ج1وج2وج3.كتاب الأصول في النحو لأبي
بكر محمد بن سهل بن السراج النحوي البغدادي
الأصول في النحو
بسم الله الرحمن الرحيم قال أبو بكر محمد بن السري النحوي : النحو إنما أريد به أن ينحو المتكلم إذا تعلمه كلام العرب وهو علم استخرجه المتقدمون فيه من إستقراء كلام العرب حتى وقفوا منه على الغرض الذي قصده المبتدئون بهذه اللغة فبإستقراء كلام العرب فاعلم : أن الفاعل رفع والمفعول به نصب وأن فعل مما عينه : ياء أو واو تقلب عينُه من قولهم : قام وباع
واعتلالات النحويين على ضربين : ضرب منها هو المؤدي إلى كلام العرب كقولنا : كل فاعل مرفوع وضرب آخر يسمى علة العلة مثل أن يقولوا : لِمَ صار الفاعل مرفوعاً والمفعول به منصوباً ولم إذا تحركت الياء والواو وكان ما قبلهما مفتوحاً قلبتا ألفاً وهذا ليس يكسبنا أن نتكلم كما تكلمت العرب وإنما تستخرج منه حكمتها في الأصول التي وضعتها وتبين بها فضل هذه اللغة على غيرها من اللغات وقد وفر الله تعالى من الحكمة بحفظها وجعل فضلها غير مدفوع
وغرضي في هذا الكتاب ذكر العلة التي إذا اطردت وصل بها إلى كلامهم فقط وذكر الأصول والشائع لأنه كتاب إيجاز
الكلام :
يأتلف من ثلاثة أشياء : ( إسم ) ( وفعل ) ( وحرف )
شرح الإسم الإسم : ما دل على معنى مفرد وذلك المعنى يكون شخصاً وغير شخص فالشخص نحو : رجل وفرس وحجر وبلد وعمر وبكر
وأما ما كان غير شخص فنحو : الضرب والأكل والظن والعلم واليوم والليلة والساعة
وإنما قلت : ( ما دل ) على معنى مفرد لا فرق بينه وبين الفعل إذا كان الفعل يدل على معنى وزمان وذلك الزمان إما ماض وإما حاضر وإما مستقبل
فإن قلت : إن في الأسماء مثل اليوم والليلة والساعة وهذه أزمنة فما الفرق بينها وبين الفعل قلنا : الفرق أن الفعل ليس هو زماناً فقط كما أن اليوم زمان فقط فاليوم معنى مفرد للزمان ولم يوضع مع ذلك لمعنى
آخر ومع ذلك أن الفعل قد قسم بأقسام الزمان الثلاثة : الماضي والحاضر والمستقبل فإذا كانت اللفظة تدل على زمان فقط فهي اسم وإذا دلت على معنى وزمان محصل فهي فعل وأعني بالمحصل الماضي والحاضر والمستقبل
ولما كنت لم أعمل هذا الكتاب للعالم دون المتعلم احتجت إلى أن أذكر ما يقرب على المتعلم
فالإسم تخصه أشياء يعتبر بها منها أن يقال : أن الإسم ما جاز أن يخبر عنه نحو قولك : عمرو منطلق وقام بكر
والفعل : ما كان خبراً ولا يجوز أن يُخبر عنه نحو قولك : أخوك يقوم
وقام أخوك فيكون حديثاً عن الأخ ولا يجوز أن تقول : ذهب يقوم ولا يقوم يجلس
الحروف : ما لا يجوز أن يخبر عنها ولا يجوز أن تكون خبراً نحو : من وإلى
والإسم قد يعرف أيضاً بأشياء كثيرة منها دخول الألف واللام اللتين للتعريف عليه نحو : الرجل والحمار والضرب والحمد فهذا لا يكون في الفعل ولا تقول : اليقوم ولا اليذهب
ويعرف أيضاً بدخول حرف الخفض عليه نحو مررت بزيد وبأخيك وبالرجل ولا يجوز أن تقول : مررت بيقوم ولا ذهبت إلى قام
ويعرف أيضاً بإمتناع قد وسوف من الدخول عليه ألا ترى أنك لا تقول : قد الرجل ولا سوف الغلام إلا أن هذا ليس خاصاً بالإسم فقط
ولكن قد يمتنع سوف وقد من الدخول على الحروف ومن الدخول على فعل الأمر والنهي إذا كان بغير لام نحو : اضرب واقتل لا يجوز أن تقول : قد اضرب الرجل ولا سوف اقتل الأسد
والإسم أيضا ينعت والفعل لا ينعت
وكذلك الحرف لا ينعت تقول : مررت برجل عاقل ولا تقول : يضرب عاقل فيكون ( العاقل ) صفة ليضرب
والإسم يضمر ويُكنى عنه تقول : زيد ضربته والرجل لقيته والفعل لا يكنى عنه فتضمره لا تقول : ( يقوم ضربته ) ولا ( أقوم تركته ) إلا أن هذه الأشياء ليس يعرف بها كل اسم وإنما يعرف بها الأكثر ألا ترى أن المضمرات والمكنيات أسماء ومن الأسماء ما لا يكنى عنه وهذا يبين في موضعه إن شاء الله
ومما يقرب على المتعلم أن يقال له : كل ما صلح أن يكون معه ( يضر وينفع ) فهو اسم وكل ما لا يصلح معه ( يضر وينفع ) فليس باسم تقول : ( الرجل ينفعني والضرب يضرني ) ولا تقول ( يضرب ينفعني ) ولا ( يقوم يضرني )
شرح الفعل الفعل : ما دل على معنى وزمان وذلك الزمان إما ماض وإما حاضر وإما مستقبل
وقلنا : ( وزمان ) لنفرق بينه وبين الإسم الذي يدل على معنى فقط
فالماضي كقولك : ( صلى زيد ) يدل على أن الصلاة كانت فيما مضى من الزمان والحاضر نحو قولك : ( يصلي ) يدل على الصلاة وعلى الوقت
الحاضر
والمستقبل نحو ( سيصلي ) يدل على الصلاة وعلى أن ذلك يكون فيما يستقبل
والإسم إنما هو لمعنى مجرد من هذا الأوقات أو لوقت مجرد من هذه الأحداث والأفعال وأعني بالأحداث التي يسميها النحويون المصادر نحو : الأكل والضرب والظن والعلم والشكر
والأفعال التي يسميها النحويون ( المضارعة ) : هي التي في أوائلها الزوائد الأربع : الألف والتاء والياء والنون تصلح لما أنت فيه من الزمان ولما يستقبل نحو أكل وتأكل ويأكل ونأكل فجميع هذا يصلح لما أنت فيه من الزمان ولما يستقبل ولا دليل في لفظه على أي الزمانين تريد كما أنه لا دليل في قولك : رجل فعل كذا وكذا أي الرجال تريد حتى تبينه بشيء آخر فإذا قلت : سيفعل أو سوف يفعل دل على أنك تريد المستقبل وترك الحاضر على لفظه لأنه أولى به إذ كانت الحقيقة إنما هي للحاضر الموجود لا لما يتوقع أو قد مضى ولهذا ما ضارع عندهم الأسماء ومعنى ضارع : شابه ولما وجدوا هذا الفعل الذي في أوائله الزوائد الأربع يعم شيئين : المستقبل والحاضر كما يعم قولك : ( رجل ) زيداً وعمراً فإذا قلت : سيفعل أو سوف يفعل خص المستقبل دون الحاضر فأشبه الرجل إذا أدخلت الألف واللام عليه فخصصت به واحداً ممن له هذا الإسم فحينئذ يعلم
المخاطب من تريد لأنك لا تقول : ( الرجل ) إلا وقد علم من تريد منهم أو كما أن الأسماء قد خصت بالخفض فلا يكون في غيرها كذلك خصت الأفعال بالجزم فلا يكون في غيرها
وجميع الأفعال مشتقة من الأسماء التي تسمى مصادر كالضرب والقتل والحمد ألا ترى أن حمدت مأخوذ من الحمد و ( ضربت ) مأخوذ من الضرب وإنما لقب النحويون هذه الأحداث مصادر لأن الأفعال كأنها صدرت عنها
وجميع ما ذكرت لك أنه يخص الإسم فهو يمتنع من الدخول على الفعل والحرف
وما تنفرد به الأفعال دون الأسماء والأسماء دون الأفعال كثير يبين في سائر العربية إن شاء الله
شرح الحرف الحرف : ما لا يجوز أن يخبر عنه كما يخبر عن الإسم ألا ترى أنك لا نقول : إلى منطلق كما تقول : ( الرجل منطلق ) ولا عن ذاهب كما تقول : ( زيد ذاهب ) ولا يجوز أن يكون خبراً لا تقول : ( عمرو إلى ) و ( لا بكر عن ) فقد بان أن الحرف من الكلم الثلاثة هو الذي لا يجوز أن تخبر عنه ولا يكون خبراً . والحرف لا يأتلف منه مع الحرف كلام لو قلت
( أمن ) تريد ألف الإستفهام ( ومن ) التي يجر بها لم يكن كلاماً وكذلك لو قلت : ثم قد تريد ( ثم ) التي للعطف وقد التي تدخل على الفعل لم يكن كلاماً ولا يأتلف من الحرف مع الفعل كلام لو قلت : أيقوم ولم تجد ذكر أحد ولم يعلم المخاطب أنك تشير إلى إنسان لم يكن كلاماً ولا يأتلف أيضاً منه مع الإسم كلام لو قلت : ( أزيد ) كان كلاماً غير تام فأما ( يا زيد ) وجميع حروف النداء فتبين استغناء المنادي بحرف النداء وما يقوله النحويون : من أن ثم فعلاً يراد تراه في باب النداء إن شاء الله
والذي يأتلف منه الكلام الثلاثة الإسم والفعل والحرف فالإسم قد يأتلف مع الإسم نحو قولك : ( الله إلهنا ) ويأتلف الإسم والفعل نحو : قام عمرو ولا يأتلف الفعل مع الفعل والحرف لا يأتلف مع الحرف فقد بان فروق ما بينهما
باب مواقع الحروف واعلم : أن الحرف لا يخلو من ثمانية مواضع إما أن يدخل على الإسم وحده مثل الرجل أو الفعل وحده مثل سوف أو ليربط اسماً بإسم : جاءني زيد وعمرو أو فعلاً بفعل أو مفعل باسم أو على كلام تام أو ليربط جملة بجملة أو يكون زائداً
أما دخوله على الإسم وحده فنحو لام التعريف إذا قلت : الرجل
والغلام فاللام أحدث معنى التعريف وقد كان رجل وغلام نكرتين
أما دخوله على الفعل فنحو سوف والسين إذا قلت : سيفعل أو سوف يفعل فالسين وسوف بهما صار الفعل لما يستقبل دون الحاضر وقد بينا هذا
وأما ربطه الإسم بالإسم فنحو قولك : جاء زيد وعمرو فالواو ربطت عمراً بزيد
وأما ربطه الفعل بالفعل نحو قولك : قام وقعد وأكل وشرب
وأما ربطه الإسم بالفعل فنحو : مررت بزيد ومضيت إلى عمرو
وأما دخولُه على الكلام التام والجمل فنحو قولك : أعمرو أخوك وما قام زيد ألا ترى أن الألف دخلت على قولك ( عمرو أخوك ) وكان خبراً فصيرته استخباراً وما دخلت على : قام زيد وهو كلام تام موجب فصار بدخولها نفياً
وأما ربطه جملة بجملة فنحو قولك : إن يقم زيد يقعد عمرو وكان أصل الكلام يقوم زيد يقعد عمرو فيقوم زيد ليس متصلا بيقعد عمرو ولا منه في شيء فلما دخلت ( إن ) جعلت إحدى الجملتين شرطاً والأخرى جواباً
وأما دخوله زائداً فنحو قوله تعالى : ( فبما رحمة من الله ) والزيادة تكون لضروب سنبينها في موضعها إن شاء الله
(
ذكر ما يدخله التغيير من هذه الثلاثة وما لا يتغير منها )
اعلم : أنه إنما وقع التغيير من هذه الثلاثة في الإسم والفعل دون الحرف لأن الحروف أدوات تغير ولا تتغير فالتغيير الواقع فيهما على ضربين : أحدهما تغيير الإسم والفعل في ذاتهما وبنائهما فيلحقهما من التصاريف ما يُزيل الإسم والفعل ونضد حروف الهجاء التي فيهما عن حاله
وأما ما يلحق الإسم من ذلك فنحو التصغير وجمع التكسير تقول في تصغير حجر : حجير فتضم الحاء وكانت مفتوحة وتحدث ياء ثالثة فقد غيرته وأزالته من وزن فعل إلى وزن ( فعيل ) وتجمعه فتقول : أحجار فتزيد
في أوله همزة ولم تكن في الواحد وتسكن الحاء وكانت متحركة وتزيد ألفاً ثالثة فتنقله من وزن فعل إلى وزن أفعال وأما ما يلحق الفعل فنحو : قام ويقوم وتقوم واستقام وجميع أنواع التصريف لإختلاف المعاني
والضرب الثاني من التغيير : هو الذي يسمى الإعراب وهو ما يلحق الإسم والفعل بعد تسليم بنائهما ونضد حروفهما نحو قولك : هذا حكم وأحمر ورأيت حكما وأحمر ومررت بحكم وأحمر وهذان حكمان ورأيت حكمين وهؤلاء حكمون ورأيت حكمين ومررت بحكمين وهو يضرب ولن يضرب ولم يضرب وهما يضربان ولن يضربا ولم يضربا وهم يضربون ولن يضربوا ولم يضربوا ألا ترى أن ( حكماً ويضرب ) لم يَزُلْ مِن حركاتهما وحروفهما شيء فسموا هذا الصنف الثاني من التغيير الذي يقع لفروق ومعانٍ تحدث ( إعراباً ) وبدأوا بذكره في كتبهم لأن حاجة الناس إليه أكثر وسموا ما عدا هذا مما لا يتعاقب آخره بهذه الحركات والحروف ( مبنياً )
باب الإِعراب والمعرب والبناء والمبني
الإِعراب الذي يلحق الإسم المفرد السالم المتمكن وأعني بالتمكن ما لم يشبه الحرف قبل التثنية والجمع الذي على حد التثنية ويكون بحركات ثلاث : ضم وفتح وكسر فإِذا كانت الضمة إعراباً تدخل في أواخر الأسماء والأفعال وتزول عنها سميت رفعاً ن فإذا كان الفتحة كذلك سميت نصباً وإذا كانت الكسرة كذلك سميت خفضاً وجراً هذا إذا كنَّ بهذه الصفة نحو قولك : هذا زيد يا رجل ورأيت زيداً يا هذا ومررت بزيد فاعلم ألا ترى تغيير الدال واختلاف الحركات التي تلحقها
فإن كانت الحركات ملازمة سمي الإسم مبنياً فإن كان مفهوماً نحو : ( منذُ ) قيلَ : مضموم ولم يُقل : مرفوع ليفرق بينه وبين المعرب وإن كان مفتوحاً نحو : ( أين ) قيل : مفتوح ولم يقل : منصوب وإن كان مكسوراً نحو : ( أمس ) و ( حذام ) قيل : مكسور ولم يقل : مجرور
وإذا كان الإسم متصرفاً سالماً غير معتل لحقه مع هذه الحركات التي ذكرنا التنوين نحو قولك : هذا مسلم ورأيت مسلماً ومررت بمسلم وإنما قلت ( سالم ) لأن في الأسماء معتلاً لا تدخله الحركة نحو : قفا ورحى تقول في الرفع : هذا قفا وفي النصب : رأيت قفاً يا هذا ونظرت إلى قفاً وإنما يدخله التنوين إذا كان منصرفاً
وقلت : منصرف لأن ما لا ينصرف من الأسماء لا يدخله التنوين ولا الخفض ويكون خفضه كنصبه نحو : هذا أحمر ورأيت أحمر ومررت بأحمر والتنوين نون صحيحة ساكنة وإنما خصها النحويون بهذا اللقب وسموها تنويناً ليفرقوا بينها وبين النون الزائدة المتحركة التي تكون في التثنية والجمع
فإذا ثنيت الإسم المرفوع لحقه ألف ونون فقلت : المسلمان والصالحان وتلحقه في النصب والخفض ياء ونون وما قبل الياء مفتوح ليستوي النصب والجر ونون الإثنين مكسورة أبداً تقول : رأيت المسلمين والصالحين ومررت بالمسلمين والصالحين فيستوي المذكر والمؤنث في التثنية ويختلف في الجمع المسلم الذي على حد التثنية
وإنما قلت في الجمع المسلم الذي على حد التثنية لأن الجمع جمعان جمع يقال له جمع السلامة وجمع يقال له : جمع التكسير فجمع السلامة هو الذي يسلم فيه بناء الواحد وتزيد عليه واواً ونوناً أو ياءً ونوناً نحو مسلمين ومسلمون ألا ترى أنك سلمت فيه بناء مسلم فلم تغير شيئاً من نضده وألحقته واواً ونوناً أو ياءً ونوناً كما فعلت في التثنية
وجمع التكسير هو الذي يغير فيه بناء الواحد مثل جمل وأجمال ودرهم ودراهم
فإذا جمعت الإسم المذكر على التثنية لحقته واو ونون في الرفع نحو قولك : هؤلاء المسلمون وتلحقه الياء والنون في النصب والخفض نحو : رأيت المسلمين ومررت بالمسلمين ونون هذا الجمع مفتوحة أبداً والواو مضموم ما قبلها والياء مكسورة ما قبلها
وهذا الجمع مخصوص به من يعقل ولا يجوز أن تقول في جمل جملون ولا في جبل جبلون ومتى جاء ذلك فيما لا يعقل فهو شاذ فلشذوذه عن القياس علة سنذكرها في موضعها ولكن التثنية يستوي فيها ما يعقل وما لا يعقل
والمذكر والمؤنث في التثنية سواء وفي الجمع مختلف فإذا جمعت المؤنث على حد التثنية زدت ألفاً وتاءً وحذفت الهاء إن كانت في الإسم وضممت التاء في الرفع وألحقت الضمة نوناً ساكنة فقلت في جمع مسلمة ( هؤلاء مسلمات )
والضمة في جمع المؤنث نظيرة الواو في جمع المذكر والتنوين نظير النون وتكسر التاء وتنون في الخفض والنصب جميعاً تقول : رأيت مسلمات ومررت بمسلمات والكسرة نظيرة الياء في المذكرين والتنوين نظير النون
وأما الإِعراب الذي يكون في فعل الواحد من الأفعال المضارعة فالضمة فيه تسمى رفعاً والفتحة نصباً والإِسكان جزماً وقد كنت بينت لك أن
المعرب من الأفعال التي في أوائلها الحروف الزوائد التاء والنون والياء والألف فالألف للمتكلم مذكراً كان أو مؤنثاً نحو : أنا أفعل لأن الخطاب يبينه والتاء للمخاطب المذكر والمؤنث نحو : أنت تفعل وأنت تفعلين وكذلك للمؤنث إذا كان لغائبة قلت : هي تفعل وإن كان الفعل للمتكلم ولأخر معه أو جماعة قلت : نحن نفعل والمذكر والمؤنث في ذا أيضاً سواء لأنه يبين أيضاً بالخطاب والياء للمذكر الغائب فجميعُ ما جعل لفظ المذكر والمؤنث فيه سواء على لفظ واحد فإنما كان ذلك لأنه غير ملبس فالمرفوع من هذه الأفعال نحو قولك : زيد يقوم وأنا أقوم وأنت تقوم وهي تقوم والمنصوب : لن يقوم ولن يقعدوا والمجزوم لم يقعدوا ولم يقم هذا في الفعل الصحيح اللام خاصة فأما المعتل فهو الذي آخره ياء أو واو أو ألف فإن الإعراب يمتنع من الدخول عليه إلا النصب فإنه يدخل على ما لامه واو أو ياء خاصة دون الألف لأن الألف لا يمكن تحركها تقول فيما كان معتلاً من ذوات الواو في الرفع : هو يغزو ويغدو يا هذا فتسكن الواو وتقول في النصب : لن يغزو فتحرك الواو وتسقط في الجزم فتقول : لم يغز ولم يغد وكذلك ما لامه ياء نحو : يقضي ويرمي تكون في الرفع ياؤه ساكنة فتقول : هو يقضي ويرمي وتفتحها في النصب فتقول : لن يقضي ولن يرمي وتسقط في الجزم وأما ما لامه ألف فنحو : يخشى ويخفى تقول في الرفع : هو يخشى ويخفى وفي النصب : لن يخشى ولن يخفى وتسقط في الجزم فتقول فيه لم يخشَ ولم يخف فإذا صار الفعل المضارع لإثنين مذكرين مخاطبين أو غائبين زدته ألفاً ونوناً وكسرت النون فقلت : يقومان فالألف ضمير الإثنين الفاعلين والنون علامة الرفع واعلم : أن الفعل لا يثنى ولا يجمع في الحقيقة وإنما يثنى ويجمع الفاعل الذي تضمنه الفعل فإذا قلت : يقومان فالألف ضمير الفاعلين اللذين ذكرتهما والنون علامة الرفع فإذا نصبت أو
جزمت حذفتها فقلت : لن يقوما ولن يعقدا ولم يقوما ولم يقعدا فاستوى النصب والجزم فيه كما استوى النصب والخفض في تثنية الاسم وتبع النصب الجزم لأن الجزم يخص الأفعال ولا يكون إلا فيها كما تبع النصب الخفض في تثنية الأسماء وجمعها السالم إذ كان الخفض يخص الأسماء فإن كان الفعل المضارع لجمع مذكرين زدت في الرفع واواً مضموماً ما قبلها ونوناً مفتوحة كقولك : أنتم تقومون وتقعدون ونحو ذلك فالواو ضمير لجمع الفاعلين والنون علامة الرفع
فإذا دخل عليها جازم أو ناصب حذفت فقيل : لم يفعلوا كما فعلت في التثنية فإن كان الفعل المضارع لفاعل واحد مؤنث مخاطب زدت فيه ياءً مكسوراً ما قبلها ونوناً مفتوحة نحو قولك : أنتِ تضربين وتقومين فالياء دخلت من أجل المؤنث والنون علامة الرفع وإذا دخل عليها ما يجزم أو ينصب سقطت نحو قولك : لم تضربي ولن تضربي
فإن صار الفعل لجمع مؤنث زدته نوناً وحدها مفتوحة وأسكنت ما قبلها نحو : هن يضربن ويقعدن فالنون عندهم ضمير الجماعة وليست علامة الرفع فلا تسقط في النصب والجزم لأنها ضمير الفاعلات فهي اسم ها هنا خاصة فأما الفعل الماضي فإذا ثنّيت المذكر أو جمعته قلت : فعلاً وفعلوا ولم تأت بنون لأنه غير معرب والنون في ( فعلن ) إنما هي ضمير وهي لجماعة المؤنث وأسكنت اللام فيها كما أسكنتها في ( فعلت ) حتى
لا تجتمع أربع حركات وليس ذا في أصول كلامهم والفعل عندهم مبني مع التاء في ( فعلت ) ومع النون في ( فعلن ) كأنه منه لأن الفعل لا يخلو من الفاعل وأما لام ( يفعلن ) فإنما أسكنت تشبيهاً بلام ( فعلن ) وإن لم يجتمع فيه أربع حركات ولكن من شأنهم إذا أعلوا أحد الفعلين لعلة أعلوا الفعل الآخر وإن لم تكن فيه تلك العلة وسترى ذلك في مواضع كثيرة إن شاء الله
واعلم : أن الإعراب عندهم إنما حقه أن يكون للأسماء دون الأفعال والحروف وأن السكون والبناء حقهما أن يكونا لكل فعل أو حرف وأن البناء الذي وقع في الأسماء عارض فيها لعلة وأن الإِعراب الذي دخل على الأفعال المستقبلة إنما دخل فيها العلة فالعلة التي بنيت لها الأسماء هي وقوعها موقع الحروف ومضارعتها لها وسنشرح ذلك في باب الأسماء المبينة إن شاء الله
وأما الإِعراب الذي وقع في الأفعال فقد ذكرنا أنه وقع في المضارع منها للأسماء وما عدا ذلك فهو مبني
فالأسماء تنقسم قسمين : أحدهما معرب والآخر مبني فالمعرب يقال له : متمكن وهو ينقسم أيضاً على ضربين : فقسم : لا يشبه الفعل وقسم : يشبه الفعل فالذي لا يشبه الفعل هو متمكن منصرف يرفع في موضع الرفع ويجر في موضع الجر وينصب في موضع النصب وينون وقسم يضارع الفعل غير متصرف لا يدخله الجر ولا التنوين وسنبين من أين يشبه بالفعل فيما يجري وفي ما لا يجري إن شاء الله
والمبني من الأسماء ينقسم على ضربين : فضرب مبني على السكون نحو : كم ومن وإذ وذلك حق البناء وأصله وضرب مبني على الحركة فالمبني على الحركة ينقسم على ضربين : ضرب حركته لإلتقاء الساكنين نحو أين وكيف وضرب حركته لمقاربته التمكن ومضارعته للأسماء المتمكنة نحو ( يا حكم ) في النداء وجئتك من علُ وجميع هذا يبين في أبوابه إن شاء الله
فأما الإِعراب الذي وقع في الأفعال فقد بينا أنه إنما وقع في المضارع منها للأسماء وما عدا المضارعة فمبني والمبني من الأفعال ينقسم على ضربين : فضرب مبني على السكون والسكون أصل كل مبني وذلك نحو : اضرب واقتل ودحرج وانطلق وكل فعل تأمر به إذا كان بغير لام ولم يكن فيه حرف من حروف المضارعة نحو : الياء والتاء والنون والألف فهذا حكمه
وأما الأفعال التي فيها حروف المضارعة فيدخل عليها اللام في الأمر وتكون معربة مجزومة بها نحو : ليقم زيد وليفتح بكر ولتفرح يا رجل وأما ما كان على لفظ الأمر مما يستعمل في التعجب
فحكمه حكمه نحو قولك : أكرم بزيد و ( أسمع بهم وأبصر ) وزيد ما أكرمه وما أسمعهم وما أبصرهم
والضرب الثاني مبني على الفتح وهو كل فعل ماض كثرت حروفه أو قلت نحو : ضرب واستخرج وانطلق وما أشبه ذلك
ذكر العوامل من الكلم الثلاثة الإسم والفعل والحرف وما لا يعمل منها
تفسير الأول وهو الإسم :
الإسم : يعمل في الإسم على ثلاثة أضرب :
الضرب الأول :
أن يبنى عليه اسم مثله أو يبنى على اسم ويأتلف فإجتماعهما الكلام ويتم ويفقدان العوامل من غيرهما نحو قولك : ( عبد الله أخوك ) . . فعبد الله مرتفع بأنه أول مبتدأ فاقد للعوامل ابتدأته لتبني عليه ما يكون حديثاً عنه : ( وأخوك ) مرتفع بأنه الحديث المبني على الإسم الأول المبتدأ
الضرب الثاني :
أن يعمل الإسم بمعنى الفعل والأسماء التي تعمل عمل الفعل أسماء الفاعلين وما شبه بها والمصادر وأسماء سموا الأفعال بها وإنما أعملوا اسم الفاعل لما ضارع الفعل وصار الفعل سبباً له وشاركه في المعنى وإن افترقا في الزمان كما أعربوا الفعل لما ضارع الإسم فكما أعربوا هذا أعلموا ذلك والمصدر حكمه حكم اسم الفاعل أعمل كما أعمل إذا كان الفعل مشتقاً منه إلا أن الفرق بينه وبين اسم الفاعل أن المصدر يجوز أن يضاف إلى الفاعل وإلى المفعول لأنه غيرهما تقول : عجبت من ضرب زيد عمراً فيكون زيد هو الفاعل في المعنى وعجبت من ضرب زيد عمرو فيكون زيد هو المفعول في المعنى ولا يجوز هذا في إسم الفاعل لا يجوز أن تقول : عجبت من ضارب زيد وزيد فاعل لأنك تضيف الشيء إلى نفسه وذلك غير جائز
فأما ما شبه باسم الفاعل نحو : حسن وشديد فتجوز إضافته إلى
الفاعل وإن كان إياه لأنها إضافة غير حقيقية نحو قولك : الحسن الوجه والشديد اليد والحسن للوجه والشدة لليد وإنما دخلت الألف واللام وهي لا تجتمع مع الإضافة على الحسن الوجه وما أشبهه لأن إضافته غير حقيقية ومعنى : حسن الوجه حسن وجهه وقد أفردت باباً للأسماء التي تعمل عمل الفعل اذكره بعد ذكر الأسماء المرتفعة إن شاء الله
الضرب الثالث :
أن يعمل الإسم لمعنى الحرف وذلك في الإِضافة والإِضافة تكون على ضربين : تكون بمعنى اللام وتكون بمعنى ( من )
فأما الإِضافة التي بمعنى اللام فنحو قولك : غلام زيد ودار عمرو ألا ترى أن المعنى : غلام لزيد ودار لعمرو إلا أن الفرق بين ما أضيف بلام وما أضيف بغير لام أن الذي يضاف بغير لام يكتسي مما يضاف إليه تعريفه وتنكيره فيكون معرفة إن كان معرفة ونكرة إن كان نكرة ألا ترى أنك إذا قلت غلام زيد فقد عرف الغلام بإضافة إلى زيد وكذلك إذ قلت : دار الخليفة عرفت الدار بإضافتها إلى الخليفة
ولو قلت : دار للخليفة لم يعلم أي دار هي وكذلك لو قلت : غلام لزيد لم يدر أي غلام هو وأنت لا تقول : غلام زيد فتضيف إلا وعندك أن السامع قد عرفه كما عرفته
أما الإِضافة التي بمعنى ( من ) فهو أن تضيف الإسم إلى جنسه نحو قولك : ثوب خز وباب حديد تريد ثوباً من خز وباباً من حديد فأضفت كل واحد منهما إلى
جنسه الذي هو منه وهذا لا فرق فيه بين إضافته بغير ( من ) وبين إضافته ( بمن ) وإنما حذفوا ( من ) هنا استخفافاً فلما حذفوها التقى الإسمان فخفض أحدهما الآخر إذا لم يكن الثاني خبراً عن الأول ولا صفة له ولو نصب على التفسير أو التمييز لجاز إذاً نون الأول نحو قولك : ثوبٌ خزاً
واعلم : أن الإسم لا يعمل في الفعل ولا في الحرف بل هو المعرض للعوامل من الأفعال والحروف
تفسير الثاني وهو الفعل :
اعلم : أن كل فعل لا يخلو من أن يكون عاملاً وأول عمله أن يرفع الفاعل أو المفعول الذي هو حديث عنه نحو : قام زيد وضرب عمرو وكل اسم تذكره ليزيد في الفائدة بعد أن يستغني الفعل بالإسم المرفوع الذي يكون ذلك الفعل حديثاً عنه فهو منصوب ونصبه لأن الكلام قد تم قبل مجيئه وفيه دليل عليه وهذه العلل التي ذكرناها ها هنا هي العلل الأول وها هنا علل ثوان أقرب منها يصحبها كل نوع من هذه الجمل إن شاء الله
تفسير الثالث وهو العامل من الحروف :
الحروف تنقسم إلى ثلاثة أقسام : الأول منها يدخل على الأسماء فقط دون الأفعال فما كان كذلك فهو عامل في الإسم
والحروف العوامل في الأسماء نوعان :
نوع منها يخفض الأسماء ويدخل ليصل اسماً بإسم أو فعلاً بإسم
أما وصله أسماً بإسم فنحو قولك : خاتم من فضة وأما وصله فعلاً بإسم فنحو قولك : مررت بزيد
والنوع الثاني : يدخل على المبتدأ والخبر فيعمل فيهما مررت الإسم ويرفع الخبر نحو ( إن وأخواتها ) كقولك : زيد قائم وجميع هذه الحروف لا تعمل في الفعل ولا تدخل عليه لا تقول : مررت بيضرب وإلى ذهبت إلا قام ولا أن يقعد قائم
والقسم الثاني من الحروف :
ما يدخل على الأفعال فقط ولا يدخل على الأسماء وهي التي تعمل في الأفعال فتنصبها وتجزمها نحو : ( أن ) في قولك : أريد أن تذهب فتنصب و ( لم ) في قولك : لم يذهب فتجزم ألا ترى أنه لا يجوز أن تقول : لم زيد ولا : أريد أن عمرو
والقسم الثالث من الحروف :
ما يدخل على الأسماء وعلى الأفعال فلم تختص به الأسماء دون الأفعال ولا الأفعال دون الأسماء وما كان من الحروف بهذه الصفة فلا يعمل في اسم ولا فعل نحو ألف الإستفهام تقول : أيقوم زيد فيدخل حرف الإستفهام على الفعل ثم تقول : أزيد أخوك فيدخل الحرف على الإسم وكذلك ( ما ) إذا نفيت بها في لغة من لم يشبهها بليس فإنه يدخلها
على الإسم والفعل ولا يعملها كقولك : وما زيد قائم ما قام زيد ومن شبهها ( بليس ) فاعملها لم يجز أن يدخلها على الفعل إلا أن يردها إلى أصلها في ترك العمل ونحن نذكر جميع الحروف منفصلة في أبوابها إن شاء الله
فإن قال قائل : ما بال لام المعرفة لم تعمل في الإسم وهي لا تدخل إلا على الإسم ولا يجوز أن تدخل هذه اللام على الفعل قيل : هذه اللام قد صارت من نفس الإسم ألا ترى قولك : رجل يدلك على غير ما كان يدل عليه الرجل وهي بمنزلة المضاف إليه الذي يصير مع المضاف بمنزلة اسم واحد نحو قولك : عبد الملك ولو أفردت عبداً من الملك لم يدل على ما كان عليه عبد الملك وكذلك الجواب في السين وسوف إن سأل سائل فقال : لِمَ لَمْ يعملوها في الأفعال إذ كانتا لا تدخلان إلا عليها فقصتهما قصة الألف واللام في الإسم وذلك أنها إنما هي بعض أجزاء الفعل فتفهم هذه الأصول والفصول فقد أعلنت في هذا الكتاب أسرار النحو وجمعته جمعاً يحضره وفصلته تفصيلاً يظهره ورتبت أنواعه وصنوفه على مراتبها بأخصر ما أمكن من القول وأبينه ليسبق إلى القلوب فهمه ويسهل على متعلميه حفظه
واعلم : أنه ربما شذ الشيء عن بابه فينبغي أن تعلم : أن القياس إذا اطرد في جميع الباب لم يعن بالحرف الذي يشذ منه فلا يطرد في نظائره وهذا يستعمل في كثير من العلوم ولو اعترض بالشاذ على القياس المطرد لبطل أكثر الصناعات والعلوم فمتى وجدت حرفاً مخالفاً لا شك في خلافه لهذه الأصول فاعلم : أنه شاذ فإن كان سمع ممن ترضى عربيته فلا بد من أن
يكون قد حاول به مذهباً ونحا نحواً من الوجوه أو استهواه أمر غلطه والشاذ على ثلاثة أضرب : منه ما شذ عن بابه وقياسه ولم يشذ في استعمال العرب له نحو : استحوذ فإن بابه وقياسه أن يُعل فيقال : استحاذ مثل استقام واستعاذ وجميع ما كان على هذا المثال ولكنه جاء على الأصل واستعملته العرب كذلك ومنه ما شذ عن الإستعمال ولم يشذ عن القياس نحو ماضي يدع فإن قياسه وبابه أن يقال : ودع يدع إذ لا يكون فعل مستقبل إلا له ماض ولكنهم لم يستعملوا ودع استغنى عنه ( بترك ) فصار قول القائل الذي قال : ودعه شاذاً وهذه أشياء تحفظ ومنه ما شذ عن القياس والإستعمال فهذا الذي يطرح ولا يعرج عليه نحو ما حكى من إدخال الألف واللام على اليّجدعُ وأنا أتبع هذا الذي ذكرت من عوامل الأسماء والأفعال والحروف بالأسماء المفعول فيها فنبدأ بالمرفوعات ثم نردفها المنصوبات ثم المخفوضات فإذا فرغنا من الأسماء وتوابعها وما يعرض فيها ذكرنا الأفعال وإعرابها وعلى الله تعالى يتوكل وبه نستعين
ذكر الأسماء المرتفعة :
الأسماء التي ترتفع خمسة أصناف : الأول : مبتدأ له خبر
والثاني : خبر لمبتدأ بنيته عليه
والثالث : فاعل بني على فعل ذلك الفعل حديثاً عنه
والرابع : مفعول به بني على فعل فهو حديث عنه ولم تذكر من فعل به فقام مقام الفاعل
والخامس : مشبه بالفاعل في اللفظ
شرح الأول : وهو المبتدأ :
المبتدأ : ما جردته من عوامل الأسماء ومن الأفعال والحروف وكان القصد فيه أن تجعله أولاً لثانٍ مبتدأ به دون الفعل يكون ثانيه خبره ولا يستغني واحد منهما عن صاحبه وهما مرفوعان أبداً فالمبتدأ رفع بالإبتداء والخبر رفع بهما نحو قولك : الله ربنا ومحمد نبينا والمبتدأ لا يكون كلاماً تاماً إلا بخبره وهو معرض لما يعمل في الأسماء نحو : كان وأخواتها وما أشبه ذلك من العوامل تقول : عمرو أخونا وإن زيداً أخونا وسنذكر العوامل التي تدخل على المبتدأ وخبره فتغيره عما كان عليه في موضعها إن شاء الله
والمبتدأ يبتدأ فيه بالإسم المحدث عنه قبل الحديث وكذلك حكم كل مخبر والفرق بينه وبين الفاعل : أن الفاعل مبتدأ بالحديث قبله ألا ترى أنك إذا قلت : زيد منطلق فإنما بدأت ( بزيد ) وهو الذي حدثت عنه بالإنطلاق والحديث عنه بعده وإذا قلت : ينطلق زيد فقد بدأ بالحديث وهو انطلاقه ثم ذكرت زيداً المحدث عنه بالإنطلاق بعد أن ذكرت الحديث
فالفاعل مضارع للمبتدا من أجل أنهما جميعاً محدث عنهما وإنهما جملتان
لا يستغني بعضهما عن بعض وحق المبتدأ أن يكون معرفة أو ما قارب المعرفة من النكرات الموصوفة خاصة فأما المعرفة فنحو قولك : عبد الله أخوك وزيد قائم وأما ما قارب المعرفة من النكرات فنحو قولك : رجل من تميم جاءني وخير منك لقيني . وصاحب لزيد جاءني
وإنما امتنع الإبتداء بالنكرة المفردة المحضة لأنه لا فائدة فيه وما لا فائدة فيه فلا معنى للتكلم به ألا ترى أنك لو قلت : رجل قائم أو رجل عالم لم يكن في هذا الكلام فائدة لأنه لا يستنكر أن يكون في الناس رجل قائماً أو عالماً فإذا قلت : رجل من بني فلان أو رجل من إخوانك أو وصفته بأي صفة كانت تقربه من معرفتك حسن لما في ذلك من الفائدة ولا يكون المبتدأ نكرة مفردة إلا في النفي خاصة فإن الإبتداء فيه بالنكرة حسن بحصول الفائدة بها كقولك : ما أحد في الدار وما في البيت رجل ونحو ذلك في لغة بني تميم خاصة : وما أحد حاضر وإنما يراعى في هذا الباب وغيره الفائدة فمتى ظفرت بها في المبتدأ وخبره فالكلام جائز وما لم يفد فلا معنى له في كلام غيرهم
وقد يجوز أن تقول : رجل قائم إذا سألك سائل فقال : أرجل قائم أم امرأة
فتجيبه فتقول : رجل قائم وجملة هذا أنه إنما ينظر إلى ما فيه فائدة فمتى كانت فائدة بوجه من الوجوه فهو جائز وإلا فلا فإذا اجتمع اسمان معرفة ونكرة فحق المعرفة أن تكون هي المبتدأ وأن تكون النكرة الخبر لأنك إذا ابتدأت فإنما قصدُك تنبيه السامع بذكر الإسم الذي تحدثه عنه ليتوقع الخبر بعده فالخبر هو الذي ينكره ولا يعرفه ويستفيده والإسم لا فائدة له لمعرفته به وإنما ذكرته لتسند إليه الخبر وقد يجوز أن تقدم الخبر على المبتدأ ما لم يكن فعلاً خاصة فتقول : منطلق زيد وأنت تريد : زيد
منطلق فإن أردت أن تجعل منطلقا في موضع ( ينطلق ) فترفع زيداً بمنطلق على أنه فاعل كأنك قلت : ينطلق زيد قبح إلا أن يعتمد اسم الفاعل وهو ( منطلق ) وما أشبهه على شيء قبله وإنما يجري فجرى الفعل إذا كان صفة جرت على موصوف نحو قولك : مررت برجل قائم أبوه ارتفع ( أبوه ) ( بقائم ) أو يكون مبنياً على مبتدأ نحو قولك : زيد قائم أبوه وحسن عندهم : أقائم أبوك وأخارج أخوك تشبيهاً بهذا إذا اعتمد ( قائم ) على شيئ قبله فأما إذا قلت قائم زيد فأردت أن ترفع زيدا بقائم وليس قبله ما يعتمد عليه البتة فهو قبيح وهو جائز عندي على قبحه وكذلك المفعول لا يعمل فيه اسم الفاعل مبتدأ غير معتمد على شيء قبله نحو : ضارب وقاتل لا تقول : ضارب بكراً عمرو فتنصب بكراً ( بضارب ) وترفع عمراً به لا يجوز أن تعمله عمل الفعل حتى يكون محمولاً على غيره فتقول : هذا ضارب بكراً جعلوا بين الإسم والفعل فرقاً فإذا قلت : قائم أبوك ( فقائم ) مرتفع بالإبتداء وأبوك رفع بفعلهما وهما قد سدا مسد الخبر ولهذا نظائر تذكر في مواضعها إن شاء الله
فأما قولك : كيف أنت وأين زيد وما أشبهما مما يستفهم به من الأسماء ( فأنت وزيد ) مرتفعان بالإبتداء ( وكيف وأين ) خبران فالمعنى في : كيف أنت على أي حال أنت وفي : ( أين زيد ) في أي مكان ولكن الإستفهام الذي صار فيهما جعل لهما صدر الكلام وهو في الحقيقة الشيء المستفهم عنه ألا ترى أنك إذا سئلت : كيف أنت فقلت : صالح إنما أخبرت بالشيء الذي سأل عنه المستخبر وكذلك إذا قال : أين زيد فقلت : في داري فإنما أخبرت بما اقتضته أين ولكن جميع هذا وإن كان خبراً فلا
يكون إلا مبدوءاً به وقد تدخل على المبتدأ حروف ليست من عوامل الأسماء فلا تزيل المبتدأ عن حاله كلام الإبتداء وحروف الإستفهام ( وأما وما ) إذا كانت نافية في لغة بني تميم وأشباه ذلك فتقول : أعمرو ( قائم ) ولبكر أخوك وما زيد قائم وأما بكر منطلق فهذه الحروف إنما تدخل على المبتدأ وخبره لمعان فيها ألا ترى أن قولك : عمرو منطلق كان خبراً موجباً فلما أدخلت عليه ( ما ) صار نفياً وإنما نفيت ( بما ) ما أوجبه غيرك حقه أن تأتي بالكلام على لفظه وكذلك إذا استفهمت إنما تستخبر خبراً قد قيل أو ظن كأن قائلاً قال : عمرو قائم فأردت أن تحقق ذلك فقلت أعمرو قائم وقع في نفسك أن ذلك يجوز وأن يكون وأن لا يكون فاستخبرت مما وقع في نفسك بمنزلة ما سمعته أذنك فحينئذ تقول : أعمرو قائم أم لا لأنك لا تستفهم عن شيء إلا وهو يجوز أن يكون عندك موجبة أو منفية واقعاً ولام الإبتداء تدخل لتأكيد الخبر وتحقيقه فإذا قلت : لعمرو منطلق أغنت اللام بتأكيدها عن إعادتك الكلام فلذلك احتيج إلى جميع حروف المعاني لما في ذلك من الإختصار ألا ترى أن الواو العاطفة في قولك : قام زيد وعمرو لولاها لاحتجت إلى أن تقول : قام زيد قام عمرو وكذلك جميع الحروف ويوصل بلام القسم فيقال : والله لزيد خير منك لأنك
لا تقسم إلا مع تحقيق الخبر ( وأما ) فإنما تذكرها بعد كلام قد تقدم أخبرت فيه عن اثنين أو جماعة بخبر فاختصصت بعض من ذكر وحققت الخبر عنه ألا ترى أن القائل يقول : زيد وعمرو في الدار فتقول : أما زيد ففي الدار وأما عمرو ففي السوق وإنما دخلت الفاء من أجل ما تقدم لأنها إنما تدخل في الكلام لتتبع شيئاً بشيء وتعق ما دخلت عليه من الكلام بما قبله ( ولأما ) موضع تذكر فيه وما لم أذكر من سائر الحروف التي لا تعمل في الأسماء فالمبتدأ والخبر بعدها على صورتهما
شرح الثاني وهو خبر المبتدأ :
الإسم الذي هو خبر المتبدا هو الذي يستفيده السامع ويصير به المبتدأ كلاماً وبالخبر يقع التصديق والتكذيب
ألا ترى أنك إذا قلت : عبد الله جالس فإنما الصدق والكذب وقع في جلوس عبد الله لا في عبد الله لأن الفائدة هي في جلوس عبد الله وإنما ذكرت عبد الله لتسند إليه ( جالساً ) فإذا كان خبر المبتدأ اسماً مفرداً فهو رفع نحو قولك : عبد الله أخوك وزيد قائم وخبر المبتدأ ينقسم على قسمين : إما أن يكون هو الأول في المعنى غير ظاهر فيه ضميره نحو : زيد أخوك وعبد الله منطلق فالخبر هو الأول في المعنى إلا أنه لو قيل لك من أخوك هذا الذي ذكرته لقلت : زيد أو قيل لك : من المنطلق لقلت : عبد الله أو يكن غير الأول ويظهر فيه ضميره نحو قولك : عمرو ضربته وزيد رأيت أباه فإن لم يكن على أحد هذين فالكلام محال
وخبر المبتدأ الذي هو الأول في المعنى على ضربين فضرب يظهر فيه الإسم الذي هو الخبر نحو ما ذكرنا من قولك : زيد أخوك
وزيد قائم وضرب يحذف منه الخبر ويقوم مقامه ظرف له وذلك الظرف على ضربين : إما أن يكون من ظروف المكان وإما أن يكون من ظروف الزمان
أما الظروف في المكان فنحو قولك : زيد خلفك وعمرو في الدار
والمحذوف معنى الإستقرار والحلول وما أشبههما كأنك قلت : زيد مستقر خلفك وعمرو مستقر في الدار ولكن هذا المحذوف لا يظهر لدلالة الظرف عليه واستغنائهم به في الإستعمال
وأما الظرف من الزمان فنحو قولك : القتال يوم الجمعة والشخوص يوم الخميس كأنك قلت : القتال مستقر يوم الجمعة أو وقع في يوم الجمعة والشخوص واقع في يوم الخميس فتحذف الخبر وتقيم الظرف مقام المحذوف فإن لم ترد هذا المعنى
فالكلام محال لأن زيداً الذي هو المبتدأ ليس من قولك : ( خلفك ) ولا في الدار شيء لأن في الدار ليس بحديث وكذلك خلفك وإنما هو موضع الخبر
واعلم : أنه لا يجوز أن تقول : زيد يوم الخميس ولا عمرو في شهر كذا لأن ظروف الزمان لا تتضمن الجثث وإنما يجوز ذلك في الأحداث نحو الضرب والحمد وما أشبه ذلك وعلة ذلك أنك لو قلت : زيد اليوم لم تكن فيه فائدة لأنه لا يخلو أحد من أهل عصرك من اليوم إذ كان الزمان لا يتضمن واحداً دون الآخر والأماكن ينتقل عنها فيجوز أن تكون خبراً عن الجثث وغيرها كذلك
والظرف من الأماكن تكون إخباراً عن المعاني التي ليست بجثث يعني المصادر نحو قولك : البيع في النهار والضرب عندك فإن قال قائل فأنت قد تقول : الليلة الهلال والهلال جثة فمن أين جاز هذا فالجواب في ذلك : أنك إنما أردت : الليلة حدوث الهلال لأنك إنما تقول ذلك عند توقع طلوعه ألا ترى أنك لا تقول : الشمس اليوم ولا القمر الليلة لأنه غير متوقع وكذلك إن قلت : اليوم زيد وأنت تريد هذا
المعنى جاز وتقول : أكل يوم لك عهد لأن فيه معنى الملك ويوم الجمعة عليك ثوب إنما جاز ذلك لإستقرار الثوب عليك فيه وأما القسم الثاني من خبر المبتدأ : وهو الذي يكون غير الأول ويظهر يفه ضميره فلا يخلو من أن يكون الخبر فعلاً فيه ضمير المبتدأ نحو : زيد يقوم والزيدان يقومان فهذا الضمير وإن كان لا يظهر في فعل الواحد لدلالة المبتدأ عليه يظهر في التثنية والجمع وذلك ضرورة خوف اللبس ومضمره كظاهره وأنت إذا قلت : زيد قائم فالضمير لا يظهر في واحده ولا في تثنيته ولا في جمعه فإن قال قائل : فإنك قد تقول : الزيدان قائمان والزيدون قائمون قيل له : ليست الألف ولا الواو فيهما ضميرين إنما الألف تثنية الإسم والواو جمع الإسم وأنت إذا قلت : الزيدون قائمون فأنت بعد محتاج إلى أن يكون في نيتك ما يرجع إلى الزيدين ولو كانت الواو ضميرا والألف ضميرا والألف ضميرا لما جاز أن تقول القائمان الزيدان ولا القائمون الزيدون أو يكون جملة فيها ضميره والجمل المفيدة على ضربين : إما فعل وفاعل وإما مبتدأ وخبر أما الجملة التي هي مركبة من فعل وفاعل فنحو قولك : زيد ضربته وعمرو لقيت أخاه وبكر قام أبوه وأما الجملة التي هي مركبة من ابتداء وخبر فقولك : زيد أبوه منطلق وكل جملة تاتي بعد المبتدأ فحكمها في إعرابها كحكمها إذا لم يكن قبلها مبتدأ ألا ترى أن إعراب ( أبوه منطلق ) بعد قولك : بكر كإعرابه لو لم يكن بكر قبله فأبوه مرتفع بالإبتداء ( ومنطلق ) خبره فبكر مبتدأ أول وأبوه مبتدأ ثانٍ ومنطلق خبر الأب والأب ( منطلق ) خبر بكر
وموضع قولك : ( أبوه منطلق ) رفع ومعنى قولنا : الموضح أي لو وقع موقع الجملة اسم مفرد لكان مرفوعاً وقد يجوز أن يأتي مبتدأ بعد مبتدأ بعد مبتدأ وأخبار كثيرة بعد مبتدأ وهذه المبتدآت إذا كثروها فإنما هي شيء قاسه النحويون ليتدرب به المتعلمون ولا أعرف له في كلام العرب نظيراً فمن ذلك قولهم : زيد هند العمران منطلقان إليهما من أجله فزيد مبتدأ أول وهند مبتدأ ثان والعمران مبتدأ ثالث وهند وما بعدها خبر لها والعمران وما بعدهما خبر لهما وجميع ذلك خبر عن زيد والراجع الهاء في قولك من أجله والراجع إلى هند ( الهاء ) في قولك : إليها والمنطلقان هما العمران وهما الخبر عنها
وفيهما ضميرهما فكلما سئلت عنه من هذا فهذا أصله فإذا طال الحديث عن المبتدأ كل الطول وكان فيه ما يرجع ذكره إليه جاز نحو قولك : ( عبد الله قام رجل كان يتحدث مع زيد في داره ) صار جميع هذا خبراً عن ( عبد الله ) من أجل هذه الهاء التي رجعت إليه بقولك : ( في داره ) وموضع هذا الجملة كلها رفع من أجل أنك لو وضعت موضعها ( منطلقاً ) وما أشبهه ما كان إلا رفعاً فقد بان من جميع ما ذكرنا أنه قد يقع في خبر المبتدأ أحد أربعة أشياء الإسم أو الفعل أو الظرف أو الجملة
واعلم أن المبتدأ أو الخبر من جهة معرفتهما أو نكرتهما أربعة : الأول : أي يكون المبتدأ معرفة والخبر نكرة نحو : عمرو منطلق وهذا الذي ينبغي أن يكون عليه الكلام
الثاني : أن يكون المبتدأ معرفة والخبر معرفة نحو : زيد أخوك وأنت
تريد أنه أخوه من النسب وهذا ونحوه إنما يجوز إذا كان المخاطب يعرف زيداً على إنفراده ولا يعلم أنه أخوه لفرقة كانت بينهما أو لسبب آخر ويعلم أن له أخاً ولا يدري أنه زيد هذا فتقول له : أنت زيد أخوك أي زيد هذا الذي عرفته هو أخوك الذي كنت علمته فتكون الفائدة في اجتماعهما وذلك هو الذي استفاده المخاطب فمتى كان الخبر عن المعرفة معرفة فإنما الفائدة في مجموعهما فأما أن يكون يعرفهما مجتمعين وإن هذا هذا فذا كلام لا فائدة فيه فإن قال قائل : فأنت تقول : الله ربنا ومحمد نبينا وهذا معلوم معروف قيل له : هذا إنما هو معروف عندنا وعند المؤمنين وإنما نقوله رداً على الكفار وعلى من لا يقول به ولو لم يكن لنا مخالف على هذا القول لما قيل إلا في التعظيم والتحميد لطلب الثواب به فإن المسبح يسبح وليس يريد أن يفيد أحداً شيئاً وإنما يريد أن يتبرر ويتقرب إلى الله بقول الحق وبذلك أمرنا وتعبدنا وأصل ذلك الإعتراف بمن الله عليه بأن عرفه نفسه وفضله على من لا يعرف ذلك وأصل الكلام موضوع للفائدة وإن اتسعت المذاهب فيه ولكن لو قال قائل : النار حارة والثلج بارد لكان هذا كلاماً لا فائدة فيه وإن كان الخبر فيهما نكرة
الثالث : أن يكون المبتدأ نكرة والخبر نكرة وقد بينا أن الجائز من ذلك ما كانت فيه فائدة
فأما الكلام إذا كان منفياً فإن النكرة فيه حسنة لأن الفائدة فيه واقعة نحو قولك : ما أحد في الدار وما فيها رجل
الرابع : أن يكون المبتدأ نكرة والخبر معرفة وهذا قلب ما وضع عليه الكلام وإنما جاء مع الأشياء التي تدخل على المبتدأ والخبر فتعمل لضرورة الشاعر نحو قوله :
( كأنَّ سلافةً مِنْ بَيْتِ رَأْسٍ ... يَكُونُ مزاجَهَا عَسلٌ ومَاءُ )
فجعل إسم ( كان ) عسل وهو نكرة وجعل مزاجها الخبر وهو معرفة بالإِضافة إلى الضمير ومع ذلك فإنماحسن هذا عند قائله أن عسلاً وماءً نوعان وليسا كسائر النكرات التي تنفصل بالخلقة والعدد نحو : تمرة وجوزة والضمير الذي في ( مزاجها ) راجع إلى نكرة وهو قوله : سلافة فهو مثل قولك : خمرة ممزوجة بماء
وقد يعرض الحذف في المبتدأ وفي الخبر أيضاً لعلم المخاطب بما حذف والمحذوف على ثلاث جهات :
الأولى : حذف المبتدأ وإضماره إذا تقدم من ذكره ما يعلمه السامع فمن ذلك أن ترى جماعة يتوقعون الهلال فيقول القائل : الهلال والله أي : هذا الهلال فيحذف هذا وكذلك لو كنت منتظراً رجلاً فقيل : عمرو جاز على ما وصفت لك ومن ذلك : مررت برجل زيد لأنك لما قلت : مررت برجل أردت أن تبين من هو فكأنك قلت هو زيد وعلى هذا قوله تعالى : ( بشر من ذلكم النار )
الجهة الثانية : أن تحذف الخبر لعلم السامع فمن ذلك أن يقول القائل : ما بقي لكم أحد فتقول : زيد أو عمرو أي : زيد لنا ومنه لولا عبد الله لكان كذا وكذا فعبد الله مرتفع بالإبتداء والخبر محذوف وهو في مكان كذا وكذا فكأنه قال : لولا عبد الله بذلك المكان ولولا القتال كان في زمان كذا وكذا ولكن حذف حين كثر استعمالهم إياه وعرف المعنى فأما قوله : لكان ( كذا وكذا ) فحديث متعلق بحديث ( لولا ) وليس من المبتدا في شيء ومن ذلك : هل من طعام فموضع ( من طعام ) رفع كأنك قلت : هل طعام والمعنى : هل طعام في زمان أو مكان و ( من ) تزاد توكيداً مع حرف النفي وحرف الإستفهام إذا وليهما نكرة وسنذكرها في موضعها إن شاء الله
وقد أدخلوها على الفاعل والمفعول أيضاً كما أدخلوها على المبتدأ فقالوا : ما أتاني من رجل في موضع : ما أتاني رجل . ( وما وجدنا لأكثرهم من عهد ) و ( هل تحس منهم من أحد )
وكذلك قولك : هل من طعام وإنما هو : هل طعام فموضع ( من طعام ) رفع بالإبتداء
الجهة الثالثة : أنهم ربما حذفوا شيئاً من الخبر في الجمل وذلك المحذوف على ضربين : إما أن يكون فيه الضمير الراجع إلى المبتدأ نحو قولهم : السمن منوان بدرهم يريد : منه وإلا كان كلاماً غير جائز لأنه ليس فيه ما يرجع إلى الأول
وإما أن يكون المحذوف شيئا ليس فيه راجع ولكنه متصل بالكلام نحو قولك : الكر بستين درهماً فأمسكت عن ذكر الدرهم بعد ذكر الستين لعلم المخاطب
وتعتبر خبراً لمبتدأ بأنك متى سألت عن الخبر جاز أن يجاب بالمبتدأ لأنه يرجع إلى أنه هو هو في المعنى
ألا ترى أن القائل إذا قال : عمرو منطلق فقلت : من المنطلق قال : عمرو وكذلك إذا قال : عبد الله أخوك فقلت : من أخوك قال : عبد الله وكذلك لو قال : عبد الله قامت جاريته في دار أخيه فقلت : من الذي قامت جاريته في دار أخيه لقال : عبد الله وخبر المبتدأ يكون جواب ( ما ) واي وكيف وكم وأين ومتى يقول القائل : الدينار ما هو فتقول : حجر فتجيبه بالجنس ويقول الدينار أي الحجارة هو فتقول : ذهب فتجيبه بنوع من ذلك الجنس وهذا إنما يسأل عنه من سمع بالدينار ولم يعرفه
ويقول : الدينار كيف هو فتقول : مدور أصفر حسن منقوش ويقول : الدينار كم قيراطاً هو فتقول : الدينار عشرون قيراطاً فيقول : أين
هو فتقول : في بيت المال والكيس ونحو ذلك ولا يجوز أن تقول : الدينار متى هو وقد بينا أن ظروف الزمان لا تتضمن الجثث إلا على شرط الفائدة والتأول ولكن تقول : القتال متى هو فتقول : يوم كذا وكذا فأما إذا كان الخبر معرفة أو معهوداً فإنما يقع في جواب ( من وأي ) نحو قوله : زيد من هو والمعنى : أي الناس هو وأي القوم هو فتقول : أخوك المعروف أو أبو عمرو أي الذي من أمره كذا وتقول : هذا الحمار أي الحمير هو فتقول : الأسود المعروف بكذا وما أشبهه . واعلم : أن خبر المبتدأ إذا كان اسماً من أسماء الفاعلين وكان المبتدأ هو الفاعل في المعنى وكان جارياً عليه إلى جنبه أضمر فيه ما يرجع إليه وانستر الضمير نحو قولك : عمرو قائم وأنت منطلق فأنت وعمرو الفاعلان في المعنى لأن عمراً هو الذي قام وقائم جار على ( عمرو ) وموضوع إلى جانبه لم يحل بينه وبينه حائل فمتى كان الخبر بهذه الصفة لم يحتج إلى أن يظهر الضمير إلا مؤكداً فإن أردت التأكيد قلت : زيد قائم هو وإن لم ترد التأكيد فأنت مستغن عن ذلك وإنما احتمل ( ضارب وقائم ) وما أشبههما من أسماء الفاعلين ضمير الفاعل ورفع الأسماء التي تبنى عليه لمضارعته الفعل فأضمروا فيه كما أضمروا في الفعل إلا أن المشبه بالشيء ليس هو ذلك الشيء بعينه فضمنوه الضمير متى كان جارياً على الإسم الذي قبله وإنما يكون كذلك في ثلاثة مواضع : إما أن يكون خبراً لمبتدأ نحو قولك : عمرو منطلق كما ذكرنا أو يكون صفة نحو : مررت برجل قائم أو حالاً نحو : رأيت زيداً قائماً ففي اسم الفاعل ضمير في جميع هذه المواضع فإن وقع بعدها اسم ظاهر ارتفع ارتفاع الفاعل بفعله ومتى جرى اسم الفاعل على غير من هو له فليس يحتمل أن يكون فيه ضمير الفاعل كما يكون في الفعل لأن انستار ضمير الفاعل إنما هو للفعل
ولذلك بنيت لام ( فعل ) مع ضمير الفاعل المخاطب في ( فعلت ) والمخاطب والمخاطبة أيضاً في ( فعلتَ ) وفعلتِ كما بينا فيما مضى
فإن قلت : هند زيد ضاربته لم يكن بد من أن تقول : هي من أجل أن قولك : ( ضاربته ) ليس لزيد في الفعل نصيب وإنما الضرب كان من هند ولم يعد عليها شيء من ذكرها والفعل لها فإنما ( ضاربته ) خبر عن زيد وفاعله هند في المعنى ولم يجز إلا إظهار الضمير فقلت حينئذ هي مرتفعة ( بضاربته ) كما ترتفع هند إذا قلت : زيد ضاربته هند فالمكنى ها هنا بمنزلة الظاهر ولا يجوز أن تتضمن ( ضاربته ) ضمير الفاعل فإن أردت أن تثني قلت : الهندان الزيدان ضاربتهما هما لأن ( ضاربه ) ليس فيه ضمير الهندين إنما هو فعل فاعله المضمر هذا على قول من قال : أقائم أخواك فأما من قال : أكلوني البراغيث فيجعل في الفعل علامة التثنية والجمع ولم يرد الضمير ليدل على أن فاعله مثنى أو مجموع كما كانت التاء في ( فعلت هند ) فرقاً بين فعل المذكر والمؤنث فإنه يقول : الهندان الزيدان ضاربتاهما هما فإذا قلت : هند زيد ضاربته هي ( فهند ) مرتفعة بالإبتداء ( وزيد ) مبتدأ ثان وضاربته خبر زيد ( وهي ) هذه اللفظة مرتفعة بأنها فاعلة والفعل ( ضاربته ) والهاء ترجع إلى زيد وهي ترجع إلى هند والجملة خبر عنها فإن جعلت موضع فاعل يفعل فقلت : زيد هند تضربه أضمرت الفاعل ولم تظهره فهذا مما خالفت فيه الأسماء الأفعال ألا ترى أنك تقول : زيد أضربه وزيد تضربه . فإن
كان في موضع الفعل اسم الفاعل لم تقل إلا زيد ضاربه أنا أو أنت لأن في تصاريف الفعل ما يدل على المضمر ما هو كما قد ذكرنا فيما قد تقدم وليس ذلك في الأسماء وحكم اسم المفعول حكم اسم الفاعل تقول : زيد مضروب فتكون خبراً لزيد كما تكون ( ضارب ) ويكون فيه ضميره كما يكون في الفاعل فتقول : عمرو الجبة مكسوته إذ كان في ( مكسوته ) ضمير الجبة مستتراً فإن كان فيه ضمير ( عمرو ) لم يجز حتى تقول : عمرو الجبة مكسوها هو فحكم المفعول حكم الفاعل كما أن فُعِلَ ( كفَعَلَ ) في عمله وحق خبر المبتدأ إذا كان جملة أن يكون خبراً كاسمه يجوز فيه التصديق والتكذيب ولا يكون استفهاماً ولا أمراً ولا نهياً وما أشبه ذلك مما لا يقال فيه صدقت ولا كذبت ولكن العرب قد اتسعت في كلامها فقالت : زيد كم مرة رأيته فاستجازوا هذا لما كان زيدٌ في المعنى والحقيقة داخلاً في جملة ما استفهم عنه لأن الهاء هي زيدٌ وكذلك كل ما اتسعوا فيه من هذا الضرب
شرح الثالث من الأسماء المرتفعة وهو الفاعل :
الإسم الذي يرتفع بأنه فاعل هو الذي بنيته على الفعل الذي بني للفاعل
ويجعل الفعل حديثاً عنه مقدماً قبله كان فاعلاً في الحقيقة أو لم يكن
كقولك : جاء زيدٌ ومات عمروٌ وما أشبه ذلك ومعنى قولي : بنيته على الفعل الذي بني للفاعل أي : ذكرت الفعل قبل الإسم لأنك لو أتيت بالفعل بعد الإسم لأرتفع الإسم بالإبتداء وإنما قلت على الفعل الذي بني للفاعل لأفرق بينه وبين الفعل الذي بني للمفعول إذ كانوا قد فرقوا بينهما فجعلوا ( ضرب ) للفاعل مفتوح الفاء و ( ضرب ) للمفعول مضموم الفاء مكسور العين وقد جعل بينهما في جميع تصاريف الأفعال ماضيها ومستقبلها وثلاثيها ورباعيها وما فيه زائد منها فروق في الأبنية وهذا يبين لك في موضعه إن شاء الله
وإنما قلت : كان فاعلاً في الحقيقة أو لم يكن لأن الفعل ينقسم قسمين : فمنه حقيقي ومنه غير حقيقي والحقيقي ينقسم قسمين : أحدهما أن يكون الفعل لا يتعدى الفاعل إلى من سواه ولا يكون فيه دليل على مفعول نحو : قمت وقعدت والآخر أن يكون فعلاً وأصلاً إلى اسم بعد اسم الفاعل والفعل الواصل على ضربين : فضربٌ واصل مؤثر نحو : ضربت زيداً وقتلت بكراً والضرب الآخر واصل إلى الإسم فقط غير مؤثر فيه نحو : ذكرت زيداً ومدحت عمراً وهجوت بكراً فإن هذه تتعدى إلى الحي والميت والشاهد والغائب وإن كنت إنما تمدح الذات وتذمها إلا أنها غير مؤثرة
ومنها الأفعال الداخلة على الإبتداء والخبر وإنما تنبىء عن الفاعل بما هجس في نفسه أو تيقنه غير مؤثرة بمفعول ولكن أخبار الفاعل بما وقع عنده نحو : ظننت زيداً أخاك . وعلمت زيداً خير الناس
القسم الثاني : من القسمة الأولى : وهو الفعل الذي هو غير فعل حقيقي فهو على ثلاثة أضرب فالضرب الأول : أفعال مستعارة للإختصار وفيها بيان أن فاعليها في الحقيقة مفعولون نحو : مات زيدٌ وسقط الحائط ومرض بكر
والضرب الثاني : أفعال في اللفظ وليست بأفعال حقيقية وإنما تدل على الزمان فقط وذلك قولك : كان عبد الله أخاك وأصبح عبد الله عاقلاً ليست تخبر بفعل فعله إنما تخبر أن عبد الله أخوك فيما مضى وأن الصباح أتى عليه وهو عاقل
والضرب الثالث : أفعال منقولة يراد بها غير الفاعل الذي جعلت له نحو قولك : لا أرينك ها هنا فالنهي إنما هو للمتكلم كأنه ينهي نفسه في اللفظ وهو للمخاطب في المعنى
وتأويله : لا تكونن ها هنا فإن ( من ) حضرني رأيته ومثله قوله تعالى : ( ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) لم ينههم عن الموت في وقت لأن ذلك ليس المهم تقديمه وتأخيره ولكن معناه : كونوا على الإسلام
فإن الموت لا بد منه فمتى صادفكم صادفكم عليه وهذا تفسير أبي العباس رحمه الله
فالإسم الذي يرتفع بأنه فاعل هو والفعل جملة يستغني عليها
السكوت وتمت بها الفائدة للمخاطب ويتم الكلام به دون مفعول والمفعول فضلة في الكلام كالذي تقدم فأما الفعل فلا بد له من فاعل وما يقوم مقام الفاعل بمنزلة الإبتداء والخبر ألا ترى أنك إذا قلت : قام زيد فهو بمنزلة قولك : القائم زيد
فالفاعل رفع إذا أخبرت عنه أنه ( فَعَلَ ) وسيفعل أو هو في حال الفعل أو استفهمت عنه هل يكون فاعلاً أو نفيت أن يكون فاعلاً نحو : قام عبد الله ويقوم عبد الله . وسيقوم عبد الله
وفي الإستفهام : أيقوم عبد الله وفي الجزاء إِنْ يذهب زيد أذهب
وفي النفي ما ذهب زيد ولم يقم عمرو فالعامل هو الفعل على عمله أين نقلته لا يغيره عن عمله شيء أدخلت عليه ما يعمل فيه أو لم يعمل فسواء كان الفعل مجزوماً أو منصوباً أو مرفوعاً أو موجباً أو منفياً أو خبراً أو استخباراً هو في جميع هذه الأحوال لا بدّ من أن يرفع به الإسم الذي بني له فالأفعال كلها ماضيها وحاضرها ومستقبلها يرفع بها الفاعل بالصفة التي ذكرناها ومن الأفعال ما لا يتصرف في الأزمنة الثلاثة : الماضي والحاضر والمستقبل ويقتصر به على زمان واحد فلا يتصرف في جميع تصاريف الأفعال وقد أفردناها وقد أعملوا اسم الفعل وتأملت جميع ذلك فوجدت الأشياء التي ترتفع بها الأسماء ارتفاع الفاعل ستة أشياء : فعل متصرف وفعل غير متصرف وأسم الفاعل والصفة المشبهة باسم الفاعل والمصدر والأسماء التي سموا فيها الفعل في الأمر والنهي
فأما الأول : وهو الفعل المتصرف فنحو : قام وضربَ وتصرفه أنك تقول : يقوم وأقوم وتقوم
وضربَ ويضرب وأضرب وجميع تصاريف الأفعال جارية عليه ويشتق منه اسم الفاعل فتقول : ضارب
والثاني : وهو الفعل الذي هو غير متصرف نحو : ليس وعسى وفعل التعجب ونعم وبئس لا تقول منه يفعل ولا فاعل
ولا يزول عن بناءٍ واحدٍ وسنذكر هذه الأفعال بعد في مواضعها إن شاء الله
الثالث : وهو اسم الفاعل الجاري على فعله نحو قولك : قام يقوم فهو قائم : وضرب يضرب فهو ضارب وشرب يشرب فهو شارب فضارب وشارب وقائم أسماء الفاعلين
وقد بينا أن اسم الفاعل لا يحسن أن يعمل إلا أن يكون معتمدا على شيء قبله
وذكرنا ما يحسن من ذلك وما يقبح في باب خبر الإبتداء
والرابع : الصفة المشبهة باسم الفاعل نحو قولك : حسن وشديد تقول : الحسن وجه زيد و الشديد ساعدك وما أشبهه
والخامس : المصدر نحو قولك عجبت من ضرب زيدٍ عمرو وتأويله : من أن ضربَ زيداً عمرو
السادس : الأسماء التي يسمى الفعل بها في الأمر والنهي نحو قولهم : تراكها ومناعها يريدون : أترك وأمنع ورويد زيداً وهلم الثريد وصه ومه يريدون : اسكت وعليك زيداً فهذه الأسماء إنما جاءت في الأمر وتحفظ حفظاً ولا يقاس عليها وسنذكر جميع هذه الأسماء التي أوقعت موقع الفعل في بابها مشروحة إن شاء الله
شرح الرابع من الأسماء المرتفعة :
وهو المفعول الذي لم يسم من فَعَلَ به إذا كان الإسم مبنياً على فعلٍ بني للمفعول ولم يذكر من فعلَ به فهو رفع وذلك قولك : ضرب بكر وأخرج خالد واستخرجت الدراهم فبني الفعل للمفعول على ( فعل ) نحو :
( ضُرِبَ ) وأفعلَ نحو : ( أكرِمَ ) وتفعل نحو : تضرب ونفعل نحو : نضرب فخولف بينه وبين بناءِ الفعل الذي بني للفاعل لئلا يلتبس المفعول بالفاعل وارتفاع المفعول بالفعل الذي تحدثت به عنه كإرتفاع الفاعل إذا كان الكلام لا يتم إلا به ولا يستغني دونه ولذلك قلت : إذا كان مبنياً على فعلٍ بني للمفعول أردت به ما أردت في الفاعل من أن الكلام لا يتم إلا به وقلت ولم تذكر من فعل به لأنك لو ذكرت الفاعل ما كان المفعول إلا نصباً وإنما ارتفع لما زال الفاعل وقام مقامه
واعلم : أن الأفعال التي لا تتعدى لا يبنى منها فعل للمفعول لأن ذلك محال نحو : قام وجلس
لا يجوز أن تقول : قيم زيد ولا جلس عمرو إذ كنت إنما تبني الفعل للمفعول فإذا كان الفعل لا يتعدى إلى مفعول فمن أين لك مفعول تبنيه له فإن كان الفعل يتعدى إلى مفعول واحد نحو : ضربت زيداً أزلت الفاعل وقلت : ضرب زيد فصار المفعول يقوم مقام الفاعل وبقي الكلام بغير اسم منصوب لأن الذي كان منصوباً قد ارتفع وإن كان الفعل يتعدى إلى مفعولين نحو : أعطيت زيداً درهماً فرددته إلى ما لم يسم فاعله قلت : أُعطي زيد درهماً فقامَ أحد المفعولين مقامَ الفاعلِ وبقيَ منصوب واحد في الكلام وكذلك إن كان الفعل يتعدى إلى ثلاثة مفعولين نحو : أعلم الله زيداً بكراً خير الناس إذا رددته إلى ما لم يسم فاعله قلت : أعلم زيد بكراً خير الناس
فقام أحد المفعولين مقام الفاعل
وبقي في الكلام اسمان منصوبان فعلى هذا يجري هذا الباب
وإن كان الفعل لا يتعدى لم يجز ذلك فيه وإن كان يتعدى إلى مفعول واحدٍ بقي الفعل غير متعمدٍ وإن كان يتعدى إلى اثنين بقي الفعل متعدياً إلى واحد وإن كان يتعدى إلى ثلاثة بقي الفعل يتعدى إلى إثنين فعلى هذا فقس متى نقلت ( فعل ) الذي هو
للفاعل مبني إلى ( فُعِلَ ) الذي هو مبني للمفعول فانقص من المفعولات واحداً
وإذا نقلت ( فَعَلَت ) إلى أفعلتَ فإن كان الفعل لا يتعدى في ( فعلت ) فعدهِ إلى واحدٍ إذا نقلته إلى أفعلت تقول قمت فلا يتعدى إلى مفعول فإن قلت أفعلت منه قلت أقمت زيدا وإن كان الفعل يتعدى إلى مفعول واحد فنقلته من ( فعلت ) إلى ( أفعلت ) عديته إلى إثنين نحو قولك : رأيت الهلال هو متعدٍ إلى مفعول واحدٍ فإن قلت : أريت زيداً الهلال فيتعدى إلى إثنين وإن كان الفعل يتعدى إلى مفعولين فعلت إلى أفعلت تعدي إلى ثلاثة مفعولين تقول علمت بكراً خير الناس فإن قلت : أعلمتُ قلت : أعلمتُ بكراً زيداً خير الناس فتعدى إلى ثلاثة فهذان النقلان مختلفان إذا نقلت ( فعلتُ ) إلى ( فعلتُ ) نقصت من المعفولات واحداً أبداً وإذا نقلت ( فعلت ) إلى ( أفعلت ) زدت في المفعولات واحداً أبداً فتبين ذلك فإني إنما ذكرت ( فعّلتُ ) وإن لم يكن من هذا الباب لأن الأشياء تتضح بضمها إلى أضدادها واسم المفعول الجاري على فعله يعمل عمل الفعل نحو قولك : مضروب ومعط يعمل عمل أعطى ونعطي تقول : زيد مضروب أبوه فترفع ( وأبوه ) بمضروب كما كنت ترفعه بضاربٍ إذا قلت : زيد ضارب أبوه عمراً وتقول : زيد معط أبوه درهماً ( فترفع الأب ) ( بمعط ) وتقول : دفَع إلى زيد درهم فترفع الدرهم لأنك جررت زيداً فقام الدرهم مقام الفاعل ويجوز أن تقول : سير بزيد فتقيم ( بزيد ) مقام الفاعل فيكون موضعه رفعاً ولا يمنعه حرف الجر من ذلك كما قال : ما جاءني من أحد فأحد فاعل وإن كان مجروراً ( بمن ) وكذلك قوله تعالى : ( أن ينزل عليكم من خير من ربكم )
فإن أظهرت زيداً غير مجرور قلت : أعطى زيد درهماً وكسى زيد ثوباً فهذا وجه الكلام ويجوز أن تقول : أعطى زيداً درهم وكسى زيداً ثوب كما كان الدرهم والثوب مفعولين وكان لا يلبس على السامع الآخذ من المأخوذ جاز ولكن لو قلت : أعطى زيد عمراً وكان زيد هو الآخذ لم يجز أن تقول : أعطى عمرو زيداً لأن هذا يلبس إذ كان يجوز أن يكون كل واحد منهما آخذاً لصاحبه وهو لا يلبس في الدرهم وما أشبه لأن الدرهم لا يكون إلا مأخوذاً وإنما هذا مجاز والأول الوجه
ومن هذا : أدخل القبر زيداً وألبستُ الجبة زيداً ولا يجوز على هذا ضرب زيداً سوطٌ لأن سوطاً في موضع قولك : ضربةً بسوطٍ فهو مصدر
واعلم : أنه يجوز أن تقيم المصادر والظروف من الأزمنة والأمكنة مقام الفاعل في هذا الباب إذا جعلتها مفعولات على السعة وذلك نحو قولك : سير بزيد سير شديد وضرب من أجل زيد عشرون سوطاً واختلف به شهران ومضى به فرسخان وقد يجوز نصبهما على الموضع وإن كنت لم تقم المجرور مقام الفاعل أعني قولك : بزيد على أن تحذف ما يقوم مقام الفاعل وتضمره وذلك المحذوف على ضربين إما أن يكون الذي قام مقام الفعل مصدراً استغنى عن ذكره بدلالة الفعل عليه وإما أن يكون مكاناً دلَّ الفعل عليه أيضاً إذ كان الفعل لا يخلو من أن يكون في مكان كما أنه لا بد من أن يكون مشتقاً من مصدره نحو قولك : سير بزيد فرسخاً أضمرت السير لأن ( سير ) يدل على السير فكأنك قلت : سير السير بزيد فرسخاً ثم حذفت السير فلم تحتج إلى ذكره معه كما تقول : من كذب كان شراً له تريد : كان الكذب شراً له
ولم تذكر الكذب لأن ( كذب ) قد دل عليه ونظيره قوله تعالى : ( لا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم )
يعني البخل الذي دل عليه ( يبخلون ) وأما الذي يدل عليه الفعل من المكان فأن تضمر في
هذه المسألة ما يدل عليه ( سير ) نحو الطريق وما أشبهه من الأمكنة
ألا ترى أن السير لا بد أن يكون في طريق فكأنك قلت : سير عليه الطريق فرسخاً ثم حذفت لعلم المخاطب بما تعني فقد صارَ في ( سيرَ بزيدٍ ) ثلاثة أوجه : أجودها أن تقيم ( بزيد ) مقام الفاعل فيكون موضعه رفعاً وإن كان مجروراً في اللفظ وقد أريناك مثل ذلك
والوجه الثاني : الذي يليه في الجودة أن تريد المصدر فتقيمه مقام الفاعل وتحذفه
والوجه الثالث : وهو أبعدها أن تريد المكان فتقيمه مقام الفاعل وتحذفه
واعلم : أنك إذا قلت : سير يزيد سيراً فالوجه النصب في ( سير ) لأنك لم تفد بقولك ( سيراً ) شيئاً لم يكن في ( سير ) أكثر من التوكيد فإن وصفته فقلت : شديداً أو هيناً فالوجه الرفع لأنك لما نعته قربته من الأسماء وحدثت فيه فائدة لم تكن في ( سير ) والظروف بهذه المنزلة لو قلت : سير بزيد مكاناً أو يوماً لكان الوجه النصب فإن قلت : يوم كذا أو مكاناً بعيداً أو قريباً أختير الرفع والتقديم والتأخير والإِضمار والإِظهار في الإسم الذي قام مقام الفاعل ولم يسم من فعل به مثله في الفاعل يجوز فيه ما جاز في ذلك لا فرق بينهما في جميع ذلك وتقول : كيف أنت إذا نحى نحوك ونحوك على ما فسرنا فإن قلت : نحى قصدك فالإختيار عند قوم من النحويين النصب لمخالفة لفظ الفعل لفظ المصدر والمصادر والظروف من الزمان والمكان لا يجعل شيء منها مرفوعاً في هذا الباب حتى يقدر فيه أنه إذا كان
الفاعل معه أنه مفعول صحيح فحينئذ يجوز أن يقام مقام الفاعل إذا لم تذكر الفاعل
فأما الحال والتمييز فلا يجوز أن يجعل واحد منهما في محل الفاعل إذا قلت : سير بزيد قائماً أو تصبب بدن عمرو عرقاً لا يجوز أن تقيم ( قائماً وعرقاً ) مقام الفاعل لأنهما لا يكونان إلا نكرة فالفاعل وما قام مقامه يضمر كما يظهر والمضمر لا يكون إلا معرفة وكذلك المصدر الذي يكون علة لوقوع الشيء نحو : جئتك ابتغاء الخير لا يقوم مقام الفاعل ابتغاء الخير لأن المعنى لإبتغاء الخير ومن أجل ابتغاء الخير فإن أقمته مقام الفاعل زال ذلك المعنى وقد أجاز قوم في ( كان زيد قائماً ) أن يردوه إلى ما لم يسم فاعله فيقولون : كين قائم
قال أبو بكر : وهذا عندي لا يجوز من قبل أن ( كان ) فعل غير حقيقي وإنما يدخل على المبتدأ والخبر فالفاعل فيه غير فاعل في الحقيقة والمفعول غير مفعول على الصحة فليس فيه مفعول يقوم مقام الفاعل لأنهما غير متغايرين إذ كان إلى شيء واحد لأن الثاني هو الأول في المعنى
وقد نطق بما لم يسم فاعله في أحرف ولم ينطق فيها بتسمية الفاعل فقالوا : أنيخت الناقة وقد وضع زيد في تجارته ووكس وأغرى به وأولع به وما كان من نحو هذا مما أَخذ عنهم سماعاً وليس بباب يقاس عليه
شرح الخامس :
وهو المشبه بالفاعل في اللفظ : المشبه بالفاعل على ضربين : ضرب منه
ارتفع ( بكان وأخواتها ) وضرب آخر ارتفع بحروف شبهت ( بكان ) والفعل وأخوات ( كان ) : صار وأصبح وأمسى وظل وأضحى وما دام وما زال وليس وما أشبه ذلك مما يجيىء عبارة عن الزمان فقط وما كان في معناهن مما لفظه لفظ الفعل وتصاريفه تصاريف الفعل تقول : كان ويكون وسيكون وكائن فشبهوها بالفعل لذلك فأما مفارقتها للفعل الحقيقي فإن الفعل الحقيقي يدل على معنى وزمان نحو قولك : ضرب يدل على ما مضى من الزمان وعلى الضرب الواقع فيه وكان إنما يدل على ما مضى من الزمان فقط ( ويكون ) تدل على ما أنت فيه من الزمان وعلى ما يأتي فهي تدل على زمان فقط فأدخلوها على المبتدأ وخبره فرفعوا بها ما كان مبتدأ تشبيهاً بالفاعل ونصبوا بها الخبر تشبيهاً بالمفعول فقالوا : كان عبد الله أخاك كما قالوا : ضرب عبد الله أخاك إلا أن المفعول في ( كان ) لا بد من أن يكون هو الفاعل لأن أصله المبتدأ وخبره كما كان خبر المبتدأ لا بد من أن يكون هو المبتدأ فإذا قالوا ( كان زيد قائماً ) فإنما معناه : زيد قام فيما مضى من الزمان فإذا قالوا : أصبح عبد الله منطلقاً فإنما المعنى : أتى الصباح وعبد الله منطلق فهذا تشبيه لفظي وكثيراً ما يعملون الشيء عمل الشيء إذا أشبهه في اللفظ وإن لم يكن مثله في المعنى وسترى ذلك إن شاء الله فقد بان شبه ( كان وأخواتها ) بالفعل إذ كنت تقول : كان يكون وأصبح يصبح وأضحى ويضحى ودام يدوم وزال يزال فأما ليس فالدليل على أنها فعل وإن كانت لا تتصرف تصرف الفعل قولك : لست كما تقول : ضربت ولستما كضربتما ولسنا كضربنا ولسن كضربن
ولستن كضربتن وليسوا كضربوا ولسيت أمة الله ذاهبة كقولك : ضربت أمة الله زيداً
وإنما امتنعت من التصرف لأنك إذا قلت ( كان ) دللت على ما مضى وإذا قلت ( يكون ) دللت على ما هو فيه وعلى ما لم يقع وإذا قلت : ليس زيد قائماً الآن أو غداً أدت ذلك المعنى الذي في يكون فلما كانت تدل على ما يدل عليه المضارع استغني عن المضارع فيها ولذلك لم تبن بناء الأفعال التي هي من بنات الياء مثل باع وبات
وإذا اجتمع في هذا الباب معرفة ونكرة فاسم ( كان ) المعرفة كما كان ذلك في الإبتداء هو المبتدأ لا فرق بينهما في ذلك تقول : كان عمرو منطلقاً وكان بكر رجلاً عاقلاً وقد يكون الإسم معرفة والخبر معرفة كما كان ذلك في الإبتداء أيضاً تقول : كان عبد الله أخاك وكان أخوك عبد الله أيهما شئت جعلته اسم ( كان ) وجعلت الآخر خبراً لها والشعراء قد يضطرون فيجعلون الإسم نكرة والخبر معرفة لعلمهم أن المعنى يؤول إلى شيء واحد فمن ذلك قول حسان :
( كأنَّ سلافةً منْ بيت رأسٍ ... يكون مزاجَها عسَل وماءُ )
وقال القطامي :
( قفي قبل التفرقِ يا ضباعا ... ولا يك موقف منكِ الوداعا )
وقد مضى تفسير هذا وقد تخبر في هذا الباب بالنكرة عن النكرة إذا كان فيه فائدة وذلك قولك : ما كان أحد مثلك وليس أحد خيراً منك وما كان رجل قائماً مقامك وإنما صلح هذا هنا لأن قولك : ( رجل ) في موضع الجماعة إذا جعلوا رجلاً رجلاً يدلك على ذلك قولك : ما كان رجلان أفضل منهما
والمعول في هذا الباب وغيره على الفائدة كما كان في المبتدأ والخبر
فما كانت فيه فائدة فهو جائز فأنت إذا قلت : ليس فيها أحد فقد نفيت الواحد والإثنين وأكثر من ذلك ومثل هذا لا يقع في الإيجاب ونظير أحد عريب وكتيع وطوريء وديار قال الراجز :
( وبلدة ليس بها ديار ... )
ومن هذه الأسماء ما يقع بعد ( كل ) لعمومها تقول : يعلم هذا كل أحد وأما قول الشاعر :
( حتى ظهرت فما تخفى على أحدٍ ... إلا على أحدٍ لا يعرف القمرا )
فقد فسر هذا البيت على ضربين : أحدهما : أن يكون ( أحد ) في معنى واحد كأنه قال : إلا على واحد لا يعرف القمرا فأحد هذه هي التي تقع في قولك : أحد وعشرون وتكون على قولك ( أحد ) التي تقع في النفي فتجريه في هذا الموضع على الحكاية لتقديم ذكره إياه ونظير ذلك أن يقول القائل : أما في الدار أحد فتقول مجيباً بلى وأحد إنما هو حكاية للفظ ورد عليه وتقول : ما كان رجل صالح فمشبه زيداً في الدار إذا جعلت في الدار خبراً ومعنى هذا الكلام أن زيداً صالح فمشبهه مثله
فإن نصبت ( مشبهاً ) فقد ذممت زيداً أو أخبرت أن ما كان صالحاً غير تشبيه
فإذا قلت : ما كان أحد مثلك وما كان مثلك أحد فكلها نكرات لأن ( مثل وشبه ) يكن نكرات وإن أَضفن إلى المعارف لأنهن لا يخصصن شيئاً بعينه لأن الأشياء تتشابه من وجوه وتتنافى من وجوه فإن أردت ( بمثلك ) المعروف ( بشبهك ) خاصة كان معرفة كأخيك
وتقول : ما كان في الدار أحد مثل زيد إذا جعلت ( في الدار ) الخبر وإن جعلت ( في الدار ) لغواً نصبت المثل قال الله تعالى : ( ولم يكن له كفوا أحد )
والظروف يجوز أن يفصل بها بين ( كان ) وما عملت فيه لإشتمالها على الأشياء فتقديمها وهي ملغاة بمنزلة تأخيرها واعلم : أن جميع ما جاز في المبتدأ وخبره من التقديم والتأخير فهو جائز في ( كان ) إلا أن يفصل بينها وبين ما عملت فيه بما لم تعمل فيه فإن فصلت بظرف ملغى جاز فأما ما يجوز فقولك : كان منطلقاً عبد الله وكان منطلقاً اليوم عبد الله وكان أخاك صاحبنا وزيد كان قائماً غلامه والزيدان كان قائماً غلامهما تريد كان غلامهما قائماً وكذلك : أخوات ( كان ) قال الله تعالى ( وكان حقا علينا نصر المؤمنين )
وتقول : من كان أخاك إذا كانت ( من ) مرفوعة كأنك قلت : أزيد كان أخاك وتقول : من كان أخوك إذا كانت ( من ) منصوبة كأنك قلت : أزيداً كان أخوك وهذا كقولك : من ضرب أخاك ومن ضرب أخوك فما أجزته في المبتدأ والخبر من التقديم والتأخير فأجزه فيها ولكن لا تفصل بينها وبين ما عملت فيه بما لم تعمل فيه ولا تقل : كانت زيداً الحمى تأخذ ولا : كان غلامه زيد يضرب لا تجز هذا إذا كان ( زيد والحمى ) أسمين لكان
فإن أضمرت في ( كان ) الأمر أو الحديث أو القصة وما أشبه ذلك وهو الذي يقال له المجهول
كان ذلك المضمر اسم ( كان ) وكانت هذه الجملة خبرها فعلى ذلك يجوز كان زيداً الحمى تأخذ وعلى هذا أنشدوا :
( فَأَصْبَحُوا والنَّوى عَالي مُعَرّسِهم ... وَلَيَس كُلَّ الّنوى يَلقَى المَسَاكِين )
كأنه قال : وليس الخبر يلقى المساكين كل النوى ولكن هذا المضمر
لا يظهر وأصحابنا يجيزون : غلامه كان زيد يضرب فينصبون الغلام ( بيضرب ) ويقدمونه لأن كلَّ ما جاز أن يتقدم من الأخبار جاز تقديم مفعوله فلو قلت : غلامه ضرب زيد كان جيداً فكان هذا بمنزلة : ضرب زيد غلامه
ولو رفعت الغلام كان غير جائز لأنه إضمار قبل الذكر فلا يجوز أن ينوى به غيره فإن قال قائل : فأنت إذا نصبت فقد ذكرته قبل الإسم قيل له : إذا قدم ومعناه التأخير فإنما تقديره والنية فيه أن يكون مؤخراً وإذا كان في موضعه لم يجز أن تعني به غير موضعه ألا ترى أنك تقول : ضرب غلامه زيد لأن الغلام في المعنى مؤخراً والفاعل على الحقيقة قبل المفعول ولكن لو قلت : ضرب غلامه زيداً لم يجز لأن الغلام فاعل وهو في موضعه فلا يجوز أن تنوي به غير ذلك الموضع
وتقول : كان زيد قائماً أبوه وكان زيد منطلقة جارية يحبها والتقديم والتأخير في الأخبار المجملة بمنزلتها في الأخبار المفردة ما لم تفرقها تقول : أبوه منطلق كان زيد تريد كان زيد أبوه منطلق وقائمة جارية يحبها كان زيد تريد : كان زيد قائمة جارية يحبها
وفي داره ضرب عمرو خالداً كان زيد
فإن قلت : كان في داره زيد أبوه وأنت تريد : كان زيد في داره أبوه لم يجز لأن الظرف للأب فليس من كان في شيء وقد فصلت به بينها وبين خبرها ولو قلت : كان في داره أبوه زيد صلح لأنك قدمت الخبر بهيئته وعلى جملته فصار مثل قولك : كان منطلقاً زيد ومثل ذلك : كان زيداً أخواك يضربان هذا لا يجوز فإن قدمت : ( يضربان زيداً ) جاز وتجوز هذه المسألة إذا أضمرت في ( كان ) مجهولاً وتقول : زيد كان منطلقا أبوه فزيد مبتدأ وما بعده خبر له وفي ( كان ) ضمير زيد وهو اسمها ومنطلقاً أبوه ( خبره ) وإن شئت رفعت ( أبا ) ب ( كان ) وجعلت ( منطلقاً ) خبره وتقول : زيد منطلقاً أبوه كان تريد : زيد كان منطلقاً أبوه
مثل المسألة التي قبلها
وقال قوم : أبوه قائم كان ( زيد ) خطأ لأن ما لا تعمل فيه ( كان ) لا يتقدم قبل ( كان ) والقياس ما خبرتك به إذ كان قولك : أبوه قائم في موضع قولك : ( منطلقاً ) فهو بمنزلته فإذا لم يصح سماع الشيء عن العرب لُجىءَ فيه إلى القياس ولا يجيزون أيضاً : كان أبوه قائم زيد
وكان أبوه زيد أخوك وكان أبوه يقوم أخوك
هذا خطأ عندهم لتقديم المكنى على الظاهر
وهذا جائز عندنا لأنك تقدم المكنى على الظاهر في الحقيقة وقد مضى تفسير المكنى : أنه إذا كان في غير
موضعه وتقدم جاز تقدمه لأن النية فيه أن يكون متأخراً والذي لا يجوز عندنا أن يكون قد وقع في موقعه وفي مرتبته فحينئذ لا يجوز أن ينوى به غير موضعه ولأصول التقديم والتأخير موضع يذكر فيه إن شاء الله
ولا يحسن عندي أن تقول : ( آكلاً كان زيد طعامك ) من أجل أنك فرقت بين آكل وبين ما عمل فيه بعامل آخر ومع ذلك فيدخل لبس في بعض الكلام وإنما يحسن مثل هذا في الظروف نحو قولك : راغباً كان زيد فيك لإتساعهم في الظروف وأنهم جعلوا لها فضلاً على غيرها في هذا المعنى ولا أجيز أيضاً : آكلاً كان زيد أبوه طعامك أريد به : كان زيد آكلا أبوه طعامك للعلَّة التي ذكرت لك بل هو ها هنا أقبح لأنك فرقت بين ( آكل ) وبين ما أرتفع به وفي تلك المسألة إنما فرقت بينه وبين ما انتصب به والفاعل ملازم لا بد منه والمفعول فضلة وقوم لا يجيزون : كان خلفك أبوه زيد وهو جائز عندنا وقد مضى تفسيره ويقولون : لا يتقدم ( كان ) فعل ماضٍ ولا مستقبل
وما جاز أن يكون خبراً فالقياس لا يمنع من تقديمه إذا كانت الأخبار تقدم إلا أني لا أعلمه مسموعاً من العرب ولا
يتقدم خبر ( ليس ) قبلها لأنها لم تصرف تصرف ( كان ) لأنك لا تقول : منها يفعل ولا فاعل وقد شبهها بعض العرب ب ( ما ) فقال : ليس الطيب إلا المسك فرفع وهذا قليل فإذا أدخلت على ( ليس ) ألف الإستفهام كانت تقريراً ودخلها معنى الإيجاب فلم يجىء معها أحد لأن أحداً إنما يجوز مع حقيقة النفي لا تقول : أليس أحد في الدار لأن المعنى يؤول إلى قولك : أحد في الدار وأحد لا يستعمل في الواجب ولذلك لا يجوز أن تجيء إلا مع التقرير لا يجوز أن تقول فيها لأن المعنى يؤول إلى قولك : زيد إلا فيها وذا لا يكون كلاماً وقد أدخلوا الباء في خبر ( ليس ) توكيداً للنفي تقول : ألست بزيد ولست بقائم : وقالوا : أليس إنما قمت
