الأربعاء، 10 مايو 2023

ج9. الشيخ تفسير الشيخ الشعراوي

ج9. الشيخ تفسير الشيخ الشعراوي

رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)

نعرف أن البشارة تكون بأمر سار يأتي من بعد. والنذارة هي إخبار بأمر مسيء يأتي من بعد. والعزيز سبحانه لا يُغلب. والحكيم سبحانه وضع كل شيء في موضعه، لماذا؟. لأن الرسل يبشرون وينذرون بأن هناك جنة وناراً وحساباً، فإياكم أن تظنوا أن الذي كفر بقادر على أن يصنع شيئاً لنفسه؛ والله عزيز وغنيُّ عن خلقه جميعاً.
ونعلم أن الحق لا يجرم سلوكاً إلا بنص، وقبل أن يعاقب فهو يضع القواعد التي لا يصح الخروج عنها. وحين يقول الحق: { وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } فعزته وحكمته هي التي أتاحت لنا أن نعرف منهجه. ويقول الحق من بعد ذلك: { لَّـاكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ... }

لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166)


وساعة نسمع " لكن " فمعنى ذلك أن هناك استدراكاً. وقوله الحق: { لَّـاكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ } نأخذ منها بلاغاً من الحق. خصومك يا محمد لا يشهدون أنك أهل لهذه الرسالة، ويستدرك الله عليهم ويوضح لهم أنه سبحانه هو الذي خلق الإنسان وهو أعلم بقانون صيانته. ومنهج الله إلى البشر بواسطة الرسل هو قانون صيانة ذلك الإنسان.
وإذا كان أهل الكتاب لا يشهدون بما أنزل الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم وينكرون ما في كتبهم من البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم كرسول خاتم، فإن الله يشهد وكفى بالله شهيداً.
لقد أنزل القرآن بعلمه، وهو الذي لا تخفى عليه خافية، وهو الذي خلق كل الخلق ويعلم - وهو العليم - ما يصلح للبشر من قوانين. وفي أعرافنا البشرية نجد أن الذي يصنع الصنعة يضع قانون صيانتها لتؤدي مهمتها كما ينبغي، كذلك الله الذي خلق الإنسان، هو سبحانه الذي وضع له قانون صيانته بـ " افعل " و " لا تفعل ". ولذلك يقول الحق:{ أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ }[الملك: 14]
ونجد الإنسان منا يذهب بساعته إلى عامل إصلاح الساعات فيكشف عليها ويقرر ما فيها من فساد، فما بالنا بخالق الإنسان. إنّ العبث الذي يوجد في العالم سببه أن الناس قد استقبلوا خلق الله لهم، ولم يدع أحد أنه خلق نفسه أو خلق غيره، ومع ذلك يحاولون أن يقننوا قوانين صيانة للإنسان خارجة عن منهج الله.
ونقول: دعوا خالق الإنسان، يضع لكم قانون صيانة الإنسان بـ " افعل " ولا " تفعل " وإن أردتم أن تشرِّعوا، فلتشرعوا في ضوء منهج الله، وإن حدث أي عطب في الإنسان فلنرده إلى قانون صيانة الصانع الأول وهو القرآن؛ لأن المتاعب إنما تنبع من أن الإنسان يتناسى في بعض الأحيان أنه من صنعة الله، ويحاول أن يصنع لنفسه قانون صيانة بعيداً عن منهج الله، والذي يزيل متاعب الإنسانية هو أن تعود إلى قانون صيانتها الذي وضعه الخالق تبارك وتعالى.
{ لَّـاكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ } والملائكة تشهد لأنها نالت شرف أن يكون المبلغ لرسول الله منهم وهو جبريل عليه السلام، وهم أيضاً الذين يحسبون حسابات العمل الصالح أو الفاسد للإنسان ويكتبونها في صحيفته، وهم كذلك الذين حملوا ما في اللوح المحفوظ وبلغوا ما أمروا بتبليغه وهم يعرفون الكثير { وَكَفَىا بِاللَّهِ شَهِيداً } لماذا لم يقل الله هنا وكفى بالله وبالملائكة شهوداً؟. لأن الحق سبحانه وتعالى لا يأخذ شهادة الملائكة تعزيزاً لشهادته.
ونحن لا نأخذ شهادة الملائكة تعزيزاً لشهادة الله وإلا كانت الملائكة أوثق عندنا من الله. وسبحانه يؤرخ شهادة الناس وشهادة الملائكة، لكنك يا رسول الله تكفيك شهادة الله.
ومن بعد ذلك يقول الحق: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ... }

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167)


إنّ كُفر الكافر إنما يعود عليه، وهو يملك الاختيار بين الكُفر والإيمان، لكن أن يصد الكافر غيره عن الإيمان فهذا ضلال متعدّ؛ لقد ضل في نفسه، وهو يحاول أن يضل غيره؛ لذلك لا يحمل وزره فقط ولكن يحمل أوزار من يضلّهم.
وكيف يكون الصدّ عن سبيل الله؟. بمحاولة أهل الضلال أن يمنعوا آيات الهُدى من أن تصل إلى آذان الناس، فيقولوا ما رواه الحق عنهم:{ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـاذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ }[فصلت: 26]
ولو فهموا معنى هذه الآية لما قالوا ما جاء فيها، فقولهم: { لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـاذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْاْ فِيهِ } أي اصنعوا ضجة تشوّش على سماع القرآن، وهم قد علموا أن هذا القرآن عندما يصل إلى الأسماع فإنه يبلغ الهداية، ولو كان القرآن غير مؤثر لما قالوا ذلك، إذن هم يعترفون بأنهم يُغلَبُون عندما يصل صوت القرآن إلى آذان البشر المدعوين إلى الهداية.
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ ضَلَالاً بَعِيداً }. كان يكفي أن يقول الحق { قَدْ ضَلُّواْ } ، لكنه جاء بالمصدر التأكيدي { قَدْ ضَلُّواْ ضَلَالاً بَعِيداً } أي إنه الضلال بعينه، وهو فوق ذلك ضلال بعيد.
وعندما ننظر في كلمة " بعيد " ، نعرف أن الشيء البعيد هو الذي بينه وبين مصدره مسافة زمنية طويلة. والذي يضل قصارى ضلاله أن ينتهي بانتهاء حياته، لكن الذي يعمل على إضلال غيره فهو يجعل الضلال يمتد، أي أن الضلال سيأخذ في هذه الحالة زمناً أكبر من حياة المُضل، ويتوالى الضلال عن المضلين أجيالاً، وهكذا يصبح الضلال ممتداً.
والضلال المعروف في الماديات البشرية هو - على سبيل المثال - أن يسير الإنسان إلى طريق فيضل إلى طريق آخر. وقصارى ما يضل فيه هو أن يذهب إلى مفازه - أي صحراء - ولا يجد ماء ولا طعاماً فيموت. لكن الضال المضل يجعل ضلاله يأخذ زمن الدنيا والآخرة وبذلك يكون ضلاله ممتداً.
ومن بعد ذلك يقول الحق: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ... }

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169)


والحديث هنا يبدأ عن الكفر والظلم { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ }. والكفر هو ستر الوجود الأعلى، والظلم معناه أنهم عاشوا بمنهج بشري لا يؤدي لهم متاعاً ولا سعادة في حياتهم الدنيا، وبذلك يكونون قد ظلموا أنفسهم. ومن بعد ذلك يقودهم هذا المنهج إلى عذاب الآخرة. والذي كفر ستر وجود الله وحرم نفسه بستر الوجود الأعلى من المنهج الذي يأتي به الله إنه بذلك قد ضل ضلالاً بعيداً. وسبحانه القائل:{ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَىا }[طه: 123]
وهناك آية أخرى يقول فيها الحق:{ فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }[البقرة: 38]
والذي يأخذ بهوى نفسه وبمنهج البشر فإن له معيشة ضنكا ضيقة شديدة. ولا يظنن ظان أن الذي يأخذ ويتناول الأمور بهواه قد أخذ انطلاقاً بلا حدود وراحة لا نهاية لها، لا؛ لأن الذي يفعل ذلك قد يرتاح مرة لكنه يقابل التعب ويعيش فيه ولا ينفك عنه من بعد ذلك، وهكذا يظلم نفسه.
وقد يقول قائل: لقد ظلموا أنفسهم، ومعنى ذلك أنه لا بد من وجود ظالم ومظلوم. فمن هو الظالم ومن هو المظلوم؟. كل واحد منهم الظالم. وكل واحد منهم المظلوم؛ لأن الإنسان مركب من ملكات متعددة، ملكة شهوات تريد أن تنطلق إلى الشهوات، وملكة قيم تريد أن يحفظ الإنسان نفسه ويسير على صراط القيم المستقيم.
وفي حالة من يكفر ولا يتبع منهج الله إنما يترك الفرصة لملكة الشهوات أن تظلم ملكة القيم. والإسلام إنما جاء ليوازي بين الملكات لتتساند في النفس البشرية، فلا يطغى سيال ملكة على سيال ملكة أخرى.{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَكَانَ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً }[النساء: 168-169]
هذا هو حكم الحق في الذين يكفرون ويظلمون أنفسهم، لن ينالوا مغفرة الله وليس أمامهم إلا طريق جهنم خالدين فيها أبداً. ويقول الحق بعد ذلك: { ياأَيُّهَا النَّاسُ... }

يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآَمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170)


فبعد أن وصف لنا - بإيجاز محكم - سلسلة المعارك التي نشأت بين الرسول واليهود مرة، ومرة أخرى بينه وبين المشركين، وها هوذا سبحانه يخاطب الناس جميعاً، ليصفي مركز منهج الله في الأرض، فيقول منبهاً كل الناس: لقد جاءت رسالة محمد عليه الصلاة والسلام تصفية لكل الرسالات التي سبقت، وعلى الناس جميعاً أن يميزوا، ليختاروا الحياة الإيمانية الجديدة؛ لأن الرسول قد جاء بالنور والبرهان، الذي يرجح ما هو عليه صلى الله عليه وسلم على ما هم عليه، والنور الذي يهديهم سواء السبيل.
لقد كان الناس قبل رسول الله على مِلَلٍ وعلى أديان ونحل شتى، فجاء البرهان بأن الإسلام قد جاء ناسخاً وخاتماً. والبرهان هو تعاليم هذا الدين وأدلته، فلا حجة لأحد أن يتمسك بشيء مما كان عليه. وجاء محمد بالنور الذي يهدي الإنسان إلى سواء السبيل، وهذه تصفية عقدية شاملة، أو كما نقول بالعامية " أوكازيون إيماني " تتخلص به البشرية من كل ما يشوب عقائدها، ولتبدأ مرحلة جديدة.
{ ياأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ } والحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير مهما تغيرت عليه الظروف؛ لأن الحق صدق له لون واحد، فإذا ما رأيتم جميعاً حادثة واحدة، ثم جاء كل واحد منكم فأخبر بها إخبار صدق فلن تختلف رواية الحادثة من واحد لآخر. أما إن سولت نفس بعض الناس لهم أن يتزيدوا في الحادثة فكل واحد سيحكي الحادثة على لون مختلف عن بقية الألوان، وقد يسافر خيال أحدهم في شطحة الكذب ويسترسل فيه.
إذن فالذي لا يتغير في الحق هو أن يحكوا جميعاً الرواية الواحدة بصدق ولو كانوا ملايين الناس، لكن إن سولت نفوس بعضهم الكذب وحسنته له وأغرته به لاختلفت الرواية؛ لأن الكذب مشاع أوهام ولا حقيقة له. والحق سبحانه وتعالى يوضح لنا: لقد جاءكم الرسول بالحق مهما تغيرت الظروف والأحوال، ومهما جئتم إليه من أي لون، سواء في العقديات أو في العباديات أو في الأخلاق أو في السلوك. وستجدون كل شيء ثابتاً لأنّه الحق.
ويضرب الحق سبحانه وتعالى لنا مثلاً في هذا الحق:{ أَنَزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذالِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ }[الرعد: 17]
كل وادٍ يأخذ ماء على قدر حجمه، وساعة ينزل السيل من الجبال يحمل معه التراب والقش والأشياء التي لا لزوم لها، وهو ما نسميه " الريم " وهو الزَّبَد الرابي. وكذلك الحديد أو النحاس أو الذهب الذي نصنع منه الحلي أو أدوات المتاع، وعندما نضع هذه المعادن في النار، نجد الزِّبَد يفور على سطح هذه المعادن عندما تنصهر، وتسمى هذه الأشياء الخبث.

ويوضح الحق لنا كيف يضرب الحق والباطل.{ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ }[الرعد: 17]
ومهما اختلطت بالحق أشياء فهو كحق يبعد ويطرد هذه الفقاقيع والخبث وينحيها عنه. فإن علا الباطل يوماً على الحق فلنعلم أنه علو الزَّبَد الذي يذهب جفاء مرميا به ومطروحا، وسيظل الحق هو الحق. وسبحانه يقول: } ياأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ {. والإيمان هو اعتناق العقيدة بوجود الإله الأعلى، والبلاغ عنه بواسطة الرسل، وأن للحق ملائكة، وأن هناك بعثاً بعد الموت، وحساباً. ويقتضي الإيمان أن نعمل العمل وَفق مقتضياته وذلك هو اختيار الخير، ولنعلم جيداً أن الإيمان لا ينفصل عن العمل.
وماذا يحدث لو لم يؤمن الناس؟ ها هوذا الحق يقول: } وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً { وسبحانه غني، وسيظل كَونُه الثابتُ - بنظرية القهر والتسخير - هو كونه، ولن يتغير شيء في الكون بكفر الكافرين، سوى سخط الكون عليهم لأنه مسخر لهم؛ لأن الكون ملك لله، ولن تتغير السماء ولا النجوم ولا القمر ولا المطر ولا أي شيء.
ونقول لك: لو نظرت إلى الدنيا لوجدت الفساد فيها ناشئاً مما فعلته وأحدثته يد الإنسان على غير منهج الله، أما الشيء الذي لم تدخل فيه يد الإنسان فهو لا يفسد، ولم نر يوماً الشمس وقد عصيت عن الشروق أو الغروب، وكذلك القمر لم تختل حركته، وكذلك النجوم في الأفلاك، وتسير الرياح بأمر خالقها، وكل شيء في الكون منتظم الحركة، اللهم إلا الأشياء التي يتدخل فيها الإنسان، فإذا كان قد دخلها بمواصفات منهج الله فهي منسجمة مع نفسها ومع الكون، وإن دخلها بغير مواصفات منهج الله فلن تستقيم، بل تفسد.
ولذلك قال الحق:{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىا يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ }[الرعد: 11]
إن الأمر الفاسد إنما يأتي من داخل نفوس البشر عندما يضلون عن منهج الله، ولذلك نقول: أشَكى الناس أزمة ضوء؟. لا؛ لأن الشمس ليست في متناولنا، وكذلك لم يشك الناس أزمة هواء، لكنهم يشكون أزمة طعام؛ لأن الطعام ينبت من الأرض، فإما أن يكسل الإنسان مثلاً فلا يعمل، وإما أن يعمل ويخرج ثمراً فيأخذه بعضهم ويضنوا ويبخلوا ولا يعطوه لغيرهم، وهذا سبب من أسباب الفساد الناشئ في الكون.
وجاء الحق لهم بما يمكن أن يكون فتحاً يدخلون فيه بالإيمان بمنهج الرسول الخاتم، ويكفرون عن أخطائهم مع أنبيائهم ومع محمد صلى الله عليه وسلم، يقول سبحانه: } ياأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ... {

(/656)


يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)


يبدأ الحق بأمر موجه لأهل الكتاب: { لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ } والغلو هو الخروج عن حد الاعتدال في الحكم، لأن كل شيء له وسط وله طرفان، وعندما يمسك شخص طرفاً نطلب منه ألا يكون هناك إفراط أو تفريط. وقد وقع أهل الكتاب في هذا المأزق، فلم يأخذوا الأمر بالاعتدال دون إفراط أو تفريط، لقد كفر اليهود بعيسى واتهموا مريم بالزنا، وهذا غلو في الكُرْه، وغالى النصارى في الحب لعيسى فقالوا: إنه إله أو ابن إله أو ثالث ثلاثة؛ وهذا غلو، ويطلب الحق منهم أن يقفوا من أمر الدين موقف الاعتدال: { لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ }.
إن أمر المنهج لا يحتاج إلى غلو، ولذلك جاء محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله بالدين الوسط الذي يضع كل أمر في نصابه. وشرح لنا بإخبارات النبوة وإلهامها ما سوف يحدث للإمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وقد حدث ما تنبأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالخوارج كفَّروا علياً، والمسرفون بالتشيع قالوا: إنه نبي، وبعضهم زاد الإسراف فجعله إلهاً.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعليّ - كرم الله وجهه -:
" إن فيك من عيسى مثلا. أبغضته اليهود حتى بهتوا أُمَّهُ، وأحبته النصارى حتى انزلوه المنزل الذي ليس له ".
وكما قال سيدنا علي - كرم الله وجهه -: " ألا وإنه يهلك فيّ اثنان: محبٌ يقرظني بما ليس فيّ، ومبغض يحمله شنآني على أن يبهتني، ألا إني لست بنبيّ ولا يوحى إليّ، ولكني أعمل بكتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ما استطعت، فما أمرتكم من طاعة الله فحق عليكم طاعتي فيما أحببتم وكرهتم ".
وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عليّاً أن المحب الذي يغالي في حبه ليس مع عليّ وكذلك الكاره المبغض؛ فالذي يحب عليا بغلو جعل منه إلهاً أو رسولاً، والذي أبغض علياً جعله كافراً. وكذلك النصارى من أهل الكتاب جاءوا إلى عيسى فأحبوه بغلو وجعلوه إلهاً أو ابن إله أو ثالث ثلاثة، فيقول لهم الحق: { لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ }. وقوله الحق: { عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ } رد على غلو اليهود الذين رفضوا الإيمان بعيسى، وقالوا في عيسى وأمه البهتان العظيم.
وقوله الحق عن عيسى ابن مريم: { رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىا مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ } رد على غلو النصارى الذين نصبوه إلهاً أو جعلوه ابناً لله أو ثالث ثلاثة، فعيسى عليه السلام هو ابن مريم وعندما بشرها به الحق وقالت:

{ أَنَّىا يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ }[آل عمران: 47]
قالت ذلك بفطنة الصديقية التي جعلتها تنبه إلى أنها لم يمسسها بشر، ومادام الحق قد نسبه إليها فليس له أب، سيولد عيسى دون أن يمسسها بشر، ويوضح سبحانه ذلك عندما يقول: } إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىا مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ {. فعيسى روح من الحق؛ لأنه سبحانه قال:{ فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا }[الأنبياء: 91]
وما معنى " كلمته "؟. هذا القول يدل على أن الروح نفخت ثم جاءت كلمة " كن " التي قال عنها سبحانه:{ إِذَا قَضَىا أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }[آل عمران: 47]
لقد احتاج وجود عيسى إلى أمرين: " روح " و " كن ". والشبهة عند النصارى مردها إلى أن عنصر الذكورة لم يلمس مريم؛ وقالوا: مادام الله قد قال: إن عيسى روح منه فهو جزء من الله، ونسوا أن كل شيء من الله، وسبحانه القائل:{ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ }[الجاثية: 13]
فهل هذا يعني أن " الأرض " قطعة من الله وكذلك الشمس؟. لا. فإذا كانت الشبهة قد جاءت من غياب عنصر الذكورة مع وجود عنصر الأنوثة لكان من الواجب منطقياً أن تكون الشبهة في آدم قبل أن تكون الشبهة في عيسى؛ لأن آدم جاء من غير ذكورة ولا أنوثة؛ فلا أب ولا أم له؛ لقد قال القرآن بمنتهى البساطة ومنتهى الوسع:{ إِنَّ مَثَلَ عِيسَىا عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ }[آل عمران: 59]
ولا يملك أحد القيد على فضل الله ووسعه، ومسألة آدم كانت أدق، لكن الله بتفضله يساوي بين خلق عيسى وخلق آدم، وهذا هو التلطف في الجدل. وأخبرنا سبحانه عن عيسى أنه جاء بأمر منه، وقال في آدم:{ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي }[الحجر: 29]
إذن فآدم قد احتاج إلى الأمرين نفسيهما: " كن " ، و " النفخ فيه من الروح " ، وعندما ننظر إلى هذه المسألة نجد أننا لا بد أن نتعرض لقضية خلق آدم، حتى نعرف كيف تسلسلت مسألة الخلق، سواء أكان الخلق ملائكة أم خلق آدم أم خلق حواء أو غيرهم من الخلق، كذلك خلق عيسى. لقد كان خلق آدم غيباً عن آدم، وليس لآدم نفسه ولا لمن جاء بعده أن يتكلم كيف خُلق؛ لأن هذه المسألة لا دخل لأحد بها، ويقول لنا الخلق محذرا من أن نستمع إلى قوم يقولون بغير ذلك عن الخلق فقال:{ مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً }[الكهف: 51]
ولا يمكن - إذن - أن نستمع إلى هؤلاء الذين افترضوا أن أصل الإنسان قرد أو غير ذلك؛ لأن الذي يتكلم عن الخلق بغير علم من عند الله، فهو يتكلم في أمر لم يشهده.

والخلق الأول أمر لا يمكن أن يدخل المعمل التجريبي؛ لأن المعمل التجريبي إنما يحلل مواد موجودة بالفعل. إذن فالحكم على أمور بغَير ما أخبرنا بها الله أمر باطل. ولم يكن هناك أحد مع الله ساعة خلق الخلق ليقول لنا كيف تم ذلك. وعَلِمْنا هذه المسائل بإخبار الخالق لنا فهو الأعلم بنا، والخالق أخبرنا أنه خلقنا من ماء وتراب وطين وحمأ مسنون وصلصال كالفخار، وحدثنا بذلك في آيات متعددة. والذين يريدون أن يكذبوا القرآن يقولون: إن القرآن لم يأت بخبر واحد عن خلق الخلق، فمرة يقول إن الخلق كان من ماء ومرة كان من تراب، ومرة كان من طين، ومرة كان من صلصال.
ونقول: أحين يتكلم الحق عن مراحل الخلق فهل في هذا تضاد؟. اصل الخلق ماء، خلطه الحق بتراب، وبعد وضع الماء على التراب صار الإثنان طيناً، ثم إذا تركنا الطين إلى أن يختمر، يصير حمأ مسنوناً، وبعد ذلك يصير صلصالاً، ومن بعد ذلك خلق منه الحق آدم. إذن فكل شيء تكلم عنه سبحانه في خلق آدم إنما يتفق مع كل الآيات التي جاءت عن هذا الخلق. وهو القائل عن آدم:{ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي }[الحجر: 29]
وبعد صنع الله القالب الذي يشبه التمثال الذي نراه، ولكن تنقصه الحركة ولحياة، فيأتي النفخ في الروح بكلمة " كن ". إذن نحن نحتاج إلى روح وإلى كلمة. والروح عنصر وجودي. وعندما تختلط بالقالب تحدث الحياة، ولا بد من بعد ذلك من الإرادة بكلمة " كن ". ولذلك نجد الإنسان قد يصنع نفس خلطة الإنسان الكيماوية لكنها لا تصير إنساناً؛ لأن الأمر ينقص الإذْن بميلاد الإنسان.
وساعة يتكلم الحق عن خلق آدم وهو أمر لم نشهده، فذلك من رحمته بنا، ويترك لنا سبحانه في الكون دليلاً على صدقه عن خلق آدم، فإذا كنا لم نشهد خلق الحياة فنحن نشهد نقيض الحياة وهو الموت، الذي يحدث فيه أولاً خروج الروح، ومن بعد ذلك ينتفخ الجسم كأنه الحمأ المسنون، ثم يتبخر الماء، وبعد ذلك يتحلل إلى تراب. هذه هي مراحل الموت التي تبدأ من خروج الروح ويتصلب الجسم إلى أن يَرِم ثم يتبخر الماء، وتبقى العناصر في الأرض.
وإذا كنا لم نعرف كيف بدأت الحياة، فنحن نعرف كيف انتهت الحياة أمامنا بالأمر المشهدي، وجعل سبحانه أمر انتهاء الحياة أمامنا دليلاً على صدقة في إخبارنا بالحياة وكيف بدأت؛ لأن نقض الحياة يكون بالموت، ونقض أي شيء إنما يتم على عكس طريقة بنائه. وآخر أمر دخل في الإنسان هو الروح، ولذلك فهي أول ما يخرج من الإنسان عند الموت.

وبعد ذلك يتصلب الجسم، وبعد ذلك يصير رمة وهي الحمأ المسنون. وبعد ذلك يتبخر الماء ويبقى أخيراً التراب.
وقد حللوا الإنسان حديثاً. فوجدوا فيه عناصر كثيرة، ثم حللوا طينة الأرض الخصبة التي يخرج منها الزرع الذي يقتات منه الإنسان، فوجدوا هذه الطينة مكونة من هذه العناصر.
ومن العجيب أن العناصر المكونة للإنسان هي نفسها المكونة لطين التربة الخصبة، مما يدل على تأكيد الصدق في أن الله خلقنا من طين، وجعل استبقاء حياتنا مما يخرج من هذا الطين بعناصره المختلفة، جتى يمد كل عنصر من الطين كل عنصر من الوجود الإنساني. ولما قاموا بتحليل الإنسان مقارناً بتحليل التربة وجدوا أن أضخم عنصر في تكوين الإنسان هو الأوكسجين ونسبته على ما أذكر سبع وستون بالمائة، وبعده عنصر الكربون، ونسبته على ما أذكر تسع عشرة بالمائة، إلى أن تنتهي العناصر المكونة للإنسان والتربة إلى المنجنيز ونسبته تقل عن واحدة بالمائة، وأهم هذه العناصر هو:
الأوكسجين، الكربون، الهيدروجين، النتروجين، الكلور، الكبريت، الكالسيوم، والفوسفور، والبوتاسيوم، الصوديوم، الحديد، اليود، والسيلوز، والمنجنيز. هذه هي أهم وأكثر العناصر المكونة لتركيب الإنسان وهي العناصر نفسها الموجودة في تركيبة الطين وبعضها عناصر مكونة للمركبات العضوية وبعضها عناصر غير عضوية وبعضها عناصر وظائفها ثابتة ومعروفة، ويسأل أهل الذكر في تفاصيل ذلك.
وبطبيعة الحال فالذين قاموا بتحليل التربة وعناصر الإنسان لم يكونوا علماء دين، ولم يكن في بالهم إقامة الدليل على صدق الله في القرآن، ذلك أن بعضهم يجهل مسألة القرآن كلها، ولكن الحق سبحانه وتعالى أجرى على لسان رسوله حديثاً يشرح لنا حقيقة إثبات صحة كل ما فيه ولو جاء على لسان رجل فاجر، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر "
فسبحانه - إذن - أراد أن ينصر الدين بالكافرين، وجعل بعضاً منهم يصلون إلى أشياء لو أنهم علموا أنها ستخدم قضايا الهدى لما أعلنوها. ومن حكمة الله أن جعل الكافرين غير قادرين على إغفال نصرة الدين، وجعل سبحانه بعضاً منهم يخدمون الدين على رغم أنوفهم. ونريد أن نأخذ من هذه المسألة فهماً عميقاً، يتسم باللطف والسماحة، فإذا كان الله قد خلق الإنسان الأول من طين، وهناك آية أخرى قال عنها الحق:{ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي }[الحجر: 29]
وآية ثالثة قال فيها سبحانه:{ كُنْ فَيَكُونُ }[آل عمران:47]
إذن فخلق آدم احتاج إلى أمرين: النفخ من روح الحق، والأمر " كن " ، وهما الأمران أنفسهما في مسألة خلق عيسى، روح من الحق، وكلمته التي ألقاها إلى مريم، وهذه دليل صدق لقوله الحق:{ إِنَّ مَثَلَ عِيسَىا عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ }[آل عمران: 59]
والحق قد قص لنا أنه خلق آدم من طين وصنع القالب وسواه بيديه:

{ قَالَ ياإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ }[ص: 75-76]
فإذا كان الهيكل الذي خلقه الله ونفخ فيه الروح، ودبت فيه الحياة ثم تناسل النسل من آدم إلى أن تقوم الساعة، فهل مجيء عيسى على الصورة التي جاء بها يكون أمراً عسيراً على الله؟. لا. وساعة أنجب آدم أول ذرية له؛ ألم يخرج لحظتها حيوان منوي من آدم إلى البويضة في رحم حواء؛ وأراد به الله ميلاد أول نسل من آدم وهو جزء من آدم، وهذا الحيوان المنوي له مادة وله حياة، ومادته معروفة، وحياة هذا الحيوان المنوي هي التي تسمح له بالحركة لتلقيح البويضة، هذه المادة مخلوقة من آدم، والحياة التي فيه من روح آدم، وآدم نفسه خلقه الله بيديه، وهذا إثبات أن الحيوان المنوي هو جزء مما خلقه الله بيديه وهو آدم، وفي الحيوان المنوي حياة مما نفخه الله من روحه، وانتقل إلى رحم حواء وأخصب البويضة وولدته حواء، واستمر ميلاد حيوانات منوية حية تخصب بويضات حية ليستمر الخصب والنسل والأحفاد.
إننا إذا سلسلنا نسل آدم إلى أن تقوم الساعة، فكل ذرة من ذرات من يوجد آخر الدنيا مكونة من شيء به خلق من خلق الله في القالب، وفيه شيء من نفخ الله في الروح؛ ولم يطرأ عليه موت أبداً؛ فلو طرأ عليه موت أو فناء لما صلح أن ينجب مثله. وهكذا نعلم أن كل واحد فينا به جزء من القالب الذي صنعه الله بيديه، وفيه جزء من نفخ الروح.
وأكرر المثل الذي أضر به دائماً ليستقر في أذهان الناشئة؛ لو جئنا بسنتيمتر مكعب من سائل ملون مركز، وأضفناه إلى لتر من الماء، ثم أخذنا قطرة من لتر الماء سنجد بها جزءا ضئيلاً من السنتيمتر المكعب الملون. وإذا أخذنا هذه القطرة وأضفناها إلى برميل من المياه فيصير في البرميل جزء من السنتيمتر المكعب الملون. وإذا أخذنا من البرميل قطرة من المياه، وأضفناها إلى البحر فإن جزءا من السنتيمتر الملون يصير بالبحر. إذن فكل نسل آدم - إلى أن تقوم الساعة - فيه جُزَيْء - من آدم عليه السلام.
ونلحظ أن كثيراً من المفكرين والمثقفين في الغرب صاروا يبتعدون عن فكرة بنوة عيسى لله. وعندما يدخلون في نقاش حول هذه المسألة يقولون: إنها بنوة حب. وإذا كانت المسألة بنوة حب، فالله يحب جميع عباده ونصير نحن مثل المسيح ويصير المسيح مثلنا. فالخلق كلهم عيال الله، والحديث القدسي يقول:
" الناس كلهم عيال الله وأحبهم إلى الله أنفعهم بعياله "
ولو أخذنا هذا القول بالدقة التجريبية المعملية نجد أن هذا القول صدق وحق؛ لأننا جميعاً قد صدرنا عن قدرة الله وإرادته وكل منا فيه شيء من صنع الله منذ بداية خلق آدم، إذن هو بشر مثلنا ويتميز عنا بأن السماء اختارته رسولاً.

أما القول بالثالوث. فبعضهم يقول: نقصد بالثالوث ثالوث الصفات. وهل ثالوث الصفات تأتي فيه إضافيات؟. كالقول " بالأب والابن والروح القدس "؟ لن يوجد أب إلا إذا وُجد ابن، ولن يوجد ابن إلا إذا وجد أب.
إننا نعلم أن هناك حقائق ثابتة وهناك حقائق إضافية؛ فالإنسان يكون ابناً وأباً، فهو ابن بالنسبة لوالده، وهو أب بالنسبة لابنه، وكل هذه صفات إضافية، وصفات الحق يُفترض فيها أنها تجتمع لا أن تكون إضافية، وعندما يقال: " الأب والابن والروح القدس " فهذا القول لا يحمل صفات إلهية، بل صفات إضافية، وحاول بعضهم أن يقول: " إن فاتحة الكتاب يوجد فيها التثليث؛ لأنكم تقولون بسم الله الرحمن الرحيم، أنتم تفتتحون القرآن بثلاث صفات هي الله والرحمن والرحيم " وقلت لهم: نحن نقول " بسم الله الرحمن الرحيم " ولا نقول " بسم الله والرحمن والرحيم ".
وما الذي يجعل الحق يُنجب ابناً منذ أكثر من ألف وتسعمائة سنة؟. ثم يترك سبحانه الأزمان السابقة على ميلاد المسيح محرومة من ميلاد ابن له؟. لماذا يترك الله الأزمان كلها بدون ابن لله، ويختص البشرية بابن له منذ حوالي عشرين قرناً فقط؟. ثم ما المدة الزمنية التي شرفها الله بابنه بأن أوجده فيها؟
أتكفي ثلاثة وثلاثون عاماً فقط - وهي عمر المسيح - لتشريف البشرية بوجود ابن الله؟. ولماذا يحرم الله - إذن - بقية الأزمان من بدء الخليقة إلى يوم القيامة من هذا الشرف؟.
ونسأل أيضاً لماذا يريد أي كائن إنجاب ابن؟. إنه يرغب ذلك ليضمن استبقاء الحياة؛ لأن الإنسان يعرف أنه سيموت، والحق سبحانه وتعالى هو الذي خلق الموت والحياة وهو الباقي أبدا، وليس في حاجة لاستبقاء حياته في أحد من البشر ويؤكد لنا ذلك في سورة الإخلاص.{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ }[الإخلاص: 1-4]
وهم يقولون: " إله واحد " ، ومرة أخرى يقولون: " إله أحد ". وواحد لا تساوي " أحد " والدارسون للغة والمنطق يعرفون أن هناك شيئاً اسمه " الكل " وشيئاً اسمه " الجزء " وشيئاً اسمه " الكلي " وشيئاً اسمه " الجزئي ".
" فالكلي " يطلق على ماله أفراد مثل الإنسان: كخالد ومحمد وعليّ، و " الكل " يُطلق على ماله أجزاء، مثال ذلك الكرسي نجده مكوناً من أشياء؛ كالخشب والغراء والمسامير وغير ذلك من مواد.

فالكرسي - إذن - " كُلٌّ " لأنه مصنوع من مواد كثيرة. وحقيقة الخشب تختلف عن حقيقة المسمار؛ لذلك فالكرسي " كُلٌّ " لأنه مكون من أشياء كثيرة مختلفة الحقائق. ولا يصح أن نطلق على أي شيء من مكونات الكرسي اسم " كُل ". فلا نقول: " المسمار كرسي " أو " الخشب كرسي "؛ لأن الكرسي يُطلق على مجموع الخشب والمسامير والغراء والطلاء في شكل وترتيب معين.
ومثال آخر، كلمة " إنسان " وهي كلمة تطلق على كثيرين، ولأن الحقائق متفقة نطلق على الإنسان كلمة " كُلّي ".
ويصح أن نطلق على أي كائن يتمتع بالصفات المتفق عليها للإنسان لقب إنسان، فنقول محمد إنسان وزيد إنسان، وعليٌّ إنسان. " فالكل " له أجزاء، وللـ " كلي " جزئيات، ويكون الكل شيئا واحداً ولكنه ذو أجزاء، فقد يكون عندنا كرسي واحد. ولكن لهذا الكرسي أجزاء.
وهل نقول على الحق سبحانه وتعالى: انه " كل " أو " كلي "؟. لا نقول على اسم الحق " كل " أو " كلي "؛ لأنه اسم لا يطلق على كثيرين فليس كليا لأنه واحدٌ، وليس له أجزاء؛ لأنه أحد، وليس له أفراد لأنه واحد. فلا يقال لله سبحانه وتعالى " كل " أو " جزء " أو " كلي " أو " جزئي " ، فلو كان كُلٍّياً لكان - كما قلنا - له أفراد ولو كان " كُلاًّ " لكان له أجزاء، ولكن الله واحد لا أفراد له، وأحد لا أجزاء له.
ولذلك يَرُدُّ القرآن على أي قائل بغير هذا، فيقول:{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }[الإخلاص: 1]
ويقول أيضاً:{ وَإِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ }[البقرة: 163]
وقد قلت كل ذلك لنفهم قوله الحق:{ ياأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىا مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً }[النساء: 171]
وقوله الحق: " انتهوا " أي اقضوا على كلمات الباطل، و " خيراً لكم " أي تمسكوا بكلمات الحق، وفي قوله: " انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ { تخلية وإبعاد لكلمات الباطل، نأخذ ذلك من قوله: (انتهوا) وتحلية لكلمات الحق ونأخذها من قوله - سبحانه -: } خَيْراً لَّكُمْ {.
ويقول الحق: } إِنَّمَا اللَّهُ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ { أي أنه سبحانه لا أفراد له، ويضيف: } سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ { ، وساعة نسمع كلمة " سبحانه " فلنفهم أنها تنزيه للذات الخالقة.
ولذلك نجد كلمة " سبحانه " تأتي في الأمور العجيبة التي يقف فيها العقل، وعلى الرغم من وجود كفار في هذا الوجود، وعلى الرغم من وجود مجترئين على الله في هذا العالم، وعلى الرغم من وجود من ينعتون البشر بألفاظ الألوهية، إلاأن إنساناً واحداً لم يجترئ على أن يقول لمخلوق كلمة: " سبحانك " ، ولذلك نقول لله عز وجل " سبحانك أيضاً في سبحانك ".

كذلك لم نجد أحداً من أي ملة أو عقيدة أو دين قد سمى نفسه باسم " الله " ، وهو سبحانه يتحدى به حتى الكفرة والملاحدة أن يسمى هذا الاسم لمسمى أي مسمى. وبالله هل يوجد واحد من المتبجحين الكافرين يسمي ابناً له " الله "؟.
حتى هذه لم توجد؛ لأن هذا الكافر غير واثق أنه على حق. ومن الجائز أن يفعل ذلك فتحدث له كارثة. ولو كان هناك كافر واحد مؤمن بما يقول بأنه لا إله لهذا الكون لسمّى ابناً له " الله ". لكن أحداً لا يجترئ على هذه:{ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً }[مريم: 65]
وكان هذا التحدي موجوداً من قبل أن تنزل هذه الآية. فماذا عن الذي جاء بعدها بزمن؟ وهل اجترأ أحد على أن يسمي ابناً له " الله "؟ لم يجترئ أحد على هذه أيضاً على الرغم من أنهم يسمون بكل شيء؛ وكان عندنا في القرية واحد أطلق على ابنته اسماً طويلاً عجيباً. لقد سمّاها " ورد انتشي في دندشة روح الفؤاد والملك وفا " وهو حرّ في ذلك، لكن لم يجرؤ أحد على الإطلاق أن يسمي ابنه " الله " ، وهذا دليل على أن الملاحدة والكفار على باطل. ويخاف أي منهم أن يجترئ على هذه المسألة، ويتحدى الحق بسبحانك ويتحدى بالذات " الله " ، ولذلك فليقل كل واحد " سبحانك " وهو مطمئن، " ولا تقال إلا لك " ، واستقرئوا وتتبعوا المدائح التي قيلت للناس جميعاً، أقال واحد من البشر لواحد من البشر " سبحانك "؟
ما قالها أحد قط. وهكذا يتحكم الله في أمر للإنسان اختيار فيه، ولا يجرؤ إنسان على إطلاق هذه الأسماء على أحد من البشر. } إِنَّمَا اللَّهُ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ { و " الولد " كما نعلم يكون مما في السموات أو مما في الأرض؛ فكيف يكون له وملكه، وهو ابنه؟ إن هذا الادعاء لا يستقيم أبداً، ولذلك يذيل الحق الآية: } وَكَفَىا بِاللَّهِ وَكِيلاً {.
ويقول الحق بعد ذلك: } لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ... {

(/657)


لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172)


مصدر الشرف للإنسان أن يحس ويشعر بتجلي الله عليه بعبوديته له، وسبحانه عندما أراد أن يتجلى على نبينا الخاتم صلى الله عليه وسلم ويسري به إلى المسجد الأقصى؛ قال:{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىا بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَىا الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ }[الإسراء: 1]
ولم يقل: " سبحان الذي أسرى برسوله " ولكنه قال: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىا بِعَبْدِهِ }؛ لأن " العبودية " عطاء علوي من الله، فكأن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم عندما تناهى في العبودية لله نال تناهي الخير، فمن إذن يستنكف أن يكون عبداً لله؟ لا يستنكف المسيح ذلك، وكذلك الملائكة لا تستنكف أن تكون عبيداً لله. { وَلاَ الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ } ويسمون ذلك ارتقاء في النفي، مثلما يقول فلاح: لا يستطيع شيخ الخفر أن يقف أمامي ولا العمدة.
إذن فالملائكة في الخلق أحسن من البشر. ولذلك قال الحق: { لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ } وقال بعض العلماء: إن خواص البشر أفضل من خواص الملائكة، وعوام الملائكة أفضل من عوام البشر والأصل في اللغات أن توضع الألفاظ أولأً لمحسّات، ثم تنتقل من المحسّات إلى المعنويات؛ لأن إلف الإنسان في أول تكوين المدركات له إنما يكون بالحسّ، كما قال الحق:{ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }[النحل: 78]
إذن مادام سبحانه قد قال: { لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً } فالذي يأتي من بعدها إنما يأتي كوسيلة للعلم، وهي حواس السمع والإبصار والقدرة على تكوين الخبرة. ومثال ذلك عندما ندرس في الفقه موضوع الغصب. والغصب هو أن يأخذ أحد حق غيره قهراً وعلانية، وهو غير السرقة التي يأخذها السارق خفية. وغير الخطف؛ لأن الخطف هو أن تمتد يد لتشد شيئاً من أمام صاحبه ويجري الخاطف بعيداً، أما الغصب فهو الأخذ عنوة.
وكلها - الغصب، والسرقة، والخطف - هي أخذ لغير الحق، والغصب مأخوذ من امر حسيّ هو سلخ الجلد عن الشاة. وسُمِّيَ أخذ الحق من صاحبه غصباً، كأنه أخذ للجلد. ونُقل المعنى من المُحسّات إلى المعنويات. وفي الآية التي نحن بصددها يقول الحق: { لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ }. و " يستنكف " مثلها مثل " يستفهم " ، ومثل " يستخرج ".
إذن فهناك مادة اسمها " نكف " ، و " النَّكْف " عملية حسّية تتمثل في أن يزيل الإنسان دمعة العين بأصبعه. ولنفرض أن إنساناً يعلم أن له كرامة في البيت وجاء له ظرف نفسي جعله يبكي، فدخل عليه ابنه أو زوجته، فهو يحاول إزالة الدمع بأصبعه. " واستنكف " معناها أزال " النَّكْف ".

والنكف معناه أن يزيل الدمع بأصبعه. وإزالة الدمع بالأصبع تعني أن صاحب الدمع يستكبر أن يراه أحد باكياً لأنه مقهور على أمر قد كان، وهذه العملية لا تحدث إلا عندما يريد الإنسان أن يستر بكاءه عن أحد.
وانتقلت هذه الكلمة من المعنى الحسيّ إلى أي مجال فيه استعلاء، مثلما يستنكف إنسان أن يسير في طريق إنسان آخر، أو أن يجلس مع آخر، أو يجلس في مقعد أقل من مقعد آخر.
ويشرح ذلك المعنى الدارج بأن المسيح لا يجد غضاضة أن كان عبداً لله، ولا يستكبر على ذلك بل هو يُشرف به. والملائكة المقربون أيضاً تشرف بهذا الأمر، والملائكة المقربون هم الذين لا يعلمون شيئاً عن هذا العالم وليس لهم عمل إلا التسبيح لله؛ لأنهم عرفوا العبودية لله. وهي عبودية ليست لمن يَسْتَذِل، لكنها لمن يُعزّ، وليست عبودية للذي يأخذ ولكنها للذي يعطي. والذي يستنكف من ذلك لا يعرف قيمة العبودية لله؛ لذلك لا يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله، ولا الملائكة المقربون.
ويضيف الحق: } وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً { المستنكفون؛ أو الذين على طريقة الاستنكاف، ومن يشجعهم على ذلك، كل هؤلاء يصيرون إلى جهنم.
ويقول الحق بعد ذلك: } فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ... {

(/658)


فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)


لماذا لم يأت الله بشرط الآية الثاني الذي يتحدث عن المستنكفين والمستكبرين مقدماً على شطر الآية الأول؟. ولماذا لم يواصل الحديث عن الذين استنكفوا واستكبروا ليستكمل ما جاء بشأنهم في الآية السابقة ويبينْ كيف أن مصيرهم إلى العذاب حيث لا يجدون من دون الله ولياً ولا نصيراً، ثم بعد ذلك يحدثنا عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات؟.
ذلك أن الحق ساعة يتكلم عن جماعة خرجت عن المنهج فهو لا يمنحهم ثواب هؤلاء الذين لم يخرجوا عن المنهج، فيأتي أوّلاً بثواب الطائعين ليستشرف إليه الخارجون عن طاعة الله، ثم يحرمهم من هذا الثواب لتكون حسرة الخارجين عن المنهج أشد. " والضد يظهر حسنه الضد ".
لقد قال الحق: { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ } ونعلك أن الأجر على العمل. لماذا الفضل إذن؟. لقد عرفنا من قبل أن العمل جاء فيه حديث شريف:
" لن يُدخل أحداً عمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: لا، ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة، فسددوا وقاربوا ولا يتمنين أحدكم الموت، إما محسنا فلعله أن يزداد خيرا، وإما مسيئا فلعله أن يستعتب "
والحق قد قال:{ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ }[يونس: 58]
وفطن الناس إلى ذلك فقالوا: " اللهم بالفضل لا بالعدل "؛ لأن الفضل هو الذي يعطينا المنازل المتميزة، وقد يضيعنا العدل.
ويقول الحق مرة أخرى عن هؤلاء الذين استنكفوا واستكبروا: { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } أي أنهم لن يجدوا من يشفع لهم عند الله، ولا من ينصرهم ولا أحد بقادر أن يرد عنهم العذاب.
وبعد ذلك يقول الحق: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ... }

(/659)


يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174)


والبرهان هو الإعجاز الدال على صدق المبلغ الأخير عن الله، وهو الحجة الدامغة.
وقد يقول قائل: ما هو البرهان وما هو النور؟. ونعلم أن كل رسول يأتي بمعجزة تثبت صدق بلاغه عن ربه قد تكون المعجزة بعيدة عن المنهج، ثم يعطيهم الرسول المنهج ببلاغ من الله؛ مثال ذلك أن معجزة سيدنا موسى كانت العصا لكن منهجه هو التوراة. إذن فالمعجزة هي البرهان على صدق الرسول فيما بلغ عن ربه، وقد لا يكون للمعجزة صلة بالمنهج، فعيسى عليه السلام كانت معجزته إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله ومنهجه الإنجيل.
اما رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم وهو النبي الخاتم فقد تجلت معجزته في أنها عين منهجه، إنّها القرآن ولم تنفصل المعجزة عن المنهج؛ لأنه رسول عام إلى الناس كافة وإلى أن تقوم الساعة. هذا هو البرهان. أما " النور " فقد جاء أيضاً من أمر حسيّ؛ لأن النور يمنع الإنسان من أن يتعثر في مشيته أو أن يخطئ الطرق أو أن يصطدم بالأشياء فيؤذيها أو تؤذيه. إذن النور الموجود في القرآن هو حقائق القيم، أما نور الله في الماديات فهو أمر معروف للكافة.
ومن بعد ذلك يقول الحق: { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ... }

(/660)


فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)


لقد آمنوا بالله واعتصموا به، ما معنى الاعتصام؟. قديماً كان الرجل عندما يقع في هوة يصرخ ليحذبه إنسان خارج الهوة بيده، وهذا هو الأصل في الاعتصام، أي يستمسك الإنسان بمن ينقذه من هاوية أو كارثة، والحق يعطي الأسباب، فإذا جاءت الشمس وسار فيها إنسان فقد أعطاه الله الشجرة ليستظل بها. وإذا ما نزل المطر فيمكن أن نستتر منه بمظلة، وإذا عطش إنسان فالله يعطيه سبباً ليأخذ كوب ماء، والعاقل هو الذي يذكر عند كل سبب من أوجد السبب.
فإياك أيها المؤمن أن تغتر بالأسباب؛ لأن عدم الاغترار بالأسباب يحمي الإنسان. فعندما تأتيه أمور في ظاهرها شر، فمادام مجريها هو الله فهي خير بالتأكيد، لكنك لا تعلم.
وما أضل علم الإنسان في كثير من المسائل؛ فالإنسان قد يحسب أمرا أنّه هو الحسن، فيظهر له بعد حين أنه السوء، وقد يعتبر إنسان أمرا هو السيئ، فيظهر له بعد حين أنه الحسن، ولا يوجد واحد منا إلا وفي حياته أشياء كان يظنها خيرا؛ فإذا بها شر، أو كان يظنها شراً فإذا بها خير. والشر هو ما يأتيه الإنسان لنفسه بعمله، أما الأمور التي تقع على الإنسان فحكمتها تمشي على مقتضى علم الله لا على مقتضى هوى البشر.
إننا نجد من يقول: إنني أدعو الله بكذا ولا يستجيب لي. ونقول: أنك تدعو بأشياء تظنها الخير لك؛ لكن الله يعلم أن هذه الأشياء ليست هي الخير؛ لذلك لا يعطيها لك، فإن كنت مؤمناً بالله ومعتصماً به فأنت تهمس لنفسك: أَلِيَ في هذا الأمر مدخل أم لا مدخل لي فيه؟. فإذا كان لك فيه مدخل فاللوم على نفسك. وإن كان الأمر قد أجراه عليك فهو خير لك ولله حكمة في ذلك.وحَظِّي من الدنيا سواء لأنني رضيت بحكم الله في العسر واليسرفإن أقبلت كان الجزاء على النجا وإن أدبرت كان الجزاء على الصبر{ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً }. وماداموا قد آمنوا بالله واعتصموا بالله واعتصموا به فسيهديهم صراطه المستقيم، وعاقبة الهداية وثمرتها فسرها وبيّنها قوله الحق:{ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ }[محمد: 17]
وقال لنا الرسول صلى الله عليه وسلم:
" من عمل بما عَلِم ورّثه الله عِلْمَ ما لم يعلم "
أي يصير مأموناً على العلم؛ لأن العلم الذي أخذه عن الله وظَّفه في خدمة غيره، ولم يدخره أو يعطله. ويختتم الحق سبحانه وتعالى سورة النساء بقوله: { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ... }

(/661)


يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)


والاستفتاء هو طلب الفتيا. ومعناها إرادة معرفة حكم شرعي لله في أمر لا يجد السائل علماً له فيه. وكان الصحابة يستفتون رسول الله، مع أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم:
" ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه "
وجاء القرآن في كثير من الآيات بـ " يسألونك ". كأن الحق يعلمنا أن الصحابة أرادوا أن يثبتوا أنهم أحبوا منهج الله فأرادوا أن يبنوا حياتهم كلها على منهج الله، ولو كانوا قد كرهوا منهج الله لما سألوا، لقد وجدوا أن الإسلام قد جاء، ووجد أشياء الجاهلية وأقرها، ووجد أشياء قام بتغييرها؛ ولم يرد الصحابة أن يصنعوا الأشياء على أنّها امتداد لصنع الجاهلية، بل أرادوا أن يصنعوها على أنها حكم للإسلام؛ لذلك جاءت أسئلتهم الكثيرة. والفتوى تكون في حكم. والسؤال يكون في حكم وفي غير حكم. وهم يطلبون الفتوى في الكلالة، ودقة القرآن في إيجاز السؤال: { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ } وقد تقدم من قبل الحديث عن الكلالة:{ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً }[النساء: 12]
إلا أن الذي تقدم هناك كان عن الصلة من ناحية الأم، وسؤال جابر بن عبدالله كان عن الصلة من ناحية الأب.
فعن جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - قال:
(مرضت مرضا فأتاني النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وهما ماشيان فوجداني أغمي عليّ، فتوضا النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ثم صبّ وَضوءه عليّ فأفقت فإذا النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقلت يا رسول الله كيف أصنع في مالي؟ كيف أقضي في مالي؟ فلم يجبني بشيء حتى نزلت آية الميراث ".
وفي رواية أخرى عن الإمام أحمد فقلت: إنه لا يرثني إلا كلالة، فكيف الميراث؟ فأنزل الله آية الفرائض. وبعض العلماء قال: إن كلمة " كلالة " مأخوذة من كلال التعب؛ لأن الكلالة في الشرع هو من ليس له ولد ولا والد، والإنسان بين حياتين؛ حياة يعولها والد، وعندما يكبر ويضعف تصير حياته يعولها ولد؛ لذلك فالذي ليس له والد ولا ولد يعيش مرهقاً؛ فليس له والد سبق بالرعاية، وليس له ولد يحمله في الكبر؛ لذا سمي بالكلالة.
وبعضهم قال: إنها من الإكليل؛ أي التاج. وهو محيط بالرأس من جوانبه والمقصود به الأقارب المحيطون بالإنسان وليس لهم به صلة أعلى أي من الآباء، أو من أدنى أي من الأبناء.
{ إِن امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ } أي أن الكلالة هي أن يموت أحد وله أخت شقيقة أو أخت من أب فهي ترث النصف؛ وإذا ماتت هذه الأخت فالأخ يرثها سواء أكان شقيقاً أم أخاً لأب.

وإن ترك الرجل الكلال أختين أو أكثر فلهما الثلثان مما ترك ذلك الأخ. وإن كان له إخوة من رجال ونساء، فها هوذا قول الحق: } وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ {. أي أن للذكر من الأخوة مثل حظ الأنثيين.
ويختم الحق الآية: } يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {.
أي أنه الحق يبين أحكامه خشية أن يصيب القوم الضلال. وقد علم سبحانه أزلاً بكل سلوك، وكل خافية، وهو العليم أبداً بما ينفع الناس جميعاً. وبذلك انتهينا بعون الله من خواطرنا في سورة النساء.

(/662)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)


البداية - إذن - عن ضرورة الوفاء بالعقود وتحليل تناول بهيمة الأنعام كطعام. وسورة المائدة - كما نعلم - جاءت في الترتيب المصحفي بعد سورة النساء التي تتضمن الكثير من العقود الإيمانية؛ فقد تضمنت سورة النساء عقود الإنكاح والصداق والوصية والدَّين والميراث، وكلها أحكام لعقود، فكأن الحق سبحانه وتعالى من بعد سورة النساء يقول لنا: لقد عرفتم ما في سورة النساء من عقود، فحافظوا عليها وأوفوا بها.
ونلحظ أن سورة البقرة جاءت بعدها سورة آل عمران، وفي كلتيهما حديث عن الماديين من اليهود، وسورة النساء والمائدة تواجه أيضاً المجتمع المدني بالمدينة بعد أن كان القرآن بمكة يواجه مسألة تربية وغرس العقيدة الإلهية الواحدة والنبوات. وقد خدمت سورة البقرة وسورة آل عمران مسألة العقيدة المنهجية والأنبياء، وسورة النساء تتضمن حسم العقيدة الحكمية.
وها نحن أولاء أمام سورة المائدة التي يقول فيها الحق: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ } والحق يخاطب المؤمنين بالاسم الموصول، ولم يقل: يا أيها المؤمنون " ، وهذا يدل على أن الإيمان ليس أمراً عابراً يمر بالإنسان فترة من الزمن؛ ولكن الإيمان يتجدد بتجدد الفعل حتى ينفذ المؤمن الأحكام التي جاء بها العقد الإيماني. وحين يتوجه الحق بخطابه للذين آمنوا، إنما يؤكد لنا أنه لا يقتحم على أحد حياته ليكلفه، وإن كان سبحانه كرب للعالمين قد خلق الخلق وأوجد الوجود وسخّره للخلق.
الله - سبحانه وتعالى - لم يستخدم هذا الحق ليأمر البشر بالإيمان، بل دعا الناس جميعاً أولاً إلى الإيمان، فمن آمن ينزل إليه التشريف بالتكليف ويكون القول الحق: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ } أي يا من آمنتم بالله إلهاً. والإله لابد له من صفات تناسب الألوهية، كطلاقة القدرة والجاه والحكمة والقهر. وسبحانه لا يكلف مَن لم يؤمن به، بل يدعو من لم يؤمن إلى الإيمان، ولذلك نجد أن كل آيات الأحكام تبدأ بالقول الحق: { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ }؛ لأن لكل إيمان تبعة.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ } ونعرف أن اللغة بها أسرة ألفاظ؛ فـ " أوفوا " على سبيل المثال فيها " وفى ". والمصارع هو " يفي " ، وفي أفعالها " أوفى " و " وَفَّى " ، حسب المراحل المختلفة قوة وضعفاً وكثرة وقلة، مثال ذلك قوله الحق:{ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّىا }[النجم: 37]
وقد قام سيدنا إبراهيم عليه السلام بالكثير من الإنجاز:{ وَإِذِ ابْتَلَىا إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ }[البقرة: 124]
ولا بد أن يكون قوله الحق: { وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّىا } شرحاً لما قام به إبراهيم من مواجهة الابتلاء، فالتوفية هي الإتمام. والحق يقول: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ } أي عليكم يا من آمنتم بالله أن تتموا العقود.

والتمام إما أن ينطلق إلى الأفراد ويشملها فلا ينقص فرد، وإما أن يلتفت إلى الكيفيات فلا تختل كيفية، هذا هو التمام. وقد يأتي إنسان بكل فصول الكتاب ويقرأها، فيكون قد وفى قراءة كل الأجزاء، ولكن الحق يريد أن يتقن الإنسان تنفيذ كل جزئية في كتاب التكليف. وسبحانه طلب منا أن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأن نقيم الصلاة وأن نؤتي الزكاة وأن نصوم رمضان وأن نحج البيت إن استطعنا إلى ذلك سبيلا، وقد يؤدي شخص كل هذه الأعمال وبذلك يكون قد قام بآداء التكليف، لكن هناك إنسان آخر يؤدي كل جزئية بتمامها فلا يختصر شيئاً منها بل إنّه يوفيها بلا تدليس.
والحق هنا يخاطب المؤمنين: } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ { أي أننا أمام " إيمان " و " عقد ". وشرحنا معنى الإيمان، أما العقد فهو العلاقة الموثقة بين طرفين، وعلى كل طرف أن يلتزم بما عليه وأن يأخذ ما له. وسمي العقد عقداً؛ لأن العقد هو الربط، أي شيء لا ينحل من بعد ذلك. ولذلك نسمي ما يستقر في مواجيد الناس ونفوسهم " عقيدة ". لأنها الأمر المعقود، وليس الأمر الطارئ الذي يأتي اليوم وينتهي غداً. والشيء المعقود في نظر الفقه هو الأمر الذي لا يطفو إلى العقل ليُبحث من جديد، بل إنه مستقر وثابت في القلب. ويأمر سبحانه بالوفاء بالعقود. والعقود - كما نعلم - هي جمع لـ " عقد " وبالإسلام عقود كثيرة، تبدأ بالعقد الأول وهو عقد الذر:{ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىا أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىا }[الأعراف: 172]
ويريد سبحانه الوفاء بهذا العهد الأول فلا يأتي الإنسان ساعة التطبيق ويفر منها، ثم نأتي إلى عهد الاستخلاف في الأرض وبه استخلف فيها آدم وذريته من بعده، وإياك أن تظن أنك الأصيل في الكون حين تدوم لك الأسباب وتدين لك بعض الوقت. لا تظن أن الأشياء قد دانت لك بمهارتك أنت فقط، وحين تبذر البذور في الأرض وتروي الأرض فاعلم أن الزرع ينبت بتسخير الله أَرْضَه لك.
وإياك من الظن لحظة تركب المهر أنك الخيال الفارس الذي روّض المهر، لا، إنه تسخير الحق للفرس. ونجد الفرس في بعض الأحايين يجمح ليقع الفارس من فوق ظهره، لعلنا ننتبه إلى الجزئية التي لا يصح أن تغيب عنا، فلو لم يذلل الله الخيل لنا لما استطعنا أن نركبها.{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ }[يس: 71-72]
وعلى المؤمن أن يتذكر أيضاً أن الحق سبحانه ذلل الجمل لصاحبه، وجعل الطفل الصغير يأمر الجمل فيرقد على الأرض؛ ليضع عليه الأحمال الثقيلة، ويأمره فيقوم.

أما إن واجه الثعبان أو الحية فهو لا يجرؤ على تذليلهما، وهذا لفت من الحق للخلق لقدرته المطلقة؛ فقد ذلل لهم الكبير، وأفزعهم أضعاف ذلك من الثعبان ذي الجسم الصغير.{ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ }[يس: 72]
ومن التذليل يأتي رضوخ بقية الكائنات للإنسان؛ فالحمار عند الفلاح يحمل السماد للأرض من بقايا فضلات الإنسان والحيوان، ولا ينطق الحمار معترضاً، ويأتي الفلاح ليرتقي في حياته ويصير شيخاً للخفر، فيأمر أن يستحم الحمار، ويشتري له السرج ليركبه وهو ذاهب للقاء المأمور في المركز، ولم يعص الحمار في الحالتين. إنه التذليل.
إياك أن تظن أن مهارتك وحدها أيها الإنسان هي التي ذللت لك الكائنات، فلو اعتمد الأمر على المهارة وحدها، لذلل الإنسان البرغوث الصغير الذي يهاجمه في أي وقت، وقد يفزعك ذلك البرغوث الصغير طوال الليل. وقد تسهر أسرة بأكملها من أجل قتل برغوث واحد.{ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ }[الحج: 73]
ولذلك أمرنا الحق أن نقول قبل البدء في أي عمل " بسم الله الرحمن الرحيم ". وإياك أن تقبل على العمل بقوتك وحدها. فالعمل إنما ينفعل لك لأنه سبحانه قد أخضعه لك. وأنت تبدأ العمل باسم الله لأنه سبحانه الذي استخلفك وأخضع لك الكائنات المذللة.
ثم هناك ذلك العهد الذي قال فيه الحق لآدم:{ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَىا }[طه: 123]
والعهد الذي قال فيه الحق:{ فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }[البقرة: 38]
وهذا عهد لكل البشر، والمسلمون عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقبة بأن ينصروه ويمنعوا عنه ما يمنعون عن أنفسهم. وعاهدوا الرسول في الحديبية.
إن الحق سبحانه يأمر بالوفاء بكل العقود، وكل ما نتج عن قمة العقائد وهو الإيمان بالله؛ فما جاء من الله الذي آمنت به يُعتبر عقداً أنت شريك فيه، لأن العقد يكون دائماً بين طرفين، ولم يرغم الله أحداً على الإيمان به، ولكن الإنسان يؤمن بالله اختياراً. ومادام المؤمن قد آمن بالله من طوع اختياره، فلا بد أن يتبع منهجه.
ومن آمن هو الذي يذهب إلى الحق قائلاً: يارب إن ما تأمر به سأفعله. وهذا اعتراف بالعقد. وكتابة أي عقد إيماني هو تنفيذ لهذا العقد والتوقيع مع الله، وبذلك يشترك العبد مع الله في هذا التعاقد؛ لأن إيمان العبد بالله يجعله طرفاً في العقد. والإله يشرع له، وينفذ العبد التشريع ليلتقي الجزاء الأوفى.
العقد إذن قد يكون بين العبد وربِّه، أو بين العبد وخلق الله المساوين له، أو بين العبد ونفسه، لكنهم أطلقوا على العقد الذي بين الإنسان ونفسه اسماً هو " العهد " وهو النذر، كأن ينذر العبد الصيام أو الصلاة، ويجب على العبد تنفيذ ما نذر به مادام عاهد الله على ذلك.

والعقد الذي بين العبد وغيره من البشر وكذلك العقد بينه وبين نفسه إنما ينبعان من العقد الأساسي وهو العقد الأول.. إنّه الإيمان بالله.
إذن فقول الحق: } أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ { أي نفذوا ما أمر الله به حلالاً، وامتنعوا عن الشيء الذي جعله الحق حراماً. ولا داعي - إذن - للاختلاف في معنى " العقود " والتساؤل: هل هي العقود التي بين العبد وربه، أو بين العبد والناس، أو بين العبد ونفسه، فكل ما نبع من العقد القمة هو عقد على المؤمن وإلزام عليه أن يوفي به.
} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ { سبحانه يستهل السورة بالوفاء بالعقود، ثم إعلان تحليل بهيمة الأنعام. ونعرف أن الإنسان قد طرأ على الكون، وأنه سبحانه قد خلق الكون أولاً. ثم خلق الإنسان فيه، وهذا من رحمة الله بالإنسان فلم يخلق الإنسان أولاً، بل خلق له الشمس وأعد الكون قبل أن يخلق الإنسان، وحين طرأ الإنسان على الكون وجد فيه قوام الحياة من الجماد ومن النبات ومن الحيوان.
وقمة المسخرات للإنسان هي الحيوان؛ لأن الجماد والنبات يخدمان الحيوان، ويشترك الحيوان مع الإنسان في أنّ له حياة ودماء وجوارح. وجاء الحق عنا بالإعلان عن أعلى المنزلة في خدمة الإنسان وهو بهيمة الأنعام } أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ { ويأمرنا بأن نوفي بالعقود، وله سبحانه وتعالى كل الحق فقد قدم لنا الثمن بخلق الكون مسخراً لنا وقمة المخلوقات المسخرة هي الأنعام. كأن } أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ { حيثية مقدمة من الحق. ونلحظ أنه جاء هنا بصيغة المبنى للمجهول في " أحلت "؛ لأن الإيمان جعلنا طرفاً في أن تكون بهيمة الأنعام حِلاً لنا.
ووقف العلماء عند " بهيمة الأنعام ". وفي اللغة العربية نجد صيغة " فعيل " التي تأتي بمعنى " فاعل " وتأتي بمعنى " مفعول " ، مثلما نقول " الله رحيم " أي أنه راحم؛ هو " فاعل " ، ونقول " فلان قتيل " أي مقتول أي مفعول به. و " بهيمة الأنعام " هنا تأتي بأي معنى، أهي بمعنى فاعل أو بمعنى مفعول؟، و " بهيمة " إن نظرنا إلى أنّها مبهمة؛ لأن أمورها مجهولة يصعب إدراكها علينا ولا نعرف حركتها أو إشارتها أو لغاتها التي تتفاهم بها فتكون فعيلة بمعنى مفعولة. وتصلح أن تكون فعيلة بمعنى فاعل؛ لأنها لا تفهم، ونحن المبهمون عليها. ونقول: هي محكومة بالتسخير.
ولم يصنف الإنسان طعامها وهو العلف إلا بعد أن رآها وهي سائبة حرة تتجه إلى العلف لتأكله، إذن فهي التي علمت الإنسان صنف علومها. فلا يقولن إنسان: إنها بهيمة لا تفهم، وليعرف أنها لم تخلق لتفهم مسائل الإنسان، لأنها مسخرة له وقد يتعلم هو منها.

ودليلنا أن الله امتن على بعض المصطفين من خلقه بأن علمهم منطق الطير، فقد حزّ في نفس الهدهد أن رأى ملكة سبأ وقومها يسجدون للشمس من دون الله، وهو الطائر فقد فهم أن السجود لا يكون إلاّ لله الواحد القهار لا للشمس، وهكذا نرى الإنسان يتعلم الكثير من أخلاق الحيوانات وعاداتها؛ ولذلك نجد هواة تربية الحيوانات يتعرفون على طعام هذه الحيوانات بعد أن يتتبعوها ويعرفوا ماذا تأكل، وعن أي شي تبتعد، والفلاح يقدم البرسيم للجاموس ولا يقدم له النعناع؛ لأنه رأى الجاموس وهو حرّ لا يأكل النعناع بل يأكل البرسيم، وقال الحق على لسان النمل:{ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ }[النمل: 18]
نحن إذن الذين لا نفهم لغة النمل، ونجد البهيمة محكومة بالغريزة، لكن الإنسان يملك العقل، لكنه يغطي عقله بالهوى.
وقول الله: } أُحِلَّتْ لَكُمْ { دليل على أن الذي أحلها، جعل التحليل لها في التسخير بدليل أن الحبل إن التف حول رقبة جاموسة أو رقبة خروف وقبل أن يختنق نجد الحيوان يمد رقبته، فيقول الناس: لقد طلب الحلال، فنادوا الجزار. وكأنه - وهو الحيوان - يطلب الذبح لينتفع الناس به، وكأنه يحس بالخسارة إن ضاع لحمه بلا فائدة، وهذا دليل على أنه مذلل، أما الحيوان غير المحلل فمن العجيب أنه لو حدث معه ذلك لما مد رقبته.
والأنعام هي المذكورة في قوله الحق:{ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ }[الأنعام: 143]
وكذلك قول الرحمن:{ وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ }[الأنعام: 144]
إنها ثمانية أزواج؛ ثم ألحق رسول الله صلى الله عليه وسلم الظباء وحمر الوحش، ولم يحرم إلا كل ذي ذنب كالسباع وكل ذي مخلب من الطير، ولو لم يقيد الله هذا التحليل لانصرف بدون قيد، ولأسأنا إلى أنفسنا بأكل الميتة والموقوذة والمتردية، ولكن الحق أنقذنا من ذلك وحرم علينا تلك الأشياء الضارة.
} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ { إذن فمن حق الله عليكم أيها المؤمنون أن توفوا بالعقود؛ لأنه قدم لكم الكون بكل أجناسه وكل عناصره لخدمتكم. وأحلّ أقرب الأجناس إلى الإنسان لما فيه من حياة وحس وحركة، فيقول: } غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ { ولو لم يضع الحق ذلك التشريع لأكَل الإنسان - وهو مُحْرِمٌ - بهيمة الأنعام، وقد حرم سبحانه الصيد في اثناء الإحرام، وكذلك في حمى الحرم. والحَرَم - كما نعلم - مركزه الكعبة، وحول الكعبة المسجد.
وتختلف مناطق الإحرام وتسمى الميقات المكاني، فالميقات المكاني للحج والعمرة لمن كان خارج الحرم (ذو الحليفة) وذلك للمتوجه من المدينة وهي (آبار علي)، والجحفة وهي الآن (رابغ) للمتوجه من مصر والشام المغرب، و(يَلَمْلَم)للمتوجه من تهامة، و(قَرْن المنازل) للمتوجه من نجد اليمن ونجد الحجاز، و(ذات عرق) للمتوجه من المشرق والعراق وغيره.

أما الميقات المكاني للحج لمن بمكة فهو مكة نفسها، أما ميقات العمرة المكاني لمن بالحرم فهو الخروج لأدنى الحل وهي الجعرانة ثم التنعيم (مسجد عائشة) ثم الحديبية.
والميقات الزماني للحج شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة، أما ميقات العمرة الزماني فهو جميع السنة إلاّ إذا كان محرما بحج أو بعمرة أخرى أو كان ذلك قبل النفر لانشغاله بالرمي والمبيت فيمتنع الإحرام بها. والتنعيم والجعرانة والحديبية، تلك هي حدود الحرم. والصيد في حدود الحرم حرم، وفي كل زمان وعلى كل إنسان، أما في غير الحرم، فالصيد حرام لمن كان محرماً فقط، وغير المحرم من حقه الصيد.
وبذلك يؤدب الحق سبحانه وتعالى خلقه ويجعلهم على ذكر دائم للمنهج فيأتي لهم في مكان ويقول لهم: الصيد محرم في هذا المكان، والطعام والشراب محرم في هذا الزمان؛ كصوم رمضان. وعدة الشهور عندنا كمسلمين اثنا عشر شهرا. أربعة منها حُرُم. ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب.
وفي الميقات يحرم الصيد على الحاج فقط، وهذا انضباط إيماني. وعندما يأتي الإنسان إلى الميقات فهو يحرم، أي يغير وضعه ويلبس لباساً خاصا بالحج، يلبسه كل الناس ليكون الكل سواسية؛ لأن الناس إنما يميزون بهندامهم وهيئاتهم، فيأمر سبحانه أن يطرح الإنسان هذا التمايز من فور الإحرام. وما كان من الحلال أن يفعله المسلم قبل الميقات وقد منعه الإسلام منه لا يجرؤ على أن يفعله بعد الميقات والإحرام.
ويستطيع المسلم قبل الميقات أن يحلق ويتطيب ويصطاد ويقطع من النبات؛ لكنه ما إن يبدأ الإحرام يمتنع عن ذلك حتى يستعد لما يشحن أعماقه بالوجود مع المنعم لا مع النعمة، هذا هو التهيؤ للدخول إلى بيت المنعم، ولذلك يضع المسلم النعمة على جانب ليبقى مع المنعم. ويمنع الإنسان أن يصيد في الحرم محرماً كان أو غير محرم ليشعر الكل أن الحرم لله فقط. وتستعد كل النفوس للقاء المهابة. ويمتنع الإنسان من أول الميقات عن أشياء كثيرة بداية من الصيد والاستمتاع بالحقوق الزوجية؛ ثم يدخل منطقة يحرم فيها الصيد على كل الناس كرمز للمهابة.
ويحج المسلم في حياته مرة واحدة كأداء الفريضة؛ وفي كل مرة تحج وتقصد بيت ربّك يوضح الله لك فيها: لا تنشغل بالنعم لأنك ذاهب إلى المنعم، ويمحو سبحانه بالحج كل الذنوب. } غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ { فإن أردناها محرمين فهي صحيحة، وإن أردناها للحرم فهي صحيحة؛ لأن الصيد محرم في منطقة الحرم للحاج أو لغيره.
ويذيل الحق الآية: } إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ { وسبحانه بدأ الاية بقوله: } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ { هكذا نرى أن التذييل منطقي يتفق فيه آخر الآية مع صدرها؛ لأن الله حين يخاطب المؤمنين الذين آمنوا به، فمن لوازم الإيمان أن ينفذوا حكم الله الذي آمنوا به ومادام المؤمن قد آمن بالله إلهاً فليتجه إلى ما يريده الله من أحكام ليفعلها لكن عمومية الآية قد تجعل واحداً يعزل الآية عن صدرها، رغبة في التشكيك في الإسلام، فيقول: إن الله يقول إنه يحكم ما يريد، وقد أراد من الناس من يؤمن ومن لا يؤمن، فكيف يقول: } يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ { ، بينما لا يؤمن الكل؟.

ونقول: لا تعزل الآية عن صدرها؛ لأن الله إنما يخاطب في هذه الآية من آمن به رباً، ومن آمن بالإله يعمد ويقصد ويتجه إلى ما يريده الله من حكم ليطبقه. ولا يعتقدَنَّ أحد أنّ الكافرين خارجون عن إرادته سبحانه في قوله: } إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ { فالذي تمرد على حكم الله يقتضيه المنطق أن يظل متمرداً على حكم الإله.
لكن المتمرد على حكم الله التكليفي الشرعي لا يجرؤ ولا يملك أن يكون منطقياً مع نفسه، فإن حكم الله عليه بالضعف. فليقل للضعف: لا، أنا لن أضعف وأنا قوي. لا أحد يملك من مثل هذا الأمر شيئاً. المتمرد يأخذه ملك الموت وهو غير مريض، فماذا إذن يصنع تمرد المتمرد إزاء الموت؟
إذن هناك أمور يخضع فيها الإنسان - كل إنسان - لحكم الله. وخضوع الإنسان لحكم الله في بعض الأمور أقوى من خضوع المؤمن لها؛ لأن المؤمن حين آمن بالله يستقبل الموت - على سبيل المثال - كحكم من الله، أما المتمرد الذي لا يصلي ولا يؤدي أي أمر تكليفي، ويتعرض للأغيار بما فيها الموت، فهو يعاني من كل ذلك مشقَّة وَحِدّة تفوق حدة استقبال المؤمن للأغيار أو الموت.
إذن فقوله الحق: } إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ { هو قضية عامة؛ لأن الذي تمرد على حكمه سبحانه فيما له فيه اختيار، كان من الواجب أن يكون منطقياً مع نفسه، فيتمرد على حكم يجريه الله عليه، وذلك بعكس كثير من الاحكام الوضعية فإنها لا تقوى على هذا التمرد، ويكون هنا حكم الله أقوى؛ لأن المتمرد لن يجرؤ على الرد على أمر الله. فلا يظنن ظان أن الله جعل للاختيار في العبد طلاقة، لكنه جعل للاختيار في العبد تقييداً، وللقدرة القادرة طلاقة، فإن تمرد متمرد على الإيمان؛ فلن يجرؤ على التمرد في أشياء أخرى. إذن فالله يحكم ما يريد.
ومن بعد ذلك يقول الحق: } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ... {

(/663)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آَمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)


بداية هذه الآية تقول: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللَّهِ } وهي تأتي بعد آية اَحَلّت أشياءَ، كأن الحق يقول للعبد: مادمت قد أعطيت فأنا أمنع عنك؛ أعطيتك أشياء وأمنعك أشياء. وسبحانه حين يخطر على الإنسان شيئاً ويمنعه منه؛ فهو يعطي هذا الشيء لأخ مؤمن، ومادام الأمر كذلك فلا يستطيع ولا يصح أن تنظر إلى الشيء المسلوب منك فقط بل انظر إلى المسلوب من غيرك بالنسبة لك.
وعلى سبيل المثال حين يأمرك الحق: " لا تسرق " ، فأنت شخص واحد، ويقيد سبحانه حريتك بهذا الأمر، وقيد في الوقت نفسه حرية كل الناس بالنسبة إليك. وعندما تقارن الأمر بالنسبة لنفسك تجد أنك المستفيد أساساً؛ لأن كل الناس ستطبق حكم الله بألا يسرقوا منك شيئاً، وفي هذا خدمة لكل عبد. وهب أن واحداً سرق، إنه لن يستطيع أن يسرق من كل الناس. ولو سرق ألف من الناس شخصاً واحداً فما الذي يبقى له؟!
وحين يأمر الحق العبد ألا ينظر إلى محارم غيره، فظاهر الأمر أنّه تقييد لحركة العبد، لكن الواقع أنه سبحانه قيد حركة الناس كلها من أجل هذا العبد، وأمرهم ألا ينظروا إلى محارم غيرهم.
إذن ساعة ترى أيها المسلم نهياً أمر به الله، فلا تصب النهي عليك. ولكن صب النهي أيضا على كل الناس بالنسبة لك. وساعة يقول الحق: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللَّهِ } أي لا تجعلوا شعائر الله حلالاً. والشعائر هي معالم الدين كلها. ونقول " هذه الدولة شعارها النسر " معنى ذلك أننا إذا رأينا الشعار نعرف البلد. وكذلك أعلام الدول، فهذا علم لمصر، وذاك علم لانجلترا، وثالث علم لفرنسا، وكل محافظة في مصر - على سبيل المثال - تضع لنفسها شعاراً وعلماً، إذن فالشعار هو المَعْلَم الذي يدل على الشيء. وشعائر الله هي معالم دين الله المتركزة في " افعل " و " لا تفعل " زماناً ومكاناً، عقائد وأحكاماً.
لكن الشعائر غلبت على ما نسميه مناسك الحج، وأول عملية في مناسك الحج هي الإحرام، أي لا نهمل الإحرام. ومن شعائر الحج الطواف، فلا تحل شعائر الله، ووجب عليك أن تطوف حول البيت، وكذلك السعي بين الصفا والمروة، والوقوف بعرفات، ورمي الجمار، كل هذه شعائر الله التي أمر ألا يحلها المؤمنون، أي أمر - سبحانه - ألا يتهاونوا فيها؛ لأن هذه الشعائر هي الضابط الإيماني. وأن ننظر إلى أن أمر الله لكل حاج أو معتمر بالإحرام هو أمر بالعزلة لبعض الوقت عن النعمة؛ لأن الإنسان يذهب للحج في رحلة إلى المنعم. وأن الإنسان يغير ملابسه بملابس موحدة ولا يتفاضل فيها أحد على أحد؛ لأن الناس في الحياة اليومية تتفاضل بهندامهم، وتدل الملابس على مواقعهم الاجتماعية.

وعندما يخلعون جميعاً ملابسهم ويرتدون لباساً جديداً موحداً، تكون السمة المميزة هي إعلان الولاء لله.
وكذلك عندما يأتي الأمر بألا يقص الإنسان شعرة منه سواء أكان عظيماً في مجتمعه أم فقيراً ويتراءى الناس جميعاً وينظر بعضهم إلى بعض فيجدون أنهم على سواء على الرغم من اختلاف منازلهم وأقدارهم وتكون ذلة الكبير مساوية لذلة الصغير. وذلك انضباط إيماني لا بين الإنسان والمساوي له، ولكنه الانضباط مع الكون كله، بكل أجناسه. فالشجرة بجانب الحرم محرم على كل إنسان أن يقطعها أو يقطع جزءا منها. وبذلك يأمن النبات في الحرم، وكذلك الحمام والحيوانات وأيضاً يأمن لإنسان؛ لأن الجميع في حَرمِ رب الجميع، وتلك مسألة تصنع رعشة ورهبة إيمانية في النفس البشرية. وتكون فترة الحج هي فترة الانضباط الإيماني. وتتوافق فيها كل أجناس الوجود. فالإنسان يتساوى مع الإنسان ولا يلمس الحيوانَ كذلك النباتَ، ويبقى الجماد وهو خادم الجميع من أجناس الكون؛ لأن الحيوان يخدم الإنسان، والنبات يخدم الحيوان، والجماد يخدم الكل، وهو خادم غير مخدوم. ويصنع الحق حماية للجماد في الكعبة نفسها، فيأمر الناس باستلام الحجر الأسود أو بتقبيله إذا تيسر ذلك أو بالإشارة إليه.
فهذا السيد العالي - الإنسان - على النبات والحيوان يأتي إلى جماد فيعظمه ويوقره، فالذي لا يستطيع تقبيل الحجر الأسود عليه تحيته بأن يشير إليه بيده، حتى يكون الحج مقبولاً منه؛ لذلك يتزاحم الناس للذهاب إلى الحجر الأسود، وهكذا يكون الجماد مصوناً في بيت الله الحرام. ويعوضه الله بأن جعله منسكاً، وجعله شعيرة وجعل الناس تزدحم عليه وتقبله بينما لا يقبل الإنسان الحيوان أو النبات، لكنه يقبّل الجماد أدنى الأجناس. وهذه قمة التوازن الوجودي. فالإنسان المختار المتعالي على الأجناس يذهب صاغراً لتقبيل أو استلام الحجر الأسود بأمر الله.
ويرجم الإنسان حجراً آخر هو رمز إبليس، وذلك حتى يعرف الإنسان أن الحجرية ليست قيمة في حد ذاتها، ولكنها أوامر الآمر الأعلى، حتى لا يستقر في ذهن الإنسان تعظيم الحجر، فالحاج يقبل حجراً ويرجم ويرمي حجراً آخر.
} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللَّهِ {؛ لأن الله جعل الشعائر لتحقق الانضباط الإيماني، وبقاء ذكر الاستخلاف لله فلا يدعي أحد أنه أصيل في الكون، بل الكل عبيد لله. والوجود كله هو سلسلة من الخدمة؛ فالإنسان يخدم الإنسان، والحيوان يخدم الإنسان، والنبات يخدم الإنسان والحيوان، والجماد يخدم الكل؛ لكن لا أحد أفضل من أحد، بل الجماد نفسه مسبح بحمد الله، وقد لا يسبح الإنسان.{ إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً }[الأحزاب: 72]
وهذا الأمر بعدم الحل لشعائر الله جعل كل عشيرة تأخذ حقا من التقدير والاحترام، ولا يظنن ظان أن شعيرة من الشعائر ستأخذ لذاتها تقديساً ذاتياً، بل كله تقديس موهوب من الله ويسلبه الله.

} لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ { أي لا تحلوا الشهر الحرام، أي عليكم أن تحرموا هذا الشهر الحرام، فقد جعله الله شهراً حراماً لمصلحة الإنسان، ويحمي به سبحانه عزة وذلة الإنسان أمام عدوه، يحمي انكسار نفس الضعيف أمام القوي. فالقويّ القادر على القتال قد تهفو نفسه إلى أن يتوقف عن الحرب فترة يلتقط فيها الأنفاس، ولو فعل ذلك لكان إعلاناً للتخاذل أمام الخصم، ولذلك يأتي الحق بزمان يقول فيه: أنا حرمت الحرب في الأشهر الحرم. هنا يقول المقاتل: لقد حرم الله القتال في الأشهر الحرم، وتلك حماية للإنسان، وليذوق لذة الأمن والسلام والطمأنينة؛ فقد يعشق الإنسان القوي السلامَ من بعد ذلك.
لماذا إذن جاء الحق هنا بالشهر الحرام بينما نحن نعرف أن الأشهر الحرم أربعة؟ إن نظرنا إلى الأشهر الحرم كجنس فهي تطلق على كل شهر من الشهور الأربعة، وإذا اعتبرنا الشهر الحرام أشهر الحج وهي شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة، فالمعنى صحيح ونعرف أن الأشهر الحرم أربعة، ثلاثة متصلة، وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم وواحد منفصل هو رجب، وسبحانه وتعالى يعلم أن كل فعل من الأفعال لابد له من زمان ولابد له من مكان. فحبن لا يوجد حدث، لا يوجد زمان ولامكان، ولم يأت الزمان والمكان إلا بعد أن أحدث الله في كونه شيئاً. ولا يقولن واحد: متى كان الله ولا أين كان الله؛ لأن " متى " و " أين " من مخلوقات الله. وجعل سبحانه لكل حدث زماناً ومكاناً. ولذلك يأتي الحق سبحانه وتعالى ليحمي عزة الناس وليجعل لهم من تشريعه الرحيم ستاراً يستتر فيه ضعيفهم، ويراجع فيه قويُّهم لعله يرعوي ويرجع عن غيّه وظلمه فأوجد أماكن محرمة، وأزمنة محرمة، والأماكن المحرمة هي التي عند الحرم:{ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً }[آل عمران: 97]
حيث يُؤَمَّن الإنسان أخاه الإنسان إذا ما دخل الحرم. وكذلك في الزمان جعل سبحانه الأشهر الحرم.
لقد أخذ الحق الحدث للزمان والمكان. وكان القوي قديماً يحارب ويقترب من النصر. وعندما يهل الشهر الحرام يستمر في الحرب، ثم يعلن أن الشهر الحرام هو الذي سيأتي بعد الحرب، ولذلك يأمر سبحانه بعدم تغيير زمان الشهر الحرام؛ لأن الله يريد بالشهر الحرام أن ينهي سعار الحرب.
وبعد ذلك يقول الحق: } وَلاَ الْهَدْيَ { والهدي هو ما يهدي إلى الحرم؛ وهو جمع هدية، وهناك من يقدم للكعبة هدية، ومجموع الهدايا تسمى هدياً. وهدي الحرم إنما جعله الله للحرم؛ فالحرم قديماً كان بوادٍ غير ذي زرع، ولم تكن به حيوانات كثيرة.

