الجمعة، 12 مايو 2023

كتاب أصول الوصول إلى الله تعالى - لفضيلة الشيخ محمد حسين يعقوب

بسم الله الرحمن الرحيم

كتاب أصول الوصول إلى الله تعالى - لفضيلة

 الشيخ محمد حسين يعقوب

رابط الكتاب على الموقع الرسمى لفضيلة الشيخ "موقع الربانية" : http://www.yaqob.com/web2/index.php/kotob/ketab/11

قام بإعداد هذه النسخة الالكترونية من الكتاب فريق عمل موقع الكلم الطيب : http://www.kalemtayeb.com

فهرس الكتاب

ومضات على طريق السير الى الله

تمهيد

الـومـضـة الأولــى : شروط الطريق

الـومـضـة الـثانيـة : حــدد هــدفــك

الـومـضـة الثـالثــة : مقــومـات السـفـر

الـومـضـة الـرابـعـة : وتزودوا

اّفات على الطريق

آفات على الطريق

الاّفة الاولـى : الـخـوف من وحـشـة الـتـفـرد

الاّفـة الـثانيـة : فـضـول الـكـلام والـخلطـة

الاّفـة الـثـالـثـة : الـنـفـق الـمـظـلـم

الاّفـة الـرابـعـة : جـسـر عـلـى الـطـريـق

استراحة المسافر

إستراحة المسافر

ترويحة على الطريق : علوم ليست فى الكتب

ترويحة على الطريق : اختبارات

ترويحة على الطريق : المداراة .. والستر

ترويحة على الطريق : البلاء موكل بالمنطق

ترويحة على الطريق : الـتـملـق

ترويحة على الطريق : " ولتكون من المحسنين "

ترويحة على الطريق : ويحك .. ويحك

ترويحة على الطريق : من أقوال ابن تيميّة

ترويحة على الطريق : مجلسنا

ترويحة على الطريق : " ألكم الذكر وله الأنثى تلك اذا ... "

ترويحة على الطريق : أدمى دينه بأظفار شكواه

ترويحة على الطريق : لا تنازعوا أهل الدنيا

ترويحة على الطريق : ما أسوأ السـوء

ترويحة على الطريق : سيـاط الـمـواعـظ

ترويحة على الطريق : عجبت لهذا الذى

ترويحة على الطريق : اطلبونى فى المقابر

ترويحة على الطريق : أصناف الناس

ترويحة على الطريق : من شعر العصر الذهبى

ترويحة على الطريق : علامات السعادة

ترويحة على الطريق : الأخـطـر

ترويحة على الطريق : قصة الحية والسكران

ترويحة على الطريق : ديك سهل بن هارون

تـعـقـيـب

كـلمـة أخيـرة

أصول الوصول الى الله تعالى

الأصل الأول : عليك البداية وعليه التمام

الاصل الثانى : كن واحدا لواحد على طريق واحد

الأصل الثالث : ما لا يكون بالله لا يكون وما لا يكون لله لا ينفع ولا يدوم

الاصل الرابع : الشكر أساس المزيد

الأصل الخامس : املك عصا التحويلة

الأصل السادس : يومك يومك

الأصل السابع : وليسعك بيتك

الأصل الثامن : الصادق حبيب الله

الأصل التاسع : دوما فى المعاملة السحب من الرصيد

الأصل العاشر : القراّن قائد وسائق وحاد

الأصل الحادى عشر : لا تلبس ثياب الفراغ أثناء العمل

الأصل الثانى عشر : فى الطريق مواقف للتمييز

الأصل الثالث عشر : الاعتصام بالله عقيدة وعمل ودعاء

الأصل الرابع عشر : من استطال الطريق ضعف مشيه

الأصل الخامس عشر : السر الدفين لعدم القبول وجود حظ للنفس فى العمل

الأصل السادس عشر : الأمر كله بيد الله , فسلّم تسلم

الأصل السابع عشر : دليل عدم رضاه عنك عدم رضاك عنه

الأصل الثامن عشر : إياك أن تمكر به فيمكر بك

الأصل التاسع عشر : اجن العسل ولا تكسر الخلية

الأصل العشرون : " ومن كل شىء خلقنا زوجين لعلكم تذكّرون ففروا إلى الله "

الأصل الحادى والعشرون : من صفّى صفى له , ومن كدّر كدر عليه

الأصل الثانى والعشرون : لا تتجاهل جانبا واحدا من جوانب الدين

الأصل الثالث والعشرون : أنجز كل يوم شيئا جديدا

الأصل الرابع والعشرون : كف عن الشكوى وابدأ العلاج

الأصل الخامس والعشرون : ليس الشأن أن تحبه , إنما الشأن أن يحبك

الأصل السادس والعشرون : كل متاع فى الدنيا يسحب من رصيدك فى نعيم الآخرة

الأصل السابع والعشرون : المرء مع من أحب , فاختر حبيبك من ها هنا

الخاتمة

الخـاتمـة

ومضات على طريق السير الى الله

تمهيد

المقدمة :

اعلم أخى الحبيب أن للسير الى الله أصولا وضوابط وثمة أمر مهم وهو أن للسائرين الى الله هم المصطفون من خلق الله ، قال تعالى " ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ " ( فاطر 32 ) . فكلهم مصطفون مختارون لسلوك هذا الطريق ..فان سلكت فأبشر ، ولكن انضبط واشكر كى لا تطرد.

ومن سنة البشر فى حياتهم أن الطريق لا يمكن أن تسلك الا بعلامات للاهتداء واشارات للمسير توضح المراحل وتدفع المخاطر وتسهل اجتياز العقبات وتيسر قطع الفلوات ، وقد تكون هذه العلامات سمعية او بصرية كما انها قد تكون للتوضيح والارشاد او للتنبيه والاعتراض . وهكذا فان المسافر فى طريق الوصول الى الله يحتاج الى التوعية والتنبيه بمواعظ هى اشارات ساطعة فى دربه الطويل وتنبيهات تقيه شر المنعطفات .

وهذه الطريق – أيها الاخ الكريم – تحتاج الى علم مهم جدا وخطير هو علم السلوك .. يقول ابن القيم – عليه رحمة الله – فى "طريق الهجرتين " : " السائر الى الله تعالى والدار الاخرة بل كل سائر الى مقصد لا يتم سيره ولا يصل الى مقصوده الا بقوتين : قوة علمية وقوة عملية .فبالقوة العلمية يبصر منازل الطريق ومواضع السلوك فيقصدها سائرا فيها ويجتنب أسباب الهلاك ومواضع العطب وطرق المهالك المنحرفة عن الطريق الموصل . فقوته العلمية كنورعظيم بيده يمشى به فى ليلة مظلمة شديدة الظلمة فهو يبصر بذلك النور ما يقع الماشى فى الظلمة فى مثله من الوهاد والمتالف ويعثر به من الاحجار والشوك وغيره ويبصر بذلك النور ايضا اعلام الطريق وأدلتها المنصوبة عليها فلا يضل عنها فيكشف له النور عن الامرين : اعلام الطريق ، ومعاطبها . وبالقوة العملية يسير حقيقة ، بل السير هو حقيقة القوة العملية ، فان السير هو عمل المسافر وكذلك السائر الى ربه اذا ابصر الطريق وأعلامها وابصر المعاثر والوهاد والطرق الناكبة عنها فقد حصل له شطر السعادة والفلاح ، وبقى عليه الشطر الاخر وهو ان يضع عصاه على عاتقه ويشمر مسافرا فى الطريق قاطعا منازلها منزلة بعد منزلة فكلما قطع مرحلة استعد لقطع للاخرى واستشعر القرب من المنزل فهان عليه مشقة السفر" .

نعم ايها الحبيب المحب : ان الطريق الى الله تعالى تقطع بالقلوب لا بالاقدام ..نعم : هى طريق طويلة ونعم هى مأهولة فقد سارها قبلك المصطفون الاخيار من خيرة خلق الله على مدار العصور .

ولكن هذه الطريق فى عصرنا صارت مجهولة لاكثر الناس وذلك لاعراض الناس عنها بل وتنكبها .

فلذا انت تحتاج الى علم ..علم حقيقى بهذه الطريق .. وكما ذكر ابن القيم- عليه رحمة الله – أنك تحتاج الى قوة علمية يعنى ان تتعلم ..ولا يظنن ظان أن السائر الى الله لا علاقة له بطلب العلم .. فما له والعقيدة أو الفقه او المصطلح او الاصول ، بل وما أشغله عن الدعوة الا الله . وقع هذا الظن من أحوال الصوفية فقد اعتقد أكثر الناس أن معنى " سائر " و " الطريق " وغيرها من هذه الكلمات هى الصوفية وهى مرتبطة بالابتداع ..وما حصل هذا الابتداع الا بسبب الجهل والانصراف عن العلم والاكتفاء بمجرد الرياضات الروحية. ولكن عندنا وفى منهجنا أن طلب العلم أصل الوصول وهو لا يفارق السائر أبدا .. فلابد أولا من منهج علمى منضبط ذى مراحل فى كل فروع العلم : عقيدة وفقه وتفسير وسيرة وحديث ....العلم قبل القول والعمل والا ضللت ولم تصل ..لابد من قوة علمية ، ثم القوة العملية : أن تبدأ تنفيذ هذا العلم فى الواقع .. أن تسير حقيقة . واننى أطالبك – أيها الحبيب- ان تستشعر هذا المعنى : أنك سائر ..أنك مسافر ..أنك راحل .." يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ " ( الانشقاق :6 ) .. " ما لى وللدنيا انما انا كراحل " .. هذا شعارك فى هذه الدنيا .. ولا بد ان تتوازى وتتوازن القوتان العلم والعمل ، والا فهلاك اّخر وضلال من نوع اّخر ، والجنون فنون يقول ابن القيم – عليه رحمة الله - : " ومن الناس من يكون له القوة العلمية الكاشفة عن الطريق ومنازلها وأعلامها وعوارضها ومعاثرها وتكون هذه القوة أغلب القوتين عليه ، ويكون ضعيفا فى القوة العملية يبصر الحقائق ولا يعمل بموجبها ويرى المتالف والمخاوف والمعاطب ولا يتوقاها ، فهو فقيه ما لم يحضر العمل ، فاذا حضر العمل شارك الجهال فى التخلف وفارقهم فى العلم ، وهذا هو الغالب على أكثر النفوس المشتغلة بالعلم ، والمعصوم من عصمه الله ولا قوة الا بالله . ومن الناس من تكون له القوة العملية الارادية وتكون أغلب القوتين عليه وتقتضى هذه القوة السير والسلوك والزهد فى الدنيا والرغبة فى الاخرة والجد والتشمير فى العمل ، ويكون أعمى البصر عند ورود الشبهات فى العقائد والانحرافات فى الاعمال والاقوال والمقامات كما كان الاول ضعيف العقل عند ورود الشهوات ،فداء هذا من جهله ، وداء الاول من فساد ارادته وضعف عقله ، وهذا حال أكثر أرباب الفقر والتصوف السالكين على غير طريق العلم بل على طريق الذوق والوجد والعادة ، يرى أحدهم أعمى عن مطلوبه لا يدرى من يعبد ولا بماذا يعبده ، فتارة يعبده بذوقه ووجده ، وتارة يعبده بعادة قومه وأصحابه من لبس معين أو كشف رأس أو حلق لحية ونحوها ، وتارة يعبده بالاوضاع التى وضعها بعض المتحذلقين وليس له أصل فى الدين ، وتارة يعبده بما تحبه نفسه وتهواه كائنا ما كان . وهنا طرق ومتاهات لا يحصيها الا رب العباد . فهؤلاء كلهم عمى عن ربهم وعن شريعته ودينه لا يعرفون شريعته ودينه الذى بعث به رسله وأنزل به كتبه ولا يقبل من أحد دينا سواه كما انهم لا يعرفون صفات ربهم التى تعرف بها الى عباده على ألسنة رسله ودعاهم الى معرفته ومحبته من طريقها ، فلا معرفة له بالرب ولا عبادة له . ومن كانت له هاتان القوتان استقام له سيره الى الله تعالى ورجى له النفوذ وقوى على رد القواطع والموانع بحول الله وقوته ".

وهكذا – اخى الحبيب – فهمت ان بعض الناس له قوة علمية .. يعنى تعلم العلم وعرف الطريق ثم لم يسلكها فهو منافق عليم النفاق ، قال سبحانه : " مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ " ( الجمعة 5 ) .

والذى عنده قوة عملية بدون علم ..يعنى هو نشيط فى العبادة جدا متحمس للدين جدا فانه ولا شك سيخطىء ويبتدع .. ولذلك فلابد فى هذا الطريق- أيها الاخ الكريم- أن تتوازن القوتان العلمية والعملية ، وأن يكون لك منهج للعلم ومنهج للعبادة والعمل ويسير المنهجان فى ذات الوقت وتتم المتابعة عليهما ويكون التدرج فيهما حتى يتم الوصول . وثمة شروط أخر ..هذه الشروط هى أولى الومضات التى تنير لك الطريق فيشرق بها .. فيسهل المسير الى الله ... ان شاء الله.

الـومـضـة الأولــى : شروط الطريق

الومضة الاولى : شروط الطريق :

أولا الدليل .. وهو الشيخ المربى والعالم العامل والاستاذ السابق والخبير المجرب .. انك تحتاج فى طريقك الى شيخ ذى بصيرة نافذة يدل وينصح ...يهذب ويتابع ... يستشف ويستنتج ... يلحظ ويعرف انه مجرب خريت .. انه ليس دليلك على الطريق فقط ، انما هو دليلك على نفسك ماذا تصلح وكيف تصلح ... يصحبك فى سيرك ويربيك بالمعاشرة . أيها الاخوة ان الطريق هذه طريق واسعة .. وهذا شرط فى صفة الصراط أن يسع جميع السائرين .. وليس كل السائرين على طبيعة واحدة ، فالله – عز وجل- خلق الخلق فتفاوتت هممهم وتنوعت مواهبهم واختلفت طاقاتهم وقدراتهم .." وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ " ( الانعام : 165 ) . فأين تسير ؟ وكيف تسير ؟ ومن أين تبدأ ؟ وفيم تستمر ؟ ومتى تتوقف والى متى ؟ ...هذا عمل الدليل ووظيفته.. ماذا تصلح وبماذا تهتم وفيم تتخصص ؟

طبيعة الطريق :

ولكى يتضح كلامنا فى حاجتك الى هذا المربى ، فلابد أن تعرف أولا طبيعة الطريق .. فاقرأ معى ما قاله ابن القيم – عليه رحمة الله-وبركاته- :

" الطريق الى الله فى الحقيقة واحد لا تعدد فيه ، وهو صراطه المستقيم الذى نصبه موصلا لمن سلكه اليه ، قال الله تعالى " وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ " ( الانعام : 153 ) , فوحد سبيله لانه فى نفسه واحد لا تعدد فيه وجمع السبل المخالفة لانها كثيرة متعددة , كما ثبت أن النبى صلى الله عليه وسلم خط خطا عن يمينه وعن يساره ثم قال : " هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو اليه " ثم قرأ " وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ " . [أخرجه أحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبى وأحمد شاكر] .

ومن هذه قول الله تعالى : " اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ " ( البقرة : 257 ) فوحد النور الذى هو سبيله وجمع الظلمات التى هى سبل الشيطان ومن فهم هذا فهم السر فى افراد النور وجمع الظلمات فى قوله تعالى " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ " ( الانعام :1 ) مع ان هذا فيه سرا ألطف من هذا يعرفه من عرف منبع النور ومن أين فاض وعمّاذا حصل وأن أصله كله واحد ، وأما الظلمات فهى متعددة بتعدد الحجب المقتضية لها .. وهى كثيرة جدا لكل حجاب ظلمة خاصة ولا ترجع الظلمات الى النور الهادى – جل جلاله- أصلا : لا وصفا ولا ذاتا وا اسما ولا فعلا ، وانما ترجع الى الى مفعولاته – سبحانه- فهو جاعل الظلمات ومفعولاتها متعددة متكثرة بخلاف النور فانه يرجع الى اسمه وصفته – جل جلاله- تعالى أن يكون كمثله شىء ، وهو نور السموات والارض . قال ابن مسعود : " ليس عند ربكم ليل ولا نهار ، نور السموات والارض من نور وجهه " ذكره الدارمى عنه , وفى " صحيح مسلم " عن أبى ذر قلت : يا رسول الله ، هل رأيت ربك ؟ قال : " نور أنى أراه ! " [أخرجه مسلم : 178] .

والمقصود أن الطريق الى الله – تعالى – واحد ، فانه الحق المبين ، والحق واحد ، مرجعه الى واحد وأما الباطل والضلال فلا ينحص ، بل كل ما سواه باطل ، وكل طريق الى الباطل فهو باطل . فالباطل متعدد ، وطرقه متعددة . وأما ما يقع فى كلام بعض العلماء أن الطريق الى الله متعددة متنوعة، جعلها الله كذلك لتنوع الاستعدادات واختلافها رحمة منه وفضلا فهو صحيح لا ينافى ما ذكرناه من وحدة الطريق . وكشف ذلك وايضاحه أن الطريق وهى واحدة جامعة لكل ما يرضى الله . وما يرضيه متعدد متنوع ، فجميع ما يرضيه طريق واحد ومراضيه متعددة متنوعة بحسب الازمان والاماكن والاشخاص والاحوال وكلها طرق مرضاته . فهذه التى جعلها الله – سبحانه- لرحمته وحكمته كثيرة متنوعة جدا لاختلاف استعدادات العباد وقوابلهم ، ولو جعلها نوعا واحدا مع اختلاف الاذهان والعقول وقوة الاستعدادات وضعفها لم يسلكها الا واحد بعد واحد ، ولكن لما اختلفت الاستعدادات تنوعت الطرق ليسلك كل امرىء الى ربه طريقا يقتضيها استعداده وقوته وقبوله .

ومن هنا يعلم تنوع الشرائع واختلافها مع رجوعها كلها الى دين واحد ، بل تنوع الشريعة الواحدة مع وحدة المعبود ودينه ومنه الحديث المشهور " الانبياء أولاد علات دينهم واحد " ( متفق عليه : البخارى : 3442 , ومسلم : 2365 ) فأولاد العلات أن يكون الاب واحدا والامهات متعددة ، فشبه دين الانبياء بالأب الواحد ، وشرائعهم بالامهات المتعددة ، فانها وان تعددت فمرجعها كلها الى أب واحد .

1- واذا علم هذا فمن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الذى يعد سلوكه الى الله طريق العلم والتعليم قد وفر عليه زمانه مبتغيا به وجه الله فلا يزال كذلك عاكفا على طريق العلم والتعليم حتى يصل من تلك الطريق الى الله ويفتح له فيها الفتح الخاص أو يموت فى طريق طلبه فيرجى له الوصول الى مطلبه بعد مماته قال الله تعالى:

" وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ " ( النساء : 100 ) .

وقد حكى عن جماعة كثيرة ممن أدركه الاجل وهو حريص على طالب للقراّن أنه رؤى بعد موته وأخبر أنه فى تكميل مطلوبه وأنه يتعلم فى البرزخ ، فان العبد يموت على ما عاش عليه .

2- ومن الناس من يكون سيد عمله الذكر ، قد جعله زاده لمعاده ورأس ماله لماّله ، فمتى فتر عنه أو قصر رأى أنه قد غبن وخسر.

3- ومن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الصلاة ، فمتى قصر فى ورده منها أو مضى عليه وقت وهو غير مشغول بها أو مستعد لها أظلم عليه وقته وضاق صدره .

4- ومن الناس من يكون طريقه الاحسان والنفع المتعدى ، كقضاء الحاجات وتفريج الكربات واغاثة اللهفات وأنواع الصدقات ، قد فتح له فى هذا وسلك منه طريقا الى ربه .

5- ومن الناس من يكون طريقه الصوم ، فمتى أفطر تغير عليه قلبه وساءت حاله .

6- ومنهم من يكون طريقه الامر بالمعروف والنهى عن المنكر، قد فتح الله له فيه ونفذ منه الى ربه.

7- ومنهم من يكون طريقه الذى نفذ فيه الحج والاعتمار .

8- ومنهم من يكون طريقه قطع العلائق وتجريد الهمة ودوام المراقبة ومراعاة الخواطر وحفظ الاوقات أن تذهب ضائعة .

9- ومنهم جامع المنفذ ، السالك الى الله فى كل واد الواصل اليه من كل طريق ، فهو جعل وظائف عبوديته قبلة قلبه ، ونصب عينه يؤمها أين كانت ويسير معها حيث سارت ، قد ضرب من كل فريق بسهم ، فأين كانت العبودية وجدته هناك : ان كان علم وجدته مع أهله ، أو جهاد وجدته فى صف المجاهدين ، أو صلاة وجدته فى القانتين ، أو ذكر وجدته فى الذاكرين ، أو احسان ونفع وجدته فى زمرة المحسنين ، أو مراقبة ومحبة وانابة الى الله وجدته فى زمرة المحبين المنيبين ، يدين بدين العبودية أنى استقلت ركائبها ، ويتوجه اليها حيث استقرت مضاربها ، لو قيل له : ما تريد من الاعمال ؟ لقال : أريد أن أنفذ أوامر ربى حيث كانت وأين كانت ، جالبة ما جلبت مقتضية ما اقتضت جمعتنى او فرقتنى ، ليس لى مراد الا تنفيذها والقيام بأدائها مراقبا له فيها ، عاكفا عليه بالروح والقلب والبدن والسر ، قد سلمت اليه المبيع منتظرا منه تسليم الثمن " إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ " ( التوبة : 111 ) .

فهذا هو العبد السالك الى ربه النافذ اليه حقيقة ، ومن النفوذ اليه أن يتصل به قلبه ويعلق به تعلق المحب التام المحبة بمحبوبه فيسلو به عن جميع المطالب سواه فلا يبقى فى قلبه الا محبة الله وأمره وطلب التقريب اليه .

فاذا سلك العبد على هذا الطريق عطف عليه ربه فقربه واصطفاه , واخذ بقلبه اليه وتولاه فى جميع أموره فى معاشه ودينه وتولى تربيته أحسن وأبلغ مما يربى الوالد الشفيق ولده فانه – سبحانه- القيوم المقيم لكل شىء من المخلوقات طائعها وعاصيها فكيف تكون قيوميته بمن أحبه وتولاه واّثره على ما سواه ورضى به من الناس حبيبا وربا ووكيلا وناصرا ومعينا وهاديا !! فلو كشف الغطاء عن ألطافه وبره وصنعه له من حيث يعلم ومن حيث لا يعلم لذاب قلبه حبا له وشوقا اليه ولتقطع شكرا له ، ولكن حجب القلوب عن مشاهدة ذلك اخلادها الى عالم الشهوات والتعلق بالاسباب فصدت عن كمال نعيمها وذلك تقدير العزيز العليم . والا فأى قلب يذوق حلاوة معرفة الله ومحبته ثم يركن الى غيره ويسكن الى ما سواه ؟! هذا ما لا يكون أبدا " .

استبانت الطريق .. رحمك الله يا شيخ الاسلام ويا علم الاعلام ابن القيم , فيا لك من علامة مرب ..

ورأيت تنوعها فالى أين تذهب وكيف تذهب ؟! ومن الذى يوجهك ويحثك ؟ ويرشدك ويستثيرك غير المربى ؟! قالوا : والله لولا المربى ما عرفت ربى .

اذا فوظيفة هذا المربى أن يختار لك , وأن يقترح عليك , بل قد يلزمك أحيانا بما يخالف هواك وتظن أنك لا تفلح فيه وانت لا تصلح الا له .

وقد تصيح – أيها الاخ الشاب الكريم المفضال – وترفع عقيرتك سائلا : أين المربى ؟ أين المربى ؟..

وانا أقول لك : " وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا " ( الطلاق : 2- 3 ) .

انك – أيها الطيب – تبحث عن المشاهير الاعلام وتظن انه لا يصلح لتربيتك الا هؤلاء .. وهذا من الغرور والسفه , فالمشاهير من الدعاة والعلماء والاركان وطلبة العلم يدفعون ضريبة الشهرة فلا وقت عندهم لأحد ... تكفيهم همومهم ومشاغلهم .. وهم معذورون – غفر الله لنا ولهم .

فتواضع- أخى الكريم - وابحث عن هذا المربى ..أخ مغمور لا يعرف .. لا يؤبه له ولكنه قديم يبدو فى وجهه سمت الصالحين ..عابد قلما تراه يخالط الناس فيما يخوضون فيه ..سابق بالخيرات .. التزم منذ سنين وسبر أغوار الطريق .

قل لى : لن اجد .. وانا أقول لك : سوف تجد , قال سبحانه " وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ " ( العنكبوت : 69 ) .. وهذه أيضا من قوانين هذا الطريق ..أنه لا يعطى منحة السير فيه الا من حرص وبذل وضحى . ابحث واصدق واحرص واصبر تعط.. تلك أصولك يا مسكين .

ثانيا : الصاحب ..

فى الهجرة دروس وأسرار . لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهاجر اصطحب رجلين, رجلين فقط ..دليلا وصاحبا .. الدليل كان خريتا بصيرا بالطرق , وهذا مهمته تنتهى عند ذلك .. أن يدل على الطريق .. اما الصاحب فكانت الشروط فيه كثيرة جدا.. لك ان تتسائل لم لم يصطحب عمر وهو أشجع , وسفرة مثل هذه يحتاج فيها الى الشجاعة أو لم لم يصطحب عليا وهو أشب ومن الاهل , والتضحية به أسهل بدليل أنه نام فى فراشه .

لم اختار أبا بكر دون الناس ؟ ان الصحبة فى طريق السفر تحتاج الى شخص على المنهج , لذا اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا قلبه قريب من قلبه فلم يختلفا مرة .. انظر معى الى حادثة الغار :

لما قال أبوبكر : لو نظر احدهم حتى قدميه لراّنا , فقال له صلى الله عليه وسلم : " لا تحزن ان الله معنا " فماذا كان رد أبى بكر أو تعليقه على هذه المقولة ؟ بالتأكيد لا شىء .. انتهت القضية ..سلم .

وانا متأكد أنه لو كان غير أبى بكر لظل قلقا وأعاد المسألة , ولكن لما كان قلبه على قلبه سلم .

واستراح الرسول صلى الله عليه وسلم واستراح أبو بكر .

الخلاصة أننى أقول لك : لابد من صاحب فى هذا الطريق على نفس المنهج قلبه كقلبك , لاننى اراك

أيها الحبيب المحب قد خدعوك فقالوا: ابحث عمّن يشدك ..وتفاجأ بأن كل الناس يبحثون عمّن يشدهم هذه الايام ..وتفاجأ أن الشد الى أسفل لا الى أعلى . اننى اريد – أيها الحبيب – ان تبحث عن مسكين مثلك يبحث عن الطريق الى الله ويريد أن يصل الى الله ..هذا شرطه ..انه حريص على طاعة الله يريد الوصول الى الله .. ابحث عنه وارض به ولا تشترطه من الكمل فمن لم تكمل نفسه لا ينبغى له أن يبحث عن الكمال عند الاخرين.

قال الفضيل بن عياض : من طلب أخا بلا عيب , صار بلا أخ .

اذا لا ينبغى أن يزهد السائر الى الله فى أخيه السائر معه على الطريق لخلق أو خلقين ينكرهما فيه اذا رضى سائر أخلاقه , لأن اليسير مغفور والكمال مستحيل .

ومن ذا الذى ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلا أن تعد معايبه

وقال أبو الدرداء رضى الله عنه : معاتبة الاخ خير لك من فقده .

وقال بعض الحكماء : طلب الانصاف من قلة الانصاف .

وقال بعض السلف : " لا يزهدنك فى رجل حمدت سيرته وارتضيت وتيرته , وعرفت فضله وبطنت عقله , عيب خفى تحيط به كثرة فضائله , او ذنب صغير تستغفر له قوة وسائله ".

ولا أعدمك ( أحرمك ) النصيحة .. قد يكون هذا الصاحب زوجتك أو والدك أو شقيقك أو شقيقتك حتى وان كان ابنك أو بنتك .. وعندها يصير الامر أقوى ..لأن المعاشرة وطول الصحبة والتطبع بطباع السفر من لوازم هذا الطريق .. ولكن كما ذكرت لك على قلب واحد , لأن الخلاف كله شر والطريق مشغلة والانشغال عنها مهلكة , فلا تصاحب الا موافقا كى لا يزيد ويكثر الخلاف ويضيع الطريق .

رفقة الطريق : قد ذكرت لك أنه صاحب .. ولم لا يكونون صحبة ؟

قال سبحانه " مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ " ( الفتح : 29 ) .

نعم : لابد لك – أيها الحبيب السائر الى الله – من رفقة وصحبة فى هذا الطريق ..لابد لك من مجموعة تأنس بها , لتذهب عنك وحشة التفرد وتصحح لك الاخطاء , وتوضح لك عقبات الطريق .

واذا كانت الرفقة مهمة ومطلوبة فى سفر الدنيا , فكيف بأسفار الاخرة التى يكون فيها المؤمن أشد حاجة الى المعين الصالح والمشارك الموافق الذى يكون مع شريكه كاليدين تغسل احداهما الاخرى فالزم الركب – أيها الحبيب – فللركب خيرية .

" وان لرفقاء درب الاخرة خصائص ومواصفات لابد منها ، فرفقاء الطريق الى الله تعالى هم الذين علت هممهم وصفت نياتهم وصح سلوكهم حتى سبقوا الناس وتركوا السكون , وتزاحموا على ركوب القافلة ركضا الى الله تعالى وتسارعا الى مرضاته " وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى" (طه:84) , فلم يوقف لهم على رسم , ولم يلتزموا باسم ولم ينتظروا أن يشار اليهم بالاصابع أو ترفع لهم الاعلام فقد علت منهم الهمة التى لا تقف دونها حركة السفر , ولا يرضى صاحبها بغير الخالق عوضا , كما صفا منهم القصد الخالص من الشوائب حتى لا تعوق عن المقصود , وكان منهم التجرد التام للمعبود , وعلامة أخرى لرفقاء الطريق هؤلاء الا وهى صحة السلوك السالم من الافات والعوائق والقواطع والحجب " .

وصحة السلوك السالم هذه لا تكون الا بثلاثة شروط هى تمام خصائص اخوان الدرب وخلان الطريق :

" أحدها : أن يكون الدرب الاعظم الدرب النبوى المحمدى لا على الجواد الوضعية .

الثانى : أن لا يجيب على الطريق داعى البطالة والوقوف والدعة .

الثالث : أن يكون فى سلوكه ناظرا الى المقصود .

فبهذه الثلاثة يصح السلوك , والعبارة الجامعة لها أن يكون واحدا لواحد , فى طريق واحد " .

الـومـضـة الـثانيـة : حــدد هــدفــك

الـومـضـة الثـانيـة : حـدد هـدفـك:

ترى كيف يسافر المسافر وهو بلا مقصد ؟ فبالنية يتحدد السفر وتتوضح الوجهة وعلى أساسها يخطط منهج الرحلة طالت أم قصرت , وعلى صدقها يحمل الزاد .. وهكذا سفر المؤمن لابد له من النية الصادقة , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" انما الاعمال بالنيات وانما لكل امرىء ما نوى فمن كانت هجرته الى الله ورسوله فهجرته الى الله ورسوله , ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته الى ما هاجر اليه ".

" متفق عليه : البخارى : ( 1 ) , ومسلم ( 1907 ) " .

فحدد هدفك – أخى الكريم – ماذا تريد بهذا الطريق .. تحديدا واضحا لا لبس فيه , حتى تستطيع الوصول الى ما حددته .

اّلتزمت لتكون شيخا مشهورا أو زعيما متبوعا .. اّلتزمت وسلكت هذا الطريق لفشلك فى الحصول على الدنيا , فأردت أن تحصل عليها بزعم الاخرة .. حدد هدفك أيها المسكين , واعلم أن العليم الخبير بالنوايا بصير.

لما ذهب اعرابى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الجهاد فقسم له قسما من الفىء , قال الرجل : " ما على هذا تبعتك ! " .. فحرر نيتك : علام اتبعتنا ؟!

" والنية – أيها الحبيب – أصل العبادات , وبها يتميز الصحيح من السقيم , والخالص من غيره , وبالنية تتحدد منازل السالكين , ووجهة القاصدين , ومن يريد بها وجه الله تعالى , أو يريد السفر بأى نوع كالهجرة , اذ انها قد تكون لمصلحة دنيوية , أو دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها , وبهذه النية يتحدد الاخلاص الذى به يؤجر المرء على متاعب الطريق , وبه يستعذب العذاب , وبه تهون مشاق الطريق .

والاخلاص وحده يقود الى شفافية القلب , وصفاء الوجدان , لأن المؤمن لا يفكر بعده الا فى عظمة ربه ولا يتوجه الا الى خالقه .. فلا يضيره متاعب المثبطين , ولا نداء المرجفين , ولا يقعده فتور الهابطين ".

يقول ابن القيم – عليه رحمة الله - :

" فالاخلاص سبيل الخلاص , والاسلام هو مركب السلامة , والايمان شاطىء الامان ".

فاذا تحددت وجهتك – أيها السائر – وعلم مقصدك بتوحيدين هما : توحيد القصد وتوحيد المقصود , فالمقصود هو الله سبحانه وتعالى , والقصد ارادة وجهه الكريم .. اذا تحددت وجهتك هذه وعلم مقصدك هذا فقد استرحت فى هذه السفرة .. وسيتبين لك ذلك حين نذكر فيما بعد أن المشغبين كثير , والسبل مدلهمة , والعوارض تفتر العزائم .. فاذا حصل توحيد القصد وتوحيد المقصود لم يلتفت الى الاغيار .

فالنية – أخى السائر – النية .. النية بداية الطريق .. فطهر قلبك لتستعد للسفر.

الـومـضـة الثـالثــة : مقــومـات السـفـر

الـومـضـة الثـالثــة : مقــومـات السـفـر :

اذا كنت – أخى السالك – لازلت مصرا على الاتمام , فاعلم أن من مقومات السفر : المنهج , واعلم ان منهجنا معصوم , فلا مجال لنا للاجتهاد فيه , اذ اتفق العلماء على أن أعمال العبادات توقيفية , الظاهر منها والباطن ولذا فقد تكفل الشرع – كتابا وسنة – بوصف المنهج فى هذا الطريق وصفا لا يزيغ عنه الا هالك .

قال سبحانه : " إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى " ( الليل : 12 ) .واذا قال " علينا " فقد وجبت .. وقال سبحانه : " وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ " ( البلد : 10 ) , وقال - سبحانه – حاكيا عن موسى لما سئل عن ربه أنه عرّفه فقال : " رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى " ( طه : 50 ) , وقال سبحانه : " وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " ( التوبة : 115 ) , وقال سبحانه :" وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ " ( فاطر : 31 ) .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" تركتكم على المحجة البيضاء " وفى رواية " بيضاء نقية كالشمس لا يزيغ عنها الا هالك " . أخرجه أحمد : ( 4 / 126 ) , وأبو داود ( 4607 ) وقال الالبانى صحيح .

وقال صلى الله عليه وسلم :" تركت فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا بعدى أبدا كتاب الله وسنتى " أخرجه أحمد

( 3 / 59 ) والترمذى ( 3786 ) وقال : حسن غريب , وانظر الصحيحة (1761 ) .

وقال صلى الله عليه وسلم :" انه من يعش بعدى فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين عضوا عليها بالنواجذ واياكم ومحدثات الامور فان كل محدثة بدعة وكل ضلالة فى النار " . أخرجه :

أبو داود : ( 4607 ) بهذه النصوص واجماع الامة يتبين لنا يقينا لا شك فيه أن الدين كمل والطريق وصفت والمعالم نصبت والاصول وضعت .

فلا مجال لهرس الهرائسة , ولا لقرمطة القرامطة .. لا مجال لفزلكة المتفزلكين , ولا منظرة المغرورين المعجبين , لا مجال لتحديث الدين ولا للفهم المستنير – زعموا – ولا لبدع أهل الاهواء . الدين دين محمد وما كان عليه وأصحابه .

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" افترقت اليهود على احدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة , وستفترق أمتى على ثلاث وسبعين فرقة كلها فى النار الا واحدة , ما أنا عليه وأصحابى , وليكونن من أمتى أقوام تتجارى بهم تلك الاهواء كما تتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل الا دخله ". أخرجه أحمد ( 4 / 102 ) وأبو داود ( 4597 ) وصححه الالبانى فى الصخيحة ( 203 , 204 ) .

وان هذا الحديث وأمثاله ليزيد المؤمن ايمانا – والله – حين يرى تجارى الاهواء بالقوم .. فيا ايها السائر الكريم , المنهج معصوم لا مجال للاجتهاد فيه .. علمت هذه أولا فخذ الثانية .

اذا كان المنهج معصوما فلابد من المنهج , فالبداية – بداية السير – غير المنهجية تؤدى الى الفتور وتقود الى الانتكاس , ثم تكثر الشكوى ولا سميع ولا مجيب .

لابد من منهج حقيقى فى السير الى الله – سبحانه وتعالى – وفى أصول التعبد : الصلاة والزكاة والصيام والحج والعمرة ونوافلها .. أقصد ان تتخذ لنفسك منهجا : ماذا ستفعل , وكم ومتى وكيف؟

وتلتزم بهذا المنهج وتتابع عليه محاسبة شديدة .

مثلا ..كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى فى اليوم أربعين ركعة , سبعة عشرة فرائض واثنتى عشرة رواتب , واحدى عشرة تهجدا وكان اذا فاته شىء منها قضاه .. حتى ثبت أنه قضى سنة الظهر بعد العصر .. فان كنت تطيق هذا وتلتزمه فالتزم ولا تفرط واياك واسهال الاستسهال .

ومثلا اّخر .. كان الصحابة يحزبون القران , أى يختمون كل جمعة مرة ..يبدأون من عصر الجمعة ويختمون عصر الخميس بمعدل خمسة أجزاء يوميا .. أفتطيق هذا ؟ التزم ولا تفرط..واياك واسهال ولا استسهال. على هذين المثالين فقس فى أجنحة المنهج الثلاثة : طلب العلم , والعبادة , والدعوة الى الله .. اجعل لك منهجا واضحا .. كم ركعة ستصلى فى اليوم ؟ وكم يوما ستصوم فى الاسبوع ؟ وكذلك وردك فى الذكر .. وكذا العلم والدعوة .. حدد ماذا ستفعل لتحاسب على ما حددت ولا تترك الامور مبهمة .. ولا تنس : المنهج معصوم ..كن سلفيا على المنهج .ّ

الـومـضـة الـرابـعـة : وتزودوا

الـومـضـة الـرابـعـة : وتزودوا :

قال عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه :

" ان لكل سفر زادا لا محالة , فتزودوا من الدنيا للاخرة وكونوا كمن عاين ما أعد الله تعالى من ثوابه وعقابه , ترغبون وترهبون , ولا يطولن عليكم الامد فتقسو قلوبكم , وتنقادوا لعدوكم , فانه – والله – ما بسط أمل من لا يدرى لعله لا يصبح بعد مسائه ولا يمسى بعد صباحه وربما كانت بين ذلك خطفات المنايا فكم رأينا ورأيتم من كان بالدنيا مغترا , وانما تقر عين من وثق بالنجاة من عذاب الله , وانما يفرح من أمن من أهوال القيامة ".

وقال ابن الجوزى – رحمه الله - :

" عجبا لراحل مات وما تزود للرحلة , ولمسافر ماج وما جمع للسفر رحله , ولمنتقل الى قبره لم يتأهب للنقلة , ولمفرط فى أمره لم يستشر عقله ..اخوانى , مر الاقران على مدرجة وخيول الرحيل للباقين مسرجة , سار القوم الى القبور هملجة وباتت أرواح من الاشباح مستخرجة , الى كم هذا التسويف والمجمجة , بضائعكم كلها بهرجة وطريقكم صعبة عوسجة , وستعرفون الخبر وقت الحشرجة ".

اى - والله – صدقت يا ابن الجوزى .. وسبحان الملك ! كم فضل علم السلف على علم الخلف .

انظر الى كلام الرجل ترى رجلا خبر وسبر , فتكلم عن رؤية ونظر .

فانطلق فى رحلتك على بصيرة وكفاك مجمجة ولجلجة وعوججة .

واعلم – أخى الحبيب- أن من بركات السفر الى الله - تعالى – ما يتم به من اسباغ النعمة على العبد وما قد يفتح الله على عباده من أبواب وخزائن النعم , وما يتفضل به على عباده من الرحمة التى لا تخطر على بال بشر الا من عاش لذتها وارتشف من معينها .

سبيل التزود :

1- التوحيد والايمان :

اننى – أيها الحبيب – حين طالبتك بالتزود والتفت عنى بزعم أنك لا تملك فترك الشيطان بالفت فى عضدك بادعاء انك لله عاص ..لم اطالبك حين طالبتك من الزاد غير :التوحيد والايمان ..ثم يعطى الله البركة فيهما للمسافرين ويمحق البركة من الجهلة البطالين .

ان حلاوة الايمان اعظم زاد فى هذه الرحلة ولا يتذوق حلاوة السير ولذة هذا العيش الا من كان له نصيب بمعرفة الله وتوحيده وعاش حقائق الايمان وجرب هذه اللذه..

" فإن اللذة والفرحة والسرور وطيب الوقت و النعيم الذى لايمكن التعبير عنه انما هو فى معرفة الله – سبحانه وتعالى – وتوحيده والايمان به وانفتاح الحقائق الايمانيه والمعارف القرانيه ,كما قال بعض الشيوخ : لقد كنت فى حالة اقول فيها : ان كان اهل الجنة فى هذه الحال انهم لفى عيش طيب , وقال اخر : لتمر على القلب اوقات يرقص فيها طربا " ويقول الاخر مع فقره : لو علم الملوك وابناء الملوك ما نحن عليه لجالدونا بالسيوف .. اللهم لا تحرمنا لذة الايمان وطعم الايمان وحلاوة الايمان .. امين .

2- اليــقيـن :-

وانا انما اقصد – ايها الحبيب – انه فى البدايه يكفى من الزاد اليسير ثم ببركة الله – تعالى – يبارك فى القليل فيصير كثيرا .. فتزود لهذا السفر ابتداء بعدة هى اليقين ..

يقول ابن القيم – عليه رحمه الله - :

" فى الطريق اوديه وشعوب , وعقبات ووهود , وشوك وعوسج و وعليق وشبرق , ولصوص يقتطعون الطريق على السائرين .. ولا سيما اهل الليل المدلجين .. فاذا لم يكن معهم عدد الايمان ومصابيح اليقين تتقد بزيت الاخبات , والا تعلقت بهم تلك الموانع . وتشبثت بهم تلك القواطع , وحالة بينهم وبين السير " .

فلابد ابتداء من يقين ينير لك الطريق .. فاليقين نور.. هذه هى العدة الثانية من الزاد .. اليقين فى الله تعالى , واليقين فى رسول الله صلى الله عليه وسلم دليلا واليقين فى المنهج موصلا .

" ومتى وصل اليقين الى القلب امتلأ نورا واشراقا . وانتفى عنه كل ريب وسخط وهم وغم , فامتلأ محبتا لله وخوفا منه ورضا به وشكرا له وتوكلا عليه وانابه اليه . فهو مادة جميع المقامات والحامل لها " .

3-الـتقـوى :-

وتزود – ايها السائر – ايضا بتقوى الله فى السر والعلانية , فانها السبيل الاوحد للاخلاص .

وهى : طاعة الله بلزوم الامر والنهى , قال تعالى " وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ "

( البقرة : 197 ) .

تزودوا – ايها السائرون – كل ساعه , فان " الدنيا ليست بدار قرار , دار كتب الله عليها الفناء , وكتب على اهلها منها الظعن , فكم عامر موثق عما قليل يخرب , وكم مقيم مغتبط عما قليل يظعن فاحسنوا – رحمكم الله – منها الرحلة , فاحسن ما يحضر بكم من النقله , وتزودوا فان خير الزاد التقوى , انما الدنيا كفيء ظلال قلص فذهب , بينما ابن ادم فى الدنيا منافس .. ان الدنيا لا تسر بقدر ما تضر , انها تسر قليلا , وتجر حزنا طويلا " .. اخوتاه , هنيئا لمن تزود من الدنيا الى الاخرة ومن المحطة العاجلة الى المحطة الاجلة , من ضيق المعاش الى سعه المعاد ومن دار الرحيل الى دار البقاء .

4- الاخـلاص :-

اما الاخلاص فنبأه عجيب وخطره عظيم .. وهو زادك الرابع الذى لا يصلح هذا الطريق الا به وهو اساس التزود ومنتهاه .. وحصر الوصول فى المخلصين , قال الله تعالى :" قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ " ( ص : 82 - 83 ) .

ومعلوم ان الاغواء للغاوين الذين عرفوا الطريق فلم يسلكوها .. فالناس ثلاثة :

راشد و ضال وغاو , فالراشد من عرف الطريق وسلكها , والضال من لم يعرف الطريق فضل عنها والغاوى هو الذى عرف الطريق ولم يسلكها .. فالاخلاص زاد خطر فتزود ايها السائر .

5- الـخـبيئـة:-

ومن الزاد خبيئة .. خبيئة من عمل صالح لم يطلع عليها بشر , يصلح للتوسل به فى محطات الطريق ومطباته , كما توسل الذين أووا الى الغار – فانطبقت عليهم الصخرة – بخبايا اعمالهم الخالصة .

6- الـصبـر :-

واخر الزاد الصبر .. الصبر فى الطريق .. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .. " السفر قطعة من العذاب " متفق عليه : ( البخارى : 1804 , ومسلم : 1927 ) .. فاذا كان سفر الدنيا يسبب المشقه والتعب فكيف بسفر الاخرة الذى فيه اللاواء والنصب ! ! قال الله تعالى " لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ " ( البلد :4 ) .

قال الفخر الرازى : فى الكبد وجوه :

اما الاول : اى خلقناه اطوارا كلها شدة ومشقة , تارة فى بطن الام , ثم زمان الارضاع , ثم اذا بلغ ففى الكد فى تحصيل المعاش , ثم بعد ذلك الموت .

واما الثانى : وهو الكبد فى الدين , فقال الحسن : يكابد الشكر على السراء , والصبر على الضراء , ويكابد المحن فى اداء العبادات .

واما الثالث: وهو الاخرة فالموت هو مساله الملك وظلمة القبر ثم البعث والعرض على الله الى ان يستقر به القرار اما فى الجنة واما فى النار .

واما الرابع : وهو ان يكون اللفظ محمولا على الكل فهو الحق , وعندى فيه وجه اخر , وهو انه ليس فى هذه الدنيا لذة البتة , بل ذاك نظن انه لذة فهو خلاص عن الالم , فان ما يتخيل من اللذة عند الاكل فهو خلاص عند ألم الجوع , وما يتخيل من اللذات عند الملبس فهو خلاص عن ألم الحر والبرد , فليس للانسان الا ألم أو خلاص عن ألم وانتقال الى اخر , فهذا معنى قوله تعالى :" لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ " ( البلد : 4 ) .

فاعلم – ايها الحبيب – ان الله يختبر عبيده بالصبر , حتى تظهر جواهرهم , كما حصل للانبياء .

" وهذا نوح عليه السلام يضرب حتى يغشى عليه ثم بعد قليل ينجو فى السفينه ويهلك اعداؤه وهذا الخليل يلقى فى النار ثم بعد قليل يخرج الى السلامة وهذا الذبيح يضجع مستسلما ثم يسلم ويبقى المدح وهذا يعقوب عليه السلام يذهب بصره بالفراق ثم يعود بالوصول وهذا الكليم عليه السلام يشتغل بالرعى ثم يرقى الى التكليم " .

والصبر دواء وقد قال العلماء فى تعريفه : حبس للقلب عن التسخط , وحبس اللسان عن الشكوى فالطريق طويلة والماّسى على الطريق كثيرة والعلاج الصبر , فان المنبت لا ارضا قطع و ظهرا ابقى .. وما تباينت منازل اصحاب الهمم الا بتباينهم بطول الصبر حتى نهاية الطريق , فتزود ايها السائر .

وبعد : - فيا سعادة من استفاد من هذه البروق والانوار واستلهم من تلك الاشارات والتنبيهات , فعرف الطريق , وأبصر المسار وكان نعم المسافر فى قافلة المؤمنين .

اّفات على الطريق

آفات على الطريق

الـمقـدمـة :

أخى السائر الى الله , الطريق الى الله كالطريق الحسية تماما .. تجد فيها انفاقا مظلمة ومنحنيات خطيرة ومطبات مرهقة وكبارى علوية .. كما تجد احيانا على جنبتى الطريق حدائق فاتنة وسبلا متفرعة .. ومن لم ينتبه لمثل هذا ولم يقده للخروج منها خبير بصير ضل ولابد فى الطريق او انقطع . اخى الكربم , ان معرفة افات الطريق من المهمات التى تنبغى للسائر .

قال ابن القيم – رحمه الله تعالى :

" ولا يتم المقصود الا بالهداية الى الطريق , والهداية فيها , و اوقات السير من غيره , وزاد المسير , وافات الطريق , ولهذا قال ابن عباس فى قوله – تعالى - : " لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا " ( المائدة : 48 ) – قال : سبيلا وسنة . وهذا التفسير يحتاج الى تفسير , فالسبيل : الطريق , وهى المنهاج . والسنة : الشرعة , وهى تفاصيل الطريق , وحزوناته , وكيفية المسير فيه , واوقات المسير , وعلى هذا , فقوله : " سبيلا وسنة " يكون السبيل : المنهاج , والسنة : والشرعة , فالمقدم فى الاية للمؤخر فى التفسير , وفى لفظ اخر : سنة وسبيلا , فيكون المقدم للمقدم , والمؤخر للمؤخر " .

فجعل من الهداية فى الطريق التخلص من افات الطريق وحزوناته . .

ومعرفة تفاصيل تلك الحزونات ..

فانتبه معى لاخطر هذه الافات - عافانا الله واياك منها - .

الاّفة الاولـى : الـخـوف من وحـشـة الـتـفـرد

الاّفة الاولـى : الـخـوف من وحـشـة الـتـفـرد :

قال بعض السلف : عليك بطريق الهدى ولا يضرنك قلة السالكين , واياك وطرق الضلالة ولا يغرنك كثرة الهالكين . ومن سنن الله الربانية الكونية ان اهل الحق دائما قلة .. هذا اصل ينبغى الا يفوتك , قال الله تعالى :

" إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ " ( ص: 24 ) .

وقال سبحانه وتعالى : " وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ " ( سبا : 13 ) .

وعلى العكس : تجد وصف الكثرة دوما مع اهل الباطل , قال الله تعالى "وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ " ( الاعراف : 102 ) , وقال سبحانه " وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ " ( يوسف : 103 ) وقال سبحانه وتعالى " وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ " ( الانعام : 116 ) وقال سبحانه وتعالى " وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ " ( المائدة : 49 ) . فاذا تبين لك ذلك فاياك ان تستوحش من قلة السائرين معك على الطريق , فان اكثر السائرين نكصوا على اعقابهم حسن رأوا الجمهرة الغالبة على عكس طريق السير او على جنبات هذا الصراط .. فاثبت ولا تحزن .

الاّفـة الـثانيـة : فـضـول الـكـلام والـخلطـة

الاّفـة الـثانيـة : فـضـول الـكـلام والـخلطـة :

وهذه اخطر تلك الافات .. فضول الكلام والخلطة اكثر من الحاجة .. ان يصير لقاء الناس شهوة وعادة ينقطع بها عن المقصود , وقد قيل : اذا رايت نفسك تأنس بالخلق وتستوحش من الخلوة , فاعلم انك لا تصلح لله .. وان من علامات الافلاس الاستئناس بالناس .

وللعزلة – ايها الاخ الكريم – مزايا , فان الاجتماع بالناس لا يخلو من افات اهونها ان تتزين للخلق وقد ذكر عن بعض اهل الحديث انه قال : لان القى الشيطان احب ألىّ من ان القى حذيفة المرعشى اخشى ان اتزين له فأسقط من عين الله .

الاّفـة الـثـالـثـة : الـنـفـق الـمـظـلـم

الاّفـة الـثـالـثـة : الـنـفـق الـمـظـلـم :

قد يصادف السائر فى طريقه نفقا مظلما لا يستطيع أن يميز فيه طريقه من الطرق الاخرى ما لم تكن أضواء اليقين كاشفة , ومسالك الطريق معروفة كيلا يضيع السائر مساره , أو يتناثر أشلاء تحت وقع الكارثة أو يسرف فى التفاؤل عندما يبصر نورا فى اخر النفق قد يكون وهم سراب .

ان مثل هذا النفق كفتن الخلاف بين المسلمين , اذ بينما يسير السائر فى ركبه الميمون والطريق سالكة وهو ينتظر الوصول الى المحطة التالية فجأة يظلم الطريق تماما كالذى يدخل النفق يفاجأ بالظلام الدامس بعد النور المبهر . اصطدم بعض المسلمين فيما بينهم وبغى بعضهم على بعض فالتفت الظلمات , وانطفأت الانوار , ويضطر السائر المسكين الى ركوب الظلمة ودخول النفق فاذا لم تكن البصائر على يقين والابصار على وضوح , فالكارثة ستقع لا محالة , ويكون التّيه الذى لا يدرى فيه ما المخرج .

ولذا فالانوار الكاشفة فى هذا النفق تتمثل فى الاستمساك بوضوح المنهج : الكتاب والسنة بفهم سلف الامة , قال الله نعالى : "وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ " ( التوبة : 100 ) .

لابد أن تنتبه الى " وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ " , فالاحسان : الرؤية , ليس مجرد الاتباع وانما احسان الاتباع .. والاحسان ان ترى , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الاحسان أن تعبد الله كأنك تراه " متفق عليه

( البخارى : 50 , ومسلم : 9 ) .. هذا اول مخرج من النفق .

أما النور الثانى للمخرج من هذا النفق المظلم فهو الا تشغل نفسك بالمناقشات والجدال والردود وانما " بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ " ( القيامة : 14 ) .

اعرف طريقك وامض , فان كان ولابد فألق النصيحة وانطلق .. فأخسر الناس صفقة من انشغل بالناس عن نفسه وأخسر منه صفقة من انشغل بنفسه عن الله .. فاعرف كواشف الانفاق لتخرج من هذا الظلام بسلام .

الاّفـة الـرابـعـة : جـسـر عـلـى الـطـريـق

الاّفـة الـرابـعـة : جـسـر عـلـى الـطـريـق :

وفى الطريق – أيها السائر الحبيب – جسر لابد من تجاوزه وعبوره اذ إن هذا شأن السالكين الى الله – تعالى – فى كل زمان ومكان بل وانه من شأن الانبياء والمرسلين , ذالكم الجسر هو الابتلاء والمحن التى تصيب السائر .

فلابد فى هذا الطريق أن يصقله الابتلاء وأن تظهر معدنه المحنة , قال لله – تعالى – " أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ "

( العنكبوت : 2- 3 ) .. وكان اول تبشير الرسول صلى الله عليه وسلم بالنبوة انذاره بالاخراج .. قال ورقة : ما أتى رجل بمثل ما أوتيت به الا عودى .. وقال الراهب للغلام : أنت اليوم أفضل منى وانك ستبتلى .. وقيل للشافعى : أحب اليك أن يمكن الرجل أو يبتلى , قال لا يمكّن حتى يبتلى .

فالجسر الى التمكين فى هذا الطريق هو الابتلاء .. ولابد من الصبر فيه الاحتساب والرضا عن الله تعالى وبه , فانه جسر الوصول .. وقد حفت الجنة بالمكاره .. يقول ابن القيم :

" وان تأملت حكمته – سبحانه وتعالى – فيما ابتلى به عباده وصفوته بما ساقهم به الى أجلّ الغايات واكمل النهايات التى لم يكونوا يعبرون اليها الا على جسر من الابتلاء والامتحان , وكان ذلك الجسر لكماله كالجسر الذى لا سبيل الى عبورهم الى الجنة الا عليه , وكان ذلك الابتلاء والامتحان عين المحنة فى حقهم والكرامة , فصورته صورة ابتلاء وامتحان , وباطنه فيه الرحمة والنعمة , فكم لله من نعمة جسيمة ومنة عظيمة تجنى من قطوف الابتلاء والامتحان ".

وللمحن فى هذا الطريق خصائص ومميزات , فكما أن المسلم يجب ألا ينفك عن عبادة ما .. " قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ " ( الانعام : 162 ) فلابد أن يكون شعوره بالابتلاء هكذا : أنه فى عبادة يدوم معه فى كل حركاته وسكناته حتى يستصحب نية العبد على البلاء واحتساب الاجر عند السميع البصير " الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ " ( الشعراء : 218 – 219 ) .

وهذا الجسر خطير .. جسر الابتلاء .. فان كثيرا من السالكين ضعفت قوته عن عبوره فرجع القهقرى وترك الطريق .

ثم يطالعك جسر اخر على الطريق .. وهو النفس – نعوذ بالله تعالى – من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا .

يقول ابن القيم فى المدارج:

" فالنفس جبل عظيم شاق فى طريق السير الى الله – عز وجل – وكل سائر لا طريق له الا على ذلك الجبل , فلابد أن ينتهى اليه , ولكن منهم من هو شاق عليه , ومنهم من هو سهل عليه , وانه ليسير على من يسره الله عليه .

وفى ذلك الجبل أودية وشعوب وعقبات ووهود وشوك وعوسج وعلّيق وشبرق , ولصوص يقتطعون الطريق على السائرين ولا سيما اهل الليل المدلجين , فاذا لم يكن معهم عدد الايمان ومصابيح اليقين تتقد بزيت الاخبات والا تعلقت بهم تلك الموانع , وتشبثت بهم تلك القواطع وحالت بينهم وبين السير .

فان أكثر السائرين فيه رجعوا على اعقابهم لما عجزوا عن قطعه واقتحام عقباته , والشيطان على قلة ذلك الجبل يحذر الناس من صعوده وارتفاعه ويخوفهم منه . فيتفق مشقة الصعود وقعود ذلك المخوف على قلته وضعف عزيمة السائر ونيته فيتولد من ذلك : الانقطاع والرجوع والمعصوم من عصمه الله . وكلما رقى السائر فى ذلك الجبل اشتد به صياح القاطع وتحذيره وتخويفه , فاذا قطعه وبلغ قلته انقلبت تلك المخاوف كلهن أمانا , وحينئذ يسهل السير , وتزول عنه عوارض الطريق ومشقة عقباتها ويرى طريقا واسعا اّمنا يفضى به الى المنازل والمناهل , وعليه الاعلام وفيه الاقامات , قد أعدت لركب الرحمن .

فبين العبد وبين السعادة والفلاح : قوة عزيمة وصبر ساعة وشجاعة نفس وثبات قلب , والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم " .

فالنفس أمارة بالسوء , داعية الى المهالك طامحة الى الشهوات ولذا فهى أيضا جسر لابد من عبوره .. أتى رجل الى أبى على الدقاق فقال : قطعت اليك مسافة , فقال : ليس هذا الامر بقطع المسافات , فارق نفسك بخطوة تصل الى المطلوب , فلابد من عبور جسر النفس , شهواتها , ملذاتها , أهوائها , اّمالها .. لابد أن تعبر مرحلة " نفسى وما تشتهى " لتصل عبر جسر نفسك الى ما يرضى ربك .

ويزيدك بصيرة فى الامر قول ابن القيم – رحمه الله – فى طريق الهجرتين :

" وكلما سكنت نفسه من كلال السير ومواصلة الشد والرحيل , وعدها قرب التلاقى وبرد العيش عند الوصول , فيحدث لها ذلك نشاطا وفرحا وهمة فهو يقول : يا نفس أبشرى فقد قرب المنزل ودنا التلاقى فلا تنقطعى فى الطريق دون الوصول فيحال بينك وبين منازل الاحبة , فان صبرت وواصلت السير وصلت حميدة مسرورة جزلة وتلقتك الاحبة بأنواع التحف والكرامات , وليس بينك وبين ذلك الا صبر ساعة , فان الدنيا كلها لساعة من ساعات الاخرة وعمرك درجة من درج تلك الساعة , فالله الله لا تنقطعى فى المفازة , فهو – والله – الهلاك والعطب لو كنت تعلمين .

فإن استصعبت عليه فليذكرها ما أمامها من أحبابها , وما لديهم من الاكرام والانعام , وما خلفها من أعدائها وما لديهم من الاهانة والعذاب وأنواع البلاء , فان رجعت فإلى أعدائها رجوعها , وان تقدمت فإلى أحبابها مصيرها , وان وقفت فى طريقها أدركها أعداؤها . فانهم وراءها فى الطلب . ولابد لها من قسم من هذه الاقسام الثلاثة فلتختر أيها شاءت وليجعل حديث الاحبة وشأنهم حاديها وسائقها . ونور معرفتهم وارشادهم هاديا ودليلها , وصدق ودادهم وحبهم غذاءها وشرابها ودواءها , ولا يوحشه انفراده فى طريق سفره . ولا يغتر بكثرة المنقطعين , فألم انقطاعه وبعاده واصل اليه دونهم وحظه من القرب والكرامة مختص به دونهم فما معنى الاشتغال بهم والانقطاع معهم ؟ وليعلم أن هذه الوحشة لا تدوم بل هى من عوارض الطريق , فسوف تبدو له الخيام , وسوف يخرج اليه المتلقون يهنئونه بالسلامة والوصول اليهم , فيا قرة عينه اذ ذاك , ويا فرحته اذ يقول "يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ " ( يس : 26- 27 ) .

ولا يستوحش مما يجده من كثافة الطبع وذوب النفس وبطء سيرها , فكلما أدمن على السير وواظب عليه غدوا ورواحا وسحرا ، قرب من المنزل وتلطفت تلك الكثافة وذابت تلك الخبائث والادران , فظهرت عليه همة المسافرين وسيماهم , فتبدلت وحشته أنسا وكثافته لطافة ودرنه طهارة " .

هذا هو جسر النفس .. البلاء الاكبر .. والعائق الاشد .. يشبه الجسر المعلق الذى لا جوانب له يستند عليها السائر .. فهو خطر جدا لابد عند المرور عليه من التركيز والهدوء.. والتيقظ والانتباه لكل حركة يد ونقلة رجل .. والا .. فالسقوط .

نعم : انه جسر واهن.. من كثرة الذنوب والمعاصى .. ولذا كان على السائر أن يأخذ حذره .. ويتدرب المرة بعد المرة .. ويحاول ويعيد , ثم يحاول ويعيد حتى ينجح فى ترويض نفسه على عبور تلك الجسور .

وبعد – أيها السائر الحبيب - : فيا سعادة من جاهد تلك الافات .. نعم : انها أشواك , لكنها أشواق يستشعر فيها السائر لذة الألم لله .. واحتساب الاجر من الله .. فدس الشوك وسر الى الله .

فقد اقتضت سنة الخالق أن العسل لا يحصل عليه الا بلسع النحل .. فما كان للمسافر الى الله أن يحصل على ما يفيده فى طريق وصوله الا بشىء من المكابدة والعسر .

يقول ابن القيم – عليه رحمة الله - :

" وما أقدم أحد على تحمل مشقة عاجلة الا لثمرة مؤجلة , فالنفس موكلة بحب العاجل , وانما خاصة العقل : تلمح العواقب , ومطالعة الغايات , وأجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لا يدرك بالنعيم , وان من رافق الراحة حصل على المشقة وقت الراحة فى دار الراحة , فان على قدر التعب تكون الراحة " .

استراحة المسافر

إستراحة المسافر

الـمـقـدمـة :

وبعد أن قطعنا شوطا فى التعرف على معالم الطريق وعقباته .. وبعد أن تعلمنا كيف يكون العبور على الجسور , اّن لنا أن نأخذ قسطا من الراحة .. فالمسافر الى الله تعالى لابد له من الاستجمام ليستعين به على اتمام المسير , واكمال الشوط لتتمالنفرة ويتنشط البدن ويتروح القلب .. فيكون ذلك تقوية للانطلاق فى قطع مرحلة تالية .