ولا يجيء ( إنما ) إلا مع إدخال الألف كذا حكى وتقول : ليس عبد الله بحسن ولا كريماً فتعطف ( كريماً ) على ( بحسن ) لأن موضعه نصب وإنما تدخل الباء هنا تأكيداً للنفي
وتقول : ليس عبد الله بذاهب ولا خارج عمرو على أن تجعل عمراً ( مبتدأ ) وخارجاً خبره ولك أن تنصب فتقول : ليس عبد الله بذاهب ولا خارجاً عمرو على أنه معطوف على خبر ( ليس ) قبل الباء ولا يحسن ليس عبد الله بذاهب ولا خارج زيد فتجر بالباء ويرتفع زيد ب ( ليس ) لا يجوز هذا لأنك قد عطفت بالواو على عاملين وإنما تعطف حروف العطف على عامل واحد ولكن تقول : ليس زيد بخارج ولا ذاهب أَخوه فتجري ( ذاهباً ) على ( خارج )
وترفع الأخ ب ( ذاهب ) لأنه ملبس ب ( زيد ) وهو من سببه فكأنك قلت : ليس زيد ذاهب ولا خارج ولو حملت ( الأخ ) على ( ليس ) لم يجز من أجل أنك تعطف على عاملين على ( ليس ) وهي عاملة وعلى ( الباء ) وهي عاملة وقالوا : ما كان عبد الله ليقوم ولم يكن ليقوم فأدخلوا اللام مع النفي ولا يجوز هذا في أخوات ( كان )
ولا تقول : ما كان ليقوم وهذا يتبع فيه السماع
واعلم : أن خبر ( كان ) إذا كنيت عنه جاز أن يكون منفصلاً ومتصلاً والأصل أن يكون منفصلاً إذ كان أصله أنه خبر مبتدأ تقول : كنت إياه وكان إياي هذا الوجه لأن خبرها خبر ابتداء وحقه الإنفصال ويجوز كأنني وكنته كقولك : ( ضربني وضربته ) لأنها متصرفة تصرف الفعل فالأول استحسن للمعنى والثاني لتقديم اللفظ قال أبو الأسود :
( فإنْ لا يَكُنْهَا أَوْ تَكُنْهُ فإنَّهُ ... أَخُوها غَذَتهُ أُمهُ بِلِبَانِهَا )
و ( لكان ) ثلاثة مواضع : الأول : التي يكون لها اسم وخبر
الثاني : أن يكون بمعنى وقع وخلق فتكتفي بالإسم وحده ولا
تحتاج إلى خبر وذلك قولك : أنا أعرفه مذ كان زيد أي : مذ خلق وقد كان الأمر أي : وقع وكذلك أمسى وأصبح تكون مرة بمنزلة ( كان ) التي لها خبر ومرة بمنزلة استيقظ ونام فتكون أفعالاً تامة تدل على معان وأزمنة
ولا ينكر أن يكون لفظ واحد لها معنيان وأكثر فإن ذلك في لغتهم كثير
من ذلك قولهم وجدت عليه من الموجدة ووجدت يريدون
وجدان الضالة وهذا أكثر من أن يذكر هنا
الثالث : أن تكون توكيداً زائدة نحو قولك : زيد كان منطلق إنما معناه : زيد منطلق وجاز الغاؤها لإعتراضها بين المبتدأ والخبر
ذكر الضرب الثاني : وهو ما ارتفع بالحروف المشبهة بالأفعال
فمن ذلك ( ما ) وهي تجري مجرى ( ليس ) في لغة أهل الحجاز شبهت بها في النفي خاصة لأنها نفي كما أنها نفي يقولون : ما عمرو منطلقاً فإن خرج معنى الكلام إلى الإيجاب لم ينصبوا كقولك : ما زيد إلا منطلق وإن قدموا الخبر على الإسم رفعوا أيضاً فقالوا : ( ما منطلق زيد ) فتجتمع
اللغة الحجازية والتميمية فيهما معاً لأن بني تميم لا يعملونها في شيء ويدعون الكلام على ما كان عليه قبل النفي يعني الإبتداء فإذا قلت : ما يقوم زيد فنفيت ما في الحال حسن
فإن قلت : ما يقوم زيد غداً كان أقبح لأن هذا الموضع خصت به ( لا ) يعني نفي المستقبل
ولو قلت : ( ما قام زيد ) كان حسناً كأنه قال : ( قام ) فقلت أنت : ما قام فإن أخرت فقلت : ما زيد قام أو يقوم كان حسناً أيضاً وتقول : ما زيد بقائم فتدخل الباء كما أدخلتها في خبر ( ليس ) فيكون موضع ( بقائم ) نصباً فإن قدمت الخبر لم يجز لا تقول : ما بقائم زيد من أجل أن خبرها إذا كان منصوباً لم يتقدم والمجرور كالمنصوب ولو قلت : ما زيد بذاهب ولا بخارج أخوه : وأنت تريد أن تحمل ( الأخ ) على ما لم يكن كلاماً لأن ( ما ) لا تعمل في الإسم إذا قدم خبره وتقول : ما كل يوم مقيم فيه زيد ذاهب فيه عمرة منطلقاً فيه خالد تجعل ( مقيماً ) صفةً ( ليوم ) وذاهب فيه صفة ( لكل ) و ( منطلقاً ) موضع الخبر هذا على لغة أهل الحجاز وتقول : ما كل ليلة مقيماً فيها زيد وإذا قلت : ما طعامك زيد آكل وما فيك زيد راغب ترفع الخبر لا غير من أجل تقديم مفعوله فقد قدمته في التقدير لأن مرتبة العامل قبل المعمول فيه ملفوظاً به أو مقدراً وقوم
يجيزون إدخال الباء في هذه المسألة فيقولون : ما طعامك زيد بآكل وما فيك زيد براغب
إلا أنهم يرفعون الخبر إذا لم تدخل الباء ولا يجيزون نصب الخبر في هذه المسألة
وتقول : ما زيد قائماً بل قاعد لا غير لأن النفي نصبه ومن أجل النفي شبهت ( ما ) بليس فلا يكون بعد التحقيق إلا رفعاً وتقول زيد ما قام وزيد ما يقوم ولا يجوز : زيد ما قائماً ولا زيد ما قائم ولا زيد ما خلفك حتى تقول : ما هو قائماً وهو خلفك لأن ( ما ) حقها أن يستأنف بها ولا يجوز أن تضمر فيها إذ كانت حرفاً ليس بفعل وإنما يضمر في الأفعال ولا يجوز : طعامك ما زيد آكل أبوه على ما فسرت لك وقد حكي عن بعض من تقدم من الكوفيين إجازته ويجوز إدخال من على الإسم الذي بعدها إذا كان نكرةً تقول : ما من أحد في الدار وما من رجل فيها
ويجوز أن تقول : ما من رجل غيرك وغيرك بالرفع والجر ويكون موضع رجل رفعا قال الله تعالى : ( ما لكم من إله غيره ) وغيره على المعنى وعلى اللفظ
وإنما تدخل ( من ) في هذا الموضع لتدل على أنه قد نفى كل رجل وكل أحد
ولو قلت : ما رجل في الدار لجاز أن يكون فيها رجلان وأكثر وإذا قلت : ما من في الدار لم يجز أن يكون فيها أحد البتة
وقال الأخفش : إن شئت قلت وهو رديء : ما
ذاهبا إلا أخوك وما ذاهبا إلا جاريتك تريد : ما أحد ذاهباً وهذا رديء لا يحذف ( أحد ) وما أشبهه حتى يكون معه كلام نحو : ما منهما مات حتى رأيته يفعل كذا وكذا و ( مات ) في موضع نصب على مفعول ( ما ) في لغة أهل الحجاز وفي كتاب الله تعالى : ( وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به )
والمعنى : ما من أهل الكتاب أحد ( وإن منكم إلا واردها )
أي : وإن أحد منكم ومعنى : ( إن ) معنى : ( ما ) فقد بان أن في ( ما ) ثلاث لغات : ما زيد قائماً وما زيد بقائم وما زيد قائم والقرآن جاء بالنصب وبالباء ومما شبه من الحروف ب ( ليس ) ( لات ) شبهها بها أهل الحجاز وذلك مع الحين خاصة قال الله تعالى : ( ولات حين مناص ) قال سيبويه : تضمر فيها مرفوعاً قال : نظير ( لات ) في أنه لا يكون إلا مضمراً فيها ( ليس ) و ( لا يكون ) في الإستثناء إذا قلت : أتوني ليس زيداً ولا يكون
بشراً قال : وليست لات ك ( ليس ) في المخاطبة والإِخبار عن غائب تقول : لست وليسوا
وعبد الله ليس منطلقاً ولا تقول : عبد الله لات منطلقاً ولا قومك لاتوا منطلقين
قال : وزعموا : أن بعضهم قرأ : ولات حين مناص وهو عيسى بن عمر وهي قليلة كما قال بعضهم في قول سعيد بن مالك :
( مَنْ صَدَّ عَنْ نِيرانِهَا ... فَأَنَا ابْنُ قَيْسٍ لا بَراحُ )
فجعلها بمنزلة ( ليس ) قال : و ( لات ) بمنزلة ( لا ) في هذا الموضع في الرفع ولا يجاوز بها الحين يعني : إذا رفعت ما بعدها تشبيهاً ( بليس ) فلم يجاوز بها الحين أيضاً وأنها لا تعمل إلا في ( الحين ) رفعت أو
نصبت وقال الأخفش الصغير أبو الحسن سيعد بن مسعدة : إنها لا تعمل في القياس شيئاً
قال أبو بكر : والذي قال سيبويه : أنه يضمر في ( لات ) إن كان يريد أن يضمر فيها كما يضمر في الأفعال فلا يجوز لأنها حرف من الحروف والحروف لا يضمر فيها وإن كان يريد أنه حذف الإسم بعدها وأضمره المتكلم كما فعل في قوله في ( ما ) ما منهما مات أراد ( أحداً ) فحذف وهو يريده فجائز
وقوم يدخلون في باب ( كان ) عودة الفعل كقولك : لأن ضربته لتضربنه السيد الشريف وقولك : عهدي بزيد قائماً وهذا يذكر مع المحذوف والمحذوفات ومما شبه ايضاً بالفاعل في اللفظ أخبار الحروف التي تدخل على المبتدأ وخبره فتنصب الإسم وترفع الخبر وهي إن وأخواتها وسنذكرها مع ما ينصب وهذه الحروف أعني ( إن واخواتها ) خولف بين عملها وبين عمل الفعل بأن قدم فيها المنصوب على المرفوع
وإنما أعملوا ( ما ) على ( ليس ) لأن معناها معنى ليس لأنها نفي كما أنها نفى ومع ذلك فليس كل العرب يعملها عمل ( ليس ) إنما روي ذلك عن أهل الحجاز وكان حق ( ما ) أن لا تعمل شيئاً إذ كانت تدخل على الأسماء والأفعال ورأيناهم إنما أعملوا من الحروف في الأسماء ما لا يدخل على الأفعال وأعملوا منها في الأفعال ما لا يدخل على الأسماء
فأما ما يدخل على الأسماء والأفعال منها فألغوه من العمل وقد بين هذا فيما مضى وإذ قد ذكرنا ما يرتفع من الأسماء فكان
ما يرتفع منها بأنه مبتدأ وخبر ومبتدأ معنيان فقط لا يتشعب منهما فنون كما عرض في الفعل أن منه متصرفاً أو غير متصرف ومنه أسماء شبهت بالفعل وقد ذكرنا الفعل المتصرف فلنذكر الفعل الذي هو غير متصرف ثم نتبعه بالأسماء إن شاء الله
ذكر الفعل الذي لا يتصرف اعلم : أن كل فعل لزم بناء واحداً فهو غير متصرف وقد ذكرت أن التصرف أن يقال فيه فعل يفعل ويدخله تصاريف الفعل وغير المتصرف ما لم يكن كذلك فمن الأفعال التي لم تتصرف ولزمت بناءً واحداً فعل التعجب نحو : ما أحسن زيداً وأكرم بعمرو والفعلان المبنيان للحمد والذم وهما نعم وبئس
فهذه الأفعال وما جرى مجراها لا تتصرف ولا يدخلها حروف المضارعة ولا يبني منها اسم فاعل
شرح التعجب فعل التعجب على ضربين وهو منقول من بنات الثلاثة إما إلى أفعل ويبنى على الفتح لأنه ماض وإما إلى أفعل به ويبنى على الوقف لأنه على لفظ الأمر
فأما الضرب الأول : وهو أفعل يا هذا فلا بد من أن تلزمه ( ما ) تقول : ما أحسن زيداً وما أجمل خالداً وإنما لزم فعل التعجب لفظاً واحداً
ولم يصرف ليدل على التعجب ولولا ذلك لكان كسائر الأخبار لأنه خبر ويدل على أنه خبر أنه يجوز لك أن تقول فيه صدق أو كذب فإذا قلت : ما أحسن زيداً ف ( ما ) اسم مبتدأ وأحسن خبره وفيه ضمير الفاعل وزيد مفعول به و ( ما ) هنا اسم تام غير موصول فكأنك قلت : شيء حسن زيداً ولم تصف أن الذي حسنه شيء بعينه فلذلك لزمها أن تكون مبهمة غير مخصوصة كما قالوا : شيء جاءك أي : ما جاءك إلا شيء وكذلك : شر أهر ذا ناب أي : ما أهره إلا شر ونظير ذلك إني مما أن أفعل يريد : أني من الأمر أن أفعل فلما كان الأمر مجهولاً جعلت ( ما ) بغير صلة ولو وصلت لصار الإسم معلوماً وإنما لزمه الفعل الماضي وحده لأن التعجب إنما يكون مما وقع وثبت ليس مما يمكن أن يكون ويمكن أن لا يكون وإنما جاء هذا الفعل على ( أفعل ) نحو : أحسن وأجمل لأن فعل التعجب إنما يكون معفولاً من بنات الثلاثة فقط نحو : ضرب وعلم ومكث : لا يجوز غير ذلك نحو : ضرب زيد ثم تقول : ما أضربه وعلم ثم تقول : ما أعلمه ومكث ثم تقول : ما أمكثه فتنقله من فَعَلَ أو فَعِلَ أو فَعُلَ إلى ( أفعل يا هذا ) كما كنت تفعل هذا في غير التعجب ألا ترى أنك تقول : حسن زيد فإذا أخبرت أن فاعلاً فعل ذلك به قلت : حسن الله زيداً فصار الفاعل مفعولاً وقد بينت لك كيف ينقل ( فعَل ) إلى ( فعِل ) فيما مضى وإذا قلت : ما أحسن زيداً كان الأصل حسن زيد ثم نقلناه إلى ( فُعل ) فقلنا : شيء أحسن زيداً وجعلنا ( ما ) موضع شيء ولزم لفظاً واحداً ليدل على التعجب كما يفعل ذلك في الأمثال
فإن قال قائل فقد قالوا : ما أعطاه وهو من ( أعطى يعطي ) وما أولاه
بالخير قيل : هذا على حذف الزوائد لأن الأصل عطا يعطو إذا تناول وأعطى غيره إذا ناوله وكذلك ولي وأولى غيره وقال الأخفش : إذا قلت : ما أحسن زيداً ف ( ما ) : في موضع الذي وأحسن : زيداً صلتها والخبر محذوف واحتج من يقول هذا القول بقولك : حسبك لأن فيه معنى النهي ولم يؤت له بخبر وقد طعن على هذا القول : بأن الأخبار إنما تحذف إذا كان في الكلام ما يدل عليها وهذا الباب عندي يضارع باب ( كان وأخواتها ) من جهة أن الفاعل فيه ليس هو شيئاً غير المفعول ولهذا ذكره سيبويه بجانب باب ( كان وأخواتها ) إذ كان ( باب كان ) الفاعل فيه هو المفعول
فإن قال قائل : فما بال هذه الأفعال تصغر نحو : ما أُميلحه وأُحيسنه والفعل لا يصغر فالجواب في ذلك : أن هذه الأفعال لما لزمت موضعاً واحداً ولم تتصرف ضارعت الأسماء التي لا تزول إلى ( يفعل ) وغيره من الأمثلة فصغرت كما تصغر ونظير ذلك : دخول ألفات الوصل في الأسماء نحو : ابن واسم وامريءٍ وما أشبهه لما دخلها النقص الذي لا يوجد إلا في الأفعال والأفعال مخصوصة به فدخلت عليها ألفات الوصل لهذا السبب فأسكنت أوائلها للنقص وهذه الأسماء المنقوصة تعرفها إذا ذكرنا التصريف إن شاء الله
وقولك : ما أحسنني يعلمك أنه فعل ولو كان اسماً لكان ما أحسنني مثل ضاربي ألا ترى أنك لا تقول : ضاربني
والضرب الثاني : من التعجب : يا زيد أكرم بعمروٍ ويا هند أكرم بعمروٍ ويا رجلان أكرم بعمرو ويا هندان أكرم بعمرو وكذلك جماعة الرجال والنساء قال الله تعالى ( أسمع بهم وأبصر )
وإنما المعنى : ما أسمعهم وأبصرهم
وما أكرمه ولست تأمرهم أن يصنعوا به شيئاً فتثنيّ وتجمع وتؤنث وأفعل هو ( فَعَلَ ) لفظه لفظ الأمر في قطع ألفه وإسكان آخره ومعناه إذا قلت : أكرم بزيد وأحسن بزيد كرم زيد جداً وحسن زيد جداً
فقوله : بعمرو في موضع رفع كما قالوا : كفى بالله والمعنى : كفى الله لأنه لا فعل إلا بفاعل وزيد فاعله إذا قلت : أكرم بزيد لأن زيداً هو الذي كرم وإنما لزمت الباء هنا الفاعل لمعنى التعجب وليخالف لفظه لفظ سائر الأخبار فإن قال قائل : كيف صار هنا فاعلاً وهو في قولك : ما
أكرم زيداً مفعول قلنا : قد بينا أن الفاعل في هذا الباب ليس هو شيئاً غير المفعول ألا ترى أنك لو قلت : ما أحسن زيداً فقيل لك فسره وأوضح معناه وتقديره
قلت على ما قلناه : شيء حَسن زيداً وذلك الشيء الذي حسن زيداً ليس هو شيئاً غير زيد لأن الحسن لو حل في غيره لم يحسن هو به فكأن ذلك الشيء مثلاً وجهه أو عينه وإنما مثلت لك بوجهه وعينه تمثيلاً ولا يجوز التخصيص في هذا الباب لأنك لو خصصت شيئاً لزال التعجب لأنه إنما يراد به أن شيئاً قد فعل فيه هذا وخالطه لا يمكن تحديده ولا يعلم تلخيصه
والتعجب كله إنما هو مما لا يعرف سببه فأما ما عرف سببه فليس من شأن الناس أن يتعجبوا منه فكلما أبهم السبب كان أفخم وفي النفوس أعظم
واعلم : أن الأفعال التي لا يجوز أن تستعمل في التعجب على ضربين
الضرب الأول : الأفعال المشتقة من الألوان والعيوب
الضرب الآخر : ما زاد من الفعل على ثلاثة أحرف وسواء كانت الزيادة على الثلاثة أصلاً أو غير أصل
فأما الألوان والعيوب فنحو : الأحمر والأصفر والأعور والأحول وما أشبه ذلك لا تقول فيه : ما أحمره ولا ما أعوره قال الخليل رحمه الله : وذلك أنه ما كان من هذا لوناً أو عيباً فقد
ضارع الأسماء وصار خلقة كاليد والرجل والرأس ونحو ذلك فلا تقل فيه : ما أفعله كما لم تقل ما أيداه وما أرجله إنما تقول : ما أشد يده وما أشد رجله وقد اعتل النحويون بعلة أخرى فقالوا : إن الفعل منه على أفعل وإفعال نحو : أحمر وإحمار وأعور وإعوار وأحول وإحوال فإن قال قائل : فأنت تقول : قد عورت عينه وحولت : فقل على هذا : ما أعوره وما أحوله فإن ذلك غير جائز لأن هذا منقول من ( أفعل ) والدليل على ذلك صحة الواو والياء إذا قلت : عورت عينه وحولت ولو كان غير منقول لكان : حالت وعارت وهذا يبين في بابه إن شاء الله
وأما الضرب الثاني : وهو ما زاد من الفعل على ثلاثة أحرف نحو : دحرج وضارب واستخرج وانطلق واغدودن اغدودن الشعر : إذا تم وطال وافتقر وكل ما لم أذكره مما جاوز الثلاثة فهذا حكمه وإنما جاز : ما أعطاه وأولاه على حذف الزوائد وأنك رددته إلى الثلاثة
فإن قلت في افتقر : ما أفقره فحذفت الزوائد ورددته إلى ( فقر ) جاز وكذلك كل ما كان مثله
مما جاء اسم الفاعل منه على ( فعيل ) ألا ترى أنك تقول : رجل فقير وإنما جئت به على ( فقر ) كما تقول : كرم فهو كريم وظرف فهو ظريف ولكن تقول إذا أردت التعجب في هذه الأفعال الزائدة على ثلاثة أحرف كلها ما أشد دحرجته وما أشد استخراجه وما أقبح افتقاره ونحو ذلك
واعلم : أن كل ما قلت فيه : ما أفعله قلت فيه : أفعل به وهذا أفعل من هذا وما لم تقل فيه : ما أفعله لم تقل فيه : هذا أفعل من هذا ولا : أفعل به تقول : زيد أفضل من عمرو وأفضل بزيد كما تقول : ما أفضله
وتقول : ما أشد حمرته وما أحسن بياضه وتقول على هذا : أشدد ببياض زيد وزيد أشد بياضاً من فلان وهذا كله مجراه واحد لأن معناه المبالغة والتفضيل وقد أنشد بعض الناس :
( يَا لَيْتَني مِثْلُك في البَيَاضِ ... أبيضَ مِن أخت بني إبَاضِ )
قال أبو العباس : هذا معمول على فساد وليس البيت الشاذ والكلام المحفوظ بأدنى إسناد حجة على الأصل المجمع عليه في كلام ولا نحو ولا فقه وإنما يركن إلى هذا ضعفة أهل النحو ومن لا حجة معه وتأويل هذا وما أشبهه في الإِعراب كتأويل ضعفه أصحاب الحديث وأتباع القصاص في الفقه
فإن قال قائل فقد جاء في القرآن : ( ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا )
قيل : له في هذا جوابان : أحدهما : أن يكون من عمى القلب وإليه ينسب أكثر الضلال
فعلى هذا تقول : ما أعماه كما تقول : ما أحمقه
الوجه الآخر : أن يكون من عمى العين
فيكون قوله : ( فهو في الآخرة أعمى ) لا يراد به : أنه أعمى من كذا وكذا ولكنه فيها أعمى كما كان في الدنيا أعمى وهو في الآخرة أضل سبيلا
وكل فعل مزيد لا يتعب منه نحو قولك : ما أموته لمن مات إلا أن تريد : ما أموت قلبه فذلك جائزٌ
مسائل من هذا الباب تقول : ما أحسن وأجمل زيداً إن نصبت ( زيداً ) ب ( أجمل ) فإن نصبته
ب ( أحسن ) قلت : ما أحسن وأجمله زيداً تريد : ما أحسن زيدا وأجمله
وعلى هذا مذهب إعمال الفعل الأول وكذلك : ما أحسن وأجملهما أخويك وما أحسن وأجملهم أخوتك فهذا يبين لك أن أحسن وأجمل وما أشبه ذلك أفعال
وتقول : ما أحسن ما كان زيد فالرفع الوجه و ( ما ) الثانية في موضع نصب بالتعجب وتقدير ذلك ما أحسن كون زيد
تكون ( ما ) مع الفعل مصدراً إذاوصلت به كما تقول : ما أحسن ما صنع زيد أي : ما أحسن صنيع زيد و ( صنع زيد ) من صلة ( ما ) وتقول : ما كان أحسن زيداص وما كان أظرف أباك فتدخل ( كان ) ليعلم : أن ذلك وقع فيما مضى كما تقول : من كان ضرب زيداً تريد : من ضرب زيداً ( ومن كان يكلمك ) تريد : من يكلمك
( فكان ) تدخل في هذه المواضع وإن أُلغيت في الإِعراب لمعناها في المستقبل والماضي من عبارة الأفعال
وقد أجاز قوم من النحويين : ما أصبح أبردها وما أمسى أدفاها واحتجوا بأن : ( أصبح وأمسى ) من باب ( كان ) فهذا عندي : غير جائز ويفسد تشبيههم ما ظنوه : أن أمسى وأصبح أزمنة مؤقتة و ( كان ) ليست مؤقتة ولو جاز هذا في أصبح وأمسى لأنهما من باب ( كان ) لجاز ذلك في ( أضحى ) و ( صار ) و ( ما زال ) ولو قلت : ما أحسن عندك زيداً وما أجمل اليوم عبد الله لقبح لأن هذا الفعل لما لم يتصرف ولزم طريقة واحدة صار
حكمه حكم الأسماء فيصغر تصغير الأسماء ويصحح المعتل منه تصحيح الأسماء تقول : ما أقوم زيداً وما أبيعه شبهوه بالأسماء ألا ترى أنك تقول في الفعل : أقام عبد الله زيداً فإن كان اسماً قلت : هذا أقوم من هذا
وتقول : ما أحسن ما كان زيدٌ وأجمله وما أحسن ما كانت هند وأجمله لأن المعنى ما أحسن كون هندٍ وأجمله فالهاء للكون ولو قلت : وأجملها لجاز على أن تجعل ذلك لها
وإذا قلت : ما أحسن زيداً فرددت الفعل إلى ( نفسك ) قلت : ما أحسنني لأن ( أحسن ) فعل
وظهر المفعول بعده بالنون والياء ولا يجوز : ما أحسن رجلاً لأنه لا فائدة فيه ولو قلت : ما أحسن زيداً ورجلاً معه جاز ولولا قولك : ( معه ) لم يكن في الكلام فائدة وتقول : ما أقبح بالرجل أن يفعل كذا وكذا
فالرجل شائع وليس التعجب منه
إنما التعجب من قولك : أن يفعل كذا وكذا
ولو قلت : ما أحسن رجلاً إذا طلب ما عنده أعطاه كان هذا الكلام جائزاً ولكن التعجب وقع على رجل وإنما تريد التعجب من فعله
وإنما جاز ذلك لأن فعله به كان وهو المحمود عليه في الحقيقة والمذموم وإذا قلت : ما أكثر هبتك الدنانير وإطعامك للمساكين لكان حق هذا التعجب أن يكون قد وقع من الفعل والمفعول به لأن فعل التعجب للكثرة والتعظيم فإن أردت : أنّ هبته وإطعامه كثيران إلا أن الدنانير التي يهبها قليلة والمساكين الذين يطعمهم قليل جاز ووجه الكلام الأول . ولا يجوز أن تقول : ما
أحسن في الدار زيداً وما أقبح عندك زيداً لأن فعل للتعجب لا يتصرف وقد مضى هذا ولا يجوز : ما أحسن ما ليس زيداً
ولا ما أحسن ما زال زيد كما جاز لك ذلك في ( كان ) ولكن يجوز : ما أحسن ما ليس يذكرك زيدٌ وما أحسن ما لا يزال يذكرنا زيد وهذا مذهب البغداديين
ولا يجوز أن يتعدى فعل التعجب إلا إلى الذي هو فاعله في الحقيقة تقول : ما أضرب زيدا فزيدٌ في الحقيقة هو الضارب ولا يجوز أن تقول : ما أضرب زيداً عمراً ولكن لك أن تُدخل اللام فتقول : ما أضرب زيداً لعمرو
وفعل التعجب نظير قولك : هو أفعل من كذا
فما جاز فيه جاز فيه . وقد ذكرت هذا قبل وإنما أعدته : لأنه به يسير هذا الباب ويعتبر
ولا يجوز عندي أن يشتق فعل التعجب من ( كان ) التي هي عبارة عن الزمان فإذا اشتققت من ( كان ) التي هي بمعنى ( خلق ووقع ) جاز
وقوم يجيزون : ما أكون زيداً قائماً لأنه يقع في موضعه المستقبل والصفات ويعنون بالصفات ( في الدار ) وما أشبه ذلك من الظروف ويجيزون ما أظنني لزيد قائماً ويقوم ولا يجيزون ( قام ) لأنه قد مضى فهذا يدلك على أنهم إنما أرادوا ( بقائم ) ويقوم الحال
وتقول : أشدد به ولا يجوز الإِدغام وكذلك : أجود به وأطيب به لأنه مضارع للأسماء
وقد أجاز بعضهم : ما أعلمني بأنك قائم وأنك
قائم أجاز إدخال الباء وإخراجها مع ( أن ) وقال قوم : لا يتعجب مما فيه الألف واللام إلا أن يكون بتأويل جنسٍ
لا تقول : ما أحسن الرجل فإن قلت : ما أهيب الأسد جاز والذي أقول أنا في هذا : إنه إذا عرف الذي يشار إليه فالتعجب جائز
ولا يعمل فعل التعجب في مصدره وكذلك : أفعل منك لا تقول : عبد الله أفضل منك فضلاً وتقول : ما أحسنك وجهاً وأنظفك ثوباً لأنك تقول : هو أحسن منك وجهاً وأنظف منك ثوباً
وقد حكيت ألفاظ من أبواب مختلفة مستعملة في حال التعجب فمن ذلك : ما أنت من رجل تعجب وسبحان الله ولا إله إلا الله وكاليوم رجلاً وسبحان الله رجلاً ومن رجل والعظمة لله من رب وكفاك بزيد رجلاً
وحسبك بزيد رجلاً ومن رجل تعجب والباء دخلت دليل التعجب ولك أن تسقطها وترفع وقال قوم : إن أكثر الكلام : أعجب لزيد رجلا ( ولإيلاف قريش )
وإذا قلت : لله درك من رجل ورجلا كان إدخالها وإخراجها واحداً
قالوا : إذا قلت : إنك من رجل لعالم لم تسقط ( من )
لأنها دليل التعجب
وإذا قلت : ويل أمه رجلا ومن رجل فهو تعجب
وربما تعبجوا بالنداء تقول : يا طيبك من ليلة ويا حسنه رجلا ومن رجل
ومن ذلك قولهم : يا لك فارساً ويا لكما ويا للمرء
ولهذا موضع يذكر فيه
ومن ذلك قولهم : كرماً وصلفاً : قال سيبويه كأنه يقول ألزمك الله كرماً وأدام الله لك كرماً وألزمت صلفاً
ولكنهم حذفوا الفعل ها هنا لأنه صار بدلاً من قولك : أكرم به وأصلف به
باب نعم وبئس نِعْمَ وبِئسَ فعلان ماضيان كان أصلهما نِعَمَ وبِئسَ فكسرت الفاءان منهما من أجل حرفي الحلق وهما : العين في ( نِعَم ) والهمزة في ( بِئسَ ) فصار : نِعمَ وبِئسَ كما تقول : شهد فتكسر الشين من أجل إنكسار الهاء ثم أسكنوا لها العين من ( نَعْمَ ) والهمزة من ( بئس ) كما يسكنون الهاء من شهد فيقولون شهِد فقالوا : نِعْمَ وبِئسَ ولذكر حروف الحلق إذا كن عينات مكسورات وكسر الفاء لها والتسكين لعين الفعل موضع آخر ففي نعم أربع لغات : نَعِمَ ونِعِمَ ونِعْمَ ونَعْمَ فنعم وبئسَ وما كان في معناهما إنما يقع للجنس ويجيئان لحمد وذم وهما يشبهان التعجب في المعنى وترك التصرف وهما يجيئان على ضربين :
فضرب : يرفع الأسماء الظاهرة المعرفة بالألف واللام على معنى الجنس ثم يذكر بعد ذلك الإسم المحمود أو المذموم
الضرب الثاني : أن تضمر فيها المرفوع وهو اسم الفاعل وتفسره بنكرة منصوبة
أما الظاهر فنحو قولك : نعم الرجل زيداً وبئس الرجل عبد الله ونعم الدار دارك فارتفع الرجل والدار بنعم وبئس لأنهما فعلان يرتفع بهما فاعلاهما
أما زيد : فإن رفعه على ضربين :
أحدهما : أنك لما قلت : نِعم الرجل فكأن معناه محمود في الرجال وقلت : زيد ليعلم من الذي أثنى عليه فكأنه قيل لك : من هذا المحمود قلت : هو زيد
والوجه الآخر : أن تكون أردت التقديم فأخرته فيكون حينئذ مرفوعاً بالإبتداء ويكون ( نعم ) وما عملت فيه خبره وليس الرجل في هذا الباب واحداً بعينه إنما هو كما تقول : أنا أفرق الأسد والذئب لست تريد واحداً منهما بعينه إنما تريد : هذين الجنسين
قال الله تعالى : ( والعصر إن الإنسان لفي خسر )
فهذا واقع على الجنسين يبين ذلك قوله : ( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات )
وما أضيف إلى الألف واللام بمنزلة ما فيه الألف واللام وذلك قولك : نعم أخو العشيرة أنت وبئس صاحب الدار عبد الله
ويجوز : نعم القائم أنت ونعم الضارب زيداً أنت ولا يجوز : نعم
الذي قام أنت ولا نعم الذي ضرب زيداً أنت من أجل أن الذي بصلتهِ مقصود إليه بعينه
قال أبو العباس رحمه الله : فإن جاءت بمعنى الجنس كقوله تعالى : ( والذي جاء بالصدق وصدق به ) ن فإن نعم وبئس تدخلان على ( الذي ) في هذا المعنى والمذهب
فهذا الذي قاله قياس إلا أني وجدت جميع ما تدخل عليه نعم وبئس فترفعه وفيه الألف واللام فله نكرة تنصبه نعم وبئس إذا فقد المرفوع و ( الذي ) ليست لها نكرة البتة تنصبها
ولا يجوز أن تقول : زيد نعم الرجل والرجل غير زيد لأنه خبر عنه وليس هذا بمنزلة قولك : زيد قام الرجل لأن معنى ( نعم الرجل ) : محمود في الرجال كما أنك إذا قلت : زيد فاره العبد لم تعن من العبيد إلا ما كان له ولولا ذلك لم يكن فاره خبراً له
فإن زعم زاعم : أن قولك : نعم الرجل زيد إنما زيد بدل من
الرجل يرتفع بما ارتفع به كقولك : مررت بأخيك زيد وجاءني الرجل عبد الله قيل له : إن قولك : جاءني الرجل عبد الله إنما تقديره : إذا طرحت ( الرجل ) جاءني عبد الله فقل : نعم زيد لأنك تزعم أنه مرتفع بنعم وهذا محال لأن الرجل لست تقصد به إلى واحد بعينه
فإن كان الإسم الذي دخلت عليه ( نعم ) مؤنثاً أدخلت التاء في نعم وبئس فقلت : نعمت المرأة هند ونعمت المرأتان الهندان وبئست المرأة هند وبئست المرأتان الهندان وإن شئت ألقيت التاء فقلت : نعم المرأة وبئس المرأة وتقول : هذه الدار نعمت البلد لأنك عنيت بالبلد : داراً وكذلك : هذا البلد نعم الدار لأن قصدت إلى البلد
وقال قوم : كل ما لم تقع عليه ( أي ) لم توله نعم لا تقول : نعم أفضل الرجلين أخوك ولا نعم أفضل رجل أخوك لأنك لا تقول : أي أفضل الرجلين أخوك لأنه مدح والمدح لا يقع على مدح
فأما الضرب الثاني : فأن تضمر فيها مرفوعاً يفسره ما بعده وذلك قولهم : نعم رجلاً أنت ونعم دابة دابتك وبئس في الدار رجلاً أنت ففي ( نعم وبئس ) مضمر يفسره ما بعده والمضمر ( الرجل ) استغنى عنه بالنكرة المنصوبة التي فسرته لأن كل مبهم من الأعداد وغيرها إنما تفسره النكرة المنصوبة
واعلم : أنهم لا يضمرون شيئاً قبل ذكره إلا على شريطة التفسير وإنما خصوا به أبواباً بعينها
وحق المضمر أن يكون بعد المذكور
ويوضح لك أن نعم وبئس فعلان أنك تقول : نعم الرجل كما تقول : قام الرجل ونعمت المرأة كما تقول : قامت المرأة والنحويون يدخلون ( حبذا زيد ) في هذا
الباب من أجل أن تأويلها حب الشيء زيد لأن ذا اسم مبهم يقع على كل شيء ثم جعلت ( حب وذا اسماً فصار مبتدأً أو لزم طريقة واحدة تقول : حبذا عبد الله وحبذا أمة الله )
ولا يجوز حبذه لأنهما جعلا بمنزلة اسم واحد في معنى المدح فانتقلا عما كانا عليه كما يكون ذلك في الأمثال نحو : ( أطري فإنك ناعلة )
فأنت تقول ذلك للرجل والمرأة لأنك تريد إذا خاطبت رجلاً : أنت عندي بمنزلة التي قيل لها ذلك
وكذلك جميع الأمثال إنما تحكي ألفاظها كما جرت وقت جرت
وما كان مثل : كرم رجلاً زيد ! وشرف رجلاً زيد ! إذا تعجبت فهو مثل : نعم رجلاً زيد لأنك إنما تمدح وتذم وأنت متعجب
ومن ذلك قول الله سبحانه : ( ساء مثلاً القوم الذين كذبوا ) وقوله : ( كبرت كلمة تخرج من أفواههم )
وقال قوم : لك أن تذهب بسائر الأفعال إلى مذهب ( نعم وبئس ) فتحولها إلى ( فعل ) فتقول : علم الرجل زيد وضربت اليد يده وجاد الثوب ثوبه وطاب الطعام طعامه وقضى الرجل زيد ودعا الرجل زيد وقد حكي عن الكسائي : أنه كان
يقول في هذا : قضو الرجل ودعو الرجل
وهو عندي قياس وذكروا أنه شذ مع هذا الباب ثلاثة أحرف سمعت وهي : سمع وعلم وجهل
وقالوا : المضاعف تتركه مفتوحاً وتنوي به فَعَلَ يَفْعَلُ نحو : خف يخف
وتقول : صم الرجل زيد وقالوا : كل ما كان بمعنى : نعم وبئس يجوز نقل وسطه إلى أوله
وإن شئت تركت أوله على حاله وسكنت وسطه فتقول ظُرْفَ الرجل زيد وظَرُفَ الرجل نقلت ضم العين إلى الفاء
وإن شئت تركت أوله على حاله وسكنت وسطه فتقول : ظَرْفَ الرجل زيد كما قال :
( وحُبَّ بها مَقْتُولَةً حين تُقْتَلُ ... )
وحُبَّ أيضاً فإذا لم يكن بمعنى نعم وبئس لم ينقل وسطه إلى أوله
مسائل من هذا الباب أعلم : أنه لا يجوز أن تقول : قومك نعموا أصحاباً ولا قومك بئسوا أصحاباً ولا أخواك نعما رجلين ولا بئسا رجلين
وإذا قلت : نعم الرجل رجلاً زيد فقولك : ( رجلاً ) توكيد لأنه مستغنى عنه بذكر الرجل أولاً وهو بمنزلة قولك : عندي من الدراهم عشرون درهماً وتقول : نعم الرجلان أخواك ونعم رجلين أخواك وبئس الرجلان أخواك وبئس رجلين أخواك وتقول : ما عبد الله نعم الرجل ولا قريباً من ذلك عطفت ( قريباً ) على ( نعم ) لأن موضعها نصب لأنها خبر ( ما )
وتقول : ما نعم الرجل عبد الله ولا قريب من ذلك فترفع بالرجل ب ( نعم ) وعبد الله بالإبتداء ونعم الرجل : خبر الإبتداء وهو خبر مقدم فلم تعمل ( ما ) لأنك إذا فرقت بين ( ما ) وبين الإسم لم تعمل في شيء ورفعت ( قريباً ) لأنك عطفته على ( نعم ) ونعم في موضع رفع لأنه خبر مقدم ولا يجيز أحد من النحويين : نعم زيد الرجل وقوم يجيزون : نعم زيد رجلاً ويحتجون بقوله : ( وحسن أولئك رفيقا )
وحسن ليس كنعم
وللمتأول أن يتأول غير ما قالوا : لأنه فعل يتصرف
وتقول : نعم القوم الزيدون ونعم رجالاً الزيدون والزيدون نعم القوم والزيدون نعم قوماً وقوم يجيزون : الزيدون نعموا قوماً
وهو غير جائز عندنا لما أخبرتك به من حكم نعم وصفة ما تعمل فيه
ويدخلون ال ( ظن ) و ( كان ) فيقولون : نعم الرجل كان زيد ترفع زيداً ب ( كان ) ونعم الرجل خبر ( كان ) وهذا كلام صحيح وكذلك : نعم الرجل ظننت زيداً تريد : كان زيد نعم الرجل وظننت زيدا نعم الرجل
وكان الكسائي يجيز : نعم الرجل يقوم وقام عندك فيضمر يريد : نعم الرجل رجل عندك ونعم الرجل رجل قام ويقوم ولا يجيزه مع المنصوب لا يقول : نعم رجلاً قام ويقوم
قال أبو بكر : وهذا عندي لا يجوز من قبل أن الفعل لا يجوز أن يقوم مقام الإسم وإنما تقيم من الصفات مقام الأسماء الصفات التي هي أسماء صفات يدخل عليها ما يدخل على الأسماء والفعل إذا وصفنا به فإنما هو شيء وضع في غير موضعه يقوم مقام الصفة للنكرة وإقامتهم الصفة مقام الإسم اتساع في اللغة
وقد يستقبح ذلك في مواضع
فكيف تقيم الفعل مقام الإسم وإنما يقوم مقام الصفة وإن جاء من هذه شيء شذ عن القياس فلا ينبغي أن يقاس عليه
بل نقوله فيما قالوه فقط
وتقول : نعم بك كفيلاً زيد كما قال تعالى : ( بئس للظالمين بدلا ) ويجيز الكسائي : نعم فيك الراغب زيد ولا أعرفه مسموعاً من كلام العرب
فمن قدر أن ( فيك ) من صلة الراغب فهذا لا يجوز البتة ولا تأويل له لأنه ليس له أن يقدم الصلة على الموصول
فإن قال : أجعل ( فيك ) تبيناً وأقدمه كما قال : ( بئس للظالمين بدلا ) قيل له : هذا أقرب إلى الصواب إلا أن الفرق بين المسألتين أنك إذا قلت : نعم فيك الراغب زيد فقد فصلت بين الفعل والفاعل ونعم وبئس ليستا كسائر الأفعال لأنهما لا تتصرفان
وإذا قلت : بئس في الدار رجلاً زيد
الفاعل مضمر في ( بئس ) وإنما جئت برجل مفسراً فبين المسألتين فرق
وهذا الأشياء التي جعلت كالأمثال لا ينبغي أن تستجيز فيها إلا ما أجازوه ولا يجوز عندي : نعم طعامك آكلاً زيد من أجل أن الصفة إذا قامت مقام الموصوف لم يجز أن تكون بمنزلة الفعل الذي تتقدم عليه ما عمل فيه وكما لا يجوز أن تقول : نعم طعامك رجلاً آكلاً زيد
فتعمل الصفة فيما قبل الموصوف فكذلك إذا أقمت ( آكلاً ) مقام رجل كان حكمه حكمَهُ
وتقول : نعم غلام الرجل زيد ونعم غلام رجل زيد فما أضفته
إلى الألف واللام بمنزلة الألف واللام وما أضفته إلى النكرة بمنزلة النكرة
وتقول : نعم العمر عمر بن الخطاب وبئس الحجاج حجاج بن يوسف تجعل العمر جنساً لكل من له هذا الإسم وكذلك الحجاج
ولا تقول : نعم الرجل وصاحباً أخوك ولا نعم صاحباً والرجل أخوك من أجل أن نعم إذا نصبت تضمنت مرفوعاً مضمراً فيها وفي المسألة مرفوع ظاهر فيستحيل هذا ولا يجوز توكيد المرفوع ب ( نعم )
قالوا : وقد جاء في الشعر منعوتاً لزهير :
( نِعْمَ الفَتَى المُرِّيُّ أَنْتَ إِذَا هُمُ ... حَضَرُوا لَدَى الحُجُرَاتِ نَارَ المَوقِدِ )
وهذا يجوز أن يكون بدلاً غير نعت فكأنه قال : نعم المري أنت وقد حكى قوم على جهة الشذوذ : نعم هم قوماً هم
وليس هذا مما يعرج عليه وقال الأخفش : حبذا ترفع الأسماء وتنصب الخبر إذا كان نكرة خاصة تقول : حبذا عبد الله رجلاً وحبذا أخوك قائماً
قال : وإنما تنصب الخبر إذا كان نكرة لأنه حال قال : وتقول : حبذا عبد الله
أخونا فأخونا رفع لأنك وصفت معرفة بمعرفة وإذا وصلت ب ( ما ) قلت : نعماً زيد ونعماً أخوك ونعماً أخوتك وصار بمنزلة حبذاء أخوتك
وتقول : نعم ما صنعت ونعم ما أعجبك
قال ناس إذا قلت : مررت برجل كفاك رجلاً
وجدت ( كفاك ) في كل وجه وكانت بمنزلة ( نعم ) تقول : مررت بقوم كفاك قوماً وكفاك من قوم وكفوك قوماً وكفوك من قوم فإن جئت بالباء والهاء وجدت به لا غير تقول مررت بقوم كفاك بهم قوما
وكذلك : مررت بقوم نعم بهم قوماً وإن أسقطت الباء والهاء قلت : نعموا قوما ونعم قوماً ولا ينبغي أن ترد ( كفاك ) إلى الإستقبال ولا إلى اسم الفاعل
قال أبو بكر : قد ذكرت الفعل المتصرف والفعل غير المتصرف وبقي الأسماء التي تعمل عمل الفعل ونحن نتبعها بها إن شاء الله
باب الأسماء التي أعملت عمل الفعل وهي تنقسم أربعة أقسام :
فالأول : منها اسم الفاعل والمفعول به
والثاني : الصفة المشبهة باسم الفاعل
والثالث : المصدر الذي صدرت عنه الأفعال واشتقت منه
والرابع : أسماء سمّوا الأفعال بها
شرح الأول : وهو اسم الفاعل والمفعول به :
اسم الفاعل الذي يعمل عمل الفعل هو الذي يجري على فعله ويطرد القياس فيه ويجوز أن تنعت به إسماً قبله نكرة كما تنعت بالفعل الذي اشتق منه ذلك الإسم
ويذكر ويؤنث وتدخله الألف واللام ويجمع بالواو والنون كالفعل إذا قلت : يفعلون نحو : ضارب وآكل وقاتل يجري على : يضرب فهو ضارب
ويقتل فهو قاتل ويأكل فهو آكل
وكل اسم فاعل فهو يجري مجرى مضارعه ثلاثياً كان أو رباعياً مزيداً كان فيه أو غير مزيد فمكرم جار على أكرم ومدحرج على دحرج ومستخرج على استخرج
وقد بيّنا أن الفعل المضارع أعرب لمضارعته الإسم إذ كان أصل الإِعراب للأسماء وأن اسم الفاعل أعمل بمضارعته الفعل إذ كان أصل الأعمال للأفعال وأصل الإِعراب للأسماء
وتقول : مررت برجل ضارب أبوه زيداً كما تقول : مررت برجل يضرب أبوه زيداً ومررت برجل مدحرج أبوه كما تقول : يدحرج أبوه وتقول : زيد مكرم الناس أخوه كما تقول : زيد يكرم الناس أخوه وزيد مستخرج أبوه عمراً كما تقول : يستخرج والمفعول يجري مجرى الفاعل كما كان ( يفعل ) يجري مجرى ( يفعل ) فتقول : زيد مضروب أبوه سوطاً وملبس ثوباً
وقد بينت لك هذا فيما مضى
ومما يجري مجرى ( فاعل ) مفعل نحو : قطع فهو مقطع وكسر فهو مكسر
يراد به المبالغة والتكثير
فمعناه معنى : ( فاعل ) إلا أنه مرة بعد مرة
وفعال يجري مجراه وإن لم يكن موازياً له لأن حق الرباعي وما زاد على الثلاثي أن يكون أول ( اسم ) الفاعل ميماً فالأصل في هذا ( مقطع ) والحق به قطّاع لأنه في معناه
ألا ترى أنك إذا قلت : زيدٌ قتال أو : جراح لم تقل هذا لمن فعل فعلة واحدة كما أنك لا تقل : قَتلت إلا وأنت تريد جماعة فمن ذلك قوله تعالى ( وغلقت الأبواب ) ولو كان باباً واحداً لم يجز فيه إلا أن يكون مرة بعد مرةٍ
ومن كلام العرب : أما
العسل فأنت شرّاب ومثل ذلك ( فعول ) لأنك تريد به ما تريد ( بفَعَّال ) من المبالغة قال الشاعر :
( ضَروبٌ بنصلِ السيفِ سُوقَ سمانها ... إذا عَدِموا زاداً فإنك عاقر )
( وفِعالٌ ) نحو ( مِطْعان ومِطْعام ) لأنه في التكثير بمنزلة ما ذكرنا
ومن كلام العرب : أنه لمنحاز بوائكها
وقد أجرى سيبويه : ( فعيلاً ) ( كرحيم ) و ( عليم ) هذا المجرى وقال : معنى ذلك المبالغة وأباه النحويون من أجل أن ( فعيلاً ) بابِه أن يكون صفة لازمة للذات وأن يجري على ( فَعُلَ ) نحو : ظَرُفَ فهو ظريف وَكرُمَ فهو كريم وشَرُفَ فهو شريف والقول عندي كما قالوا
وأجاز أيضاً مثل ذلك في ( فَعِلَ )
وأباح النحويون إلا أبا عمر الجرمي فإنه يجيزه على بعد فيقول : أنا فَرِقٌ زيداً وحَذِرٌ عمراً والمعنى : أنا فرق من زيد وحذر من عمرو
قال أبو العباس رحمه الله : لأن ( فَعِلَ ) الذي فاعله على لفظ ماضيه إنما معناه ما صار كالخلقة في الفاعل نحو : بَطِرَ زيد فهو بَطِرٌ وخَرِقَ فهو خَرقٌ
مسائل من هذا الباب تقول : هذا ضاربٌ زيداً إذا أردت ( بضاربٍ ) ما أنت فيه أو المستقبل كمعنى الفعل المضارع له
فإذا قلت هذا ضارب زيدٍ تريد به معنى المضي فهن بمعنى : غلام زيد وتقول : هذا ضارب زيدٍ أمس وهما ضاربا زيدٍ وهن ضاربو زيد وهو ضاربات أخيك
كل ذلك إذا أردت به معنى المضي لم يجز فيه إلا هذا يعني الإِضافة ( و ) الخفض لأنه بمنزلة قولك : غلام عبد الله وأخو زيد
ألا ترى أنك لو قلت : ( غلامٌ زيداً ) كان محالاً فكذلك اسم الفاعل إذا كان ماضياً لأنه اسم وليست فيه مضارعة للفعل لتحقيق الإِضافة وإن الأول يتعرَّف بالثاني
ولا يجوز أن تدخل عليه الألف واللام وتضيفه كما لم يجز ذلك في ( الغلام ) وإنما يعمل اسم الفاعل الذي يضارع ( يَفعَل ) كما أنه يعرب من الأفعال ما ضارع اسم الفاعل الذي يكون للحاضرِ والمستقبل
فأما اسم الفاعل الذي يكون لِمَا مضى
فلا يعمل كما أن الفعل الماضي لا يعرف وتقول : هؤلاءِ حواجُ بيت الله أمسِ ومررت برجل ضارباه الزيدانِ ومررت بقوم ملازموهم أخوتهم
فيثنى ويجمع لأنه اسم كما لو تقول : مررت برجل أخواه الزيدانِ وأصحابه وأخوته فإذا أردت اسم الفاعل الذي في معنى المضارع جرى مجرى الفعل في عمله وتقديره فقلت : مررت برجل ضاربه الزيدان كما تقول : مررت برجل يضربه الزيدان ومررت بقوم : ملازمهم أخوتهم كما تقول : مررت بقوم يلازمهم أخوتهم وتقول : أخوآك آكلان طعامك وقومك ضاربون زيداً وجواريك ضاربات عمراً
إذا أردت معنى المضارع
وتقول مررت برجل ضاربٌ زيداً الآن أو غداً إذا أردت الحال أو الإستقبال فتصفه به لأنه نكرة مثله أضفت أو لم تضف كما تقول : مررت برجل يضرب زيداً ولا تقول مررت برجل ضارب زيد أمس لأنه معرفة بالإِضافة دالاً على البدل
وتقول : مررت بزيد ضارباً عمراً إذا أردت الذي يجري مجرى الفعل
فإن أردت الأخرى أضفت فقلت : مررت بزيدٍ ضاربِ عمروٍ
على النعت والبدل لأنه معرفة كما تقول : مررت بزيدْ غلامِ عمروٍ
واعلم : أنه يجوز لك أن تحذف التنوين والنون من أسماء الفاعلين التي تجري مجرى الفعل
وتضيف استخفافاً ولكن لا يكون الإسم الذي تضيفه إلا نكرة وإن كان مضافاً إلى معرفة لأنك إنما حذفت النون استخفافاً فلما ذهبت النون عاقبها الإِضافة والمعنى معنى ثبات النون
فمن ذلك قول الله سبحانه : ( هديا بالغ الكعبة ) فلو لم يرد به التنوين لم يكن صفة
( لهدي ) وهو نكرة ( ومثله عارض ممطرنا ) ( وإنا مرسلوا الناقة فتنة لهم ) وأنشدوا :
( هلّ أنتَ باعِثُ دِينَارٍ لِحاجَتِنَا ... أو عبدَ رَبٍ أخا عونِ بنِ مِخراقِ )
أراد : بباعثٍ التنوين
ونصب الثاني لأنه أعمل فيه الأول مقدراً تنوينه كأنه قال : أو باعثٌ عبدَ ربٍ ولو جره على ما قبله كان عربياً جيداً إلا أن الثاني كلما تباعد من الأول قوي فيه النصب واختير
تقول : هذا معطي زيد الدراهم وعمراً الدنانير ولو قلت : هذا معطي زيد اليوم الدراهم وغدا عمراً الدنانير لم يصلح فيه إلا النصب لأنك لم تعطف الإسم على ما قبله وإنما أوقعت الواو على ( غد ) ففصل الظرف بين الواو وعمرو
فلم يقو الجر فإذا أعملته عمل الفعل جاز لأن الناصب
ينصب ما تباعد منه والجار ليس كذلك وتقول : هذا ضاربك وزيداً غداً لما لم يجز أن تعطف الظاهر على المضمر المجرور حملته على الفعل كقوله تعالى : ( إنا منجوك وأهلك ) كأنه قال : منجون أهلك ولم تعطف على الكاف والمجرورة
واعلم : أن اسم الفاعل إذا كان لما مضى فقلت : هذا ضاربُ زيدْ وعمروْ ومعطى زيدٍ الدراهمَ أمسِ وعمروٍ
جاز لك أن تنصب ( عمراً ) على المعنى لبعده من الجار فكأنك قلت : وأعطى عمراً فمن ذلك قوله سبحانه : ( وجاعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ) وتقول : مررت برجل قائم أبوه فترفع الأب وتجري ( قائماً ) على رجل لأنه نكرة وصفته بنكرة فصار كقولك مررت برجل يقوم أبوه
فإذا كانت الصفة لشيء من سببه فهي بمزلتها إذا خلصتْ لرجل
وتقول : زيداً عمروٌ ضاربٌ كما تقول : زيداً عمرو يضرب
فإذا قلت : عبد الله جاريتك أبوها ضارب فبين النحويين فيه خلاف فبعض يكره النصب لتباعد ما بين الكلام وبعض يجيزه
وأبو العباس يجيز ذلك ويقول : إنَّ ( ضارباً ) يجري مجرى الفعل في جميعِ أحواله في العلم في التقديم والتأخير
وإنما يكره الفصل بين العامل والمعمول فيه بما ليس منه نحو قولك : كانت
زيداً الحمى تأخذ
وتقول : هذا زيد ضارب أخيك إذا أردت المضي لأنك وصفت معرفة بمعرفة وتقول هذا زيد ضارباً أخاك غداً فتنصب ( ضارباً ) لأنه نكرة وصفت بها معرفة
وإذا كان الإسم الذي توقع عليه ( ضارباً ) وما أشبهه مضمراً أسقطت النون والتنوين منه فعل أو لم يفعل لأن المضمر وما قبله كالشيء الواحد فكرهوا زيادة التنوين مع هذا الزيادة نحو قولك : هذا ضاربي وضاربك وهذان ضارباك غداً ولو كان اسماً ظاهراً لقلت : ضاربان زيداً غداً ولكنك لما جئت بالمضمر أسقطت النون وأضفته وتقول : هذا الضارب زيداً أمس
وهذا الشاتم عمراً أمس لا يكون فيه غير ذلك لأن الألف واللام بمنزلة التنوين في معنى الإِضافة وأنت إذا نونت شيئاً من هذا نصبت ما بعده
وتقول : هؤلاء الضاربون زيداً وهذان الضاربان زيداً وإن شئت : ألقيت هذه النون وأضفت لأن النون لا تعاقب الألف واللام كما تعاقب الإِضافة ألا ترى أنك تقول : هذان الضاربان وهؤلاء الضاربون فلا تسقط النون والتنوين ليس كذلك لا تقول : هذا الضاربٌ بالتنوين فاعلم ولذلك جازت الإِضافة فيما تدخله النون مع الألف واللام نحو قولك : هما الضاربا زيد لأن النون تعاقب الإِضافة فكما تثبت النون مع الألف واللام كذلك تثبت الإِضافة مع الألف واللام ولا يجوز : هذا الضاربُ زيدٍ أمسِ فإن أضفته إلى ما فيه ألف ولام جاز كقولك : هو الضارب الرجل أمس تشبيهاً بالحسن الوجه فكل اسم فاعل كان في الحال أو لم يكن فَعَلَ بعدُ فهو نكرة نونت أو لم تنون
وإن كان قد فعل فأضفته إلى معرفة وإن أضفته إلى نكرة فهو نكرة
شرح الثاني : وهو الصفة المشبهة باسم الفاعل :
الصفات المشبهات بأسماء الفاعلين : هي أسماء ينعب بها كما ينعت بأسماء الفاعلين وتذكر وتؤنث ويدخلها الالف واللام وتجمع بالواو والنون كاسم الفاعل وأفعل التفضيل كما يجمع الضمير في الفعل فإذا اجتمع في النعت هذه الأشياء التي ذكرت أو بعضها شبهوها بأسماء الفاعلين وذلك نحو : حَسنٍ وشديد وما أشبه تقول : مررت برجل حسنٍ أبوه وشديد أبوه لأنك تقول : حسن وجهه وشديدٌ وشديدة فتذكر وتؤنث وتقول : الحسن والشديد فتدخل الألف واللام وتقول حسنون كما تقول : ضارب مضاربة وضاربون والضارب والضاربة فحسن يشبه بضارب وضارب يشبه بيضرب وضاربان مثل : يضربان وضاربون مثل يضربون ولا يجوز : مررت برجل خير منه أبوه على النعت ولكن ترفعه على الإبتداء والخبر وذلك لبعده من شبه الفعل والفاعل من أجل أن ( خير منه ) لا يؤنث ولا يذكر ولا تدخله الألف واللام ولا يثنى ولا يجمع فبعد من شبه الفاعل فكل ( أفعل منك ) بمنزلة : ( خير منك ) ( وشر منك ) وما لم يشبه اسم الفاعل فلا يجوز أن ترفع به إسماً ظاهراً البتة وأما الصفات كلها فهي ترفع المضمر وما كان بمنزلة المضمر ألا ترى أنك إذا قلت : مررت برجل أفضل منك ففي ( أفضل ) ضمير الرجل ولولا ذلك لم يكن صفة له
ولكن لا يجوز أن تقول : مررت برجل أفضل منك أبوه لبعده من شبه اسم الفاعل
والفعل ولكن لو قلت : مررت برجل حسن أبوه وشديد أبوه وبرجل قاعد عمرو إليه لكان جائزاً وكذلك : مررت برجل حسن أبوه وشديد أبوه
واعلم : أن سائر الصفات مما ليس بإسم فاعل ولا يشبهه فهي ترفع الفاعل إذا كان مضمراً فيها وكان ضمير الأول الموصوف وترفع الظاهر أيضاً إذا كان في المعنى هو الأول
أما المضمر فقد بينته لك وهو نحو : مررت برجل خير منك وشر منك ففي ( خير منك ) ضمير رجل وهو رفع بأنه فاعل
وأما الظاهر الذي هو في المعنى الأول فنحو قولك : ما رأيت رجلاً أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد لأن المعنى في الحسن لزيد فصار بمنزلة الضمير إذ كان الوصف في الحقيقة له ومثل ذلك : ما من أيام أحب إلى الله فيها الصوم منه في عشر ذي الحجة
واعلم : أن قولك : زيد حسن وكريم منْ حَسُنَ يحسنَ وكَرُمَ يكرم كما أنك إذا قلت : زيد ضارب وقاتل وقائم فهو من : ضرب وقتل وقام إلا أن هذه أسماء متعدية تنصب حقيقة
أما إذا قلت : زيد حسن الوجه وكريم الحسب فأنت ليس تخبر أن زيداً فعل بالوجه ولا بالحسب
شيئاً والحسب والوجه فاعلان كما ينصب الفعل وحسن وشديد وكريم وشريف أسماء غير متعدية على الحقيقة وإنما تعديها على التشبيه ألا ترى أنك إذا قلت : زيد ضارب عمراً فالمعنى : أن الضرب قد وصل منه إلى عمرو وإذا قلت : زيد حسن الوجه أو كريم الأب فأنت تعلم أن زيداً لم يفعل بالوجه شيئاً ولا بالأب والأب والوجه فاعلان في الحقيقة وأصل الكلام زيدٌ حَسَنٌ وجههُ وكريم أبوه حسبه لأن الوجه هو الذي حسن والأب هو الذي كرم
مسائل من هذا الباب
تقول : زيد كريم الحسب لأنك أضمرت اسم الفاعل في ( كريم ) فنصبت ما بعده على التشبيه بالمفعول والدليل على أن الضمير واقع في الأول قولك : هند كريمة الحسب ولو كان على الآخر لقلت : كريم حسبها كما تقول : قائم أبوها وإنما جاز هذا التشبيه وإن كان الحسب غير مفعول على الحقيقة بل هو في المعنى فاعل لأن المعنى مفهوم غير ملبس ومن قال : زيدٌ ضاربٌ الرجلَ وهو يريد التنوين إلا أنه حذفه قال : زيدٌ حسنُ الوجهِ إلا أن الإِضافة في الحسن الوجه والكريم الحسب وجميع بابهما هو الذي يختار لأن الأسماء على حدها من الإِضافة إلا أن يحدث معنى المضارعة وإذا قلت : زيد حسن وجهه وكريم أبوه وفاره عبده فهذا هو الأصل وبعده في الحسن : زيد حسن الوجه وكريم الحسب ويجوز : زيد كريم الحسب وحسن الوجه ويجوز : زيد حسن وجهاً وكريم حسباً ويجوز : زيد كريم حسب وحسن وجه والأصل ما بدأنا به
واعلم : أنك إذا قلت : حسن الوجه فأضفت ( حسناً ) إلى الألف واللام فهو غير معرفة وإن كان مضافاً إلى ما فيه الألف واللام من أجل أن
المعنى حَسَن وجهه فهو نكرة فكما أن الذي هو في معناه نكرة ولذلك جاز دخول الألف واللام عليه فقلت : الحسن الوجه ولا يجوز الغلام الرجل وجاز الحسن الوجه وقولك : مررت برجل حسن الوجه يدلك على أن حسن الوجه نكرة لأنك وصفت به نكرة واعلم : أن ( حسناً ) وما ( أشبهه ) إذا أعلمته عمل اسم الفاعل فليس يجوز عندي أن يكون لما مضى ولا لما يأتي فلا تريد به إلا الحال لأنه صفة وحق الصفة صحبة الموصوف ومن قال : هذا حسنُ وجهٍ وكريمُ حسبٍ حجته أن الأول لا يكون معرفةً بالثاني أبداً فلما كان يعلم أنه لا يعني من الوجوه إلا وجهه ولم تكن الألف واللام بمعرفتين للأول كان طرحهما أخف
ومن كلام العرب : هو حديث عهد بالوجه قال الراجز :
( لا حقُ بطنٍ بقراً سَمينِ ... )
ومن قال هذا القول قال : الحسنُ وجهاً لأن الألف واللام يمنعان
الإِضافة فلا يجوز أن تقول : هذا الحسن وجهٍ من أجل أن هذه إِضافة حقيقة على بابها لم تخرج فيه معرفة إلى نكرة ولا نكرة إلى معرفة فالألف واللام لا يجوز أن يدخلا على مضاف إلى نكرة ولو قلت ذلك لكنت قد ناقضت ما وضع عليه الكلام لأن الذي أضيف إلى نكرة يكون به نكرة وما دخلت عليه الألف واللام يصير بهما معرفة فيصير معرفة نكرة في حال وذلك محال
وإنما جاز : الحسن الوجه ( وما أشبهه ) وإدخال الألف واللام على حسن الوجه لأن ( حسناً ) في المعنى منفصل فإضافته غير حقيقية والتأويل فيه التنوين فكأنك قلت : حسن وجهه فلذلك جاز فإذا قلت : حسن وجهٍ ثم أدخلت الألف واللام قلت : الحسن وجهاً فتنصب الوجه الى التمييز أو الشبه بالمفعول به لمّا امتنعت الإِضافة كما تقول : ضاربُ رجلٍ ثم تقول : الضارب رجلاً وتقول هو الكريم حسباً والفاره عبداً ويجوز : الحسن الوجه لأنه مشبه بالضارب الرجل لأن الضارب بمعنى الذي ضَربَ والفعل واصلٌ منه إلى الرجل على الحقيقة وقد قالوا : الضارب الرجل فشبهوه بالحسن الوجه كما شبهوا الحَسنِ الوجه به في النصب وعلى هذا أنشد :
( الوَاهِبُ المائة الهجانِ وَعْبدِهَا ... عُوذاً تُزجّي خلفَها أطفالُها )
والوجه : النصب في هذا وتقول هو الحسن وجهِ العبد كما تقول هو الحسن العبد لأن ما أضيف إلى الألف واللام بمنزلة ما فيه الألف واللام وتقول : على التشبيه بهذا ( الضارب أخي الرجل ) كما تقول : الضارب الرجل وتقول : مررت بالحسنِ الوجه الجميلة ومررت بالحسن العبد النبيلةِ فأما قولهم : الواهب المائة الهجان وعبدِها فإنما أردوا : عبدِ المائة كما تقول : كُل شاة وسخلها بدرهم ورب رجل وأخيه لما كان المضمر هو الظاهر جرى مجراه
وقال أبو العباس رحمه الله في إنشادهم :
( أَنَا ابنُ التَّارِكِ البَكْرِيِّ بِشْر ... عَلَيْهِ الطَّيْرُ تَرْقُبُهُ عُكُوفَا )
أنه لا يجوز عنده في ( بشر ) إلا النصب لأنهم إنما يخفضونه على البدل وإنما البدل أن توقع الثاني موقع الأول وأنت إذا وضعت ( بشراً ) في موضع
الأول لم يكن إلا نصباً فأما نظير هذا قولك : يا زيد أخانا على البدل
وقال النحويون : ( بشر )
واعلم : أن كل ما يجمع بغير الواو والنون نحو : حسن وحسان فإن الأجود فيه أن تقول : مررت برجل حسان قومه من قبل أن هذا الجمع المكسر هو اسم واحد صيغ للجمع ألا ترى أنه يعرب كإعراب الواحد المفرد لا كإعراب التثنية والجمع السالم الذي على حد التثنية فأما ما كان يجمع مسلماً بالواو والنون نحو : ( منطلقين ) فإن الأجود فيه أن تجعله بمنزلة الفعل المقدم فتقول : مررت برجل منطلق قومه وأسماء الفاعلين وما يشبهها إذا ثنيتها أو جمعتها الجمع الذي على حد التثنية
بالواو والياء والنون لم تثن وتجمع إلا وفيها ضمير الفاعلين مستتراً تقول : الزيدان قائمان فالألف والنون إنما جيء بهما للتثنية وتقول : الزيدون قائمون فالواو والنون إنما جيء بهما للجمع وليست بأسماء الفاعلين التي هي كناية كما هي في ( يفعلان ويفعلون ) لأن الألف في ( يفعلان ) والواو في ( يفعلون ) ضمير الفاعلين
فإن قلت : الزيدان قائم أبواهما لم يجز أن تثني ( قائماً ) لأنه في موضع ( يقوم أبواهما ) إلا في قول من قال : أكلوني البراغيث فإنه يجوز على قياسه مررت برجل قائمين أبوه . فاعلم
شرح الثالث : وهو المصدر :
أعلم : أن المصدر يعمل عمل الفعل لأن الفعل اشتق منه وبُنيَ مثله للأزمنة الثلاثة الماضي والحاضر والمستقبل نقول من ذلك : عجبت من ضرب زيد عمراً إذا كان زيد فاعلاً وعجبت من ضرب زيد عمروٌ
إذا كان زيدٌ مفعولاً وإن شئت نونت المصدر وأعربت ما بعده بما يجب له لبطلان الإِضافة فاعلاً كان أو مفعولاً فقلت : عجبت من ضرب زيد بكراً ومن ضرب زيداً بكر وتدخل الألف واللام على هذا فتقول عجبت من الضرب زيداً بكرا ولا يجوز أن تخفض ( زيداً ) من أجل الألف واللام لأنهما لا يجتمعان والإِضافة كالنون والتنوين
وقال قوم : إذا قلت : أردت الضرب زيداً إنما نصبته بإضمار فعل لأن الضرب لا ينصب وهو عندي قول حسن
واعلم : أنه لا يجوز أن يتقدم الفاعل ولا المفعول الذي مع المصدر على المصدر لأنه في صلته وكذلك إن وكد ما في الصلة أو وصف لو قلت : دارك أعجب زيداً دخول عمرو فتنصب الدار بالدخول كان خطأ
وقال قوم إذا قلت : أعجبني ضرب زيداً فليس من كلام العرب أن ينونوا وإذا نونت عملت بالفاعل والمفعول ما كنت تعمل قبل التنوين قالوا : فإن أشرت إلى الفاعل نصبت فقلت : أَعجبني ضربٌ زيداً وإن شئت رفعت وأردت : أعجبني أن ضُرِبَ زيد
مسائل من هذا الباب تقول : أعجب ركوبك الدابة زيداً فالكاف في قولك : ( ركوبك ) مخفوضة بالإِضافة وموضعها رفع والتقدير : أعجب زيداً أن ركبت الدابة فالمصدر يجر ما أضيف إليه فاعلاً كان أو مفعولاً ويجري ما بعده على الأصل وإضافته إلى الفاعل أحسن لأنه له : كقول الله تعالى ( ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض ) وإضافته إلى المفعول حسنة لأنه به اتصل وفيه حل وتقول : أعجبني بناء هذه الدار وترى المجلود فتقول : ما أشد جلده وما أحسن خياطة هذا الثوب فعلى هذا تقول أعجب ركوب الدابة عمرو زيداً إن أردت : أعجب أن ركب الدابة عمرو زيداً فالدابة وعمرو وركب في صلة ( أن ) وزيد منتصب ( بأعجب ) وبين خارج من الصلة فقدمه إن شئت قبل أعجب وإن شئت جعلته بين ( أعجب ) , بين الركوب وكذلك : عجبت من دق الثوب القصار ومن أكل الخبز زيدٌ ومن أشباع الخبز زيداً فإن نونت المصدر أو أدخلت فيه ألفاً ولاماً امتنعت الإِضافة فجرى كل شيء على أصله فقلت : أعجب ركوب زيد الدابة عمراً فإن شئت قلت : أعجب ركوب الدابة زيد عمراً ولا يجوز أن تقدم الدابة ولا زيداً قبل الركوب لأنهما من صلته فقد صارا منه كالياء والدال من ( زيد ) وتقول : ما أعجب شيء شيئاً إعجاب زيد ركوب الفرس عمرو ونصبت ( إعجاباً ) لأنه مصدر وتقديره : ما أعجب شيء شيئاً إعجاباً مثل إعجاب زيد ورفعت الركوب بقولك : ( أعجب ) لأن معناه : كما أعجب زيداً أن ركب الفرس عمرو وتقول : أعجب الأكل الخبز زيد عمراً كما وصفت لك وعلى هذا قوله تعالى : ( أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة ) فالتقدير : أو أن يطعم لقوله : وما أدراك فعلى هذا يجري ما
ذكرت لك ولو قلت : عمراً أعجبني أن ضرب خالداً كان خطأ لأن عمراً من الصلة
ومن قال : هذا الضارب الرجل لم يقل : عجبت من الضرب الرجل لأن الضرب ليس بنعت والضارب نعت كالحسن وهو اسم الفاعل من ( ضرب ) كما أن حسناً اسم الفاعل من ( حسن ) ويحسن وهما نعتان مأخوذان من الفعل للفاعل وتقول : أعجبني اليوم ضرب زيد عمراً ( إن جعلت اليوم ) نصباً بأعجبني فهو جيد وإن نصبته بالضرب كان خطأ وذلك لأن الضرب في معنى ( أن ضرب ) وزيد وعمرو من صلته فإذا كان المصدر في معنى ( إن فعل ) أو ( أن يفعل ) فلا يجوز أن ينصب ما قبله ولا يعمل إلا فيما كان من تمامه فيؤخر بعض الإسم ولا يقدم بعض الإسم على أوله فإن لم يكن في معنى ( إن فعل ) وصلتها أعملته عمل الفعل إذا كان نكرة مثله فقدمت فيه وأخرت وذلك قولك ضرباً زيداً وإن شئت : زيداً ضرباً لأنه ليس فيه معنى ( أن ) إنما هو أمر وقولك ضرباً زيداً ينتصب بالأمر كأنك قلت : اضرب زيداً إلا أنه صار بدلاً من الفعل لما حذفته وحكى قوم أن العرب قد وضعت الأسماء في مواضع المصادر فقالوا : عجبت من طعامك طعاماً يريدون : من إطعامك وعجبت من دهنك لحيتك يريدون : من دهنك قال الشاعر :
( أظليمَ إنَّ مُصابَكُم رَجُلاً ... أَهْدَى السَّلامَ تَحِيَةً ظُلْمُ )
أراد إن أبابتكم
ومنه قوله :
( وبَعْدَ عطائِكَ المئة الرِّتَاعا ... )
أراد : بعد إعطائك وقال هؤلاء القوم : إذا جاءت الأسماء فيها المدح والذم وأصلها ما لم يسم فاعله رفعت مفعولها فقلت : عجبت من جنون بالعلم فيصير كالفاعل وإنما هو مفعول
هذا مع المدح والذم ولا يقال ذلك في غير المدح والذم
شرح الرابع :
وهو ما كان من الأسماء التي سموا الفعل بها : موضع هذه الأسماء من الكلام في الأمر والنهي فما كان فيها في معنى ما لا يتعدى من الأفعال فهو غير متعدٍ وما كان منها في معنى فعل متعدٍ تعدى وهذه الأسماء على ثلاثة أضرب : فمنها اسم مفرد واسم مضاف واسم استعمل مع حرف الجر
فالضرب الأول : قولك : هلم زيداً وعندك زيدا . ورويد زيداً وحَيَّ هل الثريد وزعم أبو الخطاب : أن بعض العرب يقول : حي هل الصلاة
ومن ذلك : تراكها ومناعها وهذه متعدية والمعنى : اتركها وامنعها وأما ما لا يتعدى فنحو : مه وصه وأيه
والضرب الثاني : وهي الأسماء المضافة ومنها أيضاً ما يتعدى وما لا يتعدى فأما المتعدي فنحو : دونك زيداً وذكر سيبويه : أن أبا الخطاب حدثه بذلك وحذرك زيداً وحذارك زيداً وأما ما لا يتعدى فمكانك وبعدك وخلفك إذا أردت تأخر وحذرته شيئاً خلفه وفرطك إذا حذرته من بين يديه شيئاً وأمرته أن يتقدم وأمامك ووراءك
والضرب الثالث : ما جاء مع أحرف الجر نحو : عليك زيداً وإليك إذا قلت : تنح
وذكر سيبويه : أن أبا الخطاب حدثه : أنه سمع من يُقال له إليك
فيقول : ( إليَّ ) في هذا الحرف وحده كأنه قال له : تنح فقال : أتنحى ولا يجوز مثل هذا في أخوات إليَّ لأن هذا الباب إنما وضع في الأمر مع المخاطب وما أُضيف فيه فإنما يُضاف إلى كاف علامة المخاطب المتكلم ولا يجوز أن تقول : رويده زيداً ودونه عمراً تريد غير المخاطب
وحكي أن بعضهم قال : عليه رجلاً ليسي أي : غيري
وهذا قليل شاذ
وجميع هذه الأسماء لا تصرف تصرف الفعل
وحكي أن ناساً من العرب يقولون : هلمي وهلما وهلموا فهؤلاء جعلوه فعلاً والهاء للتنبيه ولا يجوز أن تقدم مفعولات هذه الأسماء من أجل أن ما لا يتصرف لا يتصرف عمله فأما قول الله تعالى : ( كتاب الله عليكم ) فليس هو على قوله : عليكم كتاب الله ولكنه مصدر محمول على ما قبله لأنه لما قال : ( حرمت عليكم أمهاتكم ) فأعلمهم : أن هذا مكتوب مفروض فكان بدلاً من قول : كتاب الله ذلك فنصب ( كتاب الله ) وجعل عليكم تبينياً
مسائل من هذا الباب
تقول : رويدكم أنتم وعبد الله لأن المضمر في النية مرفوع ورويدكم وعبد الله وهو قبيح إذا لم تؤكده ورويدكم أنتم أنفسكم ورويدكم أجمعون ورويدكم أنتم أجمعون كل حسن وكذلك رويد إذا لم يلحق فيه الكاف تجري هذا المجرى وكذلك الأسماء التي للفعل جمعاً إلا أن هلم إذا لحقتها ( لك ) فإن شئت حملت أجمعين ونفسك على الكاف المجرورة فقلت هلم لكم أجمعين وأنفسكم ولا يجوز أن تعطف على الكاف المجرورة الإسم ألا ترى أنه يجوز : هذا لك نفسك ولكم أجمعين ولا يجوز : لك وأخيك وإن شئت حملت المعطوف والتأكيد والصفة على المضمر المرفوع في النية فقلت : هلم لكم أجمعون كأنك قلت : تعالوا أجمعون وهلم لك أنت وأخوك كأنك قلت : تعالى أنت وأخوك فإن لم تلحق ( لك ) جرى مجرى رويد ورويد يتصرف على أربع جهات يكون أمراً بمعنى : أرود أي أمهل ويكون صفة نحو : ساروا سيراً رويداً أي سهلاً وتكون حالاً تقول : ساروا رويداً أي متمهلين وتكون مصدراً نحو : رويد نفسه وذكر سيبويه : أنه حدثه به من لا يتهم : أنه سمع العرب تقول : ضعه رويداً أي وضعاً رويداً
وتلحق ( رويد ) الكاف وهي في موضع ( أفعل ) تبينياً لا ضميراً فتقول : رويدك وريدكم وإنما تلحقها
لتبين المخاطب المخصوص فقط غير ضمير وذلك إذ كانت تقع لكل مخاطب على لفظ واحد
ولك أن لا تذكرها ومثلها في ذا : حيهل وحيهلك فالكاف للخطاب وليست بإسم ومثل هذا في كلامهم كثير
قال سيبويه : وقد يجوز عليك أنفسكم وأجمعين وقال : إذا قلت : عليكم زيداً فقد أضمرت فاعلاً في النية فإذا قلت : عليك أنت نفسك لم يكن إلا رفعاً
ولو قلت في : عليَّ زيداً أنا نفسي لم يكن إلا جراً وإنما جاءت الياء والكاف لتفصلا بين المأمور والأمر في المخاطبة وكذلك : حذرك بمنزلة عليك والمصدر وغيره في هذا الباب سواء ومن جعل : رويد مصدراً قال : رويدك نفسك إن حمله على الكاف وإن حمله على المضمر في النية رفع
قال : وأما قول العرب رويدك نفسك فإنهم يجعلون النفس بمنزلة عبد الله إذا أمرته به وأما حيهلك وهاءك وأخواتها فلا يكون الكاف فيها إلا للخطاب ولا موضع لها من الإِعراب لأنهن لم يجعلن مصادر
أما قولك : دونك زيداً ودونكم إذا أردت تأخر فنظيرها من الأفعال جئت يا فتى يجوز أن تخبر عن مجيئك لا غير وجائز أن تعديها فتقول : جئت زيداً وكذلك تقول : عليّ زيداً وعليّ به فإذا قلت : عليّ زيداً فمعناه أعطني زيداً وإذا قلت : عليك زيداً فمعناه : خذ زيداً ومعنى ( حيهل ) أقرب وجائز أن يقع في معنى قرب فأما قولك : أقرب فكقولك : حيهل الثريد أي : أقرب منه وآته وفتح حيهل كفتح خمسة عشر لأنهما شيئان جملاً شيئاً واحداً
فأما قول الشاعر :
( يَوم كَثيرٌ تُناديهِ وحيَّ هلُهْ ... )
فإنه جعله إسماً فصار كحضر موت ولم يأمر أحداً بشيء
وقد توصل ب ( علي ) كما وصلت ب ( هل ) هذه فمن ذلك : حيَّ على الصلاة
إنما معناه : أقربوا من الصلاة وإيتوا الصلاة
وفي ( حيهل ) ثلاث لغات : فأجودهن أن تقول : جيُّهلْ بعمر فإذا وقفت قلت : حيهلا الألف ها هنا لبيان الحركة كالهاء في قوله : كتابيه وحسابيه لأن الألف من مخرج الهاء ومثل ذلك قولك : أنا قلت ذاك فإذا وقفت قلت : أناه
ويجوز : حيهلاً بالتنوين تجعل نكرة ويجوز : حيهلا بعمر وهي أردأ اللغات
قال أبو العباس : وأما ( حي هلا ) فليست بشيء
( وهلم ) إنما هي لُمَّ أي أقرب وها للتنبيه إلا أن الألف حذفت فيها لكثرة الإستعمال وأنهما جعلا شيئاً واحداً فأما أهل الحجاز فيقولون للواحد والإثنين والمرأة وللجماعة من الرجال والنساء : هلم على لفظ واحد كما يفعلون ذلك في الأشياء التي هي أسماء للفعل وليس بفعل قال الله عز و جل : ( والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ) واستجازوا ذلك لإِخراجهم إياها عن مجرى الأفعال حيث وصلوها بحرف التنبيه كما أخرجوا خمسة عشر من الإِعراب
فأما بنو تميم : فيصرفونها فيقولون للإثنين : هلما وللأنثى هلمي كما تقول : رد وردا وردوا وارددن وردي
قال أبو بكر : وقد مضى ذكر الأسماء التي تعمل عمل الفعل بعد أن ذكرنا الأسماء المرتفعة فلم يبق اسم يرتفع إلا أن يكون تابعاً لإسم من الأسماء التي قدمنا ذكره وأن تكون مبنياً مشبهاً بالمعرب
فأما التوابع فنحو : النعت والتأكيد والبدل والعطف ونحن نذكرها بعد ذكر الأسماء المنصوبات والمجرورات وأما ما كان من الأسماء مبنياً مشبهاً للمعرب فنداء المفرد نحو قولك : يا زيد ويا حكم العاقلُ والعاقلَ ويا حكمان ويا حكمون فهذا موضعه نصب وليس بمعرب وإنما حقه أن يذكر مع ذكر المبنيات من أجل أنه مبني وينبغي أيضاً أن يذكر مع المنصوبات من أجل أن موضعه منصوب فنحن نعيده إذا ذكرنا النداء إن
شاء الله
وقبل أن نذكر المنصوبات نقدم ذكر المعرفة والنكرة للإنتفاع بذلك فيها وفي المرفوعات أيضاً إن شاء الله
باب المعرفة والنكرة كل اسم عم اثنين فما زاد فهو نكرة وإنما سمي نكرة من أجل أنك لا تعرف به واحداً بعينه إذا ذكر
والنكرة تنقسم قسمين : فأحد القسمين : أن يكون الإسم في أول أحواله نكرة مثل : رجل وفرس وحجر وجمل وما أشبه ذلك
والقسم الثاني : أن يكون الإسم صار نكرة بعد أن كان معرفة وعرض ذلك في الأصل الذي وضع له غير ذلك نحو أن يُسمى إنسان بعمرو فيكون معروفاً بذلك في حيه فإن سمي باسم آخر لم نعلم إذا قال القائل : رأيت عمراً أي العمرين هو ومن أجل تنكره دخلت عليه الألف واللام إذا ثنى وجمع
وتعتبر النكرة بأن يدخل عليها ( رُبَّ ) فيصلح ذلك فيها أو ألف ولام فيصير بعد دخول الألف واللام معرفة أو تثنيها وتجمعها بلفظها من غير إدخال ألف ولام عليها فجميع هذا وما أشبهه نكرة والنكرة قبل المعرفة ألا ترى أن الإِنسان اسمه إنسان يجب له هذا الإسم بصورته قبل أن يعرف باسم وأكثر الأسماء نكرات وهذه النكرات بعضها أنكر من بعض فكلما كان أكثر عموماً فهو أنكر مما هو أخص منه فشيء أنك من قولك : حي وحي أنكر من قولك : إنسان فكلما قل ما يقع عليه الإسم فهو أقرب إلى التعريف وكلما كثر كان أنكر فاعلم
ذكر المعرفة والمعرفة خمسة أشياء : الإسم المكنى والمبهم والعلم وما فيه الألف واللام وما أُضيف إليهن
فأما المكني : فنحو قولك : هو وأنت وإياك والهاء في ( غلامه وضربته ) والكاف في غلامك وضربك والتاء في ( قمتُ ) وقمتِ وقمتَ يا هذا
فأما المبهم : فنحو : هذا وتلك وأولئك المكنيات والمبهمات موضع يستقصي ذكرها فيه إن شاء الله
وأما العلم : فنحو : زيد وعمر وعثمان
واعلم : أن اسم العلم على ثلاثة أضرب إما أن يكون منقولاً من نكرة أو مشتقاً منها أو أعجمياً أعرب
فأما المنقول : فعلى ضربين : أحدهما من الإسم والآخر من صفةٍ
أما المنقول من الإسم النكرة فنحو : حجر وأسد فكل واحد من هذين نكرة في أصله فإذا سميت به صار معرفة وأما المنقول من صفة فنحو : هاشم وقاسم وعباس وأحمر لأن هذه أصولها صفات تقول : مررت برجل هاشم ورجل قاسم وبرجل عباس
وأما الأسماء المشتقة : فنحو : عمر وعثمان فهذان مشتقان من عامر وعاثم وليسا بمنقولين لأنه ليس في أصول النكرات عثمان ولا عمر إلا أن تريد جمع عمرة
فأسماء الأعلام لا تكاد تخلو من ذلك فإن جاء اسم عربي لا تدري مِمَّ نقل أو اشتق فاعلم : إن أصله ذلك وإن لم يصل إلينا علمه قياساً على كثرة ما وجدناه من ذلك
ولا أدفع أن يخترع بعض العرب في حال تسميته اسماً غير منقول من نكرة ولا مشتق منها
ولكن العام والجمهور ما ذكرت لك
وأما الأعجمية فنحو : إسماعيل وإبراهيم ويعقوب فهذه أعربت من كلام العجم
وأما ما فيه الألف واللام فإن الألف واللام يدخلان على الأسماء النكرات على ضربين : إمّا إشارة إلى واحد معهود بعينه أو إشارة إلى الجنس فأما الواحد المعهود : فأن يذكر شيء فتعود لذكره فتقول : الرجل وكذلك الدار والحمار وما أشبهه كأن قائلاً قال : كان عندي رجل من أمره ومن قصته فإن أردت أَنْ يعود إلى ذكره
قلت : ما فعل الرجل للعهد الذي كان بينك وبين المخاطب من ذكره وأما دخولها للجنس فأن تقول : أهلك الناس الدينار والدرهم لا تريد ديناراً بعينه ولا درهماً بعينه ولكن كقوله عز و جل : ( إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا )
يدلك الإستثناء على أن الإِنسان في معنى الناس وأما ما أُضيف إليهن فنحو قولك : غلامك
وصاحبك وغلام ذاك وصاحب هذه وغلام زيد وصاحب عمرو وغلام الرجل
وصاحب الإِمام ونحو ذلك
مسائل في المعرفة والنكرة تقول : هذا عبد الله فهذا اسم معرفة
وعبد الله اسم معرةف وهذا مبتدأ وعبد الله خبره فإن جئت بعد عبد الله بنكرة نصبتها على الحال فقلت : هذا عبد الله واقفاً وكذلك كل اسم علم يجري مجرى عبد الله وتقول : هذا أخوك فهذا معرفة وأخوك فهذا معرفة بالإِضافة إلى الكاف
فإن جئت بنكرة قلت : هذا أخوك قائماً قال الله تعالى ( وهذا بعلي شيخا )
وأجاز أصحابنا الرفع في مثل هذه المسألة على أربعة أوجه : أحدهما : أن تجعل ( أخاك ) بدلاً من ( هذا ) وتجعل قائماً خبر ( هذا ) والآخر : أن تجعل ( أخاك ) خبراً ل ( هذا ) وتضمر ( هذا ) من الأخ كأنك قلت : هذا أخوك هذا قائم وإن شئت أضمرت ( هو ) كأنك قلت : هذا أخوك هو قائم وإن شئت كان ( أخوك ) وقائم خبراً واحداً كما تقول : هذا حلو حامض أي : قد جمع الطعمين ومثل هذا لا يجوز أن يكون ( حلو ) الخبر وحده ولا حامض الخبر وحده حتى تجمعهما وإذا قلت : هذا الرجل ولم تذكر بعد ذلك شيئاً وأردت بالألف واللام العهد فالرجل خبر عن ( هذا ) فإن جئت بعد ( الرجل ) بشيء يكون خبراً جعلت ( الرجل ) تابعاً ل ( هذا ) كالنعت لأن المبهمة توصف بالأجناس وكان ما بعده خبراً عن ( هذا ) فقلت : هذا الرجل عالم وهذه المرأة عاقلة هذا الباب جديد فترفع ( هذا ) بالإبتداء وترفع ما فيه الألف واللام بأنه صفة وتجعلهما كاسم واحد
ومنه قول النابغة الذبياني :
( تَوَهَّمْتُ آياتٍ لَهَا فَعَرفتها ... لِسِتَّةِ أعوامٍ وذَا العامُ سَابعُ )
فإن أردت بالألف واللام المعهود جاز نصب ما بعده فقلت : هذه المرأة عاقلة وهذا الرجل عالماً فإذا كانت الألف واللام في اسم لا يراد به واحد من الجنس وهو كالصفة الغالبة نصبت ما بعد الإسم على الحال وذلك قولك : هذا العباس مقبلاً وإن كان الإسم ليس بعلم ولكنه واحد ليس له ثانٍ كان أيضاً الخبر منصوباً كقولك : هذا القمر منيراً وهذه الشمس طالعة وكذلك إن أردت بالإسم أن تجعله يعم الجنس كله ويكون إخبارك عن واحده كإخبارك عن جميعه كان الخبر منصوباً كقولك : هذا الأسد مهيباً وهذه العقرب مخوفة إذالم ترد عقرباً تراها ولا أسداً تشير إليه من سائر الأسد ولا يجوز : هذا أنا وهذا أنت لأنك لا تشير للإِنسان إلى نفسه ولا تشير إلى نفسك فإن أردت التمثيل أي : هذا يقوم مقامك ويغني غناءك جاز أن تقول : هذا أنت وهذا أنا والمعنى : هذا مثلك وهذا مثلي وأما قولك : هذا هو فبمنزلة قولك : هذا عبد الله إذا كان هو إنما يكون كناية عن عبد الله وما أشبهه ألا ترى أنك تكون في حديث إنسان فيسألك المخاطب عن صاحب القصة من هو فتقول : هذا هو وقال قوم : إن كلام العرب أن يجعلوا هذه الأسماء المكنية بين ( ها وذا ) وينصبون أخبارها على الحال فيقولون : ها هو ذا قائماً وها أنذا جالساً وها أنت ذا ظالماً وهذا الوجه يسميه الكوفيون التقريب وهو إذا كان الإسم ظاهراً جاء بعد ( هذا ) مرفوعاً ونصبوا الخبر معرفة كان أو نكرة فأما البصريون فلا
ينصبون إلا الحال
وتقول : هذا هذا على التشبيه وهذا ذاك وهذا هذه
واعلم : أن من الأسماء مضافات إلى معارف ولكنها لا تتعرف بها لأنها لا تخص شيئاً بعينه فمن ذلك : مثلك وشبهك وغيرك تقول : مررت برجل مثلك وبرجل شبهك وبرجل غيرك فلو لم يكن نكرات ما وصف بهن نكرة وإنما نكرهن معانيهن ألا ترى أنك إذا قلت : مثلُكَ
جاز أن يكون ( مثلك ) في طولك أو لونك أو في علمك ولن يحاط بالأشياء التي يكون بها الشيء مثل الشيء لكثرتها وكذلك شبهك وأما غيرك فصار نكرة لأن كل شيء مثل الشيء عداك فهو غيرك فإن أردت بمثلك وشبهك المعروف بشبهك فهو معرفة وأما شبيهك فمعرفة ولم يستعمل كما استعمل ( شبهك ) المعروف بأنه يشبهك وتقول هذا واقفاً زيد وهذا واقفاً رجل فتنصب ( واقفاً ) على الحال وإن شئت رفعت فقلت هذا واقف رجل فتجعل ( واقفٌ ) خبر ( هذا ) ورجل بدل منه وكذلك زيد وما أشبهه وينشد هذا البيت على وجهين :
( أترضى بأَنَّا لَمْ تَجفَّ دِماؤُنَا ... وهذا عَرُوس باليَمَامَةِ خَالِدُ )
فينصب ( عروس ) ويرفع
وتقول : هذا مثلك واقف وهذا غيرك منطلق لما خبرتك به من نكرة مثلك وغيرك وقد يجوز أن تنصب فيكون النصب أحسن فيها منه في سائر النكرات
لأنها في لفظ المعارف
وإن كانت نكرات فيقول : هذا مثلك منطلقاً وهذا حسن الوجه قائماً وقد عرفتك أن ( حسن الوجه ) نكرة ولذلك جاز دخول الألف واللام عليه وأفضل منك وخير منك نكرة أيضاً إلا أنه أقرب إلى المعرفة من حسن وفاضل فتقول : هذا أفضل منك قائماً فإن قلت : ( زيد هذا ) فزيد مبتدأ وهذه خبره والأحسن أن تبدأ ( بهذا ) لأن الأعرف أولى بأن يكون مبتدأ فإن قلت زيد هذا عالم جاز الرفع والنصب فالرفع على أن تجعل ( هذا ) معطوفاً على ( زيد ) عطف البيان وترفع ( عالماً ) بأنه خبر الابتداء وإن جعلت ( هذا ) خبراً لزيد نصبت ( عالمٌ ) على الحال
واعلم : أن ( ذلك ) مثل ( هذا ) تقول : إن ذلك الرجل عالم كما تقول : إن هذا الرجل عالم
وإن ذلك الرجل أخوك كما تقول : إن هذا الرجل أخوك
والكوفيون يقولون : هذا عبد الله أفضل رجل وأي رجل فيستحسنون رفع ما كان فيه مدح أو ذم ورفعه عندهم على الإستئناف وعلى ذلك يتأولون قول الشاعر :
( مَنْ يكُ ذا بَثٍّ فهذا بَتِّي ... مُقَيِّظ ( مُصَيَّف ) مُشَتِّي )
وهذه عند البصريين : من باب حلو حامض أي : قد جمع أنه مقيظ وأنه مصيف مشتي ففيه هذا الخلال
واعلم : أن من كلام العرب أسماء قد وضعتها موضع المعارف وليست كالمعارف التي ذكرناها وأعربوها وما بعدها إعراب المعارف وذلك نحو قولهم للأسد : أبو الحارث وأسامة وللثعلب : ثعالة وأبو الحصين وسَمْسَم وللذئب : دألان وأبو جعدة وللضبع : أم عامر وحضاجر وجعَار وجَيْأل وأم عَنْتَل وقَئام ويقال للضبعان قُثَم وهو الذكر منها وللغراب : ابن بَريح
قال سيبويه : فإذا قلت : هذا أبو الحارث فأنت تريد : هذا الأسد أي هذا الذي سمعت باسمه أو هو الذي عرفت أشباهه ولا تريد أن تشير إلى شيء قد عرفه بعينه قبل ذلك كمعرفته زيداً وعمراً ولكنه أراد هذا الذي كل واحد من أمته له هذا الإسم وإنما منع الأسد وما أشبهه أن يكون له اسم معناه معنى زيد أن الأسد وما أشبهها ليست بأشياء ثابتة مقيمة مع الناس ألا تراهم قد اختصوا الخيل والإِبل والغنم والكلاب وما يثبت معهم بأسماء : كزيد وعمرو ومن ذلك : أبو جُخادب وهو شيء يشبه الجُنْدبُ غير أنه أعظم منه وهو ضرب من الجنادب كما أن بنات أوبر ضرب من الكمأة وهي معرفة وابن قِتْرَة ضرب من الحيات وابن آوى
معرفة
ويدلك علىأنه معرفة أن آوى غير مصروف وابن عرس وسامُّ أبرص
وبعض العرب يقول : أبو بريص وحمار قبان : دويَبة كأنه قال في كل واحد من هذا الضرب هذا الذي يعرف من أحناش الأرض بصورة كذا فاختصت العرب لكل ضرب من هذه الضروب اسماً على معنى يعرفها بها فعلى هذا تقول : هذا ابن آوى مقبلاً ولا تصرف آوى لأنه معرفة ولأنه على وزن ( افعلَ ) وتنصب مقبلاً كما نصبته في قولك : هذا زيد مقبلاً وحكم جمعها حكم زيد إلا أن منها ما ينصرف وما لا ينصرف كما تكون الأسماء المعارف وغيرها