وكانوا يأتون بالهدي معهم عندما يحجون، لذلك حرم الله الاقتراب من الهدي لأنها هدايا إلى الحرم. والحجيج أفواج كثيرة، وعندما يأتي أناس كثيرون في واد غير ذي زرع يحتاجون إلى الطعام، ولا يصح أن يجعل المؤمن الهدي لغير ما أهدي إليه، فقد يشتاق إنسان صحب معه الهدي إلى أكل اللحم وهو في الطريق إلى الكعبة فيذبحه ليأكل منه؛ وهذا الفعل حرام؛ لأن الهدي إنما جاء إلى الحرم ويجب أن يُهدى ويقدم إلى الحرم. وعلى الإنسان أن يصون هدي غيره أيضاً.
} وَلاَ الْقَلائِدَ { وهي جمع " قلادة " والقلادة هي ما تعلق بالرقبة. وقديماً كان الذاهب إلى الحج يخاف على الهدي أن يشرد منه؛ لذلك كانوا يضعون حول عنق الهدي قلادة حتى يعرف من يراه أنه " هدي " ذاهب إلى الحرم. والهدي الأول هو الهدي العام الذي لا قلائد حول عنقه، والقلائد تعبر عن الهدي الذي توجد حول رقابه قلائد وتدل عليه وتكون علامة على أنه مهدي إلى الحرم، وقد يكون النهي هنا حتى عن استحلال القلادة التي حول رقبة الهدي حتى لا تضيع الحكمة. والحق سبحانه وتعالى حين يعبر بعبارة ما فهو يعبر بعبارة تؤدي المعنى ببلاغة.
وكانوا قديماً عندما لا يجدون قلادة يأخذون لحاء الشجر وقشره ويقطعون منه قطعة ويربطونها حول رقبة الهدي، وذلك حتى يعرف الناس أن هذا هدي ذاهب إلى الحرم. ويضمن سبحانه اقتيات الوافد إليه. لا من القوت العادي ولكن يطعمه من اللحم أيضاً، ويجعل ذلك من ضمن المناسك. أليس هو من دعا هؤلاء الناس إلى الحج؟ أليس هؤلاء هم ضيوف الرحمن؟!
إن الإنسان منا يقوم بذبح الذبائح لضيوفه، فما بالنا بالحق الأعلى سبحانه وتعالى؟ لذلك جعل الهدي طعاماً لضيوفه. وتزدحم الناس في منى وعرفات بكثرة لا حدود لها، ولابد أن يكرمهم الله بألذ وأطيب الطعام، والفقير يذهب إلى المذبح ويأخذ من اللحم أطيبه ويقوم بتجفيفه في الهواء والشمس ويخزنه ليطعم منه طويلا وهو ما يعرف ويسمى بالقديد. والحق سبحانه وتعالى يأتي بالحكم بطريقة لها منتهى البلاغة، فهو يحرم حتى قلادة الهدي أن يلمسها أحد.
ويقول سبحانه: } وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً { أي لا تمنعوا أناساً ذاهبين إلى بيت الله الحرام ولا تصدوهم عن السبيل، فهم وفد الله. وقد جاء هذا القول قبل أن يُنَزَّل الحق قوله:{ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ }[التوبة: 28]
وكان غير المسلمين يحجون بيت الله الحرام من قبل نزول هذه الآية، فلم يكن الحكم قد صدر. ونتساءل: هل الكافرون بالله يبتغون فضلاً من الله؟. نعم ففضل الله يغمر الجميع حتى الكافر، لكن رضوان الله لا يكون على الكافر.

والفضل من التجارة التي كانوا يتاجرون بها، وفضل الله موجود حتى في أيامنا هذه على الكفار أيضاً.
لكن كيف يتأتى رضوان الله على الكافر؟. إنه رضوان الله المتوهم في معتقدهم. فهم يعتقدون أنهم يفعلون ذلك إرضاءً لله. وتتجلى دقة القرآن حين يقول: } فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً { ، فلم يقل: فضلاً من الله ورضواناً؛ لأن العبد المؤمن هو من يختص بتنفيذ التكاليف الإيمانية.
ولله عطاءان: عطاء الربوبية، فهو المربي الذي استدعى إلى الكون المؤمن والكافر - وسبحانه - سخر الأسباب للكل؛ هذا هو عطاء الربوبية، فالشمس تشرق على المؤمن والكافر، والأسباب قد تعطي المؤمن والكافر، أما عطاء الألوهية فيتمثل في " افعل " و " لا تفعل ". ويقول الحق هنا: } يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ {. إذن فجناحا المنهج الإيماني - افعل ولا تفعل - ليست في بالهم. ومن بعد ذلك يقول الحق: } وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ { أي إذا انتهى الإحرام، وبعد أن يخرج الحاج من الحرم ويتحلل من إحرامه فمن حقه أن يصطاد.
} وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ { وقبل أن ينزل تحريم زيارة المشركين للبيت الحرام كان من حسن المعاملة ألا يأخذ المؤمنون الكفار الذين يزورون البيت الحرام فيعتدوا عليهم انتقاماً لما فعله الكفار من قبل؛ لذلك أمر الحق المؤمنين ألا يقولوا: ها هم أولاء قد جاءوا لنا فلنرد لهم الصاع صاعين مثلما فعلوا معنا في صلح الحديبية عندما منعونا من البيت الحرام. لأنكم أيها المؤمنون قد أخذتم من الله القوامة على منهجه في الأرض، والقائم على منهج الله في الأرض يجب ألا تكون له ذاتية ولا عصبية أسرية، ولا عصبية قبلية؛ لأنه جاء ليهيمن على الدنيا كلها، ومن الصَّغار أن ينتقم المؤمن من الكافر عندما يأتي إلى بيت الله. ولا يليق ذلك بمهمة القوامة على منهج الله.
ولذلك قال الحق لرسوله:{ إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً }[النساء: 105]
وحينما أمر الحق رسوله أن يحكم بين الناس فذلك الحكم يقتضي عدم تمييز المؤمن على الكافر؛ لأن المسلمين هم القُوَّام، وهم خير أمة أخرجها الله للناس كافة. ولو فهم الناس أن خير الأمة الإسلامية عائد عليهم لما حاربوها.
فنحن - المسلمين - لسنا خيراً لأنفسنا فقط، ولكننا أمة لخير الناس جميعاً. ولذلك قال الحق: } لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ { أي لا يصح أن يحملكم الغضب على قوم أن تعتدوا عليهم لأنهم صدوكم عن المسجد الحرام عام الحديبية. وعندما يسمع الكافر أن الله سبحانه وتعالى يوصي من آمن به على من كفر به ماذا يكون موقفه؟ إنّه يلمس رحمة الرب. وفي ذلك لذع للكافر لأنه لم يؤمن، لكن لو اعتدى المؤمن على الكافر رداً على العدوان السابق، لقال الكافر لنفسه: لقد رد العدوان.

أما حين يرى الكافر أن المؤمن لم يعتد امتثالاً لأمر الله بذلك، عندئذ يرى أن الإسلام أعاد صياغة أهله بما يحقق لهم السمو النفسي الذي يتعالى عن الضغن والحقد والعصبية، ويعبر الأداء القرآني عن ذلك بدقة، فلم يأت الدين ليكبت عواطف أو غرائز ولا يجعل الإنسان أفلاطونياً كما يدعون. ولم يقل: اكتموا بغضكم، ولكنه أوضح لنا أي: لا يحملكم كرههم وبغضهم على أن تعتدوا عليهم. فسبحانه لا يمنع الشنآن، وهو البغض، لأنه مسألة عاطفية.
فسبحانه يعلم أن منع ذلك إنما يكبت المؤمنين وكأنه يطلب منهم الأمر المحال. لذلك فالبغض من حرية الإنسان. ولكن إياك أن يحملك البغض أو الكره على أن تعتدي عليهم.
ونرى سيدنا عمر يمر عليه قاتل أخيه زيد بن الخطاب، يقول له أحدهم: هذا قاتل زيد، فيقول عمر: وماذا أصنع به وقد هداه الله إلى الإسلام، فإذا كان الإسلام جبّ الكفر ألا يجب دم أخٍ لعمر؟ ولكن عمر - رضي الله عنه - يقول لقاتل أخيه:
عندما تراني نحّ وجهك عني. قال ذلك لأنه يعرف دور العاطفة ويعرف أنه لا يحب قاتل أخيه، فقال قاتل أخي عمر: وهل عدم حبك لي يمنعني حقاً من حقوقي؟ فقال غمر: لا. بل تأخذ حقوقك كلها. فقال قاتل أخي عمر: لا ضير؛ إنما يبكي على الحب النساء. فالإيمان هو الذي منع عمر من أن ينتقم من قاتل أخيه.
} وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ { اي أنه سبحانه لا يمنع مواجيد المؤمنين ووجدانهم وضمائرهم وقلوبهم التي تنفعل بالبغض والكره؛ لأنه يعلم أن ذلك لا يطيقه الإنسان؛ لأنها أمور عاطفية. والعواطف لا يقنن لها بتشريع. ولكن اعلموا أن هذه العواطف لا تبيح لكم الاعتداء.
وهكذا يتدخل الإسلام في الحركة الإنسانية ليفعل الإنسان أمراً أو يتجنب فعل أمر ما؛ فالإسلام لا يتدخل إلا في النزوع وهي تعبير عن مرحلة لاحقة للإدراك الذي يسبب للإنسان العاطفة محبة أو كراهية، ثم يعبر الإنسان عن هذه العاطفة بالنزوع؛ لأن مظاهر الشعور ثلاثة: إدراك، ووجدان، ونزوع، فحين يمشي إنسان في بستان فيه أزهار ويرى الوردة فهذا إدراك، ولا يمنع الإسلام هذا الإدراك. وعندما يعجب الإنسان بالوردة ويحبها فهذه حرية، لكن أن تمتد اليد لتقطف الوردة فهذا ممنوع.
إن التشريع لا يتدخل في العملية النزوعية فقط إلا في مجال واحد وهو ما يتعلق بالمرأة. إن الإسلام يتدخل من أولى المراحل من مرحلة الإدراك. فالرجل حين يرى امرأة جميلة فهذا إدراك، وعندما ينشغل قلبه بحبها فهذا وجدان، لكن أن يقترب منها الإنسان فهذا نزوع.
لقد رأف الحق بالرجل ان أمره أن يغض البصر من البداية؛ لأن الإنسان لن يستطيع مطلقاً أن يفصل بين الإدراك والوجدان والنزوع.

فكل من الإدراك والوجدان يصنعان تفاعلاً في التركيب الكيماوي للرجل. فإما أن يعف الإنسان نفسه ويكبت أحاسيسه، وإما ألا يعف فيلغ في أعراض الناس؛ لذلك يخدم الشرع الإنسان من أول الأمر حين يأمره بغض البصر:{ قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذالِكَ أَزْكَىا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ }[النور: 30-31]
هنا يتدخل الشرع من أول مرحلة الإدراك، فبعدها لا يمكن فصل النزوع عن المواجيد؛ لأن رؤية المرأة تحدث تفاعلاً كيماوياً في نفس الرجل، وكذلك الرجل يحدث تفاعلاً كيماوياً في نفس المرأة. أما الوردة فلا تحدث مثل هذا التفاعل. ويستطيع الإنسان اقتناء زهرية للورود.
إذن فالمراد أن الحق سبحانه وتعالى لم يمنع المؤمن أن تجيش عواطفه البشرية بالبغض وبالكره؛ لأن ذلك انفعال مطلوب للإيمان. وبعض من أعداء الإسلام يقول: آيات القرآن تتعارض؛ لأنه يقول:{ لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ }[المجادلة: 22]
والنسب الإيماني يمنع ذلك.
ويقول القرآن في موضع آخر{ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىا أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً }[لقمان: 15]
والذي يتعمق جيداً يعرف أن المعروف يصنعه الإنسان مع من يحب ومن لا يحب. أما الودّ فهو عمل القلب، وهذا ما نهى عنه الله بالنسبة للمشركين به، أما المعروف فالمسلم مطالب أن يفعله حتى بالنسبة لمن يكرهه.
} وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ { إذن فالحق لم يمنع البغض. ولكنه منع النزوع المترتب على الشنآن ولو وُجد سبب من الأسباب كما حدث في صلح الحديبية. وبعد ذلك يأمر: } وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَىا {.
وهذه الآية هي التي تجعل مسألة الإيمان قضية عالمية، وكلمة " تعاون " على وزن " تفاعل " ، والتفاعل يأتي من اثنين؛ مثلما نقول " تشارك "؛ فهي تقتضي اثنين؛ كأن نقول: تشارك زيد وعمرو أو: شارك زيد عمراً أو شارك عمرو زيداً. وكلاهما متساو.. اللهم إلا تغليب واحد بأن يأتي فاعلا مرة ومفعولا مرة ثانية، والفاعل في هذه الحالة فاعل ومفعول في آن واحد، والمفعول أيضاً فاعل في الوقت نفسه.
ومثال ذلك قولنا " قاتل فلان فلاناً " أي أن الاثنين اشتبكا في قتال أي مفاعلة. وساعة يأتي اثنان في فعل واحد، فهناك فاعل ومفعول. وهناك فرق بين أن تقول: أعن فلاناً، فالمطلوب هنا أمر لواحد بالمعاونة لآخر.
وهذا يختلف عن القول: تعاون مع فلان، أي أن تتشاركا معاً في المعاونة. ومسائل الحياة أكثر من أن تستوعبها موهبة واحدة. فأنت حين تبني بيتاً تحتاج إلى من يحفر الأساس ويبني الجدران.

ومن يصنع الطوب ومن يصنع الأسمنت ومن يصنع الحديد، ولا يستطيع إنسان واحد أن يتعلم كل هذه الحرف ليبني بيتاً. لكن التعاون خصص لكل إنسان عملا يقوم به، فهناك متخصص في كل جزئية يحتاج إليها الإنسان في حياكة الملابس، والطب، والصيدلة وغيرها من أوجه احتياجات الحياة، والحق يأمر: " وتعاونوا " ليسير دولاب الحياة ويستفيد الإنسان من كل المواهب لقاء إخلاصه في أداء عمله، و " تعاونوا " هي أن تأتي بشيء فيه تفاعل ما، ومعنى الشيء الذي فيه تفاعل أنه يوجد " مُعين " و " مُعان ".
ولكن المعين لا يظل دائماً معينا، بل سينقلب في يوم ما إلى أن يكون مُعانا، والمعان لا يظل مُعانا، بل سيأتي وقت يصير فيه مُعينا، وهذا هو التفاعل الذي تحتاج إليه أقضية الحياة التي شاءها الله للإنسان الخليفة في الأرض والمطالب أن يعبد الله الذي لا شريك له، وأن يعمر هذه الأرض. ولا تتأتى عمارة الأرض إلا بالحركة فيها، والحركة في الأرض أوسع من أن تتحملها الطاقة النفسية لفرد واحد، بل لا بد أن تتكاتف الطاقات كلها لإنشاء هذه العمارة.
إننا حين نبني عمارة واحدة نستخدم أجهزة كثيرة لطاقات كثيرة بداية من المهندس الذي يرفع مساحة القطعة من الأرض ويرسمها، وإن شاء الترقي في صنعته يصنع نموذجا مجسدا لما يرغب في بنائه، وبعد ذلك يأتي الحافر ليحفر في الأرض ثم من يضع الأساس، ومن يضع الحديد. ومن يصنع " الخرسانة " المسلحة.
ثم يأتي من يرفع البناء، ومن يقوم بالأعمال الصحية من توصيلات للمياه والمجاري، ثم يأتي من يصمم التوصيلات الكهربائية، وهكذا تتعاون طاقات كثيرة لبناء واحد، ولا تتحمله طاقة إنسان واحد.
إذن فالتعاون أمر ضروري للاستخلاف في الحياة. ومادام الإستخلاف في الحياة بقتضي من الإنسان عمارة هذه الحياة، وعمارة الحياة تقتضي ألا نفسد الشيء الصالح بل نزيده صلاحا، وحين يقول الحق: } وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَىا وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ { أي انه يريد كوناً عامراً لا كوناً خرباً. والشيء الصالح في ذاته يبقيه على صلاحه. إذن فعمارة الحياة تتطلب منا أن نتعاون على الخير لا على الإثم.
والبر، ما هو؟ البر هو ما اطمأنت إليه نفسك؛ والإثم ما حاك في صدرك وخشيت أن يطلع عليه أحد، فساعة يأتي إليك أمر تريد أن تفعله وتخاف أن يراك غيرك وأنت ترتكبه فهذا هو الإثم؛ لأنه لو لم يكن إثما لأحببت أن يراك الناس وأنت تفعل ذلك. إذن قوله الحق: } وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَىا وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ { هو أمر لكل جماعة أن تتعاون على الخير، وهذه مناسبة لأقول لكل جماعة:
تعاونوا معاً بشرط ألا تجعلوا لجمعياتكم نشاطاً يُنسب إلى غير دينكم.

مثال ذلك الجمعيات المسماة بـ " الروتاري " أو " الماسونية " ويقال: إن نشاطها خيري. ونقول: كل جمعية خيرية على العين والرأس ولكن لماذا تكونونها وأنتم تقلدون فيها الغرب؟ لماذا لا تصنعون الخير باسم دينكم فيعرف العالم أن هذا خير قادم من بلاد مسلمة. والخير كل الخير ألا نأخذ هذه الأسماء الأجنبية ونطلقها على جمعياتنا حتى لا يظنن ظان أن الخير يصنعه غيرنا. وإن كان للواحد منا طاقة على العمل الخيري؛ فليعمل من خلال الدين الإسلامي. وليعلم كل إنسان أن الدين طلب منا أن تكون كل حياتنا للخير. وهذا ما يجب أن يستقر في الأذهان حتى لا يأخذ الظن الخاطئ كل من يصيبه خير من هذه الجمعيات بأن الخير قادم من غير دين الإسلام.
إننا مكلفون بنسبة الخير الذي يقوم به إلى ديننا؛ لأن ديننا أمرنا به وحثنا عليه، وليعلم كل مسلم أنه ليس فقيراً إلى القيم حتى يتسولها من الخارج، بل في دين الإسلام ما يغنينا جميعاً عن كل هؤلاء. وإذا كنا نفعل الخير ونقدم الخدمة الاجتماعية للناس فلماذا نسميها هذا الاسم وننسبها إلى قوم آخرين، ولنقرأ جميعاً قول الحق سبحانه وتعالى:{ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ }[فصلت: 33]
فعلى الإنسان منا أن يعمل الخير وهو يعلن أن الإسلام يأمره بذلك، ولا ينسب عمل الخير إلى " الروتاري " أو غير ذلك من الجمعيات. فنسبة الخير من المسلم إلى جمعيات خارجة عن الإسلام حرام على المسلم؛ لأنه تعاون ليس لله، والحق يقول: } وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَىا وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ { هو يريد منا أن نبني الخير وأن نمنع الهدم، وعلى كل منا أن يعرف أنه لا يستطيع وحده أن يقيم كل أبنية الخير.
وقد نسأل الفقير صاحب الثوب الواحد من أين أتى برغيف الخبز، فيشير إلى بقال أعطاه هذا الرغيف. ونلتفت إلى أن الله قد سخر هذا البقال أن يأتي بالخبز ليشتري منه كل الناس، ويتصدق ببعضه على الفقير. وهذا تيسير أراده الله. وعندما نذهب إلى المخبز، نجد أن الدقيق جاء إلى المخبز من المطحن، وفي المطحن نجد عشرات العمال والمهندسين يعملون من أجل طحن الدقيق الذاهب للمخبز ليعجنه واحد، ويخبزه آخر، ويبيعه ثالث.
ويجب أن نلتفت هنا إلى قدرة الله الذي سخر بعضا من الممولين الذين فكروا في خير أنفسهم واشتروا هذه الآلات الضخمة للطحين وإنضاج الخبز، وهي آلات لا يستطيع الفرد أن يشتريها بمفرده، لارتفاع ثمنها وتأتي من الدول الأجنبية، وتلك الدول فيها من المعامل والعلماء الذين يدرسون الحركة والطاقة من أجل تصميم هذه الأجهزة، ليأكل الإنسان رغيفاً واحداً.

هذه هي مشيئة الحق من أجل أن تنتظم كل حركة الحياة؛ فالرغيف يعرضه البقال، وعمل فيه الخباز ومن قبله الطحان، والعجان ومن استورد الآلة؛ ومن صممها، وشاركت فيه المدرسة التي علمت المهندس الذي صمم الآلة؛ كل ذلك عمل فيه تعاون من أجل خدمة رغيف الخبز، على الرغم من أن الإنسان منا لا يفكر في رغيف الخبز إلا ساعة أن يجوع.
إذن فحركة الحياة كلها تم بناؤها على التعاون. لكن ماذا إن تعاون الناس على الإثم؟ إنهم إن فعلوا ذلك يهدمون الخير؛ لأن التعاون على الإثم إنما يبدأ من كل من يعين على أمر يخالف أمر الله، وأوامر الله تنحصر في " افعل " و " لا تفعل " ، ما ليس فيه " افعل " و " لا تفعل " فهو مباح، إن شئت فعلته وإن شئت لا تفعله. والذي يأمر بتطبيق " افعل " ويحزم الأمر مع " لا تفعل " وينهى عنه ويجرِّم من يفعله هو متعاون على البر والتقوى.
ومن يعمل ضد ذلك؛ يتعاون على الإثم والعدوان؛ لأنه ينقل الأفعال من دائرة " افعل " إلى دائرة " لا تفعل ". وينقل النواهي من " لا تفعل " إلى دائرة " افعل "؛ هذا هو التعاون على الإثم.
وقوله الحق: } وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَىا وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ { ضَمِن عمارة الكون وضَمِن منع الفساد في الكون. فالذي يرتشي والذي يسهل عملية الرشوة، وهو الوسيط والسفير بين الراشي والمرتشي ويُسمَّى الرائش والذي يحمل الخمر والذي يدلس، كل هؤلاء متعاونون على الإثم والعدوان، حتى البواب الذي يجلس على باب عمارة ويعلم أن بها شقة تدار لأعمال مشبوهة ويأخذ ثمن ذلك هو متعاون على الإثم.
نقول لكل هؤلاء: إياكم أن تفتنوا بما يدره عليكم فعل الإثم؛ لكن لننظر مصير كل منكم فلن يترك الله أمثالكم دون أن ينهي الواحد منكم حياته بمأساة، حتى المرأة التي استنزفت الناس بجمالها، تنتهي حياتها بالضنك من العيش ثم لا تجد مأوى إلا القلوب الرحيمة التي لم تفتتن بهذا الجمال ولم تتمتع به في الحرام؛ لأن الرجل إن نظر إلى امرأة أعانته على أفثم سيتذكر كل المصائب التي جاءته منها فيكرهها.
لقد أراد الحق بهذا عدالة في الكون ليستقيم، وكل من يأخذ شيئا من إثم يكتوي بنار هذا الإثم في الحياة، وكل فرد فيكم مطالب بعمل حصر وإحصاء للمال الذي جاءه من عرقه وحلاله ويكتبه، والقرش الذي جاءه من حرام. وبعد ذلك يقوم بعمل حصر وإحصاء للكوارث التي أصابته. وكم كلفته من مصاريف.
إنه لو فعل ذلك لوجد أن الكوارث تأخذ كل الحرام وتجوز على المال الذي كسبه من حلال. ولا تختلف هذه المسألة أبداً ولا يتركها الله للآخرة؛ فسبحانه يريد أن يعدل نظام الكون، وإلا كيف يشهد من لا يؤمن بيوم الحساب قدرة الله على إجراء التوازن في كونه؟ إن الحق أراد الحساب في الدنيا حتى لا يعربد من لا يؤمن بيوم الحساب في كون الله.

إن كل معربد سوف يرى مصير معربد سبقه. كذلك الذين يتمتعون بثمرات الإثم في هذه الدنيا يجب أن يفطنوا إلى نفوسهم قبل أن يفوتهم الأوان، المعذور فقط هم الأطفال الذين لا نضج لهم ولا دراية؛ لأنهم يعيشون من أموال الإثم. لكن ما إن يبلغ الولد الرشد وكذلك البنت ثم ترى مالا يتدفق عليها من مصادر غير حل، عليها أن تستحي من شراء " فستان " من هذا المال أو أن تأكل منه لقمة خبز، وليفطن الإنسان أن الله قد أباح للإنسان أن يسأل عن مصدر المال حتى لا يأخذ لنفسه من المال الموبوء الخبيث. وأن يسأل الإنسان الصدقة خير من أن يصرف على نفسه مالاً موبوءا. ولن يترك الحق مثل هذا الإنسان سائلا أبداً.
وليكتب كل واحد منكم هذا القول الكريم أمامه: } وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَىا وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ {. وليجعلها ميزاناً يزن بها صور الذين يراهم في الكون؛ حتى ولو كانت صورة سائق التاكسي الذي يدلس على رجل وامرأة في طريق مظلم ويأخذ أجراً على هذا، ليحسب هذا الرجل النقود التي سـتأتي من هذا الباب، وليحسب النقود التي ستخرج على ألم فيه، أو ألم فيمن يرعى من ولد أو بنت.
} وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَىا وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ { وصور العدوان شتى يعاني منها المجتمع وتهزه بعنف، عدوان على الوقت لأن الإنسان يأخذ أجراً على العمل ولا يقوم به، وعدوان يضرُّ به إنسانا بأن يأخذ حقه أو أن يرتشي، كل ذلك عدوان. وحتى يصير المجتمع مجتمعا إيمانيا سليما لا بد أن يحافظ على قضية الاستخلاف في الأرض، وأن يعلم أن هذا يقتضي عمارة الكون وعدم الإفساد فيه.
} وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ { فكأن هذه المخالفات السابقة التي تحدث هي نتيجة عدم التعاون على البر، ونتيجة التعاون على الإثم والعدوان، ولهذه المخالفة عقاب شديد، أما التقوى فمعناها أن نفعل ما أمر به الله أن نفعله، وأن ننتهي عما نهى الله عنه، فلا ننقل فعلاً من دائرة " لا تفعل " إلى دائرة " افعل " وكذلك العكس. وبذلك نجعل بيننا وبين الجبار وقاية.
وبعض السطحيين قد ينظر إلى بعض من آيات القرآن ويقول: إن بها تناقضاً؛ فيقولون: بعض من آيات القرآن تقول: } اتَّقُواْ النَّارَ { ، وبعض الآيات تقول: } اتَّقُواْ اللَّهَ { فهل للنار وقاية؟ وهل لله وقاية؟ وهؤلاء لا يفهمون أن " اتقوا " تعني: اجعل وقاية بينك وبين ما يؤذيك ويتعبك، فـ } اتَّقُواْ اللَّهَ { تعني اجعل بينك وبين عقاب الله وقاية وهي الدرع التي يقيمها الإنسان بتنفيذ أوامر الله بـ " افعل " والامتثال لنواهي الله بـ " لا تفعل ".

وعندما تجعل بينك وبين الله وقاية، فأنت تجعل بينك وبين غضب الله وقاية، وهكذا تتساوى " تقوى الله " مع " اتقاء النار ".
ويذيل الحق الآية } إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ {. إنّ ما يجعل الناس تتهاون في التعاون على البر ويجترئون على الإثم أنهم لا يجدون من مجتمعاتهم رادعاً، ولو وجدوا الردع من المجتمع لحمى المجتمع أفراده من الإثم. وإن صار للمجتمع وعي إيماني لقاطع المخالفين وأشعرهم بأنهم منبوذون، وساعة يرى أمثال هؤلاء الناس أنهم منبوذون من المجتمع الإيماني فهم يرجعون إلى المنهج الحق.
فما يغري الناس على الجرائم الكبيرة إلاّ تهاون المجتمع في الجرائم الصغيرة. ولذلك يلفتنا الحق أنه لن يترك الأمر كما تركه بعض من خلقه؛ لأن الخلق قد يجاملون وقد لا يقفون أمام ما يفعله بعضهم من آثام، لكن الله شديد العقاب، سيأتي العقاب في وقت ليس للفرد فيه جاه من مال أو حسب أو نسب يحميه من الله، فإن أطمعك ضعف المجتمع في أن تتعاون على الإثم فعليك أن تخاف الله؛ لأن عقابه شديد.
وكيف يأتي العقاب إلى المذنب؟ لا نعرف؛ لأننا لسنا آلهة، ونجد العقاب يتسلل إلى المذنب في نفسه كمرض مؤلم لا يصرف المذنب فيه ما عنده من مال فقط، لكنه قد يسأل الناس ليعالج نفسه، أو يعالج من يحب. وجنود عقاب الله قد لا تتأخر للآخرة بل تتسلل إلى حياة المذنب دون أن يعرفها وهذه هي شدة العقاب.
وبعد ذلك يأتي الحق بأمر تحريم أشياء بعد أن حلل الله أشياء في قوله: } أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ {. لقد أراد الحق سبحانه وتعالى أن يبين تخصيصا لما أحل من الأنعام.. فقد حلل الله من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين. وألحق الرسول بها الظباء وبقر الوحش، وكل ذات أربع من حيوان البحر، وكان قول الله: } إِلاَّ مَا يُتْلَىا عَلَيْكُمْ { مؤذنا بأن هناك تحريماً قادماً سيأتي، ويبين الحق بالقرآن ما يحرمه الله: } حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ... {

(/664)


حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)


الآية تبدأ بقوله: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ } ونلحظ أن البداية فعل مبني للمجهول. على الرغم من أن الفاعل في التحريم واضح وهو الله. ولم يقتحم سبحانه على أحد، فالإنسان نفسه اشترك في العقد الإيماني مع ربِّه فألزمه - سبحانه - والعبد من جانبه التزم؛ لذلك يقول الحق: " حرمت " ، حرمها سبحانه كإله وشاركه في ذلك العبد الذي آمن بالله إلها.
والميتة هي التي ذهبت منها الحياة أو خرجت منها الروح بدون نقض للبنية، أي ماتت حتف أنفها، فذهاب الحياة له طريقان: طريق هو الموت أي بدون نقض بنية، وطريق بنقض البنية؛ فعندما يخنق الإنسان كائنا آخر يمنع عنه النفس وفي هذا إزهاق للروح بنقض شيء في البنية؛ لأن التنفس أمر ضروري، وقد يزهق الإنسان روحا آخر يضربه بالرصاص؛ لأن الروح لا تحل إلا في جسد له مواصفات خاصة.
لكَن هناك جوارح يمكن أن تبقى الروح في الجسم دونها، والمثال على ذلك اليد إن قطعت، أما إن توقف قلب الإنسان فقد يشقون صدره ويدلكون هذا القلب فينبض مرة أخرى بشرط أن يكون المخ مازال حيا، وأقصى مدة لحياة المخ دون هواء سبع دقائق في حالات نادرة. فما أن يصاب المخ بالعطب حتى يحدث الموت. ولذلك عرف الأطباء الموت الإكلينيكي بأنه توقف المخ. إذن فهناك موت، وهناك قتل، وفي كليهما ذهاب للروح.
وفي الموت تذهب الروح أولاً، وفي القتل تذهب الروح بسبب نقض البنية. والميتة هي التي ذهبت منها الحياة بدون نقض البنية، ومن رحمة الله أن حرم الميتة؛ لأنها ماتت بسبب لا نراه في عضو من أعضائها، حتى لا نأكلها بدائها.
وكذلك حرم الدم، وهو السائل الذي يجري في الأوردة والشرايين ويعطي الجسم الدفء والحرارة وينقل الغذاء، وللدم مجالان في الجريان؛ فهو يحمل الفضلات من الكلى والرئة، وهناك دم نقي يحمل الغذاء، والأوعية الدموية بها لونان من الدم: دم فاسد ودم صالح. وعندما نأخذ هذا الدم قد يكون فيه النوع الصالح ويكون فيه أيضاً النوع الذي لم تخرج منه الشوائب التي في الكلى والرئة، ولذلك يسمونه الدم المسفوح، أي الجاري؛ وكانوا يأخذونه قديما ويملأون به أمعاء الذبائح ويقومون بشيه ويأكلونه.
وهناك دم غير فاسد، مثال ذلك الكبد، فهو قطعة متوحدة، وكذلك الطحال، والنبي صلى الله عليه وسلم قال:
" أحلت لكم ميتتان ودمان، فأما الميتتان: فالسمك والجراد، وأما الدمان: فالكبد والطحال "
إذن فالكبد والطحال مستثنيان من الدم، لكن إذا جئنا للدم المسفوح فهو حرام. والحكمة في تحليل السمك والجراد هي عدم وجود نفس سائلة بهما، فليس في لحمها دم سائل، وعندما نقطع سمكة كبيرة لا ينزل منها دم.

بل يوجد فقط عند الأغشية التي في الرأس ولا يوجد في شعيراته. وعندما يموت السمك ويؤكل فلا خطر منه، وكذلك الجراد.
ويأتي بعد ذلك في سلسلة المحرمات } وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ {. ولا يقولن مؤمن: لماذا حرم الله لحم الخنزير؟ لقد ذهب العلم إلى كل مبحث ليعرف لماذا حرم الله الميتة وكذلك الدم حتى عرف العلماء أن الله لا يريد أن ينقل داء من حيوان ميت إلى الإنسان، وكذلك حرم الله الدم لأن به فضلات سامة " كالبولينا " وغيرها.
ولكل تحريم حكمة قد تكون ظاهرة، وقد تكون خافية. والقرآن قد نزل على رسول أمي في أمة أمية لا تعرف المسائل العلمية الشديدة التعقيد، وطبق المؤمنون الأوائل تعاليم القرآن لأن الله الذي آمنا به إلها حكيما هو قائلها، وهو يريد صيانة صنعته؛ وكل صانع من البشر يضع قواعد صيانة ما صنع. ولم نجد صانع أثاث - مثلا - يحطم دولاب ملابس، بل نجده باذلا الجهد ليجمل الصنعة، ومادام الله هو الذي خلقنا وآمنا به إلها؛ فلا بد لنا أن ننفذ ما يأمرنا به، وأن نتجنب ما نهانا عنه، ولا يمنع ذلك أن نتلمس أسباب العلم، رغبة في ازدياد أسباب الإيمان بالله ومن أجل أن نرد على أي فضولي مجادل، على الرغم من أنه ليس من حق أحد أن يجادل في دين الله؛ لأن الذي يرغب في الجدال فليجادل في القمة أولاً؛ وهي وجود الله، وفي البلاغ عن الله بواسطة الرسول؛ فإن اقتنع، فعليه أن يطبق ما قاله الله. فالدين لا يمكن أن نبحثه من أذنابه، ولكن يبحث الدين من قمته. ونحن ننفذ أوامر الله. ولذلك نجد أول حكم يأتي لم يقل الحق فيه: يا أيها الناس كتب عليكم كذا، ولكن سبحانه يقول: } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ { أي يا من آمنت بي خذ الحكم مني.
وأكرر المثل الذي ضربته سابقاً: أثمن ما عند الإنسان صحته، فإذا تعرضت صحته للاختلال فهو يدرس الأسباب؛ إن كان يرهقه الطعام يختار طبيبا على درجة علم عالية في الجهاز الهضمي، ويكتب الطبيب الدواء، ولا يقول المريض للطبيب: أنا لن أتناول هذا الدواء إلا إذا قلت لي لماذا وماذا سيفعل هذا الدواء.
إذن فالعقل مهمته أن ينتهي إلى الطبيب الذي اقتنع به، وما كتبه الطبيب من تعاليم فعليك تنفيذها، وكذلك الإيمان بالله، فمادام الإنسان قد آمن بالله إلها فعليه أن ينفذ الأوامر في حركة الحياة بـ " افعل " و " لا تفعل " ، والمريض لا يناقش طبيبا، فكيف يناقش أي إنسان ربه: " لم كتبت علي هذا "؟
والطبيب من البشر قد يخطئ؛ وقد يتسبب في موت مريض، وعندما نشك في قدرة طبيب ما نستدعي عدداً من الأطباء لاستشارة كبيرة.

وننفذ أوامر الأطباء، ولا يجرؤ أحد أن يناقش الله سبحانه وتعالى بل نقول: كل أوامرك مطاعة.
إننا ننفذ أوامر الأطباء فكيف لا ننفذ أوامر الله؟ إن الإنسان يضع ثثقته في البشر الخطائين، ولا يمكن - إذن - أن تعلو على الثقة في رب السماء؛ لذلك فالعاقلون هم الذين أخذوا أوامر الله وطبقوها جون من مناقشة؛ لأن العقل كالمطية يوصل الإنسان إلى عتبة السلطان، ولكن لا يدخل معك عليه، وحين تسمع من الله فأنت تنفذ ما أمر به.
} حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ { وقد أثبتت التحليلات أن بلحم الخنزير دودة شريطية ودودة حلزونية وعددا آخر من الديدان التي لا يقهرها علاج.
والمحرمات من بعد ذلك } وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ { أي رفع الصوت به لغير الله كقولهم: باسم اللات والعزى عند ذبحه، ولا يقال عند ذبحه: " الله أكبر بسم الله "؛ لأن الإنسان منتفع في الكون الذي يعيش فيه بالأجناس التي طرأ عليها، لقد وجد الإنسان هذه الأجناس في انتظاره لتخدمه لأنه خليفة الله في الأرض، والحيوان له روح ولكنه يقل عن الإنسان بالتفكير، والنبات تحت الحيوان، والجماد أقل من النبات. وساعة يأخذ الإنسان خدمة هذه المسخرات، فعليه أن يذكر الخالق المنعم، وعندما يذبح الإنسان حيوانا، فهو يذبحه بإذن الأكبر من الإنسان والحيوان والكون كله، يذبحه باسم الخالق.
إن هناك من ينظر إلى اللحم قائلاً: أنا لا آكل لحم الحيوانات لأني لا أحب الذبح للحيوان شفقة ورحمة، لكن آكل النبات. ونقول: لو أدركت ما في النبات من حياة أكنت تمتنع عن أكله؟ لقد ثبت في عصرنا أن للنبات حياة، بل وللجماد حياة أيضاً؛ لأنك عندما تفتت حصوة من الصوان أو أي نوع من الأحجار، فأنت تعاند بدقات المطرقة ما في تلك الحصوة من تعانق الجزيئات المتماسكة، وقد تفعل ذلك وأنت لا تدري أن فيها حياة.{ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ }[الإسراء: 44]
والصالحون من عباد الله يعرفون ذلك ويديرون لأعمالهم وتعاملهم مع ما سواهم من المخلوقات جميعا - حيوان أو جماد - على أنها مسبّحة لذلك لا يمتهنون الأشياء ولا يحتقرونها مهما دقت وحقرت وإنما يتلطفون معها حتى لو ذبحوا حيوانا فإنهم يرحمون ذلك الحيوان فلا يشحذون ولا يسنون السكين أمامه ولا يذبحون حيوانا أمام حيوان آخر فضلا على أنهم يطعمون ويسقون ما يرديون ذبحه لأنهم يعلمون أنه مسبح ولكنهم فعلوا فيه ما فعلوا لأن الله أباح لهم ذلك ليستديموا حياتهم بأكله فهم أهل تكليف من الله، أما ما عداهم فهم أهل تسخير.
} وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ { تشرح لنا أن الحق هو الذي حلل لنا أن نأكل من الذي له حس وحركة، كالحيوان الذي يتطامن للإنسان فيذبحه، ولا بد للإنسان أن يعرف الشكر لواهب النعمة، فـ " بسم الله الله أكبر " تؤكد أنك لم تذبحه إلا باسم من أحله لك.

{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ }[يس: 71-72]
إذن فالأكل من ضمن التذليل، وعندما تذبح الحيوان لا بد أن تذكر من ذلل لك ذلك. ويحرم الحق أكل المنخنقة، أي الحيوان الذي مات خنقاً؛ لأن قوام الحياة ثلاثة؛ طعام، شراب، هواء، وهذا من حكمة الخالق الذي خلق الصنعة ورتب الأمر حسب الأهم والمهم، فالإنسان قد يصبر على الجوع إلى ثلاثين يوماً؛ لأن ربنا سبحانه وتعالى قدر لك - أيها الإنسان - ظروف الأغيار، فجعل في جسمك مخزونا لزمن قد تجوع فيه، وجعل للإنسان شهوة إلى الطعام، وغالبا لا يأكل الإنسان ليسد الرمق فقط، ولكن بشهوة في الأكل.
إن ربنا يوضح لنا: أنا أحترم شهوتك للطعام، ولتأخذ حركتُك الضروريَّ لها من الطاقة، والزائد سيُخزن في الجسم كدهون ولحم، فإن جاء يوم لا تجد فيه طعاماً أخذت من الدهون المخزونة طاقة لك. وهذه من دقة الصنعة، وإن قارنتها بسيارة صنعها الإنسان إذا ما فرغ منها الوقود فإنها تقف ولا تسير، أما صنعة الخالق فهي لا تقف إن توقف الطعام بل تستمر إلى ثلاثين يوماً، وربما حن على الإنسان قلب إنسان آخر فأحضر له الطعام، وربما احتال الإنسان ليخرج من مأزق عدم وجود الطعام.
إن المرأة العربية وصفت الشدة والعوز فقالت: " سنة أذابت الشحم، وسنة أذهبت اللحم، وسنة محت العظم " أي أن الأمر درجات، فالإنسان يتغذى من دهنه ثم من لحمه ثم من عظامه، ويصبر الإنسان على الماء مدة تترواح ما بين ثلاثة، وعشرة أيام، حسب كمية المياه المخزونة في الجسم. أما الهواء فلا يصبر عنه الإنسان إلا بمقدار الشهيق والزفير، فإن حُبس الهواء عن الإنسان مات. فالنَفَس هو أهم ضرورة للحياة، ولذلك نجد من حكمة الحق سبحانه أنه لم يملّك الهواء لأحد؛ لأن أحداً لو امتلك الهواء بالنسبة لإنسان آخر فقد يمنع عنه الهواء لحظة غضب فتنتهي منه الحياة.
واللغة العربية فيها من السعة ومن دقة الأداء ما يدل على أن هناك أسرارا للمعاني، تلتقي عند شيء ما، فمثلاً إذا قلت: نَفْس، أو نفيس، أو نفَس، نجد أنها ثلاث كلمات مكونة من مادة واحدة هي " النون والفاء والسين " ، النفْس هي اتصال الروح بالمادة فتنشأ الحياة بها، ويلهم ربنا النفس فجورها وتقواها، والنَّفَس: وهو الريح تدخل وتخرج من فم وأنف الحي ذي الرئة حال التنفس ولا تدوم الحياة إلا به، ومادام أساس الحياة هو النفَس فيجب ألا تكون حياتك إلا من أجل نفيس، ويجب أن تحترم خلق الله لك وألا يكون سعيك في الدنيا إلا من أجل نفيس، ولا نفيس إلا الإيمان.

وفي اللغة العربية أمثلة كثيرة لما يسمى بالجناس، فنحن نسمي الأكل في الميعاد " وجبة " ، ونسمي المسئولية " واجبا " ونسمي دقة القلب " الوجيب ". ولذلك عندما أراد الشعراء أن يتفننوا جاء واحد منهم بلفظين متماثلين ولكل منهما معنى مختلف فقال:رحلت عن الديار لكم أسير وقلبي في محبتكم أسيرفأسير في الشطر الأول يمعنى أمشي، وأسير في الشطر الثاني من البيت بمعنى مأسور ومقيد.
فالمنخنقة إذن هي التي منع عنها النفس، ومادام مَنْع النفس أوصلها إلى الخنق فهي إلى الموت، فلماذا جاء ذكرها مرة أخرى بعد الميتة؟ لقد جاء ذكر المنخنقة لأن الإنسان قد يلحقها بالذبح، فإن سال منها دم، وطرفت فيها عين أو تحرك الذيل فهي حلال. أما إن لم يلحقها الإنسان وذبحها ولم يسل منها دم فهي حرام، ويحرم الحق الموقوذة، وهي البهيمة التي يتم ضربها بأي شيء إلى أن تصل للموت، فهي قد ماتت، بنقض بنية وكذلك المتردية التي وقعت من ارتفاع حتى ماتت، وكذلك } وَالنَّطِيحَةُ { أي التي نطحها حيوان آخر إلى أن ماتت. } وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ { وهو ما يبقى من أكل السبع من لحم ما افترسه من حيوان مأكول، } إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ { ، والذكاة هي الذبح الذي يسيل منه الدم وتأتي بعده حركة من المذبوح. والمقصود بقوله } إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ { هو المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة، فإن أدركها الإنسان وذبحها وسال منها دم وصدرت منها حركة فهي حلال.
هذا هو رأي علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - وهو مفتي الإيمان. وابن عباس - رضي الله عنه - وهو حَبْر الأمة قال - أيضا - في قوله الحق: } إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ { هو استثناء لغير الميتة والدم ولحم الخنزير ومقصود به المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة. وهذا يوضح لنا أن هناك حيوانات شرسة قد لا يقوى الإنسان عليها. وأحياناً قد يقدر الإنسان عليها فيقوم بتكتيفها بالحبال، وأحيانا يضربها بآلة لتختل وتضعف قليلا ويتملكها الجزار ليذبحها.
ونلاحظ أن الحق لم يحدد الحيز من الجسم الذي أصيبت فيه الموقوذة سواء أكان البطن أم الرأس أم الظهر، فالحيوان المضروب رميا بالحجارة قد تأتي الأحجار في الرأس أو البطن أو الظهر، فمن الجائز أن يضرب الإنسان الحيوان الشرس ليستطيع أن يذبحه.
والحجة عندنا في التحليل أو التحريم هي: أيسيل منها الدم ساعة الذبح أم لا؟ وهل يصدر عن جسمها حركة ولو طرفة عين؟ فإن توافر ذلك في الذبيحة فهي حلال، وهكذا نعرف أن قوله الحق: } إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ { هو استثناء لغير الثلاثة الأول وهي: الميتة والدم ولحم الخنزير ومعها ما أهل لغير الله به لأنه محرم بطبيعة الإيمان العقدي.

} وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ { ويحرم الحق ما أكله السبع إلا إذا كان الحيوان الذي أكله السبع لم يمت واستطاع واحد أن يذبحه الذبح الشرعي. وسبحانه يحريم ما لم يذبح بالأسلوب الشرعي، فلا يحل ذَبْح بعظم أو بِسِنّ والذي ذبح على النصب، أي المذبوح على الأحجار المنصوبة كالأصنام فهو حرام، والكلام هنا عقدي، والتحريم هنا بعارض عقدي.
و " النُّصُب " من الألفاظ التي وردت مفرداً ووردت جمعاً. فـ " نصُب " هي جمع، مثلما نجمع كلمة " حمار " ونقول " حُمُر " ، وفي هذه الحالة يكون مفردها " نِصاب " ، ومرة تكون " نصب " مفرداً، مثلها مثل " طُنُب " وهو الحبل وجمعها " أطناب " أي حبال، وفي هذه الحالة يكون جمع " نُصُب " هو " أنْصَاب ".
والنُّصُب هي حجارة كانت منصوبة حول الكعبة يذبح عليها المشركون الذبائح تقرباً للآلهة. والتحريم هنا بسبب عقدي مثله مثل تحريم ما أهل لغير الله به، فما أهل لغير الله فيه شرك بالله فافتقد ذكر الله الذي ذلل للإنسان هذا الحيوان القريب من الإنسان في الحس والحركة وغير ذلك. وكذلك أيضاً ما ذبح على النصب محرم؛ لأن النصب غير واهب ولا معط، والواجب أن نتقرب إلى الواجد الواهب.
} وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ { واستسقم أي طلب القسمة، وكانت القسمة في بعض الأحيان عملية محرجة فيريدون إلصاقها بعيرهم، وهنا يقال: " إن الأزلام هي التي أمرتني ". والأزلام هي قداح من الخشب مكتوب على بعضها: " أمرني ربي " ومكتوب على البعض الآخر: " نهاني ربي " وبعض من هذه القداح غفل بغير كتابة. وكان المشرك إذا أراد السفر فهو يذهب إلى سادن الكعبة أو الكاهن، ويخرج السادن أو الكاهن الأزلام من الكيس، ويحرك القداح ويختار المشرك قِدْحاً، فإن قرأ عليه " أمرني ربي " يسافر إلى المهمة التي يريدها، وإن لم يقرأ عليه ووجده غفلا فهو يعيد الكَرَّةَ؛ فإن وجد " نهاني ربي " لا يسافر.
ونسأل: من هو الرب الذي أمر؟ هل هو الرب الأعلى، أو الرب الذي كانوا يعبدونه؟ أي إله كانوا يقصدون؟ إن كان المقصود به الإله الأعلى، فمن أدراهم أن الله أمر بهذا السفر أو نهى عن ذلك السفر؟ إن ذلك كذب على الله. وإن كان الذي أمر هو الرب الذي يعبدونه، فهذا أمر باطل من أساسه، إذن فـ " استقسم " أي أنّه طلب حظه وقسمته بواسطة القداح. وكان الاستقسام يتم في مسائل الزواج أو عدم الزواج، والكلام هنا في هذه الآية عن الأكل؛ فالسياق عن تحليل ألوان الطعام فلماذا هذا الاستقسام؟
من هذا نعرف أنهم كانوا في الجاهلية يخضعون للون من الاستقسام بالأزلام، كانت عندهم عشرة قداح وكان مكتوبا عليها أسماء، فواحد على سبيل المثال مكتوب عليه " الفذ " وعليه علامة واحدة.

أي أن الذي يسحب هذا القدح يأخذ نصيبا واحداً؛ أما المكتوب عليه " التوأم " فيأخذ نصيبين، والمكتوب عليه " الرقيب " يأخذ ثلاثة أنصباء، والمكتوب عليه " الحِلس " يأخذ أربعة أنصباء، والمكتوب عليه " النافر " يأخذ خمسة أنصباء؛ والمكتوب عليه " المُسْبل " يأخذ ستة أنصبة، ووالمكتوب عليه " المُعلّي " يأخذ سبعة أنصبة، والباقي ثلاثة أنواع مكتوب على كل واحد منها إما " المنيح " وإمّا " السفيح " وإمّا " الوغد ".
وعندما يقومون بذبح الجمل كانوا يقسمونه إلى ثمانية وعشرين نصيباً بعدد الأنصبة التي ينالها الأشخاص السبعة الأوائل، أما من خرج لهم " المنيح " أو " السفيح " أو " الوغد " فلا نصيب لهم ويدفعون ثمن الذبيحة.
إذن فقوله الحق: } وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ { أي أن مسألة طلب القسمة بواسطة الأزلام هو أسلوب مجحف وحرام، وهو لون من الميسر، والاستقسام بالأزلام خلاف القرعة، فالقرعة تكون بين اثنين متساويين ولا يريد أحدهما أن يظلم الآخر، فيخرجا الهوى من الاختيار.
مثال ذلك: اثنان من البشر يملكان بيتاً، وتحري كل منهما العدل في القسمة ويلجآن إلى القرعة بأن يكتب كل منهما اسمه في ورقة ثم يضعا الورقتين في إناء ضيق ويحضر طفل صغير لا يعرف المسألة ويغمض عينيه ويشد ورقة من الاثنتين، فيأخذ كل واحد النصيب الذي حددته القرعة.
ومثال آخر: الرجل المتزوج بأكثر من واحدة، عليه أن يقرع بين النساء إن أراد صحبة إحداهن في سفر، والقرعة هنا حتى لا تغضب واحدة من الزوجات، وحتى لا يكون الهوى هو الحكم، وبذلك يخرج من دائرة لوم مَن لا تخرج قرعتها.
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة، فعندما أراد صلى الله عليه وسلم ألا يكسر خاطر أي واحد من الأنصار عندما هاجر إلى المدينة، وتطلع كل واحد من الأنصار إلى أن ينزل رسول الله في بيته، وحاول كل واحد أن يمسك بزمام الناقة وأن يجعلها تقف أمام بيته، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" خلوا سبيلها فإنها مأمورة "
فعندما تميل الناقة وتقف عند أي بيت لن يقول أحد: إن النبي آثر فلاناً على فلان. جعلها الرسول في يد من لا يقدر أحد على ان يخالفه عليه، وكذلك فالاستخارة غير الاستقسام. إذن فالاستقسام بالأزلام هو المحرم شرعاً؛ لأنها عملية غير مناسبة وهي ظالمة، ووردت هنا في سياق ألوان الطعام.

ويقول سبحانه عن كل تلك الألوان من المحرمات؛ إنَّ ارتكابها فسق. } ذالِكُمْ فِسْقٌ { والفسق هو الخروج عن الطاعة. والمعاني - كما علمنا من قبل - مأخوذة من المحسّات؛ لأن إلف الإنسان في أول إدراكاته بالمحسات، فهو يرى ويسمع ويشم، وبعد ذلك تأتي الأمور العقلية.
وأصل الفسق هو خروج الرطبة عن قشرتها؛ فالبلحة عندما تترطب تنكمش الثمرة داخل القشرة وتخرج منها عندئذ يقال: " فسقت الرطبة " أي خرجت من قشرتها، وكذلك من يخرج عن منهج الله يسمونه فاسقاً؛ تماماً مثل الرطبة، وفي هذا رمزية تدل على أن شرع الله سياج يحيط بالإنسان؛ فالذي يخرج عن منهج الله يكون فاسقاً. وإياك أيها المسلم أن تخرج عن شرع الله؛ لأن الرطبة عندما تخرج عن القشرة فالذباب يحوم حولها ويصيبها التراب وتعافها النفس، فَكَان دين الله كإطار يحمي الإنسان بالإيمان.
وهذه الأحكام كلها تبني قضية الدين، قضية عقدية في الألوهية، قضية البلاغ عن الألوهية بواسطة الرسالة. وأحكام تنظم حركة المجتمع بالعقود والأمانات والأنكحة وغيرها، كل هذه الأحكام تصنع هيكل الدين العام. وقد مر هيكل الدين العام بمرحلتين: المرحلة المكية وكان كل هدفها التركيز على العقيدة والإيمان بوحدانية الله والنبوات والبلاغ عن الله، وبعد ذلك في المرحلة المدنية جاءت سورة النساء وسورة المائدة لتتكلما عن الأحكام.
وبالعقيدة وبالبلاغ عن الله وبالأحكام يكتمل الدين؛ لذلك يقول الحق: } الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ { كأن الكافرين كان لهم أمل في أن يحبطوا هذا الدين وأن يبطلوه وأن ينقضوه، وكذلك المؤمنون بأديان سابقة أو بكتب سابقة كانوا يحبون أن يطرأ على القرآن الأفعال التي مارسوها مع كتابهم من النسيان والترك والتحريف، وسبحانه هو القائل عن أصحاب الكتب السابقة:{ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ }[المائدة: 13]
إذن فقد أرادوا أن ينسى المسلمون - أيضاً - حظاً من القرآن، لكن الحق يخبر بأنهم يئسوا أن ينسى المسلمون حظا مما ذكروا به؛ لأن الصحابة حفظوا القرآن في الصدور وكتبوه في السطور ومن لسان الرسول مباشرة. ولم يحدث مثلما حدث مع الرسل السابقين. فقد تم تسجيل هذه الكتب المنزلة عليهم بعد ثلاثة أو أربعة قرون، بل أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بكتابة القرآن من فور نزول كل نجم من الآيات، وكان يأمر بوضع الآيات بترتيب معين.
إن على الذين كفروا أن ييأسوا من أن ينسى المسلمون حظاً مما ذكروا به. وهؤلاء القوم من أهل الكتاب لم ينسوا حظاً مما ذكروا به فقط، لا أيضاً حرفوا الكتاب عن مواضعه وكتموا ما أنزل الله:{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَـائِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ }[البقرة: 174]
وهم يئسوا من أن يكتم المسلمون ما أنزل الله، بدليل أن رسول الله صلى اله عليه وسلم كان يأتي بحكم في شيء، ثم يغير الله ذلك الحكم، فلا يستحي رسول الله أن يبلغ: أن الحكم الذي قلته لكم قد غيره الله لي.

وهل يستنكف أن يعدل الله له؟ وهذا دليل على أمانة البلاغ عن الله؛ لذلك يئس الكافرون بألوانهم المختلفة من أن ينسى المؤمنون حظا مما ذكروا به؛ لأن تسجيل القرآن كان أمينا بصورة لا نهاية لها، وظل القرآن مكتوباً في السطور ومحفوظاً في الصدور.
والحق يعلن عن يأس الكفار من مشركين وأهل كتاب بقوله: } الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ { يئسوا لأن المراحل التي مرت بالكتب السابقة لن تمر بهذا الدين. وقد توهم أهل الكتاب أن الإسلام سيمر بما طرأ عليهم، وظن بعضهم أن المسلمين سيصيرون إلى ما صار إليه أهل الكتاب من ترك لدينهم وإهدار له. وكذلك ظن بعض كفار قريش أن المسلمين سيصيرون إلى ما صار إليه أهل الكتاب، فقد كانت عندهم التوراة وهم مع ذلك لا يتبعون كتابهم، فيرد الحق على كل هؤلاء: } الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ {.
وقوله: " اليوم " يعني الزمان الذي مضى والزمان المستبقل، فقد أتم الله دين الإسلام ورضيه لنا وفتحت مكة للمسلمين ودخل الناس في دين الله أفواجا. وصار القرآن مكتوباً ومحفوظاً. وبذلك تأكد يأس الكافرين والمشركين أن يُنسى القرآن أو أن يُكتم القرآن؛ لأن من أنزل عليه الكتاب، كان إذا جاء أمر يتعلق به فهو يقوله. وعندما مال قلب المسلمين ذات مرة إلى تبرئة المسلم الذي سرق وأن تلصق التهمة باليهودي البريء، هنا نزل من القرآن قوله:{ إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً }[النساء: 105]
لقد أمر الحق أن يكون النبي هو الحكم العدل حتى ولو كان حكماً ضد مسلم, ويأمر الحق رسوله أن يستغفر الله إن كان قد ألم به خاطر أن ينصر المسلم الخائن على اليهودي الذي لم يسرق، إنها سماحة دين الإسلام.
} الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ {. ولقد تم دين الله. ودخل الناس إلى الإسلام أفواجا. ولن يُنسى القرآن. ولن يكتم القرآن أحد. ولن يحرف القرآن أحد. ولن يحدث للقرآن ما حدث للكتب السابقة من نسيان وكتمان وتحريف، أو الإتيان بأشياء أخرى والقول والزعم بأنها من عند الله، وهي ليست من عند الله. إذن فقد يئس الذين كفروا من أن يتزيد المسلمون في دينهم. ولن توجد بين المسلمين تلك المثالب والعيوب التي ظهرت في الأقوام السابقة.
} الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْْ { لقد يئسوا من أن يُغلب الإسلام، بل إن الإسلام سَيَغْلب. وأرادوا أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره.

} الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ { وقد حكم سبحانه ألا يأتي أمر يحقق لأعداء الإسلام الشماتة به، أو أن تتحقق لهم الفرصة في انكسار الإسلام، فلا تخشوهم أيها المسلمون لأنكم منصورون عليهم، ولن تدخلوا في أسباب الخيبة التي دخلوا فيها. وعليكم أيها المؤمنون بخشية الله.
ولو أراد أحد تغيير شيء من منهجه سبحانه سيلقى العقاب، وسبحانه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فكتاب الله معكم وترك فيكم رسول الله صلى الله عليه وسلم منهجه، فإن خالفتم المنهج فستتلقون العقاب، كما هزم الله المسلمين في أحُد أمام المشركين لأنهم خالفوا المنهج. فما نفعهم أنهم كانوا مسلمين منسوبين للإسلام بينما هم يخالفون عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذن فلا خشية من المسلمين لأعدائهم. ولكن الخشية تكون لله، فإن خفتم فخافوا الله وحافظوا على تنفيذ منهج الله. ومادام سبحانه هو الآمر: لا تخش أعداء الله لأنه زرع في قلوبهم اليأس من أن ينسى المسلمون المنهج، او أن يتزايدوا في الدين، أو يكتموا الدين، فهم لا يحرفونه ولا يزيدون فيه. إذن فالعيب كل العيب ألا تطبقوا منهج الله.
} الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ { والإكمال هو أن يأتي الشيء على كماله، وكمال الشيء باستيفاء أجزائه، واستيفاء كل جزء للمراد منه. وقد أتم الله استمرار النعمة بتمام المنهج.
لقد رضي الحق الإسلام ديناً للمسلمين. ومادام رضي سبحانه الإسلام منهجاً، فإياكم أن يرتفع رأس ليقول: لنستدرك على الله؛ لأن الله قال: " أكملت " فلا نقص. وقال: " أتممت " فلا زيادة. وعندما يأتي من يقول: إن التشريع الإسلامي لا يناسب العصر. نرد: إن الإسلام يناسب كل عصر، وإياك أن تستدرك على الله؛ لأنك بمثل هذا القول تريد أن تقول: إن الله قد غفل عن كذا وأريد أو أصوب لله، وسبحانه قال: " أكملت " فلا تزيد، وقال: " أتممت " فلا استدراك، وقال: " ورضيت " فمن خالف ذلك فقد غَلَّب رضاه على رضا ربه.
إن الخالق سبحانه هو أعلم بخلقه تمام العلم، ويعلم جل وعلا أن الخلق ذو أغيار، وقد تطرأ عليهم ظروف تجعل تطبيق المنهج بحذافيره عسيراً عليهم أو معتذراً فلا يترك لهم أن يترخصوا هم، بل هو الذي يرخص، فلا يقولن أحد: إن هذه مسألة ليست في طاقتنا. فساعة علم الحق أن هناك أمراً ليس في طاقة المسلم فقد خففه من البداية. وما دمنا ذوي أغيار، وصاحب الأغيار ينتقل مرة من قوة إلى ضعف، ومن وجود إلى عدم، ومن عزة إلى ذلة؛ لذلك قدر سبحانه أن يكون من المؤمنين بهذا المنهج الكامل من لا يستطيع القيام لمرض أو مخمصة، فرخص لنا سبحانه وتعالى: } فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {.

إذن فالحق قد ذكر أن شيئاً من الأغيار قد يطرأ على النفس البشرية، وما دام استبقاء الحياة يتطلب القوت، والإنسان قد يمر بمخمصة وهي المجاعة التي تسبب الضمور في البطن، هنا يرخص الحق للجائع في مخمصة أن يأكل الميتة أو ما في حكمها بشرط الاضطرار لاستبقاء الحياة، فلا يقول واحد على سبيل المثال:
أنا مضطر أن أتعامل مع البنك بالربا لأني أريد أن أتاجر في مائة ألف جنيه وليس معي إلا ألف جنيه. وهذا ما هو حادث في كل الناس. هنا أقول: لا. عليك بالتجارة في الألف التي تملكها ولا تقل أنا مضطر للتعامل في الربا. فالمضطر هو الذي يعيش في مجاعة وإن لم يفعل ذلك يموت أو يموت من يعول. وقد رخص الشرع للإنسان الذي لا يملك مالاً أن يقترض من المرابي إن لم يجد من يقرضه ليشتري دواء أو طعاماً أو شيئا يضطر إليه لنفسه أو لمن يعول. والإثم هنا يكون على المرابي، لا على المقترض لأنه مضطر.
ولذلك قال الحق: } فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ { ، أي أنه كاره للإثم وإن ذهب إليه. ولذلك يباح للمضطر على قدر الضرورة. لدرجة أن رجال الشريعة قالوا: إن على الإنسان المضطر ألا يأكل من الميتة أو ما في حكمها بالقدر الذي يشبع، بل يأخذ أقل الطعام الذي يمسك عليه رمقه ويبقى حياته فقط. فإذا كان يسير في الصحراء فعليه ألا يأخذ من الميتة أو ما في حكمها إلاَّ قدراً يسيراً لأنه لا يجد شيئاً يتقوت به.
إذن فمعنى اضطر في مخمصة شرط أن يكون غير متجانف لإثم، أي لا يكون مائلاً إلى الإثم فرحا به، فعليه ألا يأخذ إلا على قدر الضرورة. ومادام على قدر الضرورة فهو لن يحمل معه من هذه الأشياء المحرمة إلا ما يقيم أوده ويمسك روحه. والمضطر هو من فقد الأسباب البشرية. وسبحانه وتعالى قد بسط أسبابه في الكون ومد بها يديه إلى خلقه، وأمر الأسباب: استجيبي لهم مؤمنين كانوا أو كافرين، فالذي يزرع ويحسن الزراعة والري والبذر والحرث فالله يعطيه، والذي يتقن عمله كتاجر تتسع تجارته وتزيد أرباحه.{ مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا }[الشورى: 20]
إن عطاء الأسباب هو عطاء الربوبية. والمضطر هو من فقد أسبابه. ولذلك فالحق يجيب المضطر إذا دعاه. وقد يقول قائل: إنني أدعو الله ولا يجيبني. ونقول: إنك غير مضطر لأنك تدعو - على سبيل المثال - بأن تسكن في قصر بدلاً من الشقة التي تسكنها، وأنت تدعو بأن يعطيك الله سيارة فارهة وأنت تملك وسيلة مواصلات عادية.

فالمضطر - إذن - هو الذي فقد الأسباب ومقومات الحياة.{ أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ }[النمل: 62]
وقد ضربنا من قبل المثل - ولله المثل الأعلى - بتاجر يستورد بضائع تصله من الخارج في صناديق ثقيلة. تحملها السيارات الضخمة، ويقوم أحد العمال أمامه بحمل صندوق ضخم، فغلب الصندوقُ العامل. وهنا يقفز التاجر ليسند العامل.
وهذه هي المساندة في المجال البشري، إذن فلا يَردّ واحد أسبابَ الله من يده ويقول من بعد ذلك: يارب أعني؛ لأن الله في تلك اللحظة يوضح للعبد: إنّ عندك أسبابي ومادامت أسبابي موجودة، فلا تطلب من ذاتي إلا بعد أن تنفذ أسبابي من عندك؛ لذلك يباح للمضطر أن يأخذ القدر الذي يردّ به السوء عن نفسه.
} فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ { ومادام سبحانه قد رخص لنا ذلك، فما الداعي أن يذيل الآية بمغفرته ورحمته؟ ولنفهم أن الإنسان يأخذ الغفر مرة على أنه ستر العقاب عنه، وقد يكون الغفر سترَ الذنب عن العبد لأن الله رحيم. وهذا ما يشرح لنا ما قاله الحق لرسوله:{ لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ }[الفتح: 2]
فسبحانه يغفر بستر العقاب، ويقدم الغفر لستر الذنب فلا يفارقه الإنسان ويقول الحق بعد ذلك: } يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ... {

(/665)


يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)


فبعد أن بين الحق ما حرم وما أحل، نجد أن المحَلَّلَ غير محصور، بل المحصور هو المحرم؛ لأن الحق حرم عشرة أشياء، فإن هذه الأشياء العشرة ليست هي كل الموجودات في الكون، فالموجودات في الكون كثيرة. وسبحانه وتعالى حين خلق آدم وجعله يتناسل ويتكاثر للخلافة في الأرض؛ قدر في هذه الأرض مقومات استبقاء الحياة لذلك النوع.
والاستبقاء نوعان: استبقاء حياة الذات للإنسان، واستبقاء حياة نوع الإنسان، واستبقاء حياة الذات تكون بالتنَفس والشراب والطعام، واستبقاء حياة النوع تكون بالإنكاح والتناسل.
إذن يوجد بقاءان لاستمرار الخلافة: البقاء الأول: أن تبقى الحياة وذلك بمقوماتها، والبقاء الثاني: أن يبقى نوع الحي وذلك بالتكاثر. وحتى تبقى الحياة ويتكاثر الإنسان لا بد من وجود أشياء وأجناس تخدم الإنسان وتعطيه الطاقة.
وطمأننا سبحانه وتعالى على الرزق حينما قال:{ قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَىا إِلَى السَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ }[فصلت: 9-11]
وهو بذلك يخبرنا بأنه قدر في الأرض أقواتها، وقدر هذه الأقوات للإنسان الخليفة في الأرض، لتقيت الإنسان لهذه الحياة، ويُبقي الإنسان نوعه بالإنكاح. وحين يعد العبد النعم التي وفرها له الحق يجدها لا تحصى. ولم يحاول الإنسان على طول تاريخه أن يحسب ويحصي نعم الله في الأرض؛ لأن الإقبال على الإحصاء يكون نتيجة المظنة بالقدرة على الإحاطة بالنعم. وقد عرف الإنسان بداية أنه لا يقدر على الإحاطة بنعم الله؛ فلم يجرؤ أحد على أن يعدها. ولذلك قال الحق سبحانه:{ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا }[إبراهيم: 34]
وقد استخدم " إن " وهي للأمر المشكوك فيه. إذن فهي نعم كثيرة لا نقدر على إحصائها. ونسأل: أيقول الحق لنا النعم المحللة أو الأشياء المحرمة؟ وبما أن المحلل كثير لا نهاية له، وبما أن المحرم محصور؛ لذلك يورد لنا الأشياء المحرمة. وقد بين لنا الحق عشرة أشياء محرمة من النعم. ونلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى حينما تكلم عن عدم قدرة الإنسان على إحصاء نعمه سبحانه وتعالى قال في آية:{ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ }[إبراهيم: 34]
وقال في آية أخرى:{ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَآ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }[النحل: 18]
وظاهر كلام الناس يقول: إنها عبارات تقال وتتكرر، ولكننا نقول: يجب أن ننتبه إلى أن النعمة تحتاج إلى من يعطيها وهو المُنعِم، ومن تعطى له وهو المنعم عليه. إذن فنحن أمام ثلاثة عناصر: نعمة، ومُنعِم، ومُنْعَمِ عليه.

أما من جهة النعمة وأفرادها فلن يقدر البشر على إحصائها لأنها فوق الحصر. ومن جهة المنعم فهو غفور رحيم. ومن جهة المنعم عليه فهو ظلوم كفار. لماذا يأتي الله لنا بمثل هذه الحقائق؟
إنه سبحانه لو عاملنا بكفرنا وجحودنا وظلمنا لمنع النعمة، ولكن استدامة نعمة الله علينا فضل منه ورحمة لأنها تشملنا حتى ولو كنا ظالمين وكنا كفارا؛ لذلك كان من اللازم أن يأتي بهاتين الآيتين، فمن ناحية النعمة لن نقدر على حصرها. ومن ناحية المنعم فهو غفور رحيم. ومن ناحية المنعم عليه فهو ظلوم كفار. ولذلك فعندما يرتكب الإنسان ذنبا فإن أهل الإيمان يقولون له: لا تيأس؛ فربك هو، هو، إنه غفور رحيم. ولذلك لا تستحي أيها العبد أن تطلب من ربك شيئا على الرغم من معصيتك، فالله غفور رحيم. وعندما ننظر إلى مقومات الأشياء، فإننا نعرف المقوم الأساسي.
لكن هناك مقومات تخدم المقوم الأساسي. ومثال ذلك نحن نأخذ القمح وندرسه، ونصنع من حبوب القمح دقيقا لنصنع منه خبزاً. ويحتاج القمح إلى مقومات كثيرة حتى يخرج من الأرض - وهو مقوم أساسي - إن القمح يحتاج إلى ري منتظم وحرث وخلاف ذلك، إذن فالذي خلقنا قدر لنا هذه الأشياء، ومادام قد قدر لنا كل هذه الأشياء، فعلينا أن نسمع تعاليمه. وهو قد أوضح: إياك أن تظن أن كل ما خلقت من خلق فأنا مُحِلّه لك؛ لأني قد أخلق خلقاً ليس من طبيعته أن تتناوله، وليس من طبيعتك أن تتناوله، ولكن لهذا المخلوق عمل فيما تتناوله كالحرث والري والتسميد للقمح، إنها وسائل وأسباب للحصول عليه. فإذا ما قال قائل: مادام هو سبحانه قد خلق هذه المحركات فلماذا حرمها؟
ونقول: هذه الأشياء ليس لها عمل مباشر فيك ولكن لها عمل آخر في الكون. وإذا كنا نحن البشر نصنع آلة ما، ويقول المخترع لنا: قد صممت هذه الآلة - على سبيل المثال - لتدار بالديزل، وآلة أخرى تدار البنزين، والبنزين أنواع، ولو جئنا للآلة التي تدار ببنزين ووضعنا لها سولارا، ما الذي يحدث لها؟ إنها تفسد، هذا في المجال البشري فما بالنا بخالق البشر؟
لقد صنع الحق صنعته وهي الإنسان ووضع المواصفات التي تسير هذه الآلة، وعلينا أن نخضع لتعاليمه حتى لا تفسد حياتنا فلا نخرج عن تلك التعاليم؛ لأنك عندما تخالف وتخرج عما وصفته لصنعتك من نظام، فالآلة التي من صناعتك تفسد.
وفي حياتنا آلاف الأمثلة.. فالذي صنع الكهرباء ووضع العلامات للأسلاك السالبة والأسلاك الموجبة، لنأخذ الضوء أو الحركة. وإذا ما حدث خطأ في هذه التوصيلات الكهربية؛ نفاجأ بحدوث قطع في الكهرباء، وقد تحدث حرائق نتيجة شرارة من الاتصال الخاطئ.
إذن فكل تكاثر وإنجاب من كل سالب وموجب أي ذكر وأنثى لا بد أن يكون على مواصفات من صنعه وإلا يحدث قطع ودمار، فإن تزوجنا بشرع الله ورسوله، استقامت الحياة، وإن حدث شيء على غير شرع الله، تشتعل الحرائق في الكون.

ولذلك تجد العجب أمامك عندما تشهد عقد قران، تجد ولي الزوجة وهو مبتسم منشرح يوجه الدعوات للناس لأن شابا جاء يتزوج ابنته ويقدم الحلوى، لكن لو كانت هذه العروس تجلس في المنزل وحاول شاب أن يتلصص لرؤيتها، فما الذي يحدث في قلب والدها؟ إنه يغلي من الضيق والغضب والتوتر ومن الذي يتلصص لأنه ذهب إلى الفتاة بغير ما أحل الخالق. لكن عندما يدق الباب ويخطبها من أبيها؛ فالأب يفرح، فقد جاء في الأثر: (جدع الحلال أنف الغيرة).
ونجد الأب ينتقل من موقف الغيرة إلى موقف الفرح يوم زفاف ابنته، وتذهب الأم صباح اليوم التالي للزفاف لترى حالة ابنتها ولتطمئن، هل الابنة سعيدة أو لا؟ إذن. فلا يقولن أحد: إن الله خلق أشياء فلماذا حرمها؟، لأن الله خلق تلك الأشياء ولها عمل فيما أحل، ومادام سبحانه قد جعل لهذه الأشياء عملاً فيما أحل. فليس لك دخل إلا بالحلال.
ولذلك يقول الحق رداً على تساؤل المؤمنين: } يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ { أي أن كل طيب قد حلله الله، وكل خبيث حرمه الله، فلا تقولن: هذا طيب فيجب أن يكون حلالاً، وهذا خبيث فيجب أن يكون حراما، ولكن قل: هذا خلال فيجب أن يكون طيبا، وهذا حرام فيجب أن يكون خبيثا. وإياك أن تحكم أولا بأن هذا طيب وهذا خبيث ثم تبنى على ذلك التحريم والتحليل، فأنت لا تعرف مثلما يعرف خالقك عن كيفية وجدوى ترتيب الأشياء بالنسبة لك، حتى لا تقع في دائرة الذين يستطيبون المسائل الضارة؛ كهؤلاء الذين يتناولون المخدرات والسموم والخمور، بل يجب أن تحرص على فهم ما أحل الله فستراه طيبا، وترفض ما حرم الله لأنه خبيث، فلا تظن أبداً أن كل طيب ظاهريا محلل لك؛ لأن هذا الشيء الطيب في ظاهره قد يكون خبيثا.
وعليك أن تترك تحديد الطيب والخبيث لخالقك، فهو أدرى بك وبالمناسب لك. امّا أنت فتعرف الشيء الطيب من تحليل الله له. وتعرف الخبيث من تحريم الله له. والحكم هنا يكون للتكليف، فالله هو الذي خلق، والله هو الذي يعلم الصالح للإنسان. فالمسألة إذن ليست العناصر؛ ولكنها إرادة الخالق لتلك العناصر، فهو الذي قدر فهدى.
الخلاصة إذن في هذا الموضوع هي: أن الحق أحل للمؤمنين الطيبات وكل شيء أحله الله يكون طيباً، وكل شيء حرمه الله يكون خبيثاً، فلا تنظر أنت إلى الآراء البشرية التي يقول بعضها على شيء إنه طيب فيكون حلالاً، وإن ذلك الشيء خبيث فيكون حراماً، فأنت وغيرك من البشر لا يعرفون ترتيب الأشياء ولا فائدتها ولا مضرتها بالنسبة لك.

والدليل: أن البشر يتدخلون في بعض الأحيان في تحريم أشياء بالنسبة لبعضهم البعض، فنجد الطبيب يقول للمريض: أنت مريض بالسكر فلا يصح أن تتناول النشويات والسكريات.
فإذا كنا نسمع كلام الطبيب وهو من البشر، أفلا يجدر بنا أن نستحي ونستمع لأمر الخالق؟! بل نتجاسر ونسأل: لماذا حرمت علينا يا رب الشيء الفلاني؟ وقد يخطئ الطبيب لكن الله لا يمكن أن يخطئ. فهو ربنا المأمون علينا، فما أحله الله يكون الطيب وما حرمه يكون الخبيث، وهذه قضية يتعرض لها أناس كثيرون، فعلى سبيل المثال نسمع من يستشهد الاستشهاد الخاطئ وفي غير موضوعه بقول الحق:{ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا }[البقرة: 286]
ويقول: إن عملي يأخذ كل وقتي. ولا فسحة عندي لإقامة الصلاة، والله لم يكلفنا إلا ما في الوسع. ونقول: وهل أنت تقدر الوسع وتبني التكليف عليه؟ لا. عليك أن تسأل نفسك: أكلفك الله بالصلاة أم لا؟. فإذا كان الحق قد كلفك بالصلاة، وغيرها من أركان الإسلام فهو الذي علم وسع الإنسان في العمل. ويجب أن تقدم التكليف أولاً لتعرف طاقة الوسع من بعد ذلك. وكذلك أسأل نفسك عما حلله الله واعرف أنه طيب وما حرمه الله فهو خبيث.
} يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ { وإذا سألنا ما تلك الطيبات؟ عرفنا أنها غير ما حرم الله، فكل غير محرم طيب، أو أنهم سألوا عن أشياء سيكون الجواب السابق هو الإجابة الطبيعية لها، وقدم الله الإجمال الذي سبق أن شرحناه. وبعد ذلك يكون المسئول عنه في مسألة الصيد بالكلاب، فجاء لهم بالبيان في مسألة الصيد بالكلاب، وكانت تلك مسألة مشهورة عند العرب بالجاهلية، وكذلك صيد الطيور. فقال: } قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الْجَوَارِحِ { فقد وضع الحق القضية العامة أولاً، ثم خصص بعد ذلك.
لقد كانت مسألة صيد الجوارح موضوع سؤال من عدي بن حاتم - رضي الله عنه - عن الصيد بالكلاب وبالطيور. وعلينا أن نحسن الفهم عن القرآن بحسن الفهم عن النص، فالحق يقول هنا: } قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الْجَوَارِحِ { فهل الكلاب والفهود والنمور التي تصطاد بواسطتها هي المحللة لنا لأننا علمناها الصيد؟ لا. } قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ { هي قضية منتهية. وبعد ذلك فهنا كلام جديد هو: } وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ {.
إذن فالذي أُحل هو ما أمسكت ما علمت من الجوارح، وليست الجوارح التي يعلمها الإنسان، اي أن الحق أحل لنا الطيبات وأكل ما أمسكت علينا الكلاب التي علمناها الصيد. و " الجوارح " مفردها " جارح " ومعناها " كاسب " ، ولذلك تسمى أيدينا جوارح، وعيوننا جوارح، وآذاننا جوارح؛ لأننا نكسب بها المدركات.

فالعين جارحة تكسب المرئي، والأذن جارحة تكسب المسموع. والأنف جارحة تكسب المشموم. واللمس جارحة لأننا نكسب بها الملموس. ويقول الحق سبحانه وتعالى:{ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ }[الأنعام: 60]
و " ما جرحتم " أي ما كسبتم، إذن فالجارحة هي الكاسبة. وقوله الحق: } وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الْجَوَارِحِ { مقصود به الحيوانات التي نعلمها كيف تصطاد لنا، وسميت جوارح، لأنها كاسبة لأصحابها الصيد، فالإنسان يطلقها لتكسب له الصيد، أو أنها في الغالب تجرح ما اصطادته. وكلا المعنيين يصح ويعبِّر.
والأصل في ما عَلّم الإنسان من الجوارح هو الكلاب، وألحق بالكلاب غيرها مثل الفهود والنمور والصقور. والحق قال: } وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ { أي ما بذلتم من جهد في تدريب هذه الجوارح للصيد، فالإنسان لا يطلق الكلب أو الصقر ليصطاد، لكنه يقوم - أولاً - بتدريب الحيوان على ذلك.
ومثال ذلك: عندما يقوم مدرب القرود بتدريب كل قرد عل الألعاب المختلفة، وكذلك مدرب " السيرك " الذي يقوم بتدريب الأسود والفيلة، فهذا الفيل الضخم يقف بأربعة أرجل على اسطوانة قطرها متر واحد، وذلك كله ممكن بالتدريب بما علمكم الله وألهمكم أيها البشر وبما أعطاكم من طول البال وسعة الحيلة.
وننتبه هنا إلى نقطة هامة: إن الإنسان يقوم بتدريب الحيوان على ألعاب ومهام مختلفة ولكن الفيل - على سبيل المثال - لا يقدر على تدريب ابنه الفيل الصغير على الألعاب نفسها. وهذا هو الفارق بين الإنسان والفيل، فابن الإنسان يتعلم من والده وقد يتفوق عليه، لكن تدريب الحيوان مقصور على الحيوان نفسه ولا يتعداه إلى غيره من الحيوانات من الجنس نفسه أو الذرية فلا يستطيع الحيوان الذي درّبته ورَّوضته وعلمته أن ينقل ذلك إلى ذريته ونسله فلا يستطيع أن يعلم ابنه.
وكلمة " مكلب " تعني الإنسان الذي يعلم الكلاب ويدربها على عملية الصيد. وقال البعض: إن " مكلب " أي الرجل الذي يقتني الكلاب؛ لكنا نقول: إن الإنسان قد يقتني الكلاب لكنه لا يقوم بتدريبها، إذن المكلب هو الذي يحترف تدريب الكلاب، ومثله مثل سائس الخيل الذي يدرب الخيل؛ فالحصان يحتاج إلى تدريب قبل أن يمتطيه الإنسان أو قبل أن يستخدمه في جر العربات.
ولماذا ذكر الله " المكلبين " ولم يذكر مدربي الفهود؟. لأن الغالب أن الكلب شبه مستأنس، أما استئناس الفهد فأمر صعب بعض الشيء. و " مكلبين " تعني المنقطعين لتعليم الكلاب عملية الصيد. ويعرف معلم الكلاب أن الكلب قد تعلم الصيد بأنه إذا ما أغراه بالصيد فإن الكلب يذهب إليه. وإذا ما زجره المدرب فهو يرجع من الطريق. وإذا ما ذهب الكلب إلى الصيد بعد تعليمه وتدريبه وأمره المدرب أن يحمل الصيد ويأتي؛ فالكلب يطيع الأمر.

ويأتي بالصيد سليماً ولا يأكل منه. فهذه أمارة وعلامة على أن الكلب تعلم الصيد ويمكن تلخيصها في هذه الخطوات: إذا أرسلته للصيد ذهب، وإذا زجرته انزجر، وإذا استدعيته جاء ويأتي بالصيد سليماً لا يأكل منه. فإن أكل الكلب من الصيد فهو غير معلم؛ لأنه أمسك الصيد على نفسه، ولم يمسكه على صاحبه. ولذلك حدد الحق عملية الصيد بقوله عن الحيوانات التي تؤدي هذه المهمة: } مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ {.
ومن ضمن عملية التدريب هناك إطار إيماني، فالتدريب العضلي هو عملية يعلمها المكلِّب للكلب, أما الإطار الإيماني فهو ذكر اسم الله على الصيد: } وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ { وذلك حتى يكون الصيد حلالاً، ولا يقع في دائرة } وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ {. وإذا ما هجم الكلب على الصيد وقتله، يكون الصيد حلالاً، إن كان صاحب الكلب قد قال: " بسم الله والله أكبر " قبل أن يرسل الكلب إلى الصيد. وإن لم يذكر اسم الله فعليه أن ينتظر إلى أن يعود الكلب بالصيد، فإن كان في الصيد الحياة فليذكِّه أي يذبحه، ويذكر اسم الله، وإن مات الصيد قبل ذلك فلا يأكل منه. وكذلك إذا اصطاد الإنسان بالبندقية.. إن ذكر اسم الله أولاً وقبل أن يطلق الرصاصة فليأكل من الصيد.
} يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ { هذه هي القضية العامة، ومن بعد ذلك يحدد لنا الحق ألا نأكل الكلاب، ولكن هذه الكلاب التي نعلمها الصيد وتصطاد لنا ما نأكله بشرط أن تذكر اسم الله على الصيد قبل إطلاق الكلب للصيد، أو بعد أن تذبح الصيد الذي اصطاده الكلب، فذكر اسم الله مسألة أساسية في تناول النعم، لأننا نذكر المذلل والمسخر، ولا يصح أن نأخذ النعمة من وراء صاحبها دون أن نتذكره بكلمة.
ويذيل الحق الآية بقوله: } وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ { وتقوى الله في هذا المجال تعني ألا يؤدي الإنسان هذه الأمور شكلياً، وعلى المؤمن أن يتقي الله في تنفيذ أوامره بنية خالصة ودقة سلوك؛ لأنه سبحانه سريع الحساب بأكثر من معنى، فمهما طالت دنياك فهي منتهية. ومادام الموت هو نهاية الحياة فالحياة قصيرة بالنسبة للفرد. وإياك أن تستطيل عمر الدنيا؛ لأن عمر الدنيا لك ولغيرك فلا تحسب الأمر بالنسبة إليك على أساس عمر غيرك الذي قد يطول عن عمرك. إذن مدة الحياة محدودة، ومادام الموت قد جاء، فعلى المؤمن أن يتذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إذا مات أحدكم فقد قامت قيامته ".
والإنسان منا يعرف من خبر القرآن أن الموت مثل النوم. لا يعرف الإنسان منا كم ساعة قد نامها، ونعرف من خبر أهل الكهف أنهم تساءلوا فيما بينهم:

{ وَكَذالِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ }[الكهف: 19]
إذن هم لم يتبينوا أنهم ناموا ثلاثمائة عام وتسعة أعوام إلا بعد أن سألوا، وكذلك من يموت فهو لن يدري كم مات إلا يوم البعث. أو أنه سبحانه سريع الحساب أي أن له حساباً قبل حساب الآخرة، وهو حساب الدنيا. فعندما يرتكب العبد المخالفات التي نهى عنها الله، ويأكل غير ما حلل الله، فهو سبحانه قادر على أن يجازي العبد في الدنيا في نفسه بالأمراض أو التعب أو المرض النفسي، ويقف الأطباء أمام حالته حائرين. وقوله الحق: } إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ { يصح ان تكون السرعة في الحساب في الدنيا ويصح أن تكون في الآخرة.
أو أنه سبحانه سريع الحساب بمعنى أنه يحاسب الجميع في أقل من لمح البصر، فالبعض يظن ظناً خاطئاً أنهم سيقفون يوم القيامة في طابور طويل ليتلقى كل واحد حسابه. لا، هو سبحانه يحاسب الجميع بسرعة تناسب طلاقة قدرته. ولذلك عندما سئل الإمام علي - كرم الله وجهه -: كيف سيحاسب الله كل الناس في وقت واحد ويقال إن مقداره كنصف يوم من أيام البشر؟. فقال الإمام علي: فكما يرزقهم جميعاً في وقت واحد هو قادر على حسابهم في وقت واحد.
فسبحانه لم يجعل البشر تقف طابورا في الرزق، بل كل واحد يتنفس وكل واحد يأكل، وكل إنسان يسعى في أرض الله لينال من فضله. ولا أحد بقادر على أن يحسب الزمن على الله؛ لأن الزمن إنما يُحسب على الذي يحدث الحدث وقدرته عاجزة، لذلك يحتاج إلى زمن.
إننا عندما ننقل حجراً متوسط الحجم من مكانه فإن ذلك لا يكلف الرجل القوي إلا بعضاً من قُوَّته، لكن هذا العمل بالنسبة لطفل صغير يحتاج إلى وقت طويل، فما بالنا بخالق الإنسان والكون؟ وما بالنا بالفاعل الذي هو قوة القوى؟ هو لا يحتاج إلى زمن، وهو سريع الحساب بكل المعاني.
ومن بعد ذلك يقول الحق: } الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ... {

(/666)


الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)


سبحانه يبدأ الآية بتكرار الأمر السابق: { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ }. وأعادها حتى يؤكد على أن الإنسان لا يصح أن ينظر إلى الأمر الطيب إلا من زاوية أنه محلل من الله.
وبعد أن تكلم الحق سبحانه عن كيفية تناول المحللات، وأسلوب التعامل مع الصيد. نأتي هنا لوقفة، فسبحانه يقول: { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ } فهل كل طعام أهل الكتاب حل لنا؟ إن بعضهم يأكل الخنزير. لا، بل الحلال من طعام أهل الكتاب هو الطعام الذي يكون من جنس ما حلل الله لكم، ولا يستقيم أن يستنكف الإنسان من أنه طعام أهل كتاب؛ لأن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يجعل من الإنسان الذي ارتبط بالسماء ارتباطا حقيقيا كالمسلمين، ومن ارتبطوا بالسماء وإن اختلف تصورهم لله، يريد سبحانه أن يكون بينهم نوع من الاتصال لأنهم ارتبطوا جميعا بالسماء، ويجب أن يعاملوا على قدر ما دخلهم من إيمان باتصال الأرض بالسماء.
إياك أن تقول بمقاطعة أهل الكتاب لا، ولكن انظر إلى طعامهم فإن كان من جنس الطعام المحلل في الإسلام فهو حلال. ولا يصح أن تمنع واحداً من أهل الكتاب من طعامك؛ لأن الله يريد أن ينشئ شيئا من الألفة يتناسب مع الناس الذين سبق أن السماء لها تشريع فيهم ويعترفون بالإله وإن اختلفوا في تصوره.
وضرب لنا - سبحانه - المثل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي أول مجيء الدعوة الإسلامية، واجهت معسكرا ملحدا يعبد النار، ولا يؤمن بالإله وهو معسكر فارس؛ ومعسكراً يؤمن بالإله وهو معسكر الروم؛ كانت هناك قوتان في العالم: قوة شرقية وقوة غربية. وعندما يأتي رسول ليأخذ الناس إلى طريق الله، فلا بد أن يكون قلبه وقلوب المؤمنين معه مع الذين آمنوا بإله وبنمهج ورسالة، ولا يكون قلبه مع الملاحدة الذين يعبدون غير الله.
ولنر العظمة الإيمانية في الرسول عليه الصلاة والسلام. نجد الذين يؤمنون بالله ويكفرون به كرسول أولى عنده ممن يكفرون بالله. ولذلك عندما قامت الحرب بين فارس والروم كانت الغلبة أولا لفارس. وكانت عواطف الرسول والذين آمنوا معه مع الروم؛ لأنهم أقرب إلى معسكر الإيمان الوليد وإن كانوا يكفرون بمحمد فقد كانوا يؤمنون بالله، وأن هناك منهجا وهناك يوم بعث، ولذلك يضربها الحق مثلا في القرآن ليعطينا عدة لقطات، وأولى هذه اللقطات هي أن المسلمين في جانب من عنده رائحة الإيمان، فيقول سبحانه:{ الـم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ }

[الروم: 1-5]
وتبدأ هذه الآيات بخبر عن هزيمة الروم، ثم نبوءة من الحق بأنهم سيغلبون في بضع سنين. ويوم نصرهم سيفرح المؤمنون بنصر الله. وتنظر القوة الإسلامية التي جاءت لتؤسس دينا واسعا جامعا مانعا إلى معركة بين دولتين عظيمتين كلتيهما على أقصى ما يكون من الرقي الحضاري، هذه القوة الإسلامية تتعاطف مع الروم وتحزن - القوة الإسلامية - لأن الفرس قد غَلَبت. فيأتي الحق بالخبر اليقين وهو سَتَغْلِبُ الروم.
وبالله من الذي يستطيع أن يحكم في نهاية معركة بين قوتين عظيمتين؟ إنه حكم لا يستغرق يوما، حتى ولو كان قائله عرف أن هناك مددا قادما للقوة التي ستنتصر، إنه حكم يستغرق بضع سنين. فمن الذي يستطيع أن يتحكم في معركة ستحدث بعد بضع سنين؟ لا يستطيع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجازف بهذا الحكم، وهو لا يعرف استعدادات كل قوة وحجم قواتها وأسلحتها، لكن الأمر يأتي كخبر موثق من الله:{ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ }[الروم: 3-4]
وهذا كلام موثق، لأنه قرآن مسطور يقرأه المؤمنون تعبداً. وعندما سمع أبو بكر الصديق هذه الآية، قال لقد أقمت رهاناً بأن الروم ستنتصر بعد ثلاث سنين، وطالبه الرسول صلى الله عليه وسلم أن يمد مدة الرهان لأن الله قال: } فِي بِضْعِ سِنِينَ { والبضع ما بين الثلاث إلى التسع، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لسيدنا أبي بكر - رضي الله عنه - فزايده في الخطر ومادّه في الأجل فجعلت مائة قلوص (ناقة) إلى تسع سنين. كأن هذا الأمر قد لقي الوثوق الكامل من المؤمنين؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد أخبر بالنصر.
لقد أوردنا ذلك هنا حتى نفهم أن عواطف الرسول صلى الله عليه وسلم كانت مع الذين يؤمنون بكتاب وبرسول. ونحن هنا نجد الحق يحلل لنا مطاعمة أهل الكتاب حتى تكون هناك صلة بيننا وبين من يؤمن بإله وبمنهج السماء: } وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ {.
وأوضح الحق سبحانه ذلك في آيات أخرى حينما قال:{ لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ عَلَىا إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }[الممتحنة: 8-9]
فسبحانه يريد أن نوازن في أسلوب تعاملنا فلا نساوي بين ملحد مشرك ومؤمن بصلة السماء بالأرض وإن كفر برسول الله. وأن يكون هناك قدر محدود من التواصل الإنساني. فالذي يحل للمؤمنين من طعام أهل الكتاب هو الذي يكون حلالا في منهج الإسلام. ويجب أن ينتبه المسلم إلى أن بعض أطعمة أهل الكتاب تدخلها الخمور وعليه الامتناع عن كل ما هو محرم في ديننا ولياكل من طعامهم ما هو حلال لدينا.