اذا فلابد للمسافر من وقفات على الطريق .. وقفات ترويحية على جنبات الطريق , يستروح فيها الى بعض المباحات من لهو ومزاح وانبساط , وما يتبع ذلك من لين القول والتبسم وانشراح الصدر , وكل ما يؤدى من مباح الى تطييب النفس ومؤانستها فهو سنة مستحبة .

يقول ابن القيم – عليه رحمة الله – فى " زاد المعاد " :

" وكانت سيرته صلى الله عليه وسلم مع أزواجه حسن المعاشرة , وحسن الخلق , وكان يسرب الى عائشة بنات الانصار يلعبن معها . وكان اذا هويت شيئا لا محذور فيه تابعها عليه , وكانت اذا شربت من الاناء أخذه فوضع فمه فى موضع فمها وشرب , وكان اذا تعرقت عرقا – وهو العظم الذى عليه لحم – أخذه فوضع فمه موضع فمها , وكان يتكىء فى حجرها ويقرأ القراّن ورأسه فى حجرها , وربما كانت حائضا , وكان يأمرها وهى حائض فتتزر ثم يباشرها , وكان يقبلها وهو صائم , وكان من لطفه وحسن خلقه مع أهله أنه كان يمكنها من اللعب , ويريها الحبشة وهم يلعبون فى مسجده وهى متكئة على منكبيه تنظر , وسابقها فى السفر على الاقدام مرتين , وتدافعا فى خروجهما من المنزل مرة ".

فقد يحتاج الامر الى ملاعبة الزوجة , او ارضائها بنزهة لا تخلو من ذكر وتأمل فى بديع صنع الله وملاعبة للأولاد لا تخلو من تعبد فى التربية .. وسمر سريع لطيف مع صحبة صالحة .. بذكر جميل الشعر ونوادر الطرائف والحكايات , بعيدا عن الماجريات .

قال ابو الدرداء رضى الله عنه وروى عن على رضى الله عنه أيضا : " روحوا القلوب ساعة بعد ساعة , فانها تمل كما تمل الابدان " .

هذه الاستراحة يجرى فيها أيضا شىء من التلطف بالنفس وسياستها , لكى تنقاد بعد ذلك أسهل وأيسر .. فالاستلقاء مثلا مع اعمال الفكر والنظر : نوع من انواع الترويح المأجور عليه ان أحسن المسافر نيته .. قال معاذ بن جبل رضى الله عنه : انى لاحتسب نومتى , كما احتسب قومتى .

ولكن الشأن فى المزاح فيمن يحسنه ويضعه مواضعه .. فيضبطه بضوابطه الشرعية .. فما رافقه أو نتج عنه استهزاء أو سخرية أو استخفاف أو تهكم أو كذب .. فهو المنهى عنه شرعا .. وما كان عن تعجب أو اعجاب أو ملاحظة وتحبب , أو ادخال للسرور على قلب اخر .. فهو المباح شرعا .

ولعل القاعدة الجامعة , ما حددها الامام النووى بقوله :

" المزاح المنهى عنه هو الذى فيه افراط ويداوم عليه , فانه يورث الضحك وقسوة القلب , ويشغل عن ذكر الله – تعالى - , والفكر فى مهمات الدين , ويؤول فى كثير من الاوقات الى الايذاء ويورث الاحقاد , ويسقط المهابة والوقار , فأما ما سلم من هذه الامور فهو المباح الذى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله , فانه صلى الله عليه وسلم انما كان يفعله فى نادر من الاحوال لمصلحة وتطييب نفس المخاطب ومؤانسته , وهذا لا منع منه قطعا , بل هو سنة مستحبة اذا كان بهذه الصفة .. فاعتمد ما نلقاه عن العلماء وحققناه , فانه مما يعظم الاحتياج اليه , وبالله التوفيق " .

وانظر ايضا الى الميزان الدقيق .. الذى وضعه سعيد بن العاص حين قال لابنه :

" اقتصد فى مزاحك , فان الافراط فيه يذهب البهاء ويجرىء عليك السفهاء , وان التقصير فيه يفض عنك المؤانسين ويوحش منك المصاحبين " .

" وقد سئل ابن عمر – رضى الله عنهما - : هل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحكون ؟ قال نعم , والايمان فى قلوبهم مثل الجبل .

وقال بلال بن سعد : أدركتهم يشتدون بين الاغراض ويضحك بعضهم الى بعض فاذا كان الليل كانوا رهبانا ".

وفى استراحة المسافر يمكن أن نجد بعض الالعاب والمسابقات , كما نجد بعض المسامرات : كالحكمة والطرفة والفكاهة والمثل والشعر والقصة .. وغير ذلك .. وهاك طرفا من تلك الترويحات :

ترويحة على الطريق : علوم ليست فى الكتب

ترويحة على الطريق : علوم ليست فى الكتب :

من العلوم علوم لا تكون فى الكتب :

منها ما لا يتعلم الا من الفقر .

ومنها ما لايتعلم الا من البلاء .

ومنها ما لا يتعلم الا من المرض .

ومنها ما لا يتعلم الا من القهر والاذلال .

ومنها ما لايتعلم الا من الهموم والمشاكل .

ترويحة على الطريق : اختبارات

ترويحة على الطريق : اختبارات :

قال بعضهم : يمتحن الذهب بالنار .

والمرأة بالذهب .

والرجل بالمرأة .

ترويحة على الطريق : المداراة .. والستر

ترويحة على الطريق : المدارأة .. والستر :

قال الخطابى :

مـا دمـت حيـا فـدار النــاس كـلــهـــــــــم فانما أنت فى دار المداراة

من يدرى دارى ومن لـم يدر سـوف يـرى عما قليل نديما للندامات

وقال اّخر :

لا تلتمس من مساوى الناس ما ستروا فيكشف الله سترا من مساويكا

واذكـر مـحاسـن ما فـيهم اذا ذكــروا ولا تـعـب أحــدا منهم بما فيـكــا

واسـتغـن بـاللـه عـن كـل فـان بــه غنى لـكـل وثـق بـاللـه يـكـفيكــا

ترويحة على الطريق : البلاء موكل بالمنطق

ترويحة على الطريق : البلاء موكل بالمنطق :

اجتمع الكسائى واليزيدى عند الرشيد فحضرت صلاة المغرب فقدموا الكسائى"أحد القراء السبعة المشهورين" فصلى بهم فارتج عليه فى قراءة " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ " ( الكافرون : 1 ) - أخطأ أو نسى فى الحفظ – فلما سلم , قال اليزيدى : قارىء وامام أهل الكوفة يخطأ وينسى ويرتج عليه فى سورة الكافرون ؟؟؟ !! فحضرت صلاة العشاء , فتقدم اليزيدى فصلى بهم فارتج عليه وأخطأ ونسى فى سورة " الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ "

( الفاتحة : 2 ) فلما سلم قال الكسائى له:

احفظ لسانك لا تقول فتبتلى إن الـبـلاء مـوكـل بالمنطـق

ترويحة على الطريق : الـتـملـق

ترويحة على الطريق : الـتـملـق :

قال ذو النون المصرى : اوحى الله الى يعقوب عليه السلام : يا يعقوب تملق الى , قال يا رب كيف أتملق لك ؟

قال : قل : يا قديم الاحسان

يا دائم المعروف

يا كـثيـر الـخيـر

فقالها .. فأوحى الله اليه : وعزتى وجلالى , لو كان يوسف ميتا لأحييته لك .

ترويحة على الطريق : " ولتكون من المحسنين "

ترويحة على الطريق : " ولتكون من المحسنين " :

قال يحيى بن معاذ : حظ المؤمن منك ثلاثة خصال لتكون من المحسنين :

أحدها : ان لم تنفعه فلا تضره

والثانى : ان لم تسره فلا تغمه

والثالث : ان لم تمدحه فلا تذمه

ترويحة على الطريق : ويحك .. ويحك

ترويحة على الطريق : ويحك .. ويحك :

ويحك : رميت يوسف قلبك فى جب الهوى

وجـئـت علـى قميـص الامــانــة بــدم كــذب

ويحك : كلما أوغلت فى الهوى زاذ التعرقل

ويحك : ان قعر جهنم لبعيد , ولـكـن يـظهـر

ان هـمتـك أسفـل منـه

ويحك : قنديل الفكر فى محراب قلبك مظلم

فـاطـلـب لـه زيـت خـلـوة وفــتـيـلـة عــزم .

ترويحة على الطريق : من أقوال ابن تيميّة

ترويحة على الطريق : من أقوال ابن تيميّة :

والفقر لى وصف ذات لازم أبدا كما الغنى أبدا وصف له ذاتى

ترويحة على الطريق : مجلسنا

ترويحة على الطريق : مجلسنا :

مجلسنا بـحـر يـرده الـفيـل والـعصفــور

نحن فى روضة طعامنا فيها الخشوع

وشـــرابـــنــا فـيــهـــا الـــدمــــــــوع

ونـقـلـنـا هـذا الـكـلام الـــمـطـبـــــوع

نداوى أمراضا أعجزت بختيشتــــوع

نـرقى الهاوى ونداوى المـلســــــوع

فــليته كان كل يوم لا كل أسبـــــــوع

ترويحة على الطريق : " ألكم الذكر وله الأنثى تلك اذا ... "

ترويحة على الطريق : " ألكم الذكر وله الأنثى تلك اذا ... "

الخوف ذكر والرجاء أنثى

ومخنث البطالة الى الاناث أميل

من زرع بذر العمل فى أرجاء الرجاء نبت فيها الخوف من " ألا تقبل "

الجاهل ينام على فراش الامن فيثقل نومه فتكثر أحلام أمانيه ,

والعالم يضجع على مهاد الخوف وحارس اليقظة يوقظه .

ترويحة على الطريق : أدمى دينه بأظفار شكواه

ترويحة على الطريق : أدمى دينه بأظفار شكواه :

جاء رجل الى فضيل يشكو الحاجة , فقال له فضيل : يا هذا , أمدبرا غير الله تريد ؟!! .

ومرض ابن أدهم فجعل عند رأسه ما يأكله الاصحاء , لئلا يتشبه بالشاكين .. هذه – والله – بهرجة أصح من نقدك .

ترويحة على الطريق : لا تنازعوا أهل الدنيا

ترويحة على الطريق : لا تنازعوا أهل الدنيا

قال عيسى بن مريم عليه السلام :

لا تنازعوا أهل الدنيا فى دنياهم , فينازعوكم فى دينكم , فلا دنياهم أصبتم , ولا دينكم أبقيتم .

ترويحة على الطريق : ما أسوأ السـوء

ترويحة على الطريق : ما أسوأ السوء

السلطان السوء : يخيف البريء ويصطنع الدنيء .

والبلد السوء : يجمع السفل ويورث العلل .

والولد السوء : يشين السلف ويهدم الشرف .

والجار السوء : يفشى السر ويهتك الستر .

ترويحة على الطريق : سيـاط الـمـواعـظ

ترويحة على الطريق : سيـاط الـمـواعـظ

* البلايا ضيوف فأحسن قراها لترحل عنك الى بلد الجزاء مادحة لا قادحة .

* فى كل يوم ترهن قلبك على ثمن شهوة , فيستعمله المرتهن .. فقد أخلق .

* أتبكى على معاصيك , والاصرار يضحك !! .

* القواطع محن يتبن بها الصادق من الكاذب , فاذا خضتها انقلبت أعوانا توصلك الى المقصود ..

فهى اذا أغرب الأعوان .

ترويحة على الطريق : عجبت لهذا الذى

ترويحة على الطريق : عجبت لهذا الذى

قال بعضهم : عجبت لمن يبكى على موت غيره دموعا ولا يبكى على موت قلبه دما , وأعجب من ذا أن يرى عيب غيره عظيما وفى عينيه عن عيبه عمى .

ترويحة على الطريق : اطلبونى فى المقابر

ترويحة على الطريق : اطلبونى فى المقابر

قال بعض السلف : اذا سمعتم : حى على الصلاة ولم ترونى فى الصف فاطلبونى فى المقابر .

ترويحة على الطريق : أصناف الناس

ترويحة على الطريق : أصناف الناس

أضعف الناس من ضعف عن كتمان سره

وأقواهم من قوى على غضبه

وأصبرهم من ستر فاقته

وأغناهم من قنع بما تيسر له

ترويحة على الطريق : من شعر العصر الذهبى

ترويحة على الطريق : من شعر العصر الذهبى

قال أبو الطيب المتنبى :

اذا غامرت فى شرف مــروم فـلا تقنـع بمـا دون الـنجـــوم

فطعم الموت فى أمـر حقيـر كطعم الموت فى أمر عظيم

وقال :

وكم من عائب قولا صحيحا واّفتـه من الـفهـم الـسقـيـم

وقال أيضا :

ومن البلية عذل من لا يرعوى عن جهله وخطاب من لا يفهم

وقال أبو العتاهية شاعر الزهد :

أرى الدنيا لمن هى فى يديه عـذابـا كـلمـا كـثـرت لديـه

تهين المكرمين لـهـا بصـغــــــر وتكرم كل مـن هـانـت عليـه

اذا استغنيت عن شىء فدعه وخذ ما أنــت مـحتـاج الـيـــه

ترويحة على الطريق : علامات السعادة

ترويحة على الطريق : علامات السعادة

قال الفضيل بن عياض : علامات السعادة خمس :

الـيقين فــى الـقـلــب

والـورع فـى الـديـن

والزهد فــى الــدنيـا

والحياء فى العينين

والخشية فى البـدن

ترويحة على الطريق : الأخـطـر

ترويحة على الطريق : الأخـطـر

أخطر شىء فى عصر التكنولوجيا

ليس فى ايجاد اّلات تفكر كالانسان

بل فى ايجاد ناس يفكرون كالاّلات

ترويحة على الطريق : قصة الحية والسكران

ترويحة على الطريق : قصة الحية والسكران

عن يوسف بن الحسين يقول : كنت مع ذى النون المصرى على شاطىء غدير فنظرت الى عقرب أعظم ما يكون على شط الغدير واقفة فاذا بضفدع قد خرجت من الغدير فركبتها العقرب فجعلت الضفدع تسبح حتى عبرت فقال ذو النون : ان لهذه العقرب لشأنا فامض بنا , فجعلنا نقفو أثرها فاذا رجل نائم سكران واذا حية قد جاءت فصعدت من ناحية سرته الى صدره وهى تطلب أذنه فاستحكمت العقرب من الحية فضربتها فانقلبت وانفسخت ورجعت العقرب الى الغدير فجاءت الضفدع فركبتها فعبرت فحرك ذو النون الرجل النائم , ففتح عينيه فقال : يا فتى انظر مما نجاك الله ! هذه العقرب جاءت فقتلت هذه الحية التى أرادتك , ثم أنشأ ذو النون يقول :

يا غافلا والجليل يحرسـه من كل سوء يدب فى الظلم

كيف تنام العيون عن ملك تأتيـه منـه فـوائــد الـنـعـــم

فنهض الشاب وقال : الهى , هذا فعلك بمن عصاك ! فكيف رفقك بمن يطيعك ؟! ثم ولى , فقلت :

الى أين ؟ قال : الى طاعة الله .

ترويحة على الطريق : ديك سهل بن هارون

ترويحة على الطريق : ديك سهل بن هارون

أورد الجاحظ " زعيم البيان العربى " – كما يقول عنه الشيخ عبد السلام هارون – هذا الموقف الساخر فى كتابه

" الحيوان " فقال :

" قال دعبل الشاعر : أقمنا عند سهل بن هارون فلم نبرح حتى كدنا نموت من الجوع , فلما اضطررناه قال : يا غلام , ويلك غدنا ! قال : فأتينا بقصعة فيها مرق فيه لحم ديك عاس هرم ليس قبلها ولا بعدها لا تحز فيه السكين , ولا تؤثر فيه الاضراس , فاطلع فى القصعة وقلب بصره فيها ثم أخذ قطعة خبز يابس فقلب جميع ما فى القصعة , حتى فقد الرأس من الديك وحده, فبقى مطرقا ساعة ثم رفع رأسه الى الغلام فقال : أين الرأس ؟ فقال رميت به , قال ولم رميت به ؟ قال : لم أظنك تأكله ! قال : ولأى شىء ظننت أنى لا اّكله ؟ فوالله انى لأمقت من يرمى برجليه فكيف من يرمى برأسه ؟! ثم قال : لو لم أكره ما صنعت الا للطّيرة والفأل لكرهته ! .. الرأس رئيس وفيه الحواس , ومنه يصدح الديك , ولولا صوته ما أريد , وفيه فرقه الذى يتبرك به , وعينه التى يضرب بها المثل , يقال : " شراب كعين الديك " ودماغه عجيب لوجع الكلية ولم أر عظما قط أهش تحت الاسنان من عظم رأسه , فهلا اذ ظننت أنى لا اّكله , ظننت أن العيال يأكلونه ؟! وان كان بلغ من نبلك أنك لا تأكله , فان عندنا من يأكله , أو ما علمت أنه خير من طرف الجناح , ومن الساق والعنق ؟ انظر أين هو ؟ قال : والله ما أدرى أين رميت به ! قال : ولكنى أدرى , انك رميت به فى بطنك , والله حسيبك ! " .

تـعـقـيـب

تـعـقـيـب :

وبعد هذه الاستراحة التى كان لابد للمسافر منها ليدفع عن نفسه السأم والملل والفتور , ويستنهض بها الهمة فى القيام بواجب السير الى الله .. وبعد هذه الترويحات الكثيرة .. اّن له التأهب للسير مرة أخرى والاستعداد للانطلاق فى طريق الوصول الى الله حاملا زاده ومتاعه ومتوكلا على الله ومستعينا به وحده فى قطع المراحل التالية متذكرا قول ربه – سبحانه وتعالى – " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وان الله لمع المحسنين " (العنكبوت : 69 ) .

كـلمـة أخيـرة

كـلمـة أخيـرة :

اذا تبين لك – أيها الاخ الكريم الحبيب – ما ذكرت .. وأردت ان تنطلق فى هذا الكتاب " اصول الوصول الى الله تعالى " , فاعلم – اخيرا – انها سفرة .

سفر حقيقى .. ليست رمزية بعيدة .. انما هى حقيقة الحياة ونقلتها .. والانسان حتى فى حياته الاعتيادية ما هو الا بين سفر وسفر طال او قصر , لينبهنا الله بالصغير على الكبير , وبالتافه على المهم وبالطارىء على المستديم .. وقد كان صلى الله عليه وسلم يذكر انه فى الدنيا كراكب استظل بظل شجرة ثم راح وتركها .

والمؤمن مع سفرته الطويلة , فدونها اسفار .. فبعد ان قطع سفرته من الجاهلية الى الاسلام , ثم تسامى بنفسه من المعاصى الى الطاعات شمر عن ساعد الجد حتى سافر من السفوح الهابطة الى القمم السامقة وكان من السابقين بالخيرات .. وهو من هؤلاء الذين ندعوهم الى هذه السفرة .

انه السفر الاهم الموصل الى طريق النجاة الى رضا الله .

" واعلم ايضا ان السائر الى الله لا ينقطع سيره اليه ما دام فى قيد الحياة , ولا يصل العبد ما كان حيا الى الله وصولا يستغنى به عن السير اليه البتة وهذا عين المحال , بل يشتد سيره الى الله كلما زادت ملاحظته لتوحيده , واسمائه وصفاته . ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق اجتهادا وقياما بالاعمال , ومحافظة عليها الى ان توفاه الله , وهو اعظم ما كان اجتهادا وقياما بوظائف العبودية , فلو أتى العبد بأعمال الثقلين جميعها لم تفارقه حقيقة السير الى الله , وكان بعد فى طريق الطلب والارادة " .

ولا يزال الرسول صلى الله عليه وسلم يوصى بسؤال الله – تعالى - الهدايا .. وما الهدايا الا لمن وجد الطريق بعد الضلال ..

يقول ابن القيم :

" حيث أمره أن يذكر اذا سأل الله الهدى . الى طريق رضاه وجنته , كأنه مسافر , وقد ضل عن الطريق . ولا يدرى أين يتوجه , فطلع له رجل خبير بالطريق عالم بها , فسأله أن يدله على الطريق , فهكذا شأن طريق الاخرة , تمثيلا لها بالطريق المحسوس المسافر , وحاجة المسافر الى الله – سبحانه وتعالى – الى أن يهديه تلك الطريق اعظم من حاجة المسافر الى بلد الى من يدله على الطريق الموصل لها " .

فلابد لك – أيها السائر الحبيب – فى هذا الطريق من صدق اللجأ الى الله .. ان يهديك ويأخذ بيديك فى طريق الوصول اليه .. فدوما تدعو وتتضرع وتفتقر اليه – سبحانه – تمام الافتقار فى كل خطوة وفى كل مرحلة تقطعها على هذه الطريق .

" فالفقر الحقيقى : دوام الافتقار الى الله فى كل حال , وأن يشهد العبد – فى كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة – فاقة تامة الى الله - تعالى – من كل وجه "

فاللهم .. انا نفتقر اليك ونستهديك ,فاهدنا لصالح الاعمال والاخلاق, فانه لا يهدى لصالحها ولا يصرف سيئها الا انت .. اللهم اهدنى صراط الوصول اليك .. يا منجى الهلكى ويا منقذ الغرقى .. يا عظيم الاحسان .

الهى .. ان كانت ذنوبى قد اخافتنى , فان محبتى لك قد أجارتنى , فتولّ من أمرى ما انت اهله , وعد بفضلك على من غره جهله .

الهى .. لو أردت اهانتى لما هديتنى , ولو أردت فضيحتى لم تسترنى , فمتعنى بما له هديتنى , وأدم لى ما به سترتنى .

الهى .. وسيدى ومولاى .. اعقد قلبى بحبل محبتك , واستدرجنى الى اقصى مرادك , واسلك بى مسلك أصفيائك , واكشف لى عن مكنون علمك , حتى أصل الى رياض قدسك , وأجتنى من ثمار الشوق اليك , وأتشرب من حياض معرفتك , واتنزه فى بساتين الائك , واستنقع فى غدران ذكر نعمائك .

اللهم .. اجعل قلبى من القلوب التى سافرت اليك , وأنست بك , واجعل نفسى من النفوس التى زالت عن اختيارها لهيبتك , واطلفها من الاسر لتجول فى خدمتك مع الجوالين .

اللهم .. اّت نفوسنا تقواها , وزكها انت خير من زكاها , انت وليها ومولاها .

اللهم .. انا نعوذ بك من علم لا ينفع , ومن قلب لا يخشع , ومن نفس لا تشبع , ومن دعوة لا يستجاب لها .

اّمين .. اّمين .. اّمين

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى اّله وصحبه والتابعين لهم بايمان واحسان الى يوم الدين والحمد لله رب العالمين

* * *

أصول الوصول الى الله تعالى

الأصل الأول : عليك البداية وعليه التمام

الأصل الأول : عليك البداية وعليه التمام

اعلم حبيبى فى الله الكريم السائر الى الله :

أن الله – تعالى – أراد برحمته – سبحانه – وهو الحكيم العليم والخبير البصير أن يحكم هذا الكون بسنن ربانية غاية فى الدقة والثبات " فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا " ( فاطر : 43 ) .. تلكم الاولى ..

وأما الثانية : فان الانسان خلق مبتلى فى هذه الدنيا " الذى خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور " ( الملك : 2 ) .

وثالثهما : أن الله العزيز الكريم خلق الخلق وهو اعلم بهم , قال سبحانه " هو أعلم بكم اذ أنشأكم من الارض وإذ أنتم أجنة فى بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى " ( النجم : 32 )

وقال سبحانه " وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا " ( الاسراء : 17 ) .

وقد أراد الله ابتلاء واصلاحا , أن يبتلى عباده بتكليف هو غاية فى الخطورة وهو أنه – سبحانه – أناط بهم البداية , فأحال عليهم بداية الشروع اليه والقصد نحوه , قال - سبحانه – فى الحديث القدسى : " عبدى قم الىّ أمش اليك " , وهذا رعاية لجلال العزة وحماية لجناب العظمة : أن يكلف العبد أن يأتى سيده ثم يكون من السيد القبول والاكرام .

قال – سبحانه –وتعالى – " وقال ربكم ادعونى أستجب لكم " ( غافر : 60 ) , وقال – سبحانه وتعالى – " واذا سألك عبادى عنى فانى قريب أجيب دعوة الداع اذا دعان " ( البقرة : 186 )

وقال - تعالى – فى الحديث القدسى " يا ابن اّدم قم الىّ أمش اليك , وامش الىّ أهرول اليك " [صححه الألبانى]

وقال - سبحانه – أيضا " من تقرب منى شبرا تقربت منه ذراعا ومن تقرب منى ذراعا تقربت منه باعا ومن أتانى يمشى أتيته هرولة " [متفق عليه] . اذا فابدأ .. ابدأ فبداية الطريق خطوة , ابدأ خطوة الى الله والله يبارك ويتم , فهو - سبحانه – كريم .. ابدأ ولا تشتك .

ان كثيرا منا يشكو الفتور وينام .. اذا أصبت بالفتور فعليك بالتفكير فورا فى عمل تقوم به .. اعمل والله يرفع عنك البلاء .. ابدأ والله يأخذ بيدك .. اعمل .. تحرك .

ان كثبرا من الاخوة ينتظر نصر الله بمعجزة , ينتظر اصلاح فساد قلبه بمعجزة فى لحظة دون أن يصنع شيئا .. وهذا لا يكون .

أخى ان القضية تحتاج الى عمل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بل اعملوا فكل ميسر لما خلق له " [متفق عليه] .. اعملوا .. لابد من عمل .

ان بعض الناس يعيش هذه الدنيا على أنها " ضربة حظ " يعيش الحياة على انها " ظروف " فيعيش كيفما اتفق , تماما كالذى يدخل الى الصلاة ولا يدرى ماذا صلى , لانه فى الاصل لا يعبأ بالخشوع , يترك نفسه هكذا , فالمهم عنده أنه أدى الصلاة فقط .. المهم عنده أن يعيش , والامر ليس كذلك .

وتأمل معى قصة عكاشة بن محصن فى حديث السبعين ألفا , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " عرضت علىّ الامم , فرأيت النبى ومعه الرهط , والنبى ومعه الرجل والرجلان , والنبى وليس معه أحد , اذ رفع لى سواد عظيم فظننت أنهم أمتى , فقيل لى : هذا موسى وقومه , فنظرت فاذا سواد عظيم , فقيل لى : هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب " ثم نهض فدخل منزله , فخاض الناس فى اولئك فقال بعضهم : فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم : فلعلهم الذين ولدوا فى الاسلام فلم يشركوا بالله شيئا , وذكروا أشياء فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه , فقال : هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون " .. فقام عكاشة فقال : يا رسول الله , ادع الله أن يجعلنى منهم قال : " أنت منهم " قال : ثم قام رجل اّخر فقال : ادع الله أن يجعلنى منهم , فقال : " سبقك بها عكاشة " . [متفق عليه]

قد يبدو للناظر أن عكاشة خطف " الجنة " بغير حساب أو أدركها بكلمة بضربة حظ , ولكنك – أخى – تنظر الى التشطيبات النهائية ولا ترى ما وراء ذلك , انك تنظر الى اللقطة الاخيرة ولم تر أصل الموضوع وتقدير الارزاق .

ان عكاشة سار الى الله طويلا وعمل كثيرا حتى بلغ هذه المنزلة . فلما بلغها أوحى الله الى رسوله صلى الله عليه وسلم بقبول عكاشة فى ركب السبعين المفردين , وأجرى على لسانه صلى الله عليه وسلم الذى لا ينطق عن الهوى هذا الكلام , ثم أنطق عكاشة بالطلب فى لحظتها وهذا دليل ترقيه لها فأعطيها .. هذه حقيقة الامر .. فليس عكاشة قد خطفها فى لحظة .. لا .. الله علم حكيم ..

عليم يعلم ان عكاشة تعب فى السير اليه , فكان الأولى بها أحق بها وأهلها , ولما فتح الباب وقلده اّخرون منعوا , ولا يظلم ربك أحدا " ان الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون "

( يونس : 44 ) , ان عكاشة بدأ السير الى الله فى هذه الطريق , فلما وصل تلك المنزلة وأراد الله أن يمنحه اياها , أجرى الله هذا الكلام على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحضره فى المكان فأسمعه ثم أنطقه فبشره .. هذه هى القضية .. فليست خطفة فى لحظة .. افهم ذلك جيدا .

موقف اّخر يفسر لك الموضوع :

أمسك جعفر الصادق بغلام ليعاقبه , فقال الغلام : يا سيدى أتعاقب من ليس له شفيع عندك غيرك ؟

فقال : انطلق اذا , فلما انطلق الغلام التفت اليه وقال : يا سيدى اعلم انك لست الذى أطلقتنى , انما أطلقنى الذى أجراها على لسانى , فقال : اذهب فأنت حر لوجه الله .

وقفت – أيها الاخوة – مع هذا الموقف مليا أقول : سبحان الله ! هذا كلام عبد لعبد , فأعتق العبد عبده , فكيف اذا جرى هذا الكلام مع السيد الكريم الله ؟! .. اللهم أعتق رقابنا من النار .. اّمين .

نعم : لو جرى هذا الكلام على لسانك لربك لتحررت من العبودية لغيره , ولكن من الذى يجريه على لسانك , وماذا قدمت لكى يجريه ؟ ! لابد أن تبدأ أنت أولا .. ان الله اذا أراد عبده لأمر هيأه له وأجراه على لسانه فهو – سبحانه – الذى ينطق لسانه , قال – تعالى - " أنطقنا الله الذى أنطق كل شىء " ( فصلت : 21) .. أنطق كل شىء .. سبحانه وتعالى .

ولذلك قال الله – تعالى " فتلقى اّدم من ربه كلمات فتاب عليه انه هو التواب الرحيم " ( البقرة : 37 ) , فالله – تعالى – هو الذى أجرى على لسان اّدم كلمات التوبة منّ بقبولها , فكان الفضل منه اولا واّخرا . نعم : وفقه للتوبة فتاب , وقبل توبته , لانه – تعالى – تواب رحيم .

أيها الاخوة , ان هذه القضية تحتاج الى وقفة كبيرة , فالايمان لا ياتى طفرة وانما له مقدمات وتمهيدات تحتاج منك الى استعانة بالله وعمل , اللهم ثبت على الايمان قلوبنا , وارزقنا فهما فى الدين يرضيك عنا .. اّميــــن .

ان الذى ينظر فى قصة السحرة , سحرة فرعون مع موسى , هؤلاء الذين اّمنوا فى لحظة وتعرضوا لاقصى انواع التهديد : لأقطعن ولأصلبن ولأفعلن ولأفعلن , فثبتوا وقالوا " فاقض ما أنت قاض " ( طه : 72 ) – ان الناظر الى هؤلاء يظن انهم حصلوا على الايمان فى لحظة , لم ينظر لقدر الله كيف عمل فى هؤلاء السحرة سنين ليعدهم لتلك اللحظة .لم اختير هؤلاء السحرة بالذات ؟ ولم وجدوا فى هذا المكان بالذات ؟! والجواب : لأنهم سعوا .. نعم – أخىّ - : ان القضية تحتاج منك الى سعى .

وفى قصة الثلاثة أصحاب الغار , لما نزلت صخرة فسدّت عليهم باب الغار , توسل الأول بعمل صالح فانفرجت الصخرة شيئا يسيرا حتى رأوا النور , فلما توسل الثانى انفرجت أكثر حتى رأوا السماء , فلما توسل الثالث انفرجت الصخرة حتى خرجوا يمشون , فعلى قدر عطائك تعطى , وعلى قدر سعيك تمنح .

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس فى حلقة من أصحابه فدخل ثلاثة , فأما الاول : فوجد فرجة فجلس فيها , وأما الثانى : فاستحيى فجلس خلف الحلقة , وأعرض الثالث فمشى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أو أخبركم بخبر الثلاثة نفر , أما الأول : فأوى الى الله فاّواه الله وأما الثانى : فاستحيى فاستحيى الله منه , وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه " . [متفق عليه]

فان أويت الى الله اّواك , وان أعرضت عنه أعرض عنك وطردك وألقاك . قال الله – جل جلاله – عن يونس عليه السلام " فلولا أنه كان من المسبحين * للبث فى بطنه الى يوم يبعثون "

( الصافات : 143- 144 ) .. مع أنه نبى .. نعم : فلا أحد عزيز على الله – مهما بلغت منزلته – ان لم يئو الله .. فائو الى الله ولا تعرض .

قال ابن القيم رحمه الله : " وأيما جهة أعرض الله عنها أظلمت أرجاؤها ودارت بها النحوس " .

ائو الى الله وابدأ .. ابدأ خطوة .. اعمل .. اتعب .. تحرك .. اسع وسوف يتم عليك بخير .

ودائما معلوم أن نقطة البداية هى الاشق , وانطلاقة البداية هى الأصعب , وهذا هو عين الابتلاء من الله – سبحانه وتعالى – " فاذا عزم الامر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم " ( محمد : 21 ) فسعادته فى صدق العزيمة وصدق الفعل فصدق العزيمة جمعها وجزمها وعدم التردد فيها بل تكون عزيمة لا يشوبها تردد ولا تلوّم .

فاذا صدقت عزيمته بقى عليه صدق الفعل , وهو استفراغ الوسع وبذل الجهد فيه , وأن لا يتخلف عنه بشىء من ظاهره وباطنه , فعزيمة القصد تمنعه من ضعف الارادة والهمة , وصدق الفعل يمنعه من الكسل والفتور . ومن صدق الله فى جميع أموره صنع الله له فوق ما يصنع لغيره . وهذا الصدق معنى يلتئم من صحة الاخلاص وصدق التوكل , فأصدق الناس من صح اخلاصه وتوكله " .

فأخى الحبيب , انت مبتلى بأن تبدأ , وممتحن بأن تصدق , فإذا بدأت كما يحب أتم لك كما تحب ..

والانقطاع سببه البداية الضعيفة . فان السائر ان فتر عزمه استمر سيره بقوة الدفع الأولى . فأين بدايتك أيها الحبيب ؟ أعطنى الدفعة الأولى واترك الأقساط على الله .

* * *

الاصل الثانى : كن واحدا لواحد على طريق واحد

الاصل الثانى : كن واحدا لواحد على طريق واحد

هذا الاصل هو خلاصة الكلام فى أمر السير الى الله , والوصول اليه سبحانه وتعالى .. كن واحدا لواحد على طريق واحد تصل .

كن واحدا .. مامعناها ؟

أخىّّ هل تعرف فى زماننا رجلا بوجهين ؟ .. أنا لا أعرف !! . فأكثر الناس اليوم بعشرة وجوه ليس بوجهين فقط . بل عشرين , بل خمسين . بل مئة .. حتى ذى الوجهين قلما تجده !! .. فأين المخلص الذى لا يعرف له الا وجه واحد ؟! , اللهم اجعلنا من عبادك المخلصين .

نعم – اخوتاه - : كثيرا ما تجد انسانا معك فى المسجد , قدمه فى قدمك , وكتفه فى كتفك ورأسه بجوار رأسك فى السجود , يبتهل الى الله ويدعوه , ويتمتم بأطيب الكلمات , ثم اذا خرج من المسجد فبوجه اّخر فاذا دخل بيته مع زوجته وأولاده فبوجه ثالث , وفى العمل بوجه رابع , فاذا تعامل مع النساء الاجنبيات فرقيق طيب ولين بوجه خامس , واذا تعامل مع الرجال فبوجه سادس فاذا تعامل مع الاكابر أو من هم أعلى منه اجتماعيا كمديره أو رؤسائه فى العمل فبوجه سابع واذا تعامل مع من هم ادنى منه كالفقراء والضعفاء فبوجه ثامن , وتاسع وعاشر .. من أنت ؟؟!!

من أنت يا عبد الوجه ؟! أى الوجه وجهك الحقيقى ؟! الى متى ستظل تخلع وجها وتلبس اّخر ؟! الى متى ستظل غشاشا ؟! ألا تعلم أن الله يرى كل هذه الوجوه ؟! .. يراك هنا ويراك هناك ..

يراك الاّن ويراك غدا .

ترى ذا الوجوه اذا مرض بوجه , واذا صح بوجه , واذا افتقر بوجه , واذا اغتنى وامتلك فبوجه اّخر , تجده اذا تولى سعى فى الارض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل , واذا رئس فذليل مهان منافق .. تجد ذا الوجوه لا يستحى من الله وهو يراه .

من أنت يا أخى ؟ أجب عن هذا السؤال .. من أنت وأى الوجوه وجهك وأى الاشخاص شخصك وأى الطرق طريقتك ؟ لماذا تعيش بعشرين وجها , وعشرين لونا , وعشرين طريقة ؟!!

ألا تستحى من الله وهو يراك ؟!

أخـــىّ كن واحداكن صاحب وجه واحد , يمشى بطريقة واحدة .

أخـــى أى الوجوه أريدك ؟ أريد لك وجه العبد .. أن تظل عبدا .. العبد الذى يركع ويسجد ويتلو القراّن ويبتهل ويتفرغ . هذا العبد كنه فى البيت مع الزوجة والاولاد , وكنه فى الشارع مع الناس كنه كيف كنت , ومتى كنت , وأين كنت .. كن عبدا فى كل أحوالك .

أخـــى اذا جاءتك امرأة متبرجة لتقضى منك حاجة نراك تتعامل معها برقة ولطافة , أرأيت رقتك ؟ أرأيت جمالك ؟ ألا يكون هذا مع زوجتك ؟ .. وهى أولى .. لماذا لا تتعامل بمثل هذا مع شريكة حياتك وأم عيالك ؟!! .. نعم : العبد هو الذى يتعامل بالرقة والجمال والحنان والتودد مع الزوجة وأما الشدة والوجه الغليظ فمع الاجنبية .. هذا هو المطلوب وبهذا تكون عبدا لله .

أخى فى الله حبيبى فى الله , اننى أريدك عبدا لله فى البيت , وعبدا لله فى المسجد , وعبدا لله فى الشارع , وعبدا لله فى العمل , عبدا لله وحده هنا حيث يعرفك الناس , وعبدا لله هناك حيث تخلو فلا يعرفك أحد الا الله , فالله الذى يراك هناك هو الذى يعرفك هنا , فاستح أن يراك على غير ما يعرفك . كن واحدا ولا تكن عشرة , لا تكن اثنين , كن عبدا لله وحده , ولست أقصد أن تكون دوما ذليلا , بل العبد على مقتضى العبودية : فى البيت رجل له القوامة والتربية , وفى العمل تراه مخلصا وان لم يره أحد , وفى الشارع مراقبا لمولاه .

كن عبدا لله وحده مع الرجال والنساء , والاغنياء والفقراء , والصغار والكبار .. كن عبدا وضع يديك ورجلك فى قيود الشريعة الفضية لتتحرر من العبودية لغير الله .. الزم الامر والنهى , وكن كما يريد الله .. عش على مراد الله منك لتكون عبدا .

فكن واحدا : أى عبدا ..

لـواحـد :

أى لله وحده , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تعس عبد الدرهم , تعس عبد الدينار , تعس عبد القطيفة والخميصة , تعس عبد المرأة , تعس وانتكس , واذا شيك فلا انتقش " . [هذا الحديث أصله فى البخارى]

أسألك بالله , واصدق يا عبد الله : أنت عبد لمن ؟ لله وحده أم عبد للظروف أيضا ؟ أم عبد للبيئة والمجتمع ؟! عبد للعادات والتقاليد ؟! أم عبد للمهنة والوظيفة والراتب الشهرى , عبد لصاحب العمل , أم عبد لزوجتك وأولادك واحتياجاتهم ومطالبهم ؟! .. عبد من أنت ؟ .

كثير من الناس عبيد لاشياء كثيرة فمنهم من عبد بطنه , ومنهم من عبد شهوته وفرجه , ومنهم من عبد بيته وفراشه , ومنهم من عبد رصيده وماله , ومنهم .. ومنهم .. فكن أنت عبدا لله .

ان المتأمل – اخوتاه – فى تاريخ العقيدة الاسلامية الطويل , ليدرك مدى العناد والتكذيب الذى واجهه أنبياء الله ورسله فى تعبيد القلوب لاله واحد هو الله , فقوم نوح كذبوا المرسلين , وكذبت ثمود وعاد بالقارعة , وكذب بنو اسرائيل موسى وجحدوا ما جاء به , وعاند المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ومع كل هذا صبر هؤلاء الانبياء والمرسلون , لعلمهم بعظمة وأهمية ما يدعون اليه .. وهو التوحيد .

فالتوحيد نظام الكون , ولا يصلح فى الطريق الى الله الا التوحيد , توحيد القصد وتوحيد المعبود ولذلك اذا أردت – أيها الحبيب – أن تسير الى ربك سيرا حسنا فالزم التوحيد , قال - سبحانه وتعالى - " قل ان صلاتى ونسكى ومحياى ومماتى لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين " ( الانعام : 162 – 163 ) .

ولابد أن تعلم أن الله – سبحانه وتعالى – هدد أنبيائه ورسله بحبوط الاعمال – وان كثرت – ان فاتها التوحيد , فقال بعد أن ذكر جملة كثيرة منهم فى سورة الانعام : " ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون " ( الانعام : 88 ) بل قال مخاطبا نبيه محمد صلى الله عليه وسلم : " ولقد أوحى اليك والى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكوننّ من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين " ( الزمر : 65 – 66 ) .

ومن خطورة أمر التوحيد أن الشرك فى هذه الامة أخفى من دبيب النمل , لذا علمك النبى صلى الله عليه وسلم أن تقول كل يوم مرارا " اللهم انى أعوذ بك أن أشرك بك شيئا أعلمه وأستغفرك لما لا أعلمه " .[صحيح الأدب المفرد]

ومن خطورة أمر التوحيد الخوف على التوحيد , قال الله – سبحانه وتعالى – حاكيا عن ابراهيم عليه السلام دعوته " واجنبنى وبنى أن نعبد الاصنام " ( ابراهيم : 35 ) ..

فهذا ابراهيم خليل الله يخاف على توحيده , فيطلب التثبيت عليه ويطلب لبنيه ألا يحيدوا عنه .

ومن خطورة التوحيد أنه قد يلتبس على العبد قال ابن القيم – رحمه الله تعالى – فى " الفوائد " :

" التوحيد ألطف شىء وأنزهه وأنظفه وأصفاه , فأدنى شىء يخدشه ويدنسه ويؤثر فيه , فهو كأبيض ثوب يكون , يؤثر فيه أدنى أثر , وكالمراّة الصافية جدا , أدنى شىء يؤثر فيها .

ولهذا تشوّشه اللحظة واللفظة والشهوة الخفية , فان بادر صاحبه وقلع ذلك الأثر بضده , والا استحكم وصار طبعا يتعسر عليه قلعه .

وهذه الاثار والطبوع التى تحصل فيه : منها ما يكون سريع الحصول سريع الزوال , ومنها ما يكون بطىء الحصول سريه الزوال , ومنها ما يكون بطىء الحصول بطىء الزوال .

ولكن من الناس من يكون توحيده كبيرا عظيما , ينغمر فيه كثير من تلك الاثار , ويستحيل فيه بمنزلة الماء الكثير الذى يخالطه أدنى نجاسة أو وسخ , فيغتر به صاحب التوحيد الذى هو دونه فيخلط توحيده الضعيف بما خلط به صاحب التوحيد العظيم الكثير توحيده , فيظهر من تأثيره فيه ما لم يظهر فى التوحيد الكثير .

وأيضا فان المحل الذى لم يبلغ فى الصفاء مبلغه , فيتداركه بالازالة دون هذا , فانه لا يشعر به .

وأيضا فان قوة الايمان والتوحيد اذا كانت قوية جدا أحالت المواد الرديئة وقهرتها , بخلاف القوة الضعيفة " .

فانظر - رحمك الله - الى توحيدك : هل ما زال على صفائه وطهارته ونقائه أم أنه تلوث من مخالطة البشر ومعاملاتهم , وغياب العلم عن القلب , ونسيان الذكر وكثرة الكلام والجدال المقيت وحب العلو والغلبة , وتعلق القلب بمدح الناس ودفع ذمهم , والشهوات المركبة فى للانفس ...

هذه كلها – والله – ان وقعت فى القلب سقطت سماء توحيدك على أرضه , فلا تقوم لقلبك قائمة فيا أخى الحبيب , كن لواحد تسترح.

قال الله - تعالى –: " ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون "( الزمر : 29 ) .

" يضرب الله المثل للعبد الموحد والعبد المشرك : بعبد يملكه شركاء يخاصم بعضهم بعضا فيه " وهو بينهم موزع , ولكل منهم فيه توجيه , ولكل منهم عليه تكليف , وهو بينهم حائر لا يستقر على نهج ولا يستقيم على طريق , ولا يملك أن يرضى أهوائهم المتنازعة المتشاكسة المتعارضة التى تمزق اتجاهاته وقواه ! وعبد يملكه سيد واحد , وهو يعلم ما يطلبه منه , ويكلفه به , فهو مستريح مستقر على منهج واحد صريح .. " هل يستويان مثلا " .. انهما لا يستويان .

فالذى يخضع لسيد واحد ينعم براحة الاستقامة والمعرفة واليقين وتجمع الطاقة ووحدة الاتجاه ووضوح الطريق . والذى يخضع لسادة متشاكسين معذب مقلقل لا يستقر على حال ولا يرضى واحدا منهم فضلا على ان يرضى الجميع !

وهذا المثل يصور حقيقة التوحيد وحقيقة الشرك فى جميع الاحوال , فالقلب المؤمن بحقيقة التوحيد هو القلب الذى يقطع الرحلة على هذه الارض على هدى , لأن بصره أبدا معلق بنجم واحد على الافق فلا يلتوى به الطريق . ولأنه يعرف مصدرا واحدا للحياة والقوة والرزق , ومصدرا واحدا للنفع والضر , ومصدرا واحدا للمنح والمنع , فتستقيم خطاه الى هذا المصدر الواحد , يستمد منه وحده , ويعلق يديه بحبل واحد يشد عروته , ويطمئن اتجاهه الى هدف واحد لا يزوغ عنه بصره , ويخدم سيدا واحدا يعرف ماذا يرضيه فيفعله وماذا يغضبه فيتقيه .. وبذلك تتجمع طاقته وتتوحد , فينتج بكل طاقته وجهده وهو ثابت القدمين على الارض متطلع الى اله واحد فى السماء .. ويعقب – سبحانه – على هذا المثل الناطق الحى , بالحمد لله الذى اختار لعباده الراحة والامن والطمأنينة والاستقامة والاستقرار . وهم مع هذا ينحرفون , وأكثرهم لا يعلمون " .

فهل انت لواحد ؟ أم انك لشركاء متشاكسين ؟! .

نـعـم : ان اكثر الناس اليوم منحرفون عن التوحيد ,ويعيشون فى شتات , فتجد قلوبهم معلقة بالمال والزوجة والولد والبشر , فيعيشون مهمومين محزونين مشتتين مضيعين .. ولا يمكن أن يتعلق القلب بالله وحده الا بأن يكون فى قلبك هم واحد : هو طلب رضا الله والاستعانة به , فهمّك وهمتك وتفكيرك دائر فى تحصيل رضا الله , ساعتها تكون عبدا لله وحده .. تكون واحدا لواحد بحق , ومنها تنطلق على طريق الوصول الى الله – تعالى .

على طريق واحد :

اذا كنت واحدا لواحد فلكى تصل لابد من أن يكون لك طريق واحد الى الله – تعالى – فهما توحيدان:

توحيد القصد وتوحيد المعبود .

هو طريق واحد لا يتعدد ولا يتغير , كما قال ربنا – جل وعلا - : " وأن هذا صراطى مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله " ( الانعام : 153 ) فوحد سبيله لانه فى نفسه واحد لا تعدد فيه , وجمع السبل المخالفة لانها كثيرة ومتعددة .

فكن على طريق واحد تصل وهو الطريق الى الله – سبحانه وتعالى – وأصله : الكتاب والسنة وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " انه من يعش بعدى فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين عضوا عليها بالنواجذ , واياكم ومحدثات الامور , فان كل محدثة بدعة وكل ضلالة فى النار " [صححه الألبانى] وقال صلى الله عليه وسلم : " تركت فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا بعدى أبدا كتاب الله وسنتى " [أحمد والترمذى وقال حسن غريب] فاسلك الطريق الواحد واذا سلكته فلا تغير ولا تبدل لئلا تطرد .. لا تتلون ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله .. اللهم نجنا من مضلات الفتن .

لما جاء حذيفة بن اليمان الموت جلس عبدالله بن مسعود عند رأسه وقال له : أوصنى , فقال له : ألم يأتك اليقين ؟ قال : بلى وعزة ربى , فقال حذيفة : واياك والتلون , فان دين الله واحد .

ومـن الـتلـون : استحلال الحرام , قال العلماء : الفتنة أن تستحل ما كنت تراه حراما .

يمشى الشاب فى الطريق الى الله سنين واعتقاده : حرمة التلفاز , ثم تفاجأ بالتلون .. نعم : لقد دخل التلفاز بيوت كثير من الملتزمين .. أدخله لأنه مفتون .. قد تلون , فصار الطريق عنده عدة طرق , فبعد أن كان يعتقد أن صلاة الجماعة فى المسجد فرض عين , صار يقول : هناك مذاهب أخرى فيمكن أن أصلى فى البيت .. تلون وفتور .. بعد أن كان يعتقد أن طلب العلم لازم له , وبعد أن كان يعتقد أن الدعوة الى الله أمانة فى عنقه , تخلى وانشغل بدنياه , فتشعبت به الطرق .

أيها المفتون : ستموت , وستحاسب على ارائك القديمة لم غيرتها .. لم بدلت .. لم تلونت ..

لم التفتّ ؟ .. كان راضيا بالقليل فاذا به يستشرف لحياة المترفين والاغنياء .. لم يا عبدالله ؟

لم غيرت طريقك ؟ انها سكة واحدة ومنهج واحد هو الصحيح " فماذا بعد الحق الا الضلال "

( يونس : 32 ) .. أخى , الحق واحد لا يتعدد , فعلى منهجك فاثبت " قل انما أنا بشر مثلكم يوحى الىّ أنما الهكم اله واحد فاستقيموا اليه واستغفروه وويل للمشركين " ( فصلت : 6 ) .

كن على طريق واحد , واعلم أن الكتاب والسنة بفهم سلف الامة منهج معصوم , ليس لأننى أقول ذلك , بل لأن الله – تعالى – أمر بذلك , قال – تعالى - : " والسابقون الاولون من المهاجرين والانصار والذين اتبعوهم باحسان رضى الله عنهم " ( التوبة : 100 ) , وقال – سبحانه وتعالى

" فان اّمنوا بمثل ما اّمنتم به فقد اهتدوا وان تولوا فانما هم فى شقاق " ( البقرة : 137 ) .

سئل أبو على .. الحسن بن على بن الجوزجانى : كيف الطريق الى الله ؟ , فقال : الطرق الى الله كثيرة , وأوضح الطرق وأبعدها عن الشبه : اتباع السنة قولا وفعلا وعزما وعقدا ونية , لأن الله يقول : " وان تطيعوه تهتدوا " ( النور : 54 ) فقيل له : كيف الطريق الى السنة , فقال : مجانبة البدعة , واتباع ما اجمع عليه الصدر الاول من علماء الاسلام , والتباعد عن مجالس الكلام واهله

ولزوم طريقة الاقتداء , وبذلك أمر النبى صلى الله عليه وسلم بقوله – سبحانه وتعالى - :

" ثم أوحينا اليك ان اتبع ملة ابراهيم " ( النحل : 123 ) .

وقال ابو الحسن الوراق : لا يصل العبد الى الله الا بالله وبموافقة حبيبه صلى الله عليه وسلم فى شرائعه , ومن جعل الطريق الى الوصول فى غير الاقتداء , يضل من حيث يحسب انه مهتد .

وقال ابو بكر الطمستانى : الطريق واضح , والكتاب والسنة بين أظهرنا , وفضل الصحابة معلوم لسبقهم الى الهجرة ولصحبتهم , فمن صحب منا الكتاب والسنة وتغرب عن نفسه والخلق وهاجر بقلبه الى الله , فهو الصادق المصيب .

وعن طريق البدع يقول الحسن : صاحب البدعة لا يزداد اجتهادا , صياما وصلاة , الا ازداد من الله بعدا .

وعن أبى ادريس الخولانى أنه قال : لأن أرى فى المسجد نارا لا استطيع اطفائها احب الىّ من ان ارى فيه بدعة لا استطيع تغييرها .

فتمسك – أخى – بما كان عليه سلفك الصالح , وابتعد عن البدع واهلها وكن على طريق واحد

" طريق السنة " ولا تلتفت .

قال بندار بن الحسين : صحبة أهل البدع تورث الاعراض عن الحق .

وقال حمدون القصار : من نظر فى سير السلف , عرف تقصيره وتخلفه عن درجات الرجال .

قال الشاطبى : " وهذه – والله أعلم – اشارة الى المثابرة على الاقتداء بهم , فانهم اهل السنة " .

اخـوتـاه : الطريق الى الله واحدة لا تتغير ابدا فلسنا نجدد فى منهجنا او نغيره او نبدله او نعدله :

هو منهج واضح , والثبات عليه هو سر الوصول الى الله , فان غيرت او بدلت او جددت او التفت ضعت .

قال ابن القيم : " لو أن عبدا اقبل على الله الف سنة , ثم التفت عن الله لحظة واحدة , لكان ما خسر فى هذا اعظم مما حصله فى الالف سنة " اهـ .

فسر – أخى – ولا تلتفت .. انطلق على طريق واحد .. انطلق وكن واحدا لواحد على طريق واحد تصل باذن الله .

* * *

الأصل الثالث : ما لا يكون بالله لا يكون وما لا يكون لله لا ينفع ولا يدوم

الأصل الثالث : ما لا يكون بالله لا يكون وما لا يكون لله لا ينفع ولا يدوم

تدبر هذه القاعدة , فالزم " اياك نعبد واياك نستعين " .. وهاك بيانها :

ما لايكون بالله لا يكون :

العبد ضعيف .. خلق فى الاصل محتاجا فقيرا , قال الله : " يا أيها الناس أنتم الفقراء الى الله والله هو الغنى الحميد " ( فاطر : 15 ) , وقال - تعالى - : " وخلق الانسان ضعيفا " ( النساء : 28 ) بأصل خلقتك ضعف , انظر قول الله عو وجل " ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان الا قليلا " ( النساء : 83 ) , وقال - تعالى - : " ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكى من يشاء " ( النور : 21 ) .

وقال – سبحانه – " من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا * ومن أراد الاخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا * كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا * انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللاخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا " ( الاسراء : 18 – 21 ) .

" كلا نمد " .. من الممد ؟ الله , ومن المستعان ؟ الله .. الله هو الممد المعطى المستعان ..

الله هو الموفق المسدد .. الله هو الذى يصطفى ويختار .. فالسير فى الطريق الى الله مبنى على الاصطفاء والاختيار , فاذا اختارك واصطفاك هيأك .

قال الله – تعالى – فى حق يونس عليه السلام " فاجتباه ربه فجعله من الصالحين " ( القلم : 50 )

اجتباه فجعله .. فأنت ضعيف لا طاقة لك .. أنت ضعيف لا قوة لك ولا قدرة لك ولا حول لك الا ان تكون بالله , فما لا يكون بالله لن يكون , فالذى أتى بك الى المسجد , الله , والذى أنطق فأسمع , الله .. الله هو الذى اجتباك وجعلك من الملتزمين .

أخى فى الله , حبيبى فى الله على طريق الحق للوصول الى الله , الزم : اياك نعبد واياك نستعين "

تبرأ من حولك وقوتك والجأ الى حوله وقوته واستعن به , استعن به وتوجه اليه واطلب منه ..

استعن به وحده يكن لك .. كما قال العلماء : كن لله كما يريد , يكن لك فوق ما تريد .

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " احفظ الله يحفظك , احفظ الله تجده تجاهك , اذا سألت فاسأل الله , واذا استعنت فاستعن بالله , واعلم ان الامة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشىء لم ينفعوك الا بشىء قد كتبه الله لك , وان اجتمعوا على أن يضروك بشىء لم يضروك الا بشىء قد كتبه الله عليك رفعت الاقلام وجفت الصحف " . [صححه الألبانى]

" احفظ الله يحفظك " والاعجب منها : " احفظ الله تجده تجاهك " احفظ الله تجده معك , فى اتجاهك فى الاتجاه الذى تريده تجده – سبحانه – تجاهك .

ان كثيرا منا حين يسير فى الطريق الى الله فيصيبه الفتور أو يفتن فيتراجع , يظل طيلة الوقت يسأل عن السبيل الى الرجوع ويعلّم أسباب الرجوع ويأخذ بالأسباب وينسى الله , فلا تؤتى الاسباب ثمرتها تقول له : افعل كذا , يقول : فعلت ولم أجد فائدة , افعل كذا .. فعلت ولا فائدة .. افعل , فعلت وفعلت .. وفعلت .. نعم : فعل ولم يستعن بالله فلم توجد ثمرة , ولا يوجد ولن توجد الا بالله .

وتأمل معى هذا الحديث العظيم ليثبت يقينك فى هذه القاعدة : ما لا يكون بالله لا يكون , وأضف اليها القاعدة الاولى والاصل الاول : عليك البداية وعليه التمام :

يقول الله – تعالى – فى الحديث القدسى : " يا عبادى كلكم ضال الا من هديته فاستهدونى أهدكم يا عبادى كلكم جائع الا من أطعمته , فاستطعمونى أطعمكم , يا عبادى كلكم عار الا من كسوته , فاستكسونى أكسكم , يا عبادى انكم تخطئون بالليل والنهار , وانا اغفر الذنوب جميعا , فاسغفرونى أغفر لكم .." . [مسلم]

هـكـذا : " كلكم " الا من سأل الله فأعطاه .. فلن تؤتى شيئا الا وعند الله خزائنه " وما ننزله الا بقدر معلوم " ( الحجر : 21 ) فاستعن بالله تعن واستهده تهد .. وهكذا : ما لا يكون بالله لا يكون .

فكن لله يكن لك . والا فالضياع والتيه ثم الهلكة عياذا بالله – تعالى – .. " ومن يعتصم بالله فقد هدى الى صراط مستقيم " ( اّل عمران : 101 ) .

وما لا يكون لله لا ينفع ولا يدوم :

اخوتى فى الله , ما كان لغير الله اضمحل .. يضمحل .. يتلاشى كالرسوم على رمال الشاطىء تمحوها أمواج البحر .. نعم : ما كان لله دام واتصل , وما كان لغير الله انقطع وانفصل .

شجرة الصفصاف تقطع فى ثلاثة أشهر ما تقطعه شجرة الصنوبر فى ثلاثين سنة , ثم تقول لها :

ما قطعتيه فى ثلاثين سنة قطعته فى ثلاثة أشهر ويقال لى شجرة ويقال لك شجرة , فتقول لها الصنوبرة : اصبرى حتى تهب رياح الخريف فان ثبتّ لها تم فخرك .

وعندما ثبتت دودة القز تنسج , قامت العنكبوت تنسج وقالت لها : لك نسج ولى نسج , فقالت دودة القز : أما نسجك فمصايد الذباب , وأما نسجى فأردية الملوك , وحال اللمس يبين الفرق .

نــعــم : هكذا – اخىّ – اذا هبت رياح الابتلاء فثبت لها تم فخرك , فليست القضية بصورة العمل فقد تتساوى الاشجار فى المناظر ويسمى الكل نسجا , ولكن البهرج لا يدوم , قال الله – سبحانه وتعالى – " كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاّء وأما ما ينفع الناس فيمكث فى الارض " ( الرعد : 17 ) .

فهؤلاء الذين يدخلون الطريق الى الله لشهوة أو لهوى أو لحظ نفس لا ينفعون ولا ينتفعون , ولا يستطيع أحدهم أن يتم عملا ولو كان بسيطا , وحين يبدأ فى مشروع خير كطلب علم أو عبادة أو دعوة الى الله تجده ينقطع ولا يداوم عليه , ونسأل : ما السر ؟!! .

ان السر الدفين – اخوتاه – لعدم القبول هو وجود حظ للنفس فى العمل , فالذى يأتى الى صلاة الجمعة – ليس لله – والذى يقوم الليل أو يصوم النهار , يحفظ القراّن أو يتعلم العلم , أو يؤم الناس أو يخطب الجمعة , أو يعطى درسا , أو .. أو .. وفى العمل شائبة من حظ النفس , فعمله باطل باطل .. أحبطه حين عمله لحظ نفسه " .

نــعــم : سل نفسك : عملك لمن ؟ واصدق ولا تتهرب فالامر جد خطير .. ألا تخاف من هذه الكلمة التى تقض المضاجع :" عملت ليقال وقد قيل , فلا أجر لك عندى ثم يسحب على وجهه الى جهنم"

اعلم – أخىّ – أنك اذا صليت ثم خرجت فلم تنهك صلاتك عن الفحشاء والمنكر – اعلم أنك ما صليت لله , فلو صليت له لأعطاك الثمرة , واذا حفظت القراّن فلم تزجرك نواهيه ولم تلزمك أوامره فاعلم أنك لم تحفظه لله , فالله شكور .. يشكر على القليل .. اذا عملت له عملا لابد أن يثيبك ويشكرك عليه , ويعطيك منه , فاذا لم تعط فاتّهم عملك .. اتهم عملك فان المعبود كريم .

فالاخلاص الاخلاص – اخوتاه – الاخلاص والا الضياع .. الاخلاص والا الشرود عن طريق الله الاخلاص حتى لا تضلوا السبيل .. الاخلاص نور الطريق .

كان الفضيل بن عياض يقول : اذا كان يسأل الصادقين عن صدقهم , مثل اسماعيل وعيسى – عليهما الصلاة السلام – فكيف بالكذابين من أمثالنا ؟! وكان رحمه الله اذا قرأ : " ونبلو أخباركم " يقول : اللهم انك ان بلوت أخبارنا فضحتنا وهتكت استارنا , عافيتك هى أوسع لنا , وأنت أرحم الراحمين .

قال أبو عثمان المغربى : الاخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام النظر الى الخالق .

وقال سهل بن عبدالله التسترى : نظر الاكياس فى تفسير سورة الاخلاص فلم يجدوا غير هذا :

أن تكون حركته وسكونه فى سره وعلانيته لله تعالى , لا يمازجه شىء لا نفس ولا هوى ولا دنيا .

وقيل لحمدون بن أحمد : ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا ؟ قال : لأنهم تكلموا لعز الاسلام ونجاة النفوس ورضا الرحمن , ونحن نتكلم لعز النفوس وطلب الدنيا ورضا الخلق .

يقول أخى الشيخ سيد العفانى – حفظه الله تعالى – :" فاعقل درجتك ولا تزه عند الخلق وجوهرك جوهر الفضائح وسيماك سيما الابرار , وعد نفسك مع أنفس الكذابين , وروحك ع أرواح الهلكى وبدنك مع أبدان المذنبين , وأقبل على تعلم الاخلاص , فوالله ان علمه خير العلم , وفقهه الفقه كل الفقه .

يا اخوتاه , الاخلاص مسك القلب , وماء حياته ومدار فلاحه كله عليه , نعم : بضاعة الاخرة لا يرتفع فيها الا مخلص صادق .

ولا نجاة ولا فقه الا مع سير السلف الصالحين , فقد كان الشيوخ فى قديم الزمان أصحاب قدم .

والطلاب أصحاب ألم , فذهب القدم والألم , اليوم غصة ولا قصة , وان التربية بالقدوة خير وسائل التربية , والحكايات عن سلفنا جند من جنود الله – تعالى – يثبت الله بها قلوب أوليائه " .

