصي من المعصي ، وليس لأحد من النساء مثل فضل نساء النبي صلى الله عليه وسلم ولا على أحد منهنّ مثل ما لله عليهن من النعمة ، والجزاء يتبع الفعل ، وكون الجزاء عقاباً يتبع كون الفعل قبيحاً ، فمتى ازداد قبحاً . ازداد عقابه شدّة ، ولذلك كان ذم العقلاء للعاصي العالم : أشدّ منه للعاصي الجاهل؛ لأن المعصية من العالم أقبح ، ولذلك فضل حدّ الأحرار على حد العبيد ، حتى أن أبا حنيفة وأصحابه لا يرون الرجم على الكافر { وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً } إيذان بأن كونهن نساء النبي صلى الله عليه وسلم ليس بمغن عنهن شيئاً . وكيف يغني عنهن وهو سبب مضاعفة العذاب ، فكان داعياً إلى تشديد الأمر عليهنّ غير صارف عنه . قرىء «يأت» ، بالتاء والياء . مبينة : بفتح الياء وكسرها ، من بين بمعنى تبين . يضاعف ، ويضعف : على البناء للمفعول . ويضاعف ، ونضعف : بالياء والنون . وقرىء : «تقنت» وتعمل : بالتاء والياء . ونؤتها : بالياء والنون . والقنوت : الطاعة ، وإنما ضوعف أجرهنّ لطلبهنّ رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحسن الخلق ، وطيب المعاشرة والقناعة ، وتوفرهنّ على عبادة الله والتقوى .

يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32)

أحد في الأصل بمعنى وحد ، وهو الواحد ، ثم وضع في النفي العام مستوياً فيه المذكر والمؤنث والواحد وما وراءه . ومعنى قوله : { لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النساء } لستنِّ كجماعة واحدة من جماعات النساء ، أي : إذا تقصيت أمة النساء جماعة جماعة لم توجد منهن جماعة واحدة تساويكن في الفضل والسابقة ، ومثله قوله تعالى : { والذين ءامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ } [ النساء : 152 ] يريد بين جماعة واحدة منهم ، تسوية بين جميعهم في أنهم على الحق المبين { إِنِ اتقيتن } إن أردتن التقوى ، وإن كنتن متقيات { فَلاَ تَخْضَعْنَ بالقول } فلا تجبن بقولكن خاضعاً ، أي : لينا خنثا مثل كلام المريبات والمومسات { فَيَطْمَعَ الذى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ } أي ريبة وفجور . وقرىء بالجزم ، عطفاً على محل فعل النهي ، على أنهن نهين عن الخضوع بالقول . ونهى المريض القلب عن الطمع ، كأنه قيل : لا تخضعن فلا يطمع . وعن ابن محيصن أنه قرأ بكسر الميم ، وسبيله ضم الياء مع كسرها وإسناد الفعل إلى ضمير القول ، أي : فيطمع القول المريب { قَوْلاً مَّعْرُوفاً } بعيداً من طمع المريب بجد وخشونة من غير تخنث ، أو قولاً حسناً مع كونه خشناً .

وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)

{ وَقَرْنَ } بكسر القاف ، من قر يقر وقاراً . أو من قرّ يقرّ ، حذفت الأولى من رائي : أقررن ، ونقلت كسرتها إلى القاف ، كما تقول : ظلن ، وقرن : بفتحها ، وأصله : أقررن ، فحذفت الراء وألقيت فتحتها على ما قبلها ، كقولك : ظلن ، وذكر أبو الفتح الهمداني في كتاب التبيان : وجهاً آخر ، قال : قار يقار : إذا اجتمع . ومنه . القارة ، لاجتماعها ، ألا ترى إلى قول عضل والديش : اجتمعوا فكونوا قارة . و { الجاهلية الأولى } هي القديمة التي يقال لها الجاهلية الجهلاء ، وهي الزمن الذي ولد فيه إبراهيم عليه السلام : كانت المرأة تلبس الدرع من اللؤلؤ فتمشى وسط الطريق تعرض تفسها على الرجال ، وقيل : ما بين آدم ونوح . وقيل : بين إدريس ونوح . وقيل : زمن داود وسليمان ، والجاهلية الأخرى : ما بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام . ويجوز أن تكون الجاهلية الأولى : جاهلية الكفر قبل الإسلام . والجاهلية الأخرى جاهلية الفسوق والفجور في الإسلام ، فكأن المعنى : ولا تحدثن بالتبرج جاهلية في الإسلام تتشبهن بها بأهل الجاهلية الكفر . ويعضده ما روي :

( 886 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي الدرداء رضي الله عنه : « إن فيك جاهلية » قال جاهلية كفر أم إسلام؟ فقال : « بل جاهلية كفر » أمرهن أمراً خاصاً بالصلاة والزكاة ، ثم جاء به عاماً في جميع الطاعات؛ لأن هاتين الطاعتين البدنية والمالية هما أصل سائر الطاعات : من أعتنى بهما حق اعتنائه جرّتاه إلى ما وراءهما ، ثم بين أنه إنما نهاهن وأمرهن ، ووعظهنّ ، لئلا يُقارفُ أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم المآثم ، ولتصوّنو عنها بالتقوى . واستعار للذنوب : الرجس ، وللتقوى : الطهر؛ لأنّ عرض المقترف للمقبحات يتلوّث بها ويتدنس ، كما يتلوث بدنه بالأرجاس . وأما المحسنات ، فالعرض معها نقي مصون كالثوب الطاهر . وفي هذه الاستعارة ما ينفر أولي الألباب عما كرهه الله لعباده ونهاهم عنه ، ويرغبهم فيما رضيه لهم وأمرهم به . و { أَهْلَ البيت } نصب على النداء . أو على المدح . وفي هذا دليل بيّن على أنّ نساء النبي صلى الله عليه وسلم من أهل بيته .

وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)

ثم ذكرهنّ أنّ بيوتهن مهابط الوحي ، وأمرهنّ أن لا ينسين ما يتلى فيها من الكتاب الجامع بين أمرين : هو آيات بينات تدلّ على صدق النبوّة؛ لأنه معجزة بنظمه . وهو حكمة وعلوم وشرائع { إِنَّ الله كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً } حين علم ما ينفعكم ويصلحكم في دينكم فأنزله عليكم أو علم من يصلح لنبوّته من يصلح لأن يكرهوا أهل بيته . أو حيث جعل الكلام الواحد جامعاً بين الغرضين .

إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)

يروى :

( 887 ) أنّ أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قلن : يا رسولَ اللَّهِ ، ذكر اللَّهُ [ تعالى ] الرجالَ في القرآنِ بخيرٍ ، أفما فينا خير نذكر بهِ؟ إنا نخاف أن لا تقبل منا طاعة . وقيل : السائلة أم سلمة .

وروي :

( 888 ) أنه لما نزل في نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما نزل ، قال نساء المسلمين : فما نزل فينا شيء؟ فنزلت ، والمسلم : الداخل في السلم بعد الحرب ، المنقاد الذي لا يعاند ، أو المفوّض أمره إلى الله [ تعالى ] المتوكل عليه من أسلم وجهه إلى الله . والمؤمن : المصدق بالله ورسوله وبما يجب أن يصدق به . والقانت : القائم بالطاعة الدائم عليها . والصادق : الذي يصدق في نيته وقوله وعمله . والصابر : الذي يصبر على الطاعات وعن المعاصي . والخاشع : المتواضع لله بقلبه وجوارحه . وقيل : الذي إذا صلّى لم يعرف من عن يمينه وشماله . والمتصدق : الذي يزكي ماله ولا يخل بالنوافل . وقيل : من تصدّق في أسبوع بدرهم فهو من المتصدّقين . ومن صام البيض من كل شهر فهو من الصائمين . والذاكر لله كثيراً : من لا يكاد يخلو من ذكر الله بقلبه أو لسانه أو بهما . وقراءة القرآن والاشتغال بالعلم من الذكر وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( 889 ) « من استيقظ من نومه وأيقظ امرأته فصليا جميعاً ركعتين كتبا في الذاكرين لله كثيراً والذاكرات » والمعنى : والحافظاتها والذاكراته ، فحذف؛ لأنّ الظاهر يدلّ عليه . فإن قلت : أي فرق بين العطفين ، أعني عطف الإناث على الذكور وعطف الزوجين على الزوجين؟ قلت : العطف الأوّل نحو قوله تعالى : { ثيبات وَأَبْكَاراً } [ التحريم : 5 ] في أنهما جنسان مختلفان ، إذا اشتركا في حكم لم يكن بدّ من توسيط العاطف بينهما . وأما العطف الثاني فمن عطف الصفة على الصفة بحرف الجمع ، فكأن معناه : إنّ الجامعين والجامعات لهذه الطاعات { أَعَدَّ الله لَهُم } .

وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)

( 890 ) خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب على مولاه زيد بن حارثة ، فأبت وأبى أخوها عبد الله ، فنزلت ، فقال : رضينا يا رسول الله ، فأنكحها إياه وساق عنه إليها مهرها ستين درهماً وخماراً وملحفة ودرعاً وإزاراً وخمسين مدّاً من طعام وثلاثين صاعاً من تمر . وقيل :

( 891 ) هي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ، وهي أوّل من هاجر من النساء ، وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : «قد قبلت» ، وزوّجها زيداً . فسخطت هي وأخوتها وقالا : إنما أردنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فزوّجنا عبده ، والمعنى وما صحّ لرجل ولا امرأة من المؤمنين { إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ } أي رسول الله أو لأن قضاء رسول الله هو قضاء الله { أمْراً } من الأمور : أن يختاروا من أمرهم ما شاؤوا ، بل من حقهم أن يجعلوا رأيهم تبعاً لرأيه ، واختيارهم تلواً لاختياره . فإن قلت : كان من حق الضمير أن يوحد كما تقول : ما جاءني من رجل ولا امرأة إلاّ كان من شأنه كذا ، قلت : نعم ولكنهما وقعا تحت النفي ، فعما كل مؤمن ومؤمنة ، فرجع الضمير على المعنى لا على اللفظ . وقرىء : «يكون» بالتاء والياء . { الخيرة } ما يتخير .

وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37)

{ لِلَّذِى أَنعَمَ الله عَلَيْهِ } بالإسلام الذي هو أجلّ النعم . وبتوفيقك لعتقه ومحبته واختصاصه { وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ } بما وفقك الله فيه ، فهو متقلب في نعمة الله ونعمة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهو زيد بن حارثة { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ } يعني زينب بنت جحش رضي الله عنها :

( 892 ) وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصرها بعدما أنكحها إياه ، فوقعت في نفسه ، فقال : سبحان الله مقلب القلوب ، وذلك أنّ نفسه كانت تجفو عنها قبل ذلك لا تريدها ، ولو أرادتها لاختطبها ، وسمعت زينب بالتسبيحة فذكرتها لزيد ، ففطن وألقى الله في نفسه كراهة صحبتها والرغبة عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إني أريد أن أفارق صاحبتي ، فقال : «مالك : أرابك منها شيء؟» قال : لا والله؛ ما رأيت منها إلاّ خيراً ، ولكنها تتعظم عليّ لشرفها وتؤذيني ، فقال له : " امسك عليك زوجك واتق الله " ، ثم طلقها بعد ، فلما اعتدّت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما أجد أحداً أوثق في نفسي منك ، اخطب عليّ زينب . قال زيد : فانطلقت فإذا هي تخمر عجينتها ، فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها ، حين علمت أنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها ، فوليتها ظهري وقلت : يا زينب ، أبشري إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبك ، ففرحت وقالت : ما أنا بصانعه شيئاً حتى أؤامر ربي ، فقامت إلى مسجدها ، ونزل القرآن { زوجناكها } فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل بها ، وما أولم على امرأة من نسائه ما أولم عليها : ذبح شاة وأطعم الناس الخبز واللحم حتى امتدّ النهار . فإن قلت : ما أراد بقوله : { واتق الله } ؟ قلت : أراد : واتق الله فلا تطلقها ، وقصد نهي تنزيه لا تحريم ، لأن الأولى أن لا يطلق . وقيل : أراد : واتق الله فلا تذمّها بالنسبة إلى الكبر وأذّى الزوج . فإن قلت : ما الذي أخفى في نفسه؟ قلت : تعلق قلبه بها . وقيل : مودة مفارقة زيد إياها . وقيل : علمه بأن زيداً سيطلقها وسينكحها ، لأن الله قد أعلمه بذلك . وعن عائشة رضي الله عنها :

( 893 ) لو كتم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً مما أوحى إليه لكتم هذه الآية . فإن قلت : فماذا أراد الله منه أن يقوله حين قال له زيد : أريد مفارقتها ، وكان من الهجنة أن يقول له : افعل ، فإني أريد نكاحها؟ قلت : كأن الذي أراد منه عزّ وجلّ أن يصمت عند ذلك ، أو يقول له : أنت أعلم بشأنك ، حتى لا يخالف سره في ذلك علانيته؛ لأن الله يريد من الأنبياء تساوي الظاهر والباطن ، والتصلب في الأمور ، والتجاوب في الأحوال والاستمرار على طريقة مستتبة .

( 894 ) كما جاء في حديث إرادة رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل عبد الله بن أبي سرح واعتراض عثمان بشفاعته له : أن عمر قال له : لقد كان عيني إلى عينك ، هل تشير إليّ فأقتله ، فقال : إن الأنبياء لا تومض ظاهرهم وباطنهم واحد . فإن قلت : كيف عاتبه الله في ستر ما استهجن التصريح به ، ولا يستهجن النبيّ صلى الله عليه وسلم التصريح بشيء إلاّ الشيء في نفسه مستهجن ، وقالة الناس لا تتعلق إلاّ بما يستقبح في العقول والعادات؟ وما له لم يعاتبه في نفس الأمر ولم يأمره بقمع الشهوة وكف النفس عن أن تنازع إلى زينب وتتبعها؟ ولم يعصم نبيه صلى الله عليه وسلم عن تعلق الهجنة به وما يعرضه للقالة؟ قلت : كم من شيء يتحفظ منه الإنسان ويستحي من اطلاع الناس عليه ، وهو في نفسه مباح متسع ، وحلال مطلق ، لا مقال فيه ولا عيب عند الله ، وربما كان الدخول في ذلك المباح سلماً إلى حصول واجبات يعظم أثرها في الدين ويجلّ ثوابها ، ولو لم يتحفظ منه لأطلق كثير من الناس فيه ألسنتهم إلاّ من أوتي فضلاً وعلماً وديناً ونظراً في حقائق الأمور ولبوبها دون قشورها . ألا ترى أنهم كانوا إذا طمعوا في بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوا مرتكزين في مجالسهم لا يرمون مستأنسين بالحديث ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذيه قعودهم ويضيق صدره حديثهم ، والحياء يصده أن يأمرهم بالانتشار ، حتى نزلت { إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِى النبى فَيَسْتَحْيِى مِنكُمْ والله لاَ يَسْتَحْىِ مِنَ الحق } [ الأحزاب : 53 ] ولو أبرز رسول الله صلى الله عليه وسلم مكنون ضميره وأمرهم أن ينتشروا ، لشقّ عليهم ، ولكان بعض المقالة ، فهذا من ذاك القبيل ، لأن طموح قلب الإنسان إلى بعض مشتهياته من امرأة أو غيرها غير موصوف بالقبح في العقل ولا في الشرع ، لأنه ليس بفعل الإنسان ولا وجوده باختياره ، وتناول المباح بالطريق الشرعي ليس بقبيح أيضاً ، وهو خطبة زينب ونكاحها من غير استنزال زيد عنها ، ولا طلب إليه وهو أقرب [ إليه ] منه من زرّ قميصه أن يواسيه بمفارقتها ، مع قوة العلم بأن نفس زيد لم تكن من التعلق بها في شيء ، بل كانت تجفو عنها ، ونفس رسول الله صلى الله عليه وسلم متعلقة بها ، ولم يكن مستنكراً عندهم أن ينزل الرجل عن امرأته لصديقه ، ولا مستهجناً إذا نزل عنها أن ينكحها الآخر ، فإنّ المهاجرين حين دخلوا المدينة استهم الأنصار بكل شيء ، حتى إن الرجل منهم إذا كانت له امرأتان نزل عن إحداهما وأنكحها المهاجر ، وإذا كان الأمر مباحاً من جميع جهاته ولم يكن فيه وجه من وجوه القبح ولا مفسدة ولا مضرّة بزيد ولا بأحد ، بل كان مستجراً مصالح ، ناهيك بواحدة منها أن بنت عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمنت الأيمة والضيعة ونالت الشرف وعادت أُماً من أمّهات المسلمين ، إلى ما ذكر الله عزّ وجلّ من المصلحة العامّة في قوله : { لِكَىْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً } فبالحري أن يعاتب الله ورسوله حين كتمه وبالغ في كتمه بقوله : { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتق الله } وأن لا يرضى له إلا اتحاد الضمير والظاهر ، والثبات في مواطن الحق ، حتى يقتدي به المؤمنون ، فلا يستحيوا من المكافحة بالحق وإن كان مراً .

فإن قلت : الواو في { وَتُخْفِى فِى نِفْسِكَ } ، { وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ } ما هي؟ قلت : واو الحال ، أي : تقول لزيد : أمسك عليك زوجك مخفياً في نفسك إرادة أن لا يمسكها ، وتخفى خاشياً قالة الناس وتخشى الناس ، حقيقاً في ذلك بأن تخشى الله ، أو واو العطف ، كأنه قيل : وإذ تجمع بين قولك : أمسك ، وإخفاء خلافه ، وخشية الناس . والله أحقّ أن تخشاه ، حتى لا تفعل مثل ذلك . إذا بلغ البالغ حاجته من شيء له فيه همة قيل : قضى منه وطره . والمعنى : فلما لم يبق لزيد فيها حاجة ، وتقاصرت عنها همته ، وطابت عنها نفسه ، وطلقها ، وانقضت عدّتها { زوجناكها } وقراءة أهل البيت : زوّجتكها . وقيل لجعفر بن محمد رضي الله عنهما : أليس تقرأ عليّ غير ذلك ، فقال : لا والذي لا إله إلاّ هو ، ما قرأتها على أبي إلاّ كذلك ، ولا قرأها الحسن بن عليّ على أبيه إلاّ كذلك ، ولا قرأها علي بن أبي طالب على النبي صلى الله عليه وسلم إلاّ كذلك { وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً } جملة اعتراضية ، يعني : وكان أمر الله الذي يريد أن يكونه ، مفعولاً مكوناً لا محالة ، وهو مثل لما أراد كونه من تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب ، ومن نفي الحرج عن المؤمنين في إجراء ، أزواج المتبنين مجرى أزواج البنين في تحريمهن عليهم بعد انقطاع علائق الزواج بينهم وبينهن ، ويجوز أن يراد بأمر الله : المكون ، لأنه مفعول بكن ، وهو أمر الله .

مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39)

{ فَرَضَ الله لَهُ } قسم له وأوجب ، من قولهم : فرض لفلان في الديوان كذا . ومنه فروض العسكر لرزقاتهم { سُنَّةَ الله } اسم موضوع موضع المصدر - كقولهم : تربا ، وجندلا - : مؤكد لقوله تعالى : { مَّا كَانَ عَلَى النبى مِنْ حَرَجٍ } كأنه قيل : سنّ الله ذلك سنة في الأنبياء الماضين ، وهو أن لا يحرج عليهم في الاقدام على ما أباح لهم ووسع عليهم في باب النكاح وغيره ، وقد كانت تحتهم المهائر والسراري ، وكانت لداود عليه السلام مائة امرأة وثلثمائة سرية ، ولسليمان عليه السلام ثلثمائة وسبعمائة { فِى الذين خَلَوْاْ } في الأنبياء الذين مضوا { الذين يُبَلّغُونَ } يحتمل وجوه الاعراب : الجرّ ، على الوصف للأنبياء ، والرفع والنصب ، على المدح على هم الذين يبلغون . أو على : أعني الذين يبلغون . وقرىء : «رسالة الله» . قدراً مقدوراً : قضاء مقضياً ، وحكماً مبتوتاً ، ووصف الأنبياء بأنهم لا يخشون إلاّ الله : تعريض بعد التصريح في قوله تعالى { وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تخشاه } [ الأحزاب : 37 ] . { حَسِيباً } كافياً للمخاوف ، أو محاسباً على الصغيرة والكبيرة ، فيجب أن يكون حق الخشية من مثله .

مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)

{ مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ } أي لم يكن أبا رجل منكم على الحقيقة ، حتى يثبت بينه وبينه ما يثبت بين الأب وولده من حرمة الصهر والنكاح { ولكن } كان { رَسُولِ الله } وكل رسول أبو أمته فيما يرجع إلى وجوب التوقير والتعظيم له عليهم . ووجوب الشفقة والنصيحة لهم عليه ، لا في سائر الأحكام الثابتة بين الآباء والأبناء ، وزيد واحد من رجالكم الذين ليسوا بأولاده حقيقة ، فكان حكمه حكمكم ، والادعاء والتبني من باب الاختصاص والتقريب لا غير { و } كان { وخَاتَمَ النبيين } يعني أنه لو كان له ولد بالغ مبلغ الرجال لكان نبياً ولم يكن هو خاتم الأنبياء ، كما يروى :

( 895 ) أنه قال في إبراهيم حين توفي : " لو عاش لكان نبياً " فإن قلت : أما كان أبا للطاهر والطيب والقاسم وإبراهيم؟ قلت : قد أخرجوا من حكم النفي بقوله : { مِّن رّجَالِكُمْ } من وجهين ، أحدهما : أنّ هؤلاء لم يبلغوا مبلغ الرجال . والثاني : أنه قد أضاف الرجال إليهم وهؤلاء رجاله لا رجالهم . فإن قلت : أما كان أبا للحسن والحسين؟ قلت : بلى ، ولكنهما لم يكونا رجلين حينئذ ، وهما أيضاً من رجاله لا من رجالهم ، وشيء آخر : وهو أنه إنما قصد ولده خاصة ، لا ولد ولده؛ لقوله تعالى : { وَخَاتَمَ النبيين } ألا ترى أن الحسن والحسين قد عاشا إلى أن نيّف أحدهما على الأربعين والآخر على الخمسين . قرىء : «لكن رسول الله» بالنصب ، عطفاً على { أَبَآ أَحَدٍ } بالرفع على : ولكن هو رسول الله ، ولكنّ ، بالتشديد على حذف الخبر ، تقديره : ولكنّ رسول الله من عرفتموه ، أي : لم يعش له ولد ذكر . وخاتم بفتح التاء بمعنى الطابع ، وبكسرها بمعنى الطابع وفاعل الختم . وتقوّيه قراءة ابن مسعود : ولكنّ نبياً ختم النبيين . فإن قلت : كيف كان آخر الأنبياء وعيسى ينزل في آخر الزمان؟ قلت : معنى كونه آخر الأنبياء أنه لا ينبأ أحد بعده ، وعيسى ممن نبىء قبله ، وحين ينزل ينزل عاملاً على شريعة محمد صلى الله عايه وسلم ، مصلياً إلى قبلته ، كأنه بعض أمته .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42)

{ اذكروا الله } أثنوا عليه بضروب الثناء من التقديس والتحميد والتهليل والتكبير وما هو أهله ، وأكثروا ذلك { بُكْرَةً وَأَصِيلاً } أي في كافة الأوقات قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( 896 ) « ذكر الله على فم كل مسلم » وروي : « في قلب كل مسلم » وعن قتادة : قولوا سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم ، وعن مجاهد : هذه كلمات يقولها الطاهر والجنب . والفعلان ، أعني اذكروا وسبحوا موجهان إلى البكرة والأصيل ، كقولك : صم وصلّ يوم الجمعة ، والتسبيح من جملة الذكر ، وإنما اختصه من بين أنواعه اختصاص جبريل وميكائيل من بين الملائكة ، ليبين فضله عى سائر الأذكار ، لأن معناه تنزيه ذاته عما لا يجوز عليه من الصفات والأفعال ، وتبرئته من القبائح . ومثال فضله على غيره من الأذكار فضل وصف العبد بالنزاهة من أدناس المعاصي ، والطهر من أرجاس المآثم ، على سائر أوصافه من كثرة الصلاة والصيام ، والتوفر على الطاعات كلها ، والاشتمال على العلوم ، والاشتهار بالفضائل ويجوز أن يريد بالذكر وإكثاره : تكثير الطاعات ، والإقبال على العبادات؛ فإن كل طاعة وكل خير من جملة الذكر ، ثم خصّ من ذلك التسبيح بكرة وأصيلاً وهي الصلاة في جميع أوقاتها لفضل الصلاة على غيرها . أو صلاة الفجر والعشاءين؛ لأنّ أداءها أشقّ ومراعاتها أشدّ .

هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44)

لما كان من شأن المصلي أن ينعطف في ركوعه وسجوده استعير لمن ينعطف على غيره حنوّاً عليه ترؤفاً . كعائد المريض في انعطافه عليه ، والمرأة في حنوّها على ولدها ، ثم كثر حتى استعمل في الرحمة والترؤف ومنه قولهم : صلّى الله عليك ، أي ترحم عليك وترأف . فإن قلت : قوله : { هُوَ الذى يُصَلّى عَلَيْكُمْ } إن فسرته بيترحم عليكم ويترأف ، فما تصنع بقوله : { وملائكته } وما معنى صلاتهم؟ قلت : هي قولهم : اللَّهم صلّ على المؤمنين ، جعلوا لكونهم مستجابي الدعوة كأنهم فاعلون الرحمة والرأفة . ونظيره قوله : حياك الله ، أي حياك وأبقاك ، وحييتك ، أي : دعوت لك بأن يحييك الله؛ لأنك لا تكالك على إجابة دعوتك كأنك تبقيه على الحقيقة ، وكذلك : عمرك الله ، وعمرتك ، وسقاك الله ، وسقيتك ، وعليه قوله تعالى : { إِنَّ الله وملائكته يُصَلُّونَ عَلَى النبى ياأيها الذين ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ } [ الأحزاب : 56 ] أي ادعوا الله بأن يصلّي عليه . والمعنى : هو الذي يترحم عليكم ويترأف : حيث يدعوكم إلى الخير ويأمركم بإكثار الذكر والتوفر على الصلاة والطاعة { لِيُخْرِجَكُم } من ظلمات المعصية إلى نور الطاعة { وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيماً } دليل على أنّ المراد بالصلاة الرحمة . ويروى أنه لما نزل قوله تعالى : { إِنَّ الله وملائكته يُصَلُّونَ عَلَى النبى } [ الأحزاب : 56 ] قال أبو بكر رضي الله عنه : ما خصك يا رسول الله بشرف إلاّ وقد أشركنا فيه ، فأنزلت { تَحِيَّتُهُمْ } من إضافة المصدر إلى المفعول ، أي : يحيون يوم لقائه بسلام . فيجوز أن يعظمهم الله بسلامه عليهم ، كما يفعل بهم سائر أنواع التعظيم ، وأن يكون مثلاً كاللقاء على ما فسرنا . وقيل : هو سلام ملك الموت والملائكة معه عليهم وبشارتهم بالجنة . وقيل : سلام الملائكة عند الخروج من القبور . وقيل : عند دخول الجنة ، كما قال : { والملائكة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ سلام عَلَيْكُمُ } [ الرعد : 23 24 ] والأجر الكريم : الجنة .

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)

{ شاهدا } على من بعثت إليهم ، وعلى تكذيبهم وتصديقهم ، أي : مقبولاً قولك عند الله لهم وعليهم ، كمل يقبل قول الشاهد العدل في الحكم . فإن قلت : وكيف كان شاهداً وقت الإرسال ، وإنما يكون شاهداً عند تحمل الشهادة أو عند أدائها؟ قلت : هي حال مقدرة كمسألة الكتاب : مررت برجل معه صقر صائداً به غداً أي : مقدراً به الصيد غداً . فإن قلت : قد فهم من قوله : إنا أرسلناك داعياً : أنه مأذون له في الدعاء ، فما فائدة قوله : { بِإِذْنِهِ } ؟ قلت : لم يرد به حقيقة الإذن . وإنما جعل الإذن مستعاراً للتسهيل والتيسير؛ لأن الدخول في حقّ المالك متعذر ، فإذا صودف الإذن تسهل وتيسر ، فلما كان الإذن تسهيلاً لما تعذر من ذلك ، وضع موضعه ، وذلك أن دعاء أهل الشرك والجاهلية إلى التوحيد والشرائع أمر في غاية الصعوبة والتعذر ، فقيل : بإذنه للإيذان بأن الأمر صعب لا يتأتى ولا يستطاع إلاّ إذا سهله الله ويسّره ، ومنه قولهم في الشحيح : أنه غير مأذون له في الإنفاق ، أي : غير مسهل له الإنفاق لكونه شاقاً عليه داخلاً في حكم التعذر . [ { وَسِرَاجاً منيراً } ] جلى به [ الله ] ظلمات الشرك واهتدى به الضالون ، كما يجلى ظلام الليل بالسراج المنير ويهتدى به . أو أمدّ الله بنور نبوّته نور البصائر ، كما يمدّ بنور السراج نور الأبصار ، وصفه بالإنارة لأن من السرج ما لا يضيء إذا قل سليطة ودقت فتيلته . وفي كلام بعضهم : ثلاثة تضني : رسول بطيء ، وسراج لا يضيء ، ومائدة ينتظر لها من يجيء . وسئل بعضهم عن الموحشين؟ فقال : ظلام ساتر ، وسراج فاتر . وقيل : وذا سراج منير . أو وتاليا سراجاً منيراً . ويجوز على هذا التفسير أن يعطف على كاف { أرسلناك } .

وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47)

الفضل : ما يتفضل به عليهم زيادة على الثواب ، وإذا ذكر المتفضل به وكبره فما ظنك بالثواب . ويجوز أن يريد بالفضل : الثواب ، من قولهم للعطايا : فضول وفواضل ، وأن يريد أنّ لهم فضلاً كبيراً على سائر الأمم ، وذلك الفضل من جهة الله ، وأنه آتاهم ما فضلوهم به .

وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)

{ وَلاَ تُطِعِ الكافرين } معناه : الدوام والثبات على ما كان عليه . أو التهييج { أَذَاهُمْ } يحتمل إضافته إلى الفاعل والمفعول ، يعني : ودع أن تؤذيهم بضرر أو قتل ، وخذ بظاهرهم ، وحسابهم على الله في باطنهم . أو : ودع ما يؤذونك به ولا تجازهم عليه حتى تؤمر ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هي منسوخة بآية السيف { وَتَوَكَّلْ عَلَى الله } فإنه يكفيكهم [ وكفى بالله وكيلاً ] ، وكفى به مفوّضاً إليه ، ولقائل أن يقول : وصفه الله [ تعالى ] بخمسة أوصاف ، وقابل كلاً منها بخطاب مناسب له ، قابل الشاهد بقوله : { وبشر المؤمنين } ، لأنه يكون شاهداً على أمّته وهم يكونون شهداء على سائر الأمم ، وهو الفضل الكبير والمبشر بالإعراض عن الكافرين والمنافقين ، لأنه إذا أعرض عنهم أقبل جميع إقباله على المؤمنين ، وهو مناسب للبشارة والنذير بدع أذاهم ، لأنه إذا ترك أذاهم في الحاضر - والأذى لا بدّ له من عقاب عاجل أو آجل - كانوا منذرين به في المستقبل ، والداعي إلى الله بتيسيره بقوله : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الله } لأنّ من توكل على الله يسرّ عليه كل عسير ، والسراج المنير بالاكتفاء به وكيلاً ، لأنّ من أناره الله برهاناً على جميع خلقه ، كان جديراً بأن يكتفي به عن جميع خلقه .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)

النكاح : الوطء ، وتسمية العقد نكاحاً لملابسته له ، من حيث أنه طريق إليه . ونظيره تسميتهم الخمر إثماً : لأنها سبب في اقتراف الإثم ، ونحوه في علم البيان قول الراجز :

أَسْنِمَةُ الآبَالِ في سَحَابِهْ ... سمى الماء بأسنمة الآبال؛ لأنه سبب سمن المال وارتفاع أسنمته ، ولم يرد لفظ النكاح في كتاب الله إلاّ في معنى العقد؛ لأنه في معنى الوطء من باب التصريح به . ومن آداب القرآن : الكناية عنه بلفظ الملامسة والمماسة والقربان والتغشي والإتيان . فإن قلت : لم خصّ المؤمنات والحكم الذي نطقت به الآية تستوي فيه المؤمنات والكتابيات؟ قلت : في اختصاصهنّ تنبيه على أن أصل أمر المؤمن والأولى به . أن يتخير لنطفته ، وأن لا ينكح إلاّ مؤمنة عفيفة ، ويتنزّه عن مزاوجة الفواسق فما بال الكوافر ، ويستنكف أن يدخل تحت لحاف واحدة عدوّة الله ووليه ، فالتي في سورة المائدة : تعليم ما هو جائز غير محرّم ، من نكاح المحصنات من الذين أوتوا الكتاب . وهذه فيها تعليم ما هو الأولى بالمؤمنين من نكاح المؤمنات . فإن قلت : ما فائدة ثم في قوله : { ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ } قلت : فائداته نفي التوهم عمن عسى يتوهم تفاوت الحكم : بين أن يطلقها وهي قريبة العهد من النكاح ، وبين أن يبعد عهدها بالنكاح ويتراخى بها المدة في حبالة الزواج ثم يطلقها : فإن قلت : إذا خلا بها خلوة يمكنه معها المساس ، هل يقوم ذلك مقام المساس؟ قلت : نعم . عند أبي حنيفة وأصحابه حكم الخلوة الصحيحة حكم المساس ، وقوله : { فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ } دليل على أن العدة حق واجب على النساء للرجال { تَعْتَدُّونَهَا } تستوفون عددها ، من قولك : عددت الدراهم فاعتدها ، كقولك : كلته فاكتاله ، ووزنته فاتزنه . وقرىء : «تعتدونها» مخففاً؛ أي : تعتدون فيها ، كقوله :

وَيَوْمٌ شَهِدْنَاهُ ... والمراد بالاعتداد ما في قوله تعالى : { وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لّتَعْتَدُواْ } [ البقرة : 231 ] . فإن قلت : ما هذا التمتيع أواجب أو مندوب إليه؟ قلت : إن كانت غير مفروض لها كانت المتعة واجبة ، ولا تجب المتعة عند أبي حنيفة إلاّ لها وحدها دون سائر المطلقات ، وإن كان مفروضاً لها؛ فالمتعة مختلف فيها : فبعض على الندب والاستحباب ، ومنهم أبو حنيفة . وبعض على الوجوب { سَرَاحاً جَمِيلاً } من غير ضرار ولا منع واجب .

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50) تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51)

{ أُجُورَهُنَّ } مهورهنّ : لأنّ المهر أجر على البضع . وإيتاؤها : إما إعطاؤها عاجلاً . وإما فرضها وتسميتها في العقد . فإن قلت : لم قال : { الاتي ءَاتيْتَ أُجُورَهنَّ } و { مِمَّا أَفَاء الله عَلَيْكَ } و { الاتي هَاجَرْنَ مَعَكَ } وما فائدة هذه التخصيصات؟ قلت : قد اختار الله لرسوله الأفضل الأولى ، واستحبه بالأطيب الأزكى ، كما اختصه بغيرها من الخصائص ، وآثره بما سواها من الأثر ، وذلك أن تسمية المهر في العقد أولى وأفضل من ترك التسمية ، وإن وقع العقد جائزاً؛ وله أن يماسها وعليه مهر المثل إن دخل بها ، والمتعة إن لم يدخل بها . وسوق المهر إليها عاجلاً أفضل من أن يسميه ويؤجله ، وكان التعجيل ديدن السلف وسنتهم ، وما لا يعرف بينهم غيره . وكذلك الجارية إذا كانت سبية مالكها ، وخطبة سيفه ورمحه ، ومما غنمه الله من دار الحرب أحلّ وأطيب مما يشتري من شقّ الجلب . والسبي على ضربين : سبي طيبة ، وسبي خبيثة : فسبي الطيبة : ما سبي من أهل الحرب . وأما من كان له عهد فالمسبي منهم سبي خبيثة ، ويدلّ عليه قوله تعالى : { مِمَّا أَفَاء الله عَلَيْكَ } لأن فيء الله لا يطلق إلاّ على الطيب دون الخبيث ، كما أنّ رزق الله يجب إطلاقه على الحلال دون الحرام ، وكذلك اللاتي هاجرن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرائبه غير المحارم أفضل من غير المهاجرات معه .

( 897 ) وعن أم هانيء ، بنت أبي طالب : خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه فعذرني ، ثم أنزل الله هذه الآية ، فلم أحلّ له؛ لأني لم أهاجر معه ، كنت من الطلقاء . وأحللنا لك من وقع لها أن تهب لك نفسها ولا تطلب مهراً من النساء المؤمنات إن اتفق ذلك ، ولذلك نكرها . واختلف في اتفاق ذلك ، فعن ابن عباس رضي الله عنهما : لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد منهنّ بالهبة . وقيل : الموهوبات أربع : ميمونة بنت الحرث ، وزينب بنت خزيمة أمّ المساكين الأنصارية ، وأمّ شريك بنت جابر ، وخولة بنت حكيم - رضي الله عنهنّ . قرىء : { إِن وَهَبَتْ } على الشرط . وقرأ الحسن رضي الله عنه : { أن } بالفتح ، على التعليل بتقدير حذف اللام . ويجوز أن يكون مصدراً محذوفاً معه الزمان ، كقولك : اجلس ما دام زيد جالساً ، بمعنى دوامه جالساً ، ووقت هبتها نفسها . وقرأ ابن مسعود بغير أن . فإن قلت : ما معنى الشرط الثاني مع الأوّل؟ قلت : هو تقييد له شرط في الإحلال هبتها نفسها ، وفي الهبة : إرادة استنكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كأنه قال : أحللناها لك إن وهبت لك نفسها وأنت تريد أن تستنكحها؛ لأنّ إرادته هي قبول الهبة وما به تتمّ .

فإن قلت : لم عدل عن الخطاب إلى الغيبة في قوله تعالى : { نَفْسَهَا لِلنَّبِىّ إِنْ أَرَادَ النبى } ثم رجع إلى الخطاب؟ قلت : للإيذان بأنه مما خصّ به وأوثر ، ومجيئه على لفظ النبي للدلالة على أن الاختصاص تكرمة له لأجل النبوّة ، وتكريره تفخيم له وتقرير لاستحقاقه الكرامة لنبوّته ، واستنكاحها : طلب نكاحها والرغبة فيه ، وقد استشهد به أبو حنيفة على جواز عقد النكاح بلفظ الهبة؛ لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمّته سواء في الأحكام إلاّ فيما خصّه الدليل ، وقال الشافعي : لا يصحّ ، وقد خصّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعنى الهبة ولفظها جميعاً؛ لأنّ اللفظ تابع للمعنى ، والمدعي للاشتراك في اللفظ يحتاج إلى دليل . وقال أَبو الحسن الكرخي : إن عقدالنكاح بلفظ الإجارة جائز ، لقوله تعالى : { الاتي ءَاتَيْتَ أُجُورَهُنَّ } وقال أبو بكر الرازي : لا يصحّ : لأنّ الإجارة عقد مؤقت ، وعقد النكاح مؤبد ، فهما متنافيان { خَالِصَةً } مصدر مؤكد ، كوعد الله ، وصبغة الله ، أي : خلص لك إحلال ما أحللنا لك خالصة ، بمعنى خلوصاً ، والفاعل والفاعلة في المصادر غير عزيزين ، كالخارج والقاعد ، والعافية والكاذبة . والدليل على أنها وردت في أثر الإحلالات الأربع مخصوصة برسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل التوكيد لها قوله : { قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِى أزواجهم وَمَا مَلَكَتْ أيمانهم } بعد قوله : { مِن دُونِ المؤمنين } وهي جملة اعتراضية ، وقوله : { لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ } متصل بخالصة لك من دون المؤمنين ، ومعنى هذه الجملة الاعتراضية أنّ الله قد علم ما يجب فرضه على المؤمنين في الأزواج والإماء ، وعلى أي حدّ وصفه يجب أن يفرض عليهم ففرضه ، وعلم المصلحة في اختصاص رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اختصّه به ففعل؛ ومعنى : { لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ } لئلا يكون عليك ضيق في دينك : حيث اختصصناك بالتنزيه واختيار ما هو أولى وأفضل ، وفي دنياك : حيث أحللنا لك أجناس المنكوحات وزدنا لك الواهبة نفسها . وقرىء : «خالصة» بالرفع ، أي : ذاك خلوص لك وخصوص من دون المؤمنين ومن جعل خالصة نعتاً للمرأة ، فعلى مذهبه : هذه المرأة خالصة لك من دونهم { وَكَانَ الله غَفُوراً } للواقع في الحرج إذا تاب { رَّحِيماً } بالتوسعة على عباده .

( 898 ) روي أن أمهات المؤمنين حين تغايرن وابتغين زيادة النفقة وغظن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هجرهنّ شهراً ، ونزل التخيير ، فأشفقن أنّ يطلقهنّ ، فقلن : يا رسول الله ، افرض لنا من نفسك ومالك ما شئت . وروي :

( 899 ) أن عائشة رضي الله عنها قالت : يا رسول الله إني أرى ربك يسارع في هواك . { تُرْجِى } بهمز وغير همز : تؤخر { وَتُئْوِى } تضمّ ، يعني : تترك مضاجعة من تشاء منهن . وتضاجع من تشاء . أو تطلق من تشاء ، وتمسك من تشاء .

أو تقسم لأيتهنّ شئت ، وتقسم لمن شئت . أو تترك تزوّج من شئت من نساء أمّتك ، وتتزوج من شئت . وعن الحسن رضي الله عنه : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب امرأة لم يكن لأحد أن يخطبها حتى يدعها ، وهذه قسمة جامعة لما هو الغرض؛ لأنه إما أن يطلق ، وإما أن يمسك؛ فإذا أمسك ضاجع أو ترك وقسم أو لم يقسم . وإذا طلق وعزل ، فإما أنّ تخلي المعزولة لا يبتغيها ، أو يبتغيها . روي : أنه أرجى منهن سودة وجويرية وصفية وميمونة وأم حبيبة ، فكان يقسم لهنّ ما شاء كما شاء ، وكانت ممن آوى إليه : عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب رضي الله عنهنّ أرجى خمسة وآوى أربعة . وروي :

( 900 ) أنه كان يسوّي مع ما أطلق له وخير فيه إلاّ سودة ، فإنها وهبت ليلتها لعائشة وقالت : لا تطلقني حتى أحشر في زمرة نسائك { ذَلِكَ } التفويض إلى مشيئتك { أدنى } إلى قرّة عيونهن وقلة حزنهن ورضاهن جميعاً؛ لأنه إذا سوّى بينهن في الإيواء والإرجاء والعزل والابتغاء . وارتفع التفاضل ، ولم يكن لإحداهنّ مما تريد ومما لا تريد إلاّ مثل ما للأخرى . وعلمن أنّ هذا التفويض من عند الله بوحيه - اطمأنت نفوسهن وذهب التنافس والتغاير ، وحصل الرضا وقرّت العيون ، وسلت القلوب { والله يَعْلَمُ مَا فِى قلُوبِكُمْ } فيه وعيدٌ لمن لم ترضَ منهنّ بما دبر الله من ذلك ، وفوّض إلى مشيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبعثٌ على تواطؤ قلوبهنّ والتصافي بينهن والتوافق على طلب رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما فيه طيب نفسه . وقرىء : «تقرّ أعينهنّ» ، بضم التاء ونصب الأعين . وتقرّ أعينهنّ ، على البناء للمفعول { وَكَانَ الله عَلِيماً } بذات الصدور { حَلِيماً } لا يعاجل بالعقاب ، فهو حقيق بأن يتقى ويحذر ، { كُلُّهُنَّ } تأكيد لنون يرضين ، وقرأ ابن مسعود : «ويرضين كلهنّ ، بما آتيتهنّ» ، على التقديم . وقرأ : «كلهنّ» ، تأكيد ل «هنّ» في { ءاتَيْتَهُنَّ } .

لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)

{ لاَّ يَحِلُّ } وقرىء التذكير ، لأنّ تأنيث الجمع غير حقيقي ، وإذا جاز بغير فصل في قوله تعالى : { وَقَالَ نِسْوَةٌ } [ يوسف : 30 ] كان مع الفصل أجوز { مِن بَعْدِ } من بعد التسع ، لأنّ التسع نصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأزواج ، كما أن الأربع نصاب أمّته منهنّ ، فلا يحل له أن يتجاوز النصاب { وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ } ولا أن تستبدل بهؤلاء التسع أزواجاً أخر بكلهنّ أو بعضهنّ ، أراد الله لهنّ كرامة وجزاء على ما اخترن ورضين . فقصر النبيّ صلى الله عليه وسلم عليهنّ ، وهي التسع اللاتي مات عنهنّ : عائشة بنت أبي بكر ، حفصة بنت عمر ، أمّ حبيبة بنت أبي سفيان ، سودة بنت زمعة ، أمّ سلمة بنت أبي أمية ، صفية بنت حيي الخيبرية ، ميمونة بنت الحرث الهلالية ، زينب بنت جحش الأسدية ، وجويرية بنت الحرث المصطلقية ، رضي الله عنهنّ . من في { مِنْ أَزْوَاجٍ } لتأكيد النفي ، وفائدته استغراق جنس الأزواج بالتحريم . وقيل معناه : لا تحلّ لك النساء من بعد النساء اللاتي نصّ إحلالهنّ لك من الأجناس الأربعة من الأعرابيات والغرائب ، أو من الكتابيات ، أو من الإماء بالنكاح ، وقيل في تحريم التبدل : هو من البدل الذي كان في الجاهلية كان يقول الرجل للرجل : بادلني بامرأتك وأبادلك بامرأتي ، فينزل كل واحد منهما عن امرأته لصاحبه . ويحكى :

( 901 ) أنّ عيينة بن حصن دخل على النبيّ صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة من غير استئذان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يا عيينة ، أين الاستئذان » ؟ قال : يا رسول الله ، ما استأذنت على رجل قط ممن مضى منذ أدركت ، ثم قال : من هذه الجميلة إلى جنبك؟ فقال صلى الله عليه وسلم : « هذه عائشة أمّ المؤمنين » قال عيينة : أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق؟ فقال صلى الله عليه وسلم : « إنّ الله قد حرّم ذلك » ، فلما خرج قالت عائشة رضي الله عنها : من هذا يا رسول الله؟ قال : « أحمق مطاع ، وإنه - على ما ترين - لسيد قومه » وعن عائشة رضي الله عنها :

( 902 ) ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحلّ له النساء ، يعني : أنّ الآية قد نسخت . ولا يخلو نسخها إما أن يكون بالسنة ، وإما بقوله تعالى : { إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أزواجك } وترتيب النزول ليس على ترتيب المصحف { وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ } في موضع الحال من الفاعل ، وهو الضمير في { تَبَدَّلُ } لا من المفعول الذي هو { مِنْ أَزْوَاجٍ } لأنه موغل في التنكير ، وتقديره : مفروضاً إعجابك بهنّ . وقيل؛ هي أسماء بنت عميس الخثعمية امرأة جعفر بن أبي طالب ، والمراد أنها ممن أعجبه حسنهنّ ، واستثنى ممن حرم عليه : الإماء { رَقِيباً } حافظاً مهيمناً ، وهو تحذير عن مجاوزة حدوده وتخطي حلاله إلى حرامه .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53)

{ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ } في معنى الظرف تقديره وقت أن يؤذن لكم . و { غَيْرَ ناظرين } حال من { لاَ تَدْخُلُواْ } وقع الاستثناء على الوقت والحال معاً . كأنه قيل : لا تدخلوا بيوت النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقت الإذن ، ولا تدخلوها إلاّ غير ناظرين ، وهؤلاء قوم كانوا يتحينون طعام رسول الله ، فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه . ومعناه : لا تدخلوا يا هؤلاء المتحينون للطعام ، إلاّ أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ، وإلا فلو لم يكن لهؤلاء خصوصاً ، لما جاز لأحد أن يدخل بيوت النبي صلى الله عليه وسلم إلاّ أن يؤذن له إذناً خاصاً ، وهو الإذن إلى الطعام فحسب . وعن ابن أبي عبلة أنه قرأ : غير ناظرين ، مجروراً صفةٌ لطعام ، وليس بالوجه ، لأنه جرى على غير ما هو له ، فمن حق ضمير ما هو له أن يبرز إلى اللفظ ، فيقال : غير ناظرين إناه أنتم ، كقولك : هند زيد ضاربته هي ، وإني الطعام : إدراكه . يقال : أني الطعام إنىً ، كقولك : قلاه قلىً . ومنه قوله : { بَيْنَ حَمِيمٍ آن } [ الرحمن : 44 ] بالغ إناه . وقيل : «إناه» : وقته ، أي : غير ناظرين وقت الطعام وساعة أكله . وروي :

( 903 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أولم على زينب بتمر وسويق وشاة ، وأمر أنساً أن يدعو بالناس ، فترادفوا أفواجاً يأكل فوج فيخرج ، ثم يدخل فوج إلى أن قال : يا رسول الله ، دعوت حتى ما أجد أحداً أدعوه ، فقال : " ارفعوا طعامكم " وتفرق الناس ، وبقي ثلاثة نفر يتحدثون فأطالوا؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرجوا ، فانطلق إلى حجرة عائشة رضي الله عنها فقال : " السلام عليكم أهل البيت " فقالوا : عليك السلام يا رسول الله ، كيف وجدت أهلك؟ وطاف في الحجرات فسلم عليهنّ ودعون له؛ ورجع فإذا الثلاثة جلوس يتحدثون ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد الحياء ، فتولى ، فلما رأوه متولياً خرجوا ، فرجع ونزلت : { وَلاَ مُسْتَئْنِسِينَ لِحَدِيثٍ } نهوا عن أن يطيلوا الجلوس يستأنس بعضهم ببعض لأجل حديث يحدثه به . أو عن أن يستأنسوا حديث أهل البيت ، واستئناسه : تسمعه وتوجسه ، وهو مجرور معطوف على ناظرين . وقيل : هو منصوب على : ولا تدخلوها مستأنسين . لا بدّ في قوله : { فَيَسْتَحْيِى مِنكُمْ } من تقدير المضاف ، أي : من إخراجكم ، بدليل قوله : { والله لاَ يَسْتَحْىِ مِنَ الحق } يعني أن إخراجكم حتى ما ينبغي أن يستحيا منه ، ولما كان الحياء مما يمنع الحي من بعض الأفعال ، قيل : { لاَ يَسْتَحىِ مِنَ الحق } بمعنى لا يمتنع منه ولا يتركه ترك الحي منكم ، وهذا أدبٌ أدّب الله [ تعالى ] به الثقلاء . وعن عائشة رضي الله عنها : حسبك في الثقلاء أنّ الله تعالى لم يحتملهم وقال : فإذا طعمتم فانتشروا .

وقرىء : «لا يستحي» بياء واحدة . الضمير في { سَأَلْتُمُوهُنَّ } لنساء النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يذكرن لأنّ الحال ناطقة بذكرهن { متاعا } حاجة { فَسْئَلُوهُنَّ } المتاع . قيل :

( 904 ) إن عمر رضي الله عنه كان يحب ضرب الحجاب عليهن محبة شديدة ، وكان يذكره كثيراً ، ويزد أن ينزل فيه ، وكان يقول : لو أُطاع فيكن ما رأتكن عين ، وقال : يا رسول الله ، يدخل عليك البر والفاجر ، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب ، فنزلت . وروي أنه مر عليهن وهن مع النساء في المسجد ، فقال : لئن احتجبتن ، فإن لكن على النساء فضلاً ، كما أن لزوجكن على الرجال الفضل ، فقالت زينب رضي الله عنها : يا ابن الخطاب ، إنك لتغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا ، فلم يلبثوا إلاّ يسيراً حتى نزلت . وقيل :

( 906 ) إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يطعم ومعه بعض أصحابه ، فأصابت يد رجل منهم يد عائشة ، فكره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ، فنزلت آية الحجاب . وذكر أنّ بعضهم قال : أننهى أن نكلم بنات عمنا إلاّ من وراء حجاب ، لئن مات محمد لأتزوّجن فلانة . فأعلم الله أن ذلك محرم { وَمَا كَانَ لَكُمْ } وما صحّ لكم إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نكاح أزواجه من بعده ، وسمى نكاحهن [ من ] بعده عظيماً عنده ، وهو من أعلام تعظيم الله [ تعالى ] لرسوله وإيجاب حرمته حياً وميتاً ، وإعلامه بذلك مما طيب به [ تعالى ] نفسه وسر قلبه واستغزر شكره . فإن نحو هذا مما يحدث الرجل به نفسه ولا يخلي منه فكره . ومن الناس من تفرظ غيرته على حرمته حتى يتمنى لها الموت لئلا تنكح من بعده . وعن بعض الفتيان أنه كانت له جارية لا يرى الدنيا بها شغفاً واستهتاراً ، فنظر إليها ذات يوم فتنفس الصعداء ، وانتحب فعلا نحيبه مما ذهب به فكره هذا المذهب ، فلم يزل به ذلك حتى قتلها ، تصوراً لما عسى يتفق من بقائها بعده وحصولها تحت يد غير . وعن بعض الفقهاء أن الزوج الثاني في هدم الثلاث مما يجري مجرى العقوبة؛ فصين رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يلاحظ ذلك .

إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54)

{ إِن تُبْدُواْ شَيْئاً } من نكاحهن على ألسنتكم { أَوْ تُخْفُوهْ } في صدوركم { فَإِنَّ الله } يعلم ذلك فيعاقبكم به ، وإنما جاء به على أثر ذلك عاماً لكل باد وخاف ، ليدخل تحته نكاحهن وغيره ولأنه على هذه الطريقة أهول وأجزل .

لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55)

روي أنه لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب : يا رسول الله ، أو نحن أيضاً نكلمهن من وراء الحجاب ، فنزلت { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ } أي لا إثم عليهم في أن لا يحتجبن من هؤلاء ولم يذكر العم والخال ، لأنهما يجريان مجرى الوالدين ، وقد جاءت تسمية العم أباً . قال الله تعالى : { وإله آبَائِكَ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق } [ البقرة : 133 ] وإسماعيل عمّ يعقوب . وقيل : كره ترك الاحتجاب عنهما لأنهما يصفانها لأبنائهما ، وأبناؤهما غير محارم ، ثم نقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب ، وفي هذا النقل ما يدلّ على فضل تشديد ، فقيل : { واتقين الله } فيما أمرتن به من الاحتجاب وأنزل فيه الوحي من الاستتار ، واحتطن فيه ، وفيما استثنى منه ما قدرتن ، واحفظن حدودهما واسلكن طريق التقوى في حفظهما؛ وليكن عملكن في الحجب أحسن مما كان وأنتن غير محجبات ، ليفضل سركن علنكن { إِنَّ الله كَانَ على كُلّ شَىْء } من السرّ والعلن وظاهر الحجاب وباطنه { شَهِيداً } لاتتفاوت في علمه الأحوال .

إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)

قرىء : «وملائكته» بالرفع ، عطفاً على محل إن واسمها ، وهو ظاهر على مذهب الكوفيين ، ووجهه عند البصريين ، أن يحذف الخبر لدلالة يصلون عليه { صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ } أي قولوا الصلاة على الرسول والسلام . ومعناه : الدعاء بأن يترحم عليه الله ويسلم . فإن قلت : الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم واجبة أم مندوب إليها؟ قلت : بل واجبة ، وقد اختلفوا في حال وجوبها . فمنهم من أوجبها كلما جرى ذكره . وفي الحديث :

( 907 ) " مَنْ ذكرتُ عنده فلمّ يصلِّ عليَّ فدخلَ النار فأبعَده الله " ، ويروى :

( 908 ) أنه قيل : يا رسول الله ، أرأيت قول الله تعالى : { إِنَّ الله وملائكته يُصَلُّونَ عَلَى النبى } فقال صلى الله عليه وسلم : " هذا من العلم المكنون ولولا أنكم سألتموني عنه ما أخبرتكُم به ، إنّ اللَّهَ وكّل بي ملكين فلا أذكرُ عبد مسلمٍ فيصلي عليّ إلاّ قال ذانكَ الملكان : غفرَ الله لكَ ، وقال الله تعالى وملائكته جواباً لذينك الملكين : آمينَ ، ولا أذكرُ عند عبدٍ مسلمٍ فلاَ يصلي عليّ إلاّ قال ذانك الملكان : لا غفرَ اللَّهُ لكَ ، وقالَ اللَّهُ وملائكتهُ لذينك الملكين : آمين " ، ومنهم من قال : تجب في كل مجلس مرة ، وإن تكرر ذكره ، كما قيل في آية السجدة وتشميت العاطس ، وكذلك في كل دعاء في أوله وآخره . ومنهم من أوجبها في العمر مرة ، وكذا قال في إظهار الشهادتين . والذي يقتضيه الاحتياط . الصلاة عليه عند كل ذكر ، لما ورد من الأخبار . فإن قلت : فالصلاة عليه في الصلاة ، أهي شرط في جوازها أم لا؟ قلت : أبو حنيفة وأصحابه لا يرونها شرطاً ، وعن إبراهيم النخعي : كانوا يكتفون عن ذلك - يعني الصحابة - بالتشهد ، وهو السلام عليك أيها النبي ، وأما الشافعي رحمه الله فقد جعلها شرطاً . فإن قلت : فما تقول في الصلاة على غيره؟ قلت : القياس جواز الصلاة على كل مؤمن ، لقوله تعالى : { هُوَ الذى يُصَلّى عَلَيْكُمْ } [ الأحزاب : 43 ] وقوله تعالى : { وَصَلّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صلواتك سَكَنٌ لَّهُمْ } [ التوبة : 103 ] وقوله صلى الله عليه وسلم :

( 909 ) " اللَّهم صلّ على آل أبي أوفى " ولكن للعلماء تفصيلاً في ذلك : وهو أنها إن كانت على سبيل التبع كقولك : صلى الله على النبيّ وآله ، فلا كلام فيها . وأما إذا أفرد غيره من أهل البيت بالصلاة كما يفرد هو ، فمكروه ، لأن ذلك صار شعاراً لذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولأنه يؤدي إلى الاتهام بالرفض . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( 910 ) " من كان يؤمن بالله وباليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم " .

إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)

{ يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ } فيه وجهان ، أحدهما : أن يعبر بإيذائهما عن فعل ما يكرهانه ولا يرضيانه : من الكفر والمعاصي ، وإنكار النبوّة ، ومخالفة الشريعة ، وما كانوا يصيبون به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنواع المكروه ، على سبيل المجاز . وإنما جعلته مجازاً فيهما جميعاً ، وحقيقة الإيذاء صحيحة في رسول الله صلى الله عليه وسلم لئلا أجعل العبارة الواحدة معطية معنى المجاز والحقيقة . والثاني : أن يراد يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقيل : في أذى الله : هو قول اليهود والنصارى والمشركين : يد الله مغلولة وثالث ثلاثة والمسيح ابن الله والملائكة بنات الله والأصنام شركاؤه . وقيل : قول الذين يلحدون في أسمائه وصفاته . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما حكى عن ربه :

( 911 ) « شتمني ابنُ آدمَ ولم ينبغ لَهُ أنْ يشتمني ، وآذَانِي ولم ينبغِ لَهُ أنْ يؤذيني ، فأمّا شتمُهُ إياي فقولِه : إنِّي اتخذْتُ ولَداً . وأما أذاه فقولُه : إنّ الله لا يعيدني بعد أنْ بدأني » وعن عكرمة : فعل أصحاب التصاوير الذين يرمون تكوين خلق مثل خلق الله ، وقيل : في أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم قولهم : ساحر ، شاعر ، كاهن ، مجنون . وقيل : كسر رباعيته وشجّ وجهه يوم أحد . وقيل : طعنهم عليه في نكاح صفية بنت حيي ، وأطلق إيذاء الله ورسوله ، وقيد إيذاء المؤمنين والمؤمنات؛ لأن أذى الله ورسوله لا يكون إلاّ غير حق أبداً . وأما أذى المؤمنين والمؤمنات ، فمنه ومنه . ومعنى { بِغَيْرِ مَا اكتسبوا } بغير جناية واستحقاق للأذى . وقيل : نزلت في ناس من المنافقين يؤذون علياً رضي الله عنه ويسمعونه . وقيل : في الذين أفكوا على عائشة رضي الله عنها . وقيل : في زناة كانوا يتبعون النساء وهنّ كارهات . وعن الفضيل : لا يحل لك أن تؤذي كلباً أو خنزيراً بغير حق ، فكيف ، وكان ابن عون لا يكري الحوانيت إلا من أهل الذمّة ، لما فيه من الروعة عند كرّ الحول .

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)

الجلباب : ثوب واسع أوسع من الخمار ودون الرداء تلويه المرأة على رأسها وتبقى منه ما ترسله على صدرها . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الرداء الذي يستر من فوق إلى أسفل . وقيل : الملحفة وكل ما يستتر به من كساء أو غيره . قال أبو زبيد :

مُجَلْبَبٌ مِنْ سَوَادِ اللَّيْلِ جِلْبَابَا ... ومعنى { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جلابيبهن } يرخينها عليهنّ ، ويغطين بها وجوههنّ وأعطافهنّ . يقال : إذا زل الثوب عن وجه المرأة : أدنى ثوبك على وجهك ، وذلك أن النساء كنّ في أول الإسلام على هجيراهنّ في الجاهلية متبذلات ، تبرز المرأة في درع وخمار فصل بين الحرّة والأمة ، وكان الفتيان وأهل الشطارة يتعرّضون إذا خرجن بالليل إلى مقاضي حوائجهنّ من النخيل والغيطان للإماء ، وربما تعرّضوا للحرّة بعلة الأمة ، يقولون : حسبناها أمة ، فأمرن أن يخالفن بزيهنّ عن زي [ بلبس ] الأماء الأردية والملاحف وستر الرؤوس والوجوه ، ليحتشمن ويهين فلا يطمع فيهن طامع ، وذلك قوله : { ذلك أدنى أَن يُعْرَفْنَ } أي أولى وأجدر بأن يعرفن فلا يتعرّض لهن ولا يلقين ما يكرهن . فإن قلت : ما معنى { مِن } في { مِن جلابيبهن } ؟ قلت : هو للتبعيض . إلا : أن يكون معنى التبعيض محتمل وجهين ، أحدهما : أن يتجلببن ببعض ما لهنّ من الجلاليب ، والمراد أن لا تكون الحرة متبذلة في درع وخمار ، كالأمة والماهنة [ الخادمه ] ولها جلبابان فصاعداً في بيتها . والثاني : أن ترخي المرأة بعض جلبابها وفضله على وجهها تتقنع حتى تتميز من الأمة . وعن ابن سيرين : سألت عبيدة السلماني عن ذلك فقال : أن تضع رداءها فوق الحاجب ثم تديره حتى تضعه على أنفها . وعن السديّ : تغطي إحدى عينيها وجبهتها ، والشقّ الآخر إلاّ العين ، وعن الكسائي : يتقنعن بملاحفهنّ منضمة عليهنّ ، أراد بالانضمام معنى الإدناء { وَكَانَ الله غَفُوراً } لما سلف منهن من التفريط مع التوبة؛ لأنّ هذا مما يمكن معرفته بالعقل .

لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)

{ والذين فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } قوم كان فيهم ضعف إيمان وقلة ثبات عليه . وقيل : هم الزناة وأهل الفجور من قوله تعالى : { فَيَطْمَعَ الذى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ } [ الأحزاب : 32 ] . { والمرجفون } ناس كانوا يرجفون بأخبار السوء عن سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيقولون : هزموا وقتلوا ، وجرى عليهم كيت وكيت ، فيكسرون بذلك قلوب المؤمنين . يقال : أرجف بكذا ، إذا أخبر به على غير حقيقة ، لكونه خبراً متزلزلاً غير ثابت ، من الرجفة وهي الزلزلة . والمعنى : لئن لم ينته المنافقون عن عداوتهم وكيدكم ، والفسقة عن فجورهم ، والمرجفون عما يؤلفون من أخبار السوء : لنأمرنك بأن تفعل بهم الأفاعيل التي تسوءهم وتنوءهم ، ثم بأن تضطرهم إلى طلب الجلاء عن المدينة ، وإلى أن لا يساكنوك فيها { إِلا } زمناً { قَلِيلاً } ريثما يرتحلون ويلتقطون أنفسهم وعيالاتهم ، فسمى ذلك إغراء ، وهو التحريش على سبيل المجاز { مَّلْعُونِينَ } نصب على الشتم أو الحال ، أي : لا يجاورونك إلاّ ملعونين ، دخل حرف الاستثناء على الظرف والحال معاً ، كما مرّ في قوله : { إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ غَيْرَ ناظرين إناه } [ الأحزاب : 53 ] ولا يصحّ أن ينتصب عن { أُخِذُواْ } لأنّ ما بعد كلمة الشرط لا يعمل فيما قبلها . وقيل : في { قَلِيلاً } وهو منصوب على الحال أيضاً . ومعناه : لا يجاورونك إلاّ أقلاء أذلاء ملعونين . فإن قلت : ما موقع لا يجاورونك؟ قلت : لا يجاورونك عطف على لنغرينك ، لأنه يجوز أن يجاب به القسم . ألا ترى إلى صحة قولك : لئن لم ينتهوا لا يجاورونك . فإن قلت : أما كان من حق لا يجاورونك أن يعطف بالفاء ، وأن يقال لنغرينك بهم فلا يجاورونك؟ قلت : لو جعل الثاني مسبباً عن الأوّل لكان الأمر كما قلت : ولكنه جعل جواباً آخر للقسم معطوفاً على الأوّل ، وإنما عطف بثم ، لأن الجلاء عن الأوطان كان أعظم عليهم وأعظم من جميع ما أصيبوا به ، فتراخت حاله عن حال المعطوف عليه { سُنَّةَ الله } في موضع مؤكد ، أي : سنّ الله في الذين ينافقون الأنبياء أن يقتلوا حيثما ثقفوا وعن مقاتل : يعني كما قتل أهل بدر وأسروا .

يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63)

كان المشركون يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت قيام الساعة استعجالاً على سبيل الهزء ، واليهود يسألونه امتحاناً؛ لأنّ الله تعالى عمى وقتها في التوراة وفي كل كتاب ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يجيبهم بأنه علم قد استأثر الله به ، لم يطلع عليه ملكاً ولا نبياً ، ثم بين لرسوله أنها قريبة الوقوع ، تهديداً للمستعجلين ، وإسكاتاً للمتحنين { قَرِيبًا } شيئاً قريباً ، أو لأن الساعة في معنى اليوم ، أو في زمان قريب .

إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65)

السعير : النار المسعورة الشديدة الإيقاد .

يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66)

وقرىء : «تقلب» على البناء للمفعول . وتقلب : بمعنى يتقلب . ونقلب ، أي : نقلب نحن . وتقلب ، على أن الفعل للسعير ، ومعنى تقليبها : تصريفها في الجهات ، كما ترى البضعة تدور في القدر إذا غلت فترامى بها الغليان من جهة إلى جهة . أو تغييرها عن أحوالها وتحويلها عن هيئاتها . أو طرحها في النار مقلوبين منكوسين . وخصت الوجوه بالذكر ، لأنّ الوجه أكرم موضع على الإنسان من جسده . ويجوز أن يكون الوجه عبارة عن الجملة ، وناصب الظرف { يَقُولُونَ } أو محذوف ، وهو «اذكر» وإذا نصب بالمحذوف كان { يَقُولُونَ } حالاً .

وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)

وقرىء : «سادتنا» و«ساداتنا» : وهم رؤوساء الكفر الذين لقنوهم الكفر وزينوه لهم . يقال : ضلّ السبيل وأضله إياه ، وزيادة الألف لإطلاق الصوت : جعلت فواصل الآي كقوافي الشعر ، وفائدتها الوقف والدلالة على أن الكلام قد انقطع ، وأن ما بعده مستأنف . وقرىء : «كثيراً» تكثيراً لإعداد اللعائن . وكبيراً ، ليدل على أشدّ اللعن وأعظمه { ضِعْفَيْنِ } ضعفاً لضلاله وضعفاً لإضلاله : يعترفون ، ويستغيثون ، ويتمنون ، ولا ينفعهم شيء من ذلك .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)

{ لاَ تَكُونُواْ كالذين ءاذَوْاْ موسى } قيل : نزلت في شأن زيد وزينب ، وما سمع فيه من قالة بعض الناس . وقيل : في أذى موسى عليه السلام : هو حديث المومسة التي أرادها قارون على قذفه بنفسها ، وقيل : اتهامهم إياه بقتل هارون ، وكان قد خرج معه [ إلى ] الجبل فمات هناك ، فحملته الملائكة ومرّوا به عليهم ميتاً فأبصروه حتى عرفوا أنه غير مقتول . وقيل : أحياه الله فأخبرهم ببراءة موسى عليه السلام . وقيل : قرفوه بعيب في جسده من برص أو أدرة ، فأطلعهم الله على أنه برىء منه { وَجِيهاً } ذا جاه ومنزلة عنده ، فلذلك كان يميط عنه التهم ، ويدفع الأذى ، ويحافظ عليه ، لئلا يلحقه وصم ولا يوصف بنقيصة ، كما يفعل الملك بمن له عنده قربة ووجاهة . وقرأ ابن مسعود والأعمش وأبو حيوة : «وكان عبد الله وجيهاً» قال ابن خالويه : صليت خلف ابن شنبوذ في شهر رمضان ، فسمعته يقرؤها . وقراءة العامة أوجه؛ لأنها مفصحة عن وجاهته عند الله ، كقوله تعالى : { عِندَ ذِى العرش مَكِينٍ } [ التكوير : 20 ] وهذه ليست كذلك ، فإن قلت : قوله : { مِمَّا قَالُواْ } معناه : من قولهم ، أو من مقولهم؛ لأنّ «ما» إما مصدرية أو موصولة ، وأيهما كان فكيف تصحّ البراءة منه؟ قلت : المراد بالقول أو المقول : مؤداه ومضمونة وهو الأمر المعيب ، ألا ترى أنهم سموا السبة بالقالة ، والقالة بمعنى القول؟ .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)

{ قَوْلاً سَدِيداً } قاصداً إلى الحق والسداد : القصد إلى الحق ، والقول بالعدل . يقال : سدّد السهم نحو الرمية : إذا لم يعدل به عن سمتها ، كما قالوا : سهم قاصد ، والمراد : نهيهم عما خاضوا فيه من حديث زينب من غير قصد وعدل في القول ، والبعث على أن يسد قولهم في كل باب؛ لأنّ حفظ اللسان وسداد القول رأس الخير كله . والمعنى : راقبوا الله في حفظ ألسنتكم ، وتسديد قولكم ، فإنكم إن فعلتم ذلك أعطاكم الله ما هو غاية الطلبة : من تقبل حسناتكم والإثابة عليها ، ومن مغفرة سيآتكم وتكفيرها . وقيل : إصلاح الأعمال التوفيق في المجيء بها صالحة مرضية وهذه الآية مقرّرة للتي قبلها ، بنيت تلك على النهي عما يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذه على الأمر باتقاء الله تعالى في حفظ اللسان؛ ليترادف عليهم النهي والأمر ، مع اتباع النهي ما يتضمن الوعيد من قصة موسى عليه السلام ، وإتباع الأمر الوعد البليغ فيقوى الصارف عن الأذى والداعي إلى تركه . لما قال : { وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ } وعلق بالطاعة الفوز العظيم ، أتبعه قوله : { إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة } وهو يريد بالأمانة الطاعة ، فعظم أمرها وفخم شأنها ، وفيه وجهان ، أحدهما : أنّ هذه الأجرام العظام من السموات والأرض والجبال قد انقادت لأمر الله عزّ وعلا انقياد مثلها - وهو ما يتأتى من الجمادات - وأطاعت له الطاعة التي تصح منها وتليق بها . حيث لم تمتنع على مشيئته وإرادته إيجاداً وتكويناً وتسوية على هيئات مختلفة وأشكال متنوعة ، كما قال : { قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } [ فصلت : 11 ] وأما الإنسان فلم تكن حاله - فيما يصحّ منه من الطاعات ويليق به من الانقياد لأوامر الله ونواهيه ، وهو حيوان عاقل صالح للتكليف - مثل حال تلك الجمادات فيما يصحّ منها ويليق بها من الانقياد وعدم الامتناع ، والمراد بالأمانة : الطاعة؛ لأنها لازمة الوجود ، كما أن الأمانة لازمة الأداء . وعرضها على الجمادات وإباؤها وإشفاقها : مجاز . وأما حمل الأمانة فمن قولك : فلان حامل للأمانة ومحتمل لها ، تريد أنه لا يؤديها إلى صاحبها حتى تزول عن ذمّته ويخرج عن عهدتها؛ لأنّ الأمانة كأنها راكبة للمؤتمن عليها وهو حاملها ، ألا تراهم يقولون : ركبته الديون ، ولي عليه حق ، فإذا أداها لم تبق راكبة له ولا هو حاملاً لها . ونحوه قولهم ، لا يملك مولى لمولى نصراً . يريدون : أنه يبذل النصرة له ويسامحه بها ، ولا يمسكها كما يمسكها الخاذل ، ومنه قول القائل :

أَخُوكَ الَّذِي لاَ تَمْلِكُ الْحِسَّ نَفسُه ... وَتَرْفَضُّ عِنْدَ الْمُحْفِظَاتِ الْكَتَائِفُ

أي لا يمسك الرقة والعطف إمساك المالك الضنين ما في يده ، بل يبذل ذلك ويسمح به . ومنه قولهم أبغض حق أخيك؟ لأنه إذا أحبه لم يخرجه إلى أخيه ولم يؤده ، وإذا أبغضه أخرجه وأدّاه ، فمعنى ، فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان ، فأبين إلاّ أن يؤدينها وأبى الإنسان إلاّ أن يكون محتملاً لها لا يؤديها .

ثم وصفه بالظلم لكونه تاركاً لأداء الأمانة ، وبالجهل لإخطائه ما يسعده مع تمكنه منه وهو أداؤها . والثاني : أن ما كلفه الإنسان بلغ من عظمه وثقل محمله : أنه عرض على أعظم ما خلق الله من الأجرام وأقواه وأشدّه : أن يتحمله ويستقل به ، فأبى حمله والاستقلال به وأشفق منه ، وحمله الإنسان على ضعفه ورخاوة قوّته { إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } حيث حمل الأمانة ثم لم يف بها ، وضمنها ثم خاس بضمانه فيها ، ونحو هذا من الكلام كثير في لسان العرب . وما جاء القرآن إلاّ على طرقهم وأساليبهم من ذلك قولهم : لو قيل للشحم : أين تذهب؟ لقال : أسوي العوج ، وكم وكم لهم من أمثال على ألسنة البهائم والجمادات . وتصوّر مقاولة الشحم محال ، ولكن الغرض أنّ السمن في الحيوان مما يحسن قبيحه ، كما أن العجف مما يقبح حسنه ، فصوّر أثر السمن فيه تصويراً هو أوقع في نفس السامع ، وهي به آنس وله أقبل ، وعلى حقيقته أوقف ، وكذلك تصوير عظم الأمانة وصعوبة أمرها وثقل محملها والوفاء بها . فإن قلت : قد علم وجه التمثيل في قولهم للذي لا يثبت على رأي واحد : أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى؛ لأنه مثلت حاله - في تميله وترجحه بين الرأيين وتركه المضي على أحدهما - بحال من يتردد في ذهابه فلا يجمع رجليه للمضي في وجهه . وكل واحد من الممثل والممثل به شيء مستقيم داخل تحت الصحة والمعرفة ، وليس كذلك ما في هذه الآية؛ فإن عرض الأمانة على الجماد وإباءه وإشفاقه محال في نفسه ، غير مستقيم ، فكيف صحّ بناء التمثيل على المحال ، وما مقال هذا إلاّ أن تشبه شيئاً والمشبه به غير معقول . قلت : الممثل به في الآية وفي قولهم : لو قيل للشحم أين تذهب . وفي نظائره مفروض ، والمفروضات تتخيل في الذهن كما المحققات : مثلت حال التكليف في صعوبته وثقل محمله بحاله المفروضة لو عرضت على السموات والأرض والجبال لأبين أن يحملنها وأشفقن منها . واللام في { لّيُعَذّبَ } لام التعليل على طريق المجاز : لأنّ التعذيب نتيجة حمل الأمانة ، كما أن التأديب في ضربته للتأديب نتيجة الضرب . وقرأ الأعمش : «ويتوب»؛ ليجعل العلة قاصرة على فعل الحامل ، ويبتدىء : «ويتوب الله» . ومعنى قراءة العامة : ليعذب الله حامل الأمانة ويتوب على غيره ممن لم يحملها ، لأنه إذا تيب على الوافي كان ذلك نوعاً من عذاب الغادر ، والله أعلم . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( 912 ) " من قرأ سورة الأحزاب وعلمها أهله وما ملكت يمينه ، أعطي الأمان من عذاب القبر " .

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)

ما في السموات والأرض كله نعمة من الله ، وهو الحقيق بأن يحمد ويثنى عليه من أجله ، ولما قال : { الحمد لِلَّهِ } ثم وصف ذاته بالإنعام بجميع النعم الدنيوية ، كان معناه : أنه المحمود على نعم الدنيا ، كما تقول : أحمد أخاك الذي كساك وحملك ، تريد : أحمده على كسوته وحملانه . ولما قال : { وَلَهُ الحمد فِى الأخرة } علم أنه المحمود على نعم الآخرة وهو الثواب . فإن قلت : ما الفرق بين الحمدين؟ قلت : أمّا الحمد في الدنيا فواجب ، لأنه على نعمة متفضل بها ، وهو الطريق إلى تحصيل نعمة الآخرة وهي الثواب . وأمّا الحمد في الآخرة فليس بواجب ، لأنه على نعمة واجبة الإيصال إلى مستحقها ، وإنما هو تتمة سرور المؤمنين وتكملة اغتباطهم : يلتذون به كما يلتذ [ من به ] العطاش بالماء البارد { وَهُوَ الحكيم } الذي أحكم أمور الدارين ودبرها بحكمته { الخبير } بكل كائن يكون . ثم ذكرها مما يحيط به علماً { مَا يَلِجُ فِى الأرض } من الغيث كقوله : { فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِى الأرض } [ الزمر : 21 ] ومن الكنوز والدفائن والأموات ، وجميع ما هي له كفات { وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } من الشجر والنبات ، وماء العيون ، والغلة والدواب ، وغير ذلك { وَمَا يَنزِلُ مِنَ السمآء } من الأمطار والثلوج والبرد والصواعق والأرزاق والملائكة وأنواع البركات والمقادير ، كما قال تعالى : { وَفِى السماء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } [ الذاريات : 22 ] { وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } من الملائكة وأعمال العباد { وَهُوَ } مع كثرة نعمه وسبوغ فضله { الرحيم الغفور } للمفرطين في أداء مواجب شكرها . وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه : تنزل ، بالنون والتشديد .

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)

قولهم : { لاَ تَأْتِينَا الساعة } نفي للبعث وإنكار لمجيء الساعة . أو استبطاء لما قد وعدوه من قيامها على سبيل الهزء والسخرية ، كقولهم : { متى هذا الوعد } [ يونس : 48 ] ، [ الأنبياء : 38 ] . أوجب ما بعد النفي ببلى على المعنى : أن ليس الأمر إلا إتيانها ، ثم أعيد إيجابه مؤكداً بما هو الغاية في التوكيد والتشديد ، وهو التوكيد باليمين بالله عزّ وجلّ ، ثم أمد التوكيد القسمي إمداداً بما أتبع المقسم به من الوصف بما وصف به ، إلى قوله : { لِّيَجْزِىَ } لأنّ عظمة حال المقسم به تؤذن بقوّة حال المقسم عليه وشدّة ثباته واستقامته ، لأنه بمنزلة الاستشهاد على الأمر ، وكلما كان المستشهد به أعلى كعباً وأبين فضلاً وأرفع منزلة ، كانت الشهادة أقوى وآكد ، والمستشهد عليه أثبت وأرسخ . فإن قلت : هل للوصف الذي وصف به المقسم به وجه اختصاص بهذا المعنى؟ قلت : نعم وذلك أن قيام الساعة من مشاهير الغيوب ، وأدخلها في الخفية ، وأوّلها مسارعة إلى القلب : إذا قيل : عالم الغيب ، فحين أقسم باسمه على إثبات قيام الساعة ، وأنه كائن لا محالة ، ثم وصف بما يرجع إلى علم الغيب ، وأنه لا يفوت علمه شيء من الخفيات ، واندرج تحته إحاطته بوقت قيام الساعة ، فجاء ما تطلبه من وجه الاختصاص مجيئاً واضحاً . فإن قلت : الناس قد أنكروا إتيان الساعة وجحدوه ، فهب أنه حلف لهم بأغلظ الأيمان وأقسم عليهم جهد القسم ، فيمين من هو في معتقدهم مفتر على الله كذباً كيف تكون مصححة لما أنكروه؟ قلت : هذا لو اقتصر على اليمين ولم يتبعها الحجة القاطعة البينة الساطعة وهي قوله : { لِّيَجْزِىَ } فقد وضع الله في العقول وركب في الغرائز وجوب الجزاء ، وأن المحسن لا بدّ له من ثواب ، والمسيء لا بدّ له من عقاب . وقوله : { لِّيَجْزِىَ } متصل بقوله { لَتَأْتِيَنَّكُمْ } تعليلاً له . قرىء : «لتأتينكم» بالتاء والياء . ووجه من قرأ بالياء : أن يكون ضميره للساعة بمعنى اليوم . أو يسند [ إلى ] عالم الغيب ، أي ليأتينكم أمره كما قال تعالى : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن تَأْتِيهُمُ الملائكة أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ } [ الأنعام : 158 ] وقال : { أَوْ يَأْتِىَ أَمْرُ رَبّكَ } [ النحل : 33 ] . وقرىء : «عالم الغيب» و «علام الغيب» : بالجرّ ، صفة لربي . وعالم الغيب ، وعالم الغيوب : بالرفع ، على المدح . ولا يعزب : بالضم والكسر في الزاي ، من العزوب وهو البعد . يقال : روض عزيب : بعيد من الناس { مِثْقَالُ ذَرَّةٍ } مقدار أصغر نملة { ذلك } إشارة إلى مثقال ذرّة . وقرىء : «ولا أصغر من ذلك ولا أكبر» . بالرفع على أصل الابتداء . وبالفتح على نفي الجنس ، كقولك : لا حول ولا قوّة إلاّ بالله ، بالرفع والنصب . وهو كلام منقطع عما قبله . فإن قلت : هل يصحّ عطف المرفوع على مثقال ذرّة ، كأنه قيل : لا يعزب عنه مثقال ذرة وأصغر وأكبر وزيادة ، لا لتأكيد النفي . وعطف المفتوح على ذرّة بأنه فتح في موضع الجرّ لامتناع الصرف ، كأنه قيل : لا يعزب عنه مثقال ذرّة ولا مثقال أصغر من ذلك ولا أكبر؟ قلت : يأبى ذلك حرف الاستثناء ، إلاّ إذا جعلت الضمير في { عَنْهُ } للغيب . وجعلت { الغيب } اسماً للخفيات . قبل أن تكتب في اللوح لأنّ إثباتها في اللوح من البروز عن الحجاب ، على معنى أنه لا ينفصل عن الغيب شيء ، ولا يزل عنه إلاّ مسطوراً في اللوح .

وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5)

وقرىء : «معجزين» . و«أليم» ، وبالرفع والجر . وعن قتادة : الرجز : سوء العذاب .

وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)

وقرىء : «معجزين» . فأليم : بالرفع والجرّ ، وعن قتادة : الرجز : سوء العذاب . ويرى في موضع الرفع ، أي : ويعلم أولو العلم ، يعني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يطأ أعقابهم من أمّته . أو علماء أهل الكتاب الذين أسلموا مثل كعب والأحبار وعبد الله ابن سلام رضي الله عنهما . { الذى أُنزِلَ إِلَيْكَ . . . . الحق } هما مفعولان ليرى ، وهو فصل من قرأ «الحق» بالرفع : جعله مبتدأ و { الحق } خبراً ، والجملة في موضع المفعول الثاني . وقيل : { ويرى } في موضع النصب معطوف على { لِيَجْزِىَ } أي : وليعلم أولو العلم عند مجيء الساعة أنه الحق . علماً لا يزاد عليه في الإيقان ، ويحتجوا به على الذين كذبوا وتولوا . ويجوز أن يريد : وليعلم من لم يؤمن من الأحبار أنه [ هو ] الحق فيزدادوا حسرة وغماً .

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8)

{ الذين كَفَرُواْ } قريش . قال بعضهم لبعض : { هَلْ نَدُلُّكُمْ على رَجُلٍ } يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم : يحدثكم بأعجوبة من الأعاجيب : أنكم تبعثون وتنشئون خلقاً جديداً بعد أن تكونوا رفاتاً وتراباً ويمزق أجسادكم البلى كل ممزق ، أي : يفرقكم ويبدد أجزاءكم كل تبديد . أهو مفتر على الله كذباً فيما ينسب إليه من ذلك؟ أم به جنون يوهمه ذلك ويلقيه على لسانه؟ ثم قال سبحانه ليس محمد من الافتراء والجنون في شيء ، وهو مبرأ منهما؛ بل هؤلاء القائلون الكافرون بالبعث : واقعون في عذاب النار فيما يؤديهم إليه من الضلال عن الحق وهم غافلون عن ذلك ، وذلك أجنّ الجنون وأشدّه إطباقاً على عقولهم : جعل وقوعهم في العذاب رسيلاً لوقوعهم في الضلال ، كأنهما كائنان في وقت واحد : لأنّ الضلال لما كان العذاب من لوازمه وموجباته : جعلا كأنهما في الحقيقة مقترنان . وقرأ زيد بن عليّ رضي الله عنه : ينبيكم . فإن قلت : فقد جعلت الممزق مصدراً ، كبيت الكتاب :

أَلَمْ تَعْلَمْ مُسَرَّحِي الْقَوَافِي ... فَلاَعِيّاً بِهِنَّ وَلاَ اجْتِلاَبَاً

فهل يجوز أن يكون مكاناً؟ قلت : نعم . ومعناه ما حصل من الأموات في بطون الطير والسباع ، وما مرّت به السيول فذهبت به كل مذهب ، وما سفته الرياح فطرحته كل مطرح . فإن قلت : ما العامل في إذا؟ قلت : ما دلّ عليه { إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ } وقد سبق نظيره . فإن قلت : الجديد فعيل بمعنى فاعل أم مفعول؟ قلت : هو عند البصريين بمعنى فاعل ، تقول : جد فهو جديد ، كحدّ فهو حديد ، وقلّ فهو قليل . وعند الكوفيين بمعنى : مفعول ، من جدّه إذا قطعه . وقالوا : هو الذي جده الناسج الساعة في الثوب؛ ثم شاع . ويقولون : ولهذا قالوا ملحفة جديد ، وهي عند البصريين كقوله تعالى : { إن رحمة الله قريب } [ الأعراف : 56 ] ونحو ذلك . فإن قلت : لم أسقطت الهمزة في قوله { افترى } دون قوله : { السحر } ، وكلتاهما همزة وصل؟ قلت : القياس الطرح ، ولكون أمراً اضطرّهم إلى ترك إسقاطها في نحو { السحر } وهو خوف التباس الاستفهام بالخبر ، لكون همزة الوصل مفتوحة كهمزة الاستفهام . فإن قلت : ما معنى وصف الضلال بالبعد؟ قلت : هو من الإسناد المجازي؛ لأنّ البعيد صفة الضال إذا بعد عن الجادّة ، وكلما ازداد عنها بعداً كان أضلّ . فإن قلت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهوراً علماً في قريش ، وكان إنباؤه بالبعث شائعاً عندهم ، فما معنى قوله : { هَلْ نَدُلُّكُمْ على رَجُلٍ يُنَبّئُكُمْ } فنكروه لهم ، وعرضوا عليهم الدلالة عليه كما يدلّ على مجهول في أمر مجهول . قلت : كانوا يقصدون بذلك الطنز والسخرية ، فأخرجوه مخرج التحلي ببعض الأحاجي التي يتحاجى بها للضحك والتلهي متجاهلين به وبأمره .

أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)

[ يريد ] أعموا فلم ينظروا إلى السماء والأرض ، وأنهما حيثما كانوا وأينما ساروا أمامهم وخلفهم محيطتان بهم ، لا يقدرون أن ينفذوا من أقطارهما وأن يخرجوا عما هم فيه من ملكوت الله عزّ وجلّ ، ولم يخافوا أن يخسف الله بهم أو يسقط عليهم كسفاً ، لتكذيبهم الآيات وكفرهم بالرسول صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، كما فعل بقارون وأصحاب الأيكة { إِنَّ فِى ذَلِكَ } النظر إلى السماء والأرض والفكر فيهما وما يدلاّن عليه من قدرة الله { لأيَةً } ودلالة { لّكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ } وهو الراجع إلى ربه المطيع له؛ لأنّ المنيب لا يخلو من النظر في آيات الله ، على أنه قادر على كل شيء من البعث ومن عقاب من يكفر به . قرىء : «يشأ ويخسف ويسقط» : بالياء؛ لقوله تعالى : { افترى عَلَى الله كَذِبًا } [ الأنعام : 93 ] وبالنون لقوله : { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا } وكسفاً : بفتح السين وسكونه . وقرأ الكسائي : «يخسف بهم» بالإدغام وليست بقوية .

وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)

{ ياجبال } إمّا أن يكون بدلاً من { فَضْلاً } ، وإمّا من { ءاتَيْنَا } بتقدير : قولنا يا جبال . أو : قلنا يا جبال . وقرىء : «أوّبي» و «أوبي» من التأويب . والأوب : أي رجعي معه التسبيح . أو ارجعى معه في التسبيح كلما رجع فيه؛ لأنه إذا رجعه فقد رجع فيه : ومعنى تسبيح الجبال : أنّ الله سبحانه وتعالى يخلق فيها تسبيحاً كما خلق الكلام في الشجرة ، فيسمع منها ما يسمع من المسبح : معجزة لداود . وقيل : كان ينوح على ذنبه بترجيع وتحزين ، وكانت الجبال تسعده على نوحه بأصدائها والطير بأصواتها . وقرىء : «والطير» ، رفعاً ونصباً ، وعطفاً على لفظ الجبال ومحلها . وجوّزوا أن ينتصب مفعولاً معه ، وأن يعطف على فضلاً ، بمعنى وسخرنا له الطير . فإن قلت : أي فرق بين هذا النظم وبين أن يقال : { ءاتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً } تأويب الجبال معه والطير؟ قلت : كم بينهما . ألا ترى إلى ما فيه من الفخامة التي لا تخفى : من الدلالة على عزّة الربوبية وكبرياء الإلهية ، حيث جعلت الجبال منزّلة منزلة العقلاء الذي إذا أمرهم أطاعوا وأذعنوا ، وإذا دعاهم سمعوا وأجابوا : إشعاراً بأنه ما من حيوان وجماد وناطق وصامت ، إلا وهو منقاد لمشيئته ، غير ممتنع على إرادته { وَأَلَنَّا لَهُ الحديد } وجعلناه له ليناً كالطين والعجين والشمع ، يصرفه بيده كيف يشاء من غير نار ولا ضرب بمطرقة . وقيل : لأن الحديد في يده لما أوتي من شدّة القوّة [ أن اعمل سابغات ] وقرىء : «صابغات» وهي الدروع الواسعة الضافية ، وهو أوّل من اتخذها وكانت قبل صفائح . وقيل : كان يبيع الدرع بأربعة آلاف فينفق منها على نفسه وعياله ، ويتصدّق على الفقراء . وقيل : كان يخرج حين ملك بني إسرائيل متنكراً ، فيسأل الناس عن نفسه ، ويقول لهم : ما تقولون في داود؟ فيثنون عليه ، فقيض الله له ملكاً في صورة آدمي فسأله على عادته ، فقال : نعم الرجل لولا خصلة فيه فريع داود ، فسأله؟ فقال : لولا أنه يطعم عياله من بيت المال ، فسأل عند ذلك ربه أن يسبب له ما يستغني به عن بيت المال ، فعلمه صنعة الدروع { وَقَدَّرَ في السرد } لا تجعل المسامير دقاقاً فتقلق ، ولا غلاظاً فتفصم الحلق . والسرد : نسج الدروع { واعملوا } الضمير لدواد وأهله { و } سخرنا { لسليمان الريح } فيمن نصب : ولسليمان الريح مسخرة ، فيمن رفع ، وكذلك فيمن قرأ : الرياح ، بالرفع { غُدُوُّهَا شَهْرٌ } جريها بالغداة مسيرة شهر ، وجريها بالعشي كذلك . وقرىء : «غدوتها وروحتها» . وعن الحسن رضي الله عنه : كان يغدو فيقيل باصطخر ، ثم يروح فيكون رواحه بكابل . ويحكى أنّ بعضهم رأي مكتوباً في منزل بناحية دجلة كتبه بعض أصحاب سليمان : نحن نزلناه وما بنيناه ومبنياً وجدناه ، غدونا من اصطخر فقلناه ، ونحن رائحون منه فبائتون بالشام إن شاء الله .

القطر : النحاس المذاب من القطران . فإن قلت : ماذا أراد بعين القطر؟ قلت : أراد بها معدن النحاس ولكنه أساله كما ألان الحديد لداود ، فنبع كما ينبع الماء من العين؛ فلذلك سماه عين القطر باسم ما آل إليه ، كما قال : { إِنّى أَرَانِى أَعْصِرُ خَمْرًا } [ يوسف : 36 ] وقيل : كان يسبل في الشهر ثلاثة أيام { بِإِذْنِ رَبّهِ } بأمره { وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ } ومن يعدل { عَنْ أَمْرِنَا } الذي أمرناه به من طاعة سليمان . وقرىء : «يزغ» من أزاغه . وعذاب السعير : عذاب الآخرة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما وعن السدي : كان معه ملك بيده سوط من نار ، كلما استعصى عليه ضربه من حيث لا يراه الجني . المحاريب : المساكن والمجالس الشريفة المصونة عن الابتذال : سميت محاريب لأنه يحامي عليها ويذب عنها . وقيل : هي المساجد والتماثيل : صور الملائكة والنبيين والصالحين ، كانت تعمل فيه المساجد من نحاس وصفر وزجاج ورخام ليراها الناس فيعبدوا نحو عبادتهم . فإن قلت : كيف استجاز سليمان عليه السلام عمل التصاوير؟ قلت : هذا مما يجوز أن تختلف في الشرائع لأنه ليس من مقبحات العقل كالظلم والكذب ، وعن أبي العالية : لم يكن اتخاذ الصور إذ ذاك محرّماً . ويجوز أن يكون غير صور الحيوان كصور الأشجار وغيرها؛ لأنّ التمثال كل ما صوّر على مثل صورة غيره من حيوان وغير حيوان . أو تصوّر محذوفة الرؤوس . وروي أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه ، ونسرين فوقه ، فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما ، وإذا قعد أظله النسران بأجنحتهما . والجوابي : الحياض الكبار ، قال :

تَرُوحُ عَلَى آل الْمُحَلِّقِ جَفْنَةٌ ... كَجَابِيَةِ السَّيْحِ العِرَاقِيِّ تَفْهَقُ

لأنّ الماء يجبى فيها ، أي : يجمع . جعل الفعل لها مجازاً وهي من الصفات الغالية كالدابة . وقيل : كان يقعد على الجفنة ألف رجل . وقرىء : بحذف الياء اكتفاء بالكسرة . كقوله تعالى : { يَوْمَ يدعالداع } [ القمر : 6 ] . { راسيات } ثابتات على الأثافي لا تنزل عنها لعظمها { اعملوا ءَالَ دَاوُودَ } حكاية ما قيل لآل داود . وانتصب { شُكْراً } على أنه مفعول له ، أي : اعملوا لله واعبدوه على وجه الشكر لنعمائه . وفيه دليل على أن العبادة يجب أن تؤدّى على طريق الشكر . أو على الحال ، أي : شاكرين . أو على تقدير اشكروا شكرا ، لأن اعملوا فيه معنى اشكروا ، من حيث إنّ العمل للمنعم شكر له . ويجوز أن ينتصب باعملوا مفعولاً به . ومعناه : إنا سخّرنا لكم الجنّ يعملون لكم ما شئتم ، فاعملوا أنتم شكراً على طريق المشاكلة و { الشكور } المتوفر على أداء الشكر ، الباذل وسعه فيه : قد شغل به قلبه ولسانه وجوارحه ، اعتقاداً واعترافاً وكدحاً ، وأكثر أوقاته . وعن ابن عباس رضي الله عنهما؛ من يشكر على أحواله كلها . وعن السدي : من يشكر على الشكر . وقيل : من يرى عجزه عن الشكر . وعن داود أنه جزأ ساعات الليل والنهار على أهله ، فلم تكن تأتي ساعة من الساعات إلاّ وإنسان من آل داود قائم يصلي . وعن عمر رضي الله عنه أنه سمع رجلاً يقول : اللَّهم اجعلني من القليل ، فقال عمر ما هذا الدعاء؟ فقال الرجل : إني سمعت الله يقول : { وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشكور } فأنا أدعوه أن يجعلني من ذلك القليل ، فقال عمر : كل الناس أعلم من عمر .

فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)

قرىء : «فلما قضى عليه الموت» ودابة الأرض : الأرضة ، وهي الدويبة التي يقال لها السرفة والأرض فعلها ، فأضيفت إليه . يقال : أرضت الخشبة أرضاً . إذا أكلتها الأرضة . وقرىء بفتح الراء ، من أرضت الخشبة أرضاً ، وهو من باب فعلته ففعل ، كقولك : أكلت القوادح الأسنان أكلاً . فأكلت أكلاً والمنسأة : العصا . لأنه ينسأ بها ، أي : يطرد ويؤخر وقرىء : بفتح الميم وبتخفيف الهمزة قلباً وحذفاً وكلاهما ليس بقياس ، ولكن إخراج الهمزة بين بين هو التخفيف القياسي . ومنساءته على مفعالة ، كما يقال في الميضأة ميضاءة . ومن سأته ، أي : من طرف عصاه ، سميت بسأة القوس على الاستعارة . وفيها لغتان ، كقولهم : قحة وقحة ، وقرىء : «أكلت منسأته» { تَبَيَّنَتِ الجن } من تبين الشيء إذا ظهر وتجلّى . و { أَن } مع صلتها بدل من الجن بدل الاشتمال ، كقولك : تبين زيد جهله : والظهور له في المعنى ، أي : ظهر أنّ الجن { لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الغيب مَا لَبِثُواْ فِى العذاب } أو علم الجن كلهم علماً بيناً - بعد التباس الأمر على عامّتهم وضعفتهم وتوهّمهم - أنّ كبارهم يصدّقون في ادعائهم علم الغيب أو علم المدّعون علم الغيب منهم عجزهم ، وأنهم لا يعلمون الغيب وإن كانوا عالمين قبل ذلك بحالهم ، وإنما أريد التهكم بهم كما تتهكم بمدّعي الباطل إذا دحضت حجته وظهر إبطاله بقولك : هل تبينت أنك مبطل . وأنت تعلم أنه لم يزل كذلك متبيناً . وقرىء : «تبينت الجن» على البناء للمفعول ، على أنّ المتبين في المعنى هو { أَن } مع ما في صلتها ، لأنه بدل . وفي قراءة أبيّ : تبينت الإنس . وعن الضحاك : تباينت الأنس بمعنى تعارفت وتعالمت . والضمير في { كَانُواْ } للجن في قوله : { وَمِنَ الجن مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ } أي علمت الإنس أن لو كان الجن يصدقون فيما يوهمونهم من علمهم الغيب؛ ما لبثوا . وفي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه : «تبينت الإنس أنّ الجنّ لو كانوا يعلمون الغيب» . روي أنه كان من عادة سليمان عليه السلام أن يعتكف في مسجد بيت المقدس المدد الطوال ، فلما دنا أجله لم يصبح إلا رأى في محرابه شجرة نابتة قد أنطقها الله ، فيسألها : لأي شيء أنت؟ فتقول لكذا ، حتى أصبح ذات يوم فرأى الخروبة ، فسألها ، فقالت : نبت لخراب هذا المسجد : فقال : ما كان الله ليخربه وأنا حيّ ، أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس ، فنزعها وغرسها في حائط له وقال : اللَّهم عم عن الجن موتي ، حتى يعلم الناس أنهم لا يعلمون الغيب . لأنهم كانوا يسترقون السمع ويموّهون على الإنس أنهم يعلمون الغيب ، وقال لملك الموت : إذا أمرت بي فأعلمني ، فقال : أمرت بك وقد بقيت من عمرك ساعة؛ فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحاً من قوارير ليس له باب ، فقام يصلي متكئاً على عصاه ، فقبض روحه وهو متكىء عليها؛ وكانت الشياطين تجتمع حول محرابه أينما صلّى ، فلم يكن شيطان ينظر إليه في صلاته إلاّ احترق فمرّ به شيطان فلم يسمع صوته ، ثم رجع فلم يسمع ، فنظر فإذا سليمان قد خرّ ميتاً ، ففتحوا عنه فإذا العصا قد أكلتها الأرضة ، فأرادوا أن يعرفوا وقت موته ، فوضعوا الأرضة على العصا فأكلت منها في يوم وليلة مقداراً ، فحسبوا على ذلك النحو فوجدوه قد مات منذ سنة ، وكانوا يعملون بين يديه ويحسبونه حياً ، فأيقن الناس أنهم لو علموا الغيب لما لبثوا في العذاب سنة ، وروي أنّ داود عليه السلام أسس بناء بيت المقدس في موضع فسطاط موسى عليه السلام ، فمات قبل أن يتمه ، فوصى به إلى سليمان ، فأمر الشياطين بإتمامه ، فلما بقي من عمره سنة سأل أن يعمى عليهم موته حتى يفرغوا منه ، ليبطل دعواهم علم الغيب .

روي أن أفريدون جاء ليصعد كرسيه ، فلما دنا ضرب الأسدان ساقه فكسراها؛ فلم يجسر أحد بعدُ أن يدنوا منه ، وكان عمر سليمان ثلاثاً وخمسين سنة : ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة ، فبقي في ملكه أربعين سنة ، وابتدأ بناء بيت المقدس لأربع مضين من ملكه .

لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)

قرىء : { لِسَبَإٍ } بالصرف ومنعه ، وقلب الهمزة ألفاً . ومسكنهم : بفتح الكاف وكسرها ، وهو موضع سكناهم ، وهو بلدهم وأرضهم التي كانوا مقيمين فيها ، أو مسكن كل واحد منهم . وقرىء : «مساكنهم» و { جَنَّتَانِ } بدل من آية . أو خبر مبتدإ محذوف ، تقديره : الآية جنتان . وفي الرفع معنى المدح ، تدلّ عليه قراءة من قرأ : «جنتين» ، بالنصب على المدح . فإن قلت : ما معنى كونهما؟ آية ، قلت : لم يجعل الجنتين في أنفسهما آية ، وإنما جعل قصتهما ، وأنّ أهلهما أعرضوا عن شكر الله تعالى عليهما فخربهما ، وأبدلهم عنهما الخمط والأثل : آية ، وعبرة لهم ، ليعتبروا ويتعظوا فلا يعودوا إلى ما كانوا عليه من الكفر وغمط النعم . ويجوز أن تجعلهما آية ، أي : علامة دالة على الله ، وعلى قدرته وإحسانه ووجوب شكره ، فإن قلت : كيف عظم الله جنتي أهل سبأ وجعلهما آية ، ورب قرية من قريات العراق يحتف بها من الجنان ما شئت؟ قلت : لم يرد بستانين اثنين فحسب ، وإنما أراد جماعتين من البساتين : جماعة عن يمين بلدهم ، وأخرى عن شمالها ، وكل واحد من الجماعتين في تقاربها وتضامها . كأنها جنة واحدة ، كما تكون بلاد الريف العامرة وبساتينها ، أو أراد بستاني كل رجل منهم عن يمين مسكنه وشماله ، كما قال : جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب { كُلُواْ مِن رّزْقِ رَبّكُمْ } إما حكاية لما قال لهم أنبياء الله المبعوثون إليهم ، أو لما قال لهم لسان الحال ، أو هم أحقاء بأن يقال لهم ذلك ، ولما قال : { كُلُواْ مِن رّزْقِ رَبّكُمْ } { واشكروا لَهُ } أتبعه قوله : { بَلْدَةٌ طَيّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ } يعني : هذه البلدة التي فيها رزقكم بلدة طيبة ، وربكم الذي رزقكم وطلب شكركم رب غفور لمن شكره . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : كانت أخصب البلاد وأطيبها : تخرج المرأة وعلى رأسها المكتل فتعمل بيدها وتسير بين تلك الشجر ، فيمتلىء المكتل بما يتساقط فيه من الثمر { طَيّبَةً } لم تكن سبخة . وقيل : لم يكن فيها بعوض ولا ذباب ولا برغوث ولا عقرب ولا حية . وقرىء : «بلدة طيبة ورباً غفوراً» بالنصب على المدح . وعن ثعلب : معناه اسكن واعبد { العرم } الجرذ الذي نقب عليهم السكر ، ضربت لهم بلقيس الملكة بسدّ ما بين الجبلين بالصخر والقار ، فحقنت به ماء العيون والأمطار ، وتركت فيه خروقاً على مقدار ما يحتاجون إليه من سقيهم ، فلما طغوا قيل : بعث الله إليهم ثلاثة عشر نبياً يدعونهم إلى الله ويذكرونهم نعمته عليهم فكذبوهم وقالوا ما نعرف لله نعمة سلط الله على سدّهم الخُلد فنقبه من أسفله فغرّقهم . وقيل : العرم جمع عرمة ، وهي الحجارة المركومة . ويقال للكدس من الطعام ، عرمة : والمراد : المسناة التي عقدوها سكراً : وقيل : العرم اسم الوادي ، وقيل : العرم المطر الشديد .

وقرىء : «العرم» بسكون الراء . وعن الضحاك : كانوا في الفترة التي بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم . وقرىء : «أكل» بالضم والسكون ، وبالتنوين والإضافة ، والأكل : الثمر . والخمط : شجر الأراك : وعن أبي عبيدة : كل شجر ذي شوك . وقال الزجاج : كل نبت أخذ طعماً من مرارة ، حتى لا يمكن أكله . والأثل : شجر يشبه الطرفاء أعظم منه وأجود عوداً . ووجه من نون : أن أصله ذواتي أكل أكل خمط . فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه . أو وصف الأكل بالخمط كأنه قيل : ذواتي أكل بشع . ومن أضاف وهو أبو عمر وحده ، فلأن أكل الخمط في معنى البرير ، كأنه قيل : ذواتي برير . والأثل والسدر : معطوفان على أكل ، لا على خمط لأن الأثل لا أكل له . وقرىء : «وأثلاً» وشيئاً . بالنصب عطفاً على جنتين . وتسمية البدل جنتين ، لأجل المشاكلة و فيه : ضرب من التهكم . وعن الحسن رحمه الله : قلل السدر : لأنه أكرم ما بدلوا . وقرىء : «وهل يجازي» و «هل نجازي» بالنون . و «هل يجازي» والفاعل الله وحده . و «هل يجزي»؛ والمعنى : أن مثل هذا الجزاء لا يستحقه إلاّ الكافر ، وهو العقاب العاجل ، وقيل : المؤمن تكفر سيآته بحسناته ، والكافر يحبط عمله فيجازى بجميع ما عمله من السوء ، ووجه آخر : وهو أن الجزاء عام لكل مكافأة ، يستعمل تارة في معنى المعاقبة ، وأخرى في معنى الإثابة ، فلما استعمل في معنى المعاقبة في قوله : { جزيناهم بِمَا كَفَرُواْ } بمعنى : عاقبناهم بكفرهم . قيل : { وهل يجازى إلا الكفور } بمعنى : وهل يعاقب؟ وهو الوجه الصحيح؛ وليس لقائل أن يقول : لم قيل : وهل يجازى إلاّ الكفور ، على اختصاص الكفور بالجزاء ، والجزاء عام للكافر والمؤمن ، لأنه لم يرد الجزاء العام ، وإنما أراد الخاص وهو العقاب ، بل لا يجوز أن يراد العموم وليس بموضعه . ألا ترى أنك لو قلت : جزيناهم بما كفروا ، وهل يجازى إلاّ الكافر والمؤمن : لم يصحّ ولم يسد كلاماً ، فتبين أن ما يتخيل من السؤال مضمحل ، وأن الصحيح الذي لا يجوز غيره ما جاء عليه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .

وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)

{ القرى التى بَارَكْنَا فِيهَا } وهي قرى الشام { قُرًى ظاهرة } متواصلة؛ يرى بعضها من بعض لتقاربها ، فهي ظاهرة لأعين الناظرين . أو راكبة متن الطريق : ظاهرة للسابلة؛ لم تبعد عن مسالكهم حتى تخفى عليهم { وَقَدَّرْنَا فِيهَا السير } قيل : كان الغادي منهم يقيل في قرية ، والرائح يبيت في قرية إلى أن يبلغ الشام لا يخاف جوعاً ولا عطشاً ولا عدواً ، ولا يحتاج إلى حمل زاد ولا ماء { سِيرُواْ فِيهَا } وقلنا لهم : سيروا؛ ولا قول ثم ، ولكنهم لما مكنوا من السير وسويت لهم أسبابه؛ كأنهم أمروا بذلك وأذن لهم فيه . فإن قلت : ما معنى قوله { لَيَالِىَ وَأَيَّاماً } قلت : معناه سيروا فيها ، إن شئتم بالليل وإن شئتم بالنهار ، فإن الأمن فيها لا يختلف باختلاف الأوقات . أو سيروا فيها آمنين لا تخافون . وإن تطاولت مدة سفركم وامتدت أياماً وليالي . أو سيروا فيها لياليكم وأيامكم مدة أعماركم ، فإنكم في كل حين وزمان ، لا تلقون فيها إلا الأمن . وقرىء : «ربنا باعد بين أسفارنا» وبعد . ويا ربنا ، على الدعاء ، بطروا النعمة ، وبشموا من طيب العيش ، وملوا العافية ، فطلبوا الكد والتعب كما طلب بنو إسرائيل البصل والثوم مكان المنّ والسلوى ، وقالوا : لو كان جنى جناننا أبعد كان أجدر أن نشتهيه ، وتمنوا أن يجعل الله بينهم وبين الشأم مفاوز ليركبوا الرواحل فيها ويتزودوا الأزواد ، فجعل الله لهم الإجابة . وقرىء : «ربنا بعِّد بين أسفارنا» وبعد بين أسفارنا على النداء ، وإسناد الفعل إلى بين ورفعه به ، كما تقول : سير فرسخان ، وبوعد بين أسفارنا . وقرىء : «ربنا باعد بين أسفارنا» و «بين سفرنا» وبعد ، برفع ربنا على الابتداء ، والمعنى خلاف الأوّل ، وهو استبعاد مسايرهم على قصرها ودنوّها لفرط تنعمهم وترفههم ، كأنهم كانوا يتشاجون على ربهم ويتحازنون عليه { أَحَادِيثَ } يتحدّث الناس بهم ، ويتعجبون من أحوالهم ، وفرقناهم تفريقاً اتخذه الناس مثلاً مضروباً ، يقولون : ذهبوا أيدي سبأ ، وتفرقوا أيادي سبأ . قال كثير :

أَيَادِي سَبَا يَا عَزَّ مَا كُنْتُ بَعْدَكُمْ ... فَلَمْ يَحْلُ بَالْعَيْنَيْنِ بَعْدَكِ مَنْظَرُ

لحق غسان بالشأم ، وأنمار بيثرب ، وجذام بتهامة ، والأزد بعمان ، { صَبَّارٍ } عن المعاصي { شَكُورٍ } للنعم .

وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)

قرىء : «صدّق» بالتشديد والتخفيف ، ورفع إبليس ونصب الظن ، فمن شدّد فعلى : حقق عليهم ظنه ، أو وجده صادقاً؛ ومن خفف فعلى : صدّق في ظنه أو صدّق يظن ظناً ، نحو فعلته جهدك ، وبنصب إبليس ورفع الظنّ؛ فمن شدّد فعلى : وجد ظنه صادقاً؛ ومن حفف فعلى : قال له ظنه الصدق حين خيله إغواءهم ، يقولون : صدقك ظنك ، وبالتخفيف ورفعهما على : صدق عليهم ظن إبليس؛ ولو قرىء بالتشديد مع رفعهما لكان على المبالغة في صدق ، كقوله : صدقت فيهم ظنوني ، ومعناه : أنه حين وجد آدم ضعيف العزم قد أصغى إلى وسوسته قال : إنّ ذرّيته أضعف عزماً منه ، فظنّ بهم اتباعه وقال : لأضلنهم لأغوينهم . وقيل : ظنّ ذلك عند إخبار الله تعالى الملائكة أنه يجعل فيها من يفسد فيها ، والضمير في { عَلَيْهِمْ } و { اتبعوه } إماّ لأهل سبأ ، أو لبني آدم . وقلل المؤمنين بقوله : { إِلاَّ فَرِيقاً } لأنهم قليل بالإضافة إلى الكفار ، كما قال : { لأحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً } [ الإسراء : 62 ] ، { وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكرين } [ الأعراف : 17 ] . { وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ } من تسليط واستيلاء بالوسوسة والاستغواء إلاّ لغرض صحيح وحكمة بينة ، وذلك أن يتميز المؤمن بالآخرة من الشاك فيها . وعلل التسليط بالعلم والمراد ما تعلق به العلم . وقرىء : «ليعلم» على البناء للمفعول { حَفِيظٌ } محافظ عليه ، وفعيل ومفاعل : متآخيان .

قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)

{ قُلِ } لمشركي قومك { ادعوا الذين } عبدتموهم من دون الله من الأصنام والملائكة وسميتموهم باسمه كما تدعون الله . والتجئوا إليهم فيما يعروكم كما تلتجؤون إليه . وانتظروا استجابتهم لدعائكم ورحمتهم كما تنتظرون وأن يستجيب لكم ويرحمكم ، ثم أجاب عنهم بقوله : { لاَ يَمْلِكُونَ مِثُقَالَ ذَرَّةٍ } من خير أو شرّ ، أو نفع أو ضرّ { فِى السماوات وَلاَ فِى الأرض وَمَا لَهُمْ } في هذين الجنسين من شركة في الخلق ولا في الملك ، كقوله تعالى : { مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السموات والأرض } [ الكهف : 51 ] وماله منهم من عوين يعينه على تدبير خلقه ، يريد : أنهم على هذه الصفة من العجز والبعد عن أحوال الربوبية ، فكيف يصحّ أن يُدْعوا كما يدعى ويُرجوا كما يرجى ، فإن قلت : أين مفعولا زعم؟ قلت : أحدهما الضمير المحذوف الراجع منه إلى الموصول . وأمّا الثاني فلا يخلو إمّا أن يكون { مِن دُونِ الله } أو { لاَّ يَمْلِكُونَ } أو محذوفاً فلا يصحّ الأول ، لأنّ قولك : هم من دون الله ، لا يلتئم كلاماً ، ولا الثاني ، لأنهم ما كانوا يزعمون ذلك ، فكيف يتكلمون بما هو حجة عليهم؛ وبما لو قالوه قالوا ما هو حق وتوحيد؟ فبقي أن يكون محذوفاً تقديره : زعمتموهم آلهة من دون الله فحذف الراجع إلى الموصول كما حذف في قوله : { أهذا الذى بَعَثَ الله رَسُولاً } [ الفرقان : 41 ] استخفافاً ، لطول الموصول لصلته ، وحذف آلهة لأنه موصوف صفته { مِن دُونِ الله } والموصوف يجوز حذفه وإقامة الصفة مقامه إذا كان مفهوماً ، فإذاً مفعولا زعم محذوفان جميعاً بسببين مختلفين .

وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)

تقول : الشفاعة لزيد ، على معنى أنه الشافع ، كما تقول : الكرم لزيد : وعلى معنى أنه المشفوع له ، كما تقول : القيام لزيد ، فاحتمل قوله : { وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } أن يكون على أحد هذين الوجهين ، أي : لا تنفع الشفاعة إلاّ كائنة لمن أذن له من الشافعين ومطلقة له . أو لا تنفع الشفاعة إلاّ كائنة لمن أذن له ، أي : لشفيعه ، أو هي اللام الثانية في قولك : أذن لزيد لعمرو ، أي لأجله ، كأنه قيل : إلاّ لمن وقع الأذن للشفيع لأجله ، وهذا وجه لطيف وهو الوجه ، وهذا تكذيب لقولهم : هؤلاء شفعاؤنا عند الله . فإن قلت : بما اتصل قوله : { حتى إِذَا فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ } ولأي شيء وقعت حتى غاية؟ قلت : بما فهم من هذا الكلام من أنّ ثم انتظاراً للإذن وتوقعاً وتمهلاً وفزعاً من الراجين للشفاعة والشفعاء ، هل يؤذن لهم أو لا يؤذن؟ وأنه لا يطلق الإذن إلاّ بعد مليِّ من الزمان ، وطول من التربص ، ومثل هذه الحال دلّ عليه قوله عزّ وجلّ { رَبّ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا الرحمن لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً } [ النبأ : 37- 38 ] كأنه قيل : يتربصون ويتوقفون كلياً فزعين وهلين ، حتى إذا فزع عن قلوبهم ، أي : كشف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم بكلمة يتكلم بها رب العزّة في إطلاق الإذن : تباشروا بذلك وسأل بضعهم بعضاً { مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ } قال { الحق } أي القول الحق ، وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى . وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم :

( 913 ) " فَإذَا أُذِنَ لِمَنْ أُذنَ أَنْ يَشْفَعَ فزعْتهُ الشفاعةُ " وقرىء : «أذن له» ، أي : أذن له الله ، وأذن له على البناء للمفعول . وقرأ الحسن : «فزع» مخففاً ، بمعنى فزع . وقرىء : «فزع» ، على البناء للفاعل ، وهو الله وحده ، وفزع ، أي : نفى الوجل عنها وأفنى ، من قولهم : فرغ الزاد ، إذا لم يبق منه شيء . ثم ترك ذكر الوجل وأسند إلى الجار والمجرور ، كما تقول : دفع إليّ زيد ، إذا علم ما المدفوع وقد تخفف ، وأصله : فرغ الوجل عنها ، أي : انتفى عنها ، وفني ثم حذف الفاعل وأسند إلى الجار والمجرور . وقرأ : «افرنقع عن قلوبهم» ، بمعنى : انكشف عنها . وعن أبي علقمة أنه هاج به المرار فالتف عليه الناس ، فلما أفاق قال : ما لكم تكأكأتم عليَّ تكأكأكم على ذي جنة؟ افرنقعوا عني . والكلمة مركبة من حروف المفارقة مع زيادة العين ، كما ركب «اقمطر» من حروف القمط ، مع زيادة الراء . وقرىء : «الحق» بالرفع ، أي : مقولة الحق { وَهُوَ العلى الكبير } ذو العلو والكبرياء ، ليس لملك ولا نبيّ أن يتكلم ذلك اليوم إلاّ بإذنه ، وأن يشفع إلاّ لمن ارتضى .

قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)

أمره بأن يقررهم بقوله : { مَن يَرْزُقُكُم } ثم أمره بأن يتولى الإجابة والإقرار عنهم بقوله : يرزقكم الله . وذلك بالإشعار بأنهم مقرّون به بقلوبهم ، إلاّ أنهم ربما أبوا أن يتكلموا به؛ لأن الذي تمكن في صدورهم من العناد وحب الشرك قد ألجم أفواههم عن النطق بالحق مع علمهم بصحته ، ولأنهم إن تفوهوا بأن الله رازقهم : لزمهم أن يقال لهم : فما لكم لا تعبدون من يرزقكم وتؤثرون عليه من لا يقدر على الرزق ، ألا ترى إلى قوله : { قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء والأرض أَمَّن يَمْلِكُ السمع والأبصار } [ يونس : 31 ] حتى قال : { فَسَيَقُولُونَ الله } [ يونس : 31 ] ثم قال : { فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال } [ يونس : 32 ] فكأنهم كانوا يقرّون بألسنتهم مرّة ، ومرّة كانوا يتلعثمون عناداً وضراراً وحذاراً من إلزام الحجة ، ونحوه قوله عزّ وجلّ : { قُلْ مَن رَّبُّ السماوات والأرض قُلِ الله قُلْ أفاتخذتم مّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُون لأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرّا } [ الرعد : 16 ] وأمره أن يقول لهم بعد الإلزام والإلجام الذي إن لم يزد على إقرارهم بألسنتهم لم يتقاصر عنه { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِى ضلال مُّبِينٍ } ومعناه : وإنّ أحد الفريقين من الذين يوحدون الرازق من السموات والأرض بالعبادة ومن الذين يشركون به الجماد الذي لا يوصف بالقدرة ، لعلى أحد الأمرين من الهدى والضلال ، وهذا من الكلام المنصف الذي كل من سمعه من موال أو مناف قال لمن خوطب به : قد أنصفك صاحبك ، وفي درجة بعد تقدّمه ما قدم من التقرير البليغ : دلالة غير خفية على من هو من الفريقين على الهدى ومن هو في الضلال المبين ، ولكن التعريض والتورية أنضل بالمجادل إلى الغرض ، وأهجم به على الغلبة ، مع قلة شغب الخصم وفلّ شوكته بالهوينا ونحوه قول الرجل لصاحبه : علم الله الصادق مني ومنك ، وإن أحدنا لكاذب . ومنه بيت حسان :

أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ ... فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ

فإن قلت : كيف خولف بين حرفيّ الجرّ الداخلين على الحق والضلال؟ قلت : لأن صاحب الحق كأنه مستعل على فرس جواد يركضه حيث شاء ، والضال كأنه منغمس في ظلام مرتبك فيه لا يدري أن يتوجه . وفي قراءة أبيّ : «وإنا أو أياكم إما على هدى أو في ضلال مبين» .

قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26)

هذا أدخل في الإنصاف أبلغ فيه من الأوّل ، حيث أسند الإجرام إلى المخاطبين والعمل إلى المخاطبين ، وإن أراد بالإجرام : الصغائر والزلات التي لا يخلو منها مؤمن ، وبالعمل : الكفر والمعاصي العظام . وفتح الله بينهم : وهو حكمه وفصله : أنه يدخل هؤلاء الجنة وأولئك النار .

قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)

فإن قلت : ما معنى قوله : { أَرُونِىَ } وكان يراهم ويعرفهم؟ قلت : أراد بذلك أن يريهم الخطأ العظيم في إلحاق الشركاء بالله ، وأن يقايس على أعينهم بينه وبين أصنامهم ليطلعهم على إحالة القياس إليه والإشراك به . و { كَلاَّ } ردع لهم عن مذهبهم بعد ما كسده بإبطال المقايسة ، كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام : { أُفّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } [ الأنبياء : 67 ] بعد ما حجهم ، وقد نبه على تفاحش غلطهم وإن لم يقدروا حق الله قدره بقوله : { هُوَ الله العزيز الحكيم } كأنه قال : أين الذين ألحقتم به شركاء من هذه الصفات وهو راجع إلى الله وحده . أو ضمير الشأن ، كما في قوله تعالى : { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ } [ الإخلاص : 1 ] .

وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)

{ إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ } إلا إرسالة عامة لهم محيطة بهم؛ لأنها إذا شملتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم . وقال الزجاج المعنى أرسلناك جامعاً للناس في الإنذار والإبلاغ ، فجعله حالاً من الكاف وحق التاء على هذا أن تكون للمبالغة كتاء الراوية والعلامة ، ومن جعله حالاً من المجرور متقدماً عليه فقد أخطأ؛ لأنّ تقدم حال المجرور عليه في الإحالة بمنزلة تقدم المجرور على الجار ، وكم ترى ممن يرتكب هذا بالخطأ ثم لا يقنع به حتى يضمّ إليه أن يجعل اللام بمعنى إلى؛ لأنه لا يستوي له الخطأ الأوّل إلا الخطأ الثاني ، فلا بدّ له من ارتكاب الخطأين .

وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30)

قرىء : «ميعاد يوم» . ومعياد يوم . وميعاد يوما . والميعاد : ظرف الوعد من مكان أو زمان ، وهو ههنا الزمان . والدليل عليه قراءة من قرأ : ميعاد يوم فأبدل منه اليوم . فإن قلت : فما تأويل من أضافه إلى يوم ، أو نصب يوماً؟ قلت : أما الإضافة فإضافة تبيين ، كما تقول : سحق ثوب ، وبعير سانية . وأما نصب اليوم فعلى التعظيم بإضمار فعلى تقديره : لكم ميعاد ، أعني يوماً أو أريد يوماً من صفته كيت وكيت . ويجوز أن يكون الرفع على هذا ، أعني التعظيم . فإن قلت : كيف انطبق هذا جواباً على سؤالهم؟ قلت : ما سألوا عن ذلك وهم منكرون له إلاّ تعنتاً ، ولا استرشاداً ، فجاء الجواب على طريق التهديد مطابقاً لمجيء السؤال على سبيل الإنكار والتعنت ، وأنهم مرصدون ليوم يفاجؤهم ، فلا يستطيعون تأخراً عنه ولا تقدّماً عليه .

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31)

الذي بين يديه : ما نزل قبل القرآن من كتب الله ، يروى : أن كفار مكة سألوا أهل الكتاب فأخبروهم أنهم يجدون صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتبهم ، فأغضبهم ذلك وقرنوا إلى القرآن جميع ما تقدمه من كتب الله عزّ وجلّ في الكفر ، فكفروا بها جميعاً . وقيل : الذي بين يديه يوم القيامة . والمعنى : أنهم جحدوا أن يكون القرآن من الله تعالى ، وأن يكون لما دلّ عليه من الإعادة للجزاء حقيقة ، ثم أخبر عن عاقبة أمرهم ومآلهم في الآخرة فقال لرسوله عليه الصلاة والسلام أو للمخاطب { وَلَوْ تَرَى } في الآخرة موقفهم وهم يتجاذبون أطراف المحادثة ويتراجعونها بينهم ، لرأيت العجيب ، فحذف الجواب . والمستضعفون : هم الأتباع ، والمستكبرون : هم الرؤوس والمقدّمون .

قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)

أولى الاسم أعني { نَحْنُ } حرف الإنكار؛ لأنّ الغرض إنكار أن يكونوا هم الصادّين لهم عن الإيمان ، وإثبات أنهم هم الذين صدّوا بأنفسهم عنه ، وأنهم أتوا من قبل اختيارهم ، كأنهم قالوا : أنحن أجبرناكم وحلنا بينكم وبين كونكم ممكنين مختارين { بَعْدَ إِذْ جَاءكُمْ } بعد أن صممتم على الدخول في الإيمان وصحّت نياتكم في اختياره؟ بل أنتم منعتم أنفسكم حظها وآثرتم الضلال على الهدى وأطعتم آمر الشهوة دون آمر النهي ، فكنتم مجرمين كافرين لاختياركم لا لقولنا وتسويلنا . فإن قلت : إذ وإذا من الظروف اللازمة للظرفية ، فلم وقعت إذ مضافاً إليها؟ قلت : قد اتسع في الزمان ما لم يتسع في غيره ، فإضيف إليها الزمان ، كما أضيف إلى الجمل في قولك : جئتك بعد إذ جاء زيد ، وحينئذ ، ويومئذ ، وكان ذلك أوان الحجاج أمير ، وحين خرج زيد . لما أنكر المستكبرون بقولهم : { أَنَحْنُ صددناكم } أن يكونوا هم السبب في كفر المستضعفين وأثبتوا بقولهم : { بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ } أن ذلك بكسبهم واختيارهم ، كرّ عليهم المستضعفون بقولهم : { بَلْ مَكْرُ اليل والنهار } فأبطلوا بإضرابهم ، كأنهم قالوا : ما كان الإجرام من جهتنا ، بل من جهة مكركم لنا دائباً ليلاً ونهاراً ، وحملكم إيانا على الشرك واتخاذ الأنداد . ومعنى مكر الليل والنهار : مكركم في الليل والنهار ، فاتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول به وإضافة المكر إليه . أو جعل ليلهم ونهارهم ماكرين على الإسناد المجازي . وقرىء : «بل مكر الليل والنهار» بالتنوين ونصب الظرفين . وبل مكرّ الليل والنهار بالرفع والنصب . أي تكرّون الإغواء مكرّاً دائباً لا تفترون عنه ، فإن قلت : ما وجه الرفع والنصب؟ قلت : هو مبتدأ أو خبر ، على معنى : بل سبب مكركم أو مكرّكم أو مكركم أو مكرّكم سبب ذلك . والنصب على : بل تكرّون الإغواء مكرّ الليل والنهار . فإن قلت : لم قيل : { قَالَ الذين استكبروا } ، بغير عاطف؛ وقيل : { وَقَالَ الذين استضعفوا } ؟ قلت : لأن الذين استضعفوا مرّ أولاً كلامهم ، فجيء بالجواب محذوف العاطف على طريقة الاستئناف ، ثم جيء بكلام آخر للمستضعفين ، فعطف على كلامهم الأوّل . فإن قلت : من صاحب الضمير في { وَأَسَرُّواْ } قلت : الجنس المشتمل على النوعين من المستكبرين والمستضعفين ، وهم الظالمون في قوله : { إِذِ الظالمون مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبّهِمْ } [ سبأ : 31 ] يندم المستكبرون على ضلالهم وإضلالهم ، والمستضعفون على ضلالهم واتباعهم المضلين { فِى أَعْنَاقِ الذين كَفَرُواْ } أي في أعناقهم ، فجاء بالصريح للتنويه بذمهم ، وللدلالة على ما استحقوا به الأغلال . وعن قتاده : أسروا الكلام بذلك بينهم . وقيل : أسروا الندامة أظهروها ، وهو من الأضداد .

وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35)

هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما مني به من قومه من التكذيب والكفر بما جاء به ، والمنافسة بكثرة الأموال والأولاد ، والمفاخرة وزخارفها ، والتكبر بذلك على المؤمنين ، والاستهانة بهم من أجله ، وقولهم : { أَىُّ الفريقين خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً } [ مريم : 73 ] وأنه لم يرسل قط إلى أهل قرية من نذير إلاّ قالوا له مثل ما قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة وكادوه بنحو ما كادوه به ، وقاسوا أمر الآخرة الموهومة أو المفروضة عندهم على أمر الدنيا ، واعتقدوا أنهم لو لم يكرموا على الله لما رزقهم ، ولولا أنّ المؤمنين هانوا عليه لما حرمهم؛ فعلى قياسهم ذلك قالوا : { وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } أرادوا أنهم أكرم على الله من أن يعذبهم ، نظراً إلى أحوالهم في الدنيا .

قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36)

وقد أبطل الله تعالى حسبانهم بأنّ الرزق فضل من الله يقسمه كما يشاء على حسب ما يراه من المصالح ، فربما وسع على العاصي وضيق على المطيع ، وربما عكس ، وربما وسع عليهما وضيق عليهما ، فلا ينقاس عليه أمر الثواب الذي مبناه على الاستحقاق . وقدر الرزق : تضييقه . قال تعالى : { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } [ الطلاق : 7 ] وقرىء : «ويقدّر» بالتشديد والتخفيف .

وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38)

أراد : وماجماعة أموالكم ولا جماعة أولادكم بالتي تقربكم ، وذلك أنّ الجمع المكسر عقلاؤه وغير عقلائه سواء في حكم التأنيث ، ويجوز أن يكون التي هي التقوى وهي المقربة عند الله زلفى وحدها ، أي : ليست أموالكم بتلك الموضوعة للتقريب . وقرأ الحسن : باللاتي تقرّبكم؛ لأنها جماعات . وقرىء : «بالذي يقرّبكم» ، أي : بالشيء الذي يقرّبكم . والزلفى والزلفة : كالكربى والكربة ، ومحلها النصب ، أي : تقرّبكم قربة ، كقوله تعالى : { أَنبَتَكُمْ مّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] { إِلاَّ مَنْ ءَامَنَ } استثناء من { كَمْ } في { تُقَرّبُكُمْ } ، والمعنى : أنّ الأموال لا تقرب أحداً إلاّ المؤمن الصالح الذي ينفقها في سبيل الله ، والأولاد لا تقرب أحداً إلا من علمهم الخير وفقههم في الدين ورشحهم للصلاح والطاعة ، { جزآءالضعف } من إضافة المصدر إلى المفعول ، أصله : فأولئك لهم أن يجازوا الضعف ، ثم جزاء الضعف ، ثم جزاء الضعف . ومعنى جزاء الضعف : أن تضاعف لهم حسناتهم ، الواحدة عشراً . وقرىء : «جزاء الضعف» ، على : فأولئك لهم الضعف جزاء وجزاء الضعف على : أن يجازوا الضعف ، وجزاء الضعف مرفوعان : الضعف بدل من جزاء . وقرىء : { فِى الغرفات } بضم الراء وفتحها وسكونها . وفي الغرفة .

قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)

{ فَهُوَ يُخْلِفُهُ } فهو يعوّضه لا معوّض سواه : إما عاجلاً بالمال ، أو القناعة التي هي كنز لا ينفد . وإما آجلاً بالثواب الذي كل خلف دونه . وعن مجاهد : من كان عنده من هذا المال ما يقيمه فليقتصد ، فإنّ الرزق مقسوم ، ولعل ما قسم له قليل وهو ينفق نفقة الموسع عليه ، فينفق جميع ما في يده ثم يبقى طول عمره في فقر ، ولا يتأولنّ : وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه ، فإن هذا في الآخرة . ومعنى الآية : وما كان من خلف فهو منه { خَيْرُ الرازقين } وأعلاهم ربّ العزّة ، بأن كل ما رزق غيره : من سلطان يرزق جنده ، أو سيد يرزق عبده أو رجل يرزق عياله : فهو من رزق الله ، أجراه على أيدي هؤلاء ، وهو خالق الرزق وخالق الأسباب التي بها ينتفع المرزوق بالرزق . وعن بعضهم : الحمد لله الذي أوجدني وجعلني ممن يشتهي؛ فكم من مشته لا يجد ، وواجد لا يشتهي .

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)

هذا الكلام خطاب للملائكة وتقريع للكفار ، وارد على المثل السائر :

إيَّاكِ أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَهْ ... ونحوه قوله تعالى : { أأنت قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين مِن دُونِ الله } [ المائدة : 116 ] وقد علم سبحانه كون الملائكة وعيسى منزهين برآء مما وجه عليهم من السؤال الوارد على طريق التقرير ، والغرض أن يقول ويقولوا ، ويسأل ويجيبوا؛ فيكون تقريعهم أشدّ ، وتعبيرهم أبلغ ، وخجلهم أعظم : وهو أنه ألزم ، ويكون اقتصاص ذلك لطفاً لمن سمعه ، وزاجراً لمن اقتص عليه . والموالاة : خلاف المعاداة . ومنها : اللَّهم وال من والاه ، وعاد من عاداه . وهي مفاعلة من الولي وهو القرب ، كما أنّ المعاداة من العدواء ، وهي البعد ، والولي : يقع على الموالي والموالى جميعاً . والمعنى أنت الذي نواليه من دونهم ، إذ لا موالاة بيننا وبينهم ، فبينوا بإثبات موالاة الله ومعاداة الكفار : براءتهم من الرضا بعبادتهم لهم؛ لأنّ من كان على هذه الصفة كانت حاله منافية لذلك { بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن } يريدون الشياطين ، حيث أطاعوهم في عبادة غير الله . وقيل : صوّرت لهم الشياطين صور قوم من الجن وقالوا : هذه صور الملائكة فاعبدوها . وقيل : كانوا يدخلون في أجواف الأصنام إذا عبدت ، فيعبدون بعبادتها . وقرىء : «نحشرهم» ونقول ، بالنون والياء .

فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42)

الأمر في ذلك اليوم لله وحده ، لا يملك فيه أحد منفعة ولا مضرّة لأحد ، لأنّ الدار دار ثواب وعقاب ، والمثيب والمعاقب هو الله ، فكانت حالها خلاف حال الدنيا التي هي دار تكليف ، والناس فيها مخلى بينهم ، يتضارّون ويتنافعون . والمراد : أنه لا ضارّ ولا نافع يومئذ إلا هو وحده ، ثم ذكر معاقبته الظالمين بقوله : { وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ } معطوفاً على { لاَ يَمْلِكُ } .

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43)

الإشارة الأولى : إلى النبي صلى الله عليه وسلم . والثانية : إلى القرآن . والثالثة : إلى الحق . والحق أمر النبوّة كله ودين الإسلام كما هو . وفي قوله : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ } وفي أن لم يقل وقالوا ، وفي قوله : { لِلْحَقّ لَمَّا جَاءهُمْ } وما في اللامين من الإشارة إلى القائلين والمقول فيه ، وما في ( لما ) من المبادهة بالكفر : دليل على صدور الكلام عن إنكار عظيم وغضب شديد ، وتعجيب من أمرهم بليغ ، كأنه قال : وقال أولئك الكفرة المتمرّدون بجراءتهم على الله ومكابرتهم لمثل ذلك الحق النير قبل أن يذوقوه { إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } فبتوا القضاء على أنه سحر ، ثم بتوه على أنه بين ظاهر كل عاقل تأمّله سماه سحراً .

وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45)

وما آتيناهم كتباً يدرسونها فيها برهان على صحة الشرك ، ولا أرسلنا إليهم نذيراً ينذرهم بالعقاب إن لم يشركوا ، كما قال عزّ وجلّ : { أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سلطانا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ } [ الروم : 35 ] أو وصفهم بأنهم قوم أمّيون أهل جاهلية لا ملة لهم وليس لهم عهد بإنزال كتاب ولا بعثه رسول كما قال : { أَمْ ءاتيناهم كتابا مّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ } [ الزخرف : 21 ] فليس لتكذيبهم وجه متشبث ، ولا شبهة متعلق ، كما يقول أهل الكتاب وإن كانوا مبطلين : نحن أهل كتب وشرائع ، ومستندون إلى رسل ومن رسل الله . ثم توعدهم على تكذيبهم بقوله : { وَكَذَّبَ الَّذِينَ } تقدّموهم من الأمم والقرون الخالية كما كذبوا ، وما بلغ هؤلاء بعض ما آتينا أولئك من طول الأعمار وقوّة الأجرام وكثرة الأموال ، فحين كذبوا رسلهم جاءهم إنكاري بالتدمير والاستئصال ، ولم يغن عنهم استظهارهم بما هم به مستظهرون ، فما بال هؤلاء؟ وقرىء : «يدرّسونها» من التدريس وهو تكرير الدرس . أو من درّس الكتاب ، ودرّس الكتب : ويدرّسونها ، بتشديد الدال ، يفتعلون من الدرس . والمعشار كالمرباع ، وهما : العشر . والرابع . فإن قلت : فما معنى { فَكَذَّبُواْ رُسُلِى } وهو مستغنى عنه بقوله : { وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ } ؟ قلت : لما كان معنى { وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ } : وفعل الذين من قبلهم التكذيب ، وأقدموا عليه : جعل تكذيب الرسل مسبباً عنه ونظيره أن يقول القائل : أقدم فلان على الكفر فكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ويجوز أن ينعطف على قوله : وما بلغوا ، كقولك : ما بلغ زيد معشار فضل عمرو فتفضل عليه { فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } أي للمكذبين الأوّلين ، فليحذروا من مثله .

قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)

{ بواحدة } بخصلة واحدة ، وقد فسرها بقوله : { أَن تَقُومُواْ } على أنه عطف بيان بها ، وأراد بقيامهم : إما القيام على مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرّقهم عن مجتمعهم عنده وإما القيام الذي لا يراد به المثول على القدمين ، ولكن الانتصاب في الأمر والنهوض فيه بالهمة والمعنى : إنما أعظكم بواحدة إن فعلتموها أصبتم الحق وتخلصتم ، وهي : أن تقوموا لوجه الله خالصاً . متفرّقين اثنين اثنين ، وواحداً واحداً { ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ } في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به . أمّا الاثنان : فيتفكران ويعرض كلّ واحد منهما محصول فكره على صاحبه وينظران فيه متصادقين متناصفين ، لا يميل بهما اتباع هوى ولا ينبض لهما عرق عصبية ، حتى يهجم بهما الفكر الصالح والنظر على جادة الحق وسننه ، وكذلك الفرد : يفكر في نفسه بعدل ونصفة من غير أن يكابرها ويعرض فكره على عقله وذهنه وما استقر عنده من عادات العقلاء ومجاري أحوالهم ، والذي أوجب تفرّقهم مثنى وفرادى : أنّ الاجتماع مما يشوش الخواطر ، ويعمي البصائر ، ويمنع من الروية ، ويخلط القول؛ ومع ذلك يقل الإنصاف ، ويكثر الاعتساف ، ويثور عجاج التعصب ، ولا يسمع إلاّ نصرة المذهب ، وأراهم بقوله : { مَا بصاحبكم مّن جِنَّةٍ } أن هذا الأمر عظيم الذي تحته ملك الدنيا والآخرة جميعاً ، لا يتصدّى لادعاء مثله إلاّ رجلان : إمّا مجنون لا يبالي بافتضاحه إذا طولب بالبرهان فعجز ، بل لا يدري ما الافتضاح وما رقبة العواقب . وإمّا عاقل راجح العقل مرشح للنبوّة ، مختار من أهل الدنيا ، لا يدعيه إلا بعد صحته عنده بحجته وبرهانه ، وإلا فما يجدي على العاقل دعوى شيء لا بينة له عليه ، وقد علمتم أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم ما به من جنة ، بل علمتموه أرجح قريش عقلاً ، وأرزنهم حلماً وأثقبهم ذهناً وآصلهم رأياً ، وأصدقهم قولاً ، وأنزههم نفساً ، وأجمعهم لما يحمد عليه الرجال ويمدحون به؛ فكان مظنّة لأن تظنوا به الخير ، وترجحوا فيه جانب الصدق على الكذب؛ وإذا فعلتم ذلك كفاكم أن تطالبوه بأن يأتيكم بآية ، فإذا أتى بها تبين أنه نذير مبين . فإن قلت : { مَا بصاحبكم } بم يتعلق؟ قلت : يجوز أن يكون كلاماً مستأنفاً تنبيهاً من الله عزّ وجلّ على طريقة النظر في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم . ويجوز أن يكون المعنى : ثم تتفكروا فتعلموا ما بصاحبكم من جنة ، وقد جوّز بعضهم أن تكون ما استفهامية { بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } كقوله عليه الصلاة والسلام :

( 914 ) « بعثت في نسم الساعة » .

قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47)

{ فَهُوَ لَكُمْ } جزاء الشرط الذي هو قوله : { مَا سَأَلْتُكُم مّن أَجْرٍ } تقديره : أيّ شيء سألتكم من أجر فهو لكم ، كقوله تعالى : { مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ } [ فاطر : 2 ] وفيه معنيان ، أحدهما : نفي مسألة الأجر رأساً ، كما يقول الرجل لصاحبه : إن أعطيتني شيئاً فخذه ، وهو يعلم أنه لم يعطه شيئاً ولكنه يريد به البت؛ لتعليقه الأخذ بما لم يكن . والثاني : أن يريد بالأجر ما أراد في قوله تعالى : { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إلى رَبّهِ سَبِيلاً } [ الفرقان : 57 ] وفي قوله : { قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِى القربى } [ الشورى : 23 ] لأنّ اتخاذ السبيل إلى الله نصيبهم وما فيه نفعهم ، وكذلك المودّة في القرابة ، لأنّ القرابة قد انتظمته وإياهم { على كُلّ شَىْء شَهِيدٌ } حفيظ مهيمن ، يعلم أني لا أطلب الأجر على نصيحتكم ودعائكم إليه إلا منه ، ولا أطمع منكم في شيء .

قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48)

القذف والرمي : تزجية السهم ونحوه بدفع واعتماد ، ويستعاران من حقيقتهما لمعنى الإلقاء ومنه قوله تعالى : { وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرعب } [ الأحزاب : 26 ] ، [ الحشر : 2 ] ، { أَنِ اقذفيه فِى التابوت } [ طه : 39 ] ومعنى { يَقْذِفُ بالحق } يلقيه وينزله إلى أنبيائه . أو يرمي به الباطل فيدمغه ويزهقه { علام الغيوب } رفع محمول على محل إن واسمها ، أو على المستكن في يقذف ، أو هو خبر مبتدإ محذوف . وقرىء : بالنصب صفة لربي ، أو على المدح . وقرىء : «الغيوب» بالحركات الثلاث ، فالغيوب كالبيوت . والغيوب كالصبور ، وهو الأمر الذي غاب وخفي جداً .

قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49)

والحيّ إمّا أن يبدىء فعلاً أو يعيده فإذا هلك لم يبق له إبداء ولا إعادة ، فجعلوا قولهم : لا يبدىء ولا يعيد مثلاً في الهلاك . ومنه قول عبيد :

أَقْفَرَ مِنْ أَهْلِهِ عَبِيدُ ... فَالْيَوْمَ لاَ يُبْدِي وَلاَ يُعِيدُ

والمعنى : جاء الحق وهلك الباطل ، كقوله تعالى : { جَاء الحق وَزَهَقَ الباطل } [ الإسراء : 81 ] وعن ابن مسعود رضي الله عنه :

( 915 ) دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول الكعبة ثلثمائة وستون صنماً ، فجعل يطعنها بعود نبعة ويقول : { جَاء الحق وَزَهَقَ الباطل إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقًا } [ الإسراء : 81 ] ، { جَاء الحق وَمَا يُبْدِىء الباطل وَمَا يُعِيدُ } . والحق : القرآن . وقيل : الإسلام . وقيل : السيف . وقيل : الباطل : إبليس لعنه الله ، أي : ما ينشىء خلقاً ولا يعيده ، المنشيء والباعث : هو الله تعالى . وعن الحسن : لا يبدىء لأهله خيراً ولا يعيده ، أي : لا ينفعهم في الدنيا والآخرة . وقال الزجاج : أيّ شيء ينشيء إبليس ويعيده ، فجعله للاستفهام . وقيل للشيطان : الباطل؛ لأنه صاحب الباطل؛ أو لأنه هالك كما قيل له : الشيطان ، من شاط إذا هلك .

قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)

قرىء : «ضللت أضلّ» بفتح العين مع كسرها . وضللت أضلّ ، بكسرها مع فتحها ، وهما لغتان ، نحو : ظللت أظلّ وظللت أظل . وقرىء : «إضلّ» بكسر الهمزة مع فتح العين . فإن قلت : أين التقابل بين قوله : { فَإِنَّمَا أَضِلُّ على نَفْسِى } وقوله : { يُوحِى إِلَىَّ رَبّى } وإنما كان يستقيم أن يقال : فإنما أضل على نفسي ، وإن اهتديت فإنما اهتدى لها ، كقوله تعالى : { مَّنْ عَمِلَ صالحا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا } [ فصلت : 46 ] فمن اهتدى فلنفسه ومن ضلّ فإنما يضلّ عليها . أو يقال : فإنما أضلّ بنفسي . قلت : هما متقابلان من جهة المعنى؛ لأنّ النفس كل ما عليها فهو بها ، أعني : أن كل ما هو وبال عليها وضار لها فهو بها وبسببها : لأنّ الأمّارة بالسوء ، وما لها مما ينفعها فبهداية ربها وتوفيقه ، وهذا حكم عامّ لكل مكلف ، وإنما أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يسنده إلى نفسه؛ لأن الرسول إذا دخل تحته مع جلالة حمله وسداد طريقته كان غيره أولى به { إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ } يدرك قول كل ضالّ ومهتد ، وفعله لا يخفى عليه منهما شيء .

وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51)

{ وَلَوْ تَرَى } جوابه محذوف ، يعني : لرأيت أمراً عظيماً وحالاً هائلة . و «لو» و «إذ» والأفعال التي هي «فزعوا» و «أخذوا» وحيل بينهم : كلها للمضي . والمراد بها الاستقبال؛ لأن ما الله فاعله في المستقبل بمنزلة ما قد كان ووجد لتحققه ، ووقت الفزع : وقت البعث وقيام الساعة . وقيل : وقت الموت . وقيل : يوم بدر . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت في خسف البيداء ، وذلك أن ثمانين ألفاً يغزون الكعبة ليخربوها ، فإذا دخلوا البيداء خسف بهم { فَلاَ فَوْتَ } فلا يفوتون الله ولا يسبقونه . وقرىء : «فلا فوت» والأخذ من مكان قريب : من الموقف إلى النار إذا بعثوا . أو من ظهر الأرض إلى بطنها إذا ماتوا . أو من صحراء بدر إلى القليب . أو من تحت أقدامهم إذا خسف بهم . فإن قلت : علام عطف قوله : { وَأُخِذُواْ } ؟ قلت : فيه وجهان : العطف على فزعوا ، أي : فزعوا وأخذوا فلا فوت لهم . أو على لا فوت ، على معنى : إذا فزعوا فلم يفوتوا وأخذوا . وقرىء : «وأخذ» وهو معطوف على محل لا فوت ومعناه : فلا فوت هناك ، وهناك أخذ .

وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)

{ ءَامَنَّا بِهِ } بمحمد صلى الله عليه وسلم لمرور ذكره في قوله : { مَا بصاحبكم مّن جِنَّةٍ } : والتناوش والتناول : أخوان؛ إلاّ أنّ التناوش تناول سهل لشيء قريب ، يقال ناشه ينوشه ، وتناوشه القوم . ويقال : تناوشوا في الحرب : ناش بعضهم بعضاً . وهذا تمثيل لطلبهم ما لا يكون ، وهو أن ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت ، كما ينفع المؤمنين إيمانهم في الدنيا : مثلت حالهم بحال من يريد أن يتناول الشيء من غلوة ، كما يتناوله الآخر من قيس [ مقدار ] ذراع تناولاً سهلاً لا تعب فيه . وقرىء : «التناؤش» : همزت الواو المضمومة كما همزت في أجؤه وأدؤر وعن أبي عمرو التناوش بالهمز التناول من بعد من قولهم : نأشت إذا أبطأت وتأخرت . ومنه البيت :

تَمَنَّى نَئِيشاً أَنّ يَكُونَ أَطَاعَنِي ... أي أخيراً { وَيَقْذِفُونَ } معطوف على قد كفروا ، على حكاية الحال الماضية ، يعني : وكانوا يتكلمون { بالغيب } ويأتون به { مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ } وهو قولهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم شاعر ، ساحر ، كذاب . وهذا تكلم بالغيب والأمر الخفي ، لأنهم لم يشاهدوا منه سحراً ولا شعراً ولا كذباً ، وقد أتوا بهذا الغيب من جهة بعيدة من حاله ، لأن أبعد شيء مما جاء به : الشعر والسحر ، وأبعد شيء من عادته التي عرفت بينهم وجربت : الكذب والزور : قرىء : «ويقذفون بالغيب» ، على البناء للمفعول ، أي : يأتيهم به شياطينهم ويلقنوهم إياه ، وإن شئت فعلقه بقوله : { وَقَالُواْ ءامَنَّا بِهِ } على أنه مثلهم في طلبهم تحصيل ما عطلوه من الإيمان في الدنيا بقولهم آمنا في الآخرة ، وذلك مطلب مستبعد بمن يقذف شيئاً من مكان بعيد لا مجال للظن في لحوقه ، حيث يريد أن يقع فيه لكونه غائباً عنه شاحطاً ، والغيب : الشيء الغائب ، ويجوز أن يكون الضمير للعذاب الشديد في قوله : { بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيد } [ سبأ : 46 ] وكانوا يقولون : وما نحن بمعذبين ، إن كان الأمر كما تصفون من قيام الساعة والعقاب والثواب ، ونحن أكرم على الله من أن يعذّبنا ، قائسين أمر الآخرة على أمر الدنيا؛ فهذا كان قذفهم بالغيب ، وهو غيب ومقذوف به من جهة بعيدة؛ لأن دار الجزاء لا تنقاس على دار التكليف { مَّا يَشْتَهُونَ } من نفع الإيمان يومئذ والنجاة به من النار والفوز بالجنة . أو من الردّ إلى الدنيا ، كما حكى عنهم { ارْجِعْنَا نَعْمَلْ صالحا } [ السجدة : 12 ] . { بأشياعهم } بأشباههم من كفرة الأمم ومن كان مذهبه مذهبهم { مُرِيبٍ } إما من أرابه ، إذا أوقعه في الريبة والتهمة . أو من أراب الرجل ، إذا صار ذا ريبة ودخل فيها ، وكلاهما مجاز؛ إلاّ أنّ بينهما فريقاً وهو أن المريب من الأول منقول ممن يصحّ أن يكون مريباً من الأعيان إلى المعنى ، والمريب من الثاني منقول من صاحب الشك إلى الشك ، كما تقول : شعر شاعر .

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( 916 ) " مَنْ قَرَأَ سُورَةَ سَبإٍ لَمْ يَبْقَ رسولٌ ولا نَبِيٌّ إلاّ كانَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَفِيقاً ومُصَافِحاً " .

الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)

{ فَاطِرَ السماوات } مبتدئها ومبتدعها . وعن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما : ما كنت أدري ما فاطر السموات والأرض ، حتى اختصم إليَّ أعرابيان في بئر فقال أحدهما : أنا فطرتها ، أي ابتدأتها . وقرىء : الذي فطر السموات والأرض وجعل الملائكة . وقرىء : ( جاعل الملائكة ) ، بالرفع على المدح { رُسُلاً } بضم السين وسكونها { أُوْلِى أَجْنِحَةٍ } أصحاب أجنحة ، وأولوا : اسم جمع لذوو ، كما أن أولاء اسم جمع لذا ، ونظيرهما في المتمكنة : المخاض والخلفة { مثنى وثلاث وَرُبَاعَ } صفات لأجنحة ، وإنما لم تنصرف لتكرر العدل فيها ، وذلك أنها عدلت عن ألفاظ الأعداد عن صيغ إلى صيغ أخر ، كما عدل عمر عن عامر ، وحذام عن حاذمة ، وعن تكرير إلى غير تكرير ، وأما الوصفية فلا يفترق الحال فيما بين المعدولة والمعدول عنها . ألا تراك تقول : مررت بنسوة أربع ، وبرجال ثلاثة ، فلا يعرج عليها؛ والمعنى : أن الملائكة خلقاً أجنحتهم اثنان اثنان ، أي : لكل واحد منهم جناحان ، وخلقاً أجنحتهم ثلاثة ثلاثة . وخلقاً أجنحتهم أربعة أربعة { يَزِيدُ فِى الخلق مَا يَشَاء } أي : يزيد في خلق الأجنحة ، وفي غيره ما تقتضيه مشيئته وحكمته . والأصل الجناحان : لأنهما بمنزلة اليدين ، ثم الثالث والرابع زيادة على الأصل ، وذلك أقوى للطيران وأعون عليه ، فإن قلت : قياس الشفع من الأجنحة أن يكون في كل شقّ نصفه ، فما صورة الثلاثة؟ قلت : لعل الثالث يكون في وسط الظهر بين الجناحين يمدّهما بقوة . أو لعله لغير الطيران؛ فقد مرّ في بعض الكتب أن صنفاً من الملائكة لهم ستة أجنحة فجناحان يلفون بها أجسادهم ، وجناحان يطيران بهما في الأمر من أمور الله ، وجناحان مرخيان على وجوههم حياء من الله . وعن رسو ل الله صلى الله عليه وسلم :

( 917 ) " أنه رأى جبريل عليه السلام ليلة المعراج وله ستمائة جناح " وروي :

( 918 ) " أنه سأل جبريل عليه السلام أن يتراءى له في صورته فقال : إنك لن تطيق ذلك . قال : إني أحب أن تفعل " فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة مقمرة ، فأتاه جبريل في صورته فغشي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم أفاق وجبريل عليه السلام مسنده وإحدى يديه على صدره والأخرى بين كتفيه ، فقال : " سبحان الله ما كنت أرى أن شيئاً من الخلق هكذا " ، فقال جبريل : فكيف لو رأيت إسرافيل : له اثنا عشر جناحاً : جناح منها بالمشرق ، وجناح بالمغرب ، وإن العرش على كاهله ، وإنه ليتضاءل الأحايين لعظمة الله حتى يعود مثل الوصع وهو العصفور الصغير . وروي : عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : { يَزِيدُ في الخلق مَا يَشَاء } :

( 919 ) " هو الوجه الحسن ، والصوت الحسن ، والشعر الحسن " وقيل : «الحظ الحسن» ، وعن قتادة : الملاحة في العينين ، والآية مطلقة تتناول كل زيادة في الخلق : من طول قامة ، واعتدال صورة ، وتمام في الأعضاء؛ وقوة في البطش؛ وحصافة في العقل ، وجزالة في الرأي ، وجراءة في القلب ، وسماحة في النفس ، وذلاقة في اللسان ولباقة في التكلم ، وحسن تأنّ في مزاولة الأمور؛ وما أشبه ذلك مما لا يحيط به الوصف .

مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)

استعير الفتح للإطلاق والإرسال . ألا ترى إلى قوله : { فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ } مكان : لا فاتح له ، يعني : أي شيء يطلق الله من رحمة أي من نعمة رزق أو مطر أو صحة أو أمن أو غير ذلك من صنوف نعمائه التي لا يحاط بعددها ، وتنكيره الرحمة للإشاعة والإبهام ، كأنه قال : من أية رحمة كانت سماوية أو أرضية ، فلا أحد يقدر على إمساكها وحبسها ، وأيّ شيء يمسك الله فلا أحد يقدر على إطلاقه . فإن قلت : لم أنث الضمير أوّلاً ، ثم ذكر آخراً؟ وهو راجع في الحالين إلى الاسم المتضمن معنى الشرط؟ قلت : هما لغتان : الحمل على المعنى وعلى اللفظ ، والمتكلم على الخيرة فيهما ، فأنث على معنى الرحمة ، وذكر على أن لفظ المرجوع إليه لا تأنيث فيه ، ولأن الأوّل فسر بالرحمة ، فحسن اتباع الضمير التفسير ، ولم يفسر الثاني فترك على أصل التذكير وقرىء : «فلا مرسل لها» . فإن قلت : لا بدّ للثاني من تفسير ، فما تفسيره؟ قلت : يحتمل أن يكون تفسيره مثل تفسير الأول . ولكنه ترك لدلالته عليه ، وأن يكون مطلقاً في كل ما يمسكه من غضبه ورحمته ، وإنما فسر الأوّل دون الثاني للدلالة على أن رحمته سبقت غضبه . فإن قلت : فما تقول فيمن فسر الرحمة بالتوبة وعزاه إلى ابن عباس رضي الله عنهما؟ قلت : إن أراد بالتوبة الهداية لها والتوفيق فيها - وهو الذي أراده ابن عباس رضي الله عنهما إن قاله - فمقبول؛ وإن إراد أنه إن شاء أن يتوب العاصي تاب ، وإن لم يشأ لم يتب؛ فمردود؛ لأنّ الله تعالى يشاء التوبة أبداً ، ولا يجوز عليه أن يشاءها { مِن بَعْدِهِ } من بعد إمساكه ، كقوله تعالى : { فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ الله } [ الجاثية : 23 ] ، { فَبِأَىّ حَدِيثٍ بَعْدَ الله } [ الجاثية : 6 ] أي من بعد هدايته وبعد آياته { وَهُوَ العزيز } الغالب القادر على الإرسال والإمساك { الحكيم } الذي يرسل ويمسك ما تقتضي الحكمة إرساله وإمساكه .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)

ليس المراد بذكر النعمة ذكرها باللسان فقط ، ولكن به وبالقلب ، وحفظها من الكفران والغمط وشكرها بمعرفة حقها والاعتراف بها وطاعة موليها . ومنه قول الرجل لمن أنعم عليه : اذكر أياديّ عندك . يريد حفظها وشكرها والعمل على موجبها ، والخطاب عام للجميع لأنّ جميعهم مغمورون في نعمة الله . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : يريد : يا أهل مكة اذكروا نعمة الله عليكم ، حيث اسكنكم حرمة ومنعكم من جميع العالم ، والناس يتخطفون من حولكم . وعنه : نعمة الله العافية . وقرىء : «غير الله» بالحركات الثلاث؛ فالجرّ والرفع على الوصف لفظاً ومحلاً ، والنصب على الاستثناء . فإن قلت : ما محل { يَرْزُقُكُمْ } ؟ قلت : يحتمل أن يكون له محل إذا أوقعته صفة لخالق وأن لا يكون له محل إذا رفعت محل من خالق ، بإضمار يرزقكم ، وأوقعت يرزقكم تفسيراً له ، أو جعلته كلاماً مبتدأ بعد قوله : { هَلْ مِنْ خالق غَيْرُ الله } . فإن قلت : هل فيه دليل على أنّ الخالق لا يطلق على غير الله تعالى؟ قلت : نعم إن جعلت { يَرْزُقُكُمْ } كلاماً مبتدأ وهو الوجه الثالث من الأوجه الثلاثة . وإمّا على الوجهين الآخرين : وهما الوصف والتفسير . فقد يقيد فيهما بالرزق من السماء والأرض ، وخرج من الإطلاق ، فكيف يستشهد به على اختصاصه ، بالإطلاق؛ والرزق من السماء المطر ، ومن الأرض النبات { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } جملة مفصولة لا محل لها [ من الإعراب ] ، مثل : يرزقكم في الوجه الثالث ، ولو وصلتها كما وصلت يرزقكم لم يساعد عليه المعنى؛ لأن قولك : هل من خالق آخر سوى الله لا إله إلاّ ذلك الخالق : غير مستقيم : لأن قولك : هل من خالق سوى الله إثبات لله . فلو ذهبت تقول ذلك : كنت مناقضاً بالنفي بعد الإثبات { فأنى تُؤْفَكُونَ } فمن أي وجه تصرفون عن التوحيد إلى الشرك؟ .

وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4)

نعى به على قريش سوء تلقيهم لآيات الله ، وتكذيبهم بها ، وسلى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن له في الأنبياء قبله أسوة حسنة ، ثم جاء بما يشتمل على الوعد والوعيد : من رجوع الأمور إلى حكمة ومجازاة المكِذبْ والمكذَبْ بما يستحقانه . وقرىء : «ترجع» بضم التاء وفتحها . فإن قلت : ما وجه صحة جزاء الشرط؟ ومن حق الجزاء أن يتعقب الشرط وهذا سابق له . قلت : معناه : وإن يكذبوك فتأس بتكذيب الرسل من قبلك ، فوضع : { فَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ } موضع : فتأس ، استغناء بالسبب عن المسبب : أعني بالتكذيب عن التأسي . فإن قلت : ما معنى التنكير في رسل؟ قلت : معناه فقد كذبت رسل ، أي رسل ذوو عدد كثير . وأولوا آيات ونذر . وأهل أعمار طوال وأصحاب صبر وعزم ، وما أشبه ذلك ، وهذا أسلى له ، وأحثّ على المصابرة .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7)

وعد الله الجزاء بالثواب والعقاب { فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ } فلا تخدعنكم { الدنيا } ولا يذهلنكم التمتع بها والتلذذ بمنافعها عن العمل للآخرة وطلب ما عند الله { وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بالله الغرور } لا يقولن لكم اعملوا ما شئتم فإن الله غفور يغفر كل كبيرة ويعفو عن كل خطيئة . والغرور الشيطان لأن ذلك ديدنه . وقرىء بالضم وهو مصدر غره كاللزوم والنهوك أو جمع غارّ كقاعد وقعود أخبرنا الله عزّ وجلّ أن الشيطان لنا عدوّ مبين ، واقتص علينا قصته وما فعل بأبينا آدم عليه السلام ، وكيف انتدب لعداوة جنسنا من قبل وجوده وبعده ، ونحن على ذلك نتولاه ونطيعه فيما يريد منا مما فيه هلاكنا ، فوعظنا عزّ وجلّ بأنه كما علمتم عدوّكم الذي لا عدوّ أعرق في العداوة منه ، وأنتم تعاملونه معاملة من لا علم له بحاله { فاتخذوه عَدُوّاً } في عقائدكم وأفعالكم . ولا يوجدن منكم إلاّ ما يدلّ على معاداته ومناصبته في سركم وجهركم . ثم لخص سر أمره وخطأ من اتبعه بأنّ غرضه الذي يؤمه في دعوة شيعته ومتبعي خطواته : هو أن يوردهم مورد الشقوة والهلاك ، وأن يكونوا من أصحاب السعير . ثم كشف الغطاء وقشر اللحاء ، ليقطع الأطماع الفارغة والأماني الكاذبة ، فبنى الأمر كله على الإيمان والعمل وتركهما .

أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)

لما ذكر الفريقين الذين كفروا والذين آمنوا ، قال لنبيه [ صلى الله عليه وسلم ] { أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَناً } يعني : أفمن زين له سوء عمله من هذين الفريقين ، كمن لم يزين له ، فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «لا» فقال : { فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشآء وَيَهْدِى مَن يَشَآء فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حسرات } ومعنى تزيين العمل والإضلال واحد ، وهو أن يكون العاصي على صفة لا تجدي عليه المصالح ، حتى يستوجب بذلك خذلان الله تعالى وتخليته وشأنه ، فعند ذلك يهيم في الضلال ويطلق آمر النهي ، ويعتنق طاعة الهوى ، حتى يرى القبيح حسناً والحسن قبيحاً ، كأنما غلب على عقله وسلب تمييزه ، ويقعد تحت قول أبي نواس :

اْقِنِي حَتَّى تَرَانِي ... حَسَناً عِنْدِي الْقَبِيحُ

وإذا خذل الله المصممين على الكفر وخلاهم وشأنهم ، فإن على الرسول أن لا يهتم بأمرهم ولا يلقي بالاً إلى ذكرهم ، ولا يحزن ولا يتحسر عليهم : اقتداء بسنة الله تعالى في خذلانهم وتخليتهم . وذكر الزجاج أنّ المعنى : أفمن زين له سوء عمله ذهبت نفسك عليهم حسرة ، فحذف الجواب لدلالة فلا تذهب نفسك عليه : أو أفمن زين له سوء عمله كمن هداه الله ، فحذف لدلالة { فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ } عليه حسرات : مفعول له يعني : فلا تهلك نفسك للحسرات . وعليهم صلة تذهب ، كما تقول : هلك عليه حباً ، ومات عليه حزناً . أو هو بيان للمتحسر عليه . ولا يجوز أن يتعلق بحسرات ، لأن المصدر لا يتقدم عليه صلته ، ويجوز أن يكون حالاً كأن كلها صارت حسرات لفرط التحسر ، كما قال جرير :

مَشَقَ الْهَوَاجِرُ لَحْمَهُنَّ مَعَ السُّرَى ... حَتَّى ذَهَبْنَ كَلاَكِلاً وَصُدُورَاً

يريد : رجعن كلاكلاً وصدوراً ، أي : لم يبق إلا كلاكلها وصدورها . ومنه قوله :

فَعَلَى إثْرِهِمْ تَسَاقَطُ نَفْسِي ... حَسَرَاتٍ وَذِكْرُهُمْ لِي سَقَامُ

وقرىء : «فلا تذهب نفسك» { إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } وعيد لهم بالعقاب على سوء صنيعهم .

وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9)

وقرىء : «أرسل الريح» . فإن قلت : لم جاء { فَتُثِيرُ } على المضارعة دون ما قبله ، وما بعده؟ قلت؛ ليحكى الحال التي تقع فيها آثارة الرياح السحاب ، وتستحضر تلك الصور البديعة الدالة على القدرة الربانية ، وهكذا يفعلون بفعل فيه نوع تمييز وخصوصية ، بحال تستغرب ، أو تهمّ المخاطب ، أو غير ذلك ، كما قال تأبّط شراً :

بِأَبِي قَدْ لَقِيتُ الْغُولَ تَهْوِي ... بَسَهْبٍ كَالصَّحِيفَةِ صَحْصَحَان

فَأَضْرِبُهَا بِلاَ دَهَشٍ فَخَرَّت ... صَرِيعاً للْيَدَيْنِ وَلِلْجِرَانِ

لأنه قصد أن يصوّر لقومه الحالة التي تشجع فيها بزعمه على ضرب الغول ، وكأنه يبصرهم إياها ويطلعهم على كنهها ، مشاهدة للتعجيب من جرأته على كل هول ، وثباته عند كلّ شدّة . وكذلك سوق السحاب إلى البلد الميت ، وإحياء الأرض بالمطر بعد موتها : لما كانا من الدلائل على القدرة الباهرة قيل : فسقنا ، وأحيينا؛ معدولاً بهما عن لفظ الغيبة إلى ما هو أدخل في الاختصاص وأدلّ عليه . والكاف في { كذلك } في محلّ الرفع ، أي : مثل إحياء الموات نشور الأموات وروي :

( 920 ) أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : كَيْفَ يُحْيِي اللَّهُ المَوْتَى؟ وَمَا آيَةُ ذَلِكَ فِي خَلْقِهِ؟ فقال : " هلْ مررتَ بِوَادِي أهْلك محلاً ثُمَّ مررتَ به يهتزّ خضراً " قال : نَعمْ . قالَ : " فكذلكَ يحيي الله الموتى وتلكَ آيتُهُ في خَلْقِهِ " وقيل : يحيي الله الخلق بماء يرسله من تحت العرش كمني الرجال ، تنبت منه أجساد الخلق .

مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)

كان الكافرون يتعزرون بالأصنام ، كما قال عزّ وجلّ : { واتخذوا مِن دُونِ الله ءالِهَةً لّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً } [ مريم : 81 ] ، والذين آمنوا بألسنتهم من غير مواطأة قلوبهم كانوا يتعززون بالمشركين ، كما قال تعالى : { الذين يَتَّخِذُونَ الكافرين أَوْلِيَاء مِن دُونِ المؤمنين أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العزة فَإِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً } [ النساء : 139 ] فبين أن لا عزة إلاّ لله ولأوليائه . وقال : { وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } والمعنى فليطلبها عند الله ، فوضع قوله : { فَلِلَّهِ العزة جَمِيعاً } موضعه ، استغناء به عنه لدلالته عليه؛ لأن الشيء لا يطلب إلا عند صاحبه ومالكه . ونظيره قولك : من أراد النصيحة فهي عند الأبرار ، تريد : فليطلبها عندهم؛ إلاّ أنك أقمت ما يدل عليه مقامه . ومعنى : { فَلِلَّهِ العزة جَمِيعاً } أنّ العزّة كلها مختصة بالله : عزة الدنيا وعزة الآخرة . ثم عرف أن ما تطلب به العزة هو الإيمان والعمل الصالح بقوله : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ } والكلم الطيب : لا إله إلاّ الله . عن ابن عباس رضي الله عنهما : يعني أنّ هذه الكلم لا تقبل . ولا تصعد إلى السماء فتكتب حيث تكتب الأعمال المقبولة ، كما قال عزّ وجلّ : { إِنَّ كتاب الأبرار لَفِى عِلّيّينَ } [ المطففين : 18 ] إلاّ إذا اقترن بها العمل الصالح الذي يحققها ويصدقها فرفعها وأصعدها . وقيل : الرافع الكلم ، والمرفوع العمل؛ لأنه لا يقبل عمل إلاّ من موحد . وقيل : الرافع هو الله تعالى ، والمرفوع العمل . وقيل : الكلم الطيب : كل ذكر من تكبير وتسبيح وتهليل وقراءة قرآن ودعاء واستغفار وغير ذلك . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :

( 921 ) « هو قول الرجل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر إذا قالها العبد عرج بها الملك إلى السماء فحيا بها وجه الرحمن فإذا لم يكن عمل صالح لم يقبل منه » وفي الحديث :

( 922 ) « ولا يقبل الله قولاً إلاّ بعمل ، ولا يقبل قولاً ولا عملاً إلاّ بنية ، ولا يقبل قولاً وعملاً ونية إلا بإصابة السنة » وعن ابن المقفع : قول بلا عمل كثريد بلا دسم ، وسحاب بلا مطر ، وقوس بلا وتر . وقرىء : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب } على البناء للمفعول . و { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب } على تسمية الفاعل ، من أصعد والمصعد : هو الرجل أي يصعد إلى الله عزّ وجلّ الكلم الطيب ، وإليه يصعد الكلام الطيب . وقرىء : { والعمل الصالح يَرْفَعُهُ } ، بنصب العمل والرافع الكلم أو الله عزّ وجلّ . فإن قلت : مكر : فعل غير متعدّ . لا يقال : مكر فلان عمله فبم نصب { السيئات } ؟ قلت : هذه صفة للمصدر ، أو لما في حكمه ، كقوله تعالى : { وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ } [ فاطر : 43 ] أصله والذين مكروا والمكرات السيئات . أو أصناف المكر السيئات ، وعنى بهن مكرات قريش حين اجتمعوا في دار الندوة وتداوروا الرأي في إحدى ثلاث مكرات يمكرونها برسول الله صلى الله عليه وسلم : إما إثباته ، أو قتله ، أو إخراجه كما حكى الله سبحانه عنهم

{ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ } [ الأنفال : 30 ] . { وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ } يعني : مكر أولئك الذين مكروا تلك المكرات الثلاث هو خاصة يبور ، أي : يكسد ويفسد ، دون مكر الله بهم حين أخرجهم من مكة وقتلهم وأثبتهم في قليب بدر ، فجمع عليهم مكراتهم جميعاً وحقق فيهم قوله : { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله والله خَيْرُ الماكرين } [ الأنفال : 30 ] وقوله : { وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ } .

وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)

{ أزواجا } أصنافاً ، أو ذكرانا وإناثاً ، كقوله تعالى : { أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَاناً وإناثا } [ الشورى : 50 ] وعن قتادة رضي الله عنه : زوج بعضهم بعضاً { بِعِلْمِهِ } في موضع الحال ، أي : إلاّ معلومة له . فإن قلت : ما معنى قوله : { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ } ؟ قلت : معناه وما يعمر من أحد ، وإنما سماه معمراً بما هو صائر إليه ، فإن قلت : الإنسان إما معمر ، أي طويل العمر : أو منقوص العمر ، أي قصيره . فأما أن يتعاقب عليه التعمير وخلافه فمحال ، فكيف صحّ قوله : { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ } ؟ قلت : هذا من الكلام المتسامح فيه ، ثقة في تأويله بأفهام السامعين ، واتكالاً على تسديدهم معناه بعقولهم ، وأنه لا يلتبس عليهم إحالة الطول والقصر في عمر واحد . وعليه كلام الناس المستفيض . يقولون : لا يثيب الله عبداً ، ولا يعاقبه إلاّ بحق . وما تنعمت بلداً ولا أجتويته إلاّ قل فيه ثوائي وفيه تأويل آخر : هو أنه لا يطول عمر إنسان ولا يقصر إلاّ في كتاب ، وصورته : أن يكتب في اللوح : إن حجّ فلان أو غزا فعمره أربعون سنة ، وإن حجّ وغزا فعمره ستون سنة ، فإذا جمع بينهما فبلع الستين فقد عمر . وإذا أفرد أحدهما فلم يتجاوز به الأربعون ، فقد نقص من عمره الذي هو الغاية وهو الستون . وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله :

( 923 ) " إن الصدقة والصلة تعمران الديار وتزيدان في الأعمار " وعن كعب أنه قال حين طعن عمر رضي الله عنه : لو أن عمر دعا الله لأخّر في أجله ، فقيل لكعب : أليس قد قال الله : { إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [ يونس : 49 ] قال : فقد قال الله : { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ } وقد استفاض على الألسنة : أطال الله بقاءك ، وفسح في مدتك وما أشبهه . وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه : يكتب في الصحيفة عمره كذا وكذا سنة ، ثم يكتب في أسفل ذلك : ذهب يوم ، ذهب يومان ، حتى يأتي على آخره . وعن قتادة رضي الله عنه : المعمر من بلغ الستين سنة ، والمنقوص من عمره من يموت قبل ستين سنة ، والكتاب : اللوح . عن ابن عباس رضي الله عنهما : ويجوز أن يراد بكتاب الله : علم الله ، أو صحيفة الإنسان . وقرىء : «ولا ينقص» على تسمية الفاعل من عمره بالتخفيف .

وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)

ضرب البحرين : العذب والمالح مثلين للمؤمن والكافر ، ثم قال على سبيل الاستطراد في صفة البحرين وما علق بهما من نعمته وعطائه { وَمِنْ كُلّ } أي : ومن كل واحد منهما «تأكلون لحماً طرياً وهو السمك { وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً } وهي اللؤلؤ والمرجان { وَتَرَى الفلك فِيهِ } في كل { مَوَاخِرَ } شواق للماء بجريها ، يقال : مخرت السفينة الماء . ويقال للسحاب : بنات مخر ، لأنها تمخر الهواء والسفن الذي اشتقت منه السفينة قريب من المخر ، لأنها تسفن الماء كأنها تقشره كما تمخره { مِن فَضْلِهِ } من فضل الله ، ولم يجر له ذكر في الآية ، ولكن فيما قبلها ، ولو لم يجر لم يشكل ، لدلالة المعنى عليه . وحرف الرجاء مستعار لمعنى الإرادة ، ألا ترى كيف سلك به مسلك لام التعليل ، كأنما قيل : لتبتغوا ، ولتشكروا . والفرات : الذي يكسر العطش . والسائغ : المريء السهل الانحدار لعذوبته . وقرىء : «سيغ» بوزن سيد : وسيغ بالتخفيف ، وملح : على فعل . والأجاج : الذي يحرق بملوحته . ويحتمل غير طريقة الاستطراد : وهو أن يشبه الجنسين بالبحرين ، ثم يفضل البحر الأجاج على الكافر؛ بأنه قد شارك العذب في منافع من السمك واللؤلؤ : وجرى الفلك فيه والكافر خلو من النفع ، فهو في طريقة قوله تعالى : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذلك فَهِىَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } [ البقرة : 74 ] ثم قال : { وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الماء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله } [ البقرة : 74 ] .

يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13)

{ ذلكم } مبتدأ . و { الله رَبُّكُمْ لَهُ الملك } أخبار مترادفة . أو { الله رَبُّكُمُ } خبران . وله الملك : جملة مبتدأة واقعة في قران قوله : { والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ } ويجوز في حكم الإعراب إيقاع اسم الله صفة لاسم الإشارة . أو عطف بيان . وربكم خبراً . لولا أن المعنى يأباه : والقطمير : لفافة النواة ، وهي القشرة الرقيقة الملتفة عليها .

إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)

إن تدعوا الأوثان { لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءكُمْ } لأنهم جماد { وَلَوْ سَمِعُواْ } على سبيل الفرض والتمثيل ل { مَا استجابوا لَكُمْ } لأنهم لا يدعون ما تدعون لهم من الإلهية ، ويتبرؤون منها . وقيل : ما نفعوكم { يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ } [ أي باشراككم وعبادتكم إياهم يقولون كنتم إيانا تعبدون ] { وَلاَ يُنَبِئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } ولا يخبرك بالأمر مخبر هو مثل خبير عالم به . ويريد : أن الخبير بالأمر وحده ، هو الذي يخبرك بالحقيقة دون سائر المخبرين به . والمعنى : أنّ هذا الذي أخبرتكم به من حال الأوثان هو الحق ، لأني خبير بما أخبرت به . وقرىء : «يدعون» ، بالياء والتاء .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17)

فإن قلت : لم عرف الفقراء؟ قلت : قصد بذلك أن يريهم أنهم لشدة افتقارهم إليه هم جنس الفقراء ، وإن كانت الخلائق كلهم مفتقرين إليه من الناس وغيرهم ، لأن الفقر مما يتبع الضعف ، وكلما كان الفقير أضعف كان أفقر ، وقد شهد الله سبحانه على الإنسان بالضعف في قوله : { وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً } [ النساء : 28 ] وقال سبحانه وتعالى : { الله الذى خَلَقَكُمْ مّن ضَعْفٍ } [ الروم : 54 ] ولو نكر لكان المعنى أنتم بعض الفقراء . فإن قلت : قد قوبل الفقراء بالغنى ، فما فائدة الحميد؟ قلت : لما أثبت فقرهم إليه وغناه عنهم - وليس كل غني نافعاً بغناه إلاّ إذا كان الغني جواداً منعماً فإذا جاد وأنعم حمده المنعم عليهم واستحق - بإنعامه عليهم أن يحمدوه الحميد على ألسنه مؤمنيهم { بِعَزِيزٍ } بممتنع ، وهذا غضب عليهم لاتخاذهم له أنداداً ، وكفرهم بآياته ومعاصيهم ، كما قال : { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } [ محمد : 38 ] وعن ابن عباس رضي الله عنهما : يخلق بعدكم من يعبده لا يشرك به شيئاً .

وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)

الوزر والوقر : أخوان؛ ووزر الشيء إذا حمله . والوازرة : صفة للنفس ، والمعنى : أن كل نفس يوم القيامة لا تحمل إلاّ وزرها الذي اقترفته : لا تؤخذ نفس بذنب نفس ، كما تأخذ جبابرة الدنيا : الولي بالولي ، والجار بالجار . فإن قلت : هلا قيل : ولا تزر نفس وزر أخرى؟ ولم قيل وازرة؟ قلت : لأن المعنى أن النفوس الوازرات لا ترى منهن واحدة إلاّ حاملة وزرها ، لا وزر غيرها . فإن قلت : كيف توفق بين هذا وبين قوله : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } [ العنكبوت : 13 ] ؟ قلت : تلك الآية في الضالين المضلين ، وأنهم يحملون أثقال إضلال الناس مع أثقال ضلالهم ، وذلك كله أوزارهم ما فيها شيء من وزر غيرهم . ألا ترى كيف كذبهم الله تعالى في قولهم : { اتبعوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خطاياكم } [ العنكبوت : 12 ] بقوله تعالى : { وَمَا هُمْ بحاملين مِنْ خطاياهم مّن شَىْء } [ العنكبوت : 12 ] . فإن قلت : ما الفرق بين معنى قوله : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } وبين معنى : { وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَىْء } ؟ قلت : الأول في الدلالة على عدل الله تعالى في حكمه ، وأنه تعالى لا يؤاخذ نفساً بغير ذنبها ، والثاني : في أن لا غياث يومئذ لمن استغاث ، حتى أن نفساً قد أثقلتها الأوزار وبهظتها ، لو دعت إلى أن يخفف بعض وقرها لم تجب ولم تغث ، وإن كان المدعو بعض قرابتها من أب أو ولد أو أخ . فإن قلت : إلام أسند كان في { وَلَوْ كَانَ ذَا قربى } ؟ قلت : إلى المدعو المفهوم من قوله : { وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ } . فإن قلت : فلم ترك ذكر المدعو؟ قلت : ليعمّ ، ويشمل كل مدعوّ . فإن قلت : كيف استقام إضمار العام؟ ولا يصحّ أن يكون العام ذا قربى للمثقلة؟ قلت : هو من العموم الكائن على طريق البدل . فإن قلت : ما تقول فيمن قرأ : «ولو كان ذو قربى» على كان التامّة ، كقوله تعالى : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } [ البقرة : 290 ] ؟ قلت : نظم الكلام أحسن ملاءمة للناقصة؛ لأن المعنى على أن المثقلة إن دعت أحداً إلى حملها لا يحمل منه شيء وإن كان مدعوّها ذا قربى ، وهو معنى صحيح ملتئم ، ولو قلت : ولو وجد ذو قربى ، لتفكك وخرج من اتساقه والتئامه ، على أنّ ههنا ما ساغ أن يستتر له ضمير في الفعل بخلاف ما أوردته { بالغيب } حال من الفاعل أو المفعول ، أي : يخشون ربهم غائبين عن عذابه أو يخشون عذابه غائباً عنهم . وقيل : بالغيب في السر ، وهذه صفة الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه ، فكانت عادتهم المستمرّة أن يخشوا الله ، وهم الذين أقاموا الصلاة وتركوها مناراً منصوباً وعلماً مرفوعاً ، يعني : إنما تقدر على إنذار هؤلاء وتحذيرهم من قومك ، وعلى تحصيل منفعة الإنذار فيهم دون متمرّديهم وأهل عنادهم { وَمَن تزكى } ومن تطهر بفعل الطاعات وترك المعاصي . وقرىء : «من أزكى فإنما يزكي» ، وهو اعتراض مؤكد لخشيتهم وإقامتهم الصلاة ، لأنهما من جملة التزكي { وإلى الله المصير } وعد للمتزكين بالثواب . فإن قلت : كيف اتصل قوله : { إِنَّمَا تُنذِرُ } بما قبله؟ قلت : لما غضب عليهم في قوله : { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ } أتبعه الإنذار بيوم القيامة وذكر أهوالها ، ثم قال : إنما تنذر كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسمعهم ذلك ، فلم ينفع ، فنزل : { إِنَّمَا تُنذِرُ } أو أخبره الله تعالى بعلمه فيهم .

وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23)

{ الأعمى والبصير } مثل للكافر والمؤمن ، كما ضرب البحرين مثلاً لهما أو للصنم والله عزّ وجلّ ، والظلمات والنور والظل والحرور : مثلان للحق والباطل ، وما يؤدّيان إليه من الثواب والعقاب . والأحياء والأموات : مثل للذين دخلوا في الإسلام والذين لم يدخلوا فيه ، وأصروا على الكفر والحرور : السموم؛ إلاّ أنّ السموم يكون بالنهار ، والحرور بالليل والنهار . وقيل : بالليل خاصة . فإن قلت : لا المقرونة بواو العطف ما هي؟ قلت : إذا وقعت الواو في النفي قرنت بها لتأكيد معنى النفي . فإن قلت : هل من فرق بين هذه الواوات؟ قلت : بعضها ضمت شفعاً إلى شفع ، وبعضها وتراً إلى وتر { إِنَّ الله يُسْمِعُ مَن يَشَاء } يعني أنه قد علم من يدخل في الإسلام ممن لا يدخل فيه ، فيهدي الذي قد علم أنّ الهداية تنفع فيه ، ويخذل من علم أنها لا تنفع فيه . وأمّا أنت فخفي عليك أمرهم ، فلذلك تحرص وتتهالك على إسلام قوم من المخذولين . ومثلك في ذلك مثل من لا يريد أن يسمع المقبورين وينذر ، وذلك ما لا سبيل إليه ، ثم قال : { إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ } أي ما عليك إلاّ أن تبلغ وتنذر ، فإن كان المنذر ممن يسمع الإنذار نفع ، وإن كان من المصرين فلا عليك . ويحتمل أنّ الله يسمع من يشاء وأنه قادر على أن يهدي المطبوع على قلوبهم على وجه القسر والإلجاء ، وغيرهم على وجه الهداية والتوفيق ، وأما أنت فلا حيلة لك في المطبوع على قلوبهم الذين هم بمنزلة الموتى .

إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)

{ بالحق } حال من أحد الضميرين ، يعني : محقاً أو محقين ، أو صفة للمصدر ، أي : إرسالاً مصحوباً بالحق . أو صلة لبشير ونذير على : بشيراً بالوعد الحق ، ونذيراً بالوعيد الحق [ وإن من أُمة إلاخلا فيها نذير ] . والأمّة الجماعة الكثيرة . قال الله تعالى : { وجد عليه أمّة من الناس } [ القصص : 23 ] ، ويقال لأهل كل عصر : أمّة ، وفي حدود المتكلمين : الأمّة هم المصدقون بالرسول صلى الله عليه وسلم دون المبعوث إليهم ، وهم الذين يعتبر إجماعهم ، والمراد ههنا : أهل العصر . فإن قلت : كم من أمّة في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ولم يخل فيها نذير؟ قلت : إذا كانت آثار النذارة باقية لم تخل من نذير إلى أن تندرس ، وحين اندرست آثار نذارة عيسى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم . فإن قلت : كيف اكتفى بذكر النذير عن البشير في آخر الآية بعد ذكرهما؟ قلت : لما كانت النذارة مشفوعة بالبشارة لا محالة ، دلّ ذكرها على ذكرها ، لا سيما قد اشتملت الآية على ذكرهما .

وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26)

{ بالبينات } بالشواهد على صحة النبوّة وهي المعجزات { وبالزبر } وبالصحف { وبالكتاب المنير } نحو التوراة والإنجيل والزبور . لما كانت هذه الأشياء في جنسهم أسند المجيء بها إليهم إسناداً مطلقاً ، وإن كان بعضها في جميعهم : وهي البينات ، وبعضها في بعضهم : وهي الزبر والكتاب . وفيه مسلاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم .

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)

{ أَلْوَانُهَا } أجناسها من الرمّان والتفاح والتين والعنب وغيرها مما لا يحصر أو هيئاتها من الحمرة والصفرة والخضرة ونحوها . والجدد : الخطط والطرائق . قال لبيد :

أَوْ مَذْهَبْ جُدَد عَلَى أَلْوَاحِهِ ... ويقال : جدة الحمار للخطة السوداء على ظهره ، وقد يكون للظبي جدتان مسكيتان تفصلان بين لوني ظهره وبطنه { وَغَرَابِيبُ } معطوف على بيض أو على جدد ، كأنه قيل : ومن الجبال مخطط ذو جدد ، ومنها ما هو على لون واحد غرابيب . وعن عكرمة رضي الله عنه : هي الجبال الطوال السود . فإن قلت : الغربيب تأكيد للأسود . يقال : أسود غربيب ، وأسود حلكوك : وهو الذي أبعد في السواد وأغرب فيه . ومنه الغراب : ومن حق التأكيد أن يتبع المؤكد كقولك : أصفر فاقع ، وأبيض يقق وما أشبه ذلك . قلت : وجهه أن يضمر المؤكد قبله ويكون الذي بعده تفسيراً لما أضمر ، كقول النابغة :

وَالْمُؤْمِنُ العَائِذَاتِ الطَّيْرِ . . . ... وإنما يفعل ذلك لزيادة التوكيد ، حيث يدلّ على المعنى الواحد من طريقي الإظهار والإضمار جميعاً ، ولا بدّ من تقدير حذف المضاف في قوله تعالى : { وَمِنَ الجبال جُدَدٌ } بمعنى : ومن الجبال ذو جدد بيض وحمر وسود ، حتى يؤول إلى قولك : ومن الجبال مختلف ألوانه كما قال : ثمرات مختلفاً ألوانها { وَمِنَ الناس والدواب والانعام مُخْتَلِفٌ ألوانه } يعني : ومنهم بعض مختلف ألوانه . وقرىء : «ألوانها» ، وقرأ الزهري : «جدد» ، بالضم : جمع جديدة ، وهي الجدّة . يقال : جديدة وجدد وجدائد ، كسفينة وسفن وسفائن . وقد فسر بها قول أبي ذؤيب يصف حمار وحش :

جُونُ السَّرَاةِ لَهُ جَدَائِدُ ارْبَعُ ... وروي عنه : جدد ، بفتحتين ، وهو الطريق الواضح المسفر وضعه موضع الطرائق والخطوط الواضحة المنفصل بعضها من بعض . وقرىء : «والدواب» مخففاً ونظير هذا التخفيف قراءة من قرأ : «ولا الضألين» لأنّ كل واحد منهما فرار من التقاء الساكنين ، فحرك ذاك أوّلهما ، وحذف هذا أخرهما . وقوله : { كذلك } أي كاختلاف الثمرات والجبال . والمراد : العلماء به الذين علموه بصفاته وعدله وتوحيده ، وما يجوز عليه وما لا يجوز ، فعظموه وقدروه حق قدره ، وخشوه حق خشيته ، ومن ازداد به علماً ازداد منه خوفاً ، ومن كان علمه به أقل كان آمن . وفي الحديث :

( 924 ) " أَعلمُكُم بِاللَّهِ أَشَدُّكُمْ لَهُ خَشْيَةً " وعن مسروق : كفى بالمرء علماً أن يخشى ، وكفى بالمرء جهلاً أن يعجب بعلمه . وقال رجل للشعبي : أفتني أيها العالم ، فقال : العالم من خشي الله . وقيل : نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه وقد ظهرت عليه الخشية حتى عرفت فيه . فإن قلت : هل يختلف المعنى إذا قدّم المفعول في هذا الكلام أو أخر؟ قلت : لا بدّ من ذلك ، فإنك إذا قدمت اسم الله وأخرت العلماء كان المعنى : أنّ الذين يخشون الله من بين عباده هم العلماء دون غيرهم ، وإذا عملت على العكس انقلب المعنى إلى أنهم [ لا ] يخشون إلا الله ، كقوله تعالى :

{ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ الله } [ الأحزاب : 39 ] وهما معنيان مختلفان . فإن قلت : ما وجه اتصال هذا الكلام بما قبله؟ قلت : لما قال : { أَلَمْ تَرَ } بمعنى ألم تعلم أن الله أنزل من السماء ماء ، وعدد آيات الله وأعلام قدرته وآثار صنعته وما خلق من الفطر المختلفة الأجناس وما يستدلّ به عليه وعلى صفاته ، أتبع ذلك { إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء } كأنه قال : إنما يخشاه مثلك ومن على صفتك : ممن عرفه حق معرفته وعلمه كنه علمه . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :

( 925 ) " أَنَا أَرجُو أَنْ أكونَ أتقاكُم للَّهِ وأَعْلَمَكُمْ بِهِ " فإن قلت : فما وجه قراءة من قرأ : «إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء» وهو عمر بن عبد العزيز ويحكى عن أبي حنيفة؟ قلت : الخشية في هذه القراءة استعارة ، والمعنى : إنما يجلهم ويعظمهم ، كما يجلّ المهيب المخشي من الرجال بين الناس ومن بين جميع عباده { إِنَّ الله عَزِيزٌ غَفُورٌ } تعليل لوجوب الخشية ، لدلالته على عقوبة العصاة ، وقهرهم وإثابة أهل الطاعة والعفو عنهم ، والمعاقب المثيب : حقه أن يخشى .

إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)

{ يَتْلُونَ كتاب الله } يداومون على تلاوته وهي شأنهم وديدنهم . وعن مطرف رحمه الله : هي آية القرّاء . عن الكلبي رحمه الله : يأخذون بما فيه . وقيل : يعلمون ما فيه ويعملون به . وعن السدي رحمه الله : هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم . وعن عطاء : هم المؤمنون { يَرْجُونَ } خبر إن . والتجارة : طلب الثواب بالطاعة . و { لِيُوَفّيَهُمْ } متعلق بلن تبور ، أي : تجارة ينتفي عنها الكساد وتنفق عند الله ليوفيهم [ بنفاقهم ] عنده { أُجُورَهُمْ } وهي ما استحقوه من الثواب { وَيَزِيدُهُمْ } من التفضل على المستحق . وإن شئت جعلت { يَرْجُونَ } في موضع الحال على : وأنفقوا راجين ليوفيهم ، أي فعلوا جميع ذلك من التلاوة وإقامة الصلاة والإنفاق في سبيل الله لهذا الغرض ، وخبر إن قوله : { إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ } على معنى : غفور لهم شكور لأعمالهم . والشكر مجاز عن الإثابة .

وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31)

{ الكتاب } القرآن . ومن للتبيين أو الجنس . و«من» للتبعيض { مُصَدّقاً } حال مؤكدة؛ لأنّ الحق لا ينفك عن هذا التصديق { لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } لما تقدّمه من الكتب { لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ } يعني أنه خبرك وأبصر أحوالك ، فرآك أهلاً لأن يوحي إليك مثل هذا الكتاب المعجز الذي هو عيار على سائر الكتب .

ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)

فإن قلت : ما معنى قوله : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب } ؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : إنا أوحينا إليك القرآن ثم أورثنا من بعدك أي حكمنا بتوريثه . أو قال : أورثناه وهو يريد نورثه ، لما عليه أخبار الله { الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا } وهم أمّته من الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن بعدهم إلى يوم القيامة؛ لأنّ الله اصطفاهم على سائر الأمم ، وجعلهم أمة وسطاً ليكونوا شهداء على الناس ، واختصهم بكرامة الانتماء إلى أفضل رسل الله ، وحمل الكتاب الذي هو أفضل كتب الله ، ثم قسمهم إلى ظالم لنفسه مجرم وهو المرجأ لأمر الله . ومقتصد : هو الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً ، وسابق من السابقين . والوجه الثاني : أنه قدم إرساله في كل أمّة رسولاً وأنهم كذبوا برسلهم وقد جاؤهم بالبينات والزبر والكتاب المنير ، ثم قال : إنّ الذين يتلون كتاب الله ، فأثنى على التالين لكتبه العاملين بشرائعه من بين المكذبين بها من سائر الأمم واعترض بقوله : { والذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الكتاب هُوَ الحق } ثم قال : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا } أي من بعد أولئك المذكورين ، يريد بالمصطفين من عباده : أهل الملة الحنيفية ، فإن قلت : فكيف جعلت { جنات عَدْنٍ } بدلاً من الفضل الكبير ، الذي هو السبق بالخيرات المشار إليه بذلك؟ قلت : لما كان السبب في نيل الثواب ، نزل منزلة المسبب ، كأنه هو الثواب ، فأبدلت عنه جنات عدن ، وفي اختصاص السابقين بعد التقسيم بذكر ثوابهم والسكوت عن الآخرين ما فيه من وجوب الحذر ، فليحذر المقتصد ، وذلك الظالم لنفسه حذراً وعليهما بالتوبة النصوح المخلصة من عذاب الله ، ولا يغترا بما رواه عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( 926 ) " سابقنا سابق ، ومقتصدنا ناج ، وظالمنا مغفور له " فإنّ شرط ذلك صحة التوبة لقوله تعالى : { عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } [ التوبة : 102 ] وقوله : { إِمَّا يُعَذّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ } [ التوبة : 106 ] ولقد نطق القرآن ذلك في مواضع من استقرأها اطلع على حقيقة الأمر ولم يعلل نفسه بالخدع . وقرىء : «سباق» ومعنى : { بِإِذُنِ الله } بتيسيره وتوفيقه . فإن قلت : لم قدم الظالم؟ ثم المقتصد ثم السابق؟ قلت : للإيذان بكثرة الفاسقين وغلبتهم ، وأن المقتصدين قليل بالإضافة إليهم والسابقون أقلّ من القليل . وقرىء : «جنة عدن» على الإفراد ، كأنها جنة مختصة بالسابقين . وجنات عدن : بالنصب على إضمار فعل يفسره الظاهر ، أي يدخلون جنات عدن يدخولنها ، ويدخلونها ، على البناء للمفعول . ويحلون : من حليت : المرأة ، فهي حال { وَلُؤْلُؤاً } معطوف على محل من أساور ، ومن داخلة للتبعيض ، أي : يحلون بعض أساور من ذهب ، كأنه بعض سابق لسائر الابعاض ، كما سبق المسوّرون به غيرهم . وقيل : إنّ ذلك الذهب في صفاء اللؤلؤ .

وقرىء : «ولولؤاً» بتخفيف الهمزة الأولى ، وقرىء : «الحزن» والمراد : حزن المتقين ، وهو ما أهمهم من خوف سوء العاقبة ، كقوله تعالى : { إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم } [ الطور : 26- 27 ] . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : حزن الاعراض والآفات . وعنه : حزن الموت . وعن الضحاك : حزن إبليس ووسوسته . وقيل : همّ المعاش . وقيل : حزن زوال النعم ، وقد أكثروا حتى قال بعضهم : كراء الدار ، ومعناه : أنه يعمّ كل حزن من أحزان الدين والدنيا . حتى هذا . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( 927 ) " ليس على أهل لا إله إلاّ الله وحشة في قبورهم ولا في محشرهم ولا في مسيرهم؛ وكأني بأهل لا إله إلاّ الله يخرجون من قبورهم وهم ينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن " وذكر الشكور : دليل على أن القوم كثيرو الحسنات ، المقامة : بمعنى الإقامة يقال : أقمت إقامة ومقاماً ومقامة { مِن فَضْلِهِ } من عطائه وإفضاله ، من قولهم : لفلان فضول على قومه وفواضل ، وليس من الفضل الذي هو التفضل؛ لأنّ الثواب بمنزلة الأجر المستحق ، والتفضل كالتبرع . وقرىء : «لغوب» بالفتح : وهو اسم ما يلغب منه ، أي : لا تتكلف عملاً يلغبنا : أو مصدر كالقبول والولوغ ، أو صفة للمصدر ، كأنه لغوب لغوب ، كقولك : موت مائت ، فإن قلت : ما الفرق بين النصب واللغوب؟ قلت : النصب التعب والمشقة التي تصيب المنتصب للأمر المزاول له . وأما اللغوب فما يلحقه من الفتور بسبب النصب فالنصب نفس المشقة والكلفة . واللغوب : نتيجته وما يحدث منه من الكلال والفترة .

" والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور وهم يسترخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير " " فيموتوا " جواب النفي ونصبه بإضمار أن : وقرئ : فيموتون عطفا على يقضي وإدخالا له في حكم النفي أي : لا يقضي عليهم الموت فلا يموتون كقوله تعالى : " ولا يؤذن لهم فيعتذرون " المرسلات : 36 ، " كذلك " مثل ذلك الجزاء " نجري " وقرئ : يجارى . ونجزي " كل كفور " بالنون " يسترخون " يتصارخون : يفتعلون من الصراخ وهو الصياح بجهد وشدة . قال : كصرخة حبلى أسلمتها قبيلها واستعمل في الاستغاثة لجهد المستغيث صوته . فإن قلت : هلا اكتفى بصالحا كما اكتفى به في قوله تعالى : " فارجعنا نعمل صالحا " السجدة : 12 وما فائدة زيادة " غير الذي كنا نعمل " على أنه على أنه يؤذن أنهم يعلمون صالحا آخر غير الصالح الذي عملوه ؟ قلت : فائدة زيادة التحسر على ما عملوه من غير الصالح مع الاعتراف به . وأما الوهم فزائل لظهور حالهم في الكفر وركوب المعاصي لأنهم كانوا يحسبون أنهم على سيرة صالحة كما قال الله تعالى : " وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا " الكهف : 104 فقالوا : أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نحيبه صالحا فنعمله " أولم نعمركم " توبيخ من الله يعني : فنقول لهم . وقرئ : وما يذكر فيه من أذكر على الإدغام وهو متناول لكل عمر تمكن فيه المكلف من إصلاح شأنه وإن قصر ؛ إلا أن التوبيخ في المتطاول أعظم . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة . وعن مجاهد : ما بين العشرين إلى الستين . وقيل : ثماني عشرة وسبع عشرة و " النذير " الرسول صلى الله عليه وسلم . وقيل : الشيب . وقرئ : وجاءتكم النذر فإن قلت : علام عطف وجاءكم النذير ؟ قلت : على معنى : أو لم نعمركم ؛ لأن لفظه لفظ استخبار . ومعناه معنى إخبار كأنه قيل : قد عمرناكم وجاءكم النذير

" إن الله عالم غيب السموات والأرض إنه عليم بذات الصدور " " إنه عليم بذات الصدور " كالتعليل لأنه إذا علم مافي الصدور وهو أخفى ما يكوهن فقد علم كل غيب في العالم وذات الصدور : مضمراتها وهي تأنيث ذو في محو قول أبي بكر رضي الله عنه : ذو بطن خارجة جارية وقوله : لتغني عني ذا إنائك أجمعا المعنى ما في بطنها من الحبل وما في إنائك من الشراب ؛ لأن الحبل والشراب يصحبان البطن والإناء . ألا ترى إلى قولهم : معها حبل وكذلك المضمرات تصحب الصدور وهي معها وذو : موضوع لمعنى الصحبة

" هو الذي جعلكم خلائف في الأرض فمن كفر فعليه كفره ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا ولا يزيد كفرهم إلا خسارا "

يقال للمستخلف : خليفة ؛ فالخليفة تجمع خلائف والخليف : خلفاء والمعنى أنه جعلكم خلفاءه في أرضه قد ملككم مقاليد التصريف فيها وسلطكم على ما فيها وأباح لكم منافعها لتشكروه بالتوحيد والطاعة " فمن كفر " منكم وغمط مثل هذه النعمة السنية فوبال كفره راجع عليه وهو مقت الله الذي ليس وراءه خزي وصغار وخسارة الآخرة الذي ما بقي بعده خسار والمقت : أشد البغض . ومنه قيل لمن ينكح امرأته أبيه : مقتي لكونه ممقوتا في كل قلب . وهو خطاب للناس . وقيل : خطاب لمن بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أي جعلكم فعليه جزاء كفره من مقت الله وخسار الآخرة كما أن ذلك حكم من قبلكم

" قل أرءيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السموات أم ءاتيناهم كتابا فهم على بينت منه بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا " " أروني " بدل من أرأيتم : لأن المعنى : أرأيتم أخبروني كأنه قال : أخبروني عن هؤلاء الشركاء وعما استحقوا به الإلهية والشركة أروني أي جزء من أجزاء الأرض استبدوا بخلقه دون الله أم لهم مع الله شركة في خلق السموات أم معهم كتاب من عند الله ينطق بأنهم شركاؤه فهم على حجة وبرهان من ذلك الكتاب . أو يكون الضمير في " ءاتيناكم " للمشركين كقوله : تعالى : " أم أنولنا عليهم سلطانا " الروم : 35 أم آتيناهم كتابا من قبله بل إن يعد بعضهم وهم الرؤوساء " بعضا وهم الأتباع " إلا غرورا " وهو قولهم : " هؤلاء شفعاؤنا عند الله " يونس : 18 وقرئ : بينات

" إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا " " أن تزولا " كراهة أن تزولا . أو يمنعهما من أن تزولا : لأن الإمساك منع " غنه كان حليما غفورا " غير معاجل بالعقوبة حيث يمسكها وكانتا جديرتين بأن تهدا هدا لعظم كلمة الشرك كما قال : " تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض " مريم : 90 . وقرئ : ولو زالتا وإن أمسكهما : جواب القسم في " ولئن زالتا " سد مسد الجوابين ومن الأولى مزيدة لتأكيد النفي والثانية : للإبتداء . ومن بعده : من بعد إمساكه . وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال لرج لمقبل من الشام : من لقيت به ؟ قال : كعبا . قال : وما سمعته يقول ؟ قال : سمعته يقول : إن السموات على منكب ملك . قال : كذب كعب . أما ترك يهوديته بعد ثم قرأ هذه الآية

" وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن اهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا استكبارا في الأرض ومكر السي ولا يحيق المكر الئ إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنت الأولين فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة وما كان الله ليعجزه من شئ في السموات ولا في ألأرض إنه كان عليما قديرا " بلغ قريشا قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم فقالوا : لعن الله اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم فوالله لئن أتانا رسول لنكونن أهدى من إحدى الأمم فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبوه . وفي " إحدى الأمم " وجهان أحدهما : من بعض الأمم ومن واحدة من الأمم من اليهود والنصارى وغيرهم . والثاني : من الأمة التي يقال لها إحدى الأمم تفصيلا لها على غيرها في الهدى والاستقامة " ما زادهم " اسناد مجازي لأنه هو لسبب في أنزادوا أنفسهم . نفورا عن الحق وابتعادا عنه كقوله تعالى : " فزادتهم رجسا إلى رجسهم " التوبة : 125 . " استكبارا " بدل من نفورا . أو مفعول له على معنى : فما زادهم إلا أن نفروا استكبارا وعلوا " في الأرض " أو حال بمعنى : مستكبرين وماكرين برسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين . ويجوز أن يكون " ومكر السئ " معطوفا على نفورا فإن قلت : فما وجه قوله : " ومكر السئ " ؟ قلت : أصله : وأن مكروا السيئ أي المكر السيئ ثم ومكرا السيئ . ثم ومكر السيئ والدليل عليه قوله تعالى : " ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله " ومعنى يحيق : يحيط وينزل . وقرئ : ولا يحيق المكر السيئ أي لا يحيق الله ولقد حاق بهم يوم بدر . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :ا تمكروا ولا تعينوا ماكرا ؛ فإن الله تعالى يقول : " ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله " ولا تبغوا ولا تعينوا باغيا يقول الله تعالى : " إنما بغيكم على أنفسكم " يونس : 23 . وعن كعب أنه قال لابن عباس رضي الله عنهما : قرأت في التوراة : من حفر مغواة وقع فيها . قال : أنا وجدت ذلك في كتاب الله وقرأ الآية . وفي أمثال العرب : من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا . وقرأ حمزة : ومكر السيئ بإسكان الهمزة وذلك لاستقاله الحركات مع الياء والهمزة ولعله اختلس فظن سكونا أو وقف وقفة خفيفة ثم ابتدى " ولا يحيق " . وقرأ ابن مسعود : ومكرا سيئا " سنت الأولين " إنزال العذاب على الذين كذبوا برسلهم من الأمم قبلهم وجعل استقبالهم لذلك انتظارا له منهم وبين أن عادجته التي هي الانتقام من مكذبي الرسل عادة لا يبدلها ولا يحولها أي : لا يغيرها وأن ذلك مفعول له لا محالة واستشهد عليهم بما كانوا يشاهدونه في مسايرهم ومتاجرهم في رحلهم إلى الشام والعراق واليمن : من آثار الماضين وعلامات هلاكهم ودمارهم " ليعجزه " ليسبقه ويفوته

" ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا " " يما كسبوا " بما اقترفوا من معاصيهم " على ظهرها " على ظهر الأرض " من دابة " من نسمة تدب عليها يريد بني آدم . وقيل : ما ترك بني آدم وغيرهم من سائر الدواب بشؤم ذنوبهم . وعن ابن مسعود : كاد الجعل يعذب في جحره بذنب ابن آدم ثم تلا هذه الآية . وعن أنس : إن الضب ليموت هزالا في جحره بذنب ابن آدم . وقيل : يحبس المطر فيهلك كل شئ " إلى أجل مسمى " إلى يوم القيامة " كان بعباده بصيرا " وعيد بالجزاء

من قرأ سورة الملائكة دعته ثمانية أبواب الجنة : أن ادخل من أي باب شئت

=====

ج15. كتاب : الكشاف أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري

يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)

« يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم تنزيل العزيز الرحيم لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون »

قرىء : « يس » بالفتح كأين وكيف . أو بالنصب على : اتل يس وبالكسر على الأصل كجير وبالرفع على هذه يس أو بالضم كحيث . وفخمت الألف وأميلت . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : معناه يا إنسان في لغة طيىء والله أعلم بصحته وإن صح فوجهه أن يكون أصله يا أنيسين فكثر النداء به على ألسنتهم حتى اقتصروا على شطره كما قالوا في القسم : م الله في أيمن الله « الحكيم » ذي الحكمة . أو لأنه دليل ناطق بالحكمة كالحي . أو لأنه كلام حكيم فوصف بصفة المتكلم به « على صراط مستقيم » خبر بعد خبر أو صلة للمرسلين . فإن قلت : أي حاجة إليه خبرا كان أو صلة وقد علم المرسلين لا يكونون إلا على صراط مستقيم ؟ قلت : ليس الغرض بذكره ما ذهبت إليه من تمييز من أرسل على صراط مستقيم عن غيره ممن ليس على صفته وإنما الغرض وصفه ووصف ما جاء به من الشريعة فجمع بين الوصفين في نظام واحد كأنه قال : إنك لمن المرسلين الثابتين على طريق ثابت وأيضا فإن التنكير فيه دل على أنه أرسل من بين الصرط المستقيمة لا يكتنه وصفه وقرىء : « تنزيل العزيز الرحيم » بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف وبالنصب على أعني وبالجر على البدل من القرآن « قوما ما أنذر آباؤهم » قوما غير منذر آباؤهم على الوصف ونحوه قوله تعالى : « لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك » القصص : 46 ، « وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير » سبأ : 44 ، وقد فسر « مآ أنذر أباؤهم » على إثبات الإنذار . ووجه ذلك أن تجعل ما مصدرية لتنذر قوما إنذار آبائهم أو موصولة منصوبة على المفعول الثاني لتنذر قوما ما أنذره آباؤهم من العذاب كقوله تعالى : « إنا أنذرناكم عذابا قريبا » النبأ : . 4 ، فإن قلت : أي فرق بين تعلقي قوله : « فهم غفلون » على التفسيرين ؟ قلت : هو على الأول متعلق بالنفي أي : لم ينفروا فهم غافلون على أن عدم إنذارهم هو سبب غفلتهم على الثاني بقوله : « إنك لمن المرسلين » لتنذر كما تقول : أرسلتك إلى فلان لتنذره فإنه غافل . أو فهو غافل . فإن قلت : كيف يكونون منذرين غير منذرين لمناقضة هذا ما في الآي الأخر ؟ قلت : لا مناقضة : لأن الآي في نفي إنذارهم لا في نفي إنذار آبائهم وآباؤهم القدماء من ولد إسماعيل وكانت النذارة فيهم . فإن قلت : في أحد التفسيرين أن آباءهم لم ينذروا وهو الظاهر فما تصنع به . قلت : أريد آباؤهم الأدنون دون الأباعد « لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون » « القول » قوله تعالى « لأملئن جهنم من الجنة والناس أجمعين » السجدة : 13 ، يعني تعلق بهم هذا القول وثبت عليهم ووجب لأنهم ممن علم أنهم يموتون على الكفر

إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون «

م مثل تصميمهم على الكفر وأنه لا سبيل إلى ارعوائهم بأن جعلهم كالمغلولين المقمحين : في أنهم لا يلتفتون إلى الحق ولا يعطفون أعناقهم نحوه ولا يطأطئون رؤوسهم له وكالحاصلين بين سدين لا يبصرون ما قدامهم ولا ما خلفهم في أن لا تأمل لهم ولا تبصر وأنهم متعامون عن النظر في آيات الله . فإن قلت : ما معنى قوله : » فهى إلى الأذقان « ؟ قلت : معناه : فالأغلال واصلة إلى الأذقان ملزوزة إليها وذلك أن طوق الغل الذي في عنق المغلول يكون ملتقى طرفيه تحت الذقن حلقة فيها رأس العمود نادرا من الحلقة إلى الذقن . فلا تخليه يطأطىء رأسه ويوطىء قذاله فلا يزال مقمحا . والمقمح : الذي يرفع رأسه ويغض بصره . يقال : قمح البعير فهو قامح : إذا روي فرفع رأسه ومنه شهرا قماح لأن الإبل ترفع رؤوسها عن الماء لبرده فيهما وهما الكانونان . ومنه : اقتمحت السويق . فإن قلت : فما قولك فيمن جعل الضمير للأيدي وزعم أن الغل لما كان جامعا لليد والعنق - وبذلك يسمى جامعة - كان ذكر الأعناق دالا على ذكر الأيدي ؟ قلت : الوجه ما ذكرت لك والدليل عليه قوله : » فهم مقمحون « ألا ترى كيف جعل الإقماح نتيجة قوله : » فهى إلى الأذقان « ولو كان الضمير للأيدي لم يكن معنى التسبب في الإقماح ظاهرا على أن هذا الإضمار فيه ضرب من التعسف وترك الظاهر الذي يدعوه المعنى إلى نفسه إلى الباطن الذي يجفو عنه ترك للحق الأبلج إلى الباطل اللجلج . فإن قلت : فقد قرأ ابن عباس رضي الله عنهما : » في أيديهم « وابن مسعود : » في أيمانهم « فهل تجوز على هاتين القراءتين أن يجعل الضمير للأيدي أو للأيمان ؟ قلت : يأبى ذلك وإن ذهب الإضمار المتعسف ظهور كون الضمير للأغلال وسداد المعنى عليه كما ذكرت . وقرىء : » سدا « بالفتح والضم . وقيل : ما كان من عمل الناس فبالفتح وما كان من خلق الله فالبضم » فأغشيناهم « فأغشينا أبصارهم أي : غطيناها وجعلنا عليها غشاوة عن أن تطمح إلى مرئي وعن مجاهد : فأغشيناهم : فألبسنا أبصارهم غشاوة . وقرىء : بالعين من العشا . وقيل : نزلت في بني مخزوم وذلك : أن أبا جهل حلف لئن رأى محمدا يصلي ليرضخن رأسه فأتاه وهو يصلي ومعه حجر ليدمغه به فلما رفع يده أثبتت إلى عنقه ولزق الحجر بيده حتى فكوه عنها بجهد فرجع إلى قومه فأخبرهم فقال مخزومي اخر : أنا أقتله بهذا الحجر فذهب فأعمى الله عينيه

وسواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لايؤمنون غنما تنذر من اتبع الذكر وخشى الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم » فإن قلت : قد ذكر ما دل على انتفاء إيمانهم مع ثبوت الإنذار ثم قفاه بقوله : « إنما تنذر » وإنما كانت تصح هذه التقفية لو كان الإنذار منفيا . قلت : هو كما قلت ولكن لما كان ذلك نفيا للإيمان مع وجود الإنذار وكان معناه أن البغية المرومة بالإنذار غير حاصلة وهي الإيمان قفي بقوله : « إنما تنذر » على معنى : إنما تحصل البغية بإنذارك من غير هؤلاء المنذرين وهم المتبعون للذكر : وهو القرآن أو الوعظ الخاشون ربهم

إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)

{ نُحْىِ الموتى } نبعثهم بعد مماتهم . وعن الحسن : إحياؤهم : أن يخرجهم من الشرك إلى الإيمان { وَنَكْتُبُ مَا } أسلفوا من الأعمال الصالحة وغيرها وما هلكوا عنه من أثر حسن ، كعلم علموه ، أو كتاب صنفوه ، أو حبيس حبسوه ، أو بناء بنوه : من مسجد أو رباط أو قنطرة أو نحو ذلك . أو سيىء كوظيفة وظفها بعض الظلام على المسلمين ، وسكة أحدث فيها تخسيرهم ، وشيء أحدث فيه صدّ عن ذكر الله : من ألحان وملاهٍ ، وكذلك كل سنة حسنة أو سيئة يستن بها . ونحوه قوله تعالى : { يُنَبَّؤُاْ الإنسان يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } [ القيامة : 13 ] أي : قدّم من أعماله ، وأخّر من آثاره . وقيل : هي آثار المشائين إلى المساجد . وعن جابر : ( 933 ) أردنا النقلة إلى المسجد والبقاع حوله خالية ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتانا في ديارنا وقال : " يا بني سلمة ، بلغني أنكم تريدون النقلة إلى المسجد " ، فقلنا : نعم ، بعد علينا المسجد والبقاع حوله خالية ، فقال : " عليكم دياركم . فإنما تكتب آثاركم " قال : فما وددنا حضرة المسجد لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . وعن عمر بن عبد العزيز : لو كان الله مغفلاً شيئاً لأغفل هذه الآثار التي تعفيها الرياح . والإمام : اللوح . وقرىء : «ويُكتَبُ ما قدّموا وآثارهم» على البناء للمفعول «وكل شيء» بالرفع .

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15)

{ واضرب لَهُمْ مَّثَلاً } ومثل لهم مثلاً ، من قولهم : عندي من هذا الضرب كذا ، أي : من هذا المثال ، وهذه الأشياء على ضرب واحد ، أي على مثال واحد . والمعنى : واضرب لهم مثلاً مثل أصحاب القرية ، أي : اذكر لهم قصة عجيبة قصة أصحاب القرية . والمثل الثاني بيان للأوّل . وانتصاب إذ بأنه بدل من أصحاب القرية . والقرية أنطاكية . و { المرسلون } رسل عيسى عليه السلام إلى أهلها ، بعثهم دعاة إلى الحق وكانوا عبدة أوثان . أرسل إليهم اثنين ، فلما قربا من المدينة رأيا شيخاً يرعى غنيمات له وهو حبيب النجار صاحب ياس ، فسألهما فأخبراه ، فقال : أمعكما آية؟ فقالا : نشفي المريض ونبرىء الأكمه والأبرص ، وكان له ولد مريض من سنتين فمسحاه ، فقام ، فآمن حبيب وفشا الخبر ، فشفي على أيديهما خلق كثير ، ورقى حديثهما إلى الملك وقال لهما : ألنا إله سوى آلهتنا؟ قالا : نعم من أوجدك وآلهتك ، فقال : حتى انظر في أمركما ، فتبعهما الناس وضربوهما . وقيل : حبسا . ثم بعث عيسى عليه السلام شمعون؛ فدخل متنكراً وعاشر حاشية الملك حتى استأنسوا به ، ورفعوا خبره إلى الملك فأنس به ، فقال له ذات يوم : بلغني أنك حبست رجلين فهل سمعت ما يقولانه؟ فقال : لا ، حال الغضب بيني وبين ذلك ، فدعاهما ، فقال شمعون : من أرسلكما؟ قالا : الله الذي خلق كل شيء وليس له شريك ، فقال : صفاه وأوجزا . قالا : يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد . قال : وما آيتكما؟ قالا : ما يتمنّى الملك ، فدعا بغلام مطموس العينين ، فدعوا الله حتى انشق له بصر ، وأخذا بندقتين فوضعاهما في حدقتيه فكانتا مقلتين ينظر بهما ، فقال له شمعون : أرأيت لو سألت إلهك حتى يضع مثل هذا فيكون لك وله الشرف . قال : ليس لي عنك سر ، إنّ إلهنا لا يبصر ولا يسمع ولا يضرّ ولا ينفع ، وكان شمعون يدخل معهم على الصنم فيصلي ويتضرع ويحسبون أنه منهم ، ثم قال : إن قدر إلهكما على إحياء ميت آمنا به ، فدعوا بغلام مات من سبعة أيام فقام وقال : إني أدخلت في سبعة أودية من النار ، وأنا أحذركم ما أنتم فيه فآمنوا ، وقال : فتحت أبواب السماء فرأيت شاباً حسن الوجه يشفع لهؤلاء الثلاثة ، قال الملك : ومن هم؟ قال شمعون : وهذان ، فتعجب الملك . فلما رأى شمعون أنّ قوله قد أثّر فيه نصحه فآمن وآمن معه قوم ، ومن لن يؤمن صاح عليهم جبريل عليه السلام صيحة فهلكوا { فَعَزَّزْنَا } فقوّينا . يقال : المطر يعزز الأرض إذا لبدها وشدّها ، وتعزز لحم الناقة . وقرىء : بالتخفيف من عزه يعزه : إذا غلبه ، أي : فغلبنا وقهرنا { بِثَالِثٍ } وهو شمعون . فإن قلت : لم ترك ذكر المفعول به؟ قلت : لأنّ الغرض ذكر المعزز به وهو شمعون وما لطف فيه من التدبير حتى عزّ الحق وذلّ الباطل ، وإذا كان الكلام منصباً إلى غرض من الأغراض جعل سياقه له وتوجهه إليه ، كأن ما سواه مرفوض مطرح .

ونظيره قولك : حكم السلطان اليوم بالحق ، الغرض المسوق إليه : قولك بالحق فلذلك رفضت ذكر المحكوم وله المحكوم عليه [ ما أنتم إلا بشر مثلنا ] . إنما رفع بشر هنا ونصب في قوله : { مَا هذا بَشَرًا } [ يوسف : 31 ] لأنّ إلاّ تنقض النفي ، فلا يبقى لما المشبهة بليس شبه ، فلا يبقى له عمل . فإن قلت : لم قيل : { إنا إليكم مرسلون } أوّلاً ، و { إِنّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ } آخراً؟ قلت : لأنّ الأوّل ابتداء إخبار ، والثاني جواب عن إنكار .

قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17)

وقوله : { رَبُّنَا يَعْلَمُ } جار مجرى القسم في التوكيد ، وكذلك قولهم : شهد الله ، وعلم الله . وإنما حسن منهم هذا الجواب الوارد على طريق التوكيد والتحقيق مع قولهم : { وَمَا عَلَيْنآ إِلاَّ البلاغ المبين ( 17 ) } أي الظاهر المكشوف بالآيات الشاهدة لصحته؛ وإلا فلو قال المدعي : والله إني لصادق فيما أدعي ولم يحضر البينة كان قبيحاً .

قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)

{ تَطَيَّرْنَا بِكُمْ } تشاءمنا بكم ، وذلك أنهم كرهوا دينهم ونفرت منهم نفوسهم ، وعادة الجهال أن يتيمنوا بكل شيء مالوا إليه واشتهوه وآثروه وقبلته طباعهم ، ويتشاءموا بما نفروا عنه وكرهوه ، فإن أصابهم نعمة أو بلاء قالوا ببركة هذا وبشؤم هذا ، كما حكى الله عن القبط : { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ } [ الأعراف : 131 ] . وعن مشركي مكة : { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِكَ } [ النساء : 78 ] . وقيل : حبس عنهم القطر فقالوا ذلك . وعن قتادة : إن أصابنا شيء كان من أجلكم «وطائركم معكم» وقرىء : «طيركم» أي سبب شؤمكم معكم وهو كفرهم ، أو أسباب شؤمكم معكم ، وهي كفرهم ومعاصيهم . وقرأ الحسن «أطيركم» أي تطيركم . وقرىء : «أئن ذكرتم» بمهزة الاستفهام وحرف الشرط . و ( ءائن ) بألف بينهما ، بمعنى : أتطيرون إن ذكرتم؟ وقرىء : «أأن ذكرتم» بهمزة الاستفهام وأن الناصبة ، يعني : أتطيرتم لأن ذكرتم؟ وقرىء : أن ، وإن بغير استفهام لمعنى الإخبار ، أي تطيرتم لأن ذكرتم ، أو إن ذكرتم تطيرتم . وقرىء : «أين ذكرتم» : على التخفيف ، أي شؤمكم معكم حيث جرى ذكركم ، وإذا شئم المكان بذكرهم كان بحلولهم فيه أشأم { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ } في العصيان : ومن ثم أتاكم الشؤم ، لا من قبل رسل الله وتذكيرهم ، أو بل أنتم قوم مسرفون في ضلالكم متمادون في غيكم ، حيث تتشاءمون بمن يجب التبرك به من رسل الله .

وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25)

{ رَجُلٌ يسعى } هو حبيب بن إسرائيل النجار ، وكان ينحت الأصنام ، وهو ممن آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبينهما ستمائة سنة كما آمن به تبع الأكبر وورقة بن نوفل وغيرهما ، ولم يؤمن من بنبي أحدَ إلا بعد ظهوره . وقيل : كان في غار يعبد الله ، فلما بلغه خبر الرسل أتاهم وأظهر دينه وقاول الكفرةَ ، فقالوا : أو أنت تخالف ديننا ، فوثبوا عليه فقتلوه . وقيل : توطئوه بأرجلهم حتى خرج قصبه من دبره . وقيل : رجموه وهو يقول : اللهمّ اهد قومي؛ وقبره في سوق أنطاكية ، فلما قتل غضب الله عليهم فأهلكوا بصيحة جبريل عليه السلام . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( 934 ) " سُبّاق الأمم ثلاثة : لم يكفروا بالله طرفة عين : علي بن أبي طالب ، وصاحب ياس ، ومؤمن آل فرعون " ، { مَن لاَّ يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُّهْتَدُونَ } كلمة جامعة في الترغيب فيهم ، أي : لا تخسرون معهم شيئاً من ديناكم وتربحون صحة دينكم فينتظم لكم خير الدنيا وخير الآخرة ، ثم أبرز الكلام في معرض المناصحة لنفسه وهو يريد مناصحتهم ليتلطف بهم ويداريهم ، ولأنه أدخل في إمحاض النصح حيث لا يريد لهم إلا ما يريد لروحه ، ولقد وضع قوله : { وَمَا لِىَ لآ أَعْبُدُ الذى فَطَرَنِى } مكان قوله : وما لكم لا تعبدون الذي فطركم . ألا ترى إلى قوله : { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } ولولا أنه قصد ذلك لقال : الذي فطرني وإليه أرجع ، وقد ساقه ذلك المساق إلى أن قال : { ءَامَنتُ بِرَبّكُمْ فاسمعون } يريد فاسمعوا قولي وأطيعوني ، فقد نبهتكم على الصحيح الذي لا معدل عنه : أنّ العبادة لا تصحّ إلاّ لمن منه مبتدؤكم وإليه مرجعكم ، وما أدفع العقول وأنكرها لأن تستحبوا على عبادته عبادة أشياء إن أرادكم هو بضرّ وشفع لكم هؤلاء لم تنفع شفاعتهم ولم يمكنوا من أن يكونوا شفعاء عنده؛ ولم يقدروا على إنقاذكم منه بوجه من الوجوه ، إنكم في هذا الاستحباب لواقعون في ضلال ظاهر بين لا يخفى على ذي عقل وتمييز . وقيل : لما نصح قومه أخذوا يرجمونه فأسرع نحو الرسل قبل أن يقتل ، فقال لهم : { إنى ءَامَنتُ بِرَبِّكُمْ فاسمعون ( 25 ) } أي اسمعوا إيماني تشهدوا لي به . وقرىء : «إن يردني الرحمن بضرّ» بمعنى : أن يوردني ضرّاً ، أي يجعلني مورداً للضرّ .

قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)

أي لما قتل { قِيلَ } له { ادخل الجنة } وعن قتادة : أدخله الله الجنة وهو فيها حيّ يرزق أراد قوله تعالى : { بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ } [ آل عمران : 169 ] وقيل : معناه البشرى بدخول الجنة وأنه من أهلها . فإن قلت : كيف مخرج هذا القول في علم البيان؟ قلت : مخرجه مخرج الاستئناف ، لأنّ هذا من مظان المسألة عن حاله عند لقاء ربه ، كأنّ قائلاً قال : كيف كان لقاء ربه بعد ذلك التصلب في نصرة دينه والتسخي لوجهه بروحه؟ فقيل : قيل ادخل الجنة ولم يقل قيل له ، لاْنصباب الغرض إلى المقول وعظمه ، لا إلى القول له مع كونه معلوماً ، وكذلك { قَالَ ياليت قَوْمِى يَعْلَمُونَ } مرتب على تقدير سؤال سائل عما وجد من قوله عند ذلك الفوز العظيم ، وإنما تمنى علم قومه بحاله ، ليكون علمهم بها سبباً لاكتساب مثلها لأنفسهم ، بالتوبة عن الكفر والدخول في الإيمان والعمل الصالح المفضيين بأهلهما إلى الجنة . وفي حديث مرفوع :

( 935 ) " نصح قومه حياً وميتاً " وفيه تنبيه عظيم على وجوب كظم الغيظ ، والحلم عن أهل الجهل ، والترؤف على من أدخل نفسه في غمار الأشرار وأهل البغي ، والتشمر في تخليصه والتلطف في افتدائه ، والاشتغال بذلك عن الشماتة به والدعاء عليه . ألا ترى كيف تمنى الخير لقتلته والباغين له الغوائل وهم كفرة عبدة أصنام . ويجوز أن يتمنى ذلك ليعلموا أنهم كانوا على خطأ عظيم في أمره ، وأنه كان على صواب ونصيحة وشفقة ، وأن عداوتهم لم تكسبه إلا فوزاً ولم تعقبه إلا سعادة ، لأنّ في ذلك زيادة غبطة له وتضاعف لذة وسرور . والأوّل أوجه . وقرىء : «المكرمين» . فإن قلت : ( ما ) في قوله تعالى : { بِمَا غَفَرَ لِى رَبِّى } أي الماآت هي؟ قلت : المصدرية أو الموصولة؛ أي : بالذي غفره لي من الذنوب . ويحتمل أن تكون استفهامية؛ يعني بأي شيء غفر لي ربي؛ يريد به ما كان منه معهم من المصابرة لإعزاز الدين حتى قتل ، إلا أنّ قولك : «بم غفر لي» بطرح الألف أجود وإن كان إثباتها جائزاً؛ يقال : قد علمت بما صنعت هذا ، أي : بأي شيء صنعت وبم صنعت .

وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29)

المعنى : أن الله كفى أمرهم بصيحة ملك ، ولم ينزل لإهلاكهم جنداً من جنود السماء ، كما فعل يوم بدر والخندق ، فإن قلت : وما معنى قوله : { وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ } ؟ قلت : معناه : وما كان يصح في حكمتنا أن ننزل في إهلاك قوم حبيب جنداً من السماء ، وذلك لأن الله تعالى أجرى هلاك كل قوم على بعض الوجوه دون البعض ، وما ذلك إلا بناء على ما اقتضته الحكمة وأوجبته المصلحة . ألا ترى إلى قوله تعالى : { فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً ومِنْهُمْ وَمِنْ أَخَذَتْهُ الصيحة وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا } [ العنكبوت : 40 ] . فإن قلت : فلم أنزل الجنود من السماء يوم بدر والخندق؟ قال تعالى : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا } [ الأحزاب : 9 ] ، { بِأَلْفٍ مِّنَ الملائكة مُرْدِفِينَ } [ الأنفال : 9 ] ، { بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين } [ آل عمران : 124 ] ، { بِخَمْسَةِ ءالاف مّنَ الملئكة مُسَوّمِينَ } [ آل عمران : 125 ] ؟ قلت : إنما كان يكفي ملك واحد ، فقد أهلكت مدائن قوم لوط بريشة من جناح جبريل ، وبلاد ثمود وقوم صالح بصيحة منه ، ولكن الله فضَّل محمداً صلى الله عليه وسلم بكل شيء على كبار الأنبياء وأولي العزم من الرسل ، فضلاً عن حبيب النجار ، وأولاهُ من أسباب الكرامة والإعزاز ما لم يوله أحداً؛ فمن ذلك أنه أنزل له جنوداً من السماء وكأنه أشار بقوله : { وَمَا أَنزَلْنَا } { وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ } إلى أن إنزال الجنود من عظائم الأمور التي لا يؤهل لها إلاّ مثلك ، وما كنا نفعله بغيرك «إن كانت إلاّ صيحة واحدة» إن كانت الأخذة أو العقوبة إلاّ صيحة واحدة . وقرأ أبو جعفر المدني بالرفع على كان التامة ، أي : ما وقعت إلاّ صيحة ، والقياس والاستعمال على تذكير الفعل؛ لأنّ المعنى : ما وقع شيء إلاّ صيحة ، ولكنه نظر إلى ظاهر اللفظ وأن الصيحة في حكم فاعل الفعل ، ومثلها قراءة الحسن : «فأصبحوا لا ترى إلاّ مساكنهم» وبيت ذي الرمّة :

وَمَا بَقِيَتْ إلاَّ الضُّلُوعُ الْجَرَاشِعُ ... وقرأ ابن مسعود «إلازقية واحدة» من زقا الطائر يزقو ويزقي ، إذا صاح . ومنه المثل : أثقل من الزواقي { خامدون } خمدوا كما تخمد النار ، فتعود رماداً ، كما قال لبيد :

وَمَا الْمَرْءُ إلاَّ كَالشَّهَابِ وَضَوْئِهِ ... يَحُورُ رَمَاداً بَعْدَ إذْ هُوَ سَاطِعُ

يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30)

{ ياحسرة عَلَى العباد } نداء للحسرة عليهم ، كأنما قيل لها : تعالي يا حسرة فهذه من أحوالك التي حقك أن تحضري فيها ، وهي حال استهزائهم بالرسل . والمعنى أنهم أحقاء بأن يتحسر عليهم المتحسرون ، ويتلهف على حالهم المتلهفون . أو هم متحسر عليهم من جهة الملائكة والمؤمنين من الثقلين . ويجوز أن يكون من الله تعالى على سبيل الاستعارة فى معنى تعظيم ما جنوه على أنفسهم ومحنوها به ، وفرط إنكاره له وتعجيبه منه ، وقراءة من قرأ : «يا حسرتاه» تعضد هذا الوجه لأن المعنى : يا حسرتي . وقرىء : «يا حسرة العباد» ، على الإضافة إليهم لاختصاصها بهم؛ من حيث أنها موجهة إليهم . ويا حسرة على العباد : على إجراء الوصل مجرى الوقف .

أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)

{ أَلَمْ يَرَوْاْ } ألم يعلموا ، وهو معلق عن العمل في { كَمْ } لأن كم لا يعمل فيها عامل قبلها ، كانت للاستفهام أو للخبر؛ لأنّ أصلها الاستفهام ، إلا أن معناه نافذ في الجملة ، كما نفذ في قولك : ألم يروا إن زيداً لمنطلق ، وإن لم يعمل في لفظه . و { أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ } بدل من { كَمْ أَهْلَكْنَا } على المعنى ، لا على اللفظ ، تقديره : ألم يروا كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم . وعن الحسن : كسر إنّ على الاستئناف . وفي قراءة ابن مسعود : «ألم يروا من أهلكنا» والبدل على هذه القراءة بدل اشتمال ، وهذا مما يردّ قول أهل الرجعة . ويحكى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قيل له : إن قوماً يزعمون أنّ علياً مبعوث قبل يوم القيامة ، فقال : بئس القوم نحن إذن : نكحنا نساءه وقسمنا ميراثه . { لَمَّا } قرىء : «لما» بالتخفيف ، على أن ( ما ) صلة للتأكيد ، وإن : مخففة من الثقيلة ، وهي متلقاة باللام لا محالة . و ( لمّا ) بالتشديد ، بمعنى : إلاّ ، كالتي في مسألة الكتاب . نشدتك بالله لما فعلت ، وإن نافية ، والتنوين في { كُلٌّ } هو الذي يقع عوضاً من المضاف إليه ، كقولك : مررت بكل قائماً . والمعنى أن كلهم محشورون مجموعون محضرون للحساب يوم القيامة . وقيل : محضرون معذبون . فإن قلت : كيف أخبر عن كل بجميع ومعناهما واحد؟ قلت : ليس بواحد؟ لأنّ كلاً يفيد معنى الإحاطة ، وأن لا ينفلت منهم أحد ، والجميع : معناه الاجتماع ، وأن المحشر يجمعهم . والجميع : فعيل بمعنى مفعول ، يقال حي جميع ، وجاؤا جميعاً .

وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36)

القراءة بالميتة على الخفة أشيع ، لسلسها على اللسان . و { أحييناها } استئناف بيان لكون الأرض الميتة آية ، وكذلك نسلخ ، ويجوز أن توصف الأرض والليل بالفعل ، لأنه أريد بهما الجنسان مطلقين لا أرض وليل بأعيانهما ، فعوملا معاملة النكرات في وصفهما بالأفعال ، ونحوه :

وَلَقَدْ امُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي ... وقوله : { فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ } بتقديم الظرف للدلالة على أن الحب هو الشيء الذي يتعلق به معظم العيش ويقوم بالارتزاق منه صلاح الإنس ، وإذا قل جاء القحط ووقع الضرّ ، وإذا فقد جاء الهلاك ونزل البلاء . وقرىء : «وفجرنا» بالتخفيف والتثقيل ، والفجر والتفجير ، كالفتح والتفتيح لفظاً ومعنى . وقرىء : «ثمره» بفتحتين وضمتين وضمة وسكون ، والضمير لله تعالى : والمعنى : ليأكلوا مما خلقه الله من الثمر ( و ) من { مَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ } من الغرس والسقي والآبار ، وغير ذلك من الأعمال إلى أن بلغ الثمر منتهاه وإبان أكله ، يعني أن الثمر في نفسه فعل الله وخلقه ، وفيه آثار من كد بني آدم ، وأصله من ثمرنا كما قال : وجعلنا ، وفجرنا؛ فنقل الكلام من التكلم إلى الغيبة على طريقة الالتفات . ويجوز أن يرجع إلى النخيل ، وتترك الأعناب غير مرجوع إليها ، لأنه علم أنها في حكم النخيل فيما علق به من أكل ثمره . ويجوز أن يراد من ثمر المذكور وهو الجنات ، كما قال رؤبة :

فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ بَيَاضٍ وَبَلَقْ ... كَأَنَّهُ فِي الجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ

فقيل له ، فقال : أردت كأن ذاك : ولك أن تجعل { مَا } نافية على أنّ الثمر خلق الله ولم تعمله أيدي الناس ولا يقدرون عليه . وقرىء على الوجه الأوّل ، وما عملت من غير راجع ، وهي في مصاحف أهل الكوفة كذلك ، وفي مصاحف أهل الحرمين والبصرة والشام مع الضمير { الأزواج } الأجناس والأصناف { وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ } ومن أزواج لم يطلعهم الله عليها ولا توصلوا إلى معرفتها بطريق من طرق العلم ، ولا يبعد أن يخلق الله تعالى من الخلائق الحيوان والجماد ما لم يجعل للبشر طريقاً إلى العلم به ، لأنه لا حاجة بهم في دينهم ودنياهم إلى ذلك العلم ، ولو كانت بهم إليه حاجة لأعلمهم بما لا يعلمون ، كما أعلمهم بوجود ما لا يعلمون . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : لم يسمهم . وفي الحديث :

( 936 ) " ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، بله ما أطلعتهم عليه " فأعلمنا بوجوده وإعداده ولم يعلمنا به ما هو ، ونحوه : { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } [ السجدة : 17 ] وفي الإعلام بكثرة ما خلق مما علموه ومما جهلوه ما دلّ على عظم قدرته واتساع ملكه .

وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37)

سلخ جلد الشاة : إذا كشطه عنها وأزاله . ومنه : سلخ الحية لخرشائها ، فاستعير لإزالة الضوء أوكشفه عن مكان الليل وملقى ظله { مُّظْلِمُونَ } داخلون في الظلام ، يقال : أظلمنا ، كما تقول : أعتمنا وأدجينا .

وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)

{ لِمُسْتَقَرّ لَّهَا } لحدّ لها مؤقت مقدّر تنتهي إليه من فلكها في آخر السنة ، شبه بمستقرّ المسافر إذا قطع مسيره ، أو لمنتهى لها من المشارق والمغارب؛ لأنها تتقصاها مشرقاً مشرقاً ومغرباً مغرباً حتى تبلغ أقصاها ، ثم ترجع فذلك حدّها ومستقرّها؛ لأنها لا تعدوه أو لحدّ لها من مسيرها كل يوم في مرأى عيوننا وهو المغرب . وقيل : مستقرّها أجلها الذي أقرّ الله عليه أمرها في جريها ، فاستقرّت عليه وهو آخر السنة . وقيل : الوقت الذي تستقرّ فيه وينقطع جريها وهو يوم القيامة .

وقرىء : «تجري إلى مستقر لها» وقرأ ابن مسعود : «لا مستقرّ لها» أي : لا تزال تجري لا تستقرّ . وقرىء : «لا مستقرّ لها» على أنّ لا بمعنى ليس { ذَلِكَ } الجري على ذلك التقدير والحساب الدقيق الذي تكل الفطن عن استخراجه وتتحير الأفهام في استنباطه ، ما هو إلا تقدير الغالب بقدرته على كل مقدور ، المحيط علماً بكل معلوم . قرىء : «والقمرُ» رفع على الابتداء ، أو عطفاً على الليل ، يريد : ومن آياته القمر ، ونصباً بفعل يفسره قدرناه ، ولا بدّ في { قدرناه مَنَازِلَ } . من تقدير مضاف لأنه لا معنى لتقدير نفس القمر منازل والمعنى : قدرنا مسيره منازل وهي ثمانية وعشرون منزلاً ، ينزل القمر كلّ ليلة في واحد منها لا يتخطاه ولا يتقاصر عنه ، على تقدير مستوٍ لا يتفاوت ، يسير فيها كل ليلة من المستهل إلى الثامنة والعشرين ، ثم يستتر ليلتين أو ليلة إذا نقص الشهر ، وهذه المنازل هي مواقع النجوم التي نسبت إليها العرب الأنواء المستمطرة ، وهي : الشرطان ، البطين ، الثريا ، الدبران ، الهقعة ، الهنعة ، الذراع ، النثرة ، الطرف ، الجبهة ، الزبرة ، الصرفة ، العوّا ، السماك ، الغفر ، الزباني ، الإكليل ، القلب ، الشولة ، النعائم ، البلدة ، سعد الذابح ، سعد بلع ، سعد السعود ، سعد الأخبية ، فرغ الدلو المقدم ، فرغ الدلو المؤخر ، الرشا . فإذا كان في آخر منازله دقّ واستقوس ، و { عَادَ كالعرجون القديم } وهو عود العذق ، ما بين شماريخه إلى منبته من النخلة . وقال الزجاج : هو «فعلون» من الانعراج وهو الانعطاف . وقرىء : «العرجون» بوزن الفرجون؛ وهما لغتان ، كالبزيون والبزيون ، والقديم المحول ، وإذا قدم دق فانحنى واصفر ، فشبه به من ثلاثة أوجه . وقيل : أقل مدّة الموصوف بالقدم الحول ، فلو أنّ رجلاً قال : كل مملوك لي قديم فهو حرّ . أو كتب ذلك في وصيته : عتق منهم من مضى له حول أو أكثر . وقرىء : «سابق النهار» . على الأصل ، والمعنى : أنّ الله تعالى قسم لكل واحد من الليل والنهار وآيتيهما قسماً من الزمان ، وضرب له حدّاً معلوماً ، ودبر أمرهما على التعاقب ، فلا ينبغي للشمس : أي لا يتسهل لها ولا يصحّ ولا يستقيم لوقوع التدبير على المعاقبة ، وإن جعل لكل واحد من النيرين سلطان على حياله { أَن تدْرِكَ القمر } فتجتمع معه في وقت واحد وتداخله في سلطانه فتطمس نوره ، ولا يسبق الليل النهار يعني آية الليل آية النهار وهما النيران ، ولا يزال الأمر على هذا الترتيب إلى أن يبطل الله ما دبر من ذلك ، وينقض ما ألف فيجمع بين الشمس والقمر ، ويُطلع الشمس من مغربها فإن قلت : لم جعلت الشمس غير مدركة ، والقمر غير سابق؟ قلت : لأنّ الشمس لا تقطع فلكها إلا في سنة ، والقمر يقطع فلكه في شهر ، فكانت الشمس جديرة بأن توصف بالإدراك لتباطىء سيرها عن سير القمر ، [ والقمر ] خليقاً بأن يوصف بالسبق لسرعة سيره { وَكُلٌّ } التنوين فيه عوض عن المضاف إليه ، والمعنى : وكلهم ، والضمير للشموس والأقمار على ما سبق ذكره .

وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)

{ ذُرِّيَّتَهُمْ } أولادهم ومن يهمهم حمله . وقيل : اسم الذرية يقع على النساء ، لأنهنّ مزارعها وفي الحديث :

( 937 ) أنه نهى عن قتل الذراري يعني النساء . { مّن مّثْلِهِ } من مثل الفلك { مَا يَرْكَبُونَ } من الإبل وهي سفائن البر وقيل { الفلك المشحون } سفينة نوح ، ومعنى حمل الله ذرياتهم فيها : أنه حمل فيها آباءهم الأقدمين ، وفي أصلابهم هم وذرياتهم ، وإنما ذكر ذرياتهم دونهم لأنّه أبلغ في الامتنان عليهم ، وأدخل في التعجيب من قدرته ، في حمل أعقابهم إلى يوم القيامة في سفينة نوح . و { مّن مّثْلِهِ } من مثل ذلك الفلك ما يركبون من السفن والزوارق { فلا صَرِيخَ } لا مغيث . أو لا إغاثة . يقال : أتاهم الصريخ { وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ } لا ينجون من الموت بالغرق { إِلاَّ رَحْمَةً } إلا لرحمة منا ولتمتيع بالحياة { إلى حِينٍ } إلى أجل يموتون فيه لا بدّ لهم منه بعد النجاة من موت الغرق . ولقد أحسن من قال :

وَلَمْ أَسْلَمْ لِكَيْ أَبْقَى وَلَكِنْ ... سَلِمْتُ مِنَ الْحِمَامِ إلَى الْحِمَام

وقرأ الحسن رضي الله عنه : «نغرقهم» .

وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46)

{ اتقوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ } كقوله تعالى : { أَفَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مّنَ السماء والأرض } [ سبأ : 9 ] وعن مجاهد : ما تقدّم من ذنوبكم وما تأخر . وعن قتادة : ما بين أيديكم من الوقائع التي خلت ، يعني من مثل الوقائع التي ابتليت بها الأمم المكذبة بأنبيائها ، وما خلفكم من أمر الساعة { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } لتكونوا على رجاء رحمه الله . وجواب إذا محذوف مدلول عليه بقوله : { إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ } فكأنه قال : وإذا قيل لهم اتقوا أعرضوا . ثم قال : ودأبهم الإعراض عند كل آية وموعظة .

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47)

كانت الزناذقة منهم يسمعون المؤمنين يعلقون أفعال الله تعالى بمشيئته فيقولون : لو شاء الله لأغنى فلاناً ، ولو شاء لأعزّه ، ولو شاء لكان كذا؛ فأخرجوا هذا الجواب مخرج الاستهزاء بالمؤمنين وبما كانوا يقولونه من تعليق الأمور بمشيئة الله . ومعناه : أنطعم المقول فيه هذا القول بينكم ، وذلك أنهم كانوا دافعين أن يكون الغنى والفقر من الله؛ لأنهم معطلة لا يؤمنون بالصانع ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : كان بمكة زنادقة ، فإذا أمروا بالصدقة على المساكين قالوا : لا والله ، أيفقره الله ونطعمه نحن؟ وقيل : كانوا يوهمون أن الله تعالى لما كان قادراً على إطعامه ولا يشاء إطعامه فنحن أحق بذلك . نزلت في مشركي قريش حين قال فقراء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : أعطونا مما زعمتم من أموالكم أنها لله ، يعنون قوله :

{ وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث والأنعام نَصِيباً } [ الأنعام : 136 ] ، فحرموهم وقالوا : لو شاء الله لأطعمكم .

{ إنْ أَنتُمْ إلاَّ فِى ضلال مُّبِينٍ } قول الله لهم . أو هو من جملة جوابهم للمؤمنين .

وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50)

قرىء : « يخصمون» بإدغام التاء في الصاد مع فتح الخاء وكسرها ، وإتباع الياء الخاء في الكسر ، ويختصمون على الأصل . ويخصمون ، من خصمه . والمعنى : أنها تبغتهم وهم في أمنهم وغفلتهم عنها ، لا يخطرونها ببالهم مشتغلين بخصوماتهم في متاجرهم ومعاملاتهم وسائر ما يتخاصمون فيه ويتشاجرون . ومعنى يخصمون : يخصم بعضهم بعضاً . وقيل : تأخذهم وهم عند أنفسهم يخصمون في الحجة في أنهم لا يبعثون { فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ } أن يوصوا في شيء من أمورهم { تَوْصِيَةً } ولا يقدرون على الرجوع إلى منازلهم وأهاليهم ، بل يموتون حيث تفجؤهم الصيحة .

وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52)

قرىء : «الصور» بسكون الواو وهو القرن ، أو جمع صورة ، وحرّكها بعضهم ، و «الأجداث» القبور . وقرىء : بالفاء { يَنسِلُونَ } يعدون بكسر السين وضمها ، وهي النفخة الثانية . وقرىء : «يا ويلتنا» عن ابن مسعود رضي الله عنه : «من أهبنا» من هب من نومه إذا انتبه ، وأهبه غيره وقرىء : «من هبنا» بمعنى أهبنا : وعن بعضهم : أراد هب بنا ، فحذف الجار وأوصل الفعل : وقرىء : «من بعثنا» ومن هبنا ، على من الجارة والمصدر ، و { هَذَا } مبتدأ ، و { مَا وَعَدَ } خبره ، وما مصدرية أو موصولة . ويجوز أن يكون هذا صفة للمرقد ، وما وعد : خبر مبتدأ محذوف ، أي : هذا وعد الرحمن ، أي : مبتدأ محذوف الخبر ، أي ما وعد { الرحمن وَصَدَقَ المرسلون } حق . وعن مجاهد : للكفار هجعة يجدون فيها طعم النوم ، فإذا صيح بأهل القبور قالوا : من بعثنا ، وأما { هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن } فكلام الملائكة . عن ابن عباس . وعن الحسن : كلام المتقين . وقيل : كلام الكافرين يتذكرون ما سمعوه من الرسل فيجيبون به أنفسهم أو بعضهم بعضاً . فإن قلت : إذا جعلت ( ما ) مصدرية : كان المعنى : هذا وعد الرحمن وصدق المرسلين ، على تسمية الموعود والمصدوق فيه بالوعد والصدق ، فما وجه قوله : { وَصَدَقَ المرسلون } إذا جعلتها موصولة؟ قلت : تقديره : هذا الذي وعده الرحمن والذي صدّقه المرسلون ، بمعنى : والذي صدق فيه المرسلون ، من قولهم : صدقوهم الحديث في القتال . ومنه صدقني سن بكره . فإن قلت : { مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا } ؟ سؤال عن الباعث ، فكيف طابقه ذلك جواباً؟ قلت : معناه بعثكم الرحمن الذي وعدكم البعث وأنبأكم به الرسل؛ إلا أنه جيء به على طريقة : سيئت بها قلوبهم ، ونعيت إليهم أحوالهم ، وذكروا كفرهم وتكذيبهم ، وأخبروا بوقوع ما أنذروا به وكأنه قيل لهم : ليس بالبعث الذي عرفتموه وهو بعث النائم من مرقده ، حتى يهمكم السؤال عن الباعث ، إن هذا هو البعث الأكبر ذو الأهوال والأفزاع ، وهو الذي وعده الله في كتبه المنزّلة على ألسنة رسله الصادقين .

إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)

«إلا صيحة واحدة» قرئت منصوبة ومرفوعة { فاليوم لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً . . . . . . إِنَّ أصحاب الجنة اليوم فِى شُغُلٍ } حكاية ما يقال لهم في ذلك اليوم . وفي مثل هذه الحكاية زيادة تصوير للموعود ، وتمكين له في النفوس ، وترغيب في الحرص عليه وعلى ما يثمره { فِى شُغُلٍ } في أي شغل وفي شغل لا يوصف ، وما ظنك بشغل من سعد بدخول الجنة التي هي دار المتقين ، ووصل إلى نيل تلك الغبطة وذلك الملك الكبير والنعيم المقيم ، ووقع في تلك الملاذ التي أعدّها الله للمرتضين من عباده ، ثواباً لهم على أعمالهم مع كرامة وتعظيم ، وذلك بعد الوله والصبابة ، والتفصي من مشاق التكليف ومضايق التقوى والخشية ، وتخطي الأهوال ، وتجاوز الأخطار وجواز الصراط . ومعاينة ما لقى العصاة من العذاب ، وعن ابن عباس : في افتضاض الأبكار . وعنه : في ضرب الأوتار . وعن ابن كيسان : في التزاور . وقيل : في ضيافة الله . وعن الحسن : شغلهم عما فيه أهل النار التنعم بما هم فيه . وعن الكلبي : هم في شغل عن أهاليهم من أهل النار ، لا يهمهم أمرهم ولا يذكرونهم : لئلا يدخل عليهم تنغيص في نعيمهم . قرىء : «في شغل» بضمتين وضمة وسكون ، وفتحتين ، وفتحة وسكون . والفاكه والفكه : المتنعم والمتلذذ : ومنه الفاكهة؛ لأنها مما يتلذذ به . وكذلك الفكاهة ، وهي المزاحة . وقرىء : «فاكهون» وفكهون ، بكسر الكاف وضمها ، كقولهم : رجل حدث وحدث ، ونطس ونطس . وقرىء : «فاكهين» وفكهين ، على أنه حال والظرف مستقر { هُمْ } يحتمل أن يكون مبتدأ وأن يكون تأكيداً للضمير في { فِى شُغُلٍ } وفي { فاكهون } على أنّ أزواجهم يشاركنهم في ذلك الشغل والتفكه والاتكاء على الأرائك تحت الظلال . وقرىء : «في ظلل» ، والأريكة : السرير في الحجلة . وقيل : الفراش فيها . وقرأ ابن مسعود : «متكين» { يَدَّعُونَ } يفتعلون من الدعاء ، أي : يدعون به لأنفسهم ، كقولك : اشتوى واجتمل ، إذا شوى وجمل لنفسه . قال لبيد :

فَاشْتَوَى لَيْلَةَ رِيحٍ وَاجْتَمَلْ ... ويجوز أن يكون بمعنى يتداعونه ، كقولك : ارتموه ، وتراموه . وقيل : يتمنون ، من قولهم : ادّع عليّ ما شئت ، بمعنى تمنه عليّ ، وفلان في خير ما أدّعى ، أي في خير ما تمنّى . قال الزجاج : وهو من الدعاء ، أي : ما يدعو به أهل الجنة يأتيهم . و «سلام» بدل مما يدعون ، كأنه قال لهم : سلام يقال لهم { قَوْلاً مّن } جهة { رَّبّ رَّحِيمٍ } والمعنى : أنّ الله يسلم عليهم بواسطة الملائكة ، أو بغير واسطة ، مبالغة في تعظيمهم وذلك متمناهم ، ولهم ذلك لا يمنعونه . قال ابن عباس : فالملائكة يدخلون عليهم بالتحية من رب العالمين . وقيل : { مَّا يَدَّعُونَ } ، مبتدأ وخبره سلام ، بمعنى : ولهم ما يدعون سالم خالص لا شوب فيه . و { قَوْلاً } مصدر مؤكد لقوله تعالى : { وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ سلام } أي : عدة من رب رحيم . والأوجه : أن ينتصب على الاختصاص ، وهو من مجازه . وقرىء : «سلم» وهو بمعنى السلام في المعنيين . وعن ابن مسعود : سلاماً نصب على الحال ، أي لهم مرادهم خالصاً .

وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)

{ وامتازوا } وانفردوا عن المؤمنين ، وكونوا على حدة ، وذلك حين يحشر المؤمنون ويسار بهم إلى الجنة . ونحوه قوله تعالى : { وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَهُمْ فِى رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ } . . الآية [ الروم : 14 ] . يقال : مازه فانماز وامتاز . وعن قتادة : اعتزلوا عن كل خير . وعن الضحاك : لكل كافر بيت من النار يكون فيه ، لا يرى ولا يرى . ومعناه : أنّ بعضهم يمتاز من بعض .

أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)

العهد : الوصية ، وعهد إليه : إذا وصاه . وعهد الله إليهم : ما ركز فيهم من أدلة العقل وأنزل عليهم من دلائل السمع . وعبادة الشيطان : طاعته فيما يوسوس به إليهم ويزينه لهم . وقرىء : «إعهد» بكسر الهمزة . وباب «فعل» كله يجوز في حروف مضارعته الكسر ، إلا في الياء . وأعهد ، بكسر الهاء . وقد جوز الزجاج أن يكون من باب نعم ينعم وضرب يضرب . وأحهد : بالحاء . وأحد : وهي لغة تميم . ومنه قولهم : دحا محا { هذا } إشارة إلى ما عهد إليهم من معصية الشيطان وطاعة الرحمن ، إذ لا صراط أقوم منه ، ونحو التنكير فيه ما في قول كثيِّرُ :

لَئِنْ كَانَ يُهْدَى بَرْدُ أَنْيَابِهَا الْعُلى ... لأَفْقَرَ مِنِّي إنَّنِي لَفَقِيرُ

أراد : إنني لفقير بليغ الفقر ، حقيق بأن أوصف به لكمال شرائطه فيّ ، وإلا لم يستقم معنى البيت ، وكذلك قوله : { هذا صراط مُّسْتَقِيمٌ } يريد : صراط بليغ في بابه ، بليغ في استقامته ، جامع لكل شرط يجب أن يكون عليه . ويجوز أن يراد : هذا بعض الصرط المستقيمة ، توبيخاً لهم على العدول عنه ، والتفادي عن سلوكه ، كما يتفادى الناس عن الطريق المعوج الذي يؤدي إلى الضلالة والتهلكة ، كأنه قيل : أقل أحوال الطريق الذي هو أقوم الطرق : أن يعتقد فيه كما يعتقد في الطريق الذي لا يضل السالك ، كما يقول الرجل لولده وقد نصحه النصح البالغ الذي ليس بعده : هذا فيما أظنّ قول نافع غير ضار ، توبيخاً له عن الإعراض عن نصائحه .

وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64)

قرىء : «جبلا» بضمتين ، وضمة وسكون ، وضمتين وتشديدة ، وكسرتين ، وكسرة وسكون ، وكسرتين وتشديدة . وهذه اللغات في معنى الخلق . وقرىء : «جبلا» جمع جبلة ، كفطر وخلق ، وفي قراءة علي رضي الله عنه : واحد الأجيال ( جيلا ) .

الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)

يروى أنهم يجحدون ويخاصمون؛ فتشهد عليهم جيرانهم وأهاليهم وعشائرهم ، فيحلفون ما كانوا مشركين ، فحينئذ يختم على أفواههم وتكلم أيديهم وأرجلهم . وفي الحديث :

( 938 ) " يقول العبد يوم القيامة : إني لا أجيز عليّ شاهداً إلا من نفسي ، فيختم على فيه ، ويقال لأركانه : انطقي فتنطق بأعماله ، ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول : بعداً لكنّ وسحقاً ، فعنكن كنت أناضل " ، وقرىء : «يختم على أفواههم وتتكلم أيديهم» . وقرىء : «ولتكلمنا أيديهم وتشهد» بلام كي والنصب على معنى : ولذلك نختم على أفواههم : وقرىء : «ولتكلمنا أيديهم ولتشهد» بلام الأمر والجزم على أنّ الله يأمر الأعضاء بالكلام والشهادة .

وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67)

الطمس : تعفية شق العين حتى تعود ممسوحة { فاستبقوا الصراط } لا يخلو من أن يكون على حذف الجار وإيصال الفعل . والأصل : فاستبقوا إلى الصراط . أو يضمن معنى ابتدروا . أو يجعل الصراط مسبوقاً لا مسبوقاً إليه . أو ينتصب على الظرف . والمعنى : أنه لو شاء لمسح أعينهم ، فلو راموا أن يستبقوا إلى الطريق المهيع الذي اعتادوا سلوكه إلى مساكنهم وإلى مقاصدهم المألوفة التي تردّدوا إليها كثيراً - كما كانوا يستبقون إليه ساعين في متصرفاتهم موضعين في أمور دنياهم - لم يقدروا ، وتعايى عليهم أن يبصروا ويعلموا جهة السلوك فضلاً عن غيره . أو لو شاء لأعماهم ، فلوا أرادوا أن يمشوا مستبقين في الطريق المألوف - كما كان ذلك هجيراهم - لم يستطيعوا . أو لو شاء لأعماهم ، فلو طلبوا أن يخلفوا الصراط الذي اعتادوا المشي فيه لعجزوا ولم يعرفوا طريقاً ، يعني أنهم لا يقدرون إلا على سلوك الطريق المعتاد دون ما وراءه من سائر الطرق والمسالك ، كما ترى العميان يهتدون فيما ألفوا وضروا به من المقاصد دون غيرها «على مكانتهم» وقرىء : «على مكاناتهم» والمكانة والمكان واحد ، كالمقامة والمقام . أي : لمسخناهم مسخاً يجمدهم مكانهم لا يقدرون أن يبرحوه بإقبال ولا إدبار ولا مضيّ ولا رجوع واختلف في المسخ ، فعن ابن عباس : لمسخناهم قردة وخنازير . وقيل : حجارة . عن قتادة : لأقعدناهم على أرجلهم وأزمناهم . وقرىء : «مضياً» بالحركات الثلاث ، فالمضيّ والمضي كالعتيّ والعتي . والمضيّ كالصبيّ .

وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68)

«ننكسه في الخلق» نقلبه فيه فنخلقه على عكس ما خلقناه من قبل ، وذلك أنا خلقناه على ضعف في جسده ، وخلو من عقل وعلم ، ثم جعلناه يتزايد وينتقل من حال إلى حال ويرتقي من درجة إلى درجة ، إلى أن يبلغ أشده ويستكمل قوته ، ويعقل ويعلم ما له وما عليه ، فإذا انتهى نكسناه في الخلق فجعلناه يتناقص ، حتى يرجع في حال شبيهة بحال الصبيّ في ضعف جسده وقلة عقله وخلّوه من العلم ، كما ينكس السهم فيجعل أعلاه أسفله . قال عزّ وجلّ : { وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر لِكَىْ لاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً } [ الحج : 5 ] ، { ثُمَّ رددناه أَسْفَلَ سافلين } [ التين : 5 ] وهذه دلالة على أنّ من ينقلهم من الشباب إلى الهرم ومن القوّة إلى الضعف ومن رجاحة العقل إلى الخرف وقلة التمييز ومن العلم إلى الجهل بعد ما نقلهم خلاف هذا النقل وعكسه - قادر على أن يطمس على أعينهم ويمسخهم على مكانتهم ويفعل بهم ما شاء وأراد : وقرىء : بكسر الكاف «وننكِسه» و «ننكسه» من التنكيس والإنكاس { أَفَلاَ يَعْقِلُونَ } بالياء والتاء .

وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)

كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم : شاعر ، وروى أنّ القائل : عقبة بن أبي معيط ، فقيل : { وَمَا علمناه الشعر } أي : وما علمناه بتعليم القرآن الشعر ، على معنى : أنّ القرآن ليس بشعر وما هو من الشعر في شيء . وأين هو عن الشعر ، والشعر إنما هو كلام موزون مقفى ، يدل على معنى ، فأين الوزن؟ وأين التقفية؟ وأين المعاني التي ينتحيها الشعراء عن معانيه؟ وأين نظم كلامهم من نظمه وأساليبه؟ فإذاً لا مناسبة بينه وبين الشعر إذا حققت ، اللهمّ إلا أنّ هذا لفظه عربي ، كما أنّ ذاك كذلك { وَمَا يَنبَغِى لَهُ } وما يصح له ولا يتطلب لو طلبه ، أي : جعلناه بحيث لو أراد قرض الشعر لم يتأت له ولم يتسهل ، كما جعلناه أمّياً لا يتهدّى للخط ولا يحسنه ، لتكون الحجة أثبت والشبهة أدحض . وعن الخليل : كان الشعر أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من كثير من الكلام ، ولكن كان لا يتأتى له . فإن قلت :

( 939 ) فقوله : " أَنَا النَّبيُّ لاَ كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ " ( ( 940 وقوله : " هَلْ أَنْتَ إلاَّ أُصْبُعٌ دَمِيتِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ " قلت : ما هو إلا كلام من جنس كلامه الذي كان يرمي به على السليقة ، من غير صنعة ولا تكلف ، إلا أنه اتفق ذلك من غير قصد إلى ذلك ولا التفات منه إليه إن جاء موزوناً ، كما يتفق في كثير من إنشاءات الناس في خطبهم ورسائلهم ومحاوراتهم أشياء موزونة لا يسميها أحد شعراً ولا يخطر ببال المتكلم ولا السامع أنها شعر ، وإذا فتشت في كل كلام عن نحو ذلك وجدت الواقع في أوزان البحور غير عزيز ، على أن الخليل ما كان يعدّ المشطور من الرجز شعراً ، ولما نفى أن يكون القرآن من جنس الشعر قال : { إنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْءَانٌ مُّبِينٌ } يعني : ما هو إلا ذكر من الله تعالى يوعظ به الإنس والجنّ ، كما قال : { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ للعالمين } [ التكوير : 27 ] وما هو إلا قرآن كتاب سماوي ، يقرأ في المحاريب ، ويتلى في المتعبدات ، وينال بتلاوته والعمل بما فيه فوز الدارين ، فكم بينه وبين الشعر الذي هو من همزات الشياطين؟ { لّيُنذِرَ } القرآن أو الرسول وقرىء : «لتنذر» بالتاء . ولينذر : من نذر به إذا علمه { مَن كَانَ حَيّاً } أي عاقلاً متأملاً ، لأن الغافل كالميت . أو معلوماً منه أنه يؤمن فيحيا بالإيمان { وَيَحِقَّ القول } وتجب كلمة العذاب { عَلَى الكافرين } الذي لا يتأملون ولا يتوقع منهم الإيمان .

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73)

{ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا } مما تولينا نحن إحداثه ولم يقدر على توليه غيرنا ، وإنما قال ذلك لبدائع الفطرة والحكمة فيها ، التي لا يصحّ أن يقدر عليها إلا هو . وعمل الأيدي : استعارة من عمل من يعملون بالأيدي { فَهُمْ لَهَا مالكون } أي خلقناها لأجلهم فملكناها إياهم ، فهم متصرفون فيها تصرف الملاك ، مختصون بالانتفاع فيها لا يزاحمون . أو فهم لها ضابطون قاهرون ، من قوله :

أَصْبَحْتُ لاَ أَحْمِلُ السِّلاَحَ وَلاَ ... أَمْلِكُ رَأْسَ الْبَعِيرِ إنْ نَفَرَا

أي لا أضبطه ، وهو من جملة النعم الظاهرة ، وإلا فمن كان يقدر عليها لولا تذليله وتسخيره لها ، كما قال القائل :

يُصَرِّفُهُ الصَّبِيُّ بِكُلِّ وَجْهٍ ... وَيَحْبِسُهُ عَلَى الْخَسْفِ الْجَرِيرُ

وَتَضْرِبُهُ الْوَلِيدَةُ بِالْهَرَاوَى ... فَلاَ غِيَرٌ لَدَيْهِ وَلاَ نَكِيرُ

ولهذا ألزم الله سبحانه الراكب أن يشكر هذه النعمة ويسبح بقوله : { سبحان الذي سخّر لنا هذا وما كنا له مقرنين } [ الزخرف : 13 ] . وقرىء : «ركوبهم» وركوبتهم . وهما ما يركب ، كالحلوب والحلوبة . وقيل : الركوبة جمع . وقرىء : «ركوبهم» أي ذو ركوبهم . أو فمن منافعها ركوبهم { منافع } من الجلود والأوبار والأصواف وغير ذلك { ومشارب } من اللبن ، ذكرها مجملة ، وقد فصلها في قوله تعالى : { وَجَعَلَ لَكُمْ مّن جُلُودِ الأنعام بُيُوتًا } [ النحل : 80 ] الآية ، والمشارب : جمع مشرب وهو موضع الشرب ، أو الشرب .

وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76)

اتخذوا الآلهة طمعاً في أن يتقوّوا بهم ويتعضدوا بمكانهم ، والأمر على عكس ما قدّروا حيث هم جند لآلهتهم معدّون { مُحْضَرُونَ } يخدمونهم ويذبون عنهم ، ويغضبون لهم؛ والآلهة لا استطاعة بهم ولا قدرة على النصر ، أو اتخذوهم لينصروهم عند الله ويشفعوا لهم ، والأمر على خلاف ما توهموا ، حيث هم يوم القيامة جند معدّون لهم محضرون لعذابهم؛ لأنهم يجعلون وقوداً للنار . وقرىء : «فلا يحزنك» بفتح الياء وضمها ، من حزنه أحزنه . والمعنى : فلا يهمنك تكذيبهم وأذاهم وجفاؤهم ، فإنا عالمون بما يسرون لك من عداوتهم { وَمَا يُعْلِنُونَ } وإنا مجاوزهم عليه ، فحقّ مثلك أن يتسلى بهذا الوعيد ويستحضر في نفسه صورة حاله وحالهم في الآخرة حتى ينقشع عنه الهمّ ولا يرهقه الحزن . فإن قلت : ما تقول فيمن يقول : إن قرأ قارىء : «أنا نعلم» بالفتح : انتقضت صلاته ، وإن اعتقد ما يعطيه من المعنى : كفر؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن يكون على حذف لام التعليل ، وهو كثير في القرآن وفي الشعر ، وفي كل كلام وقياس مطرد ، وهذا معناه ومعنى الكسر سواء . وعليه تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( 941 ) " إنّ الحمد والنعمة لك " ، كسر أبو حنيفة وفتح الشافعي ، وكلاهما تعليل . والثاني : أن يكون بدلاً من { قَوْلُهُمْ } كأنه قيل : فلا يحزنك ، أنا نعلم ما يسرون وما يعلنون . وهذا المعنى قائم مع المكسورة إذا جعلتها مفعولة للقول ، فقد تبين أن تعلق الحزن بكون الله عالماً وعدم تعلقه لا يدوران على كسر إن وفتحها ، وأنما يدوران على تقديرك ، فتفصل إن فتحت بأن تقدّر معنى التعليل ولا تقدّر البدل ، كما أن تفصل بتقدير معنى التعليل إذا كسرت ولا تقدّر معنى المفعولية ، ثم إن قدّرته كاسراً أو فاتحاً على ما عظم فيه الخطب ذلك القائل ، فما فيه إلا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحزن على كون الله عالماً بسرهم وعلانيتهم ، وليس النهي عن ذلك مما يوجب شيئاً ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً للكافرين } [ القصص : 86 ] ، { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين } [ القصص : 87 ] ، { وَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها ءاخَرَ } [ القصص : 88 ] .

أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)

قبح الله عزّ وجلّ إنكارهم البعث تقبيحاً لا ترى أعجب منه وأبلغ ، ودلّ على تمادي كفر الإنسان وإفراطه في جحود النعم وعقوق الأيادي ، وتوغله في الخسّة وتغلغله في القحة ، حيث قرره بأن عنصره الذي خلقه منه هو أخسّ شيء وأمهنه ، وهو النطفة المذرة الخارجة من الإحليل الذي هو قناة النجاسة ، ثم عجب من حاله بأن يتصدّى مثله على مهانة أصله ودناءة أوّله لمخاصمة الجبار ، وشرز صفحته لمجادلته ، ويركب متن الباطل ويلج ، ويمحك ويقول : من يقدر على إحياء الميت بعد ما رمت عظامه ، ثم يكون خصامه في ألزم وصف له وألصقه به ، وهو كونه منشأ من موات ، وهو ينكر إنشاءه من موات ، وهي المكابرة التي لا مطمح وراءها ، وروى :

( 942 ) أن جماعة من كفار قريش منهم أبيّ بن خلف الجمحي وأبو جهل والعاصي بن وائل والوليد بن المغيرة تكلموا في ذلك ، فقال لهم أبيّ : ألا ترون إلى ما يقول محمد ، إنّ الله يبعث الأموات ، ثم قال : واللات والعزّى لأصيرنّ إليه ولأخصمنه ، وأخذ عظماً بالياً فجعل يفته بيده وهو يقول : يا محمد ، أترى الله يحيي هذا بعد ما قد رمّ ، قال صلى الله عليه وسلم : « نعم ويبعثك ويدخلك جهنم » وقيل : معنى قوله : { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } فإذا هو بعد ما كان ماء مهيناً رجل مميز منطيق قادر على الخصام ، مبين : معرب عما في نفسه فصيح ، كما قال تعالى : { أَوْ مِن يُنَشَّأُ فِى الحلية وَهُوَ فِى الخصام غَيْرُ مُبِينٍ } [ الزخرف : 18 ] . فإن قلت : لم سمى قوله : { مَن يُحىِ العظام وَهِىَ رَمِيمٌ } مثلاً؟ قلت : لما دلّ عليه من قصة عجيبة شبيهة بالمثل ، وهي إنكار قدرة الله تعالى على إحياء الموتى . أو لما فيه من التشبيه ، لأن ما أنكر من قبيل ما يوصف الله بالقدرة عليه ، بدليل النشأة الأولى ، فإذا قيل : من يحيي العظام على طريق الإنكار لأن يكون ذلك مما يوصف الله تعالى بكونه قادراً عليه ، كان تعجيزاً لله وتشبيهاً له بخلقه في أنهم غير موصوفين بالقدرة عليه . والرميم : اسم لما بلي من العظام غير صفة ، كالرمة والرفات ، فلا يقال : لم لم يؤنث وقد وقع خبر المؤنث؟ ولا هو فعيل بمعنى فاعل أو مفعول ، ولقد استشهد بهذه الآية من يثبت الحياة في العظام ويقول : إن عظام الميتة نجسة لأن الموت يؤثر فيها من قبل أن الحياة تحلها . وأما أصحاب أبي حنيفة فهي عندهم طاهرة ، وكذلك الشعر والعصب ، ويزعمون أنّ الحياة لا تحلها فلا يؤثر فيها الموت ، ويقولون : المراد بإحياء العظام في الآية ردّها إلى ما كانت عليه غضة رطبة في بدن حيّ حساس { وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } يعلم كيف يخلق ، لا يتعاظمه شيء من خلق المنشآت والمعادات ومن أجناسها وأنواعها وجلائلها ودقائقها .