فلا يشرب المسلم خمراً، ولا يأكل المؤمن لحم الخنزير.
والطعام كما نعلم وسيلة لاستبقاء الحياة. وها هوذا ينتقل إلى استبقاء النوع وهو التناسل؛ فقد أحل الله لنا أن نتزوج من بناتهم } وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ {.
والمحصنة لها معنيان: وهي إما أن تكون الحرة في مقابل الأمة، وإما أن تكون المتزوجة؛ لأن الإحصان يعني الوقاية من أن تختلط اختلاطا غير شريف. وكانت الحرة قديما لا تفعل الفعل القبيح. وكان البغاء مقصورا على الإماء؛ لأن الأمة لا أب لها ولا أخ ولا عائل، وهي مُهْدَرة الكرامة. ولذلك نجد أن هنداً زوجة أبي سفيان عندما سمعت عن الزنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم تساءلت: يا رسول الله أَوَ تزني الحرة؟! كأن الحرة لم تكن لتزني في الجاهلية؛ لأن الحرة تستطيع أن تمتنع عكس غيرها.
والمحصنة أيضاً هي المتزوجة. ويساوي الحق بين المحصنة من المؤمنات والمحصنة من أهل الكتاب، والمراد هنا الحرة العفيفة ويشترط وضع المهر لكل واحدة منهن. وبعض العلماء يقول: عندما تتزوج مسلمة يكفي أن تسمي لها المهر، لأن الدين الواحد يعطي الأمان العهدي، أما الزواج من كتابية فيجب أن يحدد الإنسان المهر وأن يقرره وأن يوفي بذلك. فالإيتاء هو أن يسمي الإنسان المهر ويقرره ويشهد عليه الشهود. ويستطيع أن يجعل الإنسان المهر كله مؤخراً. والشرط أن يكون الرجل محصناً أي متعففاً.
ويحدد الحق: } غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ { أي صدائق لهم دون زواج، والسفح هو الصب. والمرأة البغي هي من يسفح معها أي رجل، والخدن هي الخليلة أو العشيقة دون زواج، والخدن كذلك يطلق على الذكر كما يطلق على الأنثى. وإياك أن تفكر في أمر إقامة علاقة زواج متعة، بل لا بد أن يكون الإقبال على الزواج بنية الزواج التأبيدي لا الزواج الاستمتاعي.
ويقول الحق من بعد ذلك: } وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ {؛ لأن فائدة الإيمان أن يستقبل المؤمن الأحكام ممن آمن به إلها وينفذها. فإن سترت شيئا من أحكام الله التي آمنت بها فقد كفرت بالإيمان. والحق لا يضره أن يكفر الناس جميعاً؛ لأنه هو الذي خلق الخلق بداية وهو متصف بكل صفات القدرة والكمال.
إذن فالعالم كله لا يضيف إلى الله شيئا، فقبل أن يخلق الله الإنسان كانت كل صفات الكمال موجودة لله. وكل ثمار الطاعة والعبادة والإيمان إنما تعود على الإنسان. فإن جاء الإنسان إلى الأحكام التي شرعها الله له، وستر حكما منها فكأنه كفر بقضية الإيمان. وإن أنكر جزئية من جزئيات الإيمان، فهذا لون من الكفر، ويا ليت من يفعل ذلك أن يقول: " إن هذه الجزئية صحيحة ولكن لا أقدر على نفسي ".

ففي هذه الحالة يكون الإنسان مؤمنا عاصيا يستغفر الله أو يتوب، أما الكفر فلا: والكفر بالإيمان يؤدي إلى حبط العمل. وهذا دليل على أن الحق يخاطب إنسانا يلتزم في بعض الأشياء ولا يلتزم في البعض الآخر. وهنا يوضح الحق للإنسان: إن ما أديت من خير في أعمالك سيذهب بثوابه ويحبط جزاءه ما منعت تنفيذه من أحكام الله، وجاء الحق بكلمة " حبط " التي تدل على أن العمل بطل وذهب ذهابا لا يعود. فالماشية حين تأكل طعاما لم ينضج بعد وإن كان من جنس ما تطعم مثل البرسيم في بدايته ويسمى " الرِّبة " ، هذا اللون من الطعام عندما ترعى فيه البهائم يحدث لها انتفاخ في البطن وتموت.
والعرب تسمي هذا الداء الحُباط. فالحَبَط إذن هو انتفاخ البطن في الماشية التي تأكل أكلا غير مناسب لها. ويظن صاحبها أنها قد سمنت بينما هي تموت في الواقع. وكذلك يكون العمل على غير ما شرع الله. والحق بدأ قضايا الإيمان في هذه السورة بقوله:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ }[المائدة: 1]
فكل عقد إيماني يتعلق بالوحدانية لله وبالبلاغ عن الله، وكل عقد عُقد بين المؤمنين بعضهم بعضا، وكل عقد عقده الإنسان بينه وبين نفسه؛ هذه العقود مطلوب الوفاء بها، ومن يكفر بهذه الأشياء فقد حبط عمله. وحبط العمل يأتي نتيجة أن الإنسان أنهى عمله وختمه بهذا اللون من الكفر وظن أنه عمل عملا صالحا. لكن العمل يحبط تماما كما تذهب البهيمة لترعى شيئا لا يتناسب معها فينتفخ بطنها. فيخيل للرائي أن ذلك شبع وأن ذلك عافية، ثم لا تلبث أن تنفق وتموت. كذلك عمل الذي يكفر بالإيمان، يظن أنه عمل شيئا ولكن ذلك الشيء متلف له. والآيات القرآنية تكلمت عن هذا المعنى كثيرا؛ فالحق يقول عن الكافرين بالله:{ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىا إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً }[النور: 39]
ونعلم أن السراب هو شيء من انعكاسات الضوء يخدع الرائي السائر في الصحراء فيظن أنه ماء، ويسير إليه الإنسان فلا يجده ماء، هكذا يكون عمل الذي يكفر بآيات الله. إنها أعمال تبدو متوهمة النفع. وقول الحق سبحانه: } وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ { أي أن مثل هذا الإنسان يفاجأ بوجود الله، كأن مسألة وجود الإله لم تكن بخياله من قبل، والإنسان لا يأخذ أجره إلا لمن عمل به. فهل عمل الواحد من هؤلاء لله حتى يأخذ منه أجراً؟. لا. لم يعمل لله، ولذلك نجد أن بعض السطحيين في الفهم يقولون: كيف لا يجزي الله الجزاء الحسن هؤلاء العلماء الذين اخترعوا العلاجات للأمراض، والعلماء الذين ابتكروا الأشياء التي تنفع الناس؟ كيف لا يحسن الله جزاءهم في الآخرة؟
ونقول: لقد فعلوا ذلك ولم يكن الله في بالهم، كان في بالهم الإنسانية، وقد أعطتهم الخلود في الذكرى وأقامت لهم التماثيل ومنحتهم أوسمة ووضعت فيهم المؤلفات لتمدحهم.

هم قد عملوا للناس فأعطاهم الناس. وهؤلاء الكافرون بتقدمهم في العلوم؛ مسخرون للإنسان المؤمن؛ فالمؤمن يستفيد من الكهرباء، وينتفع بها المسلمون ليقرأوا القرآن والعلم والذكر. ويستفيد المسلم من الطائرات فيذهب بها إلى الحج وزيارة المدينة المنورة، وينتفع بها كذلك في شئون دنياه، وعلى المؤمنين أن يأخذوا بالأسباب حتى لا يكونوا أذلة وعالة على غيرهم. والحق يسخر علم الكفار للمؤمنين، ولا يثاب الكفار على هذا العمل من الله. ولذلك يقول الحق عن أعمالهم مرة:{ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىا إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ }[النور: 39]
ومرة أخرى يقول الحق:{ مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَىا شَيْءٍ ذالِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ }[إبراهيم: 18]
وها هوذا سبحانه وتعالى يقول:{ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً * أُوْلَـائِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً }[الكهف: 103-105]
إذن فالإنسان الذي يستر الإيمان بعضه أو كله، هو إنسان حابط العمل، وهو في الآخرة من الخاسرين؛ لأن النجاح في الآخرة نتيجة لعمل الدنيا. ومادام قد عمل لغير الله في الدنيا فلا بد أن يكون من الخاسرين في الآخرة.
وقوله الحق: } وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ { يوضح لنا ضرورة ألا نخدع ويغرر بنا لأن بعضاً من الكافرين يكسب بعضاً من الشهرة والجاه والثروة نتيجة اختراعاتهم؛ فكل ذلك أمور فانية، وهم مستسلمون لسنة الله، فإما أن يفوتهم النعيم وإما أن يفوتوا النعيم. والحساب الختامي يكون في الآخرة، فالكافر وإن أخذ شيئاً من الكسب في ظاهر هذه الحياة الدنيا فهو خاسر في الآخرة.
وبعد ذلك ينتقل الحق ليربط لنا كل قضايا الدنيا رباطاً وافياً. فبعد أن يتكلم عن مقومات الحياة وعن مقومات النوع بالإنكاح وغيره، يوضح: كل هذه نعم أعطيتها لكم وأريد أن آخذ بأيديكم بعد أن بينت لكم فضل هذه النعم عليكم؛ لتلتقوا بصاحب كل هذه النعم. هو سبحانه يريد أن يأخذنا من مشاغل الدنيا لنلقى المنعم. وحتى تلقى أيها المسلم الإله المنعم - سبحانه - فلا بد أن تعد نفسك لهذا اللقاء؛ لأنها ليست مسألة طارئة؛ فلا بد من الإعداد الروحي والإعداد البدني والإعداد المكاني والإعداد الزماني.
إن الإعداد البدني يكون بالطهارة. والإعداد الزماني هو مواقيت الصلاة. والإعداد المكاني هو وجود مكان طاهر لإقامة الصلاة وإعداد اتجاهي بتحديد وجهة الصلاة إلى القبلة.

وهذه كلها مواصفات تهيئ النفس البشرية للوقوف بين يدي من أنعم على الإنسان بكل النعم. ولذلك نقول: إن الصلاة إعلان استدامة الولاء الإيماني للخالق الممد المنعم؛ فهو الذي خلق من عدم وأمد من عدم. وقد فرض الحق سبحانه وتعالى الصلاة خمس مرات في اليوم؛ ليقطع على الإنسان سبيل الغفلة عنه. وإذا ما أراد الإنسان أن يلقى الله في الأوقات التي بين الصلوات؛ وأراد أن يعلن استدامة الإيمان وهو يقوم بأي عمل غير الصلاة فليذكر الله؛ لأننا نعرف القاعدة الشرعية القائلة:
[ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب].
مثال ذلك أن الإنسان حين يصلي فهو يحتاج إلى قوة. والقوة تتولد في الجسم نتيجة تناول الطعام. إذن عملية صناعة الطعام أمر واجب وكل ما يترتب على ذلك عملية واجبة. ولذلك عندما يأتي واحد ويقول: أريد أن أنقطع للعبادة وأعتزل حركة الحياة. لنقل له: افعل ذلك بشرط واحد هو ألا تنتفع بحركة متحرك واحد في الحياة، ولا تتناول أي طعام، ذلك أن الرغيف الذي يقدمه لك إنسان هو من عمل بشر كثيرين لم ينقطعوا عن الحياة. ولنقل أيضاً: لماذا ترتدي هذا الجلباب؟. إنه نتيجة حركة حياة بشر آخرين، فهناك من زرع القطن وآخر حلج هذا القطن وثالث حوله إلى غزل ورابع نسجه وخامس قام بتفصيل هذا الجلباب. ولتنظر إلى ما خَلْف كل واحد من آلات. وإياك أن تنتفع بحركة واحد مشغول بالأسباب مادمت قد قررت الانقطاع عن حركة الحياة.
إن الشغل بالأسباب عبادة؛ لأن العبادة لا تتم إلا به. وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ولذلك فَتَعَلُّم المهارات المفيدة للحياة هو فرض كفاية؛ والفرض الواجب على الإنسان: احد اثنين: إما فرض عين وهو الأمر المكلف به الفرد ولابد أن يؤديه ولا يجوز أن يؤديه أحدٌ نيابة عنه؛ كالصلاة، وإنا فرض كفاية: وهو ما لا يتم الواجب إلا به لذلك كان واجباً، فكل منا يريد الطعام.
لذلك لا بد من تقسيم العمل، فهذا يزرع وهذا يصنع، فلا بد من زراعة القمح ولا بد من إقامة المطاحن ولا بد من إقامة الأفران. ولا بد من مهندسين يصممون هذه الآلات. وكل ذلك أمور تسهل للإنسان أن يمتلك القوة لأداء الصلاة؛ وأن يقف بين يدي الحق ليؤدي الصلاة. إذن فكل ذلك أمر واجب، وهو فرض كفاية. أي أنه فرض إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وإن لم يقم به بعضنا يكون الإثم على الجميع.
ومثال آخر هو الصلاة على الميت هي فرض كفاية، فمن يصلي على الميت فهو يؤدي عنا، وإن لم يصل أحد على الميت يكون الإثم على كل مسلم، هكذا تتسع رقعة الإثم.

وكل الأعمال التي لا يتم الواجب إلا لها فهي واجب، ولذلك فهي فرض كفاية، إن قام به البعض سقط الطلب عن الباقين، وإن لم يقم به البعض فالإثم على الجميع.
وما موقف ولي الأمر في هذا؟. على ولي الأمر أن يفرض القيام بفرض الكفاية على أحد الناس، وإلا تعطلت الواجبات التي نقول عنها: إنها واجبات دينية. فحين يذهب المسلم إلى السوق فلا يجد خبزاً؛ يضعف ولا يملك الفكاك من المجاعة؛ ولن يقدر على الصلاة أو العمل لينتج أو يجد ادخاراً يكفيه أن يحج إذن: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب؛ لذلك نجد الحق سبحانه وتعالى حينما حثنا على أداء الصلاة في يوم الجمعة يقول:{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَىا ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }[الجمعة: 9]
هو سبحانه يخرجنا من العمل إلى الصلاة، ولم يخرجنا إلى الصلاة من فراغ، لنلتفت إلى دقة الأداء القرآني حين يقول الحق: } وَذَرُواْ الْبَيْعَ { وحين يذر الإنسان البيع، فهو يذر الشراء من باب أولى؛ لأن البيع والشراء وجهان لعملية واحدة. والخلاف فقط أن المشتري قد يشتري السلعة وهو كاره لأن يشتري؛ لأنه يستهلك نقوده فيما يشتريه، أما البائع فيريد أن يحصل على ثمن البيع فوراً، وغالبا ما يحصل على ربح من وراء ذلك، وتلك هي قمة الكسب. فكسب الزارع - على سبيل المثال - يأتيه بعد شهور من الزراعة. وكسب الموظف يأتيه أول الشهر. لكن البائع يحصل على الكسسب فوراً. ولذلك يأمرنا الحق أن نذر البيع إذا سمعنا نداء الصلاة يوم الجمعة، وماذا بعد انتهاء الصلاة؟.
ها هوذا الحق يقول:{ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُواْ فِي الأَرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }[الجمعة: 10]
إذن فلا يقولن أحد أنا منقطع طوال حياتي للصلاة. فلن يستطيع أحد أن يذهب إلى الصلاة ما لم يكن يملك مقومات حياته. ومقومات الحياة تقتضي أن يضرب الإنسان في الأرض. ولا بد أن يبتغي الإنسان من فضل الله. إذن، فالسعي في الأرض هو عبادة؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ويريد الحق سبحانه وتعالى ألا يعزل قضية تتعلق بمقومات الحياة طعاماً وإنكاحاً عن الصلاة. فيأتي الحق سبحانه وتعالى بشروط الوضوء استعداداً للصلاة بعد أن يتحدث عن أحكام تحليل الأطعمة وتحريم بعضها، وبعض من أحكام النكاح، وذلك لنعرف أن مسئوليات الإيمان كلها مترابطة، فلا يصح أن نعزل عملاً ونقول: هذا عمل تعبدي وذاك عمل غير تعبدي.
والمؤلفون عندما يضعون الكتب في الفقه ويخصصون أقساماً في هذه الكتب للعبادات وأقساماً للمعاملات، فهذا التقسيم تقسيم تصنيفي تأليفي، لكن كل ما يطلبه الكون لينصلح فهو عبادة لخالق هذا الكون، بدليل أنه قال: } فَاسْعَوْاْ إِلَىا ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ { وهذا أمر.

ويتلوه أمر آخر: } فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُواْ فِي الأَرْضِ {.
إن الإنسان لا ينفذ أمراً ويهمل أمراً آخر، ولكن عليه بمقتضى الإيمان أن ينفذ الأمرين معاً، فإن تأخر الإنسان في أي من الأمرين فهو مذنب؛ لذلك يخبرنا سبحانه - من بعد الحديث عن النعم التي أنعم بها علينا - بما أحل لنا من بهيمة الأنعام، وبما قص علينا من الزواج من المحصنات؛ ها هوذا يدخلنا إلى رحابه بالاستعداد للصلاة لأنه واهب كل النعم. ويأمرنا بالاستعداد للصلاة وأن يعد كل واحد منا نفسه لها.
وهذا الإعداد يؤهل المسلم ليلقى الحق فقال: } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ... {

(/667)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)


سبحانه يأمرنا بوضوح محدد: إذا أردتم القيام إلى الصلاة فلا بد لكم من تنفيذ عملية الوضوء.
وتتعرض الآية إلى الأركان الأساسية في الوضوء. وقد يلتبس الأمر على بعض الناس ولا يستطيع أن يميز بين سنن الوضوء وأركان الوضوء؛ لأن السنن تقتضي أن يغسل الإنسان يديه ثم يتمضمض، ثم يستنشق الماء وهكذا. هذه هي السنن التي تمتزج بالأركان الأساسية للوضوء.
ويبدأ الحق أركان الوضوء الأساسية بقوله: { فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ } والغسل يتطلب إسالة الماء على العضو وأن يقطر منه الماء بعد ذلك. والمسح هو اللمس بالماء ليصيب العضو ولا يتقطر منه الماء؛ إنه مجرد بلولة بالماء. والحق سبحانه وتعالى حينما تكلم في هذه الآية عن الوضوء، تكلم عن أشياء تُغسل وعن شيء يُمسح. فالأمر بالغسل يشمل الوجه واليدين إلى المرافق والرجلين إلى الكعبين. والأمر بالمسح يشمل بعض الرأس. والغسل قد يكفي مرة أو اثنتين أو ثلاثا ليتأكد الإنسان تماما من الغسل، ولكن إذا كانت المياه قليلة فيكفي أن يغسل الأجزاء المطلوبة مرة وأن يتأكد أنه قد غسل المساحات المطلوبة.
إن الزيادة على المرة الواحدة إلا ثلاث مرات أمر مسنون لا واجب وغسل الوجه معروف تماما للجميع، فالوجه هو ما به المواجهة. والمواجهة تكون من منبت الشعر إلى الذقن، وتحت منتهى لحييه وهما العظمان اللذان تنبت عليهما الأسنان السفلى، هذا في الطول، وفي العرض يشمل الوجه ما بين شحمتي الأذنين. ولا أحد يختلف في تحديد الوجه، ولذلك أطلق الحق الوجه ولم يعينه بغاية، فلم يقل: اغسل وجهك من كذا إلى كذا؛ ولكنه أمر بغسل الوجه، فلا اختلاف في مدلول الوجه لدى الجميع. والكل متفق عليه، هذا إذا ما بدأنا بالفروض الأساسية. لكن إذا ما بدأنا بالسنن فنحن نغسل الكفين إلى الرسغين أولا ثم نتمضمض ونستنشق.
وبعض العارفين بالله يقول عن هذه المقدمات التي هي من السنن: إنها لم تأت اعتباطا؛ لأن تعريف الماء هو: السائل الذي لا لون له ولا طعم ولا رائحة، وإن تغير أي وصف من هذه الأوصاف يكون السائل قد خرج عن المائية. فساعة تأخذ الماء بيديك ستطمئن على لون الماء، وتعرف أنه لا لون له، وعندما تتمضمض فأنت تطمئن إلى أنه لا طعم له؛ وعندما تستنشق فأنت تطمئن على أن الماء لا رائحة له، وبذلك تطمئن إلى أن الماء الذي تستعمله في الوضوء يكون قد استوفى الأوصاف قبل أن تبدأ في عمل المطلوب من أركان الوضوء التي يطلبها الله، والسنة تقدمت هنا على الأركان لحكمة هي أن توفر للإنسان الثقة في الماء الذي يتوضأ منه. وبعد ذلك يغسل الإنسان الوجه من منابت شعر الرأس وتحت منتهى لحييه وذلك طولا وما بين شحمتي الأذنين عرضًا.

وبعد غسل الوجه قال الحق: } وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ { وميز الحق هنا الأيدي بتحديد المساحة المطلوب غسلها بأنها إلى المرافق، أي أنه زاد غاية لم توجد في الوجه، ولكن جاء الأمر بغسل اليدين إلى المرافق؛ لأن اليد تطلق في اللغة ويراد بها الكف، مثال ذلك في حكم الحق على السارق والسارقة:{ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا }[المائدة: 38]
وتطلق اليد أيضا ويراد بها الكف والساعد إلى المرفق. وتطلق اليد أيضا ويراد بها إلى الكتف. فلليد ثلاث إطلاقات. ولو أن الحق قد أمر بغسل اليد ولم يحدد الغسل بـ " إلى المرافق " لغسل البعض كفيه فقط، وغسل البعض يديه إلى المرافق، ولغسل البعض يديه إلى الكتفين؛ ولأن الحق يريد غسل اليد على وجه واحد محدد؛ لذلك قال: } وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ {.
إذن فساعة يريد الحق شيئا محددا، فهو يأتي بالأسلوب الذي يحدده تحديدا يقطع الاجتهاد في هذا الشيء. وكلمة " إلى " تحدد لنا الغاية، كما أن " مِن " تحدد الابتداء، ولكن هل تدخل الغاية هنا أم لا؟ هل تدخل المرافق في الغسل أم لا؟ إن " إلى " قد تدخل الغاية ومرة أخرى لا تدخل الغاية.
فمثال إدخالها الغاية قوله تعالى:{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىا بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَىا الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ }[الإسراء: 1]
هل أسرى الحق برسوله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى ولم يدخله؟ لا أحد يعقل ذلك. إن " إلى " هنا تقتضي أن تدخل الغاية؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد ذهب إلى المسجد الأقصى بمراد الإسراء إليه والدخول والصلاة فيه. ويقول سبحانه:{ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ }[البقرة: 187]
فهل يدخل الليل في الصيام؟ لا، لأننا لو أدخلنا الليل في الصوم لصار في الصيام وصالٌ أي نصل الليل بالنهار صائمين. إذن فمع " إلى " تجد الغاية تدخل مرة، وتجدها لا تدخل مرة أخرى. واختلف بعض العلماء حول المرفق هل يدخل في الغسل أو لا؟ وصار في عموم الاتفاق أن يدخل المرفق في الغسل احتياطيا؛ لأن أحداً لا يستطيع تحديد المرفق من أين وإلى أين. ونعرف أن هناك احتياطات للتعقل، فمرة نحتاط بالاتساع ومرة نحتاط بالتضييق.
مثال ذلك عندما نصلي في البيت الحرام. ونحن نعرف أن الكعبة بناء واضح الجدران، وبجانب جدار من جدران الكعبة يوجد الحطيم وهو حجر إسماعيل وهو جزء من الكعبة يحيطه قوس. وعندما يصلي إنسان حول الكعبة، هل يتجه إلى الحطيم أم إلى بناء الكعبة؛ لأنه مقطوع بكعبيته، والاحتياط هنا احتياط بالنقص، فنتوجه إلى الكعبة وهي البناء العالي فقط، ولكن عند الطواف. فإننا نطوف حول الكعبة والحطيم، أي أن الاحتياط هنا يكون بالزيادة؛ لأننا إذا ما طفنا حتى من وراء المسجد فهو طواف حول البيت الحرام.

إذن فالاحتياط يكون مرة بالنقص ومرة يكون بالزيادة. وفي مجال الوضوء يكون غسل المرافق هو احتياط بالزيادة؛ ذلك أن " إلى " تكون الغاية بها مرة داخلة، ومرة تكون الغاية بها غير داخلة.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى من بعد ذلك: } وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ { الأسلوب هنا يختلف؛ فالمطلوب هو المسح. كان المطلوب أولاً هو الغسل للوجه على اطلاقه؛ لأنه لا خلاف على الوجه، ثم غسل اليدين إلى المرافق، وتم تحديد الغاية لأن الحق يريد الغسل لليدين على لون يقطع الجدل والاجتهاد فيه. ولو قال الحق: " امسحوا رءوسكم " مثلما قال: " اغسلوا وجوهكم " لما كان هناك خلاف. لكن لو قال: " امسحوا بعض رؤوسكم " فهل يوجد خلاف؟ نعم فذلك البعض لم يحدد. ولو قال: " امسحوا ربع رءوسكم " فهل يوجد خلاف؟ نعم قد يوجد خلاف لأن تحديد الربع عسير وشاق.
لماذا إذن اختار الحق هنا هذا الأسلوب } امْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ { مع أن في الآية أساليب كثيرة، منها أسلوب مجرد عن الغاية، وأسلوب موجود به الغاية، وهذا الأسلوب لا هو مجرد ولا هو موجود به الغاية؟ وقال الحق: } امْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ { ولنا أن نبحث عن كيفية استعمال حرف (الباء) التي تسبق " رءوسكم ".
إن " الباء " في اللغة تأتي بمعان كثيرة. قال ابن مالك في الألفية:بالباء استعن وعد عوض الصق ومثل " مع " و " من " و " عن " بها انطقومقصود بها أن تعطي الحرية للمشرع؛ لأن الباء تأتي لمعان كثيرة، للاستعانة مثل: كتبت بالقلم، ولتعدية الفعل اللازم نحو: ذهبت بالمريض إلى الطبيب، وللتعويض مثل: اشتريت القلم بعشرين جنيها، والالتصاق نحو: مررت بخالد، وتأتي بمعنى " مع " مثل: بعتك البيت بأثاثه أي مع أثاثه، وبمعنى " من " مثل: شرب بماء النيل أي من ماء النيل، وبمعنى " عن " مثل قوله تعالى } سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ { ، وتأتي أيضا للظرفية نحو: ذهبت إلى فلان بالليل أي في الليل، وتكون السببية نحو: باجتهاد محمد منح الجائزة أي بسبب اجتهاده، إلى غير ذلك من المصاحبة نحو: } فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ { أي سبح مصاحبا حمد ربك.
إن الذي يقول: امسحوا بعض رءوسكم ولو شعرة، فهذا أمر يصلح ويكفي وتسعفه الباء لغة، والمسح يقتضي الإلصاق، والآلة الماسحة هي اليد. وهناك من يقول: نأخذ على قدر الأداة الماسحة وهي اليد أي مسح مقدار ربع الرأس.
إذن كل حكم من هذه الأحكام يصلح لتمام تنفيذ حكم مسح الرأس، ولو أن الله يريدها على لون واحد لأوضح ما أراد، فإن أراد كل الرأس لقال: " امسحوا رءوسكم " كما قال: } فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ { ، وإن كان يريد غاية محددة، لحدد كما حدد غسل اليدين إلى المرفقين.

ومادام سبحانه قد جاء بالباء، والباء في اللغة تحتمل معاني كثيرة؛ لذلك فمن ذهب إلى واحدة منها تكفي، لأن أي غاية محتملة بالباء أمر صحيح.
والأمر هنا أن يتفهم كل منفذ لحكم محتمل ألا يُخَطِّئَ الحكم الآخر. بل عليه أن يقول: هذا هو مقدار فهمي لحكم الله. والله ترك لنا أن نفهم بمدلول الباء كما أرادها في اللغة. وقد خلقك الحق أيها الإنسان مقهورا لأشياء لا قدرة لك فيها؛ كحركة الجوارح، وكالأشياء التي تصيب الإنسان كالموت.
إن هناك أشياء أنت مخير فيها، ولذلك كان تكليف الحق لك مبنيا على هذا؛ ففي أشياء يقول لك: " افعل كذا " أو " لا تفعل كذا " وفي أشياء أخرى يترك لك حرية التصرف في أدائها. وذلك حتى يتسق التكليف مع طبيعة التكوين الإنساني. فلم يَصُب الله الإنسان في قالب حديدي. ولنا في سلوك الرسول صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنة؛ هذا الرسول الذي أوكل إليه الحق إيضاح كل ما غمض من أمور الدين؛ فقال له الحق:{ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }[النحل: 44]
وحينما كان الرسول صلى الله عليه وسلم مع المؤمنين في غزوة الأحزاب التي قال عنها الحق:{ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً }[الأحزاب: 11]
هذه المعركة كانت قاسية، حرك الحق فيها الريح وتفرق فيها أعداء الإسلام، وصرف الحق الأحزاب ورجع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. وكان من المفروض أن يرتاح المؤمنون المقاتلون. لكن قبل أن يخلعوا ملابس الحرب جاء جبريل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: أَوَ قد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال: نعم: فقال جبريل: فما وضعت الملائكة السلاح بعد، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم، إن الله عز وجل يأمرك يا محمد بالمسير إلى بني قريظة فإني عامد إليهم فمزلزل بهم. فـ (أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مؤذنا فأذن في الناس: " لا يصلين أحدٌ العصرَ إلا في بني قُريظة فأدرك بَعْضِهُّم العصرُ في الطريق، فقال بعضهم لا نصلي العصرَ حتى نأتيها وقال بعضهم بل نصلي لم يُردْ منا ذلك فذُكر للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يُعَنِّف أحدًا منهم ".
هي مسألة كبرى إذن. والتزاما بأمر النبوة خرج الصحابة إلى مواقع بني قريظة. وكادت الشمس تغرب وهم في الطريق؛ وانقسموا إلى قسمين؛ قسم قال: ستغيب الشمس ولم نصل العصر فلنصله قبل أن تغيب الشمس. وقال القسم الثاني: لقد أمرنا النبي ألا نصلي العصر إلا في بني قريظة، ولن نصليه إلا هناك وإن غابت الشمس. وصلى القسم الأول ولم يصل القسم الثاني.

وعندما ذهبوا إلى المشرع وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكروا له الأمر لم يعب على أي جانب منهم شيئا، وأقر هذا وأقر ذاك. وتلك فطنة النبوة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن كل حدث من الأحداث يتطلب زمانا ويتطلب مكانا، والذين صلوا نظروا إلى عنصرية الزمن، وخافوا أن تغيب الشمس قبل ذلك. والذين لم يصلوا نظروا إلى عنصرية المكان فلم يصلوا العصر إلا في مواقع بني قريظة. وأقر رسول الله الأمرين معا.
إن هذا يدلنا على أن هناك أشياء يتركها الحق قصدا دون تحديد قاطع لأنه يحبها على أي لون، مثال ذلك أن فعل من يمسح ربع رأسه في الوضوء جائز، وفعل من يمسح رأسه كلها جائز، وجاء الحق بالباء الصالحة لأي وجه من وجوه مسح الرأس، وكذلك شأن الخلافات في الأمور الاجتهادية. وإذا كانت القاعدة الشرعية تقول: " لا اجتهاد مع النص " فهذا لا يكون إلا مع النص الذي لا يحتمل الاجتهاد.
وليس كل التشريع هكذا؛ لأنه سبحانه أوضح ما لا يحتمل الاجتهاد، وأوضح ما يحتمل الاجتهاد؛ وحينما كلف الله عبده الإنسان بتكليفات، إنما كلفه بما يتناسب وتكوينه، وكما أن تكوين الإنسان فيه أشياء هو مقهور عليها. فهناك الأحكام التي لا اختيار له فيها، وهناك أمور اختيارية، وما وصل إليه المجتهد هو حق وصواب يحتمل الخطأ، وما وصل إليه غيره خطأ يحتمل الحق والصواب. وكل ما وصل إليه طرف من الاجتهاد حق لأن النبي صلى الله عليه وسلم صوّب من صلى العصر قبل أن يصل إلى أرض بني قريظة، وصوب كذلك من صلى العصر بعد أن وصل إلى مواقع بني قريظة. فالرسول - صلى الله عليه وسلم - اعتبر فعل كل فريق منهما صوابا.
ويقول الحق من بعد الأمر بمسح الرأس: " وأرجلكم ". وكان سياق النص يقتضي كسر اللام في " أرجلكم " ولكن الحق جاء بالأرجل معطوفة على غسل الوجه واليدين. وغير معطوفة على " برءوسكم " وهذا يعني أن الرجلين لا تدخلان في حيز المسح؛ إنما تدخلان في حيز الغسل.
ونبه الحق بالحركة الإعرابية على أنها ليست معطوفة على الجزء المصرح بمسحه، ولكنَّها معطوفة على الأعضاء المطلوب غسلها. ولم يأت الحق بالممسوح في جانب والمغسول في جانب ليدل على أن الترتيب في هذه الأركان أمر تعبدي وإلا لجاء بالمغسول معا والممسوح معا، ويحدد الحق أيضا غسل الرجلين إلى الكعبين: } وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ {. والرجل تطلق على القدم، وتطلق على القدم والساق إلى أصل الفخذ. ويريد سبحانه غسل الرجلين محدودا إلى الكعبين.
وحتى نعلم أن هذه مسائل تعبدية؛ عرفنا أن اليد تطلق على الكف، ومن أطراف الأصابع إلى الكتف يطلق عليه " يد " أيضا، والمرفق في اليد هو الحد الوسط، و " الكعبين " هو الحد الأول في الساق؛ لأن الوسط بعد الساق هو الركبة.

إذن. ترتيب المسألة في اليدين كف وساعد وعضد؛ والمرفق في وسط اليد، وفي الرجلين يقف الأمر عند الحد الأول وهو الكعبان. هي - إذن - مسألة تعبدية وليست مسألة قياسية.
ويبين الحق لنا أنه إذا أراد أمراً بدقة فهو يحدده بلا تدخل أو خلاف. أما إذا جاء بأمر غير واضح فهو إِذْنٌ منه سبحانه أن نجتهد فيه لنشعر أن لنا بعض الاختيار في بعض ما تعبدنا الله به، وكله داخل في مرادات الله؛ لأن إيراد النص - شاملا - لكل المفهومات هو إِذْنٌ بهذا المفهوم وإِذْنٌ بذلك المفهوم.
} فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ {. إنّ الوضوء شرع لغير الجنب. أي أنه لمن يُحْدِثُ حدثا أصغر. وهناك فرق بين إخراج ما ينقض الوضوء وهو ما يؤذي، وبين إخراج ما يُمتع، فإنزال المني أو حدوث الجماع يقتضي الطهارة بالاغتسال. ونعلم أن الإنسان حين يستمتع بطعام؛ أو يستمتع برائحة، أو بأي شيء هو محدود بوسيلة الاستمتاع به، أما الاستمتاع بالجماع فلا يعرف أحد بأي عضو أدرك لذته. وهي مسألة معقدة إلى الآن. ولا يعرف أحد كيف تحدث، مما يدل على أن جميع ذرات التكوين الإنساني مشتركة فيها. ومادام الأمر كذلك فالطهور يقتضي أن يغسل الإنسان كل جسمه:
} وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَىا سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ {.
وقد يقول قائل: أليست " لامستم النساء " كالجنابة؟
ونقول: إن الذي يجيء هنا هو حكم ثان يوضح لنا ما ينوب عن المياه، لأن الحق يرتب لِعبادة لا تسقط عن المكلف أبداً؛ لذلك لن يكلفه بشيء قد لا يجده، فقد لا يجد الإنسان المياه، وعليه إذن بالتيمم؛ لأن الصلاة عبادة لا تسقط أبدا عن المكلف حتى في حالة مرضه الذي لا يستطيع أن يحرك معه أي عضو من جسمه، هنا يسمح سبحانه للمريض أن يصلي جالسا، أو مستلقيا أو يصلي بالإيماء برأسه، أو يصلِّي بأهداب عينيه، وحتى مريض الشلل عليه إجراء خواطر الصلاة وأركانها على قلبه؛ لأن فرض الصلاة عبادة لا تسقط أبدا عن الإنسان مادام فيه عقل.
إننا نعرف أن الصلاة هي الركن الوحيد من أركان الإسلام الذي يتطلب الاستدامة، فيكفي المرء أن يقول الشهادة مرة واحدة في العمر، ويسقط الصوم عن الإنسان إن كان مريضا، ويطعم غيره، أو يؤديه في أوقات أخرى إن كان مريضا مرضا مؤقتا أو على سفر. وقد لا يؤدي الإنسان الزكاة لأنه فقير، وكذلك الحج لا يجب على من لم يملك الاستطاعة من مال أو عافية، ولا تبقى من أركان الإسلام غير الصلاة فإنها لا تسقط أبداً.

إن عظمة الصلاة توضحها كيفية تشريعها؛ لأن تشريعات أركان الإسلام كانت بالوحي، أما تشريع الصلاة فقد جاء وحده بالمباشرة ولم يقل الله لجبريل: " قل للنبي التكليف بالصلاة ". بل استدعى الله النبي صلى الله عليه وسلم إليه وكلفه بالصلاة.
وقلنا من قبل - ولله المثل الأعلى - حين يريد الإنسان أن يقدم أمراً لمرءوسيه، فالموضوع قد يأخذ دوره في الأوراق اليومية التي تنزل منه إليهم. أما إذا كان الموضوع مُهمَّا فهو يتصل بالقائد التنفيذي للمرءوسين ويوضح مدى أهمية الموضوع، أما إذا كان الموضوع غاية في الأهمية فالرئيس يستدعي القائد التنفيذي للمرءوسين ويبلغه أهمية الموضوع. إذن فكيفية إنزال التكليف تكون على قدر أهمية الموضوعات فما بالنا - إذن - بركن استدعى الله فيه محمداً إلى السماء ليكلفه به؟
وقد رأينا أن بعض التكليفات تجيء إلى رسول الله بالإلهام أن يفعله، وبعضها جاء بالوحي من جبريل أن يفعله، أما الصلاة فقد فرضها الله عندما استدعى محمداً إلى السماء إلى الرفيق الأعلى وفرض الله عليه الصلاة بالمباشرة، وعلى أمة محمد أن تؤدي هذا الفرض خمس مرات في اليوم، ولا تسقط أبداً. ولذلك جعلها الحق فارقة بين المسلم والكافر، إن المسلم ساعة أذان الصلاة يقوم إلى الصلاة، وهي استدعاء من الخالق لمن خلقه ليحضر في حضرته كل يوم خمس مرات. وأنت حر بعد ذلك ألا تبرح لقاء ربك؛ ولا يمل الله حتى يمل العبد.
وإياكم أن تجعلوا للزمان مع الله تخطيطاً؛ فتقولوا: هذا للعمل والضرب في الأرض، وذلك لذكر الله؛ فمع ضربكم في الأرض لتبتغوا من فضل الله، إياكم أن تنسوا الله؛ لأن ذكر الله أمر دائم في كل حركة يقصدها الإنسان لعمارة هذا الوجود، وقد أراد الحق منا بوجودنا أن نعبده وحده لا شريك له:{ وَإِلَىا ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ }[هود: 61]
إذن فكل ما يؤدي إلى عمارة الكون والارتقاء به هو أمر عبادي، والحق سبحانه وتعالى يربط " العبادة " الاصطلاحية في الفقه بحركة الحياة كلها. ونجد مثالا لذلك حيما تكلمنا في سورة البقرة عن الأسرة كما جاء في قوله تعالى:{ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ * وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَاْ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىا وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }

[البقرة: 236-237]
ذلك أمر الدنيا ومصالح الأسرة، وهو كلام في شئون تنظيم الأسرة، ثم ينقلنا من بعد الكلام في تنظيم الأسرة إلى أمر نقول عنه إنه العبادة وهو قوله الحق:{ حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَىا وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ * فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ }[البقرة: 238-239]
ثم يعود بعد ذلك إلى شئون تنظيم الأسرة فيقول سبحانه:{ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ }[البقرة: 240]
إذن فقد أخرجنا من كلام في نظام الأسرة إلى الصلاة، ثم عاد بنا مرة أخرى إلى نظام الأسرة حتى تتداخل كل الأمور لتكون عبادة متماسكة متحدة فلا تقول: " هذه عبادة وتلك ليست عبادة " ، وأيضا؛ لأن الكلام في الصلاة وسط كلامه عن أمور الأسرة ينبهنا: إذا ذهبت إلى الصلاة فربما هدَّأت الصلاة من شِرة غضبك وحماسك ونزلت عليك سكينة تعينك ألا تنسى الفضل بينك وبين زوجك.
في هذه السورة - سورة المائدة - صنع الحق معنا مثلما صنع في سورة البقرة؛ فبعد أن تكلم في أشياء وقص علينا أمر النعمة، ها هوذا يدخل بنا إلى رحاب المنعم، إلا إنه سبحانه لم يدخلنا على المنعم إلا بتهيئة طهورية. طهارة أبعاض؛ كالوضوء بأن نغسل الوجه ونغسل اليدين إلى المرفقين ونمسح على الرأس ونغسل الرجلين إلى الكعبين. وأحكم في أشياء وترك للاجتهاد مدخلا في أشياء، أحكمها في ثلاثة؛ غسل الوجه، وغسل اليدين إلى المرفقين، وغسل الرجلين إلى الكعبين، لكنه حينما تكلم عن الرءوس لم يقل: " امسحوا رءوسكم " ولا: " امسحوا ربع رءوسكم " ، ولا " امسحوا بعض رءوسكم " مما يدل على أن للمجتهد أن يفهم في " الباء " ما تُتيحهُ اللغة من " الباء ". إذن أعطانا الحق أشياء محكمة وأشياء للاجتهاد. وبعد طهارة الأبعاض يذكرنا بطهارة البدن من الجنابة.
ونلتفت إلى الكلام الذي تقدم حيث أورد الحق فيه ما أحل لنا من بهيمة الأنعام من طعام وشراب، ثم تكلم في النكاح حتى أنه وسع لنا دائرة الاستمتاع ودائرة الإنسال بأن أباح لنا أن نتزوج الكتابيات، وفي هذا توسيع لرقعة الزواج فلم يقصر الزواج على المسلمات.
ولما كان الطعام الذي أحله الله ينشأ عنه ما يخرج منا من بول وغائط، والنكاح الذي أحله الله يغير كيماوية الجسد؛ لذلك جعل الله الوضوء لشيء، والجنابة لها شيء آخر؛ فعن الطعام ينشأ الأخبثان، وعن الجماع أو خروج المني ينشأ الحدث الأكبر؛ فكان ولا بد بعد أن يتكلم عن طهارة الأبعاض في الحدث الأصغر أن يتكلم عن التطهير الكلي في الحدث الأكبر؛ فقال: } وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ {.

الله سبحانه وتعالى يريد لنا أن نستديم اتصالاتنا به ولم يشأ أن يجعل الوسيلة للصلاة بأمر الماء فقط؛ لأننا قد نفقد الماء وقد يوجد الماء ولا نقدر على استعماله؛ فلم يشأ الحق أن يقطع الصلة بأن يجعل الوسيلة الوحيدة للتطهر هي الماء، فأوجد وسيلة أخرى. فإن فقدت الماء أيها الإنسان فلا بد ان تدخل إلى لقاء الله بينة تطهير آخر وهو التيمم. هذا أمر لا يفقده من عاش على الأرض. إذن فعندنا تَطَهُّر بالماء وعندنا تَطَهُّر بالتراب. لذلك يقول سبحانه:
} وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَىا سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً { فإن كان الإنسان مريضاً لا يقدر على استعمال الماء، أو كان على سفر ولا يجد الماء؛ أو جاء أحد من الغائط، أي من قضاء الحاجة في مكان غويط وهو الوطئ المنخفض من الأرض، وكانت العرب قديماً تفعل ذلك حتى لا يراهم أحد ويكونوا في ستر، رجالاً أو نساءً، وحتى بعد ملامسة النساء. إن لم يجد الإنسان بعدها ماء فالتيمم هو البديل، وإياكم أن تقولوا إن الماء هو الوسيلة الوحيدة للتطهر، فقد جعل للماء أيضاً خليفة وهو التراب. والتراب أوسع دائرة من الماء. فكأنه سبحانه وتعالى يريد أن يديم علينا نعمة البقاء به. ولكي يديم علينا نعمة اللقاء به جعل للماء - الذي يكون محصوراً - خليفة وهو التراب وهو غير محصور.
ولا نريد أن ندخل في متاهات الخلاف عن الطهارة من ملامسة النساء، بين اللمس والملامسة؛ فاللمس لا يقتضي المفاعلة، أما الملامسة فتقتضي المفاعلة. واقتضاء المفاعلة ينقل المسألة من مجرد اللمس إلى معنى آخر هو الجماع.
وفي حالة الجنابة وعدم وجود الماء فالتيمم هو البديل } فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً { و " الصعيد " هو ما صعد على وجه الأرض من جنس الأرض بحيث لا تدخله صناعة الإنسان كالتراب والحجر، لكن الطوب الأحمر (الآجُرّ) الذي نصنعه نحن فليس من الصعيد الصالح للتيمم؛ لأن صنعة الإنسان قد دخلته.
والأركان المفروضة في طهارة الأبعاض أربعة، أما طهارة الجسم فهي طهارة واحدة تشمل كل الجسم. وفي حالة التيمم جعل الحق الطهارة استعداداً للصلاة عوضاً عن الوضوء بمسح الوجه واليدين، وكذلك في الطهارة من الجنابة. ونلحظ أنه سبحانه جاء بالمسح في الوضوء على بعض من الرأس كإيناس متقدم، وذلك حتى يكون لنا إلف بالمسح حينما نتيمم.
} فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ { وجعل الحق الطهارة بالماء أو التراب إزالة للحرج؛ فالإنسان الذي لن يجد ماء سيقع في الحرج بالتأكيد؛ لأنه يريد أن يصلي ولا يجد وسيلة للطهارة. وإذا كان عنده القليل من الماء ليشرب فهل يتوضأ أو يستديم الحياة ويُبقي على نفسه بشرب الماء؟.

ولا يريد الله أن يُعْنت خلقه ولا أن يوقعهم في الحرج، بل خفف عليهم وجعل عنصر التراب يكفي كبديل للماء. } وَلَـاكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ {.
وإياك أن تفهم أن الطهارة هي للتنظيف؛ لأن معنى الطهارة لو اقتصر على التنظيف لكانت الطهارة بالماء فقط، فلماذا إذن نمسح وجوهنا بالتراب؟ إن هذا يوضح أن الطهارة غير النظافة، فلو قال قائل: سأنظف نفسي بـ " الكولونيا ". نقول له: لا. ليس هذا هو المطلوب. والله لا يطلب نظافة بهذا المعنى، ولكن يطلب التطهير. والتطهير يكون بشرط من تدخل عليه - وهو الله سبحانه - وقد وضع الحق لذلك أمرين: إما بالماء وإما بالتيمم بالتراب. فالطهارة تجعل المرء صالحاً ليستقبل ربه على ضوء ما شرع به. والذي يضع الشرط لذلك هو الله وليس أنت أيها العبد. وسبحانه قد أوضح أو العبد يكون طاهراً بالماء أو بالتراب، وبهذه الطهارة يكون صالحاً لاستقبال الله له. وأعاد الله الإنسان في قربه منه إلى أصل إيجاده وهو الماء والتراب.
} وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ { والإنسان مغمور بنعم كثيرة. فهب أن إنساناً غاب عنه أبوه لكن خير الأب يصله كل يوم من مال وطعام وشراب ووسائل ترفيه، وبذلك يأخذ الإنسان نعمة الغاية من وجود أب له. ومع ذلك يشتاق هذا الإنسان المستمتع بنعمة والده الغائب إلى أن يكون مع والده، هذا هو تمام النعمة بين الأب والابن وكلاهما مخلوق لله، فما بالنا بتمام النعمة من الخالق لعباده؟
إن العبد الصالح يتمنى أن يرى مَن أنعم عليه؛ لذلك وضع الحق شرط الطهارة للقائه. وعندما يحضر الإنسان لحضرة ربه بالصلاة ويكبر: " الله أكبر " فهو منذ تلك اللحظة يوجد في حضرة الله. وإذا كانت الفيوضات تتجلى على الإنسان من نعمة مخلوق مثله سواء أكان أخاً أم أباً أم قريباً وهي نعمة مادية يراها الإنسان سواء أكانت طعاماً أم شراباً أم لباساً. فما بالنا بفيوضات المنعم الخالق الذي أنعم على الإنسان، إنها فيوضات من غيب؛ فكرمه لك غيب كالاعتدال في المزاج والعافية ورضا النفس وسمو الفكر.
إذن فقوله الحق: } وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ { أي أنكم عشتم قبل ذلك مع نعمة المنعم، وسبحانه يدعوكم إلى لقاء المنعم، ذلك تمام النعمة. وأضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - إننا نجد الابن ينظر إلى هدايا الأب الغائب ويقول: أنا لا أريد هذه الأشياء ولكني أريد أبي.
إن تمام النعمة - في المستوى البشري - أن يرى الإنسانُ المنعِمَ عليه وهو إنسان مثله، أما تمام النعمة على المخلوق من الخالق فيستدعي أن يتطهر الإنسان بما حدده له الله وأن يصلي فيلقى الله.
} وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ { ساعة نسمع: أنا فعلت ذلك وذلك لعلك تشكر، فهذا يعني أنك إن فعلت ما آمرك به فستجد أمراً عظيماً.

والأمر الطبيعي يقتضي أن تَشْكُر عليه كأن ما فعله الله للإنسان يوجب عند الإنسان نعمة أخرى لا يمكن أن يستقبلها إلا بالشكر، مثلما قال الله:{ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }[النحل: 78]
إنّ السمع والأبصار والأفئدة هي منافذ الإدراك. ومادام الحق قد خلقنا ولا نعلم شيئاً، وجعل لنا أدوات الإدراك. وأوضح: أنا خلقت لك هذه الأدوات للإدراك لعلك تشكر، أي تلمح آثارها في نفسك مما يربي عندك ملكة الإدراك للمدركات.
ويقول الحق بعد ذلك: } وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ... {

(/668)


وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)


وللإنسان أن يسأل: وما هو الذكر؟. الذكر هو حفظ الشيء أو استحضاره، فإذا كان حفظ الشيء فهو حفظ لذاته، لكن الاستحضار يكون لمعنى الشيء. إذن فهناك فرق بين حفظ الشيء واستحضار الشيء، هذا هو معنى الذكر. وقد يكون الذكر بمعنى القول؛ لأنك لا تقول الشيء إلا بعد أن تستحضره. ولذلك نجد في تكوين الجهاز العصبي الأعلى ذاكرة، وحافظة، ومخيلة.
ومن عجيب أمر التكوين الخلقي أن تمر أحداث على الإنسان في زمن مضى ولا يذكرها الإنسان لمدة طويلة تصل إلى سنوات، ثم يأتي للإننسان ظرف من تداعي المعاني فيذكر الإنسان هذا الشيء الذي حدث منذ عشرين عاماً.
إذن فالشيء الذي أدركه الإنسان منذ عشرين سنة على سبيل المثال لم يذهب، ولو ذهب ما ذكره الإنسان، لكنه غاب فقط عن الذهن عشرين عاماً أو أكثر؛ فلما تداعت المعاني تذكره الإنسان. ومعنى ذلك أن هذا الشيء كان محفوظاً عند الإنسان وإن توارى عنه مدة طويلة.
فالذاكرة - إذن - معناها أن يستدعي الإنسان المحفوظ ليصير في بؤرة شعوره. مثال ذلك: حادث وقع بين إنسان وآخر منذ أكثر من عشرين عاماً. ونسي الإنسان هذا الحادث. فلما التقى بصديقه، وجلسا يتذاكران الماضي تذكر الصديق الحادث الذي حدث له منذ أكثر من عشرين عاماً.
إذن فالحادثة لم تذهب من الذاكرة، ولكنها محفوظة موجودة في حواشي الشعور البعيدة، وكلما بعد الإنسان في الزمن يبدو وكأنه نسي الحادثة، لكن عندما يأتي تداعي المعاني فالحادثة تأتي في بؤرة الشعور. فإذا ما جاءت في بؤرة الشعور من حواشي الشعور حيث مخزن الحافظة، يتذكرها الإنسان. وهذه هي قوة الخالق جل وعلا.
وقد يسجل أحدنا على شريط تسجيل بعضاً من الكلام. ومن بعد ذلك يجب أن يسجل كلاماً آخر على الشريط نفسه فيمسح الكلام الذي سجله أولاً، ولكن ذاكرة الإنسان تختلف، فساعة تأتي المسائل في بؤرة شعوره فالإنسان يتذكرها. وإذا ما جاءت مسألة أخرى بعدها فلا بد أن تتزحزح المسألة الأولى من بؤرة الشعور إلى حاشية الشعور؛ لأن بؤرة الشعور لا تستقبل إلا خاطراً واحداً، فإن شغلت بؤرة الشعور بخاطر آخر فهي تحفظ الخاطر الأول في حواشي الحافظة. ولا يمسح خاطر خاطراً آخر. فإن أراد الإنسان أن يستدعي الخاطر القديم، كان ذلك في مقدوره، وهذا هو الفارق بين تسجيل الخالق وتسجيل المخلوق.
وبعد ذلك نجد ان التذكر يكون للمعاني، فالذي يخزن في ذاكرة الإنسان ليس أَجْرَاماً، فلو كانت أجراماً لما وسعها المخ. ولهذا فالمعاني لا تتزاحم فيه، بل تتراكم بحيث إذا ما جاء تداعي المعاني فالإنسان يتذكر ما يريد أن يذكره، وذلك لا يمكن أن يحدث إلا إذا كان المخ من صنع الخالق الأعلى.

ومادامت المعاني ليس لها حيز فالإنسان يقدر على حفظها في الذاكرة.
الإنسان قد يجلس ليتذكر أسماء الجبال في العالم فيقول: من جبال العالم قمة " إفريست " ، وجبال " الهمالايا " ، وجبل " أحد " وجبل " ثور ". وساعة يتذكر هذه الأسماء فهو يتصور معانيها، فالموجود في ذهن الإنسان معاني هذا الكلمات وليس أجرام هذه الكائنات؛ لذلك فلا تزاحم أبداً في المعاني بل تظل موجودة ومختزنة في الذاكرة وحاشية الشعور.
وإياكم أن تفهموا أن إنساناً يملك من الذكاء ما يحفظ به الشيء من مرة واحدة: وآخرَ أقل ذكاء يحفظ بعد قراءة الشيء مرتين، وثالثاً يحفظ عن ثلاث مرات لا، لأن الإنسان يملك ذهناً كآلة التصوير يلتقط من مرة واحدة، لكن لو أخذ الإنسان صورة لمكان وجاء شيء يضبب عدسة الصورة فهو يعيد التصوير، وكذلك الذهن إن أراد الإنسان أن يأخذ لقطة لشيء ما لتستقر في بؤرة الشعور وفي بؤرة الشعر شيء آخر، فالشيء لا يستقر في الذهن، بل لا بد من قراءة مضمون اللقطة مرة ثانية ليؤكد الإنسان المعلومات لتنطبع في بؤرة الشعور.
ومثال ذلك الطالب الذي يدخل ساحة المدرسة التي يُعقد بها الامتحان. وقبل أن يدق جرس الامتحان بخمس دقائق يأتي له واحد من زملائه ويقول له: ها ذاكرت الموضوع الفلاني. فيقول الطالب: لا لم استذكره. فيقول الصاحب: هذا الموضوع سيأتي منه سؤال في الامتحان. فيخطف الطالب كتابا ويقرأ فيه هذا الموضوع لمرة واحدة. هذا الطالب في هذه اللحظة لا يتذكر ماذا سيأكل على الغداء هذا اليوم، أو من سيقابل. بل يعرف أنه بصدد أمر فرصته ضيقة، ويركز كل ذهنه ليستقبل ما يقرأه. وفي لحظة واحدة يحفظ هذا الموضوع. وإذا جاء الامتحان ووجد السؤال فهو يجيب عليه بأدق التفاصيل. وقد نجد طالبا آخر جلس لأيام يحاول استذكار هذا الدرس بلا طائل.
إذن فالذهن يلتقط مرة واحدة، شريطة ألا يستقبل الإنسان ما يقرأه أو يسمعه من معلومات والذهن مشغول بأشياء أخرى. والدليل على ذلك: أن الإنسان قد يسمع القصيدة مرة واحدة أو يسمع الخطبة مرة واحدة فيحفظ من القصيدة أكثر من بيت، أو يحفظ من الخطبة أكثر من مقطع؛ لأن ذهن الإنسان في تلك اللحظة كان خياليا فالتقط الأبيات التي حفظها، وكذلك الخطبة، أما بقية أجزاء القصيدة أو الخطبة فقد يكون الذهن شرد إلى أشياء أخرى. ولذلك يحاول الإنسان أن يكرر الاستماع والإصغاء والقراءة أكثر من مرة ليهيئ ويعد بؤرة الشعور، فيحفظ الإنسان ما يريد.
إذن فالذهن يلتقط مرة واحدة، أما الذاكرة فهي تتذكر أي تستحضر المعاني التي قد تختفي في الحافظة، ولا شيء يضيع في الحافظة أبدا، بحيث إذا جاء الاستدعاء طفت المعاني على السطح.

كأن انطباعات الإنسان في نعم الله لا تُنسى أبدا. وهي موجودة عند الإنسان، ولكنها تريد من الإنسان أن يستدعيها من الحافظة ويطلبها.
ولنر دقة الأداء القرآني: } وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ { سبحانه يقول هنا " نعمة " مع ان نعم الله كثيرة، ولكن الله قد آثر أن يأتي بالمفرد ولم يأت بالجمع. وذلك ليبين للإنسان أن أية نعمة في أية زاوية من حياة الإنسان تستحق أن يذكرها الإنسان؛ فنعم الله كثيرة، ولكن ليتذكر الإنسان ولو نعمة واحدة هي نعمة الإيجاد من عدم، أو نعمة البصر، أو السمع. وكل نعمة من هذه النعم تستحق من الإنسان أن يتذكرها دائما، ولا تطرد نعمة نعمة أخرى، فما بالنا إذا كانت النعم كثيرة؟ ولو تمعن الإنسان في كل نعمة لاحتاجت إلى أن يتذكرها دائما، أو أن النعمة اسم للجنس كله؛ لأن المفرد يطلق على كل الجنس، مثل الإنسان فإنها تطلق على كل فرد من أفراده مثل محمد وعلي وخالد.
وكلمة " النعمة " قد تُنسب إلى سببها كنعمة سببها مروءة واحد من البشر، وهي محدودة بمقدار الأثر الذي أحدثته. لكن نحن هنا أمام نعمة المسبب وهو الله، ولا بد أن تناسب نعمة الله جلال وجمال عظمته وعطائه.
} وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ { و " واثق " تقتضي امرين: فالإنسان طرف الاحتياج والفقر والأخذ، والرب صاحب الفضل والعطاء والغنى، إنه هو الربوبية وأنت العبودية، وهو الحق القائل:{ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ }[البقرة: 40]
إذن فـ " واثقكم " تعني التأكيد من طرفين؛ لأن " واثق " على وزن " فاعَلَ " ، ولا بد في " فاعَلَ " أن تكون من اثنين. ومثال ذلك " شارك " تقولها لاثنين أو أكثر؛ فنقول: " شارك زيد عمراً "؛ وكذلك " قاتل زيد عمراً ". وحين يقول الحق: إنه " واثق عباده " أي أنه شاركهم في هذا الميثاق وقبله منهم. لكن أي ميثاق هذا؟
ونحن نعرف الميثاق الأول الذي هو ميثاق الذر:{ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىا أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىا شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـاذَا غَافِلِينَ }[الأعراف: 172]
وهو ميثاق الفطرة قبل أن توجد النفس وشهواتها. وبعد ذلك هناك ميثاق العقل الذي نظر به الإنسان إلى الوجود واستطاع أن يخرج من تلك الرؤية بأن الوجود محكم ومنظم وواسع، ولا بد لهذا الوجود من واجد وهو الله. وبعد ذلك ميثاق الإيمان بالله، فالرسول صلى الله عليه وسلم حينما عرض منهج الإسلام آمن به بعض الناس، أي أخذ منهم عهداً على أن ينفذوا مطلوبات الله، ألم يأخذ الرسول عهداً في العقبة حين قالوا له:
خذ لنفسك ولربّك ما أحببت.

فتكلم - رسول الله صلى الله عليه وسلم - فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغّب في الإسلام ثم قال: " أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم " فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: نعم والذي بعثك بالحق لنمنعنّك مما نمنع منه أُزُرنا فبايعنا يا رسول الله فنحن أبناء الحرب وأهل الحلقة (السلاح) ورثناها كابرا عن كابر.
وحدث هذا - أيضا - عند بيعة الرضوان تخت الشجرة. إذن فمعنى " واثقكم به " إما أن يكون العهد العام الإيماني في عالم الذر، وإما أن يكون العهد الإيماني الذي جاء بواسطة الرسل.
} وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا { وحين يؤمن الإنسان يقول: سمعت وأطعت، وهكذا تنتهي مسألة التعاقد. ويتبع الحق ذلك بقوله: } وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ {. واتقوا أي اجعلوا بينكم وبين صفات الجلال من الله وقاية، فالمطلوب منا أن نلتحم بمنهج الله إلتحاما كاملا، وعلينا كذلك أن نجعل بيننا وبين صفات غضب الله وقاية. وعرفنا أن قوله الحق: " اتقوا الله " متساوٍ مع قوله: " اتقوا النار " ، وقد يقول قائل: وهل للنار أوامر ونواه؟
ونقول: أحسن الفهم عن ربك واجعل بينك وبين غضب الله وقاية، فالنار جند من جنود الله. وسبحانه يوضح: اجعلوا بينكم وبين صفات الجلال وقاية؛ لأن الحق له صفات جلال هي الجبروت والانتقام والقهر، وللحق صفات جمال فهو الغفور الرحيم المغني، الحكيم إلى غير ذلك من صفات الجمال، إذن فلنجعل بيننا وبين صفات الجلال وقاية تقينا من جنود صفات الجلال ومنها النار.
وقلنا من قبل: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أبلغنا أنه في الليلة الأخيرة من رمضان يتجلى الجبار بالمغفرة. والنظرة السطحية تتساءل: ولماذا لم يقل: يتجلى الغفار بالمغفرة؟ ذلك أن (الجبار) صفة من صفات الجلال التي تقتضي معاقبة المذنب، والذنب متعلق بصفات الجلال لا بصفات الجمال، إذن فالمنطق يقتضي أن يقف المذنب أمام شديد الانتقام؛ لأن المقام يناسب صفات الجلال، ولكن علينا أن نتذكر جيدا أن الله يرخي العِنان للمذنب لعله يتوب،وأن الله يفرح بتوبة عبده وأن رحمته تَغْلب غضبه.
ويذيل الحق الآية: } إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ { والتقوى - كما نعلم - لا تنشأ من الأفعال المحسة المدركة فقط، بل تنشأ أيضا في الأحوال الدخيلة المضمرة. ومثال ذلك نية سيئة ونية حسنة. فالحقد، الحسد، التبييت، المكر، كل ذلك صفات سيئة؛ فإياكم أن تقولوا إن التقوى للمدركات فقط؛ بل للمحسات أيضا. وعمل القلوب له دخل في تقوى الله. ومن بعد ذلك يقول الحق: } يَا أَيُّهَآ الَّذِينَ آمَنُواْ... {

(/669)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)


إنّ الحق - كما علمنا - حين ينادي المؤمنين بقوله: { يَا أَيُّهَآ الَّذِينَ آمَنُواْ } إنه سبحانه لم يقتحم على الناس تصرفاتهم الاختيارية لمنهجه، بل يلزم ويأمر من آمن به ويوجب عليه؛ فيوضح: يا من آمنت بي إلها حكيما قادرا خذ منهجي. ولكن الحق يقول: { يا أيها الناس } حين يريد أن يلفت كل الخلق إلى الاعتقاد بوجوده، أما من يؤمن به فهو يدخل في دائرة قوله الحق: { يَا أَيُّهَآ الَّذِينَ آمَنُواْ } وهذا النداء يقتضي بأن يسمع المؤمن التكليف ممن آمن بوجوده.
ونعلم أننا جميعا عبيد الله، لكن لسنا جميعا عباد الله. وهناك فرق بين " عبيد " و " عباد ". فالعبيد هم المرغمون على القهر في أي لون من ألوان حياتهم، ولا يستطيعون أن يدخلوا اختيارهم فيه. قد نجد متمرداً يقول: " أنا لا أؤمن بإله " ولكن هل يستطيع أن يتمرد على ما يقضيه الله فيما يجريه الله عليه قهرا؟ فإذا مرض وادعى أنه غير مريض فما الذي يحدث له؟ أيجرؤ واحد من هؤلاء المتمردين على ألا يموت؟!! لا أحد يقدر على ذلك.
إذن فكل عبد مقهور لله، وكلنا عبيد الله يستدعينا وقتما يريد ويجري علينا ما يريد بما فوق الاختيارات. أما " العباد " فهم الذين يأتون إلى ما فيه اختيار لهم ويقولون لله: لقد نزعنا من أنفسنا صفة الاختيار هذه ورضينا بما تقوله لنا " افعل كذا " و " لا تفعل كذا ". إذن فالعبيد مقهورون بما يجريه عليهم الحق بما يريد، والعباد هم الذين يرضون ويكون اختيارهم وفق ما يحبه الله ويرضاه؛ إنهم أسلموا الوجه لله. فهم مقهورون بالاختيار، أمّا العبيد فمقهورون بالإجبار.
{ يَا أَيُّهَآ الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ }. و " قوام " صفة مبالغة والأصل فيها قائم، فإن أكثر القيام نطلق عليه " قوام ". ومثال ذلك رجل لا يحترف النجارة وجاء بقطعة من الخشب وأراد أن يسد بها ثقبا في باب بيته؛ هذا الرجل يقال له: " ناجر " ولا يقال له: " نجار " ، ذلك أن تخصصه في الحياة ليس في النجارة. وكذلك الهاوي الذي يخرج بالسنارة إلى البحر؛ واصطاد سمكتين؛ يقال له: " صائد " لكنه ليس صياداً؛ لأن الصيد ليس حرفته.
إن الحق يطلب من كل مؤمن ألا يكون قائما لله فقط، ولكن يطلب من كل مؤمن أن يكون قواما؛ أي مبالغ في القيام بأمر الله. والقيام يقابله القعود. وبعد القعود الاضطجاع وهو وضع الجنب على الأرض ثم الاستلقاء، وبعد ذلك ينام الإنسان. ونحن أمام أكثر من مرحلة: قائم وقاعد ومستلق، ونائم.

والنائم ليس عليه تكليف. والمستلقي هو المستريح على ظهره والحق يقول:{ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىا جُنُوبِكُمْ }[النساء: 103]
أي اجعلوا الله دائما على بالكم؛ فالإنسان يملك في حالته الطبيعية نشاطا يمكنه أن يقوم ويقعد؛ فإن قيل: " قال فلان بأمر القوم " أي أنه بذل كل جهد لإدارة أمور الناس، والقيام في حركات الناس أصعب شيء. وسبحانه لا يريد منا أن نكون قائمين فقط؛ بل يريد أن نكون قوامين. ومادمنا قوامين فلن تخلو لحظة من قيامنا أن نكون لله؛ لله توجها. لا نفعا؛ لأن أية حركة من أي عبد لا تفيد الله في شيء؛ فالله خلق خلقه بمجموع صفات الكمال فيه، ولم ينشئ خلقه له صفة جمال أو كمال جديدة. وعندما يؤدي الإنسان أي عمل لله فهو يؤديه طاعة وتقربا لله. وإذا أراد الله من المؤمنين أن يكونوا قوامين لله، عندئذ تكون كل حركات المجتمع الإيماني حركات ربانية متساندة متصاعدة. وإذا كانت حركات المجموع الإيماني متساندة فسوف تكون النتيجة لهذه الحركة سعادة البشرية؛ فالإنسان إذا ما كان قواما فهو قوام لنفسه وللآخرين.
والمراد أن نكون مداومين على قيامنا في كل أمر لله. ولا تعتقد أيها المؤمن أنك تعامل خلق الله، إنما تعامل الله الذي شرع لك ليضمن لك ويضمن منك، فأنت إن طولبت بالأمانة، فقد طولب كل الناس بالأمانة فيما هو خاص بك لا بغيرك، وحين ينهاك الله عن الخيانة فقد أمر الحق الناس جميعاً بالانتهاء عن الخيانة لك.
إذن إن نظرت إلى تكليفات الله لوجدتها لصالحك أنت فلا يظنن ظان أن الدين إنما جاء ليقف أمام نفسه هو، فالدين وقف أمام النفس لدى الناس جميعاً، فحين يأمرك: ألاّ تمد يدك إلى مال غيرك فأنت واحد من الناس، وفي هذا القول أمر موجه لكل الناس: لا تمدوا أيديكم إلى مال فلان لتسرقوه. فانظر إلى أن الحق حين شرع عليك شرع لك. ولذلك يجب أن يكون كل قيامك لله سبحانه. ولذلك يظهر الحق سبحانه وتعالى في بعض خلقه أشياء وأحداثاً تُفهم الناس أن الذي يعمل لخلق الله مسلوب النعيم، والذي يعمل لله يكون موصول النعيم؛ فنجد الواحد من الناس يقول: " لقد صنعت لفلان كذا وكذا وكذا وأنكرني ". نقول له: أنت تستحق لأنك صنعت له، ولكنك لو صنعت لله لكفاك الله كل أمر. ولذلك يقول الحق عن هؤلاء الذين صنعوا لله:{ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً }[آل عمران: 30]
إذن فالمؤمن يجب أن يوضح حركة قيامه وينميها، بمعنى أن يجعل كل حركته لله؛ فإن كانت كل حركته لله، فالله سبحانه لا يضيع أجر من أحسن عملا. والخاسرون هم الذين يعملون للناس؛ لأن الناس لا يملكون لهم نفعاً وربما تخلوا عنهم وربما أضمرت وحملت قلوبهم الضغن والحقد لمن أحسن إليهم، وربما تحولوا إلى أعداء لهم، فالمصنوع له الجميل قد يعطيه الله بعضاً من الجاه، وحين يلقى صانع الجميل بعد ذلك قد تتخاذل نفسه وتذل، ونرى في بعض الأحيان واحداً يجلس بين الناس وقد أخذته العزة، ثم يدخل عليه إنسان كان له فضل عليه، وساعة يراه يكره وجوده في مجلسه، ويتمنى ألا يحدث هذا اللقاء؛ وإذا ما لقيه بعد ذلك في طريق فهو يشيح بوجهه؛ لأن الذي صنع الجميل يسبب حرجاً له، ويجعل نفسه تتضعضع، وهو يريد أن يستكبر على الناس.

إذن فالله يوضح: اعملوا لله؛ لإنه لا يضيع عنده شيء. واعلموا أن الله رقيب عليكم ولن يضيع عملٌ عنده.
وعندما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الإحسان قال: " أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك "
أتستطيع أنت أيها الإنسان أن تصنع في إنسان آخر ما يسوؤه أمامه؟. أنت تسيء إلى ألاخر من وراء ظهره. فلماذا إذن يُسيء الواحد منكم إلى الله بالعصيان، وهو الناظر إليكم جميعاً؟
إذن حين يريد الحق سبحانه وتعالى أن تحسن معاملة نفسك وغيرك فعليك أن تحتسب كل عمل لك عند الله. فقد سخر لنا الحق كل الوجود وأعطانا كل مقومات الحياة, ويوضح لكل واحد منا: يا عبدي اجعل كل قيامك لله؛ ولا تكن قائماً فقط ولكن كن قوّاماً.. بمعنى أنه مادامت فيك بقية من العافية للعمل فاعمل، ولا تعمل على قدر حاجتك فقط، ولكن اعمل على قدر طاقتك؛ لأنك لو عملت على قدر حاجتك فإن الذي لا يقدر على العمل لن يجد ما يعيش به.
إذن فاعمل على قدر طاقتك لتتسع حركتك للناس جميعاً. ويكون الفائض من عملك لغيرك. وحين يقول سبحانه: } كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ { يعلمنا ألا نضيع مجهودنا هباء، بل نوجه المجهود للعمل ونقوم به لوجه الله، لأنه سبحانه لا ينسى أبداً جزاء عبده، وهو الذي يرد كل جميل. إنه - سبحانه - يقول: } هَلْ جَزَآءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ {.
ويقول أيضا:{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ }[التوبة: 120]
وحين يكون الواحد منا قوّاماً لله يكون قد استغل حركة وجوده لخير خلق الله، وهذا العمل مطلوب منك. ولا يكفي أن تكون حركتك محصورة في ذلك، بل يجب أن تمتد أيضاً حركة حياتك لتكون شاهداً بالعدل. وكذلك توجه للعدل من تحدثه نفسه أن ينحرف. وحين تكون قوّاماً لله فهذا أمر حسن، وعليك أن تحاول إقناع غيرك بأن يكون قيامه لله بأن تكون شاهداً بالقسط والعدل. وحين تكون شاهداً بالقسط والعدل لا يتمادى ظالم في ظلمه. فالذي يجعل الظالم يشتد ويستشري ظلمه ويتفاقم شره هو أنه يجد من يدلسون على العدالة ويسترون ويخفون العيوب ويخادعون الناس.

لكن لو وُجِد الإنسان الذي ينير الطريق أمام العدالة لما وجد ظلم. لكن الظالم يحب من يدلس عليه؛ فيقول لنفسه: إن فلاناً ارتكب جريمة مثل جريمتي ونال البراءة. وتدليس الشهادة يقود إلى خراب المجتمعات. ولو أن المجتمع حينما يرى أن شهادة أفراده هي شهادة بالقسط وشهادة بالعدل، فإن كل فرد في المجتمع إذا هَمَّ بظلم يرتدع قبل أن يفعل الظلم، ولكان الظالم ينال عقابه ويصير مثالاً لارتداع غيره. والمؤمن مطالب بالقيام لله بإصلاح ذاته، ومطالب ثانياً أن يشهد بالقسط والعدل لإصلاح غيره.
وكلمة " القسط " تأتي منها اشتقاقات كثيرة، وهي من الألفاظ التي قد تدل على العدل وقد تدل على الجور، وهي من الألفاظ التي تستعمل في المر وفي نقيضه. وهذا من محاسن اللغة. ويتطلب ذلك أن يمحص السامع الكلمة ويتعرف على معناها بما يتطلبه السياق.
" وقَسَطَ " معناها " عدل ". والفعل المضارع لها هو يقسط. والمصدر " قِسطا " ، ومرة يكون المصدر " قُسوطا ". والمصدر هو الذي قد يحول المعنى من العدل إلى الجور. فالقِِسط بمعنى العدل. وقَسَطَ يَقْسِطُ قُسُوطاً. أي جار وظلم. هنا نجد الفعل يأتي بالمعنى وضده؛ حتى يمتلك السامع اليقظة والفطنة التي تجعله يعرف التمييز بين معنى العدل ومعنى الجور.
وحين نقول " أقسط " فإنها بمعنى عدل، وهنا ننتبه إلى ما يلي: أن هناك فرقاً بين عَدْلٍ يأتي من أول الأمر وذلك هو القِسط، وهناك حكم ظالم يحتاج إلى حكمٍ آخر يزيل الظلم. وذلك الذي نستعمل له " أقسط " أي أزال الظلم. فكأن جوراً كان موجوداً وأزاله الحكم. فالقِسط - إذن - هو العدل الابتدائي. ولذلك نسمع قول الحق سبحانه وتعالى:{ وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً }[الجن: 15]
والقاسطون هنا هم الظالمون، فالقسط هنا من قسط يقسط قُسوطا.
وفي الاية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق: } شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ { أي شهداء بالعدل. واللباقة في السامع هي التي توجه اللفظ إلى معناه المراد من خلال السياق، فالسامع للقرآن يُفْترض فيه الأريحية اللغوية بحيث يستطيع أن يفرق بين الشيء والمشابه له من شيء آخر. إذن فهناك قسط وأقسط، قسط بمعنى عدل، وأقسط بمعنى أقام القسط بإزالة الجور. والقسوط معناه الجور.
والحق يقول: } إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ { و " المقسطين " هي جمع " مُقسط "؛ من: أقسط أي أزال الظلم والجور, إذن فالذي يرجح المعنى هنا سياق الكلمة ومصدرها. وقد يراد بالكلمة المعنى المصدري. والمعنى المصدري لا يختلف باختلاف منطوقه، فيقال: " رجل عدل " ويقال: " امرأة عدل ". ويقال: " رجلان عدل " ، ويقال: " امرأتان عدل " ، و " رجال عدل " ، و " نساء عدل ".

إذن فإن أردنا بالكلمة المصدر فهي لا تتغير في المفرد والمثنى وجمع المذكر وجمع المؤنث. والقرآن الكريم يقول:{ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ }[الأنبياء: 47]
وهنا قول آخر:{ وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ }[الشعراء: 182]
وفي الريف المصري نجد أن التاجر يصنع لنفسه الموازين من الأحجار، فيعاير قطعة من الحجر بوزن الكيلو جرام، ويعاير قطعاً أخرى لأجزاء الكيلو جرام؛ ومن كثرة الاستعمال وملامسة الحجر يعرف التاجر أن الحجر يتآكل، لذلك يعيد وزن الأحجار التي يستعملها في الميزان كل فترة متقاربة من الزمن. ويقال: إنه يعاير الأوزان. وسمي القسطاس؛ فالقسطاس هو الذي تعاير به الموازين، فإذا صنع الإنسان شيئاً للميزان مما يتآكل أو يتأثر باللمس فيجب عليه أن يعايره كل فترة حتى لا يظلم أحداً ولو بمقدار اللمسة الواحدة. ولذلك يقول الحق: } ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ { " أقسط " هنا معناها " أعدل ". فموازين الله غير موازين البشر، فموازين البشر قد يحدث فيها اختلاف. ونرى بعض التجار ينقضون الميزان بأن يضعوا شيئاً تحت كفة الميزان أو غير ذلك من الخدع، لكن الحق هو العادل الحق. وهو صاحب الميزان الأعدل وهو القائل: } ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ {.
جاءت هذه الآية لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصدر حكماً؛ وهو حكم صحيح وعادل بقواعد البشر، فأوضح الحق له الحكم الأقسط، صحيح أن عدلك يا رسول الله لا يدخله هوى ولا يميل به غرض أو شهوة. ولكن العدل عند الله أكثر دقة وله مطلق الدقة. وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الحكم بمنطق القسط البشري في أمر زيد بن حارثة وكان مولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كان عبداً لخديجة - رضي الله عنها - وهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد فترة علم أهل زيد بخبر اختطافه وبيعه كعبد وكيف آل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء أهل زيد إلى رسول الله وطالبوا بابنهم. ورفض زيد أن يعود معهم وأراد أن يبقى مع رسول الله، وأراد رسول الله أن يكرم زيداً الذي فضله على أبيه وأهله مصداقاً لقول الله:{ النَّبِيُّ أَوْلَىا بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ }[الأحزاب: 6]
لذلك كان لا بد للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقدر زيد بن حارثة؛ فأعتقه ودعاه " زيد بن محمد " تكريماً له، على عادة العرب في تلك الأيام. لكن الله يريد أن يلغي مسألة التبنّي:{ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ }[الأحزاب: 4]
وأجرى الله الأحداث ليصحح مسألة التبني لكل العرب، وكان بداية تطبيق ذلك على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينزل القول الحق:{ ادْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ }

[الأحزاب: 5]
لم ينف الله القسط عن محمد، ولكن الأقسط يأتي من عند الله. ويطيب الله خاطر زيد بعد أن عاد إليه اسمه الفعلي منسوباً لأبيه لا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكافئ الله زيداً بأن يجعل اسمه هو الاسم الوحيد في الإسلام الذي يذكر في القرآن ويتعبد المؤمنون بتلاوته إلى أن تقوم الساعة:{ فَلَمَّا قَضَىا زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً }[الأحزاب: 37]
لقد صار اسمه في القرآن يتلوه المسلمون إلى قيام الساعة. وفي ذلك كل السلوى. إذن فـ " } أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ { جاءت في محلها، وإذا كان الحق سبحانه وتعالى قد طلب منا أن يكون قيامنا مبالغاً فيه؛ أي ألا نترك فرصة لعمل الخير وأن نبالغ في الدقة في أداء العمل، وأن نَعْدل في المجتمع بأن نكون شهداء بالقسط. وبذلك يأخذ كل إنسان حقه فلا يقدر قوي أن يظلم ضعيفاً؛ لأن الضعيف سيجد أناساً يشهدون معه بالحق.
وإياكم أن تأخذوا الهوى في مقاييس العدل. وهب أن المسألة تتعلق بعدوكم أو بخصومكم فالعدل هنا أكثر أهمية وأكثر وجوبا.
} وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ {. أي لا يحملنكم بغض قوم على ألا تعدلوا فتعتدوا عليهم، فمن له حق يجب أن يأخذه. ونعرف القصة التي حدثت، عندما سرق مسلم درع مسلم آخر وأراد السارق وأهله أن يلصقوا التهمة بيهودي وأن يبرئ نفسه، ولكن الله أنزل قرآناً:{ إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً }[النساء: 105]
أي لا تكن يا محمد لصالح الخائنين مخاصما للبرآء. وقوله الحق هنا: } وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ { أي لا يحملنكم بغض قوم على ألا تعدلوا، وإلا سيكون البغض لصالح عدوكم، وبغض المؤمن إذا حمله على اتباع هواه سيكون لصالح العدو؛ لأن الله سيعاقب المؤمن لو أدخل الهوى والبغض في إقامة الميزان العادل. فتحكيم البغض والعِداء والهوى يكون لصالح الخصوم؛ لذلك لا يحملنكم أيها المؤمنون شنآن - أي بغض - قوم على ألا تعدلوا.
ويضيف الحق: } اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىا { والعدالة حين تُطلب مع الخصم هي تقريع لذلك الخصم لأنه خالف الإيمان. ومن المؤكد أن الخصم يقول لنفسه: إن عدالة هذا المسلم لم تمنعه من أن يقول الحق ولا بد أن عقيدته تجعل منه إنساناً قوياً، وأن دينه الذي أمره بذلك هو نعم الدين.
إذن ساعة تحكم أيها المؤمن بالعدل لخصمك فأنت تقرعه لأنه ليس مؤمنا، لكن لو رأى خصمك أنك قد جُرت ولم تذهب إلى الحق، فأنت بذلك تشجعه على أن يبقى كافراً؛ لأنه سيعرف أنك تتبع الهوى. أما إذا رآك وأنت تقف موقفاً يرضي الله مع أنه خصم لك، فهو يستدل من ذلك على أن العقيدة التي آمنت بها هي الحق، وأنك تقيم الحق حتى في أعدائك.