قال الامام أبو حنيفة : الحكايات عن العلماء ومحاسنهم أحب الىّ من كثير من الفقه , لانها اّداب القوم واخلاقهم , قال الله – تعالى – " لقد كان فى قصصهم عبرة لاولى الالباب " ( يوسف : 111) , وقال - تعالى – لنبيه " اولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده " ( الانعام : 90 ) .

وانطلاقا من هذا الكلام الطيب , فان الحديث عن الاخلاص والمخلصين , وهاك طرفا منه :

الــصـلاة :

قال أبو تميم بن مالك : كان منصور بن المعتمر اذا صلى الغداة , أظهر النشاط لاصحابه , فيحدثهم ويكثر اليهم , ولعله انما بات قائما على أطرافه كل ذلك يخفى عليهم العمل .

قال أبو اسحاق كعب الاحبار صاحب الكتب والاسفار : من تعبد لله ليلة حيث لا يراه أحد يعرفه خرج من ذنوبه كما يخرج من ليلته .

صدقة السر :

وهذا زين العابدين على بن الحسين : يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل , فيتصدق به ويقول : ان صدقة السر تطفىء غضب الرب عز وجل .

ولما مات وجدوه يقوت مئة أهل بيت بالمدينة , ولما جاءوا يغسلونه وجدوا بظهره أثار سواد فقالوا : ما هذا ؟ فقيل : كان يحمل جرب الدقيق ليلا على ظهره يعطيه فقراء أهل المدينة .

الصــــــوم :

وإذا ذكر الصوم وإخفاؤه فاذكر داود بن أبى هند .. صام أربعين سنة لا يعلم به أهله ولا أحد وكان خزازا يحمل معه غذاءه من عندهم فيتصدق به فى الطريق ويرجع عشيا فيفطر معهم فيظن أهل السوق أنه قد أكل فى البيت ويظن أهله أنه قد أكل فى السوق .

قال إبراهيم بن أدهم : لا تسأل أخاك عن صيامه فإن كان قال : أنا صائم فرحت نفسه وإن قال : أنا غير صائم حزنت نفسه وكلاهما من علامات الرياء , وفى ذلك فضيحة للمسئول واطلاع على عوراته من السائل .

الذكر وقراءة القرآن :

قال ابن الجوزى : كان ابراهيم النخعى اذا قرأ فى المصحف فدخل داخل غطاه .

وكان الامام أحمد يقول : أشتهى مالا يكون .. أشتهى مكانا لا يكون فيه أحد من الناس .

البكــــــــــــاء:

قال الثورى : البكاء عشرة أجزاء تسعة لغير الله وواحد لله فاذا جاء الذى لله فى السنه مرة فهو كثير .

قال ابن الجوزى: كان ابن سيرين يتحدث بالنهار ويضحك فاذا جاء الليل فكأنه قتل أهل القرية .

حــــالت لفقــدكم أيامــنا فغـــــــدت سودا وكانت بكم بيضا ليالينا

من مبلغ الملبسينا عما بانتزاحهم حزنا مع الدهر لا يبلى ويبلينا

أن الزمان الذى قد كان يضحكنا أنسا بقربـــــهم قد عاد يبكينا

ليسق عهدكم عهد السرور فما كنتم لارواحـــــــنا الا رياحينا

قال محمد بن واسع : إن كان الرجل ليبكى عشرين سنه وامرأته معه فى لحافة لا تعلم به .

وقال سفيان بن عيينه : أصابتنى ذات يوم رقة فبكيت فقلت فى نفسى : لو كان بعض أصحابنا لرق معى ثم غفوت فأتانى أت فى منامى فرفسنى وقال : يا سفيان خذ أجرك ممن أحببت أن يراك !!

العلـــم :

قال الشافعى : وودت ان الخلق تعلموا هذا ( يعنى علمه ) على أن لا ينسب إلى حرف منه

وقال عون بن عمارة : سمعت هشام الدستوائى يقول : والله ما أستطيع أن أقول : إنى ذهب يوما قط أطلب الحديث اريد به وجه الله عز وجل . قال الذهبى : والله ولا أنا .. فاللهم أعف عنا !

أصحاب السرائر والخوف من الشهرة :

قال ابن المبارك عن ابراهيم بن ادهم : صاحب سرائر وما رأيته يظهر تسبيحا ولا شيئا من الخير ولا أكل مع قوم إلا كان آخر من يرفع يده .

يقول امام الوعاظ ابن الجوزى : اشتهر ابن ادهم ببلد فقيل : هو فى البستان الفلانى فدخل الناس يطوفون ويقولون : أين ابراهيم بن ادهم ؟ فجعل يطوف معهم ويقول : اين ابراهيم بن ادهم ؟ !

وانظر الى العلاء بن زياد العدوى الذى قال فيه الحسن البصرى : الى هذا والله انتهى استقلال الحزن .. قال له رجل : رأيت كأنك فى الجنة فقال له : ويحك ! ! أما وجد الشيطان أحد يسخر به غيرى وغيرك .

قال الامام أحمد: كان سفيان الثورى اذا قيل له رئيت فى المنام يقول : أنا أعرف بنفسى من أصحاب المنامات .

وإبراهيم النخعى الامام الفقيه : كان لا يجلس الى الساريه فى المسجد توقيا للشهره , كان يقول : تكلمت ولووجدت بدا ما تكلمت فإن زمانا أكون فيه فقيه الكوفة لزمان سوء .

وكان يقول :

خلت الديار فسدت غير مسود ومن البلاء تفردى بالسؤدد

وكان محمد بن يوسف الاصبهانى : ( عروس الزهاد ) لا يشترى زاده من خباز واحد قال :

لعلهم يعرفونى فيحابونى فاكون ممن اعيش بدينى .

وسفيان الثورى : الذى قال عنه الامام احمد : أتدرى من الامام ؟ الامام سفيان الثورى لا يتقدمه أحد فى قلبى .. كان رحمه الله لا يترك أحدا يجلس إليه إلا نحو ثلاثة أنفس فغفل يوما فرأى الحلقة قد كبرت فقام فزعا وقال : أخذنا والله ولم نشعر والله لو أدرك أمير المؤمنين عمر رضى الله عنه مثلى وهو جالس فى هذا المجلس لاقامه , وقال له : مثلك لا يصلح لذلك .

وكان رحمه الله اذا جلس لاملاء حديث يجلس مرعوبا خائفا وكانت السحابة تمر عليه فيكست حتى تمر ويقول : أخاف أن يكون فيها حجارة ترجمنا بها .

وكان يقول : كل شىء أظهرته من عملى فلا أعده شيئا لعجز أمثالنا عن الاخلاص إذا رأه الناس .. رحمك الله يا سفيان ولله درك يا أمام كما علمتنا أن نكون لله .

مر الحسن البصرى على طاووس وهو يملى الحديث فى الحرم فى حلقة كبيرة فقرب منه وقال له فى اذنه : إن كانت نفسك تعجبك فقم من هذا المجلس فقام طاووس فورا .

قال بشر : لا ينبغى لامثالنا أن يظهر من أعماله الصالحة ذرة فكيف بأعماله التى دخلها الرياء ؟ ! فالاولى بأمثالنا الكتمان ! .

وكان مالك بن دينار يقول : إذا ذكر الصالحون فأف لى وتف .

وقال الفضيل : من أراد أن ينظر الى مراء فلينظر إلى .

أخواتاه أطلنا الكلام مع المخلصين لاهميته فبدون الاخلاص لا يكون للاعمال أى قيمة ولن تصل إلى الله على الاطلاق ما دمت مرائيا ..

فأبدأ من الآن وكن بكلك لله .. أخلص وإلا فلا تتعن .. أخلص وإلا فالخسار والدمار وخراب الديار .

أخواتاه ما لا يكون بالله لا يكون , وما لا يكون لله لا ينفع ولا يدوم .. فاستعينوا بالله وأخلصوا لله والزموا " اياك نعبد واياك نستعين " تصلوا الى الله – تعالى – بأمان واطمئنان .

* * *

الاصل الرابع : الشكر أساس المزيد

الاصل الرابع : الشكر أساس المزيد :

إن من أخطر أصول الوصول الى الله – تعالى – شكر نعمة الله عز وجل على أن هيأك ويسر لك وحبب اليك أن تسلك سبيلا اليه .. وان اختيار هذا الطريق رغبة ورهبة وطلبا لرضا الله وخوفا من عذابه .. نعمة .

وان معرفة الطريق الى عز وجل والشغف بالسير فيها والحرص على التقدم .. نعمة .. والاعمال الصالحة من تلاوة وذكر وصيام وقيام وتبتل وتهجد واحسان وبر وغيرها , هى حوامل الوصول فى هذا الطريق . وهى نعمة .. وهذه النعم ان لم تدم وتزد وتبارك كان النكوص والارتداد والسلب والحرمان .. ولا سبيل قط الى حراسة النعم وحمايتها وزيادتها الا بالشكر .

جاء وفد اليمن الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان فيهم رجل يسمى حديرا , فلما أرادوا الانصراف – وكان من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطى كل ضيف جائزته – أعطى لكل فرد هدية , وكان حدير مشغولا بذكر الله بعيدا عن عين رسول الله صلى الله عليه وسلم , فاستحيى حدير أن يطلب جائزته ,فانطلقوا وانطلق معهم حدير , وبعد ان انصرفوا اذ بجبريل ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول : ربك يقرئك السلام ويذكرك بحدير – يذكرك أنك نسيت حديرا – فطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فارسا وأعطاه هدية وقال : " الحق القوم فاسأل عن حدير وأعطه هجيته وأقرئه منى السلام " فلما أدركهم قال : أين حدير ؟ قالوا له : هذا فقال له : رسول الله يقرئك السلام ويقول لك : " انه نسيك فذكره بك الله " فقال حدير : " اللهم كما لم تنس حديرا , فاجعل حديرا لا ينساك " فكان أكثر الناس ذكرا لله .

" اللهم كما لم تنس حديرا فاجعل حديرا لا ينساك " .. هذا هو موطن الشاهد وهو شكر النعمة على مقتضاها وهو طلب الزيادة من خير الاخرة .

أيها الاخوة , ابتلى أحد الاخوة بمرض السكر فقال لى : استفدت من هذا المرض فائدة : ما عرفت نعمة الله فى أن أنام ثلاث ساعات متواصلة الا بعد المرض , فكل ساعة أقوم لأدخل الحمام !! ..

فهل نمت أنت ثلاث ساعات متواصلة ؟! هل شكرت هذه النعمة ؟ .. اذا ابتليت – نسأل الله لنا ولك العافية – ستعرف هذه النعمة وتقدرها .

هذا الرجل المكسور يقول : أود أن اتقلب على جنبىّ !! فهل تتقلب على جنبيك وأنت نائم ؟! هل شكرت هذه النعمة ؟ هل فكرت مرة أن تذهب الى المستشفيات لترى المقعدين الذين لا يملكون حراكا ؟ لترى فى قسم الحرائق ما فعلته النيران فى الوجوه الجميلة ؟ ولترى فى قسم العيون من فقدوا نور أعينهم ؟! .

كان بكر بن عبدالله المزنى رحمه الله يقول : يا ابن اّدم اذا أردت أن تعلم قدر ما أنعم الله عليك فغمض عينيك .

هل رأيت أصحاب المحاليل المعلقة ؟!! وهل رأيت من عاشوا حياتهم فى المستشفيات ثم ماتوا ؟! كل هذه النعم التى فقدها الاخرون وملكتها أنت هل شكرت الله عليها ؟!! .

وأنت أيها المريض المبتلى هل شكرت النعم التى أنت غارق فيها ؟! هل نظرت الى من هم أشد منك بلاء ؟! .. وان كنت أنت أشد المرضى ألما فهل شكرت الله على ان ابتلاك فى جسدك وحفظ لك قلبك فملأه بالايمان ؟! هل شكرت هذه النعمة : نعمة الايمان والتوحيد التى هى أعظم النعم .

عن مجاهد فى قوله – سبحانه وتعالى – " وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة " ( لقمان : 20 ) قال : لااله الا الله .

وعن سفيان بن عيينة قال : ما أنعم الله عز وجل على العباد نعمة أفضل من أن عرفهم : أن لا اله الا الله . قال : وان " لا اله الا الله " لهم فى الاخرة كالماء فى الدنيا .

لقد كان من هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم تذكر فاقد النعمة ليعظم عنده شكرها , فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا أوى الى فراشه يقول : " الحمد لله الذى أطعمنا وسقانا وكفانا واّوانا وكم ممن لا كافى له ولا مأوى " [مسلم] فداك أبى وأمى ونفسى يا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال سلام بن أبى مطيع : دخلت على مريض أعوده , فإذا هو يئن فقلت له : اذكر المطروحين فى الطريق , اذكر الذين لا مأوى لهم , ولا لهم من يخدمهم . قال : ثم دخلت عليه بعد ذلك فلم أسمعه يئن . قال : وجعل يقول : اذكر المطروحين فى الطريق , اذكر من لا مأوى له ولا له من يخدمه .

اخوتاه , شكر النعم أصل , قال الملك : " وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابى لشديد "

( ابراهيم : 7 )

قال ابن القيم – رحمه الله تعالى - : " من أنعم عليه بنعمة فلم يشكرها عذب بتلك النعمة ذاتها ولابد " اهـ .

عرفت – أخى الملتزم – ما سبب الفتور ؟ لأنك لم تشكر نعمة الالتزام , فلو شكرت هذه النعمة لزادك الله التزاما , قال – تعالى – " والذين اهتدوا زادهم هدى وءاتاهم تقواهم " محمد : 17 ) لكن لما لم تشكر نعمة الالتزام فترت , وتراجع التزامك .

قال الحسن : ان الله عز وجل ليمتع بالنعمة ما شاء , فإذا لم تشكر قلبها عليهم عذابا .

نعـــم : كل من أعطى أولادا فلم يشكر نعمة الأولاد يعذب بهم , ومن أنعم الله عليه بزوجة فلم يشكر نعمة الزوجة عذب بها , ومن أعطى مالا فلم يشكره عذب به ولابد .. وهكذا : كل نعمة لا تشكرها تعذب بها .. وسر الشكر استخدام النعمة فى طاعة المنعم .

شكر حدير النعمة وسأل الله ألا ينسيه ذكره , ولو أننى أنا الذى جاءونى بالهدية لشغلنى فرحى بالهدية عن ذكر الله .. واقع مر .. كثير من المسلمين مشغول بالنعمة عن المنعم , مشغول بالبلية عن المبتلى , مشغول عن الله بغير الله , ناس له , غافل عنه .

اخوتاه , سليمان بن داود هذا النبى الصالح ابن النبى الصالح – عليهما السلام – ما شغله الملك – الذى ما اّتاه الله أحدا من العالمين قبله ولا بعده – عن الشكر والتحدث بنعم الله عليه .

قال – تعالى – " وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شىء ان هذا لهو الفضل المبين * وحشر لسليمان جنوده من الجن والانس والطير فهم يوزعون * حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون * فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعنى أن أشكر نعمتك التى أنعمت علىّ وعلى والدىّ وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلنى برحمتك فى عبادك الصالحين " ( النمل : 16- 19 ) .

ولما حمل اليه عرش بلقيس قال " هذا من فضل ربى ليبلونى ءأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربى غنى كريم " ( النمل : 40 ) .

عن الحسن قال : قال نبى الله داود : " إلهى لو أن لكل شعرة منى لسانين يسبحانك الليل والنهار والدهر ما وفيت حق نعمة واحدة " .

قال ابن القيم :" حبس السلطان رجلا فأرسل اليه صاحبه : اشكر الله فضرب , فأرسل اليه : اشكر الله . فجىء بمحبوس مجوسى مبطون فقيد وجعل حلقة من قيده فى رجله وحلقة فى الرجل المذكور , فكان المجوسى يقوم بالليل مرات , فيحتاج الرجل أن يقف على راسه حتى يفرغ فكتب اليه صاحبه : اشكر الله . فقال له : الى متى تقول : اشكر الله وأى بلاء فوق هذا ؟ فقال : لو وضع الزنار الذى فى وسطه فى وسطك كما وضع القيد الذى فى رجله فى رجلك , ماذا كنت تصنع ؟ فاشكر الله " .

ودخل رجل على سهل بن عبدالله فقال : اللص دخل دارى وأخذ متاعى فقال : اشكر الله , فلو دخل اللص قلبك – وهو الشيطان – وأفسد عليك التوحيد ماذا كنت تصنع ؟ " .

سئل بعض الصالحين : كيف أصبحت ؟ فقال : أصبحت وبنا من نعم الله ما لا يحصى مع كثير ما يعصى , فلا ندرى على ما نشكر : على جميل ما نشر , أو على قبيح ما ستر ؟

وقال اّخر : أصبحت بين نعمتين لا أدرى أيتهما أعظم : ذنوب سترها الله علىّ , فلا يقدر أن يعيرنى بها أحد , ومحبة قذفها الله فى قلوب الخلق لا يبلغها عملى .

نعم – اخوتى فى الله - : من أصول السير الى الله : كلما أنعم الله عليك بنعمة فاشكرها ..

اذا حفظت اّية فاشكرها , اذا ذكرته لحظة فاشكرها , اذا أعفيت لحيتك اشكرها , اذا صليت جماعة اشكرها , اذا تعلمت مسألة اشكرها , اذا قمت ليلة اشكرها , اشكر الله على نعمته , لأنك ان لم تشكره تعذب .. تلك سنة ربانية , فلذلك انشغل بشكر النعمة .

ولكن كيف يكون شكر النعمة ؟

الشكر يقوم على خمسة أركان :

1- الاقرار بالنعمة 2- الثناء على الله بالنعمة

3- الخضوع لله بالنعمة 4- حب المنعم

5- استعمال النعمة فى شكر المنعم

عن عنبسة بن الازهر قال : كان محارب بن دثار – قاضى الكوفة – قريب الجوار منى فربما سمعته فى بعض الليل يقول : " أنا الصغير الذى ربيته فلك الحمد , وأنا الضعيف الذى قويته فلك الحمد , وأنا الفقير الذى أغنيته فلك الحمد , وأنا الغريب الذى وصيته فلك الحمد , وأنا الصعلوك الذى مولته فلك الحمد , وأنا العزب الذى زوجته فلك الحمد , وأنا الساغب ( الجائع ) الذى أشبعته فلك الحمد , وأنا العارى الذى كسوته فلك الحمد , وأنا المسافرالذى صاحبته فلك الحمد وأنا الغائب الذى رددته فلك الحمد وأنا الراحل الذى حملته فلك الحمد وأنا المريض الذى شفيته فلك الحمد وأنا السائل الذى أعطيته فلك الحمد وأنا الداعى الذى أجبته فلك الحمد فلك الحمد ربنا حمدا كثيرا على حمدى لك " اهـ .

لله ما أحلى هذا الكلام !! .. نعم – والله - : كان كلامهم دواء للخطائين .

يا رب

" تم نورك فهديت , فلك الحمد , عظم حلمك فغفرت , فلك الحمد , وبسطت يدك فأعطيت , فلك الحمد , ربنا وجهك أكرم الوجوه , وجاهك أعظم الجاه , وعطيتك أفضل العطية وأهنأها , تطاع ربنا فتشكر , وتعصى فتغفر , وتجيب المضطر , وتكشف الضر , وتشفى السقيم , وتغفر الذنب , وتقبل التوبة , ولا يجزى باّلائك أحد , ولا يبلغ مدحتك قول قائل " .. فلك الحمد .

اخوتاه , الشكر أساس المزيد . أحبتى فى الله , يا من عزمتم السير الى الله , اشكروا الله .. اشكروا الله .. اشكروا الله يزدكم ..

عن على رضى الله عنه أنه قال لرجل من أهل همدان " إن النعمة موصولة بالشكر , والشكر متعلق بالمزيد , وهما مقرونان فى قرن , فلن ينقطع المزيد من الله – عز وجل – حتى ينقطع الشكر من العبد " اهـ .

فإذا رأيت إيمانك – أخى فى الله – لا يزيد فارجع الى الشكر ..

اشكر تزدد إيمانا , فإن الشكر أساس المزيد .

* * *

الأصل الخامس : املك عصا التحويلة

الأصل الخامس : املك عصا التحويلة

بعض الناس يركب القطار ويظن أن السائق هو الذى يقوده , وينسى أن هناك عاملا بسيطا بيده عصا صغيرة يحول بها مجرى القطار كله رغم أنف السائق .. فعصا تحويلة قلبك فى يد من ؟!

أيها الاخوة : الصراط مدحضة مزلة , تزل عنه الاقدام , فمع طول السفر قد تتحول الاقدام عن الطريق دون شعور , ولذا ينبغى أن تملك عصا التحويلة فلا تسلمها لأحد يتحكمك بها غير الله الذى يهديك الصراط المستقيم , صراط الوصول إليه – سبحانه - .

فكم منا من سلم العصا لزوجته فحولته من طالب علم الى طالب دنيا , وكم منا من سلمها لأولاده فحولوا همه من طالب جنة الى طالب مال .. عصا تحويلة قلبك فى يد من ؟ أسلمتها لمن ؟ لصاحب .. لزميل .. لشيخ .. لمدير ؟!!

أخى فى الله , سل نفسك من المتحكم فيك , ومن الذى يسير قلبك , هل الله وحده ؟ أم أشياء أخر ؟

قف مع نفسك وقفة لتسلم قلبك لله يقودك كيف شاء .

أخى فى الله , استسلم لله .. سلم قلبك لله , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا إن السلطان والقراّن سيفترقان , فدوروا مع القرآن حيث دار " . [أخرجه الحاكم بلفظ : دوروا مع كتاب الله حيث دار - وبهذا اللفظ ضعفه الألبانى]

نعم : إننا نحتاج أن نملك عصا التحويلة لندور مع القراّن , لندور مع الشرع , لندور مع الدين , مع الامر والنهى , فلا نثبت على الباطل .

أخــى , عصا التحويلة خطر , فأى لعب بها قد يتسبب فى أن يحيد القطار عن طريق الوصول , وربما اصطدم فانقلب , فتحكم – أخى – فى كل ذرة من قلبك , ووجهها الى الله وحده , حرك قطار نفسك فى طريق واحد .. طريق الوصول الى الله ..

أخــى , سرت الى الله سنين ثم تحولت , فما الذى حولك ؟! من الذى حولك ؟! لم تغيرت فغيرت اتجاهك ؟! لم انزلقت رجلك فخرجت عن طريق السير الى الله ؟!

إننا بحاجة – إخوناه – لأن نملك عصا التحويلة , لكى نعيد السير الى الطريق مرة أخرى , حتى وإن حدنا أو تهنا أو خضنا أو ضللنا أو أخطأنا أو أذنبنا .. لابد من العود .. ارجع والله عز وجل كريم يقبل توبة العبد إذا تاب , قال الملك جل جلاله " ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما " ( النساء : 110 ) .. فعد الى الله واتجه الى الله , وقف على طريق السير الى الله .

فبعصا التحويلة غير اتجاهك , وحول قلبك الى الصراط المستقيم .. عدل طريقك , وانظم سيرك , ووجه قلبك تجد الله غفورا رحيما .. املك عصا التحويلة تسلك طريق الوصول الى الله .

* * *

الأصل السادس : يومك يومك

الأصل السادس : يومك يومك

أيها الاخوة , الله – جل جلاله – حين خلق العبد ما خلقه الا ليعبده , قال – تعالى – " وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون " ( الذاريات : 56 ) ثم أجرى الله اللطيف الرحيم تكاليفه على العبد فكلفه ما يطيق .

قال الملك : " ولو شاء الله لأعنتكم " ( البقرة : 220 ) يعنى : ولو شاء الله لأوقعكم فى العنت والمشقة والتعب , ولكن الله يقول : " يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر " ( البقرة : 185 ) ويقول – سبحانه وتعالى - : " يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الانسان ضعيفا " ( النساء : 28 ) .

فمن رحمة الله ولطفه بالعبد فى التكاليف أنه كلفك كل يوم على قدر يومك , لكى لا يعنتك , ولذا فإن من ظلم العبد لنفسه أن يحمل هم غد .. من رحمته – سبحانه – أن جعل التكاليف يوما بيوم .. فلو صليت العشاء لا يطالبك الله بشىء أو فرض حتى أذان الفجر , فكل وقت له واجب , والله لا يطالبك الا بواجب الوقت .. لا يطالبك – سبحانه – بواجب الغد .. أما اليوم فنعم .

إنك لو مت الاّن قبل صلاة العشاء لن يسألك الله عن العشاء .. لو مت قبل أن يمر العام ويحول الحول , لن تسأل عن زكاة هذه السنة .. لو عشت عمرك ولم يبلغ مالك النصاب لا يسألك الله عن الزكاة .. وهذا كله من رحمة الله .. فمن ظلم العبد لنفسه حمل هم غد .

تجد الرجل اليوم جالسا يفكر : اّخر الشهر من أين سنأتى بالنقود .. يا أخى أين أنت وأين اّخر الشهر ؟! .. تجده يتكلم ويقول : الأولاد عندما يكبرون أين سيعيشون ؟ .. يا أخى عندما يكبرون فلهم رب يتكفل بهم أحن عليهم منك .. وهكذا يحمل الهمّ فينشغل به .

تجد الأب فى زماننا – للاسف الشديد – مشغولا بشراء قطعة أرض ليبنى بيتا للاولاد .. مشغولا بسعادتهم الدنيوية وراحتهم البدنية , فينسى فى خضم المشاكل والظروف أن يعرفهم طريق الله .

سبحان الله العظيم !! .. عمر بن عبد العزيز كان له أحد عشر ولدا ذكرا , غير الاناث , فلما جاءه الموت قال له كاتبه رجاء بن حيوة : لو أوصيت بهم أحدا .. أوص عليهم أحدا ينفق عليهم .. قال له ذلك , لأن عمر بن عبد العزيز لم يترك وهو يموت الا عشرة دراهم .. أحد عشر ولدا ورثهم أحد عشر درهما . قال له عمر بن عبد العزيز : والله لست أوصى بهم أحدا الا الله , ان يكونوا صالحين فالله يتولى الصالحين , ثم جمعهم فقال : إنى أموت ولم أترك لكم شيئا , غير أنكم ما مررتم بأحد من المسلمين إلا وهو يعلم أن لكم عليه حقا .

وهذه الكلمة الاخيرة كلمة جميلة .. أنك حين تترك أولادك ويكون لك ذكرى طيبة عند الناس , تجدهم كلما مر عليهم الأولاد يقولون : اللهم ارحم أباكم , لقد كان رجلا صالحا .. وهذه تكفى .

نعم , هذا هو الوالد الحقيقى الذى عرف الطريق الى الله فعرفه لأبنائه , لا ذالكم الأب الذى ضيع أيامه وانشغل بالدنيا .. وتعجب حين تعلم أن هذا الأب كلما انشغل بالأولاد ليرضيهم لا يرضون فتزداد المشاكل والهموم , ولو أنه شغل نفسه وعياله بالله لحلت المشاكل .

إننا اليوم ونحن ننظر فى واقع المسلمين , لا نجد أحدا يعيش يومه فالكل ينظر للمستقبل وناس أنه يمكن ألا يكمل يومه .. قال ابن عمر : " إذا أصبحت فلا تنتظر المساء وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح " . لقد تعجبت لبعض الافكار والاخلاقيات التى وصلت الى القرى !! وكيف لا أدهش ونحن دائما نعد هؤلاء الفلاحين أصولنا ..هؤلاء أولاد الأصول .. هؤلاء هم الناس الذين يفهمون فى الأصول , ألا لعنة الله على الظالمين الذين لوثوا صفاء الريف الروحى .

أفسد التلفاز أخلاقياتهم , فتجد الرجل يرسل ابنته لتتعلم وقد تسافر وحدها وترجع بالليل فتقول له : لماذا تعلم البنت ؟ فهى فى النهاية ستتزوج وتجلس فى البيت , يقول لك : حتى يكون فى يديها " سلاح " وتقول له : وإذا طلقت بسبب السلاح أو لم تتزوج فما الحل ؟ ! وهل كان مع أمها سلاح ؟ هل كان معها " بكالوريا " ؟! وأمك أنت ماذا كان معها ؟! ماذا كان سلاحهم ؟!! ان السلاح هو رضا الله .

نعـــم : فهؤلاء الناس ينظرون الى المستقبل ولا يعيشون واقعهم , لا يعيشون يومهم .. وانظر حولك لترى الناس كيف يعيشون , وكيف تعلقت قلوبهم بالغد .

ولهذا , فلكى تصل الى رضا الله عش يوما بيوم , فاجعل كل يوم هدفا تصل به الى أعلى درجة فى الجنة .. ابدأ يوما جديدا من صلاة الفجر , وضع فى حسبانك أنه اّخر يوم فى عمرك , ولذا تسأل نفسك ماذا سأفعل ؟ .. أول شىء : أتوب – اللهم تب علينا يا رب .

إخوتاه , هل فيكم أحد يود أن يتوب اليوم ؟ إذا قال : نعم تبت , قلت : من ماذا ؟ قال : من كل شىء , قلت : لست صادقا .. إن الذى يقول : تبت من كل شىء يريد أن يخادع الله .. أخىّ , قل لى , حدد لى من أى ذنب تبت ؟ من النظر للنساء , من الكذب , من السجائر , أم من النوم عن صلاة الفجر , أم من النفاق .. تبت من ماذا ؟ من أكل الحرام , أم من حلق اللحية .. من أى شىء تبت ؟!

سأعطيك فرصة أخرى الاّن – وسمها اختبارا إن شئت - : استحضر فى ذهنك الاّن ذنبا , ذنبا ثقيلا وتب منه الاّن .. اذا هيا نتوب .. الاّن الاّن .. اللهم تب علينا يا رب .. اللهم تقبل توبتنا , واغسل حوبتنا , وأجب دعوتنا .

نعم – أيها الاخوة – تبدأ اليوم فتقول : اليوم سأتوب من النظر الى النساء .. وعد يا رب .. وعهد بينى وبينك , اليوم لن أنظر وليكن ما يكون , اليوم تحد .. اليوم سأحفظ ربعا , اليوم سأقرأ ثلاثة أجزاء , اليوم سأصوم , اليوم سأتصدق بخمسة جنيهات , .. وهكذا كل يوم تسأل نفسك : ماذا سأعمل اليوم ؟ فيكون لك خطة عمل واضحة , فتنجز كل يوم شيئا جديدا , فيصبح لحياتك معنى .

يقول ابن القيم : " العبد من حين استقرت قدمه فى هذه الدار فهو مسافر فيها الى ربه , ومدة سفره هى عمره الذى كتب له . فالعمر هو مدة سفر الانسان فى هذه الدار الى ربه – تعالى – ثم قد جعلت الايام والليالى مراحل لسفره , فكل يوم وليلة من المراحل فلا يزال يطويها مرحلة بعد مرحلة حتى ينتهى السفر . فالكيّس الفطن هو الذى يجعل كل مرحلة نصب عينيه , فيهتم بقطعها سالما غانما , فإذا قطعها جعل الاخرى نصب عينيه ولا يطول عليه الامد فيقسو قلبه ويمتد أمله ويحضره بالتسويف والوعد والـتأخير والمطل , بل يعد عمره تلك المرحلة الواحدة فيجتهد فى قطعها بخير ما بحضرته , فإنه إذا تيقن قصرها وسرعة انقضائها هان عليه العمل وطوعت له نفسه الانقياد الى التزود , فإذا استقبل المرحلة الاخرى من عمره استقبلها كذلك , فلا يزال هذا دأبه حتى يطوى مراحل عمره كلها فيحمد سعيه ويبتهج بما أعده ليوم فاقته وحاجته , فإذا طلع صبح الاخرة وانقشع ظلام الدنيا , فحينئذ يحمد سراه وينجلى عنه كراه , فما أحسن ما يستقبل يومه وقد لاح صباحه واستبان فلاحه " .

إذا نريد أن نجعل كل يوم وحدة مستقلة نعيشها ونخطط لها فى حينها , أما " غدا " فلا علاقة لنا به , فحينما يأتى سنفكر له فى حينه , وأما " أمس " فقد انقضى وانتهى فلا علاقة لنا به أيضا , نحن الاّن فى " اليوم " ماذا سنصنع به , هل سنضيعه بالتفكير فى " أمس " و " غد " , أم أننا سنجعل حياتنا وحدة مستقلة نعيشها يوما بيوم لنريح ونستريح ؟ .

أخى فى الله , فاتتك صلاة بالأمس , فاعزم اليوم على الا تضيع فرضا فى جماعة .. بالأمس لم يكن فى القراءة خشوع ولا فهم ولا تركيز , وكانت دماغك مشغولة , فتوكل اليوم على الله , وارم حمولك عليه لتصل اليه , وعش يومك الذى أنت فيه .

ابن يومك وارفع بناءه بأداء ما يرضى الله , ويقرب اليه , بحيث أنك لو مت فى هذا اليوم دخلت الجنة – اللهم ارزقنا الجنة يا رب .

ويقول ابن القيم أيضا : " السنة شجرة , والشهور فروعها , والايام أغصانها , والساعات أوراقها , والانفاس ثمرها , فمن كانت أنفاسه فى طاعة فثمرة شجرته طيبة , ومن كانت فى معصية فثمرته حنظل , وإنما يكون الجداد يوم المعاد , فعند ذلك يتبين حلو الثمار من مرها " اهـ .

البنات اللواتى كنّ يتزين فى " الكوافير " فى دمياط وانهدم عليهن البيت متنّ .. أربع عرائس والبنات اللاتى معهن متنّ جميعا .. ولو كانت تلك البنت العروس تظن أنها ستموت لما دخلت , ولما ذهبت , ولعملت بطاعة الله فى اّخر يوم تفارق فيه الحياة استعدادا للقاء الله .. وهكذا يومك , لابد أن تملأه بطاعة الله معتقدا أنه اليوم الاخير لك على الدنيا , والا فسيأتيك الموت كما اتى العرائس , فتموت ولم تصل الى الله .

أخى فى الله , حبيبى فى الله , أوصيك بوصية الامام الموفق ابن قدامة رحمه الله إذ يقول :

" فاغتنم – يرحمك الله – حياتك النفيسة , واحتفظ بأوقاتك العزيزة , واعلم أن مدة حياتك محدودة , وأنفاسك معدودة , فكل نفس ينقص به جزء منك . والعمر كله قصير , والباقى منه هو اليسير , وكل جزء منه جوهرة نفيسة لا عدل لها ولا خلف منها , فإن بهذه الحياة اليسيرة خلود الأبد فى النعيم أو العذاب الاليم , وإذا عادلت هذه الحياة بخلود الأبد , علمت أن كل نفس يعادل أكثر من ألف ألف عام فى نعيم , وما كان هكذا فلا قيمة له , فلا تضيع جواهر عمرك النفيسة بغير طاعة أو قربة تتقرب بها , فإنك لوكان معك جوهرة من جواهر الدنيا لساءك ذهابها , فكيف تفرط فى ساعاتك , وكيف لا تحزن على عمرك الذاهب بغير عوض ؟! " اهـ .

وعن عمر بن ذر أنه كان يقول : " اعملوا لانفسكم – رحمكم الله – فهذا الليل وسواده , فإن المغبون من غبن خير الليل والنهار , والمحروم من حرم خيرهما , إنما جعل سبيلا للمؤمنين الى طاعة ربهم , ووبالا للاخرين للغفلة عن أنفسهم , فأحيوا لله أنفسكم بذكره , فإنما تحيا القلوب بذكر الله عز وجل . كم من قائم لله – جل وعلا – فى هذا الليل قد اغتبط بقيامه فى ظلمة حفرته , وكم من نائم فى هذا الليل قد ندم على طول نومته عندما يرى من كرامة الله للعابدين غدا , فاغتنموا ممر الساعات والليالى والايام – رحمكم الله - , وراقبوا الله – جل وعلا – فى كل لحظة , وداوموا شكره " اهـ .

فلذلك أطالبك – أخى فى الله – لكى تصل الى رضوان الله جل جلاله بأمر مهم : هو ان تحصل لك عزلة شعورية تماما عن المستقبل وما يجرى فيه , لأنك لا تعلم الغيب , قال ربنا – جل جلاله - :

" وما تدرى نفس ماذا تكسب غدا " ( لقمان : 34 ) , ولا تخف من المستقبل فالله معك يعينك , وهو – سبحانه – لا يضيع عباده الصالحين " إن ولىّ الله الذى نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين"

( الاعراف : 196 ) , فدع عنك هم غد لغد , فرزق غد عند ربك , ولربما جاء " غد " فلم يجدك .. الهم ارزقنا حسن الخاتمة .

فالزم يومك الذى أنت فيه , وابذل قصارى جهدك فى أن تجعل من هذا اليوم مطية للوصول الى الله – تعالى - , فقد يكون اّخر يوم لك فى هذه الحياة .. فيومك يومك يا طالب الوصول .

يقول ابن القيم رحمه الله : " هلمّ الى الدخول على الله ومجاورته فى دار السلام بلا نصب ولا تعب ولا عناء , بل من أقرب الطرق وأسهلها , وذلك أنك فى وقت من بين وقتين وهو فى الحقيقة عمرك , وهو وقتك الحاضر بين ما مضى وما يستقبل , فالذى مضة تصلحه بالتوبة والندم والاستغفار , وذلك شىء لا تعب عليك فيه ولا نصب ولا معاناة عمل شاق , وإنما هو عمل القلب , وتمتنع فيما فيما يستقبل من الذنوب , وامتناعك ترك وراحة , ليس هو عملا بالجوارح يشق عليك معاناته , وإنما هو عزم ونية جازمة تريح بدنك وقلبك وسرك , فما مضى تصلحه بالتوبة , وما يستقبل تصلحه بالامتناع والعزم والنية , وليس للجوارح فى هذين نصب ولا تعب , ولكن الشأن فى عمرك , وهو وقتك الذى بين الوقتين , فإن أضعته أضعت سعادتك ونجاتك , وإن حفظته مع إصلاح الوقتين الذى قبله وبعده بما ذكرت , نجوت وفزت بالراحة واللذة والنعيم " .

هذه خلاصة الكلام أيها السائر : يومك يومك .

* * *

الأصل السابع : وليسعك بيتك

الأصل السابع : وليسعك بيتك

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن سأل عن النجاة : " أمسك عليك لسانك , وليسعك بيتك , وابك على خطيئتك " [صححه الألبانى] : قال عبدالله بن عباس رضى الله عنهما : " أخسر الناس صفقة من انشغل بالناس عن نفسه , وأخسر منه صفقة من انشغل بنفسه عن الله " .

وقال بعض السلف : " علامة إعراض الله عن العبد انشغاله بما لا يعنيه " وقال بعض السلف أيضا " علامة الافلا س كثرة الحديث عن الناس " .

وقال ابن الجوزى : " إذا رأيت نفسك تأنس بالخلق وتستوحش من الخلوة فاعلم أنك لا تصلح لله"

وقال ابن قدامة : " إذا رأيت الناس يعجبون بك , فاعلم أنهم إنما يعجبون بستر الله عليك , فلا تذب عن الناس الذباب وحجرك مملوء بالعقارب " .

مصيبة عصرنا الانشغال بالناس , ومن الانشغال بغير الله الانشغال بوسائل الاعلام والجرائد والمجلات والتلفاز .. وللاسف الشديد بدأ بعض الاخوة يقتنى التلفاز , وهذه نكسة .. نكسة , قال العلماء : الفتنة ان تستحل ما كنت تراه حراما .. فالذى كان اعتقاده أن التلفزيون حرام وبدأ اليوم يدخله بيته فهو مفتون – كما ذكرنا .

وتجده يقول : أنا أدخلته بيتى لمتابعة نشرة الاخبار لاعرف أحداث العالم , وأشاهد بعض القنوات المفيدة , .. اعلم يا أخى , أن الجلوس اليوم أمام نشرات الاخبار بغير ضوابط فتنة .. نعم : فتنة , لأنك قد تنشغل بالعالم عن نفسك .

إخوتاه , إن ما تشاهدونه فى نشرات الاخبار من أحداث فلسطين – اللهم اكشف عنهم الكربة , اللهم انتقم من اليهود وعجل بزوالهم – وكل ما حصل , لا يساوى عشر معشار واحد على مئة ألف بالنسبة لما حدث فى أماكن أخرى , لكن الاماكن الاخرى أعموها عنكم وعتموا عليها , وهذه فتحوها لكم تشاهدونها .. لماذا ؟ .. ما السر ؟! .. إن النيران التى يؤججونها داخل النفوس لها علة , فتيقظ حتى لا تقع فى الشرك .

إننا – إخوتاه – فى زمن تصغير الكبراء وتصغير المسائل الكبيرة , ولذلك فإن القضية التى تقلقكم دائما , قضية فلسطين .. هذه قضية كبيرة جدا صغروها فى فلسطين , ثم قاموا بتصغيرها أكثر فى القدس .. والقضية أكبر من ذلك , فلو أن اسرائيل أعطت الفلسطينيين دولة مستقلة ذات سيادة وحدود وكفت عن قتل المسلمين .. فهل عندها تنتهى القضية ؟ لا .. عندهم انتهت ولكنها عندنا لم تنته ولن تنتهى .. القضية قضية اليهود وليست فلسطين – اللهم انتقم من اليهود . هذا مثال للاعلام فى العالم , فما الفائدة من تضييع طاقات الشباب أمام هذه الشاشات ؟!

إن الذين يجلسون اليوم امام التلفاز ويودون أن ينقذوا فلسطين تراهم أكثر الناس ركودا , فترى الواحد منهم ينشغل بسماع الاخبار أكثر من الامساك بالمصحف .. يظل يتكلم فى الاخبار وتنقلها أكثر من ذكر والدعاء .. إذا فالتفرج والانشغال بهذه الترهات لا ينقذ المسلمين .. لابد أن تفهم الوضع .. نريد أن نوقف التفرج والانشغال بالناس , لأنه موقف الضعيف الذليل المتخاذل , ولننشغل بأنفسنا أولا قبل كل شىء , فبصلاح النفس تنصلح الامة ويكون النصر .

ولذلك يقول العلماء عن هذه القضية : الفتنة دوارة , ويسمون ما يجرى الاّن " دوامات الفتن "

الدوامة هل رأيتها ؟.. الفتنة مثلها دوارة , فمن الممكن وفى دوران الفتنة أن تطالنا .. فوارد جدا أن تجد الاعداء غدا أمام بيتك , فيا ترى – ساعتها – هل ستثبت أم ستبيع دينك ؟! وزوجتك ستثبت أم تبيعك ؟! وأولادك هل سيثبتون على الدين أم أنهم سيتيهون ويتعلمنون ويتشردون ؟!! ..

تدبر ما أقول لك وقف مع نفسك وقفة رجل يريد لها النجاة .. انشغل بنفسك وأهل بيتك , قال الله – تعالى - : " يا أيها الذين اّمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا " ( التحريم : 6 ) .

نعـــم : إن انشغالك بنفسك هو الاصل , قال الله : " فقاتل فى سبيل الله لا تكلف الا نفسك "

( النساء : 84 ) , وقال – تعالى - : " ولا تزر وازرة وزر أخرى " ( الانعام : 164 ) ..

فالأصل فى الاسلام : انج بنفسك أولا .

أيها الاخ الكريم , سؤال واضح ومحدد وصريح ويحتاج الى إجابة قاطعة : كيف حالك مع الله ؟ ..

اسألك فى التو واللحظة : الاّن , هل الله راض عنك ؟ أجب ولا تكن مغرورا .. لو مت اليوم فى لحظتك هذه , هل ستكون من النبى محمج صلى الله عليه وسلم فى الجنة ؟! .. هذه هى القضية التى أقصدها .. أن تجعل نفسك قضيتك , ورضا ربك عنك هو موضوعك .

نعم يا شباب : كلنا مشغولون , ولكن 99 % من الشغل بالاخرين , 99 % من الشغل بأنفسنا ليس بالله .. حتى الجزء اليسير الذى ننشغل فيه بأنفسنا لنصلحها لا يكون لله – ولا حول ولا قوة الا بالله - , فاللهم اروقنا الاخلاص واجعلنا من أهله , لذلك لا تغتر بعبادات تؤديها , وقربات تقوم بها , وطاعات تقدمها , وعبادات تغتر بصورها وهى فى الحقيقة من الفتنة .

أيها الاخوة فى الله , أحبتى فى الله , تأملوا معى هذه القصة : خرج رجل من الصوفية الى الخلاء يعبد الله , فوجد فى الصحراء على الارض غرابا أعمى مكسور الجناح , فوقف يتأمل : سبحان الله ! غراب أعمى مكسور الجناح وفى صحراء ! من أين يأكل ويشرب وكيف يعيش ؟! فبينما هو ينظر إذ جاء غراب اّخر فوقف ففتح الغراب الاعمى فمه , فأطعمه الغراب الاخر فى فمه وسقاه حتى شبع تعجب الرجل وقال : سبحان الله ! .. والله لقد أرانى الله اّية .. أبعد هذا أسعى من أجل الرزق .. وأوى الى كهف فأقام فيه , فسمع به عالم فسأل عن مكانه , فقالوا : أوى الى كهف يتعبد , فمضى اليه وقال له : ما الذى حملك على ما صنعت ؟ فحكى له قصة الغراب , فقال له : سبحان الله ! ولم رضيت أن تكون الاعمى ؟!! .

سبحان الله العظيم , كم فى هذه القصة من فوائد ! .. منها : تصديق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم " نضر الله امرءا سمع مقالتى فوعاها فأداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى من سامع " [صححه الألبانى]

فالله أرى الاّية للرجل الاول , وأما الثانى فسمع بها فقط ولكنه انتفع بها أكثر من الاول , فكان أفضل من الاول , فلم لا تكون الافضل ؟! ..

لماذا ترضى أن تكون الاعمى ؟! , لم لا تكون أنت المبصر وتطعم العمى ؟! , لم ترضى الدنية ؟! لم تؤثر النوم والكسل ؟! .. هذا هو الواقه الاّن فى الامة , فشبابها اليوم يفضلون العمى , يريدون ان يناموا وغيرهم يعملوا لهم ينتظرون من يحمل عنهم همومهم , ويحلوا لهم مشاكلهم .

نعم – إخوتاه - : كثير منا يطالب دائما بحقوقه ولا يلتفت الى واجباته .. فقبل أن تطالب بحقك أد ما عليك من واجب , ولاشك أن أول الواجبات علينا أنفسنا .. وللاسف الشديد تجلس مع بعض الاخوة فتجد أحدهم يقول : أنا خائف على الاخ فلان , لأنه ظل أياما لم يصل الفجر .. أقول له : خف أنت على نفسك .

نعـــم : لا مانع من أن نخاف على إخواننا , ولكن لا ينبغى أن ننشغل بعيوبهم , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يرى أحدكم القذاة فى عين أخيه , ولا يرى الجذع فى عين نفسه " . [موقوف على أبى هريرة]

فإذا كنت يا هذا صادقا فى كلمتك " أخاف على فلان " فاذهب اليه سرا , وابحث عنه لعله متورط فى مشكلة , لعل له عذرا , اذهب اليه وساعده على القيام للصلاة , والا فاكفه شرك , ولا تعن الشيطان عليه , وانشغل بنفسك فهذا أولى بك .

الزم نفسك والزمها طاعة الله .. احمل هم نفسك , فهذا أصل من الاصول المهمة .. وليسعك بيتك .. انشغل بإصلاح قلبك , وأمر صلاتك , وذكرك لله , وحفظك للقراّن , وتعلمك للعلم , ودعوتك الى الله , وتربية أولادك وأهل بيتك على الكتاب والسنة .. وليسعك بيتك .

* * *

الأصل الثامن : الصادق حبيب الله

الأصل الثامن : الصادق حبيب الله

أريد أن أسألك سؤالا , وأجبنى بصراحة : بالله عليك , هل تريد أن تدخل الجنة أم تود أن يكون معك اليوم مليونا من الجنيهات ؟!: لا تجب الان لأنك ستكذب , ربما تقول : الاثنين , نجمع بين الخيرين .. أعطنى المليون وأدخلنى الجنة أيضا , أقول : لا .. لا يكون , فالقضية إما دنيا وإما اّخرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الاخرة قد تولت مقبلة , وإن الدنيا قد تولت مدبرة , ولكل منهما بنون , فكونوا أبناء الاخرة ولا تكونوا أبناء الدنيا " .

من انشغل بدنياه أضر باّخرته ومن انشغل باّخرته أضر بدنياه ولابد .

شعبة بن الحجاج أمير المؤمنين فى الحديث قال " لازمت الحديث فأفلست , ولزم أخى فلان دكانه فأنجح وأفلح " قال " فلان " ظل يتاجر حتى أصبح صاحب ملايين , أما أنا فطلبت العلم وليس عندى الاّن أى شىء ..

ولذلك قال الامام الشافعى " لا يصلح لطلب هذا العلم الا رجل ضربه الفقر . قالوا : ولا الغنى المكفّى ؟ قال : لا .. يعنى : حتى من كان عنده مال يكفيه لا يصلح لطلب العلم .. ولأجل ذلك أقول بدون مبالغة : كلكم غير صالحين لطلب العلم , لأننا – يا شباب – أصحاب دنيا . فلنكن صادقين وواضحين وصرحاء .. فلو كنا نطلب الله لرضينا بالكفاف .

بقى بن مخلد .. ذلكم العالم تلميذ الامام أحمد , لما اشتكى إليه الطلبة الفقر , قال : والله لقد جاء علىّ يوم بعت فيه سروالى لاشترى الكاغد – الورق - , وقال : ولقد كانت تمضى علىّأيام لا أذوق فيها طعاما , فانتقل بين المزابل اّكل ورق الكرنب الذى يلقيه الناس .. نعم : هذا هو طالب العلم .. وهذه هى الاخرة .. وهؤلاء هم الصادقون .

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " طوبى لمن هدى الاسلام , ورزق كفافا , وقنعه الله بما اّتاه" [صححه الألبانى]

وقال صلى الله عليه وسلم " اللهم اجعل طعام اّل محمد قوتا " [البخارى] وكان صلى الله عليه وسلم لا يدخر لغد .

أخوتاه , ما المقصود بالصدق ؟ .. لأن الناس اليوم قد صغروا قضية الصدق جدا , فعندما يأتى أحد ليتكلم فى الصدق تنصرف الاذهان الى قول الحق وصدق اللسان فقط , والصدق معنى لأكبر من ذلك بكثير .. نعم : فنحن فى زمن تصغير الكبير .. تصغير الكبائر والقضايا الكبيرة وتكبير الاصاغر والمسائل الصغيرة .. والصدق أكبر مما تظنون .

الصدق – إخوتاه – هو الاسلام , قال – سبحانه وتعالى – " والذى جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون "

( الزمر : 33 ) , وقال ربنا " ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من اّمن بالله واليوم الاخر والملائكة والكتاب والنبيين واّتى المال على حبه ذوى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفى الرقاب وأقام الصلاة واّتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين فى البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا " ( البقرة : 177 ) . فبعد أن ذكر الله أركان الايمان أركان الاسلام , قال : " أولئك الذين صدقوا " .. إذا فالصدق هو الدين كله .. والتقوى أيضا تشمل الدين كله , فكل طاعة تقوى .

لكن أعز أنواع الصدق : صدق العزم , قال – تعالى – " طاعة وقول معروف فإذا عزم الامر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم " ( محمد : 21 ) .. هذه الاية مبهرة .. اقرأها ثانية .. هل فهمتها ؟ ..

أسألك : لديك رغبة فى دخول الجنة ؟ .. لديك استعداد لقيام الليلة من أولها لاخرها , وتصبح صائما , وتتصدق بنصف ما تملك من مال ؟ , تقول : نعم , ان شاء الله .. وهذا ما يقوله الله فى الاية .. " طاعة وقول معروف " .. فترى هذا الشخص يسمع الكلام فيتكلم كلاما جميلا , فإذا عزم الامر .... أتدرى ما معنى هذه النقاط ؟! , أى إذا عزم الامر لم تجد أحدا , " فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم " .

يقول ربك : " وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة " ( النور : 53 ) .

عندى كراسة اسمها " اّيات فاضحة " .. أجمع فيها الايات التى تفضح البواطن وتظهر الحقائق وتجلو الخفايا السيئة والرديئة , ايات تحس حين تقرؤها أنها تتكلم عنك أنت وتوجه أصابع الاتهام إليك وهذه الاية منها , اية فاضحة فعلا , فوقت الكلام تجدهم , لكن وقت الجد والتنفيذ ما تجد أحدا على الاطلاق – اللهم استرنا ولا تفضحنا , اللهم عافنا ولا تبتلنا , اللهم تب علينا يا رب العالمين , اللهم إنا نسألك أن ترزقنا الصدق والاخلاص , اللهم ارزقنا صدق العزم معك يا الله .. اّمين .

إخوتاه , اصدقوا فى عزمكم مع الله , وكونوا على استعداد للوفاء بهذا العزم , فإن النفس قد تسخو بالعزم فى الحال , إذ لا مشقة فى الوعد والعزم , فإذا حقت الحقائق , وهاجت الشهوات , انحلت العزيمة ولم يتحقق الوفاء بالعزم . قال – سبحانه وتعالى – " من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا " ( الاحزاب : 23 )

عن أنس بن مالك رضى الله عنه : " عمى أنس بن النضر – سميت به – لم يشهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم – فكبر عليه – فقال : أول مشهد قد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عنه !! , أما والله , لئن أرانى الله مشهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرين الله ما أصنع , قال : فهاب أن يقول غيرها , فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد من العام المقبل , فاستقبل سعد بن معاذ , فقال : يا أبا عمرو , إلى أين ؟ - تنبيها على خطئه فى الانهزام والفرار - , ثم قال أنس : واها لريح الجنة !! أجدها دون أحد . فقاتل حتى قتل , فوجد فى جسده بضع وثمانون , من بين ضربة وطعنة ورمية . قالت عمتى الربيع بنت النضر : فما عرفت أخى الا ببنانه . ونزلت هذه الاية : " رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا " ( الاحزاب : 23 ) [متفق عليه] .. لله دره من صادق ربانى !! .. يجد حلاوة العمل قبل الشروع فيه , يجد ريح الجنة قبل أن يقاتل ! .. وما ذاك الا لصدقه فى الوفاء بالعزم .

أيها الاخوة الاحباب , من الشواهد القوية على الصدق فى قصة أصحاب الاخدود : أن الولد حينما تعلم من الراهب التوحيد وتعلم من الساحر الكفر , كان فى داخل قلبه إرادة صادقة فى معرفة الحق لديه ميول فطرية للراهب لكنه يريد ان يككون لديه يقين ان ما هو عليه هو الصواب ..

قال : حين رأى دابة تقطع طريق الناس اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك فاقتل الدابة ودع الناس يمشون .. فلما كان صادقا فى طلب الحق أراه الله اّية .. وهذه نقطة مهمة جدا , أنه صدق فعرفه الله الحق فعرفه وسار عليه وثبت , فشق شيخه أمامه نصفين وشق صديقه أمامه نصفين , وصعد به الى الجبل وأدخل الى البحر وهو فى منتهى الثبات . وعلامة الصدق أنه دل الملك كيف يقتله !! قال الغلام للملك : لست بقاتلى حتى تفعل ما اّمرك به , خذ سهما من كنانتى وضعه فى كبد قوسك ثم قل : بسم الله رب الغلام , حينذاك تقتلنى .. إذا فالغلام هو الذى دل الملك كيف يقتله .. ولم ضحى بنفسه فى سبيل القتل ؟! , حتى يسمع الناس كلمة : بسم الله .. حتى يعرف الناس أن لهم معبودا اسمه الله .. هذا هو الصدق .

شاهد ثان فى الصدق من نفس القصة .. الراهب لما جاءه الغلام وقال له : كانت دابة تعترض طريق الناس فرميتها فقتلتها , قال له الراهب : أى بنى , أنت اليوم أفضل منى .. صدق .. فلم يخف تلك الافضلية . حتى الساحر كان صادقا مع نفسه .. تعلمون أن الساحر كذاب كبير , ولكنه كان صادقا مع نفسه , حيث قال للملك : إنى كبرت , فأبلغنى غلاما أعلمه السحر يكن لك من بعدى .. الساحر يقول : أنا سأموت .. لم يداهن نفسه – وإن كان يداهن الناس .

إذا فالغلام صدق فعرف , والراهب صدق فلم يخف , والساحر صدق فلم يداهن نفسه .

وإن كنت تعجب من قولنا : صدق الساحر مع نفسه , فالعجب أكثر لمن لم يصلوا حتى إلى تلك الدرجة " الصدق مع النفس " .. هؤلاء الذين يداهنون حتى على الواقع .. إن بعضنا – وللاسف الشديد – يكذب الكذبة فتكبر فيصدقها .. يلتزم بالكذب فتكبر الكذبة , وينسى أنه هو الذى كذبها فى الاصل , فيعيش كذبة " شيخ " أو " ملتزم " .. تماما كالذى فى يده بعرة يتأفف منها , ولكن الناس ظنوها تمرة , فقالوا : تمرة .. تمرة لذيذة فى يده .. فأكلها !!! .. نعم : أكلها لمهانة نفسه .

قال محمد بن كعب : إنما يكذب الكاذب من مهانة نفسه عليه .

قال بعضهم : لا يشم رائحة الصدق داهن نفسه أو غيره .

أيضا من القصص الطريفة , أنه كان هناك رجل أمى لا يعرف القراءة ولا الكتابة ومعه خطاب , فكان يمشى فى الشارع فأعطى الخطاب لرجل يقرؤه له , لكن هذا الرجل كان ضعيف النظر , فحاول أن يقرأ فلم يستطع , فأخرج نظارته وقرأه له وقعد يفهمه الموضوع .. فقال الامى فى نفسه متعجبا : النظارة فعلت كل هذا !! .. وقال للرجل : ما هذه النظارة العجيبة ؟! قال له : هذه نظارة قراءة , فذهب واشترى نظارة قراءة ولبسها وأخذ ينظر بها ولا يستطيع القراءة !! .. ونسى أن القضية ليست فى النظارة .. القضية فى الدماغ التى وراء النظارة .. فهمت ما أقصد ؟! .

فبعض الناس يعتقد أنه طالما أطال لحيته , وقرأ كتابين , واستمع لبعض الشرائط , وحضر بعض الدروس قد أصبح " الامام " .. لا يا بنىّ , القضية فى القلب الذى وراء النظارة .. فى القلب الذى وراء المظهر .. نعم – إخوتاه - : لابد أن يوافق المظهر المخبر , والا كنا كذابين غشاشين مخادعين لأنفسنا قبل الناس .

قال عبد الواحد بن زيد : كان الحسن البصرى إذا أمر بشىء كان من أعمل الناس به , وإذا نهى عن شىء كان من أترك الناس له , ولم أر أحدا قط أشبه سريرة بعلانية منه .

وكان أبو عبدالرحمن الزاهد يقول : إلهى , عاملت الناس فيما بينى وبينهم بالأمانة , وعاملتك فيما بينى وبينك بالخيانة , ويبكى .

وقال أبو يعقوب النهرجورى : الصدق موافقة الحق فى السر والعلانية .

إخوتاه , اصدقوا فى أعمالكم مع الله , " فمخالفة الظاهر للباطن عن قصد هى الرياء , وإن كانت عن غير قصد يفوت بها الصدق , فقد يمشى الرجل على هيئة السكون والوقار وليس باطنه موصوفا بذلك الوقار , فهذا غير صادق فى عمله , وإن لم يكن مرائيا " .

سؤال : هل تحب أن ينصر الله الاسلام ؟ .. أرأيت أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم كل أمة محمد صلى الله عليه وسلم مثلك .. لو أن الامة كلها الصغار والكبار مثلك بالضبط .. بذنوبك وعيوبك وإيمانك وأعمالك .. تنصر الامة ؟! .. الامة تنصر بالخلص .. اللهم اجعلنا من المخلصين.

هل تصلح أنت للنصر ؟! .. لايمكن , وإلا فلو قلت : نعم , فأنت مغرور جدا .. إذا أقول لك : إن قولك : إنك تحب أن ينصر الله الإسلام كذب .. أول نصر الدين أن تصلح نفسك .. من هنا البداية .

ولذا , فحينما أقول لك : هل تصلح أن تكون مجددا للاسلام ؟ , فلا تقل : الله المستعان وتنصرف .. لا .. فكلمة " الله المستعان " هذه تحتاج إلى شغل , تحتاج إلى علم وعبادة , تحتاج إلى صلة بالله , تحتاج إلى جهد ليل نهار .. فإن كنت صادقا مع الله فتعال إلى هنا واحفر لنفسك خندقا .. احفر بنفسك .. احفر واتعب , فامر الدين يحتاج إلى شغل وسهر وجهاد , فاصدق ولا تكن كذابا .

الامام النووى لما جاءه الموت قالوا له : لم لم تتزوج ؟ , قال : لو تذكرت لفعلت .. نسيت .. والامام ابن تيميّة أيضا مات ولم يتزوج .. أيضا نسى .. سبحان الله العظيم ! نسوا الزواج , تلكم القضية التى تكاد تطيش بعقول الشباب اليوم .. والملتزم منهم على الخصوص .

نعـــم : فمن يوم أن يلتزم الشاب لا تجد شيئا فى رأسه يفكر فيه ليل نهار إلا الزواج , فصارالزواج شغله الشاغل وهمه الدائم , ولذلك أصبح الزواج عقبة .. فتراه ّا رأى منتقبة قال : أتزوج هذه .. لالا , بل هذه .. وهكذا .. ليس هؤلاء المؤمل لهم أن يكونوا رجالا .. فهل هؤلاء هم الذين سيحملون الدين ؟! .. هل هؤلاء هم الذين سينصر الله بهم الدين ؟!! , وأين الرجال ؟!!! , بل أين أنصاف الرجال ؟! , بل أين أين أشباه الرجال ؟!! .. يا حسرة على الرجال !!

إخوتاه , إن الله ينصر الدين برجال قضيتهم الدين .. رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه .. رجال لا يعرفون إلا الله .. رجال يحبون الله ويحبهم .. رجال صادقون فعلا .

إخوتاه , اصدقوا الله فى استقامتكم ..استقيموا بصدق ولا تلتفتوا إلى غير الله .

قال الشاعر :

أردنـاكـم صــرفـا فـلمّـا مــزجتـم بعدتم بمقدار التفاتكـــــم عنّـّا

وقلنا لكم لا تسكنوا القلب غيرنا فأسكنتم الأغيار , ما أنتم منّا

قال جعفر الصادق : الصدق هو المجاهدة , وأن لا تختار على الله غيره , كما لم يختر عليك غيرك , قال – تعالى – " هو اجتباكم " ( الحج : 78 ) .

والصدق – إخوتاه – مفتاح الصّدّيقية , وأعلى مراتب الصدق : كما جاء فى الحديث : " وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صدّيقا " [متفق عليه] . فالصدق مفتاح الصديقية , ومبدؤها وهى غايته , فلا ينال درجتها كاذب ألبتة , لا فى قوله , ولا فى عمله , ولا فى حاله .. قال الله – تعالى – عن أبى بكر رضى الله عنه : " والذى جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون " ( الزمر : 33 ) .

قال على بن أبى طالب رضى الله عنه : والذى نفسى بيده , إن الله سمى أبا بكر فى السماء صديقا .

فالذى جاء بالصدق : من هو شأنه الصدق فى قوله وعمله وحاله .

فالصدق : فى هذه الثلاثة . فالصدق فى الاقوال : استواء اللسان على الاقوال , كاستواء السنبلة على ساقها . والصدق فى الاعمال : استواء الافعال على الامر والمتابعة , كاستواء الرأس على الجسد . والصدق فى الاحوال : استواء أعمال القلب والجوارح على الاخلاص , واستفراغ الوسع , وبذل الطاقة , فبذلك يكون العبد من الذين جاءوا بالصدق .

وبحسب كمال هذه الامور فيه وقيامها به , تكون صديقيته , ولذلك كان لأبى بكر الصديق رضى الله عنه ذروة سنام الصديقية , سمى : " الصديق " على الاطلاق , و" الصّدّيق " أبلغ من الصدوق

والصدوق أبلغ من الصادق . فأعلى مراتب الصدق : مرتبة الصّدّيقية , وهى كمال الانقياد للرسول صلى الله عليه وسلم , مع كمال الإخلاص للمرسل .