وقد زعموا : أن بعض العرب يقول : هذا ابن عرس مقبل فيرفعه على وجهين فوجه مثل : هذا زيد مقبل ووجه على أنه جعل عرساً نكرة فصار المضاف إليه نكرة وما ابن مخلص وابن لبون وابن ماءٍ فنكرة لأنها تدخلها الألف واللام
واعلم : أن في كلامهم أسماء معارف بالألف واللام وبالإِضافة غلبت على أشياء فصارت لها كالأسماء والأعلام مثل : زيد وعمرو نحو : النجم
تعني الثريا وابن الصِّعَق ابن رألان وابن كُراع فإن أخرجت الألف واللام من النجم وابن الصعق تنكر
وزعم الخليل : أن الذين قالوا : الحارث والحسن والعباس إنما أرادوا أن يجعلوا الرجل هو الشيء بعينه كأنه وصف غلب عليه ومن قال : حارث وعباس فهو يجريه مجرى زيداً
وأما السِّماك والدَّبِران والعَيُّوق وهذا النحو فإنما يلزمه الألف واللام من قبل أنه عندهم الشيء بعينه كالصفات الغالبة وإنما أُزيل عن لفظ السامك والدابر والعايك فقيل : سِمَاك ودَبَران وعَيُوق للفرق كما فصل بين العِدلْ والعديل وبناء حصين وامرأة حصان
قال سيبويه : فكل شيء جاء قد لزمه الألف واللام فهو بهذه المنزلة فإن كان عربياً تعرفه ولا تعرف الذي اشتق منه فإنما ذلك لأنا جهلنا ما علم غيرنا أو يكون الآخر لم يصل إليه علم ما وصل إلى الأول المسمى
قال : وبمنزلة هذه النجوم الأربعاء والثلاثاء يعني : أنه أُريد به الثالث والرابع فأُزيل لفظه كما فعل بالسماك
وتقول : هذان زيدان منطلقان فمنطلقان صفة للزيدين وهو نكرة وصفت به نكرة قال وتقول : هؤلاء عرفات حسنة وهذان أبانان بينين والفرق بين هذا وبين زيدين أن زيدين لم يجعلا اسماً لرجلين بأعينهما وليس هذا في الأناس ولا في الدواب إنما يكون هذا في الأماكن والجبال وما أشبه ذلك من قبل أن الأماكن لا تزول فصار أبانان وعرفات كالشيء الواحد
والذي والتي : معرفة ولا يتمان إلا بصلة ومن وما يكونان معرفة ونكرة لأن الجواب فيهما يكون بالمعرفة والنكرة وأيهم وكلهم وبعضهم معارف بالإِضافة وقد تترك الإِضافة وفيهن معناها قائم وأجمعون وما أشبهها معارف لأنك لا تنعت بها إلا معرفة ولا يدخل عليها الألف واللام
وقال الكسائي : سمعت : هو أحسن الناس هاتين يريد عينين فجعله نكرة
وهذا شاذ غير معروف
ويكون ( ذا ) في موضع الذي فتقول : ضربت هذا يقوم وليس بحاضر تريد : الذي يقوم قالوا : وقد جاء هذا في الشعر
ذكر الأسماء المنصوبات الأسماء المنصوبات تنقسم قسمة أولى على ضربين :
فالضرب الأول هو العام الكثير : كل اسم تذكره بعد أن يستغني الرافع بالمرفوع وما يتبعه في رفعه إن كان له تابع وفي الكلام دليل عليه فهو نصب
والضرب الآخر : كل اسم تذكره لفائدة بعد اسم مضاف أو فيه نون ظاهرة أو مضمرة وقد تما بالإِضافة والنون وحالت النون والإِضافة بينهما ولولاهما لصلح أن يضاف إليه فهو نصب
والضرب الأول : ينقسم على قسمين : مفعول ومشبه بمفعول
والمفعول ينقسم على خمسة أقسام : مفعول مطلق ومفعول به ومفعول فيه ومفعول له ومفعول معه
شرح الأول :
وهو المفعول المطلق ويعني به المصدر
المصدر اسم كسائر الأسماء إلا أنه معنى غير شخص
والأفعال مشتقة منه وإنما انفصلت من المصادر بما تضمنت معاني الأزمنة الثلاثة بتصرفها
والمصدر : هو المفعول في الحقيقة لسائر المخلوقين فمعنى قولك : قام زيد وفعل زيد
قياماً سواء وإذا قلت : ضربت فإنما معناه أحدثت ضرباً وفعلت ضرباً فهو المفعول الصحيح
ألا ترى أن القائل يقول : من فعل هذا القيام فتقول : أنا فعلته ومن ضرب هذا الضرب الشديد فتقول : أنا فعلته . تريد : أنا ضربت هذا الضرب
وقولك ضربت هذا الضرب وقولك
ضربت زيداً لا يصلح أن تغيره بأن تقول : فعلت زيداً لأنه ليس بمفعول لك فإنما هو مفعول لله تعالى فإذا قلت : ضربت زيداً فالفعل لك دون زيد وإنما أحللت الضرب به وهو المصدر فعلى هذا تقول : قمت قياماً وجلست جلوساً وضربت ضرباً وأعطيت إعطاءً وظننت ظناً واستخرجت استخراجاً وانقطعت انقطاعاً واحمررت احمراراً فلا يمتنع من هذا فعل منصرف البتة
ومصدر الفعل الذي يعمل فعله فيه يجيء على ضروب : فربما ذكر توكيداً نحو قولك : قمت قياماً وجلست جلوساً فليس في هذا أكثر من أنك أكدت فعلك بذكرك مصدره وضرب ثانٍ تذكره للفائدة نحو قولك : ضربت زيداً ضرباً شديداً والضرب الذي تعرف
وقمت قياماً طويلاً فقد أفدت في الضرب أنه شديد وفي القيام أنه طويل وكذلك إذا قلت : ضربت ضربتين وضربات فقد أفدت المرار وكم مرة ضربت
وقال سيبويه : تقول : قعد قِعْدةَ سوء وقعد قعدتين لما عمل في الحدث يعني المصدر عمل في المرة منه والمرتين وما يكون ضرباً منه وإن خالف اللفظ
فمن ذلك : قعد القرفُصاء واشتمل الصَمَّاء ورجع القهقري لأنه ضرب من فعله الذي أخذ منه
قال أبو العباس قولهم : القرفصاء واشتمل الصمّاء ورجع القهقري هذه حلى وتلقيبات لها وتقديرها : اشتمل الشمل التي تعرف بهذا الإسم
وكذلك أخواتها
قال : وجملة القول : إن الفعل لا ينصب شيئاً إلا وفي الفعل دليل عليه فمن ذلك المصادر لأنك إذا قلت : قام ففي ( قام ) دليل على أنه : فعل قياماً فلذلك قلت : قام زيد قياماً فعديته إلى المصدر وكذلك تعديه إلى أسماء الزمان لأن الفعل لا يكون إلا في زمان وتعديه إلى المكان لأنه فيه يقع وتعديه إلى الحال لأنه لأفعل إلا في حال واحق ذلك به المصدر لأنه مشتق من لفظه ودال عليه
واعلم : أنَّ ( أنْ ) تكون مع صلتها في معنى المصدر وكذلك ( ما ) تكون مع صلتها في معناه وذلك إذا وصلت بالفعل خاصة إلا أن صلة ( ما ) لا بد من أن تكون فيها ما يرجع إلى ( ما ) لأنها اسم وما في صلة ( أن ) لا يحتاج أن يكون معه فيه راجع لأن ( أن ) حرف والحروف لا يكنى عنها ولا تضمر فيكون في الكلام ما يرجع إليها والذي يوجب أن ( ما ) اسم وأنها ليست حرفاً ( كأنْ ) : أنها لو كانت ( كأن ) لعملت في الفعل كما عملت ( أن ) لأنا وجدنا جميع الحروف التي تدخل على الأفعال ولا تدخل على الأسماء تعمل في الأفعال فلما لم نجدها عاملة حكمنا بأنها اسم وهذا مذهب أبي الحسن الأخفش وغيره من النحويين فتقول يعجبني أن يقوم زيد تريد : قيام زيد ويعجبني ما صنعت تريد : صنيعك إلا أن هذين وإن كانا
قد يكونان في معنى المصادر فليس يجوز أن يقعا موقع المصدر في قولك : ضربت زيداً ضرباً لا يجوز أن تقول : ضربت زيداً أن ضربت تريد : ضرباً ولا ضربت زيداً ما ضربت تريد : معنى ( ضرباً ) وأنت مؤكد لفعلك ويجوز : ضربت ما ضربت أي : الضرب الذي ضربت كما تقول : فعلت ما فعلت أي : مثل الفعل الذي فعلت وتقول : فعلت ما فعل زيد أي : كالفعل الذي فعل زيد فإن لم ترد هذا المعنى فالكلام محال لأن فعلك لا يكون فعل غيرك
قال الله تعالى : ( وخضتم كالذي خاضوا ) والتأويل عندهم والله أعلم كالخوض الذي خاضوا
مسائل من هذا الباب تقول : ضربته عبد الله تضمر الضرب تعني : ضربت الضرب عبد الله ولو قلت ضربت عبد الله ضرباً وضربته زيداً ما كان به بأس على أن تضمر المصدر
واعلم : أنه لا يجوز أن تعمل ضمير المصدر لا تقول : سرني ضربك عمراً وهو زيداً وأنت تريد : وضربك زيداً لأنه إنما يعمل إذا كان على لفطه الذي تشتق الأفعال منه ألا ترى أن ( ضرب ) مشتق من الضرب فإنما
يعمل الضرب وما أشبهه من المصادر إذا كان ظاهراً غير مضمر وإنما يعمل لشبهه بالفعل فكما أن الفعل لا يضمر فكذلك المصدر لا يجوز أن يقع موقع الفعل وهو مضمر وإنما جاز إضمار المصدر لأنه معنى واحد ولم يجز إضمار الفعل لأنه معنى وزمان ولو أَضمر لصار اسماً
وتقول : مررت بهم جميعاً إذا عنيت أنك لم تترك منهم أحداً أو : مررت بهم كلا قال الأخفش كل وجميع ها هنا بمنزلة المصادر كأنك قلت مررت بهم عماً ومررت بهم كلاً أي : مروراً عماً وكلاً فكل وجميع ها هنا بمنزلة المصادر كأنك قلت : مررت بهم عماً ومررت بهم عماً لهم وكأنك قلت : طررتهم طراً وليس الجميع والكل بالقوم كما أن الطر والقاطبة ليس بالقوم يعني إذا قلت : مررت بهم قاطبة وطراً فكأنك قلت : جمعتهم جمعاً وكذلك في طر كأنك قلت : طررتم أي أتيت عليهم طراً
وذكر سيبويه : هذا في باب ما ينتصب لأنه حال وقع فيه الخبر وهو اسم
وقال : من ذلك : مررت بهم جميعاً وعامة وجماعة وقال : هذه أسماء متصرفة ولا يجوز أن يدخل فيها ألألف واللام
وزعم الخليل : أن قاطبة وطراً لا يتصرفان في موضع المصدر
واعلم : أن في الكلام مصادر تقع موقع الحال فتغني عنها وانتصابها انتصاب المصادر نحو قولك : أتاني زيد مشياً فقولك : مشياً قد أغنى عن ماشٍ ويمشي إلا أن التقدير : أتاني يمشي مشياً فمن ذلك : قتلته صبراً
ولقيته فجأة ومفاجأة وكفاحاً ومكافحة ولقيته عياناً وكلمته مشافهة وأتيته ركضاً وعدواً وأخذت عنه سماعاً وسمعاً
قال سيبويه : وليس كل مصدر يوضع هذا الموضع ألا ترى أنه لا يحسن : أتانا سرعة ولا رجلة قال أبو العباس : ليس يمتنع من هذا الباب شيء من المصادر أن يقع موقع الحال إذا كانت قصته هذه القصة وخالف سيبويه وقد جاء بعض هذه المصادر يغني عن ذكر الحال بالألف واللام نحو : أرسلها العراك والعراك لا يجوز أن يكون حالاً ولا ينتصب انتصاب الحال وإنما انتصب عندي على تأويل : أرسلها تعترك العراك ف ( تعترك ) حال والمصدر الذي عملت فيه الحال هو العراك ودل على ( تعترك ) فأغنى
عنه وكذلك : طلبته جهدك وطاقتك كأنك قلت : طلبته تجتهد جهدك وتطيق طاقتك أي : تستفرغهما في ذلك
ومذهب سيبويه أن قولهم : مررت به وحده وبهم وحدهم ومررت برجل وحده أي مفرد أقيم مقام مصدر ( يقوم ) مقام الحال وقال : ومثل ذلك في لغة أهل الحجاز : مررت بهم ثلاثتهم وأربعتهم إلى العشرة
وزعم الخليل : أنه إذا نصب فكأنه قال : مررت بهؤلاء فقط مثل وحده في معناه أي : أفرقهم
وأما بنو تميم فيجرونه على الإسم الأول ويعربونه كإعرابه توكيداً له
قال سيبويه ومثل خمستهم قول الشماخ :
( آتتني سُلَيمٌ قَضّها بقضيضِها ... )
كأنه قال : انقض آخرهم على أولهم وبعض العرب يجعل ( قضهم ) بمنزلة كلهم يجريه على الوجوه فهذا مأخوذ من الإِنقضاض فقسه على ما ذكرت لك من قبل
وزعم يونس : أن وحده بمنزلة عنده وأن خمستهم وقضهم كقولك جميعاً وكذلك طُراً وقاطبة
وجعل يونس نصب وحده كأنك قلت : مررت برجل على حياله فطرحت على فأما : ( كلهم وجميعهم وعامتهم وأنفسهم وأجمعون ) فلا يكون أبداً إلا صفة إذا أضفتهن إلى المضمرات وتقول : هو نسيج وحدِهِ لأنه اسم مضاف إليه
قال الأخفش : كل مصدر قام مقام الفعل ففيه ضمير فاعل وذلك إذا قلت : سقياً لزيد وإنما تريد : سقى الله زيداً ولو قلت : سقيا الله زيداً كان جيداً لأنك قد جئت بما يقوم مقام الفعل ولو قلت : أكلاً زيد
الخبز وأنت تأمره كأن جائزاً كقوله : ( فَنَدْلاً زُريقٌ المالَ ندل الثَّعالِبِ ... )
وتقول : ضربتك ضرباً عمرو خالداً ومعناه : ضربتك ضرب عمرو خالداً فإذا قلت : ضربتك زيد خالداً فلا تقدم خالداً قبل الضرب لأنه في صلته
قال أبو بكر : وليس هذا مثل قولك : ضرباً زيداً وأنت تأمره لأن ذاك قد قام مقام الفعل فيجوز أن يقدم المفعول فتقول : زيداً ضرباً وقد مضى تفسير هذا
وتقول : ضربتك ضرب زيد عمراً وكذلك : ضربتك ضربك زيداً وضرباً أنت زيداً إذا جعلته فاعلاً وضربتك ضرباً إياك زيداً إذا جعلته مفعولاً تريد : ضرباً زيد إياك
وقال الأخفش : من رد عليك ضرباً زيد عمراً إذا كنت تأمره أدخلت عليه سقياً له فقلت له : ألست إنما تريد سقى الله زيداً فإنه قائل : نعم فتقول
فكما جاز سقاهً له حين أقمت السقي مقام ( سقا ) فكذلك تقيم
الضرب مقام ( ليضرب ) وتقول : ضرب زيد ضرباً وقتل عمرو قتلاً فتعدى الفعل الذي بني للمفعول إلى المصدر ن كما تعدى الفعل الذي بني للفاعل لا فرق بينهما في ذلك فأما المفعول الذي دخل عليه حرف الجر نحو : سيرا بعبد الله فأنت في المصادر والظروف بالخيار إن شئت نصبت المصادر نصبها قبلٌ وأقمت المفعول الذي دخل عليه حرف الجر مقام الفاعل فقلت : سير بعبد الله سيراً شديداً أقمت ( بعبد الله ) مقام الفاعل ونصبت ( سيراً ) كما تنصبه إذا قلت : سار عبد الله سيراً شديداً وكذلك يجوز في أسماء الزمان والمكان أن تنصبها نصب الظروف في هذه المسألة ويجوز من أجل شغل حرف الجر بعبد الله أن تقيم المصادر والظروف معه مقام الفاعل فترفعها إلا أن الأحسن ألا ترفع إذا نعتت أو أفادت معنى سوى التوكيد وقصد الإِخبار عنها فإذا لم يكن فيها إلا التوكيد نصبت والرفع بعيد جداً تقول : سير بعبد الله سير شديد ومر بعبد الله المرور الذي علمته وإن شئت نصبت وإنما حسن الرفع لأنك قد وصفت المصدر فصار كالاسماء المفيدة فأما النصب : فعلى أنك أقمت ( بزيد ) مقام الفاعل فصار كقولك : ضرب عبد الله الضربَ الذي يعلمُ وشتم عبد الله الشتمَ الشديد وكذلك لو قلت : مر بعبد الله مروان وسير بعبد الله سير شديد لكان مفيداً . وقال الله تعالى : ( فإذا نفح في الصور نفحة واحدة ) فإن قلت : سيرَ بعبد الله سيرٌ وسيراً وذهب إلى عبد الله ذهاباً فالنصب الوجه لأن المصادر موكدة أما جواز الرفع على بعد إذا قلت : سير بعبد الله لأنه ليس في قولك : سير
من الفائدة إلا ما في ( سير ) وجوازه على أنك إذا قلتَ : سير بعبد الله سيرٌ فمعناه : سيرَ بعبد الله ضرب من السير لأنه لو اختلف لكان الوجه أن تقول : سير بعبد الله سيران أي : سيرٌ سريعٌ وبطيء أو : قديمٌ وحديثٌ وهذا قولُ أبي العباس رحمه الله
واعلم : أن قولهم ضرب زيد سوطاً أن معناه : ضرب زيد ضربة بسوط فالسوط هنا قد قامَ مقامَ المصدر ولذلك لم يجز أن تقيمَ السوطَ مقامَ الفاعلِ لا يجوز أن تقول : ضُرِبَ سوطٌ زيداً كما تقول : أعطى درهم عمراً
شرح الثاني وهو المفعول به :
قد تقدّم قولنا في المفعول على الحقيقة أنه المصدر ولما كانت هذه تكون على ضربين : ضرب فيها يلاقي شيئاً ويؤثر فيه
وضرب منه لا يلاقي شيئاً ولا يؤثر فيه فسمي الفعل الملاقي متعدياً وما لا يلاقي غير متعدٍ
فأما الفعل الذي هو غير متعد فهو الذي لم يلاق مصدره مفعولاً نحو : قام وأحمرَ وطالَ
إذا أردت به ضد قصر خاصةً وإن أردتَ بِه معنى علا كان متعدياً والأفعال التي لا تتعدى هي ما كان منها خلقةً أو حركة للجسم في ذاته وهيئةً له أو فعلاً من أفعال النفس غير متشبث بشيء خارج عنها
أما الذي
هو خلقة فنحو : أسوَدَ وأحمرَ وأعورَ وأشهابَ وطالَ وما أشبه ذلك
وأما حركة الجسم بغير ملاقاة لشيء آخر فنحو : قامَ وقعدَ وسارَ وغارَ ألا ترى أن هذه الأفعال مصوغة لحركة الجسم وهيئته في ذاته فإن قال قائل : فلا بد لهذه الأفعال من أن تلاقي المكان وأن تكون فيه قيل : هذا لا بدَّ منه لكل فعلٍ والمتعدي وغير المتعدي في هذا سواء وإنما علمنا محيط بأن ذلك كذلك لأن الفعل يصنع ليدل على المكان كما صيغ ليدل على المصدر والزمان
وأما أفعال النفس التي لا تتعداها فنحو : كرُمَ وظَرُفَ وفَكَر وغَضِبَ وخَبرَ وبَطُرَ ومَلُحَ وحَسُنَ وسمحَ وما أشبه ذلك
وأما الفعل الذي يتعدى فكل حركة للجسم كانت ملاقيةً لغيرها وما أشبه ذلك من أفعال النفس وأفعال الحواس من الخمس كلها متعدية ملاقية نحو : نظرت وشممت وسمعت وذقت ولمست وجميع ما كان في معاينهن فهو متعد وكذلك حركة الجسم إذا لاقت شيئاً كان الفعلُ من ذلك متعدياً نحو : أتيتُ زيداً ووطئتُ بلدكَ وداركَ وأما قولك : فارقته وقاطعتهُ وباريتهُ وتاركتهُ فإنما معناه : فعلت كما يفعل وساويت بين الفعلين والمساواة إنما تعلم بالتلاقي وتركتكَ في معنى تاركتكَ لأن كل شيء تركتهُ فقد ترككَ فافهم هذا فإن فيه غموضاً قليلاً
وقد اختلف النحويون في : ( دخلت البيت ) هل هو متعد أو غير متعد وإنما التبس عليهم ذلك لإستعمال العرب له بغير حرف الجر في كثير من المواضع وهو عندي غير متعد كما قدمناه وإنك لما قلت : دخلت إنما عنيت بذلك انتقالك من بسيط الأرض ومنكشفها إلى ما كان منها غير بسيط منكشف فالإنتقال ضربٌ واحدٌ وإن اختلفت المواضع و ( دخلت ) مثل غرتُ إذا أتيت الغور فإن وجب أن يكون ( دخلت ) متعدياً وجبَ أن يتعدى ( غرتُ ) ودليلٌ آخر : أنك لا ترى فعلاً من الأفعال يكون متعدياً إلا كان مضاده متعدياً وإن كان غير متعد كان مضادُهُ غير متعد فَمن ذلك : تحركَ
وسكنَ فتحرك غير متعد وسكنَ غير متعد وأبيضَ وأسود كلاهما غير متعد وخرج ضد دخل وخرج غير متعد فواجب أن يكون دخل غير متعد وهذا مذهب سيبويه
قال سيبويه : ومثل : ذهبت الشام دخلت البيت يعني : أنه قد حذف حرف الجر من الكلام وكان الأصل عنده : ذهبت إلى الشام ودخلت في البيت
هما مستعملان بحروف الجر فحذف حرف الجر من حذفه اتساعاً واستخفافاً فإذا قلت : ضربتُ وقتلتُ وأكلتُ وشربت وذكرتُ ونسيتُ وأحيا وأماتَ فهذه الأفعال ونحوها هي المتعدية إلى المفعولين نحو : ضربتُ زيداً وأكلتُ الطعامَ وشربتُ الشراب وذكرتُ الله واشتهيتُ لقاءك وهويتُ زيداً وما أشبه هذا من أفعال النفس المتعدية فهذا حكمه ولا تتمُ هذه الأفعال المتعدية ولا توجد إلا بوجود المفعول لأنك إن قلت : ذكرت ولم يكن مذكور فهو محال وكذلك . اشتهيت وما أشبههُ
واعلم : أن هذا إنما قيل له مفعول به لأنه لما قال القائل : ضَرَبَ وقتل قيل له : هذا الفعل بمنْ وقع فقال : بزيدٍ أو بعمروٍ فهذا إنما يكون في المتعدي نحو ما ذكرنا ولا يقال فيما لا يتعدى نحو : قام وقعد لا يقال هذا القيام بمن وقع ولا هذا القعود بمن حل إنما يقال : متى كان هذا القيام وفي أي وقت وأين كان وفي أي موضع والمكان والزمان لا يخلو فعلٌ منهما متعدياً كان أو غير متعد فمتى وجدتَ فعلاً حقه أن يكون غير متعد بالصفة التي ذكرتُ لك ووجدتَ العرب قد عدتهُ فاعلمْ أن ذلك اتساعٌ في اللغة واستخفاف وأن الأصلَ فيه أن يكون متعدياً بحرف جر وإنما حذفوه استخفافاً نحو ما ذكرت لك من : ذهبت الشام ودخلت البيت وسترى هذا في مواضع من هذا الكتاب
وهذه الأفعال المتعدية تنقسم ثلاثة أقسام : منها ما يتعدى إلى مفعول واحد ومنها ما يتعدى إلى مفعولين ومنها ما يتعدى إلى ثلاثة مفاعيل فأما ما يتعدى إلى مفعول واحد فقد ذكرنا منه ما فيه كفاية ونحن نتبعه بما يتعدى إلى مفعولين وإلى ثلاثة بعد ذكرنا مسائل هذا الباب إن شاء الله
مسائل من هذا الباب
اعلم : أن الأفعال لا تثنى ولا تجمع وذلك لأنها أجناس كمصادرها ألا ترى أنك تقول : بلغني ضربكم زيداً كثيراً وجلوسكم إلى زيد قليلاً كان الضربُ والجلوس قليلاً أو كثيراً وإنما يثنى الفاعل في الفعل فإن قلت فإنك تقول : ضربتكَ ضربتين وعلمتُ علمتين فإنما ذلك لإختلاف النوعين من ضرب يخالف ضرباً في شدته وقلتِه أو علم يخالف علماً كعلمِ الفقهِ وعلمِ النحوِ كما تقولُ : عندي تمور إذا اختلفت الأجناس ومع ذلك فإن الفعل يدل على زمان فلا يجوز أن تثنيه كما ثنيت المصدر وإن اختلفت أنواعه فالفعل لا بد له من الفاعل يليه بعده إما ظاهراً وإما مضمراً ولا يجوز أن يثنى ولا يجمع لما بينت لك فإذا قلت : الزيدان يقومان فهذه الألف ضمير الفاعلين والنون علامة الرفع وإذا قلت : الزيدون يقومون فهذه الواو ضمير الجمع والنون علامة الرفع ويجوز : قاموا الزيدون ويقومون الزيدون على لغة من قال : أكلوني البراغيث فهؤلاء إنما يجيئون بالألف والنون وبالواو والنون في : يضربان ويضربون وبالألف والواو في : ضربا وضربوا فيقولون : ضربا الزيدان وضربوا الزيدون ليعلموا أن هذا الفعل لإثنين لا لواحد ولا لجميع ولا لإثنين ولا لواحد كما أدخلت التاء في فِعلِ المؤنثِ لتفصل بين فعل المذكر والمؤنث فكذلك هؤلاء زادوا بياناً
ليفرقوا بين فِعْلِ الإِثنين وبين الواحد والجميع وهذا لعمري هو القياس على ما أجمعوا عليه في التاء من قولهم : قامت هند وقعدت سلمى ولكن هذا أدى إلى إلباس إذ كان من كلامهم التقديم والتأخير فكأن السامع إذا سمع قاموا الزيدون لا يدري هل هو خبر مقدم والواو فيه ضمير أم الواو عمل الجمع فقط غير ضمير وكذلك الألف في ( قاما الزيدان ) فلهذا وغيره من العلل ما جمع على التاء ولم يجمع على الألف والواو فجاز في كل فعل لمؤنث تقول : فعلت ولا يحسنُ سقوطها
إلا أن تفرق بين الإسم والفعل فإذا بعُد منه حسن نحو قولهم : حضر اليوم القاضي امرأة
وقال أبو العباس رحمه الله : إن التأنيث معنى لازم غير مفارق إذا لزم المعنى لزمت علامته وليس كذا التثنية والجمع لأنه يجوز أن يفترق الإِثنان والجمع فتخبر عن كل واحد منهما على حياله والتأنيث الحقيقي الذي لا يجوز فعله إلا بعلامة التأنيث هو كل مؤنث له ذكر كالحيوان نحو قولك : قامت أمة الله ونتجت فرسك والناقة إلا أن يضطر شاعر فيجوز له حذف العلامة على قبح فإن كان التأنيث في الإسم ولا معنى تحته فأنت مخير إن شئت جئت بالتاء لتأنيث اللفظ وإن شئت حذفتها
قال الله عز و جل : ( فمن جاءه موعظة من ربه ) ( قالوا ) لأن الموعظة والوعظ سواء
وقال تعالى : ( وأخذ الذين ظلموا الصيحة ) لأن الصيحة والصوت واحد أما قوله تعالى : ( وقال نسوة في المدينة ) فإنما جاء على تقدير جماعة فهو تأنيث الجمع ولا واحد لزمه التأنيث فجمع عليه فلو كان تأنيث الواحد للزمه التاء كما تقول : قامت المسلمات لأنه على ( مسلمة ) وتقول : قامت الرجال لأنه تأنيث الجمع
واعلم : أن الفاعل لا يجوز أن يُقدم على الفعل إلا على شرط الإبتداء خاصة وكذلك ما قام مقامه من المفعولين الذين لم يسم من فَعَلَ بهم فأما المفعول إذا كان الفعل متصرفاً فيجوز تقديمُه وتأخيره تقول : ضربت زيداً وزيداً ضربتُ وأكلت خبزاً وخبزاً أكلت وضَرَبَتْ هند عمراً وعمراً ضَرَبَتْ هند وغلامُك أخرج بكراً وبكراً أخرج غلامك وتقول : أشبع الرجلين الرغيفان ويكفي الرجلين الدرهمان وتقول : حرق فاه الخل لأن الخل هو الفاعل وتقول : أعجب ركوبك الدابة زيداً فالكاف في قولك : ( ركوبك ) مخفوضة بالإِضافة وموضعها رفع والتقدير : أعجب زيداً أن رَكِبت الدابة فالمصدر يجر ما أُضيف إليه فاعلاً كان أو مفعولاً ويجري ما بعده على الأصل فإضافته إلى الفاعل أحسن لأنه له كقول الله تعالى : ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض )
وإضافته إلى المفعول حسنة لأنه
به اتصل وفيه حل
تقول : أعجبني بناءُ هذه الدار وما أحسن خياطةَ هذا الثوب فعلى هذا يقول : أعجب ركوبُ الفرس عمرو زيداً أردت : أعجب أن رَكِبَ الفرس عمرو زيداً
فالفرس وعمرو وركب في صلة أن وزيد منتصب ب ( أعجب ) خارج عن لالصلة تقدمه إن شئت قبل ( أعجب ) وإن شئت جعلته بين أعجب والركوب وكذلك : عجبت من دق الثوبِ القصارُ فإن نونت المصدر أو أدخلت فيه ألفاً ولاماً امتنعت إضافته فجرى كل شيء على أصله فقلت : أعجب ركوبٌ زيدٌ الفرس عمراً وإن شئت قلت : أعجب ركوبٌ الفرسَ زيدٌ عمراً ولا يجوز أن تقدم الفرس ولا زيداً قبل الركوب لأنهما من صلته فقد صارا منه كالياء والدال من زيد
وتقول : ما أعجب شيء شيئاً إعجاب زيدٍ ركوبُ الفرسِ عمرو نصبت ( إعجاب ) لأنه مصدر وتقديره : ما أعجب شيء شيئاً إعجابا مثل إعجاب زيد ورفعت الركوب بقولك : أعجب لأن معناه : كما أعجب زيداً أن ركب الفرس عمروٌ
وتقول : أعجب الأكلُ الخبزَ زيدٌ عمراً على ما وصفت لك وعلى ذلك قال الله تعالى : ( أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة ) التقدير : أو أن أُطعم . لقوله وما أدراك
وتقول : أعجب بيعُ طعامِك رخصُه المشتريه فالتقدير : أعجب أن باع طعامك رخصه الرجل المشتريه
فالرخص هو الذي باع الطعام وتقول : أعجبني ضربُ الضارب زيداً عبدَ الله رفعت الضرب لأنه فاعل ب ( أعجبني ) وأضفته إلى الضارب ونصبت زيداً لأنه مفعول في صلة الضارب ونصبت عبد الله بالضرب الأول وفاعله ( الضارب ) المجرور وتقديره : أعجبني أن ضرب الضارب زيداً عبد الله
وتقول : أعجب إعطاءٌ الدراهم أخاك غلامك أباك نصبت أباك ب ( أعجب ) وجعلت غلامك هو الذي أعطى الدراهم أخاك
وتقول : ضَرْبَ الضاربِ عمراً المكرم زيداً أحبَّ أخواك نصبت ضرب الأول ب ( أحب ) وجررت
( الضارب ) بالإِضافة وعديته إلى ( عمرو ) ونصبت المكرم زيداً بضرب الأول فإن أردت أن لا تعديه إلى عمرو قلت : ضرْبَ الضاربِ المكرمَ زيداً أحبَّ أخواك وهذا كله في صلة الضرب لأنك أضفته إلى الضارب وسائر الكلام إلى قولك ( أحب ) متصل به
وتقول : سر دفعك إلى المعطي زيداً ديناراً درهماً القائم في داره عمرو نصبت القائم ( بسر ) ورفعت عمراً بقيامه ولو قلت : سرّ دفعكَ إلى زيدٍ درهماً ضربكَ عمراً كان محالاً لأن الضرب ليس مما يسرُّ ولو قلت : وافق قيامُك قعود زيد صلح ومعناه أنهما اتفقا في وقت واحد ولو أردت ( بوافق ) معنى الموافقة التي هي الإِعجاب لم يصلح إلا في الآدميين
باب الفعل الذي يتعدى إلى مفعولين الفعل الذي يتعدى على مفعولين ينقسم إلى قسمين : فأحدهما يتعدى إلى مفعولين ولك أن تقتصر على أحدهما دون الآخر
والآخر يتعدى إلى مفعولين وليس لك أن تقتصر على أحدهما دون الآخر فأما الذي يتعدى إلى مفعولين ولك أن تقتصر على أحدهما دون الآخر فقولك : أعطى عبد الله زيداً درهماً وكسا عبد الله بكراً ثوباً فهذا الباب الذي يجوز فيه الإقتصار على المفعول الأول ولا بد أن يكون المفعول الأول فاعلاً فيه في المعنى بالمفعول الثاني ألا ترى أنك إذا قلت : أعطيت زيداً درهماً فزيد المفعول الأول
والمعنى : أنك أعطيته فأخذ الدرهم والدرهم مفعول في المعنى لزيد وكذلك : كسوت زيداً ثوباً المعنى : أنّ زيداً اكتسى الثوب ولبسه
والأفعال التي تتعدى إلى مفعول واحد كلها إذا نقلتها من ( فَعلَ ) إلى ( أفْعَلَ ) كتاب كان من هذا الباب تقول : ضرب زيداً عمراً ثم تقول : أضربت زيداً عمراً أي : جعلت زيداً يضرب عمراً فعمرو في المعنى مفعول لزيد فهذه هي الأفعال التي يجوز لك فيها الإقتصار على المفعول الأول لأن الفائدة واقعة به وحده تقول : أعطيت زيداً ولا تذكر ما أعطيته فيكون كلاماً تاماً مفيداً
وتقول : أضربت زيداً ولا تقول لمن أضربته
واعلم : أن من الأفعال ما يتعدى إلى مفعولين في اللفظ وحقه أن يتعدى إلى الثاني بحرف جر إلا أنهم استعملوا حذف حرف الجر فيه
فيجوز فيه الوجهان في الكلام
فمن ذلك قوله تعالى : ( واختار موسى قومه سبعين رجلا ) وسميته زيداً وكنيت زيداً أبا عبد الله ألا ترى أنك تقول : اخترت من الرجال وسميته بزيد وكنيته بأبي عبد الله ومن ذلك قول الشاعر :
( أستغفرُ اللَه ذَنْباً لَسْتُ مُحصيهُ ... رَبَّ العبادِ إليهِ الوجهُ والعَملُ )
وقال عمرو بن معد يكرب :
( أَمَرْتُكَ الخَيْرَ فَافعَلْ ما أُمِرْتَ بهِ ... فقدْ تركتُكَ ذَا مالٍ وذَا نَشَبِ )
أراد : استغفر الله من ذنب وأمرتك بالخير ومن ذلك : دعوته زيداً إذا أردت دعوته التي تجري مجرى سميته وإن عنيت الدعاء إلى أمر لم يجاوز مفعولاً واحداً فأصل هذا دخول الباء فإذا حذف حرف الجر عمل الفعل ومنه : نبئت زيداً تريد : عن زيد وأنشد سيبويه في حذف حرف الجر قول المتلمس :
( آليتُ حَبَّ العراقِ الدَّهرَ أطعمُهُ ... والحَبُّ يأكلُهُ في القريةِ السُّوسُ )
وقال : تريد على حب العراق . وقد خولف في ذلك
قال أبو العباس : إنما هو : آليت أطعم حب العراق أي : لا أطعم
كما تقول : والله أبرح ها هنا أي : لا أبرح
وخالفه أيضاً في نبَّأْتُ زيداً فقالَ : زيداً معناهُ : أعلمتَ زيداً ونبَّأْتُ زيداً معناه : أعملتُ زيداً
وأعلم : أنه ليس كل فعل يتعدى بحرف جر لك أن تحذف حرف الجر منه وتعدي الفعل إنما هذا يجوز فيما استعملوه وأُخذ سماعاً عنهم ومن ذلك قول الفرزدق :
( مِنَا الَّذي أخْتِيرَ الرِّجَالَ سَمَاحَةً ... وُجوداً إذا هَبَّ الرِّيَاحُ الزَّعَازعُ )
والقسم الثاني : وهو الذي يتعدى إلى معفولين وليس لك أن تقتصر على أحدهما دون الآخر هذا الصنف من الأفعال التي تنفذ منك إلى غيرك ولا يكون من الأفعال المؤثرة وإنما هي أفعال تدخل على المبتدأ والخبر فتجعل الخبر يقيناً أو شكاً وذلك قولك : حسب عبد الله زيداً بكراً وظن عمروٌ خالداً أخاك وخال عبد الله زيداً أباك وعلمت زيداً أخاك ومثل ذلك : رأى عبد الله زيداً صاحبنا إذا لم ترد رؤية العين
ووجد عبد الله زيداً ذا الحفاظ إذا لم ترد التي في معنى وجدان الضالة
ألا ترى أنك إذا قلت : ظننت عمراً منطلقاً فإنما شكك في إنطلاق عمرو لا في عمروٍ وكذلك إذا
قلت : علمت زيداً قائماً فالمخاطب إنما استفاد قيام زيدٍ لا زيداً لأنه يعرف زيداً كما تعرفه أنت والمخاطبُ والمُخاطِبُ في المفعول الأول سواء وإنما الفائدة في المفعول الثاني كما كان في المبتدأ والخبر الفائدة في الخبر لا في المبتدأ فلما كانت هذه الأفعال إنما تدخل على المبتدأ والخبر والفائدة في الخبر والمفعول الأول هو الذي كان مبتدأ والمفعول الثاني هو الذي كان الخبرَ بقيَ موضعُ الفائدةِ على حالهِ
واعلم : أن كل فعل متعد لك ألاّ تعديه وسواء عليك أكان يتعدى إلى مفعول واحد أو إلى مفعولين أو إلا ثلاثة لك أن تقول : ضربت ولا تذكر المضروب لتفيد السامع أنه قد كان منك ضرب
وكذلك ظننت يجوز أن تقول : ظننت وعلمت إلى أن تفيد غيرك ذلك
واعلم : أن ظننت وحسبت وعلمت وما كان نحوهن لا يجوز أن يتعدى واحد منها إلى أحد المفعولين دون الآخر لا يجوز : ظننت زيداً وتسكت حتى تقول : ( قائماً ) وما أشبه
من أجل أنه إنما يدخل على المبتدأ والخبر فكما لا يكون المبتدأ بغير خبر كذلك : ( ظننت ) لا تعمل في المفعول الأول بغير مفعول ثانٍ
فأما قولهم : ظننت ذاك فإنما جاز السكوت عليه لأنه كناية عن الظن يعني المصدر فكانه قال : ظننت ذاك الظن ف ( ذاك ) : إشارة إلى المصدر تعمل الظن فيه كما تعمل الأفعال التي لا تتعدى في المصدر إذا قلت : قمت قياماً ويجوز إذا لم تعد : ظننت أن تقول : ظننت به تجعله موضع ظنك كما تقول : نزلت به ويجوز لك أن تلغي الظن إذا توسط الكلام أو تأخر وإن شئت أعملته تقول : زيدٌ ظننت منطلق
وزيدٌ منطلقٌ ظننت فتلغي الظن إذا تأخر ولا يحسن الإِلغاء إلا مؤخراً فإذا ألغيت فكأنك قلت : زيدٌ منطلق في ظني ولا يحسن أن تلغيَهُ إذا تقدم
مسائل من هذا الباب تقول : ظننته أخاك قائماً تريد : ظننت الظن فتكون الهاء كناية عن الظن كأنك قلت : ظننت أخاك قائماً الظن ثم كنيتَ عن الظن وأجاز بعضهم : ظننتها أخاك قائماً يريد : الظنة وكذلك إن جعلت الهاء وقتاص أو مكاناً على السعة تقول : ظننت زيداً منطلقاً اليوم ثم تكني عن اليوم فتقول : ظننت زيداً منطلقاً فيه ثم تحذف حرف الجر على السعة فتقول : ظننته زيداً منطلقاً تريد : ظننت فيه والمكان كذلك وإذاولي الظن حروف الإستفهام وجوابات القسم بطل في اللفظ عمله وعمل في الموضع تقول : علمت أزيدٌ في الدار أم عمرو وعلمت إن زيداً لقائم وأخال لعمرو أخوك وأحسب ليقومن زيد ومن النحويين من يجعل ما ولا ك ( أَنْ ) واللام في هذا المعنى فيقول : أظن ما زيد منطلقاً وأحسب لا يقوم زيد لأنه يقول : والله ما زيد محسناً ووالله لا يقوم وزيد
وتقول : ظننته زيدٌ قائمٌ تريد ظننت الأمر والخبر وهذا الذي يسميه الكوفيون المجهول
وتقول ظننته هند قائمة فتذكر لأنك تريد الأمر والخبر وظننته
تقوم هند ويجوز في القياس : ظننتها زيد قائم تريد : القصة
ولا أعلمه مسموعاً من العرب
فأما الكوفيون فيجيزون تأنيث المجهول وتذكيره إذا وقع بعده المؤنث يقولون : ظننته هند قائمة وظننتها هند قائمة وتقول : ظننته قائم زيد والهاء كناية عن المجهول
والكوفيون يجيزون إذا ولي هذه الهاء فعل دائم النصب فيقولون : ظننته قائماً زيدٌ ولا أعرف لذلك وجهاً في القياس ولا السماع من العرب وتقول : زيدٌ أظنُّ منطلقٌ فتلغي ( أظنُّ ) كما عرفتك
وتقول : خلفكَ أحسبُ عمروٌ قامَ وقائمٌ أظن زيد فتلغي وإن شئت أَعملت والكوفيون لا يجيزون إذا تقدمه ماضٍ أو مستقبل أن يعملوا
ويحيزون أن يعمل إذا تقدمه اسم أو صفة والإِلغاء عندهم أحسن
قال أبو بكر وذلك عندنا سواء
قال الشاعر :
( أَباالأراجيزِ يا ابْنَ اللُّؤمِ تُوعِدُني ... وفي الأَراجِيزِ خلتُ اللومُ والخورُ )
فألغى : ( خلتُ ) ويلغي المصدر كما يلغي الفعل وتقول : عبد الله ظني قائم وفي ظني وفيما أظن وظناً مني فهذا يلغي وهو نصب تريد : أظن ظناً وإذا قلت : في ظني ( ففي ) من صلة كلامك جعلت ذلك فيما تظن
وحكي عن بعضهم : أنه جعله من صلة خبر عبد الله لأن قيامه فيما يظن وتقول : ظننت زيداً طعامَكَ آكلاً وطعامكَ ظننت زيداً آكلاً
ولا يجوز : ظننت طعامك زيداً آكلاً من حيث قبح : كانت زيداً الحمّى تاخذ وهذه المسألة توافق : كانتْ زيداً الحمى تأخذُ من جهة وتخالفها من جهة أما الجهة التي تخالفها فإن ( كانت ) خالية من الفاعل وظننت معها الفاعل والفعل لا يخلو من الفاعل
والتفريق بينه وبين الفاعل أقبح منه بينه وبين المفعول
والذي يتفقان فيه أن ( كان ) تدخل على مبتدأ وخبر وظننت ما عملا فيه بما لم يعملا فيه
فإن أعملت : ( ظننت ) في مجهول جاز كما جاز في ( كان ) ورفعت زيداً وخبره فقلت : ظننته طعامك زيدٌ آكلٌ ويجوز : ظننته آكل زيد طعام ويجوز في قول الكوفيين نصب آكل
وقد أجاز قوم من النحويين : ظننت عبد الله يقوم وقاعداً وظننت عبد الله قاعداً ويقوم
ترفع ( يقوم ) وأحدهما نسق على الآخر
ولكن إعرابهما مختلف وهو عندي قبيح من أجل عطف الإسم على الفعل والفعل على الإسم لأن العطف أخو التثنية فكما لا يجوز أن ينضم فعل إلى اسم في تثنية كذلك لا يجوز في العطف ألا ترى أنك إذا قلت : زيدان فإنما معناه : زيد وزيد فلو كانت الأسماء على لفظ واحد لاستغني عن العطف
وإنما احتيج إلى العطف لإختلاف الأسماء تقول : جاءني زيد وعمرو لما اختلف الإسمان ولو كان اسم كل واحد منهما عمرو لقلت : جاءني العمران فالتثنية نظير العطف ألا ترى أنه يجوز لك أن تقول : جاءني زيد وزيد فحق الكلم التي يعطف بعضها على بعض أن يكون متى اتفقت ألفاظها جاز تثنيتها وما ذكروا جائز في التأويل لمضارعة ( يَفْعَلُ ) لفاعل وهو عندي قبيح لما ذكرت لك
وتقول : ظن ظاناً زيداً أخاك عمرو تريد : ظن عمرو ظاناً زيداً أخاك رفعت عمراً وهو المفعول الأول إذ قام مقام الفاعل ونصبت ( ظاناً ) لأنه المفعول الثاني فبقي على نصبه
ويجوز أن ترفع ظاناً وتنصب عمراً فتقول : ظن ظان زيداً أخاك عمراً كأنك قلت : ظن رجل ظان زيداً أخاك عمراً فترفع ( ظاناً ) بأنه قد قام مقام الفاعل وتنصب زيداً أخاك به وتنصب عمراً لأنه مفعول ( ظن )
وهو خبر ما لم يسم فاعله وتقول : ظن مظنون عمراً زيداً
كأنك قلت : ظن رجل مظنون عمراً زيداً فترفع ( مظنون ) بأنه قام مقام الفاعل وفيه ضمير رجل والضمير مرتفع ب ( مظنون ) وهو الذي قام مقام الفاعل في مظنون وعمراً منصوب ب ( مظنون ) وزيداً منصوب ب ( ظن )
وتقول : ظن مظنون عمرو أخاه زيداً كأنك قلت : ظن رجل مظنون عمرو أخاه زيداً و ( مظنون ) في هذا وما أشبهه من النعوت يسميه الكوفيون خلفاً يعنون أنه خلف من اسم
ولا بد من أن يكون فيه راجع إلى الإسم المحذوف
والبصريون يقولون : صفة قامت مقام
الموصوف والمعنى واحد فيرفع ( مظنون ) بأنه قام مقام الفاعل وهو ما لم يسم فاعله وترفع عمراً ب ( مظنون ) لأنه قام مقام الفاعل في مظنون
ونصبت أخاه ب ( مظنون ) ورجعت الهاء إلى الإسم الموصوف الذي ( مظنون ) خلف منه ونصبت زيداً ب ( ظن ) فكأنك قلت : ظن رجل زيداً ولو قتل : ظن مظنون عمرو أخاك زيداً لم يجز لأن التأويل : ظن رجل مظنون عمرو أخاك زيداً ف ( مظنون ) صفة لرجل ولا بد من أن يكون في الصفة أو فيما تشبثت به الصفة ما يرجع إلى رجل
وليس في هذه المسألة ما يرجع إلى رجل فمن أجل ذلك لم يجز ويجوز في قول الكوفيين : ظن زيد قائماً أبوه على معنى أن يقوم أبوه
ولا يجيز هذا البصريون لأنه نقض لباب ( ظن ) وما عليه أصول الكلام وإنما يجيز هذا الكوفيون فيما عاد عليه ذكره
وينشدون :
( أظنُّ ابنَ طُرثُوثٍ عُتيبةُ ذَاهِباً ... بعَاديتي تكذابُهُ وجَعائلُه )
باب الفعل الذي يتعدى إلى ثلاثة مفعولين اعلم : أن المفعول الأول في هذا الباب هو الذي كان فاعلاً في الباب الذي قبله فنقلته من فَعَلَ إلى ( أفعلَ ) فصار الفاعل مفعولاً وقد بينت هذا فيما تقدم تقول رأى زيد بشراً أخاك فإذا نقلتها إلى ( أفعل ) قلت : أرى الله زيداً بشراً أخاك وأعلم الله زيداً بكراً خير الناس
وقد جاء ( فَعَلْتُ ) في هذا النحو تقول : نبأت زيداً عمراً أبا فلان ولا يجوز الإِلغاء في هذا الباب كما جاز في الباب الذي قبله لأنك إذا قلت : علمت وظننت وما أشبه ذلك فهي أفعال غير واصلة فإذا قلت : ( أعلمت ) كانت واصلة فمن هنا حسن الإِلغاء في ( ظننت وعلمت ) ولم يجز إلغاء : ( علمت ) لأنك إذا ( ظننت ) فإنما هو شيء وقع في نفسك لا شيء فعلتَه
وإذا قلت : ( أعلمت ) فقد أثرت أثراً أوقعته في نفس غيرك
ومع ذلك فإن : ( ظننت وعلمت ) تدخلان على المبتدأ والخبر فإذا ألغينا بقي الكلام تاماً مستغنياً بنفسه تقول : زيداً ظننت منطلقاً فإذا ألغيت : ( ظننت ) بقي زيد ومنطلق فقلت : زيد منطلق ثم تقول ( ظننت ) والكلام مستغن والملغى نظير المحذوف فلا يجوز أن يلغى من الكلام ما إذا حذفته بقي الكلام غير تام ولو ألغيت : ( أعلمت ورأيت ) من قولك : أريت زيداً بكراً خير الناس وأعلمت بشراً خالداً شر الناس والملغى كالمحذوف لبقي زيد بكر خير الناس فزيد بغير خبر والكلام غير مؤتلف ولا تام
واعلم : أن هذه الأفعال المتعدية كلها ما تعدى منها إلى مفعول وما تعدى منها إلى اثنين وما تعدى منها إلى ثلاثة إذا انتهت إلى ما ذكرت لك من المفعولين فلم يكن بعد ذلك متعدي تعدت إلى جميع ما يتعدى إليه الفعل الذي لا يتعدى الفاعل إلى مفعول من المصدر والظرفين والحال وذلك قولك : أعطى عبد الله زيداً المال إعطاء جميلاً وأعلمت هذا زيداً قائماً العلم اليقين إعلاماً لما انتهت صارت بمنزلة ما لا يتعدى
مسائل من هذا الباب تقول : سرقت عبد الله الثوب الليلة فتعدى ( سَرَقْتُ ) إلى ثلاثة مفعولين على أن لا تجعل ( الليلة ) ظرفاً ولكنك تجعلها مفعولاً على السعة في اللغة كما تقول : يا سارق الليلة زيداً الثوب
فتضيف ( سارقاً ) إلى الليلة وإنما تكون الإِضافة إلى الأسماء لا إلى الظروف وكذلك حروف الجر إنما تدخل على الأسماء لا على الظروف فكل منجر بجار عامل فيه فهو اسم وتقول : أعلمت زيداً عمراً هندٌ معجبها هو
كان أصل الكلام : علم زيداً عمراً هند معجبها هو
فزيد مرفوع ب ( عَلَم ) وعمرو منصوب بأنه المفعول الأول وهند مرتفعة بالإبتداء ( ومعجبها ) هو الخبر و ( هو ) هذه كناية عن عمرو وراجعة إليه فلم يجز أن تقول : معجبها ولا تذكر ( هو ) لأن أسماء الفاعلين إذا جرت على غير من هي له لم يكن بد من إظهار الفاعل
وقد بينا هذا فيما تقدم ( وهند ) وخبرها الجملة بأسرها قامت مقام المفعول الثاني وموضعها نصب فإذا نقلت ( علم ) إلى ( أعلمت ) صار زيد مفعولاً فقلت : أعلمت زيداً عمراً هند معجبها هو فإن قيل لك أكن عن ( هند معجبها هو )
قلت : أعلمت زيداً عمراً إياه لأن موضع الخبر نصب
وهذا إذا كنيت عن معنى الجملة لا عن الجملة وتقول : أعلمته زيداً أخاك قائماً تريد : أعلمت العلم فتكون الهاء كناية عن المصدر كما كانت في ( ظننته زيداً أخاك ) فإن جعلت الهاء وقتاً أو مكاناً على السعة جاز كما كان في ( ظننته ) وقد فسرته في باب مسائل ( ظننت )
ومن قال ظننته زيد قائم : فجعل الهاء كناية عن الخبر والأمر وهو الذي يسميه الكوفيون المجهول لم يجز له أن يقول في ( أعلمت زيداً عمراً خير الناس ) أعلمته زيداً عمرو خير الناس لما خبرتك به من أنه يبقى زيد بلا خبر وإنما يجوز ذلك في الفعل الداخل على المبتدأ والخبر فلا يجوز هذا في ( أعلمت ) كما لا يجوز الإِلغاء لأنك تحتاج إلى أن تذكر بعد الهاء خبراً تاما يكون هو بجملته تلك الهاء والأفعال المؤثرة لا يجوز أن يضمر فيها المجهول إنما تذكر المجهول مع الأشياء التي تدخل على المبتدأ والخبر ونحو : كان وظننت وأن وما أشبه ذلك ألا ترى أن تأويل ظننته زيد قائم ظننت الأمر والخبر زيد قائم وكذلك إذا قلت : إنَّه زيد قائم فالتأويل : أن الأمر زيد قائم وكذلك : كان زيد قائم إذا كان فيها مجهول التأويل كان الأمر زيد قائم ولا يجوز أن تقول : أعلمت الأمر ولا أريت الأمر هو ممتنع من جهتين : من جهة أن زيداً يكون بغير خبر يعود إليه ولو زدت في المسألة أيضاً ما يرجع إليه ما جاز من الجهة الثانية
وهي أنه لا يجوز : أعلمت الخبر خبراً إنما يعلم المستخبر وتقول : أعلمت عمراً زيداً ظاناً بكراً أخاك كأنك قلت : أعلمت عمراً زيداً رجلاً ظاناً بكراً أخاك
فإن رددت إلى ما لم يسم فاعله قلت : أعلم عمرو زيداً ظاناً بكراً أخاك ولك أن تقيم ( زيداً ) مقام الفاعل وتنصب عمراً فتقول : أعلم زيد عمراً ظاناً بكراً أخاك ولا يجوز : أعلم ظان بكراً أخاك
عمراً زيداً
من أجل أن حق المفعول الثالث أن يكون هو الثاني في المعنى إذ كان أصله المبتدأ والخبر وقد تقدم تفسير ذلك فإن كان عمرو هو زيد له إسمان جاز وجعلته هو على أن يغني غناه ويقوم مقامه كما تقول : زيد عمرو أي : أن أمره وهو يقوم مقامه جازَ وإلا فالكلام محالٌ لأن عمراً لا يكون زيداً
شرح الثالث : وهو المفعول فيه :
المفعول فيه ينقسم على قسمين : زمان ومكان أما الزمان فإن جميع الأفعال تتعدى إلى كل ضرب منه معرفة كان أو نكرة وذلك أن الأفعال صيغت من المصادر بأقسام الأزمنة كما بينا فيما تقدم فما نصب من أسماء الزمان فانتصابه على أنه ظرف وتعتبره بحرف الظرف أعني
( في ) فيحسن معه فتقول : قمت اليوم وقمت في اليوم فأنت تريد معنى ( في ) وإن لم تذكرها ولذلك سميت إذا نصبت ظروفاً لأنها قامت مقام ( في ) ألا ترى أنك إذا قلت : قمت اليوم ثم قيل لك : أكن عن اليوم قلت : قمت فيه وكذلك : يوم الجمعة ويوم الأحد والليلة وليلة السبت وما أشبه ذلك وكذلك : نكراتها نحو قولك : قمت يوماً وساعة وليلة وعشياً وعشيةً وصباحاً ومساءً
فأما سحر إذا أردت به سحر يومك وغدوة وبكرة هذه الثلاثة الأحرف فإنها لا تتصرف تقول : جئتك اليوم سحر وغدوة وبكرة يا هذا وسنذكرها في موضعها فيما يتصرف وما لا يتصرف إن شاء الله
وكل ما جاز أن يكون جواب ( متى ) فهو زمان ويصلح أن يكون ظرفاً
للفعل يقول القائل : متى قمت فتقول : يوم الجمعة ومتى صمت فتقول : يوم الخميس ومتى قدم فلان فتقول : عام كذا وكذا وكل ما كان جواب متى فالعمل يجوز أن يكون في بعضه وفي كله يقول القائل : متى سرت فتقول : يوم الجمعة فيجوز أن يكون سرت بعض ذلك اليوم ويجوز أن يكون قد سرت اليوم كله ( وكم )
من أجل أنها سؤال عن عدد تقع على كل معدود والأزمنة مما يعد فهي يسأل بها عن عدد الأزمنة فيقول القائل : كم سرت فتقول : ساعة أو يوماً أو يومين ولا يسأل ( بكم ) إلا عن نكرة ( ومتى ) لا يسأل بها إلا عن معرفة أو ما قارب المعرفة يقول القائل : كم سرت فتقول : شهرين أو شهراً أو يوما ولا يجوز أن تقول : الشهر الذي تعلم ولا اليوم الذي تعلم لأن هذا من جواب ( متى )
وأما قولهم : سار الليل والنهار والدهر والأبد فهو وإن كان لفظه لفظ المعارف فهو في جواب ( كم ) ولا يجوز أن يكون جواب ( متى ) لأنه إنما يراد به التكثير وليست بأوقات معلومة محدودة فإذا قالوا : سِيرَ عليه الليل والنهار فكأنهم قالوا : سِيرَ عليه دهراً طويلاً وكذلك الأبد فإنما يراد به التكثير والعدد وإلا فالكلام محال
وذكر سيبويه : أن المحرم وسائر أسماء الشهور أجريت مجرى الدهر والليل والنهار وقال لو قلت : شهر رمضان أو شهر ذي الحجة كان بمنزلة يوم الجمعة أو البارحة ولصار جواب ( متى ) فالمحرم عنده بلا ذكر ( شهر ) يكون في جواب ( كم ) فإن أضفت شهراً إليه صار في جواب ( متى ) وحجته في ذلك استعمال العرب له لذلك قال : وجميع ما ذكرت لك مما يكون مجرى على ( متى ) يكون مجرى على ( كم ) ظرفاً وغير ظرف
وبعض ما يكون في ( كم ) لا يكون في ( متى ) نحو : الدهر والليل والنهار
واعلم : أن أسماء الأزمنة تكون على ضربين : فمنها ما يكون اسماً ويكون ظرفاً ومنها ما لا يكون إلا ظرفاً
فكل اسم من أسماء الزمان فلك أن تجعله اسماً وظرفاً إلا ما خصته العرب بأن جعلته ظرفاً وذلك ما لم تستعمله العرب مجروراً ولا مرفوعاً
وهذا إنما يؤخذ سماعاً عنهم فمن ذلك : ( سحر ) إذا كان معرفة غير مصروف تعني به : سحر يومك لا يكون إلا ظرفاً وإنما يتكلمون به في الرفع والنصب والجر و بالألف واللام أو نكرة وكذلك تحقير سحر إذا عنيت : سحر يومك لم يكن إلا ظرفاً
تقول : سير عليه سحيراً وتصرفه لأن ( فعيلاً ) منصرف حيث كان
ومثله ضحى إذا عنيت : ضحى يومك وصباحاً وعشية وعشاء إذا أردت : عشاء يومك فإنه لم يستعمل إلا ظرفاً وكذلك : ذات مرة وبعيدات بينَ وبكراً وضحوة إذا عنيت ضحوة يومك وعتمة إذا أردت : عتمة ليلتك وذات يوم وذات مرة وليل ونهار إذا أردت : ليل ليلتك ونهار نهارك وذو صباح ظرف
قال سيبيويه : أخبرنا بذلك يونس إلا أنه قد جاء في لغة لخثعم : ذات ليلة وذات مرة أي جاءتا مرفوعتين فيجوز على هذا أن تنصب نصب المفعول على السعة
واعلم : أن العرب قد أقامت أسماء ليست بأزمنة مقام الأزمنة إتساعاً واختصاراً وهذه الأسماء تجيء على ضربين :
أحدهما : أن يكون أصل الكلام إضافة أسماء الزمان إلى مصدر مضاف فحذف اسم الزمان اتساعاً نحو : جئتك مقدم الحاج وخفوق النجم وخلافة فلان وصلاة العصر فالمراد في جميع هذا : جئتك وقت مقدم الحاج ووقت خفوق النجم ووقت خلافة فلان ووقت صلاة العصر
والآخر : أن يكون اسم الزمان موصوفاً فحذفا اتساعاً وأُقيم الوصف مقام الموصوف نحو : طويل وحديث وكثير وقليل وقديم وجميع هذه الصفات إذا أقمتها مقام الأحيان لم يجز فيها الرفع ولم تكن إلا ظروفاً وجرت مجرى ما لا يكون إلا ظرفاً من الأزمنة فأما قريب فإن سبيويه أجاز فيه الرفع وقال : لأنهم يقولون : لقيته مذ قريب وكذلك ملى قال : والنصب عندي عربي كثير
فإن قلت : سير عليه طويل من الدهر وشديد من السير فأطلقت الكلام ووصفته كان أحسن وأقوى وجاز
قال أبو بكر : وإنما صار أحسن إذا وصف لأنمه يصير كالأسماء لأن الأسماء هي التي توصف وكل ما كان من أسماء الزمان يجوز أن يكون إسماً وأن يكون ظرفاً فلك أن تنصبه نصب المفعول على السعة تقول : قمت اليوم وقعدت الليلة فتنصبه نصب ( زيد ) إذا قلت : ضربت زيداً ويتبين لك هذا في الكناية أنك إذا قلت : قمت اليوم فتنصبه نصب المفعول على
السعة فكنيت عنه قلت : قمته وإذا نصبته نصب الظروف قلت : قمت فيه
وإذا وقع موقع المفعول جاز أن يقوم مقام الفاعل فيما لم يُسَم فاعلُهُ
ألا تراهم قالوا : صِيد عليه يومان وولد له ستون عاماً
مسائل من هذا الباب
تقول : يوم الجمعة القتال فيه فيوم الجمعة مرفوع بالإبتداء والقتال فيه الخبر والهاء راجعة إلى يوم الجمعة وإذا أضمرته وشغلت الفعل عنه خرج من أن يكون ظرفاً والظروف متى كني وتحدث عنها زال معنى الظرف ويجوز : يوم الجمعة القتال فيه على أن تضمر فعلاً قبل يوم الجمعة يفسره القتال فيه كأنك قلت : القتال يوم الجمعة القتال فيه هذا مذهب سيبويه والبصريين فلك أن تنصبه نصب الظروف ونصب المفعول
وتقول : اليوم الصيام واليوم القتال فترفع الصيام والقتال بالإبتداء واليوم خبر الصيام والقتال واليوم منصوب بفعل محذوف كأنك قلت : الصيام يستقر اليوم أو يكون اليوم وما أشبه ذلك ولا يجوز أن تقول : زيدٌ اليوم ويجوز أن تقول : الليلة الهلال
وقد بينا هذا فيما تقدم عند ذكرنا خبر المبتدأ
وتقول : اليوم الجمعة واليوم السبت لأنه عمل في اليوم فإن جعلته اسم اليوم رفعت
فأما : اليوم الأحد واليوم الإثنان إلى الخميس فحق هذا الرفع لأن هذه كلها أسماء لليوم ولا يكون عملاً فيها وإنما كان ذلك في الجمعة والسبت لأن الجمعة بمعنى الإجتماع والسبت بمعنى الإنقطاع
وتقول : اليومُ رأس الشهر واليومَ رأس الشهر أما النصب فكأنك قلت : اليوم ابتداء الشهر وأما الرفع فكأنك قلت : اليوم أول الشهر فتجعل اليوم هو الأول
وإذا نصبت فالثاني غير الأول
واعلم : أن أسماء الزمان تضاف إلى الجمل وإلى الفعل والفاعل وإلى الإبتداء والخبر تقول : هذا يوم يقوم زيد وأجيئك يوم يخرج الأمير وأخرج يوم عبد الله أمير وتقول : إن يوم عبد الله أمير زيداً جالس تريد : إن زيداً جالس يوم عبد الله أمير فإن جعلت في أول كلامك ( فيه ) قلت : إن يوماً فيه عبد الله خارج زيداً مقيم فتنصب ( زيداً ) ب ( أن ) و ( مقيم ) خبره و ( يوماً ) منتصب بأنه ظرف ل ( مقيم ) و ( فيه عبد الله خارج ) صفة ليوم فإن قلت : إن يوماً فيه عبد الله خارج زيد فيه مقيم خرج اليوم من أن يكون ظرفاً وصار اسماً ل ( أَنَّ ) وإنما أخرجه من أن يكون ظرفاً : أنك جئت ( بفيه ) فأخبرت عنه : بأن إقامة زيد فيه ف ( فيه ) الثانية أخرجته عن أن يكون ظرفاً لأنها شغلت مقيماً عنه ولم تخرجه ( فيه ) الأولى من أن يكون ظرفاً لأنها من صلة الكلام الذي هو صفة ( لليوم ) فالصفة لا تعمل في الموصوف فيكون متى شغلتها خرج الظرف عما هو عليه وإنما دخلت لتفصل بين يوم خرج فيه عبد الله وبين يوم لم يخرج فيه فقولك : يوم الجمعة قمت فيه بمنزلة قولك : زيد مررت به لا فرق فيه الإِخبار عنهما وتقول : ما اليوم خارجاً فيه عبد الله وما يوم خارج فيه عبد الله منطلقاً فيه زيد
وتقول : ما يوماً خارجاً فيه زيد منطلق عمرو فتنصب يوماً بأنك جعلته ظرفاً للإنطلاق ونصبت ( خارجاً ) لأنه صفة لليوم وأما ( منطلق ) فإنما رفعته لأنك قدمت خبر ( ما )
ومن قال :
( يا سَارِقَ اللَّيلةِ أَهْلَ الدَّارِ ... )
فجر ( الليلة ) وجعلها مفعولاً بها على السعة فإنه يقول : أما الليلة فأنت سارقها زيدا وأما اليوم فأنتَ آكله خبزاً وهذان اليومان أنا ظانهما زيداً عاقلاً لأنه قد جعله مفعولاً به على السعة ولا تقول : اليوم أنا معلمه زيداً بشراً منطلقاً لأنه لا يكون فعل يتعدى إلى أربعة مفاعيل فيشبه هذا به وقد أجازه بعض الناس
وتقول على هذا القياس : أما الليلة فكأنها زيدٌ منطلقاً وأما اليوم فليسه زيد منطلقاً وأما الليلة فليس زيد إياها منطلقاً وأما اليوم فكأنه زيد منطلقاً وأما اليوم فكان زيد إياه منطلقاً تريد في جميع هذا : ( في ) فتحذف على السعة ولا تقول : أما اليوم فليته زيداً منطلق تريد : ليت فيه لأن ( ليت ) ليست بفعل ولا هذا موضعَ مفعولٍ فيتسع فيهِ
وجميع هذا مذهب الأخفش
وذكر الأخفش أنه يجوز : أما الليلة فما زيد إياها منطلقاً لأن ( ما ) مشبه بالفعل قال : لم يجوزه في ( ما ) فهو أقيس لأن ( ما ) وإن كانت شبهت بالفعل فليست كالفعل
قال أبو بكر : وهو عندي لا يجوز البتة
وتقول : الليلة أنا أنطلقها
تريد : أنا أن أنطلق فيها
وتقول : الليلة أنا منطلقها تريد : أنا منطلق فيها ولا يجوز : الليلة أنا إياها منطلق ولا : اليوم نحن إياه منطلقون تريد : نحن منطلقون فيه ولا يجوز : أما اليوم فالقتال إياه تريد فيه وأما الليلة فالرحيل إياها تريد : فيها لأن السعة والحذف لا يكونان فيه كما لا سعة فيه ولا حذف في جميع أحواله قال الأخفش : ولو تكلمت به العرب لأجزيناه
ذكر المكان اعلم : أن الأماكن ليست كالأزمنة التي يعمل فيها كل فعل فينصبها نصب الظروف لأن الأمكنة : أشخاص له خلق وصور تعرف بها كالجبل والوادي وما أشبه ذلك وهن بالناس أشبه من الأزمنة لذلك وإنما الظروف منها التي يتعدى إليها الفعل الذي لا يتعدى ما كان منها مبهماً خاصة ومعنى المبهم أنه هو الذي ليست له حدود معلومة تحصره
وهو يلي الإسم من أقطاره نحو : خلف وقدام وأمام ووراء وما أشبه ذلك ألا ترى أنك إذا قلت : قمت خلف المسجد لم يكن لذلك الخلف نهاية تقف عندها وكذلك إذا قلت : قدام زيد
لم يكن لذلك حد ينتهي إليه فهذا وما أشبهه هو المبهم الذي لا اختلاف فيه أنه ظرف
وأما مكة والمدينة والمسجد والدار والبيت فلا يجوز أن يكن ظروفاً لأن لها أقطاراً محدودة معلومة تقول : قمت أمامك وصليت وراءك ولا يجوز أن تقول : قمت المسجد ولا قعدت المدينة ولا ما أشبه ذلك والأمكنة تنقسم قسمين منها ما استعمل اسماً يتصرف في جميع الإِعراب وظرفاً ومنها ما لا يرفع ولا يكون إلا ظرفاً
فأما الظروف التي تكون اسماً فذكر سيبويه : أنها خلفك وقدامك وأمامك وتحتك وقبالتك ثم قال :
وما أشبه ذلك وقال : ومن ذلك : هو ناحيةً من الدار
ومكاناً صالحاً وداره ذات اليمين وشرقي كذا وكذا
قال : وقالوا : منازلهم يميناً وشمالاً وهو قصدك وهو حلَةَ الغور أي قصده وهما خطان جنابتي أنفهما يعني الخطين اللذين اكتنفا أنف الظبية وهو موضعه ومكانه صددك ومعناه القصد وسقبك وهو قربك وقرابتك ثم قال : واعلم : أن هذه الأشياء كلها قد تكون اسماً غير ظرف بمنزلة زيد وعمرو
وحكى : هم قريب منك وقريباً منك وهو وزن الجبل أي : ناحية منه وهو زنة الجبل أي : حذاءه وقُرابَتك وقُربكَ وحواليه بنو فلان وقومك أقطار البلاد قال ومن ذلك قول أبي حية :
( إذَا ما نَعَشْنَاهُ علَى الرَّحْلِ يَنثني ... مُسالَيْهِ عنهُ مِنْ وراءٍ ومُقدَمِ )
مسالاة : عطفاه
ومما يجري مجرى ما ذكره سيبويه من الأسماء التي تكون ظروفاً فرسخ
وميل تقول : سرت فرسخاً وفرسخين وميلاً وميلين فإن قال قائل : ففرسخ وميل موقت معلوم فلم جعلته مبهماً قيل له : إنما يراد بالمبهم ما لا يعرف له من البلاد موضع ثابت ولا حدود من الأمكنة فهذا إنا يعرف مقداره
فالإِبهام في الفرسخ والميل بعد موجود لأن كل موضع يصلح أن يكون من الفرسخ والميل فافهم الفرق بين المعروف الموضع والمعروف القدر وكذلك ما كان من الأمكنة مشتقاً من الفعل نحو : ذهبت المذهب البعيد وجلست المجلس الكريم
وأما الظروف التي لا ترفع : فعند وسوى وسواء إذا أردت بهما معنى ( غير ) لم تستعمل إلا ظروفاً
قال سيبويه : إن سواءك بمنزلة مكانك ولا يكون اسماً إلا في الشعر
ودل على أن سواءك ظرف أنك تقول : مررت بمن سواءك والفرق بين قولك : عندك وخلفك أن خلفك تعرف بها الجهة وعندك لما حضرك من جميع أقطارك وكذلك سواءك لا تخص مكاناً من مكان فبعداً من الأسماء لإستيلاء الإِبهام عليهما
واعلم : أن الظروف أصلها الأزمنة والأمكنة ثم تتسع العرب فيها للتقريب والتشبيه فمن ذلك قولك : زيد دون الدار وفوق الدار إنما تريد : مكاناً دون الدار ومكاناً فوق الدار ثم يتسع ذلك فتقول : زيد دون عمرو وأنت تريد في الشرف أو العلم أو المال أو نحو ذلك وإنما الأصل المكان
ومما اتسعوا فيه قولهم : هو مني بمنزلة الولد إنما أخبرت أنه في أقرب المواضع وإن لم ترد البقعة من الأرض وهو مني منزلة الشغاف ومزجر الكلب ومقعد القابلة ومناط الثريا ومعقد الإِزار
قال سيبويه : أجرى مجرى : هو مني مكان كذا ولكنه حذف
ودرج السيول ورجع أدراجه وقال : إنما يستعمل من هذا الباب ما استعلمت العرب وأما ما يرتفع من هذا الباب فقولك : هو مني فرسخان وأنت مني يومان وميلان وأنت مني عدوة الفرس وغلوة السهم هذا كله مرفوع لا يجوز فيه إلا ذاك وإنما فصله من الباب الذي قبله أنك تريد : ها هنا بيني وبينك فرسخان ولم ترد أنت من هذا المكان لأن ذلك لا معنى له فما كان في هذا المعنى فهذا مجراه نحو : أنت مني فوت اليد ودعوة الرجل
قال سيبويه : وأما أنت مرأى ومسمع فرفع لأنهم جعلوه الأول وبعض الناس ينصب مرأى ومسمعاً فأما قولهم : داري من خلف دارك فرسخاً فانتصب فرسخ لأن ما خلف دارك الخبر وفرسخاً على جهة التمييز فإن شئت قلت : داري خلف دارك فرسخان تلغي ( خلف )
قال سيبويه : وزعم يونس : أن أبا عمرو كان يقول : داري من خلف دارك
فرسخان شبهه : بدارك مني فرسخان
قال : وتقول في البعد زيد مني مناط الثريا كما قال :
( وإنَّ بني حَرْبٍ كمَا قَد عَلِمْتُمُ ... مَناطَ الثُّريَّا قَد تَعَلَّت نُجُومُها )
واعلم : أنه لا يجوز : أنت مني مربط الفرس وموضع الحمار لأن ذلك شيء غير معروف في تقريب ولا تبعيد وجميع الظروف من الأمكنة خاصة تتضمن الجثث دون ظرف الأزمنة تقول : زيد خلفَكَ والركب أمامَكَ والناس عندَكَ وقد مضى تفسير هذا ذلك أن تجعل الظروف من المكان مفعولات على السعة كما فعلت ذلك في الأزمنة
مسائل من هذا الباب تقول : وَسْطَ رأسه دهن لأنك تخبر عن شيء فيه وليس به هذا إذا أسكنت السين كان ظرفاً فإِنْ حركت السين فقلت : وسَطَ لم يكن ظرفاً تقول : وسط رأسه صلب فترفع لأنك إنما تخبر عن بعض الرأس فوسط إذا أردت به الشيء الذي هو اسمه وجعلته بمنزلة البعض فهو اسم وحركت السين وكان كسائر الأسماء وإذا أردت به الظرف وأسكنت
السين : تقول : ضربت وَسْطَهُ وَوَسْطَ الدار واسع وهذا في وَسَط الكتاب لأن ما كان معه حرف الجر فهو اسم بمنزلة زيد وعمرو
وأما قول الشاعر :
( هَبَّتْ شَمالاً فذِكرى ما ذكرتُكُم ... عِنْدَ الصَّفَاةِ التي شرقيَّ حَوَرانَا )
فإنه جعل الصفاة في ذلك الموضع ولو رفع الشرقي لكان جيداً بجعل الصفاة هي الشرق بعينه ونقول : زيد خلفك وهو الأجود
فإن جعلت زيداً هو الخلف قلت : زيد خلفك فرفعت
وتقول : سير بزيد فرسخان يومين وإن شئت : فرسخين يومان أي : ذلك أقمته مقام الفاعل على سعة الكلام وصلح
وتقول : ضربت زيداً يوم الجمعة عندك ضرباً شديداً فالضرب مصدر ويوم الجمعة ظرف من الزمان وعندك ظرف من المكان وقولك : شديداً نعت للمصدر ليقع فيه فائدة
فإذا بنيت الفعل لما لم يسم فاعله رفعت زيداً وأقررت الكلام على ما هو عليه لأنه لا سبيل إلى أن تجعل شيئاً من هذه التي ذكرنا من ظرف أو مصدر في مكان الفاعل والإسم الصحيح معها فإن أدخلت ( شاغلاً ) من حروف الإِضافة كنت مخيراً بين هذه الأشياء وبينه
فإن شئت نصبت الظرف والمصدر وأقمت الإسم الذي
معه حرف الإِضافة مقام الفاعل وإن شئت أقمت أحدها ذلك المقام إذا كان متصرفاً في بابه فإن كان بمنزلة عند وذات مرة وما أشبه ذلك لم يقم شيء منها مقام الفاعل ولم يقع له ضمير كضمير المصادر والظروف المتمكنة وأجود ذلك أن يقوم المتصرف من الظروف والمصادر مقام الفاعل إذا كان معرفة أو نكرة موصوفة لأنك بقرب ذلك من الأسماء وتقول : سير على بعيرك فرسخان يوم الجمعة فإن شئت نصبت ( يوم الجمعة ) على الظرف وهو الوجه وإن شئت نصبته على أنه مفعول على السعة كما رفعت الفرسخين على ذلك وتقول : الفرسخان سير بزيد يوم الجمعة فإن قدمت يوم الجمعة وهو ظرف قلت : يوم الجمعة سير بزيد فيه فرسخان وإن قدمت : يوم الجمعة على أنه مفعول قلت : يوم الجمعة سيرهُ بزيد فرسخان وإن قدمت يوم الجمعة والفرسخين ويوم الجمعة ظرف قلت : الفرسخان يوم الجمعة سيرا فيه بزيد وإن جعلت يوم الجمعة مفعولاً قلت : سيراه
فإن أقمت يوم الجمعة مقام الفاعل قلت : الفرسخان يوم الجمعة سير بزيد فيهما فإن جعلت الفرسخين مفعولين على السعة قلت : الفرسخان يوم الجمعة سيرهما بزيد فإن زدت في المسألة خلفك قلت : سير بزيد فرسخان يوم الجمعة خلفك فإذا قدمت الخلف مع تقديمك الفرسخين واليوم وأقمت الفرسخين مقام الفاعل وجعلت الخلف واليوم ظرفين قلت : الفرسخان يوم الجمعة خلفك سيرا بزيد فيه فيه وإن جعلتهما مفعولين على السعة قلت : الفرسخان يوم الجمعة خلفك سيراه بزيد إياه ترد أحد الضميرين المنصوبين إلى اليوم والآخر إلى خلف وأن لا تجعل مفعولاً ولا مرفوعاً أحسن وذلك لأنه من الظروف المقاربة للإِبهام وكذلك أمام ويمين وشمال فإذا
قلت : عندك قام زيد فقيل لك أكن عن ( عندك ) لم يجز لأنك لا تقول : قمت في عندك فلذلك لم توقعه على ضمير وإنما دخلت ( من ) على ( عند ) من بين سائر حروف الجر كما دخلت على ( لدن )
وقال أبو العباس وإنما خصت ( من ) بذلك لأنها لإبتداء الغاية فهي أصل حروف الإِضافة
واعلم : أنَّ الأشياءَ التي يسميها البصريونَ ظروفاً يسميها الكسائي صفة والفراء يسميها محال ويخلطون الأسماء بالحروف فيقولون : حروف الخفض : أمام وقدام وخلف وقبل وبعد وتلقاء وتجاه وحذاء وإزاء ووراء ممدودات
ومع وعن وفي وعلى ومن وإلى وبين ودون وعند وتحت وفوق وقباله وحيال وقبل وشطر وقرب ووسَطَ ووسْطَ ومِثل ومَثَلَ وسوى وسواء ممدودة ومتى في معنى وَسْطَ والباء الزائدة والكاف الزائدة وحول وحوالي وأجْلٌ وإجلٌ وإجلىَ مقصورٌ وجَلَل وجِلالٌ في معناها وحذاء ممدود ومقصور وبَدْل وَبَدلٌ ورئِد
وهو القرنُ ومكانُ وقُرابُ وَلدة وشبهَ وخدن وقرن وقرْن وميتاء وميداء والمعنى واحد ممدود ومنا مقصورٌ بمنزلة حذاء ولدى فيخلطون الحروف بالأسماء والشاذ بالشائع وقد تقدم تبيين الفرق بين الإسم والحرف وبين الشاذ والمستعمل فإذا كان الظرف غير محل للأسماء سماه الكوفيون الصفة الناقصة وجعله البصريون لغواً ولم يجز في الخبر إلا الرفع وذلك قولك : فيك عبد الله راغب ومنك أخواك هاربان وإليك قومك قاصدون لأن ( منك وفيك وإليك ) في هذه المسائل لا تكون محلاً ولا يتم بها الكلام وقد أجاز الكوفيون : فيك راغباً عبد الله شبهها الفراء بالصفة التامة لتقدم ( راغب ) على عبد الله
وذهب الكسائي إلى أن المعنى : فيك رغبةً عبد الله
واستضعفوا أن يقولوا : فيكَ عبدُ الله راغباً وقد أنشدوا بيتاً جاءَ فيهِ مثلُ هذا منصوباً في التأخير :
( فَلاَ تَلْحَنيِ فِيهَا فإنَّ بِحُبِّها ... أَخَاكَ مُصَابَ القَلبِ جَماً بلابِلهُ )
فنصب ( مصاب القلب ) على التشبيه بقولك : إن بالباب أخاك واقفاً وتقول : في الدار عبد الله قائماً فتعيد ( فيها ) توكيداً ويجوز أن ترفع ( قائماً ) فتقول : في الدار عبد الله قائم فيها ولا يجيز الكوفيون الرفع قالوا : لأن الفعل لا يوصف بصفتين متفقتين لأنك لو قلت : عبد الله قائم في الدار فيها لم يكنْ يحسنُ أنْ تكرَر ( في ) مرتين بمعنى
وهذا الذي اعتلوا به لازم في النصب لأنه قد أعاد ( في ) والتأكيد إنما هو إعادة للكلمة أو ما كان في معناها فإن استقبح التكرير سقط التأكيد ويجيزون في قولك : عبد الله في الدار قائم في البيت الرفع والنصب لإختلاف الصفتين وتقول : له عليَّ عشرون درهماً فلك أن تجعل ( له ) الخبر ولك أن تجعل ( عليَّ ) الخبر
وتلغي أيما شئتَ
شرح الرابع من المنصوبات وهو المفعول له :
اعلم : أن المفعول له لا يكون إلا مصدراً ولكن العامل فيه فعل غير مشتق منه وإنما يذكر لأنه عذر لوقوع الأمر نحو قولك : فعلت ذاك حذار الشر وجئتك مخافة فلان ( فجئتك ) غير مشتق من ( مخافة ) فليس انتصابه هنا انتصاب المصدر بفعله الذي هو مشتق منه نحو ( خفتك ) مأخوذة من مخافة وجئتك ليست مأخوذة من مخافة فلما كان ليس منه أشبه المفعول به الذي ليس بينه وبين الفعل نسب
قال سيبويه : إن هذا كله ينتصب لأنه مفعول له كأنه قيل له : لِمَ فعلتَ
كذا وكذا فقال : لِكَذا وكذا ولكنه لما طرح اللام عمل فيه ما قبله ومن ذلك : فعلت ذاك أجل كذا وكذا وصنعت ذلك ادخار فلان قال حاتم :
( وأَغْفِرُ عُوْرَاءَ الكَرِيمِ ادِّخَارَهُ ... وأَصْفَحُ عَنْ شَتْمِ اللَّئيمِ تَكَرُّمَا )
وقال الحرث بن هُشام :
( فَصفُحْتُ عَنْهُم والأَحِبَّةُ فِيهِمُ ... طَمَعَاً لهَم بِعِقَابِ يَوْمٍ مُفسدٍ )
وقال النابغة :
( وحَلَّتْ بُيوتي في يَفَاعٍ مُمنَّعٍ ... يُخَالُ بِه راعي الحمولةِ طَائرا )
( حِذاراً عَلَى أنْ لا تُصَابَ مقَادتي ... ولا نِسوتي حَتَّى يَمُتْنَ حَرائَرا )
وقال العجاج :
( يَركَبُ كُلُّ عَاقِرٍ جُمهْورِ ... مَخافَةً وزَعَلَ المَحبْورِ )
يصف ثور الوحش والعاقر هنا : الرملة التي لا تنبت أي : يركب هذا الثور كل عاقر مخافة الرماة والزعل : النشاط أي يركب خوفاً ونشاطاً والمحبور : المسرور
واعلم : أن هذا المصدر الذي ينتصب لأنه مفعول له يكون معرفة ويكون نكرة كشعر حاتم ولا يصلح أن يكون حالاً كما تقول : جئتك مشياً لا يجوز أن تقول : جئتك خوفاً تريد : خائفاً وأنت تريد معنى للخوف ومن أجل الخوف وإنما يجوز : جئتك خوفاً إذا أردت الحال فقط أي : جئتك في حال خوفي أي : خائفاً ولا يجوز أيضاً في هذا المصدر الذي تنصبه نصب المفعول له أن تقيمه مقام ما لم يسم فاعله
قال أبو العباس رحمه الله : أبو عمر يذهب إلى أنه ما جاء في معنى ل ( كذا ) لا يقوم مقام الفاعل ولو قام مقام الفاعل لجاز : سير عليه مخافة الشر فلو جاز : سير فيه المخافة لم يكن إلا رفعاً فكان مخافة وما أشبهه لم يجيء إلا نكرة
فأشبه مع خرج مخرج مع لا يقوم مقام الفاعل نحو : الحال والتمييز ولو جاز لما أشبه ( مخافة الشر ) أن يقوم مقام الفاعل لجاز سير ( بزيد راكب ) فأقمت ( راكباً ) مقام الفاعل ومخافة الشر وإن أضفته إلى معرفةٍ فهو بمنزلةِ ( مثلِكَ ) وغيركَ وضارب زيد غداً نكرة
قال أبو بكر : وقرأت بخط أبي العباس في كتابه : أخطأ الرياشي في قوله : مخافة الشر ونحوه ( حال ) أقبح الخطأ لأن باب ل ( كذا ) يكون معرفة ونكرة وهذا خلاف قول سيبويه لأن سيبويه بجعله معرفة ونكرة إذا لم تضفه أو تدخله الألف واللام كمجراه في سائر الكلام لأنه لا يكون حالاً قال سيبويه : حسن فيه الألف واللام لأنه ليس بحال فيكون في موضع فاعل حالاً وأنه لا يبتدأ به ولا يبنى على مبتدأ لأنه عنده تفسير لما قبله وليس منه
وأنه انتصب كما انتصب الدرهم في قولك عشرون درهماً
شرح الخامس وهو المفعول معه :
اعلم : أن الفعل إنما يعمل في هذا الباب في المفعول بتوسط الواو والواو هي التي دلت على معنى ( مع ) لأنها لا تكون في العطف بمعنى ( مع ) وهي ها هنا لا تكون إذا عمل الفعل فيما بعدها إلا بمعنى ( مع ) ألزمت ذلك ولو كانت عاملة كان حقها أن تخفض
فلما لم تكن من الحروف التي تعمل في الأسماء ولا في الأفعال وكانت تدخل على الأسماء والأفعال وصل الفعل إلى ما بعدها فعمل فيه
وكان مع ذلك أنها في العطف لا تمنع الفعل الذي قبلها أن يعمل فيما بعدها فاستجازوا في هذا الباب إعمال الفعل ما بعدها في الأسماء وإن لم يكن قبلها ما
يعطف عليه وذلك قوهم : ما صنعت وأباك ولو تركت الناقة وفصيلَها لرضعها
قال سيبويه : إنما أردت : ما صنعت مع أبيك ولو تركت الناقة مع فصيلها والفصيل مفعول معه
والأب كذلك والواو لم تغير المعنى
ولكنها تعمل في الإسم ما قبلها
ومثل ذلك ك ما زلت وزيداً أي : ما زلت بزيد حتى فَعَلَ فهو مفعول به فقد عمل ما قبل الواو فيما بعدها والمعنى معنى الباء ومعنى ( مع ) أيضا يصلح في هذه المسألة لأن الباء يقرب معناها من معنى مع إذ كانت الباء معناها الملاصقة للشيء ومعنى ( مع ) المصاحبة ومن ذلك : ما زلت أسير والنيل واستوى الماء والخشبة أي مع الخشبة وبالخشبة وجاء البرد والطيالسة أي مع الطيالسة وأنشد سيبويه :
( وكُوُنُوا أَنْتُمُ وَبَنى أَبِيكُمْ ... مَكَانَ الكُلْيَتيْن مِنَ الطَّحَالِ )
وقال كعيب بنُ جعيل :
( فَكانَ وإيَّاهَا كَحَرَّانَ لَمْ يُفِقْ ... عَنِ الماءِ إذ لاقاهُ حَتَّى تقدَّدا )
قال : وإن قلت : ما صنعت أنت وأبوك جاز لكل الرفع والنصب لأنك أكدت التاء التي هي اسمك بأنت
وقبيح أن تقول : ما صنعت وأبوك فتعطف على التاء وإنما قبح لأنك قد بنيتها مع الفعل وأسكنت لها ما كان في الفعل متحركاً وهو لام الفعل فإذا عطفت عليها فكأنك عطفت على الفعل وهو على قبحه يجوز وكذلك لو قلت : اذهب وأخوك كان قبيحاً حتى تقول : أنت لأنه قبيح أن تعطف على المرفوع المضمر
فقد دلك استقباحهم العطف على المضمرات الإسم ليس بمعطوف على ما قبله في قولهم : ما صنعت وأباك
ومما يدلك على أن هذاه الباب كان حقه خفض المفعول بحرف جر أنك تجد الأفعال التي لا تتعدى والأفعال التي قد تعدت إلى مفعولاتها جميعاً فاستوفت ما لها تتعدى إليه فتقول : استوى الماء والخشبة وجاء البرد والطيالسة فلولا توسط الواو وإنها في معنى حرف الجر لم يجز ولكن الحرف لما كان غير عامل عمل الفعل فيما بعدها ولا يجوز التقديم للمفعول في هذا الباب لا تقول : والخشبة استوى الماء لأن الواو أصلها أن تكون للعطف وحق المعطوف أن يكون بعد العطف عليه كما أن حق الصفة أن تكون بعد الموصوف وقد أخرجت الواو في هذا الباب عن حدها ومن شأنهم إذا أخرجوا
الشيء عن حده الذي كان له الزموه حالاً واحدة وسنفرد فصلاً في هذا الكتاب لذكر التقديم والتأخير وما يحسن منه ويجوز وما يقبح ولا يجوز إن شاء الله
وهذا الباب والباب الذي قبله أعني : بابي المفعول له والمفعول مهه كان حقهما أن لا يفارقهما حرف الجر ولكنه حذف فيهما ولم يجريا مجرى الظروف في التصرف في الإِعراب وفي إقامتها مقام الفاعل فيدلك ترك العرب لذلك أنهما بابان وضعا في غير موضعهما وأن ذلك اتساع منهم لأن فيهما لأن المفعولات التي تقدم ذكرها وجدناها كلها تقدم وتؤخر وتقام مقام الفاعل وتبتدأ ويخبر عنها إلا أشياء منها مخصوصة
وقد تقدم تبييننا إياها في مواضعها
ويفرق بين هذا الباب والباب الذي قبله أن باب المفعول له إذا قلت : جئتك طلب الخير إن في ( جئتك ) دليلاً على أن ذلك لشيء
وإذا قلت : ما صنعت وأباك فليس في ( صنعت ) دليل على أن ذلك مع شيء لأن لكل فاعل غرضاً له فعل ذلك الفعل وليس لكل فاعل مصاحب لا بد منه ولا يجوز حذف الواو في ما صنعت وأباك كما جاز حذف اللام في قولك : فعلت ذاك حذار الشر تريد : لحذار الشر لأن حذف اللام لا يلبس وحذف الواو يلبس
ألا ترى أنك لو قلت : ما صنعت أباك صار الأب مفعولاً به
القسم الثاني من الضرب الأول من المنصوبات وهو المشبه بالمفعول : المشبه بالمفعول ينقسم على قسمين
فالقسم الأول قد يكون فيه المنصوب في اللفظ هو المرفوع في المعنى
والقسم الثاني : ما يكون المنصوب في اللفظ غير المرفوع والمنصوب بعض المرفوع
ذكر ما كان المنصوب فيه هو المرفوع في المعنى هذا النوع ينقسم على ثلاثة أضرب : فمنه ما العامل فيه فعل حقيقي ومنه ما العامل فيه شيء على وزن الفعل ويتصرف تصرفه وليس بفعل في الحقيقة ومنه ما العامل فيه حرف جامد غير متصرف
ذكر ما شبه بالمفعول والعالم فيه فعل حقيقي وهو صنفان يسميها النحويون الحال والتمييز : فأما الذي يسمونه الحال فنحو قولك : جاء عبد الله راكباً وقام أخوك منتصباً وجلس بكر متكئاً
فعبد الله مرتفع ( بجاء ) والمعنى : جاء عبد الله في هذه الحال وراكب منتصب لشبهه بالمفعول لأنه جيء به بعد تمام الكلام واستغناء الفاعل بفعله وإن في الفعل دليلاً عليه كما كان فيه دليل على المفعول ألا ترى أنك إذا قلت : قمت فلا بد من أن يكون قد قمت على حال من أحوال الفعل فأشبه : جاء عبد الله راكباً
ضرب عبد الله رجلاً وراكب هو عبد الله ليس هو غيره وجاء وقام فعل حقيقي تقول : جاء يجيء وهو جاء وقام يقوم وهو قائم والحال تعرفها وتعتبرها بإدخال ( كيف ) على الفعل والفاعل تقول : كيف جاء عبد الله فيكون الجواب : راكباً وإنما سميت الحال لأنه لا يجوز أن يكون اسم الفاعل فيها إلا لما أنت فيه تطاول الوقت أو قصر
ولا يجوز أن يكون لما مضى وانقطع ولا لما لم يأت من الأفعال ويبتدأ بها
والحال إنما هي هيئة الفاعل أو المفعول أو صفته في وقت ذلك الفعل المخبر به عنه ولا يجوز أن تكون تلك الصفة إلا صفةً متصفة غير ملازمة
ولا يجوز أن تكون خلقة لا يجوز أن تقول : جاءني زيد أحمر ولا
أخوك ولا جاءني عمرو طويلاً فإن قلت : متطاولاً أو متحاولاً جاز لأن ذلك شيء يفعله وليس بخلقة
ولا تكون الحال إلا نكرة لأنها زيادة في الخبر والفائدة وإنما تفيد السائل والمحدث غير ما يعرف فإن أدخلت الألف واللام صارت صفة للإسم المعرفة وفرقاً بينه وبين غيره والفرق بين الحال وبين الصفة تفرق بين اسمين مشتركين في اللفظ والحال زيادة في الفائدة والخبر وإن لم يكن للإسم مشارك في لفظه
ألا ترى أنك إذا قلت : مررت بزيد القائم فأنت لا تقول ذلك إلا وفي الناس رجل آخر اسمه زيد وهو غير قائم ففصلت بالقائم بينه وبين من له هذا الإسم وليس بقائم
وتقول : مررت بالفرزدق قائماً وإن لم يكن أحد اسمه الفرزدق غيره فقولك : قائماً إنما ضممت به إلى الأخبار بالمرور خبراً آخر متصلاً به مفيداً
فهذا فرق ما بين الصفة والحال وهو أن الصفة لا تكون إلا لإسم مشترك فيه لمعنيين أو لمعان والحال قد تكون للإسم المشترك والإسم المفرد وكذلك الأمر في النكرة إذا قلت : جاءني رجل من أصحابك راكباً إذا أردت الزيادة في الفائدة والخبر وإن أردت الصفة خفضت فقلت : مررت برجل من أصحابك راكب وقبيح أن تكون الحال من نكرة لأنه كالخبر عن النكرة والإِخبار عن النكرات لا فائدة فيها إلا بما قدمنا ذكره في هذا الكتاب فمتى كان في الكلام فائدة فهو جائز في الحال كما جاز في الخبر وإذا وصفت النكرة بشيء قربتها من المعرفة وحسن الكلام
تقول : جاءني رجل من بني تميم راكباً . وما أشبه ذلك
واعلم : أن الحال يجوز أن تكون من المفعول كما تكون من الفاعل تقول : ضربت زيداً قائماً فتجعل قائماً لزيد
ويجوز أن تكون الحال من التاء في ( ضربتُ ) إلا أنك إذا أزلت الحال عن صاحبها فلم تلاصقه لم يجز ذلك إلا أن يكون السامع يعلمه كما تعلمه أنت فإن كان غير معلوم لم يجز وتكون الحال من المجرور كما تكون من المنصوب إن كان العامل في الموضع فعلاً فتقول : مررت بزيد راكباً فإن كان الفعل لا يصل إلا بحرف جر لم يجز أن تقدم الحال على
المجرور إذا كانت له فتقول : مررت راكباً بزيد إذا كان ( راكباً ) حالاً لك وإن كان لزيدٍ لَمْ يجز لأن العامل في ( زيد ) الباءُ فلمَّا كانَ الفِعْل لا يصلُ إلى زيدٍ إلا بحرفِ جر لم يجز أن يعمل في حالِه قبل ذكر الحرف
والبصريون يجيزون تقديم الحال على الفاعل والمفعول والمكنى والظاهر إذا كان العامل فعلاً يقولون : جاءني راكباً أخوك وراكباً جاءني أخوك وضربت زيداً راكباً وراكباً ضربت زيداً فإن كان العامل معنى
لم يجز تقديم الحال تقول : زيد فيها قائماً فالعالم في ( قائم ) معنى الفعل لأن الفعل غير موجود
ولا يجوز أن تقول : قائماً زيد فيها ولا زيدٌ قائماً فيهما
والكوفيون لا يقدمون الحال في أول الكلام لأن فيها ذكراً من الأسماء فإن كانت لمكنى جاز تقديمها فيشبهها البصريون بنصب التمييز ويُشَبّهها الكسائي بالوقت
وقال الفراء : هي بتأويل جزاء وكان الكسائي يقول : رأيت زيداً ظريفاً
فينصب ( ظريفاً ) على القطع ومعنى القطع أن يكون أراد النعت فلما كان ما قبله معرفة وهو نكرة انقطع منه وخالفه