وهكذا يقرع الخصمُ العقدي نفسَه، وقد يلفته ذلك إلى الإيمان.
} اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىا { أقرب إلى أي تقوى؟ أأقرب إلى تقوى المؤمن؟ أم أن الخصم يكون أقرب إلى التقوى حين يرى المؤمن مقيماً للعدل والحق، فلعله يرتدع نفسه ويقول: إن الإيمان قد جعل هذا المسلم يتغلب على البغض وحكم بالحق على الرغم من أنه يعلم أنني عدو له.
ولنا في قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام الأسوة الحسنة، فقد جاءه رجل غريب يسأله طعاماً أو مبيتاً، فسأله إبراهيم عن دينه. فوجده كافراً، فلم يجب مسألته.وسار الرجل بعيداً، فأنزل الله سبحانه على إبراهيم وحياً: أنا قبلته كافراً بي ومع ذلك ما قبضت نعمتي عنه. وسألك الرجل لقمة أو مبيتَ ليلةٍ فلم تجبه. وجرى سيدنا إبراهيم خلف الرجل واستوقفه، فسأل الرجل سيدنا إبراهيم؛ ما الذي حدث لتغير موقفك، فقال سيدنا إبراهيم: إن ربي عاتبني في ذلك. فقال الرجل: نعم الرب إله يعاتب أحبابه في أعدائه، وآمن الرجل.
وهذا يوضح لنا معنى } أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىا { فقد صار الرجل الكافر أقرب للتقوى. إذن: فالمعنى النفسي الذي يصيب خصمك أو من يغضبك أو من بينك وبينه شنآن، حين يراك آثرت الحق على بغضك له، يجعله يلتفت إلى الإيمان الذي جعل الحق يعلو الهوى ويغلبه ويقهره، ويصير أقرب للتقوى. وأيضاًَ من يشهد بالقسط هو أقرب للتقوى.
ويذيل الحق الآية بقوله: } وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ { فهو - سبحانه - الخبير بما نعمل. وإياك أيها المؤمن أن تصنع ذلك لشهرة أن يُقال عنك إنك رجل حكمت على نفسك. ولكن اعمل من أجل الله حتى وإن كان الموقف يستحق منك الفخر.
إن كثيرا من الناس يحكمون بالظلم ليشتهروا بين الناس بالعدل، كيف؟ لنفرض أنه قد عُرضت عليك قضية هي خصومة بين ابنك وابن جارك؛ الشجاعة الأولى تفرض أن تحكم لابن جارك وهو غير محق على ابنك، لكن الشجاعة الأقوى أن يكون الحق لابنك وتحكم له، أما إن حكمت لابن جارك - وهو غير محق - في هذه الحالة تكون قد حكمت بالظلم لتشتهر بين الناس بالعدل!
يجب أن يكون الحق أعز عليك من ابنك وابن جارك، وإياكم أن تعملوا أعمالاً ظاهرها عدل وباطنها رياء؛ لأننا نعلم أن لكل جارحة من الجوارح مجالاً تؤدي فيه وظيفتها؛ فاللسان أداؤه ووظيفته القول، والأذن فعلها أن تسمع، والأنف أداؤه أن يشم، ويجمع الجميع العمل. فالعمل إما أن يكون قولاً وإما أن يكون فعلا.
قال تعالى:{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ }[الصف: 2-3]
إذن فالقول محله اللسان، والفعل محله بقية الجوارح، والاثنان يجمعهما العمل.
ومن بعد ذلك يقول الحق: } وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ... {

(/670)


وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9)


وعندما نتأمل كلمة " وعد " نجدها تأتي، وتأتي أيضاً كلمة " أوعد " و " وعد " وكذلك أوعد إذا لم تقترن بالموعود به، تكون وَعَد للخير، و " أَوْعَد " للشر. ولكن لو حدث غير ذلك وجئت بالموعود به، فالاثنان متساويان، فيصح أن تقول " وعدته بالخير " ويصح أيضاً أن تقول: " وعدته بالشر ". لكن إن لم تذكر المتعلق، فإن " وعد " تستعمل في الخير. و " أوعد " تستعمل في الشر. والشاعر يقول:وإنِّي إنْ أوعدته أو وعدته لُمخْلِفُ إِبعادي ومُنْجِزُ موعديوحين يقول: " وعد الله " فهذا وعد مطلق لا إخلال به؛ لأن الذي يخل بالوعد هو الإنسان الذي تعتريه الأغيار؛ فقد يأتي ميعاد الوفاء بالوعد ويجد الإنسان نفسه في موقف العاجر أو موقف المتغير قلبياً، لكن ساعة يكون الله هو الذي وعد فسبحانه الذي لا تداخله الأغيار، بل هو الذي يُجري الأغيار، لذلك يكون وعده هو الوعد الخالص الذي لا توجد قوة أخرى تحول دون أن ينفذ الله وعده. أما وعد البشر فقد تأتي قوة أخرى تعطل الوعد.
{ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ } سبحانه وتعالى يوضح أن مغفرته لكل عباده ولا يختص فقط الصالحين الورعين بل إنه يوجد حديثه إلى هؤلاء الذين ارتكبوا المعاصي فإن تابوا، فلهم مغفرة؛ لأن ردء المفسدة مقدم على جلب المصلحة؛ فأنت قد تكون جالسا ويأتي واحد جهة اليمين ليقدم لك تفاحة، وفي اللحظة نفسها التي تمتد يدك لتأخذ التفاحة تلتفت لتجد إنساناً آخر يريد أن يصفعك، أي اتجاهات سلوكك تغلب؟. لا بد أنك سترد على من يضربك أولا. والحق يزيل الذنوب أولاً بالمغفرة. ونجده سبحانه وتعالى يأتي بأشياء تلفت القلب فهو يقول:{ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ }[آل عمران: 185]
فالخطوة الأولى للفوز هي الزحزحة عن النار، والخطوة التالية بعد ذلك هي دخول الجنة. فسبحانه يمنع المفسدة ويقدم دفعها ودرأها على جلب المنفعة؛ لذلك يقول الحق بداية: { لَهُم مَّغْفِرَةٌ }. والإنسان منا ساعة تأتي له الخواطر يفكر في أشياء يطمح إليها، وهناك أشياء يخاف منها. وينشغل الذهن أولاً بما يخاف منه، يخاف من المفسدة، يخاف من عدم تحقيق الآمال. إذن فدرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة.
{ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ }. وكل أجر على عمل يأخذ عمره بقدر حيزه الزمني، فأجر الإنسان على عمله في الدنيا يذهب ويزول؛ لأن الإنسان نفسه يذهب إلى الموت، أما أجر الآخرة فهو الباقي أبداً، وهو أجر لا يفوت الإنسان ولا يفوته الإنسان، ذلك هو الأجر العظيم.
وحين يتكلم الحق عن معنى من المعاني يتعلق بالإيمان والعمل الصالح تكون النفس مستعدة؛ لأن هناك تأميلا في الخير وترهيباً من الشر؛ لذلك يتبع الحق هذه الآية بآية أخرى فيقول: { وَالَّذِينَ كَفَرُواْ... }

(/671)


وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10)


وحين نسمع قوله: { أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } تتزلزل النفوس رهبة من تلك الصحبة التي نبرأ منها، فالصحبة تدل على التلازم وتعني الارتباط معاً، وألا يترك أحدهما الآخر؛ كأن الجحيم لا تتركهم، وهم لا يتركون الجحيم، بل تكون الجحيم نفسها في اشتياق لهم. وللجحيم يوم القيامة عملان؛ العمل الأول: الصحبة التي لا يقدر الكافر على الفكاك منها، والثاني: لا تترك الجحيم فرصة للكافر ليفك منها. ويقول الحق عن النار:{ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ }[ق: 30]
ويقول الحق بعد ذلك: { يَا أَيُّهَآ الَّذِينَ آمَنُواْ.... }

(/672)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)


والذكر - كما عرفنا - يعني استحضار الشيء إلى الذهن؛ لأن الغفلة تطرأ على الإنسان وعليه الا يستمر فيها. وبعض أهل الإشراق والشطح يتلاعبون بالمواجيد النفسية فيقول واحد منهم: يعلم الله أني لست أذكره. وحين يسمع الإنسان مثل هذا القول قد يوجه لصاحبه التأنيب والنقد العنيف، لكن القائل يحلل الأمر التحليل العرفاني فيكمل بيت الشعر بالشطر الثاني:" إذْ كيف أذكره إذْ لست أنساه ". وهنا ترتاح النفس، ويقول الحق هنا أيضاً: { نِعْمَتَ اللَّهِ } ولم يقل: " نعم "؛ لأن كل نعمة على انفراد تستحق أن نشكر الله عليها؛ فكل نعمة مفردة في عظم وضخامة تستحق الشكر عليها، أو أن نعمة الله هي كل فيضه على خلقه، فأفضل النعمة أنه ربنا، وسبحانه يقول: { اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ }. ومادام قد جاء بـ " إذ " فالمراد نعمة بخصوصها؛ لأن " إذ " تعني " حين " فالحق يوضح: اذكروا نعمة الله عليكم في ذلك الوقت الذي حدثت فيه هذه المسألة؛ لأنه جاء بزمن ويطلب أن نذكر نعمته في هذا الموقف، إنه يذكرنا بالنعمة التي حدثت عندما همّ قوم ببسط أيديهم إليكم.
وهناك " قبض " لليد و " بسط " لليد. والبسط المنظور أن ترى النعمة. وفي الآية تكون النعمة هي كف أيدي الكافرين، ذلك أن أيديهم كانت ممدودة بالسوء والشر. ولو وقفنا عند بسط اليد؛ لظننا أنه سبحانه قد جعل من أسباب خلقه معبراً للنعم علينا أي أن نعم الله تعبر وتصل إلينا عن طريقهم وبأيديهم، لكن هذا ليس مراد من النص الكريم؛ لأننا حين نتابع قراءة الآية، نعرف أن كف أيديهم هو النعمة، فهؤلاء القوم أرادوا أن يبسطوا أيديهم بالإيذاء. ويقولون عن بذاءة اللسان: " بسط لسانه " ويقولون أيضاً: " بسط يده بالإيذاء ".
ونعرف أن الحق جاء بـ " إليكم " أو " عنكم " وكلاهما فيه ضمير يعود على المؤمنين مع النبي صلى الله عليه وسلم، فالمؤمنون ملتحمون بمنهج النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا همّ قوم أن يبسطوا أيديهم إلى رسول الله، ففي ذلك إساءة للمؤمنين برسول الله؛ لأن كل شيء يصيب رسول الله، يصيب المؤمنين أيضاً. وكانت هناك واقعة حال في زمن مقطوع وسابق، فهل يعني الحق سبحانه وتعالى بحادثة بني النضير، وكان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبني النضير معاهدة ألا يعينوا عليه خصوم الإسلام وإذا حدث قتل من جهة المسلمين فعلى بني النضير المعاونة في الدية، وكان النبي قد أرسل مسلماً في سرية فقتل اثنين من المعاهدين خطأ، فطالبوا بدية للقتيلين.

ولم يكن عند النبي؛ مالٌ فذهب إلى بني النضير كي يساعدوه بدية القتيلين، فقالوا له: " مرحبا " نطعمك ونسقيك وبعد ذلك نعطيك ما تريد، ثم سلطوا واحداً ليرمي الرسول بحجر. فصعد الرجل ليلقي على الرسول صخرة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاعد إلى جانب جدار من بيوتهم فأخبر الحق رسوله فقام خارجاً، ولم ينتظر شيئا.
} إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ { لقد أخبر الحق نبيه بما يبيتون قبل أن يتمكنوا من الفعل. و " الهمّ " هو حديث النفس، فإذا ما خرج إلى أول خطا النزوع فذلك هو القصد، و " الهم " هو الشيء الذي يغلب على فكر الإنسان في نفسه ويكون مصحوباً بغم.
وفي اللغة الدارجة نسمع من يقول: " أنا في هم وغم "؛ لأن " الهم " هو الأمر الذي لا يبارح النفس حديثاً ويسبب الغم. فالهم هو العدو الذي لا يقدر أن يقهره أحد؛ لأنه يتسرب إلى القلب، أما أي عدو آخر فالإنسان قد يدفعه، ونعرف عن سيدنا الإمام علي - رضوان الله عليه وكرم الله وجهه - أنه كان مشهوراً بأنه المفتي؛ فهو يُستفتى في الشيء فيجيب عليه، لدرجة أن سيدنا عمر نفسه يقول: " قضية ولا أبا حسن لها " أي أنها تكون قضية معضلة إذ لم يوجد أبو حسن لها فيحلها، وكان سيدنا عمر يستعيذ من أن يوجد في مكان لا يوجد به سيدنا علي. وعندما عرف الناس عنه ذلك تساءلوا: من أين يأتي بهذا الكلام؟. فجاءوا بلغز وانتظروا كيف يخرج منه. فقالوا: إن الكون متسع وفيه أشياء أقوى من كل الأشياء، وقوى تتسلط على قوى، وحاولوا الاتفاق على شيء اقوى من كل الأشياء؛ فقال واحد: الجبل هو أقوى الأشياء. وقال الآخر: لكنا نقطع منه الأحجار بالحديد. وبينما هم يسلسلون هذه السلسلة جاء سيدنا علي فقالوا له: يا أبا الحسن ما أشد جنود الله؟.
فأجاب سيدنا علي - كرم الله وجهه - كأنه يقرأ من كتاب بدليل أنه عرف جنود الله وعرف الأقوى وحصر عددهم، وقال سيدنا علي: أشد جنود الله عشرة.
وكأنه انشغل بهذه المسألة من قبل، ودرسها.
قال: الجبال الرواسي والحديد يقطع الجبال، والنار تذيب الحديد، والماء يطفئ النار، والسحاب المسخر بين السماء والأرض يحمل الماء، والريح يقطع السحاب، وابن آدم يغلب الريح يستتر بالثوب أو الشيء ويمضي لحاجته؛ والسُّكْر يغلب ابن آدم، والنوم يغلب السكر، والهم يغلب النوم، فأشد جنود الله الهم. ولا يمكننا أن نمر على كلمة " الهم " في القرآن إلا أن نستعرض مواقعها في كتاب الله.

وأهم موقع من مواقعها تتعرض له من أسئلة الكثيرين في رسائلهم وفي لقاءاتنا معهم هو مسألة يوسف عليه السلام حينما قال الحق سبحانه وتعالى بخصوص مراودة امرأة العزيز له:{ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ }[يوسف: 24]
ولنحقق هذه المسألة، فالذين يستبعدون على سيدنا يوسف عليه السلام هذا الأمر، يستبعدون على صاحب العصمة أن يُفكر في نفسه، وإن كان التفكير في النفس لم يبلغ العمل النزوعي فهو محتمل. بل قد يكون التفكير في الشيء ثم عدول النفس عنه أقوى من عدم التفكير فيه؛ لأن شغل النفس بهذا الأمر ثم الكف يعني مقاومة النفس مقاومة شديدة. ولكنهم يُجِلّون ويعظمون - أيضاً - سيدنا يوسف عن أن يكون قد مر بخاطره هذا الأمر فضلاً على أن يوسف - عليه السلام - لم يكن قد أرسل إليه، أي أنه لم يكن رسولا آنذاك.
الآية تقول:{ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا }[يوسف: 24]
أي أن امرأة العزيز هي التي بدأت المراودة ليوسف عليه السلام فهل تم نزوع إلى العمل؟. لا، لأن النزوع إلى العمل يقتضي أن يشارك فيه سيدنا يوسف. إذن فـ " همت به " أي صارت تحب أن تصنع العملية النزوعية وجاء المانع من سيدنا يوسف. وبالنسبة للمُرَاوَدِ وهو سيدنا يوسف، قال الحق:{ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ }[يوسف: 24]
ونصرب لذلك مثلاً حتى نفهم هذا؛ إذ قال لك قائل: أزورك لولا وجود فلان عندك، هذا يعني أن القائل لم يزرك، وبالقياس نجد أن يوسف عليه السلام رأى البرهان فلم يهم. فمن أراد أن ينزه يوسف حتى عن حديث نفسه نقول: الأمر بالنسبة لها أنها همت به، وحتى يتحقق الفعل كان لا بد من قبول لهذا الأمر، وصار الامتناع لكنّه ليس من جهتها بل جاء الامتناع من جهته. وهو قد همّ بها لولا أن رأى برهان ربه.
لماذا جاء الحق: بأنه همَّ بها لو أن رأى برهان ربه؟ جاء الحق بتلك الحكاية ليدلنا على احكمة في امتناع يوسف عن موافقته على المراودة، فلم يكن ذلك عن وجود نقص طبعي جسدي فيه، ولولا برهان ربه لكان من الممكن أن يحدث بينهما كل شيء. وأراد الحق أن يخبرنا أن رجولته كاملة وفحولته غير ناقصة واستعداده الجنسي موجود تماماً، والذي منعه من الإتيان لها هو برهان ربه، إنه امتناع ديني. لا امتناع طبيعي. وبذلك يكون إشكال الفهم لمسألة الهم عند امرأة العزيز ويوسف قد وضح تماماً.
ونعود إلى الآية التي نحن بصددها: } إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ { وكلمة " قوم " إذا سمعتها ففيها معنى القيام، والقيام هو أنشط حالات الإنسان. وكما أوضحنا من قبل نجد أن الإنسان إما أن يكون قائما وإما أن يكون قاعدا وإما مضطجعا وإما مستلقيا وإما نائما.

ونجد أن الراحات على مقدار هذه المسألة، فالقائم هو الذي يتعب أكثر من الآخرين؛ لأن ثقل جسمه كله على قدميه الصغيرتين، وعندما يقعد فإن الثقل يتوزع على المقعدة. وإذا اضطجع فرقعة الاحتمال تتسع. ولذلك يطلقونها على الرجال فقط؛ لأن من طبيعة الرجل أن يكون قواماً، ومن طبيعة المرأة أن تكون هادئة وديعة ساكنة مكنونة. فالقوم هم الرجال. ومقابل القوم هنا " النساء ". إذن فالنساء ليس من طبيعتهن القيام.
والشاعر يقول:وما أدري ولست إخال أدري أقوم آل حصن أم نساءوحين يقول الحق: } إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ { فمعنى ذلك أنه لم يكن هناك نساء قد فكرن في أن يؤذين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونجد هنا أيضاً أن البسط مجال تساؤل، هل البسط يعني الأذى أو الكرم؟.
والحق يقول:{ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأَرْضِ }[الشورى: 27]
هذا (في مجال العطاء) أما في مجال الأذى فالحق يقول على لسان ابن آدم لأخيه:{ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ }[المائدة: 28]
والأيدي لاتطلق إلا إذا أردنا حركة نزوعية تترجم معنى النفس سبق أَن مرّ على العقل من قبل، فمد الأيدي يقتضي التبييت بالفكر، وهكذا نعرف أن القوم قد بسطوا أيديهم إلى رسول الله والمؤمنين.
وعندما ننظر في التاريخ المحمدي مع أعدائه، نجد الحق سبحانه وتعالى يقول:{ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ }[الأنفال: 30]
أي أنهم قعدوا للتبييت. ونحن لا نعرف ذلك التبييت إلا إذا امتدت الأيدي للعمل، فقد مكروا وبيتوا للشر وأرادوا أن يثبتوا رسول الله أي أرادوا تحديد إقامته بحبسه أو تقييده أو إثخانه بالجراح حتى يوهنوه ويعجزوه فلا يستطيع النهوض والقيام أو يقتلوه أو يخرجوه من بلده. بإثباته ومنعه فلا يبرح، أو يخرجوه من المكان كله أو يقتلوه، فماذا كان الموقف؟
لقد هموا أن يبسطوا إليه أيديهم. وبسط اليد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذي المؤمنين كلهم، لأنه لا يستقيم أمر المؤمنين إلا برسول الله، فلو بسط الكفار أيديهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لكان معنى ذلك بسط أيديهم على الكل. ويأتي التاريخ المحمدي بأمور يبسط فيها الكافرون أيديهم بالأذى إلى رسول الله وإلى المؤمنين ويكف الله أيديهم ويمكر بهم أي يجازيهم على ذلك بالعقاب.
والمكر - كما نعلم - هو الشجر الملتف بعضه على بعضه الآخر حيث لا نعرف أي ورقة تنمو من أي جذع أو فرع. والمكر في المعاني هو التبييت في خفاء. وهو دليل ضعف لا دليل قوة. فالأقوياء يواجهون ولا يبيتون؛ ولذلك يقال: إن الذي يكيد لغيره إنما هو الضعيف؛ لأن الإنسان الواضح الصريح القادر على المواجهة هو القوي.

ونجد البعض يجعل ضعف النساء دافعا لهن على قوة المكر استنادا لقول الحق:{ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً }[النساء: 76]
وإلى قول الحق:{ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ }[يوسف: 28]
فلا يكيد إلا الضعيف. ومن لا يقدر على المواجهة فهو يبيت، ولو كان قادراً على المواجهة لما احتاج إلى ذلك. وقد يمكر البشر ويبيتون بخفاء عن غيرهم. لكنهم لا يقدرون على التبييت بخفاء عن الله، لأنه عليم بخفايا الصدور. وأمر الحق في التبييت أقوى من أمر الخلق؛ لذلك نجد قوله سبحانه:{ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ }[الأنفال: 30]
ولنلحظ أن تبييت الله خير. وقد أراد الحق سبحانه وتعالى أن يُعلم أعداء الإسلام أنه بعد هذا التبييت لن تنالوا من رسولي، لن تنالوا منه بكل وسائلكم سواء أكانت تعذيباً لقومه أم تبييتا له. وعلى الرغم من أنهم بيتوا كثيراً إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من بيته في مكة إلى المدينة وهم نائمون:{ فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ }[يس: 9]
ونجد العجب في كف أيدي الكافرين عن رسول الله. فكل أجناس الوجود قد اشتركت في عملية كف أيدي الكافرين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء أكانت تلك الأجناس جماداً أم نباتاً أم حيواناً أم إنساناً، نثر رسول الله التراب وهو جماد فأغشي به الكافرين، وصار التراب من جنود الله.
وها هي ذي أسماء بنت أبي بكر تحمل الطعام لهم في الغار وهي ترعى الغنم، والأغنام تجد الحشائش فترعاها وتزيل الأثر الذي أحدثه ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لقد اشترك النبات في كف أيدي الكافرين عن رسول الله، وكذلك الأغنام وهي من الحيوان، وكذلك فرس سراقة التي ساخت وغاصت قوائمها في الأرض، ثم الحمامة التي بنت عشها على الغار، وكذلك العنكبوت الذي بنى بيته على الغار، ورضخت كل جنود الله لأمر الله فشاركت في عملية كف أيدي الكافرين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والأعجب من ذلك أن الحق سبحانه وتعالى قد كف أيدي الكافرين بالكافرين، فالرسول الذي جاء ليهدي الخلق ويسير بهم إلى النور من الظلمات، نجد الذي يهديه في طريقه إلى المدينة هو أحد الكفار. وهكذا نرى أن هداية المعاني تستخدم هداية المادة، والرسول هو الحامل لهداية المعاني يستخدم هداية المادة ممثلة في ذلك الكافر. ونعرف أن من جنود الإسلام في دار الهجرة كان اليهود - برغم أنوفهم - ألم يقولوا للأوس والخزرج: سيأتي من بينكم نبي نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم؟ فلما سمع الأوس والخزرج أن نبياً ظهر في مكة، قالوا: هذا هو النبي الذي توعدتنا به اليهود، فلا يسبقنكم إليه، فسبقوا إليه وأسلموا وبايعوه، فقد ورد أن يهودا كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه.

فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور وداود بن سلمة: يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل شرك وتخبروننا بأنه مبعوث وتصفونه بصفته، فقال سلام بن مشكم أخو بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه وما هو بالذي كنا نذكر لكم.
ثم كانت المدينة داراً للهجرة.
هكذا نرى الباطل يخدم الحق، والكفر يخدم الإيمان، فها هوذا عبدالله بن أريقط - وكان كافراً - يضع نفسه كدليل للرسول وصاحبه أثناء الهجرة ولا ينظر إلى الجُعْل الذي رصدته قريش لمن يأتيها بمحمد. هكذا نجد أن كف الأيدي كانت له صور كثيرة.
وقد تعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم لأشياء ومواقف رآها الصحابة، ونشأت له خوارق من الحق سبحانه وتعالى تؤيد صدقه، وشاهد تلك الخوارق بعض الصحابة ولا نقول عنها معجزات؛ لأن معجزة الإسلام إلى قيام الساعة هي القرآن. ولكن رسول الله لم تخل حياته من بعض المعجزات الكونية مثل التي حدثت لغيره من الرسل. وأرادها الحق لا للمسلمين عموماً ولكن شاهدها بعضهم كما شاهدها بعض الكفار؛ لأن رسول الله كان في حاجة إلى أن يؤكد له الله أنه رسول الله. فها هوذا سيدنا جابر بن عبدالله يقول:
" كان بالمدينة يهودي وكان يسلفني في تمري إلى الجذاذ، وكان لجابر الأرض التي بطريق رومة فجلست فخلا عاما فجاءني اليهودي عند الجذاذ ولم أجذ منها شيئا، فجعلت استنظره إلى قابل فيأبى فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال لأصحابه: امشوا نستنظر لجابر من اليهودي، فجاءوني في نخلي فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يكلم اليهودي فيقول: أبا القاسم لا أُنظره، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم قام فطاف في النخل ثم جاءه فكلمه فأبى؛ فقمت فجئت بقليل رطب فوضعته بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - فأكل ثم قال: أين عريشك يا جابر، فأخبرته فقال: افرش لي فيه ففرشته، فدخل فرقد ثم استيقظ فجئته بقبضة أخرى فأكل منها ثم قام فكلم اليهودي فأبى عليه، فقام في الرطاب في النحل الثانية ثم قال: يا جابر، جذ واقض؛ فوقف في الجذاذ فجذذت منها ما قضيته وفضل منه فخرجت حتى جئت النبي صلى الله عليه وسلم فبشرته فقال: أشهد أني رسول الله ".
مثال آخر: كان الماء قليلاً عند قوم من الصحابة فيغمس رسول الله يده في الماء ويشرب كل الناس. وهل يجرؤ أحد من الذين رأوا تلك المعجزة أن يجادل فيها؟ طبعاً لا، لكن هل هذه المعجزة لنا؟ إن وثقنا فيمن أخبر فلن نستكثر على الله أن يكثر الماء لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن نحن نعلم أن الله قد تكفل بحفظ القرآن ليكون هو المعجزة الباقية فقال تعالى: } إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ { وقال: } لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ {.

وقد ثبت أن رسول الله جمع قليلا من الزاد ودعا ما شاء الله أن يدعو وأطعم به جيشا. والذي عاش بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم له أن يصدق تلك المعجزات أو لا يصدقها، ولكن على المؤمن الذي علم مقام ومكانة الرسول عند ربه، أن يصدق تلك الخوارق متى ثبت ذلك بطريق يقيني قطعي، ولذلك لا ضرورة لإقامة الجدل مع هؤلاء الذين ينكرون المعجزات الكونية. ونقول لهم: ليس أحدكم مسئولا بهذه المعجزات، أنت مسئول بمعجزة القرآن فقط. والخوارق التي وقعت إما أن تكون بغرض تثبيت رسول الله مصداقا لقوله الحق:{ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ }[الفرقان: 32]
وإما أن تكون لتثبيت أصحاب رسول الله؛ فقد كانت الأهوال تمر عليهم وتزلزلهم:{ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً }[الأحزاب: 11]
وكان لا بد أن ترسل السماء لهم أيات لتثبت أقدامهم في الإيمان.
والخلاصة أن كل الخوارق الكونية التي حدثت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليس المقصود بها عامة المسلمين، ولكن المقصود بها من وقعت له أو وقعت أمامه، ونفض بذلك أي نزاع حول تلك الخوارق؛ لأن المعجزة الملزمة للجميع هي كتاب الله سبحانه وتعالى.
وقد همّ بالأذى كثير من أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم. ألم ترد امرأة من اليهود أن تسمّه وكف الله يديها؟ وحكاية بني النضير الذين أرادوا أن يلقوا عليه الحجر، فقام قبل أن يلقى مندوب بني النضير الحجر عليه صلى الله عليه وسلم.
" وها هوذا صفوان بن أمية له ثأر عند رسول الله من غزوة بدر يستأجر عمير ابن وهب الجمحي ويقول له: اذهب إلى المدينة واقتل محمداً وعليّ دينك، أنا أقضيه عنك وعيالك مع عيالي أواسيهم ما بقوا.
ويذهب عمير إلى المدينة ويدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " ما جاء بك يا عمير؟ قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم فأحسنوا إليه - وكان له ابن أسير لدى المسلمين - قال: فما بال السيف في عنقك؟ فقال: قبحها الله من سيوف وهل أغنت عنا شيئا؟ قال: أصدقني ما الذي جئت له؟ قال: ما جئت إلا لذلك. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحِجر فذكرتما أصحاب القليب من قريش ثم قلت لولا دين عليّ وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمداً فتحمل صفوان بدينك وعيالك على أن تقتلني له، والله حائل بينك وبيني فقال عمير. أشهد أنك رسول الله. قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء وما ينزل عليك من الوحي.
وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فوالله إني لأعلم ما آتاك به إلا الله، فالحمد لله الذي هداني للإسلام ".


ومثال آخر: ما رواه سيدنا جابر - رضي الله عنه - في غزوة ذات الرقاع. " قال: جاء رجل يقال له غورث بن الحارث فقام على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف فقال: من يمنعك مني؟ قال: الله. فسقط السيف من يده فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف وقال: (ومن يمنعك مني)؟ فقال: كن خير آخذ. قال: تشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: لا، ولكن أعاهدك على ألا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك. فخلى سبيله فأتى أصحابه وقال: جئتكم من عند خير الناس ".
وعندما سمع الرجل لأول مرة أن الله هو الذي يمنع الرسول منه وقع السيف من يده، ذلك أن ذرات الكفر في الرجل تزلزلت وعاد إلى إيمان الفطرة، وعندما أمسك النبي بالسيف وسأل الرجل: من يمنعك مني؟ لم يقل الرجل: " هبل " أو " اللات " أو " العزى " فالرجل يعلم أن مسألة الأصنام كذب في كذب، ولو كان مؤمناً بآلهته لقال أحد أسمائها. وعندما تزلزلت ذرات الكفر في كيانه عاد إلى الفطرة الأولى التي لا تكذب أبداً. وإن كذب الإنسان على الناس جميعاً لا يكذب على نفسه. وكلمة " الله " هي التي زلزلت كفر الرجل وأعادته إلى الحق.
وفي معركة بدر نجد أن سيدنا أبا بكر الصديق كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما ابنه عبد الرحمن كان مع الكفار، وبعد أن أسلم ابنه بفترة جلس الولد مع أبيه يتسامران، فقال الابن: لقد رأيتك يوم أحد فصدفت عنك فقال أبو بكر: لكني لو رأيتك ما صدفت عنك. فقد رأى ابن أبي بكر والده ولم يقتله، ولاشك أن مقارنة نفسية باطنية فكرية قد حدثت بين معزة أبيه وبين مكانة هبل أو تلك الحجارة، وعرف ابن أبي بكر أن والده أفضل بكثير من تلك الأحجار. ولكن أبا بكر حينما يقول: ولو كنت رأيتك لقتلتك، فالمقارنة النفسية هنا تكون بين الإيمان بالله وبين الابن، ومن المؤكد أن الإيمان يغلب في نفس أبي بكر. وكل من أبي بكر وابنه كان منطقيا مع نفسه.
ومثال آخر: " عن جابر بن عبدالله أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - قبل نجد فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم - قفل معه فأدركتهم القائلة - شدة الحر في وسط النهار - في وادٍ كثير العضاة - شجر عظيم له شوك - فنزل رسول الله، وتفرق الناس في العضاة يستظلون بالشجر ونزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت سَمُرَة فعلق بها سيفه، قال جابر: فنمنا نومة فإذا رسول الله يدعونا فجئناه فإذا عنده أعرابي جالس فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتاً فقال لي: من يمنعك مني؟ فقلت له: الله. فها هوذا جالس ثم لم يعاقبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- ".

ولماذا حدث ذلك؟ لأن الفطرة المستلهمة بدون تدخل من أحد تنضح بالإيمان. وها نحن أولاء نرى الصحابة في العهد الأول حينما اضطهدوا في مكة وهاجروا هحرتهم الأولى إلى الحبشة؛ هل ذهبوا إليها خبط عشواء؟ أو ذهبوا بتخطيط نبوي كريم؟ لقد درس النبي أولاً الأرض التي تصلح لاستقبالهم ويقبلهم فيها أهلها كمهاجرين. ودرس النبي أوضاع الجزيرة العربية ووجد أن قريشا تتمكن من كل قبيلة في الجزيرة العربية عندما يأتي موسم الحج؛ لذلك لن توجد القبيلة التي تحمي المهاجرين فيقول لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه ".
وبالفعل ذهب المسلمون إلى الحبشة مهاجرين. وحاولت قريش أن تسترد المسلمين من أرض النجاشي. وأرسلت قريش بعثة لاستردادهم ورفض النجاشي. وسمع النجاشي عن النبي صلى الله عليه وسلم وعلم أنه النبي الذي بشر به الإنجيل. ولاشك أن النجاشي قد أسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على النجاشي عندما مات. وكان إسلام النجاشي مكافأة له من الله؛ لأنه حمى المؤمنين بالله وبرسوله عنده. وما أعظم المكافأة التي نالها النجاشي أن يموت على الإسلام وأن يصلي عليه سيدنا رسول الله صلاة الغائب.
إن كل هذا من كف أيدي الكافرين عن المؤمنين وعن رسول الله، ومن أجل أن يثبت الحق للجميع أن المؤمنين على حق وأن الله لن يخذلهم، فلا يخطر ببال المؤمنين أن عدوهم أقوى منهم؛ فالله أقوى من خلقه: } فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ { وكف أيدي الكافرين عن المؤمنين لأنه - سبحانه - يعد المؤمنين ليكونوا حملة منهجه إلى الخلق. ولذلك يجب أن يداوم المؤمنون على تكاليف الإيمان وتقوى الله ليكف الله أيدي الكافرين عنهم، فلا يتغلب كافر على مؤمن في لحظة من اللحظات إلا إذا كان المؤمن قد تخلى عن شيء في منهج الله؛ لأن الحق لا يقول قضية قرآنية ثم يترك القضايا الكونية التي تحدث في الحياة لتنسخ هذه القضية القرآنية.

لقد قال:{ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ }[الصافات: 173]
إذن فعندما ترى جنداً من المسلمين قد انهزموا فلتعلم أنهم قد تخلوا عن منهج الله فتخلى الله عنهم، بدليل أن بعضاً من المسلمين ساعة لم ينفذوا ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم غلبهم الكفار، فالله لا يغير سنته من أجل أناس نُسبوا إليه ولم ينفذوا تعاليم منهجه. والحق يقول:{ إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ }[محمد: 7]
ويقول سبحانه:{ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ }[البقرة: 152]
إنك إن انتسبت إلى الإسلام فيجب أن تنتسب إلى الإسلام بحق، وإن رأيت المؤمنين قد دخلوا معركة وانهزموا فلتبحث مصادر تخليهم عن منهج الحق، فسبحانه يقول:{ وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }[آل عمران: 146-148]
لقد أصاب المقاتلين مع النبي شيء، فلم يضعفوا ولكنهم صبروا وطلبوا من الحق أن يغفر لهم ذنوبهم، لقد عرفوا مصادر ضعفهم واستعانوا بالله على هذا الضعف، فماذا فعل الله لهم؟. نصرهم سبحانه بأن آتاهم ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين. وكل ذلك السلوك الإيماني الذي يقي من الهزيمة وكيد العدو، هو من تقوى الله، حتى يظل المؤمنون في معية الله. وعندما يكون المسلم في معية الله لا يجرؤ خلق من خلق الله أن ينال منه. وننظر إلى الهجرة كمثال لذلك؛ لنجد أن سيدنا أبا بكر كان حريصاً على حماية النبي صلى الله عليه وسلم. فعن أنس بن مالك قال: " لما كان ليلة الغار، قال أبو بكر: يا رسول الله دعني فَلا دخُل قبلك فإن كانت حيّة أو شيء كانت لي قبْلك. قال: ادخل: فدخل أبو بكر فجعل يلتمس بيديه فكلما رأى جُحراً جاء بثوبه فشقه ثم ألقمه الجحر حتى فعل ذلك بثوبه أجمع، قال: فبقي جحر فوضع عقبه عليه ثم أدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فلما أصبح قال النبي صلى الله عليه وسلم: " فأين ثوبك يا أبا بكر؟ " فأخبره بالذي صَنع فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يده فقال: " اللهم اجعل أبا بكر معي في درجتي يوم القيامة " فأوحى الله تعالى إليه " إن الله قد استجاب لك ".
ويرى أبو بكر الكفار وهم يمرون أمام الغار فيقول لرسول الله: " لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما ".


وفي ذلك رد كامل؛ لأن الاثنين في معية الله، ومادام المؤمن في معية من لا تدركه الأبصار فلن تدركه الأبصار، كيف؟. نحن لا نعرف كل أسرار الله ولكنه القادر الأعلى.
وفي حياة البشر نجد الطفل الصغير قد يخرج بمفرده فيصيبه غيره من الأطفال بالضرر؛ ولكن إذا خرج الطفل مع عائله، مع أبيه مثلاً أو مع أخيه الأكبر، فالأطفال لا يقتربون منه؛ فما بالنا ونحن جميعاً عيال الله؛ وماذا يحدث عندما نتشبث بمعية الله؟. إذن فتقوى الله هي التي تجعل المؤمن في معية ربه طَوال الوقت. ومن يُرِدِ المؤمن بسوء فإن جنود الله تحمي المؤمن. ويذيل الحق الآية: } وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ {. وإياكم أن تقولوا: إننا بلا عَدَد أو عُدَّة. إنك مسئول أن تعد ما تقدر عليه وتستطيعه وأترك الباقي لله:{ وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ }[الأنفال: 60]
ويقول التاريخ الإيماني لنا إنه كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله. وقد يقول قائل: هذه المسألة مادية تحتاج إلى عدد وعُدد. ونرد: إن الحق قد طالب بأن نعد ما نستطيعه لا فوق ما نستطيعه. وهو سبحانه عنده من الجند اللطيف الخفيّ الدقيق الذي لا يُرى:{ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ }[الأنفال: 12]
ومادام الله قد ألقى الرعب في قلوب الأعداء فالمسألة تنتهي ولا تفلح عُدد أو عَدَد. ويكون التوكل على الله بعد أن يعد الإنسان ما يستطيعه وهو الاستكمال الفَعَّال للنصر، ولنعلم أن التوكل غير التواكل. إن المتوكل على الله يقتضي أن يعلم الإنسان أن لكل جارحة في الإنسان مهمة إيمانية، أن تطبق ما شرع الله؛ فالأذن تسمع، فإن سمعت أمراً من الحق فأنت تنفذه، وإن سمعت الذين يلحدون في آيات الله فأنت تعرض عنهم. واللسان يتكلم، لذلك لا تقل به إلا الكلمة الطيبة؛ فلكل جارحة عمل، وعمل جارحة القلب هو اليقين والتوكل، ولنتذكر أن السعي للقدم، والعمل لليد والتوكل للقلب، فلا تنقل عمل القلب إلى القدم أو اليد؛ لأن التوكل الحقيقي أن تعمل الجوارح وتتوكل القلوب، وكم من عاملٍ بلا توكل فتكون نتيجة عمله إحباطاً.
إننا نجد الزارع الذي لا يتوكل على الله ينمو زرعه بشكل جيد ومتميز ثم تهب عليه عاصفة أو يتغير الجو فيصيبه الهلاك وتكون النتيجة الإحباط. واحذر إهمال الأسباب؛ أو أن تفتنك الأسباب؛ لأنك إن أهملت الأسباب فأنت غير متوكل بل متواكل. تنقل عمل القلب إلى الجوارح. وإذا قال لك واحد: أنا لا أعمل بل أتوكل على الله، قل له: هيا نر كيف يكون التوكل. وأحضر له طبق طعام يحبه. وعندما يمد يده إلى الطعام، قل له: اترك الطعام يقفز من الطبق إلى فمك.
ويجعل الحق سبحانه وتعالى من قصص الرسل على رسول الله صلى الله عليه وسلم تثبيتاً للإيمان وتربية للأسوة وإنماء لها، حتى لا يضيق صدر الرسول صلى الله عليه وسلم بما يفعله اليهود أو المشركون، فإن كان قد حدث معك - يا محمد - شيء من هذا الإنكار والإيلام، فقد حدث الكثير من تلك الأحداث مع الرسل من قبلك، فيقول سبحانه: } وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ... {

(/673)


وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآَمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)


يُذَكِّر الحق هنا رسوله بالميثاق الذي أخذه من بني إسرائيل. وقد يكون المقصود هو ميثاق الذر أو يكون المراد بالميثاق ما جاء في قوله تعالى:{ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ }[آل عمران: 81]
أو أن يكون المراد بالميثاق هو ما بينه بقوله سبحانه:{ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ }[البقرة: 63]
ويقول سبحانه: { وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً } ولنر " التكتيك " الديني الذي أراده الحق، فهو لا يجمع أجناس الخلق المختلفة على واحد من نوع منها؛ لأن ذلك قد يعرض الدعوة لعصبية؛ فاختار سبحانه اثني عشر نقيباً على عدد الأسباط حتى لا يقولن سبط: كيف لا يكون لي نقيب؟. وحسم الله الأمر، ولم يجعله محلاً للنزاع؛ فجعل لكل سبط نقيباً منهم. والنقيب هو الذي يدير حركتهم العقدية والدينية. وساعة نسمع كلمة " نقيب " نعرف أنها من مادة " النون والقاف والباء " ، " والنقب " هو إحداث فجوة لها عمق في أي جسم صلب.
إن إختيار الحق لكلمة نقيب، يَدل على أن النقيب الصادق ينبغي أن يكون صاحب عينين في منتهى اليقظة حتى يختار لكل فرد المهمة التي تناسبه ويركز على كل فرد بما يجعله يؤدي عمله بما ينفع الحركة الكاملة. وبذلك يكون كل فرد في البسط له عمله ومكانه المناسب. ولا يتأتى ذلك إلا بالتنقيب، أي معرفة حالة كل واحد وميوله فيضعه في المكان المناسب.
إذن فالنقيب هو المنقب الذي لا يكتفي بظواهر الأمور بل ينقبها ليعرف ظروف وأسباب كل واحد. واختار الحق من كل سبط نقيباً، ولم يجعل لسبط نقيباً من سبط آخر حتى يمنع السيطرة من سبط على سبط، ويمنع أن يكون النقيب على جهالة بمن يريد حركتهم من الأسباط الآخرين.
ونحن نسمع في حياتنا اليومية وصفاً لإنسان: فلان له مناقب كثيرة، أي أن له فضائل يذكرها الناس، كأنّ على صاحب الفضائل ألا يتباهى بها بنفسه بل عليه أن يترك الناس لينقبوا عن فضائله، ولذلك كانت كنوز الأرض وكنوز الحضارات مدفونة ننقب عليها، أما ما يظهر على سطح الأرض فتذروه الرياح وعواملُ التعرية ولا يبقى منه شيء.
إذن فكلمة " نقيب " في كل مادتها تدور حول الدخول إلى العمق، لذلك تصف الرجل الفاضل: فلان له مناقب أي أن نقبت وجدت له فضائل تذكر، وقد أعطاه الله موهبة الخير ولا يتعالم بها، بل يدع الناس هم الذين يحكمون ويذكرون هذه الصفات. ومن نفس المادة " النقاب " أي أن تغطي المرأة وجهها.
وقوله الحق: { إِنِّي مَعَكُمْ } يعطيهم خصلة إيمانية، فلا يظنن أحد أنه يواجه أعداء منهج الله بذاته الخاصة بل بمعونة الله فلا يضعف أحد أو يهن مادام مؤمناً، وكما قال الحق:

{ وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ }[الأنفال: 60]
وبعد أن يعد المؤمنون ما استطاعوا فليتركوا الباقي على الله. وجاء أيضاً قوله: } وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ { أي أن كل نقيب على سبط ليس له مطلق التصرف، ولكن الله يوضح: " أنا معكم وسأنظر كيف يدير كل نقيب هذه المسائل " أي أنه سبحانه وتعالى مطلع على واقعكم، فليس معنى الولاية أن يكون للوالي مطلق التصرف في جماعته؛ لا؛ لأن الله رقيب. وقوله الحق: } إِنِّي مَعَكُمْ { تدل على أن من ولي أمراً فلا بد أن يتابعه ويراه.
وبعد ذلك قال: } لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ {. و " لئن " تضم شرطاً وقسماً، كأن الحق يقول: وعزتي لئن أقمتم الصلاة وفعلتم كذا وكذا ليكونن الجزاء أن أكفر عنكم السيئات. ودلت " اللام " على القسم، ودلت " إن " على الشرط فيه " إن " الشرطية.
والقسم - كما نعلم - يحتاج إلى جواب، والشرط يحتاج إلى جواب أيضاً، فالواحد منا يقول للطالب: إن تذاكر تنجح. والواحد منا يقول: " والله لأفعلن كذا " ، و " الله " هي القسم. و " لأفعلن " جواب القسم المؤكد باللام. وحين يأتي القسم في جملة بمفرده فجوابه يأتي، وحين يأتي الشرط بمفرده في جملة فجوابه يأتي أيضاً. ولكن ماذا عندما يأتي القسم مع الشرط؟ هل يأتي جوابان: جواب للشرط وجواب للقسم؟. عندما تجد هذه الحالة فانظر إلى المقدم منهما، هل هو القسم أو الشرط؟؛ لأن المقدم منهما هو الأهم؛ فيأتي جوابه، ويغني عن جواب الثاني. والمتقدم هنا هو القسم، تماماً مثل قولنا:
- لئن قام زيد لأقومن، وهنا يكون الجواب جواب القسم، أما إن قلنا: إن قام زيد والله أُكرمْه، فالجواب جواب الشرط؛ فقدم الشرط على القسم. هذا إن لم يكن قد تقدم ما يحتاج إلى خبر كالمبتدأ أو ما في حكمه، فإن جاء والخبر أي المحتاج إلى الخبر فالشرط هو الراجح، أي فالراجح أن نأتي بجواب الشرط ونحذف جواب القسم؛ لأن الشرط تأسيس والقسم توكيد. وابن مالك في الألفية يوضح هذه القاعدة:واحذف لدى اجتماع شرط وقسم جواب ما أخّرت فهو مُلْتَزَمْوإن تواليا وقَبْلُ ذو خبر فالشرط رَجَّحْ مطلقا بلا حَذَرْوالقسم قد تقدم في هذا الآية، لذا نجد الجواب هنا جواب القسم، وهو } لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ {.
وقوله الحق: } أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ { يوضح أن الإقامة تحتاج إلى أمرين؛ فروض تؤدى، وكل فرض فيها يأخذ حقه في القيام به. وبعد ذلك } وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ { وفي كتب الفقه نضع الصلاة، والزكاة في باب العبادات. وجاء التقسيم الفقهي لتسهيل إيضاح الواجبات، لكن كل مأمور به من الله عبادة؛ لأن العبادة هي أن تطيع مَن تعبد في كل أمر به، وأن تجتنب ما نهى عنه، فكل أمر إلهي هو عبادة.

وقلنا من قبل: إن الحق سبحانه قال:{ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَىا ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ }[الجمعة: 9]
وقوله تعالى:{ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُواْ فِي الأَرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ }[الجمعة: 10]
هنا نجد أمراً تعبدياً أن نترك البيع إلى الصلاة، وأمراً تعبدياً ثانياً أن ننتشر في الأرض ابتغاء لفضل الله بعد انقضاء الصلاة، وأي إخلال بالأمرين، إخلال بأمر تعبدي؛ فأنت مأمور أن تتحرك في الأرض على قدر قوتك حركةً تكفيك وتفيض عن حاجتك ليعم هذا الفائض على غيرك.
وقوله الحق: } وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ { أي أن ينعقد الإيمان في القلب فلا يطفو الأمر بعدذ لك لمناقشته، وأن تعزروا الرسل، أي وقرتموهم ونصرتموهم، والعَزْر في اللغة معناه المنع، ولكن المنع هنا مراد به أن يمنع الناس عن رسول الله من يريده بسوء؛ فإن أراد أحد من الأعداء السوء برسول من الله فليمنع المؤمنون هذا العدو عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأنت في حياتك إن كان لك حبيب أراده إنسان بسوء، وكنت لا تدركه لأنه بعيد عنك فأنت تتمنى أن تأخذ صاحبك وتحميه من أن يناله العدو. لكن إن كان العدو أمامك فأنت تصده عن حبيبك. فالعزر هو المنع، اي أن تمنعه من عدوه وتحول بينه وبينه، أو تمنع عدوه من أن يناله بشر. والرسول بالنسبة للمؤمنين به تكون حياته أغلى من حياتهم، ففي أثناء المنع قد يصاب أحد المؤمنين، وفي ذلك تعظيم للرسول ونصرة له وتوقير.
نقول ذلك حتى نرد على الذين يتصيدون ويقولون: إن " عزرتموهم " معناها " نصرتموهم " ، ومرة أخرى يقولون: إن " عزرتموهم " معناها " منعتموهم ". ونقول: كل المعاني هنا ملتقية، فالعزر هو الرد والمنع، إما بمنع العدو عن الرسول، وإمّا أن يمنع الناس الرسول من أن يناله العدو، أو الاثنان معاً، ويجوز أيضا أن يكون معنى " عزرتموهم " هو نصرتموهم. وكذلك يجوز أن يكون معناها " وقرتموهم "؛ لأن التعظيم والتوقير هما السبب في نصرة الإنسان للرسول.
وبعد ذلك يقول الحق: } وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً {. ويدبر الحق لنا سياسة المال، سواء للواجد أو لغير القادر، فالواجد يوضح له الحق: لا تجعل حركة حياتك على قدر حاجتك، بل اجعل حركة حياتك على قدر طاقتك، وخذ منها ما يكفيك ويكفي مَن تعول، والباقي رُدّه على مَن لم يقدر. ولو جعل كل إنسان حركة حياته على قدر حاجته، فلن يجد من لا يقدر على الحركة ما يعيش به. ولنذكر جيداً أن الحق سبحانه وتعالى قد قال:

{ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَـاةِ فَاعِلُونَ }[المؤمنون: 1-4]
وحين قال سبحانه: والذين هم للزكاة فاعلون، ليس معناها مجرد أداء زكاة، بل تعني أن يتحركوا في الحياة بغرض أن يتحقق لهم فائض يخرجون منه الزكاة، وإلا فما الفارق بين المؤمن والكافر؟ الكافر يعمل ليقوت نفسه ويقوت من يعول وليس في باله الله، أما مزية المؤمن فهو يعمل ليقوت نفسه، ويقوت من يعول ويبقى لديه فائض يعطيه للضعيف؛ فكأن إعطاء الضعيف كان في باله ساعة الفعل. وهذا هو المقصود بقوله الحق:{ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَـاةِ فَاعِلُونَ }[المؤمنون: 4]
أي أن كل فعل للمؤمن يُقصد منه أن يكفيه ويكفي أن يزكي منه. وهناك حق آخر في المال غير الزكاة؛ بأن يسد به ولي الأمر ما يحتاج إليه المجتمع الإيماني بشرط أن يقيم ولي الأمر كل شرع الله.
والزكاة هي إخراج المال على نحو مخصوص، أما الصدقة فهي غير محسوبة من الزكاة لكنها فوق الزكاة. وهناك القرض، وهو المال الذي تتعلق به النفس، لأن الإنسان يقدمه لغيره شريطة أن يرده، ولذلك قيل إن القرض أحسن من الصدقة، ذلك أن المقترض لا يقترض إلا عن حاجة، أما الذي تتصدق عليه فقد يكون غير محتاج، ويسأل دون حاجة، وأيضاً لأن نفس المتصدق تخرج من الشيء المتصدق به ولا تتعلق به، أما الذي يقدم القرض فنفسه متعلقة بالقرض وكلما صبر عليه نال حسنة، وكلما قدم نَظِرَةً إلى ميسرة فهذا له أجر كبير، هكذا يكون القرض أحسن من الصدقة.
فالحق يريد أن تفيض حركة الحياة بالكثير. وكيف يقول سبحانه: } وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً { وهو الواهب لكل النعم وهو الولي لكل النعم؟ وكيف يهب الحق للإنسان النعم، ثم يقول له: أقرضني؟
هو سبحانه وتعالى يحترم حركة الإنسان وعرقه مادام قد ضرب في الأرض وسعى فيها، فالمال مال الإنسان، ولكن أخا الإنسان قد يحتاج إليه، ولذلك فليقرضه ويعتبر سبحانه هذا قرضاً من الإنسان لله. ونحن نجد عائل الأسرة يقول لأحد أبنائه: بما أنك تدخر من مصروف يدك فأعط أخاك ما يحتاج إليه واعتبر ذلك قرضا عندي، صحيح أن العائل هو الذي أعطى المال لكل من يعول، فما بالنا بالذي أوجدنا جميعا، وهو الحق سبحانه وتعالى؟ لقد وهب كلاً منا ثمرة عمله واعتبر تلك الثمرة ملكاً لصاحبها. ويعتبر فوق ذلك إقراض المحتاج إقراضاً له.
ويصف الحق القرض بأنه حسن حتى لا يكون فيه مَنُّ، أو منفعة تعود على المقرض وإلا صار في القرض ربا. ولنا الأسوة الحسنة في أبي حنيفة عندما يجلس في ظل بيتِ صاحبٍ له. واقترض صاحب هذا البيت من أبي حنيفة بعض المال. وجاء اليوم التالي للقرض وجلس ابو حنيفة بعيداً عن ظل البيت، فسأله صاحب البيت لماذا؟ أجاب أبو حنيفة: خفت أن يكون ذلك لونا من الربا.

فقال صاحب البيت: لكنك كنت تقعد قبل أن تقرضني. فقال أبو حنيفة: كنت أقعد وأنت المتفضل علي بظل بيتك فأخاف أن أقعد وأنا المتفضل عليك بالمال.
والقرض الحسن هو الذي لا يشوبه مَنٌّ أو اذًى أو منفعة؛ ولأن القرض دَيْنٌ، وضع الحق القواعد:{ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىا أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ }[البقرة: 282]
فالحق يحمي المقترض من نفسه؛ لأنه إذا علم أن الدين مكتوب، يحاول جاهداً أن يتحرك في الحياة ليسد هذا الدين، ويستفيد المجتمع من حركته أيضاً.
وعندما يُكتب القرض فهذا أمرٌ دافع للسداد وَحّاثٌّ عليه. لكن إن لم يكتب القرض فقد يأتي ظرف من الظروف ويتناسى القرض؟ولو حدث ذلك من شخص فلن تمتد له يد من بعد ذلك بالمعاونة في أي أزمة، فيريد الحق أن يديم الأسباب التي تتداول فيها الحركة، ولذلك يقال في الأمثلة العامية: من يأخذ ويعطي يصير المال ماله. ويكون مال الدنيا كلها معه، ولذلك يقول الحق:{ وَلاَ تَسْأَمُواْ أَن تَكْتُبُوهُ }[البقرة: 282]
وفي ذلك حماية للنفس من الأغيار، ولم يمنع الحق الأريحية الإيمانية فقال:{ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ }[البقرة: 283]
وهكذا يحمي الله الحركة الاقتصادية. ونجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الرحيم بالمؤمنين، وقد بلغه أن واحداً قد مات وعليه دين، فقال للصحابة: صلوا على أخيكم. لكنه لم يصل على الميت. وتساءل الناس لماذا لم يصل رسول الله على هذا الميت وما ذنبه؟ كأن رسول الله أراد أن يعلم المؤمنين عن دين المدين فلم يمنع الصلاة، ولكنه لم يصل عليه حفزا للناس ودَفْعاً لهم إلى أن يبرئوا ذمتهم بسداد وأداء ما عليهم من دين. وقال:
" من أخذ أموال الناس يريد أداءها، أدى الله عنه. ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله ".
فمادام قد مات وهو مدين وليس عنده ما يسد الدين؛ فربما كان لا ينوي رد الدين، وأن نفسه قد حدثته بألا يرد الدين.
وفي فلسفة هذا الأمر نفسياً نجد أن المقترض عندما يقترض شيئا كبيرا لا يستطيع أن يتجاهله أو ينساه، ثم لا يمر بذهن الذي أقرض أن فلاناً مدين، بل وقد تبلغ الحساسية بالذي قدم القرض ألا يمر على المقترض يريد أن يسدد القرض. أما إن تحرك قلب الدائن على المدين، وجلس يفكر في قيمة الدين، فليُفهم أن عند الذي اقترض بعض ما يسدد به الدين، أي أن المدين عنده القدرة على الوفاء بالدَّيْن أو ببعضه، ذلك أن الله لا يُحرج من يَجِد ويجتهد في السعي لسداد دينه.
} وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً {. وقد يقول قائل: كان السياق اللفظي يقتضي أن يقول: " أقرضتم الله إقراضا "؛ لكن الحق جاء بالقرض الحسن؛ لأن الإقراض هو العملية الحادثة بين الطالب للقرض والذي يقرض.

وسبحانه يضع القرض الحسن في يده، ولنا أن نتصور ما في يد الله من قدرة على العطاء. ومثل ذلك قوله الحق:{ وَاللَّهُ أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً }[نوح: 17]
و " أنبتكم " تعبر عن عملية الإنبات، والأرض تخرج نباتا لا إنباتا. فمرة يأتي الله بالفعل ويأتي من بعد ذلك بالمصدر من الفعل؛ لأنه يريد به الاسم. و " أنبت " يدل على معنى وينشئ الله لكم منها نباتا.
وهكذا قال الله عن القرض: } وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ { وفي ذلك جواب للقسم، ومن بعد ذلك يقول سبحانه: } وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ { وقد تكلمنا من قبل كثيرا عن الجنات. ويذيل الحق الآية الكريمة بقوله: } فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذالِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ { ألم يكن الذي كفر من قبل ذلك قد ضل سواء السبيل؟ بلى، إنه قد ضل فعلا، ولكن الذي ضل بعد أن جاء ذكر تلك النعم والثواب فيها فالضلال أكثر. وكلمة " سواء " نقرأها في القرآن ونراها في الاستعمالات اللغوية؛ كمثل قوله الحق:{ لَيْسُواْ سَوَآءً }[آل عمران: 113]
وسواء معناها وسط، ومتساوون. والمعاني ملتقية؛ لأنه عندما يكون هناك وسط فمعنى ذلك أن هناك طرفين. ومادام الشيء في الوسط فالطرفان متساويان، وعندما نقول: وسط، فهذا يقتضي أن نجعل المسافة بينه وبين كل طرف متساوية., ولذلك يجب أن ننتبه إلى أن كثيراً من الألفاظ تستعمل في شيء وفي شيء آخر، وهذا ما يسمى بالمشترك اللفظي.. أي اللفظ واحد والمعنى متعدد، مثال ذلك قوله الحق:{ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ }[البقرة: 144]
والشطر هو الجهة. والشطر هو النصف. النصف هو الجهة بمعنى أن توجه إنسان ما إلى الكعبة يقتضي أن يكون الإنسان واقفاً في نقطة هي مركز بالنسبة لدائرة الأفق. وهذه النقطة بالنسبة لمحيط الأفق تقطع كل قطر من أقطارها في المنتصف تماماً. إذن. فعندما يقول: الجهة، نقول: صدقت، وعندما يقول النصف. نقول: صدقت.
} فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ { والقرآن قد نزل على أمة تعيش في البادية وطرقها بين الجبال، وقد يكون الطريق معبّداً من ناحية، وقد يكون الطريق بين هاويتين. وقد يكون الطريق بين جبلين، ومن يأخذ بالأحوط فهو يمسي في الوسط. ولذلك قال الإمام علي - كرم الله وجهه -: اليمين والشمال مضلة وخير الأمور الوسط؛ لأن الإنسان قد يتجه يميناً فيقع. أو يتجه شمالاً فيقع؛ أو تقع عليه صخرة. ونجد الوالد ينصح ابنه فيقول له: امش ولا تلتفت يميناً أو يساراً واتجه إلى مقصدك. ونجد الحق يصف الطريق الذي يمشي عليه المؤمن يوم القيامة:{ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَآءِ الْجَحِيمِ }[الصافات: 55]
وسواء الجحيم هو نقطة المنتصف في النار؛ أي أنه لا يستطيع الذهاب يميناً أو شمالاً. ويقول الحق من بعد ذلك: } فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ... {

(/674)


فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)


وساعة يقول الحق: " ميثاقاً " فالميثاق يتطلب الوفاء. فهل وفوا بهذا الميثاق؟. لا، لقد نقضوا المواثيق فلعنهم الله. واللعن هو الطرد والإبعاد، والحق في ذلك يقول: { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ } أي بسبب نقضهم الميثاق لعنهم الله. لقد أثار وجود " ما " هنا بعض التفسيرات، فهناك من العلماء من قال: إنها زائدة، وهناك آخرون قالوا: إنها " صلة ". ولكن الزيادة تكون عند البشر لا عند الله. ولا يمكن أن يكون بالقرآن شيء زائد؛ لأن كل كلمة في القرآن جاءت لمقتضى حال يحتم أن تكون في هذا الموضع. فها هوذا الحق يخبرنا بما وصى به لقمان ابنه:{ وَاصْبِرْ عَلَىا مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ }[لقمان: 17]
وفي آية أخرى يقول سبحانه:{ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ }[الشورى: 43]
في الآية الأولى لم يورد " اللام " لتسبق " مِن " ، وفي الآية الثانية أورد " اللام " لتسبق " مِن " ، وليس ذلك من قبيل التفنن في العبارات، فقوله: { وَاصْبِرْ عَلَىا مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } دعوة للصبر على مصيبة ليس للإنسان غريم فيها، كالمرض، أو موت أحد الأقارب، وهذه الدعوة للصبر تأتي هنا كعزاء وتسلية، أما قوله الحق: { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } فالدعوة للصبر هنا مع الغفران تقتضي وجود غريم يسبب للإنسان كارثة.
هنا يطلب الله من المؤمن أن يغفر لمن أصابه وأن يصبر. ومادام هناك غريم؛ فالنفس تكون متعلقة بالانتقام، وهذا موقف يحتاج إلى جرعة تأكيدية أكثر من الولى؛ فليس في الموقف الأول غريم واضح يُطلب منه الانتقام، أما وجود غريم فهو يحرك في النفس شهوة الانتقام، ولذلك يؤكدها الحق سبحانه وتعالى: { إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ }. ويقول سبحانه في موقع آخر:{ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ }[المائدة: 19]
وعندما يقوم النحاة بإعراب " بشير " فهم يقولون: " إنها فاعل مرفوع بضمة مقدرة على آخرة منع من ظهورها حركة حرف الجر الزائد. إنه التفاف طويل، ولا يوجد حرف زائد، فالإنسان يقول: ما عندي مال. وهذا القائل قد يقصد أنه لا يملك إلا القليل من المال لا يعتد به. وعندما يقول الإنسان " ما عندي من مال " فـ " من " هنا تعني أنه لا يملك أي مالٍ من بداية ما يقال له مال. ولذلك فـ " مِن " هنا ليست زائدة، ولكنها جاءت تعني لمعنى. إذن " ما جاءنا من بشير " أي لم يأت لنا بداية من يقال له بشير.
وها هوذا قول الحق:{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ }[آل عمران: 159]
وقد يحسب البعض أن " ما " هنا حرف زائد، ولكنا نقول: ما الأصل في الاشتقاق؟.

إن الأصل الذي نشتق منه هو المصدر. ومرة يأتي المصدر ويراد به الفعل، كقول القائل: " ضرباً زيداً " أي " اضرب زيدا ". ومجيء المصدر هنا قول مقصود به الفعل، وكذلك قوله الحق: } فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ {.
مادام النقض مصدراً فمن الممكن أن يقوم مقام الفعل. ومادام المصدر قد قام مقام الفعل فمن الجائز أن يأتي فعل آخر، فيصبح معنى القول: } فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ {. إذن " ما " تدل هنا على أن المصدر قد جاء نيابة عن فعل. وبقيت " ما " لتدل على أن المصدر من الفعل المحذوف، أو أن " ما " جاءت استفهامية للتعجيب.. أي فبأي نقض من ألوان وصور نقضهم للعهد لعناهم؟ وذلك لكثرة ما نقضوا من العهود على صور وألوان شتى من النقض للعهد.
وقوله الحق: } فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ {. والنقض هو ضد الإبرام؛ لأن الإبرام هو إحكام الحكم بالأدلة. والنقض هو حل عناصر القضية، كأن العهد الموثق الذي أخذه الله عليهم قد نقضوه. ونحن نسمي العقيدة الإيمانية عقيدة، لماذا؟؛ لأنها مأخوذة من عقد الشيء بحيث لا يطفو ليناقش من جديد في الذهن. كذلك الميثاق إنه عهد مثبت ومؤكد. وعندما ينقضونه فهم يقومون بحله، أي أنهم أخرجوا أنفسهم عن متطلبات ذلك العقد. وجاء اللعن لأنهم نقضوا الميثاق.
} وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً { وهم عندما نقضوا المواثيق، طبع الله على قلوبهم؛ لأنه لم يطبع على قلوبهم بداية؛ فقد كفروا أولاً، وبعدذ لك تركهم الله في غيهم وضلالهم وطبع على القلوب فَمَا فيها من كفر لايخرج، والخارج عنها لا يدخل إليها. و " قاسية " تعني صُلبة. وفيها شدة. والصلابة مذمومة في القلوب وليست مذمومة في الدفاع عن الحق؛ لأننا نقيس كل موجود على مهمته. فعندما يكون كل موجود على مهمته يكون كل الكون جميلاً. مثال ذلك؛ نحن لا نقول عن الخُطاف ذمَّاً فيه إنه أعوج. فالخُطَّاف لا بد له من العوج؛ لأن ذلك العوج مناسب لمهمته، إذن فعوج الخطاف استقامة له. وكذلك القسوة غير مذمومة شريطة أن تكون في محلها، أما إن جاءت في غير محلها فهي مذمومة. إن القلوب القاسية مذمومة؛ لأن الحق يريد للقلوب أن تكون لينة:{ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىا ذِكْرِ اللَّهِ }[الزمر: 23]
والقسوة مأخوذة من القَسيِّ وهو الصلب الشديد، ونعرف أن الدنانير كانت تضرب من الذهب والدراهم تضرب من الفضة. وعندما يفحصها الصيرفي قد يُخرج واحداً منها ويقول: هذا زيف أو زائف لأنه قد سمع رنينها، أهي صلبة في الواقع أم لا؟. وعندما تكون صلبة يقال لها: دراهم قاسية.
إنّ الذهب لين. والفضة لينة.

فعندما نقول: إن هذا ذهب عيار أربعة وعشرين أي ذَهَبٌ ليس به نسبة من المواد الأخرى التي تجعله قابلاً للتشكيل؛ لأنه عندما يكون ذهباً صافياً على إطلاقه فلن يستطيع الصائغ أن يصوغ منه الحلي؛ لذلك يخلطه الصائغ بمعدن صُلب، حتى يعطيه المعدن درجة الصلابة التي تتيح له تشكيل الحلي منه. وتختلف نسبة الصلابة من عيار إلى عيار في الذهب وكذلك الفضة. والمصوغات المصنوعة من عيار مرتفع من الذهب ليست عرضة للتداول، كالسبائك الذهبية.
وإذا ما دخل المعدن الصلب إلى الذهب أو الفضة جعلها قاسية؛ أي صلبة. الصلابة - إذن - فيما يناسبها محمودة. وفيما لا يناسبها مذمومة كصلابة القلوب وقسوتها.
ويقول الحق: } يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ { مثل ذلك نقلهم أمر الله الذي طلب منهم أن يقولوا: " حطة " فقالوا: " حنطة " } وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ { وكانت وسائل النسخ في الكتب التي سبقت القرآن هي نسيان حظٍّ مما ذكروا به، والنسيان قد يكون عدم قدرة على الاستيعاب، لكنه أيضاً دليل على أن المنهج لم يكن على بالهم. فلو كانت كتب المنهج على بالهم لظلوا على ذكر منه، كما أنهم كتموا ما لم ينسوه، والذي لم ينسوه ولم يكتموه حرّفوه ولووا ألسنتهم به. وياليت الأمر اقتصر على ذلك، ولكنهم جاءوا بأشياء وأقاويل وقالوا إنها من عند الله وهي ليست من عند الله:{ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـاذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ }[البقرة: 79]
هي أربعة ألوان من التغيير، النسيان، والكتم، والتحريف، ودسّ أشياء على أنها من عند الله وهي ليست من عند الله.
ولنا أن نتأمل جمال القول الحكيم: } وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ { فهم على قدر كبير من السوء بدرجة أنستهم الشيء الذي يأتي لهم بالحظ الكبير، مثل نسيانهم البشارات بمحمد عليه الصلاة والسلام وكتمانها، ولو كانوا قد آمنوا بها، لكان حظهم كبيراً؛ ذلك أنهم نسوا أمراً كان يعطيهم جزاء حسناً، إذن فقد جنوا على أنفسهم؛ لأن الإسلام لن يستفيد لو كانوا مهتدين أو مؤمنين والخسار عليهم هم، ولم يدعهم الله ويتركهم على نسيانهم ليكون لهم بذلك حجة، بل أراد أن يذكرهم بما نسوه. وكان مقتضى ذلك أن ينصفوا أنفسهم بأن يعودوا إلى الإيمان؛ لأن الحق ذكرهم بما نسوا ليحققوا لأنفسهم الحظ الجميل. وقد يراد أنّهم تركوا ذلك عامدين معرضين عنه مُغْفِلين له عن قصد.
ويقول الحق من بعد ذلك:{ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىا خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }[المائدة: 13]
أي أن خيانتهم لك يا رسول الله ولأتباعك ولمنهج الله الحق في الأرض ستتوالى، ولاأدل على ذلك مما حدث منهم ضد رسلهم أنفسهم مع أنهم من بني جلدتهم ومن عشيرتهم، إنهم من بني إسرائيل مثلهم، فما بالك بنبي جاء من جنس آخر ليقتحم عليهم سلطتهم الزمنية؟
إذن فخيانتهم لله متصورة.

و " خائنة " بمعنى " خيانة " مثلها مثل " قائلة " وهي القيلولة أي المسافة الزمنية بعد الظهر، وفعلها: قال يقيل أي نام وسط النهار أو " خائنة " أي " نفس خائنة ". أو " خائنة " مثل امرأة خائنة " أو " خائنة " مبالغة كما نقول " راوٍ " و " راوية " ونحن نعني رجلاً، أو نقول " جماعة خائنة ".
إذن فالكلمة الواحدة هنا مستوعبة لكل مصادر الخيانة منهم، رجل أو امرأة أو جماعة أو كل هؤلاء. والذي يتكلم هنا هو رب العالمين، ويتكلم للعرب وهم أهل فصاحة، إنه أداء لغوي عال.
ومن فرط دقة القرآن وصدقه يأتي الحق بقوله: } إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ { طبقا لقانون صيانة الاحتمال. فحين يخاطب الله رسوله صلى الله عليه وسلم ليبين له موقف اليهود منه، ألا يُحتمل أن يُوجد قوم من اليهود يغلبهم الفهم العميق فيفكروا في أن يؤمنوا بهذا الرسول، ويهدئوا من شراسة ظنهم به؟ وقد فكر بعضهم وأعلن الإسلام.
وهؤلاء القوم عندما يسمعون أحكام الله على اليهود أجمعين، ألا يقولون: وما لنا ندخل في هذه الزمرة؛ ونفكر في أن ننطق بالإيمان؟ فكأن قوله: } إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ { صان قانون الاحتمال أن يكون إنسان منهم فكر في الإيمان. ومن فكر في الإيمان فسوف يجد قوله الحق: } إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ { وسيرى هذا الإنسان في نفسه أن القرآن دليل نزل على نور. وقد كان وأعلن قليل منهم إسلامه، وماذا يكون موقفه صلى الله عليه وسلم بعد أن يخبره الحق: بأنك ستتعرض مستقبلا لخيانتهم؟ ألا يحرك ذلك نفسية رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عليهم، فإذا فعل اليهود خائنة فلا بد أن ينتقموا منهم، وتطبيقا للقاعدة الأساسية في رد العدوان بأن من يعتدي عليك فاعتد عليه.
لم يشأ - سبحانه - أن يترك الموقف لعواطف البشر مع البشر بل قال: } فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ { والعفو هو كما نقول: فلان عفَّى على آثاري، أي أن آثارك تكون واضحة على الأرض وتأتي الريح لتمسحها فتعفي على الأثر. والأمر بالعفو أي امسح الأثر لذنب فعلوه. والخطيئة التي ارتكبوها عليك أن تعتبرها كأنها لم تحدث، ولكن أيظل أثرها باقيا عند رسول الله؟ لا، فالأمر بالصفح يأتي وهناك فرق بين أن تمحو الخطيئة وتبقى أثرها في نفسك وتظل في حالة من الغيظ والحقد.
والحق هنا يأمر بالعفو أي إزالة أثرها ويأمر بالصفح أي أن تُخْرِجَ أثر الخطيئة من بالك؛ لأن الإنسان منا له مراحل؛ المرحلة الأولى بعد أن يرتكب أحدهم ذنبا في حقه، فلا يقابل العدوان بمثله، وهذا هو العفو، والمرحلة الثانية: ألا يترك أثر هذا الذنب يعمل في قلبه بل يأتي الصفح حتى لا ينشغل قلب المؤمن بشيء قد عفا عنه، والمرحلة الثالثة: فرصة مفتوحة لمن يريد أن يتمادى في مرتبة الإحسان وترقي اليقين والإيمان بأن يحسن الإنسانُ إلى من أساء إليه.

وهذه المراحل الثلاث يوضحها قوله الحق:{ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }[آل عمران: 134]
وعملية الإحسان مع المسيء أو المعتدي: أهي عملية منطقية مع النفس الإنسانية؟ قد تكون غير منطقية مع النفس الإنسانية، ولكنك أيها الإنسان لا تشرع لنفسك، إنما الذي يشرع لك هو الأعلى من النفس الإنسانية. والخالق يقول لك: لو علمت ما قدَّمه لك من أساء إليك لأحسنت إليه. لأنك إن أسأت إلى خلق من خلق الله فالذي يثأر ويأخذ الحق لمن أسيء إليه هو رب هذا المخلوق. ويأتي الله في صف الذي تحمل الإساءة.
إذن فإساءة العدو لك جعلت الله في صفك وفي جانبك، ألا يستحق ذلك المسيء أن نشكره؟ ألا تقول لنفسك القول المأثور: ألا تحسن إلى من جعل الله في جانبك. إذن هذا هو التشريع: } إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ { والإحسان هنا خرج بالترقي الإيماني عن مرحلة:{ فَمَنِ اعْتَدَىا عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىا عَلَيْكُمْ }[البقرة: 194]
والإحسان أن تفعل شيئا فوق ما افترضه الله، ولكن من جنس ما افترضه الله؛ والمحسن الذي يدخل في مقام الإحسان هو من يعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فهو سبحانه وتعالى يرى كل خلقه. ونعرف قول الحق سبحانه وتعالى:{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ }[الذاريات: 15-16]
ما الذي جاء بالإحسان هنا؟ وتكون الإجابة:{ كَانُواْ قَلِيلاً مِّن اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ }[الذاريات: 17]
وهل يكلف الله خلقه ألا يهجعوا إلا قليلا من الليل؟ لا. فقد كلف الله المسلم بالصلاةن وأعلمه بأنه حر بعد صلاة العشاء، وله الحق أن ينام إلى الفجر، فإن سمع أذان الفجر فليقم إلى صلاة الفجر. لكن المحسن يريد الارتقاء بإيمانه فيزيد من صلواته في الليل. ويضيف الحق مذكرا لنا بصفات المحسنين:{ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ }[الذاريات: 18]
أكلف الله الخلق بأن يستغفروا بالأسحار؟ لا. بل إن الرسول يجيب على رجل سأله عن الفروض الأساسية المطلوبة منه، فذكر له أركان الإسلام ومن بينها الصلوات الخمس المكتوبة، فقال الرجل: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: " أفلح إن صدق ".
ويضيف الحق في استكمال صفات المحسنين:{ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ }[الذاريات: 19]
ونلحظ أن الحق هنا لم يقل: " حق معلوم " إنما قال: } حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ { فالحق المعلوم هو الزكاة، أما المحسن فللسائل والمحروم في ماله حق غير معلوم، وذلك ليفسح سبحانه المجال للطموحات الإيمانية، فمن يزد في العطاء فله رصيد عند الله.

والحق يقول: } فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ {؛ لأن الإحسان إليهم يهيج فيهم غريزة العرفان بالجميل، فيستل ذلك الإحسان الحقد من قلوبهم، ويفتحون آذانهم وقلوبهم لكلمة الحق:{ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ }[فصلت: 34]
لأن العداوة لا تشتد إلا إذا وُجد مُؤجج لها من عداوة في المقابل. فعندما تعامل عدوك بالحسنى ولا ترد على عدائه بالعدوان فكم من الزمن يصير عدواً لك؟ إنه اعتدى مرة وسَكّتَّ أنت عليه، واعتدى ثانية وسكت أنت عليه. لا بد أنه يهدِّئ من نفسه.
إذن فالعداوة لا تتأجج إلا إذا قابلتها عداوة أخرى. ولذلك نرى ما حدث في المعركة التي قامت بين فرعون وسيدنا موسى عليه السلام حين أراد الله أن يجعل العداوة لا من جهة واحدة ولكن من جهتين اثنتين لتكون معركة حامية؛ لأن العداوة لو كانت من جهة واحدة لهذا الطرف المعتدي:{ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً }[القصص: 8]
فهل هم التقطوه ليكون عدواً؟ لا. لقد التقطوه ليكون قرة عين. ولكن قدر الله سبق. كان الأمل في أن يصير موسى قرة عين آل فرعون، ولكن الله أراد أن يقوموا بتربيته، ثم يصير من بعد ذلك عدواً لهم. وهكذا يتضح لنا أن تدبير السماء فوق تدبير الأرض. وموسى السامري مثلاً ربته السماء بواسطة جبريل، وولدته أمه منقطعا في الصحراء، فكان جبريل ينزل عليه بما يطعمه إلى أن كبر، وموسى ابن عمران ذهب إلى فرعون ليربيه، لكن موسى السامري - الذي رباه جبريل - صار كافراً، وموسى بن عمران الذي رباه فرعون أصبح رسولاً إلى بني إسرائيل. وكلا القدرين أرادهما الله، ولذلك يقول الشاعر:إذا لم تصادف في بريق عناية فقد كذب الراجي وخاب المؤملفموسى الذي رباه جبريل كافر وموسى الذي رباه فرعون مرسلكأن آل فرعون قد قاموا بتربية موسى بن عمران ليكون عدواً لهم لا قرة عين. والعداوة تكون من جهة موسى لفرعون، وتجيء العداوة من فرعون لموسى، فيقول الحق:{ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ }[طه: 39]
هكذا صارت العداوة من طرفين. والحق سبحانه وتعالى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصفح عن الخيانات التي تحدث منهم، لعل الوعي الإيماني يستيقظ فيهم، ويقولون: لم يعاملنا بمثل ما عاملناه به، ويعترفون به نبياً رحيماً رءوفاً كريماً، ولا يقفون في وجه دعوته. لكن أيظل العفو والصفح هما كل التعليمات الصادرة من الحق إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم؟ لا. فقد مر الأمر الإلهي بمرحليات متعددة؛ فالرسول يستقطب النفس الإنسانية بأن يستعبدها بالإحسان، فإن لم يستعبدها الإحسان فلا بد أن يشمر النبي عن الساعد ويفعل ما يأمره به الله، ولنقرأ قوله الحق:

{ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّىا يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ }[لبقرة: 109]
إذن فهناك أمر خفي هو:{ حَتَّىا يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ }[البقرة: 109]
وسبحانه قد أمر بأن يتركهم الرسول مع الصفح والعفو لمرحلة قادمة يأتي فيها الأمر بتأديبهم. وهذه عملية إنسانية فطرية عرفها العربي الجاهلي وخَبَرها قبل أن يأتي الإسلام؛ فقد كان العربي يحسن إلى عدوه مرة وثانية وثالثة، وعندما يجد أن الإحسان لم يثمر ثمرته؛ يقاتل العدو، وكما قال الشاعر:أناة فإن لم تغن قدم بعدها وعيداً فإن لم يغن أغنت عزائمهمن الحلم أن تستعمل الحزم دونه إذا لم يسع بالحلم ما أنت عازمهوقال الشاعر:صفحنا عن بني ذهل وقلنا القوم إخوانعسى الأيام أن يرجع ن قوماً كالذي كانوافلما صَرَّحَ الشر وأضحى وهو عريانمشينا مشية الليث غَدَا والليث غضبانبضرب فيه تأييم وتفجيع وإرنانوطعن كفم الزق غَدَا والزق ملآنوفي الشر نجاة حي ن لا ينجيك إحسانوبعض الحلم عند الجهـ ل للذلة إذعانومثل ما جرى للنبي صلى الله عليه وسلم مع اليهود، حدث مع النصارى واورد الحق سبحانه وتعالى هذا فقال: } وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ... {

(/675)


وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)


لقد قالوا إنهم نصارى. وأخذ الحق الميثاق منهم، إما ميثاق الذر وإما ميثاقهم لنبيهم عيسى ابن مريم، فنسوا حظاً مما ذكروا به وتركوا ما أمرهم به الإنجيل ونقضوا الميثاق، فتفرقوا في عداء ملحوظ فِرَقاً شتى، وجاء أمر الله كما وعد: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ... }

(/676)


يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15)


كأن الحق سبحانه وتعالى يعطيهم الفرصة والعذر حتى لا يقولن واحد منهم: لم يبلغني عن رسولي شيء. وهناك فترة لم يأت فيها رسول. وها هوذا رسول من الله يأتي حاملاً لمنهج متكامل. ومجيء الرسول يمنحهم ويعطيهم فرصة لتجديد ميثاق الإيمان. وهم قد أخفوا من كتبهم بعض الأحكام. مثل الرجم والربا، وقال بعض من بني إسرائيل في الربا ما ذكره القرآن عنهم:{ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ }[آل عمران: 75]
أي أنهم أقروا الإقراض بالربا لمن هم على غير دينهم، ولكن لا ربا في تعاملهم مع أبناء دينهم. وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلم الشمل وأن يجمع أيديهم مع يده؛ لأنه نبي انتظروه ولهم في كتبهم البشارة به. وأن يقف الجمع المؤمن أمام موجة الإلحاد في الأرض حتى يسيطر نظام السماء على حركة الأرض؛ لذلك قال الحق: { قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ اللَّهِ نُورٌْ }. ومعنى ذلك ان كتمانهم لبعض منهج الله قد صنع ظلمة في الكون. ومادامت قد حدثت ظلمانية في الكون، وخاصة ظلمانية القيم، إذن فالكون صار في حاجة إلى من ينير له الطريق. ونعرف أن النور هو ما نتبين به الأشياء.
وحين يعرض الحق لنا قضية النور الحسي يريد أن يأخذ بيدنا من النور الحسي إلى النور المعنوي؛ فالنور الحسي يبدد ظلام الطريق حتى لا نصطدم بالأشياء أو نقع في هوة أو نكسر شيئاً، لكن عندما يحمل الإنسان نوراً فهو يمشي على بينة من أمره. والنور الحسي يمنع من تصادم الحركات في المخلوقات، حتى لا تبدد الطاقة، فتبديد الطاقة يرهق الكون ولا يتم إنجاز ما.
إن الشمس في أثناء النهار تضيء الكون، ثم يأتي القمر من بعد الشمس ليلقي بعضاً من الضوء، وكذلك النجوم بمواقعها تهدي الناس في ظلمات البر والبحر. وجعل الله هذه الكائنات من أجل ألا تتصادم الحركة المادية للموجودات، فإذا كان الله قد صنع نوراً مادياً حتى لا يصطدم مخلوق بمخلوق، فهو القادر على ألا يترك القيم والمعاني والموازين بدون نور، لذلك خلق الحق نور القيم ليهدي الإنسان سواء السبيل، فإذا كان الكافر أو الملحد يتساوى مع المؤمن في الاستفادة بالنور المادي لحماية الحركة المادية في الأرض، ولم نجد أحداً يقول: أنا في غير حاجة للانتفاع بالنور المادي، ونقول للكافرين والملاحدة: مادمتم قد انتفعتم بهذا النور فكان يجب أن تقولوا: إن لله نوراً في القيم يجب أن نتبعه. ويلخص المنهج هذا النور بـ " افعل ولا تفعل ".
فالمنهج - إذن - نور من الله. ولنقرأ:{ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ }[النور: 35]
إنه يأخذ بيدنا في الطريق بالنور المادي الذي يستفيد منه الكل، سواء من كان مؤمنا أو غير ذلك، ويضرب سبحانه لنا مثل النور.

{ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ }[النور: 35]
والمشكاة هي الطاقة التي توجد في الجدار وهي غير النافذة، إنّها كوة في الجدار يوضع فيها المصباح الزيتي أو " الكيروسيني " وتوجد في المباني البدائية قبل أن يخترع الإنسان المصابيح الكهربية والثريات. ولا تتجاوز مساحة الكوة ثلاثين سنتيمترا، وطولها أربعون سنتيمتراً ولا يزيد عمقها على خمسة عشر سنتيمتراً؛ أما الحجرة فمساحتها تزيد أحياناً على ثلاثة أمتار في الطول والعرض والارتفاع.
ويتحدث الحق عن الكوة فقط ولا يتحدث عن الحجرة. وأي مصباح في الكوة قادر على إنارة الحجرة. ولننتبه إلى أن هذا المصباح غير عادي، فهو مصباح في زجاجة. ونعرف أن المصباح الذي في زجاجة هو من الارتقاءات الفكرية للبشر. فالمصابيح قديماً كانت بدون زجاجة وكان يخرج منها ألسنة من السَّناج " الهباب " الذي يُسوّد ما حولها، فالسَّناج أثر دخان السراج في الحائط وغيره. وقد ينطفئ المصباح لأن الهواء يهب من كل ناحية، ثم وضع الإنسان حول شعلة المصباح زجاجة تحمي النار وتركز النور وتعكس الأشعة ويأخذ المصباح من الهواء من خلال الزجاجة على قدر احتياج الاشتعال.{ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ }[النور: 35]
أي أن النور من هذا المصباح أشد قوة؛ لأن الزجاجة تعكس أشعة المصباح وتنشر الضوء في كل المكان. والزجاجة التي يوجد فيها هذا المصباح ليست عادية:{ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ }[النور: 35]
والكوكب نفسه مضيء، وتكون الزجاجة كأنها هذا الكوكب الدري في ضيائه ولمعانه. والمصباح يوقد من ماذا؟.{ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ }[النور: 35]
وهذا ارتقاء في إضاءة المصباح من زيت شجرة زيتون، والشجرة غير عادية:{ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ }[النور: 35]
فهي شجرة يتوافر لها أدق أنواع الاعتدال:{ نُّورٌ عَلَىا نُورٍ }[النور: 35]
ذلك هو من قدرة الله في نور الكونيات المادية، ولذلك فليس من المعقول أن يترك القيم والمعنويات بدون نور. فكما اهتدى الإنسان في الماديات فينبغي أن يفطن إلى قدرة الحق في هداية المعنويات، بدليل أن الله قال:{ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ }[النور: 35]
يهدي الله بنور القيم والمنهج والمعاني من يريد. وقد يهتدي الملحد بنور الشمس المادي إلى الماديات ولكن بصره أعمى عن رؤية نور المنهج والقيم؛ لذلك يوضح سبحانه أن هناك نوراً إلهياً هو المنهج. وضرب هذا المثل ليوضح المعاني الغيبية المعنوية بالمعاني الحسية. ونحن على مقاديرنا نستضيء، فالفقير أو البدائي يستضيء بمصباح غازي صغير، والذي في سعة من العيش قد يشتري مولداً كهربياً. وكل إنسان يستضيء بحسب قدرته. ولكن عندما تشرق الشمس في الصباح ما الذي يحدث؟.
يطفئ الإنسان تلك المصابيح، فالشمس هي نور أهداه الله لكل بني الإنسان، ولكل الكون. كذلك إذا فكرنا بعقولنا فيما ينير حياتنا فكل منا يفكر بقدرة عقله.

