الأحد، 14 مايو 2023

ج11 وج12. الدر المصون في علم الكتاب المكنون المؤلف : السمين الحلبي

ج11. الدر المصون في علم الكتاب المكنون
المؤلف : السمين الحلبي

وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47)

قوله تعالى : { إِخْوَاناً } : يجوز فيه أن يكونَ حالاً من « هم » في « صدورِهم » ، وجاز ذلك لأنَّ المضافَ جزءُ المضاف إليه . وقال أبو البقاء : « والعاملُ فيها معنى الإِلصاق » . ويجوز أن يكونَ حالاً مِنْ فاعل « ادْخُلوها » على أنها حالٌ مقدرةٌ ، كذا قال أبو البقاء ، ولا حاجةَ إليه ، بل هي حالٌ مقارِنةٌ ، ويجوز أن يكونَ حالاً من الضمير في « آمِنين » ، وأن يكونَ حالاً مِنَ الضمير في قوله { فِي جَنَّاتٍ } .
قوله : { على سُرُرٍ } يجوز أن يتعلَّقَ بنفسِ « إخواناً » لأنه بمعنى متصافِّيْنَ على سُرُر . قاله أبو البقاء ، وفيه نظرٌ من حيث تأويلُ جامدٍ بمشتق بعيدٍ منه . و « متقابلين » على هذا حالٌ من الضمير في « إخواناً » ، ويجوز أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لإِخوان ، وعلى هذا ف « متقابلين » حالٌ من الضميرِ المستكنِّ في الجارِّ . ويجوز أن يتعلَّقَ ب « متقابلين » ، أي : متقابلين على سُرُرٍ ، وعلى هذا ف « متقابلين » حالٌ من الضمير في « إخواناً » أو صفةٌ ل « إخواناً » ويجوز نصبُه على المدح ، يعني أنه لا يمكن أن يكونَ نعتاً للضمير فلذلك قُطِعَ .
والسُّرُر : جمع سَرِيْر وهو معروفٌ . ويجوز في « سُرُر » ونحوِه ممَّا جُمِعَ على هذه الصيغةِ مِنْ مضاعَف فعيل فَتْحُ العين تخفيفاً ، وهي لغةُ كلبٍ وتميم فيقولون : سُرَرٌ وذُلَلٌ في جمع : سَرير وذَليل .

لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)

قوله تعالى : { لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ } : يجوز أن تكون هذه مستأنفةً ، ويجوزُ أن تكونَ حالاً من الضمير في « متقابلين » . والنَّصَب : التَّعَبُ . يُقالا منه : نَصِبَ يَنْصِبُ فهو نَصِبٌ وناصِب ، وأَنْصَبَني كذا . قال :
2941- تأوَّبَني هَمٌّ مع الليلِ مُنْصِبُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهَمٌّ ناصِبٌ ، أي : ذو نَصَب ك لا بنٍ وتامرٍ . قال النابغة :
2942- كِلِيْني لِهَمٍّ يا أُميمةُ ناصِبِ ... وليلٍ أقاسيه بَطِيْءِ الكواكبِ
و « منها » متعلقٌ ب « مُخْرَجِيْن » .

نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49)

قوله تعالى : { أَنَا الغفور } : يجوز في « أنا » أن يكونَ تأكيداً ، وأن يكونَ مبتدأً ، وأن يكونَ فصلاً .

وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)

قوله تعالى : { هُوَ العذاب } : يجوز في « هو » الابتداء والفصلُ ، ولا يجوزُ التوكيدُ؛ إذ المُظْهَرُ لا يُؤَكَّد بالمضمرِ .

إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52)

قوله تعالى : { إِذْ دَخَلُواْ } : في « إذ » وجهان : أحدُهما : أنه مفعولٌ بفعلٍ مقدَّر ، أي : اذكر إذ دخلوا . والثاني : أنه ظرفٌ على بابِه . وفي العاملِ فيه وجهان ، أحدُهما : أنه محذوفٌ تقديره : خبر « ضيفِ » . والثاني : أنه نفس « ضيف » . وفي توجيه ذلك وجهان ، أحدُهما : أنه لمَّا كان في الأصل مصدراً اعتُبر ذلك فيه ، ويدلُّ على اعتبار مصدريَّته بعد الوصفِ بِه عدمُ مطابقته لِما قبله تثنيةً وجمعاً وتانيثاً في الأغلب ، ولأنه قائمٌ مَقامَ وصفٍ ، والوصفُ يعمل . والثاني : أنه على حَذْفِ مضاف ، أي : أصحاب ضيفِ إبراهيم ، أي : ضيافته ، فالمصدرُ باقٍ على حالِه فلذلك عَمِلَ .
وقال أبو البقاء : -بعد أنْ قَدَّر أصحابَ ضيافته -/ « والمصدرُ على هذا مضافٌ إلى المفعول » . قلت : وفيه نظر؛ إذ الظاهرُ إضافتُهُ لفاعِله ، إذ النبيُّ صلى الله عليه وسلم هو . . . . . . . .

قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53)

قوله تعالى : { لاَ تَوْجَلْ } : العامة على فتح التاء ، مِنْ وَجِل كشَرِب يَشْرَب ، والفتحُ قياسُ فَعِل ، إلا أنَّ العربَ آثرَتْ يَفْعِل بالكسرِ في بعضِ الألفاظِ إذا كانت فاؤه واواً نحو : يَثِقُ .
وقرأ الحسن « تُوْجَل » مبنياً للمفعول من الإِيجال . وقُرِئ « لا تَاجَل » والأصلُ « تَوْجَل » كقراءة العامَّةِ ، إلاَّ أنه أبدل من الواو ألفاً لانفتاحِ ما قبلها ، وإن لم تتحرَّكْ ، كقولهم : تابة وصامة ، في تَوْبة وصَوْمَة ، وسُمِع : : اللهم تقبَّل تابتي وصامتي « . وقُرِئ أيضاً » لا تَوَاجَلْ « من المواجلة .

قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54)

قوله تعالى : { أَبَشَّرْتُمُونِي } قرأ الأعرج « بَشَّرْتموني » بإسقاطِ أداةِ الاستفهام ، فتحتمل الإِخبارَ ، وتحتمل الاستفهامَ وإنما حَذَفَ أداتَه للعلمِ بها .
قوله : { على أَن مَّسَّنِيَ } في محلِّ نصبٍ على الحال . وقرأ ابنُ محيصن « الكُبْرُ » بزنةِ قُفْل .
قوله : { فَبِمَ تُبَشِّرُونَ } « بِمَ » متعلقٌ ب « تُبَشِّرون » ، وقُدِّم وجوباً لأنَّ له صدرَ الكلامِ . وقرأ العامَّةُ بفتح النون مخففةً على أنها نونُ الرفع ، ولم يُذْكَرْ مفعولُ التبشير . وقرأ نافع بكسرها ، والأصل « تُبَشِّرُوني » فَحَذَفَ الياءَ مجتزِئاً عنها بالكسرة . وقد غلَّطه أبو حاتم وقال : « هذا يكونُ في الشعرِ اضطراراً » .
وقال مكي : « وقد طَعَنَ في هذه القراءةِ قومٌ لبُعْدِ مَخْرَجِها في العربيةِ؛ لأنَّ حَذْفَ النونِ التي تصحب الياءَ لا يَحْسُنُ إلا في شِعْرٍ ، وإن قُدِّر حَذْفُ النونِ الأولى حَذَفْتَ عَلَمَ الرفعِ من غيرِ ناصبٍ ولا جازمٍ؛ ولأنَّ نونَ الرفعِ كَسْرُها قبيحٌ ، إنما حَقُّها الفتح » . وهذا الطعنُ لا يُلتفت إليه لأنَّ ياءَ المتكلمِ قد كَثُرَ حَذْفُها مجتزَأً عنها بالكسرةِ ، وقد قرئ بذلك في قوله : { أَفَغَيْرَ الله تأمروني } [ الزمر : 64 ] كما سيأتي بيانُه .
ووجهُه : أنه لَمَّا اجتمع نونان إحداهما للرفع ، والأخرى نونُ الوقاية ، استثقل اللفظ : فمنهم مَنْ أدغم ، ومنهم مَنْ حذف . ثم اخْتُلِف في المحذوفة : هل هي في الأولى أو الثانية؟ وقد قدَّمْتُ دلائلَ كلِّ قولٍ مستوفاةً في سورةِ الأنعام . وقرأ ابن كثير بتشديدِها مكسورةً ، أدغم الأولى في الثانية وحَذَف ياءَ الإِضافةِ . والحسن أثبت الياءَ مع تشديدِ النون . ويرجِّح قراءةَ مَنْ أثبت مفعولَ « تُبَشِّرون » وهو الياءُ قولُه : { قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ } .

قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55)

و { بالحق } : متعلقٌ بالفعلِ قبله ، ويَضْعُفُ أن يكون حالاً ، أي : بَشَّرْناك ومعنا الحقُّ .

قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)

قوله تعالى : { وَمَن يَقْنَطُ } : هذا الاستفهامُ معناه النفي؛ ولذلك وقع بعده الإِيجابُ ب « إلا » . وقرأ أبو عمروٍ والكسائي « يَقْنِط » بكسرِ عينِ هذا المضارعِ حيث وقع ، والباقون بفتحها ، وزيدُ بن علي والأشهبُ بضمِّها . وفي الماضي لغتان : قَنِط بكسر النون ، يَقْنَظ بفتحها ، وقَنَط بفتحِها يَقْنِط بكسرِها ، ولولا أنَّ القراءةَ سُنَّةٌ متبعةٌ لكان قياسُ مِنْ قرأ « يَقْنَطُ » بالفتح أن يقرأَ ماضيَه « قَنِط » بالكسر ، لكنهم أَجْمعوا على فتحِه في قولِه تعالى في قوله : { مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ } [ الشورى : 28 ] . والفتحُ في الماضي هو الأكثر ولذلك أُجْمِعَ عليه . ويُرَجِّح قراءَة « يَقْنَطُ » بالفتح قراءةُ أبي عمروٍ في بعض الروايات { فَلاَ تَكُن مِّنَ القانطين } كفَرِح يَفْرَحُ فهو فَرِح . والقُنُوط : شدةُ اليأسِ من الخير .

إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59)

قوله تعالى : { إِلاَّ آلَ لُوطٍ } : فيه [ أوجهٌ ] أحدُها : أنه مستثنى متصلٌ على أنه مستثنى من الضميرِ المستكنِّ في « مجرمين » بمعنى : أَجْرَموا كلُّهم إلا آلَ لوطٍ فإنهم لم يُجْرِموا ، ويكونُ قولُه { إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ } / استئنافَ إخبارٍ بنجاتهم لكونِهم لم يُجْرِموا ، ويكون الإِرسالُ حينئذ شاملاً للمجرمين ولآلِ لوط ، لإِهلاكِ أولئك ، وإنجاءِ هؤلاء .
والثاني : أنه استثناءٌ منقطع؛ لأنَّ آل لوط لم يَنْدَرجوا في المجرمين البتَة . قال الشيخ : « وإذا كان استثناءً منقطعاً فهو ممِّا يجبُ فيه النصبُ ، لأنه من الاستثناءِ الذي لا يمكن تَوَجُّه العاملِ إلى المستثنى فيه؛ لأنهم لم يُرْسَلوا إليهم ، إنما أُرْسِلوا إلى القوم المجرمين خاصةً ، ويكون قوله { إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ } جَرَى مجرى خبرِ » لكن « في اتصالِه بآلِ لوطٍ ، لأنَّ المعنى : لكن آل لوطٍ مُنَجُّوهم . وقد زعم بعض النحويين في الاستثناءِ المنقطعِ المقدَّرِ ب » لكن « إذا لم يكن بعده ما يَصِحُّ أن يكونَ خبراً أنَّ الخبرَ محذوفٌ ، وأنه في موضعِ رفعٍ لجريان » إلا « وتقديرها ب » لكن « .
قلت : وفيه نظرٌ؛ لأنَّ قولَهم : لا يتوجَّه عليه العاملُ ، أي : لا يمكن ، نحو : » ضحك القومُ إلا حمارَهم « ، و » صَهِلَت الخيلُ إلا الإِبلَ « . وأمَّا هذا فيمكن الإِرسالُ إليهم مِنْ غيرِ مَنْعٍ . وأمَّا قولُه » لأنهم لم يُرْسَلُوا إليهم « فصحيحٌ لأنَّ حكمَ الاستثناءِ كلِّه هكذا ، وهو أن يكونَ خارجاً عن ما حُكِم به الأولِ ، لكنه لو تَسَلَّط عليه لَصَحَّ ذلك ، بخلافِ ما ذكرْتُه مِنْ أمثلتِهم .

إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)

قوله تعالى : { إِلاَّ امرأته } : فيه وجهان : أحدُهما : أنه استثناءٌ مِنْ آل لوط . قال أبو البقاء : « والاستثناءُ إذا جاء بعد الاستثناءِ كان الاستثناءُ الثاني مضافاً إلى المبتدأ كقولِك : » له عندي عشرةٌ إلا أربعةً إلا درهماً « فإنَّ الدرهمَ يُستثنى من الأربعة ، فهو مضافٌ إلى العشرة ، فكأنك قلت : أحد عشر إلا أربعةً ، أو عشرة إلا ثلاثةً » .
الثاني : أنَّها مستثناةٌ من الضمير المجرور في « مُنجُّوهم » . وقد مَنَعَ الزمخشريُّ الوجهَ الأول ، وعَيَّن الثاني فقال : « فإن قلتَ : فقوله : » إلا امرأته « مِمَّ استثني؟ وهل هو استثناءٌ مِنْ استثناءٍ؟ قلت : مستثنى من الضمير المجرور في قوله » لمنجُّوهُمْ « وليس من الاستثناء من الاستثناء في شيءٍ؛ لأنَّ الاستثناءَ من الاستثناء إنما يكونُ فيما اتَّحد الحكمُ فيه ، وأن يقالَ : أهلكناهم إلا آلَ لوطٍ إلا امرأتَه ، كما اتحد في قولِ المُطْلَق : أنتِ طالقٌ ثلاثاً إلا اثنتين إلا واحدةً ، وقولِ المُقِرِّ لفلان : عليَّ عشرةٌ إلا ثلاثةً إلا درهماً ، وأمَّا الآيةُ فقد اختلف الحكمان لأنَّ { إِلاَّ آلَ لُوطٍ } متعلقٌ ب » أَرْسَلْنا « أو بمجرمين ، و { إِلاَّ امرأته } قد تعلَّق بقولِه » لمنجُّوهم « فأنَّى يكون استثناءً من استثناء »؟
قال الشيخ : « ولمَّا استسلف الزمخشريُّ أن » امرأته « استثناءٌ من الضمير في لمنجُّوهم » أنى أن يكون استثناءً من استثناء؟ ومَنْ قال إنه استثناءٌ من استثناء فيمكن تصحيحُ قولِه بأحدِ وجهين ، أحدُهما : أنَّه لمَّا كان « امرأتَه » مستثنى من الضمير في « لمُنجُّوهم » وهو عائدٌ على آلِ لوط صار كأنه مستثنى مِن آلِ لوط ، لأنَّ المضمرَ هو الظاهر . والوجهُ الآخر : أن قولَه { إِلاَّ آلَ لُوطٍ } لمَّا حَكَمَ عليهم بغيرِ الحكم الذي حَكَم به على قومٍ مجرمين اقتضى ذلك نجاتَهم فجاء قولُه : { إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ } تاكيداً لمعنى الاستثناء ، إذ المعنى : إلا آلَ لوط لم يُرْسَلْ إليهم بالعذاب ، ونجاتُهم مترتبةٌ على عدمِ الإِرسال إليهم بالعذاب ، فصار نظيرَ قولِك : « قام القومُ إلا زيداً لم يَقُمْ » ، أو « إلا زيداً فإنه لم يَقُمْ » ، فهذه الجملةُ تأكيدٌ لِما تَضَمَّن الاستثناءُ من الحكم على ما بعد إلاّ بضدِّ الحكم السابق على المستثنى منه ، ف « إلا امرأته » على هذا التقريرِ الذي قَرَّرْناه مستثنى مِنْ آل لوط ، لأنَّ الاستثناءَ ممَّا جيء به للتأسيسِ أَوْلَى من الاستثناءِ ممَّا جِيْءَ به للتأكيد « .
وقرأ الأخوان » لمُنَجُوْهم « مخفَّفاً ، وكذلك خَفَّفا أيضاً فِعْلَ هذه الصفةِ في قولِه تعالى في العنكبوت : { لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ } [ الآية : 32 ] وكذلك خَفَّفا أيضاً قولَه فيها : { إِنَّا مُنَجُّوكَ } [ الآية : 33 ] فهما جاريان على سَنَنٍ واحد .

وقد وافقهما ابنُ كثير/ وأبو بكر على تخفيف « مُنْجوك » كأنهما جمعا بين اللغتين . وباقي السبعة بتشديد الكلِّ ، والتخفيفُ والتشديدُ لغتان مشهورتان مِنْ نَجَّى وأَنْجَى كأَنْزَلَ ونَزَّل ، وقد نُطِقَ بفعلهما قال : { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ } [ العنكبوت : 65 ] وفي موضعٍ آخرَ { أَنجَاهُمْ } [ يونس : 23 ] .
قوله : « قَدَّرْناها » أبو بكر بتخفيف [ الدال ] والباقون بتشديدها ، وهما لغتان : قَدَرَ وقدَّر ، وهذا الخلافُ أيضاً جارٍ في سورة النمل .
قوله : « إنَّها » كُسِرتْ من أجلِ اللامِ في خبرها وهي معلِّقةٌ لِما قبلها ، لأنَّ فِعْلَ التقديرِ يُعَلَّقُ إجراءً له مُجْرى العِلْم : إمَّا لكونِه بمعناه ، وإمَّا لأنَّه مترتِّبٌ عليه . قال الزمخشري : « فإن قلتَ » لِمَ جاز تعليقُ فِعْلِ التقدير في قوله « قَدَّرْنَآ إِنَّهَا » ، والتعليق مِنْ خصائصِ أفعالِ القلوب؟ قلت : لتضمُّنِ فِعْلِ التقدير معنى العِلْمِ « . قال الشيخ : » وكُسِرَتْ « إنها » إجراءً لفعل التقدير مُجْرى العِلْم « . قلت : وهذا لا يَصِحُّ علةً لكسرِها ، إنما يَصْلُحُ علةً لتعليقِها الفعلَ قبلها ، والعلةُ في كسرِها ما قَدَّمْتُه في وجودِ اللامِ ولولاها لفُتِحَتْ .

قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63)

قوله تعالى : { بَلْ جِئْنَاكَ } إضرابٌ عن المفعول المحذوفِ تقديرُه : ما جئناك بما يُنْكَرُ ، بل جِئْناك .

فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65)

وقد تقدَّم الخلافُ في قولِه تعالى : { فَأَسْرِ } : قطعاً ووصلاً في هود . وقرأ اليمانيُّ فيما نقل ابن عطية وصاحب « اللوامح » « فَسِرْ » من السَّيْر . وقرأت فرقةٌ « بقِطَع » بفتح الطاء . وقد تَقَدَّم في يونس : أن الكسائيَّ وابنَ كثير قرآه بالسكون في قوله « قطعاً » ، والباقون بالفتح .
قوله : { حَيْثُ تُؤْمَرُونَ } « حيث » على بابِها مِنْ كونِها ظرفَ مكانٍ مبهمٍ ، ولإِبهامها تعدَّى إليها الفعلُ من غير واسطة على أنه قد جاء في الشعر تَعَدِّيْه إليها ب « في » كقولِه :
2943- فَأصْبَحَ في حيثُ التقَيْنا شريدُهُمْ ... طَليقٌ ومكتوفُ اليدين ومُزْعِفُ
وزعم بعضُهم أنها هنا ظرفُ زمانٍ ، مستدلاًّ بقولِه « بقِطْعٍ من الليل » ، ثم قال : { وامضوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ } ، أي : في ذلك الزمان . وهو ضعيفٌ ، ولو كان كما قال لكان التركيبُ : حيث أُمِرْتم ، على أنه لو جاء التركيب كذا لم يكن فيه دلالةٌ .

وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66)

قوله تعالى : { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ } ضَمَّن القضاءَ معنى الإِيحاء ، فلذلك تَعَدَّى تعديتَه ب « إلى » ، ومثلُه : { وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ } [ الإِسراء : 4 ] .
قوله : { ذَلِكَ الأمر } « ذلك » مفعولُ القضاء ، والإِشارةُ به إلى ما وَعَدَ من إهلاكِ قومِه ، و « الأمرَ » : إمَّا بدلٌ منه أو عطفُ بيانٍ له .
قوله : { أَنَّ دَابِرَ } العامَّةُ على فتحِ « أنَّ » وفيها أوجهٌ ، أحدُها : أنها بدلٌ مِنْ « ذلك » إذا قلنا : « الأمر » عطفُ بيان . الثاني : أنها بدل من « الأمر » سواء قلنا : إنها بيانٌ أو بدل ممَّا قبلَه . والثالث : أنه على حَذْفِ الجارِّ ، أي : بأنَّ دابِرَ ، ففيه الخلافُ المشهور .
وقرأ زيدُ بن علي بكسرِها؛ لأنه بمعنى القولِ ، أو على إضمار القول . وعَلَّله الشيخُ بأنَّه لمَّا عَلَّق ما هو بمعنى العلم كُسِر . وفيه النظرُ المتقدم .
قوله : { مُّصْبِحِينَ } حالٌ من الضمير المستتر في « مقطوعٌ » وإنما جُمِع حَمْلاً على المعنى ، وجعله الفراء وأبو عبيد خبراً ل « كان » مضمرة ، قالا : « وتقديره : إذا كانوا مُصْبِحين نحو : » أنتَ ماشياً أحسنُ منك راكباً « . وهو تكلُّفٌ . و » مُصْبِحين « داخلين في الصَّباح فهي تامَّةٌ .

وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67)

قوله تعالى : و { يَسْتَبْشِرُونَ } : حال .

قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71)

قوله تعالى : { هَؤُلآءِ بَنَاتِي } : يجوز فيه أوجهٌ ، أحدها : أن يكونَ « بناتي » مفعولاً بفعلٍ مقدرٍ ، أي : تَزَوَّجوا هؤلاء . و « بناتي » بيانٌ أو بدلٌ . الثاني : أن يكونَ « هؤلاء بناتي » مبتدأً وخبراً ولا بُدَّ مِنْ شيءٍ محذوفٍ تَتِمُّ به الفائدةُ ، أي : فَتَزَوَّجُوْهن . الثالث : أن يكونَ « هؤلاء » مبتدأً ، و « بناتي » بدلٌ أو بيان ، والخبرُ محذوفٌ ، أي : هُنَّ أطهرُ لكم ، كما جاء في نظيرتها .
قوله : { فَلاَ تَفْضَحُونِ } [ الحجر : 68 ] : الفَضْحُ والفَضيْحَةُ البيان والظهور ، ومنه فَضَحَه الصُّبْحُ قال :
2944- ولاحَ ضوءُ هِلالِ الليل يَفْضَحُنا ... مثلَ القُلامَةِ قد قُصَّتْ من الظُفُرِ
إلا أنَّ الفضيحةَ اختصَّتْ بما هو عارٌ على الإِنسانِ عند ظهورِه .

لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)

قوله تعالى : { لَعَمْرُكَ } : مبتدأٌ ، محذوفٌُ الخبر وجوباً ، ومثلُه : لايْمُنُ الله . و « إنهم » وما في حَيِّزه جوابُ القسمِ تقديرُه : لَعَمْرك قسمي أو يميني إنهم . والعَمْر والعُمْر بالفتح والضم هو البقاء ، إلا أنهم التزموا الفتح في القسم . قال/ الزجاج : « لأنَّه أَخَفُّ عليهم ، وهم يُكْثرون القَسَم ب » لَعَمْري « و » لَعَمْرك « . وله أحكامٌ كثيرة منها : أنه متى اقترن بلامِ الابتداء لَزِم فيه الرفعُ بالابتداءِ ، وحُذِفَ خبرُه ، لِسَدِّ جوابِ القسم مَسَدَّه . ومنها : أنه يصير صريحاً في القسم ، أي : يَتَعَيَّن فيه ، بخلافِ غيرِه نحو : عهدُ الله وميثاقُه . ومنها : أنه يَلْزَمُ فَتْحُ عينِه ، فإن لم يقترنْ به لامُ الابتداء جاز نصبُهُ بفعل مقدر نحو : عَمْرَ اللهِ لأفعلنَّ ، ويجوز حينئذ في الجلالةِ وجهان : النصبُ والرفعُ ، فالنصبُ على أنه مصدرٌ مضافٌ لفاعله وفي ذلك معنيان ، أحدهمل : أنَّ الأصلَ : أسألُكَ بتعميرك اللهَ . أي : بوصِفك اللهَ تعالى بالبقاء ، ثم حُذِف زوائدُ المصدرِ . والثاني : أن المعنى : عبادتك الله ، والعَمْر : العبادة ، حكى ابن الأعرابي » عَمَرْتُ ربي « ، أي : عَبَدْته ، وفلانٌ عامِرٌ ربِّه ، أي : عابدُه .
وأمَّا الرفعُ : فعلى أنه مضافٌ لمفعولِه . قال الفارسي : » معناه : عَمَّرَك اللهُ تَعْميراً « . وقال الأخفش : » أصله : أسألك بتعميرك اللهَ ، فحُذِفَ زوائدُ المصدرِ والفعلُ والباءُ فانتصب ، وجاز أيضاً ذِكْرُ خبرِهِ فتقول : عَمْرُك قَسَمي لأقومَنَّ ، وجاز أيضاً ضَمُّ عينِه ، ويُنْشِدُ بالوجهين قولُه :
2945- أيُّها المُنْكِحُ الثُّرَيَّا سُهَيْلاً ... عَمْرَكَ اللهَ كيفَ يلتقيانِ
ويجوزُ دخولُ باءِ الجرِّ عليه ، نحو : بعَمْرِكَ لأفعلَنَّ . قال :
2946- رُقَيَّ بعَمْرِكُمْ لا تَهْجُرِينا ... ومَنَّيْنا المُنَى ثم امْطُلِينا
وهو من الأسماء اللازمة للإِضافة ، فلا يُقطع عنها ، ويُضاف لكلِّ شيءٍ . وزعم بعضُهم أنه لا يُضاف إلى الله . قيل : كأنَّ قائل هذا تَوَهَّم أنه لا يُسْتعمل إلا في الانقطاع ، وقد سُمع إضافُته للباري تعالى . قال الشاعر :
2947- إذا رَضِيَتْ عليَّ بنو قُشَيْرٍ ... لعَمْرُ اللهِ أَعْجبني رِضاها
ومَنَع بعضُهم إضافتَه إلى ياءِ المتكلمِ قال : لأنه حَلْفٌ بحياة المُقْسِم ، وقد وَرَدَ ذلك ، قال النابغة :
2943- لَعَمْري -وما عَمْري عليَّ بهَيِّنٍ- ... لقد نَطَقَتْ بُطْلاً عَلَيَّ الأقارِعُ
وقد قَلَبَتْه العربُ بتقديمِ رائِه على لامه فقالوا : « رَعَمْلي » ، وهي ردئيةٌ .
والعامَّة على كسرِ « إنَّ » لوقوعِ اللامِ في خبرها . وقرأ أبو عمروٍ في روايةِ الجَهْضَمِيِّ بفتحها . وتخريجُها على زيادةِ اللامِ وهي كقراءة ابن جبير : { إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام } [ الفرقان : 20 ] بالفتح .
والأعمش : « سَكْرِهم » دون تاءٍ . وابن أبي عبلة « سَكَراتهم » جمعاً . والأشهبُ « سُكْرَتِهم » بضم السين .
و « يَعْمَهُون » حالٌ من الضميرِ المستكنِّ في الجارِّ ، وإمَّا من الضميرِ المجرورِ بالإِضافةِ . والعامل : إمَّا نفسُ « سَكْرَة » لأنها مصدرٌ ، وإمَّا معنى الإِضافة .

فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73)

قوله تعالى : { مُشْرِقِينَ } : حالٌ مِنْ مفعول « أَخَذَتْهم » ، أي : داخلين في الشُّروق .

فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74)

والضميرُ في { عَالِيَهَا سَافِلَهَا } للمدينة . وقال الزمخشري : « لقرى قومِ لوطٍ » . ورُجِّح الأولُ بأنه تقدَّم ما يعود عليه لفظاً بخلاف الثاني .

إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)

قوله تعالى : { لِلْمُتَوَسِّمِينَ } : متعلِّقٌ بمحذوف على أنه صفةٌ لآيات . والأجودُ أَنْ يتعلَّق بنفس « آياتٍ » لأنها بمعنى العلامات . والتَّوَسُّم تَفَعُّلٌ مِنَ الوَسْمِ ، والوَسْم : أصلُه التَّثبُتُ والتفكُّر ، مأخوذٌ من الوَسْم ، وهو التأثير بحديدةٍ في جِلْد البعير أو غيره . وقال ثعلب : « الواسم : الناظرُ إليك مِنْ قَرْنِكَ إلى قَدَمِك » ، وفيه معنى التثُّبت . وقيل : / أصلُه : استقصاءُ التعرِّفِ يُقال : تَوَسَّمْتُ ، أي : تَعَرَّفْتُ مُسْتَقْصِياً وجوهَ التعرُّف . قال :
2949- أوَ كلما وَرَدَتْ عُكاظَ قبيلةٌ ... بَعَثَتْ إليَّ عريفَها يتوسَّمُ
وقيل : هو تَفَعُّل من الوَسْمِ ، وهو العَلاَمَةُ : تَوَسَّمْتُ فيك خيراً ، أي : ظَهَر له مِيْسَمُه عليك . قال ابن رواحة في النبي صلَّى الله عليه وسلم :
2950- إنِّي تَوَسَّمْتُ فيك الخيرَ أَعْرِفُه ... والله يَعلم أني ثابتُ البَصَرِ
وقال آخر :
2951- تَوَسَّمْتُه لَمَّا رَأَيْتُ مَهابَةً ... عليهِ وقُلْتُ : المرءُ مِنْ آلِ هاشمِ
ويُقال : اتَّسَمَ الرجلُ : إذا اتَّخَذَ لنفسِه علامةً يُعْرَفُ بها ، وتَوَسَّمَ : إذا طلبَ كَلأَ الوَسْمِيَّ ، أي : العشبِ النابتِ في أولِ مطرِ [ الربيعِ ] .

وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76)

قوله تعالى : { وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ } : الظاهرُ عَوْدُ الضميرِ على المدينة أو القُرى . وقيل : على الحجارةِ . وقيل : على الآيات .

وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78)

قوله تعالى : { وَإِن كَانَ أَصْحَابُ } : « إنْ » هي المخففةُ واللامُ فارقةٌ ، وقد تَقَدَّم حكمُ ذلك . والأَيْكَةُ : الشجرةُ المُلْتَفَّةُ ، واحدةُ الأَيْكِ . قال :
2952- تَجْلُوْ بقادِمَتَيْ حَمامةِ أيْكةٍ ... بَرَداً أُسِفَّ لِثاتُه بالإثْمِدِ
ويقال : لَيْكَة . وسيأتي بيانُ هذا عند اختلافِ القرَّاءِ فيه إن شاء الله تعالى في الشعراء .

فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79)

قوله تعالى : { وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ } في ضمير التثنيةِ أقوالٌ ، أَرْجَحُها : عَوْدُه على قريَتْي قومِ لوطٍ وأصحابِ الأيكة وهم قوم شُعَيب لتقدَّمِهما ذِكْراً . وقيل : يعودُ على لوطٍ وشُعَيْبٍ ، وشعيبٌ لم يَجْرِ له ذِكْرٌ ، ولكنْ دَلَّ عليه ذِكْرُ قومِه . وقيل : يعود على الخبرين : خبرِ إهلاكِ قومٍ لوطٍ ، وخبر إهلاكِ قومِ شعيب . وقيل : يعودُ على أَصحابِ الأيكةِ وأصحابِ مَدْيَنَ؛ لأنه مُرْسَلٌ إليهما فَذِكْرُ أحدِهما مُشْعِرٌ بالآخرِ .

فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83)

و { مُصْبِحِينَ } حالٌ كما تقدَّم ، وهي تامَّةٌ .

فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84)

قوله تعالى : { فَمَآ أغنى } : يجوز أن تكونَ نافيةً ، أو استفهاميةً فيها معنى التعجبِ . و « ما » يجوزُ أنْ تكونَ مصدريةً ، أي : كَسْبُهم ، أو موصوفةً ، أو بمعنى الذي ، والعائدُ محذوفٌ ، أي : شيءٌ يَكْسِبونه ، أو الذي يَكْسِبونه .

وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)

قوله تعالى : { إِلاَّ بالحق } : نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ ، أي : خَلْقاً ملتبساً بالحقِّ .

كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90)

قوله تعالى : { كَمَآ أَنْزَلْنَا } فيه أقوالٌ ، أحدُهما : أنَّ الكافَ متعلقٌ ب « آتيناك » ، وإليه ذهب الزمخشري فإنه قال : « أي : أَنْزَلْنا عليك مثلَ ما أَنْزَلْنا على أهل الكتاب ، وهم المُقتسِمُون الذين جعلوا القرآن عِضِينَ » . والثاني : أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ منصوبٍ ب « آتيناك » تقديرُه : آتَيْناك إتْياناً كما أَنْزَلْنا . الثالث : أنه منصوبٌ نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ ، ولكنه مُلاقٍ ل « آتيناك » من حيث المعنى لا من حيث اللفظُ ، تقديرُه : أَنْزَلْنا إليك إنزالاً كما أَنْزَلْنا ، لأنَّ « آتيناك » بمعنى أَنْزَلْنَا إليك . الرابع : أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوف ، العاملُ فيه مقدرٌ أيضاً تقديرُه : مَتَّعْناهم تمتيعاً كما أَنْزَلْنا ، والمعنى : نَعَّمْنا بعضَهم كما عَذَّبنا بعضَهم . الخامس : أنه صفةٌ لمصدرٍ دَلَّ عليه « النذير » والتقدير : أنا النذيرُ إنْذاراً كما أَنْزَلْنا ، أي : مثلَ ما أنزلناه .
السادس : أنه نعتٌ لمفعولٍ محذوف ، الناصبُ له « النذير » ، تقديرُه : النذير عذاباً ، كما أنزلنا على المُقْتَسِمين ، وهم قومٌ صالحٍ لأنهم قالوا : { لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ } [ النمل : 49 ] فأَقْسموا على ذلك ، أو يُراد بهم قريشٌ حيث قَسَموا القرآنَ إلى سِحْرٍ وشِعْرٍ وافتراء . وقد رَدَّ بعضُهم هذا بأنه يلزمُ منه إعمالٌ الوصفِ موصوفاً ، وهو غيرُ جائزٍ عند البصريين ، جائزٌ عند الكوفيين ، فلو عَمِل ثم وُصِفَ جاز عند الجميعِ .
السابع : أنه مفعولٌ به ، ناصبُه « النذير » أيضاً . قال الزمخشريُّ : « والثاني : أَنْ يتعلَّقَ بقوله : » وقل : إني أنا النذيرُ المبين ، أي : وأَنْذِرْ قريشاً مثلَ ما/ أَنْزَلْنَا من العذابِ على المقتسمين ، يعني اليهودَ وهو ما جَرَى على قُرَيْظَةَ والنَّضِير « . وهذا مردودٌ بما تقدم من إعمالِ الوصفِ موصوفاً .
الثامن : أنه منصوبٌ نعتاً لمفعولٍ به مقدرٍ ، والناصبُ لذلك المحذوفِ مقدَّرٌ لدلالةِ لفظِ » النذير « عليه ، أي : أُنْذِرُكم عذاباً مثلَ العذابِ المنزَّلِ على المقتسمين ، وهم قومٌ صالحٍ أو قريشٌ ، قاله أبو البقاء ، وكأنه فَرَّ مِنْ كونِهِ منصوباً بلفظِ » النَّذير « لِما تقدَّم من الاعتراض البَصْرِيِّ .
وقد اعترض ابنُ عطيةَ على القول السادس فقال : » والكافُ من قوله « كما » متعلقةٌ بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه : وقل إني أنا النذيرُ المبينُ عذاباً كما أنزَلْنا ، فالكافُ اسمٌ في موضع نصبٍ ، هذا قولُ المفسِّرين . وهو عندي غيرُ صحيحٍ ، لأنَّ { كَمَآ أَنْزَلْنَا } ليس مما يقولُه محمدٌ عليه السلام ، بل هو مِنْ كلامِ اللهِ تعالى ، فينفصِلُ الكلامُ ، وإنما يترتَّبُ هذا القولُ بأن الله تعالى قال له : أَنْذِرْ عذاباً كما . والذي أقول في هذا : « المعنى : وقل : إني أنا النذيرُ المبين ، كما قال قبلَك رسلُنا ، وأنزلْنا عليهم كما أَنْزَلْنا عليك . ويُحْتمل أن يكونَ المعنى : وقل إني أنا النذيرُ المُبينُ ، كما قد أَنْزَلْنا في الكتب أنك ستأتي نذيراً ، على أنَّ المُقْتَسِمين اهلُ الكتاب » .

انتهى .
وقد اعتذر بعضُهم عَمَّا قاله أبو محمدٍ فقال : « الكافُ متعلقةٌ بمحذوفٍ دَلَّ عليه المعنى تقديرُه : أنا النذيرُ بعذابٍ مثلِ ما أنزلنا ، وإنْ كان المُنَزِّل اللهَ ، كما يقول بعضُ خواصِّ المَلِك : أَمَرْنا بكذا ، وإن كان المَلِكُ هو الآمرَ ، وأمَّا قولُ أبي محمدٍ : وأنْزَلْنَا عليهم كما أَنْزَلْنا عليك كلامٌ غيرُ منتظمٍ ، ولعل أصلَه : وأَنْزَلْنا عليك كما أَنْزَلْنا عليهم ، كذا اصلحه الشيخ وفيه نظرٌ : كيف يُقَدَّر ذلك والقرآن ناطقٌ بخلافِهِ : وهو قولُه { عَلَى المقتسمين } ؟
التاسع : أنه متعلِّقٌ بقوله { لَنَسْأَلَنَّهُمْ } [ الحجر : 92 ] تقديرُه : لَنَسْأَلَنَّهم أجمعين مثلَ ما أَنْزَلْنا .
العاشر : أنَّ الكافَ مزيدةٌ تقديره : أنا النذير المُبين ما أنزلناه على المقتسِمين ، ولا بد مِنْ تأويلِ ذلك : على أنَّ » ما « مفعولٌ بالنذير عند الكوفيين فإنهم يُعْمِلون الوصفَ الموصوفَ ، أو على إضمارِ فعلٍ لائق ، أي : أُنْذِركم ما أنزلناه كما يليق بمذهبِ البصريين .
الحادي عشر : أنه متعلِّقٌ ب » قل « التقديرُ : وقُلْ قولاً كما أنزَلْنا على المقتسِمين : إنك نذيرٌ لهم ، فالقولُ للمؤمنين في النِّذارة كالقولِ للكفارِ المقتسِمين؛ لئلا تظنَّ أن إنذارَك للكفارِ مخالِفٌ لإِنذار المؤمنين ، بل أنت في وصفِ النِّذارة لهم بمنزلةٍ واحدةٍ ، تُنْذِر المؤمنَ كما تُنْذر الكافرَ ، كأنه قال : أنا النذير المبينُ لكم ولغيرِكم .

الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)

قوله تعالى : { الذين جَعَلُواْ } : فيه أوجهٌ : أظهرُها : أنه نعتٌ للمقتسِمين . الثاني : أنه بدلٌ منه . الثالث : أنه بيانٌ له . الرابع : أنه منصوبٌ على الذمِّ . الخامس : أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ . السادس : أنه منصوب بالنذير المبين ، قاله الزمخشري ، وهو مردودٌ بإعمال الوصفِ الموصوفِ عند البصريين ، وتقدَّم تقريرُه .
و « عِضيْن » جمع « عِضَة » وهي الفِرْقَةُ ، ف « العِضين » الفِرَق ، ومعنى جَعْلِهم القرآنَ كذلك : أنَّ بعضَهم جعله شعراً ، وبعضَهم سحراً ، وبعضَهم كِهانةً ، نعوذ بالله من ذلك . وقيل : العَضْهُ : السِّحْرُ بلغة قريش ، يقولون : هو عاضِهٌ وهي عاضِهَةٌ . قال :
2953- أَعُوذُ بربِّي مِن النَّافِثا ... تِ في عُقَدِ العاضِهِ المُعْضِهِ
وفي الحديث : « لَعَن العاضِهَة والمُسْتَعْضِهَة » ، أي : الساحرة والمُسْتَسْحِرَة . وقيل : هو مِنْ العِضَهِ ، وهو الكذبُ والبُهْتانُ . يقال : عَضَهَهُ عَضْهَاً وعَضِيْهَةً ، أي : رماه بالبُهتان ، وهذا قولُ الكسائيِّ . وقيل : هو من العِضَاه ، وهي شجرٌ شَوْكٌ مُؤْذٍ ، قاله الفراء .
وفي لام « عِضَة » قولان يَشْْهد لكلٍّ منهما التصريفُ : الواوُ ، لقولهم : عِضَوات ، واشتقاقها من العُضْوِ ، لأنه جزءٌ مِنْ كلٍّ ، ولتصغيرِها على عُضَيِّة ، والهاء/ لقولهم : عُضَيْهَة وعاضِهٌ وعاضِهَةٌ وعَضِهٌ ، وفي الحديث : « لا تَعْضِيَةَ في مِيراثٍ » وفُسِّر بأنْ لا تَفْريقَ فيما يَضُرُّ بالوَرَثَةِ ، تفريقُه كسيفٍ يُكْسَر بنصفَيْن فَيَنْقُصُ ثمنُه .
وقال الزمخشريُّ : « عَضين : أجزاءٌ ، جمع عِضَة ، وأصلُها عِضْوَة فِعْلَة ، مِنْ عَضَا الشاةَ إذا جَعَلها أعضاءً . قال :
2954- وليسَ دينُ اللهِ بالمُعَضَّى ... وجُمِعََ عِضَة على عِضين ، كما جُمع سَنَة وثُبَة وظُبَةَ ، وبعضهم يُجْري النونَ بالحركاتِ مع الياء ، وقد تقدَّم تقريرُ ذلك ، وحينئذ تَثْبُُتُ نونُه في الإِضافةِ فيقال : هذه عِضِيْنُك .

فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)

قوله تعالى : { فاصدع } : أصلُ الصَّدْعِ : الشَّقُّ : صَدَعْتُه فانصَدَعَ ، أي : شَقَقْتُه فانْشَق ، ومنه التفرقةُ أيضاً كقوله : { يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ } [ الروم : 43 ] .
وقال :
2955- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كأنَّ بياضَ غِرَّتِه صَدِيعُ
والصَّديعُ : ضوء الفجر لانشقاقِ الظلمةِ عنه ، ومعنى « فاصدَعْ » : فافرُقْ بين الحقِّ والباطلِ وافْصِلْ بينهما . وقال الراغب : « الصَّدْعُ شِقٌّ في الأجسامِ الصُّلْبة كالزُّجَاج والحديد ، وصَدَّعْتُه بالتشديد فتصَدَّع ، وصَدَعْتُه بالتخفيفِ فانْصَدَع ، وصُداع الرأسِ منه لتوهُّمِ الانشقاقِ فيه ، وصَدَعْتُ الفَلاةَ ، أي : قطعتُها » مِنْ ذلك ، كأنه تَوَهَّم تفريقَها .
و « ما » في « بما تُؤْمَر » مصدريةٌ أو بمعنى الذي ، والأصلُ : تُؤْمَر به ، وهذا الفعلُ يَطَّرِدُ حَذْفُ الجارِّ معه ، فَحَذْفُ العائدِ فصيحٌ ، وليس هو كقولك « جاء الذي مررت » ونحوُه :
2956- أَمَرْتُكَ الخيرَ فافعَلْ ما أُمِرْتَ به ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والأصل : بالخير . وقال الزمخشري : « ويجوز أن تكونَ » ما « مصدريةً ، أي : بأَمْرِك ، مصدرٌ من المبني للمفعول » . انتهى . وهو كلامٌ صحيحٌ . ونَقَل الشيخُ عنه أنه قال : « ويجوز أن يكونَ المصدرُ يُراد به » أَنْ « والفعلِ المبنيِّ للمفعول » . ثم قال الشيخ : « والصحيحُ أنَّ ذلك لا يجوز » . قلت : الخلافُ إنما في المصدرِ المُصَرَّح به : هل يجوز أن يَنْحَلَّ لحرفٍ مصدريٍ وفعلٍ مبني للمفعول أم لا يجوزُ ذلك؟ خلافٌ مشهور ، أمَّا أنَّ الحرفَ المصدريَّ هل يجوزُ فيه أن يُوْصَلَ بفعل مبني للمفعول نحو : « يُعجبني أن يُكْرَمَ عمرٌو » أم لا يجوز؟ فليس محلَّ النِّزاعِ .

أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)

قوله تعالى : { أتى أَمْرُ الله } : في « أتى » وجهان ، أحدُهما : - وهو المشهورُ- أنه ماضٍ لفظاً مستقبلٌ معنى؛ إذ المرادُ به يومُ القيامة ، وإنما أُبْرِز في صورةِ ما وَقَع وانقضى تحقيقاً له ولصِدْقِ المخبِرِ به . والثاني : أنه على بابه ، والمرادُ به مقدِّماتُه وأوائلُه ، وهو نَصْرُ رسولِه صلى الله عليه وسلم .
قوله : { فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } في الضميرِ المنصوبِ وجهان ، أظهرُهما : أنَّه للأمرِ ، فإنَّه هو المُحَدَّثُ عنه . والثاني : أنه لله ، أي : فلا تستعجلوا عذابَه .
قوله : { عَمَّا يُشْرِكُونَ } يجوز أن تكونَ « ما » مصدريةً فلا عائدَ عند الجمهور ، أي : عن إشراكِهم به غيرَه ، وأن تكونَ موصولةً اسميةً .
وقرأ العامَّةُ : { فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } بالتاء خطاباً للمؤمنين أو للكافرين . وابنُ جبير بالياء من تحتُ عائداً على الكفار أو المؤمنين .
وقرأ الأَخَوان : « تُشْرِكُون » بتاءِ الخطابِ جَرْياً على الخطابِ في « تَسْتَعْجِلُوه » والباقون بالياء عَوْداً على الكفار . وقرأ الأعمشُ وطلحةُ والجحدريُّ وجَمٌّ غفيرٌ بالتاء من فوقُ في الفعلين .

يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)

قوله تعالى : { يُنَزِّلُ الملائكة } : قد تقدَّم الخلافُ في « يُنَزِّل » بالنسبة إلى التشديدِ والتخفيفِ في البقرة . وقرأ زيدُ بن علي والأعمشُ وأبو بكر عن عاصم « تَنَزَّلُ » مشدداً مبنياً للمفعول وبالتاءِ مِنْ فوقُ ، « الملائكةُ » رفعاً لقيامِه مَقامَ الفاعلِ وقرأ الجحدريُّ كذلك ، إلا أنه خَفَّف الزايَ . وقرأ الحسنُ والأعرجُ وأبو العالية والمفضَّل عن عاصم « تَنَزَّلُ » بتاءٍ واحدةٍ مِنْ فوقُ ، وتشديدِ الزايِ مبنياً للفاعل ، والأصلُ : « تَتَنَزَّل » بتاءَيْن . وقرأ ابنُ أبي عبلة « نُنَزِّلُ » بنونينِ وتشديدِ الزايِ ، « الملائكةَ » نصباً ، وقتادةُ كذلك إلا انه بالتخفيف . قال/ ابن عطية : « وفيهما شذوذٌ » ولم يُبَيِّن وجهَ ذلك ، ووجهُه : أنَّ ما قبله وما بعده مضمرٌ غائبٌ ، وتخريجُه على الالتفات .
قوله : « بالرُّوْحِ » يجوز أن يكونَ متعلقاً بنفس الإِنزال ، وأن يكونَ متعلقاً بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الملائكة « ، أي : ومعهم الروحُ .
قوله : { مِنْ أَمْرِهِ } حالٌ من » الرُّوحِ « . و » مِنْ « : إمَّا لبيانِ الجنسِ ، وإمَّا للتبعيضِ .
قوله : { أَنْ أنذروا } في » أَنْ « ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنها المُفَسِّرةُ؛ لأنَّ الوحيَ فيه ضَربٌ من القولِ ، والإِنزالُ بالروحِ عبارةٌ عن الوحيِ . الثاني : أنها المخففةُ مِنَ الثقيلة ، واسمُها ضميرُ الشأنِ محذوفٌ تقديره : أنَّ الشأنَ أقولُ لكم : إنه لا إله إلا أنا ، قاله الزمخشريُّ : الثالث : أنها المصدريةُ التي من شأنِها نصبٌ نصبُ المضارع ووُصِلَتْ بالأمر كقولهم : » كتبت إليه بأنْ قُمْ « ، وقد مضى لنا فيه بحثٌ .
فإن قلنا : إنها المفسِّرةُ فلا مَحَلَّ لها ، وإنْ قلنا : إنها المخففةُ أو الناصبةُ ففي محلِّها وثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنها مجرورةُ المحلِّ بدلاً من » الرُّوح «؛ لأنَّ التوحيدَ رُوْحٌ تَحْيا به النفوسُ . الثاني : أنها في محلِّ جرٍّ على إسقاطِ الخافضِ كما هو مذهبُ الخليل . والثالث : أنها في محل نصب على إسقاطه وهو مذهبُ سيبويه ، والأصلُ : بأَنْ أَنْذِروا ، فلمَّا حُذِفَ الجارُّ جَرَى الخلافُ المشهورُ .
قوله : { أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ أَنَاْ } هو مفعولُ الإِنذار والإِنذار قد يكونُ بمعنى الإِعلامِ . يقال : نَذَرْتُه وأَنْذَرته بكذا ، أي : أَعْلِمُوهم التوحيدَ . وقوله » فاتَّقونِ « التفاتٌ إلى التكلمِ بعد الغَيْبة .

خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)

قوله تعالى : { مِن نُّطْفَةٍْْ } متعلِّقٌ ب « خَلَق » و « مِنْ » لابتداءِ الغاية . والنُّطْفَةُ : القَطْرَةُ من الماء ، نَطَفَ رأسُه ماءً ، أي : قَطَر . وقيل : هي الماء الصافي ويُعَبَّرُ بها عن ماءِ الرجل ، ويُكْنَى بها عن اللؤلؤة ، ومنه صبيٌّ مُنَطَّف : إذا كان في أذنه لُؤْلؤة ، ويقال : ليلة نَطُوف : إذا جاء فيها مطرٌ . والناطِف : ما سال من المائعاتِ ، نَطَفَ يَنْطِفُ ، أي : سال فهو ناطِفٌ . وفرنٌ يَنْطِفُ بسوءٍ .
قوله : { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ } عَطَفَ هذه الجملةَ على ما قبلَها . فإن قيل : الفاءُ تدلُّ على التعقيب ، ولا سيما وقد وُجِدَ معها « إذا » التي تقتضي المفاجَأةَ ، وكونُه خصيماً مبيناً لم يَعْقُبْ خَلْقَه مِنْ نُطْفة ، إنما توسَّطَتْ بينهما وسائطُ كثيرةٌ . فالجوابُ من وجهين ، أحدُهما : أنه من باب التعبير عن حال الشيءِ بما يَؤُول إليه ، كقولِه تعالى : { أَعْصِرُ خَمْراً } [ يوسف : 36 ] . والثاني : أنه أشار بذلك إلى سُرْعَةِ نِسْيانهم مَبْدَأَ خَلْقِهم . وقيل : ثَمَّ وسائِطُ محذوفةٌ . والذي يظهر أنَّ قولَه « خَلَقَ » عبارةٌ عن إيجاده وتربيتِه إلى أن يبلغَ حدَّ هاتين الصفتين .
و « خصيم » فَعِيْل ، مثالُ مبالغةٍ مِنْ خَصَم بمعنى اختصم ، ويجوز أن يكونَ مُخاصِم كالخَلِيط والجَلِيس .

وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5)

قوله تعالى : { والأنعام خَلَقَهَا } : العامَّةُ على النصبِ وفيه وجهان ، أحدُهما : نصبٌ على الاشتغالِ ، وهو أرجحُ مِن الرفعِ لتقدُّمِ جملةٍ فِعليةٍ . والثاني : أنه نصبٌ على عَطْفِه على « الإِنسان » ، قاله الزمخشريُّ وابنُ عطية ، فيكون « خَلَقَها » على هذا مؤكِّداً ، وعلى الأول مفسِّراً . وقُرئ في الشاذِّ « والأنعامُ » رفعاً وهي مَرْجُوحَةٌ .
قوله : { لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ } يجوز أن يَتَعَلَّقَ « لكم » ب « خَلَقَها » ، أي : لأجلِكم ولمنافعِكم ، ويكون « فيها » خبراً مقدماً ، « ودِفْءٌ » مبتدأً مؤخراً . ويجوز أن يكونَ « لكم » هو الخبر ، و « فيها » متعلِّقٌ بما تعلَّقَ به الخبرُ ، أو يكونَ « فيها » حالاً من « دِفْء » لأنه لو تاخَّر لكان صفةً له ، أو يكونَ « فيها » هو الخبرَ ، و « لكم » متعلِّقٌ بما تعلَّق به ، أو يكونَ حالاً مِنْ « دِفْء » قاله أبو البقاء . ورَدَّه الشيخ بأنه إذا كان العاملُ في الحال معنوياً فلا يتقدَّم على الجملةِ بأسرها ، لا يجوز : « قائماً في الدار زيدٌ » فإنْ تأخَّرَتْ نحو : « زيدٌ في الدار قائماً » جازَ بلا خلافٍ ، أو توسَّطَتْ/ فخلافٌ ، أجازه الأخفشُ ، ومنعه غيرُه .
قلت : ولقائلٍ أن يقولَ : لَمَّا تقدَّمَ العاملُ فيها وهي معه جاز تقديمُها عليه بحالها ، إلاَّ أنْ يقولَ : لا يَلْزَمُ مِنْ تقديمِها عليه وهو متأخرٌ تقديمُها عليه وهو متقدمٌ ، لزيادةِ القبح .
وقال أبو البقاء أيضاً : « ويجوز أَنْ يرتفعَ » دِفْء « ب » لكم « أو ب » فيها « والجملةُ كلُّها حالٌ من الضمير المنصوب » . قال الشيخ : « ولا تُسَمَّى جملةً؛ لأنَّ التقدير : خلقها كائناً لكم فيها دفءٌ ، أو خَلَقها لكم كائناً فيها دِفْءٌ » قلت « قد تقدَّم الخلاف في تقدير متعلِّق الجارِّ إذا وقع حالاً أو صفةً أو خبراً : هل يُقَدَّرُ فِعْلاً أو اسماً؟ ولعلَّ أبا البقاء نحا إلى الأولِ ، فتسميتُه له جملةً صحيحٌ على هذا .
والدِّفْء اسمٌ لِما يُدْفَأُ به ، أي : يُسْخَنُ ، وجمعُه أدْفاء ، ودَفِئَ يومُنا فهو دَفِىءٌ ، ودَفِئَ الرجلُ يَدْفَأُ دَفاءَةً ودَفَاءً فهو دَفْآنُ ، وهي دَفْأَى ، كسَكْران وسَكْرى . والمُدْفَأة بالتخفيفِ والتشديد : الإِبلُ الكثيرةُ الوبرِ والشحمِ . قيل : الدِّفْءُ : نِتاجُ الإِبل وألبانُها ، وما يُنْتفع به منها .
وقرأ زيدُ بنُ عليّ » دِفٌ « بنَقْلِ حركةِ الهمزةِ إلى الفاء ، والزهريُّ كذلك ، إلا أنه شَدَّدَ الفاء ، كأنه أجرى الوَصْلَ مُجْرى الوقفِ نحو قولِهم : » هذا فَرُخّْ « بالتشديد وقفاً . وقال صاحب » اللوامح « : » ومنهم مَنْ يُعَوِّضُ من هذه الهمزةَ فَيُشَدِّد الفاءَ ، وهو أحدُ وجهَيْ حمزةَ بنِ حبيب وقفاً « . قلت : التشديد وَقْفاً لغةٌ مستقلةٌ ، وإن لم يكن ثَمَّ حَذْفٌ من الكلمةِ الموقوفِ عليها .
قوله : { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } » مِنْ « هنا لابتداء الغاية ، والتبعيض هنا ضعيفٌ . قال الزمخشري : فإن قلت : تقديمُ الظرفِ مُؤْذِنٌ بالاختصاصِ ، وقد يُؤْكَلُ مِنْ غيرِها . قلت : الأكل منها هو الأصلُ الذي يعتمده الناسُ ، وأمَّا غيرُها مِن البَطِّ والدَّجاج ونحوِها من الصَّيْد فكغيرِ المُعْتَدِّ به » .

وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6)

قوله تعالى : { وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ } : كقوله : { لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ } [ النحل : 5 ] . و « حين » منصوبٌ بنفس « جَمال » ، أو بمحذوفٍ على أنه صفةٌ له ، أو معمولٌ لِما عَمِل في « فيها » أو في « لكم » .
وقرأ عكرمةُ والضحاكُ « حينا » بالتنوين على أنَّ الجملةَ بعدَه صفةٌ له ، والعائدُ محذوفٌ ، أي : حيناً تُرِيْحون فيه ، وحيناً تَسْرحُون فيه ، كقولِه تعالى : { واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ } [ البقرة : 281 ] .
وقُدِّمَتْ الإِراحةُ على السَّرْحِ؛ لأنَّ الأنعامَ فيها أجملُ لِمَلْءِ بطونِها وتَحَفُّلِ ضُروعِها .
والجَمالُ : مصدرُ جَمُلَ بضمِّ الميم يَجْمُل فهو جميل ، وهي جميلة . وحكى الكسائيُّ جَمْلاء كَحَمْراء ، وأنشد :
2957- فهِيَ جَمْلاءُ كَبَدْرٍ طالعٍ ... بَذَّتِ الخَلْقَ جميعاً بالجَمالْ
ويقال : أراحَ الماشيةَ وهَرَاحَها بالهاءِ بدلاً من الهمزة . وسَرَحَ الإِبلَ يَسْرَحُها سَرْحاً ، أي : أرسلَها ، وأصلُه أن يُرْسِلَها لترعى السَّرْحَ ، والسَّرْحُ شجرٌ له ثمرٌ ، الواحدة سَرْحَة . قال :
2958- أبى اللهُ إلا أنَّ سَرْحَةَ مالكٍ ... على كلِّ افنانِ العِضاهِ تَرُوْقُ
وقال :
2959- بَطَلٌ كأن ثيابَه في سَرْحةٍ ... يُحْذَى نِعالَ السَّبْتِ ليس بتوْءَم
ثم أُطْلِق على كل إرسالٍ ، واستُعير أيضاً للطَّلاق فقالوا : سَرَّحَ فلانٌ امرأتَه ، كما تسعير الطلاقُ أيضاً من إطلاق الإِبل من عُلُقِها . واعتُبِر من السَّرْحِ المُضِيُّ فقيل : ناقَةَ سُرُحٌ ، أي : سريعة قال :
2960- . . . سُرُحُ اليَدَيْن . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وحَذَفَ مفعولي « تُرِيْحون » و « تَسْرَحُون » مراعاةً للفواصل مع العلم بهما .

وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7)

قوله تعالى : { لَّمْ تَكُونُواْ } : صفةٌ ل « بلد » و « إلا بشِقٍّ » حالٌ من الضمير المرفوع في « بالِغِيْه » ، أي : لم تَبْلُغوه إلا ملتبسِيْنَ بالمَشَقَّة .
والعامَّةُ على كسرِ الشين . وقرأ أبو جعفر ، ورُوِيَتْ عن نافع وأبي عمرو بفتحها . فقيل : هما مصدران بمعنىً واحدٍ ، أي : المَشَقَّة ، فمِنَ الكسر قولُه :
2961- رأى إبِلاً تَسْعى ، ويَحْسِبُها له ... أخي نَصَبٍ مِنْ شِقِّها ودُؤْوْبِ
أي : مِنْ مَشَقَّتها . / وقيل : المفتوحُ المصدرُ ، والمكسورُ الاسمُ . وقيل : بالكسرِ نصفُ الشيء . وفي التفسير : إلا بنصفِ أنفسكم ، كما تقول : « لم تَنَلْه إلا بقطعةٍ من كَبِدك » على المجاز .

وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)

قوله تعالى : { والخيل } : العامَّةُ على نصبِها نَسَقاً على « الأنعامَ » . وقرأ ابن أبي عبلة برفعِها على الابتداء والخبرُ محذوفٌ ، أي : مخلوقَةٌ أو مُعَدَّةٌ لتركبوها ، وليس هذا ممَّا نابَ فيه الجارُّ منابَ الخبرِ لكونِه كوناً خاصاً .
قوله : « وزينةً » في نصبها أوجهٌ ، أحدُها : أنها مفعولٌ من أجلِه ، وإنما وَصَل الفعلُ إلى الأول باللام في قوله : « لتركبوها » وإلى هذا بنفسِه لاختلالِ شرطٍ في الأول ، وهو عَدَمُ اتحادِ الفاعلِ ، فإن الخالقَ اللهُ ، والراكبَ المخاطبون بخلافِ الثاني .
الثاني : أنها منصوبةٌ على الحال ، وصاحبُ الحال : إمَّا مفعول « خَلَقَها » ، وإمَّا مفعولُ « لتركبوها » ، فهو مصدرٌ أقيم مُقامَ الحال .
الثالث : أَنْ ينتصِبَ بإضمارِ فِعْلٍ ، فقدَّره الزمخشري « وخَلَقها زينة » . وقدَّره ابن عطية وغيرُه « وجَعَلها زينةً » .
الرابع : أنه مصدرٌ لفعلٍ محذوف ، أي : وَيَتَزَيَّنُوْن بها زينةً .
وقرأ قتادةُ عن ابن عباس « لتَرْكَبوها زينةً » بغير واوٍ ، وفيها الأوجهُ المتقدمةُ ، ويزيد أن تكونَ حالاً من فاعل « لتركبوها » ، أي : تركبونها مُتَزَيِّنين بها .

وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)

قوله تعالى : { وَمِنْهَا جَآئِرٌ } : { } الضميرُ يعود على السبيل لأنها تُؤَنَّثُ : { قُلْ هذه سبيلي } [ يوسف : 108 ] ، أو لأنها في معنى سُبُل ، فَأَنَّثَ على معنى الجمع .
والقَصْدُ مصدرٌ يُوصَفُ به فهو بمعنى قاصِد ، يُقال : سبيلٌ قَصْدٌ وقاصِدٌ ، أي : مستقيم كأنه يَقْصِد الوجهَ الذي يَؤُمُّه السَّالكُ لا يَعْدِل عنه . وقيل : الضمير يعود على الخلائق ويؤيِّده قراءةُ عيسى وما في مصحف عبد الله : « ومنكم جائِزٌ » ، وقراءةُ عليٍّ : « فمنكم جائر » بالفاء .
وقيل : أل في السبيل للعَهْدِ ، فعلى هذا يعود الضميرُ على « السبيل » التي يتضمَّنها معنى الآية كأنه قيل : ومِن السبيل ، فأعاد عليها وإنْ لم يَجْرِ لها ذِكْرٌ؛ لأنَّ مقابلَها يَدُلُّ عليها . وأمَّا إذا كانت أل للجنس فتعودُ على لفظها .
والجَوْرُ : العُدولُ عن الاستقامةِ . قال النابغة :
2962- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... يَجُور بها الملاَّحُ طَوْراً ويَهْتدي
وقال آخر :
2963- ومن الطريقةِ جائرٌ وهُدىً ... قَصْدُ السبيلِ ومنه ذُو دَخْلِ
وقال أبو البقاء : « وقَصْدُ مصدرٌ بمعنى إقامةِ السبيل وتَعِديلِ السبيلِ ، وليس مصدرَ قصَدْتُه بمعنى أتَيْتُه » .

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10)

قوله تعالى : { مَآءً لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ } : يجوزُ في « لكم » أن يتعلَّقَ ب « أنْزَلَ » ، ويجوزُ أن يكونَ صفةً ل « ماءً » ، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ ، فعلى الأولِ يكون « شرابٌ » مبتدأً و « منه » خبرُه مقدَّمٌ عليه ، والجملةُ أيضاً صفةٌ ل « ماءً » وعلى الثاني يكون « شرابٌ » فاعلاً بالظرف ، و « منه » حالٌ من « شراب » . و « مِنْ » الأولى للتبعيض ، وكذا الثانيةُ عند بعضِهم ، لكنه مجاز لأنه لمَّا كان سَقْيُه بالماء جُعِل كأنه من الماء كقوله :
2946- أسنِمَة الآبالِ في رَبابَهْ ... أي : في سَحابة ، يعني به المطرَ الذي يَنْبُتُ به الكلأُ الذي تأكلُه الإِبِلُ فَتَسْمَنُ اَسْنِمَتُها .
وقال أبو بكر بن الأنباري : « هو على حذف مضاف إمَّا من الأول ، يعني قبل الضمير ، أي : مِنْ سَقْيِه وجِهتِه شجرٌ ، وإمَّا من الثاني ، يعني قبل شجر ، أي : شُرْب شجر أو حياة شجر » . وجعل أبو البقاء الأولى للتبعيض والثانية للسبيية ، أي : بسببه ، ودَلَّ عليه قولُه : { يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزرع } .
والشَّجَرُ هنا : كلُّ نباتٍ من الأرض حتى الكَلأُ ، وفي الحديث : « لا تأكُلوا الشجرَ فإنه سُحْتٌ » يعني الكلأ ، ينهى عن تحجُّر المباحاتِ المحتاجِ إليها بشدة . وقال :
2965- نُطْعِمُها اللحمَ إذا عَزَّ الشجَرْ ... وهو مجازٌ؛ لأنَّ الشجرَ ما كان له ساقٌ .
قوله : { فِيهِ تُسِيمُونَ } هذه صفةٌ أخرى ل « ماءً » . والعامَّة على « تُسِيمون » بضمِّ الياء مِنْ أسام ، أي : أَرْسَلَها لِتَرْعى ، وزيد بن علي بفتحِها ، فيحتمل أن يكونَ متعدياً ، ويكون فَعَل وأَفْعَل بمعنى ، ويحتمل أن يكون لازماً على حذفِ مضافٍ ، أي : تَسِيْمُ مواشِيَكُمْ .

يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)

قوله تعالى : { يُنبِتُ } : تحتمل هذه الجملةُ الاستئنافَ والتبعيةَ كما في نظيرتِها . ويقال : « أَنْبت اللهُ الزرعَ » فهو مَنْبُوت ، وقياسُه مُنْبَتٌ . وقيل : « أَنْبت » قد يجيْءُ لازماً ك « نَبَت » أنشد الفراء :
2966- رأيتَ ذوي الحاجاتِ حولَ بيوتِهمْ ... قَطِيناً لهم حتى إذا أَنْبَتَ البَقْلُ
وأباه الأصمعي ، والبيتُ حجةٌ عليه ، وتأويلُه ب « أَنبت البقلُ نفسَه » على المجاز بعيدٌ جداً .
وقرأ أبو بكر « نُنْبِتُ » بنون العظمة ، / والزهري « نُنَبِّتُ » بالتشديد . والظاهر أنه تضعيف المتعدي . وقيل : بل للتكرير . وقرأ أُبَي « يَنْبُت » بفتحِ الياءِ وضم الباء ، « الزَّرعُ » وما بعده رفعٌ بالفاعلية .

وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12)

وقد تقدَّم خلافُ القراء في رفع « الشمس » وما بعدها ونصبِها ، وتوجيهُ ذلك في سورة الأعراف .

وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)

قوله تعالى : { وَمَا ذَرَأَ } عطفٌ على « الليل » قاله الزمخشري يعني ما خَلَقَ فيها من حيوانٍ وشَجَر . وقال أبو البقاء : « في موضعِ نصبٍ بفعلٍ محذوف ، أي : وخَلَقَ وأَنْبَتَ » . كأنه استبعد تَسلُّطَ « سَخَّر » على ذلك فقدَّر فعلاً لائقاً . و « مختلفاً » حالٌ منه ، و « ألوانُه » فاعلٌ به .
وخَتَمَ الآيةَ الأولى بالتفكُّر؛ لأنَّ ما فيها يحتاج إلى تأمُّلٍ ونَظَر ، والثانيةَ بالعقل؛ لأنَّ مدارَ ما تقدَّم عليه ، والثالثةَ بالتذكُّر؛ لأنه نتيجةُ ما تقدَّمَ . وجَمَعَ « آيات » في الثانية دونَ الأولى والثالثةِ؛ لأنَّ ما نِيْطَ بها أكثرُ ، ولذلك ذَكَرَ معها العقلَ .

وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)

قوله تعالى : { مِنْهُ لَحْماً } : يجوز في « منه » تعلُّقُه ب « لتأكلوا » ، وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنه حالٌ من النكرة بعده . و « مِنْ » لابتداء الغاية أو للتبعيضِ ، ولا بُدَّ مِنْ حذفِ مضافٍ ، أي : مِنْ حيوانِه .
و « طَرِيّاً » فَعِيْل مِنْ طَرُوَ يَطْرُوْ طَراوةً كسَرُوَ يَسْرُوْ سَراوَةً . وقال الفراء : « بل يقال : طَرِيَ يَطرَى طَراوةً وطَراءً مثل : شَقِيَ يَشْقَى شَقَاوَةً وشَقاءً » . والطَّراوةُ ضد اليَبُوسة ، أي : غَضاً جديداً . ويُقال : الثيابُ المُطَرَّاة . والإِطراء : مَدْحٌ تَجَدَّد ذِكْرُه ، وأمَّا « طَرَأَ » بالهمز فمعناه طَلَع .
قوله : « حِلْيةً » الحِلْيَةُ : اسمٌ لِما يُتَحَلَّى به ، وأصلُها الدلالةُ على الهيئة كالعِمَّة والخِمْرَة . و « تَلْبَسُونها » صفةٌ . و « منه » يجوز فيه ما جاز في « منه » قبله . وقوله « تَرَى » جملةٌ معترضةٌ بين التعليلين وهما « لتأكلوا » و « لِتَبْتَغُوا » ، وإنما كانَتْ اعتراضاً لأنها خطابٌ لواحد بين خطابين لجمعٍ .
قوله : « فيه » يجوز أَنْ يتعلَّقَ ب « ترى » ، وأَنْ يتعلَّقَ ب « مواخِرَ » لأنها بمعنى شَواقَّ ، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنه حالٌ مِنْ « مَواخِر » ، أو مِنَ الضميرِ المستكنِّ فيه .
و « مَواخِر » جمع ماخِرة ، والمَخْرُ : الشَّقُّ ، يُقال : مَخَرَتِ السفينةُ البحرَ ، أي : شَقَّتْه ، تَمْخُره مَخْراً ومُخُوراٌ . ويقال للسُّفُنِ : بناتُ مَخْرٍ وبَخْرٍ بالميم ، والباءُ بدل منها . وقال الفراء : « هو صوتُ جَرْيِ الفُلْكِ » . وقيل : صوتُ شدَّةِ هُبوبِ الريحِ . وقيل : « بناتُ مَخْرٍ » لسَحابٍ ينشَأُ صَيْفاً ، وامْتَخَرْتُ الريحَ واسْتَمْخَرْتُها ، أي : استقبلْتَها بأنفك . وفي الحديث : « اسْتَمْخِروا الريحَ ، وأَعِدُّوا النُّبَلَ » يعني في الاستنجاء ، والماخُور : الموضع الذي يُباع فيه الخمرُ . و « ترى » هنا بَصَريَّةٌ فقط .
قوله : « ولِتَبْتَغُوا » فيه ثلاثةُ أوجهٍ : عطفُه على « لتأكلوا » ، وما بينهما اعتراضٌ -كما تقدَّم- وهذا هو الظاهرُ . ثانيها : أنه عطفٌ على علةٍ محذوفةٍ تقديره : لتنتفعوا بذلك ولتبتَغُوا ، ذكره ابن الأنباري ، ثالثُها : أنه متعلِّقٌ بفعلٍ محذوفٍ ، أي : فَعَل ذلك لتبتغوا ، وفيهما تكلُّفٌ لا حاجةَ إليه .

وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15)

قوله تعالى : { أَن تَمِيدَ } : ، أي : كراهةَ أَنْ تَمِيْدَ ، أو : لئلاَّ تَمِيْدَ .
قوله : « وأنهاراً » عطفٌ على « رَواسي » لأنَّ الإِلقاءَ بمعنى الخَلْقَ . وادِّعاءُ ابنِ عطية أنه منصوبٌ بفعلٍ مضمرٍ ، أي : وجَعَل فيها أنهاراً ، ليس كما ذكره . وقدَّره أبو البقاء : « وشَقَّ فيها أنهاراً » وهو مناسِبٌ ، و « سُبُلاً » ، أي : وذَلَّل ، أو : وجعل فيها طُرُقاً .

وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)

و { وَعَلامَاتٍ } ، أي : ووَضَعَ فيها علاماتٍ .
قوله تعالى : { وبالنجم } متعلِّق ب « يهتدون » . والعامَّةُ على فتحِ النونِ وسكونِ الجيمِ بالتوحيدِ فقيل : المرادُ به كوكبٌ بعينه كالجَدْيِ أو الثُّرَيَّا . وقيل : بل هو اسمُ جنسٍ . وقرأ ابن وثاب بضمِّهما ، والحسنُ بضمِّ النون فقط ، وعَكَسَ بعضُهم النَّقْلَ عنهما .
فأمَّا قراءةُ الضمتين ففيها تخريجان ، أظهرُهما : أنها جمعٌ صريحٌ لأنَّ فَعْلاً يُجْمع على فُعُل نحو : سَقْف وسُقُف ، ورَهْن ورُهُن . / والثاني : أنَّ أصلَه النجومُ ، وفَعْل يُجمع على فُعُول نحو : فَلْس وفُلُوس ، ثم خُفِّف بحَذْفِ الواوِ كما قالوا : أَسَد وأُسُود وأُسُد . قال أبو البقاء : « وقالوا في خِيام : خِيَم ، يعني أنه نظيرُه ، من حيث حَذَفوا منه حرفَ المدِّ . وقال ابنُ عصفور : إن قولهم » النُّجُم مِنْ ضرورة الشعر « وأنشد :
2967- إنَّ الي قَضَى بذا قاضٍ حَكَمْ ... أن تَرِدَ الماءَ إذا غابَ النُّجُمْ
يريد : النحوم ، كقوله :
2968- حتى إذا ابْتَلَّتْ حَلاقِيْمُ الحُلُقْ ... يريد الحُلُوق .
وأمَّا قراءةُ الضمِّ والسكونِ ففيها وجهان ، أحدهما : أنها تخفيفٌ من الضم . والثاني : أنها لغةٌ مستقلة .
وتقديمُ كلٍّ من الجار والمبتدأ يفيد الاختصاصَ . قال الزمشخري : » فإن قلت : قوله : { وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ } مُخْرَجٌ عن سَنَنِ الخِطاب ، مقدَّم فيه النجم ، مُقْحَمٌ فيه [ هم ] ، كأنه قيل : وبالنجمِ خصوصاً هؤلاء خصوصاً يهتدونَ ، فَمَنْ المرادُ بهم؟ قلت : كأنَّه أراد قريشاً ، كان لهم اهتداءٌ بالنجوم في مسائرِهم ، وكان لهم به عِلْمٌ لم يكنْ لغيرِهم فكان الشكرُ عليهم أوجبَ ولهم أَلْزَمَ « .

أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17)

قوله تعالى : { كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } إنْ أُريد ب « مَنْ لا يَخْلُق » جميعٌ ما عُبِد مِنْ دونِ الله كان ورودُ « مَنْ » واضحاً؛ لأن العاقلَ يُغَلَّبُ على غيرِه ، فيُعبَّر عن الجميع ب « مَنْ » ولو جِيْء ب « ما » أيضاً لجازَ ، وإنْ أريد به الأصنامُ ففي إيقاعِ « مَنْ » عليهم أوجهٌ ، أحدُها : إجراؤهم لها مُجْرى أُولي العلمِ في عبادتهم إياها واعتقادِ أنها تَضُرُّ وتنفع كقوله :
2969- بَكَيْتُ إلى سِرْبِ القَطا إذْ مَرَرْنَ بي ... فقلتُ ومِثْلي بالبكاءِ جديرُ
أسِرْبَ القَطا هل مَنْ يُعيرُ جناحَه ... لعلِّي إلى مَن قد هَوَيْتُ أطيرُ
فأوقعَ على السِّرْب « مَنْ » لمَّا عاملها معاملةَ العقلاءِ . الثاني : المشاكلةُ بينه وبين مَنْ يَخْلُق . الثالث : تخصيصُه بمَنْ يَعْلَم ، والمعنى : أنه إذا حَصَلَ التبايُنُ بين مَنْ يَخْلُقُ وبين مَنْ لا يَخْلُق مِنْ أولي العلم ، وأنَّ غيرَ الخالقِ لا يَسْتحق العبادةَ البتة ، فكيف تستقيم عبادةُ الجمادِ المنحطِّ رتبةً ، الساقطِ منزلةً عن المخلوقِ من أولي العلم كقوله : { أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ } [ الأعراف : 195 ] إلى آخره؟ وأمَّا مَنْ يُجيز إيقاعَ « مَنْ » على غيرِ العقلاء مِنْ شرطٍ كقطرب فلا يحتاج إلى تأويلٍ .
قال الزمخشريُّ : « فإن قلتَ : هو إلزامٌ للذين عَبَدوا الأوثانَ ونحوَها ، تشبيهاً بالله تعالى ، وقد جعلوا غيرَ الخالقِ مثلَ الخالق ، فكان حَقُّ الإِلزامِ أن يُقال لهم : أَفَمَنْ لا يَخْلُق كَمَنْ يَخْلق؟ قلت : حين جعلوا غيرَ الله مِثْلَ اللهِ لتسميتِهم باسمِه ، والعبادةِ له ، جعلوا من جنس المخلوقات وشبيهاً بها ، فأنكر عليهم ذلك بقولِه { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } .

وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19)

قوله تعالى : { يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ } : قرأ العامَّةُ « تُسِرُّون » و « تُعْلِنون » بتاء الخطاب . وأبو جعفر بالياء مِنْ تحتُ .

وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20)

وقرأ عاصم وحده « يَدْعُون » بالياء ، والباقون بالتاء مِنْ فوقُ . وقُرِئ « يُدْعَوْن » مبنياً للمفعول . وهنَّ واضحاتٌ .

أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)

قوله تعالى : { أَمْواتٌ } : يجوز أن يكونَ خبراً ثانياً ، أي : وهم يُخْلَقُون وهم أمواتٌ . ويجوز أن يكونَ « يُخْلَقون » و « أمواتٌ » كلاهما خبراً من بابِ « هذا حُلْوٌ حامِض » ذكره أبو البقاء ، ويجوزُ أن يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ ، أي : هم أمواتٌ .
قوله : { غَيْرُ أَحْيَآءٍ } يجوزُ فيه ما تقدم ، ويكون تأكيداً . وقال أبو البقاء : « ويجوزُ أَنْ يكونَ قصد بها أنهم في الحال غيرُ أحياءٍ ليَرْفَعَ به توهُّمَ أنَّ قولَه » أمواتٌ « فيما بعد إذ قال تعالى : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } [ الزمر : 30 ] . قلت : وهذا لا يُخْرِجُه عن التأكيدِ الذي ذكره قبلَ ذلك .
قوله : { أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } » أيَّان « منصوبٌ بما بعده لا بما قبلَه لأنه استفهامٌ ، وهو مُعَلَّقٌ ل » يَشْعُرون « فجملتُه في محلِّ نصبٍ على إسقاطِ الخافضِ ، هذا هو الظاهرُ . وفي الآية قولٌ آخرُ : وهو أن » أيَّان « ظرفٌ لقولِه { إلهكم إله وَاحِدٌ } يعني أن الإِلهَ واحدٌ يومَ القيامة ، ولم يَدَّعِ أحدٌ الإِلهيةَ في ذلك اليومِ بخلاف أيَّام الدنيا ، فإنه قد وُجد فيها من ادَّعى ذلك ، وعلى هذا فقد تَمَّ الكلامُ على قوله » يَشْعُرون « ، إلا أن هذا القول مُخْرِجٌ ل » أيَّان « عن موضوعِها - وهو : إمَّا/ الشرطُ ، وإمَّا الاستفهامُ - إلى مَحْضِ الظرفيةِ بمعنى وقت ، مضافٌ للجملة بعده كقولِك : » وقتَ تَذْهَبُ عمروٌ منطلق « فوقتَ منصوبٌ بمُنْطَلِق ، مضافٌ لتذهب .

لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)

قوله تعالى : { لاَ جَرَمَ } : قد تقدَّمَ الكلامُ على هذه اللفظةِ في سورةِ هود . والعامَّةُ على فتحِ الهمزة مِنْ « انَّ اللهَ » وكَسَرَها عيسى الثقفيُّ ، وفيها وجهان ، أظهرُهما : الاستئنافُ . والثاني : جَرَيانُ « لا جَرَم » مَجْرَى القسمِ فَتُتَلَقَّى بما يُتَلَقَّى به . وقال بعضُ العرب : « لا جَرَم واللهِ لا فارَقْتُك » وهذا عندي يُضْعِفُ كونَها للقسم لتصريحه بالقسمِ بعدها ، وإن كان الشيخ أتى بذلك مُقَوِّياً لجريانِها مَجْرى القسَم .

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24)

قوله تعالى : { مَّاذَآ أَنْزَلَ } : قد تقدَّم الكلامُ على « ماذا » أولَ البقرة . وقال الزمخشري : « أو مرفوعٌ بالابتداءِ بمعنى : أيُّ شيءٍ أنزلَه ربُّكم؟ قال الشيخ : » وهذا غيرُ جائزٍ عند البصريين « . يعني مِنْ كونِه حَذَفَ عائدَه المنصوب نحو : » زيدٌ ضربتُ « وقد تقدَّم خلافُ الناس في هذا ، والصحيحُ جوازه .
والقائمُ مَقامَ فاعلِ » قيل « الجملةُ مِنْ قولِه { مَّاذَآ أَنْزَلَ } لأنها المَقُولَةُ ، والبصريون يَأْبَوْنَ ذلك ، ويجعلون القائمَ مقامَه ضميرَ المصدرِ؛ لأنَّ الجملةَ لا تكونُ فاعلةً ولا قائمةً مقامَ الفاعلِ ، والفاعلُ المحذوفُ : إمَّا المؤمنون ، وإمَّا بعضُهم ، وإمَّا المقتسِمون .
وقرئ : » أساطيرَ « بالنصب ، على تقدير : أَنْزَلَ أساطيرَ على سبيل التهكُّم ، أو ذكرتُمْ أساطيرَ ، والعامَّةُ ، برفعِه على خبر مبتدأ مضمرٍ ، أي : المنزَّلُ أساطيرٌ على سبيل التهكُّم ، أو المذكورُ أساطيرُ . وللزمخشريِّ هنا عبارةٌ فظيعةٌ يقف منها الشَّعْرُ .

لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)

قوله تعالى : { لِيَحْمِلُواْ } : في هذه اللام ثلاثةُ أوجه ، أحدها : أنها لامُ الأمرِ الجازمةُ على معنى الحَتْمِ عليهم ، والصِّغارِ الموجبِ لهم ، وعلى هذا فقد تَمَّ الكلامُ عند قولِه « الأوَّلين » ، ثم اسْتُؤْنِف أَمْرُهم بذلك . الثاني : أنها لامُ العاقبة ، أي : كان عاقبةُ قولِهم ذلك ، لأنهم لم يقولوا « أساطير » لِيَحْمِلوا ، فهو كقولِه تعالى { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] ، وقوله :
2970- لِدُوا للموتِ وابْنُوا للخرابِ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الثالث : أنَّها للتعليل ، وفيه وجهان : أحدهما : أنه تعليلٌ مجازيٌّ . قال الزمخشري : « واللامُ للتعليلِ مِنْ غيرِ أن يكونَ غرضاً نحو قولِك : خرجْتُ من البلد مخافةَ الشرِّ » . والثاني : أنه تعليلٌ حقيقةً . قال ابن عطية : - بعد حكاية وجهِ لامِ العاقبة - « ويُحتمل أن تكونَ صريحَ لامِ كي ، على معنى : قَدَّر هذا لكذا » انتهى . لكنه لم يُعَلِّقُها ب « قالوا » إنما قَدَّرَ لها علةَ « كيلا » ، وهو قَدَّر هذا ، وعلى قول الزمخشري يتعلَّقُ ب « قالوا »؛ لأنها ليست لحقيقةِ العلَّةِ . و « كاملةً » حالٌ .
قوله : { وَمِنْ أَوْزَارِ } فيه وجهان ، أحدهما : أنَّ « مِن » مزيدةٌ ، وهو قولُ الأخفش ، أي : وأوزار الذين على معنى : ومثل أوزارِ ، كقولِه : كان عليه وِزْرُها ووِزْرُ مَنْ عَمِل بها « . والثاني : أنها غيرُ مَزيدةٍ وهي للتبعيضِ ، أي : وبعض أوزارِ الذين . وقدَّر أبو البقاء مفعولاً حُذِف وهذه صفتُه ، أي : وأوزاراً مِنْ أوزارِ ، ولا بدَّ مِنْ حذف » مثل « أيضاً .
وقد منع الواحديُّ أن تكونَ » مِنْ « للتبعيض قال : » لأنه يَسْتلزِمُ تخفيفَ الأوزارِ عن الأتباع ، وهو غيرُ جائزٍ لقوله عليه السلام « من غير أن ينقصَ من أوزارهم شيءٌ » لكنها للجنس ، أي : ليحملوا من جنس أوزارِ الأتباع « . قال الشيخ : » والتي لبيانِ الجنسِ لا تتقدَّر هكذا ، إنما تتقدَّر : والأوزار التي هي أوزارُ الذين ، فهو من حيث المعنى كقول الأخفش ، وإن اختلفا في التقدير « .
قوله : { بِغَيْرِ عِلْمٍ } حالٌ ، وفي صاحبِها وجهان ، أحدُهما : أنه مفعولٌ » يُضِلُّونهم « ، أي : يُضِلُّون مَنْ لا يعلم أنهم ضُلاَّلٌ ، قاله الزمخشري . والثاني : أنه الفاعل ، ورُجِّح هذا بأنه هو المُحدَّث عنه . وقد تقدَّم الكلامُ في إعرابِ نحو » ساءَ ما يَزِرون « ، وأنها قد تجري مَجْرى بِئْس .

قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26)

قوله تعالى : { مِّنَ القواعد } : « مِنْ » لابتداءِ الغاية ، أي : من ناحيةِ القواعدِ ، أي : أتى أمرُ الله وعذابُه .
قوله : { مِن فَوْقِهِمْ } يجوز أن يتعلَّقَ ب « خَرَّ » وتكون « مِنْ » لابتداء الغاية ، ويجوز/ أَنْ يتعلق بمحذوفٍ على أنها حالٌ من « السقف » وهي حالٌ مؤكِّدة؛ إذ السقفُ لا يكون تحتهم . وقال جماعة : ليس قوله « مِنْ تحتِهم » تأكيداً؛ لأنَّ العرب تقول : « خَرَّ علينا سَقْفٌ ، ووقع علينا حائط » إذا كان يملكه وإنْ لم يَقعْ عليه ، فجاء بقوله « من فوقهم » ليُخْرج هذا الذي في كلام العرب ، أي : عليهم وَقَعَ وكانوا تحته فهلكوا . وهذا معنىً غيرُ طائلٍ ، والقولُ بالتأكيد أَنْصَعُ منه .
والعامَّةُ على « بُنْيانِهم » . وفرقة : « بِنْيَتَهُمْ » . وفرقة - منهم أبو جعفر- « بَيْتهم » . والضحاك « بُيوتهم » .
والعامَّةُ أيضاً : « السَّقْفُ » مفرداً . وفرقةٌ بفتحِ السين وضمِّ القاف بزنةِ عَضُد ، وهي لغةٌ في السَّقْف ، ولعلها مخففةٌ من المضموم ، وكَثُرَ استعمالُ الفرعِ لخفَّتِه كقول تميم : « رَجْل » ، ولا يقولون : « رَجُل » . وقرأ الأعرج « السُّقُف » بضمتين . وزيدٌ بن علي بضم السين وسكونِ القاف ، وقد تقدَّم مثلُ ذلك في قراءةِ { وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ } [ النحل : 16 ] .

ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27)

قوله تعالى : { أَيْنَ شُرَكَآئِيَ } مبتدأٌ وخبر . والعامَّة على « شركائي » ممدوداً . وسَكَّن ياءَ المتكلم فرقةٌ ، فَتُحْذَفُ وصلاً لالتقاء الساكنين . وقرأ البزي بخلافٍ عنه بقصره مفتوحَ الياء . وقد أنكر جماعةٌ هذه القراءةَ ، وزعموا أنَّها غيرُ مأخوذٍ بها ، لأنَّ قصرَ الممدودِ لا يجوز إلاَّ ضرورةً . وتعجب أبو شامةَ من أبي عمروٍ الداني حيث ذكرها في كتابه مع ضعفها ، وترك قراءاتٍ شهيرةً واضحة .
قلت : وقد رُوِي عن ابنِ كثير أيضاً قَصْرُ التي في القصص ، ورُوِي عنه أيضاً قَصْرُ « ورائي » في مريم ، ورَوى عنه قنبل أيضاً قَصْرَ { أَن رَّآهُ استغنى } [ الآية : 7 ] في العلق ، فقد رَوَى عنه قصرَ بعضِ الممدوداتِ ، فلا تَبْعُدُ روايةُ ذلك عنه هنا ، وبالجملة فَقَصْرُ الممدودِ ضعيفٌ ، ذكره غيرُ واحدٍ لكن لا يَصِلُ به إلى حَدِّ الضرورة .
قوله : « تُشَاقُّون » نافع بكسرِ النونِ خفيفةً والأصل : تُشاقُّوني ، فَحَذَفَها مجتزِئاً عنها بالكسرة ، والباقون بفتحها خفيفةً ، ومفعولُه محذوفٌ ، أي : تُشَاقُّون المؤمنين أو تشاقُّون اللهَ ، بدليلِ القراءةِ الأولى . وقد ضَعَّفَ أبو حاتمٍ هذه القراءةَ ، أعني قراءةَ نافعٍ . وقرأَتْ فرقةٌ بتشديدِها مكسورةً ، والأصل : تُشَاقُّونني فأدغم ، وقد تقدَّم تفصيلُ ذلك في { أتحاجواني } [ الأنعام : 80 ] { فَبِمَ تُبَشِّرُونَ } [ الحجر : 54 ] وسيأتي في قولِه تعالى { قُلْ أَفَغَيْرَ الله تأمروني } [ الزمر : 64 ] .
قوله : « اليومَ » منصوب بالخِزْي ، وعَمِل المصدرُ وفيه أل . وقيل : هو منصوبٌ بالاستقرار في « على الكافرين » إلا أنَّ فيه فَصْلاً بالمعطوفِ بين العاملِ ومعمولِه ، واغتُفِر ذلك لأنهم يَتَّسِعُون في الظروفِ .

الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)

قوله تعالى : { الذين تَتَوَفَّاهُمُ } : يجوز أن يكونَ الموصولُ مجرورَ المحلِّ نعتاً لِما قبله ، أو بدلاً منه ، أبو بياناً له ، وأن يكونَ منصوباً على الذمِّ ، أو مرفوعاً عليه ، أو مرفوعاً عليه ، أو مرفوعاً بالابتداء ، والخبرُ قولُه { فَأَلْقَوُاْ السلم } والفاءُ مزيدةٌ في الخبر ، قاله ابن عطية ، وهذا لا يجيْءُ إلاَّ على رأي الأخفش في إجازته زيادةَ الفاء في الخبر مطلقاً ، نحو : « زيد فقام » ، أي : قام . ولا يُتَوَهَّم أن هذه الفاءَ هي التي تدخل مع الموصولِ المتضمِّنِ معنى الشرط؛ لأنه لو صُرِّح بهذا الفعلِ مع أداةِ الشرط لم يَجُزْ دخولُ الفاء عليه ، فما ضُمِّن معناه أَوْلَى بالمنع ، كذا قاله الشيخ ، وهو ظاهر . وعلى الأقوالِ المتقدمةِ خلا القول الأخيرِ يكون « الذين » وصلتُه داخلاً في المَقُول ، وعلى القولِ الأخيرِ لا يكنُ داخلاً فيه .
وقرأ « يَتَوَفَّاهُمْ » في الموضعين بالياء حمزة ، والباقون بالتاء مِنْ فوق ، وهما واضحتان ممَّا تقدَّم في قوله { فَنَادَتْهُ الملائكة } [ آل عمران : 39 ] « فناداه » . وقرأت فرقةٌ بإدغام إحدى التاءين في الأخرى ، في مصحفِ عبد الله « تَوَفَّاهم » بتاءٍ واحدة ، وهي مُحْتَمِلةٌ للقراءةِ بالتشديد على الإِدغام ، وبالتخفيفِ على حَذْفِ إحدى التاءَيْن .
و { ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ } حالٌ مِنْ مفعولِ « تَتَوَفَّاهم » و « تَتَوَفَّاهم » يجوز أن يكونَ مستقبلاً على بابه إن كان القولُ واقعاً في الدنيا ، وأن يكونَ ماضياً على حكاية الحال إن كان واقعاً يوم القيامة .
قوله : « فَأَلْقَوا » يجوز فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه خبر الموصول وقد تقدَّم فسادُه . الثاني : أنه عطفٌ على { قَالَ الذين } . الثالث : أن يكونَ مستأنفاً ، والكلامُ قم تَمَّ عند قولِه « أنفسِهم » ، ثم عاد بقولِه « فألْقَوا » إلى حكاية كلام المشركين يومَ القيامة ، فعلى هذا يكون قولُه { قَالَ الذين أُوتُواْ العلم } إلى قوله « أنفسهم » جملةَ اعتراض . الرابع : أن يكونَ معطوفاً على « تَتَوفَّاهم » قاله أبو البقاء ، وهذا إنما يتمشَّى على أنَّ « تَتَوفَّاهم » بمعنى المُضِيِّ ، ولذلك لم يذكرْ أبو البقاء في « تَتَوفَّاهم » سواه .
قوله : { مَا كُنَّا نَعْمَلُ } فيه أوجه ، أحدها : أن يكون تفسيراً للسَّلَم الذي أَلْقَوه؛ لأنه بمعنى القول بدليلِ الآيةِ الأخرى : { فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول } [ النحل : 86 ] ، قاله أبو البقاء ، ولو قال : « يحكي ما هو بمعنى القول » كان أوفقَ لمذهب الكوفيين . الثاني : أن يكونَ « ما كنَّا » منصوباً بقولٍ مضمرٍ ، ذلك الفعلُ منصوب على الحال ، أي : فألقَوا السَّلَم قائلين ذلك . / و { مِن سواء } مفعول « نعمل » ، زِيْدَتْ فيه « مِنْ » ، و « بلى » جوابٌ ل « ما كنَّا » فهو إيجابٌ له .

فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)

قوله تعالى : { فَلَبِئْسَ } هذه لامُ التأكيدِ ، وإنما دخَلَتْ على الماضي لجمودِه وقُرْبِه من الأسماء . والمخصوص بالذمِّ محذوفٌ . أي : جهنم .

وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30)

قوله تعالى : { خَيْراً } : خيراً : العامَّةُ على نَصْبِه ، أي : أَنْزل خيراً . قال الزمخشري : « فإن قلتَ : لِمَ قلتَ : لِمَ رَفَعَ الأولَ ونَصَبَ هذا؟ قلت : فصلاً بين جواب المُقِرِّ وجوابِ الجاحد » . يعني أن هؤلاء لمَّا سُئِلوا لم يَتَلَعْثموا ، وأطبقوا الجوابَ على السؤال بَيِّنا مكشوفاً مفعولاً للإِنزال فقالوا : خيراً ، وأولئك عَدَلوا بالجواب عن السؤال فقالوا : هو أساطيرُ الأولين ، وليس هو من الإِنزال في شيء .
وزيدُ بن علي : « خيرٌ » بالرفع ، أي : المُنْزَل خيرٌ ، وهي مؤيدةٌ لجَعْلِ « ذا » موصولةً ، وهو الأحسنُ لمطابقة الجوابِ لسؤاله ، وإن كان العكسُ جائزاً ، وقد تقدَّم تحقيقُه في البقرة .
قوله : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ } هذه الجملةُ يجوز فيها أوجهٌ ، أحدها : أن تكونَ منقطعةً مِمَّا قبلها ، إخبارَ استئنافٍ بذلك . الثاني : أنها بدلٌ مِنْ « خيراً » . قال الزمخشري : « هو بدل من » خيراً « حكايةً لقول الذين اتَّقَوْا ، أي : قالوا هذا القولَ فقدَّم تسميتَه خيراً ثم حكاه » . الثالث : أن هذه الجملةَ تفسيرٌ لقوله : « خيراً »؛ وذلك أن الخيرَ هو الوحيُ الذي أَنْزل الله فيه : مَنْ أَحْسَنَ في الدنيا بالطاعة حسنةٌ في الدنيا وحسنةٌ في الآخرة .
وقوله : { فِي هذه الدنيا } الظاهرُ تعلُّقه ب « أَحْسَنوا » ، أي : أَوْقَعوا الحسنةَ في دار الدنيا . ويجوز أن يكونَ متعلقاً بمحذوفٍ على أنه حال مِنْ « حَسَنَة » إذ لو تأخَّر لكان صفةً لها ، ويَضْعُفُ تعلُّقه بها نفسِها لتقدُّمِه عليها .

جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31)

قوله تعالى : { جَنَّاتُ عَدْنٍ } : يجوز أن يكونَ هو المخصوصَ بالمدح فيجيءُ فيها ثلاثةُ الأوجهِ : رفعُها بالابتداء ، والجملةُ المتقدمة خبرُها ، أو رفعُها خبرَ المبتدأ المضمر ، أو رفعُها بالابتداءِ والخبرُ محذوفٌ ، وهو أضعفُها ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك . ويجوز أن يكونَ { جَنَّاتُ عَدْنٍ } خبرَ مبتدأ مضمرٍ لا على ما تقدَّم ، بل يكونُ المخصوصُ محذوفاً ، تقديرُه : ولَنِعْمَ دارُ المتقين دارُهم هي جنات . وقَدَّره الزمخشريُّ « ولَنِعْمَ دارُ المتقين دارُ الآخرة » . ويجوز أن يكونَ مبتدأً . والخبرُ الجملةُ مِنْ قوله : « يَدْخلونها » ، ويجوز أن يكونَ الخبرُ مضمراً تقديره : لهم جناتُ عدن ، ودلَّ على ذلك قولُه { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ } .
والعامَّة على رفع « جناتُ » على ما تقدَّم . وقرأ زيد بن ثابت والسُّلَمي « جناتِ » نصباً على الاشتغال بفعل مضمر تقديره : يَدْخلون جناتِ عدن يَدْخُلونها ، وهذه تُقَوِّي أن يكونَ « جنات » مبتدأً ، و « يَدْخلونها » الخبرَ في قراءةِ العامَّة .
وقرأ زيد بن علي « ولَنِعْمَةُ دارِ » بتاءِ التأنيثِ مرفوعةٌ بالابتداء ، و « دارِ » خفضٌ بالإِضافة ، و « جَنَّاتُ عَدْنٍ » الخبر . و « يَدْخُلونها » في جميعِ ذلك نصبٌ على الحال ، إلاّ إذا جَعَلْناه خبراً ل { جَنَّاتُ عَدْنٍ } .
وقرأ نافع في روايةٍ « يُدْخَلُونها » بالياءِ مِنْ تحتُ مبنياً للمفعول ، وأبو عبد الرحمن « تَدْخُلونها » بتاء الخطاب مبنياً للفاعل .
قوله : « تَجْري » يجوز أن يكونَ منصوباً على الحالِ مِنْ « جنات » قاله ابن عطية ، وأن يكونَ في موضعِ الصفةِ ل « جنات » قاله الحوفي ، والوجهان مبنيَّان على القولِ في « عَدْن » : هل هو معرفةٌ لكونِه علماً ، أو نكرةً ، فقائلُ الحالِ لَحَظ الأولَ ، وقائلُ النعتِ لحظَ الثاني .
قوله : { لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤونَ } الكلامُ في هذه الجملةِ كالكلامِ في الجملة قبلَها ، والخبرُ : إمَّا « لهم » و إمَّا « فيها » .
قوله : « كذلك » الكافُ في محلِّ نصب على الحال من ضمير المصدرِ ، أو نهتٌ لمصدرٍ مقدرٍ ، أو في محلِّ رفعٍ خبراً لمبتدأ مضمر ، أي : الأمرُ كذلك . و { يَجْزِي الله المتقين } مستأنَفٌ .

الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)

و {
1649;لَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ } يَحْتمل ما ذكرناه فيما تقدَّم ، إذا جَعَلْنا « يقولون » خبراً فلا بُدَّ مِنْ عائدٍ محذوفٍ ، أي : يقولون لهم ، وإذا لم نَجْعَلْه خبراً كان حالاً من « الملائكة » / فيكون « طيبين » حالاً مِنَ المفعولِ ، و « يقولون » حالاً مِن الفاعل . وهي يجوز أن تكونَ حالاً مقارِنَةً إن كان القولُ واقعاً في الدنيا ، ومقدَّرةً إنْ كان واقعاً في الآخرة .
و « ما » في « بما » مصدريةً ، أو بمعنى الذي ، والعائدُ محذوفٌ .

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33)

وقوله تعالى : { إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الملائكة } : وقد تقدَّم في آخرِ الأنعام أن الأَخَوَيْنِ يَقْرآن بالياء مِنْ تحتُ ، والباقين يقرؤون بالتاءِ من فوقُ ، وهما واضحتان لكونِه تأنيثاً مجازياً .

فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34)

وقوله تعالى : { فَأَصَابَهُمْ } : عطفٌ على { فَعَلَ الذين } وما بينهما اعتراضٌ .

وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)

قوله تعالى : { أَنِ اعبدوا الله } : يجوز في « أَنْ » أَنْ تكونَ تفسيريةً؛ لأن البَعْثَ يتضمَّن قولاً ، وأن تكونَ مصدريةً ، أي : بَعَثْناه بَأَنِ اعْبُدُوا .
قوله : { مَّنْ هَدَى } و { مَّنْ حَقَّتْ } يجوزُ أنْ تكونَ موصولةً ، وأن تكون نكرةً موصوفةً ، والعائدُ على كلا التقديرينِ محذوفٌ من الأولِ .

إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)

وقرأ العامَّةُ { إِن تَحْرِصْ } : بكسرِ الراءِ مضارعَ « حَرَص » بفتحِها ، وهي اللغةُ العاليةُ لغةُ الحجاز . والحسن وأبو حَيْوة « تَحْرَصُ » بفتح الراء مضارعَ « حَرِص » بكسرِها ، وهي لغةُ لبعضِهم ، وكذلك النخعي ، إلا أنه زاد واواً قبل « إنْ » فقرأ { وَإنْ تَحْرَصْ } .
قوله : { لاَ يَهْدِي } قرأ الكوفيون « يَهْدِي » بفتح الياءِ وكسرِ الدالِ ، وهذه القراءةُ تحتمل وجهين ، أحدُهما : أن يكون الفاعلُ ضميراً عائداً على الله ، أي : لا يَهْدِي اللهُ مَنْ يُضِلُّه ، ف « مَنْ » مفعولُ « يَهْدِي » ويؤيده قراءةُ أُبَيّ « فإنَّ اللهَ لا هاديَ لِمَنْ يُضِلُّ ، ولِمَنْ أضلَّ » ، وأنه في معنى قولِه : { مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ } [ الأعراف : 186 ] .
والثاني : أن يكونَ الموصول هو الفاعلَ ، أي : لا يَهْدِيْ المُضِلَّون ، و « يَهْدِي » يجيءُ في معنى يهتدي . يقال : هداه فَهَدَى ، أي : اهتدى . ويؤيد هذا الوجهَ قراءةُُ عبدِ الله « يَهْدِي » بتشديدِ الدالِ المكسورةِ ، فَأَدْغم . ونقل بعضُهم في هذه القراءةِ كسرَ الهاءِ على الإِتباع ، وتحقيقُه تقدَّمَ في يونس . والعائدُ على « مَنْ » محذوفٌ : { مَن يُضِلُّ } ، أي : الذي يُضِلُّه اللهُ .
والباقون : « لا يُهْدَى » بضمِّ الياءِ وفتحِ الدالِ مبنياً للمفعول ، و « مَنْ » قائمٌ مَقامَ فاعِله ، وعائدُه محذوفٌ أيضاً .
وجَوَّز أبو البقاء في « مَنْ » أن يكونَ مبتدأً و « لا يَهْدِي » خبره ، يعني : مقدَّمٌ عليه . وهذا خطأٌ؛ لأنه متى كان الخبرُ فعلاً رافعاً لضميرٍ مستترٍ وجب تأخُّرُه نحو : « زيدٌ لا يَضْرِبُ » ، ولو قَدَّمْتَ لالتبس بالفاعل .
وقُرِئ « لا يُهْدِيْ » بضمِّ الياءِ وكسرِ الدالِ . قال ابن عطية : « وهي ضعيفةٌ » قال الشيخ : « وإذا ثَبَتَ أنَّ » هَدَى « لازمٌ بمعنى اهتدى لم تكنْ ضعيفةً؛ لأنه أدخل همزةَ التعديةِ على اللازم ، فالمعنى : لا يُجْعَلُ مهتدياً مَنْ أضلَّه اللهُ » .
وقوله : « ومالهم » حُمِلَ على معنى « مَنْ » ، فلذلك جُمِعَ .
وقُرِئ « مَنْ يَضِلُّ » بفتحِ الياءِ مِنْ « ضَلَّ » ، أي : لا يَهْدي مَنْ ضَلَّ بنفسِه .

وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38)

قوله تعالى : { وَأَقْسَمُواْ } : ظاهرُه أنه استئنافٌ خبرٍ ، وجعله الزمخشريُّ نَسَقاً على « وقال الذين أشركوا » إيذانٌ بانهما كَفْرتان عظيمتان . قوله : { وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً } هذان منصوبان على المصدرِ المؤكَّد ، أي : وَعَدَ ذلك ، وحَقَّ حقاً . وقيل : « حقاً » نعتٌ ل « وَعْد » والتقدير : بلى يَبْعثهم وَعَدَ بذلك . وقرأ الضحاك : { وَعْدٌ عَلَيْهِ حَقٌّ } برفعِهما على أنَّ وَعْداً خبرُ مبتدأ مضمرٍ ، أي : بلى بَعْثُهم وَعْدٌ على الله ، و « حَقٌّ » : نعتٌ ل « وعدٌ » .

لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39)

قوله تعالى : { لِيُبَيِّنَ } : هذه اللامُ متعلقةٌ بالفعلِ المقدَّرِ بعد حرفِ الإِيجاب ، أي : بلى يَبْعثهم لِيُبَيِّنَ .

إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)

وقوله تعالى : { كُنْ فَيَكُونُ } قد تقدَّم ذلك في البقرة . واللامُ في « لِشيءٍ » وفي « له » لامُ التبليغِ كهي في : « قلت له قم » . وجعلها الزجاج للسببِ فيهما ، أي : لأجل شيءٍ ، أَنْ نقولَ لأجلهِ ، وليس بواضح . وقال ابن عطية : « وقوله تعالى { أَن نَّقُولَ } يُنَزَّلُ مَنْزِلةَ المصدرِ ، كأنه قال : قولُنا ، ولكنَّ » أنْ « مع الفعلِ تعطي استقبالاً ليس في المصدر في أغلبِ أَمْرِها ، وقد تجيءُ في مواضعَ لا يُلْحَظُ فيها الزمنُ كهذه الآيةِ ، وكقولِهِ : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السمآء والأرض بِأَمْرِهِ } [ الروم : 25 ] إلى غيرِ ذلك .
قال الشيخ : » وقوله : في أغلبِ أمرِها « ليس بجيدٍ بل تَدُلُّ على المستقبل في جميع أمورِها ، وقوله » وقد تجيءُ إلى آخره « لم يُفْهَمْ ذلك مِنْ » أنْ « ، إنما فُهِمَ من نسبةِ قيامِ السماءِ والأرض بأمرِ الله لأنه لا يختصُّ بالمستقبلِ دونَ الماضي في حَقِّه تعالى ، ونظيرُه : { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } و » كان « تدل على اقترانِ مضمونِ الجملةِ بالزمنِ الماضي ، وهو تعالى/ متصفٌ بذلك في كلِّ زمن .

وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)

قوله تعالى : { حَسَنَةً } فيها أوجهٌ ، أحدُها : أنها نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ ، أي : تَبْوِئَةً حسنةً . والثاني : أنها منصوبةٌ على المصدر الملاقي لعامِله في المعنى؛ لأنَّ معنى « لَنُبَوِّئَنَّهم » : لَنُحْسِنَنَّ إليهم . الثالث : أنها مفعولٌ ثانٍ لأنَّ الفعلَ قبلها مضمِّنٌ معنى : « لَنُعْطِيَنَّهم . و » حسنة « صفةً لموصوفٍ محذوفٍ ، أي : داراً حسنة ، وفي تفسيرِ الحسن : داراً حسنة ، وهي المدينةُ . وقيل : تقديره : منزلةً حسنةً وهي الغَلَبَةُ على أهلِ المشرقِ والمغربِ وقيل : » حسنة « بنفسها هي المفعولُ من غيرِ حَذْفِ موصوفٍ .
وقرأ أميرُ المؤمنين وابنُ مسعود ونعيم بن ميسرة : » لَنُثْوِيَنَّهُمْ « بالثاء المثلثة والياء ، مضارع أَثْوَى المنقولِ بهمزةِ التعديةِ مِنْ ثَوَى بمعنى أقام ، وسيأتي أنه قُرئ بذلك في السبع في العنكبوت ، و » حسنةً « على ما تقدَّم . ونزيد أنه يجوز أن يكونَ على نَزْع الخافضِ ، أي : في حسنة .
والموصولُ مبتدأٌ ، والجملةُ مِنَ القسمِ المحذوفِ وجوابِه خبرُه ، وفيه رَدٌّ على ثعلب حيث مَنَعَ وقوعَ جملةِ القسم خبراً . وجَوَّز أبو البقاء في » الذين « النصبَ على الاشتغال بفعلٍ مضمرٍ ، أي : لَنُبَوِّئَنَّ الذين . ورَدَّه الشيخُ : بأنه لا يجوز أن يُفَسِّر عاملاً إلا ما جاز أَنْ يعملَ ، وأنت لو قلت : » زيداً لأضْرِبَنَّ « لم يَجُزْ ، فكذا لا يجوزُ » زيداً لأضربنَّه « .
وقوله : { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } يجوز أن يعودَ الضميرُ على الكفار ، أي : لو كانوا يَعْلمون ذلك لرجَعوا مسلمين ، أو على المؤمنين ، أي : لاجتهدوا في الهجرةِ والإِحسانِ ، كما فعل غيرُهم .

الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)

قوله تعالى : { الذين صَبَرُواْ } : مَحَلَّه رفعٌ على « هم » أو نصبٌ على « أمدحُ » ، ويجوز أن يكونَ تابعاً للموصولِ قبله نعتاً أو بدلاً أو بياناً فمحلُّه محلُّه .

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)

قوله تعالى : { نوحي إِلَيْهِمْ } : قد تقدَّم في آخر يوسف . وقرأت فرقةٌ « يُوحي » ، أي : الله .

بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)

قوله تعالى : { بالبينات } : فيه ثمانيةُ أوجه ، أحدُها : أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل « رِجالاً » فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، أي : رجالاً ملتبسين بالبينات ، أي : مُصاحبين لها . وهو وجهٌ حسنٌ ذكره الزمخشري لا محذورَ فيه . الثاني : أنه متعلقٌ ب « أَرْسَلْنا » ذكره الحوفيِّ والزمخشريُّ وغيرُهما ، وبه بدأ الزمخشريُّ قال : يتعلَّق ب « أَرسَلْنا » داخلاً تحت حكمِ الاستثناءِ مع « رجالاً » ، أي : وما أرسَلْنا إلا رجالاً بالبينات كقولِك : « وما ضربْتُ إلا زيداً بالسَّوْطِ »؛ لأنَّ أصلَه : ضربْتُ زيداً بالسَّوْط « . وضعَّفه أبو البقاء بأنَّ ما قبلَ » إلاَّ « لا يعمل فيما بعدهم إذا تَمَّ الكلامُ على » إلا « وما يليها . قال : » وإلا أنه قد جاء في الشِّعر :
2971- نُبِّئْتُهُمْ عَذَّبوا بالنارِ جارتَهمْ ... ولا يُعَذِّبَ إلا الله بالنارِ
قال الشيخ : وما أجازه الحوفيُّ والزمشخريُّ لا يُجيزه البصريون ، إذ لا يُجيزون أن يقع بعد « إلا » إلا مستثنى أو مستثنى منه أو تابعٌ لذلك ، وما ظُنَّ بخلافه قُدِّر له عاملٌ . وأجاز الكسائيُّ أن يليَها معمولُ ما قبلها مرفوعاً ومنصوباً ومخفوضاً ، نحو : ما ضَرَب إلا عمراً زيدٌ ، وما ضَرَب إلا زيدٌ عمراً وما مرَّ إلا زيدٌ بعمروٍ ، ووافقه ابنُ الأنباريِّ في المرفوع ، والأخفش في الظرف وعديله ، فما لاقاه يتمشَّى على قولِ الكسائي والأخفش « .
الثالث : أنه يتعلَّقَ بأَرْسَلْنا أيضاً ، إلا أنه نيةِ التقديمِ قبل أداةِ الاستثناءِ تقديرُه : وما أرسلْنا مِنْ قبلك بالبيناتِ والزبر إلا رجالاً ، حتى لا يكونَ ما بعد » إلا « معمولَيْنِ متأخِّرَيْنِ لفظاً ورتبةً داخلَيْنِ تحت الحصرِ لِما قبل » إلا « ، حكاه ابنُ عطية .
الرابع : أنَّه متعلقٌ ب » نُوحِي « كما تقول : » أُوْحي إليه بحق « ، ذكره الزمخشري وأبو البقاء . الخامس : أن الباءَ مزيدةٌ في » « بالبيِّنات » وعلى هذا فيكون « بالبيِّنات » هو القائمَ مَقامَ الفاعل لأنها هي المُوْحاة . السادس : أن الجارِّ متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنَ القائمِ مَقامَ الفاعل ، وهو « إليهم » ذكرهما أبو البقاء ، وهما ضعيفان جداً معنىً وصناعةً .
السابع : أَنْ يتعلَّق ب « لا تعلمون » على أنَّ الشرطَ/ في معنى التبكيتِ والإِلزام ، كقولِ الأجير : « إن كنتُ عَمِلْتُ لك فَأَعْطِني حقي » . قال الزمخشري : « وقوله : » فاسْألوا أهلَ « اعتراضٌ على الوجوه المتقدِّمة » ويعني بقوله « فاسألوا » الجزاءَ وشرطَه ، وأمَّا على الوجهِ الأخير فعدَمُ الاعتراضِ واضحٌ .
الثامن : أنه متعلقٌ بمحذوفٍ جواباً لسؤالٍ مقدر ، كأنه قيل : بم أُرْسِلوا؟ فقيل : أُرْسِلوا بالبينات والزُّبُر . كذا قدَّره الزمخشري ، وهو أحسنُ مِنْ تقديرِ أبي البقاء : « بُعِثوا » ، لموافقتِه للدالِّ عليه لفظاً ومعنىً .

أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45)

قوله تعالى : { السيئات } : فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنها نعتٌ لمصدرٍ محذوف ، أي : المَكَرات السيئات ، ولم يذكر الزمخشريُّ غيرَه . الثاني : أنه مفعولٌ به على تضمين « مَكَروا » عَمِلُوا وفعلوا ، وعلى هذين الوجهين فقولُه : { أَن يَخْسِفَ الله } مفعول ب « أَمِنَ » . الثالث : أنه منصوبٌ ب « أَمِنَ » ، أي : أَمِنُوا العقوباتِ السيئات ، وعلى هذا فقولُه { أَن يَخْسِفَ الله } بدلٌ من « السيئات » .

أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)

قوله تعالى : { على تَخَوُّفٍ } : متعلقٌ بمحذوفٍ ، فإنه حالٌ إمَّا مِنْ فاعلِ « يأخذهم » ، وإمَّا مِنْ مفعوله ، ذكرهما أبو البقاء . والظَاهِرُ كونُه حالاً من المفعولِ دونَ الفاعل .
والتخوُّفُ : التنقُّص . حكى الزمخشري أن عمر بن الخطاب سألهم على المِنْبر عنها فسكتوا ، فقام شيخ من هذيل فقال : هذه لغتنا : التخوُّفُ : التنقُّصُ قال : فهل تعرف [ العربُ ] ذلك في أشعارِها؟ قال : نعم . قال شاعرُنا وأنشد :
2972- تَخَوَّف الرَّحْلُ منها تامِكاً قَرِداً ... كما تَخَوَّفَ النَّبْعَةِ السَّفَنُ
فقال عمر : « أيها الناسُ ، عليكم بديوانِكم لا يَضِلُّ » . قالوا : وما ديواننا؟ قال : « شعرُ الجاهلية ، فإنِّ فيه تفسيرَ كتابكم » .
قلت : وكان الزمخشريُّ نَسَبَ البيتَ قبل ذلك لزهيرٍ ، وكأنه سهوٌ ، فإنَّه لأبي كبير الهذلي ، ويؤيد ذلك قول الرجل : « قال شاعرنا » ، وكان هُذَلِيَّاً كما حكاه هو . وقيل : التخوُّفُ : الخوفُ .

أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48)

قوله تعالى : { أَوَ لَمَْ } : قرأ الأخَوان « تَرَوْا » بالخطاب جَرْياً على قولِه { فَإِنَّ رَبَّكُمْ } ، والباقون بالياءِ جَرْياً على قوله : { أَفَأَمِنَ الذين مَكَرُواْ } . وأمَّا قولُه : { أَلَمْ يَرَوْاْ إلى الطير } [ النحل : 79 ] فقرأه حمزةُ أيضاً بالخطاب ، ووافقه ابنُ عامر فيه ، فحصل من مجموعِ الآيتين أنَّ حمزةَ بالخطاب فيهما ، والكسائيَّ بالخطابِ في الأول والغَيْبة في الثاني ، وابنَ عامر بالعكس ، والباقون بالغيبة فيهما .
فأمَّا توجيهُ الأولى فقد تقدَّم ، وأمَّا الخطابُ في الثانية فَجَرْياً على قوله { والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } [ النحل : 78 ] . وأمَّا الغيبةُ فَجَرْياً على قوله { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } [ النحل : 73 ] . وأمَّا تفرقَةُ الكسائيِّ وابنِ عامرٍ بين الموضعين فجمعاً بين الاعتبارين وأنَّ كلاً منهما صحيحٌ .
قوله : { مِن شَيْءٍ } هذا بيانٌ لِما في قوله : { مَا خَلَقَ الله } فإنها موصولةٌ بمعنى الذي . فإن قلتَ : كيف يُبَيِّنُ الموصولُ -وهو مبهمٌ- ب « شيء » وهو مبهمٌ ، بل أَبْهَمُ ممَّا قبله؟ فالجواب أنَّ شيئاً قد اتضح وظهر بوصفِه بالجملة بعدَه ، وهي { يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ } .
قال الزمخشري : « وما موصولة ب { خَلَقَ الله } وهو مبهمٌ ، بيانُه { مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ } . وقال ابن عطية : » وقولُه { مِن شَيْءٍ } لفظٌ عامٌّ في كل ما اقتضَتْه الصفةُ مِنْ قوله { يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ } فظاهر هاتين العبارتين أنَّ جملةَ { يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ } صفة لشيء ، وأمَّا غيرُهما فإنه قد صَرَّح بعدمِ كونِ الجملةِ صفةً فإنه قال : « والمعنى : من شيءٍ له ظِلٌ من جبلٍ وشجرٍ وبناءٍ وجسمٍ قائمٍ . وقوله : { يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ } إخبارٌ عن قوله { مِن شَيْءٍ } ليس بوصفٍ له ، وهذا الإِخبارُ يَدُلُّ على ذلك الوصفِ المحذوفِ الذي تقديرُه : هو له ظلٌّ » وفيه تكلُّفٌ لا حاجةَ له ، والصفةُ أبينُ . و { مِن شَيْءٍ } في محلِّ نصبٍ على الحال من الموصولِ ، أو متعلقٌ بمحذوفٍ على جهةِ البيان ، أي : أَعْني مِنْ شيء .
والتفيُّؤُ : تَفَعَّل مِنْ فاء يَفِيْءُ ، أي : رَجَع ، و « فاء » قاصرٌ ، فإذا أُريد تعديتُه عُدِّي بالهمزة كقوله تعالى : { مَّآ أَفَآءَ/ الله على رَسُولِهِ } [ الحشر : 7 ] أو بالتضعيف نحو : فَيَّأ اللهُ الظلَّ فَتَفَيَّأ . وَتَفَيَّأ مطاوِعٌ فهو لازمٌ . ووقع في شعر أبي تمام متعدياً في قوله :
2973- طَلَبَتْ ربيعَ ربيعةَ المُمْرَى لها ... وتفيَّأَتْ ظلالَه مَمْدودا
واخْتُلِفَ في الفَيْءِ فقيل : هو مُطْلَقُ الظِّلِّ سواءً كان قبل الزَّوالِ أو بعده ، وهو الموافِقُ لمعنى الآيةِ ههنا . وقيل : « ما كان [ قبل ] الزوال فهو ظلٌّ فقط ، وما كان بعده فهو ظِلٌّ وفَيْءٌ » ، فالظلُّ أعمُّ ، يُرْوَى ذلك عن رؤبَة ابن العجاج . وقيل : بل يختصُّ الظِّلُّ بما قبل الزوالِ والفَيْءُ بما بعده . قال الأزهري : « تَفَيَّؤُ الظلالِ رجوعُها بعد انتصافِ النهارِ ، فالتفيُّؤُ لا يكون إلا بالعَشِيّ ، وما انصرفَتْ عنه الشمسُ ، والظلُّ ما يكون بالغداة ، وهو ما لم تَنَلْهُ [ الشمس ] قال الشاعر :

2975- فلا الظِلُّ مِنْ بَرْدِ الضُّحى تَسْتطيعُه ... ولا الفيْءُ من بَرْدِ العَشِيِّ تَذُوْقُ
وقال امرؤُ القيس أيضاً :
2975- تَيَمَّمَتِ العينَ التي عند ضارِجٍ ... يَفِيْءُ عليها الظِّلُّ عَرْمَضُها طامِ
وقد خطَّأ ابن قتيبة الناسَ في إطلاقهم الفَيْءَ على ما قبلَ الزَّوال ، وقال : إنما يُطْلَقُ على ما بعده ، واستدلَّ بالاشتقاق ، فإن الفيْءَ هو الرجوعُ وهو متحققٌ ما بعد الزوال ، فإنَّ الظلَّ يَرْجِعُ إلى جهةِ المشرق بعد الزوال بعدما نَسَخَتْه الشمسُ قبل الزَّوال .
وقرأ أبو عمرو « تَتَفَيَّأ » بالتاءِ مِنْ فوقُ مراعاةٍ لتأنيث الجمع ، وبها قرأ يعقوب ، والباقون بالياء لأنه تأنيثٌ مجازي .
وقرأ العامَّة « ظلالُه » جمع ظِلّ ، وعيسى بن عمر « ظُلَلُهُ » جمع « ظُلَّة » كغُرْفَة وغُرَف . قال صاحب « اللوامح » في قراءة عيسى « ظُلَلُهُ » : « والظُلَّة : الغَيْمُ ، وهو جسمٌ ، وبالكسرِ الفَيْءُ وهو عَرَضٌ ، فرأى عيسى أنَّ التفيُّؤُ الذي هو الرجوعُ بالأجسام أَوْلَى منه بالأَعْرَاضِ ، وأمَّا في العامَّة فعلى الاستعارة » .
قوله : « عن اليمين » فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنها تتعلَّقُ ب « يتفيَّأ » ، ومعناها المجاوزةُ ، أي : تتجاوز الظلالُ عن اليمينِ إلى الشِّمائل . الثاني : أنها متعلقةٌ بمحذوفٍ على أنها حالٌ من « ظلالُه » . الثالث : أنها اسمٌ بمعنى جانب ، فعلى هذا تَنْتَصِبُ على الظرف .
وقوله : { عَنِ اليمين والشمآئل } فيه سؤالان ، أحدهما : ما المراد باليمين والشَّمائل؟ والثاني : كيف أفرد الأولَ وجوع الثاني؟ وأُجيب عن الأول بأجوبةٍ ، أحدُها : أنَّ اليمينَ يمينُ الفَلَك وهو المشرقُ ، والشَّمائلُ شمالُه وهي المغرب ، وخُصَّ هذان الجانبان لأنَّ أقوى الإِنسانِ جانباه وهما يمينُه وشماله ، وجعل المشرقَ يميناً؛ لأن منه تظهر حركةُ الفَلَكِ اليومية .
الثاني : البلدةُ التي عَرْضُها أقلُّ مِنْ مَيْل الشمس تكون الشمس صيفاً عن يمينِ البلدِ فيقع الظلُّ عن يمينهم .
الثالث : أنَّ المنصوبَ للعِبْرة : كلُّ جِرْمٍ له ظِلٌّ كالجبل والشجر ، والذي يترتَّبُ فيه الأيْمان والشَّمائل إنما هو البشرُ فقط ، لكنَّ ذِكْرَ الأَيْمانِ والشَّمائلِ هنا على سبيل الاستعارة .
الرابع : قال الزمخشري : « أو لم يَرَوْا إلى ما خَلَقَ اللهُ من الأَجْرامِ التي لها ظلالٌ متفيِّئَةٌ عن أَيْمانِها وشَمائِلها عن جانبي كل واحدٍ منها وشِقَّيْه استعارةً من يمين الإِنسان وشمائله لجانبي الشيءِ ، أي : تَرْجِعُ من جانبٍ إلى جانب » . وهذا قريبٌ ممَّا قبله .
وأُجِيْب عن الثاني بأجوبةٍ ، أحدُها : أن الابتداءَ يقع من اليمين وهو شيءٌ واحدٌ ، فلذلك وَحَّد اليمينَ ثم يَنْتَقِصُ شيئاً فشيئاً ، حالاً بعد حال/ فهو بمعنى الجمعِ ، فَصَدَق على كلِّ حالٍ لفظةُ « الشمال » ، فَتَعَدَّدَ بتعدُّدِ الحالات . وإلى قريبٍ منه نحا أبو البقاء .
والثاني : قال الزمخشري : « واليمين بمعنى الأَيْمان » يعني أنه مفردٌ قائمٌ مقامَ الجمع ، وحينئذٍ فهما في المعنى جمعان كقوله

{ وَيُوَلُّونَ الدبر } [ القمر : 45 ] ، أي : الأدبار .
الثالث : قال الفراء : « كأنه إذا وَحَّد ذَهَبَ إلى واحدٍ من ذواتِ الظلال ، وإذا جَمَع ذَهَب إلى كلِّها ، لأنَّ قولَه { مَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ } لفظُه واحدٌ ومعناه الجمعُ ، فعبَّر عن أحدِهما بلفظِ الواحدِ كقوله تعالى : { وَجَعَلَ الظلمات والنور } [ الأنعام : 1 ] وقوله : { خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ } [ البقرة : 7 ] .
الرابع : أنَّا إذا فَسَّرْنا اليمينَ بالمشرقِ كانت النقطةُ التي هي مَشْرِقُ الشمسِ واحدةً بعينها ، فكانت اليمينُ واحدةً ، وأمَّا الشمائلُ فهي عباراتٌ عن الانحرافاتِ الواقعةِ في تلك الظلال بعد وقوعِها على الأرضِ وهي كثيرةٌ ، فلذلك عَبَّر عنها بصيغةِ الجمع .
الخامس : قال الكرماني : » يُحتمل أَنْ يُراد بالشمائل الشِمالُ والخَلْفُ والقُدَّامُ؛ لأنَّ الظِّلَّ يفيءُ من الجهاتِ كلِّها ، فبُدِئ باليمينِ لأنَّ ابتداءَ التفيُّؤِ منها أو تَيَمُّناً بذِكرها ، ثم جَمَع الباقي على لفظ الشِّمال لما بين اليمين واليسار مِنَ التَّضادِّ ، ونَزَّلَ القُدَّام والخلفَ منزلةَ الشَّمائل لِما بينهما وبين اليمينِ من الخلافِ « .
السادس : قال ابن عطية : » وما قال بعضُ الناس : مِنْ أنَّ اليمينَ أولُ وَقْعَةٍ للظلِّ بعد الزوالِ ثم الآخر الغروبُ هي عن الشِّمائل ، ولذلك جَمَعَ الشمائل وأَفْرد اليمين ، فتخليطٌ من القول ، ويَبْطُل مِنْ جهات . وقال ابن عباس : « إذا صَلَّيْتَ الفجرَ كان ما بين مَطْلَعِ الشمس ومَغْرِبِها ظِلاًّ ثم بَعَثَ الله عليه الشمسَ دليلاً ، فقبضَ إليه الظلَّ ، فعلى هذا فأوَّلُ ذُرُوْرِ الشمس فالظِّلُّ عن يمينِ مستقبِلِ الجنوب ، ثم يبدأ الانحرافُ فهو عن الشَّمائل؛ لأنه حركاتٌ كثيرة وظلالٌ متقطعةٌ فهي شمائلُ كثيرةُ ، فكان الظلُّ عن اليمينِ متصلاً واحداً عامّاً لكلِّ شيء » .
السابع : قال ابن الضائع : « أَفْرَدَ وجَمَع بالنظر إلى الغايتين؛ لأنَّ ظِلَّ الغَداةِ يَضْمَحِلُّ حتى لا يبقى منه إلا اليسيرُ ، فكأنه في جهةٍ واحدة ، وهي في العَشِيِّ على العكس لاستيلائِه على جميع الجهات ، فلُحِظَت الغايتان في الآية . هذا من جهةِ المعنى ، وأمَّا مِِنْ جهةِ اللفظ ففيه مطابقةٌ؛ لأنَّ » سُجَّداً « جمع فطابقه جَمْعُ الشَّمائل لاتصاله به ، فَحَصَل في الآية مطابَقَةُ اللفظِ للمعنى ولَحْظُهما معاً ، وتلك الغايةُ في الإِعجاز » .
قوله : « سُجَّداً » حالاٌ مِنْ « ظلالُه » و « سُجَّداً » جمع ساجِد كشاهِد وشُهَّد ، وراكِع ورُكَّع .
قوله : { وَهُمْ دَاخِرُونَ } في هذه الجملة ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنها حالٌ من الهاءِ في « ظلالُه » . قال الزمخشري : « لأنه في معنى الجمع ، وهو ما خلق اللهُ مِنْ شيءٍ له ظِلٌّ وجُمِع بالواوِ والنون؛ لأنَّ الدُّخورَ من أوصافِ العقلاء ، أو لأن في جملة ذلك مَنْ يَعْقِل فَغُلِّبَ » .
وقد رَدَّ الشيخُ هذا : بأن الجمهور لا يُجيزون مجيءَ الحال من المضافِ إليه ، وهو نظيرُ : « جاءني غلامُ هندٍ ضاحكةً » قال : « ومَنْ أجاز مجيئَها منه إذا كان المضافُ جزءاً أو كالجزء جوَّز الحاليةَ منه هنا ، لأنَّ الظِّلَّ كالجزءِ إذ هو ناشِئٌ عنه » .

الثاني : أنها حالٌ من الضميرِ المستتر في « سُجَّدا » فهي حالٌ متداخلِةٌ .
الثالث : أنها حالٌ مِنْ « ظلالُه » فينتصبُ عنه حالان .
ثم لك في هذه الواو اعتباران ، أحدُهما : أن تجعلَها عاطفةً حالاً على مثلِها فهي عاطفةٌ ، وليست بواوِ حال ، وإن كان خُلُوُّ الجملةِ الاسميةِ الواقعةِ حالاً من الواو قليلاً أو ممتنعاً على رأيٍ . وممَّن صَرَّح بأنها عاطفةٌ أبو البقاء . والثاني : أنها واوُ الحال ، وعلى هذا فيقال : كيف يقتضي العاملُ حالين؟ فالجوابُ أنه جاز ذلك لأنَّ الثانيةَ بدلٌ مِن الأولى ، فإن أُريد بالسجودِ التذلُّلُ والخضوعُ فهو/ بدلُ كلٍ من كل ، وإن أُريد به حقيقته فهو بدلُ اشتمالٍ؛ إذ السجودُ مشتملٌ على الدُّخور ، ونظير ما نحن فيه : « جاء زيد ضاحكاً وهو شاكٍ » فقولك « وهو شاكٍ » يحتمل الحاليةَ من « زيد » أو من ضمير « ضاحكاً » .
والدُّخور : التواضعُ قال :
2976- فلم يَبْقَ إلا داخِرٌ في مُخَيَّسٍ ... ومُنْجَحِرٌ في غير أرضِكَ في جُحْرِ
وقيل : هو القهرُ والغلبةُ . ومعنى داخِرُون : أَذِلاَّاءُ صاغِرون .

وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49)

قوله تعالى : { مِن دَآبَّةٍ } : يجوز أن يكونَ بياناً لِما في السماوات وما في الأرض ، ويكون لله تعالى في سمائِه خَلْقٌ يَدِبُّون كما يَدِبُّ الخَلْقُ الذي في الأرض . ويجوز أن يكون بياناً لِما في الأرض فقط . قال الزمخشري : « فإن قلت : فهلاَّ جيْءَ ب » مَنْ « دونَ » ما « تغليباً للعقلاء مِن الدوابِّ على غيرهم؟ قلت : لأنه لو جِيْءَ ب » مَنْ « لم يكنْ فيه دليلٌ على التغليب فكأن متناولاً للعقلاءِ خاصة فجيء بما هو صالحٌ للعقلاءِ وغيرِهم إرادةَ العمومِ » .
قال الشيخ : « وظاهرُ السؤالِ تسليمُ أنَّ » مَنْ « قد تشمل العقلاءَ وغيرَهم على جهةِ التغليبِ ، وظاهرُ الجوابِ تخصيصُ » مَنْ « بالعقلاء ، وأنَّ الصالحَ للعقلاء [ وغيرِهم ] » ما « دون » مَنْ « وهذا ليس بجواب؛ لأنه أورد السؤالَ على التسليم ، ثم أورد الجوابَ على غير التسليم ، فصار المعنى : أنَّ » مَنْ « يُغَلَّبُ بها والجوابَ لا يُغَلَّبُ بها ، وهذا في الحقيقةِ ليس بجوابٍ » .
قوله : { وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } يجوز أن تكونَ الجملةُ استئنافاً أخبر عنهم بذلك ، وأن تكونَ حالاً مِنْ فاعلِ « يَسْجُدُ » .

يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)

قوله تعالى : { يَخَافُونَ } يجوز فيها أن تكونَ مفسِّرةً لعدم استكبارِهم ، كأنه قيل : ما لهم لا يَسْتكبرون؟ فَأُجِيبَ بذلك ، ويُحْتمل أن تكونَ حالاً مِنْ فاعل « لا يَسْتكبرون » ومعنى { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ } أي : عقابَه .
قوله : { مِّن فَوْقِهِمْ } يجوز فيه وجهان ، أحدهما : أن تتعلَّقَ ب « يَخافون » ، أي : يخافون عذابَ ربهم كائناً مِنْ فوقهم؛ لأنَّ العذابَ إنما ينزل مِنْ فوقُ . الثاني : أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من « ربهم » أي يخافون ربَّهم عالياً عليهم ، قاهراً لهم ، كقولِه تعالى : { وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ } [ الأنعام : 18 ] .

وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)

قوله تعالى : { اثنين } : فيه قولان ، أحدُهما : أنه مؤكد ل « إلهَيْن » وعليه أكثرُ الناسِ ، و « اتَّخذ » على هذا يحتمل أن تكونَ متعديةً لواحدٍ ، وأن تكونَ متعديةً لاثنين ، والثاني منها محذوفٌ ، أي : لا تَتَّخذوا إلهين اثنين معبوداً .
والثاني : أنَّ « اثنين » مفعولٌ أولُ ، وإنما أُخِّر ، والأصلُ : لا تَتِّخذوا اثنين إلهين ، وفيه بُعْدٌ .
وقال أبو البقاء : « هو مفعولٌ ثانٍ » وهذا كالغلط إذ لا معنى لذلك البتةَ ، وكلامُ الزمخشري هنا يُفْهِم أنه ليس بتأكيدٍ فإنه قال : « فإنْ قلتَ : إنما جمعوا بين العددِ والمعدودِ فيما وراء الواحدِ والاثنين ، فقالوا : عندي رجالٌ ثلاثةٌ وأفراسٌ أربعةٌ؛ لأنَّ المعدودَ عارٍ عن العدد الخاص ، فأمَّا رجل ورجلان وفَرَسٌ وفرسان فمعدودان فيهما دلالةً على العدد ، فلا حاجةَ على أَنْ يقال : رجل واحد ، ورجلان اثنان ، فما وجه قوله تعالى { إلهين اثنين } ؟ قلت : الاسمُ الحاملُ لمعنى الإِفرادِ أو التثنيةِ دَلَّ على شيئين : على الجنسيةِ والعددِ المخصوصِ ، فإذا أُريدت الدلالةُ على أن المعنيَّ به منهما والذي يُساق إليه الحديثُ هو العددُ شُفِع بما يؤكِّد العددَ ، فدلَّ به على القصدِ إليه والعنايةِ به ، ألا ترى أنك لو قلْتَ : إله ، ولم تؤكِّده بواحدٍ لم يَحْسُنْ ، وخُيِّل أنك تُثْبِتُ الإِلهيةَ لا الوَحْدانية » .
وقال الشيخ : « لمَّا كان الاسمُ الموضوع للإِفراد والتثنية قد يُتَجَوَّزُ به فَيُراد به الجنسُ نحو : نِعم الرجلُ زيدٌ ، ونِعْم الرجلان الزيدان ، وقول الشاعر : /
2977- فإنَّ النارَ بالعُوْدَيْنِ تُذْكَى ... وإنَّ الحربَ أَوَّلُها الكلامُ
أكَّدَ الموضوعَ لهما بالوصفِ فقيل : إلهين اثنين ، وقيل : إله واحد » .
قوله : « فإيَّايَ » منصوبٌ بفعلٍ مضمرٍ مقدرٍ بعدهن يُفَسِّره هذا الظاهرُ ، أي : إياي ارهبوا فارْهَبون . وقدَّر ابنُ عطية « ارهَبوا إيَّاي فارهبون » . قال الشيخ : « وهو ذُهولٌ عن القاعدةِ النحوية ، وهي أنَّ المفعولَ إذا كان ضميراً منفصلاً والفعلُ متعدٍّ لواحد وَجَبَ تأخيرُ الفعلِ نحو : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } [ الفاتحة : 5 ] ولا يجوزُ أن يتقدَّمَ إلا في ضرورةٍ كقوله :
2978- إليك حتى بَلَغَتْ إيَّاكا ... وهذا قد مَرَّ تقريرُه في أولِ البقرة . وقد يُجاب عن ابنِ عطية : بأنه لا يَقْبُحُ في الأمور التقديرية ما يقبح في [ الأمورِ ] اللفظيةِ . وفي قوله : » فإيَّايَ « التفاتٌ من غَيْبة وهي قولُه { وَقَالَ الله } إلى تكلُّمٍ وهو قوله » فإيَّاي « ثم التفت إلى الغِيْبة أيضاً في قوله : { وَلَهُ مَا فِي السماوات } .

وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52)

قوله تعالى : { وَاصِباً } : حالٌ من « الدِّين » العاملُ فيها الاستقرارُ المتضمِّنُ الجارُّ الواقعَ خبراً . والواصِبُ : الدائم ، قال حسَّان :
2979- غَيَّرَتْهُ الريحُ تَسْفِي بِهِ ... وهَزِيْمٌ رَعْدُهُ واصِبُ
[ وقال ] أبو الأسود :
2980- لا أبتغيْ الحَمْدَ القليلَ بقاؤُه ... يوماً بِذَمِّ الدهرِ أَجْمَعَ واصِبا
والوَصِبُ : العليلُ لمداوَمَةِ السَّقَمِ له . وقيل : مِنَ الوَصَبِ وهو التَّعَبُ ، ويكون حينئذٍ على النَّسَب ، أي : ذا وَصَبٍ؛ لأن الدينَ فيه تكاليفُ ومَشَاقُّ على العبادِ ، فهو كقوله :
2981- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . أضحى فؤادي به فاتِنا
أي : ذا فُتُوْن وقيل : الواصِبُ : الخالِصُ .
وقال ابن عطية : والواوُ في قوله : { وَلَهُ مَا فِي السماوات } عاطفةٌ على قولِه { إله وَاحِدٌ } ، ويجوزُ أن تكونَ واوَ ابتداء « . قال الشيخ : » ولا يُقال واوُ ابتداءٍ إلا لواوِ الحال ، ولا تظهر هنا الحالُ « . قلت : وقد يُطْلِقون واوَ الابتداء ، ويريدون واوَ الاستئناف ، أي : التي لم يُقْصَدْ بها عطفٌ ولا تَشْريكٌ ، وقد نصُّوا على ذلك فقالوا : قد يُؤْتَى بالواو أولَ كلامٍ من غير قَصْدٍ إلى عَطفٍ . واسْتَدَلُّوا على ذلك بإتيانهم بها في أولِ قصائدِهم وأشعارِهم ، وهو كثيرٌ جداً . ومعنى قولِه » عاطفة على قوله { إله وَاحِدٌ } ، أي : أنها عَطَفَتْ جملةً على مفرد ، فيجبُ تأويلُها بمفردٍ لأنها عَطَفَتْ على الخبرِ فيكونُ خبراً ، ويجوز على كونِها عاطفةً أن تكونَ عاطفةً على الجملة بأسرها ، وهي قوله { إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ } وكأنَّ ابنَ عطية قَصَدَ بواوِ الابتداءِ هذا ، فإنها استئنافيةٌ .

وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)

قوله تعالى : { وَمَا بِكُم } : يجوز في « ما » وجهان ، أحدهما : أن تكونَ موصولةً ، والجارُّ صلتُها ، وهي مبتدأٌ ، والخبرُ قولُه { فَمِنَ الله } والفاءُ زائدةٌ في الخبر لتضمُّنِ الموصولِ معنى الشرطِ ، تقديره : والذي استقرَّ بكم . و { مِّن نِّعْمَةٍ } بيان للموصول . وقدَّر بعضُهم متعلِّق « بكم » خاصَّاً فقال : « وما حَلَّ بكم أو نزل بكم » وليس بجيدٍ؛ إذ لا يُقَدَّرُ إلا كونٌ مطلقٌ .
والثاني : أنها شرطية ، وفعلُ الشرطِ بعدها محذوفٌ وإليه نحا الفراء ، وتبعه الحوفيُّ وأبو البقاء . قال الفراء : « التقدير : وما يكنْ بكم » . وقد رُدَّ هذا بأنه لا يُحْذَفُ فعلٌ إلا بعد « إنْ » خاصةً ، في موضعين ، أحدُهما : أن يكون في باب الاشتغال نحو : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك } [ التوبة : 6 ] لأنَّ المحذوفَ في حكمِ المذكورِ . والثاني : أن تكونَ « إنْ » متلوَّةً ب « لا » النافية ، وأنْ يَدُلَّ على الشرطِ ما تقدَّمه من الكلامِ كقوله :
2982- فطلِّقْها فَلَسْتَ لها بكُفْءٍ ... وإلاَّ يَعْلُ مَفْرِقَك الحُسامُ
أي : وإن لا تُطَلِّقْها ، فَحَذَفَ لدلالةِ قوله « فَطَلِّقْها » عليه فإن لم توجَدْ « لا » النافيةُ ، أو كانت الأداةُ غيرَ « إنْ » لم يُحْذَفْ إلا ضرورةً ، مثالُ الأول :
2983- قالَتْ بناتُ العمِّ يا سَلْمَى وإنْ ... كان غنياً مُعْدِماً قالت : وإنْ
أي : وإن كان غنياً رَضِيْتُه . ومثالُ الثاني :
2984- صَعْدَة نابتةٌ في حائرٍ ... اَيْنَما الريحُ تُمَيِّلْها تَمِلْ
وقول الآخر :
2985- فمتى واغِلٌ يَنُبْهُمْ يُحَيُّو ... ه وتُعْطَفْ عليه كأسُ الساقي
قوله : { فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } الفاءُ جوابُ « إذا » . والجُؤار رَفْعُ الصوتِ ، قال رؤبة يصفُ راهباً . /
2986- يُراوِحُ مِنْ صلواتِ المَلِي ... كِ طَوْراً سُجوداً وطَوْراً جُؤاراً
ومنهم مَنْ قَيَّده بالاستغاثة ، وأنشد الزمخشري :
2987- جَآَّرُ ساعاتِ النيامِ لربِّه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقيل : الجُؤَار كالخُوار ، جَأَر الثورُ وخارَ واحد ، إلا أنَّ هذا مهموزُ العين وذلك معتلُّها . وقال الراغب : « جَأَر إذا أفرط في الدعاء والتضرع ، تشبيهاً بجُؤَارِ الوَحْشِيَّات » .
وقرأ الزهري : « تَجَرون » بحذفِ الهمزةِ وإلقاء حركتها على الساكنِ قبلَها ، كما قرأ نافع « رِدَّاً » في « رِدْءاً » .

ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54)

قوله تعالى : { إِذَا كَشَفَ } : « إذا » الأولى شرطيةٌ والثانيةُ فجائية جوابُها . وفي الآيةِ دليلٌ على أنَّ « إذا » الشرطية لا تكونُ معمولةً لجوابها؛ لأنَّ ما بعد « إذا » الفجائية لا يعمل فيما قبلَها .
وقرأ قتادة « كاشَفَ » على فاعَلَ . قال الزمخشري : « بمعنى فَعَل ، وهو أقوى مِنْ » كَشَفَ « لأنَّ بناءَ المغالبةِ يدلُّ على المبالغة » .
قوله : « منكم » يجوز أن يكونَ صفةً ل « فريق » و « مِنْ » للتبعيض ، ويجوز أن تكونَ للبيان . قال الزمخشري : « كأنه قال : إذا فريقٌ كافرٌ ، وهم أنتم » .

لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)

قوله تعالى : { لِيَكْفُرُواْ } : في هذه اللامِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنها لامُ كي ، وهي متعلقةٌ ب « يُشْركون » ، أي : إنَّ إشراكهم سببُه كفرُهم به . الثاني : أنها لامُ الصيرورةِ ، أي : صار أمرُهم إلى ذلك . الثالث : أنها لامُ الأمرِ ، وإليه نحا الزمخشريُّ .
وقرأ أبو العالية - ورواها مكحول عن أبي رافع مولَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه صلى الله عليه وسلم « فَيُمْتَعُوا » بضمِّ الياء مِنْ تحتُ ، ساكنَ الميم مفتوحَ التاء ، مضارعَ مُتِع مبنياً للمفعول . { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } بالياءِ مِنْ تحتُ أيضاً . وهذا المضارع في هذه القراءةِ يجوز أن يكونَ حَذْفُ النونِ فيه : إمَّا للنصبِ عطفاً على « ليكفروا » إنْ كانت لامَ كي ، أو للصيرورة ، وإمَّا للنصبِ أيضاً ، ولكنْ على جوابِ الأمر إنْ كانت اللامُ للأمر . ويجوز أن يكونَ حَذْفُها للجزم عَطْفاً على « لِيَكْفُروا » إن كانت للأمر أيضاً .

وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56)

قوله تعالى : { لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ } : الضميرُ في « يَعْلمون » يجوز أن يكونَ للكفار ، أي : لِما لا يَعْلم الكفار ، ومعنى لا يَعْلمونها : أنهم يُسَمُّونها آلهةً ، ويعتقدون أنها تَضُرُّ وتنفع وتسمع ، وليس الأمر كذلك . ويجوز أن يكونَ للآلهة وهي الأصنامُ ، أي : لأشياءَ غيرِ موصوفةٍ بالعلم .
و « نصيباً » هو المفعول الأول ، والجارُّ قبلَه هو الثاني ، أي : ويُصيِّرون للأصنام نصيباً . و { مِّمّا رَزَقْنَاهُمْ } يجوز أن يكونَ نعتاً ل « نصيباً » ، وأن يتعلَّقَ بالجَعْلِ . ف « مِنْ » على الأول للتبعيض ، وعلى الثاني للابتداء .

وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57)

قوله تعالى : { وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ } : يجوز فيه وجهان ، أحدُهما : أن هذا جملةٌ مِنْ مبتدأ وخبر ، أي : يجعلون لله البناتِ ، ثم أخبر أنَّ لهم ما يَشْتَهون . وجوَّز الفراء والحوفيُّ والزمخشريُّ وأبو البقاء أن تكونَ « ما » منصوبةَ المحلِّ عطفاً على « البناتِ » و « لهم » عطفٌ على « الله » ، أي : ويجعلون لهم ما يشتهون .
قال الشيخ : « وقد ذَهَلُوا عن قاعدةٍ نحوية : وهو أنه لا يتعدَّى فِعْلُ المضمرِ المتصلِ إلى ضميره المتصل إلا في باب ظنَّ وفي عَدَمِ وفَقَد ، ولا فرقَ بين أن يتعدَّى الفعلُ بنفسِه أو بحرفِ الجر ، فلا يجوز : » زيدٌ ضربه « ، أي : ضربَ نفسَه ، ولا » زيدٌ مَرَّ به « ، أي : مرَّ بنفسه ، ويجوز : زيدٌ ظنَّه قائماً » ، و « زيدٌ فَقَده » و « عَدِمه » ، أي : ظنَّ نفسَه قائماً وفَقَد نفسه وعَدِمها . إذ تقرَّر هذا فَجَعْلُ « ما » منصوبةً عطفاً على « البنات » يؤدِّي إلى تعدَّي فِعْلِ المضمرِ المتصل وهو واو / « يَجْعَلون » إلى ضميرِه المتصل ، وهو « هم » في « لهم » . انتهى ملخصاً .
وما ذكره يحتاج إلى إيضاحٍ أكثرَ مِنْ هذا فأقول فيها مختصراً : اعلمْ أنه لا يجوز تَعَدَّي فِعْلِ المضمرِ المتصلِ ولا فعلِ الظاهرِ إلى ضميرِهما المتصلِ ، إلا في بابِ ظَنَّ وأخواتِها من أفعال القلوب ، وفي فَقَد وعَدَمِ ، فلا يجوز : « زيد ضربه » ولا « ضربه زيد » ، أي : ضربَ نفسه . ويجوز : « زيد ظنَّه قائماً » ، وظنَّه زيدٌ قائماً ، و « زيد فَقَده وعَدِمه » ، و « فَقَدَه وعَدِمَه زيد » ، ولا يجوز تَعَدَّي فِعْلِ المضمر المتصل إلى ظاهره في بابٍ من الأبواب ، لا يجوز « زيداً ضرب » ، أي : ضربَ نفسَه .
وفي قولي : « إلى ضميرِهما المتصلِ » قيدان أحدُهما : كونُه ضميراً فلو كان ظاهراً كالنفس لم يمتنع نحو : « زيدٌ ضَرَبَ نفسَه » و « ضَرَبَ نفسَه زيدٌ » . والثاني : كونُه متصلاً ، فلو كان منفصلاً جاز نحو : « زيدٌ ما ضربَ إلا إياه » ، و « ما ضرب زيدٌ إلا إياه » ، وعِلَلُ هذه المسألةِ وأدلتُها موضوعُها غيرُ هذا الموضوعِ ، وقد أَتْقَنْتُها في « شرح التسهيل » .
وقال مكي : « وهذا لا يجوزُ عند البصريين ، كما لا يحوز جعلتُ لي طعاماً ، إنما يجوز : جعلتُ لنفسي طعاماً ، فلو كان لفظُ القرآن » ولأنفسِهم ما يَشْتَهون « جاز ما قال الفراء عند البصريين . وهذا أصلٌ يحتاج إلى تعليلٍ وبَسْطٍ كثير » .

قلت : ما أشارَ إليه من المَنْعِ قد عَرفْتَه ولله الحمدُ مما قدَّمْتُه لك .
وقال الشيخ بعد ما حكى أنَّ « ما » في موضعِ نصبٍ عن الفراءِ ومَنْ تبعه : « وقال ابو البقاء - وقد حكاه - : وفيه نظرٌ » . قلت : وأبو البقاء لم يجعلِ النظرَ في هذا الوجه ، إنما جعله في تضعيفه بكونِه يؤدِّي إلى تَعَدِّي فِعْلِ المضمر المتصل إلى ضميره المتصل في غيرِ ما اسْتُثْني فإنه قال : « وضَعَّف قومٌ هذا الوجهَ وقالوا : لو كان كذلك لقال : ولأنفسهم ، وفيه نظرٌ » فجعل النظرَ في تضعيفِه لا فيه .
وقد يُقال : وَجْهُ النظرِ الممتنعُ تعدَّي ذلك الفعلِ ، أي : وقوعُه على ما جُرَّ بالحرف نحو : « زيدٌ مَرَّ به » فإن المرورَ واقعٌ بزيد ، وأمَّا ما نحن فيه فليس الجَعْلُ واقعاً بالجاعِلِين ، بل بما يَشْتهون ، وكان الشيخُ يَعْترض دائماً على القاعدةِ المتقدمةِ بقوله تعالى : { وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة } [ مريم : 25 ] { واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ } [ القصص : 32 ] والجوابُ عنهما ما تقدَّم : وهو أنَّ الهَزَّ والضَّمَّ ليسا واقعين بالكاف ، وقد تقدَّم لنا هذا في مكانٍ آخرَ ، وإنما أَعَدْتُه لصعوبتِه وخصوصيةِ هذا بزيادةِ فائدةٍ .

وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58)

قوله تعالى : { ظَلَّ وَجْهُهُ } : يجوز أن تكونَ على بابِها مِنْ كونِها تدلُّ على الإِقامة نهاراً على الصفةِ المسندةِ إلى اسمها ، وأن تكونَ بمعنى صار ، وعلى التقديرَيْن فهي ناقصةٌ ، و « مُسْوَدّاً » خبرُها . وأمَّا « وجهُه » ففيه وجهان ، المشهور - وهو المتبادَرُ إلى الذهن - أنه اسمها . والثاني : أنه بدلٌ من الضميرِ المستتر في « ظل » بدلُ بعضٍ من كل ، أي : ظلَّ أحدُهم وجهُه ، أي : ظلَّ وجهُ أحدِهم .
قوله : « كَظِيم » يجوز ان يكونَ بمعنى فاعِل ، وأن يكونَ بمعنى مَفْعول كقوله { وَهُوَ مَكْظُومٌ } [ القلم : 48 ] . والجملة حال من الضمير في « ظَلَّ » ، أو مِنْ « وجهه » ، أو من الضمير في « ظَلَّ » . وقال أبو البقاء هنا : « فلو قُرِئ » مُسْوَدٌّ « يعني بالرفع لكان مستقيماً ، على أن تَجْعَلَ اسمَ » ظَلَّ « مضمراً ، والجملةُ خبرها » . وقال في سورة الزخرف : « ويُقرآن بالرفع على أنه مبتدأٌ وخبر في موضعِ خبرِ » ظلَّ « .

يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59)

قوله تعالى : { يتوارى } : يحتمل أن تكونَ مستأنفةً ، وأن تكونَ حالاً ممَّا كانت الأُوْلى حالاً منه ، إلا [ مِنْ ] « وجهُه » فإنه لا يليق ذلك به ، ويجوز أن تكونَ حالاً من الضمير في « كظيم » .
قوله : { مِنَ القوم مِن سواء } يُعَلِّق هنا جارَّان بلفظٍ واحدٍ لاختلافِ معناهما؛ فإنَّ الأولى للابتداء ، والثانية للعلة ، أي : من أجلِ سُوْءِ ما بُشِّر به .
قوله { أَيُمْسِكُهُ } . قال أبو البقاء : « في موضع الحال تقديرُه : يَتَوارى متردِّداً . هل يُمْسكه أم لا » ، وهذا خطأٌ عن النَّحْويين؛ لأنهم نَصُّوا على أن الحالَ لا تقع جملةً طلبيةً . والذي يظهر أنَّ هذه الجملةَ الاستفهاميةَ معمولةٌ لشيء محذوفٍ هو حالٌ مِنْ فاعل « يتوارى » المتممِ للكلام ، أي : يتوارى ناظراً أو مفكَّراً : أيُمْسِكُه على هُوْن .
والعامَّةُ على تذكير الضمائر اعتباراً بلفظ « ما » وقرأ / الجحدريُّ { أَيُمْسِكُها } ، { أَمْ يَدُسُّها } مُراعاةً للأنثى أو لمعنى « ما » . وقُرِئ { أَيُمْسِكُهُ أَمْ يَدُسُّهُ } .
والجحدريُّ وعيسى قرآ على « هَوان » بزنة « قَذَالٍ » ، وفرقةٌ على « هَوْنٍ » بفتح الهاء ، وهي قَلِقَةٌ هنا؛ لأن « الهَوْن » بالفتح الرِّفقُ واللين ، ولا يناسب معناه هنا ، وأمَّا « الهَوان » فبمعنى هُوْن المضمومة .
قوله : { على هُونٍ } فيه وجهان ، أحدُهما : أنه حالٌ مِنَ الفاعلِ ، وهو مَرْوِيٌّ عن ابن عباس فإنه قال : يُمْسِكه مع رضاه بهوانِ وعلى رغمِ أنفِه .
والثاني : أنه حالٌ من المفعولِ ، أي : يُمْسِكها ذليلةً مُهانةً .
والدَّسُّ : إخفاءُ الشيءِ وهو هنا عبارةٌ عن الوَأْد .

وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)

قوله تعالى : { أَلْسِنَتُهُمُ الكذب } : العامَّةُ على أنَّ « الكذبَ » مفعولٌ به ، و { أَنَّ لَهُمُ الحسنى } بدلٌ منه بدلُ كلٍ مِنْ كل ، أو على إسقاط الخافض ، أي : بأنَّ لهم الحسنى .
وقرأ الحسن « أَلْسِنَتْهُمْ » بسكونِ التاءِ تخفيفاً ، وهي تُشْبه تسكينَ لامِ { بلى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } [ الزخرف : 80 ] ، وهمزة « بارِئْكم » ونحوه .
والأَلْسِنَةُ جمع « لِسان » مراداً به التذكير فجُمِع كما يُجْمَعُ فِعال المذكر نحو : حِمار وأَحْمِرة ، وإذا أُريد به التأنيثُ جُمِعَ جمعَ أفْعُل كذِراع وأَذْرُع .
وقرأ معاذ بن جبل « الكُذُبُ » بضمِّ الكاف والذال ورفعِ الباء ، على أنه جَمْعُ كَذُوب كصَبُور وصُبُر ، وهو مقيسٌ ، وقيل : جمع كاذِب نحو : شارِف وشُرُف ، كقولها :
3988- ألا يا حَمْزُ للشُّرُفِ النَّواءِ ... ……… . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
لكنه غيرُ مقيسٍ ، وهو حينئذٍ صفةٌ ل « ألسنتهم » ، وحينئذٍ يكون { أَنَّ لَهُمُ الحسنى } مفعولاً به . وقد تقدَّم الكلامُ في « لا جَرَمَ » مستوفى في هود .
قوله : { وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ } قرأ نافع بكسرِ الراءِ اسمَ فاعلٍ مِنْ أَفْرَطَ إذا تجاوَزَ ، فالمعنى : أنهم يتجاوزون الحَدَّ في معاصي الله تعالى . فأفْعَلَ هنا قاصرٌ . والباقون بفتحها اسمَ مفعولٍ مِنْ أَفْرَطْتُه ، وفيه معنيان ، أحدُهما : أنَّه مِنْ أَفْرطته خلفي ، أي : تركتُه ونَسِيْتُه ، حكى الفراء أنَّ العرب تقول : أَفْرِطْتُ منهم ناساً ، أي : خَلَّفْتُهم ، والمعنى : أنهم مَنْسِيًّون متروكون في النار . والثاني : أنه مِنْ أَفْرَطْتُه ، أي : قَدَّمْتُه إلى كذا ، وهو منقولٌ بالهمزة مِنْ فَرَط إلى كذا ، أي : تقدَّم إليه ، كذا قال الشيخ ، وأنشد للقطامي :
2989- واسْتَعْجَلُونْا وكانوا مِنْ صحابَتِنا ... كما تَعَجَّلَ فُرَّاطٌ لِوُرَّادِ
فَجَعَلَ « فَرَط » قاصراً و « أفرط » منقولاً . وقال الزمخشري : « بمعنى يتقدَّمون إلى النار ، ويتعجَّلون إليها ، مِنْ أَفْرَطْتُ فلاناً وفَرَطْتُه إذا قدَّمته إلى الماء » ، فجعل فَعَل وأفْعَل بمعنى ، لا أن أَفْعل منقولٌ مِنْ فَعَل ، والقولان محتملان ، ومنه « الفَرَطُ » ، أي : المتقدم . قال عليه السلام : « أنا فَرَطُكم على الحوض » ، أي : سابِقُكم . ومنه « واجعله فَرَطاً وذُخْراً » ، أي : متقدِّماً بالشفاعةِ وتثقيلِ الموازين .
وقرأ أبو جعفر - في روايةٍ - « مُفَرِّطون » بتشديدِ الراءِ مكسورةً مِنْ فَرَّط في كذا : أي : قَصَّر ، وفي روايةٍ ، مفتوحةً ، مِنْ فَرَّطته مُعَدَّى بالتضعيفِ مِنْ فَرَط بالتخفيف ، أي : تَقَدَّم وسَبَقَ .
وقرأ عيسى بن عمر والحسن « لا جَرَمَ إنَّ لهم النارَ وإنهم » بكسرِ « إنَّ فيهما على أنَّها جوابُ قسمٍ أَغْنَتْ عنه » لا جَرَمَ « .

تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)

قوله تعالى : { فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليوم } : يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ حكايةَ حالٍ ماضيةٍ ، أي : فهو ناصرُهم ، أو آتيةٍ ، ويراد باليوم يومُ القيامة ، هذا إذا عاد الضمير على « أُمَم » وهو الظاهر .
وجَوَّز الزمخشريُّ أن يعودَ على قريش ، فيكونَ حكايةَ حالٍ في الحال لا ماضيةٍ ولا آتيةٍ ، وجوَّز أن يكون عائداً على « أمم » ولكنْ على حَذْفِ مضافٍ تقديره : فهو وَلِيٌّ أمثالِهم اليومَ . واستبعده الشيخُ ، وكأنَّ الذي حمله على ذلك قولُه « اليومَ » فإنه ظرفٌ حالِيٌّ ، وقد تقدَّم أنه على حكايةِ الحالِ الماضية أو الآتية .

وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)

قوله تعالى : { وَهُدًى وَرَحْمَةً } : فيه وجهان : أحدُهما : أنهما انتصبا على أنهما مفعولان مِنْ أجلهما ، والناصبُ « أَنْزَلْنَا » ، ولَمَّا اتَّحد الفاعلُ في العِلَّة والمعلول وَصَل الفعلُ إليهما بنفسه ، ولَمَّا لم يتحَّدْ في قولِه : « وما أنْزَلْنا إلاَّ لِتُبَيِّن »؛ لأنَّ فاعلَ الإِنزالِ ، اللهُ وفاعلَ التبيينِ الرسولُ / وَصَلَ الفعلُ إلى العلةِ بالحرفِ فقيل : { إِلاَّ لِتُبَيِّنَ } ، أي : لأَنْ تُبَيِّنَ ، على أنَّ هذه اللامَ لا تَلْزَمُ من جهةٍ أخرى : وهي كونُ مجرورِها « أن » . وفيه خلافٌ في خصوصيةِ هذه المسألةِ .
وهذا معنى قولِ الزمخشري فإنه قال : « معطوفان على محلِّ » لِتُبَيِّنَ « إلا أنهما انتصبا على أنهما مفعولٌ لهما ، لأنَّهما فِعْلُ الذي أَنْزَلَ الكتابَ ، ودخلت اللامُ على » لتبيِّنَ « لأنه فِعْلُ المخاطبِ لا فِعْلُ المُنَزِّلِ ، وإنما ينتصبُ مفعولاً له ما كان فعلَ الفاعلِ الفعل المعلل » . قال الشيخ : « قوله : معطوفان على محل » لتبيِّنَ « ليس بصحيح؛ لأنَّ مَحَلَّه ليس نصباً فيُعطفَ منصوبٌ [ عليه ] ، ألا ترى أنه لو نصبه لم يَجُزْ لاختلافِ الفاعل » .
قلت : الزمخشريُّ لم يجعلِ النصبَ لأجل العطفِ على المحلِّ ، إنما جَعَله بوصولِ الفعلِ إليهما لاتحادِ الفاعلِ كما صَرَّح به فيما حكيْتُه عنه آنفاً ، وإنما جَعَلَ العطفَ لأجل التشريكِ في العِلِّيَّةِ لا غير ، يعني أنهما علتان ، كما أنَّ « لتبيِّنَ » علةٌ . ولَئِنْ سَلَّمْنا أنه نُصِب عطفاً على المحلِّ فلا يَضُرُّ ذلك . قوله : « لأنَّ محلَّه ليس نصباً » ممنوعٌ ، وهذا ما لا خلافَ فيه : مِنْ أنَّ محلَّ الجارِّ والمجرورِ النصبُ لأنه فَضْلَةٌ ، إلا أنْ يقومَ مقامَ مرفوعٍ ، ألا ترى إلى تخريجِهم قولَه { وَأَرْجُلَكُمْ } [ المائدة : 6 ] في قراءة النصبِ على العطف على محلِّ « برؤوسكم » ، ويُجيزون « مَرَرْتُ بزيدٍِ وعمراً » على خلافٍ في ذلك ، بالنسبة إلى القياسِ وعدمِه لا في أصلِ المسألة . وهذا بحثٌ حسنٌ تركه المَرْدُودُ عليه .

وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)

قوله تعالى : { نُّسْقِيكُمْ } : يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ مفسرةً للعِبْرة ، كأنه قيل : كيف العِبْرة؟ فقيل : نُسْقيكم من بينِ فَرْثٍ ودمٍ لبناً خالصاً . ويجوز أن تكونَ خبراً لمبتدأ مضمر ، والجملةُ جوابٌ لذلك السؤالِ ، أي : هي ، أي : العِبْرَةُ نُسْقيكم ، ويكون كقولهم : تَسْمَعُ بالمُعْيدِيَّ خيرٌ من أَنْ تَراه « .
وقرأ نافع وابنُ عامر وأبو بكر » نَسْقيكم « بفتح النون هنا وفي المؤمنين . والباقون بضمَّها فيهما . واختلف الناس : هل سَقَى وأَسْقى لغتان ، بمعنىً واحدٍ أم بينهما فرقٌ؟ خلافٌ مشهور . فقيل : هما بمعنىً ، وأنشد جمعاً بين اللغتين :
2290- سَقَى قومي بني مَجْدٍ وأسْقَى ... نُمَيْراً والقبائلَ من هلالِ
دعا للجميع بالسَّقْيِ والخِصْب . و » نُمَيْراً « هو المفعول الثاني : أي : ماءٌ نُمَيْراً . وقال أبو عبيد : » مَنْ سَقَى الشِّفَةِ : سَقَى فقط ، ومَنْ سقى الشجرَ والأرضَ . أَسْقَى ، وللداعي بالسُّقْيَا وغيرها : أَسْقَى فقط « . وقال الأزهري : » العربُ تقول ما كان من بطونِ الأنعام ، ومن السماء ، أو نهرٍ يجري ، أَسْقَيْتُ ، أي : جَعَلْتُ شِرْباً له وجَعَلْتُ له منه سُقْيَا؟ ، فإذا كان للشَّفَة قالوا : سَقَى ، ولم يقولوا : أسقى « .
وقال الفارسي : » سَقَيْتُه ختى رَوِيَ ، وأَسْقَيْتُه نهراً ، أي : جَعَلْتُه له شِرْباً « . وقيل » سَقاه إذا ناوله الإِناءَ ليشربَ منه ، ولا يُقال مِنْ هذا : أَسْقاه .
وقرأ أبو رجاء « يُسْقِيْكم » بضمِّ الياء من أسفلَ وفي فاعلِه وجهان ، أحدُهما : هو الله تعالى ، الثاني : أنه ضميرُ النَّعَمِ المدلولُ عليه بالأنعامِ ، أي : نَعَماً يُجْعَلُ لكم سُقْيا . وقُرئ « تًسْقيكم » بفتح التاء من فوق . قال ابن عطية : « وهي ضعيفةٌ » . قال الشيخ : « وضَعْفُها عنده - والله أعلمُ - أنه أنَّثَ في » تِسْقِيْكم « ، وذَكَّر في قوله { مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } ، ولا ضَعْفَ مِنْ هذه الجهةِ؛ لأنَّ التذكيرَ والتأنيثَ باعتبارين » . قلت « وضَعْفُها عنده من حيث المعنى : وهو أنَّ المقصودَ الامتنانُ على الخَلْقِ فنسبةُ السَّقْيِ إلى اللهِ تعالى هو الملائِمُ ، لا نِسْبتُه إلى الأنعام .
قوله : { مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } يجوز أن تكونَ » مِنْ « للتبعيض ، وأن تكونَ لابتداءِ الغاية . وعاد الضميرُ هنا على الأنعام مفرداً مذكراً . قال الزمخشري : » ذكر سيبويه الأنعامَ في باب « ما لا ينصرف » في الأسماءِ المفردةِ الواردةِ على أَفْعال كقولهم : ثوبٌ أَكْياش ، ولذلك رَجَع الضميرُ إليه مفرداً ، وأمَّا « في بطونها » في سورة المؤمنين فلانَّ معناه جمع . ويجوز أن يُقال في « الأنعام » وجهان ، أحدهما : أن يكون تكسير « نَعَم » كأَجْبال في جَبَل ، وأن يكون اسماً مفرداً مقتضياً لمعنى الجمع [ كَنَعم ] ، فإذا ذُكِّرَ فكما يُذكَّرُ « نَعَم » في قوله :

2991- في كل عام نَعَمٌ تَحْوُوْنَهُ ... يَلْقِحُه قومٌ وتَنْتِجُونَهْ
وإذا أُنِّثَ ففيه وجهان : أنه تكسير « نَعَم » ، وأنَّه في معنى الجمع « .
قال الشيخ : أمَّا ما ذَكَره عن سيبويه ففي كتابه في : » هذا بابُ ما كان مِثال مَفاعِل ومفاعِيل ما نصُّه : « وأمَّا أَجْمال وفُلُوس فإنها تَنْصَرِفُ وما أشبهها؛ لأنها ضارَعَتْ الواحد / ألا ترى أنك تقول : أَقْوال وأقاويل ، وأعراب وأعاريب وأَيْدٍ وأيادٍ ، فهذه الأحرفُ تَخْرُج إلى مثال مفاعِل ومفاعيل ، كما يَخْرُج إليه الواحد إذا كُسِّر للجمع . وأمَّا مَفاعِل ومَفاعيل فلا يُكسَّرُ ، فلا يَخْرُجُ الجمعُ إلى بناءٍ غيرِ هذا؛ لأن هذا البناءَ هو الغايةُ ، فلمَّا ضارَعَتِ الواحدَ صُرِفَتْ » . ثم قال : « وكذلك الفُعُوْل لو كَسَّرْتَ مثل الفُلوس لأَنْ تُجْمَعَ جميعاً لأَخْرَجَتْه إلى فَعَائِل ، كما تقول : جَدُود وجَدائد ورَكوب وركائب ، ولو فَعَلْتَ ذلك بِمَفاعِل ومَفاعيل لم تجاوِزْ هذا البناءَ ، ويُقَوِّي ذلك أنَّ بعضَ العربِ يقول : أُتِيَّ فَيَضُمُّ الألفَ . وأمَّا أفْعَال فقد يقع للواحد ، مِنَ العرب مَنْ يقول : هو الأنعام : قال الله عز وجل { نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } . وقال أبو الخطاب : » سَمِعْت مِنَ العرب مَنْ يقول : هذا ثوبٌ أكياش « .
قال : » والذي ذكر سيبويهِ هو الفرق بين مَفاعِل ومفاعِيل وبين أفعال وفُعول ، وإن كان الجميعُ أبنيةً للجمع من حيث إنَّ مفاعِل ومفاعِيل لا يُجْمعان وأَفْعالاً وفُعولاً قد يَخْرُجان إلى بناءٍ يُشبِه مَفَاعِل أو مفاعيل ، فلمّا كانا قد يَخْرُجان إلى ذلك انصرفا ، ولم يَنصَرِفْ مَفَاعِل ومفاعيل لشِبْه ذَيْنك بالمفردِ؛ من حيث إنه يمكن جمعُها وامتناعُ هذين من الجمع ، ثم قَوِيَ شَبَهُهما بالمفرد بأنَّ بعض العرب يقول في أُتِيّ : « أُتِيّ » بضمِّ الهمزة ، يعني أنه قد جاءَ نادراً فُعول من غير المصدرِ للمفرد ، وبأنَّ بعضَ العربِ قد يُوْقعُ أفعالاً للمفرد من حيث أفرد الضميرَ فيقول : « هو الأنعامُ » ، وإنما يعني أنَّ ذلك على سبيل المجاز؛ لأن الأنعامَ في معنى النَّعَم ، والنَّعَمُ مفردٌ كما قال :
2992- تَرَكْنا الخيلَ والنَّعَمَ المُفَدَّى ... وقلنا للنساءِ بها أَقيمي
ولذلك قال سيبويه : « وأمَّا أَفْعال فقد يقع للواحد » فقوله « قد يقع للواحد » دليلٌ على أنه ليس ذلك بالوضْعِ ، فقولُ الزمخشري : « أنه ذكره في الأسماء المفردة على أَفْعال » تحريفٌ في اللفظ ، وفَهِمَ عن سيبويه ما لم يُرِدْه . ويَدُلُّ على ما قلناه أنَّ سيبويه حيث ذَكَرَ أبنيةَ الأسماء المفردةِ نَصَّ على أنَّ أَفْعالاً ليس من أبنيتها . قال سيبويه في باب ما لحقته الزيادةُ من بنات الثلاثة : « وليس في الكلام أُفْعِيل ولا أَفْعَوْل ولا أُفْعال ولا أَفْعِيْل ولا أَفْعال ، إلا أن تُكَسَّرَ عليه اسماً للجمع » . قال : « فهذا نصُّ منه على أنَّ أَفْعالاً لا يكون في الأسماء المفردة » .

قلتُ : الذي ذكره الزمخشريُّ هو ظاهرُ عبارةِ سيبويه وهو كافٍ في تسويغ عَوْد الضمير مفرداً ، وإن كان أَفْعال قد يقع موقعَ الواحد مجازاً فإنَّ ذلك ليس بضائرٍ فيما نحن بصددِه ، ولم يُحَرِّفْ لفظَه ، ولم يَفْهَمْ عنه غيرَ مرادِه ، لِما ذكرْتُه من هذا المعنى الذي قَصَدَه .
وقيل : إنما ذَكَّر الضميرَ لأنه يعودُ على البعض وهو الإِناث؛ لأنَّ الذكورَ لا أَلْبانَ لها ، فكأنَّ العِبْرَة هي بعض الأنعام . وقال الكسائي : « أي في بطونِ ما ذَكَرَ » . قال المبرد : « وهذا شائعٌ في القرآن ، قال تعالى : { كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ } [ عبس : 1112 ] ، أي : ذَكَر هذا الشيءَ . وقال تعالى : { فَلَماَّ رَأَى الشمس بَازِغَةً قَالَ هذا رَبِّي } [ الأنعام : 78 ] ، أي : هذا الشيءُ الطالعُ ، ولا يكون هذا إلا في التأنيث المجازيِّ ، لا يجوز : جاريتُك ذهب » . قلت : وعلى ذلك خُرِّج قوله :
2993- فيها خطوطٌ مِنْ سوادٍ وبَلَقْ ... كأنه في الجِلدِ تَوْليْعُ البَهَقْ
أي : كأنَّ المذكورَ . وقيل : جمعُ التكسير فيما لا يُعْقَل يُعامَل معاملةَ الجماعةِ ومعاملةَ الجمع ، ففي هذه السورةِ اعتُبِر معنى الجمع ، وفي سورة المؤمنين اعتُبر معنى الجماعة ، ومن الأولِ قولُ الشاعر : /
2994- مثل الفراخِ نُتِفَتْ حواصِلُهْ ... وقيل : أنه يَسُدُّ مَسَدَّه واحدٌ يُفْهِم الجمعَ ، فإنه يَسُد مَسَدَّه « نَعَم » ، و « نَعَم » يُفْهِم الجمعَ ومثلُه قولُه :
2995- وطابَ أَلْبانُ الِّلقاحِ وبَرَدْ ... لأنه يَسُدُّ مَسَدَّها لَبَن ، ومثلُه قولهم « هو أحسنُ الفتيان وأجملُه » ، أي : أحسنُ فتىً ، إلا أن هذا لا ينقاس عند سييويه وأتباعِه .
وذكر أبو البقاء ستةَ أوجهٍ ، تقدَّم منها في غضون ما ذكرْتُه خمسةٌ . والسادس : أنه يعود على الفحل؛ لأن اللبن يكون مِنْ طَرْقِ الفحلِ الناقةَ ، فأصلُ اللبنِ [ ماءُ ] الفحلِ قال : « وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ اللبن وإن نُسِب إلى الفحلِ فقد جَمَعَ البطون ، وليس فحلُ الأنعام واحداً ولا للواحد بطونٌ . فإن قال : أراد الجنسَ فقد ذُكِر » . يعني أنه قد تقدَّم أن التذكيرَ باعتبارِ جنسِ الأنعام فلا حاجة إلى تقدير عَوْدِه على « فَحْل » المرادِ به الجنسُ . قلت : وهذا القولُ نقله مكي عن إسماعيل القاضي ولم يُعْقِبْه بنكير .
قوله : { مِن بَيْنِ فَرْثٍ } يجوز فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه متعلقٌ بالسَّقْي ، على أنها لابتداءِ الغاية ، فإن جَعَلْنا ما قبلها كذلك تَعَيَّن أن يكونَ مجرورُها بدلاً مِنْ مجرور « مِنْ » الأولى؛ لئلا يتعلَّقَ عاملان متحدان لفظاً ومعنىً بعاملٍ واحد وهو ممتنعٌ . وهو مِنْ بدلِ الاشتمالِ؛ لأن المكانَ مشتمِلٌ على ما حَلَّ فيه . وإن جعلْتَها للتبعيض هان الأمرُ .
الثاني : أنها في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ « لَبَناً »؛ إذْ لو تأخَّرَتْ لكانَتْ مع مجرورِها نعتاً له . قال الزمخشري : « وإنما تقدَّم لأنه موضعُ العِبْرة ، فهو قَمِنٌ بالتقديم » .
الثالث : أنَّها مع مجرورِها حالٌ من الموصولِ قبلها .
والفَرْث : فُضالةُ ما يَبْقى مِنَ العَلَفِ في الكِرْش ، وكثيفُ ما يبقى من الأكل في المَعِيّ . ويقال : فَرَثَ كّبِدَه ، أي : فتَّتها ، وأَفْرث فلانٌ فلاناً : أوقعه في بَليَّةٍ تجري مجرى الفَرْث .
قوله : « لَبَنا » هو المفعولُ الثاني لنُسْقي . وقرئ « سَيِّغاً » بتشديد الياء بزِنة « سَيِّد » ، وتصريفُه كتصريفِه . وخَفَّفه عيسى بن عمر نحو : مَيْت وهَيْن . ولا يجوز أن يكون فَعْلاً؛ إذ كان يجب أن يكونَ « سَوْغاً » كقَوْل .

وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)

قوله تعالى : { وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل } : فيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه متعلقٌ بمحذوف ، فقدَّره الزمخشريُّ : « ونُسْقيكم من ثمراتِ النخيل والأعناب ، أي : مِنْ عصيرِها ، وحُذِف لدلالةِ » نُسْقيكم « قبلَه عليه » . قال : « وتَتَّخذون : بيانٌ وكَشْفٌ عن كيفية الإِسقاء » . وقدَّره أبو البقاء : « خَلَقَ لكم وجَعَلَ لكم » .
وما قدَّره الزمخشريُّ أَلْيَقُ ، لا يُقال : لا حاجةَ إلى تقدير « نُسْقيكم » بل قولُه { وَمِن ثَمَرَاتِ } عطفٌ على قولِه { مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } فيكون عَطَفَ بعضَ متعلِّقاتِ الفعلِ الأولِ على بعضٍ ، كما تقول : « سَقَيْتُ زيداً من اللبن ومن العسل » فلا يحتاج إلى تقديرِ فعلٍ قبل قولك « من العسل » ، لا يُقال ذلك لأنَّ « نُسْقيكم » الملفوظَ به وقع تفسيراً لِعبْرة الأنعام فلا يَليقُ تَعَلُّق هذا به ، لأنه ليس من العِبْرة المتعلقةِ بالأنعام . قال الشيخ : « وقيل : متعلِّقٌ ب » نُسْقيكم « . فيكونُ معطوفاً على { مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } أو ب » نُسقيكم « محذوفةً دلَّ عليها » نُسْقِيكم « . انتهى . ولم يُعْقِبْه بنكير ، وفيه ما قَدَّمْتُه آنفاً .
الثاني : أنه متعلِّقٌ ب » تَتَّخذون « و » منه « تكريرٌ للظرف توكيداً نحو : » زيدٌ في الدارِ فيها « قاله الزمخشريٌّ . وعلى هذا فالهاءُ في » منه « فيها ستةُ أوجهٍ . أحدها : أنها تعودُ على المضافِ المحذوفِ الذي هو العصيرُ ، كما رَجَعَ في قوله { أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } [ الأعراف : 4 ] إلى الأهلِ المحذوفِ . الثاني : أنها تعود على معنى الثمراتِ لأنها بمعنى الثَّمَر . الثالث : أنها تعودُ على النخيل . الرابع : أنها تعودُ على الجنس . الخامس : أنها تعودُ على البعض . السادس : أنها تعود على المذكور .
الثالث من الأوجهِ الأُوَلِ : أنه معطوفٌ على قولِه { فِي الأنعام } ، فيكونُ في المعنى خبراً عن اسمِ » إنَّ « في قوله : { وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً } ، التقدير : وإنّ لكم في الأنعام ومن ثمرات النخيل لَعِبْرَةً ، ويكونُ قوله » تتخذون « بياناً وتفسيراً للعِبْرة كما وقع » نُسْقِيكم « تفسيراً لها أيضاً .
الرابع : أن يكونَ خبراً لمبتدأ محذوفٍ فقدَّره الطبريُّ : » ومن ثمراتِ النخيل ما تتَّحذون « / قال الشيخ : » وهو لا يجوزُ على مذهبِ البصريين « . قلت : وفيه نظر؛ لأنَّ له أن يقول : ليسَتْ » ما « هذه موصولةً ، بل نكرةٌ موصوفةٌ ، وجاز حَذْفُ الموصوفِ والصفةُ جملةٌ ، لأن في الكلام » مِنْ « ، ومتى كان في الكلام » مِنْ « اطَّرد الحذفُ نحو : » منا ظَعَنَ ومنا أقام « ولهذا نظَّره مكيٌّ بقولِه تعالى : { وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ } [ الصافات : 164 ] ، أي : إلا مَنْ له مقام .

قال : فَحُذِفَتْ « » مَنْ « لدلالةِ » مِنْ « عليها في قوله » وما مِنَّا « . ولما قدَّر الزمخشري الموصوفَ قدَّره : ثَمَرٌ تتخذون ، ونظَّره بقول الشاعر :
2996- يَرْمي بكفِّيْ كان مِنْ أَرْمى البشر ... تقديرُه : بكفَّيْ رجل ، إلاَّ أنَّ الحذفَ في البيت شاذٌّ لعدم » مِنْ « : ولمَّا ذكر أبو البقاء هذا الوجهَ قال : » وقيل : هو صفةٌ لمحذوفٍ تقديرُه : شيئاً تتخذون منه ، بالنصب ، أي : وإنَّ من ثمراتِ النخيل . وإن شئت « شيء » بالرفعِ بالابتداء ، و { مِن ثَمَرَاتِ } خبرُه « .
والسَّكَر : - بفتحتين - فيه أقوال ، أحدها : أنه من أسماءِ الخمر ، كقول الشاعر :
2997- بئس الصُّحاةُ وبئس الشَّرْبُ شَرْبُهُمُ ... إذا جَرَى فيهم المُزَّاءُ والسَّكَرُ
الثاني : أنه في الأصل مصدرٌ ، ثم سُمِّي به الخمرُ . يقال : سَكِر يَسْكَرُ سُكْراً وسَكَراً ، نحو : رَشِد يَرْشَدُ رُشْداً ورَشداً .
قال الشاعر :
2998- وجاؤُوْنا بهم سَكَرٌ علينا ... فَاَجْلَى اليومُ والسَّكْران صاحي
قاله الزمخشري . الثالث : أنه اسمٌ للخَلِّ بلغةِ الحبشة ، قاله ابن عباس . الرابع : أنه اسمٌ للعصير ما دام حُلْواً ، كأنه سُمِّي بذلك لمآله لذلك لو تُرِكَ . الخامس : أنه اسمٌ للطُعْم قاله أبو عبيدة ، وأنشد :
2999- جَعَلْتَ أعراضَ الكرامِ سَكَراً ... أي : تتقلَّبُ بأعراضِهم . وقيل في البيت : إنه من الخمر ، وإنه إذا انتهك أعراضَ الناسِ كأنه تَخَمَّر بها .
وقوله : { وَرِزْقاً حَسَناً } يجوز أن يكونَ مِنْ عطف المغايِرات ، وهو الظاهرُ . وفي التفسير : أنه كالزَّبيب والخَلِّ ونحوِ ذلك ، وأن يكونَ من عطفِ الصفاتِ بعضِها على بعضٍ ، أي : تتخذون منه ما يُجْمَعُ بين السَّكَرِ والرِّزْقِ الحسن كقوله :
3000- إلى المَلِكِ القَرْمِ وابن الهُمامِ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
البيت .

وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68)

قوله تعالى : { أَنِ اتخذي } : يجوز أن تكونَ مفسِّرةً ، وأن تكون مصدريةً . واستشكل بعضُهُم كونَها مفسرةً . قال : « لأنَّ الوَحْيَ هنا ليس فيه معنى القول؛ إذ هو إلهامٌ لا قولَ فيه » . وفيه نظرٌ؛ لأنَّ القولَ لكلِّ شيءٍ بحسَبِه .
والنَّحْلُ : يذكَّر ويؤنَّث على قاعدةِ أسماء الأجناس . والتأنيثُ فيه لغةُ الحجاز ، وعليها جاء { أَنِ اتخذي } . وقرأ ابن وثَّاب « النَحَل » فيُحتمل أن يكون لغةً مستقلةً ، وأن يكونَ إتباعاً .
و { مِنَ الجبال } « مِنْ » فيه للتبعيض؛ إذ لا يتهيَّأُ لها ذلك في كلِّ جبلٍ ولا شجرٍ . وتقدَّم القول في « يَعْرِشُونَ » ، ومَنْ قرأ بالكسر والفتحِ في الأعراف .

ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)

قوله تعالى : { ذُلُلاً } : جمع ذَلُول . ويجوز أن تكونَ حالاً مِن السُّبُل ، أي : ذَلَّلها اللهُ تعالى ، كقوله : { هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولاً } [ الملك : 15 ] ، وأن تكونَ حالاً مِنْ فاعلِ « اسْلُكي » ، أي : مطيعةً منقادةً . وفي التفسير المعنيان منقولان .
وانتصابُ « سُبُل » يجوز أن يكونَ على الظرفية ، أي : فاسْلُكي ما أكلْتِ في سُبُلِ ربِّك ، أي في مسالكه التي يحيل فيها بقدرته النَّوْر ونحوه عَسَلاً ، وأن يكونَ مفعولاً به ، أي : اسْلكي الطرقَ التي أَفْهَمَكِ وعلَّمَكِ في عَمَلِ العسل . و « مِنْ » في { مِن كُلِّ الثمرات } يجوز ان تكونَ تبعيضيةً ، وأن تكونَ للابتداء على معنى : أنها تأكُلُ شيئاً ينزل من السماء شِبْهَ التَّرَنْجَبِيْن على وَرَق الشجر وثمارِها ، لا أنها تأكلُ نَفْسَ الثمرات ، وهو بعيدٌ جداٌ .
قوله : { يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا } التفاتٌ وإخبارٌ بذلك ، ولو جاءَ على الكلام الأوَّل لقيل : مِنْ بطونِك . والهاء في / « فيه » تعودُ على « شَراب » ، وهو الظاهرُ ، وقيل : تعودُ على القرآن .

وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)

قوله تعالى : { لِكَيْ لاَ } : في هذه اللامِ وجهان ، أحدهما : أنها لامُ التعليل ، و « كي » بعدها مصدريةٌ ليس إلا ، وهي ناصبةٌ بنفسِها للفعلِ بعدَها ، وهي ومنصوبُها في تأويلِ مصدرٍ مجرورٍ باللام ، واللامُ متعلقةٌ ب « يُرَدُّ » . وقال الحوفيُّ : « إنها لامُ كي ، وكي للتأكيد » وفيه نظرٌ؛ لأنَّ اللامَ للتعليلِ و « كي » مصدريةٌ لا إشعارَ لها بالتعليل والحالةُ هذه ، وأيضاً فعلمُها مختلفٌ .
الثاني : إنها لامُ الصَّيْرورةِ .
قوله : « شيئاً » يجوز فيه التنازع؛ وذلك أنه تقدمه عامِلان : « يَعْلَمَ » و « عِلْمٍ » . فعلى رأيِ البصريين - وهو المختار - يكون منصوباً ب « عِلْم » ، وعلى رأيِ الكوفيين يكون منصوباً ب « يَعلم » . وهو مردودٌ؛ إذ لو كان كذلك لأَضْمَرَ في الثاني ، فكان يُقال : لكيلا يعلمَ بعد عِلْمٍ إياه شيئاً .

وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)

قوله تعالى : { فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ } : في هذه الجملةِ أوجهٌ ، أحدُها : أنها على حَذْفِ أداةِ الاستفهام تقديرُه : أَفَهُمْ فيه سواءٌ ، ومعناه النفيُ ، أي : ليسوا مُسْتَوين فيه . الثاني : أنها إخبارٌ بالتساوي ، بمعنى : أن ما تُطْعِمونه وتُلْبِسونه لمماليككم إنما هو رِزْقي أَجْرَيْتُه على أيديهم ، فهم فيه سواءٌ . الثالث : قال أبو البقاء : « إنها واقعةٌ موقعَ فعلٍ » ، ثم جَوَّز في ذلك الفعلِ وَجْهَيْنِ ، أحدهما : أنه منصوبٌ في جوابِ النفي تقديرُه : فما الذين فُضِّلوا برادِّي رزقِهم على ما ملكَتْ أيمانُهم فيَسْتَوُوا . والثاني : أنه معطوفٌ على موضع « برادّي » فيكون مرفوعاً تقديرُه : فما الذين فُضِّلوا يَرُدُّون فما يَسْتَوُوْن .
وقرأ أبو بكر « تَجْحَدون » بالخطابِ مراعاةً لقولِه « بعضَكم » ، والباقونَ بالغَيْبَةِ مراعاةً لقولِه { فَمَا الذين فُضِّلُواْ } .

وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)

قوله تعالى : { وَحَفَدَةً } : في « حَفَدَة » أوجهٌ . أظهرُها : أنه معطوفٌ على « بنين » بقيدِ كونِه من الأزواج ، وفُسِّر هنا بأنه أولادُ الأولادِ . الثاني : أنه مِنْ عطفِ الصفاتِ لشيءٍ واحدٍ ، أي : جَعَلَ لكم بنينَ خَدَماً ، والحَفَدَةُ : الخَدَمُ . الثالث : أنه منصوبٌ ب « جَعَلَ » مقدرةً ، وهذا عند مَنْ يُفَسِّر الحَفَدة بالأعوان والأَصْهار ، وإنما احتيج إلى تقدير « جَعَلَ » لأنَّ « جَعَلَ » الأولى مقيدةٌ بالأزواج ، والأعوانُ والأصهارُ ليسوا من الأزواج .
والحَفَدَةُ : جمع حافِد كخادِم وخَدَم . وفيهم للمفسرين أقوالٌ كثيرةٌ ، واشتقاقُهم مِنْ قولِهم : حَفَد يَحْفِد حَفْداً وحُفوداً وحَفَداناً ، أي : أسرع في الطاعة . وفي الحديث : « وإليك نَسْعَى ونَحْفِدُ » ، أي : نُسْرِعِ في طاعتِك . قال الأعشى :
3001- كَلَّفْتُ مجهولَها نُوْقاً يَمانيةً ... إذا الحُداة على أَكْسائها حَفَدُوا
وقال الآخر :
3002- حَفَدَ الولائدُ حولَهُنَّ وأَسْلَمَتْ ... بأكفِّهنَّ أَزِمَّةَ الأجْمالِ
ويستعمل « حَفَدَ » أيضاً متعدياً . يقال : حَفَدَني فهو حافِدٌ ، وأُنْشِد :
3003- يَحْفِدون الضيفَ في أبياتِهمْ ... كَرَماً ذلك منهم غيرَ ذُلّْ
وحكى أبو عبيدة أنه يقال : « أَحْفَدَ » رباعياً . وقال بعضهم : « الحَفَدَةُ : الأَصْهار ، وأنشد :
3004- فلو أنَّ نفسي طاوَعَتْني لأصبحَتْ ... لها حَفَدٌ ممَّا يُعَدُّ كثيرُ
ولكنها نَفسٌ عليَّ أَبِيَّةٌ ... عَيُوفٌ لإِصهارِ اللِّئامِ قَذْوْرُ
ويقال : سيفٌ مُحْتَفِدٌ ، أي : سريعُ القطع . وقال الأصمعيُّ : » أصلُ الحَفْدِ : مقارَبَةُ الخَطْوِ « .
و » مِنْ « في { مِّنَ الطيبات } للتبعيض .

وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73)

قوله تعالى : { شَيْئاً } : فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه منصوبٌ على المصدرِ ، أي : لا يَمْلِكُ لهم مِلْكاً ، أي : شيئاً من المِلْك . والثاني : أنه بدلٌ مِنْ « رِزْقاً » ، أي : لا يَمْلِكُ لهم شيئاً . وهذا غيرُ مفيدٍ؛ إذ من المعلومِ أنَّ الرزقَ شيءٌ من الأشياء ، ويؤيِّد ذلك : أنَّ البدلَ يأتي لأحدِ معنيين : البيانِ أو التأكيد ، وهذا ليس فيه بيانٌ؛ لأنه أعمُّ ، ولا تأكيدَ . الثالث : أنه منصوبٌ ب « رِزْقاً » على أنه اسمُ مصدرٍ ، واسمُ المصدرِ يعمل عملَ المصدرِ على خلافٍ في ذلك .
ونقل مكيٌّ أن اسمَ المصدرِ لا يعملُ عند البصريين إلا في شعرٍ . قلت : وقد اختلفتِ النقلةُ / عند البصريين : فمنهم مَنْ نَقَلَ المَنْعَ ، ومنهم مَنْ نَقَلَ الجوازَ . وقد ذكر الفارسيُّ انتصابَه ب « رِزْقاً » كما تقدَّم . ورَدَّ عليه ابنُ الطَّراوة بأن الرزْقَ اسم المرزوق كالرَّعْيِ والطَّحْن . ورُدَّ على ابنِ الطراوة : بأنَّ الرِّزْقَ بالكسرِ أيضاً مصدرٌ ، وقد سُمِعَ فيه ذلك . قلت : فظاهرُ هذا أنه مصدرٌ بنفسِه لا اسمُ مصدرٍ .
وقوله : { مِّنَ السماوات } فيه ثلاثةُ أوجهٍ : أحدُها : أنه متعلقٌ ب « يملك » ، وذلك على الإِعرابين الأوَّلَيْنِ في نصبِ « شيئاً » . الثاني : أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل « رزقاً » . الثالث : أن يتعلَّقَ بنفس « رِزْقاً » إن جعلناه مصدراً . وقال ابن عطية : - بعد أن ذكر إعمالَ المصدرِ منوَّناً - « والمصدرُ يعمل مضافاً باتفاق؛ لأنه في تقديرِ الانفصالِ ، ولا يَعْمَل إذ دخله الألفُ واللام؛ لأنه قد تَوَغَّلَ في حالِ الأسماءِ ، وبَعُد عن الفعليَّة ، وتقدير الانفصالِ في الإِضافةِ حَسَّنَ عملَه ، وقد جاء عاملاً مع الألف واللام في قول الشَّاعر :
3005- ضعيفُ النكايةِ أعداءَه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
[ وقوله ] :
3006- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فلم أَنْكِلْ عن الضَرْبِ مِسْمَعا
قال الشيخ : » أمَّا قولُه « باتفاق » : إن عَنَى من البصريين فصحيحُ ، وإن عَنَى مِنَ النحويين فليس بصحيح؛ إذ قد ذهب بعضُهم إلى أنه لا يعمل . فإن وُجِد بعده منصوبٌ أو مرفوعٌ قَدَّر له عاملاً . وأمَّا قولُه « في تقدير الانفصال » فليس كذلك؛ لئلا تكون إضافتُه غيرَ محضةٍ ، كما قال به ابن الطراوة وابن بَرْهان . ومذهبُهما فاسدٌ؛ لأنَّ هذا المصدرَ قد نُعِتَ وأُكِّد بالمعرفة . وقوله « لا يعمل » إلى آخره ناقَضَه بقولِه « وقد جاء عاملاً » إلى آخرِه .
قلت : فغايةُ ما في هذا أنه نحا إلى أقوالٍ قال بها غيرُه . وأمَّا المناقضةُ فليست صحيحةً؛ لأنه عَنَى أولاً أنه لا يَعْمل في السِّعَة ، وثانياً أنه قد جاء عاملاً في الضرورة ، ولذلك قيَّده فقال : « في قول الشاعر » .
قوله : { وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ } يجوز في الجملة وجهان : العطفُ على صلةِ « ما » ، والإِخبارُ عنهم بنفيِ الاستطاعةِ على سبيلِ الاستئنافِ ، ويكون قد جَمَع الضميرَ العائدَ على « ما » باعتبارِ معناها؛ إذ المرادُ بذلك آلهتُهم ، ويجوز أن يكونَ الضميرُ عائداً على العابدين .

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75)

قوله تعالى : { وَمَن رَّزَقْنَاهُ } : يجوزُ في « مَنْ » هذه أن تكونَ موصولةً ، وأن تكونَ موصوفةً . واختاره الزمخشري قال : « كأنه قيل : وحُرَّاً رَزَقْناه ، ليطابِقَ عَبْداً » . ومحلُّها النصبُ عطفاً على « عبداً » . وقد تقدَّم الكلامُ في المَثَلِ الواقعِ بعد « ضَرَبَ » .
قوله : { سِرّاً وَجَهْراً } يجوز أن يكونَ منصوباً على المصدر ، أي : إنفاقَ سِرٍّ وجَهْر ، ويجوز أن يكونَ حالاً .
قوله : { هَلْ يَسْتَوُونَ } إنما جُمِعَ الضميرُ وإن تَقَدَّمَه اثنان؛ لأنَّ المرادَ جنسُ العبيدِ والأحرارِ المدلولِ عليهما بعبد وبمَنْ رَزَقْنَاه . وقيل : على الأغنياءِ والفقراءِ المدلولِ عليهما بهما أيضاً . وقيل : اعتباراً بمعنى « مَنْ » فإنَّ معناها جمعٌ ، راعى معناها بعد ان راعَى لفظَها .
قوله : { وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [ النحل : 74 ] حُذِفَ مفعولُ العِلْمِ اختصاراً أو اقتصاراً .

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)

والكَلُّ : الثقيل ، والكَلُّ : العِيال ، والجمع : كُلُول . والكَلُّ : مَنْ لا وَلَدَ له ولا والدَ ، والكَلُّ أيضاً : اليتيم ، سُمِّي بذلك لثِّقْلِه على كافِلِه . قال الشاعر :
3007- أَكُولٌ لِمالِ الكَلِّ قبل شبابِه ... إذا كان عَظْمُ الكَلِّ غيرَ شديدِ
قوله : { أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ } شرطٌ وجزاؤُه . وقرأ ابنُ مسعودٍ وابن وثاب وعلقمةُ « يُوَجِّهْ » بهاءٍ ساكنة للجزم . وفي فاعلِه وجهان ، أحدُهما : أنه ضميرُ الباري تعالى ، ومفعولُه محذوفٌ ، تقديرُه كقراءةِ العامة . والثاني : أنه ضميرُ الأبكم ، ويكون « يُوَجِّه » لازماً بمعنى تَوَجَّه ، يقال : وَجَّه وتَوَجَّه بمعنى .
وقرأ علقمةُ أيضاً وطلحةُ كذلك ، إلا أنه بضم الهاء ، وفيها أوجهُ ، أحدها : أنَّ « أينما » ليست هنا شرطيةً و « يُوَجِّهُ » خبرُ مبتدأ مضمرٍ ، أي : أينما هو يُوَجِّهُ ، أي : الله تعالى ، والمفعولُ محذوفٌ/ أيضاً ، وحُذِفَتْ الياءُ مِنْ { لاَ يَأْتِ } تخفيفاً ، كما حُذِفَتْ في قولِه { يَوْمَ يَأْتِ } [ هود : 106 ] و { إِذَا يَسْرِ } [ الفجر : 4 ] . ورُدَّ هذا بأن « أينما » إما شرط أو استفهام فقط ، والاستفهام هنا غير لائق . والثاني أنَّ لامَ الكلمةِ حُذِفَتْ تخفيفاً لأجلِ التضعيفِ ، وهذه الهاءُ هي هاءُ الضمير فلم يُحِلَّها جزم . ذكر هذين الوجهين أبو الفضل الرازي .
الثالث : أن « أينما » أُهْمِلَتْ حَمْلاً على « إذا » لما بينهما من الأُخُوَّة في الشرط ، كما حُمِلَتْ « إذا » عليها في الجزم في نفسِ المواضع ، وحُذِفت الياءُ مِنْ « يَأْتِ » تخفيفاً أو جزماً على التوهم ، ويكون « يُوَجِّهُ » لازماً بمعنى يَتَوَجَّه كما تقدَّم .
[ وقرأ عبدُ الله أيضاً ] . وقال أبو حاتم - وقد حكى هذه القراءة - « هذه ضعيفةٌ؛ لأنَّ الجزمَ لازمٌ » وكأنه لم يعرف توجيههَا .
وقرأ علقمةُ وطلحةُ « يُوَجَّهْ » بهاءٍ واحدة ساكنةٍ للجزم والفعلُ مبنيٌّ للمفعولِ ، وهي واضحةٌ .
وقرأ ابن مسعود أيضاً « تُوَجِّهْه » كالعامَّةِ ، إلا أنه بتاء الخطاب وفيه التفاتٌ .
وفي الكلام حَذْفٌ ، وهو حَذْفُ المقابلِ لقوله { أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ } كأنه قيل : والآخرُ ناطِقٌ متصرفٌ في مالِه ، وهو خفيفٌ على مولاه ، أينما يُوَجِّهْهُ يأتِ بخيرٍ . ودَلَّ على ذلك قولُه : { هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بالعدل } .
ونَقَلَ أبو البقاء أنه قُرِئ « أينما تَوَجَّهَ » فعلاً ماضياً ، فاعلُه ضميرُ الأبكم .
وقوله : { وَمَن يَأْمُرُ } الراجحُ أَنْ يكونَ مرفوعاً عطفاً على الضميرِ المرفوعِ في « يَسْتوي » ، وسَوَّغَه الفصلُ بالضمير . والنصبُ على المعيَّة مرجوحٌ . { وَهُوَ على صِرَاطٍ } الجملةُ : إمَّا إستئنافٌ أو حالٌ .

وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)

قوله تعالى : { أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } : أي : أو أَمْرٌ ، فالضميرُ للأمر ، والتقدير : أو أمرُ الساعةِ أقربُ من لَمْحِ البصر .

وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)

قوله تعالى : { لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً } : الجملةُ حالٌ مِنْ مفعول « أَخْرجكم » ، أي : أخرجكم غيرَ عالِمين . و « شيئاً » إمَّا مصدرٌ ، أي : شيئاً من العلم ، وإمَّا مفعولٌ به . والعِلْمُ هنا العِرْفان . وقد تقدَّم الكلامُ في « أمَّهاتكم » في النساء .
قوله : « وَجَعَلَ » يجوز أن يكونَ معطوفاً على « أَخْرجكم » فيكونَ داخلاً فيما أَخْبر به عن المبتدأ ، ويجوز أن يكونَ مستأنفاً .
والأَفْئِدَةُ : جمعُ « فؤاد » وقد تقدَّم . وقال الرازي : « إنما جُمِعَ جَمْعَ قِلَّة؛ لأنَّ أكثرَ الناسِ مشغولون بأفعالٍ بهيمية فكأنهم لا فؤادَ لهم » . وقال الزمخشري : « إنه من الجموع التي استُعْمِلت للقلة والكثرة ، ولم يُسمع فيها غيرُ القلة ، نحو : » شُسُوع « فإنها للكثرة ، ويستعمل في القِلة ، ولم يُسْمَع غيرُ شُسُوع » . كذا قال ، وفيه نظر . سُمِع منهم « أَشْسَاع » فكان ينبغي أن يقول : غَلَبَ شُسُوع .

أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)

قوله تعالى : { مَا يُمْسِكُهُنَّ } : يجوز أن تكون الجملةُ حالاً من الضمير المستتر في « مُسَخَّراتٍ » ، ويجوز ان تكونَ من « الطير » ، ويجوز أن تكونَ مستأنفةً .

وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80)

قوله تعالى : { سَكَناً } : يجوز أن يكونَ مفعولاً اولَ ، على أنَّ الجَعْلَ تصييرٌ ، والمفعولُ الثاني أحدُ الجارَّيْنِ قبله . ويجوز أن يكونَ الجَعْلُ بمعنى الخَلْقِ فيتعدَّى لواحدٍ . وإنما وَحَّد السَّكن لأنه بمعنى ما تَسْكُنُون فيه ، قاله أبو البقاء : وقد يُقال : إنه في الأصل مصدرٌ ، وإليه ذهب ابن عطية فتوحيدُه واضحٌ . إلا أنَّ الشيخ منه كونَه مصدراً ، ولم يذكر وَجْهَ المنعِ ، وكأنه اعتمد على قولِ أهل اللغة أن « السَّكَن » فَعَل بمعنى مَفْعُول كالقَبْضِ والنَّقَض بمعنى المقبوض والمنقوض ، وأنشد الفراء :
3008- جاء الشتاءُ ولَمَّا أتخِذْ سَكَناً ... يا ويحَ نفسي مِنْ حَفْرِ القراميصِ
قوله : { يَوْمَ ظَعْنِكُمْ } قرأ نافعٌ وابن كثير وأبو عمرو بفتح العين؛ والباقون بإسكانها ، وهما لغتان بمعنىً كالنَّهْر والنَّهَر . وزعم بعضُهم أن الأصلَ الفتحُ ، والسكونُ تخفيفٌ لأجلِ حرفِ الحلق كالشَّعْر في الشعَر .
قوله : { أَثَاثاً } فيه وجهان ، أحدهما : أنه منصوبٌ عطفاً على « بُيوتاً » ، أي « وَجَعَلَ لكم من أصوافِها أثاثاً ، وعلى هذا فيكونُ قد عطف مجروراً على مجرور ومنصوباً على منصوبٍ ، ولا فَصْلَ هنا بين حرفِ العطفِ والمعطوف حينئذٍ . وقال أبو البقاء : » وقد فُصِلَ بينه وبين حرفِ العطفِ بالجارِّ والمجرور وهو قولُه { وَمِنْ أَصْوَافِهَا } ، وهو ليس بفصلٍ مستقبَحٍ كما زعم في « الإِيضاح »؛ لأنَّ الجارَّ والمجرورَ مفعول ، وتقديمُ / مفعولٍ على مفعولٍ قياسٌ « . وفيه نظرٌ؛ لِما عَرَفْتَ من أنه عَطْفُ مجرورٍ على مثلِه ومنصوبٍ على مثله .
والثاني : أنه منصوبٌ على الحالِ ، ويكون قد عَطَفَ مجروراً على مثلِه ، تقديرُه : وجَعَل لكم مِنْ جلودِ الأنعام ومِنْ أصوافِها وأوبارِها وأشعارِها بيوتاً حالَ كونِها أثاثاً ، فَفَصَل بالمفعول بين المتعاطفين . وليس المعنى على هذا ، إنما هو على الأول .
وقوله : { كَلَمْحِ البصر } [ النحل : 77 ] : اللَّمْحُ مصدرُ لَمَحَ يَلْمَح لَمْحاً ولَمَحاناً ، أي : أَبْصَرَ بسرعة . وقيل : أصلُه من لَمْحِ البرق ، وقولهم » لأُرِيَنَّك لَمْحاً باصراً « ، أي : أمراً واضحاً .
وقوله : { فِي جَوِّ السمآء } [ النحل : 79 ] : الجَوُّ : الهواء ، وهو ما بين السماءِ والأرض . قال :
3009- فلستَ لإِنْسيٍّ ولكن لِمَلأَكٍ ... تَنَزَّلَ مِنْ جَوِّ السماء يَصُوبُ
وقيل : الجَوُّ ما يلي الأرضَ في سَمْتِ العُلُوِّ ، واللُّوح والسُّكاك أبعدُ منه .
وقوله : » ظَعْنِكم « مصدرُ ظَعَن ، أي : ارْتَحَلَ ، والظَّعِيْنَةُ الهَوْدَجُ فيه المرأةُ ، وإلا فهو مَحْمَلٌ ، ثم كَثُر حتى قيل للمرأة ، ظَعينة .
وقال أهل اللغة : الأصوافُ للضَّأْن ، والأَوْبار للإِبِل ، والشَّعْر للمَعِز . والأَثاث : مَتاعُ البيت إذا كان كثيراً . وأصلُه مِنْ أثَّ الشعرُ والنَّباتُ إذا كَثُفا وتكاثرا . قال امرؤ القيس :
3010- وفَرْعٍ يُغْشَي المَتْنَ أسودَ فاحمٍ ... أثيثٍِ كقِنْوِ النخلةِ المُتَعَثْكِلِ
ونساء أَثائِثُ ، أي : كثيراتُ اللحمِ ، كأنَّ عليهن أَثاثاً ، وتَأَثَّث فلانٌ : كَثُر أثاثُه . وقال الزمخشري : » الأثاث ما جَدَّ مِنْ فَرْشِ البيت ، والخُرْثِيُّ : ما قَدُم منها « ، وأنشد :

3011- تقادَم العهدُ مِنْ أُمِّ الوليد بنا ... دَهْراً وصار أثاثُ البيتِ خُرْثِيَّا
وهل له واحدٌ من لفظه؟ فقال الفراء : لا . وقال أبو زيد : « واحدة : أَثاثَةٌ ، وجمعُه في القلَّة » أثِثَّة ، كبَتات وأَبِتَّة « . قال الشيخ : » وفي الكثير على « أَثَثٍ » . وفيه نظر؛ لأنَّ فَعالاً المُضَعَّف يلزمُ جَمْعُه على أَفْعِلَة في القلة والكثرة ، ولا يُجْمع على فُعُل إلا في لفظتين شَذَّتا ، وهما : عُنُن وحُجُج جمع عِنان وحِجاج ، وقد نصَّ النحاة على مَنْع القياس عليهما ، فلا يجوز : زِمام وزُمُم بل أَزِمَّة . وقال الخليل : « الأَثَاثُ والمَتاع واحدٌ ، وجُمِع بينهما لاختلافِ لَفْظَيْهما كقوله :
3012- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وأَلْفَى قولَها كَذِباً ومَيْنا
[ وقوله ] :
3013- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . أتى مِنْ دونِها النَّأْيُ والبُعْدُ

وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)

قوله تعالى : { أَكْنَاناً } : جمع « كِنّ » وهو ما حَفِظ مِن الريح والمطرِ ، وهو في الجبل : الغار .
قوله : { تَقِيكُمُ الحر } قيل : حُذِف المعطوفُ لفَهْمِ المعنى ، أي : والبردَ كقوله :
3014- كأنَّ الحصى مِنْ خلفِها وأمامِها ... إذا نَجَلَتْه رِجْلُها حَذْفُ أَعْسرا
أي : ويدُها ، وقيل : لا حاجةَ إلى ذلك لأنَّ بلادَهم حارَّة . وقال الزجاج : « اقتصر على ذِكْر الحرِّ؛ لأنَّ ما يقيه يَقي البردَ » . وفيه نظرٌ للاحتياجِ إلى زيادةٍ كثيرةٍ لوقاية البرد .
قوله : { كَذَلِكَ يُتِمُّ } أي : مِثْلَ ذلك الإِتمامِ السابقِ يُتِمُّ نعمتَه عليكم في المستقبل . وقرأ ابن عباس : « تَتِمُّ » بفتح التاءِ الأولى ، « نِعْمَتُه » بالرفع على الفاعلية . وقرأ أيضاً « نِعَمه » جمع « نعمة » مضافةً لضميرِ الله تعالى . وعنه : { لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } بفتح التاءِ واللامِ مضارع « سَلِم » من السَّلامة ، وهو مناسبٌ لقولِه { تَقِيكُم بَأْسَكُمْ } ؛ فإنَّ المرادَ به الدُّروعُ الملبوسةُ في الحرب .

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82)

قوله تعالى : { فَإِن تَوَلَّوْاْ } يجوز أن يكونَ ماضياً ، ويكون التفاتاً مِن الخطاب المتقدَّم ، وأن يكونَ مضارعاً ، والأصل : تَتَوَلَّوا بتاءَيْن فحذف نحو : { تَنَزَّلُ } [ القدر : 4 ] و { تَذَكَّرُونَ } [ الأنعام : 152 ] ، ولا التفاتَ على هذا بل هو جارٍ على الخطابِ السابق .
قوله : { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ } هو جوابُ الشرط ، وفي الحقيقة جوابُ الشرطِ محذوفٌ ، أي : فأنتَ معذورٌ ، وإنما ذلك على إقامةِ السببِ مُقامَ المسبب؛ وذلك لأنَّ تبليغَه سببٌ في عُذْرِه ، فَأُقيم السببُ مُقامَ المُسَبَّب .

يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)

قوله تعالى : { ثُمَّ يُنكِرُونَهَا } : جِيْءَ ب « ثُمَّ » هنا للدلالةِ على أنَّ إنكارَهم أمرٌ مستبعدٌ بعد حصولِ المعرفة؛ لأنَّ مَنْ عَرَفَ النعمة حَقُّه أن يَعْتَرِفَ لا أَنْ يُنْكِرَ .

وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84)

قوله تعالى : { وَيَوْمَ نَبْعَثُ } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه منصوبٌ بإضمارِ اذكر . الثاني : بإضمارِ « خَوِّفْهم » . الثالث : تقديره : ويوم نَبْعَثُُ وقعوا في أمرٍ عظيم . الرابع : أنه معطوفٌ على ظرفٍ محذوف ، أي : ينكرونها اليومَ ويوم نَبْعَثُ .
/قوله : { ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ } قال الزمخشري : « فإن قلتَ : ما معنى » ثم « هذه؟ قلت : معناه أنهم يُمَنَّوْن بعد شهادةِ الأنبياء بما هو أَطَمُّ منه ، وهو أنهم يُمْنَعُون الكلام ، فلا يُؤْذَنُ لهم في إلقاءِ مَعْذرةٍ ولا إدلاءٍ بحجةٍ » . انتهى . ومفعولُ الإِذنِ محذوفٌ ، أي : لا يُؤْذَنُ لهم في الكلامِ ، كما قاله الزمخشري ، أو : في الرجوعِ إلى الدنيا .
قوله : { وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } أي : لا تُزال عُتْباهم ، وهي ما يُعْتَبُون عليها ويُلامون . يقال : اسْتَعْتَبْتُ فلاناً بمعنى أَعْتَبْتُه ، أي : أزلت عُتْباه ، واستفعل بمعنى أَفْعل غيرُ مُسْتَنْكَرٍ . قالوا : اسْتَدْنَيْتُ فلاناً ، وأَدْنَيْتُه ، بمعنىً واحد . وقيل : السين على بابها من الطلب ، ومعناه : أنهم لا يُسْأَلون أن يَرْجِعُوا عَمَّا كانوا عليه في الدنيا ، فهذا استعتابٌ معناه طَلَبُ عُتْباهم . وقال الزمخشري : « ولا هم يُسْتَرْضَوْن أي : لا يُقال لهم : أَرْضُوا ربَّكم؛ لأن الآخرةَ ليست بدارِ عملٍ » . وسيأتي لهذا مزيدُ بيانٍ إن شاء الله في سورة حم السجدة؛ لأنه أَلْيَقُ به لاختلافِ القرَّاء فيه .

وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85)

قوله تعالى : { فَلاَ يُخَفَّفُ } : هذه الفاءُ وما في حيِّزِها جوابُ « إذا » ولا بُدَّ من إضمارِ مبتدأ قبلَ هذه الفاءِ ، أي : فهو لا يُخَفَّفُ ، لأنَّ جوابَ « إذا » متى كان مضارعاً لم يَحْتَجْ إلى فاءٍ سواءً كان موجَباً كقولِه تعالى : { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ } [ الحج : 72 ] أم منفيَّاً نحو : « إذا جاء زيدٌ لا يكرُمك » .

وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87)

قوله تعالى : { السلم } : العامَّةُ على فتحِ السين واللام وقرأ أبو عمروٍ في روايةٍ بسكونِ اللامِ . ومجاهدٌ بضم السين واللام . وكأنه جمع « سَلام » نحو قَذَال وقُذُل ، والسَّلام والسَّلَم واحدٌ ، وقد تقدَّم الكلامُ عليهما في سورة النساء .

الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)

قوله تعالى : { الذين كَفَرُواْ } : يجوز أن يكونَ مبتدأً ، والخبرُ « زِدْناهم » وهو واضحٌ . وجوَّز ابنُ عطية أن يكونَ { الذين كَفَرُواْ } بدلاً مِنْ فاعلِ « يَفْتَرُوْن » ، ويكون « زِدْناهم » مستأنفاً . ويجوز أن يكونَ { الذين كَفَرُواْ } نصباً على الذمِّ أو رفعاً عليه ، فَيُضْمَرُ الناصبُ والمبتدأُ وجوباً .

وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)

قوله تعالى : { تِبْيَاناً } : يجوز أن يكونَ في موضعِ الحال ، ويجوز أن يكونَ مفعولاً مِنْ أجله وهو مصدرٌ ، ولم يَجِيءْ من المصادرِ على هذه الزِّنَةِ إلا لفظان : هذا وتِلْقاء ، وفي الأسماء كثيرٌ نحو : التِّمْساح والتِّمْثال . وأمَّا المصادرُ فقياسُها فتحُ الأولِ دلالةً على التكثير كالتِّطواف والتِّجْوال . وقال ابن عطية : « إن التِّبْيان اسمٌ وليس بمصدرٍ » ، والنَّحْويون على خلافِه .
قوله : « للمُسْلمين » متعلقٌ ب « بُشْرَى » وهو متعلقٌ من حيث المعنى ب { وَهُدًى وَرَحْمَةً } أيضا . وفي جوازِ كونِ هذا من التنازعِ نظرٌ من حيث لزومُ الفصلِ بين المصدرِ معمولِه بالمعطوفِ حالَ إعمالِك غيرَ الثالِث فتأمَّله . وقياسُ مَنْ جَوَّز التنازعَ في فعلِ التعحبِ والتزم إعمال الثاني لئلا يَلْزَمَ الفصلُ أن يُجَوِّز هذا على هذه الحالةِ .

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)

قوله تعالى : { وَإِيتَآءِ ذِي القربى } : مصدرٌ مضافٌ لمفعوله ولم يَذْكر متعلِّقاتِ العدلِ والإِحسانِ والبَغْي لِيَعُمَّ جميعَ ما يُعْدَلُ فيه ، ويُحْسَنُ به إليه ، ويُبغى فيه؛ فلذلك لم يذكُرِ المفعولَ الثاني للإِيتاء ، ونَصَّ على الأول حَضَّاً عليه لإِدلائه بالقرابة ، فإنَّ إيتاءَه صدقَةٌ وصِلَةٌ .
قوله : « يَعِظُكم » يجوز ان يكونَ مستأنفاً في قوة التعليل للأمرِ بما تقدَّم ، أي : إنَّ الوعظَ سببٌ في أمره لكم بذلك . وجَوَّز أبو البقاء أن يكونَ حالاً من الضمير في « يَنْهَى » ، وفي تخصيصِه الحالَ بهذا العاملِ فقط نظرٌ؛ إذ يظهرُ جَعْلُه حالاً مِنْ فاعل « يأمرُ » أيضاً ، بل أَوْلى؛ فإن الوعظ يكونُ بالأوامر والنواهي ، فلا خصوصيةَ له بالنهي .

وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91)

قوله تعالى : { بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } : متعلقٌ بفعل النهي . والتوكيدُ مصدرُ وَكَّدُ يُوَكِّدُ بالواو ، وفيه لغةٌ أخرى : أَكَّد يُؤَكِّد بالهمز ، وهذا كقولِهم : وَرَّخْتُ الكتابَ وأرَّخْتُه ، وليست الهمزة بدلاً من واوٍ كما زعم أبو إسحق؛ لأنَّ الاستعمالين في المادتين متساويان ، فليس ادِّعاءُ كونِ أحدهما أصلاً أَوْلَى من الآخر .
وتبع مكيٌّ الزجاجَ في ذلك ثم قال : « ولا يَحْسُن أَنْ يقال : الواوُ بدلٌ من الهمزة ، كما لا يَحْسُنُ أن يقالَ ذلك في » أَحَد «؛ إذ أصلُه » وَحَد « ، فالهمزةُ بدل من الواو » . يعني أنه لا قائلَ بالعكس ، وكذلك تَبِعه في ذلك الزمخشري أيضاً . و « تَوْكِيدها » مصدرٌ/ مضافٌ لمفعوله .
وأدغم أبو عمروٍ الدالَ في التاء ، ولا ثانيَ له في القرآنِ ، أعني أنه لم تُدْغَمْ دالٌ مفتوحةٌ بعد ساكنٍ إلا في هذا الحرفِ .
قوله : { وَقَدْ جَعَلْتُمُ } الجملةُ حالٌ : إمَّا مِنْ فاعلِ « تَنْقُضوا » ، وأما من فاعلِ المصدرِ ، وإن كان محذوفاً .

وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)

قوله تعالى : { أَنكَاثاً } : يجوز فيه وجهان ، أظهرُهما : أنه حالٌ مِنْ « غَزْلها » . والأَنْكاث : جمعُ نِكْث بمعنى مَنْكوث ، أي : منقوضٌ . والثاني : أنه مفعولٌ ثانٍ لتضمين « نَقَضَتْ » معنى « صَيَّرَتْ » . وجَوَّز الزجاجُ فيه وجهاً ثالثاً وهو : النصبُ على المصدرية؛ لأنَّ معنى نَقَضَتْ : نَكَثَتْ ، فهو مُلاقٍ لعاملِه في المعنى .
قوله : « تَتَّخذون » يجوز أن تكونَ الجملةُ حالاً من واو « تكونوا » أو من الضمير المستتر في الجارِّ ، إذ المعنى : لا تكونوا مُشْبهين كذا حالَ كونِكم متَّخذين .
قوله : { دَخَلاً بَيْنَكُمْ } هو المفعولُ الثاني ل « تَتَّخذون » . والدَّخَل : الفسادُ والدَّغَلُ . وقيل : « دَخَلاً » : مفعولٌ من أجله . وقيل : الدَّخَل : الداخلُ في الشيءِ ليس منه .
قوله : { أَن تَكُونَ } ، أي : بسبب أَنْ تكونَ ، أو مخافةَ أَنْ تكونَ . و « تكون » يجوزُ أَنْ تكونَ تامةً ، فتكون « أمَّةٌ » فاعلَها ، وأن تكونَ ناقصةً ، فتكون « أمَّةٌ » اسمَها ، و « هي » مبتدأ ، وأَرْبَى « خبرُه . والجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال ، على الوجه الأول ، وفي موضعِ الخبرِ على الثاني . وجوَّز الموفيون أن تكونَ » أُمَّةٌ « اسمَها ، و » هي « عمادٌ ، أي : ضميرُ فَصْلٍ ، و » أربَى « خبرُ » تكون « ، والبصريون لا يُجيزون ذلك لأجل تنكيرِ الاسمِ ، فلو كان الاسمُ معرفةً لجاز ذلك عندهم .
قوله : » به « يجوز أن يعودَ الضميرُ على المصدر المنسبك مِنْ { أَن تَكُونَ } تقديره : إنما يَبْلُوكم الله بكونِ أُمَّة ، أي : يختبركم بذلك . وقيل : يعودُ على » الربا « المدلولِ عليه بقولِه { هِيَ أَرْبَى } وقيل : على الكثرة ، لأنها في معنى الكثير . قال ابن الأنباري : » لَمَّا كان تأنيثُها غيرَ حقيقي حُمِلَتْ على معنى التذكير ، كما حُمِلت الصيحةُ على الصِّياح « ولم يتقدمْ للكثرةِ لفظٌ ، وإنما هي مدلولٌ عليها بالمعنى مِنْ قوله { هِيَ أَرْبَى } .

وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94)

قوله تعالى : { فَتَزِلَّ } : منصوبٌ بإضمار « أَنْ » على جوابِ النهي .
قوله : { بِمَا صَدَدتُّمْ } : « ما » مصدريةٌ ، و « صَدَدْتُمْ » يجوز أن يكونَ من الصُّدود ، وأن يكونَ مِن الصَدِّ ، ومفعولُه محذوفٌ . ونُكِّرت « قَدَمٌ » : قال الزمخشري : « فإن قلت : لِمَ وُحِّدَتِ القَدَمُ ونُكِّرَتْ؟ قلت : لاستعظامِ أن تَزِلَّ قدمٌ واحدةٌ عن طريقِ الحق بعد أن ثَبَتَتْ عليه فكيف بأقدامٍ كثيرة »؟ .
قال الشيخ : « الجمع تارةً يُلْحَظُ فيه المجموعُ من حيث هو مجموعٌ ، وتارةً يُلحظ فيه كلُّ فردٍ فردٍ . فإذا لُوْحظ فيه المجموعُ كان الإِسنادُ معتبراً فيه الجمعيَّةُ ، وإذا لُوْحظ فيه كلُّ فردٍ فردٍ كان الإِسناد مطابقاً للفظِ الجمع كثيراً ، فيُجْمع ما أُسند إليه ، ومطابقاً لكلِّ فردٍ فردٍ فيُفْرد ، كقوله تعالى : { وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً وَآتَتْ } لمَّا كان لُوْحِظ في قوله » لهنَّ « معنى لكلِّ واحدة ، ولو جاء مُراداً به الجمعيةُ أو الكثيرُ في الوجهِ الثاني لجُمِع المتكأ ، وعلى هذا المعنى يُحمل قول الشاعر :
3015- فإني وَجَدْتُ الضَّامِرينَ متاعُهمْ ... يَمُوْتُ ويَفْنَى فارْضِخِي مِنْ وعائيا
أي : رأيتُ كلَّ ضامرٍ؛ ولذلك أَفْرَدَ الضميرَ في » يموتُ ويَفْنى « ولمَّا كان المعنى : لا يَتَّخِذُ كلُّ واحدٍ منكم جاء » فَتَزِلَّ قَدَمٌ « ، مراعاةً لهذا المعنى ، ثم قال : وتَذُوقْوا ، مراعاةً للمجموع [ أو ] لِلَفْظِ الجمع على الوجهِ الكثيرِ إذا قلنا : إن الإِسنادَ لكل فردٍ فرد ، فتكون الآية قد تعرَّضتْ للنهي عن اتخاذ الأَيْمَانِ دَخَلاً باعتبار المجموعِ ، وباعتبارِ كل فردٍ فرد ، ودَلَّ على ذلك بإفراد » قَدَم « وبجَمْعِ الضمير في » وتَذُوْقوا « .
قلت : وبهذا التقديرِ الذي ذكره الشيخ يفوتُ المعنى الجَزْلُ الذي اقتنصَه أبو القاسم مِنْ تنكير » قَدَم « وإفرادها . وأمَّا البيتُ المذكورُ فإنَّ النَّحْويين خَرَّجوه على أن المعنى : يموت مَنْ ثُمَّ ، ومَنْ ذُكِرَ ، فأفرد الضميرَ لذلك لما لا لِما ذكر .

مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96)

قوله تعالى : { مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ } : مبتدأ وخبر . والنَّفَادُ : الفناءُ والذِّهابُ يقال : نَفِذ بكسر العين يَنْفَذُ بفتحها نَفَاذاً ونُفُوذاً . وأمَّا « نَفَذَ » بالذالِ المعجمة فَفِعْلُه نَفذَ بالفتح يَنْفُذُ بالضم ، وسيأتي . ويُقال : أَنْفَد القومُ . فَنِي زادُهم ، وخَصْمٌ مُنافِدٌ ، لِيَنْفِد حجةَ صاحبِه ، يقال : نافَدْتُه فَنَفِدْتُه .
وقوله « باقٍ » قد تقدَّم الكلامُ في الوقف عليه في الرعد .
قوله : { وَلَنَجْزِيَنَّ الذين } قرأ ابن كثير وعاصم وابن ذكوان { وَلَنَجْزِيَنَّ } بنونِ العظمة ، التفاتاً من الغَيْبة إلى التكلم . وتقدَّم تقريرُ الالتفاتِ . والباقون بياء الغَيْبة رجوعاً إلى الهِ لتقدُّم ذكرِه العزيز في قولِه تعالى / { وَمَا عِندَ الله بَاقٍ } .
وقوله : { بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ } يجوز أن تكونَ أَفْعَل على بابِها من التفضيل ، وإذا جازاهم بالأحسنِ فَلأَنْ يُجازِيَهم بالحَسَن من باب الأَوْلَى . وقيل : ليسَتْ للتفضيلِ ، وكأنهم فَرُّوا مِنْ مفهومِ أفْعل؛ إذ لا يلزم من المجازاةِ بالأحسنِ المجازاةُ بالحَسَن . وهو وَهْمٌ لما تقدَّم مِنْ أنه مِنْ مفهوم الموافقة بطريق الأَوْلى .

مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)

قوله تعالى : { مِّن ذَكَرٍ } : « مِنْ » للبيان فتتعلقُ بمحذوفٍ ، أي : أَعْنِي مِنْ ذَكَر . ويجوزُ أن يكونَ حالاً مِنْ فاعل « عَمِل » .
قوله : { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } جملةٌ حاليةٌ أيضاً .
قوله : { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ } راعى معنى « مَنْ » فَجَمع الضميرَ بعد أن راعَى لفظَهَا فَأَفْرَدَ في « فَلَنُحْيِيَنَّهُ » وما قبله ، وقرأ العامَّةُ « وَلَجْزِيَنَّهم » بنونِ العظمةِ مراعاةً لِما قبله . وقرأ ابنُ عامر في روايةٍ بياء الغيبة ، وهذا ينبغي أن يكونَ على إضمارِ قَسَمٍ ثانٍ ، فيكونَ من عطفِ جملةٍ قَسَميةٍ على قَسَمِيةٍ مثلِها ، حُذفتا وبقي جواباها .
ولا جائزٌ أن يكونَ مِنْ عطفِ جوابٍ على جواب لإِفضائِه إلى أخبارِ المتكلم عن نفسِه بإخبار الغائب ، وهو لا يجوزُ . لو قلت : « زيد قال : واللهِ لأَضْرِبَنَّ هنداً ولَينفينَّها » تريد : ولَينفينَّها زيدٌ ، لم يَجُزْ . فإن أَضْمَرْت قسماً آخرَ جاز ، أي : وقال : واللهِ لينفينَّها؛ لأنَّ لك في مثلِ هذا التركيبِ أن تحكيَ لفظه ، ومنه { وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحسنى } [ التوبة : 107 ] وأن تحكيَ معناه ، ومنه { يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ } [ التوبة : 74 ] ولو جاء على اللفظ لقيل : ما قلنا .

فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)

قوله تعالى : { فَإِذَا قَرَأْتَ } أي : فإذا أَرَدْتَ ، فأضمرتَ الإِرادةَ . قال الزمخشري : « لأنَّ الفعلَ يوجد عند القصدِ والإِرادةِ من غير فاصلٍ وعلى حسبِه ، فكان منه بسببٍ قوي وملابسةٍ ظاهرة » . وقال ابن عطية : « ف » إذا « وَصْلةٌ بين الكلامين ، والعربُ تستعملها في مثل هذا ، وتقدير الآية : فإذا أَخَذْتَ في قراءةِ القرآن فاسْتَعِذْ » . قلت : وهذا هو مذهبُ الجمهورِ من القُرَّاء والعلماء ، وقد أخذ بظاهرِ الآية ، فاستعاذ بعد أن قرأ ، من الصحابة أبو هريرة ، ومن الأئمة مالك وابن سيرين ، ومن القرَّاء حمزة .

إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)

قوله تعالى : { بِهِ مُشْرِكُونَ } : يجوز أن يعودَ الضميرُ على الشيطانِ ، وهو الظاهرُ؛ لتتحدَ الضمائرُ . والمعنى : والذين هم مشركون بسببه . وقيل : والذين هم بإشراكهم إبليس مشركون باللهِ . ويجوز أن يعودَ على « ربهم » .

وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)

قوله تعالى : { والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ } : في هذه الجملةِ وجهان ، أظهرهما : أنها اعتراضيةٌ بين الشرطِ وجوابه . والثاني : أنها حاليةٌ ، وليس بظاهرٍ . وقوله : { إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ } نسبوا إليه صلى الله عليه وسلم الافتراءَ بأنواعٍ من المبالغات : الحصرِ والخطابِ واسمِ الفاعل الدالِّ على الثبوتِ والاستقرار . ومفعول « لا يَعْلمون » محذوفٌ للعلمِ به ، أي : لا يعلمون أنَّ في نَسْخِ الشرائعِ وبعضِ القرآنِ حِكَماً بالغة .

قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)

قوله تعالى : { لِيُثَبِّتَ } : متعلقٌ ب « نَزَّله » . و « هدى وبشرى » يجوز أَنْ يكونا عطفاً على محلِّ « ليُثَبِّتَ » فيُنْصبان ، أو على لفظِه باعتبارِ المصدرِ المُؤَوَّل فَيُجَرَّان . وقد تقدَّم كلامُ الزمخشريِّ في نظيرِهما ، وما رَدَّ به الشيخُ ، وما رُدَّ به عليه . وجوَّز أبو البقاء ارتفاعَهما خَبَرَيْ مبتدأ محذوفٍ ، أي : وهو هُدَىً ، والجملةُ حالٌ .
وقرئ « لِيُثْبِتَ » مخففاً مِنْ أَثْبتَ .

وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)

قوله تعالى : { لِّسَانُ الذي } : العامَّة على إضافة « لسان » إلى ما بعدَه . واللِّسانُ : اللغة . وقرأ الحسن « اللسان » معرَّفاً بأل ، و « الذي » نعتٌ له . وفي هذه الجملة وجهان ، أحدُهما : لا محلَّ لها لاستئنافِها ، قاله الزمخشري . والثاني : أنها حالٌ مِنْ فاعل « يقولون » ، أي : يقولون ذلك والحالُ هذه ، أي : عِلْمُهم بأعجميةِ هذا البشرِ وإبانةِ عربيَّةِ هذا القرآنِ كان ينبغي أَنْ يمنَعهم من تلك المقالةِ ، كقولِك : « تَشْتُمُ فلاناً وهو قد أحسنَ إليك » ، أي : وعِلْمُك بإحسانِه إليك كان يمنعُك مِنْ شَتْمِهِ ، قاله الشيخ . ثم قال : « وإنما ذهب إلى الاستئنافِ لا إلى الحالِ؛ لأنَّ مِنْ مذهبِه أنَّ مجيءَ الحالِ اسميةً من غيرٍ واوٍ شاذٌ ، وهو مذهبٌ مرجوحٌ تَبِع فيه الفراءَ » .
و « أعجميٌّ » خبرٌ على كلتا القراءتين . والأعجميُّ : مَنْ لم يتكلَّمْ بالعربية . وقال الراغب : « العَجَمُ خلافُ العرب ، والعجميُّ منسوبٌ إليهم ، والأَعْجَم مَنْ في لسانِه عُجْمَةٌ عربياً كان أو غيرَ عربي؛ اعتباراً بقلة فَهْمِه من العُجْمة . والأعجميُّ منسوبٌ إليه ، ومنه قيل للبهيمة » عَجْماءُ « من حيث إنها لا تُبِيْنُ ، و » صلاةُ النهارِ عَجْماء « ، أي : لا يُجْهَرُ فيها . والعَجَمُ : النَّوَى لاختفائِه . وحروف المعجم ، قال الخليل : » الحروفُ المقطَّعة لأنها أعجمية « قال بعضهم : معناه أنَّ الحروفَ المجردة لا تَدُلُّ على ما تَدُلُّ عليه الموصولةُ . وأَعْجمتُ الكتاب ضِدُّ أَعْرَبْتُه ، وأَعْجَمْتُه : أَزَلْتُ عُجْمَتَه كَأَشْكَيْتُه ، أي : أَزَلْتُ شِكايتَه ، وسيأتي لهذا أيضاً مزيدُ بيانٍ إنْ شاء الله في الشعراء ، وحم السجدة . وتقدَّم خلافُ القرَّاءِ في » يُلْحِدُون « في الأعراف .

مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)

قوله تعالى : { مَن كَفَرَ بالله } : يجوز فيه أوجهُ ، أحدُها : أن يكونَ بدلاً من { الذين لاَ يُؤْمِنُونَ } ، أي : إنما يفترى الكذبَ مَنْ كفر . الثاني : أنه بدلٌ مِنَ « الكاذبون » . والثالث : / مِنْ « أولئك » قاله الزمخشريُّ ، فعلى الأولِ يكون قولُه { وأولئك هُمُ الكاذبون } جملةً معترضةً بين البدلِ والمُبْدلِ منه .
واستضعف الشيخُ الأوجهَ الثلاثةَ فقال : « لأنَّ الأولَ يقتضي أنه لا يَفْتري الكذبَ إلا مَنْ كفر بالله من بعدِ إيمانِه ، والوجودُ يَقْضي أنَّ المفتريَ مَنْ لا يؤمن ، سواءً كفر بالله من بعدِ إيمانِه ، أم لا ، بل الأكثرُ الثاني وهو المفتري » قال : « وأمَّا الثاني فَيَؤُوْل المعنى إلى ذلك؛ إذ التقديرُ : وأولئك : أي : الذين لا يؤمنون هم مَنْ كفر بالله من بعدِ إيمانِه ، والذين لا يؤمنون هم المُفْترون . وأمَّا الثالثُ فكذلك؛ إذ التقديرُ : إنَّ المشارَ إليهم هم مَنْ كفرَ بالله من بعد إيمانه ، مُخْبراً عنهم بأنهم الكاذبون » .
الوجه الرابع : أن ينتصبَ على الذمِّ ، قاله الزمخشري . الخامس : أن يرتفعَ على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ على الذمِّ أيضاً . السادس : أن يرتفعَ على الابتداء ، والخبرُ محذوفٌ ، تقديره : فعليهم غضبٌ لدلالةِ ما بعد « مَنْ » الثانيةِ عليه .
السابع : أنها مبتدأٌ أيضاً ، وخبرُها وخبرُ « مَنْ » الثانيةِ أيضاً قولُه { فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ } ، قاله ابن عطية ، قال : « إذ هو واحدٌ بالمعنى؛ لأنَّ الإِخبارَ في قولِه { مَن كَفَرَ بالله } إنما قَصَدَ به الصنفَ الشارحَ بالكفر » . قال الشيخ : « وهذا وإنْ كان كما ذكر ، إلا أنهما جملتان شرطيتان ، وقد فُصِل بينهما بأداةِ الاستدراك ، فلا بد لكلِّ واحدةٍ منهما على انفرادِها مِنْ جوابٍ لا يشتركان فيه ، فتقديرُ الحَذْفِ أَجْرَى على صناعةِ الإِعرابِ ، وقد ضَعَّفوا مذهبَ الأخفشِ في ادِّعائه أنَّ قولَه { فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين } [ الواقعة : 91 ] ، وقولُه { فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ } [ الواقعة : 89 ] جوابُ » أمَّا « ، و » إنْ « هذا ، وهما أداتا شرط وَلِيَتْ إحداهما الأخرى » .
الثامن : أن تكونَ « مَنْ » شرطيةً وجوابُها مقدرٌ تقديره : فعليهم غضبٌ؛ لدلالةِ ما بعد « مَنْ » الثانيةِ عليه . وقد تقدَّم أن ابنَ عطية جَعَلَ الجزاءَ لهما معاً ، وتقدَّم الكلامُ معه فيه .
قولِه : { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ } فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه مستثنى مقدَّمٌ مِنْ قولِه { فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ الله } ، وهذا يكونُ فيه منقطعاً؛ لأنَّ المُكْرَه لم يَشْرَحْ بالكفرِ صدراً . وقال أبو البقاء : « وقيل : ليس بمقدَّمٍ فهو كقول لبيد :
3016- ألا كلُّ شيءٍ ما خلا اللهَ باطلُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فظاهرُ كلامِه يَدُلُّ على أنَّ بيتَ لبيدٍ لا تقديمَ فيه ، وليس كذلك فإنه ظاهرٌ في التقديمِ جداً .
الثاني : أنه مستثنى مِنْ جوابِ الشرط ، أو مِنْ خبر المبتدأ المقدر ، تقديرُه : فعليهمْ غضبٌ من الله إلا مَنْ أُكْرِه ، ولذلك قَدَّر الزمخشري جزاءَ الشرط قبل الاستثناء ، وهو استثناءٌ متصلٌ؛ لأنَّ الكفرَ يكون بالقولِ مِنْ غير اعتقادٍ كالمُكْرَه ، وقد يكون - والعياذُ بالله - باعتقادٍ ، فاستثنى الصِّنفَ الأول .

قوله : { وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ } جملةٌ حاليةٌ ، أي : إلا مَنْ أُكْرِهَ في هذه الحالةِ .
قوله : { ولكن مَّن شَرَحَ } الاستدراكُ واضحٌ؛ لأنَّ قوله : { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ } قد يَسْبق الوهمُ إلى الاستثناء مطلقاً فاستدرك هذا . وقولُه { وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ } لا ينفي ذلك الوهم . و « مَنْ » : إمَّا شرطيةٌ أو موصولةٌ ، ولكن متى جُعِلَتْ شرطيةً فلا بدُّ من إضمارِ مبتدأ قبلها؛ لأنه لا يليها الجملُ الشرطيةُ ، قاله الشيخ ثم قال : « ومثلُه :
3017- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولكن متى يَسْتَرْفِدِ القومُ أَرْفِدِ
أي : ولكن أنا متى يَسْتَرْفد » وإنما لم تقعِ الشرطيةُ بعد « لكن » لأنَّ الاستدراكَ لا يقع في الشُّروط . هكذا قيل ، وهو ممنوع .

ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107)

قوله تعالى : { ذلك بِأَنَّهُمُ } : مبتدأ وخبر ، كنظائرَ مَرَّتْ ، والإِشارةُ ب « ذلك » إلى ما ذُكِرَ من الغضبِ والعذاب؛ ولذلك وُحِّد كقوله : { بَيْنَ ذلك } [ البقرة : 68 ] و [ قولِه ]
3018- كأنه في الجِلْدِ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وقد مَرَّ ذلك .

ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)

قوله تعالى : { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ } : في خبر « إنَّ » هذه ثلاثةُ أوجهٍ ، إنه قولُه { لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } ، و { إِنَّ رَبَّكَ } الثانيةُ واسمُها تأكيدٌ للأولى واسمِها ، فكأنه قيل : ثم إنَّ ربَّك إنَّ ربَّك لغفورٌ رحيم ، وحينئذٍ يجوز في قولِه « للذين » وجهان : أن يتعلَّقَ بالخبرين على سبيل التنازعِ ، أو بمحذوفٍ على سبيلِ البيان كأنه قيل : الغُفرانُ والرحمةُ للذين هاجرُوا . الثاني : أن الخبرَ هو نفسُ الجارِّ بعدها كما تقول : إنَّ زيداً لك ، أي : هُوَ لك لا عليك بمعنى هو ناصرُهم لا خاذِلُهم ، قال معناه الزمخشريُّ [ ثم قال « كما يكون المَلِكُ للرجل لا عليه ، فيكون مَحْمِيَّاً مَنْفُوْعاً ] .
الثالث : أن خبرَ الأولى مستغنى عنه بخبر الثانية ، / يعني أنه محذوفٌ لفظاً لدلالةِ ما بعده عليه ، وهذا معنى قولِ أبي البقاء : » وقيل : لا خبرَ ل « إنَّ » الأولى في اللفظ؛ لأنَّ خبرَ الثانيةِ أغنى عنه « وحينئذٍ لا يَحْسُنُ رَدُّ الشيخِ عليه بقوله : » وهذا ليس بجيدٍ أنه أَلْغَى حكمَ الأولى ، وجَعَلَ الحكمَ للثانيةِ ، وهو عكسُ ما تقدَّمَ ولا يجوز « .
قولِه : { مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ } قرأ ابنُ عامر » فَتَنوا « مبنياً للفاعل ، أي : فَتَنُوا أَنْفُسَهم ، فإن عاد الضميرُ على المؤمنين فالمعنى : فَتَنُوا انفسَهم بما أَعْطَوا المشركين من القولِ ظاهراً ، أو أنهم لَمَّا صبروا على عذابِ المشركين فكأنهم فَتَنُوا أنفسَهم ، وإنْ عاد على المشركين فهو واضحٌ ، أي : فتنُوا المؤمنين .
والباقون » فُتِنُوا « مبنياً للمفعول . والضميرُ في » بعدها « للمصادرِ المفهومةِ من الأفعالِ المتقدمةِ ، أي : مِنْ بعد الفتنةِ والهجرةِ والجهادِ والصبرِ . وقال ابن عطية : » عائدٌ على الفتنةِ أو الفَعْلة أو الهجرة أو التوبة « .

يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)

قوله تعالى : { يَوْمَ تَأْتِي } : يجوز أَنْ ينتصبَ ب « رحيم » ، ولا يلزمُ مِنْ ذلك تقييدُ رحمته بالظرف؛ لأنه إذا رَحِم في هذا اليوم فرحمتُه في غيرِه أَوْلَى وأحْرَى ، وأن ينتصِبَ ب « اذكر » مقدرةً ، وراعى معنى « كل » فأنَّثَ الضمائر في قوله « تجادل » إلى آخره ، ومثلُه :
3019- جادَتْ عليه كلُّ عَيْنٍ ثَرَّةٍ ... فتركْنَ كلَّ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
إلا أنَّه زاد في البيت الجمعَ على المعنى ، وقد تقدَّم ذلك أولَ هذا الموضوع . وقوله { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } حَمَلَ على المعنى فلذلك جَمَعَ .

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)

قوله تعالى : { والخوف } : العامَّةُ على جَرِّ « الخوف » نسقاً على « الرجوع » ، ورُوي عن أبي عمرو نصبُه ، وفيه أوجه ، أحدها : أن يُعطف على « لباس » . الثاني : أن يُعْطَفَ على موضعِ « الجوع »؛ لأنه مفعولٌ في المعنى للمصدرِ . التقدير : « أَنْ أَلْبَسَهم الجوعَ والخوفَ » ، قاله أبو البقاء ، وهو بعيدٌ؛ لأنَّ اللباسَ اسمُ ما يُلْبَسُ ، وهو استعارةٌ بليغةٌ كما سأنبِّهك عليه . الثالث : أن ينتصِبَ بإضمارِ فعلٍ قاله أبو الفضل الرازي . [ الرابع : أن يكونَ حَذْفِ مضافٍ ، أي : ] ولباس الخوف ، ثم حُذِف وأقيم [ المضافُ إليه ] مُقامَه قاله الزمخشري .
ووجه الاستعارةِ ما قاله الزمخشري ، فإنه قال : « فإن قُلْتَ ، الإِذاقةُ واللباسُ استعارتان فما وجهُ صحتِهما؟ والإِذاقةُ المستعارةُ مُوَقَّعَةٌ على اللباس المستعار فما وجهُ صحةِ إيقاعِها عليه؟ قلت : الإِذاقَةُ جَرَتْ عندهم مَجْرَى الحقيقةِ لشيوعِها في البلايا والشدائد وما يَمَسُّ الناسَ منها ، فيقولون ، ذاقَ فلانٌ البؤْسَ والضُّرَّ ، وإذاقة العذابُ ، شَبَّه ما يُدْرِكُ مِنْ أثرِ الضررِ والألمِ بما يُدْرِكُ مِنْ طَعْمِ المُرِّ والبَشِع ، وأمَّا اللباسُ فقد شبَّه به لاشتمالِه على اللابسِ ما غَشِيَ الإِنسانَ والتبس به من بعض الحوادث . وأمَّا إيقاعُ الإِذاقةِ على لباسِ الجوعِ والخوفِ فلأنه لمَّا وقع عبارةً عَمَّا يُغْشَى منهما ويُلابَسُ ، فكأنه قيل : فأذاقهم ما غَشِيهم من الجوعِ والخوفِ . ولهم في هذا طريقان ، أحدهما : أن ينظروا فيه إلى المستعار له كما نَظَرَ إليه ههنا ، ونحوُه قول كثيِّر :
3020- غَمْرُ الرِّداءِ إذا تَبَسَّم ضاحكاً ... غَلِقَتْ لضَحْكَتِهِ رِقابُ المالِ
استعار الرداءَ للمعروفِ لأنه يَصُون عِرْضَ صاحبِه صَوْتَ الرداءِ لِما يُلْقى عليه ، ووصفَه بالغَمْرِ الذي هو وصفُ المعروفِ والنَّوال ، لا وصفُ الرداء ، نظراً إلى المستعار له . والثاني : أن ينظروا فيه المستعار كقوله :
3021- يُنازعني رِدائي عَبْدُ عَمْرٍو ... رُوَيْدَك يا أخا عمرِو بن بكر
ليَ الشَّطْرُ الذي ملكَتْ يميني ... ودونَك فاعْتَجِر منه بِشَطْرِ
أراد بردائِه سيفَه ثم قال : » فاعتجِرْ منه بِشَطْر « فنظر إلى المستعارِ في لفظِ الاعتجار ، ولو نظر إليه فيما نحن فيه لقال : » فكساهُمْ لباسَ الجوعِ والخوف « ، ولقال كثِّير : » ضافي الرداءِ إذا تبسَّم « . انتهى . وهذا نهايةُ ما يُقال في الاستعارة .
وقال ابن عطية : » لمَّا باشرهم ذلك صار كاللباس ، وهذا كقول الأعشى :
3022- إذا ما الضَّجِيْعُ ثنى جِيْدَها ... تَثَنَّتْ عليه فكانَتْ لباسا
ومثلُه قولُه تعالى : { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ/ لَّهُنَّ } [ البقرة : 187 ] ، ومثلُه قولُ الشاعر :
3022- وقد لَبِسَتْ بعد الزبيرِ مُجاشِعٌ ... لباسَ التي حاضَتْ ولن تَغْسِل الدَّما
كأنَّ العارَ لمَّا باشرهم ولصِقَ بهم كأنهم لَبِسُوه « .
وقوله : » فأذاقهم « نظيرُ قولِه تعالى : { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم } [ الدخان : 49 ] ، ونظيرُ قولِ الشاعر :

3023- دونَكَ ما جَنَيْتَه فاحْسُ وذُقْ ... وفي قراءةِ عبد الله « فأذاقها اللهُ الخوفَ والجوعَ » ، وفي مصحف أُبَيّ « لباسَ الخوفِ والجوعِ » .
وقوله : { بِأَنْعُمِ الله } أتى بجمعِ القلَّةِ ، ولم يَقُلْ « بِنِعَمِ الله » جمعَ كثرةٍ تنبيهاً بالأدْنى على الأَعْلى؛ لأنَّ العذابَ إذا كان على كُفْرانِ الشيءِ القليلِ فكونُه على النِّعَم الكثيرةِ أَوْلَى .
و « أنْعُم » فيها قولان ، أحدُهما : أنها جمعُ « نِعْمةٍ » نحو : شِدَّة : أَشُدّ . قال الزمخشري : « جمعُ » نِعمة « على تَرْكِ الاعتداد بالتاء كَدِرْع وأَدْرُع » . وقال قطرب : « هي جمع نُعْم ، والنُّعْمُ : النَّعيم ، يقال : » هذه أيامُ طُعْم ونُعْم « . وفي الحديث : » نادى مُنادي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بالمَوْسِم بمنى : « إنها أيام طُعْمٍ ونُعْمٍ فلا تَصُوموا » .
قوله : { بِمَا كَانُواْ } يجوز أَنْ تكونَ مصدريةً ، أو بمعنى الذي ، والعائدُ محذوفٌ ، أي : بسبب صُنْعهم أو بسببِ الذي كانوا يصنعونه . والواو في « يَصْنعون » عائدةٌ على أهل المعذَّب . قيل : قرية ، وهي نظيرةُ قولِه { أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } [ الأعراف : 4 ] بعد قولِه { وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا } .

فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114)

قوله تعالى : { واشكروا نِعْمَةَ الله } : صَرَّح هنا بالنعمة لتقدُّمِ ذِكْرها مع مَنْ كفر بها ، ولم يَجِئْ ذلك في البقرة ، بل قال : { واشكروا للَّهِ } [ البقرة : 172 ] لمَّا لم يتقدمْ ذلك ، وتقدَّم نظائرُها هنا .

وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116)

قوله تعالى : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب } : العامَّةُ على فتحِ الكافِ وكسرِ الذالِ ونصب الباءِ . وفيه أربعةُ أوجهٍ ، أظهرُها : أنه منصوبٌ على المفعولِ به وناصبُه « تَصِفُ » و « ما » مصدريةٌ ، ويكونُ معمولُ القولِ الجملةَ مِنْ قوله { هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ } و { لِمَا تَصِفُ } علةٌ للنهي عن القول ذلك ، أي : ولا تقولوا : هذا حَلالٌ وهذا حَرامٌ لأجل وَصْفِ ألسنتِكم الكذبَ ، وإلى هذا نحا الزجَّاجُ والكسائيُّ ، والمعنى : لا تُحَلِّلوا ولا تُحَرِّمُوا لأجلِ قولٍ تَنْطِقُ به ألسنتُكم من غير حُجَّةٍ .
الثاني : أن ينتصِب مفعولاً به للقولِ ، ويكون قوله : { هذا حَلاَلٌ } بدلاً مِنَ « الكذب » لأنه عينُه ، أو يكون مفعولاً بمضمرٍ ، أي : فيقولوا : هذا حَلالٌ وهذا حَرامٌ ، و { لِمَا تَصِفُ } علةٌ أيضاً ، والتقديرُ : ولا تقولوا الكذب لوصفِ ألسنتِكم . وهل يجوزُ أن تكونَ المسألةُ من التنازعِ على هذا الوجهِ ، وذلك : أن القولَ يَطْلُبُ « الكذب » و « تَصِفُ » أيضاً يطلبه ، أي : ولا تَقُولْوا الكذب لما تصفه ألسنتُكم؟ فيه نظرٌ .
الثالث : أن ينتصِبَ على البدلِ من العائدِ المحذوف على « ما » إذا قلنا : إنها بمعنى الذي؛ التقدير : لِما تصفُه ، ذكر ذلك الحوفيُّ وأبو البقاء . الرابع : أن ينتصبَ بإضمار أعني ، ذكره أبو البقاء ، ولا حاجةَ إليه ، ولا معنى عليه .
وقرأ الحسن وابن يعمر وطلحةُ « الكذبِ » بالخفضِ وفيه وجهان ، أحدُهما : أنه بدلٌ من الموصولِ ، أي : ولا تقولوا لوصفِ ألسنتِكم الكذبِ ، أو للذي تصفه ألسنتكم الكذبِ ، جعله نفسَ الكذبِ لأنه هو . والثاني : ذكره الزمخشري أن يكون نعتاً ل « ما » المصدرية . ورَدَّه الشيخُ : بأنَّ النحاةَ نصُّوا على أن المصدرَ المنسبكَ مِنْ أنْ والفعلِ لا يُنْعَتُ ، لا يُقال « يعجبني أن تخرجَ السريعُ » ولا فرقَ بين هذا وبين باقي الحروفِ المصدرية .
وقرأ ابن أبي عبلة ومعاذ بن جبل بضمِّ الكاف والذال ، ورفعِ الباءِ صفةً للألسنة كصَبُور وصُبُر ، أو جمع كاذِب كشارِف وشُرُف ، أو جمع « كِذاب » نحو : كِتاب وكُتُب .
وقرأ مَسْلَمَةُ بنُ محارِبٍ فيما نقله ابن عطية كذلك ، إلا أنَّه نصب الباءَ ، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ ، ذكرها الزمخشري . أحدُها : أن تكونَ منصوبةً على الشتم ، يعني وهي في الأصل نعتٌ للألسنة كما في القراءة قبلها . الثاني : أن تكون بمعنى الكَلِمِ الكواذب ، يعني أنها مفعولٌ بها ، والعامل فيها : إمَّا « تَصِفُ » ، وإمَّ القولُ / على ما مرَّ ، أي : لا تقولوا الكَلِمَ الكواذبَ ، أو لِمَا تَصِفُ ألسنتُكم الكلمَ الكواذبَ . الثالث : أن يكونَ جمع الكِذاب مِنْ قولِك « كَذِب كِذاباً » يعني فيكون منصوباً على المصدر؛ لأنه مِنْ معنى وَصْفِ الألسنةِ فيكون نحو : كُتُب في جمع كِتاب ، وقد قرأ الكسائيُّ : { وَلاَ كِذَاباً } بالتخفيف كما سيأتي في النبأ .

قوله : « لِتَفْتَرُوا » في اللامِ ثلاثةُ أوجه ، أحدها : قال الواحدي : « إنه بدلٌ مِنْ { لِمَا تَصِفُ } لأنَّ وصفَهم الكذبَ هو افتراءٌ على الله » . قال الشيخ : « فهو على تقدير جَعْلِ » ما « مصدريةً ، أمَّا إذا كانت بمعنى الذي فاللامُ فيها ليست للتعليل فَيُبْدل منها ما يُفْهِمُ التعليلَ ، وإنما اللامُ في » لِما « متعلقةٌ ب » لا تقولوا « على حَدِّ تَعَلُّقِها في قولك : لا تقولوا لِما أَحَلَّ اللهُ : هذا حرامٌ ، أي : لا تُسَمُّوا الحَلالَ حراماً وكما تقول : لا تقلْ لزيدٍ عمراً ، أي : لا تُطْلِقْ عليه هذا الاسمَ » . قلت : وهذا وإن كان ظاهراً ، إلاَّ أنه لا يمنع من إرادةِ التعليل ، وإنْ كانت بمعنى الذي .
الثاني : أنها للصيرورة إذ لم يَفْعلوه لذلك الغرضِ .
الثالث : أنها للتعليلِ الصريحِ ، ولا يَبْعُدُ أن يَصْدُرَ مثلُ ذلك .

مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)

قوله تعالى : { مَتَاعٌ } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنه مبتدأٌ ، و « قليل » خبره ، وفيه نظرٌ للابتداءِ بنكرةٍ مِنْ غيرِ مُسَوِّغ . فإن ادُّعِي إضافتُه نحو : متاعُهم قليل ، فهو بعيدٌ جداً . الثاني : أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ ، أي : بَقاؤهم أو عيشُهم أو منفعتُهم فيما هم عليه .

وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)

قوله تعالى : { مِن قَبْلُ } : متعلِّقٌ ب « حَرَّمْنَا » أو ب « قَصَصْنَا » والمضافُ إليه « قبلُ » تقديرُه : ومِنْ قبلِ تحريمِنا على أهلِ مِلَّتِك .

ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)

قوله تعالى : { مِن بَعْدِهَا } : أي : مِنْ بعدِ عَمَلِ السوءِ والتوبةِ والإِصلاح ، وقيل : على الجهالةِ . وقيل : على السوءِ؛ لأنه في معنى المعصيةِ .
و « بجهالة » حالٌ مِنْ فاعل « عَمِلوا » .

إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)

قوله تعالى : { أُمَّةً } : تُطْلَقُ الأُمَّة على الرجل الجامع لخصالٍ محمودة . وقيل : فًعْلَةُ تدل على المبالغةِ ، وإلى المعنى الأولِ نَظَر ابنُ هانئٍ في قوله :
3024- وليس الله بمُسْتَنْكَرٍ ... أن يَجْمَعَ العالمَ في واحِدِ

شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121)

قوله تعالى : { شَاكِراً } : يجوز أن يكونَ خبراً ثالثاً ، او حالاً مِنْ أحدِ الضميرين في « قانِتاً » أو « حنيفاً » .
قوله : « لأَنْعُمِهِ » يجوز تعلُّقه ب « شاكراً » أو ب « اجتباه » ، و « اجتباه » : إمَّا حالٌ ، وإمَّا خبرٌ آخرُ ل كان . و { إلى صِرَاطٍ } يجوز تعلُّقُه ب « اجتباه » و ب « هداه » على قاعدةِ التنازع .

ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)

قوله تعالى : { ثُمَّ أَوْحَيْنَآ } : قال الزمخشري : « في » ثم « هذه ما فيها مِنْ تعظيم منزلتِهِ وأجلالِ مَحَلَّه ، والإِيذانُ بأنَّ أَشْرَفَ ما أُوتي خليلُ الرحمنِ من الكرامةِ وأَجَلَّ ما أُولِيَ من النعمة اتِّباعُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم من قِبَلِ أنها دَلَّتْ على تباعُدِ هذا النعتِ في الرتبةِ منْ بينِ سائرِ النُّعوت التي أثنى اللهُ عليه بها » .
قوله : { أَنِ اتبع } يجوز أن تكونَ المفسِّرةَ ، وأن تكونَ المصدريةَ فتكونَ مع منصوبِها مفعولَ الإِيحاء .
قوله : « حنيفاً » حالٌ ، وتقدَّم تحقيقُه في البقرة . وقال ابن عطية : « قال مكي : ولا يكون - يعني حنيفاً - حالاً من » إبراهيم « لأنه مضافٌ إليه ، وليس كما قال؛ لأن الحالَ قد تعمل فيها حروفُ الجرِّ إذا عَمِلَتْ في ذي الحال كقولِك » مررتُ بزيدٍ قائماً « . قلت : ما ذكره مكيٌّ من امتناعِ الحال من المضاف إليه فليس على إطلاقه لِما تقدَّم تفصيلُه في البقرة . وأمَّا قولُ ابن عطية : إن العاملَ الخافضُ فليس كذلك ، إنما العاملُ ما تعلَّق به الخافضُ ، ولذلك إذا حُذِفَ الخافضُ ، نُصِبَ مخفوضُه .

إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)

قوله تعالى : { إِنَّمَا جُعِلَ } : العامَّةُ على بنائِه للمفعول ، وأبو حَيْوةَ على بنائِه للفاعلِ ، « السَّبْتَ » مفعول به .

ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)

قوله تعالى : { ادع } : يجوز أن يكونَ مفعولُه مراداً ، أي : ادعُ الناسَ ، وأن لا يكونَ ، أي : افعلِ الدعاءَ . و « بالحكمة » حالٌ ، أي : ملتبساً بها .

وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)

قوله تعالى : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ } : العامَّةُ على المُفاعلة ، وهي بمعنى فَعَلَ كسافَر ، وابنُ سيرين « عَقَّبْتم » بالتشديد بمعنى : قَفَّيْتُمْ فَقَفُّوا بمثلِ ما فُعِلَ بكم . وقيل : تتبَّعْتُم . والباءُ مُعَدِّيَةٌ ، وفي قراءةِ ابنِ سيرين : إمَّا للسببيةِ ، وإمَّا مزيدةٌ .
قوله : { لِّلصَّابِرينَ } يجوز أن يكونَ عامَّاً ، أي : الصبرُ خيرٌ لجنسِ الصابرين ، وأن يكونَ مِنْ وقوعِ الظاهر موقعَ المضمر ، أي : صَبْرُكم خيرٌ لكم .

وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127)

قوله تعالى : { إِلاَّ بالله } : أي بمعونتِهِ فهي للاستعانة .
قوله : { فِي ضَيْقٍ } ابن كثير هنا ، وفي النمل؛ بكسر الصاد ، والباقون بالفتح . فقيل : لغتان بمعنىً في هذا المصدر ، كالقَوْل والقِيْل . وقيل : المفتوحُ مخفَّفٌ من « ضَيِّق » كَمَيْت في « مَيِّت » ، أي : في أمرٍ ضَيِّق . ورَدَّه الفارسيُّ : بأنَّ الصفةَ غيرُ خاصةٍ بالموصوف فلا يجوز ادِّعاءُ الحذفِ ، ولذلك جاز : « مررت بكاتبٍ » وامتنع « بآكلٍ » .
قوله : { مِّمَّا يَمْكُرُونَ } متعلقٌ ب « ضَيْق » . و « ما » مصدريةٌ أو بمعنى الذي ، والعائدُ محذوفٌ .

سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)

قوله تعالى : { سُبْحَانَ } : قد تقدَّم الكلامُ عليه مستوفى أول البقرة . و « أَسْرى » و « سَرَى » لغتان ، وقد تقدَّم الكلام عليهما في سورة هود ، وأن بعضَهم خَصَّ « أَسْرى » بالليل . قال الزمخشري هنا : « فإن قلتَ : الإِسراءُ لا يكون إلا ليلاً فما معنى ذِكْرِ الليلِ؟ قلت : أراد بقوله » ليلاً « بلفظ التنكيرِ تقليلَ مدةِ الإِسراءِ ، وأنه أُسْرِي به في بعضِ الليلِ من مكةَ إلى الشام مسيرةََ أربعين ليلةً؛ وذلك : أنَّ التنكيرَ دلَّ على البعضية ، ويَشْهد لذلك قراءةُ عبدِ الله وحذيفة » من الليل « ، أي : بعضه كقوله : { وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ } [ الإِسراء : 79 ] . انتهى . فيكون » سَرى « و » أسْرى « ك » سَقَى « و » أَسْقى « والهمزةُ ليست للتعديةِ ، وإنما المُعَدَّى الباءُ في » بعبده « ، وقد تقدَّم أنها لا تَقْتضي مصاحبةَ الفاعلِ للمفعول عند الجمهور ، في البقرة خلافاً للمبرد .
وزعم ابنُ عطية أنَّ مفعولَ » أَسْرى « محذوف ، وأنَّ التعديةَ بالهمزة فقال : » ويَظْهر أنَّ « أَسْرى » مُعَدَّاةٌ بالهمزةِ إلى مفعولٍ محذوف ، أي : أَسْرى الملائكةُ بعبدِه ، لأنه يَقْلَقُ أَنْ يُسْنَد « أسرى » وهو بمعنى « سرى » إلى الله تعالى؛ إذ هو فعلٌ يقتضي النَّقْلة كمشى وجرى وأحضر وانتقل ، فلا يَحْسُنُ إسنادُ شيءٍ من هذا مع وجودِ مَنْدوحةٍ عنه ، فإذا وقع في الشريعة شيءٌُ من ذلك تَأَوَّلْناه نحو : أَتَيْتُه هَرْوَلة « .
قلت : وهذا كلُّه إنما بناه اعتقاداً على أن التعديةَ بالباء تَقتضي مصاحبةَ الفاعلِ للمفعول في ذلك ، وقد تقدَّم الردُّ على هذا المذهبِ في أول البقرة في قوله { وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ } [ الآية : 20 ] . ثم جَوزَّ أن يكونَ » أَسْرى « بمعنى » سَرَى « على حَذْفِ مضافٍ كقولِه : { ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ } [ البقرة : 17 ] ، يعني فيكون التقدير : الذي أَسْرَى ملائكتُه بعبدِه ، والحاملُ له على ذلك ما تقدَّم من اعتقاد المصاحبة .
قوله : » لَيْلاً « منصوب على الظرف . وقد تقدَّم فائدةُ تنكيرِه . و » من المسجد « لابتداء الغاية .
قوله : حولَه » فيه وجهان ، أظهرُهما : أنه منصوبٌ على الظرف ، وقد تقدَّم تحقيقُ القولِ فيه أولَ البقرة . والثاني : انه مفعولٌ . قال أبو البقاء : « أي : طَيَّبْنا ونَمَّيْنا » . يعني ضَمَّنه معنى ما يتعدَّى بنفسه ، وفيه نظرٌ لأنه لا يَتَصَرَّف .
قوله : « لِنُرِيَه » قرأ العامَّة بنونِ العظمة جَرْياً على « بارَكْنا » . وفيهما التفاتان : مِنَ الغَيْبة في قوله { الذي أسرى بِعَبْدِهِ } إلى التكلُّم في « بارَكْنا » و « لِنُرِيَه » ، ثم التفتَ إلى الغَيْبَة في قولِه « إنه هو » إن أَعَدْنا الضميرَ على اللهِ تعالى وهو الصحيحُ ، ففي الكلام التفاتان .

وقرأ الحسن « لِيُرِيَه » بالياء مِنْ تحتُ أي الله تعالى ، وعلى هذه القراءةِ يكون في هذه الآية أربعةُ التفاتات : وذلك أنَّه التفت أولاً من الغَيْبة في قوله { الذي أسرى بِعَبْدِهِ } إلى التكلم في قوله « بارَكْنا » ، ثم التفت ثانياً من التكلمِ في « بارَكْنا » إلى الغيبة في « لِيُرِيَه » على هذه القراءة ، ثم التفت بالياء من هذه الغَيْبة إلى التكلم في « آياتنا » ، ثم التفت رابعاً من هذا التكلمِ إلى الغيبة في قوله « إنه هو » على الصحيح في الضميرِ أنَّه لله ، وأمَّا على قولٍ نقله أبو البقاء أن الضمير في « إنه هو » للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فلا يجيءُ ذلك ، ويكون في قراءة العامَّةِ التفاتٌ واحدٌ ، وفي قراءة الحسنِ ثلاثةٌ . وهذا موضعٌ غريبٌ ، وأكثرُ ما وَرَدَ الالتفاتُ [ فيه ] ثلاثُ مرات على ما قال الزمخشري في قولِ امرئ القيس :
3025- تطاوَلَ ليلُكَ بالإِثْمِدِ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الأبيات . وقد تقدَّم النزاعُ معه في ذلك ، وبعضُ ما يُجاب به عنه أولَ الفاتحة .
ولو ادَّعى مُدَّعٍ أنَّ فيها خمسةَ التفاتات لاحتاج في دَفْعِه إلى دليلٍ واضحٍ ، والخامس : الالتفاتُ مِنْ « إنَّه هو » إلى التكلم في قوله { وَآتَيْنَآ مُوسَى } الآية .
والرؤيةُ هنا بَصَريةٌ . وقيل : قلبية وإليه نحا ابن عطية ، فإنه قال : « ويُحْتمل أَنْ يريد : لِنُرِيَ محمداً للناس آيةً ، أي : يكون النبي صلى الله عليه وسلم آيةً في أَنْ يصنعَ اللهُ ببشرٍ هذا الصنعَ » فتكونُ الرؤيةُ قلبيةً على هذا .

وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2)

قوله تعالى : { وَآتَيْنَآ } : فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أن تُعْطَفَ هذه الجملةُ على الجملةِ السابقة من/ تنزيهِ الربِّ تبارك وتعالى ولا يَلْزَمُ في عَطْفِ الجملِ مشاركةٌ في خبرٍ ولا غيرِه . الثاني : قال العسكري : إنه معطوف على « أسرى » . واستبعده الشيخُ . ووجهُ الاستبعادِ : أن المعطوفَ على الصلةِ صلةٌ ، فيؤدِّي التقديرُ إلى ضرورةِ التركيبِ : سُبْحان الذي أسرى وآتينا ، وهو في قوة : الذي آتينا موسى ، فيعود الضميرُ على الموصولِ ضميرَ تكلمٍ مِنْ غيرِ مسوِّغ لذلك .
والثالث : أنه معطوفٌ على ما في قوله « أسرى » من تقدير الخبر كأنه قال : أَسْرَيْنا بعبدِنا ، وأًرَيْناه آياتِنا وآتَيْنا ، وهو قريبٌ مِنْ تفسيرِ المعنى لا الإِعراب .
قوله : « وجَعْلَناه » يجوز أن يعودَ ضميرُ النصبِ للكتاب ، وهو الظاهرُ ، وأَنْ يعودَ لموسى عليه السلام .
قوله : { لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ } يجوز تعلُّقُه بنفس « هدى » كقوله : { يَهْدِي لِلْحَقِّ } [ يونس : 35 ] ، وأَنْ يتعلَّقَ بالجَعْل ، أي : جعلناه لأجلِهِم ، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ نعتاً ل « هُدى » .
قوله : { أَلاَّ تَتَّخِذُواْ } يجوز أَنْ تكون « أَنْ » ناصبةً على حَذْفِ حرفِ العلة ، أي : لئلا تتَّخذوا . وقيل : « لا » مزيدةٌ ، والتقدير : كراهةَ أَنْ تتخذوا ، وأنْ تكونَ المفسرةَ و « لا » ناهيةٌ ، فالفعلُ منصوبٌ على الأول مجزومٌ على الثاني ، وأَنْ تكونَ مزيدةً عند بعضِهم ، والجملةُ التي بعدها معمولةٌ لقولٍ مضمر ، أي : مقولاً لهم : لا تتخذوا ، أو قلنا لهم : لا تتخذوا ، وهذا ظاهرٌ في قراءةِ الخطاب . وهذا مردودٌ بأنه ليس من مواضعِ زيادةِ « أَنْ » .
وقرأ أبو عمروٍ { أَنْ لا يتَّخذوا } بياء الغَيْبة جَرْياً على قوله { لبني إسرائيل } والباقون بالخطاب التفاتاً .

ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)

قوله تعالى : { ذُرِّيَّةَ } : العامَّةُ على نصبها وفيها أوجهٌ ، أحدُها : أنها منصوبةٌ على الاختصاصِ ، وبه بدأ الزمخشري . الثاني : أنَّها منصوبَةً على البدلِ من « وَكِيلاً » ، أي : أن لا تتخذوا من دونِه ذريةَ مَنْ حَمَلْنا . الثالث : أنها منصوبةٌ على البدلِ مِنْ « موسى » ، ذكره أبو البقاء وفيه بُعْدٌ بعيد . الرابع : أنها منصوبةٌ على المفعولِ الأولِ ل « تتخذوا » ، والثاني هو « وكيلاً » فقُدِّم ، ويكون « وكيلاً » ممَّا وقع مفردَ اللفظ والمَعْنِيُّ به جمعٌ ، أي : لا تتخذوا ذريةَ مَنْ حَمَلْنا مع نوح وُكَلاءَ كقوله : { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة والنبيين أَرْبَاباً } [ آل عمران : 80 ] .
الخامس : أنها منصوبةٌ على النداء ، أي : يا ذريةَ مَنْ حَمَلْنا ، وخَصُّوا هذا الوجهَ بقراءة الخطاب في « تتَّخذوا » وهو واضحٌ عليها ، إلا أنه لا يَلْزَمُ ، وإن كان مكيٌّ قد منع منه فإنه قال : « فأمَّا مَنْ قرأ » يتَّخذوا « بالياء فذريَّةَ مفعولٌ لا غيرَ ، ويَبْعُدُ النداءُ؛ لأن الياءَ للغَيْبة والنداءَ للخطابِ ، فلا يجتمعان إلا على بُعْدٍ » . وليس كما زعم ، إذ يجوزُ أن يُناديَ الإِنسانَ شخصاً ويُخْبِرَ عن آخرَ فيقول : « يا زيدُ ينطلقٌ بكرٌ وفعلتَ كذا » و « يا زيدُ ليفعلْ عمروٌ كيتَ وكيت » .
وقرأت فرقةٌ « ذُرِّيَّةُ » بالرفع ، وفيها وجهان ، أحدهما : أنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ تقديرُه : هو ذريَّةُ ، ذكره [ أبو ] البقاء وليس بواضحٍ . والثاني : أنه بدلٌ من واوِ « تتَّخذوا » قال ابن عطية : « ولا يجوز ذلك في القراءةِ بالتاءِ ، لأنك لا تُبْدِلُ من ضميرٍ مخاطب ، لو قلت : » ضربْتُك زيداً « على البدل لم يَجُزْ » .
وَرَدَّ عليه الشيخ هذا الإِطلاقَ وقال : « ينبغي التفصيلُ ، وهو إن كان بدلَ بعضٍ أو اشتمالٍ جاز ، وإن كان كلاًّ مِنْ كل ، وأفاد الإِحاطةَ نحو » جئتُمْ كبيرُكم وصغيركم « جَوَّزه الأخفش والكوفيون . قال : » وهو الصحيحُ « . قلت : وتمثيلُ ابنِ عطيةَ بقولِه » ضَرَبْتُكَ زيداً « قد يَدْفع عنه هذا الردَّ .
وقال مكي : » ويجوز الرفعُ في الكلامِ على قراءةِ مَنْ قرأ بالياء على البدلِ من المضمرِ في « يتَّخذوا » ولا يَحْسُنُ ذلك في قراءة التاء؛ لأنَّ المخاطبَ لا يُبْدَلُ منه الغائبُ ، ويجوز الخفضُ على البدل من بني إسرائيل « . قلت : أمَّا الرفعُ فقد تقدَّم أنه قرئ به وكأنه ام يَطَّلِعْ عليه ، وأمَّا الجرُّ فلم يُقْرَأْ به فيما عَلِمْتُ ويَرِد عليه في قوله » لأنَّ المخاطب لا يُبْدَلُ منه الغائبُ « ما وَرَدَ على ابن عطية ، بل أَوْلَى لأنه لم يذكر مثالاً يبيِّن مرادَه كما فعل ابنُ عطية/ .
قوله تعالى : { مَنْ حَمَلْنَا } : يجوز أن تكونَ موصولةً أو موصوفةً .

وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)

قوله : { وَقَضَيْنَآ } « قَضَى » يتعدَّى بنفسِه : { فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً } [ الأحزاب : 37 ] { فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل } [ القصص : 29 ] ، وإنما تَعَدَّى هنا ب « إلى » لتضمُّنه معنى : أَنْفَذْنَا وأَوْحَيْنا ، أي : وأَنْفَذْنا إليهم بالقضاءِ المحتومِ . ومتعلِّقُ القضاءِ محذوفٌ ، أي : بفسادِهم . وقوله : « لَتُفْسِدُنَّ » جوابُ قسمٍ محذوفٍ تقديرُه : والله لتفسِدُنَّ ، وهذا القسمُ مؤكدٌ لمتعلَّق القضاء . ويجوز أن يكونَ « لَتُفْسِدُنَّ » جواباً لقوله : « وقَضَيْنا » لأنه ضُمِّن معنى القسمِ ، ومنه قولُهم : « قضاء الله لأفعلنَّ » فيُجْرُون القضاء والنَّذْرَ مُجْرى القسم فَيُتَلَقَّيان بما يُتَلَقَّى به القسمُ .
والعامَّةُ على توحيد « الكتاب » مُراداً به الجنسُ . وابنُ جبير وأبو العالية « في الكُتُب » على الجمع ، جاؤوا به نَصَّاً في الجمع .
وقرأ العامَّةُ بضمِّ التاءِ وكسرِ السينِ مضارعَ « أفسدَ » ، ومفعولُه محذوفٌ تقديره : لَتُفْسِدُنَّ الأديانَ . ويجوزُ أْنْ لا يُقَدَّر مفعولٌ ، أي : لتُوقِعُنَّ الفساد . وقرأ ابنُ عباسٍ ونصرُ بن علي وجابر بن زيد « لَتُفْسَدُن » ببنائه للمفعولِ ، أي : لَيُفْسِدَنَّكم غيرُكم : إمَّا من الإِضلال أو من الغلبة . وقرأ عيسى بن عمر بفتحِ التاء وضمِّ السين ، أي : فَسَدْتُم بأنفسِكم .
قوله « مَرَّتَيْنِ » منصوبٌ على المصدر ، والعاملُ فيه « لتُفْسِدُنَّ » لأنَّ التقديرَ : مرتين من الفساد .
قوله : « عُلُوَّاً » العامَّةُ على ضمِّ العين مصدرَ علا يَعْلُو . وقرأ زيد بن عليٍّ « عِلِيَّاً » بكسرِهما والياءُ ، والأصلُ الواو ، وإنما اعتلَّ على اللغة القليلة؛ وذلك أن فُعُولاً المصدرَ الأكثرُ فيه التصحيحُ نحو : عَتا عُتُوَّاً ، والإِعلالُ قليلٌ نحو { أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً } [ مريم : 69 ] على أحدِ الوجهين كما سيأتي ، وإنْ كان جمعاً فالكثيرُ الإِعلالُ . نحو : « جِثِيَّاً » وشَذَّ : بَهْوٌ وبُهُوُّ ، ونَجْوٌ ونَجَوٌّ ، وقاسه الفراء .

فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)

قوله تعالى : { وَعْد } : أي : مَوْْعُود ، فهو مصدرٌ واقعٌ موقعَ مفعول ، وتركه الزمخشري على حالِه ، لكن بحذف مضاف ، أي : وَعْدُ عقابِ أُوْلاهما . وقيل : الوَعْدُ بمعنى الوعيد . وقيل : بمعنى المَوْعِد الذي يُراد به الوقتَ . فهذه أربعةُ أوجهٍ . والضميرُ عائدٌ على المرتين .
قوله : « عِباداً » العامَّةُ على « عِباد » بزنة فِعال ، وزيدُ بن علي والحسنُ « عبيداً » على فَعِيْل ، وقد تقدَّم الكلامُ على ذلك .
قوله : « فجاسُوا » عطفٌ على « بَعَثْنا » ، أي : تَرَتَّب على بعثنا إياهم هذا . والجَوْسُ والجُوْس بفتحِ الجيمِ وضمِّها مصدرَ جاسَ يَجُوسُ ، أي : فَتَّشَ ونقَّبَ ، قاله أبو عبيد . وقال الفراء : « قَتَلُوا » قال حسان :
3026- ومِنَّا الذي لاقى بسيفِ محمدٍ ... فجاسَ به الأعداءُ عَرْضَ العساكرِ
وقال أبو زيد : « الجُوسُ والجَوْسُ والحَوْسُ والهَوْسُ طَلَبُ الطَّوْف بالليل » . وقارب قطرب : « جاسُوا : نزلوا » . وأنشد :
3027- فَجُسْنا ديارَهُمُ عَنْوَةً ... وأُبْنا بساداتِهم مُوْثَقِيْنا
وقيل : « جاسُوا بمعنى داسوا » ، وأنشد :
3028- إليك جُسْنا الفِيلَ بالمَطِيِّ ... وقيل : الجَوْسُ : التردُّد . وقيل : طَلَبُ الشيءِ باستقصاء . ويقال : « حاسُوا » بالحاءِ المهملة ، وبها قرأ طلحة وأبو السَِّمَّال ، وقرئ « فَجَوَّسُوا » بالجيم بزنة نُكِّسُوا .
قوله : « خلالَ » العامَّةُ على « خِلال » وهو محتملٌ لوجهين ، أحدهما : أنه جمعُ خَلَل كجِبال في جَبَل ، وجِمال في جَمَل . والثاني : أنه اسمٌٌ مفردٌ بمعنى وَسْط ، ويدلُّ له قراءةُ الحسن « خَلَلَ الدِّيار » . وقوله : « وكان وَعْداً » ، أي : وكان الجَوْسُ ، أو وكان وَعْدُ أُوْلاهما ، أو وكان وَعْدُ عقابِهم .

ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)

قوله تعالى : { الكرة } : مفعولُ « رَدَدْنا » وهي في الأصلِ مصدرُ كَرَّ يَكُرُّ ، أي : رَجَعَ ، ثم يُعَبَّر بها عن الدَّوْلَةِ والقَهْر .
قوله « عليهم » يجوز تعلُّقه ب « رَدَدْنا » ، أو بنفس/ الكَرَّة ، لأنه يُقال : كَرَّ عليه فتتعدَّى ب « على » ويجوز أن تتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنها حالٌ من « الكَرَّة » .
قوله : « نَفِيراً » منصوبٌ على التمييز ، وفيه أوجهٌ ، أحدها : أَنَّه فَعِيْل بمعنى فاعِل ، أي : أكثر نافراً ، أي : مَنْ يَنْفِرُ معكم . الثاني : أنه جمع نَفْرٍ نحو : عَبْد وعَبيد ، قاله الزجاج ، وهم الجماعة الصَّائِرون إلى الأعداء . الثالث : أنه مصدرٌ ، أي : أكثرُ خروجاً إلى الغَزْو . قال الشاعر :
3029- فَأَكْرِمْ بقَحْطانَ مِنْ والدٍ ... وحِمْيَرَ أكرِمْ بقومٍ نَفيرا
والمفضَّلُ عليه محذوفٌ ، فقدَّره بعضُهم : أكثر نفيراً من أعدئكم ، وقدَّره الزمخشري : أكثر نفيراً مِمَّا كنتم .

إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)

قوله تعالى : { فَلَهَا } : في اللامِ أوجهٌ : أحدُها : أنها بمعنى « على » ، أي فعليها كقوله :
3030- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فَخَرَّ صريعاً لليدينِ وللفمِ
أي : على اليدين . والثاني : أنها بمعنى إلى . قال الطبري : « أي/ فإليها تَرْجِعُ الإِساءةُ » . الثالث : أنها على بابها ، وإنما أتى بها دونه « على » للمقابلة في قوله : « لأنفسِكم » فأتى بها ازْدِواجاً . وهذه اللامُ يجوز أن تتعلَّقَ بفعلٍ مقدرٍ كما تقدَّم في قولِ الطبريِّ ، وإمَّا بمحذوفٍ على أنها خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ تقديرُه : فلها الإِساءةُ لا لغيرِها .
قوله : { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة } ، أي : المرة الآخرة فَحُذِفَت « المرَّة » للدَّلالة عليها ، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ تقديرُه : بَعَثْناهم .
وقوله : { لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ } متعلقٌ بهذا الجوابِ المقدرِ . وقرأ ابن عامر وحمزة وأبو بكر « لِيَسُوْءَ » بالياءِ المفتوحةِ وهمزةٍ مفتوحةٍ آخرَ الفعل . والفاعلُ : إمَّا اللهُ تعالى ، وإمَّا الوعدُ ، وإمَّا البعثُ ، وإمَّا النفيرُ . والكسائيُّ « لِنَسُوءَ » بنونِ العظمة ، أي : لِنَسُوءَ نحن ، وهو موافِقٌ لِما قبلَه مِنْ قولِه « بَعَثْنا عباداً لنا » و « رَدَدْنا » و « أَمْدَدْنا » ، وما بعده من قوله : « عُدْنا » و « جَعَلْنا » .
وقرأ الباقون : « لِيَسُوْءُوا » مسنداً إلى ضميرِ الجمع العائد على العِباد ، أو على النفير؛ لأنه اسمُ جمعٍ ، وهو موافِقٌ لِما بعدَه من قوله { وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ } . وفي عَوْدِ الضمير على النفير نظرٌ؛ لأنَّ النفيرَ المذكورَ من المخاطبين ، فكيف يُوصف ذلك النفيرُ بأنه يَسُوْء وجوهَهم؟ اللهم إلا أنْ يريدَ هذا القائلَ أنه عائدٌ على لفظِه دون معناه ، من بابِ « عندي درهمٌ ونصفُه » .
وقرأ أُبَيٌّ « لِنَسُوْءَنْ » بلامِ الأمرِ ونونِ التوكيدِ الخفيفة ونونِ العظمة ، وهذا جوابٌ ل « إذا » ، ولكن على حَذْفِ الفاء ، أي « فَلِنَسُوْءَنْ ، ودخلت لامُ الأمرِ على فعلِ المتكلمِ كقولِه تعالى : { وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ } [ العنكبوت : 12 ] .
وقرأ عليُّ بنُ أبي طالب » لَيَسُوْءَنَّ « و » وَلَنَسوْءَنَّ « بالياء أو النون التي للعظمةِ ، ونونِ التوكيدِ الشديدة ، واللامِ التي للقسَمِ . وفي مصحف اُبَيّ » لِيَسُوْءُ « بضمِّ الهمزة من غيرِ واوٍ ، وهذه القراءةُ تشبه أَنْ تكونَ على لغةِ مَنْ يَجْتَزِئُ عن الواوِ بالضمة ، كقوله :
3031- فلوْ أنَّ الأطبَّا كانُ حولي ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يريد : » كانوا « . وقولِ الآخر :
3032- إذا ما الناسُ جاعُ وأَجْدَبُوا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يريد » جاعُوا « ، فكذا هذه القراءةُ ، أي : لِيَسُوْءُوا ، كما في القراءةِ الشهيرة ، فَحَذَفَ الوَاو .
وقرئ » لِيَسْيء « بضمِّ الياءِ وكسرِ السينِ وياءٍ بعدها ، أي : ليُقَبِّحَ اللهُ وجوهكم ، أو ليقبِّح الوعدُ ، أو البعثُ . وفي مصحفِ أنس » وَجْهَكم « بالإِفرادِ كقوله :

3033- كُلوا في بعضِ بطنِكُمُ تَعِفُّوا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . .
[ وكقوله : ]
3034- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... في حَلْقِكم عَظْمٌ وقد شَجِيْنا
[ وكقوله : ]
3035- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . وأمَّا جِلْدُها فَصَلِيْبُ
قوله : « ولِيَدْخُلُوا » مَنْ جَعَلَ الأولى لامَ « كي » كانت هذه أيضاً لامَ « كي » معطوفةً عليها ، عَطْفَ علةٍ على أخرى ، ومَنْ جَعَلَها لامَ أمرٍ كأُبَيِّ ، أو لامَ قسمٍ كعليّ بن أبي طالب فاللامُ في « لِيَدْخُلوا » تحتمل وجهين : الأمرَ والتعليل ، و { كَمَا دَخَلُوهُ } نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أو حالٌ من ضميره ، كما يقول سيبويه ، أي : دخولاً كما دخلوه . و { أَوَّلَ مَرَّةٍ } ظرفُ زمانٍ ، وتقدَّم/ الكلامُ عليها في براءة .
[ قوله : ] { مَا عَلَوْاْ } يجوز في « ما » أن تكونَ مفعولاً بها ، أي : ليُهْلِكُوا الذي عَلَوه ، وقيل : ليَهْدِمُوه كقوله :
3036- وما الناسُ إلا عاملان فعامِلٌ ... يُُتَبِّرُ ما يَبْني وآخرُ رافِعُ
ويجوز فيها أَنْ تكونَ ظرفيةً ، أي : مدةَ استعلائِهم وهذا مُحْوجٌ إلى حذفِ مفعولٍ ، اللهم إلا أَنْ يكونَ القصدُ مجردَ ذِكْرِ الفعلِ نحو : هو يعطي ويمنع .

عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)

قوله تعالى : { حَصِيراً } : يجوزُ أَنْ يكونَ بمعنى فاعِل ، اي : حاصرةً لهم ، مُحيطةً بهم ، وعلى هذا فكان ينبغي أن يؤنَّثَ بالتاء كخبيرة . وأُجيب : بأنَّها على النسَب ، أي ذات حَصْرٍ كقولِه : { السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ } [ المزمل : 18 ] ، أي ذاتُ انفطارٍ . وقيل : الحَصِيْرُ : الحَبْسُ ، قال لبيد :
3037- ومَقامَةٍ غُلْبِ الرجالِ كأنَّهمْ ... جِنٌّ لدى بابِ الحصيرِ قيامُ
وقال أبو البقاء : « لم يؤنِّثْه لأنَّ فعيلاً بمعنى فاعِل » وهذا منه سهوٌ؛ لأنه يؤدِّ إلى أن تكونَ الصفةُ التي على فعيل إذا كانَتْ بمعنى فاعِل جاز حَذْفُ التاءِ منها ، وليس كذلك لِما تقدَّم مِنْ أنَّ فعيلاً بمعنى فاعِل يَلْزَمُ تأنيثه ، وبمعنى مَفْعول يجب تذكيرُه ، وما جاء شاذَّاً مِنَ النوعين يُؤَوَّل . وقيل : إنما لم يُؤَنَّثْ لأنَّ تأنيث « جهنَّم » مجازيٌّ ، وقيل : لأنها في معنى السِّجْن والمَحْبَس ، وقيل : لأنها بمعنى فِرَاش .

إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)

قوله تعالى : { لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } : أي : للحالةِ أو للمِلَّة أو للطريقة . قال الزمخشري : « وأَيَّتَما قدَّرْتَ لم تَجِدْ مع الإِثباتِ ذَوْقَ البلاغةِ الذي تجده مع الحذف؛ لِما في إبهام الموصوفِ بحذفِه مِنْ فخامةٍ تُفْقَدُ مع إيضاحِه » .

وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)

قوله تعالى : { وأَنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ } : فيه وجهان ، أحدُهما : أن يكونَ عطفاً على « أنَّ » الأولى ، أي : يُبَشِّرُ المؤمنين بشيئين : بأجرٍ كبيرٍ وبتعذيبِ أعدائهم ، ولا شكَّ أنَّ ما يُصيبُ عَدُوَّك سُرورٌ لك . وقال الزمخشري : « ويُحتمل أن يكونَ المرادُ : ويُخبر بأنَّ الذين » .
قال الشيخ : « فلا يكونُ إذ ذاك داخلاً تحت البشارةِ » . قلتُ : قولُ الزمخشريِّ يَحْتمل أمرين ، أحدُهما : أن يكونَ قولُه « ويُحتمل أن يكونَ المرادُ : ويُخْبِرُ بأنَّ » أنه من باب الحذف ، أي : حَذَف « ويُخْبِرُ » وأبقى معموله ، وعلى هذا فيكون « أنَّ الذين » غيرَ داخلٍ في حَيِّز البِشارة بلا شك ، ويحتمل أن يكونَ قصدَه : أنه أُريد بالبِشارة مجرَّدُ الإِخبار سواءً كان بخيرٍ أم بِشَرّ ، وهل هو فيهما حقيقةٌ أو في أحدِهما ، وحينئذٍ يكون جمعاً بين الحقيقةِ والمجاز ، أو استعمالاً للمشترك في معنييه ، وفي المسألتين خلافٌ مشهور ، وعلى هذا فلا يكون قولُه { وأَنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ } غيرَ داخلٍ في حَيِّز البِشارة ، إلا أنَّ الظاهرَ مِنْ حالِ الزمخشري أنه لا يُجيز الجمعَ بين الحقيقةِ والمجازِ ولا استعمالَ المشتركِ في مَعْنَيَيْه .

وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)

قوله تعالى : { وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَآءَهُ بالخير } : في الباءين ثلاثةُ أوجه ، أحدُها : أنهما متعلِّقتان بالدعاءِ على بابهما نحو : « دَعَوْتُ بكذا » والمعنى : أنَّ الإِنسانَ في حالِ ضَجَرِه قد يَدْعُو بالشرِّ ويُلِحُّ فيه ، كما يَدْعُو ويُلِحُّ فيه .
والثاني : أنهما بمعنى « في » بمعنى أنَّ الإِنسانَ إذا أصابه ضرٌّ دعا وألَحَّ في الدعاءِ واستعجل الفرجَ ، مثلَ الدعاءِ الذي كان يحبُّ أَنْ يدعوَه في حالة الخير ، وعلى هذا فالمَدْعُوُّ به ليس الشرَّ ولا الخيرَ . وهو بعيدٌ . الثالث : أن تكونَ للسببِ ، ذكره أبو البقاء ، والمعنى لا يُساعده ، والمصدرُ مضافٌ لفاعِلِه .

وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)

قوله تعالى : { آيَتَيْنِ } : يجوز أن يكونَ هو المفعولَ الأولَ ، و { الليل والنهار } ظرفان في موضع الثاني قُدِّما على الأول ، والتقدير : وجَعَلْنا آيتين في الليلِ والنهار ، والمرادُ بالآيتين : إمَّا الشمسُ والقمرُ ، وإمَّا تكويرُ هذا على هذا ، وهذا على هذا ، ويجوز أنْ يكونَ « آيَتَيْن » هو الثاني ، و { الليل والنهار } هما الأول . ثم فيه احتمالان ، أحدُهما : أنه على حَذْفِ مضافٍ : / إمَّا من الأولِ ، أي : نَيَّرَي الليل والنهار ، وهما القمرُ والشمسُ ، وإمَّا من الثاني ، أي : ذَوِي آيتين . والثاني : أنه لا حَذْفَ ، وأنهما علامتان في أنفسِهما ، لهما دلالةٌ على شيءٍ آخرَ . قال أبو البقاء : « فلذلك أضافَ في موضعٍ ، وَوَصف في آخر » يعني أنه أضافَ الآيةَ إليهما في قولِه { آيَةَ الليل } و { الليل والنهار } ووصفَهما في موضعٍ آخرَ بأنهما اثنان لقولِه : « وجَعَلْنا الليلَ والنهارَ آيتين » . هذا كلُّه إذا جَعَلْنَا الجَعْلَ تصييراً متعدِّياً لاثنين ، فإن جَعَلْناه بمعنى « خَلَقْنا » كان « آيتين » حالاً ، وتكونُ حالاً مقدرة .
واستشكل بعضُهم أَنْ يكونَ « جَعَلَ » بمعنى صَيَّر قال : « لأنه يَسْتَدْعِيْ أن يكونَ الليلُ والنهارُ موجودَيْن على حالةٍ ، ثم انتقل عنها إلى أخرى » .
قوله : « مُبْصِرَةً » فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه مِنْ الإِسنادِ المجازيِّ ، لأنَّ الإِبصارَ فيها لأهلِها ، كقولِه : { وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً } [ الإِسراء : 59 ] لمَّا كانت سبباً للإِبْصار . وقيل : « مُبْصِرة » : مضيئةً ، وقيل : هي من بابِ اَفْعَل ، والمرادُ به غيرُ مَنْ أُسْنِد الفعلُ إليه كقولهم : « أَضْعَفَ الرجلُ » ، أي : ضَعُفَتْ ماشِيتُه ، و « أَجْبن » إذا كان أهلُه جبناء ، فالمعنى أنَّ أهلَها بُصراء .
وقرأ عليُّ بن الحسين وقتادةُ « مَبْصَرة » بفتح الميم والصاد ، وهو مصدرٌ أقيم مُقام الاسمِ ، وكَثُر هذا في صفاتِ الأمكنة نحو : « مَذْأَبَة » .
قوله : { وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ } فيه وجهان ، أحدهما : أنَّه منصوبٌ على الاشتغال ، ورُجِّح نصبُه لتقدُّمِ جملةٍ فعلية . وكذلك { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ } [ الإِسراء : 13 ] . والثاني : - وهو بعيد - أنه منصوبٌ نَسَقاً على « الحِسابَ » ، أي : لتعلموا كلَّ شيءٍ أيضاً ، ويكون « فَصَّلْناه » على هذا صفةً .
وقرئ « في عُنْقِه » وهو تخفيفٌ شائعٌ .

وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13)

قوله تعالى : { وَنُخْرِجُ } : العامَّةُ على « نُخْرِجُ » بنونِ العظمة مضارع « اَخْرَجَ » ، و « كتاباً » فيه وجهان ، أحدهما : أنه مفعولٌ به والثاني : أنه منصوبٌ على الحالِ من المفعول المحذوف ، إذ التقديرُ : ونُخْرِجُه إليه كتاباً ، ونُخْرِجُ الطائرَ .
ورُوِي عن أبي جعفر : « ويُخْرَجُ » مبنيَّاً للمفعول ، « كتاباً » نصبٌ على الحال ، والقائمُ مَقامَ الفاعلِ ضميرُ الطائرِ ، وعنه أنَّه رَفَع « كتاباً » . وخُرِّج على أنَّه مرفوعٌ بالفعلِ المبنيِّ للمفعول ، والأولى قراءة قلقةٌ .
وقرأ الحسن : « ويَخْرُجُ » بفتحِ الياءِ وضمِّ الراءِ مضارعَ « خَرَجَ » ، « كتابٌ » فاعلٌ به ، وابن محيصن ومجاهد كذلك ، إلا أنهما نَصَبا « كتاباً » على الحال ، والفاعلُ ضميرُ الطائرِ ، أي : ويَخْرُجُ له طائرُه في هذه الحالِ . وقرئ « ويُخْرِجُ » بضمِّ الياء وكسرِ الراء مضارعَ « اَخْرَجَ » ، والفاعلُ ضميرُ الباري تعالى ، « كتاباً » مفعولٌ .
قوله : « يَلْقَاْه » صفةٌ ل « كتاباً » ، و « مَنْشُوراً » حالٌ من هاء « يَلْقاه » . وجوَّز الزمخشري والشيخ وأبو البقاء أن يكونَ نعتاً لكتاب . وفيه نظرٌ : من حيث إنه يَلْزَمُ تقدُّم الصفةِ غير الصريحة على الصريحةِ ، وقد تقدَّم ما فيه .
وقرأ ابنُ عامر « يُلَقَّاه » بضمِّ الياء وفتح اللام وتشديد القاف ، مضارعَ « لَقَّى » بالتشديد ، والباقون : بالفتح والسكونِ والتخفيف مضارع لَقِي .

اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)

قوله تعالى : { اقرأ } : على إضمارِ القولِ ، أي : يُقال له : اقرأْ ، وهذا القولُ : إمَّا صفةٌ أو حالٌ كما في الجملةِ قبله .
قوله/ { كفى بِنَفْسِكَ } فيه ثلاثةُ أوجهٍٍ ، المشهورُ عند المُعْرِبين : أنَّ « كفى » فعلٌ ماضٍ ، والفاعلُ هو المجرورُ بالباء ، وهي فيه مزيدةٌ ، ويَدُلُّ عليه أنها حُذِفت ارتفع ، كقوله :
3038- ويُخْبرني عن غائبٍ المَرْءِ هَدْيُه ... كَفَى الهَدْيُ عَمَّا غَيَّبَ المَرْءُ مُخْبِرا
وقولِ الآخر :
3039- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كَفَى الشيبُ والإِسلامُ للمرءِ ناهيا
وعلى هذا فكان ينبغي أن يُؤَنَّثَ الفعلُ لتأنيث فاعلِه ، وإن كان مجروراً كقوله : { مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ } [ الأنبياء : 6 ] و { وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ } [ الأنعام : 4 ] . وقد يقال : إنه جاء على أحد الجائزين فإن التأنيثَ مجازيٌّ . والثاني : أنَّ الفاعلَ/ ضميرُ المخاطبِ ، و « كفى » على هذا اسمُ فعلٍ أمرٍ ، أي : اكْتَفِ ، وهو ضعيفٌ لقَبولِ « كَفَى » علاماتِ الأفعالِ . الثالث : أنَّ فاعلَ « كَفَى » ضميرٌ يعودُ على الاكتفاء ، وقد تقدَّم الكلامُ على هذا مستوفى . و « اليومَ » نصبٌ ب « كفى » .
قوله : « حَسِيْبا » فيه وجهان ، أحدُهما : أنه تمييزٌ . قال الزمخشري : « وهو بمعنى حاسِب ، كضَرِيْب القِداح بمعنى ضاربها ، وصَرِيْم بمعنى صارِم ، ذكرهما سيبويه ، و » على « متعلقةٌ به مِنْ قولك : حَسِب عيله كذا ، ويجوز أن يكونَ بمعنى الكافي ووُضِع موضعَ الشهيد ، فعُدِّي ب » على « لأنَّ الشاهدَ يكفي المُدَّعي ما أهمَّه . فإن قلت : لِمَ ذَكَرَ » حسيباً «؟ قلت : لأنَّه بمنزلةِ الشاهدِ والقاضي والأمين ، وهذه الأمور يَتَوَلاَّها الرجالُ فكأنَّه قيل : كفى بنفسِك رجلاً حسيباً ، ويجوز أًنْ تُتَأَوَّلَ النفسُ بمعنى الشخصِ ، كما يقال : ثلاثة أنفس » . قلت : ومنه قولُ الشاعر :
3040- ثلاثةُ أنفسٍ وثلاثُ ذَوْدٍ ... لقد جارَ الزمانُ على عيالي
والثاني : أنه منصوبٌ على الحالِ ، وذُكِرَ لِما تقدَّم . وقيل : حَسِيب بمعنى مُحاسِب كخَلِيط وجَلِيس بمعنى : مُخالِط ومُجالس .

وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)

قوله تعالى : { أَمَرْنَا } : قرأ العامَّةُ بالقصرِ والتخفيفِ وفيه وجهان ، أحدُهما : أنه من الأمرِ الذي هو ضِدُّ النهيِ . ثم اختلف القائلون بذلك في متعلَّق هذا الأمرِ : فعن ابن عباس في آخرين : أنه أَمَرْناهم بالطاعةِ فَفَسَقُوا ، وقد ردَّ هذا الزمخشريُّ رداً شديداً وأنكره إنكاراً بليغاً في كلامٍ طويلٍ ، حاصلُه : أنه حَذْفُ ما لا دليلَ عليه ، وقدَّر هو متعلِّق الأمرِ : الفسق ، أي : أَمَرْناهم بالفسق قال : « أي : أَمَرْناهم بالفِسْق ، فعملوا ، والأمرُ مجازٌ؛ لأنَّ حقيقةَ أمرِهم بالفسقِ أَنْ يقول لهم : افْسُقوا ، وهذا لا يكونُ ، فبقي أن يكونَ مجازاً . ووجهُ المجازِ : أنه صَبَّ عليهم النعمة صَبَّاً ، فجعلوها ذريعةً إلى المعاصي واتِّباع الشهوات ، فكأنهم مَأمورون بذلك لِتَسَبُّبِ إيلاءِ النِّعْمَةِ فيه ، وإنما خَوَّلهم فيها ليشكروا » .
ثم قال : « فإنْ قلت : فهلاَّ زَعَمْتَ أنَّ معناه : أَمَرْناهم بالطاعةِ ففسَقُوا . قلت : لأنَّ حَذْفَ ما لا دليلَ عليه غيرُ جائزٍ ، فكيف حَذْفُ ما الدليلُ قائمٌ على نَقِيضِه؟ وذلك أنَّ المأمورَ به إنما حُذِفَ لأنَّ » فَفَسَقُوا « يدلُّ عليه ، وهو كلامٌ مستفيضٌ يقال : » أَمَرْتُه فَقام « ، و » أَمَرْتُه فَقَرأ « ، لا يُفهم منه إلا أنَّ المأمورَ به قيامُ أو قراءةُ ، ولو ذَهَبْتَ تُقَدِّر غيرَه رُمْتَ مِنْ مخاطَبِك عِلْمَ الغيبِ ، ولا يَلْزَمُ [ على ] هذا قولُهم : و » أَمَرْتُه فعصاني « أو » فلم يمتثلْ « لأنَّ ذلك منافٍ للأمرِ مناقِضٌ له ، ولا يكونُ ما يناقض الأمرَ مأموراً به ، فكان محالاً أن يُقْصَدَ أصلاً حتى يُجْعَلَ دالاًّ على المأمورِ به ، فكان المأمورُ به في هذا الكلامِ غيرَ مَنْوِيٍّ ولا مُرادٍ؛ لأن مَنْ يتكلمُ بهذا الكلامِ لا يَنْوي لآمرهِ مأموراً به ، فكأنه يقول : كان مني أَمْرٌ فكان منه طاعةٌ ، كما أنَّ مَنْ يقول : [ » فلان ] يبأمرُ ويَنْهى ويعطي ويمنع « لا يَقْصِدُ مفعولاً . فإن قلت : هلاَّ كان ثبوتُ العلمِ بأنَّ اللهَ لا يأمرُ بالفحشاء دليلاً على أنَّ المراد : أَمَرْناهم بالخيرِ ، قلت : لأنَّ قوله » فَفَسَقوا « يدافعه ، فكأنَّك أظهَرْتَ شيئاً وأنت تُضْمِرُ خلافَه ، ونظيرُ » أمر « : » شاء « في أنَّ مفعولَه استفاضَ حَذْفُ مفعولِه لدلالةِ ما بعدَه عليه . تقول : لو شاءَ لأحسنَ إليك ، ولو شاءَ لأساءَ إليك ، تريد : لو شاء الإِحسانَ ، ولو شاء الإِساءةَ ، ولو ذَهَبْتَ تُضْمِرُ خلافَ ما أظهرْتَ ، وقلت : قد دَلَّتْ حالُ مَنْ أُسْنِدَتْ إليه المشيئةُ أنه من أهلِ الإِحسان أو من أهلِ الإِساءةِ فاتركِ الظاهرَ المنطوقَ وأَضْمِرْ ما دَلَّتْ عليه حالُ المسندِ إليه المشيئةُ ، لم تكنْ على سَدادٍ » .
وتَتَبَّعه الشيخُ في هذا فقال : « أمَّا ما ارتكبه من المجاز فبعيدٌ جداً ، وأمَّا قولُه : » لأنَّ حَذْفَ ما لا دليلَ عليه غيرُ جائزٍ « فتعليلٌ لا يَصِحُّ فيما نحن بسبيلِه ، بل ثَمَّ ما يَدُلُّ على حَذْفِه .

وقوله : « فكيف يُحْذَفُ ما الدليلُ على نقيضِه قائمٌ » إلى « عِلْم/ الغيب » فنقول : حَذْفُ الشيءِ تارةً يكونُ لدلالةِ موافِقِه عليه ، ومنه ما مَثَّل به في قولِه « أَمَرْتُه فقامَ » ، وتارة يكونُ لدلالةِ خِلافِه أو ضدِّه أو نقيضِه كقولِه تعالى : { وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اليل والنهار } [ الأنعام : 13 ] ، أي : ما سَكَنَ وتحرَّك ، وقوله : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] ، أي : والبردَ ، وقول الشاعر :
3041- وما أَدْرِيْ إذا يَمَّمْتُ أرْضاً ... أريدُ الخيرَ ايُّهما يَلِينْي
أالخيرُ الذي أنا أَبْتَغِيْهِ ... أم الشرُّ الذي هو يَبْتَغيني
أي : وأَجْتَنِبُ الشرَّ ، وتقول : « أَمَرْتُه فلم يُحْسِنْ » فليس المعنى : أمرتُه بعدم الإِحسانِ ، بل المعنى : أَمَرْتُه بالإِحسانِ فلم يُحْسِنْ ، والآيةُ من هذا القبيل ، يُستدلُّ على حذف النقيض بنقيضه كما يُسْتَدَلُ على حَذْفِ النظير بنظيره ، وكذلك « أَمَرْتُه فأساء إليَّ » ليس المعنى : أَمَرْتُه بالإِساءة بل أَمَرْتُه بالإِحسان . وقوله : « ولا يَلْزم هذا قولَهم : » أَمَرْتُه فعصاني « . نقول : بل يَلْزَمُ . وقوله : » لأنَّ ذلك منافٍ « ، أي : لأنَّ العِصْيانَ منافٍ . وهو كلامٌ صحيح . وقوله : » فكان المأمورُ به غيرَ مدلولٍ عليه ولا مَنْويٌّ « لا يُسَلَّم بل مَدْلُولٌ عليه ومنوِيٌّ لا دلالةُ الموافقِ بل دلالةُ المناقِض ، كما بَيَّنَّا . وقوله : » لا يَنْوِي مأموراً به « لا يُسَلَّم . وقوله : » لأنَّ فَفَسَقُوا يدافعُه ، إلى آخره « قلنا : نعم نَوَى شيئاً ويُظهِرُ خلافَه ، » لأنَّ نقيضَه يَدُلُّ عليه . وقولُه : « ونظيرُ » أمر « » شاء « ليس نظيرَه؛ لأنَّ مفعولَ » أمر « كَثُر التصريحُ به . قال الله [ تعالى ] : { إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشآء } [ الأعراف : 28 ] { أَمَرَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ } [ يوسف : 40 ] { يَأْمُرُ بالعدل } [ النحل : 67 ] { أَمَرَ رَبِّي بالقسط } [ الأعراف : 29 ] { أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بهاذآ } [ الطور : 32 ] وقال الشاعر :
3042- أَمَرْتُك الخيرَ فافْعَلْ ما أُمِرْتَ به ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قلت : والشيخُ رَدَّ عليه رَدَّ مُسْتَريحٍ من النظرِ ، ولولا خَوفُ السآمةِ على الناظرِ لكان للنظرِ في كلامهما مجالٌ .
والوجه الثاني : أنَّ » أَمَرْنا « بمعنى كَثَّرْنا ، ولم يَرْتَضِ الزمخشريُّ في ظاهرِ عبارتِه فإنَّه قال : » وفسَّرَ بعضُهم « أَمَرْنا » ب « كَثَّرْنا » ، وجَعَلَه من بابِ : فَعَّلْتُه فَفَعَلَ ، كَثَبَّرْتُه فَثَبَر . وفي الحديثِ : « خَيْرُ المالِ سِكَّةٌ مأْبُوْرة ومُهْرَةٌ مَأْمورة » ، أي : كثيرةُ النِّتاج « . قلت : وقد حكى أبو حاتم هذه اللغةَ ، يقال : أَمِر القومُ ، وأَمَرهم اللهُ ، ونقله الواحديُّ أيضاً عن أهل اللغة ، وقال أبو علي : » الجيِّد في « أَمَرْنا » أن يكونَ بمعنى كَثَّرْنا « .
واستدل أبو عبيدة بما جاء في الحديثِ فذكره . يقال : أَمَرَ اللهُ المُهْرَة ، أي : كَثَّر ولدَها . قال » ومَن أنكر « أمرَ اللهُ القومَ » أي : كَثَّرهم لم يُلتفَتْ إليه لثبوتِ ذلك لغةً « .

ويكون ممَّا لَزِمَ وتعدَّى بالحركةِ المختلفةِ؛ إذ يُقال : أَمِر القومُ كَثُروا ، وأَمَرَهم الله كثَّرهم ، وهو من بابِ المطاوعة : أَمَرهم الله فَأْتَمَروا كقولِك : شَتَرَ اللهُ عَيْنَه فَشَتِرَتْ ، وجَدَعَ اَنْفَه فَجَدِع ، وثَلَمَ سِنَّه فَثَلِمَتْ .
وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر وعكرمةُ : « أَمِرْنا » بكسر الميم بمعنى « أَمَرْنا » بالفتح . حكى أبو حاتم عن أبي زيد أنه يُقال : « أَمَرَ اللهُ مالَه ، وأَمِرَه » بفتح الميم وكسرِها ، وقد رَدَّ الفراء هذه القراءةَ ، ولا يُلْتَفَتُ لِرَدِّه لثبوتِها لغةً بنَقْلِ العُدولِ ، وقد نَقَلها قراءةً عن ابن عباس أبو جعفر وأبو الفضل الرازي في « لوامِحه » فكيف تُرَدُّ؟
وقرأ عليُّ بن أبي طالب وابنُ أبي إسحاق وأبو رجاء في آخرين « آمَرْنا » بالمَدِّ ، ورُوِيَتْ هذه قراءةً عن ابنِ كثير وأبي عمرو وعاصم ونافعٍ ، واختارها يعقوبُ ، والهمزةُ فيه للتعديةِ؟
وقرأ عليٌّ أيضاً وابنُ عباس وأبو عثمان النهدي : « أمَّرْنا » بالتشديد . وفيه وجهان ، أحدهما : أنَّ التضعيفَ للتعديةِ ، عدَّاه تارةً بالهمزة وأخرى بتضعيفِ العين ، كأَخْرَجْته وخَرَّجته . والثاني : أنه بمعنى جعلناهم أُمَراءَ ، واللازمُ من ذلك « أُمِّر » . قال الفارسيُّ ، « لا وجهَ لكون » أَمَّرْنا « / من الإِمارة؛ لأنَّ رئاستَهم لا تكونُ إلاَّ لواحدٍ بَعْدَ واحدٍ ، والإِهلاكُ إنما يكون في مُدَّة واحدة » . وقد رُدَّ على الفارسي : بأنَّا لا نُسَلِّم أن الأميرَ هوالمَلِك حتى يَلْزَمَ ما قلتُ ، لأنَّ الأميرُ عند العرب مَنْ يَأْمُرُ ويُؤْتَمَرُ به . ولَئِنْ سُلِّم ذلك لا يلزم ما قال؛ لأنَّ المُتْرَفَ إذا مَلَكَ فَفَسَق ثم آخرَ بعده فَفَسَق ، ثم كذلك كَثُر الفسادُ ، ونزل بهم على الآخِر مِنْ ملوكهم .

وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)

قوله تعالى : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا } : « كم » نصبٌ بأَهْلكنا ، و { مِنَ القرون } تمييزٌ ل « كم » ، و { مِن بَعْدِ نُوحٍ } : « مِنْ » لابتداء الغاية ، والأُوْلى للبيان فلذلك اتَّحد متعلَّقُها . وقال الحوفي : « الثانية بدلٌ مِن الأولى ، وليس كذلك لاختلاف معنييهما . والباءُ بعد » كَفَى « تقدَّم الكلامُ عليها . وقال ابن عطية : » إنما يُجاءُ بهذه الباءِ في موضعِ مَدْحٍ أو ذم « . والباء في » بذنوب « متعلقةٌ ب » خبيراً « ، وعَلَّقها الحوفيُّ ب » كَفَى « . قال الشيخ : » وهو وهمٌ « . قلت : إنما جَعَلَه وهماً لأنه لا يَتَعَدَّى بالباء ، ولا يليق به المعنى .

مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18)

قوله تعالى : { مَّن كَانَ } : « مَنْ » شرطيةٌ ، و « عَجََّلْنا » جوابُه ، و « ما يشاء » مفعولُه ، و « لِمَنْ نريدُ » بدلُ بعضٍ من كل ، من الضمير في « له » بإعادةِ العاملِ ، و « لِمَنْ نريد » تقديرُه : لمَنْ نريدُ تعجيلَه له .
قوله : { ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ } « جَعَلَ » هنا تصييريةٌ .
قوله : « يَصْلاها » الجملةُ حالٌ : إمَّا من الضمير في « له » وإمَّا مِنْ « جهنَّم » ، و « مَذْمُوماً » حالٌ مِنْ فاعلِ « يَصْلاها » . قيل : وفي الكلامِ حَذْفٌ ، وهو حَذْفُ المقابِل؛ إذ الأصل : مَنْ كان يريد العاجلةَ وسَعَى لها سَعْيَها وهو كافرٌ لدلالةِ ما بعده عليه . وقيل : بل الأصل : مَنْ كان يريد العاجلة بعمله للآخرةِ كالمنافِق .

وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)

قوله تعالى : { سَعْيَهَا } : فيه وجهان ، أحدُهُما : أنه مفعولٌ به لأنَّ المعنى : وعَمِل لها عملَها . والثاني : أنه مصدرٌ ، و « لها » ، أي : مِنْ أجلِها .
قوله { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } هذه الجملةُ حالٌ مِنْ فاعل « سعى » .

كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)

قوله تعالى : { كُلاًّ نُّمِدُّ هؤلاء } : « كُلاًّ » منصوب ب « نُمِدُّ » و « هؤلاء » بدلٌ ، « وهؤلاء » عطفٌ عليه ، أي : كلَّ فريق نُمِدُّ هؤلاء الساعين بالعاجلة ، وهؤلاء الساعين للآخرة ، وهذا تقديرٌ جيد . وقال الزمخشري في تقديرِه : « كلَّ واحد من الفريقين نُمِدُّ » . قال الشيخ : « كذا قَدَّره الزمخشريُّ ، وأعربوا » هؤلاء « بدلاً مِنْ » كُلاًّ « ولا يَصِحُّ أن يكونَ بدلاً مِنْ » كل « على تقدير : كلَّ واحد ، لأنه إذ ذاك بدلُ من بعض ، فينبغي أن يكونَ التقدير : كلَّ الفريقين .
و { مِنْ عَطَآءِ } متعلقٌ ب » نُمِدُّ « . والعطاءُ اسمُ مصدرٍ واقعٌ موقعَ اسم المفعول .
والمَحْظور : الممنوعُ ، وأصله مِن الحَظْر وهو : جَمْعُ الشيءِ في حَظيرة ، والحَظيرة : ما يُعْمل مِنْ شجرٍ ونحوِه لتَأْوِي الغنم ، والمُحْتَظِر : مَنْ يعمل الحظيرة .

انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)

قوله تعالى : { كَيْفَ فَضَّلْنَا } : « كيف » نصبٌ : إمَّا على التشبيه بالظرف ، وإمَّا على الحال ، وهي معلِّقَةٌ « انظرْ » بمعنى فَكِّرْ ، أو بمعنى أبصرْ .
قوله : « وأكثر تَفْصيلاً » ، أي : من درجاتِ الدنيا ، ومِنْ تفضيلِ الدنيا .

لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)

قوله تعالى : { فَتَقْعُدَ } : يجوز أن تكونَ على بابها ، فينتصِبَ ما بعدها على الحال ، ويجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى « صار » فينتصبَ على الخبرية ، وإليه ذهب الفراء والزمخشري ، وأنشدوا في ذلك :
3043- لا يُقْنِعُ الجاريةَ الخِضابُ ... ولا الوِشاحان ولا الجِلْبابُ
من دون أن تلتقي الأَرْكابُ ... ويَقْعُدَ الأَيْرُ له لُعابُ
أي : ويَصير . والبصريون لا يَقيسون هذا ، بل يَقْتَصِرون به على المَثَل في قولهم : « شَحَذَ شفرتَه حتى قَعَدَتْ كأنها حَرْبَةٌ » .

وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)

قوله تعالى : { أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ } : يجوز أَنْ تكونَ « أنْ » مفسِّرةً؛ لأنها بعد ما هو بمعنى القول ، و « لا » ناهيةٌ . ويجوز أَنْ تكونَ الناصبةَ ، و « لا » نافيةٌ ، أي : بأنْ لا ، ويجوزُ أن تكونَ المخففةَ ، واسمُها ضميرُ الشأن ، و « لا » ناهيةٌ أيضاً ، والجملةُ في مثل هذا إشكالُ : من حيث وقوعُ الطلبِ خبراً لهذا الباب . ومثلُه في هذا الإشكالِ قولُه : { أَن بُورِكَ مَن فِي النار } [ النمل : 8 ] ، وقوله : { أَنَّ غَضَبَ الله عَلَيْهَآ } [ النور : 9 ] لكونِه دعاءً وهو طَلَبٌ أيضاً ، ويجوز أَنْ تكونَ الناصبةَ و « لا » زائدة . قال أبو البقاء : ويجوز أَنْ يكونَ في موضع نصبٍ ، [ أي : ] أَلْزَمَ ربُّك عبادَته و « لا » زائدةٌ « . قال الشيخ : » وهذا وهمٌ لدخولِ « إلا » على مفعولِ « تَعْبدوا » فَلَزِم أن يكونَ نَفْياًً أو نهياً « .
وقرأ الجمهور » قَضَى « فعلاً ماضياً ، فقيل : هي على موضوعِها الأصلي : قال ابنُ عطية : » ويكون الضمير في « تَعْبُدوا » للمؤمنين من الناسِ إلى يومِ القيامةِ « وقيل : هي بمعنى أَمَر . وقيل : بمعنى أَوْحَى ، وقيل : بمعنى حَكَم ، وقيل : بمعنى أَوْجَبَ أو ألزم .
وقرأ بعضُ وَلَد معاذِ بن جَبَل » وقضاء « / اسماً مصدراً مرفوعاً بالابتداء ، و { أَلاَّ تعبدوا } خبرُه .
قوله : { وبالوالدين إِحْسَاناً } قد تقدَّم نظيرُه في البقرة . وقال الحوفي : الباءُ متعلقةٌ ب » قضى « ، ويجوز أن تكونَ متعلقةً بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه : واَوْصى بالوالدين إحساناً ، وإحساناً مصدر ، أي : يُحْسِنون بالوالدين إحساناً » .
وقال الواحديُّ : « الباءُ مِنْ صلة الإِحسانِ فَقُدِّمَتْ عليه كما تقول : بزيدٍ فانْزِلْ » . وقد مَنَعَ الزمخشريُّ هذا الوجهَ قال : « لأنَّ المصدرَ لا يتقدَّم عليه معمولُه » . قلت : والذي ينبغي أن يُقال : إن هذا المصدرَ إنْ عَنَى به أنه يَنْحَلُّ لحرفٍ مصدريٍّ وفِعْلٍ فالأمرُ على ما ذَكَرَ الزمخشريُّ ، وإن كان بدلاً مِنَ اللفظ بالفعلِ فالأمرُ على ما قال الواحديُّ ، فالجوازُ والمنعُ بهذين الاعتبارين .
وقال ابنُ عطية : « قوله وبالوالدَيْن إحساناً عطف على » أنْ « الأولى ، أي : أَمَر اللهُ أَنْ لا تعبدوا إلا إياه ، وأن تُحْسِنوا بالوالدَيْن إحساناً » . واختار الشيخُ أَنْ يكون « إحساناً » مصدراً واقعاً موقعَ الفعلِ ، وأنَّ « أنْ » مفسرةٌ ، و « لا » ناهيةٌ . قال : فيكون قد عَطَفَ ما هو بمعنى الأمرِ على نَهْيٍ كقولِه :
3044- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... يقولون : لا تَهْلِكْ أَسَىً وتَجَمَّلِ
قلت : وأَحْسَنَ « و » أساء « يتعدِّيان ب إلى وبالباء . قال تعالى : { وَقَدْ أَحْسَنَ بي } [ يوسف : 100 ] وقال كثِّير عَزِّة :
3045- أسِيْئي بنا أو أَحْسِنِي لا مَلومةٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وكأنه ضُمِّن « أَحْسَن » لمعنى « لَطُف » فتعدَّى تعديتَه .
قوله : { إِمَّا يَبْلُغَنَّ } قرأ الأخَوان « يَبْلُغانِّ » بألفِ التثنيةِ قبل نونِ التوكيدِ المشدَّدةِ المكسورةِ ، والباقون دونَ ألفٍ وبفتحِ النون . فأمَّا القراءةُ الأولى ففيها أوجهٌ ، أحدها : أن الألفَ ضميرُ الوالدين لتقدُّم ذكرهما ، و « أَحَدُهما » بدلٌ منه ، و « أو كِلاهما » عطفٌ عليه . وإليه نحا الزمخشريُّ وغيرُه . واستشكله بعضُهم بأنَّ قولَه « أحدُهما » بدلُ بعضٍ مِنْ كل ، لا كلٍّ من كل ، لأنه غيرُ وافٍ بمعنى الأول ، وقوله بعد ذلك « أو كِلاهما » عطفٌ على البدلِ ، فيكونُ بدلاً ، وهو مِنْ بدل الكلِّ من الكل؛ لأنه مرادفٌ لألف التثنية . لكنه لا يجوز أن يكونَ بدلاً لعُرُوِّه عن الفائدة؛ إذ المستفادُ من ألفِ التثنيةِ هو المستفادُ مِنْ « كِلاهما » فلم يُفِدِ البدلُ زيادةً على المبدلِ منه .
قلت : هذا معنى قولِ الشيخِ . وفيه نظرٌ؛ إذ لقائلٍ أن يقول : مُسَلَّمٌ أنه لم يُفِدِ البدلُ زيادةً على المبدلِ منه ، لكنه لا يَضُرُّ لأنه شانُ التأكيد ، ولو أفاد زيادةً أخرى غيرَ مفهومةٍ من الأولِ كان تأسيساً لا تأكيداً . وعلى تقدير تسليمِ ذلك فقد يُجابُ عنه بما قال ابنُ عطية فإنه قال بعد ذِكْره هذا الوجهَ « وهو بدلٌ مُقَسَّمٌ كقولِ الشاعرِ :
3045- وكنت كذي رِجْلَيْنِ رجلٍ صحيحةٍ ... ورِجْلٍ رَمَى فيها الزمانُ فَشَلَّتِ
إلا أنَّ الشيخ تعقَّب كلامَه فقال : » أمَّا قولُه بدلٌ مُقَسِّمٌ كقوله : « وكنتُ . . . . » فليس كذلك؛ لأنَّ شرطََه العطفُ بالواو ، وأيضاً فشرطُه : ان لا يَصْدُقَ المُبْدَلُ منه على أحدِ قِسْميه ، لكنْ هنا يَصْدُقُ على أحدِ قسمَيْه ، ألا ترى أنَّ الألفَ وهي المبدلُ منه يَصْدُقُ على أحدِ قِسْمَيْها وهو « كلاهما » فليس من البدلِ المقسِّم « . ومتى سُلِّم له الشرطان لزم ما قاله .
الثاني : أن الألفَ ليست ضميراً بل علامةُ تثنيةٍ و » أحدُهما « فاعلٌ بالفعلِ قبلَه ، و » أو كلاهما « عطفٌ عليه . وقد رُدَّ هذا الوجهُ : بأن شرطَ الفعلِ المُلْحَقِ به علامة تثنيةٍ أن يكون مسنداً لمثنَّى نحو : قاما أخواك ، أو إلى مُفَرَّق بالعطف بالواو خاصةً على خلاف فيه نحو : » قاما زيد وعمرو « ، لكنَّ الصحيحَ جوازُه لورودِه سماعاً كقوله :
3046- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وقد أَسْلماه مُبْعَدٌ وحميم
والفعلُ هنا مسندٌ إلى » أحدُهما « وليس مثنى ولا مفرَّقاً بالعطف بالواوِ .
الثالث : نُقِل عن الفارسيِّ أنَّ/ » كلاهما « توكيدٌ ، وهذا لا بدَّ من إصلاحِه بزيادةٍ ، وهو أن يُجْعَلَ » أحدُهما « بدلَ بعضٍ من كل ، ويُضْمَرَ بعدَه فعلٌ رافعٌ لضمير تثنية ، ويقع » كلاهما « توكيداً لذلك الضميرِ تقديرُه : أو يَبْلُغا كلاهما ، إلا أنَّ فيه حَذْفَ المؤكَّد وإبقاءَ التوكيد ، وفيها خلافٌ ، أجازها الخليل وسيبويه نحو : » مررت بزيدٍ ورأيت أخاك أنفسهما « بالرفع والنصب ، فالرفعُ على تقديرِ : هما أنفسُهما ، والنصبُ على تقدير أَعْنِيهما أنفسَهما ، ولكنْ في هذا نظرٌ : من حيث إن المنقولَ عن الفارسيِّ مَنَعَ حَذْفَ المؤكَّد وإبقاءَ توكيدِه ، فكيف يُخَرَّجُ قولُه على أصلٍ لا يُجيزُه؟
وقد نصَّ الزمخشريُّ على مَنْعِ التوكيدِ فقال : فإنْ قلت : لو قيل : » إمَّا يَبْلُغانِّ كلاهما « كان » كلاهما « توكيداً لا بدلاً ، فما لكَ زَعَمْتَ أنه بدلٌ؟ قلت : لأنَّه معطوفٌ على ما لا يَصِحُّ أن يكون توكيداً للاثنين ، فانتظم في حكمِه ، فوجَبَ أن يكونَ مثلَه » .