واعلم : أنه يجوز لك أن تقيم الفعل مقام اسم الفاعل في هذا الباب إذا كان في معناه وكنت إنما تريد به الحال المصاحبة للفعل تقول : جاءني زيد يضحك أي : ضاحكاً
وضربت زيداً يقوم وإنما يقع من الأفعال في هذا الموضع ما كان للحاضر من الزمان
فأما المستقبل والماضي فلا يجوز إلا أن تدخل ( قد ) على الماضي فيصلح حينئذ أن يكون حالاً تقول : رأيت زيداً قد ركب أي : راكباً إلا أنك إنما تأتي ( بقد ) في هذا الموضع إذا كان ركوبه متوقعاً فتأتي ( بقد ) ليعلم أنه قد ابتدأ بالفعل ومر منه جزء والحال معلوم منها أنها تتطاول فإنما صلح الماضي هنا لإتصاله بالحاضر فأغنى عنه ولولا ذلك لم يجز فمتى رأيت فعلاً ماضياً قد وقع موقع الحال فهذا تأويله ولا بد من أن يكون معه ( قَدْ ) إما ظاهرةً وإما مضمرةً لتؤذَن بإبتداء الفعلِ الذي كان متوقعاً
مسائل من هذا الباب تقول : زيد في الدار قائماً
فتنصب ( قائماً ) بمعنى الفعل الذي وقع في الدار لأن المعنى : استقر زيد في الدار فإن جعلت في الدار للقيام ولم تجعله لزيد قلت : زيد في الدار قائم لأنك إنما أردت : زيد قائم في الدار فجعلت : ( قائماً ) خبراً عن زيد وجعلت : ( في الدار ) ظرفاً لقائم فمن قال هذا قال : إن زيداً في الدار قائم ومن قال : الأول قال : إن زيداً في الدار قائماً فيكون : ( في الدار ) الخبر ثم خَبَّرَ على أي حال وقع استقراره في الدار ونظير ذلك قوله
تعالى : ( إن المتقين في جنات وعيون آخذين ) فالخبر قوله : ( في جنات وعيون ) و ( آخذين ) : حال وقال عز و جل : ( وفي النار هو خالدون ) لأن المعنى : وهم خالدون في النار فخالدون : الخبر و ( في النار ) : ظرف للخلود
وتقول : جاء راكباً زيد كما تقول : ضرب عمراً زيد وراكباً جاء زيد كما تقول : عمراً ضرب زيد وقائماً زيداً رأيتُ كما تقولُ : الدرهمُ زيداً أعطيت وضربتُ قائماً زيداً
قال أبو العباس : وقول الله تعالى عندنا : على تقدير الحال والله أعلم وذلك قوله : ( خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث ) وكذلك هذا البيت :
( مُزِبْداً يَخْطُر ما لَمْ يَرَني ... وإذَا يَخلوُ لَهُ لحمي رَتَعْ )
قال : ومن كلام العرب : رأيت زيداً مصعداً منحدراً ورأيتُ زيداً ماشياً راكباً إذا كان أحدُهما ماشياً والآخر راكباً وأحدكما مصعداً والآخر منحدراً
تعني أنك إذا قلت : رأيت زيداً مصعداً منحدراً أن تكون أنت المصعد وزيد المنحدر فيكون ( مصعداً ) حالاً للتاء و ( منحدراً ) حالاً لزيد وكيف قدرت بعد أن يعلم السامع من المصعد ومن المنحدر جاز وتقول : هذا زيد قائماً وذاك عبد الله راكباً فالعاملُ معنى الفعل وهو التنبيه كأنك قلت : أنتبه له راكباً وإذا قلت : ذاك زيد قائماً فإنما ذاك للإِشارة كأنك قلت : أشير لك إليه راكباً ولا يجوز أن يعمل في الحال إلا فعل أو شيء في معنى الفعل لأنها كالمفعول فيها وفي كتاب الله : ( وهذا بعلي شيخاً )
ولو قلت : زيد أخوك قائماً وعبد الله أبوك ضاحكاً كان غير جائز
وذلك أنه ليس ها هنا فعل ولا معنى فعل ولا يستقيم أن يكون أباه أو أخاه من النسب في حال ولا يكون أباه أو أخاه في أخرى ولكنك إن قلت : زيدٌ أخوك قائماً فأردت : أخاه من الصداقة جاز لأن فيه معنى فعل كأنك قلت : زيد يؤاخيك قائماً فإذا كان العامل غير فعل ولكن شيء في معناه لم تقدم الحال على العامل لأن هذا لا يعمل مثله في المفعول وذلك
قولك : زيدٌ في الدار قائماً لا تقول : زيدٌ قائماً في الدار وتقول : هذا قائماً حسن ولا تقول : قائماً هذا حسن وتقول : رأيت زيداً ضارباً عمراً وأنت تريد رؤية العين ثم تقدم الحال فتقول : ضارباً عمراً رأيت زيداً وتقول : أقبل عبد الله شاتماً أخاه ثم تقدم الحال فتقول : شاتماً أخاه أقبل عبد الله وقوم يجيزون : ضربت يقوم زيداً ولا يجيزون : ضربت قائماً زيداً إلا وقائم حال من التاء
لأن ( قائماً ) يلبس ولا يعلم أهو حال من التاء أم من زيد والفعل يبين فيه لمن الحال
والإِلباس متى وقع لم يجز لأن الكلام وضع للإِبانة إلا أن هذه المسألة إن علم السامع من القائم جاز التقديم كما ذكرنا فيما تقدم تقول : جاءني زيد فرسك راكباً وجاءني زيدٌ فيك راغباً وتقول : فيها قائمين أخواك تنصب ( قائمين ) على الحال ولا يجوز التقديم لما أخبرتك ولا يجوز : جالساً مررت بزيد لأن العامل الباء وقد بنيته فيما مضى ومحال أن يكون : ( جالس ) حالاً من التاء لأن المرور يناقض الجلوس إلا أن يكون محمولاً في قبة أو سفينة وما أشبه ذلك تقول : لقي عبد الله زيداً راكبين ولا يجوز أن تقول : الراكبان ولا الراكبين وأنت تريد النعت وذلك لإختلاف إعراب المنعوتين فاعلم
والأخفش يذكر في باب الحال : هذا بسراً أطيب منه تمراً وهذا عبد الله مقبلاً أفضل منه جالساً قال : وتقول : هذا بسرا أطيب منه عنب فهذا : اسم مبتدأ والبسر : خبره وأطيب : مبتدا ثانٍ وعنب : خبر له قال : وكذلك ما كان من هذا النحو لا يتحول فهو رفع ن وما كان يتحول فهو نصب وإنما قلنا : لا يتحول لأن البسر لا يصير عنباً والذي يتحول قولك : هذا بسراً أطيب منه تمراً وهذا عنباً أطيب منه زبيباً وأما الذي لا يتحول فنحو قولك : هذا بسر أطيب منه عنب وهذا زبيب أطيب منه تمر ( فأطيب منه ) : مبتدأ وتمر : خبره وإن شئت قلت : ( تمر ) هو المبتدأ و ( أطيب منه ) : خبر مقدم وتقول : مررت بزيد واقفاً فتنصب ( واقفاً ) على الحال والكوفيون يجيزون نصبه على الخبر يجعلونه كنصب خبر ( كان ) وخبر الظن ويجيزون فيه إدخال الألف واللام ويكون : مررت عندهم على ضربين : مررت بزيد فتكون تامة ومررت بزيد أخاك فتكون ناقصة إن أسقطت الأخ كنقصان ( كان ) إذا قلت : كان زيد أخاك ثم أسقطت الأخ كان ناقصاً حتى تجيء به
وهذا الذي أجازوه غير معروف عندي من كلام العرب ولا موجود في ما يوجبه القياس
وأجاز الأخفش : إن في الدار قائمين أخويك وقال : هذه الحال ليست متقدمة لأنها حال لقولك ( في الدار ) ألا ترى أنك لو قلت : قائمين في الدار أخواك لم يجز لأن : ( في الدار ) ليس بفعل
وتقول : جلسَ
عبد الله آكلاً طعامك فالكسائي يجيز تقديم ( طعامك ) على ( آكلٍ ) فيقول : جلسَ عبد الله طعامك آكلاً ولم يجزه الفراء وحكي عن أبي العباس محمد بن يزيد : أنه أجاز هذه المسألة
باب التمييز الأسماء التي تنتصب بالتمييز والعامل فيها فعل أو معنى فعل والمفعول هو فاعل في المعنى وذلك قولك : قد تفقأ زيد شحماً وتصبب عرقاً وطبت بذلك نفساً وامتلأ الإِناء ماءً وضقت به ذرعاً فالماء هو الذي ملأ الإِناء والنفس هي التي طابت والعَرَق هو الذي تصبب فلفظهُ لفظ المفعول وهو في المعنى فاعل
وكذلك : ما جاء في معنى الفعل وقام مقامه نحو قولك : زيد أفرهم عبداً وهو أحسنهم وجهاً فالفاره في الحقيقة هو العبد والحسن هو الوجه إلا أن قولك : أفره وأحسن في اللفظ لزيد وفيه ضميره والعبد غير زيد والوجه إنما هو بعضه إلا أن الحسن في الحقيقة للوجه والفراهة للعبد فإذا قلت : أنت أفره العبيد فأضفت فقد قدمته على العبيد ولا بدّ من أن يكون إذا أضفته واحدا منهم
فإذا قلت : أنت أفره عبد في الناس فمعناه : أنت أفره من كل عبد إذا أفردوا عبداً عبداً كما تقول : هذا خير إثنين في الناس أي : إذا كان الناس اثنين اثنين
واعلم : أن الأسماء التي تنصب على التمييز لا تكون إلا نكرات تدل على الأجناس وأن العوامل فيها إذا كن أفعالاً أو في معاني الأفعال كنت بالخيار في الإسم المميز إن شئت جمعته وإن شئت وحَّدته تقول : طبتم بذلك نفساً وإن شئت أنفساً قال الله تعالى : ( فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا ) وقال تعالى : ( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا ) فتقول على هذا : هو أفره الناس عبيداً وأجود الناس دوراً
قال أبو العباس : ولا يجوز عندي : عشرون دراهم يا فتى والفصل بينهما أنك إذا قلت : عشرون فقد أتيت على العدد فلم يحتج إلا إلى ذكر ما يدل على الجنس
فإذا قلت : هو أفره الناس عبداً جاز أن تعني عبداً واحداً فمن ثم اختير وحسن إذا أردت الجماعة أن تقول : عبيداً وإذا كان العامل في الإسم المميز فعلاً جاز تقديمه عند المازني وأبي العباس وكان سيبويه لا يجيزه والكوفيون في ذلك على مذهب سيبويه فيه لأنه يراه
كقولك : عشرون درهماً وهذا أفرههم عبداً فكما لا يجوز : درهماً عشرون ولا : عبداً هذا أفرههم لا يجوز هذا ومن أجاز التقديم قال : ليس هذا بمنزلة ذلك لأن قولك : عشرون درهماً إنما عمل في الدرهم ما لم يؤخذ من فعل
وقال الشاعر فقدم التمييز لما كان العامل فعلاً :
( أتَهْجُرُ سَلْمَى لِلفِرَاقِ حبيبها ... ومَا كانَ نَفْساً بالفِرَاقِ تَطِيبُ )
فعلى هذا تقول : شحماً تفقأت وعرقاً تصببت وما أشبه ذلك وأما قولك : الحسن وجهاً والكريم أبا فإن أصحابنا يشبهونه : بالضارب رجلاً وقد قدمت تفسيره في هذا الكتاب وغير ممتنع عندي أن ينتصب على التمييز أيضاً بل الأصل ينبغي أن يكون هذا
وذلك الفرع لأنك قد بينت بالوجه
الحسن منه كما بينت في قولك : هو أحسنهم وجهاً وكذلك يجري عندي قولهم : هو العقور كلباً وما أشبه فإذا نصبت هذا على تقدير التمييز لم يجز أن تدخل عليه الألف واللام فإذا نصبته على تقدير المفعول والتشبيه بقولك : الضارب رجلاً جاز أن تدخل عليه الألف واللام وكان الفراء لا يجيز إدخال الالف واللام في وجه وهو منصوب إلا وفيما قبله الألف واللام نحو قولك : مررت بالرجل الحسن الوجه وهو كله جائز لك أن تنصبه تشبيهاً بالمفعول
مسائل من هذا الباب تقول : زيد أفضل منك أباً فالفضل في الأصل للأب كأنك قلت : زيد يفضل أبوه أباك ثم نقلت الفضل إلى زيد وجئت بالأب مفسراً ولك أن تؤخر ( منك ) فتقول : زيد أفضل أباً منك وإن حذفت ( منك ) وجئت بعد أفضل بشيء يصلح أن يكون مفسراً فإن كان هو الأول فأضف أفضل إليه واخفضه وإن كان غيره فانصبه واضمره نحو قولك : علمك أحسن علم تخفض ( علماً ) لأنك تريد : أحسن العلوم وهو بعضها وتقول : زيد أحسن علماً تريد : أحسن منك علماً فالعلم غير زيد فلم تجز إضافته وإذا قلت : أنت أفره عبد في الناس فإنما معناه : أنت أحد هؤلاء العبيد الذين فضلتهم
ولا يضاف ( أفعل ) إلى شيء إلا وهو بعضه كقولك : عمرو أقوى الناس ولو قلت : عمرو أقوى الأسد لم يجز وكان محالاً لأنه ليس منها
ولذلك لا يجوز أن تقول : زيد أفضل إخوته لأن هذا كلام محال يلزم منه أن يكون هو أخا نفسه فإن أدخلت ( من ) فيه جاز فقلت : عمرو أقوى من الأسد أفضل من إخوته ولكن يجوز أن تقول : زيد أفضل الإِخوة إذا كان واحداً من الإِخوة وتقول : هذا الثوب خير ثوب في اللباس إذا كان هذا هو الثوب فإن كان هذا رجلاً قلت : هذا الرجل خير منك ثوباً لأن الرجل غير الثوب وتقول : ما أنت بأحسن وجهاً مني ولا أفره عبداً فإن قصدت قصد الوجه بعينه قلت : ما هذا أحسن وجه رأيته إنما تعني الوجوه إذا ميزت وجهاً
وقال أبو العباس رحمه الله : فأما قلوهم : حسبك بزيد رجلاً وأكرم به فارساً وما أشبه ذلك ثم تقول : حسبك به من رجل وأكرم به من فارس ولله دره من شاعر وأنت لا تقول : عشرون من درهم ولا هو أفره منك من عبد فالفصل بينهما أن الأول كان يلتبس فيه التمييز بالحال فأدخلت ( من ) لتخلصه للتمييز ألا ترى أنك لو قلت : أكرِم به فارساً وحسبك به خطيباً لجاز أن تعني في هذه الحال وكذلك إذا قلت : كم ضربت رجلاً وكم ضربت من رجل جاز ذلك لأن ( كم ) قد يتراخى عنها مميزها فإن قلت : كم ضربتَ رجلاً لم يدر السامع أردت : كم مرة
ضربتَ رجلاً واحداً أم : كم ضربت من رجل فدخول ( من ) قد أزال الشك وقال في قول الله تعالى : ( ثم يخرجكم طفلا ) وقوله : ( فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا ) : أن التمييز إذا لم يسم عدداً معلوماً : كالعشرين والثلاثين جاز تبيينه بالواحد للدلالة على الجنس وبالجميع إذا وقع الإِلباس ولا إلباس في هذا الموضع لقوله : ( فإن طبن لكم ) ولقوله : ( ثم يخرجكم ) وقال : وقد قال قوم ( طفلاً ) حال وهذا أحسن إلا أن الحال إذا وقعت موقع التمييز لزمها ما لزمه كما أن المصدر إذا وقع موقع الحال لم يكن إلا نكرة تقول : جاء زيد مشياً فهو مصدر ومعناه ماشياً وهذا كقوله تعالى : ( يأتيك سعيا ) لأنه في هذه الحال
واعلم : أن ( أفعل منك ) لا يثنى ولا يجمع وقد مضى ذكر هذا تقول : مررت برجل أفضل منك وبرجلين أفضل منك وبقوم أفضل منك وكذلك المؤنث
وأفضل موضعه خفض على النعت إلا أنه لا ينصرف فإن أضفته جرى على وجهين إذا أردت : أنه يزيد على غيره في الفضل فهو مثل الذي معه ( من ) فتوحده تقول : مررت برجل أفضل الناس وأفضل رجل في معنى أفضل الرجال وكذلك التثنية والجمع تقول : مررت برجلين أفضل رجلين وبنساء أفضل نساء
والوجه الآخر أن تجعل أفضل اسماً ويثنى ويجمع في الإِضافة ولا يكون فيه معنى ( من كذا ) فإذا كان بهذه الصفة جاز أن تدخله الألف واللام إذا لم تضفه ويثنى ويجمع ويؤنث
ويعرف بالإِضافة فتقول : جاءني الأفضل والأفضلان والأفضلون وهذان أفضلا أصحابك وهؤلاء أفاضل أصحابك فإذا كان على هذا لم تقع معه ( من ) وكانت أنثاه على ( فعلى ) وتثنيتها الفضليان والفضلين وتجمع الفضل والفضليات قال سيبويه : لا تقول : نسوة صغر ولا قوم أصاغر إلا بالألف واللام وأفعل التي معها ( منك ) لا تنصرف وإن أضفتها إلى معرفة ألا ترى أنك تقول : مررت برجل أفضل الناس فلو كانت معرفة ما جاز أن تصف بها النكرة ولا يجوز أن تسقط من أفعل ( من ) إذا جعلته إسماً أو نعتاً تقول : جاءني رجل أفضل منك ومررت برجل أفضل منك فلا تسقطها فإن كان خبراً جاز حذفها وأنت تريد : أفضل منك وزيد أفضل وهند أفضل
قال أبو بكر : جاز حذف ( من ) لأن حذف الخبر كله جائز والصفة تبيين ولا يجوز فيه حذف ( من ) كما لا يجوز حذف الصفة لأن الصفة تبيين وليس لك أن تبهم إذا أردت أن تبين
الضرب الثاني : المنصوب فيه هو المرفوع في المعنى : هذا الضرب العامل فيه ما كان على لفظ الفعل وتصرف تصرفه وجرى مجراه وليس به فهو خبر ( كان وأخواتها ) ألا ترى أنك إذا قلت : كان عبد الله
منطلقاً فالمنطلق هو عبد الله وقد مضى شرح ذلك في الأسماء المرفوعات إذ لم يمكن أن تخلى الأسماء من الأخبار فيها
فقد غنينا عن إعادة لك في هذا الموضوع
الضرب الثالث : الذي العامل فيه حرف جامد غير متصرف الحروف التي تعمل مثل عمل الفعل فترفع وتنصب خمسة أحرف وهي : إنَّ ولكن وليت ولعلَّ وكأنَّ
فإنَّ : توكيد الحديث وهي موصلة للقسم لأنك لا تقول : والله زيد منطلق فإنْ أدخلت ( إنَّ ) اتصلت بالقسم فقلت : والله إنَّ زيداً منطلق وإذا خففت فهي كذلك إلا أنَّ لام التوكيد تلزمها عوضاً لما ذهب منها فتقول : إنَّ زيداً لقائم ولا بدّ من ا للام إذا خففت كأنهم جعلوها عوضاً ولئلا تلتبس بالنفي
ولكنَّ : ثقيلة وخفيفة توجب بها عبد نفي ويستدرك بها فهي تحقيق وعطف حال على حال تخالفها
وليت : تمن
ولعل : معناها التوقيع لمرجو أو مخوف
وقال سيبويه : لعل وعسى : طمع وإشفاق
وكأنَّ : معناها التشبيه إنما هي الكاف التي تكون للتشبيه دخلت على ( أن )
وجميع هذه الحروف مبنية على الفتح مشبهة للفعل الواجب ألا ترى أن الفعل الماضي كله مبني على الفتح فهذه الأحرف الخمسة تدخل على المبتدأ والخبر فتنصب ما كان مبتدأ وترفع الخبر فتقول : إن زيداً أخوك ولعل بكراً منطلق ولأنَّ زيداً الأسد فإنّ : تشبه من الأفعال ما قدم مفعوله نحو : ضرب زيداً رجل وأعلمت هذه الأحرف في المبتدأ والخبر كما أعلمت ( كان ) وفرق بين عمليهما : بأن قدم المنصوب بالحروف على المرفوع كأنهم جعلوا ذلك فرقاً بين الحرف والفعل فإن قال قائل : إن ( أنَّ ) إنما عملت في الإسم فقط فنصبته وتركت الخبر على حاله كما كان مع الإبتداء وهو قول الكوفيين
قيل له : الدليل على أنها هي الرافعة للخبر أن الإبتداء قد زال وبه وبالمبتدأ كان يرتفع الخبر فلما زال العامل بطل أن يكون هذا معمولاً فيه ومع ذلك أنا وجدنا كلما عمل في المبتدأ رفعاً أو نصباً علم في خبره ألا ترى إلى ظننت وأخواتها لما عملت في المبتدأ عملت في
خبره وكذلك : كان وأخواتها فكما جاز لك في المبتدأ والخبر جاز مع ( أن ) لا فرق بينهما في ذلك إلا أن الذي كان مبتدأ ينتصب بأن وأخواتها
ولا يجوز أن يقدم خبرها ولا أسمها عليها ولا يجوز أيضاً أن تفصل بينهما وبين اسمها بخبرها إلا أن يكون ظرفاً لا يجوز أن تقول : إن منطلق زيداً تريد : إن زيداً منطلق ويجوز أن تقول : إن في الدار زيداً وإن خلفك عمراً لأنهم اتسعوا في الظروف وخصوها بذلك وإنما حسن تقديم الظرف إذا كان خبراً لأنَّ الظرفَ ليسَ مما تعملُ فيه ( إنَّ ) ولكثرتهِ في الإستعمال
وإذا اجتمع في هذه الحروف المعروفة والنكرة فالإختيار أن يكون الإسم المعرفة والخبر النكرة كما كان ذلك في المبتدأ لا فرق بينها في ذلك واللام تدخل على خبر ( إن ) خاصة مؤكدة له ولا تدخل في خبر أخواتها وإذا دخلت لم تغير الكلام عما كان عليه تقول : إنَّ زيداً لقائم وإنَّ زيداً لفيك راغب وإنَّ عمراً لطعامك آكل وإن شئت قلت : إنَّ زيداً فيك لراغب وإنَّ عمراً طعامك لآكل ولكنه لا بدّ من أن يكون خبر ( إنَّ ) بعد اللام لأنه كان موضعها أن تقع موقع ( إن ) لأنها للتأكيد ووصلة للقسم مثل إن فلما أزالتهما ( إن ) عن موضعها وهو المبتدأ أُدخلت على الخبر فما كان بعدها فهي داخلة عليه فإن قدمت الخبر لم يجز أن تدخل اللام فيما بعده لا يصلح أن تقول : إنَّ زيداً لفيك راغب ولا : إنَّ زيداً أكل لطعامك وتدخل هذه اللام على الإسم إذا وقع موقع الخبر
تقول : إنَّ في الدار لزيداً وإنَّ خلفك لعمراً قال الله تعالى : ( وإن لنا للآخرة والأولى )
واعلم : أنهم يقولون : إنه زيد منطلق يريدون أن الأمر زيد منطلق وإنما أظهروا المضمر المجهول في ( إن ظننت ) خاصة ولم يظهروا في ( كان ) لأن المرفوع ينستر في الفعل والمنصوب يظهر ضميره فمن قال : كان زيد منطلق قال : إنه زيد منطلق وإنه أمة الله ذاهبة وإنه قام عمرو والكوفيون يقولون : إنه قام عمرو هذه الهاء عماد ويسمونها المجهول
ويجوز أن تحذف الهاء وأنت تريدها فتقول : إنَّ زيداً منطلق تريد : إنه وإن حذفت الهاء فقبيح أن يلي إن فعل يقبح أن تقول : إن قام زيد وإن يقوم عمرو تريد : إنه فإن فصلت بينها وبين الفعل بظرف جاز ذلك فقلت : إن خلفك قام زيد ويقوم عمرو وإن اليوم خرج أخوك ويخرج عمرو وقال الفراء : اسم إن في المعنى وقال الكسائي : هي معلقة وأصحابنا يجيزون : إن قائماً زيد وإن قائماً الزيدان وإن قائماً الزيدون ينصبون ( قائماً ) بإنَّ ويرفعون ( زيداً ) بقائم على أنه فاعل
ويقولون : الفاعل سد مسد الخبر كما أن ( قائماً ) قام مقام الإسم
وتدخل ( ما ) زائدة على ( إن ) على ضربين : فمرة تكون ملغاة دخولها كخروجها لا تغير إعراباً تقول : إنما زيداً منطلق وتدخل على ( إن ) كافة للعمل فتبنى معها بناء فيبطل شبهها بالفعل فتقول : إنما زيد منطلق ( فإنما ) : ها هنا بمنزلة ( فعل ) ملغى مثل : أشهد لزيد خير منك
قال سيبويه : وأما ليتما زيداً منطلق فإن الإِلغاء فيه حسن وقد كان رؤبة ينشد هذا البيت رفعاً :
( قَالَتْ ألا لَيْتَمَا هَذا الحَمَامَ لَنَا ... إلى حَمَامَتِينَا وَنِصفه فَقَدِ )
قال وأما لعلَّما فهو بمنزلة كأنما قال ابن كراع :
( تَحَلَّلْ وعَالِجْ ذَاتَ نَفْسِكَ وانظُرَنْ ... أبا جُعَلٍ لعلَّما أنْتَ حَالِمُ )
قال الخليل : إنما لا تعمل في ما بعدها كما أن ( أرى ) إذا كانت لغواً لم تعمل ونظير ( إنما ) قول المرار :
( أَعَلاقَةً أمَّ الوَلِيدِ بَعْدَمَا ... أفْنَانُ رأسِكِ كالثَّغَامِ المُخْلِسِ )
جعل ( بعد ) مع ( ما ) بمنزلة حرف واحد وابتدأ ما بعده والفرق بين إن وإنما في المعنى أن إنما تجيء لتحقير الخبر قال سيبويه تقول : إنما سرت حتى أدخلها إذا كنت محتقرًا لسيرك إلى الدخول
و ( أن ) المفتوحة الألف عملها كعمل ( إن ) المكسورة الألف إلا أن الموضع الذي تقع فيه المكسورة خلاف الموضع الذي تقع فيه المفتوحة ونحن نفرد باباً لذكر الفتح والكسر يلي هذا الباب إن شاء الله ( وأن ) المفتوحة مع ما بعدها بمنزلة المصدر تقول : قد علمت أن زيداً منطلق فهو بمنزلة قولك : علمت انطلاق زيد وعرفت أن زيداً قائم كقولك : عرفت قيام زيد
واعلم : أنَّ ( إن وأن ) تخففان فإذا خففتا فلك أن تعملهما ولك أن لا تعملهما أما من لم يعملهما فالحجة له : أنه إنما أعمل لما اشبهت الفعل بأنها على ثلاثة أحرف وأنها مفتوحة
فلما خففت زال الوزن والشبه
والحجة لمن أعمل أن يقول : هما بمنزلة الفعل
فإذا خففتا كانتا بمنزلة فعل محذوف
فالفعل يعمل محذوفاً عمله تاماً وذلك قولك : لم يك زيد منطلقاً فعمل عمله والنون فيه والأقيس في ( أن ) : أن يرفع ما بعدها إذا خففت وكان الخليل يقرأ : ( إن هذا لساحران ) فيؤدي خط المصحف ولا بدّ من إدخال اللام على الخبر إذا خففت إن المكسورة تقول : إنِ الزيدان لمنطلقان وإنْ هذا لمنطلقان كيلا يلتبس ( بإن ) التي تكون نفياً في قولك : إن زيد قائم تريد : ما زيد بقائم وإذا نصب الإسم بعدها لم يحتج إلى اللام لأن النصب دليل فكان سبيويه لا يرى في ( إن ) إذا كانت بمعنى ( ما ) إلا رفع الخبر لأنها حرف نفي دخل على إبتداء وخبر كما تدخل ألف
الإستفهام ولا تغير الكلام وذلك مذهب بني تميم
قال أبو العباس وغيره : نجيز نصب الخبر على التشبيه ب ( ليس ) كما فعل ذلك في ما
قال أبو بكر : وهذا هو القول لأنه لا فصل بينهما وبين ( ما ) في المعنى
قال أبو علي الفارسي : القول غير هذا ول ( إنْ ) المخففة أربعة مواضع : ( إن ) التي تكون في الجزاء نحو : إن تأتني آتك
والثاني : أن تكون في معنى ( ما ) نفياً تقول : إن زيد منطلق تريد : ما زيد منطلق
والثالث : أن تدخل زائدة مع ( ما ) فتردها إلى الإبتداء كما تدخل ( ما ) على إن الثقيلة فتمنعها عملها وذلك قولك : ما إن يقوم زيد وما إن زيد منطلق ولا يكون الخبر إلا مرفوعاً قال الشاعر فروة بن مسيك :
( ومَا إنْ طِبُّنا جُبْنٌ وَلكِنْ ... مَنَايَانَا ودَوْلهٌ آخِرينَا )
الرابع : أن تكون مخففة من الثقيلة فإذا رفعت ما بعدها لزمك أن تدخل اللام على الخبر ولم يجز غير ذلك لما خبرتك به وعلى هذا قوله تعالى : ( إن كل نفس لما عليها حافظ ) وقوله : ( وإن كانوا يقولون ) وإن نصبت بها لم تحتج إلى اللام إلا أن تدخلها توكيداً كما تدخلها في ( إن ) الثقيلة لأن اللبس قد زال
وأما ( أن المخففة ) من المفتوحة الألف إذا خففتها من أن المشددة فالإختيار أن ترفع ما بعدها على أن تضمر فيها الهاء لأن المفتوحة وما بعدها مصدر فلا معنى لها في الإبتداء والمكسورة إنما دخلت على الإبتداء وخبره
وأن الخفيفة تكون في الكلام على أربعة أوجه : فوجه : أن تكون هي والفعل الذي تنصبه مصدراً نحو قولك : أريد أن تقوم : أي : أريد قيامك
والثاني : أن تكون في معنى ( أي ) التي تقع للعبارة والتفسير وذلك قوله تعالى : ( وانطلق الملأ منهم أن امشوا )
ومثله : ( أن اعبدوا الله ربي وربكم )
والثالث : أن تكون فيه زائدة مؤكدة وذلك قولك : لما أن جاز زيد
قمت : والله أن لو فعلت لأكرمتك قال الله تعالى : ( ولما أن جاءت رسلنا )
والرابع : أن تكون مخففة من الثقيلة وذلك قوله تعالى : ( وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ) . ولو نصبت بها وهي مخففة لجاز
قال سيبويه : لا تخففها أبداً في الكلام وبعدها الأسماء إلا وأَنتَ تريد الثقيلة تضمر فيها الإسم يعني الهاء قال : ولو لم يريدوا ذلك لنصبوا كما ينصبون إذ اضطروا في الشعر يريدون معنى ( كأن ) ولم يريدوا الإِضمار وذلك قوله :
( كأنَّ وَرِيْدَيهِ رِشَاءُ خُلْبِ ... )
قال : وهذه الكاف إنما هي مضافة إلى ( إن ) فلما اضطر إلى التخفيف ولم يضمر لم يغير ذلك التخفيف أن ينصب بها كما أنك قد تحذف من الفعل
فلا يتغير عن عمله نحو : لم يكن صالحاً ولم يك صالحاً ومثل ذلك يعني الأول قول الأعشى :
( في فتيةٍ كسُيُوفِ الهِنْدِ قَدْ عَلِمُوا ... أنْ هالكٌ كلُّ منْ يَحْفَى ويَنْتَعِلُ )
كأنه قال : إنه هالك وإن شئت رفعت في قول الشاعر : كأن وريداه رشاء خلب
واعلم : أنه قبيح أن يلي ( إن ) المخففة الفعل إذا حذفت الهاء وأنت تريدها كأنهم كرهوا أن يجمعوا على الحرف الحذف وأن يليه ما لم يكن يليه وهو مثقل قبيح أن تقول : قد عرفت أن يقوم زيد : حتى تفصل بين أن والفعل بشيء يكون عوضاً من الإسم نحو : لا وقد والسين
تقول : قد عرفت أن لا يقوم زيد وأن سيقوم زيد وأن قد قام زيد كأنه قال : عرفت أنه لا يقوم زيد وأنه سيقوم زيد وأنه قد قام زيد ونظير ذلك قوله تعالى : ( علم أن سيكون منكم مرضى ) وقوله : ( أفلا يرون أن لا يرجع إليهم قولا )
وأما قولهم : أما أن جزاك الله خيراً فإنهم إنما أجازوه لأنه دعاء ولا يصلون إلى ( قد ) هنا ولا إلى ( السين ) لو قلت : أما أن يغفر الله لك
لجاز لأنه دعاء ولا تصل هنا إلى السين ومع هذا كثر في كلامهم حتى حذفوا فيه : أنه وإنه لا يحذف في غير هذا الموضع
وسمعناهم يقولون : أما أن جزاك الله خيراً شبهوه ( بأنه ) أضمروا فيها كما أضمروا في ( أن ) فلما جازت ( أن ) كانت هذه أجوز
واعلم : أنك إذا عطفت اسماً على أن وما عملت فيه من اسم وخبر فلك أن تنصبه على الإِشراك بينه وبين ما عملت فيه أن ولك أن ترفع تحمله على الإبتداء يعنى موضع أن فتقول : إن زيداً منطلق وعمراً وعمرو لأن معنى : إن زيداً منطلق زيد منطلق قال الله تعالى : ( أن الله بريء من المشركين ورسوله )
ولك أن تحمله على الإسم المضمر في ( منطلق ) وذلك ضعيف إلا أن تأتي ( بهو ) توكيداً للمضمر فتقول : إن زيداً منطلق هو وعمرو وإن شئت حملت الكلام على الأول فقلت : إن زيداً منطلق وعمراً ظريف
ولعل وكأن وليت : ثلاثتهن يجوز فيهن جميع ما جاز في إن إلا أنه لا
يرفع بعدهن شيء على الإبتداء وقال سيبويه : ومن ثم اختار الناس : ليت زيداً منطلق وعمراً وضعف عندهم أن يحملوا عمراً على المضمر حتى يقولوا ( هو ) ولم تكن ليت واجبة ولا لعل ولا كأن فقبح عندهم أن يدخلوا الكلام الواجب في موضع التمني فيصيروا قد ضموا إلى الأول ما ليس في معناه يعني أنك لو قلت : ليت زيداً منطلق وعمرو فرفعت عمرا كما ترفعه إذا قلت إن زيدا منطلق وعمرو فعطف عمرا على الموضع لم يصلح من أجل أن ليت وكأن ولعل لها معان غير معنى ا لإبتداء وإن : إنما تؤكد الخبر والمعنى معنى الإبتداء والخبر ولم تزل الحديث عن وجوبه وما كان عليه
وإذا كان خبر إن فعلاً ماضياً لم يجز أن تدخل عليه اللام التي تدخل على خبرها إذا كان اسماً تقول : إنّ عمراً لقائم وإنّ بكراً لأخوك ولا يجوز أن تقيم ( قام ) مقام ( قائم ) فتقول : إن زيداً لقامَ وأنت تريد هذه اللام لأن هذه اللام لام الإبتداء
تقول : والله لزيد في الدار ولعمرو أخوك فإذا دخلت إن أزيلت إلى الخبر والدليل على ذلك قولهم : قد علمت إنّ زيداً لمنطلق فلولا اللام لانفتحت أن وإنما انكسرت لأن اللام مقدرة بين علمت وإن ألا ترى أنك تقول : قد علمت لزيد منطلق أقحمت اللام بين الفعل والإبتداء لأنها لام الإبتداء فلما أدخلت ( أن ) وهي تدخل على المبتدأ وخبره تأكيداً كدخول اللام للتأكيد لم يجمعوا بين تأكدين وأزالوها إلى الخبر فإن كان الخبر اسماً كالمبتدأ أو مضارعاً للإسم دخلت عليه وإن لم يكن كذلك لم تدخل عليه قال الله تعالى : ( وإن ربك ليحكم بينهم ) أي لحاكم فإن قال
قائل : أراني أقول : لأقومن ولتنطلقن فأبدأ باللام وأدخلها على الفعل قيل له : ليست هذه اللام تلك اللام هذه تلحقها النون وتلزمها وليست الأسماء داخلة في هذا الضرب فإذا سمعت : والله لقامَ زيد فهذه اللام هي التي إذا دخلت على المستقبل كان معها النون كما قال امرؤ القيس :
( حَلَفْتُ لَهَا بالله حلفَةَ فَاجِرٍ ... لَنَامُوا فَمَا إن مِنْ حَديثٍ ولا صَالي )
قال : ويقال : إنه أراد : لقد ناموا فلما جاء ( بقد ) قربت الفعل من الحاضر فهذه اللام التي تكون معها النون غير مقدر فيها الإبتداء
تقول : قد علمت أن زيداً ليقومن وأن زيداً لقائم فلا تكسر أن كما تكسرها في قولك : أشهد إن محمداً لرسول الله
واعلم إن بكراً ليعلم ذلك قال سيبويه : إن هذه اللام دخلت على جهة الشذوذ
قال سيبويه : وقد يستقيم في الكلام : إن زيداً ليضرب وليذهب ولم يقع ( ضرب ) والأكثر على ألسنتهم كما خبرتك في اليمين ولا يجوز أن تدخل ( إنَّ ) على ( أنَّ ) كما لا يدخل تأنيث على تأنيث ولا استفهام على
استفهام فحرف التأكيد كذلك لا يجوز أن يدخل حرف تأكيد على حرف مثله لا يجوز أن تقول : إن إنكَ منطلق يسرني تريد : إن انطلاقَك يسرني
فإن فصلتَ بينها فقلت : إن عندي أنك منطلق جاز
قال الله عز و جل : ( إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى ) فإنَّ هي التي فتحت أن وموضع أن في قوله : ( وأنك لا تظمأ فيها ) وما علمت فيه نصب بأن الأولى كما تقول : إن في الدار لزيداً فحسن إذا فرقت بين التأكيدين
ومن قرأ : ( وأنك لا تظمأ ) وجعلهُ مستأنفاً كقولكَ : إن في الدارِ زيداً وعمرو منطلق لأن الكلام إذا تم فلك أن تستأنف ما بعده فإن قال قائل : من أين قلت في قوله تعالى : ( وإن ربك ليحكم ) أن الفعل المضارع وقع موقع ( حاكم ) ولم تقل إن الموضع للفعل وإنما وقع الإسم موقعه بمضارعته له قيل له : لو كان حق اللام أن تدخل على الفعل وما ضارع الفعل لكان دخولها على الماضي أولى لأنه فعل كما أن المضارع فعل
ومع ذلك إنها قد تدخل على الإسم
الذي لا يضارع الفعل نحو قولك : إن الله لربنا وإن زيداً لأخوك فليس هنا فعل ولا مضارع لفعل
ولا يجوز أن تُدخل هذه اللام على حرف الجزاء لا تقول : إن زيداً لأن أتاني أكرمته ولا ما أشبه ذلك
ولا تدخل على النفي ولا على الحال ولا على الصفة ولا على التوكيد ولا على الفعل الماضي كما قلنا إلا أن يكون معه ( قد )
ولكنَّ الثقيلة التي تعمل عمل ( إن ) يستدرك بها بعد النفي وبعد الإِيجاب يعني إذا كان بعدها جملة تامة كالذي قبلها نحو قولك : ما جاءني زيدٌ لكن عمراً قد جاء وتكلم عمر لكن بكراً لم يتكلم
ولكن الخفيفة إذا ابتدأت ما بعدها وقعت أيضاً بعد الإِيجاب والنفي للإستدراك
فأما إذا كانت ( لكن ) عاطفة اسماً مفرداً على اسم لم يجز أن تقع إلا بعد نفي لا يجوز أن تقول : جاءني زيد لكن عمرو وأنت تريد عطف عمرو على زيد
مسائل من هذا الباب
تقول : إن عبد الله الظريف منطلق فإن لم تذكر ( منطلق ) وجعلت الظريف خبراً رفعته فقلت : إن عبد الله الظريف كما كنت تقول : كان زيدٌ الظريف ذاهباً وإذا لم تجيْ بالذاهب قلت : كان زيدٌ الظريف وتقول : إن فيها زيداً قائماً إذا جعلت ( فيها ) الخبر ونصبت ( قائماً ) على الحال
فإن جعلت ( قائماً ) الخبر والظرف ( فيها ) رفعت فقلت : إن فيها زيداً قائم وكذلك إن زيداً فيها قائمٌ وقائماً تقول : إن بك زيداً مأخوذ وإن لك زيداً واقف لا يجوز إلا الرفع لأن ( بك ولكل ) لا يكونان خبراً لزيد فلو قلت : إن زيداً بكَ وإن زيداً لك لم يكن كلاماً تاماً وأنت
تريد هذه المعاني فإن أردت بأن زيداً لك أي ملك لك وما اشبه ذلك جاز ومثل ذلك : إن فيك زيداً لراغب ولو قلت : إن فيك زيداً راغباً لم يصلح وإنما تنصب الحال بعد تمام الكلام وتقول : إن اليوم زيداً منطلق لا يجوز إلا الرفع لأن ( اليوم ) لا يكون خبراً لزيد وتقول : إن اليوم فيك زيد ذاهب فتنصب ( اليوم ) لا يكون خبراً لزيد وتقول : إن اليوم فيك زيد ذاهب فتنصب ( اليوم ) بإن لأنه ليس هنا بظرف إذ صار في الكلام ما يعود إليه
وتقو ل : إن زيداً لفيها قائماً
وإن شئت ألغيت ( لفيها ) فقلت : إن زيداً لفيها قائم واللام تدخل على الظرف خبراً كان أو ملغى مقدماً على الخبر خاصة ويدلك على ذلك قول الشاعر وهو أبو زبيد :
( إن أمراً خصني عمداً مودته ... على التنائي لعندي غير مكفور )
وإذا قلت : إن زيداً فيها لقائم فليس ( فيها ) إلا الرفع لأن اللام لا بُدَّ من أن يكون خبر إن بعدها على كل حال وكذلك : إن فيها زيداً لقائم وروى الخليل : أن ناساً يقولون : إن بك زيد مأخوذ فقال : هذا علي : إنه بك زيد مأخوذ وشبهه بما يجوز في الشعر نحو قول ابن صريم اليشكري :
( وَيْوَماً تُوافِينَا بِوَجْهٍ مقسَّم ... كَأَنْ طَبْيةٌ تَعْطُو إلى وَارِقِ السلمِ )
وقال آخر :
( وَوَجْه مُشْرِقِ النَّحْرِ ... كأنْ ثَدْياهُ حُقَّانِ )
لأنه لا يحسن ها هنا إلا الإِضمار
وزعم الخليل : أن هذا يشبه قول الفرزدق :
( فَلَوْ كُنْتٌ ضَبِّياً عَرَفْت قَرَابتي ... وَلَكِنَّ زِنجيٌ عَظِيمُ المشافِرِ )
قال سيبويه : والنصب أكثر في كلام العرب كأنه قال : ولكن زنجياً عظيم المشافر لا يعرف قرابتي
ولكنه أضمر هذا
قال : والنصب أجود لأنه لو أراد الإِضمار لخفف ولجعل المضمر مبتدأ كقولك : ما أنت صالحاً ولكن طالح : وتقول : إن مالاً وإن ولداً وإن عدداً أي : إن لهم مالاً والذي أضمرت ( لهم ) وقال الأعشى :
( إنَّ محلاً وإنَّ مرتحلاً ... وإنَّ في السفر إذ مَضَوْا مَهَلاً )
وتقول : إن غيرها إبلا وشاء كأنه قال : إن لنا غيرها إبلا وشاء وإن عندنا غيرها إبلا وشاء فالذي يضمر هذا النحو وما أشبهه ونصبت إبلا وشاء على التمييز والتبيين كإنتصاب الفارس إذا قلت : ما مثله من الناس فارساً ومثل ذلك قول الشاعر :
( يا لَيْتَ أياَّمَ الصِّبَا رواجِعَا ... )
كأنه قال : يا ليت أيام الصبا لنا رواجعا أو أقبلت رواجعاً
وقال الكسائي : أضمر ( كانت ) وتقول : إن قريباً منك زيداً إذا جعلت ( قريباً ) ظرفاً وإن جعلته اسماً قلت : إن قريباً منك زيد فيكون الأول هو
الآخر وإذا كان ظرفاً كان غيره
وتقول : إن بعيداً منك زيد والوجه : أن تجعل المعرفة اسم إن فتقول : إن زيداً بعيد منك
قال سيبويه : وإن شئت قلت : إن بعيداً منك زيداً وقلما يكون بعيد منك ظرفاً
وإنما قل هذا لأنك لا تقول إن بعدك زيداً وتقول إن قربك زيداً فالدنوا أشد تمكنا من الظروف من البعد لأن حق الظرف أن يكون محيطاً بالجسم من أقطاره
وزعم يونس : أن العرب تقول : إن بدلك زيداً أي : إن مكانك زيداً وإن جعلت البدل بمنزلة البديل قلت : إن بدلك زيد أي إن بديلك زيد وتقو ل : إن ألفاً في دراهمك بيض إذا جعلت : ( بيضاً ) خبراً فإن وصفت بها ( ألفاً ) قلت : إن ألفاً في دراهمك بيضاً يجوز لك أن تفصل بين الصفة والموصوف وتقول : إن زيداً منطلق وعمراً ظريف فتعطف عمراً على ( إن ) ومثل ذلك قوله تعالى : ( ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر )
وقد رفعه قوم ولم يجعلوا الواو عاطفة على تأويل ( إذ ) كقولك : لو ضربت عبد الله وزيد قائم
ما ضرك أي : لو ضربت عبد الله وزيد في هذه الحال فكأنه قال : ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر هذا أمره ما نَفَدِتْ كلمات الله وتقول : إن زيداً منطلق وعمراً فتعطف على زيد وتستغني بخبر الأول إذ كان الثاني في محل مثل حاله قال رؤبة :
( إنَّ الرَّبيعَ الجود والخريفا ... يدا أبي العباس والصيوفا )
أراد : وإن الصيوف يدا أبي العباس فاكتفى بخبر الأول
ولك أن ترفع على الموضع لأن موضع إن الإبتداء فتقول : إن زيدا منطلق وعمرو لأن الموضع للإبتداء وإنما دخلت إن مؤكدة للكلام
وتقول : إن قومك فيها أجمعون
وإن قومك فيها كلهم ففي ( فيها ) اسم مضمر مرفوع كالذي يكون في الفعل إذا قلت : إن قومك ينطلقون أجمعون فإذا قلت : إن زيداً فيها وإن زيداً يقول ذلك ثم قلت : نفسه . فالنصب أحسن
فإذا أردت حمله على المضمر قلت : إن زيداً يقول ذاك هو نفسه فإذا قلت : إن زيداص منطلق لا عمرو فتفسيره كتفسيره مع الواو في النصب والرفع وذلك قولك : إن زيداً منطلق لا عمراً وإن زيداً منطلق لا عمرو ولكن بمنزلة إن وتقول : إن زيدا فيها لا بل عمرو وإن شئت نصبت و ( لا بل ) تجري مجرى الواو ولا تقول : إن زيداً منطلق العاقل اللبيب إذا جعلته صفة لزيد ويجوز أن تقول : إن زيداً منطلق العاقل اللبيب فترفع
قال سيبويه : والرفع على وجهين : على الإسم المضمر في ( منطلق ) كأنه بدل منه كقولك : مررت به زيد يعني أنه يجعله بدلاً من المضمر في منطلق
قال : وإن شاء رفعه على معنى : مررت به زيد إذا كان جواب من هو فتقول : زيد كأنه قيل له من هو فقال : العاقل اللبيب وقد قرأ الناس هذه الآية على وجهين : ( قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب ) وعلامَ الغيوب
وتقول : إن هذا أخاك منطلق فتنصب أخاك على ضربين من التقدير : على عطف البيان وهو كالصفة وعلى البدل فمن قال هذا قال : إن الذي رأيت أخاك ذاهب ولا يكون الأخ صفة ( الذي ) لأن أخاك أخص من الذي
فلا يكون صفة وإنما حق الصفة أن تكون أعم من الموصوف
قال الخليل : إن من أفضلهم كان زيداً على إلغاء ( كان )
قال سيبويه : وسألت الخليل عن قوله : ( ويكأنه لا يفلح الكافرون ) و ( ويكأن الله ) فزعم : أنها وي مفصولة من ( كأن ) والمعنى وقع على أن القوم انتبهوا فتكلموا على قدر علمهم أو نبهوا فقيل لهم : أما يشبه أن يكون ذا عندكم هكذا والله أعلم
قال : وأما المفسرون فقالوا : ( ألم تر أن الله ) وقال زيد بن عمرو بن نفيل
( سألتاني الطَّلاق إذْ رأتَاني ... قَلَّ مالي قَدْ جِتْتُماني بنكر )
( ويَ كأنْ مَنْ يَكُنْ لَه نَشَبٌ يُحبَبْ ... ومَنْ يفتقرْ يَعشْ عيَشَ ضُرِّ )
قال وناس من العرب يغلطون فيقولون : إنهم أجمعون ذاهبون وإنكَ وزيد ذاهبان وذلك : أن معناه معنى الإبتداء فيرى أنه قال هم كما قال زهير :
( بَدَا لي أنِّي لَسْتُ مُدْرِكٌ ما مَضَى ... ولا سَابِقٍ شيئاً إذَا كَانَ جَائِيا )
فأضمر الباء وأعلمها وأما قولهم : ( والصابئون ) فعلى التقديم والتأخير كأنه ابتدأ فقال : والصابئون بعد ما مضى الخبر قال الشاعر :
( وإلاَّ فاعْلَمُوا أنَا وأَنْتُم ... بُغَاة ما بَقيْنَا في شِقَاقِ )
كأنه قال : فاعلموا أنا بغاة ما بقينا وأنتم كذلك
وتقول : إن القائم أبوه منطلقة جاريته نصبت القائم بإن ورفعت الأب بفعله وهو القيام ورفعت ( منطلقةً ) لأنه خبر إن ورفعت الجارية بالإنطلاق لأنه فعلها
ويجوز أن تكون الجارية مرفوعة بالإبتداء وخبرها : ( منطلقة ) والجملة خبر ( إن ) فيكون التقدير : إن القائم أبوه جاريته منطقة إلا أنك قدمت وأخرت ويقول : إن القائم وأخوه قاعد فترفع الأخ بعطفك إياه على المضمر في ( قائم ) والوجه إذا أردت أن تعطفه على المضمر المرفوع أن تؤكد ذلك المضمر فتقول : إن القائم هو وأخوه قاعدٌ
وإنما قلت : ( قاعد ) لأن الأخ لم يدخل في ( إن ) وإنما دخل في صلة القائم فصار بمنزلة قولك : إن الذي قام مع أخيه قاعدٌ ونظير ذلك أن المتروك هو وأخوه مريضين
صحيح ولو أردت أن تدخل الأخ في ( إن ) لقلت : إن المتروك مريضاً وأخاه صحيحان وتقول : إن زيدا كان منطلقاً نصبت زيداً ( بإن ) وجعلت ضميره في ( كان )
وكان وما عملت فيه في موضع خبر ( إن ) وإن شئت رفعت ( منطلقاً ) على وجهين : أحدهما : أن تلغي ( كان ) وقد مضى ذكر ذلك
والوجه الثاني : أن تضمر المفعول به في ( كان ) وهو قبيح وتجعل منطلقاً اسم ( كان ) فكأنك قلت : إن زيداً كأنه منطلق
وقبحه من وجهين : أحدهما : حذف الهاء وهو كقولك : إن زيداً ضرب عمرو تريد : ضربه والوجه الآخر : أنك جعلت منطلقاً هو الإسم ( لكان ) وهو نكرة وجعلت الخبر الضمير وهو معرفة فلو كان : إن زيداً كان أخوك تريد : كأنه أخوك كان أسهل وهو مع ذلك قبيح لحذف الهاء وتقول : إن أفضلهم الضارب أخاً له كان صالحاً فقولك : كان ( صالحاً ) صفة لقولك : ( أخا له ) لأن النكرات توصف بالجمل ولا يجوز أن تقول : إن أفضلهم الضارب أخاه كان صالحاً فتجعل : ( كان صالحاً ) صفة لأخيه وهو معرةف فإن قال قائل : فإنها نكرة مثلها فأجز ذلك على أن تجعله حالاً فذاك قبيحٌ والأخفش يجيزه على قبحه وقد تأولوا على ذلك قول الله تعالى : ( أو جاءوكم حصرت صدورهم ) وتأويل ذلك عند
أبي العباس : على الدعاء وأنه من الله تعالى إيجاب عليهم
وقال : القراءة الصحيحة التي جل أهل العلم عليها إنما هي : ( أو جاؤكم حصرة صدروكم )
وقال الأخفش : أقول : إن في الدار جالساً أخواك فانصب ( جالساً ) ( بإن ) وارفع ( الأخوين ) بفعلهما واستغنى بهما عن خبر ( إن ) كما أقول : أذاهب لئأخواكَ فارفع ( أذاهب ) بالإبتداء وأخواك بفعلهما واستغنى عن خبر الإبتداء لأن . خبر الإبتداء إنما جيء به ليتم به الكلام
قال : وكذلك تقول : إن بك واثقاً أخواك وإن شئت ( واثقين أخواك ) فجعلت ( واثقين ) اسم ( إن ) ولا يجوز : أن بك واثقين أخويك فتنصب ( واثقين ) على الحال لأن الحال لا يجوز في هذا لأنك لا تقول : إن بك أخويك وتسكت
وتقول : إن فيها قائماً أخواك وإن شئت قائمين أخويك فتنصب أخويك ( بأن ) وقائمين على الحال وفيها خبر ( إن ) وهو خبر مقدم وإذا ولي ( قائم ) إن ولم يكن بينهما ظرف لم يجز توحيده عند الكوفيين وصار اسماً لا يفصل بينه وبين عمله بخبر إن وذلك قولك : إن قائمين الزيدان وإن قائمين الزيدون
وأجاز الفراء : إن قائماً الزيدان وإن قائماً الزيدون على معنى إن من قام الزيدان . وإن من قام الزيدون
وأجاز البصريون إن قائماً الزيدان والزيدون على ما تقدم ذكره ولا يجيز الكوفيون
إن آكلاً زيد طعامك إذا كان المنصوب بعد زيد وهذا جائز عند البصريين فإن قلت : إن آكلاً طعامك زيدٌ كانت المسألة جائزة في كل قول وكذلك كل منصوب من مصدر أو وقت أو حال أو ظرف فإن قلت : خلفك آكلاً زيد استوى القولان في تأخير الطعام بعد زيد فقلت : إن خلفك آكلاً زيد طعامك ولك أن تؤخر ( آكلاً ) والظروف من الزمان في ذا كالظروف في المكان
والفراء يجيز : إن هذا وزيد قائمان وإن الذي عندك وزيد قائمان وإنك وزيد قائمان إذا كان اسم ( إن ) لا يتبين فيه الإِعراب نحو هذا وما ذكرناه في هذه المسائل وعلى ذلك ينشدون هذا البيت :
( ومَنْ يَكُ أَمْسَى بالمَدينة رَحلُه ... فَإنِّي وَقَيَّارٌ بَهَا لَغَريبُ )
فيرفع ( قياراً ) وينصب وكذلك لو قال : الغريبان فإفراد الفعل وتثتيته في هذا عندهم سواء
والكسائي يجيز الرفع في الإسم الثاني مع الظاهر والمكنى فإن نعت اسم إن أو أكدته أو أبدلت منه فالنصب عندنا لا يجوز غيره وإنما الرفع جاء عندنا على الغلط
وقد قال الفراء : يجوز أن تقول : إنهم أجمعون قومك على الغلط لما كان معناه : هم أجمعون قومك وإنه نفسه يقوم يجوز أن ترفع توكيد ما لا يتبين فيه الإِعراب وهو وأصحابه كثيراً ما يقيسون على الأشياء الشاذة
وقال قوم : إن الإختيار مع الواو التثنية في قولك : إن زيداً وعمراً قائمان ويجوز : قائم مع ثم والفاء التوحيد ويجوز التثنية يجوز : لإن زيداً ثم عمراً قائم وقائمان
وإن زيداً فعمراً قائم وقائمان
ومع ( أو ) ( ولا ) التوحيد لا غير أن الخبر عن أحدهما خاصة دون الآخر
واعلم : أن الهاء التي تسمى المجهولة في قولك : إنه قام بكر وفي كل موضع تستعمل فيه فهي موحدة لا ينسق عليها ولا تكون منها حال منصوبة ولا توكيد ولا تؤنث ولا تثنى ولا تجمع ولا تذكر وما بعدها مبتدأ وخبر أو فعل وفاعل
وقوم يقولون : إنها إذا كانت مع مؤنث أنثت
وذكرت نحو قولك : إنه قائمة جاريتك وإنها قائمة جاريتك
وقالوا إذا قلت : إنه قائم جواريك ذكرت لا غير فإن جئت بما يصلح للمذكر والمؤنث أنثت وذكرت نحو قولك : إنه في الدار جاريتك وإنها في الدار جاريتك
وحُكي عن الفراء أنه قال : لا أُجيز : إنه قام لأن هاء العماد إنما دخلت لشيئين لإسم وخبر وكان يجيز فيما لم يسم فاعله : إنه ضُرِب وقال : لأن الضمة تدل على آخر
والكسائي يجيز : إنه قام قال : والبغداديون إذا وليت أن النكرات أضمروا والهاء ولم تضمر الهاء إلا صفة متقدمة وإن جاؤوا بعدها بأفعال يعنون بالأفعال أسم الفاعل أتبعوها إذا كانت نكرة ورفعوها إذا كانت معرفة كقولهم : إن رجلاً قائماً وإن رجلاً أخوك وإذا أضمروا الخبر لم ينسقوا عليها بالمعرفة فلا يقولون : إن رجلاً وزيداً لأن خبر المعرفة لا يُضمر عندهم ويقولون : كل أداة ناصبة أو جازمة لا تدخل عليها اللام مع ( إن ) فإن كانت الأداة لا تعمل شيئاً دخلت اللام عليها
وقد أجاز الفراء حذف الخبر في : ( إن الرجل ) وإن المرأة وإن الفأرة وإن الذبابة ولا يجيزه إلا بتكرير ( إن )
ويقولون : ( ليت ) تنصب الأسماء والأفعال أي : الأخبار نحو : ليت زيداً قائماً وقال الكسائي : أضمرت : ( كان )
وقالوا : ( لعل ) تكون بمعنى : ( كي ) وبمعنى : خليق وبمعنى : ظننت وقالوا : والدليل على ظننت أن تجيء بالشيئين والدليل على ( عسى ) أن تجيء بأن وقالوا : ( ليت ) قد ذهب بها إلى ( لو ) وأولوها الفعل الماضي وليتني أكثر من ليتي ولعلي أكثر من لعلني وإنني وإني سواءٌ
وذكر سيبويه : لهنك لرجل صدق قال : وهذه كلمة تتكلم بها العرب في حال اليمين وليس كل العرب تتكلم بها في ( إن ) ولكنهم أبدلوا الهاء مكان الألف كقولك : هرقت
ولحقت هذه اللام ( إن ) كما لحقت ( ما ) حين قلت : ( إن زيداً لما لينطلقن فلحقت ) اللام في اليمين والثانية لام ( إن ) وفي : لما لينطلقن اللام الأولى : لام ( لئن ) والثانية : لام اليمين
والدليل على ذلك النون التي معها
وقال : قول العرب في الجواب إنه فهو بمنزلة أجل وإذا وصلت قلت : إنَّ يا فتى
واعلم : أن ( إنَّ واخواتها ) قد يجوز أن تفصل بينها وبين أخبارها بما يدخل لتوكيد الشيء أو لرفعه لأنه بمنزلة الصفة في الفائدة يوضح عن الشيء ويؤكده وذلك قولك : إن زيداً فافهم ما أقول رجل صالح وإن عمراً والله ظالم وإن زيدا هو المسكين مرجوم لأن هذا في الرفع يجري مجرى المدح والذم في النصب وعلى ذلك يتأول قوله تعالى : ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا أولئك لهم جنات عدن ) فأولئك هو الخبر
ومذهب الكوفيين والبغداديين في ( إن ) التي تجاب باللام يقولون : هي بمنزلة ( ما ) وإلا وقد قال الفراء : إنها بمنزلة ( قد ) وتدخل أبداً على آخر الكلام نحو قولك : إن زيداً لقائم تريد : ما زيد إلا قائم وقد قيل : إنه يريد : قد قام زيد وكذلك : إن ضرب زيد لعمراً وإن أكل زيد لطعامك وكان الكسائي يقول : هي مع الأسماء والصفات يعني بالصفات والظروف إن المثقلة خففت ومع الأفعال بمعنى ما وإلا وقال الفراء : كلام العرب أن يولوها الماضي قالوا : وقد حكى : إن يزينك لنفسك وإن يشينك لهيه وقد حُكي مع الأسماء وأنشدوا :
فقلت :
( إن القوم الذي أَنَا مِنهم ... لأَهل مَقَامَات وشَاء وجامِلِ )
وكل ما كان من صلة الثاني لم تدخل اللام عليه وكل ما كان من صلة الأول أدخلت اللام عليه نحو قولك : إن ظننت زيداً لفي الدار قائماً فإن كان في الدار من صلة الظن دخل عليها وإن كان من صلة ( قائم ) دخلت اللام على ( قائم ) يعنون أن اللام إنما تدخل على ما هو في الأصل خبر المبتدأ ألا ترى أنه لو خلا الكلام من ( ظننت ) : كان زيد في الدار قائماً فزيد مبتدأ وفي الدار خبره وقائم حال والعامل فيه ( في الدار ) فهو من صلة ( في الدار ) فاستقبحوا أن يدخلوا اللام على ( قائم ) لأنه من صلة الثاني وهو الخبر وقالوا كل أخوات الظن وكان على هذا المذهب وكذلك صلة الثاني في قولك : إن ضربت رجلاً لقائماً لا يدخلون عليها اللام و ( قائماً ) صلة رجل هذا خطأ عندهم وعند غيرهم ولا يجوز : إن زال زيد قائماً لأنه لا يجوز زال زيدٌ لقائماً وتقول : إن كان زيدٌ لقائماً
باب كسر ألف إن وفتحها ألف إن تكسر في كل موضع يصلح أن يقع فيه الفعل والإبتداء جميعاً وإن وقعت في موضع لا يصلح أن يقع فيه إلا أحدهما لم يجز لأنها إنما تشبه فعلاً داخلاً على جملة وتلك الجملة مبتدأ وخبر والجملة التي بعد ( إنَّ ) لا موضع لها من الإِعراب بعامل يعمل فيها من فعل ولا حرف ألا ترى أنك تقول : إن عمراً منطلق فهذا موضع يصلح أن يبتدأ الكلام فيه فتقول : عمرو منطلق ويصلح أن يقع الفعل موقع المتبدأ فتقول : انطلق عمرو وهذه الجملة لا موضع لها من الإِعراب لأنها غير مبنية على شيء
و ( إنَّ ) المكسورة تكون مبتدأة ولا يعمل فيها ما قبلها وهي كلام تام مع ما بعدها وتدخل اللام في خبرها ولا تدخل اللام في خبر ( إن ) إذا كانت
( إن ) محمولة على ما قبلها
واللام إذا وليت الظن والعلم علقت الفعل فلم تعمل نحو قولك : قد علمت إن زيداً لمنطلق وأظن إن زيداً لقائم فهذا إنما يكون في العلم والظن ونحوه
ولا يجوز في غير ذلك من الأفعال لا تقول : وعدتك إنك لخارج إنما تدخل في الموضع الذي تدخل فيه أيهم فتعلق الفعل ألا ترى أنك تقول : قد علمت أيهم في الدار وكل موضع تقع فيه ( إن ) بمعنى اليمين وصلة القسم فهي مكسورة فمن ذلك قولهم إذا أرادوا معنى اليمين : أعطيته ما إن شره خير من جيد ما معك وهؤلاء الذين إن أجبتهم لأشجع من شجعائكم قال الله تعالى : ( وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنؤ بالعصبة ) ( فإن ) تدخل صلة ( للذي ) لأن صلة الذي لا موضع لها من الإِعراب بعامل يعمل فيها من فعل ولا حرف جر
فإذا وقعت إن بعد القول حكاية فهي أيضاً مكسورة لأنك تحكي الكلام مبتدأ والحكاية لا تغير الكلام عما كان عليه تقول : قال عمرو : إن زيداً خير منك
قال سيبويه : كان عيسى يقرأ هذا الحرف ( فدعا ربَّه أًنَّي مغلوبٌ )
أراد أن يحكي كما قال ( والذين اتخذوا من دونه من أَولياء ما نَعْبُدهُمْ ) كأنه قال والله أعلم : قالوا : ما نعبدهم فعلى هذا عندي قراءة : ( فدعا ربه أني مغلوب ) أي : دعا ربه فقال : إني مغلوب
وتكسر أيضاً بعد إلا في قولك : ما قدم علينا أمير إلا إنَّهُ مكرم لي لأنه ليس هنا شيءٌ يعمل في ( إن ) ولا يجوز أن تكون عليه . قال : قال سيبويه : ودخول اللام ها هنا يدلك على أنه موضع ابتداء
قال الله تعالى : ( وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ) فإن زال ما بعد إلا عن الإبتداء وبنيته على شيء فتحت تقول : ما غضبت عليك إلا أنك فاسق كأنك قلت : إلا لأنك فاسق وأما قوله تعالى : ( وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله )
فإنما حمله على ( منعهم ) أي : ما منعهم إلا أنهم كفروا فموضع : أنهم كفروا رفع أي : ما منعهم لا كفرُهم فلما صار لها موضع فتحت
و ( حتى ) : تبتدأ بعدها الأسماء وهي معلقة لا تعمل في ( إن ) وذلك قولك : قد قاله القوم حتى إن زيداً يقوله : وانطلق الناس حتى إن عمراً لمنطلق
وأحال سيبويه أن تقع المفتوحة ها هنا وكذلك إذا قلت : مررت فإذا إنَّهُ
يقول ذاك قال : وسمعت رجلاً من العرب ينشد هذا البيت كما أخبرتك به :
( وكُنْتُ أُرى زيداً كَما قِيلَ سِيداً ... إذَا إنَّهُ عَبْدُ القَفَا واللُّهَازمِ )
وإذا ذكرت ( إن ) بعد واو الوقت كسرت لأنه موضع ابتداء نحو قولك : رأيته شاباً وإنه يومئذ يفخر
ذكر أن المفتوحة أن المفتوحة الألف مع ما بعدها بتأويل المصدر وهي تجعل الكلام : شأناً وقصة وحديثاً ألا ترى أنك إذا قلت : علمت أنك منطلق فإنما هو : علمت انطلاقك فكأنك قلت : علمت الحديث ويقول القائل : ما الخبر فيقول المجيب : الخبر أن الأمير قادم
فهي لا تكون مبتدأة ولا بد من أن تكون قد عمل فيها عامل أو تكون مبنية على قبلها لا تريد بها الإبتداء تقول : بلغني أنك منطلق ( فأن ) في موضع اسم مرفوع كأنك قلت : بلغني انطلاقك وتقول : قد عرفت أنك قادم ( فأن ) في موضع اسم منصوب كأنك قلت : عرفت قدومك وتقول : جئتك لأن كريم ( فأن ) في موضع اسم مخفوض كأنك قلت :
جئت لكرمك و ( أن ) إذا كانت مكسورة بمنزلة الفعل
وإذا كانت مفتوحة بمنزلة الإسم والفعل لا يعمل في الفعل فلذلك لا يعمل الفعل في ( إن ) المكسورة ويعمل في ( أن ) المفتوحة لما صارت بمعنى المصدر والمصدر اسم
قال سيبويه : يقبح أن تقول : أنك منطلق بلغني أو عرفت
وإنما استقبح ذلك وإن أردت تقديم الفعل لإمتناعهم من الإبتداء بأن المفتوحة لأنها إنما هي بمنزلة ( أَنْ ) الخفيفة التي هي مع الفعل بمعنى المصدر
وما كان بمنزلة الشيء فليس هو ذلك الشيء بعينه فلا يجوز أن يتصرف تصرف ( أن ) الخفيفة الناصبة للفعل في جميع أحوالها
فأما ( أَنْ ) الخفيفة التي تنصب الفعل فإنها يبتدأ بها لأن الفعل صلة لها وقد نابت هي والفعل عن مصدر ذلك الفعل ولا يلي أن الخفيفة الناصبة للفعل إلا الفعل و ( أَنَّ ) الشديدة ليست كذلك لأنه لا يليها إلا الإسم وهي بعد للتأكيد كما إن ( إن ) المكسور للتأكيد تقول : إن يقوم زيد خير لك ولا يجوز : أنْ زيد قائم خير لك قال الله تعالى : ( وأن تصوموا خير لكم ) وتقول : ليت أن زيداً منطلق فأصل هذا الإبتداء والخبر فينوب عن خبر ( ليت ) ولا يجوز : أن يقوم زيد حتى يأتي بخبر وأنت مع ( أن ) تلفظ بالفعل ومع ( أن ) المشددة قد يجوز أن لا تلفظ بالفعل نحو قولك : قد علمت أن زيداً أخوك والمواضع التي تقع فيها أن المفتوحة لا تقع فيها ( إن ) المكسورة فمتى وجدتهما يقعان في موقع واحد فاعلم : أن المعنى والتأويل مختلف
وإذا وقعت أن موقع المصدر الذي تدخل عليه لام الجر فتحتها نحو : جئتك أنك تريد
========
ج2. كتاب : الأصول في النحو أبي بكر محمد بن سهل بن السراج النحوي البغدادي
الخير ويقول الرجل للرجل : لم فعلتَ ذلك فيقول : لم أنه ظريف تريد : لأنه
قال سيبويه : سألت الخليل عن قوله : ( وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون ) فقال : إنما هو على حذف اللام وقال عز و جل : ( ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه أني لكم نذير مبين ) : إنما أراد : بأني وإذا عطفت ( إن ) على أن وقد عمل في الأولى الفعل ففتحها فتحتِ المعطوفَ أيضاً إلا أن تريد أن تستأنف ما بعد حرف العطف وتأتي بجملة نحو قولك : قد عرفتُ أنه ذاهب ثم إنه معجل فتحت الثانية لأن ( عرفت ) قد عمل فيها وتقول قد عرفتُ أنه منطلق ثم إنني أخبرتك أنه معجل لأنك ابتدأت ( بأني )
وإن جئت بها بعد واو الوقت كسرت كما أخبرتك وتقع بعد ( لو ) مفتوحة فتقول : لو أنك في الدار لجئتك
قال سبيويه : ( فأن ) مبنية على ( لو ) كما كانت مبنية على ( لولا ) تقول :
لولا أني منطلق لفعلت ( فأن ) مبنية على ( لولا ) كما تبنى عليها الأسماء وقال في لو كأنك قلت : لو ذاك وهذا تمثيل وإن كانوا لا يبنون على ( لو ) غير أن كما كان ( تسلم ) في قولك بذي تسلم في موضع اسم
قال أبو العباس رحمه الله : إن ( لو ) إنما تجيء على هيئة الجزاء فإذا قلت : لو أكرمتني لزرتك فلا بد من الجواب لأن معناها : إن الزيارة امتنعت لإمتناع الكرامة فلا بد من الجواب لأنه علة الإمتناع و ( إن ) المكسورة لا يجوز أن تقع هنا كما لا يجوز أن تقع بعد حروف الجزاء لأنها إنما أشبهت الفعل في اللفظ والعمل لا في المعنى و ( أن ) المفتوحة مع صلتها مصدر في الحقيقة فوقوعها على ضربين : أحدهما أن المصدر يدل على فعله فيجري منه ويعمل عمله فقد صح معناها في هذا الوجه
فإن قال قائل إذا قلت : لو أنك جئتني لأكرمتك فلِمَ لا تقول : لو مجيئك لأكرمتك قيل له : لأن الفعل الذي قد لفظت به من صلة ( أن ) والمصدر ليس كذلك ألا ترى أنك تقول : ظننت أنك منطلق فتعديه إلى ( أن ) وهي وصلتها اسم واحد لأنه قد صار لها اسم وخبر فدلت بهما على المفعولين
وغيرهما من الأسماء لا بد معه من مفعول ثان
والوجه الآخر أن الأسماء تقع بعد ( لو ) على تقديم الفعل الذي بعدها فقد وليتها على حال وإن كان ذلك من أجل ما بعدها فلذلك وليتها ( أن ) لأنها اسم وامتنعت المكسورة لأنها حرف جاء لمعنى التوكيد والحروف لا تلي ( لو ) فمما وليها من الأسماء قوله تعالى : ( قل لو أنتم تملكون )
وقال جرير :
( لَوْ غَيْرُكُم عَلقَ الزُّبيرُ بِحبْلِه ... أدى الجِوَارَ إلى بني العَوَّامِ )
وفي المثل : لو ذات سوارٍ لطمتني . . وكذلك : لو أنك جئت أي : لو وقع مجيئك لأن المعنى عليه قال سيبويه : سألته يعني الخليل عن قول العرب : ما رأيته مذ أنّ الله خلقني
فقال : إن في موضع اسم كأنك قلت : مذ ذاك فإن كان الفعل أو غيره يصل باللام جاز تقديمه وتأخيره لأنه ليس هو الذي عمل فيه في المعنى وذلك نحو قول تعالى : ( وأن المساجد لله ولا تدعوا مع الله أحدا ) أي : ولأن المساجد وإنما جاز ذلك لأن اللام مقدرة قبل ( أن ) وهي العاملة في ( أن ) لا الفعل وكل موضع تقع فيه ( أن ) تقع فيه ( إنما ) وما ابتدئ بعدها صلة لها كما أن ما ابتدئ بعد الذي صلة له ول تكون هي عاملة فيما بعدها كما لا يكون الذي عاملاً فيما بعده فمن ذلك قوله تعالى : ( قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد )
فلو قلت : يوحي إلي أن إلهكم إله واحد كان حسناً فأما إنما مكسورة فلا تكون اسماً وإنما هي فيما زعم الخليل بمنزلة فعل ملغى مثل : أشهد لزيد خير منك
والموضع الذي لا يجوز أن يكون فيه ( أن ) لا تكون ( إنما ) إلا مبتدأة مكسورة مثل قولك : وجدتك إنما أنت صاحب كل خنيّ لأنك لو قلت : وجدتك أنك صاحب كل خنيِّ لم يجز
( وإنما وأن ) يُصيّران الكلام : شأناً وقصةً وحديثاً ولا يكون الحديث الرجل ولا زيداً ولا ما أشبه ذلك من الأسماء
ويجوز أن تبدل مما قبلها إذا كان ما قبلها حديثاً وقصةً تقول : بلغتني قصتك أنك فاعل وقد بلغني الحديث أنهم منطلقون فقولك : ( أنهم منطلقون ) هو الحديث
وقد تبدل من شيء ليس هو الحديث ولا القصة لإشتمال المعنى عليه نحو قول عز و جل : ( وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم )
( فأن ) مبدلة من إحدى الطائفتين موضوعة في مكانها كأنك قلت : وإذ يعدكم الله أن إحدى الطائفتين لكم وهذا يَتَّضِح إذا ذكرنا البدل في موضعه إن شاء الله
ذكر المواضع التي تقع فيها إن وأن المفتوحة والمكسورة والتأويل والمعنى مختلف
تقول : إمّا أنه ذاهب وإمّا أنه منطلق
فتفتح وتكسر قال سيبويه : وسألت الخليل عن ذاك فقال : إذا فتحت فإنك تجعله كقولك : حقاً أنه منطلق وإذا كسرت فكأنه قال : إلا أنه ذاهب
وتقول أمَا والله إنه ذاهب كأنك قلت : قد علمت والله إنه ذاهب
وأمَا والله أنه ذاهب كقولك : إلا أنه والله ذاهب
قال : وسألته عن قوله تعالى : ( وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون )
ما يمنعه أن يكون كقولك : ما يدريك أنه يفعل فقال : لا يحسن ذا في هذا الموضع إنما قال : وما يشعركم ثم ابتدأ فأوجب فقال : إنها إذا جاءت لا يؤمنون قال : ولو كان : ( وما يشعركم أنها ) كان ذلك عذراً لهم وأهل المدينة يقرأون : أنَّها فقال الخليل : هي بمنزلة قول العرب : إئت السوق أنك تشتري لنا شيئاً أي : لعلك
فكأنه قال : لعلها إذا جاءت لا يؤمنون
وتقول : إن لك هذا على وأنك لا تؤذي فكأنه قال : وإن لك أنك لا تؤذي وإن شاء ابتدأ
وقد قرئ هذا الحرف على وجهين : ( وإنك لا تظمأ فيها ولا تضحى )
وتقول : إذا أردت أن تخبر ما يعني المتكلم أي : إني نَجْدٌ إذا ابتدأت كما تقول : أنا نَجْدٌ وإذا شئت قلت أي : أني نَجْدٌ
كأنك قلت : أي : لأني نَجْدٌ
وتقول : ذاك وإن لك عندي ما أحببت قال الله تعالى : ( ذلكم فذوقوه وإن للكافرين عذاب النار )
كأنه قال : يعلى الأمر ذلك وإن لك
قال سيبويه : ولو جاءت مبتدأة لجاز
قال : وسالت الخليل عن قوله : ( وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون )
فقال : إنما هو على حذف اللام قال : ولو قرأها قارئ :
( وإِنَّ ) كان جيداً
وتقول : لبيك إنَّ الحمد والنعمة لك وإن شئت قلت : أنَّ الحمد قال أبن الأطنابة :
( أَبْلِغِ الحارِثَ بنَ ظَالم الموعِدِ ... والناذرَ النذورِ عليّا )
( إنما تَقْتُلُ النِّيامَ ولا تقتُل ... يقظانَ ذا سلاحٍ كميا )
وإن شئتَ قلت : إنما تقتل النيامَ على الإبتداء زعم ذلك الخليل
وقال الخليل : في قوله ( ألم يعلموا أَنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم ) قال : ولو قال : فإن كانت عربية جيدة
وتقول : أول ما أقول إني أحمد الله كأنك قلت : أول ما أقول الحمدُ لله
و ( إن ) في موضعه فإن أردت أن تحكي قلت : أول ما أقول : إني أحمد الله وتقول : مررت فإذا إنه عبد وإذا أنه عبد تريد : مررت فإذا العبودية به واللؤم
وقد عرفت أمورك حتى إنك أحمق كأنه قال : حتى حمقكم وهذا قول الخليل
مسائل في فتح ألف ( أن ) وكسرها
تقول : قد علمت أنك إذا فعلت ذاك أنك سوف تغبط ويجوز أن تكسر تريد معنى الفاء وتقول : أحقاً أنك ذاهب والحق نك ذاهب وأكبر ظنك أنك ذاهب وأجهد رأيك أنك ذاهب وكذلك هما إذا كانا خيراً غير استفهام حملوه على : أفي حقٍ أنك ذاهب قال العبدي :
( أَحَقَّاً أن جِيرَتَنا أستَقَلُّوا ... فنِيَّتُنا ونِيَّتُهُم فَرِيقٌ )
قال : فريق ولم يقل فريقان كما يقال للجماعة : هم صديق
وقال تعال : ( عن اليمين وعن الشمال قعيد ) ولم يقل : قعيدان والرفع في
جميع هذا قويّ إن شئت قلت : أحق أنك ذاهب وأكبر ظني أنك ذاهب تجعل الآخر هو الأول
قال أبو العباس : سألت أبا عثمان لِمَ لا تقول : يوم الجمعة أنك منطلق قال : هذا يجيزه قوم وهم قليل على التقديم والتأخير يجيزون : أنك منطلق يوم الجمعة وإنما كان الوجه : يوم الجمعة أنك منطلق لأنهم يريدون : في يوم الجمعة انطلاقك قلت : فلِمَ أجازوا : أما يوم الجمعة فإنك منطلق قال : لأن ما بعد الفاء مبتدأ ونصب ( يومَ الجمعة ) بالمعنى الذي أحدثته أما كأنه قال : مهما يكن من شيء يوم الجمعة فإنك منطلق وهو نحو قولك : زيد في الدار ( اليوم ) نصبت اليوم بمعنى الإستقرار في قولك : في الدار قلت : أتجيز كيف إنك صانع على قولك : كيف أنت صانع قال : من أجازه في يوم الجمعة أجازه ها هنا
قال أبو العباس : لا يجوز هذا في ( كيف ) لأن كيف لا ناصب لها قال : قال أبو عثمان : قرأ سعيد بن جبير : ( إلا أنهم ليأكلون الطعام ) ففتح إن وجعل اللام زائدة كما زيدت في قوله :
( أُم الحُلَيسِ لعجوزٌ شهربهْ ... )
وتقول : قد علمت أن زيداً لينطلقن فتفتح لأن هذه لام القسم وليست لام ( إن ) التي في قولك : قد علمت إن زيداً ليقوم لأن هذه لام الإبتداء والأولى لام اليمين فليست من ( إن ) في شيء
قال أبو عثمان : في قوله تعالى : ( إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون ) إن ( مِثْلَ ) و ( ما ) جُعِلا اسماً واحداً مثل : خمسة عشر وإن كانت ما زائدة وأنشد :
( وتَدَاعى مَنخرَاهُ بِدَم ... مثلَ ما أثمرَ حُماضُ الجبَل )
قال سيبويه والنحويون يقولون : إنما بناه يعني مثل لأنه أضافه إلى غير متمكن وهو قوله : إنكم وإن شاء أعربَ ( مثلاً ) لأنها كانت معربة قبل الإِضافة فترفع فتقول : مثل ما أنكم كما تقول في ( يومئذ ) من النباء والإِعراب فتعربه كما كان قبل الإِضافة ويبينه
لما أضافه إليه من أجل أنه غير متمكن وأن الأول كان مبهماً
فإنما حصر بالثاني
وكذلك :
( عَلَى حِينَ عَاتَبْتُ المَشِيبَ على الصِّبا ... )
وكذلك :
( لم يَمْنَعِ الشّربَ منها غَيْرَ أَنْ نَطَقَتْ ... حَمَامَةٌ في غُصُونٍ ذَاتِ أَوْقَالِ )
وكل المبهمات كذلك ولا يدخل في هذا : ضربني غلام خمسة عشر رجلاً لأن الغلام مخصوص معلوم غير مبهم بمنزلة وحين ونحو ذلك وأبو عمرو يختار أن يكون نصب : ( مثل ما أنكم تنطقون ) على أنه حال للنكرة ( لحقٌ ) ولا اختلاف في جوازه على ما قال
وتقول : إن زيداً إنه منطلق
كأنك قلت : إن زيداً هو منطلق
والمكسورة والمفتوحة مجازهما واحد قال الله تعالى : ( ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ) وقال عبد الله وهب الفزاري الأسدي جاهلي :
( زَعَمَتْ هُنَيْدَةُ أنها صَرَمَتْ ... حَبْلي وَوَصْلُ الغَانِيَاتِ غُرُورُ )
( إني وحالِك إنَّني لمشيّعٌ ... صُلْبُ القَناةِ بصرحكن جَدَير )
قال سيبويه : وسألته يعني الخليل عن شد ما أنك ذاهب بمنزلة : حقاً أنك ذاهب فقال : هذا بمنزلة حقاً إنك ذاهب كما تقول : أما إنك ذاهب بمنزلة : حقاً إنك وكما كانت ( لو ) بمنزلة ( لولا ) ولا يبدأ بعدها من الأسماء سوى ( إن ) نحو : لو أنك ذاهب ولولا يبتدأ بعدها الأسماء ولو بمنزلة ( لولا ) وإن لم يجز فيها ما يجوز فيها وإن شئت جعلت : شد ما كنِعْمَ ما كأنك قلت : نعم العملُ أنك تقول الحق قال : وسألته عن قوله
كما أنَّه لا يعلم ذلك فتجاوزَ الله عنه وذلك حق كما أنك ها هنا فزعم أنَّ العاملة في ( أنَّ ) الكاف وما لغوٌ إلا أن ( ما ) لا تحذف من ها هنا كراهية أن يجيء لفظها مثل لفظ ( كأن ) التي للتشبيه كما ألزموا النون ( لأفعلن ) واللام في قولهم : إن كان ليفعل : كراهية أن يلتبس اللفظان ويدلك على أن الكاف هي العاملة قولهم : هذا حق مثل ما أنك هنا ففتحوا ( أن ) وبعض العرب يرفع ( مثل ) حدثنا به يونس فما أيضاً لَغْو لأنك تقول :
مثل ما أنك ها هنا ولو جاءت ( ما ) مسقطة من الكاف في الشعر جاز
قال النابغة الجعدي :
( قُرُومٌ تَسَامَى عِنْدَ بَابِ دِفَاعِه ... كَأَنْ يُؤْخَذَ المرءُ الكريمُ فيقتلا )
يريد : كما أنه يؤخذ المرء قال أبو عثمان : أنا لا أنشده إلا ( كأن ) يؤخذ المرء
فأَنصُب يؤخذ لأنها ( أن ) التي تنصب الأفعال دخلت عليها كاف التشبيه ألا ترى أنه نسق عليه ( يقتل ) فنصبه لذلك
قال سبيويه : سألته يعني الخليل هل يجوز : إنه لحق كما أنك ها هنا على حد قولك : كما أنت ها هنا فقال : لا لأن أن لا يبتدأ بها في كل موضع ألا ترى أنك لا تقول : يوم الجمعة أنك ذاهب ولا : كيف أنك صانع ( فكما ) بتلك المنزلة قال : وسألتُ الخليل عن قوله : أحقاً أنه لذاهب فقال : لا يجوز كما لا يجوز يوم الجمعة أنه لذاهب
وقال : يجوز في الشعر : أشهد أَنهُ ذاهب يشبهه بقوله والله أنه ذاهب لأن معناه معنى اليمين كما أنه إذا قال : أشهد أَنتَ ذاهب ولم يذكر اللام لم يكن إلا ابتداء وهو قبيح ضعيف إلا باللام ومثل ذلك في الضعف : علمت أن
زيداً ذاهب كما أنه ضعيف : قد علمت عمرو خير منك ولكنه على إرادة اللام كما قال تعالى : ( قد أفلح من زكاها ) . . . وهو على اليمين وكان في هذا حسن حين طال الكلام يعني أن التأويل : ( والشمس وضحاها ) لقد أفلح
قال أبو العباس رحمه الله والبغداديون يقولون : والله إن زيداً منطلق فيفتحون ( إن ) وهو عندي القياس لأنه قسم فكأنه قال : أحلف بالله على ذاك أشهد أنك منطلق
قال : والقول عندي في قوله تعالى : ( لا جرم أن لهم النار ) والله أعلم أن ( لا ) زائدة للتوكيد وجرم فعل ماض فكأنه قال والله أعلم : جرم أن لهم النار وزيادة ( لا ) في هذا الموضع كزيادتها في قوله تعالى : ( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ) وإنما تقول : لا يستوي عبد الله وزيد وكقوله تعالى : ( لا أقسم بهذا البلد ) ونحوه من الفواتح
وتقول : أما جهد رأيي فإنك راحل وأما يوم الجمعة فإنك سائر لأن معنى ( أما ) مهما يكن من شيء فإنك سائر يوم الجمعة فما بعد الفاء يقع مبتدأ ألا ترى أنك تقول : أما زيداً فضربت على التقديم لأن المعنى : مهما يكن من شيء فزيداً ضربت وفضربت
قال أبو العباس : فيلزم سيبويه أن يقول على هذا : أما زيداً فإنك ضارب
قال سيبويه وإذا قلت : أما حقاً فإنك قائم وأما أكبر ظني فإنك منطلق فعلى الفعل لا على الظرف لأنك لم تضطر إلى أن تجعلها ظرفاً إذا كانت ( أما ) إنما وضعت على التقديم لما بعد الفاء فصار التقدير : مهما يكن من شيء فإنك ذاهب حقاً وفيما قال نظر وشغب : ولا يجوز عندي على هذا أن يقول : أما هنداً فإن عمراً ضارب لأن تقدير الإسم الذي يلي ( أما ) أن يلي الفاء ملاصقاً لهما
فما جاز أن يلاصق الفاء جاز أن يلي ( أما ) وما لم يجز أن يلاصقها لم يجز أن يلي ( أما ) فلا يجوز أن تقول : مهما يكن من شيء فإن هنداً عمراً ضارب فتنصب هنداً بضارب ويجوز أن تقول : مهما يكن من شيء فإن أكبر ظني عمراً ذاهب فيكون : أكبر ظني ظرفاً ( لذاهب ) وهذا إنما أجازه مع إما لأنهم وضعوها في أول أحوالها على التقديم والتأخير صار حكمها حكم ما لا تأخير فيه ولو كان موضع يجوز أن يقدم فيه ولا يقدم لم يجز أن يعمل ما بعد ( أن ) في ما قبلها وعلى ذلك ففيه نظر كثير والأقيس في قولك : أما حقاً فإنك قائم : أن تعمل معنى ( أما ) في ( حقاً ) كأنك قلت : مهما يكن من شيء حقاً فإنك قائم وأحسبه قول المازني
وتقول : أيقول : إنَّ عمراً منطلق إذا أردت معنى : أتظن كأنك قلت : أتظن أن عمراً منطلق فإن أردت الحكاية قلت : أتقول : إنَّ وتقول : ظننت زيداً أنه منطلق لأن المعنى : ظننت زيداً هو منطلق ولا يجوز فيه الفتح لأنه يصير معناه : ظننت زيداً الإنطلاق ولو قلت : ظننت أمرك أنك منطلق جاز كأنك قلت : ظننت أمرك الإنطلاق والأخفش يقول : إذا حسن في موضع ( إن ) وما عملت فيه ( ذاك ) فافتحها نحو قولك : بلغني أنه ظريف لأنك تقول : بلغني ذاك قال : وما لم يحسن فيه ( ذاك ) فاكسرها قال : وتقول : أما أنه منطلق لأنه لا يحسن ها هنا أما ذاك ثم أجازه بعد على معنى : حقاً أنه منطلق وقال : لأن أما في المعنى : ( حقاً ) لأنها تأكيد فكأنه ذكر حقاً فجعلها ظرفاً قال : وقد قال ناس : حقاً إنك ذاهب على قولهم : إنك منطلق حقاً فتنصب ( حقاً ) على المصدر كأنه قال : أحِقُّ ذاك حقاً قال : وهذا قبيح وهو من كلام العرب
ذكر ما يكون المنصوب فيه في اللفظ غير المرفوع والمنصوب بعض المرفوع وهو المستثنى
المستثنى يشبه المفعول إذا أتى به بعد استغناء الفعل بالفاعل وبعد تمام الكلام
تقول : جاءني القوم إلا زيداً فجاءني القوم : كلام تام وهو فعل وفاعل فلو جاز أن تذكر ( زيداً ) بعد هذا الكلام بغير حرف الإستثناء ما كان إلا نصباً
لكن لا معنى لذلك إلا بتوسط شيء آخر فلما توسطت ( إلا ) حدث معنى الإستثناء ووصل الفعل إلى ما بعد إلا فالمستثنى بعض المستثنى منهم ألا ترى أن زيداً من القوم فهو بعضهم فتقول على ذلك : ضربت القومَ إلا زيداً ومررت بالقومِ إلا زيداً فكأنك قلت في جميع ذلك : أستثني زيداً فكل ما أستثنيه ( بإلا ) بعد كلام موجب فهو منصوبٌ وألا تخرج الثاني مما دخل فيه الأول فهي تشبه حرف النفي فإذا قلت : قام القوم إلا زيداً فالمعنى : قام القوم لا زيد إلا أن الفرق بين الإستثناء والعطف أن الإستثناء لا يكون إلا بعضاً من كلّ والمعطوف يكون غير
الأول ويجوز أيضاً في المعطوف أن تعطف على واحد نحو قولك : قام زيد لا عمرو ولا يجوز أن تقول في الإستثناء : قام زيد إلا عمرو
لا يكون المستثنى إلا بعضاً من كل وشيئاً من أشياء و ( لا ) إنما تأتي لتنفي عن الثاني ما وجب للأول و ( إلا ) تخرج الثاني مما دخل فيه الأول موجباً كان أو منفياً ومعناها الإستثناء والإسم المستثنى منه مع ما تستثنيه منه بمنزلة اسم مضاف ألا ترى أنك إذا قلت : جاءني قومك إلا قليلاً منهم فهو بمنزلة قولك : جاءني أكثر قومك فكأنه اسم مضاف لا يتم إلا بالإِضافة فإن فرغت الفعل لما بعد إلا عمل فيما بعدها لأنك إنما تنصب المستثنى إذا كان اسماً من الأسماء وهو بعضها فأما إذا فرغت الفعل لما بعد إلا عمل فيما بعد إلا وزال ما كنت تستثني منه وذلك نحو قولك : ما قام إلا زيد وما قعد إلا بكر فزيد مرتفع بقام وبكر مرتفع بقعد وكذلك : ما ضربت إلا زيداً وما مررت إلا بعمرو ولما فرغت الفعل لما بعد إلا عمل فيه
فإذا قلت : ما قام أحد إلا زيد فإنما رفعت لأنك قدرت إبدال زيد من ( أحد )
فكأنك قلت : ما قام إلا زيد وكذلك البدل من المنصوب والمخفوض تقول : ما ضربت إلا أحداً إلا زيداً وما مررت بأحد إلا زيد فالمبدل منه بمنزلة ما ليس في الكلام وهذا يبين في باب البدل فإن لم تقدر البدل وجعلت قولك : ما قام أحد كلاماً تاماً لا ينوي فيه الإِبدال من ( أحد ) نصبت فقلت : ما قام أحد إلا زيداً
والقياس عندي إذا قال قائل : قام القوم إلا أباك فنفيت هذا الكلام أن تقول : ما قام القوم إلا أباك لأن حق حرف النفي أن ينفي الكلام الموجب بحاله وهيئته فأما إن كان لم يقصد إلى نفي هذا الكلام الموجب بتمامه وبني كلامه على البدل قال : ما قام القوم إلا أبوك فإن قدمت المستثنى لم يكن إلا النصب نحو قولك : ما لي إلا أباك صديق وما فيها إلا زيداً أحداً لأنه قد بطل البدل فلم يتقدم ما يبدل فيه لأن البدل كالنعت إنما يجري على ما قبله فإن أوقعت استثناء بعد استثناء قلت : ما قام أحد إلا زيد إلا عمراً
فتنصب عمراً لأنه لا يجوز أن يكون لفعل واحد فاعلان مختلفان يرتفعان به بغير حرف عطف فهذا مما يبصرك أن النصب واجب بعد استغناء الرافع بالمرفوع
ولك أن تقول : ما أتاني أحد إلا زيد إلا عمراً وإلا زيداً إلا عمرو فتنصب أيهما شئت وترفع الآخر
وتقول : ما أتاني إلا عمراً إلا بشراً أحد
فإن استثنيت بعد الأفعال التي تتعدى إلى مفعولين نحو : أعطيتُ زيداً درهماً قلت : أعطيتُ الناس الدراهم إلا زيداً ولا يجوز أن تقول : إلا عمراً الدنانير لأن حرف الإستثناء إنما تستثني به واحداً فإن قلت : ما أعطيتُ أحداً درهماً إلا عمراً دانقاً وأردت الإستثناء أيضاً لم يجز فإن أردت البدل جاز فأبدلت عمراً من أحد ودانقاً من قولك : درهماً فكأنك قلت : ما أعطيت إلا عمراً دانقاً
واعلم : أنهم قد يحذفون المستثنى استخفافاً نحو قولهم : ليس إلا وليس غير كأنه قال : ليس إلا ذاك وليس غير ذلك
واعلم : أيضاً : أنهم ربما يحملون في هذا الباب الإسم على الموضع وذلك قولهم : ما أتاني من أحد إلا زيد وما رأيت من أحد إلا زيداً لأنه يقبح أن تقول : ما أتاني إلا من زيد
فإذا قلت لا أحد فيها إلا عبد الله فلا بد من إجرائه على الموضع ورفعه لأن أحداً مبني مع ( لا ) وسنذكره في بابه إن شاء الله
ولا يجوز أن يعمل ما بعد ( إلا ) فيما قبلها لا يجوز ما أنا زيداً إلا ضارب تريد ما أنا إلا ضاربٌ زيداً وقد جاءت ألفاظ قامت مقام ( إلا ) وأصل الإستثناء ( لا لا ) ونحن نفرد لها باباً إن شاء الله
ولا يجوز أن تستثني النكرة من النكرات في الموجب لا تقول : جاءني قوم إلا رجلاً لأن هذا لا فائدة من استثنائه فإن نَعَتَّه أو خَصَصْتَه جاز وهذا امتناعه من جهة الفائدة فمتى وقعت الفائدة جاز .