ولكن إذا ما نزل من عند الله نور فهو يغني عن كل نور أخر. وكما نفعل في الماديات نفعل في المعنويات:{ نُّورٌ عَلَىا نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ }[النور: 35]
والذي يدلنا على أن النور الثاني هو نور القيم الذي يكشف لنا بضوء " افعل ولا تفعل " أن الله قال بعد ذلك:{ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ }[النور: 36]
ولوبحثت عن متعلق الجار والمجرور لم تجده إلا في قوله: (في بيوت أذن الله أن ترفع) كأن النور على النور يأتي من مطالع الهدى في مساجده. فهي بيوت الله نقبل عليها ليفيض منها نور الحق على الخلق.{ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ }[النور: 36-37]
وكلمة } لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ { لا تعني تحريم التجارة، فالإنسان الصادق لا تلهيه التجارة عن ذكر الله. وليكن الله على بال المؤمن دائما، فعندما يكون الإنسان على ذكر لله فالله يعطيه من مدده.
إذن يا أهل الكتاب قد جاءكم النور، وبين لكم الرسول كثيراً مما تختلفون فيه. وتسامح عن كثير من خطاياكم، ويريد أن يجري معكم تصفية شاملة. فعليكم أن تلتفتوا وتنتبهوا وتُعَدِّلوا من موقفكم من هذا الدين الجديد. ولتبحثوا ماذا يريد الله بهذا المنهج. والله قد ضرب المثل بالنور، وهذا النور يهدي إلى " افعل ولا تفعل ". ومن الذي يقول لنا إن هذا النور قادم من الله؟ إنه الرسول، ومن الذي يدلنا على أن الرسول صادق في البلاغ عن الله؟ الذي يدل على صدقه هو قول الله:{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً }[النساء: 174]
فالذي جاء أولا من ربكم هو البرهان على أن رسول الله صادق في البلاغ عن الله، وليبلغنا أن الكتاب قد جاء بالمنهج. والقرآن يتميز بأنه البرهان على صدق النبي وهو المنهج النوراني؛ لأن البرهان هو الحجة على صدق الرسول في البلاغ عن الله.
ونعرف البرهان في حياتنا التعليمية أثناء دراسة مادة الهندسة عندما نقابل تمرينا هندسيا فنأخذ المعطيات وبعد ذلك ننظر إلى المطلوب إثباته. ونعيد النظر في المعطيات لنأخذ منها قوة للبرهنة على إثبات المطلوب. وإن كانت المعطيات لا تعطي ذلك فإننا نتجه إلى خطوة أخرى هي العمل على إثبات المطلوب. وهذا الكون فيه معطيات، وهو كون محكم، ونلمس إحكامه فيما لا دخل لحركتنا فيه:{ لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ الْلَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ }[يس: 40]
كون موزون بالسماء والأرض وحركة الرياح وغير ذلك، وتلك الأمور التي لا دخل للإنسان فيها نجد القوانين فيها مستقيمة تمام الاستقامة وكمالها. فإن أراد الإنسان أن يأخذ المعطيات من الكون، فليأخذ في اعتباره النظر إلى الأمور التي للإنسان دخل فيها ولسوف يجدها تتعرض للفساد؛ لأن الهوى في البشر له مدخل على هذه الأشياء.

لكن الخالق الأعلى لا تطوله ولا تتناوله أمور الهوى. ولذلك يقول سبحانه:{ وَالسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ }[الرحمن: 7]
فلا السماء تنطبق على الأرض، ولا كوكب يزاحم كوكبا آخر. ويبين لنا الحق كيفية السير بنظام الكون:{ أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الْمِيزَانِ }[الرحمن: 8]
فإن أردتم أن تكون حركتكم منتظمة فانظروا إلى ما لأيديكم دخل فيه واصنعوه كصنع الله فيما ليس لأيديكم مدخل فيه.{ وَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ }[الرحمن: 9]
فإن كنتم معجبين باتزان الكون الأعلى فذلك لأنه مصنوع بنظام دقيق. وإذا كان الحق قد وضع لنا نظاما دقيقا هو المنهج بـ " افعل كذا ولا تفعل كذا " فذلك حتى لا تفسد حركتك الاختيارية إن اتبعت المنهج، وتصرفت في حياتك بمنهج الله ويكون الميزان معتدلاً. إذن فقد أعطانا الحق معطيات عندما ينظر الإنسان فيها نظرا فطريا بدون هوى فإنها تأخذ بيده إلى الإيمان. وهذه الكائنات الموزونة لا بد لها من خالق؛ لأن الإنسان طرأ عليها ولم تأت هي من بعد خلق الإنسان. ولا أحد من البشر يدعي أنه صنع هذا الكون.
إذن لا بد من البحث عمن صنع هذا الكون الدقيق، والدعوى حين تسلم من الضعف، أتكون صادقة أم غير صادقة؟ تكون صادقة تماما. والله هو الذي قال إنه خلق السماء والأرض والكون. ولم يأت مدعٍ آخر يقول لنا: إنه الذي خلق. إذن يثبت الأمر لله إلى أن يوجد مدعٍ. ومع توالي الأزمنة وتطاولها لم يدع ذلك أحد.
وكان لا بد أن تكون مهمة العقل البشري أن يفكر ويقدح الذهن ليتعرف على صانع هذا الكون، وكان لا بد أن يتوجه بالشكر لمن جاء ليحل له هذا اللغز.
وقد جاءت الرسل لتحل هذا اللغز ولتدلنا على مطلوب عقلي فطري، ولو أننا سلسلنا الوجود لوجدنا أن الإنسان هو سيد هذا الوجود؛ لأن كل الكائنات تعمل وتجهد في خدمته. وأجناس الوجود كما نعرفها التي تخدم الإنسان هي الحيوان ويتميز عنه الإنسان بالعقل، وهناك جنس تحت الحيوان هو النبات فيه النمو، وهناك جنس أدنى وهو الجماد. وكل هذه الأجناس مهمتها خدمة الإنسان. والجماد ليس هو الشيء الجامد، بل الهواء جماد والشمس جماد والتربة جماد، وكل ذلك يمارس مهمته في الوجود لخدمة الأجناس الأعلى منها ويستفيد الإنسان منها جميعا والحيوان يستفيد من الجماد وكذلك النبات يستفيد من الجماد، والحيوان يستفيد من النبات والجماد، والمحصلة النهائية لخدمة الإنسان.
أليس من اللائق والواجب - إذن - أن يسأل الإنسان نفسه من الذي وهبه هذه المكانة؟ فإذا جاء الرسول ليحل هذا اللغز ويبلغنا أن الذي خلق الكون هو الله وهذه صفاته، ويبلغنا أن هذا المنهج جاء من الله ويحمل معه معجزةً هي دليل صدقِ البلاغِ عن الله، وهي معجزة لا يقدر عليها البشر، ويتحدى الرسول البشر أن يأتوا بمثل معجزته.

إذن فلا بد أن يؤمن كل البشر لو صَدَقُوا الفهم وأخلصوا النية.
ما هو البرهان إذن؟ البرهان هو المعجزة الدالة على صدق الرسول في البلاغ عن الله. هذا البلاغ عن الله الذي بحث عنه العقل الفطري وآمن أنه لا بد أن يكون موجودا، لكنه لم يتعرف على أنه " الله ". إن الرسول هو الذي يبلغنا عن اسم الخالق، وهو الذي يقدم لنا المنهج.
إذن فمجيء الرسل أمر منطقي تحتمه الفطرة ويحتمه العقل. ولذلك أنزل الحق النور العقدي، أنزل - سبحانه - المنهج ليحمي المجتمع من الاضطراب، ولذلك يقول الحق:{ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ }[المؤمنون: 71]
إذن فالدين جاء من الله ليتدخل في الأمور التي تختلف فيها الأهواء، فحسم الله النزاع بين الأهواء بأن انفرد سبحانه أن يشرع لنا تشريعا تلتقي فيه أهواؤنا، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ".
أي أن تتحد الأهواء تحت مظلة تشريع واحد؛ لأن كل إنسان إن انفرد بهواه، لا بد أن نصطدم، ولا نزال نكرر ونقول: إن خلافات البشر سواء أكانت على مستوى الأسرة أم الجماعة أم الأمة أم العالم، جاءت من اختلاف الأهواء، ولكن الأشياء التي لا دخل للأهواء فيها فالعالم متفق فيها تماما، بدليل أننا قلنا: إن المعسكر الشرقي السابق والمعسكر الغربي الحالي اختلفا بسياستين نظريتين، هذا يقول: " شيوعية "؛ وهذا يقول: " رأس مالية ".
إنه لا يوجد معمل مادي كي ندخل فيه الشيوعية أو الرأسمالية ونرى ما ينفعنا. أنَّها أهواء، لذلك تصادما في أكثر من موقع، وانهزمت الشيوعية وبقيت آثارها تدل عليها. لكن الأمور المادية المعملية. لم يختلفوا فيها. ونقول الكلمة المشهورة: " لا توجد كهرباء روسي ولا كهرباء أمريكاني ". " ولا توجد كيمياء روسي ولا كيمياء أمريكاني "؛ فكل الأمور الخاضعة للتجربة والمعمل فيها اتفاق، والخلاف فقط فيما تختلف وتصطدم فيه الأهواء.
فكأن الله ترك لنا ما في الأرض لنتفاعل معه بعقولنا المخلوقة له، وطاقاتنا وجوارحنا المخلوقة له، ويوضح: إن التجرية المعملية المادية لن تفرقكم بل ستجتمعون عليها. وسيحاول كل فريق منكم أن يأخذ ما انتهى إليه الفريق الآخر من التجارب المادية ولو تلصصها، ولو سرقها، أما الذي يضركم ويضر مجتمعكم فهو الاختلاف في الأهواء. وليت الأمر اقتصر على الاتفاق في الماديات والاختلاف في الأهواء، لا، بل جعلوا مما اتفقوا عليه من التجارب المادية والاختراعات والابتكارات وسيلة قهرية لفرض النظرية التي خضعت لأهوائهم.

فكأننا أفسدنا المسألة.. أخذنا ما اتفقنا فيه لنفرض ما اختلفنا عليه.
إن الحق سبحانه وتعالى أعطانا كل هذه المسائل كي تستقيم الحياة، ولا تستقيم الحياة إلا إن كان الحق سبحانه وتعالى هو الذي يحسم في مسائل الهوى، ولذلك حتى في الريف يقولون: " من يقطع إصبعه الشرع لن يسيل منه دم "؛ لأن الذي يقول ذلك مؤمن، أي أن الحكم حين يأتي من أعلى فلا غضاضة في أن نكون محكومين بمن خلقنا وخلق لنا الكون، وتدخلت السماء في مسألة الأهواء بالمنهج: افعل هذا ولا تفعل هذا، لكن ما ليس فيه أهواء أوضح سبحانه: أنتم ستتفقون فيها غصباً عنكم، بل ستسرقونها من بعضكم، إذن فلا خطر منها.
إن الخطر في أهوائكم. ولذلك اذكروا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمهات المسائل التي يترتب عليها حسن نظام المجتمع كما يريده الله كان - عليه الصلاة والسلام - يتحمل هو التجربة في نفسه، ولا يجعل واحداً من المؤمنين به يتحمل التجربة، فمسألة التبني حين أراد ربنا أن ينهيها حتى لا يدعي واحد آخر أنه ابنه وهو ليس أباه، أنهاها الله في رسوله صلى الله عليه وسلم:{ لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ }[الأحزاب: 37]
وفي مسألة الماديات والأهواء يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: إن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون فقال: " لو لم تفعلوا لصلح " قال: فخرج شيصا، فمر عليهم فقال: " ما لنخلكم " قالوا: قلت كذا وكذا قال: " أنتم أعلم بأمر دنياكم " إنه - صلى الله عليه وسلم - تركهم لتجربتهم.
السماء - إذن - لا تتدخل في المسائل التجريبية؛ لأنه سبحانه وهب العقل ووهب المادة ووهب التجربة، ورأينا رسول الله يتراجع عما اجتهد فيه بعد أن رأى غيره خيرا منه كي يثبت قضية هامة هي أن المسائل المادية المعملية الخاضعة للتجربة ليس للدين شأن بها فلا ندخلها في شئوننا، فلا نقول مثلاً: الأرض ليست كروية، أو أن الأرض لا تدور. فما لهذا بهذا؛ لأن الدين ليس له شأن بها أبداً، وهذه مسائل خاضعة للتجربة وللمعمل وللبرهان وللنظرية، بل دخل الدين ليحمينا من اختلاف أهوائنا؛ فالأمر الذي نختلف فيه يقول فيه: افعل كذا ولا تفعل كذا بحسم، والأمر الذي لم يتدخل فيه بـ " افعل ولا تفعل " أوضح لك: سواء فعلته أم لم تفعله لا يترتب عليه فساد في الكون، وخذوا راحتكم فيما لم يرد فيه " افعل ولا تفعل " ، وأريحوا أنفسكم واختلفوا فيه؛ لأن الخلاف البشري مسألة في الفطرة والجبلّة والخلقة.
وهنا يقول: " قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين " و " النور " أهو الكتاب أم غيره؟.

وفي آية أخرى يقول:{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً }[النساء: 174]
وهذا القول يدل على أن النور هنا هو " القرآن " وجمع بين أمرين؛ برهان.. أي معجزة، ونور ينير لنا سبيلنا.
} فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا { والإيمان بالله مسألة تطبيقية مرحلية. " الله " هو قمة الإيمان و " رسوله " هو المبلغ عن الله؛ لأنه جاء لنا بالنور. إلا أن أهل الشطح يقولون: النور مقصود به النبيّ صلى الله عليه وسلم، ونقول: نحن لا نمانع أنه نور، وإن كان النص يحتمل أن يكون عطف تفسير، وحتى لا ندخل في متاهة مع بعض من يقولون: لا ليس الرسول نوراً؛ لأنه مأخوذ من المادة وسنجد من يرد عليهم بحديث جابر: ما أول ما خلق الله يا رسول الله؟ قال له: نور نبيك يا جابر.
فعن جابر بن عبدالله قال: قلت يا رسول الله بأبي أنت وأمي أخبرني عن أول شيء خلقه الله تعالى قبل الأشياء. قال: " يا جابر إن الله خلق قبل الأشياء نور نبيّك من نوره فجعل ذلك النور يدور بالقدرة حيث شاء الله ولم يكن في ذلك الوقت لوح ولا قلم ولا جنّة ولا نار ولا مَلَك ولا سماء ولا أرض ولا شمس ولا قمر ولا جني ولا إنسي ".
وحتى لا ندخل في مسألة غيبية لا تستوي الأذهان في استقبالها ونفتن بعضنا. ويقول فلان كذا ويقول علان كذا. هنا نقول: من تجلى له أن يقنع بها أحداً كي لا ندخل في متاهة، وعندما يتعرض أحد لحديث جابر - رضي الله عنه - نسأل: أهو قال: أول خلق الله نبيك يا جابر أم نور نبيك يا جابر؟. قال الحديث: نور نبيك ولم يقل النبي نفسه الذي هو من لحم ودم، فمحمد صلى الله عليه وسلم من آدم وآدم من تراب؛ لذلك ليس علينا أن نتناول المسائل التي لا يصل إليها إلا أهل الرياضيات المتفوقة، حتى لا تكون فتنة؛ لأن من يقول لك: أنت تقول: النور هو رسول الله، ونقول: على العين والرأس،فرسول الله نور ولاشك؛ لأن النور يعني ألا نصطدم، وجاء محمد صلى الله عليه وسلم بالمنهج كي ينير لنا الطريق، والقرآن منهج نظامي، والرسول منهج تطبيقي، فإن أخذت النور كي لا نصطدم، فالحق يقول:{ لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ }[الأحزاب: 21]
إذن فسنأخذ بالمنهج النظري الذي هو القرآن، ونأخذ بالمنهج التطبيقي. } قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ { و " مبين " أي محيط بكل أمر وكل شيء مصداقاً لقوله الحق:{ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ }

[الأنعام: 38]
أي مما تختلف فيه أهواؤكم. وسُئل الإمام محمد عبده، وهو في باريس: أنتم تقولون } مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ { فكم رغيفاً في أردب الدقيق؟. فقال: انتظروا: واستدعى خبازاً وسأله: كم رغيفا في أردب القمح؟. فقال له: كذا رغيف. فقالوا له: أنت تقول إنه في الكتاب. فقال لهم: الكتاب هو الذي قال لي:{ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ }[النحل: 43]
إن قوله: } مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ { أي مما تختلف فيه الأهواء أو تفسد فيه حركة الحياة في الأرض. فربنا هو - سبحانه - جعل أناساً تتخصص في الموضوعات المختلفة.
} قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ { يعني: يا أهل الكتاب انتبهوا إلى أن هذه فرصتكم لنصفي مسألة العقيدة في الأرض وننهي الخلاف الذي بين الدينين السابقين ونرجع إلى دين عام للناس جميعاً، ولا تبقى في الأرض هذه العصبية حتى تتساند الحركات الإنسانية ولا تتعاند، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:{ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ }[الفتح: 29]
انظر كيف يجمع الإسلام بين أمرين متناقضين: فلم يجيء الإسلام كي يطبع الإنسان ليكون شديداً؛ لأن هناك مواقف شتى تتطلب الرحمة، ولم يطبعه على الرحمة المطلقة لأن هناك مواقف تتطلب الشدة، فلم يطبع الإنسان في قالب، ولكنه جعل المؤمن ينفعل للحدث.
ويقول الحق:{ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ }[المائدة: 54]
أي لا تقل إنّه طبع المؤمن على أن يكون ذليلاً ولا طبعه ليكون عزيزاً، بل طبعه ليكيّف نفسه التكييف الذي يتطلبه المقام، فيكون مرة ذليلاً للمؤمن وعزيزاً على الكافر. وقال الإسلام لنا:{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً }[البقرة: 143]
أي لا بد أن تعرف الطرفين أولاً، ثم تحدد، لأن الوسط لا يعرف إلا بتحديد الطرفين؛ فاليهودية بالغت في المادية، والنصرانية بالغت في الروحانية والبرهانية:{ وَرَهْبَانِيَّةً ابتَدَعُوهَا }[الحديد: 27]
وعندما سئل سيدنا عيسى عن مسألة ميراث قال: " أنا لم أبعث مورثاً "؛ لأنه جاء ليجدد الشحنة للطاقة الدينية، وبرغم الخلاف العميق بين اليهودية والنصرانية جاء أهل الفكر عندهم ليضعوا العهد القديم والعهد الجديد في كتاب واحد، ومع ذلك فقد جاء من اعتبر الإسلام خصماً عنيفاً عليهم على رغم أن الإسلام ليس خصماً إنما جاء ليمنح الناس حرية الاختيار، وعندما ننظر إلى المنهج المادي والمنهج الروحاني تجد أن اليهود أسرفوا في المادية وقالوا:{ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىا نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً }[البقرة: 55]
لقد أسرفوا في المادية لدرجة أن المسألة المتعلقة بقُوتِهم حينما كانوا في التيه وأنزل ربنا عليهم المن والسلوى، و " المن " كما نعرف طعام مثل كرات بيضاء ينزل من السماء على شجر أو حجر ينعقد ويجف جفاف الصمغ وهو حلو يؤكل وطعمه يقرب من عسل النحل، وجاء لهم بالسلوى وهو طائر يشبه الدجاج وهو السُّماني فقالوا:

{ لَن نَّصْبِرَ عَلَىا طَعَامٍ وَاحِدٍ }[البقرة: 61]
إننا نريد مما تخرجه الأرض من بقلها، والذي دعاهم إلى غلوهم في الأمر المادي أنهم قالوا: قد لا يأتي المن، وقد لانستطيع صيد الطير، نحن نريد أن نضمن الطعام. إذن فالغيبيات بعيدة عنهم فهم قد أسرفوا في هذه المادية وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يعدل هذا النظام المادي المتطرف فأنزل منهجية روحانية متمثلة في منهج عيسى عليه السلام، وشحنهم بمواجيد دينية ليس فيها حكم مادي، كي تلتحم هذه بتلك ويصير المنهج مستقيماً، لكن الخلاف دب بينهم، فكان ولا بد أن يأتي دين جديد يجمع المادية المتعلقة الرزينة المتأنية، والروحانية المقسطة التي لا تفريط فيها ولا إفراط، إنها الروحانية المتلقاة من السماء دون ابتداع دين يأتي بالاثنتين في صلب دين واحد. فقال لنا:{ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ }[الفتح: 29]
وهذه كلها قيم تعبدية. فيكون هؤلاء ماديين وروحانيين في آن واحد. ويتابع الحق:{ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ }[الفتح: 29]
كأن الله ضرب في التوراة مثلاً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم: يا من أسرفتم في المادية سيأتي رسول ليعدل ميزان العقائد والتشريع، فتكون أمته مخالفة لكم تماماً. فأنتم ماديون وقوم محمد ركع سجد، يبتغون فضلاً من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود. أي: ما فقدتموه أنتم في منهجكم سيوجد في أمة محمد. ويقول الحق:{ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىا عَلَىا سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ }[الفتح: 29]
فمثلهم في التوراة ما فُقد عند اليهود؛ ومثلهم في الإنجيل ما فُقد عند النصارى. إذن فدين محمد صلى الله عليه وسلم جمع بين القيم المادية والقيم الروحية فكان ديناً وسطاً بين الاثنين. فقال: } قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ { أي انتهزوا الفرصة لتصححوا أخطاءكم ولتستأنفوا حياة صافية تربطكم بالسماء رباطاً يجمع بين دين قيمي يتطلب حركة الدنيا ويتطلب حركة الآخرة.
ويقول الحق بعد ذلك: } يَهْدِي بِهِ اللَّهُ... {

(/677)


يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)


ومادام الله هو الذي يهدي فسبحانه منزه عن الأهواء المتعلقة بهم، وهكذا نضمن أن الإسلام ليس له هوى. لأن آفة من يشرع أن يذكر نفسه أو ما يحب في ما يشرع، فالمشرع يُشترط فيه ألا ينتفع بما يشرع، ولا يوجد هذا الوصف إلا في الله لأنه يشرع للجميع وهو فوق الجميع.
{ قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ } إنَّ من اتبع رضوانه يهديه الله لسبل السلام، إذن ففيه رضوان متبع، وفيه سبل سلام كمكافأة. وهل السلام طرق وسبل؟. نعم؛ لأن هناك سلام نفس مع نفسها، وهناك سلام نفس مع أسرتها، هناك سلام نفس مع جماعتها، هناك سلا نفس مع أمتها وهناك سلام نفس مع العالم، وسلام نفس مع الكون كله، وهناك سلام نفس مع الله، كل هذا يجمع السلام. إذن فسُبل السلام متعددة، والسلام مع الله بأن تنزه ربك أيها العبد فلا تعبد معه إلهاً آخر، ولا تلصق به أحدا آخر.. أي لا تشرك به شيئا، أو لا تقل: لايوجد إله.
ولذلك نجد الإسلام جاء بالوسط حتى في العقيدة؛ جاء بين ناس تقول: لا يوجد إله، وهذا نفي؛ وناس تقول: آلهة متعدة؛ الشَّر له إله، والخير له إله، والظلمة لها إله، والنور له إله، والهواء له إله، والأرض لها إله!!
إن الذين قالوا بالآلهة المتعددة: استندوا على الحس المادي ونسي كل منهم أن الإنسان مكون من مادة وروح، وحين تخرج الروح يصبح الجثمان رمّة؛ ولم يسأل أحدهم: نفسه ويقول: أين روحك التي تدير نفسك وجسمك كله هل تراها؟، وأين هي؟. أهي في أنفك أم في أذنك أو في بطنك أين هي؟، وما شكلها؟. وما لونها؟. وما طعمها؟. أنت لم تدركها وهي موجودة. إذن فمخلوق لله فيك لا تدركه فهل في إمكانك أن تدرك خالقه؟. إن هذا هو الضلال. فلو أُدْرِك إِلهٌ لما صار إلهاً؛ لأنك إن أدركت شيئاً قدرت على تحديده ببصرك، ومادام قد قدرت على تحديده يكون بصرك قد قدر عليه، ولا ينقلب القادر الأعلى مقدوراً للأدنى أبداً.
وحينما أراد الله أن يذلل على هذه الحكاية قال:{ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ }[الذاريات: 21]
انظر في نفسك تجد روحك التي تدير جسدك لا تراها ولا تسمعها ومع ذلك فهي موجودة فيك، فإن تخلت عنك صرت رمة وجيفة، فمخلوق لله فيك لا تقدر أن تدركه، أبعد ذلك تريد أن تدرك مَنْ خَلَقَ؟ إن هذا كلام ليس له طعم! والاتجاه الآخر يقول بآلهة متعددة؛ لأن هذاالكون واسع، وكل شيء فيه يحتاج إلى إله بمفرده، فيأتي الإسلام بالأمر الحق ويقول: هناك إله واحد؛ لأنه إن كان هناك آلهة متعددة كما تقولون، فيكون هناك مثلا.

إله للشمس وإله للسماء وإله للأرض وإله للماء وإله للهواء، حينئذ يكون كل إله من هذه الآلهة عاجزا عن أن يدير ويقوم على أمر آخر غير ما هو إله وقائم عليه ولنشأ بينهم خلاف وشقاق يوضح ذلك قوله تعالى:{ لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـاهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَىا بَعْضٍ }[المؤمنون: 91]
فإله الشمس قد يفصلها عن الكون، وإله الماء قد يمنعه عن بقية الكائنات، ويحسم الحق الأمر فيقول:{ قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىا ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً }[الإسراء: 42]
ويقول سبحانه: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا).
إذن فالنواميس التي تراها أيضاً محكومة بالإله الواحد، ويأتي الرسول ليقول لك: هناك إله واحد، ويبلغنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا إله إلا الله، و " لا إله " نفت أنه لا آلهة أبداً. وبعدها قال: إلا الله، وهذه من مصلحة الإنسان حتى لا يكون ذليلاً وخاضعاً وعبداً لإله الشمس أو لإله الهواء أو لإله الماء. وقال الحق:{ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً }[الزمر: 29]
فربنا يريد أن يريحنا من " الخيْلة " ، والوهم والاضطراب والتردد.. إنه إله واحد، وعندما يحكم الله حكماً فلا أحد يناقضه، وسبحانه يهدينا بما يشرعه لنا؛ لأنه سبحانه ليس له هوى فيما يشرع؛ لأن معنى الهوى أن تجعل الحركة التي تريدها خادمة لك في شيء، والله لا يحتاج إلى أحد لأنه خلق الوجود مله قبل أن يخلق الخلق، وليس لأحد ممن خلق - مهما أوتي من العلم ورجاجة العقل أن تكون له قدرة أو أي دخل في عملية الخلق أو تنظيمه.
} يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ { ، مادام قد اتبع رضوانه فيهديه إلى سبل السلام، إذن فإن هناك هدايتين اثنتين: يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، وقال في آية أخرى:{ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ }[محمد: 17]
فإياك أن تظن أن التقوى لن تنال ثوابها وجزاءها إلا في الآخرة؛ لأنه كلما فعلت أمراً وتلتفت وجدت آثاره في نفسك، تصلي تجد أمورك خَفَّت عن نفسك، فلا ترتكب السيئة في غفلة من الناس، قلبك لا يكون مشغولاً بأي شيء، ويحيا المؤمن في سلام مع نفسه أبداً. إذن فسبل السلام متعددة: سبل السلام مع الله، سبل السلام مع الكون كله، سبل السلام مع مجتمعه، سبل السلام مع أسرته، سبل السلام مع نفسه.
ويقول الحق:{ وَأَنَّ هَـاذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ }[الأنعام: 153]
إذن فهناك سبل سلام وسبل ضلال.
وفي هذه الآية يقول الحق: } وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىا صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ { ، والظلمات هي محل الاصطدام، وعندما يخرجهم من الظلمات إلى النور يرون الطريق الصحيح الموصل إلى الخير، والطريق الموصل إلى غير الخير. وبعدما يخرجون من الظلمات إلى النور تكون حركاتهم متساندة وليست متعاندة، ولا يوجد صدام ولا شيء يورثهم بغضاء وشحناء، أو المراد أنّه يهديهم إلى الصراط المستقيم وهو الجنة.
ويقول الحق من بعد ذلك: } لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ... {

(/678)


لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)


وقال سبحانه من قبل:{ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ }[المائدة: 14]
فمن اتبعوا اليعقوبية قالوا شيئاً، والنصرانية قالت شيئاً، والملكانية قالت شيئاً ثالثاً؛ فجاء بالقمة: { لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ }.
ويأتي قوله سبحانه: " قل " ، رداً عليهم: { فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً } أي من يمنع قدر الله أن ينزل بمن جعلتموه إلهاً { إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً }.
لقد زعموا أن الله هو المسيح عيسى ابن مريم وفي هذا اجتراء على مقام الألوهية المنزهة عن التشبيه وعن الحلول في أي شيء. وفي هذا القول الكريم بلاغ لهؤلاء أن أحداً لا يستطيع أن يمنع إهلاك الله لعيسى وأمه وجميع من في الأرض. فهو الحق الملك الخالق للسموات والأرض. وما بينهما يخلق ما يشاء كما يريد. فإن كان قد خلق المسيح دون أب؛ فقد جاءنا البلاغ من قبل بأنه سبحانه خلق آدم بدون أب ولا أم، وخلق حواء دون أم، جلت عظمته وقدرته لا يعجزه شيء. إن عيسى عليه السلام من البشر قابل للفناء ككل البشر.
{ وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } جاء الحق هنا بالسماء كنوع علوي والأرض كنوع سفلي، وقوله: { يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } يرد على الشبهة بإيجاز دقيق: { يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ }؛ لأن الفتنة جاءت من ناحية أن عيسى عليه السلام مُيّز في طريقة خلقه بشيء لم يكن في عامة الناس؛ فأوضح الحق: لا تظنوا أن الخلق الذي أخلقه يشترط عليّ أن تكون هناك ذكورة وأنوثة ولقاح، هذا في العرف العام الذي يفترض وجود ذكورة وأنوثة، وإلا لكان يجب أن تكون الفتنة قبل عيسى في آدم؛ لأنه خلق من غير أب ولا أم. إذن فالذي يريد أن يفتتن بأنه من أم دون أب، كان يجب أن يفتتن في آدم لأنه لا أب ولا أم. ويوضح لهم: الله يخلق ما يشاء فلا يتحتم أو يلزم أن يكون من زوجين أو من ذكر فقط أو من أنثى فقط.
إن ربنا سبحانه وتعالى له طلاقة القدرة في أن يخلق ما يشاء، وقد أراد خلقه على القسمة العقلية المنطقية الأربعة: إما أن يكون من أب وأم مثلنا جميعاً، وإما أن يكون بعدمهما مثل آدم، وإما أن يكون بالذكر دون الأنثى كحواء، وإما أن يكون بالأنثى دون الذكر كعيسى عليه السلام، فأدار الله الخلق على القواعد المنطقية الأربعة كي لا تفهم أن ربنا يريد مواصفات خاصة كي يخلق بل هو يخلق ما يشاء. والدليل على ذلك أن الزوجين يكونان موجودين مع بعضهما ومع ذلك لا يُنْجَبُ منهما، فهل هناك اكتمال أكثر من هذا؟!{ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً }[الشورى: 49-50]
إذن فالمسألة ألا يُفرض على ربنا عناصر تكوين، لا، بل هي إرادة مُكَوِّن لا عنصرية مَكَوَّن. إنه { يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } ، ومشيئته مطلقة وقدرته عامة. ولذلك لا بد أن يأتي القول: { وَاللَّهُ عَلَىا كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }.
ويقول الحق بعد ذلك: { وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىا... }

(/679)


وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)


وهل كل اليهود قالوا: نحن أبناء الله؟ هل كل النصارى قالوا: نحن أبناء الله؟ لا. فبعض من اليهود قال: إن عزيراً ابن الله وبعض النصارى قالوا: إن عيسى ابن الله، وجاء مسيلمة الكذاب وادّعى النبوة، وكان كل أهل مسيلمة يقولون: نحن الأنبياء، أي منا الأنبياء حتى أنصار سيدنا عبد الله بن الزبير أبي خبيب، قال أنصاره: نحن الخبيبيون أي نحن أتباع ابن الزبير الذي هو أبو خبيب، فكانوا ينسبون لأنفسهم ما لغيرهم. فمعنى { نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ } يعني: نحن أشياع العزير، الذي هو ابن الله؛ ونحن أشياع عيسى الذي هو ابن الله. هذه نأخذ لها دليلاً من القرآن، نعرف قصة مؤمن آل فرعون:{ وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَآءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ * ياقَومِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ }[غافر: 28-29]
والقوم جماعة. بالله أكان القوم كلهم ملوكا؟. لا، فالذي كان ملكاً هو فرعون فقط. لكن مادام فرعون هو الملك، فيكون كل الذين كانوا أتباعا وأنصارا له ومن شيعته ملوكا لأنهم يعيشون في كنف ورعاية الملك. وأيضاً قال اليهود: { وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً } ، ولذلك عندما أرادوا أن يحددوا معنى " ملك " قالوا: إن " الملك " هو الرجل الذي عنده دار واسعة وفيها ماء يجري، وواحد آخر قال: " الملك " هو الذي يكون عنده حياة رتيبة وعنده من يخدمه ولا ينشغل بخدمة نفسه في بيته، وفي الخارج يخدم نفسه. وقال آخر: من عنده مال لا يحوجه للعمل الشاق، فهو ملك، ولذلك قال سيدنا الشيخ عبد الجليل عيسى في هذه المسألة: لا تستعجبوا ذلك فالأميون ينطقون وبلسانهم يقولون: هذا ملك زمانه، أي رجل مرتاح لا يعمل أعمالا شاقة وعنده النقود يصرفها كما يريد. إذن فأبناء الله يعني ليس كلهم أبناءه، ولذلك قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: " قل " رداً عليهم: { فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ } ، وستدخلون في مشيئة المغفرة.
{ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ } ، ولن تخرجوا عن المشيئة الغافرة أو المشيئة المعذبة، { وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ }.
ويقول الحق تصفية للمسألة العقدية في الأرض: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ... }

(/680)


يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)


ورسولنا هو محمد صلى الله عليه وسلم ويبين لكم - يا أهل الكتاب - ما اختلفتم فيه أولاً وما يجب أن تلتقوا عليه ثانياً، وما زاده الإسلام من منهج فإنّما جاء به ليناسب أقضية الحياة التي يواجهها إلى أن تقوم الساعة. وقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على فترة من الرسل، ومعنى الفترة: الانقطاع. وفترة من الرسل أي على زمن انقطعت فيه الرسالات، وهي الفترة التي بينه صلى الله عليه وسلم وبين أخيه عيسى عليه السلام، وقام الناس بحسابها فقال بعضهم: إنها ستمائة سنة وقال البعض: خمسمائة وستون سنة عاماً. ولا يهمنا عدد السنين، إنما الذي يهمنا هو وجود فترة انقطعت فيها الرسل، اللهم إلا ما كان من قول الحق سبحانه:{ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ القَرْيَةِ إِذْ جَآءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُواْ إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ * قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَآ أَنَزلَ الرَّحْمَـانُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ * قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ }[يس: 13-16]
هؤلاء المرسلون أهم مرسلون من قبل الله بين عيسى وبين محمد صلى الله عليه وسلم؟. أم هم مرسلون من قبل عيسى عليه السلام إلى أهل أنطاكية؟. وقد كفر الناس أولاً بهذين الرسولين، فعززهم الحق بثالث.
وقال الناس لهم:{ قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَآ أَنَزلَ الرَّحْمَـانُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ }[يس: 15]
وهنا قال الرسل:{ قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ }[يس: 16]
فما الفرق بين { إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ } وبين { رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ }؟. إن الأَخْبار دائماً تُلقى من المتكلم للسامع لتعطيه خبراً، فإن كان السامع خالي الذهن من الخبر، أُلقي إليه الكلام بدون تأكيد. وأما إن كان عنده شبه إنكار، ألقى إليه الكلام بتأكيد على قدر إنكاره. فإن زاد في لجاج الإنكار يزيد له التأكيد. فأصحاب القرية أرسل الله إليهم اثنين فكذبوهما، فعززهما بثالث، وهذا تعزيز رسالي، فبعد أن كانا رسولين زادهما الله ثالثاً، وقال الثلاثة:{ إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ }[يس: 14]
صحيح ثمة تأكيد هنا. لأن الجملة إسمية، وسبقتها " إنّ " المؤكذة؛ فلما كذبوهم وقالوا لهم: { مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَآ أَنَزلَ الرَّحْمَـانُ مِن شَيْءٍ } وكان هذا لجاجاً منهم من الإنكار فماذا يكون موقف الرسل؟ أيقولون: { إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ } كما قيل أولاً؟. لا. إن الإنكار هنا ممعن في اللجاجة والشدة، فيأتي الحق بتأكيد أقوى على ألسنة الرسل:
{ رَبُّنَا يَعْلَمُ }.
وذلك القول في حكم القسم؛ هذا هو التأكيد الأول، والتأكيد الثاني:
{ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ }.
وكما نعلم فـ " إن " هنا مؤكِدّة، واللام التي في أول قوله: " لمرسلون " لزيادة التأكيد.

وحين تأتي كلمة تدور على معانٍ متعددة، فالمعنى الجامع هو المعنى الأصلي، وكذلك كلمة " فترة " ، فالفترة هي الانقطاع. فإن قلت مثلاً: ماء فاتر، أي ماء انقطعت برودته، فالماء مشروط فيه البرودة حتى يروي العطش. وعندما يقال: ماء فاتر أي ماء فتر عن برودته، ولذلك يكون قولنا: " ماء فاتر " أي ماء دافئ قليلاً؛ أي ماء انقطعت عنه البرودة المرغبة فيه.
ويقال أيضاً في وصف المرأة: في جفنها فتور أي أنها تغض الطرف ولا تحملق بعينيها باجتراء. بل منخفضة النظرة. إذن فالفترة هي الانقطاع. ولقد انقطعت مدة من الزمن وَخَلَتْ من الوحي ومن الرسل. وكان مقتضى هذا أن يطول عهد الغفلة، ويطول عهد انطماس المنهج، ويعيش أهل الخير في ظمأ وشوق لمجيء منهج جديد، فكان من الواجب - مادام قد جاء رسول - أن يرهف الناس آذانهم لما جاء به، فيوضح الحق أنه أرسل رسولاً جاء على فترة، فإن كنتم أهل خير فمن الواجب أن تلتمسوا ما جاء به من منهج، وأن ترهفوا آذانكم إلى ما يجيء به الرسول صلى الله عليه وسلم لسماع مهمته ورسالته.
وقد أرسل الله إليهم الرسول على فترة حتى يقطع عنهم الحجة والعذر فلا يقولوا: } مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ { فقد جاءهم - إذن - بشير وجاءهم نذير. والبشير هو المعلم أو المخبر بخير يأتي زمانه بعد الإخبار. ومادام القادم بشيراً فهو يشجع الناس على أن يرغبوا في منهج الله ليأخذوا الخير. ولا بد من وجود فترة زمنية يمارس فيها الناس المنهج، ولا بد أيضاً أن توجد فترة ليمارس من لم يأخذ المنهج كل ما هو خارج عن المنهج ليأتي لهم الشر.
مثال ذلك قول الأستاذ: بَشِّرْ الذي يذاكر بأنه ينجح. وعند ذلك يذاكر من الطلاب من يرغب في النجاح، أي لابد من وجود فترة حتى يحقق ما يوصله إلى ما يبشر به. وكذلك النذارة لا بد لها من فترة حتى يتجنب الإنسان ما يأتي بالشر.
} قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَىا فَتْرَةٍ مَّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ {. ومجيء " أن تقولوا " إيضاح بأنه لا توجد فرصة للتعلل بقول " } مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ {.
ويقول الحق: } فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَىا كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ { وسبحانه وتعالى القدير أبداً. فقد جعل الخلق يطرأون على كون منظم بحكمة وبكل وسائل الخير والحياة على أحسن نظام قبل أن يطرأ هؤلاء الخلق على هذا الكون، فإذا ما طرأ الخلق على هذا الخير، أيتركهم الخالق بدون هداية؟. لا. فسبحانه قد قدر على أن يُوجد خلقه كلهم، ويعطي لهم ما يحفظ لهم حياتهم ويحفظ لهم نوعهم.
ألا يعطي الحق الخلق إذن ما يحفظ لهم قيمهم؟.
إنه قادر على أن يعطي رزق القوت ورزق المبادئ والقيم وأن يوفي خلقه رزقهم في كل عطاء. وإرسال الرسل من جملة عطاءات الحق لعلاج القيم. ثم يرجع ثانية إلى قوم موسى ولكنه في هذه المرة يجعل المتكلم رسولهم: } وَإِذْ قَالَ مُوسَىا لِقَوْمِهِ... {

(/681)


وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآَتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20)


وساعة تسمع " إذ " فاعلم أنها ظرفية تعني " حين " كأن الحق يقول: اذكر حين قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم. ويقول الحق لرسوله ذلك لأن هذا اللون من الذكر يعين الرسول صلى الله عليه وسلم على تحمل ما يتعرض له في أمر الدعوة والرسالة سواء من ملاحدة أو من أهل كتاب.
إن الحق حينما قال: { وَإِذْ قَالَ مُوسَىا لِقَوْمِهِ } أي اذكر يا محمد، أو أذكر يا من تتبع محمداً، أو اذكر يا من تقرأ القرآن إذ قال موسى لقومه: يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم. ولا يقول موسى لقومه: { يَاقَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } إلا إذا كان قد رأى منهم عملاً لا يتناسب مع النعم التي أنعم الله يها عليهم، وذلك - ولله المثل الأعلى - كما يقول الواحد منا لولد عاق: اذكر ما فعله والدك معك. ولا يقولن الواحد منا ذلك إلا وقد بدرت من الابن بوادر لا تتناسب مع مقدمات النعم ومقدمات الفضل عليه. فكأن قوم موسى قد أرهقوه وتحمل منهم الكثير؛ لدرجة أنه قال لهم على سبيل الزجر ما قد يجعلهم يفيقون وينتبهون ويفطنون إلى ذكر نعمة الله عليهم، ومعنى ذكر النعمة هو الاستماع إلى منهج الله وتنفيذ أوامر الحق واجتناب النواهي.
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَىا لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } وعرفنا أن " النعمة " يقصد بها الجنس والمراد بها النعم كلها، أو كأن كل نعمة على انفرادها خليقة وجديرة أن تُذكر وتُشكر، والدليل على أن النعمة يراد بها كل النعم أن الله قال: { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا } [إبراهيم: 34]
ومادام عدّ النعمة لا نستطيع معه أن نعرف إحصاءها؛ فهي نعم متعددة. إذن فالمراد بالنعمة كل النعم لأنها اسم جنس.
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَىا لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } وذكر النعمة يؤدي إلى شكر المنعم ويؤدي أيضاً إلى الاستحياء من أن نعصي من أنعم، ويجعلنا نستحي أن نأخذ نعمته لتكون معينا لنا على معصيته. { اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } وهي نعم كثيرة تمتعوا بها، ألم يفلق الحقُ لهم البحرَ:{ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ }[الشعراء: 63]
وبعد أن ضرب الماء بالعصا:{ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ }[الشعراء: 63]
فقد صار الماء السائل جبالاً. وضرب لهم الحجر؛ بأمر الله فانفجرت منه المياه:{ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً }[البقرة: 60]
إنها عجائب كثيرة تتجلى فيها قدرة الخالق الأعظم، وتبين القدرة مجالات تصرفها، فقد ضرب موسى البحر فصار كل فرق كالطود العظيم، وكأن الماء صار صخراً. وضرب موسى الصخر فتفجرت المياه. إنها عجائب القدرة. ألم يظللكم بالغمام؟ ألم ينزل عليكم في التيه المن والسلوى؟ وكل هذه النعم ألا تستحق الذكر لله والشكر لله والاستحياء من أن تعصوه أو أن ترهقوا الرسول الذي جاء لهدايتكم؟
إن كل هذه النعم تستحق الشكر، والشكر ذكر.

} اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً { وكلما أدركتهم غفلة فإن الحق يرسل لهم نبياً كأسوة سلوكية. ولم يغضب عليهم ولم يقل: أرسلت لهم رسولا واثنين وثلاثة وأربعة. ولم يهتدوا، بل كلما عصوا الله واستعصت داءاتهم أرسل لهم رسولا، مثلهم في ذلك كمثل المريض الذي لا يضن عليه عائله بطبيب أو بطبيبين أو ثلاثة أو أربعة، بل كلما لاحظ عائله شيئا فإنه يرسل له طبيباً. وفي ذلك امتنان؛ لأن الله أرسل إليهم كثيراً من الرسل. وكان عليهم أن يعلموا أن داءاتهم قد كثرت وصار مرضهم مستعصيا؛ لأنه لو لم يكن المرض مستعصيا؛ لما كانوا في حاجة إلى هذه الكثرة من الأطباء والأنبياء، ومع ذلك رحمهم الله وكلما زاد داؤهم أرسل لهم نبيا.
ولم يكتف الحق بأن جعل فيهم أنبياء؛ بل قال: } وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً { وليس معنى ذلك أنهم كلهم صاروا ملوكاً؛ ولكن كان منهم الملوك. " والملك " كلمة أخذت اصطلاحاً سياسياً، فكل إنسان مالك ما في حوزته؛ مالك لثوبه، أو مالك اللقمة التي أكلها، أو مالك البيت الذي ينام فيه، لكن المَلِك هو الذي يملك وَيمْلِك مَن مَلك.
إذن فكل واحد عنده القدرة أن يملك شيئاً ويملك مَن مَلَك يكون مَلِكاً، فرجل عنده رُعيان يقومون برعي القطعان من الماشية التي يملكها، وعنده أناس يخدمون في المنزل وأناس يعملون في المزرعة، وعنده أكثر من سائق، وعنده أناس كثيرون يأتمرون بأمره ولا يدخلون عليه إلا بإذنه ولا يتكلف في لقائهم أي حرج أو مشقة، هذا الرجل لا بد أن يكون ملكاً. إذن فقد أعطاهم الحق نعمة وفيرة.
والنبي صلى الله عليه وسلم يحدد الملكية الواسعة التي تحدد الفرد تحديداً إيمانياً فقال: " من أصبح منكم آمنا في سربه معافىً في جسده، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ".
ومادام قد حيزت له الدنيا بحذافيرها بهذه الأشياء فهو ملك. وقد أعطاهم هذه المسائل أي جعلهم ملوكاً. } وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن الْعَالَمِينَ { أي أنه سبحانه أعطاهم ما لم يعده لأحد مِمَّن حولهم؛ ووالى عليهم ذلك العطاء، ألم يعط - سبحانه - نبي الله سيدنا سليمان وهو من بني إسرائيل مُلْكاً لا ينبغي لأحد من بعده؟ تلك الواقعة لم يقلها موسى عليه السلام لأنها حدثت من بعد موسى بأحد عشر جيلاً.
ويقول الحق بعد ذلك: } يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ... {

(/682)


يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21)


وهذا بلاغ من موسى بما أوحى الله به إليه، ومتى حدث ذلك؟ نعرف أن صلة بني إسرائيل بمصر كانت منذ أيام يوسف عليه السلام، وعندما جاء يوسف بأبيه وإخوته وعاشوا بمصر وكونوا شيعة بني إسرائيل، ومكن الله ليوسف في الأرض وعاشوا في تلك الفترة. والعجيب أن المس القرآني للأحداث التاريخية فيه دقة متناهية، ولم نعرف نحن تلك الأحداث إلا بعد مجيء الحملة الفرنسية إلى مصر. فعندما جاءت تلك الحملة صحبت معها بعثة علمية. وكانت تلك البعثة تنقب عن المعلومات الأثرية ليتعرفوا على سر حضارة المصريين، وسر تقدم العرب القديم، الذي سبق أوربا بقرون، وأخذت منه أوربا العلوم والفنون، في حين صار هذا العالم العربي إلى غفلة.
إن العرب المسلمين هم الذين اخترعوا أشياء ذهل لها العالم الغربي، ويحكي لنا التاريخ عن هدية من أحد ملوك العرب إلى شارلمان ملك فرنسا وكانت الساعة دقاقة، وظن الناس من أهل فرنسا أن بهذه الساعة الدقاقة شيطانا. وفكرة تلك الساعة أن العالم الذي صممها وضع فيها إناء من الماء به ثقب صغير تنزل منه القطرة بثقلها على شيء يشبه عقرب الساعة، فتتحرك الساعة دقيقة واحدة من الزمن. وكانت الساعة تسير بنقطة الماء. وكان ضبطها في منتهى الدقة. وحين رآها الناس في بلاط شارلمان ملك فرنسا ظنوا أن بداخلها شياطين. وهذا نموذج من نماذج كثيرة لا حصر لها ولا عدد تدخل في نطاق قوله الحق:{ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىا يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ }[فصلت: 53]
وحينما جاء الفرنسيون إلى القاهرة كان معهم تلك البعثة العلمية ومعهم مطبعة، وعرض هؤلاء العلماء الفانوس السحري، وجعلوا الناس البسطاء يذهلون من تقدمهم العلمي. واستترت تلك الحملة بعروض أقرب إلى " الأكروبات ". وكان عمل العلماء هو البحث عن سر حضارة المصريين والمسلمين؛ لأنهم يعلمون أن الحضارة الإسلامية انتقلت إلى مصر بالإضافة إلى حضارة المصريين القدماء.
لقد كانوا يعرضون ألعابهم السحرية العلمية بدرب الجماميز، وذلك حتى ينبهر الناس بالحضارة الفرنسية. وكان علماؤهم في الوقت نفسه يكتشفون ما نقش على حجر رشيد، وهو الحجر الذي اكتشفه ضابط فرنسي شاب اسمه شامبليون، وعلى هذا الحجر كتبت الكلمات الهيروغليفية. واستطاع شامبليون أن يفصل أسماء الأعلام الهيروغليفية ومن خلال ذلك استطاع أن يصل إلىأبجدية تلك اللغة. وكأن الله أراد أن يسخر الكافرين بمنهج الله ليؤيدوا منهج الله.
إن في كل لغة شيئا اسمه " منطق الأعلامَ " ومثال ذلك أن يوجد اسم رجل أو أمير أو إنسان، فهذا الاسم مكون من حروف لا تتغير، مثال ذلك نأخذه من اللغة الإنجليزية؛ كان اسم رئيس وزراء انجلترا في وقت من الأوقات هو " تشرشل " هي كلمة إذا ترجمناها ترجمة حرفية لم تدل على صاحبها ولم تعرفنا به لأننا عندما نترجمها نكتفي بكتابة الاسم بالحروف العربية بدلاً من اللاتينية.

إذن فالأعْلاَم لا يتغير نطقها.
وكشف شامبليون عن الحروف التي لم تتغير. واهتدى إلى فك طلاسم حروف اللغة الهيروغليفية؛ فعرف كيف يقرأ المكتوب على حجر رشيد، واستطاع أن يقدم لنا بدايات اكتشاف تاريخ مصر القديمة. واستطاع أن يقرأ اللغة المرسومة على ذلك الحجر.
ولنا أن نرى عظمة القرآن حينما تعرض للأقدمين.. تعرّض لعادٍ وتعرَّض لثمود وتعرض لفرعون. تعرض لتلك الحضارات كلها في سورة الفجر، فقال سبحانه وتعالى:{ وَالْفَجْرِ * وَلَيالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ * أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ }[الفجر: 1-7]
وإرم ذات العماد هي التي في الأحقاف - في الجزيرة العربية - ولم نكتشفها بعد، ولم نعرف عنها حتى الآن شيئاً، وهي التي يقول عنها الحق:{ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاَدِ }[الفجر: 8]
ثم يتكلم بعدها عن فرعون:{ وَفِرْعَوْنَ ذِى الأَوْتَادِ }[الفجر: 10]
والأهرام أقيمت بالفعل على أوتاد، وكذلك المسلات المصرية القديمة والمعابد. وغيرها من العجائب التي بهرت الناس في مختلف العصور.{ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاَدِ }[الفجر: 8]
ثم جاء بحضارة ثمود.{ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُواْ الصَّخْرَ بِالْوَادِ }[الفجر: 9]
وقد رأينا هذه الحضارة التي كان الناس أثناءها ينحتون البيوت في الصخر، كما رأينا حضارة مصر. وحضارة عاد هي التي لم نرها حتى الآن؛ ولا بد أن تكون مطمورة تحت الأرض. ونعرف أن الهبة الرملية الواحدة عندما تهب في تلك المناطق تطمر القافلة كلها، فما بالنا بالقرون الطويلة التي مرت وهبت فيها آلاف العواصف الرملية، إذن لا بد أن ننقب كثيراً لنكتشف حضارة عاد. والحق تكلم عن موسى عليه السلام، تكلم _ أيضاً - عن المعاصرين له وكان أحد هؤلاء الفراعنة، فقال سبحانه لموسى ولأخيه هارون عليهما السلام:{ اذْهَبَآ إِلَىا فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىا }[طه: 43]
ويذهب موسى إلى فرعون حتى يخلص بني إسرائيل من ظلم فرعون. ولماذا ظلمهم فرعون؟ نحن نعرف أن كل سياسة تعقب سياسة سابقة عليها تحاول أن تطمس السياسة الأولى، وتعذب من نصروا السياسة الأولى، وتلك قضية واضحة في الكون. وهذا ما يتضح لنا من سيرة سيدنا يوسف الذي صار وزيراً للعزيز ودعا أباه وأمه وشيعته إلى مصر، ولن تأت سيرة فرعون في سورة يوسف.
وعندما تكلم القرآن على رأس الدولة في أيام يوسف قال:{ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ }[يوسف: 54]
لم يقل الحق: " فرعون " على الرغم من أنه قال قبل ذلك عنه إنه: " فرعون " وأيام موسى ذكر فرعون، لكن في أيام يوسف لم يأت بسيرة فرعون إنما جاء بسيرة مَلِك.

وعندما جاء اكتشاف حجر رشيد، ظهر لنا أن فترة وجود يوسف عليه السلام في مصر هي فترة ملوك الرعاة أي الهكسوس الذين غَزَوْا مصر وأخذوا الْمُلْكَ من المصريين وحكموهم وصاروا ملوكاً، وسمي عصرهم بعصر الملوك.
وقال القرآن: } وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ {. ولم يأت بذكر لفرعون. وعندما استرد الفراعنة ملكهم وطردوا الرعاة، استبد الفراعنة بمن كانوا يخدمون الملوك وهم بنو إسرائيل. وهكذا تتأكد دقة القرآن عندما ذكر فرعون لأنه كان الحاكم أيام موسى، لكن في زمن يوسف سمي حاكم مصر باسم الملك. وتلك أمور لم نعرفها إلا حديثاً. ولكن القرآن عرفنا ذلك. وكانت تحتاج إلى استنباط. وهي تدخل ضمن الآيات التي لا حصر لها في قوله الحق:{ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ }[فصلت: 53]
فسبحانه وتعالى بعد أن أيد موسى بالآيات وأغرق فرعون، هنا قال لهم موسى:{ يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَىا أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ }[المائدة: 21]
فقد انتهت المهمة بتخليص بني إسرائيل من فرعون، وخلصوا أهل مصر من فرعون. وكانت الدعوة لدخول الأرض المقدسة. وكلمة الأرض إذا أطلقت صارت علماً على الكرة الجامعة. ووردت كلمة " الأرض " في قصة بني إسرائيل في مواضع متعددة لمواقع متعددة.
فها هوذا قول الله في آخر سورة الإسراء:{ وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ }[الإسراء: 104]
فهل هناك سكن إلا الأرض؟ إن أحداً لا يقول: اسكن كذا إلا إذا حدد مكاناً من الأرض؛ لأن السكن بالقطع سيكون في الأرض، فكيف يأتي القول: } اسْكُنُواْ الأَرْضَ {؟ والشائع أن يقال: اسكن المكان الفلاني من المدن، مثل: المنصورة أو أريحا، أو القدس. وقوله الحق: } اسْكُنُواْ الأَرْضَ { هو لفتة قرآنية، ومادام الحق لم يحدد من الأرض مسكوناً خاصاً، فكأنه قال: ذوبوا في الأرض فليس لكم وطن، وانساحوا في الأرض فليس لكم وطن، أي لا توطن لكم أبداً، وستسيحون في الأرض مقطعين، وقال سبحانه:{ وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً }[الأعراف: 168]
وحين يأتي القرآن بقضية قرآنية فلنبحث أايدتها القضايا الكونية أم عارضتها؟ القضية القرآنية هنا هي تقطيع بني إسرائيل في الأرض أمما، أي تفريقهم وتشتيتهم ولم يقل القرآن: " أذبناهم " بل قال: " قطعناهم " وتفيد أنه جعل بينهم أوصالاً ولكنهم مفرقون في البلاد. وعندما نراهم في أي بلد نزلوا فيها نجد أن لهم حيا مخصوصا، ولا يذوبون في المواطنين أبداً، ويكون لهم كل ما يخصهم من حاجات يستلقون بها، فكأنهم شائعون في الأرض وهم مقطعون في الأرض ولكنهم أمم، فهناك " حارات " وأماكن خاصة لليهود في كل بلد.
حدث ذلك من بعد موسى عليه السلام، لكن ماذا كان الأمر في أيام موسى؟ قال لهم الحق: } ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ { أي بعد رحلتكم مع فرعون اذهبوا إلى الأرض التي كتبها الله لكم.

ونلحظ هنا أن كلمة " الأرض المقدسة " فيها تحييز وتحديد للأرض.
ولكن ما معنى " مقدسة "؟ المادة كلها تدل على الطهر والتطهير. فـ " قَدَّس " أي طهّر ونزّه، ومقدسة يعني مطهرة. والألفاظ حين تأتي تتوارد جميع المادة على معانٍ متلاقية. ففي الريف المصري نجد ما نسميه " القَدَس " أو " القادوس " وهو الإناء الذي يرفع به الماء من الساقية، وكانوا يستعملونه للتطهير، فالقادوس في الريف المصري هو وعاء الماء النظيف. وعندما يقال: " مقدسة " أي مطهرة.
إن من أسماء الحق " القُدُّوس " ، ويقال: " قُدِّس الله " أي نزه " ، فالله ذات وليست كذات الإنسان، وله سبحانه صفات منزهة أن تكون كصفاتك، وهو سبحانه له أفعال، ولكن قدسه وطهره منزهة أن تكون كأفعالك. فذات الحق واجبة الوجود وذات الإنسان ممكنة الوجود؛ لأن ذات الإنسان طرأ عليها عدم أول، ويطرأ عليها عدم ثانٍ، وهو سبحانه واجب الوجود لذاته، والإنسان واجب لغيره وهو قادر سبحانه أن ينهي وجود العبد. ولله حياة وللإنسان حياة، لكن أحياتك أيها الإنسان كحياة الله؟ لا.
إن حياته سبحانه منزهة وذاته ليست كذاتك، وصفاته ليست كصفاتك، فأنت قادر قدرة محدودة وله سبحانه طلاقة القدرة، وهو سبحانه سميع والعبد سميع؛ لكن سمع البشر محدود وسمعه سبحانه لا حدود له.
إذن فصفاته مقدسة، ولذلك فعندما تسمع أنه سبحانه سميع عليم فليس سمعه كسمعنا، وله فعل غير فعلنا. وعندما يقول الحق: إنه فعل، ففعله منزه عن التشبيه بفعل البشر؛ لأن البشر من خلق الله، وفعل البشر معالجة، ويكون للفعل بداية ووسط ونهاية ويفرغ من الأحداث على قدر الزمن. ونحن نحمل الأشياء في أزمان متعددة ويحتاج من يحمل الأشياء إلى قوة. ولكن فعل الحق مختلف، إنه فعل بـ " كن " لذلك قال:{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ }[ق: 38]
أي أنه سبحانه وتعالى منزه عن التعب، فهو يقول: } كُنْ فَيَكُونُ { ولذلك قلنا في مسألة الإسراء: إننا يجب أن ننسب الحدث إلى الله لا إلى محمد صلى الله عليه وسلم، حتى نعرف أن الذين عارضوا رسول الله في مسألة الإسراء كانوا على خطأ فقد قالوا: أنضرب لها أكباد الإبل شهراً وتدعي أنك أتيتها في ليلة؟!
إن رسول الله لم يدع لنفسه هذا الأمر، لأنه لم يقل: سريت من مكة إلى بيت المقدس " حتى تقولوا: أنضرب لها أكباد الإبل شهراً وتدعي أنك أتيتها في ليلة ".
لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: أُسْرِيَ بي. أي أنه صلى الله عليه وسلم ليس له فعل في الحدث.

والفعل إذن لله. ومادام هو من فعل الله فهو لا يحتاج إلى زمن؛ لذلك كان يجب أن يفهموا على أي شيء يعترضون. ولكنا نعرف أن الله سبحانه وتعالى أراد لهم أن يفهموا على تلك الطريقة؛ لأنه سيأتي أناس من المتحذلقين المعاصرين ويقولون: " إن الإسراء كان بالروح " نقول لهم: بالله لو قال محمد للعرب: أنا سريت بروحي أكانوا يكذبونه؟ تماما مثلما يقول لنا قائل: " أنا كنت في نيويورك الليلة ورأيتها في المنام " فهل سيكذبه أحد؟ لا. إذن لقد كذب العرب لأنهم فهموا أنه أُسْرِيَ به بمعنى كامل.. أي كان الإسراء بالجسد والروح معا، بدليل أنهم قارنوا فعلاً بفعل، وحدثاً بحدث، ونقلة بنقلة، وقالوا قولهم السابق. لقد جاءت هذه المسألة لتخدم الإسلام.
إذن فـ " قدوس " يعني مطهر ومنزه. وساعة ترى شيئاً مخالفاً لقضية العقل اقرنه بفعل الله،ولا تقرنه بفعلك أنت أيها العبد؛ لأن الفعل يتناسب مع قوة الفاعل طرداً أو عكسا. فإن كان الفاعل صاحب قدرة قوية. فزمنه أقل. مثال ذلك: نقل أردب من القمح من مكان إلى مكان، فإن كان الذي يحمل الأردب طفلاً فلن ينقل الأردب إلا قدحا بقدح؛ وإن كان رجلا ناضجا سينقل الأردب " كيلة بكيلة ". وإن كان صاحب قوة كبيرة قد ينقل الأردب كله مرة واحدة. إذن فالزمن يتناسب مع القوة تناسبا عكسيا. فإن كثرت القوة قل الزمن. وهات أي فعل بقدرة الله فلن يستغرق أي زمن.
إذن قدس الله في كل شيء. والأرض المقدسة هي المطهرة، وذلك بإرادة الحق سبحانه، تماما كما أراد سبحانه أن تكون بقعة من الأرض هي الحرم، لا يتم فيها الاعتداء على صيد أو نبات أو اعتداء بعضكم على بعض، وهل ذلك كلام كوني أو كلام تشريعي؟{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً }[العنكبوت: 67]
لو كانت المسألة إرادة كونية، فكان لا بد ألا يحدث خلل أبداً وألا يعتدي أحد على أحد. وما الفرق بين الكوني والتشريعي؟ إن الكوني يقع لأنه لا معارض في الأمور القهرية، فالحق يريد أن يكون عبداً طويل القامة، فتلك إرادة كونية تحدث ولا دخل للعبد بها. ولكن إن أراد الحق أن تكون طائعا مصليا، فتلك إرادة تشريعية. والإرادة تكون تشريعية فيما إذا كان للمريد اختيار، يصح أن يفعلها ويصح ألا يفعلها؛ لكن الإرادة الكونية هي فيما لا إرادة للإنسان فيه وواقع على رغم أنف الإنسان.
والله سبحانه وتعالى يريد الحرم آمنا. وتلك إرادة تشريعية لأنه حدث أن أهيج فيه أناس ولم يأمنوا. ولو كانت إرادة كونية لما حدثت أبداً. لذلك فهي إرادة تشريعية، فإن أطعنا ربنا جعلنا الحرم آمنا، وإن لم نطعه فالذي لا يطيع يهيج فيه الناس ويفزعهم ويخيفهم.

فمراد الله عز ومطلوبه شرعا " أن يكون الحرم آمنا ".
} ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ { فهل هذه الأرض المقدسة كتبها الله لهم كتابة كونية أو كتابة تشريعية؟ إن كانت كتابة كونية لكان من اللازم أن يدخلوها ولكنه قال:{ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ }[المائدة: 26]
إذن هي إرادة تشريعية وليست إرادة كونية. فإن أطاعوا أمر الله وتشجعوا ودخلوا الأرض المقدسة فإنهم يأخذونها، وإن لم يطيعوه فهي محرمة عليهم. إذن فلا تناقض بين أن يقول سبحانه: إنه كتبها لهم، ثم قوله من بعد ذلك: إنها محرمة عليهم، لقد كتبها سبحانه كتابة تشريعية. فإن دخلوها بشجاعة ولم يخافوا ممن فيها واستبسلوا ووثقوا أن وراءهم إلهاً قوياً سيساندهم؛ فإنهم سيدخلونها، أما إن لم يفعلوا ذلك فهي محرمة عليهم.{ يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَىا أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ }[المائدة: 21]
وجاءت الأرض هنا أكثر من مرة:{ وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ }[الإسراء: 104]
وعرفنا مراد ذلك القول. ولادقة هنا أنه سبحانه جاء بأمر السكن في الأرض لبني إسرائيل أي في الأرض عموما ومحكوم عليهم أن يكونوا قطعا ومشردين.{ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً }[الإسراء: 104]
أي أنه سبحانه يجمعهم من كل بلد ويجيء بعد ذلك وعد الآخرة الذي جاء في أول سورة الإسراء:{ وَقَضَيْنَآ إِلَىا بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً }[الإسراء: 4]
لأن الحق حينما قال:{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىا بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَىا الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ }[الإسراء: 1]
أي أنه سبحانه وتعالى يدخل بهذه الآية المسجد الأقصى في مقدسات الإسلام. وأوضح الحق لهم: يا أيها اليهود أنتم ستعيشون في مكان بعهد من رسولي، ولكنكم ستفسدون في المكان الذي تعيشون فيه وسيتحملكم القوم مرة أو اثنيتن وبعد ذلك يسلط الله عباداً له يجوسون خلال دياركم ويشردونكم من هذه البلاد.
والحق يبلغنا: نحن أعلمنا بني إسرائيل في كتابهم ما سيحدث لهم مع الإسلام:{ وَقَضَيْنَآ إِلَىا بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً * فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً }[الإسراء: 4-5]
وبعض الناس يقولون: إن هذا كان أيام بختنصر؛ ونقول لهم: افهموا قول الحق: } فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا { وكلمة " وعد " لا تأتي لشيء يسبق الكلام بل الشيء يأتي من بعد ذلك. إذن فلم يكن ذلك في زمان بختنصر. فـ " إذا " الموجودة أولاً هي ظرف لما يُستقبل من الزمان، أي بعد أن جاء هذا الكلام. ثم هل كان بختنصر يدخل ضمن عباد الله؟. إن قوله الحق: } عِبَاداً لَّنَآ { مقصود به الجنود الإيمانيون، وبختنصر هذا كان فارسيا مجوسيا.
وهذا القول الحكيم يشير إلى الفساد الأول مع رسول الله بعد العهد الذي أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أجلاهم.

وهل هي تقتصر على هذه؟ يقول سبحانه:{ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً }[الإسراء: 5]
ولنا أن نسأل: وهل لم يفسد بنو إسرائيل في الأرض إلا مرتين؟. لا، لولا أنهم لم يفسدوا في الأرض سوى مرتين، لكان ذلك بالقياس إلى مافعلوه أمراً طيباً؛ فقد أفسدوا أكثر من ذلك بكثير. ولابد أن يكون إفسادهم في الأرض المقصودة هو الفساد الذي صنعوه بالأرض التي كانت في حضانة الإسلام، وسبحانه قد قال: } بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ { فمادام يوجد " عباد الله خالصوا الإيمان وأعدوا العدة فلا بد أن يتحقق وعد الله، لكن إذا ما تخلى الناس عن هذا الوصف؛ فعلى الناس الذين يعانون من إفساد بني إسرائيل أن يتلقوا ما قاله الله:{ ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ }[الإسراء: 6]
فكأن الكّرَّة لا ترد إلا إذا كان القوم المؤمنون على غير مطلوب الإيمان. فإذا ما تساءل بعض المؤمنين: ولماذا تجعل يا الله الكّرَّة لبني إسرائيل؟. تكون الإجابة: لأنكم أيها الناس قد تخلفتم عن مطلوب العبودية الخالصة لله. ومادمنا قد تخلفنا عن مفهوم " عباد الله " فلا بد أن تحدث لنا تلك السلسلة الطويلة التي نعرفها من عدوان بني إسرائيل. ونحن الآن في مواجهة اليهود في مرحلة قوله الحق:{ ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ }[الإسراء: 6]
فإذا كنا عباداً لله فلن يتمكنوا منا. والله سبحانه وتعالى حينما يتكلم بقضية قرآنية فلا بد أن تأتي القضية الكونية مصدقة لها.
ولو استمر الأمر دون كرّة من اليهود علينا، بينما نحن قد ابتعدنا عن منهجنا وأصبح كل يتبع هواه، لكانت القضية القرآنية غير ثابتة. ولكن لا بد من أن تأتي أحداث الكون مطابقة للقضية القرآنية. ولذلك رأينا أن بعض العارفين الذين نعتقد قربهم من الله حينما جاء أحدهم خبر دخول اليهود بيت المقدس سجد لله.
فقلنا: " أتسجد لله على دخول اليهود بيت المقدس ". فقال: نعم. صدق ربنا لأنه قد قال: } وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ { هكذا قال الحق، وهل يكون دخول لثاني مرة إلا إذا كان هناك خروج من أول مرة؟. لقد حمد ذلك العارف بالله ربنا لأن قضايا القرآن تتأكد بالكونيات، فإذا ما قال الحق:{ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ }[الإسراء: 6]
فليست المسألة أنهم لكونهم يهوداً لا يعطيهم الله الكّرَّةَ. ولكن القضية هي أننا عندما نكون عباداً لله حقيقة.. اعتقادا وسلوكا.. قولا وعملا ننتصر عليهم.{ ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً }[الإسراء: 6]
وهم أغنياء لأنهم يديرون معظم حركة المال في العالم المعاصر.

ولأنهم جميعاً في الجيش المدافع عن دولتهم. وذلك معنى بنين وأكثر نفيرا. النفير هو ما يستنفره الإنسان لنجدته؛ لأن قوة ذاته قاصرة عن الفعل. واليهود ليسوا قوة ذاتية بمفرد دولتهم، ولكن وراءهم أهم قوى في العالم المعاصر.
إذن فقوله الحق:{ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ }[الإسراء: 6]
قول صدق وحق.
وقوله الحق:{ وَبَنِينَ }[الإسراء: 6]
قول صدق وحق.
وقوله الحق:{ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً }[الإسراء: 6]
قول صدق وحق.
ثم بعد ذلك يحسم الله قضيته ويقول لليهود:{ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا }[الإسراء: 7]
وهل تستمر الكرَّة يا رب؟.
لا. فها هوذا الحق سبحانه يقول:{ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ }[الإسراء: 7]
كأن الحق يعطينا البشارة بأننا سننتصر؛ ويكون الانتصار مرهونا بتنفيذ القاعدة التي شرعها الله بأن نكون عباداً لله حقا، عندئذ سَيَكِلُ الله لنا تنفيذ وعده لليهود:{ لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ }[الإسراء: 7]
وأشرف ما في الإنسان هو الوجه، وعندما نكون عباداً لله سنسوء وجوههم، وفوق ذلك:{ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً }[الإسراء: 7]
ولم يأت الحق بذكر المسجد من قبل، فها هوذا قوله الكريم:{ وَقَضَيْنَآ إِلَىا بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً * فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً }[الإسراء: 4-5]
إذن فالحق هنا لم يأت بذكر المسجد في أول مرة. فكيف يكون دخولنا المسجد إذن؟. لقد دخلنا المسجد الأقصى أول مرة في الامتداد الإسلامي في عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه. والمسجد الأقصى أيام عمر بن الخطاب لم يكن في نطاق بني إسرائيل، ولكن كان في نطاق الدولة الرومانية، فدخولنا المسجد أول مرة لم يكن نكاية فيهم. ولكن الحق جاء بالمرة الثانية هنا والمسجد في نطاق سيطرة بني إسرائيل.{ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ }[الإسراء: 7]
سنكون نحن إذن عباداً لَلَّهِ ذوي البأس الشديد الذين سندخل المسجد الأقصى كما دخلناه أول مرة، وجاء الحق سبحانه بالمسجد هنا؛ لأن دخول المسجد أول مرة لم يكن إذلالاً لليهود، فقد كانت السلطة السياسية في ذلك الزمن تتبع - كما قلنا - الدولة الرومانية.
ويضيف الحق من بعد ذلك:{ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً }[الإسراء: 7]
وحتى نتبر ما يُعْلُونه - أي نجعله خرابا - لابد أن تمر مدة ليعلوا في البينان.
وعلينا أن نعد أنفسنا لتكون عباداً لله لنعيش وعد الآخرة وقد جعلها الله وعدا تشريعياً، فإذا عدنا عباداً لله فسندخل المسجد ونتبر ما علوا تتبيرا، والحق سبحانه وتعالى في آيات سورة المائدة التي نحن بصدد خواطرنا عنها يأتي بلقطة عن بلاغه لسيدنا موسى بعد خروجه مع قومه من مصر، فقال:{ يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَىا أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ }[المائدة: 21]
وقلنا إن الكتابة هنا تشريعية وليست كونية، فلو كان الأمر كونياً لدخلوا الأرض المقدسة بدون عقبات وبدون صراع وبدون قتال.

والدليل على أن الكتابة تشريعية هو قوله الحق: } وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَىا أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ { أي أنكم إن ارتددتم على أدباركم انقلبتم خاسرين. فإن أطعتم الله ودخلتم الأرض دون إدبار، فستدخلون الأرض، وإن لم تفعلوا فلن تدخلوها. إذن ليست كتابة الأرض هنا كونية، ولكنها تشريعية.
وقوله الحق: } وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَىا أَدْبَارِكُمْ { يشرح لنا طبيعة مواجهة الخصم؛ فالإنسان حين يواجه خصمه فهو يواجهه بوجهه. فإن فرّ الخصم من أمامه فهو يولي أدباره. والتولي على الأدبار يكون على لونين: لون هو الإدبار من أجل أن ينحرف الإنسان إلى جماعة وفئة لتشتد قوتهم ويقووا على هزيمة العدو أو يصنع مكيدة؛ ليعيد مواجهة الخصم، ولون آخر وهو الفرار وذلك مذموم، ومن المعاصي الموبقات المهلكات. وفي ذلك يقول الحق سبحانه:{ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَىا فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ }[الأنفال: 16]
فالارتداد على الأدبار ليس مذموماً إن كان من أجل حيلة أو صنع كمين للعدو. وفي هذه الحالة لا بأس أن يرتد الإنسان، أما خلاف ذلك فهو مذموم. وهل الارتداد على الأدبار رجوع بالظهر إلى الوراء مع الاحتفاظ بالوجه في مواجهة الخصم؟. أو هو التفات بالوجه ناحية الدبر وفرار من العدو؟. كلا الأمرين يصح. وقد جاء الأمر إلى بني إسرائيلَ بعدم الفِرار ليدخلوا الأرض فماذا كان موقفهم مادامت الكتابة لهذا الأمر تشريعية؟.

(/683)


قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22)


كيف إذن يعلنون هذا التمرد على امر الحق؟. وكيف علموا أن فيها قوماً جبارين؟. ولنا أن ننتبه إلى أن الحق قد قال من قبل:{ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً }[المائدة: 12]
فقد ذهب النقباء أولاً وتجسسوا ونقبوا وعرفوا قصة هذه الأرض المقدسة، وأن فيها جماعة من العمالقة الكنعانيين. وساعة رأوا هؤلاء القوم، قالوا لأنفسهم: هل سنستطيع أن نقاوم هؤلاء الناس؟ إن ذلك أمر لا يصدق؛ لذلك لن ندخلها ما داموا فيها. إذن فقد تخاذلوا وارتدوا على أدبارهم. { قَالُوا يَامُوسَىا إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ }.
وساعة أن تسمع كلمة " جَبَّار " تجدها أمراً معنوياً أُخذ من المحسات؛ فالجبارة هي النخلة التي لا تطولها يد الإنسان إذا أراد أن يجني ثمارها. وعندما تكون ثمار النخلة في متناول يد الإنسان حين يجني ثمارها فهي دانية القطوف، أما التي لا تطولها يد الإنسان لحظة الجني للثمار فهي جَبَّارة؛ لذلك أخذ هذا المعنى ليعبر عن الذي لا يقهر فسمي جباراً، وقد يكون الجبار مُكرِهاً ولكن على الإصلاح، وفي بلادنا نطلق على من يصلح كسور العظام " المجبراتي ".
أي أنه يجبر العظام على أن تعود إلى مكانها الطبيعي. وقد يتألم الإنسان من ذلك، ولكن في هذا إصلاح لحياة الإنسان. و " الجَبَّار " اسم من أسماء الله؛ لأنه سبحانه يَقْهَر ولا يُقهَر. وقد يُكرهنا سبحانه وتعالى حتى يصلحنا. ويخنبرنا بالابتلاءات حتى يمحصنا وتستوي حياتنا.
إذن فـ " الجبار " صفة كمال في الحق لأنه يستعمل جبروته في الخير ويقهر الظالمين والمعاندين والمكابرين، وذلك لمصلحة الأخيار الطيبين. وهو سبحانه وتعالى لا يُقهَر. فعندما يكون في صف جماعة فإن أحداً لا يغلبهم، أما الجبار كصفة في الخلق فعي مذمومة؛ لأن التجبر هنا بدون أصالة كالبناء الأجوف. فالمتجبر قد يصيبه قليل من الصداع فيرقد متوجعاً.
إننا نرى أمثلة لذلك في حياتنا، نجد المتجبر يصاب بأزمة قلبية فيحمل على نقالة إلى المستشفى، ونجد جباراً آخر يصاب بقليل من المغص، فيجري وهو ممسك ببطنه فيضحك عليه الأطفال. ويقولون له ما معناه: العب بعيداً فلست جباراً ولا فتوة ولا أي شيء. والجبار إن أراد أن يكون كذلك فعليه أن يكون صاحب رصيد مستمر، فلا تراه يوماً غير جبار. ولا يكون التجبر صفة ذاتية إلا لله سبحانه وتعالى.
ويقول الحق: { وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىا يَخْرُجُواْ مِنْهَا } وساعة نسمع " لن " تسبق الفعل فلنعرف أنها للنفي. والنفي قد يأخذ زمناً طويلاً، وقد يأخذ زمناً تأبيدياً. والفرق بين الدخول فقط والدخول التأبيدي، أن الدخول الأول له زمن ينهيه، والدخول الثاني لا زمن له لينهيه كدخول المؤمنين الجنة.
وإذا عين الدخول بغاية كقولهم: { وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىا يَخْرُجُواْ مِنْهَا } أي أن النفي التأبيدي مرتبط بغاية وهي خروج القوم الجبارين. والتأبيد هنا إضافي لأنهم قالوا: إنهم لن يدخلوا الأرض في مدة وجود الجبارين.
{ فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ } ونقول: وهل الأمم التي تخطو إلى الشر وتمارسه يمتنع فيها وجود عناصر الخير؟. لا؛ لأن الحق يبقي بعضاً من عناصر الخير حتى لا ينطمس الخير، وهذا ما يوضحه الحق في بني إسرائيل عندما قالوا لموسى هذا القول، فقد خالفهم رجلان منهم: { قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ... }

(/684)


قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)


وهما رجلان يخالفان النكوص عن أمر الله، بينما بنو إسرائيل - كمجموع - لم يفهموا عن الله حق الفهم؛ لأنهم لو نفذوا أمر الله لهم بالدخول إلى الأرض المقدسة ولم ينكصوا لمكنهم الله من ذلك. لكن لم يفهم عن الله فيها إلا رجلان. وهما كالب، ويوشع بن نون، أحدهما من سبط يهوذا والآخر من سبط افرايم، وهما ابنا يوسف عليه السلام، فقد قالا: مادام الله قد كتب لكم الدخول، فهو لا يطلب منا إلا قليلاً من الجهاد.
فحين يأمر الله الإنسان بعمل من الأعمال، فيكفيه أن يتوجه إلى العمل اتجاهاً والمعونة من الله. وسبحانه يقول للعبد: " أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني. فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ، ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرّب إليّ بشبر تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إليّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة ".
فإذا كان الشأن في المشي أن يتعب الذاهب والسائر، فالله لا يرد أن يرهق بالمشي من يقصده ويطلبه؛ لذلك يُهرول فضله ورحمته - سبحانه - إلى العبد. فالرغبة الأولى أن يكون العمل لك أنت أيها العبد. ومن عظائم فضل الله أنه فعل ونسب إليك. وسبحانه يسعد بالعبد الساعي إليه. وأضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - لنفترض أنك أردت أن تمسك سيفاً، لماذا لا تحلل المسألة؟. السيف الذي تمسكه، صنعته من الحديد، والحديد استخرجته من الأرض.
والحق قال:{ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ }[الحديد: 25]
إن الحق هو الذي أنزل الحديد، وهو الذي علمنا كيف نصقل الحديد ونشكله بالنار:{ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ }[الأنبياء: 80]
وأنا أريد من علماء وظائف الأعضاء أن يحددوا لنا ساعة أن يمسك الإنسان بشيء وليكن السيف. فبأي عضلة يمسك الإنسان السيف؟. وكيف يأمرها الإنسان بذلك؟. وكم عضلة وكم خلية عصبية تحركت من أجل أداء هذا الفعل؟. على الرغم من أن الإنسان بمجرد إرادته أن يمسك شيئاً. فهو يمسك به. والإنسان إذا ما مشى خطوة واحدة، فبأي العضلات بدأ المشي.
إن الإنسان عندما يحرك ذراعاً آلياً في جهاز آلي؛ يصمم عشرات الوصلات والأدوات والدورات الكهربية من أجل تحريك ذراع آلي، فكم إذن من عضلات في الإنسان تتحرك بالسير لخطوة واحدة؟ إن الكثير جداً من أجهزة الإنسان تتحرك بالسير لخطوة واحدة. إن الكثير جداً من أجهزة الإنسان تتحرك لمجرد الإرادة منه!!. فإذا كانت إرادة الإنسان تفعل لمجرد أن يريد سواء أكانت هذه الإرادة هي الإمساك بالسيف أم حتى المشي لخطوة واحدة، أم حتى الإمساك بالقلم بين الأصابع للكتابة.

فليعلم الإنسان أن الإرادة عطاء من الله والإنسان لا يستطيع تحديد مواقع إرادته من جسده فما بالنا بالحق حين يريد أمراً؟
ولنعد إلى الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها الآن:{ قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }[المائدة: 23]
لقد أنعم الله على هذين الرجلين بحسن الفهم عن الله، فقالا لبني إسرائيل: ساعدوا أنفسكم بدخول هذه الأرض وسينصركم الله. ومثل الرجلين كمثل الأم التي طلب منها ابنها أن تدعو له بالنجاح، فقالت الأم لابنها: سأدعو لك ولكن عليك فقط أن تساعد الدعاء بالإقبال على الاستذكار. وكأن الخوف من مخالفة أمر الله نعمة على هذين الرجلين، وكأن الفهم عن الله لعباراته نعمة.
} ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ { كأنهم بمجرد الدخول سيغلبون هؤلاء العمالقة. فلم يطلب منهم قتال هؤلاء العمالقة. بل ساعة يراهم القوم الجبارون يدخلون عليهم فجأة فسوف يذهلهم الرعب.
وهم عندما نسجوا الأساطير حول هذه القصة قالوا: إن أحد هؤلاء العمالقة واسمه عوج بن عناق خرج إلى بستان خارج المدينة ليقطف بعض الثمار لرئيسه؛ فخطف اثنين من هؤلاء الناس وخبأهما في كمّه، وألقاهما أمام رئيسه وهو يقدم الفاكهة إليه وقال الرجل العملاق لرئيسه: هذان من الجماعة التي تريد أن تدخل مدينتنا. هذه هي المبالغة التي صنعها خوفهم من هؤلاء العمالقة، برغم أن رجلين منهما أحسنا الفهم عن اللَّه بقولهما: } ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ {؛ لأن هذا هو مراد الله، وهو الذي يحقق لهم النصر.
وبعض المفسرين قالوا في شرح هذه الآية: إن الرجلين اللذين قالا ذلك ليسا من بني إسرائيل؛ لأن هؤلاء المفسرين فهموا القول الحكيم: } قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ { قالوا هما رجلان من الذين يخاف منهم بنو إسرائيل، وقالا لبني إسرائيل: لا يُخيفكم ولا يُرهبكم عظم أجسام هؤلاء فإن جنود الله ستنصركم:{ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ }[المدثر: 31]
ويختتم الحق الآية بهذا التذييل: } وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ { أي لا تتوقفوا عند حساب العدد في مواجهة العدد، والعُدة في مواجهة العُدة، ولكن احسبوا الأمر إيمانياً لأن اللَّه معكم } إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ {.
وهو سبحانه القائل:{ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ }[الصافات: 173]
وعلى المؤمن باللَّه أن يضع هذا الإيمان في كف قوته. فإن كان هؤلاء الناس من بني إسرائيل المأمورين بدخول تلك الأرض مؤمنين بحق فليتوكلوا على اللَّه.
فماذا قال هؤلاء القوم: } قَالُواْ يَامُوسَى... {

(/685)


قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)


كأن خلاصة قولهم لموسى عليه السلام: لا ترهق نفسك معنا ووفّر عليك جهدك فنحن لن ندخل هذه الأرض، مادام هؤلاء العمالقة فيها. وإن كانت مصرّاً على دخولنا هذه الأرض فاذهب أنت وربك فقاتلا ونحن بانتظاركما هنا قاعدون. هكذا بلغ بهم الخوف أن سخروا من موسى وربّ موسى. وهكذا وصل بهم الاستهزاء إلى تلك الدرجة المُزرية. ولم يكن ذلك بالأمر الجديد عليهم فقد قالوا من قبل:{ أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً }[النساء: 153]
ومن قبل ذلك أيضاً عبدوا العجل. فماذا يقول موسى: { قَالَ رَبِّ إِنِّي لا... }

(/686)


قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25)


وكان هارون أخاً لموسى عليه السلام ومُرسلاً مثله؛ فكأن موسى عليه السلام قد أعلن عدم ثقته في هؤلاء القوم الذين أرسله اللَّه إليهم؛ حتى ولا يوشع بن نون ولا كالب، وهما الرجلان اللذان قالا لبني إسرائيل: إنه يكفي دخول الباب لتهزموا هؤلاء الناس العمالقة. لكن أكانت نفس أخيه مملوكة له؟ أم أنه قال ما فحواه: إني لا أملك إلا نفسي وكذلك أخي لا يملك إلا نفسه، أما بقية القوم فقد سمعت منهم يارب أنهم لم يدخلوا هذه الأرض مادام بها هؤلاء العمالقة. إذن فأنا وأخي في طرف وبقية القوم في طرف آخر؛ لذلك افصل بيننا وبين هؤلاء القوم الفاسقين.
والحق سبحانه وتعالى في هذا التعبير القرآني يأتي بهذه الكلمات على لسان سيدنا موسى والتي تحتمل أن يرقّ لها قلب واحد من أتباع موسى عليه السلام فيقول لموسى: إنني معك. ولذلك جاء قول موسى: { فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ }. ومعنى الفاسقين - كما عرفنا - هم من خرجوا عن الإيمان، كما تفسق الرطبة؛ فالبلحة عندما ترطّب فإن قشرتها تتسع عن حجمها؛ فتخرج الرطبة من قشرتها؛ ويقال فسقت الرطبة؛ فكأن الإيمان كالجلد والجلد كالقشرة. وهو كغلاف يحيط بالإنسان. وعندما يفسق الإنسان عن الإيمان فهو يخرج عن قانون الصيانة، وكذلك كان فسق بني إسرائيل؛ لذلك قال الحق: { قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ... }

(/687)


قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)


فهل كان التحريم مدته أربعون عاما؟ أو أنه قال: " إنها مُحرّمة عليهم " وانتهى الأمر لأنهم تَأَبّوا على أن يدخلوها؟. ولذلك فكل الذين قالوا: " لن ندخلها أبداً ماداموا فيها " لم يعش منهم أحد ليدخل هذه الأرض. وبعد ذلك صدر الحكم الآتي: { أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ } فهل هذا القول هو استئناف للقول السابق فيكون ظرفاً لـ " مُحرّمة ". أو هو حكم منفصل؟.
تصح هذه، وتصح تلك. والتيه هو كما نقول: فلان تاه أي سار على غير هدى ولا يعرف لنفسه مدخلاً ولا مخرجاً، والواحد عندما يدخل في مجال متشعب المسالك ومتعرج الطرقات، فهو لا يعرف كيفية الخروج منه، هذا هو التيه. ولكن كم فرسخاً هي مساحة التيه؟. حدّدها العلماء بستة فراسخ [والفرسخ قدر ثلاثة أميال]. كيف يتيهون في تلك المساحة الضيقة من الأرض؟
لقد أراد الله ذلك؛ لأنهم ساعة يمشون ويرهقون فينامون ويأتي عليهم الصباح ليجدوا أنفسهم عند النقطة التي بدأوا منها، وكانوا يضعون العلامات لإيضاح الطريق، لكنهم كل صباح كانوا يجدون العلامات قد انتقلت من مكانها. وظلّوا على هذا الوضع وفي هذا التيه إلى الأمد والوقت الذي حدده الله وهو أربعون سنة يتيهون في الأرض. وحين يؤدبّ الله عاصياً يحفظ له من القوت والرزق ما يبقى به حياته ولو كان كافراً؛ لأنه سبحانه هو الذي استدعاهم إلى الوجود، ولهذا لم يضنّ عليهم في التيه بما لم يضنّ به على الكافرين به سبحانه.
إذن حفظ الحياة أمر ضروري. وعنما يرتكب إنسانٌ مَا ذنباً كبيراً في حق المجتمع فإننا نضعه في السجن، ولكننا نطعمه ونسقيه، وعندما يرتقي المجتمع الإنساني، فهو يوفّر للسّجين عملاً يتناسب مع مواهبه ويحبس عنه حُرية الحركة في المجتمع، والسجين المذنب يظل في السجن، ولكنه يأكل ويشرب وينام ويعمل، فقط تختلف المسألة في النقطة المهمة في الحياة وهي أن يتحرك المتحرك وفق حريته، فما بالنا بالحق الأعظم عندما سجنهم في التيه؟. لقد أطعمهم الله وسقاهم وأنزل عليهم المَنّ والسَّلوى.
وقد يقول قائل: إن الله قد أنزل عليهم المَنّ والسَّلوى ليعيشوا كُسَالى وغّرقى في التَكبر والغرور. ونقول: لا. فذلك الإجراء الإلهي من ضمن حكمه البالغة أن يطيل عليهم الوقت. فلو أنه سبحانه وتعالى قد جعلهم يزرعون ويحرثون لانشغلوا بأمور الحياة اليومية، لكن الحق أراد أن يُطيل عليهم الإحساس بالزمن. فالمسألة ليست طعاماً وشراباً. ولكن هناك كرامة فوق الطعام وفوق الشراب.
إننا نرى ذلك عندما نسمع عن اعتقالات لبعض الأفراد الذين أساءوا للمجتمع. وتسمح لهم السلطات بالطعام الذي يأتيهم من منازلهم. ولكنَّ هؤلاء المعتقلين يشعرون بالضيق من تقييد الحركة.