قلت : يعني أنَّ « أحدُهما : لا يَصْلُحُ أن يقعَ توكيداً للمثنى ولا لغيرِهما ، فكذا ما عُطِفَ عليه لأنه شريكُه .
ثم قال : » فإنْ قلتَ : ما ضَرَّك لو جَعَلْتُه توكيداً مع كونِ المعطوفِ عليه بدلاً ، وعَطَفْتَ التوكيدَ على البدل؟ قلت : لو أريد توكيدُ التثنيةِ لقيل : « كلاهما » فحسبُ ، فلمَّا قيل : « أحدهما أو كلاهما » عُلِمَ أنَّ التوكيدَ غيرُ مرادٍ فكان بدلاً مثلَ الأول « .
الرابع : أَنْ يرتفعَ » كلاهما « بفعلٍ مقدَّر تقديرُه : أو يبلغُ كلاهما ، ويكون » إحداهما « بدلاً من ألفِ الضمير بدلَ بعضٍ من كل . والمعنى : إمَّا يَبْلُغَنَّ عندك أحدُ الوالدَيْن أو يبلُغُ كلاهما .
وأمَّا القراءةُ الثانية فواضحةٌ ، و » إن ما « : هي » إنْ « الشرطية زِيْدَتْ عليها » ما « توكيداً ، فَأُدْغِم أحدُ المتقاربين في الآخر بعد ان قُلب إليه ، وهو إدغامٌ واجب . قال الزمخشري : » هي إنْ الشرطيةُ زِيْدَتْ عليها « ما » توكيداً لها ولذلك دَخَلَتْ النون ، ولو أُفْرِدَتْ « إنْ » لم يَصِحُّ دخولُها ، لا تقول : إن تُكْرِمَنَّ زيداً يُكْرِمْكَ ، ولكن : إمَّا تُكْرِمنَّه .
وهذا الذي قاله أبو القاسم نصَّ سيبويهِ على خلافِه ، قال سيبويه : « وإن شِئْتَ لم تُقْحِمِ النونَ ، كما أنك إن شِئْتَ لم تَجِيءْ ب » ما « . قال الشيخ : » يعني مع النون وعَدَمِها « . وفي هذا نظرٌ؛ لأنَّ سيبويه إنما نصَّ على أن نونَ التوكيد لا يجبُ الإِتيانُ بها بعد » أمَّا « ، وإن كان أبو إسحاقَ قال بوجوبِ ذلك . وقوله بعد ذلك » كما أنَّك إنْ شِئْتَ لم تجيءْ ب « ما » ، ليس فيه دليلٌ على جوازِ توكيدِ الشرط مع إنْ وحدها .
و « عندك » ظرفٌ ل « يَبْلُغَنَّ » و « كِلا » مثنَّاةٌ معنىً من غيرِ خلافٍ ، وإنما اختلفوا في تثنيتِها لفظاً : فمذهبُ البصريين أنها مفردةٌ لفظاً ، ووزنُها على فِعَل ك « مِعَى » وألفُها منقلبةٌ عن واوٍ بدليل قلبِها تاءً في « كِلْتا » مؤنثَ « كِلا » هذا هو المشهور .

وقيل : ألفُها عن ياء وليس بشيءٍ . وقال الكوفيون - وتبعهم السهيليُّ مستدلِّين على ذلك بقوله :
3047- في كلتِ رِجْلَيْها سُلامى واحدَه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فَنَطَق بمفرِدها- : هي مثنَّاة لفظاً ، ولذلك تُعْرَبُ بالألفِ رفعاً والياء نصباً وجراً ، فألفُها زائدةٌ على ماهية الكلمة كألف « الزيدان » ، ولامُها محذوفةٌ عند السهيليِّ ، ولم يأتِ عن الكوفيين نَصٌّ في ذلك ، فاحتمل أن يكونَ الأمرُ كما قال السهيليُّ ، وأن تكونَ موضوعةً على حرفَيْن فقط ، لأنَّ مِنْ مذهبِهم جوازَ ذلك في الأسماءِ المعربة .
وحكمها أنها متى أُضيفت إلى مضمرٍ أعْرِبت إعرابَ المثنى ، أو إلى ظاهرٍ اُعْرِبَتْ إعرابَ المقصورِ عند جمهورِ العربِ ، وبنو كنانةَ يُعْربونها إعرابَ المثنى مطلقاً فيقولون : رأيت كِلَيْ اَخَوَيْك ، وكونُها جَرَتْ مَجْرى المثنى مع المضمرِ دونَ الظاهر يضيق الوقتُ عن ذكره فإنِّي حَقَّقْتُه في « شرح التسهيل » .
ومن أحكامِها : أنها لا تُضاف إلا إلى مثنى لفظاً ومعنى نحو : « كِلا الرجلين » ، أو معنىً لا لفظاً نحو : ، « كِلانا » ، ولا تُضاف إلى مُفَرِّقَيْنِ بالعطفِ نحو : « كِلا زيد وعمرو » إلا في ضرورةٍ كقوله :
3048- كِلا السيفِ والسَّاقِ الذي ذهبَتْ به ... على مَهَلٍ باثنين ألقاه صاحبُهْ
وكذا لا تُضافُ إلى مفردٍ مرادٍ به التثنيةُ إلا في ضرورةٍ كقوله :
3049- إنَّ للخير والشرِّ مَدَى ... وكِلا ذلك وَجْهٌ وقَبَلْ
والأكثرُ مطابَقَتُها فَيُفْرَدُ خبرُها وضميرُها نحو : كلاهما قائمٌ ، وكلاهما ضربتُه ، ويجوزُ في قليل : قائمان ، وضربتُهما ، اعتباراً بمعناها ، وقد جَمَعَ الشاعرُ بينهما في قوله :
3050- كلاهما حينَ جَدَّ الجَرْيُ بينهما ... قد أقلعا وكِلا أَنْفَيْهما رابي
وقد يَتَعَيَّنُ اعتبارُ اللفظِ نحو : كِلانا كفيلُ صاحبِهِ ، وقد يتعيَّنُ اعتبارُ المعنى ، ويُستعمل تابعاً توكيداً ، وقد لا يَتْبَعُ فيقع مبتدأً ومفعولاً به ومجروراً . و « كلتا » في جميعِ ما ذُكِرَ ك « كِلا » ، وتاؤُها بدلُ عن واو ، وألفُها للتأنيث ، ووزنُها فِعْلى كذكرى . وقال يونس : ألفُها أصلٌ تأؤُها مزيدةٌ ، ووزنُها فِعْتَل . وقد رَدَّ عليه الناس ، وله موضعٌ غيرُ هذا . والنسب إليها عند سيبويه : كِلْوِيّ كمذكَّرِها ، وعند يونس : كِلْتَوِيّ لئلا تَلْتَبِسَ ، وهذا القَدْرُ كافٍ في هاتين اللفظتين .
قوله : « أُفٍّ » « أُفّ » اسمُ فعلٍ مضارعٍ بمعنى أتضجَّر ، وهو قليلٌ؛ فإنَّ أكثرَ بابِ أسماء الأفعال أوامرُ ، وأقلُّ منه اسمُ الماضي ، وأقلُّ منه اسمُ المضارع ك « أُفّ » وأَوَّه ، أي : أتوجَّع ، ووَيْ ، أي : أَعْجَبُ . وكان مِنْ حقِّها أَنْ تُعْرَبَ لوقوعِها موقعَ مُعْرَبٍ ، وفيها لغاتٌ كثيرة وصلها الرُّمَّاني إلى تسع وثلاثين ، وذكر ابنُ عطية لفظةً ، بها تمت الأربعون ، وهي اثنان وعشرون مع الهمزةِ المضمومةِ : أُفُّ ، أُفَّ ، أُفِّ ، بالتشديدِ مع التنوين وَعَدَمِه ، أُفُ ، أُفَ ، أُفِ ، بالتخفيف مع التنوين وعدمه ، أُفْ بالسكون والتخفيف؛ أُفّْ بالسكون والتشديد ، أُفُّه أَفَّه أُفِّه ، أفَّا من غير إمالة ، وبالإِمالة المحضة ، وبالإِمالة بين بين ، أُفُّو أُفِّي : بالواو والياء وإحدى عشرة مع كسرِ الهمزةِ إفَّ إفِّ : بالتشديد مع التنوينِ وعدِمه ، إفُ إفَ إفِ بالتخفيفِ مع التنوينِ وعدمِه ، إفَّا بالإِمالة .

وستٌ مع فتح الهمزة : أَفَّ أَفِّ ، بالتشديد مع التنوينِ وعدِمه ، أَفْ بالسكون ، أفا بالألف . فهذه تسعٌ وثلاثون لغةً ، وتمامُ الأربعين « أَفاهْ » بهاء السكت . وفي استخراجها بغيرِ هذا الضابطِ الذي ذكرتُه عُسْرٌ ونَصَبٌ يَحتاج في استخراجِه من كتب اللغة ، ومن كلامِ أهلِها ، إلى تتبُّع كثيرٍ ، والشيخ لم يَزِدْ على أنْ قالَ : « ونحن نَسْردُها مضبوطةً كما رأيناها » فذكرها ، والنسَّاخُ خالفوه في ضبطِه ، فمِنْ ثَمَّ جاء فيه الخَلَلُ ، فَعَدَلْتُ إلى هذا الضابطِ المذكورِ ولله الحمدُ .
وقد قُرِئ من هذه اللغاتِ بسبعٍ : ثلاثٍ في المتواتر ، وأربعٍ في الشاذ ، فقرأ نافعٌ وحفصٌ بالكسر والتنوين ، وابنُ كثير وابنُ عامر بالفتحِ دون تنوين ، والباقون بالكسر دون تنوين ، ولا خلافَ بينهم في تشديدِ الفاء . وقرأ نافعٌ في روايةٍ : أُفٌ بالرفع والتنوين ، وأبو السَّمَّال بالضمِّ مِنْ غير تنوين ، وزيد بن علي بالنصبِ والتنوين ، وابنُ عباس : « أفْ » بالسكون .
وقوله : { وَلاَ تَنْهَرْهُمَا } ، أي : لا تَزْجُرْهما ، والنَّهْرُ : الزَّجْرُ بِصياحٍ وغِلْظة/ وأصلُه الظهورُ ، ومنه « النَّهْر » لظهوره . وقال الزمخشري : « النَّهْيُ والنَّهْرُ والنَّهْمُ اَخَواتٌ » .

وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)

قوله تعالى : { جَنَاحَ الذل } : هذه استِعارةٌ بليغة ، قيل : وذلك أنَّ الطائرَ إذا أراد الطيرانَ نَشَرَ جناحَيْه ورَفَعَهما ليرتفعَ ، وإذا أراد تَرْكَ الطيران خَفَضَ جناحيه ، فجعلَ خَفْضَ الجناحِ كنايةً عن التواضعِ واللِّين . قال الزمخشري : « فإنْ قلتَ : ما معنى جَناح الذُّل؟ قلت : فيه وجهان ، أحدُهما : أن يكونَ المعنى : واخفِضْ لهما جناحَك كما قال : » واخفِضْ جناحَك للمؤمنين « فأضافه إلى الذُّل أو الذِّل كما أَضيف حاتمٌ إلى الجودِ على معنى : واخفِضْ لهما جناحَك الذليلَ أو الذَّلولَ . والثاني : أن تَجعلَ لذُلِّه أو لذِلِّه جناحاً خفيضاً ، كما جعل لبيد للشَمال يداً وللقَرَّةِ زِماماً- في قوله :
3051- وغداةِ ريحٍ قد كَشَفْتُ وقَرَّةٍ ... إذ أصبحَتْ بيدِ الشَمال؟ِ زِمامُها
مبالَغةً في التذلُّل والتواضع لهما » انتهى . يعني أنه عبَّر عن اللينِ بالذُّلِ ، ثم استعار له جناحاً ، ثم رشَّح هذه الاستعارةَ بأَنْ أمرَه بخفضِ الجَناح .
ومِنْ طريفِ ما يُحكى : أن أبا تمام لَمَّا نظَم قوله :
3052- لا تَسْقِني ماءَ المَلام فإنني ... صَبٌّ قد اسْتَعْذَبْتَ ماء بكائي
جاءه رجلٌ بقَصْعةٍ وقال له : أَعْطني شيئاً من ماء المَلام . فقال : حتى تأتيَني بريشةٍ مِنْ جَناح الذُّلِّ « يريد أن هذا مجازُ استعارةٍ كذاك . وقال بعضهم :
3053- أراشُوا جَناحِيْ ثم بَلُّوه بالنَّدى ... فلم أَسْتَطِعْ مِنْ أَرْضِهم طَيَرانا
وقرأ العامَّةُ » الذُّلِّ « بضم الذَّال ، وابن عباس في آخرين بكسرها ، وهي استعارةٌ؛ لأنَّ الذِّلَّ في الدوابِّ لأنه ضدُّ الصعوبة ، فاستعير للأناسيِّ ، كما أن الذُّلَّ بالضمَّ ضدُّ العِزِّ .
قوله : { مِنَ الرحمة } فيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنها للتعليل فتتعلق ب » اخفِضْ « ، أي : اخفِضْ مِن أجل الرحمة . والثاني : أنها لبيانِ الجنس . قال ابنُ عطية : » أي : إنَّ هذا الخفضَ يكون من الرحمة المستكنَّة في النفس « . الثالث : أن تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ مِنْ » جَناح « . الرابع : أنها لابتداءِ الغاية . قوله : { كَمَا رَبَّيَانِي } في هذه الكافِ قولان ، أحدهما : أنها نعتٌ لمصدرٍ محذوف ، فقدَّره الحوفيُّ : » ارْحَمْهما رحمةً مثلَ تربيتِهما لي « . وقدَّره أبو البقاء : » رحمةً مثلَ رحمتِهما « ، كأنه جعل التربيةَ رحمةً . الثاني : أنها للتعليل ، أي : ارْحَمْهما لأجلِ تربيتِهما كقولِه : { واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ } [ البقرة : 198 ] .

وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26)

قوله تعالى : { وَلاَ تُبَذِّرْ } : التَّبْذِيرُ : التفريق ومنه : البَذْرُ « لأنه يُفَرِّق في الأرض للزراعة . قال :
3054- ترائبُ يَسْتَضِيءُ الحَلْيُ فيها ... كجَمْر النارِ بُذِّرَ بالظَّلامِ
ثم غَلَبَ في الإِسرافِ في النفقةِ .

وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)

قوله تعالى : { ابتغآء رَحْمَةٍ } : يجوز أَنْ يكونَ مفعولاً من أجله ، ناصبُه « تُعْرِضَنَّ » وهو مِنْ وَضْعِ المُسَبَّب موضعَ السببِ ، وذلك أن الأصل : وإمَّا تُعْرِضَنَّ عنهم لإِعسارِك . وجعله الزمخشريُّ منصوباً بجوابِ الشرطِ ، أي : فقل لهم قولاً سهلاً ابتغاء رحمةٍ . وردَّ عليه الشيخ : بأنَّ ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها نحو : « إن يَقُمْ زيدٌ عمراً فاضرِبْ » فإنْ حَذَفْتَ الفاءَ جاز عند سيبويهِ والكسائي نحو : « إنْ يَقُمْ زيدٌ عمراً يَضْرِبْ » . فإن كان الاسمُ مرفوعاً نحو « إن تَقُمْ زيدٌ يَقُمْ » جاز ذلك عند سيبويهِ على أنَّه مرفوعٌ بفعلٍ مقدرٍ يُفَسِّره الظاهرُ بعده ، أي : إنْ تَقُمْ يَقُمْ زيدٌ يقمْ . ومنع مِنْ ذلك الفراءُ وشيخُه .
وفي الردِّ نظرٌ؛ لأنه قد ثبت ذلك ، لقولِه تعالى : { فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ } [ الضحى : 9 ] الآية . لأنَّ « اليتيمَ » وما بعده منصوبان بما بعدَ فاءِ الجوابِ .
الثاني : أنه موضعِ الحالِ مِنْ فاعلِ « تُعْرِضَنَّ » .
قوله : « من ربِّك » يجوز أن يكونَ/ صفة ل « رحمةٍ » ، وأَنْ يكونَ متعلِّقاً ب « تَرْجُوها » ، أي : تَرْجُوها مِنْ جهةِ ربِّك ، على المجاز .
قوله : « تَرْجُوها » يجوز أن يكونَ حالاً مِنْ فاعلِ « تُعْرِضَنَّ » ، وأَنْ يكونَ صفةً ل « رحمةٍ » .

وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29)

قوله تعالى : { كُلَّ البسط } : نصبٌ على المصدرِ لإِضافتِها إليه . و « فَتَقْعُدَ » نصبُه على جواب النهي . و « مَلُوماً » : إمَّا حالٌ ، وإمَّا خبرٌ ، كما تقدَّم .

وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)

قوله تعالى : { خِطْئاً } : قرأ ابن ذكوان : « خَطَّأً » بفتح الخاءِ والطاءِ مِنْ غيرِ مَدّ ، وابنُ كثير بكسرِ الخاء والمدّ ، ويلزمُ منه فتحُ الطاء ، والباقون بالكسرِ وسكونِ الطاء .
فأمَّا قراءةُ ابنِ ذكوان فَخَرَّجها الزجَّاج على وجهين : أحدهما : أن يكونَ مصدرٍ مِنْ أَخطأ يُخْطِىء خَطَأً ، أي : إخطاءً ، إذا لم يُصِبْ . والثاني : أن يكونَ مصدرَ خَطِئَ يَخْطَأُ خَطَأً ، إذا لم يُصِبْ أيضاً ، وأنشد :
3055- والناسُ يَلْحَوْن الأميرَ إذا هُمُ ... خَطِئوا الصوابَ ولا يُلام المُرْشِدُ
والمعنى على هذين الوجهين : أنَّ قَتْلهم كان غيرَ صواب . واستبعد قومٌ هذه القراءةَ قالوا : لأن الخطأ ما لم يُتَعَمَّدْ فلا يَصِحُّ معناه ههنا .
قلت : وخفي عنهم أن يكونَ بمعنى أخطأ ، أو أنه يقال : « خَطِئ » إذا لَمْ يُصِبْ .
وأمَّا قراءةُ ابنِ كثير فهي مصدرٌ خاطَأَ يُخاطِئ خِطاءً مثل : قاتَلَ يُقاتِل قِتالاً . قال أبو علي : « هي مصدرُ خاطَأَ يُخاطِئ ، وإنْ كنَّا لم نجدْ » خاطَأَ « ولكنْ وَجَدْنا تخاطَأَ وهو مطاوِعُ » خاطَأَ « فَدَلَّنا عليه ، ومنه قولُ الشاعر :
3056- تخاطَأَتِ النَّبْلُ أَحْشاءَه ... وأخَّر يَوْمِي فلم يَعْجَلِ
وقال الآخر :
3057- تخاطأَه القَنَّاصُ حتى وَجَدْتُه ... وخُرْطُوْمُه في مَنْقَعِ الماءِ راسِبُ
فكأنَّ هؤلاء الذين يَقْتُلون أولادَهم يُخاطِئُون الحقَّ والعَدل .
وقد طَعَنَ قومٌ على هذه القراءةِ حتى قال أبو جعفر : » لا أَعْرِفُ لهذه القراءةِ وجهاً « ، ولذلك جعلها أبو حاتم غَلَطاً . قلت : قد عَرَفه غيرُهما ولله الحمدُ .
وأمَّا قراءةُ الباقين فخي جيدةٌ واضحةٌ لأنها مِنْ قولهم : خَطِئ يَخْطَأُ خِطْئاً ، كأَثِمَ يَأثَمُ إثْماً ، إذا تَعَمَّد الكذبَ .
وقرأ الحسن : » خَطاء « بفتح الخاء والمدّ وهو اسمُ مصدر » أَخْطَأَ « كالعَطاء اسمٌ للإِعطاء .
وقرأ أيضاً » خَطا « بالقصرِ ، وأصلُه » خَطَأ « كقراءةِ ابن ذَكْوان ، إلا أنه سَهَّل الهمزةَ بإبدالها ألفاً فَحُذِفت كعَصا .
وأبو رجاءٍ والزُّهْريُّ كذلك ، إلا أنهما كسرا الخاء ك » زِنَى « وكلاهما مِنْ خَطِئ في الدِّين ، وأَخْطأ في الرأي ، وقد يُقام كلٌّ منهما مقامَ الآخرَ .
وقرأ ابنُ عامرٍ في روايةٍ » خَطْئَاً « بالفتح والسكون والهمزِ ، مصدرُ » خَطِئ « بالكسرِ .
وقرأ ابنُ وثاب والأعمشُ » تُقَتِّلوا « ، و » خِشْية « بكسرِ الخاء .

وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)

قوله تعالى : { الزنى } : العامَّةُ على قصرِه وهي اللغة الفاشية ، وقُرِئ بالمدِّ وفيه وجهان ، أحدُهما : أنه لغةٌ في المقصور . والثاني : أنه مصدر زاني يُزاني ، كقاتل يُقاتل قِتالاً؛ لأنَّه يكونُ بين اثنتين ، وعلى المدِّ قولُ الفرزدق :
3058- أبا خالدٍ مَنْ يَزْنِ يُعْرَفْ زِناؤُه ... ومن يَشْرَبِ الخُرْطومَ يُصْبِحْ مُسَكَّراً
وقول الآخر :
3059- كانت فريضةُ ما تقولُ كما ... كان الزِّناءُ فريضةَ الرَّجْمِ
وليس ذلك من بابِ الضرورةِ لثبوتِه قراءةً في الجملة .
قوله : { وَسَآءَ سَبِيلاً } تقدَّم نظيره . قال ابنُ عطيةَ : « وسبيلاً : نصبٌ على التمييز ، أي : وساء سبيلاً سبيلُه » . ورَدَّ الشيخ : هذا : بأنَّ قولَه « منصوبٌ على التمييز » ينبغي أن يكونَ الفاعلُ ضميراً مُفَسَّراً بما بعده من التمييز فلا يصحُّ تقديرُه : ساء سبيلُه سبيلاً؛ لأنه ليس بمضمرٍ لاسم جنس .

وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)

قوله تعالى : { إِلاَّ بالحق } : أي : إلا بسببِ الحق ، فيتعلَّقُ ب { لاَ تَقْتُلُواْ } ويجوز أن يكونَ حالاً مِنْ فاعل { لاَ تَقْتُلُواْ } أو مِنْ مفعولِه ، أو : لا تَقْتُلُوا إلا ملتبسين بالحق أو إلا ملتبسةً بالحقِّ ، ويجوز أن يكونَ نعتاً/ لمصدرٍ محذوفٍ ، أي : إلا قَتْلاً ملتبساً بالحق .
قوله : « مَظْلُوماً » حالٌ مِنْ مرفوع « قُتِل » .
قوله : { فَلاَ يُسْرِف } [ قرأ ] الأخَوان بالخطاب ، على إرادةِ الوليِّ ، وكان الوليُّ [ يَقْتُل ] الجماعةَ بالواحد ، أو السلطانِ رَجَع لمخاطبته بعد أن اتى به غائباً .
والباقون بالغَيْبة ، وهي تحتمل ما تقدَّم في قراءةِ الخطاب .
وقرأ أبو مسلم برفعِ الفاءِ على أنه خبرٌ في معنى النهيِ كقولِه : { فَلاَ رَفَثَ } [ البقرة : 197 ] . وقيل : « في » بمعنى الباء ، أي : بسبب القتلِ .
قوله : { إِنَّهُ كَانَ } ، أي : إنَّ الوليَّ ، أو إنَّ السلطان ، أو إنَّ القاتل ، أي : أنه إذا عُوقِب في الدنيا نُصِر في الآخرة ، أو إلى المقتولِ ، أو إلى الدمِ أو إلى الحق .

وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)

قوله تعالى : { إِنَّ العهد كَانَ مَسْؤُولاً } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّ الأصلَ على حَذْفِ مضافٍ ، أي : إن ذا العهدِ كان مسؤولاً عن الوفاءِ بعهده . والثاني : أن الضميرَ يعود على العهدِ ، ونَسَبَ السؤالَ إليه مجازاً كقولِه : { وَإِذَا الموءودة سُئِلَتْ } [ التكوير : 8 ] .

وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35)

قوله تعالى : { بالقسطاس } : قرأ الأخوانِ وحفصٌ بكسر القافِ هنا وفي سورة الشعراء بكسر القاف ، والباقون بضمِّها فيهما ، وهما لغتان مشهورتان ، وهو القَرَسْطُون . وقيل : هو كل ميزان . قال ابن عطية : « واللفظةُ للمبالغة من القِسْط » . ورَدَّه الشيخ باختلافِ المادتين ، ثم قال : « إلا أَنْ يَدَّعيَ زيادةَ السين آخراً كقُدْْموس ، وليس من مواضع زيادتها » . ويقال بالسين والصاد . قال بعضُهم : هو روميٌّ معرَّبٌ .
والمَحْسُور : المنقطعُ السيرِ ، حَسَرْتُ الدابة : قَطَعْتُ سيرَها ، وحَسير : أي : كليل تعبانُ بمعنى مَحْسُور ، والجمع « حَسْرى قال :
3060- بها جِيَفُ الحَسْرى فأمَّا عِظَامُها ... فبِيْضٌ وأمَّا جِلْدُها فَصَلِيْبُ
وحَسَر عن كذا : كشف عنه ، كقوله :
3061- . . . . . . . . . . . يَحْسِرُ الماءُ تارةً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قوله : » تأويلاً « منصوب على التفسير . والتأويلُ : المَرْجِعُ مِنْ آلَ يؤولُ ، أي : أحسن عاقبةً .

وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)

قوله تعالى : { وَلاَ تَقْفُ } : العامَّةُ على هذه القراءةِ ، أي : لا تَتَّبِعْ ، مِنْ قفاه يقْفوه إذا تتبَّع أثرَه ، قال النابغة :
3062- ومثلُ الدُّمى شُمُّ العَرانينِ ساكنٌ ... بهنَّ الحياءُ لا يُشِعْنَ التَّقافيا
وقال الكميت :
3063- فلا أَرْمي البريْءَ بغيرِ ذنبٍ ... ولا أَقْفو الحواصِنَ إن قُفِيْنا
وقرأ زيدُ بن عليّ : « ولا تَقْفُو » بإثباتِ الواو ، وقد تقدَّم أن إثباتَ حرفِ العلةِ جزماً لغةُ قوم ، وضرورةٌ عندهم غيرهم كقوله :
3064- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... مِنْ هَجْوِ زبَّانَ لم تَهْجُو ولم تَدَعِ
وقرأ معاذ القارئ « ولا تَقُفْ » بزنةِ تَقُلْ ، مِنْ قاف يَقُوف ، أي : تَتَبَّع أيضاً ، وفيه قولان : أحدُهما : أنه مقلوبٌ مِنْ قفا يَقْفُو ، والثاني - وهو الأظهرُ- أنه لغةٌ مستقلةٌ جيدة كجَبَذَ وجَذَب ، لكثرة الاستعمالين ، ومثله : قَعا الفحلُ الناقةَ وقاعَها .
قوله : « والفُؤادَ » قرأ الجَرَّاح العقيلي بفتح الفاء وواوٍ خالصة . وتوجيهُها : أنه أبدل الهمزةَ واواً بعد الضمة في القراءةِ المشهورة ، ثم فتح فاءَ الكلمة بعد البدلِ لأنها لغةٌ في الفؤاد ، يقال : فُؤَاد وفَآد ، وأنكرها أبو حاتمٍ ، أعني القراءةَ ، وهو معذورٌ .
والباء في « به » متعلقةٌ بما تَعَلَّق به « لك » ولا تتعلَّق ب « عِلْم » لأنه مصدر ، إلا عند مَنْ يتوسَّع في الجارِّ .
قوله : « أولئك » إشارة إلى ما تقدَّم من السمعِ والبصر والفؤادِ كقوله :
3065- ذُمَّ المنازلَ بعد منزلةِ اللَّوَى ... والعيشَ بعد أولئك الأيامِ
ف « أولئك » يُشار به إلى العقلاءِ وغيرِهم من الجموع . واعتذر ابنُ عطيةَ عن الإِشارةِ به لغير العقلاءِ فقال : « وعَبَّر عن السمعِ والبصَرِ والفؤاد ب » أولئك « لأنها حواسُّ لها إدراكٌ ، وجعلها في هذه الآيةِ مسؤولةً فهي حالةُ مَنْ يَعْقِلُ ، ولذلك عَبَّر عنها بكنايةِ مَنْ يَعْقِلُ ، وقد قال سيبويه - رحمه الله - في قوله { رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } [ يوسف : 4 ] إنما قال » رأيتُهم « في نحوم؛ لأنه لَمَّا وصفها بالسجود - وهو فِعْل مَنْ يَعْقِل - عَبَّر عنها بكنايةِ مَنْ يَعْقِلُ . وحكى الزجاج أنَّ العرب تُعَبِّر عَمَّن يَعْقِلُ وعَمَّن لا يَعْقِل ب » أولئك « ، وأنشد هو والطبري :
- ذمَّ المنازلَ بعد منزلة اللَّوى ... والعيشَ بعد أولئكَ الأيامِ
وأمَّا حكايةُ أبي إسحاقَ عن اللغةِ فأمرٌ يُوْقَفُ عنده ، وأمَّا البيتُ فالروايةُ فيه » الأقوامِ « . ولا حاجةَ إلى هذا الاعتذارِ لِما عرفْتَ . وأمَّا قولُه : إنَّ الروايةَ : » الأقوامِ « فغيرُ معروفةٍ والمعروفُ إنما هو » الأيَّام « .
قوله : { كُلُّ أولئك } مبتدأٌ ، والجملةُ مِنْ » كان « خبرُه ، وفي اسمِ » كان « وجهان ، أحدُهما : أنه عائدٌ على » كل « باعتبارِ لفظِها ، وكذا الضميرُ في » عنه « ، و » عنه « متعلقٌ ب » مَسْؤولاً « ، و » مسؤولاً « خبرُها .

والثاني : أنَّ اسمَها ضميرٌ يعود على القافي ، وفي « عنه » يعودُ على « كل » وهو من الالتفاتِ؛ إذ لو جَرَى على ما تقدَّم لقيل : كنتَ عنه مسؤولاً . وقال الزمخشريُّ : و « عنه » في موضع الرفع بالفاعلية/ ، أي : كلُّ واحدٍ كان مسؤولاً عنه ، فمسؤول مسندٌ إلى الجارِّ والمجرور كالمغضوبِ في قوله : { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم } [ الفاتحة : 7 ] . انتهى . وفي تسميته مفعولَ ما لم يُسَمَّ فاعلُه فاعلاً خلافُ الاصطلاح .
وقد رَدَّ الشيخ عليه قولَه : بأنَّ القائمَ مقامَ الفاعلِ حكمُه حكمُه ، فلا يتقدَّم على رافعِه كأصلِه . وليس لقائلٍ أَنْ يقولَ : يجوزُ على رأيِ الكوفيين فإنَّهم يُجيزون تقديمَ الفاعلِ؛ لأنَّ النحاس حكى الإِجماعَ على عدمِ جوازِ تقديمِ القائمِ مقامَ الفاعل إذا كان جارَّاً ومجروراً ، فليس هو نظيرَ قولِه { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم } فحينئذٍ يكون القائمُ مقامَ الفاعلِ الضميرَ المستكنَّ العائدَ على « كل » أو على القافي .

وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37)

قوله تعالى : { مَرَحاً } : العامَّةُ على فتحِ الراء وفيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ ، أي : مَرِحاً بكسر الراء ، ويدلُّ عليه قراءةُ بعضِهم فيما حكاه يعقوبُ « مَرِحاً » بالكسر . الثاني : أنَّه حَذْفِ مضافٍ ، أي : ذا مَرَحٍ ، الثالث : أنه مفعولٌ مِنْ أجله .
والمَرَحُ : شِدَّةُ السرورِ والفرحِ . مَرِح يَمْرَح مَرَحاً فهو مَرِحٌ كفَرِح يَفْرَح فَرَحاً فهو فَرِحٌ .
قوله : « طُوْلاً » يجوز أَنْ يكونَ حالاً مِنْ فاعل « تَبْلُغ » أو مِنْ مفعولِه ، أو مصدراً مِنْ معنى « تَبْلُغ » أو تمييزاً أو مفعولاً له . وهذان ضعيفان جداً لعدمِ المعنى .
وقرأ أبو الجرَّاح : « لن تَخْرُق » بضمِّ الراءِ ، وأنكرها أبو حاتمٍ ، وقال « لا نَعْرِفُها لغةً البتةَ » .

كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)

قوله تعالى : { كَانَ سَيِّئُهُ } : قرأ ابنُ عامرٍ والكوفيون بضمِّ الهمزةِ والهاء ، والتذكيرِ ، وتَرْكِ التنوين . والباقون بفتح الهمزة وتاءِ التأنيث منصوبةً منونةً . فالقراءةُ الأُولى أشير فيها بذلك إلى جميعِ ما تقدَّم ، ومنه السَّيِّىءُ والحَسَنُ ، فأضاف السَّيِّىءَ إلى ضميرِ ما تقدَّم ، ويؤيِّدها ما قرأ به عبدُ الله : « كلُّ ذلك كان سَيِّآته » بالجمعِ مضافاً للضمير ، وقراءةُ اُبَيّ « خبيثُهُ » والمعنى : كلُّ ما تقدَّم ذِكْرُه ممَّا أُمِرْتُمْ به ونُهِيْتُمْ [ عنه ] كان سَيِّئُه - وهو ما نُهِيْتُمْ عنه خاصةً - أمراً مكروهاً . هذا أحسنُ ما يُقَدَّر في هذا المكان .
وأمَّا ما استشكله بعضُهم من أنَّه يصير المعنى : كلُّ ما ذُكِرَ كان سَيِّئةً ، ومِنْ جملةِ كلِّ ما ذُكِر : المأمورُ به ، فَيَلْزَمُ أن يكونَ فيه سيِّءٌ ، فهو استشكالٌ واهٍ؛ لِما ذكرْتُ من تقدير معناه .
و « مكروهاً » خبر « كان » ، وحُمِل الكلامُ كلُّه على لفظِ « كل » فلذلك ذكَّر الضميرَ في « سَيِّئُهُ » ، والخبرُ وهو : مكروه .
وأمَّا قراءةُ الباقين : فتحتمل أن تقعَ الإِشارةُ فيها ب « ذلك » إلى مصدري النَّهْيَيْنِ المتقدِّمَيْن قريباً وهما : قَفْوُ ما ليس به عِلْمٌ ، والمَشْيُ في الأرض مَرَحاً . والثاني : أنه أُشيرَ به إلى جميعِ ما تقدَّم مِنَ المناهي . و « سَيِّئَةً » خبرُ كان ، وأُنِّثَ حَمْلاً على معنى « كُل » ، ثم قال « مَكْروهاً » حَمْلاً على لفظها .
وقال الزمخشريُّ كلاماً حسناً وهو : أنَّ « السيئة في حكمِ الأسماءِ بمنزلةِ الذَّنْبِ والإِثمِ زال عنه حكمُ الصفاتِ ، فلا اعتبارَ بتأنيثِه ، ولا فرقَ بين مَنْ قرأ » سَيِّئة « ومَنْ قرأ » سَيِّئاً « ألا ترى أنَّك تقولُ : الزِّنَى سيئة ، كما تقول : السرقةُ سيئةٌ ، فلا تُفَرِّقُ بين إسنادِها إلى مذكر ومؤنث » .
وفي نَصْبِ « مكروهاً » أربعةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه خبرٌ ثانٍ ل « كان » ، وتعدادُ خبرِها جائزٌ على الصحيح . الثاني : أنه بدلٌ مِنْ « سيئة » . وضعِّف هذا : بأنَّ البدلَ بالمشتقِ قليلٌ . الثالث : أنه حالٌ من الضمير المستتر في { عِنْدَ رَبِّكَ } لوقوعِه صفةً ل « سَيِّئة » . الرابع : أنه نعتٌ ل « سيئةٍ » ، وإنما ذكِّر لأن تأنيثَ موصوفِه مجازيٌّ . وقد رُدَّ هذا : بأن ذلك إنَّما يجوزُ حيث اُسْنِد إلى المؤنثِ المجازيِّ ، أمَّا إذا أُسْنِدَ إلى ضميرِهِ فلا ، نحو : « الشمسُ طالعةٌ » ، لا يجوز : « طالعٌ » إلا في ضرورةٍ كقوله :
3066- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا أرض أبقلَ إبقالها
وهذا عند غيرِ ابنِ كَيْسان ، وأمَّا ابنُ كَيْسان فيُجيز في الكلام : « الشمسُ طَلَع ، وطالعٌ » .
وأمَّا قراءةُ عبدِ الله فهي ممَّا أُخْبر فيها عن الجمعِ إخبارَ الواحدِ لسَدِّ الواحدِ مَسَدَّه كقوله :
3067- فإمَّا تَرَيْني ولِيْ لِمَّةٌ ... فإنَّ الحوادثَ أَوْدَى بها
لو قال : فإنَّ الحَدَثان/ لصَحَّ من حيث المعنى ، فَعَدَلَ عنه لِيَصِحَّ الوزنُُ .
وقرأ عبدُ اللهِ أيضاً « كان سَيِّئاتٍ » بالجمعِ من غير إضافةٍ وهو خبرُ « كان » ، وهي تؤيد قراءةَ الحَرَميِّين وأبي عمرو .

ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)

قوله تعالى : { ذَلِكَ مِمَّآ أوحى } : مبتدأ أو خبر ، و « ذلك » إشارةٌ إلى جميعِ ما تقدَّم من التكاليفِ وهي أربعةٌ وعشرون نوعاً ، أولُها قولُه : { لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها آخَرَ } [ الإِسراء : 22 ] ، وآخرُها : { وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً } [ الإِسراء : 37 ] . { مِمَّآ أوحى } « مِنْ » للتبعيضِ؛ لأنَّ هذه بعضُ ما أوحاه اللهُ تعالى إلى نبيِّه .
قوله : { مِنَ الحكمة } يحوز فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أن يكونَ حالاً مِنْ عائدِ الموصولِ المحذوف تقديرُهُ : مِن الذي أوحاه حالَ كونِهِ من الحكمة ، أو حالٌ من نفسِ الموصولِ . الثاني : أنه متعلق بأَوْحى ، و « مِنْ » إمَّا تبعيضيةٌ؛ لأنَّ ذلك بعضُ الحكمةِ وإمَّا للابتداءِ ، وإمَّا للبيان . وحينئذٍ تتعلَّق بمحذوفٍ . الثالث : أنها مع مجرورِها بدلٌ مِنْ { مِمَّآ أوحى } .

أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40)

قوله تعالى : { أَفَأَصْفَاكُمْ } ألفُ « أَصْفى » عن واوٍ ، لأنَّه من صفا يَصْفو ، وهو استفهامُ إنكارٍ وتوبيخٍ .
قوله : « واتَّخَذَ » يجوز أن يكونَ معطوفاً على « أَصْفاكم » فيكونَ داخلاً في حَيِّز الإِنكار ، ويجوز أن تكونَ الواوُ للحالِ ، و « قد » مقدرةٌ عند قومٍ . و « اتَّخذ » يجوز أَنْ تكونَ المتعديةَ لاثنين ، فقال أبو البقاء : « إنَّ ثانيَهما محذوفٌ ، أي : أولاداً ، والمفعولُ الأولُ هو » إناثاً « . وهذا ليس بشيءٍ ، بل المفعولُ الثاني هو { مِنَ الملائكة } قُدِّم على الأولِ ، ولولا ذلك لَزِمَ أن يُبتدأ بالنكرةِ من غير مسوِّغ ، لأنَّ ما صَلُح أن يكونَ مبتدأً صَلُح أن يكونَ مفعولاً أول في هذا الباب ، وما لا فلا . ويجوز أن تكونَ متعدِّيةً لواحدٍ كقولِه : { وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَداً } [ البقرة : 116 ] ، و { مِنَ الملائكة } متعلِّقٌ ب » اتَّخذ « أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ من النكرةِ بعده .

وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41)

قوله تعالى : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا } : العامَّةُ على تشديد الراء ، وفي مفعول « صَرَّفْنا » وجهان ، أحدُهما : أنه مذكورٌ ، و « في » مزيدةٌ فيه ، أي : ولقد صَرَّفْنا هذا القرآنَ ، كقولِه : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ } [ الفرقان : 50 ] ، ومثله :
3068- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . يَجْرَحْ في عَراقيبِها نَصْلِيْ
وقوله تعالى : { وَأَصْلِحْ لِي فِي ذريتي } [ الأحقاف : 15 ] ، أي : يَجْرَحْ عراقيبَها ، وأَصْلح لي ذريتي . ورُدَّ هذا بأنَّ « في » لا تُزاد ، وما ذُكِرَ متأول ، وسيأتي إنْ شاءَ الله تعالى في الأحقاف .
الثاني : أنَّه محذوفٌ تقديرُه : ولقد صَرَّفْنا أمثالَه ومواعظَه وقصصَه وأخبارَه وأوامره .
وقال الزمخشري في تقدير ذلك : « ويجوز أن يُراد ب » هذا القرآن « إبطالُ إضافتِهم إلى الله البناتِ؛ لأنه ممَّا صرَّفه وكرَّر ذِكْرَه ، والمعنى : ولقد صَرَّفْنا القولَ في هذا المعنى ، وأوقَعْنا التصريفَ فيه ، وجَعَلْناه مكاناً للتكرير ، ويجوز أن يريد ب { هذا القرآن } التنزيلَ ، ويريد : ولقد صَرَّفناه ، يعني هذا المعنى في مواضعَ من التنزيل ، فترك الضميرَ لنه معلومٌ » . قلت : وهذا التقديرُ الذي قدَّره الزمخشريُّ أحسنُ؛ لأنه مناسِبٌ لما دَلَّتْ عليه الآيةُ وسِيْقَتْ لأجلِه ، فقدَّرَ المفعولَ خاصَّاً ، وهو : إمَّا القولُ ، وإمَّا المعنى ، وهو الضميرُ الذي قدَّره في « صَرَّفْناه » بخلافِ تقديرِ غيرِه ، فإنَّ جَعَلَه عامَّاً .
وقيل : المعنى : لم نُنَزِّلْه مرةً واحدة بل نجوماً ، والمعنى : أَكْثَرْنا صَرْفَ جبريلَ إليك ، فالمفعولُ جبريل عليه السلام .
وقرأ الحسن بتخفيفِ الراء فقيل : هي بمعنى القراءةِ الأولى ، وفَعَل وفَعَّل قد يَشْتركان . وقال ابنُ عطية : « أي : صَرَفْنا الناسَ فيه إلى الهدى » .
قوله : « لِيَتَذَّكَّروا » متعلقٌ ب « صَرَّفْنا » . وقرأ الأخَوان هنا وفي الفرقان بسكون الذال وضمِّ الكاف مخففةً مضارع « ذكر » من الذِّكر أو الذُّكر ، والباقون بفتح الذال والكافُ مشددةٌ ، والأصلُ : يتذكَّروا ، فأدغم التاءَ في الذال ، وهو من الاعتبار والتدبُّر .
قوله : { وَمَا يَزِيدُهُمْ } ، أي : التصريفُ ، و « نُفوراً » مفعولٌ ثانٍ .

قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42)

قوله تعالى : { كَمَا يَقُولُونَ } : الكافُ في موضعِ نصبٍ ، وفيهما وجهان : أحدُهما : أنها متعلقةٌ بما تعلَّقَتْ به « مع » من الاستقرار ، قاله الحوفي . والثاني : أنها/ نعتٌ لمصدر محذوف ، أي : كوناً كقولكم قاله أبو البقاء .
وقرأ ابنُ كثيرٍ وحفصٌ « يقولون » بالياءِ مِنْ تحت ، والباقون بالتاء مِنْ فوقُ ، وكذا قولُه بعد هذا { سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَقُولُونَ } [ الإِسراء : 43 ] ، قرأه بالخطابِ الأخَوان ، والباقون بالغيب ، فتحصَّل من مجموع الأمر أنَّ ابنَ كثير وحفصاً يَقْرآنهما بالغيب ، وأن الأخوين قرآ بالخطاب فيهما ، وأن الباقين قرؤوا بالغيب في الأول ، وبالخطاب في الثاني .
فالوجهُ في قراءةِ الغيبِ فيهما أنه : حَمَل الأولَ على قولِهِ : { وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً } [ الإِسراء : 41 ] ، وحَمَل الثاني عليه . وفي الخطاب فيهما أنه حمل الأولَ على معنى : قل لهم يا محمد لو كان معه آلهةٌ كما تقولون ، وحَمَل الثاني عليه . وفي قراءة الغيبِ في الأولِ أنَّه حَمَله على قوله « وما يزيدهم » والثاني التفت فيه إلى خطابهم .
قوله : « إذَنْ » حرفُ جوابٍ وجزاءٍ . قال الزمخشري : « وإذن دالَّةٌ على أنَّ ما بعدها وهو » لابتَغَوا « جوابٌ لمقالةِ المشركين وجزاءٌ ل » لو « . وأدغم أبو عمروٍ الشينَ في السين ، واستضعفها النحاةُ لقوةِ الشين .

سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43)

قوله تعالى : { وتعالى } : عطفٌ على ما تضمَّنه المصدرُ ، تقديرُه : تنزَّه وتعالى . و « عن » متعلقة به . أو ب « سبحان » على الإِعمال لأنَّ « عن » تعلَّقت به في قوله { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ } [ الصافات : 180 ] و « عُلُوّاً » مصدرٌ واقع موقعَ التعالي ، كقولِه : { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] في كونِه على غيرِ الصدرِ .

تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)

قوله تعالى : { تُسَبِّحُ } : قرأ أبو عمروٍ والأخَوان وحفصٌ بالتاء ، والباقون بالياء مِنْ تحت ، وهما واضحتان؛ لأنَّ التأنيثَ مجازيٌّ ولوجودِ الفصلِ أيضاً .
وقال ابن عطية : « ثم أعاد على السماواتِ والأرض ضميرَ مَنْ يَعْقِلُ لَمَّا أَسْنَدَ إليها فعلَ العاقلِ وهو التسبيحُ » ، وهذا بناءً منه على أنَّ « هُنَّ » مختصٌّ بالعاقلات ، وليس كما زَعَمَ ، وهذا نظيرُ اعتذارِه عن الإِشارة ب « أولئك » في قوله { كُلُّ أولئك } وقد تقدَّم . وقرأ عبدُ الله والأعمشُ « سبَّحَتْ » ماضياً بتاء التأنيث .

وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45)

قوله تعالى : { مَّسْتُوراً } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنه على بابه بمعنى : مستور عن أعينِ الكفار فلا يَرَوْنه . وقيل : هو على النسب ، أي : ذو سِتْرٍ كقولِهم : مكان مَهُول وجاريةٌ مَغْنُوجة ، أي : ذو هَوْل وذات غُنْجٍ ، ولا يُقال فيهما : هُلْتُ المكانَ ولا غَنَجْتُ الجارية . وقيل : هو وصفٌ على جهة المبالغة كقولهم : « شِعْرٌ شاعِر » . ورُدَّ هذا : بأنَّ ذلك إنما يكون في اسمِ الفاعلِ ومِنْ لفظِ الأولِ .
والثاني : أنَّه بمعنى فاعِل كقولهم : مَشْؤُوم ومَيْمون بمعنى : شائِم ويامِن ، وهذا كما جاء اسمُ الفاعلِ بمعنى مفعول كماء دافِق ، وهذا قولُ الأخفش في آخرين .

وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)

قوله تعالى : { وَحْدَهُ } : فيه وجهان ، أحدهما : أنَّه منصوبٌ على الحال ، وإن كان معرفةً لفظاً ، لأنه في قوةِ النكرة؛ إذ هو في معنى « منفرداً » ، وهل هو مصدرٌ أو اسمٌ موضوعٌ موضعَ المصدرِ الموضوعِ موضعَ الحال ، ف « وَحْدَه » وُضِعَ موضعَ « إيحاد » و « إيحاد » وُضع موضعَ « مَوْحَد » وهو مذهب سيبويه ، أو هو مصدرٌ على حَذْف الزوائد ، إذ يقال : أَوْحَدَه يُوْحِدُه إيحاداً ، أو هو مصدرٌ بنفسِه ل « وَحَد » ثلاثياً . قال الزمخشري : « وَحَدَ يَحِدُ وَحْداً وحِدَة نحو : وَعَد يَعِد وَعْداً وعِدَة ، و » وَحْدَه « من باب : » رَجَع عَوْدَه على بَدْئه ، و « افعَلْه جهدَك وطاقتَك » في أنه مصدرٌ سادٌّ مَسَدَّ الحال ، أصلُه يَحِدُ وَحْدَه ، بمعنى واحداً « . قلت : وقد عرفْتُ أن هذا ليس مذهبَ سيبويه .
والثاني : أنه منصوبٌ على الظرفِ ، وهو قولُ يونس . واعلمْ أنَّ هذه الحالَ بخصوصِها -أعني لفظة » وحده « - إذا وَقَعَتْ بعد فاعلٍ ومفعولٍ نحو : ضَرَبَ زيدٌ عمراً وَحْده » فمذهبُ سيبويه : أنه حالٌ من الفاعل ، أي : مُوَحِّداً له بالضرب . ومذهبُ المبردِ : أنه يجوز أن يكونَ حالاً من المفعول . قال الشيخ : « فعلى مذهب سيبويه يكون التقدير : وإذا ذكرْتَ ربَّك مُوَحِّداً لله ، وعلى مذهب المبرد يجوز أن يكونَ التقديرُ : مُوَحَّداً بالذِّكْر » .
قوله : نُفوراً « فيه وجهان : أحدُهما : أنه مصدرٌ على غيرِ الصَّدْر؛ لأنَّ التولِّيَ والنفور بمعنى . والثاني : أنه حال مِنْ فاعل » وَلَّوا « وهو حينئذ جمع نافرٍ ، كقاعِد وقُعود وجالس وجلوس . والضميرُ في » وَلَّوا « الظاهر/ عودُه على الكفارِ . وقيل : يعود على الشياطين ، وإن لم يَجْرِ لهم ذِكْرٌ .

نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47)

قوله تعالى : { بِمَا يَسْتَمِعُونَ } : متعلقٌ ب « أَعْلَمُ » . وما كان من باب العلمِ والجهلِ في أَفْعَلِ التفضيلِ وأفعلَ في التعجب تعدَّى بالباء نحو : أنت أعلمُ به ، وما أعلمك به!! وهو أجهلُ به ، وما أجهلَه به!! ومن غيرِهما يتعدَّى في البابين باللام نحو : أنت أَكْسَى للفقراء . و « ما » بمعنى الذي ، وهي عبارةٌ عن الاستخفاف والإِعراض فكأنه قال : نحن أعلمُ بالاستخفافِ والاستهزاءِ الذي يستمعون به . قاله ابنُ عطية .
قوله : « به » فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه حالٌ ، فيتعلق بمحذوف . قال الزمخشري : « وبه في موضع الحالِ كما [ تقول : ] يستمعون بالهُزْء ، أي : هازئين » . الثاني : أنها بمعنى اللامِ ، أي : بما يستمعون له . الثالث : أنَّهما على بابها ، أي : يستمعون بقلوبهم أو بظاهرِ أسماعهم ، قالهما أبو البقاء . الرابع : قال الحوفيُّ : « لم يَقُلْ يَسْتعونه ولا يستمعونك؛ لَمَّا كان الغرضُ ليس الإِخبارَ عن الاستماعِ فقط ، وكان مُضَمَّناً أنَّ الاستماعَ كان على طريق الهُزْء بأن يقولوا : مجنون أو مسحور جاء الاستماع به وإلى ، لِيُعْلَمَ أنَّ الاستماعَ ليس المرادُ به تَفَهُّمَ المسموعِ دون هذا المقصد » ، فعلى هذا أيضاً تتعلق الباء ب « يستمعون » .
قوله : « إذ يستمعون » فيه وجهان : أحدُهما : أنه معمولٌ ل « أَعْلَمُ » . قال الزمخشريُّ : « إذ يستمعون نصبٌ ب » أَعْلَمُ « ، أي : اَعْلَمُ وقتَ استماعِهم بما به يستمعون ، وبما يتناجَوْن به ، إذ هم ذَوُو نجوى » . والثاني : أنه منصوبٌ ب « يَستمعون » الأولى . قال ابن عطية : « والعاملُ في » إذ « الأولى وفي المعطوف » يستمعون « الأول . وقال الحوفي : » ف إذ الأولى تتعلق ب « يستمعون » وكذا { وَإِذْ هُمْ نجوى } لأنَّ المعنى : نحن أعلمُ بالذي يستمعون إليك وإلى قراءتِك وكلامِك ، إنما يستمعون لسَقْطِك ، وتتبُّعِ عيبِك ، والتماسِ ما يَطْعنون به عليك ، يعني في زعمهم؛ ولهذا ذكر تعديتَه بالباء و « إلى » .
قوله : « نَجْوى » يجوز أن يكونَ مصدراً فيكونَ من إطلاقِ المصدرِ على العينِ مبالغةً ، أو على حَذْفِ مضاف ، أي : ذوو نجوى ، كما قاله الزمخشريُّ . ويجوز أَنْ يكونَ جمعَ نَجِيّ كقتيل وقَتْلَى . قاله أبو البقاء .
قوله : { إِذْ يَقُولُ } بدلٌ مِنْ « إذ » الأولى في أحَد القولين ، والقولُ الآخر : أنها معمولةٌ ل « اذكُر » مقدراً .
قوله : « مَسْحوراً » الظاهرُ أنه اسمُ مفعولٌ من « السِّحْر » بكسرِ السين ، أي : مَخْبولَ العقلِ أو مخدوعَه . وقال أبو عبيدة : « معناه أن له سَحْراً » أي : رِئة بمعنى أنه لا يَستَغني عن الطعام والشرابِ ، فهو بشرٌ مثلُكم .