هذا باب ما جاء من الكلم في معنى إلا أعلم : أنه قد جاء من الأسماء والأفعال والحروف ما فيه إلا : أما الأول من ذلك : فما جاء من الأسماء نحو : غير وسوى وقوم يحكون : سوى وسواء ويضمون إليها : بيد بمعنى : غير وحكم ( غير ) إذا أوقعتها موقع إلا أن تعربها بالإِعراب الذي يجب للإسم الواقع بعد إلا تقول : أتاني القوم غير زيد لأنك كنت تقول : أتاني القوم إلا زيداً وتقول : ما جاءني أحد غير زيد لأنك كنت تقول أتاني القوم إلا زيدا وتقول ما جاءني أحد غير لأنك كنت تقول : ما جاءني أحد إلا زيد وما رأيت أحداً غير زيد كما تقول : ما رأيت أحداً إلا زيداً وما مررت بأحد غير
زيد كما تقول : ما مررت بأحد إلا زيد فتعرب ( غيراً ) بإعراب زيد في هذه المسائل بعد إلا وكل موضع جاز فيه الإستثناء بإلا جاز بغير ولا يجوز أن تكون غير بمنزلة الإسم الذي تبتدأ بعد إلا في قولك : ما مررت بأحد إلا زيد خير منه لا يجوز أن تقول ما مررت بأحد غير زيد خير منه وأنت تريد ذلك المعنى وإنما أدخلوا فيها معنى الإستثناء في كل موضع يصلح أن يكون صفة وكذلك ( إلا ) أقاموها مقام غير إذا كانت صفة كما أقاموا غير مقام إلا إذا كانت استثناء وأصل غير في هذا الباب أن تكون صفة والإستثناء عارض فيها وأصل ( إلا ) الإستثناء والصفة عارضة فيها شبهت بغير لما شبهت غير بها فتقول على هذا إذا جعلت غير صفة : جاءني القوم غير زيد ومررت بالقوم غير أخويك ورأيت القوم غير أصحابك تجري غير مجرى ( مثل ) في الإِعراب والصفة وكذلك إن جعلت إلا بمعنى غير قلت : جاءني القوم إلا زيد ومررت بالقوم إلا زيد ورأيت القوم إلا زيداً تنصبه نصب غير إلى الصفة لا على الإستثناء
وزعم الخليل ويونس : أنه يجوز : ما أتاني غير زيد وعمرو فيجريه على موضع غير لا على ما بعد غير والوجه الجر وذلك أن : غير زيد في موضع إلا زيد وفي معناه حملوه على الموضع ألا ترى أنك تقول : ما أتاني غير زيد وإلا عمرو ولا يقبح : كأنك قلت : ما أتاني إلا زيد وإلا عمرو
واعلم : أن إلا لا يجوز أن تكون صفة إلا في الموضع الذي يجوز أن تكون في استثناء وذلك أن تكون بعد جماعة أو واحد في معنى الجماعة إما نكرة وإما ما فيه الألف واللام على غير معهود لأن هذا هو الموضع الذي تجتمع فيه هي وغير فضارعتها لذلك ولم تكن بمنزلتها في غير هذا الموضع لأنهما لا يجتمعان فيه كما أن غير لا تدخل في الإستثناء إلا في
الموضع الذي ضارعت فيه إلا ألا ترى أنك تقول : مررت برجل غيرك ولا تقع إلا في مكانها لا يجوز أن تقول : جاءني رجل إلا زيد تريد غير زيد على الوصف والإستثناء ها هنا محال ولكن تقول : ما يحسن بالرجل إلا زيد أن يفعل كذا لأن الرجل : جنس ومعناها بالرجل الذي هو غير زيد كما قال لبيد :
( إنما يُجزَى الفتى غَيرُ الجَمَل ... )
وكذلك : مررت بالقوم إلا زيد كما قال :
( أُنيخَتْ فألقَتْ بَلْدَةً فَوْقَ بَلْدَةٍ ... قَلِيل بها الأَصْوَات إلا بُغَامُها )
وذكر سيبويه قولهم : أتاني القوم سواك وحكى عن الخليل أن هذا كقولك : أتاني القوم مكانك إلا أن في سواك معنى الإستثناء وسواء تنصب في هذا كله لأنها تجري مجرى الظروف وتخفض ما بعدها
وأما الثاني : فما جاء في الأفعال في موضع الإستثناء وهي : لا يكون وليس وعدا وخلا فإذا جاءت وفيها معنى الإستثناء ففيها إضمار وذلك قولك : أتاني القوم لس زيداً وأتوني لا يكون عمراً وما أتاني أحد لا يكون زيداً كأنه قال : ليس بعضهم زيداً
وترك ( بعضاً ) استغناءً بعلم المخاطب والخليل يجيز في ليس ولا يكون أن تجعلهما صفتني وذلك قولك : ما أتاني أحد ليس زيداً وما أتاني رجل لا يكون عمراً فيدلك على أنه صفة أن بعضهم يقول : ما أتاني امرأة لا تكون فلانة وما أتتني امرأة ليست فلانة
وأما ( عدا ) و ( خلا ) فلا يكونان صفة ولكن فيهما إضمار كما كان في ( ليس )
ولا ( يكون ) وذلك قولُك : ما أتاني أحد خلا زيداً وأتاني القوم عدا عمراً فإن أدخلت ( ما ) على عدا وخلا وقلت : أتاني القومُ ما عدا زيداً وأني ما خلا زيداً ( فما ) هنا اسم وخلا وعدا صلة له قال ولا توصل إلا بفعل
قال سيبويه : وإذا قلت : أتوين إلا أن يكون زيد فالرفع جيد بالغ وهو كثير في كلامهم و ( أن يكون ) في موضع اسم مستثنى والدليل على أن ( أن يكون ) هنا ليس فيها معنى الإستثناء أن ليس وخلا وعدا لا يقَعْنَ هنا
ومثل الرفع قوله تعالى : ( إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) وبعضهم ينصب على وجه النصب في لا يكون
وأما الثالث : فما جاء من الحروف في معنى ( إلا ) قال سيبويه : من ذلك ( حاشا ) وذكر أنه حرف يجر ما بعده كما تجرُّ ( حتى ) ما بعدها وفيه معنى الإستثناء قال : وبعضُ العرب يقول : ما أتاني القوم خلا عبدِ الله فيجعل خلا بمنزلة حاشا فإذا قلت : ما خلا فليس فيه إلا النصب لأن ( ما ) اسم ولا يكون صلتها إلا الفعل وهي ( ما ) التي في قولك : أفعل ما فعلت
وحكى أبو عثمان المازني عن أبي زيد : قال : سمعتُ أعرابياً يقول : اللهم أغفر لي ولمن سَمِعَ حاشا الشيطان وأبا الأصبع نصب ب ( حاشا )
قال أبو العباس : إنما حاشا بمنزلة خلا ولأن خلا إذا أردت به الفعل إنما معناه جاوزه من قولك : خلا يخلو وكذلك حاشا يحاشي وكذلك قولك : أنت أحب الناس إليّ ولا أُحاشي أحداُ أي : ولا أستثني أحداً وتصييرها فعلاً بمنزلة خلا في الإستثناء قول أبي عمر الجرمي وأنشد قول النابغة :
( وَلاَ أَرَى فَاعِلاً في النَّاسِ يُشبِهُهُ ... ولا أُحَاشِي مِنَ الأَقْوَامِ مِنْ أَحَدِ )
والبغداديون أيضاً يجيزون النصب والجر ب ( حاشا )
واعلم : أن من الإستثناء ما يكون منقطعاً من الأول وليس ببعض له وهذا الذي يكون ( إلا ) فيه بمعنى لكن
ونحن نفرد له باباً يلي هذا الباب إن شاء الله
باب الإستثناء المنقطع من الأول إلا في تأويل ( لكن ) إذا كان الإستثناء منقطعاً عند البصريين
ومعنى سوى عند الكوفيين والإختيار فيه النصب في كل وجه
وربما ارتفع ما قبل إلا وهي لغة بني تميم وإنما ضارعت إلا ( لكن ) لأن ( لكن ) للإستدراك بعد النفي فأنت توجب بها للثاني ما نفيت عن الأول فمن ها هنا تشابها تقول : ما قام أحدٌ إلا زيد فزيد قد قام ويفرق بينهما : أنّ لكن لا يجوز أن تدخل بعد واجب إلا لترك قصة إلى قصة تامة نحو قولك : جاءني عبد الله لكن زيد لم يجيء ولو قلت : مررت بعبد الله لكن عمرو لم يجز وليس منهاج الإستثناء المنقطع منهاج الإستثناء الصحيح لأن الإستثناء الصحيح إنما هو أن يقع جمع يوهم أن كل جنسه داخل فيه ويكون واحد منه أو أكثر من ذلك لم يدخل فيما دخل فيه السائر بمستثنيه منه ليعرف أنه لم
يدخل فيهم نحو : جاءني القوم إلا زيداً فإن قال : ما جاءني زيد إلا عمراً فلا يجوز إلا على معنى لكن
واعلم : أن إلا في كل موضع على معناها في الإستثناء وأنها لا بد من أن تخرج بعضاً من كل فإذا كان الإستثناء منقطعاً فلا بد من أن يكون الكلام الذي قبل إلا قد دل على ما يُستَثْنى منه فتفقد هذا فإنه يدقّ فمن ذلك قوله تعالى : ( لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم ) فالعاصم الفاعل من رحم ليس بعاصم ولكنه دلّ على العصمة والنجاة
فكأنه قال والله أعلم : لكن من رحم يُعصم أو معصوم ومن ذلك قوله تعالى : ( فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس ) وهذا الضرب في القرآن كثير
ومن ذلك من الكلام : لا تكونن من فلان في شيء إلا سلاماً بسلام وما زاد إلا ما نقص وما نفع إلا ما ضرَّ ( فما نفع ) مع الفعل بمنزلة اسم
ولولا ( ما ) لم يجز الفعل هنا بعد إلا وإنما حسن هذا الكلام لأنه لما قال : ما زاد دل على قوله هو على حاله فكأنه قال : هو على حاله إلا ما نقص وكذلك دل بقوله : ما نفع ما هو على أمره إلا ما ضرَّ وقال الشاعر :
( نَجَا سَالِم والنَّفْسُ مِنْهُ بِشِدْقهِ ... ولم يَنْج إلا جَفْنَ سيفٍ ومئزَرا )
فقوله : نجا ولم ينج كقولك : أفلت ولم يفلت أي : لم يفلت إفلاتاً صحيحاً كقولك : تكلمت ولم أتكلم ثم قال : إلا جفن سيف ومئزراً كأنه قال : لكن جفن سيف ومئزراً وقال الآخر :
( وما بالربَّعِ من أحدِ ... )
ثم قال : إلا أَوَ آرِيَّ
فهذا كأنه كما قال : من أحد اجتزأ بالبعض من الكل فكأنه قال : ما
بالربع من شيء واكتفى بأحد لأنه من الإستثناء فساغ ذلك له لأنه لم يلبس
وأما قول الشاعر :
( مَنْ كَانَ أَسْرَعَ في تَفَرٌّقِ فَالِجٍ ... فَلَبُونُه جربت مَعَا وأغَدَّتِ )
( إلا كَنَاشِرَةِ الَّذِي ضيَّعَتُمُ ... كالغُصْنِ في غُلوائِهِ المتنبّتِ )
وقال الآخر :
( كَلاَّ وَبَيْتِ الله حتى يُنْزِلوا ... مِنْ رأسِ شاهقةٍ إلينا الأسْوَدا )
ثم قال :
( إلا كَخَارِجَةِ المكلّفِ نفسَه ... وابنى قبيصة أن أَغِيبَ ويُشْهدا )
فإن الكاف زائدة كزيادتها في قول الله تعالى : ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير )
وكقول رؤبة :
( لواحقُ الأقرابِ فيها كالمقَق ... )
والمقق : الطول وإنما المعنى : فيها طول كما يقال : فلان كذا الهيئة أي : ذو الهيئة
مسائل من باب الإستثناء تقول : ما مررتُ بأحدٍ يقول ذاك إلا زيد
وما رايت أحداً يقول ذاك إلا زيداً هذا وجه الكلام وإن حَملْتَه على الإِضمار الذي في الفعل أعني : المضمر في ( يقول ) فقلت : ما رأيت أحدا يقول ذاك إلا زيدٌ فعربي
قال عديُّ بن زيد :
( في لَيْلَةٍ لا نَرَى بها أحَدَاً ... يَحْكِي علينا إلا كَواكِبُها )
وإنما تكلَّموا بذلك لأن ( تقول ) في المعنى منفي إذ كان وصفاً لمنفي أو خبراً كما قالوا : قد عَرَفْتُ زيداً أبو من هو لأن معناه معنى المستفهم عنه
ويجوز : ما أظنُّ أحداً فيها إلا زيدٌ لا أحدٌ منهم اتخذت عنده يداً إلا زيد رفعت زيداً في المسألة الأولى على البدل من المضمر في فيها المرفوع وخفضته في الثانية على البدل من الهاء المخفوضة
في ( عنده ) وتقول : ما ضربت أحداً يقول ذاك إلا زيداً لا يكون في ذلك إلا النصب لأن القول غير منفي هنا وإنما أخبرت : أنك ضربت ممن يقول ذاك زيداً والمعنى في الأول أنك أردت أنه ليس يقول ذاك إلا زيدا لا يكون في ذلك إلا النصب لأن القول غير منفي هنا وإنما أخبرت أنك ضربت ممن يقول ذاك زيدا والمعنى في الأول أنك أردت أنه ليس يقول ذاك إلا زيد
ولكنك قلت : رأيت أو ظننت ونحوهما لتجعل ذلك فيما رأيت وفيما ظننت ولو جعلت : رأيت من رؤية العين كان بمنزلة ( ضربت )
قال الخليل : ألا ترى أنك تقول : ما رأيته يقول ذلك إلا زيد وما أظنُّه يقوله إلا عمرو فهذا يدلك على أنك إنما أنتحيت على القول وتقول : قل رجل يقول ذاك إلا زيد وليس ( زيد ) بدلاً من الرجل في ( قل )
قال سيبويه : لكن ( قل رجل ) في موضع ( أقل رجل ) ومعناه كمعناه وأقل رجل مبتدأ مبني عليه
والمستثنى بدل منه لأنه يدخله في شيء
يخرج منه من سواه وكذلك أقل من وقل من إذا جعلت من بمزلة رجل قال حدثنا بذلك يونس عن العرب
يجعلونه نكرة يعني من قال أبو العباس : إذا قلت : قل رجل يقول ذاك إلا زيد فهذا نفي
كثر رجل يقول ذاك إلا زيد وليست هذه قل التي تريد بها قل الشيء وإنما تريد ما يقول ذاك إلا زيد
والدليل على أن رجل في معنى رجال أنك لو قلت : قل زيد إلا زيد لم يجز لأنك لا تستثني واحداً من واحد هو هو وقولك : إلا زيداً يدلُّ على معنى أقل رجل فهو بدل من قولك : قل رجل
وتقول : ما أنت بشيء إلا شيء لا يعبأ به من قبل ( أن بشيء ) في موضع رفع في لغة بني تميم فلما قبح أن يحمله على الباء صار كأنه بدل من اسم مرفوع وبشيء في لغة أهل الحجاز في موضع اسم منصوب ولكنك إذا قلت : ما أنت بشيء إلا شيء لا يعبأ به استوت اللغتان وصارت ( ما ) على أقيس الوجهين وهي لغة تميم
وتقول : لا أحد فيها إلا عبد الله تحمل عبد الله على موضع ( لا ) دون
لفظه وكذلك تقول : ما أتاني من أحد إلا عبد الله ألا ترى أنك تقول : ما أتاني من أحد لا عبدُ الله ولا زيدٌ من قبل أنه خطأ أن تحمل المعرفة على ( من ) في هذا الموضع كما تقول : لا أحدَ فيها إلا زيدٌ , لا عمروٌ لأن المعرفة لا تحمل على ( لا )
وتقول : ما فيها إلا زيد وما علمت أن فيها إلا زيداً ولا يجوز : ما إلا زيد فيها ولا ما علمت أن إلا زيداً فيها وإنما حسن لما قدمت وفصلت بين أن وإلا لطول الكلام كأشياء تجوز في الكلام إذا طال وتحسن
ولا يجوز أن تقول : ما علمت أن إلا زيدا فيها من أجل أنك لم تفصل بين ( أن ) وإلا كما فصَلْت في قولك ما علمت أن فيها إلا زيداً
قال سيبويه : وتقول إن أحداً لا يقول ذاك وهو خبيث ضعيف فمن أجاز هذا قال : إن أحداً لا يقول هذا إلا زيداً حمله على ( إن ) وتقول : لا أحد رأيته إلا زيد وإن بنيت جعلت ( رأيته ) خبراً لأحد أو صفة
وتقول ما فيهم أحد إلا قد قال ذاك إلا زيداً كأنه قال : قد قالوا ذاك إلا زيداً
وتقول : ما أتاني إلا أنهم قالوا كذا و ( أن ) في موضع اسم مرفوع قال الشاعر :
( لم يَمْنَعِ الشَّربَ منها غَيْرَ أن هَتَفت حَمَامَةٌ في غُصُونٍ ذَاتِ أَوْقَالِ )
وناس يقولون : غير أن نطقت وقد مضى تفسيره
وتقول : ما أتاني زيد إلا عمرو إذا أردت بذكرك زيداً : بعض من نَفَيْتَ توكيداً للنفي فهي بمنزلة ما لم تذكره ولا يجوز أن تقول : ما زيد إلا قام فإن قلت : ما زيد إلا يقوم كان جيداً وذلك أن الموضع موضع خبر والخبر اسم فلو كان : ما زيداً إلا يقوم كان جيداً لمضارعة يفعل الأسماء . ولم يقولوا : أكثر من ذلك
قال أبو العباس رحمه الله : والتقدير : ما زيد شيئاً إلا ذا فلا يجوز أن يقع بعد إلا شيء إلا اسم في معنى شيء الذي هو حدُّ زيد لأنه واحد من شيء لأنه شيء في معنى جماعة وتقدره : ما زيد شيئاً من الأشياء إلا قائم فلا يجوز أن يقع قعد ( إلا ) إلا اسم أو مضارع له ومن ها هنا وجب أن تقول ما زيد إلا الجبن آكل وإلا الخبر آكله هو وفيمن قال زيداً ضربته : قال : ما زيد إلا الخبز آكله ولا يجوز : ما الخبز إلا زيد آكل
لا يجوز أن تعمل الفعل الذي بعد إلا في الإسم الذي قبلها بوجه من الوجوه لأن الإستثناء إنما يجيء بعد مضي الإبتداء لأن المعنى : ما الخبز شيئاً إلا زيد آكله فإن حذفت الهاء من ( آكله ) أضمرتها ورفعت الخبز
لا يجوز إلا ذلك . فإن قلت : ما زيد إلا قد قام فهو أمثل ولو لم يجزه مجيز كان قاصداً فيه إلى مثل ترك إجازة ما قبله لأن ( قد ) إنما أكدت وصارت جواباً لتوقع خبر والفعل الماضي على حاله ومن أجازه فعلى وجه أن ( قد ) لما زادت ضارع الفعل بالزيادة التي قبله الأفعال المضارعة والأسماء لأن الأفعال المضارعة يدخلها السين وسوف والأسماء يدخلها الألف واللام فتقول : ما زيد إلا قد قام ألا ترى أن ( قد ) إذا لحقت الفعل الماضي صلح أن يكون حالاً نحو : جاء زيد قد ركب دابة ولولا ( قد ) كان قبيحاً فإن قيل : ألست تقول : ما جاءني زيد إلا تكلم بجميل فقد وقع الفعل الماضي بعد إلا قيل : إنما جاز وجاد لأنه ليس قبله أسم يكون خبراً له وإنما معناه : كلما جاءني زيد تكلم ( بجميل ) فإن قال : فأنت قد تقول : ما تأتيني إلا قلت حسناً وما تحدثني إلى صدقت فمن أين وقع الماضي بعد إلا والذي قبله مضارع قيل : فالمضارع الذي قبله في معنى الماضي لأنه حكاية الحال
ألا ترى أن معناه : كلما حدثتني صدقتني وكلما جئتني قلت : حقاً ولو قلت : ما زيد إلا أنا ضارب لأضمرت الهاء في ( ضارب ) لأن زيداً لا سبيل لضارب عليه لأن تقديره : ما زيد شيئاً إلا أنا ضاربه فإن كانت ما الحجازية فهي الرافعة لزيد وإن كانت التميمية فإنما جاء الفعل بعد أن عمل الإبتداء فصار بمنزلة قولك كان زيد ضربت في أنه لا بد من الهاء في ( ضربت ) وتقول : ما كان أخاكل إلا زيد وما ضرب أباك إلا زيد لأن الفعل فارغ لما بعده فتقديره ما كان أحد أخاك إلا عمرو وما كان أخوك أحداً إلا زيداً فما بعد ( إلا ) من فاعل أو مفعول مستثنياً من اسم في النية أو خبر ولا يجوز : ما منطلقاً إلا كان زيد من حيث استحال ما زيداً إلا ضرب عمرو وتقول ما كان زيد قائماً إلا أبوه وما زيد قائماً إلا أبوه لأن ( ما ) في قائم منفي في المعنى والأب هو الفاعل كما تقول : ما قام إلا زيد
فإن قلت : ما زيد قائماً أحد إلا أبوه كان جيداً لأن الإستثناء معلق بما قبله غير منفصل منه ونظير ذلك : زيد ما قام أحد إلا أبوه وزيد ما كان أحد قائماً إلا أبوه
وتقول : ما أظنُّ أحداً قائماً إلا أبوك والنصب في الأب أجود على البدل من ( أحد ) ولو قلت : ما زيد قائماً أحد إليه إلا أبوه كان أجود حتى يكون الإستثناء فضلة
ويقول : إن أخويك ليسا منطلقاً إلا أبوهما كما تقول : إن أخويك ليسا منطلقة جاريتهما وكذلك : إن أخويك ليسا منطلقاً أحد إلا أبوهما كما تقول : مررت برجالٍ ليسوا إلا منطلقاً آباؤهم
قال أبو العباس رحمه الله : يزعم البغداديون : أن قولهم : إلا في الإستثناء إنما هي إن ولا ولكنهم خففوا إن لكثرة الإستعمال ويقولون
إذا قلنا : ما جاءني أحد إلا زيد
فإنما رفعنا زيداً ( بلا ) وإن نصبنا فبإن
ونحن في ذلك مخيرون في هذا لأنه قد اجتمع عاملان ( إن ولا ) فنحن نعمل أيهما شئنا وكذلك يقولوا جاءني القوم إلا زيداً ولا يعرفون ما نقول نحن أن رفعه على الوصف في معنى غير فيلزمهم أن يقولون : ما جاءني إلا زيداً إذا أعملوا ( إن ) وهم لا يقولون به فسألناهم : لِمَ ذلك فقالوا : لأن أحدً مضمرة قلت ذاك أجدر أن يجوز النصب كما يجوز إذا أظهرت أحداً فلم يكن في ذاك وما يتولد فيه من المسائل حجة وهذا فاسد من كل وجه ذكرنا إياه يجعل له حظاً فيما يلتفت إليه ويجب على قولهم أن تنصب النكرات في الإستثناء بلا تنوين لأن : لا تنصب النكرات بلا تنوين قال سيبويه : إذا قلت لو كان معنا زيد رجل إلا زيد لغلبنا الدليل على أنه وصف أنك لو قلت : لو كان معنا إلا زيد لهلكنا وأنت تريد الإستثناء لكنت قد أحلت ونظير ذلك قوله : ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) ومثل ذلك قوله : ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر ) ومثله قول لبيد : :
( وإذا جُوزِيتَ قَرْضَاً فَأْجْزهِ ... إنّما يَجْزِي الفَتَى غَيْرُ الجَمَل )
قال أبو العباس رحمه الله : لو كان معنا إلا زيداً لغلبنا أجود كلام وأحسنه والدليل على جودته أنه بمنزلة النفي نحو قولك : ما جاءني أحد إلا
زيد وما جاءني إلا زيد أنك لو قلت : لو كان معنا أحد إلا زيد لهلكنا فزيد معك كما قال تعالى : ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) والله تعالى فيهما
وتقول : لو كان لنا إلا زيداً أحد لهلكنا كما تقول : ما جاءني إلا زيداً أحد والدليل على جودة الإستثناء أيضاً أنه لا يجوز أن يكون إلا وما بعدها وصفاً إلا في موضع لو كان فيه استثناء لجاز
ألا ترى أنك تقول : ما جاءني أحد إلا زيد على الوصف إن شئت وكذلك : جاءني القوم إلا زيد على ذلك ولو قلت : جاءني رجلاً إلا زيد تريد : غير زيد على الوصف لم يجز لأن الإستثناء هنا محال وتقول : ما أكل أحد إلا الخبز إلا إلا زيداً لأن معنى : ما أكل أحد إلا الخبز أنه قد أكل الخبز كل إنسان فكأنك قلت أكل الخبز كل إنسان فكأنك قلت أكل الخبز كل إنسان إلا زيداً وكذلك ما مسلوب أحد إلا ثوباً إلا زيداً لأنك أردت : كل إنسان سلب ثوباً إلا زيداً وتقول : ما ضربت أحداً إلا قائماً فتنصب ( قائماً ) على الحال وكذلك : ما مررت بأحد إلا ( قائماً ) وما جاءَني أحد إلا راكباً فإن قلت : ما مررت بأحد إلا قائماً إلا زيداً نصبت : زيداً ولم يجز أن تبدله من ( أحد ) لأن المعنى : مررت بكل أحد قائم وإن شئت : قائماً إلا زيداً وتقول : ما مر بي البعير إلا إبلك وذهب الدنانير إلا دنانيرك وفي كتاب الله تعالى : ( والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات )
قال الأخفش : لو قلت : أين إلا زيداً قومك وكيف إلا زيداً قومك
لجاز لأن هذا بمنزلة أها هنا إلا زيداً قومك ويجيز ضرب إلا زيد قومك أصحابنا على أن يستثنى زيداً من الفاعلين
وقال : لو استثنيته من المفعولين لم يحسن لأنك لم تجيء للمفعولين بذكر في أول الكلام و ( ضرب ) هو من ذكر الفاعلين لأن الفعل ( لهم )
واعلم : أنه لا يجوز أن تجمع بين حرفين من هذه الحروف إلا ويكون الثاني اسماً مثل قولك : قام القوم إلا خلا زيداً هذا لا يجوز أن تجمع بين إلا وخلا فإن قلت : إلا ما خلا زيداً وإلا ما عدا جاز ولا يجوز إلا حاش زيداً والكسائي : يجيزه إذا خفض ( بحاشا ) والبغداديون يجيزون في : ما عندي إلا أباك أحداً الرفع والنصب في ( أبيك ) يجيزون : ما عندي إلا أبوك أحد
وقد مضى ذكر هذا وما يجوز فيه وما لا يجوز
وإذا قلت : ما قام القوم إلا زيد وهل قام القوم إلا زيد فالرفع عند البصريين على البدل وعند الكوفيين على العطف ويقولون : إذا اجتمعت ( إلا وغيرا ) فاجعل إحداهما تتبع ما قبلها وإحداهما استثناء فيقولون : ما جاءني أحد إلا زيد غير عمرو ترفع زيداً وتنصب ( غير ) وهذا عندنا إنما انتصب الثاني لأنه لا يجوز أن يرفع بالفعل فاعلان وقد مضى تفسير ذلك وإذا نَسَقْتَ جاز رفعهما جميعاً فقلت : ما جاءني أحد إلا زيد وغير عمرو قال الشاعر :
( مَا بِالمِدِينَةِ دَارٌ غَيْرُ وَاحِدَةٍ ... دَار الخليفةِ إلا دَارَ مَرْوَانَا )
ترفع ( غير ) وتنصب دارَ مروان ولك أن تنصبهما جميعاً على قولك : ما جاءني أحد إلا زيداً ورفعهما جميعاً لا يجوز إلا على أن تجعل ( غير ) نعتاً فيصير الكلام كأنك قلت : ما بالمدينة دار كبيرة إلا دار مروان
ولا يجوز أن يقع بعد إلا شيئان مختلفان على غير جهة البدل لا يجوز : ما أكل إلا عبد الله طعامَكَ
ولا ما أكل إلا طعامك عبد الله وقد مضى تفسير هذا فإن جعلت ( إلا ) بمعنى غير فقد أجازه قوم
وإذا قال القائل : الذي له عندي مائة دِرهم إلا درهَمَين فقد أقر بثمانية وتسعينَ وإذا قال : الذي له عندي مائة إلا درهمان فقد أقر بمئة لأن المعنى : له عندي مائة غير درهمين
وكذلك لو قال : له عليَّ مائة غير ألف
كان له مائة ألا ترى أنه لو قال : له عليَّ مائة مثل درهمين جاز أن يكون المعنى : أن المائة درهمان
وكذلك لو قال : له عليَّ مئة مثل ألف كان عليه ألف ( فغير ) نقيض مثل وإذا قلت : ما له عندي إلا درهمين فأردت أن تقر بما بعد ( إلا ) رفعته لأنك إذا قلت : ما له عندي مئة إلا درهمان فإنما رفعت درهمان بأن جعلته بدلاً من ( مئة ) فكأنك قلت : ما له عندي إلا درهمان وإذا نصبت فقلت : ما له عندي مئة إلا درهمين فما أقررت بشيء لأن ( عندي ) لم ترفع شيئاً فيثبت له عندك فكأنك قلت : ما له عندي ثمانية وتسعون
كذلك إذا قلت ما لك عليّ عشرون إلا درهماً فإذا قلت : ما لك عشرون إلا خمسة فأنت تريد : ما لك إلا خمسة وتقو ل : لك عليّ عشرة إلا خمسة ما خلا درهماً فالذي له ستة
وكل استثناء فهو مما يليه والأول : حط والثاني : زيادة وكذلك جميع العدد فالدرهم مستثنى من الخمسة فصار
المستثنى أربعة
ولا ينسق على حروف الإستثناء ( بلا ) لا تقول : قام القوم ليس زيداً ولا عمراً ولا : قام القوم غير زيد ولا عمرو والنفي في جميع العربية ينسق عليه ( بلا ) إلا في الإستثناء وقال بعضهم : ( لا سيما ) يجيء شبيهاً بالإستثناء وحكي : ولا سيما يوم ويوماً من رفع جعله في صلة ( ما ) ومن خفض خفض بشيء
ها هنا وجعل ( ما ) زائدة للتوكيد والسي
والمثل ومن نصب جعله ظرفاً وحكي عن الأحمر : أنه كان يجيز : ما قام صغير وما خلا أخاك كبير وإنما قاسه على قول الشاعر :
( وَبَلْدَةٍ لَيْسَ بها طُورِي ... ولا خلا الجن بها إنسي )
وليس كما ظن لأن إنسي مرتفع ( بها ) على مذهبهم ولو قلت : ما أتاني إلا زيد إلا أبو عبد الله إذا كان أبو عبد الله زيداً كان جيداً
قال أبو بكر : قد كنا قلنا عند إفتتاحنا ذكرنا الأسماء المنصوبات أنها تنقسم قسمة أولى على ضربين
وأن الضرب الأول : هو العام الكثير
وقد ذكرناه بجميع أقسامه وبقي الضرب الآخر وهو ( إلا ) ونحن ذاكرون إن شاء الله الضرب الآخر من الأسماء المنصوبة من القسمة الأولى
هذا الضرب كل اسم نذكره لفائدة بعد اسم مضاف أو فيه نون ظاهرة أو مضمرة قد تما بالإِضافة والنون وحالت النون بينهما أو الإِضافة ولولاها لصلح أن يضاف إليه والفرق بين هذا الضرب من التمييز وبين التمييز الذي قبله أن المنصوب هنا ينتصب عند تمام الإسم وذلك ينتصب عند تمام الكلام وهذا الضرب أكثر ما يكون في نوعين يميزان المقادير والأعداد وقد نصبوا أشياء نصب الأسماء بعد المقادير
باب تمييز المقادير المقدرات بالمقادير على ثلاثة أضرب : ممسوح ومكيل وموزون
أما ما كان منها على معنى المساحة فقولهم : ما في السماء قدر راحة سحاباً جعل قدر الراحة شيئا معلوماً نحو : ما يمسح به ما في الأرض وكل ما كان في هذا المعنى فهذا حكمه
وأما ما كان على معنى الكيل فقولهم : عندي قفيزان براً وما أشبه ذلك
وأما ما كان على معنى الوزن فقولهم : عندي منوان سمناً وعندي رطل زيتاً
فالتمييز إنما هو فيما يحتمل أن يكون أنواعاً ألا ترى أنك إذا قلت : عندي مناً ورطل وأنت تريد : مقدار مناً ومقدار رطل لا الرطل والمن اللذين يوزن بهما جاز أن يكون ذلك المقدار من كل شيء يوزن من الذهب والفضة والسمن والزيت وجميع الموزونات وكذلك الذراع يجوز أن يكون مقدار الذراع من الأرضين والثياب ومن كل ما يمسح وكذلك القفيز والمكيل يصلح أن يكال به الحنطة والشعير والتراب وكل ما يكال
فأما قولهم : لي مثله رجلاً فمشبه بذلك لأن المثل مقدار فذلك الأصل ولكنهم يتسعون في الكلام فيقولون : لي مثله رجلاً وهم يريدون : في شجاعته وغنائه أو غير ذلك
فإذا قلت : لي مثله زيداً فذلك على بابه إنما يريد : مثل شيء في وزنه وقدره والهاء في مثله حالت بين مثل وبين زيد
أن تضيفه إليه وكذلك النون في ( منوان ) فنصبته كما نصبت المفعول لما حال الفاعل بينه وبين الفعل بينه وبين الفعل
ولولا المضاف والنون لأضفته إليه لأن كل إسم يلي إسماً ليس بخبر له ولا صفة ولا بدل منه فحقه الإِضافة وسيتضح لك ذلك في باب الخفض إن شاء الله
ومثل ذلك : عليه شعر كلبين ديناً فالشعر مقدار وكذلك : لي ملء الدار خيراً منك ولي ملء الدار أمثالك لأن خيراً منك وأمثالك نكرتان وإن شئت قلت لي ملء الدار رجلاً وأنت تريد : رجالاً وكل مميز مفسر في المقادير والأعداد وغيرها
( فمن ) تحسن فيه إذا رددته إلى الجنس تقول : لي مثله من الرجال وما في السماء قدر راحة من السحاب ولله دره من الرجال وعندي عشرون من الدراهم ومنه ما تدخل فيه ( من ) وتقره على إفراده كقولك : لله دره من رجل
قال أبو العباس رحمه الله : أما قولهم : حسبك بزيد رجلاً وأكرم به فارساً وحسبك يزيدٍ من رجل وأكرم به من فارس ولله دره من شاعر وأنت لا تقول : عشرون من درهم ولا هو أفره من عبد فالفصل بينهما : أن الأول كان يلتبس فيه التمييز بالحال فأدخلت ( من ) لتخلصه للتمييز ألا ترى أنك لو قلت : أكرم به فارساً وحسبك به خطيباً لجاز أن تعني في هذه الحال وكذلك إذا قلت : كم ضربت رجلاً وكم ضربت من رجل
جاز ذلك لأن ( كم ) قد يتراخى عنها مميزها
وإذا قلت : كم ضربت لم يدر السامع أردت : كم مرةً ضربت رجلاً واحداً أم : كم ضربت من رجل فدخول ( من ) قد أزال الشك
ويجوز أن تقول : عندي رطل زيت وخمسة أثواب على البدل لأنه جائز أن تقول : عندي زيت رطل وأثواب خمسة فتوخوها على هذا المعنى وجائز الرفع في : لي مثله رجل
تريد : رجل مثله فأما الذي ينتصب إنتصاب الإسم بعد المقادير فقولك : ويحه رجلاً ولله دره رجلاً وحسبك به رجلاً
قال العباس بن مرداس :
( ومرةّ يحميهم إذا ما تبدَّدوا ... ويطعنهم شزراً فأبرحتَ فارسا )
قال سيبويه : كأنه قال : فكفى بك فارساً وإنما يريد : كفيت فارساً ودخلت هذه الباء توكيداً ومن ذلك قول الأعشى :
( فأَبْرَحْتَ رَبّاً وَأْبرَحْتَ جَارَاً ... )
ومثله : أكرم به رجلاً
وإذا كان في الأول ذكر منه حسن أن تدخل ( من ) توكيداً لذلك الذكر تقول : ويحه من رجل ولله در زيد من فارس وحسبك به من شجاع ولا يجوز : عشرون من درهم ولا هو أفرههم من عبد لأنه لم يذكره في الأول ومعنى قولهم : ذكر منه أن رجلاً هو الهاء في ويحه
وفارس هو زيد والدرهم ليس هو العشرون والعبد ليس هو زيد ولا الأفره لأن الأفره خبر زيد
باب تمييز الأعداد اعلم : أن الأعداد كالمقادير تحتاج إلى ما يميزها كحاجتها
وهي تجيء على ضربين : منها ما حقه الإِضافة إلى المعدود وذلك ما كان منه يلحقه التنوين ومنها ما لا يضاف وهو ما كان فيه نون أو بني إسم منه مع اسم فجعلا بمنزلة اسم واحد
أما المضاف فما كان منها من الثلاثة إلا العشرة فأنت تضيفه إلى الجمع الذي بني لأدنى العدد نحو : ثلاثة أثوب وأربعة أفلس وخمسة أكلب وعشرة أجمال
فأفعل وأفعال مما بني لأقل العدد وأقل العدد هو العشرة فما دونها ذلك أن تدخل في المضاف إليه الألف واللام لأنه يكون الأول به معرفة فتقول : ثلاث الأثواب وعشرة الأفلس
ومن ذلك مئة وألف لأن المئة نظير عشرة لأنها عشر عشرات والألف نظير المئة لأنه عشر مئات
قال أبو العباس رحمه الله : ولكنك أضفت إلى المميز : لأن التنوين غير لازم في المئة والألف والنون في عشرين لازمة لأنها تثبت في الوقف وتثبت مع الألف واللام فإذا زدت على العشرة شيئاً جعل مع الأول اسماً واحداً وبنيا على الفتح ويكون في موضع عدد فيه نون وذلك قولك : أحد
عشر درهماً وخمسة عشر ديناراً ويدلك على أن عشر قد قامت مقام التنوين قولهم : إثنا عشر درهماً ألا ترى أن عشر قد عاقبت النون فلم تجتمعا فهذا على ذلك إلى تسعة عشر فإذا ضاعفت أدنى العقود وهو عشرة كان له اسم من لفظه ولحقته الواو والنون والياء والنون نحو : عشرون وثلاثون إلى تسعين والذي يبين به هذه العقود لا يكون إلا واحداً نكرة تقولال : عشرون ثوباً وتسعون غلاماً
فإذا بلغت المئة تركت التنوين وأضفت المئة إلى واحد مفسر ووجب ذلك في المئة لأنها تشبه عشرة وعشرين أما شبهها بعشرة فلأنها عشر عشرات فوجب لها من هذه الجهة الإِضافة وأما شبهها بعشرين وتسعين فلأنها العقد الذي يلي تسعين فوجب أن يكون مميزها واحداً فأُضيفت إلى واحد لذلك إلا أنك تدخل عليه الألف واللام إن شئت
لأن الأول يكون به معرفة وكذلك ألفَ حكمهُ حكمُ مئة وتثنيتها فتقول : مئتا درهم وألفا درهم وقدْ جاءَ بعضُ هذا منوناً منصوباً ما بعده في الشعر قال الربيع :
( إذَا عاشَ الفَتى مئتين عاماً ... فقد ذهبَ البشاشةُ والفَتاءُ )
قال سيبويه وثلاث : وأما تسع مئة وثلاث مئة فكان حقه مئتين أو مئات ولكنهم شبهوه بعشرين وأحد عشر
وقال : اختص هذا إلى تسع مئة ثم ذكر : أنهم قد يختصونَ الشيءَ بما لا يكون لنظائرهِ فذكَر : لدُن وغدوة وما شعرت به شعرة وليت شعري والعَمْرُ والعُمْرُ ولا يقولون إلا لعمرك في اليمين وذكر مع ذلك أنه قد جاء في الشعر الواحد يراد به الجمع وأنشد :
( في حَلقُكُم عَظمٌ وقَد شَجِينَا ... )
يريد في حلوقكم . وقال آخر :
( كُلُوا في بَعْضِ بَطْنِكُمُ تَعِفُّوا ... فإنَّ زمانَكم زَمَنٌ خَمِيصُ )
واعلم : أن ( كم ) اسم عدد مبهم فما يفسرها بمنزلة ما يفسر العدد وقد أفردت لها باباً يلي هذا الباب
باب كم اعلم : أن ل ( كم ) موضعين : تكون في أحدهما استفهاماً وفي الآخر خبراً فأما إذا كانت استفهاماً فهي فيه بمنزلة : عشرين وما أشبهه من الأعداد التي فيها نون تنصب ما يفسرها تقول : كم درهماً لك كما تقول : أعشرون درهماً لك أثلاثون درهماً لك فينتصب الدرهم بعد ( كم ) كما انتصب بعد عشرين وثلاثين لأن ( كم ) اسم ينتظمُ العدد كلهُ وخص الإستفهام بالنصب ليكون فرقاً بينه وبين الخبر لأن العدد على ضربين : منه ما يضاف إلى المعدود ن ومنه ما لا يضاف كما ذكرنا فجعلت ( كم ) في الإستفهام بمنزلة ما لا يضاف منه وذلك نحو : خمسة عشر وعشرين فخمسة عشر أيضاً بمنزلة اسم منون ألا ترى أنه لا يضاف إلى ما يفسره فإذا قلت : كم درهماً لك فإنما أردت : كم لك من الدراهم كما أنك لما قلت : عشرون درهماً إنما أردت : عشرون من الدراهم ولكنهم حذفوا ( من ) استخفافاً كما قالوا : هذا أول فارس في الناس وإنما يريدون : هذا أول الفرسان
قال الخليل : إن : كم درهماً لك أقوى من قولك : كم لك درهماً وذلك أن قولك : أعشرون لك درهماً أقبح إلا أنها في ( كم ) عربية
جيدة وذلك قبيح في عشرين إلا أن الشاعر قد قال :
( على أنني بعد ما قد مضى ... ثلاثونَ للهجرِ حولاً كميلا )
واعلم : أن ( كم ) لا تكون إلا مبتدأة في الإستفهام والخبر ولا يجوز أن تبنيها على فعل وأنها تكون فاعلة في المعنى ومفعولة ومبتدأة وظرفاً كما يكون سائر الأعداد في التقدير لا يجوز أن تقول : رأيت كم رجلاً فتقدم عليها ما يعمل فيها
فأما كونها فاعلة فقولك : كم رجلاً أتاني وأما كونها مفعولة فقولك : كم رجلاً ضربت وأما كونها مبتدأة فقولك : كم دانقاً دراهمك
واعلم : أنه لك ألا تذكر ما تفسر به ( كم ) كما جاز لك ذلك في العدد تقول : كم درهم لك فالتقدير : كم قيراطاً درهم لك ولا تذكر القيراط
وتقول : كم غلمانك والمعنى كم غلاماً غلمانك ولا يجوز إلا الرفع في غلمانك لأنه معرفة
ولا يكون التمييز بالمعرفة فكأنك قلت : أعشرون غلمانك وأما كونها ظرفاً فقولك : كم ليلة سرت كأنك قلت : أعشرين ليلة سرت وكم يوماً أقمت كأنك قلت : أثلاثين يوماً أقمت فكم عدد
والعدد : حكمه حكم المعدود الذي عددته به
فإن كان المعدود زماناً فهو زمان وإن كان حيواناً فهو حيوان
وإن كان غير ذلك فحكمه حكمه
ولا يجوز : كم غلماناً لك كما لا يجوز : أعشرون غلماناً لك
قال : وحكى الأخفش : أن الكوفيين يجيزونه وإذا قلت : كم عبد الله ماكث ( فكم ) ظرف فكأنك قلت : كم يوماً عبد الله ماكث فكم أيام وعبد الله يرتفع بالإبتداء كما ارتفع بالفعل حين قلت : كم رجلاً ضرب عبد الله وتقول : كم غلمان لك فتجعل ( لك ) صفة لهم والمعنى : كم غلاماً غلمان لك
قال سيبويه : وسألته يعني الخليل عن قولهم : على كم جذع بيتك مبني فقال : القياس والنصب وهو قول عامة الناس يعني نصب جذع
قال : فأما الذين جروا فإنهم أرادوا معنى : ( مِن ) ولكنهم حذفوا ها هنا تخفيفاً على اللسان
وصارت ( على ) عوضاً منها أما ( كم ) التي تكون خبرا فهي في الكثير نظيره رب في التقليل إلا أن كم : التي اسم ورب : حرف وهي في الخبر بمنزلة اسم لعدد غير منون نحو : مئتي درهم فهي
مضافة وذلك قولك : كم غلام لك قد ذهب جعلوها في الإستفهام بمنزلة : عشرين وفي الخبر بمنزلة : ثلاثة تجر ما بعدها ولا تعمل ( كم ) في الخبر إلاّ فيما تعمل فيه ( رب ) في اسم نكرة لا يجوز أن تدخل فيه الألف واللام كما فعلت ذلك في مئة الدرهم وما أشبهها ولا تعمل إلا في نكرة نصبت أو خفضت فتقول : كم رجل قد لقيت وكم درهم قد أعطيت
وإن شئت قلت : كم رجال قد لقيت وكم غلمان قد وهبت فيجوز الجمع إذا كانت خبراً ولا يجوز إذا كانت استفهاماً أن تفسر بجميع
وتقول العرب : كم رجل أفضل منك تجعله خبر ( كم ) وحكى ذلك : يونس عن أبي عمرو وكم تفسر ما وقعت عليه من العدد بالواحد المنكور كما قلت : عشرون درهماً أو بجمع منكور نحو : ثلاثة أثواب
وهذا جائز في التي تقع في الخبر
فأما التي في الإستفهام فلا يجوز فيها إلا ما جاز في العشرين وناس من العرب يعملونها في الخبر كعملها في الإستفهام فينصبون كأنهم يقدرون التنوين ومعناها منونة وغير منونة سواء
وبعض العرب ينشد :
( كَمْ عمةً لَكَ يَا جَريرُ وخَالةً ... فَدْعَاءُ قَدْ حلَبَتْ عليَّ عِشَارِي )
وهم كثير منهم الفرزدق وهذا البيت ينشد على ثلاثة أوجه : رفع ونصب وخفض فإذا قلت : كم عمة فعلى معنى : رُبَّ فإن قلت : كم عمةً فعلى وجهين : على ما قال سبيويه في لغة من ينصب في الخبر وعلى الإستفهامِ فإن قلتَ : كم عمةٌ فرفعتَ أوقعتَ ( كم ) على الزمان فقلت : كم يوماً عمة لك وخالة قد حلبت عليّ عشاري أو كم مرة ونحو ذلك
واعلم : أنك إذا قلت : كم عمة فلست تقصد إلى واحدة بعينها
وكذلك إذا نصبت
فإن رفعت لم يكن إلا واحدة لأن التمييز يقع واحدة في موضع الجميع
فإذا رفعت فإنما المعنى : كم دانقاً هذا الدرهم الذي أسألك عنه فالدرهم واحد لأنه خبر وليس بتمييز وإذا فصلت بين كم وبين الإسم وبشيء استغنى عليه السكون أو لم يستغن فاحمله على لغة الذين يجعلونها بمنزلة اسم منون وانصب لأنه قبيح أن تفصل بين الجار والمجرور قال زهير :
( تَؤُمُّ سَناناً وكَمْ دُونَهُ ... من الأرضِ مُحدوْدِباً غَارُهَا )
وإن شئت رفعت فجعلت : كم مراراً وأنشد سيبويه :
( كَمْ بِجُودٍ مقرفٍ نَالَ العُلى ... وكَرِيمٍ بخلهُ قد وضَعَهْ )
يفصل بين كم وبين مقرف بالظرف وأجاز في مقرف الرفع والنصب أيضاً على ما فسرنا
واعلم : أنك إذا قلت : كم من درهم عندك فلا يجوز أن تقول : عندك عشرون من درهم
وقد أجروا مجرى ( كم ) في الإستفهام فنصبوا قولهم : له كذا وكذا درهماً كأنهم قالوا : له عدد ذا دراهم
قال سيبويه : هو كناية للعدد بمنزلة فلان في الحيوان وهو مبهم وصار ذا من كذا بمنزلة التنوين لأن المجرور بمنزلة التنوين
قال ! وكذلك كأين رجلاً قد رايت قال : زعم ذلك يونس
وكائن قد أتاني رجلاً إلا أن أكثر العرب إنما تتكلم بها مع ( من ) قال الله تعالى : ( وكأين من قرية ) فإن حذفت ( من ) فالكلام عربي جيد
مسائل من هذه الأبواب تقول : عندي رطل زيتاً ورطل زيت فمن نصب فعلى التمييز ومن خفض أضاف ومن رفع اتبع وكل هذا جائز في المقادير وكذلك : بيت تبنٍ وجرة زيتٍ فإن قلت : شاة لحمٍ وجبة خزٍ فالإِضافة لأنك لم ترد : مقدار شاة لحماً ومقدار جبة خزاً فإن أردت هذا المعنى جاز النصب وتقول : عندي زق عسل سمناً تضيف الأول وتنصب الثاني تريد مقدار زق عسل سمنا ولا يجوز عندي ملء زق عسلاً سمناً إلا في بدل الغلط خاصة لأنه لا يكون عندك ملء زق عسلاً سمناً إلا في بدل الغلط خاصة لأنه لا يكون عند ملء زق سمناً وملؤه عسلاً لأنه من أيهما امتلأ فقد شغله عن الآخر ومن ذلك قوله جل وعز : ( أو عدل ذلك صياما ) و ( ملء الأرض ذهبا ) ويجوز : ملءُ الأَرضِ ذَهبٌ في غير القرآن
وتقول : عندي رطلان زيتاً والرطلان زيتاً ورطلا زيت ولا يجوز : الرطلا زيت لأنه لا يجمع بين الألف واللام والإِضافة وكان الكسائي يضيفه ويدخل الألف واللام في كل ما كان مفسراً ويجيز أيضاً : الرطل الزيت والرطل الزيت والخمسة الأثواب والخمسة الأثواب فإذا قال : رجل السوء وزن السبعة لم يجز أن تدخل عليه الألف واللام لإن إضافته صحيحة والبصريون يأبون إدخال الألف واللام في جميع هذا والفراء أيضاً يأباه إلا مع الضارب الرجل والحسن الوجه وقد مضى تفسير هذا
فإذا قلت : ماء فرات وتمر شهرير ورطب بَرْنِيّ قضيبا عوسج ونخلتا برني فكان ليس بمقدار معروف مشهور فكلام العرب الخفض والإختيار فيه الإِضافة أو الإِتباع ولا يجوز فيه التمييز إذ لم يكن
مقدار وتقول : كم مثله لك وكم خيراً منه لك وكم غيره مثله لك انتصب ( غير ) بكم وانتصب المثل لأنه صفة له ومثله وغيره نكرة وإن كانا مضافين إلى معرفة وقد ذكر هذا
ولم يجز يونس والخليل : كم غلماناً لك لأنك لا تقول : أعشرون غلماناً لك إلا على وجه : لك مئة بيضاً وعليك راقود خلا فإن أردت هذا المعنى قلت : كم لك غلمانا ويقبح أن تقول : كم غلمانا لك لأن : لك سبب نصب : غلمان ولا يجوز أن يتقدم عليها كما لم يجز : زيد قائماً فيها وقد بينا : أن العامل إذا كان معنى لم يجز أن يتقدم مفعوله عليه
وتقول : كم أتاني لا رجل ولا رجلان وكم عبد لك لا عبد ولا عبدان فهذا محمول على ( كَمْ ) وموضعُها مِنَ الإِعرابِ لا على ما تعملُ فيهِ كم كأنك قلت : عشرونَ أتوني لا رجلٌ ولا رجلان ولو قلت : كم لا رجل ولا رجلين في الخبر والإستفهام كان غير جائز
وتقول : كم منهم شاهد على فلان إذا جعلت شاهداً خبراً ( لكم ) وكذلك هو في الخبر أيضاً تقول : كم مأخوذ بك إذا أردت أن تجعل : مأخوذاً بك في موضع ( لك ) إذا قلت : كم لك لأن ( لك ) لا تعمل فيه ( كم ) ولكنه مبني عليها خبر لها وتقول : كم رجل قد رأيته أفضل من زيد لأنك جعلت ( أفضل ) خبراً عن ( كم ) لأن ( كم ) اسم مبتدأ
فأما ( رُبَّ ) إذا قلت : رُب رجل أفضل منك فلا يكون لها خبرٌ لأنها حرف جر وكم لا تكون إلا اسماً وتقول : كم امرأة قد قامت ولا يجوز أن تقول : كم امرأة قد قمن لأن المعنى : كم من مرة امرأة قد قامت
فإن كانت ( امرأة ) مميزة فقلت : كم امرأة قد قامت جاز أن تقول : قامت وقمن لجعل الفعل مرة على لفظ المفسر ومرة على معنى ( كم ) وقال الله جل وعز : ( وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا ) فردوه إلى معنى ( كم ) وقال جل ثناؤه : ( وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا ) فجاء على لفظ المفسر فإدخالك ( من ) وإخراجها واحد لأنك تريد التفسير
وتقول : كم ناقة لك وفصيلَها وفصيلُها نصباً ورفعاً من رفع اتبع ما في لك ومن نصب اتبع الناقة وإنما جاز في فصيلها النصب وهو مضاف إلى الضمير لأن التأويل : وفصيلا لها كما قيل : كل شاة وسخلتها بدرهم فالتأويل وسخلة لها كما قالوا : رُب رجل وأخيه والمعنى : وأخ له فإذا قلت : كم ناقة وفصيلها لك فلا يجوز في الفصيل إلا النصب كأنك قلت : كم ناقة وكم فصيل ناقة لك وتقول : كم رجلاً قد رايت وامرأة على لفظ ( رجل ) ويجوز : ونساءه لأن المعنى : رجل لكل رجل امرأة والفراء يقول : كم رجلاً قد رأيت ونساءه وكم رجل قد رأيت ونسائه ويقول : تأويل ( رجل ) جمع فلا أرد عليه بالتوحيد
قال أبو بكر : ويجوز عندي : كم رجلاً رأيت ونساءهم لأن المعنى : كم رجالاً رأيت ونساء لهم
وتقول : كم زيد قائم وبكم ثوبك مصبوغ تريد : كم مرة أو ساعة زيد قائم وما أشبه ذلك . وبكم درهماً أو ديناراً ثوبك مصبوغ وما أ شبه ذلك
قال الفراء : إذا قلت : عنيد خمسة أثواباً فهو أشبه شيء بقولك : مررت برجل حسن وجهاً
قال أبو بكر : وليس هو عند أصحابنا كذلك لأن وجهاً عندهم منصوب بأنه مشبه بالمفعول لأن حسن يشبه اسم الفاعل . وقد مضى ذكر هذا
والنصب في قولهم : خمسة أثواباً شاذ إنما يجوز مثله في ضرورة شاعر
وقال أحمد بن يحيى رحمه الله كل منصوب على التفسير فقد جعل ما قبله في تأويل الفعل ولذلك قلت : عندي خمسة وزناً وعدداً فجعلت لها مصدراً
فتأويله عندي ما يعد به الدرهم خمسة وكذلك في كل التفسير ترده تقديره إلى أن تقدره الفعل : فإن قال قائل : فأنت تقول : ما أحسنك من الرجال وما أحسنك من رجل فيثبتهما إذاً فيه فرق إذا قلت : ما أحسنك من الرجال فإنما تريد : أنتً حَسَنٌ مِن بينهم ومِن جماعتِهم وإذا قلتَ : مِنْ رجل ففيها مَذاهب
أما مذهب أبي العباس محمد بن يزيد رحمه الله فيقول : فصلوا بين الحال والتمييز وقد مضى ذكر ذلك
وقال غيره : تكون ( من ) هنا لإبتداء الغاية كأنك قلت : ما أحسنك من أول أحوالك يوصف بها الرجل إلى غاية النهاية ومذهب آخر أن تكون ( من ) تبعيضاً للجنس المميز برجل رجل كأنك
قلت : ما أحسنك من الرجال إذا ميزوا رجلاً رجلاً فجعلت رجلاً موحداً ليدل على تمييز الرجال بهذا الإِفراد وكذلك : ما أحسنك من رجلين
كأنك قلت : من الرجال إذا ميزوا رجلين رجلين
والقياس على مذهب الكسائي : عندي الخمسة الألف الدرهم فيجعل الخمسة مضافة إلى الالف والألف مضافة إلى الدرهم وذا عندنا لا يجوز وتقول على مذهبهم : عندي الخمسة العشر الألْف الدرهم فتفتح الخمسة والعشر وتنصب الألْف على التفسير وتضيفه إلى الدرهم
وهذا لا يجوز لما قدمنا ذكره
وتقول : عندي عشرون رجلاً صالحاً وعندي عشرون رجلاً صالحون ولا يجوز : صالحين على أن تجعله صفة رجل فإن كان جمعاً على لفظ الواحد جاز فيه وجهان : تقول : عندي عشرون درهماً جياداً وجياد من رفع جعله صفة للعشرين ومن نصب أتبعه المفسر وهذا البيت ينشد على وجهين :
( فِيهَا اثْنَتَانِ وأرْبَعُونَ حَلُوبةً ... سُودَاً كَخَافِيَةِ الغُرَابِ الأَسْحمِ )
يروى : سود وتقول : عندي ثلاث نسوة وعجوزين وشابة
ترده مرة على ثلاث ومرة على نسوة وإذا قلت : خمستك أو خمسة أثوابك لم تخرج منه مفسراً لأنه قد أضيف وعلم
ويجيز البغداديون : خمسة دراهمك ودرهمك ينوي في الأول الإِضافة وهذا إنما يجوز عندي مثله في ضرورة الشاعر قالوا : وقد سمع : برئت إليك من خمسة وعشري
النخاسين قالوا : ولا يجوز مع المكنى وتقول : عندي خمسةٌ وزناً تنصب وترفع من نصب فعلى المصدر ومن رفع جعله نعتاً
كأنه قال : خمسة موزونة وإذا قالوا : عندي عشرون وزن سبعة نصبوا ورفعوا مثل ذلك وكذلك إن أدخلوا الألف واللام قالوا : عندي العشرون وزنُ السبعة ووزنَ السبعة النصب والرفع وكان الأخفش يجيز : كم رجلاً عندك وعبيده يعطف ( عبيده ) على المضمر الذي في ( عندكَ ) ويرفعهُ قال : ولو قلت : كَمْ رجلاً وعبيدهُ عندك على التقديمِ والتأخير جاز كأنك قلت : كم رجلاً عندك وعبيده قال الشاعر :
( ألا يَا نُخْلَةً مِنْ ذَاتِ عِرْقِ ... عَلَيْكِ وَرَحْمَة اللهِ السَّلامُ )
وقال يزيدُ بنُ الحكم الثقفي :
( جَمَعْتَ وَبُخلاً غِيَبةً ونَمِيمَةً ... ثَلاَثَ خِصَال لَسْتَ عَنْها بِمُرْعَوي )
قال : وقد فسروا الآية في كتاب الله جل وعز : ( إن الذين آمنوا
والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر ) والصابئون كذلك وتقول : كم يسيرك أن لك درهماً
فتنصب الدرهم وتعني : درهماً واحداص ولو قلت : كم يسرك أن لك من ( درهم ) لم يجز لأن ( أن ) لا اسم لها وكذلك لو قلت : كم درهماً يسرك أن لك لم يجز وتصحيح المسألة : كم يسرك أنه لك من درهم تريد : كم من درهم يسرك أنه لك وتقول : كم تزعم أن إلى زيد درهماً قد دفع تنصب درهماً ( بأن ) ودرهم ها هنا واحد وكم مرار ترد : كم مرة تزعم وتقول : كم عندك قائماً رجلاً تنصب ( قائماً ) على الحال وتجعل خبر ( كم ) ( عندك ) وهو قبيح لأنك قد فصلت بين ( كم ) وبين ما عملت فيه وتقول : كم مالك إلا درهمان إذا كنت تستقله وكم عطاؤك إلا خمسون كأنك قلت : كم درهماً مالك إلا درهمان وكم درهماً عطاؤك إلا خمسون فهذا في الإستقلال كقول القائل : هل الأمير إلا عبد الله وهل الدنيا إلا شيء زائل وتقول : كم ثلاثة ستة إلا ثلاثتان وكم خمسة عشرة إلا خمستان وكم رجلاً أصحابك إلا خمسون إذا كنت تستقل عددهم ويكون ما بعد إلا تفسيراً ( لكم ) وترفعه إذا كانت ( كم ) رفعاً وتنصب إذا كانت ( كم ) نصباً وتجره إذا كانت ( كم ) جراً يقول : كم ثلاثة وجدت ستة إلا ثلاثين وبكم درهماً أرضك إلا ألف وكذلك : كم ثلاثة ستة إلا ثلاثتان وكم عشرون خمسة إلا أربع خمسات
هذا على الإستثناء تجعل ما بعد إلا بدلاً من ( كم ) كأنك
قلت : هل بشيء أرضك إلا ألف وهل شيئاً وجدت ستة إلا ثلاثين فاعتبر هذا بهذا
قال أبو بكر : قد فرغنا من ذكر المرفوعات والمنصوبات وذكرنا في كل باب من المسائل مقداراً كافياً فيه دربة للمتعلم ودرس للعالم بحسب ما يصلح في هذا الكتاب لأنه كتاب أصول ونحن نفرد كتاباً لتفريع الأصول ومزج بعضها ببعض ونسمية كتاب الفروع ليكون فروع هذه الأصول إن أخر الله في الأجل وأعان وإذا فرغنا من الرفع والنصب فلنذكر الضم والفتح اللذين يضارعانهما إن شاء الله
ذكر الإسم المضموم والمفتوح اللذين يضارعان المعرب
أعلم : أن الضم الذي يضارع الرفع هو الضم الذي يطرد في الأسماء ولا يخص اسماً بعينه كما أن الفعل هو الذي يرفع الأسماء ولا يخص اسماً بعينه وهذا الضرب إنما يكون في النداء وأما الفتح الذي يشبه النصب فما كان على هذا المنهاج مطرداً في الأسماء ولا يخص اسماً بعينه وهذا الضرب إنما يكون في النفي ( بلا ) وسنذكر كل واحد منهما في بابه إن شاء الله
باب النداء الحروف التي ينادى بها خمسة : يا وأيا وهيا وأي وبالألف وهذه ينبه بها المدعو إلا أن أربعة غير الألف يستعملونها إذا أرادوا أن يمدوا أصواتهم للشيء المتراخي عنه أو للإِنسان المعروض أو النائم المستثقل وقد يستعملون هذه التي للمد في موضع الألف ولا يستعملون الألف في هذه المواضع التي يمدون فيها ويجوز أن تستعمل هذه الخمسة إذا كان صاحبك قريباً مقبلاً عليك توكيداً وإن شئت حذفتهن كلهن استغناء إلا في المبهم والنكرة فلا يحسن أن تقول : هذا وأنت تريد : يا هذا ولا رجل وأنت تريد : يا رجل ويجوز حذف : يا من النكرة في الشعر
والندبة يلزمها : يا ووا ( ووا ) يخص بها المندوب
وأصل النداء تنبيه المدعو ليقبل عليك وتعرض فيه الإستغاثة والتعجب والمدح والندبة وسنذكر ذلك في مواضعه والأسماء المناداة تنقسم على ثلاثة أضرب : مفرد ومضاف ومضارع للمضاف بطوله
شرح الأول :
وهو الإسم المفرد في النداء الإسم المفرد ينقسم على ضربين : معرفة ونكرة فالمعرفة : هو المضموم في النداء والمعرفة المضمومة في النداء على ضربين : إحداهما : ما كان اسماً علماً قبل النداء نحو : زيد وعمرو فهو على معرفته
وضرب كان نكرة فتعرف بالنداء نحو : يا رجل أقبل صار معرفة بالخطاب وأنه في معنى : يا أيها الرجل
فهذان الضربان هما اللذان يُضَمّان في النداء تقول : يا زيد ويا عمرو ويا بكر ويا جعفر ويا رجل أقبل ويا غلام تعال
فأما : يا زيد فزيد وما أشبهه من المعارف معارف قبل النداء وهو في النداء معرفة كما كان ولو كان تعريفه بالنداء لقدر تنكيره قبل تعريفه ويحيل قول من قال : أنه معرفة النداء فقط إنك قد تنادي بإسمه من لا تعلم له فيه شريكاً كما تقول : يا فرزدق أقبل ولو كنت لا تعرف أحداً له مثل هذا الإسم ولو لم يكن عرف أن هذا اسمه فيما تقدم لما أجابك إذا دعوته به
ومن قال إذا قلت : يا زيد أنه معرفة بالنداء فهذا الكلام من وجه حسن ومن وجه قبيح عندي أما حسنة : فأن يعني : أن أول ما يوضع الإسم ليعرف به الإِنسان أنه ينادي به فيقول له أبوه أو من سماه مبتدأ : يا فلان وإذا كرر ذلك عليه علم أنه اسمه ولولا التكرير أيضاً ما علم فمن قال : أن الإسم معرفة بالنداء أي : أصله أنه به صار يعرف المسمى فحسن وإن كان أراد : أن التعريف الذي كان فيه قد زال وحدث بالنداء تعريف آخر فقد بينا وجه الإِحالة فيه ويلزم قائل هذا القول شناعات أخر عندي
وأما قولك : يا رجل . فهذا كان نكرة لا شك فيه قبل النداء وإنا صار بإختصاصك له وإقبالك عليه في معنى : يا أيها الرجل فرفع وإنما ادعى من قال : أن : يا زيد معرفة بالنداء لا بالتعريف الذي كان له
قيل : أنه وُجِد الألف واللام لا يثبتان مع ( يا ) في التعريف في التثنية ألا ترى أنك تقول يا زيدان أقبلا ولولا يا لقلت : الزيدان إذا أردت التعريف وإنما حذفت الألف واللام استغناء بيا عنهما إذ كانتا آلة للتعريف كما حذفنا من النكرة في النداء أيضاً
ووجدنا ما ينوب عنهما فليس ينادي شيءٌ مما فيه الألف واللام إلا الله عز و جل
قال سيبويه : وذلك من أجل أن هذا الإسم لا تفارقه الألف واللام وكثر من كلام العرب
وأما الإسم النكرة الذي بقي على نكرته فلم يتعرف بتسمية ولا نداء فإذا ناديته فهو منصوب تقول : يا رجلاً أقبل ويا غلاماً تعال وكذلك إن قلت : يا رجلاً عاقلاً تعالى فالنكرة منصوبة وصفتها أو لم تصفها ومعنى هذا أنك لم تدع رجلاً بعينه فمن أجابك فقد أطاعك ألا ترى أنه يقول : من هو وراء حائط ولا يدري من وراؤه من الناس : يا رجلاً أغثني ويا غلاماً كلمني كما يقول : الضرير يا رجلاً خذ بيدي فهو ليس يقصدٌ واحداً بعينهِ بَل من أخذَ بيدهِ فهو بغيتُهُ قال الشاعر :
( فيا رَاكِباً إما عَرَضْتَ فَبَلِّغَنْ ... نَدامَايَ مِنْ نَجْرَان أنْ لا تَلاقِيا )
وإنما أعربت النكرة ولم تبن لأنها لم تخرج عن بابها إلى غير بابها كما خرجت المعرفة فإن قال قائل : ما علمنا أن قولهم : يا زيد مبني على الضم وليس بمعرب مرفوع قيل : يدل على أنه غير معرب أن موضعه نصب والدليل على ذلك أن المضاف إذا وقع موقع المفرد نصب تقول : يا عبدَ الله وأن الصفة قد تنصب على الموضع تقول : يا زيدٌ الطويلٌ فلو كانت الضمة إعراباً لما جاز أن تنصبه إذا أضفناه ولا أن تنصب وصفه لكنا نقول : أنه مضموم مضارع للمرفوع ويشبهه من أجل أن كل اسم متمكن يقع في هذا الموضع يضم فأشبه من أجل ذلك المرفوع ( بقام ) يعني الفاعل لأن كل اسم متمكن يلي ( قام ) فهو مرفوع فلهذا حسن أن تتبعه النعت فتقول : يا زيدٌ الطويلٌ كما تقول : قام زدٌ الطويلٌ يا زيد وعمرو فتعطف كما تعطف على المرفوع
وينبغي أن تعلم : أن حق كل منادى النصب
من قبل أن قولك : يا فلان ينوب عن قولك : أنادي فلاناً لأن قولك : ( يا ) هو العمل بعينه وأنه فارق سائر الكلام
لأن الكلام لفظ يغني عن العمل وهذا العمل فيه هو اللفظ
فإن قلت : ناديت زيداً بعدَ قولِكَ : يا زيد وهو مثل قولِكَ : ضربت زيداً بعدَ علمِكَ ذلكَ به فتأملْ هذا فإنه منفرد به هذا الباب
وأما السبب الذي أوجب بناء الإسم المفرد فوقوعه موقع غير المتمكن ألا ترى أنه قد وقع موقع المضمرة والمكنيات والأسماء إنما جعلت للغيبة لا تقول : قام زيد وأنت تحذف زيداً عن نفسه إنما تقول : قمت يا هذا فلما وقع زيد وما أشبهه بعد ( يا ) في النداء موقع أنت والكاف وأنتم وهذه مبنيات لمضارعتها الحروف بُني وسنبين أمر المبنيات في مواضعها
وبني على الحركة في النداء لأن أصله التمكن ففرق بينه وبين ما لا أصل له في التمكن فأما تحريكه بالضم دون غيره فإنهم شبهوه بالغايات نحو قبل وبعد إذ كانت تعرب بما يجب لها من الإِعراب إذا أضفتها وهو النصب والخفض دون الرفع وتقول : جئت قبلك ومن قبلك فلما حذف منها الإسم المضاف إليه بني الباقي على الضم وهي الحركة التي لم تكن له قبل البناء فعلم أنها غير إعراب
فقالوا : جئتك من قبل ومن بعد ومن علُ يا هذا فكذلك هذا المنادى لما كان مضافهُ منصوباً ضم مفرده ألا ترى أنك تقول : يا عبد الله فتنصب فإن لم تضف قلت : يا عبد ويا غلام فضممت فكذلك التقدير في كل مفرد وإن كنت لم تفرد عن إضافة فهذا تقديره
واعلم : أن لك أن تصف زيداً وما أشبهه في النداء وتؤكده وتبدل منه وتعطف عليه بحرف العطف وعطف البيان
أما الوصف فقولك : يا زيد الطويلُ والطويلَ فترفع على اللفظ وتنصب على الموضع فإن وصفته
بمضاف نصبت الوصف لا غير لأنه لو وقع موقع زيد لم يكن إلا منصوباً تقول : يا زيد ذا الجمة وكذلك إن أكدته تقول : يا زيد نفسُهُ ويا تميم كلكُم ويا قيس كلكُم
فأما يا تميم أجمعون فأنت فيه بالخيار إن شئت رفعت وإن شئت نصبت حكم التأكيد حكم النعت إلا أن الصفة يجوز فيها النصب على إضمار ( أعني ) ولا يجوز في أجمعين ذلك وأما البدل فقولك : يا زيد زيدٌ الطويلَ ويا زيد أخانا لأن تقدير البدل أن يقوم الثاني مقام الأول فيعمل فيه ما عمل في الأول فقولك : يا زيد أخانا كقولك : يا أخانا
واعلم : أن عطف البيان كالنعت سواء لا يلزمك فيه طرح التنوين كما لا يلزمك في النعت طرح الألف والام تقول : يا زيدٌ زيداً فتعطفُ على الموضعِ ويا زيدٌ زيدٌ وأمر البدل وعطف البيان سنذكرهما مع ذكر توابع الأسماء وهذا البيت ينشد على ضروب :
( إني وأسطارْ سُطِرْنَ سَطْرَا ... لَقَائِلٌ : يا نَصْرُ نَصْرَاً نَصْرَا )
فمن قال : يا نصر نصراً فإنه جعل المنصوبين تبييناً للمضموم وهو
الذي يسميه النحويون عطف البيان وسأفرق لك عطف البيان من البدل في موضعه ومجرى العطف للبيانِ مجرى الصفةِ فأجريا على قولك : يا زيد الظريفَ وتقديرهُ : يا رجل زيداً أقبل على قول من نصب الصفة . وينشد :
( يا نَصْرُ نَصْرا ... )
جعلهما تبييناً وأجرى أحدهما على اللفظ والآخر على الموضع كما تقول : يا زيدٌ الظريفٌ العاقلُ ولو نصبت ( العاقل ) على ( أعني ) كان جيداً ومنهم من ينشده :
( يا نَصْرُ نَصْرُ نَصْرا ... )
فجعل الثاني بدلاً من الأول وتنصب الثالث على التبيين فكأنه قال :
( يا نَصْرُ نصرُ نَصْرا ... )
وأما العطف فقولك : يا زيد وعمرو أقبلا ويا هند وزيد أقبلا ولا
يجوز عطف الثاني على الموضع لما ذكرناه في باب العطف وهو أن حكم الثاني حكم الأول لأنه منادى مثله وكل مفرد منادى فهو مضموم
وقد قالوا على ذلك : يا زيد والحرث لما دخلتِ الألفُ واللامُ ( ويا ) لا تدخل عليهما فاعلم وإنما يبني الأولُ لأنه منادى مخاطب باسمه وعلة الثاني وما بعده كعلة الأول لا فرقَ بينهما في ذلك ألا ترى أنهم : يقولون : يا عبدَ الله وزيدٌ فيضمون الثاني والأول منصوب لهذه العلة ولولا ذلك لم يجز قال جميع ذلك ابن السراج أيضاً فإن عطفت اسماً فيه ألف ولام على مفرد فإن فيه إختلافاً
أما الخليل وسيبويه والمازني : فيختارون الرفع يقولون : يا زيدٌ والحارثُ أقبلا وقرأ الأعرج وهو عبد الرحمن بن هرمز : ( يا جبال أوبي معه والطير )
وأما أبو عمرو وعيسى ويونس وأبو عمر الجرمي فيختارون النصب وهي قراءة العامة
وكان أبو العباس يختار النصب في قولك : يا زيد والرجلُ ويختار الرفع في الحارث إذا قلت : يا زيدٌ والحراثُ لأن الألف واللام في ( الحارث ) دخلت عنده للتفخيم والألف واللام في الرجل دخلتا بدلاً من ( يا ) لأن قولك : النضر والحارث ونصر وحارث بمنزلة ومثل
ذلك إختلافهم في الإسم المنادى إذا لحقه التنوين اضطراراً في الشعر فإن الأولين يؤثرون رفعه أيضاً ويقولون : هو بمنزلة مرفوع لا ينصرف يلحقه التنوين فيبقى على لفظه وأبو عمرو بن العلاء وأصحابه يلزمون النصب ويقولون هو بمنزلة قولك : مررت بعثمان يا فتى فإذا لحقه التنوين رجع إلى الخفض
فإن كان المنادى مبهماً فحكمه حكم غيره إلا أنه يوصف بالرجل وما أشبهه من الأجناس وتقول : يا أيها الرجل أقبل فيكون ( أي ) ورجل كاسم واحد ( فأي ) مدعو والرجل نعت له ولا يجوز أن يفارقه نعته لأن ( أياً ) اسم مبهم ولا يستعمل إلا بصلة إلا في الجزاء والإستفهام فلما لم يوصل أُلزم الصفة لتبينه كما كانت تبينه الصلة
و ( ها ) تبينه وكذلك إذا قلت : يا هذا الرجل فإذا قلت : يا أيها الرجل لم يصلح في ( الرجل ) إلا الرفع لأنه المنادى في الحقيقة و ( أي ) مبهم متوصل إليه به
وكذلك : يا هذا الرجل إذا جعلت هذا سبباً إلى نداء الرجل ولك أن تقيم الصفة مقام الموصوف فتقول : يا أيها الطويل ويا هذا القصير كقوله تعالى : ( قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر ) فإن قدرت الوقف على هذا ولم تجعله وصلة إلى الصفة وكان مستغنياً بإفرادهِ كنت في صفته بالخيار : إن شئت رفعت وإن شئت نصبت كما كان ذلك في نعت زيد فقلت : يا هذا الطويلُ والطويلَ
وأما ( أي ) فلا يجوز في وصفها النصب لأنها لا تستعمل مفردة فإن وصفتَ الصفةَ بمضافٍ فهو مرفوع لأنك إنما تنصب صفة المنادى فقط
قال الشاعر :
( يا أيُّها الجَاهِلُ ذو التَّنَزِّي ... )
فوصف ( الجاهل ) وهو صفة ب ( ذو ) ويجوز النصب على أن تجعله بدلاً من ( أي ) فتقول : يا أيها الجاهل ذا التنزي ولا يجوز أن تقول : هذا أقبل وأنت تناديه تريد : يا هذا كما تقول : زيد أقبل وأنت تريد يا زيد ولا : رجل أقبل لأن هذين نعت لأي فإن جاء في الشعر فهو جائز ولك أن تسقط ( يا ) فتقول : زيد أقبل وإنما قبح إسقاط حرف النداء من هذا ورجل لأنهما يكونان نعتاً لأي فلا يجمع عليها حذف المنعوتِ وحرفُ النداءِ فاعلم
فأما قولهم : اللهُّم اغفر لي فإنَّ الخليل كان يقول : الميم المشددة في آخرهِ بدل من ( يا ) التي للنداء لأنهما حرفان مكان حرفين
قال أبو العباس : الدليل على صحة قول الخليل : أن قولك : اللهم لا يكون إلا في النداء لا تقول : غفر اللهم لزيد ولا : سخط اللهم على زيد كما تقول : سخط الله على زيد وغفر الله لزيد وإنما تقول : اللهم اغفر لنا اللهم اهدنا وقال : فإن قال الفراء : هو نداء معه ( أم ) قيل : له فكيف تقول : اللهم اغفر لنا واللهم أمنا بخير فقد ذكر ( أم ) مرتين قال : ويجب على قوله أن تقول : يا اللهم لأنه : يا الله أمنا ولا يلزم ذلك الخليل : لأنه يقول الميم بدل من يا
وإذا وصفت مفرداً بمضاف لم يكن المضاف إلا منصوباً تقول : يا زيد
ذا الجمة فأما : يا زيد الحسن الوجه فإن سيبويه : يجيز الرفع والنصب في الصفة لأن معناه عنده الإنفصال فهو كالمفرد في التقدير لأن حسن الوجه بمنزلة حسن وجههُ فكما أن يجيز : يا زيد الحَسَنُ والحسنَ فكذلك يفعل إذا أضاف لأنه غير الإِضافة يعني به وأنشد :
( يا صَاحِ ياذَا الضَّامِرِ العَنسِ ... )
يريد : يا ذا الضامرة عنسُه وتقول : يا زيدٌ أو عبد الله ويا زيدٌ أو خالدُ وقال سيبويه : أو ولا في العطفِ على المنادى بمنزلة الواو
شرح الإسم المنادى الثاني وهو المضاف :
اعلم : أن كل اسم مضاف منادى فهو منصوب على أصل النداء الذي يجب فيه كما بينا تقول : يا عبدَ الله أقبل ويا غلامَ زيد افعل ويا عبدَ مرة تعال ويا رجل سوء تُبْ المعرفة والنكرة في هذا سواء وقال عز و جل ( يا قومنا أجيبوا داعي الله )
وذكر سيبويه : أن ذلك منصوب على إضمار الفعل المتروك إظهاره
وقال أبو العباس : أن ( يا ) بدل من قولك : أَدعو أو أُريد لا أنك تخبر أنك تفعل ولكن بها علم أنك قد أوقعت فعلاً يا عبد الله وقع دعاؤك بعبد الله فانتصب على أنه مفعول تعدى إليه فعلك فإن أضفت المنادى إلى نفسك فحكم كل اسم تضيفه إلى نفسك أن تحذف إعرابه وتكسر حرف الإِعراب وتأتي بالياء التي هي اسمك فتقول : يا غلامي وزيدي فإذا ناديت قلت : يا غلام أقبل لا تثبت ( ياء ) الإِضافة كما تثبت التنوين في المفرد تشبيهاً به وثبات الياء فيما زعم يونس في المضاف لغة وكان أبو عمرو يقول : ( يا عبادي اتقون )
وقد يبدلون مكان الياء الألف لأنها أخف عليهم نحو : يا ربا تجاوز عنا ويا غلاماه لا تفعل فإذا وقفت قلت : يا غلاماُ وعلى هذا يجوز : يا أَباه ويا أُماه
قال سيبويه : وسألت الخليل عن قولهم : يا أبه ويا أبةِ لا تفعل ويا أبتاه ويا أُمتاه فزعم الخليل : أن هذه الهاء مثل الهاء في عمة وخالة وزعم : أنه سمع من العرب من يقول : يا أمة لا تفعلي ويدلك على أن الهاء بمنزلة الهاء في عمة أنك تقول في الوقت : يا أمةْ ويا أبه كما تقول :
يا خالة إنما يلزمون هذه في النداء إذا أضفت إلى نفسك خاصة كأنهم جعلوها عوضاً من حذف الياء قال : وحدثنا يونس : أن بعض العرب يقول : يا أم لا تفعلي ولا يجوز ذلك في غيرها من المضاف
وبعض العرب يقول : يا ربُّ أغفر لي ويا قومُ لا تفعلوا فإن أضفت إلى مضاف إليك قلت : يا غلام غلامي ويا ابن أخي فتثبت الياء لأن الثاني غير منادى فإنما تسقط الياء في الموضع الذي يسقط فيه التنوين وقالوا : يا ابن أُم ويا ابن عم فجعلوا ذلكَ بمنزلة اسمْ واحدٍ لكثرته في كلامهم
قال أبو العباس رحمه الله : سألت أبا عثمان عن قول من قال : يا ابن أم لا تفعل فقال : عندي فيه وجهان : أحدهما أن يكون أراد : يا ابن أمي فقلب الياء ألفاً فقال : يا ابن أما ثم حذف الألف استخفافاً من ( أما ) كما حذف الياء من ( أمي )
ومثل ذلك : يا أبة لا تفعل والوجه الآخر أن يكون : ابن عمل في أُم عمل خمسة عشر فبني لذلك قلت : فلم جاز في الوجه الأول قلب الياء ألفاً فقال : يجوز في النداء والخبر وهو في النداء أجود قلت : وأمّ قال : لأن النداء يقرب من الندبة وهو قياس واحد وذلك قولك : وا أماه قلت : فنجيزه في الخبر في الشعرِ فقالَ : في الشعر وفي الكلام جيدٌ بالغ أقول : هذا غلاما قد جاء فأقلبها لأنَّ الألف أخف من الياء
وقد قال الشاعر :
( وقَدْ زَعَمُوا أنِّي جَزِعْتُ علَيهِمَا ... وهَلْ جَزَعٌ إن قُلْتَ : وا بأباهما )
يريد : وا بأبي هما . وأنشد سيبويه لأبي النجم :
( يا بنتَ عَمَّا لا تلومِي واهْجَعِي ... )
فإن أضفت اسماً مثنى إليك : نحو عبدين وزيدين قلت : يا عبدي ويا زيد ففتحت الياء من قبل أن أصل الإِضافة إلى نفسك الفتح تقول : هذا بني وغلامي يا فتي ثم تسكن إذا شئت استخفافاً فلما التقى ساكنان في عبدي واحتجت إلى الحركة رددت ما كان للياء إليها فإذا صغرت ابناً فقلت بني ثم أضفته إلى نفسك قلت : يا بني أقبل ولم تكن هذه الياء كياء التثنية لأن هذه حرف إعراب كما يتحرك دال عبدٍ تقول : هذا بني كما تقول : هذا عبد فإذا أضفتهما إلى نفسك كسرت حرف الإِعراب إرادة للياء وكان الأصل في : يا بني أن تأتي بياء بعد الياء المشددة فحذفتها واستغنيت بالكسر عنها وتقول : يا زيد عمرو ويا زيد زيد أخينا ويا يزد زيدنا
قال سيبويه وزعم الخليل ويونس : أن هذا كله سواء وهي لغة للعرب جيدة وذلك لأنهم قد علموا : أنهم لو لم يكرروا الإسم كان الأول نصباً لأنه مضاف فلما كرروه تركوه على حاله قال الشاعر :
( يا تيمَ تَيمَ عَدِيٍّ لا أَبَا لَكُمُ ... لا يَلْقَيَنَّكُم في سَوأةٍ عُمَرُ )
وإن شئت قلت : يا تيم تيمَ عدي ويا زيد زيدَ أخينا فكل اسمين لفظهما واحد والآخر منهما مضاف فالجيد الضم في الأول والثاني منهما منصوب لأنه مضاف فإن شئت كان بدلاً من الأول وإن شئت كان عطفاً عليه عطف البيان والوجه الآخر نصب الأول بغير تنوين لأنك أردت بالأول : يا زيد عمرو فأما أقحمت الثاني توكيدا للأول وأما حذفت من الأول المضاف استغناء بإضافة الثاني فكأنه في التقدير : يا زيد عمرو زيد عمرو ويا تيم عدي تيم عدي
واعلم : أن المضاف إذا وصفته بمفرد وبمضاف مثله مل يكن نعته إلا نصباً لأنك إن حملته على اللفظ فهو نصب والموضع موضع نصب فلا يزال ما كان على أصله إلى غيره وذلك نحو قولك : يا عبدَ الله العاقلَ ويا غلامنا الطويلَ والبدل يقوم مقام المبدل منه تقول : يا أخانا زيد أقبل فإن لم ترد البدل وأردت البيان قلت : يا أخانا زيداً أقبل لأن البيان يجري مجرى النعت
شرح الثالث : وهو الإسم المنادى المضارع للمضاف لطوله :
إذا ناديت أسماً موصولاً بشيء هو كالتمام له فحكمه حكم المضاف إذا كان يشبهه في أنه لفظ مضموم إلى لفظ هو تمام الإسم الأول ويكون معرفة ونكرة وذلك قولك : يا خيراً من زيد أقبل
ويا ضارباً رجلاً ويا عشرون رجلاً ويا قائماً في الدار وما أشبهه جميع هذا منصوب أقبلت على واحد فخاطبته وقدرت التعريف وإن أردت التنكير فهو أيضا منصوب وقد كنت عرفتك أن المعارف على ضربين : معرفة بالتسمية ومعرفة بالنداء
وقال الخليل : إذا أردت النكرة فوصفت أو لم تصف فهي منصوبة لأن التنوين لحقها فطالت فجعلت بمنزلة المضاف لما طال نصب ورد إلى الأصل كما تفعل ذلك بقبل وبعد وزعموا : أن بعض العرب يصرف قبلاً فيقول : أبدأ بهذا قبلا فكأنه جعلها نكرة وأما قول الأحوص :
( سَلامُ اللَّهِ يَا مَطَرٌ عَلَيْهَا ... وَلَيْسَ عَلَيْكَ يَا مَطَرُ السَّلامُ )
فإنما لحقه التنوين كما لحق ما لا ينصرف
وكان عيسى بن عمر يقول : يا مطراً يشبهه بيا رجلاً قال سيبويه : ولم نسمع عربياً يقوله وله وجه من القياس إذا نون فطال كالنكرة فالتنوين في جميع هذا الباب كحرف في وسط الإسم وكذلك : لو سميت رجلاً : بثلاثة وثلاثين لقلت : يا ثلاثة وثلاثين أقبل وليس بمنزلة قولك للجماعة : يا ثلاثة وثلاثون لأنك أردت
في هذا : يا أيها الثلاثة والثلاثون ولو قلت أيضاً وأنت تنادي الجماعة : يا ثلاثة والثلاثين لجاز الرفع والنصب في الثلاثين كما تقول : يا زيد والحارث والحارثَ ولكنك أردت في الأول : يا من يقال له ثلاثة وثلاثون
وإن نعت الإسم المفرد بابن فلان أو ابن أبي فلان وذكرت اسمه الغالب عليه وأضفته إلى اسم أبيه أو كنيته فإن الإسمين قد جعلا بمنزلة اسم واحد لأنه لا ينفك منه ونصب لطوله تقول : يا زيدَ بن عمرو كأنك قلت : يا زيد عمرو فجعلت زيداً وابناً بمنزلة اسم واحد ولا تنون زيداً كما لم تكن تنونه قبل النداء إذا قلت : رأيت زيد بن عمرو فإن قلت : يا زيد ابن أخينا ضممت الدال من ( زيد ) لأن ابن أخينا نعت غير لازم وكذلك : يا زيد ابن ذي المال ويا رجل ابن عبد الله لأن رجلاً اسم غير غالب فمتى لم يكن المنادى اسماً غالباً والذي يضيف إليه ابنا سما غالباً لم يجز فيه ما ذكرنا من نصب الأول بغير تنوين وإذا قلت : يا رجل ابن عبد الله فكأنك قلت : يا رجل يا ابن عبد الله وعلى هذا ينشد هذا البيت :
( يا حكمَ بنَ المنذرِ بن الجَارُود ... )
ولو قلت : يا حكمُ بنُ المنذر كان جيداً وقياساً مطرداً وكان أبو العباس رحمه الله يقول : إن نصب : يا حسن الوجه لطوله لا لأنه مضاف لأن معناه : حسن وجههُ
قال أبو بكر : والذي عندي أنه نصب من حيث أضيف فما جاز أن يضاف ويخفض ما أضيف إليه وإن كان المعنى على غير ذلك كذلك نصب كما ينصب المضاف لأنه على لفظه
باب ما خص به النداء من تغيير بناء الإسم المنادى والزيادة في آخره والحذف فيه
أما التغيير فقولهم : يا فسقُ ويا لكعُ عدل عن فاعل إلى فعيل للتكثير والمبالغة كما عدل : عمر عن عامر ولم يستعمل فسق إلا في النداء وهو معرفة فيه ويقوى أنه كذلك ما حكى سيبويه عن يونس : أنه سمع من العرب من يقول : يا فاسقُ الخبيثُ فلو لم يكن فاسق عنده معرفة ما وصفه بما فيه الألف واللام وكذلك : يا لَكاعِ ويا فَساقِ ويا خَباثِ معدول عن معرفة كما صارت جَعَارِ اسماً للضبع وكما صارت : حذام ورقاش اسماً للمرأة وجميع ذلك مبني على الكسر لأنك عدلته من اسم معرفة مؤنث غير منصرف وليس بعد ترك الصرف إلا البناء فبني على كسر لأن الكسرة والتاء من علامات التأنيث
ولهذا موضع يذكر فيه إن شاء الله فإن لم ترد العدل قلت : يا لكعُ ويا لكعاءُ وأما ما لحقه الزيادة من آخره فقولهم : يا نومان ويا هناه وقال بعض المتقدمين في النحو : يا هناه هو فعال في
التقدير وأصله هن فزيد هذا في النداء وبنى هذا البناء
ويلزم قائل هذا القول أن يقول في التثنية : يا هنانان أقبلا ولا أعلم أحداً يقول هذا
قال الأخفش : تقول : يا هناه أقبل ويا هنانيه أقبلا ويا هنوناه أقبلوا
وإن شئت قلت : يا هن ويا هنان أقبلا ويا هنون أقبلوا وإن أضفت إلى نفسك لم يكن فيه إلا شيء واحد يأتي فيما بعده قال أبو بكر : والمنكر من ذا تحريك الهاء من هناه وإلا فالقياس مطرد كهاء الندبة وألفها
وقال أيضاً الأخفش : تقول : يا هنتاه أقبلي ويا هنتانيه أقبلا ويا هناتوه أقبلن
وتقول للمرأة بغير زيادة يا هنت أقبلي ويا هنتان أقبلا ويا هنات أقبلن وتقول في الإِضافة : إليك : ياهن أقبل وياهني أقبلا ويا هنى أقبلوا
وللمرأة في الإِضافة يا هنت أقبلي ويا هنتي أقبلا وللجمع : يا هنات أقبلن وتزاد في آخر الإسم في النداء الألف التي تبين بالهاء في الوقف إذا أردت أن تسمع بعيداً أو تندب هالكاً لأن المندوب في غاية البعد وللندبة باب مفرد نذكره بعون الله تعالى
تقول : يا زيداه إذا ناديت بعيداً هذا إذا وقفت على الهاء وهي ساكنة وإنما تزاد في الوقف لخفاء الألف كا تزاد لبيان الحركة في قولك غلاميه وما أشبه ذلك
إذا وصلت ألف النداءِ بشيءٍ أغنى ما بعدَ الألف من الهاءِ فقلت : يا زيدا أقبل ويا قوما تعالوا
فأما لام الإستغاثة والتعجب فتدخل على الإسم المنادى من أوله وهي
لام الجر فتخفضهُ ولذلكَ أيضاً بابٌ يذكر فيه إلا أنها تزادُ إذا أردت أن تسمع بعيداً وأما ما حذفُ من آخره في النداء فقولهم في فلان : يا فل أقبل
وذكر سيبويه أن : هناه ونومان وفل أسماء اختص بها النداء
وقال : قول العرب : يا فل أقبل لم يجعلوه اسماً حذفوا منه شيئاً يثبت في غير النداء ولكنهم بنوا الإسم على حرفين وجعلوه بمنزلة دم والدليل على ذلك أنه ليس أحد يقول : يا فلا
فإن عنوا امرأة قالوا : يا فلة وإنما بني على حرفين لأن النداء موضع تخفيف ولم يجز في غير النداء لأنه جعل اسماً لا يكون إلا كناية لمنادى نحو : يا هناه ومعناه . يا رجل . وأما فلان . فإنما هو كناية عن اسم سمى به المحدث عنه خاص غالب قال : وقد اضطر الشاعر فبناه على هذا المعنى قال أبو النجم :
( في لَجَّةٍ أَمْسِكْ فلاناً عن فُلِ ... )
قوله في لجة أي : في كثرة أصوات ومعناه : أمسك فلاناً عن فلان
فأما ما حذف آخره للترخيم فله باب وإنما أخرجنا ( فل ) عن الترخيم لأنه لا يجوز أن يرخم اسم ثلاثي فينقص في النداء ولم يكن منقوصاً في غيرِ النداءِ ولأنَّه ليس باسم علمٍ وللترخيمِ بابٌ يفرد به إن شاء الله
باب اللام التي تدخل في النداء للإستغاثة والتعجب اعلم : أن اللام التي تدخل للإستغاثة هي لام الخفض وهي مفتوحة إذا أدخلتها على الإسم المنادى كأن المنادى كالمكنى
وقد بينا هذا فيما مضى فانفتحت مع المنادى كما تنفتح مع المكنى إلا ترى أنك تقول : لزيد ولبكر فتكسر
فإذا قلت : لك وله فتحت وقد تقدم قولنا في أن المبني كالمكنى فلذلك لم يتمكن في الإِعراب وبني فتقول : يا لبكر ويا لزيد ويا للرجال ويا للرجلين إذا كنت تدعوهم وقال أصحابنا : إنما فتحتها لتفصل بين المدعو والمدعو إليه
ووجب أن تفتحها لأن أصل اللام الخافضة إنما كان الفتح فكسرت مع المظهر ليفصل بينها وبين لام التوكيد ألا ترى أنك تقول : إن هذا لزيد إذا أردت : إن هذا زيد فاللام هنا مؤكدة وتقول : إن هذا لِزيد إذا أردت أنه في ملكه
ولو فتحت لألتبسا فإن وقعت اللام على مضمر فتحتها على أصلها فقلت : أن هذا لك وإن هذا لأنت لأنه ليس هنا لبس وتقول : يا للرجال للماء ويا للرجال للعجب ويا لزيد للخطب الجليل قال الشاعر :
( يا لَلِّرجَالِ لِيوْمِ الأربعاءِ أما ... يَنْفَكُّ يُحْدِثُ لِي بَعْدَ النُّهى طَربا )
وقال آخر :
( تَكَنَّفَني الوُشَاةُ فَأَزْعَجُوني ... فَيا للناسِ لِلواشي المُطَاعِ )
فالذي دخلت عليه اللام المفتوحة هو المدعو والمستغاث به والذي دخلت عليه اللام المكسورة هو الذي دعي له ومن أجله
واعلم : أنه لا يجوز أن تقول : يا لزيدٍ لمن هو قريب منك ومقبل عليك
وذكر سيبويه : أن هذه اللام التي للإستغاثة بمنزلة الألف التي تبين بها في الوقف إذا أردت أن تسمع بعيداً فإن قلت : يا لزيد ولعمرو
كسرت اللام في ( عمرو ) وهو مدعو لأنه يسوغ في المعطوف على المنادى ما لا يسوغ في المنادى
ألا ترى أن الألف واللام تدخل على المعطوف على المنادى ويجوز فيه النصب وإنما يتمكن في باب النداء ما لصق ( بيا ) يعني بحرف النداء
وأما أبو العباس رحمه الله فكان يقول في قولهم : يا لزيد ولعمرو إنما فتحت اللام في ( زيد ) ليفصل بين المدعو والمدعى إليه فلما عطفت على ( زيد ) استغنيت عن الفصل لأنك إذا عطفت عليه شيئاً صار في مثل حاله وقال الشاعر :
( يَبْكِيكَ نَاءٍ بَعِيدُ الدارِ مُغتَربٌ ... يا لَلْكُهُولِ ولِلشُّبان لِلْعِجبِ )
وأما التي في التعجب فقول الشاعر :
( لَخُطَّابُ لَيْلَى يا لبُرثُنَ مِنْكُمُ ... أَدَلُّ وأمضى مِنْ سُليكِ المقانبِ )
وقالوا : يا للعجب ويا للماء لما رأوا عجباً أو رأوا ماء كثيراً كأنه يقول :
تعال يا عجب وتعال يا ماء فإنه من أيامك وزمانك وأبانك ومثل ذلك قولهم : يا للدواهي أي : تعالين فإنه لا يستنكر لكن لأنه من أحيانكن وكل هذا في معنى التعجب والإستغاثة فلا يكون موضع ( يا ) سواها من حروف النداء نحو : أي وهيا وأيا
وقد يجوز أن تدعو مستغيثاً بغير لام فتقول : يا زيد وتتعجب كذلك كما أن لك أن تنادي المندوب ولا تلحق آخره ألِفاً لأن النداء أصل لهذه أجمع وقد تحذف العرب المنادى المستغاث به مع ( يا ) لأن الكلام يدل عليه فيقولون : يا للعجب ويا للماء كأنه قال : يا لقوم للماء ويا لقوم للعجب وقال أبو عمرو قولهم : يا ويل لك ويا ويح لك كأنه نبه إنساناً ثم جعل الويل له ومن ذلك قول الشاعر :
( يَا لعنَةُ الله والأقوامِ كُلِّهِمِ ... والصالحينَ على سِمَعانَ مِن جَارِ )
فيا لغير اللعنة ولغير الويل كأنه قال : يا قوم لعنة الله على فلان
باب الندبة الندبة تكون بياء أو بواو ولا بد من أحدهما وتلحق الألف آخر الإسم المندوب إن شئت وإن شئت ندبت بغير ألف والألف أكثر من هذا الباب قال سيبويه : لأن الندبة كأنهم يترنمون فيها ومن شأنهم أن يزيدوا حرفاً إذا نادوا بعيداً ولا أبعد من المندوب فإذا وقفوا قالوا : يا زيداه واعمراه فيقفون على هاء لخفاء الألف فإن وصلوا النداء بكلام أسقطوا الهاء وإذا لم تلحق الألف قلت : وا زيد بكر والألف تفتح ما قبلها مضموما كان أو مكسورا تقول وا زيد فتضم فإن أدخلت الألف قلت : وا زيداه فإن أضفت إلى أسم ظاهر غير مكنى قلت : وا غلام زيد فإن أدخلت الألف قلت واغلام زيداه وحذفت التنوين لأنه لا يلتقي ساكنان
قال سيبويه : ولم يحركوها يعني التنوين في هذا الموضع لأن الألف زيادة فصارت تعاقب التنوين وكان أخف عليهم فإن أضفت إلى نفسك قتل وأزيدِ فكسرت الدال فإن أدخلت الأل قلت : وا زيداه يكون إذا أضفته إلى نفسك وإذا لم تضفه سواء ومن قال : يا غلامي قال : وا زيدياه فيحرك الياء في لغة من أسكن الياء للألف التي بعدها لأن الألف لا يكون ما قبلها إلا مفتوحاً
قال أبو العباس : ولك في وا غلامي في لغة من أسكن الياء وجهان : أن تحرك الياء لدخول الألف فقتول : واغلامياه وأن تسقطها لإلتقاء الساكنين فتقول : واغلاماه كما تقول جاء غلام العاقل فتحذف الياء فأما من كان يحرك الياء قبل الندبة فليس في لغته إلا إثباتها مع الألف تقول : وا غلاماه وذكر سيبويه : أنه يجوز في الندبة : واغلاميه فيبين الياء بالهاء كما هي في غير النداء فإن أضفت إلى مضاف إليك قلت : واغلام غلامي فإن أدخلت الألف قلت : واغلام غلامياه لا يكون إلا ذلك لأن المضاف الثاني غير منادى وقد بيناه لك فيما تقدم
وكذلك وانقطاع ظهرياه لا بد من إثبات الياء وإذا وافقت ياء الإِضافة الياء الساكنة في النداء لم يجدوا بداً من فتح ياء الإِضافة ولم يكسر ما قبلها كراهية للكسرة في الياء ولكنهم يفتحون ياء الإِضافة ويجمعون على ذلك لئلا يلتقي ساكنان
فإذا ناديت فأنت في إلحاق الألف بالخيار أيضاً وذلك قولك : وا غلامياه وواقاضياه وواغلاميَّ في تثنية غلام وواقاضيَّ
وإن وافقت ياء الإِضافة ألفاً لم تحرك الألف وأثبتوا الياء وفتحوها لئلا يلتقي ساكنان وأنت أيضاً بالخيار في إلحاق الألف وذلك قولك وامثناي ووا مثناه
فإن لم تضف إلى نفسك قلت : وامثناي وتحذف الألف الأولى لئلا يلتقي ساكنان ولم يخافوا التباساً فإن كان الإسم المندوب مضافاً إلى مخاطب مذكر قلت : واغلامك يا هذا فإن ألحقت ألف الندبة قلت : وا غلامكاه وإن ثنيت قلت : وا غلامكاه وإن جمعت قلت : وغلامكموه فقلبت الف الندبة واواً كيلا يلتبس بالتثنية وتقول للمؤنث : واغلامكيه
وكان القياس الألف لولا اللبس وفي التثنية وا غلامهماه والمذكر والمؤنث في التثنية سواء وتقول في الجمع : وا غلامكناه وتقول في الواحد المذكر الغائب واغلامهوه وللإثنين واغلامهماه وللجميع واغلامهموه وللمؤنث : واغلامهاه وفي التثنية : واغلامهاه وللجميع واغلامهمناه فإن كان المنادى مضافاً إلى مضاف نحو : وانقطاع ظهره ( ) قلت في قول من قال : مررت بظهرهوه قيل : وانقطاع ظهرهوه وفي قول من قال : بظهرهي قال : وانقطاع ظهرهيه
وقال قوم من النحويين : كل ما كان في أخره ضم أو فتح وكسر ليس يفرق بين شيء وبين شيء جاز فيه الإِتباع والفتح وغير الإِتباع مثل قطام تقول : واقطاميهْ ويا قطاماه ويقولون : يا رجلانية ويا رجلاناه ويا مسلموناه ويقولون : يا غلام الرجلية والرجلاه فإذا كانت الحركة فرقاً بين شيئين مثل : قمتُ وقمتَ فالإِتباع لا غير نحو : واقياماً قمتوه وقمتاه وقمتيه وقد مر تثنية المفرد وجمعه في النداء في ( هن ) فقس عليه
واعلم : أن ألف الندبة لا تدخل على الصفة ولا الموصوف إذا اجتمعا
نحو وأزيد الظريف والظريفَ لأن الظريف غير منادى وليس هو بمنزلة المضاف والمضاف إليه لأن المضاف والمضاف إليه بمنزلة اسم واحد وأنت في الصفة بالخيار إن شئت وصفت وإن شئت لم تصف وهذا قول الخليل
وأما يونس فيلحق الألف الصفة ويقول : وا زيد الظريفاه ولا يجوز أن تندب النكرة وذلك : وارجلاه ويا رجلاه ولا المبهم لا تقول : واهذاه قال سيبويه : إنما ينبغي أن تتفجع بأعرف الأسماء ولا تبهم وكذلك قولك : وامَن في الداراه في الفتح وذكر يونس : أنه لا يستقبح : وا من حفر زمزماه لأن هذا معروف بعينه
وقال الأخفش : الندبة لا يعرفها كل العرب وإنما هي من كلام النساء فإذا أرادوا السجع وقطع الكلام بعضه من بعض أدخلوا ألف الندبة على كلام يريدون أن يسكتوا عليه وألحقوا الهاء لا يبالون أي كلام كان
باب الترخيم الترخيم حذف أواخر الأسماء المفردة الأعلام تحقيقاً ولا يكون ذلك إلا في النداء إلا أن يضطر شاعر ولا يكون في مضاف إليه ولا مضاف ولا في وصف ولا اسم منون في النداء ولا يرخم مستغاث به إذا كان مجروراً لأنه بمنزلة المضاف ولا يرخم المندوب هذا قول سيبويه والمعروف من مذاهب العرب
والترخيم يجري في الكلام على ضربين : فأجود ذلك أن ترخم الإسم فتدع ما قبل آخره على ما كان عليه وتقول في : حارث : يا حار أقبل فتترك الراء مكسورة كما كانت
وفي مسلمة : يا مسلم أقبل وفي جعفر : يا جعف أقبل تدع الفتحة على حالها وفي يعفر : يا يعف أقبل وفي برثن : يا برث أقبل تترك الضمة على حالها وفي هرقل أقبل تدع القاف على سكونها والوجه الآخر أن تحذف من أواخر الأسماء وتدع ما بقي اسماً على حياله نحو : زيد وعمرو فتقول : في حارث يا حار وفي جعفر يا جعفُ أقبل وفي هرقل : يا هرق أقبل
وكذلك كل اسم جاز ترخيمه فإن كان آخر الإسم حرفان زيدا معا حذفتهما لأنهما بمنزلة زيادة واحدة وذلك قولك : في عثمان : يا عثم وفي مروان يا مرو أقبل وفي أسماء يا أسم أقبلي وكذلك كل ألفين للتأنيث نحو : حمراء وصفراء وما
أشبه ذلك
إذا سميت به وكذلك ترخيم رجل يقال له : مسلمون تحذف منه الواو والنون وكذلك رجل اسمه مسلمان قال سيبويه : فأما رجل اسمه بنون فلا يطرح منه إلا النّون لأنك لا تصير اسماً على أقل من ثلاثة احرف ومن قال يا حار قال يا بني فإن رخمت اسما آخره غير زائد إلا أن قبل آخره حرفاً زائداً وذلك الزائد واو ساكنة قبلها ضمة أو ياء ساكنة قبلها كسرة أو ألف ساكنة حذفت الزائد مع الأصلي وشبه بحذف الزائد ولم يكن ليحذف الأصل ويبقى الزائد وذلك قولك في منصور : يا منص أقبل تحذف الراء وهي أصل وتحذف الواو وهي زائدة وفي عمار يا عمَّ أقبل وفي رجل اسمه عنتريس : يا عنتر أقبل فإن كان الزائد الذي قبل حرف الإِعراب متحركاً ملحقاً كان أو زائداً جرى مجرى الأصل
فأما الملحق فقولك في قَنَّور : يا قنو أقبل وفي رجل اسمه هبينح يا هبي أقبل لأن هذا ملحق بسفرجل وسنبين لك هذا في موضعه من التصريف إن شاء الله
وأما الزائد غير الملحق فقولك في رجل سميته بحولايا وبردرايا يا حولاي أقبل ويا بردراي أقبل لأن الحرف الذي قبل آخره متحركاً فأشبهت الألف التي للتأنيث الهاء التي للتأنيث فحذفت الألف وحدها كما تحذف الهاء وحدها لأن الهاء بمنزلة اسم ضم إلى إسم ولا يكون ما قبلها ألا مفتوحاً والهاء لا تحذف إلا وحدها كان ما قبلها أصلياً أو زائداً أو ملحقاً أو منقوصاً وحذف الهاء في ترخيم الإسم العلم أكثر في كلام العرب من الترخيم فيما لا هاء فيه وكذلك إن كان اسماً عاماً غير علم
والعلم قولهم في سلمة : يا سلم أقبل تريد يا سلمة وقالت الجهنية في هوذة بن علي الحنفي وكان كسرى أقطعه وتوَّجَهُ بتاج :
( يا هَوذَ ذَا التاَّجِ إنَّا لا نَقُولُ سَوَى ... يا هَوذَ يا هَوذَ إما فَادحٌ دَهَمَا )
وأما العام فنحو قول العجاج :
( جَارِيَ لاَ تسْتَنْكِرِي عَذِيرِي ... )
أي : حالي وأما ما كان منقوصاً وكان مع الهاء على ثلاثة أحرف فقولهم : يا شاء ادجني