ثم ذكر من بدائع خلقه انقداح النار من الشجر الأخضر ، مع مضادة النار الماء وانطفائها به وهي الزناد التي يوري بها الأعراب وأكثرها من المرخ والعفار ، وفي أمثالهم : في كل شجر نار . واستمجد المرخ والعفار ، يقطع الرجل منهما غصنين مثل السواكين وهما خضراوان ، يفطر منهما الماء فيسحق المرخ وهو ذكر ، على العفار وهي أنثى فتنقدح النار بإذن الله . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ليس من شجرة إلا وفيها النار إلا العناب . قالوا : ولذلك تتخذ منه كذينقات القصارين . قرىء : «الأخضر» على اللفظ . وقرىء : «الخضراء» على المعنى : ونحوه قوله تعالى : { مِن شَجَرٍ مّن زَقُّومٍ فَمَالِئُونَ مِنْهَا البطون فشاربون عَلَيْهِ مِنَ الحميم } [ الواقعة : 54 ] . من قدر على خلق السموات والأرض مع عظم شأنهما فهو على خلق الأناسي أقدر ، وفي معناه قوله تعالى : { لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس } [ غافر : 57 ] . وقرىء : «يقدر» وقوله : { أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم } يحتمل معنيين : أن يخلق مثلهم في الصغر والقماءة بالإضافة إلى السموات والأرض أو أن يعيدهم؛ لأن المعاد مثل للمبتدأ وليس به { وَهُوَ الخلاق } الكثير المخلوقات { العليم } الكثير المعلومات . وقرىء : «الخالق» { إِنَّمَا أَمْرُهُ } إنما شأنه { إِذَا أَرَادَ شَيْئاً } إذا دعاه داعي حكمة إلى تكوينه ولا صارف { أَن يَقُولَ لَهُ كُن } أن يكونه من غير توقف { فَيَكُونُ } فيحدث ، أي : فهو كائن موجود لا محالة . فإن قلت : ما حقيقة قوله : { أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } ؟ قلت : هو مجاز من الكلام وتمثيل ، لأنه لا يمتنع عليه شيء من المكونات ، وأنه بمنزلة المأمور المطيع إذا ورد عليه أمر الآمر المطاع . فإن قلت : فما وجه القراءتين في فيكون؟ قلت : أما الرفع فلأنها جملة من مبتدأ وخبر؛ لأن تقديرها : فهو يكون ، معطوفة على مثلها ، وهي أمره أن يقول له كن . وأما النصب فللعطف على يقول ، والمعنى : أنه لا يجوز عليه شيء مما يجوز على الأجسام إذا فعلت شيئاً مما تقدر عليه ، من المباشرة بمحال القدرة ، واستعمال الآلات ، وما يتبع ذلك من المشقة والتعب واللغوب إنما أمره وهو القادر العالم لذاته أن يخلص داعيه إلى الفعل ، فيتكون فمثله كيف يعجز عن مقدور حتى يعجز عن الإعادة؟ { فسبحان } تنزيه له مما وصفه به المشركون ، وتعجيب من أن يقولوا فيه ما قالوا : { بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَىْء } هو مالك كل شيء والمتصرف فيه بمواجب مشيئته وقضايا حكمته . وقرىء : «ملكة كل شيء» وملك كل شيء . والمعنى واحد { تُرْجَعُونَ } بضم التاء وفتحها . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : كنت لا أعلم ما روي في فضائل ياس وقراءتها كيف خصت ، بذلك ، فإذا أنه لهذه الآية .

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( 943 ) « إنّ لكل شيء قلباً ، وإن قلب القرآن ياس ، من قرأ ياس يريد بها وجه الله ، غفر الله تعالى له ، وأعطي من الأجر كأنما قرأ القرآن اثنتين وعشرين مرة ، وأيما مسلم قرىء عنده إذا نزل به ملك الموت سورة ياس نزل بكل حرف منها عشرة أملاك يقومون بين يديه صفوفاً يصلون عليه ويستغفرون له ، ويشهدون غسله ويتبعون جنازته ويصلون عليه ويشهدون دفنه ، وأيما مسلم قرأ ياس وهو في سكرات الموت لم يقبض ملك الموت روحه حتى يحييه رضوان خازن الجنة بشربة من شراب الجنة يشربها وهو على فراشه ، فيقبض ملك الموت روحه وهو ريان ، ويمكث في قبره وهو ريان ، ولا يحتاج إلى حوض من حياض الأنبياء حتى يدخل الجنة وهو ريان » وقال عليه الصلاة والسلام :

( 944 ) « إن في القرآن سورة يشفع لقارئها ويغفر لمستمعها ألا وهي سورة ياس » .

وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5)

أقسم الله سبحانه بطوائف الملائكة أو بنفوسهم الصافات أقدامها في الصلاة ، من قوله تعالى : { وَإِنَّا لَنَحْنُ الصافون } [ الصافات : 165 ] أو أجنحتها في الهواء واقفة منتظرة لأمر الله { فالزجرات } السحاب سوقاً { فالتاليات } لكلام الله من الكتب المنزلة وغيرها . وقيل : { والصافات } : الطير ، من قوله تعالى : { والطير صافات } [ النور : 41 ] والزاجرات : كل ما زجر عن معاصي الله . والتاليات : كل من تلا كتاب الله ، ويجوز أن يقسم بنفوس العلماء العمال الصافات أقدامها في التهجد وسائر الصلوات وصفوف الجماعات فالزجرات بالمواعظ والنصائح فالتاليات آيات الله والدراسات شرائعه أو بنفوس قواد الغزاة في سبيل الله التي تصف الصفوف وتزجر الخيل للجهاد ، وتتلو الذكر مع ذلك لا تشغلها عنه تلك الشواغل ، كما يحكى عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه . فإن قلت : ما حكم الفاء إذا جاءت عاطفة في الصفات؟ قلت : إما أن تدلّ على ترتب معانيها في الوجود ، كقوله :

يَا لَهْفَ زيابة لِلْحَرْثِ الصَّابِحِ فَالغَانِمِ فَالآيِبِ ... كأنه قيل : الذي صبح فغنم فآب . وإما على ترتبها في التفاوت من بعض الوجوه ، كقولك : خذ الأفضل فالأكمل ، واعمل الأحسن فالأجمل . وإما على ترتيب موصوفاتها في ذلك ، كقوله : ( رحم الله المحلقين فالمقصرين ) فعلى هذه القوانين الثلاثة ينساق أمر الفاء العاطفة في الصفات فإن قلت : فعلى أي هذه القوانين هي فيما أنت بصدده؟ قلت : إن وحدت الموصوف كانت للدلالة على أن ترتب الصفات في التفاضل ، وإن ثلثته ، فهي للدلالة على ترتب الموصوفات فيه ، بيان ذلك : إنك إذا أجريت هذه الأوصاف على الملائكة وجعلتهم جامعين لها ، فعطفها بالفاء ، يفيد ترتباً لها في الفضل : إما إن يكون الفضل للصف ثم للزجر ثم للتلاوة وإما على العكس ، وكذلك إن أردت العلماء وقواد الغزاة . وإن أجريت الصفة الأولى على طوائف والثانية والثالثة على أخر ، فقد أفادت ترتب الموصوفات في الفضل ، أعني أن الطوائف الصافات ذوات فضل والزاجرات أفضل ، والتاليات أبهر فضلاً ، أو على العكس ، وكذلك إذا أردت بالصافات : الطير ، وبالزاجرات : كل ما يزجر عن معصية . وبالتاليات : كل نفس تتلو الذكر؛ فإن الموصوفات مختلفة . وقرىء : بإدغام التاء في الصاد والزاي والذال { رَّبُّ السماوات } خبر بعد خبر . أو خبر مبتدأ محذوف . و { المشارق } ثلثمائة وستون مشرقاً ، وكذلك المغارب : تشرق الشمس كل يوم في مشرق وتغرب في مغرب ، ولا تطلع ولا تغرب في واحد يومين . فإن قلت : فماذا أراد بقوله : { رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين } [ الرحمن : 17 ] ؟ قلت : أراد مشرقي الصيف والشتاء ومغربيهما .

إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7)

{ الدنيا } القربى منكم . والزينة : مصدر كالنسبة ، واسم لما يزان به الشيء ، كالليقة اسم لما تلاق به الدواة ، ويحتملهما قوله : { بِزِينَةٍ الكواكب } فإن أردت المصدر ، فعلى إضافته إلى الفاعل ، أي : بأن زانتها الكواكب ، وأصله : بزينة الكواكب : أو على إضافته إلى المفعول ، أي : بأن زان الله الكواكب وحسنها ، لأنها إنما زينت السماء لحسنها في أنفسها ، وأصله { بِزِينَةٍ الكواكب } وهي قراءة أبي بكر والأعمش وابن وثاب ، وإن أردت الاسم فللإضافة وجهان : أن تقع الكواكب بياناً للزينة ، لأن الزينة مبهمة في الكواكب وغيرها مما يزان به ، وأن يراد ما زينت به الكواكب . وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما : بزينة الكواكب : بضوء الكواكب : ويجوز أن يراد أشكالها المختلفة ، كشكل الثريا وبنات نعش والجوزاء ، وغير ذلك ، ومطالعها ومسايرها . وقرىء : على هذا المعنى : «بزينة الكواكب» بتنوين زينة وجرّ الكواكب على الإبدال . ويجوز في نصب الكواكب : أن يكون بدلاً من محل بزينة { وَحِفْظاً } مما حمل على المعنى؛ لأنّ المعنى : إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظاً من الشياطين ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رُجُوماً للشياطين } [ الملك : 5 ] ويجوز أن يقدر الفعل المعلل كأنه قيل : وحفظاً { مِن كُلّ شيطان } زيناها بالكواكب ، وقيل : وحفظناها حفظاً . والمارد : الخارج من الطاعة المتملس منها .

لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)

الضمير في «لا يسمعون» لكل شيطان ، لأنه في معنى الشياطين . وقرىء بالتخفيف والتشديد ، وأصله : يتسمعون . والتسميع : تطلب السماع . يقال : تسمع فسمع ، أو فلم يسمع . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هم يتسمعون ولا يسمعون ، وبهذا ينصر التخفيف على التشديد . فإن قلت : لا يسمعون كيف اتصل بما قبله؟ قلت : لا يخلو من أن يتصل بما قبله على أن يكون صفة لكل شيطان ، أو استئنافاً فلا تصحّ الصفة؛ لأنّ الحفظ من شياطين لا يسمعون ولا يتسمعون لا معنى له ، وكذلك الاستئناف؛ لأنّ سائلاً لو سأل : لم تحفظ من الشياطين؟ فأجيب بأنهم لا يسمعون : لم يستقم ، فبقي أن يكون كلاماً منقطعاً مبتدأ اقتصاصاً ، لما عليه حال المسترقة للسمع ، وأنهم لا يقدرون أن يسمعوا إلى كلام الملائكة . أو يتسمعوا وهم مقذوفون بالشهب مدحورون عن ذلك ، إلا من أمهل حتى خطف خطفة واسترق استراقة؛ فعندها تعاجله الهلكة بإتباع الشهاب الثاقب . فإن قلت : هل يصحّ قول من زعم أن أصله : لئلا يسمعوا فحذفت اللام كما حذفت في قولك : جئتك أن تكرمني ، فبقي أن لا يسمعوا فحذفت أن وأهدر عملها ، كما في قول القائل :

أَلاَ أَيُّهَا ذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرَ الْوَغى ... قلت : كل واحد من هذين الحذفين غير مردود على انفراده ، فأما اجتماعهما فمنكر من المنكرات ، على أن صون القرآن عن مثل هذا التعسف واجب . فإن قلت : أي فرق بين سمعت فلاناً يتحدّث ، وسمعت إليه يتحدّث ، وسمعت حديثه ، وإلى حديثه؟ قلت : المعدى بنفسه يفيد الإدراك والمعدى بإلى يفيد الإصغاء مع الإدراك والملأ الأعلى : الملائكة؛ لأنهم يسكنون السماوات ، والإنس والجن : هم الملأ الأسفل؛ لأنهم سكان الأرض . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هم الكتبة من الملائكة . وعنه : أشراف الملائكة { مِن كُلّ جَانِبٍ } من جميع جوانب السماء من أي جهة صعدوا للاستراق { دُحُوراً } مفعول له ، أي : ويقذفون للدحور وهو الطرد ، أو مدحورين على الحال ، أو لأنّ القذف والطرد متقاربان في المعنى ، فكأنه قيل : يدحرون أو قذفاً . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي بفتح الدال على : قذفاً دحوراً طروداً . أو على أنه قد جاء مجيء القبول والولوع . والواصب : الدائم ، وصب الأمر وصوباً ، يعني أنهم في الدنيا مرجومون بالشهب ، وقد أعدّ لهم في الآخرة نوع من العذاب دائم غير منقطع { مَنْ } في محل الرفع بدل من الواو في لا يسمعون ، أي : لا يسمع الشياطين إلا الشيطان الذي { خَطِفَ الخطفة } وقرىء : «خطف» بكسر الخاء والطاء وتشديدها ، وخطف بفتح الخاء وكسر الطاء وتشديدها ، وأصلهما : اختطف . وقرىء : «فأتبعه» «وفاتبعه» .

فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11)

الهمزة وإن خرجت إلى معنى التقرير فهي بمعنى الاستفهام في أصلها ، فلذلك قيل : { فاستفتهم } أي استخبرهم { أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً } ولم يقل : فقرّرهم والضمير لمشركي مكة . قيل : نزلت في أبي الأشد بن كلدة ، وكني بذلك لشدّة بطشه وقوّته { أَم مَّنْ خَلَقْنَا } يريد : ما ذكر من خلائقه : من الملائكة ، والسموات والأرض ، والمشارق ، والكواكب ، والشهب الثواقب ، والشياطين المردة ، وغلب أولي العقل على غيرهم ، فقال : من خلقنا ، والدليل عليه قوله بعد عدّ هذه الأشياء : { فاستفتهم أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَا } بالفاء المعقبة . وقوله : { أَم مَّنْ خَلَقْنَا } مطلقاً من غير تقييد بالبيان ، اكتفاء ببيان ما تقدّمه ، كأنه قال : خلقنا كذا وكذا من عجائب الخلق وبدائعه ، فاستفتهم أهم أشدّ خلقاً أم الذي خلقناه من ذلك ، ويقطع به قراءة من قرأ : «أم من عددنا» بالتخفيف والتشديد . و«أشدّ خلقاً» : يحتمل أقوى خلقاً من قولهم : شديد الخلق . وفي خلقه شدّة ، وأصعب خلقاً وأشقّه ، على معنى الردّ لإنكارهم البعث والنشأة الأخرى ، وأنّ من هان عليه خلق هذه الخلائق العظيمة ولم يصعب عليه اختراعها كان خلق البشر عليه أهون . وخلقهم { مّن طِينٍ لاَّزِبٍ } إما شهادة عليهم بالضعف والرخاوة لأنّ ما يصنع من الطين غير موصوف بالصلابة والقوّة ، أو احتجاج عليهم بأن الطين اللازب الذي خلقوا منه تراب ، فمن أين استنكروا أن يخلقوا من تراب مثله حيث قالوا : { أئذا كنا تراباً } [ الرعد : 5 ] . وهذا المعنى يعضده ما يتلوه من ذكر إنكارهم البعث . وقيل : من خلقنا من الأمم الماضية ، وليس هذا القول بملائم . وقرىء : «لازب» و« لاتب» ، والمعنى واحد ، والثاقب : الشديد الإضاءة .

بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14)

«بل عجبت» من قدرة الله على هذه الخلائق العظيمة ( و ) هم { يسخرون } منك ومن تعجبك وما تريهم من آثار قدرة الله ، أو من إنكارهم البعث وهم يسخرون من أمر البعث وقرىء : بضم التاء ، أي : بلغ من عظم آياتي وكثرة خلائقي أني عجبت منها ، فكيف بعبادي وهؤلاء بجهلهم وعنادهم يسخرون من آياتي أو عجبت من أن ينكروا البعث ممن هذه أفعاله ، وهم يسخرون ممن يصف الله بالقدرة عليه . فإن قلت : كيف يجوز العجب على الله تعالى ، وإنما هو روعة تعتري الإنسان عند استعظامه الشيء ، والله تعالى لا يجوز عليه الروعة؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن يجرد العجب لمعنى الاستعظام ، والثاني : أن يتخيل العجب ويفرض . وقد جاء في الحديث :

( 945 ) " عجب ربكم من ألكم وقنوطكم وسرعة إجابته إياكم " وكان شريح يقرأ بالفتح ويقول : إنّ الله لا يعجب من شيء ، وإنما يعجب من لا يعلم ، فقال إبراهيم النخعي : إنّ شريحاً كان يعجبه علمه وعبد الله أعلم ، يريد عبد الله بن مسعود ، وكان يقرأ بالضم . وقيل : معناه : قل يا محمد بل عجبت . { وَإِذَا ذُكّرُواْ } ودأبهم أنهم إذا وعظوا بشيء لا يتعظون به { وَإِذَا رَأَوْاْ ءايَةً } من آيات الله البينة كانشقاق القمر ونحوه { يَسْتَسْخِرُونَ } يبالغون في السخرية ، أو يستدعي بعضهم من بعض أن يسخر منها .

وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19)

{ أَوَ ءابَاؤُنَا } معطوف على محل { إِن } واسمها . أو على الضمير في مبعوثون ، والذي جوّز العطف عليه الفصل بهمزة الاستفهام . والمعنى : أيبعث أيضاً آباؤنا على زيادة الاستبعاد ، يعنون أنهم أقدم ، فبعثهم أبعد وأبطل . وقرىء : «أو آباؤنا» { قُلْ نَعَمْ } وقرىء : «نعم» بكسر العين وهما لغتان . وقرىء : «قال نعم» أي : الله تعالى أو الرسول صلى الله عليه وسلم . والمعنى : نعم تبعثون { وَأَنتُمْ داخرون } صاغرون { فَإِنَّمَا } جواب شرط مقدّر تقديره : إذا كان ذلك فما { هِىَ } إلا { زَجْرَةٌ واحدة } وهي لا ترجع إلى شيء ، إنما هي مبهمة موضحها خبرها . ويجوز : فإنما البعثة زجرة واحدة وهي النفخة الثانية . والزجرة : الصيحة ، من قولك : زجر الراعي الإبل أو الغنم : إذا صاح عليها فريعت لصوته . ومنه قوله :

زَجْرَ أَبِي عُرْوَةَ السِّبَاعَ إذَا ... أَشْفَقَ أَنْ يَخْتَلِطْنَ بِالغَنَمِ

يريد تصويته بها { فَإِذَا هُم } أحياء بصراء { يُنظَرُونَ } .

وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21)

يحتمل أن يكون { هذا يَوْمُ الدين } إلى قوله : { احشروا } من كلام الكفرة بعضهم مع بعض وأن يكون من كلام الملائكة لهم ، وأن يكون { ياويلنا هذا يَوْمُ الدين } كلام الكفرة . و { هذا يَوْمُ الفصل } من كلام الملائكة جواباً لهم . ويوم الدين : اليوم الذي ندان فيه ، أي : نجازى بأعمالنا . ويوم الفصل : يوم القضاء ، والفرق بين فرق الهدى والضلالة .

احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)

{ احشروا } خطاب الله للملائكة ، أو خطاب بعضهم مع بعض { وأزواجهم } وضرباءهم عن النبي صلى الله عليه وسلم : وهم نظراؤهم وأشباههم من العصاة : أهل الزنا مع أهل الزنا ، وأهل السرقة مع أهل السرقة . وقيل : قرناؤهم من الشياطين . وقيل : نساؤهم اللاتي على دينهم { فاهدوهم } فعرّفوهم طريق النار حتى يسلكوها . هذا تهكم بهم وتوبيخ لهم بالعجر عن التناصر بعد ما كانوا على خلاف ذلك في الدنيا متعاضدين متناصرين { بَلْ هُمُ اليوم مُسْتَسْلِمُونَ } قد أسلم بعضهم بعضاً وخذله عن عجز ، فكلهم مستسلم غير منتصر . وقرىء : «لا تتناصرون» ولا تناصرون ، بالإدغام .

وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35)

اليمين لما كانت أشرف العضوين وأمتنهما وكانوا يتيمنون بها ، فيها يصافحون ويماسحون ويناولون ويتناولون ، ويزاولون أكثر الأمور ، ويتشاءمون بالشمال ، ولذلك سموها : الشؤمى ، كما سموا أختها اليمنى ، وتيمنوا بالسانح ، وتطيروا بالبارح ، وكان الأعسر معيباً عندهم ، وعضدت الشريعة ذلك ، فأمرت بمباشرة أفاضل الأمور باليمين ، وأراذلها بالشمال .

( 946 ) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب التيامن في كل شيء ، وجعلت اليمين لكاتب الحسنات والشمال لكاتب السيئات؛ ووعد المحسن أن يؤتى كتابه بيمينه ، والمسيء أن يؤتاه بشماله : استعيرت لجهة الخير وجانبه ، فقيل : أتاه عن اليمين ، أي : من قبل الخير وناحيته ، فصدّه عنه وأضلّه . وجاء في بعض التفاسير : من أتاه الشيطان من جهة اليمين : أتاه من قبل الدين فلبس عليه الحق . ومن أتاه من جهة الشمال : أتاه من قبل الشهوات . ومن أتاه من بين يديه : أتاه من قبل التكذيب بالقيامة وبالثواب والعقاب . ومن أتاه من خلفه : خوّفه الفقر على نفسه وعلى من يخلف بعده؛ فلم يصل رحماً ولم يؤد زكاة . فإن قلت : قولهم : أتاه من جهة الخير وناحيته ، مجاز في نفسه ، فكيف جعلت اليمين مجازاً عن المجاز؟ قلت : من المجاز ما غلب في الاستعمال حتى لحق بالحقائق ، وهذا من ذاك؛ ولك أن تجعلها مستعارة للقوّة والقهر؛ لأنّ اليمين موصوفة بالقوة ، وبها يقع البطش . والمعنى : أنكم كنتم تأتوننا عن القوّة والقهر ، وتقصدوننا عن السلطان والغلبة حتى تحملونا على الضلال وتقسرونا عليه . وهذا من خطاب الأتباع لرؤسائهم ، والغواة لشياطينهم { بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } بل أبيتم أنتم الإيمان وأعرضتم عنه ، مع تمكنكم منه مختارين له على الكفر . غير ملجئين إليه { وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ } من تسلط نسلبكم به تمكنكم واختياركم { بَلْ كُنتُمْ قَوْماً } مختارين الطغيان { فَحَقَّ عَلَيْنَا } فلزمنا { قَوْلُ رَبّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ } يعني : وعيد الله بأنا ذائقون لعذابه لا محالة ، لعلمه بحالنا واستحقاقنا بها العقوبة ، ولو حكى الوعيد كما هو لقال : إنكم لذائقون ، لكنه عدل به إلى لفظ المتكلم؛ لأنهم متكلمون بذلك عن أنفسهم . ونحوه قول القائل :

لَقَدْ زَعَمَتْ هَوَازِنُ قَلَّ مَالِي ... ولو حكى قولها لقال : قل مالك . ومنه قول المحلف للحالف : احلف لأخرجنّ ، ولتخرجنّ : الهمزة لحكاية لفظ الحالف ، والتاء لإقبال المحلف على المحلف { فأغويناكم } فدعوناكم إلى الغي دعوة محصلة للبغية ، لقبولكم لها واستحبابكم الغيّ على الرشد { إِنَّا كُنَّا غاوين } فأردنا إغواءكم لتكونوا أمثالنا { فَإِنَّهُمْ } فإن الأتباع والمتبوعين جميعاً { يَوْمَئِذٍ } يوم القيامة مشتركون في العذاب كما كانوا مشتركين في الغواية { إِنَّا } مثل ذلك الفعل { نَفْعَلُ } بكل مجرم ، يعني أنّ سبب العقوبة هو الإجرام ، فمن ارتكبه استوجبها { إِنَّهُمْ كَانُواْ إِذَا } سمعوا بكلمة التوحيد نفروا أو استكبروا عنها وأبوا إلا الشرك .

وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39)

{ لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ } يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم { بَلْ جَاء بالحق } رد على المشركين { وَصَدَّقَ المرسلين } كقوله : { مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } [ البقرة : 97 ] وقرىء : «لذائقوا العذاب» ، بالنصب على تقدير النون ، كقوله :

وَلاَ ذَاكِراً اللَّهَ إلاَّ قَلِيلاً ... بتقدير التنوين . وقرىء : على الأصل «لذائقون العذاب» { إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } إلا مثل ما عملتم جزاء سيئاً بعمل سيىء .

إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)

{ إِلاَّ عِبَادَ الله } ولكن عباد الله ، على الاستثناء المنقطع . فسر الرزق المعلوم بالفواكه : وهي كل ما يتلذذ به ولا يتقوّت لحفظ الصحة ، يعني أن رزقهم كله فواكه ، لأنهم مستغنون عن حفظ الصحة بالأقوات ، بأنهم أجسام محكمة مخلوقة للأبد ، فكل ما يأكلونه يأكلونه على سبيل التلذذ . ويجوز أن يراد : رزق معلوم منعوت بخصائص خلق عليها : من طيب طعم ، ورائحة ، ولذة ، وحسن منظر . وقيل : معلوم الوقت ، كقوله : { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً } [ مريم : 62 ] وعن قتادة : الرزق المعلوم الجنة وقوله { فِي جنات } يأباه وقوله : { وَهُم مُّكْرَمُونَ } هو الذي يقوله وعن العلماء في حدّ الثواب على سبيل المدح والتعظيم ، وهو من أعظم ما يجب أن تتوق إليه نفوس ذوي الهمم ، كما أنّ من أعظم ما يجب أن تنفر عنه نفوسهم هوان أهل النار وصغارهم .

التقابل : أتم للسرور وآنس . وقيل : لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض .

ويقال للزجاجة فيها الخمر : كأس ، وتسمى الخمر نفسها كأساً ، قال :

وَكَاسٍ شَرِبْتُ عَلَى لَذَّةٍ ... وعن الأخفش : كل كأس في القرآن فهي الخمر ، وكذا في تفسير ابن عباس { مّن مَّعِينٍ } من شراب معين . أو من نهر معين ، وهو الجاري على وجه الأرض ، الظاهر للعيون : وصف بما يوصف به الماء ، لأنه يجري في الجنة في أنهار كما يجري الماء ، قال الله تعالى : { وأنهار مّنْ خَمْرٍ } [ محمد : 15 ] { بَيْضَاء } صفة للكأس { لَذَّةٍ } إمّا أن توصف باللذة كأنها نفس اللذة وعينها : أو هي تأنيث اللذة ، يقال : لذ الشيء فهو لذ ولذيذ . ووزنه : فعل ، كقولك : رجل طب ، قال :

وَلَذٌ كَطَعْمِ الصَّرْخَدِيِّ تَرَكْتُهُ ... بِأَرْضِ الْعِدَا مِنْ خَشْيَةِ الْحَدَثَانِ

يريد النوم . الغول : من غاله يغوله غولاً إذا أهلكه وأفسده . ومنه : الغول الذي في تكاذيب العرب . وفي أمثالهم : الغضب غول الحلم ، و { يُنزَفُونَ } على البناء للمفعول ، من نزف الشاربُ إذا ذهب عقله . ويقال للسكران : نزيف ومنزوف . ويقال للمطعون : نزف فَمات إذا خرج دمه كله . ونزحت الركية حتى نزفتها : إذا لم تترك فيها ماء . وفي أمثالهم : أجبن من المنزوف ضرطاً . وقرىء : «ينزفون» أنزف الشارب إذا ذهب عقله أو شرابه . قال :

لَعَمْرِي لَئِنْ أَنْزَفْتُمُو أَوْ صَحَوْتُمُو ... لَبِئْسَ النَّدَامَى كُنْتُمُو آلَ أَبجرَا

ومعناه : صار ذا نزف . ونظيره : أقشع السحاب ، وقشعته الريح ، وأكب الرجل وكببته ، وحقيقتهما : دخلا في القشع والكب . وفي قراءة طلحة بن مصرف : وينزفون : بضم الزاي ، من نزف ينزف كقرب يقرب ، إذا سكر . والمعنى : لا فيها فساد قط من أنواع الفساد التي تكون في شرب الخمر من مغص أو صداع أو خمار أو عربدة أو لغو أو تأثيم أو غير ذلك ، ولا هم يسكرون ، وهو أعظم مفاسدها فأفرزه وأفرده بالذكر { قاصرات الطرف } قصرن أبصارهنّ على أزواجهنّ ، لا يمددن طرفاً إلى غيرهم ، كقوله تعالى : { عُرُباً } [ الواقعة : 37 ] والعين : النجل العيون شبهنّ ببيض النعام المكنون في الأداحي ، وبها تشبه العرب النساء وتسميهنّ بيضات الخدور .

فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57)

فإن قلت : علام عطف قوله : { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ } ؟ قلت : على يطاف عليهم . والمعنى : يشربون فيتحادثون على الشراب كعادة الشرب قال :

وَمَا بَقِيَتْ مِنَ اللَّذَّاتِ إلاَّ ... أَحَادِيثُ الْكِرَامِ عَلَى الْمُدَامِ

فيقبل بعضهم على بعض { يَتَسَاءلُونَ } عما جرى لهم وعليهم في الدنيا ، إلا أنه جيء به ماضياً على عادة الله في أخباره . قرىء : «من المصدّقين» من التصديق . ومن المصدَّقين مشدّد الصاد ، من التصدّق ، وقيل : نزلت في رجل تصدّق بماله لوجه الله ، فاحتاج فاستجدى بعض إخوانه؛ فقال : وأين مالك؟ قال : تصدقت به ليعوضني الله به في الآخرة خيراً منه ، فقال : أئنك لمن المصدّقين بيوم الدين . أو من المتصدّقين لطلب الثواب . والله لا أعطيك شيئاً { لَمَدِينُونَ } لمجزيون ، من الدين وهو الجزاء . أو لمسوسون مربوبون . يقال : دانه ساسه . ومنه الحديث :

( 947 ) " العاقل من دان نفسه " { قَالَ } يعني ذلك القائل : { هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ } إلى النار لأريكم ذلك القرين . قيل : إن في الجنة كوى ينظر أهلها منها إلى أهل النار . وقيل : القائل هو الله عزّ وجلّ . وقيل : بعض الملائكة يقول لأهل الجنة : هل تحبون أن تطلعوا فتعلموا أين منزلتكم من منزلة أهل النار . وقرىء : «مطلعون» فاطلع . وفأطلع بالتشديد ، على لفظ الماضي والمضارع المنصوب : ومطلعون فاطلع وفأطلع بالتحفيف على لفظ الماضي والمضارع والمنصوب يقال طلع علينا فلان ، واطلع وأطلع بمعنى واحد ، والمعنى : هل أنتم مطلعون إلى القرين فأطلع أنا أيضاً . أو عرض عليه الاطلاع فاعترضوه ، فاطلع هو بعد ذلك . وإن جعلت الإطلاع من أطلعه غيره ، فالمعنى : أنه لما شرط في اطلاعه اطلاعهم ، وهو من آداب المجالسة . أن لا يستبد بشيء دون جلسائه ، فكأنهم مطلعوه . وقيل : الخطاب على هذا للملائكة . وقرىء : «مطلعون» بكسر النون ، أراد : مطلعون إياي؛ فوضع المتصل موضع المنفصل ، كقوله :

هُمُ الْفَاعِلُونَ الْخَيْرَ وَالآمِرُونَهُ ... أو شبه اسم الفاعل في ذلك بالمضارع لتآخ بينهما ، كأنه قال : تطلعون ، وهو ضعيف لا يقع إلاّ في الشعر { فِى سَوَآءِ الجحيم } في وسطها ، يقال : تعبت حتى انقطع سوائي ، وعن أبي عبيدة : قال لي عيسى بن عمر : كنت أكتب يا أبا عبيدة حتى ينقطع سوائي ( إن ) مخففة من الثقيلة ، وهي تدخل على «كاد» كما تدخل على «كان» { إِن كَانَ لَيُضِلُّنَا } واللام هي الفارقة بينها وبين النافية ، والإرداء : الإهلاك . وفي قراءة عبد الله : لتغوينّ { نِعْمَةُ رَبّى } هي العصمة والتوفيق في الاستمساك بعروة الإسلام ، والبراءة من قرين السوء . أو إنعام الله بالثواب وكونه من أهل الجنة { مِنَ المحضرين } من الذين أحضروا العذاب كما أحضرته أنت وأمثالك .

أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59)

الذي عطفت عليه الفاء محذوف ، معناه : أنحن مخلدون منعمون ، فما نحن بميتين و لا معذبين . وقرىء : «بمائتين» والمعنى أنّ هذه حال المؤمنين وصفتهم وما قضى الله به لهم للعلم بأعمالهم أن لا يذوقوا إلا الموتة الأولى ، بخلاف الكفار ، فإنهم يتمنون فيه الموت كل ساعة ، وقيل لبعض الحكماء : ما شرّ من الموت؟ قال : الذي يتمنى فيه الموت .

إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)

يقوله المؤمن تحدثاً بنعمة الله واغتباطاً بحاله وبمسمع من قرينه ، ليكون توبيخاً له يزيد به تعذباً ، وليحكيه الله فيكون لنا لطفاً وزاجراً . ويجوز أن يكون قولهم جميعاً ، وكذلك قوله { إِنَّ هذا لَهُوَ الفوز العظيم } أي إن هذا الأمر الذي نحن فيه . وقيل : هو من قول الله عزّ وجلّ تقريراً لقولهم وتصديقاً له . وقرىء : «لهو الرزق العظيم» وهو ما رزوقوه من السعادة .

أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)

تمت قصة المؤمن وقرينه ، ثم رجع إلى ذكر الرزق المعلوم فقال : { أذلك } الرزق { خَيْرٌ نُّزُلاً } أي خير حاصلاً { أَمْ شَجَرَةُ الزقوم } وأصل النزل : الفضل والريع في الطعام ، يقال : طعام كثير النزل ، فاستعير للحاصل من الشيء ، وحاصل الرزق المعلوم : اللذة والسرور ، وحاصل شجرة الزقوم : الألم والغمّ ، وانتصاب نزلاً على التمييز ، ولك أن تجعله حالاً ، كما تقول : أثمر النخلة خير بلحاً أم رطباً؟ يعني أنّ الرزق المعلوم نزل أهل الجنة . وأهل النار نزلهم شجرة الزقوم ، فأيهما خير في كونه نزلاً . والنزل : ما يقام للنازل بالمكان من الرزق . ومنه أنزال الجند لأرزاقهم ، كما يقال لما يقام لساكن الدار : السكن . ومعنى الأوّل : أَنّ للرزق المعلوم نزلاً ، ولشجر الزقوم نزلاً ، فأيهما خير نزلاً . ومعلوم أنه لا خير في شجرة الزقوم ، ولكن المؤمنين لما اختاروا ما أدى إلى الرزق المعلوم واختار الكافرون ما أدى إلى شجرة الزقوم قيل لهم ذلك توبيخاً على سوء اختيارهم { فِتْنَةً للظالمين } محنة وعذاباً لهم في الآخرة . أو ابتلاء لهم في الدنيا ، وذلك أنهم قالوا : كيف يكون في النار شجرة والنار تحرق الشجر ، فكذبوا . وقرىء : «نابتة» { فِى أَصْلِ الجحيم } قيل : منبتها في قعر جهنم ، وأغصانها ترتفع إلى دركاتها : والطلع للنخلة ، فاستعير لما طلع من شجرة الزقوم من حملها : إما استعارة لفظية ، أو معنوية ، وشبه برؤوس الشياطين دلالة على تناهيه في الكراهية وقبح المنظر؛ لأنّ الشيطان مكروه مستقبح في طباع الناس ، لاعتقادهم أنه شرّ محض لا يخلطه خير ، فيقولون في القبيح الصورة : كأنه وجه شيطان ، كأنه رأس شيطان ، وإذا صوّره المصورون : جاؤا بصورته على أقبح ما يقدر وأهوله؛ كما أنهم اعتقدوا في المَلَكِ أنه خير محض لا شرّ فيه ، فشبهوا به الصورة الحسنة . قال الله تعالى : { مَا هذا بَشَرًا إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ } [ يوسف : 31 ] وهذا تشبيه تخييلي . وقيل : الشيطان حية عرفاء لها صورة قبيحة المنظر هائلة جداً . وقيل : إنّ شجراً يقال له الأستن خشناً منتناً مراً منكر الصورة ، يسمى ثمره : رؤوس الشياطين . وما سمت العرب هذا الثمر رؤوس الشياطين إلاّ قصداً إلى أحد التشبيهين ، ولكنه بعد التسمية بذلك رجع أصلاً ثالثاً يشبه به { مِنْهَا } من الشجرة ، أي من طلعها { فَمَالِئُونَ } بطونهم ، لما يغلبهم من الجوع الشديد ، أو يقسرون على أكلها وإن كرهوها ، ليكون باباً من العذاب؛ فإذا شبعوا غلبهم العطش فيسقون شراباً من غساق أو صديد ، شوبه : أي مزاجه { مِنْ حَمِيمٍ } يشوي وجوههم ويقطع أمعاءهم ، كما قال في صفة شراب أهل الجنة { وَمِزَاجُهُ مِن تسنيم } [ المطففين : 27 ] وقرىء : «لشوبا» بالضم ، وهو اسم ما يشاب به ، والأوّل تسمية بالمصدر . فإن قلت : ما معنى حرف التراخي في قوله : { ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً } وفي قوله : { ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ } ؟ قلت : في الأوّل وجهان ، أحدهما : أنهم يملؤن البطون من شجرة الزقوم ، وهو حارّ يحرق بطونهم ويعطشهم ، فلا يسقون إلا بعد ما ملىء تعذيباً بذلك العطش ، ثم يسقون ما هو أحرّ وهو الشراب المشوب بالحميم .

والثاني : أنه ذكر الطعام بتلك الكراهة والبشاعة ، ثم ذكر الشراب بما هو أكره وأبشع ، فجاء بثم للدلالة على تراخي حال الشراب عن حال الطعام ومباينة صفته لصفته في الزيادة عليه . ومعنى الثاني : أنهم يذهب بهم عن مقارّهم ومنازلهم في الجحيم ، وهي الدركات التي أسكنوها إلى شجرة الزقوم ، فيأكلون إلى أن يتملؤا ، ويسقون بعد ذلك ، ثم يرجعون إلى دركاتهم ، ومعنى التر اخي في ذلك بين ، وقرىء : «ثم إن منقلبهم» ثم إن مصيرهم ، ثم إن منفذهم إلى الجحيم : علل استحقاقهم للوقوع في تلك الشدائد كلها بتقليد الآباء في الدين ، واتباعهم إياهم على الضلال ، وترك اتباع الدليل ، والإهراع : الإسراع الشديد ، كأنهم يحثون حثاً . وقيل : إسراع فيه شبه بالرعدة .

وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)

{ وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ } قبل قومك قريش . { مُّنذِرِينَ } أنبياء حذروهم العواقب . { المنذرين } الذين أنذروا وحذروا ، أي أهلكوا جميعاً { إِلاَّ عِبَادَ الله } الذين آمنوا منهم وأخلصوا دينهم لله ، أو أخلصهم الله لدينه على القراءتين .

وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)

لما ذكر إرسال المنذرين في الأمم الخالية وسوء عاقبة المنذرين ، أتبع ذلك ذكر نوح ودعائه حين آيس من قومه ، واللام الداخلة على نعم جواب قسم محذوف ، والمخصوص بالمدح محذوف تقديره : فوالله لنعم المجيبون نحن . والجمع دليل العظمة والكبرياء . والمعنى : إنا أجبناه أحسن الإجابة ، وأوصلها إلى مراده وبغيته من نصرته على أعدائه والانتقام منهم بأبلغ ما يكون { هُمُ الباقين } هم الذين بقوا وحدهم وقد فني غيرهم ، فقد روى أنه مات كل من كان معه في السفينة غير ولده . أو هم الذين بقوا متناسلين إلى يوم القيامة . قال قتادة : الناس كلهم من ذرية نوح . وكان لنوح عليه السلام ثلاثة أولاد : سام ، وحام ، ويافث . فسام أبو العرب ، وفارس ، والروم ، وحام أبو السودان من المشرق إلى المغرب ، ويافث أبو الترك ويأجوج ومأجوج { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الأخرين } من الأمم هذه الكلمة ، وهي : { سلام على نُوحٍ } يعني يسلمون عليه تسليماً ، ويدعون له ، وهو من الكلام المحكي ، كقولك : قرأت : { سُورَةٌ أنزلناها } [ النور : 1 ] فإن قلت : فما معنى قوله : { فِى العالمين } ؟ قلت : معناه الدعاء بثبوت هذه التحية فيهم جميعاً ، وأن لا يخلو أحد منهم منها ، كأنه قيل : ثبت الله التسليم على نوح وأدامه في الملائكة والثقلين يسلمون عليه عن آخرهم . علل مجازاة نوح عليه السلام بتلك التكرمة السنية من تبقية ذكره ، وتسليم العالمين عليه إلى آخر الدهر بأنه كان محسناً ، ثم علل كونه محسناً بأنه كان عبداً مؤمناً ، ليريك جلالة محل الإيمان ، وأنه القصارى من صفات المدح والتعظيم ، ويرغبك في تحصيله والازدياد منه .

وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87)

{ مِن شِيعَتِهِ } ممن شايعه على أصول الدين وإن اختلفت شرائعهما . أو شايعه على التصلب في دين الله ومصابرة المكذبين . ويجوز أن يكون بين شريعتيهما اتفاق في أكثر الأشياء . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : من أهل دينه وعلى سنته ، وما كان بين نوح وإبراهيم إلاّ نبيان : هود وصالح ، وكان بين نوح وإبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة . فإن قلت : بم تعلق الظرف؟ قلت : بما في الشيعة من معنى المشايعة ، يعني : وإن ممن شايعه على دينه وتقواه حين جاء ربه بقلب سليم لإبراهيم ، أو بمحذوف وهو : اذكر { بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } من جميع آفات القلوب . وقيل : من الشرك ، ولا معنى للتخصيص لأنه مطلق ، فليس بعض الآفات أولى من بعض فيتناولها كلها . فإن قلت : ما معنى المجيء بقلبه ربه؟ قلت : معناه أنه أخلص لله قلبه ، وعرف ذلك منه فضرب المجيء مثلاً لذلك { أَئِفْكاً } مفعول له ، تقديره : أتريدون آلهة من دون الله إفكاً ، وإنما قدّم المفعول على الفعل للعناية ، وقدّم المفعول له على المفعول به؛ لأنه كان الأهمّ عنده أن يكافحهم بأنهم على إفك وباطل في شركهم . ويجوز أن يكون إفكاً مفعولاً به ، يعني : أتريدون به إفكاً . ثم فسر الإفك بقوله : { آلِهَةً } مّنَ { دُونِ الله } على أنها إفك في أنفسها . ويجوز أن يكون حالاً ، بمعنى : أتريدون آلهة من دون الله آفكين { فَمَا ظَنُّكُم } بمن هو الحقيق بالعبادة ، لأنّ من كان رباً للعالمين استحق عليهم أن يعبدوه ، حتى تركتم عبادته إلى عبادة الأصنام : والمعنى : أنه لا يقدر في وهم ولا ظنّ ما يصدّعن عن عبادته . أو فما ظنكم به أي شيء هو من الأشياء ، حتى جعلتم الأصنام له أنداداً . أو فما ظنكم به ماذا يفعل بكم وكيف يعاقبكم وقد عبدتم غيره؟ .

فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90)

{ فِى النجوم } في علم النجوم أو في كتابها أو في أحكامها ، وعن بعض الملوك أنه سئل عن مشتهاه فقال : حبيب أنظر إليه ومحتاج أنظر له ، وكتاب أنظر فيه . كان القوم نجامين ، فأوهمهم أنه استدل بأمارة في علم النجوم على أنه يسقم { فَقَالَ إِنّى سَقِيمٌ } إني مشارف للسقم وهو الطاعون ، وكان أغلب الأسقام عليهم ، وكانوا يخافون العدوى ليتفرقوا عنه ، فهربوا منه إلى عيدهم وتركوه في بيت الأصنام ليس معه أحد ، ففعل بالأصنام ما فعل . فإن قلت : كيف جاز له أن يكذب؟ قلت : قد جوّزه بعض الناس في المكيدة في الحرب والتقية ، وإرضاء الزوج والصلح بين المتخاصمين والمتهاجرين . والصحيح : أن الكذب حرام إلاّ إذا عرّض وورّى ، والذي قاله إبراهيم عليه السلام : معراض من الكلام ، ولقد نوى به أن من في عنقه الموت سقيم . ومنه المثل : كفى بالسلامة داء . وقول لبيد :

فَدَعَوْتُ رَبِّي بالسَّلاَمَةِ جَاهِدا ... لِيُصِحَّنِي فَإذَا السَّلاَمَةُ دَاءُ

وقد مات رجل فجأة فالتف عليه الناس وقالوا : مات وهو صحيح ، فقال أعرابي : أصحيح من الموت في عنقه . وقيل : أراد : إني سقيم النفس لكفركم .

فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93)

{ فَرَاغَ إلى ءالِهَتِهِمْ } فذهب إليها في خفية ، من روغة الثعلب ، إلى آلهتهم : إلى أصنامهم التي هي في زعمهم آلهة ، كقوله تعالى : { أين شركائي } [ النحل : 27 ] { أَلا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ } استهزاء بها وبانحطاطها عن حال عبدتها { فَرَاغَ عَلَيْهِمْ } فأقبل عليهم مستخفياً ، كأنه قال : فضربهم { ضَرْباً } لأن راغ عليهم بمعنى ضربهم . أو فراغ عليهم يضربهم ضرباً . أو فراغ عليهم ضرباً بمعنى ضارباً . وقرىء : «صفقا» و«سفقا» ، ومعناهما : الضرب . ومعنى ضرباً { باليمين } ضرباً شديداً قوياً؛ لأن اليمين أقوى الجارحتين وأشدّهما . وقيل : بالقوّة والمتانة ، وقيل : بسبب الحلف ، وهو قوله : { تالله لأَكِيدَنَّ أصنامكم } .

فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94)

{ يَزِفُّونَ } يسرعون ، من زفيف النعام . ويزفون : من أزفّ ، إذا دخل في الزفيف . أو من أزفه ، إذا حمله على الزفيف ، أي : يزفّ بعضهم بعضاً . ويزفون ، على البناء للمفعول ، أي : يحملون على الزفيف . ويزفون ، من وزف يزف إذا أسرع . ويزفون : من زفاه إذا حداه كأنّ بعضهم يزفو بعضاً لتسارعهم إليه ، فإن قلت : بين هذا وبين قوله تعالى : { قَالُواْ مَن فَعَلَ هذا بِئَالِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظالمين قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إبراهيم } [ الأنبياء : 59 -60 ] كالتناقض حيث ذكر ههنا أنهم أدبروا عنه خيفة العدوى ، فلما أبصروه يكسرهم أقبلوا إليه متبادرين ليكفوه ويوقعوا به ، وذكر ثم أنهم سألوا عن الكاسر ، حتى قيل لهم : سمعنا إبراهيم يذمهم ، فلعله هو الكاسر؛ ففي أحدهما أنهم شاهدوه يكسرها ، وفي الآخر : أنهم استدلوا بذمه على أنه الكاسر . قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن يكون الذين أبصروه وزفوا إليه نفراً منهم دون جمهورهم وكبرائهم ، فلما رجع الجمهور والعلية من عيدهم إلى بيت الأصنام ليأكلوا الطعام الذي وضعوه عندها لتبرك عليه ورأوها مكسورة اشمأزوا من ذلك ، وسألوا : من فعل هذا بها؟ ثم لم ينم عليه أولئك النفر نميمة صريحة ، ولكن على سبيل التورية التعريض بقولهم «سمعنا فتى يذكرهم» لبعض الصوارف . والثاني : أن يكسرها ويذهب ولا يشعر بذلك أحد ، ويكون إقبالهم إليه يزفون بعد رجوعهم من عيدهم وسؤالهم عن الكاسر . وقولهم : { قالوا : فأتوا به على أعين الناس } [ الأنبياء : 61 ] .

قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)

{ والله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } يعني خلقكم وخلق ما تعملونه من الأصنام ، كقوله : { بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السموات والأرض الذى فطَرَهُنَّ } [ الأنبياء : 56 ] أي فطر الأصنام . فإن قلت : كيف يكون الشيء الواحد مخلوقاً لله معمولاً لهم ، حيث أوقع خلقه وعملهم عليها جميعاً؟ قلت : هذا كما يقال : عمل النجار الباب والكرسي ، وعمل الصائغ السوار والخلخال ، والمراد عمل أشكال هذه الأشياء وصورها دون جواهرها ، والأصنام جواهر وأشكال ، فخالق جواهرها الله ، وعاملوا أشكالها الذين يشكلونها بنحتهم وحذفهم بعض أجزائها ، حتى يستوي التشكيل الذي يريدونه . فإن قلت : فما أنكرت أن تكون ما مصدرية لا موصولة ، ويكون المعنى : والله خلقكم وعملكم ، كما تقول المجبرة؟ قلت؛ أقرب ما يبطل به هذا السؤال بعد بطلانه بحجج العقل والكتاب : أن معنى الآية يأباه إباء جلياً ، وينبو عنه نبوّاً ظاهراً ، وذلك أن الله عزّ وجلّ قد احتج عليهم بأنّ العابد والمعبود جميعاً خلق الله ، فكيف يعبد المخلوق المخلوق ، على أن العابد منهما هو الذي عمل صورة المعبود وشكله ، ولولاه لما قدر أن يصوّر نفسه ويشكلها ، ولو قلت : والله خلقكم وخلق عملكم ، ولم يكن محتجاً عليهم ولا كان لكلامك طباق . وشيء آخر : وهو أن قوله : { وَمَا تَعْمَلُونَ } ترجمة عن قوله : { مَا تَنْحِتُونَ } و ( ما ) في { مَا تَنْحِتُونَ } موصولة لا مقال فيها فلا يعدل بها عن أختها إلاّ متعسف متعصب لمذهبه ، من غير نظر في علم البيان ، ولا تبصر لنظم القرآن . فإن قلت : اجعلها موصولة حتى لا يلزمني ما ألزمت ، وأريد : وما تعملونه من أعمالكم . قلت : بل الإلزامان في عنقك لا يفكهما إلاّ الإذعان للحق ، وذلك أنك جعلتها موصولة ، فإنك في إرادتك بها العمل غير محتج على المشركين ، كحالك وقد جعلتها مصدرية ، وأيضاً فأنك قاطع بذلك الصلة بين ما تعملون وما تنحتون ، حتى تخالف بين المرادين بهما؛ فتزيد بما تنحتون : الأعيان التي هي الأصنام ، وبما تعملون : المعاني التي هي الأعمال؛ وفي ذلك فك النظم وتبتيره؛ كما إذا جعلتها مصدرية .

قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)

{ الجحيم } النار الشديدة الوقود ، وقيل : كل نار على نار وجمر فوق جمر ، فهي جحيم . والمعنى : أن الله تعالى غلبه عليهم في المقامين جميعاً ، وأذلهم بين يديه : أرادوا أن يغلبوه بالحجة فلقنه الله وألهمه ما ألقمهم به الحجر ، وقهرهم فمالوا إلى المكر ، فأبطل الله مكرهم وجعلهم الأذلين الأسفلين لم يقدروا عليه .

وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101)

أراد بذهابه إلى ربه : مهاجرته إلى حيث أمره بالمهاجرة إليه من أرض الشام؛ كما قال : { إني مهاجر إلى ربي } [ العنكبوت : 26 ] { سَيَهْدِينِ } ؟ سيرشدني إلى ما فيه صلاحي في ديني ويعصمني ويوفقني ، كما قال موسى عليه السلام : { كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ } [ الشعراء : 62 ] كأن الله وعده وقال له : سأهديك ، فأجرى كلامه على سنن موعد ربه . أو بناء على عادة الله تعالى معه في هدايته وإرشاده . أو أظهر بذلك توكله وتفويضه أمره إلى الله . ولو قصد الرجاء والطمع لقال ، كما قال موسى عليه السلام : { عسى رَبّى أَن يَهْدِيَنِى سَوَاء السبيل } [ القصص : 22 ] . { هَبْ لِى مِنَ الصالحين } هب لي بعض الصالحين ، يريد الولد ، لأنّ لفظ الهبة غلب في الولد وإن كان قد جاء في الأخ في قوله تعالى : { وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هارون نَبِيّاً } [ مريم : 53 ] قال عزّ وجلّ : { وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ } [ الأنعام : 84 ] { وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى } [ الأنبياء : 90 ] وقال علي بن أبي طالب لابن عباس رضي الله عنهم - حين هنأه بولده عليّ أبي الأملاك - : شكرت الواهب ، وبورك لك في الموهوب . ولذلك وقعت التسمية بهبة الله ، وبموهوب ، ووهب وموهب ، وقد انطوت البشارة على ثلاث : على أن الولد غلام ذكر ، وأنه يبلغ أوان الحلم ، وأنه يكون حليماً ، وأي حلم أعظم من حلمه حين عرض عليه أبوه الذبح ، فقال : { ستجدني إن شاء الله من الصابرين } ، ثم استسلم لذلك . وقيل : ما نعت الله الأنبياء عليهم السلام بأقل مما نعتهم بالحلم وذلك لعزة وجوده ولقد نفت الله . به إبراهيم في قوله : { إِنَّ إبراهيم لأوَّاهٌ حَلِيمٌ } [ التوبة : 114 ] ، { إِنَّ إبراهيم لحليم أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ } [ هود : 75 ] لأنّ الحادثة شهدت بحلمهما جميعاً .

فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)

فلما بلغ أن يسعى مع أبيه في أشغاله وحوائجه . فإن قلت : { مَعَهُ } بم يتعلق؟ قلت : لا يخلو إما أن يتعلق ببلغ ، أو بالسعي ، أو بمحذوف ، فلا يصح تعلقه ببلغ لاقتضائه بلوغهما معاً حدّ السعي ، ولا بالسعي لأنّ صلة المصدر لا تتقدم عليه ، فبقي أن يكون بياناً ، كأنه لما قال : فلما بلغ السعي أي الحدّ الذي يقدر فيه على السعي قيل : مع من؟ فقال مع أبيه . والمعنى في اختصاص الأب أنه أرفق الناس به ، وأعطفهم عليه ، وغيره ربما عنف به في الاستسعاء فلا يحتمله ، لأنه لم تستحكم قوته ولم يصلب عوده ، وكان إذ ذاك ابن ثلاث عشرة سنة . والمراد : أنه على غضاضة سنة وتقلبه في حدّ الطفولة ، كان فيه من رصانة الحلم وفسحة الصدر ما جسره على احتمال تلك البلية العظيمة والإجابة بذلك الجواب الحكيم : أتي في المنام فقيل له : اذبح ابنك ، ورؤيا الأنبياء وحي كالوحي في اليقظة ، فلهذا قال : { إِنّى أرى فِى المنام أَنّى أَذْبَحُكَ } فذكر تأويل الرؤيا ، كما يقول الممتحن وقد رأى أنه راكب في سفينة : رأيت في المنام أني ناج من هذه المحنة ، وقيل : رأى ليلة التروية كأن قائلاً يقول له : إنّ الله يأمرك بذبح ابنك هذا ، فلما أصبح روَّى في ذلك من الصباح إلى الرواح ، أمن الله هذا الحلم أو من الشيطان؟ فمن ثم سمي يوم التروية ، فلما أمسى رأى مثل ذلك ، فعرف أنه من الله ، فمن ثم سمي يوم عرفة ، ثم رأى مثله في الليلة الثالثة ، فهم بنحره فسمي يوم النحر . وقيل : إنّ الملائكة حين بشّرته بغلام حليم قال : هو إذن ذبيح الله . فلما ولد وبلغ حدّ السعي معه قيل له : أوف بنذرك { فانظر مَاذَا ترى } من الرأي على وجه المشاورة . وقرىء : «ماذا ترى» ، أي : ماذا تبصر من رأيك وتبديه . وماذا ترى ، على البناء للمفعول : أي : ماذا تريك نفسك من الرأي { افعل مَا تُؤمَرُ } أي ما تؤمر به ، فحذف الجار كما حذف من قوله :

أَمَرْتُكَ الْخَيْرَ فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ ... أوأمرك على إضافة المصدر إلى المفعول ، وتسمية المأمور به أمراً . وقرىء : «ما تؤمر به» فإن قلت : لم شاوره في أمر هو حتم من الله؟ قلت : لم يشاوره ليرجع إلى رأيه ومشورته ، ولكن ليعلم ما عنده فيما نزل به من بلاء الله ، فيثبت قدمه ويصبره إن جزع ، ويأمن عليه الزلل إن صبر وسلم ، وليعلمه حتى يراجع نفسه فيوطنها ويهون عليها ، ويلقى البلاء وهو كالمستأنس به ، ويكتسب المثوبة بالانقياد لأمر الله قبل نزوله ، لأنّ المغافصة بالذبح مما يستمسج وليكون سنة في المشاورة ، فقد قيل : لو شاور آدم الملائكة في أكله من الشجرة لما فرط منه ذلك . فإن قلت : لم كان ذلك بالمنام دون اليقظة؟ قلت : كما أرى يوسف عليه السلام سجود أبويه وإخوته له في المنام من غير وحي إلى أبيه ، وكما وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخول المسجد الحرام في المنام ، وما سوى ذلك من منامات الأنبياء ، وذلك لتقوية الدلالة على كونهم صادقين مصدوقين؛ لأنّ الحال إما حال يقظة أو حال منام ، فإذا تظاهرت الحالتان على الصدق كان ذلك أقوى للدلالة من انفراد أحدهما .

فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111)

يقال : سلم لأمر الله وأسلم ، واستسلم بمعنى واحد . وقد قرىء بهنّ جميعاً إذا انقاد له ، وخضع ، وأصلها من قولك : سلم هذا لفلان إذا خلص له . ومعناه : سلم من أن ينازع فيه ، وقولهم : سلم لأمر الله ، وأسلم له منقولان منه ، وحقيقة معناهما : أخلص نفسه لله وجعلها سالمة له خالصة ، وكذلك معنى : استسلم : استخلص نفسه لله . وعن قتادة في { أَسْلَمَا } أسلم هذا ابنه وهذا نفسه { وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } صرعه على شقه ، فوقع أحد جنبيه على الأرض تواضعاً على مباشرة الأمر بصبر وجلد ، ليرضيا الرحمن ويخزيا الشيطان . وروى أن ذلك كان عند الصخرة التي بمنى ، وعن الحسن : في الموضع المشرف على مسجد منى . وعن الضحاك : في المنحر الذي ينحر فيه اليوم . فإن قلت : أين جواب لما؟ قلت : هو محذوف تقديره : فلما أسلما وتله للجبين { وناديناه أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيا } كان ما كان مما تنطق به الحال ولا يحيط به الوصف من استبشارهما واغتباطهما ، وحمدهما لله وشكرهما على ما أنعم به عليهما ، من دفع البلاء العظيم بعد حلوله ، وما اكتسبا في تضاعيفه بتوطين الأنفس عليه من الثواب والأعواض ورضوان الله الذي ليس وراءه مطلوب ، وقوله : { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين } تعليل لتخويل ما خوّلهما من الفرج بعد الشدّة ، والظفر بالبغية بعد اليأس { البلاء المبين } الاختبار البين الذي يتميز فيه المخلصون من غيرهم . أو المحنة البينة الصعوبة التي لا محنة أصعب منها . الذبح : اسم ما يذبح . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هو الكبش الذي قرّبه هابيل فقبل منه ، وكان يرعى في الجنة حتى فدى به إسماعيل . وعن الحسن : فدى بوعل أهبط عليه من ثبير . وعن ابن عباس : لو تمت تلك الذبيحة لكانت سنة وذبح الناس أبناءهم { عظِيمٌ } ضخم الجثة سمين ، وهي السنة في الأضاحي . وقوله عليه السلام . ( 948 ) « استشرفوا ضحاياكم فإنها على الصراط مطاياكم » وقيل : لأنه وقع فداء عن ولد إبراهيم . وروى أنه هرب من إبراهيم عليه السلام عند الجمرة فرماه بسبع حصيات حتى أخذه ، فبقيت سنة في الرمي ، وروى أنه رمى الشيطان حين تعرض له بالوسوسة عند ذبح ولده . وروى أنه لما ذبحه قال جبريل : الله أكبر الله أكبر ، فقال الذبيح : لا إله إلاّ الله والله أكبر ، فقال إبراهيم عليه السلام : الله أكبر ولله الحمد ، فبقي سنة : وحكي في قصة الذبيح أنه حين أراد ذبحه قال : يا بني خذ الحبل والمدية وانطلق بنا إلى الشعب نحتطب ، فلما توسط شعب ثبير أخبره بما أمر . فقال له اشدد رباطي لا أضطرب ، واكفف عني ثيابك لا ينتضح عليها شيء من دمي فينقص أجري وتراه أمي فتحزن ، واشحذ شفرتك وأسرع إمرارها على حلقي حتى تجهز عليّ ، ليكون أهون فإنّ الموت شديد ، واقرأ على أمي سلامي ، وإن رأيت أن تردّ قميصي على أمي ، فافعل ، فإنه عسى أن يكون أسهل لها ، فقال إبراهيم عليه السلام : نعم العون أنت يا بنيّ على أمر الله ، ثم أقبل عليه يقلبه وقد ربطه ، وهما يبكيان ، ثم وضع السكين على حلقه فلم تعمل .

لأنّ الله ضرب صفيحة من نحاس على حلقه ، فقال له : كبني على وجهي فإنك إذا نظرت وجهي رحمتني وأدركتك رقة تحول بينك وبين أمر الله ، ففعل ، ثم وضع السكين على قفاه فانقلب السكين ، ونودي : يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا ، فنظر فإذا جبريل عليه السلام معه كبش أقرن أملح ، فكبر جبريل والكبش ، وإبراهيم وابنه ، وأتى المنحر من منى فذبحه . وقيل : لما وصل موضع السجود منه إلى الأرض جاء الفرج . وقد استشهد أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية فيمن نذر ذبح ولده : أنه يلزمه ذبح شاة ، فإن قلت : من كان الذبيح من ولديه؟ قلت : قد اختلف فيه؛ فعن ابن عباس وابن عمر ومحمد بن كعب القرظي وجماعة من التابعين : أنه إسماعيل . والحجة فيه :

( 949 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « أنا ابن الذبيحين » وقال له أعرابي :

( 949 ) : يا ابن الذبيحين ، فتبسم ، فسئل عن ذلك فقال : إنّ عبد المطلب لما حفر بئر زمزم نذر لله : لئن سهل الله له أمرها ليذبحنّ أحد ولده ، فخرج السهم على عبد الله فمنعه أخواله وقالوا له افد ابنك بمائة من الإبل ففداه بمائة من الإبل والثاني إسماعيل ، وعن محمد بن كعب القرظي قال : كان مجتهد بني إسرائيل يقول إذا دعا : اللهم إله إبراهيم وإسماعيل وإسرائيل ، فقال موسى عليه السلام : يا رب ، ما لمجتهد بني إسرائيل إذا دعا قال : اللهم إله إبراهيم وإسماعيل وإسرائيل ، وأنا بين أظهرهم فقد أسمعتني كلامك واصطفيتني برسالتك؟ قال : يا موسى ، لم يحبني أحد حبّ إبراهيم قط ، ولا خير بيني وبين شيء قط إلا اختارني . وأمّا إسماعيل فإنه جاد بدم نفسه . وأمّا إسرائيل ، فإنه لم ييأس من روحي في شدّة نزلت به قط ، ويدل عليه أنّ الله تعالى لما أتمّ قصة الذبيح قال : { وبشرناه بإسحاق نَبِيّاً } [ الصافات : 112 ] وعن محمد بن كعب أنه قال لعمر بن عبد العزيز : هو إسماعيل ، فقال عمر : إنّ هذا شيء ما كنت أنظر فيه ، وإني لأراه كما قلت ، ثم أرسل إلى يهودي قد أسلم فسأله ، فقال : إن اليهود لتعلم أنه إسماعيل ، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب ، ويدل عليه أن قرني الكبش كانا منوطين في الكعبة في أيدي بني إسماعيل إلى أن احترق البيت . وعن الأصمعي قال : سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح فقال : يا أصمعي أين عزب عنك عقلك ، ومتى كان إسحاق بمكة ، وأنما كان إسماعيل بمكة ، وهو الذي بنى البيت مع أبيه ، والمنحر بمكة ، ومما يدلّ عليه أنّ الله تعالى وصفه بالصبر دون أخيه إسحاق في قوله :

{ وإسماعيل واليسع وَذَا الكفل كُلٌّ مّنَ الصابرين } [ الأنبياء : 85 ] وهو صبره على الذبح ، ووصفه بصدق الوعد في قوله : { إِنَّهُ كَانَ صادق الوعد } [ مريم : 54 ] لأنه وعد أباه الصبر من نفسه على الذبح فوفى به ، ولأنّ الله بشّره بإسحاق وولده يعقوب في قوله : { فَضَحِكَتْ فبشرناها بإسحاق وَمِن وَرَاء إسحاق يَعْقُوبَ } [ هود : 71 ] فلو كان الذبيح إسحاق لكان خلفاً للموعد في يعقوب ، وعن علي بن أبي طالب وابن مسعود والعباس وعطاء وعكرمة وجماعة من التابعين : أنه إسحاق . والحجة فيه أن الله تعالى أخبر عن خليله إبراهيم حين هاجر إلى الشام بأنه استوهبه ولداً ، ثم أتبع ذلك البشارة بغلام حليم ، ثم ذكر رؤياه بذبح ذلك الغلام المبشر به . ويدلّ عليه كتاب يعقوب إلى يوسف : من يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله . فإن قلت : قد أوحى إلى إبراهيم صلوات الله عليه في المنام بأن يذبح ولده ولم يذبح ، وقيل له : { قد صدقت الرؤيا } ، وإنما كان يصدقها لو صحّ منه الذبح ، ولم يصحّ قلت : قد بذل وسعه وفعل ما يفعل الذابح : من بطحه على شقه وإمرار الشفرة على حلقه ، ولكن الله سبحانه جاء بما منع الشفرة أن تمضي فيه ، وهذا لا يقدح في فعل إبراهيم عليه السلام ، ألا ترى أنه لا يسمى عاصياً ولا مفرطاً ، بل يسمى مطيعاً ومجتهداً ، كما لو مضت فيه الشفرة وفرت الأوداج وأنهرت الدم ، وليس هذا من ورود النسخ على المأمور به قبل الفعل ، ولا قبل أوان الفعل في شيء ، كما يسبق إلى بعض الأوهام حتى يشتغل بالكلام فيه . فإن قلت : الله تعالى هو المفتدى منه : لأنه الآمر بالذبح ، فكيف يكون فادياً حتى قال : { وفديناه } ؟ قلت : الفادي هو إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، والله عزّ وجلّ وهب له الكبش ليفدى به وإنما قال : { وفديناه } إسناداً للفداء إلى السبب الذي هو الممكن من الفداء بهبته . فإن قلت : فإذا كان ما أتى به إبراهيم من البطح وإمرار الشفرة في حكم الذبح . فما معنى الفداء ، والفداء إنما هو التخليص من الذبح ببدل؟ قلت : قد علم بمنع الله أن حقيقة الذبح لم تحصل من فرى الأوداج وإنهار الدم ، فوهب الله له الكبش ليقيم ذبحه مقام تلك الحقيقة حتى لا تحصل تلك الحقيقة في نفس إسماعيل ، ولكن في نفس الكبش بدلاً منه . فإن قلت : فأي فائدة في تحصيل تلك الحقيقة ، وقد استغنى عنها بقيام ما وجد من إبراهيم مقام الذبح من غير نقصان؟ قلت : الفائدة في ذلك أن يوجد ما منع منه في بدله حتى يكمل منه الوفاء بالمنذور وإيجاد المأمور به من كل وجه . فإن قلت : لم قيل ههنا { كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين } وفي غيرها من القصص : إنا كذلك؟ قلت : قد سبقه في هذه القصة : { إنا كذلك } ، فكأنما استخف بطرحه اكتفاء بذكره مرة عن ذكره ثانية .

وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)

{ نَبِيّاً } حال مقدرة ، كقوله تعالى : { فادخلوها خالدين } [ الزمر : 73 ] . فإن قلت : فرق بين هذا وبين قوله : ( فادخلوها خالدين ) وذلك أنّ المدخول موجود مع وجود الدخول ، والخلود غير موجود معهما ، فقدرت مقدرين الخلود فكان مستقيماً ، وليس كذلك المبشر به ، فإنه معدوم وقت وجود البشارة ، وعدم المبشر به فإنه معدوم وقت وجود البشارة وعدم المبشر به أوجب عدم حاله لا محالة؛ لأنّ الحال حلية ، والحلية لا تقوم إلا بالمحلى ، وهذا المبشر به الذي هو إسحاق حين وجد لم توجد النبوّة أيضاً بوجوده ، بل تراخت عنه مدّة متطاولة ، فكيف يجعل نبياً حالاً مقدّرة ، والحال صفة الفاعل أو المفعول عند وجود الفعل منه أو به؛ فالخلود وإن يكن صفتهم عند دخول الجنة ، فتقديرها صفتهم؛ لأنّ المعنى مقدّرين الخلود ، وليس كذلك النبوّة؛ فإنه لا سبيل إلى أن تكون موجودة أو مقدّرة وقت وجود البشارة بإسحاق لعدم إسحاق . قلت : هذا سؤال دقيق السلك ضيق المسلك ، والذي يحل الإشكال : أنه لا بدّ من تقدير مضاف محذوف ، وذلك قولك : وبشرناه بوجود إسحاق نبياً ، أي بأن يوجد مقدّرة نبوّته؛ فالعامل في الحال الوجود لا فعل البشارة ، وبذلك يرجع ، نظير قوله تعالى : { فادخلوها خالدين } [ الزمر : 73 ] { مّنَ الصالحين } حال ثانية ، وورودها على سبيل الثناء والتقريظ؛ لأنّ كل نبي لا بدّ أن يكون من الصالحين . وعن قتادة : بشره الله بنبوّة إسحاق بعد ما امتحنه بذبحه ، وهذا جواب من يقول الذبيح إسحاق لصاحبه عن تعلقه لقوله : { وبشرناه بإسحاق } قالوا : ولا يجوز أن يبشره الله بمولده ونبوّته معاً؛ لأن الامتحان بذبحه لا يصحّ مع علمه بأنه سيكون نبياً { وباركنا عَلَيْهِ وعلى إسحاق } وقرىء : «وبَرَّكْنا» أي : أفضنا عليهما بركات الدين والدنيا ، كقوله : { وَآتَيْنَاه أَجْرَهُ فِى الدنيا وَإِنَّهُ فِى الأَخِرَةِ لَمِنَ الصالحين } [ العنكبوت : 27 ] وقيل : باركنا على إبراهيم في أولاده ، وعلى إسحاق بأن أخرجنا أنبياء بني إسرائيل من صلبه . وقوله : { وظالم لّنَفْسِهِ } نظيره : { قَالَ وَمِن ذُرّيَّتِى؟ قَالَ : لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين } [ البقرة : 124 ] وفيه تنبيه على أن الخبيث والطيب لا يجري أمرهما على العرق والعنصر ، فقد يلد البر الفاجر ، والفاجر البر . وهذا مما يهدم أمر الطبائع والعناصر ، وعلى أن الظلم في أعقابهما لم يعد عليهما بعيب ولا نقيصة ، وأنّ المرء يعاب بسوء فعله ويعاتب على ما اجترحت يداه ، لا على ما وجد من أصله أو فرعه .

وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)

{ مِنَ الكرب العظيم } من الغرق . أو من سلطان فرعون وقومه وغشمهم { ونصرناهم } الضمير لهما ولقومهما في قوله : { ونجيناهما وَقَوْمَهُمَا } . { الكتاب المستبين } البيلغ في بيانه وهو التوراة ، كما قال : { إِنَّا أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ } [ المائدة : 44 ] وقال : ومن جوز أن تكون التوراة عربية أن تشتق من روى الزند «فوعلة» منه ، على أنّ التاء مبدلة من واو { الصراط المستقيم } صراط أهل الإسلام ، وهي صراط الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين .

وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)

قرىء : «إلياس» بكسر الهمزة ، والياس : على لفظ الوصل . وقيل : هو إدريس النبي . وقرأ ابن مسعود : «وإنّ إدريس» ، في موضع إلياس . وقرىء : «إدراس» ، وقيل : هو إلياس بن ياسين ، من ولد هارون أخي موسى { أَتَدْعُونَ بَعْلاً } أتعبدون بعلاً ، وهو علم لصنم كان لهم كمناة وهبل . وقيل : كان من ذهب ، وكان طوله عشرين ذراعاً ، وله أربعة أوجه ، فتنوا به وعظموه حتى أخدموه أربعمائة سادن ، وجعلوهم أنبياءه ، فكان الشيطان يدخل في جوف - بعل - ويتكلم بشريعة الضلالة ، والسدنة يحفظونها ويعلمونها الناس ، وهم أهل بعلبك من بلاد الشام ، وبه سميت مدينتهم بعلبك . وقيل : البعل : الرب؛ بلغة اليمن ، يقال : من بعل هذه الدار ، أي : من ربها؟ والمعنى : أتعبدون بعض البعول وتتركون عبادة الله { الله رَبَّكُمْ وَرَبَّ ءابَائِكُمُ } قرىء : بالرفع على الابتداء ، وبالنصب على البدل ، وكان حمزة إذا وصل نصب ، وإذا وقف رفع : وقرىء : «على إلياسين» وإدريسين . وإدراسين . وإدرسين ، على أنها لغات في إلياس وإدريس . ولعل لزيادة الياء والنون في السريانية معنى . وقرىء : «على الياسين» بالوصل ، على أنه جمع يراد به إلياس وقومه ، كقولهم : الخبيبون والمهلبون . فإن قلت : فهلا حملت على هذا الياسين على القطع وأخواته؟ قلت : لو كان جمعاً لعرف بالألف واللام . وأما من قرأ : «على آل ياسين» فعلى أنّ ياسين اسم أبي إلياس ، أضيف إليه الآل .

وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138)

{ مُّصْبِحِينَ } داخلين في الصباح ، يعني : تمرون على منازلهم في متاجركم إلى الشام ليلاً ونهاراً ، فما فيكم عقول تعتبرون بها .

وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148)

قرىء : «يونس» بضم النون وكسرها . وسمي هربه من قومه بغير إذن ربه : إباقا على طريقة المجاز . والمساهمة : المقارعة . ويقال : استهم القوم ، إذا اقترعوا . والمدحض : المغلوب المقروع . وحقيقته : المزلق عن مقام الظفر والغلبة . روى : أنه حين ركب في السفينة وقفت ، فقالوا : ههنا عبد أبق من سيده ، وفيما يزعم البحارون أنّ السفينة إذا كان فيها آبق لم تجر ، فاقترعوا ، فخرجت القرعة على يونس فقال : أنا الآبق ، وزجّ بنفسه في الماء { فالتقمه الحوت وَهُوَ مُلِيمٌ } داخل في الملامة . يقال : رب لائم مليم ، أي يلوم غيره وهو أحقّ منه باللوم . وقرىء : «مليم» بفتح الميم ، من ليم فهو مليم ، كما جاء : مشيب في مشوب ، مبنياً على شيب . ونحوه : مدعي ، بناء على دعى { مِنَ المسبحين } من الذاكرين الله كثيراً بالتسبيح والتقديس . وقيل : هو قوله في بطن الحوت { لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سبحانك إِنّى كُنتُ مِنَ الظالمين } [ الأنبياء : 87 ] وقيل : من المصلين . وعن ابن عباس : كل تسبيح في القرآن فهو صلاة . وعن قتادة : كان كثير الصلاة في الرخاء . قال : وكان يقال : إن العمل الصالح يرفع صاحبه إذا عثر ، وإذا صرع وجد متكأً . وهذا ترغيب من الله عزّ وجلّ في إكثار المؤمن من ذكره بما هو أهله ، وإقباله على عبادته ، وجمع همه لتقييد نعمته بالشكر في وقت المهلة والفسحة ، لينفعه ذلك عنده تعالى في المضايق والشدائد { لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ } الظاهر لبثه فيه حياً إلى يوم البعث . وعن قتادة : لكان بطن الحوت له قبراً إلى يوم القيامة . وروي أنه حين ابتلعه أوحى الله إلى الحوت : إني جعلت بطنك له سجناً ، ولم أجعله لك طعاماً . واختلف في مقدار لبثه ، فعن الكلبي : أربعون يوماً ، وعن الضحاك : عشرون يوماً . وعن عطاء سبعة . وعن بعضهم : ثلاثة . وعن الحسن : لم يلبث إلاّ قليلاً ، ثم أخرج من بطنه بعيد الوقت الذي التقم فيه . وروي : أنّ الحوت سار مع السفينة رافعاً رأسه يتنفس فيه يونس ويسبح ، ولم يفارقهم حتى انتهوا إلى البر ، فلفظه سالماً لم يتغير منه شيء ، فأسلموا : وروي أن الحوت قذفه بساحل قرية من الموصل . والعراء : المكان الخالي لا شجر فيه ولا شيء يغطيه { وَهُوَ سَقِيمٌ } اعتلّ مما حلّ به ، وروي : أنه عاد بدنه كبدن الصبيِّ حين يولد . واليقطين : كل ما ينسدح على وجه الأرض ولا يقوم على ساق كشجر البطيخ والقثاء والحنظل ، وهو «يفعيل» من قطن بالمكان إذا قام به . وقيل هو : الدباء . وفائدة الدباء : أن الذباب لا يجتمع عنده - وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم :

( 950 ) : إنك لتحب القرع . قال : " أجل هي شجرة أخي يونس " وقيل : هي التين ، وقيل : شجرة الموز ، تغطى بورقها .

واستظلّ بأغصانها ، وأفطر على ثمارها . وقيل : كان يستظلّ بالشجرة وكانت وعلة تختلف إليه ، فيشرب من لبنها . وروي : أنه مرّ زمان على الشجرة فيبست ، فبكى جزعاً ، فأوحى الله إليه : بكيت على شجرة ولا تبكي على مائة ألف في يد الكافر ، فإن قلت : ما معنى { وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً } ؟ قلت : أنبتناها فوقه مظلة له؛ كما يطنب البيت على الإنسان { وأرسلناه إلى مِاْئَةِ أَلْفٍ } المراد به ما سبق من إرساله إلى قومه وهم أهل نينوى . وقيل : هو إرسال ثان بعد ما جرى عليه إلى الأولين . أو إلى غيرهم . وقيل : أسلموا فسألوه أن يرجع إليهم فأبى ، لأنّ النبيّ إذا هاجر عن قومه لم يرجع إليهم مقيماً فيهم ، وقال لهم : إن الله باعث إليكم نبياً { أَوْ يَزِيدُونَ } في مرأى الناظر؛ أي : إذا رآها الرائي قال : هي مائة ألف أو أكثر؛ والغرض : الوصف بالكثرة { إلى حِينٍ } إلى أجل مسمى وقرىء : «ويزيدون» بالواو . وحتى حين .

فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157)

{ فاستفتهم } معطوف على مثله في أوّل السورة ، وإن تباعدت بينهما المسافة : أمر رسوله باستفتاء قريش عن وجه إنكار البعث أوّلاً ، ثم ساق الكلام موصولاً بعضه ببعض ، ثم أمره باستفتائهم عن وجه القسمة الضيزى التي قسموها ، حيث جعلوا لله الإناث ولأنفسهم الذكور في قولهم : الملائكة بنات الله ، مع كراهتهم الشديدة لهنّ ، ووأدهم ، واستنكافهم من ذكرهنّ . ولقد ارتكبوا في ذلك ثلاثة أنواع من الكفر ، أحدها : التجسيم ، لأن الولادة مختصة بالأجسام والثاني : تفضيل أنفسهم على ربهم حين جعلوا أوضع الجنسين له وأرفعهما لهم ، كما قال : { وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ للرحمن مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ } [ الزخرف : 17 ] ، { أَوْ مِن يُنَشَّأُ فِى الحلية وَهُوَ فِى الخصام غَيْرُ مُبِينٍ } [ الزخرف : 18 ] والثالث : أنهم استهانوا بأكرم خلق الله عليه وأقربهم إليه ، حيث أنثوهم ولو قيل لأقلهم وأدناهم : فيك أنوثة ، أو شكلك شكل النساء ، للبس لقائله جلد النمر ، ولانقلبت حماليقه وذلك في أهاجيهم بين مكشوف ، فكرّر الله سبحانه الأنواع كلها في كتابه مرّات ودلّ على فظاعتها في آيات : { وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً } [ مريم : 88 - 89 ] ، { وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ } [ الأنبياء : 26 ] ، { وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَدًا سبحانه بَل لَّهُ مَا فِي السموات والأرض } [ البقرة : 116 ] ، { بَدِيعُ السموات والأرض أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ } [ الأنعام : 101 ] ، { ألا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ الله } [ الصافات : 151-152 ] ، { وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءا } [ الزخرف : 15 ] ، { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ بَنَاتٍ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ } [ النحل : 57 ] ، { أَمْ لَهُ البنات وَلَكُمُ البنون } [ الطور : 39 ] ، { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ } [ النحل : 62 ] ، { أَصْطَفَى البنات على البنين } [ الصافات : 153 ] ، { أَمِ اتخذ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وأصفاكم بالبنين } [ الزخرف : 16 ] ، { وَجَعَلُواْ الملئكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إناثا } [ الزخرف : 19 ] . { أم خَلَقْنَا الملائكة إناثا وَهُمْ شاهدون } فإن قلت : لم قال : { وَهُمْ شاهدون } فخصّ علم المشاهدة؟ قلت : ما هو إلا استهزاء بهم وتجهيل لهم ، وكذلك قوله : { أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ } [ الزخرف : 19 ] ونحوه قوله : { مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ } [ الكهف : 51 ] وذلك أنهم كما لم يعلموا ذلك بطريق المشاهدة ، لم يعلموه بخلق الله علمه في قلوبهم . ولا بإخبار صادق ، ولا بطريق استدلال ونظر . ويجوز أن يكون المعنى : أنهم يقولون ذلك ، كالقائل قولاً عن ثلج صدر وطمأنينة نفس لإفراط جهلهم ، كأنهم قد شاهدوا خلقهم . وقرىء : «ولد الله» أي الملائكة ولده . والولد «فعل» بمعنى مفعول ، يقع على الواحد والجمع ، والمذكر والمؤنث . تقول : هذه ولدي ، وهؤلاء ولدي . فإن قلت : { أَصْطَفَى البنات } بفتح الهمزة : استفهام على طريق الإنكار والاستبعاد ، فكيف صحّت قراءة أبي جعفر بكسر الهمزة على الإثبات؟ قلت : جعله من كلام الكفرة بدلاً عن قولهم : { وَلَدَ الله } وقد قرأ بها حمزة والأعمش رضي الله عنهما .

وهذه القراءة - وإن كان هذا محملها - فهي ضعيفة ، والذي أضعفها : أن الإنكار قد اكتنف هذه الجملة من جانبيها ، وذلك قوله : { وَإِنَّهُمْ لكاذبون } . { مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } ؟ فمن جعلها للإثبات ، فقد أوقعها دخيلة بين نسيبين . وقرىء : «تذكرون» من ذكر { أَمْ لَكُمْ سلطان } أي حجة نزلت عليكم من السماء وخبر بأن الملائكة بنات الله { فَأْتُواْ بكتابكم } الذي أنزل عليكم في ذلك ، كقوله تعالى : { أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سلطانا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ } [ الروم : 35 ] وهذه الآيات صادرة عن سخط عظيم ، وإنكار فظيع ، واستبعاد لأقاويلهم شديد؛ وما الأساليب التي وردت عليها إلاّ ناطقة بتسفيه أحلام قريش ، وتجهيل نفوسها ، واستركاك عقولها ، مع استهزاء وتهكم وتعجيب ، من أن يخطر مخطر مثل ذلك على بالٍ ويحدّث به نفساً؛ فضلاً أن يجعله معتقداً ويتظاهر به مذهباً .

وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)

{ وَجَعَلُواْ } بين الله وبين الجنة وأراد الملائكة { نَسَباً } وهو زعمهم أنهم بناته ، والمعنى : جعلوا بما قالوا : نسبة بين الله وبينهم ، وأثبتوا له بذلك جنسية جامعة له وللملائكة . فإن قلت : لم سمي الملائكة جنة؟ قلت : قالوا : الجنس واحد ، ولكن من خبث من الجن ومرد وكان شراً كله فهو شيطان ، ومن طهر منهم ونسك وكان خيراً كله فهو ملك؛ فذكرهم في هذا الموضع باسم جنسهم ، وإنما ذكرهم بهذا الاسم وضعاً منهم وتقصيراً بهم . وإن كانوا معظمين في أنفسهم أن يبلغوا منزلة المناسبة التي أضافوها إليهم . وفيه إشارة إلى أن من صفته الاجتنان والاستتار ، وهو من صفات الأجرام لا يصلح أن يناسب من لا يجوز عليه ذلك . ومثاله : أن تسوّي بين الملك وبين بعض خواصه ومقرّبيه ، فيقول لك : أتسوّى بيني وبين عبدي . وإذا ذكره في غير هذا المقام وقرّه وكناه . والضمير في { إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } للكفرة . والمعنى : أنهم يقولون ما يقولون في الملائكة ، وقد علم الملائكة أنهم في ذلك كاذبون مفترون ، وأنهم محضرون النار معذبون بما يقولون ، والمراد المبالغة في التكذيب . حيث أضيف إلى علم الذين ادّعوا لهم تلك النسبة . وقيل : قالوا إنّ الله صاهر الجن فخرجت الملائكة . وقيل : قالوا : إن الله والشيطان أخوان .

وعن الحسن : أشركوا الجن في طاعة الله . ويجوز إذا فسر الجنة بالشياطين : أن يكون الضمير في { فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } لهم ، والمعنى أن الشياطين عالمون بأنّ الله يحضرهم النار ويعذّبهم ، ولو كانوا مناسبين له أو شركاء في وجوب الطاعة لما عذّبهم { إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين } استثناء منقطع من المحضرين : معناه ولكن المخلصين ناجون . وسبحان الله : اعتراض بين الاستثناء وبين ما وقع منه . ويجوز أن يقع الاستثناء من الواو في يصفون ، أي : يصفه هؤلاء بذلك ، ولكن المخلصون برآء من أن يصفوه به .

فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163)

والضمير في { عَلَيْهِ } لله عزّ وجلّ ومعناه : فإنكم ومعبودكم ما أنتم وهم جميعاً بفاتنين على الله إلاّ أصحاب النار الذين سبق في علمه أنهم لسوء أعمالهم يستوجبون أن يصلوها . فإن قلت : كيف يفتنونهم على الله؟ قلت : يفسدونهم عليه بإغوائهم واستهزائهم ، من قولك : فتن فلان على فلان امرأته ، كما تقول : أفسدها عليه وخيبها عليه . ويجوز أن يكون الواو في { وَمَا تَعْبُدُونَ } بمعنى مع ، مثلها في قولهم : كل رجل وضيعته ، فكما جاز السكوت على كل رجل وضيعته ، وأنّ كل رجل وضيعته؛ جاز أن يسكت على قوله : { فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ } لأن قوله : { وَمَا تَعْبُدُونَ } سادّ مسدّ الخبر؛ لأن معناه : فإنكم مع ما تعبدون . والمعنى : فإنكم مع آلهتكم ، أي : فإنكم قرناؤهم وأصحابهم لا تبرحون تعبدونها ، ثم قال : ما أنتم عليه ، أي : على ما تعبدون { بفاتنين } بباعثين أو حاملين على طريق الفتنة والإضلال { إِلاَّ مَنْ هُوَ } ضال مثلكم . أو يكون في أسلوب قوله :

فَإنَّكَ وَالْكِتَابُ إلَى عَلِيٍّ ... كَدَابِغَةٍ وَقَدْ حَلِمَ الأَدِيمُ

وقرأ الحسن «صال الجحيم» بضم اللام . وفيه ثلاثة أوجه ، أحدها : أن يكون جمعاً وسقوط واوه لالتقاء الساكنين هي ولام التعريف . فإن قلت : كيف استقام الجمع مع قوله : { مَنْ هُوَ } ؟ قلت : من موحد اللفظ مجموع المعنى فحمل هو على لفظه والصالون على معناه كما حمل في مواضع من التنزيل على لفظ من ومعناه في آية واحدة . والثاني : أن يكون أصله صائل على القلب ، ثم يقال صال في صائل ، كقولهم شاك في شائك . والثالث : أن تحذف لام صال تخفيفاً ويجري الإعراب على عينه ، كما حذف من قولهم : ما باليت به بالة ، وأصلها بالية من بالي ، كعافية من عافى . ونظيره قراءة من قرأ : { وَجَنَى الجَنَّتَيْنِ دَانٍ } [ الرحمن : 54 ] ، { وَلَهُ الجوار المُنْشَآتِ } [ الرحمن : 24 ] بإجراء الإعراب على العين .

وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166)

{ وَمَا مِنَّا } أحد { إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه ، كقوله :

أَنَا ابْنُ جَلاَ وَطَلاَّعُ الثَّنَايَا ... بِكَفَّيْ كَانَ مِنْ أَرْمَى الْبَشَرْ ... مقام معلوم : في العبادة ، والانتهاء إلى أمر الله مقصور عليه لا يتجاوزه ، كما روى : فمنهم راكع لا يقيم صلبه ، وساجد لا يرفع رأسه { لَنَحْنُ الصافون } نصف أقدامنا في الصلاة ، أو أجنحتنا في الهواء . منتظرين ما نؤمر . وقيل : نصف أجنحتنا حول العرش داعين للمؤمنين . وقيل : إنّ المسلمين إنما اصطفوا في الصلاة منذ نزلت هذه الآية . وليس يصطف أحد من أهل الملل في صلاتهم غير المسلمين { المسبحون } أي المنزهون أو المصلون . والوجه أن يكون هذا وما قبله من قوله : { سبحان الله عَمَّا يَصِفُونَ } [ الصافات : 159 ] من كلام الملائكة حتى يتصل بذكرهم في قوله : { وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجنة } [ الصافات : 158 ] كأنه قيل : ولقد علم الملائكة وشهدوا أن المشركين مفترون عليهم في مناسبة رب العزّة وقالوا : سبحان الله ، فنزهوه عن ذلك ، واستثنوا عباد الله المخلصين وبرؤهم منه ، وقالوا للكفرة فإذا صحّ ذلك فإنكم وآلهتكم لا تقدرون أن تفتنوا على الله أحداً من خلقه وتضلّوه ، إلاّ من كان مثلكم ممن علم الله - لكفرهم ، لا لتقديره وإرادته ، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً - أنهم من أهل النار ، وكيف نكون مناسبين لربّ العزّة ويجمعنا وإياه جنسية واحدة؟ وما نحن إلاّ عبيد أذلاء بين يديه ، لكل منا مقام من الطاعة لا يستطيع أن يزل عنه ظفراً ، خشوعاً لعظمته وتواضعاً لجلاله ، ونحن الصافون أقدامنا لعبادته وأجنحتنا ، مذعنين خاضعين مسبحين ممجدين ، وكما يجب على العباد لربهم . وقيل : هو من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يعني : وما من المسلمين أحد إلاّ له مقام معلوم يوم القيامة على قدر عمله ، من قوله : { عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا } [ الإسراء : 79 ] ثم ذكر أعمالهم وأنهم هم الذين يصطفون في الصلاة يسبحون الله وينزهونه مما يضيف إليه من لا يعرفه مما لا يجوز عليه .

وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)

هم مشركو قريش كانوا يقولون : { لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً } أي كتاباً { مِّنَ } كتب { الأولين } الذين نزل عليهم التوراة والإنجيل ، لأخلصنا العبادة لله ، ولما كذبنا كما كذبوا ، ولما خالفنا كما خالفوا ، فجاءهم الذكر الذي هو سيد الأذكار ، والكتاب الذي هو معجز من بين الكتب ، فكفروا به . ونحوه { فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً } [ فاطر : 42 ] فسوف يعلمون مغبة تكذيبهم وما يحل بهم من الانتقام . و ( إن ) هي المخففة من الثقيلة ، واللام هي الفارقة . وفي ذلك أنهم كانوا يقولونه مؤكدين للقول جادّين فيه ، فكم بين أوّل أمرهم وآخره .

وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)

الكلمة : قوله : { إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون ( 172 ) وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون ( 173 ) } وإنما سماها كلمة وهي كلمات عدّة ، لأنها لما انتظمت في معنى واحد كانت في حكم مفردة . وقرىء : «كلماتنا» والمراد الموعد بعلوهم على عدوهم في مقام الحجاج وملاحم القتال في الدنيا ، وعلوهم عليهم في الآخرة ، كما قال : { والذين اتقوا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامة } [ البقرة : 212 ] ولا يلزم انهزامهم في بعض المشاهد ، وما جرى عليهم من القتل فإن الغلبة كانت لهم ولمن بعدهم في العاقبة ، وكفى بمشاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين مثلاً يحتذى عليها وعبراً يعتبر بها . وعن الحسن رحمه الله : ما غلب نبيّ في حرب ولا قتل فيها ، ولأن قاعدة أمرهم وأساسه والغالب منه : الظفر والنصرة - وإن وقع في تضاعيف ذلك شوب من الابتلاء والمحنة - والحكم للغالب . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : إن لم ينصروا في الدنيا نصروا في الآخرة . وفي قراءة ابن مسعود : «على عبادنا» ، على تضمين سبقت معنى حقت .

فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175)

{ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } فأعرض عنهم وأغض على أذاهم { حتى حِينٍ } إلى مدة يسيرة وهي مدّة الكف عن القتال . وعن السدي : إلى يوم بدر . وقيل : الموت . وقيل : إلى يوم القيامة { وَأَبْصِرْهُمْ } وما يقضى عليهم من الأسر والقتل والعذاب في الآخرة ، فسوف يبصرونك وما يقضى لك من النصرة والتأييد والثواب في العاقبة . والمراد بالأمر بإبصارهم على الحال المنتظرة الموعودة : الدلالة على أنها كائنة واقعة لا محالة ، وأنّ كينونتها قريبة كأنها قدام ناظريك . وفي ذلك تسلية له وتنفيس عنه . وقوله : { فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ } للوعيد كما سلف لا للتبعيد .

أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179)

مثل العذاب النازل بهم بعد ما أنذروه فأنكروه بجيش أنذر بهجومه قومه بعض نصاحهم فلم يلتفتوا إلى إنذاره ، ولا أخذوا أهبتهم ، ولا دبروا أمرهم تدبيراً ينجيهم ، حتى أناخ بفنائهم بغتة ، فشنّ عليهم الغارة وقطع دابرهم ، وكانت عادة مغاويرهم أن يغيروا صباحاً ، فسميت الغارة صباحاً وإن وقعت في وقت آخر ، وما فصحت هذه الآية ولا كانت لها الروعة التي تحس بها ويروقك موردها على نفسك وطبعك ، إلا لمجيئها على طريقة التمثيل ، وقرأ ابن مسعود : فبئس صباح . وقرىء : «نزل بساحتهم» على إسناده إلى الجار والمجرور كقولك : ذهب بزيد ونزل ، على : ونزل العذاب . والمعنى : فساء صباح المنذرين صباحهم ، واللام في المنذرين مبهم في جنس من أنذروا ، لأنّ ساء وبئس يقتضيان ذلك . وقيل : هو نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح بمكة . وعن أنس رضي الله عنه :

( 951 ) لما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر - كانوا خارجين إلى مزارعهم ومعهم المساحي - قالوا : محمد والخميس ، ورجعوا إلى حصنهم . فقال عليه الصلاة والسلام : " الله أكبر خربت خيبر ، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين " وإنما ثنى { وَتَوَلَّ عَنْهُمْ } ليكون تسلية على تسلية . وتأكيداً لوقوع الميعاد إلى تأكيد . وفيه فائدة زائدة وهي إطلاق الفعلين معاً عن التقييد بالمفعول ، وأنه يبصر وهم يبصرون ما لا يحيط به الذكر من صنوف المسرة وأنواع المساءة . وقيل : أريد بأحدهما عذاب الدنيا ، وبالآخر عذاب الآخرة .

سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)

أضيف الرب إلى العزّة لاختصاصه بها كأنه قيل : ذو العزّة ، كما تقول : صاحب صدق لاختصاصه بالصدق . ويجوز أن يراد أنه ما من عزّة لأحد من الملوك وغيرهم إلاّ وهو ربها ومالكها ، كقوله تعالى : { تعز مَن تَشَاء } [ آل عمران : 26 ] : اشتملت السورة على ذكر ما قاله المشركون في الله ونسبوا إليه ، مما هو منزه عنه ، وما عاناه المرسلون من جهتهم ، وما خوّلوه في العاقبة من النصرة عليهم؛ فختمها بجوامع ذلك من تنزيه ذاته عما وصفه به المشركون ، والتسليم على المرسلين { والحمد للَّهِ رَبّ العالمين } على ما قيض لهم من حسن العواقب ، والغرض تعليم المؤمنين أن يقولوا ذلك ولا يخلوا به ولا يغفلوا عن مضمنات كتابه الكريم ومودعات قرآنه المجيد . وعن عليّ رضي الله عنه :

( 952 ) «من أحبّ أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة ، فليكن آخر كلامه إذا قام من مجلسه : سبحان ربك رب العزّة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين» .

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( 953 ) " من قرأ والصافات أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كل جني وشيطان ، وتباعدت عنه مردة الشياطين وبرىء من الشرك وشهد له حافظاه يوم القيامة أنه كان مؤمناً بالمرسلين " .

ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2)

{ ص } على الوقف وهي أكثر القراءة . وقرىء : بالكسر والفتح لالتقاء الساكنين ، ويجوز أن ينتصب بحذف حرف القسم وإيصال فعله ، كقولهم : الله لأفعلنّ ، كذا بالنصب ، أو بإضمار حرف القسم ، والفتح في موضع الجرّ ، كقولهم : الله لأفعلنّ ، بالجرّ وامتناع الصرف للتعريف والتأنيث ، لأنها بمعنى السورة ، وقد صرفها من قرأ { ص } بالجرّ والتنوين على تأويل الكتاب والتنزيل ، وقيل : فيمن كسر هو من المصاداة وهي المعارضة والمعادلة . ومنها الصدى وهو ما يعارض الصوت في الأماكن الخالية من الأجسام الصلبة ، ومعناه : عارض القرآن بعملك فاعمل بأوامره وانته عن نواهيه . فإن قلت : قوله : { ص والقرءان ذِى الذكر بَلِ الذين كَفَرُواْ فِى عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } كلام ظاهره متنافر غير منتظم ، فما وجه انتظامه؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن يكون قد ذكر اسم هذا الحرف من حروف المعجم على سبيل التحدّي والتنبيه على الإعجاز كما مرّ في أوّل الكتاب ، ثم أتبعه القسم محذوف الجواب لدلالة التحدّي عليه ، كأنه قال : { والقرءان ذِى الذكر } إنه لكلام معجز . والثاني : أن يكون { ص } خبر مبتدأ محذوف ، على أنها اسم للسورة ، كأنه قال : هذه ص ، يعني : هذه السورة التي أعجزت العرب ، والقرآن ذي الذكر ، كما تقول : هذا حاتم والله ، تريد : هذا هو المشهور بالسخاء والله؛ وكذلك إذا أقسم بها كأنه قال : أقسمت بص والقرآن ذي الذكر إنه لمعجز ثم قال : بل الذين كفروا في عزة واستكبار عن الإذعان لذلك والاعتراف بالحق وشقاق لله ورسوله ، وإذا جعلتها مقسماً بها وعطفت عليها { والقرءان ذِى الذكر } جاز لك أن تريد بالقرآن التنزيل كله ، وأن تريد السورة بعينها . ومعناه : أقسم بالسورة الشريفة والقرآن ذي الذكر ، كما تقول : مررت بالرجل الكريم وبالنسمة المباركة ، ولا تريد بالنسمة غير الرجل . والذكر : الشرف والشهرة ، من قولك : فلان مذكور ، { وإنه لذكر لك ولقومك } [ الزخرف : 44 ] أو الذكرى والموعظة ، أو ذكر ما يحتاج إليه في الدين من الشرائع وغيرها ، كأقاصيص الأنبياء والوعد والوعيد . والتنكير في { عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } للدّلالة على شدّتهما وتفاقمهما . وقرىء : «في غرّة» أي : في غفلة عما يجب عليهم من النظر واتباع الحقّ .

كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3)

{ كَمْ أَهْلَكْنَا } وعيد لذوي العزّة والشقاق { فَنَادَواْ } فدعوا واستغاثوا ، وعن الحسن . فنادوا بالتوبة { وَّلاَتَ } هي لا المشبهة بليس ، زيدت عليها تاء التأنيث كما زيدت على رب ، وثم للتوكيد ، وتغير بذلك حكمها حيث لم تدخل إلا على الأحيان ولم يبرز إلا أحد مقتضييها : إمّا الاسم وإما الخبر ، وامتنع بروزهما جميعاً ، وهذا مذهب الخليل وسيبويه . وعند الأخفش : أنها لا النافية للجنس زيدت عليها التاء ، وخصّت بنفي الأحيان . و { حِينَ مَنَاصٍ } منصوب بها ، كأنك قلت : ولا حين مناص لهم . وعنه : أنّ ما ينتصب بعده بفعل مضمر ، أي : ولا أرى حين مناص ويرتفع بالابتداء : أي ولا حين مناص كائن لهم وعندهما أن النصب على : ولات الحين حين مناص ، أي : وليس الحين حين مناص والرفع على ولات حين مناص حاصلاً لهم . وقرىء : «حين مناص» بالكسر ، ومثله قول أبي زبيد الطائي :

طَلَبُوا صُلْحَنَا وَلاَتَ أَوَانٍ ... فَأَجَبْنَا أَنْ لاَتَ حِينَ بَقَاءِ

فإن قلت : ما وجه الكسر في أوان؟ قلت : شبه بإذ في قوله : وأنت إذ صحيح ، في أنه زمان قطع منه المضاف إليه وعوض التنوين : لأنّ الأصل : ولات أوان صلح . فإن قلت : فما تقول في حين مناص والمضاف إليه قائم؟ قلت : نزل قطع المضاف إليه من مناص؛ لأنّ أصله حين مناصهم منزلة من قطعة من حين ، لاتخاد المضاف والمضاف إليه ، وجعل تنوينه عوضاً من الضمير المحذوف ، ثم بنى الحين لكونه مضافاً إلى غير متمكن . وقرىء : «ولات» بكسر التاء على البناء ، كجير . فإن قلت : كيف يوقف على لات؟ قلت : يوقف عليها بالتاء ، كما يوقف على الفعل الذي يتصل به تاء التأنيث . وأمّا الكسائي فيقف عليها بالهاء كما يقف على الأسماء المؤنثة . وأمّا قول أبي عبيد : إنّ التاء داخلة على حين فلا وجه له . واستشهاده بأنّ التاء ملتزقة بحين في الإمام لا متشبث به ، فكم وقعت في المصحف أشياء خارجة عن قياس الخط . والمناص : المنجا والفوت . يقال : ناصه ينوصه إذا فاته . واستناص : طلب المناص . قال حارثة بن بدر :

غَمْرُ الْجِرَاءِ إِذَا قَصَرْتُ عِنَانَهُ ... بِيَدي اسْتَنَاصَ وَرَامَ جَرْيَ المُسْحِلِ

وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)

{ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ } رسول من أنفسهم { وَقَالَ الكافرون } ولم يقل : وقالوا : إظهاراً للغضب عليهم ، ودلالة على أنّ هذا القول لا يجسر عليه إلاّ الكافرون المتوغلون في الكفر المنهمكون في الغيّ الذين قال فيهم : { أُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون حَقّاً } [ النساء : 151 ] وهل ترى كفراً أعظم وجهلاً أبلغ من أن يسموا من صدّقه الله بوحيه كاذباً ، ويتعجبوا من التوحيد ، وهو الحق الذي لا يصحّ غيره ، ولا يتعجبوا من الشرك وهو الباطل الذي لا وجه لصحته . روي :

( 954 ) أَنّ إسلام عمر رضي الله تعالى عنه فرح به المؤمنون فرحاً شديداً ، وشقّ على قريش وبلغ منهم ، فاجتمع خمسة وعشرون نفساً من صناديدهم ومشوا إلى أبي طالب وقالوا : أنت شيخنا وكبيرنا ، وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء ، يريدون : الذين دخلوا في الإسلام ، وجئناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك ، فاستحضر أبو طالب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : يا ابن أخي ، هؤلاء قومك يسألونك السَّواء فلا تمل كل الميل على قومك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ماذا يسألونني؟ " قالوا : ارفضنا وارفض ذكر آلهتنا وندعك وإلهك ، فقال عليه السلام : " أرأيتم إن أعطيتكم ما سألتم أمعطيّ أنتم كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم؟ " فقالوا : نعم وعشراً ، أي نعطيكها وعشر كلمات معها ، فقال : " قولوا : لا إله إلاّ الله " فقاموا وقالوا : { أَجَعَلَ الألهة إلها واحدا إِنَّ هذا لَشَىْءٌ عُجَابٌ } أي : بليغ في العجب . وقرىء : «عجاب» بالتشديد ، كقوله تعالى : { مَكْراً كُبَّاراً } [ نوح : 22 ] وهو أبلغ من المخفف . ونظيره : كريم وكرام وكرام : وقوله : { أَجَعَلَ الالهة إلها واحدا } مثل قوله : { وَجَعَلُواْ الملئكة الذين هُمْ عباد الرحمن إناثا } [ الزخرف : 19 ] في أن معنى الجعل التصيير في القول على سبيل الدعوى والزعم ، كأنه قال : أجعل الجماعة واحداً في قوله ، لأنّ ذلك في الفعل محال .

وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7)

{ الملأ } أشراف قريش ، يريد : وانطلقوا عن مجلس أبي طالب بعد ما بكتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم بالجواب العتيد ، قائلين بعضهم لبعض { امشوا وَاْصْبِرُواْ } فلا حيلة لكم في دفع أمر محمد { إِنَّ هَذَا } الأمر { لَشَىْءٌ يُرَادُ } أي : يريده الله تعالى ويحكم بإمضائه ، وما أراد الله كونه فلا مردّ له ولا ينفع فيه إلا الصبر ، أو إن هذا الأمر لشيء من نوائب الدهر يراد بنا فلا انفكاك لنا منه : أو إن دينكم لشيء يراد ، أي : يطلب ليؤخذ منكم وتغلبوا عليه . و ( أن ) بمعنى أي : لأنّ المنطلقين عن مجلس التقاول لا بدّ لهم من أن يتكلموا ويتفاوضوا فيما جرى لهم ، فكان انطلاقهم مضمناً معنى القول ، ويجوز أن يراد بالانطلاق : الاندفاع في القول ، وأنهم قالوا : امشوا ، أي : أكثروا واجتمعوا ، من مشت المرأة إذا كثرت ولادتها . ومنه : الماشية ، للتفاؤل ، كما قيل لها : الفاشية . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( 955 ) " ضموا فواشيكم " ومعنى { وَاْصْبِرُواْ على ءَالِهَتِكُمْ } : واصبروا على عبادتها والتمسك بها حتى لا تزالوا عنها ، وقرىء : «وانطلق الملأ منهم امشوا» بغير ( أن ) على إضمار القول . وعن ابن مسعود : «وانطلق الملأ منهم يمشون أن اصبروا» { فِى الملة الأخرة } في ملة عيسى التي هي آخر الملل؛ لأنّ النصارى يدعونها وهم مثلثة غير موحدة . أو في ملة قريش التي أدركنا عليها آباءنا . أو ما سمعنا بهذا كائناً في الملة الآخرة ، على أن يجعل في الملة الآخرة حالاً من هذا ولا تعلقه بما سمعنا كما في الوجهين . والمعنى : إنا لم نسمع من أهل الكتاب ولا من الكهان أنه يحدث في الملة الآخرة توحيد الله . ما { هذا إِلاَّ اختلاق } أي : افتعال وكذب .

أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11)

أنكروا أن يختص بالشرف من بين أشرافهم ورؤوسائهم وينزل عليه الكتاب من بينهم كما قالوا : { لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] وهذا الإنكار ترجمة عما كانت تغلي به صدورهم من الحسد على ما أوتي من شرف النبوّة من بينهم { بَلْ هُمْ فَى شَكٍّ } من القرآن ، يقولون في أنفسهم : إما وإما . وقولهم : { إِنْ هذا إِلاَّ اختلاق } كلام مخالف لاعتقادهم فيه يقولونه على سبيل الحسد { بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ } بعد فإذا ذاقوه زال عنهم ما بهم من الشك والحسد حينئذ ، يعني : أنهم لا يصدقون به إلا أن يمسهم العذاب مضطرين إلى تصديقه { أَمْ عِندَهُمْ خَزآئِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ } يعني : ما هم بمالكي خزائن الرحمة حتى يصيبوا بها من شاؤوا ويصرفوها عمن شاؤوا ، ويتخيروا للنبوّة بعض صناديدهم ، ويترفعوا بها عن محمد عليه الصلاة والسلام . وإنما الذي يملك الرحمة وخزائنها : العزيز القاهر على خلقه ، الوهاب الكثير المواهب المصيب بها مواقعها ، الذي يقسمها على ما تقتضيه حكمته وعدله ، كما قال : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا } [ الزخرف : 32 ] ثم رشح هذا المعنى فقال : { أَمْ لَهُم مُّلْكُ السماوات والأرض } حتى يتكلموا في الأمور الربانية والتدابير الإلهية التي يختص بها ربّ العزّة والكبرياء ، ثم تهكم بهم غاية التهكم فقال : وإن كانوا يصلحون لتدبير الخلائق والتصرف في قسمة الرحمة ، وكانت عندهم الحكمة التي يميزون بها بين من هو حقيق بإيتاء النبوّة دون من لا تحق له { فَلْيَرْتَقُواْ فِى الأسباب } فليصعدوا في المعارج والطرق التي يتوصل بها إلى العرش ، حتى يستووا عليه ويدبروا أمر العالم وملكوت الله ، وينزلوا الوحي إلى من يختارون ويستصوبون ، ثم خسأهم خساءة عن ذلك بقوله : { جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّن الأحزاب } يريد : ما هم إلا جيش من الكفار المتحزبين على رسل الله ، مهزوم مكسور عما قريب فلا تبال بما يقولون ، ولا تكترث لما به يهذون . و ( ما ) مزيدة ، وفيها معنى الاستعظام ، كما في قول امرىء القيس :

وَحَدِيثٌ مَا عَلَى قِصَرِهْ ... إلا أنه على سبيل الهزء و { هُنَالِكَ } إشارة إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل ذلك القول العظيم ، من قولهم لمن ينتدب لأمر ليس من أهله : لست هنالك .

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15)

{ ذُو الأوتاد } أصله من ثبات البيت المطنب بأوتاده ، قال :

وَالْبَيْتُ لاَ يُبْتَنَى إلاَّ عَلَى عَمَدٍ ... وَلاَ عِمَادَ إِذَا لَمْ تَرْسُ أَوْتَادُ

فاستعير لثبات العز والملك واستقامة الأمر ، كما قال الأسود :

فِي ظِلِّ مُلْكٍ ثَابِتِ الأَوْتَادِ ... وقيل : كان يشبح المعذب بين أربع سوار : كل طرف من أطرافه إلى سارية مضروب فيه وتد من حديد ، ويتركه حتى يموت . وقيل : كان يمدّه بين أربعة أوتاد في الأرض ويرسل عليه العقارب والحيات . وقيل : كانت له أوتاد وحبال يلعب بها بين يديه { أُوْلَئِكَ الأحزاب } قصد بهذه الإشارة الإعلام بأنّ الأحزاب الذين جعل الجند المهزوم منهم هم هم ، وأنهم هم الذين وجد منهم التكذيب . ولقد ذكر تكذيبهم أولاً في الجملة الخبرية على وجه الإبهام ، ثم جاء بالجملة الاستثنائية فأوضحه فيها : بأنّ كل واحد من الأحزاب كذب جميع الرسل ، لأنهم إذا كذبوا واحداً منهم فقد كذبوهم جميعاً . وفي تكرير التكذيب وإيضاحه بعد إبهامه ، والتنويع في تكريره بالجملة الخبرية أوّلاً وبالاستثنائية ثانيا ، وما في الاستثنائية من الوضع على وجه التوكيد والتخصيص : أنواع من المبالغة المسجلة عليهم باستحقاق أشدّ العقاب و أبلغه ، ثم قال : { فَحَقَّ عِقَابِ } أي : فوجب لذلك أن أعاقبهم حقّ عقابهم { هاؤلآء } أهل مكة . ويجوز أن يكون إشارة إلى جميع الأحزاب لاستحضارهم بالذكر ، أو لأنهم كالحضور عند الله . والصيحة : النفخة { مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ } وقرىء : بالضم : ما لها من توقف مقدار فواق ، وهو ما بين حلبتي الحالب ورضعتي الراضع . يعني : إذا جاء وقتها لم تستأخر هذا القدر من الزمان ، كقوله تعالى : { فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَئْخِرُونَ سَاعَةً } [ النحل : 61 ] وعن ابن عباس : ما لها من رجوع وترداد ، من أفاق المريض إذا رجع إلى الصحة . وفواق الناقة : ساعة ترجع الدرّ إلى ضرعها ، يريد : أنها نفخة واحدة فحسب لا تثنى ولا تردد .

وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16)

القط : القسط من الشيء؛ لأنه قطعة منه ، من قطه إذا قطعه . ويقال : لصحيفة الجائزة : قط ، لأنها قطعة من القرطاس ، وقد فسر بهما قوله تعالى : { عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا } أي نصيبنا من العذاب الذي وعدته ، كقوله تعالى : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ العذاب } [ الحج : 47 ] وقيل : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعد الله المؤمنين بالجنة؛ فقالوا على سبيل الهزء : عجل لنا نصيبنا منها . أو عجل لنا صحيفة أعمالنا ننظر فيها .

اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)

فإن قلت : كيف تطابق قوله : { اصبر على مَا يَقُولُونَ } وقوله : { واذكر عَبْدَنَا دَاوُودُ } حتى عطف أحدهما على صاحبه؟ قلت : كأنه قال لنبيه عليه الصلاة والسلام : اصبر على ما يقولون ، وعظم أمر معصية الله في أعينهم بذكر قصة داود ، وهو أنه نبيّ من أنبياء الله تعالى قد أولاه ما أولاه من النبوّة والملك ، ولكرامته عليه وزلفته لديه ، ثم زلّ زلّة فبعث إليه الملائكة ووبخه عليها . على طريق التمثيل والتعريض ، حتى فطن لما وقع فيه فاستغفر وأناب ، ووجد منه ما يحكى من بكائه الدائم وغمّه الواصب ، ونقش جنايته في بطن كفه حتى لا يزال يجدد النظر إليها والندم عليها فما الظنّ بكم مع كفركم ومعاصيكم؟ أو قال له صلى الله عليه وسلم : اصبر على ما يقولون ، وصن نفسك وحافظ عليها أن تزل فيما كلفت من مصابرتهم وتحمل أذاهم ، واذكر أخاك داود وكرامته على الله كيف زلّ تلك الزلّة اليسيرة فلقي من توبيخ الله وتظليمه ونسبته إلى البغي ما لقي { ذَا الأيد } ذا القوّة في الدين المضطلع بمشاقه وتكاليفه ، كان على نهوضه بأعباء النبوّة والملك يصوم يوماً ويفطر يوماً وهو أشدّ الصوم ، ويقوم نصف الليل . يقال : فلان أيد ، وذو أيد ، وذو آد . وأياد كل شيء : ما يتقوّى به { أَوَّابٌ } توّاب رجاع إلى مرضاة الله . فإن قلت : ما دلك على أنّ الأيد القوّة في الدين؟ قلت : قوله تعالى : { إِنَّهُ أَوَّابٌ } لأنه تعليل لذي الأيد { والإشراق } وقت الإشراق ، وهو حين تشرق الشمس ، أي : تضيء ويصفوا شعاعها وهو وقت الضحى ، وأما شروقها فطلوعها ، يقال : شرقت الشمس ، ولما تشرق . وعن أمّ هانىء :

( 956 ) دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بوضوء فتوضأ ثم صلى صلاة الضحى وقال : « يا أمّ هانىء هذه صلاة الإشراق » وعن طاووس ، عن ابن عباس قال : هل تجدون ذكر صلاة الضحى في القرآن؟ قالوا : لا ، فقرأ : { إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق } وقال : كانت صلاة يصليها داود عليه السلام . وعنه : ما عرفت صلاة الضحى إلا بهذه الآية . وعنه : لم يزل في نفسي من صلاة الضحى شيء حتى طلبتها فوجدتها في الآية { يُسَبّحْنَ بالعشى والإشراق } وكان لا يصلي صلاة الضحى ، ثم صلاها بعد . وعن كعب أنه قال لابن عباس : إني لا أجد في كتب الله صلاة بعد طلوع الشمس ، فقال : أنا أوجدك ذلك في كتاب الله تعالى ، يعني هذه الآية . ويحتمل أن يكون من أشرق القوم إذا دخلوا في الشروق ، ومنه قوله تعالى : { فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة مُشْرِقِينَ } [ الحجر : 73 ] وقول أهل الجاهلية : أشرق ثبير ، ويراد وقت صلاة الفجر لانتهائه بالشروق .

ويسبحن : في معنى ومسبحات على الحال . فإن قلت : هل من فرق بين يسبحن ومسبحات؟ قلت : نعم ، وما اختير يسبحن على مسبحات إلا لذلك ، وهو الدلالة على حدوث التسبيح من الجبال شيئاً بعد شيء وحالاً بعد حال ، كأن السامع محاضر تلك الحال يسمعها تسبح . ومثله قول الأعشى :

إلَى ضَوْءِ نَارٍ فِي يَفَاعٍ تَحْرِقُ ... ولو قال : محرقة ، لم يكن شيئاً . وقوله : { مَحْشُورَةً } في مقابلة : يسبحن؛ إلا أنه لما لم يكن في الحشر ما كان في التسبيح من إرادة الدلالة على الحدوث شيئاً بعد شيء ، جيء به اسماً لا فعلاً . وذلك أنه لو قيل : وسخرنا الطير يحشرن - على أنّ الحشر يوجد من حاشرها شيئاً شيء والحاشر هو الله عزّ وجلّ - لكان خلفاً ، لأنّ حشرها جملة واحدة أدلّ على القدرة . وعن ابن عباس رضي الله عنهما كان إذا سبح جاوبته الجبال بالتسبيح ، واجتمعت إليه الطير فسبحت ، فذلك حشرها . وقرىء : «والطير محشورة» ، بالرفع { كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ } كل واحد من الجبال والطير لأجل داود ، أي : لأجل تسبيحه مسبح ، لأنها كانت تسبح بتسبيحه . ووضع الأوّاب موضع المسبح : إمّا لأنّها كانت ترجع التسبيح ، والمرجع رجاع؛ لأنه يرجع إلى فعله رجوعاً بعد رجوع وإمّا لأن الأوّاب - وهو التوّاب الكثير الرجوع إلى الله وطلب مرضاته - من عادته أن يكثر ذكر الله ويديم تسبيحه وتقديسه . وقيل : الضمير لله ، أي : كل من داود والجبال والطير لله أوّاب ، أي مسبح مرجح للتسبيح { وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ } قوّيناه ، قال تعالى : { سَنَشُدُّ عَضُدَكَ } [ القصص : 35 ] وقرىء : «شددنا» على المبالغة . قيل : كان يبيت حول محرابه أربعون ألف مستلئم يحرسونه وقيل : الذي شدّ الله به ملكه وقذف في قلوب قومه الهيبة : أنّ رجلاً ادّعى عنده على آخر بقرة ، وعجز عن إقامة البينة ، فأوحى الله تعالى إليه في المنام : أن اقتل المدّعى عليه ، فقال : هذا منام ، فأعيد الوحي في اليقظة ، فأعلم الرجل فقال : إنّ الله عزّ وجلّ لم يأخذني بهذا الذنب ، ولكن بأني قتلت أبا هذا غيلة ، فقتله ، فقال الناس : إن أذنب أحد ذنباً أظهره الله عليه ، فقتله ، فهابوه { الحكمة } الزبور وعلم الشرائع . وقيل : كل كلام وافق الحق فهو حكمة . الفصل : التميز بين الشيئين . وقيل للكلام البين : فصل ، بمعنى المفصول كضرب الأمير ، لأنهم قالوا : كلام ملتبس ، وفي كلامه لبس . والملتبس : المختلط ، فقيل في نقيضه : فصل ، أي : مفصول بعضه من بعض ، فمعنى فصل الخطاب البين من الكلام الملخص الذي يتبينه من يخاطب به لا يلتبس عليه ومن فصل الخطاب وملخصه : أن لا يخطىء صاحبه مظانّ الفصل والوصل ، فلا يقف في كلمة الشهادة على المستثنى منه ، ولا يتلو قوله : { فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ } [ الماعون : 4 ] إلا موصولاً بما بعده ، ولا ( والله يعلم وأنتم ) حتى يصله بقوله :

{ لاَ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 232 ] ونحو ذلك ، وكذلك مظانّ العطف وتركه ، والإضمار والإظهار والحذف والتكرار ، وإن شئت كان الفصل بمعنى الفاصل ، كالصوم والزور ، وأردت بفصل الخطاب : الفاصل من الخطاب الذي يفصل بين الصحيح والفاسد ، والحق والباطل ، والصواب والخطأ ، وهو كلامه في القضايا والحكومات ، وتدابير الملك والمشورات . وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه . وهو قوله : البينة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه ، وهو من الفصل بين الحق والباطل ، ويدخل فيه قول بعضهم : هو قوله «أمّا بعد» لأنه يفتتح إذا تكلم في الأمر الذي له شأن بذكر الله وتحميده ، فإذا أراد أن يخرج إلى الغرض المسوق إليه : فصل بينه وبين ذكر الله بقول : أمّا بعد . ويجوز أن يراد الخطاب القصد الذي ليس فيه اختصار مخلّ ولا إشباع مملّ . ومنه ما جاء في صفة كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم : فصل لا نذر ولا هذر .

وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22)

كان أهل زمان داود عليه السلام يسأل بعضهم بعضاً أن ينزل له عن امرأته فيتزوجها إذا أعجبته وكانت لهم عادة في المواساة بذلك قد اعتادوها . وقد روينا أن الأنصار كانوا يواسون المهاجرين بمثل ذلك ، فاتفق أنّ عين داود وقعت على امرأة رجل يقال له أوريا ، فأحبّها فسأله النزول له عنها ، فاستحيا أن يردّه ففعل ، فتزوجها وهي أمّ سليمان ، فقيل له : إنك مع عظم منزلتك وارتفاع مرتبتك وكبر شأنك وكثرة نسائك : لم يكن ينبغي لك أن تسأل رجلاً ليس له إلا امرأة واحدة النزول ، بل كان الواجب عليك مغالبة هواك وقهر نفسك والصبر على ما امتحنت به . وقيل : خطبها أوريا ثم خطبها داود ، فآثره أهلها ، فكان ذنبه أن خطب على خطبة أخيه المؤمن ، مع كثرة نسائه . وأمّا ما يذكر أنّ داود عليه السلام تمنى منزلة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب فقال : يا رب إنّ آبائي قد ذهبوا بالخير كله ، فأوحى إليه : إنهم ابتلوا ببلايا فصبروا عليها : قد ابتلي إبراهيم بنمروذ وذبح ولده ، وإسحاق بذبحه وذهاب بصره ، ويعقوب بالحزن على يوسف . فسأل الابتلاء فأوحى الله إليه : إنك لمبتلى في يوم كذا وكذا ، فاحترس ، فلما حان ذلك اليوم دخل محرابه وأغلق بابه وجعل يصلي ويقرأ الزبور ، فجاءه الشيطان في صورة حمامة من ذهب ، فمدّ يده ليأخذها لابن له صغير ، فطارت ، فامتدّ إليها ، فطارت فوقعت في كوّة ، فتبعها ، فأبصر امرأة جميلة قد نقضت شعرها فغطى بدنها ، وهي امرأة أوريا وهو من غزاة البلقاء ، فكتب إلى أيوب بن صوريا وهو صاحب بعث البلقاء . أن ابعث أوريا وقدمه على التابوت ، وكان من يتقدم على التابوت لا يحل له أن يرجع حتى يفتح الله على يده أو يستشهد ، ففتح الله على يده وسلم ، فأمر بردّه مرة أخرى ، وثالثة ، حتى قتل ، فأتاه خبر قتله فلم يحزن كما كان يحزن على الشهداء ، وتزوج امرأته . فهذا ونحوه مما يقبح أن يحدث به عن بعض المتسمين بالصلاح من أفناء المسلمين؟ فضلاً عن بعض أعلام الأنبياء . وعن سعيد بن المسيب والحارث الأعور : أنّ علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : من حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين وهو حدّ الفرية على الأنبياء . وروى أنه حدث بذلك عمر بن عبد العزيز وعنده رجل من أهل الحق ، فكذب المحدث به وقال : إن كانت القصة على ما في كتاب الله فما ينبغي أن يلتمس خلافها ، وأعظم بأن يقال غير ذلك وإن كانت على ما ذكرت وكف الله عنها ستراً على نبيه فما ينبغي إظهارها عليه ، فقال عمر : لسماعي هذا الكلام أحبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس .

والذي يدلّ عليه المثل الذي ضربه الله لقصته عليه السلام ليس إلاّ طلبه إلى زوج المرأة أن ينزل له عنها فحسب . فإن قلت : لم جاءت على طريقة التمثيل والتعريض دون التصريح؟ قلت : لكونها أبلغ في التوبيخ ، من قبل أن التأمل إذا أدّاه إلى الشعور بالمعرض به ، كان أوقع في نفسه ، وأشدّ تمكناً من قلبه ، وأعظم أثراً فيه ، وأجلب لاحتشامه وحيائه ، وأدعى إلى التنبه على الخطأ فيه من أن يبادره به صريحاً ، مع مراعاة حسن الأدب بترك المجاهرة . ألا ترى إلى الحكماء كيف أوصوا في سياسة الولد إذا وجدت منه هنة منكرة بأن يعرض له بإنكارها عليه ولا يصرح . وأن تحكى له حكاية ملاحظة لحاله إذا تأملها استسمج حال صاحب الحكاية فاستمسج حال نفسه ، وذلك أزجر له لأنه ينصب ذلك مثالاً لحاله ومقياساً لشأنه ، فيتصور قبح ما وجد منه بصورة مكشوفة ، مع أنه أصون لما بين الوالد والولد من حجاب الحشمة . فإن قلت : فلم كان ذلك على وجه التحاكم إليه؟ قلت : ليحكم بما حكم به من قوله : { لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعَاجِهِ } [ ص : 24 ] حتى يكون محجوجاً بحكمه ومعترفاً على نفسه بظلمه { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَؤُا الخصم } ظاهره الاستفهام . ومعناه الدلالة على أنه من الأنباء العجيبة التي حقها أن تشيع ولا تخفى على أحد ، والتشويق إلى استماعه والخصم : الخصماء ، وهو يقع على الواحد والجمع؛ كالضيف . قال الله تعالى : { حَدِيثُ ضَيْفِ إبراهيم المكرمين } [ الذاريات : 24 ] لأنه مصدر في أصله ، تقول : خصمه خصماً؛ كما تقول : ضافه ضيفاً . فإن قلت : هذا جمع . وقوله : «خصمان» تثنية فكيف استقام ذلك؟ قلت : معنى خصمان : فريقان خصمان ، والدليل عليه قراءة من قرأ : خصمان بغى بعضهم على بعض : ونحوه قوله تعالى : { هذا خَصْمَانِ اختصموا فِى رَبّهِمْ } [ الحج : 19 ] . فإن قلت : فما تصنع بقوله : { إِنَّ هَذَا أَخِى } [ ص : 23 ] وهو دليل على اثنين؟ قلت : هذا قول البعض المراد بقوله بعضنا على بعض . فإن قلت : فقد جاء في الرواية أنه بعث إليه ملكان . قلت : معناه أن التحاكم كان بين ملكين ، ولا يمنع ذلك أن يصحبهما آخرون . فإن قلت : فإذا كان التحاكم بين اثنين كيف سماهم جميعاً خصماً في قوله : { نَبَؤُاْ الخصم } و { خَصْمَانِ } ؟ قلت : لما كان صحب كل واحد من المتحاكمين في صورة الخصم صحت التسمية به . فإن قلت : بم انتصب ( إذ ) ؟ قلت : لا يخلو إما أن ينتصب بأتاك ، أو بالنبأ ، أو بمحذوف فلا يسوغ انتصابه بأتاك؛ لأنّ إتيان النبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقع إلا في عهده لا في عهد داود ، ولا بالنبأ؛ لأن النبأ الواقع في عهد داود لا يصحّ إتيانه رسول الله صلى الله عليه وسلم . وإن أردت بالنبأ : القصة في نفسها لم يكن ناصباً ، فبقي أن ينتصب بمحذوف ، وتقديره : وهل أتاك نبأ تحاكم الخصم .

ويجوز أن ينتصب بالخصم لما فيه من معنى الفعل . وأما إذ الثانية فبدل من الأولى { تَسَوَّرُواْ المحراب } تصعدوا سوره ونزلوا إليه . والسور : الحائط المرتفع ونظيره في الأبنية : تسنمه ، إذا علا سنامه ، وتذرّاه : إذا علا ذروته . روى : أنّ الله تعالى بعث إليه ملكين في صورة إنسانين ، فطلبا أن يدخلا عليه ، فوجداه في يوم عبادته ، فمنعهما الحرس فتسوّرا عليه المحراب ، فلم يشعر إلاّ وهما بين يديه جالسان { فَفَزِعَ مِنْهُمْ } قال ابن عباس : إنّ داود عليه السلام جزأ زمانه أربعة أجزاء : يوماً للعبادة ، ويوماً للقضاء ، ويوماً للاشتغال بخواص أموره ، ويوماً يجمع بني إسرائيل فيعظهم ويبكيهم؛ فجاءوه في غير يوم القضاء ففزع منهم ، ولأنهم نزلوا عليه من فوق ، وفي يوم الاحتجاب ، والحرس حوله لا يتركون من يدخل عليه { خَصْمَانِ } خبر مبتدأ محذوف ، أي : نحن خصمان { وَلاَ تُشْطِطْ } ولا تجر . وقرىء : «ولا تشطط» ، أي : ولا تبعد عن الحق . وقرىء : «ولا تشطط» ، ولا تشاطط ، وكلها من معنى الشطط : وهو مجاوزة الحدّ وتخطي الحق . و { سَوَآءِ الصراط } وسطه ومحجته : ضربه مثلاً لعين الحق ومحضه .

إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23)

{ أَخِى } بدل من هذا أو خبر ل ( إنّ ) . والمراد أخوّة الدين ، أو أخوّة الصداقة والألفة ، و أخوّة الشركة والخلطة؛ لقوله تعالى : { وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ الخلطاء } [ ص : 24 ] كل واحدة من هذه الأخوات تدلي بحق مانع من الاعتداء والظلم . وقرىء : «تسع وتسعون» ، بفتح التاء . ونعجة ، بكسر النون وهذا من اختلاف اللغات ، نحو نطع ونطع ، ولَقْوَةٌ وَلِقْوَة { أَكْفِلْنِيهَا } ملكنيها . وحقيقته : أجعلني أكفلها كما أكفل ما تحت يدي { وَعَزَّنِى } وغلبني . يقال : عزّه يعزّه . قال :

قَطَاةٌ عَزَّهَا شَرَكٌ فَبَاتَتْ ... يُجَاذِبُهُ وَقَدْ عَلِقَ الْجَنَاحُ

يريد : جاءني بحجاج لم أقدر أن أورد عليه ما أردّه به . وأراد بالخطاب : مخاطبة المحاج المجادل : أو أراد : خطبت المرأة وخطبها هو فخاطبني خطاباً ، أي؛ غالبني في الخطبة فغلبني ، حيث زوّجها دوني . وقرىء : «وعازني» من المعازة وهي المغالبة . وقرأ أبو حيوة : «وعزني» بتخفيف الزاي طلباً للخفة ، وهو تخفيف غريب ، وكأنه قاسه على نحو : ظلت ، ومست . فإن قلت : ما معنى ذكر النعاج؟ قلت : كأن تحاكمهم في نفسه تمثيلاً وكلامهم تمثيلاً؛ لأنّ التمثيل أبلغ في التوبيخ لما ذكرنا ، وللتنبيه على أنه أمر يستحيا من كشفه ، فيكنى عنه كما يكنى عما يستسمج الإفصاح به ، وللستر على داود عليه السلام والاحتفاظ بحرمته . ووجه التمثيل فيه أن مثلت قصة أوريا مع داود بقصة رجل له نعجة واحدة ولخليطه تسع وتسعون ، فأراد صاحبه تتمة المائة فطمع في نعجة خليطه وأراده على الخروج من ملكها إليه ، وحاجه في ذلك محاجة حريص على بلوغ مراده ، والدليل عليه قوله : { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الخلطآء } [ ص : 24 ] وإنما خصّ هذه القصة لما فيها من الرمز إلى الغرض بذكر النعجة . فإن قلت : إنما تستقيم طريقة التمثيل إذا فسرت الخطاب بالجدال ، فإن فسرته بالمفاعلة من الخطبة لم يستقم . قلت : الوجه مع هذا التفسير أن أجعل النعجة استعارة عن المرأة ، كما استعاروا لها الشاة في نحو قوله :

يَا شَاةُ مَا قَنَصٌ لِمَنْ حَلَّتْ لَهُ ... فَرَمَيْتُ غَفْلَةَ عَيْنِهِ عَنْ شَاتِهِ ... وشبهها بالنعجة من قال :

كَنِعَاجِ الْمَلاَ تَعَسَّفْنَ رَمْلاَ ... لولا أنّ الخلطاء تأباه ، إلاّ أن يضرب داود الخلطاء ابتداء مثلاً لهم ولقصتهم . فإن قلت : الملائكة عليهم السلام كيف صحّ منهم أن يخبروا عن أنفسهم بما لم يلتبسوا منه بقليل ولا كثير ولا هو من شأنهم؟ قلت : هو تصوير للمسألة وفرض لها ، فصوّروها في أنفسهم وكانوا في صورة الأناسي ، كما تقول في تصوير المسائل : زيد له أربعون شاة ، وعمرو له أربعون ، وأنت تشير إليهما ، فخلطاها وحال عليه الحول ، كم يجب فيها؟ وما لزيد وعمرو سبد ولا لبد وتقول أيضاً في تصويرها : لي أربعون شاة ولك أربعون فخلطناها . ومالكما من الأربعين أربعة ولا ربعها . فإن قلت : ما وجه قراءة ابن مسعود : «ولي نعجة أنثى»؟ قلت : يقال لك امرأة أنثى للحسناء الجميلة . والمعنى : وصفها بالعراقة في لين الأنوثة وفتورها ، وذلك أملح لها وأزيد في تكسرها وتثنيها . ألا ترى إلى وصفهم لها بالكسول والمكسال . وقوله :

فَتُورُ الْقِيَامِ قَطِيعُ الكَلاَمِ ... وقوله :

تَمْشِي رُوَيْداً تَكَادُ تَنْغَرِفُ ...

قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)

{ لَقَدْ ظَلَمَكَ } جواب قسم محذوف . وفي ذلك استنكار لفعل خليطه وتهجين لطمعه . والسؤال : مصدر مضاف إلى المفعول ، كقوله تعالى : { مِن دُعَاء الخير } [ فصلت : 49 ] وقد ضمن معنى الإضافة فعدّى تعديتها ، كأنه قيل بإضافة { نَعْجَتِكَ إلى نِعَاجِهِ } على وجه السؤال والطلب . فإن قلت : كيف سارع إلى تصديق أحد الخصمين حتى ظلم الآخر قبل استماع كلامه؟ قلت : ما قال ذلك إلاّ بعد اعتراف صاحبه ، لكنه لم يحك في القرآن لأنه معلوم . ويروى أنه قال أنا أريد أن آخذها منه وأكمل نعاجي مائة ، فقال داود : إن رمت ذلك ضربنا منك هذا وهذا ، وأشار إلى طرف الأنف والجبهة ، فقال : يا داود أنت أحقّ أن يضرب منك هذا وهذا ، وأنت فعلت كيت وكيت ، ثم نظر داود فلم ير أحداً ، فعرف ما وقع فيه و { الخلطاء } الشركاء الذين خلطوا أموالهم ، الواحد : خليط ، وهي الخلطة ، وقد غلبت في الماشية؛ والشافعي رحمه الله يعتبرها ، فإذا كان الرجلان خليطين في ماشية بينهما غير مقسومة ، أو لكل واحد منهما ماشية على حدة إلاّ أنّ مراحهما ومساقهما وموضع حلبهما والراعي والكلب واحد والفحولة مختلطة : فهما يزكيان زكاة الواحد؛ فإن كان لهما أربعون شاة فعليهما شاة . وإن كانوا ثلاثة ولهم مائة وعشرون لكل واحد أربعون ، فعليهم واحدة كما لو كانت لواحد . وعند أبي حنيفة : لا تعتبر الخلطة ، والخليط والمنفرد عنده واحد ، ففي أربعين بين خليطين : لا شيء عنده ، وفي مائة وعشرين بين ثلاثة : ثلاث شياه . فإن قلت : فهذه الخلطة ما تقول فيها؟ قلت : عليهما شاة واحدة ، فيجب على ذي النعجة أداء جزء من مائة جزء من الشاة عند الشافعي رحمه الله ، وعند أبي حنيفة لا شيء عليه ، فإن قلت : ماذا أراد بذكر حال الخلطاء في ذلك المقام؟ قلت : قصد به الموعظة الحسنة والترغيب في إيثار عادة الخلطاء الصلحاء الذين حكم لهم بالقلة ، وأن يكرّه إليهم الظلم والاعتداء الذي عليه أكثرهم ، مع التأسف على حالهم ، وأن يسلى المظلوم عما جرى عليه من خليطه ، وأنّ له في أكثر الخلطاء أسوة . وقرىء : «ليبغي» بفتح الياء على تقدير النون الخفيفة ، وحذفها كقوله :

اضْرِبَ عَنْكَ الْهُمُومَ طَارِقَهَا ... وهو جواب قسم محذوف . وليبغ : بحذف الياء ، اكتفاء منها بالكسرة ، و ( ما ) في { وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ } للإبهام . وفيه تعجب من قلتهم . وإن أردت أن تتحقق فائدتها وموقعها فاطرحها ، من قول امرىء القيس :

وَحَدِيثٌ مَا عَلَى قِصَرِهْ ... وانظر هل بقي له معنى قط ، لما كان الظنّ الغالب يداني العلم ، استعير له . ومعناه : وعلم داود وأيقن { أَنَّمَا فتناه } أنا ابتليناه لا محالة بامرأة أوريا ، هل يثبت أو يزل؟ وقرىء : «فتناه» بالتشديد للمبالغة .