وتقول العرب للجبان : « قد انتفخ سَحْره » بفتح السين ، ولكلِّ مَنْ أكل وشرب : مَسْحُور ، ومُسْحَر . فمِنْ الأولِ قولُ امرئ القيس :
3069- أرانا مُوْضَعِيْنَ لأمرِ غَيْبٍ ... ونُسْحَرُ بالطعامِ وبالشرَّابِ
أي : نُغَذَّى ونُعَلَّلُ . ومِن الثاني قول لبيد :
3070- فإنْ تَسْأَلِينا فيمَ نحنُ فإنَّنا ... عصافيرُ مِنْ هذا الأَنامِ المُسَحَّرِ
ورَدَّ الناسُ على أبي عبيدة قولَه لبُعْدِه لفظاً ومعنى . قال ابن قتيبة : « لا أَدْري ما الذي حَمَل أبا عبيدةَ على هذا التفسيرِ المستكرَهِ مع ما فسَّره السلفُ بالوجوهِ الواضحةِ » . قلت : وأيضاً فإن « السَّحْر » الذي هو الرِّئَة لم يُضْرَبْ له فيه مَثَلٌ بخلاف « السَّحْر » ، فإنهم ضربوا له فيه المَثَلَ ، فما بعد الآيةِ مِنْ قولِه « انظر كيف ضَرَبُوا لك الأمثالَ » لا يناسِبُ إلا « السِّحْر » بالكسرِ .

وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49)

قوله تعالى : { أَإِذَا كُنَّا } : قد تقدَّم خلافُ القراء في الاستفهامين كهذه الايةِ في سورة الرعد ، وتحقيقُ ذلك . والعاملُ في « إذا » محذوفٌ تقديرُه : أنُبْعَثُ أو أنُحْشَرُ إذا كنَّا ، دلَّ عليه « لمَبْعوثون » ، ولا يعملُ فيها « مَبْعوثون » هذا؛ لأنَّ ما بعد « إنَّ » لا يعملُ فيما قبلها ، وكذا ما بعدَ الاستفهامِ لا يعملُ فيما قبله ، وقد اجتمعا هنا ، وعلى هذا التقديرِ الذي ذَكرْتُه تكون « إذا » متمحِّضةً للظرفيةِ ، ويجوز أَنْ تكونَ شرطيةً فَيُقَدَّرُ العاملُ فيها جوابَها ، تقديرُه : أإذا كنا عظاماً ورُفاتاً نُبْعَثُ أو نُعادُ ، ونحو ذلك ، فهذا المحذوفُ جوابُ الشرطِ عند سيبويه والذي انصبَّ عليه/ الاستفهامُ عند يونس .
قوله : « ورُفاتاً » الرُّفات : ما بُوْلِغَ في دَقِّه وتَفْتِيتِه وهو اسمٌ لأجزاءِ ذلك الشيءِ المُفَتَّتِ . وقال الفراء : « هو التراب » . ويؤيِّده أنه قد تكرَّر في القرآن « تُرابا وعظاماً » . ويقال رََفَتَ الشيءَ يَرْفِت بالكسرِ ، أي : كَسرَه . والفُعال يغلب في التفريق كالحُطام والدُّقاق والفُتات .
قوله : « خَلْقاً » يجوز فيه وجهان ، أحدُهما : أنه مصدرٌ من معنى الفعلِ لا مِنْ لفظِه ، أي : نُبْعَثُ بَعْثاً جديداً . والثاني : أنه في موضع الحالِ ، أي : مَخْلوقين .

أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51)

قوله تعالى : { الذي فَطَرَكُمْ } : فيه ثلاثة أوجه ، أحدُها : أنه مبتدأٌ وخبرُه محذوف ، أي : الذي فطركم يعيدُكم . وهذا التقديرُ فيه مطابقةٌ بين السؤالِ والجوابِ . والثاني : أنه خبرُ مبتدأ محذوف ، أي : مُعِيْدُكم . الذي فطركم . الثالث : أنه فاعلٌ بفعلٍ مقدر ، أي : يعيدُكم الذي فطركم ، ولهذا صُرِّح بالفعل في نظيره عند قولِه : { لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم } [ الزخرف : 9 ] .
و { أَوَّلَ مَرَّةٍ } ظرفُ زمان ناصبُه « فَطَركم » .
قوله : « فسَيُنْغِضُون » ، أي : يُحَرِّكونها استهزاءً . يقال : أَنْغَضَ رأسَه يُنْغِضها ، أي : حَرَّكها إلى فوقُ ، وإلى أسفلَ إنغاضاً ، فهو مُنْغِضٌ ، قال :
3071- أَنَغَضَ نحوي رأسَه وأَقْنَعا ... كأنه يطلُبُ شيئاً أَطْمعا
وقال آخر :
3072- لَمَّا رَأَتْنِي أَنْغَضَتْ لِي الرَّأْسا ... وقال أبو الهيثم : « إذا أُخْبِرَ بشيءٍ فَحَرَّك رأسَه إنكاراً له فقد أَنْغَضَ » . قال ذو الرمة :
3073- ظَعائِنُ لم يَسْكُنَّ أَكْنافَ قريةٍ ... بِسِيْفٍ ولم تَنْغُضْ بهنَّ القَنَاطِرُ
أي : لم تُحَرَّك ، وأمَّا نَغَضَ ثلاثياً ، يَنْغَضُ ويَنْغُضُ بالفتح والضم ، فبمعنى تَحَرَّك ، لا يتعدَّى يقال : نَغَضَتْ سِنَّه ، أي : تَحَرَّكت ، تَنْغُضُ نَغْضاً ونُغوضاً . قال :
3074- ونَغَضَتْ مِنْ هَرَمٍ أسنانُها ... قوله : { عسى أَن يَكُونَ } يجوز أن تكونَ الناقصة ، واسمُها مستترٌ فيها يعودُ على البعثِ والحشرِ المدلولِ عليهما بقوة الكلام ، أو لتضمُّنِه في قوله « مَبْعوثون » ، و « أن يكونَ » خبرُها ، ويجوز أن تكونَ التامَّةَ مسندةً إلى « أنَّ » وما في حيِّزها ، واسمُ « يكونَ » ضميرُ البعثِ كما تقدَّم .
وفي « قريباً » وجهان ، أحدُهما : أنه خبر « كان » وهو وصفٌ على بابِه . والثاني : أنه ظرفٌ ، أي : زماناً قريباً ، وأن يكونَ « على هذا تامةٌ ، أي : عسى أن يقع العَوْد في زمانٍ قريب .

يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)

قوله تعالى : { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ } : فيه أوجهٌ : أحدُها : أنه بدلٌ من « قريباً » ، إذا اَعْرَبْنا « قريباً » ظرفَ زمان كما تقدم . الثاني : أنه منصوبٌ ب « يَكونَ » قاله أبو البقاء ، وهذا مَنْ يُجيز إعمالَ الناقصةِ في الظرفِ ، وإذا جَعَلْناها تامَّةً فهو معمولٌ لها عند الجميع . الثالث : أنه منصوبٌ بضميرِ المصدرِ الذي هو اسمُ « يكون » أي : عسى أن يكونَ العَوْدُ يوم يَدْعوكم . وقد منعه أبو البقاء قال : « لأنَّ الضميرَ لا يعمل » يعني عند البصريين ، وأمَّا الكوفيون فيُعملون ضميرَ المصدرِ كمُظْهِرِه فيقولون : مروري بزيدٍ حَسَنٌ ، وهو بعمروٍ قبيحٌ « وعندهم متعلِّق ب » هو « لأنَّه ضمير المرور ، وأنشدوا قول زهير على ذلك :
3075- وما الحربُ إلا ما عَلِمْتُمْ وذُقْتُمْ ... وما هو عنها بالحديثِ المُرَجَّمِ
ف » هو « ضميرُ المصدرِ ، وقد تَعَلَّق به الجارُّ بعده ، والبصريون يُؤَوِّلونه . الرابع : أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدر ، أي : اذكُرْ يومَ يَدْعوكم . الخامس : أنه منصوبٌ بالبعثِ المقدَّر ، قالهما أبو البقاء .
قوله : بحَمْدِه » فيه قولان ، أحدُهما : أنها حالٌ ، أي : تستجيبون حامِدِين ، أي : منقادين طائعين . والثاني : أنها متعلقةٌ ب « يَدْعوكم » قاله أبو البقاء وفيه قَلَقٌ .
قوله : { إِن لَّبِثْتُمْ } « إنْ » نافيةٌ ، وهي معلِّقَةٌ للظنِّ عن العمل ، وقلَّ مَنْ يذكرُ « إنْ » النافيةَ ، في أدواتِ تعليق هذا الباب . و « قليلاً » يجوز أن يكونَ نعتَ زمانٍ أو مصدرٌ محذوفٌ ، أي : إلا زماناً قليلاً ، أو إلا لُبْثاً قليلاً .

وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)

قوله تعالى : { وَقُل لِّعِبَادِي } : تقدَّم نظيرُه في إبراهيم .
قوله : { إِنَّ الشيطان يَنزَغُ } يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ اعتراضاً بين المفسَّر والمفسِّر ، وذلك أنَّ قولَه : { رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ } وَقَعَ تفسيراً لقوله { التي هِيَ أَحْسَنُ } وبياناً لها ، ويجوز أن لا تكونَ معترِضَةً بل مستأنفةٌ .
وقرأ طلحة « يَنْزِغ » بكسر الزاي وعما لغتان ، كيَعرِشون ويَعْرُشون ، قاله الزمخشري . قال الشيخ : « ولو مَثَّل ب » يَنْطَح « و » يَنْطِح « / كأنه يعني من حيث إن لامَ كلٍ منهما حرفُ حَلْقٍ ، وليس بطائلٍ .

وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)

قوله تعالى : { وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السماوات } : في هذه الباءِ قولان ، أظهرُهما : أنها تتعلَّقُ ب « أَعْلَمُ » كما تَعَلَّقَتْ الباءُ ب « أَعْلَمُ » قبلها ، ولا يلزمُ مِنْ ذلك تخصيصُ علمِه بمَنْ في السماوات والأرض فقط . والثاني : أنها متعلِّقَةٌ ب « يَعْلَمُ » مقدراً . قاله الفارسي محتجاً بأنه يَلْزَمُ مِنْ ذلك تخصيصُ عِلْمِه بمَنْ في السماوات والأرض ، وهو وَهْمٌ ، لأنه لا يَلْزَمُ من ذِكْرِ الشيءِ نَفْيُ الحكمِ عَمَّا عداه . وهذا هو الذي يقول الأصوليون : إنه مفهومُ اللقَب ، ولم يَقُلْ به إلا أبو بكر الدقاق في طائفةٍ قليلة .
قوله : « زَبُورا » قد تقدَّم خلافُ القراءِ فيه ، ونكَّره هنا دلالةً على التبعيضِ ، أي : زَبُوراً من الزُّبُر ، أو زَبُوراً فيه ذِكْرُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، فأُطْلِقَ على القطعةِ منه زَبورٌ ، كما يُطْلَقُ على بعضِ القرآن ، ويجوزُ أَنْ يكونَ « زَبُور » عَلَماً ، فإذا دَخَلَتْ عليه أل كقولِه : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور } [ الأنبياء : 105 ] كانت لِلَمْحِ الأصلِ كعبَّاس والعبَّاس ، وفَضْل والفضل .

قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56)

قوله تعالى : { الذين زَعَمْتُم } : مفعولا الزُّعم محذوفان لفَهْمِ المعنى ، أي : زَعَمْتوهم آلهةً ، وحَذْفُهما اختصاراً جائزٌ ، واقتصاراً فيه خلافٌ .

أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)

قوله تعالى : { أولئك الذين يَدْعُونَ } : « أولئك » مبتدأٌ ، وفي خبره وجهان ، أظهرُهما : أنه الجملةُ مِنْ « يبتغون » ويكون الموصولُ نعتاً أو بياناً أو بدلاً ، والمرادُ باسم الإِشارة الأنبياءُ الذين عُبِدوا مِنْ دون الله . والمرادُ بالواوِ العبَّادُ لهم ، ويكون العائدُ على « الذين » محذوفاً ، والمعنى : أولئك الأنبياءُ الذين يَدْعُونهم المشركون لكَشْفِ ضُرِّهم - أو يَدْعُونهم آلهةً ، فمفعولها أو مفعولاها محذوفان - يَبْتَغون .
ويجوز أن يكونَ المرادُ بالواوِ ما أُريد بأولئك ، أي : أولئك الأنبياءُ الذين يَدْعُون ربَّهم أو الناسَ إلى الهدى يَبْتغون ، فمفعولُ « يَدْعُون » محذوف .
والثاني : أن الخبرَ نفسُ الموصولِ ، و « يَبْتَغُون » على هذا حالٌ مِنْ فاعل « يَدْعُون » أو بدلٌ منه . وقرأ العامَّةُ « يَدْعُون » بالغيبِ ، وقد تقدَّم الخلافُ في الواو : هل تعودُ على الأنبياء أو على عابِدِيْهم . وزيد بن علي بالغَيْبة أيضاً ، إلا أنه بناه للمفعول . وقتادةُ وابنُ مسعودٍ بتاء الخطاب . وهاتان القراءتان تقويَّان أن الواوَ للمشركين لا للأنبياءِ في قراءة العامَّة .
قوله : { أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } في « أيُّ » هذه وجهان ، أحدُهما : أنها استفهاميةٌ .
والثاني : أنها موصولةٌ بمعنى الذي ، وإنما كَثُرَ كلامُ المُعْرِبين فيها من حيث التقديرُ . فقال الزمخشري : « وأيُّهم بدلٌ مِنْ واو » يَبْتغون « و » أيُّ « موصولةٌ ، أي : يبتغي مَنْ هو أقربُ منهم وأَزْلَفُ ، أو ضُمِّن [ يَبْتَغُون ] الوسيلةَ معنَى يَحْرِصُون ، فكأنه قيل : يَحْرِصُون أيُّهم يكون أقربَ » . قلت : فَجَعَلَها في الوجهِ الأولِ موصولةً ، وصلتُها جملةٌ مِنْ مبتدأ وخبر ، حُذِف المبتدأ وهو عائدُها ، و « أَقْرَبُ » خبرُ « هو » واحتملت « أيُّ » حينئذٍ أن تكونَ مبنيةً ، وهو الأكثرُ فيها ، وأن تكونَ مُعْرَبةً ، ولهذا موضعٌ هو أليقُ به في مريم . وفي الثاني جَعَلَها استفهاميةً بدليل أنه ضَمَّن الابتغاءَ معنى شيء يُعَلَّقُ وهو « يَحْرُصون » ، فيكون « أيُّهم » مبتدأً و « أقربُ » خبرَه ، والجملةُ في محلِّ نصبٍ على إسقاطِ الخافض؛ لأنَّ « يَحْرِص » يتعدَّى ب « على » قال تعالى : { إِن تَحْرِصْ على هُدَاهُمْ } [ النحل : 37 ] { أَحْرَصَ الناس على حَيَاةٍ } [ البقرة : 96 ] .
وقال أبو البقاء : « أيُّهم » مبتدأ ، و « أقربُ » خبرُه وهو استفهامٌ في موضع نصب ب « يدْعُونَ » ، ويجوز أن يكونَ « أيُّهم » بمعنى الذي ، وهو بدلٌ مِنَ الضميرِ في « يَدْعُوْن » .
قال الشيخ : « علًّق » يَدْعُون « وهو ليس فعلاً قلبياً ، وفي الثاني فَصَلَ بين الصلةِ ومعمولِها بالجملةِ الحاليةِ ، ولا يَضُرُّ ذلك لأنها معمولةٌ للصِّلة » . قلت : أمَّا كونُ « يَدْعُون » لا يُعَلِّق هو مذهبَ الجمهور .

وقال يونس : يجوز تعليقُ الأفعالِ مطلقاً ، القلبيةِ وغيرِها . وأمَّا قولُه « فَصَل بالجملة الحالية » يعني بها « يَبْتَغُون » فَصَل بها بين « يَدْعون » الذي هو صلةُ « الذين » وبين معمولِه وهو { أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } لأنه مُعَلَّقٌ عنه كما عَرَفْتَه ، إلا أنَّ الشيخَ لم يتقدَّم في كلامِه أعرابُ « يبتغون » حالاً ، بل لم يُعْرِبْها إلا خبراً للموصول ، وهذا قريب .
وجعل أبو البقاء أيَّاً الموصولة بدلاً من واو « يَدْعُون » ولم أرَ أحداً وافقه على ذلك ، بل كلُّهم يجعلونها مِنْ واو « يَبْتَغون » وهو الظاهر .
وقال الحوفي : « أَيُّهُمْ أَقْرَبُ » ابتداءٌ وخبر ، والمعنى : ينظرون أيُّهم أقربُ فيتوسَّلون به ، ويجوز أن يكونَ « أَيُّهُمْ أَقْرَبُ » / بدلاً من واو « يَبْتغون » . قلت : فقد أضمر فعلاً معلَّقاً وهو « ينظرون » ، فإن كان مِنْ نَظَرِ البصَرِ تَعَدَّى ب « إلى » ، وإن كان مِنْ نظَرِ الفِكْرِ تعدَّى ب « في » ، فعلى التقديرين الجملةُ الاستفهامية في موضعِ نصبٍ بإسقاطِ الخافضِ ، وهذا إضمارُ ما لا حاجةَ إليه .
وقال ابن عطية : « وأيُّهم ابتداءٌ ، و » أقربُ « خبرُه ، والتقدير : نَظَرُهم ووَكْدُهم أيُّهم أقربُ ، ومنه قولُ عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه : » فبات الناس يَدُوكون أيُّهم يُعطاها « ، أي : يتبارَوْن في القُرْبِ » . قال الشيخ : « فَجَعَل المحذوفَ » نَظَرُهم ووَكْدُهم « وهذا مبتدأ ، فإن جعلْتَ { أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } في موضعِ نصبٍ ب » نَظَرُهم « بقي المبتدأ بلا خبر ، فَيَحْتاج إلى إضمار خبر ، وإن جعلت { أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } [ هو ] الخبر لم يَصِحَّ؛ لأنَّ نظرَهم ليس هو أيهم أقرب ، وإنْ جَعَلْتَ التقدير : نَظَرُهم في أيهم أقربُ ، أي : كائنٌ أو حاصلٌ ، لم يَصِحَّ ذلك؛ لأنَّ كائناً وحاصلاً ليس ممَّا يُعَلِّق » .
قلت : فقد تحصَّل في الآيةِ الكريمةِ ستةُ أوجهٍ ، أربعةٌ حالَ جَعْلِ « أيّ » استفهاماً . الأولُ أنها مُعَلِّقةٌ للوسيلة كما قرَّره الزمخشري . الثاني : أنها مُعَلَّقَةٌ ل « يَدْعُون » كما قاله أبو البقاء . الثالث : أنها مُعَلِّقَةٌ ل « يَنْظرون » مقدَّراً ، كما قاله الحوفيُّ . الرابع : أنها مُعَلَّقةٌ ل « نَظَرُهُمْ » كما قدَّره ابن عطية . واثنان حالَ جَعْلِها موصولةً ، الأول : البدلُ مِنْ واو « يَدْعُون » كما قاله أبو البقاء . الثاني : أنها بدلٌ مِنْ واو « يَبْتَغون » كما قاله الجمهور .

وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)

قوله تعالى : { وَإِن مِّن قَرْيَةٍ } : « إن » نافيةٌ و « مِنْ » مزيدةٌ في المبتدأ لاستغراقِ الجنس . وقال ابنُ عطية : « هي لبيانِ الجنسِ ، وفيه نظرٌ مِنْ وجهين ، أحدهما قال الشيخ : » لأنَّ التي للبيان لا بُدَّ أَنْ يتقدَّمَها مبهمٌ ما ، تُفَسّره كقوله : { مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ } [ فاطر : 2 ] ، وهنا لم يتقدَّم شيءٌ مبهمٌ « . ثم قال » ولعلَّ قولَه لبيانِ الجنسِ من الناسخِ ، ويكون هو قد قال : لاستغراقِ الجنس ، ألا ترى أنه قال بعد ذلك : « وقيل : المرادُ الخصوصُ » .
وخبرُ المبتدأ الجملةُ المحصورةُ مِنْ قولِه : { إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا } .
والثاني : أنَّ شَرْطَ ذلك أَنْ يَسْبِقَها مُحَلَّى بأل الجنسية ، وأن يَقَعَ موقعَها « الذي » كقولِه : { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } [ الحج : 30 ] .

وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)

قوله تعالى : { وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ } : « أنْ » الأولى وما في حَيِّزها في محلِّ نصبٍ أو جرٍ على اختلاف القولين؛ لأنها على حَذْفِ الجارِّ ، أي : مِنْ أَنْ نُرسل ، والثانية وما في حَيِّزها في محلِّ رفعٍ بالفاعلية ، أي : وما مَنَعَنا مِنْ إرسال الرسلِ بالآياتِ إلا تكذيبُ الأوَّلين ، أي : لو أَرْسلنا الآياتِ المقترحةَ لقريش لأُهْلِكوا عند تذكيبِهم كعادةِ مَنْ قبلَهم ، لكنْ عَلِمَ الله أنه يُؤْمِنُ بعضُهم ، ويكذِّبُ بعضُهم مَنْ يومن ، فلذلك لم يُرْسِلِ الآياتِ لهذه المصلحةِ .
وقَدَّر أبو البقاء مضافاً قبل الفاعلِ فقال : « تقديرُه : إلا إهلاكُ التكذيب ، كأنه يعني أنَّ التكذيبَ نفسَه لم يمنعْ من ذلك ، وإنما مَنَعَ منه ما يترتَّبُ على التكذيبِ وهو الإِهلاك ، ولا حاجةَ إلى ذلك لاستقلالِ المعنى بدونه .
قوله : » مُبْصِرَة « حالٌ ، وزيدُ بن علي يرفعُها على إضمارِ مبتدأ ، اي : هي ، وهو إسنادٌ مجازيٌّ ، إذ المرادُ إبصارُ أهلِها ، ولكنها لمَّا كانت سبباً في الإِبصار نُسِب إليها . وقرأ قومٌ بفتحٍ الصاد ، مفعولٌ على الإِسناد الحقيقي . وقتادة بفتح الميم والصاد ، أي : مَحَلُّ إبصارٍ كقوله عليه السلام : » الولدُ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَة « وكقوله :
3076- . . . . . . . . . ... والكفرُ مَخْبَثَةٌ لنفسِ المُنْعِمِ
أجرى هذه الأشياءَ مُجْرى الأمكنةِ نحو : أرضٌ مَسْبَعَة ومَذْأبَة .
قوله : { إِلاَّ تَخْوِيفاً } يجوز أَنْ يكونَ مفعولاً له ، وأن يكونَ مصدراً في موضع الحال : إمَّا من الفاعل ، أي : مُخَوِّفين أو من المفعولِ ، أي : مُخَوِّفاً بها .

وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)

قوله تعالى : { والشجرة } : العامَّة على نصبِها نَسَقاً على « الرؤيا » ، و « الملعونةَ » نعت ، قيل : هو مجازٌ؛ إذ المُراد : الملعونُ طاعِموها؛ لأنَّ الشجرةَ لا ذَنْبَ لها وهي شجرةُ الزقُّوم . وقيل : بل على الحقيقة ، ولَعْنُها : إبعادُها مِنْ رحمة الله ، لأنها تخرجُ في أصلِ الجحيم . وزيد بن علي برفعِها على الابتداء . وفي الخبر احتمالان ، أحدُهما : هو محذوفٌ ، أي : فتنة . والثاني : - قاله أبو البقاء- أنه قولُه { فِي القرآن } وليس بذاك .
قوله : « ونُخَوِّفُهم » قراءةُ العامَّةِ بنون العظمة . والأعمش بياء الغيبة .

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61)

قوله تعالى : { طِيناً } : فيه أوجهُ ، أحدُها : أنه حالٌ من « لِمَنْ » فالعاملُ فيها « أَاَسْجُدُ » ، أو مِنْ عائد هذا الموصولِ ، أي : خلقَته طِيْناً ، فالعاملُ فيها « خَلَقْتَ » ، وجاز وقوعُ طين حالاً ، وإن كان جامداً ، لدلالتِه على الأصالةِ كأنه قال : متأصِّلاً من طين . الثاني : أنه منصوبٌ على إسقاطِ الخافضِ ، أي : مِنْ طين ، كما صَرَّح به في الآية الأخرى : / { وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [ ص : 76 ] . الثالث : أن منتصبٌ على التمييز ، قاله الزجاج ، وتبعه ابنُ عطية ، ولا يظهرُ ذلك إذ لم يتقدَّم إيهامُ ذاتٍ ولا نسبةٍ .

قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62)

قوله تعالى : { أَرَأَيْتَكَ } : قد ذُكِرَتْ مستوفاةً في الأنعام . وقال الزمخشري : « الكافُ ُللخطاب ، و » هذا « مفعول به ، والمعنى : أَخْبِرْني عن هذا الذي كَرَّمْتَه علي ، أي : فَضَّلْتَه لِمَ كَرَّمْتَه وأن خيرٌ منه؟ فاختصر الكلامَ » . وهذا قريبٌ من كلام الحوفي .
وقال ابنُ عطية : « والكافُ في » أَرَأَيْتُكَ « حرفُ خطابٍ لا موضعَ لها من الإِعراب ، ومعنى » أَرَأَيْتَ « أتأمَّلْتَ ونحوه ، كأنَّ المخاطِبَ يُنَبِّه المخاطَب ليستجمعَ لما يَنُصُّ عليه [ بعدُ ] . وقال سيبويه : » وهي بمعنى أَخْبِرْني ، ومَثَّل بقوله : « أَرَأَيْتك زيداً أبو من هو؟ » وقولُ سيبويهِ صحيحٌ ، حيث يكون بعدها استفهامٌ كمثالِه ، وأمَّا في الآية فهي كما قلتُ ، وليست التي ذكر سيبويهِ « . قلت : وهذا الذي ذكره ليس بمُسَلَّمٍ ، بل الآيةُ كمثالِه ، غايةُ ما في البابِ أنَّ المفعولَ الثاني محذوفٌ وهو الجملةُ الاستفهاميةُ المقدَّرةُ ، لانعقادِ الكلام مِنْ مبتدأ وخبر ، لو قلت : هذا الذي كَرَّمْتَه عليَّ لِمَ كرَّمته؟
وقال الفراء : » الكافُ في محلِّ نصب ، أي « أَرَأَيْتَ نفسَك كقولك : أَتَدَبَّرْتَ أخرَ أمرِك فإني صانعٌ فيه كذا ثم ابتدأ : هذا الذي كرَّمْتَ عليَّ » .
وقال أبو البقاء : « والمفعولُ الثاني محذوفٌ ، تقديرُه : تفضيلَه أو تكريمه » . قلت . وهذا لا يجوز لأنَّ المفعول الثاني في هذا البابِ لا يكونَ إلا جملةً مشتملةً على استفهام « .
قال الشيخ : » ولو ذهبَ ذاهبٌ إلى أنَّ الجملة القسمية هي المفعولُ الثاني لكانَ حَسَناً « . قلت : يَرُدُّ ذلك التزامُ كونِ المفعولِ الثاني جملةً مشتملةً على استفهامٍ وقد تقرَّر جميعُ ذلك في الأنعام فعليك باعتباره هنا .
قوله : { لَئِنْ أَخَّرْتَنِ } قرأ ابن كثير بإثباتِ ياءِ المتكلمِ وصلاً ووقفاً ، ونافع وأبو عمرو بإثباتِها وَصْلاً وحَذْفِها وقفاً ، وهذه قاعدةُ مَنْ ذُكِرَ في الياءاتِ الزائدةِ على الرسم ، والباقون بحذفها وصلاً ووقفاً ، هذا كلُّه في حرفِ هذه السورةِ ، أمَّا الذي في المنافقين في قولِه { لولا أخرتني } [ الآية : 10 ] فأثبتَه الكلُّ لثبوتِها في الرسمِ الكريم .
قوله : » لأحْتَنِكَنَّ « جوابُ القسمِ المُوَطَّأ له باللام . ومعنى » لأحْتَنِكَنَّ « لأَسْتَوْلِيَنَّ عليهم استيلاءَ مَنْ جَعَلَ في حَنَكِ الدابَّةِ حَبْلاً يقودُها به فلا تأبى ولا تَشْمُسُ عليه . يقال : حَنَك فلانٌ الدابةَ واحْتَنَكها ، أي : فَعَل بها ذلك ، واحْتَنَكَ الجرادُ الأرض : أكلَ نباتها قال :
3077- نَشْكُو إليك سَنَةً قد أَجْحَفَتْ ... جَهْداً إلى جَهْدٍ بنا فأضعفَتْ
واحتنكَتْ أموالَنا وجَلَّفَتْ ... وحكى سيبويه : » أحْنَكُ الشاتَيْن ، أي : آكَلُهما ، أي : أكثرُهما أَكْلاً .

قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63)

قوله تعالى : { اذهب فَمَن } : تقدَّم أنَّ الباءَ تُدْغَمُ في الفاءِ في ألفاظٍ منها هذه ، عند أبي عمروٍ والكسائيِّ وحمزةَ في رواية خلاَّدٍ عنه بخلافٍ في قوله : { وَمَن لَّمْ يَتُبْ فأولئك } [ الحجرات : 11 ] .
قوله : « جزاؤُكم » يجوز أن يكونَ الخطابُ التغليبَ لأنه تقدَّم غائبٌ ومخاطبٌ في قولِه : { فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ } فغلَّب المخاطَب ، ويجوز أن يكونَ الخطابُ مراداً به « مَنْ » خاصةً ويكونُ ذلك على سبيل الالتفات .
قوله : « جَزاءً » في نصبِه أوجهٌ ، أحدُها : أنه منصوبٌ على المصدرِ ، الناصبُ له المصدرُ قبله ، وهو مصدرٌ مبيِّن لنوعِ المصدرِ الأول . الثاني : أنه منصوبٌ على المصدرِ أيضاً لكن بمضمرٍ ، أي : يُجازَوْن جزاءً . الثالث : أنه حالٌ موطِّئة كجاء زيد رجلاً صالحاً . الرابع : أنه تمييزٌ وهو غيرُ مُتَعَقَّل .
و « مَوْفُوراً » اسمُ مفعولٍ مِنْ وَفَرْتُه ، ووفَرَ يُستعمل متعدِّياً ، ومنه قولُ زهير :
3078- ومن يَجْعَلِ المعروفَ مِنْ دُوْنِ عِرْضِهِ ... يَفِرْه ومَنْ لا يَتَّقِ الشتم يُشْتَمِ
والآيةُ الكريمةُ من هذا ، ويُستعمل لازماً يقال : وَفَرَ المالُ .

وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64)

قوله تعالى : { واستفزز } : جملةٌ أمريةٌ عُطِفَتْ على مِثلِها من قولِه « اذهَبْ » . و { مَنِ استطعت } يجوز فيه وجهان ، أحدُهما : أنها موصولةُ في محلِّ نصب مفعولاً للاستفزاز ، أي : استفزِزْ الذي استطعْتَ استفزازَه منهم . والثاني : أنها استفهاميةٌ منصوبةُ المحلِّ ب « استطعْتَ » قاله أبو البقاء ، وليس بظاهرٍ لأنَّ « اسْتَفْزِزْ » يطلبه مفعولاً به ، فلا يُطقع عنه ، ولو جَعَلْناه استفهاماً لكان مُعَلَّقاً له ، وليس هو بفعلٍ قلبي/ فيعلَّق .
والاسْتِفْزاز : الاستخفاف ، واستفزَّني فلانٌ : استخفَّني حتى خَدَعني لمِا يريده . قال :
3079- يُطيع سَفيهَ القوم إذ يستفزُّه ... ويَعْصي حليماً شَيَّبَتْه الهزاهِزُ
ومنه سُمِّي ولدُ البقرة « فزَّاً » . قال الشاعر :
3080- كما استغاثَ بسَيْءٍ فَزُّ غَيْطَلَةٍ ... خافَ العيونَ ولم يُنْظَرْ به الحَشَكُ
وأصلُ الفَزِّ : القَطْعُ ، يقال : تَفَزَّز الثوبُ ، أي : تقطَّع .
قوله : « وأَجْلِبْ » ، أي : اجْمَعْ عليهم الجموعَ مِنْ جُنْدِك يقال : أَجْلَبَ عليه وجَلَبَ ، أي : جَمَعَ عليه الجموعَ . وقيل : أَجْلَبَ عليه : توعَّده بشرٍّ . وقيل : أَجْلَبَ عليه : أعان ، وأجلب ، أي : صاح صِياحاً شديداً ، ومنه الجَلَبَة ، أي : الصِّياح .
قوله : « وَرَجِلِك » قرأ حفصٌ بكسرِ الجيمِ ، والباقون بسكونها ، فقراءة حفصٍ « رَجِل » فيها بمعنى رَجُل بالضم بمعنى راجل يُقال : رَجِلَ يَرْجَلُ إذا صار راجِلاً ، فيكون مثل : حَذِر وحَذُر ، ونَدِس ونَدُس ، وهو مفردٌ أريد به الجمعُ . وقال ابن عطية : هي صفةٌ يقال : فلان يمشي رَجِلاً إذا كان غيرَ راكبٍ ، ومنه قولُ الشاعر :
3081- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . رَجِلاً إلا بأصحابي
قلت : يشير إلى البيتِ المشهور وهو :
فما أُقاتلُ عن ديني على فَرَسي ... إلا كذا رَجِلاً إلا بأصحابي
أراد : فارساً ولا راجلاً .
وقال الزمخشريُّ : « على أن فَعِلاً بمعنى فاعِل نحو : تَعِب وتاعب ، ومعناه : وجَمْعك الرَّجِلُ ، وتُضَمُّ جيمُه أيضاً فيكون مثلَ : حَذُر وحَذِر ، ونَدُس ونَدِس ، وأخواتٍ لهما » .
وأما قراءةُ الباقين فتحتملُ أَنْ تكون تخفيفاً مِنْ « رَجِل » بكسر الجيم أو ضمِّها ، والمشهورُ : أنه اسمُ جمع لراجِل كرَكْب وصَحْب في راكِب وصاحِب . والأخفش يجعل هذا النحوَ جمعاً صريحاً .
وقرأ عكرمةُ « ورِجالك » جمع رَجِل بمعنى راجِل ، أو جمع راجِل كقائم وقيام . وقُرِئ « ورُجَّالك » بضمِّ الراء وتشديد الجيم ، وهو جمع راجِل كضارِب وضُرَّاب .
والباء في « بخَيْلِك » يجوز أن تكونَ الحالية ، أي : مصاحَباً بخيلك ، وأن تكون مزيدةً كقوله :
3082- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَر
وقد تقدَّم في البقرة .
قوله : { وَمَا يَعِدُهُمُ الشيطان } من بابِ الالتفاتِ وإقامةِ الظاهر مُقامَ المضمرِ؛ إذ لو جَرَى على سَنَنِ الكلامِ الأول لقال : وما تَعِدُهم ، بالتاء من فوق .
قوله : { إِلاَّ غُرُوراً } فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه نعتُ مصدرٍ محذوفٍ وهو نفسُه مصدرٌ ، الأصل : إلا وَعْداً غروراً ، فيجيء فيه ما في « رجلٌ عَدْلٌ » ، أي : إلا وَعْداً ذا غرور ، أو على المبالغة أو على : وعداً غارَّاً ، ونسب الغرورَ إليه مجازاً . الثاني : أنه مفعولٌ مِنْ أجلِه ، أي : ما يَعِدُهم ممَّا يَعِدُهم من الأماني الكاذبة إلا لأجل الغُرور . الثالث : أنه مفعولٌ به على الاتِّساع ، أي : ما يَعِدُهم إلا الغرورَ نفسَه .

وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67)

قوله تعالى : { إِلاَّ إِيَّاهُ } : فيه وجهان ، أحدهما : أنه استثناءٌ منقطعٌ لأنه لم يَنْدَرِجْ فيما ذُكِر ، إذ المرادُ به آلهتُهم من دون الله . والثاني : أنه متصلٌ؛ لأنهم كانوا يَلْجَؤون إلى آلهتِهم وإلى اللهِ تعالى .

أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68)

قوله تعالى : { أَفَأَمِنْتُمْ } : استفهامُ توبيخٍ وتقريعٍ . وقدَّر الزمخشري على قاعدتِه معطوفاً عليه ، أي : أَنَجَوْتم فَأَمِنْتُمْ .
قوله : { جَانِبَ البر } فيه وجهان أظهرهما : أنه مفعولٌ به كقوله : { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض } [ القصص : 81 ] . والثاني : أنه منصوبٌ على الظرف . و « بكم » يجوز أن تكونَ حاليةً ، أي : مصحوباً بكم ، وأَنْ تكونَ للسببية . قيل : ولا يَلْزَمُ مِنْ خَسْفِه بسببهم أن يَهْلَكوا . وأُجيب بأنَّ المعنى : جانبَ البر الذي أنتم فيه فيلزم بخَسْفِه هلاكُهم ، ولولا هذا التقديرُ لم يكنْ في التوعُّدِ به فائدةٌ .
قوله : { أَن يَخْسِفَ } « أو يُرْسِلَ » « أن يُعِيْدَكم » فَيُرْسِلَ « » فَيُغرْقكم « قرأ هذه [ جميعَها ] بنون العظمة ابنُ كثير وأبو عمروٍ ، والباقون بالياءِ فيها على الغيبة . فالقراءةُ الأولى على سبيل الالتفاتِ مِن الغائبِ في قولِه { رَّبُّكُمُ } [ الإِسراء : 66 ] إلى آخر ، والقراءةُ الثانيةُ على سَنَنِ ما تقدَّم من الغَيْبَةِ المذكورة .
قوله : » حاصِباً « ، أي : ريحاً حاصِباً ، ولم يؤنِّثْه : إمَّا لأنه مجازيٌّ ، أو على النسَبِ ، أي : ذاتَ حَصْبٍ . والحَصْبُ : الرميُ بالحَصَى وهي الحجارةُ الصغار . قال الفرزدق :
3083- مُسْتَقْبِلين شَمالَ الشامِ تَضْرِبُهم ... حَصْباءُ مثلُ نَدِيْفِ القُطْنِ مَنْثُورِ
والحاصِبُ أيضاً : العارِضُ الذي يَرْمِي البَرَد .

أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)

قوله تعالى : { أَمْ أَمِنْتُمْ } / : يجوز أَنْ تكونَ المتصلة ، أي : أيُّ الأمرين كائن؟ ويجوز أَنْ تكونَ المنقطعةَ ، و { أَن يُعِيدَكُمْ } مفعولٌ به ك { أَن يَخْسِفَ } .
قوله « تارةً » بمعنى مرةً وكَرَّة ، فهي مصدرٌ ، ويُجمع على تِيَرٍ وتاراتٍ . قال الشاعر :
3084- وإنسانُ عيني يَحْسِرُ الماءُ تارةً ... فَيَبْدُ وتارات يَجُمُّ فَيَغْرَقُ
وألفُها تحتمل أن تكونَ عن واوٍ أو ياء . وقال الراغب : وهو فيما قيل : مِنْ تارَ الجُرْحُ : التأَمَ « .
قوله : » قاصِفاً « القاصِفُ يحتمل أن يكون مِنْ قَصَفَ متعدياً ، يقال : قَصَفَتِ الريحُ الشجرَ تَقْصِفها قَصْفاً . قال أبو تمام :
3085- إنَّ الرياحَ إذا ما أَعْصَفتْ قَصَفَتْ ... عَيْدانَ نَجْدٍ ولم يَعْبَأْنَ بالرَّتَمِ
فالمعنى : أنها لا تُلْفِي شيئاً إلا قَصَفَتْه وكَسَرَتْه . والثاني : أن يكون مِنْ قَصِفَ قاصراً ، أي : صار له قَصِيف يقال : قَصِفَتِ الريحُ تَقْصَفُ ، أي : صَوَّتَتْ . و { مِّنَ الريح } نعت .
قوله : { بِمَا كَفَرْتُمْ } يجوز أن تكونَ مصدريةً ، وأن تكونَ بمعنى الذي ، والباءُ للسببية ، أي : بسببِ كفرِكم ، أو بسبب الذي كفَرْتم به ، ثم اتُّسِع فيه فَحَذِفت الباءُ فوصل الفعلُ إلى الضميرِ ، وإنما احتيج إلى ذلك لاختلافِ المتعلق .
وقرأ أبو جعفرٍ ومجاهد » فَتُغْرِقَكم « بالتاء من فوقُ أُسْند الفعلُ لضمير الريح . وفي كتاب الشيخ » « فتُغْرِقَكم بتاء الخطاب مسنداً إلى » الريح « . والحسنُ وأبو رجاء بياء الغيبة وفتح الغين وشدِّ الراء ، عَدَّاه بالتضعيف والمقرئ لأبي جعفر كذلك إلا أنه بتاء الخطاب » . قلت : وهذا : إمَّا سهوٌ ، وإمَّا تصحيفٌ من النسَّاخ عليه؛ كيف يَسْتقيم أن يقولَ بتاءِ الخطاب وهو مسندٌ إلى ضمير الريح ، وكأنه أراد بتاء التأنيث فسبقه قلمُه أو صَحَّف عليه غيرُه .
وقرأ العامَّة « الريحِ » بالإِفراد ، وأبو جعفر : « الرياح » بالجمع .
قوله : { بِهِ تَبِيعاً } يجوز في « به » أن يَتَعَلَّق ب « تَجِدوا » ، وأن يتعلَّقَ بتبيع ، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنه حالٌ مِنْ تبيع . والتَّبِيْع : المطالِبُ بحقّ ، المُلازِمُ ، قال الشمَّاخ :
3086- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كما لاذَ الغَريمُ من التَّبيعِ
وقال آخر :
3087- غَدَوْا وغَدَتْ غِزْلانُهم فكأنَّها ... ضوامِنُ مِنْ غُرْمٍ لهنَّ تَبيعُ

وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)

قوله تعالى : { كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ } : عَدَّاه بالتضعيفِ ، وهو مِنْ كَرُم بالضمِّ كشَرُف ، وليس المرادُ من الكرمِ في المال .

يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71)

قوله تعالى : { يَوْمَ نَدْعُواْ } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه منصوبٌ على الظرف ، والعاملُ « فَضَّلْناهم » ، أي : فَضَّلْناهم بالثوابِ يوم نَدْعُو . قال ابن عطية في تقريره : « وذلك أنَّ فَضْلَ البشرِ على سائرِ الحيوان يوم القيامةِ بيِّنٌ؛ إذ هم المُكَلَّفون المُنَعَّمون المحاسَبون الذين لهم القَدْرُ . إلا أنَّ هذا يَرُدُّه أن الكفار [ يومئذٍ ] أَخْسَرُ مِنْ كلِّ حيوان ، لقولِهم : { ياليتني كُنتُ تُرَاباً } [ النبأ : 40 ] .
الثاني : أنه منصوبٌ على الظرف ، والعاملُ فيه اذكر ، قاله الحوفيُّ وابنُ عطية . قلت : وهذا سهوٌ؛ كيف يعمل فيه ظرفاً؟ بل هو مفعولٌ .
الثالث : أنه مرفوعُ المحلِّ على الابتداء ، وإنما بُنِيَ لإِضافتِهِ إلى الجملةِ الفعلية ، والخبرُ الجملةُ بعده . قال ابنُ عطية في تقريره : » ويَصِحُّ أَنْ يكونَ « يوم » منصوباً على البناء لَمَّا أُضيف إلى غيرِ متمكِّن ، ويكون موضعُه رفعاً بالابتداء ، وخبرُه في التقسيم الذي أتى بعدَه في قوله { فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ } إلى قوله { وَمَن كَانَ } . قال الشيخ : « قوله منصوبٌ على البناء » كان ينبغي أن يقول : مبنيَّاً على الفتح ، وقوله « لَمَّا أُضيف إلى غيرِ متمكن » ليس بجيدٍ؛ لأنَّ المتمكِّنَ وغيرَ المتمكِّنِ إنما يكون في الأسماءِ لا في الأفعالِ ، وهذا أُضيفَ إلى فعلٍ مضارع ، ومذهبُ البصريين فيه أنه معربٌ ، والكوفيون يُجيزون بناءَه . وقوله : « والخبر في التقسيم » إلى آخره ، التقسيم عارٍ من رابطٍ يربط جملةَ التقسيم بالابتداء « . قلت : الرابطُ محذوفٌ للعلمِ به ، أي : فَمَنْ أُوتي كتابَه فيه .
الرابع : أنه منصوبٌ بقولِه » ثم لا تجدوا « قاله الزجَّاج . الخامس : أنه منصوبٌ ب » يُعيدكم « مضمرةً ، أي : يُعيدكم يومَ نَدْعو . السادس : أنه منصوبٌ بما دَلَّ عليه { وَلاَ يُظْلَمُونَ } بعده ، أي : ولا يُظْلَمون يوم ندعو ، قاله ابن عطية وأبو البقاء . السابع : أنه منصوبٌ بما دَلَّ عليه { متى هُوَ } [ الإِسراء : 51 ] . الثامن : أنه منصوبٌ بما تقدَّمه مِنْ قولِه تعالى : { فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ } [ الإِسراء : 52 ] . التاسع : أنه بدلٌ مِنْ { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ } [ الإِسراء : 52 ] . وهذان القولان ضعيفان جداً لكثرة الفواصل . العاشر : أنه مفعولٌ به بإضمار » اذكر « ، وهذا -وإن كان أسهلَ التقاديرِ- أظهرُ ممَّا تقدم؛ إذ لا بُعْدَ فيه ولا إضمارَ كثيرٌ .
وقرأ العامَّة » نَدْعو « بنون العظمة ، ومجاهدٌ » يَدْعُو « بياء الغيبة ، أي : الله تعالى أو المَلَك . و » كلَّ « نصبٌ مفعولاً به على القراءتين .
وقرأ الحسن فيما نقله الدانيُّ عنه » يُدْعَى « مبنياً للمفعول ، » كلُّ « مرفوعٌ لقيامِه الفاعلِ ، وفيما نقله عنه غيرُه » يُدْعَو « بضمِّ الياء وفتح العين ، بعدها واوٌ . وخُرِّجَتْ على وجهين ، أحدُهما : أن الأصلَ : يُدْعَوْن فَحُذِفت نونُ الرفعِ كما حُذِفَتْ في قولِه عليه السلام : » لا تَدْخُلوا الجنة حتى تُؤْمنوا ، ولا تُؤْمنوا حتى تحابُّوا «

وقوله :
3088- أَبَيْتُ أَسْرِيْ وتَبِْيْتي تَدْلُكِيْ ... وَجْهَكِ بالعَنْبَرِ والمِسْكِ الذَّكي
و « كلٌّ » مرفوعٌ بالبدلِ من الواوِ التي هي ضميرٌ ، أو بالفاعليةِ والواوُ علامةٌ على لغةِ « يتعاقبون فيكمْ ملائكةٌ » .
والتخريجُ الثاني : أنَّ الأصلَ « يُدْعَى » كما نَقَله عنه الدانيُّ ، إلا أنه قَلَبَ الألفَ واواً وَقْفاً ، وهي لغةٌ لقومٍ ، يقولون : هذه أفْعَوْ وعَصَوْ ، يريدون : أَفْعى وعَصا ، ثم أجرى الوصلَ مُجْرى الوقفِ . و « كلُّ » مرفوعٌ لقيامِه مقامَ الفاعلِ على هذا ليس إلا .
قوله : « بإمامِهم » يجوزُ أَنْ تكونَ الباءُ متعلقةٌ بالدعاء ، أي : باسمِ إمامهم ، وأن تكونَ للحالِ فيتعلَّقَ بمحذوف ، أي : نَدْعُوهم مصاحبين لكتابهم . والإِمام : مَنْ يُقْتَدَى به . وقال الزمخشري « » ومن بِدَع التفاسير : أن الإِمامَ جمع « أُمّ » وأنَّ الناسَ يُدْعَوْنَ يومَ القيامة بأمهاتهم دونَ آبائهم ، وأن الحكمةَ فيه رِعايةُ حقِّ عيسى ، وإظهارِ شرفِ الحسن والحسين ، وأن لا يُفْضَحَ أولادُ الزِّنى « قال : » وليت شعري أيهما أَبْدَعُ : أصحةُ لفظِه أم بَهاءُ معناه؟ « .
قلت : وهو معذورٌ لأن » أُمّ « لا يُجْمع على » إمام « ، وهذا قولُ مَنْ لا يَعْرف الصناعةَ ولا لغةَ العربِ ، وأمَّا ما ذكروه من المعنى فإنَّ الله تعالى نادى عيسى باسمِه مضافاً لأمِّه في عدةِ مواضعَ من قوله { ياعيسى ابن مَرْيَمَ } [ المائدة : 110 ] ، وأَخْبرعنه كذلك نحو : { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ } [ الصف : 6 ] ، وفي ذلك غَضاضةٌ من أميرِالمؤمنين عليّ رضي الله عنه وكرَّم وجهَه .
قوله : { فَمَنْ أُوتِيَ } يجوز أن تكونَ شرطيةً ، وأن تكونَ موصولةً ، والفاءُ لشَبَهه بالشرط . وحُمِل على اللفظِ أولاً في قوله { أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ } فَأُفْرِد ، وعلى المعنى ثانياً في قولِه : » فأولئك « فَجُمِع .

وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)

قوله تعالى : { وَمَن كَانَ فِي هذه } : يجوز في « مَنْ » ما جاز في « مَنْ » قبلها . وأمال الأخَوان وأبو بكر « أعمى » في الموضعين من هذه السورة ، وأبو عمروٍ أمال الأولَ دون الثاني ، والباقون فتحوهما ، فالإِمالةُ لكونِهما من ذوات الياء ، والتفخيمُ لأنه الأصل . وأمَّا أبو عمروٍ فإنه أمال الأولَ لأنه ليس أفعلَ تفضيلٍ فألفُه متطرفةٌ لفظاً وتقديراً ، والأطرافُ محلُّ التغيير غالباً ، وأمَّا الثاني فإنه للتفضيلِ ولذلك عَطَف عليه « وأَضَلَّ » فألفُه في حكم المتوسطة؛ لأنَّ « مِنْ » الجارَّةَ للمفضول كالملفوظ بها ، وهي شديدةُ الاتصالِ بأَفْعَلِ التفضيلِ فكأنَّ وقعت حَشْواً فتحصَّنَتْ عن التغيير .
قلت : كذا قرَّره الفارسيُّ والزمخشري ، وقد رُدَّ هذا بأنهم أمالوا { وَلاَ أدنى مِن ذَلِكَ } [ المجادلة : 7 ] مع التصريح ب « مِنْ » فَلأَنْ يُميلوا « أَعْمى » مقدَّراً معه « مِن » أَوْلَى وأَحْرَى .
وأمَّا « أَعْمى » في طه فأماله الأخَوان وأبو عمرو ، ولم يُمِلْه أبو بكر ، وإن كان يُمليه هنا ، وكأنه جَمَعَ بين الأمرين وهو مقيَّدٌ باتِّباع الأثر . وقد فَرَّق بعضُهم : بأنَّ « أعمى » فيه طه مِنْ عَمَى البصرِ ، وفي الإِسراء مِنْ عَمَى البصيرة؛ ولذلك فسَّروه هنا بالجَهْل فأُمِيلَ هنا ، ولم يُمَلْ هناك للفرقِ بين المعنيين . قلت : والسؤال باقٍ؛/ إذ لقائلٍ أن يقولَ : فَلِمَ خُصِّصَتْ هذه بالإِمالةِ ، ولو عُكِسَ الأمرُ كان الفارقُ قائماً .

وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73)

قوله تعالى : { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ } : « إنْ » هذه فيها المذهبان المشهوران : مذهبُ البصريين : أنها مخففةٌ ، واللامُ فارقةٌ بينها وبين « إنْ » النافية ، ولهذا دَخَلَتْ على فعلٍ ناسخٍ ، ومذهبُ الكوفيين أنها بمعنى « ما » النافيةِ ، واللامُ بمعنى « إلا » . وضُمِّنَ « يَفْتِنُونَك » معنى يَصْرِفُونك « فلهذا عُدِّي ب » عن « تقديرُه : لَيَصْرِفُونَكَ بفتنتِهم . و » لتفترِيَ « متعلِّقٌ بالفتنةِ .
قوله : { وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ } » إذن « حرفُ جوابٍ وجزاءٍ؛ ولهذا تقع أداةُ الشرطِ موقعَها ، و » لاتَّخذوك « جوابُ قسمٍ محذوفٍ تقديرُه : إذن واللهِ لاتَّخذوك ، وهو مستقبلٌ في المعنى ، لأنَّ » إذَنْ « تقتضي الاستقبالَ؛ إذ معناها المجازاةُ . وهذا كقولِه : { وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَّظَلُّواْ } [ الروم : 51 ] ، أي : ليَظَلُّنَّ . وقولُ الزمخشري : » أي : ولو اتَّبَعْتَ مرادَهم لاتَّخذُوك « تفسيرُ معنى لا إعرابٍ ، لا يريد بذلك أنَّ » لاتَّخَذُوك « جوابٌ ل » لو « محذوفةُ إذ لا حاجةَ إليه .