إذن أراد الحق لهم عقاباً صارماً في فترة التيه. ولذلك نجد بعضهم يحسب المسألة والزمن في فترة التيه، فيقول الواحد منهم ما ذكره الحق:{ وَوَاعَدْنَا مُوسَىا ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَىا لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي }[الأعراف: 142]
وبعد أن رحل موسى عن القوم عبدوا العجل الذي صنعه لهم موسى السامريّ، وعاد إليهم موسى وعاتب أخاه هارون العتاب القاسي، وعاقبهم ربهم على كفرهم أربعين سنة. كأن كل يوم من عبادة العجل صار سنة من العقاب في التيه. ولأنه رَبُّ ورحيم لم يتركهم دون أن يحفظ لهم حياتهم بالقوت، فكان القوت هو المَنّ والسَّلوى. هل كان موسى عليه السلام معهم في التيه أم لا؟ وهل مات معهم في التيه أم لا.؟ تلك أسئلة لا تهمنا الإجابة عنها بالرغم من أن بعض العلماء قد شغلوا أنفسهم بها؛ فتلك أمور لا تنفع ولا تضر. المهم أن بني إسرائيل لم يدخلوا أريحا إلا على يد يوشع بن نون بعد الأربعين سنة:{ قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ }[المائدة: 25-26]
ولنا أن نقرأ هذا القول الحكيم كما يلي: } قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ {. وهذا الوقف يعطينا الفهم بأن الأرض المقدسة صارت مُحَّرمة عليهم إلى الأبد. وبعد ذلك يأتي أمر الله بعقابهم في التيه أربعين سنة: } أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ {. أما لو قرأنا هذا القول الحكيم كما يلي: } قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ { فهذه القراءة تتيح لنا الفهم بأن مدة العقوبة لهؤلاء القوم الفاسقين أربعون سنة في التيه. ودخلوا بعدها مدينة أريحا.
ويأمر الحق موسى ألاَّ يحزن على هؤلاء القوم الفاسقين، ذلك أن موسى عليه السلام عندما دعا الله بقوله: } فَافْرُقْ بَيْنَنَا { انتابه قدرٌ من الضّيق من هذا الدُّعاء وقال لنفسه: لماذا لم أدعُ لهم بالهداية بدلاً من أن أدعو بالفراق؟، ولذلك قال له الحق: } فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ { أي فلا تحزن عليهم لأنهم أَّوْلَى بالعذاب لفسقهم ومخالفاتهم.
ومن بعد ذلك يقول الحق: } وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ... {

(/688)


وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)


وساعة يتلو الإنسان - أي يقرأ - فهو يتكلم بترتيب ما رآه من صُور؛ ذلك أن الإنسان عندما يرى أمراً أو حادثة فهو يرى المجموع مرة واحدة، أو يرى كل صورة مكّونة للحدث منفصلة عن غيرها. وعندما يتكلم الإنسان فهو يرتّب الكلمات، كلمة من بعد كلمة، وحرفاً من بعد حرف؛ إذن فالمتابعة والتلاوة أمر خاص بالكلام. { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ ءَادَمَ بِالْحَقِّ } والنبأ هو الخبر المهم، فنحن لا نطلق النبأ على مطلق الخبر. ولكن النبأ هو الخبر اللافت للنظر. مثال ذلك قوله الحق:{ عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ }[النبأ: 1-2]
إذن فكلمة " نبأ " هي الخبر المهم الشديد الذي وقع وأثر عظيم.
{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ ءَادَمَ بِالْحَقِّ } وساعة نسمع قوله الحق: " بالحق " فلنعلم أن ذلك أمر نزل من الحق فلا تغيير فيه ولا تبديل. ولذلك قال سبحانه:{ وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ }[الإسراء: 105]
أي أن ما أُنزل من عند الله لم يلتبس بغيره من الكلام، وبالحق الجامع لكل أوامر الخير والنواهي عن الشّر نزل. وعندما يقول سبحانه: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ ءَادَمَ بِالْحَقِّ } فسبحانه يحكي قصة قرآنية تحكي واقعة كونية. ومادام الله هو الذي يقصّ فهو سيأتي بها على النموذج الكامل من الصدق والفائدة. ولذلك يسمّيه سبحانه " القصص الحق ":{ إِنَّ هَـاذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ }[آل عمران: 62]
ويُسمّيه سبحانه:{ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ }[يوسف: 3]
وسبحانه يقول: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ ءَادَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ } ونعرف أن آدم هو أول الخلق البشري، وأن ابني آدم هما هابيل وقابيل، كما قال المفسرون. وقد قرّب كل منهما قرباناً. والقُربان هو ما يتقرب به العبد إلى الله، و " قربان " على وزن " فعلان ". فيقال: " كَفَر كُفراناً " و " غَفَر غُفرانا ". وهي صيغة مبالغة في الحدث. وهل قدّم الاثنان قرباناً واحداً؛ أم أن كلا منهما قدّم قرباناً خاصّاً به؟ مادام الحق قد قبل من واحد منهما ولم يتقبّل من الآخر فمعنى ذلك أن كلاًّ منهما قدّم قرباناً منفصلاً عن الآخر؛ لأن الله قبل قربان واحد منهما ولم يتقبل قربان الآخر.
و " القربان: مصدر. والمصادر في التثنية وفي الجمع وفي التذكير والتأنيث لا يتغير نطقها أو كتابتها. فنحن نصف الرجل بقولنا: " رجل عدل " وكذلك " امرأة عدل " و " رجلان عدل " و " امرأتان عدل " و " رجال عدل " و " نساء عدل ". إذن فالمصدر يستوي فيه المفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث.

ونعلم أن آدم هو أول الخلق الآدمي، وجاءت له حواء؛ وذلك من أجل اكتمال زوجية التكاثر؛ لأن التكاثر لا يأتي إلا من ذكر وأنثى:{ وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ }[الذاريات: 49]
فكل موجود أراد له الحق التكاثر فهو يخلق منه زوجين.{ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَق الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ }[يس: 36]
ونرى ذلك حين نقوم بتلقيح النخلة من طلع ذكر النخل. وهناك بعض الكائنات لا نعرف لها ذكراً وأنثى؛ إما لأن الذكر غير موجود تحت أعيننا، ولكن يوجد على بعد والريح هي التي تحمل حبوب التلقيح:{ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَاءً }[الحجر: 22]
فتأتي الريح بحبوب التلقيح من أي مكان لتخصب النبات، وإما أن الذكورة والأنوثة يوجدان معاً في شيء واحد أو حيز واحد، مثال ذلك عُود الذّرة؛ حيث نجد ذكروته وأنوثته في شيء واحد؛ فقمّة العود فيها الذكورة ويخرج من كل " كوز " ذرة قدراً من الخيوط الرفيعة التي نسمّيها " الشّوشة ". وهذه هي حبال الأنوثة. وينقل الهواء طلع الذكورة من سنبلة الذرة إلى " الشوشة " ، وكل شعرة تأخذ من حبوب اللقاح كفايتها لتنضج الحبوب، وعندما تلتصق أوراق كوز الذرة ولا تسمح بخروج الخيوط الرفيعة لحبال الأنوثة، ولا تصلها حبوب اللقاح، فيخرج كوز الذرة بلا نضج وبلا حبوب ذرة. وعندما نمسك بكوز الذرة ونفتحه قد نجد بعضا من حبوبه ميتة وهي تلك التي لم تصلها حبوب اللقاح؛ لأنها لم تملك خيطا من الحبال الرفيعة لتلتقط به حبوب اللقاح. وحبّة الذّرة التي لم يخرج لها خيط رفيع لالتقاط حبوب اللقاح لا تنضج. إذن فكل شيء فيه الذكورة والأنوثة.{ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَق الأَزْوَاجَ كُلَّهَا }[يس: 36]
وكذلك قوله: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَىا {.
وكل ما يقال له شيء لا بد له من ذكر وأنثى، حتى المطر لا بد أن يلقح فلو لم يتم تلقيح المطر بالذرات لما نزل المطر، وحتى الحصى فيه ذرات موجبة وذرات سالبة. وعندما اخترعنا الكهرباء واكتشفنا الموجب والسالب ارتحنا. إذن فعندما يقول الحق:{ وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }[الذاريات: 49]
وقوله سبحانه:{ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَق الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ }[يس: 36]
وهذا أول علم للعرب، فلم يكونوا من قبل القرآن أمّة علم.
وقد أوصل القرآن كل العلم للعرب حتى فاقوا غيرهم، عندما أحذوا بأسباب الله، لكن عندما تراخوا وواصل غيرهم الأخذ بالأسباب تقدمت الاكتشافات، وهذه الاكتشافات نجدها مطمورة في القرآن:{ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَق الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ }[يس: 36]
إذن فكل ما يجدُّ ويحدث ويكتشف من شيء فيه موجب وسالب أي ذكورة وأنوثة؛ يدخل في نطاق:{ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ }[يس: 36]
والإنسان سيد الوجود لا بد له من زوجين ذكر وأنثى للتكاثر لا للإيجاد، أما الإيجاد فهو لله سبحانه وتعالى الذي أوجد كل شيء مَِن لا شيء.

وعندما جاء آدم وحواء وبدأ اللقاح والتكاثر أخذ عدد سكان الأرض في النمو. ولو أننا رجعنا بالأنسال في العالم كله رجعة متأخرة نجد العدد يقل إلى أن يصل إلى آدم وحواء. مثال ذلك لو عدنا إلى الوراء مائة عام لوجدنا تعداد مصر لا يتجاوز خمسة ملايين نسمة على الأكثر، ولو عدنا إلى الوراء قروناً أكثر فإن التعداد يقل، إلى أن نصل إلى الخلق الأول الذي خلقه الله وهو آدم وخلق له حواء. فالإنسان بمفرده لا يأتي بنسل.
إذن عندما نجري عملية الإحصاء الإنسالي في العالم ونرجع بها إلى الوراء، نعود إلى الخلق الأول. وكذلك كل شيء متكاثر سواء أكان حيواناً أم نباتاً. وعندما نسير بالإحصاء إلى الأمام سنجد الأعداد تتزايد، وتكون القفزة كبيرة. وعندما يبلغنا الحق أنه خلقنا من نفسٍ واحدةٍ وخلق منها زوجها وبثَّ منهُما رجالاً كثيراً ونساء، فإن عِلم الإحصاء إنما يؤكد ذلك. والتكاثر إنا يأتي بالتزاوج. والتزاوج جاء من آدم وحواء. وأراد الحق أن يرزق آدم بتوائم ليتزوج كل توأم بالتوأم المخالف له في النوع من الحمل المختلف. أي يتزوج الذكر من الأنثى التي لم تولد معه في بطن واحدة.
وجاء ربّنا لنا بهذه القصة كي يبين لنا أصل التكاثر بياناً رمزياً. أوضح سبحانه: أن التباعد الزوجي كان موجوداً، ولكنه التباعد الإضافي، صحيح سيكون هذا الولد أخا للبنت هذه، وهذه البنت أخته؛ لكن حين تكون مولودة مع هذا، وتأتي بطن ثانٍ فيها ذكر وأنثى، فسيكون فيها بُعد إضافي، فتتزوج البنت لهذا البطن بالذكر في البطن الثاني. والذكر للبطن الثاني للبنت في البطن الآخر، وهذا هو البُعد الإضافي الذي كان مُتاحاً في ذلك الوقت؛ لأن العالم كان لا يزال في بداية طفولته الواهية.
ونلحظ مثل هذا الأمر في الريف، حين يقول فلاح آخر: " الذرة بتاعك خايب " ، يقول الفلاح الثاني: إني آخذ من الأرض التي أخذت منها الذرة وأعطيها تقاوى منها، فأنا قد زرعت فداناً من ذرة، وأحجز كيلتين أو ثلاثا أستخدمها تقاوى لأزرعها، فتخرج الذرة ضعيفة، فيقول الفلاح الناضج: يا شيخ هات من ذرة جارك. فيكون ذرة جاري فيه شيء من البُعد. وبعد ذلك تصير النوعية واحدة، فيقول الفلاح الناضج: هات من بلد أخرى. وبعد ذلك من بلد ثالثة، ولذلك فالتهجين والتكاثر كيف نشأ؟ من أين نأتي بالتقاوى؟ كلما جئنا بها من الخارج يكون الناتج قوياً.
كذلك التزاوج ليكون في هذه الزوجية مواهب، ولذلك فطن العربي قديماً لها، ومن العجيب أن هذا العربي البدوي الذي لم يشتغل بثقافة ولم نعرف له تعليما ولا علماً، يهتدي إلى مثل هذه الحقيقة اهتداءً يجعلها قضية عامة فطرية.

ويريد أن يمدح رجلاً بالفتوة، فيقول عنه:فتى لم تلده بنتُ عمٍ فيضوي وقد يضوي سليل الأقاربكيف اهتدى هذا الشاعر لهذه؟! وبعد ذلك يقول:تجاوزت بنت العّمِ وهي حبيبة إليّ مخافة أن يضوي على سليلهاأي هو يحبها، لكنه تجتوزها، حتى لا يضوي سليلها.
ولذلك يقول الشاعر في هذه القضية:أنصح من كان بعيد الهم تزويج أولاد بنات العمفليس ينجو من ضوى وسقم الشاعر العربي الذي ليس في أمة مثقفة ولا تعرف التهجين ولا تعرف هذه الأشياء، انتبه إلى هذه المسألة، كيف؟ إما أن يكون قد اهتدى إليها في واقع الكون فوجد أن زواج القريبات يُنشئ ملاً ضعيفاً، وإما أن يكون ذلك من رواسب الديانات السابقة القديمة والعظات الأولى التي ظل الإنسان محتفظاً بها، فإذا أراد الله أن يبدأ تكاثر فلا بد أن يتزوج أخ بأخته، ولكن سبحانه يريد أن نتباعد، نعم أخ وأخت لكن نتباعد فنأخذ البطن المختلف، ولذلك حينما جاءوا لينسبوا قصة ابني آدم قابيل وهابيل، صحيح اختلفوا. مثلا " سِفْر التكوين " تكلم، ونحن نأخذ من " سفر التكوين " لأن التغيير فيه لا يهمهم. فقد كان التغيير في المسائل التي تهمهم، كمسألة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، إنما المسائل الأخرى لا تهم، ومع ذلك ففيها أيضا الكثير.
إنهم يقولون: إن هابيل هو أول قتيل في الإنسانية وقتله " قابيل " وبعض القصص تقول: لم يكن يعرف كيف يُميته أو يقتله، فالشيطان مَثَّل له بأنه جاء بطير ووضع رأسه على حجر ثم أخذ حجرا آخر فضرب به رأسه حتى قتله، فعلّمه كيف يقتل، مثلما سيأتي الغراب ويعلّمه كيف يدفن، أما مسألة كيف يقتل هذه لم تأت عندنا، إنما كيف يدفن فقد جاءت عندنا.{ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ }[المائدة: 31]
فهذا هو أول من توفّى وقتل، لكن كيف تقولون: إنه لم يكن يعرف القتل حتى جاءه الشيطان وعلّمه كيف يقتل أخاه؟ نقول: أنتم لم تنتبهوا. فالحق قال: } لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ... {

(/689)


لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28)


فقابيل -إذن- فاهم للقتل، فلا تقل إنه تعلم القتل، صحيح مسألة الدفن هذه جديدة، والقصة جاءت لتثبت لنا كيف بدأ التكاثر، ليجمع الله فيه بين الزوجين البُعد الإضافي؛ لأن البُعد غير الإضافي غير مُمكن في هذا الوقت فتكون هذه بالنسبة لهذا أجنبية، وهذا بالنسبة لهذه أجنبي إلى أن يتوسع الأمر، وبعد ذلك يُعاد التشريع بأن الأخت من أي بطن محرّمة على أخيها تحريماً أبديًّا، وبعد ذلك نتوسع في الأمر وننقله إلى المحرمات الأخريات من النسب والرضاع فلا بد أن لهذه القصة أصلا. هم قالوا نقرب قرباناً.. لماذا؟ " إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر ".
لماذا يريدان أن يُقرِّبا قُرباناً؟ قالوا: إن أخت قابيل التي كانت في بطن معه كانت حلوة وجميلة، وأخت هابيل لم تكن جميلة، فطبقا لقواعد التباعُد في الزوجية كان على هابيل أن يأخذ أخت قابيل، وقابيل يأخذ أخت هابيل، فَحَسد قابيل أخاه وقال: كيف يأخذ الحلوة، أنا أولى بأختي هذه. وكان سيدنا آدم مازال قريب العهد بالوحي، فقال: قربوا قرباناً وانظروا. لأنه يعلم جيداً أن القربان سيكون في صف التباعد. { إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ }. وبعض المفسرين يقول: والله نحن لم نعرف طريقة التقبّل هذه. نقول له: فلنبحث عن " قُربان " في القرأن. ننظر ما هو القُربان؟ قد وردت هذه الكلمة في القرآن في أكثر من موضع. قال:{ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىا يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ }[آل عمران: 183]
والحق يقول لهم ردًّا عليهم:{ قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ }[ " آل عمران: 183]
{ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ } ما هو؟ إنه القُربان الذي تأكله النار. إذن كان القُربان معروفاً والاحتكام إلى قربان وتأكله النار علامة التقبّل من السماء ويكون صاحبه هو المُقرَّب، والقُربان في مسألة هابيل وقابيل لكي يعرف كل منهما من يتزوج الحلوة ومن يتزوج الأخرى، وتقبل الله قربان هابيل. لكن أرضِي المهزوم؟ لا، بل حَسَده، وهذا أول تأب على مُرادات الحق في تكليفه. { فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ }. وقالت لنا القصص: إن هابيل كان صاحب ضرع أي ماشية وبذلك يكون عنده زبْد ولبن وجبن، وحيوانات للحم، والثاني صاحب زرع وقالوا: إن قابيل قدّم شِرار زرعه، وهابيل قدّم خيار ماشيته. { فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ }. { قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ } وسبحانه قال: { أَحَدِهِمَا } ولم يقل قابيل أو هابيل، { إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ }. فقوله: { قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ } من الذي قال؟ الذي قال هو من لم يتقبل قربانه؛ لأنه لم يحقق مُراده وغرضه.

} قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ {. وهل هذا الرّد مُناسب لقوله: " لأقتلنك "؟ نعم؛ لأن " لأقتلنك " بسبب أن قربانك قُبِل وقرباني لم يُقبَل. قال: فما دخلي أنا بهذه العملية؟ الدخل في العملية للقابل للقربان، فأنا ليس لي دخل فيها، وربّنا لم يتقبله لأن الله لا يتقبل إلا من المتقين. وهو يعلم أنك لست بمتقٍ؛ فلن يتقبل منك لأنك تأبيت عن حكاية الزواج بابنة البطن المخالف، وهذا أول تمرُّد على منهج الله وعلى أمره لذلك قال هابيل: لا تلُمني فأنا لا دخل لي في القربان المتقبل؛ لأن هذا من عند الله. والله لم يظلمك؛ لأن ربنا يتقبل من المتقين. وأنت لست بمتقٍ؛ لأنك لم تَرْضَ بالحكم الأول في أن تبتعد البطون } إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ {.{ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ }[المائدة: 28]
وكلمة " البسط " ضد " القبض " ، وهناك: " بسط له " ، و " بسط إليه ".
وتجد " بسط له كأن البسط لصالح المبسوط له.{ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ }[الشورى: 27]
ولم يقل: " إلى عباده " بل قال: " لعباده " ، إذن فالبسط لصالح المبسوط له ولذلك لا يكون بإلى إلاّ في الشر، وشرحنا من قبل هذه المسألة وفي قوله الحق:{ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ }[المائدة: 11]
إذن فالذي يبسط لك يعطيك نفعا والذي يبسط إليك يكون النفع له هو.
} لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ {. وبيّنت " لتقتلني " مدلول " إليّ ". والعلة لا عجز عن مقابلة قوّتك بقوة، لا، وإنما لأنني أخاف الله، فليس في هذا تقصير في الدفاع عن نفسي لأنني أريد أن أُحَنّنِك تَحنيناً يرجعك إلى صَوابك. وساعة يأتي واحد يريد أن يقتل واحداً يقول له: والله لن أقاتلك لأنني أخاف ربنا.
إذن فبيَّن له أن خَوفه من الله مسألة مُستقرة في الذهن حتى ولو كانت ضد استبقاء الحياة، وقد يعرفها في نفسه لأن أخاه كان يستطيع أن يقدّم دفاعاً قويا، لقد ردّ الأمر إلى الحقّ الأعلى. فلا تقل كان هابيل سَلبيّا لا. إنه صعّد الأمر إلى الأقوى
ويقول الحق: } إِنِّي أُرِيدُ... {

(/690)


إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)


و " تبوء " أي ترجع من صفقة قتلى بأن تحمل إثم تلك الفعلة وتنال عقوبتها و " إثمك " وكذلك الإثم الذي كان من أجله أنك أردت أن تقتلني؛ لأنك تأبيت على المنهج، حين لم يتقبل ربنا قربانك. فقد أثمت في عدم قبولك التباعُد المطلوب في الزوجية. إذن فأنت عندك إثمان: الإثم الأول: وهو رفضك وعدم قبولك حكم الله ومنهجه وهو الذي من أجله لم يَقبل الله قربانك، والإثم الثاني: هو قتلي وأنا لا دخل لي في هذه المسألة؛ لأن الظالم لا بد أن يأخذ جزاءه.
إن هابيل يقول: { إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } لم يتمن أن يكون أخوه عاصياً. بل قال: إن كان يعصي بهذه يبوء بإثمي ويأخذ جزاءه؛ فيكون قد تمنى وأراد له أن يعود إلى العقاب ويناله إن فعل وهو لا يريده أن يفعل.
{ إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَآءُ الظَّالِمِينَ } وجزاء الظالمين تربية عاجلة للوقوف أمام سُعارات الظلم من الظالمين؛ لأن الحق لو تركها للآخرة لاستشرى الظُلم، والذي لا يؤمن بالآخرة يصبح مُحترفاً للظُلم، ولذلك قلنا من قبل: إن الحق سبحانه وتعالى ضرب لنا ذلك المثل في سورة " الكهف " حينما ذكر لنا قصة ذي القرنين: الذي آتاه الله من كل شيء سببا فأتبع سببا، وبعد ذلك بين لنا مُهمة من أوتي الأسباب واتبع الأسباب، وجعل قضيته في الأرض لعمارة الكون وصلاحه، وتأمين المجتمع. ماذا قال:{ حَتَّىا إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ }[الكهف: 86]
هذا في رأي العين، فحين تكون راكباً البحر. ترى الشمس تغرب في الماء، هي لا تغرب في الماء؛ لأن الماء هو نهاية امتداد أُفقك.{ حَتَّىا إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا ياذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً }[الكهف: 86]
إذن فقد خيره: إمأ ان تعمل هذا وإما أن تعمل ذاك.{ قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ }[الكهف: 87]
ذلك هو القانون الذي يجب أن يسير في المجتمع. جتى لا أترك لمن لا يؤمن بإله ولا يؤمن بآخرة أن يستشري في الظلم. فَلْيأخذ عقابه في الدنيا.{ وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ }[الطور: 47]
أي قبل الآخرة لهم عذاب. ولذلك حين يرى الناس مصرع الظالم، أو ترى الخيبة التي حدثت لهم فهم يأخذون من ذلك العظة، وجيلنا نحن عاصر ظالمين كثيرين نكل بعضهم ببعض؛ ولو مُكِّن المظلومون منهم ما فعلوا بهم ما فعله بعضهم ببعض، وأراد الحق أن يجري عذابهم أمامنا لتتضح المسألة.{ قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ }[الكهف: 87]
ولا ينتهي أمره بذلك، وبعد ذلك يُردّ لمن؟ يُردّ لله:{ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىا رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً }[الكهف: 87]
يعني عذاب الدنيا؛ إن عذابها سيكون محتملا لأنه عذاب منوط بقدرة العاجزين، إنما العذاب في الآخرة فهو بقوة القادر الأعلى:{ وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الْحُسْنَىا وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً }[الكهف: 88]
تلك هي مهمة الله القوي المتين: إنّ الذي يظلم يضربه على يده، والذي يحسن عمله يعطيه الحوافز.
والحق يقول هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ... }

(/691)


فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)


ولا يقال: طوعت الشيء إلا إذا كان الشيء متأبيا على الفعل، فلا تقل: أنا طوّعت الماء، وإنما تقول: طوّعت الحديد، وقوله: { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ } فهل نفسه هي التي ستقتل وهي نفسه التي طوَّعَت؟
ولننتبه هنا أن الإنسان فيه ملَكتان اثنتان؛ ملكة فطرية تُحبّ الحق وتُحبّ الهير، وَملَكَة أهوائية خاضعة للهوى، فالملكتان تتصارعان.
{ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ } كأن النفس الشريرة الأهوائية تغلبت على الخيّرة، فكأن هناك تجاذبا وتصارعاً وتدافعاً؛ لأن الإنسان لا يحب الظلم إن وقع عليه. لكن ساعة يتصور أنه هو الذي يظلم غيره فقد يقبل على ذلك.
{ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ } إنه لا يزال فيه بقيّة من آثار النُّبوة؛ لأنه قريب من آدم، ولاتزال المسألة تتأرجح معه، والشر من الأخيار ينحدر، والشر في الأشرار يصعد. فقد تأتي لرجل طيب وتثير أعصابه فيقول: إن رأيته لأضربنه رصاصة أو أصفعه صفعتين، أو أوبِّخه، والشرِّير يقول: والله إن قابلته أبصق في وجهه، أو أضربه صفعتين، أو أضربه رصاصة. إذن فالشر عند الشرِّير يتصاعد، ويجد العملية لا تكفي للغضب عنده فيصعدها. إنما نفس الخير تُنفِّس عن غضبها وبعد ذلك ينزل عنها بكلمة، ولذلك نلاحظ في سورة سيدنا " يوسف ":{ إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىا أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ }[يوسف: 8]
والعجيب أنهم جاءوا بالتعليل الذي ضدّهم؛ كي يعرفك أن الهوى والغضب والحسد والحقد تقلب الموازين، { وَنَحْنُ عُصْبَةٌ } هذه تدل على أنهم أقوياء. وهي التي جعلت أباه يعقوب يعطف على الضمير. أنتم تقولون: { لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىا أَبِينَا مِنَّا } نعم؛ لأنه صغير، وسألوا العربي: مالك تُحب الولد الصغير، قال: لأن أيامه أقصر الأيام معي، البكر مكث معي طويلاً، فأنا أعوض للصغير الأيام التي فاتته ببعض الحب وأعطيه بعض الحنان، قولهم: { نَحْنُ عُصْبَةٌ } هذه ضدهم، مما يدل على أن الرجل ساعة تختلط عليه موازين القيم، يأتي بالحُجّة التي ضده ويظن أنها معه! وبعد ذلك يقولون:{ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }[يوسف: 8]
واتفقوا. فبدأوا بقولهم:{ اقْتُلُواْ يُوسُفَ }[يوسف: 9]
وقالوا:{ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً }[يوسف: 9]
ولأنهم أسباط وأولاد يعقوب تنازلوا عن القتل والطرح في الأرض وقال قائل منهم:{ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ }[يوسف: 10]
وهل يرتب أحد النجاة لمن يكرهه؟
كأن النفس مازال فيها خير، فأولا قالوا: { اقْتُلُواْ يُوسُفَ } هذه شدة الغضب. أو { اطْرَحُوهُ أَرْضاً } يطرحونه أرضاً فقد يأكله حيوان مفترس، فقال واحد: نلقيه في غيابة الجب ويلتقطه بعض السيارة، إذن فالأخيار تتنازل.
{ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ }. ونعرف الخسران قضية التجارة؛ أن هناك مكسباً وهناك خسارة، و " مكسب " أي جاء رأس المال بزيادة عليه، و " الخسارة " أي أن رأس المال قد قلَّ، فلماذا قتل أخاه وكان أخوه الوحيد وكان يأنس به في الدنيا؟ إن هذا حدث من حكاية البنت. فقد أراد أن يأخذ أخته الحلوة ويترك الأخرى، ولما قدّما القربان ولم يقبل منه تصاعد الخلاف وقتل أخاه، إذن فَفَقد رأس المال، بينما كان يريد أن يكسب { فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ }.
ويقول الحق بعد ذلك: { فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً... }

(/692)


فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)


ونعرف السوءة وهي ما تَتَكرّهه النفس. وهي من " ساء، يسوء، سوءا " أي يتكره، وسمينا " العَورة " سَوْءَة؛ لأنها تتكره.
{ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ }. هل بعث الله حتى يُرِي قابيل كيف يواري سوءة هابيل، أم أن الغراب هو الذي سيقول له؟ كلا الأمرين متساوٍ؛ لأن ربنا هو الذي بعث، فإن كنت ستنظر للوسيلة القريبة فيكون الغُراب، وإن كنت ستنظر لوسيلة الباعث يكون هو الله؛ فالمسألة كلها واصلة لله، وأنت حين تنسب الأسباب تجدها كلها من الله.
{ قَالَ يَاوَيْلَتَا }. ساعة تسمع كلمة " يا ويلتي " يكون لها معنيان في الاستعمال: المعنى الأول للويل: هو الهلاك، وإن أردنا المبالغة في الهلاك نأتي بتاء التأنيث ونقول: ويلة، ولذلك عندما نحب أن نبالغ في وصف عالم نقول: فلان عالم وفلان علاّم وفلان عَلاَّمة، وتأتي التاء هنا لتؤكد المعنى، إذن فالويل: الهلاك، و " ويلة " تعني أيضا الهلاك، وماذا تعني " يا ويلتي "؟
إننا نعرف أن النداء يكون بـ " يا " فكيف نُنادي الويل والهلاك؟ وهل يُنادي غير العاقل؟ نعم، يُنادي؛ لأنه مادام " الويل " و " الويلة ": الهلاك. كأنك تقول: أنا لم أعد أطيق ما أنا فيه من الهم والغم، ولا يُخلصني فيه إلا الهلاك، يا هلاكي تعال فهذا وقتك! إذن فقوله: " يا ويلتي " يعني يا هلاك تعال، والمتنبي فطن لهذه المسألة وقال:كفى بك داء أن ترى الموت شافيا وحسب المنايا أن يكنّ أمانيافأي داء هذا الذي تقول فيه: يارب أرحني بالموت!! إذن فالذي يراه من ينادي الهلاك هو أكثر من الموت. المعنى الأول: أنك تنادي الهلاك أن يحضر؛ ولذلك يقول الحق:{ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ ياوَيْلَتَنَا مَالِ هَـاذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا }[الكهف: 49]
إنهم يتمنّون الموت؛ وكذلك قال قابيل " يا ويلتي ".
وهل تأتيه الويلة عندما يطلبها؟ لا، فقد انتهت المسألة وصار قاتلاً لأخيه.
والمعنى الثاني: أن تأتي " يا ويلتنا " بمعنى التعجب من أمر لا تعطيه الأسباب، وهناك فرق بين عطاء الأسباب وبين عطاء المُسبّب. فلو ظل عطاء الأسباب هو المُتحكّم في نواميس الكون، لكان معنى هذا أن الحق سبحانه قد زاول سلطانه في مُلْكه مرة واحدة، وكأنه خلق الأسباب والنواميس وتركها تتحكم ونقول: لا. فبطلاقة القدرة خلقت الأسباب، وهي تأتي لتثبيت ذاتية القدرة وقيّوميّتها، فيقول الحق حينما يشاء: توقفي يا أسباب.
إذن فهناك أسباب وهناك مُسبّب. والأمر العجيب لا تعطيه الأسباب. وحين لا يعطى السبب يتعجب الإنسان، ولذلك يَرُدّ الأمر إلى الأصل الذي لا يتعجب منه.

وها هو ذا سيدنا إبراهيم عليه السلام عندما جاءه الضيوف وقدم لهم الطعام ورأى أيديهم لا تصل إليه نكرهَم ونفر منهم ولم يأنس إليهم وأوجس منهم خِيفة. ويقول الحق عن هذا الموقف:{ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلَيمٍ * فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ }[الذاريات: 28-29]
وقال الحق أيضاً في هذا الموقف:{ وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ }[هود: 71]
وهنا قالت امرأة سيدنا إبراهيم:{ يَاوَيْلَتَىا أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـاذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَـاذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ }[هود: 72]
أي أن الأسباب لا تعطى، ورُدّت إلى المُسبّب. (أتعجبين من أمر الله)؟ كان لك أن تتعجبي من الأسباب لأنها تعطلت، أما حين تصل الأسباب إلى الله، فلا عجب.
وقال سيدنا زكريا عليه السلام مثل قولها؛ فحين رأى السيدة مريم وهو الذي كَفلها، وكان يجيء لها بمطلوبات مقومات حياتها، وفُوجئ بأن عندها رزقا من طعامٍ وفاكهة. فسألها:{ يامَرْيَمُ أَنَّىا لَكِ هَـاذَا }[آل عمران: 37]
كيف يقول لها ذلك؟ لا بد أنه رأى شيئا عندها لم يأتِ هُو به، وهنا ردَّت عجبه لتنبهه بالحقيقة الخالدة:{ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }[آل عمران: 37]
وبشاء الحق أن تقولها سيدتنا مريم وهي صغيرة السن، وكأنها تقول ذلك كتمهيد؛ لأنها - كما قلنا سابقا - ستتعرض لمسألة لا يمكن أن يحلها إلا المُسبِّب، فسوف تلدِ بدون رُجولة، وهي مسألة عجيبة، لذلك كان لا بد أن تفهم هي وأن تنطق:{ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }[آل عمران: 37]
وكأن الحق ينبئها ضمناً بأن عليها أن تتذكّر أنها هي التي قالت هذه الكلمة؛ لأن المستقبل سوف يأتي بك بأحداث تحتاج إلى تذكُر هذا القول. وهي التي تُذكِرّ سيدنا زكريا عليه السلام بهذه الحقيقية. ولنر دِقّة إشارة القرآن إلى الموقع الذي ذكرت له مريم فيه تلك الحقيقة:{ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ }[آل عمران: 38]
كأن ساعة سمع هذه المسألة قرّر أن يدعو الله بأمنيته في المحراب نفسه. وهل كان سيدنا زكريا لا يعرف تلك الحقيقة؟ كان يعرفها، ولكن هناك فرق بين حكم يكون في حاشية الشعور، وبين حكم يكون في بؤرة الشعور.
وقول مريم لزكريا: } هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ { جعل القضية تنتقل من حاشية الشعور إلى بؤرة الشعور.{ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ }[آل عمران: 38]
لماذا لم يدعُ ربَّه من البداية؟. كان سيدنا زكريا سائراً مع الأسباب ورتابة الأسباب قد تذهل وتُشغل عن المُسبِّب، وعندما سمع من مريم: } يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ { أراد أن يدخل من هذا الباب، فدعا ربه؛ وبشّره الحق بأنه سيأتي له بذريّة، وتعجّب زكريا مرّة أخرى من هذا الأمر شارحاً حالته:

{ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ }[آل عمران: 40]
ومادمت يا زكريا قد دعوت الله أن يهبك الذّرّية وقفزت قضية رزق الله لمن يشاء من حاشية شعورك إلى بؤرة شعورك. فقد جاء أمر الله:{ كَذالِكَ قَالَ رَبُّكَ }[مريم: 9]
إذن فلا بحث في الأسباب والمسببات. فهي إرادة الله. ويوضح الحق حيثيّات } إِنَّ اللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ { ويأتيك بالولد؛ فيقول سبحانه:{ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً }[مريم: 9]
وكل هذه مقدمات من مريم ومن سيدنا زكريا الكفيل لها؛ ذلك أن سيدنا زكريا سوف يكون عنصراً شاهداً عندما يأتيها الولد من غير أب وتلد، وهو كفيل لها، وهو الذي سيتعرض لهذا الأمر.
ولماذا كل هذا التمهيد؟؛ لأن خرق الأسباب وخرق النواميس وخرق السُنن إنما حدث في أمور أخرى غير العِرْض، لكن عند مريم سيكون ذلك في العِرض وهو أقدس شيء بالنسبة للمرأة، لذلك لابد من كل هذه التمهيدات. إذن، هو أمر عجيب لكنه ليس بعجيب على الله.
وها هوذا قابيل يقول: } يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـاذَا الْغُرَابِ { كأن عملية الغراب أظهرت لقابيل أنه لم يعرف شيئاً يفعله الطائر الذي أمامه، فها هي ذي مسألة يفعلها غراب ولا تفعلها أنت يا قابيل، لقد امتلكت قدرة لتقتل بها أخاك، لكنك عاجز أن تفعل مثل هذا الغراب. فقابيل لا يقولها - إذن - إلا بعد أن مرّ بمعنى نفسيّ شديد قاسٍ على وجدانه.
لقد قدر على أخيه وقتله وهو لم يعرف كيف يواريه، بينما عرف الغراب كيف يواري جثة غراب آخر. وهكذا أصبح قابيل من النادمين } فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ {.
إن علينا أن ننتبه إلى الفارق بين " نَدِمٍ " و " نَدَمٍ ". وعلى سبيل المثال: هناك إنسان قد جرؤ على حدود الله وشرب الخمر بالنقود التي كان عليه أن يشتري بها طعام الأسرة. وعندما عاد إلى منزله ووجد أهله في انتظار الطعام، ندم لأنه شرب الخمر، فهل كان ندم الرجل على أنه عصى الله، أو ندم لأنه لم يشتر الطعام لأهله؟. لقد ندم على عدم شراء الطعام وذلك ندم مرفوض، ليس من التوبة.
وقد يكون هذا الشارب للخمر قد ارتدى أفخر ثيابه وخرج فشرب الخمر ووقع على الأرض، وهنا ندم لأن شُرب الخمر أوصله إلى هذا الحال؛ فهل ندم لأنه عصى ربه؟. أو ندم لأنه صار هُزْأة بين الناس؟. وكذلك كان ندم قابيل، لقد ندم على خيبته؛ لأنه لم يعرف ما عرفه الغراب.
ويقول الحق بعد ذلك: } مِنْ أَجْلِ ذالِكَ... {

(/693)


مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)


نجد الحق قال: إنه قد كتب على بني إسرائيل ما جاء بهذه الآية من قانون واضح؛ لأن معنى كلمة " من أجل " هو " بسبب "؛ و " أًجْل " مِن أَجَل شرا عليهم يَأْجُلُه، أي جنى جناية؛ أي من جريرة ذلك.
أو من هذه الجناية شرعنا هذا التشريع: { مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً }. إذن فساعة تسمع " من أجل " فاعرف أنها تعني " بسبب ذلك " أو " بوقوع ذلك " أو " بجريرة ذلك " أو " بهذه الجناية كان ذلك ".
ولكن هل هذا الكَتْب خاص ببني إسرائيل؟. بعض العلماء قال: إن ابني آدم ليس ابني آدم مباشرة؛ ولكنهما من ذُرّية آدم وهما من بني إسرائيل. ونَردّ: من هو إسرائيل أولاً الذي نُسب إليه أبناء إسرائيل؟. إنه يعقوب بن إسحاق؛ بن إبراهيم، وإبراهيم يصل إلى نوح بأحد عشر أباً ويصل نوح إلى شيث، وبعد ذلك إلى آدم؛ فهل كانت كل هذه السلسلة لا تعرف كيف تدفن الميت إلى أن جاء بنو إسرائيل؟
طبعاً لا؛ ومادام الحق أوضح أنه سبحانه قد بعث غُراباً يبحث في الأرض ليُرِيَه كيف يُواري سَوْءَة أخيه، فهذا دليل على أن هابيل هو أول إنسان تَمَّ دفنه، ومن غير المقبول - إذن - أن نقول: إن الإنسان لم يعرف كيف يواري جثمان الميّت إلى أن وصلت البشرِّية إلى زمن بني إسرائيل، وأنهم هم الذين علموا البشرية ذلك!
ولماذا جاء الحق هنا ببني إسرائيل؟. سبب ذك أن بني إسرائيل اجترأوا لا على قتل النفس فقط بل اجترأوا على قتل النفس الهادية، وهي النفس التي تحمل رسالة النّبوة، ولذلك كان التخصيص، فقد قتلوا أنبيائهم الذين حملوا لهم المنهج التطبيقي؛ لأن الأنبياء يأتون كنماذج تطبيقية للمناهج حتى يلفِتوا الناس إلى حقيقة تطبيق منهج الله. الأنبياء - إذن - لا يأتون بشرع جديد،ولكنهم يسيرون على شرع من قبلهم. فلماذا قتل بنو إسرائيل بعضاً من الأنبياء؟ لقد تولّدت لدى بني إسرائيل حفيظة ضد هؤلاء الأنبياء.
ونعلم أن الإنسان الخيّر حين يصنع الخير ويراه الشرّير الذي لا يقدر على صناعة الخير فتتولد في نفس الشرّير حفيظة وحقد وغضب على فاعل الخير. ففاعل الخير كلما فعل خيراً إنما يلدغ الشرّير، ولذلك يحاول الشرّير أن يُزيح فاعل الخير من أمامه. وكان الأنبياء هم القدوة السلوكية، وقد قال الحق عن بني إسرائيل:{ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ }[البقرة: 91]
وجاء الحق هنا بـ " من قبل " هذه لحكمة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في عداءٍ مع اليهود، وقد تَهبّ عليهم الخواطر الشرّيرة فيحاولون قتل النّبي.

وقد حاولوا ذلك. مثلما أرادوا أن يلقوا عليه حجراً، ودسُّوا له السّم، ولذلك قال الله: " من قبل " أي إن قدرتكم على قتل الأنبياء كانت في الماضي؛ أما مع محمد المصطفى فلن تُمكَّنُوا منه.
ويقول سبحانه: } مِنْ أَجْلِ ذالِكَ كَتَبْنَا عَلَىا بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً {. وهذا توضيح لإرادة الحق في تأسيس الوحدة الإيمانية ليجعل من المجتمع الإيماني رابطة يوضحها قول رسول الله فيما رواه أبو موسى الأشعري عنه:
" المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً "
وإياك أن تنظر إلى مجترئ على غيرك، بالباطل، وتقف مكتوف اليدين؛ لأن الوحدة الإيمانية تجعل المؤمنين جميعاً كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسّهر والحُمى. فإن قَتل إنسان إنساناً آخر ووقف المجتمع الإيماني موقف العاجز. فهذا إفسادٌ في الأرض، ولذلك يجب أن يقابل المجتمع مثل هذا الفعل لا على أساس أنه قتل نفسا واحدة، بل كأنه قتلٌ للناس جميعاً ما لم يكن قتل النفس لقصاص أو إفساد في الأرض.
ويكمل الحق سبحانه الشق الثاني من تلك القضية الإيمانية: } وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً { ، وهذه هي الوحدة الإيمانية، فمن يعتدي على نفس واحدة بريئة، كمن يعتدي على كل الناس، والذي يسعف إنساناً في مهلكه كأنه أنقذ الناس جميعاً.
وفي التوقيع التكليفي يكون التطبيق العملي لتلك القاعدة، فالذي يقتل بريئاً عليه لعنة الله وغضبه ويعذبه الله، وكأنه قتل الناس أجمعين، وإن نظرنا إليها من ناحية الجزاء فالجزاء واحد.
} وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً {. وسبحانه وتعالى يريد ألا يستقبل المجتمع الإيماني مجترئاً بباطل على حق إلا أن يقف كل المجتمع أمامه، فلا يقف المعتدَى عليه بمفرده؛ لأن الذي يُجرِّئ أصحاب الشرّ هو أن يقول بعض الناس كلمة " وأنا مَالِي ".
و " الأنا مالية " هي التي تُجرِّئ أصحاب الشرور، ولذلك اقرأوا قصة الثيران الثلاثة: الثور الأسود والثور الأحمر والثور الأبيض، فقد احتال أسد على الثورين الأحمر والأسود، فسمحا له بأكل الثور الأبيض. واحتال على الثور الأسود فسمح الثور الأسود للأسد بأكل الثور الأحمر؛ وجاء الدور على الثور الأسود؛ فقال للأسد:
- أُكِلتُ يوم أُكِلَ الثور الأبيض. كأن الثور التفت إلى أن " أنا ماليته " جعلته ينال مصرعه. لكن لو كان الثيران الثلاثة اجتمعوا على الأسد لقتلوه.
وهاهوذا الحديث النبوي الشريف الذي يمثل القائم على حدود الله والواقع فيها:
عن النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا. فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجَوْا ونجوا جميعاً "


كذلك مثل القائم على حدود الله ومثل الواقع فيها، فكأن الحق سبحانه وتعالى يقول لنا: لا تنظر إلى أن نفساً قتلت نفساً بغير حق، ولكن انظر إليها كأن القاتل قتل الناس جميعاً؛ لأن الناس جميعاً متساوون في حق الحياة. ومادام القاتل قد اجترأ على واحد فمن الممكن أن يَجترئ على الباقين.
أو أن يكون فعله أُسْوَة لغيره، ومادام قد اسْتَن مثل هذه السُّنة، سنجد كل من يغضب من آخر يقتله، وتظل السلسلة من القتلة والقتلى تتوالى.
والحديث النبوي يقول:
" من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ".
إنه الاحتياط والدقة والقيد: } مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ {. فكأن من قتل نفساً بنفس أو بفساد في الأرض، لا يقال عليه: إنه قتل الناس جميعاً، بل أحيا الناس جميعاً؛ لأن التجريم لأي فعل يعني مجيء النص الموضح أن هذا الفعل جريمة، وبعد ذلك نضع لهذه الجريمة عقوبة. ولا يمكن أن تأتي لواحد ارتكب فعلاً وتقول له: أنا أؤاخذك به وأُعاقبك عليه بغير أن يوجَد نص بتجريم هذا الفعل.
وهناك توجد قاعدة شرعية قانونية تقول: " لا تجريم إلاّ بنص ولا عُقوبة إلاّ بتجريم ". أي أننا نُرتّب العقوبة على الجريمة، أو ساعة يُجرّم فعل يُذكر بجانب التجريم العقوبة، فعل القصد هو عقاب مُرتكب الجُرم. لا إنما القصد هو تفظيع العقاب حتى يراه كل إنسان قبل أن يرتكب الجريمة، والهدف هو منع الجريمة، ولذلك تجد الحكمة البشرية القائلة: " القتل أنفى للقتل " ، وبطبيعة الحال لا يمكن أن ترقى تلك الحكمة إلى قول الحق:{ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ياأُولِي الأَلْبَابِ }[البقرة: 179]
لأننا يمكن أن نتساءل: أيّ قتل أنفى للقتل؟. وسنجد أن المقصود بالحكمة ليس القتل الابتدائي ولكن قتل الاقتصاص. وهكذا نجد الأسلوب البشري قد فاتته اللمحة الفعَّالة في منع القتل الموجودة في قوله الحق: } مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً {. وكلمة " أحياها " لها أكثر من معنى. وبالتحديد لها معنيان: المعنى الأول: أنه أبقى فيها الروح التي تحرك المادة، والمعنى الثاني: إحياء الروح الإيمانية، مصداقاً لقول الحق:

{ اسْتَجِيبُواْ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ }[الأنفال: 24]
ولنا أن نلتفت إلى أن الحق وضع الفساد في الأرض مُستحقاً لعقوبة القتل. والفساد هو إخراج الصالح عن صلاحيته، والمطلوب منا إيمانياً أن الأمر الصالح في ذاته علينا أن نُبقبه صالحاً، فإن استطعنا أن نزيده صلاحاً فلنفعل وإن لم نستطع فلنتركه على صلاحه.
ولماذا جاء الحق بعقابٍ للفساد في الأرض؟. مدلول الأرض: أنها المنطقة التي استخلف الحق فيها البشر، وساعة يقول الحق: } أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ { فمعنى ذلك أن كل فساد عائد على كل مظروف في الأرض. وأول مظروف في الأرض أو السيد لها هو الإنسان. وعندما نفسد في الإنسان، فهذا معناه قتل الإنسان.
إذن لا بد أن يكون الفساد في أشياء أخرى: هي الأكوان أو الأجناس الأخرى؛ الحيوانات والنباتات والجمادات. والفساد في هذه الكائنات بكون بإخراجها عن مستحوزها ملكيةً، كأن تسطو جماعة على بضاعة إنسان آخر، أو أن يأخذ واحد ثمار زرع لأحد، أو أن يأخذ بعضاً من إنتاج منجم منجنيز أو حديد أو خلافه.
إن الفساد نوعان: فساد في الأرض وهو متعلف بالمظروف في الأرض، والمظروف في الأرض سيد وهو الإنسان، والفساد فيه قتله أو أن تُسبب له اختلالاً في أمنه النفسي كالقلق والاضطراب والخوف. ونلحظ أن الحق سبحانه قد امْتَنّ على قريش بأنه أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف.
إذن فمن الفساد تفزيع الناس وترويعهم وهو قسمان: قسم تُفَزِّع فيه مَن لك عنده ثأر أو بينك وبينه ضغينة أو بُغض، أو أن تُفَزِّع قوماً لا علاقة بينك وبينهم ولم يصنعوا معك شيئاً. فمن يعتدي على إنسان بينه وبينه مشكله أو عداوة أو بغضاء، لا نُسمّيه خارجاً على الشريعة؛ بأخذ حقه، ولكنه لا يستوفي في حقه بيده بل لا بد من حاكم يقوم بذلك كي ينضبط الأمر ويستقيم، إنه يخرج على الشريعة فقط في حالة العُدوان.
أما الذي يذهب للاعتداء على الناس ولم يكن بينه وبينهم عداء؛ فهذه هي الحرابة. كأن يخرج ليقطع الطريق على الناس ويخيف كل من يلقاه ويُسبِّب له القلق والرّعب والخوف عللى نفسه وماله، والمال قد يكون من جنس الحيوان أو جنس النبات أو جنس الجماد. وذلك ما يسميه الشرع حرابة وستأتي لها آية مخصوصة.
إذن. فالفساد في الأرض معناه إخراج صالح عن صلاحه مظروف في الأرض، والمظروف في الأرض سيده الإنسان، والإفساد فيه إما بقتله أو إهاجته وإشاعة الرّعب فيه، وإما بشيء مملوك له من الأشياء التي دونه في الجنسية مثل الزروع أو النباتات أو الحيوانات. فكأن الفساد في الأرض - أيضاً - يؤهل لقتل النفس:
} مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً {.

أي أن القتل بغير إفساد في الأرض؛ هو القتل الذي يستحق العقاب. أما القتل بإفساد في الأرض فذلك أمر آخر؛ لأن هناك فارقاً بين أن يُقتل قِصاصاً أو أن يقتل حدَّاً من المُشرِّع؛ وحتى عفو صاحب الدم عن القاتل في الحرابة وقطع الطريق لا يشفع في ذلك ولا يسقط الحد عن الذي فعل ذلك؛ لأنها جريمة ضد المجتمع كله.
ويتابع سبحانه: } وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالّبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ بَعْدَ ذالِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ { والمُسرف هو المُتجاوز للحَد، وهو من لا يأخذ قدر تكوينه وموقعه في الوجود، بل يحاول أن يخرج عن قدر إمكاناته في الوجود.
مثال ذلك: رجل حاول أن يسطو على حق غيره في الوجود؛ متخطياً منزلة الاعتدال فلا يأخذ حقه فقط. مثل قطاع الطريق أو النهابين يأخذون عرق غيرهم وتعودوا أن يعيشوا كذلك وبراحة. والمصيبة لا تكون في قاطع الطريق وحده، ولكن تتعداه إلى المجتمع. فيقال: إن فلاناً يجلس في منزله براحة وتكفيه ساعة بالليل ليسرق الناس.
إن الأمر لا يقف عند حدود ذلك الإنسان إنما يتعدّاه إلى غيره. ويحيا من يملك مالاً في رُعب، وعندما يُفجَع في زائد ماله، يفقد الرغبة في أن يتحرك في الحياة حركة زائدة تُنتج فائضاً لأنه لا يشعر بالأمن والأمان. وعندئذ يفقد العاجز عن الحركة في المجتمع السند والعون من الذي كان يتحرك حركةً أوسع. إذن من رحمة الله أنه فتح أمام البشر أبواب الآمال في التملُّك، مادام السعي إلى ذلك يتم بطرق مشروعة.
ونضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى -: الرجل المُرابي الذي يُقرض مُحتاجاً مائة جنيه، كيف يطلب المرابي زيادة مِمّن لا يجد شيئا يقيم به حياته؟ إنه بذلك يكون قد أعطى مَن وجد أزيد مما أخذ منه مع فقره وعجْزه. إن ذلك هو الإسراف عينه.
ويقول الحق من بعد ذلك: } إِنَّمَا جَزَآءُ الَّذِينَ... {

(/694)


إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)


أول شيء في الحرب هو الاستيلاء؛ فمعنى أن يحارب قوم قوماً غيرهم أي يرغبون في الاستيلاء على خيرات أو ممتلكات الطرف الآخر. فكيف يحارب قومٌ اللَّهَ وهو غيب؟. وأول حرب للَّه هي محاولة الاستيلاء على سلطانه، وهو تشريعه. فإن حاولت أيها الإنسان أن تشرع أنت على غير منهج الله فأنت تريد أن تستولي على حق الله في التشريع. وهذه أول حرب لله.
والذين يحاربون الله أَهُمُ الذين يريدون أن يستولوا على ملك الله؟ لا؛ لأن يد الله في مُلكه أزلا، وستبقى أبدًا وسبحانه لن يسلّمه لأحد من عباده. فعلى ماذا - إذن - يريدون الاستيلاء؟. إنهم يريدون تزييف تشريعات الله، بينما سبحانه هو المُشرّع وحده. والتشريع - كما قلنا - هو قانون صيانة للصّنعة. إذن لماذا لا نترك خالق الإنسان ليضع القواعد التي تصون البشر؛ لذلك فأول افتيات يفعله الناس أنهم يُشرّعون لأنفسهم؛ لأن قانون صيانة الإنسان يضعه خالق الإنسان، فإذا ما جاء شخص وأراد أن يضع للإنسان - الذي هو منه - قانون صيانة نقول له: إنك تستولي على حق الله.
وكيف يحاربون الرسول؟.
نعرف أن الرسول صلى الله عليه وسلم له وضعان؛ فالله غيب؛ لكن الرسول كان مشهداً من مشاهدنا في يوم من الأيام، وقد حورب بالسيف، وعندما انتقل الرسول إلى الرفيق الأعلى أصبحت حربه كحرب الله، فنأخذ سلطته في التشريع، وهي السلطة الثانية ونقول لها: نحن سنشرع لأنفسنا ولا ضرورة لهذا الرسول، أو أن يقول نظام ما: سنأخذ من كلام الله فقط وذلك ما ينتشر في بعض البلدان. ونقول لكل واحد من هؤلاء: أتؤدي الصلاة؟. فيقول: نعم. نسأله: كم ركعة صليت المغرب؟. فيجيب ثلاث ركعات. نسأله: من أين أتيت بذلك؟. ومن أين عرفت أن صلاة المغرب ثلاث ركعات وهي لم تذكر في القرآن الكريم؟. هنا سيصمت.
ونسأله: كيف تخرج الزكاة وبأي حساب تحسبها؟ فيقول: اخرج الزكاة بقدر اثنين ونصف بالمائة في النقدين والتجارة مثلا.
نقول له: كيف - إذن - عرفت ذلك؟. وأيضا كيف عرفت الحج؟. إذن فللرسول صلى الله عليه وسلم مهمة، وحرب النبي تكون في ترك قول أو فعل أو تقرير له عليه الصلاة والسلام.
ومثال ذلك هؤلاء الذين يقولون: إن أحاديث رسول الله كثيرة. ونقول لهم: كانت مدة رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة وعشرين عاماً وكل كلامه حديث، فكل كلمة خرجت من فمه حديث شريف، ولو كنا سنحسب الكلام فقط لكان مجلدات لا يمكن حصرها، وكل كلام سمعهُ وأَقرّه من غيره حديث، وكل فعل فعله غيره أمامه وأقرّه ولم يعترض عليه حديث، فكم تكون أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟.

وكيف يستكثر بعض الناس قدراً من الأحاديث التي وصلتنا بعد قدر هائل من التنقية البالغة؟؛ لأنهم قالوا: لأن نبعد عن رسول الله ما قاله خير من أن ندخل على رسول الله ما لم يفعله. إنهم يدعون أن هذا حفظ للإسلام ولكن فاتهم أن الله حافظ دينه، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وضع القواعد لغربلة الأحاديث فقال:
" من كذب على مُتعمداً فليتبوّأ مقعده من النار ".
وها هوذا البخاري ينقل عن المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم والذين قابلوه، وسيدنا مُسلم يعتبر المعاصرة كافية لأنّها مظنَّة المقابلة وتحري كل منهما الدقة الفائقة. وأي شخص كان به خدشة سلوكية لا يؤخذ بقوله، ولذلك عندما حاول البعض أن ينال من الأحاديث وقال أحدهم: " أنا يكفيني أو أقول لا إله إلا الله " ، تساءلت: كيف لا يذكر أن محمداً رسول الله؟ وكيف يمكن أن يؤدي الأذان للصلاة؟ وكيف يؤدي الصلاة " وكيف يمكن أن يفهم قول الحق:{ وَمَآ آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ }[الحشر: 7]
وهذا تفويض من الله في أن يكون لمحمد صلى الله عليه وسلم تشريع.
وكذلك الاجتراءات على الأئمة، هم يجترئون أولاً على النبي ثم يزحفون على الدين كله. وجاء فيهم قول الحق: } إِنَّمَا جَزَآءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً { أي يخرجون الصالح بذاته عن صلاحه ليكون فاسداً. الجزاء أن يُقَتَّلوا أو يُصَلَّبُوا، وهذا التفعيل في قوله: } أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ { جاء للشدة والتقوية؛ حتى يقف منهم المجتمع الإيماني العام موقف القائم على هذا الأمر، والسلطة الشرعية قامت عن الجميع في هذا الأمر، كما يقال: إن النائب العام نائب عن الشعب في أن يرفع الدعوى، حتى لا ينتشر التقتيل بين الناس، دون أن يفهموا حكمة كل أمر.
} أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ {. وهل " أو " هنا تخييرية، أو أنّ هنا - كما يقال - " لف ونشر "؟ واللف هو الطي. والنشر هو أن تبسط الشيء وتفرقه.
فما اللف، وما النشر - إذن -؟ مثل ذلك ما يقوله الشاعر:قلبي وجفني واللسان وخالقي.. لقد ذُكر مُتَعدّد ولكن الأحكام غير مذكورة، هذا هو اللف؛ فجمع المبتداءت دون أن يذكر لكل واحد منها خبره؛ ثم جاء بالأحكام على وفق المحكوم عليه. فأكمل بيت الشعر بقوله:راضٍ وباكٍ شاكرٌ وغفور ولنقرأ البيت كاملاً:قلبي وجفني واللسان وخالقي راضٍ وباكٍ شاكرٌ وغفورُوالحق يقول:{ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ }[القصص: 73]
فقوله: } لِتَسْكُنُواْ فِيهِ { راجع إلى الليل، وقوله: } وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ { راجع إلى النهار. وهنا جاء باللف. ثم جاء بالنشر.
والفساد - كما نعلم - له صُور متعددة، فالفساد في الإنسان قد يعني قتله.

أو قتله وأخذ ماله. أو الاستيلاء على ماله دون قتله. أو إثارة الرعب في نفس الإنسان دون أخذ ماله أو قتله. فكأن كلمة الفساد طوي فيها ألوان الفساد، نفس القتل، أو نفس تقتل مع مال يُسلب ويؤخذ، أو مال يُؤخذ دون نفس تقتل، أو تخويف وتفزيع.
ويقول الحق: } أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ { ، والنفي معناه الطرد والإبعاد، والطرد لا يتأتى إلا لثابت مُستقر، والإبعاد لا يتأتى إلا لمُتمكن. إذن، فقبل أن يُنفى لا بد أن يكون له ثبًوت وتمكُّن في موضع ما، وهو ما نسميه اصطلاحاً السكن، أو الوطن، أو المكان الذي يقيم به الإنسان لأنه ثابت فيه. ومعنى ثابت فيه. أي له حركة في دائرته، إلا أنه يأوي إلى مكانٍ مُستقر ثابت، ولذلك سُمي سكناً؛ أي يسكن فيه من بعد تحركه في مجالاته المختلفة. ومعنى النفي على هذا هو إخراجه من مسكنه ومن وطنه الذي اتخذه موطناً له وكان مجالاً للإفساد فيه. ولكن إلى أي مكان نُخرج إليه هذا الذي نحكم عليه بالنفي؟ قد يقول قائل: أنت إن أخرجته من مكان أفسد فيه وذهبت به إلى مكان آخر فقد تشيع فساده!
لا؛ لأن النفي لا يتيح له ذلك الإفساد، ذلك أن التوطن الأول يجعل له إلفاً بجغرافية المكان، إلفاً بمن يخيفهم؛ فهو يعرف سلوك جيرانه ويعرف كيف يخيف فلانا وكيف يغتصب بضاعة آخر وهكذا. ولكنه إن خرج إلى مكان غير مستوطن فيه فسوف يحتاج إلى وقت طويل حتى يتعرف إلى جغرافية المكان ومواقع الناس فيه، ومواطن الضعف فيهم. وعلى ذلك يكون النفي هو منعٌ لإفساد الفاسد.
وحين يقول سبحانه: } أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ { نعرف أن كلمة " الأرض " لها مدلول ونسمي الأرض الآن: الكرة الأرضية. وكانوا قديماً يفهمونها على أنها اليابسة وما فيها من مياه، وبعد أن عرفنا أن جَوَّ الأرض منها صار جو الأرض جزءا من الأرض. ولذلك قلنا في المقدسات المكانية: إن كل جو يأخذ التقديس من مكانه؛ فجو الكعبة كعبة؛ بدليل أن الذي يصلي في الدور الثالث من الحرم؛ ويتجه إلى الكعبة. يصلي متجها إلى جو الكعبة. ومن يستقل طائرة ويرغب في إقامة الصلاة يتجه إلى جو الكعبة، وعندما ازدحم الحجيج وصار المسعى لا يتسع لكل الحجيج أقاموا دوراً ثانياً حتى يسعى الناس فيه. إذن فالمسعى ليس هو المكان المحدد فقط، ولكن جوه أيضا له قدسية؛ فإن بنينا كذا طابقا فهي تصلح أيضا كمسعى.
إذن فجو الأرض ينطبق عليه ما ينطبق على الأرض. ولذلك كانوا يُحرمون - قبل أن يوجد طيارون مسلمون - أن يُحَوِّم في جو الحرم طيار غير مسلم؛ لأن الطيار غير المسلم مُحرم عليه أن يدخل الكعبة والحرم.

ومادام هناك إنسان ممنوع من دخول الكعبة فهو أيضا ممنوع من الطيران في جَوّ الكعبة.
أن جَوّ المكان يأخذ قُدسية المكان أو حكمه؛ فالجَوّ من الأرض، ونعرف أن الغلاف الجوي يدور مع الأرض. ومن هذا نعرف العطاءات القرآنية من القائل لكلامه وهو سبحانه الخالق لكونه. ومادام القائل للقرآن هو الخالق للكون، إذن لا يوجد تضارب بين حقيقة كونية وحقيقة قرآنية. وإنما يوجد التضارب من أحد أمرين: إما أن نعتبر الأمر الذي لا يزال في طور النظرية حقيقة في حين أنها لم تصبح حقيقة بعد؛ وإما أن نفهم أن هذا حقيقة قرآنية، على الرغم من أنه ليس كذلك، فإذا كان الأمر هو حقيقة كونية بحق وحقيقة قرآنية بحق، فلا تضارب على الإطلاق. ودليل ذلك على سبيل المثال قول الحق سبحانه:{ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ }[لقمان: 34]
ويأتي العلم الحديث بالبحث والتحليل، ويقول بعض السطحيين:
لا، إن العلم يعرف ما في الرّحم من ذكر أو أنثى. ونقول: نحن لا نناقش ذلك؛ لأنها حقيقة كونية وهي لا تتصادم مع الفهم الصحيح للحقيقة القرآنية؛ لكننا نسأل: متى يعرف العلماء ذلك؟ هم لا يعرفون هذا الأمر إلا بعد مُضي مُدة زمنية، ولكن الحق يعلمه قبل مرور أية مدة زمنية. ثم مَن قال: إن الحق يقصد بـ } وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ { ذكراً أو أنثى فحسب؟ وهل لمدلولها وجه واحد؟ لا، بل له وجوه متعددة فلن يعرف أحد أن ما في الرحم سيكون من بعد إنساناً طويلاً أو قصيراً؛ ذكيا أو غبيّاً؛ شقيّاً أو سعيداً؛ طويل العمر أو قصير العمر؛ حليماً أو غضوباً. فلماذا نحصر " ما " في مسألة الذكر والأنثى فقط؟
إنه هو سبحانه يعلم المستقبل أزلاً قبل أن يعلم أي عالم وقبل أن يحصل العالم على أية عينة. ثم هل تذهب كل حامل إلى الطبيب ليفحص معملياً ما الذي تحمله في بطنها؟ طبعاً لا، ونحن لا نعلم ماذا في بطنها ولكن الخالق الأعظم يعلم. ثم هل تذهب كل النساء الحوامل في العالم لطبيب واحد؟ بالطبع لا، ولكن الخالق الأعظم يعلم ما في كل الأرحام.
إذن فالحقيقة القرآنية لم تصطدم بأية حقيقة كونية، لكن الصدام يحدث عندما نفهم فهما خطأ أن الحقيقة القرآنية في قوله الحق: } وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ { مقصود به العلم بالذكر والأنثى فقط.
ومثال آخر، يقول الحق:{ وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا }[الحجر: 19]
ويُخطئ البعض الفهم عن الله فيظن أن المقصود بذلك أن الأرض بساط أمام الإنسان. وقد ثبتت للبشر حقيقة كونية هي ان الأرض كروية بالأدلة خلال رحلة ماجلان ثم بالقواعد الخاصة بوضع الأعمدة؛ وظهور أعالي الأشياء قبل أسافلها وغير ذلك، ثم صارت في عصرنا مُشاهدة من الأقمار الصناعية. إذن هذه الحقيقة الكونية لا كلام فيها، وكان الخطأ هو فهم مدلول الحقيقة القرآنية والفهم الصواب في مدلول الحقيقة القرآنية الخاصة بقوله تعالى: } وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا {؛إننا كلما وقفنا في مكان نجد أرضا، أي أن الأرض لا نهاية لها وليس لها حافة.

إذن فسبحانه قد مَد الأرض أمام الإنسان بحيث إذا سار الإنسان في أي اتجاه؛ يجد أرضاً. ولا يتأتى ذلك إلا إذا كانت الأرض كروية. لهذا كان الخطأ في فهم مدلول الحقيقة القرآنية؛ لأن التضارب إنما ينشأ من فهم أنها حقيقة كونية وهي ليست كذلك، أو من فهم أنها حقيقة كونية وهي ليست كذلك، أو من فهم أنها حقيقة قرآنية على نحو خاطئ، إنهما لا تتعارضان، فالقائل هو الخالق عينه. ولهذا عرفنا متأخراً أن الجو من الأرض وأن الغلاف الجوي يدور مع الأرض، وكنا نقول: سرنا على الأرض لكنه سبحانه قال وهو العليم:{ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ }[الأنعام: 11]
وهو سبحانه علم أزلاً أن الجو جزء من الأرض. فمهما سار الإنسان على اليابسة ففوقه الغلاف الجوي. إذن فالإنسان إنما يمشي في الأرض وليس على الأرض. أما إن سار الإنسان فوق الغلاف الجوي فهو يسير فوق الأرض.
ونعود إلى قوله الحق: } أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ { وقد عرفنا أن النفي هو الطرد والإبعاد، فأي أرض ينفون منها وإلى أي أرض؟ ولا يكون الطرد إلا لمستقر ولا الإبعاد إلا لثابت. وحتى في اللغة نعرف ما يسمى النفي والإثبات. وكل ذلك مأخوذ من شيء حِسي؛ فعندما نأخذ الماء من البئر نُنزل إلى قاع البئر دلواً، وكل دلو ينزل إلى البئر له " رِشاء " وهو الحبل الذي نُنزل بواسطته الدلو.
إننا ساعة نُخرج الدلو من البئر، يكون قد أخذ من الماء على قدر سعته وحجمه. فهل لدينا حركة ثابتة نستطيع بها المحافظة على استطراق الماء إلى تمام حافة الدلو؟ طبعاً هذا أمر غير ممكن؛ بل نجد قليلا من الماء يتساقط من حوافي الدلو، وهذا الماء المتساقط يُسمى " النَّفِي "؛ لأننا لا نستطيع استخراج الدلو وهو ملآن لآخره بحركة ثابتة مستقرة بحيث تحافظ على استطراق الماء.
إن الماء - كما نعلم - له استطراق دقيق إلى الدرجة التي جعلت البشر يصنعون منه ميزاناً للاستواء. ومن " النَفْي " تؤخذ معان كثيرة، فهناك " النفاية " وهي الشيء الزائد. إذن كيف يكون النفي من الأرض؟ وهل نأخذ الأرض بمفهومها العام أو بمعناها الخاص؟ أي الأرض التي حدث فيها قطع الطريق؟
إن أخذناها بالمعنى الخاص فالنفي يكون لأي أرض أخرى. وإن أخذنا الأرض بالمعنى العام فكيف يكون النفي؟ ونرى أن الحق سبحانه قد قال في موضع آخر من القرآن:{ وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ }[الإسراء: 104]
هم بلا جدال يسكنون في الأرض.

وجاء هذا القول لمعنى مقصود ونعرف أننا لا نذكر السكن إلا ويكون المقصود تحييز مكان في الأرض، كأن يقول قائل: " اسكن ميت غمر " أو " اسكن الدقهلية " أو " اسكن طنطا " ، وهذا تحديد لموقع من الأرض للاستقرار، والمعنى المقصود إذن أن الحق يبلغنا أنه سيقطعهم في الأرض تقطيعاً بحيث لا يستقرون في مكان أبدا. وذلك مصداقا لقول الله:{ وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً }[الأعراف: 168]
فليس لهم وطن خاص. وتمت بًعْثَرَتُهم في كل الأرض، وهذا هو الواقع الذي حدث في الكون. أَوُجِدَ لبني إسرائيل استقرار في أي وطن؟. لا. وحتى الوطن الذي أقاموه بسبب وعد بلفور لم يترك الحق أمره. بل أعطى وعده للمؤمنين بأن يدخلوا المسجد إذا ما أحسنوا العمل لاسترداده. ومازال اليهود بطبيعتهم شتاتاً في أنحاء الأرض. ولهم في كل وطن حيّ خاص بهم. وتحتفظ كل جماعة منهم في أي بلد بذاتيتهم ولا يذوبون في غيرهم:{ وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً }[الإسراء: 104]
وحين يأتي بهن الحق في الجولة الآخرة سيأتون لفيفاً أي مجتمعين؛ لأن الأُمّة المؤمنة حين يقوّيها الله لتضرب على هؤلاء القوم ضربة لا بد أن يكونوا مُجتمعين. وكأن الله قد أراد أن يكون هذا " الوطن القومي " حتى يتجمعوا فيه وبعد ذلك يرسل الضربة عليهم لأنه جاء بهم لفيفاً؛ لذلك لا نحزن لأنه قد صار لهم وطن، فقد جاء بهم لفيفاً.
ونعود إلى الآية التي نحن بصددها. كيف يكون النفي من الأرض؟ حين يرد الله تَحييز مكان فهو يقول على سبيل المثال:{ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ }[المائدة: 21]
إذن فقد نفى غيرها. وهو يقول أيضاً:{ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ }[الأعراف: 110]
وكان المقصود بها مصر.
فإذا أخذنا الأرض بالمعنى العام فحكمها حُكم " اسكنوا الأرض ". والنفي هو صورة من صور العقوبات للإفساد، والإفساد في الأرض ينقسم إلى أربعة أقسام؛ قتل، قتل وأخذ مال، أخذ مال فقط، ترويع. وقد زاد رسول الله صلّى الله عليه وسلم شيئاً وفعله في سيرته، فقد جاء بنا بأمر جديد في أمر الإفساد. وكان على العلماء أن ينتبهوا له، فأول نفي حصل في الإسلام كان نفي رسول الله الحَكَم بن أبي العاص من المدينة إلى الطائف؛ لأن الحكم - والعياذ بالله - كان يُقلّد مِشّيَة النبيّ باستهزاء، وكان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا مشى تكفأ تكفؤاً كأنما يَتَحدَّر من صَبَبٍ. فقد كانت مشية النبي مشية خاصة. وعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الحَكَمَ يقلد مِشيته في استهزاء والتفت النبي - ذات مرة - فجأة، فوجد الحكم يقلده في مِشيته فنفاه من المدينة إلى الطائف، وظل الحكم في الطائف طوال حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلم.

فلما جاءت خلافة أبي بكر الصديق، ذهب أهل الحَكَم إلى أبي بكر، فقال:
- ما كنت لأحلّ عقدة عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذهبوا إلى عمر بن الخطاب فلم يوافق. وعندما جاءت خلافة عثمان وكان رضي الله عنه حَيياً وخجولاً فقال: لقد أخذت كلمة من رسول الله صلّى الله عليه وسلم تحمل شبهة الإفراج عنه. ويفرج عنه عثمان بن عفان رضي الله عنه.
وأثناء حياة الحَكَم في الطائف كان يربي بعض شُويهات وبعض غُنيمات وكان يرعاها عند جبيلات الطائف. وكان لهذه المسألة آثار من بعد ذلك. فأنتم تعلمون أن معاوية رضي الله عنه أنجب يزيد الذي تولّى الخلافة من بعده. وانتقلت الخلافة بعد يزيد لآل مروان بن الحَكَم.
وكان خالد بن يزيد الذي ترك الخلافة لمروان عالماً كبيراً في الكيمياء وله أخ اسمه عبد الله، وكان لعبد الله جياد يتسابق بها. وكان لولد من أولاد عبد الملك بن مروان جياد أيضاً، وجرت جياد عبد الله مع جياد ابن عبد الملك في مضمار سباق، فلما جاءت خيل عبد الله لتسبق.. حدث خلاف بين عبد الله وابن عبد الملك؛ فنهر ابن عبد الملك عبد الله، فذهب عبد الله واشتكى لأخيه خالد. وهنا ذهب خالد لعبد الملك بن مروان، وقال له:
- لقد حدث من ابنك لأخي كذا وكذا. وكان عبد الملك فصيحاً في العرب وما جربوا عليه لحناً أبداً. وربّى أولاده على ألا يلحنوا في اللغة. وكان له ولد اسمه الوليد غير قادر على استيعاب النطق الصحيح للغة دون لحن.
فلما دخل خالد إلى عبد الملك أراد أن يجد فيه شيئاً يعيبه به، قال عبد الملك لخالد: أتكلمني في عبد الله وقد دخل عليّ آنفاً فلم يخل لسانه من اللحن؟
وقال خالد - معرضا بالوليد -: والله يا عبد الملك لقد أعجبتني فصاحة الوليد. فقال عبد الملك: إن يكن الوليد يلحن فإن أخاه سليمان لا يلحن. فقال خالد: وإن كان عبد الله يلحن فإن أخاه خالداً لا يلحن.
فقال عبد الملك: اسكت يا هذا فلست في العيرٍ ولا في النفير.
وأظن أن قصة العير والنفير معروفة. فالعير هي التي كانت مع أبي سفيان وعليها البضائع من الشام وتعرض لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نجا بها أبو سفبان. والنفير هم الجماعة التي استنفزها أبو سفيان من مكة لأنه خاف من المسلمين وكانت زعامتهم لعتبة. فالعير كانت زعامته لأبي سفيان والنفير كانت زعامته لعتبة بن ربيعة، وكان عتبة هو جدّ خالد لأمه، وأبو سفيان هو جدّه لأبيه. فقال خالد: ومن أولى بالعير وبالنفير مني، جدّي أبو سفيان صاحب العير، وجدي عُتّبة صاحب النفير، ولكن لو قلت غنيمات وشويهات وجبيلات وذكرت الطائف ورحم الله عثمان لكان أولى.

وأسكته.
إذن. فالنفي كان أول عقاب أنزله الرسول صلّى الله عليه وسلم، فهل ما فعله " الحَكَم " يُعتبر فساداً؟. ونقول: إن كل فساد غنما يترتب على الفساد الذي يمس رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان الحَكَم يستهزئ بمِشية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد يقول مُشرّع ما: إن السجن يقوم مقام النفي ونقول: لا، إن السجن الآن فيه الكثير من الرفاهية. فقد كان السجن قديماً أكثر قسوة. والهدف من السجن الإبعاد لتخفيف شرور المُفسِد وإن كان لا يبعده عن مستقره ووطنه. وذلك أمر متروك للحاكم يفعله كيف يشاء وخاصة إذا لم يكن هناك أرض إسلامية متعددة. بحيث يستطيع أن ينفيه من أرض إلى أرض أخرى.
ويتبع الحق هذا بقوله: } ذالِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ { وهذا القول لاحق لعقاب محدد للمفسدين في الأرض المحاربين لله ورسوله وهو: } أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ {. وهذه العقوبات خزي لهم.
إن كلمة " خزي " ترد في اللغة بمعنيين؛ مرة بمعنى الفضيحة، " خَزِيَ، يَخْزِي، خِزياً " ، أي انفضح، ومرة ثانية هي " خَزِي، يَخْزَي، خَزاية وَخَزِّي " بمعنى استحى. والمعنيان يلتقيان، فمادام قد افتضح أمر عبدٍ فهو يستحي مما فعل. وتلك الأفعال خزي، كالذي قطع طريقاً على أناس آمنين، ونقول لمثل صاحب هذا الفعل: إن قوّتك ليست ذاتية بل قوّة اختلاسية؛ فلو كانت قُوّتك ذاتية لاستطعت أن تتأبّى لحظة أن يأخذوك ليقتلوك أو يصلبوك أو يقطعوا يدك ورجلك. فقد اجترأت على العُزَّل الذين ليست لهم استطاعة الدفاع عن أنفسهم، وفي هذا خزي لك. خصوصاً وأنت ترى من كانوا يخافونك وأنت تنال العقاب. وخزيك الآن هو مقدمة لعذاب آخر في الآخرة، فسوف تنال عذاباً عظيماً.
} ذالِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ {. وكل جزاء في الدنيا إنما يأتي على قدر طاقات البشر في العقاب، ولكن ماذا إذا وكُلُّوُا إلى طاقة الطاقات؟. ها هي ذي عدالة الحق تتجلّى فهو سبحانه وتعالى يفسح المجال للمُسرفين على أنفسهم؛ أولاً بالتوبة؛ لأن الله الرّحيم بعباده لو أخذ كل إنسان بجريرة فعلها أو عاقب كل صاحب ذنب بذنبه لاستشرى في الأرض فساد كل من ارتكب ذنباً لنه يئس من رحمة الله فتشتد ضرواته وقسوته. وسبحانه فتح باب التوبة لكل من الذين فعلوا ذلك استيقظ ضميره، فإن تاب قبل أن تقدروا عليه فهناك حُكْم، أما إن تاب بعد أن يقدر عليه المجتمع فلا توبة له.
ويقول الحق: } إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ... {

(/695)


إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)


ومادام الإنسان قد تاب وقام بتسليم نفسه دون أن يقدر عليه المجتمع فقبول التوبة حَقٌّ له، ويجب أن نأخذ { أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } في نطاق ما جعله الله لنفسه، أما ما جعله الله لأولياء المُعتدى عليهم فلا بد من العقاب للمعتدي إن طلبه أصحابه.
{ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }. والقرآن يجعل من المنهج الإيماني عجينة واحدة. لذلك يُقسّم المسائل إلى فصول كالتقنيات البشرية التي تُبوّب؛ لذلك نجد القرآن يعامل الأقضية وكأنها فُرص استيقاظ للنفس؛ لذلك يأخذ النفس إلى أمرٍ توجيهي بالطاعة.
وضربنا من قبل المثل حينما تكلم القرآن عن مسائل الأسرة في سورة البقرة:{ وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَاْ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىا وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }[البقرة: 237]
ومن بعد ذلك يأتي إلى أمر الصلاة:{ حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَىا وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ * فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ }[البقرة: 238 - 239]
وضع الله - إذن - الصلاة بين أمرين من أمور الأسرة، حيث قال من بعد أمره بالحفاظ على الصلاة حتى أثناء القتال:{ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ }[البقرة: 240]
وجاء بأمر الحفاظ على الصلاة بين المشكلات الأسرية، وذلك ليجعل الدين لبنة واحدة، وأيضاً لأن النفس المشحونة بالبغضاء وزِحام أمور الزواج والوصيّة والطلاق؛ هذه النفس عندما تقوم إلى الصلاة لله فهي تهدأ. ولنا في رسول الله صلّى الله عليه وسلم أُسوةٌ حسنة. فقد كان إذا حَزَبَه أمرٌ واشتد عليه قام إلى الصلاة.
إذن فالحق سبحانه وتعالى لا يأتي بأمور الدين كأبواب منفصلة، باب الصلاة، وآخر للصوم، وثالث للزكاة، لا. بل يمزج كل ذلك في عجينة واحدة. ولذلك فعندما أنزل بالمفسدين المحاربين لله عقاب التقتيل والتصليب والتقطيع والنفي. كان ذلك لتربية مهابة الرُّعب في النفس البشرية. وساعة يستيقظ الرُّعب في النفس البشرية يقول الحق: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ... }

(/696)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)


لقد أخرجنا من جَوٍّ صارمٍ وحديث في عقوبات إلى تقوى الله. والتقوى - كما نعرف - أن يجعل الإنسان بينه وبين ما يؤذيه وقاية.
وعرفنا أن الحق سبحانه الذي يقول { اتَّقُواْ اللَّهَ } هو بعينه الذي يقول " اتقوا النار " ، وعرفنا كيف نفهم تقوى الله. بأن نجعل بيننا وبين الله وقاية. وإن قال قائل:
إن الحق سبحانه يطلب منا أن نلتحم بمنهجه وأن نكون دائماً في معيَّته. فلنجعل الوقاية بيننا وبين عقابه. ومن عقابه النار.
إذن فقوله الحق: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ } أي أن نتقي صفات الجلال، والنار من خلق الله وجنده. وقوله سبحانه: { وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ } أي نبحث عن الوُصْلة التي تُوصّلنا إلى طاعته ورضوانه وإلى محبّته. وها هناك وسيلة إلا ما شرَّعه الله سبحانه وتعالى؟ وهل يتقرَّب إنسان إلى أي كائن إلا بما يعلم أنه يُحبّه؟.
وعلى المستوى البشري نحن نجد من يتساءل: ماذا يُحب فلان؟. فيقال له: فلان يُحب ربطات العنق؛ فيُهديه عدداً من ربطات العُنق. ويقال أيضاً: فلان يحب المسبحة الجيدة، فيحضر له مسبحة رائعة. إذن كل إنسان يتقرّب إلى أي كائن بما يُحب، فما بالنا بالتقرب إلى الله؟. وما يُحبه سبحانه أوضحه لنا في حديثه القدسي:
" من عادى لي وليَّاً فقد آذنته بالحرب، وما تقرّب إليَّ عبدي بشيء أَحبّ إليَّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرّب إليَّ بالنوافل حتى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه "
فالحق سبحانه وتعالى يفسح الطريق أمام العبد، فيقول سبحانه في الحديث القدسي:
" ما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل "
أي أن العبد يتقرب إلى الله بالأمور التي لم يلزمه الحق بها ولكنها من جنس ما افترضه سبحانه، فلا ابتكار في العبادات. إذن فابتغاء الوسيلة من الله هي طاعته والقيام على المنهج في " افعل " و " لاتفعل ".
والوسيلة عندنا أيضاً هي منزلة من منازل الجنة. والرسول صلّى الله عليه وسلم طلب منا أن نسأل الله له الوسيلة فقال:
" إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلّوا عليّ فإنه من صلّى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبدٍ من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل الله لي الوسيلة حلّت له الشّفاعة "
ولا نريد أن ندخل هنا في مجال التوسل بالنبي أو الأولياء؛ لأنها مسألة لا يصح أن تكون مثار خلاف من أحد.