قال ابن القيم : " قال شيخنا : والصّديق أكمل من المحدّث , لأنه استغنى بكمال صديقيته ومتابعته عن التحديث والإلهام والكشف , فإنه قد سلم قلبه وسره وظاهره وباطنه للرسول صلى الله عليه وسلم , فاستغنى به عما منه . قال : وكان هذا المحدّث يعرض ما يحدّث به على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم , فإن وافقه قبله , وإلا ردّه , فعلم أن مرتبة الصديقية فوق مرتبة التحديث ".

والفهم عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عنوان الصديقية , ومنشور الولاية النبوية , وفيه تفاوت مراتب العلماء , حتى عدّ ألف بواحد .

أخى فى الله , حبيبى فى الله , الصادق جبيب الله , فهل تريد الله أم تريد الدنيا ؟ .. هل تريد الجنة أم تريد شهواتك ؟ .. تريد الرّفعة فى الدنيا أم تريد المنزلة العليا فى الجنة ؟ .. هذه قضية تحتاج منك أن تكون صادقا فيها .. فاصدق الله , فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اصدق الله يصدقك " [صححه الألبانى] .

قال أبو سليمان : اجعل الصدق مطيتك , والحق سيفك , والله – تعالى – غاية طلبتك .

وقال ذو النون المصرى : الصدق سيف الله فى أرضه ما وضع على شىء إلا قطعه .

وقيل : من طلب الله بالصدق , أعطاه الله مراّة يبصر منها الحق والباطل .

وقال محمد بن سعيد المروزى : إذا طلبت الله بالصدق , اّتاك الله تعالى مراّة بيدك , تبصر كل شىء من عجائب الدنيا والاّخرة .

وقال أبو سليمان : "من كان الصدق وسيلته , كان الرضا من الله جائزته " .. فاصدق الله – أخىّ – فالصادق حبيب الله .

***

الأصل التاسع : دوما فى المعاملة السحب من الرصيد

الأصل التاسع : دوما فى المعاملة السحب من الرصيد

فى المعاملة مع الله – جل جلاله – دائما السحب من الرصيد .

قال الله – تعالى – " فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون "

( سورة المائدة : 49 ) .

وأنت سائر فى طريقك إلى الله تفاجأ بأنك قد تعثرت عليك طاعة لست قادرا على قيام الليل مثلا ونسأل ما السبب ؟! .

قال سفيان : اغتبت إنسانا فحرمت قيام الليل شهرا .. وقال بعضهم : أصبت ذنبا فأنا منذ أربع سنين إلى ورا .. أرع سنين فى النازل بسبب ذنب .. قال الله " إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا " ( اّل عمران : 155 ) .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "احفظ الله يحفظك , احفظ الله تجده تجاهك .. تعرف الى الله فى الرخاء يعرفك فى الشدة " .. هذا هو معنى كلمة " السحب من الرصيد " .

فلابد أن يكون لك عند الله رصيد سابق من الخيرات يثمر خيرات جديدة يقبلك الله بكلتيهما ويكونان رصيدا لك فى المستقبل .

وهكذا .. " والذين اهتدوا زادهم هدى واّتاهم تقواهم " ( محمد : 17 ) , فكلما ازدادوا هدى اّتاهم تقوى , وكلما ازدادوا تقوى زادهم هدى .

إن التعامل مع ربنا الكريم عظيم , وكلما كان رصيدك عنده أعلى كان رزقك منه فى الخيرات أوفر .

انظر الى الثلاثة الذين نزلت عليهم الصخرة فى الغار لما كانوا فى الاصل وأول الامر مخلصين ,بدليل أنهم توسلوا بأعمال كانوا فيها مخلصين , وفقهم الله للتوسل بها .. يعنى : كى يوفقك الله فلابد أن يكون لديك عمل , قال – سبحانه وتعالى - " وهو وليهم بما كانوا يعملون " ( الانعام : 127 ) . فالولاية تحتاج للعمل إذا فحينما تأتى لتبدأ فى التعامل مع الله فأنت تسحب من رصيدك السابق من أعمال عنده , فتستجلب بها الزيادة والجديد .

والبداية – لاشك – تحتاج إلى معاناة , لذا يقول العلماء " من كانت له بداية محرقة , كانت له نهاية مشرقة " .. أن تكون الانطلاقة الاولى قوية ومؤثرة وصحيحة ..

قال أحد السلف : عالجت قيام الليل عشرين سنة ثم تمتعت به عشرين سنة .. وقال اّخر : حرست قلبى عشرين سنة فحرسنى عشرين سنة .. نعم : لابد دائما أن يكون السحب من الرصيد .

كنت مرة فى سفر لبلد غربى فرأيت فى المسجد شابا قد امتلأ وجهه بنور الايمان , فتعجبت من أن أجد فى هذا الجو وجها يذكّر بالله , فقلت له : من أنت وما الذى جاء بك إلى هنا ؟, قال لى : منذ شهر وأنا ماكث فى المسجد لا أخرج .. لماذا ؟! .. قال : لأننى عندما سافرت إلى هذا البلد انبهرت , وطبعا كنت اعيش فى بلدى فى الكبت , فلما جئت إلى هنا وجدت الانفتاح , ولا أحد يقول لى : أين تذهب أو من أين أتيت ؟, فالحياة مفتوحة , فشرب للخمر وزنا وسرقة وكل شىء .

يقول : حتى مرضت مرضا شديدا جدا .. كنت أظل أسعل حتى أسقط من على السرير وأنا فى الشقة وحدى .. وفى لحظة سعلت فوقعت فحاولت أن أقوم فلم أستطع .. فقلت : يا رب يا رب يا رب وبكيت .. ثم أفقت وقلت : يا رب !! لكن بأى وجه أنادى ربى ؟!! .. فأنا لا أصلى ولا أصوم ولا أعرف ربنا .. أقول يا رب بماذا ؟! .. قال : وساعة أن وقعت فى ذهنى هذه الكلمة , ارتعشت وخرجت أجرى بسرعة أبحث عن مسجد , فوجدت هذا المسجد فدخلت فيه ولم أخرج حتى الاّن !!

فالذى أعجبنى – يا شباب – من هذا الموقف هو كلمة هذا الشاب : أقول : يا رب , لكن يا رب بم ؟! " .. ماذا لدىّ عند الله كى أدعوه ؟!.. وهذا هو معنى : " تعرف إلى الله فى الرخاء يعرفك فى الشدة " .. هذا هو معنى الكلمة التى أقولها لكم دائما : " إياك أن تبيعه فيبيعك " .

وهو أيضا معنى حديث النبى صلى الله عليه وسلم : " وأما الثالث فأعرض , فأعرض الله عنه " [أخرجه مسلم]

ومعنى قول الله عز وجل : " نسوا الله فنسيهم " ( التوبة : 67 ) .

فماذا قدمت وما رصيدك لكى تطلب ؟! , وهل تريد من الله وأنت لست على ما يريد ؟!! ..

قال ابن القيم – عليه رحمة الله - : " كن لله كما يريد , يكن لك فوق ما تريد " .. فلذلك دوما فى المعاملة السحب من الرصيد .

عن الشعبى : أن قوما من المهاجرين خرجوا متطوعين فى سبيل الله , فنفق حمار رجل منهم , فأرادوه على أن ينطلق معهم فأبى , وانطلق أصحابه مرتحلين وتركوه , فقام فتوضأ وصلى , ثم رفع يديه فقال : اللهم إنى خرجت من الدفينة ( مكان بين مكة والبصرة ) مجاهدا فى سبيلك وابتغاء مرضاتك , وأشهد أنك تحيى الموتى وتبعث من فى القبور . اللهم فأحى لى حمارى . ثم قام إلى الحمار فضربه , فقام الحمار ينفض أذنيه , فأسرجه وألجمه ثم ركبه , فأجراه حتى لحق بأصحابه , فقالوا له : ما شأنك ؟ , قال : شأنى أن الله بعث لى حمارى ..

نعـم : هذا هو الرصيد الذى سحب منه , ولذلك استجيب دعاؤه . وهذا معنى التوسل بالعمل الصالح , " ربنا إننا سمعنا مناديا ينادى للايمان ان اّمنوا بربكم فاّمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا " ( اّل عمران : 193 ) .. انظر إلى فاء الترتيب فى قوله – تعالى - : " ربنا فاغفر " أى نتوسل لك بسرعة استجابتنا لمناديك أن تستجيب دعاءنا .

وانظر إلى البراء بن مالك الذى لقى المشركين وقد أوجعوا فى المسلمين , فقالوا له : يا براء , إن رسول الله قال : " إنك لو أقسمت على الله أبرك " فاقسم على ربك , فقال : أقسم عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم , وألحقتنى بنبيك , فمنحوا أكتافهم , وقتل البراء شهيدا .. نعم : مجاب الدعوة ..

يسال ربه النصر للمسلمين , ولنفسه الشهادة , فيجاب وينالها .. سبحان الله العظيم يقسم على الله فيجيب فى التو واللحظة .. نعم – إخوتاه - : لأن له فى الاصل رصيدا يسحب منه .

والواعظ البر عمر بن ذر , قال عنه كثير بن محمد : سمعت عمر بن ذر يقول : اللهم إنا أطعناك فى أحب الاشياء إليك أن تطاع فيه : الايمان بك والاقرار بك , ولم نعصك فى أبغض الاشياء أن تعصى فيه : الكفر والجحد بك . اللهم فاغفر لنا بينهما , وأنت قلت : " وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت " ( النحل : 38 ) , ونحن نقسم بالله جهد أيماننا لتبعثنّ من يموت , أفتراك تجمع بين أهل القسمين فى دار واحدة ؟. نعم : قدم الطاعة والايمان وابتعد عما يغضب الرحمن , فحرى أن يستجاب له .

وعامر بن عبد قيس الذى كان يسأل ربه أن ينزع شهوة النساء من قلبه , فكان لا يبالى أذكرا لقى أم أنثى .. استجاب الله دعاءه , لأن له عند الله رصيدا كبيرا من الصالحات .. فما رصيدك أنت لكى تطلب ؟!

حبيبى فى الله , أدلك على ما يزيد فى رصيدك من الحسنات ؟ .. القراّن .. القراّن معين لا ينضب .. هو أفضل الذكر وأحسن الطاعات , فعض عليه يساعدك فى القيام بالصالحات .

أخى فى الله , قدم صالحا تجد صالحا .. املأ رصيدك لتسحب منه عند الحاجة , فدوما فى المعاملة مع الله السحب من الرصيد .

* * *

الأصل العاشر : القراّن قائد وسائق وحاد

الأصل العاشر : القراّن قائد وسائق وحاد

قال الله – عز وجل – " ولو شئنا لبعثنا فى كل قرية نذيرا * فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا "

( الفرقان : 51- 52 ) .. وجاهدهم بماذا ؟ , بالقراّن .. كأن الله – جل جلاله – يشير فى هذه الاية إلى أن هذا القراّن بديل من إرسال الرسل , فقد كفل الله به مهمة جميع الرسل , بأن يصنع القراّن رجالا كالرسل .

يقول ربى – وأحق القول قول ربى – " وقالوا لولا أنزل عليه اّيات من ربه " ( العنكبوت : 50 )

فقال الله " أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم " ( العنكبوت : 51 ) .. فهم يطلبون اّية فعرفهم أعظم اّية .. هى القراّن .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من نبى قبلى الا وأوتى ما على مثله اّمن البشر , وكان الذى أوتيته كتابا يتلى , وأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة ". [متفق عليه]

وفى سورة البقرة يقول الله – سبحانه وتعالى – " أو كالذى مر على قرية وهى خاوية على عروشها قال أنى يحيى هذه الله بعد موتها فأماته الله مئة عام ثم بعثه "( البقرة : 259 ) الرجل يقول : هل يعقل أن يحيى الله هذه .. كيف "! , فأراه الله الاّية فى نفسه أماته الله وأحياه .. قال له : أرأيت ؟ قال : ما رأيت شيئا .. قال له الله : كم لبثت ؟ قال : لبثت يوما أو بعض يوم .. لا .. " فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك " .. أراه الاّية بعينيه " وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما ( البقرة : 259 ) .. الحمار قدّامه .. هيكل عظمى على الارض , بدأ العظم يقف ويتركب بعضه فى بعض , وبعد العظم الغضاريف وبعدها كسى اللحم ثم نفخ فى الحمار الروح ونهق .. نظرت بأم عينيك ؟ !.. " قال أعلم أن الله على كل شىء قدير " ( البقرة : 259 ) .

وبعد هذه القصة مباشرة : " وإذ قال إبراهيم رب أرنى كيف تحى الموتى " ( البقرة : 260 ) .. نفس السؤال .. لكنّ الله لم يره الاّية فى نفسه , بل قال " فخذ أربعة من الطير فصرهنّ إليك ثم اجعل على كل جبل منهنّ جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا " ( البقرة : 260 ) .. فالأول أراه الله الاّية فى نفسه , وسيدنا إبراهيم أراه الله الاّية فى الطير .. فى الكون .

ونفس السؤال وجّهه العاص بن وائل السهمى , وأبى بن خلف إلى النبى محمد صلى الله عليه وسلم , قال الله

" وضرب لنا مثلا ونسى خلقه قال من يحى العظام وهى رميم " ( يس : 78 ) فأجاب الله عليه بقراّن :

" قل يحييها الذى أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم * الذى جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون * أو ليس الذى خلق السموات والارض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم " ( يس : 79 – 81 ) .

إذا فالأول أراه الله الاّية فى نفسه .. فى حماره وطعامه , وسيدنا أبراهيم عليه السلام أراه الله الاّية فى الطير , أما فى أمة محمد صلى الله عليه وسلم فالاّية فى القراّن , هذه هى القضية .. قضية كلية .. أن ديننا كله مرده إلى القراّن والسنة .. القراّن هو الاصل والسنة متمّمة ومكملة ومفسرة .. ولذلك لابد أن تتذكروا دوما : " كل ما شغلك عن القراّن فهو شؤم عليك " .

بعض الناس طيلة الوقت يستمع إلى الشرائط , ويحضر للمشايخ , ويقرأ فى كتب العلم وهو هاجر للقراّن .. كل هذا لن ينفعك .. القراّن هو الذى يصنعك .. القراّن يربيك .. القراّن ينفعك .. فعليك بالقراّن حفظا وتلاوة وتدبرا وتفسيرا ومذاكرة .. تفهم معنى كلمة مذاكرة ؟!

القراّن فيه علم العقيدة والفقه والسيرة والتفسير والتاريخ واللغة والبلاغة والرقائق .. كل شىء .. القراّن كلام الله .. كتاب مبارك يربيك على العلم والعمل والدعوة .. القراّن هو طريقك لأن تكون رجلا .. نعم : القراّن هو الذى يصنع الرجال , وسيظل يصنعهم إلى أن يرث الله الارض ومن عليها.

نعم – إخوتاه - : القراّن مصنع الرجال .. القراّن يفرّخ الابطال .. فى حظيرة العبودية .. وأهل القراّن هم أهل الله وخاصته .. فهل أنت من أهل الله ؟ .. هل أنت من أهل القراّن ؟! .. هل وهبت كل حياتك للقراّن ؟, وهل وضعته على قمة أولوياتك ؟ .. هل فكرت مرة أن تذاكره كما تذاكر الكتاب المدرسى بجد واجتهاد ؟! .

أخى فى الله , إذا كنت بعيدا عن القراّن فاعلم أنك محروم كل الحرمان , ولو ذقت لما ابتعدت .. تعال إلى الله واعكف على القراّن لتصنع , وإلا فما أبعد الدواء عن تلك الأدواء .

قال – تعالى – " ولو أن قراّنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا "

( الرعد : 31 ) كان المشركون يطلبون من رسول الله صلى الله عليه وسلم اّيات حسية : تسيير الجبال أو تقطيع الأرض أو تكليم الموتى , فأنزل الله هذا القراّن ليس من شأنه ذلك بل أعظم من ذلك وهو صياغة النفوس , وصناعة القلوب , وإيجاد الإنسان الذى يرضاه الله له عبدا .

لقد تربى الصحابة – رضوان الله عليهم – أفضل جيل عرفه التاريخ على يد أعظم مرب عرفته البشرية .. تربوا بالقراّن , فكان منهم ما تسمع وتقرأ .. إيمان وثبات تزول دونه الجبال ..

وهاك مثالا واحدا منهم : عبّاد بن بشر .. صديق القراّن .. يقول الكتور عبدالرحمن رأفت باشا – رحمه الله تعالى - : " إن نشدته بين العبّاد وجدته التقى النقى قوّام الليل بأجزاء القراّن , وإن طلبته بين الأبطال ألفيته الكمى الحمى خوّاض المعارك لإعلاء كلمة الله , وإن بحثت عنه بين الولاة رأيته القوى المؤتمن على أموال المسلمين .

وقد استمع عبّاد بن بشر إلى مصعب بن عمير حين أتى المدينة وهو يرتل القراّن بصوته الفضى الدافىء ونبرته الشّجية الاّسرة , فشغف ابن بشر بكلام الله حبّا , وأفسح له فى سويداء قلبه مكانا رحبا , وجعله شغله الشاغل , فكان يردده فى ليله ونهاره وحله وترحاله حتى عرف بين الصحابة بالإمام وصديق القراّن " .

ومن الأئمة الذين رباهم القراّن , الإمام أبو بكر محمد بن أحمد بن سهل , المعروف بابن النابلسى:

قال عنه أبو ذر الحافظ : سجنه بنو عبيد – الفاطميون – وصلبوه على السّنّة , سمعت الدارقطنى يذكره ويبكى , ويقول , كان يقول وهو يسلخ : " كان ذلك فى الكتاب مسطورا " ( الإسراء : 58 )

" قال أبو الفرج ابن الفرج : أقام جوهر – القائد – لأبى تميم صاحب مصر أبا بكر النابلسى فقال له : بلغنى أنك قلت : إذا كان مع الرجل عشرة أسهم , وجب أن يرمى فى الروم سهما وفينا تسعة .. قال : ما قلت هذا , بل قلت : إذا كان معه عشرة أسهم وجب أن يرميكم بتسعة , وأن يرمى العاشر فيكم أيضا , فإنكم غيرتم الملة وقتلتم الصالحين , وادعيتم نور الألوهية .. فشهره ثم ضربه ثم أمر يهوديا فسلخه .

قال معمر بن أحمد بن زياد الصوفى : أخبرنى الثقة أن أبا بكر سلخ من مفرق رأسه , حتى بلغ الوجه , وكان يذكر الله ويصبر حتى بلغ الصدر , فرحمه السلاخ , فوكزه بالسكين موضع قلبه فقضى عليه , وأخبرنى الثقة : أنه كان إماما فى الحديث والفقه , صائم الدهر , كبير الصّولة عند العامة والخاصة , ولما سلخ كان يسمع من جسده قراءة القراّن " .

نعــم : لما أطعم القراّن لحمه , وأسقاه دمه .. لما اختلط القراّن بلحمه ودمه فجرى فى عروقه ونبض به حسه , نطق جسده الطاهر بالقراّن .. اللهم اجعلنا من أهل القراّن , اللهم لا تحرمنا نعيم القراّن وطعم القراّن ولذة القراّن وحلاوة القراّن .. يا كريم يا رحمن .. يا كريم يا منّان .

اللهم يا ربنا اجعل القراّن العظيم ربيع قلوبنا , ونور أبصارنا , وجلاء أحزاننا وهمومنا وغمومنا , اللهم اجعله حجة لنا لا علينا , اللهم اجعله لنا فى الدنيا إماما , وفى القبر مؤنسا , ويوم القيامة شفيعا , وعلى الصراط نورا , ومن النار سترا وحجابا .. اللهم يا ربنا ربّنا بالقراّن وللقراّن وعلى القراّن .. اللهم لا تحرمنا نعمة القراّن .. اّميـــن .

نعم – والله : القران نعمة . وتأمل مذا يقول من ذاق نعمة القراّن .. إنه رجل ربّاه القراّن وسرى بألفاظه ومعانيه فى دمه : " الحياة فى ظلال القراّن نعمة , نعمة لا يعرفها إلا من ذاقها , نعمة ترفع العمر وتباركه وتزكيه , والحمد لله لقد منّ علىّ بالحياة فى ظلال القراّن فترة من الزمان , ذقت فيها من نعمته ما لم أذق قط فى حياتى .. عشت أتملّى فى ظلال القراّن ذلك التصور الكامل الشامل الرفيع النظيف للوجود , لغاية الوجود كله وغاية الوجود الانسانى .. وعشت فى ظلال القراّن أحس التناسق الجميل بين حركة الإنسان كما يريدها الله وحركة هذا الكون الذى أبدعه الله .. وعشت فى ظلال القراّن أرى الوجود أكبر بكثير من ظاهره المشهود , أكبر فى حقيقته وأكبر فى تعدّد جوانبه , إنه عالم الغيب والشهادة لا عالم الشهادة وحده , وإنه الدنيا والاّخرة لا هذه الدنيا وحدها .. عشت فى ظلال القراّن أرى الإنسان أكرم بكثير من كل تقدير عرفته البشرية من قبل للانسان ومن بعد , إنه أنسان بنفخة من أمر الله .. وهو بهذه النفخة مستخلف فى الارض .. وفى ظلال القراّن تعلمت أنه لا مكان فى هذا الوجود للمصادفة العمياء ولا للفلتة العارضة , " إنا كل شىء خلقناه بقدر " ( القمر : 49 ) .

ومن ثم عشت – فى ظلال القراّن – هادىء النفس , مطمئن السريرة , قرير الضمير .. عشت أرى قضاء الله وقدره , أمره ومشيئته فى كل حادث , وفى كل أمر . عشت فى كنف الله وفى رعايته , عشت استشعر إيجابية صفاته – تعالى – وفاعليتها .. " أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء " ( النمل : 62 ) ..

" وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير " ( الانعام: 18 ) ..

" والله غالب على أمره ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون " ( يوسف : 21 ) ..

" واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه " ( الانفال : 24 ) ..

" فعال لما يريد "(البروج : 16 )

" ومن يتق الله يجعل له مخرجا " ( الطلاق : 2 ) ..

" ما من دابّة إلا هو اّخذ بناصيتها " ( هود : 56 ) ..

" أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه " ( الزمر : 36 ) ..

" ومن يهن الله فما له من مكرم " ( الحج : 18 ) ..

" ومن يضلل الله فما له من هاد " ( الزمر : 23 ) .

ذلك ما أحسّه وهو يقرأ القراّن ويعيش معه , فما النتيجة والحصيلة من هذه المعايشة الطويلة ؟ .. يقول رحمه الله : " وانتهيت من فترة الحياة فى ظلال القراّن إلى يقين جازم حاسم : أنه لا صلاح لهذه الارض , ولا راحة لهذه البشرية , ولا طمأنينة لهذا الانسان , ولا رفعة ولا بركة ولا طهارة ولا تناسق مع سنن الكون وفطرة الحياة إلا بالرجوع ألى الله , والرجوع إلى الله – كما يتجلى فى ظلال القراّن – له صورة واحدة وطريق واحد , واحد لا سواه , إنه العودة بالحياة كلها إلى منهج الله الذى رسمه للبشرية فى كتابه الكريم , إنه تحكيم هذا الكتاب وحده فى حياتها , والتحاكم إليه وحده فى شئونها , وإلا فهو الفساد فى الارض , والشقاوة للناس والارتكاس فى الحمأة الجاهلية التى تعبد الهوى من دون الله " فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهوائهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدى القوم الظالمين " ( القصص : 50 ) .

إن الاحتكام ألى منهج الله فى كتابه ليس نافلة ولا تطوعا ولا موضع اختيار , وإنما هو الايمان أو فلا ايمان .. والامر إذا جد .. إنه أمر عقيدة من أساسها , ثم هو أمر سعادة هذه البشرية أو شقائها .. إن هذه البشرية وهى من صنع الله لا تفتح مغليق فطرتها الا بمفاتيح من صنع الله , ولا تعالج أمراضها وعللها إلا بالدواء الذى يخرج من عنده – سبحانه - , وقد جعل فى منهجه وحده مفاتيح كل مغلق وشفاء كل داء " وننزّل من القراّن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين " ( الإسراء : 82 ) ..

" إن هذا القراّن يهدى للتى هى أقوم " ( الإسراء : 9 ) .

لقد تسلّم الإسلام القيادة بهذا القراّن وبالتصور الجديد الذى جاء به من القراّن , وبالشريعة المستمدة من هذا التصور .. فكان ذلك مولدا جديدا للانسان , أعظم فى حقيقته من المولد الذى كانت به نشأته . لقد أنشأ هذا القراّن للبشرية تصورا جديدا عن الوجود والحياة والقيم والنظم , كما حقق لها واقعا اجتماعيا فريدا كان يعز على خيالها تصوره مجرد تصور قبل أن ينشئه لها القراّن إنشاء .. نعم لقد كان هذا الواقع من النظافة والجمال والعظمة والارتفاع والبساطة واليسر والواقعية والايجابية والتوازن والتناسق .. بحيث لا يخطر للبشرية على بال , لولا أن الله أراده لها وحققه فى حياتها .. فى ظلال القراّن , ومنهج القراّن , وشريعة القراّن " .

لذلك نصيحتى لكم دائما : ربّوا أولادكم على القراّن , دعوهم للقراّن يربيهم .. ربّوهم وتربوا معهم على مائدة القراّن .. فالقراّن القراّن .. القراّن أصل .. ومن سلك طريق القراّن فقد بلغ مراد الله منه.

قال – تعالى – " واعتصموا بحبل الله جميعا " ( اّل عمران : 103 ) قال اعلماء : حبل الله : القراّن .. فاجعل القراّن معك وكن مع القراّن .. لا تنسه أبدا , فإنه القائد والحادى والسائق إلى الله .

اللهم اجعلنا وأهلينا وذرياتنا من أهل القراّن أهلك وخاصتك .

* * *

الأصل الحادى عشر : لا تلبس ثياب الفراغ أثناء العمل

الأصل الحادى عشر : لا تلبس ثياب الفراغ أثناء العمل

عندنا فى مصر تجد الميكانيكى طوال الاسبوع بملبس العمل المزيت تراه وهو لابس " العفريتة " الزرقاء , ويداه مزيتة ووجهه فيه الشحم , ويوم الاحد لا تعرفه ! .. فتراه قد رجل شعره ووضع عليه الفزلين والكريمات , ولبس البدلة ووضع المنديل الاحمر والازرة الالماظ , وارتدى النظارة الشمسية , وخرج فى أحسن صورة , وهو يقول : وقت الشغل شغل , أما اّخر الاسبوع فتنزه وفسح وترويح .. هذا الاسطى لو جاء الورشة بهذا اللبس ماذا يقول له صاحب الورشة ؟ سيقول له : ارجع , فليس هذا شكل من يريد أن يشتغل !! .. هذا ما اقصده بقول : لا تلبس ثياب الفراغ أثناء العمل .. فبعضنا يريد أن يعيش الجنة فى الدنيا مثل هذا الرجل .

إن بعضنا يريد أن يلتزم بالدين وفى نفس الوقت يريد شقة واسعة , ومحمولا وسيارة مكيفة , وعروسا عينها زرقاء وشعرها أصفر وطويلة وعريضة ومطيعة وطالبة علم , وعشرة أولاد صبيان , وبنتا تدللـه , وخداما وخدامة .. لا .. الدنيا دار ابتلاء " لقد خلقنا الانسان فى كبد " ( البلد : 4 ) .

" الذى خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا " ( الملك : 2 ) .

المؤمن فى هذه الدنيا فى شغل .. ومتى الفراغ ؟ .. الفراغ فى الجنة .. فحينما تدخل الجنة افعل ما شئت .. الدنيا دار عمل , فلا تلبس ثياب الفراغ أثناء العمل , فلست فى فسحة من أمرك , ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر " . [أخرجه مسلم] الدنيا سجن المؤمن , والسجن له ظروفه .. السجن له ملابسه وأكله وشربه , وله أحكامه ومواعيده , وله ضوابطه .. الدنيا سجن , فلا تحاول فى السجن أن تعيش الجنة .

السجن له مواعيده .. مواعيد الفسح .. هناك مواعيد للصلاة لا يصح النوم فيها ولا الشغل أثنائها , هذا هو سجن الدنيا .. لابد أن تقطع هكذا .. لكن الذى يريد أن يعيشها على أنها الجنة , فيأكل على مزاجه ويشرب على مزاجه ويمشى على مزاجه وينام على مزاجه , ويفعل ما يريد وما يشتهى , سيضل الطريق لا محالة .

لابد أن تعيش الدنيا كما يريد الله لا كما تريدها أنت .. فأنت الاّن فى سجن التكاليف الشرعية .. وإن كنت مكتفا بهذه التكاليف النبيلة , فهناك أناس غيرك مكتفون أيضا بالعادات والتقاليد , لكن ليس لهم أجر ولك أنت أجر .. فلو كنت تمرض فالكفار يمرضون , ولو كنت تتعب فالمنافقون يتعبون .. إذا كنت تؤذى فى سبيل الله , فهناك من يؤذون من أجل مناهج باطلة بل وكفرية .. " إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون " ( النساء : 104 ) أنت ترجو بالذى تعمله أجرا هم لا يرجونه .. وهذا هو عزاؤك .. ان الله – تعالى – سيعطيك .. فضع نفسك فى سجن التكاليف الشرعية ليكون الخروج على باب الجنة .

ولذلك لم يقل الله للمؤمنين بعد غزوة أحد : كفاكم ما حدث واقعدوا فى بيوتكم .. لا .. بل قال – سبحانه وتعالى – " ولا تهنوا فى ابتغاء " .. خلفهم وإياكم أن تتركوهم .. نعم : شغل مستمر , وعمل متواصل , وجهد غير منقطع , ومع ذلك تجد بعض الناس يريد أن يتناول كل الشهوات , وأن يعيش دوما فى عافية .. يا أخى , إن النبى محمد صلى الله عليه وسلم أوذى وطرد وشتم بل وتفل فى وجهه الشريف .. اضطهد أعز وأطهر مخلوق على ظهر الارض .. صلى الله عليه وسلم .. شتموه ووضعوا التلااب على رأسه .. خنقوه بثوبه ورموا الحجر عليه .. وحفر له حفرة فى غزوة أحد ليقع فيها .. فوقع وجحشت ساقاه .. ودخلت حلقات المغفر فى وجنتيه .. شقوا رأسه وأدموا وجهه وضربوا كتفه .. ورموه بالسهام .. وفى الطائف رموه بالحجارة حتى جرح كل جسده – فداه أبى وأمى ونفسى صلى الله عليه وسلم .. وقع من على الفرس فجحش جنبه الشريف .. مرض بالحمى حتى لم يطق حمّاه أحد .. عاش غريبا .. مطاردا من كفار يريدون قتله .. فداه أبى وأمى ونفسى رسول الله .

من يوم نودى صلى الله عليه وسلم بـ " يا أيها المدثر * قم فأنذر " ( المدثر : 1 – 2 ) , قام ولم يرقد أو يركد بعدها لحظة .. ذهب زمان النوم يا خديجة .

إخوتاه , إن المتفقه فى سيرة النبى محمد صلى الله عليه وسلم لا يجد لحظة استراح فيها , فأيامه كلها جهاد وتعب ومشقة .. وإن العين لتذرف رأفة ورحمة به .. مشى كثيرا وجرى كثيرا .. جاع شهورا وكان يأكل الدّقّل ( أردأ التمر ) وربما لا يجده .. سهر السنين الطويلة .. ونام على الحصير .. ولم يلبس الديباج أو الحرير .. عاش هذه الدنيا فى كد ونصب , ليقيم الحق ويبلغ دعوة ربه , بأبى هو وأمى ونفسى رسول الله صلى الله عليه وسلم .. أرسل بالمدثر فقام صابرا محتسبا , فلم يهدأ حتى جاءه نصر الله , ودخل الناس فى دين الله أفواجا .

هكذا عاشها رسول الله صلى الله عليه وسلم , وتريد أنت أن تعيشها نظيفة حلوة ! .. تريد أن تعيشها ممتعا معافى ! تريد أن تعيشها فى راحة وأمان ! لا يا أخى .. هذه دنيا الأصل فيها المشاكل والأحزان , وإلا لما كان هناك اشتياق للاّخرة .. الدنيا – يا أخى – للعمل والتعب والجد والاجتهاد , فلا تلبس ثياب الفراغ أثناء العمل .

الدنيا شغل .. شغل للاّخرة , فالزم الشغل حتى تمر هذه الدار بسلام .. فإذا أردت زوجة فلتكن ما تكون .. قصيرة أو نحيفة أو .. أو .. المهم أن تكون صاحبة دين و " بنت أصول " .. ولا تتنازل عن هذين الشرطين أبدا .. وارض بها مهما كانت صفاتها , واتخذها بلغة [أى ما تتبلغ به] إلى الجنة .. وفى الجنة سيصنعها الله لك من جديد " إنا أنشأناهنّ إنشاء * فجعلناهنّ أبكارا * عربا أترابا " ( الواقعة : 35 – 37 ) , بل ويزيد لك سبعين حورية من الحور العين .. الزم الشغل ولا تحزن على شىء من الدنيا ولا تفكر فيها , فإن جاءتك أو لمّحت إليك , فسخرها فى خدمة ما أنت فيه من عمل الاّخرة , وإلا فاطرحها جانبا وامض فى طريقك إلى الله .

إخوتاه , إن الذى يسير على هذا النهج هو رجل الاّخرة الذى يريد الوصول , فلا يخلع ثياب العمل حتى يلقى الله , أما الذى يريد أن يلبس ثياب الفراغ أثناء العمل فينشغل قلبه بالزوجة والمال والاولاد فهو رجل الدنيا يعيش لها , ولذا لن يصل إلى الله مطلقا حتى يخلع ثياب الفراغ , ويلبس دائما ثياب العمل لاّخرة .

فوظف – أخى فى الله – كل أركان حياتك فى العمل للاّخرة , وواصل الشغل ليل نهار .. فأنت فى مقام مستعبد , ولا يصح للأجير أن يلبس ثياب الراحة فى زمان الاستئجار , وكل زمان المتقى نهار صوم .. فواصل السير ولا تنقطع .

* * *

الأصل الثانى عشر : فى الطريق مواقف للتمييز

الأصل الثانى عشر : فى الطريق مواقف للتمييز

السائر إلى الله أو عموم من يعيش فى هذه الحياة لابد أن يتعرض لمواقف .. فهذه الحياة أمواج تترادف يركب الانسان فيها طبقا عن طبق .. هذه المواقف للتمحيص . قال - سبحانه - :

" قد خلت من قبلكم سنن فسيروا فى الارض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين * هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين * ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين * إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين اّمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين * وليمحص الله الذين اّمنوا ويمحق الكافرين * أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين " ( اّل عمران : 137 – 142 )

تدلك هذه الايات على أن الله – سبحانه وتعالى – يقلب الايام على الناس ليتبين أحوالهم , وليعلم الله علم ظهور وإقامة حجة على العباد من يستحق الجنة ممن لا يستحقها .. فالسائرون إلى الله صفوة , ولكن " ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكنّ الله يجتبى من رسله من يشاء فاّمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم " ( اّل عمران : 179 ) .

أيها الاخوة , التمييز بين النعمة والنقمة والفتنة , وبين المنة والحجة , وبين العطية والبلية , وبين المحنة والمنحة أمر مهم للسائر فى الطريق إلى الله .

ففى طريق الوصول إلى الله لابد أن تكون صاحب تمييز بين النعمة والفتنة .. فقد يصيب رجلين شىء واحد , ويكون بالنسبة لأحدهما نعمة وللاّخر فتنة .. قد يكون الشىء الواحد لرجل بلية وللاّخر عطية .

يقول ربك " أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق " ( البقرة : 19 ) صيب " ماء" يحيي الله به الارض , ولكن فى نفس الوقت فيه ظلمات ورعد وبرق . " يجعلون أصابعهم فى اّذانهم من الصواعق حذر الموت " ( البقرة : 19 ) .

يقول العلماء : هذا هو المثل المائى الذى ضربه الله سبحانه وتعالى للقراّن , أنه صيب وهو للمؤمنين , قال – تعالى – " وننزل من القراّن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا " ( الإسراء : 82 ) .

فى قصة كعب بن مالك لما جاءه كتاب من ملك غسان يقول له : " بلغنا أنّ صاحبك قد قلاك , ولم يجعلك الله بدار مهانة , فالحق بنا نواسك , لم يقل – أى كعب - : جاء الغيث .. ولكنه التمييز .. قال : " وهذا من البلاء , فتيممت التنور فسجرته " .

نعــم : فقد يرزق العبد مالا ويظن أنه نعمة ويكون هذا المال بالنسبة له فتنة .. قد يرزق عملا وهذا العمل من وجهة نظر الناس جميعا كرم , وهو فى حقه بلاء .. قد يحفظ القراّن ويكون عليه حجة .. نعم : القراّن حجة لك أو عليك .

قال العلماء : " إذا رأيت أن الله يعطى العبد على معاصيه , فاعلم أنه استدراج " .. تعصى ويكرمك , وتعصى ويزيدك , وتعصى ويبارك لك .. إذا سينتقم منك .. لا تطمئن , فهو – سبحانه – يجرك لينتقم منك , قال – تعالى – " سنستدرجهم من حيث لا يعلمون * وأملى لهم إن كيدى متين " ( القلم : 44 – 45 ) .

يقول صاحب الظلال فى هاتين الاّيتين : " وإن شأن المكذبين وأهل الارض أجمعين لأهون وأصغر من أن يدبر الله لهم هذه التدابير .. ولكنه – سبحانه – يحذرهم نفسه ليدركوا أنفسهم قبل فوات الاوان , وليعلموا أن الامان الظاهر الذى يدعه لهم هو الفخ الذى يقعون فيه وهم مغرورون , وأن إمهالهم على الظلم والبغى والاعراض والضلال هو استدراج لهم إلى أسوأ مصير , وأنه تدبير من الله ليحملوا أوزارهم كاملة , ويأتوا إلى الموقف مثقلين بالذنوب , مستحقين للخزى والرهق والتعذيب .. وليس أكبر من التحذير , وكشف الاستدراج والتدبير , عدلا ولا رحمة , والله - سبحانه – يقدم لأعدائه وأعداء دينه ورسوله عدله ورحمته فى هذا التحذير وذلك النذير , وهم بعد ذلك وما يختارون لأنفسهم , فقد كشف القناع ووضحت الأمور ! .

إنه – سبحانه – يمهل ولا يهمل , ويملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته , وهو هنا يكشف عن طريقته وعن سننه التى قدرها بمشيئته , ويقول لرسوله صلى الله عليه وسلم " فذرنى ومن يكذب بهذا الحديث " ( القلم : 44 ) , وخل بينى وبين المعتزين بالمال والبنين والجاه والسلطان , فسأملى لهم , وأجعل هذه النعمة فخهم ! فيطمئن رسوله , ويحذر اعداءه .. ثم يدعهم لذلك التهديد الرعيب " .

فلا تفرح – أخى فى الله – بالكرم بعد المعصية , وكن مميزا بين العطية والبلية وبين النعمة والنقمة , ولذا قال سبحانه وتعالى " لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما اّتاكم " ( الحديد : 23 ) , تقول زوجة سعيد بن عامر الجمحى : استيقظت يوما على صوته وهو يقول : أعوذ بالله منك , أعوذ بالله منك , أعوذ بالله منك , فقمت فوجدت بين يديه سرة مال وهو يدفعها بيده كأنها عقرب , قلت : مالك , قال : " دخلت علىّ الدنيا لتفسد علىّ دينى " .

نعم – إخوتاه – : لابد أن يكون لديك بصيرة وتمييز بين ما ينفعك وما يضرك فى اّخرتك , فإذا أعطاك الله نعمة واستعملتها فى طاعته كانت نعمة , وإذا استعملتها فى المعصية كانت محنة وفتنة .. أعطاك الله مالا : هل هذا المال زادك قربا أم أبعدك ؟! .. أعطاك زوجة أعانتك على طاعته , فهذه نعمة , ولو شغلتك عن الله كانت فتنة .

فانظر كل لحظة فى حياتك لترى النعم التى وهبها الله لك : هل تقربك منه أم تبعدك عنه ؟.. هل هى نعم أم نقم ؟ .. هل توقفك بين يدى الله أم تشغلك عنه ؟ .. تزيدك إيمانا أم تقسى قلبك ؟ .. تزيدك شكرا أم طمعا ؟! .

قف مع نعم الله لتعلم أين قدمك .. لتعلم أين أنت .. فى طريق الوصول أم تائه فى طرق أخرى ؟ .. فرق بين النعمة والنقمة .. وبين المحنة والمنحة .. وبين البلية والعطية .. وبين الحجة والمنة .. ميز لتعرف أين الفتنة لتجتنبها فتصل إلى الله بسلام .

* * *

الأصل الثالث عشر : الاعتصام بالله عقيدة وعمل ودعاء

الأصل الثالث عشر : الاعتصام بالله عقيدة وعمل ودعاء

قال – تعالى – " قل من ذا الذى يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا " ( الأحزاب : 17 ) , إذا فالإنسان يحتاج مولى ونصيرا , وليس لك من دون الله ولى ولا نصير , فلذلك إذا أردت الولىّ والنصير فاعتصم بالله , قال – تعالى –" ومن يعتصم بالله فقد هدى " ( اّل عمران : 101 ) .. ولكن كيف نعتصم بالله ؟ .

امرأة العزيز قالت : " ولقد راودته عن نفسه فاستعصم " ( يوسف :32 ) .. كيف استعصم ؟ ..

أولا : عقيدة : قال : " معاذ الله " .. أعوذ بالله , ألتجىء إلى الله وأحتمى به وحده .. ولم يقل لها : هل أصابك الجنون ؟! .. ولم يقل أيضا : ألا تعرفين من أنا ؟! , أنا يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام .. ، أنا ابن هؤلاء الأنبياء .. لم يقل لها : اذهبى لحالك يا بنية هداك الله .. لم يقل ذلك , وإنما قال : معاذ الله , عقيدة أن الذى ينجّينى هو الله .

أيضا لما فشلت امرأة العزيز وسمعت النسوة يتكلمن , قالت فى نفسها : اّتى بهن إليه أم اّتى به إليهن ؟ .. الأمران .. أتت بهن وأقعدتهن وأخرجته عليهن .. خرج ولم يكن أمامه كيد امرأة بل كيد نساء , فقال فى التو : " رب السجن أحب إلىّ مما يدعوننى إليه " ( يوسف : 33 ) .. يا رب , السجن أحب إلىّ من حرير امرأة العزيز .. سبحان الله ! .. تشم رائحة الصدق من الكلام .

بالله عليك – أخىّ – هل تجد فى نفسك هذه النقطة ؟ .. إننا – وللأسف – نضحك من انفسنا .. نهرج ونلعب فى دين الله .. هل فعلا السجن أحب إليك من دعوة الفاتنات أو الغانيات الفاجرات ؟ .. قال يوسف : يا رب , عذاب السجن أحسن عندى من قصور العزيز .. العذاب من أجلك يا رب أحب إلىّ من أن أنام وأنا لك عاص .. هذا هو الاعتصام , فكن على عقيدة صادقة بالله لتعتصم بها وقت الشدائد , يقول ربى فى يوسف عليه السلام : " ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزى المحسنين " ( يوسف : 22 ) .

" فقد أوتى صحة الحكم على الامور , وأوتى علما بمصائر الأحداث أو بتأويل الرؤيا , أو بما هو أعم , من العلم بالحياة وأحوالها , فاللفظ عام ويشمل الكثير , وكان ذلك جزاء إحسانه فى الاعتقاد وإحسانه فى السلوك : " وكذلك نجزى المحسنين " .. وعندئذ تجيئه المحنة الثانية فى حياته , وهى أشد وأعمق من المحنة الأولى , تجيئه وقد أوتى صحة الحكم وأوتى العلم – رحمة من الله – ليواجهها وينجو منها جزاء إحسانه الذى سجله الله فى قراّنه .

والاّن نشهد ذلك المشهد العاصف الخطير المثير كما يرسمه التعبير :

" وراودته التى هو فى بيتها عن نفسه وغلقت الابواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربى أحسن مثواى إنه لا يفلح الظالمون " ( يوسف : 23 ) ..

وإذن فقد كانت المراودة فى هذه المرة مكشوفة , وكانت الدعوة فيها سافرة إلى الفعل الاخير .. وحركة تغليق الابواب لا تكون أول دعوة من المرأة , إنما تكون هى الدعوة الاخيرة , وقد لا تكون أبدا إذا لم تضطر إليها المرأة اضطرارا , والفتى يعيش معها وقوته وفتوته تتكامل , وأنوثتها هى كذلك تكمل وتنضج , فلابد كانت هناك إغراءات شتى خفيفة لطيفة , قبل هذه المفاجأة الغليظة العنيفة , " قال معاذ الله إنه ربى أحسن مثواى إنه لا يفلح الظالمون " ..

" معــــــاذ الله " ..

أعيذ نفسى بالله أن أفعل , " إنه ربى أحسن مثواى " ..

وأكرمنى بأن نجانى من الجبّ وجعل فى هذه الدار مثواى الطيب الاّمن .

" إنه لا يفلح الظالمون " .. الذين يتجاوزون حدود الله , فيرتكبون ما تدعيننى اللحظة إليه " .. عقيدة .. عقيدة فى الله اعتصم بها يوسف فنجاه الله من الفتنة .

ويقول شيخ الإسلام وعلم الأعلام ابن القيم – رحمه الله تعالى – فى المفاسد العاجلة والاّجلة لعشق الصور :

" والله – سبحانه وتعالى – إنما حكى هذا المرض طائفتين من الناس , وهم قوم لوط والنساء , فأخبر عن عشق امرأة العزيز ليوسف , وما راودته وكادته به , وأخبر عن الحال التى صار إليها يوسف بصبره وعفته وتقواه , مع أن الذى ابتلى به أمر لا يصبر عليه إلا من صبره الله عليه , فإن موافقة الفعل بحسب قوة الداعى وزوال المانع , وكان الداعى ها هنا فى غاية القوة , وذلك لوجوه :

أحدها : ما ركّب الله – سبحانه – فى طبع الرجل من ميله إلى المرأة , كما يميل العطشان إلى الماء , والجائع إلى الطعام , حتى إن كثيرا من الناس يصبر على الطعام والشراب ولا يصبر على النساء , وهذا لا يذم إذا صادف حلالا .

الثانى :أن يوسف عليه السلام كان شابا , وشهوة الشباب وحدته أقوى .

الثالث : أنه كان عزبا لا زوجة له ولا سرية تكسر حدة الشهوة .

الرابع : أنه كان فى بلاد غربة لا يتأتى للغريب فيها قضاء الوطر , ما يتأتى لغيره فى وطنه وأهله ومعارفه .

الخامس : ان المرأة كانت ذات منصب وجمال , بحيث إن كل واحد من هذين الامرين يدعو موافقتهما .

السادس : إنها غير اّبية ولا ممتنعة , فإن كثيرا من الناس يزيل رغبته فى المرأة إباؤها وامتناعها , لما يجد فى نفسه من ذل النفس والخضوع والسؤال لها .

السابع : أنها طلبت وأرادت وبذلت الجهد , فكفته مؤونة الطلب وذل الرغبة إليها , بل كانت هى الراغبة الذليلة وهو العزيز المرغوب إليه .

الثامن : أنه فى دارها وتحت سلطانها وقهرها , بحيث يخشى إن لم يطاوعها من أذاها له , فاجتمع داعى الرغبة والرهبة .

التاسع : أنه لا يخشى أن تنم عليه هى ولا احد من جهتها , فهاهى الطالبة والراغبة , وقد غلقت الابواب وغيبت الرقباء .

العاشر : أنه كان مملوكا لها فى الدار , بحيث يدخل ويخرج ويحضر معها , ولا ينكر عليه , وكان الامن سابقا على الطلب ,وهو أقوى الدواعى .

الحادى عشر : أنها استعانت عيه بأئمة المكر والاحتيال , فأرته إياهن وشكت حالها إليهن , لتستعين بهن عليه , فاستعان هو بالله عليهن , فقال : " وإلا تصرف عنى كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين " ( يوسف : 33 ) .

الثانى عشر : أنها توعدته بالسجن والصغار , وهذا نوع إكراه , إذ هو تهديد ممن يغلب على الظن وقوع ما هدد به , فيجتمع داعى الشهوة , وداع حب السلامة من ضيق السجن والصغار .

الثالث عشر : أن الزوج لم يظهر من الغيرة والنخوة ما يفرق به بينهما , ويبعد كلا منهما عن صاحبه .

ومع هذه الدواعى كلها فقد اّثر مرضاة الله وخوفه , وحمله حبه لله على أن يختار السجن على الزنا , فقال :

" رب السجن أحب إلىّ مما يدعوننى إليه " ( يوسف : 33 ) , وعلم أنه لا يطيق صرف ذلك عن نفسه , وأن ربه – تعالى – إن لم يعصمه ويصرف عنه كيدهن صبا إليهن بطبعه , وكان من الجاهلين , وهذا من كمال معرفته بربه وبنفسه .

ثم إن الاعتصام لن يكون إلا إذا كان هناك عمل ودعاء .. فمثلا : الاخ الذى أقول له تب , فيقول : ادع لى يا " عم الشيخ " , أقول له : يا بنى , " تب " هذه تحتاج إلى عمل وشغل , وأن تدعو أنت لنفسك أولا , ثم ادعو أنا لك بعد ذلك .. يوسف عليه السلام كان محسنا .. محسنا فى الاعتقاد ومحسنا فى السلوك , وفوق ذلك دعا بالعصمة , فكانت النجاة .. نجا لأنه فى الاصل أحسن العمل .

نعــم : كان يوسف محسنا مع ربه وأيضا مع الناس , وقد سمى الله قصته " أحسن القصص "( يوسف : 3 )

ووصفه السجناء بالاحسان فقالوا : " نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين "( يوسف : 36 ) ..

وبالاحسان مكنه الله – تعالى – فى الارض , " وكذلك مكنا ليوسف فى الارض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين " ( يوسف : 56 ) .. وقال له إخوته وهم لا يعرفونه : " فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين " ( يوسف : 78 ) .. ثم أثنى على ربه بإحسانه إليه : " وقد أحسن بى إذ أخرجنى من السجن "( يوسف : 100 ) .

قال – تعالى – " ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين " ( يوسف : 24 ) , وهؤلاء ليس للشيطان عليهم سلطان ألبتة .. ومع كل ذلك فزع يوسف إلى الله وقال : " معاذ الله إنه ربى أحسن مثواى إنه لا يفلح الظالمون " ( يوسف : 23 ) . ولابد أن نعلم أن طهارة يوسف عليه السلام كانت أساس الاعتصام .. إذا فالاعتصام بالله لابد أن يكون على عقيدة راسخة بالله وعمل دائم له , وسلوك قويم معه – سبحانه – ومع الناس .

نعم – إخوتاه - : الاعتصام عمل .. الاعتصام دعاء .. الاعتصام عقيدة .

فاربط قلبك بالله وحده , واصدق معه , واعمل ما فى وسعك , وادع بإخلاص , يعصمك الله فتهتدى إلى طريق الوصول إليه .

قال ربك " ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم " ( اّل عمران : 101) .

قال ابن كثير رحمه الله : "أى ومع هذا فالاعتصام بالله والتوكل عليه هو العمدة فى الهداية , والعدة فى مباعدة الغواية , والوسيلة إلى الرشاد , وطريق السداد وحصول المراد " .

فاعتصم بالله يا طالب الوصول

* * *

الأصل الرابع عشر : من استطال الطريق ضعف مشيه

الأصل الرابع عشر : من استطال الطريق ضعف مشيه

الطريق إلى الله طويلة جدا , بعيدةجدا , ولذا تحتاج إلى همة وعمل دائم وعدم التفات لكى تقطعها وتصل بسلام , وإلا فلو ظللت تقول : الطريق طويلة وبعيدة وأنت مكانك , فلن تصل .. فاستعن بالله واترك الشكوى .. اعمل واجتهد واتعب حتى الموت , قال – تعالى - : " واعبد ربك حتى يأتيك اليقين " ( الحجر : 99 ) , اى الموت .

وقال – تعالى - : " فإذا فرغت فانصب " ( الشرح : 7 ) . قال ابن كثير : " وقال زيد بن أسلم والضحاك : فإذا فرغت أى من الجهاد , فانصب أى : فى العبادة : " وإلى ربك فارغب " ( الشرح : 8 ) . قال الثورى : اجعل نيتك ورغبتك إلى الله – عز وجل – " .

" فإذا فرغت من شغلك مع الناس ومع الارض , ومع شواغل الحياة .. إذا فرغت من هذا كله , فتوجه بقلبك كله إذا إلى ما يستحق أن تنصب فيه وتكد وتجهد .. العبادة والتجرد والتطلع والتوجه .. " وإلى ربك فارغب " ..إلى ربك وحده خاليا من كل شىء حتى من أمر الناس الذين تشتغل بدعوتهم إنه لابد من الزاد للطريق . وهنا الزاد . ولابد من العدة للجهاد . وهنا العدة وهنا ستجد يسرا مع كل عسر وفرجا مع كل ضيق هذا هو الطريق ! " .

هذا هو الطريق إلى الله , فجد ولا تنم , فرسول الله صلى الله عليه وسلم لما قالت له خديجة : ألا تنام يا رسول الله ؟! , قال : " مضى عهد النوم يا خديجة " .. وقال صلى الله عليه وسلم لعائشة لما تعجبت من عبادته وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه : " أفلا أكون عبدا شكورا " [متفق عليه].

أخى فى الله , اثبت فى الطريق على الطاعة ولا تيأس من طول الطريق , فما عليك إلا أن تجد السير وتسرع الخطا ولا تلتفت وستصل بإذن الله .. صبر نفسك واصطبر , واعلم أن الصبر على الطاعة هو الصبر الاعلى , وأكمل الناس صبرا على الطاعة أولوا العزم من الرسل , وذلا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يصبر صبرهم , فقال – تعالى - :" فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل " ( الاحقاف : 35 ) , ومعلوم أن الامر للقدوة أمر لأتباعه .. ونهاه أن يتشبه بصاحب الحوت , حيث لم يصبر صبر أولى العزم , فقال – تعالى - : " فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم " ( القلم : 48 ) .

ولقد جعل الله الوصول إليه والفوز بالجنة والنجاة من النار لا يحظى به إلا الصابرون , فقال – تعالى - :

" إنى جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون " ( المؤمنون : 111 ) .

وفى الصحيح عن رسولنا صلى الله عليه وسلم " وما أعطى أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر ". وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الصبر ضياء .

وقال على بن أبى طالب : الصبر مطية لا تكبو .

وقال سليمان بن القاسم : كل عمل يعرف ثوابه إلا الصبر , قال – تعالى - : " إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب " ( الزمر : 10 ) , قال : كالماء المنهمر .

أخى فى الله , اصبر فى السير إلى الله ولا تستطل الطريق , فلقد صبر نوح فأوقف أنفاسه على الدعوة إلى الله ألف سنة إلا خمسين عاما .. لم يستطل الطريق , بل ظل مع الله فى أطول صبر عرفه تاريخ البشرية .. وأكرم صبر .

قال ابن كثير فى قصص الانبياء : " وكان كلما انقرض جيل وصوا من بعدهم بعدم الايمان به – أى بنوح – ومحاربته ومخالفته , وكان الوالد إذا بلغ ولده وعقل عنه كلامه , وصاه فيما بينه وبينه ألا يؤمن بنوح .. أبدا ما عاش ودائما ما بقى " اهـ .

قال – تعالى - : " قال رب إنى دعوت قومى ليلا ونهارا * فلم يزدهم دعائى إلا فرارا * وإنى كلما دعوتهم تغفر لهم جعلوا أصابعهم فى اّذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا * ثم إنى دعوتهم جهارا * ثم إنى أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا * فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا * ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا * ما لكم لا ترجون لله وقارا " ( نوح : 5 – 13 ) .

قال أبو القاسم الغرناطى فى التسهيل لعلوم التنزيل : "ذكر أولا أنه دعاهم بالليل والنهار , ثم ذكر أنه دعاهم جهارا , ثم ذكر أنه جمع بين الجهر والإسرار , وهذه غاية الجد فى النصيحة وتبليغ الرسالة " اهـ .

وقال القاسمى فى محاسن التأويل : " بذل نوح غاية الجهد دائما بلا فتور ولا توان , وضاقت عليه الحيل فى تلك المدد الطوال " اهـ .

ويقول أخى فضيلة الشيخ سيد بن حسين العفانى – حفظه الله تعالى - :

" كفاح نبيل طويل : سلك نوح إلى اّذان قومه وقلوبهم وعقولهم شتى الاساليب ومتنوع الوسائل فى دأب طويل , وفى صبر جميل , وجهد نبيل , ألف سنة إلا خمسين عاما .. ثم عاد إلى ربه ليقدم حسابه , ويبث شكواه , فى هذا البيان المفصل وفى هذه اللهجة المؤثرة .

وصورة نوح فى دعوته ,وهو لا يمل ولا يفتر , ولا ييأس أيام الاعراض والاصرار , صورة لاصرار الداعية على الدعوة , وتحين كل فرصة ليبلغهم إياها , واصرارهم هم على الضلال .

ولم ينس نوح – عليه الصلاة والسلام – الدعوة حتى حين حضرته الوفاة , فقد وصى ابنيه بـ " لا إله إلا الله " ونهاهما عن الشرك , وأمرهما بسبحان الله وبحمده .

وإن الانسان ليأخذه الدهش والعجب , كما تغمره الروعة والخشوع , وهو يستعرض هذا الجهد الموصول من الرسل – عليهم صلوات الله وسلامه – لهداية البشرية الضالة المعاندة , ويتدبر إرادة الله المستقرة على إرسال هؤلاء الرسل , واحدا بعد واحد لهذه البشرية المعرضة العنيدة .

وقد يعن للانسان ان يسأل : ترى هل تساوى الحصيلة هذا الجهد الطويل , وتلك التضحيات النبيلة , من لدن نوح عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم , ثم ما كان بينهما وما تلاهما من جهود المؤمنين بدعوة الله وتضحياتهم الضخام , ترى : هل تساوى هذا الجده الذى وصفه نوح عليه السلام , وقد استغرق عمرا طويلا بالغ الطول , لم يكتف قومه فيه بالاعراض , بل اتبعوه بالسخرية والاتهام , وهو يتلقاها بالصبر والحسنى , والادب الجميل والبيان المنير ؟!! .

ثم تلك الجهود الموصولة منذ ذلك التاريخ , وتلك التضحيات النبيلة التى لم تنقطع على مدار التاريخ من رسل يستهزأ بهم , أو يحرقون بالنار , أو ينشرون بالمنشار , أو يهجرون الاهل والديار .. حتى تجىء الرسالة الاخيرة , فيجهد فيها محمد صلى الله عليه وسلم ذلك الجهد المشهود المعروف , ثم تتوالى الجهود المضنية والتضحيات المذهلة من القائمين على دعوته فى كل أرض وفى كل جيل ؟؟ ..

ترى تساوى الحصيلة كل هذه الجهود , وكل هذا الجهاد الشاق المرير ؟!

ثم ترى هذه البشرية كلها تساوى تلك العناية الكريمة من الله , المتجلية فى استقرار إرادته – سبحانه – على إرسال الرسل تترى , بعد العناد والاعراض والاصرار والاستكبار من هذا الخلق الهزيل الصغير المسمى بالانسان ؟! . والجواب بعد التدبر : أن نعم : وبلا جدال !!

إن استقرار حقيقة الايمان بالله فى الارض بساوى كل هذا الجهد , وكل هذا الصبر , وكل هذه المشقة , وكل هذه التضحيات النبيلة المطردة من الرسل وأتباعهم الصادقين فى كل جيل !

الدعوة إلى الله لابد أن تمضى فى طريقها كما أراد الله , لأن الحصيلة تستحق الجهود المضنية والتضحيات النبيلة , ولو صغرت فانحصرت فى قلب واحد , يقرب من الله ويحبه ويشتاق إليه . قال صلى الله عليه وسلم : " عرضت علىّ الامم , فرأيت النبى ومعه الرهط , والنبى ومعه الرجل والرجلان , والنبى وليس معه أحد " [متفق عليه] اهـ .

حبيبى فى الله , لا تستطل الطريق إلى الله , فمن استطال الطريق ضعف مشيه , فواصل العمل .. واصل , فالله معك .. واعلم أن الشرط فى السير أن تجهد وتتعب .. فواصل العمل وى تنقطع .. وتذكر دائما نوحا عليه السلام .. أخى فى الله , اعمل بلا انقطاع , وعند الله المستراح .

إخوتاه , زنوا حلو المشتهى بمر العقاب يبن لكم التفاوت .. لما عرف القوم قدر الحياة , أماتوا فيها الهوى فعاشوا , جمعوا بأكف الجد من الزمن ما نثره زمن البطالة .. هان عليهم طول الطريق لعلمهم أين المقصد , وحلت له مرارات البلى حبا لعواقب السلامة , فيا بشراهم يوم يقال : " هذا يومكم "

* * *

الأصل الخامس عشر : السر الدفين لعدم القبول وجود حظ للنفس فى العمل

الأصل الخامس عشر : السر الدفين لعدم القبول وجود حظ للنفس فى العمل

هل تصلى لله أم لتستجم ؟! .. تصوم من أجل أن تريح بطنك , أم أن يرضى الله عنك ؟! .. تكرم الناس ليعاملوك معاملة حسنة أم تكرمهم لله لأنك تحبه ؟! .. أعفيت لحيتك توقيرا ام لأنها سنة النبى صلى الله عليه وسلم ؟! .. تدفع ما عليك ليقول عنك الناس : محترم أم لترضى ربك ؟! .. تحج وتعتمر رياء وفسحة وتغيير جو أم لتستغفر ربك هناك ؟!..

قال الحسن رحمه الله : رحم الله عبدا وقف عند همه , فإن كان لله : مضى , وإن كان لغيره : تأخر .. اغتربت عن بلدك , وهاجرت إلى الله لماذا ؟ .. لتتعلم العلم وتعبد الله وتدعو إليه لماذا ؟ .. لماذا تتعلم العلم ؟! .. لماذا تتصدق ؟! .. لو كان فى هذه الاعمال شىء ولو بسيط من حظ النفس , لا يقبلها الله أبدا .

قال الله – تعالى – فى الحديث القدسى : " من عمل عملا وأشرك فيه غيرى تركته وشركه " [أخرجه مسلم] .. فالله عز وجل غنى .. عزيز .. يغار .. لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا وابتغى به وجهه .. اللهم ارزقنا الاخلاص واجعلنا من أهله .

لذلك فإن الذين يأتون يوم القيامة وأعمالهم لم تقبل سيفاجئون بأن أعمالهم كانت لله ,ولكنها لم تكن خالصة .. كان فيها شىء من حظ النفس .. يا لله !! .. فصحح نيتك , فالطريق إلى الله لا يصلح فيها الا حسن النية .. أخلص قبل أن يأتيك يوم القيامة .

واّه من يوم القيامة ! اللهم ارحم يوم القيامة ضعفنا اللهم ارحم ذل وقوفنا بين يديك يا أرحم الراحمين يوم القيامة وما أدراك ما يوم القيامة ! إياك أن تنسى ذلك اليوم قال ربنا " ولمن خاف مقام ربه جنتان " ( الرحمن : 46 ) .. تذكر هذا المقام يوم وقوفك بين يديه وأعمالك كلها معروضة عليه .. يوم يقول لك : عبدى , عشت سبعين سنة ولم تصل إلا سنتين لماذا ؟ , فتقسم : وعزتك وجلالك يا رب صليت من يوم أن ذهبت إلى المدرسة وأنا فى أولى ابتدائى , ماذا حصل ؟!!! .. تجد خمسين سنة من عمرك لم تقبل وعشر سنين فقط قبلت !! .. " وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون " ( الزمر : 47 ) .. السبب : وجود حظ النفس .. صمت كثيرا , ولم يقبل إلا النذر القليل .. نعم : لوجود حظ النفس فى العمل .