قال أبو علي : إذا وصلت سقطت همزة الوصل فالتقت الألف وهي ساكنة مع الراء مع ادجني وهي ساكنة أيضاً فحذفت الألف لإلتقاء الساكنين ووليت الشين المفتوحة الراء وإذا وقفت قلت : يا أدجني مثل أقبلي فلم يحذف الألف رخم شاة ويا ثبت أقبلي تريد : ثبة وناس من العرب يثبتون الهاء فيقولون : يا سلمة أقبلي يقحمون الهاء ويدعون الإسم مفتوحا على لفظ الترخيم والذين يحذفون في الوصل الهاء إذا وقفوا قالوا : يا سلمهْ ويا طلحهْ لبيان الحركة ولم يجعلوا المتكلم بالخيار في حذف الهاء عند الوقف والشعراء إذا اضطروا حذفوا هذه الهاء في الوقف لأنهم إذا اضطروا يجعلون المدة التي تلحق القوافي بدلاً منها قال ابن الخَرِع :
( وكَادَتْ فَزَارَةُ تَشَقَى بِنَا ... فَأَوْلَى فَزَارَةَ أَوْلى فَزَارا )
والضم جائز في البيت وكذلك إن رخمت اسماً مركباً من اسمين قد
ضم أحدهما إلى الآخر فحكم الثاني حكم الهاء في الحذف وذلك
نحو : حضرموت ومعدي كرب ومار سرجس ومثل رجل سميته بخمسة عشر تحذف الثاني وتبقي الصدر على حاله فتقول : يا حضر أقبل ويا معدي أقبل ويا خمسة أقبل قال سيبويه : وإن وقفت قلت : يا خمسهْ بالهاء وإنما قال ذلك لأن تاء التأنيث لا ينطق بها إلا في الوصل
فإذا وقفت عليها وقفت بالهاء ومما شبه بحضر موت : عمرويه زعم الخليل : أنه يحذف الكلمة التي ضمت إلى الصدر فيقول : يا عمر أقبل قال : أراه مثل الهاء لأنهما كانا بائنين فضم أحدهما إلى الآخر
واعلم : أن من قال : يا حار فإنه لا يعتد بما حذف ويجعل حكم الإسم حكم ما لم تحذف منه شيئاً
فإن كان قبل الطرف حرفاً يعتل في أواخر الأسماء وينقلب أعل وقلب نحو : رجل سميته بعرقوة إن رخمت فيمن قال يا حار قلت : يا عرقي أقبل ولم يجز أن تقول : يا عرقوا لأن الإسم لا يكون آخره واواً قبلها حرف متحرك وهذا يبين في التصريف ومن قال : يا حار فإنما يجعل الراء حرف الإِعراب تقدير ما لا فاء فيه فيجب عليه أن لا يفعل ذاك إلا بما مثله في الأسماء فمن رخم اسماً فكان ما بيقى منه على مثال الأسماء فجائز وإن كان ما يبقى على غير مثال الأسماء فهو غير جائز وكذلك إن كان قبل المحذوف للترخيم شيء قد سقط لإلتقاء الساكنين فإنك إذا رخمت وحذفت رجع الحرف الذي كان سقط لإلتقاء الساكنين نحو : رجل سميته ( بقاضون ) كان الواحد ( قاضي ) قبل الجمع فلما جاءت واو الجمع سقطت الياء لإلتقاء الساكنين فإن رخمت ( قاضين ) وهو في الأصل قلت : يا قاضي فرجع ما كان سقط
لإلتقاء الساكنين وشبيه بهذا وقفك على الهاء إذا رخمت رجلاً اسمه : خمسة عشر لأن التاء إنما جلبها الوصل فلما زال الوصل رجعت الهاء وكذلك إن كنت أسكنت حرفاً متحركاً للإِدغام في حرف مثله وقبله ساكن فحذفت الأخير للترخيم فإنك ترد الحركة لإلتقاء الساكنين وذلك قولك لرجل اسمه ( راد ) يا رادِ أقبل إذا رخمت وفي محمارٍّ أقبل لأن الأصل : رادد ومحمارر وأما مفر فإذا سميت به ورخمته قلت : يا مفر أقبل ولم تحرك الراء لأن ما قبلها متحرك وأما محمر إذا كان اسم رجل فإنك إذا رخمته تركت الراء الأولى مجزومة لأن ما قبلها متحرك فقلت : يا محمر أقبل ولقائل أن يقول : هلاَّ رددت الحركة فقلت : يا محمرُ أقبل إذ كان الأصل محمرراً كما رددت الياء في ( قاضي ) فالجواب في ذلك : أنك إنما رددت الياء في ( قاضي ) لأنك لم تبن الواحد على حذفها كما بنيت ( دم ) على الحذف ومحمر لم تلحق الراء الأخيرة بعد إن تم بالأولى ولم يتكلم بأصله
فإن كان آخر الإسم حرفاً مدغماً بعد الألف وأصل الأول منهما السكون أعني الحرفين المدغم أحدهما في الآخر حركته إذا رخمته بحركة ما قبله وذلك نحو : اسحارّ يا هذا تقول : يا اسحار فتحركه بحركة أقرب المتحركات منه
وكذلك تفعل بكل ساكن احتيج إلى حركته من هذا الضرب
قال رجل من أزد السراة :
( ألا رُبَّ مَوْلُودٍ وليَسْ لَه أبٌ ... وذي وََلَدٍ لَمْ يَلْدَهُ أبوانِ )
ففتحَ الدالَ بحركةِ الياءِ لما احتاجَ إلى تحريكها لأن الفتحة قريبةٌ مِنها وأسحارٌ اسم وقع مدغماً آخره وليس لرائه الأولى نصيب في الحركة
واعلم : أن الأسماء التي ليست في أواخرها هاء أن لا يحذف منها أكثر قال سيبويه : وليس الحذف لشيء من هذه الأسماء ألزم منه لحارث ومالك وعامر قال : وكل اسم خاص رخمته في النداء فالترخيم فيه جائز وإن كان في هذه الأسماء الثلاثة أكثر وكل اسم على ثلاثة أحرف لا يحذف منه شيء إذا لم يكن آخره الهاء لأن أقل الأصول ثلاثة فإنما يرخم من الأربعة وما زاد لأن ما بقي في الأسماء على عدته والفراء يرخم من ذلك ما كان محرك الثاني نحو : قدم وعضد وكتف إذا سمى به رجلاً وقال : إن من الأسماء ما يكون على حرفين كدم ويد ولم يجز أن تقول في بكر : يا بك أقبل لأنه لا يكون اسم على حرفين ثانيه ساكن إلا مبهماً نحو من وكم وليس من الأسماء اسم نكرة ليس في آخره هاء تحذف منه شيء إذا لم يكن اسماً غالباً إلا أنهم قد قالوا : يا صاح أقبل وهم يريدون : يا صاحب وذلك لكثرة استعمالهم هذا الحرف والفراء إذا رخم : قمطر حذف الطاء مع الراء لأنها حرف ساكن والنحويون على خلافه في حذف الطاء وما أشبهها من السواكن الواقعة ثالثة ويجيز الفراء في حمار : يا حما أقبل يصير مثل رضا
وفي سعيد يا سعى يصير مثل عمى ولا يجيز : يا ثمود في ثمود لأنه ليس له في الأسماء نظير
واعلم : أن الشعراء يرخمون في غير النداء اضطراراً فمن ذلك قول الأسود ابن يعفر :
( أَوْدَى ابنُ جَلْهُمَ عَبَّادٌ بِصِرْمَته ... إنَّ ابْنَ جُلْهَمَ أمسى حَيَّةَ الوادي )
أراد : جُلهمه والعربَ يسمون الرجل جُلهمة والمرأة جُلهم
باب مضارع للنداء اعلم : أن كل منادى مختص وإن العرب أجرت أشياء لما اختصتها مجرى المنادى كما أجروا التسوية مجرى الإستفهام إذ كان التسوية موجودة في الإستفهام وذلك قولهم : أما أنا فأفعل كذا وكذا أيها الرجل أو : نفعل نحن كذا وكذا أيها القوم
واللهم أغفر لنا أيتها العصابة
قال سيبويه : أراد أن يؤكذ لأنه اختص إذ قال : إنه لكنه أكد كما تقول لمن هو مقبل عليك كذا كان الأمر يا فلان ولا يدخل في هذا الباب لأنك لست تنبه غيرك
ومن هذا الباب قول الشاعر :
( إنَّا بني نَهْشَلٍ لا نَنْتَمي لأَبٍ ... عنْهُ ولا هُوَ بالأَبْناءِ يَشرِيناَ )
نصب بني مختصا على فعل مضمر كما يفعل في النداء نحو ( أعني ) وما أشبه ذلك
مسائل من هذا الباب تقول : يا هذا الطويلُ أقبل في قول من قال : يا زيدُ الطويلُ ومن قال : يا زيدٌ الطويلَ قال : يا هذا الطويلَ وليس الطويل بنعت لهذا ولكنه عطف عليه وهو الذي يسمى عطف البيان لأن هذا وسائر المبهمات إنما تبينُ بالأجناس ألا ترى أنكَ إذا قلت : جاءني زيدٌ فخفت أن يلتبس الزيدان على السامع أو الزيود قلت : الطويل وما أشبه لتفصل بينه وبين غيره ممن له مثل اسمه وإذا قلت : جاءني هذا فق أو مأت له إلى واحد بحضرتك وبحضرتك أشياء كثيرة وإنما ينبغي لك أن تبين له عن الجنس الذي أومأت له إليه لتفصل ذلك عن جميع ما بحضرتك من الأشياء ألا ترى أنك لو قلت له : يا هذا الطويلُ وبحضرتك إنسان ورمح وغيرهما لم يدر إلى أي شيء تشير
وإن لم يكن بحضرتك إلا شيء طويل واحد وشيء قصير واحد فقلت : يا هذا الطويل جاز عندي لأنه غير ملبس والأصل ذاك وأنت في المبهمة تخص له ما يعرفه بعينه وفي غير المبهمة تخص له ما يعلمه بقلبه
وتقول في رجل سميته بقولك : زيد وعمرو يا زيداً وعمراً أقبل تنصب لطول الإسم ولو سميته : طلحة وزيداً لقلت : يا طلحة وزيداً أقبل فإن أردت بطلحة الواحدة من الطلح قلت : يا طلحةً وزيداً أقبل لأنك سميته بها منكورة ولم تكن ولم تكن جميع الإسم فتصير معرفة إنما
هي في حشو الإسم كما كانت فيما نقلتها عنه وتقول : يا زيدٌ الظريفَ على أصلِ النداء عند البصريين وقال الكوفيون : يراد بها يا أيها الظريفَ فلما لم يأت ( بيا أيها ) نصبته وربما نصبوا المنعوت بغير تنوين فأتبعوه نعته وينشدون :
( فَما كَعْبُ بنُ مَاَمَة وابنُ سُعدى ... بأَجْودَ مِنْكَ يا عُمر الجَوادا )
والنصب عند الكوفيين في العطف على ( أيها ) كما كان في النعت فلما لم يأتي ( يا أيها ) نصب ويجيزون : يا عبد الله وزيداً ويقولون : يا أبا محمدٍ زيدٌ أقبل وهو عند البصريين بدل وهو عند الكوفيين من نداء ابن
وإذا قلت : زيداً فهو عند الكوفيين نداء واحد ويسميه البصريون عطف البيان ويجيز الكوفيون : يا أيها الرجلُ العاقلَ على تجديد النداء كذا حكي لي عنهم ويجيز البصريون : يا رجلاً ولا يجيز الكوفيون ذاك إلا فيما كان نعتاً نحو قوله :
( فيَا رَاكِبَاً إمَّا عَرَضْتَ فَبَلِّغَنْ ... نَدَاماي مِنْ نَجْرَانَ أنْ لا تلاقيا )
ولا يكادون يحذفون ( يا ) من النكرة ويقولون : وا زيدُ في النداء ويقولون : وأ أي زيد
قال أبو العباس : إنما قالوا : هذا ابنمٌ ورأيت ابنماً ومررت بابنمٍ فكسروا ما قبل الميم إذا انكسرت وفعلوا ذلك في الضم والنصب لأن هذه الميم زيدت على اسم كان منفرداً منها وكان الإِعراب يقع على آخره فلما زيدت عليه ميم أُعربت الميم إذ كانت طرفاً وأُعربت ما قبلها إذ كانت تسقط فرجع الإِعراب إليه وقولك وقد يخفف الهمز فتقول : مُرْ فيقع الإِعراب على الراء فلذلك تبعت الهمزة وكذلك إذا قلت : يا زيدَ بنَ عمرو جعلتهما بمنزلة واحدة اسم واحد واتبعت الدال حركة ابن فهو مثل ابنم وقال في قولهم : اللهم أغفر لنا ايتها العصابة
لا يجوز : اللهم أغفر لهم أيتها العصابة
وقال : قلت لأبي عثمان : ما أنكرت من الحال للمدعو قال : لم أنكر منه إلا أن العرب لم تدع على شريطة لا يقولون يا زيد راكباً أي ندعوك في هذه الحال ونمسك عن دعائك ماشياً لأنه إذا قال : يا زيد فقد وقع الدعاء على كل حال
قال : قلت : فإنه إن احتاج إليه راكباً ولم يحتج إليه في غير هذه الحال فقال : يا زيد راكباً أي أريدك في هذه الحال قال : ألست قد تقول : يا زيد دعاء حقاً قلت : بلى قال : علام تحمل المصدر قلت لأن قولي : يا زيد كقولي : أدعو زيداً فكأني قلت : أدعو دعاء حقاً قال : فلا أرى بأساً بأن تقول على هذا : يا زيد قائماً وألزم القياس
قال أبو العباس : ووجدت أنا تصديقاً لهذا قول النابغة :
( قَالت بنو عامرٍ خَالوا بني أسَد ... يا بُؤْسَ لِلَجْهِل ضَرَّاراً لأقوامِ )
وقال الأخفش : لو قلت : يا عبد الله صالحاً لم يكن كلاماً
وقال أبو إسحاق يعني الزيادي : كان الأصمعي : لا يجيز أن يوصف المنادى بصفة البتة مرفوعة ومنصوبة
وقال أبو عثمان لا أقول : يا زيد وخيراً من عمرو أقبلا إذا أردت بخير من عمرو المعرفة لأني أدخل الألف واللام إذا تباعد المنادى من حرف النداء كما أقول : يا زيد والرجل أقبلا ولكن أقول : يا زيد والأخير
أقبلا ويا زيد ويا خيراً من عمرو أقبلا إذا أردت حرف النداء كان ما بعده معرفة
ولم يجىء معه الألف واللام كما تقول : يا خيراً من زيد العاقل أقبل فتنصب العاقل لأنه صفة له وكذلك : يا زيد ويا أخير أقبلا وقال أبو عثمان : أنا لا أرى أن أقول : يا زيد الطويل وذا الجمة إن عطفت على زيد والنحويون جميعاً في هذا على قول
قال : وأرى إن عطفت ( ذا الجمة ) على ( الطويل ) أن أرفعه كما فعلت في الصفة والنحويون كلهم يخالفونه ولا يجيزون إلا نصب ذي الجمة وهذا عنده كما تقول : يا زيدُ الطويلُ ذو الجمة إذا جعلته صفة للطويل
وإن كان وصفاً لزيد أو بدلاً منه نصبته وكان أبو عثمان يجيز يا زيد أقبل على حذف ألف الإِضافة لأنه يجوز في الإِضافة : يا زيدِ أردت : يا زيدي فأبدلت من الياء ألفاً
وعلى هذا قرئ : ( يا أبت لم تعبد ) و ( يا قوم لا أسألكم ) : قال : ومن زعم أنه على حذ ألف الندبة فهذا خطأ لأن من كان من العرب لا يلحق الندبة ألفاًُ فهي عنده نداء فلو حذفوها لصارت بدلاً على غير جهة الندبة
وقال أبو العباس : لا أرى ما قال أبو عثمان في حذف الألف إذا جعلتها مكان ياء الإِضافة
صواباً نحو : يا غلاماً أقبل لا يجوز حذف الألف لخفتها كما تحذف الياء إذا قلت : يا غلامِ أقبل
وقال : يا أبت . لا يجوز عندي إلا على الترخيم كما قال سيبويه مثل : يا طلحة أقبل وقال : زعم أبو عثمان أنه يجيز : يا زيد وعمراً أقبلا على الموضع كما أجاز : يا زيدُ زيداً أقبل فعطف زيد الثاني على الموضع عطف البيان وأهل بغداد يقولون : يا الرجلُ أقبل ويقولون لم نر موضعاً يدخله التنوين يمتنع من الألف واللام وينشدون :
( فَيا الغُلامَانِ اللَّذَانِ فَرّا ... إيَّاكُما أن تُكْسِبانا شَرّا )
وقال أبو عثمان : سألت الأخفش كيف يرخم طيلسان فيمن كسر اللام على قولك : يا حار فقال : يا طيلس أقبل قلت : أرأيت فيعل إسماً قط في الصحيح إنما يوجد هذا في المعتل نحو : سيد وميت
قال : فقال : قد علمت أني قد أخطأت لا يجوز ترخيمه إلا على قولك يا حار قال : وكان الأخفش لا يجوز عنده ترخيم حُبلوى اسم رجل فيمن قال : يا حار وذلك لأنه يلزمه أن يحذف يائي النسب ويقلب الواو ألفاً لإنفتاح ما قبلها فيقول : يا حُبلى فتصير ألف فعلى منقلبة وهذا لا يكون أبداً إلا للتأنيث
فلهذا لا يجوز لأن ألف التأنيث لا تكون منقلبة أبداً من شيء وهذا البناء لا يكون للمذكر أبداً وقال : كان الأخفش يقول : إذا رخمت سفيرج اسم رجل في قول من قال : يا حار
فحذفت الجيم لزمك أن ترد اللام التي حذفتها لطول الإسم وخروجه من باب التصغير فتقول : يا سفيرلُ أقبل لأنه لما صار إسماً على حياله فحذفت الجيم على أن يعتد بها وتجعله بمنزلة ( قاضون ) اسم رجل إذا قلت : يا قاضي الياء التي كانت ذهبت لإلتقاء الساكنين لما حذفت ما حذفت من أجله
قال أبو العباس : وليس هذا القول بشيء
ووجه الغلط فيه بينِّ وذلك لأنك لم تقصد به إلى سفرجل فتسميه به ولا هو منه في شيء إنما قصدت إلى هذا الذي هو سفيرج ولا لام فيه فهو على مثال ما يرخم فرخمته
بعد أن ثبت إسماً ألا ترى أنك تقول : في تصغير سفرجل : سفيرج وسفيريج للعوض ولو سميته : سفيريج لم يجز أن تقول فيه : سفرجل واسمه سفيريج لأنك لست تقصد إلى ما كان يجوز في سفرجل وكذلك فرزدق
لو سميته بتصغيره فيمن قال : فريزد لم يجز في اسمه أن تقول : فريزق وإن كان ذلك يجوز في تصغير فرزدق لأنك سميته بشيء بعينه فلزمه
وتقول : يا زيد وعمرو الطويلين والطويلان لأنه بمنزلة قولك : يا زيد الطويل وتقول بلا هؤلاءِ وزيدٌ الطوالُ لأن كله رفع والطوال عطف عليهم ولا يجوز أن يكون صفة لإفتراق الموصوفين وتقول : يا هذا ويا هذان الطَّوالُ وإن شئت قلت : الطَّوالُ لأن هذا كله مرفوع والطوال عطف عليهم هنا وليس الطوال بمنزلة : يا هؤلاء الطوال لأن هذا يقبح من جهتين : من جهة أن المبهم إذا وصفته بمنزلة اسم واحد فلا يجوز أن تفرق بينه وبينه والجهة الأخرى أن حق المبهم أن يوصف بالأجناس لا بالنعوت وتقول : يا أيها الرجلُ وزيدُ الرجلين الصالحين تنصب ولا ترفع من قبل أن رفعهما مختلف وذلك أن زيداً على النداء والرجل نعت ( لأي ) وتقول في الندبة : يا زيدُ زيداه ويا زيداً زيداه وقوم يجيزون : يا زيداً زيداه وقوم يجيزون : يا زيداً يا زيداه ويا زيداه يا زيداه وقد مضى تفسير ما يجوز من ذا وما لا يجوز وقالوا : من قال يا هناهُ ويا هناهِ بالرفع والجر من رفع توهم أنه طرف للإسم ويكسر لأنه جاء بعد الألف
والتثنية : يا هنانيه ويا هناناه ويا هنوتاه في الجمع وهنتاه في المؤنث وهنتانيه في التثنية وهنتاناه ويا هناتوه في الجمع لا غير والفراء لا ينعت المرخم إلا أن يريد نداءين ونعت المرخم عندي قبيح كما قال الفراء من أجل أنه لا يرخم الإسم إلا وقد علم ما حذف منه وما يعني به
فإن احتيج إلى النعت للفرق فرد ما سقط منه أولى كقول الشاعر :
( أضمرَ بن ضمرةَ ماذا ذكرتَ ... من صرمةٍ أخذتْ بالمرار )
أراد : يا ضمر يا ابن ضمرة
والكوفيون يجيزون : يا جرجر في جرة وفي حولايان يا حول فيحذفون الزوائد كلها وهذا إخلال بالإسم
يسقطون فيه ثلاثة أحرف فيها حرف متحرك ولا نظير لهذا في كلام العرب ويقولون للمرأة : يا ذات الجمة أقبلي ويا ذواتي الجمم للإثنين وللجماعة يا ذوات الجمم بكسر التاء وقد يقال : يا ذواتي الجمة ويا ذوات الجمة
قال أبو بكر : وذلك أن ذات إنما هي ذاة فالتاء زائدة للجمع وإنما صارت الهاء في الواحدة تاء حين أضفتها ووصلتها بغيرها
وتقول : يا هذا الرجلُ . والرجلَ أقبل ويا هذان الرجلان والرجلين مثل : يا زيد الظريفُ والظريفَ النصب على الموضع والرفع على اللفظ وتقول : يا أخوينا زيد وعمرو على قولك يا : زيد وعمرو يعني البدل
وقال الأخفش : وإن شئت قلت : زيد وعمرو على التعويض كأنك قلت أحدهما زيد والآخر عمرو ز
قال أبو بكر : هذا عندي إنما يجوز إذا أراد أن يخبر بذلك بعد تمام النداء
وتقول : يا أيها الرجلُ زيدٌ لأن زيداً معطوف على الرجل عطف البيان يجري عليه كما يجري النعت للبيان ولو جاز أن لا تنون زيداً لجاز أن تقول : يا أيها الجاهلُ ذا التنزي
على النعت وإنما هو ذو التنزي وتقول : يا أيها الرجلُ عبدُ الله تعطف على الرجل عطف البيان
قال الأخفش : ولو نصبت كان في القياس جائز إلا أن العرب لا تكلم به نصباً ولكن تحمله على أن تبدله من ( أي ) لأن ( أي ) في موضع نصب على أصل النداء وقال : إذا رخمت رجلاً اسمه شاة قلت : يا شا أقبل ومن قال : يا حارُ فرفع قال : يا شاةُ أقبل فرد الهاء الأصلية لأنه لا يكون الإسم على حرفين أحدهما ساكن إلا مبهماً وقال : تقول في شية على ذا القياس يا وشي أقبل وفي دية : يا ودي أقبل فترد الواو في أوله لأنها ذهبت من الأول لأن الأصل : وديت ووشيت وإنما ردت الواو لأن مثل : شيء لا يكون اسماً
وذلك أن الإسم لا يكون على حرفين أحدهما ساكن قال : وتكسر الواو إذا رددتها لأن الأصل وشبه كما كانت قالت العرب : وجهة لما أتموا : وقالوا : ولدة والكوفيون وقوم يجيزون : يا رجل قام ويقولون : إن كان تعجباً نصبت كقولك : يا سيداً ما أنت من سيد ويكون مدحاً كقولك : يا رجلاً لم أرَ مثله وكذلك جميع النكرات عندهم وتقول : يا أيها الرجل ويا أيها الرجلان ويا أيها الرجال ويا أيها النساء على لفظ واحد والإختيار في الواحدة في المؤنث يا أيتها المرأة وإذا قلت : يا ضاربي فأردت به المعرفة كان مثل : يا صاحبي وغلامي ويجوز عندي أن تقول : يا ضاربِ أقبل كما تقول : يا غلامِ أقبل فإن أردت غير المعرفة لم يجز إلا إثبات الياء وتقول : يا ضاربي غداً وشاتمي لأنك تنوي الإنفصال وتقول : يا قاضي المدينة لك أن تنصبهما ولك أن ترفع الأول وتنصب الثاني والكوفيون يجيزون نصب الأول بتنوين لأنه يكون خلفاً وما لا يكون خلفاً فلا يجوز في الأول عندهم التنوين مثل : يا رجلُ رجلنا لا يجيزون النصب في الأول وقالوا كل ما كان يكون خلفاً فلك الرفع بلا تنوين والنصب بتنوين ويقولون : يا قائماً أقبل ويا قائمُ أقبل ويجيزون أن يؤكد ما فيه وينسق عليه ويقطع منه كما يصنع بالخلف ويجيزون : يا رجلُ قائماً أقبل على نداءين وإن شئت كان في الصلة ويجيزون : يا رجلُ قائمٌ أقبل
ينوون فيها الألف واللام
ويحكون عن العرب : يا مجنونُ مجنونُ أقبل ويجيزون : يا أيها الذي قمت أقبل ويا أيها الذي قام أقبل وهو جائز ولا يجيزونه في من وكذا ينبغي ويقولون : يا رجلاً قمت أقبل ويا رجلُ قمت أقبل والفراء إذا خاطب رفع لا غير ويقولون : يا قاتلَ نفسك ويا عبدَ بطنك وهذا جائز قال أحمد بن يحيى : لو أجزت الرفع لم يكن خطأ قال : وكذلك : يا ضاربنا ولا شاتمنا يختار النصب مع كل ما ظهرت إضافته قال : ويجوز في القياس الرفع وأنت تنوي الألف واللام
فإذا كان لا يجوز فيه الألف واللام لم يجز إلا النصب مثل : يا أفضل منا ويا أفضلنا ويا غلام زيد ويا غلام رجل إنما يجوز الرفع في القياس مع ضارب زيدٍ وحسن الوجهِ وقال : أما مثلنا وشبهنا فالنصب لا غير
وقال الأخفش : تقول : إذا نسبت رجلاً إلى حباري وحبنطي قلت : حباريُّ وحبنطيُّ فإذا رخمت لم ترد الألف وكذلك إذا نسبت إلى مرمى فقلت : مرميُّ لم ترد الألف لو رخمته لأن هذا لم يحذف لإلتقاء الساكنين ولو كان حذف لإلتقاء الساكنين لبقي الحرف مفتوحاً فكان يكون حباريُّ وحبنطيُّ قال : وإن شئت قلت : إني أرد الألف وأقول ذهب لإجتماع الساكنين ولكنهم كسروا لأنهم رأوا جميع النسب يكسر ما قبله قال : ومن قال : احذفه على أني أبنيه بناء قال : لا أحذفه لإجتماع الساكنين وجب عليه أن لا يرد في : ناحي وقاضي إذا نسب إلى ناحية وقاضٍ وقال : إذا سميت رجلاً حبلاوي أو حمراوي إذا رخمته فيمن قال : يا حارُ فرفع همزت لأنها واو صارت آخراً فتهمزها وتصرفها في المعرفة والنكرة لأنها الآن ليست للتأنيث
قال أبو بكر : وجميع ما ذكرت من المسائل فينبغي أن تعرضه على الأصول التي قدمتها فما صح في القياس فأجزه وما لم يصح فلا تجزه وإنما أذكر لك قول القائلين كيلا تكون غريباً فيمن خالفك فإن الحيرة تقارن الغربة وقد ذكرنا الضم الذي يضارع الرفع ونحو نتبعه الفتح الذي يشبه النصب إن شاء الله
باب النفي بلا الفتح الذي يشبه النصب هو ما جاء مطرداً في الأسماء النكرات المفردة ولا تخص اسماً بعينه من النكرات إذا نفيتها ( بلا ) وذلك قولك : لا رجل في الدار ولا جارية فأي اسم نكرة ولي ( لا ) وكان جواباً لمن قال : هل من غلام فهو مفتوح فإن دخلت ( لا ) على ما عمل بعضه في بعض من معرفة أو نكرة لم تعمل هي شيئاً إنما تفتح الإسم الذي يليها إذا كانت قد نفت ما لم يوجبه موجب
فأما إذا دخلت على كلام قد أوجبه موجب فإنها لا تعمل شيئاً وإنما خولف بها إذا كانت تنفي ما لم يوجب وكل منفي فإنما ينفي بعد أن كان موجباً وأنت إذا قلت : لا رجل فيها إنما نفيت جماعة الجنس وكذلك إذا قلت : هل من رجل لم تسأل عن رجل واحد بعينه إنما سألت عن كل من له هذا الإسم ولو أسقطت ( من ) فقلت : هل رجل لصلح لواحد والجمع فإذا دخلت ( من ) لم يكن إلا للجنس
واعلم : أن ( لا ) إذا فتحت ما بعدها فقد يجيء الخبر محذوفاً كثيراً تقول : لا رجل ولا شيء تريد في مكان أو زمان وربما لم يحذف خالفت ما وليس ألا ترى أن ( ما ) تنفي بها ما أوجبه الموجب و ( ليس ) كذلك وهما يدخلان على المعارف و ( لا ) في هذا الموضع ليست كذلك وقد اختلف النحويون في تقديرها إختلافاً شديداً فقال سيبويه : ( لا ) تعمل فيما بعدها فتنصبه بغير تنوين ونصبها لما بعدها كنصب ( إنَّ ) لما بعدها وترك التنوين لما
تعمل فيه لازم لأنها جعلت وما تعمل فيه بمنزلة اسم واحد نحو : خمسة عشر وذلك لأنه لا يشبه ما ينصب وهو الفعل ولا ما أجرى مجراه لأنها لا تعمل إلا في نكرة ( ولا ) ما بعدها في موضع ابتدء فلما خولف بها عن حال أخواتها خولف بلفظها كما خولف بخمسة عشر ولا تعمل إلا في نكرة كما أن : رُبَّ لا تعمل إلا في نكرة فجعلت وما بعدها كخمسة عشر في اللفظ وهي عاملة فيما بعدها كما قالوا : يا ابن أم فهي مثلها في اللفظ وفي أن الأول عامل في الثاني و ( لا ) : لا تعمل إلا في نكرة من قبل أنها جواب فيما زعم الخليل كقولك : هل من عبد أو جارية فصار الجواب نكرة كما أنه لا يقع في هذه المسألة إلا نكرة
( فلا ) وما عملت فيه في موضع إبتداء كما أنك إذا قلت : هل من رجل فالكلام بمنزلة اسم مبتدأ والذي يبني عليه في زمان أو مكان هو الخبر ولكنك تضمره وإن شئت أظهرته
قال أبو العباس محمد بن يزيد : فإن قال قائل : فهل يعمل في الإسم بعضه فالجواب في ذلك : بلغني أنك منطلق إنما هو بلغني إنطلاقك ( فإن ) عاملة في الكاف وفي منطلق وكذلك موقعها مفتوحة أبداص وكذلك ( أن ) الخفيفة هي عاملة في الفعل وبه تمت اسماً فكذلك ( لا ) عملت عنده فيما بعدها وهي وما بعدها بمنزلة اسم
قال : والدليل على أن ( لا ) وما عملت فيه اسم أنك تقول : غضبت من لا شيء وجئت بلا مال كما قال :
( حَنَّتْ قلُوصي حينَ لا حِينَ محن ... )
فجعلها اسماً واحداً فالموضع موضع نصب نصبته ( لا ) وسقوط التنوين لأنه جعل معها اسماً واحداص والدليل على ذلك : أنه إن اتصل بها اسم مفرد سقط منه التنوين وصار اسماً واحداً وموضع الإسم بأسره موضع رفع كما كان موضع ما هو جوابه كذلك
وأما الكسائي : فإنه يقول : النكرات يبتدأ بأخبارها قبلها لئلا يوهمك أخبارها أنها لها صلات فلما لزمت التبرئة الإسمَ وتأخر الخبر أرادوا أن يفصلوا بين ما ابتدئ خبره وما لا يكون خبره إلا بعده فغيروه من الرفع إلى النصب لهذا ونصبوه بغير تنوين لأنه ليس بنصب صحيح إنما هو مغير كما فعلوا في الندءا حين خالفوا به نصب المضاف فرفعوه بغير تنوين ولم يكسروه فيشبه ما أُضيف إليه
وقال الفراء : إنما أخرجت ( لا ) من معنى غير إلى ( ليس ) ولم تظهر ليس ولا إذا كانت في معنى ( غير ) عمل ما قبلها فيما بعدها كقولك : مررت برجل لا عالم ولا زاهد و ( لا ) إذا كانت تبرئة كان الخبر بعدها ففصلوا بهذا الإِعراب بين معنيين
وفي جميع هذه الأقوال نظر وإنما تضمنا في هذا الكتاب الأصول والوصول إلى الإِعراب فأما عدا ذلك من النظر بين المخالفين فإن الكلام يطول فيه ولا يصلح في هذا الكتاب على أنا ربما ذكرنا من ذلك الشيء القليل
ذكر الأسماء المنفية في هذا الباب واعلم : أن المنفي في هذا الباب ينقسم أربعة أقسام : نكرة مفردة غير موصوفة ونكرة موصوفة ونكرة مضافة ومضارع للمضاف
أما الأول : وهو النكرة المفردة : فنحو ما خبرتك من قولك : لا رجل عندي ولا رجل في الدار ولا صاحب لك و ( لا ملجأ من الله إلا إليه ) ولا صنع لزيد ولا رجل ولا شيء تريد : لا رجل في مكان ولا شيء في زمان وتقول : لا غلامَ ظريفٌ في الدار
فقولك : ظريف خبر وقولك : في الدار خبر آخر وإن شئت جعلته لظريف خاصة ومن ذلك قول الله عز و جل : ( لا عاصم اليوم من أمر الله )
وقال : ( ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه ) وأما قول الشاعر :
( لا هَيثَم الليلَة للمَطِّي ... )
فإنه جعله نكرة أراد لا مثل هيثم ومثل ذلك : لا بصرَ لكم
وقال ابن الزبير الأسدي :
( أَرَى الحَاجَاتِ عِنْدَ أبي خُبَيْبٍ ... نَكِدْنَ ولا أُمَيَّةَ في البلادِ )
أراد : ولا مثل أمية فإن ثنيت المنفي ( بلا ) قلت : لا غلامين لك ولا جاريتين لا بدّ من إثبات النون في التثنية والجمع الذي هو بالواو والنون قد تثبت في المواضع التي لا تثبت فيها التنوين بل قد يثنى بعض المبنيات بالألف والنون والياء والنون . نحو : هذا والذي . تقول : هذان واللذان
قال أبو العباس : وكان سيبويه والخليل يزعمان : أنك إذا قلت : لا غلامين لك أن غلامين مع ( لا ) اسم واحد النون كما تثبت مع الألف واللام في تثنية ما لا ينصرف وجمعه نحو : هذان أحمران وهذان المسلمان وقال : وليس القول عندي كذلك لأن الأسماء المثناة والمجموعة بالواو والنون لا تكون مع ما قبلها اسماً واحداً لم يوجد ذلك كما لو يوجد المضاف ولا الموصول مع ما قبلهما بمنزلة اسم واحد
الثاني : النكرة الموصوفة :
اعلم : أنك إذا وصفت النكرة في هذا الباب فلك فيها ثلاثة أوجه : الأول منها : وهو الأحسن أي تجري الصفة على الموصوف وتنون الصفة وذلك قولك : لا رجل ظريفاً في الدار فتنون لأنه صفة ويكون قولك : في الدار وهو الخبر وحجة من فعل هذا أن النعت منفصل من المنعوت مستغني عنه وإنما جيء به بعد أن مضى الإسم على حاله فإن لم تأتِ به لم تحتج إليه
والوجه الثاني : أن تجعل المنفي ونعته اسماً واحدا وتبنيه معه فتقول : لا رجلَ ظريفَ في الدار بنيت رجل مع ظريف وحجة من رأى أن يجعله مع المنعوت اسماً واحداً أن يقول : لما كان موضع يصلح فيه بناء الإسمين اسماً واحداً كان بناء اسم مع ( اسم ) أكثر وأفشى من بناء اسم مع حرف فإن قلت : لا رجل ظريفاً عاقلاً فأنت في النعت الأول بالخيار فأما الثاني : فليس فيه إلا التنوين لأنه لا يكون ثلاثة أشياء اسماً واحداً وكذلك المعطوف لو قلت : لا رجل وغلاماً عندك لم يصلح في ( غلام ) إلا التنوين من أجل واو العطف لأنه لا يكون في الأسماء مثل حضرموت اسماً
واحداً إذا كانت بينهما واو العطف
والتكرير والنعت : بمنزلة واحدة تقول في النعت : لا رجل ظريف لك والتكرير على ذلك يجري تقول : لا ماءَ ماءً بارداً وإن فصلت بين الموصوف والصفة بشيء لم يجز في الصفة إلا التنوين وذلك قولك : لا رجل اليوم ظريفاً ولا رجل فيها عاقلاً من قبل أنه لا يجوز لك أن تجعل الإسم والصفة بمنزلة اسم واحد وقد فصلت بينهما كما أنه لا يجوز لك أن تفصل بين : عشر وخمسة في خمسة عشر
والوجه الثالث : أن تجعل النعت على الموضع فترفع لأن ( لا ) وما علمت فيه في موضع اسم مبتدأ فتقول : لا رجلَ ظريفَ فتجري ( ظريف ) على الموضع فيكون موضع اسم مبتدأ والخبر محذوف وإن شئت جئت بخبر فقلت : ( لك ) أو عندك كما بينت لك فيما تقدم قال الشاعر :
( ورَدَّ جَازِرُهُم حَرْفاً مُصَرَّمةً ... ولا كَرِيمَ مِن الوِلْدَانِ مَصْبُوحُ )
والنعت على اللفظ أحسن وكذلك إذا قلت : لا ماءَ ماءً بارداً وإن
شئت قلت : لا ماءَ ماءٌ باردٌ فإن جعلت الإسمين اسماص واحدا قلت : لا ماءَ ماءَ باردٌ جعلت ماء الأول والثاني اسماً واحداً وجعلت ( بارد ) نعتاً على الموضع
ومن ذا قول العرب : لا مالَ لهُ قليلٌ ولا كثيرٌ
قال سيبويه : والدليل على أن ( لا رجل ) في موضع اسم ( مبتدأ ) في لغة تميم قول العرب من أهل الحجاز : لا رجلَ أفضل منك والعطف في هذا الباب على الموضع كالنعت فمن ذلك قول الشاعر وهو رجل من مذحج :
( هَذا لَعَمْرُكُم الصَّغَارُ بَعْينِه ... لا أُمَّ لي إِنْ كَانَ ذاكَ ولا أَبُ )
والأجود أن تعطِفَ على اللفظ فتقول : لا حولَ ولا قوةٌ هذا إذا جعلت لا الثانية مؤكدة للنفي ولم يقدر أنك ابتدأت النفي بها فإن قدرت ذلك كان حكمها حكم الأول فقلت : لا حولَ ولا قوةَ وإن شئت عطفت على الموضع كما خبرتك
باب ما يثبت فيه التنوين والنون من الأسماء المنفية فإن ثنيت فلا بد من النون تقول : لا غلامين ولا جاريتين تثبت النون هنا كما تثبت في النداء والأسماء المبنية فيها ما يبنى وتثبت فيه النون وإن كان المفرد مبنياً ألا ترى أنك تثني هذا فتقول : هذان وهذين وكذلك : اللذان واللذين
وتقول : لا غلامين ظريفين لك ولا مسلمين صالحين لك ولا عشرين درهماً لك ونظير هذه النون التنوين إذا لم يكن منتهى الإسم وصار كأنه حرف قبل آخر الإسم وهو قولك : لا خيراً منه ولا حسناً وجهه لك ولا ضارباً زيداً لك لأن ما بعد حسن وضارب وخير صار من تمام الإسم فقبح أن يحذفوا قبل أن ينتهوا منتهى الإسم
وقال الخليل : كذلك : لا آمراً بالمعروف لك إذا جعلت ( بالمعروف ) من تمام الإسم وجعلته متصلاً به كأنك قلت : لا آمراً معروفاً لك
وإن قلت : لا آمر بمعروف لك فكأنك جئت بمعروف بعد ما بنيت على الأول كلاماً
الثالث : نكرة مضافة :
التنوين يسقط من كل مضاف في هذا الباب وغيره فإذا نصبت
مضافاً وأعملت ( لا ) نصبته ولا بد من أن يكون ذلك المضاف نكرة لأن ( لا ) لا تعمل في المعارف والمضاف ينقسم في هذا الباب على قسمين : مضاف لم يذكر معه لام الإِضافة ومضاف ذكرت معه لام الإِضافة
فأما المضاف المطلق فقولك : لا غلامَ رجلٍ لك ولا ماءَ سماءٍ في دارك ولا مثلَ زيدٍ لك وإنما امتنع هذا أن يكون اسماً واحداً مع ( لا ) لأنه مضاف والمضاف لا يكون مع ما قبله اسماً واحداً ألا ترى أنّكَ لا تجد اسمين جعلا اسماً واحداً وأحدهما مضاف إنما يكونان مفردين : كحضر موت وبعلبك ألا ترى أن قوله : يا ابن أم لما جعل ( أم ) مع ابن اسماً واحداً حذف ياء الإِضافة وقال ذو الرمة :
( هيَ الدَّار إذْ ميٌّ لأهلكِ جيرَةٌ ... لَيَاليَ لا أمثالَهَنَ لَياليا )
فأمثالهن نصب ب ( لا )
وأما القسم الآخر المنفي بلام الإِضافة :
فالتنوين والنون تقع في هذا الموضع كما وقع مما قبله لما أضفته وذلك قولهم : لا أباً لك ولا غلام لك :
وقال الخليل : إن النون إنما ذهبت للإِضافة ولذلك لحقت الألف الأب التي لا تكون إلا في الإِضافة وإنما كان ذلك من قبل أن العرب قد تقول : لا أباك في موضع : لا أبالك ولو أردت الإِفراد : لا أبَ لزيد فاللام مقحمة ليؤكد بها الإِضافة كما وقع في النداء : يا بؤس للحرب هذا مقدار ما ذكره أصحابنا
ولقائل أن يقول : إذا قلت : أنّ قولهم : لا أباك تريد به : لا أبالك فمن أين جاز هذا التقدير والمضاف إلى كاف المخاطب معرفة والمعارف لا تعمل فيها لا قيل له : إن المعنى إذا قلت : لا أبالك الإنفصال كأنك قلت : لا أباً لك فتنون لطول الإسم وجعلت ( لك ) من تمامه وأضمرت الخبر ثم حذفت التنوين استخفافاً وأضافوا وألزموا اللام لتدل على هذا المعنى فهو منفصل بدخول اللام وهو متصل بالإِضافة
وإنما فعل في هذا الباب وخصوه كما خصوا النداء بأشياء ليست في غيره
وإنما يجوز في اللام وحدها أن تقحم بين المضاف والمضاف إليه لأن معنى الإِضافة معنى اللام ألا ترى أنك إذا قلت : غلام زيد فمعناه : غلام لزيد فدخول اللام في هذا يشبه قولهم : يا تيمَ تيمَ عَدي أكد هذه الإِضافة بإعادة الإسم كما أكد ذلك بحرف الإِضافة فكأنه قد أضافه مرتين
والشاعر قد يضطر فيحذف اللام ويضيف قال :
( أبا المَوَتِ الذي لا بُدَّ أنِّي ... مُلاقٍ لا أباك تُخوِّفيني )
وقال الآخر :
( فقدْ ماتَ شَمَّاخٌ وماتَ مُزوِّدٌ ... وأيُّ كريمٍ لا أباكَ مُخَلَّدُ )
فإن قال : لا مسلمين صالحين : لك فوصف المنفي قبل مجيئك ( بلك ) لم يكن بد من إثبات النون من قبل أن الصالحين نعت للمنفي وليس بمنفي وإنما جاء التخفيف في النفي
الرابع : المضارع للمضاف :
المضارع للمضاف في هذا الباب ما كان عاملاً فيما بعده كما أن المضاف عامل فيما بعده فهو منصوب كما أن المضاف منصوب وما بعده من تمامه كما أن المضاف من تمام الأول إلا أن التنوين يثبت فيه ولا يسقط منه لأنه ليس منتهى الإسم فصار كأنه حرف قبل آخر الإسم
فالتنوين
هنا والنون يثبتان إذا كان المنفي عاملاً فيما بعده فهو وما عمل فيه بمنزلة اسم واحد فمن ذلك قولهم : لا خيراً منه ولا حسناً وجهه لك ولا ضارباً زيداً لك لأن ما بعد حسن وضارب وخير صار من تمام الإسم
فجميع هذا قد عمل فيما بعده ومثل ذلك قولك : لا عشرين درهماً لك لولا درهم لجاز أن تقول : لا عشرين لك وعشرون عملت في درهم فنصبته وقال الخليل : كذلك : لا آمراً بالمعروف لك
إذا جعلت بالمعروف من تمام الإسم وجعلته متصلاً به كأنك قلت : لا آمراً معروفاً لك وإذا قلت : لا آمر بمعروف فكأنك جئت بمعروف تبييناً بعد أن تم الكلام وتقول : لا آمر يوم الجمعة لك إذا نفيت جميع الآمريين ووزعمت : أنه ليسوا له يوم الجمعة فإن أردت أن تنفي الأمرين يوم الجمعة خاصة قلت : لا آمر يوم الجمعة لك جعلت يوم الجمعة من تمام الإسم فصار بمنزلة قولك : لا آمراً معروفاً لك
ولو قلت : لا خير عند زيد ولا آمر عنده لم يجز إلا بحذف التنوين لأنك لم تصله بما يكمله اسماً ولكنه اسم تام فجعلته مع ( لا ) اسماً واحداً
باب ما إذا دخلت عليه ( لا ) لم تغيره عن حاله
هذا الباب ينقسم على ثلاثة أقسام : اسم معرفة واسم منفي بلا بعده اسم منفي بلا وهما جواب مستفهم قد ثبت عنده أحد الشيئين واسم قد عمل فيه فعل أو هو في معنى ذلك
أما الأول : فالإسم المعرفة :
وقد عرفتك أن ( لا ) لا تنصب المعارف فإن عطفت معرفة منفية على نكرة وقد عملت فيها لم تعملها في المعرفة وأعملتها في النكرة وذلك قولك : لا غلام لك ولا العباس لك ولا غلامَلك ولا أخوةُ لك
قال سيبويه : فأما من قال : كل نعجة وسخلَتها بدرهم فينبغي أن يقول : لا رجلَ لك وأخاً له ولا يحسن أن تدخل ( لا ) على معرفة مبتدأة غير معطوفة على كلام فقد تقدم فيه ( لا ) فإن كررت لا جاز
فأما الذي لا يجوز فقولك : لا زيد في الدار لأن هذا موضع ( ما ) إلا أن يضطر شاعر فيرفع المعرفة ولا يثني ( لا ) قال الشاعر :
( بَكَتْ حَزَناً واسترجعت ثمَّ آذَنَتْ ... ركائبُها أن لا إلينا رُجوعها )
فأما الذي يحسن ويجوز فقولك : لا زيد في الدار ولا عمرو ولما ثنيت حسن
الثاني : الإسم المنفي بلا وبعده اسم منفي أيضاً بلا :
وهذا الصنف إنما يجيءْ على لفظ السائل إذا قال : أغلام عندك أم جارية إذا ادعى أن عنده أحدهما إلا أنه لا يدري : أغلام هو أم جارية فلا يحسن في هذا إلا أن تعيد ( لا ) فتقول : لا غلام عندي ولا جارية وإذا قال : لا غلام فإنما هو جواب لقوله : هل من غلام ولم يثبت أن عنده شيئاً فعملت لا فيما بعدها وإن كان في موضع ابتداء ومن ذلك قول الله : ( فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون )
وقال الشاعر :
( ومَا ضَرَمْتُكِ حَتَّى قُلْتِ مُعْلِنَةً ... لاَ نَاقَةٌ ليَ في هذا ولا جَمَلُ )
وكذلك إذا فصلت بين ( لا ) والإسم بحشو لم يحسن إلا أن تعيد الثانية لأن جعل جواب إذا عندك أم ذا فمن ذلك قوله تعالى : ( لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون )
ولا يجوز : لا فيها أحد إلا على ضعف فإن تكلمت به لم يكن إلا رفعاً لأن ( لا ) لا تعمل إذا فصل بينها وبين الإسم رافعة ولا ناصبةً ومعنى قولي : رافعةً إذا أعملت عملَ ليسَ تقول : لا أحدٌ أفضلَ منكَ في قولِ مَنْ جعلهَا ك ( ليس )
الثالث : وهو ما عمل فيه فعل أو كان في معنى ذلك :
اعلم : أن هذا يلزمك فيه تثينة ( لا ) كما لا تثنى لا في الأفعال وذلك قولك : لا مرحباً ولا أهلاً ولا كرامةً ولا مسرةً ولا سقياً ولا رعياً ولا هنيئاً ولا مرياً لأن هذه الأسماء كلها عملت فيها أفعالٌ مضمرة فالفعل مقدر بعد ( لا ) كأنك قلت : لا أكرمك كرامةً ولا أسرك مسرةً فعلى هذا جميع هذه الأسماء وما لم يجز أن يلي ( لا ) من الأفعال لم يجز أن يليها ما عمل فيه ذلك الفعل لا يجوز أن تقول : لا ضرباً وأنت تريد الأمر لأنه لا يجوز : لا أضرب إنما تدخل على الدعاء إذا كان لفظه لفظ الخبر وأضربه على ذلك نحو : لا سقياً ولا رعياً كأنك قلت : لا سقاه الله ولا رعاه
وكذلك إذا ولي ( لا ) مبتدأ في معنى الدعاء لم تعمل فيه كما لم تعمل فيما بني على الفعل ن ومعناه الدعاء وذلك قولهم : لا سلام عليكم
قال سيبويه : قولهم : لا سواء إنما دخلت ها هنا لأنها عاقبت ما ارتفعت عليه ألا ترى أنك لا تقول : هذان لا سواء فجاز هذا كما جاز : لاها الله ذا حين عاقبت فلم يجز ذكر الواو يعني أن قولهم : لا سواء أصله : هذان لا سواء وهذان مبتدأ ولا سواء خبرهما كما تقول : هذان سواء ثم أدخلت ( لا ) للنفي وحذفت ( هذان ) وجعلت ( لا ) تعاقب ( هذان ) وقال أبو العباس : وقول سيبويه : ألا ترى أنك لا تقول : هذان لا سواء أي : لا تكاد تقول ولو قلته جاز
وقالوا : لا نولك أن تفعل جعلوه معاقباً لقولك لا ينبغي وصار بدلاً منه
واعلم : أنه قبيح أن تقول : مررت برجل لا فارسٍ حتى تقول : ولا شجاع وكذلك : هذا زيد فارساً لا يحسن حتى تقول : لا فارساً ولا شجاعاً وذلك أنه جواب لمن قال : أبرجل شجاع مررت أم بفارس ولقوله : أفارس زيد أم شجاع وقد يجوز على ضعفه في الشعر
باب لا النافية إذا دخلت عليها ألف الإستفهام الألف إذا دخلت على ( لا ) جاز أن يكون الكلام استفهاماً وجاز أن يكون تمنياً والأصل الإستفهام فإذا كان استفهاماً محضاً فحالها كحالها قبل أن يلحقها ألف الإستفهام وذلك قولك : ألا رجلَ في الدار الأعلامًَ أفضلْ منك ومن قال : لا رجلَ قائمٌ في الدار قال : ها هنا ألا رجل قائم في الدار وكذلك من نون ومن رفع ثم رفع ها هنا وقال الشاعر :
( حَارِ بن كعبٍ ألا أَحْلاَمَ تَزْجُرُكُم ... عَنَّا وأَنْتُم مِن الجُوف الجماخيرِ )
فإذا دخلها مع الإستفهام معنى التمني فإن النحويين مختلفون في رفع الخبر ويجرون ما سراه على ما كان عليه قبل
فأما الخليل وسيبويه والجرمي أكثر النحويين فيقولون : ألا رجل أفضل منك ولا يجيزون رفع : أفضل وحجتهم في ذلك أنهم قالوا : كنا نقول : لا رجل أفضل منك فيرفع لأن ( لا ) ورجل في موضع ابتداء وأفضل : خبره فهو خبر اسم مبتدأ وإذا قلت متمنياً : ألا رجل أفضل منك فموضعه نصب وإنما هو كقولك : اللهم غلاماً أي : هب لي غلاماً فكأنك قلت : ألا أعطي ألا أصيب فهذا مفعول
وكان المازني وحده يجيز فيه جميع ما جاز في النافية بغير الإستفهام فتقول : ألا رجل أفضل منك وتقول فيمن جعلها كليس : ألا أفضل منك ويجريها مجراها قبل ألف الإستفهام
واعلم : أن ( لا ) إذا جعلت ك ( ليس ) لم تعمل إلا في نكرة ولا يفصل بينها وبينَ ما عملت فيهِ لأنها تجري رافعة مجراها ناصبة
وأما قول الشاعر
( ألا رجلاً جَزاهُ اللَّهُ خَيراً ... يَدُلُّ على محصَلة تَبيتُ )
فزعم الخليل : أنه أراد : الفعل وأنه ليس ل ( لا ) ها هنا عمل إنما أراد ألا ترونني وأما يونس فكان يقول : إنما تمنى ولكنه نوّن مضطراً وكان يقول في قول جرير :
( فلا حَسَباً فَخَرْتَ بهِ لِتَيِمِ ... ولا جَداً إذا ذُكِرَ الجُدودُ )
إنما نوّن مضطراً وكذا يقول أبو الحسن الأخفش
ومن قال : لا رجلَ ولا أمراةٌ لم يقل في التمني إلا بالنصب وعلى مذهب أبي عثمان يجوز الرفع كما كان قبل دخول الألف
كان أبو عثمان يقول : اللفظ على ما كان عليه وإن كان دخله خلاف معناه ألا ترى أن قولك : غفر الله لزيد معناه الدعاء ولفظه لفظ ضرب فلم يغير لما دخله في المعنى
وكذلك : حسبكَ رفعٌ بالإبتداء إن كان معناه النهي
باب تصرف ( لا )
ل ( لا ) في الكلام مواضع وجملتها النفي ومواضعها تختلف فتقع على الأسماء نحو قولك : ضربت زيداً لا عمراً وجاءني زيدٌ لا أخوه وتقع على الأفعال في القَسَم وغيره تقول : لا يخرج زيد وأنت مخبر ولا ينطلق عبد الله ويكون للنهي في قولك : لا ينطلق عبد الله ولا يخرج زيد وتجزم بها الفعل فيكون بحذاء قولك في الأمر : ليخرج عبد الله ولتقم طائفة منهم معك
وقد تكون من النفي في موضع آخر وهو نفي قولك : إيتِ وعمراظً فإذا أردت نفي هذا قلت : لا تأت زيداً وعمراً لم يكن هذا نفيه على الحقيقة لأنه إن أتى أحدهما لم يعصه لأنه نهاه عنهما جميعاً فإن أراد أن تمتنع منهما معاً فنفي ذلك : لا تأت زيداً ولا عمراً فمجيئها ها هنا لمعنى انتظام النهي بأمره لأن خروجها إخلال به
ويقع بعدها في القسم الفعل الماضي في معنى المستقبل وذلك قولك : والله لا فعلت إنما المعنى : لا أفعل لأن قولك في القسم : لا أفعل إنما هو لما يقع فأما قولهم : لا أفعل نفي لقولك : لأفعلنُّ ولذلك يجوز أن تحذف ( لا ) وأنت تريد النفي وجائز أن تقول : لا قام زيد ولا قعد عمرو تريد الدعاء عليه . وهذا مجاز
وحق هذا الكلام أن يكون نفياً لقيامه وقعوده فيما مضى
وقال الله عز و جل : ( فلا
اقتحم العقبة )
ومن هذا قول النبي : ( أرأيت من لا أكل ولا شرب ولا صاح فاستهل ) أي : من لم يأكل ولم يشرب يعني الجنين
فإذا قلت : والله أفعل ذاك فمعناه : لا أفعل فلو قلت : والله أقوم تريد : لأقومنَّ كان خطأن لأنها حذفت استخفافاً لإستبداد الإِيجاب باللام والنون ولهذا موضع آخر يذكر فيه ويكون في موضع ( ليساقتحم العقبة ) . ) وقد مضى ذكرها وقد تكون ( لا ) مؤكدة كما كانت ( ما ) في قوله : ( فبما رحمة من الله لنت لهم ) و ( مما خطاياهم )
فمن ذلك قوله : ( فلا أقسم برب المشارق والمغارب ) إنما هو : فأقسم يدلك على ذلك قوله : ( وأنه لقسم لو تعلمون عظيم ) وكذلك قال المفسرون في قوله : ( لا أقسم بيوم القيامة ) إنما هو : أُقسم فوقع القسم على قوله : ( إن علينا جمعه وقرآنه )
قال أبو العباس : فقيل لهم في عروض ذلك : أن الزوائد من هذا الضرب إنما تقع بين كلامين أو بعد كلام كقولك : جئتك لأمرٍ ما فكان من جوابهم : أن مجاز القرآن كله مجاز سورة واحدة بعد ابتدائه وأن بعضه متصل ببعض فمن ذلك قوله : ( لئلا يعلم أهل الكتاب أن لا يقدرون على شيء )
وقوله : ( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ) وإنما هو :
لا تستوي الحسنة والسيئة ومعناه ينبئك عن ذلك إنما هو : لا تساوي الحسنة السيئة
مسائل من باب ( لا )
تقول : لا غلامين ولا جاريتي لك إذا جعلت الآخر مضافاً ولم تجعله خبراً له
وصار الأول مضمراً له كأنك قلت : لا غلامين في ملكك ولا جاريتي لك كأنك قلت : ولا جاريتك في التمثيل
قال سيبويه : ولكنهم لا يتكلمون به يعني بالمضمر واختص ( لا ) بهذا النفي وإن شئت قلت : لا غلامين ولا جاريتين لك إذا جعلت ( لك ) خبراً لهما وهو قول أبي عمرو
وكذلك لو قلت : لا غلامين لك وجعلت ( لك ) خبراً
فإذا قلت : لا أبالك فها هنا إضمار مكان ولكنه يترك استخفافاً واستغناء
وتقول : لا غلامين ولا جاريتين لك وغلامين وجاريتين لك كأنك قلت : لا غلامين ولا جاريتين في مكان كذا وكذا
فجاء ( بلك ) بعدما بني على الكلام الأول في مكان كذا وكذا كما قال : لا يدين بها لك حين صيره كأنه جاء ( بلك ) بعدما قال : لا يدين بها في الدنيا لك وقبيح أن تفصل بين الجار والمجرور فتقول لا أخا هذين اليومين لك قال سيبويه : وهذا يجوز في ضرورة الشعر لأن الشاعر إذا اضطر فصل بين المضاف والمضاف إليه
قال الشاعر :
( كأنَّ أصواتَ مِنْ إيغالهَّن بِنَا ... أواخرِ الميسِ أصواتُ الفراريج ) ن
ومن قال : كم بها رجل فأضاف فلم يبال الفتح قال : لا يدري بها لك ولا أخا يوم الجمعة لك ولا أخا فاعلم لك والجر في : ( كم ) بها وترك النون في : لا يدي بها لك قول يونس
واحتج بأن الكلام لا يستغني ورد ذلك عليه سيبويه بأن قال : الذي يستغني به الكلام والذي لا يستغني قبحهما واحد إذا فصلت بين الجار والمجرور وتقول : لا غلامَ وجاريةً فيها لأن ( لا ) إنما تجعل وما تعمل فيه اسماً إذا كانت إلى جنب الإسم لكنك يجوز أن تفصل بين خمسة وعشر في قولك : خمسة عشر كذلك لا يجوز أن تفصل بين ( لا ) وبين ما بني معها وتقول : لا رجلٌ ولا امرأةٌ يا فتى
إذا كانت ( لا ) بمنزلتها في ( ليس ) مؤكدة للنفي حين تقول : ليس لك رجل ولا امرأة قال رجل من بني سليم وهو أنس بن العباس :
( لا نَسَبَ اليومَ ولا خُلَّةً ... اتَّسَعَ الفَتْقُ على الراَّتِقِ )
وتقول : لا رجلَ ولا امرأةَ فيها فتعيد ( لا ) الأولى كما تقول : ليس عبد الله وليس أخوه فيها فيكون حال الآخرة كحال الأولى وتقول : لا رجلَ اليوم ظريفاً ولا رجلَ فيها عاقتحم العقبة ) . اقلاً إذا جعلت ( فيها ) خبراً ولا رجلَ فيك راغباً من قبل أنه لا يجوز لك أن تجعل الإسم والصفة بمنزلة اسم واحد . وقد فصلت بينهما
وتقول : لا ماء سماء بارداً ولا مثله عاقلاً
من قبل أن المضاف لا يجعل مع غيره بمنزلة خمسة عشر فإذا قلت : لا ماء ولا لبن ثم وصفت اللبن فأنت بالخيار في التنوين وتركه فإن جعلت الصفةَ للماء لم يكن إلا منوناً لأنُه لا يفصل بين الشيئينِ اللذينِ يجعلان بمنزلة اسم واحد
وحكى سيبويه عن العرب : لا كزيد أحداً تنون لأنك فصلت بين ( لا ) و ( أحد ) وحكى سيبويه عن العرب : لا كزيد أحد ولا مثله أحد فحمله على الموضع والموضع رفع وإن شئت حملته على ( لا ) فتونته ونصبته وإن شئت قلت : لا مثلَهُ رجلاً على التمييز كما تقول : لي مثله غلاماً قال ذو الرمة :
( هِيَ الدَّارُ إذْ مَيَّ لأهْلِكِ جِيرَةٌ ... لَيالِيَ لا أَمْثَالُهُنَّ لَيَاليَا )
قال سيبويه : وأما قول جرير :
( لا كالعَشِيَّةِ زائراً ومَزُورا ... )
فلا يكون إلا نصباً من قبل أن العشية ليست بالزائر وإنما أراد : لا أرى كالعشية عشية زائراً كما تقول : ما رأيت كاليوم رجلاً فكاليوم كقولك : في اليوم
لأن الكاف ليست باسم وفيه معنى التعجب كما قال : تالله رجلاً وسبحان الله رجلاً إنما أراد : تالله ما رأيت رجلاً ولكنه يترك إظهار الفعل استغناء
وتقول : لا كالعشية ولا كزيد رجل
لأن الآخر هو الأول ولأن زيداً رجل وصار : لا كزيد كأنك قلت : لا أحد كزيد ثم قلت : رجل كما تقول : لا مال له قليل ولا كثير على الموضع قال امرؤ القيس :
( ويلمها في هَوَاء الجَوِّ طَالِبة ... ولا كهذا الذي الأْرضِ مَطْلُوبُ )
لأنه قال : ولا شيء لهذا ورفع على الموضع
وإن شئت نصبت على التفسير كأنه قال : لا أحد كزيد رجلاً
قال سيبويه : ونظير : لا كزيد في حذفهم الإسم قولهم : لا عليك وإنما يريدون : لا بأس عليك ولا شيء عليك ولكنه حذف لكثرة استعمالهم إياه
ومن قال : لا غلامٌ ولا جارية قال : أغلام وألا جارية
إنما دخلت في النفي لا في المعطوف عليه
ألا تراك تقول في النداء : يا بؤس للحرب ولا تقول : يا بؤس زيد وبؤس الحرب فالنفي كالنداء وكذلك إذا قلت : لا غلامي لك ولا مسلمي لك إن كانت لا الثانية نافية غير عاطفة جاز إسقاط النون وإن كانت عاطفة لم يجز إلا إثبات النون فتقول : لا غلامين لك ولا مسلمين لك
وناس يجيزون أن تقول : لا رجلٌ ولا امرأةَ وهو عندي جائز على قبح لأنك إذا رفعت فحقه التكرير وتقول : لا رجل كان قائماً ولا رجل ظننته قائماً إن جعلت كان وظننت : صلة لرجل أضمرت الخبر وإن جعلتهما خبرين لم تحتج إلى مضمر
وقوم يجيزون : لا زيدَ لك ولا يجيزون لا غلامَ الرجل لك إلا بالرفع ويجيزون : لا أبا محمد لك ولا أبا زيد لك
يجعلونه بمنزلة اسم واحد ولا يجيزون : لا صاحب درهم لك لأن الكنية بمزلة الإسم
ويقولون : عبد الله يجري مجرى النكرة إذ كانت الألف واللام لا يسقطان منه
وقال الفراء : جعل الكسائي : عبد العزيز وعبد الرحمن بمنزلة عبد الله وإسقاط الألف واللام يجوز نحو قولك : عبدَ العزيز لك
وقالوا : الغائب من المكنى يكون مذهب نكرة نحو قولك : لا هو ولا هي لأنه يوهمك عدداً وإن شئت قضيت عليه بالرفع والنصب فإن جعلته معرفة جئت معه بما يرفعه وحكوا : إن كان أحدٌ في هذا الفخ ولا هو يا هذا وكذلك : هذا وهذان عندهم ويقولون : لا هذين لك ولا هاتين لك وكذلك ذاك لأنه غائب
وجميع هذه الأشياء التي تخالف الأصول التي قدمتها لك لا تجوز في القياس ولا هي مسموعة من الفصحاء
وتقول : لا رجل أخوك ولا رجل عمك لا يجوز في أخيك وعمك إلا الرفع
وقد حُكي : أنّ كلام العرب أنْ يُدخِلوا : هو مع المفرد فيقولون : لا رجل هو أخوك ولا رجل هو عمرو ويقولون : لا بنات لك كما تقول : لا مسلمي لك
وتقول : ألا رجلاً زيداً أو عمراً تريد : ألا أحدَ
رجلاً يكون زيداً أو عمراً ويجوز أن يكون بدلاً من رجل فإذا جاءت أو مع ( ألا ) فهو طلب
وتقول : لا رجل في الدار لا زيدٌ ويدخل عليها ألف الإستفهام فتقول : ألا رجل في الدار ألا زيد
وتقول : ألا رجل ألا امرأةٌ يا هذا
وتقول : ألا ماء ولو بارداً وهو عند سيبويه : قبيح
لأنه وضع النعت موضع المنعوت فلو قلت : ألا ماء ولو بارداً لكان جيداً
وذلك يجوز إلا أنك تضمر بعد ( لو ) فعلاً ينصب ماء
وكأنك قلت : ولو كان ماءً بارداً
فإذا جئت بلو كان ما بعدها أحسن قال أحمد بن يحيى ثعلب : كان يقال : متى كان ما بعد ( لو ) نعتاً للأول نصب ورفع ومتى كان غير نعت رفع هذا قول المشايخ
وقال الفراء : سمعت في غير النعت الرفع والنصب
وإذا قال : ألا مستعدي الخليفة أو غيره وألا معدي الخليفة أو غيره فالرفع كأنك بينت فقلت : ذاك الخليفة أو غيره أو هو الخليفة أو الخليفة هو أو غيره
والنصب على إضمار ( يكون ) كأنك قلت : يكون الخليفة
أي : يكون المعدي الخليفة أو غيره
وقوم يجيزون : ألا قائل قولاً ألا ضارب ضرباً وهذا عندي لا يجوز إلا بتنوينٍ لأنه قد أعملَ في المصدر فطالَ وقد مضى تفسير هذا
ويجوز أن تقول : لا قائل قول ولا ضارب ضرب فتضيف إلى المصدر
وتقول لا خير بخير بعده النار ولا شر بشر بعده الجنة لأنك قلت : لا خير في خير بعده النار ولا شر في شَرٍّ بعده الجنة ويجوز أن تكون هذه الباء دخلت لتأكيد النفي كما تدخل في خبر ( ما ) وليس فتكون زائدة كأنك قلت : لا خير خير بعده النار ولا شر شرٍّ بعده الجنة فإن جعلت الهاء راجعة إلى خبر الأول الذي مع ( لا ) قلت : لا خير بعدهُ النار خير
فصار قولكَ : بعد النار جملة نعت بها : لا خير والنار مبتدأ وبعده :
خبره والجملة صفة لخير كما تقول : لا رجلَ أبوه منطلق في الدارِ فرجل : منفي وأبوه : منطلق مبتدأ وخبر
والجملة بأسرها صفة لرجل قال أبو بكر : وقد ذكرنا الأسماء المرفوعات والمنصوبات وما ضارعها بجميع أقسامها وبقيَّ الأسماء المجرورة ونحن نذكرها إن شاء الله
ذكر الجر والأسماء المجرورة الأسماء المجرورة تنقسم قسمين : اسم مجرور بحرف جر أو مجرور بإضافة اسم مثله إليه وقولي : جر وخفض بمعنى واحد
ذكر حروف الجر حروف الجر تصل ما قبلها بما بعدها فتوصل الإسم بالإسمِ والفعلَ بالإسم ولا يدخل حرف الجر إلا على الأسماء كما بينا فيما تقدم فأما إيصالها الإسمِ بالإسم فقولك : الدار لعمرو وأما وصلها الفعل بالإسم فقولك : مررت بزيد فالباء هي التي أوصلت المرور بزيد
وحروف الجر تنقسم قسمين : فأحد القسمين : ما استعملته العرب حرفاً فقط ولم يشترك في لفظهِ الإسم ولا الفعل مع الحرف ولم تجره في موضع من المواضع مجرى الأسماء ولا الأفعال
والقسم الآخر : ما استعملته العرب حرفاً وغير حرف
فالقسم الأول : وهو الحرف التي استعملته حرفاً فقط على ضربين : فالضرب الأول منها : أُلزم عمل الجر والضرب الثاني : غير ملازم لعمل الجر
فأما الحروف الملازمة لعملِ الجرِّ : فمن وإلى وفي والباء واللام
ولِرُبَّ : باب يفردُ به لخروجها عن منهاجِ أخواتِها وأنا مُبيّن معنى حرفٍ حرفٍ منها
أما ( من ) : فمعناها : ابتداء الغاية
تقول : سرت من موضع كذا إلى موضع كذا
وفي الكتاب : من فلان إلى فلان
إنما يريد : إبتداؤه فلان
وسيبويه يذهب إلى أنها تكون لإبتداء الغاية في الأماكن وتكون للتبعيض نحو قولك : هذا من الثوب
وهذا منهم تقول : أخذت ماله ثم تقول : أخذت من ماله فقد دلت على البعض
قال أبو العباس : وليس هو كما قال عندي لأن قوله : أخذت من ماله إنما ابتداء غاية ما أخذ فدل على التبعيض من حيث صار ما بقي إنتهاء له والأصل واحد
وكذلك : أخذت منه درهماً وسمعت منه حديثاً أي : أول الحديث وأول مخرج هذه الدراهم وقولك : زيد أفضل من عمرو وإنما ابتدأت في إعطائه الفضل من حيث عرفت فضل عمرو فابتداء تقديمه هذا الموضع فلم يحرج من إبتداء الغايةِ
وقال في وقتٍ آخرَ : مِنْ تكون على ثلاثة أضرب لإبتداء الغاية كقولكَ : خرجت مِنَ الكوفة إلى البصرة وللتبعيض كقولك : أخذت من ماله
والأصل يرجع إلى إبتداء الغاية لإنك إذا قلت : أخذت من المال فأخذك إنما وقع إبتداؤه من المال
ويكون لإِضافة الأنواع إلى الأسماء كقول الله تعالى :
( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان )
وكقول الله عز و جل : ( وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة )
أي : من هؤلاء الذين آمنوا واجتنبوا الرجس من الأوثان
فقولك : رجس جامع للأوثان وغيرها
فإذا قلت : من الأوثانُ فإنما معناه الذي ابتداؤه من هذا الصنف قال : وكذلك قول سيبويه : هذا باب علم ما الكلم من العربية لأن الكلم يكون عربياً وعجمياً فأضاف النوع وهو الكلم إلى اسمه الذي يبين به ما هو وهو العربية وتكون زائدة قد دخلت على ماهو مستغن من الكلام إلا أنها تجر لأنها حرف إضافة نحو قولهم : ما جاءني من أحد وما كلمت من أحد وكقوله عز و جل : ( أن ينزل عليكم من خير من ربكم ) إنما هو : خير ولكنها توكيد وكذلك : ما ضربت من رجل إنما هو : ما ضربت رجلاً فهذا موضع زيادتها إلا أنه موضع دلت فيه على أنه للنكرات دون المعارف ألا ترى أنك تقول : ما جاءني من أحد وما جاءني من رجل ولا تقول : ما جاءني من عبد الله
لأن رجلاً في موضع الجمع ولا يقع المعروف هذا الموضع لأنه شيء قد عرف بعينِه ألا ترى أنك تقول : عشرون درهماً ولا تقول : عشرون الدرهم وقال سيبويه : إذا قلت : ما أتاني من رجل أكدت بمن لأنه موضع تبعيض فأراد أنه لم يأته بعض الرجال والناس وكذلك : ويحه من رجل إنما أراد أن يجعل التعجب من بعض الرجال وكذلك : لي ملؤه من عسل وقال كذلك : أفضل من زيد
إنما أراد أن يفضله على بعض ولا يعم وجعل زيداً الموضع الذي ارتفع منه أو سفل منه في قولك : شرٌ من زيد وكذلك إذا قال : أخزى الله
الكاذبين مني ومنك إلا أن هذا وأفضل لا يستغني عن ( من ) فيهما لأنها توصل الأمر إلى ما بعدها وقال : وتقول : رأيته من ذلك الموضع فجعلته غاية رؤيتك كما جعلته غاية حيث أردت الإبتداء
وأما ( إلى ) فهي للمنتهى تقول : سرت إلى موضع كذا فهي منتهى سيرك وإذا كتبت من فلان إلى فلان فهو النهاية فمن الإبتداء وإلى الإنتهاء وجائز أن تقول : سرت إلى الكوفة وقد دخلت الكوفة وجائز أن تكون بلغتها ولم تدخلها لأن ( إلى ) نهاية فهي تقع على أول الحد وجائز أن تتوغل في المكان ولكن تمتنع من مجاوزته لأن النهاية غاية قال أبو بكر : وهذا كلام يخلط معنى ( من ) بمعنى ( إلى ) فإنما ( إلى ) للغاية و ( من ) لإبتداء الغاية وحقيقة هذه المسألة : أنك إذا قلت : رأيت الهلال من موضعي ( فمن ) لك وإذا قلت : رأيت الهلال من خلال السحاب ( فمن ) للهلال والهلال غاية لرؤيتك فكذلك جعل سيبويه ( من ) غاية في قولك : رأيته من ذلك الموضع وهي عنده ابتداء غاية إذا كانت ( إلى ) معها مذكورة أو منوية فإذا استغنى الكلام عن ( إلى ) ولم يكن يقتضيها جعلها غاية ويدل على ذلك قوله : ما رأيته مذ يومين فجعلتها غاية كما قلت : أخذته من ذلك المكان فجعلته غاية ولم ترد منتهى أي : لم ترد إبتداء له منتهى
أي : استغنى الكلام دون ذكر المنتهى وهذا المعنى أراد والله أعلم وهذه المسألة ونحوها إنما تكون في الأفعال المتعدية نحو : رأيت وسمعت وشممت وأخذت
تقول : سمعت من بلادي الرعد من السماء ورأيت من موضعي
البرق من السحاب وشممت من داري الريحان من الطريق ( فمن ) الأولى للفاعل و ( من ) الثانية للمفعول وعلى هذا جميع هذا الباب لا يجوز عندي غيره إنما جاز هذا لأن للمفعول حصة مِن الفعل كما للفاعل
وبعض العرب يحذف الأسماء مع ( من ) وقد ذكرنا بعض ذلك فيما قد مضى قال الله تعالى : ( وما منا إلا له مقام معلوم ) : والتأويل عند أصحابنا : وما منا أحد إلا له
والكوفيون يقولون إن ( مَنْ ) تضمر مع ( من ) وفي التأويل عندهم : إلا مَنْ له مقام وما كان بعده شيء لم يسم غاية قال سيبويه : ( إلى ) منتهى لإبتداء الغاية يقول : مِنْ كذا إلى كذا
ويقول : الرجل : إنما أنا إليك أي : أنت غايتي وتقول : قمت إليه فتجعله منتهاك من مكانك
( في ) : وفي معناها الوعاء
فإذا قلت : فلان في البيت فإنما تريد : أن البيت قد حواه وكذلك : المال في الكيس فإن قلت : في فلان عيب فمجاز واتساع لأنكَ جعلتَ الرجل مكاناً للعيب يحتويه وإنما هذا تمثيل بذاك وكذلك تقول : أتيتُ فلاناً وهو في عنفوان شبابه أي : وهو في أمرهِ ونهيهِ فهذا تشبيه وتمثيل أي : أحاطت بهِ هذه الأمور قال : وإن اتسعت في الكلام فإنما تكون كالمثل يجاءُ به يقارب الشيء وليس مثله ز
( الباء ) : معناه الإِلصاق فجائز أن يكون معه استعانة وجائز لا
يكون فأما الذي معه استعانة فقولك : كتبت بالقلم وعمل الصانع بالقيدوم
والذي لا استعانة معهُ فقولك : مررتُ بزيدٍ ونزلت بعبد الله
وتزاد في خبر المنفي توكيداً نحو قولك : ليس زيد بقائم وجاءت زائدة في قولك : حسبك بزيد وكفى بالله شهيداً وإنما هو كفى الله
قال سيبويه : باء الجر إنما هي للإِلزاق والإختلاط وذلك قولك : خرجت بزيدٍ ودخلت به وضربته بالسوط ألزقت ضربك إياه بالسوط فما اتسع من هذا الكلام فهذا أصله
( اللام ) : اللام : لام الإِضافة قال سيبويه : معناها الملك والإستحقاق ألا ترى أنك تقول : الغلام لك والعبدُ لكَ فيكون في معنى : هو عبدٌ لكَ وهو أخ لكَ فيصير نحو : هو أخوك فيكون هو مستحقاً لهذا كما يكون مستحقاً لما يملك فمعنى هذا اللام معنى إضافة الإسم
وقال أبو العباس : لام الإِضافة تجعل الأول لاصقاً بالثاني ويكون المعنى : ما يوجد في الأول تقول : هذا غلام لزيد وهذه دار لعبدِ الله
فأما تسميتهم إياها لام الملك فليس بشيء إذا قلت : هذا غلام لعبد الله فإنما دللت على الملك من الثاني للأول فإذا قلت : هذا سيد لعبدِ الله دللت بقولك على أن الثاني للأول
وإذا قلت : هذا أخ لعبدِ الله فإنما هي مقاربة وليس أحدهما في ملك الآخر
ولام الإستغاثة : هي هذه اللام إلا أن هذه تكسر مع الإسم الظاهر وتلك تفتح وقد مضى ذكر ذلك في حد النداء
فلام الإضافة حقها الكسر إلا أن تدخلها على مكنى نحو قولك : له مال ولك ولهم ولها فهي في جميع ذلك مفتوحة وهي في الإستغاثة كما عرفتك مفتوحة
قال سيبويه : إنما أردت أن تجعل ما يعمل في المنادى مضافاً إلى بكر باللام يعني بذلك الفعل المضمر الذي أغنت عن إظهاره ( يا ) وقد مضى تفسير هذا
فهذه الحروف التي للجر كلها تضيف ما قبلها إلى ما بعدها
فإذا قلت : سرتَ مِن موضع كَذا فقد أضفتَ السير إلى ما بعدها فإذا قلت : مررت بزيد فقد أضفت المرورَ إلى زيد بالباء
وكذلك إذا قلت : هذا لعبدِ الله فإذا قلت : أنتَ في الدار فقد أضفتَ كينونتك في الدار إلى الدار ( بفي ) فإذا قلت : فيك خصلة سوء فقد أضفت إليه الرداءة ( بفي ) فهذه الحروف التي ذكرت لك تدخل على المعرفة والنكرة والظاهر والمضمر فلا تجاوز الجرَّ
واعلم : أن العرب تتسع فيها فتقيم بعضها مقام بعض إذا تقاربت المعاني فمن ذلك : الباء تقول : فلان بمكة وفي مكة وإنما جازا معاً لأنك إذا قلت : فلان بموضع كذا وكذا
فقد خبرت عن إتصاله والتصاقه بذلك الموضع وإذا قلت : في موضع كذا فقد خبرت ( بفي ) عن احتوائه إياه وإحاطته به فإذا تقارب الحرفان فإن هذا التقارب يصلح لمعاقبة وإذا تباين معناهما لم يجز ألا ترى أن رجلاً لو قال : مررت في زيد أو : كتبت إلى القلم لم يكن هذا يلتبس به فهذا حقيقة تعاقب
حروف الخفض فمتى لم يتقارب المعنى لم يجز وقد حكي : كنت بالمال حرباً وفي المالِ حَرباً وهو يستعلي الناسَ بكفهِ وفي كفهِ
وقال في قولِ طرفة :
( وإنْ يَلْتقِ الحَيُّ الجَمِيعُ تلاقني ... إلى ذِرْوَةِ البَيت الكَرِيمِ المُصَمد )
إنَّ ( إلى ) بمعنى ( في ) ولا يجوز أن يدخل حرف من هذه التي ذكرت على حرف منها فلا يجوز أن تدخل الباء على ( إلى ) ولا اللام على ( مِنْ ) ولا ( في ) على ( إلى ) ولا شيئاً منها على آخر
باب رُبَّ
رُبَّ : حرف جر وكان حقه أن يكون بعد الفعل موصلاً له إلى المجرور كأخواته إذا قلت : مررت برجل وذهبت إلى غلام لك ولكنه لما كان معناه التقليل وكان لا يعمل إلا في نكرة فصار مقابلاً ( لكم ) إذا كانت خبراً فجعل له صدر الكلام كما جعل ( لكم ) وآخر الفعل والفاعل فموضع رُبَّ وما عملت فيه نصبٌ كما أن موضع الباء ومن وما عملنا فيه نصب إذا قلت : مررت بزيد وأخذت من ماله
ويدل على ذلك أن ( كم ) يُبنى عليها ورُبَّ : لا يجوز ذلك فيها وذلك قولهم : كم رجل أفضل منك فجعلوه خبراً ( لكم ) كذلك رواه سيبويه عن يونس عن أبي عمرو بن العلاء : أن العربَ تقوله ولا يجوز أن تقول : رُبَّ رجل أفضل منك ولا يجوز أن تجعله خبراً لِرُب كما جعلته خبراً ( لكم ) ومما يتبين أن رُبَّ حرف وليست باسم ( ككم )
أن ( كم ) يدخل عليها حرف الجر ولا يدخل على رُبَّ تقول : بكم رحل مررت وإنك تولي ( كم ) الأفعال ولا توليها رُبَّ
قال أبو العباس : رُبَّ تنبىء عما وقعت عليه أنه قد كان وليس بكثير
فلذلك لا تقع إلا على نكرة ولأن ما بعدها يخرج مخرج التمييز تقول : رب رجل قد جاءني فأكرمته ورب دار قد أبتنيتها وأنفقت عليها وقال في موضع آخر : رب معناها الشيء يقع قليلاً ولا يكون ذلك الشيء إلا منكوراً لأنه واحد يدل على أكثر منه ولا تكون رب إلا في أول الكلام لدخول هذا المعنى فيها
وقال أبو بكر : والنحويون كالمجتمعين على أن رُبَّ جواب إنما تقول : رُبَّ رجل عالمٍ لمن قال : رأيت رجلاً عالماً أو قدرت ذلك فيه فتقول : رُبَّ رجل عالم تريد : رُبَّ رجل عالم قد رأيتُ فضارعت أيضاً حرف النفي إذا كان حرف النفي يليه الواحد المنكور وهو يراد به الجماعة
فهذا أيضاً مما جعلت له صدراً
واعلم : أن الفعل العامل فيها أكثر ما يستعمله العرب محذوفاً لأنه جواب وقد علم فحذف وربما جيء به توكيداً وزيادة في البيان فتقول : رُبّ رجل عالم قد أتيت فتجعل هذا هو الفعل الذي تعلقت به ( رُبَّ ) حتى يكون في تقديره : برجلٍ عالمٍ مررت وكذلك إذا قال : رُبَّ رجل جاءني فأكرمته وأكرمته فها هنا فعل أيضاً محذوف فكأنه قال له قائل : ما جاءك رجل فأكرمته وأكرمته فقلت : رُبَّ رجل جاءني فأكرمته وأكرمته أي : قد كنت فعلت ذاك فيكون جاءني وما بعده صفة رجلٍ والصفة والموصوف بمنزلة اسم واحد والكلام بعدُ ما تم فإن لم تضمر : قد فعلت وما أشبه ذلك وإلا لم يجز فإذا قال : ما أحسنت إليّ
قلت : رُبَّ إحسان قد تقدم إليك مني فكأنك قلت : قد فعلت من إحسان إليك قد تقدم
فإن قال قائل : لِمَ لزم الصفة قيل : لأنه أبلغ في باب التقليلِ لأن رجلاً قائماً أقل من رجل وحده فخصت بذلك والله أعلم
وكذلك لو قلتَ : رُب رجل جاهل ضربت إن جعلت : ضربتُ هو
العامل في رب
فإن جعلته صفة أضمرت فعلاً نحو ما ذكرنا
فصار معنى الكلام : رُبَّ رجل جاهل ضربت قد فعلت ذاك
واعلم : أنَّهُ لا بد للنكرة التي تعمل فيها ( رُبَّ ) من صفة إما اسم وإما فعل لا يجوز أن تقول : رُبَّ رجل وتسكت حتى تقول : رُبَّ رجل صالح أو تقول : رجل يفهم ذاك ورب حرف قد خولف به أخواته واضطرب النحويون في الكلام فيه
وهذا الذي خبرتك به ما خلص لي بعد مباحثة أبي العباس رحمه الله وأصحابنا المنقبين الفهماء وسأخبرك ما قال سيبويه والكوفيون فيه قال سيبويه : إذا قلت : رُب رجل يقول ذاك فقد أضفت القول إلى الرجل بِرُب وكذلك يقول مَنْ تابعه على هذا القول إذا قال : رُب رجل ظريف قد أضافت رُب الظريف إلى رجل وهذا لا معنى له لأن إتصال الصفة بالموصوف يغني عن الإِضافة
وأما الكوفيون ومن ذهب مذهبهم فيقولون : رب وضعت على التقليل نحو : ما أقل من يقول ذاك وكم وضعت على التكثير نحو قولك : ما أكثر من يقول ذاك وإنما خفضوا ( لكم ) لأن مِن تصحبها تقول : كم من رجل ثم تسقط من وتعمل فكذلك : رُبَّ وإن لم تر ( من ) معها كما قال : ألا رجل ومن رجل وهم يريدون : أمَا من رجل وحكي عن الكسائي أو غيره من القدماء : أن بعض العرب يقول : رُبَّ رجل ظريف فترفع ظريفاً تجعله خبراً ( لرُب ) ومن فعل هذا فقد جعلها اسماً وهذا إنما يجيء على الغَلط والتشبيه وفي رب لغات : رُبَّ ورُبُّ يا هذا ومن النحويينَ من يقولُ : لو سكنت جازَ : ورُبْتَ
واعلم : أن رُبَّ تستعملُ على ثلاثة وجوه
فالوجه الأول : هو الذي قد ذكرت من دخولها على الإسم الظاهر النكرة وعملها فيه وفي صفته الجر
والوجه الثاني : دخلوها على المضمر على شريطة التفسير فإذا أدخلوها على المضمر نصبوا الإسم الذي يذكرونه للتفسير بعد المضمر فيقولون : رُبَّه رجلاً والمضمر ها هنا كالمضمر في ( نعم ) إذا قلت : نعم رجلاً زيد إلا أن المضمر في ( نعم ) مرفوع لأنه ضمير الفاعل وهو مع رُبَّ مجرور وإنما جاز في رُبّ وهي لا تدخل إلا على نكرة من أجل أن المعنى تؤول إلى نكرة وليس هو ضمير مذكور وحق الإِضمار أن يكون بعد مذكور ولكنهم ربما خصوا أشياء بأن يضمروا فيهاه على شريطة التفسير وليس ذلك بمطرد في كل الكلام وإنما يخصون به بعضه فإذا فعلت ذلك نصبت ما بعد الهاء على التفسير فقلت : ربُه رجلاً وهذه الهاء على لفظ واحد وإن وليها المذكر أن المؤنث أو الإثنان أو الجماعة موحدة على كل حال
الوجه الثالث : أن تصلها فتستأنف ما بعدها وتكفها عن العمل فتقول : ربما قام زيد وربما قعد وربما زيد قام وربما فعلت كذا ولما كانت رب إنما تأتي لما مضى فكذلك ربما لما وقع بعدها الفعل كان حقه أن يكون ماضياً فإذا رأيت الفعل المضارع بعدها فثم إضمار كان قالوا : في قوله : ( ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ) أنه لصدق
الوعد كأنه قد كان كما قال : ( ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت )
ولم يكن فكأنه قد كان لصدق الوعد
ولا يجوز : رُبَّ رجل سيقوم وليقومن غداً إلا أن تريد : رُبّ رجل يوصف بهذا تقول : رب رجل مسيء اليوم ومحسن غداً أي : يوصف بهذا ويجوز : ربما رجل عندكَ فتجعل : ( مَا ) صلة ملغاة
واعلم : أنّ العربَ تستعملُ الواوَ مبتدأة بمعنى : ( رُبَّ ) فيقولون : وبلد قطعتُ يريدونُ ورُبَّ بلد وهذا كثير
وقال بعض النحويين : أن الواو التي تكونَ معَ المنكراتِ ليست بخلف من ( رُبَّ ) ولا كم وإنما تكون مع حروف الإستفهام فتقول : وكم قد رأيت ( وكيف تكفرون ) يدل على التعجب ثم تسقط كم وتترك الواو ولا تدخل مع رُبَّ ولو كانت خلفاً مِن ( كم ) لجازَ أن يدخلَ
عليها النسق كما فعلَ بواوِ اليمينِ وهي عندي : واو العطفِ وهذا أيضاً مما يدل على أن رب جواب وعطف على كلام
مسائل من هذا الباب تقول : رُبَّ رجل قائم وضارب وَرُبَّ رجل يقوم ويضرب
وتقول : رب رجل قائم نفسه وعمرو ورب رجل قائم ظريفاً فتنصب على الحال من ( قائم ) وتقول : رب رجل ضربته وزيداً ورب رجل مررت به فتعيد الباء لأن المضمر المجرور لا ينسق عليه بالإسم الظاهر وتقول : رب رجل قائم هو وزيد فتؤكد ما في ( قائم ) إذا عطفت عليه ويجوز أن تقولَ : رب رجل قامَ وزيدٌ فتعطف على المضمر من غير تأكيد وتقول : رب رجل كان قائماً وظننته قائماً ففي ( كان ) ضمير رجل وهو اسمها وقائماً خبرها
وكذلك : الهاء في ( ظننته ) ضمير رجل وهو مفعولها الأول
وقائماً مفعولها الثاني وإذا قلت : رب رجل قد رأيت ورب امرأة فالإختيار أن تعيد الصفة فتقول : ورب امرأة قد رأيت لأنك قد أعدت رُب وقد جاء عن العرب إدخال ( رُبَّ ) على ( مِنْ ) إذا كانت نكرة غير موصولة إلا أنها إذا لم توصل لم يكن بُد من أن توصف لأنها مبهمة حكي عنهم : مررت بمن صالح ورب من يقوم ظريف وقال الشعر . صالح ورب من يقوم ظريف وقال الشعر
( يَا رُبَّ مَنْ تَغْتَشُّه لَكَ نَاصِحٍ ... ومُؤتَمَنٍ بالغَيْبِ غَيْرِ أَمِينِ )
وتدخل رُب على مثلكَ وشبهكَ إذ كانتا لم تتصرفا بالإِضافة وهما نكرتان في المعنى
وتقول : رب رجل تختصم وامرأة وزيد ولا يجوز الخفض لأنه لا يتم إلا بإثنين فإن قلتَ : رب رجلين مختصين وامرأتين جازَ لكَ الخفض والرفع فتقول : وامرأتان وامرأتين أما الخفض : فبالعطفِ على ( رجلين ) والرفع : بالعطف على ما في مختصمين ولو قلت : رُبَّ رجلين مختصمين هما وامرأتان فأكدت ثم عطفتَ لكان أجود حكي عن بعضهم : أنه يقول : إذا جاءَ فعل يعني بالفعلِ اسمَ الفاعل بعد النعتِ رفعَ نحو قولك : رب رجل ظريف قائم والكلام الخفض وزعم الفراء : أنهم توهموا ( كم ) إذ كانوا يقولون : كم رجلاً قائمٌ
وتقول : رب ضاربكَ قد رأيت ورب شاتمك لقد لقيت لأن التنوين في تَينكَ يريد ضارب لكَ وإن قلت : ضاربكَ أمس لم يجز لأنه معرفة
والأخفش يعترض بالأيمان فيقول : رُبَّ وَالله رجل قد رأيت ورُبَّ رجل قد رأيت وهذا لا يجوزُ عندنا لأنّ حروف الجر لا يفصل بينَها وبينَ ما عملت فيهِ وسائر النحويين يخالفونَه
وحكى الكوفيون : ربه رجلاً قد رأيت وربهما رجلين وربهم رجالاً وربهن رجالاً وبهن نساء وربَه نساء مَنْ وحَد
فلأنه رد كناية عن مجهول ومَن لم يوحد فلأنه كلام كأنه قال : له ما لك جوار فقال : ربهن جوار قد ملكت
وكان الكسائي يجيز : رب مَنْ قائم على أنَّهَ استفهام ويخفض ( قائماً ) والفراء يأباه لأن كل موضع لم تقعه المعرفة لم يستفهم بمن فيه
والضرب الثاني : من حروف الجر وهوما كان غير ملازم للجر
وذلك حتى والواو
فواو القسم وهي بدل من الباء وأبدلت لأنها من الشفة مثلها
والتاء : تستعمل في القسم في الله عز و جل وهي بدل من الواو والتاء قد تبدل من الواوِ في مواضع ستراها وقد خصوا القسمَ بأشياء ونحن نفرد باباً للأسماء المخفوضة في القسم وأما الواو التي تقع موقع رب فقد مضى ذكرها
باب حتى حتى : منتهى لإبتداء الغاية بمنزلة ( إلى ) إلا أنها تقع على ضربين : إحداهما : أن يكون ما بعدها جزءاً مما قبلها وينتهي الأمر به
والضرب الآخر أن ينتهي الأمر عنده ولكنها قد تكون عاطفة وتليها الأفعال
ويستأنف الكلام بعدها ولها تصرف ليس ( لإِلى ) و ( لإِلى ) أيضاً مواقع لا تقع ( حتى ) فيها
فأما الضرب الأول : وهو ما ينتهي به الأمر فإنه لا يجوز : أن يكون الإسم بعد حتى إلا من جماعة كالإستثناء لا يجوز : أن يكون بعد واحد ولا إثنين لأنه جزء من جماعة وإنما يذكر لتحقير أو تعظيم أو قوة أو ضعف وذلك قولك : ضربتُ القومَ حتى زيدٍ فزيد من القوم وانتهى الضرب به فهو مضروب مفعول ولا يخلو أن يكون أحقر من ضربت أو أعظمهم شأناً وإلا فلا معنى لذكره وكذلك المعنى إذا كانت عاطفة كما تعطف الواو تقول : ضربتَ القومَ حتى عمراً
فعمرو من القوم به انتهى الضرب
وقدمَ الحاج حتى المشاة والنساء
فهذا في التحقير والضعف وتقول : ماتً الناسُ حتى الأنبياء والملوكُ فهذا في التعظيم والقوة ولك أن تقول : قامَ القومُ حتى زيد جر وإن كان في المعنى : جاء لأنك أنتهيت بالمجيء إليه بحتى فتقدير المفعولِ وقد بينا فيما تقدم أن كل فعل معه فاعلُه تعدى بحرف جر إلى اسم فموضعه نصب
قال أبو بكر : والأحسن عندي في هذا إذا أردت أن تخبرَ عن زيد بفعله أن تقول : القوم حتى زيد فإذا رفعت فحكمه حكم الفاعل في أنه لا
بد منه فإذا خفضت فهو كالمنصوب الذي يستغني الفاعل دونه وأما قول الشاعر :
( أَلْقَى الصَّحِيفةِ كَيْ يُخَفِّف رَحْلَهُ ... والزَّادَ حتَّى نَعلَه أَلْقَاهَا )
فلك فيه الخفض والرفع والنصب فالخفض : على ما خبرتكِ به والنصب فيه وجهان : فوجه أن يكون منصوباً ( بألقى ) ومعطوفاً على ما عمل فيه ( ألقى ) ويكون ألقاها توكيداً
والوجه الثاني : أنْ تنصبه بفعل مضمر يفسره ( ألقاها ) والرفع على أن يستأنفَ بعدها والمعنى ألقى ما في رحله حتى نعله هذه حالها وإذا قلت : العجب حتى زيد يشتمني فالمعنى : العجب لسبِّ الناس إياي حتى زيد يشتمني
قال الفرزدق :
( فيا عَجَباً حَتَّى كُلَيْب تَسَّبني ... كأنَّ أباها نَهْشلٌ أو مُجَاشِعٌ )
فإذا قلت : مررتُ بالقوم حتى زيدٍ فإن أردتَ العطف فينبغي أن تعيد الياء لتفرق بين ما أنجر بالباء وبين ما أنجر ( بحتى )
الضرب الثاني : المجرور بحتى : وهو ما انتهى الأمر عنده وهذا
الضرب لا يجوز فيه إلا الجر لأن معنى العطف قد زال وذلك قولك : إن فلاناً ليصوم الأيام حتى يوم الفطر فأنتهت ( حتى ) بصوم الأيام إلى يوم الفطر ولا يجوز أن تنصب ( يوم الفطر ) لأنه لم يصمه فلا يعمل الفعل فيما لم يفعله وكذلك إذا خالف الإسم الذي بعدها ما قبلها نحو قولك : قام القوم اليوم حتى الليل فالتأويل : قام القوم اليومَ حتى الليلِ
واعلم : أنك إذا قلت : سرتُ حتى أدخلها فحتى على حالها في عمل الجر وإن كان لم يظهرْ هنا ( وإن وصلتها ) اسم وقال سيبويه : إذا قلت : سرت حتى أدخلها فالناصب للفعل ها هنا هو الجار للإسم إذا كان غاية
فالفعل إذا كان غاية منصوب والإِسم كان غاية جر وهذا قول الخليل
وقال سيبويه : إنها تجيء مثل كي التي فيها إضمار ( أن ) وفي معناها وذلك قولك : كلمتك حتى تأمر لي بشيء : قال سيبويه : لحتى في الكلام نحو ليس لإِلى تقول إنما أنا إليك أي : أنت غايتي ولا تكون حتى ها هنا
وهي أعم من ( حتى ) تقول : قمت إليه فجعلته منتهاك من مكانك ولا تقول : حتاه وغير سيبويه يجيز : حتاه وحتاك في الخفض ولا يجيزون في النسق لأن المضمر المتصل لا يلي حرف النسق لا تقول : ضربت زيداً وك يا هذا ولا قتلت عمراً وه إنما يقولون في مثل هذا : إياك وإياه والقول عندي ما قال سيبويه : لأنه غير معروف إتصال حتى بالكاف وهو في القياس غير ممتنع
مسائل من هذا الباب تقول : ضربتُ القومَ حتى زيداً وأوجعتُ تنصب لأنك جئت بحرف نسق على الأول وكذلك : ضربت القوم حتى زيداً ثم أوجعت وقال قوم : النصب في هذا لا غيرَ لأنكَ جئتَ بحرف نسق على الأولِ تريد حتى ضربت زيداً وأوجعت وثم أوجت
قال أبو بكر : وهذا عندي على ما يقدر المتكلم أن قدر الإِيجاع لزيد فالنصب هو الحسن وإذا كان الإِيجاع للقوم جاز عندي النصب والخفض وتقول : ضربتُ القومَ حتى زيداً أيضاً وحتى زيداً زيادة وحتى زيداً فيما أظن لأن هذه دلت على المضمر : كأنك قلت : حتى : ضربت زيداً فيما أظن
وحتى ضربت زيداً أيضاً فإن جعلت : ( فيما أظن ) من صلة الأول خفضت كأنك قلت : ضربتُ القومَ فيما أظن حتى زيد وتقول : أتيتكَ الأيامَ حتى يومِ الخميس ولا يجوز : حتى يوم لأنه لا فائدة فيه وكذلك لو قلت : صمتُ الأيامَ إلا يوماً فإن وقت ما بعد إلا وما بعد ( حتى ) حسن وكانت فيه فائدة فقلت : صمتُ الأيامَ إلا يومَ الجمعة وحتى يومِ الجمعةِ
وقال قوم : إن أردت مقدار يوم جاز فقلت على هذا : أتيتكَ الأيامَ حتى يومٍ
وقالوا : فإن قلت : أتيتكض كل وقت حتى ليلاً
وحتى نهاراً وكان الأول غير موقت والثاني غير موقت نصبت الثاني كما نصبت الأول وكان الخفض قبيحاً
وقال أبو بكر : وجميع هذا إنما يراعي به الفائدة واستقامة الكلام صلحا فيه فهو جائز
ونقول : ضربتُ القومَ حتى إن زيداً لمضروب
فإذا أسقطت اللام فإن كانت ( إن ) مع ما بعدها بتأويل المصدر فتحتها قال سيبويه : قد عرفت أموركَ حتى أنك أحمقُ كأنه قال : حتى حمقَك وقال : هذا قول الخليل فهذا لأن الحمق جاء بتأويلِ المصدر وقد مضى تفسير ذا
وتقول : ضربتُ القوم حتى كان زيد مضروباً وضربتُ القوم حتى لا مضروبَ صالحاً فيهم جاز في هذا كما جاز الإستئناف والإبتداء بعدها فلما جاز الإبتداء جاز ما كان بمنزلة الإبتداء وتقول : لا آتيكَ إلى عشر مِنَ الشهرِ
وحتى عَشر من الشهر لأنكَ تترك الإِتيانَ من أول العشرِ إلى آخر هذه فتقع هنا ( حتى ) وإلى ولا تقول : آتيكَ حتى عشر إلا أن تريد : آتيكَ وأواظب على إتيانك إلى عشر
وتقول : كتبتتُ إلى زيد ولا يجوز حتى زيد لأنه ليس هنا ما يستثني منه زيد على ما بينت لك فيما تقدم
وقوم يجيزون : ضربتُ القومَ حتى زيداً فضربت إن أردتَ كلامين وقالوا : يجوز فيه الخفض والنصب والإختيار عندهم الخفض قالوا : وإن اختلف الفعل أدخل في الثاني الفاء ولم تسقط وخفض الأول نحو قولك : ضربتُ القومَ زيدٍ فتركت ولا يكون ضربت القومَ حتى تركت زيداً
وتقول : جَلسَ حتى إذا تهيأ أمرنا قام وأقام حتى ساعة تهيأ أمرنا قطع علينا وانتظر حتى يوم شخصنا مضى معنا فيوم وساعة مجروران وإذا في موضع جر وهذا قول الأخفش لأن قولك : جلسَ حتى ساعة تهيأ أمرنا ذهب إنما قولك : ذهبَ جواب لتهيأ وحتى واقع على الساعةِ وهي غاية له
وتقول : انتظر حتى إن قسم شيء أخذته منه فقولكَ : اخذت منه راجع إلى : قسَم وهو جوابه وقعَ الشرط والجواب بعدها كما استؤنف ما بعدها وكما وقعَ الفعل والفاعلَ والإبتداء والخبر
وتقول : اقم حتى متَى تأكلْ تأكلْ معنا
وأقم حتى أينا يخرج نخرج معه فأي مبتدأه لأنها للمجازاة وكذلك : أجلس حتى أي يخرج تخرج معه
وقال الأخفش : يقول لكَ الرجل : ائتني فتقول : إما حتى الليل فلا وإما حتى الظهر فلا وإما إلى الليل فلا ولا يحسن فيه إلا الجر وقال تقول : كل القوم حتى أخيك وهو الآن غاية وذلك أنه لا بد لكلِ القومِ من جرٍ وتقول : كل القوم حتى أ خيك فيها لأنك أردت : كل القوم فيها حتى أخيك
وتقول : كل القومِ حتى أخيكَ ضربت
وقالَ الأخفش في كتابه الأوسط : إن قوماً يقولون : جاءني القوم حتى أخوكَ يعطفونَ الأخ على
( القوم ) وكذلك : ضربت القومَ حتى أخاكَ قال : وليس بالمعروفِ
وتقول : ضربت القومَ حتى زيدٍ ضربته على الغاية ولو قلت : حتى زيدٍ مضروف فجررت زيداً لم يكن كلاماً لأن مضروباً وحده لا يستغني لأنه اسم واحد كما استغنى ضربته فعل وفاعل وهو كلام تام
ناس ؤ
باب الأسماء المخفوضة في القسم أدوات القسم والمقسم به خمس : الواو والباء والتاء واللام ومن فأكثرها الواو ثم الباء وهما يدخلان على محلوف تقول : والله لأفعلن وبالله لأفعلن فالأصل الباء كما ذكرت لك ألا ترى أنك إذا كنيت عن المقسم به رجعت إلى الأصل فقلت : به آتيكَ ولا يجوزوه لا آتيكَ ثم التاء وذلك قولك : تالله لأفعلن ولا تقال مع غير الله قال الله : ( وتالله لأكيدن أصنامكم ) وقد تقول : تالله وفيها معنى التعجب وبعض العربِ يقول في هذا المعنى فتجيء باللامِ ولا يجيء إلا أن يكون فيه معنى التعجب وقال أُمية بن عائِذ :
( للِه يَبْقَى عَلَى اَلأيَّامِ ذُو حَيَدٍ ... بِمُشْمَخِرٍ بهِ الظيَّانُ والآسُ )
يريد والله لا يبقى إلا أن هذا مستعمل في حال تعجب
وقد يقول بعض العرب : للِه لأفعلنَ
ومن العرب من يقول : مِن ربي لأفعلنَ ذاك ومن ربي إنك لا شر كذا حكاه سيبويه وقال : ولا يدخلونها في غير ( ربي ) ولا تدخل الضمة في ( مِنْ ) إلا ها هنا
وقال الخليل : جئتُ بهذه الحروفِ لأنكَ تضيف حلفك إلى المحلوف به كما تضيف به بالباء إلا أن الفعلَ بيجيء مضمراً يعني أنك إذا قلت : واللِه لأفعلنَ وباللِه لأفعلنَ فقد أضمرتَ : أحلف وأقسم وما أشبهه مما لا يتعدى إلا بحرفٍ والقسم في الكلام إنما تجيء به للتوكيد وهو وحده لا معنى له لو قلت : والله وسكت أو بالله ووقفت لم يكن لذلك معنى حتى تقسم على أمر من الأمور وكذا إن أظهرتَ الفعل وأنت تريد القسم فقلت : أَشهدُ باللِه وأُقسم بالله فلفظه لفظ الخبر إلا أنه مَضمر بما يؤكده
ويعرض في القسم شيئان : أحدهما : حذف حرف الجر والتعويض أو الحذف فيه بغير تعويض
فأما ما حذف منه حرف الجر وعوض منه فقولهم : أي ها اللِه ثبتت ألفَ ها لأن الذي بعدها مدغم ومن العرب من يقول : أي هَللهِ فيحذف الألف التي بعد الهاء قال سيبويه : فلا يكون في المقسم به ها هنا إلا الجر لأن قولهم ( ها ) صار عوضاً من اللفظ بالواو فحذفت تخفيفاً على اللسان ألا ترى أن الواو لا تظهر ها هنا
ويقولون أي هَا اللِه للأمر هذا فحذف الأمر لكثرة استعمالهم وقدم ( ها ) كما قدم قوم : ها هو ذا وها أنذا قال زهير :
( تَعْلَمَنْ هَا لَعَمْرِ اللِه ذا قَسَماً ... فاقْصِدْ بذَرْعِكَ واْنُظْر أينَ تَنْسِلِكُ )
ومن ذلك ألف الإستفهام قالوا : اللِه ليفعلنَ فالألف عوض من الواو ألا ترى أنك لا تقول : او اللِه
وقال سيبويه : ومن ذلك ألف اللام وذلك قولهم : أفاللِه لتفعلنَ : وقال : ألا ترى أنك إن قلت : أفوالله لم تثبت هذا قول سيبويه وللمحتج لسيبويه أن يقول : إن الألف كما جعلت عوضاً قطعت وهي لا تقطع مع الواو
الثاني : ما يعرض في القسم وهو حذف حرف الجر بغير تعويض
اعلم : أن هذا يجيء على ضربين : فربما حذفوا حرف الجر وأعملوا الفعل في المقسم فنصبوه
وربما حذفوا حرف الجر وأعملوا الحرف في الإسمِ مضمراً
فالضربُ الأول قولك : اللِه لأفعلنّ وقال ذو الرمة :
( ألا رَُبَّ مِنْ قَلْبِي لَه اللَّه نَاصِحٌ ... ومَنْ قَلْبُه لي في الظِّبَاءِ السَّوانِحِ )
وقال الآخر :
( إِذَا ما الخُبْزٌ تَأدُمهُ بِلَحْمٍ ... فَذَاكَ أَمَانةَ اللِه الثَرِيدُ )
أراد : وأمانة الله
ووالله فلما حذف أعمل الفعل المضمر ولكنه لا يضمر ما يتعدى بحرف جر
وتقول : أي اللَه لأفعلنّ ومنهم مَن يقول : أي اللَه لأفعلنَ فيحرك أي بالفتح لإلتقاء الساكنين ومنهم من يدعها على سكونها ولا يحذفونها لأن الساكن الذي بعدها مدغم
والضرب الثاني : وهو إضمار حرفِ الجر وهو قول بعضِ العرب : الله لأفعلن
قال سيبويه : جازَ حيثُ كثر في كلامهم فحذفوه تخفيفاً كما حذف رُبَّ قال : وحذفوا الواو كما حذفوا اللامين من قولهم : لاه أبوك حذفوا لام الإِضافة واللام الأخرى ليخفوا الحرف على اللسان وذلك ينوون قال : وقال بعضهم : لهي أبوك فقلب العين وجعل اللام ساكنة إذا صارت مكان العين كما كانت العين ساكنة وتركوا آخر الإسم مفتوحاً كما تركوا آخر ( أين ) مفتوحاً وإنما فعلوا ذلك به لكثرته في كلامهم فغيروا إعرابه كما غيروه
واعلم : أنه يجيء كلام عامل بعضه في بعض : إما مبتدأ وخبر وإما فعل وفاعل ومعنى ذلك القسم فالمبتدأ والخبر قولك : لعَمَر الله لأفعلن وبعض العرب يقول : وأيمُن الكعبة وأيمُ الله فقولك : لعَمَرَ الله اللام : لام الإبتداء وعمر الله : مرفوع بالإبتداء