فبعضهم يحكم بكفر هؤلاء.
ونقول لمن يكفر المتوسلين بالنبي أو الولي: هذِّبوا هذا القول قليلاً؛ إنّ حدوث مثل هذا القول هو نتيجة عدم الفهم، فالذي يتوسل إلى النبي أو الولي هو يعتقد أن له منزلة عند الله. وهل يعتقد أحد أن الوليّ يجامله ليعطيه ما ليس له عند الله؟. طبعا لا. وهناك من قال: إن الوسيلة بالأحياء مُمكنة، وأن الوسيلة بالأموات ممنوعة. ونقول له: أنت تضيق أمراً مُتسعاً؛ لأن حياة الحي لا مدخل لها بالتوسل، فإن جاء التوسل بحضرته صلّى الله عليه وسلم إلى الله، فإنك قد جعلت التوسل بحبك لمن علمت أنه أقرب منك إلى الله؛ فحُبك له هو الذي يشفع. وإياك أن تظن أنه سيأتي لك بما لا تستحق.
والجماعة التي تقول: لا يصح أن نتوسل بالنبي؛ لأن النبي انتقل إلى الرفيق الأعلى، نقول لهم: انتظروا قليلاً وانتبهوا إلى ما قال سيدنا عُمر - رضوان الله عليه -؛ قال: كنا في عهد رسول الله إذا امتنع المطر نتوسل برسول الله ونستسقي به. ولما انتقل رسول الله صلّى الله عليه وسلم، توسل بعمه العباس. وقالوا: لو كان التوسل برسول الله جائزاً بعد انتقاله لما عدل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عن التوسل بالنبي بعد انتقاله، وذهب إلى التوسل بعم النبي. ونسأل: أقال عمر " كنا نتوسَّل بنبيك والآن نتوسَّل إليك بالعباس؟ أم قال: والآن نتوسل إليك بعم نبيك "؟.
ولذلك فالذين يمنعون ذلك يوسعون الشقة على أنفسهم؛ لأن التوسُّل لا يكون بالنبي فقط ولكن التوسل أيضاً بمن يمت بصلة إلى النبي صلّى الله عليه وسلم. فساعة يتوسل واحد إلى غيره يعني أنه يعتقد أن الذي توسل به لا يقدر على شيء، إنني أتوسل به إلى الغير لأني أعرف أنه لا يستطيع أن ينفذ لي مطلوبي. إذن فلنبعد مسألة الشرك بالله عن هذا المجال، ونقول: نحن نتوسل به إلى غيره لأننا نعلم أن المتوسل إليه هو القادر وأن المتوسل به عاجز. وهذا هو منتهى اليقين ومنتهى الإيمان.
ولكن المتوسِّل به قد ينتفع وقد لا ينتفع، وعندما توسَّل سيدنا عمر بالعباس عَمّ النبي كان يفعل ذلك من أجل المطر. والمطر في هذه الحالة لا ينتفع به رسول الله لذلك جاء بواحدٍ من آل البيت وكأنه قال: " يا ربُّ عمُّ نبيك عطشان فمن أجله نريد المطر ".
إذن فتوسُّل عمر بن الخطاب بعم النبي دليل ضد الذين يمنعون التوسل بالنبي بعد الانتقال إلى الرفيق الأعلى. وحتى نخرج من الخلاف. نقول: إن العمل الصالح المتمثل في " افعل كذا " و " لا تفعل كذا " هو الوسيلة الخالصة.

وبذلك نخلص من الخلاف ولا ندخل في متاهات.
} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ { ولنر الإيثار الإيماني الذي يريد الحق أن يُربّيه في النفس المؤمنة بتقوى الله التي تتمثل في الابتعاد عن مَحارِمه، وابتغاء الوسيلة إلى الله في اتباع أوامرِه.
إن الدِّين لم يأتِكَ من أَجل نفسك فحسب، ولكن إيمانك لن يصبح كاملاً إلا أن تُحب لأخيك ما تحبه لنفسك، فإن كنت قد أحببت لنفسك أن تكون على المنهج فاحرص جيداً على أن يكون ذلك لإخوانك أيضاً. وإخوانك المؤمنون ليسوا هم فقط الذين يعيشون معك، ولكن هم المقدر لهم أن يوجدوا من بعد ذلك. ولذلك عليك أن تجاهد في سبيل الله لتعلو كلمة الله. وهكذا تتّسع الهِمَّةُ الإيمانية، فلا تنحصر في النفس أو المعاصرين للإنسان المؤمن. ولذلك يضع لنا الحق الطريق المستقيم ويوضحه ويبيّنه لنا.
وكانت بداية الطريق أن المؤمن بالله حينما وثق بان لله نعيماً وجزاءً في الآخرة هو خير مما يعيشه قدَّم دمه واستشهد؛ لذلك قال صحابي جليل: أليس بيني وبين الجنة إلا أن أدخل هذه المعركة فإما أن أقتلهم وإما أن يقتلوني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم.
وألقى الصحابي تمرات كان يأكلها ودخل المعركة.
لا بد إذن أنه قد عرف أن الحياة التي تنتظره خير من الحياة التي يعيشها؛ ومع ذلك لم يضع الله الجهاد كوسيلة في أول الأمر، بل طل يأمرهم بالانتظار والصبر حتى يُرَبِّيَ من يحملون الدعوة. فلن يجعلها سبحانه عملية انتحارية.
وبعد ذلك نرى أثناء رحلة الدعوة للإسلام أن صحابياً يحزن لأنه في أثناء القتال قد أفلت منه عمرو بن العاص، وأن خالد بن الوليد قد هرب. وتثبت الأيام أن البشر لا يعرفون أن علم الله قد ادّخر خالداً وأنجاه من سيف ذلك الصحابي من أجل أن ينصر الإسلام بخالد. وكذلك عمرو بن العاص قد ادَّخره الله إلى نصرٍ آخر للإسلام.
إذن فالجهاد في سبيل الله ضمانٌ للمؤمن أن يظل المنهج الذي آمن به موصولاً إلى أن تقوم الساعة، وذلك لا يتأَتّى إلا بإشاعة المنهج في العالم كله. والنفس المؤمنة إذا وقفت نفسها على أن تجاهد في سبيل الله كان عندها شيء من الإيثار الإيماني. وتعرف أنها أخذت خير الإيمان وتُحب أن توصّله إلى غيرها، ولا تقبل أن تأخذ خير الإيمان وتحرم منه المعاصرين لها في غير ديار الإسلام، وتحرص على أن يكون العالم كله مؤمناً، وإذا نظرنا إلى هذه المسألة نجدها تمثل الفهم العميق لمعنى الحياة، فالناس إذا كانوا أخياراً استفاد الإنسان من خيرهم كله، وإذا كانوا أشراراً يناله من شرِّهم شيء.
إذن فمن مصلحة الخيِّر أن يشيع خيره في الناس؛ لأنه إن أشاع خيره فهو يتوقع أن ينتفع بجدوى هذا الخير وأن يعود عليه خيره؛ لأن الناس تأمن جانب الرجل الطيب ولا ينالهم منه شر.

لأنه يحب أن يكون كل الناس طيبين وعلى ميزان الإيمان؛ لأنهم إن كانوا على ميزان الإيمان فالطيب يستفيد من خيرهم. أما إن بقي الناس على شرِّهم وبقي الإنسان الطيب على خيره، فسيظل خير الطيب مبذولاً لهم ويظل شرُّهم مبذولاً للطيب.
إذن من حكمة الإيمان أن " يعدّي " الإنسان الخير للغير. وإن دعوة المؤمن إلى سبيل الله، ومن أجل انتشار منهج الله لا بد من الإعداد لذلك قبل اللقاء في ساحات المعارك؛ فقبل اللقاء مع الخصم في ساحة المعركة لا بد من حُسْنِ الإعداد. وعندما يعدّ المؤمن نفسه يجد أن حركة الحياة كلها تكون معه؛ لأن الدعوة إلى الله تقتضي سُلوكاً طيباً، والسُلوك الطيب ينتشر بين البشر، وهنا يقوى معسكر الإيمان، فيرتقي سلوكاً وعملاً، وعندما يقوى معسكر الإيمان يمكنه أن يستخرج كنوز الأرض ويحمي أرض الإيمان بالتقدم الصناعي والعلمي والعسكري. والحق يقول:{ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ }[الحديد: 25]
سبحانه أنزل القرآن وأنزل الحديد، ويتبع ذلك:{ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ }[الحديد: 25]
وجاء معنى البأس من أجل ذلك، وهذا هو السبب الثاني الذي أوصانا به الحق:
إياكم أن تأخذوا منهج الله فقط الذي ينحصر في " افعل ولا تفعل " ولكن خذوا منهج الله بما يحمي منهج الله وهو التقدم العلمي باستخراج كنوز الأرض وتصنيعها كالحديد مثلاً، فسبحانه كما أنزل القرآن يحمل المنهج، فقد أنزل الحديد وعلى الإنسان مهمة استنباط الحديد والمواد الخام التي تُسَهّل لنا صناعة الأجهزة العلمية ونقيم المصانع التي تنتج لنا من الحديد فولاذاً، ونحوِّل الفولاذ إلى دروع، ونصنع أدق الأجهزة التي تُهِّيئ للمقاتل فُرصة النصر. وكذلك نَدّخر المواد الغذائية لتكفي في أيام الحرب.
إذن حركة الحياة كلها جهاد، وإياك أن تقصر فكرة الجهاد عندك على ساحة المعركة، ولكن أعدّ نفسك للمعركة؛ أنك إن أعددت نفسك جيّداً وعلم خصمك أنك أعددت له، ربما امتنع عن أن يحاربك. والذي يمنع العالم الآن من معركة ساخنة تدمره هو الخوف من قِبَل الكتل المتوازنة لأن كل دولة تُعدّ نفسها للحرب. ولو أن قوة واحدة في الكون لهدمت الدنيا.
وقول الحق: } وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ { نأخذه على أنه جهاد في سبيل منهج الله؛ وندرس هذا المنهج ونفهمه وبعد ذلك نجاهد فيه باللسان وبالسِّنان، ونجاهد فيه بالكتاب ونجاهد فيه بالكتيبة.
إذن فقوله الحق: } وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ { يصنع أمة إيمانية مُتحضرة، حتى لا تترك الفرصة للكافر بالله ليأخذ أسباب الله وأسراره في الكون. فمن يعبد الإله الواحد أولى بسرّ الله في الوجود، ولو فرضنا أنه لن تقوم حرب، لكننا نملك المصانع التي تنتج، وعندنا الزراعة التي تكفي حاجات الناس، عندئذ سنحقق الكفاية. وما لا تستعمله في الحرب سيعود على السلام. ويجب أن تفهموا أن كل اختراعات الحياة التقدمية تنشأ أولأً لقصد الحرب، وبعد ذلك تهدأ النفوس وتأخذ البشرية هذه الإنجازات لصالح السلام.
ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه: } إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ... {

(/697)


إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36)


الحق سبحانه تحدث من قبل عن العقوبات والقصاص والتقتيل والتقطيع، ثم ينقلنا من هذا الجو إلى أن نتقي الله ونبتغي إليه الوسيلة ونجاهد في سبيله حتى نفلح، وكان لا بد أن يأتي لنا الحق بالمقابل، فالعقاب الذي جاء من قبل كقصاص وقتل هو عقاب دنيوي. ولكن ما سيأتي في الآخرة أدهى وأمرّ.{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }[المائدة: 36]
ولنا أن نتصور الجماعة الكافرة التي تتكبر في الدنيا ويعتلون ويرتفعون بالجبروت، فماذا عن موقفهم يوم القيامة؟. لقد اقمتم الجبروت بقوَّتكم على غيركم، وها هي ذي القُوّة تضيع وتفلت. لقد كانت القوة تعيش معكم في الدنيا بالأسباب الممنوحة من الله لكم. ولم تَضنّ عليكم سُننْ الله أن ترتقوا، وسبحانه قد خلق السُنَن ومن يبحث في أسباب الله، ينلْ نتيجة ما بذل من جهد، لكن ها هوذا يوم القيامة، وها أنتم أولاء تعرفون أن الأسباب ليست ذاتية. وأن قوَّتكم لم تكن إلا عطاءٌ من الله. ها أنتم أولاء أمام المشهد الحيّ، فلو أن ما في الدنيا جميعاً معكم وحتى ولو كان ضعف ما في الدنيا وتريدون أن تقدِّموه فِدْيَةً لكم من عذاب جهنم فالله لا يتقبله، وتلك قِمِّة الخِزْي، ولن يستطيعوا تخليص أنفسهم من عذاب جهنم.
وهذا المشهد يجعل النفس تستشعر أن المسألة ليست لعباً ولا هزلاً، ولكن هي جِدّ في منتهى الجِدّ. وعلى الإنسان أن يقدِّر العقوبة قبل أن يستلذّ بالجريمة. والذي يجعل النس تستَشري في الإسراف على أنفسهم، أن الواحد منهم يعزل الجريمة عن عقوبة الجريمة. ولو قارن الإنسان قبل أن يسرف على نفسه العقوبة بالجريمة لما ارتكبها. وكذلك الذي يكسل عن الطاعة؛ لو يقارن الطاعة بجزائها لأسرع إليها.
وأضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - نفترض أن إنساناً في صحراء نظر إلى أعلى الجيل ورأى شجرة تفاح، واسْتَدَلّ على التفاح بأن رأى تُفاحة عَطبة واقعة على الأرض، وقال الرجل لنفسه: هأنذا أرى مصارع الناس؛ فهذا يصعد إلى الجبل فيقع من على حافته. وذلك تهاجمه الذئاب. وثالث يتوه عن الطريق. كل ذلك على أمل أن في الشجرة ثماراً. ولا بد لي من أن أختار الطريق السليم إلى الثمار. والطريق إلى ثمار الدنيا الطاعة لمنهج الله، وهو الطريق إلى ثمار الآخرة.
وأيضاً: الطالب المجتهد الذي يتغلب على النعاس ويتوضأ ويًصلّي ويخرج إلى مدرسته في برد الشتاء ليحصل الدروس. ويعود إلى المنزل لتقدّم له أمه الطعام، ولكنه مشغول بالدرس. إن هذا الشاب يستحضر نتيجة هذا الجُهد؛ لذلك فكل تعب في سبيل التعلُّم صار سهلاً عليه، ولو أهمل ونام ولم يقم مبكراً إلى المدرسة، وإن استيقظ وخرج من المنزل ليتسكع في الطرقات مع أمثاله؛ يكون في مثل هذه الحالة غير مُقدِّر للنتيجة التي تقوده إليها الصَّعْلَكة.

والعيب في البشر أنهم يعزلون العمل عن نتيجته، ويفصلون بين الجريمة وعقوبته، والطاعة عن ثوابها. إنّنا لو وضعنا النتيجة مقابل العمل لما ارتكب أحد معصية ولا أهمل أحد في طاعة.
ولنا أن نتصور مشهد الجبارين في الدنيا وهم في نار الآخرة، عم بطشوا في الدنيا ونهبوا، ولنفترض أن الواحد منهم قد امتلك كل ما في الدنيا - على الرغم من أنّ هذا مستحيل - وفوق ذلك أخذ مثل ما في الدنيا معه ويريد أن يقدمه افتداء لنفسه من عذاب جهنم فيرفضه الحق منه } مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ { وتلك هي قمة الخزي التي يجب أن يبتعد عنها الإنسان.
وبعد ذلك يقول الحق: } يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ... {

(/698)


يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)


وكلما مَسَّهم لفحُ النار يريدون أن يخرجوا منها، لكن كيف تأتي لهم إرادة الخروج من النار. لا بد - إذن - أن لحظة لفحها عليهم وتقبلهم هنا وهناك تدفعهم ألسنة اللهب إلى القرب من الخارج فيظنون أن العذاب قد انتهى. ألم يقل الحق سبحانه من أجل أن يضع أمامنا التجسيد الكامل لبشاعة الجحيم:{ وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ }[الكهف: 29]
هذا القول يُوحى أولاً بأن رحمةً ما ستصل إليهم، ولكن ما يأتي بعد هذا القول يرسم الهول الكامل ويجسده:{ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوجُوهَ }[الكهف: 29]
وهذه قمة الهول. وهناك فرق بين الابتداء المُطمع والانتهاء المُوئِس.
مثال ذلك السجين العطشان الذي يطلب كوب ماء. ويستطيع السجّأن أن يقول له: لا. ليس هناك ماء. أما إذا أراد السجان تعذيبه بأكثر من ذلك فهو يقول له: سآتي لك بالماء ويحضر له كوباً من ماء زلال، ويمد السجين يده لكوب الماء، لكن السجان يسكب كوب الماء أرضاً. هذا هو الابتداء المُطْمع والانتهاء المُوئِس. وكذلك رغبتهم في الخروج من النار؛ فلا إرادة لَهم في الخروج إلا إذا كانت هناك مظنة أن يخرجوا نتيجة تقليب ألسنة اللهب لهم، ولذلك يقول الحق أيضاً عن هؤلاء:{ فَبَشِّرْهُم }[آل عمران: 21]
وتثير البُشرى في النفس الأمل في العفو، فيفرحون ولكن تكون النتيجة هي:{ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }[آل عمران: 21]
وهكذا يريد لهم الحق صدمة الألم الموئس بعد الرجاء المطمع.{ يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ }[المائدة: 37]
وبعد ذلك ينقلنا الحق إلى قوله سبحانه: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ... }

(/699)


وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)


جاء الحق من قبل بعقاب قطاع الطريق والمفسدين في الأرض، وهنا يأتي بقضية أخرى يريد أن يصون بها ثمرة حركة المؤمن في مجتمعه؛ لأن الإيمان يحب من المؤمن أن يتحرك، وحتى يتحرك الإنسان لا بد أن يضمن الإنسان ثمرة حركته. أما إن تحرك الإنسان وجاءت الثمرة ثم جاء من يأخذها فلا بد أن يزهذ المتحرك في الحركة، وحين يزهد الإنسان في الحركة يتوقف تقدم الوجود؛ لذلك من حظنا أن تستمر حركة الحياة، ولا تستمر حركة الحياة إلا إذا أمن الإنسان على حركته، وأن تكون حركته فيما شرع الله.
وحين يتحرك الإنسان فيما شرع الله ويكسب من حلال؛ فليس لأحد دخل؛ لأن حركة هذا الإنسان تفيد المجتمع سواء أكان ذلك في باله أم لم يكن.
وقلنا من قبل: إن الرجل الذي يملك مالاً يكتنزه يجد الحق يأمره بأن يستثمر هذا المال؛ لأنه سبحانه أمر بفتح أبواب الخير لمن يجد المال، فيدفع بخاطر بناء عمارة شاهقة في قلب صاحب المال، فيقول الرجل لنفسه: إن المال عندي مكتنز فلأبني لنفسي عمارة، ويزين له الحق هذا الأمر. ويفكر الرجل في أن يبني عمارة من عشرة طوابق وفي كل طابق أربع شقق، وليكن إيجار كل شقة مائة جنيه. وهو حصيلة شهرية لا بأس بها.
لقد حسب الرجل المسألة وهو لا يدري أن الله سبحانه وتعالى يقذف في باله الخواطر، فيُسرع ليشتري قطعة الأرض. وبعد ذلك يأتي بمن يُصمّم بنيان العمارة ومن يقوم بالبناء، وتخرج النقود المكتنزة. وهكذا نرى أن الثرى قبل أن ينتفع بعمارته كان غيره قد انتفع بماله حتى أكثر طبقات المجتمع فقرا. ويحدث كل ذلك بمجرد الخاطر. ولكل إنسان خواطره، فالبخيل له من يسرف في ماله، والكريم له من يكتنز من ماله. وإياك أن تظن أن هناك حركة في الوجود خارجة عن إرادة الله. فالحق يقول:{ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذالِكَ وَأَصْلَحُواْ }[آل عمران: 89]
وهم يفعلون ذلك لأن الذنوب تطاردهم، فيعوضون ذلك بإصلاح أعمالهم. ولذلك نجد أن الخير إنما يأتي من المسرفين على أنفسهم فيريدون إصلاح أمورهم وليس هناك من يستطيع أن يأخذ شيئاً من وراء الله.{ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ }[هود: 114]
كأن الحق سبحانه وتعالى بمجرد الخواطر يدفع الناس إلى ما يريد. نعم. فهو غيب قيّوم؛ ولذلك يكون تدبيره في الكون غيباً. وفي قرانا يخصّصون يوماً للسّوق ونرى ساحته في اليوم المُخصص ونتأملها فنتعجب من إبداع مُحرّك الكون؛ ففي الصباح يسير رجال إلى السوق ومعهم عصيّهم ولا يحملون شيئاً. وهؤلاء ذاهبون لشراء ما يحتاجون إليه، وآخرون يسوقون أمامهم العجول أو الحمير، وهؤلاء يذهبون لبيع بضائعهم. ونرى نساء تحمل كل واحدة منهُن صنفاً من الخضار فنعرف أنهن يذهبن للبيع في السوق.

ونرى أخريات يحملن سِلالاً فارغة، ونعرف أن كلاً منهن ذاهبة للشراء. وفي آخر النهار نرى المسألة معكوسة، من كان يحمل في الصباح شيئاً حمله غيره، فمن الذي هيّج الخواطر ليذهب من يرغب في البيع إلى السوق ليبيع؟
من الذي حرّك الشاري للشراء؟ هو الحق سبحانه يحقق للرّاغب في البيع أن يوجد المشتري، ويحقق للراغب في الشراء أن يوجد البائع. إنه ترتيب الحيّ القيّوم. ونسمع من يقول: لقد أنزلنا في السوق اليوم عشرين طناً من الطماطم وأربعين طناً من الكوسة. وغيرها من الأطنان. ونجد آخر النهار أن كل شيء قد بيع. إنها خواطر الله المتوازنة في الناس والتي توازن المجتمع.
إذن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يحمي حركة المُتحرّك. ويُريد أيضاً ألاّ يقتات الإنسان أو يتمتّع بغير مجهود؛ لأن من يسرق إنما يأخذ مجهود غيره. وهذا الفعل يُزَهِّدُ الغير في العمل.
إن في الإسلام قاعدة هي: عندما تكثر البطالة يقال لك لا تتصدق على الناس بنقود من ملكك، ولكن افتح أي مشروع ولو لم تكن في حاجة إليه كأن تحفز بئراً وتردمها بعد ذلك وأعط الأجير أجره حتى لا يتعوّد الإنسان على الكسل، بل يجب تعويده على العمل، ومن لا يقدر على العمل فلا بد له من ضمان. فضمان الإنسان لقوته يكون من عمله أولاً، فإن لم يكن قادراً على العمل، فضمانه من أسرته وقرابته، فإن لم توجد له أسرة أو قرابة، فأهل محلّته مسئولون عنه، وإن لم يستطع أهل القرية أو المحلّة أن يوفّروا له ذلك، فبيت المال عليه أن يتكفّل بالفقراء.
إذن فالأرضية الإيمانية تَحثُّنا على أن نضمن للإنسان العمل، أو نعوله ونقوم بما يحتاج إليه إن كان عاجزاً. ولكن الآفة أن بعضاً من الناس يحبُّون عملاً بذاته، فهذا يرغب في التوظّف في وظيفة لا عمل فيها، ونقول له:
في العالم المعاصر أزمة عمالة زائدة فتعلّم أي مهارة؛ فما ضنت الحياة أبداً على طالب قوت من عمل.
ولنا في رسول الله صلّى الله عليه وسلم الأُسْوَة حين أقام أول مزادٍ في الإسلام. عندما جاء له رجلٌ من الأنصار يسأله، فقال له:
" أما في بيتك شيء. قال الرجل: بلى، حِلْسٌ نلبس بعضه ونبسط بعضه، وقَعْبٌ - أي قدح - نشرب فيه من الماء. قال: إيتني بهما. فأتاه بهما. فأخذهما رسول الله صلّى الله عليه وسلم بيده وقال: من يشتري هذين؟ قال رجل: أنا آخذهما بدرهم. قال: من يزيد على درهم؟ - مرتين أو ثلاثا - ثال رجل: أنا آخذهما بدرهمين. فأعطاهما إياه، وأخذ الدرهمين وأعطاهما للأنصاري وقال: اشتر بأحدهما طعاماً فنبذه - أي أَلْقِهِ - إلى أهلك، واشتر بالآخر قَدُوماً فائتني به "


إذن أشار النبي صلّى الله عليه وسلم على الرجل وأمره بأن يحضر الحِلْس الذي ينام عليه والقدح الذي يشرب فيه، حتى يعرف الرجل أنه تَاجَر في شيء يملكه، لا في عطاء من أحد. وجاء الرجل إلى حضرة النبي عليه الصلاة والسلام ووجد أن النبي قد سوّى له يداً لقدوم وقال للرجل:
" اذهب فاحتطب وبعْ، ولا أرينَّك خمسة عشر يوماً "
وذهب الرجل يحتطب ويبيع امتثالاً لأمر النبي صلّى الله عليه وسلم وجاء بعد خمسة عشر يوماً وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوباً وببعضها طعاماً.
فقال النبي صلّى الله عليه وسلم:
" هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة "
هذه هي التربية.
إذن فالغرض الأساسي أن يحمي الإسلام أفراد المجحتمع، فالذي لا يجد قُوتَه نساعده بالرأي وبالعلم والقدرة والقوة. والخير أن نعلّمهم أن يعملوا لأنفسهم. ولذلك جاء الحق لنا بقصة ذي القرنين المليئة بالعِبَر:{ حَتَّىا إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً }[الكهف:93]
أي أنه لا توجد صلة للتفاهم. ولكنهم قالوا:{ قَالُواْ ياذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَىا أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً }[الكهف: 94]
وها هو ذو القرنين يعلن أنه في غير حاجة إليهم، ولكن يكلفهم بعمل حتى يحقق لهم مُرادهم:{ آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّىا إِذَا سَاوَىا بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُواْ حَتَّىا إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً }[الكهف: 96]
ومن العجيب أن القرآن عندما يحكي أمراً فهو لا يحكيه إلا لهدف، هم طلبوا من ذي القرنين أن يبني سدّاً، لكنه اقترح أن يجعل لهم رَدماً، ما الفرق؟ لقد تبين من العلم الحديث أن السَدّ قد تحدث له هزّة من أي جانب فينهدم كله، أما الرّدْم فإن حدثت له هزّة يزددْ تماسكاً. ولم يعمل ذو القرنين لهم، ولكن علّمهم كيف يصنعون الرَّدْم، وذلك حتى لا يعيشوا مع الإحساس بالعجز. وهكذا يُعلّمنا القرآن أن الإنسان لا بد له من عمل. لكن ماذا إن سَرَق؟.
أولاً ما هي السَّرقة؟ إنها أَخذُ مالٍ مقوّم خفية. فإن لم يكن الأخذ خفية فهو اغتصاب، ومرة أخرى يكون خطفاً، ومرة رابعة يكون اختلاساً.
فالأَخْذُ له أنواع مُتعددة؛ فالتاجر الذي يقف في دكانه ليبيع أي شيء، وجاء طفلٌ صغير وخطف قطعةً من الحلوى وجرى ولا يستطيع التاجر أن يطول الطفل أو أن يقدر على الإمساك به، هذا خَطْف. أما الذي يغتصب فهو الذي قهر صاحب الشيء على أن يتركه له. أما الاختلاس فهو أن يكون هناك إنسان أمين على مال فيأخذ منه، أما السرقة فهي أخذ لمال مقوَّم خفية وأن يكون في حرز مثله؛ أي يكون في مكان لا يمكن لغير المالك أن يدخله أو يتصرف فيه إلا بإذنه.

أما الذي يترك بابه مفتوحاً أو يترك بضاعته في الشارع فهو المُقصّر، فكما يأمرنا الشرع بألا يسرق أحد أحداً، كذلك يأمر بعد الإهمال، بل لابد للإنسان أن يعقل أشياءه ويتوكَّل. وسبحانه هو المُشرّع العَدْل الذي يُقيم اليقظة علىالجانبين. حدّد الشّرع السرقة بما قيمته ربع دينار. وربع الدينار في ذلك الزمن كان كفي لأن يأكل إنسان هو وعياله ويزيد، بل إن الدرهم كان يكفي أن يقيم أود أسرة في ذلك الوقت.
وكيف نقوِّم ربع الدينار في زماننا؟. لإن كان لا يكفي لمعيشة، فيجب أن ترفع النصاب إلى ما يُعيش، ومادام الدينار كان في ذلك الزمان ذهباً؛ فربع الدينار ترتفع قيمته. وقديماً كان الجنيه الذهب يساوي سبعة وتسعين قرشاً ونصف القرش. أما الجنيه الذهب حاليا فهو يساوي أكثر من مائتين وسبعين جنيهاً، وقد يكون هناك إنسان يسرق لأنه محتاج أو جائع، ولذلك وضع الشرع له قدرا لا يتجاوزه المحتاج لحفظ حياته وحياة من يعول هو الدرهم. وسرقة الدرهم لا حد فيها كما لا إثم فيها، وذلك إذا استنفذ كل الطرق المشروعة في الحصول على القوت، ونعرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى الدرهم للرجل وقال:
" اشتر طعاماً لك ولأسرتك "
وكان الدرهم - كما قلنا - يكفي في ذلك الزمن. والدرهم جزء من اثني عشر جزءا من الدينار، فربع الدينار ثلاثة دراهم، والدرهم يساوي في زمننا هذا أكثر من عشرين جنيها.
والسطحيون يقولون: إن سيدنا عمر ألغى حَدّ السّرقة في عام الرّمادة؛ ونقول لهم: لا، لم يسقط عمر بن الخطاب الحد، فالحد باقٍ ولكنه لم يدخل الحادثة التي حصلت فيما يوجب الحد. والحادثة التي حدثت في عام الرمادة أو عام الجوع هي وجود الشبهة. وبفطنته كأول أمير للمؤمنين، لم يدخل الحوادث فيما يوجب الحد. وفي مسألة عبدالرحمن بن حاطب بن أبي بلتعة. عندما سرق غلمانه، فماذا حدث؟ قال الغلمان لعمر: كنا جوعى ولم يكن ابن أبي بلتعة يعطينا الطعام. ودرأ سيدنا عمر الحَدَّ بالشُّبهة.
إذن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يحمي حركة المتحرك وثمرة حركة المتحرك.، لكن بعض السطحيين في الفهم يقولون مثل ما قال المعرّي:يد بخمس مئين عسجد وُدِيَتْ ما بالها قطعت في ربع دينارتناقضْ ما لنا إلا السكوت له وأن نعوذ بمولانا من الناروهنا ردّ عليه العالِم المؤمن فقال:
أنت تعترض لأننا نعطي ديِة اليَد خمسمائة دينار، وعندما يسرق إنسان. نقطع يد السارق لأنها أخذت ربع دينار.
وقال العالم المؤمن:عِز الأمانة أغلاها وأرخصها ذُل الخيانة فافهم حكمة الباريونلاحظ أن التشريعات الجنائية وتشريعات العقوبات ليست تشريعات بشرية، لكنها تشريعات في منتهى الدقة.

بالله لو أن مُقنّنا يقنن للسارق أو السارقة، ويُقَنّن للزاني والزانية ماذا يكون الموقف؟
إن الذي يتكلم هو رب العالمين، فقال هنا: } وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {. والسرقة عادة ما تكون رغبة في الحاجة وهي غالبا ما تكون من عمل الرجل. أما في الزاني والزانية، فلو أن الرجل لم يُهّيج ويستثر بجمال امرأة لما فكر في الزِّنا. إذن فهي صاحبة البداية. وينص سبحَانه على العقوبة وجاء بالحكمة. وعندما يُشرع للقصاص وهي الحالة التي يغلي فيها دم أقارب القتيل، فيقول:{ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ }[البقرة: 178]
ولنر الحَنانَ الموجود في كلمة " أخيه ". ولا نجد تقنينا يدخل التحنين بين سطوره، إلا تقنين الرَّب الذي خلق الإنسان وهو أعلم به.
} وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا {. هذا ما انتهى إليه حَد السّرقة في تشريعات السماء، وحتى في زمن سيدنا موسى كان السّارق يُستَرَق بسرقته؛ أي يتحوَّل الحُرّ إلى عَبد نتيجة سرقته. ولذلك نلاحظ ونحن نقرأ سورة سيدنا يوسف:{ فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ }[يوسف: 70]
و " السقاية " هي الإناء الذي كان يشرب فيه الملك، وكان اسمها " صواع الملك " وأخذوها ليكيلوا بها. وبعد أن جعل السقاية في رحل أخيه، ماذا حدث؟{ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ * قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ مَّاذَا تَفْقِدُونَ * قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ }[يوسف: 70-72]
وهنا قال إخوة يوسف بأنهم لم يأتوا ليفسدوا في الأرض، لذلك ترك لهم يوسف الأسلوب في تحديد الجزاء، ولم يحاكمهم بشرع الملك:{ قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذالِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ }[يوسف: 75]
لقد جعلهم يعترفون، ويحاكمهم حسب شريعتهم لأن شرع الملك أن من يسرق شيئا عليه أن يغرم ضعفي ما أخذ.
وهذا ما يوضح معنى قول الحق سبحانه وتعالى:{ كَذالِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ }[يوسف: 76]
أي أنها حياة ليستبقي يوسف أخاه معه. ولو استعمل قانون مصر في ذلك الزمن لما أخذ أخاه معه. وهذا كيد لصالح يوسف؛ لأن " اللام " تفيد الملكية أو النفعية. وأضاف إخوة يوسف قائلين:{ قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ }[يوسف: 77]
ولماذا قالوا ذلك؟ أصل هذه المسألة أن يوسف كان يحيا عند عمته. وعندما كبر وأرادوا أن يأخذوه أرادات العمة أن تستبقيه فدست في متاعه تمثالاً. أو منطقة كانت لها من أبيها إسحاق وادعت أنها فقدت ذلك؛ ففتشوا الولد فعثروا معه على الشيء الذي ادعت عمته سرقته فاستبقته بشرع بني إسرائيل. وكان جزاء السرقة في الشريعة هو الاسترقاق. ونُسِخ هذا الشرع وجاءت آية حد السرقة تأكيداً للنسخ.

وإن لم يكن قد نُسخ فهذه الآية هي بداية للنسخ. } وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {.
والسُّنة هي التي تبين لنا كيفية القطع، وكان القطع لليد اليمنى؛ لأنها عادة التي تباشر مثل ذلك العمل. وفي إحدى رحلاتي إلى أمريكا، حدثني أخ مسلم ضمن جماعة تحضر إحدى محاضراتي وقال: إن التَّيَمُّن يجب أن يكون في كل شيء، فلماذا يأكل البعض بيده اليسرى؟
قلت: إن هذه مسألة تكوينية بدليل أن بعض الناس أجهزتها تختلف، فليست المسألة ميكانيكية. وأضفت: إن من خيبة بعض الاختراعات البشرية أنها لا تخطئ كالحاسب الآلي. ولو كان ينتقي ويختار لأمكن أن يخطئ، أما العقل فهو يعرف الانتقاء. وقلن: إنني أطلب من السائل أن يقف. فلما وقف طلبت منه أن يتقدم جهتي فلما تقدم جهتي مَد رجله اليمنى، فقلت تعليقا على هذا: " إنه تكوين خلقي ". ولذلك فالذي عنده ولد تتأبى عليه يمينه فإياك أن تُرغِمه على ذلك لأن مثل هذه العملية أرادها الخالق لتَشُذّ في الخبق، ولتظهر قدرة الخالق.
فلا داعي لقهر الابن الذي تتأبَى عليه يَمينه؛ لأن العلماء قالوا إن مراكز السيطرة ليست في اليد ولكن في المخ. وقد أوجد الحق تلك الأمور في الكون حتى نفهم أن خالق الكون لم يخلق الكون وتركه بسننه، لا. أنه يخرق السنن كلما أراد. لكن لو تأبى إنسان على استعمال اليد اليمنى في الأكل مثلا وهو قادر على ذلك فإنه يكون مخالفا لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومجافيا للفطرة.
} فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً { وإذا سمعنا كلمة " كسب " فهي تعني الأخذ لأكثر من رأس المال. والسارق يكسب السيئة لأنه أخذ ما فوق الضرورة. والنكال: العقاب أو هو العبرة المانعة من وقوع الجرم سواءً لمن ارتكب الجريمة وكذلك لمن يراها. والحق يقول عن بعض الأمور:{ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ }[النور: 2]
وضرورة الإعلان عن تنفيذ عقوبة الفعل المؤَثِّم من أجل الاعتبار والعظة، فالتشريع ليس من بشر لبشر، إنما تشريع خالق لمخلوق. والخالق هو الذي صنع الصنعة فلا تتعالم على خالق الصنعة. والشريعة لا تقرر مثل هذا العقاب رغبة في قطع الأيدي، بل تريد أن تمنع قطع الأيادي.
وإن ظل التشريع على الورق دون تطبيق فلن يرتدع أحد. والذين قالوا " قطع الأيدي فعل وحشي " ، نقول لهم: إن يداً واحدة قطعت في السعودية فامتنعت كل سرقة. وإذا كان القتل أنفى للقتل؛ فالقطع أنفى للقطع، أما عن مسألة التشويه التي يطنطنون بها فحادثة سيارة واحدة تشوه عدداً من الناس وكذلك حادثة انفجار لأنبوبة " بوتوجاز " تفعل أكثر من ذلك.

فلا تنظروا إلى القصاص مفصولا عن السرقة إن انتشرت في المجتمع. وإبطاء القائمين على الأمر للإجراءات التي يترتب عليها العقوبات ينسي المجتمع بشاعة الجريمة الأولى، وعندما يحين وقت محاكمة المُجرم تكون الرحمة موجودة.
لكن إن وُقِّعَ العقاب سَاعَة الجُرم تنته المسألة. وساعة يسمع اللصوص أننا سنقطع يد السارق، سيفكر كل منهم قبل أن يسرق ولا يرتكب الجُرم؛ لأن المُراد من الجزاء العبرة والعِظة ومقصد من مقاصد التربية وتذكرة للإنسان بمطلوبات الله عنده إن أخذته الغفلة في سياسة الحياة فالجزاء هنا نكالا أي عقابا و " نكولا " وهو الرجوع عن فعل الذنب أي العبرة المانعة من وقوع الجُرم. فكأن الجزاء كان المقصود منه أن يرى الإنسان من قطعت يده فيمتنع عن التفكير في مثل ما آلت إليه هذه الحالة.
أو أن يحافظ الذي قُطعت يده على ما تبقى من جوارحه الباقية؛ لأنه قد قُطِعت يمينه وإن عاد قُطِعت يساره، فإن عاد قُطِعت رجله اليمنى ثم إن عاد قطعت رجله اليسرى ويكون النكال لمنع الرجوع للجريمة، وهو إما رجوع ممن رأى العقوبة تقع على السارق أو الرجوع من السارق نفسه إن رأى أي جارحة من جوارحه قد نقصت. فيحرص أن تظل الجوارح الباقية له. ويعامل الحق خلقه بسُنة كونية هي: أن من يأخذ غير حقِّه يُحَرم من حَقه. ومثال ذلك قوم من بني إسرائيل قال الله حكما فيهم: لقد استحللتم ما حرمته عليكم فلا جزاء لكم إلا أن أضيق عليكم وأحرم عليكم ما أحللت لكم. فقال:{ فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ }[النساء: 160]
إذن ليس في قدرة أحد أن يضحك على الله أو أن يخدع الله أو أن يأخذ ما ليس حقا له. فإن أسرف الإنسان في تعاطي أشياء حرمها الله عليه فسيأتي وقت يحرمه الله فيه من أشياء حللها له كالذي أسرف في شُرب الخمر أو في تناول المواد المخدِّرة التي تغيب عن الوعي، يبتليه الحق بما يجعله محروماً من مُتع أخرى كانت حلالا. وإن أسرف الإنسان مثلا في تناول الحلوى. فإن المرض يأتيه، ويحرم الله عليه أشياء كثيرة.
ولو قاس المسرف على نفسه ما أحله لنفسه بما حرمه الله عليه لوجد الصفقة بالنسبة له خاسرة. فالذي أسرف بغير حق في أن يأكل مال احد، يرى ماله وهو يضيع أمام عينيه. ولنا في ذلك المثل. كان السادة في الريف - قديما - يقومون بتنقية الدقيق إلى درجة عالية حتى يصبح في تمام النقاء من " الردة ". ويسمون هذا النوع من الدقيق " الدقيق العَلاَمَة " وكانوا يأكلون منه ويتركون البقية من الدقيق مختلطا بالردة ليأكله الخدم أو الفقراء، فتأتي فترة يُحرم الأطباء عليهم هذا الدقيق الأبيض، ولا يجد الواحد منهم طعاما إلا الدقيق " السِّن " الذي كان يرفضه قديما فعلينا - إذن - أن ننظر إليها كقضية سائدة في الكون كله، ولنجعل قول الله أمامنا:

{ فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ }[النساء: 160]
فأنت إن أخذت كسب يد واحدة يحرمك الحق من يدٍ لا من كسب. فإن زدت حرمك الله من جارحة أخرى، وهكذا. وتلك سُنَّة كونية تعدل نظام الكون بالنسبة للناس، وخصوصا من يستبطئون جزاء الآخرة، ومن يُغْريهم ويَغُرهم ويطمعهم حِلْم الله عليهم.
وأنت إذا ما نظرت وصنعت لنفسك رُقعة جغرافية في البيئة التي تعيش فيها في أسرتك، أو حيك، أو بلدك أو أمتك، فأنت تجد قوما قد حرموا بأنفسهم من غير أن يحرم عليهم أحد، فتجد واحداً مصاباً - والعياذ بالله - بالبولينا: ولا يقدر أن يأكل قطعة من اللحم، أو آخر مصابا بمرض السكر؛ وتراه غير قادر على أن يأكل قطعة من الحلوى، أو ملعقة من العسل. لأن أحداً لن يستطيع أن يأخذ شيئا بدون علم الله. وصنع الله ذلك لأنه عزيز لا يُغلَب. فإياك أن تظن أن بإمكانك أخذ شيء من وراء شرع الله أو تظن انك خدعت شَرع الله، فهو سبحانه عزيز لا يُغلَب أبداً. ونرى في حياتنا الذين يأخذون أموالاً بغير حق رشوة أو سرقةً أو اختلاساً، نرى مصارف هذه الأشياء أو الرشاوي أو الأموال قد ذهبت وأنفقت في مهالك ومصائب؛ إننا نجدها قد أخذت ما أخذوه من حرام، ومالت وجارت على ما كسبوه من حلال. وأريد من المسرفين على أنفسهم أن يضعوا لأنفسهم كشف حساب، فيكتبوا في ناحية القرش الذي كسبوه من حرام، ويكتبوا في ناحية أخرى كل قرش كسبوه من حلال. وليشاهد كل مسرف على نفسه في أكل حقوق الناس المصائب التي سيبتليه الله بها، ولسوف يجد أنه قد صرف لمواجهة المصائب كل الحرام وبعضا من الحلال. ولذلك قال الأثر الصالح: " من أصاب مالا من نهاوش أذهبه الله في نهابر ".
وكنت أعرف اثنين من الناس، ولكل واحد منهما ولد في التعليم. وكنت أجد أحدهما يعطي ولده خمسة قروش. فيقول الابن لأبيه: معي مصروف الأمس ". وكان الآخر يعطي ولده عشرة قروش فيقول الابن له: " إنها لا تكفي شيئاً ". وشاء الحق أن يجمعنا نحن الثلاثة في مكتب وزارة الري بالزقازيق، فلما جئنا لنخرج إذا برئيس كتاب تلك المصلحة يأتي بظرف أصفر كبير به أشياء كثيرة ويناوله لواحد منهما، فسألته: ما هذا؟ فقال: بعض من الورق الأبيض وبعض من ورق النشاف وعدد من الأقلام حتى يكتب الأولاد واجبهم المدرسي. فقلت له: هذا سر خيبة أولادك الدراسية وإسرافهم والدروس الخصوصية التي تدفع فيها فوق ما تطيق وسر قول ابنك لك: إن القروش العشرة لا تكفي شيئا.

أما الشخص الآخر فابنه يقول له: لا أريد مصروف يد اليوم لأن معي خمسة قروش هي مصروف أمس ولا أريد أن آخذ دروسا خصوصية لأني أحب الاعتماد على نفسي.
وسبحانه الحق القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم. ويقول لنا بلاغا:
قال أبو الجلد: " أوحى الله تعالى إلى نبي من الأنبياء: قل لقومك: ما بالكم تسترون الذنوب من خلقي وتظهرونها لي؟ إن كنتم ترون أني لا أراكم فأنتم مشركون بي، وإن كنتم ترون أني أراكم قَلِمَ تجعلونني أهون الناظرين إليكم ".
إذن قوله الحق: } جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ { واضح تماما، ويردف الحق قوله هذا: } وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {. وسبحانه عزيز لا يغلبه أحد، حتى الذي يسرق، إنما يسرق الرزق المكتوب له؛ لأن العلماء اتفقوا على أن الشيء المسروق رزق أيضا لأنه يُنتفَع به. ووالله لو صبر لجاءه وطرق عليه بابه. فإياكم أن تحتالوا على قدر الله؛ لأنه حكيم في تقديره.
وكلمة " حكيم " لها في حياتنا قصة، كنا ونحن في مقتبل حياتنا التعليمية نحب الأدب والشعر والشعراء، وبعد أن قرأنا للمعري وجدنا عنده بعضا من الشعر يؤول إلى الإلحاد، فزهدنا فيه وخصوصا عندما قرأنا قوله في قصيدته:تحطمنا الأيام حتى كأننا زجاج ولكن لا يعاد لنا سبكوأخذنا من ذلك القول أنّه ينكر البعث؛ فقلنا: يغنينا الله عنه. ولكن صديقنا الشيخ فهمي عبداللطيف - رحمه الله - رأى المعري في الرؤيا وكان مولعا بالمعري، فجاء إلى ذات صباح ونحن في الزقازيق وقال لي: يا شيخ لقد رأيت المعري الليلة في الرؤيا وهو غاضب منك أنت لأنك جفوته. فقلت: أنا جفوته لكذا وكذا وأنت تعلم السبب في ذلك. وقال الشيخ فهمي عبداللطيف: هذا ما حصل.
وقلت لنفسي: يجب أن أعيد حسابي مع المعري، وجئنا بدواوينه " سقط الزند " و " لزوم ما لا يلزم ". ووجدنا أن للرجل عُذراً في أن يعتب علينا؛ لأن آفة الناس الذين يسجلون خواطر أصحاب الفكر أنهم لا ينظرون إلى تأريخ مقولاتهم، وقد قال المعري قوله الذي أنكره عليه وقت أن كان شابا مفتونا بفكره وعندما نضج قال عكسه. وكثير من المفكرين يمرون بذلك، مثل طه حسين والعقاد، بدأ كل منهما الحياة بكلام قد يؤول إلى الإلحاد ولكنهما كتبا بعد النضج ما يحمل عطر الإيمان الصحيح؛ لذلك لا يصح لمن يحكم عليهم أن يأخذهم بأوليات خواطرهم التي بدأوها بالشَّك حتى يصلوا إلى اليقين. وجلست أبحث في المعري الذي قال:تحطمنا الأيام حتى كأننا زجاج ولكن لا يعاد لنا سبكفوجدته هو نفسه الذي قال بعد أن ذهبت عنه المراهقة الفكرية:

زعم المنجم والطبيب كلاهما لا تحشر الأجساد قلت إليكماإن صح قولكما فلست بخاسر أو صح قولي فالخسار عليكماكأنه عاد إلى حظيرة الإيمان:
وكذلك قال المعري:يد بخمس مئين عسجد وُدِيَتْ ما بالها قُطِعَت في ربع ديناروقال بعد ذلك:تناقض مالنا إلا السكوت له وأن نعوذ بمولانا من الناروقلت للشيخ فهمي عبداللطيف: للمعري حق في العتاب وسأحاول أن أعاود قراءة شعره، والأبيات التي أرى فيها خروجا سأعد لها قليلا. وعندما جئت إلى ذلك البيت. قلت: لو أنه قال - وأنا أستأذنه -:لحكمةٍ ما لنا إلا الرضاء بها وأن نعوذ بمولانا من النارفَلكل شيء حكمة. وحين نرى طبيباً يمسك طفلا قلبه لا يتحمل المُرِقد - أي البنج - أثناء إجراء عملية جراحية، فهل يظن ظان أن الطبيب ينتقم من هذا الطفل؟ طبعا لا، إذن فلكل شيء حكمة، ويجب أن ننظر إلى الشيء وأن نربطه بحكمته. والله عزيز أي لا يغلبه أحد ولا يحتال عليه أحد. وهو حكيم فيما يضع من عقوبات للجرائم؛ لأنه يزن المجتمع نفسه بميزان العدالة. ومن بعد ذلك يفتح الحق سبحانه باب التوبة رحمة لمن يتوب ورحمة للمجتمع؛ لذلك يقول الحق: } فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ... {

(/700)


فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)


والسارق ظالم؛ لأنه أخذ حق غيره، فإن تاب أي ندم على الفعل وعزم على ألا يعود شريطة ألا تكون التوبة بالكلام فقط، بل يصلح ما أفسده، هنا تُقبَل التوبة. ولكن كيف يفعل ذلك؟
إذا كان الشيء المسروق في حوزته فعليه أن يرده إلى صاحبه. وإن كان قد تصرف فيه فعليه أن يأتي لصاحب الشيء ويستحله ويقول له: كنت في غفلة نفسي وفي زهوة الشيطان مني ففعلت كذا وكذا. وأعتقد أن أي إنسان سرق من إنسان آخر وبعد فترة اعترف له وطلب العفو منه فأنا أقسم بالله أنه سيعفو عنه راضيا. وبذلك يستحل الشيء الذي أخذه. لكن ماذا إن كان السارق لا يعرف صاحب الشيء المسروق. كلص " الأتوبيسات "؟
إن كان قد سرق محفظة نقود من شخص ووجد العنوان يستطيع أن يرد الشيء المسروق بحوالة بريدية من مجهول تحمل قيمة المبلغ المسروق ويطلب فيها السماح عن السرقة. وإن لم يعرف من سرقة فعليه أن يقول: الله أعلم بصاحب هذا المبلغ وأنا سأتصدق به في سبيل الله وأقول: يا رب ثوابه لصاحبه.
إذن فوجوه الإصلاح كثيرة. وإن كان يخجل من رد الشيء المسروق فليقل: فُضُوح الدنيا أهون من فُضُوح الآخرة. وفي القرآن تأتي آيات كثيرة عن التوبة:{ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ }[التوبة: 118]
كأن توبة الله مكتوبة أولا؛ ثم يتوب العبد من بعد ذلك. وسبحانه يقول:{ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ }[طه: 82]
وللتوبة - كما نعلم - ثلاث مراحل. فالحق حين شرع التوبة كان ذلك إذناً بها. وبعد ذلك يتوب العبد، فيتوب الله عليه ويمحو عنه الذنب ويكون الغفران بقبول الله للتوبة. ولذلك يقول الحق: { فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }.
وَصِفَةُ المغفرة وصِفَةُ الرحمة كل في مطلقها تَكُون لله وحده، وهي توبة للجاني ورحمة للمجني عليه. وكلمة { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } توضح لنا أنه سبحانه له طلاقة القدرة في أن يغفر وأن يرحم. فإياك أن تقول: إن فلانا لا يستحق المغفرة والرحمة؛ لأنه سبحانه مالك السماء والأرض، وهو الذي أعطى للبشر ما يستحقون بالحق الذي أوجبه على نفسه، وله طلاقة القدرة في الكون؛ ولذلك يقول الحق من بعد ذلك: { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ... }

(/701)


أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)


ويستخدم الحق سبحانه من أساليب البيان ما يخرجنا عن الغفلة، فلم يقل: " الله له ملك السماوات والأرض " ، ولو كان قد قال ذلك لكان الأمر خَبَراً من المتكلم وهو الله، ولكنه يريد أن يكون الخبر من المُخَاطَب إقراراً من العبد. ولا يخرج الخَبَر مَخرج الاستفهام إلا وقائل الخبر واثِقٌ من أن جواب الاستفهام في صالحه؛ والمثال على هذا هو أن يأتيك إنسان ويقول: " انت تهملني ". فتقول: أنا أحسنت إليك.
ولكن إن أردت أن تستخرج الخَبَر منه فأنت تقول: ألم أُحْسِن إليك؟ وبذلك تستفهم منه، والاستفهام يريد جوابا. فكأن المسئول حين يجيب عليه أن يدير ذهنه في كل مجال ولا يجد إلا أن يقول: نعم أنت أحسنت إليّ. ولو جاء ذلك من المتكلم لكانت دعوى، لكن إن جاءت من المُخاطَب فهي إقرار، ومثال ذلك قول الحق:{ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ }[الشرح: 1]
إنه خَبرٌ من المتكلم والإقرار من المتلقي. وقد يقول قائل ولماذا لم يقل الحق: " أشرحنا لك صدرك "؟ كان من الممكن ذلك، ولكن الحق لم يقلها حتى لا يكون في السؤال إيحاء بجواب الإثبات بل جاءت بالنفي.
وفي قوله الحق:{ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلَىا كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }[المائدة: 40]
نجد منطوق الآية ليس دعوى من الحق، ولكنه استفهام للخلق ليديروا الجواب على هذا، فلا يجدوا جواباً إلا أن يقولوا: { للَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ }. وهذا أسلوب لإثبات الحجة والإقرار من العباد، لا إخباراً من الحق: { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } ، وقد يقول إنسان: إن هناك أجزاء من الأرض ملكا للبشر. ونقول: صحيح أن في الأرض أجزاء هي ملك للبشر، ولكن هناك فرق بين أن يملك إنسان ما لا يقدر على الاحتفاظ به.. كملك البيت والأرض، إنه مِلْك - بكسر الميم - لمالك. وهناك " مُلْك " - بضم الميم - لِمَلِكٍ هو الله. وفي الدنيا نجد أن لكل إنسان ملكية ما. ولكن المَلِك في الأرض يملك القرار في أملاك شعبه، وهذا في دنيا الأسلوب، أما في الآخرة فالأسباب كلها تمتنع:{ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ }[غافر: 16]
فلا أحد له مُلكٌ يوم القيامة.
{ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ } والقارئ بإمعان للقرآن يجد فيه عبارات تجمع بين أمرين أحدهما يتقدم، والآخر يتأخر. ويأتي الأمر في أحيان أخرى بالعكس. ولكن هذا القول هو الوحيد في القرآن الذي يأتي على هذا النسق، فكل ما جاء في القرآن يكون الغفران مقدّماً على العذاب؛ لأن الحق سبحانه قال في الحديث القدسي:


" إن رَحمتي سبقت غَضبي "
فلماذا جاء العذاب في هذه الآية مقدماً على الغُفران: } يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ { هل السبب هو التَّفنَّن في الأساليب؟ لا؛ لأن جمهرة الآيات تأتي بالغفران أولاً، ثم بالوعيد بالعذاب لمن يشاء سبحانه. ولننظر إلى السّياق. جاء الحديث أولاً عن السارق والسارقة، وبعد ذلك عمّن تاب. فالسرقة إذن تقتضي التعذيب، والتوبة تقتضي المغفرة، إذن فالترتيب هنا منطقي.
ونلحظ أن هذا القول قد جاء بعد آية السرقة وبعد آية الإعلام بأن له مُلْكَ السماوات والأرض. ولذلك كان لا بد من تذييل يخدم الاثنين معاً. ليؤكد سيطرة القدرة. وحين يريد الحق أن يرحم واحداً. فليس في قدرة المرحوم أن يقول: " لا أريد الرحمة ". وحين يعذب واحداً لن يقول المعذَّب - بفتح الذال -: " لا داعي للعذاب ". فسيطرة القدرة تؤكد أنه لا قدرة لأحد على رَدِّ العذاب أو الرحمة. إذن فالآية قد جاءت لتخدم أغراضاً مُتعددة. فإن حسبناها في ميزان الأحداث فللحق كل القدرة. وإن حسبناها في ميزان الزمن، فكيف يكون الأمر؟.
نعرف أن التعذيب للسّرقة قسمان.. تعذيب بإقامة الحَدّ، وفي الآخرة تكون المغفرة. إذن فالكلام منطقي مُتَّسق.
إنني أقول دائماً: إياكم أن تُخدَعوا بأن الكافر يكفر، والعاصي يعصى دون أن ينال عقابه؛ لأن من تعوَّد أن يتأبَى على منهج الله، فيكفر أو يعصي لا بد له من عقاب. لقد تمرَّدَ على المنهج، ولكنه لا يجرؤ على التَمرُّد على الله.
إن الإنسان قد يتمرد على المنهج فلا يؤمن أو لا يقيم الصلاة، لكن لا قدرة لإنسان أن يتمرد على الله، لأنه لا أحد يقدر على أن يقف في مواجهة الموت، وهو بعضٌ من قُدْرةِ الله. وسبحانه وتعالى يحكم ما يريد. وقد أراد أن يوجِد للإنسان اختياراً في أشياء، وأن يقهر الإنسان على أشياء، فيا من مرَّنت نفسك على التمرّد على منهج الله عليك أن تحاول أن تتمرّد على صاحب المنهج وهو الله. ولن تستطيع لا في شكلك ولا لونك ولا صحتك ولا ميعاد موتك. وليفتح كل مُتَمرِّد أذنيه، وليعرف أنه لن يقدر على أن يَتمرَّد على صاحب المنهج وهو الله. إذن صدق قول الله: } وَاللَّهُ عَلَىا كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {.
ومن بعد ذلك يقول الحق: } ياأَيُّهَا الرَّسُولُ... {

(/702)


يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)


نأتي في النِّداء بحرف الإقبال وهو " يا " وندخله على " المُنادى " أي أنك تطلب إقباله. فهل نطلب إقباله لمجرد الإقبال أو لشيء آخر؟ مثال ذلك قول الحق:{ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ }[الأنعام: 151]
إذن النِّداء هنا لتلاوة التكليف عليهم. وحين يُنادي الحق سبحانه وتعالى أشرف من ناداهم وهم رُسُله، ونجد أنه نادى كل الرُّسل بمُشخَّصاتِهم العَلَمِيّة. (يا آدم)، والمُشَخّص العَلمَي هو الاسم، وهو لا يعطي وصفاً إلا تشخيص الذات بدون صفاتها.
وكذلك نادى الحق إبراهيم عليه السلام:{ ياإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَآ }[الصافات: 104-105]
وكذلك نادى الحق نوحاً:{ يانُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ }[هود: 48]
وكذلك نادى الحق موسى عليه السلام:{ يامُوسَىا إِنِّي أَنَا اللَّهُ }[القصص: 30]
وكذلك نادى الحق عيسى ابن مريم عليه السلام:{ ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ }[المائدة: 116]
كُل الرُّسُل ناداهم الحق بالمُشَخِّص العَلَمي الذي لا يعطي إلا التشخيص، ولكن رسول الله صلّى الله عليه وسلم خاتم الرُّسُل ما ناداه الله باسمه أبداً، إنما ناداه الله بالوصف الزائد عن مُشَخَّصات الذات فيقول: { ياأَيُّهَا الرَّسُولُ } ، ويقول: { يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ }.
حقًّا إنّ الجميع رُسُل، ولكنه سبحانه يريد أن يبلغنا أن محمداً صلّى الله عليه وسلم هو الرسول الذي جاء ناسخاً ومؤمناً بالكُلّ، هو الذي يستحق النّداء بالوصف الزائد عن مُشَخّصات الذات: { ياأَيُّهَا الرَّسُولُ }. وهو الرسول الذي تقوم عليه الساعة. ولذلك نجد خطاب الحق لرسوله دائما: { ياأَيُّهَا الرَّسُولُ } أو: { يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ } ، وهذا نوع من التكريم.
والحق يقول هنا: { ياأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ }. أي لا تحزن يا رسول الله من الذين يسارعون في الكفر. وحين يخاطب الحق رسوله في ألا يحزن، علينا أن نعرف على ماذا يكون الحزن؟ سبحانه يوضح لرسوله: إياك أن تحزن لأني معك فلن ينالك شر خصومك ولا يمكن أن أختارك رسولاً وأخْذُلَك، إنهم لن ينالوا منك شيئاً.
وقد يكون حزن النبي صلى الله عليه وسلم حزناً من لون آخر، اسمه الحزن المُتَسَامِي الذي قال فيه الحق:{ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىا آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـاذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً }[الكهف: 6]
لأن الحق لو شاء أن يجعلهم مؤمنين لما جعل لديهم القدرة على الكفر.{ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ }[الشعراء: 4]
وهل الله يريد أعناقا؟ لا. بل يريد قلوباً؛ لأن سيطرة القُدرة بإمكانها أن تفعل ما تريد، بدليل أن السماء والأرض والجبال وكل الكائنات أتت للخالق طائعة. فلا يمكن أن يتأبّى الكون على خالقه. والقدرة أفادت القهر وأفادت السيطرة والعزة والغلبة في سائر الكون، ولكن الله أحَب أن يأتي عبده - وهو السيد - للإيمان مختاراً؛ لأن الإيمان الأول هو إيمان القهر والقدرة، ولكن الإيمان الثاني هو إيمان المحبة.

وقد ضربنا من قبل المثل على ذلك ولنوضحه: هب أن عندك خادمين ربطت أحدهما في سلسلة لأنك إن تركته قليلاً يهرب، وعندما تريده تجذب السلسلة فيأتي، إنه يأتي لسيطرة قُدرتك عليه والقهر منك، أما الخادم الآخر فأنت تتركه حُرّاً ويأتيك من فور النداء. فأيهما أحب إليك؟ لا شك أنك تحب الذي يجيء عن حُب لا عن قهر. وكل أجناس الكون مُسخَّرة بالقدرة، وشاء الحق أن يجعل الإنسان مُختاراً لذلك قال:{ إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ }[الأحزاب: 72]
إذن فقد رفضت كل الأجناس حمل الأمانة. خوفا وإشفاقا من أنها قد لا تستطيع القيام بذلك. والحق يقول لرسوله: } لاَ يَحْزُنكَ { فأمّا إذا كان الحزن بسبب الخوف على المنهج منهم، فالحق ينصره ولن يمكنهم منه. وأما إن كان الخوف عليهم فلا؛ لأنه سبحانه خلق الإنسان مختاراً غير مقهور على القيام بتعاليم المنهج، وسبحانه يُحب أن يعرف من يأتيه حُباً وكرامة.
ويقول الحق لرسوله محمد صلّى الله عليه وسلم: } لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ {.
وهذه رُبوبية التعبير، فنحن نعلم أن السرعة تكون إلى الشيء، لا في الشيء كما قال الحق:{ وَسَارِعُواْ إِلَىا مَغْفِرَةٍ }[آل عمران: 133]
ولكن هنا نجده يقول: } يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ {. ولو قال الحق: " يسارعون إلى الكفر " لكان قد ثبت لهم إيمان وبعد ذلك يذهبون إلى الكُفر، لا. الحق يريد أن يوضح لنا: أنهم يسارعون في دائرة الكفر. ويعلمنا أنهم في البداية في الكفر، ويسارعون إلى كفر أشد. ونعرف أن " في " في القرآن نستطيع أن نضع من أجلها المجلدات. فقد قلنا من قبل قال الله تعالى: } سِيرُواْ فِي الأَرْضِ {.
ولم يقل سبحانه سيروا على الأرض.
والحق سبحانه: وتعالى يقول:{ وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ }[النساء: 5]
وهي ليست أموال المخاطبين، ولكنها في الأصل أموال السفهاء. ولكن سبحانه يبلغنا أن السُّفهاء غير مأمونين على المال، ولذلك يأتي الحق بالوصَيَّ والقيّن على المال ويأمره أن يعتبر المال ماله حتى يحافظ عليه. ويأمره بألا يخزن المال ليأكل منه السَّفيه؛ لأن المال إن أكل منه السَّفيه ودفع له الزكاة، قد ينضب وَينْفذ. لذلك قال الحق:{ وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً }[النساء: 5]
ومن بعد ذلك يقول الحق:{ وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا }[النساء: 5]
لم يقل ارزقوهم منها، ذلك أنه سبحانه شاء أن يعلمنا أن الرزق مطمور في رأس المال ويجب أن يتحرك رأس المال في الحياة حتى لا ينقص بالنفقة، وحتى لا تستهلكه الزكاة، وحتى يبلغ السَّفيه رُشده ويجد المال قد نما. هذه بعض من معطيات " في ". وهنا آية الصَّلب:{ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ }[طه: 71]
بعض المفسرين يقولون في هذه الآية: } لأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ { ونقول: إن الذين قالوا ذلك لم يُفسّروا هذه الآية وكان يجب أن يقولوا في تفسير ذلك:
لأصلبنكم على جذوع النخل تصليباً قوياً يدخل المصلوب في المصلوب فيه.

ومثال ذلك لو جئنا بعدو ثقاب وربطناه على الأصبع بخيط رفيع وأوثقنا الربط، فعود الثقاب يغوص في الأصبع حتى يصير وكأنه داخل الأصبع. وعندما يقول الحق: } لأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ { فيجب ألا نفهم هذا القول إلا على أساس أنه تصليب على جذوع النخل تصليباً قوياً يُدْخِلُ المصلوب في المصلوب فيه. وتلك هي العِلّة في وجود " في " وعدم وجود " على ".
والحق يقول هنا: } لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ { فكأن المسارعة إما أن تكون بـ " إلى " وإما أن تكون بـ " في ". فإن كانت بـ " إلى " فهي انتقال إلى شيء لم يكن فيه ساعة بدْء السرعة، وإن كانت بـ " في " فهي انتقال إلى عمق الشيء الذي كان فيه قبل أن يبدأ المسارعة.
} لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ { فالإيمان محلّه القلب، والإسلام محلّه الجوارح؛ ولذلك قال سبحانه:{ قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـاكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا }[الحجرات: 14]
إنهم يسارعون إلى الصف الأول في الصلاة وهذا إسلام، أما الإيمان فمحلّه القلب. إذن فالذين قالوا بأفواههم آمنا، لهم أن يعرفوا أن منطقة الإيمان ليست الأفواه ولكنها القلوب. وهم قالوها بأفواههم وما مرّت على قلوبهم. وماداموا قد قالوا بأفواههم آمنا وما مرّت على قلوبهم فهؤلاء هم المنافقون، ومعنى ذلك أنهم في كل يوم ستظهر منهم أشياء تُدخِلهم في الكفر؛ لأنهم من البداية قد أبطنوا الكفر، وبعد ذلك يسارعون في مجال الكفر.
} مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُواْ { هم إذن صنفان اثنان يسارعان في الكفر؛ المنافقون الذين قالوا بأفواههم آمنا، والذين هادوا. ويصفهم الحق بقوله: } سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ { وساعة تسمع مادة " السين والميم والعين " فهذا يعني أن الأذن قد استقبلت صوتاً من مُصَوِّت، هذا المُصوِّت إما أن يكون مُتكلماً بالكلام الحقّ فيجذ من الأذن الإيمانية استماعاً بإنصات؛ ثم يتعدى الاستماع إلى القبول؛ فيقول المؤمن: أنا استمعت إلى فلان، لا يقصد أنه سمع منه فقط ولكن يقصد أنه سمع وقبل منه ما قال.
إننا نعلم أن كثيراً من الورعين يسمعون كذباً، لكن الفيصل هو قبول الكذب أو رفضه. وليس المهم أن يكون الإنسان سامعاً فقط، ولكن أن يصدق ما يسمع. ونرى في الحياة اليومية إنساناً يريد أن يصلح شيئاً من أثاث منزله فيأتي بالأدوات اللازمة لذلك، ويقال هنا عن هذا الرجل: " نجر فهو ناجر " ولا يقال له: " نجّار "؛ لأن النجار هو من تكون حرفته النّجارة.

إذن كلمة: سامع للكذب لا تؤدي المعنى، ولكن " سمّاع " تؤدي المعنى، أي أن صناعته هي التسمّع، وعندما يقول الحق: } سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ { أي ألِفُوا أن يقبلوا الكذب. وكيف يكون مزاج من يقبل الكذب؟. لا بد أن يكون مزاجاً مريضاً بالفطرة.
وما معنى الكذب هنا ومن هم السمّاعون؟ إما أن يكون المقصود بهم الأحبار والرهبان الذين قالوا لأتباعهم كلاماً غير ذي سندٍ من واقع من أجل الحفاظ على مراكزهم. وإما أن يكونوا سماعين للكذب لا لصالحهم هم، ولكن لصالح قوم آخرين. كأنهم يقومون بالتجسس. والتجسس - كما نعلم - يكون بالعين أو بالأذن. وتقدمت هذه الوسائل في زماننا حتى صار التجسس بالصوت والصورة. وكأن الحق يريد أن يبلغنا أنهم سماعون للكذب، أي أنهم يسمعون لحساب قوم آخرين. والقوم الآخرون الذي يسمعون لهم هم القوم الذين أصابهم الكبر والغرور واستكبروا أن يحضروا مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهم في الوقت نفسه لا يطيقون الانتظار ويريدون معرفة ماذا يقول رسول الله، لذلك يرسلون الجواسيس إلى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم لينقلوا لهم.
أولئك السماعون للكذب هم سماعون لحساب قوم آخرين لم يأتوا إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبُّراً. وهؤلاء المتكبرون هم كبار اليهود، وهم لا يذهبون إلى مجلس رسول الله حتى لا يضعف مركزهم أمام أتباعهم. وعندما يُنقَل إليهم الكلام يحاولون تصويره على الغرض الذي يريدون، ولذلك يقول عنهم الحق: } يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ {. أي أنهم يُحرِّفون الكلام بعد أن استقر في مَواضعه ويستخرجونه منها فيهملونه ويزيلونه عن مواضعه بعد ان وضعه الله فيها وذلك بتغيير أحكام الله، وقال الحق فيها أيضاً من قبل ذلك:{ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ }[المائدة: 13]
أي أنهم حَرَّفُوا الكلام قبل أن يستقر. } سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـاذَا فَخُذُوهُ { وهم الذين يقولون لأتباعهم من جواسيس الاستماع إلى مجلس رسول الله: } إِنْ أُوتِيتُمْ هَـاذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ {. فكأنهم أقبلوا على النبي بهذا، فإن أخذوا من رسول الله معنى يستطيعون تحريفه فعلوا. وإن لم يجدوا ما يحرفونه فعليهم الحذر.
ومن دراسة تاريخ القوانين الوضعية نعرف معنى السلطة الزمنية. فالقوانين التي تواضع عليها بشر ليحكموا بها نظام الحياة تأخرت في الظهور إلى الواقع عن نظام الكهنة، فقد كان الكهنة يَدَّعُون أن لهم صلة بالسماء ولذلك كان الحكم لهم، أي أن التقنين في الأصل هو حكم السماء والذي جعل الناس تتجه إلى وضع قوانين خاصة بهم أنهم جربوا الكهنة فوجدوهم يحكمون في قضية ما حُكْماً. وفي القضية المشابهة يحكمون حُكْماً آخر.

لقد كان كلام الكهنة مقبولا عندما ادعوا لأنفسهم الانتساب إلى أحكام السماء. لكن عندما تضاربت أحكامهم خرج الناس على أحكام الكهنة ورفضوها لأنفسهم قوانين أخرى.
والحكاية التاريخية توضح لنا ذلك: فقد زَنَى أحد أتباع ملك في العصر القديم وحاولوا أن يقيموا عليه الحد الموجود بالتوراة. لكن الملك قال للكهنة لا أريد أن يُرجَم هذا الرجل وابحثوا عن حكم آخر.
ورضخ الكهنة لأمر الملك وقالوا: نُحَمِّم وجه الزَّاني - أي نُسَوِّد وجْهه بالحُمم وهو الفحم - ونجعله يركب حماراً ووجه إلى الخلف ونطوف به بين الناس بدلاً من الرَّجم. وهكذا أعطت السلطة الزمنية السياسية الأمر للسلطة الزمنية الدينية ليُغيِّروا في القوانين. فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة حاولوا أن يستغلوا وجوده في استصدار أحكام فيها هوادة ولين. وعرضوا عليه بعضا من القضايا من أجل ذلك، فإن جاء الحكم بالتخفيف قبلوه، وإن كان الحكم مُشدّداً لم يقبلوه. وتكررت مسألة الزّنا. وحاولوا الحصول على حكم مخفف من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وجاء رسول الله بالحكم الذي نزل من السماء وهو الرَّجم. ولكنهم قالوا للرَّجم لا. يكفي أن نجلده أربعين جلدة وأن نُسَود وجهه وأن نجعله يركب حماراً ووجهه للخلف ويُطاف به. وهنا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أليس عندكم رجل صالح له علم بالكتاب؟ وهنا صمتوا. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تعرفون شابا أمرد أبيض أعور يسكن " فدك " يقال له: " ابن صوريا ". فقالوا: نعم، هو أعلم يهود على وجه الأرض. فأمر الرسول بإحضاره ليرى الحُكم النازل في الزِّنا بالتوراة، وجاء الرجل وناشده رسول الله بالذي لا إله إلا هو وبحق من أرسل موسى، وبحق من أنزَل التوراة على موسى، وبحق من فلق البحر، وبحق من أغرق فرعون، وبحق من ظللهم بالغمام. وأراد صلى الله عليه وسلم أن يُزلزل فيه كل باطل وأن يشحنه بالطاعة حتى ينطق الحق، فقال ابن صوريا: نعم نجد الرَّجم للزِّنا. وهنا سَبَّ اليهود الرجل الصالح.
لقد أرادوا أن يحصلوا على حُكم مُخفف من رسول الله ليُنقذوا الزاني صاحب المقام العالي، وكذلك الزانية ذات الحسب والنسب؛ لذلك قال الحق على لسانهم: } إِنْ أُوتِيتُمْ هَـاذَا {. أي التخفيف المراد فخذوه، وإن وجدتم العقاب القاسي فاحذروه ولا تقبلوه.
إذن فهم لم يذهبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ابتغاء الحق ولكنهم يبتغون التخفيف. فإن وافق الحكم هواهم قالوا: إن محمداً هو الذي حَكَم، ومن العجيب أنهم أعداء لمحمد وكافرون به. وبرغم ذلك يُحكِّمونه.
هذه الواقعة يرويها الإمام مسلم رضي الله عنه وهي: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى يهودي ويهودية قد زنيا فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء يهود فقال: ما تجدون في التوراة على مَنْ زنى؟ قالوا: نسوّد وجوههما ونحمّمهما ونحملهما ونخالف بين وجوههما، ويُطاف بهما، قال: (فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين) قال: فجاءوا بها، فقرأوها، حتى إذا مرّ بآية الرجم وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم وقرأ ما بين يديها وما وراءها، فقال له عبد الله بن سلام وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: مُرْهُ فليرفع يده، فرفع يده فاذا تحتها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرُجما، قال عبد الله بن عمر: كنت فيمن رجمهما فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه ".


إنهم يريدون الحُكم السهل الهين اللين. وقال البعض: إن سبب نزول هذه الآية هي قصة القَوَد. والقود هو القصاص.
وقصة القود في إيجاز هي - كما رواها الامام أحمد وأبو داود وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنه - أن طائفتين من اليهود هما بنو النضير وبنو قريظة كانتا قد تحاربتا في الجاهلية، فقهرت بنو النَّضير بني قريظة، فكانت النَّضير وهي العزيزة إذا قتلت أحداً من بني قُريظة وهي الذَّليلة لم يُقِيدوهم أي لم يعطوهم القاتل ليقتلوه بقتيلهم. إنما يعطونهم الديَّة. وكانت قُريظة إذا قَتَلت أحداً من بني النَّضير لم يرضُوا منهم إلا بالقود. فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة تحاكموا إليه في هذا الأمر فحَكَم بالتَّسوية بينهم، فسَاءَهم ذلك ولم يقبلوا. وأي قصة منها هي مؤكِّدة للمعنى.
ومن بعد ذلك يقول الحق: } وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً { والفتنة هي التعذيب بالنار، وسبحانه يقول:{ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ }[الذاريات: 13]
والفتنة أيضاً هي الابتلاء والاختبار، ويقال: " فتنت الذهب " أي وضعت الذهب في بوتقة وحوَّلته بالحرارة العالية من جسم صُلب إلى سائل حتى تستخلصه من المواد العالقة الشائبة التي فيه ليصير نقياً. والفتنة في ذاتها ليست مذمومة. ولكن المذموم منها هو النتيجة التي تصل إليها؛ اينجح الإنسان فيها أم يرسُب؛ لأن الاختبارات التي يمر بها الإنسان كلها هي فتنة، والذي ينجح تكون الفتنة بالنسبة إليه طيبة. والذي يرسُب ويفشل فالفتنة بالنسبة إليه سيئة. وعندما يريد الله فتنة بشر أي يرد اختبارهم: أيأتون طوعا واختياراً أم لا؟
ومادام الحق سبحانه وتعالى أعطى للإنسان قدرة الاختيار حتى يُثبت صفة المحبوبية فسبحانه أراد ذلك، ولا أحد بقادر أن يجعل الإنسان مقهوراً. وقد أراده الله مُختاراً وأن يبتلى وأن يختبر. أينجح أم يرسُب، أيكون مُؤمناً أم كافراً:
} وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً {. وجعل سبحانه ذلك قانونا لخلقه بمنتهى الوضوح، وهناك جانب في الإنسان مُسَخَّر، وجانب آخر مُخيَّر.

} وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً {. أي أن أحداً لا يجرؤ أن يغير نواميس الكون ولن يغير الله نواميس الكون من أجل أي أحد؛ لأن النواميس لا بد أن تسير كما أرادها الله حتى على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد عرفنا ما حدث في أُحُد؛ عندما تخاذل الرُّماة ولم يستمعوا إلى نصيحة القائد الأعلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ أَغَيَّر الله سُنَّته من أجل وجود حبيبه معهم؟ لا، وانهزموا على رغم وجود رسول الله معهم؛ لأن الله أراد للسُّنة الكونية أن تسير كما هي من أجل إصلاح الأمر. فلو فُرِض أنهم انتصروا من أجل خاطر النبي، ماذا يكون الموقف في أوامره صلى الله عليه وسلم فيما بعد؟ كان من الممكن أن يقول شخص منهم: " خالفناه وانتصرنا ". إذن لا بد لسُنَّة الله أن تُنَفّذ.{ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَـائِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ }[المائدة: 41]
لماذا لم يرد الله أن يُطهِّر قلوبهم؟ لأنهم منافقون. وفي قلب المنافق مرض. وعندما تأتي أحداث ينتفع بها المسلمون فالمنافق يزداد حِقداً ومَرضا لأنّ قلبه مُمتلئ بالغل، ولا يريد الله تطهير قلب إنسان إلا أن يقبل على الله ولذلك قال تعالى:{ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ }[البقرة: 264]
وقال سبحانه:{ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }[آل عمران: 86]
فهل عدم هداية الله لهم نشأت أولاً، ثم نشأ الكُفر، أو نشأ الكُفر منهم فجاء عدم الهداية؟ نعلم أن عدم الهداية مرتبة على أنه ظالم أو كافر، وقلنا من قبل: إن هناك إرادة كونية وإرادة شرعية. والإرادة الكونية هي ما يحدث في كون الله. ولا شيء قد حدث في كون الله غصبا عن الله. والاختيار خلقه الله في الإنسان ليصير الإنسان مُخيراً بين الكُفر والإيمان. ومادام الحق قد خلق الإنسان مُختاراً لهذا أو لذلك إذن فهو سبحانه مُريد كَوْنِيًّا ما يصدر عن الإنسان اختياراً كفراً أو هدايةً. لكن أَمُريد هو سبحانه ذلك شرعاً؟ لا.
إن الشرع أمر سماوي إما أن يُنفّذه العبد وإما أن يعصيه. ونعرف أن هناك أشياء مُرادة كونياً وأشياء مُرادة شرعيا. والمُراد الكوني هو الذي يكون: أما الإنسان فقد خلقه الله وله الاختيار، فالذي يسرق لا يسرق غصبا عن الله ولكن ما أعطاه له الله من اختيار ومن طاقة، إما أن يوجهها إلى الخير وإما إلى الشر.
ونحن حين ننظر إلى الساعة التي نضعها حول المعصم وقد صنعها الصانع صالحة لأن يديرها الإنسان على توقيت أي بلد، فهل هذا يتم غصبا عن الصانع؟ لا. وكذلك جهاز " التليفزيون "؛ إن أذعنا فيه برامج دينية فهو صالح للهدف، وإن أذعنا فيه حفلة راقصة فهو صالح لذلك أيضا.

والذي صنع التليفزيون جعله صالحاً لهذا ولذاك، المهم هو توجيه الطاقة وكذلك الإنسان. والإرادة الكونية هي كل ما يكون في ملك الله، والإرادة الشرعية هي كل ما يكون في شرع الله " افعل ولا تفعل ". ومادام هناك أمرٌ كوني شرعي فالكون قد أوجده الله لخدمة المؤمن والكافر والعاصي، لكن الأمر الشرعي جعله الله للمؤمن.
إذن فإيمان المؤمن أراده الله كونا؛ لأنه سبحانه قد وضع الإيمان منهجا، وأراد الله إيمان المؤمن شرعا. وكفر الكافر لم يتم غصبا عن الله. ولكن الإنسان بخلْقِه مختاراً. صار كُفره أمراً كونياً، ولكنه غير مُراد شرعاً, فكفر الكافر مُراد كونا غير مُراد شرعا. وإيمان الكافر غير مُراد كوناً وكفر المؤمن غير مُراد كونا. وبهذا نكون أمام أربعة أقسام في المُراد كونا وشرعا. وهذه هي القسمة العقلية.
إذن من يُرِد الله فتنته كوناً فلا راد لإرادة الله؛ فإذا لم يطع الشرع، فذلك لأنه مخلوق صالح للطاعة وصالح للمعصية.
وأضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - الوالد يعطي لابنه جنيها ويقول له: أنت حُر في هذا المبلغ فإن اشتريت مصحفا أو كتاب دين أو شيئاً تأكله أنت وإخوتك فسأكافئك وأستأمنك على أشياء كثيرة. أما إن اشتريت ورق اللعب المُسمّى " كوتشينة " فسأغضب منك.
وحين يذهب الولد ليشتري ورق اللعب المُسمّى " كوتشينة " ، هل اشترى ذلك غصبا عن أبيه؟ لا. لكن الولد يصبح غير محبوب من أبيه. هذا هو الفارق بين المُراد كونا والمُراد شرعا. وبين المُراد كونا لا شرعا. والمُراد شرعا لا كونا.
} أُوْلَـائِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ { كان ذلك كونا؛ لأنه سبحانه خلقهم قابلين للتطهير وقابلين لغيره، فإن فعلوا أي شيء فهم لن يفعلوه غَصبا عن الله؛ لذلك يذيل الحق الآية: } لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ { فكأن معنى ذلك أن في قلوبهم أشياء ضد الطهارة، ولهم في الدنيا خزي. والخزي يطلق على الفضيحة ويطلق على الاستحياء، والمعنيان يلتقيان. وهنا في مجال هذه الآية: أي خزي وأي فتنة؟ إنهما فئتنا؛ المنافقون واليهود. وكان المنافقون كلما فعلوا شيئا ينفضح. وعندما يبيِّتون أي شيء فإن الله يخبر رسوله بما يبيِّتون.{ وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ }[محمد: 30]
وكذلك الذين هادوا: يأتيهم الخزي أي الافتضاح، أي أن يصيروا إلى المُسترذل بعد أن كانوا في المُستحسن. والرسول صلى الله عليه وسلم دخل المدينة واليهود سادة هذه البقعة؛ سادتها علما لأنهم أهل كتاب، أما الأوس والخزرج فأُميون لا يعرفون شيئا. وكان اقتصاد المدينة في أيدي اليهود، من مال وصنعة وزراعة. وعنجهية الجاه. وعندما يأتي الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة يجدهم السادة، ثم ينفضح أمرهم وكذبهم، ويتم إجلاؤهم،وتُسبى نساؤهم ويُقتل بعضهم. وعندما يدبرون كيدا لرسول الله، يفضحهم الله، وكل ذلك خزي، وليس الخزي هو الجزاء الوحيد لهم، بل يلقون في الآخرة عذاباً أليماً.
ويقول الحق من بعد ذلك: } سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ... {

(/703)


سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)


وفي اللغة ألفاظ مفردة، مثال: " سجنجل " وتفتح القاموس فتجد معناها " البلور " ، وكذلك الصفا والمروة؛ وعندما تبحث في القاموس عن كلمة " مروة " تعرف أن معنى اللفظ بعيد عن النسبة، فأول عمل للغة أن تعرف معنى الألفاظ بعيداً عن نسبتها. ومهمة القاموس أن يشرح لك معنى اللفظ بعيداً عن النسبة دون إثبات أو نفي، مثال ذلك " الجو " معناها هو ما يحيط بك من هواء أو غير ذلك، لكن القاموس لا يشرح هل الجو مُكفهر أو صافٍ أو باردٌ.
وإن تقدمنا مرحلة أخرى وأخذنا اللفظ لنصنع له نسبته، كأن نقول: " الجو صحو " ، هنا ننتقل من فهم معنى كلمة " جَوّ " ، إلى أننا نسبنا الصحو إليه. والكلام المفيد يأتي في النِسب. ولا تأتي النِسب إلا بعد معرفة معاني الألفاظ. والنِسب تعني أن ننسب شيئا إلى شيء، كأن نقول: " محمد مجتهد " هنا نسبنا لمحمد الاجتهاد، وذلك بعد أن عرفنا معنى كلمة " محمد " بمفردها، ومعنى " مجتهد " بمفردها.
إذن الكلام المفيد يتأتى في النسب. وقد تكون الإفادة بضميمة كلمة إلى ما سبقها، فعندما يسألك إنسان: " من عندك "؟ فتقول: " محمد "؛ هذا القول أفاد؛ لأنه انضم إلى كلمة أخرى فصار المعنى: " محمد عندي ".
إذن هناك نسب، والنسب هي أن تنسب حكماً إلى شيء إما إيجابا , وإما نفياً.
والنسبة تنقسم إلى قسمين؛ نسبة واقعة، ونسبة غير واقعة. وإن كانت النسبة واقعة فهل تعتقدها؟ وهل تستطيع أن تقيم عليها دليلاً؟ إن كانت النسبة الواقعة ومقام عليها الدليل تكون علماً. وإن كانت نسبة وواقعة وأنت تعتقدها ولا تستطيع أن تدلل عليها، فهذا تقليد، مثل الطفل الذي يقلد أباه فيقول: " الله أَحد " ، والطفل في هذه الحالة لا يستطيع أن يقيم على هذه النسبة دليلاً.
إن العلم أعلى مراتب النسب لأنه نسبة معتقدة وواقعة وعليها دليل. أما إذا كانت نسبة معتقدة وغير واقعة، فهذا هو الجهل؛ لأن الجاهل هو الذي يعرف الشيء على غير وجهه الصحيح. أما الأمي فهو الذي لا يعرف شيئا ونجد صعوبة في الشرح للجاهل، مثال ذلك الذي يقول الأرض مبسوطة ويدافع عنها، إنه يقول نسبة يعتقدها، ولكنها غير الواقع لأنها كروية.
والجهل - إذن - أن تعرف نسبة تعتقدها وهي غير واقعة. ولا يرهق الدنيا غير الجاهل، لا الأمي؛ لأن الأمي له عقل فارغ يكفي أن تقول له الحقيقة فيصدقها، أما الجاهل فيحتاج إلى أن نخلع من أفكاره الفكر الخاطئ ونضع له الفكر الصحيح.