أقول لكم كثيرا : لو كان لها " دور ثان " , لو كان فيها " ملحق " , أو لو كان لها " إعادة " , لقلنا : يا رب , أخطأنا فارجعنا نصلح ما كان منا .. لكن هى مرة واحدة إذا ذهبت فيها إلى جهنم كانت المصيبة .. قال الحسن :" ابن اّدم عن نفسك فكايس فإنك إن دخلت النار لم تنجبر بعدها أبدا " .. اللهم ارزقنا حسن الخاتمة , اللهم قنا عذابك يوم تبعث عبادك .

نعم – إخوتاه - : السر الدفين لعدم القبول هو وجود حظ النفس فى العمل : أن تتزوج بالبنت الفلانية لأنها تعجبك وتحبها ولا تتزوج ليعفك الله ويسترك .. تكرم الناس ليكرموك ليس لأجل أن يكرمك الله .. تصلى لتستريح ليس لأنه أمرك بالصلاة .. تؤدى الحقوق كما ينبغى ليقولوا عنك : أمين , ليس لأن الله ألزمك بذلك ..

فوجود حظ للنفس فى العمل معناه : أن تشتغل لحسابك .. تعمل لنفسك وليس لله .. وجود حظ للنفس .. إيا أن تنسى هذه الكلمة .. أن تصير " شغالا " لحسابك .. لمزاجك .. لهواك .. لنفسك .. لا لله .. اللهم استرنا ولا تفضحنا .

هذه هى المشكلة الكبيرة .. أن معظمنا أكثر عمله لنفسه لا لله .. هذه هى الحقيقة ولا تغضب , لذلك قف وقفة جادة وحقق الاخلاص .. جرد النية لله , فلا تدرى متى تموت .. أخلص يقبل عملك , وإلا فسيطرح فى وجهك , وتخسر الوصول إلى الله .

قال أبو أيوب مولى ضيغم بن مالك : قال لى أبو مالك يوما : يا أبا أيوب احذر نفسك على نفسك , فإنى رأيت هموم المؤمنين فى الدنيا لا تنقضى , وأيم الله , لئن لم تأت الدار الاّخرة المؤمن بالسرور , لقد اجتمع عليه الامران : هم الدنيا , وشقاء الاّخرة . قال : قلت : بأبى أنت وأمى , وكيف لا تأتيه الاّخرة بالسرور , وهو ينصب لله فى دار الدنيا ويدأب ؟! , قال : يا أبا أيوب , فكيف بالقبول ؟! وكيف بالسلامة ؟! , ثم قال : كم من رجل يرى أنه قد أصلح نفسه , وقد أصلح قرباته , قد أصلح همته , قد أصلح عمله , يجمع ذلك يوم القيامة ثم يضرب به وجهه " .

إخوتاه , حاسبوا أنفسكم وانظروا فيها .. عامر بن قيس كان يقول لنفسه : قومى يا مأوى كل سوء , فوعزة ربى لأزحفنّ بك زحف البعير , وإن استطعت أن لا يمس الارض زهمك ( شحم الجسم ) لأفعلن . ثم يتلوى كما يتلوى الحب على المقلى , ثم يقوم فينادى : اللهم إن النار قد منعتنى من النوم , فاغفر لى .

وتعبد رجل ببيت شعر سمعه :

لنفسى أبكى لست أبكى لغيرها لنفسى فى نفسى عن الناس شاغل

إخوتاه , إن فتنة النفس والشهوة , وجاذبية الارض والدعة والاطمئنان , وصعوبة الاستقامة على صراط الايمان , والاستواء على مرتضاه , مع المعوقات والمثبطات فى أعماق النفس – هى الفتنة الكبرى .

لكن ما الحل – إخوتاه – لننفى عن أعمالنا حظ النفس ليقبلنا الله ؟

النفس تصهرها المجاهدة فتنفى عنها الخبث , وتستجيش كامن قواها المذخورة فستيقظ . ويكفى قول الله عز وجل : " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين " ( العنكبوت : 69 ) .

قال أبو يزيد البسطامى : عالجت كل شىء , فما عالجت أصعب من معالجة نفسى , ما شىء أهون علىّ منها .

وقال : دعوت نفسى إلى الله , فأبت علىّ واستصعبت , فتركتها ومضيت إلى الله .

وقيل لبعض أهل الرياضة : كيف غلبت نفسك ؟ , فقال : قمت صف حربها بسلاح الجد , فخرج مرحب الهوى الهوى يدافع , فعلاه العزم بصارم الحزم , فلم تمض ساعة حتى هلكت خيبر .

وقيل لاّخر : كيف قدرت على هواك ؟ , فقال :خدعته حتى أسرته , واستلبت عوده فكسرته , وقيدته بقيد العزلة , وحفرت له مطمور الخمول فى بيت التواضع , وضربته بسياط الجوع فلان .. يا فلان : ألك فى مجاهدة النفس نية , أم النية نية ؟.. أتعبتنى أنت أنت .. إلى متى تجول فى طلب هجول ؟! , ما عز يوسف إلا بترك ما ذل به ماعز .

إخوتاه , لا يقبل الله عملا فيه حظ للنفس , فخلوا أنفسكم وتعالوا إلى الله .. واستعينوا بالله عليها بالمجاهدة والاحسان فى المعاملة , قال ربى – وأحق القول قول ربى – : " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين " ( العنكبوت : 69 ) .

* * *

الأصل السادس عشر : الأمر كله بيد الله , فسلّم تسلم

الأصل السادس عشر : الأمر كله بيد الله , فسلّم تسلم

قال – تعالى – عن إبراهيم : "إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين * ووصى بها إبراهيم بنيه "

( البقرة : 131 – 132 ) .

قال ابن كثير رحمه الله : " وقوله – تعالى - : " إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين " أى : أمره الله – تعالى – بالإخلاص له والاستسلام والانقياد , فأجاب إلى ذلك شرعا وقدرا .

وقوله " ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب " أى : وصى بهذه الملة وهى الاسلام لله , أو يعود الضمير على الكلمة , وهى قوله : " أسلمت لرب العالمين " لحرصهم عليها ومحبتهم لها حاغظوا عليها إلى حين الوفاة , ووصوا أبناءهم بها من بعدهم " اهـ .

فسلم لربك يا طالب الوصول , فالأمر كله له , قال الملك : " إذ تعدون ولا تلون على أحد والرسول يدعوكم فى أخراكم فأثابكم غمّا بغمّ لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون * ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شىء قل إن الامر كله لله يخفون فى أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الامر شىء ما قتلنا ها هنا قل لو كنتم فى بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم ولبتلى الله ما فى صدوركم وليمحص ما فى قلوبكم والله عليم بذات الصدور " ( اّل عمران : 153 - 154 ) .

" وطائفة قد أهمتهم أنفسهم " .. نعم : فكم من ناس فى هذه الدنيا لا هم لهم إلا أنفسهم .. سلموا أمرهم لأنفسهم لا لله .. وقديما قالوا : من عاش لنفسه عاش صغيرا ومات حقيرا .. فسلم نفسك لله وحده يأمرها وينهاهابما هو أنفع وأصلح لها , فهو سبحانه عليم حكيم .. ضع يديك ورجليك فى قيود الشريعة الفضية لتتحرر من ذل العبودية لغير الله .. سلم تسلم فالامر كله لله .

كم رأينا رجلا أهم شىء لديه أن يأكل ويشرب ويلبس وينام .. أهم شىء مزاجه , أما العيال فمالى وللعيال ! , فأنا الذى اّتى بالعيال .. والزوجة ؟ .. وما لى بالزوجة , فلتذهب لأهلها يطعموها .. وعن الاّخرة يقول : حينما يأتى الحساب ستفرج !!

طبعا أنت ستتعجب هذا الرجل , فكلامه لا يقوله إلا جاهل أو عاص , ولكن لا تعجب , فهذا الكلام موجود بداخل الكثير منّا – معاشر الملتزمين – وإن كان لا يقوله بلسانه .. نعم : كثير منّا يود أن يعيش لنفسه – ونفسه – فقط - .. ودعونا نتصارح حتى نعالج تلك المشاكل , وإلا فسيظل السوس ينخر فى العظم .. عظم الامة .

إن سبب مصائبنا اليوم أنفسنا .. ترانا " منكوسين موكوسين " لماذا ؟ .. من أنفسنا .. شلة يهود .. شرذمة يهود يضربوننا على أم رؤوسنا لماذا ؟ .. لماذا استضعفونا واستهانوا بنا ؟ .. لهواننا على أنفسنا .. مع أننا أكثر من هؤلاء الناس جميعا , وعندنا كل الامكانيات التى تؤهلنا لسيادة العالم ولكن لا نسود .. لأن " السوس " فى قلوبنا .

إن أول نصر الدين أن تصلح نفسك .. فمن هنا المنطلق , ومن هنا البداية .. وإصلاح النفس يكون بتسليمها لله بكل حب ورضا يأمرها وينهاها .

البداية من نفسك .. وهذا الكلام قلته من عشرين سنة .. وعشر .. وخمس .. والأمس .. واليوم .. وسأظل أقوله حتى أموت , لأنه قانون إلهى .. " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " ( الرعد : 11 ) .. " ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " ( الأنفال : 53 ) .

وإن الذى يتحدث عن التغيير فى كل شىء إلا من عند نفسه لن يغير شيئا على الإطلاق . فالبداية إذا من أين ؟ .. من عند أنفسنا .. وهذا ليس من عندى , ولكنه كلام الله كما مر .

إذا فلابد من التحديق .. تدرى معنى التحديق ؟ .. التحديق فى ذوات أنفسنا .. أى شىء فى أنفسنا يجب أن يتغير ؟ .. فغير نفسك وسلم نفسك لا لنفسك ولكن لله .

يقول الله – تعالى – " وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شىء " ( اّل عمران : 154 ) .. يقول هؤلاء المنافقون : من الذى أتى بنا إلى هنا .. ما لنا ولهذا الأمر ؟! .. كالذين يقولون : ما لنا وفلسطين ؟! , ويقولون : هم الذين باعوا أرضهم .. إن القضية يا هؤلاء !! ليست فلسطين .. هذه قضية الإسلام واليهود .. القضية قضية إسلام وكفر .

وإن الذى يهتم ويحزن لأحوال المسلمين ينبغى أن يفكر فى نفسه فيصلحها لتنصلح أمته الجريحة .. وليسلم لله وليقل بلسان الحال والمقال : سمعا وطاعة يا ب .. " وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير "

( البقرة : 285 ) .. فلا يحلق لحيته مثلا ويقول : احلقها وأرح دماغك .. لا .. فأين السمع والطاعة إذا ؟! . أين التسليم الذى نتحدث عنه ؟!! .. أنت لم ترح نفسك بل عصيت ربك الذى بيده الأمر والنهى .

لماذا سجن الإمام أحمد بن حنبل ؟ .. من أجل العقيدة .. يقولون له : القراّن مخلوق , قال لهم : القراّن كلام الله غير مخلوق .. سجنوه وضربوه .. الذى ضربه قال : ضربت أحمد سبعة عشر سوطا لو ضربها جبل لانهد .. نعم : سجن .. وفى شعب أبى طالب كم ضرب أناس ! .. النبى صلى الله عليه وسلم نفسه سجن وضرب .. فالتأديب بالسجن والضرب الاّن ليس جديدا .. " ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك " ( فصلت : 43 ) ..

أبو سيدنا إبراهيم قال له : " لئن لم تنته لأرجمنك " ( مريم : 46 ) ..

فرعون قال لموسى عليه السلام : " لأجعلنك من المسجونين " ( الشعراء : 29 ) ..

فهذه سنة كونية .. سنة دائمة لا تتغير .. وابتلاء أحمد بن حنبل كان من أجل كلمة ما أسهل أن يتنازل عنها الناس اليوم , بل والملتزمون .

قال أبو سعيد الواسطى : دخلت على أحمد السجن قبل الضرب فقلت : يا أبا عبدالله , عليك عيال ولك صبيان وأنت معذور , كأنى أسهل عليه الإجابة .. كأنه يقول له بلغة عصرنا : وراءك عيال وتحتاج إلى تربيتهم , قل لهم الكلمة التى يريدونها .. " القراّن مخلوق " .. واخرج من هنا .. ألست من داخل قلبك تعتقد أن القراّن كلام الله ؟! , إذا لا حرج عليك طالما أن قلبك مطمئن بالايمان !! فقال الامام أحمد : " يا أبا سعيد , إن كان هذا عقلك فقد استرحت !! " .. وما أكثر أصحاب العقول المستريحة فى زماننا .. أراح دماغه .. وغير عابىء بأى أمر .. وتارك نفسه مع الماشى , وحينما يموت لا يجد إلا النار .

لذلك – إخوتاه – حينما يقول الله : " هل لنا من الأمر من شىء " , نقول له : إن الامر كله لله .

الامر أمر الله .. فإذا أرادك أن تحمل فاحمل ما أمرك به .. هذه مسئوليتك .. وهذه هى الامانة التى قال الله عنها : " إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا " ( الأحزاب : 72 ) .. احمل مسئولية هذا الدين , فالدين أمانة .. الدين نسبك وصهرك .. الدين مسئولية كل مسلم .. الدين مسئوليتك الشخصية , وسوف تسأل عنه .. ووالله ثم والله لتسألن عن دين الله .. ماذا عملت به , وماذا قدمت له ؟

قال أبو بكر الصديق لما منعوا الزكاة : أينقص الدين وأنا حى ؟!! كلا والله .. فهل ينقص وأنت حى .. هل ينقص الدين فى بيتك وفى منطقتك وفى أرضك وفى كل العالم ؟! .. نعم ينقص , لأنك لم تحمله .

والمنافقون هم الذين لا يريدون أن يحملوا الدين : " يقولون هل لنا من الأمر من شىء قل إن الأمر كله لله " .. يقولون لأنفسهم : ما الذى أتى بكم إلى هنا ؟! .. " يخفون فى أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شىء ما قتلنا ها هنا " ( اّل عمران : 154 ) .. لو كان الموضوع بأيدينا ! .. ما الذى جاء بنا إلى هنا ؟! .. ما لنا وللقتال .. لماذا نقاتل ؟! .. لا .. فليس الأمر بأيديكم , " قل لو كنتم فى بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم " ( ّل عمران : 154 ) .. لو لم يأتكم رسول ولو لم تخرجوا لقتلتم هنا أيضا .. طالما أنه – سبحانه – كتب عليكم أن تقتلوا هنا فسوف تقتلون هنا ولا محالة .. هذا قدر .

ولذلك فإن من يحلق لحيته حتى لا يؤذى تجده يحلقها فيؤذى .. مكتوبة مكتوبة .. فالقضية ليست قضية أسباب .. القضية من مسبب الاسباب .. انتبه .. لذلك حينما يأتى ويقول : احلق لحيتى , نقول له : يا أخى , البلاء يدفع بطاعة الله ورسوله لا بمعصية الله ورسوله .. فهل تعصى ربك لتدفع عنك البلاء ؟! .. اللهم ارفع عن المسلمين البلاء .

أطع ربك .. نفذ أوامره , فالامر كله له لا لمن تخاف منهم .. سلم تسلم , فالذى أمرك الله .. الله العزيز .. الله الجبار .. الله اللطيف " الله لطيف بعباده " ( الشورى : 19 ) .. الله الرحيم .. الله الحفيظ .. فكن معه , فأنت فى حماه , ولن يضيعك أبدا , فهو الله .

كلمة جليلة جدا لأبى إسماعيل الهروى يبين فيها هذا الاصل : يقول : " أن تعلم أن الامر صادر من عين من لا يخاف عواقب الامر " .. فالذى أمرك من ؟ .. الله .. هل يخاف ؟ .. أعوذ بالله وحاشا لله .. قال ربى : " فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها * ولا يخاف عقباها " ( الشمس : 14 – 15 ) . فكن معه وسيحميك ويحرسك ويحفظك ويسددك وينجيك , وإن ابتلاك فسيرضيك .

قال ابن القيم – رحمه الله - : " اصدق الله , فإذا صدقت عشت بين عطفه ولطفه , فعطفه يقيك ما تحذره , ولطفه يرضيك بما يقدره " اهـ .

ستعيش وتحيا بين العطف واللطف .. فيعطف عليك .. فكل ماتخاف منه لن يحدث , لأنه – سبحانه – هو الملك – فلا يجرى فى الكون شىء إلا بقدره وإذنه ومشيئته , فسيحميك بعطفه .. وإذا قدر عليك شيئا تكرهه فسيرضيك بلطفه . إذا فكل لله كما يريد , يحميك ويرضك .. فسلم له تسلم .

فلان كان يقود السيارة وفى لحظة القدر لم ير أمامه , فكانت الحادثة .. وفيها حصل العطف واللطف .. فالعطف : أن السيارة تكسرت لكنه خرج هو وأولاده سالمين .. هذا عطف ..

أما اللطف : فإنه نزل من السيارة ساجدا يقول : الحمد لله .. يقولون له : السيارة انتهت , يقول : يا أخى , الحمد لله , الحمد لله .. فهذا لطف .. وعلى العكس : من يحلق لحيته : فيعصى فيؤذى فيتلفظ بما يسخط الله .. فلا هو نفذ الامر فعاش بعطف الله , ولا هو سكت فعاش سعيدا وفاز بلطف الله .

وهكذا .. إذا عشت لله فنفذت أوامره , وسلمت له زمام نفسك فأطعته فى كل مايأمرك به , سلمت , وسيرك بين عطفه ولطفه – اللهم احفظنا بعطفك ولطفك يا رب .. فسلم تسلم لتصل فالامر كله لله .

* * *

الأصل السابع عشر : دليل عدم رضاه عنك عدم رضاك عنه

الأصل السابع عشر : دليل عدم رضاه عنك عدم رضاك عنه

رجل تضايقه زوجته بعض الشىء , ولكنه رجل صالح وراض وصابر ويقول : بذنوبى .. هذا الرجل الراضى يفاجأ بأن الله يرضيه , فيأتيه برجل يجلس بجواره ويقول له : يا أخى , لا أدرى ماذا أفعل مع زوجتى !! .. كلما أكلمها كلمة توبخنى وتهيننى .. فيقول صاحبنا : اللهم لك الحمد , إذا فأنا فى نعمة .

ورجل اّخر كلما تضايقه زوجته يقول : يا رب , ماذا عملت فى دنياى حتى تبتلينى بهذه البلوى ؟! , فيقعد الله له رجلا بجواره يقول له : يا أخى , سبحان الله ! لماذا تعذب نفسك ؟! طلقها واسترح من مشاكلها !! ولو رضى لأرضاه الله .

قال سفيان : قال الحسن : من رضى بما قسم الله له وسعه , وبارك الله له فيه , ومن لم يرض لم يسعه , ولم يبارك له فيه .

وقال أبو عثمان الحيرى : منذ أربعين سنة ما أقامنى الله فى حال فكرهته , وما نقلنى إلى غيره فسخطته .

لقد حدث لأحد الإخوة موقف عجيب .. كان نائما بالليل فعطش فقام يشرب ورجع فوجد زوجته قد استيقظت وتقول له : أين كنت ؟ فقال : كنت أشرب فبكت وقالت له : لم لم توقظنى ؟ لم لم تأمرنى ؟ ما فائدتى إذن ؟ !!

فالذى وضع هذا الرجل لهذا , ووضع هذه لهذا من ؟ .. الله .. فحينما ترضى يرضيك , وحينما تسخط يزيدك سخطا , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله إذا أحب قوما ابتلاهم , فمن رضى فله الرضا , ومن سخط فعليه السخط " [صححه الألبانى] .. هذه هى القضية : أنك إذا كنت راضيا دائما , أرضاك الله وبعث إليك ما يرضيك ومن يرضيك .

والقصة التى مرت من خير الشواهد .. قصة حدير .. لما مشوا ووجد كل واحد منهم فى يده الهدية لم يقل : وأنا ؟ ولم يرجع ليقول : أنا لم اّخذ هديتى يا رسول الله .. ولو طلب لأعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم .. لكنّ الرجل كان راضيا , فيكفيه أن الله ذكره .. ولما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم به , أرسل إليه هديته بسرعة .. فحاز الهدية وذكر الله .. لرضاه .

سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه معروف أنه كان مستجاب الدعوة , وكان قد كف بصره فى اّخر عمره , قال له ابنه : يا أبت أراك تدعو للناس ! هلا دعوت لنفسك أن يرد الله عليك بصرك , قال : يا بنى , قضاء الله أحب إلىّ من بصرى .

إخوتاه , هل أنتم راضون عن الله ؟ , هل فعلا قضاء الله وقدره أحب إليكم مما أنتم فيه من بلاء وفتنة وغربة ؟ .. إذا أردتم أن تتأكدوا , فالرضا عن الله يصح بثلاثة شروط ذكرها ابن القيم فى المدارج :

الأول : استواء النعمة والبلية عند العبد , لأنه يشاهد حسن اختيار الله له .

الثانى : سقوط الخصومة عن الخلق , إلا فيما كان حقا لله ورسوله صلى الله عليه وسلم .

فالراضى لا يخاصم ولا يعاتب إلا فيما يتعلق بحق الله , وهذه كانت حال رسول الله صلى الله عليه وسلم , فإنه لم يكن يخاصم أحدا , ولا يعاتبه إلا فيما يتعلق بحق الله , كما أنه لا يغضب لنفسه , فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شىء حتى ينتقم لله . فالمخاصمة لحظ النفس تطفىء نور الرضا وتذهب بهجته , وتبدل بالمرارة حلاوته , وتكدر صفوه .

والشرط الثالث : الخلاص من المسألة للخلق والإلحاح , قال – تعالى – " يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا " ( البقرة : 273 ) . قال ابن عباس : إذا كان عنده غداء لم يسأل عشاء , وإذا كان عنده عشاء لم يسأل غداء .

ثم يبين رحمه الله أن منع الله – تعالى – لعبده عطاء , وابتلاءه إياه عافية فيقول :

" فإنه – سبحانه – لا يقضى لعبده المؤمن قضاء إلا كان خيرا له , ساءه ذلك القضاء أو سره . فقضاؤه لعبده المؤمن عطاء , وإن كان فى صورة المنع . ونعمة , وإن كانت فى صورة محنة .

وبلاؤه عافية , وإن كان فى صورة بلية . ولكن لجهل العبد وظلمه لا يعد العطاء والنعمة والعافية إلا ما التذّ به فى العاجل , وكان ملائما لطبعه . ولو رزق من المعرفة حظا وافرا لعد المنع نعمة , والبلاء رحمة , وتلذذ بالبلاء أكثر من لذته بالعافية , وتلذذ بالفقر أكثر من لذته بالغنى , وكان فى حال القلة أعظم شكرا من حال الكثرة .

فالراضى : هو الذى يعد نعم الله عليه فيما يكرهه , أكثر وأعظم من نعمه عليه فيما يحبه , كما قال بعض السلف : ارض عن الله فى جميع ما يفعله بك , فإنه ما منعك إلا ليعطيك , ولا ابتلاك إلا ليعافيك , ولا أمرضك إلا ليشفيك , ولا أماتك إلا ليحييك . فإياك أن تفارق الرضى عنه طرفة عين , فتسقط من عينه " .

إخوتاه , قال الثورى يوما عند رابعة : اللهم ارض عنا . فقالت : أما تستحى أن تسأله الرضا عنك وأنت غير راض عنه ؟ , فقال : أستغفر الله . ثم قال لها جعفر بن سليمان : متى يكون العبد راضيا عن الله ؟ قالت : إذا كان سروره بالمصيبة مثل سروره بالنعمة .

ودخل رجل على أبى العالية فى مرضه الذى مات فيه , فقال : إن أحبه إلىّ , أحبه إلى الله – عز وجل .

وقيل ليحيى بن معاذ : متى يبلغ العبد إلى مقام الرضا ؟ فقال : إذا أقام نفسه على أربعة أصول فيما يعامل به ربه , فيقول : إن أعطيتنى قبلت , وإن منعتنى رضيت , وإن تركتنى عبدت , وإن دعوتنى أجبت .

وعن حفص بن حميد قال : كنت عند عبدالله بن المبارك بالكوفة حين ماتت امرأته , فسألته : ما الرضا ؟ قال : الرضا : لا يتمنى خلاف حاله .

ونظر رجل إلى قرحة فى رجل محمد بن واسع فقال : إنى لأرحمك من هذه القرحة , فقال : إنى لأشكرها منذ خرجت إذ لم تخرج فى عينى .

بشير الطبرى كان عنده مزرعة فيها أربعمئة جاموسة .. ثروة تقدر بمليون جنيه اليوم .. فهجم الروم يوما عليها , فساقوا الجواميس كلها , وكان عنده مئة عبد يحرسونها , فأرسل هؤلاء العبيد إلى بشير أن قد أخذت الجواميس , فركب مع ولد له إليهم .. فلما وصل إلى المزرعة لقيه العبيد يبكون .. يا سيدنا , يا مولانا : أخذت الجواميس , فقال : وأنتم أيضا : اذهبوا فأنتم أحرار لوجه الله .. فقال له ابنه : أفقرتنا يا أبتاه , فقال : اسكت يا بنى , إن الله أراد أن يبتلي رضائى به , فأحببت أن أزيده .. رحمك الله يا بشير .. إن الله يمتحننى أأرضى بقضائه أم لا , قلت له : لا , أنا راض جدا , وهذه الزيادة أيضا من أجلك يا رب .. اذهبوا فأنتم أحرار لوجه الله !!

العبـد ذو ضجـر والــرب ذو قــدر والدهر ذو دول والرزق مقسوم

والخير أجمع فى ما اختار خالقنا وفى اختيار سواه اللوم والشوم

يقول ابن القيم – رحمه الله تعالى - :

" وثمرة الرضا : الفرح والسرور بالرب – تبارك وتعالى – ورأيت شيخ الاسلام ابن تيمية – قدس الله روحه – فى المنام , وكأنى ذكرت له شيئا من أعمال القلب , وأخذت فى تعظيمه ومنفعته – لا أذكره الان – فقال : أما أنا فطريقتى : الفرح بالله , والسرور به . أو نحو هذا من العبارة " .

إلهى .. سسنا كيف شئت , فسوف نرضى .. إلهى :

إذا ارتحل الكرام إليك يوما ليلتمســوك حـالا بعد حــال

فإن رحالنا حطّت لتـرضــى بحلمك عن حلول وارتحال

أنخنا فى فنــائـك يـا إلـهــى إليك معرضين بلا اعتـــدال

فسسنا كيف شئت ولا تكلنا إلى تدبيرنا يـا ذا الـمعـالـى

يقول ابن الجوزى – عليه رحمة الله وبركاته – فى " صيد الخاطر " تحت عنوان " فصل : تذكر أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم " :

" من أراد أن يعلم حقيقة الرضى عن الله – عز وجل – فى أفعاله , وأن يدرى من أين ينشأ الرضى , فليتفكر فى أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم .

فإنه لمّا تكاملت معرفته بالخالق – سبحانه – رأى أن الخالق مالك , وللمالك التصرف فى مملوكه , ورأه حكيما لا يصنع شيئا عبثا , فسلم تسليم مملوك لحكيم , فكانت العجائب تجرى عليه ولا يوجد منه تغير , ولا من الطبع تأفف .

ولا يقول بلسان الحال : لو كان كذا , بل يثبت للأقدار ثبوت الجبل لعواصف الرياح .

هذا سيد الرسل صلى الله عليه وسلم بعث إلى الخلق وحده , والكفر قد ملأ الاّفاق فجعل يفر من مكان إلى مكان , واستتر فى دار الخيزران , وهم يضربونه إذا خرج , ويدمون عقبه , وشق السلى على ظهره , وهو ساكت ساكن .

ويخرج كل موسم فيقول : من يؤوينى , من ينصرنى ؟

ثم خرج من مكة فلم يقدر على العود إلا فى جوار كافر , ولم يوجد من الطبع تأفف .

إذ لو كان غيره لقال : يا رب , أنت مالك الخلق , وقادر على النصر , فلم أذل ؟

كما قال عمر رضى الله عنه يوم صلح الحديبية : ألسنا على الحق ؟ فلم نعطى الدنية فى ديننا ؟!!

ولما قال هذا , قال له الرسول صلى الله عليه وسلم : " إنى عبدالله , ولن يضيعنى " , فجمعت الكلمتان الأصلين اللذين ذكرناهما .

فقوله : إنى عبدالله , إقرار بالملك وكأنه قال : أنا مملوك يفعل بى ما يشاء .

وقوله : لن يضيعنى , بيان حكمته , وأنه لا يفعل شيئا عبثا .

ثم يبتلى بالجوع فيشد الحجر , ولله خزائن السموات والارض .

وتقتل أصحابه , ويشج وجهه , وتكسر رباعيته ويمثل بعمّه وهو ساكت .

ثم يرزق ابنا ويسلب منه , فيتعلل بالحسن والحسين فيخبر بما سيجرى عليهما .

ويسكن بالطبع إلى عائشة رضى الله عنها , فينغص عيشه بقدفها .

ويبالغ فى إظهار المعجزات , فيقام فى وجهه مسيلمة والعنسى وابن صياد .

ويقيم ناموس الامانة والصدق , فيقال : كذاب ساحر .

ثم يعلقه المرض كما يوعك رجلان , وهو ساكن ساكت .

فإن أخبر بحاله فليعلم الصبر .

ثم يشدد عليه الموت , فيسلب روحه الشريفة وهو مضطجع فى كساء ملبد وإزار غليظ , وليس عندهم زيت يوقد به المصباح ليلتئذ .

هذا شىء ما قدر على الصبر عليه كما ينبغى نبى قبله , ولو ابتليت به الملائكة ما صبرت .

هذا اّدم عليه السلام : يباح له الجنة سوى شجرة , فلا يقع ذباب حرصه ألا على العقر . ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول فى لمباح : " مالى وللدنيا " !

وهذا نوح عليه السلام: يضج مما لاقى , فيصيح من كمد وجده " لا تذر على الارض من الكافرين ديارا "

( نوح : 26 ) , ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول : " اللهم اهد قومى فإنهم لا يعلمون " .

هذا الكليم موسى صلى الله عليه وسلم : , يستغيث عند عبادة قومه العجل على القدر قائلا :

" إن هى إلا فتنتك " ( الأعراف : 155 ) , ويوجه أليه ملك الموت فيقلع عينه .

وعيسى صلى الله عليه وسلم يقول : " إن صرفت الموت عن أحد فاصرفه عنّى " , ونبينا صلى الله عليه وسلم يخير بين البقاء والموت , فيختار الرحيل إلى الرفيق الأعلى .

هذا سليمان صلى الله عليه وسلم يقول : هب لى ملكا , ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول : " اللهم اجعل رزق اّل محمد قوتا " .

هذا - والله – فعل رجل عرف الوجود والموجد فماتت أغراضه وسكنت اعتراضاته فصار هواه فيما يجرى " .

فإذا رضيت يا عبدالله , فاعلم أن الله راض عنك .. فدليل عدم رضاه عنك عدم رضاك عنه .. فارض عن الله تصل إليه .. وتذكر دائما أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم .

* * *

الأصل الثامن عشر : إياك أن تمكر به فيمكر بك

الأصل الثامن عشر : إياك أن تمكر به فيمكر بك

تدبر معى هذه الايات : قال - تعالى - : " والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد " ( فاطر : 10) , وقال – تعالى - : " ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين " ( الأنفال : 30 ) . وقال - تعالى - : " وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال " ( إبراهيم : 46 ) , وقال – تعالى - : " ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون * فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمّرناهم وقومهم أجمعين * فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن فى ذلك لأية لقوم يعلمون " ( النمل : 50 – 52 ) , وقال – تعالى - : " قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون " ( النحل : 26 ) , وقال عز وجل : " وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر فى اّياتنا قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون " ( يونس : 21 ) , وقال عز وجل : " وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون " ( الأنعام : 123 ) , وقال عز وجل : " ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون " ( النمل : 50 ) , وقال عز وجل : " أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون * أو يأخذهم فى تقلبهم فما هم بمعجزين * أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرؤوف رحيم " ( النحل : 45 – 47 ) .

وقال – جل وعلا - " سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون "( الأنعام : 124 )

وقال – جل وعلا - : " استكبارا فى الأرض ومكر السيىء ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله " ( فاطر : 43 ) , وقال – جل وعلا - " ومكر أولئك هو يبور " ( فاطر : 10 )وقال – جلا وعلا : " وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعا يعلم ما تكسب كل نفس " ( الرعد : 42 ) , وقال – جل وعلا - : " أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون "( الأعراف : 99 ) . إن التأمل فى هذه الاّيات ومعاودة قراءتها بتأن وتدبر يغرس فى القلب الخوف من المكر , فها هى عاقبة المكر تراها واضحة أمامك فى الاّيات .. وكأن الاّيات تقول لك : إياك أن تمكر .. إياك . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المكر والخديعة والخيانة فى النار " [صححه الألبانى] .. فإياك أن تمكر فيمكر بك .

كثير من الناس يعيش فى هذه الدنيا يعامل الله بالمكر .. غباء .. يتعامل مع زوجته بالمكر , مع أبيه بالمكر , مع مديره وزميله فى العمل بالمكر , مع جاره ومن حوله بالمكر , فيظن أنه يستطيع أن يمكر بالله !

كلمة خطيرة لابن الجوزى يقول فيها " تصر على المعاصى وتصانع ببعض الطاعات والله إن هذا لمكر " اهـ .

فتراه قد واعد البنت الفلانية ليقابلها غدا , ويجلس فى المسجد أمام الخطيب وهو يفكر فى الموعد .. إصرار على المعصية .. أتمكر بربك ؟! .. يأكل الحرام وواعد على رشوة , ومع ذلك يصلى ويتصدق وحاجز فى العمرة .. تمكر بمن ؟! . وستجد من يجلس فى المسجد يستغفر وهو يحمل علبة السجائر .. مصر على المعصية , ويقول : اللهم تب علىّ ! .. بمن تمكر ؟!! .. وأعجب من هؤلاء جميعا من إذا سمع بهذا الكلام قال معاندا : إذا والله لن أتوب ولن أصلى .. لا .. أنا لا أقول ذلك الكلام لتقول هذا , ولكن أقوله لكى لا تمكر بربك .. فهو الذى خلقك ويعلمك .

فالذى قد واعد البنت الفلانية وجاء ليصلى يمكر .. نعم : هذا مكر .. وتعجب من قوله حين يسمع بهذا الكلام : أنا اّسف , ولن أصلى بعد ذلك .. وهذا هو الغلط .. هذا هو العور فى البصيرة .. فبدلا من أن تقول : تبت إلى الله , تقول هذا الكلام ؟! .. سلم يا رب سلم .. تصر على المعاصى وتصانع ببعض الطاعات إن هذا لمكر .. فالمفترض والمتوقع حينما أقول لك هذا الكلام أن تقول : لا للمعصية , لا أن تقول : لا للطاعة !! .

وفرق كبير بين الذى يعصى ثم يستغفر ويتوب ويندم ويعزم على ألا يعود , وبين من يمكر السيئات .. وفرق كبير من يعمل السوء بجهالة ثم يتوب من قريب , وبين الذى يدبر ويمكر ويصر ويستمر .

هذا هو الملحظ الخطير عند تأمل الاّيات السابقة :

أنك تجد التفريق بين من يتورط فى المعصية عند غلبة الشهوة مع الجهلة وشدة الغفلة , وبين من يمكر للموضوع فيحتال ويدبر ويحتاط ويلف ويدور , ويبحث عن الشبهات ويتعامى عن الضوابط , لذا كانت عقوبة الماكر أشد بكثير من عقوبة العاصى .

لذا إذا قلت لك : تصانع بالطاعات وأنت مصر على المعاصى , فلا تقل : إذا لن أصلى حتى أنتهى عن المعاصى !! .. لأن هذا مكر ! .. ولم لا تنتهى عن المعاصى وتستمر فى الصلاة ؟!! .. اللهم تب على كل عاص مسلم يا رب ..

وتأمل معى قصة أصحاب السبت لمّا مكروا على الله , واستخفوا بزواجره , مسخوا قردة ..

قال الله – تعالى – : " واسألهم عن القرية التى كانت حاضرة البحر إذ يعدون فى السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون " ( الأعراف : 163 ) . أى : واسأل يا محمد يهود المدينة عن أخبار أسلافهم وعن أمر القرية التى كانت بقرب البحر وعلى شاطئه ماذا حل بهم لما عصوا أمر الله واصطادوا يوم السبت ؟ , ألم يمسخهم قردة وخنازير ؟! والاعتداء فى السبت مجرد معصية أهون ن كثير من معاصيهم , كقتل الأنبياء وطلب رؤية الله جهرة وطلب أصنام وعبادة عجل ..الاعتداء فى السبت أخف من كل هذا بلا شك .. وفى كل هذا لم يمسخوا , وإنما مسخوا باعتدائهم فى السبت .. وهذا يدلك على أن العقوبة لم تكن على مجرد المعصية , وإنما العقوبة على المكر .

قال الفيروزاّبادى : " إن معصيتهم هذه كان فيها استخفاف بالله " , إذ حفروا الحفر يوم الجمعة ونصبوا عليها الشباك فوقعت فيها الاسماك يوم السبت وهم ينظرون , ثم جمعوا السمك يوم الأحد .. فتراهم قد خادعوا ومكروا بنصب الشباك يوم الجمعة وجلسوا كالمستخفين بربهم يوم السبت يضعون أيديهم فى جيوبهم وهم ينظرون إلى السمك يتساقط فى شباكهم التى نصبوها ويقولون : يا رب , انظر كيف نحن مطيعون لك يوم السبت فلم نصنع شيئا مطلقا .. وهيهات هيهات .

تعال معى إلى سرد القصة :

" كان بنو إسرائيل قد طلبوا أن يجعل لهم يوم راحة يتخذونه عيدا للعبادة , ولا يشتغلون فيه بشؤون المعاش , فجعل لهم السبت .. ثم كان الابتلاء ليربيهم الله ويعلمهم كيف تقوى إرادتهم على المغريات والأطماع , وكيف ينهضون بعهودهم حين تصطدم بهذه المغريات والأطماع .. وكان ذلك ضروريا لبنى إسرائيل الذين تخلخلت شخصياتهم وطباعهم بسبب الذل الذى عاشوا فيه طويلا , ولابد من تحرير الإرادة بعد الذل والعبودية , لتعتاد الصمود والثبات . فضلا على أن هذا ضرورى لكل من يحملون دعوة الله , ويؤهلون لأمانة الخلافة فى الأرض .. وقد كان اختبار الإرادة والاستعلاء على الإغراء هو أول اختيار وجه من قبل إلى اّدم وحواء .. فلم يصمدا له واستمعا لإغراء الشيطان بشجرة الخلد وملك لا يبلى ! , ثم ظل هو الاختبار الذى لابد أن تجتازه كل جماعة قبل أن يأذن الله لها بأمانة الاستخلاف فى الأرض .. إنما يختلف شكل الابتلاء , ولا تتغير فحواه !

ولم يصمد فريق من بنى إسرائيل – فى هذه المرة – للابتلاء الذى كتبه الله عليهم بسبب ما تكرر قبل ذلك من فسوقهم وانحرافهم .. لقد جعلت الحيتان فى يوم السبت تتراءى لهم على الساحل , قريبة المأخذ , سهلة الصيد . فتفوتهم وتفلت من أيديهم بسبب حرمة السبت التى قطعوها على أنفسهم ! , فإذا مضى السبت وجاءتهم أيام الحل , لم يجدوا الحيتان قريبة ظاهرة , كما كانوا يجدونها يوم الحرم ! .. وهذا ما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يذكرهم به , ويذكرهم ماذا فعلوا وماذا قالوا .

على أية حال , لقد وقع ذلك لأهل القرية التى كانت حاضرة البحر من بنى إسرائيل .. فإذا جماعة منهم تهيج مطامعهم أمام هذا الإغراء , فتتهاوى عزائمهم , وينسون عهدهم مع ربهم وميثاقهم , فيحتالون الحيل – على طريقة اليهود – للصيد فى يوم السب ! وما أكثر الحيل عندما يلتوى القلب , وتقل التقوى , ويصبح التعامل مع مجرد النصوص , ويراد التفلت من ظاهر النصوص .

إن أوامر الشريعة ونواهيها لا يحرسها مجرد وجود النصوص فى الكتب أو على ألسنة الدعاة والوعاظ , بل ولا السيف ولا المدفع , إنما تحرسها القلوب اليقظة التقية التى تستقر تقوى الله فيها وخشيته , فتحرس هى شريعتها وتحميها . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الحلال بيّن , وإن الحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات , لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه , ومن وقع فى الشبهات وقع فى الحرام , كالراعى يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه , ألا وإن لكل ملك حمى , ألا وإن حمى الله محارمه " , ثم عقب على ذلك بقوله : " ألا وإن فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله , ألا وهى القلب . [متفق عليه]

فمهما قلنا : حلال .. حرام .. يجوز .. لا يجوز .. يجب .. يكره .. فلن يجد هذا الكلام صدى إلا عند أصحاب القلوب التقية النقية والنوايا الطيبة .

" من أجل ذلك تفشل الانظمة والاوضاع التى لا تقوم على حراسة القلوب التقية . وتفشل النظريات والمذاهب التى يضعها البشر للبشر ولا سلطان فيها من الله .. ومن أجل ذلك تعجز الاجهزة البشرية التى تقيمها الدول لحراسة القوانين وتنفيذها . وتعجز الملاحقة والمراقبة التى تتابع الامور من سطوحها !

وهكذا راح فريق من سكان القرية التى كانت حاضرة البحر يحتالون على السبت , الذى حرم عليهم الصيد فيه .. وروى أنهم كانوا يقيمون الحواجيز على السمك ويحوطون عليه فى يوم السبت , حتى إذا جاء الاحد سارعوا إليه فجمعوه , وقالوا : إنهم لم يصطادوه فى السبت , فقد كان فى الماء – وراء الحواجيز – غير مصيد " .

وأنى لهذا أن يدخل على الله , والله – سبحانه – يراقب خلجات النفوس وأسرار القلوب .. فمهما قالوا : " غير مصيد " بألسنتهم , فقد اصطادوا بقلوبهم ونياتهم ..

فيا من تصيدوا المعاصى والسيئات مكرا وخداعا , الله يراك ويعلم نواياك , فاتق الله واحذر مغبة ذنبك وعاقبة فعلك .. ومهما خدعت الناس ومكرت على الخلق ودخل ذلك عليهم , فلن تخدع الله .. وإذا مكرت , فاعلم أنه " لا يحيق المكر السيىء إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا "

( فاطر : 43 ) .

يا من تملأ قلبك بالهموم وتدنسه بالمعاصى عامدا , ثم تسأل الله سلامة القلب ! .. إن هذا لمكر .. مستمر فى شحن قلبك بالهموم ومتعمد .. تحمل هم المال وهم اللبس وهم الصيف وهم الشتاء وهم العيال وهم البنات وهم المرتب وهم الشغل وهم .. وهم .. وتقول : يا رب , طهر قلبى .. وأنت المداوم على تدنيسه !! .. إن هذا لمكر .. اللهم طهر قلوبنا يا رب .

حريص على الدنيا , غافل عن الاّخرة , كثير الذنوب , بطىء التوبة , ثم تشكو قسوة القلب !! .. إن هذا لمكر .. إياك أن تمكر .. كن صادقا مع الله .. لا تكن ثعلبا , فالطريق وعرة .. الطريق إلى الله وعرة , ولن تصل إلى بتوفيقه , أفبه تمكر وهو دليلك الوحيد ؟!!

ولذا إذا أردت الوصول إلى الله , فتب من المكر , فاجعل همومك هما واحدا هو الله .. الهموم نجسة فطهر قلبك منها .. اللهم طهر قلوبنا يا رب .

أسباب تطهير القلب من الهموم

ولكى أساعدك – ساعدنى الله وإياك - , فمن أسباب تطهير القلب من الهموم سبعة :

أولا : الصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم :

لما قال رجل : يا رسول الله , اجعل كل دعائى صلاة عليك ؟ , قال : " إذا يكفك الله ما أهمك " [حديث حسن] .

وفى الرواية الثانية : " يغفر ذنبك وتكف ما أهمك " [حسنه الألبانى] .

أحد مشايخنا ذهب إليه رجل سرقة سيارته , فقال له : اذهب واجلس فى المسجد وصل الصلاة الابراهيمية :

" اللهم صل على محمد وعلى اّل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى اّل إبراهيم إنك حميد مجيد . اللهم بارك على محمد وعلى اّل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى اّل إبراهيم إنك حميد مجيد " . وسبحان الله العظيم ! ما ارتفعت الشمس بعد صلاة الفجر إلى الضحى إلا وعادت إليه سيارته .. وهذا ليس كلاما صوفيا , ولكنه يقين فى الحديث .. الصوفى صاحب بدعة يؤلف لك حكاية , أما أنا فأكلمك فى السنة .. هذا كلام النبى صلى الله عليه وسلم : صل عليه يكفك الله ما أهمك .. أى شىء تحمل همه فأكثر من الصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم يفرج ويقضى ويحل .

ثانيا : قراءة المعوذتين :

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من قرأ " قل هو الله أحد , وقل أعوذ برب الفلق حين يصبح وحين يمسى كفاه الله كل ما أهمه " [حسنه الألبانى] .. ولكن الشرط – يا شباب - : اليقين والاحتساب , وهو أن أقرأها وأنوى بقرائتها أى يكفينى الله همومى .. أقرؤها وأنا أعلم يقينا بأن الله قادر أن يكفينى همومى , وأن النبى صلى الله عليه وسلم صدق .. اقرأها باليقين والاحتساب يكفك الله ما أهمك .

ثالثا : قول : حسبى الله :

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قال حين يصبح وحين يمسى حسبى الله لا إله ألا هو عليه توكلت , وهو رب العرش العظيم , سبع مرات , كفاه الله كل ما أهمه من أمر الدنيا والاّخرة " [أخرجه أبو داود]

أثناء قولك : حسبى الله , تدبر معناها .. حسبى الله .. كفيلى .. لا إله إلا هو عليه توكلت , وهو رب العرش .. تخيل القبر حتى يكفيك هم القبر , والصراط حتى يكفيك هم الصراط , وتطاير الصحف حتى يكفيك تطاير الصحف , والميزان حتى يكفيك هم الميزان , والعرض على الله حتى يكفيك هم العرض عليه ...

رابعا : ذكر دعاء الهمّ :

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قال : اللهم إنى عبدك وابن عبدك وابن أمتك , ناصيتى بيدك , ماض فىّ حكمك , عدل فىّ قضاؤك , أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك , أو أنزلته فى كتابك , أو علمته أحدا من خلقك , أو استأثرت به فى علم الغيب عندك , أن تجعل القراّن العظيم ربيع قلبى , وشفاء صدرى , وجلاء همى وغمى , إلا أبدله الله مكان الهم فرجا " . قالوا : يا رسول الله : أنتعلمها ؟, قال : " ينبغى لكل من سمعها أن يتعلمها " [صححه أحمد شاكر] . إذا فليلزم كل واحد منكم حفظ هذا الحديث .

خامسا : الاستغفار :

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من لزم الاستغفار , جعل الله له من كل ضيق مخرجا , ومن كل هم فرجا , ورزقه من حيث لا يحتسب " [صححه أحمد شاكر] .

سادسا : جعل الهموم هما واحدا :

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من جعل الهموم هما واحدا هم الاّخرة كفاه الله ما أهمه , ومن تشعبت به الهموم لم يبال الله به فى أى أودية الدنيا هلك " [حسنه الألبانى] .

إذا فهمك ليل نهار هو : يا ترى هل الله راض عنى أم لا ؟ .. هل لو مت الاّن سأدخل الجنة أم النار ؟ .. يا ترى سأقع على الصراط أم سأمر بسلام ؟ .. يا ترى الميزان أى كفتيه ستخف ؟ .. عند تطاير الصحف ساّخذ باليمين أم بالشمال ؟ .. هذا همك الرئيس والأساس : الاّخرة .. أما هموم الدنيا فكثيرة وهينة على الله , ومن تشعبت به عاش شقيا ومات شقيا .

سابعا : الدعاء :

الدعاء سلاحك , فادع الله أن يجمع عليك شملك ويكفيك ما أهمك , اضرع إليه وقل : اللهم فرغ قلبى لك حتى لا يحول بينى وبينك شىء .. اللهم اجعل همومى هما واحدا هو لك , واجعل أشغالى شغلا واحدا هو بك , واجعل أفكارى فكرة واحدة هى فيك .. ارحمنى يا ربى وجمع شتات قلبى .. اكفنى ما أهمنى وغمنى .. قل : اللهم إنى أعوذ بك من الهم والحزن .. ادع الله وهو – سبحانه وتعالى – قريب يستجيب دعاء المهموم المضطر .

وهكذا يا أخى فى الله يا طالب الوصول يكون الهم .. فطهر قلبك من هموم الدنيا .. وكن صادقا , ولا تمكر بالله حتى لا يمكر بك فتكون من الهالكين الخاسرين .. اجعل همك الذى تعيش له وتعيش به : هو الدار الاّخرة .. رضا الله وفقط .. فلا تمكر وإلا فلن تصل إلى الله على الاطلاق .

* * *

الأصل التاسع عشر : اجن العسل ولا تكسر الخلية

الأصل التاسع عشر : اجن العسل ولا تكسر الخلية

لكل باب مفتاح فاجن العسل ولا تكسر الخلية .

بعض الناس إذا أراد أن يحصل على عسل من خلية النحل يدب برجله فيها فيدغدغها .. مهلا مهلا فلها مفتاح .. إذا كنت لا تعرف فأت بمن يعرف حتى تأكل عسلا .. وتترك الخلية تخرج العسل مرة ثانية .. لا تكسر الخلية .

أيها الإخوة , إن بعضنا حينما يسير فى الطريق إلى الله ويريد أن يجنى شيئا من الخير , تراه يهجم عليه بدون وعى ولا امتلاك مفاتيح .. مفاتيح الوصول .. سيكسب عسلا ولكن لاّخر مرة .. فافهم ولا تهجم .. وادع الله أن يرزقك الفهم فى دينك .. اللهم فهمنا ما تحبه وترضاه لنفعله , اللهم بلغنا رضاك يا رب .

وقد ذكر ابن القيم فى كتابه القيم " حادى الارواح الى بلاد الافراح " – اللهم بلغنا بلاد الافراح يا رب – ذكر مجموعة مفاتيح , فقال - رحمه الله تعالى - :

" وقد جعل الله – سبحانه – لكل مطلوب مفتاحا يفتح به , فجعل مفتاح الصلاة الطهور .. كما قال : مفتاح الصلاة الطهارة .. ومفتاح الحج الاحرام .. ومفتاح البر الصدق .. ومفتاح الجنة التوحيد .. ومفتاح العلم حسن السؤال وحسن الاصغاء .. ومفتاح النصر والظفر الصبر .. ومفتاح المزيد الشكر .. ومفتاح الولاية المحبة والذكر .. ومفتاح الفلاح التقوى .. ومفتاح التوفيق الرغبة والرهبة .. ومفتاح الإجابة الدعاء .. ومفتاح الرغبة فى الاخرة الزهد فى الدنيا .. ومفتاح الإيمان التفكر فيما دعا الله عباده إلى التفكر فيه .. ومفتاح الدخول على الله إسلام القلب وسلامته له .. والإخلاص له فى الحب والبغض والفعل والترك .. ومفتاح حياة القلب تدبر القراّن والتضرع بالاسحار وترك الذوب .. ومفتاح حصول الرحمة الاحسان فى عبادة الخالق والسعى فى نفع عبيده .. ومفتاح الرزق والسعى مع الاستغفار والتقوى .. ومفتاح العز طاعة الله ورسوله . ومفتاح الاستعداد للاّخرة قصر الامل .. ومفتاح كل خير الرغبة فى الله والدار الاّخرة .. ومفتاح كل شر حب الدنيا وطول الامل " .

قال ابن القيم : " مفتاح الصلاة الطهور " .. فلكى تصلى كما ينبغى توضأ كما ينبغى .. يقول العلماء : وإذا أخطأ الإمام ولبس عليه فى الصلاة , فإن هذا دليل على أن من خلفه لم يحسن الوضوء .

فانظر كيف تؤثر طاعة أو معصية المأموم على الإمام .. وإذا كان تأثيره يصل الى الامام فما بالك على صلاته هو .. إذا حينما تقول لى : أنا أشرد بذهنى فى الصلاة , أقول لك توضأ وضوءا بحق .. نريد ونحن نتوضأ أن نحس بمعنى كل حركة .. فإذا غسلت يديك فانظر للمياه واستشعر نزول الذنوب معها التى جنتها يداك , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فإذا غسل العبد يديه خرجت كل خطيئة بطشتها يداه حتى تخرج من تحت أظفاره , فإذا تمضمض خرجت كل خطيئة بطشها لسانه حتى تخرج الخطايا من بين أسنانه " [أخرجه مسلم] .

تخيل وأنت تغسل وجهك .. تخيل الخطايا وهى تخرج من تحت أشفار عينك .. عينك هذه التى كم جنت .. فتوضأ بحق , فالوضوء مفتاح الصلاة .. " ومفتاح الحج الاحرام " , فإذا أحرمت كما ينبغى , استمتعت بالحج , فحججت بحق .. المفاتيح كثيرة ..

فأمسك المفاتيح يفتح لك الباب , أما إذا تركت المفاتيح وكسرت الباب .. فستدخل , ولكن ستفقد العسل باقى عمرك .

وللشر مفاتيح :

فمفتاح الزنا النظر , ومفتاح النار الاعراض عن الله . ومفتاح النفاق الكذب . ومفتاح الرياء الجدل. ومفتاح كل إثم الخمر . ومفتاح العشق الاختلاط .. هذه مفاتيح الشر فاعرفها جيدا .

قال ابن القيم : " كما جعل – سبحانه – الشرك والكبر والاعراض عما بعث الله به رسوله والغفلة عن ذكره والقيام بحقه مفتاحا للنار , وكما جعل الخمر مفتاح كل إثم .. وجعل الغنى مفتاح الزنا .. وجعل إطلاق النظر فى الصور مفتاح الطلب والعشق .. وجعل الكسل والراحة مفتاح الخيبة والحرمان .. وجعل المعاصى مفتاح الكفر .. وجعل الكذب مفتاح النفاق .. وجعل الشح والحرص مفتاح البخل وقطيعة الرحم وأخذ المال من غير حله .. وجعل الاعراض عما جاء به الرسول مفتاح كل بدعة وضلالة " .

فلذلك – أيها الاخوة – ايتو البيوت من أبوابها .. فإذا أتيت الباب فاملك المفتاح تدخل وتصل .

أيها لاخوة , إننا بحاجة إلى أن نملك المفاتيح التى نفتح بها أبواب الخير ألى الله ..

قال ابن القيم :وهذا باب عظيم من أنفع أبواب العلم , وهو معرفة مفاتيح الخير والشر , لا يوفق لمعرفته ومراعاته الا من عظم حقه وتوفيقه , فإن الله – سبحانه وتعالى – جعل لكل خير وشر مفتاحا وبابا يدخل منه إليه " .

ثم يعقب – رحمه الله – فى نهاية كلامه عن المفاتيح قائلا :

"وهذه الامور لا يصدق بها الا كل من له بصيرة صحيحة وعقل يعرف به ما فى نفسه وما فى الوجود من الخير والشر , فينبغى للعبد أن يعتنى كل الاعتناء بمعرفة المفاتيح وما جعلت المفاتيح له , والله من وراء توفيقه وعدله له الملك وله الحمد وله النعمة والفضل لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون " .

أخى فى الله , هذا أصل إياك أن تنساه .. لكل خير باب , ولكل باب مفتاح .. فإن أتيت الباب فقد أهلت للخير فاستعد .. وكما يقول أهل الامثال : " إنما يسقط التفاح لمن يبحث عنه تحت الشجرة " .. فهل الذى يبحث عن التفاح تحت عمود الكهرباء سينزل عليه تفاح ؟! .. لا يمكن .. وإنما ينزل التفاح للذى يبحث عنه فى مكانه المناسب , فلذلك لكل خير باب إذا أتيته فقد أهلت للخير , ولم يبق لك الا أن تفتح الباب , وإذا كان فتح الباب بالمفتاح , فالمفتاح لابد أن يكون له أسنان , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مفتاح الجنة لا إله الا الله " [أخرجه أحمد والبزار] .. فكل مفتاح له أسنان , وأسنان لا إله إلا الله شرائع الاسلام وسنن المصطفى صلى الله عليه وسلم .. إذا فلا تقل : ربنا غفور رحيم , وتترك العمل , لأنك بذلك تكسر الخلية .. فأين مفاتيحك وأين أسنانها ؟!!

قال وهب بن منبه حين قيل له : أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مفتاح الجنة لا إله إلا الله ؟ " , قال : " بلى , ولكن ليس مفتاح إلا له أسنان , فإن جئت بمفتاح له أسنان , فتح لك , وإلا لم يفتح لك " [أخرجه البخارى] .

فلذلك فإن " لا إله إلا الله " لها " أسنان " .. شروط .. حققها ليفتح لك باب الجنة .. فللجنة باب , وللباب مفتاح , وللمفتاح أسنان , وكذلك كل أنواع الخير لها أبواب .

والقضية الخطيرة أن بعضنا يأتى باب الخير ثم يرجع .. اللهم ثبتنا على الايمان يا رب .. كثير من الناس أكرمه الله وتاب عليه بعد أن كان يعمل فى الذنوب والمعاصى , ثم عاد واّثر المعصية وترك الطاعة وابتعد عن طريق الله – اللهم تب علينا توبة ترضيك , اللهم إنا نسألك توبة من عندك تصلح بها قلوبنا , وتهدى بها أفئدتنا , وتنور بها بصائرنا .

أحبتى فى الله , تجد بعض الشباب الذين عرفوا طريق الخير قد وصل إلى الباب فدخل المسجد وحضر الدروس وسمع الشرائط , فوقف بهذا على الباب , وفجأة تجده قد أعطى الباب ظهره ! .. قال الملك : " ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزى الله الشاكرين " ( اّل عمران : 144 ) . وسبب هذا الرجوع – إخوتاه – أننا فى زمان التزيين .. فتنة التزيين .. نعم : التزيين فتنة خطيرة جدا فى هذه الايام .. إننا فى زمان يزين فيه الباطل , ويجمل , ويظهر فى صورة الحق فتقبله النفوس فتفتن .

ومن أخطر أسباب التزيين : الهوى – اللهم إنا نعوذ بك من الهوى - , وأخطر ما فى الهوى أن سلطانه قوى , ومكره خفى .. الهوى هو المزاج .. مزاجك الشخصى .. كم من أناس من حولنا تابوا – يا رب ثبتنا على التوبة يا رب - , فبدأ الواحد منهم يصلى وانتهى عن المشى مع البنات , وألغى أسطوانات " المزيكا والديسكو " .. لكن فى داخله هوى .. فى نفسه هوى : أنه لا يزال يود أن يعصى ليستمتع بالمعصية , فإذا قرأ فى الجرائد فوجد الشيخ الفلانى يسأل عن الاغانى فيقول : " الأغانى كالشعر حسنه حسن وقبيحه قبيح " , فماذا نتوقع منه ؟! .. لا شك أنه سيفتن بفتوى مضلة ملبسة , وليس قول هذا الشيخ : " أنا أسمع الغناء " بحجة لنفسه أو لغيره .

الشاهد : أن الشباب حينما يقرأ هذه الفتاوى والبلاوى , يقول : إذا فهى حلال , ويبدأ فى تشغيلها لغلبة الهوى , ولا حول ولا قوة إلا بالله .

والله – يا إخوة – إن أحد إخوانكم كان معى فى المسجد وفى الدرس , بل وكان يحضر معى فى السيارة .. فتن – اللهم رده إلينا ردا جميلا – قال لى : سمعت قليلا من " الغناء " وبعدها غرقت فى بحر الشهوات .. تاه .. ضل , لأن المنزلق خطر .. سلطان الهوى قوى .. وتياره جارف .. وأمواجه ترمى بعيدا عن الشاطىء فى داخل البحر .

نعم : سلطان الهوى على القلب والعقل قوى وخفى , تجد صاحب الهوى يقول : سأمتع نفسى بعض الشىء وبعض الوقت – يقصد – بالمعصية !- ثم إننى أعود إلى الله , إذا فلن أتضرر كثيرا .. أقول لك : أنت لا تضمن , فقد يسخط الله عليك وقت معصيتك – هذه التى تستصغرها – فتنحرف وتنجرف لتعيش فى الطين .

اللهم ثبتنا على الايمان يا رب .. اللهم إنا نسألك الثبات على الحق , والعزيمة على الرشد , والغنيمة من كل بر , والسلامة من كل إثم .. اللهم اصرف عنا مكر الهوى والنفس والشيطان .

والشاهد : أن بعض الناس بل الكثير يأتون الباب – وهذا فضل الله عليهم - , ولكنهم لا يريدون ولوجه .. لا يريدون أن يدخلوا فى الطاعة , ويستمروا فيها ويثبتوا عليها .. لا يريدون ذلك , لأن قلوبهم قد أشربت الهوى .. فتراهم يرجعون فيولون الخير ظهورهم .. لأنهم لم يمتلكوا من البداية مفاتيح الخير , بل حرصوا على مفاتيح الشر كالهوى الذى هو مفتاح كل مصيبة .. فتجده قد أتى الباب , وها هو الباب سيفتح , فإذ به – فجأة – قد ولى وترك الباب !! , ولا حول ولا قوة إلا بالله .

فيا من تأتون الابواب وليس معكم مفاتيحها .. يا من لم تعرفوا مفاتيحها فلم تستطيعوا أن تصنعوا شيئا , دعونى أعطكم مجموعة مفاتيح اجعلوها معكم واحتفظوا بها .. وإياكم أن تستعملوا هذه المفاتيح فى باب أحد غير الله .

هل لديك استعداد الاّن لتأخذ هذه المفاتيح ؟ .. وفيم ستأخذها ؟ .. خذها فى قلبك .. أريدك أن تعلق هذه المفاتيح فى قلبك وتربطها به – اللهم افتح قلوبنا يا رب - . لأن هذه المفاتيح إذا دخلت على قلبك بالحق , سيفتح , ويفتح بها أيضا قلوبا أخرى مغلقة .

المفاتيح :

أولا : مفتاح الإجابة الدعاء :

قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه : " أنا لا أحمل هم الاجابة , وإنما أحمل هم الدعاء , فإنى إذا ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه " .

إخوتى الشباب , وأنت ساجد فى الصلاة ماذا طلبت من الله ؟ , وأى الدعاء حضر فى قلبك ؟ - اللهم ارزقنا حضور القلب يا رب .. هل طلبت من ربك الفردوس الاعلى من الجنة ؟ هل طلبت منه أن يرزقك قيام الليل ؟ والخشوع فى الصلاة ؟ هل طلبت منه أن يرزقك الحلم ؟ .. طلبت منه التوبة ؟ طلبت منه الإنابة ؟ طلبت منه النجاة من الفتن ؟ وأن يصرف عنك الأذى ؟ .. ماذا سألته ؟ !!