والخبر محذوف كأنه قال : لعَمَر الله المقسم به وكذلك : أيم الله . وأيمن
وتقول : العرب : عليّ عهد الله لأفعلن
فعهد مرتفعة وعليّ مستقر لها وفيها معنى اليمين وزعم يونس : أن ألف أيم موصولة وحكوا : أيم وإيم وفتحوا الألف كما فتحوا الألف التي في الرجل وكذلك أيمن قال الشاعر :
( فَقَالَ فَرِيقُ اَلْقومِ لمَّا نَشَدتُهم ... نَعَمْ وفريقٌ ليَمنُ اللِه ما نَدري )
وأما الفعل والفاعل فقولهم : يعلمُ الله لأفعلن وعلمَ الله لأفعلنَ فإعرابه كإعراب : يذهبُ زيد والمعنى : واللِه لأفعلن
قال سيبويه : وسمعنا فصحاءَ العربِ يقولون في بيت امرئ القيس :
( فَقُلْتُ يَمِينَ اللِه أنترح قَاعِدَاً ... ولو قَطَّعُوا رَأسي لَدَيْكِ وأوصالي )
قال : جعلوه بمنزلة أيمن الكعبةِ وأَيم الله وقالوا : تتلقى اليمين بأربعة أحرف من جوابات الأيمان في القرآن وفي الكلام مَا ولا وإن واللامُ فأما : ما فتقول : واللِه ما قامَ . وما يقوم وما زيد قائماً
ولا تدخل اللام على ( ما ) لأن اللامَ تحقيق وما نفي فلا يجتمعان
قال وقول الشاعر :
( لما أغفلت شُكركَ فاصْطَنِعْنِي ... فَكَيْفَ ومِنْ عَطائِكَ جُلُّ مالي )
فإنه توهم الذي والصلة
وأما : لا فتقول : والله لا يقوم
وتلغي ( لا ) من بين أخواتها جوابات الأيمان فتقول : واللِه أقوم إليكَ أبداً تريد : لا أقوم إليكم أبداً
فإذا قلت : واللِه لا قمت إليك أبداً تريد : أقوم جاز وإن أردت : المضي كان خطأ فأما ( إن ) فقولك : واللِه إن زيداً في الدار وإنكَ لقائم وقوله عز و جل : ( حم والكتاب المبين إنا أنزلناه ) قال الكسائي : إنا أنزلنا استئناف وحم والكتابُ كأنه قال : حق والله
وقال الفراء : قد يكون جواباً
وأما اللام فتدخل على المبتدأ والخبر
فتقول : واللِه لزيد في الدارِ هذه
التي تدخل على المبتدأ والخبر
وأما التي تدخل على الأفعال : فإن كان الفعل ماضياً قلت والله : لقد فعلَ وكذلك : واللِه لفيكَ رغبت
وأما اللام التي تدخلُ على المستقبلِ فإن النونينِ : الخفيفةَ والثقيلةَ يجيئان معها نحو : والله ليقومنَّ ولتقومَنْ يا هذا ولهما باب يذكران فيه
مسائل من هذا الباب تقول : وحياتي ثم حياتك لأفعلنّ فثم : بمنزلة الواو وتقول : واللِه ثم اللِه لأفعلن وبالله ثُم اللِه لأفعلن
وإن شئت قلتَ : واللَه لآتينكَ ثم الله لأضربنكَ وإن شئت قلت : واللِه لآتينكَ لأضربنكَ
قال سيبويه : وهذه الواو بمنزلة الواو التي في قولك : مررتُ بزيدٍ وعمروٍ خارج يعني أن الواو في قولك : وعمرو خارج عطفتَ جملةً على جملة كأنك قلت : باللِه لآتينكَ
الله لأضربنكَ مبتدأ ثم عطفت هذا الكلام على هذا الكلام فإذا لم تقطع جررت قلت : وإلا لآتينكَ ثم واللِه لأضربنكَ صارت بمنزلة قولك : مررت بزيدٍ ثم بعمروٍ وإن قلت : واللِه لآتينكَ ثم لأضربنك الله لم يكن إلا النصبُ لأنه ضم الفعل إلى الفعل ثم جاء بالقسم على حدته
وإذا قلت : واللِه لآتينكَ ثم اللِه فإنما أحد الإسمين مضموم إلى الآخر وإن كان قد أخر أحدهما ولا يجوز في هذا إلا الجر لأن الآخر معلق بالأول لأنه ليس بعده محلوف عليه
قال سيبويه : ولو قالَ : وحقِّكَ وحقِّ زيدٍ على وجهِ الغلطِ والنسيانِ جازَ يريدُ بذلكَ أنهُ لا يجوز لغير كساه من عري وسقاه من
العيمة فهذا يبن أنها في هذا الموضع حرف لأنهم أجمعوا على أن ( من ) حرف وعن أيضاً لفظة مشتركة للإسم والحرف
قال أبو العباس : إذا قال قائل : على زيدٍ نزلت وعن زيدٍ أخذت فهما حرفان يعرف ذلك ضرورة لأنهما أوصلا الفعل إلى زيد كما تقول : بزيدٍ مررت
وفي الدار نزلت وإليكَ جئت فهذا مذهب الحروف وإذا قلت َ : جئت من عن يمينهِ فعن اسم ومعناها ناحية وبنيت لمضارعتها الحروف
وأما الموضع الذي هي فيه اسم فوقلهم : مَن عن يمينكَ لأن ( من ) لا تعمل إلا في الأسماء
قال الشاعر
( فَقُلْتُ اجْعَلِي ضَوْءَ الفَرَاقِدِ كُلَّها ... يَمِيناً ومهوى النَّجْمِ مِن عَن شِمَالِكَ )
وأما كاف التشبيه فقولك : أنت كزيدٍ ومعناها معنى : مثل وسيبويه يذهب إلى أنها حرف
وكذلك البصريون ويستدلون على أنه حرف بقولك : جاءني الذي كزيدٍ كما تقول : جاءني الذي في الدارِ ولو قلتَ : جاءني الذي مثل زيدٍ لم يصلح إلا أن تقول : الذي هو مثل زيدٍ حتى يكون لهذا الخبر ابتداء ويكون راجعاً في الصلة إلى الذي فإن أضمرته : جاز على قبح وإذا قلت : جاءني الذي كزيدٍ لم تحتج إلى هو ومما يدلك على أنها حرف مجئها زائدة
والأسماء لا تقعَ موقعَ الزوائدِ إنما تزاد الحروف قالَ
الله عز و جل : ( ليس كمثله شيء )
فالكاف زائدة لأنه لم يثبت له مثلاً تبارك وتعالى عن ذلك والمعنى : ليس مثله شيء
وقد جاءت في الشعر واقعةً موقع مثل موضوعةً موضعها قال الشاعر :
( وَصَالِيَاتٍ كَكَما يُؤْثَفَيْن ... )
أراد كمثل ما
وقال الآخر :
( فصيروا مِثْلَ كَعَصْفٍ مَأكُول ... )
فإضافته مثل إلى الكاف يدل على أنه قدرها اسماً
وهذا إنما جاءَ على ضرورة الشاعر
وذكر سيبويه : أنه لا يجوز الإِضمار معها إذا قلت : أنت كزيدٍ لم يجز أن تكني عن زيدٍ
استغنوا بمثل وشبه فتقول : أنتَ مثلُ زيدٍ وقال : مثل ذلك في حتى ومذ
وقال أبو العباس : فأما الكاف وحتى فقد خولف فيهما قال : وهذا حَسن والكاف أشد تمكناً فأما امتناعهم من الكاف ومذ وحتى فلعلةٍ واحدة
يقولون : كل شيء من هذه الحروف غير متمكن في بابه لأن الكاف تكون اسماً وتكون حرفاً فلا تضيفها إلى المضمر مع قلة تمكنها وضعف المضمر إلا أن يضطر شاعر
ومنذ تكون اسماً وتكون حرفاً
وحتى تكون عاطفة وتكون جارة فلم تعط نصيبها كاملاً في أحد البابين وقال : الكاف معناها معنى مثل فبذلك حكم أنها اسم لأن الأسماء إنما عرفت بمعانيها وأنت إذا قلت : زيد كعمروٍ أو زيد مثل عمروٍ فالمعنى واحد فهذا باب المعنى
قال : وأما اللفظ فقد قيل في الكلام والأشعار ما يوجب لها أنها اسم
قال الأعشى
( أَتَنْتَهُونَ ولَنْ يَنهَى ذَوِي شَططٍ ... كالطَّعْنِ يَذْهَبُ فيه الزَّيْتُ والفتل )
فالكاف هي الفاعلة فإنق قال قائل : إنما هي نعتُ قيل له : إنما يخلف الإسم ويقوم مقامه ما كان اسماً مثله نحو : جاءني عاقل ومررت بظريف وليس بالحسن
المجرور بالإِضافة
القسم الثاني من الأسماء المجرورة من القسمة الأولى وهو المجرورة بالإِضافة :
الإِضافة على ضربين : إضافة محضة وإضافة غيرُ محضة
والإِضافة المحضة تنقسم إلى قسمين : إضافة اسم إلى اسم غيرِه بمعنى اللام وإضافةِ اسم إلى اسم هو بعضُه بمعنى ( من )
أما التي بمعنى اللام فتكون في الأسماء والظروف
فالإسم نحو قولِك : غلامُ زيدٍ ومالُ عمروٍ وعبدُ بكرٍ وضَرْبُ خالدٍ وكلُ الدراهمِ والنكرة إذا أُضيفت إلى المعرفة صارت معرفةً نحو : غلام زيدٍ ودار الخليفةِ والنكرة تُضاف إلى النكرة وتكون نكرةً نحو : راكب حمارٍ فأما مثل وغير وسوى فإنهن إذا أُضفن إلى المعارف لم يتعرفن لأنهن لم يُخصِّصن شيئاً بعينه
وأما الظروف فنحو : خَلْفَ وقُدامَ ووراءَ وفوقَ وما أشبهه تقول : هو وراءك وفوق البيت وتحت السماء وعلى الأرض
والإِضافةُ المحضةُ لا تجتمع مع الألف واللام ولا تجتمع أيضاً الإِضافةُ والتنوينُ ولا يجتمع الألفُ واللامُ والتنوينُ
الثاني : المضاف بمعنى ( من ) وذلك قولك : هذا بابُ ساجٍ وثوبُ خَزٍّ وكساءُ صوبٍ وماءُ بحرٍ بمعنى : هذا بابٌ من ساجٍ وكساءٌ من صوفٍ
الضرب الثاني : الإِضافة التي ليست بمحضة
الأسماء التي أُضيفتْ إليها إضافةً غير محضة أربعة أضرب
الأول : اسم الفاعل إذا أضفته وأنت تريد التنوينَ نحو : هذا ضاربُ زيدٍ غداً وهو بمعنى يضرب
والثاني : الصفةُ الجاري إعرابُها على ما قبلها وهي في المعنى لما أُضيفتْ إليه نحو : مررت برجلٍ حسنِ الوجهِ المعنى : حسنٌ وجهُه
شرح الثالث : وهو إِضافة أفعلِ إلى ما هو بعضٌ له :
إذا قلت : ( زيدٌ أفضل القوم ) فقد أضفته إلى جماعة هو أحدهم تزيد صفته على صفتهم وجميعهم مشتركون في الصفة تقول : عبد الله أفضل العشيرة فهو أحد العشيرة وهمْ شركاءُ في الفضل والمفضل من بينهم يزيدُ فضلُه على فضلهم ويَدُلُّك على أنه لا بد من أن يكون أحد ما أضيف إليه أنك لو قلت : زيد أفضل الحجارة لم يجز فإن قلت : الباقون أفضل الحجارة صلُحَ وأفضل هذه لا تثنى ولا تجمعُ ولا تؤنثُ وهي ( أفضل ) التي إذا لم تضفها صَحِبَتْها ( منك ) تقول : فلان خيرٌ منك وأحسنُ منكَ
وقد اختلف الناس في الإحتجاج لتركيب اِفعلَ في هذا الباب وجمعِه وتأنيثِه فقال بعضهم : لأن تأويل هذا يرجع إلى المصدر كأنه إذا قال : قومك أفضل أصحابنا قد قال : فضلُ قومِك يزيدُ على فضلِ سائِر أصحابنا وإذا قلت : هو أفضلُ العشيرة فالمعنى أنَّ فضلَه يزيدُ على فضلِ كل واحدٍ من العشيرة وكذلك إذا قلت : زيدٌ أفضلُ منك فمعناه : فضلُهُ يزيدُ على فضلك فجعلنا موضعَ : يزيدُ فضله أفضل تضمن معنى
المصدرِ والفعلِ جميعاً وأضفناه إلى القوم وما أشبههم وفيهم أعداد المفضولين لأنك كنت تذكر الفضلَ مرتين إذا أظهرت ( يزيدُ ) فتجعل فضلاً زائداً على فضل زائدٍ فصار الذي جمع هذا المعنى مضافاً وقال آخرون : ( أفعل ) إنما لم يثن ولم يجمع ولم يؤنث لأنه مضارع للبعض الذي يقع للتذكير والتأنيث والتثنية والجمع بلفظ واحد وقال الكوفيون وهو رأيُ الفراءِ أنه إنما وُحِّد أفعلُ هذا لأنه أُضيفَ إلى نفسه فجرى مجرى الفعلِ وجرى المخفوضُ مجرى ما يُضَمَّنُ في الفعل فكما لا يثنى ولا يُجمع الفعلُ فكذا لا يثنى هذا ولا يجمع
قال أبو بكر : وأشبه هذه الإحتجاجات عندي بالصواب الإحتجاجُ الأول والذي أقوله في ذا أن ( أفعلُ ) في المعنى لم يثن ولم يجمع لأن التثنيةَ والجمعَ إنما تلحق الأسماءَ التي تنفرد بالمعاني ( وأفعلُ ) اسم مركب يدل على فعلٍ وغيرِه فلم يجز تثنيته وجمعه كما لم يجز تثنية الفعل ولا جمعه لما كان مركباً يدل على معنى وزمان وإنما فعلت العرب هذا اختصاراً للكلام وإيجازاً واستغناءً بقليل اللفظ الدال على كثير من المعاني ولا يجوز تأنيثه لأنك إذا قلت : هندُ أفضل منكَ فكان المعنى هندُ يزيد فضلُها على فضلكَ فكان أفعلُ ينتظم معنى الفعلِ والمصدرِ والمصدرُ مذكر فلا طريق إلى تأنيثه وإنما وقع ( أفعل ) صفةً من حيثُ وقع ( فاعل ) لأن فاعل في معنى ( يفعل ) وقد فسر أبو العباسِ معنى ( منكَ ) إذا قلت : زيد أفضل من عمروٍ أنه ابتداءُ فضلِه في الزيادة من عمروٍ وقد تقدم هذا في ذكرنا معنى ( مِن ) ومواضِعها من الكلام فقولُك : زيدٌ أفضلُ ( منكَ ) وزيد أفضلكما
في المعنى سواء إلا أنك إذا أتيت ( بمنك ) فزيدٌ منفصلٌ ممن فضلته عليه وإذا أَضفتَ فزيدٌ بعض ممن فضلته عليه فإن أردت ( بأفعلَ ) معنى فاعل ثنيتَ وجمعتَ وأنَّثت فقلت : زيدٌ أفضلُكم والزيدانِ أفضلاكم والزيدونُ أفضلوكم وأفاضلكُم وهند فُضلاكم والهندانِ فُضلياكم والهنداتُ فُضلياتِكم وفضلُكم وإذا قلت : زيد الأفضل استغنى عن ( من ) والإِضافة وعلم أنه قد بانَ بالفضل فهو عند بعضهم إذا أُضيف على معنى ( من ) نكرةٌ وهو مذهبُ الكوفيين وإذا أُضيف على معنى اللام معرفةٌ وفي قول البصريين هو معرفةٌ بالإِضافة على كل حال إلا أنْ يضاف إلى نكرة
الرابع : ما كان حقه أن يكون صفة للأول :
فإنْ يكُ من الصفة وأُضيفَ إلى الإسم وذلك نحو : صلاة الأولى ومسجدُ الجامعِ فمن قال هذا فقد أزال الكلام عن جهته لأن معناه النعت وحده الصلاةُ الأولى والمسجدُ الجامعُ ومن أضاف فجواز إضافتهِ على إرادة : هذه صلاةُ الساعةِ الأولى وهذا مسجدُ الوقتِ الجامعِ أو اليومِ الجامعِ وهو قبيحٌ بإقامته النعتَ مقام المنعوت ولو أراد به نعت الصلاة والمسجد كانت الإِضافة إليهما مستحيلة لأنك لا تضيف الشيء إلى نفسه لا تقولُ : هذا زيدٌ العاقلِ والعاقلُ هو زيدٌ وهذا قول أبي العباس رحمه الله
وسئل عن قولهم : جاءني زيدٌ نفسُه ورأيت القومَ كلَّهم وعن قول الناس : بابُ الحديدِ ودارُ الآخرةِ وحقُّ اليقينِ وأشباه ذلك فقال : ليس من هذا شيء أضيف إلا قد جُعلَ الأول من الثاني بمنزلة الأجنبي فإضافته راجعة إلى معنى اللام ومن فأنت قد تقول : له نفسٌ وله حقيقةٌ والكل عقيب البعض فهو منسوب إلى ما يتضمنه الشيء فقد صار الإجتماعُ فيه
كالتبعيض لأنه محيط بذلك البعضِ الذي كان منسوباً إليه ألا ترى أنك لو قلتَ : اخترت من العشرةِ ثلاثةً لكانت إضافةُ ثلاثةٍ إلى العشرة بعضاً صحيحاً فقلتَ : أضفتُ بعضَها فإذا أخذتها كلَّها فالكل إنما هو محيط بالأجزاء المتبعضة وكل جزء منه ما كانت إضافته إلى العشرة جائزة فصار الكل الذي يجمعها إضافته إلى العشرة لأنه اسم لجميع أجزائها كما جاز أن يضاف كل جزء منها إليها فقيل له : أفلسنا نرجُع إلى أنه إذا اجتمعت الأجزاء صار الشيء المجزيء هو كل الأجزاء وصار الشيء هو الكل والكل هو الشيء فقال : لا لأن الكل منفرداً لا يؤدي عن الشيء كما أن البعضَ منفرداً لا يؤدي عن المبعض دون إضافته إليه فكذلك الكلُّ الذي جمع التبعيض وليس الكل هو الشيء المجزىء إنما الكل اسم لأجزائه جميعاً المضافة إليه فصار هو بأنه اسمٌ لكل جزءٍ منها في الحكم بمنزلتها في إضافتها إلى المجزىء
قال أبو بكر : وهذا القول الذي قالهُ حَسنٌ ألا ترى أنك لا تقول : رأيتُ زيداً كلهُ ولا توقع الكلَّ إلا على ما كان يجوز فيه التبعيض وسُئل عن قولهم : دار الآخرة لِمَ لَمْ نقل الآخر فقال : لأن أول الأوقات الساعة فأكثر ما يجوز في هذا التأنيث كقولهم ذات مرةٍ ولو جرى بالتذكير كانَ وجهاً فما جرى منه بالتأنيث حمل على الساعة ألا ترى أنه يسمى يوم القيامة الساعة لأن الساعةَ أولُ الأوقاتِ كلِّها وأما النفس فهي بمنزلة حقيقة الشيء وكذلك عينه أما أسماؤه الموضوعة عليه الفاصلة بينه وبين خبرِهِ فلا يجوز إضافة شيء منها إلى شيء ألا ترى أن رجلاً اسمه وهو شاب أو شيخ لا يجوز أن تقول : زيد الشابِ فتضيف ولا زيد الشيخ ولا شيخُ زيدٍ ولا شابُ زيد فقيل له : وقد رأينا العلماءَ إذا لُقبَ الرجلُ بلقبٍ ثم ذكر لقبه مع اسمه جاز أن تضيف اسمه إلى لقبه كقولك : زيد رأسٍ وثابتُ قطنة ولا تجد بين ثابت وقطنة إذا كان قد عُرفا فرقاً فقال : اللقب مما يشتهر به الإسم حتى يكون هو الأعرفُ ويكون اسمه لو ذكر على أفراده مجهولاً فصار اللقب علماً والإسم مجروراً إليه كالمقطوع عن المسمى لأن الملقب إنما
يراد بلقبه طرح اسمه وقد كانت تسميتهم أن يسمى الشيء بالإسم المضاف إلى شيء كقولك : عبدُ الدارِ وعبدُ اللِه فجعلوا الإسم مع لقبه بمنزلة ما أضيف ثم سمي به وكان اللقب أولى بأن يضاف الإسم إليه لأنه صار أعرف من الإسم وأصل الإِضافة تعريف كقولك : جاءني غلام زيدٍ فالغلام يتعربُ بزيد فلذلك جعل الإسم مضافاً إلى اللقب
ومن الإِضافة التي ليست بمحضة إضافة أسماء الزمان إلى الأفعال والجمل ونحن نفرد باباً لذلك إن شاء الله
باب إضافة الأسماء إلى الأفعال والجمل اعلم : أن حق الأسماء أن تضاف إلى الأسماء وأن الأصل والقياس أن لا يضاف إسم إلى فعل ولا فعل إلى اسم ولكن العرب اتسعت في بعض ذلك فخصت أسماء الزمان بالإِضافة إلى الأفعال لأن الزمان مضارعٌ للفعل لأن الفعل له بنى فصارت إضافة الزمان إليه كإضافته إلى مصدره لما فيه من الدليل عليهما وذلك قولهم : أتيتكُ يوم قام زيدٌ وأتيتُك هو يقعدُ عمرو فإذا أضفت إلى فعل معرب فإعراب الإسم عندي هو الحسنَ تقول : هذا يوم يقومُ زيد وقوم يفتحون ( اليوم ) وإذا أضفته إلى فعل مبني جاز إعرابه وبناؤه على الفتح وأن يُبنى مع المبني أحسنُ عندي من أن يُبنى مع المعرب وهذا سنعيد ذكره في موضع ذكر الأسماء المبنية إن شاء الله
وقال الكوفيون : تُضاف الأوقات إلى الأفعال وإلى كل كلام تم وتفتح في موضع الرفعِ والخفض والنصب فتقول : أعجبني يومَ يقومُ ويوم قمتُ ويوم زيدٌ قائمٌ وساعةَ قمت ويجوز عندهم أن يعرب إذا جعلته بمنزلة إذ وإذا كأنك إذا قلت : يوم قامَ زيدٌ إذا قام زيد وإذا قلت : يوم
يقوم زيد قلت : إذا يقوم ولك أن تضيف أسماء الزمان إلى المبتدأ وخبره كقولك : أتيتكَ زمنَ زيدٌ أميرٌ كما تقول : إذا زيد أميرٌ والأوقات التي يجوز أن يفعل فيها هذا ما كان حيناً وزماناً يكون في الدهر كله لا يختص منه به شيءٌ دون شيء كقولك : أتيتك حين قام زيد وزمن قامَ ويوم قام وساعة قام وعامَ وليلة وأزمان وليالي قام وأيام قام ويفتح في الموقتات كقولك : شهر قامَ وسنة قام وقالوا : لا يضاف في هذا الباب شيء له عدد مثل يومين وجمعه ولا صباحَ ولا مساءَ وأما ذو تسلم وآية يفعل فقال أبو العباس : هذا من الشواذ قالوا : أفعلُه بذي تسْلم وآية يقوم زيد فأما آية فهي علامة والعلامة تقع بالفعل وبالإسم وإنما هي إشارة إلى الشيء فجعله لك علماً لتوقَع فعلك بوقوعه وأما بذي تسْلم فإنه اسم لم يكن إلا مضافاً فاحتمل أن يدخل على الأفعال والتأويل : بذي سلامتُكَ وفيه معنى الذي فصرفه إلى الفعل وليس بقياس عليه
قال أبو بكر : وللسائل في هذا الباب أن يقول : إذا قلت : آتيكَ يوم تقوم فإنها بمعنى يوم قيامك فلِمَ لا تنصب الفعل بأضمار ( أنْ ) كما فعل باللام فإن الإِضافة إنما هي في الأسماء فالجواب في ذلك أنَّ أنْ لا تصلح في هذا الموضع لو قلت : أجيئك يوم أن يقوم زيد لم يجز لأن هذا موضع يتعاقب المبتدأ والخبر والفاعل فيه ويحسن أن يقع موقع اسم إذ وإذا وجميع ذلك لا يصلح مع ( أنْ ) وليس كل موضع يقع فيه المصدر تصلح فيه ( أنْ ) ألا ترى أنك إذا قلت : ضرباً زيداً لم يقع هذا الموضع ( أنْ تضرب )
وحكى الكوفيون : أن العرب تضيف إلى ( أنّ وأنْ ) فتقول : أعجبني يوم أنّكَ محسنٌ ويوم أن تقوم ومن أجاز هذا فينبغي أن يجيز : يوم يقوم :
فينصب ولا يجوز أن يبنى اليوم لأنه قد أضافه إضافة صحيحة وأظن أن الفراء كان ربما أجازه وربما لم يجزه أعني أنْ يعرب ( يومَ ) أو يبنيه وكان يقيسه على قوله :
( هل غير أنْ كثر الأشد وأهلكت ... حربُ الملوكِ أكاثر الأقوام )
مسائل من هذه الأبواب تقول : ( هذامعطي زيد أمس الدراهم ) بعد الإِضافة أضفتَ ( الدراهمَ ) قال أبو العباس : وليس كذلك لأنك أعملت فيها ( معطي ) هذه التي ذكرنا ولكن جاءت الدراهم بعد الإِضافة فحملت في النصب على المعنى لأنك ذكرت اسماً يدل على فعل ولا موضع لما بعده إذا كان قد استغنى بالتعريف فحملته على المعنى الذي دل عليه ما قبله وكذلك لو قلت : هذا ضاربُ زيدٍ أمسِ وعمراً لجاز والوجه الجر لأنهما شريكان في الإِضافة ولكن الحمل على المعنى يحسن إذا تراخى ما بين الجار والمجرور ومن ذلك حمل على جعل الليل سكناً قول الله عز و جل : ( وجاعل الليل سكنا ) لأن الإسم دل على ذلك ولو قال قائل : ( مررت بزيد وعمرو ) لجاز لأن ( بزيدٍ ) مفعول والواصل إليه الفعل بحرف في المعنى كالذي يصل إليه الفعل بذاته لأن قولكَ : ( مررت بزيدٍ ) معناه أتيت زيداً إلا أن الجر الوجه للشركة
وقولك : خشنت بصدره وصدر زيد وهو إذا نصبت في هذا الموضع أحسن من قولك : مررتُ بزيدٍ وعمرٍو لأن قولك : ( خشنت ) يجوز فيه حذف الباء ولا يجوز في : ( مررتُ بزيدٍ ) حذفها
وتقول : ( عبد اللِه الضاربُ زيداً ) جميع النحويين على أن هذا في تقدير : الذي ضرب زيداً ولم يجيزوا الإِضافة وزعم الفراء : أنه جائز في القياس على أن يكون بتأويل : ( الذي هو ضارب زيدٍ ) وكذا حكم : ( زيدٌ الحَسنُ الوجهِ ) عنده أن يكون تأويله الذي هو حسن الوجه وقد ذكرنا أصول هذا وحقائقه فيما تقدم وتقول عبد الله الحسنُ وجهاً ولا يجوز : الحسنُ وجهٍ لأنه يخالف سائر الإِضافات وأما أهل الكوفة فيجوز في القياس عندهم إلا أنهم يقولون : ( الوجهُ ) مفسرٌ وإذا دخل في الأول ألف ولام دخل في مفسره عندهم ومن قولهم : خاصة العشرون الدرهم والخمسة الدراهم والمائة الدرهم ولا يجوزُّ هذا البصريون لأنه نقض لأصول الإِضافة والبصريون يقولون : خمسةُ الدراهم ومائة الدرهم فيدخلون الألف واللام في الثاني ويكون الأول معرفاً به على سبيل الإِضافة ويقولون : العشرون درهماً والخمسةَ عشر درهماً فيدخلون الألف واللام في الأول فيكون معرفاً يقرون الثاني على حده في النكرة
وقيل لأبي العباس رحمه الله : ألستم تقولون : عبد الله الضاربهُ والضاربك والضاربي فتجمعون على أن موضع الكاف والهاء خفض قال : بلى قيل له : فهذا يوجبُ الضاربُ زيدٍ لأن المكنى على حد الظاهر ومن قولك أنت خاصة : أن كل من عمل في المظهر جائز أن يعمل في المضمر وكذلك ما عمل في المضمر جائز أن يعمل في المظهر فقال : نحو قول سيبويه : أن هذه الحروف يعني حروف الإِضمار قلَّتْ وصارت بمنزلة التنوين لأنها على حرف كما أن التنوين حرف فاستخفوا أن يضيفوا إليها الفاعل لأنها تصير في الإسم
كبعض حروفه وحكَى لي عنه بعدُ أنه قال : ( الضاربَهُ ) ( الهاء ) في موضع نصب لأن لا تنوين ها هنا تعاقبه الهاء والضارباه ( الهاء ) في موضع خفض فإذا أردت النصب أثبت النون بناء على الظاهر وبه اختلف الناس في المضمر فأما الظاهر فلا أعلم أحداً يجيزه الخفض إلا الفراء وحكى لنا عنه أنه قال : وليس منْ كلام العرب إنما هو قياس ويقول : أعجبني يوم قام زيدٌ ويوم قيامِكَ نسقت بإضافة محضة على إضافة غير محضة فإن قلت أعجبني يوم قمته فرددت إلى ( يومٍ ) ضميراً في ( قامَ ) لم تجز الإِضافة قال الله عز و جل : ( واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ) والمضافُ إلى غير محضٍ لا يؤكد ولا ينعت
ومن الكوفيين من يجيز تأكيده
وقال الأخفش : في قول العرب : اذهبْ بذي تَسلم وإنما هو اذهب لسلامتِكَ أي : اذهب وأنت سالم كما تقول : قام بحمقة وقام بغصة وخرج بطلعته أي خرج وهو هكذا وهذا في موضع حال قال : وإن شئت قلت : معناه معنى سلمكَ اللّهُ وجاء في لفظ ما لا يستغنى وحده ألا ترى أنك تقول زيد بسلامته كما تقول : زيد سلمهُ اللّهُ ولا تقول : إنك بذي تَسلم وتقول : إنك مسلمك الله إلا أن تدعو له فإن دعوت لم يحسن حتى تجيء له بخبر لأن لا بد لها من خبر وقد خرج مسلمك الله من أن يكون خبراً وقال : تقول : هذه تمرة قريثاء يا هذا وإن شئت قلت : كريثاء وهما لغتان وتمرتا كريثاء إذا أردت الإِضافة وهاتان تمرتان قريثاء إذا أردت النعت وهذه تمرة دقلة وتمرتان دقلتان إذا نعت وتمرتا دقل إذا أضفت وتقول هذه تمرة إذاذة وتمرتان إذاذتان وتمرتا إذاذ قال : وليس شيء من الأجناس يثنى ويجمع إذا وصف به إلا التمر
قال أبو بكر : والذي عندي أن كل جنس اختلف ضروبه جاز أن يثنى ويجمع إذا أردت ضربين منه أو أكثر وتقول : هذا رجلٌ حَسنُ وجه الأخ جميلهُ فتضمنُ الوجهَ لأنك قد ذكرته وتقول هذانِ رجلان حسنا الوجوهِ جميلاها تضيف ( الجميلين ) إلى الوجوه وإنما قلت : جميلاها فأنثت لأن الوجوه مؤنثة وتقول : هذا رجلٌ أحمرُ الجاريةِ لا أسودها فقلت أحمر وإنما الحمرةُ للجارية لأنك تُجري التأنيث والتذكير على الأول وعطِفت الأسود على الأحمر وأضفت الأسود إلى الجارية كما أضفت الأحمرَ إليها وتقول : هذانِ رجلانِ أحمرا الجارية لا أسوداها وهولاء رجال حمرُ الجواري لا سودُها تجعل التثنية والجمع والتأنيث والتذكير على الأول وتقول : هذا رجلٌ أبيضُ بطنِ الراحة لا أسوَدُه وإنما قلت : لا أسوده لأن البطنَ مذكرٌ وتقول : هذان رجلان أبيضا بطون الراح لا أسوداها وإنما قلت : الراحُ لأنه جمع جماعة الراحة وقلت : بطونُ لأن كل شيئين من شيئين فهو جماعةٌ وتقول هؤلاء رجالٌ حمر بطون الراح لا سودها وأجاز الأخفش : هذان أخواك أبيضُ بطوح الراح لا أسوديها وقال : لأن أخويكَ معرفة وأبيض بطون الراح نكرةٌ وقال : تقول : هذه جاريتُك بيضاءَ بطن الراحة لا سوداءهُ لأنك أضفت إلى البطن وهو مذكر ونصبت بيضاء وسوداء لأنه نكرةٌ وهؤلاء رجال بيض بطون الراح لا سودها لأن هذا نكرةٌ وصف بنكرةٍ وتقول : هذا رجل أحمر شرك النعلين إذ جعلت الشراكين من النعلين وإن شئت لم تجعلهما من النعلين فقلت : هذا رجلُ أحمر شراكي النعلين وتقول هاتان حمراوا الشراك لا صفراواها وإن شئت حمراوا الشراكين لا صفراوهما وتقول : مررتُ بنعلك المقوطعتي إحدى الأذنين ومررت برجل مقطوع إحدى الأذنين ولا تقول : مررت برجلينِ مقطوعي إحدى الآذان لأن ( إحدى ) لا تثنى ولا تجمع وتقول : مررت برجل مكسور إحدى الجانبين ولا تقولُ : مررتُ برجلينِ مكسوري أحد الجنوب لأنه يلزمك أن تثني
( أحداً ) لأن جنب كل واحدٍ منهما مكسور ولا يجوز تثنية أحدٍ ولا إحدى لأن موضع أحدٍ وإحدى من الكلام في الإِيجاب أن يدلا على أن معهما غيرهما ألا ترى أنك إذا قلت : إحداهما أو أحدهم فليس يكون إلا مضافاً لا بد من أن يكون معه غيره فلو ثنيت زال هذا المعنى وكذلك ( كِلا وكلتا ) لا يجوز أن يثنى ولا يجمع لأنهما يدلان على اثنين فلو ثنيا لزال ما وضعا له ولو قلت : مررتُ برجلين مكسوري أحد الجنوب وأنت تريد أن أحدهما مكسور الجنب جاز على قبح لأن تأويله : مررتُ برجلينِ مكسور أحد جنوبهما
قال الأخفش : ولو قلت : أي النعال المقطوعة إحدى الآذان نعلك وواحدة منهن المقطوعة إحدى الأذنين لجاز على قبحه وقال : ألا ترى أنك لو قلت : ضربت أحد رؤوس القوم وإنما ضربت رأساً واحدا لكان كلاماً ولو قلت : قطعتُ إحدى آذان هؤلاء القوم وإنما قطعت أذناً واحدة لجاز وتقول : هذا رجلٌ لا أحمر الرأس فأقول : أحمره ولا أسوده فأقول : أسود ومررت برجلينِ لا أحمري الرؤوس فأقول : أحمراهُما ولا أسوديهما فأقول : أسوداها ومررتُ برجالٍ لا حمرُ الرؤوسِ فأقول : حُمرها ولا سودها فأقول سودها ومررت بامرأةٍ لا حمراء الرأس فأقول : حمراوة ولا سوداية فأقول : سودايةً ونصبت ( أقول ) في كل هذا لأنها بالفاء وهو جواب النفي ورفعت ما بعد القول : لأن ما بعد القول لا يقع إلا مرفوعاً وعطفت قولاً وما بعده على الذي قبله وكذلك : مررت بامرأتين لا حمراوي الرؤوس فأقول حمراواهما ولا سوداويهما فأقول سوداواها وتقول : هذه امرأة أحمر ما بين عينيها لا أسود
ترفعُ ( بين ) إذا جعلت ( ما ) لغواً لأنك جعلت الصفة ( للبين ) فرفعته بها كما ترفع بالفعل
وقلت : أسود ولم تصف لأنك لم تضف الأول وكذلك تقول : هاتان امرأتان أحمر ما بينَ عينيهما لا أسود فإن جعلت ( ما ) بمنزلة ( الذي ) ولم تجعلها زائدة وجعلتها في موضع رفع فرفعتهما بأحمر نصبت البينَ لأنه
ظرفٌ فإن أضفت أحمر ونقلت إلى العينين قلت إذا جعلت ( ما ) لغواً قلت : هذه امرأةٌ حمراءُ ما بينَ العينين لا سودائه وهذا رجل أحمرُ ما بينَ العينين لا أصفره لما أضفت أحمر إلى ما بين وأضفت أصفر إلى ضميره وتقول : هذان رجلان أحمرا ما بينَ الأعين لا أصفراه وهؤلاء رجال حمرُ ما بينَ الأعين لا صفره إذا ألغيت ( ما ) فإن جعلت ( ما ) بمنزلة ( الذي ) جعلتها في موضع جر وأضفت إليها الصفة وجعلت ( بين ) ظرفاً ( لما ) فقلت : هاتان امرأتان حمراوا ما بينَ الأعين لا صفراواه فهذه الهاء التي في قولك : لا صفراواه ( لما ) فكأنك قلت : هاتان امرأتانِ حمراوا الذي بين الأعينِ
واعلم أنه من قال : مررت برجلٍ حسنٍ الوجهَ قال : مررت برجل أحمرَ الوجهُ لأن أحمر لا ينصرف ومن قال : مررت برجل حسن الوجه جميله لم يجد بداً من أن يضيف جميلاً إلى مررت برجل حسن الوجه جميله لم يجد بداً من أن يضيف جميلاً إلى ضمير الوجه فكذلك : مررت برجل أحمر الوجه لا أصفره لم يجد بداً من أن يضيف أصفر إلى ضمير الوجه وإذا أضافه أنجز ويشبه هذا مررت برجل ضاربٍ أخاكَ لا شاتمِه لا تجد بداً من أن تقول : لا شاتمهِ لأنك تجيء بالإسم المفعول فإذا جئت بالإسم المفعول به في هذا الباب مضمراً لم تكن الصفة إلا مضافة إليه نحو : هذان ضاربان غداً فلذلك قلت : أصفره فصرفت ( أصفر ) لأنك أضفته ولم تجعله يعمل كعمل الأول لأن المضمر والمظهر يختلفان في هذا الباب ألا ترى أنك تقول : مررت بنسوةٍ ضوارب زيداً لا قواتله تجر الآخر وتفتح ضوارب لأنك أردت معنى التنوين ويدلك على ذلك أنك تقول : مررت برجلين أحمرين الوجوه ولا أصفريها ولا يجوز بوجه من الوجوه أصفرنيها فإن قلت : لِمَ لا أقول : لا أصفرين لأن لَم أضف الأول فلا أضيف الآخر فلأن الأول قد وقع على شيء حين صار كالمفعول به فلا بد من أن يكون
الثاني أيضاً له مفعولٌ
نجزت الأسماء المرفوعاتُ والمنصوبات والمجروراتُ وسنذكر توابعها في إعرابها إن شاء الله
هذه توابع الأسماء في إعرابها التوابع خمسة : التوكيد والنعت وعطف البيان والبدل والعطف بالحروف وهذه الخمسة : أربعة تتبع بغير متوسط والخامس وهو العطف لا يتبع إلا بتوسط حرف فجميع هذه تجري على الثاني ما جرى على الأول من الرفع والنصب والخفضِ
شرح الأول : وهو التوكيد :
التوكيد يجيء على ضربين إما توكيد بتكرير الإسم وإما أن يؤكد بما يحيط به
الأول : وهو تكرير الإسم :
اعلم : أنه يجيء على ضربين ضرب يعاد فيه الإسم بلفظه وضرب يعاد معناه فأما ما يعاد بلفظه فنحو قولك : رأيت زيداً زيداً ولقيت عمراً عمراً وهذا زيدٌ زيدٌ ومررت بزيدٍ زيدٍ وهذا الضرب يصلح في الأفعال والحروف والجمل وفي كل كلام تريد تأكيده فأما الفعل فتقول : قام عمرو قامَ وقم قمْ واجلس اجلسْ قال الشاعر :
( ألا فَاسْلَمِي ثُمَّ اسْلَمِي ثَمَّتَ اسْلَمِي ... ثَلاثُ تَحيَّاتٍ وإنْ لم تكلَّميِ )
وأما الحروف فنحو قولك : في الدار زيدٌ قائمٌ فيها فتعيد
فيها
( توكيداً ) وفيك زيدٌ راغِبٌ فيك وقال الله عز و جل : ( وأما الذين سُعِدُوا ففي الجنةِ خالدينَ فيها ) إلا أن الحرف إنما يكرر مع ما يتصل به لا سيما إذا كان عاملاً وأما الجملُ فنحو قولك : قام عمرو قام عمرو وزيدٌ منطلقٌ وزيد منطلقٌ والله أكبر الله أكبر وكل كلام تريد تأكيده فلك أن تكرره بلفظه
الثاني : الذي هو إعادة المعنى بلفظٍ آخر نحو قولك : مررتُ بزيدٍ نفسهِ وبكم أنفسكم وجاءني زيدٌ نفسُه ورأيت زيداً نفسَهُ ومررت بهم أنفسِهم فحق هذا أن يتكلم به المتكلم في عقب شك منه ومن مخاطبه فتقول : مررت بزيدٍ نفسِه كما تقول : مررت بزيدٍ لا أشك ومررت بزيد حقاً لتزيل الشك فإذا قلت : قمت نفسُك فهو ضعيف لأن النفس لم تتمكن في التأكيد لأنها تكون اسماً تقول : نزلتُ بنفس الجبلِ وخرجت نفسه وأخرج الله نفسه فلما وصلتها الإسم المضمر في الفعل الذي قد صار كأحد حروفه فأسكنت له ما كان في الفعل متحركاً ضعف ذلك من حيث ضعف العطف عليه
فإن أكدته ظهر ما يجوز أن تحمل النفس عليه فقلت : قمتَ أنتَ نفسُكَ وقاموا هم أنفسُهم فإن أتبعته منصوباً أو مجروراً حسنٌ لأن المنصوب والمجرور لا يغيران الفعل تقول : رأيتكم أنفسكم ومررت بكم أنفسِكم ومررتُ بكم أنفسِكم وتقول : إن زيداً قامَ هو نفسُه فتؤكد المضمر الفاعل المتصل بالمكنى المنفصل وتؤكد المكنى المنفصل بالنفس كالظاهر
إن زيداً قامَ نفسُه فحملتَهُ على المنصوب جاز وكذلك : مررت بهِ نفسِه ورأيتُك نفسَك لأن المنصوب والمجرور المضمرين لا يغيرُ لهما الفعل
الضرب الثاني في التأكيد وهو ما يجيء للإِحاطة والعموم :
تقول : جاءني القومُ أجمعون وجاءني القومُ كلهُم وجاءوني أجمعون وكلهم وإن المال لكَ أجمع أكتعٌ ترفع إذا أردت أن تؤكد ما في ( لك ) وإذا أردت أن تؤكد المال بعينه نصبت وكذلك : مررتُ بدارك جمعاء كتعاء أو مررت بنسائك جمع كتع
ولا يجوز بزيدٍ أجمع ولا بزيدٍ كلِه وإنما يجوز ذلك فيما جازت عليه التفرقة
وأجمعون وما تصرف منها وكل إذا كانت مضافة إلى الضمير وجميعهن يجرين على كل مضمر إلا أجمعين لا تكون إلا تابعة لا تقول : رأيت أجمعين ولا مررت بأجمعين لا يجوز أن يلي رافعاً ولا ناصباً ولا جاراً فلما قويت في الإتباعِ تمكنت فيه وصلح ذلك في ( كُلٍّ ) لأنها في معنى ( أجمعين ) في العموم وذلك قولك : إن قومك جاءوني أجمعون ومررت بكم أجمعين فمعناها العموم وذلك مخالف لمعنى نفسه وأنفسهم لأن أنفسهم وأخواتها تثبت بعد الشك فإذا قلت : مررتُ بهم كلِّهم فهو بمنزلة ( أجمعين ) ومررت بهم جميعهم وتقول : مررت بدارك كلها ولا تقول : مررت بزيدٍ كله ولو قلت : أخذت درهماً أجمع لم يجزْ لأن درهماً نكرة وأجمع معرفة كما لا يجوز : مررت برجلٍ الظريف إلا على البَدلِ ولا يجوز البدل في ( أجمَعَ ) لأنه لا يلي العوامل ولكن يجوز أخذت الدرهم أجمع وأكلت الرغيف كله
فأما : قولهم : مررت بالرجلِ كُلِّ الرجلِ فقال أبو العباس معناه : مررت بالرجل المستحقِّ لأن يكون الرجلَ الكاملَ لأنك لا تقول : ذاك إلا وأنت تريد حزمه ونفاذه أو جبنه وشجاعتَهُ وما أشبه ذلك فإذا
قلت مررت بالرجلِ كل الرجلِ فهو كقولك : مررت بالعالمِ حقِّ العالمِ ومررت بالظريف حقِّ الظريفِ ولو قلت على هذا : مررت بزيدٍ كل الرجل لم يجز إلا ضعيفاً لأن زيداً اسم علم وليس فيه معنى تقريظ ولا تخسيس وكذلك : مررت برجلٍ كلِّ رجلٍ وبعالم حق عالمٍ وبتاجر خيرِ تاجرٍ فجميع هذا ثناء مؤكد وليس بنعت يخلص واحداً من آخر ولو قلت : زيدٌ كلُّ الرجلِ فجعلته خبراً صَلُحَ لأنه ليس بتأكيد لشيء ولكنه ثناءٌ خالص كما تقول : زيدٌ حقٌّ العالمِ وزيد عينُ العالم لأنك لو قلت : مررت بزيدٍ حَقِّ العالمِ لم يكن هذا موضعه وتقول : مررت بالرجلين كليهما ومررت بالمرأتين كلتيهما ولك أن تجري ثلاثتهم وأربعتَهم مجرى كلهم فتقول : مررت بهم ثلاثتهم ولك أن تنصب كما تنصب ( وحدَهُ ) في قولك : مررت برجلٍ وحدَهُ وكذلك المؤنث : مررت بهن ثلاثَتِهن وأربعَتهن ولك أن تقول : أتينني ثلاثتهن وأربعتهن نصباً ورفعاً قال الأخفش : فإذا جاوزت العشرة لم يكن إلا مفتوحاً إلى العشرين تقول للنساء أتينني ثماني عشرهن وللرجال أتوني ثمانية عشرهم وأما نصبكَ ( وحدَهُ ) فعلى المصدر كأنك قلت : أوحدَتُه إيحاداً فصار وحده كقولك : إيحاداً كأنك قلت : أفردتهُ إفراداً وتقول : إنَّ المالَ لكَ أجمع أكتعُ إذا أردت أن تؤكد ما في ( لكَ )
وأما ( كُلهم ) فالأحسن أن تكون جامعين وقد يجوز أن تلي العوامل وتقول إن القومَ جاءوني كلهُم وكلَهم : النصب إذا أكدت ( القومَ ) والرفع إذا أكدت الفاعلين المضمرين في ( جاءوني ) ويجوز أن تقول : إن قومَك كلهُم ذاهبٌ يحسن عند الخايل أن يكون مبتدأً بعد أن تذكر ( قومَك ) فيشبه التوكيد لأن التوكيد لا يكون إلا جارياً على ما قبله ويجوز أيضاً قومكَ ضربت كلهم لهذه الإِضافة الواقعة في ( كُلِّ ) فصار معاقباً ( لبعضهم ) كقولك : ضربتُ بعضهم وهو على ذلك ضعيف والصواب الجيد : قومك ضربتهم كلُهم لأن المعنى معنى ( أجمعينَ ) في العموم والتأكيد فأما قوله عز
وجل : ( قُلْ إن الأمر كُلَّهُ لله ) فالنصب على التوكيد للأمر والرفع على قولك : إن الأمر جميعه لله
واعلم : أنه لا يجوز أن تقول : مررت بقومِكَ إما بعضهم وإما أجمعينَ وإما كلهُم وإما بعضهم لأن أجمعينَ لا تنفرد ولكن تقول : إما بهم كلهم وإما بهم أجمعينَ فإن قلت : مررت بقومكَ إما كلهم وإما بعضهم جاز على قبحٍ فأما ما يؤكد به ( أجمعون ) من قولك : جاءني قومُكَ أجمعون أكتعونَ ونحوه فإنما هو مبالغة ولا يجوز أن يكون أكتعون قبل ( أجمعين ) وكذلك سائر هذه التوكيدات نحو قولك : ويلة وعولة وهو جائعُ نائعُ وعطشان نطشان وحسن بسن وقبيح شقيح وما أشبه هذا إلا يكون المؤكِّدُ قبل المؤكَّدِ وكلاهما وكلتاهما وكلهن يجرين مجرى ( كلهم ) فأما النكرة فلا يجوز أن تؤكدُ بنفسه ولا أجمعينَ ولا كلهم لأن هذه معارف فإن أكدت بتكرير اللفظ بعينه لم يمتنع أن تقول : رأيتُ رجلاً رجلاً وأصبتُ درةً درة فأما قولهم : ( مررت برجلٍ كلِّ رجلٍ ) فإنما هذا على المبالغة في المدح كأنك قلت : مررت برجلٍ كاملٍ
الثاني من التوابع وهو النعتُ :
النعت ينقسم بأقسام المنعوتِ في معرفته ونكرتِه فنعتُ المعرفةِ معرفةٌ ونعت النكرةِ نكرةٌ والنعت يتبع المنعوت في رفعه ونصبه وخفضه وأصل الصفة أن يقع للنكرةِ دون المعرفةِ لأن المعرفةَ كان حقها أن تستغني بنفسها وإنما عرض لها ضرب من التنكير فاحتيج إلى الصفة فأما النكرات فهي المستحقة للصفات لتقرب من المعارف وتقع بها حينئذٍ الفائدة والصفة : كل ما فرق بين موصوفين مشتركين في اللفظ وهي تنقسم على خمسة أقسام :
القسم الأول : حلية للموصوف تكون فيه أو في شيء من سببه
الثاني : فعلٌ للموصوف يكون به فاعلاً هو أو شيء من سببهِ
الثالث : وصفٌ ليس بعمل ولا بحليةٍ
الرابع : وصفٌ ينسبُ إلى أبٍ أو بلدة أو صناعة أو ضرب من الضروبِ
الخامس : الوصفُ ( بذي ) التي في معنى صاحبٍ لا بذو التي في معنى ( الذي )
شرح الأول : وهو ما كان حلية للموصوف تكون فيه أو في شيء من سببه نحو الحلية :
نحو الزرقة والحمرةِ والبياضِ والحول والعور والطول والقصر والحسنِ والقبح وما أشبهُ هذه الأشياء تقول : مررت برجل أزرق وأحمرَ وطويل وقصير وأحول وأعور وبامرأة عوراء وطويلة زرقاء وبرجلٍ حَسَنٍ وبامرأة حسنَةٍ فجميعُ هذه الصفات قد فرقت لك بين الرجلِ الأزرق وغيره والأحمر وغيره والرفع والنصب مثل الخفضِ والرجل والجمل والحجرُ في الوصف سواء إذا وصفتهنَّ بما هو حليةٌ لهن فأما الموصوف بصفة ليست له في الحقيقة وإنما هي لشيء من سببه وإنما جرت على الإسم الأول لأنها تفرق بينه وبين منْ له اسم مثل اسمِه وذلك قولك : مررتُ برجلٍ حَسنٍ أبوهُ ومضيت إلى رجلٍ طويل أخوهُ وقد تقدم ذكر الصفة التي تجري على الموصوف في الإِعرابِ إذا كان لشيءٍ من سببه عورض بها وقلنا : أنه إنما يجري على الإسم منها ما كان مشبهاً باسم الفاعل مما تدخله الألف واللام أو يثنى ويجمع بالواو والنون ويذكّر ويؤنث
شرح الثاني من النعوت :
وهو ما كان فعلاً للموصوف يكون به فاعلاً أو متصلاً بشيءٍ من سببه وذلك نحو : ( قائمٍ ) وقاعدٍ وضاربٍ ونائمٍ تقول : مررت برجلٍ قائمٍ
وبرجلٍ نائمٍ وبرجل ضاربٍ وهذا رجلٌ قائمٌ ورأيت رجلاً قائماً فهذه صفة استحقها الموصوف بفعله لأنه لما قام وجب أن يقالَ له : قائمٌ ولما ضَرَبَ وجب أن يُقال له : ضاربٌ وكذلك جميع أسماء الفاعلينَ على هذا نحو : مكرم ومستخرج ومدحرجِ كثرت حروفُه أو قلت ولهذا حَسُنَ أن توصف النكرة بالفعل فتقول : مررتُ برجلٍ ضَرب زيداً وبرجلٍ قامَ وبرجلٍ يضربُ لأنه ما قيل له ضاربٌ إلا بعد أن ضَربَ أو يضربُ في ذلك الوقت أو يكون مقدراً للضربِ لأن اسم الفاعل إنما يجري مجرى الفعل فجميع هذا الذي ذكرت لك من أسماء الفاعلين يجري على الموصوفات التي قبلها فيفصل بين بعض المسميات وبعضٍ إذا أخلصتها نحو : مررتُ برجلٍ ضاربٍ وقاتلٍ ومكرمٍ ونائمٍ وكذلك إن كانت لما هو من سبب الأول نحو قولك : مررت برجلٍ ضاربٍ أبوه وبرجلٍ قائم أخوهُ ورأيت رجلاً ضارباً أخوه عمراً وهذا رجلٌ شاكر أخوه زيداً ولك أن تحذف التنوين وأنت تريده من اسم وتضيف فتقول : مررت برجل ضاربِ زيدٍ غداً وبرجلِ قاتلِ بكرٍ الساعةَ وقد بينت ذا فيما تقدم وكذا إن كان الفعل متصلاً بشيءٍ من سبب الأول تقول : مررت برجلٍ ضاربٍ رجلاً أبوه وبرجلٍ مخالطِ بدنَه داءٌ ولك أن تحذف التنوين كما حذفت فيما قبله فتقول مررت برجلٍ ضاربِ رجلٍ أبوهُ وبرجلِ مخالطِ بدنه داءٌ
وحكى سيبويه عن بعض المتقدمين من النحويين أنه كان لا يجيز إلا النصب في : مررتُ برجلٍ مخالطٍ بدنه داءٌ فينصبون ( مخالطَ ) وردَّ هذا القول وقال : العمل الذي لم يقع والعمل والواقع الثابت في هذا الباب
سواءٌ قال : وناس من النحويين يفرقون بين التنوين وغير التنوين ويفرقون إذا لم ينونوا بين العمل الثابتِ الذي ليس فيه علاجٌ يرونَهُ نحو : الآخذِ واللازم والمخالطِ وبين ما كان علاجاً نحو : الضاربِ والكاسر فيجعلون هذا رفعاً على كل حال ويجعلون اللازم ما أشبههُ نصباً إذا كان واقعاً فإن جعلت ملازمهُ وضاربه وما أشبه هذا لما مضى صار اسماً ولم يكن إلا رفعاً تقول : مررتُ برجلٍ ضاربهُ زيدٌ أمسِ وبرجلٍ ضارب أبيه عمرو أمس ورأيتُ رجلاً مخالطه داءٌ أمسِ
شرح الثالث : من النعوت وهو ما كان صفة غير عمل وتحلية :
وذلك نحو العقلِ والفهمِ والعلم والحزنِ والفرحِ وما جرى هذا المجرى تقول : مررتُ برجلٍ عالم وبرجل عاقلٍ ورجل عالمٍ أبوهُ وبرجل ظريفةٍ جاريتُهُ فجميع هذه الصفات وما أشبهها وقاربها فحكمها حكمٌ واحدٌ وقياسُها قياسُ ضاربٍ وقائمٍ في إعرابها إذا كانت متصرفةً كتصرفها
شرح الرابع : وهو النسب :
إذا نسبت إلى أبٍ أو بلدةٍ أو صناعةٍ أو ضربٍ من الضروب جرى مجرى النعوت التي تقدم ذكرها وذلك قولك : مررتُ برجلٍ هاشمي وبرجلٍ عربيٍ منسوب إلى الجنس وكذلك عجمي وبرجلٍ بزازٍ وعطارٍ وسراج وجمّال ونجار فهذا منسوبٌ إلى الأمور التي تعالج وبرجلٍ بصري ومصري وكوفي وشامي فهذا منسوب إلى البلد وتقول : مررتُ برجلٍ دارعٍ ونابلٍ أي : صاحبُ درعٍ وصاحبُ نبلٍ وكذلك برجلِ
فارسٍ فجميع هذه الأشياءُ إنما صارت صفاتٍ بما لها من معنى الصفةِ وسنبين النسب في بابه فإنه حدٌّ من النحو كبير إن شاء الله فأما أبٌ وأخٌ وابنٌ وما جرى مجراهن فصفاتٌ ليست منسوبة إلى شيءٍ وهي أسماءٌ أوائل في أبوابها ولا يجوز أن تنسب إليها كنسب هاشمي المنسوب إلى هاشم ولا كعطارِ المنسوب إلى العطرِ ولا دارع المنسوب للدرعِ
شرح الخامس : وهو الوصفُ بذي :
وذلك نحو : مررتُ برجلٍ ذي إبلٍ وذي أدبٍ وذي عقل وذي مروءة وما أشبه ذلك ويفسر بأن معناه ( صاحبٌ ) ولا يكون إلا مضافاً ولا يجوز أن تضيفه إلى مضمر وإذا وصفت به نكرةً أضفته إلى نكرةٍ وإذا وصفت به معرفةً أَضَفْتَ إلى الألف واللام ولا يجوز أن تضيفه إلى زيدٍ وما أشبههُ وتقول للمؤنث ( ذاتِ ) تقول : مررتُ بامرأةٍ ذات جمالٍ وإذا ثنيت قلت : مررت برجلينِ ذوي مالٍ وهذان رجلانِ ذوا مالٍ وهاتانِ امرأتان ذواتا مالٍ وهؤلاء رجالٌ ذوو مالٍ ونساء ذوات مالٍ فأما ( ذو ) التي بمعنى ( الذي ) فهي لغةُ طيءٍ فحقها أن يوصفَ بها المعارف
ذكر الصفات التي ليست بصفات محضة هذه الصفات التي ليست بصفات محضة في الوصف يجوز أن تبتدأ كما تبتدأ الأسماء ويحسن ذلك فيها وهي التي لا تجري على الأول إذا كانت لشيءٍ من سببه وهي تنقسم ثلاثة أقسام مفردٍ ومضافٍ وموصولٍ
فالأول : المفرد نحو قولك : مررتُ بثوبٍ سبعٍ وقول العرب : أخذَ بنو فلانٍ من بني فلانٍ إبلاً مائةً
وقال الأعشى :
( لئن كنتَ في جُبٍّ ثمانينَ قامةً ... ورقيتَ أسبابَ السماءِ بسلمِ )
ومررتُ بحيةٍ ذراعٍ فإذا قلت : مررت بحيةٍ ذراعٌ طولها رفعت ( الذراع ) وجعلت ما بعد ( حيةٍ ) مبتدأً وخبراً وكذلك مررت بثوب سبعٌ طوله ومررت برجلٍ مائةٌ إبلُه
قال سيبويه وبعض العرب يجره كما يجر الخزَّ حين تقول : مررت برجلِ خَزٍّ صُفَتُه وهو قليل : كما تقول : مررت برجل أسد أبوهُ إذا كنت تريد أن تجعله شديداً ومررت برجلٍ مثل الأسد أبوهُ إذا كنت تشبهه فإن قلت : مررت بدابةٍ أسدٌ أبوها فهو رفعٌ لأنك إنما تخبر أن أباها هذا السبعُ قال : فإن قلت : مررت برجلٍ أسدٌ أبوهُ على هذا المعنى رفعت لأنك لا تجعل أباه خلقته كخلقة الأسد ولا صورته هذا لا يكون ولكنه يجيء كالمثل ومن قال : مررتُ برجلٍ أسدٌ أبوهُ قال : مررت برجلٍ مائةٌ إبلُه وزعم يونس : أنه لم يسمعهُ من ثقةٍ ولكنهم يقولون : هو نارٌ جُمْرة لأنهم قد يبنون الأسماء على المبتدأ ولا يصفون بها فالرفع فيما كان بهذه الحال الوجه قال : ومن قال : مررتُ برجلٍ سواءٍ والعدمُ كان قبيحاً حتى تقول : هو والعدمُ لأن في ( سواءٍ ) اسماً مضمراً مرفوعاً كما تقول : مررتُ بقومٍ عربٍ أجمعونَ فارتفع ( أجمعونَ ) على مضمرٍ في ( عَربٍ ) في النيةِ فالعدم هنا معطوف على المضمر الثاني المضاف وذلك قولهم : مررتُ برجلٍ أي رجلٍ وبرجلٍ أيما رجلٍ وبرجل أبي عشرةٍ وبرجلٍ كُلِّ
رجلٍ وبرجل مثلِكَ وغيرك وبرجلٍ أفضلَ رجلٍ وما أشبههُ فجميع هذا يجري على الموصوف في إعرابه في رفعه ونصبه وجره إذا أخلصتها له فإن جعلت شيئاً من هذه الصفات رافعاً لشيء من سببه لم يجز أن تصف به الأول ولا تجريه عليه ورفعته فقلت : مررت برجلٍ أبو عشرةٍ أبوه وبرجلٍ أفضلَ رجلٍ أبوه وبرجلِ مثلكَ أخوهُ وبرجل غيركَ صاحبُه : وكلُّ ما ورد عليك من هذا النحو فقسهُ عليه
الثالث : النعت الموصول المشبه بالمضاف :
وإنما أشبه المضاف لأنه غير مستعمل إلا مع صلته وذلك نحو : أفضل منكَ وأب لكَ وأخ لكَ وصاحبٌ لكَ فجميع هذه لا يحسن أن تفردها من صلاتها لو قلت : مررت برجلٍ أبٍ وبرجلٍ أخٍ لك وبرجلٍ خيرٍ وبرجل شَرٍّ لم يجز حتى تقول : مررتْ برجلٍ أبٍ لك وبرجل أخٍ لك وبرجل خيرٍ منكَ فجميع هذه إذاً أخلصتها للموصوف ولم تعلقها بشيءٍ من سببه أجريتها على الأول فقلت : هذا رجلٌ خيرٌ منكَ وصاحبٌ لكَ وأبٌ لكَ ورأيت رجلاً خيراً منكَ وأباً لكَ ومررت برجلِ خيرٍ منكَ وأبٍ لكَ فإن علقتها بشيء من سببه رفعت وغلبت عليها الإسمية فقلت : مررت برجلٍ أبٍ لكَ أبوهُ وبرجلٍ صاحبٍ لكَ أخوه وبرجلٍ خير منه أبوه ترفع جميع هذا على الإبتداء والخبر والجر لغة وليست بالجيدة وتقول : ما رأيت رجلاً أبغضَ إليه الشرُّ منهُ إليه وما رأيتُ آخر أحسن في عينه الكحلُ منه في عين زيدٍ فإنما جرى : ( أبغضُ وأحسنُ ) على ( رجلٍ ) في إعرابه
وإن كان قد وقع بهما الشر والكحلَ لأن الصفة في المعنى له وليس هنا موصوفٌ غيره لأنه هو المبغضُ للشر وهو الحسنُ بالكحلِ فلهذا لم يشبه : مررت برجلٍ خيرٍ منهُ أبوهُ لأن أباه غيره وليس له في الخبر الذي
في ( أبيهِ ) نصيبٌ وقد تخفضُ العرب هذا الكلام فتقول : ما رأيتُ رجلاً أحسن في عينه الكحل من زيدٍ وما رأيت أبغضَ إليه الشرُّ منهُ فإذا فعلوا هذا جعلوا الهاء التي كانت في ( منهُ ) للمذكرِ المضمرِ وكانت للكحلِ والشرِّ وما أشبههما قال الشاعر :
( مَرَرْتُ عَلَى وادي السِّبَاعِ ولا أَرَى ... كَوَادي السِّبَاعِ حِينَ يُظْلمُ وَادِيا )
( أقلَّ بهِ رَكْبٌ أَتَوْهُ تئيةً ... وأخوْفَ إلاّ ما وقى الله ساريا )
قال سيبويه : إنما أراد : أقلَّ به الركب تئيةً منهم ولكنه حذف ذلك استخافاً كما تقول : أنت أفضلُ ولا تقولُ من أحدٍ وتقول : الله أكبرُ ومعناه : أكبر من كلِّ كبير وكلِّ شيءٍ
وكما تقول : لا مالَ ولا تقول لك
واعلم : أن ما جرى نعتاً على النكرة فإنه منصوبٌ في المعرفة على الحال وذلك قولك : مررتُ بزيدٍ حسناً أبوهُ ومررتُ بعبد الله ملازمكَ وما كان في النكرة رفعاً غير صفةٍ فهو في المعرفة رفعٌ فمن ذلك قولهُ عز و جل : ( أم حَسب الذين اجترحوا السيئاتِ أنْ نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحاتِ سواءٌ محياهم ومماتهم ) لأنك تقول : مررت برجلٍ سواءٌ محياهُ ومماتهُ وتقول : مررت بعبد الله خير منهُ أبوهُ ومن أجرى هذا على الأول في
النكرة نصبه هنا على الحال فقال : مررت بعبدِ اللهِ خيراً منهُ أبوهُ وهي لغةٌ رديئةٌ وقد يكون حالاً ما لا يكون صفةً لأن الحال زيادة في الخبر فأشبهت خبر المبتدأ الذي يجوزُ أن يكون صفةً ويجوز أن يكون اسماً والصفة ما كانت تفرق بين اسمين والحال ليست تفرق بين اسمين وقد يجوز أن يكون من اسم لا شريكَ له في لفظه ولكنها تفرق بين صاحبِ الفعل فاعلاً كان أو مفعولاً وبين نفسه في وقتهن فمما استعملوه حالاً ولم يجز أن يكون صفةً
قولهم : مررتُ بزيد أسداً شدة قال سيبويه : إنما قال النحويون : مررتُ برجلٍ أسداً شدةً وجرأةً إنما يريدون : مثل الأسد وهذا ضعيفٌ قبيحٌ لأنه لم يجعل صفةً إنما قاله النحويون تشبيهاً بقولهم : مررتُ بزيدٍ أسداً شدةً وقد يكون خبراً ما لا يكون صفةً واعلم أنهم ربما وصفوا بالمصدر نحو قولك : رجلٌ عدلٌ وعلم فإذا فعلوا هذا فحقه أن لا يثنى ولا يجمع ولا يذكّر ولا يؤنث والمعنى إنما هو ذو عَدلٍ فإن ثنى من هذا شيءٌ فإنما يشبه بالصفة إذا كثر الوصف به والنكرة توصف بالجمل وبالمبتدأ والخبر والفعل والفاعلِ لأن كلَّ جملة فهي نكرةٌ لأنها حديثٌ وإنما يحدث بما لا يعرف ليعيدهُ السامع فيقول : مررتُ برجلٍ أبوهُ منطلقٌ فرجل صفته مبتدأ وخبره وتقول : مررتْ برجلِ قائمٌ أبوهُ فهذا موصوف بفعل وفاعلٍ ولا يجوز أن تصف المعرفة بالجمل لأن الجملَ نكراتٌ والمعرفة لا توصف إلا بمعرفةٍ فإذا أردت ذلك أتيت ( بالذي ) فقلت : مررتُ بزيدٍ الذي أبوهُ قائمٌ وبعمروٍ الذي قائمٌ أبوهُ
ذكر وصف المعرفة وهو ينقسم بأقسام المعارف إلا المضمر فإنه لا يوصف به وأقسام
الأسماء المعارف خمسةٌ العلم الخاصُ والمضاف إلى المعرفةِ والألف واللام والأسماء المبهمةُ والإِضمار
فالموصوف منها أربعٌ :
الأول : وهو العلم الخاص : يوصف بثلاثة أشياء بالمضاف إلى مثله وبالألف واللام نحو : مررتُ بزيدٍ أخيكَ والألف واللام نحو : مررتَ بزيدٍ الطويلِ وما أشبه هذا من الإِضافة والألف واللام
وأما المبهمة فنحو : مررتُ بزيدٍ هذا وبعمروٍ ذاكَ والمرفوع والمنصوب في أتباع الأول كالمجرورِ
الثاني : المضاف إلى المعرفة يوصف بثلاثة أشياء بما أضيف كإضافته وبالألف واللام والأسماء المبهمةُ وذلك مررتُ بصاحبِكَ أخي زيدٍ ومررتُ بصاحبِكَ الطويلِ ومررتُ بصاحبِكَ هذا
الثالث : الألف واللامُ : يوصف بالألف واللامِ وربما أضيف إلى الألف واللامِ لأنه بمنزلة الألف واللامِ وذلك قولكَ مررتُ بالجميلِ النبيلِ ومررت بالرجلِ ذي المالِ
الرابع : المبهمةُ : توصف بالأسماء التي فيها الألفُ واللامُ والصفات التي فيها الألف واللامُ جميعاً
قال سيبويه : وإنما وصفت بالأسماء لأنها والمبهمة كشيءٍ واحدٍ
والصفات التي فيها الألف واللام هي بمنزلة الأسماء في هذا الموضع وليست بمنزلة الصفاتِ في زيدٍ وعمروٍ يعني أنك إذا قلت : هذا الطويل فإنما تريد : الرجل الطويل أو الرمح الطويل أو ما أشبه ذلك لأن هذا مبهم يصلح أن تشير به إلى كل ما بحضرتك فإذا ألبس على السامع فلم يدر إلى الرجل تشير أم إلى الرمح وجب أن تقول : بهذا الرجلِ أو بهذا الرمحِ فالمبهم يحتاج إلى أن يميز بالأجناسِ عند الإِلباس فلهذا صار هو وصفتُه بمنزلة شيءٍ واحدٍ وخالف
سائر الموصوفات لأنها لم توصف بالأجناس وإنما يجوز أن تقول بهذا الطويلِ إذا لم يكن بحضرتكَ طويلانِ فيقع لبسٌ فأما إذا كان شيئانِ طويلانِ لم يجز إلا أن تذكر الإسم قبل الصفة وهذا المعنى ذكره النحويون مجملاً وقد ذكرته مفصلاً واعلم أن صفة المعرفة لا تكون إلا معرفةً كما أن صفة النكرةِ لا تكون إلا نكرةً ولا يجوز أن تكون الصفةُ أخص من الموصوفِ ألا ترى أنك إذا قلت : مررتُ بزيدٍ الطويلِ فالطويلُ أعم من زيد وحدُه والأشياء الطوال كثيرة وزيدٌ وحدُه أخص من الطويل وحده فإن قال قائل : فكان ينبغي إذا وصفت الخاص بالعامِ أن تخرجه إلى العموم قيلَ له : هذا كانَ يكونُ واجباً لو ذكرَ الوصف وحدهُ فقلت : مررتُ بالطويلِ لكانَ لَعمري أعم من زيدٍ ولكنك إذا قلت : بزيدِ الطويلِ كان مجموع ذلك أحسن من زيدٍ وحده ومن الطويل وحده ولهذا صارت الصفة والموصوف كالشيء الواحد
واعلم : أنه لك أن تجمع الصفة وتفرق الموصوف إذا كانت الصفة محضة ولم تكن اسما وصفت به مبهماً
ولك أن تفرق الصفة وتجمع الموصوف في المعرفة والنكرة فتقول : مررتُ بزيدٍ وعمروٍ وبكرٍ الطوال تجمع النعت وتفرق المنعوت وتقول : مررتُ بالزيدينِ الراكبِ والجالسِ والضاحكِ فتجمع الإسم وتفرق الصفة ولكن المفرق يجب أن يكون بعدد المجموع وليس لك مثل هذا في المبهم لا يجوز أن تقول : مررتُ بهذينِ : الراكع والساجد وأنت تريد الوصف لأن المبهم اسم وصفته اسم فهما اسمان يبين أحدهما الآخر فقاما مقام اسم واحد ولا يجوز أن يفرقا لا يثني أحدهما ويفرد الآخر بل يجب أن يكون مناسباً له في توحيده وتثنيته وجمعه ليكون مطابقاً له لا يفصل أحدهما عن الآخر
مسائل من هذا الباب تقول : إن خيرهم كلهم زيدٌ وإن لي قبلكم كلكم خمسين درهماً وإن خيرهما كليهما أخوك لا يكون ( كلَيهما ) من نعت ( خيرٍ ) لأن خيراً واحدٌ
وتقول : جاءني خيرُهما كليهما راكباً وإن خيرهما كليهما نفسه زيد فيكون ( نفسُه ) من نعت ( خيرٍ ) وتقول : جاءني اليوم خيرهما كليهما نفسُه وقال الأخفش : أن عبدَ الله ساجٌ بابُهُ منطلقٌ فجعل ( ساجٌ بابُه ) في موضع نصب على الحال لأَنه كان صفة للنكرة
وتقول : مررتُ بحسنٍ أبوهُ تريد : رجلٌ حَسن أبوه وبأحمرَ أبوهُ ولا يجوز : رأيت ساجاً بابُهُ تريد : رأيت رجلاً ساجاً بابُه
وتقول : مررتُ بأصحابٍ لكَ أجمعونَ اكتعونَ لأن في ( لَكَ ) اسماً مضمراً مرفوعاً
ومررتُ بقومٍ ذاهبينَ أجمعونَ أكتعونَ لأن في ( ذاهبين ) اسماً مرفوعاً مضمراً وكذلك : مررت بدرهمٍ أجمع أكتع ومررت بدارٍ لك جمعاءَ كتعاءَ ومررت بنساءٍ لكَ جمع كتع ولا يجوز أن تكون هذه الصفة للأول لأن الأول نكرة وتقول : مررت بالقوم ذاهبينَ أجمعينَ أكتعينَ إذا أكدت القومَ فإن أجريته على الإسم المضمر في ( ذاهبين ) رفعت فقلت : أجمعونَ أكتعونَ
وتقول : مررت برجلٍ أيما رجلٍ وهذا رجلٌ أيما رجلٍ وهذان رجلانِ أيما رجلينِ وهاتان امرأتانِ أيتما امرأتين ومررت بامرأتين أيتما امرأتينِ و ( ما ) في كل هذا زائدة وأضفت أياً وأيةَ إلى ما بعدها
وتقول : مررت برجل حسبكَ من رجلٍ وبامرأة حسبكَ من امرأة وهذه امرأةٌ حسبك من امرأةٍ وهاتان امرأتان حسبك من امرأتين وتقول : هذا رجلٌ ناهيكَ من رجلٍ وهذه امرأة ناهيتك من امرأةٍ فتذَكر ( ناهياً ) وتؤنثه لأنه اسم فاعل ولا تفعل ذلك في ( حسبكَ ) لأنه مصدر وتقول في المعرفة : هذا عبد الله حسبكَ من رجل وهذا زيد أيما رجلٍ فتنصب ( حسبكَ ) وأيما على الحال
وهذا زيدٌ ناهيكَ من رجلٍ وهذه أمة الله أيتما جاريةٍ
وتقول : مررت برجلين لا عطشاني المرأتين فأقول عطشاناهما ولا ريانيهما فأقول : رياناهما وتقول : مررت برجال لا عطاش النساء فأقول :
عطاشهن ولا روائهن فأقول : رواؤهن وإنما قلت : رواء لأنه فعال من رويت
وتقول : هاتان امرأتان عطشيا الزوجين لا ريياهما وتقول هؤلاء نساءٌ لا عطاش الأزواج فأقول : عطاشهم ولا رواؤهم فإذا جمعت : ريّا وريان فهو على فعال
وتقول : مررت برجل حائضٍ جاريتُه ومررت بامرأة خصي غلامُها ولو قلت : مررت برجلِ حائض الجارية لقَبحَ لأنك إن أدخلت الألف واللام جعلت التأنيث والتذكير على الأول فأنت تريد أن تذكر حائضاً لأن قبله رجلاً والحائض لا يكون مذكراً أبداً وقال بعضهم : هذا كلام جائز لأن ( حائضاً ) مذكر في الأصل وقد أُجيز مررت بامرأة خصي الزوجِ لأن خصياً فعيلٌ مما يكون فيه مفعولُه فهذا يكون للمذكر والمؤنث سواء ولا يجوز : مررت برجلٍ عذر الجاريةِ إذا كان الجارية عُذراً وكذلك : مررت بامرأة محتلمة الزوجِ لأن محتلماً مما لا يكون مؤنثاً وكذلك : مررت بامرأةٍ آدر الزوجِ ولا يجوز : مررت برجلٍ أعْفلَ المرأةِ لأن أعفل مما لا يكون في الكلام
ومن قال : مررت برجل كفاكَ به رجلاً قال للجميع : كفاكَ بهم وللإثنين : كفاكَ بهما لأن اسم الفاعل هو الذي بعد الباء والباءُ زائدةٌ وفي هذا لغتان : منهم من يجريه مجرى المصدر فلا يؤنثه ولا يثنيه ولا يجمعه ومنهم من يجمعه فعلاً فيقول : مررت برجل هدكَ من رجلٍ وبامرأةٍ هدتك من امرأة وإن أردت الفعل في ( حسبكَ ) قلت : مررت برجل
حسبكَ من رجلٍ وبرجلين أحسباك من رجلينِ وبرجال أحسبوكَ وتقول : مررت برجلين ملازماهما رجلانِ أمسِ كما تقول : برجلين عبداهما رجلانِ ومررت برجل ملازموهُ رجالٌ أمسِ لأن ملازمه هذا اسم مبتدأ لأنه بمنزلة غلام إذا كان لما مضى وقد بينا ذا فيما تقدم فإذا كان اسماً صار مبتدأً ولا بدّ من أن يكون مساوياً للخبر في عدته كما تقول : الزيدانِ قائمانِ وغلاماك منطلقانِ وتقول : مررت برجلٍ حسبكَ ومررت بعبد الله حسبكَ فيكون حالاً فإذا قلت : حسبك يلزمكَ فحسبك مرتفع بالإبتداء والخبر محذوف وهذا قول الأخفش وغيره من النحويين
وقال أبو العباس رحمه الله الخبر محذوف لعلتين : إحداهما : أنك لا تقول ( حسبَك ) إلا بعد شيء قد قاله أو فعله ومعناه يكفيك أي ما فعلت وتقديره : كافيكَ لأن حسبكَ اسم فقد استغنيت عن الخبر بما شاهدت مما فعل قال : وكذلك أخوات حسبك
نحو ( هدكَ ) والوجه الآخر : في الإقتصار على حسبٍ بغير خبرٍ إن معنى الأمر لما دخلها استغنت عن ذلك كما تستغني أفعال الأمر تقول : حسبُكَ ينم الناسُ كما تقول : اكففْ ينم الناسُ وكذلك ( قدكَ ) و ( قطكَ ) لأن معناهما حسبك إلا أن حسبك معربة وهاتان مبنيتان على السكون يعني قَدْ وقَطْ وتقول : حسبكَ درهمانِ فأنت تجريه مجرى يكفيك درهمانِ وتقول : إن حسبك درهمانِ
قال الأخفش : إذا تكلمت ( بحسْب ) وحدها يعني إذا لم تضفها جعلتها أمراً وحركت آخرها لسكون السين تقول : رأيت زيداً حسْب يا فتى غير منون كأنك قلت : حسبي أو حسبكَ فأضمر هذا فلذلك لم ينون لأنه أراد الإِضافة
وقال تقول : حسبُكَ وعبد اللِه درهمان على
معنى يكفيك وعبد الله درهمانِ فإن جررت فهو جائز وهو قبيح وقبحه أنك لا تعطف ظاهراً على مضمر مجرور وأنشدوا :
( إذَا كَانَتِ الهَيْجَاءُ وانْشَقَّتِ العَصَا ... فَحَسْبُكَ والضَّحَّاكَ سَيْفٌ مُهَنَّدُ )
فمنهم من ينصب ( الضحاكَ ) ومنهم من يجر ومنهم من يرفع فإن أظهرت قلت : حسب زيدٍ وأخيهِ درهمانِ وقبح النصب والرفع لأنك لم تضطر إلى ذلك وتقول مررت برجل في ماءٍ خائضهُ هُوَ لا يكون إلا هو إذا أدخلت الواو لأنك قد فصلت بينه وبين ماء وتقول : مررت برجلٍ معهُ صقْرٌ صائدٌ وصائدٍ بهِ كما تقول : أتيتَ على رجلٍ ومررت بهِ قائماً إن حملته على الرجل جررت وإن حملته على ( مررت بهِ ) نصبت وتقول : نحن قومٌ ننطلقْ عامدونَ وعامدينَ إلى بلد كذا وتقول : مررت برجلٍ معه بازٌ قابضٍ على آخر وبرجل معه جبةٌ لابسٍ غيرها ولابساً إن حملته على الإِضمار الذي في ( معهُ ) وتقول : مررت برجل عندهُ صقرٌ صائدٍ ببازٍ وصائداً إن حملته على ما في ( عندَه ) من الإِضمار وكأنك قلت : عندَه صقرٌ صائداً ببازٍ وتقول : هذا رجلٌ عاقلٌ لبيبٌ لم تجعل الآخر حالاً وقع فيه
الأول ولكنك سويت بينهما في الإِجراء على الإسم والنصب فيه جائز ضعيفٌ
قال سيبويه : وإنما ضعف لأنه لم يرد أن الأول وقع وهو في هذه الحال ولكنه أراد أنهما فيه ثابتان لم يكن واحد منهما قبل صاحبه وقد يجوز في سعة الكلام وتقول مررت برجلٍ معه كيسٌ مختوم عليهِ الرفع الوجهُ لأنه صفة الكيس والنصب جائز على قوله : فيها رجلٌ قائماً وهذا رجلٌ ذاهباً وتقول : مررت برجلٍ معه صقرٌ صائداً به غداً تريد مقدراً الصيد به غداً ولولا هذا التقدير ما جاز هذا الكلامُ وتقول : مررتُ برجلٍ معهُ امرأةٌ ضاربتُه فهذا بمنزلة معه كيسٌ مختومٌ عليهِ فإن قلت : مررت برجلٍ معه امرأةٌ ضارِبها جررت ونصبت على ما فسر
وإن شئتَ وصفت المضمر في ( ضاربها ) في النصب والجر فقلت : مررت برجلٍ معهُ امرأةٌ ضاربها هُوَ أو ضاربَها هُو فإن شئت جعلت ( هو ) منفصلاً فيصير بمنزلة اسم ليس من علامات الإِضمار فتقول : مررت برجلٍ معه امرأةٌ ضاربها ( هُوَ ) كأنك قلت : معه ضاربَها زيدٌ وتقول : يا ذا الجاريةُ الواطئَها أبوه كما تقول يا ذا الجاريةٌ الواطئَها زيدٌ والمعنى : التي وطئَها زيدٌ
وتقول : يا ذا الجاريةُ الواطئَها أبوهُ فجعل بها ( الواطئَها ) صفة ( ذا ) المنادى
ولا يجوز أن تقول : يا ذا الجاريةُ الواطئُها زيدٌ من قبل أن ( الواطئَها ) من صفة المنادى فإذا لم يكن هو الواطىء ولا أحد من سببه لم يكن صفة له كما لا يجوز : يا عبد اللِه الواطىء الجارية زيدٌ فلم يجز هذا كما لم يجز : مررتُ بالرجل الحسنِ زيدٌ وقد يجوز أن تقول : مررتُ بالرجلٍ الحسنِ أبوهُ وتقول : يا ذا الجاريةِ الواطئُها هُو جعلت ( هُو ) منفصلاً كالأجنبي لا يجوز حذفه وإن شئت نصبته كما تقول : يا ذا الجاريةِ الواطئَها تجريه على
المنادى فإن قلت : يا ذا الجاريةِ الواطئَها وأنت تريد : الواطئَها هُو لم يجز أن تطرح ( هُوَ ) كما لا يجوز بالجاريةِ الواطئها هو أو أنت حتى تذكرهما فإن ذكرتهما جاز وليس هذا كقولك : مررت بالجاريةِ التي وطئَها أو التي وطئتُها لأن الفعل يضمر فيه وتقع فيه علامة الإِضمار وقد فسرت هذا فيما تقدم وإنما يقع في هذا إضمار الإسم رفعاً إذا لم يوصف به شيء غير الأول وذلك قولك : يا ذا الجاريةِ الواطئَها ففي هذا إضمار ( هُوَ ) وهو اسم المنادى والصفة إنما هي للأول المنادى
قال سيبويه : ولو جاز هذا لجازَ مررت بالرجلِ الآخذيهِ تريد : أنتَ ولجاز : مررت بجاريتِكَ راضياً عنها تريد أنْتَ ويقبح أن تقول : رُبَّ رجلٍ وأخيهِ منطلقينِ حتى تقول : وأخٍ لهُ وإذا قيل : والمنطلقينَ مجروران من قبل أنّ قوله : وأخيهِ في موضع نكرةِ والمعنى : وأخٍ لَهُ والدليلُ على أنه نكرةٌ دخول ( رُبَّ ) عليه ومثل ذلك قول بعض العرب : كُلُّ شاةٍ وسخلتِها
أي : وسخلةٍ لَها ولا يجوز ذلك حتى تذكر قبله نكرة فيعلم أنك لا تريد شيئاً بعينه وأنشد سيبويه في نحو ذلك :
( وأيُّ فَتى هَيْجَاءَ أنْتَ وَجَارِها ... إذا ما رجَالٌ بالرِّجَالِ أستقَّلتِ )
فلو رفع لم يكن فيه معنى : أي جارها الذي هو في معنى التعجب والمعنى : أي فتى هيجاءَ وأي جارٍ لها أنْتَ قال الأعشى :
( وكم دُونَ بيتِكَ منْ صَفْصَفٍ ... ودَكْدَاكِ رمْلٍ وأعقادِهَا )
( ووَضْعِ سِقاءٍ وأحْقابِهِ ... وحَلِّ حُلوسٍ وأغْمادِهَا )
فجميع هذا حجة لرب رجل وأخيه وهذا المضافُ إلى الضمير لا يكون وحده منفرداً نكرة ولا يقع في موضع لا يكون فيه إلا نكرة حتى يكون أول ما يشغل به ( رُبَّ ) نكرة ثم يعطف عليه ما أضيف إلى النكرة وتقول : هذا رجلٌ معهُ رجل قائمينِ فهذا ينتصب لأن الهاء التي في معهُ معرفةٌ وانتصابه عندي بفعلٍ مضمر ولا يجو نصبه على الحال لإختلاف العاملين لأنه لا يجوز أن يعمل في شيء عاملان وتقول : ( فوق الدار رجل وقد جئتُكَ برجلٍ آخر عاقلينِ مسلمينِ ) فتنصب بفعل آخر مضمر وتقول : ( اصنع ما سرَّ أخاكَ وما أحب أبوك الرجلانِ الصالحانِ ) فترفع على الإبتداء وتنصب على المدح كقول الخزنق :
( لا يَبْعَدَنْ قَوْمي الَّذِينَ هُمُ ... سَمُّ العُدَاةِ وآفَةُ الجُزْرِ )
( النَّازِلِينَ بكُلِّ مُعْتَرَكٍ ... والطَّيِّبُونَ مَعاقِدَ الأُزْرِ )
وسيبويه يجيزُ نصب : هذا رجلُ مع امرأةٍ قائمين على الحال ويجيزُ : مررت برجلٍ مع امرأةٍ منطلقينِ على الحال أيضاً ويحتج بأن الآخر قد دخل مع الأول في التنبيه والإِشارة وأنك قد جعلت الآخر في مرورك فكأنك قلت : هذا رجلٌ وامرأةً ومررت برجلٍ وامرأةٍ وتجعل ما كان معناهما واحدا على الحال
وإذا كان معنى ما بينهما يختلف فهو على ( أعنى ) والقياس المحض يوجب إذا اختلف عاملان في اسمين أو أكثر من ذلك لم يجز أن تثنى صفتهما ولا حالهما لإختلاف العاملين اللذين عملا في الإسمين وكيف يجوز أن يفترقا في الموصوفين ويجتمعا في الصفة ولكن يجوز النصب بإضمار شيء ينتظم المعنيين يجتمعان فيه
وأعلم : أنه لا يجوز أن تجيز وصف المعرفة والنكرة كما لا يجوز وصف المختلفين
وزعم الخليل : أن الرفعين أو الجرين إذا اختلفا فهما بمنزلة الجر والرفع وذلك قولك : ( هذا رجلٌ وفي الدار آخر كريمينِ ) لأنهما لم يرتفعا من جهة واحدة
وشبه بقوله : هذا لإبنِ إنسانينِ عندنا كراماً فقال : الجر ها هنا مختلف ولم يشرك الآخر فيما جر الأول ومثل ذلك : هذا جاريةٌ أخوي
ابنينِ لفلانِ كراماً لأن أخوي ابنينِ اسم واحد والمضاف إليه الآخر منتهاه ولم يأت بشيء من حروف الإِشراك ومثل ذلك : هذا فرس أخوي ابنيك العقلاءِ الحلماءِ لأن هذا في المعرفة مثل ذلك في النكرة ولا يجوز إلا النصب على ( أعنى ) ولا يكون الكرام العقلاء صفة للأخوين والإبنين ولا يجوز أن يجري وصفاً لما انجز من وجهين كما لم يجز فيما اختلف إعرابه
وقال سيبويه : سألت الخليل عن : مررت بزيدٍ وأتاني أخوهُ أنَفسهما فقال : الرفع على هُما صاحباي أنفسهُما والنصب على ( أعنيهما ) ولا مدح فيه لأنه ليس مما يمدح به وقال : تقول : هذا رجلٌ وامرأة منطلقان وهذا عبد اللِه وذاكَ أخوك الصالحانِ لأنهما ارتفعا من وجه وهما اسمان بنيا على مبتدأَين وانطلق عبد اللِه ومضى أخوك الصالحان لأنهما ارتفعا بفعلين معناهما واحد
والقياس عندي أن يرتفعا على ( هُما ) لأن الذي ارتفع به الأول غير الذي ارتفع به الثاني
ولكن إن قدرت في معنى التأكيد ورفعت عبد اللِه بالعطف من الفعل جازت عندي الصفة ولا يجوز : من عبد اللِه وهذا زيدٌ الرجلينِ الصالحينِ رفعت أن نصبت لأنك لا تثني إلا على من أثبتُه وعرفته فلذلك لم يجز المدح في ذا ولا يجوز صفتهما لأنك من يعلم ومن لا يعلمُ فتجعلهما بمنزلة واحدةٍ
قال أبو العباس في قولهم : ما رأيت رجلاً أحسنُ في عينه الكحلُ منهُ في عين زيدٍ وما رأيت رجلاً أبغض إليه الشر منهُ إلى زيدٍ قد علمنا أن الإختيار : مررت برجلٍ أحسنَ منه أبوهُ ومررت برجلٍ خيرٌ منه زيدٌ فما باله لم يجز الرفع في قوله : أحسنُ في عينه الكحلُ وأبغض إليه الشرُ فقال : الجواب في ذلك : أنه إن أراد أن يجعل الكحل الإبتداء كان الإختيار
ما رأيت رجلاً أحسنُ في عينه منه في عين زيدٍ الكحل تقديره : ما رأيتُ رجلاً الكحل أحسن في عينه منه في عين زيدٍ وما رأيت رجلاً الكحل في عينه أحسنُ منهُ في عينِ زيدٍ كل جيد كما تقول : زيدٌ أحسنُ في الدار منه في الطريق
وزيدٌ في الدار أحسن منهُ في الطريقِ فتقدم في الدار لأنه ظرف والتفضيل إنما يقع بأفعل فإن أردت أن يكون ( أحسنُ ) هو الإبتداء فمحالٌ لأنك تضمر قبل الذكر
لأن الهاء في قولك : ( منه ) هي الكحل ومنه متصلة ( بأفعلَ ) لأن ( أَفعلَ ) للتفضيل فيصير التقدير ما رأيت رجلاً أحسنُ في عينه منهُ في عينِ زيدٍ الكحلُ فتضمر الكحل قبل أن تذكره لأن الكحل الآن خبر الإبتداء وإن قدمت الكحل فقلت على أن ترفع ( أحسنَ ) بالإبتداء ما رأيتُ رجلاً أحسن في عينه الكحلُ منه في عينِ ( زيدٍ ) فهو أردأ وذلك لأنه خبر الإبتداء وقد فصلت بين ( أحسنَ ) وما يتصل به وليس منهما في شيء فلذلك لم يجز على هذه الشريطة إلا أن الجملة على مثل قولك : مررت برجلٍ خيرٌ منهُ أبوهُ فتقول : ما رأيت رجلاً أحسنُ في عينه الكحلُ منه في عين زيدٍ فترفع الكحلَ ( بأحسنَ ) ويقع ( منهُ ) بعده فيكون الإِضمار بعد الذكر وتقديره : ما رأيت رجلاً يحسنُ الكحل في عينه كحسنهِ في عينِ زيدٍ فالمعرفة والنكرة في هذا واحد إذا كان الفعل للثاني ارتفع به معرفة كان أو نكرة وإن كان للأول والثاني معرفة بطل وإن كان الثاني نكرة انتصب على التمييز وذلك قولك : ما رأيت رجلاً أحسنَ وجهاً من زيدٍ ولا رأيتُ رجلاً أكرمَ حسباً منهُ لأن أكرم وأحسن للأول لأن فيه ضميره فإن جعلته للثاني رفعته به ورددت إلى الأول شيئاً يصله بالثاني كما
تقول : رأيتُ رجلاً حسَن الوجهِ لأن حَسن الوجه ( لرجلٍ ) فإن جعلته لغيره قلت : رأيتُ رجلاً حسنَ الوجهِ أخوهُ وحسن الوجهِ رجلٌ عندهُ فإن قلت : ما رأيت قوماً أشبه بعضُ ببعضٍ من قومِكَ رفعت البعض لأن ( أشبَه ) له وليس لقومٍ لأن المعنى : ما رأيت قوماً أشبه بعضُهم ببعضٍ كما ذكر ذلك سيبويه في قوله مررتُ بكُلٍّ صالحاً وببعضٍ قائماً أنه محذوف من قولك : بعضُهم وكلهم والمعنى يدل على ذلك ألا ترى أن تقديره : ما رأيتُ قوماً أشبَهَ بعضُهم بعضاً كما وقع ذلك في ( قومِكَ ) وتقول : ما رأيت رجلاً أبر أبٍ لهُ بأُمِّ من أخيكَ لأن الفعل للأب ووضعت الهاء في ( لَهُ ) إلى الرجل فلم يكن في ( أُمٍّ ) ضمير لأن الأب قد ارتفع به فإن لم يرد هذا التقدير قلت : ما رأيتُ رجلاً أبَر أباً بأُمٍّ من زيدٍ كما تقول : ما رأيت رجلاً أحسنَ وجهاً من زيدٍ وكذلك : ما رأيت رجلاً أشبه وجهٍ لهُ بقفاً من زيدٍ فإن حذفت له قلت : ما رأيت رجلاً أشبه بقفاً من زيدٍ لأن في ( أشبَه ) ضمير رجل
وأما قولهم : ما من أيامٍ أحبَّ إلى اللهِ فيها الصومُ منه في عَشْرِ ذي الحجةِ ولكنه لما قال : في الأول ( إلى اللِه ) لم يحتج إلى أنْ يذكر ( إليه ) لأن الرد إلى واحدٍ وليس كقولك : زيدٌ أحبُ إلى عمرو منه إلى خالدٍ لأنك رددت إلى اثنين فلا تحتاج إلى أن تقول : زيدٌ عندي أحسنَ من عمروٍ عندي لأن الخبر يرجع إلى واحد فأما قولهم : ما مِن أيامٍ أحب إلى اللِه فيها الصومُ منه في عَشْرِ ذي الحجةِ فإنما هو بمنزلة : ما رأيت رجلاً أحسنَ في عينه الكحلُ منهُ في عينِ زيدٍ فقولُه : فيها بمنزلة قولهِ : في عينهِ وإنما أضمرت الهاءَ في ( فيها ) وفي عينِه لأنك ذكرت الأيام وذكرت رجلاً
وكذلك قلت : اللُه عز و جلَّ : ما رأَيت أياماً أحب إليه فيها الصوم لأضمرته في ( إليهِ ) ومنه للصوم كما كان للكحلِ وأما قولُهُ : إلى اللِه فتبيينٌ لأحب وأحسن لا يحتاج إلى ذلك ألا ترى أنك تقول : زيد أحسن من عمروٍ فلا تحتاج إلى شيء وتقول : زيد أحب إلى عمروٍ منكَ فقولك : إلى عمروٍ كقولك إلى الله في المسألة الأولى ولو قلت : ما رأيتُ رجلاً أحسن في عينه الكحلُ عند عمروٍ منهُ في عينِ أخيكَ كان بمنزلة ذلك لأن قولك عندَ عمروٍ قد صار مختصراً كقولك إلى اللِه في تلك المسألةِ وأما قولهم : ما رأيت رجلاً أبغضَ إليه الشرُّ من زيدٍ وما رأيت رجلاً أحسنَ في عينه الكحل من زيدٍ فإنما هو مختصر من الأول والمعنى : إنما هو الأول لا أنك فضلت الكحل على زيدٍ ولكنك أخبرت أن الكحل في عين زيدٍ أحسنُ منه في غيرها كما أردت في الأول ولكنك حذفت لقلة التباسه وليست ( مِنْ ) ها هنا بمنزلتها في قولك : ما رأيتُ رجلاً أحسنَ من زيدٍ لأنكَ هنا تخبر أنك لم ترَ من يتقدم زيداً وأنت في الأول تخبر أنك لم ترَ من يعمل الكحل في عينه عمله في عين زيدٍ فتقديره : ما رأيت رجلاً أحسنَ كحلاً في عينٍ من زيدٍ لما أضمرت رجلاً في ( أحسَن ) نصبت كحلاً على التمييز ليصح معنى الإختصار
الثالث من التوابع وهو عطف البيان :
اعلم : أن عطف البيان كالنعت والتأكيد في إعرابهما وتقديرهما وهو مبين لما تجريه عليه كما يبينان وإنما سمي عطف البيان ولم يقل أنه نعت لأنه اسم غير مشتق من فعل ولا هو تحلية ولا ضرب من ضروب الصفات فعدل النحويون عن تسميته نعتاً
وسموه عطف البيان لأنه للبيان جيء به وهو مفرق بين الإسم الذي يجري عليه وبين ما له مثل اسمه نحو : رأيتُ زيداً أبَا عمروٍ ولقيت أخاكَ بكراً
والفرق بين عطف البيان والبدل أن عطف البيان تقديره النعت التابع للإسم الأول والبدل تقديره أن يوضع موضع الأول وتقول في النداء إذا أردت عطف البيان يا أخانا زيداً فتنصب وتنون لأنه غير منادى فإن أردت البدل قلت : يا أخانا زيدُ وقد بينت هذا الباب في النداء ومسائله وستزداد بياناً في باب البدل إن شاء الله
الرابع من التوابع : وهو عطف البدل :
البدل على أربعة أقسام
إما أن يكون الثاني هو الأول أو بعضه أو يكون المعنى مشتملاً عليه أو غلطاً وحق البدل وتقديره أن يعمل العامل في الثاني كأنه خالٍ من الأول وكان الأصل أن يكونا خبرين أو تدخل عليه واو العطف ولكنهم اجتنبوا ذلك للبس
الأول ما ابتدلته من الأول وهو هُو : وذلك نحو قولك : مررتُ بعبد الله زيدٍ ومررت برجلٍ عبد الله وكان أصل الكلام : مررت بعبد الله ومررت بزيدٍ أو تقول : مررتُ بعبد اللِه وزيدٍ ولو قلت ذلك لظن أن الثاني غير الأول فلذلك استعمل البدل فراراً من اللبس وطلباً للإختصار والإِيجاز ويجوز إبدال المعرفة من النكرة والنكرة من المعرفة والمضمر من المظهر والمظهر من المضمر البدل في جميع ذلك سواء
فأما إبدال المعرفة من النكرة فنحو : قول الله : ( صراطٍ مستقيمِ صراطٍ الله ) فهذا إبدال معرفة من نكرة فتقول على هذا : مررت برجلٍ عبد اللِه وأما إبدال النكرة من المعرفة
فنحو قولك : مررت بزيدٍ رجلٍ صالحٍ كما قال الله عز و جل ( بالناصية ناصيةٍ كاذبة خاطئة ) فهذا إبدال نكرة من معرفة وأما إبدال الظاهر من المضمر فنحو قولك : مررتُ بهِ زيدٍ وبهما أخويك ورأيت الذي قامَ زيدٌ تبدل زيداً من الضمير الذي في ( قام ) ولا يجوز أن تقول : رأيتُ زيداً أباهُ والأب غير زيدٍ لأنك لا تبينه لغيره
الثاني ما أبدل من الأول وهو بعضه : وذلك نحو قولك : ضربتُ زيداً رأسَهُ وأتيتُ قومَكَ بعضَهم ورأيتُ قومَكَ أكثَرهم ولقيت قومكَ ثلاثَتهم ورأيت بني عمِّكَ ناساً منهم وضربت وجوهها أولها قال سيبويه : فهذا يجيء على وجهينِ : على أنه أراد أكثَر قومِكَ وثلثي قومكَ وضربتُ وجوهَ أولِها ولكنه ثني الإسم تأكيداً والوجه الآخر : أن يتكلم فيقول : رأيتُ قومَكَ ثم يبدو أن يبين ما الذي رأى منهم
فيقول : ثلاثتَهم أو ناساً منهم ومن هذا قوله عز و جل : ( ولله على الناس حج البيتِ من استطاع إليهِ سبيلاً ) والمستطيعونَ بعضُ الناسِ
الثالث ما كان من سبب الأول : وهو مشتمل عليه نحو : سُلبَ زيدٌ ثوبَهُ وسرق زيد مالُه لأن المعنى : سُلبَ ثوب زيد وسرق مالُ زيدٍ ومن ذلك قول الله عز و جل : ( يسألونك عَنِ الشهرِ الحرامِ قتالٍ فيهِ ) لأن المسألة في المعنى عن القتال في الشهر الحرام ومثله : ( قُتلَ أصحابُ الأخدودِ النارِ ذات الوقود ) وقال الأعشى
( لَقدْ كَانَ في حَوْلٍ ثَوَاءٍ ثَوَيْتُهُ ... تفضى لَبَانَاتُ ويْسأْمُ سائِمُ )
وقال آخر :
( وذَكَرَتْ تَقْتُدَ بَرْدَ مَائِهَا ... وعَتَكُ الَبْولِ على أنسائِها )
الرابع وهو بدل الغلط والنسيان : وهو البدل الذي لا يقع في قرآن ولا شعرٍ وذلك نحو قولهم : مررتُ برجلٍ حمارٍ كأنه أراد أن يقول : مررتَ بحمارِ فغلط فقال : برجلٍ أو بشيءٍ
واعلم : أن الفعل قد يبدل من الفعل وليس شيء من الفعل يتبع الثاني الأول في الإِعراب إلا البدل والعطف والبدل نحو قول الشاعر :
( إنَّ على اللِه أنْ تُبايعا ... تُؤخذَ كُرهاً أو تجيء طائعاً )
وإنما يبدل الفعل من الفعلِ إذا كان ضرباً منه نحو هذا البيت
ونحو قولك : إن تأتني تمشي أمشي معكَ لأن المشيَ ضرب من الإِتيان ولا يجوز أن تقول : أن تأتي تأكل آكلْ معكَ لأن الأكل ليس من الإِتيان في شيء
مسائل من هذا الباب
تقول : بعتُ متاعَك أسفلَهُ قبلَ أعلاهُ واشتريتُ متاعَك بعضَهُ أعَجلَ من بعضٍ وسقيت إبلَك صغارها أحسن من سقي كبارها ودفعت الناس بعضَهم ببعضٍ وضربت الناسَ بعضَهم قائماً وبعضَهم قاعداً وتقول : مررت بمتاعِكَ بعضِه مرفوعاً وبعضِه مطروحاً كأنك قلت مررت ببعضِ متاعِكَ مرفوعاً وببعضِ مطروحاً لأنك مررتَ به في هذه الحال وإذا كان صفة للفعل لم يجز الرفع وتقول : بعتُ طعامَكَ بعضه مكيلاً وبعضَهُ موزوناً إذا أردت أن الكيل والوزن وقعا في حال البيع فإن رفعت فإلى هذا المعنى ولم يكن متعلقاً بالبيع فقلت : بعتُ طعامَك بعضهُ مكيلٌ وبعضهُ موزونٌ أي بعته وهو موجود كذا فيكون الوزن والكيل قد لحقاه قبل البيع وليسا بصفة للبيع وتفهم هذا بأن الرجل إذا قال : بعتُكَ هذا الطعامَ مكيلاً وهذا الثوب مقصوراً فعليه أن يسلمه إليه مكيلاً ومقصوراً وإذا قال : بعتُكَ وهو مكيل فإنما باعه شيئاً موصوفاً بالكيل ولم يتضمنه البيع تقول : خَوفتُ الناسَ ضعيفَهم وقويُهم كأنك قلت : خوفت ضعيفَ الناسِ قويهم وكان تقدير الكلام قبل أن ينقل فعل إلى ( فَعَلتُ ) خافهُ الناس ضعيفُهم قويهم فلما قلت : خَوَّفتُ صار الفاعلُ مفعولاً وقد بينت هذا فيما
تقدم ومثل ذلك ألزمت الناس بعضهم بعضاً كان الأصل : لزمَ الناسُ بعضَهم بعضاً فلما قلت ألزمتُ صار الفاعل مفعولاً وصار الفعل يتعدى إلى مفعولين وتقول : دفعتُ الناسِ بعضُهم ببعضٍ على قولكَ : دفع الناسُ بعضُهم بعضاً فإذا قلت : دفعَ صار ما كان يتعدى لا يتعدى إلا بحرف جر فتقول : دفعَ الناسُ بعضَهم ببعضٍ وتقول : فضلتُ متاعَكَ أسفلَهُ على أعلاهِ كأنه في التمثيل : فَضل متاعُكَ أسفلهُ على أعلاه فلما قلت : فضَّلتُ صار الفاعل مفعولاً ومثله : صككتُ الحجرينِ أحدهما بالآخرِ كان التقدير : اصطكَ الحجرانِ أحدهما بالآخرِ فلما قلت : صككتُ صار الفاعل مفعولاً ومثل ذلِكَ : ولولا دفاعُ اللِه الناسَ بعضَهُم ببعضٍ والمعنى : لولا أن دفعَ الناسُ بعضهُم ببعضٍ ولو قلت : دفعَ الناسُ بعضَهم بعضاً لم يحتج إلى الباء لأنه فعل يتعدى إلى مفعول قلت دفَع اللُه الناسَ واستتر في الفعلِ عمله في الفاعل ن لم يجز أن يتعدى إلى مفعول ثانٍ إلا بحرفِ جرٍّ فعلى هذا جاءت الآيةُ ولذلك دخلت الباء وتقول : عجبتُ من دفعِ الناسِ بعضَهم بعضاً إذا جعلت الناس فاعلين كأنك قلت عجبت من أن دفع الناسُ بعضَهم بعضاً فإن جعلت الناس مفعولين قلت : عجبت من دفعِ الناسِ بعضِهم ببعضٍ لأن المعنى : عجبتُ من أنْ دفَع الناسُ بعضهم ببعضٍ وتقول : سمعتُ وقَع أَنيابهِ بعضِها فوقَ بعضٍ جرى على قولك : وقعت أنيابهُ بعضُها فوقَ بعضٍ فأنيابُه هنا فاعلةٌ وتقول : عجبتُ من إيقاعِ أنيابهِ بعضِها فوقَ بعضٍ جراً فأنيابِه هنا مفعولةٌ قامت مقام الفاعل ولو قلت : أوقعت أنيابُه بعضُها فوقَ بعضٍ لقلت : عجبتُ من إيقاعي أنيابَهُ بعضَها فوقَ بعضٍ فنصبت أنيابَه وتقول : رأيتُ متاعك بعضَهُ فوقَ بعضٍ إذا جعلت ( فوقَ ) في موضع الإسم المبني على المبتدأ وجعلت المبتدأ بعضَهُ كأنك قلت : رأيتُ متاعَكَ بعضَهُ أجود من
بعضٍ فإن جعلت ( فوقَ ) وأجودها حالاً نصبتَ ( بعضَهُ ) وإن شئت قلت : رأيت متاعَك بعضَه أحسنَ من بعضِ فتنصبُ ( أَحسنَ ) على أنه مفعول ثانٍ وبعضُه منصوب بأنه بدلٌ من متاعِكَ
قال سيبويه : والرفع في هذا أعرف والنصب عربي جيدٌ فما جاء في الرفع ( ويومَ القيامةِ ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة )
ومما جاء في النصب : ( خلقَ اللُه الزرافةَ يديها أطولَ من رجلِيها ) قال : حدثنا يونس أن العرب تنشد هذا البيت لعبدة بن الطبيب :
( فَمَا كَانَ قَيْسٌ هُلْكُه هُلْك وَاحِدٍ ... ولِكَّنهُ بُنيانُ قَوْمٍ تَهَدَّما )
وقال رجل من خثعم أو بجيلة :
( ذَرِيني إنَّ أَمَرِكِ لَنْ يُطاعَا ... وما ألفيتِني حِلْمي مُضَاعا )
وتقول : جعلتُ متاعَكَ بعضَهُ فوقَ بعضٍ كما قلت : رأيتُ متاعَك
بعضَهُ فوقَ بعضٍ وأنتَ تريد رؤية العين وتنصب ( فوقَ ) بأنه وقع موقع الحال فالتأويل : جعلت ورأيتُ متاعك بعضَهُ مستقراً فوقَ بعضٍ أو راكباً فوق بعضٍ أو مطروحاً فوق بعضٍ أو ما أشبه هذا المعنى ( ففوقَ ) ظرف نصبه الحال وقام مقام الحال كما يقوم مقام الخبر في قولك : زيدٌ فوقَ الحائِط إذا قلت : رأيتُ زيداً في الدار فقولك ( في الدارِ ) يجوز أن يكون ظرفاً لرأيت ويجوز أن يكون ظرفاً لزيدٍ كما تقول : رميتُ من الأرضِ زيداً على الحائِط فقولك : على الحائِط ظرف يعمل فيه استقرار زيدٍ كأنكَ قلت : رميتُ من الأرضِ زيداً مستقراً على الحائِط ونحو هذا ما جاء في الخبر كتب عمر إلى أبي عبيدة بالشام : الغوثَ الغوثَ وأبو عبيدة وعمر رحمه اللُه كتب إليه من الحجاز فالكتاب لم يكن بالشام ولك أن تعدى ( جعلتَ ) إلى مفعولين فتقول : جعلتُ متاعَكَ بعضَهُ فوقَ بعضٍ فتجعل ( فوقَ بعضٍ ) مفعولاً ثانياً كما يكون في ( ظننتُ ) متاعَكَ بعضَه فوقَ بعضٍ ( فجعلتُ ) هذه إذا كانت بمعنى ( علمتُ ) تعدت إلى واحد مثل رأيتُ إذا كانت من رؤية العين وإذا كانت جعلتُ ليست بمعنى علمتُ وإنما تكلم بها عن توهم أو رأيٍ أو قولٍ كقول القائل : جَعلتُ حسني قبيحاً وجعلتُ البصرةَ بغدادَ وجعلت الحلالَ حراماً فإذا لم ترد فجعلت العلاج والعمل في التعدي بمنزلة ( رأيتُ ) إذا أردت بها رؤية القلب ولم ترد رؤية العين ولك أن تعدي ( جعلتُ ) إلى مفعولين على ضرب آخر على أن تجعل المفعول الأول فاعلاً في الثاني كما تقول : أَضْربتُ زيداً عمراً تريد أنك جعلتَ زيداً يضربُ عمراً فيكون حينئذٍ قولك : فوقَ بعضٍ مفعولُ مفعولٍ وموضعه نصب تعدى إليه الفعل بحرف جرٍّ لأنك إذا قلت : مررت بزيدٍ فموضع هذا نصب وهذا نحو : صُكَّ الحجرانِ أحدهما بالآخرِ فإذا جعلت أنت أحدهما يفعل بالآخر قلت : صككتُ الحجرين أحدهما بالآخر ولم يكن بُدٌ من الباء لأن الفعل متعدٍّ إلى مفعولٍ واحدٍ فلما جعلت المفعول في المعنى فاعلاً احتجت إلى مفعول فلم يتصل الكلام إلا بحرف جرٍّ وقد بينت ذا فيما تقدم وأوضحته فهذه ثلاثة أوجهٍ في نصب ( جَعَلْتُ )
متاعَكَ بعضَهُ على بعضٍ وهي النصب على الحال والنصب على أنه مفعولٌ ثانٍ والنصب على أنه مفعولُ مفعولٍ فافهمهُ فإنه مشكل في كتبهم ويجوز الرفعُ فتقول : جعلت متاعَك بعضه على بعضٍ وتقول : أبكيتَ قومكَ بعضهم على بعضٍ فهذا كان أصله بكى قومُكَ بعضُهم على بعضٍ فلما نقلته إلى ( أبكيتُ ) جعلت الفاعل مفعولاً وهو في المعنى فاعلٌ إلا أنك أنت جعلتهُ فاعلاً وقولك : على بعضٍ لا يجوز أن يقع موقع الحال لأنك لا تريد أنّ بعضَهم مستقرٌ على بعضٍ ولا مطروحٌ على بعضٍ كما كان ذلكَ في المتاعِ قال سيبويه : لم ترد أن تقول : بعضُهم على بعضٍ في عونٍ ولا أن أجسادَهم بعضاً على بعضٍ وقولك : بعضُهم في جميع هذه المسائل منصوب على البدل فإن قلت : حزنتُ قومَك بعضُهم أفضلُ من بعضٍ كان الرفع حُسناً لأن الآخر هو الأول وإن شئت نصبت على الحال يعني ( أفضلَ ) فقلت : حَزنت قومَكَ بعضَهم أفضلَ من بعضٍ كأنك قلت : حَزنت بعضَ قومِكَ فاضلينِ بعضهم
قال سيبويه : إلا أن الأعرف والأكثر إذا كان الآخر هو الأول أن يبتدأ والنصب عربي جيد وتقول : ضُربَ عبد اللِه ظهرُه وبطنُهُ ومُطرنا سهلُنا وجبلُنا ومطرنَا السهلُ والجبلُ وجميع هذا لك فيه البدل ولك أن يكون تأكيداً كأجمعينَ لأنك إذا قلت : ضُرب زيدٌ الظهرُ والبطنُ فالظهر والبطن هما جماعة زيدٍ وإذا قلت : ( مَطرنا ) فإنما تعني : مطرت بلادُنا والبلاد يجمعها السهل والجبل
قال سيبويه : وإن شئت نصبت فقلت ضُربَ زيدٌ الظهرَ والبطنَ ومطرنا السهل والجبل وضُرب زيد ظهرهُ وبطنهُ والمعنى : حرف الجر
وهو ( في ) ولكنهم حذفوه قال : وأجازوا هذا كما أجازوا دخلتُ البيتَ وإنما معناه : دخلت في البيتِ والعامل فيه الفعل وليس انتصابه هنا انتصاب الظروف قال : ولم يجيزوا حذف حرف الجر في غير السهلِ والجبلِ والمظهر والبطنِ نظير هذا في حذف حرف الجر نُبئتَ زيداً تريد : عن زيدٍ وزعم الخليل : أنهم يقولون مطرنا الزرع والضرع وإن شئت رفعت على البدل على أن تصيره بمنزلة أجمعينَ توكيداً
قال سيبويه : إن قلت : ضُربَ زيد اليدُ والرجلُ جاز أن يكون بدلاً وأن يكون توكيداً وإن نصبته لم يحسن والبدل كما قال جائزٌ حَسنٌ والتوكيد عندي يَقْبُحُ إذا لم يكن الإسم المؤكِدُ هو المؤكَدُ واليد والرجل ليستا جماعة زيدٍ وهو في السهلِ والجبلِ عندي يحسنُ لأن السهلَ والجبلَ هما جماعة البلادِ وكذلك البطنُ والظهرُ إنما يراد بهما جماعة الشخص فإن أراد باليد والرجل أنه قد : ضُربت جماعة واجتزأ بذكر الطرفين في ذلك جاز
قال : وقد سمعناهم يقولون : ضربتهم ظهراً وبطناً وتقول : ضربت قومَك صغيرهم وكبيرهم على البدل والتأكيد جميعاً فإن قلت : أو كبيرهم لم يجز إلا البدل وتقول : زيدُ ضربتهُ أخاكَ فتبدل ( أخاك ) من الهاء لأن الكلام الأول قد تم وقد خبرتك : أن البدل إنما هو اختصار خبرين فإن قلت : زيدٌ ضربتُ أخاكَ إيّاهُ لم يجز لأن الكلام الأول ما تم فإن قلت : مررتُ برجلٍ قائمٍ رجلُ أبوهُ فجعلت أباه بدلاً من رجل لم يجز لأنه لا يصلح أن تقول : مررت برجلٍ قائمٍ أبوهُ وتسكت ولا يتم بذلك الكلام فإن قلت : مررتُ برجلٍ قائمٍ زيدٍ أبوهُ فقد أجازه الأخفش
على الصفة وقال : لأن قولك أبوه من صفة زيدٍ فصار كأنه بعض اسمه ولو كان بدلاً من زيدٍ لم يكن كلاماً ونظير هذا : مررتُ برجلٍ قائمٍ رجلٌ يحبُه وبرجلٍ قائمٍ زيدٌ الضاربه
الخامس من التوابع : وهو العطف بحرف :
حروف العطف عشرة أحرف يُتبِعنَ ما بعدهن ما قبلهن من الأسماء والأفعال في إعرابها