وأفتناه ، من قوله :

لَئِنْ فَتَنَتْنِي لَهِيَ بِالأَمْسِ أَفْتَنَتْ ... وفتناه وفتناه ، على أن الألف ضمير الملكين . وعبر بالراكع عن الساجد ، لأنه ينحني ويخضع كالساجد . وبه استشهد أبو حنيفة وأصحابه في سجدة التلاوة ، على أنّ الركوع يقوم مقام السجود . وعن الحسن : لأنه لا يكون ساجداً حتى يركع ، ويجوز أن يكون قد استغفر الله لذنبه وأحرم بركعتي الاستغفار والإنابة ، فيكون المعنى : وخرّ للسجود راكعاً أي : مصلياً؛ لأنّ الركوع يجعل عبارة عن الصلاة { وَأَنَابَ } ورجع إلى الله تعالى بالتوبة والتنصل . وروى أنه بقي ساجداً أربعين يوماً وليلة لا يرفع رأسه إلاّ لصلاة مكتوبة أو ما لا بدّ منه ولا يرقأ دمعه حتى نبت العشب من دمعه إلى رأسه ، ولم يشرب ماء إلا وثلثاه دمع ، وجهد نفسه راغباً إلى الله تعالى في العفو عنه حتى كاد يهلك ، واشتغل بذلك عن الملك حتى وثب ابن له يقال له : إيشا على ملكه ودعا إلى نفسه ، واجتمع إليه أهل الزيغ من بني إسرائيل ، فلما غفر له حاربه فهزمه . وروى أنه نقش خطيئته في كفه حتى لا ينساها . وقيل : إنّ الخصمين كانا من الإنس ، وكانت الخصومة على الحقيقة بينهما : إما كانا خليطين في الغنم ، وإما كان أحدهما موسراً وله نسوان كثيرة من المهائر والسراري ، والثاني : معسراً ماله إلا امرأة واحدة ، فاستنزله عنها ، إنما فزع لدخولهما عليه في غير وقت الحكومة أن يكونا مغتالين ، وما كان ذنب داود إلاّ أنه صدّق أحدهما على الآخر وظلمه قبل مسألته .

يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)

{ خَلِيفَةً فِى الأرض } أي : استخلفناك على الملك في الأرض ، كمن يستخلفه بعض السلاطين على بعض البلاد ويملكه عليها . ومنه قولهم : خلفاء الله في أرضه . أوجعلناك خليفة ممن كان قبلك من الأنبياء القائمين بالحقّ . وفيه دليل على أنّ حاله بعد التوبة بقيت على ما كانت عليه لم تتغير { فاحكم بَيْنَ الناس بالحق } أي بحكم الله تعالى إذ كنت خليفته { وَلاَ تَتَّبِعِ } هوى النفس في قضائك وغيره ، مما تتصرف فيه من أسباب الدين والدنيا { فَيُضِلَّكَ } الهوى فيكون سبباً لضلالك { عَن سَبِيلِ الله } عن دلائله التي نصبها في العقول ، وعن شرائعه التي شرعها وأوحى بها ، و { يَوْمِ الحساب } متعلق بنسوا ، أي : بنسيانهم يوم الحساب ، أو بقوله لهم ، أي : لهم عذاب يوم القيامة بسبب نسيانهم وهو ضلالهم عن سبيل الله . وعن بعض خلفاء بني مروان أنه قال لعمر بن عبد العزيز أو للزهري : هل سمعت ما بلغنا؟ قال : وما هو؟ قال : بلغنا أن الخليفة لا يجري عليه القلم ولا تكتب عليه معصية . فقال : يا أمير المؤمنين ، الخلفاء أفضل من الأنبياء؟ ثم تلا هذه الآية .

وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)

{ باطلا } خلقاً باطلاً ، لا لغرض صحيح وحكمة بالغة . أو مبطلين عابثين ، كقوله تعالى : { وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاعبين مَا خلقناهما إِلاَّ بالحق } [ الدخان : 39 ] وتقديره : ذوي باطل أو عبثاً ، فوضع باطلاً موضعه ، كما وضعوا هنيئاً موضع المصدر ، وهو صفة ، أي : ما خلقناهما وما بينهما للعبث واللعب ، ولكن للحق المبين ، وهو أن خلقناها نفوساً أودعناها العقل والتمييز ، ومنحناها التمكين ، وأزحنا عللها ثم عرضناها للمنافع العظيمة بالتكليف ، وأعددنا لها عاقبة وجزاء على حسب أعمالهم . و { ذلك } إشارة إلى خلقها باطلاً ، والظنّ : بمعنى المظنون أي : خلقها للعبث لا للحكمة هو مظنون الذين كفروا . فإن قلت : إذا كانوا مقرّين بأن الله خالق السموات والأرض وما بينهما بدليل قوله : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله } [ لقمان : 25 ] فبم جعلوا ظانين أنه خلقها للعبث لا للحكمة . قلت : لما كان إنكارهم للبعث والحساب والثواب والعقاب ، مؤدياً إلى أن خلقها عبث وباطل ، جعلوا كأنهم يظنون ذلك ويقولونه ، لأنّ الجزاء هو الذي سبقت إليه الحكمة في خلق العالم من رأسها ، فمن جحده فقد جحد الحكمة من أصلها ، ومن جحد الحكمة في خلق العالم فقد سفه الخالق ، وظهر بذلك أنه لا يعرفه ولا يقدره حق قدره ، فكان إقراره بكونه خالقاً كلا إقرار .

أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)

{ أَمْ } منقطعة . ومعنى الاستفهام فيها الإنكار ، والمراد : أنه لو بطل الجزاء كما يقول الكافرون لاستوت عند الله أحوال من أصلح وأفسد ، واتقى وفجر ، ومن سوّى بينهم كان سفيهاً ولم يكن حكيماً .

كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)

وقرىء : «مباركاً» وليتدبروا : على الأصل ، ولتدبروا : على الخطاب . وتدبر الآيات : التفكر فيها ، والتأمل الذي يؤدي إلى معرفة ما يدبر ظاهرها من التأويلات الصحيحة والمعاني الحسنة ، لأن من اقتنع بظاهر المتلو ، لم يحل منه بكثير طائل وكان مثله كمثل من له لقحة درور لا يحلبها ، ومهرة نثور لا يستولدها . وعن الحسن : قد قرأ هذا القرآن عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله : حفظوا حروفه وضيعوا حدوده ، حتى إن أحدهم ليقول : والله لقد قرأت القرآن فما أسقطت منه حرفاً ، وقد والله أسقطه كله ، ما يرى للقرآن عليه أثر في خلق ولا عمل ، والله ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده ، والله ما هؤلاء بالحكماء ولا الوزعة ، لا كثر الله في الناس مثل هؤلاء . اللهم اجعلنا من العلماء المتدبرين ، وأعذنا من القراء المتكبرين .

وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33)

وقرىء : «نعم العبد» على الأصل ، والمخصوص بالمدح محذوف . وعلل كونه ممدوحاً بكونه أوّاباً رجاعاً إليه بالتوبة . أو مسبحاً مؤوّباً للتسبيح مرجعاً له ، لأن كل مؤوّب أوّاب . والصافن : الذي في قوله :

أَلِفَ الصّفُونَ فَمَا يَزَالُ كَأَنَّهُ ... مِمَّا يَقُومُ عَلَى الثَّلاَثِ كَسِيراً

وقيل : الذي يقوم على طرف سنبك يد أو رجل : هو المتخيم . وأما الصافن : فالذي يجمع بين يديه . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :

( 957 ) " من سره أن يقوم الناس له صفوناً فليتبوّأ مقعده من النار " أي : واقفين كما خدم الجبابرة . فإن قلت : ما معنى وصفها بالصفون؟ قلت : الصفون لا يكاد يكون في الهجن ، وإنما هو في العراب الخلص . وقيل : وصفها بالصفون والجودة ، ليجمع لها بين الوصفين المحمودين : واقفة وجارية ، يعني : إذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة في مواقفها ، وإذا جرت كانت سراعاً خفافاً في جريها . وروى أن سليمان عليه السلام غزا أهل دمشق ونصيبين ، فأصاب ألف فرس . وقيل : ورثها من أبيه وأصابها أبوه من العمالقة . وقيل : خرجت من البحر لها أجنحة ، فقعد يوماً بعد ما صلى الأولى على كرسيه واستعرضها ، فلم تزل تعرض عليه حتى غربت الشمس وغفل عن العصر أو عن ورد من الذكر كان له وقت العشي ، وتهيبوه فلم يعلموه ، فاغتم لما فاته ، فاستردها وعقرها مقرباً لله ، وبقي مائة ، فما بقي في أيدي الناس من الجياد فمن نسلها ، وقيل : لما عقرها أبدله الله خيراً منها . وهي الريح تجري بأمره . فإن قلت : ما معنى : { أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير عَن ذِكْرِ رَبِى } ؟ قلت : أحببت : مضمن معنى فعل يتعدى بعن ، كأنه قيل : أنبت حب الخير عن ذكر ربي . أو جعلت حب الخير مجزياً أو مغنياً عن ذكر ربي . وذكر أبو الفتح الهمداني في كتاب التبيان : أن «أحببت» بمعنى : لزمت من قوله :

مِثْلُ بَعِيرِ السُّوءِ إذْ أَحَبَّا ... وليس بذاك . والخير : المال ، كقوله : { إِن تَرَكَ خَيْرًا } [ البقرة : 180 ] وقوله : { وَإِنَّهُ لِحُبّ الخير لَشَدِيدٌ } [ العاديات : 8 ] والمال : الخيل التي شغلته . أو سمي الخيل خيراً كأنها نفس الخير لتعلق الخير بها . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( 958 ) " الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة " وقال في زيد الخيل حين وفد عليه وأسلم :

( 959 ) " ما وُصف لي رجل فرأيته إلا كان دون ما بلغني إلا زيد الخيل " وسماه زيد الخير . وسأل رجل بلالاً رضي الله عنه عن قوم يستبقون : من السابق؟ فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال له الرجل : أردت الخيل . فقال : وأنا أردت الخير . والتواري بالحجاب : مجاز في غروب الشمس عن تواري الملك . أو المخبأة بحجابهما . والذي دلّ على أن الضمير للشمس مرور ذكر العشي ، ولا بد للمضمر من جري ذكر أو دليل ذكر .

وقيل : الضمير للصافنات ، أي : حتى توارت بحجاب الليل يعني الظلام . ومن بدع التفاسير : أن الحجاب جبل دون قاف بمسيرة سنة تغرب الشمس من ورائه { فَطَفِقَ مَسْحاً } فجعل يمسح مسحاً ، أي : يمسح بالسيف بسوقها وأعناقها ، يعني : يقطعها . يقال : مسح علاوته ، إذا ضرب عنقه ، ومسح المسفر الكتاب إذا قطع أطرافه بسيفه . وعن الحسن : كسف عراقيبها وضرب أعناقها ، أراد بالكسف : القطع ، ومنه : الكسف في ألقاب الزحاف في العروض . ومن قاله بالشين المعجمة فمصحف . وقيل : مسحها بيده استحساناً لها وإعجاباً بها . فإن قلت : بم اتصل قوله : { رُدُّوهَا عَلَىَّ } ؟ قلت : بمحذوف ، تقديره : قال ردّوها عليّ ، فأضمر وأضمر ما هو جواب له ، كأن قائلاً قال : فماذا قال سليمان؟ لأنه موضع مقتض للسؤال اقتضاءً ظاهراً ، وهو اشتغال نبيّ من أنبياء الله بأمر الدنيا ، حتى تفوّته الصلاة عن وقتها . وقرىء : «بالسؤوق» بهمز الواو لضمتها ، كما في أدؤر . ونظيره : الغؤر ، في مصدر غارت الشمس . وأما من قرأ بالسؤق فقد جعل الضمة في السين كأنها في الواو للتلاصق ، كما قيل : مؤسى : ونظير ساق وسوق : أسد وأسد . وقرىء : «بالساق» اكتفاء بالواحد عن الجمع ، لأمن الإلباس .

وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34)

قيل : فتن سليمان بعد ما ملك عشرين سنة . وملك بعد الفتنة عشرين سنة . وكان من فتنته : أنه ولد له ابن ، فقالت الشياطين : إن عاش لم ننفك من السخرة ، فسبيلنا أن نقتله أو نخبله ، فعلم ذلك ، فكان يغدوه في السحابة فما راعه إلا أن ألقي على كرسيه ميتاً ، فتنبه على خطئه في أن لم يتوكل فيه على ربه ، فاستغفر ربه وتاب إليه . وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم :

( 960 ) قال سليمان : « لأطوفنّ الليلة على سبعين امرأة ، كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله ، ولم يقل : إن شاء الله ، فطاف عليهنّ فلم يحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل ، والذي نفسي بيده ، لو قال : إن شاء الله ، لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون » ، فلذلك قوله تعالى : { وَلَقَدْ فَتَنَّا سليمان } . وهذا ونحوه مما لا بأس به . وأما ما يروى من حديث الخاتم والشيطان وعبادة الوثن في بيت سليمان ، فالله أعلم بصحته . حكوا أن سليمان بلغه خبر صيدون وهي مدينة في بعض الجزائر ، وأنّ بها ملكاً عظيم الشأن لا يقوى عليه لتحصنه بالبحر ، فخرج إليه تحمله الريح حتى أناخ بها بجنوده من الجن والإنس ، فقتل ملكها وأصاب بنتاً له اسمها جرادة من أحسن الناس وجهاً ، فاصطفاها لنفسه وأسلمت وأحبها ، وكانت لا يرقأ دمعها حزناً على أبيها ، فأمر الشياطين فمثلوا لها صورة أبيها ، فكستها مثل كسوته ، وكانت تغدو إليها وتروح مع ولائدها يسجدن له كعادتهن في ملكه ، فأخبر آصف سليمان بذلك فكسر الصورة وعاقب المرأة ، ثم خرج وحده إلى فلاة وفرش له الرماد ، فجلس عليه تائباً إلى الله متضرّعاً ، وكانت له أمّ ولد يقال لها أمينة ، إذا دخل للطهارة أو لإصابة امرأة وضع خاتمه عندها ، وكان ملكه في خاتمه ، فوضعه عندها يوماً وأتاها الشيطان صاحب البحر - وهو الذي دلّ سليمان على الماس حين أمر ببناء بيت المقدس واسمه صخر -على صورة سليمان فقال : يا أمينة خاتمي ، فتختم به وجلس على كرسي سليمان ، وعكفت عليه الطير والجنّ والإنس ، وغير سليمان عن هيئته فأتى أمينة لطلب الخاتم فأنكرته وطردته ، فعرف أنّ الخطيئة قد أدركته ، فكان يدور على البيوت يتكفف ، فإذا قال : أنا سليمان حثوا عليه التراب وسبوه ، ثم عمدوا إلى السماكين ينقل لهم السمك فيعطونه كلّ يوم سمكتين ، فمكث على ذلك أربعين صباحاً عدد ما عبد الوثن في بيته ، فأنكر آصف وعظماء بني إسرائيل حكم الشيطان ، وسأل آصف نساء سليمان فقلنا : ما يدع امرأة منا في دمها ولا يغتسل من جنابة . وقيل : بل نفذ حكمه في كل شيء إلاّ فيهنّ ، ثم طار الشيطان وقذف الخاتم في البحر ، فابتلعته سمكة ووقعت السمكة في يد سليمان ، فبقر بطنها فإذا هو بالخاتم ، فتختم به ووقع ساجداً ، ورجع إليه ملكه ، وجاب صخرة لصخر فجعله فيها ، وسدّ عليه بأخرى ثم أوثقهما بالحديد والرصاص وقذفه في البحر .

وقيل : لما افتتن كان يسقط الخاتم من يده لا يتماسك فيها ، فقال له آصف : إنك لمفتون بذنبك والخاتم لا يقرّ في يدك ، فتب إلى الله عز وجل . ولقد أبى العلماء المتقنون قبوله وقالوا : هذا من أباطيل اليهود ، والشياطين لا يتمكنون من مثل هذه الأفاعيل . وتسليط الله إياهم على عباده حتى يقعوا في تغيير الأحكام ، وعلى نساء الأنبياء حتى يفجروا بهنّ : قبيح ، وأما اتخاذ التماثيل فيجوز أن تختلف فيه الشرائع . ألا ترى إلى قوله { مِن محاريب وتماثيل } [ سبأ : 13 ] وأما السجود للصورة فلا يظن بنبيّ الله أن يأذن فيه ، وإذا كان بغير علمه فلا عليه . وقوله : { وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيّهِ جَسَداً } نابٍ عن إفادة معنى إنابة الشيطان منابه نبوّاً ظاهراً .

قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35)

قَدَّم الاستغفار على استيهاب الملك جرياً على عادة الأنبياء والصالحين في تقديمهم أمر دينهم على أمور دنياهم { لاَّ يَنبَغِى } لا يتسهل ولا يكون . ومعنى { مِن بَعْدِى } من دوني . فإن قلت : أما يشبه الحسد والحرص على الاستبداد بالنعمة أن يستعطي الله ما لا يعطيه غيره؟ قلت : كان سليمان عليه السلام ناشئاً في بيت الملك والنبوّة ووارثاً لهما ، فأراد أن يطلب من ربه معجزة ، فطلب على حسب ألفه ملكاً زائداً على الممالك زيادة خارقة للعادة بالغة حدّ الإعجاز ، ليكون ذلك دليلاً على نبوّته قاهراً للمبعوث إليهم ، وأن يكون معجزة حتى يخرق العادات ، فذلك معنى قوله : { لاَّ يَنبَغِى لأَحَدٍ مّن بَعْدِى } وقيل : كان ملكاً عظيماً ، فخاف أن يعطى مثله أحد فلا يحافظ على حدود الله فيه ، كما قالت الملائكة : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدماء وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } [ البقرة : 30 ] وقيل : ملكاً لا أسلبه ولا يقوم غيري فيه مقامي ، كما سلبته مرّة وأقيم مقامي غيري . ويجوز أن يقال : علم الله فيما اختصه به من ذلك الملك العظيم مصالح في الدين ، وعلم أنه لا يضطلع بأعبائه غيره ، وأوجبت الحكمة استيهابه ، فأمره أن يستوهبه إياه ، فاستوهبه بأمر من الله على الصفة الذي علم الله أنه لا يضبطه عليها إلا هو وحده دون سائر عباده . أو أراد أن يقول ملكاً عظيماً فقال : { لاَّ يَنبَغِى لأَحَدٍ مّن بَعْدِى } ، ولم يقصد بذلك إلا عظم الملك وسعته ، كما تقول : لفلان ما ليس لأحد من الفضل والمال ، وربما كان للناس أمثال ذلك ، ولكنك تريد تعظيم ما عنده . وعن الحجاج أنه قيل له : إنك حسود ، فقال : أحسد مني من قال : { وهَبْ لِى مُلْكاً لاَّ يَنبَغِى لأَحَدٍ مّن بَعْدِى } وهذا من جرأته على الله وشيطنته ، كما حكى عنه : طاعتنا أوجب من طاعة الله ، لأنه شرط من طاعته فقال : { فاتقوا الله مَا استطعتم } [ التغابن : 16 ] وأطلق طاعتنا فقال : { وَأُوْلِى الأمر مِنْكُمْ } [ النساء : 59 ] .

فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)

قرىء : «الريح» والرياح { رُخَاء } لينة طيبة لا تزعزع . وقيل : طيعة له لا تمتنع عليه { حَيْثُ أَصَابَ } حيث قصد وأراد . حكى الأصمعي عن العرب : أصاب الصواب فأخطأ الجواب . وعن رؤبة أنّ رجلين من أهل اللغة قصداه ليسألاه عن هذه الكلمة ، فخرج إليهما فقال : أين تصيبان؟ فقالا : هذه طلبتنا ورجعا ، ويقال : أصاب الله بك خيراً { والشياطين } عطف على الريح { كُلَّ بَنَّاء } بدل من الشياطين { وَءاخَرِينَ } عطف على كل داخل في حكم البدل ، وهو بدل الكل من الكل : كانوا يبنون له ما شاء من الأبنية ، ويغوصون له فيستخرجون اللؤلؤ ، وهو أوّل من استخرج الدرّ من البحر ، وكان يقرّن مردة الشياطين بعضهم مع بعض في القيود والسلاسل للتأديب والكف عن الفساد . وعن السدي : كان يجمع أيديهم إلى أعناقهم مغللين في الجوامع . والصفد القيد ، وسمي به العطاء لأنه ارتباط للمنعم عليه ، ومنه قول عليّ رضي الله عنه : من برّك فقد أسرك ، ومن جفاك فقد أطلقك . ومنه قول القائل : غلّ يداً مطلقها ، وأرقّ رقبة معتقها . وقال حبيب : إنّ العطاء إسار؛ وتبعه من قال :

وَمَنْ وَجَدَ الإحْسَانَ قَيْداً تَقَيَّدَا ... وفرقوا بين الفعلين فقالوا : صفده قيده ، وأصفده أعطاه ، كوعده وأوعده ، أي : { هذا } الذي أعطيناك من الملك والمال والبسطة { عَطَاؤُنَا } بغير حساب ، يعني : جماً كثيراً لا يكاد يقدر على حسبه وحصره { فامنن } من المنة وهي العطاء ، أي : فأعط منه ما شئت { أَوْ أَمْسِكْ } مفوّضاً إليك التصرف فيه . وفي قراءة ابن مسعود : هذا فامنن أو أمسك عطاؤنا بغير حساب ، أو هذا التسخير عطاؤنا ، فامنن على من شئت من الشياطين بالإطلاق ، وأمسك من شئت منهم في الوثاق بغير حساب ، أي لا حساب عليك في ذلك .

وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)

{ أَيُّوبَ } عطف بيان . و { إِذْ } بدل اشتمال منه { أَنّى مَسَّنِىَ } بأني مسني : حكاية لكلامه الذي ناداه بسببه ، ولو لم يحك لقال بأنه مسّه : لأنه غائب . وقرىء : «بنصب» بضم النون وفتحها مع سكون الصاد ، وبفتحهما ، وضمهما ، فالنصب والنصب : كالرشد الرشد ، والنصب : على أصل المصدر ، والنصب : تثقيل نصب ، والمعنى واحد ، وهو التعب والمشقة . والعذاب : الألم ، يريد مرضه وما كان يقاسي فيه من أنواع الوصب . وقيل : الضرّ في البدن ، والعذاب في ذهاب الأهل والمال . فإن قلت : لم نسبه إلى الشيطان ، ولا يجوز أن يسلطه الله على أنبيائه ليقضي من إِتعابهم وتعذيبهم وطره ، ولو قدر على ذلك لم يدع صالحاً إلا وقد نكبه وأهلكه ، وقد تكرّر في القرآن أنه لا سلطان له إلا الوسوسة فحسب؟ قلت : لما كانت وسوسته إليه وطاعته له فيما وسوس سبباً فيما مسه الله به من النصب والعذاب ، نسبه إليه ، وقد راعى الأدب في ذلك حيث لم ينسبه إلى الله في دعائه ، مع أنه فاعله ولا يقدر عليه إلا هو . وقيل : أراد ما كان يوسوس به إليه في مرضه من تعظيم ما نزل به من البلاء ، ويغريه على الكراهة والجزع ، فالتجأ إلى الله تعالى في أن يكفيه ذلك بكشف البلاء ، أو بالتوفيق في دفعه ورده بالصبر الجميل . وروى أنه كان يعوده ثلاثة من المؤمنين ، فارتد أحدهم ، فسأل عنه فقيل : ألقى إليه الشيطان : إن الله لا يبتلي الأنبياء والصالحين ، وذكر في سبب بلائه أنّ رجلاً استغاثه على ظالم فلم يغثه . وقيل : كانت مواشيه في ناحية ملك كافر ، فداهنه ولم يغزه . وقيل : أعجب بكثرة ماله { اركض بِرِجْلِكَ } حكاية ما أجيب به أيوب عليه السلام ، أي : اضرب برجلك الأرض . وعن قتادة : هي أرض الجابية فضربها ، فنبعت عين فقيل : { هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ } أي : هذا ماء تغتسل به وتشرب منه ، فيبرأ باطنك وظاهرك ، وتنقلب ما بك قلبة . وقيل : نبعت له عينان ، فاغتسل من إحداهما وشرب من الأخرى ، فذهب الداء من ظاهره وباطنه بإذن الله ، وقيل : ضرب برجله اليمنى فنبعت عين حارة فاغتسل منها ، ثم باليسرى فنبعت باردة فشرب منها { رَحْمَةً مّنَّا وذكرى } مفعول لهما . والمعنى : أنّ الهبة كانت للرحمة له ولتذكير أولى الألباب ، لأنهم إذا سمعوا بما أنعمنا به عليه لصبره ، رغبهم في الصبر على البلاء وعاقبة الصابرين وما يفعل الله بهم { وَخُذْ } معطوف على اركض . والضغث : الحزمة من حشيش أو ريحان أو غير ذلك . وعن ابن عباس : قبضة من الشجر ، كان حلف في مرضه ليضربنّ امرأته مائة إذا برأ ، فحلل الله يمينه بأهون شيء عليه وعليها لحسن خدمتها إياه ورضاه عنها ، وهذه الرخصة باقية .

وعن النبي صلى الله عليه وسلم :

( 960 ) أنه أتى بمخدج ، وقد خبث بأمة ، فقال : « خذوا عثكالاً فيه مائة شمراخ فاضربوه بها ضربة » ويجب أن يصيب المضروب كل واحد من المائة ، إمّا أطرافها قائمة ، وإما أعراضها مبسوطة مع وجود صورة الضرب ، وكان السبب في يمينه أنها أبطأت عليه ذاهبة في حاجة فحرج صدره ، وقيل : باعت ذؤابتيها برغيفين وكانتا متعلق أيوب إذا قام . وقيل : قال لها الشيطان : اسجدي لي سجدة فأردّ عليكم مالكم وأولادكم ، فهمت بذلك فأدركتها العصمة ، فذكرت ذلك له ، فحلف . وقيل : أوهمها الشيطان أن أيوب إذا شرب الخمر برأ ، فعرضت له بذلك . وقيل : سألته أن يقرب للشيطان بعناق { وجدناه صَابِراً } علمناه صابراً . فإن قلت : كيف وجده صابراً وقد شكا إليه ما به واسترحمه؟ قلت : الشكوى إلى الله عزّ وعلا لا تسمى جزعاً ، ولقد قال يعقوب عليه السلام : { إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى الله } [ يوسف : 86 ] وكذلك شكوى العليل إلى الطبيب ، وذلك أن أصبر الناس على البلاء لا يخلو من تمني العافية وطلبها ، فإذا صحّ أن يسمى صابراً مع تمني العافية وطلب الشفاء ، فليسم صابراً مع اللجإ إلى الله تعالى ، والدعاء بكشف ما به ومع التعالج ومشاورة الأطباء ، على أن أيوب عليه السلام كان يطلب الشفاء خيفة على قومه من الفتنة ، حيث كان الشيطان يوسوس إليهم كما كان يوسوس إليه أنه لو كان نبياً لما ابتلي بمثل ما ابتلي به ، وإرادة القوة على الطاعة ، فقد بلغ أمره إلى أن لم يبق منه إلاّ القلب واللسان . ويروى : أنه قال في مناجاته : إلهي قد علمت أنه لم يخالف لساني قلبي ، ولم يتبع قلبي بصري ، ولم يهبني ما ملكت يميني ، ولم آكل إلاّ ومعي يتيم ، ولم أبت شبعان ولا كاسياً ومعي جائع أو عريان؛ فكشف الله عنه .

وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47)

{ إبراهيم وإسحاق وَيَعْقُوبَ } عطف بيان لعبادنا . ومن قرأ : «عبدنا» جعل إبراهيم وحده عطف بيان له ، ثم عطف ذريته على عبدنا ، وهي إسحاق ويعقوب ، كقراءة ابن عباس : وإله أبيك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق . ولما كانت أكثر الأعمال تباشر بالأيدي غلبت ، فقيل : في كل عمل هذا مما عملت أيديهم ، وإن كان عملاً لا يتأتى فيه المباشرة بالأيدي ، أو كان العمال جذماً لا أيدي لهم ، وعلى ذلك ورد قوله عزّ وعلا : { أُوْلِى الأيدى والأبصار } يريد : أولي الأعمال والفكر ، كأن الذين لا يعملون أعمال الآخرة ، ولا يجاهدون في الله ، ولا يفكرون أفكار ذوي الديانات ولا يستبصرون في حكم الزمنى الذين لا يقدرون على أعمال جوارحهم والمسلوبي العقول الذين لا استبصار بهم . وفيه تعريض بكل من لم يكن من عمال الله ، ولا من المستبصرين في دين الله ، وتوبيخ على تركهم المجاهدة والتأمل مع كونهم متمكنين منهما . وقرىء : «أولى الأيادي» على جمع الجمع . وفي قراءة ابن مسعود : «أولي الأيد» على طرح الياء والاكتفاء بالكسرة . وتفسيره بالأيد - من التأييد - قلق غير متمكن «أخلصناهم» جعلناهم لنا خالصين { بِخَالِصَةٍ } بخصلة خالصة لا شوب فيها ، ثم فسرها بذكرى الدارشهادة بذكرى الدار بالخلوص والصفاء وانتفاء الكدورة عنها . وقرىء : على الإضافة . والمعنى : بما خلص من ذكرى الدار ، على أنهم لا يشوبون ذكرى الدار بهمّ آخر ، إنما همهم ذكرى الدار لا غير . ومعنى { ذِكْرَى الدار } : ذكراهم الآخرة دائباً ، ونسيانهم إليها ذكر الدنيا . أو تذكيرهم الآخرة وترغيبهم فيها ، وتزهيدهم في الدنيا؛ كما هو شأن الأنبياء وديدنهم . وقيل : ذكرى الدار . الثناء الجميل في الدنيا ولسان الصدق الذي ليس لغيرهم . فإن قلت : ما معنى { أخلصناهم بِخَالِصَةٍ } ؟ قلت : معناه : أخلصناهم بسبب هذه الخصلة ، وبأنهم من أهلها . أو أخلصناهم بتوفيقهم لها ، واللطف بهم في اختيارها . وتعضد الأوّل قراءة من قرأ : «بخالصتهم» { المصطفين } أي المختارين من أبناء جنسهم . و { الأخيار } جمع خير ، أو خير على التخفيف؛ كأموات في جمع ميت أو ميت .

وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48)

{ واليسع } كأن حرف التعريف دخل على يسع . وقرىء : «ولليسع» ، كأن حرف التعريف دخل على ليسع ، فيعل من اللسع . والتنوين في { وَكُلٌّ } عوض من المضاف إليه ، ومعناه : وكلهم من الأخيار .

هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52)

{ هذا ذِكْرُ } أي : هذا نوع من الذكر وهو القرآن . لما أجرى ذكر الأنبياء وأتمه ، وهو باب من أبواب التنزيل؛ ونوع من أنواعه ، وأراد أن يذكر على عقبه باباً آخر ، وهو ذكر الجنة وأهلها . قال : هذا ذكر ، ثم قال : { وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ } كما يقول الجاحظ في كتبه : فهذا باب ، ثم يشرع في باب آخر ، ويقول الكاتب إذا فرغ من فصل من كتابه وأراد الشروع في آخر : هذا وقد كان كيت وكيت؛ والدليل عليه : أنه لما أتمّ ذكر أهل الجنة وأراد أن يعقبه بذكر أهل النار . قال : { هذا وإن للطاغين } . وقيل : معناه هذا شرف وذكر جميل ويذكرون به أبداً . وعن ابن عباس رضي الله عنه : هذا ذكر من مضى من الأنبياء { جنات عَدْنٍ } معرفة لقوله : { جنات عَدْنٍ التى وَعَدَ الرحمن } [ مريم : 61 ] وانتصابها على أنها عطف بيان لحسن مآب . و { مُّفَتَّحَةً } حال ، والعامل فيها ما في ( للمتقين ) من معنى الفعل . وفي { مُّفَتَّحَةً } ضمير الجنات ، والأبواب بدل من الضمير ، تقديره : مفتحة هي الأبواب ، كقولهم : ضرب زيد اليد والرجل ، وهو من بدل الاشتمال . وقرىء : «جنات عدن مفتحة» بالرفع ، على أن جنات عدن مبتدأ ، ومفتحة خبره . أو كلاهما خبر مبتدأ محذوف ، أي هو جنات عدن هي مفتحة لهم؛ كأن اللدات سمين أتراباً ، لأن التراب مسهن في وقت واحد ، وإنما جعلن على سنّ واحدة ، لأنّ التحاب بين الأقران أثبت . وقيل : هنّ أتراب لأزواجهنّ ، أسنانهنّ كأسنانهم .

هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)

قرىء : «يوعدون» بالتاء والياء { لِيَوْمِ الحساب } لأجل يوم الحساب ، كما تقول : هذا ما تدخرونه ليوم الحساب ، أي : ليوم تجزى كل نفس ما عملت .

هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61)

{ هذا } أي الأمر أي هذا : أو هذا كما ذكر { فَبِئْسَ المهاد } ، كقوله : { لَهُم مّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ } [ الأعراف : 41 ] شبه ما تحتهم من النار بالمهاد الذي يفترشه النائم ، أي : هذا حميم فليذوقوه . أو العذاب هذا فليذوقوه ، ثم ابتدأ فقال : هو { حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ } أو : هذا فليذوقوه بمنزلة { وإياى فارهبون } [ البقرة : 40 ] أي ليذوقوا هذا فليذوقوه ، والغساق - بالتخفيف والتشديد - : ما يغسق من صديد أهل النار ، يقال : غسقت العين ، إذا سال دمعها . وقيل : الحميم يحرق بحرّه ، والغساق يحرق ببرده . وقيل : لو قطرت منه قطره في المشرق لنتنت أهل المغرب ، ولو قطرت منه قطرة في المغرب لنتنت أهل المشرق . وعن الحسن رضي الله عنه . الغساق : عذاب لا يعلمه إلا الله تعالى إن الناس أخفوا لله طاعة فأخفى لهم ثواباً في قوله : { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } [ السجدة : 17 ] وأخفوا معصية فأخفى لهم عقوبة { وَءَاخَرُ } ومذوقات أخر من شكل هذا المذوق من مثله في الشدة والفظاعة { أزواج } أجناس . وقرىء : «وآخر» أي : وعذاب آخر . أو مذوق آخر . وأزواج : صفة لآخر ، لأنه يجوز أن يكون ضروباً ، أو صفة للثلاثة وهي حميم وغساق وآخر من شكله . وقرىء : «من شكله» بالكسر وهي لغة . وأما الغنج فالبكسر لا غير { هذا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ } هذا جمع كثيف قد اقتحم معكم النار ، أي : دخل النار في صحبتكم وقرانكم ، والاقتحام : ركوب الشدة والدخول فيها . والقحمة : الشدة . وهذه حكاية كلام الطاغين بعضهم مع بعض ، أي : يقولون هذا . والمراد بالفوج : أتباعهم الذين اقتحموا معهم الضلالة ، فيقتحمون معهم العذاب { لاَ مَرْحَباً بِهِمْ } دعاء منهم على أتباعهم . تقول لمن تدعو له : مرحباً ، أي : أتيت رحباً من البلاد لا ضيقاً : أو رحبت بلادك رحباً ، ثم تدخل عليه «لا» في دعاء السوء . و { بِهِمْ } بيان للمدعو عليهم { إِنَّهُمْ صَالُواْ النار } تعليل لاستيجابهم الدعاء عليهم . ونحوه قوله تعالى : { كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا } [ الأعراف : 38 ] وقيل : هذا فوج مقتحم معكم : كلام الخزنة لرؤساء الكفرة في أتباعهم . و { لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُواْ النار } كلام الرؤوساء . وقيل : هذا كله كلام الخزنة { وقَالُواْ } أي الأتباع { بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ } يريدون الدعاء الذي دعوتم به علينا أنتم أحقّ به ، وعللوا ذلك بقولهم : { أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا } والضمير للعذاب أو لصليهم . فإن قلت : ما معنى تقديمهم العذاب لهم؟ قلت : المقدم هو عمل السوء . قال الله تعالى : { وذُوقُواْ عَذَابَ الحريق ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } [ الأنفال : 50-51 ] ولكن الرؤوساء لما كانوا السبب فيه بإغوائهم وكان العذاب جزاءهم عليه ، قيل : أنتم قدمتموه لنا ، فجعل الرؤوساء هم المقدمين وجعل الجزاء هو المقدّم ، فجمع بين مجازين؛ لأن العاملين هم المقدمون في الحقيقة لا رؤساؤهم ، والعمل هو المقدم لا جزاؤه .

فإن قلت : فالذي جعل قوله : { لاَ مَرْحَباً بِهِمْ } من كلام الخزنة ما يصنع بقوله : { بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ } والمخاطبون - أعني رؤسائهم - لم يتكلموا بما يكون هذا جواباً لهم؟ قلت : كأنه قيل : هذا الذي دعا به علينا الخزنة أنتم يا رؤساء أحقّ به منا لإغوائكم إيانا وتسببكم فيما نحن فيه من العذاب ، وهذا صحيح كما لو زين قوم لقوم بعض المساوي فارتكبوه فقيل للمزينين : أخزى الله هؤلاء ما أسوأ فعلهم؟ فقال المزين لهم للمزينين : بل أنتم أولى بالخزي منا ، فلولا أنتم لم نرتكب ذلك { وقَالُواْ } هم الأتباع أيضاً { فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً } أي : مضاعفاً ، ومعناه : ذا ضعف : ونحوه قوله تعالى : { رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَئَاتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا } [ الأعراف : 38 ] وهو أن يزيد على عذابه مثله فيصير ضعفين ، كقوله عزّ وجلّ { رَبَّنَا ءاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العذاب } [ الأحزاب : 68 ] وجاء في التفسير { عَذَاباً ضِعْفاً } حيات وأفاعي .

وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63)

{ وَقَالُواْ } الضمير للطاغين { رِجَالاً } يعنون فقراء المسلمين الذين لا يؤبه لهم { مّنَ الأشرار } من الأراذل الذين لا خير فيهم ولا جدوى ، ولأنهم كانوا على خلاف دينهم ، فكانوا عندهم أشراراً { أتخذناهم سِخْرِيّاً } قرىء : بلفظ الإخبار على أنه صفة ل ( رجالاً ) ، مثل قوله : { كُنَّا نَعُدُّهُمْ مّنَ الأشرار } وبهمزة الاستفهام على أنه إنكار على أنفسهم وتأنيب لها في الاستخسار منهم . وقوله : { أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبصار } له وجهان من الاتصال ، أحدهما : أن يتصل بقوله : { مالنا } أي : مالنا لا نراهم في النار؟ كأنهم ليسوا فيها بل أزاغت عنهم أبصارنا فلا نراهم وهم فيها : قسموا أمرهم بين أن يكونوا من أهل الجنة ، وبين أن يكونوا من أهل النار . إلاّ أنه خفي عليهم مكانهم . والوجه الثاني : أن يتصل باتخذناهم سخرياً ، إما أن تكون أم متصلة على معنى : أي الفعلين فعلنا بهم الاستسخار منهم ، أم الازدراء بهم والتحقير ، وأن أبصارنا كانت تعلو عنهم وتقتحمهم ، على معنى إنكار الأمرين جميعاً على أنفسهم ، وعن الحسن : كل ذلك قد فعلوا ، اتخذوهم سخرياً وزاغت عنهم أبصارهم محقرة لهم . وإما أن تكون منقطعة بعد مضي اتخذناهم سخرياً على الخبر أو الاستفهام ، كقولك : إنها إبل أم شاء ، وأزيد عندك أم عندك عمرو : ولك أن تقدّر همزة الاستفهام محذوفة فيمن قرأ بغير همزته ، لأنّ «أم» تدلّ عليها ، فلا تفترق القراءتان : إثبات همزة الاستفهام وحذفها . وقيل : الضمير في { وَقَالُواْ } لصناديد قريش كأبي جهل والوليد وأضرابهما ، والرجال : عمار وصهيب وبلال وأشباههم . وقرىء : «سخرياً» بالضم والكسر .

إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)

{ إِنَّ ذلك } أي الذي حكينا عنهم { لَحَقٌّ } لا بد أن يتكلموا به ، ثم بين ما هو فقال هو «تخاصم أهل النار» . وقرىء : بالنصب على أنه صفة لذلك ، لأن أسماء الإشارة توصف بأسماء الأجناس . فإن قلت : لم سمى ذلك تخاصماً؟ قلت؛ شبه تقاولهم وما يجري بينهم من السؤال والجواب بما يجري بين المتخاصمين من نحو ذلك ولأنّ قول الرؤوساء : لا مرحباً بهم ، وقول أتباعهم : بل أنتم لا مرحباً بكم ، من باب الخصومة ، فسمي التقاول كله تخاصماً لأجل اشتماله على ذلك .

قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66)

{ قُلْ } يا محمد لمشركي مكة : ما أنا إلا رسول { مُنذِرُ } أنذركم عذاب الله للمشركين ، وأقول لكم : إنّ دين الحق ، توحيد الله وأن يعتقد أن لا إله إلا الله { الواحد } بلا ندّ ولا شريك { القهار } لكل شيء ، وأنّ الملك والربوبية له في العالم كله وهو { العزيز } الذي لا يغلب إذا عاقب العصاة ، وهو مع ذلك { الغفار } لذنوب من التجأ إليه . أو قل لهم ما أنا إلا منذر لكم ما أعلم ، وأنا أنذركم عقوبة من هذه صفته ، فإن مثله حقيق بأن يخاف عقابه كما هو حقيق بأن يرجى ثوابه .

قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)

{ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ } أي : هذا الذي أنبأتكم به من كوني رسولاً منذراً وأن الله واحد لا شريك له : نبأ عظيم لا يعرض عن مثله إلاّ غافل شديد الغفلة . ثم احتج لصحة نبوّته بأنّ ما ينبىء به على الملأ الأعلى واختصامهم أمر ما كان له به من علم قط ، ثم علمه ولم يسلك الطريق الذي يسلكه الناس في علم ما لم يعلموا ، وهو الأخذ من أهل العلم وقراءة الكتب ، فعلم أنّ ذلك لم يحصل إلا بالوحي من الله { إِن يوحى إِلَىَّ إِلاَّ أَنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ } أي : لأنما أنا نذير . ومعناه : ما يوحى إليّ إلا للإنذار ، فحذف اللام وانتصب بإفضاء الفعل إليه . ويجوز أن يرتفع على معنى : ما يوحى إليّ إلاّ هذا ، وهو أن أنذر وأبلغ ولا أفرط في ذلك ، أي ما أومر إلاّ بهذا الأمر وحده ، وليس إليّ غير ذلك . وقرىء : «إنما» بالكسر على الحكاية ، أي : إلاّ هذا القول ، وهو أن أقول لكم : إنما أنا نذير مبين ولا أدعى شيئاً آخر . وقيل : النبأ العظيم : قصص آدم عليه السلام والإنباء به من غير سماع من أحد ، وعن ابن عباس : القرآن . وعن الحسن : يوم القيامة . فإن قلت : بم يتعلق { إِذْ يَخْتَصِمُونَ } ؟ قلت : بمحذوف؛ لأن المعنى : ما كان لي من علم بكلام الملأ الأعلى وقت اختصامهم ، و { إِذْ قَالَ } بدل من { إِذْ يَخْتَصِمُونَ } . فإن قلت : ما المراد بالملأ الأعلى؟ قلت : أصحاب القصة الملائكة وآدم وإبليس ، لأنهم كانوا في السماء وكان التقاول بينهم : فإن قلت : ما كان التقاول بينهم إنما كان بين الله تعالى وبينهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي قال لهم وقالوا له ، فأنت بين أمرين : إما أن تقول الملأ الأعلى هؤلاء ، وكان التقاول بينهم ولم يكن التقاول بينهم وإما أن تقول : التقاول كان بين الله وبينهم ، فقد جعلته من الملأ الأعلى . قلت : كانت مقاولة الله سبحانه بواسطة ملك ، فكان المقاول في الحقيقة هو الملك المتوسط ، فصحّ أن التقاول كان بين الملائكة وآدم وإبليس ، وهم الملأ الأعلى . والمراد بالاختصام : التقاول على ما سبق .

إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74)

فإن قلت : كيف صحّ أن يقول لهم { إِنّى خالق بَشَرًا } وما عرفوا ما البشر ولا عهدوا به قبل؟ قلت : وجهه أن يكون قد قال لهم : إني خالق خلقاً من صفته كيت وكيت ، ولكنه حين حكاه اقتصر على الاسم { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ } فإذا أتممت خلقه وعدلته { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى } وأحييته وجعلته حساساً متنفساً { فَقَعُواْ } فخروا ، كل : للإحاطة . وأجمعون : للاجتماع ، فأفادا معاً أنهم سجدوا عن آخرهم ما بقي منهم ملك إلا سجد وأنهم سجدوا جميعاً في وقت واحد غير متفرّقين في أوقات . فإن قلت : كيف ساغ السجود لغير الله؟ قلت : الذي لا يسوغ هو السجود لغير الله على وجه العبادة ، فأما على وجه التكرمة والتبجيل فلا يأباه العقل ، إلاّ أن يعلم الله فيه مفسدة فينهى عنه ، فإن قلت : كيف استثنى إبليس من الملائكة وهو من الجنّ؟ قلت : قد أمر بالسجود معهم فغلبوا عليه في قوله : { فَسَجَدَ الملائكة } ثم استثنى كما يستثنى الواحد منهم استثناء متصلاً { وَكَانَ مِنَ الكافرين } أريد : وجود كفره ذلك الوقت وإن لم يكن قبله كافراً؛ لأن ( كان ) مطلق في جنس الأوقات الماضية ، فهو صالح لأيها شئت . ويجوز أن يراد : وكان من الكافرين في الأزمنة الماضية في علم الله .

قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76)

فإن قلت : ما وجه قوله : { خَلَقْتُ بِيَدَىَّ } : قلت : قد سبق لنا أنّ ذا اليدين يباشر أكثر أعماله بيديه ، فغلبت العمل باليدين على سائر الأعمال التي تباشر بغيرهما ، حتى قيل في عمر القلب : هو مما عملت يداك ، وحتى قيل لمن لا يدي له : يداك أوكتا وفوك نفخ ، وحتى لم يبق فرق بين قولك : هذا مما عملته ، وهذا مما عملته يداك . ومنه قوله : { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ } [ ص : 75 ] ؟ قلت : الوجه الذي استنكر له إبليس السجود لآدم ، واستنكف منه أنه سجود لمخلوق ، فذهب بنفسه ، وتكبر أن يكون سجوده لغير الخالق ، وانضم إلى ذلك أنّ آدم مخلوق من طين وهو مخلوق من نار . ورأى للنار فضلاً على الطين فاستعظم أن يسجد لمخلوق مع فضله عليه في المنصب ، وزلّ عنه أنّ الله سبحانه حين أمر به أعزَّ عباده عليه وأقربهم منه زلفى وهم الملائكة ، وهم أحقّ بأن يذهبوا بأنفسهم عن التواضع للبشر الضئيل ، ويستنكفوا من السجود له من غيرهم ، ثم لم يفعلوا وتبعوا أمر الله وجعلوه قدّام أعينهم ، ولم يلتفتوا إلى التفاوت بين الساجد والمسجود له ، تعظيماً لأمر ربهم وإجلالاً لخطابه : كان هو مع انحطاطه عن مراتبهم حرى بأن يقتدي بهم ويقتفي أثرهم ، ويعلم أنهم في السجود لمن هو دونهم بأمر الله ، أوغل في عبادته منهم في السجود له ، لما فيه من طرح الكبرياء وخفض الجناح ، فقيل له : ما منعك أن تسجد لما خلقت بيديّ ، أي : ما منعك من السجود لشيء هو كما تقول مخلوق خلقته بيدي - لا شكّ في كونه مخلوقاً - امتثالاً لأمري وإعظاماً لخطابي كما فعلت الملائكة ، فذكر له ما تركه من السجود مع ذكر العلة التي تشبث بها في تركه ، وقيل له : لما تركته مع وجود هذه العلة ، وقد أمرك الله به ، يعني : كان عليك أن تعتبر أمر الله ولا تعتبر هذه العلة ، ومثاله : أن يأمر الملك وزيره أن يزور بعض سقاط الحشم فيمتنع اعتباراً لسقوطه ، فيقول له : ما منعك أن تتواضع لمن لا يخفى عليّ سقوطه ، يريد : هلا اعتبرت أمرى وخطابي وتركت اعتبار سقوطه ، وفيه : أني خلقته بيدي ، فأنا أعلم بحاله ، ومع ذلك أمرت الملائكة بأن يسجدوا له لداعي حكمة دعاني إليه : من إنعام عليه بالتكرمة السنية وابتلاء للملائكة ، فمن أنت حتى يصرفك عن السجود له ، ما لم يصرفني عن الأمر بالسجود له . وقيل : معنى { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ } لما خلقت بغير واسطة . وقرىء : «بيدي» كما قرىء : «بمصرخي» . وقرىء : «بيدي» على التوحيد { مِنَ العالين } ممن علوت وفقت ، فأجاب بأنه من العالين حيث { قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ } وقيل : استكبرت الآن ، أم لم تزل مند كنت من المستكبرين . ومعنى الهمزة : التقرير . وقرىء : «استكبرت» بحذف حرف الاستفهام؛ لأنّ أم تدلّ عليه . أو بمعنى الإخبار . هذا على سبيل الأولى ، أي : لو كان مخلوقاً من نار لما سجدت له ، لأنه مخلوق مثلي ، فكيف أسجد لمن هو دوني لأنه من طين والنار تغلب الطين وتأكله ، وقد جرت الجملة الثانية من الأولى وهي { خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ } مجرى المعطوف عطف البيان من المعطوف عليه في البيان والإيضاح .

قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78)

{ مِنْهَا } من الجنة . وقيل : من السماء . وقيل : من الخلقة التي أنت فيها؛ لأنه كان يفتخر بخلقته فغير الله خلقته فاسودّ بعد ما كان أبيض وقبح بعد ما كان حسناً ، وأظلم بعد ما كان نورانياً . والرجيم : المرجوم . ومعناه : المطرود ، كما قيل له : المدحور والملعون؛ لأنّ من طرد رمي بالحجارة على أثره . والرجم : الرمي بالحجارة . أو لأنّ الشياطين يرجمون بالشهب . فإن قلت : قوله : { لَعْنَتِى إلى يَوْمِ الدين } كأن لعنة إبليس غايتها يوم الدين ثم تنقطع؟ قلت : كيف تنقطع وقد قال الله تعالى : { فَأَذَّنَ مُؤَذّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين } [ الأعراف : 44 ] ولكن المعنى : أن عليه اللعنة في الدنيا ، فإذا كان يوم الدين اقترن له باللعنة ما ينسى عنده اللعنة ، فكأنها انقطعت .

قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81)

فإن قلت : ما الوقت المعلوم الذي أضيف إليه اليوم؟ قلت : الوقت الذي تقع فيه النفخة الأولى . ويومه : اليوم الذي وقت النفخة جزء من أجزائه . ومعنى المعلوم : أنه معلوم عند الله معين ، لا يستقدم ولا يستأخر .

قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)

{ فَبِعِزَّتِكَ } إقسام بعزّة الله تعالى وهي سلطانه وقهره .

قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)

قرىء : «فالحق والحق» منصوبين على أن الأول مقسم به كالله في :

إن عليك الله أن تبايعا ... وجوابه { لاَمْلاَنَّ } والحق أقول : اعتراض بين المقسم به والمقسم عليه ، ومعناه : ولا أقول إلاّ الحق . والمراد بالحق : إمّا اسمه عزّ وعلا الذي في قوله : { أَنَّ الله هُوَ الحق المبين } [ النور : 25 ] أو الحق الذي هو نقيض الباطل : عظمه الله بإقسامه به . ومرفوعين على أنّ الأوّل مبتدأ محذوف الخبر ، كقوله : ( لعمرك ) أي : فالحق قسمي لأملأنّ . والحق أقول ، أي : أقوله كقوله كله لم أصنع ، ومجرورين : على أنّ الأوّل مقسم به قد أضمر حرف قسمه ، كقولك : الله لأفعلنّ . والحق أقول ، أي : ولا أقول إلاّ الحق على حكاية لفظ المقسم به . ومعناه : التوكيد والتشديد . وهذا الوجه جائز في المنصوب والمرفوع أيضاً . وهو وجه دقيق حسن . وقرىء : برفع الأوّل وجرّه مع نصب الثاني ، وتخريجه على ما ذكرنا { مِنكَ } من جنسك وهم الشياطين { وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ } من ذرية آدم ، فإن قلت : { أَجْمَعِينَ } تأكيد لماذا؟ قلت : لا يخلو أن يؤكد به الضمير في منهم ، أو الكاف في منك مع من تبعك . ومعناه : لأملأن جهنم من المتبوعين والتابعين أجمعين ، لا أترك منهم أحداً . أو لأملأنها من الشياطين وممن تبعهم من جميع الناس ، لا تفاوت في ذلك بين ناس وناس بعد وجود الأتباع منهم من أولاد الأنبياء وغيرهم .

قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)

{ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ } الضمير للقرآن أو للوحي { وَمَا أَنَا مِنَ المتكلفين } من الذين يتصنعون ويتحلون بما ليسوا من أهله ، وما عرفتموني قط متصنعاً ولا مدّعياً ما ليس عندي ، حتى أنتحل النبوّة وأتقوّل القرآن { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ } من الله { للعالمين } للثقلين . أوحى إليّ فأنا أبلغه . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( 961 ) « للمتكلف ثلاث علامات : ينازع من فوقه ، ويتعاطى ما لا ينال ، ويقول ما لا يعلم » { وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ } أي : ما يأتيكم عند الموت ، أو يوم القيامة ، أو عند ظهور الإسلام وفشوه ، من صحة خبره ، وأنه الحق والصدق . وفيه تهديد .

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( 962 ) « من قرأ سورة ص كان له بوزن كل جبل سخره الله لداود عشر حسنات وعصمه أن يصرّ على ذنب صغير أو كبير » .

تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4)

{ تَنزِيلُ الكتاب } قرىء : بالرفع على أنه مبتدأ أخبر عنه بالظرف . أو خبر مبتدأ محذوف والجار صلة التنزيل ، كما تقول : نزل من عند الله . أو غير صلة ، كقولك : هذا الكتاب من فلان إلى فلان ، فهو على هذا خبر بعد خبر . أو خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هذا تنزيل الكتاب ، هذا من الله ، أو حال من التنزيل عمل فيها معنى الإشارة ، وبالنصب على إضمار فعل ، نحو : اقرأ ، والزم . فإن قلت : ما المراد بالكتاب؟ قلت : الظاهر على الوجه الأول أنه القرآن ، وعلى الثاني : أنه السورة { مُخْلِصاً لَّهُ الدين } ممحضاً له الدين من الشرك والرياء بالتوحيد وتصفية السر . وقرىء : «الدين» بالرفع . وحق من رفعه أن يقرأ مخلصاً - بفتح اللام - كقوله تعالى : { وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ } [ النساء : 146 ] حتى يطابق قوله : { أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص } والخالص والمخلص : واحد ، إلاّ أن يصف الدين بصفة صاحبه على الإسناد المجازي . كقولهم : شعر شاعر ، وأما من جعل { مُخْلِصاً } حالاً من العابد ، و { لَّهُ الدين } مبتدأ وخبراً ، فقد جاء بإعراب رجع به الكلام إلى قولك : لله الدين { أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص } أي : هو الذي وجب اختصاصه بأن تخلص له الطاعة من كل شائبة كدر ، لاطلاعه على الغيوب والأسرار ، ولأنه الحقيق بذلك ، لخلوص نعمته عن استجرار المنفعة بها . وعن قتادة : الدين الخالص شهادة أن لا إله إلا الله . وعن الحسن : الإسلام { والذين اتخذوا } يحتمل المتخذين وهم الكفرة ، والمتخذين ، وهم الملائكة وعيسى واللات والعزّى : عن ابن عباس رضي الله عنهما ، فالضمير في { اتخذوا } على الأوّل راجع إلى الذين ، وعلى الثاني إلى المشركين ، ولم يجر ذكرهم لكونه مفهوماً ، والراجع إلى الذين محذوف والمعنى : والذين اتخذهم المشركون أولياء ، { والذين اتخذوا } في موضع الرفع على الابتداء . فإن قلت : فالخبر ما هو؟ قلت : هو على الأوّل إما { إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } أو ما أضمر من القول قبل قوله : { مَا نَعْبُدُهُمْ } . وعلى الثاني : أن الله يحكم بينهم . فإن قلت : فإذا كان { إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } الخبر ، فما موضع القول المضمر؟ قلت : يجوز أن يكون في موضع الحال ، أي : قائلين ذلك . ويجوز أن يكون بدلاً من الصلة فلا يكون له محلّ ، كما أنّ المبدل منه كذلك . وقرأ ابن مسعود بإظهار القول : «قالوا ما نعبدهم» وفي قراءة أبيّ : ما نعبدكم إلا لتقربونا على الخطاب ، حكاية لما خاطبوا به آلهتهم . وقرىء : «نعبدهم» بضم النون اتباعاً للعين كما تتبعها الهمزة في الأمر ، والتنوين في { عَذَاب اركض } والضمير في { بَيْنَهُمْ } لهم ولأوليائهم . والمعنى : أن الله يحكم بينهم بأنه يدخل الملائكة وعيسى الجنة ، ويدخلهم النار مع الحجارة التي نحتوها وعبدوها من دون الله يعذبهم بها حيث يجعلهم وإياها حصب جهنم .

واختلافهم : أن الذين يعبدون موحدون وهم مشركون ، وأولئك يعادونهم ويلعنونهم ، وهم يرجون شفاعتهم وتقريبهم إلى الله زلفى . وقيل : كان المسلمون إذا قالوا لهم : من خلق السموات والأرض ، أقرّوا وقالوا : الله ، فإذا قالوا لهم : فما لكم تعبدون الأصنام؟ قالوا : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى؛ فالضمير في { بَيْنَهُمْ } عائد إليهم وإلى المسلمين . والمعنى : أن الله يحكم يوم القيامة بين المتنازعين من الفريقين ، والمراد بمنع الهداية : منع اللطف تسجيلاً عليهم بأن لا لطف لهم ، وأنهم في علم الله من الهالكين . وقرىء : «كذاب وكذوب» وكذبهم : قولهم في بعض من اتخذوا من دون الله أولياء : بنات الله ، ولذلك عقبه محتجاً عليهم بقوله : { لَّوْ أَرَادَ الله أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاصطفى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاء } يعني : لو أراد اتخاذ الولد لامتنع ولم يصحّ ، لكونه محالاً؛ ولم يتأت إلا أن يصطفي من خلقه بعضه ويختصمهم ويقربهم ، كما يختص الرجل ولده ويقربه . وقد فعل ذلك بالملائكة فافتتنتم به وغركم اختصاصه إياهم ، فزعمتم أنهم أولاده ، جهلاً منكم به وبحقيقته المخالفة لحقائق الأجسام والأعراض ، كأنه قال : لو أراد اتخاذ الولد لم يزد على ما فعل من اصطفاء ما يشاء من خلقه وهم الملائكة ، إلا أنكم لجهلكم به حسبتم اصطفاءهم اتخاذهم أولاداً ، ثم تماديتم في جهلكم وسفهكم فجعتلموهم بنات ، فكنتم كذابين كفارين متبالغين في الافتراء على الله وملائكته ، غالين في الكفر ، ثم قال : { سبحانه } فنزه ذاته عن أن يكون له أحد ما نسبوا إليه من الأولاد والأولياء . ودلَّ على ذلك بما ينافيه ، وهو أنه واحد ، فلا يجوز أن يكون له صاحبة؛ لأنه لو كانت له صاحبة لكانت من جنسه ولا جنس له؛ وإذا لم يتأت أن يكون له صاحبة لم يتأت أن يكون له ولد ، وهو معنى قوله : { أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صاحبة } [ الأنعام : 101 ] . وقهار غلاب لكل شيء ، ومن الأشياء آلهتهم ، فهو يغلبهم ، فكيف يكونون له أولياء وشركاء؟ .

خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5)

ثم دلَّ بخلق السموات والأرض ، وتكوير كل واحد من الملوين على الآخر ، وتسخير النيرين ، وجريهما لأجل مسمى ، وبثّ الناس على كثرة عددهم من نفس واحدة ، وخلق الأنعام على أنه واحد لا يشارك ، قهار لا يغالب . والتكوير : اللف والليّ ، يقال : كار العمامة على رأسه ، وكوّرها . وفيه أوجه منها : أن الليل والنهار خلفة يذهب هذا ويغشى مكانه هذا ، وإذا غشي مكانه فكأنما ألبسه ولف عليه كما يلف اللباس على اللابس . ومنه قول ذي الرمة في وصف السراب :

تَلْوِي الثَّنَايَا بِأَحْقَيْهَا حَوَاشِيَهُ ... لَيَّ الْمَلاَءِ بِأَبْوَابِ التَّفَارِيجِ

ومنها أنّ كل واحد منهما يغيب الآخر إذا طرأ عليه ، فشبه في تغييبه إياه بشيء ظاهر لف عليه ما غيبه عن مطامح الأبصار . ومنها : أن هذا يكر على هذا كروراً متتابعاً . فشبه ذلك بتتابع أكوار العمامة بعضها على أثر بعض { ألا هُوَ العزيز } الغالب القادر على عقاب المصرين { الغفار } لذنوب التائبين أو الغالب الذي يقدر على أن يعالجهم بالعقوبة وهو يحلم عنهم ويؤخرهم إلى أجل مسمى ، فسمى الحلم عنهم : مغفرة .

خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)

فإن قلت : ما وجه قوله : { ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } وما يعطيه من معنى التراخي؟ قلت : هما آيتان من جملة الآيات التي عدّدها دالاً على وحدانيته وقدرته : تشعيب هذا الخلق الفائت للحصر من نفس آدم ، وخلق حواء من قصيراه؛ إلا أن إحداهما جعلها الله عادة مستمرّة ، والأخرى لم تجريها العادة ، ولم تخلق أنثى غير حواء من قصيرى رجل ، فكانت أدخل في كونها آية ، وأجلب لعجب السامع ، فعطفها بثم على الآية الأولى ، للدلالة على مباينتها لها فضلاً ومزية ، وتراخيها عنها فيما يرجع إلى زيادة كونها آية ، فهو من التراخي في الحال والمنزلة ، لا من التراخي في الوجود . وقيل : ثم متعلق بمعنى واحدة ، كأنه قيل : خلقكم من نفس وحدت ، ثم شفعها الله بزوج . وقيل : أخرج ذرية آدم من ظهره كالذر ، ثم خلق بعد ذلك حواء { وَأَنزَلَ لَكُمْ } وقضى لكم وقسم؛ لأنّ قضاياه وقسمه موصوفة بالنزول من السماء ، حيث كتب في اللوح : كل كائن يكون . وقيل : لا تعيش الأنعام إلاّ بالنبات . والنبات لا يقوم إلاّ بالماء . وقد أنزل الماء ، فكأنه أنزلها . وقيل : خلقها في الجنة ، ثم أنزلها . { ثمانية أزواج } ذكراً وأنثى من الإبل والبقر والضأن والمعز . والزوج : اسم لواحد معه آخر ، فإذا انفرد فهو فرد ووتر . قال الله تعالى : { فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والأنثى } [ القيامة : 39 ] . { خَلْقاً مّن بَعْدِ خَلْقٍ } حيواناً سوياً ، من بعد عظام مكسوة لحماً ، من بعد عظام عارية ، من بعد مضغ ، من بعد علق ، من بعد نطف . والظلمات الثلاث : البطن والرحم والمشيمة . وقيل : الصلب والرحم والبطن { ذَلِكُمُ } الذي هذه أفعاله هو { الله رَبُّكُمُ . . . . فأنى تُصْرَفُونَ } فكيف يعدل بكم عن عبادته إلى عبادة غيره؟ .

إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)

{ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنكُمْ } عن إيمانكم وإنكم المحتاجون إليه ، لاستضراركم بالكفر واستنفاعكم بالإيمان { وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر } رحمة لهم؛ لأنه يوقعهم في الهلكة { وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ } أي يرض الشكر لكم ، لأنه سبب فوزكم وفلاحكم؛ فإذاً ما كره كفركم ولا رضي شكركم إلاّ لكم ولصلاحكم ، لا لأنّ منفعة ترجع إليه؛ لأنه الغني الذي لا يجوز عليه الحاجة . ولقد تمحل بعض الغواة ليثبت لله تعالى ما نفاه عن ذاته من الرضا لعباده الكفر فقال : هذا من العام الذي أريد به الخاص ، وما أراد إلاّ عباده الذين عناهم في قوله : { إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان } [ الإسراء : 65 ] يريد : المعصومين ، كقوله تعالى : { عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله } [ الإنسان : 6 ] ، تعالى الله عما يقول الظالمون وقرىء : «يرضهُ» بضم الهاء بوصل وبغير وصل ، وبسكونها .

وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8)

{ خَوَّلَهُ } أعطاه . قال أبو النجم :

أَعْطَى فَلَمْ يَبْخَلْ وَلَمْ يُبَخَّلِ ... كُومَ الذَّرَى مِنْ خِوَلِ الْمُخَوِّلِ

وفي حقيقته وجهان ، أحدهما : جعله خائل مال ، من قولهم : هو خائل مال ، وخال مال : إذا كان متعهداً له حسن القيام به ، ومنه ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( 963 ) أنه كان يتخول أصحابه بالموعظة ، والثاني : جعله يخول من خال يخول إذا اختال وافتخر ، وفي معناه قول العرب :

إنَّ الْغَنِيَّ طَوِيلُ الذَّيْلِ مَيَّاسُ ... { مَا كَانَ يدعوا إِلَيْهِ } أي نسي الضرّ الذي كان يدعو الله إلى كشفه . وقيل : نسي ربه الذي كان يتضرع إليه ويبتهل إليه ، وما بمعنى من ، كقوله تعالى : { وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى } [ الليل : 3 ] وقرىء : «ليضل» بفتح الياء وضمها ، بمعنى أنّ نتيجة جعله لله أنداداً ضلاله عن سبيل الله أو إضلاله والنتيجة : قد تكون غرضاً في الفعل ، وقد تكون غير غرض . وقوله : { تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ } من باب الخذلان والتخلية ، كأنه قيل له : إذ قد أبيت قبول ما أمرت به من الإيمان والطاعة ، فمن حقك ألا تؤمر به بعد ذلك ، وتؤمر بتركه : مبالغة في خذلانه وتخليته وشأنه . لأنه لا مبالغة في الخذلان؛ أشدّ من أن يبعث على عكس ما أمر به . ونظيره في المعنى قوله : { متاع قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّم } [ آل عمران : 197 ] .

أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)

قرىء : «أمن هو قانت» بالتخفيف على إدخال همزة الاستفهام على من ، وبالتشديد على إدخال «أم» عليه . ومن مبتدأ خبره محذوف ، تقديره : أمن هو قانت كغيره ، وإنما حذف لدلالة الكلام عليه ، وهو جري ذكر الكافر قبله . وقوله بعده : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ } وقيل : معناه أمن هو قانت أفضل أمن هو كافر . أو أهذا أفضل أمن هو قانت على الاستفهام المتصل . والقانت : القائم بما يجب عليه من الطاعة . ومنه قوله عليه الصلاة والسلام :

( 964 ) " أفضل الصلاة طول القنوت " ، وهو القيام فيها . ومنه القنوت في الوتر؛ لأنه دعاء المصلي قائماً { ساجدا } حال . وقرىء : «ساجد وقائم» على أنه خبر بعد خبر ، والواو للجمع بين الصفتين . وقرىء : «ويحذر عذاب الآخرة» وأراد بالذين يعلمون : العاملين من علماء الديانة ، كأنه جعل من لا يعمل غير عالم . وفيه ازدراء عظيم بالذين يقتنون العلوم ، ثم لا يقنتون ، ويفتنون فيها ، ثم يفتنون بالدنيا ، فهم عند الله جهلة ، حيث جعل القانتين هم العلماء ، ويجوز أن يرد على سبيل التشبيه ، أي : كما لا يستوي العالمون والجاهلون ، كذلك لا يستوي القانتون والعاصون . وقيل : ونزلت في عمار بن ياسر رضي الله عنه وأبي حذيفة بن المغيرة المخزومي . وعن الحسن أنه سئل عن رجل يتمادى في المعاصي ويرجو ، فقال : هذا تمنّ وإنما الرجاء قوله : وتلا هذه الآية . وقرىء : «إنما يذَّكَّر» بالإدغام .

قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)

{ فِى هذه الدنيا } متعلق بأحسنوا لا بحسنة ، معناه : الذين أحسنوا في هذه الدنيا فلهم حسنة في الآخرة . وهي دخول الجنة ، أي : حسنة غير مكتنهة بالوصف . وقد علقه السدي بحسنة ، ففسر بحسنة بالصحة والعافية . فإن قلت : إذا علق الظرف بأحسنوا فإعرابه ظاهر ، فما معنى تعليقه بحسنة؟ ولا يصحّ أن يقع صفة لها لتقدمه . قلت : هو صفة لها إذا تأخر فإذا تقدم كان بياناً لمكانها فلم يخل التقدم بالتعلق ، وإن لم يكن التعلق وصفاً ومعنى { وَأَرْضُ الله وَاسِعَةٌ } أن لا عذر للمفرطين في الإحسان البتة؛ حتى إن اعتلوا بأوطانهم وبلادهم ، وأنهم لا يتمكنون فيها من التوفر على الإحسان ، وصرف الهمم إليه قيل لهم : فإن أرض الله واسعة وبلاده كثيرة ، فلا تجتمعوا مع العجز ، وتحوّلوا إلى بلاد أخر ، واقتدوا بالأنبياء والصالحين في مهاجرتهم إلى غير بلادهم ليزدادوا إحساناً إلى إحسانهم وطاعة إلى طاعتهم . وقيل : هو للذين كانوا في بلد المشركين فأمروا بالمهاجرة عنه ، كقوله تعالى : { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله واسعة فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا } [ النساء : 97 ] . وقيل : هي أرض الجنة . و { الصابرون } الذين صبروا على مفارقة أوطانهم وعشائرهم ، وعلى غيرها . من تجرّع الغصص واحتمال البلايا في طاعة الله وازدياد الخير { بِغَيْرِ حِسَابٍ } لا يحاسبون عليه . وقيل : بغير مكيال وغير ميزان يغرف لهم غرفاً ، وهو تمثيل للتكثير . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : لا يُهتدى إليه حساب الحساب ولا يُعرف . وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم :

( 965 ) « ينصب الله الموازين يوم القيامة فيؤتى بأهل الصلاة فيوفون أجورهم بالموازين ، ويؤتى بأهل الصدقة فيوفون أجورهم بالموازين . ويؤتى بأهل الحج فيوفون أجورهم بالموازين ، ويؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان ، ويصب عليهم الأجر صباً ، قال الله تعالى : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أنّ أجسادهم تقرض بالمقاريض مما يذهب به أهل البلاء من الفضل » .

قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15)

{ قُلْ إِنّى أُمِرْتُ } بإخلاص الدين { وَأُمِرْتُ } بذلك { ل } أجل { لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ المسلمين } أي مقدمهم وسابقهم في الدنيا والآخرة ، ولمعنى : أنّ الإخلاص له السبقة في الدين ، فمن أخلص كان سابقاً . فإن قلت : كيف عطف { أُمِرْتُ } على { أُمِرْتُ } وهما واحد؟ قلت : ليسا بواحد لاختلاف جهتيهما ، وذلك أنّ الأمر بالإخلاص وتكليفه شيء ، والأمر به ليحرز القائم به قصب السبق في الدين شيء ، وإذا اختلف وجها الشيء وصفتاه ينزل بذلك منزلة شيئين مختلفين ولك أن تجعل اللام مزيدة مثلها في أردت لأن أفعل ، ولا تزاد إلا مع أن خاصة دون الاسم الصريح ، كأنها زيدت عوضاً من ترك الأصل إلى ما يقوم مقامه ، كما عوّض السين في اسطاع عوضاً من ترك الأصل الذي هو أطوع ، والدليل على هذا الوجه مجيئه بغير لام في قوله : { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين } [ يونس : 72 ] ، { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المؤمنين } [ يونس : 104 ] ، { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ } [ الأنعام : 14 ] وفي معناه أوجه : أن أكون أوّل من أسلم في زماني ومن قومي ، لأنه أول من خالف دين آبائه وخلع الأصنام وحطمها ، وأن أكون أوّل الذين دعوتهم إلى الإسلام إسلاماً . وأن أكون أول من دعا نفسه إلى ما دعا إليه غيره ، لأكون مقتدى بي في قولي وفعلي جميعاً ، ولا تكون صفتي صفة الملوك الذين يأمرون بما لا يفعلون ، وأن أفعل ما أستحق به الأوّلية من أعمال السابقين دلالة على السبب بالمسبب يعني : أن الله أمرني أن أخلص له الدين من الشرك والرياء وكلّ شوب ، بدليل العقل والوحي . فإن عصيت ربي بمخالفة الدليلين ، استوجبت عذابه فلا أعصيه ولا أتابع أمركم ، وذلك حين دعوه إلى دين آبائه . فإن قلت : ما معنى التكرير في قوله : { قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله مُخْلِصاً لَّهُ الدين } وقوله : { قُلِ الله أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِى } قلت : ليس بتكرير؛ لأنّ الأوّل إخبار بأنه مأمور من جهة الله بإحداث العبادة والإخلاص . والثاني : إخبار بأنه يختص الله وحده دون غيره بعبادته مخلصاً له دينه ، ولدلالته على ذلك قدّم المعبود على فعل العبادة وأخره في الأوّل فالكلام أوّلاً واقع في الفعل نفسه ، وإيجاده ، وثانياً فيمن يفعل الفعل لأجله ولذلك رتب عليه قوله : { فاعبدوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ } والمراد بهذا الأمر الوارد على وجه التخيير : المبالغة في الخذلان والتخلية ، على ما حققت فيه القول مرتين . قل إنّ الكاملين في الخسران الجامعين لوجوهه وأسبابه : هم { الذين خسروا أَنفُسَهُمْ } لوقوعها في هلكة لا هلكة بعدها ( و ) خسروا { وأَهْلِيهِمْ } لأنهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم ، وإن كانوا من أهل الجنة فقد ذهبوا عنهم ذهاباً لا رجوع بعده إليهم . وقيل : وخسروهم لأنهم لم يدخلوا مدخل المؤمنين الذين لهم أهل في الجنة ، يعني : وخسروا أهليهم الذين كانوا يكونون لهم لو آمنوا ، ولقد وصف خسرانهم بغاية الفظاعة في قوله : { أَلاَ ذلك هُوَ الخسران المبين } حيث استأنف الجملة وصدرها بحرف التنبيه ، ووسط الفصل بين المبتدأ والخبر ، وعرف الخسران ونعته بالمبين .

لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16)

{ وَمِن تَحْتِهِمْ } أطباق من النار هي { ظُلَلٌ } لآخرين { ذلك } العذاب هو الذي يتوعد الله { بِهِ عِبَادَهُ } ويخوفهم ، ليجتنبوا ما يوقعهم فيه { ياعباد فاتقون } فلا تتعرّضوا لما يوجب سخطي ، وهذه عظة من الله تعالى ونصيحة بالغة . وقرىء : «يا عبادي» .

وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)

{ الطاغوت } فعلوت من الطغيان كالملكوت والرحموت ، إلا أن فيها قلباً بتقديم اللام على العين ، أطلقت على الشيطان أو الشياطين ، لكونها مصدراً وفيها مبالغات ، وهي التسمية بالمصدر ، كأن عين الشيطان طغيان ، وأنّ البناء بناء مبالغة ، فإنّ الرحموت : الرحمة الواسعة ، والملكوت : الملك المبسوط ، والقلب هو للاختصاص ، إذ لا تطلق على غير الشيطان ، والمراد بها ههنا الجمع . وقرىء : «الطواغيت» { أَن يَعْبُدُوهَا } بدل من الطاغوت بدل الاشتمال { لَهُمُ البشرى } هي البشارة بالثواب ، كقوله تعالى : { لَهُمُ البشرى فِي الحياة الدنيا وَفِى الأخرة } [ يونس : 64 ] الله عزّ وجلّ يبشرهم بذلك في وحيه على ألسنة رسله ، وتتلقاهم الملائكة عند حضور الموت مبشرين ، وحين يحشرون . قال الله تعالى : { يَوْمَ تَرَى المؤمنين والمؤمنات يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبأيمانهم بُشْرَاكُمُ اليوم جنات } [ الحديد : 12 ] وأراد بعباده { الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } الذين اجتنبوا وأنابوا لا غيرهم ، وإنما أراد بهم أن يكونوا مع الاجتناب والإنابة على هذه الصفة ، فوضع الظاهر موضع الضمير ، وأراد أن يكونوا نقاداً في الدين يميزون بين الحسن والأحسن والفاضل والأفضل ، فإذا اعترضهم أمران : واجب وندب ، اختاروا الواجب ، وكذلك المباح والندب ، حرّاصاً على ما هو أقرب عند الله وأكثر ثواباً ، ويدخل تحته المذاهب واختيار أثبتها على السبك وأقواها عند السبر ، وأبينها دليلاً أو أمارة ، وأن لا تكون في مذهبك ، كما قال القائل :

وَلاَ تَكُنْ مِثْلَ عَيْرٍ قِيدَ فَانْقَادَا ... يريد المقلد ، وقيل : يستمعون القرآن وغيره فيتبعون القرآن . وقيل : يستمعون أوامر الله فيتبعون أحسنها ، نحو : القصاص والعفو ، والانتصار والإغضاء ، والإبداء والإخفاء لقوله تعالى : { وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ للتقوى } [ البقرة : 237 ] ، { وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقراء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } [ البقرة : 271 ] وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هو الرجل يجلس مع القوم فيسمع الحديث فيه محاسن ومساو ، فيحدّث بأحسن ما سمع ويكف عما سواه . ومن الوقفة من يقف على قوله { فبشر عبادي } ، ويبتدىء : { الذين يستمعون } يرفعه على الابتداء ، وخبره { أولائك } .

أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19)

أصل الكلام : أمّن حق عليه كلمة العذاب فأنت تنقذه ، جملة شرطية دخل عليها همزة الإنكار والفاء فاء الجزاء ، ثم دخلت الفاء التي في أوّلها للعطف على محذوف يدلّ عليه الخطاب ، تقديره : أأنت مالك أمرهم ، فمن حقّ عليه العذاب فأنت تنقذه ، والهمزة الثانية هي الأولى ، كرّرت لتوكيد معنى الإنكار والاستبعاد ، ووضع { مَن فِى النار } موضع الضمير ، فالآية على هذا جملة واحدة . ووجه آخر : وهو أن تكون الآية جملتين : أفمن حق عليه العذاب فأنت تخلّصه؟ { أفأنت تنقذ من في النار } وإنما جاز حذف : فأنت تخلصه؛ لأن { أَفَأَنتَ تُنقِذُ } يدل عليه : نزل استحقاقهم العذاب وهم في الدنيا منزلة دخولهم النار ، حتى نزّل اجتهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكدّه نفسه في دعائهم إلى الإيمان في منزلة إنقاذهم من النار . وقوله : { أَفَأَنتَ تُنقِذُ } يفيد أنّ الله تعالى هو الذي يقدر على الإنقاذ من النار وحده ، لا يقدر على ذلك أحد غيره ، فكما لا تقدر أنت أن تنقد الداخل في النار من النار ، لا تقدر أن تخلصه مما هو فيه من استحقاق العذاب بتحصيل الإيمان فيه .

لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20)

{ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ } علالي بعضها فوق بعض . فإن قلت : ما معنى قوله : { مَّبْنِيَّةٌ } ؟ قلت : معناه - والله أعلم - : أنها بنيت بناء المنازل التي على الأرض وسوّيت تسويتها { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار } كما تجري تحت المنازل ، من غير تفاوت بين العلوّ والسفل { وعدالله } مصدر مؤكد؛ لأنّ قوله لهم غرف في معنى؛ وعدهم الله ذلك { لا يخلف الله الميعاد } .

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21)

{ أَنزَلَ مِنَ السماء مَآء } هو المطر . وقيل : كل ماء في الأرض فهو من السماء ينزل منها إلى الصخرة ، ثم يقسمه الله ، { فَسَلَكَهُ } فأدخله ونظمه { يَنَابِيعَ فِى الأرض } عيوناً ومسالك ومجاري كالعروق في الأجساد { مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ } هيئاته من خضرة وحمرة وصفرة وبياض وغير ذلك ، وأصنافه من برّ وشعير وسمسم وغيرها { يَهِيجُ } يتمّ جفافه ، عن الأصمعي؛ لأنه إذا تمّ جفافه حان له أن يثور عن منابته ويذهب { حطاما } فتاتاً ودريناً { إِنَّ فِى ذَلِكَ لذكرى } لتذكيراً وتنبيهاً ، على أنه لا بدّ من صانع حكيم ، وأن ذلك كائن عن تقدير وتدبير ، لا عن تعطيل وإهمال . ويجوز أن يكون مثلاً للدنيا ، كقوله تعالى : { إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا } [ يونس : 24 ] ، { واضرب لَهُم مَّثَلَ الحياة الدنيا } [ الكهف : 45 ] . وقرىء : «مصفارّاً» .

أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)

{ أَفَمَن } عرف الله أنه من أهل اللطف فلطف به حتى انشرح صدره للإسلام ورغب فيه وقبله كمن لا لطف له فهو حرج الصدر قاسي القلب ، ونور الله : هو لطفه .

( 966 ) وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية فقيل : يا رسول الله ، كيف انشراح الصدر؟ قال : " إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح " ، فقيل : يا رسول الله ، فما علامة ذلك؟ قال : " الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والتأهب للموت قبل نزول الموت " ، وهو نظير قوله : { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ } [ الزمر : 9 ] في حذف الخبر { مّن ذِكْرِ الله } من أجل ذكره ، أي : إذا ذكر الله عندهم أو آياته اشمأزوا وازدادت قلوبهم قساوة ، كقوله تعالى : { فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ } [ التوبة : 125 ] . وقرىء : «عن ذكر الله» فإن قلت : ما الفرق بين من وعن في هذا؟ قلت : إذا قلت : قسا قلبه من ذكر الله ، فالمعنى ما ذكرت ، من أن القسوة من أجل الذكر وبسببه ، وإذا قلت : عن ذكر الله ، فالمعنى : غلظ عن قبول الذكر وجفا عنه . ونظيره : سقاه من العيمة ، أي من أجل عطشه ، وسقاه عن العيمة : إذا أرواه حتى أبعده عن العطش .

اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)

عن ابن مسعود رضي الله عنه : أنّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملوا ملة ، فقالوا له : حدثنا فنزلت ، وإيقاع اسم الله مبتدأ وبناء { نَزَّلَ } عليه : فيه تفخيم لأحسن الحديث ، ورفع منه ، واستشهاد على حسنه ، وتأكيد لاستناده إلى الله وأنه من عنده ، وأن مثله لا يجوز أن يصدر إلاّ عنه ، وتنبيه على أنه وحي معجز مباين لسائر الأحاديث . و { كتابا } بدل من أحسن الحديث . ويحتمل أن يكون حالاً منه { متشابها } مطلق في مشابهة بعضه بعضاً ، فكان متناولاً لتشابه معانيه في الصحة والإحكام ، والبناء على الحق والصدق ومنفعة الخلق ، وتناسب ألفاظه وتناصفها في التخير والإصابة ، وتجاوب نظمه وتأليفه في الإعجاز والتبكيت ، ويجوز أن يكون { مَّثَانِيَ } بياناً لكونه متشابهاً؛ لأن القصص المكررة لا تكون إلاّ متشابهة . والمثاني : جمع مثنى بمعنى مردّد مكرّر ، ولما ثنى من قصصه وأنبائه ، وأحكامه ، وأوامره ونواهيه ، ووعده ووعيده ، ومواعظه . وقيل : لأنه يثنى في التلاوة ، فلا يمل كما جاء في وصفه لا يتفه ولا يتشان ولا يخلق على كثرة الرّد . ويجوز أن يكون جمع مثنى مفعل ، من التثنية بمعنى التكرير ، والإعادة كما كان قوله تعالى : { ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْن } [ الملك : 4 ] بمعنى كرّة بعد كرّة ، وكذلك : لبيك و سعديك ، وحنانيك . فإن قلت : كيف وصف الواحد بالجمع؟ قلت : إنما صحّ ذلك لأنّ الكتاب جملة ذات تفاصيل ، وتفاصيل الشيء هي جملته لا غير ، ألا تراك تقول : القرآن أسباع وأخماس ، وسور وآيات ، وكذلك تقول : أقاصيص وأحكام ومواعظ مكررات ، ونظيره قولك : الإنسان عظام وعروق وأعصاب ، ألا أنك تركت الموصوف إلى الصفة؛ وأصله : كتاباً متشابهاً فصولاً مثاني . ويجوز أن يكون كقولك : برمة أعشار ، وثوب أخلاق . ويجوز أن لا يكون مثاني صفة ، ويكون منتصباً على التمييز من متشابهاً ، كما تقول : رأيت رجلاً حسناً شمائل ، والمعنى : متشابهة مثانية . فإن قلت : ما فائدة التثنية والتكرير؟ قلت : النفوس أنفر شيء من حديث الوعظ والنصيحة ، فما لم يكرر عليها عوداً عن بدء ، لم يرسخ فيها ولم يعمل عمله ، ومن ثم كانت عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكرر عليهم ما كان يعظ به وينصح ثلاث مرات وسبعاً ليركزه في قلوبهم ويغرسه في صدورهم . اقشعر الجلد : إذا تقبّض تقبضاً شديداً ، وتركيبه من حروف القشع وهو الأديم اليابس ، مضموماً إليها حرف رابع وهو الراء ، ليكون رباعياً ودالاً على معنى زائد . يقال : اقشعر جلده من الخوف وقف شعره ، وهو مثل في شدّة الخوف ، فيجوز أن يريد به الله سبحانه التمثيل ، تصويراً لإفراط خشيتهم ، وأن يريد التحقيق . والمعنى : أنهم إذا سمعوا بالقرآن وبآيات وعيده : أصابتهم خشية تقشعر منها جلودهم ، ثم إذا ذكروا الله ورحمته وجوده بالمغفرة : لانت جلودهم وقلوبهم وزال عنها ما كان بها من الخشية والقشعريرة .

فإن قلت : ما وجه تعديه «لان» بإلى؟ قلت : ضمن معنى فعل متعدّ بإلى ، كأنه قيل : سكنت . أو اطمأنت إلى ذلك الله لينة غير متقبضة ، راجية غير خاشية . فإن قلت : لم اقتصر على ذكر الله من غير ذكر الرحمة؟ قلت : لأنّ أصل أمره الرحمة والرأفة ، ورحمته هي سابقة غضبه فلأصالة رحمته إذا ذكر لم يخطر بالبال قبل كل شيء من صفاته إلا كونه رؤوفاً رحيماً . فإن قلت : لم ذكرت الجلود وحدها أوّلاً ، ثم قرنت بها القلوب؟ ثانياً؟ قلت : إذا ذكرت الخشية التي محلها القلوب ، فقد ذكرت القلوب ، فكأنه قيل : تقشعر جلودهم من آيات الوعيد ، وتخشى قلوبهم في أوّل وهلة ، فإذا ذكروا الله ومبنى أمره على الرأفة والرحمة : استبدلوا بالخشية رجاء في قلوبهم ، وبالقشعريرة ليناً في جلودهم { ذَلِكَ } إشارة إلى الكتاب ، وهو { هُدَى الله يَهْدِى بِهِ } يوفق به من يشاء يعني : عباده المتقين ، حتى يخشوا تلك الخشية ويرجوا ذلك الرجاء ، كما قال : { هدى للمتقين } [ البقرة : 2 ] { وَمَن يُضْلِلِ الله } ومن يخذله من الفساق والفجرة { فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } أو ذلك الكائن من الخشية والرجاء هدى الله ، أي : أثر هداه وهو لطفه ، فسماه هدى لأنه حاصل بالهدى ، { يَهْدِى بِهِ } بهذا الأثر { من يشاء } من عباده ، يعني : من صحب أولئك ورآهم خاشين راجين ، فكان ذلك مرغباً لهم في الاقتداء بسيرتهم وسلوك طريقتهم { وَمَن يُضْلِلِ الله } : ومن لم يؤثر فيه ألطافه لقسوة قلبه وإصراره على فجوره ، { فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } من مؤثر فيه بشىء قط .

أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26)

يقال : اتقاه بدرقته : استقبله بها فوقي بها نفسه إياه واتقاه بيده . وتقديره : { أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوء العذاب } كمن أمن العذاب ، فحذف كما حذف في نظائره و { سُوء العذاب } : شدّته . ومعناه : أن الإنسان إذا لقي مخوفاً من المخاوف استقبله بيده ، وطلب أن يقي بها وجهه ، لأنه أعزّ أعضائه عليه والذي يلقى في النار يلقى : مغلولة يداه إلى عنقه ، فلا يتهيأ له أن يتقي النار إلاّ بوجهه الذي كان يتقي المخاوف بغيره ، وقاية له ومحاماة عليه . وقيل : المراد بالوجه الجملة ، وقيل : نزلت في أبي جهل . وقال لهم خزنة النار { ذُوقُواْ } وبال { مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ . . . . . . مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } من الجهة التي لا يحتسبون ، ولا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منها ، بينا هم آمنون رافهون إذ فوجئوا من مأمنهم . والخزي : الذلّ والصغار ، كالمسح والخسف والقتل والجلاء ، وما أشبه ذلك من نكال الله .

وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)

{ قُرْءاناً عَرَبِيّاً } حال مؤكدة كقولك : جاءني زيد رجلاً صالحاً وإنساناً عاقلاً ، ويجوز أن ينتصب على المدح { غَيْرَ ذِى عِوَجٍ } مستقيماً بريئاً من التناقض والاختلاف . فإن قلت : فهلا قيل : مستقيماً : أو غير معوج؟ قلت : فيه فائدتان ، إحداهما : نفي أن يكون فيه عوج قط ، كما قال : { وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } [ الكهف : 1 ] والثانية : أن لفظ العوج مختص بالمعاني دون الأعيان ، وقيل : المراد بالعوج : الشكّ واللبس . وأنشد :

وَقَدْ أَتَاكَ يَقِينٌ غَيْرُ ذِي عِوَجٍ ... مِنَ الإله وَقَوْلٌ غَيْرُ مَكْذُوبِ

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)

واضرب لقومك مثلاً ، وقل لهم : ما تقولون في رجل من المماليك قد اشترك فيه شركاء بينهم اختلاف وتنازع : كل واحد منهم يدعي أنه عبده ، فهم يتجاذبونه ويتعاورونه في مهن شتى ومشادة ، وإذا عنت له حاجة تدافعوه ، فهو متحير في أمره سادر قد تشعبت الهموم قلبه وتوزعت أفكاره ، لا يدري أيهم يرضى بخدمته؟ وعلى أيهم يعتمد في حاجاته . وفي آخر : قد سلم لمالك واحد وخلص له ، فهو معتنق لما لزمه من خدمته ، معتمد عليه فيما يصلحه ، فهمه واحد وقلبه مجتمع ، أيُّ هذين العبدين أحسن حالاً وأجمل شأناً؟ والمراد : تمثيل حال من يثبت آلهة شتى ، وما يلزمه على قضية مذهبه من أن يدعي كل واحد منهم عبوديته ، ويتشاكسوا في ذلك ويتغالبوا ، كما قال تعالى : { وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ } [ المؤمنون : 91 ] ويبقى هو متحيراً ضائعاً لا يدري أيهم يعبد؟ وعلى ربوبية أيهم يعتمد؟ وممن يطلب رزقه؟ وممن يلتمس رفقه؟ فهمه شعاع وقلبه أو زاع ، وحال من لم يثبت إلا إلها واحداً ، فهو قائم بما كلفه ، عارف بما أرضاه وما أسخطه ، متفضل عليه في عاجله ، مؤمل للثواب من آجله . و { فِيهِ } صلة شركاء ، كما تقول : اشتركوا فيه . والتشاكس والتشاخس : الاختلاف ، تقول : تشاكست أحواله ، وتشاخست أسنانه ، سالماً لرجل خالصاً . وقرىء : «سلماً» بفتح الفاء والعين ، وفتح الفاء وكسرها مع سكون العين ، وهي مصادر سلم . والمعنى : ذا سلامة لرجل ، أي : ذا خلوص له من الشركة ، من قولهم : سلمت له الضيعة . وقرىء بالرفع على الابتداء ، أي : وهناك رجل سالم لرجل ، وإنما جعله رجلاً ليكون أفطن لما شقي به أو سعد ، فإن المرأة والصبي قد يغفلان عن ذلك { هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً } هل يستويان : صفة على التمييز ، والمعنى : هل يستوي صفتاهما وحالاهما ، وإنما اقتصر في التمييز على الواحد لبيان الجنس . وقرىء : «مثلين» كقوله تعالى : { وَأَكْثَرَ أموالا وأولادا } [ التوبة : 69 ] مع قوله : { أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً } ويجوز فيمن قرأ : مثلين ، أن يكون الضمير في { يَسْتَوِيانِ } للمثلين ، لأن التقدير : مثل رجل ومثل رجل . والمعنى : هل يستويان فيما يرجع إلى الوصفية ، كما تقول : كفى بهما رجلين { الحمد للَّهِ } الواحد الذي لا شريك له دون كل معبود سواه ، أي : يجب أن يكون الحمد متوجهاً إليه وحده والعبادة ، فقد ثبت أنه لا إله إلاّ هو { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } فيشركون به غيره .

ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32)

كانوا يتربصون برسول الله صلى الله عليه وسلم موته ، فأخبر أن الموت يعمهم ، فلا معنى للتربص ، وشماتة الباقي بالفاني . وعن قتادة : نعى إلى نبيه نفسه ، ونعى إليكم أنفسكم . وقرىء : «مائت ومائتون» والفرق بين الميت والمائت : أنّ الميت صفة لازمة كالسيد . وأما المائت ، فصفة حادثة تقول : زيد مائت غداً ، كما تقول : سائد غداً ، أي سيموت وسيسود . وإذا قلت : زيد ميت ، فكما تقول : حي في نقيضه ، فيما يرجع إلى اللزوم والثبوت . والمعنى في قوله : { إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ } إنك وإياهم ، وإن كنتم أحياء فأنتم في عداد الموتى؛ لأنّ ما هو كائن فكأن قد كان { ثُمَّ إِنَّكُمْ } ثم إنك وإياهم ، فغلب ضمير المخاطب على ضمير الغيب { تَخْتَصِمُونَ } فتحتج أنت عليهم بأنك بلغت فكذبوا ، فاجتهدت في الدعوة فلجوا في العناد ، ويعتذرون بما لا طائل تحته ، تقول الأتباع : أطعنا سادتنا وكبراءنا ، وتقول السادات : أغوتنا الشياطين وآباؤنا الأقدمون؛ وقد حمل على اختصام الجميع وأنّ الكفار يخاصم بعضهم بعضاً ، حتى يقال لهم : { لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ } [ ق : 28 ] والمؤمنون الكافرين يبكتونهم بالحجج ، وأهل القبلة يكون بينهم الخصام . قال عبد الله بن عمر :

( 967 ) لقد عشنا برهة من دهرنا وديننا ونحن نرى أنّ هذه الآية أنزلت فينا وفي أهل الكتاب؟ قلنا : كيف تختصم ونبينا واحد وديننا واحد وكتابنا واحد؟ حتى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف ، فعرفت أنها أنزلت فينا . وقال أبو سعيد الخدري : كنا نقول : ربنا واحد ونبينا واحد وديننا واحد ، فما هذه الخصومة؟ فلما كان يوم صفّين وشدّ بعضنا على بعض بالسيوف ، قلنا : نعم هو هذا . وعن إبراهيم النخعي قالت الصحابة : ما خصومتنا ونحن إخوان؟ فلما قتل عثمان رضي الله عنه قالوا : هذه خصومتنا . وعن أبي العالية : نزلت في أهل القبلة . والوجه الذي يدلّ عليه كلام الله هو ما قدمت أولاً . ألا ترى إلى قوله تعالى : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى الله } وقوله تعالى : { والذى جَاء بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ } [ الزمر : 33 ] وما هو إلا بيان وتفسير للذين يكون بينهم الخصومة { كَذَبَ علَى الله } افترى عليه بإضافة الولد والشريك إليه { وَكَذَّبَ بالصدق } بالأمر الذي هو الصدق بعينه ، وهو ماء جاء به محمد صلى الله عليه وسلم { إِذْ جَاءهُ } فاجأه بالتكذيب لما سمع به من غير وقفة ، لإعمال روية واهتمام بتمييز بين حق وباطل ، كما يفعل أهل النصفة فيما يسمعون { مَثْوًى للكافرين } أي : لهؤلاء الذين كذبوا على الله وكذبوا بالصدق ، واللام في { للكافرين } إشارة إليهم .

وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)

{ والذى جَاء بالحق وَصَدَّقَ بِهِ } هو رسول الله صلى الله عليه وسلم : جاء بالصدق وآمن به ، وأراد به إياه ومن تبعه ، كما أراد بموسى إياه وقومه في قوله : { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى الكتاب لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } [ المؤمنون : 49 ] فلذلك قال : { أُوْلَئِكَ هُمُ المتقون } إلا أنّ هذا في الصفة وذاك في الاسم . ويجوز أن يريد : والفوج أو الفريق الذي جاء بالصدق وصدق به ، وهم الرسول الذي جاء بالصدق ، وصحابته الذي صدقوا به . وفي قراءة ابن مسعود : «والذين جاؤوا بالصدق وصدقوا به» وقرىء : «وصدق به» بالتخفيف ، أي : صدق به الناس ولم يكذبهم به ، يعني : أداه إليهم كما نزل عليه من غير تحريف . وقيل : صار صادقاً به ، أي : بسببه؛ لأنّ القرآن معجزة ، والمعجزة تصديق من الحكيم الذي لا يفعل القبيح لمن يجريها على يده ، ولا يجوز أن يصدق إلاّ الصادق ، فيصير لذلك صادقاً بالمعجزة ، وقرىء : «وصدّق به» فإن قلت : ما معنى إضافة الأسوأ والأحسن إلى الذي عملوا ، وما معنى التفضيل فيهما؟ قلت : أما الإضافة فما هي من إضافة أفعل إلى الجملة التي يفضل عليها ، ولكن من إضافة الشيء إلى ما هو بعضه من غير تفضيل ، كقولك : الأشج أعدل بني مروان . وأما التفضيل فإيذان بأن السيء الذي يفرط منهم من الصغائر والزلاّت المكفرة ، هو عندهم الأسوأ لاستعظامهم المعصية ، والحسن الذي يعلمونه هو عند الله الأحسن ، لحسن إخلاصهم فيه؛ فلذلك ذكر سيئهم بالأسوأ وحسنهم بالأحسن . وقرىء : «أسوأ» الذي عملوا جمع سوء .

أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37)

{ أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ } أدخلت همزة الإنكار على كلمة النفي ، فأفيد معنى إثبات الكفاية وتقريرها . وقرىء : «بكاف عبده» وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و «بكاف عباده» وهم الأنبياء؛ وذلك :

( 968 ) أنّ قريشاً قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنا نخاف أن تخبلك آلهتنا ، وإنا نخشى عليك معرتها لعيبك إياها . ويروى :

( 969 ) أنه بعث خالداً إلى العزّى ليكسرها ، فقال له سادنها : أحذركها يا خالد ، إنّ لها لشدّة لا يقوم لها شيء ، فعمد خالد إليها فهشم أنفها . فقال الله عزّ وجلّ : أليس الله بكاف نبيه أن يعصمه من كل سوى ويدفع عنه كل بلاء في مواطن الخوف . وفي هذا تهكم بهم؛ لأنّهم خوّفوه ما لا يقدر على نفع ولا ضرّ . أو أليس الله بكاف أنبياءه ولقد قالت أممهم نحو ذلك ، فكفاهم الله وذلك قول قوم هود : { إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك بَعْضُ ءالِهَتِنَا بِسُوء } [ هود : 54 ] ويجوز أن يريد : العبد والعباد على الإطلاق ، لأنه كافيهم في الشدائد وكافل مصالحهم . وقرىء : «بكافي عباده» على الإضافة . و«يكافي عباده» . ويكافي : يحتمل أن يكون غير مهموز مفاعله من الكفاية ، كقولك : يجازي في يجزى ، وهو أبلغ من كفى ، لبنائه على لفظ المبالغة . والمباراة : أن يكون مهموزاً ، من المكافأة وهي المجازاة ، لما تقدم من قوله : ( ويجزيهم أجرهم ) ، { بالذين مِن دُونِهِ } أراد : الأوثان التي اتخذوها آلهة من دونه { بِعَزِيزٍ } بغالب منيع { ذِى انتقام } ينتقم من أعدائه ، وفيه وعيد لقريش ووعد للمؤمنين بأنه ينتقم لهم منهم ، وينصرهم عليهم .

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38)

قرىء : «كاشفاتٌ ضرَّه» و«ممسكاتٌ رحمتَه» بالتنوين على الأصل ، وبالإضافة للتخفيف . فإن قلت : لم فرض المسألة في نفسه دونهم؟ قلت : لأنهم خوّفوه معرّة الأوثان وتخبيلها ، فأمر بأن يقرّرهم أوّلاً بأن خالق العالم هو الله وحده . ثم يقول لهم بعد التقرير : فإذا أرادني خالق العالم الذي أقررتم به بضرّ من مرض أو فقر أو غير ذلك من النوازل . أو برحمة من صحة أو غنى أو نحوهما . هل هؤلاء اللاتي خوّفتموني إياهن كاشفات عني ضرّه أو ممسكات رحمته ، حتى إذا ألقمهم الحجر وقطعهم حتى لا يحيروا ببنت شفه قال : { حَسْبِىَ الله } كافياً لمعرّة أوثانكم { عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ المتوكلون } وفيه تهكم . ويروى أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم سألهم فسكتوا ، فنزل { قُلْ حَسْبِىَ الله } فإن قلت : لم قيل : كاشفات ، وممسكات ، على التأنيث بعد قوله تعالى : ( ويخوفونك بالذين من دونه ) ؟ قلت : أنثهن وكن إناثاً وهن اللات والعزّى ومناة ، قال الله تعالى : { أَفَرَءيْتُمُ اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الانثى } [ النجم : 19 - 21 ] ليضعفها ويعجزها زيادة تضعيف وتعجيز عما طالبهم به من كشف الضرّ وإمساك الرحمة؛ لأنّ الأنوثة من باب اللين والرخاوة ، كما أنّ الذكورة من باب الشدّة والصلابة ، كأنه قال : الأناث اللاتي هن اللاّت والعزّى ومناة أضعف مما تدعون لهنّ وأعجز . وفيه تهكم أيضاً .

قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40)

{ على مَكَانَتِكُمْ } على حالكم التي أنتم عليها وجهتكم من العداوة التي تمكنتم منها . والمكانة بمعنى المكان . فاستعيرت عن العين للمعنى كما يستعار هنا . وحيث - للزمان ، وهما للمكان . فإن قلت : حق الكلام : فإني عامل على مكانتي ، فلم حذف؟ قلت : للاختصار ، ولما فيه من زيادة الوعيد ، والإيذان بأنّ حاله لا تقف ، وتزداد كل يوم قوّة وشدّة ، لأنّ الله ناصره ومعينه ومظهره على الدين كله . ألا ترى إلى قوله : { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ } كيف توعدهم بكونه منصوراً عليهم غالباً عليهم في الدنيا والآخرة ، لأنهم إذا أتاهم الخزي والعذاب فذاك عزّه وغلبته ، من حيث إن الغلبة تتم له بعز عزيز من أوليائه ، وبذل ذليل من أعدائه { يُخْزِيهِ } مثل مقيم في وقوعه صفة للعذاب ، أي : عذاب مخزٍ له ، وهويوم بدر ، وعذاب دائم وهو عذاب النار . وقرىء : «مكاناتكم» .

إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41)

{ لِلنَّاسِ } لأجلهم ولأجل حاجتهم إليه؛ ليبشروا وينذروا ، فتقوى دواعيهم إلى اختيار الطاعة على المعصية . ولا حاجة إلى ذلك فأنا الغني ، فمن اختار الهدي فقد نفع نفسه ، ومن اختار الضلالة فقد ضرّها . وما وكلت عليهم لتجبرهم على الهدى ، فإنّ التكليف مبني على الاختيار دون الإجبار .

اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)

{ الأنفس } الجمل كما هي . وتوفيها : إماتتها ، وهو أن تسلب ما هي به حية حساسة درّاكة : من صحة أجزائها وسلامتها؛ لأنها عند سلب الصحة كأن ذاتها قد سلبت { والتى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا } يريد ويتوفي الأنفس التي لم تمت في منامها ، أي : يتوفاها حين تنام ، تشبيهاً للنائمين بالموتى . ومنه قوله تعالى : { وَهُوَ الذى يتوفاكم باليل } [ الأنعام : 6 ] حيث لا يميزون ولا يتصرفون ، كما أنّ الموتى كذلك { فَيُمْسِكُ } الأنفس { التى قضى عَلَيْهَا الموت } الحقيقي ، أي : لا يردّها في وقتها حية { وَيُرْسِلُ الأخرى } النائمة إلى أجل مسمى إلى وقت ضربه لموتها . وقيل : يتوفى الأنفس يستوفيها ويقضيها ، وهي الأنفس التي تكون معها الحياة والحركة ، ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها ، وهي أنفس التمييز . قالوا : فالتي تتوفى في النوم هي نفس التمييز لا نفس الحياة؛ لأنّ نفس الحياة إذا زالت زال معها النفس ، والنائم يتنفس . ورووا عن ابن عباس رضي الله عنهما : في ابن آدم نفس وروح بينهما مثل شعاع الشمس ، فالنفس التي بها العقل والتمييز والروح التي بها النفس والتحرك ، فإذا نام العبد قبض الله نفسه ولم يقبض روحه والصحيح ما ذكرت أوّلاً ، لأنّ الله عزّ وعلا علق التوفي والموت والمنام جميعاً بالأنفس ، وما عنوا بنفس الحياة والحركة ونفس العقل والتمييز غير متصف بالموت والنوم ، وإنما الجملة هي التي تموت وهي التي تنام { إِنَّ فِى ذَلِكَ } إنّ في توفي الأنفس مائتة ونائمة وإمساكها وإرسالها إلى أجل لآيات على قدرة الله وعلمه لقوم يتفكرون ، لقوم يجيلون فيه أفكارهم ويعتبرون . وقرىء : «قُضِيَ عليها الموتُ» على البناء للمفعول .

أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44)

{ أَمِ اتخذوا } بل اتخذ قريش ، والهمزة للإنكار { مِن دُونِ الله } من دون إذنه { شُفَعَاء } حين قالوا : { هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله } [ يونس : 18 ] ولا يشفع عنده أحد إلا بإذنه . ألا ترى إلى قوله تعالى { قُل لِلَّهِ الشفاعة جَمِيعاً } أي : هو مالكها ، فلا يستطيع أحد شفاعة إلاّ بشرطين : أن يكون المشفوع له مرتضى ، وأن يكون الشفيع مأذوناً له . وههنا الشرطان مفقودان جميعاً { أَوَلَوْ كَانُواْ } معناه : أيشفعون ولو كانوا { لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ } أي : ولو كانوا على هذه الصفة لا يملكون شيئاً قطّ ، حتى يملكوا الشفاعة ولا عقل لهم { لَّهُ مُلْكُ السماوات والأرض } تقرير لقوله تعالى : { لِلَّهِ الشفاعة جَمِيعاً } لأنه إذا كان له الملك كله والشفاعة من الملك ، كان مالكاً لها . فإن قلت : بم يتصل قوله : { ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } ؟ قلت : بما يليه ، معناه : له ملك السموات والأرض اليوم ثم إليه ترجعون يوم القيامة ، فلا يكون الملك في ذلك اليوم إلاّ له . فله ملك الدنيا والآخرة .

وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)

مدار المعنى على قوله وحده» ، أي : إذا أفرد الله بالذكر ولم يذكر معه آلهتهم اشمأزوا» ، أي : نفروا وانقبضوا { وَإِذَا ذُكِرَ الذين مِن دُونِهِ } وهم آلهتهم ذكر الله معهم أو لم يذكر استبشروا ، لافتتانهم بها ونسيانهم حق الله إلى هواهم فيها . وقيل : إذا قيل لا إله إلا الله وحده لا شريك له نفروا؛ لأنّ فيه نفياً لآلهتهم . وقيل : أراد استبشارهم بما سبق إليه لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذكر آلهتهم حين قرأ ( والنجم ) عند باب الكعبة ، فسجدوا معه لفرحهم ، ولقد تقابل الاستبشار والاشمئزاز؛ إذ كل واحد منهما غاية في بابه؛ لأنّ الاستبشار أن يمتلىء قلبه سروراً حتى تنبسط له بشرة وجهه ويتهلّل . والاشمئزاز : أن يمتلىء غماً وغيظاً حتى يظهر الانقباض في أديم وجهه . فإن قلت : ما العامل في { إِذَا ذُكِرَ } ؟ قلت : العامل في إذا المفاجأة ، تقديره وقت ذكر الذين من دونه ، فاجأوا وقت الاستبشار .

قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46)

بَعِل رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم ، وبشدة شكيمتهم في الكفر والعناد ، فقيل له : ادع الله بأسمائه العظمى ، وقل : أنت وحدك تقدر على الحكم بيني وبينهم ، ولا حيلة لغيرك فيهم . وفيه وصف لحالهم وإعذار لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتسلية له ووعيد لهم . وعن الربيع بن خثيم وكان قليل الكلام . أنه أخبر بقتل الحسين - رضي الله عنه ، وسخط على قاتله - وقالوا : الآن يتكلم ، فما زاد على أن قال : آه أو قد فعلوا؟ وقرأ هذه الآية . وروى أنه قال على أثره : قتل من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلسه في حجره ويضع فاه على فيه .

وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48)

{ وَبَدَا لَهُمْ مّنَ الله } وعيد لهم لا كنه لفظاعته وشدّته ، وهو نظير قوله تعالى في الوعد : { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِىَ لَهُم } [ السجدة : 17 ] والمعنى : وظهر لهم من سخط الله وعذابه ما لم يكن قط في حسابهم ولم يحدثوا به نفوسهم . وقيل : عملوا أعمالاً حسبوها حسنات ، فإذا هي سيئات . وعن سفيان الثوري أنه قرأها فقال : ويل لأهل الرياء ، ويل لأهل الرياء . وجزع محمد بن المنكدر عند موته فقيل له ، فقال : أخشى آية من كتاب الله ، وتلاها ، فأنا أخشى أن يبدو لي من الله ما لم أحتسبه { وَبَدَا لَهُمْ سَيّئَاتُ مَا كَسَبُواْ } أي سيئات أعمالهم التي كسبوها . أو سيئات كسبهم ، حين تعرض صحائفهم ، وكانت خافية عليهم ، كقوله تعالى : { أحصاه الله وَنَسُوهُ } [ المجادلة : 6 ] وأراد بالسيئات : أنواع العذاب التي يجازون بها على ما كسبوا ، فسماها سيئات ، كما قال : { وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] { وَحَاقَ بِهِم } ونزل بهم وأحاط جزاء هزئهم .

فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49)

التخويل : مختص بالتفضل . ويقال : خولني ، إذا أعطاك على غير جزاء { على عِلْمٍ } أي على علم مني أني سأعطاه ، لما فيّ من فضل واستحقاق . أو على علم من الله بي وباستحقاقي أو على علم مني بوجوه الكسب ، كما قال قارون : { على علم عندي } [ القصص : 78 ] . فإن قلت : لم ذكر الضمير في { أُوتِيتُهُ } وهو للنعمة؟ قلت : ذهاباً به إلى المعنى؛ لأنّ قوله : { نِعْمَةً مّنَّا } شيئاً من النعم وقسماً منها . ويحتمل أن تكون ( ما ) في إنما موصولة لا كافة ، فيرجع إليها المضير . على معنى : أن الذي أوتيته على علم { بَلْ هِىَ فِتْنَةٌ } إنكار لقوله كأنه قال : ما خوّلناك من خولناك من النعمة لما تقول ، بل هي فتنة ، أي : ابتلاء وامتحان لك ، أتشكر أم تكفر؟ فإن قلت : كيف ذكر الضمير ثم أنثه؟ قلت : حملاً على المعنى أوّلاً ، وعلى اللفظ آخراً؛ ولأنّ الخبر لما كان مؤنثاً أعني { فِتْنَةً } : ساغ تأنيث المبتدأ لأجله لأنه في معناه ، كقولهم : ما جاءت حاجتك . وقرىء : «بل هو فتنة»على وفق { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ } . فإن قلت : ما السبب في عطف هذه الآية بالفاء وعطف مثلها في أوّل السورة بالواو؟ قلت : السبب في ذلك أنّ هذه وقعت مسببة عن قوله : { وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ اشمأزت } [ الزمر : 45 ] على معنى أنهم يشمئزون عن ذكر الله ويستبشرون بذكر الآلهة ، فإذا مسّ أحدهم ضرّ دعا من اشمأزّ من ذكره ، دون من استبشر بذكره ، وما بينهما من الآي اعتراض . فإن قلت : حق الاعتراض أن يؤكد المعترض بينه وبينه . قلت : ما في الاعتراض من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه بأمر منه وقوله : أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عبادك ثم ما عقبه من الوعيد العظيم : تأكيد لإنكار اشمئزازهم واستبشارهم ورجوعهم إلى الله في الشدائد دون آلهتهم ، كأنه قيل : يا رب لا يحكم بيني وبين هؤلاء الذين يجترؤن عليك مثل هذه الجراءة ، ويرتكبون مثل هذا المنكر إلا أنت . وقوله : { وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ } [ الزمر : 47 ] متناول لهم ولكل ظالم إن جعل مطلقاً ، وإياهم خاصة إن عنيتهم به ، كأنه قيل : ولو أنّ لهؤلاء الظالمين ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به . حين أحكم عليهم بسوء العذاب ، وهذه الأسرار والنكت لا يبرزها إلا علم النظم ، وإلا بقيت محتجبة في أكمامها . وأما الآية الأولى فلم تقع مسببة وما هي إلاّ جملة ناسبت جملة قبلها فعطفت عليها بالواو ، كقولك : قام زيد وقعد عمرو . فإن قلت : من أي وجه وقعت مسببة؟ والاشمئزاز عن ذكر الله ليس بمقتض لالتجائهم إليه ، بل هو مقتض لصدوفهم عنه . قلت : في هذا التسبيب لطف ، وبيانه أنك تقول : زيد مؤمن بالله ، فإذا مسّه ضرّ التجأ إليه ، فهذا تسبيب ظاهر لا لبس فيه ، ثم تقول : زيد كافر بالله ، فإذا مسّه ضرّ التجأ إليه ، فتجيء بالفاء مجيئك به ثمة ، كأنّ الكافر حين التجأ إلى الله التجاء المؤمن إليه ، مقيم كفره مقام الإيمان ، ومجريه مجراه في جعله سبباً في الالتجاء ، فأنت تحكي ما عكس فيه الكافر . ألا ترى أنك تقصد بهذا الكلام الإنكار والتعجب من فعله . ؟

قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)

الضمير في { قَالَهَا } راجع إلى قوله : { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ } لأنها كلمة أو جملة من القول . وقرىء : «قد قاله» على معنى القول والكلام ، وذلك والذين من قبلهم : هم قارون وقومه ، حيث قال : { إنما أوتيته على علم عندي } [ القصص : 78 ] وقومه راضون بها ، فكأنهم قالوها . ويجوز أن يكون في الأمم الخالية آخرون قائلون مثلها { فَمَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } من متاع الدنيا ويجمعون منه { مِنْ ها ا ؤلا ءِ } من مشركي قومك { سَيُصِيبُهُمْ } مثل ما أصاب أولئك ، فقتل صناديدهم ببدر ، وحبس عنهم الرزق ، فقحطوا سبع سنين ، ثم بسط لهم فمطروا سبع سنين ، فقيل لهم : { أَوَلَمْ يعلموا اْ } أنه لا قابض ولا باسط إلاّ الله عزّ وجلّ .

قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)

{ أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ } جنوا عليها بالإسراف في المعاصي والغلوّ فيها { لاَ تَقْنَطُواْ } قرىء : بفتح النون وكسرها وضمها { إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً } يعني بشرط التوبة ، وقد تكرّر ذكر هذا الشرط في القرآن ، فكان ذكره فيما ذكر فيه ذكراً له فيما لم يذكر فيه؛ لأنّ القرآن في حكم كلام واحد ، ولا يجوز فيه التناقض . وفي قراءة ابن عباس وابن مسعود : «يغفر الذنوب جميعاً لمن يشاء» . والمراد بمن يشاء : من تاب؛ لأنّ مشيئة الله تابعة لحكمته وعدله ، لا لملكه وجبروته . وقيل : في قراءة النبيّ صلى الله عليه وسلم وفاطمة رضي الله عنها : «يغفر الذنوب جميعاً ولا يبالي» ونظير نفي المبالاة نفي الخوف في قوله تعالى : { وَلاَ يَخَافُ عقباها } [ الشمس : 15 ] وقيل : قال أهل مكة : يزعم محمد أنّ من عبد الأوثان وقتل النفس التي حرم الله لم يغفر له فكيف ولم نهاجر وقد عبدنا الأوثان وقتلنا النفس التي حرّم الله فنزلت . وروى أنه أسلم عياش بن أبي ربيعة والوليد ابن الوليد ونفر معهما ، ثم فتنوا وعذبوا ، فافتتنوا ، فكنا نقول : لا يقبل الله لهم صرفاً ولا عدلاً أبداً ، فنزلت . فكتب بها عمر رضي الله عنه إليهم ، فأسلموا وهاجروا ، وقيل : نزلت في وحشي قاتل حمزة رضي الله عنه . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( 970 ) " ما أحب أنّ لي الدنيا وما فيها بهذه الآية " فقال رجل : يا رسول الله ، ومن أشرك؟ فسكت ساعة ثم قال : " إلامن أشرك " ثلاث مرّات .

وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59)

{ وَأَنِيبُواْ إلى رَبّكُمْ } وتوبوا إليه { وَأَسْلِمُواْ لَهُ } وأخلصوا له العمل ، إنما ذكر الإنابة على أثر المغفرة لئلا يطمع طامع في حصولها بغير توبة ، وللدلالة على أنها شرط فيها لازم لا تحصل بدونه { واتبعوا أَحْسَنَ مآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم } مثل قوله : { الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } [ الزمر : 18 ] . { وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } أي يفجؤكم وأنتم غافلون ، كأنكم لا تخشون شيئاً لفرط غفلتكم وسهوكم { أَن تَقُولَ نَفْسٌ } كراهة أن تقول . فإن قلت : لم نكرت؟ قلت : لأنّ المراد بها بعض الأنفس ، وهي نفس الكافر . ويجوز أن يراد : نفس متميزة من الأنفس : إما بلجاج في الكفر شديد . أو بعذاب عظيم . ويجوز أن يراد التكثير ، كما قال الأعشى :

وَرَبَّ بَقِيعٍ لَوْ هَتَفْتُ بِحَوِّهِ ... أَتَانِي كَرِيمٌ يَنْفُضُ الرَّأْسَ مُغْضَبَا

وهو يريد : أفواجاً من الكرام ينصرونه ، لا كريماً واحداً . ونظيره : ربّ بلد قطعت ، ورب بطل قارعت . وقد اختلس الطعنة ولا يقصد إلاّ التكثير . وقرىء : «يا حسرتي» على الأصل . ويا حسرتاي ، على الجمع بين العوض والمعوّض منه . والجنب : الجانب ، يقال : أنا في جنب فلان وجانبه وناحيته ، وفلان لين الجنب والجانب ، ثم قالوا : فرّط في جنبه وفي جانبه ، يريدون في حقه . قال سابق البربري :

أَمَا تَتَّقِينَ اللَّهَ فِي جَنْبِ وَامِقٍ ... لَهُ كَبِدٌ حَرَّى عَلَيْكَ تَقَطَّعُ

وهذا من باب الكناية؛ لأنك إذا أثبت الأمر في مكان الرجل وحيزه ، فقد أثبته فيه . ألا ترى إلى قوله :

إنَّ السَّمَاحَةَ وَالْمُرُوءَة وَالنَّدَى ... فِي قُبَّةٍ ضُرِبَتْ عَلَى ابْنِ الْحَشْرَجِ

ومنه قول الناس : لمكانك فعلت كذا ، يريدون : لأجلك . وفي الحديث :

( 971 ) " من الشرك الخفيّ أن يصلي الرجل لمكان الرجل " وكذلك : فعلت هذا من جهتك . فمن حيث لم يبق فرق فيما يرجع إلى أداء الغرض بين ذكر المكان وتركه ، قيل : { فَرَّطَتُ فِى جَنبِ الله } على معنى : فرطتُ في ذات الله . فإن قلت : فمرجع كلامك إلى أن ذكر الجنب كلا ذكر سوى ما يعطى من حسن الكناية وبلاغتها ، فكأنه قيل : فرطت في الله . فما معنى فرطت في الله؟ قلت : لا بدّ من تقدير مضاف محذوف ، سواء ذكر الجنب أو لم يذكر . والمعنى : فرطت في طاعة الله وعبادة الله ، وما أشبه ذلك . وفي حرف عبد الله وحفصة : في ذكر الله . « وما » في« ما فرطت» مصدرية مثلها في { بِمَا رَحُبَتْ } [ التوبة : 25 ] ، [ التوبة : 118 ] ، { وَإِن كُنتُ لَمِنَ الساخرين } قال قتادة : لم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى سخر من أهلها ، ومحل { وَإِن كُنتُ } على النصب على الحال ، كأنه قال : فرطت وأنا ساخر ، أي : فرطت في حال سخريتي . وروى : أنه كان في بني إسرائيل عالم ترك علمه وفسق .

وأتاه إبليس فقال له : تمتع من الدنيا ثم تب ، فأطاعه ، وكان له مال فأنفقه في الفجوز ، فأتاه ملك الموت في ألذّ ما كان فقال : يا حسرتاه على ما فرطت في جنب الله ، ذهب عمري في طاعة الشيطان ، وأسخطت ربي فندم حين لم ينفعه الندم ، فأنزل الله خبره في القرآن { لَوْ أَنَّ الله هدانى } لا يخلو : إما أن يريد به الهداية بالإلجاء أو بالإلطاف أو بالوحي ، فالإلجاء خارج عن الحكمة ، ولم يكن من أهل الإلطاف فليلطف به . وأما الوحي فقد كان ، ولكنه عرض ولن يتبعه حتى يهتدي ، وإنما يقول هذا تحيراً في أمره وتعللاً بما لا يجدي عليه ، كما حكى عنهم التعلل بإغواء الرؤوساء والشياطين ونحو ذلك ونحوه { لَوْ هَدَانَا الله لَهَدَيْنَاكُمْ } [ إبراهيم : 21 ] وقوله : { بلى قَدْ جَآءَتْكَ ءاياتى } ردّ من الله عليه ، معناه : بلى قد هديت بالوحي فكذبت به واستكبرت عن قبوله ، وآثرت الكفر على الإيمان ، والضلالة على الهدى . وقرىء : بكسر التاء على مخاطبة النفس . فإن قلت : فهلا قرن الجواب بما هو جواب له ، وهو قوله : { لَوْ أَنَّ الله هدانى } ولم يفصل بينهما بآية؟ قلت : لأنه لا يخلو : إما أن يقدّم على أخرى القرائن الثلاث فيفرق بينهن . وإما أن تؤخر القرينة الوسطى ، فلم يحسن الأوّل لما فيه من تبتير النظم بالجمع بين القرائن . وأما الثاني : فلما فيه من نقص الترتيب وهو التحسر على التفريط في الطاعة ، ثم التعلل بفقد الهداية ، ثم تمني الرجعة فكان الصواب ما جاء عليه ، وهو أنه حكى أقوال النفس على ترتيبها ونظمها ، ثم أجاب من بينها عما اقتضى الجواب . فإن قلت : كيف صحّ أن تقع بلى جواباً لغير منفي؟ قلت : { لَوْ أَنَّ الله هدانى } فيه معنى : ما هُديت .

وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60)

{ كَذَبُواْ عَلَى الله } أي وصفوه بما لا يجوز عليه تعالى ، وهو متعال عنه ، فأضافوا إليه الولد والشريك ، وقالوا : هؤلاء شفعاؤنا ، وقالوا : { لَوْ شَاء الرحمن مَا عبدناهم } ، وقالوا : { والله أَمَرَنَا بِهَا } [ الأعراف : 28 ] ولا يبعد عنهم قوم يسفهونه بفعل القبائح ، وتجويز أن يخلق خلقاً لا لغرض ، ويؤلم لا لعوض ، ويظلمونه بتكليف ما لا يطاق ، ويجسمونه بكونه مرئياً معايناً مدركاً بالحاسة ، ويثبتون له يداً وقدماً وجنباً متسترين بالبلكفة ، ويجعلون له أنداداً بإثباتهم معه قدماء { وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ } جملة في موضع الحال إن كان ( ترى ) من رؤية البصر ، ومفعول ثانٍ إن كان من رؤية القلب .

وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61)

قرىء : «ينجي» و«ينجي» { بِمَفَازَتِهِمْ } بفلاحهم ، يقال : فاز بكذا إذا أفلح به وظفر بمراده منه . وتفسير المفازة قوله : { لاَ يَمَسُّهُمُ السواء وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } كأنه قيل : ما مفازتهم؟ فقيل : لا يمسهم السوء ، أي ينجيهم بنفي السوء والحزن عنهم . أو بسبب منجاتهم ، من قوله تعالى : { فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مّنَ العذاب } [ آل عمران : 188 ] أي بمنجاة منه؛ لأنّ النجاة من أعظم الفلاح ، وسبب منجاتهم العمل الصالح ولهذا فسر ابن عباس رضي الله عنهما المفازة بالأعمال الحسنة ، ويجوز : بسبب فلاحهم؛ لأنّ العمل الصالح سبب الفلاح وهو دخول الجنة . ويجوز أن يسمى العمل الصالح في نفسه : مفازة؛ لأنه سببها . وقرىء : «بمفازاتهم» على أن لكل متّق مفازة . فإن قلت : { لاَ يَمَسُّهُمُ } ما محله من الإعراب على التفسيرين؟ قلت : أما على التفسير الأوّل فلا محل له؛ لأنه كلام مستأنف . وأما على الثاني فمحله النصب على الحال .

اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63)

{ لَّهُ مَقَالِيدُ السماوات والأرض } أي هو مالك أمرها وحافظها ، وهو من باب الكناية؛ لأنّ حافظ الخزائن مدبر أمرها هو الذي الذي يملك مقاليدها ، ومنه قولهم : فلان ألقيت إليه مقاليد الملك وهي مفاتيح ، ولا واحد لها من لفظها . وقيل : مقليد . ويقال : إقليد وأقاليد ، والكلمة أصلها فارسية . فإن قلت : ما للكتاب العربي المبين وللفارسية؟ قلت : التعريب أحالها عربية ، كما أخرج الاستعمال المهمل من كونه مهملاً . فإن قلت : بما اتصل قوله : { والذين كَفَرُواْ } قلت : بقوله : { وَيُنَجِّى الله الذين اتقوا } أي ينجي الله المتقين بمفازتهم ، والذين كفروا هم الخاسرون . واعتراض بينهما بأنه خالق الأشياء كلها . وهو مهيمن عليها فلا يخفى عليه شيء من أعمال المكلفين فيها وما يستحقون عليها من الجزاء ، وقد جعل متصلاً بما يليه على أن كل شيء في السموات والأرض فالله خالقه وفاتح بابه والذين كفروا وجحدوا أن يكون الأمر كذلك أولئك هم الخاسرون وقيل :

( 972 ) سأل عثمان رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير قوله تعالى : { لَّهُ مَقَالِيدُ السماوات والأرض } ، فقال : « يا عثمان ، ما سألني عنها أحد قبلك ، تفسيرها : لا إله إلاّ الله والله أكبر ، وسبحان الله وبحمده ، وأستغفر الله ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله ، هو الأوّل والآخر والظاهر والباطن بيده الخير يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير » وتأويله على هذا؛ أن لله هذه الكلمات يوحد بها ويمجد ، وهي مفاتيح خير السموات والأرض ، من تكلم بها من المتقين أصابه ، والذين كفروا بآيات الله وبكلمات توحيده وتمجيده ، أولئك هم الخاسرون .

قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64)

{ أَفَغَيْرَ الله } منصوب بأعبد . و { تأمروانى } اعتراض . ومعناه : أفغير الله أعبد بأمركم ، وذلك حين قال له المشركون : استلم بعض آلهتنا ونؤمن بإلهك . أو ينصب بما يدل عليه جملة قوله : { تأمروانى أَعْبُدُ } لأنه في معنى تعبدونني وتقولون لي : اعبد ، والأصل : تأمرونني أن أعبد ، فحذف «أن» ورفع الفعل ، كما في قوله :

أَلاَ أيهذا الزَّاجِرِي أَحْضُرُ الْوَغَى ... ألا تراك تقول : أفغير الله تقولون لي أعبده ، وأفغير الله تقولون لي أعبد ، فكذلك أفغير الله تأمرونني أن أعبده . وأفغير الله تأمرونني أن أعبد ، والدليل على صحة هذا الوجه : قراءة من قرأ ( أعبد ) بالنصب . وقرىء : «تأمرونني» على الأصل . وتأمروني ، على إدغام النون أو حذفها .

وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)

قرىء : «ليحبطن عملك» وليحبطنّ : على البناء للمفعول . ولنحبطنّ ، بالنون والياء ، أي : ليحبطنّ الله . أو الشرك . فإن قلت : الموحى إليهم جماعة ، فكيف قال : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ } على التوحيد؟ قلت : معناه أوحى إليك لئن أشركت ليحبطن عملك ، وإلى الذين من قبلك مثله ، أو أوحى إليك وإلى كل واحد منهم : لئن أشركت كما تقول : كسانا حلة ، أي : كل واحد منّا : فإن قلت : ما الفرق بين اللامين؟ قلت : الأولى موطئة للقسم المحذوف ، والثاني لام الجواب ، وهذالجواب سادّ مسدّ الجوابين ، أعني : جوابي القسم والشرط ، فإن قلت : كيف صحّ هذا الكلام مع علم الله أنّ رسله لا يشركون ولا تحبط أعمالهم؟ قلت : هو على سبيل الفرض ، والمحالات يصحّ فرضها لأغراض ، فكيف بما ليس بمحال . ألا ترى إلى قوله : { وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعًا } [ يونس : 99 ] يعني على سبيل الإلجاء ، ولن يكون ذلك لامتناع الداعي إليه ووجود الصارف عنه . فإن قلت : ما معنى قوله : { وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين } ؟ قلت : يحتمل ولتكونن من الخاسرين بسبب حبوط العمل . ويحتمل : ولتكونن في الآخرة من جملة الخاسرين الذين خسروا أنفسهم إن مت على الردة . ويجوز أن يكون غضب الله على الرسول أشدّ ، فلا يمهله بعد الردة : ألا ترى إلى قوله تعالى : { إِذًا لأذقناك ضِعْفَ الحياة وَضِعْفَ الممات } [ الإسراء : 75 ] ، { بَلِ الله فاعبد } رد لما أمروه به من استلام بعض آلهتهم ، كأنه قال : لا تعبد ما أمروك بعبادته ، بل إن كنت عاقلاً فاعبد الله ، فحذف الشرط وجعل تقديم المفعول عوضاً منه { وَكُن مِّنَ الشاكرين } على ما أنعم به عليك ، من أن جعلك سيد ولد آدم . وجوّز الفراء نصبه بفعل مضمر هذا معطوف عليه ، تقديره : بل الله فأعبد فاعبد .

وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)

لما كان العظيم من الأشياء إذا عرفه الإنسان حق معرفته وقدره في نفسه حقّ تقديره وعظمه حق تعظيمه قيل { وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ } وقرىء بالتشديد على معنى : وما عظموه كنه تعظيمه ، ثم نبههم على عظمته وجلالة شأنه على طريقة التخييل فقال : { والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مطويات بِيَمِينِهِ } والغرض من هذا الكلام إذا أخذته كما هو بجملته ومجموعه تصوير عظمته والتوقيف على كنه جلاله لا غير ، من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين إلى جهة حقيقة أو جهة مجاز ، وكذلك حكم ما يروى :

( 973 ) أن جبريل جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا أبا القاسم ، إن الله يمسك السموات يوم القيامة على أصبع والأرضين على أصبع والجبال على أصبع والشجر على أصبع و الثرى على أصبع وسائر الخلق على أصبع ، ثم يهزهن فيقول أنا الملك فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجباً مما قال ثم قرأ تصديقاً له { وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ } . . . الآية ، وإنما ضحك : أفصح العرب صلى الله عليه وسلم وتعجب لأنه لم يفهم منه إلاّ ما يفهمه علماء البيان من غير تصوّر إمساك ولا أصبع ولا هزّ ولا شيء من ذلك ، ولكن فهمه وقع أوّل شيء وآخره على الزبدة والخلاصة التي هي الدلالة على القدرة الباهرة ، وأن الأفعال العظام التي تتحير فيها الأفهام والأذهان ولا تكتنهها الأوهام هينة عليه هواناً لا يوصل السامع إلى الوقوف عليه ، إلا إجراء العبارة في مثل هذه الطريقة من التخييل ، ولا ترى باباً في علم البيان أدقّ ولا أرقّ ولا ألطف من هذا الباب ، ولا أنفع وأعون على تعاطي تأويل المشتبهات من كلام الله تعالى في القرآن وسائر الكتب السماوية وكلام الأنبياء ، فإنّ أكثره وعليته تخييلات قد زلت فيها الأقدام قديماً ، وما أوتي الزالون إلاّ من قلة عنايتهم بالبحث والتنقير ، حتى يعلموا أن في عداد العلوم الدقيقة علماً لو قدره حق قدره ، لما خفي عليهم أنّ العلوم كلها مفتقرة إليه وعيال عليه ، إذ لا يحل عقدها الموربة ولا يفك قيودها المكربة إلا هو ، وكم آية من آيات التنزيل وحديث من أحاديث الرسول ، وقد ضيم وسيم الخسف بالتأويلات الغثة ، والوجوه الرثة ، لأنّ من تأول ليس من هذا العلم في عير ولا نفير ، ولا يعرف قبيلاً منه من دبير والمراد والأرض : الأرضون السبع ، يشهد لذلك شاهدان ، قوله : { جَمِيعاً } وقوله : { والسماوات } ولأنّ الموضع موضع تفخيم وتعظيم ، فهو مقتض للمبالغة ، ومع القصد إلى الجمع وتأكيده بالجميع اتبع الجميع مؤكدة قبل مجيء الخبر ، ليعلم أوّل الأمر أن الخبر الذي يرد لا يقع عن أرض واحدة ، ولكن عن الأراضي كلهن .

والقبضة : المرة من القبض { فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرسول } [ طه : 96 ] والقبضة - بالضم - : المقدار المقبوض بالكف ، ويقال أيضاً : أعطني قبضة من كذا : تريد معنى القبضة تسمية بالمصدر ، كما روى :

( 974 ) أنه نهى عن خطفة السبع وكلا المعنيين محتمل . والمعنى : الأرضون جميعاً قبضته ، أي : ذوات قبضته يقبضهن قبضة واحدة ، يعني أنّ الأرضين مع عظمهن وبسطهن لا يبلغن إلاّ قبضة واحدة من قبضاته ، كأنه يقبضها قبضة بكف واحدة ، كما تقول : الجزور أكلة لقمان ، والقلة جرعته ، أي : ذات أكلته وذات جرعته؛ تريد : أنهما لا يفيان إلا بأكلة فذة من أكلاته ، وجرعة فردة من جرعاته . وإذا أريد معنى القبضة فظاهر ، لأنّ المعنى : أنّ الأرضين بجملتها مقدار ما يقبضه بكف واحدة . فإن قلت : ما وجه قراءة من قرأ «قبضته» بالنصب؟ قلت : جعلها ظرفاً مشبهاً للمؤقت بالمبهم : { مطويات } من الطي الذي هو ضدّ النشر ، كما قال تعالى : { يَوْمَ نَطْوِى السماء كَطَىّ السجل لِلْكُتُبِ } [ الأنبياء : 104 ] وعادة طاوي السجل أن يطويه بيمينه ، وقيل : قبضته : ملكه بلا مدافع ولا منازع ، وبيمينه : بقدرته . وقيل : مطويات بيمينه مفنيات بقسمه؛ لأنه أقسم أن يفنيها ، ومن اشتم رائحة من علمنا هذا فليعرض عليه هذا التأويل ليتلهى بالتعجب منه ومن قائله ، ثم يبكي حمية لكلام الله المعجز بفصاحته ، وما مني به من أمثاله؛ وأثقل منه على الروح ، وأصدع للكبد تدوين العلماء قوله ، واستحسانهم له ، وحكايته على فروع المنابر ، واستجلاب الاهتزاز به من السامعين . وقرىء : «مطويات» على نظم السموات في حكم الأرض ، ودخولها تحت القبضة ، ونصب مطويات على الحال { سبحانه وتعالى } ما أبعد من هذه قدرته وعظمته ، وما أعلاه عما يضاف إليه من الشركاء .

وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)

فإن قلت : { أخرى } ما محلها من الإعراب؟ قلت : يحتمل الرفع والنصب : أما الرفع فعلى قوله : { فَإِذَا نُفِخَ فِى الصور نَفْخَةٌ واحدة } [ الحاقة : 13 ] وأما النصب فعلى قراءة من قرأ : { نَفْخَةٌ واحدة } [ الحاقة : 13 ] والمعنى : ونفخ في الصور نفخة واحدة ، ثم نفخ فيه أخرى . وإنما حذفت لدلالة أخرى عليها ، ولكونها معلومة بذكرها في غير مكان . وقرىء : «قياماً ينظرون» : يقلبون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت إذا فاجأه خطب . وقيل : ينظرون ماذا يفعل بهم . ويجوز أن يكون القيام بمعنى الوقوف والجمود في مكان لتحيرهم .==

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

دليلك إلى المواقع الإسلامية المنتقاة بأكثر من ( 42 ) لغة !!

دليلك إلى المواقع الإسلامية المنتقاة بأكثر من ( 42 ) لغة !! اللغة الرابط اللغة الأذرية http://www.islamhouse.com/s/9357 ...