للأسف الشديد , إن أكثرنا يدعو الله وهو فى غفلة , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله لا يقبل الدعاء من قلب غافل لاه " [حسنه الألبانى] .. فلذلك إذا أردت شيئا أو حزبك أمر فالدعاء مفتاحك , فادع ليفتح لك .. إذا فالإجابة باب , ومفتاحها الدعاء , والدعاء باب ومفتاحه حضور القلب , وأسنان المفتاح الإخلاص , وإذا لم يفتح الباب فلا تنصرف ولكن ظل واقفا وحاول الفتح .. حرك المفتاح .. حرك قلبك بالإخلاص .. لا تعجل ولا تيأس فبسنة واحدة للمفتاح يمكن الفتح , ولكن المهم أن تديم الإخلاص فلا تتعجل , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يستجاب لأحدكم ما لم يعجل , يقول : دعوت فلم أر يستجاب لى " [متفق عليه] .

ثانيا : مفتاح الرغبة فى الاّخرة الزهد فى الدنيا :

اللهم إنا نعوذ بك من الدنيا وما فيها .. الدنيا فتنة .. وفتنة الدنيا مصيبة .. وإن الخطر الأكبر فى الدنيا تزيينها .. تزيين الدنيا , قال الملك – جل جلاله – " زين للناس حب الشهوات من النساء والبنبن والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المئاب " ( اّل عمران : 14 ) ..

" وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا " ( الزخرف : 35 ) .

" دنيا " .. ماذا تعنى هذه الكلمة ؟ .. تعنى : سيارة أغلى وأفضل , وأحسن , وشقة فارهة وملايين ونساء .. ثم ماذا بعد ؟! .. دخول جهنم .. هذه هى الحقيقة .

فيا من لا تركب إلا سيارة جديدة لتلفت نظر البنات , فتنتك الدنيا وتريد أن تفتن الاّخرين ؟! .. هذه فتنة على فتنة , ومصيبة على مصيبة , أن نفتن فنفتن الاّخرين .. فتذكر اّخرتك , تذكر يوم الحساب يوم الوقوف والعرض على الله يوم يجاء بجهنم " يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى "( الفجر : 23 ) .. تذكر يوم تقول : " يا ليتنى قدمت لحياتى * فيومئذ لا يعذب عذابه أحد * ولا يوثق وثاقه أحد " ( الفجر : 24 _ 26 ) .

ولكى يكون لديك رغبة فى الاّخرة , ازهد فى حطام الدنيا الزائل .. الدنيا زائلة فألقها وراء ظهرك , بل ضعها تحت قدميك .. ونظرة واحدة إلى ماّلك تهونها عليك , فتأمل حالك يوم وضعك فى التراب , يوم أن تترك الأهل والأحباب , يوم أن تخلع أحسن الثياب , وترتدى ثياب الموتى .. وتذكر فقط القبور , فأهوالها كافية لجعلك تقبل على الاّخرة , فتزهد فى الدنيا .

ان الميت اذا وضع فى قبره كلمه القبر .. وهذا هو اول هول " تكليم القبر " .. تكلمه جدران القبر فتقول له – اى المؤمن - : اما انك كنت افضل من يمشى على ظهرى , اما اذ بليتك اليوم وصرت الى فى بطنى فسترى صنيعى بك .. ثم يضمه القبر ضمة الام الحنون لولدها الغائب – اللهم اجعلنا منهم يا رب – مثلما تكون راجعا من سفر فتضمك امك الى حضنها .. اخذتك بشدة وضمتك بقوة لكنها ضمة جميلة .. ضمة مريحة .. انها امك الارض .. انها امك وابوك .. اصلك وفصلك ..

اما الاخر – يارب استرنا يا رب , اللهم ارزقنا حسن الخاتمة , اللهم لا تتوفنا الا وانت راض عنا – فيكلمه القبر فيقول له : اما انك كنت ابغض من يمشى على ظهرى .. فتدبر – اخى – حالى هذين الرجلين .. فكر فى اليوم الذى يضعونك فيه فى القبر ويقفلون عليك .

كنت حاضرا دفن احد الاخوة – اللهم ارحمه وارحم موتى المسلمين يارب , اللهم ارحم كل ميت مسلم يا حى يا قيوم – ونحن نرى الرجل الذى دفنه وهو يضع ترابا وطوبا وطينا وجبسا !!!..

ويؤكد القفل عليه !! .. سبحان الله هل سيجرى ويترك القبر ؟ ! .. اتركه يا اخى لقد اوجعت قلبى .. سيفعلون بك مثل هذا فى يوم من الايام .

الكل سيتركك .. لن تنفعك زوجتك ولا حبيبتك وروح قلبك , " حياتك " التى ضيعت عمرك من اجلها وعصيت ربك لترضيها لن تسأل عنك .. هم يغلقون عليك القبر لن تجد احدا يجلس معك ولا احدا يمسك بك . امك , ابوك , اخوانك , اصدقاؤك , احبابك , اموالك .. كلهم سيسلمونك ثم يذهبون للراحة .. سيسدون عليك ويحكمون الغلق ويتركونك لتظل وحدك ؟ , فتوهم نفسك , وتخيل حالك .

ظلمة .. وحشة .. خوف .. رعب .. عريان .. وتفاجا بان احدا يقول لك : اما انك كنت ابغض من يمشى على ظهرى .. من انت ؟ .. ماذا جرى ؟ !! .. تجد جدران القبر تكلمك !! , ثم بعد ذلك تاتيك الملائكة لتسألك : من ربك وما دينك ومن نبيك ؟ , وبعد انصرافهم تفاجا برجل اسود الوجه اسود الثوب , منتن الريح , فتقول له : من انت ؟ ! , فوجهك الوجه الذى لا يجىء بالخير , يقول لك : الا تعرفنى , انا حبيبك , عملك ..

اّه .. اّه .. اّه .. والله ياكاد القلب يقف نبضه حينما اتخيل هذا الموقف , والعجب – اخوتاه – اننا نسمع بهذا الكلام ونقراه ونستوعبه ونفهمه ونعجب به , ثم نعمل اعمالا ستدخل علينا سوداء : تزنى .. تكذب .. تنام عن الصلاة .. تغتاب .. تنم .. تؤذى .. تعمل اعمالا سيئه .. ستدخل عليك وانت فى قبرك وحدك ..

ففى اهوال القبر وظلمته تنظر وتسأل : من انت ؟ , يقول لك : انا عملك الاسود .. انا معاصيك , الا تعرفنى ؟!!, انا حبيبك الذى عشت معك طول عمرك .. انا عملك السيىء .

لكن المصيبة الكبرى انه سيظل معك الى يوم القيامة ! , فلو كان معك وقتا محدودا لهان الامر شيئا ..لكن لا .. ليس غيره معك الى يوم القيامة , لذلك فان مفتاح الرغبة فى الاخرة الزهد فى الدنيا , فالذى تحب ان يكون معك فى قبرك من هذه الدنيا فاعمله .

اقول لكم شيئا جميلا : الذى يريد ان يكون قبره " مكيفا " , " يكيف " لنا هذا المسجد .. الذى يريد لمبة نور فى قبره يتصدق على الفقراء بلمبة كهرباء .. الذى يريد ان ياكل ويشرب فى قبره يطعم اليوم خمسين مسكينا .. شغل جوارحك فى طاعة الله .. المصنع الذى وهبه الله لك , شغله فى انتاج الحسنات , ولا تشغل نفسك بجمع الدنيا .. فالدنيا لن تنفعك , ولن ينفعك ما فيها الا العمل الصالح , فازهدها ترغب فى الاخرة .

اخى فى الله , والله الذى لا اله غيره ولا رب سواه , لن تستقيم لك رغبة فى الاخرة الا بالزهد فى الدنيا .. اللهم انا نعوذ بك من الدنيا .

ابو طلحة الانصارى رضى الله عنه كان له بستان من نخيل واعناب , لم تعرف المدينة بستانا اعظم منه شجرا , ولا اطيب ثمرا , ولا اعزب ماء .. وفى ما كان ابوطلحة يصلى تحت افيائه الظليلة , اثار انتباهه طائر غرد اخضر اللون احمر المنقار مخضب الرجلين .. وقد جعل يتواثب على اسنان الاشجار ظربا مغردا متراقصا .. فاعجبه منظره , وسبح بفكره معه .. ثم ما لبث ان رجع الى نفسه , فاذ هو لا يذكر كم صلى ؟ : ركعتين ؟ ثلاثا ؟ .. لا يدرى .. فما ان فرغ من صلاته , حتى غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم , وشكا له نفسه التى صرفها البستان وشجره الوارف , وطيره الغرد عن الصلاة .. ثم قال له : اشهد يا رسول الله : انى جعلت هذا البستان صدقة لله – تعالى .. فضعه حيث يحب الله ورسوله [متفق عليه] .

يذكرك ابوطلحة فى تصرفه هذا بالنبى سليمان عليه السلام , الذى راح يعقر خيله بسيفه فى سوقها واعناقها , لما شغله تفقدها عن صلاته وتسابيحه , قال – تعالى - : " ووهبنا لداود سليمان نعم العبد انه اواب * اذ عرض عليه بالعشى الصافنات الجياد * فقال انى احببت حب الخير عن ذكر ربى حتى توارات بالحجاب * ردوها على فطفق مسحا بالسوق والاعناق " (ص : 30-33) . وهكذا تأمل – اخى فى الله – ابا طلحة وكيف انه رضى الله عنه لما وجد الحديقة وطيورها " الدنيا " قد شغلته وألهته عن الله , سارع بتركها والزهد فيها .. نعم : فمفتاح الرغبة فى الاخرة الزهد فى الدنيا .. فاللهم لا تجعل الدنيا اكبر همنا ولا مبلغ علمنا .. اللهم واجعل الاخرة هى دارنا وهمنا , واجعل منانا رضالك عنا .. اللهم ولا تحرمنا لذة النظر الى وجهك الكريم .. اّمين .

ثالثا : مفتاح الايمان التفكر فى الاء الله ومخلوقاته :

التفكير فى النعم هو مفتاح الايمان , قال الله – تعالى - :" فاذكروا الاء الله لعلكم تفلحون "( الاعراف :69) , قلت لاخ بكلية الهندسة : اعطاك الله عقلا .. هذا العقل نعمة ام لا ؟ .. نجحت فى الثانوية العامة بمجموع 98% ودخلت كلية الهندسة بحبك لها , واجتهدت فتفوقت وعينت معيدا , ثم حصلت على الماجستير والدكتوراه .. كل هذا بهذه الدماغ التى وهبها الله لك .

أعطاك نعمة العقلية المتفكرة هذه .. فهل استعملتها فى الوصول اليه سبحانه ؟!.. استعملتها فى الدنيا كثيرا , ولكن نراك لا تشغلها مطلقا مع الله !! .. لماذا عطلتها فى التجارة مع الله ؟!.. يا بنى , إن سكة الله تحتاج الى هندسة .. تحتاج الى عقل .. فشغل عقلك فى التفكير فى النعم والتأمل فى المخلوقات لتزداد عظمة الله فى قلبك .

تعلمون – إخوتى فى الله – أن أنواع التوحيد ثلاثة :

توحيد الربوبية . توحيد الالوهية , توحيد الاسماء والصفات .

أما توحيد الربوبية : فهو توحيد الله بأفعال الله , فالله هو الذى ينزل المطر , ويحيى ويميت , يعطى ويمنع , يضر وينفع , يعز ويذل .. لم يعارض فيه أحد من الخلق , فلم يقل أحد : إنه هو الذى خلق السموات والارض , والمشركون كانوا يقرون بذلك .. ولم ينكره الا الملاحدة والشيوعيون فى زماننا , الذين انتكست فطرتهم فلم يعملوا عقولهم .

ودائما أقول جملة : " إن عين أصغر نملة تفقأ عين أكبر ملحد " .

نقول له : خذ النملة وسل نفسك : من الذى وضع عينها هنا وجعلها ترى ؟! .. تفكر فى خلقها حتى لا تقول : خلقت صدفة .

أما توحيد الالوهية : فهو توحيد الله بأفعال العباد , يعنى ألا نسجد إلا لله , ولا ندعو الا الله , ولا ننذر إلا لله , ولا نخاف الا من الله .. صرف جميع أنواع العبادة لله .

وأما النوع الثالث فهو توحيد الاسماء والصفات : وهو ان نثبت لله ما أثبته لنفسه , وما أثبته له رسول الله صلى الله عليه وسلم .

فالربوبية – كما قلت – لم يخالف فيها أحد , ولذلك تجد كثيرا من الإخوة لا يهتم ولا يعبأ بتوحيد الربوبية .. يقول : ليس هناك مشكلة , أهم شىء توحيد الألوهية , نعم : هذا صحيح , ولك الربوبية هى المدخل وهى الموقد للالوهية , فكلما ازداد القلب تأملا وتفكرا فى نعم الله , فى النفس والكون , ازداد شكرا وعبادة لله .

ولذا أسأل :متى كانت اّخر مرة نظرت فيها الى السماء ؟! .. أقول – وللاسف الشديد - : لقد أصبحنا فى زمان يحول أهله الطاعات الى معاص .. فأصبح لا ينظر الى السماء الا " الحبيبة " , فيقولون : " أنا بت أعد النجوم " .. ويظلون ينظرون الى القمر .. معاص .. فأين المتأملون المتدبرون بحق , أين أصحاب العقول اللبيبة المتفكرة ؟!!

إخوتاه , البحر من اّيات الله , فهل تأملتموه ؟!! .. إن ولدا على البحر ذاق المياه فوجدها مالحة جدا , فسأل أمه : من الذى وضع ملحا فى البحر ؟! .. فجلست أفكر : من الذى وضع ملحا فى البحر ؟! ..

" هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج " ( الفرقان : 53 ) .. أجاج : ملح .. من الذى فعل هذا ؟.. سبحانه هو الملك .. انظر الى نهر النيل وذق ماءه , سبحان الله .. الفرق شاسع .. ماء وماء لكن الطبيعة مختلفة !! من اليوم ينظر الى البحر ؟! .. لا أحد .. سوى أصحاب مصائف السوء .. ينظرون نظر عصيان وخيانة .. حولوا الطاعات الى معاص .. لا يقف على النيل اليوم أحد يسبح الله .. الكل يعصى أمام نعمة تبهر العقول وترقق القلوب .. ولا يعنى هذا أن نقف معهم , بل ينبغى أن نبحث عن أماكن أخرى خالية من المعاصى نتأمل فيها نعم الله .

اخرج الى حديقة أو الى الغيطان الواسعة وتأمل أنواع الزهور والزروع , وسبح الله .. أمسك بزهرة وتأملها .. تأمل أنواع الطيور .. تأمل انواع الزروع واختلافها فى الاحجام والالوان والثمار , فهذا مر علقم بجوار اّخر حلو لذيذ , وهذا اخضر بجوار اّخر أحمر .. سبحان الله .. مع أن الكل يروى من ماء واحد وفى أرض واحدة , إنها يد الله التى تضبط وتسير وتقدر كل شىء بقدره .. فسبحانه سبحانه .. سبحانه من إله عظيم .. سبحانه من خالق جميل .

والله – يا شباب – لقد كنت فى سفر قطعت فيه أربعمئة وخمسين كيلو مترا لم يكف لسانى عن التسبيح , مما أرى من بديع خلق الله .. عظيم خلق الله .. جميل خلق الله .. جمال من جمال !! سبحان الله .. لذا أريدك أن تنظر وتتأمل .. فاصعد الى سطح منزلكم الليلة واستلق على ظهرك , ولا تنظر يمنة او يسرة .. انظر الى السماء فقط .. انظر الى النجوم والكواكب وأجزاء الكون .. يزيد هذا فى قلبك عظمة الله .. فتحس بأنوار عظيمة تملأ قلبك .. أريدك أن تذهب الى مكان فيه جبال وتنظر للجبال , انظر يمينها وشمالها وفوقها وتحتها ..

جرب وقل : سبحان الله ! .. جرب , ولا تعص الله بنعم الله .. فلا تذهب الى البحر فى الصيف , بل اذهب فى الشتاء حيث لا أحد .. اذهب لعمل عمرة , وهذه دعوة الى مصيف جديد فى مكة المكرمة – اللهم ارزقنا الحج والعمرة , وتابع لنا بين الحج والعمرة , اللهم لا تحرمنا من الحج والعمرة .

يذهب العصاة الى الشواطىء فى الصيف , فاذهب أنت لى الكعبة , اذهب الى المدينة .. اجلس أمام الكعبة وتأمل الجلال والبهاء .. تأمل وأنت مسافر بالطائرة أو الباخرة أو بالحافلة برا .. تأمل خلق الله , استمتع بالبحر وانت مسافر , استمتع ببلاد الله وبساتينها الجميلة .. تامل لتزداد عظمة الله فى قلبك , لتذوق حلاوة الايمان , ولذة الايمان وطعم الايمان .

رابعا : مفتاح الدخول على الله إسلام القلب :

نريد أن ندخل على الله .. فمن منكم يريد أن يدخل ؟ .. لازلنا واقفين منذ زمن نتفرج .. ودائما أقول : أنا دلال على بضاعة الله , ولكن الزبائن من نوعية أهل عصرنا يتفرجون ولا يشترون .. فمن يشترى الجنة ؟ .. من منكم – يا شباب – يريد أن يدخل على ربه .

قال – تعالى – حاكيا عن الخليل إبراهيم عليه السلام : " إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت " ( البقرة : 131 ) .. أسلم , أسلمت .. هذه هى القضية .. قال – تعالى - : " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن " ( البقرة : 124 ) .. هذه هى قضية الدخول على الله .. أنك تسمع للامر فتقول : أسلمت .. وتسمع للنهى فتقول : أسلمت .. تنفذ المطلوب .. أسلمت .. تمام الاستسلام .. أن تكون مع الله بادىء الرأى , قال الملك : " يا أيها الذين اّمنوا لا تقدموا بين يدى الله ورسوله " ( الحجرات : 1 ) .

أحد الناس كان مستجاب الدعوة , وكان عليه دين فقال له ابنه : هلا دعوت الله أن يقضى دينك , فرفع يديه الى السماء , وقال : اللهم اغفر لى وتب علىّ , فقال له ابنه : يا ابت , ادع الله بقضاء الدين , فقال : " يا بنى إذا غفر ذنبى قضى دينى " , اللهم اغفر ذنوبنا , واقض ديوننا .. هذه هى القضية : تعلق القلب بالله .. " إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت " .. فأسلموا – إخوتاه – فمفتاح الدخول على الله إسلام القلب لله .

كثير من الشباب الذين يرجعون عن كلامهم فيتركون طريق الوصول الى الله , إنما رجعوا وتركوا الطريق , لأن قلوبهم لم تسلم بعد .. قلبه لا يزال مشغولا بالبنات .. بالدنيا .. بالهموم .. المال .. بالزواج .. باللعب .. بالفسح .. بالتنزه .. باللبس .. لكن إذا أسلم القلب لله , أصبح أحب شىء إليه طاعة الله .

إن الشباب إذا التزم وكان لا يزال فى قلبه هوى – نعوذ بالله تعالى من الهوى – فلابد أن يقع فى المعاصى مرة أخرى .

قيل لابن الجوزى : ما بالنا إذا ملأنا الكذنب لا يبرد , وإذا أنقصناه يبرد , قال : " لتعلموا أن الهوى لا يدخل الا على ناقص " .. فلا تكن ناقصا , كن ممتلىء القلب بالايمان حتى لا يدخل عليك الهوى , زد فى إيمانك ليسلم قلبك لله .. فمفتاح الدخول على الله إسلام القلب لله وسلامته له .. اللهم ارزقنا قلوبا سليمة يا رب .

كثير منا قلبه مفتت .. مقطع .. مكسر .. فمع البنات والشقة والسيارة واللبس والمظاهر .. مع " تسريحته " والكلية والاصحاب والجيران .. دنيا .. بعضنا قلبه مشتت بين الشغل والشركة والديون والاموال والرصيد وتأمين المستقبل و .. و.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من كانت الدنيا همه فرق الله عليه شمله , وجعل فقره بين عينيه , ولم يأته من الدنيا الا ما كتب له " [صححه الألبانى] .

نعم – إخوتاه – سلامة القلب لله .. وأنا لا أقول لك : لا تلبس حسنا .. لا .. بل البس وتعطر واركب سيارة واثنتين وثلاثة .. ليست هذه القضية .. القضية أن يكون قلبك مشغول بالله لا بالسيارات .. تزوج واحدة ومثنى وثلاث ورباع , لكن لا يكن قلبك مشغولا بالنساء .. احصل على شهادات وماجستير ودكتوراه , لكن لا يكن قلبك مشغولا بالمناصب .. اجعل قلبك مشغولا بالله .. اللهم لا تشغلنا الا بك .

انظر ماذا يقول ربك .. اّية تشيب النواصى !!.. " إن الذين لا يرجون لقائنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن اّياتنا غافلون * أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون "(يونس : 7 – 8 )

تدبر هذه الاّية وأعد قراءتها مرات لتعرف حقيقة ما أنت فيه .. فإياك أن ترضى بالدنيا , وتركن إليها وتغفل عن الله .

كثير من الناس اليوم يقول : الحمد لله , ماذا ينقضى ؟! أنا لا أريد من الله شيئا .. يا مسكين , أنت محتاج الى الله فى كل شىء , فما أنت فيه دنيا , فافهم , ولذلك لا يرى بها الا الادنى منها , أما الموحد فلا يرضيه الا رؤية وجه الله - تعالى – فى الجنة .. اللهم اجعلنا من الموحدين , اللهم متعنا بالنظر الى وجهك الكريم , اللهم لا تحرمنا من النظر الى وجهك الكريم .. اّمين .

نعم – أيها الاخوة – مفتاح الدخول على الله إسلام القلب وسلامته لله , والاخلاص له فى الحب والبغض والفعل والترك – اللهم ارزقنا الاخلاص فى القول والعمل .. هذا مفتاح كبير جدا .. الاخلاص لله فى الحب والبغض .. فأنت تحب الاخ الفلانى .. لماذا تحبه ؟ .. هذه هى القضية .. فأحبب لله واكره لله , فبتحقيق هاتين الكلمتين يكون قلبك قد أسلم لله وسلم لله .

إذا فإسلام القلب لله وسلامته له من الغير يكون بالاخلاص له – سبحانه – فى الحب والكره .. فعندما أكره أكره لله وعندما أحب أحب لله , وكذلك الفعل والترك , فحينما أفعل أفعل لله , وحينما أترك أترك لله .. هذا هو مفتاح الدخول على الله , فاجن العسل ولا تكسرالخلية .

خامسا : مفتاح حياة القلوب ثلاثة :

أولها : ترك الذنوب , وثانيها : التدبرللقراّن , وثالثها : التضرع بالاسحار .

أولا - ترك الذنوب :

يقول ابن القيم فى " الفوائد " تحت عنوان " ترك الذنوب اولا " :

" العارف لا يأمر الناس بترك الدنيا , فإنهم لا يقدرون على تركها , ولكن يأمرهم بترك الذنوب مع إقامتهم على دنياهم , فترك الدنيا فضيلة , وترك الذنوب فريضة , فكيف يؤمر بالفضيلة من لم يقم الفريضة ! , فإن صعب عليهم ترك الذنوب فاجتهد أن تحبب الله اليهم بذكر الائه وإنعامه وإحسانه وصفات كماله ونعوت جلاله , فإن القلوب مفطروة على محبيته , فإذا تعلقت بحبه هان عليها ترك الذنوب والاصرار عليها والاستقلال منها , وقد قال يحيى بن معاذ : طلب العاقل للدنيا خير من ترك الجاهل لها " .

إن الذنوب تخنق القلوب .. المعاصى تقتل القلوب .. الذنوب تميت القلوب .. قال ابن القيم عن نتائج المعصية : " قلة التوفيق , وفساد الرأى , وخفاء الحق , وفساد القلب , وخمول الذكر , وإضاعة الوقت , ونفرة الخلق , والوحشة بين العبد وبين ربه , ومنع اجابة الدعاء , وقسوة القلب , ومحق البركة فى الرزق والعمر , وحرمان العلم , ولباس الذل , واهانة العدو, وضيق الصدر , والابتلاء بقرناء السوء الذين يفسدون القلب ويضيعون الوقت , وطول الهم والغم , وضنك المعيشة , وكسف البال .. تتولد من المعصية والغفلة عن ذكر الله كما يتولد الزرع عن الماء والاحراق عن النار , وأضداد هذه تتولد عن الطاعة " .

إن الشاب الذى فتن – اللهم رده الى الالتزام ردا قريبا , اللهم ثبت قلوبنا على الايمان – قال : سأستمع الى بعض الاغانى ثم أدخل على " الانترنت " , ثم أستمع شريطا للشيخ فلان حبيبي .. وسأحضر للشيخ فلان الدرس القادم .. هو ذاهب للشيخ قابلته بنت فظل يتكلم معها حتى وصلت الحال الى حد الزنا على الهواء .. ففتن – اللهم نجنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن .. فتن لذنبه الاول .. فبذنب لم يتركه قتل قلبه .. وضيع نفسه .

يقول ابن القيم رحمه الله : " ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب والبعد عن الله " .

ويوضح – رحمه الله – الطريق الى صفاء القلب فيقول :

" من أراد صفاء قلبه فليؤثر الله على شهواته , القلوب المتعلقة بالشهوات محجوبة عن الله بقدرتعلقها بها , القلوب اّنية الله فى أرضه , فأحبها اليه أرقها وأصلبها وأصفاها , شغلوا قلوبهم بالدنيا , ولو شغلوها بالله والدار الاّخرة لجالت فى معانى كلامه واّياته المشهودة , ورجعت الى أصحابها بغرائب الحكم وأطراف الفوائد , إذا غزى القلب بالتذكر وسقى بالتفكر ونقى من الدغل , رأى العجائب وأهلم الحكمة , ليس كل من تحلى بالمعرفة والحكمة وانتحلها كان من أهلها , بل أهل المعرفة والحكمة الذين أحيوا قلوبهم بقتل الهوى , وأما من قتل قلبه فأحيا الهوى فالمعرفة والحكمة عارية على لسانه "

نعم – إخوتاه - : ترك الذنوب حياة القلوب .. اترك الذنب فالذنب يقتل القلب .. يقتله .. أقول لأحدهم :

لماذا لا تقوم بالليل ؟, يقول : أنام مقتولا لا أستطيع حراكا , قلت له : من الذنوب .

قيل لأحد السلف : كيف أستعين على قيام اليل ؟ , قال : " لا تعصه بالنهار يقمك بالليل " .. إذا رأيت قيام الليل ثقيلا عليك , فاعلم أنك محروم مكبل .. كبلتك خطاياك .. مكتف .. قيدتك ذنوبك , فاتركها وتب منها ليحيا قلبك .

ثانيا – التدبر للقراّن :

يا أخى فى الله يا طالب كلية الهندسة , ويا حبيبى فى الله يا طالب كلية الطب , ويا أخى فى الله يا طالب كلية التجارة .. يا من تحل أصعب المسائل , عقلك الجميل هذا ماذا فهمت به من القراّن ؟!

أحد الاخوة قال لى : قرأت فى الجريدة لكاتب يقول : إن الله أمر الرجال بإدناء الثياب مثل النساء , فقال – تعالى – : " يدنين عليهن من جلابيبهن " ( الاحزاب : 59 ) !! .. قلت : أعاقل هذا ؟!! ..

نون النسوة يا أخى !! .. أين العقل ؟!.. ألا يوجد فهم ؟!.. حتى عقولهم لا يعملونها !! ولذا , أريدك أن تفهم وتتدبر القراّن " كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا اّياته " ( ص : 29 ) .. تدبر .. تدبر القراّن لقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم باّية يرددها : " إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " ( المائدة : 118 ) .

وقام تميم الدارى ليلة بهذه الاّية : " أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين اّمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون " ( الجاثية : 21 ) .

وقام سعيد بن جبير ليلة يردد هذه الاّية : " وامتازوا اليوم أيها المجرمون " ( يس : 59 ) . أى تميزوا وانفردوا عن المؤمنين .

ومحمد بن المنكدر يسأله أبو حازم عن البكاء طيلة ليله , فيقول : اّية من كتاب الله أبكتنى , " وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون " ( الزمر : 47 ) .

وقال بعضهم : إنى لأفتتح السورة فيوقفنى بعض ما أشهد فيها عن الفراغ منها حتى يطلع الفجر . وكان بعضهم يقول : اّية لا أتفهمها , ولا يكون قلبى فيها لا أعد لها ثوابا .

ويقول أبو سليمان الدارانى : إنى لأتلو الاّية فأقيم فيها أربع ليال أو خمس ليال , ولولا أنى أقطع الفكر فيها ما جاوزتها الى غيرها . قال – تعالى - : " إن فى ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد " ( ق : 37 ) .

يقول ابن القيم – رحمه الله تعالى – فى " الفوائد " تحت عنوان " قاعدة جليلة : شروط الانتفاع بالقراّن " : " إذا أردت الانتفاع بالقراّن فاجمع قلبك عن تلاوته وسماعه , وألق سمعك , واحضر حضور من يخاطبه به من تكلم به – سبحانه – منه اليه , فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله , قال – تعالى - : " إن فى ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد " ( ق : 37 )

وذلك أن تمام التأثير لما كان موقوفا على مؤثر مقتض , ومحل قابل , وشرط لحصول الاثر وانتفاء المانع الذى يمنع منه , تضمنت الاّية ذلك كله بأوجز لفظ وأبينه وأدله على المراد . فقوله : " إن فى ذلك لذكرى " إشارة إلى ما تقدم أول السورة من ها هنا . وهذا هو المؤثر , وقوله : " لمن كان له قلب " فهذا هو المحل القابل , والمراد به القلب الحى الذى يعقل عن الله , كما قال – تعالى - : " إن هو إلا ذكر وقراّن مبين * لينذر من كان حيا " ( يس : 69 – 70 ) , أى : حى القلب . وقوله : " أو ألقى السمع وهو شهيد " ( ق : 37 ) أى : وجه سمعه , وأصغى حاسة سمعه إلى ما يقال له , وهذا شرط التأثر بالكلام .

وقوله : " وهو شهيد " , أى شاهد القلب حاضر غير غائب .

قال ابن قتيبة : " استمع كتاب الله وهو شاهد القلب والفهم , ليس بغافل ولا ساه . وهو إشارة الى المانع من حصول التأثير , وهو سهو القلب وغيبته عن تعقل ما يقال له والنظر فيه وتأمله . فإذا حصل المؤثر وهو القراّن , والمحل القابل وهو القلب الحى ووجد الشرط وهو الاصغاء , وانتفى المانع وهو اشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب وانصرافه عنه الى شىء اّخر , حصل الاثر وهو الانتفاع والتذكر " .

ويواص ابن القيم حديثه الممتع فيقول : " فصاحب القلب يجمع بين قلبه وبين معانى القراّن , فيجدها كأنها قد كتبت فيه , فهو يقرؤها عن ظهر قلب . ومن الناس من لا يكون تام الاستعداد , واعى القلب , كامل الحياة , فيحتاج الى شاهد يميز له بين الحق والباطل , ولم تبلغ حياة قلبه ونوره وذكاء فطرته مبلغ صاحب القلب الحى الواعى , فطريق حصول هدايته أن يفرغ سمعه للكلام , وقلبه لتأمله والتفكر فيه , وتعقل معانيه , فيعلم حينئذ انه الحق " .

إخوتاه , افهموا القراّن وتدبروه .. افتحوا قلوبكم وأسماعكم وأبصاركم له لقد كان المدرس يقول لنا :

إذا ذاكرت الموضوع من الكتاب فأغلقه ثم اكتب فى ورقة خارجية ما فهمته .. فهل سألت نفسك مرة بعد أن فرغت من التلاوة : ماذا فهمت ؟ , ما الذى انغرس فى قلبى من معانى القراّن ؟ , بماذا خرجت اليوم من القراّن ؟

إن أكثرنا اليوم – أيها الإخوة – يأتى إلى القراّن وهو مغلق القلب تماما .. لا يريد أن يفتح قلبه , فلا ينتفع بالقراّن , لأنه لا يريد أن يتعب نفسه فى التدبر , ومن كانت حاله هكذا فإنه يأتى القراّن فلا يخرج منه بشىء , بل وربما خرج من جلسته وقد أصابه الملل من القراّن , لأنه يأتيه فى أوقات لا يكون قلبه فيها متهيئا , وفى ظروف لا تكون نفسه فيها هادئة .

إخوتاه , إن أردتم الحياة لقلوبكم , فلابد أن تفهموا مجمل القراّن وموضوع القراّن , ومراد القراّن .. لابد أن تتأملوا كلام الله وما يحويه , لتخرجوا منه بمعرفة الله وحب الله , وتقوى قلوبكم فى السير إلى الله .

يقول ابن القيم تحت عنوان " فائدة : محتوى خطاب القراّن " :

" تأمل خطاب القراّن تجد ملكا له الملك كله , وله الحمد كله , أزمّة الامور كلها بيده ومصدرها منه ومردها إليه , مستويا على سرير ملكه , لا تخفى عليه خافية فى أقطار مملكته , عالما بما فى نفوس عبيده , مطلعا على أسرارهم وعلانيتهم , منفردا بتدبير المملكة , يسمع ويرى , ويعطى ويمنع ويثيب ويعاقب . ويكرم ويهين , ويخلق ويرزق ويميت , ويقدر ويقضى ويدبر . الامور نازلة من عنده , دقيقها وجليلها , وصاعدة إليه لا تتحرك فى الكون ذرة الا بإذنه , ولا تسقط ورقة الا بعلمه .

فتأمل كيف تجده يثنى على نفسه ويمجد نفسه , ويحمد نفسه , وينصح عباده , ويدلهم على ما فيه سعادتهم وفلاحهم ويرغبهم فيه , ويحذرهم مما فيه هلاكهم , ويتعرف إليهم بأسمائه وصفاته , ويتحبب إليهم بنعمه والاّئه . فيذكرهم بنعمه عليهم ويأمرهم بما يستوجبون به تمامها , ويحذرهم من نقمه ويذكرهم بما أعد لهم من الكرامة إن أطاعوه , وما أعد لهم من العقوبة إن عصوه .. ويخبرهم بصنعه فى أوليائه وأعدائه وكيف كان عاقبة هؤلاء وهؤلاء .

ويثنى على أوليائه بصالح أعمالهم وأحسن أوصافهم , ويذم أعداءه بسيىء أعمالهم وقبيح صفاتهم , ويضرب الامثال وينوع الادلة والبراهين , ويجيب عن شبه أعدائه أحسن الاجوبة , ويصدق الصادق ويكذب الكاذب , ويقول الحق ويهدى السبيل .

ويدعو إلى دار السلام , ويذكر أوصافها وحسنها ونعيمها , ويحذر من دار البوار ويذكر عذابها وقبحها واّلامها , ويذكر عباده فقرهم إليه وشدة حاجتهم إليه من كل وجه , وأنهم لا غنى لهم عنه طرفة عين , ويذكر غناه عنهم وعن جميع الموجودات , وأنه الغنى بنفسه عن كل ما سواه , وكل ما سواه فقير إليه بنفسه , وأنه لا ينال أحد ذرة من الخير فما فوقها الا بفضله ورحمته , ولا ذرة من الشر فما فوقها الا بعدله وحكمته .

ويشهد من خطابه عتابه لأحبابه ألطف عتاب , وأنه مع ذلك مقيل عثراتهم , وغافر زلاتهم , ومقيم أعذارهم , ومصلح فسادهم , والدافع عنهم , والمحامى عنهم , والناصر لهم , والكفيل بمصالحهم , والمنجى لهم من كل كرب , والموفى لهم بوعده , وأنه وليهم الذى لا ولى لهم سواه , فهو مولاهم الحق ونصيرهم على عدوهم , فنعم المولى ونعم النصير .

فإذا شهدت القلوب من القراّن ملكا عظيما رحيما جوادا جميلا هذا شأنه , فكيف لا تحبه وتنافس فى القرب منه , وتنفق أنفاسها فى التودد إليه , ويكون أحب إليها من كل ما سواه , ورضاه اّثر عندها من رضا كل ما سواه ؟! , وكيف لا تلهج بذكره ويصير حبه والشوق إليه والانس به هو غذاؤها وقوتها ودواؤها بحيث إن فقد ذلك فسدت وهلكت ولم تنتفع بحياتها ؟! " .

ثالثا- التضرع بالأسحار :

أريدك أن تقوم سحرا , وتتوضأ والدنيا سكون والكل نائم . سبحان الله ! , كم منكم من يود أن يقابل الشيخ فلانا ويجلس معه ويكلمه ويملأ عينيه منه .. ألا تود أن تقابل ربك , وتجلس معه وحدك قبل الفجر ؟! , لتقول له : اللهم باعد بينى وبين خطاياى كما باعدت بين المشرق والمغرب .. بعد أن تملأ قلبك بـ " الله أكبر " .

والله – يا إخوتاه – إن للمناجاة فى جوف الليل لذة لا تضاهيها لذات الدنيا بأسرها .. أن تنادى ربك – سبحانه وتعالى – حينما تقف بين يديه فى ذل وخشوع وانكسار وهيبة لتقول دعاء الاستفتاح :

" وجهت وجهى للذى فطر السماوات والارض حنيفا مسلما وما انا من المشركين .. " قل إن صلاتى ونسكى ومحياى ومماتى لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين " ( الأنعام : 162 – 163 ) .

صل وأسمع نفسك التلاوة .. فى غرفتك .. فى الشرفة .. فوق السطوح .. أو فى المسجد تحت البيت عندكم .. ستحس أنك تكلم الله .. تناديه .. تناجيه .. تشعر بأن هناك سرا بينك وبينه .. ستحس بوجود علاقة .. علاقة ود وحب وقرب .. ما أجمله من لقاء .. ما أعظمه من وقوف .. وأبهاه من حديث .. إنه لقاء مع الملك .. الرحمن .. حين تستشعر ذلك الموقف وأنك مع الله .. سيفيض عليك ساعتها بالرحمات .. فتضرع بالأسحار , فهذا الوقت غال لا تعوضه أموال الدنيا .. تضرع لتحمى قلبك , عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قام بعشر اّيات لم يكتب من الغافلين , ومن قام بمئة اّية كتب من القانتين , ومن قام بألف اّية كتب من المقنطرين " [صححه الألبانى] .. والمقنطرون : هم من كتب لهم قنطار من الاجر , والقنطار – كما جاء فى حديث فضالة بن عبيد وتميم الدارى عند الطبرانى - : " خير من الدنيا وما فيها " .

عبدالعزيز بن سلمان , كانت رابعة – رحمها الله – تسميه : " سيد العابدين " .. كان رحمه الله يقول : ما للعابدين والنوم !! , لا نوم والله فى دار الدنيا إلا نوم غالب .. ويقول عنه ابنه محمد : كان أبى إذا قام من الليل ليتهجد , سمعت فى الدار جلبة شديدة , واستقاء للماء الكثير , قال : فنرى أن الجن كانوا يستيقظون للتهجد فيصلون معه .

وهذه عجردة العمية – رحمها الله .. قال عنها رجاء بن مسلم العبدى : كنا نكون عند عجردة العمية فى الدار , فكانت تحيى الليل صلاة , وربما قال : تقوم من أول الليل إلى السحر , فإذا كان السحر نادت بصوت لها محزون : إليك قطع العابدون دجى الليالى , بتكبير الدلج إلى ظلم الاسحار , يستبقون إلى رحمتك وفضل مغفرتك , فبك إلهى لا بغيرك أسألك أن تجعلنى فى أول زمرة السابقين إليك , وأن ترفعنى إليك فى درجة المقربين , وأن تلحقنى بعبادك الصالحين , فأنت أكرم الكرماء , وأرحم الرحماء , وأعظم العظماء . ثم تخر ساجدة , فلا تزال تبكى وتدعو فى سجودها , حتى يطلع الفجر , فكان ذلك دأبها ثلاثين سنة .

وقيل لعفيرة العابدة : إنك لا تنامين الليل , فبكت وقالت : ربما اشتهيت أن أنام فلا أقدر عليه , وكيف ينام أو يقدر على النوم من لاينام عنه حافظاه ليلا ولا نهارا ؟!

هؤلاء نساء !! , فأين أنتم يا رجال ؟!! .. يا حسرة على الرجال !! .

وخلاصة ما سبق : اترك ذنوبك أولا , ثم أقبل على كتاب الله تلاوة وفهما وتدبرا .. فاتله بخشوع وتحزن لتصهر قلبك فينفى خبثه , ثم تضرع إلى ربك بالأسحار لتعيش النعيم وتذوق لذة المناجاة .. يحيا بذلك قلبك , فيصمد فى السير إلى الله .. فاملك هذا المفتاح ولا تفرط فيه , حتى لا تكسر الخلية فيضيع منك العسل .

وهكذا .. أخى السائر على طريق الوصول إلى الله .. ينبغى عليك أن تعتنى كل الاعتناء بمعرفة

" علم المفاتيح " , لتجنى العسل فلا تكسر الخلية .

* * *

الأصل العشرون : " ومن كل شىء خلقنا زوجين لعلكم تذكّرون ففروا إلى الله "

الأصل العشرون : " ومن كل شىء خلقنا زوجين لعلكم تذكّرون ففروا إلى الله "

قال – تعالى - : ومن كل شىء خلقنا زوجين لعلكم تذكّرون * ففروا إلى الله إنى لكم منه نذير مبين "

( الذاريات : 49 – 50 ) . قال ابن كثير – رحمه الله تعالى - : أى : جميع المخلوقات أزواج : سماء وأرض وليل ونهار وشمس وقمر وبر وبحر وضياء وظلام وإيمان وكفر وموت وشقاء وسعادة وجنة ونار حتى الحيوانات والنباتات , ولهذا قال – تعالى - : " لعلكم تذكرون " أى : لتعلموا أن الخالق واحد لا شريك له " ففروا إلى الله " أى : الجأوا إليه واعتمدوا فى أموركم عليه " إنى لكم منه نذير مبين " اهـ .

وقال صاحب الظلال – رحمه الله تعالى - : " وفى ظل هذه اللمسات القصيرة العبارة , الهائلة المدى : فى أجواز السماء , وفى اّماد الارض , وفى أعماق الخلائق , يهتف بالبشر ليفروا إلى خالق السماء والارض والخلائق , متجردين من كل ما يثقل أرواحهم ويقيدها , موحدين الله الذى خلق هذا الكون وحده بلا شريك .

" ففروا إلى الله إنى لكم منه نذير مبين * ولا تجعلوا مع الله إلها اّخر إنى لكم منه نذير مبين " ( الذريات : 50 – 51 ) .. والتعبير بلفظ الفرار عجيب حقا .

وهو يوحى بالأثقال والقيود والأغلال والأوهاق , التى تشد النفس البشرية إلى هذه الارض , وتثقلها عن الانطلاق , وتحاصرها وتأسرها وتدعها فى عقال . وبخاصة أوهاق الرزق والحرص والانشغال بالأسباب الظاهرة للنصيب الموعود . ومن ثم يجىء الهتاف قويا للانطلاق والتملص والفرار إلى الله من هذه الأثقال والقيود ! , الفرار إلى الله وحده منزها عن كل شريك . وتذكير الناس بانقطاع الحجة وسقوط العذر : " إنى لكم منه نذير مبين " .. وتكرار هذا التنبيه فى اّيتين متجاورتين , زيادة فى التنبيه والتحذير ! " .

إخوتاه , ففروا إلى الله .. اقتربوا من طريق الله .. تعالوا خطوة واحدة إلى الله .. ضعوا أرجلكم على أول الطريق .. أعينونا على أنفسكم بالوقوف على رأس الطريق والله يأخذ بأيديكم .

أروا الله من أنفسكم خيرا , فلقد كتب الله – جل جلاله – سنة من سننه فى خلقه : أن من تقرب إليه تقرب – سبحانه – إليه ومن ابتعد عنه ابتعد – سبحانه – عنه .. " نسوا الله فنسيهم " ( التوبة : 67 )

" فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم " ( الصف : 5 ) .. فمن تاب تاب الله عليه وأحبه , ومن بذل جهده واستفرغ وسعه فى طاعة الله , أعانه الله وسدده .. هذه قاعدة .. سنة مسلّمة .. فلا تنم عن الطاعات ثم تقول : لو كان الله يحبنى لهدانى .. لا .. بل تعال وهو يهديك .

وقد سمى ابن القيم – رحمه الله – هذا الأصل لقاحا .. مثل حبوب اللقاح .. فقال – عليه رحمة الله

" فى الفوائد " :

* الطلب لقاح الايمان , فإذا اجتمع الإيمان والطلب أثمرا العمل الصالح .

* وحسن الظن بالله لقاح الافتقار واضطرار إليه , فإذا اجتمعا أثمرا إجابة الدعاء .

* والخشية لقاح المحبة , فإذا اجتمعا أثمرا امتثال الأوامر واجتناب المناهى .

* والصبر لقاح اليقين , فإذا اجتمعا أورثا الإمامة فى الدين , قال تعالى : " وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لمّا صبروا وكانوا باّياتنا يوقنون " ( السجدة : 24 ) .

* وصحة الاقتداء بالرسول لقاح الاخلاص , فإذا اجتمعا أثمرا قبول العمل والاعتداد به .

* والعمل لقاح العلم , فإذا اجتمعا كان الفلاح والسعادة , وإن انفرد أحدهما عن الاّخر لم يفد شيئا .

* والحلم لقاح العلم , فإذا اجتمعا حصلت سيادة الدنيا والاّخرة , وحصا الانتفاع بعلم العالم , وإن انفرد أحدهما عن صاحبه فات النفع والانتفاع .

* والعزيمة لقاح البصيرة , فإذا اجتمعا نال صاحبهما خير الدنيا والاّخرة , وبلغت به همته من العلياء كل مكان . فتخلف الكمالات إما من عدم البصيرة , وإما من عدم العزيمة .

* وحسن القصد لقاح لصحة الذهن , فإذا فقدا فقد الخير كله , وإذا اجتمعا أثمرا أنواع الخيرات .

* وصحة الرأى لقاح الشجاعة , فإذا اجتمعا كان النصر والظفر , وإن فقدا فالخذلان والخيبة , وإن وجد الرأى بلا شجاعة فالجبن والعجز , وإن حصلت الشجاعة بلا رأى فالتهور والعطب .

* والصبر لقاح البصيرة , فإذا اجتمعا فالخير فى اجتماعهما . قال الحسن : إذا شئت أن ترى بصيرا لا صبر له رأيته , وإذا شئت أن ترى صابرا لا بصيرة له رأيته , فإذا رأيت صابرا بصيرا فذاك .

* والنصيحة لقاح العقل , فكلما قويت النصيحة قوى العقل واستنار .

* والتذكر والتفكر كل منهما لقاح الاّخر , إذا اجتمعا أنتجا الزهد فى الدنيا والرغبة فى الاّخرة .

* والتقوى لقاح التوكل , فإذا اجتمعا استقام القلب .

* ولقاح أخذ أهبة الاستعداد للقاء قصر الأمل , فإذا اجتمعا فالخير كله فى اجتماعهما والشر فى فرقتهما .

* ولقاح الهمة العالية النية الصحيحة , فإذا اجتمعا بلغ العبد غاية المراد " اهـ .

فالقضية إذا تحتاج إلى تلقيح .. أقصد قضية السير إلى الله والوصول إليه .. نعم : الوصول يحتاج إلى لقاحات .. وتعالوا الاّن – إخوتى فى الله – لنشرع فى شرح أهم هذه اللقاحات :

الأول : لقاح الاستعداد للقاء الله قصر الأمل :

قال ابن القيم : " ولقاح أخذ أهبة الاستعداد للقاء قصر الامل , فإذا اجتمعا فالخير كله فى اجتماعهما والشر فى فرقتهما " .

وأسألك : لو خيرت , متى تحب أن تموت ؟.. سؤال ينبغى أن يفرض نفسه عليك .. متى تحب أن تموت ؟.. قال أحدهم : الاّن , فقلت له : أمتأهب ؟! .. أخاف عليك , لأن الله يقول : " وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون " ( الزمر : 47 ) .. وقال اّخر : أخاف أن أقابله فأجد أمورا لم أكن أتوقعها .. أشياء لم أضعها فى حسبانى .. لم أكن أنتظرها .. هناك قضايا ومشاكل تنتظرنى سيحاسبنى الله عليها لا أعرفها .. ولذلك فأنا خائف .

معاذ بن جبل لما جاءه الموت قال : " مرحبا بالموت مرحبا زائر مغب وحبيب جاء على فاقة لا أفلح من ندم " .. فمعاذ إذا متأهب ومستعد .

حذيفة بن اليمان لما جاءه الموت قال : " يا موت غط غطك , يا موت شد شدك أبى قلبى إلا حبك"..

يحب الموت لأنه متجهز ومستعد , فهل أنت متجهز ؟!! .. هل أنت مستعد لمقابلة الله الاّن ؟!..

" وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون " ( الزمر : 47 ) .. " وبدا لهم سيئات ما كسبوا " ( الزمر : 48 ) .. وجدوا المكسب سيئات !

فلقاح أخذ الاهبة أن تكون سائرا فى الطريق إلى الله بحذر وتيقظ , فتخشى أن يأتيك الموت بغتة .. فعش يومك الذى أنت فيه معتقدا وجازما أنه اّخر يوم لك على الدنيا .. عش الدنيا كما عاشها رسول الله صلى الله عليه وسلم .. عش كما عاش ومت كما مات .. قال النبى صلى الله عليه وسلم : " ما لى وللدنيا , ما أنا فى الدنيا إلا كراكب استظل بظل شجرة ثم راح وتركها " [صححه الألبانى] ولذلك " كن فى الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل " .. هذا شعاره صلى الله عليه وسلم .

واعلم أن الامانى بحر المفاليس .. نعم : إن الذى يبيت ظانا أنه سيقوم غدا .. طويل الأمل وغير مستعد للقاء الله .. ولذلك إذا قصر أملك فى الدنيا فقد لقحت استعدادك للموت . فيحصل الصدق وتسير إلى الله بذلك .. بهذا تكون مستعدا .

الثانى: لقاح الهمة العالية النية الصحيحة :

اللهم ارزقنا علو الهمة .. أحد إخواننا كان يحفظ القراّن , ثم بدأ فى الصيف فى دورة علمية فالتزم فيها , وفجأة ترك الدورة قال : لقد وجدت أن الاهتمام بالدورة قد شغلنى عن القراّن .. ولماذا يا بنى لا يكون الاثنان معا ؟! أين الهمة العالية ؟! أنت فى الكلية تدرس ست مواد أو ثمانية فى الفصل الواحد وتذاكرها جميعا بل وتحصل على امتياز لماذا لاتكون همتنا عالية أيضا فى طلب علم الكتاب والسنة وفى العبادة والدعوة إلى الله ؟!!

ثم إن الهمة العالية وحدها لا تكفى , بل كثيرا ما تجنى على أصحابها فتجرهم إلى الوراء .. فالذى لديه همة عالية بدون نية صالحة تجده مبتلى بالعجب والغرور والرضا عن النفس , والكبر والازدراء للاّخرين واحتقارهم .. إذا فلقاح الهمة وزوجها : النية الصالحة .. اللهم ارزقنا حسن النية .

والهمة نعمة , واستقلالك لنعم الله عليك يسقطك من عين الله .. لذلك إذا رزقك الله همة عالية فلقحها بنية صالحة , لتحفظ النعمة وتستقيم على الطريق .

يقول ابن القيم : " ولقاح الهمة العالية النية الصالحة , فإذا اجتمعا بلغ العبد غاية المراد " .. أحسن نيتك فى همتك تكن الهمة صالحة , فتصل إلى الجنة العالية .

الثالث : التقوى لقاح التوكل :

قال ابن القيم " والتقوى لقاح التوكل , فإذا اجتمعا استقام القلب "

التقوى : ترك ما تهوى لما تخشى .. فالذى يمشى فى الشارع فلا ينظر يمنة أو يسرة , بل اّخر حدود عينه خطوة أو خطوتان .. هذه تقوى , لأنه سلك طريقا كلها أشواك , فإذا نظر فى أى اتجاه وجد بلوى ومصيبة , ولذلك فهو دائما يمشى على الشوك بالتقوى .. فإذا وجد اثنين يتكلمان فلا يحاول أن يعرف فيما يتكلمان .. فهذع تقوى .

قيل لأحدهم : هل سلكت طريقا ذا شوك ؟ , قال : نعم , قيل : ماذا صنعت ؟ , قال : شمرت واجتهدت , قيل له : فتلك التقوى : التشمير والاجتهاد .. أن تعيش هذه الحياة ماشيا على الشوك , فتكون شديد الحذر . ولقاح هذه التقوى وزوجها التوكل .. أن تتوكل على الله وأنت تسير على الشوك , قال الله:

" ومن يتوكل على الله فهو حسبه " ( الطلاق : 3 ) .

ويتحدث ابن القيم عن حقيقة التوكل فى إحدى درجاته العالية فيقول :

" اعتماد القلب على الله , واستناده إليه , وسكونه إليه . بحيث لا يبقى فيه اضطراب من تشويش الاسباب , ولا سكون إليها , بل يخلع السكون إليها من قلبه , ويلبسه السكون إلى مسببها .

وعلامة هذا : أنه لا يبالى بإقبالها وإدبارها , ولا يضطرب قلبه ولا يخفق عند إدبار ما يحب منها وإقبال ما يكره , لأن اعتماده على الله , وسكونه إليه , واستناده إليه , قد حصنه من خوفها ورجائها , فحاله حال من خرج عليه عدو عظيم لا طاقة له به , فرأى حصنا مفتوحا , فأدخله ربه إليه وأغلق عليه باب الحصن , فهو يشاهد عدوه خارج الحصن , فاضطراب قلبه وخوفه من عدوه فى هذه الحال لا معنى له .

وقد مثل ذلك بحال الطفل الرضيع فى اعتماده , وسكونه , وطمأنينته بثدى أمه لا يعرف غيره , وليس فى قلبه التفات إلى غيره , كما قال بعض العارفين : المتوكل كالطفل , لا يعرف شيئا يأوى إليه إلا ثدى أمه , كذلك المتوكل لا يأوى إلا إلى ربه سبحانه " .

إذا فلقاح التقوى التوكل , فلابد للمتقى من صدق التوكل على الله وإلا فهى حذر مجرد دون نية صالحة , فيقع فى المحذور وهو أتقى ما يكون , فتجد هذا المغبون الذى فقد التوكل مع التقوى رغم تحريه وشدة اتقائه يقع فى كبائر يعافها الفساق .. ألم تر إلى مصل قوام صوام يأكل أموال الناس بالباطل !! .. وأمثال ذلك كثير لاعتماده على التقوى وعدم توكله على الله , فلابد منهما معا . فبهما معا يكفيك الله ما أهمك من عقبات الطريق , فيوصلك ويبلغك إليه .

الرابع : التذكر والتفكر كل منهما لقاح الاّخر :

قال ابن القيم : " والتذكر والتفكر كل منهما لقاح الاّخر , إذا اجتمعا أنتجا ازهد فى الدنيا والرغبة فى الاّخرة " . فالتفكر فى مخلوقات الله مع الذكر زوجان لا يفترقان .. تأمل وقل : سبحان الله !! .. فإذا ذكرت الله تفكرت , وإذا تفكرت ذكرت .. نعم : الذكر يصفى القلب , فيجعله لا يمر على شىء إلا تعقله وتأمل فيه .. وكذلك التفكر يقوى القلب فيجعله هائما دوما بذكر الله .. فاحرص – أخى – على هذين اللقاحين فى طريق السير إلى الله يزهداك فى الدنيا ويرغباك فى الاّخرة ويساعداك كثيرا فى الوصول إلى الله – تعالى .

الخامس : الصبر لقاح البصيرة :

قال ابن القيم : " الصبر لقاح البصيرة , فإذا اجتمعا فالخير فى اجتماعهما . قال الحسن : إن شئت أن ترى بصيرا لا صبر له رأيته , وإذا شئت أن ترى صابرا لا بصيرة له رأيته , وإذا شئت أن ترى صابرا بصيرا فذاك " .. فذاك الرجل .. اللهم اجعلنا من رجالك .

صبر مع بصيرة .. أن ترى الحق فتعرفه , وترى الباطل فتعرفه .. أن تعرف الحق من الباطل وتصبر عليهما حتى تصل إلى الله – عز وجل .

السادس : العزيمة لقاح البصيرة :

يقول ابن القيم : " والعزيمة لقاح البصيرة , فإذا اجتمعا نال صاحبهما خير الدنيا والاّخرة , وبلغت به همته العلياء كل مكان . فتخلف الكمالات إما من عدم البصيرة وإما من عدم العزيمة " .

البصيرة : أن يرى قلبك الحق فيعرفه , فإذا رأى الحق عزم عليه فعاش عليه , ثم تحدث لك عزيمة ثانية على ترك الباطل فتبتعد عنه .

السابع : حسن الظن بالله لقاح الافتقار والاضطرار إليه :

يقول ابن القيم : " وحسن الظن بالله لقاح الافتقار والاضطرار إليه , فإذا اجتمعا أثمرا إجابة الدعاء "

حسن الظن .. وتأمل هذا الحديث : " إن رجلا بعث فحوسب فثقلت موازين سيئاته , فقال الله : خذوه إلى النار , فصار يلتفت , فقال الله : ردوه , فقال الله : عبدى هل وجدت سيئة فى صحيفتك لم تعملها قال : لا يا رب قال : فما بالك تلتفت , قال : ما هذا ظنى فيك يا رب , فقال الله : خذوه إلى الجنة " .. اللهم ارزقنا الجنة .. لم يكن ظنى بك يا رب أنك ستدخلنى النار , بل كان ظنى أنك سترحمنى وتدخلنى الجنة .. كان هذا ظنى فيك يا رب .

قال الله – عز وجل – فى الحديث القدسى : " أنا عند ظن عبدى بى فليظن عبدى ما شاء " [صححه الألبانى] .. فما ظنك بالله , العذاب أم الجنة ؟ .. اللهم استرنا يا رب .. وإذا كنت تظن به خيرا فهل عملت خيرا ؟! .. وهل تصلح وهل تستحق لأن يدخلك الجنة ؟! .. اصدق مع الله يرحمك وينجك .

حاول أن تكون مستحقا لأن يحبك الله , فاضبط نفسك على طاعته .. فحسن الظن مع سوء العمل لا ينفع صاحبه , فضلا عن أنه سوء أدب مع الله , قال الحسن : " إن قوما غرتهم الأمانى قالوا : نحسن الظن بالله وكذبوا , لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل " .

فكيف تحسن ظنك بالله وأنت تحاربه , وتعاديه بالمعاصى ؟! كيف وأنت موله ظهرك ؟! كيف وأنت لا تذكره ؟! كيف وأنت لا تقرأ كلامه ولا تنفذ أوامره وأحكامه ؟! وكيف وأنت لا تطيعه ؟! كيف تحسن الظن بالله وأنت تفعل كل ما نهاك عنه ؟! إن الأمر – إخوتاه – ليس لعبا , قال – تعالى - : " وما هو بالهزل " ( الطارق : 14 ) .

فأحسن الظن بحق , فاعمل .. أحسن الظن , فحسن الظن لقاح الافتقار والاضطرار . قال الله : " أمّن يجيب المضطر إذا دعاه " ( النمل : 62 ) ..

يا رب , ليس لى إلا أنت .. افتقار واضطرار .. يا رب , لو وكلتنى إلى نفسى فسأضل , فلا تكلنى إلى نفسى طرفة عين أبدا ولا أقل من ذلك .. خذ بيدى يا رب .. لا تسلط علىّ أعدائك فأنا ضعيف ..

لا تسلمنى للعصاة والمذنبين فأنا مفتون وضعيف .. يا رب !

سيدنا يوسف افتقر إلى ربه فقال : " وإلا تصرف عنى كيدهن أصب إليهن " ( يوسف : 33 ) .. فقل : يا رب .. قل : " إنى مغلوب فانتصر " ( القمر : 10 ) .. افتقر إلى الله فى كل شىء .. يا رب , لا أعرف أصلى فعلمنى ..

يا رب , القراّن ثقيل علىّ فسهله لى .. يا رب , لا أقوم الليل ولا أصلى الفجر فبأى وجه أقابلك , فخذ بيدى .. يا رب , المعاصى تملأ الارض , وكلما مشيت وقعت , فخذ بيدى .. يا رب .. يا رب .. هذا هو حال المؤمن , كمثل رجل فى البحر على خشبة يقول : يا رب .. يا رب , فاللهم سلمنا وارض عنا .. اضطرار وافتفار مع حسن ظن أنه لن يخيب رجاءك فيه , فيأخذ بذلك يدك ويبلغك المطلوب .

الثامن : الخشية لقاح المحبة :

قال ابن القيم : " والخشية لقاح المحبة , فإذا اجتمعا أثمرا امتثال الاوامر واجتناب المناهى " .

قال سهل : خوف الصديقين من سوء الخاتمة عند كل خطوة وعند كل حركة , وهم الذين وصفهم الله – تعالى - , إذ قال : " وقلوبهم وجلة " ( المؤمنون : 60 ) .

لمّا احتضر سفيان الثورى جعل يبكى , فقيل له : يا أبا عبدالله , عليك بالرجاء , فإن عفو الله أعظم من ذنوبك , فقال : أو على ذنوبى أبكى ؟! , لو علمت أنى أموت على التوحيد لم أبال بأن ألقى الله بأمثال الجبال من الخطايا .

وقال ثابت البنانى : ما شرب داود عليه السلام شرابا بعد المغفرة إلا ونصفه ممزوج بدموع عينيه .

وهذا الصحابى الجليل عبدالله بن عمرو بن العاص يقول : " لأن أدمع دمعة من خشية الله أحب إلىّ من أن أتصدق بألف دينار " .

وقالت ابنة الربيع بن خثيم : " كنت أقول لأبى : يا أبتاه , ألا تنام ؟! فيقول : يا بنية , كيف ينام من يخاف البيات ؟!

وقال الحسن – رحمه الله - : يحق لمن يعلم أن الموت مورده , وأن الساعة موعده , وأن القيامة بين يدى الله – تعالى – مشهده أن يطول حزنه .

" قال يوسف بن أسباط : كان سفيان الثورى إذا أخذ فى ذكر الاّخرة يبول الدم " .

وعن زيد بن أبى الزرقاء قال : حمل ماء سفيان إلى طبيب فى علته فلما نظر قال : هذا ماء رجل قد أحرق الخوف جوفه .

إخوتاه , طوبى لقلوب ملأتها محبة الله فخافته .

حكيم بن حزام سيد شعاره الحب .. كان رضى الله عنه يطوف بالبيت ويقول : لا إله إلا الله , نعم الرب ونعم الاله , أحبه وأخشاه .

وقال هرم بن حيان : المؤمن إذا عرف ربه – عز وجل – أحبه , وإذا أحبه أقبل إليه , وإذا وجد حلاوة الاقبال إليه لم ينظر إلى الدنيا بعين الشهوة , ولم ينظر إلى الاّخرة بعين الفترة , وهى تحسره فى الدنيا وتروحه فى الاّخرة .

قال خليد العصرى : يا إخوتاه : هل منكم من أحد لا يحب أن يلقى حبيبه ؟! , ألا فأحبوا ربكم – عز وجل – وسيروا إليه سيرا جميلا , لا مصعدا ومميلا .

ولله در القائل :

كانت لقلبــى أهواء مــفرقــــــــة فاسجمعت مذ راّك القلـــب أهوائــــــــى

فصار يحسدن من كنت أحسـده وصرت مولى الورى مذ صرت مولائـــــــى

تركت للناس دنياهم ولـــــهوهم شغلا بحبك يا دينــــــى ودنيائـــــــــــــــــى

وقال الشاعر :

أروح وقد ختمت على فـــــــــــؤادى بحبك أن يحل بـه سواكــــــا

فلو أنى استطعت غضضت طرفـــى فلم أنظر به حتــــى أراكـــــا

أحبك لا ببعضــــى بل بكلـــــــــــــــى وإن لم يبقى حبك لى حراكـا

وفـى الاحبــــاب مختص بوجـــــــــــد واّخر يدعى معه اشتراكــــــــا

وكل يدعى حبــــا لربـــــــــــــــــــــــى وربـــى لا يقر لهم بذاكـــــــــــا

إذا اشتبكت دمــوع فـــــــى خـــدود تبين من بكــى ممن تباكــــــى

فأما من بكـى فيذوب وجـــــــــــــدا وينطق بالهوى من قد تباكــى

وقال مسمع بن عاصم : سمعت عابدا من أهل البحرين يقول فى جوف الليل : قرة عينى وسرور قلبى !! ما الذى أسقطنى من عينك يا مانح العصم .. ثم صرخ وبكى , ثم نادى : طوبى لقلوب ملأتها خشيتك , واستولت عليها محبتك , فمحبتك مانعة لها من كل لذة غير مناجاتك والاجتهاد فى خدمتك , وخشيتك قاطعة لها عن سبيل كل معصية جوفا لحلول سخطك . ثم بكى وقال : يا إخوتاه , ابكوا على فوت خير الاّخرة , حيث لا رجعة ولا حيلة .