أما إن كانت النسبة غير واقعة. فالنفي فيها يساوي الإثبات، وهذا هو الشك. وإن كانت هناك نسبة راجحة فهو الظن. والنسبة المرجوحة هي الوهم. إذن هناك عدد من النسب: نسبة علم، نسبة تقليد، نسبة جهل، نسبة شك، نسبة ظن، نسبة وهم. وعلى ذلك يكون الكذب نسبة غير واقعة، فإن كنت تعتقدها فأنت من الجاهلين.
ويقابل الكذب الصدق، وعندما يقول الحق: } سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ {. فالنسبة هنا غير مطابقة للواقع. ويقتنص الملبِّسون بعض النسب التي تأتي في بعض من أسلوب القرآن ويقولون: في القرآن كلام لو مَحَّصناه لوجدناه غير دقيق. مثال ذلك:{ إِذَا جَآءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ }[المنافقون: 1]
كلام المنافقين هنا قد طابق كلام الله، ولكن لماذا يقول الحق من بعد ذلك:{ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ }[المنافقون: 1]
النسبة واحدة، لكن الله يكذب المنافقين. وإن فطنا إلى قول الله حكاية عنهم:{ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ }[المنافقون: 1]
أي أن الله يُكذِّب شهادتهم، لأن محمداً رسول الله بالفعل، ولكنهم كاذبون لأنهم لا يعتقدون ذلك، فالشهادة هي ما يوافق اللسان ما في القلب.
إذن قوله الحق: } سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ { أي أن عملهم الاستماع للكذب، وأكل السُّحت وكأنهم يرهقون إن أكلوا حلالاً، وأكَّال صيغة للمبالغة؛ وتكون إما في الحدث، وإما في تكرار أنواع الحدث. فيقال: " فلان أكال " ، و " فلان أكول " وهو الإنسان الذي يأكل بشراهة أو يأكل كثيراً، والمبالغة - إذن - إما أن تكون في الحدث وإما في تكرير الحدث.
} أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ { ومادة " سَحت " تعني " استأصل ومحا " ، ولكنها تزيد أنها استأصلته استئصالاً لم يبق له أثراً وتعدى الاستئصال إلى ظرفه. مثال ذلك عند ظهور بقعة من زيت أو طعام على ثوب، نستطيع استئصال البقعة، ونستطيع المبالغة في استصالها إلى أن تنحت من الثوب. والسُّحت استئصال مبالغ فيه لدرجة الجوْر على الأصل قليلاً. أي يستأصل الذي جاء ومعه بعض من الأصل أيضاً؛ لذلك جاء المفسرون إلى هذا المعنى في شرح الرِّبا لأن الله يصفه بالقول:{ يَمْحَقُ اللَّهُ الْرِّبَا }[البقرة: 276]
والربا في مفهومنا أنه زيادة، ولكن الحق أوضح لنا أنه ليس بزيادة؛ لأنه يَدْخل ويستأصل ويأكل ويكحت أصل المال. وظاهر الرِّبا وباطنه محق واستئصال.
أما الزكاة فظاهرها نقص، ولكنها نماء، وبذلك نرى اختلاف مقاييس الخلق عن مقاييس الحق. والمثل الواضح: أن النفس تلتفت دائماً إلى رزق الإيجاب، ولا تلتفت إلى رزق السلب. فرجل راتبه خمسمائة جنيه، وآخر راتبه مائة جنيه، صاحب الراتب البالغ الخمسمائة فتح الله عليه أبواباً تحتاج إلى ألفٍ من الجنيهات، والذي يأخذ مائة جنيه سَدَّ الحق عنه أبواباً لا تأخذ منه كل راتبه بل يتبقى له عشرة جنيهات.

هناك - إذن - رزق إيجاب يزيد الدخل، ورزق سلب أن يسلب الحق عنك المصارف في المصائب والمهالك ويبارك لك فيما أعطاك.
والسًّحْت هو كل شيء تأخذه من غير طريق الحلال؛ كالرشوة أو الربا أو السرقة أو الاختلاس أو الخطف. وكل أنواع المقامرة والمراهنة، كل ذلك اسمه سُحْت.
} سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ { وهذا القول دليل على أن أُذَنَهُم اعتادت سماع الكذب ويقبلون عليه. وعندما نقول نحن في الصلاة: " سمع الله لمن حمده " ، أي أننا ندعو الله أن يقبل الحمد. وهم سماعون للكذب أي يقبلون الكذب. والسماع جارحة، والأكل بناء ما به الجارحة لأنه مقوم لها. مثلما يأكل لينمو، وإن كان ناضجاً يحفظ له الطاقة والقدرة.
فالنّمو - إذن - معناه أن يدخل جوفه أكثر مما يخرج منه. وبعد فترة يدخل إلى جسمه على قدر ما يخرج منه، ثم الشيخوخة نجد فيها أن ما يخرج أكثر مما يدخل. وماداموا سماعين للكذب أكَّالين للسُّحت، فهم في بوارٍ دائم، لأن أكل السُّحْت حيثية من حيثيات الاستماع المصدِّق للكذب؛ لأنهم قد بنوا ذرات أجسادهم من حرام، فكيف ترفض آذانهم الكذب؟ بل آذانهم تستدعي الكذب، وألسنتهم تحترفه. وعيونهم تستدعي المحارم، وأيديهم تستدعي السرقة، إنها الأبعاض التي بناها أصحابها من حرام.
ولم يقل عنهم: " سامعون " ، بل قال: " سماعون " أي جعلوا صناعتهم أن يتسمعوا، وهم الجواسيس، وإلا فإذا كان الأمر غير ذلك لكان كل من سمع كذبا يُعَد من هؤلاء. والقول مقصود به من جعل السماع صنعة له، ولا يجعل إنسان السماع صنعة له إلا إذا كان عينا لغيره، والعين للغير يتلصص على أمانة المجالس، ولكل مجلس أمانة. فإذا ما حضر إنسان مجلسا فليس له أن ينقل ما في ذلك المجلس إلى غيره إلا أن يكون ذلك هو صناعته، وتلك هي مهمته.
} سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ { وهنا قضيتان. فعل السماع للكذب سببه أكل السُّحت، أم أكل السُّحت سببه السماع للكذب؟
إن الحق سبحانه وتعالى حينما خلق الإنسان من طينة الأرض وصوره على شكل آدم نفخ فيه من روحه، وحين صوره من طينة الأرض جعل كل مقومات حركة حياته من طبيعة طينة الأرض، فإذا ما أخذ الإنسان شيئاً من حِلٍّ، اعتدلت الذرات في نفسه على الهيئة التي خلقها الله. وإن تدخل فيها بحرام جعل في الذرات اختلالا تكوينيا. وهذا الاختلال التكويني هو الذي جعل آكل الحرام سماعا للكذب. ولو لم يكن فيه ذلك الاختلال التكويني الذي صنعه بنفسه لما سمع الكذب أبداً.
أو أنه عندما أكل السُّحْت صار سماعا للكذب. أو سمع كذبا فصار أكَّالاً للسُّحْت. ولنلاحظ أن الحق لم يقل: " آكل للسُّحْت " ، ولم يقل: " سامع للكذب "؛ ولكنه قال: } سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ { أي أنهم تعودوا سماع الكذب وتعودوا أكل السُّحت، فالواحد منهم أخذ حراما من أول الأمر، وعندما صار أكالا وسمَّاعًا للكذب في آن واحد، اختلت ذرَّات تكوينه، ولم يعد في أعماقه نور ليرفض الكذب.

بل أقبل عليه، ويغريه الكذب ثانية بأن يأكل السُّحْت، والأمر دائر بين سماع كذب وأكل سحت.
وقضية الكذب هي قضية صراع الباطل مع الحق. ومادام الكذب غير مطابق لوازع كوني أو لواقع منهجي تكليفي فهذا يصنع خللاً في الكون. وحينما أراد الحق سبحانه وتعالى أن يضرب لنا المثل في ذلك جاء بالمثل في أمرٍ حسي حتى نراه جميعا:{ أَنَزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا }[الرعد: 17]
أي أن كل وادٍ تحمَّل على قدر طاقته. ومن بعد ذلك يقول الحق:{ فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً }[الرعد: 17]
فقبل أن ينزل السيل من على الجبال إلى الوديان، يأخذ كل الأشياء التي تصادفه على الجبل من آثار الرياح، ومن أوراق النبات، فينزله إلى الوادي، وتلك هي الأشياء التي تصنع الزِّبَد ونقول عنه في لغتنا العامية: " الرَّغاوي ".{ أَنَزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً }[الرعد: 17]
و " رابياً " أي غائماً وعاليا وطافيا فوق المياه، لماذا؟ لأنه مادام زبداً ففيه فقاقيع هواء تجعل حجمه أكبر من وزنه. وتصبح كثافته أقل من المياه؛ لذلك يطفو فوقها. وماذا يكون الموقف بعد ذلك؟{ فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ }[الرعد: 17]
ومن العجيب أنه سبحانه جعل المثلين في الماء والمضاد له وهو النار، فالماء يأتي بزبد وغثاء يطفو على المياه، وكذلك النار حين ندخل فيها المعادن. ومن رأى الحداد ينفخ في كيره على قطعة من الحديد يرى الخبث، والمواد الغريبة الممتزجة بالحديد والتي تنفصل أثناء الصهر عن الحديد ليصير صافيا. إذن فهناك زبد في الحديد تخرجه النار عند صهره، وزبد يطفو فوق الماء.{ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذالِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ }[الرعد: 17]
ولهذا نرى الباطل وقد أتى عليه زمن ليطفو فوق السطح، ويخرج الخَبَث طافيا على أصيل الحديد. لكن أيظل الباطل كذلك؟ يُطمئِنُنا الحق أنه يحمي الحق فيقول:{ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ }[الرعد: 17]
وحين نرى الباطل وقد طفا على السطح نفاجأ بعد وقت من الزمن أن الزبد ينتهي صافياً. فإذا رأينا الباطل مرة يعلو، فلنعلم أنه لا بقاء لهذا العُلو؛ لأن ما ينفع الناس يمكث في الأرض.
ولماذا لا يُعلن الحق عن نفسه من البداية؟ أراد الله ذلك ليجعل الباطل من جنود الحق، ولو لم يَعَض الباطل الناس ويُتعبهم أيتجهون إلى الحق؟ لا؛ لذلك كان لا بد أن يأتي إليهم الباطل الناس ويُتعبهم ليبحثوا عن الحق.

وهكذا نرى الباطل كجندي من جنود الحق. وضربنا المثل من قبل وعرفنا أن الألم عند المريض من جنود العافية، فلولا ذلك الألم لاستشرى الداء دون أن يشعر المريض، فكأن الألم يلفته إلى موضع الداء ويدفعه للبحث عن وسائل الشفاء. وبذلك يتعرف على حلاوة العافية.
إذن فالباطل من جنود الحق والألم من جنود الشفاء؛ لأن أمور الحياة لو سارت على وتيرة واحدة لما عرف الإنسان أوجه الحياة، فلو لم يأتِ الألم إلى المريض لأكله المرض. فإذا كان الألم من جنود الشفاء، فالكفر أيضاً من جنود الإيمان؛ لأننا عندما نرى الكُفر ونشهد آثار الكُفر فساداً في المجتمع، نتساءل: ما الذي يخلِّصنا من ذلك؟ ونعرف أن الذي يخلصنا من الفساد هو الإيمان.
وأُكرِّر دائماً: كلمة الكُفر بذاتها هي الدليل الأول على الإيمان؛ لأن الكُفر هو السَّتْر، ومادام الكفر هو السَّتر، والكافر يستر الإيمان، وظهور الكفر على السطح دليل وجود الإيمان في الأصل.
ومادام الحق قد قال: } سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ { فلا بد بعد هذا التشخيص أن يرسم لرسوله أسلوب التعامل معهم: } فَإِن جَآءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً {. فأنت يا رسول الله بالخيار بين أن تحكم بينهم في القضية التي جاءوا من أجلها أو تعرض عنهم، فليس عليك تجاههم إلزام ما؛ لأنهم السماعون للكذب الأكَّالون للسُّحْت. وهم حينما يأتونك يا رسول الله طلباً لحكم إنما يفعلون ذلك لا رغبة في معرفة الحق ولا هم يلتمسون العدل. بل جاءوك مظنة تيسير امر الباطل وأكل السُّحت لنفوسهم. وقد طلبوا الحكم في قضية الزِّنا وعندهم في التوراة كان الرَّجم عقاباً للزنا.
لقد ذهبوا لرسول الله لأنهم أرادوا أن يستروا حكم الزِّنا في التوراة، والاكتفاء بالجلد وتسويد وجه الزاني وركوبه حماراً في الوضع العكسي بحيث يكون وجهه في اتجاه الذيل وقفاه في اتجاه رأس الحمار، وأن يطوفوا بالزاني وهو على هذه الهيئة حول البلدة. ولما لم يسمعوا ذلك الحكم من الرسول ابتعدوا عنه. إذن هم يطلبون التخفيف لأنهم كانوا سماعين للكذب واكَّالين للسُّحت. ولأن الذي سيطبق عليه الحد رجل له جاه وله مكانة وهم يريدون التقرب إليه بتخفيف العقاب عنه. وهل هناك تعارض بين قول الحق في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها وبين قول الحق:{ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ }[المائدة: 48]
لا تعارض. والبعض يقول: إن في قوله الحق: } فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ { إلزاماً. ونقول: المعنى الواضح هو أنك يا رسول الله، إن رجحت جانب أن تحكم وتقضي بينهم فاحكم بما أنزل الله، ولننظر إلى الأداء القرآني لأن المتكلم إله وحكيم: } فَإِن جَآءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ {.

ونلحظ أن الأمر هنا جاء بطريقة تؤكد أن الإعراض ممكن؛ لأنهم أرادوا أن يحكم لهم رسول الله على هواهم، وطمأنه الله بأنه سيحميه من شرهم إن أعرض عنهم، وكأن الحق يقول لرسوله: إياك أن تفكر حين تعرض عنهم أنهم سينالونك بالشر لأنك لم تحقق لهم التيسير الذي ابتغوه عندك } وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً { وإياك أن تجعل الضرر منهم مُرجِّحاً للحكم؛ فأنت بالخيار؛ إما أن تحكم وإما أن تعرض. ولا تخش من شرهم لأن الذي أرسلك يحميك.
} وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ { والحكم في هذه الآية يأتي كالقوس في البداية وفي النهاية، والحكم بينهم يكون بالقسط؛ أي بالعدل. والعدل ليس كما يراه الهوى ولكن حسب ما أنزل الله. أي أن الله يحب الذين يزيلون الجوْر. ومادام الحكم بالعدل يأتي ليزيل الجور، فكأنه كان من قبل جوْرٌ مُقنن؛ إذن فـ " أقْسَط " أي أزال جوراً مقنناً وأعاد توازن الميزان ليعود الانسجام بين الإنسان والكون. والكون كله يسير بميزان؛ الأرض تدور والشمس تؤدي مهمتها، ولا كوكب يصطدم بكوكب آخر:{ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }[يس: 40]
فإن أردتم أن تستقيم لكم أموركم الاختيارية، فانظروا إلى الأمور الإجبارية التي حولكم، فإن كانت بنظام وميزان واعتدلت الأمور، اعدلوا - إذن - في إدارة شئونكم حتى تنسجموا كما انسجم الكون، ولذلك نقرأ قوله تعالى:{ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَالسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الْمِيزَانِ }[الرحمن: 5-8]
أمامكم الموازين العليا في الكون، ولا تستطيعون إفسادها لأنها تسير بنظام لا دخل لكم به؛ لذلك عليكم أن تتعلموا منها وأن تديروا أمور حياتكم بميزان حتى تستقيم أموركم الاختيارية.{ أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ }[الرحمن: 8-9]
فإن رأيت حولك كونا غير مُضطرب، وغير مُتصادم، ويؤدي حركته دون تعارض أو تصادم، فافهم أنه قائم على ميزان الحق، ووضع سبحانه لك ميزاناً في الأمور الاختيارية، والمرجحات الاختيارية هي أحكام التكليف من الله، فإن أردت أن تستقيم لك الأمور الاختيارية فسر بها على الميزان الذي وضعه الله.
ثم يلفتنا الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك بقوله: } وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ... {

(/704)


وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)


يوضح سبحانه: كيف يأتون طلبا للحكم منك وعندهم التوراة، وهم لم يؤمنوا بك يا محمد رسولاً من الله، فكيف يرضاك من لم يؤمن بك حَكَما؟ لا بد أن في ذلك مصلحة مناقضة لما في التوراة، ولو لم تكن تلك المصلحة مناقضة لنفذوا الحكم الذي عندهم، وهم إنما جاءوا إليك يا رسول الله طمعا في أن تعطي شيئا من التسهيل وظنوا - والعياذ بالله - أنك قد توفر لهم أكل السُّحت وسماع الكذب.
{ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ } وهي مسألة عجيبة يجب أن يُفظن إليها؛ لأن عندهم التوراة فيها حكم الله، فلو حكموك في أمر ليس في التوراة لكان الأمر مقبولاً، لكن أن يحكموك في أمر له حكم في التوراة، وبعد ذلك يطلعك الله عليه لتكشفه فتقول يا رسول الله: هاتوا ابن صوريا ليأتي بحكم التوراة. ويعترف ابن صوريا بوجود حكم الرَّجم في التوراة. إذن هم رغبوا في الاحتيال، وأراد الله أن يثبت لرسوله صلى الله عليه وسلم لوناً في الإعلام عن هؤلاء المارقين على أحكام الله، هم يعلمون أن الرسول أُمّي، لم يقرأ ولم يكتب، فمن الذي أخبره بالحكم الموجود بالتوراة؟
إذن أخبره من أرسله، وإذا كانوا قد أرادوا البحث عن حكم مُخفَّف فالحق أراد ذلك ليكون سَبباً من أسباب الخزي لهم.{ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذالِكَ وَمَآ أُوْلَـائِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ }[المائدة: 43]
وهذا دليل على أن الرسول عندما حكم بغير مطلوب تيسيرهم. أعرضوا عن الحكم. ولو كانوا طالبين للحكم بادئ ذي بدء لقبلوا الحكم بالرجم كما قاله لهم رسول الله، لكنهم غير مؤمنين حتى بتوراتهم.
ويقول سبحانه من بعد ذلك: { إِنَّآ أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ... }

(/705)


إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)


الهدى هو الطريق أو الدرب المُوصِّل للغاية. وتأتي على الطريق أحقاب الليل والنهار، فالطريق مُظلم ليلاً، وقد تعترض السائر فيه عقبات، أو قد لا يمشي السائر في سواء السبيل أي وسط الطريق، فيقع في حفرة أو يصطدم بحجر.
ويوضح الحق هنا: لقد صنعت لكم الدرب وأَنرته لكم حتى لا تصطدموا بشيء أو تأتي لكم عقبات، وتمثَّل ذلك في المنهج الذي جاء به موكب الرُّسل كلهم. وقديما كان العالم مفككا، متناثر الجماعات، فلا توجد مواصلات، وتعيش كل جماعة في انعزال وشبه استقلال، فإن حصلت داءات في بقعة ما تظل محصورة في هذه البقعة، ويأتي رسول ليعالج هذه الداءات، فهذا يعالج أمر عبادة الأصنام، وذلك يعالج مسألة الكيل والميزان، وثالث يعالج الأمور المنظمة للحياة الزوجية عند اليهود.
هذه الداءات كانت متعددة بتعدد الجهات، وعندما أراد الحق سبحانه أن يبصر الناس بأسرار كونه ليستنبطوا منها ما يقرب المسافات ويمنع المشقات لتلتقي الأمم. وعندما تلتقي الأمم لا يوجد فصل بين الداءات، فالداء الواحد يحصل في الشرق لينتقل إلى الغرب. وكأن الداءات تتحد في العالم أيضاً.
إذن لا بد أن يجيء الرسول الجامع ليعالج الداءات كلها، فيأتي صلّى الله عليه وسلم الجامع المانع، فإذا ما قال الحق: إنه أنزل التوراة فيها هدى ونور، فالإنجيل أيضاً فيه هدى ونور، وكل هدى ونور في أي كتاب إنما هو للداءات الموجودة في البيئة المنعزلة. مثال ذلك أن سيدنا إبراهيم كان موجوداً، ومعه في الزمن نفسه سيدنا لوط. وها هوذا سيدنا موسى كان موجودا. وكذلك سيدنا شعيب، إذن كانت الرُّسل تتعاصر في بعض الأحيان لأن كلا منهم يعالج داء معينا. وهكذا كانت الرسالات تأتي محدودة الزمان ومحدودة المكان.
أما محمد صلى الله عليه وسلم فقد بعثه الله للناس كافة بكل أجناسهم وتقوم على منهجه الساعة؛ لذلك لم تعد الأرض في حاجة إلى رسول آخر، وصار من المنطقي أن يكون هو الرسول الخاتم.
{ إِنَّآ أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ } لماذا إذن يأتي الحق بإسلام الأنبياء هنا؟ جاء سبحانه بأمر إسلام الأنبياء تشريفا للإسلام لأنه جوهر منهج كل نبي.
إننا نجد الشعراء يتفننون في هذا المعنى:ما إن مدحت محمداً بمقالتي لكن مدحت مقالتي بمحمدٍوالشاعر الآخر يقول:قالوا أبو الصقر من شيبان قلت لهم كلا لعمري ولكن منه شيبانفالقبيلة بالنسبة لأبي الصقر هي التي تنتسب إليه وليس هو الذي ينتسب إليها.
ويردف قائلا:وكم أبٍ قد علا بابن ذُرَا شرفٍ كما علا برسول الله عدنانإذن فالنبيون عندما يصفهم الحق بأنهم أسلموا، إنما يريد الحق أن يشرف الإسلام بأن النبيين أسلموا قيادهم وزمامهم إلى الله لأنهم وجدوه الخير لهم.

وإسلام النبيين هو الإسلام بمعناه الكامل، أي هو الانصياع لأوامر الله، فكلما فكر نبي منهم في أن هناك شراً سيأتي له بسبب دعوته، أو أن يضطهده أحد، أو يحلو لأحدٍ أن يسيء إليه فهو يسلم أمره لله؛ لأن الرسول منهم إنما يقول كلمة الحق ولا يبالي بما يحدث بعدها.
} يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ { وهم يحكمون بالتوراة بين الذين هادوا، أي من يهود، وكذلك يحكم بها الربانيون والأحبار. والرباني منسوب للرب، اي أن كل تصرفاته منسوبة إلى الله. والأحبار هم العلماء حملة أوعية العلم، لكن هل ينفذونه أو لا ينفذونه فهذا شيء آخر. صحيح أن كل عالم وعاءُ علم، لكن قد ينتفع هو بعلمه، وقد لا ينتفع، لكنه ينقل علمه إلى من ينتفع به. ولذلك يقول أحد العلماء:فخذ بعلمي ولاتركن إلى عملي وأجْنِ الثمار وخلِّ العود للنارفلا تقل: إن هذا العالم يقول لنا كذا وكذا، ونراه في تصرفاته عكس ما يقول: لأن عليك أن تأخذ ثمرة العلم، واترك العود للنار. ولكن على العالم أن يكون أول من يمتثل ويطبق ما يقوله حتى لا يعذب ولا يدخل تحت قوله تعالى: } ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ {.
} وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ { وعرفنا أن التوراة فيها نور وهدى ويحكم بها النبيون والربانيون والأحبار بالوسيلة التي طلب الله منهم أن يحفظوها، وبما طلبه رسولهم منهم أن يحفظوا هذه التوراة. وقال الحق: " استحفظوا " ولم يقل: " حفظوا " ليبين لنا الفارق بين كل كتاب سابق للقرآن وبين القرآن؛ لأننا عرفنا أن كل رسول قد جاء بمعجزة تدل على أنه صادق البلاغ عن الله.
ولكل الرسل من السابقين على رسول الله معجزة منفصلة عن المنهج، مثال ذلك سيدنا موسى فمعجزته العصا وفلق البحر، أما منهجهه فهو التوراة. وسيدنا عيسى معجزته إبراء الأكمه والأبرص، والمنهج الذي جاء به هو الإنجيل. أما سيدنا رسول الله فمعجزته هي عين منهجه، وهي القرآن. وكان الأمر الموجود بالنسبة لكل رسولٍ مرتبطا بزمانه وجماعته ومحتاجا إلى معجزة مناسبة ومنهج مناسب، لكن الرسول الذي أرسله الله إلى الناس جميعا وخاتما للأنبياء لا بد أن تظل معجزته عين منهجهه بحيث يستطيع أي مسلم أن يقول حتى قيام الساعة: محمد رسول الله وهذه معجزته وهي عين منهجهه.
وسيظل القرآن معجزة ظاهرة إلى أن تقوم الساعة؛ لأن الله أرادها مختلفة عن بقية المناهج والمعجزات. فالمعجزات السابقة كانت كعود الثقاب الذي يشعل مرةً واحدة؛ فمن رآه لحظة الاشتعال فالأمر بالنسبة إليه واضح، أما من لم يره فهو لن يصدق تلك المعجزة إلا ان يخبره من يصدقه.

وقد استحفظ الله الربانيين والأحبار بالتوراة، أي طلب منهم أن يحفظوها، وكان هذا أمراً تكليفياً، والأمر التكليفي عُرضة لأن يُطاع وعُرضة لأن يُعصى. واستحفظهم الله التوراة والإنجيل:{ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ }[المائدة: 14]
وصار أمر المنهج منسياً. وليس على بالهم كثيراً؛ لأن الأمر إذا توارد على البال واستقر دائما في بؤرة الشعور يظل في الذهن، لكن النسيان يأتي عندما يكون الأمر بعيداً عن البال.
والحق طلب منهم أن يحفظوا المنهج، ولكنهم - ما عدا النبيين - لم ينفذوا، وكل أمر تكليفي يدخل في دائرة الاختيار، ولذلك نجد أن الأحبار والربانيين قد نسوا، وما لم ينسوه كتموه. وأول مرحلة من مراحل عدم الحفظ أنهم نسوا،والمرحلة الثانية هي كتمان ما لم ينسوه، والثالثة هي: ما لم يكتموه حرَّفوه ولووا به ألسنتهم. وياليتهم اقتصروا على هذه المراحل فقط، ولكنهم جاءوا بأشياء وقالوا: هي من عند الله وهي ليست من عند الله:{ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـاذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ }[البقرة: 79]
إذن فالحفظ منهم لم يتم؛ لذلك لم يدع الله القرآن للحفظ بطريق التكليف؛ لأنه سبحانه اختبر البشر من قبل، ولأنه أراد القرآن معجزة باقية؛ لذلك لم يكل الله سبحانه أمر حفظه إلى الخلق، ولكنه تكفل - سبحانه - بأمر حفظ القرآن:{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }[الحجر: 9]
ومصداق هذا النص، أن بعضاً من المسلمين أسرفوا على أنفسهم في هجر منهج الإسلام ومنهج القرآن إلا أنك تجد عجباً، فبمقدار بُعدهم عن منهج الإسلام تطبيقاً يحافظون على القرآن تحقيقاً، فيكتبون القرآن بكل ألوان الكتابة وبكافة الأحجام، فهناك حجم ذهبي ترتديه النساء في صدورهن، وحجم يوضع في اليد، وبعد ذلك نجد الكفرة أنفسهم يخترعون طريقة لكتابة القرآن في صفحة واحدة.
إذن فالله يُسخر لحفظ القرآن حتى من لم يكن مسلماً. وتلك خواطر من الله. ونحن نرى كل يوم من يبتعدون بسلوكهم عن المنهج لكنهم يرصدون المال لحفظ القرآن. ونجد القرآن محققاً بألف وسيلة حفظ: الرجل يضع في سيارته مصحفاً، وفي حجرة نومه مصحفاً، وقد تكون المرأة سافرة وصدرها مكشوف ولكنها تعلق مصحفاً ذهبياً. وهذا يثبت لنا أن حفظ القرآن ليس أمراً تكليفياً. بل هو إرادة الله.
فلو كان الأمر تكليفياً لكان نسيان القرآن وارداً؛ لأن المسلمين ابتعدوا في بعض أمورهم عنه كمنهج، ويناسب ذلك أن ينفصلوا عنه حفظاً. ولكن الأمر صار بالعكس. فعلى الرغم من بُعد المسلمين عن المنهج، ولكن حفظ القرآن لا يقل أبداً، ومن العجيب أن الكثيرين من المسرفين على أنفسهم، إن سمع واحد منهم أنّ شيئاً يمس المصحف، يقيم الدنيا ويقعدها، فالمسألة ليست مسألته، ولكنها مسألة الحافظ جل شأنه. وإن حدث أي تحريف يسير في القرآن من أعداء الإسلام، نجد أمة الإسلام تقف وقفة رجل واحد.

ولقد أراد بعض المدلسين أن يدسوا على القرآن ما ليس فيه وجاءوا إلى آية في سورة الفتح وهي:{ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ }[الفتح: 29]
وقالوا: " محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم " وكأنهم يرغبون في زيادة التكريم لرسول الله، فلما عرف المسلمون ذلك قامت ضجة وأحرقوا تلك المصاحف. ومنع المسلمون التحريف مهما كان باب الدخول إليه.
} فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ { والخشية: خوف متوَهَّم ممن تظن أنه قادر على الضر، ولا أحد غير الله قادر على النفع والضر؛ لذلك لا يصح أن يخاف الإنسانُ مِن سواه، أما أن تظن أن السلطان أو القريب منه قادر على الضر، فهذا أمر غير صحيح، وليخشَ كل إنسان الحق سبحانه وهو جل وعلا نصحنا أن تكون الخشية منه دون سواه.
وإن غيَّر أحد أحكام المنهج من أجل السلطان أو أقارب السلطان أو أصدقاء السلطان فذلك عين الفساد. والآفات والشرور تأتي من ذلك. بل قد لا يدري السلطان شيئاً عن ذلك، وقد يتدخل قريب للسلطان - دون علم السلطان - ليطلب من العلماء تغيير بعض من المنهج ولا يستسلم له إلا الضعاف منهم، وقد فطن سيدنا عمر رضي الله عنه إلى هذا الأمر فقال: إن الفساد قد لا يأتي من السلطان، ولكن من الذين حول السلطان.
والخشية هنا تكون من غير الله، ولذلك كان سيدنا عمر يجمع أقاربه والملتفين حوله ويقول لهم: لقد اعتزمت أن أصدر كذا وكذا فوالذي نفسي بيده من خالفني منكم إلى شيء من هذا جعلت نكالاً للمسلمين.
هذا هو أسلوب من أداء أن يخدم ويحكم ولا يحمل أوزاراً، ونرى صور الفساد غنما جاءت نتيجة مخالفة القاعدة الحكيمة: } فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ {.
ويتابع الحق من بعد ذلك: } وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً { وثمن آيات الله مهما بولغ في تقييمها فلن يتجاوز نفعه هذه الدنيا؛ لأن الدنيا - كما قلنا سابقا - لا تقاس بعمرها الحقيقي أي إلى أن يُفني الله البشر، وإنما دنيا كل حيّ تقاس بعمره فيها.
فهب أن الحياة طالت لملايين السنين فما نفع الفرد المحدود العمر بهذه الملايين من السنين؟ إذن فدنيا كل إنسان هي مقدار عمره في الحياة. وعمر الفرد في الدنيا له حد محدود غير معروف لأحد غير الله، فلكل أجل كتاب. ولذلك تجد واحداً يعيش متوسط الأعمار وهو سبعون عاماً. ويختلف العمر من إنسان لآخر، وقد يموت آخر عند الستين وثالث يموت في الأربعين ورابع يموت في المائة، وخامس يموت وهو طفل رضيع.
إذن فدنيا الفرد قد تكون لحظة. ومادامت مسألة العمر لا يحكمها زمن ولا يحكمها سبب فهي - إذن - بإرادة الحق غيب.

وأقضية الموت في الوجود جعلها الله شائعة في كل زمن ولم يجعلها الحق بعد الميلاد. بمعنى أن يولد الإنسان ليموت من بعد ذلك، لا، فقد يموت الكائن البشري وهو جنين في بطن أمه؛ فهذا حمل يسقط من بعد ساعة، وذاك حمل يسقط من بعد شهر أو شهور، وجعل الحق لنا ذلك لنأخذ من الأمر الغيبي وهو الجنين في البطن مراحلَ تكوينه. إنه يعطينا شكل الجنين بعد نصف ساعة من التكوين، ويعطينا شكل الجنين من بعد ساعة. وكل الأزمنة في الحياة والموت موجودة. وعندما نحلل تلك الأشكال نجد أمامنا كل أطوار الجنين، وكل أطوار الحياة ليكون ذلك واضحا جليا حتى لا يحسب أحد لنفسه عمراً في هذه الدنيا.
ومادام الثمن الذي يأخذه المرتشون ليغيّروا آيات الله وأحكامه سينفعهم في هذه الدنيا، وأعمارهم في هذه الدنيا محدودة، كان عليهم أن يتذكروا أن حياتهم زمنياً قليلة بالنسبة لعمر الدنيا. وحتى يقوم الإنسان بعملية اقتصادية لا بد أن يتعرّف إلى أن عمره محدود بقدر سنوات مجهولة بالنسبة له في هذه الحياة، وهو عمر محدود مهما طال. وإن قارنها الإنسان بالحياة في العالم الآخر فسيجد أن عمره الدنيوي منهي، فإن قايضه بعمر غير منهي هو عمره في الآخرة، فذلك هو الفوز العظيم؛ لأن وجود الإنسان في الدنيا مظنون، ووجود الإنسان بالنسبة للآخرة متيقن. ونعيم الفرد في الدنيا هو على قدر إمكاناته ولو في السلب. ونعيم الإنسان في الآخرة ينسب إلى طلاقة قدرة الله سبحانه وتعالى.
إذن فأي صفقة تكون هي الرابحة؟ محدود مقابل غير محدود، ومظنون مقابل متيقن، ونعيم على قدر مكنة وسلطان الفرد ولو بالسلب مقابل نعيم على قدر طلاقة قدرة الحق، أي صفقة هي الرابحة؟ إذن فصفقة الدنيا قليلة بالنسبة لما وعد الله به المتقين. ومن بعد ذلك يقول الحق: } وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ {.
ماذا يعني الحكم بما أنزل الله؟.
نعلم أن الحق سبحانه وتعالى جعل لكل قضية مخالفة في الكون حكماً، فإذا أردت أيها الإنسان أن تحكم في أمرٍ فعليك أن تبحث عن جوهره بسلسلة تاريخ هذا الأمر. ونجد أن قمة كل الأمور هي العقيدة، وهو وجود الواحب الأعلى وهو الله، فإن حكمت بأنه غير موجود فذلك هو الكفر.؟ وإن آمن الإنسان بالله ثم جاء إلى أحكام الله التي أنزلها وقال: لا ليس من المعقول أن يكون الحكم هو هكذا. فهذا لون من رد الحكم على الله وهو لون من الكفر.
أما إن آمن الإنسان بالحكم وقال: إنني أصدق حكم الله، ولكن لا أقدر على نفسي فهل هذا كفر؟ أم هذا ظلم؟. إنه ليس كفراً، ويكون ظلماً إن كان حكماً بين اثنين. وهو فسق إن كان بين الإنسان وبين نفسه؛ لأنه يفسق عن الحكم كما تفسق الرطبة عن قشرتها.

فالفاسق هو من له إطار من التكليفات ويخرج عن هذا الإطار كالرطبة التي خرجت من قشرتها. ومادامت الرطبة قد خرجت من قشرتها فهي عرضة للتلوث.
إذن فإن سمعت قول الله:{ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ }[المائدة: 44]
وعندما تسمع:{ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }[المائدة: 45]
وعندما نسمع:{ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }[المائدة: 47]
فتذكر أحكام الله وحاول أن تقدر على نفسك. وقيل: إن ذلك لليهود؛ لأن الحق قال:{ إِنَّآ أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ }[المائدة: 44]
وقيل: إن الثانية جاءت للنصارى الذين لم يحكموا بالإنجيل.
ولنا أن نقول رداً على مثل هذه الأقوال: امن الممكن أن يكون ذلك للأديان السابقة على الإسلام وليس موجوداً بالإسلام؟ ذلك أمر لا يقبله العقل أو المنطق، فهي آيات نزلت في مناط الحكم عامة. فإن حكم إنسان في قضية القمّة وهي العقيدة بغير الحق، فذلك هو الكفر. وإن ردّ الإنسان الحكم على منشئه - وهو الحق الأعلى - فهذا لون من الكفر. وإن آمن الإنسان بالقضية وهو مؤمن بالإله فغلبته نفسه فهذا هو الفسق. وإن حكم إنسان بين اثنين وحاد ومال عن حكم الله فهذا هو الظلم.
إذن فـ " كافرون " و " ظالمون " و " فاسقون " تقول لنا: إن الألفاظ اختلفت باختلاف المحكوم به. فلا يقولن أحد: إن تلك آية نزلت لتلك الفئة، وتلك الآية نزلت لفئة أخرى، وثالثة نزلت لفئة ثالثة، ولكنها أحكام عامة لمناط التكليف عامة. والحق قال في بداية كل حكم " ومَن " ومَن كما نعلم كلمة عامة. والدليل على ذلك أن من يحكم بغير ما أنزل الله إنما هو يشتري بآيات الله ثمناً قليلاً ورد الحكم على الله. وقال الحق في الآية اللاحقة:{ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ }[المائدة: 45]
إنها أحكام تتعلق بجرائم، وعقوبات على جرائم، وهنا يكون الحكم بغير ما أنزل الله ظلماً. إذن فالأمر يختلف حسب المحكوم عليه.
وحينما تعرضنا لقضية الخلق الأول وهو خلق آدم، وطلب الله من الملائكة المكلفين بتدبير أمور الخلق في الأرض أن يسجدوا لآدم. وقلنا إن هذا السجود هو رمزية لأن يكونوا في خدمة آدم؛ لأن كل مظهر من مظاهر القوة في الكون لا نرى الملك الذي يديره، فكل قوة لها ملك معين، ولأن ذلك الأمر من الغيب فنحن لا نراه، إنها ملائكة مدبرات أمر. وحين يبلغهم الحق أن الطارش علىالكون وهو آدم، وأنهم في خدمته، ومن أجل ذلك أمرهم بالسجود لآدم. ولذلك نجد أن بعضاً من الملائكة الذين ليسوا من المدبرات أمرا لم يشملهم الأمر. ويكلم الحق إبليس عندما رفض السجود قال سبحانه:

{ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ }[ص: 75]
إن " العالين " هم الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون ولا يدرون ولا يعلمون بأمر آدم، فقد سأل الحق إبليس: أانت مستكبر عن السجود أم أنت من العالين الذين لم يشملهم أمر السجود؟ وقلنا إن إبليس لم يكن من الملائكة، لأنه بنص القرآن:{ إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ }[الكهف: 50]
ولذلك لا يصح أن يكون " إبليس " محل خلاف أهو من الملائكة أم لا! فهو ليس من الملائكة. وفي القرآن نص صريح يثبت جنسية إبليس. وهو من الجن. وكان من المختارين، له أن يطيع أو أن يعصي. لأن الجن داخلون في قانون الاختيار. فإن ألزم الجنّي نفسه بمنهج الله إلزاماً يتساوى به مع الملائكة وجب عليه أن يقوم بذلك. ولكنه لم يفعل. وكان من الواجب أن يطيع إبليس الأمر. ومادام الحق هو الذي أمر بالسجود، فالأدنى وهو إبليس كان عليه أن يسجد؛ لأن المراتب محفوظة كما نعلم، فرئيس الجمهورية عندما يدخل على الوزراء فهم يطيعون أمره، وإن كان يجلس مع الوزراء بعض وكلاء الوزارات فهم يطيعون أوامره؛ ذلك أنهم يدخلون في الأمر من باب أولى. ولو كان إبليس أعلى من الملائكة لكان أولى له أن يستجيب لأمر الخالق الأعلى ولا يعصى ويتأبى، أما وإنّه كان أقل من الملائكة فكان لا بد من باب أولى - أن ينصاع لأمر الله. لكن إبليس علل أمر عدم السجود، فقال:{ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ }[الأعراف: 12]
وفي آية أخرى قال سبحانه:{ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً }[الإسراء: 61]
وحين يتأبّى كائن على الحكم، أيتأبّى على الحكم الأصم، أي على الحكم من حيث هو حكم دون النظر إلى الحاكم، أم على مَن حكم بالحكم وهو الأعلى سبحانه؟. تأبى إبليس على من حكم بالحكم، ولذلك طرده الحق من الجنة وصار ملعوناً. لكن آدم عصى ربه وقرب من الشجرة التي نهاه الله عنها. ومن رحمة الله تعالى أنه جعل في التكليفات مقدمات تنطبق على حالة المكلف نفسه، فلم يقل الحق لآدم: لا تأكل من الشجرة. ولكنه قال:{ وَلاَ تَقْرَبَا هَـاذِهِ الشَّجَرَةَ }[البقرة: 35]
لأن الحق علم أن آدم إنسان، والإنسان من الأغيار، وهو عندما يرى الشجرة بثمارها قد لا يقدر على نفسه، ولذلك كان من الأفضل ألا يقرب من هذه الشجرة. وسبحانه يريد أن يحمي الإنسان؛ لأن التكليفات التشريعية لا يرفعها الحق، ولا يُعفى المكلف من القيام بها إلا في الأمر الذي ليس للإنسان فيه اختيار، ولذلك أراد الحق أن يحمي الإنسان من الاقتراب من تلك الشجرة حتى لا تغريه وجاء الحق بمثل هذا الأمر في الخمر فلم يقل: لا تشربوا الخمر. ولكنه قال:

{ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ }[المائدة: 90]
لأن الإنسان لو جلس في مجلس خمر ورأى السُّكارى قد سعدوا وضحكوا فقد تراوده نفسه على شرب الخمر. إذن فالأمر بالاجتناب هنا أبلغ من " لا تشربوه ". ونجد أن تكليفات الحق إنما تاتي للعمل النزوعي، ومعنى العمل النزوعي أن يتحرك الإنسان للعمل. أما بالنسبة للإدراكات فمن الجائز أن يدرك الإنسان الأمر. ويترك الحق لنا حرية حب من نشاء وكراهية من نشاء. ولكن هذا الحب لا يصح أن يصدر عنه عمل نزوعي فنجامله بالباطل. وكذلك الكراهية فليس هناك أمر بالكراهية، ولكن إن كره إنسان إنساناً فلا يصح أن يظلمه. فالمنهيّ عنه هو الظلم، ولذلك قال الحق:{ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ }[المائدة: 8]
أي لا يحملنكم بغض قوم ألا تعدلوا. إذن فالحق لم يحرم البغض لأنه مسألة عاطفية. ولكن التحريم ينحصر على الإقدام على عمل يخل بميزان العدل مع من تكره. ويجب أن يؤمن الإنسان إيماناً جازماً بأن من ظلمه بمعصية، فلا يجازيه الإنسان إلا بطاعة الله. وآدم أكل من الشجرة، فهو - إذن - قد تجاوز مسألة الاقتراب إلى مسألة الأكل من الشجرة؛ لأنه لو قرب منها لكان مخالفاً، فما بالنا وهو قد أكل منها أيضاً؟ إذن فقد أوغل آدم في المعصية، لكنه قال: (ظلمنا أنفسنا).
وهذا اعتراف واضح بأن حكمك يا الله هو الحكم الحق، لكني لم أقدر على نفسي يا ربي. إذن فهو لم يَرُدَّ الحكم على الله، ولكنه اعترف بأنه لم يقدر على تنفيذ الحكم، لذلك أعطاه الله كلمات ليقولها فيتوب عليه. وسبحانه هو الذي علم آدم كيف تكون التوبة. فآدم - إذن - ليس كإبليس الذي رد الحكم على الله؛ لأن آدم قال: أنا لم أقدر على نفسي.
إذن فمن لم يحكم بما أنزل الله رادّاً للحكم على الله ومخطّئاً لله - سبحانه - فهو كافر. وإن كان حكماً بين اثنين وحكم بغير ما أنزل الله فهو ظالم. أما إن كان حكماً علىالنفس ولم يقدر عليه الإنسان فهذا فسق. وكل وصف جاء حسب حكمه. ولا داعي - إذن - للجدل ولا للخلاف ولا ادعاء أن هناك قولاً يقصد به اليهود، وآخر ورد في النصرانية، ولا يصح أن يزين الإنسان الباطل لأحد، لأن ورود الحكم بما أنزل الله في الإسلام أمر جازم يوجب الالتزام به.
ويقول الحق من بعد ذلك: } وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ... {

(/706)


وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)


لقد كتب الحق على اليهود في التوراة التي وصفها من قبل بأنها هدى ونور، كتب وأوجب عليهم أن النفس بالنفس، وعلينا أن نأخذ كل أمر وما يناسبه من الحدث. أي أن النفس تُقتل بالنفس. ولكن عندما يقول الحق: { وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ } ، فهل يعني ذلك أن تقتل العين؟ لا. ولكن العين نقلع مقابل عين. وكذلك { وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ }. أي الأنف المجدوعة، مقابل جدع أنف أخرى. وكذلك قوله الحق: { وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ } أي إصابة اذن بالصمم مقابل إصابة أذن بالصمم. إذن فلكل ما يقابله. فهناك النفس تقتل بالنفس وهناك العين تفقأ بالعين، وكذلك الأمر في جدع الأنف، وصلم الأذن.
إن تعبيرات اللغة واسعة تعطي لكل وصف ما يناسبه. فالإنسان مثلاً قد يكون جائعاً. ولكن إلى ماذا؟ إن كان جائعاً لطعام فهو جوعان. وإن أراد خصوصية أكل ويشتهيه كاللحم فلا يقال له: جوعان، ولكن يقال " قَرِم ". وإن كان يشتهي اللبن يقال له: " عَيْمان " ، وإن كان في حاجة للماء يقال له: " عطشان ". وإن كان جائعاً للجنس فهو " شَبِق ".
وذلك يكشف لنا أن الإنسانية تحتاج إلى أمور متعددة، وكل أمر له اسم. وكل شيء له تعبير. ومثال آخر: يقال: فلان جلس، أي قعد. وهذا في المعنى العام. ولكن الجلوس يكون عن اضطْجاعٍ. أما قعد، فهي عن قيام، أي كان قائماً وقعد. ولذلك قال الحق: { قِيَاماً وَقُعُوداً }.
ومثال آخر: يقال: " نظر " و " رمق " و " لمح "؛ وكل كلمة لها موقفها؛ فالنظر يكون بجميع عينيه. و " رَمِق " أي لحظ لحظا خفيفاً. و " لَمَح " أي اختلس النظر إليه. وكذلك قوله الحق معناه: أننا كتبنا عليهم فيها أن النفس مقتولة بالنفسن والعين مفقوءة بالعين، والأنف مجدوعة بالأنف، والأذن مصلومة بالأذن، والسن مخلوعة بالسن. وبعد ذلك يقول الحق عن الجروح: { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } لأن الجرح قد يكون في أي مكان. والقصاص يكون بمثله ومساوياً للشيء، وهو مأخوذ من قص الأثر؛ أي السير تبعاً لما سارت عليه القدم السابقة دون انحراف. ولما كان القصاص هو أمر مطلوب فيه المماثلة فذلك أمر صعب، صحيح أن الحق قال:{ فَمَنِ اعْتَدَىا عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىا عَلَيْكُمْ }[البقرة: 194]
لكن القصاص أمر صعب، فالصفعة من يد جائع متهافتة بعكس الصفعة التي تأتي من يدٍ صاحبُها في منتهى النشاط والقوة. فكيف يكون القصاص مناسباً لقوة الذي فعل الفعل؟
إذن لا يصح أن يدخل الإنسان في متاهة. ويمكنه أن يتصدق بالقصاص فلا يأخذه. ونحن نعلم حكاية " تاجر البندقية " ذلك المرابي اليهودي الذي أقرض نقوداً مقابل رطل من لحم صاحب القرض، وكتب الاثنان لاتعاقد وجاءا بالشهود ولم يستطع الرجل أن يُسدّد المال في الميعاد ولكن القاضي أنار الله بصيرته.

فقال: خذ الرطل من لحم الرجل ولكن إن أنقصت أوقية فسنأخذها منك أو إن زدت أوقية فسنأخذها منك. فقال المرابي: لا أريد.
وقد قنن الحق للجريمة، ولم يغلق سبحانه باب الطموحات الإيمانية، فقال: } فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُْ {. ومعنى " تصدق " أنه دفع وأعطى شيئا غير مستحق، ولا واجب عليه أي تبرع به ابتغاء وجه الله. إن الذي يتعب البشر في تقنيناتهم أنهم يطلبون إجراءات التقاضي، فساعة تقع جريمة يستمر التحقيق فيها بواسطة القضاء لأكثر من عام فتنبهت بشاعة الجريمة في النفس البشرية. ومن الواجب كذلك أن يكون الأمر لولي القصاص؛ لأنك إن مكنته أرضيت نفسه بأول شفاء. وساعة يُعطي الإنسان ذلك الحكم فقد يزهد فيه؛ لأن الأمر حين يكون في يده ويقدر على القصاص فمن المحتمل أن يعفو.
وسيظل المتصدَّق عليه طيلة حياته يدين بحياته أو بجارحة من جوارحه لصاحب القصاص. وبدلاً من إيعازات الثأرات تنشأ المودة. وحين يشرع المشرع الأعلى يوضح لنا: لا تحكم بأنك دائماً معتدى عليك، بل تصور مرة أنك معتد، ألا تحب في مثل هذه الحالة أن يتصدق عليك صاحب القصاص؟ فإذا أرادت الحكومات لأن تنهي الثأرات فلهم في التشريع الأعلى الحكم الواضح.
وفي صعيد مصر، ساعة يُقتل إنسان نجد الذي عليه الثأر يأخذ كفته ويذهب إلى العائلة الطالبة للثأر، ولحظة يدخل عليهم حاملاً كفنه بيديه، تشفي النفوس من طلب الثأر. ويحيا، وصاحب الثأر متفضل عليه بالعيش } فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ { تكون الصدقة هنا من ولي القصاص. والفعل " تصدق " يحتاج إلى اثنين هما: " متصدِّق " و " متصدَّق عليه ". وسبحانه الحق يكفر عن المتصدق من الذنوب بقدر ما تسامح فيه لأخيه، وهنا يحنن الله الخلق بعضهم على بعض؛ لذلك تأتي المسألة هنا من ناحية صاحب القصاص لترغبه في التصدق.
وينهي الحق الآية بقوله: } وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ { وعرفنا من قبل ضرورة الحكم بما أنزل الله. وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: } وَقَفَّيْنَا عَلَىا آثَارِهِم... {

(/707)


وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46)


وقفينا أي اتبعنا، فعيسى جاء من بعد موسى، فعندما يمشي رجل خلف رجل نجد أن قفا الأول يكون في وجه الثاني. وعندما يقول الحق: { وَقَفَّيْنَا عَلَىا آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أي مصدقاً لموسى الذي جاء بالتوراة. { وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ }. وعرفنا أن " الهدى والنور " يناسبان البيئة التي نزلت إليها تلك الهداية وذلك النور.
إن هناك مقولات اسمها " المقولات الإضافية " ، كأن يقول إنسان في قرية لابنه: أشعل الضوء. ويشعل الولد المصباح الكيروسيني؛ أما إذا قال إنسان في مدينة لابنه: أضيء النور، فالابن يضغط على الزر ليضيء المصباح الكهربائي. وهذه الإضافات قد تجعل اللفظ يحمل معنيين. ومثال آخر أكثر وضوحاً: يسكن الإنسان في منزل ما، ويعرف أن السقف عال بالنسبة له، ولكنه أرض بالنسبة لأصحاب الدور الثاني، إنه علو وسفل وهذا هو المعنى الإضافي. وكذلك عندما نقول: فلان ابن فلانن فهذا لا يمنع أن هذا الابن يكون أباً بالنسبة لابنه.
إذن { هُدًى وَنُورٌ } هي معان إضافية. وكل " هدى ونور " يناسب البيئة التي نزل يفيها. فالبيئة المادية الأولى كانت في حاجة إلى تقنين؛ لذلك جاءت التوراة، ومن بعد ذلك صارت هذه البيئة المادية في حاجة إلى طاقة روحية؛ لذلك جاء الإنجيل بكل الروحانيات، وعندما سئل عيسى ابن مريم عليه السلام في قضية الميراث قال: أنا لم أرسل مورثاً، فهو يعلم أنه جاء بشحنة روحية فيها مواجيد ومواعظ.
ويتابع الحق من بعد ذلك: { وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيلِ... }

(/708)


وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)


والحق أنزل في الإنجيل أن الأحكام تؤخذ من التوراة. أي أن الإنجيل تضمن إلى جانب روحانياته أسس الأحكام الموجودة في التوراة. ولذلك أوضح الحق: من لم يحكم بما أنزل الله فهو فاسق مادام قد خرج على الطاعة. فإن خرج أحد على الطاعة في أمر الألوهية والربوبية فهو كافر. ومن خرج على الأحكام بالنسبة للحكم بين الناس فهو ظالم. إذن فالمسألة كلها متداخلة، فالشرك ظلم عظيم أيضاً.
وبعد أن تكلم الحق عن التوراة والإنجيل، جاء بما نزل إلى النبي الخاتم: { وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ... }

(/709)


وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)


وساعة نسمع كلمة " أنزلنا " نعرف أن هناك تشريعاً جاء من أعلى. وهناك من يريد أن يلبس الناس أهواءه، فيقول: إن الإسلام دين تقدمي، أو يقول: الإسلام دين رجعي، وكلاهما يحاول أن يلبس الإسلام بما ليس فيه، ونقول: لا تقولوا ذلك ولكن قولوا الإسلام فوقي؛ أنه جاء من الله، فإن كان للتقدمية مزايا فهو تقدمي، وإن كان للرجعية مزايا فهو رجعي، وإن كان لليمين مزايا فهو يميني وإن كان لليسار مزايا فالإسلام يساري؛ فقد جاء الإسلام بالاستطراق الاجتماعي والتقدم العلمي الأصيل؛ لأن مفهوم التقدم هو أن يرتقي الإنسان بنفيه ارتقاءً متقدماً يجعل الناس متكافئين.
إن الإسلام ليس تقدمياً فقط بالنسبة للحياة الدنيا ولكن بالنسبة لحياة أخرى خالدة فوق هذه الحياة. إن الذين يناقشون تلك الأفكار لا يحسنون فهم أفكارهم سواء أكانت تقدمية أم رجعية أم يمينية أم يسارية. ونرى أن المناهج المعاصرة التي تسبب كل هذا الصراع في الدنيا من شرق وغرب هي: الرأسمالية والشيوعية والاشتراكية والوجودية وغيرها.
وعندما ننظر - على سبيل المثال - إلى القائمين على أمر الثورة الشيوعية عام 1917، نجد قولهم: إنهم مازالوا في بداية الطريق إلى الشيوعية، ولكنه اختيار الطريق الاشتراكي.
كان يجب أن يتجهوا إلى ما نادوا به، ولكن ها نحن أولاء نرى أنهم كلما تقدموا في الزمن تراجعوا عن أفكارهم الأولى. حتى انقلبوا على أنفسهم. وذلك دليل على أن المنهج الذي اتخذوه لأنفسهم غير صحيح.
والمنهج الرأسمالي أظل كما هو؟ لا؛ لأن الأحداث قد اضطرت الرأسمالية أن تعطي العمال حقوقاً وبذلك لم تبق لرأس المال شراسته. كما سارت الشيوعية إلى معظم أساليب الرأسمالية. والرأسمالية سارت إلى بعض من أساليب الاشتراكية وهما - إذن - يريدان أن يلتقيا. ولكن الإسلام أوجد هذا اللقاء من البداية، فاحترم رأس المال، واحترم العمل. وكل إنسان لزم حدوده. وضمن وجود واستمرار حركة الحياة. ولذلك نجد أن الرأسمالية تقول: يجب أن توفر الحوافز للعمل. ولم تصل الشيوعية أيضا إلى مداها، بل قامت لإهدار حقوق الناس، ثم ماذا عن الذين لم تمتد إليهم يد الشيوعية - قبل أن توجد - وكان فيهم من يستغل الناس؟
كان العقل يحتم أن تؤمن الشيوعية بان هناك آخرة يعاقب فيها من استغلوا الناس من قبل، ومن مصلحتهم إذن أن توجد آخرة. وكان من اللازم أن يكونوا متدينين. وكذلك الرأسمالية التي لا تعترف إلا بالربح المادي، امتلأت مجتمعاتها بالضحايا الذين فقدوا المعنويات. وقول الحق: " أنزلنا " يعتبر أن هناك منهجاً نزل من أعلى. وحين نأخذ معطيات البيان القرآني، نجده سبحانه يبلغنا تعاليمه: { قُلْ تَعَالَوْاْ }. أي ارتفعوا إلى مستوى السماء ولا تهبطوا إلى حضيض الأرض.

ولذلك قال الحق: } وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ { ونرى أن آيات القرآن تتآزر وتخدم كل منها الأخرى. ونزول الكتاب بالحق يحتاج إلى صدق دليل أنه ينزل من الله حقا، وأن تأتي كل قوانين الحق في حركة الحياة بالانسجام لا بالتنافر، وهناك آية تشرح كلمة " الحق ":{ وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ }[الإسراء: 105]
أي أنه نزل من عند الله وليس من صناعة بشر. } وَبِالْحَقِّ نَزَلَ { أي نزل بالمنهج من عند الله الذي يقيم منطق الحق في كل نفس وكل مكان، ويَضمن كل حق يقيم حركة الحياة.
وهنا أجملت الآية، فقالت: } وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ { أي أن القرآن مصدق للكتب السماوية السابقة. وما الفارق بين كلمة " الكتاب " الأولى التي جاءت في صدر الآية، وكلمة " الكتاب " الثانية؟
إننا نعلم أن هناك " ال " للجنس، و " ال " للعهد، فيقال " لقيت رجلا فأكرمت الرجل " ، أي الرجل المعهود الذي قابلته. فكلمة الكتاب الأولى اللام فيها للعهد أي الكتاب المعهود المعروف وهو القرآن، وكلمة الكتاب الثانية يراد بها الجنس أي الكتب المنزلة على الأنبياء قبله، فالقرآن مهيمنٌ رقيبٌ عليها؛ لأنها قد دخلها التحريف والتزييف.
كلمة " الحق " - إذن - تعني أن كتاب الله الخاتم لكتبه المنزلة وهو القرآن قد نزل بالحق الثابت في كل قضايا الكون ومطلوب حركة الإنسان. ونزل بالحق بحيث لم يصبه تحريف ولا تغيير.
إذن فالحق هو في مضمونه وفي ثبوت نزوله. وقد نزل القرآن بعد كتب أنزلها الله متناسبة مع الأزمنة التي نزلت فيها؛ لأنه سبحانه خلق الخلق لمهمة أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن يعمروا هذا الكون بما أمدّهم به من عقل يفكر، وطاقات تنفّذ، ومادة في الكون تنفعل، فإن أرادوا أصل الحياة مجرداً عن أي ترقٍ أو إسعاد فلهم في مقومات الأرض ما يعطيهم، وإن أرادوا أن يرتقوا بأنفسهم فعليهم أن يُعملوا العقل الذي وهبه الله ليخدم الطاقات التي خلقها الله في المادة التي خلقها الله، وحينئذ يأخذون أسرار الله من الوجود.
إن أسرار الله في الوجود كثيرة، وتفعل لنا وإن لم نعرف نحن السر. فنجد الجاذبية التي تمسك الأفلاك تفعل لنا، وإن لم نكن قد اكتشفنا الجاذبية إلا أخيراً. والكهرباء السارية في الكون سلباً وإيجاباً تعمل لنا وإن لم نعرف ما تنطوي عليه من سرّ
إن الحق سبحانه حين يريد ميلاد سر في الكون سبحانه يمد الخلق بأسباب بروز هذا السر.واعلموا أن كل سر من أسرار الكون المسخر للإنسان له ميلاد كميلاد الإنسان نفسه، إما أن يصادف - هذا الميلاد - عمل العقل في مقدمات تنتهي إليه، وحينئذ يأتي الميلاد مع مقدمات استعملها البشر فوصلوا إلى النتيجة، تماماً مثل التمرين الهندسي الذي يقوم الطالب بحله بعد أن يعطيه الأستاذ بعضاً من المعطيات، ويستخدمها التلميذ كمقدمات ليستنبط ما يريد المدرس أن يستنبطه من مطلوب الإثبات.

فإن صادف أن العقل بحث في الشيء معملياً وتجريبياً وصل ميلاد السر مع البحث. وإن جاء ميلاد السر في الكون، ولم يشغل الإنسان نفسه ببحث مقدمات توصل إليه، وأراد الله ذلك الميلاد للسر فماذا يكون الموقف؟
أيمنع الله ميلاد السر لأننا لم نعمل؟. لا. بل يخرج سبحانه السر إلى الوجود كما نسمع دائماً عن مصادفة ميلاد شيء على يد باحث كان يبحث في شيء آخر، فنقول: إن هذا السر خرج إلى الوجود مصادفة.
وإذا نظرت إلى الابتكارات والاختراعات وأمهات المسائل التي اكتشفت لوجدتها من النصف الثاني، ونجد المفكر أو العالم وقد غرق في بحث ما، ثم يعطيه الله سراً من أسرار الكون لم يكن يبحث عنه، فيقال عن الاكتشاف الجديد: إنه جاء مصادفة، وحينما جعل الله لكل سر ميلاداً، فهو قد أعطى خلقه حياة من واسع فضله، وأعطاه قدرة من فيض قدرته وأعطاه علماً من عنده } وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً { ، ووهبه حكمة يُؤتى بها خيرا } وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً {. وهو سبحانه وتعالى يريد من خلقه أن يتفاعلوا مع الكون ليبرزوا الأشياء، وإذا كان سبحانه يريد منا أن ننفعل هذا الانفعال فلا بد أن يضع المنهج الذي صون طاقاتنا وفكرنا مما يبددهما.
والذي يبدد أفكار الناس وطاقاتهم هو تصارع الأهواء، فالهوى يصادم الهوى، والفكرة قد تصادم فكرة، وأهواء الناس مختلفة؛ لذلك أراد الحق سبحانه وتعالى أن يضمن لنا اتفاق الأهواء حتى نصدر في كل حركاتنا عن هوى واحد؛ وهو ما أنزله الخالق الأعلى الذي لا تغيره تلك الأهواء. أما ما لا تختلف فيه الأهواء فتركنا لكي نبحث فيه؛ لأننا سنتفق فيه قهراً عنا. ولذلك نقول دائما: لا توجد اختلافات في الأفكار المعملية التجريبية المادية، فما وجدنا كهرباء روسية، وكهرباء أمريكية لأن المعمل لا يجامل. والمادة الصماء لا تحابي. والنتيجة المعملية تخرج بوضوحها واحدة.
إننا نرى اتفاق العلماء شرقاً وغرباً في معطيات المادة التجريبية وتحاول كل بلد أن يسرق من البلد الآخر ما انتهى إليه من نتائج لتدخلها على حضارتها، بينما يختلف الأمر في الأهواء البشرية، فكل بلد يحاول أن يبعد هوى الآخر عن حدوده؛ لأن الأهواء لا تلتقي أبداً، والحق قد وضع حركة الحياة لتنفعل بـ " افعل كذا " و " لا تفعل كذا " مما تختلف فيه الأهواء ليضمن اتحادنا وعدم تعاند الطاقات فينا. بل تتساند معاً.{ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ }

[المؤمنون: 71]
إذن فمنهج الله في كونه إنما جاء لينظم حركة الإنسان فيما تختلف فيه الأهواء. أما الحركة فيما لا تختلف فيه الأهواء فقد تركها سبحانه حرة طليقة: لأن البشر يتفقون فيها قهراً عنهم، لأن المادة لا تجامل والمعمل لا يحابي.
ولذلك قلنا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه الله نبياً خاتماً أعطى بـ " افعل ولا تفعل ". أما بالنسبة للأمر المادي المعملي فقد جعل أمره في ذات النبي صلى الله عليه وسلم. " فعندما قَدِمَ النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كان أهلها يأبرون النخل؛ أي يلقّحونه ليثمر. فمر النبي صلى الله عليه وسلم بقومٍ يلقحون فقال: " لو لم تفعلوا لصلح ".
فلم يأْبُروا النخل، فخرج شيصا؛ أي بُسْراً رديئاً، وخاب النخل. ومرّ بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما لنخلكم؟ قالوا: قلت كذا وكذا. فقال صلى الله عليه وسلم: " إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظناً فلا تؤاخذوني بالظن ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به فإني لن أكذب على الله عز وجل ".
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال:
" إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيءٍ من دينكم فخذوا به وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر "
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلنها قضية كونية مادية تجريبية معملية: " أنتم أعلم بأمر دنياكم "
أي أنه صلى الله عليه وسلم ترك للأمة إدارة شئونها التجريبية، ولم يكن ذلك القول تركا للحبل على الغارب في شئون المنهج، فقد وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم الفيصل فيما تتدخل فيه السماء، وفيما تتركه السماء للبشر، وأعمار الناس - كما نعلم - تختلف، فنحن نقول للإنسان طفولة، وله فتوة، وشباب، وله اكتمال رجولة ونضج؛ لذلك يعطي الحق من الأحكام ما يناسب هذا المجتمع؛ يعطي أولاً الاحتياج المادي للطفولة، وعند عصر الفتوة يعطيه المسائل الإدراكية، وعندما يصل إلى الرشد يعطيه زمام الحركة في الكون على ضوء المنهج، فكانت رسالة الإسلام على ميعاد مع رشد الزمان، فَأَمِن الحق سبحانه أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، أن يقفوا ليحموا حركة الإنسان من أهواء البشر. وكانت الرسل تأتي من عند الله بالبلاغ للمجتمعات البشرية السابقة علىالإسلام. وكانت السماء هي التي تؤدب. ولكن عندما اكتمل رشد الإنسانية، رأينا الرسول يبلغ، ويوكِّله الله في أن يؤدب من يخرج على منهج الله في حركة الحياة، لأنه صلى الله عليه وسلم أصبح مأموناً على ذلك.
وإذا نظرت إلى الكون قديماً لوجدته كوناً انعزالياً، فكل جماعة في مكان لا تعلم شيئاً عن الجماعة الأخرى، وكل جماعة لها نظامها وحركتها وعيشها وداءاتها.

والإسلام جاء على اجتماع للبشر جميعاً. فقد علم الله أزلاً أن الإسلام سيجيء على ميعاد مع إلغاء فوارق الزمن والمسافات، وأن الداء يصبح في الشرق فلا يبيت إلا وهو في الغرب، وكذلك ما يحدث في الغرب لا يبيت إلا وهو في الشرق.
إذن فقد اتحدت الداءات ولا بد أن يكون الدواء واحداً فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم جامعاً للزمان وجامعاً للمكان ومانعا أن يجيء رسول آخر بعده، وأن العالم قد وصل إلى قمة نضجه. فإذا ما جاء الإنسان ليعلم منهج الله بـ " افعل " ولا " تفعل " ، وجد أن المنهج محروس بالمنهج، بمعنى أن الكتب السابقة على القرآن فيها " افعل " و " لاتفعل " ، والقرآن أيضاً فيه " افعل " و " لا تفعل " لكن المنهج السابق على القرآن كان مطلوباً من المنزل إليهم أن يحافظوا عليه، ومادام قد طلب الحق منهم ذلك فكان من الواجب أن يتمثلوا لطاعته لكنهم تركوا المنهج. فكل منهج عرضة لأن يطاع وعرضة لأن يعصى، ولم يحفظوا الكتب وحدث فيها التحريف بمراحله المختلفة والتي سبق أن ذكرناها وهي النسيان وهو متمثل في قوله الحق:{ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ }[المائدة: 13]
وما لم ينسوه كتموا بعضه، فقال الحق فيهم:{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىا مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـائِكَ يَلعَنُهُمُ اللَّهُ }[البقرة: 159]
وما لم يكتموه حرفوه ولووا ألسنتهم به وقال الحق:{ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ }[آل عمران: 78]
ولم يقتصروا على ذلك بل وضعوا من عندهم أشياء وقالوا إنها من عند الله. وكان أمر حفظ كتب المنهج السابقة موكولاً لهم وبذلك قال الحق عنهم:{ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ }[المائدة: 44]
أي أن الحق طلب منهم أن يحافظوا على المنهج، وكان يجب أن يطيعوه ولكن أغلبهم آثر العصيان. فلما عصى البشر المنهج، لم يأمن الله البشر من بعد ذلك على أن يستحفظهم على القرآن، وكأنه قال: لقد جُرّبْتم فلم تحافظوا على المنهج، ولأن القرآن منهج خاتم لن يأتي له تعديل من بعد ذلك فسأتولى أنا أمر حفظه:{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }[الحجر: 9]
ومادام الحق هو الذي يحفظ المنهج فالقرآن مهيمن على كل الكتب؛ لأنه سبحانه وتعالى قد ضمن عدم التحريف فيه. إذن فالكتاب المهيمن هو القرآن، ومادام القرآن هو المهيمن فهو حقيقة ما يسمى بالكتاب.
ودليل العهد هو قول الحق: } وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ { أما قوله: } مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ { فالمقصود به الزبور والتوراة والإنجيل وصحف إبراهيم وموسى، ثم جاء القرآن مهيمناً على كل هذه الكتب.
وساعة نجد وصفاً وصف به غير الله وسمى به الله نفسه فما الموقف؟ نعرف أن لله صفات بلغت في تخصصها به مقامها الأعلى بالله، مثل قولنا: " الله سميع " والإنسان يسمع، و " الله غني " ويقال: " فلان غني "؛ فإذا سمي الحق باسم وجد في الخلق، فليس من المتصور أن يكون هذا صفة مشتركة بين العبد والرب، ولكننا نأخذ ذلك في ضوء: } لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ {.

إن أي اسم من هذه الصفات على إطلاقه لا ينصرف إلا لله، فإن قلت: " الغني " على إطلاقه فهو اسم لله، وإن قلت: " الرحيم " على إطلاقه فهو اسم لله. فإذا أطلق اللفظ من أسماء الله على اطلاقه فهو لله، واسم " المهيمن " يطلق هنا على القرآن وهو اسم من أسماء الله. ومن معنى " مهيمن " أنه مسيطر.
ومن أمثلة الحياة أننا نرى صاحب مصنع يطلق يد مدير في شئون العمل، وهذا يعني أنه مؤمن ومسيطر وأمين، ولا بد أن متنبه، أي رقيب، وهو شهيد، إذن فالذين فسروا كلمة " مهيمن " على أنه مؤمن قول صحيح.
والذين فسروا كلمة: " مهيمن " على أنه " مؤتمن " قول صحيح. والذين فسروا كلمة: " مهيمن " بأنه " رقيب " قول صحيح. والذين فسروا كلمة: " مهيمن " بأنه " شهيد " قول صحيح. والذين فسروا كلمة: " مهيمن " بأنه قائم على كل أمر قول صحيح. وإذا رأيت الاختلافات في تفسير اسم واحد من أسمائه - سبحانه - فلتعلم أن الحق بصدق عليه كل ذلك، وباللازم لا يكون " رقيباً " إلا إذا كان " شهيداً " ، ولا يكون شهيداً إلا إذا كان قائماً على الأمر، ولا يكون كل ذلك إلا إذا كان مؤمناً ومؤتمنا.
إذن فـ " مهيمن " هو قيم وشاهد ورقيب. ومادام القرآن قد جاء مصدقاً لما بين يديه من الكتاب فعلى أي مجال يهيمن؟ نحن نعرف مدلول الكتاب بأنه نزل من عند الله، فإن بقي الكتاب الذي من عند الله كما هو فالقرآن مصدق لما به، أما إن لعبت في ذلك المنهج أهواء البشر فالقرآن مهيمن لأنه يصحح المنهج وينقيه من أهواء البشر. } فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ {. و " احكم " مأخوذة من مادة " حكم " ، و " الحَكَمة " هي قطعة الحديد التي توضع في فم الحصان ونربطها باللجام؛ حتى نتحكم في الحصان. والحكمة هي الأ تدع المحكوم يفلت من إرادة الحاكم.
وحين يقول الحق: } فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ { فهل يحدث ذلك أيضا مع غير المؤمنين؟ نعم. فإذا ما جاء إليك يا رسول الله أناس غير مؤمنين وطلبوا أن تحكم بينهم فاحكم بما أنزل الله. ولذلك قال الحق:

{ فَإِن جَآءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ }[المائدة: 42]
لكن لماذا جاءوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم برغم عدم إيمانهم به؟
جاءوا إلى الرسول ليحكم بينهم؛ لأنهم ألفوا أن يبيحوا ما حرم الله بشهوات الدنيا وأخذوا لأنفسهم سلطة زمنية، وماداموا قد أخذوا لأنفسهم سلطة زمنية أنستهم حكم الله. وأرادوا - على سبيل المثال - أن يخرجوا على حكم الرجم وتخفيفه، ولذلك ذهبوا إلى النبي، فإن حكم هو بالتخفيف أخذوا بالحكم المخفف، وإذا لم يحكم بالتخفيف فهم لن يأخذوا الحكم، هم ذهبوا إليه صلى الله عليه وسلم بقصد التيسير وقالوا له: أنت تعلم أن لنا سلطاناً وأن لنا نفوذاً ونحن نريد أن تحكم لنا لأنك عندما تحكم لنا سنؤمن بك وبعد ذلك تأتي إليك باقي جماعتنا ليؤمنوا بك ويتبعوك.
لقد رفض رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك تطبيقاً لقول الحق: } فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ { فإذا كان عندهم كتاب التوراة مصوناً من التحريف، فالرسول يشير عليهم بالحكم الموجود في التوراة، ولذلك عندما استدعى صلى الله عليه وسلم أعلم علمائهم بالتوراة حاول بعضهم أن يضع يده على السطور التي بها الحكم؛ فالحكم بما أنزل الله يكون من التوراة إن لم يبدل، أما إذا كان الحكم قد بدله الناس فالحكم من القرآن؛ لأن القرآن هو المهيمن. } فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ { لأنهم بهذه الأهواء يريدون أن ييسروا على أنفسهم ليستبقوا لأنفسهم السلطة الزمنية، ووصفهم الحق:{ اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً }[التوبة: 9]
هم - إذن - يريدون أن يستبدلوا بآيات الله مصلحتهم في الحكم. ويقول الحق: } وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً { ، وإن افترضنا أن بعضا من التوراة لم يحرف، وبه حكم أراد الإسلام أن يبدله، فأي أمر يتبع؟ إن الاتباع هنا يكون للقرآن لأنه هو المهيمن، فسبحانه أراد بالقرآن أن يصحح ويعدل ويغير.
إن مناهج الأديان في العقائد ثابتة لا تغيير فيهان وأما ما يتصل بالأحكام التي تحكم أفعال الإنسان فالله سبحانه وتعالى ينزل حكماً لقوم يلائمهم ثم ينزل حكما آخر يلائم قوماً آخرين. ولذلك نجد أن سيدنا عيسى قال:{ وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ }[آل عمران: 50]
أي أن هناك أشياء كانت محرمة في دين اليهود. وجاء عيسى عليه السلام ليحلل بعضاً من هذه المحرمات، وكان التحريم مناسباً بني إسرائيل في بعض الأمور، وجاء المسيح عيسى ابن مريم ليحلل لهم بعضاً من المحرمات، وكان تحريم بعض الأمور لبني إسرائيل بهدف التأديب:{ فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ }[النساء: 160]
إذن فقد يكون تحريم الشيء بسبب الضرر الناشئ منه، أو بهدف التأديب؛ لأن الإنسان أحل لنفسه ما حرمه الله عليه.

} لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً { والشرعة هي الطريق في الماء. والمنهج هو الطريق في اليابسة. ومقومات حياة الإنسان هي من الماء ومن الغذاء الذي يخرج من الأرض فكذلك جعل الحق سبحانه وتعالى في القيم هذين الاثنين، الشرعة والمنهاج، ومادام سبحانه قد جعل لكل منا شرعة ومنهاجاً، فلماذا قال في موضع آخر من القرآن:{ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىا بِهِ نُوحاً }[الشورى: 13]
معنى هذا القول هو الاتفاق في أصول العقائد التي لا تختلف أبداً باختلاف الأزمان. ففي بدء الإسلام نجد أنه جاء ليؤصل العقيدة أولاً بلا هوادة، فنادى بوحدانية الله، وعدم الشرك به، وصفات الكمال المطلق فيه، وعدم تعدد الآلهة. أما بقية الأحكام الفعلية فقد جعلها مراحل. وكان يخفف قليلاً فقليلاً. إذن فالمراحل إنما جاءت في الأحكام الفعلية، أما العقائد فقد جاءت كما هي وبحسم لا هوادة فيه.
إذن فقوله الحق: } شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىا بِهِ نُوحاً {. هذا القول مقصود به العقائد. ومادام قد شرع لنا في الدين ما وصى به نوحاً، فهذا توصية بأفعال تتعلق أيضا بزمن نوح، وسبحانه الذي وضع لنا المنهاج الذي نسير عليه في زماننا. إذن فالأمران متساويان. والمهم هو وحدة المصدر المشرِّع.
ويقول الحق: } وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً {. فلو شاء لجعل " افعل " ولا " تفعل " واحدة في كل المناهج، ولكن ذلك لم يكن متناسباً مع اختلاف الأزمان والأقوام الانعزالية قبل الإسلام بداءاتها المختلفة؛ لذلك كان من المنطقي أن تأتي الأحكام مناسبة للداءات.{ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـاكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَىا الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً }[المائدة: 48]
وسبحانه وتعالى لو شاء لجعلنا أمة واحدة في " افعل " و " لا تفعل " ولكنه - سبحانه - لم يرد ذلك حتى لا يألف الناس العبادة وتصير كالعادة عندهم، فحينما يألف الناس أداء العبادات، فهم بذلك يحرمون لذة التكليف والإيمان، فكان لا بد أن يأتي التشريع مناسبا لكل زمان. وذلك ليفرق بين قوم وقوم ففي الصوم - على سبيل المثال - نجد أن الحق يسمح لنا بالطعام والشراب والجنس في الفترة ما بين الإفطار والسحور؛ فالحق يأتي إلى الشيء الرتيب ويأتي فيه أمر الله بالامتناع عنه لفترة زمنية معينة. ولا يقرب المؤمن هذه المحرمات في زمان معين، ولا يقرب غيرها في أي زمان ومكان. مثل شرب الخمر، أو أكل لحم الخنزير. والمؤمن لا يقرب هذه الأشياء بطبيعة اختياره. ويأتيه الصوم ليعلمه ويدربه على الانصياع للتكليف فيحرمه الحق من الطعام طول نهار شهر رمضان وكذلك الشراب والجنس.
المسألة - إذن - ليست رتابة أبداً. بل هي ابتلاء واختبار البشر } وَلَـاكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم { والابتلاء - كما نعلم - ليس أمراً مذموماً في ذاته، هو مذموم باعتبار ما تؤول إليه نهايته، ومادام سبحانه يبتلينا فيما آتانا فيجب أن نكون حكماء وأن نتسابق إلى الخير:

{ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَىا الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ }[المائدة: 48]
والتسابق إلى الخيرات إنما يكون بهدف النجاح في الإبتلاء، والنجاح يعطينا أكثر مما ننال بعدم الانصياع. إذن فالابتلاء في مصلحتنا يعطي الناجحين فيه نجاحاً أخلد، وقصارى ما يزينه الشيطان للناس أو ما تتخيله نفوس الناس، أن تمر الشهوة العابرة وتنقضي في الدنيا العابرة. وبعد ذلك يأتي العذاب المقيم. وعندما نوازن هذا الأمر كصفقة نجدها خاسرة، لكن إن نجحنا في ابتلاء الله لنا فذلك هو الفوز العظيم: } فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَىا الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ {.
أي تسابقوا في الوصول إلى الخيرات، لأن الخير إنما يقاس بعائده، فإياكم أن تفهموا أن الله حَرَمكم شهوات الدنيا لأنه يريد حرمانكم، ولكنه حرمكم بعضا من شهوات الدنيا لأنها مفسدة. وكان التحريم لزمن محدود ليعطيكم نعيم ومتع الآخرة المُصلحة في زمن غير محدود، وهذا هو كل الخير.
} إِلَىا الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً { والكل يرجع إلى الله سواء الملتزم أو المنحرف، وأمام الحق نرى القول الفصل: } فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ {. ومادام هناك اختلاف فلا بد أن يوجد من أخذ جانب الخير ومن أخذ جانب الشر، ولو أن الله قال لنا: " ستأخذون الخير " وسكت عن الشر لكان ذلك كافياً، لكنه يعطينا الصورة الكاملة. ويتبع ذلك قول الحق: } وَأَنِ احْكُم... {

(/710)


وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)


وقد يقول قائل: إن الله سبحانه وتعالى قال من قبل:{ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ }[المائدة: 48]
وتكون الإجابة: أن الحق بيّن إن القرآن قد نزل مهيمناً، وعلى الرسول أن يباشر مهمة التنفيذ؛ لذلك يأتي هنا قوله: { وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ } بلاغاً للرسول وإيضاحاً: أنا أنزلت إليك الكتاب مصدقاً لما بين يديه من الكتب السابقة ومهيمناً فاحكم، فإذا جاءك قوم بشيء مخالف لما نزل من القرآن، فاحكم بينهم بالقرآن. والذي زاد في هذه الآية هو قوله الحق: { وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ } والحذر هو احتياط الإنسان واحترازه مِمَّن يريد أن يوقع به ضرراً في أمر ذي نفع، والذي يرغب الضر قد يزين لنفسه ولغيره الذر كأنه الخير، على الرغم من أن ما في باطنه هو كل الشر.
إذن فالحذر هو ضرورة الانتباه لمن يريد بالإنسان شراً حتى لا يدخل عليه ضُرّاً في صورة نفع، كأن يأتي خصم ويقول لك: سأضع لك كذا وافعل من أجلك كذا وكذا. يجب عليك هنا أن تقول له: لا.
والحذر - إذن - يقتضي عقلاً مركباً، ولذلك كانوا يعرفون الحذر من الغراب. فها هوذا الغراب يعلم ابنه في قصة شعبية فيقول الغراب لابنه:
احذر الإنسان؛ لأن الإنسان عندما ينحني ليلتقط شيئاً من الأرض فهو يلتقط قطعة من الطوب ليرميك بها. وهنا يقول الغراب الصغير لوالده: وماذا أفعل لو كان هذا الإنسان يخبئ قطعة الطوب في جيبه؟ إنها قصة توحي بأن الغراب حذر بفطرته.
ونرى مثل ذلك في مظاهر الأشياء كالمرابي الذي يزين للناس أن يضعوا أموالهم عنده ويعطيهم فائدة تبلغ عشرين بالمائة، هذه صورة شيء ينفع ولكنها ضارة بالفعل؛ لأنها تزيد المال ظاهراً ولكن ينطبق عليها قول الله: { يَمْحَقُ اللَّهُ الْرِّبَا }.
وهذا أمر ضار يزينه الخصم وكأنه أمر نافع. والحق يطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون حذراً، فماذا يكون المطلوب من الأتباع؟. إنه الحذر نفسه؛ لأن أفضل البشر وَجَّهَهُ الله إلى الحذر: { وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ } لأن الصورة التي دخلوا بها هي صورة تزين الخداع، فقد قالوا: نحن جئناك لتحكم لنا، فإن حكمت لصالحنا فلسوف نتبعك، وهذا أمر يبدو في صورة شيء نافع. وجاء القول الحق ليحسم هذه المسألة: { وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ } وهنا يحذر الله ورسوله من الفتنة عن بعض ما أنزله إليه سبحانه.
ويتابع الحق: { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ } وهم إن تولوا، فاعلم أن الله يحميك أن تنزلق إلى شبهة باطل. فهم قد اختاروا أن يوغلوا في الكفر، وفي الابتعاد عن منهج الله، وسيصيبهم ببعض عذابه مقابل ذنوبهم، وسبحانه لا يصيبهم ظلماً، بل يصيبهم ببعض الذنوب التي ارتكبوها.

وهو أعلم بهم، لأنه الأعلم بالناس جميعاً.
ويختم الحق الآية بقول: } وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ { أي خارجون عن طاعة كتبهم ورسلهم؛ لأن طاعة الكتب السابقة على القرآن تنص على ضرورة الإيمان بالرسول النبي الأمين صلى الله عليه وسلم. ويقول الحق:{ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }[الأعراف: 157]
إذن فطريق الفلاح كان مكتوباً في التوراة والإنجيل، وكان الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم النبي الأمي موجوداً في الكتب السابقة على القرآن، وكانت البشارة بمحمد رسولا من عند الله يأمر بكل الخير وينهى عن كل الشر ويحل للناس كافة الأشياء التي تُحْسِن الفطرة الإنسانية استقبالها، ويحرم عليهم أن يزيفوا ويغيروا المنهج الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وألا يستسلموا للعناد، فقد جاء محمد صلى الله عليه وسلم ليزيل عنهم عبء تزييف المنهج. فمن اتبع نور رسول الله صلى الله عليه وسلم أحس بالنجاة والفوز. ومن لم يتبع هذا النور فهو الخارج عن طاعة كتاب السماء. ومحاولة إنكار رسالة رسول الله محكوم عليها بالفشل، فالعارفون بالتوراة والإنجيل يعرفون وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الكتب.{ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }[البقرة: 146]
ونعلم جميعاً ما فعله عبدالله بن سلام عندما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلن إسلامه. قال عبدالله بن سلام:
- لأنا أشد معرفة برسول الله صلى الله عليه وسلم منّي بابني.
فقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه:- وكيف ذلك يا ابن سلام؟.
قال عبدالله بن سلام: لأني أشهد أن محمداً رسول الله حقاً ويقيناً وأنا لا أشهد بذلك على ابني لأني لا أدري، أحداث النساء. فقال عمر بن الخطاب:
- وفقك الله يا ابن سلام.
ولكن بعض علماء بني إسرائيل وأحبارهم كتموا البشارة برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا يرجون الرئاسة والطمع في الهدايا التي كان يقدمها الناس إليهم. لذلك عمدوا إلى صفة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وكتموها. وماداموا قد فعلوا ذلك فلنعلم أن الله يريد أن يصيبهم ببعض ذنوبهم.
ونلحظ أن الحق حين أجرى على لسان رسوله خطاباً إلى اليهود. ولم يأت على لسانه صلى الله عليه وسلم اتهام شامل لليهود، بل اتهام لبعضهم فقط، وإن كان هذا البعض كثيراً، فلنعلم أن ذلك هو أسلوب صيانة الاحتمال؛ لأن بعضهم يدير أمر الإيمان بقلبه.

صحيح أن كثيراً منهم فاسقون، ولكن القليل منهم غير ذلك. فها هوذا أبو هريرة رضي الله عنه ينقل لنا ما حدث: " زنى رجل من اليهود بامرأة وقال بعضهم لبعض اذهبوا بنا إلى هذا النبي فإنه نبي مبعوث للتخفيف فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججناها عند الله وقلنا فتيا نبي من أنبيائك. فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد مع أصحابه فقالوا: يا أبا القاسم ما ترى في امرأة ورجل زنيا؟. فلم يكلمهم حتى ذهب إلى مِدْراسهم.
وهناك طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من شاب رفض أن يتكلم بالكلام غير الصدق الذي يتكلمه قومه. وقال الشاب: إنا نجد في التوراة الرجم. وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرجم ".
" عن البراء بن عازب قال: مُرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي مُحَمَّماً مجلوداً، فدعاهم فقال: هكذا تجدون الزاني في كتابكم؟ قالوا: نعم، فدعا رجلا من علمائهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حدّ الزاني في كتابكم. قال: لا، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجده الرجم ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحدّ، فقلنا: تعالَوْا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع فاجتمعنا على التحميم والجلد مكان الرجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أول من أحيا أمرك إِذْ أَمَاتُوه)، فأمر به فرُجم فأنزل الله: } ياأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ { إلى قوله: } إِنْ أُوتِيتُمْ هَـاذَا فَخُذُوهُ { يَقُولون ائتوا محمداً فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا ".
إذن فالكثير منهم فاسقون، والقليل منهم غير فاسق لأنهم يديرون فكرة الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم. فلو أن الاتهام كان شاملاً للكل بأنهم فاسقون؛ لما أحس الذين يفكرون في أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالنور الذي جاء به. وعندما قال الحق: } وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ { يعني أن الذين يديرون في رؤوسهم فكرة الإيمان برسول الله سيجدون النور واضحاً في كلماته.
ونتساءل: لماذا أرادوا أن يلووا أحكام الله ليحققوا لأنفسهم سلطة زمنية وثمناً تافهاً من تلك الأشياء التي يتقاضونها، لماذا يفعلون ذلك؟
ها هوذا قول الحق سبحانه: } أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ... {=

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

دليلك إلى المواقع الإسلامية المنتقاة بأكثر من ( 42 ) لغة !!

دليلك إلى المواقع الإسلامية المنتقاة بأكثر من ( 42 ) لغة !! اللغة الرابط اللغة الأذرية http://www.islamhouse.com/s/9357 ...