وعتبة الغلام القائل : تراك مولاى تعذب محبيك وأنت الحى الكريم :

" قال عنه سليم النحيف : رمقت عتبة ذات ليلة , فما زاد ليلته تلك على هذه الكلمات : إن تعذبنى فإنى لك محب , وإن ترحمنى فإنى لك محب . فلم يزل يرددها ويبكى حتى طلع الفجر .

وقال عنبسة الخواص : بات عندى عتبة الغلام ذات ليلة , فبكى من السحر بكاء شديدا , فلما أصبح قلت له : قد فزعت قلبى الليلة ببكائك , ففيم ذاك يا أخى ؟ قال : يا عنبسة , إنى والله ذكرت يوم العرض على الله . ثم مال ليسقط فاحتضنته ... فناديته : عتبة عتبة , فأجابنى بصوت خفى : قطع ذكر يوم العرض على الله أوصال المحبين . قال : ويردده , ثم جعل يحشرج البكاء ويردده حشرجة الموت ويقول : تراك مولاى تعذب محبيك أنت الحى الكريم ؟! قال : فلم يزل يرددها حتى والله أبكانى .

وقال عتبة – رحمه الله - : من سكن حبه قلبه لم يجد حرا ولا بردا . قال عبد الرحيم بن يحيى الدبيلى: يعنى من سكن حب الله قلبه , شغله حتى لا يعرف الحر من البرد , ولا الحلو من الحامض , ولا الحار من البارد .

وقال عتبة – رحمه الله - : من عرف الله أحبه , ومن أحب الله أطاعه , ومن أطاع الله أكرمه , ومن أكرمه أسكنه فى جواره , ومن أسكنه فى جواره فطوباه وطوباه , وطوباه وطوباه . فلم يزل يقول : وطوباه حتى خر ساقطا مغشيا عليه .

والخلاصة : لقح الحب بالخشية .. تقو على طريق السير إلى الله .

التاسع : الصبر لقاح اليقين :

أنا عل يقين بأن الله سينصر أمة محمد صلى الله عليه وسلم , فهل أنت على يقين ؟.. يأتى اليقين بالصبر , قال - تعالى – " وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا باّياتنا يوقنون " ( السجدة : 24 ) .. بالصبر واليقين تبلغ الامامة فى الدين .

الصبر على البلاء .. والصبر عن المعصية .. والصبر على الطاعة .. الصبر مع الله وبالله ولله .. الصبر لقاح اليقين .. فاصبروا – إخوتاه – صبرا جميلا .

علامات اليقين :

قال الفيروزاّبادى : ثلاثة من أعلام اليقين :

1 – قلة مخالطة الناس فى العشرة .

2 – ترك المدح لهم فى العطية .

3 – التنزه عن ذمهم عند المنع .

ومن علاماته أيضا :

النظر إلى الله فى كل شىء , والرجوع إليه فى كل أمر , والاستعانة به فى كل حال .

العاشر : صحة الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم لقاح الاخلاص :

صحة الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم تورث الاخلاص , فإذا اجتمعا أثمرا قبول العمل ووجود أثره .

شروط قبول العمل شرطان : الاخلاص والمتابعة .. فإذا لم تكن مخلصا فأكثر من أعمال السنة يأتك الاخلاص . وإذا كنت لا تعمل .. إذا كنت بطيئا وضعيفا وخاملا , فأكثر من الاخلاص يضعك الله فى الخدمة فتكون من خدامه .. إذا فلابد من وجود أحد الشرطين لديك ليتوفر الاخر .. واّه ممن فقد الشرطين !! .. كيف يكون حاله ؟!.. وماذا يصنع ؟!.. ليس له إلا أن يقول : يا رب .

كنت أقول لأولادى الصغار مرة : لو أخلص الواحد منا أثمر ذلك متابعة النبى صلى الله عليه وسلم , أم لو تابع النبى صلى الله عليه وسلم أثمر الاخلاص ؟.. هذه هى قضية " البيضة أم الفرخة ؟ " .. الاثنان معا .. يجلب أحدهما الاّخر .. هذا هو اللقاح .. فلو كنت مخلصا فلابد أن تكون حالك متابعة النبى صلى الله عليه وسلم , ولو كنت متبعا فلابد أن تكون حالك الاخلاص .

وثمرة الاخلاص والمتابعة قبول العمل ووجود ثمرة العمل .. أن تجد نتيجة العمل فلو كنت مخلصا متبعا وخرجت الى الشارع لا تنظر الى البنات مطلقا ذه نتيجة وثمرة العمل الصالح .. أنك لا تعصى .. لو كنت مخلصا أو متبعا لوجدت انك تستيقظ قبل الفجر تنتظر الصلاة فتجلس حاضر القلب .. ثمرة ونتيجة .. فتجد من نفسك اخباتا وخشية فى قلبك .

قال العلماء : " بين العمل وبين القلب مسافة وبين القلب وبين الرب مسافة وبين تلك المسافات قطاع طرق " .. فترى الرجل كثير الصلاة , كثير الصيام , كثير ذكر الله وقراءة القرآن ولم يصل الى قلبه من ذلك شىء .. نعم : قطاع طرق قطعوا الطريق عليه .. لكن لو عمل بإخلاص ومتابعة فلابد ان يصل الى القلب أثر العمل .

الحادى عشر : العمل لقاح العلم :

العلم والعمل وجهان لعملة واحدة وزوجان لا ينفصلان فى الاصل , ولذلك إذا اجتمعا كان الفلاح والسعادة .. فإذا تعلمت ولم تعمل كنت منافقا , وإذا عملت بدون علم كنت مبتدعا .. والذى يعلم ولا يعمل فيه شبه من المغضوب عليهم اليهود , والذى يعمل بدون علم فيه شبه من الضالين النصارى .. إذا فلابد أن يقترن العلم بالعمل .. قال الامام على رضى الله عنه : " العلم يهتف بالعمل ,فإن أجابه والا ارتحل " .. فاعمل بما علمت تزدد علما وتقى وخشية .. لقح العلم بالعمل .

قال الامام الشاطبى – رحمه الله تعالى – فى " الموافقات " :

" كل مسألة لا ينبنى عليها عمل فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعى , وأعنى بلعمل عمل القلب وعمل الجوارح من حيث هو مطلوب شرعا " .. ويبين رحمه الله أن الدليل على ذلك استقراء الشريعة , فيذكر جملة من الايات والاحاديث الدالة على أن الشارع يعرض عما لا يفيد عملا مكلفا به .

ومن هذه الادلة باختصار : قوله – تعالى - : " يسألونك عن الاهلة قل هى مواقيت للناس والحج " ( البقرة : 189 ) , فوقع الجواب بما يتعلق به العمل , اعراضا عما قصده من السؤال عن الهلال : لما يبدو فى أول الشهر دقيقا كالخيط , ثم يمتلىء , ثم يصير بدرا ثم يعود الى حالته الاولى .

وقال – تعالى – بعد سؤالهم عن الساعة : " فيم أنت من ذكراها " ( النازعات :43 ) , أى إن هذا سؤال عما لا يعنى , إذ يكفى من علمها أنه لابد منها , ولذلك لما سئل صلى الله عليه وسلم عن الساعة قال للسائل : " ما أعددت لها " , إعراضا عن صريح سؤاله , إلى ما يتعلق به مما فيه فائدة , ولم يجبه عما سأل .

وقد كان مالك بن أنس يكره الكلام فيما ليس تحته عمل , ويحكى كراهيته عمن تقدم .

ويؤكد الامام الشاطبى رحمه الله على أن كل علم طلب الشارع له , إنما يكون حيث هو وسيلة الى التعبد به الى الله .. قال – تعالى - : " وإنه لذو علم لما علمناه " ( يوسف: 68 ) , قال قتادة : يعنى لذو عمل بما علمناه .

وروى عن أبى جعفر محمد بن على فى قول الله – تعالى – : " فكبكبوا فيها هم والغاون " ( الشعراء : 94 ) , قال : قوم وصفوا الحق والعدل بألسنتهم وخالفوه إلى غيره .

وعن أبى الدرداء : إنما أخاف أن يقال يوم القيامة : علمت أم جهلت ؟ , فأقول : علمت , فلا تبقى اّية من كتاب الله اّمرة أو زاجرة الا جاءتنى تسألنى فريضتها , فتسألنى الآمرة : هل ائتمرت ؟ , والزاجرة : هل ازدجرت ؟ , فأعوذ بالله من علم لا ينفع , ومن قلب لا يخشع , ومن نفس لا تشبع , ومن دعاء لا يسمع .

وذكر مالك أنه بلغه عن القاسم بن محمد قال : أدركت الناس وما يعجبهم القول إنما يعجبهم العمل .

ويواصل الشاطبى حديثه قائلا :

والادلة على هذا المعنى أكثر من أن تحصى . وكل ذلك يحقق أن العلم وسيلة من الوسائل ليس مقصودا لذاته من حيث النظر الشرعى وإنما هو وسيلة الى العمل . وكل ما ورد فى فضل العلم فإمنا هو ثابت للعلم من جهة ما يتوسل به اليه , وهو العمل .

وإنما يكون العلم باعثا عل العمل إذا صار للنفس وصفا وخلقا .. وهنا ينصح الشاطبى رحمه الله المشتغلين بالعلم , والذين لم يصلوا بعد الى مرتبة الذين صار العلم لنفوسهم وصفا وخلقا بعدم ترك العلم لعدم عملهم به بداية أو لسوء نيتهم فيه , عليهم بمواصلة الطلب , فإنه سيلجئهم حتما الى العمل .

يقول رحمه الله : " على أن المثابرةعلى طلب العلم والتفقه فيه , وعدم الاجتزاء باليسير منه , يجر إلى العمل به , ويلجىء إليه , وهو معنى قول الحسن : كنا نطلب العلم للدنيا فجرنا الآخرة . وعن حبيب بن أبى ثابت : طلبنا هذا الامر وليس لنا فيه نية , ثم جاءت النية بعد . وعن أبى الوليد الطيالسى قال : سمعت ابن عيينة منذ اكثر من ستين سنة يقول : طلبنا هذا الحديث لغير الله فأعقبنا الله ما ترون " .

وإذا كان لقاح العلم العمل به , وأن زكاة العلم العمل .. هذا فى حق كل الناس , فهم مكلفون بالعمل .. إذا كان ذلك فالعمل فى حق من هم مظنة الاقتداء بهم أحرى وأولى .

وفى نهاية هذا البحث الماتع يقول الشاطبى – رحمه الله - : " فالحاصل أن الافعال أقوى فى التأسى والبيان إذا جامعت الأقوال , من انفراد الاقوال , فاعتبارها فى نفسها لمن قام فى مقام الاقتداء أكيد لازم , بل يقال : إذا اعتبر هذا المعنى فى كل من هو مظنة الاقتداء ومنزلة التبيين , ففرض عليه تفقد جميع أقواله وأعماله . ولا فرق فى هذا بين ما هو واجب وما هو مندوب أو مباح أو مكروه أو ممنوع وهذا البيان الشافى المخرج عن الاطراف والانحرافات هو الراد إلى الصراط المستقيم " اهـ .

الثانى عشر : الحلم لقاح العمل : الحلم أن تكون حليما فى شرع الله , وحليما مع خلق الله .

الحلم فى شرع الله : أن تشفق على العصاة والمذنبين وتنظر إليهم بعين الرحمة والعطف .. تتحملهم وتحاول أن تأخذ بأيديهم لتنقذهم من الغرق , لتدفعهم إلى طريق الله .. تبذل نفسك لتنتشلهم من نيران المعاصى المحرقة .. ويساعدك تذكر حالك قبل , وأن الله منّ عليك ونجاك .. وقديما قالوا : لا يضحك فى وجه العاصى الا عالم .. نعم : كلما ازداد الإنسان علما ازداد حلما .

قال منصور بن محمد الكريزى :

سألزم نفسى الصفح عن كل مذنب وإن كثرت منــه إلىّ الجرائــم

فمــا النــاس الا واحــد من ثلاثـــــــة شريف ومشروف ومثل مقاوم

والحلم يبدل العداوة محبة , قال الله - تعالى - : " ادفع بالتى هى أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم * وما يلقاها الا الذين صبروا وما يلقاها الا ذو حظ عظيم " ( فصلت : 34 – 35 ) .. وفى ذلك يقول معين بن أوس المزنى :

فأبرأت غل الصدر منه توسعــا بحلمـى كمـا يشفـى بأوديـة كلـم

وأطفأت نار الحرب بينى وبينه فأصبح بعد الحرب وهو لنا سلــــم

إخوتاه , الحلم طريق العمل .. فإذا كنت لا تعمل فكن حليما يأتك العمل .. كن حليما يحبك الله , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأشج عبدالقيس : " إن فيك خصلتين يحبهما الله : الحلم والأناة " [أخرجه مسلم] .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله رفيق يحب الرفق فى الأمر كله " [أخرجه البخارى] .

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله رفيق يحب الرفق , ويعطى على الرفق ما لا يعطى على العنف وما لا يعطى على ما سواه " [أخرجه مسلم] .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أخبركم بمن يحرم على النار – أو بمن تحرم عليه النار ؟ - تحرم على كل قريب هين لين سهل " [صححه الألبانى] .

أخى فى الله , حبيبى فى الله , كن حليما مع خلق الله , واقتد بنبيك صلى الله عليه وسلم وصحابته الأكرمين وسلفك الصالحين .

عن أنس رضى الله عنه قال : "كنت أمشى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجرانى غليظ الحاشية , فأدركه أعرابى , فجذبه بردائه جذبة شديدة , فنظرت إلى صفحة عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أثر بها حاشية الرداء من شدة جذبته , ثم قال : يا محمد , مر لى , فالتفت إليه فضحك , ثم أمر له بعطاء" [متفق عليه] .

وشتم رجل أبا ذر رضى الله عنه , فقال له : يا هذا لا تستغرق فى شتمنا , ودع للصلح موضعا .. فإنا لا نكافىء من عصى الله فينا بأكبر من أن نطيع الله فيه .

وكانت أم المؤمنين عائشة – رضى الله عنها – صائمة فأمرت جاريتها بريرة أن تصنع لها طعاما , لتفطر به , فتشاغلت عن ذلك حتى مضى النهار , وجاء المغرب , فلم تجد أم المؤمنين طعاما , فالتفتت إليها وقالت وهى تكتم غيظها : " لله در التقوى لم تدع لذى غيظ شفاء " .

" وقيل للأحنف بن قيس : من أين تعلمت الحلم ؟ , فقال : من قيس بن عاصم , قيل : وما بلغ حلمه ؟ قال : بينما هو جالس فى داره , إذ أتته جارية له بسفود عليه شواء , فسقط من يدها , فوقع على ابن له صغير فمات , فدهشت الجارية , فقال لها : لا روع عليك , أنت حرة لوجه الله – تعالى " .

" وقيل : إن أويسا القرنى كان إذا رآه الصبيان يرمونه بالحجارة , فكان يقول لهم : يا إخوتاه , إن كان ولابد فارمونى بالصغار , حتى لا تدموا ساقى , فتمنعونى عن الصلاة " .

" وكان ليحيى بن زياد الحارثى غلام سوء , فقيل له : لم تمسكه ؟! , فقال : لأتعلم الحلم عليه " .

وكان لمعاوية رضى الله عنه قطعة أرض وبجوارها أخرى لعبدالله بن الزبير رضى الله عنهما كان يجلس فيها هو وأهله .. فكان عمال معاوية يدخلون عليه ..فكتب إلى معاوية يقول : يا ابن آكلة الأكباد , امنع عمالك عنى , والا كان لى ولك شأن .. والسلام .

فلما وقف معاوية على الكتاب دفعه لولده يزيد وقال له : ما ترى ؟ , قال : أرى أن تبعث إليه جيشا يكون أوله عنده وآخره عندك يأتونك برأسه . فقال له معاوية : غير هذا خير . ثم قلب الكتاب وكتب على ظهره : أما بعد : فقد وقفت على كتابك يا ابن حوارى رسول الله صلى الله عليه وسلم , ويا ابن ذات النطاقين , وساءنى ما ساءك .. ووالله لو كانت الدنيا بأسرها بينى وبينك لأتيتك بها .. وقد نزلت عن أرضى لك , فأضفها إلى أرضك بما فيها من العبيد والاموال .. والسلام .

فلما قرأها ابن الزبير رضى الله عنه بكى .. وكتب إليه : قد وقفت على كتاب أمير المؤمنين – أطال الله بقاءه , ولا أعدمه الرأى الذى أحله من قريش هذا المحل .. والسلام .

فلما وقف معاوية عليه تهلل وجهه وأسفر , وقال لابنه : يا بنى , من عفا ساد , ومن حلم عظم , ومن تجاوز استمال إليه القلوب .. فإذا ابتليت بشىء من هذه الامور فداوه بمثل هذا الدواء .

نعم – إخوتاه - : وصل هؤلاء إلى الله – تعالى – بترويض أنفسهم على طاعته ولزوم أوامره واجتناب نواهيه وهذا أيضا من الحلم فى شرع الله .. قال – جل جلاله - : " فاصفح الصفح الجميل " ( الحجر : 85 ) , وقال – جل جلاله - : " وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم " ( النور : 22 ) , والعفو : ترك المؤاخذة على الذنب , والصفح : ترك التأنيب عنه . وقال – جل جلاله - : " والعافين عن الناس والله يحب المحسنين " ( آل عمران : 134 ) , وقال – عز وجل - : " ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور " ( الشورى : 43 ) .

والخلاصة : لقح العمل بالحلم .

وبعد – إخوتاه - : فهذه لقاحات على الطريق .. لقاحات على طريق السير والوصول إلى الله , تقويك وتهيىء لك أسباب الوصول .. فالزم كل زوج من هذه اللقاحات تجن ثمار خير كل منهما , لتقطع الطريق بقوة وسرعة وسهولة .. وتذكر دائما قول الله – تعالى – " ومن كل شىء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون ففروا إلى الله " .. ففروا إلى الله .. الجأ إلى الله , واعتمد عليه , واستعن به .. وانطلق .

* * *

الأصل الحادى والعشرون : من صفّى صفى له , ومن كدّر كدر عليه

الأصل الحادى والعشرون : من صفّى صفى له , ومن كدّر كدر عليه

اللهم إنا نسألك أن تصفى لنا أعمالنا من الكدر , وقلوبنا من الرياء , وأعيننا من الخيانة , وألسنتنا من الكذب .. اللهم إنا نسالك أن تصفى لنا حياتنا لتكون خالصة لك .. من صفى صفى له , ومن كدر كدر عليه .

أيها الاخ الكريم , اسمح لى أن أقول لك : إن العلاقة مع الله علاقة ذات حساسية بالغة .. وبعض الشباب لا يلتفت لتلك العلاقة , فتراه يلتزم – اللهم ارزق شبابنا الالتزام , اللهم ثبتهم على الايمان , اللهم نجهم من الفتن ما ظهر منها وما بطن – ويبدأ الطريق , ومع ذلك لا يزال يتلون , لا يزال تافها وفارغا , لا يزال ماء قلبه معكرا .. تراه يمكر بالله .. يحاول أن يخدع الله .. وإنما أتى هذا المسكين من جهله , لأنه لم يعرف الله .

لقد كنت على المنبر فأخرجت جنيها وقلت : هل رأيتم هذا الجنيه ؟! إن الذى أعطانى هذا الجنيه رجل " بقال " .. والجنيه مكتوب عليه بخط واضح : " حبيبتى الغالية , كل عام وأنت بخير , أحب أن أعبر لك عما فى داخلى .. والله يا حبيبتى لولا خوفى من الله , وأنى أعبده , لعبدتك أنت حبيبتى .. حبيبك فلان " .. البعض يضحك من هذا , ووالله إنه لأمر يوجع القلب .

إن هذا الولد من الممكن أن يكون مؤمنا , بدليل أن أول كلمة قالها : لولا خوفى من الله .. هذا الكلام قد يقوله البعض , ولكن الحقيقة أن هذا الولد لو كان خائفا من الله ما قال هذا الكلام بداية .. نعم : هو جاهل غير خائف , أخرج ما بداخله وأظهره . وما أكثر من بداخلهم مثل هذا الشاب وأكثر , ولكنهم لا يقولون بألسنتهم , لأنهم كذابون , يخادعون الله .

قال البقال كلمة جميلة جدا : " انظر ! .. الولد يقول لها : أعبدك وهى باعته وصرفت الجنيه !! " باعته وتركته رغم أنه يعبدها !!

الجهل يا شباب يفعل أكثر من هذا .. فهؤلاء الشباب المساكين فى جهل مطبق بالعقائد .. بالدين .. بالفقه .. فهذا الولد جاهل وذنب أبيه وأمه مثل ذنبه تماما , لأنهما لم يعرفاه بالدين , ولو كان يعرف الله لما قال هذا الكلام . فلا تمكر بالله , ولا تبع الله مثل هذا الشاب , وتب إلى الله واصدقه ..

ولذلك عندما أقول لك : تب فتقول : تبت من كل شىء فأنت إذا كذاب .. حدد من أى شىء تبت .. تبت من ماذا ؟ , فذنوبك كثيرة ؟! .. ينبغى أن تسمى الاشياء بمسمياتها لتكون واضحا .. تعامل مع الله بصراحة وإياك أن تخادع أو تمكر .

أخى فى الله , إذا التزمت فصف .. صفّ .. لابد أن نصفى أعمالنا مع الشيطان .. نصفى حساباتنا مع النفس والهوى .. لابد أن نبدأ فى تصفية أحوالنا مع الشهوات , لتبقى حياتنا صافية تماما لله وحده .

بعض الشباب ينظر إلى النساء المتبرجات , فهل هذا يصفى أم يكدر ؟ .. يقول : أشعر بقسوة فى قلبى لا أعرف لماذا ؟! .. عجيب أمرك ! أتمكر ؟! .. أنت تعرف ما سبب هذه القسوة .. فحينما تكدر يكدر عليك .

والعلماء يستدلون على هذا الاصل : " من صفى صفّى له , ومن كدر كدر عليه " يقول الله – تعالى - : " إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا * عينا يشرب بها عبد الله " ( الإنسان : 5 – 6 ) .. عينا يشرب بها من ؟ " عباد الله " .. فهم أبرار , عباد الله أولا , ولذلك استحقوا النعيم والتكريم .

قال العلماء : الناس ثلاث درجات : الدرجة الاولى : أصحاب الشمال – نعوذ بالله منهم – وهؤلاء هم أهل النار , وإن كانوا فى النهاية سيدخلون الجنة . والدرجة الثانية : الأبرار , وهم من أهل الجنة . والثالثة : المقربون وهم أفضل وأعلى من الأبرار .

إذا فأهل الجنة درجتان : أبرار ومقربون , ولذلك يقول عز وجل : " ولمن خاف مقام ربه جنتان " ( الرحمن : 46 ) , وفى قوله : " ومن دونهما جنتان " ( الرحمن : 62 ) , جنتان من ذهب للمقربين , وجنتان من ورق ( فضة ) لأصحاب اليمين .. وفى هؤلاء جميعا يقول الله عز وجل : ( فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة * وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة * والسابقون السابقون * أولئك المقربون " ( الواقعة : 8 – 11 ) .

أصحاب اليمين والسابقون أو الأبرار والمقربون .. درجتان : ممتازة وعادية .. فأى الدرجتين تفضل ؟! , ولذلك فإن الناس الأبرار يقول الله فيهم : " إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا " ( الإنسان : 5 ) .. مزاجها أى ممزوجة .. أى إنهم سيشربون ماء كافورا .. " مزاجها كافورا " , أى : رائحتها كافور .. أما عباد الله المقربون فسيشربون كافورا خالصا , كافورا صافيا .. لأنهم صفّوا .. ومن صفّى صفى له , ومن كدر كدر عليه .

لقد كنت أقول لأولادى – اللهم أصلح أولادى أولاد المسلمين , اللهم ربّ لنا أولادنا , اللهم احفظ أولادنا ونجهم من الفتن ما ظهر منها وما بطن – كنت أقول لهم عندما وجدت فيهم بعض الفتور وعدم الصفاء : أنت لستم جهالا .. تعرفون فضل قيام الليل , وتعرفون فضل صلاة النوافل , وفضل الذكر , وفضل الصدقة .. وتعرفون وتعرفون .. فلماذا إذا لا تعملون ؟! .. لماذا أنتم كسالى ؟! .. قلت لهم وأقول لكم أيضا لأنكم أيضا أولادى : تعرفون ما السبب ؟! .. السبب أنكم لم تتصوروا الجنة كما ينبغى .

وقلت لبناتى : أنت لو مت الاّن هل ستكونين مع السيدة فاطمة أو عائشة حبيبة النبى صلى الله عليه وسلم فى الجنة ؟! .. إذا ما فائدة الجنة إذا لم تكونى مع هؤلاء ؟!!

إن بعض الناس فى الجنة – اللهم ارزقنا الجنة يا رب – ينظر إلى وجه ربه بكرة وعشية , وبعض الناس لا يرى الله الا كل جمعة .. كل أسبوع مرة فماذا تنوى أنت ؟ هل تحب أن ترى الله مرتين فى الاسبوع أم مرة كل يوم ؟ .. إذا منا فى الدنيا نتمنى أن نأتى إلا درس العلم كل يوم , فما بالنا فى الجنة برؤية الملك !!

إخوتاه , لو أنكم كنتم فى الجنة , وحرمت أنت من النظر إلى وجه الله الكريم كل يوم , ولم تتمتع برؤيته كما يتمتع أهل الفردوس , فكيف تتصور حالك ؟! .. نعم : ستكون سعيدا فى الجنة ولكن ليس كسعادة أهل الفردوس .. هذه هى القضية .. أن تفكر فى حالك , وهل أنت صاف مع الله أم لا ؟ .. هل لو مت اليوم ستكون مع النبى محمد صلى الله عليه وسلم ؟ .. أجب !! .. إذا فاعمل للفردوس الاعلى .. ابدأ وصف ولا تلتفت , فإن الذى يضع الفردوس فى ذهنه يظل يعمل لها طوال عمرها لينالها .

نعــــم : لن تستطيع السير فى الطريق الى الفردوس الا إذا صفيت , فصف ليصفى الله لك قلبك , ويصفى لك عبادتك .. صف ليصفى لك حياتك .. صف ليصفى لك طريقك اليه .. خل عنك مشاكلك ومشاغلك ولا تفكر الا فى الله .. عش لله خالصا صافيا .. لا تنشغل الا بالله وحده .. وكلما صفيت لله صفى لك .. ومن كدر كدر عليه .. فإذا وجدت فى حياتك كدرا , كأن تجد والدك يضايقك حين التزمت أو زوجتك أو زملاءك فى العمل , فاعلم يقينا أن هذا الكدر منك أنت , فلو كنت صافيا لله لأراح قلبك .. نعم : السبب : أنك لست بخالص .. كدرت فكدر الله عليك حياتك .. فصف يصف لك .

إذا وجدت أنك تقف فى الصلاة فيشرد ذهنك , وتقرأ القرآن فلا تركز ولا تتدبر وتذكر الله وفكرك شارد .. فاعلم أنك كدرت العبادة .. لم تصف بعد لله .. فالكدر آت منك أنت .

ولذلك يقول العلماء : " من رأس العين يأتى الكدر " .. فالكدر خارج من داخلك أنت , من أعماق قلبك فاصف قلبك لله .. فرغ قلبك لله وحده , ليصفى لك حياتك , فتصل اليه بأمان واطمئنان .

* * *

الأصل الثانى والعشرون : لا تتجاهل جانبا واحدا من جوانب الدين

الأصل الثانى والعشرون : تتجاهل جانبا واحدا من جوانب الدين

الدين .. ما هو الدين ؟!

بعض الناس يرى أن الدين هو الدعوة , وكل همه الدعوة إلى الله .. يجمع الناس ويدخلهم المساجد ويجلس يكلمهم ويهديهم ويدعوهم , ونسى كل شىء فى الدين الا هذه .. وبعض الناس يرى أن الدين مجرد عبادة : صيام وقيام وذكر وصلاة .. ففرغ نفسه للعبادة تماما وترك كل الدين .. وبعض آخر يرى أن الدين هو العلم , فتراه جالسا للعلم ليل نهار .. علم .. عل .. ونسى بقية جوانب الدين .. وبعض آخر يظن أن الدين إقامة الدولة , فتراه يدأب ويحارب ليقيم دولة الاسلام , ونسى بقية الدين وفرط فيه من أجل هذه الجزئية .

ليس هذا هو الدين .. الدين كل لا يتجزأ .. فكل هذا هو الدين .. الدين هو العلم والعمل والعبادة والدعوة والجهاد للتمكين .. الدين كل .. وكثيرا ما أقول هذه الجملة : الدين لا يؤخذ بالقطاعى , ولا يؤخذ بالتقسيط .. لا يؤخذ بالقطعة .. الدين كل , ولذلك يقول ربى – وأحق القول قول ربى – " ادخلوا فى السلم كافة " ( البقرة : 208 ) , أى خذوا الاسلام بكلياته , واعملوا بكل ما فيه من بر .

ولذلك حينما أخاطب من ترتدى بنطالا بأن تلتزم , يقولون : احمد الله , فهذه أفضل من غيرها .. خطوة خطوة .. فاليوم بنطال وغدا تلبس الإيشارب .. وهكذا .. تدرج , أقول : لا .. ليس هكذا الدين .. الدين ليس لعبة .. الدين ليس تهريجا , قال الله – تعالى - : " وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا " ( الأنعام : 70 ) .

وتأمل معى هذا الحديث العظيم الذى ينبغى ألا يقرأه أحد قط إلا ويرتجف قلبه ويشيب شعره , حديث الثلاثة الذى رواه أبو هريرة رضى الله عنه قال سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول : " إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد , فأتى به , فعرفه نعمه , فعرفها , قال : فما عملت فيها ؟ قال : قاتلت فيك حتى استشهدت , قال : كذبت , ولكنك قاتلت لأن يقال : جرىء فقد قيل , ثم أمر به , فسحب على وجهه , حتى ألقى فى النار , ورجل تعلم العلم وعلمه , وقرأ القرآن , , فأتى به , فعرفه نعمه فعرفها , قال : فما عملت فيها ؟ قال : تعلمت العلم وعلمته , وقرأت فيك القرآن , قال : كذبت , ولكنك تعلمت العلم ليقال : عالم , وقرأت القرآن ليقال : قارىء , فقد قيل , ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقى فى النار , ورجل وسّع الله عليه , وأعطاه من أصناف المال كله , فأتى به , فعرفه نعمه فعرفها قال : فما عملت فيها ؟ قال : ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك , قال : كذبت , ولكنك فعلت ليقال : هو جواد , فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه , حتى ألقى فى النار " .

انظر كيف سعرت جهنم بهؤلاء الثلاثة بعد ما سحبوا على وجوههم إليها , إنه – والله – شىء مخيف .. شىء رهيب .. عالم شهد الله له أنه علّم فقال : علّمت ليقال , ثم يكون أول من يسحب على وجهه إلى جهنم .. عالم معلم .. شيخ داعية .. مشهور مؤثر له أتباع ومع ذلك يدخل جهنم , لأنه فقد الإخلاص لله – سبحانه وتعالى .

وأظن أن ذلك أيضا نتيجة أحادية النظرة , فلعله كان إذا دعى إلى جهاد أو صدقة أو قيام ليل أو مجلس ذكر أو إعانة فقير محتاج , فإنه كان يقول : إننى عالم .. فهدم كل جوانب الدين ظانا أنه يكفيه هذا الجانب الذى هو فيه .. اختل به هذا الجانب أيضا , فهوى به فى هوة سحيقة من جهنم .

ومثله المتصدق : كان يعمل الليل النهار ليحوز المال الذى يتصدق به .. وقصر فى كل جوانب الدين , وإذا ذكرته يقول : أنا أفتح بيوتا وأعول فقراء وأقيت جوعى , إنما أعمل ليقوم بى ناس كثير .. فلما سقط هذا الجانب أيضا ولم يكن له غيره هوى فى بئر جهنم .

فإياك – أخى – أن تغتر بجانب تقوم به , وإنما كن للدين كله – عافانا الله وإياك من اتباع الهوى .

الدين حين يأتى بالأمر , فلابد أن تلتزم به كله فى الحال , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم , وما نهيتكم عنه فانتهوا " [متفق عليه] .

يقول الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله تعالى – فى منظومته فى أصول الفقه وقواعده :

والامر للفور فبادر الزمن الا إذا دل دليل فاسمعن

" ومعنى هذا أن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم إذا أمرا بشىء فإنه للفور , يعنى يجب على الانسان أن يفعله فورا من حين أن يوجد سبب الوجود ويكون قادرا على ذلك . " فبادر الزمن " يعنى أن الزمن يمضى ويمشى , فبادر قبل أن يفوت . والدليل على ذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه عام الحديبية أن يحلقوا ويحلقوا , ولكنهم تأخروا رجاء أن يحدث لهم نسخ , فغضب النبى صلى الله عليه وسلم لذلك . فكان هذا دليلا على أن الأمر المطلق يكون للفور , ولو أننا قلنا : يجوز التأخير لتراكمت المأمورات وكثرت وعجز الإنسان عنها " .

فاذا اتتزمت اليوم علي طريق الله , فلابد ان تنتهي عن التدخين في نفس اللحظة التي التزمت فيها.. ليس بالتدريج .. فلاتقل : اليوم ادخن عشر سجائروغداخمسا وهكذا حتي اقلع .. لا.. ولاتقولي- ايتها الاخت المتبرجة - : اليوم سأترك " التزين " وبعد ذلك ألبس ملابس طويلة , ثم أغطى شعرى وأربط رقبتى ثم أرتدى بعد ذلك الحجاب .. لا .. فالأمر دين .. اليوم التزمت وتبت إلى الله فالبسى حجابك الشرعى , وسيرى على طريق الله , وانتهت القضية .

أحد الإخوة أراد أن يلعب تنسا , فذهب الى المدرب وقال له : ما المطلوب فى لعب التنس , فقال له المدرب : مضرب تنس و " كاب " أبيض وفانلة بيضاء و " شورت " أبيض وجورب أبيض و " بوت " أبيض .. فقال له الاخ : لا يصح التنس الا بهذا اللبس ؟ قال له : نعم , لا يكون التنس الا بهذا الشكل .. فذهب الاخ وأحضر اللبس , فأتى وهو يحمل المضرب فقابله أحد من يعرفه فقال له : أتلعب تنسا ؟!! .. لماذا تلعب ؟! .. فانظر الى تعجب الناس منه .. لأنهم يظنون فى الاصل أنه رجل دين لا يلعب ولا يلهو !!

الشاهد من هذا الموقف : أن من يريد الدين فلابد أن يلبس " دين " .. قال المدرب : لا يصح التنس الا بهذا الشكل , وأقول لك : لا يصح الدين الا إذا التزمت به كليا . فإذا أردت السير فى طريق الله فلابد أن يكون شكلك بالدين , وحياتك بالدين , لتكون من أهل الدين الفائزين بالوصول الى الله .

فإذا دخل أحد بيتك يعلم من أول وهلة ومن أول نظرة : أنك رجل دين , فعش بالدين وللدين وعلى الدين .. إن الناس اليوم – إخوتاه – لا يلعبون التنس , بل يلعبون بالدين , فأمسك على الدين ولا تلعب به , فالدين ليس تهريجا . إنه حق جد حق , وما هو بالهزل .

فإذا أردت أن تغنى فلا تغن باسم الدين .. إذا أردت أن تلعب فالعب بعيدا عن الدين , ولا تلبس على الناس دينهم بهواك , فتأخذ من الدين ما يعجبك وتترك ما يخالف هواك .. إذا أردت أن تدخل فى الدين وإذا أردت أن تكون من أهله , فالشرط أن تتمسك بالكل .. فلا تتجاهل جانبا واحدا من جوانب الدين . الرسول صلى الله عليه وسلم لما رجع من الطائف وجلس بمكة بدأ يعرض نفسه , أى يعرض الدين على القبائل , فيقول لهم : " قولوا : لا إله إلا الله تفلحوا " , كما كان يعرضه عليهم قبل الطائف , ولكن العرض بعد الطائف كان عرضا للحماية فكان صلى الله عليه وسلم يقول : " هل من رجل يحملنى إلى قومه فيمنعنى ( أى يحمينى ) كى أبلغ رسالة ربى , فإن قريشا قد منعتنى أن أبلغ رسالة ربى " . نعم : كان يطلب الحماية من القبائل العربية , فأتى بنى عامر بن صعصاع , فعرض عليهم نفسه , فقام رجل منهم يقال له : بحيرة بن فراس فقال : والله لو أنى أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب , ثم قال له : أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك , ثم أظهرك الله على من خالفك , أيكون لنا الامر من بعدك ؟ .. يقصد : نحن معك , ولكن عندما تموت سأكون أنا الرئيس المطاع , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء " .. ومعنى هذا الكلام : أنك إذا أردت أن تدخل فى الدين فلا تشترط على الملك .. أنت عبد .. فالرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يعلمه ويعلمنا : أنك تبايعنى وتحمينى لتعبد ربك .. تبايعنى وتحمينى لأجل الجنة , لا لشىء من الدنيا .

بعض الشباب يلتزم حتى يعطيه الله المال وغيره .. لا .. قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " إن الأمر لله يضعه حيث يشاء " .. لذلك تجد بعض الناس يعيشون الدين بالغش , يدخلون الى الالتزام من أجل مصالح دنيوية . فإن كنت قد فعلت , فصحح نيتك , يصحح الله لك عملك .

إن من عادتنا أن نذهب إلى المستشفيات فنأخذ معنا عسلا .. نصف كيلو عسلا , وكتاب " حصن المسلم " , والمصحف للمرضى – اللهم اشف مرضى المسلمين - , فيكون الكتاب والسنة والشفاء .. نعطى للمريض هذه الثلاث , فنأتيه بعد أسبوعين فنجده قد التحى , فيقول : ها أنا ذا قد التحيت , وكأنه يرضينا , لا , بل , قل : التحيت من أجل الله ليشفينى .. ادخل الدين من أجل الله .. ادخله وأنت قوى معافى .. ادخله برضاك , بدلا من أن تدخله وأنت مبتلى مقهور .

الشاهد : أن الرسول صلى الله عليه وسلم عرض نفسه على مجلس فيه السكينة والوقار , فدخل سيدنا أبوبكر فقال : ممن القوم ؟ فقالوا : شيبان بن ثعلبة , فالتفت أبوبكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له : بأبى أنت وأمى , هؤلاء فرد فى قومهم , فقال أبوبكر : كيف المنعة فيكم ؟ قالوا : علينا الجد والجهد ولكل قوم جد – كلام جميل - , فقالوا له : إلام تدعو يا أخا قريش ؟ قال : " أدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله " , فقالوا : وإلام تدعو أيضا يا أخا قريش ؟ قال : " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم " ( الأنعام : 151 ) , وإلام تدعو أيضا , قال : " إن الله يأمر بالعدل والإحسان " ( النحل : 90 ) , فقالوا : دعوت يا أخا قريش والله إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال , ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك .

قال أحدهم : ولكن – ما زلت أقول : إن آفة الناس كلمة " ولكن " – أنا أرى : إن تركنا ديننا واتبعناك على دينك على مجلس واحد جلسته إلينا , فإنه لوهن فى الرأى , وسوء نظر فى العاقبة .. إنما تكون الذلة مع العجلة , وإن من ورائنا قوما نكره أن نعقد عليهم عقدا , ولكن نرجع وترجع , وننظر فتنظر .. لا .. الدين ليس هكذا .. الدين ليس فيه أصلّى أم لا ؟ .. ولا ألتحى أم لا ؟ وليس فيه تنتقبين أم لا ؟ .. الدين قرار على وفق ما يريد المولى .

فقام رجل منهم هو المثنى بن حارثة فقال : إنما نحن نزلنا بين سريان اليمامة والسماوة , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فما هذا السريان ؟ " , فقال المثنى : أنهار كسرى ومياه العرب .. فأما ما كان من أنهار كسرى فذنب صاحبه غير مفغور وعذره غير مقبول .. يعنى : أننا لسنا نقدر على كسرى .. وأما ما كان من مياه العرب فذنبه مغفور وعذره مقبول .. وإنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى : ألا نحدث حدثا ولا نأوى محدثا , إن هذا الأمر تكرهه الملوك .. ما هذا الدين الذى جئت به ؟ .. وإنا نرى أن هذا الأمر تكرهه الملوك . فإن أحببت أن نؤويك وننصرك ممن يلى مياه العرب فعلنا , أما من كسرى أو قيصر فلا , فلسنا نحتمل الوقوف فى وجه هؤلاء .. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أسأتم الرد إذ أفصحتم بالصدق , وإن دين الله لن ينصره إلا من أحاطه من جميع جوانبه " .

يا لله !.. انظر ماذا قال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .. فن الدعوة .. قال له : إنك رجل طيب .. أثنى عليه .. فقال : " إذ أفصحتم بالصدق " .. هذه الكلمة لها أثر كبير جدا فى الدعوة .

ولذلك حينما يأتينى أخ ويقول : أنا أوجه أبى إلى عدم التفرج على التلفاز , أقول له : لا .. ليس الامر بهذه الصورة .. أنا أريدك أن تدخل على أبيك وتقول له : ما شاء الله .. وتقبل يده وتقول له : نعم الأب أنت ! , فأنت من أفاضل الناس , الحمد لله أن لى أبا مثلك , لكن يا ليتك تبتعد عن التلفاز .. فإنه لا يليق بأهل العلم والأدب والفضل الجلوس أمامه .. نعم .. امدحه بما فيه .. وهكذا يكون الدين , وهكذا تكون الدعوة .. باللين والرحمة والادب .. فافهم الدين . قل له : والله يا أبى لا أرى أحدا يحافظ على صلاة الفجر مثلك , فجزاك الله خيرا .. أنت رجل طيب , وأنا لم أر أحدا يكرم إخوانه مثلك .. أراك من أهل الحق , فتعطى الاجير حقه , فلا تظلم أحدا .

والله يا أبى انا أحبك فى الله , لأنى طوال عمرى ما سمعتك تكذب أو تشتم .. أخى فى الله , امدح أباك بما فيه تكسب قلبه ويحب الدين .. ادعه بأدب , لإذا أغلظ معك القول فقال مثلا : اخرج خارج البيت , أو قال : أتمثل علىّ .. فقل له بأدب ورحمة كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " ما أسأتم الرد , إذ أفصحتم بالصدق .. ولكن هذا الدين لن ينصره إلا من أحاطه من جميع جوانبه " .

إخوتاه , إننا نضيق بمن ندعوهم , لأننا لم نفهم الدين .. لأننا متضايقون ومهمومون , أو قل : عاصون .. يأتينى أحدهم مهموما مخنوقا .. مالك ؟! , يقول : روحى تكاد أن تخرج , أقول له : هل تحتاج إلى مال ؟ .. لا .. المال كثير , هل زوجتك أغضبتك ؟.. لا .. يا ليت كل النساء مثل زوجتى , أولادك ؟ .. الحمد لله حالهم حسنة .. تحتاج إلى عمل ؟ ! .. لا .. كل شىء على ما يرام .. إذا ما الامر ؟ , يقول : لا أعرف , فأنا مخنوق ومتعب .. أقول له : تعال , افتح صدرك لى وقل لى .

يقول : والله لا أعرف , ولو كنت أعرف لقلت لك .. ليس هناك سبب واضح للضيق الذى انا فيه الآن .. وأحيانا يقول هذا الكلام أخ ملتزم .. لقد كان حالى قبل أن التزم أحسن من هذا , فكنت لا أعصى الله بهذه الطريقة , ماذا جرى بعد الالتزام ؟ !!

إخوتاه , إليكم السر .. السر فى الضيق والهم والغم هو المعصية الكبيرة التى تعملها وتصر عليها فتسبب لك الوحشة ..يقول ابن القيم فى كتاب " الداء والدواء " : " إن المعصية توقع بين العبد وبين الله وحشة , فإن زادت استحكمت تلك الوحشة " اهـ .

إذا زادت المعصية زادت فى المسافة بينه وبين أقرب الناس إليه .

فترى هذا الذى استحكمت عليه الوحشة إذا قال له أحد : مالك ؟ , يقول : لا أريد أحدا أن يقول لى : مالك ! , وإذا سأل عنه أصحابه , قال : قولوا لهم ليس موجودا , فإذا استحكمت الوحشة أكثر وقعت بينه وبين نفسه .

يقول العلماء : وقد تقتل هذه الوحشة إن زادت .. نعم : قد يموت بسببها .. فسر الوحشة معصية , وأخطر المعاصى معصية السر , أن تعصى ربك ولا يراك غيره , لأنك ساعتها تحذر أن يراك الناس ولا تحذر أن يراك الله , تخاف من الناس ولا تخاف من الله .

إذا فقد يكون هناك جانب من الدين متهدم فى حياتك هو هذا الجانب " المعصية فى السر " .. والذى يسبب لك الوحشة .

وقد يكون هذا الجانب هو أنك هاجر للقرآن , فلا تحفظ ولا تراجع ولا تتلو .. هاجر بالكلية .. وقراءة القرآن للتعبد سنة مستحبة , ولكن هدمها هدم للدين .. وقد يكون الجانب المنهدم من دينك هو عدم صلتك للرحم أو عدم برك بوالديك , وقد تكون اللحية .

أرى بعض الملتزمين اليوم بدون لحية .. هل هى غير مهمة ؟! .. اللحية فرض , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعفوا اللحى " [متفق عليه] .. " أرخوا اللحى " [أخرجه مسلم] .. " وفروا اللحى " [أخرجه البخارى] .. بالامر .. وإذا تعللت بالمشكلات , فقد تخدعنى ولكن أبدا لن تخدع الله .. لا .. اللحية فرض .

وقد يكون الجانب الذى هدمته من الدين : الصلاة .. فى بعض الاحيان أكون ذاهبا الى الدرس ونتأخر فى الطريق , فأصلى المغرب فى أى مسجد فأجد الامام ينقرها فى دقيقة وكنت أصلى أنا وصاحب لى والامام , فقال الامام : الله أكبر , سمع الله لمن حمده , السلام عليكم ورحمة الله .. هكذا .. كلام سريع متلاحق , وبعد أن انتهيت لحقت به وانا لا أتمالك نفسى فقلت له : هذه الصلاة لا أستطيع أن أمرها هكذا .. لا أستطيع أن يمر علىّ مغرب بهذه الصورة .. إذا سأعيده .

وأنا لا أقول : إن صلاة الرجل باطلة , ولكنى أنا لم أصل .. أنا أريد أن أتذوق الصلاة .. أريد أن أتمتع .. أريد ان أصلى لأتشرب معانى الصلاة فتؤثر فى قلبى .. ليس بسرعة .

قد يكون المسجد الذى بجوار بيتك صلاته كصلاة هذا الرجل , وأنت تصل كل يوم بهذا الشكل , وتقول : ماذا أصنع ؟! , أقول : يا أخى , المساجد كثيرة – اللهم زد بيوتك فى الارض - , فلا يخلو شارع من مسجد أو اثنين أو ثلاثة , ستقول صلاتهم سريعة أيضا , أقول : ابحث عن مسجد قريب يطمئن فيه قلبك للصلاة .. لبحث ولن تعدم مسجدا إمامه حريص على السنة .

لقد كان بجوارنا مسجد يقولون عنه : " المجرى " .. فالمؤذن يؤذن ويظل واقفا ثم يقيم الصلاة , والامام خلفه واقف , فتصلى وراءه وكأنك لم تصل , إذا فكن حريصا على صلاة تنفعك أمام الله .. صلاة تغذى قلبك بالايمان .. صلاة تسد جوعك الروحى .. فقد تكون الصلاة هى الجانب المنهدم فى حياتك الذى يسبب لك الوحشة .

أخى فى الله , ابحث عن الجانب أو الجوانب التى هدمتها فى دينك وسدها .. أقم جوانب الدين تزل عنك الوحشة .. لا تهمل جانبا واحدا من جوانب الدين .. فالدين كل .. قال - تعالى – " يا أيها الذين آمنوا ادخلوا فى السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين * فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم * هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله فى ظلل من الغمام والملائكة وقضى الأمر وإلى الله ترجع الأمور " ( البقرة : 208 – 210 )

فلابد أن تأخذ الدين كله .. وإياك أن تتمسك بجزئية فيه وتترك الباقى .. فبالكل لا بالجزء بإذن الله تصل .

* * *

الأصل الثالث والعشرون : أنجز كل يوم شيئا جديدا

الأصل الثالث والعشرون : أنجز كل يوم شيئا جديدا

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الإيمان ليخلق فى جوف أحدكم كما يخلق الثوب , فاسألوا الله أن يجدد الإيمان فى قلوبكم " [صححه الألبانى] .. اللهم جدد الإيمان فى قلوبنا .. كيف تجدد الإيمان فى قلبك ؟ .. أن تعمل كل يوم عملا جديدا , وذلك لأن أصل اعتقادنا أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص , يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصى .

بعض الناس بعد فترة من الالتزام يرقد ويقعد وينام .. يقف ويتعطل .. يتدهور حاله فلا يكون لديه جديد .. إن ديننا – أيها الإخوة – أبدا لا ينتهى جدته فدوما هناك جديد لم تعمله .

لقد كنت أتكلم مرة مع الإخوة عن الجديد فى الالتزام فقلت : إن العلماء يقولون : إن الأكسجين المخلّق حديثا فى المعمل أكثر اشتعالا من الاكسجين الموجود فى الجو .. فما السبب ؟ , قالوا : لأنه جديد .. وكذلك الالتزام الجديد يكون فيه انطلاقة وحيوية وإيمانيات عالية ثم بعد ذلك يقدم ويضعف ويخفت .

ولذا يحتاج منك دوما إلى تجديد .. بأن يكون كل يوم فى حياتك مختلفا عن سابقه ولاحقه .. فكل يوم له لون جديد فى الطاعة .. فلا تمل ولا تفتر , وتشعر دائما بالإيمان .

ولا تقل : إن الدين ستنتهى أعماله .. لا .. فالاعمال فى ديننا كثيرة ومتنوعة , والطاعة ليس لها حدود .. فأنجز كل يوم شيئا جديدا بشرط أن تقوم به على أحسن وجه .

ابدأ اليوم وقل : اليوم سأضبط الخمس صلوات .. فلن أسمح لذهنى بالشرود .. اليوم تحد .. سأتحدى اليوم شيطان الصلاة " خنذب " .. اليوم سأقرأ فى الخمس صلوات سورا جديدة لم أقرأها من قبل .. بعض الناس فى كل صلواته لا يقرأ إلا بسورتين قصيرتين ويظل معهما شهورا , ولذلك يشرد فلا يعيش الصلاة . لأنه يصلى ( أتوماتيك ) صلاة مكررة .

يوم آخر , تقول : أذكار الصلاة سأقولها اليوم بقلبى وبدموع عينى .. يوم آخر : سأتدبر اليوم صفحة جديدة من القرآن , وسأظل أغرس معانيها فى قلبى طوال اليوم .. وهكذا .. كل يوم شىء جديد .

سبحان الله العظيم .. حديث فى " صحيح مسلم " أعرفه , قرأته وكأنى أقرأه لأول مرة فى حياتى .. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من غازية تغزو فى سبيل الله فيصيبون غنيمة إلا تعجلوا ثلثى أجرهم من الآخرة , ويبقى لهم الثلث , وإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم " [أخرجه مسلم] .

ومعنى ذلك : " أن الغزاة إذا سلموا أو غنموا يكون أجرهم أقل من أجر من لم يسلم , أو سلم ولم يغنم , وأن الغنيمة هى فى مقابلة جزء من أجر غزوهم , فإذا حصلت لهم فقد تعجلوا ثلثى أجرهم المترتب على الغزو , وتكون هذه الغنيمة من جملة الأجر " .

إذا فهناك أحاديث كثيرة أنت سمعتها وتعرفها , ولكن عند التدبر والوقوف عندها تشعر بأنها جديدة عليك , فيزيد بها إيمانك .. إذا فبالجديد يزداد الإيمان .

وكذلك هناك آيات من القرآن تقرؤها فتقول : سبحان الله , هذه الآية جديدة علىّ : لم أسمعها من قبل , مع أنك تقرؤها ليل نهار , ولكن لأنك بدأت تتدبر وتفتح قلبك وتقف مع الآيات , فيرزقك الله المعانى الجديدة . آية فى سورة الرعد " وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا فى الآخرة إلا متاع " ( الرعد : 26 ) .. آية جميلة وجديدة , وتردادها وتكرارها وتفهمها يزيد الإيمان ويقويه .. آية – والله – تريح القلب , وتخفف المشاكل , وتزهد فى الدنيا , وتحث على السير إلى الله .

نعـم : نقرأ القرآن كثيرا , ومع ذلك نجد جديدا كلما قرأنا .. ومعانى القرآن لا تنتهى , " قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربى لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربى ولو جئنا بمثله مددا " ( الكهف : 109 ) .. فاقرأ من القرآن آية بنفسها فى أوقات مختلفة وأحوال متغيرة ستخرج كلما قرأت بجديد .. إذا فالجديد كثير .. وما عليك إلا أن تعزم وتجد .

إخوتاه , وحينما تنجزون جديدا وتتمونه على وجهه الأكمل , ستعلمون أنكم كنتم قبل تلعبون , حين تذوقون نعيم الطاعة وطعم الإيمان ولذة الإيمان .. قال الشاعر :

وكنت أظن أن قد تناهى بى الهوى وبلغ بى غاية ليس لى بعدها مذهب

فلمــا تلاقينــا وعــاينت حسنهـــــا علمــت أنــى كنت قبل اليــوم ألعــب

فإذا صليت فصل كما ينبغى , وإذا قرأت القرآن فاقرأه كما ينبغى , وإذا تصدقت فتصدق كما ينبغى .. وإذا قمت الليل أو ذكرت أو حججت أو اعتمرت أو طفت أو سجدت فبحق .. أنجز الجديد فى اليوم الجديد على الوجه الذى ينبغى , لتذوق حلاوة الإيمان .

يقول ابن القيم : " وسعادة المعطى أعظم من سعادة الآخذ " .. نعم : الطاعة بحق لها سعادة وحلاوة ومتعة ولذة .. وهذا هو الدين .. اللهم ارزقنا الالتزام بالدين يا رب .

أخى فى الله , اقرأ اليوم بابا جديدا فى التوحيد , واقرأ غدا فى سيرة النبى صلى الله عليه وسلم , وبعد غد اقرأ فى تفسير آية لم تقرأها من قبل .. وهكذا .. أنجز كل يوم جديدا .. جديدا فى العلم .. أو جديدا فى العبادة .. أو جديدا فى الدعوة إلى الله .

جدد إيمانك يوميا حتى لا تفتر أو تمل فى طريق السير إلى الله .. فالتجديد يدفع الملل ويقوى السير ويحث عليه .. فجدد إيمانك وسل الله ذلك , تصل بإذن الله .. اللهم جدد الإيمان فى قلوبنا يا رب .

* * *

الأصل الرابع والعشرون : كف عن الشكوى وابدأ العلاج

الأصل الرابع والعشرون : كف عن الشكوى وابدأ العلاج

كثير من الناس ليل نهار ليس لهم هم الا الشكوى .. التبرج كثير! .. والفتن ! و.. و.. يقول إسماعيل الهروى : " الزهد فى الدنيا نفض اليدين عن الدنيا ضبطا أو طلبا , وإسكات اللسان عنها مدحا أو ذما , والسلامة منها طلبا أو تركا " .

الشاهد الذى نستخرجه من هذا الكلام المهم : أن الذى يحب الدنيا يتكلم عنها كثيرا ولو بالذم .. كذلك يعد الرجل مفتونا بالنساء إذا أكثر من ذكرهن ولو بالذم , والذى يتكلم عن المال كثيرا ولو بالذم فهو أيضا مفتون .. ومن هنا فالذى يشتكى كثيرا فمفتون , قال الملك العليم – سبحانه – فى آية من الآيات الفاضحة : " ومنهم من يقول ائذن لى ولا تفتنى ألا فى الفتنة سقطوا " ( التوبة : 49 ) .

تجد أحدهم يقول : لا أريد أن أذهب إلى الدرس الفلانى لأن هناك نساء وأنا ضعيف !! .. يا مفتون .. تقول له : اخطب الجمعة فيقول لك : أخاف من الرياء ! .. مفتون .. عجبا لك ! , طوال الوقت تتكلم وتقول : حلال وحرام , ونصبت نفسك شيخا , لماذا عند تحمل المسئولية تخاف من الرياء ؟!! .. اللهم ثبتنا على الإيمان وارزقنا الإخلاص .

الإمام مالك كان إذا أعطى موعظة بكى وقال : " يحسبون أن عينى تقر بكلامى , كيف وأنا أعلم أن الله سائلى عنه يوم القيامة ماذا أردت به " ..

إخوتى فى الله , هل تظنون أنى أفرح حينما أقول درسا أو أخطب جمعة ؟! .. هل يوم القيامة ستكونون جالسين أمامى بهذه الصورة ؟!! .. إن ربى سيسألنى : تحركت من هنا إلى مصر الجديدة لتعظ , لماذا ؟ لأجل الناس أم لأجلى ؟ , فماذا أقول له ؟! .. اللهم ارزقنا الإخلاص واجعلنا من أهله .

كف عن الشكوى وابدأ العلاج .. تجد بعض الناس يشكو من الوسوسة وليس به شىء , ولكنه يظل يقول : الوسوسة .. الوسوسة .. حتى يوسوس فعلا .. بسبب كثرة شكواه .. يظل يشكو : النساء .. النساء , فيقع فى الفتنة , ولو كف عن الشكوى وبدأ فى العلاج , لكفاه الله هذه الفتنة .

إن مصيبة كثير من الإخوة أنهم مشغولون بالزواج .. فترى الواحد منهم يمشى فى الشارع فيقول فى نفسه : أتزوج هذه أم هذه ؟ .. لا , بل هذه .. لا لا بل مثل هذه ... إذا أردت الراحة فارفع هذا الموضوع عن تفكيرك , وعش حياتك الإيمانية كما ينبغى , ووقت أن تقرر الزواج تزوج فى نفس اللحظة .. أما أن تعيش هكذا , مشتت الفكر , تشتكى دوما من هذه القضية , فلن تنجو من الفتن أبدا .. فأرح دماغك الآن عن هم الزواج طالما أن ظروفك الإيمانية والحياتية لا تسمح ..

هذا هو الحل للفتنة : عدم الشكوى وعدم الهم وعدم الضيق والمرض بسببها .

بعض الناس يقول : المال .. ما لنا وللمال , المال دنيا , فكلامه المتكرر هذا عن المال دليل على أنه مفتون بالمال وبالدنيا , وفرق بين من يشكو ليعان وبين من يشكو ليتهرب .

سيدنا موسى – عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام – لما قال له ربه : " اذهب إلى فرعون إنه طغى " ( النازعات : 17 ) , " قال رب إنى قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون * وأخى هارون هو أفصح منى لسانا فأرسله معى ردءا يصدقنى إنى أخاف أن يكذبون " ( القصص : 33 – 34 ) .. اشتكى , ولكنه طلب العون فاعين .. أعانه الله ووهب هارون النبوة وهذه من البركات أن يرزق أحد النبوة قال موسى : يا رب , وأخى , فقال – سبحانه - : وأخوك .

ولذا أريد منك حينما يرزقك الله الالتزام .. أريدك أن تقول : يا رب , وأخى .. يا رب , وأبى .. يا رب , وأمى .. يا رب , وأختى .. يا رب , وجارى .. ادع الله أن يهديهم وانشغل بإصلاحهم بدلا من أن تظل تشكوهم وتشتكى منهم فتكرههم ويكرهوك .. ادع الله لهم وكف عن الشكوى , لينجيهم كما نجاك .

الرسول صلى الله عليه وسلم لما قيل له : نطبق عليهم الأخشبين ؟ , قال : " لعل الله يخرج من أصلابهم من يوحد الله " [متفق عليه] .. خرج وتعب واستفرغ وسعه ..

فليس همنا أن يحرق الله الكفار , وإنما همنا أن يهديهم , فما بالك بأهلك الذين تشكوهم .. اللهم اهد المسمين وغير المسلمين .

أيها الإخوة , كفوا عن الشكوى وابدأوا العلاج .. كفاكم شكاوى .. أنا لا أستطيع القيام للفجر , ولا أقدر على الدعوة , ولا أقدر على كذا , ولا أستطيع كذا .. طالما تشتكى فلن تقوم ولن تقدر ولن تستطيع .

الرسول صلى الله عليه وسلم لما جاءه الرجل الموسوس وقال له : إن أحدنا ليجد فى نفسه ما يتعاظم أن يتكلم به , قال : " الحمد لله الذى رد كيده إلى الوسوسة , إذا وجد أحد منكم ذلك فليقل : آمنت بالله ورسوله , وليستعذ بالله ثلاثا ولينته " [صححه الألبانى] , " ولينته " : أى لا يفكر فيها مرة ثانية .

" الحمد لله الذى رد كيده إلى الوسوسة " .. أى إن الشيطان حينما ييأس , ويخيب فى إغواء الرجل , لا يجد شيئا يكيد به سوى هذه الوسوسة فهى سلاحه الضعيف ولذا قال النبى صلى الله عليه وسلم : " الحمد لله " .

وقد قال صلى الله عليه وسلم أيضا فى قطع الوساوس : " اتفل عن يسارك ثلاثا وقل : اللهم ربى لا شريك له " [أخرجه أحمد وابن حبان فى صحيحه] .

اتفل على الشيطان , فهذا احتقار له وازدراء وإهانة , حتى لا يأتيك مرة ثانية .. ولا تعبأ به , وإنما انشغل بالله وحده فقل : الله ربى لا شريك له .. ثم انته عن ذلك , أى : لا تتكلم ولا تسأل أحدا ولا تقرأ عن هذه المسألة ولا تبحث عنها , وإنما انته , لتنقطع الوساوس .

إذا فالعلاج فى أربعة أمور :

1 – قل : آمنت بالله ورسوله .

2 – استعذ بالله من الشيطان الرجيم .

3 – اتفل عن شمالك ثلاثا .

4 – اسكت .. التزم الصمت .. لا تشتك .. انته .. أغلق هذا الباب تماما .

كثير من الشباب يقول : أبى يعمل كذا وكذا , وأمى تقوم بكذا وكذا .. وأختى .. وأخى .. والمسجد فيه كذا , والامام يفعل كذا .. والشيخ قال كذا .. ويظل يشتكى .. ارحم نفسك , ولا تكثر الشكوى .. لا تكثر الشكوى , وإنما اسكت .. اصمت لتستريح وتريح الناس من همك ومشاكلك , فالناس بهم ما يكفيهم , وإنما الراضى منهم من أرضاه الله , فارض بالله واشك همومك إليه وحده يكفيك ما أهمك فهو – سبحانه – يعلم حالك .

إخوتاه , إن الذين يشكون الواقع لن يغيروه مطلقا , بل ولن يتغيروا هم أيضا , سيظلون هكذا فى وحل الفتنة يقاسون المرارة والكرب طالما لم يبدأوا العلاج من عند أنفسهم .

إن الوصول إلى الله – أحبتى فى الله – يحتاج منا ألا نقف أمام المشاكل والهموم مكتوفى الأيدى , واضعين أيدينا على خدودنا نشتكى إلى كل رائح وغاد , بل لابد من التحرك والعلاج .. فعاهد نفسك – أخى فى الله – من الآن ألا تشتكى مطلقا .. كف عن الشكوى وابدأ العلاج , ليعينك الله على الوصول إليه .

* * *

الأصل الخامس والعشرون : ليس الشأن أن تحبه , إنما الشأن أن يحبك

الأصل الخامس والعشرون : ليس الشأن أن تحبه , إنما الشأن أن يحبك

فهل يحبك الله ؟

إخوتى فى الله , والذى فلق الحبة وبرأ النسمة إنى أحبكم فى الله , وأسأل الله جل جلاله أن يجمعنا بهذا الحب فى ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله .. أحبتى فى الله , الحب .. حب الله .. اللهم ارزقنا حبك وحب كل عبد صالح يحبك , وحب كل عمل صالح يقربنا إلى حبك , اللهم اجعل حبك أحب إلينا من أهلينا وأنفسنا ومن الماء البارد على الظمأ .

أحبتى فى الله , يذكر ابن القيم أن الدنيا لا تقوم إلا على الحب , فكل حركة وسكنة فى الحياة إنما الدافع عليها الحب , وأصل الحب حب الله .. وليست القضية أن تعزم وتظل الليل والنعار تقول :

أحبك , وإنما الشأن أن يحبك هو , ولذلك اختار الله قوما , قدم حبه على حبهم , قال جل جلاله :

" يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه " ( المائدة : 54 ) , فقدم حبه على حبهم له , فهو - سبحانه – أحبهم وبحبه لهم أحبوه , ولذلك فإن الأصل فى هذه القضية – أيها الأخ الكريم - : هل يحبك الله ؟!!

هذا هو السؤال .. الله يحبك أم لا ؟ سؤال يحتاج منك فعلا إلى إجابة .. هل تصلح ؟ .. هل تستحق ؟!

مثال : لو قالوا : إن الممثلة الفلانية تحبك , فنراك تقول لأحد الناس : فلانة تحبنى , فينظر إليك متعجبا ويقول لك : تحبك أنت !! بماذا ؟ , وعلى أى شىء تحبك ؟!! , ومن أنت ؟! .. " وله المثل الأعلى فى السموات والأرض وهو العزيز الحكيم " ( الروم : 27 ) . فلو كنت جالسا مع الناس وقلت : إن الله يحبنى , سنقول لك أيضا : وعلى أى شىء يحبك , ولم يحبك ؟ وبماذا يحبك ؟ ومن أنت حتى يحبك ؟! .. الله الكبير .. الله العظيم .. الله الجليل .. الله الملك المتعال يحبك أنت ؟!! .. ماذا فيك يحب لأجل أن يحبك الله ؟!!

سهل جدا أن تقول : أحبه , ولكن من الصعب أن تقول : يحبنى ..

وإذا قلت : نعم يحبنى , فما طلبت منه شيئا إلا وأعطانيه , أقول لك : ليس شرطا .. فقد أعطى الكفار ما يريدون , فهل معنى ذلك أنه يحبهم ؟! القضية إذا خطيرة , والكلام فيها وعنها أيضا خطير .

ويستدل ابن القيم – رحمه الله – لذلك فيقول : كيف وقد أعطى أبغض خلقه عنده .. يعنى : أن إبليس لما سأله الإنظار أعطاه له .." قال أنظرنى إلى يوم يبعثون * قال إنك من المنظرين " ( الأعراف : 14 – 15 ) .. إبليس طلب فأعطاه الله فهل يحبه ؟! .. لا .. فليس شرطا فى الإعطاء أن يحبك .. قد يعطيك لأنه يكرهك .. لا يريدك .. خذ ولا أريد أن أسمع صوتك ..ولذلك فإن من الاصول المهمة : تمام الخذلان انشغال العبد بالنعمة عن المنعم .

هل يحبك الله , وهل تحب الله ؟.. نعم : أحبه , إذا فما الدليل ؟.. إن أى ولد ممن يجلسون على النواصى فيواعد البنت الفلانية , تجده وهو ذاهب لمقابلتها فى أحسن شكل , وقلبه يرفرف , ويكاد يطير فرحا .. فهل وانت قادم إلى الصلاة يرفرف قلبك فرحا لملاقاة ربك ؟!! .. إن لم يكن فاعلم أنك لا تحبه .. هذا كلام منطقى .. إذا لم تكن سعيدا بلقاء الله , وانت فى بيت الله , ومع الله فأنت لا تحبه .

ولذلك فإن من ادعى محبة الله ثم مال بلقبه إلى الدنيا فهو كذاب .. نعم : إذا لم يرفرف قلبك بحبه فأنت كذاب .. , المشكلة فى أن تحبه , المشكلة فى أن يحبك – الله أحبنا يا رب - , إذا أحبك نلت السعادة والوصول .

يقول ابن القيم : " فهى محبة تقطع الوساوس , وتلذذ الخدمة , وتسلى عن المصائب " ..

فإذا أحبك انقطعت عنك الوساوس .. كثير من الشباب الملتزم اليوم مبتلى بالوسوسة .. نعم : لأنه لا يحب الله , ولو أحبه لانقطعت عنه الوساوس .. وسبب آخر هو : أن الموسوس دائما يسأل عن الوساوس ويشتكى منها – كما قلنا فى الأصل السابق .. اللهم إنا نسألك أن تعافى كل مبتلى مسلم .

أخى فى الله , لا يوسوس إلا فارغ , أما الذى قلبه ملآن ودماغه مشغول ففبم يوسوس ؟ ! , فهو منشغل بعيدا عن هذه الوساوس .. أنه مشغول بالله وبحب الله .

وحين يحبك الله يملأ قلبك بحبه فلا تنشغل بغيره – اللهم أحبنا يا رب - , فتجد نفسك مشغولا ليلا ونهارا به – سبحانه وتعالى .. ليس لك هم إلا الله سبحانه وتعالى والوصول إلبه , ونيل رضاه , فتعمل لخدمته , فتظل مشغولا به – سبحانه – وحده طيلة الوقت وطيلة العمر .

نعم : إذا أحبك شغل قلبك بحبه , وجوارحك بخدمته , وعقلك بالفكر فيه , ثم لا تجد فى نفسك بقية لغيره .. أول شىء فى الحب أن المحبة تقطع الوساوس .. اللهم ارزقنا حبك يا رب .

ثم إن الحب يلذذ الخدمة .. أحد إخواننا ذهب ليعتمر فكان يوم بخدمة المعتمرين .. أسأل الله أن يتقبل منا ومنكم ومنه .. اللهم ارزقنا الحج والعمرة .. قلت له : اجعل قلبك – وانت تخدم إخوانك – مشغولا بالله .. واستشعر نظره إليك , لتزداد تلذذا وحبا فى الخدمة .

أخى فى الله , لو أنك أتيت برجل يشتغل عندك ليدهن لك هذه المكتبة مثلا وانت واقف خلفه , فسيظل يعمل بحذر وجد . فاجعل هذا إحساسك .. المراقبة .. واقف أنت امام حبيبك فهو ناظرك .. حبيبك الذى تشتغل له وتعمل له , استشعر مراقبته لك دائما , ساعتها ستعمل بحب وتلذذ , ليس على خوف وفقط , بل بحب , لأن حبيبك يراك , والمحب يحب أن يراه حبيبه دوما وهو يعمل له .

صليت مرة بالناس فأطلت الصلاة وقلت لهم : إن الناقد بصير ( أعنى : أن الله ناظرنا ) .. ومررنا مرة على " استرجى " وقدامه الطقم " انتريه " وهو جالس يدهنه .. يمسك بالقطنة والريشة .. قلنا : ما لك لا تنتهى ؟! , قال : إن صاحب الطقم يدقق جدا فى كل شىء .. أفهمت ؟ !

ولذلك فإذا صليت فاعلم أن الله ينصب وجهه إلى وجهك فى صلاتك ما لم تلتفت .. إذا قمت للصلاة فاعلم أن الله ينظر إليك ويطالعك .. ولذلك كان الواحد من السلف إذا توضا اصفر لونه , وارتعش جلده , يقولون له : ما لك ؟! , يقول : أتدرون بين يدى من سأقف ؟!!!

ولذلك فإن من الاصول المهمة أيضا : الاستحضار الذهنى للعبادات قبل الدخول فيها , سبيل الاخلاص فيها .

أيها الاخ الكريم , الحب تلذذ الخدمة .. نعم : يلذذ الحب الخدمة .. تكون الخدمة لذيذة جدا .. قال أمير الشعراء عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم متلذذا له :

رضيّة نفسه لا تشتكى سأما وما مع الحب إن أخلصت من سأم

بكى أحد السلف عند موته , قيل : ما يبكيك ؟ , قال : " أبكى لأننى أموت ولم أشتف من قيام الليل " .. أبكى لأنى أموت ولم أشبع من قيام الليل .

وكان بعض السلف يقول عند موته : " اللهم إن كنت كتبت لأحد أن يصلى فى قبره فاجعلنى ممن يصلى فى قبره " .. لم يشبع من الصلاة ويريد أن يصلى أكثر .. قالوا هذا , لأنهم أحبوا الله , فاستحضروا العبادات ذهنيا .. اشتغلوا فى العبادات بمحبة , فانقطعت عنهم الوساوس وتلذذوا بالخدمة , وتسلوا بتلك المحبة عن كل المصائب والمتاعب .

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" وجعلت قرة عينى فى الصلاة " [قال الألبانى حسن صحيح] .. هذه هى اللذة الحقيقية , وهذا هو التلذذ فى الخدمة بحق .. فهل أحببت ربك فعشت هذا النعيم ؟ .. هل أحسست بحلاوة الحب ومتعته ولذته وجماله بعد أن كنت فى جاهلية ؟ ..

كنت تأكل وتشرب وتهرج وتمشى مع البنات وتسمع الموسيقى وتدخل السينما وتذهب إلى المسرح وتدخل الملاهى وتسافر تصيف على البحر .. كنت فى جهل .. فى ضلال .. فى جاهلية عمياء , وتاب الله عليك ودخلت باب المسجد وبدأت تحب الله .. بدأت تحبه بعد حب البنات .. تحب المصحف بعد الموسيقى والاغانى .. بدات تصلى بعد الجلوس على المقاهى و" الشيشة " .. بدأت تمشى فى طريق الخير بعد ان كنت تمشى تعاكس الفتيات .. فأحسست بالفرق .. وعرفت النظافة وفهمت الطهارة .. فعشت الفرق .. فإذا أحسست بذلك وعشته فلا تستطيع أن تسكت .. لابد أن تنقل أحاسيسك هذه لغيرك .. لابد .

ولكن للأسف الشديد كثير منا حينما يلتزم ويريد ان ينقل أحاسيسه ينقلها بصورة غير لائقة فينفر الناس , ويكرههم فى الدين .. حرام هذا .. حرام .. غلط .. غلط شديد .. تجده يقول للناس : الشيخ الفلانى يحرم كذا وكذا .. فيكرهون الشيخ والدين .. لا .. ليس الأمر أن تتكلم عن غيرك , إنما الامر ان تنقل أحاسيسك انت .. قل لهم : هل تعرفون بماذا أشعر , ثم تنقل إحساسك إليهم .

قل لهم : وأنا ساجد أشعر بكذا , وأنا أقرأ كلام الله أحس بكذا .. حينما أذكر الله فأقول : سبحان الله العظيم وبحمده يمتلأ قلبى راحة واطمئنانا .. وبذلك تصل إلى قلوب الناس , أما إذا لم تحس بما تقول فأنت كذاب فى التزامك ولما تلتزم إلى الآن .. ولذلك أحس الجمال واستشعر حلاوة الايمان وطعم الايمان .. املأ قلبك بالمحبة لتتلذذ بالخدمة , وتتسلى بالمحبة عن المشاكل والهمو م .

ثم إن هذه المحبة تنشا من مطالعة المنة – كما يقول ابن القيم .. روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أحبوا الله لما يغذوكم به , أحبونى بحب الله " [ضعفه الألبانى] .. أحب الله فهو الذى يطعمك وينفق عليك ..

نعم : القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها , فلو أن إنسانا أعطاك اليوم عشرة جنيهات , وغدا أعطاك عشرة أخرى , وبعد غد أعطاك مثلها أيضا .. وهكذا كل يوم يعطيك , وبعد العشرة أعطاك مئة , وبعدها ألفا , ثم مليونا .. وهكذا كل يوم فى زيادة , فلا شك أنك تحبه حبا شديدا , فكيف بك لو كان المعطى هو الله ؟! .. فالله – سبحانه وتعالى – أعطاك ملايين مملينة , فكم تساوى عينك وكم يساوى سمعك .. وكم تساوى الدنيا إن فقدت عينيك ؟ !!

الله – سبحانه وتعالى – أعطاك ولا يزال يعطيك .. فالهواء الذى تتنفسه لو كان النفس منه بعشرة قروش , فكم تدفع كل يوم ؟! .. لو كنت تدفع كما تدفع لعداد الكهرياء أو فاتورة الهاتف , فكم كنت ستدفع مقابل هذا الهواء ؟! .. لو أن الله يحاسبك ويأخذ منك مالا على أنه يمكنك من التكلم والسماع فكم كنت تدفع ؟! .. أنطقك وخلقكم ولا يريد منك شيئا , " قالوا أنطقنا الله الذى أنطق كل شىء "

( فصلت : 21 ) .. اللهم كما أنطقتنا بقدرتك وعظمتك امنن علينا بحبك .. وامنن علينا بمطالعة نعمك لنحبك .. اللهم ارزقنا حبك يا رب .

ماذا كنت تصنع – أخى فى الله – لو كان هناك فاتورة على كل نعمة من هذه النعم ؟!! .. فطالع نعم الله , واشكره عليها , وأحبه من كل قلبك , فلا شك أن من يطالع نعم الله عليه تترى فيراها بقلبه وعينه – لا شك أنه سيذوب حبا فى الله .. فهو سبحانه – يعطيك ولا ينتظر منك شيئا , عكس المخلوق تماما , فالتجار جمعيا يتعاملون معك ليربحوا منك , أما الله : فهو سبحانه – وحده الذى يتاجرمعك لتربح عليه .. يعطيك حين يجد فى قلبك حبا له , فأحببه فهو المعطى .. أحببه ليعطيك .. أحببه ليحبك .

الشاهد : أن المحبة تنبت من مطالعة المنة , قال الله : " فاذكروا آلاء الله " ( الأعراف : 74 ) .. ذكر النعم ينبت المحبة .

والدى – اللهم ارحمه وموتى المسلمين – كان إذا تعب يقول له الناس : مالك ؟ فيقول : الحمد لله , لا تقل مالك ؟ لأن بعض الناس إذا قلت له : مالك ؟ يقول : عندى صداع , والصداع جاءنى بسبب ارتفاع الضغط , وارتفاع الضغط أصله تعب فى المعدة , وسبب ارتفاع النبض ارتفاع النبض ارتفاعا فى درجة الحرارة .. ويظل يعدد وكانه يشتكى ربه للناس .. فوالدى – يرحمه الله – يقصد : أن لا تفتح للناس باب الشكوى , ولكن افتح لهم باب ذكر النعم .

تجد الناس إذا سألتهم : كيف الأخبار ؟ يقولون لك : لبنت مريضة , وزوجتى لا أدرى ماذا بلاها .. ونحن نسكن فى الدور الارضى , والارضى فيه رطوبة , ثم إن الجيران فى وجوهنا فلا نستطيع أن نفتح الشباك , والاطفال يلعبون فى الشارع يزعجوننا .. وهكذا .. شكوى .. شكوى .. فيعيشون يشتكون دوما !!

سبحان الله ! , هل وجدت إنسانا تجلس معه فيقول : عن الله أعطانى .. وأعطانى ؟! .. هل فعلت أنت ؟! .. هل جلست مع الناس مرة وقلت : والله العظيم إن الله أكرمنى .. فقد كنت فقيرا لا أجد لقمة فأعطانى , وأغنانى .. الحمد لله نجانى ولم اكن أستحق .. لم أكن أستاهل , ولكنه – سبحانه – وهبنى زوجة صالحة , وأعطانى شقة , ووهبنى أولادا , وصحتى والحمد لله ممتازة .. الحمد لله الحمد لله عملى هادىء فزملائى يحبوننى .. والفضل لله , والمرتب كاف .. وبفضل الله , الامور على ما يرام .. هل جلس معك أحد فقال لك هذا الكلام ؟!!

انك اليوم فى كل مجالسك تشتكى للناس الصداع والمشاكل والمغص والزوجة والعيال والبيت والشغل والهم والنكد .. رغم ان الله امر بالعكس قال – تعالى – " وأما بنعمة ربك فحدث " ( الضحى : 11 ) .. فأين حديثك بالنعمة ؟! اين حبك ؟! .. الحب ينبت من مطالعة المنة .

كنت مرة اقوم بعمرة – واقول لذلك لاعلمك كيف تعمل – كنت مريضا بعض الشئ ولله الحمد والمنة – فبعد ان طفت وجدت ان رجلى تؤلمنى فلا استطيع ولا اقدر فأجرت كرسيا – ويؤجر هناك بخمسين او بخمسة وخمسين ريالا – لأسعى به .. فإذا بى وأنا عليه مستريح انظر الى الناس فأجد امراة مسكينة لا تقدر على المشى تستند الى سور الصفا والمروة .. فقلت لها وأنا راجع : انتظرى لحظة , تعال يا بنى اعطنى كرسيا , وقلت لها : اركبى قالت : ليس معى مال قلت : انا دفعت قالت : كم انت كريم يارب .. انت ترانى وتعرف حالى واعطيتنى كرسيا .. انا احبك يارب .

فكم تساوى هذة الكلمة – اخواتاه -؟! .. وكم يساوى ان تجعل احدا ينطق بحب الله ؟! .. والله ملايين الدنيا لا تساويها .. ربنا اكرمنى واعطانى كذا وكذا , وعمل لي كذا وكذا , وطلبت منه كذا فوهبنى كذا , وسترنى فى كذا , وعافانى من كذا وكذا .. هكذا يكون التحدث بالنعم , ولايكون كل كلامنا ان نشتكى .. هذا ما اريد ان أؤصله فيكم , واريدكم ان تعملوا به .. ان تجعلوا الناس يحبون الله .

وإذا كانت المحبة تنبت بمطالعة المنة , فإنها تثبت باتباع السنة – اللهم ارزقنا اتباع السنة يارب , اللهم إنا نسألك اتباع السنة وفعل السنة .. نعوذ بك اللهم من البدع واهلها .. المحبة تثبت باتباع السنة .. كن خلف النبى محمد صلى الله عليه وسلم تصل .. كن واحدا لواحد على طريق واحد تصل .. كن شخصا واحدا ليس بوجهين فأخلص .. " لواحد " اى : الزم التوحيد .. على طريق واحد هو اتباع السنة , على طريق النبى محمد صلى الله عليه وسلم تثبت ولا تتلون ولا تتغير ولا تحيد او تتحول .. اثبت على الطريق السنى – اللهم ارزقنا الثبات على الدين .

وتنمو المحبة على الإجابة بالفاقة .. لابد أن تظهر فقرك وضعفك وذلك ومسكنتك بين يدى الله .. بعضنا – يا شباب – يظن أنه " فتوة " .. ما لا يكون بالله لا يكون بغيره , قال - تعالى - : " وما تشاءون الإ أن يشاء الله " ( الإنسان : : 30 ) , ولذلك تنمو المحبة بإظهار الفاقة والضعف والفقر والذل والمسكنة .

شيخ الإسلام ابن تيمية رأى إنسانا يقف تحت حر الشمس حاسر الرأس حافيا , فسأل عنه فقالوا له : إنه نذر أن لا يجلس فى الظل , فقال شيخ الإسلام : " يا جاهل , هذا تقاو على الله " .. أتتقاوى على الله ؟!! .. قال لك الله : البس وتستر واركب , فلماذا تتقاوى عليه ؟!! .. لا تتقاو بنفسك على الله , قال – تعالى - : " إنما الصدقات للفقراء " ( التوبة : 60 ) , فأظهر فقرك ليتصدق الله عليك .. أظهر ضعفك ليرحمك .

يقول ابن الجوزى : " تضاعف ما أمكنك , فإن اللطف مع الضعف أكثر " .

كلما أظهرت ضعفك كلما لطف بك , ولا تقل : أنا أستطيع أن أواجه كذا وأقدر على كذا , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تتمنوا لقاء العدو , لكن اسألوا الله العافية " [متفق عليه] .. اللهم إنا نسألك العافية فى الدنيا والآخرة .. فإياك أن تعتقد أنك " فتوة " ..

إن البعض يقول : تخاف علينا من الجامعة بسبب الاختلاط .. لا .. لا يهمنى الاختلاط .. فلو كان أمامى ألف عارية فلن تهزمنى شعرة .. أقول : اللهم تب عليك .. كثير من الناس يقول هذا الكلام ويعمل به ولا يظهر ضعفه , فيعتمد على نفسه , فيكون أول من تندق عنقه بم لا يخشاه أو يحذره .. نعم : يكون أول الواقعين فى الفتنة .

فالجأ إلى الله وافتقر إليه فأنت ضعيف .. " وخلق الإنسان ضعيفا " ( النساء : 28 ) , خلقك الله ضعيفا لتفر إليه .. قال ابن تيمية فى تفسيرها : " ضعيفا أمام شهوة فرجه " , إن اعتمادك على نفسك فى مواجهة الفتن أعظم عند الله وأشد إثما من الذنب نفسه .

ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : اللهم لا تكلنى إلى نفسى طرفة عين أبدا " [حسنه الألبانى] .. فاللهم لا تكلنا إلى أنفسنا فتهلكنا .. لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك .. آميـــــن .

أخى فى الله , حبيبى فى الله , يا من أنت مشغوف بالوصول إلى الله إذا كنت تحب ربك فسل نفسك : هل يحبك ؟! , فليس الشأن أن تحبه , إنما الشأن أن يحبك .. والعلامة أنه إذا أحبك شغلك به وحده فعشت له وبه .. إذا أحبك شغل قلبك بحبه , وجوارحك بخدمته , وعقلك بالفكر فيه , ثم لا تجد فى نفسك بقية لغيره .. فانظر أين قدمك .. إذا أحبك وضع قدمه فى المواطن التى يرضاها .. نعم : إذا أردت أن تعرف مقامك فانظر أين أقامك ؟!

علامات حب الله – تعالى – للعبد :

1 – اتباع النبى صلى الله عليه وسلم .

قال الله – تعالى - " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم " ( آل عمران : 31 ) .

2 – الذلة على المؤمنين .

3 – العزة على الكافرين .

4 – المجاهدة فى سبيل الله .

5 – عدم خوف اللوم فى الله .

وجمع هذه الأربع قول الله – تعالى - : " يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون فى سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم " ( المائدة : 54 ) .

6 – التقرب إلى الله بالنوافل .

عن أبى هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله – تعالى – قال : من عادى لى وليا فقد آذنته بالحرب , وما تقرب إلىّ عبدى بشىء أحب إلىّ مما افترضت عليه , وما يزال عبدى يتقرب إلىّ بالنوافل حتى أحبه , فإذا أحببته , كنت سمعه الذى يسمع به , وبصره الذى يبصر به , ويده التى يبطش بها , ورجله التى يمشى بها , وإن سألنى أعطيته , ولئن استعاذنى لأعيذنه " [أخرجه البخاري] .

7 – القبول فى الأرض .

عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : إذا أحب الله – تعالى – العبد نادى جبريل : إن الله – تعالى – يحب فلانا فأحببه , فيحبه جبريل فينادى فى أهل السماء : إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء , ثم يوضع له القبول فى الأرض " [أخرجه البخاري] .

وفى رواية لمسلم : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله – تعالى – إذا أحب عبدا دعا جبريل فقال : إنى أحب فلانا فأحببه , فيحبه جبريل ثم ينادى فى السماء فيقول : إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء , ثم يوضع له اتلقبول فى الأرض . وإذا أبغض عبدا دعا جبريل فيقول : إنى أبغض فلانا فأبغضه , فيبغضه جبريل ثم ينادى فى أهل السماء : إن الله يبغض فلانا فأبغضوه , ثم توضع له البغضاء فى الأرض " [أخرجه مسلم] .

8 – التعبد لله – تعالى – بأسمائه وصفاته .

عن عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلا على سرية فكان يقرأ لأصحابه فى صلاتهم فيختم بـ " قل هو الله أحد " , فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم , فقال : " سلوه لأى شىء يصنع ذلك " ؟ , فسألوه , فقال : لأنها صفة الرحمن فأنا أحب أن أقرأ بها , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أخبروه أن الله – تعالى – يحبه " [متفق عليه].

ففتش – أخى – فى نفسك عن علامات حب الله لك .. فليست القضية فى الدعاية أنك تحبه , ولكن الشأن كل الشأن فى أن يحبك هو .. فاعلم أن القضية يتعلق بعضها ببعض , فإنك لن تحبه حتى يحبك فيجعلك تحبه ثم يثيبك على حبك حبا ثانيا منه – سبحانه وتعالى .. فحبك محفوف بين حبين منه – سبحانه وتعالى - , حب قبله وحب بعده .. ولكن صلاحية المحل وأهلية الشخص .. فهل تصلح أن تكون حبيب الله ؟ .. بادر والله كريم .

* * *

الأصل السادس والعشرون : كل متاع فى الدنيا يسحب من رصيدك فى نعيم الآخرة

الأصل السادس والعشرون : كل متاع فى الدنيا يسحب من رصيدك فى نعيم الآخرة

لقد أصبت بالرعب عندما قرأت حديث صحيح مسلم : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من غازية تغزو فى سبيل الله فيصيبون الغنيمة , إلا تعجلوا ثلثى أجرهم من الآخرة ويبقى لهم الثلث , وإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم " [أخرجه مسلم] .. وكأنى أقرأه لأول مرة فى حياتى حديث يخوف .. يرعب ..

نفهم من هذا الحديث أن الذين يغزون فيغنمون ويسلمون استعجلوا ثلثى أجرهم , أى : ضيعوا الثلثين من الاجر فى الدنيا , فلم يبق لهم فى الآخرة إلا الاجر القليل .. فالذى أخذته من الدنيا كم ضيعت فى مقابله من الآخرة .. إن كل ما تأخذه من الدنيا مخصوم من حسابك فى الآخرة .

أخذت من الدنيا مالا أو سيارة أو .. مخصوم من نعيم الآخرة .. ولا يستوى فى الآخرة الفقير مع الغنى , وإن دخل الغنى الجنة .. لا يستويان أبدا .. قال – الله تعالى - : " أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهاَ" ( الأحقاف : 20 ) , وقال – تعالى - " ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ " ( التكاثر : 8 ) .. فكل ما أوتيته من متاع الدنيا فهو بالخصم من نعيمك فى الآخرة .

لذلك قال ربنا جل جلاله : " كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ " ( الحاقة : 24 ) .. يقول ابن كثير رحمه الله : " أى يقال لهم تفضلا عليهم وامتنانا وإنعاما وإحسانا , وإلا فقد ثبت فى الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " اعملوا وسددوا وقاربوا , واعلموا أن أحدا منكم لن يدخله عمله الجنة " , قالوا : ولا أنت يا رسول الله , قال : " ولا أنا إلا أن يتغمدنى الله برحمة منه وفضل " [متفق عليه] اهـ .

فإذا كان العمل الصالح وحده لا يدخل الجنة فما بالك بالسيىء ولذلك فإن متاعك الدنيوى " السيىء " كلما كثر كلما ضيع عليك الآخرة , وإنما قال الله : " بِمَا أَسْلَفْتُمْ " , ليرفع من همتك فى السير إليه , وإلا فالأصل أنه – سبحانه – الذى وفقك .

" وهذا اللون من النعيم مع هذا اللون من التكريم فى الالتفات إلى أهله بالخطاب , وقوله : " كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ " .. فوق أنه اللون الذى تبلغ إليه مدارك المخاطبين بالقرآن فى أول العهد بالصلة بالله , قبل أن تسمو المشاعر فترى فى القرب من الله ما هو أعجب من كل متاع .. فوق هذا , فإنه يلبى حاجات نفوس كثيرة على مدى الزمان , والنعيم ألوان غير هذا وألوان " .

فمن عاش نعيم الدنيا حرم نعيم الآخرة , فأقبل على الله واترك الدنيا وملذاتها وشهواتها , أقبل على الأدوم فنعيم الآخرة خير وأبقى " وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ "( الرعد : 26 ) .

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بشر هذه الأمة بالسناء والدين والرفعة والتمكين فى الأرض , فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا , لم يكن له فى الآخرة من نصيب " [صححه الألباني] .

قال ربى : " وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ " ( الأحقاف : 20 ) .

إن الذين يطلبون الدنيا ويتفانون فيها ويسعون فى الزيادة منها , لابد أن نذكرهم حال نبيهم صلى الله عليه وسلم , وكيف أنه صلى الله عليه وسلم , وكيف أنه صلى الله عليه وسلم مات ولم يجد ما يملأ بطنه من الدقل ( أردأ التمر ) ثلاثة أيام .. لم يكن يشبع ثلاثة أيام متتالية .. يشبع اليوم فيجوع غدا , ويشبع اليومين فيجوع الثالث .. نعم : لم تمر عليه ثلاثة أيام شبعها قط .. فما آخر مرة جعت فيها ؟ .. إننا لا نجوع يوما واحدا , ومع ذلك نتسخط ولا نشكر نعمة الله – اللهم لا تعذبنا يا رب , اللهم ارزقنا شكر نعمتك يا رب .. ومن هنا نفهم هذا الأصل , وأن قدوتنا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل السائرين إلى الله .. فكل ما تأخذه فى الدنيا فهو بالخصم من حسابك فى الآخرة .

قال بعض الصحابة – رضى الله عنهم اجمعين - : أسلمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أحدنا لا يجد ما يملأ بطنه , فمنا من مات ولم يصب من هذه الدنيا شيئا , كمصعب بن عمير , مات ولم نجد ما نكفنه فيه , إلا نمرة إذا غطينا رأسه بدت رجلاه , وإذا غطينا رجليه بدت رأسه , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " غطوا بها رأسه واجعلوا عليه شيئا من الإذخر " [أخرجه البخارى] .

مصعب بن عمير الذى فتح المدينة وحده , ولم يكن معه إلا عبدالله ابن أم مكتوم .. قائد فتح المدينة يموت ولا يجدون له كفنا .. فكم عندك من ملابس ؟! .. كم عدد القمص والعباءات التى عندك ؟! .. وكم بدلة تملكها ؟! .. وكم وكم ..

سلمان الفارسى لما أتاه الموت بكى , قالوا : ما يبكيك ؟! , قال : "عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدا وما أرانى إلا تجاوزته , قالوا : وما عهد إليكم , قال : عهد إلينا أن يكون زاد أحدنا كزاد الراكب" [صححه الألباني] .. فلما مات حسبوا له تركته , فوجدوا عنده ستة عشر درهما ( 64 جنيها ) .. فأين من يتركون الآلاف والملايين ؟! .. أين من يورثون الأراضى والفدادين ؟! .. أين أصحاب العمارات والمحلات والدكاكين ؟! .. أين هؤلاء من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟! .. إن هذه المتع والملذات والمسرات بالخصم من حسابك فى الاخرة فانتبه .. انتبه قبل أن تذهب إلى هناك فلا تجد شيئا يسرك .

عن ابن عمر رضى الله عنهما قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبى فقال : " كن فى الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل " . وكان ابن عمر رضى الله عنهما يقول : إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح , وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء , وخذ من صحتك لمرضك , ومن حياتك لموتك" [أخرجه البخاري] .

قال الإمام النووى رحمه الله :

( قوله صلى الله عليه وسلم : " كن فى الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل " , أى : لا تركن إليها , ولا تتخذها وطنا , ولا تحدث نفسك بالبقاء فيها , ولا تتعلق منها إلا بما يتعلق به الغريب فى غير وطنه الذى يريد الذهاب منه إلى أهله .

وهذا معنى قول سلمان الفارسى رضى الله عنه : أمرنى خليلى صلى الله عليه وسلم ألا تتخذ من الدنيا إلا كمتاع الراكب .

ترجو البقاء بدار لا بقاء لها وهل سمعت بظل غير منتقل

" ومن حياتك لموتك " : أمره بتقديم الزاد , وهذا كقوله – تعالى - :" وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ " ( الحشر : 18 ) ولا يفرط فيها حتى يدركه الموت فيقول : " رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ " ( المؤمنون : 99 – 100 ) , وقال الغزالى – رحمه الله تعالى - : " ابن آدم بدنه معه كالشبكة يكتسب بها الأعمال الصالحة , فإذا اكتسب خيرا ثم مات كفاه , ولم يجتمع بعد ذلك إلى الشبكة , وهو البدن الذى فارقه بالموت .

ولا شك أن الإنسان إذا مات انقطعت شهوته من الدنيا , واشتهت نفسه العمل الصالح لأنه زاد القبر , فإن كان معه استغنى به , وإن لم يكن معه طلب الرجوع منها إلى الدنيا ليأخذ منها الزاد , وذلك إن أخذت منه الشبكة .

فيقال له : هيهات , قد فات , فيبقى متحيرا دائما نادما على تفريطه فى أخذ الزاد قبل انتزاع الشبكة , فلهذا قال :

" وخذ من حياتك لموتك " , فلا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم " ) اهـ .

أخى فى الله , زود رصيدك فى الآخرة , فمستقل ومستكثر .. ستقول : ماذا أصنع ؟! , الله قد أعطانى أموالا فهل أرميها فى الشارع ؟!! .. أقول لك : تصدق بها على الفقراء تجدها هناك ..

" يقول ابن آدم : مالى مالى , فيقال له : ليس لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت , أو لبست فأبليت , أو تصدقت فأبقيت " .. فالمال مال الله أعطاه لك فرده إليه ولا تقل : مالى .. فهو – سبحانه – قادر على أن يفقرك ويسلبك هذا المال فتمشى فقيرا محتاجا .. ألا تشكر الله أن وهبك ماله , وفوق ذلك يثيبك ويرفعك حينما ترده إليه وتنفقه فى سبيله .. ألا تستحى من ربك ؟! .. فإن كان عندك مال فتصدق به .

ولذلك فإن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " والله ما أحب أن يكون لى مثل أحد ذهبا , فيبيت عندى منه ثلاث فأفعل بهم هكذا وهكذا وهكذا وهكذا " [متفق عليه] .. أى : يفرق هذا المال ويوزعه على الفقراء بسرعة .

يقول الإمام النووى – رحمه الله تعالى – فى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :

" ازهد فى الدنيا يحبك الله , وازهد فيما عند الناس يحبك الناس " [صححه الألباني] :

" الزهد ترك ما لا يحتاج إليه من الدنيا وإن كان حلالا , والاقتصار على الكفاية " , والورع : ترك الشبهات , قالوا : وأعقل الناس الزهاد , لأنهم أحبوا ما أحب الله , وكرهوا ما كره الله من جميع الدنيا , واستعملوا الراحة لأنفسهم .. وللشافعى رحمه الله فى ذم الدنيا :

ومن يذق الدنيا فإنى طعمتهــا وسبق إلينا عذبـها وعذابهـا

فلـم أرها إلا غرورا وباطــلا كما لاح فى ظهر الفلاة سرابها

ومـا هى إلا جيفـة مستحيـلة عليها كـلاب همهن اجتذابها

فإن تجتنبها كنت سلما لأهلهــا وإن تجتذبهـا نازعتـك كلابها

فـدع فضـلات الأمـور فإنـا حرام على نفس التقـى ارتكابها

قوله : " حرام على نفس التقى ارتكابها " يدل على تحريم الفرح بالدنيا , وقد صرح بذلك البغوى فى تفسير قوله – تعالى - : " وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا " ( الرعد : 26 ) , ثم المقصود بالدنيا المذمومة : طلب الزائد على الكفاية , أما طلب الكفاية فواجب .

قال الشافعى رحمه الله : " طلب الزائد من الحلال عقوبة ابتلى الله بها أهل التوحيد " .

وقد مدح الله المقتصدين فى العيش فقال : " وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا " ( الفرقان : 67 ) .. وكان يقال : القصد فى المعيشة يكفى عنك نصف المؤنة , والاقتصاد : الرضا بالكفاية " .

أحد الناس – أسأل الله أن يفرج كربه ويقضى دينه – قال لى : أنا أدفع للبنك ستين ألف جنيه ربا كل شهر , قلت له : لو أن ستين ألف جنيه تصدق بها على الفقراء كل شهر فكم تغنى فى الآخرة ؟! .. يريد أن يسدد بعد أن تورط وعاش الهم والغم ليل ونهار .. اللهم تب على كل عاص مراب .. نعم : الربا حرب على الله .. قال هذا الرجل : ولذلك إذا قابلنى أحد فى الدنيا أقول له : " سكة البنوك سكة الخراب " .. أسأل الله أن يصرف الربا عن المسلمين .. اللهم إنا نعوذ بك من الربا والزنا والغنا والوبا .

فلو أن هذا المال المكنوز صرف فيما يرضى الله , لارتاح الناس وسعدوا ولاطمأنوا ورضى الله عنهم .. كثير من الناس من يسأل باستمرار : ابتعدت عن البنك ولم أضع أموالى فيه فماذا أصنع ؟ .. أشغلها فى مشروع ؟! .. ولكنى أخاف من الخسارة ! أقول : تصدق بها على الفقراء ينفعك عند الله وهذا هو التشغيل الحقيقى لها .. التصدق بها .

نعم : عندك زيادة فى المال تريد أن تضعها فى البنك أو تعمل بها مشروعا .. لا .. بل تصدق بها على الفقراء , فوالله الذى لا إله إلا هو , هناك فقراء لا يجدون ما يأكلونه .. والله , فقراء لا يجدون " الرغيف الحاف " .. فقراء لا يرون اللحم بالشهور , ولو ذهبت إليهم بدجاجة من دجاج " الجمعية " لطاروا فرحا .. فيا من لا تأكل إلا اللحم باللحم .. تريد أن تحتفظ بالأموال وتكنزها , وإخوانك فيهم من لا يجد ما يسد جوعه .

أطعم الفقراء وأنفق عليهم مالك بسخاء , أطعمهم وكن رحيما بهم , فالمال مال الله وهو الذى أغناك .. " يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ " ( فاطر : 15 ) .. اللهم أطعم فقراء المسلمين , اللهم أغن فقراء المسلمين بفضلك وكرمك يا أرحم الراحمين , اللهم وسع أرزاق المسلمين وبارك لهم يها يا رب العالمين .

طلحة بن عبيد الله التيمى .. الصحابى الجليل .. الذى قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من سره أن ينظر إلى رجل يمشى على الأرض وقد قضى نحبه , فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله " [حسنه الألباني] .

يقول عنه الدكتور عبد الرحمن رأفت الباشا – رحمه الله تعالى – بعد أن ذكر قصة وفاته – : " هذه هى قصة نعت طلحة بن عبيد الله " بالشهيد الحى " , أما تلقيبه بطلحة الخير , وطلحة الجود فلها مئة قصة وقصة ..

من ذلك أن طلحة كان تاجرا واسع التجارة عظيم الثراء , فجاءه ذات يوم مال من " حضر موت " مقداره سبعمئة ألف درهم , فبات ليلته وجلا جزعا محزونا .

فدخلت عليه زوجته أم كلثوم بنت أبى بكر الصديق , وقالت : ما بك يا أبا محمد ؟!! .. لعله رابك منا شىء !! , فقال : لا , ولنعم حليلة الرجل المسلم أنت .. ولكن تفكرت منذ الليل وقلت : ما ظن رجل بربه إذا كان ينام وهذا المال فى بيته ؟! , قالت : وما يغمك منه ؟! , أين أنت من المحتاجين من قومك وأخلائك ؟! , فإذا أصبحت فقسمه بينهم , فقال : رحمك الله , إنك موفقة بنت موفق .. فلما أصبح جعل المال فى صرر وجفان , وقسمه بين فقراء المهاجرين والأنصار .

وروى أيضا أن رجلا جاء إلى طلحة بن عبيد الله يطلب رفده , وذكر له رحما تربطه به , فقال طلحة : هذه رحم ما ذكرها لى أحد من قبل , وإن لى أرضا دفع لى فيها عثمان بن عفان ثلاثمئة ألف .. فإن شئت خذها , وإن شئت بعتها لك منه بثلاثمئة ألف وأعطيك الثمن , فقال الرجل : بل آخذ ثمنها , فأعطاه إياه .. هنيئا لطلحة الخير والجود هذا اللقب الذى خلعه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم , ورضى الله عنه ونور له فى قبره " .

أخى المسلم , عندك زيادة – وليس الكلام للأغنياء فقط - , فتصدق بها , ابن مسجدا أو عيادة لعلاج الفقراء مجانا .. تبن مشروعا للإنفاق على الأسر اليتيمة .. ساعد فى زواج الشباب المحتاج المتعفف .. تبن طالب علم شرعى ليخدم الأمة .. أنفق مالك فى مشاريع أخروية تكن لك عند الله , وإلا تفعل فهى بالخصم من حسابك فى الآخرة .

* * *

الأصل السابع والعشرون : المرء مع من أحب , فاختر حبيبك من ها هنا

الأصل السابع والعشرون : المرء مع من أحب , فاختر حبيبك من ها هنا

قال لى أحدهم : أحب الممثلة الفلانية , قلت له : أتحب أن تحشر معها فى الآخرة ؟! .. تحب أن تكون معها أم مع النبى محمد صلى الله عليه وسلم ؟! .. تحب أن تكون مع من ؟ .. سأل أعرابى رسول الله صلى الله عليه وسلم : الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم ؟ , قال : " المرء مع من أحب " [متفق عليه] .

فهل تحب أن تكون مع الفاسدين وأهل اللغو والمجون ؟!

لذا لما سمع أنس بن مالك هذا الحديث , قال : فما فرحنا بشىء بعد الإسلام فرحنا بهذا الحديث " المرء مع من أحب " , لأننى أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر , وأرجو أن أكون معهم فى الجنة .

ولذلك كان من إحدى رسائلى على الهاتف لأحبابى فى الله : " اللهم إنك تعلم أنى وإن كنت أعصاك , إلا أننى أحب من يطيعك , فاجعل ذلك قربة لى عندك .. آمين " , هذه هى الرسائل النافعة .. وليست تلك التى يكتبونها اليوم من هراء غير مفيد .. اكتب شيئا مفيدا .. فالهاتف نعمة لا تستعملها فى المعاصى , لم تستعمله فى اللهو والغفلة ؟!

استعمله فى طاعة الله ونشر الحب فى الله .. اكتب : اليوم درس فى المكان الفلانى .. أرسله إلى كل الناس .. كل المسجل على الهاتف أرسل إليه .. فإن جاء فخير كبير , وإن لم يأت كانت أيضا فى ميزان حسناتك .. اكتب آية قرأتها نفعتك .. اكتبها وأرسلها .. حديثا سمعته اكتبه وأرسله ادع إلى الله بالحب لعل الله ينفع بك وإن لم تفعل .

إن فعلت هذا وعشت على هذا , فأنت تحب الخير وتحب أهله , وسوف تحشر معهم بإذن الله – تعالى .

والذى يحب الراقصة الفلانية والفنانة الفلانية والممثل الفلانى فسوف يكون معهم .. الذى تحبه ستكون معه .. تحب اللاعب الفلانى .. المسرحية الفلانية .. الأغنية الفلانية .. ستكونون معا يوم القيامة فى الموقف , وبعد ذلك جهنم والعياذ بالله .

أما إذا أحببت الله وأحببت من يحب الله .. فستكون جاره فى الفردوس الأعلى , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس , فإنه أعلى الجنة ووسط الجنة , ومنه تفجر أنهار الجنة , وسقفه عرش الرحمن " [أخرجه البخاري] .. فإذا أحببت الله كنت جاره .. وإذا أحببت النبى صلى الله عليه وسلم كنت معه .

أبو بكر الصديق وعمر وعلى وعثمان وأبو الدرداء وأنس وأبو ذر ومعاذ رضى الله عنهم .. هؤلاء هم النجوم بحق , فإذا أحببتهم كنت معهم هناك فى الآخرة .. نعم : هؤلاء هم الذين يستحقون الحب .. فمن تحب ؟!

إن قضية الحب فى هذه الأيام قضية فى غاية الغرابة , فالناس اليوم يحبون أشياء غريبة وموضوعات عجيبة .. لقد قرأت فى إحدى وسائل الإعلام المقروء : أن رجلين قد رفعا قضايا ضد بعضهما البعض بسبب كلمة ساقطة .. عجيب !! .. عجيب أن ترى الناس فى الشارع يحبون التلفظ بهذه الكلمات .

لقد كان الناس منذ زمان مضى يبحثون عن الكلام الذى فيه أدب وذوق .. كلام أرستقراطى .. فكانوا يتشبهون بالفرنسيين فى ترقيق الكلام ونطق الراء غينا .. وإن كنا لا نوافقهم , فلغتنا وقورة ومحترمة وفيها كل الجمال والأدب .. ولكن الشاهد أن الناس كانوا يبحثون عن الكلام المحبب الجميل , أما اليوم فصار الناس يبحثون عن كلام السوقة .. ألفاظ سوقية .. يبحثون عن ألفاظ السفلة والضائعين فى الشوارع .. وتجدنا وللأسف نتكالب عليها ونتباهى بها .. أمة فى الحضيض !!

إننا بحاجة إلى أن نبحث عن كل كلمة جميلة مريحة رطبة , وكل إشارة مؤدبة وكل حركة مهذبة لنتعامل بها مع الناس , لنكسب حبهم ونحببهم إلى الله , لنكون معهم ويكونوا معنا على طريق الحب فى الله .

وانظر إلى الرقة والأدب فى التعامل بين الصحابة – رضوان الله تعالى عليهم أجمعين - :

عن زيد بن أسلم عن أبيه : " عزل عمر خالدا , فلم يعلمه أبو عبيدة حتى علم من الغير , فقال : يرحمك الله , ما دعاك إلى أن لا تعلمنى ؟ , قال : كرهت أن أروعك " .. حب فى الله .

قال الصورى : علامة الحب لله المراقبة للمحبوب , والتحرى لمرضاته .

ولما اشترى أبو بكر بلالا وهو مدفون فى الحجارة بخمس أواق ذهبا , قالوا : لو أبيت إلا أوقية لبعناكه , فقال : لو أبيتم إلا مئة أوقية لأخذته .. حب فى الله .

قال فضيل بن غزوان : أتيت أبا إسحاق بعد ما كف بصره , قال : قلت : تعرفنى ؟ , قال : فضيل ؟ قلت : نعم , قال : إنى والله أحبك , لولا الحياء منك لقبلتك , فضمنى إلى صدره ثم قال : حدثنى أبو الأحوص عن عبد الله :

" لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ " ( الأنفال : 63 ) نزلت فى المتحابين .

وكان أبو العالية إذا دخل عليه أصحابه يرحب بهم ويقرأ : " وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ "

( الأنعام : 54 ) .

وكان ابن عمر يقول : إنى لأخرج وما لى حاجة إلا أن أسلم على الناس ويسلمون علىّ .. حب فى الله .. يحب المسلمين ويحب رؤيتهم .

قال الأوزاعى : كتب إلىّ قتادة من البصرة : إن كانت الدار فرقت بيننا وبينك فإن ألفة الإسلام بين أهلها جامعة .

الحب فى الله والبغض فى الله , والموالاة فى الله والمعاداة فى الله .. الحب فى الله أن تحب الله – تعالى – ورسوله صلى الله عليه وسلم وتحب بحبهما المؤمنين , قال - تعالى - : " إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ " ( المائدة : 55 ) .

والبغض فى الله أن تكره الكفر والكافرين والشرك والمشركين والفسق والفاسقين , حتى ولو كانوا أقرب الأقربين إليك , قال – تعالى - : " قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ "

( الممتحنة : 4 )

وأبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح .. أمين هذه الأمة .. حقق هذا الأصل العظيم يوم بدر .. أصل الموالاة فى الله والمعاداة فى الله .. هذا الأصل الذى يقول عنه العلماء : الولاء والبراء هو المقياس العملى والحقيقى للتوحيد الخالص .

" عاش أبو عبيدة تجربة المسلمين القاسية فى مكة منذ بدايتها إلى نهايتها , وعانى مع المسلمين السابقين من عنفها وضراوتها , وآلامها وأحزانها ما لم يعانه أتباع دين على ظهر الأرض , فثبت للابتلاء , وصدق الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فى كل موقف .

لكن محنة أبى عبيدة يوم " بدر " فاقت فى عنفها حسبان الحاسبين وتجاوزت خيال المتخيلين .

انطلق أبو عبيدة يوم بدر يصول بين الصفوف صولة من لايهاب الردى , فهابه المشركون , ويجول جولة من لا يحذر الموت , فحذره فرسان قريش , وجعلوا يتنحون عنه كلما واجههم ..

لكن رجلا واحدا منهم جعل يبرز لأبى عبيدة فى كل اتجاه , فكان أبو عبيدة يتحرف عن طريقه ويتحاشى لقاءه .

ولج الرجل فى الهجوم وأكثر أبو عبيدة فى التنحى , وسد الرجل على أبى عبيدة المسالك ووقف حائلا بينه وبين قتال أعداء الله , فلما ضاق به ذرعا ضرب رأسه بالسيف ضربة فلقت هامته فلقتين , فخر الرجل صريعا بين يديه .

لا تحاول – أيها القارىء الكريم – أن تخمن من يكون الرجل الصريع .. أما قلت لك : إن عنف التجربة فاق حسبان الحاسبين وجاوز خيال المتخيلين ؟ .. ولقد يتصدع رأسك إذا عرفت أن الرجل الصريع هو عبد الله بن الجراح والد أبى عبيدة .

لم يقتل أبو عبيدة أباه , وإنما قتل الشرك فى شخص أبيه .

فأنزل الله – سبحانه – فى شأن أبى عبيدة وشأن أبيه قرآنا , فقال – علت كلمته :

" لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ " ( المجادلة : 22 ) .

لم يكن ذلك عجيبا من أبى عبيدة , فقد بلغ من قوة إيمانه بالله ونصحه لدينه , والأمانة على أمة محمد صلى الله عليه وسلم مبلغا طمحت إليه نفوس كبيرة عند الله " .

فاختاروا – إخوتاه – من يسركم فى القيامة أن يكونوا معكم وتكونوا معهم , وابتعدوا عن طريق الصادين عن سبيل الله الذين يحبون أن تشيع الفاحشة فى الذين آمنوا .. تبرءوا من الفسقة الفجرة حتى لا يجمعكم الله بهم .. اتركوا الاختلاط بهم , واتركوا التشبه بهم فى الأعياد والاحتفالات والملبس والهيئة , واستعمال كلماتهم التى يكرهها الله .

قال – تعالى - : " وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ "

( هود : 113 ) .. فالآية : " فيها دليل على وجوب هجران أهل الكفر والمعاصى , وأهل البدع والأهواء , فإن صحبتهم كفر أو معصية , إذ الصحبة , لا تكون إلا عن مودة " .

إخوتاه , الطريق إلى الله لابد فيها من البعد عن المثبطين المقعدين الذين ركنوا إلى حب الدنيا والتذوا بها , فأحبوا المؤمنين الطائعين الطاهرين يعينوكم على الوصول , ويهونوا عليكم مشاق الطريق .

أخى فى الله , حبيبى فى الله , أحبب لله , واكره لله , فبهذا الأصل اختر حبيبك من ها هنا , واعلم أن المسافر إلى الله يحتاج ولابد إلى رفقة صالحة وصحبة طيبة .. يحتاج أن يعيش فى مجتمع تسوده المحبة والأخوة .

أخى فى الله , المرء مع من أحب , فمن تحب ولماذا ؟

اللهم ارزقنا حبك , وحب من أحبك , وحب كل عبد صالح يحبك , وحب كل عمل يقربنا إلى حبك .. اللهم اجعل حبك أحب إلينا من أنفسنا وأهلينا ومن الماء البارد على الظمأ .. اللهم واجعلنا ممن أحببتهم فرضيت عنهم .. اللهم وكما جمعتنا على حبك فى الدنيا اجمعنا فى جناتك جنات النعيم على سرر متقابلين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين , وحسن أولئك رفيقا .. اللهم لا تحرمنا رؤية الصالحين ولا تحرمنا – اللهم – من النظر إلى وجهك الكريم ..

آميــــــن .. آميــــــن .. آميــــــن ..

* * *

الخاتمة

الخـاتمـة

الخـاتمـة

صحبتك – أيها الحبيب – ربع الطريق .. وهكذا تكون المساعدة حقيقية , فإن من يتعطل فى بعض الطريق أو يسأل عن طريق , فإن الدليل لا يسير معه كل الطريق .. وكذلك من يقدم لنا المساعدة لا يتم به .

السفرة هذه سبع وعشرون من مئة تستكمل – إن شاء الله وقدر ولكنى أجربك : هل تصلح لهذا الطريق أم لا ؟! لا تنتظر .. اسلك وانطلق .. وسيأتيك المدد من الملك .. وإياك أن تتأخر أو تلتفت .. وبعد أن سرت معى أول الطريق إياك أن تنقطع .

ويذكرك عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه .. ويحذرك فيقول :

" يا أخى , إنك قد قطعت عظيم السفر , وبقى أقله فاذكر – يا أخى – المصادر والموارد , فقد أوحى إلى نبيك صلى الله عليه وسلم فى القرآن أنك من أهل الورود , ولم يخبر أنك من أهل الصدور والخروج , وإياك وأن تغرك الدنيا , فإن الدنيا دار من لا دار له , ومال من لا مال له , يا أخى , إن أجلك قد دنا , فكن وصى نفسك , ولا تجعل الرجال أوصياءك " .

وأخطر من ذلك : تهديد ابن القيم الذى يقول فيه :

" ومن ذاق شيئا من ذلك وعرف طريقا موصلة إلى الله ثم تركها وأقبل على إرادته وراحاته وشهواته ولذاته , وقع فى آثار المعاطب وأودع قلبه سجون المضايق وعذب فى حياته عذابا لم يعذب به أحد من العالمين , فحياته عجز وغم وحزن , وموته كدر وحسرة , ومعاده أسف وندامة , قد فرط عليه أمره وشتت عليه شمله , وأحضر نفسه الغموم والأحزان , فلا لذة الجاهلين ولا راحة العارفين , يستغيث فلا يغاث ويشتكى فلا يشتكى , فقد ترحلت أفراحه وسروره مدبرة , وأقبلت آلامه وأحزانه وحسراته , فقد أبدل بأنسه وحشة , وبعزه ذلا , وبغناه فقرا وبجمعيته تشتيتا , وأبعدوه فلم يظفر بقربهم , وأبدلوه مكان الأنس إيحاشا , ذلك بأنه عرف طريقه إلى الله ثم تركها ناكبا عنها مكبا على وجهه , فأبصر ثم عمى , وعرف ثم أنكر , وأقبل ثم أدبر , ودعى فما أجاب , وفتح له فولّى ظهره الباب , قد ترك طريق مولاه وأقبل بكليته على هواه , فلو نال بعض حظوظه وتلذذ براحاته وشئونه , فهو مقيد القلب عن انطلاقه فى فسيح التوحيد , وميادين الأنس , ورياض المحبة , وموائد القرب .

فقد انحط بسبب إعراضه عن إلهه الحق إلى أسفل سافلين , وحصل فى عداد الهالكين , فنار الحجاب تطلع كل وقت على فؤاده , وإعراض الكون عنه – إذا أعرض عن ربه – حائل بينه وبين مراده , فهو قبر يمشى على وجه الأرض , وروحه فى وحشة من جسمه , وقلبه فى ملال من حياته , يتمنى الموت ويشتهيه ولو كان فيه ما فيه , حتى إذا جاءه الموت على تلك الحال – والعياذ بالله – فلا تسأل عما يحل به من العذاب الأليم , بسبب وقوع الحجاب بينه وبين مولاه الحق , وإحراقه بنار البعد عن قربه والإعراض عنه , وقد حيل بينه وبين سعادته وأمنيته .

فلو توهم العبد المسكين هذه الحال وصورتها له نفسه وأرته إياها على حقيقتها , لتقطع – والله – قلبه , ولم يلتذ بطعام ولا شراب , ولخرج إلى الصعدات يجأر إلى الله ويستغيث به ويستعتبه فى زمن الاستعتاب , هذا مع أنه إذا آثر شهواته ولذاته الفانية التى هى كخيال طيف أو مزنة صيف , نغصت عليه لذاتها أحوج ما كان إليها , وحيا بينه وبينها أقدر ما كان عليها , وتلك سنة الله فى خلقه كما قال – تعالى - :

" حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ " ( يونس : 24 ) .

وهذا هو غب إعراضه وإيثار شهوته على مرضاة ربه , يعوق القدر عليه أسباب مراده فيخسر الأمرين جميعا , فيكون معذبا فى الدنيا بتنغيص شهواته وشدة اهتمامه بطلب ما لم يقسم له , وإن قسم له منه شىء فحشوه الخوف والحزن والنكد والألم , فهم لا ينقطع , وحسرة لا تنقضى , وحرص لا ينفذ , وذل لا ينتهى , وطمع لا يقلع .. هذا فى هذه الدار .

وأما فى البرزخ فأضعاف أضعاف ذلك : قد حيل بينه وبين ما يشتهى , وفاته ما كان يتمناه من قرب ربه وكرامته ونيل ثوابه , وأحضر جميع غمومه وأحزانه .

وأما فى دار الجزاء : فسجن أمثاله من المبعودين المطرودين , واغوثاه ثم واغوثاه بغياث المستغيثين وأرحم الراحمين .

فمن أعرض عن الله بالكلية أعرض الله عنه بالكلية , ومن أعرض الله عنه لزمه الشقاء والبؤس والبخس فى أحواله وأعماله , وقارنه سوء الحال , وفساده فى دينه ومآله , فإن الرب إذا أعرض عن جهة , دارت بها النحوس , وأظلمت أرجاؤها , وانكسفت أنوارها , وظهرت عليها وحشة الأعراض , وصارت مأوى للشياطين , وهدفا للشرور , ومصبا للبلاء , فالمحروم كل المحروم من عرف طريقا إليه ثم أعرض عنها , أو وجد بارقة من حبه ثم سلبها لم ينفذ إلى ربه منها خصوصا إذا مال بتلك الإرادة إلى شىء من اللذات , وانصرف بجملته إلى تحصيل الأغراض والشهوات , عاكفا على ذلك فى ليله ونهاره وغدوه ورواحه , هابطا من الأوج الأعلى إلى الحضيض الأدنى , فقد مضت عليه برهة من أوقاته وكان همه الله وبغيته قربه ورضاه وإيثاره على كل ما سواه , على ذلك يصبح ويمسى ويظل ويضحى , وكان الله فى تلك الحال وليه , لأنه ولى من تولاه وحبيب من أحبه ووالاه , فأصبح فى سجن الهوى ثاويا وفى أسر العدو مقيما وفى بئر المعصية ساقطا , وفى أودية الحيرة والتفرقة هائما , معرضا عن المطالب العالية إلى الأغراض اخسيسة الفانية , كان قلبه يحوم حول العرش , فأصبح محبوسا فى أسفل الحش :

فأصبـح كالبـازى المنتف ريشـه يرى حسرات كلمــــــا طــار طائــر

وقد كان دهرا فى الريـاض منعمـا على كل ما يهوى من الصيد قـادر

إلى أن أصابتـه فـى الدهر نكبـة إذا هو مقصوص الجناحـين حاسـر

فيا من ذاق شيئا من معرفة ربه ومحبته ثم أعرض عنها واستبدل بغيرها منها , يا عجبا له بأى شىء تعوض , وكيف قر قراره فما طلب الرجوع إلى أحنيته وما تعرض , وكيف اتخذ سوى أحنيته سكنا , وجعل قلبه لمن عاداه مولاه من أجله وطنا , أم كيف طاوعه قلبه على الاصطبار , ووافقه على مساكنة الأغيار .

فيا معرضا عن حياته الدائمة ونعيمه المقيم , ويا بائعا سعادته العظمى بالعذاب الأليم ويا مسخطا من حياته وراحته وفوزه فى رضاه , وطالبا رضى من سعادته فى إرضاء سواه , إنما هى لذة فانية وشهوة منقضية تذهب لذاتها وتبقى تبعاتها , فرح ساعة لا شهر , وغم سنة بل دهر , طعام لذيذ مسموم أو له لذة وآخره هلاك , فالعامل عليها والساعى فى تحصيلها كدودة القز يسد على نفسه المذاهب بما نسج عليها من المعاطب , فيندم حين لا تنفع الندامة , ويستقيل حين لا تقبل الاستقالة .

فطوبى لمن أقبل على الله بكليته وعكف عليه بإرادته ومحبته , فإن الله يقبل عليه بتوليه ومحبته وعطفه ورحمته , وأن الله – سبحانه – إذا أقبل على عبد استنارت جهاته , وأشرقت ساحاته , وتنورت ظلماته , وظهرت عليه آثار إقباله من بهجة الجلال وآثار الجمال , وتوجه إليه أهل الملإ الأعلى بالمحبة والموالاة لأنهم تبع لمولاهم , فإذا أحب عبدا أحبوه , وإذا والى وليا والوه , إذا أحب الله العبد نادى : يا جبرائيل إنى أحب فلانا فأحبه , فينادى جبرائيل فى السماء : إن الله يحب فلانا فأحبوه , فيحبه أهل السماء ثم يحبه أهل الأرض , فيوضع له القبول بينهم , ويجعل الله قلوب أوليائه تفد إليه بالود والمحبة والرحمة , وناهيك بمن يتوجه إليه مالك الملك ذو الجلال والإكرام بمحبته , ويقبل عليه بأنواع كرامته , ويلحظه الملأ الأعلى وأهل الأرض بالتبجيل والتكريم , وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء , والله ذو الفضل العظيم .

أخى الحبيب .. إنه لتهديد رعيب .. يذكره لك ابن القيم الأريب .. وأنت ممن ينفعه التهديد .. فإنه صوت يسوقك إلى الله – تعالى - .

استعن بالله وانطلق .. ولن أدعك .. اطمئن , فأنا أحبك فى الله , وسأعود إليك قريبا , لنواصل السير ..

وصيتى : احفظ الله تجده تجاهك .. أستودعك الله الذى لا تضيع عنده الودائع .. ولقاؤنا قريب – إن شاء الله وقدر .. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإيمان وإحسان إلى يوم الدين

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

مسك الختام

يا واهب المواهب , ومجزل الرغائب .. أعوذ بك من النزول بعد الوصول .. ومن الكدر بعد الصفا .. ومن الشوق بعد الأنس .. ومن طائف الحسرة لعارض الفترة .. ومن تغير الرضا .. ومن التخلف عن الحادى لحظة .. أو الإيمان دون العلم ..ومن موقع حذر يوجب للعقل بطئا – يا رب – حتى تكمل النعم عندى .. ورق فى ذرى الكرامة مهجتى .. ونضر اللهم بالكمال لديك بهجتى .. وعزفنى عن الدون .. ووار علمى عن الخاطر .. يا من منح الأصفياء منازل الحق ومدى الغايات .. أصف هدايتى من دنس العارض .. واحسم عدوى عن ملاحظتى .. وأخلصنى بكمال رغبتى .. وبما لا يبلغه سؤالى .. إنك رحيم ودود

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

دليلك إلى المواقع الإسلامية المنتقاة بأكثر من ( 42 ) لغة !!

دليلك إلى المواقع الإسلامية المنتقاة بأكثر من ( 42 ) لغة !! اللغة الرابط اللغة الأذرية http://www.islamhouse.com/s/9357 ...