الأول : الواو ومعناها إشراك الثاني فيما دخل فيه الأول وليس فيها دليل على أيهما كان أولاً نحو قولك : جاء زيدٌ وعمروٌ ولقيت بكراً وخالداً ومررت بالكوفةِ والبصرةِ فجائز أن تكون البصرة أولاً وجائز أن تكون الكوفةُ أولاً قال الله عز و جل : ( واسجدي واركعي مع الراكعين ) والركوع قبل السجود
الثاني الفاء : وهي توجب أن الثاني بعد الأول وإن الأمر بينهما قريبٌ نحو قولك : رأيتُ زيداً فعمراً ودخلت مكةَ فالمدينةَ وجاءني زيدٌ فعمروٌ ومررت بزيدٍ فعمروٍ فهي تجيء لتقدم الأول واتصال الثاني فيه
الثالث ثُمَّ : وثم مثل الفاء إلا أنها أشد تراخياً وتجيء لتعلم أن بين الثاني والأول مهلة تقول ضربتُ زيداً ثم عمراً وجاءني زيدٌ ثم عمروٌ ومررت بزيدٍ ثم عمروٍ
الرابع أو : ولها ثلاثة مواضع تكون لأحد الشيئين بغير تعيينه عند
شك المتكلم أو قصده أحدهما أو إباحة وذلك قولك : أتيت زيداً أو عمراً وجاءني رجلٌ أو ا مرأةٌ هذا إذا شك فأما إذا قصد بقوله أحدهما فنحو : كُلِ السمكَ أو اشربِ اللبنَ أي لا تجمعهما ولكن اختر أيهما شئت وكقولك : أعطني ديناراً أو اكسني ثوباً والموضع الثالث الإِباحة وذلك قولك : جالس الحسن أو ابن سيرين وأئت المسجد أو السوق أي قد أذنت لك في مجالسة هذا الضرب من الناسِ وعلى هذا قولُ الله عز و جلَ : ( ولا تطعْ منهم آثماً أو كفوراً )
الخامس إما : وإما في الشك والخبر بمنزلة ( أو ) وبينهما فصل وذلك أنك إذا قلت : جاءني زيدٌ أو عمروٌ وقع الخبر في ( زيدٍ ) يقيناً حتى ذكرت ( أو ) فصار فيه وفي عمروٍ شك و ( إما ) تبتدىء به شاكاً وذلك قولك : جاءني إما زيدٌ وإما عمروٌ أي أحدهما وكذلك وقوعها للتخيير تقول : اضرب إما عبد الله وإما خالداً فالآمر لم يشك ولكنه خير المأمور كما كان ذلك في ( أو ) ونظيره قول الله عز و جل : ( إنّا هديناهُ السبيلَ إما شاكراً وإما كفوراً ) وكقوله عز و جل : ( فإمّا مناً بعدُ وإما فداءً )
السادس ( لاَ ) : وهي تقع لإخراج الثاني مما دخل فيه الأول وذلك قولك : ضربتُ زيداً لا عمراً ومررت برجلٍ لا امرأةٍ وجاءني زيدٌ لا عمروٌ
السابع بلْ : ومعناها الإِضراب عن الأول والإِثبات للثاني نحو قولك : ضربتُ زيداً بلْ عمراً وجاءني عبد الله بلْ أخوهُ وما جاءني رجلٌ بل امرأةٌ
الثامن لكنْ : وهي للإستدراك بعد النفي ولا يجوز أن تدخل بعد واجب إلا لترك قصةٍ إلى قصةٍ ( تامةٍ ) فأما مجيئها للإستدراك بعد النفي فنحو قولك : ما جاءني زيدٌ لكنْ عمروٌ وما رأيت رجلاً لكنْ امرأة ومررت بزيدٍ لكنْ عمروٍ لم يجز
التاسع أَمْ : وهي تقع في الإستفهام في موضعين : فأحدهما أن تقع عديلة الألف على معنى ( أي ) وذلك نحو قولك : أزيدٌ في الدار أم عمروٌ وكقولك : أأعطيتَ زيداً أم أحرمته فليس جوابُ هذا لا ولا ( نَعَمْ ) كما أنه إذا قال : أيهما لقيتَ أو أي الأمرين فعلت لم يكن جواب هذا لا ولا ( نعم ) لأن المتكلم مدع أن أحد الأمرين قد وقع لا يدري أيهما هو فالجواب أن يقول : زيدٌ أو عمروٌ فإن كان الأمر على غير دعواه فالجواب : أن تقول : لم ألقَ واحداً منهما أو كليهما فمن ذلك قول الله عز و جل : ( أأنتم أشدُّ خلقا أم السماءُ بناها ) ومثل ذلك : ( أهمْ خيرٌ أم قومُ تُبع ) فخرج هذا من الله مخرج التوقيف والتوبيخ ومخرجه من الناس يكون استفهاماً ويكون توبيخاً ويدخل في هذا
الباب التسوية لأن كل استفهام فهو تسوية وذلك نحو قولك : ليتَ شعري أزيدٌ في الدارِ أمْ عمروٌ وسواءٌ عليَّ أذهبت أم جئتَ فقولك : سواءٌ عليَّ تخبر أن الأمرين عندك واحدٌ وإنما استوت التسوية والإستفهام لأنك إذا قلتَ مستفهماً أزيدٌ عندك أم عمروٌ فهما في جهلك لهما مستويان لا تدري أن زيداً في الدار كما لا تدري أن عمراً فيها وإذا قلت : قد علمتُ أزيدٌ في الدار أم عمروٌ فقد استويا عند السامع كما استوى الأولانِ عند المستفهم وأي داخلة في كل موضع تدخل فيه أم مع الألف تقول : قد عملتُ أيُّهما في الدار تريد أذَا أم ذَا قال الله عز و جل : ( فلينظر أيها أَزكى طَعاماً ) وقال ( لنعلم أيُّ الحزبين أحصى لمِا لبثوا أمدا ) فأي تنتظم معنى الألف مع أم جميعاً وأما الموضع الثاني من موضعي ( أمْ ) فإن تكون منقطعة مما قبلها خبراً كان أو استفهاماً وذلك نحو قولك فيما كان خبراً : إنَّ هذا لزيدُ أم عمروٌ يا فتى وذلك أنك نظرت إلى شخصٍ فتوهمته زيداً فقلت على ما سبق إليك ثم أدركك الظن أنه عمرو فانصرفت عن الأول فقلت : أم عمروٌ مستفهماً فإنما هو إضراب على معنى ( بَلْ ) إلا أن ما يقعُ بعد ( بَلْ ) يقينٌ وما يقع بعد ( أمْ ) مظنون مشكوك فيه وذلك أنك تقول : ضربتُ زيداً ناسياً أو غالطاً ثم تذكر فتقول : بَلْ عمراً مستدركاً مثبتاً للثاني تاركاً للأول فهي تخرج من الغلط إلى استثباتٍ ومن نسيان إلى ذكر و ( أمْ ) معها ظن أو استفهام وإضراب عما كان قبله ومن ذلك : هل زيدٌ منطلقٌ أم عمروٌ يا فتى قائماً أضرب عن سؤاله عن انطلاق زيد وجعل السؤال عن عمرو فهذا مجرى هذا وليس على منهاج
====
ج3. كتاب : الأصول في النحو أبي بكر محمد بن سهل بن السراج النحوي البغدادي
قولك : أزيدٌ في الدار أم عمروٌ وأنت تريد : أيهما في الدار لأن ( أَمْ ) عديلة الألف ولا تقع ( هَلْ ) موقع الألف مع ( أَمْ ) وقد تدخل ( أَمْ ) على ( هلْ )
قال الشاعر :
( أمْ هَلْ كَبيرٌ بكى ... . . . )
العاشر حتى : تقول ضربتُ القومَ حتىَّ زيداً وقد ذكرتها كيف تكون عاطفة فيما تقدم حين ذكرناها مع حروف الخفض وأفردنا لها باباً واعلم أن قوماً يُدخلون ليس في حروف العطف ويجعلونها كلا وهذا شاذ في كلامهم وقد حكى سيبويه أن قوماً يجعلونها ( كَما ) فيقولون : لَيس الطيبُ إلا المسكَ
واعلم : أن حروف العطف لا يدخل بعضها على بعض فإن وجدت ذلك في كلام فقد أُخرج أحدهما من حروف النسق وذلك مثل قولهم : لم يقم عمروٌ ولا زيدٌ الواو نَسقٌ ( ولا ) توكيد للنفي وكذلك قولك : والله لا فعلتُ ثم والله لا فعلتُ ثم نَسق والواو قَسمٌ وحروف العطف لا يفرق
بنيها وبين المعطوف بشيء مما يعترض بين العامل والمعمول فيه والأشياء التي يعترض بها : الأيمانُ والشكوكُ والشروطُ
وقد يجوز ذلك في ( ثم وأو ولا ) لأنها تنفصل وتقوم بأنفسها وقد يجوز الوقوف عليها فتقول : قامَ زيدٌ ثم والله عمروٌ وثم أظن عمروٌ و ( لا ) التي للعطف يصح أن تلي الماضي لأنه قد غلب عليه الدعاء وقد يجوز أن يكون مع الماضي بمنزلة ( لَم ) وذلك قولك : زيدٌ قامَ لا قعد فيلتبس بالدعاء فإن لم يلتبس جاز عندي وقد جاءت ( لا ) نافية مع الماضي في غير خبر كما جاءت ( لَم ) وذلك قوله تعالى : ( فلا صَدَّقَ ولا صَلَّى ) وتقول : لم يقمْ زيدٌ ولم يقعد ولا يجوز : ولا يقعدُ إلا أن ترفعه وكذلك : لن يقومَ زيدٌ ولا يقعدُ بواوٍ وغير واوٍ
باب العطف على الموضع الأشياء التي يقال أن لها موضعاً غير لفظها على ضربين : أحدهما اسمٌ مفرد مبني والضرب الآخر اسم قد عمل فيه عامل أو جعل مع غيره بمنزلة اسم فيقال : إن الموضع للجميع فإن كان الإسم معرباً مفرداً فلا يجوز أن يكون له موضع لأنا إنما نعترف بالموضع إذا لم يظهر في اللفظ الإِعراب فإذا ظهر الإِعراب فلا مطلوب
الضرب الأول :
وهو الإسم المضمر والمبني وذلك نحو : هذا تقول : إن هذا أخوكَ فموضع ( هذَا ) نصب لأنك لو جعلت موضع هذا اسماً معرباً قلت : إن زيداً أخوكَ فمن أجل هذا جاز أن تقول : إن هذا وزيداً قائمان ولهذا جاز أن تقول : يا زيدُ العاقلَ فتنصب على الموضع وإنما جاز الرفع على اللفظ لأنه مبني يشبه المعرب لاطراده في الرفع وقد بينت هذا في باب النداء وليس في قولك ( هذا ) حركة تشبه الإِعراب فإذا قلت : يا زيد وعمروُ فحكم الثاني حكم الأول لأنه منادى فهو مضموم وقد قالوا على
ذلك : يا زيدُ والحارثُ كما دخلت الألف واللام و ( يا ) لا تدخل عليهما ومن قال : إن موضع الإسم الذي عملت فيه ( إنَّ ) رفعٌ فقد غلط من قبل أن المعرب لا موضع له ومن أجل أنه يلزمه أن يكون لهذا موضعان في قولك : إن هذا وزيداً أخواكَ لأن موضع زيدٍ عنده إذا قال : إن زيداً رفعٌ فيلزمه أن يكون موضُع ( هذا ) نصباً ورفعاً
الضرب الثاني :
ينقسم أربعة أقسام : جملة قد عمل بعضها في بعضٍ أو اسم عمل فيه حرف أو اسمٌ بني مع غيره بناء أو اسم موصول لا يتمُّ إلا بصلته
الأول جملة قد عمل بعضها في بعض : اعلم أن الجمل على ضربين ضربٍ لا موضع له وضرب له موضعٌ
فأما الجملة التي لا موضع لها فكل جملة ابتدأتها فلا موضع لها نحو قولك : مبتدئاً : زيدٌ في الدار وعمروٌ عندكَ فهذه لا موضع لها
الضرب الثاني : الجملة موقع اسم مفرد نحو قولك : زيدٌ أبوهُ قائمٌ فأبوه قائم جملة موضعها رفع لأنك لو جعلت موضعها اسماً مفرداً نحو : منطلق لصلح وكنت تقول : زيدٌ منطلقٌ فتقول على هذا هندٌ منطلقةٌ وأبوها قائمٌ فيكون موضع أبوها ( قائمٌ ) رفعاً لأنك لو وضعت موضع هذه الجملة ( قائمةً ) لكان رفعاً فإن قلت : هندٌ أبوها قائمٌ ومنطلقةٌ جاز والأحسن عندي أن تقدم ( منطلقةً ) لأن الأصل للمفرد والجملة فرع ولا ينبغي أن تقدم الفرع على الأصل إلا في ضرورة شعرهم وكذلك : مررت بامرأةٍ أبوها شريفٌ وكريمةٌ حقه أن يقول : بامرأةٍ كريمةٍ وأبوها شريفٌ لأن الأصل للمفرد وإنَّ وصفه مثله مفرداً وتقديم الجملة في الصفة عندي على المفرد أقبح منه في الخبر إذا قلت : هندٌ أبوها كريمٌ وشريفةٌ لأن أصل الصفة أن تكون مساوية للموصوف تابعة له في لفظها ومعرفتها ونكرتها وليس الخبر من
المبتدأ بهذه المنزلة فإذا قلت : زيدٌ أبوه قائمٌ وكريم لزيدٍ لم يحسنْ لأنه ملبس يصلح أن يكون لزيدٍ وللأبِ والأولى أن يكون معطوفاً على ( قائمٍ ) لما خبرتك فإن لم يلبس صلُحَ وكذلك حق حروف العطف أن تعطف على ما قرب منها أولى
القسم الثاني اسم عمل فيه حرف :
هذا القسم على ضربين :
ضرب يكون العامل فيه حرفاً زائداً للتوكيد سقوطه لا يخل بالكلام بل يكون الإِعراب على حقه والكلام مستعمل
والضرب الآخر أن يكون الحرف العامل غير زائد ومتى أسقط لم يتصل الكلام بعضه ببعض
فالضرب الأول : نحو قولك : لستَ بقائمٍ ولا قاعدٍ الباء زائدة لتأكيد النفي
ولو أسقطتها لم يخل بالكلام واتصل بعضه ببعضٍ فموضع ( بقائمٍ ) نصب لأن الكلام المستعمل قبل دخولها ( لستَ قائماً ) فهذا لك أن تعطف على موضعه فتقول لستَ بقائمٍ ولا قاعداً ومن ذلك : هل من رجلٍ عندك وما من أحد في الدار فهذا لك أن تعطف على الموضع لأن موضع ( من رجلٍ ) رفعٌ وكذلك : خَشَّنتُ بصدره وصدر زيدٍ ولو اسقطت الباء كان جيداً فقلت خَشنت صدره وصدرُ زيدٍ وكذلك : كفى
بالله إنما هو : كفى الله فعلى ذا تقول : كفى بزيدٍ وعمروٍ ومن ذلكَ : إن زيداً في الدار وعمراً ولو أسقطت ( إنّ ) لكان : زيدٌ في الدار وعمروٌ فإن مع ما عملت فيه في موضع رفعٍ وينبغي أن تعلم أنه ليس لك أن تعطف على الموضع الذي فيه حرف عامل إلا بعد تمام الكلام من قبل أن العطف نظير التثنية والجمع ألا ترى أن معنى قولك : قامَ الزيدانِ إنما هو : قامَ زيدٌ وزيدٌ فلما كان العاملان مشتركين في الإسم ثُنيا ولو اختلفا لم يصلح فيهما إلا الواو فكنت تقول : قامَ زيدٌ وعمروٌ فالواو نظير التثنية وإنما تدخل إذا لم تكن التثنية فلما لم يكن يجوز أن يجتمع في التثنية الرفع والنصب ولا الرفع والخفض ولا أن يعمل في المثنى عاملان كذلك لم يجز في المعطوف والمعطوف عليه
فإذا تم الكلام عطفت على العامل الأول وكنت مقدراً إعادته وإن كنت لا تقيده في اللفظ لأنك مستغنٍ عنه ألا ترى أنه لا يجوز أن تقول : إن زيداً وعمروٌ منطلقان لما خبرتك به ولأن قولك ( منطلقانِ ) يصير خبراً لمرفوع ومنصوب وهذا مستحيل فإذا قلت : ( إن زيداً منطلق وعمروٌ ) صَلُح لأن الكلام قد تم ورفعت لأن الموضع للإبتداء وإن زائدةٌ فعطفت على موضع ( إنّ ) وأعملت الإبتداء وأضمرت الخبر وحذفته اجتراءً بأن الأول يدل عليه فإن أختلف الخبران لم يكن بدٌ من ذكره ولم يجز حذفهُ نحو قولك : إن زيداً ذاهبٌ وعمروٌ جالسٌ لأن ( ذاهباً ) لا يدل على ( جالس ) فإذا تم الكلام فلك العطف على اللفظ والموضع جميعاً وإذا لم يتم لم يجز إلا اللفظ فقط وكذلك لو قلت : ( هَلْ من رجلٍ وحمارٍ موجودان ) فإن قلت : وحمارٌ جاز كما تقول : إن عمراً وزيداً منطلقان وكذلك إذا قلت : خشنت بصدره وصدر زيدٍ عطفت على ( خشنت ) ولم يعرج على الباء وجاز لأن الكلام قد تم فكأنك قد أعدت : خشنت
ثانية فالفرق بين العطف على الموضع والعطف على اللفظ أن المعطوف على اللفظ كالشيء يعمل فيهما عامل واحد لأنهما كاسم واحد والمعطوف على المعنى يعمل فيها عاملان والتقدير تكرير العامل في الثاني إذا لم يظهر عمله في الأول وتصير كأنها جملة معطوفة على جملة وكل جملتين يحذف من أحدهما شيء ويقتصر بدلالة الجملة الأخرى على ما حذف فهي كالجملة الواحدة ونظير هذا قولهم : ضربتُ وضربني زيدٌ اكتفوا بذكر زيد عن أن يذكروا أولاً إلا أن هذا حذف منه المعمول فيه وكان الثاني دليلاً على الأول وذاك حذف العامل منه إلا أن حذف العامل إذا دل عليه الأول أحسن مع العطف لأن الواو تقوم مقام العامل في كل الكلام
الضرب الآخر : أن يكون الحرف العامل غير زائد وذلك نحو قولك : مررتُ بزيدٍ وذهبتُ إلى عمروٍ ومُرَّ بزيدٍ وذهب إلى عمرو فتقول : إن موضع ( بزيدٍ ) في : ( مررتُ بزيدٍ ) منصوب وموضع إلى عمرو في ذهبت إلى عمرو نصب وموضع بزيد في مر بزيدٍ رفع وإنما كان ذلك لأنك لو جعلت موضع : ( مررتُ ) ما يقارب معناه من الأفعال المتعدية لكان زيد منصوباً نحو : أتيتُ زيداً ولو أسقطت الباء في قولك : مررت بزيدٍ لم يجز لأن الأفعال التي هي غير متعدية في الأصل لا تتعدى إلا بحرف جر وقد بينت فيما تقدم صفة الأفعال المتعدية والأفعال التي لا تتعدى فتقول على هذا إذا عطفت على الموضع : مررتُ بزيدٍ وعمراً وذهبتُ إلى بكرٍ وخالداً ومُرَّ بزيدٍ وعمروٍ كأنك قلت : وأتى عمروٌ وأتيتُ عمراً ودل ( مررتُ ) على ( أتيتُ ) فاستغنيت بها وحذفت قال الشاعر :
( جِئْنِي بِمِثْلِ بَنِي بَدْرٍ لِقَوْمِهم ... أو مِثْلَ أسرةِ مَنظورِ بن سيارِ )
كأنه قال : أو هاتِ مثل أسرة منظور لأنّ جئني بمثل بني بدرٍ يدل على : هاتِ أو أعطني وما أشبه هذا
القسم الثاني اسم بني مع غيره :
وذلك نحو : خمسةَ عشرَ وتسعةَ عشرَ فحكم هذا حكم المبني المفرد تقول : إن خمسةَ عشرَ درهماً ويكفيك خمسةَ دنانيرٍ وخمسةُ دنانير النصب على ( إنَّ ) والرفع على موضع ( إنَّ ) وقولك : لا رجل في الدار بمنزلةِ : خمسة عشر في البناء إلا أن ( رجل ) مبني يضارع المعرفة فجاز لك أن تقول : لا رجلَ وغلاماً لكَ فتعطف عليه لأن ( لا ) تعمل في النكرة عمل ( إنّ ) فبنيت مع ( لا ) على الفتح الذي عملته ( لا ) ومنعت التنوين ليدل منع التنوين على البناء لأنه اسم نكرة منصوبٌ متمكنُ ودل على ذلك قولهم : لا ماءَ ماءَ بارداً لك ألا تراهم بنوا ماء مع ماءٍ فعلمت بذلك أن هذا الفتح قد ضارعوا به المبني وأشبه خمسة عشر وكان هو الدليل على أن ( لا ) مبنية مع النكرة المفردة إذا قلت : لا ماءَ لك وقد بينت هذا في باب النفي فلهذا جاز أن تقول لا رجل وغلاماً لك على اللفظ ولا رجل وغلامٌ لك على موضع ( لا ) ويدل على بناء رجل في قولك : لا رجلَ أنه لا يجوز أن تقول : لا رجلَ وغلامُ لكَ فلو لم يعدلوا فتحة النصب إلى فتحة البناء لما جاز لأنّ الواو تدخل الثاني فيما دخل فيه الأول ولو وجدنا في كلامهم اسماً نكرة
متمكناً ينصب بغير تنوين لقلنا أنه منصوب غير مبني فكما تقول أن المنادى المفرد بني على الضم كالمعرب المرفوع تقول في هذا أنه معرب كالمبني المفتوح ولهذا لا يجوز أن ينعت الرجل على الموضع فيرفع لأن موضع ( رجلٍ ) نصبٌ لأن لو كان موضعه مضافاً ما كان إلا نصباً فلهذا قلنا أنه بني على التقدير الذي كان له وموضع ( لا ) مع رجلٍ رفعٌ موضعُ ابتداءٍ كما كانت إن مع ما عملت فيه إلا أن النحويين أجازوا : لا رجلَ ظريفٌ وقالوا : رفعناه على موضع : لا رجل وإنما جاز هذا مع ( لا ) ولم يجز مع ( أن ) لأن ( لا ) مع رجلٍ بمنزلة اسم واحد وليست ( إنَّ ) مع ما عملت فيه بمنزلة شيء واحد لو قلت : إن زيداً العاقلُ منطلقٌ لم يجز وقد ذكرت هذا في باب إنّ ويدلك أيضاً على أن ( لا ) مع ما عملت فيه بمنزلة اسم واحد أنه لا يجوز لك أن تفصل بين ( لا ) والإسم ومتى فعلت ذلك لم يكن إلا الرفع وذلك قولك : لا لك مالٌ ولا تقول : لا لكَ مالَ لأن ( لكَ ) قد منع البناء وقد حكي عن بعضهم : لا رجلَ وغلامَ لك فحذف التنوين من الثاني وشبهه بالعطف على النداء وهذا شاذٌ لا يعرج عليه وإنما حكمنا على ( لا ) أنها نصبت في قولك : لا رجلَ لقولهم : لا رجلَ وغلاماً لكَ وأنه يجوز أن تقول لا رجل وغلاماً منطلقان فلو لم تكن ( لا ) نصبت لم يجز أن تعطف على رجل منصوباً فهذا الفرق بين ( لا ) رجلَ وخمسة عشَر
وقد عرفتك من أين تشابها ومن أين افترقا وأما عطف المفرد على المفرد في النداء فلا يجوز أن تعطفه على الموضع لو قلت : يا زيدُ وعمراً لم يجز من قبل أن زيداً إنما بني لأنه منادى مخاطب باسمه
والصلة التي أوجبت البناء في زيدٍ هي التي أوجبت البناء في عمروٍ وهُما في ذلك سواءٌ ألا ترى أنهم يقولون : يا عبد الله وزيدٌ فيضمون الثاني والأول منصوب لهذه العلة ولولا ذلك لما جاز وليس مثل هذا في سائر ما يعطف عليه
القسم الرابع وهو ما عطف على شيء موصول لا يتم إلا بصلته :
وذلك قولك : ضربت الذي في الدارِ وزيداً عطفت على الذي مع صلتها ولو عطفت على الذي مفرداً لم يجز ولم يكن اسماً معلوماً وكذلك ( مَن ) إذا كانت بمعنى الذي تقول ضربتُ مَن في الدار وزيداً ومثل ذلك ( مَا ) إذا كانت بمعنى ( الذي ) تقول : أخرجتُ ما في الدار وزيداً فالذي ومَنْ وما مبهماتْ لا تتم في الإِخبار إلا بصلات وما يوصل فيكون كالشيء الواحد ( أن ) مع صلتها تكون كالمصدر نحو قولك : يعجبني أن تقوم فموضع أن تقوم رفع لأن المعنى : يعجبني قيامُك وكذلك إن قلت : كرهتُ أن تقومَ فموضع أن تقوم نصب وعجبت مِنْ أن تقومَ خَفضٌ فتقولُ على هذا : عجبتُ من أن يقومَ زيدٌ وقعودِكَ تريد : من قيامِ زيدٍ وقعودِك
باب العطف على عاملين اعلم : أن العطف على عاملين لا يجوز من قبل أن حرف العطف إنما وضع لينوب عن العامل ويغني عن إعادته فإن قلت : قامَ زيدٌ وعمروٌ فالواو أغنت عن إعادة ( قام ) فقد صارت ترفع كما يرفع قامَ وكذلك إذا عطفت بها على منصوب نحو قولك : إن زيداً منطلقٌ وعمراً فالواو نصبت كما نصبت ( إنَّ ) وكذلك في الخفض إذا قلت : مررت بزيدٍ وعمروٍ فالواو جرت كما جرت الباء فلو عطفت على عاملين أحدهما يرفع والآخر ينصب لكنت قد أحلت لأنها كان تكون رافعةً ناصبة في حال قد أجمعوا على أنه لا يجوز أن تقول : مَرَّ زيدٌ بعمروٍ وبكرٌ خالدٍ فتعطف على الفعل والباء ولو جاز العطف على عاملين لجاز هذا واختلفوا إذا جعلوا المخفوض يلي الواو فأجاز الأخفش ومن ذهب مذهبه : مَرَّ زيدٌ بعمروٍ وخالدٌ بكرٍ واحتجوا بأشياء منها قول الشاعر :
( هَوِّنْ عَلَيْكَ فإنَّ الأُمورَ ... بِكَفِّ الإِلهِ مَقَادِيرُهَا )
( فَلَيْسَ بآتِيكَ مَنْهِيُّهَا ... ولاَ قَاصِرٍ عَنْكَ مأمورُهَا )
وقال النابغة :
( فَلَيْسَ بِمَعْرُوفٍ لَنَا أنْ نَرُدَّها ... صِحَاحاً ولا مستنكراً أن تُعقَّرا )
وما يحتجون به :
ما كلُ سوداءَ تمرةً ولا بيضاءَ شحمةً فعطف على كُلِ وما ومن ذلك :
( أَكُلَّ امرِيءٍ تَحْسَبِينَ امرأاً ... ونَارٍ تَوَقَّدُ بالليلِ نَارَا )
ومذهب سيبويه في جميع هذه أن لا يعطف على عاملين ويذكر أن في جميعها تأويلاً يرده إلى عمل واحد ونحن نذكر ما قاله سيبويه في باب ( ما ) تقول : ما أبو زينب ذاهباً ولا مقيمةٌ أُمها ترفع لأنك لو قلت : ما أبو زينبَ مقيمةً أمها لم يجز لأنها ليست من سببه ومثل ذلك قول : الأعور الشني هَوّنْ عليكَ فأنشد البيتين ورفَع ولا قاصر عنك مأمورها وقال : لأنه جعل المأمور من سبب الأمور ولم يجعله من سبب المذكر وهو المنهي ومعنى كلامه أنه لو كان موضع ليس ( ما ) لكان الخبر إذا تقدم في ( ما ) على الإسم لم يجز إلا الرفع لا يجوز أن تقول : ما زيدٌ منطلقاً ولا خارجاً معنٌ فإن جعلت في ( خارجٍ معن ) شيئاً من سبب زيدٍ جاز النصب وكان عطفاً على الخبر لأنه يصير خبراً لزيدٍ لأنه معلق بسبب له فكذلك لو قلت : فما يأتيكَ منهيها ولا قاصرٌ عنك مأمورها غير قولك منهيها ثم قال : وجَرهُ قومٌ فجعلوا المأمور للمنهي والمنهي هو الأمور لأنه من الأمور وهو بعضُها فأجراه وأنثه كما قال جرير
( إذا بَعْضُ السِّنينِ تَعرَّقتْنا ... كَفَى الأيتامَ فَقْدَ أَبى اليتيمِ )
فصار تأويل الخبر ليس : بآتيك الأمور ولا قاصرٌ بعضها فجعل : بعض الأمور أموراً وكذلك احتج لقول النابغة في الجر فقال : يجوز أن تجر وتحمله على الرد لأنه من الخيل يعني في قوله : أن تردَها لأن ( أن تردهَا ) في موضع ردَها كما قال ذو الرمة :
( مَشَيْنَ كَمَا اهتزَّتْ رِمَاحٌ تَسَفَّهْتْ ... أَعَاليها مَرَّ الرِّياحِ النَّواسِمِ )
كأنه قال : تسفهتها الرياح فهذا بناء الكلام على الخيل وذلك ردَّ إلى الأمور وقال : كأنه قال : ليس بآتيكَ منهيها وليست بمعروفة ردها حين كان من الخيلِ والخيلُ مؤنثةٌ فأنثَ وهذا مثل قوله : ( بَلى مَن أسلمَ وجهه لله وهوَ مُحسنٌ فَلُه أجرهُ عند رَبهِ ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون ) أجرى الأول على لفظ الواحد والآخر على المعنى هذا مثله في أنه تكلم به مذكراً ثم أنث كما جمع وهو في قوله : ليس بآتيتكَ منهيها كأنه قال : ليس بآتيتكَ الأمور وفي ليس بمعروف ردَها وكأنه قال : ليست بمعروفةٍ خيلنا صحاصاً قال : وإن شئت نصبت فقلت : ولا مستنكراً ولا قاصراً
قال أبو العباس : قال الأخفش : وليس هذان البيتان على ما زعم سيبويه يعني في الجر لأنه يجوز عند العطف وأن يكون الثاني من سبب الأول وأنكر ذلك سيبويه لأنه عطف على عاملين على السين والباء فزعم أبو الحسن : أنها غلط منهُ وأن العطف على عاملين جائز نحو قول الله عز و جل في قراءة بعض الناس ( وفي خلقِكم وما بث من دابةٍ آياتٍ ) فجر الآيات وهي في موضع نصب ومثل قوله ( لعَلى هدىً أو في ضلالٍ مبينٍ ) عطف على خبر ( إنّ ) وعلى ( الكل )
قال أبو العباس : وغلطَ أبو الحسن في الآيتين جميعاً ولكن قوله : ( واختلاف الليل والنهار وما أنزل اللّهُ من السماء من رزقٍ فأحيا به الأرضَ بعدَ موتهِا وتصريف الرياح آياتٍ لقومٍ يعقلون ) وابتدأ الكلام : ( إن في السمواتِ والأرضِ لآياتٍ للمؤمنين ) ( وفي خلقكم وما يبثُّ من دابةٍ آياتٍ لقوم يوقنون واختلاف الليلِ والنهارِ وما أنزلَ اللّهُ من السماء من رزقٍ فأحيا بهِ الأرضَ بعد موتِها وتصريفِ الرياحِ آياتٍ )
بعد هذه الآية وإن جرَّ آيات فقد عطف على عاملين وهي قراءة عطف على ( إن ) و ( في ) قال وهذا عندنا غير جائز لأن الذي تأوله سيبويه بعيدٌ وقال : لأن الرد غير الخيل والعقرُ راجع إلى الخيل فليس بمتصل بشيء من الخيل ولا داخل في المعنى
وقال : أما قوله : فليس بآتيكَ منهيها ولا قاصرٌ عنكَ مأمورها فهو أقرب قليلاً وليس
منه لأن المأمورَ بعضها والمنهي بعضها وقربه أنهما قد أحاطا بالأمور وقال : وليس يجوزُ الخفض عندنا إلا على العطف على عاملين فيمن أجازه
وأما قولُهم : ما كلُّ سوداءَ تمرةٌ ولا بيضاءَ شحمة فقال سيبويه : كأنكَ أظهرت كُلَّ مضمرٍ فقلت : ولا كُلَّ بيضاء فمذهب سيبويه أنَّ ( كُلَّ ) مضمرة هنا محذوفة وكذلك :
أُكَلَّ امْرِىءٍ تَحْسَبِينَ أمرأاً ... ونَارٍ تَوقَّدُ بالليلِ نَارا )
يذهب إلى أنه حذف ( كُلُّ ) بعد أن لفظ بها ثانية وقال : استغنيت عن تثنيةِ ( كلِّ ) لذكرك إياه في أول الكلام ولقلة التباسه على المخاطب قال : وجاز كما جازَ في قوله : ما مثلُ عبد اللَّهِ يقول ذاكَ ولا أخيهِ وإن شئت قلت : ولا مثلَ أخيهِ فكما جاز في جمع الخبر كذلك يجوز في تفريقه وتفريقُه أن تقول : ما مثلُ عبد الله يقولُ ذاك ولا أخيه يكرهُ ذاكَ قال : ومثلُ ذلك : ما مثلُ أخيكَ ولا أبيكَ يقولانِ ذلكَ فلما جاز في هذا جاز في ذاك
وأبو العباس رحمه الله لا يجيزُ : ما مثلُ عبد الله يقولُ ذاكَ ولا أخيهِ يكرهُ ذاكَ والذي بدأ به سيبويه الرفعُ في قولكَ : ما كُلُّ سوداءَ تمرةٌ ولا بيضاءَ شحمةٌ والنصب في ( وناراً ) هو الوجه وهذه الحروف شواذْ فأما من ظنَّ أن من جَر آياتٍ في الآية فقد عطف على عاملين فغلطٌ منهُ وإنما نظير ذلك قولك : إنَّ في الدار علامةً للمسلمين والبيتِ عَلاّمةً للمؤمنينِ فإعادة علامة تأكيد وإنما حسنت الإِعادة للتأكيد لما طال الكلام كما تعاد ( إن ) إذا طال الكلام وقد ذكرنا هذا في باب إنَّ وأنَّ ولولا أنا ذكرنا التأكيد
وأحكامه فيما تقدم لذكرنا ها هنا منه طرفاً كما أنك لو قلت : إنَّ في الدار الخيرَ والسوق والمسجدَ والبلدَ الخير كان إعادته تأكيداً وحسُن لما طال الكلام فآياتٌ الأخيرةُ هي الأولى وإنما كانت تكون فيه حجة لو كان الثاني غير الأول حتى يصيرا خبرين وأما من رفع وليست ( آيات ) عنده مكررة للتأكيد فقد عطف أيضاً على عاملين نصب أو رفع لأنه إذا قال : ( إنَّ في السّمَوات والأرضِ لآيَاتٍ لْلُمؤمنِينَ وَفي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٍ لقَوْمٍ يُوقِنونَ وَاخْتِلاَفِ اللّيلِ والنَّهارِ وَمَا أَنْزَلَ اللّهُ مِنْ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعدَ مَوْتِها وتَصْريفِ الرِّياحِ آيَاتٍ لقومٍ يَعْقِلُونَ ) فإذا رفع فقد عطف ( آياتٍ ) على الإبتداء وإختلافاً على ( في ) وذلك عاملان ولكنه إذا قصد التكرير رفع أو نصب فقد زال العطف على عاملين فالعطف على عاملين خطأ في القياس غير مسموعٍ من العرب ولو جاز العطف على عاملين لجاز على ثلاثة وأكثر من ذلك ولو كان الذي أجاز العطف على عاملين أي شاهد عليه بلفظ غير مكرر نحو : ( إنَّ في الدار زيداً والمسجدَ عمراً ) وعمرٌو غيرُ زيدٍ لكان ذلك له شاهداً على أنه إنْ حكى مثله حاكٍ ولم يوجد في كلام العرب شائعاً فلا ينبغي أن تقبله وتحمل كتاب الله عز و جل عليه
باب مسائل العطف نقول : مررتُ بزيدٍ أنيسِكَ وصاحبِكَ فإن قلت : مررت بزيدٍ أخيك فصاحبِك والصاحب زيدٌ لم يجز وتقول : اختصم زيدٌ وعمروٌ ولا يجوز أن تقتصر في هذا الفعل وما أشبهه على اسم واحد لأنه لا يكون إلا من اثنين ولا يجوز أن يقع هنا من حروف العطف إلا الواو لا يجوز أن تقول : اختصم زيدق فعمروٌ لأنك إذا أدخلت الفاء وثم اقتصرت على الإسم الأول لأن الفاء توجب المهلة بين الأول والثاني وهذا الفعل إنما يقع من اثنين معاً وكذلك قولك جمعت زيداً وعمراً ولا يجوز أن تقول جمعت زيداً فعمراً وكذلك المال بين زيدٍ وعمروٍ ولا يجوز : بين زيدٍ فعمروٍ وتقول : زيدٌ راغبٌ فيك وعمروٌ تعطف ( عمراً ) على الإبتداء فإن عطفت على ( زيدٍ ) لم يكن بُد من أن تقول : زيدٌ وعمروٌ راغبانِ فيكَ فإن عطفت عمراً على الضمير الذي في ( راغبٍ ) قلت : ( زيدٌ راغبٌ هو وعمرو فيكَ ) فإن عطفت على ابتداء والمبتدأ لم يجز أن تقول : زيد راغبٌ وعمرو فيك لأن ( فيك ) معلقة براغب فلا يجوز أن تفصل بينهما وقد أجازوا تقديم حرف النسق في الشعر فتقول على ذاك : قامَ وزيدٌ عمروٌ وقامَ ثُمَّ زيدٌ وعمرو وتقول : زيدٌ وعمرو قاما ويجوز : زيد وعمرو قامَ فحذف ( قامَ ) من الأول اجتزاءً بالثاني وتقول : زيدٌ ثم عمرو قامَ وزيد فعمروٌ قامَ وقد أجازوا التثنية
فتقول : زيدٌ فعمرو قاما وزيد ثم عمرو قاما ولا يجيزون مع ( أو ولا ) إلا التوحيد لا غير نحو : زيدٍ لا عمروٍ قامَ وزيد أو عمرو قامَ لا يجوز أن تقول : زيدٌ لا عمروٌ قاما لأنك تخلط من قام بمن لم يقم وكذلك لو قلت قَاما لجعلت القيام لهما إنما هو لأحدهما ومن أجاز : لقيتُ وزيداً عمراً لم يجز ذلك في المخفوض لا تقول : مررت وزيدٍ بعمروٍ تريد : مررت بعمروٍ وزيد لأنه قد قدم المعطوف على العامل وإنما أجازوا للضرورة أن يقدم معمولٌ فيه على معمولٍ فيه والعامل قبلهما وذا ليس كذلك وقد حلت بينه وبين ما نسقته عليه بغيره وهو الباء
وأجاز قوم : قام ثم زيد عمروٌ ولا يجيزون : إن وزيداً عمراً قائمانِ لأن ( إنَّ ) أداة
ويجيزون : ( كيف وزيدٌ عمروٌ ) ويقولون : كلُّ شيءٍ لم يكن يرفع لم يجز أن يليه الواو نحو : ( هل وزيد عمرو قائمانِ ) محال وإنما صار العطف إذا لم يكن قبله ما يرفع أقبح لأنه يصير مبتدأً وفي موضع مبتدأ وليس أحد يجيز مبتدأً : وزيدٌ عمروٌ قائمانِ يريد : عمرو وزيد قائمان وإن بمنزلة الإبتداء فلذلك قبح أيضاً فيها وتقول : زيدٌ رغبَ فيكَ وعمروٌ وزيد فيكَ رغبَ وعمروٌ فإن أخرجت ( رغب ) على هذا لم يجز : أن تقول : زيدٌ فيكَ وعمروٌ رغبَ لأنك قد فصلت بين المبتدأ وخبره بالمعطوف وقدمت ما هو متصل بالفعل وفرقت بينهما بالمعطوف أيضاً وتقول : أنت غير قائمٍ ولا قاعدٍ تريد : وغير قاعد لما في ( غير ) من معنى النفي وتقول : أنت غير القائم ولا القاعد تريد : غير القاعد كما قال الله عز و جل : ( غير المعضوبِ عليهم ولا الضالينَ ) ولم يجىء هذا في المعرفة لا يستعملون ( لا ) مع المعرفة العلم في مذهب ( غير ) لا يجوز : أنت غيرُ زيدٍ ولا
عمروٍ تقول : زيدٌ قام أمس ولم يقعدْ ولا يجوز : زيد قامَ ويقعدُ وإنما جاز مع ( لم ) لأنها مع عملت فيه في معنى الماضي ولا يجوز أن تنسق على ( لن ولم ) بلا مع الأفعال لا تقول : لم يقم عبد الله لا يقعد وكذلك : لن يقوم عبد الله لا يقعدُ يا هذا لأن ( لا ) إنما تجيء في العطف لتنفي عن الثاني ما وجب للأول وتقول : ضربتُ عمراً وأخاهُ وزيدٌ ضربتُ عمراً ثم أخاه وزيدٌ ضربت عمراً أو أخاهُ وقوم لا يجيزون من هذه الحروف إلا الواو فقط ويقولون : لأن الواو بمعنى الإجتماع فلا يجيزون ذلك مع ثم وأو لأن مع ( ثم وأو ) عندهم فعلاً مضمراً فإن قلت : ( زيدٌ ضربت عمراً وضربتُ أخاهُ ) لم يجز : لأن الفعل الأول والجملة الأولى قد تمت ولا وصلةٌ لها بزيد وعطفت بفعل آخر هو المتصل لسببه وليس لأخيه في ( ضربتُ ) الأولى وصلةٌ فإن أردت بقولك : وضربتُ إعادة للفعل الأول على التأكيد جازَ ومن أجاز العطف على عاملين قال : زيدٌ في الدار والبيت أخوهُ وأمرتُ لعبد الله بدرهمٍ وأخيه بدينارٍ لأن ديناراً ليس إلى جانب ما عملت فيه الباء وحرف النسق مع الأخِ ولا يجوز أيضاً أمرتُ لعبد الله بدرهمٍ ودينارٍ أخيهِ لأن أخاهُ ليس إلى جانب ما عملت فيه اللام وحرف النسق مع دينارٍ وتقول : ضربتُ زيدٌ وعمراً ويجوز أن ترفع عمراً وهو مضروب فتقول : ضربتُ زيداً وعمرٌ تريد : وعمرو كذلك وإنما يجوز هذا إذا علم المحذوف ولم يلبس وتقول : هذان ضاربٌ زيداً وتاركهُ لأن الفعل لا يصلح هنا لو قلت : هذانِ يضربُ زيداً ويتركهُ لم يجز وإنما جاز هذا في ( فاعلٍ ) لأنه اسم فإذا قلت : هذانِ زيدٌ وعمروٌ لم يجز إلا بالواو لأن الواو تقوم مقام التثنية والجمع
واعلم : أنه لا يجوز عطف الظاهر على المكني المتصل المرفوع حتى تؤكده نحو : قمتُ أنا وزيدٌ وقامَ هُو وعمروٌ قال الله عز و جل : ( اذهبْ أنت
وربك فقاتلا ) فإن فصلت بين الضمير وبين المعطوف بشيءٍ حسنَ نحو : ما قمتُ ولا عمروٌ ويجوز أن تعطف بغير تأكيد ولا يجوز عطفُ الظاهر على المكنى المخفوض نحو : مررت به وعمروٍ إلا أن يضطر الشاعر وتقول : أقْبَل إن قيلَ لك الحقُّ والباطل إذا أمرت بالحقِّ : أردت : أقْبَل الحقَّ إن قيلَ لك هُو والباطلُ
قد ذكرنا جميع هذه الأسماء المرفوعة والمنصوبة والمجرورة وما يتبعها في إعرابها وكنت قلت في أول الكتاب أن الأسماء تنقسم قسمين : معربٍ ومبنيٍ فإن المعرب ينقسم قسمين : منصرفٍ وغير منصرفٍ وقد وجب أن يذكر من الأسماء ما ينصرفُ وما لا ينصرف ثم نتبعهُ المبنياتِ
ذكر ما ينصرف من الأسماء وما لا ينصرف اعلم : أن معنى قولهم اسم منصرف أنه يراد بذلك إعرابه بالحركات الثلاث والتنوين والذي لا ينصرف لا يدخله جرٌ ولا تنوينٌ لأنه مضارعٌ عندهم للفعل والفعل لا جرَّ فيه ولا تنوين وجر ما لا ينصرف كنصبه كما أن نصب الفعل كجزمه والجر في الأسماء نظير الجزم في الفعل لأن الجر يخص الأسماء والجزم يخص الأفعال وإنما منع ما لا ينصرف الصرف لشبهه بالفعل كما أعرب من الأفعال ما أشبه الإسم فجميعُ ما لا ينصرف إذا أُدخلت عليه الألف واللام أو أُضيف جُرَّ في موضع الجَرِّ وإنما فُعل به ذلك لأنه دخل عليه ما لا يدخل على الأفعال وما يؤمن معه التنوين ألا ترى أن الألف واللام لا يدخلان على الفعل وكذلك الأفعال لا تضاف إلى شيءٍ وأن التنوين لا يجتمع مع الألف واللام والإِضافة وأصول الأسماء كلها الصرف وإنما في بعضها ترك الصرف وللشاعر إذا اضطر أن يصرف جميع ما لا ينصرف ونحن نذكر ما لا ينصرف منها ليعلم ما عداها منصرفٌ
الأسباب التي تمنع الصرف تسعة متى كان في الإسم اثنان منها أو تكرر واحد في شيء منها منع الصرف وذلك وزن الفعل الذي يغلب على الفعل والصفة والتأنيث الذي يكون لغير فرق والألف والنون المضارعة لألفي التأنيث والتعريف والعدل والجمع والعجمة وبناء الإسم مع الإسم كالشيء الواحد
الأول : وزن الفعل :
فما جاء من الأسماء على أفعل أو يفعلُ أو تَفعل أو نَفعل أو فَعل ويفعلُ وانضم معه سبب من الأسباب التي ذكرنا لم ينصرف فأفعل نحو أحمرَ وأصفرَ وأخضرَ لا ينصرف لأنه على وزن أَذَهَبُ وأعلمُ وهي صفات فقد اجتمع فيها علتان وأحمدُ اسم رجل لا ينصرف لأنه على وزن أذْهبُ فهو معرفةٌ ففيه علتان فإنْ نكرته صرفته تقول : مررتُ بأحمدَ يا هذا وبأحمدٍ آخر وأعصرُ اسم رجلٍ لا ينصرف لأنه مثل أقَتل وكذلك إن سميته بتنضب وترتب وتألبَ فأما تولبُ إذا سميت به فمصروف لأنه مثل جعفر فإن سميت على هذا رجلاً بيضربَ قلت : هذا يضربُ قد جاءَ ومررت بيضربَ ورأيت يضرب وكذلك : تضربُ ونضربْ واضربُ وإن سميته بفَعَلَ قلت : هذا ضَربَ قَد جاءَ ورأيتُ ضربَ وإن سميته بضربَ صرفته لأنه مثل حَجرٍ وجَملٍ وليس بناؤه بناء يخص الأفعال ولا هي أولى به من الأسماء بل الأسماء والأفعال فيه مشتركة وهو
كثير فيهما جميعاً وإن سميتَ رجلاً بنرجس لم تصرفهُ لأنه على مثال نَصربُ وليس في الأسماء شيء على مثال فَعْلِلَ ولو كان فيها فَعْلِلٌ لصرفنا نرجسَ إذا سمينا به
أما نهشل اسم رجل فمصروفٌ لأنه على مثال ( جعَفْرَ ) وليس هو تفعلُ إنما هو فَعْلَلٌ ولكن لو سميت رجلاً بتذهبُ لتركت صرفه فقلت : هذا تذهبُ ورأيتُ تذهبَ ومررتُ بتذهبَ وجميع هذه إذا نكرتها صرفتها تقول : مرتُ بتغلبَ وتغلبٍ آخر لأنه قد زالت إحدى العلتين
وهي التعريف فإن سميت بقام عمروُ حكيت فقلت : هذا قامَ عمروٌ ورأيت قامَ عمرو وكذلك كل جملة يسمى بها نحو : تأبَّط شراً تقول هذا تأبَّط شراً وكذلك إذا سميته ( بقاما ) قلت : هذا قاما ورأيت قاما ومررت بقاما وهذا قاموا ورأيتُ قاموا ومررت بقاموا وإن سميت ( بقام ) وفي قام ضمير الفاعل حكيته فقلت : هذا قام قد جاء ومررتُ بقام يا هذا تدعه على لفظه لأنك لم تنقله من فعل إلى اسم إنما سميت بالفعل مع الفاعل جميعاً رجلاً فوجب أن تحكيه فأما إن سميت ( بقام ) ولا ضمير فيه فهو مصروفٌ لأنه مثل بابٍ ودارٍ وقد نقلته من الفعل إلى الإسم ولو كان فعلاً لكان معه فاعلٌ ظاهر أو مضمرٌ وكذلك لو سميت بقولك : زيدٌ أخوكَ لقلت هذا زيد أخوكَ قد جاءَ ورأيت أخوكَ ومررت بزيدٌ أخوكَ تحكي الكلام كما كان فإن سميت رجلاً ( بضربتُ ) ولا ضمير فيه قلت : هذا ضَربه فتقف عليه بهاءٍ لأن الأسماء المؤنثة من هذا الضرب إذا وقفت عليها أبدلت التاء هاءً تقول : هذا سلمةُ قد جاءَ فإذا وقفت قلت : سلمهْ وكذلك ( ضربتُ ) إذا سميت بها خرجت عن لفظ الأفعال ولزمها ما يلزم الأسماء وليست التاء في ( ضربت ) اسماً ولو كانت اسماً لحكى وقد ذكرنا فيما تقدم أن هذه التاء إنما تدخل في فعل المؤنث لتفرق بينه وبين فعل المذكر وإذا سميت ( بضربتُ ) وفيها ضمير الفاعلة حكيت فقلت : هذا ضربتُ قد جاءَ ورأيت ضربتُ ومررت بضربت لأن فيه ضميراً ولو
أظهرت لقلت ضَرَبَت هِي وكل اسم صار علماً لشيءٍ وهو على مثال الأفعال في أوله زياداتها لا تصرفه فإن سميت بأضرب أو أقبل قطعت الألف ولم تصرفه فقلت : هذا أضرب قد جاء وأذهب وأقبل قد جاء لأن ألف الوصل إنما حقها الدخول على الأفعال وعلى الأسماء الجارية على تلك الأفعال نحو : استضرب استضراباً وانطلق انطلاقاً فأما الأسماء التي ليست بمصادر جاريةٍ على أفعالها فألف الوصل غير داخلة عليها وإنما دخلت في أسماء قليلة نحو : ابنٍ وامرىءٍ واستٍ وليس هذا بابُها وإن سميت رجلاً ( بتضاربَ ) صرفته لأنه ليس على مثال الفعل فتقول : هذا تضاربُ قد جاءَ ومررت بتضاربٍ فإن صغرته وهو معرفة قلت : تُضَيرِبُ فلم تصرفه لأنه قد ساوى تصغير ( تَضرِب ) وأنت لو سميت رجلاً ( بتضربَ ) ثم صغرته وأنت تريد المعرفة لم تصرفه
وأفعل منك لا يصرف نحو : أفضل منك وأظرفَ منكَ لأنه على وزن الفعل وهو صفة فإن زال وزن الفعل انصرف ألا ترى أن العرب تقول : هو خيرٌ منك وشرٌ منكَ لما زال بناء ( أَفعلَ ) صرفوه فإن سميت بأفعلَ مفرداً أو معها ( منكَ ) لم تصرفها على حال وأما أجمعُ وأكتعُ فلا ينصرفان لأنهما على وزن الفعل وهما معرفتان لأنهما لا يوصف بهما إلا معرفة فإن ذكرتهما صرفتهما وإن سميت رجلاً ضربوا فيمن قال : أكلوني البراغيثُ قلت : هذا ضربونَ قد جاءَ من قبل أن هذه الواو ليست بضمير فلما صار اسماً صار مثل ( مسلمونَ ) والإسم لا يجمع بواو ولا نونٍ معها ومن قال مسلمين قالت : ضَربينَ وكذلك لو سميت ( بضَربا ) قلت : ضربانِ قد جاءَ فيمن قال : أكلوني البراغيثُ ومن قال : مسلمينَ وعشرينَ لم يقل في مسلمات ملسمينَ لأن ذاك لما صار اسماً لواحدٍ شبه بعشرينَ ويبرينَ
الثاني : الصفة التي تتصرف :
وذلك نحو : أفعلَ الذي لَهُ فَعْلاءُ نحو أحمرَ وحمراءَ وأصفرَ وصفراءَ وأعمى وعمياءَ وأحمرُ لا ينصرف لأنه على وزن الفعل وهو
صفةٌ وحمراءُ لا تتصرفُ لأن فيها ألف التأنيث وهي مع ذلك صفة ولو كان ألف التأنيث وحدها في غير صفةٍ لم تنصرف ونحن نذكر ذلك في باب التأنيث والصفة لا تكون معرفة إلا بالألف واللام وكل بناء دخلته الألف واللام فهو منصرفٌ ومتى صارت الصفة اسماً فقد زال عنها الصفة فأما قائمةٌ وقاعدةٌ وما أشبه ذلك إذا وصفت بها فهو منصرفٌ لأن هذه الهاء إنما دخلت فرقاً بين المذكر والمؤنث وهي غير لازمةٍ فهي مثل التاء في الفعل إذا قلت : ضربتُ وضربتَ وإنما يعتد بالتأنيث الذي لم يذكر للفرق وأجازوا مثنىً وثلاثَ ورباعَ غير مصروفٍ وذكر سيبويه أنه نكرةٌ وهو معدولٌ فقد اجتمع فيه علتان وإذا حقرت ثُناء وأحادَ صرفته لأنك تقول أحُيَدٌ وثُنيٌ فيصير مثل حُمَيرٍ فيخرج إلى مثال ما ينصرف
الثالث التأنيث :
والمؤنث على ضربين : ضرب بعلامةٍ وضرب بغير علامة فأما المؤنث الذي بالعلامة فالعلامةُ للتأنيث علامتان : الهاءُ والألفُ فالأسماء التي لا تنصرف مما فيها علامة فنحو : حَمْدَة اسم امرأة وطلحةَ اسم رجل لا ينصرفان لأنهما معرفتان وفيهما علامة التأنيث فإن نكرتهما صرفتهما تقول : مررت بحمدَة وحَمْدةٍ أخرى وبطلحةَ وطلحةٍ آخرَ وكل اسم معرفة فيه هاء التأنيث فهو غير مصروف فأما ألف التأنيث فتجيء على ضربين : ألف مفردة نحو بُشرى وخبلَى وسكرى وألف قبلها ألف زائدة نحو : صحراء وحمراءَ وخُنْفَساءَ وكل اسم فيه ألف التأنيث ممدودةً أو مقصورة فهو غير مصروف معرفة كان أو نكرة فإن قال قائل فما العلتان اللتان أوجبتا ترك صرف بُشرى وإنما فيه ألف للتأنيث فقط قيل : هذه التي تدخلها الألف
يبنى الإسم لها وهي لازمة وليست كالهاء التي تدخل بعد التذكير فصارت للملازمة والبناء كأنه تأنيث آخر وتضارع هذه الألفُ الألفَ التي تجيء زائدةً للإِلحاق إذا سميت بما يكون فيه وذلك نحو : ألف ذِفْرَى وعَلْقَى فيمن قال : عَلْقاةٌ وحَبنَطى فإن سميت بشيءٍ منها لم تصرفه لأنها ألفٌ زائدةٌ كما إن ألف التأنيث زائدة وقد امتنع دخول الهاء عليها في المعرفة وأشبهت ألف التأنيث لذلك
وحق كل ألف تجيء زائدةً رابعةً فما زاد أن يحكم عليها بالتأنيث حتى تقوم الحجة بأنها ملحقة لأن بابها إذا جاءت زائدةً رابعةً فما زاد فللتأنيث لكثرة ذلك واتساعه والإِلحاق يحتاج إلى دليل لقلته والدليل الذي تعلم به الألف الملحقة أن تنون وتدخل عليها هاءٌ نحو من جعل عَلقىً ملحقةً فنون وألحق الهاء فقال : عَلقاةٌ ولهذا موضع يبين فيه وإنما شبهت ألفُ حبَنَطْىَ بألف التأنيث كما يثبت الألف والنون في عثمان بالألف والنون في غَضبْانَ لما تعرف عثمان وصار لا يدخله التأنيث فإن صغرت عَلْقَى اسم رجل صرفته وإن سميت رجلاً بمعزَى لم تصرفه وإن صغرته لم تصرفه أيضاً لأنه اسمٌ لمؤنثٍ فأما من ذكر معزى فهو يصرفه وتَترى فيها لغتان كعَلْقَى فأما أرَطْى ومعْزى فليس فيه إلا لغة واحدة الإِلحاق والتنوين فإن سميت بهما لم تصرفهما كما ذكرت لك وإن سميت بعِلبَاء صرفته لأنه ملحقٌ بسرداحُ تقول عُليبى كما تقول : سُرَيْديحٌ ولو كانت للتأنيث لقلت عُلَبياءٌ
وأما التأنيث بغير علامةٍ فنحو : زينب وسعادَ لا ينصرفان لأنهما اسمان لمؤنث وإن سميت امرأة باسمٍ على أربعة أحرف أصلية أو فيها زائدةٌ فما زاد لم يصرف لأن الحرف الرابع بمنزلة الهاء لأن الهاء لا تكون إلا رابعةً فصاعداً إلا في اسم منقوص نحو : ثُبَةٍ وكذلك إن سميت مذكراً باسم مؤنث لا علامة فيه ولم تصرفه نحو رجل سميته بعناق وسعادَ وقالوا : إنّ أسماءَ اسم رجلٍ إنما لم يصرف وهو جمع
اسم على أفعال وحق هذا الجمع الصرفُ لأنه من أسماء النساء فلما سمي به الرجلُ لم يصرف ولو قال قائل : إنما هو فعلاءُ أرادوا أسماء وأبدلوا الواوَ همزةً كما قال في وسادةٍ إسادةٍ لكان مذهباً فإن سميت مؤنثا باسم ثلاثي متحرك الأوسط فهو غير مصروف نحو : امرأة سميتَها بقدَمٍ فإن كان الثلاثي ساكن الأوسط نحو : هنْدٍ ودَعْدٍ وجُمْلِ فمن العرب من يصرف لخفة الإسمِ وأنه أقل ما تكون عليه الأسماء من العدد والحركة ومنهم من يلزم القياس فلا يصرف فإن سميت امرأة باسم مذكرٍ وإن كان ساكن الأوسط لم تصرفه نحو زيدٍ وعمروٍ لأن هذه من الأخف وهو المذكر إلى الأثقل وهو المؤنث فهذا مذهب أصحابنا وهو في هذا الموضع نظير رجلٍ سميته بسعادَ وزينبَ وجيَأَلَ فلم تصرفه لأنها أسماءٌ اختص بها المؤنث وهو على أربعةِ أحرف والرابع كحرف التأنيث وإن سموا رجلاً بقَدَمٍ وخَشلٍ صرفوه وحقروهُ فقالوا : قُدَيمٌ
الرابع : الألف والنون اللتان يضارعان ألفي التأنيث :
اعلم : أنهما لا يضارعان ألفي التأنيث إلا إذا كانتا زائدتين زيدا معاً كما زيدت ألفا التأنيث معاً وإذا كانتا لا يدخل عليهما حرف تأنيث كما لا يدخل على ألفي التأنيث تأنيثٌ وذلك نحو : سكرانَ وغضبانَ لأنك لا تقول : سكَرانة ولا غضبانةٌ إنما تقول : غَضْبَى وسَكَرى فلما امتنع دخول
حرف التأنيث عليهما ضارعا التأنيث وكذلك كل اسمٍ معرفةٍ في آخره ألفٌ ونونٌ زائدتان زيدا معاً فهو غير مصروفٍ وذلك نحو : عثمانَ اسم رجلٍ لا تصرفه لأنه معرفة وفي آخره ألفٌ ونونٌ وهما في موضع لا يدخل عليهما التأنيث لأن التسمية قد حظرت ذلك فهذا مثل حَبَنْطَى وذِفْرى إذا سميت بهما لما حظرت التسمية دخول الهاء اشبهت الألفُ ألفَ التأنيث فلم تصرف في المعرفة وصرف في النكرة وكذلك عثمان غير مصروف في المعرفة فإن نكرته صرفته لأنه في نكرته كعطشانَ الذي له عطشى وكذلك إذا سميته بِعُريانَ وسرحانَ وضُبعانَ لم تصرفه فإن نكرته صرفته وإن حقرت سرحان اسم رجلٍ صرفته فقلت : سُريحينٌ لأنه ملحقٌ بسرداحَ في نكرته ولكنك إن حقرت عثمانَ فقلت : عُثيمانُ لم تصرفه وتركت الألف والنون على حالهما كما فعلت بألفي التأنيث إذا قلت : حُمَيراءُ فعثمانُ مخالفٌ كسرحانَ كأنه إنما بني هذا البناء في حال معرفته وهذا يبين في التصغير وإن سميت بطحَان من الطحنِ وسمانَ من السمنِ وتبانَ من التبن صرفت جميع ذلك وإن سميت بدهقانَ من الدهقِ لم تصرفه وإن سميته من التدهقن صرفته
وكذلك شيطان إن كان من التشيطنِ صرفته وإن كان من شَيَّطَ لم تصرفه وقال سيبويه : سألتُ الخليل عن رُمّانَ فقال : لا أصرفه وأحمله على الأكثر إذا لم يكن له معنى يعرف يعني أنه إذا سمي لم يصرفه في المعرفة لأنه لا يدري من أي شيءٍ اشتقاقه فحمله على الأكثر والأكثر زيادة الألف والنون قال : وسألته عن سَعْدانَ ومَرْجانَ
فقال : لا أشكُّ في أن هذه النونَ زائدةٌ لأنه ليس في الكلام مثل : سِرداحَ ولا فَعْلالٍ إلا مضعفاً ولو جاء شيء على مثال جَنْجَانَ لكانت النون عندنا بمنزلة نون مُرّان إلا أن يجيء أمرٌ يبين أو يكثر في كلامهم فيدعوا صرفه قال أبو العباس : صُرف جَنْجانُ لأن المضاعف من نفس الحرف بمنزلة خَضْخَاضٍ ونحوه فأما عَوْغَاء فيختلف فيها فمنهم من يجعلها كخَضْخاضٍ فيصرف ومنهم من يجعلها بمنزلة عوراءُ فلا يصرف
الخامس : التعريف :
متى ما اجتمع مع التعريف التأنيث أو وزن الفعل أو العجمة أو العدل أو الألف والنون لم يصرف فالتأنيث نحو : طلحةَ وحَمْزة وزينبَ اجتمع في هذه الأسماء أنها مؤنثات وأنها معارفٌ والألف والنون مثل عثمان والعدل مثل عُمَر وسَحَر ووزن الفعل مثل أحَمَد ويشكَر والعجمة نحو : إبراهيم وإسماعيل ويعقوبَ فجميع هذه لا تصرف لإجتماع العلتين فيها فإن سميت بيعقوب وأنتَ تريد ذكر القبح صرفته لأنه مثل يربوعَ فأما الصفة والجمع فإنهما لا يجتمعان مع التعريف بالتسمية لأن الصفة إذا سمي بها زال عنها معنى الصفة والجمع لا يكون معرفة أبداً إلا بالألف واللام فإن سميت بالجمع الذي لا ينصرف رجلاً نحو : مساجد لم تصرفه وقلت : هذا مساجدُ قد جاءَ إنما لم يصرف لأنه معرفة وإنه مثالٌ لا يكون في الواحد فأشبه الأعجمي المعرفة فإن صغرته صرفته فقلت : مُسَيجِدٌ لأنه قد عاد
البناء إلى ما يكون في الواحد مثله وصار مثل مُييسِرٍ وقال سيبويه : سَراويلُ واحدٌ أعرب وهو أعجمي وأشبه من كلامهم ما لا ينصرف في معرفة ولا نكرةٍ فهو مصروفٌ في النكرة
وإن سميت به لم تصرفه وإن حقرته اسم رجلٍ لم تصرفه لأنه مؤنث مثل عَنَاق وعَنَاق إذا سميت به مذكراً لم تصرفه وأما شراحيلٌ فمصروفٌ في التحقير لأنه لا يكون إلا جمعاً وهو عربيٌّ وقال الأخفش : الجمعُ الذي لا ينصرفُ إذا سميتَ بِه إنْ نكّرتهُ بعد ذل لك لم تصرفه أيضاً
السادس : العدل :
ومعنى العَدْلِ أن يشتق من الإسم النكرة الشائع اسمٌ ويغير بناؤه إما لإِزالة معنى إلى معنى وإما لأن يسمى به فأما الذي عُدل لإِزالة معنى إلى معنى فمثنى وثلاث ورباع وآحادَ فهذا عُدِلَ لفظه ومعناه عُدِلَ عن معنى اثنين إلى معنى اثنين اثنين وعن لفظ اثنين إلى لفظ مثنى وكذلك أحاد عُدِلَ عن لفظ واحد إلى لفظ أحاد وعن معنى واحد إلى معنى واحد واحد وسيبويه يذكر أنه لم ينصرف لأنه معدول وأنه صفةٌ ولو قال قائلٌ : إنه لم ينصرف لأنه عُدل في اللفظ والمعنى جميعاً وجعل ذلك لكان قولاً : فأما ما عُدل في حال لتعريف فنحو : عُمَرَ وزُفرَ وقثم عُدلنَ عن عامرٍ وزافرٍ وقاَئَمَ أما قولهم : يا فسقُ فإنما أرادوا : يا فاسقُ وقد ذكر في باب النداء وسحرُ إذا أردت سحر ليلتك فهو معدول عن الألف واللام فهو لا يصرف تقول : لقيتُهُ سَحَر ياهذا فاجتمع فيه التعريف
والعدل عن الألف واللام فإن أردت سحراً من الأسحار صرفته وإن ذكرته بالألف واللام أيضاً صرفته فأما ما عُدِلَ للمؤنث فحقه عند أهل الحجاز البناء لأنه عُدل مما لا ينصرف فلم يكن بعد ترك الصرف إلا البناء
ويجيء على ( فَعالِ ) مكسور اللام نحو : حَذامِ وقَطامِ وكذلك في النداء نحو : يا فساقِ ويا غَدارِ ويا لكاعِ ويا خباثِ فهذا اسم الخبيث واللكعاء والفاسقة وفَعالِ في المؤنث نظيرُ فَعَلٍ في المذكر وقد جاء هذا البناء اسماً للمصدر فقالوا : فَجارِ يريدونَ : فَجْرةَ وبَدادِ يريدون : بدداً ولا مَساسِ يريدون : المسَّ ويجيء اسماً للفعل نحو : مَناعَها أي امنَعْهَا وحَذارِ اسم احذر ومما عُدل عن الأربعة : قَرْقَارِ يريدون : قَرقِرْ وعرعَارِ وهي لعبة ونظيرها من الثلاثة : خراجِ أي أخرجوا وهي لعبة أيضاً وجميع ما ذكر إذا سمي به امرأة فبنو تميم ترفعه وتنصبه وتجريه مجرى اسمٍ لا ينصرفُ فأما ما كان آخره راء فإن بني تميم وأهل الحجاز يتفقون على الحجازية وذلك : سَفارِ وهو اسم ماءٍ وحضارِ اسم كوكبٍ قال سيبويه : يجوزُ الرفع والنصب قال الأعشى :
( ومَرَّ دهرٌ عَلى وبَارِ ... فهَلكتْ جَهْرَةً وَبارُ )
وجمع هذا إذا سمي به المذكر لم ينصرف لأن هذا بناءٌ بني للتأنيث وحرك بالكسر لذلك لأن الكسرة من الياء والياءُ يؤنثُ بها وهو متصرف في النكرة ومنهم من يصرف رقاش وعَلابِ إذا سمي به كأنهُ سمي بصباح وإذا كان اسماً على فعال لا يدري ما أصله بالقياس صرفه لأنه لم يعلم له علةٌ توجبُ إخراجُه عن أصله وأصل الأسماء الصرف وكل ( فَعال ) جائزٌ متى كانت من ( فَعَل أو فعُلَ أو فعِلَ ولا يجوز من أفعْلتُ ) لأنه لم يسمع من بنات الأربعة إلا قَرْقَار وعَرْعَارِ وفَعالِ إذا كان أمراً نصب بعده وليس يطرد ( فَعالِ ) إلا في النداء وفي الأمر
السابع : الجمع الذي لا ينصرف :
وهو الذي ينتهي إليه الجموع ولا يجوز أن يجمع وإنما مُنع الصرف لأنه جمعُ جمعِ لا جمع بعده ألا ترى أن أكلبُاً جمع كَلْبٍ فإن جمع أَكلُباً قلت : أكالبُ فهذا قد جمع مرتين فكل ما كان من هذا النوع من الجموع التي تشبه التصغير وثالثهُ ألفٌ زائدةٌ كما أن ثالث التصغير ياءٌ زائدة وما بعده مكسور كما أن ما بعد ثالث التصغير مكسور فهو غير منصرف وذلك نحو : دراهم ودنانير فدراهم في الجمع نظير دُريهم في التصغير ودنانير نظير دُنينير فليس بين هذا الجمع وبين التصغير إلا ضمة الأول في التصغير وفتحةً في الجمع وإن ثالث التصغير ياءٌ وثالثُ هذا ألفٌ فهذا الجمع الذي لا ينصرف
فإن أدخلت الهاء على هذا الجمع انصرف وذلك نحو : صياقلةٍ لأن الهاء قد شبهته بالواحد فصار كمدائني لما نسبت إلى مدائن
انصرف وكان قبل التسمية لا ينصرف الإِعراب على الباء كما وقع على ياء النسب فإن كان هذا الجمع فيما لامهُ ياء
مثل جَوارٍ نونت في الجر والرفع لأن هذه الياء تحذف في الوقت في الجر والرفع فعوضت النون من ذلك وإذا وقعت موضع النصب بنيت الياء ولم تصرف وقلت : رأيت جواري يا هذا
وقال أبو العباس رحمه الله : قال أبو عثمان : كان يونس وعيسى وأبو زيد والكسائي ينظرون إلى جوار وبابه أجمع فكل ما كان نظيره من غير المعتل مصروفاً صرفوه وإلا لم يصرفوه وفتحوه في موضع الجر كما يفعلون بغير المعتل يسكنونه في الرفع خاصةً وهو قول أهل بغداد والصرف الذي نحن عليه في الجر والرفع هو قول الخليل وأبي عمرو بن العلاء وابن أبي اسحاق وجميع البصريين قال أبو بكر : فأما الياء في ( ثمانٍ ) فهي ( ياءُ نسبٍ ) وكان الأصل ثمني مثل يمني فحذفت إحدى اليائين وأبدلت منها الألف كما فُعَل ذلك بيمني حين قالوا : يَمانٍ يا هذا وقد جعل بعض الشعراء ثماني لا ينصرف
قال الشاعر :
( يَحْدو ثَماني مولعاً بلقاحِها ... )
وأما بخاتي فلا ينصرف لأن الياء لغير النسب وهي التي كانت في بُختية وكذلك كُرسي وكَراسي وقُمْري وقَماري
الثامن : العجمة :
الأسماء الأعجمية الأعلام غير مصروفة إذا كانت العرب إنما أعربتها في حال تعريفها نحو : إسحاق وإبراهيم ويعقوب لأن العرب لم تنطق بهذه إلا معارف ولم تنقلها من تنكير إلى تعريف فأما ما أعربته العرب من النكرات من كلام العجم وأدخلت عليه الألف واللام فقد أجروه مجرى ما أصل بنائه له وذلك نحو : ديباجٍ وإبريسم ونيروزَ وفِرْنِد وزنجبيلَ وشهريزَ وآجر فهذا كله قد أعربته العرب في نكرته وأدخلت عليه الألف واللام فقالوا : الديباج والشهريزُ والنيروزُ والفِرنِدُ فجميع هذا إذا سميت به مذكراً صرفته لأن حكمه حكم العربي فإن كان الإسم العلمُ ثلاثياً صرفوه لخفته نحو : نُوحٍ ولُوطٍ ينصرفانِ على كل حالٍ
التاسع : الإسمان اللذان يجعلان اسماً واحداً :
والأول منهما مفتوح والثاني بمنزلة ما لا ينصرف في المعرفة ويتصرف في النكرة وهو مشبه بما فيه الهاء لأن ما قبله مفتوحٌ كما أن ما قبل الياء مفتوح وهو مضموم إلى ما قبله كما ضمت الهاء إلى ما قبلها وذلك نحو : حضرموت وبعلبكَ ورامُ هُرمز ومارسَرْجِس ومنهم من يضيف ويصرف ومنهم من يضيف ولا يصرف ويجعل
كَرِبَ في ( معدي كرب ) مؤنثاً ومنهم من يقول : معد يكرَب يجعله اسماً واحداً إلا أنهم لا يفتحون الياء
ويتركونها ساكنةً يجعلونها بمنزلة الياء في دردبيس وكذلك إذا أضافوا يقولون : رأيت معدي كرب يلزمون الياء الإسكان استثقالاً للحركةِ فيها
مسائل من هذا الباب قال أبو العباس : قال سيبويه تصرفُ رجلاً سميته قيل أوردَ اللتين تقديرهما فُعِل فقيل له : لم صرفتهما وفعِلَ لا ينصرف في المعرفة لأنه مثال لا تكون عليه الأسماء فقال : لما سكنت عيناهما ذهب ذلك البناءُ وصارا بمنزلة فُعْلٍ وفَعْلٍ قيل له : فكيف تزعم أنك إذا قلت لَقَضْوُ الرجلُ ثم أسكنت على قول من قال في عَضُدٍ عَضْدٌ قلت : لَقَضْو الرجل ولم ترد الياء وإن كانت الضمة قد ذهبت لأنك زعمت تنويها وأنك لم تبنها على ( فعلٍ ) ولكنك أسكنتها من ( فَعْلٍ ) فذلك البناء في نيتك وكذلك تقول في ( ضوءٍ ) كما ترى إذا خففت الهمزة ( ضَوٌ ) فأثبت واواً طرفاً وقبلها حركةٌ ومثل هذا لا يكون في الكلام فقلت : إنما جاز هذا لأن حركتها إنما هي حركة الهمز لأنها الأصل فهي في النية واشباه هذا كثير فَلمَ لَم تترك الصرف في قيل وَردَّ اللتين هُما فَعلَ لأن الإِسكان عارض والحركات في النية قال : فالجواب في ذلك أنه حين قال لَقَضْوَ الرجلُ فأسكن الضاد إنما سكنها من شيءٍ مستعمل يتكلم به فالإِسكان فيه عارضٌ لأن قولهم المستعمل إنما هو لَقَضُوَ ثم يسكنون وكذلك الهمزة المخففة إنما المستعمل إثباتها ثم تخفف استثقالاً فيقولون : ضَوٌ وقَضْو استخفافاً وأما قيلَ وَردَّ فلا يستعملُ الأصلُ منهما البتة لا يقال : قَولَ ثم يخففُ ولا رَدُدَ فهذا يجري مجرى ما لا أصل له إلا ما يستعمل ولذلك قالوا في تصغير سماءٍ سُمَيةٌ
لأن هذه الياء لا يستعمل إلا حذفها فلذلك دخلت الهاء وصارت بمنزلة ما أصله الثلاثة وقياس هذا القول أنك إذا سميت رجلاً : ( ضَرَبَ ) ثم أسكنت فقلت ضَرْب لم تصرفه لأن الأصل يستعمل وإن أسكنت فقلت ( ضَرْبُ ) التي هي فَعْلٌ ثم سميت بها مسكنة وجب أن تصرف لأن الأصل لم يقع في الإسم قط وأنه لم يُسمَ به إلا مسكناً والدليل على ذلك أنهم إذا سموا رجلاً جيأَلَ ثم خففوا الهمزة قالوا : جمل ولم يصرفوه وقال : سُئل التوزي وروي عن أبي عبيدة أنه يقال للفرس الذكرِ لُكَعُ والأنثى لُكَعةُ فهل ينصرف لُكَع على هذا القول فالجواب في ذلك : أن لُكَعاً هذه تنصرف في المعرفة لأنه ليس ذلك المعدول الذي يقالُ للمؤنث منه ( لكاعِ ) ولكنه بمنزلة : حُطَمٍ وإن كان حَطْمٌ صفةً لأنه اسم ذكره من باب صُرَدٍ ونَغْرٍ فلم يؤخذ من مثال عامرٍ فيعدلُ في حالة التعريف إلى عُمَر ونحوه وقال : الأسماء الأعجمية التي أعربتها العرب لا يجيءُ شيءٌ منها على هيئته وأنت إذا تفقدت ذلك وجدته في إبراهيم وإسحاق ويعقوبُ وكذلك فرعونُ وهامانُ و ما أشبهها لأنها في كلام العجم بغير هذه الألفاظ فمن ذلك أن إبراهيم بلغة اليهود منقوص الياء ذاهب الميم وأن سارة لما أعربها نقصت نقصاً كبيراً وكذلك إسحق والأسماء العربية ليس فيها تغييرٌ ويبين ذلك أن الإشتقاق فيها غير موجودٍ ولا يكون في العربية نعتٌ إلا باشتقاقٍ من لفظه أو من معناه ولو قال قائل : هل يجوز أن يصرف إسحاق كنت مشتركاً إن كان مصدر إسحاق السفرُ إسحاقاً تريد : أبَعَدَه إبعاداً فهو مصروفٌ لأنه لم يغير والسحيقُ : البعيدُ قال الله عز و جل : ( أو تهوي به
الريحُ في مكانٍ سحيقٍ ) وإن سميته إسحاق اسم النبي تصرفه لأنه قد غير عن جهته فوقع في كلام العرب غير معروف المذهب وكذلك يعقوب الذي لم يغير وإنما هو اسم طائر معروف قال الشاعر :
( عَالٍ يُقَصّرُ دونَهُ اليعقوبُ ... )
فإذا سمينا بهذا صرفناه وإن سميناه يعقوب اسم النبي لم تصرفه لأنه قد غير عن جهته فوقع غير معروف المذهب وإنما جاء في القرآن في مواضع من صرف عاد وثمود وسبأ فالقول فيها : أنها أسماء عربية وأن القوم عرب في أنفسهم فقولُه عز و جل : ( وعادا وثمودا وأصحاب الرس ) وإنما هم آباء القبائل كقولك : جاءتني تميم وعامر إنما هو قبيلة تميم وقبيلة عامر فحذف قبيلة كقولك : واسأل القرية فأما عاد فمنصرف اسم رجل على كل حال لأن كل عجمي لا علامة للتأنيث فيه على ثلاثة أحرف فهو مصروف وأما ثمودُ فهو فعول من الثَّمَدِ وهو الماء القليل فمن صرفه جعله أباً للحي والحي نفسه وأما سبأ فهو جد بني
قحطان والقول فيه كالقول في ثمود وعاد والأغلب فيه أنه الأب والأكثر في القراءة : ( لقد كان لسبأ في مسكنهم آية ) و ( وجئتك من سباءٍ ببنأ يقين ) وتقول : هو اسم امرأة وهي أمهم وليس هذا بالبعيد قال النابغة الجعدي :
( مِنْ سبأَ الحاضرينَ مأَرب إذْ ... يبنونَ من دونِ سيلهِ العَرِما )
مأرب : موضع والعرمُ : هذا الذي يسمى السكر والسكر فهو من قولك : سميته سكراً
والسِّكْرُ : اسم الموضع وتقول : كل أفعل يكون وصفاً وكل أفعل يكون اسماً وكل أفعل أردت به الفعل نصب أبداً لأنَّ ( كل ) لا يليها اسم علم إلا أن تريد كل أجزائه فأما إذا وليها اسم مفرد يقوم مقام الجمع فلا يكون إلا نكرة وقد بنيتُ ذا فيما تقدم وتقول : أفعل إذا كان وصفاً فقصته كذا فتترك صرفه كما تترك صرف أفعل إذا كان معرفة وإنما صار معرفة لأنك إذا أردت هذا البناء فقط وهذا الوزن فصار مثل زيد الذي يدل على شيء بعينه ألا ترى أنه لا يجوز أن تقول الأفعل وإذا كان كذا فقضيته كذا لأنه لا ثاني له
فإن قلت : هذا رجلُ أفعلٌ فلا تصرفه لأنه موضع حكاية حكيت بها رجلاً أحمر كقولك : كلُّ أفعلَ زيدٌ نصب أبداً إذا مثلت به الفعل خاصة وتقولُ : هذا رجل فعلان فتصرف لأنه قد يكون هذا البناء منصرفاً إذا لم يكن له فعلى فإن قلتُ فعلان إذا كان من قصته كذا فجئت به اسما لا يشركه غيره لم تصرف وتقول : كل فَعْلَى أو فِعْلَى كانت ألفها لغير التأنيث انصرفت وإن كانت الألف جاءت للتأنيث لم تنصرف لأن ما فيه ألف التأنيث لا ينصرف في معرفة ولا نكرة وقال الأخفش : لو سميت رجلاً بخمسة عشر لقلت : هذا خمسةَ عشرَ قد جاء وهذا خمسةَ عشر آخرَ ومررت بخمسة عشر مقبلاً وتقول : بلال اباذ : ومثل ذلك مائة دينار يعني إذا جعلت مائة مع دينار اسماً واحداً قال أبو بكر : وما استعملته العرب مضافاً وعرف ذلك في كلامها فلا يجوز عندي أن يجعل المضاف والمضاف إليه بمنزلة خمسة عشر من قبل أنهم قد فرقوا بين مائة دينار وخمسة عشر لأن خمسة عشر عددان فجعلا اسماً واحداً للمعنى وهما بمنزلة عشرة لإختلاط العدد بعضه ببعض ومائة دينار ليس كذلك لأن ديناراً هو مفسر المعدود والذي ذهب إليه الأخفش : أن مائة دينار إضافته غير إضافة حقيقية لأنه مميز وليس كإضافة صاحب دينار ولا إضافة عبد الله واعلم أن من أضاف معدي كرب وحضر موت يقول : هذا رامهرمز يا فتى فترفع ( رام ) ولا تصرف هرمز لأنه أعجمي معرفة
واعلم : أنه لا يصلح أن يجعل مثل : مدائن محاريب ولا مثل : مساجد محاريب ولا مثل : جلاجل سلاسل اسماً واحداً مثل حضرموت لأنه لم يجيء شيء من هذه الأمثلة اسمان يكون منهما اسماً واحداً فإن جاء فالقياس فيه أن يجعل كحضرموت وأن ينصرف في النكرة وقال الأخفش : إنما صرفته لأني قد حولته إلى باب ما ينصرف في النكرة وخرج من حد
البناء الذي لا ينصرف لأني إنما كنت لا أصرفه لأنه على مثال لا يجيء في الواحد مثله وأنت الآن لا يمنعك البناء
ألا ترى أنك حين أدخلت في الجمع الهاء صرفته في النكرة نحو : صياقلة وجحاجحة لما دخل في غير بابه قال : فإن قلت : ما بالي إذا سميت رجلاً بمساجد لم أصرفه في النكرة قلت على بناء منعه من الصرف ولم يزل لذلك البناء حيث سميت به وإذا سميته بمساجد محاريب وجعلته اسماً واحداً فقد صغته غير الذي كان وبنيته بناء آخر وكذلك لو سميت رجلاً بواحد حمراء وواحدة بشرى أو رجل بيضاء وأنت تريد أن تجعله اسماً واحداً مثل حضرموت انصرف في النكرة لأن الألف ليست للتأنيث في هذه الحال ألا ترى أنك لو رخّمته حذفت الإسم الآخر ولم تكن تحذف الهاء وينبغي في القياس إن بنيته أن تهمز فتقول واحدة حمران ورجل بيضان لأن الألف ليست للتأنيث عنده في هذه الحال ولو أسميت امرأة ببنت وأخت لوجب أن يجريهما مجرى من أجرى جملاً وهنداً لأن هذه التاء بدل من واو وأخت في التقدير كقفل وبنت كَعِدْلٍ ولو كانت التاء تاء التأنيث لكان ما قبلها مفتوحاً وكانت في الوقف هاء وقوم لا يجرونها في المعرفة فإن سميت رجلاً بهنة وقد كانت في هَنْتٍ ياء هذا قلت : هِنَه يا فتى فلم تصرف وصارت هاء في الوقف وتقول : ما في يدك إلا ثلاثة إذا أردت المعرفة والعدد فقط لأنه اسم لا ثاني له وهذا كما عرفتك في ( أفعل ) البناء الذي تريد به المعرفة فإذا أردت ثلاثة من الدراهم وغير ذلك تنكر وصرفته فأما إذا قلت : ثلاثة أكثر من اثنين وأقل من أربعة تريد هذا العدد فهو معرفة غير مصروف ولا يجوز : رُب ثلاثة أكثر
من اثنين ولو سميت امرأة بغلام زيدٍ لصرفت زيداً لأن الإسم إنما هو غلام زيدٍ جميعاً والمقصود هو الأول كما كان قبل التسمية وكذلك : ذات عرق لأن الإسم ( ذات ) دون عرق وكذلك أم بكر وعمرو تجر بكراً وعمراً وكذلك أم أناس وقوم لا يصرفون أم أناس لأنه ليس بابن لها معروف فصار اسماً وينشدون :
( وإلى ابن أُمِّ أُناسَ تَعمدُ ناقتي ... )
واعلم : أن أسماء البلدان والمواضع ما جاء منها لا ينصرف فإنما يراد به أنه اسم للبلدة والبقعة وما أشبه ذلك وما جاء منها مصروفاً فإنما يراد به البلد والمكان ووقع هذا في المواضع لأن تأنيثه ليس بحقيقي وإنما المؤنث في الحقيقة هو الذي له فرج من الحيوان فمن ذلك : واسط وهو اسم قصر ودابق وهو نهر وهجر ذكر ومنى ذكر والشام ذكر والعراق
ذكر وأما ما يذكر ويؤنث فنحو : مصر واضاخ وقباء وحراء وحجر وحنين وبدر ماء وحمص وجور وماه : لا ينصرف لأن المؤنث من الثلاثة الأحرف الخفيفة إن كان أعجمياً لم ينصرف لأن العجمة قد زادته ثقلاً وإنما صرفته ومن صرفه فلأنه معرفة مؤنث فقط لخفته في الوزن : فعادل في خفة أحد الثقلين فلما حدث ثقل ثالث قاوم الخفة وتقولُ : قرأت هوداً إذا أردت سورة هود فحذفت سورة وإن جعلته اسماً للسورة لم تصرف لأنك سميت مؤنثا بمذكر وإن سميت امرأة بأم صبيان لم تصرف ( صبيان ) لأنك لو سميت به وحده لم تصرفه لأن الألف والنون فيه زائدتان وقد صار معرفة وهو وإن كان لم تتقدم التسمية به فتحكمه حكم ذلك وإن سميت رجلاً بملح وربح صرفتهما كما تصرف رجلاً سميته بهند كأنك قد نقلته من الأثقل إلى الأخف وهو على ثلاثة أحرف وقد بيَّنا هذا فيما تقدم وكذلك إذا سميت رجلاً بخمس وست فاصرفه وإن سميت رجلاً بطالق وطامث فالقياس صرفه لأنك قد نقلته عن الصفة وهو في الأصل مذكر وصفت به مؤنثاً وحَمّارُ جمع حَمَّارةِ القيظ مصروف إذا أردت الجمع الذي بينه وبين واحدة الهاء
قال أبو العباس : سألت أبا عثمان عنه فصرفه فقلت : : لم صرفته هلاّ كان بمنزلة دوابٍ قال : لأن الأصل الباء الأولى في دواب الحركة والراء في ( حمارٍ ) ساكنة على أصلها تجري مجرى الواحد لأنه ليس بين الجمع والواحد إلا الهاء بمنزلة تمرةٍ وتمرٍ وأما إذا
أردت جمع التكسير فهو غير مصروف لأن التقدير حمار وكذلك في جبنة جبّان يا هذا وإن سميت رجلاً بأفضل وأعلم بغير منك لم تصرفه في المعرفة وصرفته في النكرة فإن سميته بأفعل منك كله لم تصرفه على حال لأنك تحتاج إلى أن تحكي ما كان عليه وإذا سميت بأجمع وأكتع لم تصرفه في المعرفة وصرفته في النكرة وهما قبل التسمية إذا كانا تأكيداً لا ينصرفان لأنهما يوصف بهما المعرفة
فأما أسماء الأحياء فمعد وقريش وثقيف وكل شيء لا يجوز لك أن تقول فيه من بني فلان وإذا قالوا : هذه ثقيف فإنما أرادوا جماعة ثقيفٍ
وقد يكون تميم اسماً للحي فإن جعلت قريش وأخواتها أسماء للقبائل جاز وتقولُ : هؤلاء ثقيف بن قسي فتجعله اسم الحي وابن صفة فما جعلته اسماً للقبيلة لم تصرفه وأما مجوس ويهود فلم تقع إلا اسماً للقبيلة ولو سميت رجلاً بمجوس لم تصرفه وأما قولهم : اليهود والمجوس فإنما أرادوا المجوسيين واليهوديين ولكنهم حذفوا يائي الإِضافة كما قالوا : زنجيٌ وزنجٌ ونصارى نكرة وهو جمع نصران ونصرانةٍ كندمان وندامى ولكن لم يستعمل نصران إلا بياء النسب
وقال أبو العباس : إذا سميت رجلاً بنساء صرفته في المعرفة والنكرة لأن نساء اسم للجماعة وليس لها تأنيث لفظ وإنما تأنيثها من جهة الجماعة فهي بمنزلة قولك كلاب إذا قلت : بني كلاب لأن تأنيث كلاب إنما هو تأنيث جماعة وإنما أنثت كل جماعة كانت لغير الآدميين لأنهم قد نقصوا عن الآدميين فالحيوان الذي لا يعقل والموات متفقان في جمع التكسير وإنما خص من يعقل بجمع السلامة لأن له أسماء أعلاما يعرف
بها وكان جمع السلامة يؤدي الإسم المعروف وبعده علامة الجمع فكان به أولى ولو أنك لا تخص الموات وما لا يعقل بالواو والنون وخصصت ما يعقل بالتكسير لكان السؤال واحدا وإنما قصدنا أن نفضله بمنزلة ليست لغيره وإنما قلت : هي الرجال لأن الرجال جماعة فكان هذا التأنيث تأنيث الجماعة وهو مشارك للموات في هذا الموضع إذا وافقه في جمع التكسير
والتأنيث تأنيثان : تأنيث حقيقي فهو لازم وتأنيث غير حقيقي فهو غير لازم فللتأنيث اللازم مثل امرأة وما أشبه ذلك والتأنيث الذي هو غير لازم مثل دار وذراع فإنما هذا تأنيث لفظ فلهذا كان تذكير أفعال المؤنث في غير الآداميين أحسن منه في الآداميين قال محمد بن يزيد : ناظرت ثعلباً في هذا بحضرة محمد بن عبد الله فلم يفهمه فقلت له : أخبرني عن قولنا : دار أليس هو مؤنث اللفظ قال : نعم قلت : فإذا قلنا : منزل هل زال معنى الدار أفلا ترى التأنيث إنما هو اللفظ فلما زال اللفظ زال ذلك المعنى وكذلك قولنا : ساعد وذراع ورمح وقناة أفتراه في نفسه مؤنثاً مذكراً في حال فقال له محمد بن عبد الله هذا بين جداً وليس كذلك ما كان تأنيثه لازماً ألا ترى أنا لو سمينا امرأة بجعفر أو بزيد لصغرنا زبيدة فلما كان مؤنث الحقيقة لم يغير عن تأنيثه تعليقنا عليه أسماء مذكرة في اللفظ وإنما قلت : قالت النساء بمنزلة جاءت الإِبل والكلاب وما أشبه ذلك وليس تأنيث النساء تأنيثاً حقيقياً وإنما هو اسم للجماعة تقولُ : قال النساء إذا أردت الجمع وقالت النساء إذا أردت معنى الجماعة لأن قولك النساء وما أشبهه إنما هو اسم حملته للجمع وكذلك قوله عز و جل : ( قالت الأعراب آمنا ) إنما أنث لأنه أراد الجماعة وتقول : في أسماء السور هذه هود إذا أردت سورة هود وإن جعلت هودا اسم السورة لم تصرفه لأنها بمنزلة امرأة سميتها
بعمر وكذا حكم نوح ونون وإذا جعلت اقتربت اسماً قطعت الألف نحو : اصبع وإن سميت بحاميم لم ينصرف لأنه أعجمي نحو : هابيل وإنما جعلته أعجمياً لأنه ليس من أسماء العرب وكذلك : طس وحسن وإن أردت الحكاية تركته وقفاً وقد قرأ بعضهم : ( يس والقرآن ) و ( ق والقرآن ) جعله أعجمياً ونصب ( باذكر ) وأما صاد فلا تجعله أعجمياً لأن هذا البناء والوزن في كلامهم فإن جعلت اسماً للسورة لم تصرفه ويجوز أن يكون ( يس ) و ( ص ) مبنيين على الفتح لإلتقاء الساكنين فإن جعلت ( طسم ) اسماً واحداً حركت الميم بالفتح فصار مثل دراب جرد وبعل بك وإن حكيت تركت السواكن على حالها قال سيبويه : فأما : ( كهيعص ) و ( ألم ) فلا تكونان إلا حكاية وإنما أفرد باباً للحكاية إن شاء الله
وقال سيبويه : أبو جاد وهَوَّار وحُطّيٌ كعمرو وهي أسماء عربية وأما كَلَمَنْ وسَعْفَص وقُريشيات فأنهن أعجمية لا ينصرفن ولكنهن يقعن مواقع عمرو فيما ذكرنا إلاّ أن قريشيات بمنزلة عرفات وأذرعات
باب ما يحكى من الكلم إذا سمي به وما لا يجوز أن يحكى اعلم : أن ما يُحكى من الكلم إذا سمي به على ثلاث جهات : إحداها : أن تكون جملة والثاني أن يشبه الجملة وهو بعض لها وذلك البعض ليس باسم مفرد ولا مضاف ولا فيه ألف ولا مبني مع اسم ولا حرف معنى مفرد والثالث : أن يكون اسماً مثنى أو مجموعاً على حد التثنية
الأول : نحو : تأبّط شراً وبرق نحره وذَرَّى حياً تقول : هذا تأبّط شراً ورأيت تأبّط شراً ومررت بتأبّط شراً وهذه الأسماء المحكية لا تثنى ولا تجمع إلا أنْ تقول : كلهم تأبّط شراً أو كلاهما تأبّط شراً ولا تحقره ولا ترخمه فجميع هذه الجمل التي قد عمل بعضها في بعض وتمت كلاماً لا يجوز إلا حكايتها وكذلك كل ما أشبه ما ذكرت من مبتدأ وخبره وفعل وفاعل وإن أدخلت عليها إنَّ وأخواتها وكان وأخواتها فجميعه يحكى بلفظه قبل التسمية وإن سميت رجلاً بو زيد أو وزيداً أو وزيدٌ حكيت لأن الواو عاملة تقوم مقام ما عطفت عليه
الضرب الثاني : الذي يشبه الجملة :
وهو على خمسة أضرب : اسم موصول واسم موصوف وحرف مع اسم وحرف مع حرفٍ وفعل مع حرف فجميع هذا تدعه على حاله قبل التسمية من الصرف وغير الصرف لأنك لم تسم بالموصول دون الصلة ولا بشيء من هذه دون صاحبه
الأول الإسم الموصول : نحو رجل سميته : خبراً منك ومأخوذاً بك أو ضارب رجلاً فتقول رأيت خيراً منك وهذا خير منك ومررت بخير منك فإن سميت به امرأة لم تدع التنوين وحكيته كما كان قبل التسمية من قبل أنه ليس منتهى الإسم كما أن بعض الجملة ليس بمنتهى الإسم
الثاني الموصوف : إن سميت رجلاً : زيدُ العاقلُ قلت : هذا زيدُ العاقلُ ورأيت زيداً العاقلَ وكذلك لو سميت امرأة لكان على هذا اللفظ وإن سميت رجلاً ( بعاقلة ) لبيبةٍ قلت : هذا عاقلة لبيبة ورأيت عاقلةً لبيبةً فصرفته لأنك تحكيه ولو كان الإسم عاقلةً وحدها لم تصرف فحكاية الشيء أن تدعه على حكمه ما لم يكن معه عاقل فإن كان معه عاقل أعملت العامل ونقلته بحاله
الثالث الحرف مع الإسم : وذلك إذا سميت إنساناً كزيدٍ وبزيدٍ وإن زيداً حكيته وحيثما وأنت تحكيهما لأن ( حيثما ) اسم وحرف وأنت التاء للخطاب والألف والنون هما الإسم وكذلك أمَا التي في الإستفهام حكاية لأنها مع ( ما ) دخلت عليهما الف الإستفهام ومما يحكى : كذا وكأي و ( ذلك ) يحكى لأن الكاف للخطاب وهذا وهؤلاء يحكيان لأن ها دخلت على ذا وأولاء
وإن سميت ( زيد وعمرو ) رجلاً قلت في النداء : يا زيداً وعمراً فنصبت ونونت لطول الإسم
الرابع الحرف مع الحرف : وذلك نحو : إنما وكأنما وأما وإن لا في الجزاء ولعل لأن اللام عندهم زائدة وكأن لأنها كاف التشبيه دخلت على ( أن ) فجميع هذا وما أشبهه يحكى
لخامس الفعل مع الحرف : وذلك هلم : إذا سميت به حكيته وإن أخليته من الفاعل وإن مسيت بالذي رأيت لم تغيره عما كان عليه قبل أن
يكون اسماً ولو جاز أن تناديه بعد التسمية لجاز أن تناديه قبلها ولكن لو سميته : الرجل منطلق بهذه الجملة لناديتها لأن كل واحد منهما اسم تام وذلك غير تام وإنما يتم بصلته وهو يقوم مقام اسم مفرد ولو سميته الرجل والرجلان لم يجز فيه النداء
الضرب الثالث :
من القسمة الأولى وهو التسمية بالتثنية والجمع الذي على حد التثنية وذلك إذا سميت رجلاً بسلمانِ وزيدانِ حكيت التثنية فقلت : هو زيدان ومررت بزيدين ورأيت زيدين فتحكي التثنية ولفظها وإن أردت الواحد وقد أجازوا أن تقول : هذا زيدان وتجعله كفعلان وإن سميت بجميع على هذا الحد حكيت فقلت : هذا زيدونَ ورأيت زيدين ومررت بزيدين ومنهم من يجعله كقنسرين فيقول : هذا زيدون ومسلمون وقد ذكرت ذا فيما تقدم وإن بجمع مؤنث قلت : هذا مسلمات ورأيت مسلماتٍ ومررت بمسلماتٍ تحكي : تقول العرب : هذه عرفات مباركاً فيها فعرفات بمنزلة آبانين ومثل ذلك أذرعات قال امرؤ القيس :
( تَنَوَّرْتُها مِنْ أَذْرِعَاتٍ وأهلُها ... بِيَثْرِبَ أَدْنى دَارِهَا نَظَرٌ عالي )
ومن العرب من لا ينون أذرعات ويقول : هذه قريشياتُ كما ترى شبهوها بهاء التأنيث في المعرفة لأنها لا تلحق بنات الثلاثة بالأربعة ولا الأربعة بالخمسة
قال أبو العباس أنشدني أبو عثمان للأعشى :
( تَخَيَّرَهَا أخو عَانَاتِ شَهرا ... )
فلم يصرف ذلك قال أبو بكر قد ذكرت ما ينصرف وبقي ذكر المبني المضارع للمعرف ونحن نتبع ذلك الأسماء المبنيات إن شاء الله تعالى
باب ما لا يجوز أن يحكى هذا الباب ينقسم ثلاثة أقسام : وهو كل اسم مبني أو مضاف ملازم للإِضافة وأفردته أو فعل فارغ أو حرف قصدت التسمية به فقط فجميع هذه إذا سميت بشيء منها أعربته إعراب الأسماء الأول وإن نقص عما كانت عليه الأسماء
الأول : إن سميت بكم أو بمن قلت : هذا كم قد جاء لأن في الأسماء مثل دم ويد وإن سميت بهو قلت : هذا هو فاعلم وإن سميت به مؤنثاً لم تصرفه لأنه ضمير مذكر وإنما ثقلت ( هو ) لأنه ليس في كلامهم اسم على حرفين أحدهما ياء أو واو أو ألف وسمع منهم إذا أعربوا شيئاً من هذا الضرب التثقيل فإن سميت بذو قلت ذوّاً لأنك تقول : هاتان ذواتا مال فلما علمت الأصل رددته إلى أصله كما تكلموا به ولو لم يقولوا : ذوا ثم سمينا بذو لَما قلت إلا ذو وكان الخليل يقول : ذو أصل الذال على كل قول الفتح وإن سميت ( بفو ) قلت : فم ولو لم يكن قبل فم لقلت فوه مؤنثان وأين ومتى وثم وهنا وحيث وإذا وعند وعن فيمن
قال من عن يمينه ومنذ في لغة من رفع تصرف الجميع تحمله على التذكير حتى يتبين غيره وإن سميت كلمة بتحت أو خلف أو فوق لم تصرفها لأنها مذكرات يدل على تذكيرها تحت وخليف ذاك ودوين ولو كان مؤنثاً دخلت الهاء كما دخلت في قديديمةٍ ووريئةٍ
الثاني : التسمية بالفعل الفارغ من الفاعل والمفعول : إن سميت رجلاً بضرب أو ضُرِبَ أو يضرِب أعربته وقد عرفتك ما ينصرف من ذلك وما لا ينصرف وحكم نعم وبئس حكم الفعل إذا سميت به تقولُ هذا نعم وبئس وإن سميته أزمة قلت أزمٍ ورأيت أزمى وبيغزو قلت : يغزٍ ورأيت يغزى وإن سميته بعِهْ قلت : وعٍ وإن سميت برَه : قلت إرْأً
باب التسمية بالحروف وذلك نحو إن إذا سميت بها قلت : هذا إن وكذلك أن وكذلك ليت وإن سميت بأن المفتوحة لم تكسر وإن سميت بلو واو زدت واواً فقلت لو واو وكان بعض العرب يهمز فيقول : لؤ وإن سميت ( بلا ) زدت ألفاً ثم همزت فقلتَ : لاء لأن الألف ساكنة ولا يجتمع ساكنان وإذا سميت بحرف التهجي نحو : باء وتاءٍ وثاء وحاء مددت فقلت : هذه باء وتاء وإذا تهجيت قصرت ووقفت ولم تعرب وفي ( زاي ) لغتان : منهم من يجعلها ( ككي ) ومنهم من يقول : زاي فإن سميته بزي على لغة من يجعلها ككي قلت : زي فاعلم وإن سميت بها على لغة من يقول : زايٌ قلت : زاءٌ وكذا واوٌ وآءٌ وسنبين هذا في التصريف وجميع هذه الحروف إذا أردت بالواحد منها معنى حرف فهو مذكر أردت به معنى كلمةٍ فهو مؤنث وإن سميت بحرف متحرك أشبعت الحركة إن كانت فتحةً جعلتها ألفاً وضممت إليها ألفاً أخرى وإن كانت كسرة أشبعتها حتى تصير باء وتضم إليها أخرى وكذلك المضموم إذا وجدته كذلك وذلك أن تسمي رجلاً بالكاف
من قولك كزيدٍ تقول : هذا ( كا ) وإن سميته بالباء من بزيد : قلت : بيٌ فإن سميته بحرف ساكن فإن الحرف الساكن لا يجوز من غير كلمة فترده إلى ما أخذ منه
واعلم : أن كل اسم مفرد لا تجوز حكايته وكذلك كل مضاف وإن سميت رجلاً عم فأردت أن تحكي به في الإستفهام تركته على حاله وإن جعلته اسماً قلت : عن ما تمد ( ما ) لأنك جعلته اسماً كما تركت تنوين سبعة إذا سميت فقلت : سبعةُ
والمضاف بمنزلة الألف واللام لا يجعلان الإسم حكاية قال أبو بكر : قد ذكرنا ما لا ينصرف وقد مضى ذكر المبني المضارع للمعرب ونحن نتبع ذلك الأسماء المبنيات إن شاء الله
ذكر الأسماء المبنية التي تضارع المعرب هذه الأسماء على ضربين : مفرد ومركب فنبدأ بذكر المفرد إذ كان هو الأصل لأن التركيب إنما هو ضم مفرد إلى مفرد ولنبين أولاً المعرب ما هو لنبين به المبني فنقول : إن الإسم المفرد المتمكن في الإِعراب على أربعة أضرب : اسم الجنس الذي تعليله من جنس آخر والواحد من الجنس وما اشتق من الجنس ولقب الواحد من الجنس
شرح الأول من المعرب :
الجنس : الإسم الدال على كل ما له ذلك الإسم ويتساوى الجميع في المعنى نحو : الرجل والإِنسان والمرأة والجمل والحمار والدينار والدرهم والضرب والأكل والنوم والحمرة والصفرة والحسن والقبح وجميع ما أردت به العموم لما يتفق في المعنى بأي لفظ كان فهو جنس وإذا قلت : ما هذا فقيل لك : إنسان فإنما يراد به الجنس فإذا قال : الإِنسان فالألف واللام لعهد الجنس وليست لتعريف الإِنسان بعينه وإنما هي فرق
بين إنسان موضوع للجنس وبين إنسان هو من الجنس إذا قلت إنسان قال الله عز و جل : ( إن الإنسان لفي خُسرٍ إلا الذين آمنوا ) فدل بهذا أن الإِنسان يراد به الجنس ومعنى قول النحويين : الألف واللام لعهد الجنس أنك تشير بالألف واللام إلى ما في النفس من معرفة الجنس لأنه شيء لا يدرك بالعيان والحس وكذلك إذا قلت : فضةٌ والفضةُ وأرضٌ والأرضُ وأسماء الأجناس إنما قيلت ليفرق بين بعضها وبعض مثل الجماد والإِنسان وهذه الأسماء تكون أسماء لما له شخص ولغير شخص فالذي له شخص نحو : ما ذكرنا من الإِنسان والحمار والفضة وما لا شخص له مثل الحمرة والضرب والعلم والظن
شرح الثاني من المعرب :
وهو الواحد من الجنس نحو : رجل وفرس ودينار ودرهم وضربةٍ وأكلةٍ فتقول : إذا كان واحد من هذه معهوداً بينك وبين المخاطب الرجل والفرس والدينار والضرب أي الفرس الذي تعرف والضرب الذي تعلم والفرق بين قولك : رجل وبين فضة أن رجلاً يتضمن معنى جنس له صورة فمتى زالت تلك الصورة زال الإسم وفضة ليس يتضمن هذا الإسم صورة فأما درهم فهو مثل رجل في أنه يتضمن معنى الفضة بصورة من الصور
الثالث ما اشتق للوصف من جنس من الأجناس التي لا أشخاص لها :
نحو : ضارب مشتق من الضرب وحَسَنٌ مشتق من الحُسْنِ وقبيحٌ مشتق من القُبحِ وآكلٌ مشتق من الأكل وأسودٌ من السواد وهذه كلها صفات تجري على الموصوفين فإن كان الموصوف جنساً فهي أجناس وإن
كان واحد منكوراً من الجنس فهو واحد منكور نحو : القائمِ وقائمٍ والحَسِنُ وحَسَنٌ وإن كان معهوداً فهو معهودٌ وحكم الصفة حكم الموصوف في إعرابه
الرابع ما يلقب به شيء بعينه ليعرف من سائر أمته :
نحو : زيد وعمرو وبكر وخالد وما أشبه ذلك من الأسماء الأعلام التي تكون للآدميين وغيرهم
فجميع هذه الأسماء المتمكنة إلا الجنس يجوز أن تعرف النكرة منها بدخول الألف واللام عليها ويجوز أن تنكر المعرفة منها ألا ترى أنك تقولُ : الرجل إذا كان معهوداً ثم تقول : رجلٌ إذا لم يكن معهوداً والمعنى واحد وكذلك ضرب والضربُ وحَسُنَ والحسنُ وضاربٌ والضَاربَ وقبيحٌ والقبيحُ وتقول : زيدُ عمروٍ فإذا تنكرا بأن يتشاركا في الإسم قلت : الزيدان والعمران تدخل الألف واللام مع التثنية لأنه لا يكون نكرة إلا ما يثنى ويجمع والأسماء المبنية بخلاف هذه الصفة لا يجوز أن تنكر المعرفة منها ولا تعرف النكرة ألا ترى أنه لا يجوز أن يتنكر ( هذا ) فتقول : الهذان ولا يتنكر أنا ولا أنت ولا هو فهذا من المعارف المبنيات التي لا يجوز أن يتنكر ما كان منها فيه الألف واللام فلا يجوز أن يخرج منها الألف واللام نحو : الذي والآن وأما النكرة التي لا يجوز أن تعرف نحو قولك : كيف وكم فجميع ما امتنع أن يعرف بالألف واللام وامتنع من نزع الألف واللام منه لتنكير فهو مبني ولا يلزم من هذا القول البناء في اسم الله عز و جل إذ كانت الألف واللام لا تفارقانه فإن الألف واللام وإن كانا غير مفارقتين فالأصل فيهما أنهما دخلتا على إله قال سيبويه : أصل هذا الإسم أن يكون إلها وتقديره ( فعال ) والألف واللام
عوض من الهمزة التي في ( إله ) وهو على هذا علم قال أبو العباس : لأنك تذكر الآلهة الباطلة فتكون نكرات تعرف بالألف واللام وتجمع كما قال الله عز و جل ( أأتخذ من دونه آلهة ) وتعالى الله أن يعتور اسمه تعريف بعد تنكير أو إضافة بعد أن كان علماً وقال سيبويه في موضع آخر : ويقولون : لاه أبوك يريدون لله أبوك فيقدمون اللام ويؤخرون العين والإسم كامل وهو علم وحق الألف واللام إذا كانت في الإسم ألا ينادي إلا الله عز و جل فإنك تقول : يا لله وتقطع الألف فتفارق سائر ألفات الوصل والشاعر إذا اضطر فقال : ( يا التي ) لم تقطع الألف فهذا الإسم مفارق لجميع الأسماء عز الله وجل
أقسام الأسماء المبنيات المفردات ستة اسم كنى به عن اسمٍ واسم أشير به إلى مسمى وفيه معنى فِعْلٍ واسم سمي به فعل واسم قام مقام الحرف وظرف لم يتمكن وأصوات تحكي
باب الكنايات وهي علامات المضمرين الكنايات على ضربين : متصل بالفعل ومنفصل منه فالمتصل غير مفارق للفعل والفعل غير خال منه وعلامة المرفوع فيه خلاف علامة المنصوب والمخفوض فالتاء للفاعل المتكلم مذكراً كان أو مؤنثاً فعلتُ : وصنعت وعلامة المخاطب المذكر فعلتَ والمؤنث فعلتِ وعلامة المضمر النائب في النية تقول : فعل وصنع فاستغنى عن إظهاره والعلامة فيه بأن كل واحد من المتكلمين والمخاطبين له علامة فصار علامة الغائب أن لا علامة له هذا في الفعل الماضي فأما الفعل المضارع فليس يظهر في فعل الواحد ضمير البتة متكلماً كان أو مخاطباً إلا في فعل المؤنث المخاطب وذلك أنه استغنى بحروف المضارعة عن إظهار الضمير يقولُ المتكلمُ : أنا أفعل ذكراً كان أو أنثى فالمتكلم لا يحتاج إلى علامة لأنه لا يختلط بغيره وإنما أظهرت العلامة في ( فعلتُ ) للمتكلم لأنه لو أسقطها لالتبس بالغائب فصار فعل فلا يعلم لمن هو فإن خاطبت ذكراً قلت : أنت تفعل والغائب هو يفعل فإن خاطبت مؤنثاً قلت : تفعلين فظهرت العلامة وهي الياء وإن كانت غائبة قلت : هي تفعل فيصير لفظ الغائبة كلفظ المخاطب ويفصل بينهما الخطاب وما جرى في الكلام من ذكر ومؤنث وتقول للمؤنث في الغيبة فعلتْ وصنعتْ فالتاء علامة فقط وليست باسم يدلك على ذلك قولهم : فعلت هند فأما التاء التي هي اسم فيسكن لام الفعل لها نحو فَعلْتُ وصنَعْتُ وإنما أسكن لها لام الفعل لأن ضمير الفاعل والفعل
كالشيء الواحد فلو لم يسكنوا لقالوا : ضَرَبتُ فجمعوا بين أربعة متحركات وهم يستثقلون ذلك فإن ثنيت وجمعت الضمير الذي في الفعل قال الفاعل : فعلنا في التثنية والجمع والمذكر والمؤنث في هذا اللفظ سواء وتقولُ في الخطاب : فعلتما للمذكر والمؤنث ولجمع المذكرين فعلتم وللمؤنث فعلتن فإن ثنيت الغائب قلت : قاما فظهرت العلامة وهي الألف وفي الجمع قاموا وفي المضارع يقومان ويقومون تثبت النون في الفعل المعرب وتسقط من الفعل المبني وقد ذكرناه فيما تقدم وتقول في المؤنث : قامتا وقمن ويقومان ويقمن هذه علامات المضمر المتصل المرفوع فأما علامة المخفوض والمنصوب المتصل فهي واحدة فعلامة المتكلم ياء قبلها نون نحو : ضربني وجيء بالنون لتسلم الفتحة ولئلا يدخل الفعل جر وللمجرور علامته ياء بغير نون نحو : مررت بي وغلامي وهذه الياء تفتح وتسكن فمن فتح جعلها كالكاف أختها ومن أسكن فلاستثقال الحركة في الياء في أنها تكسر ما قبلها وكلهم إذا جاء بها بعد ألف فتحها نحو : عصايَ ورحايَ
وإذا تكلم منه ومن غيره قال : ضربنا زيد والمؤنث في ذا كالمذكر وكذلك هو في الجر تقول : ضربنا وغلامنا فإذا خاطبت فعلامة المخاطب المذكر كاف مفتوحة والمؤنث كاف مكسورة نحو : ضربتك وكذلك المجرور تقول : مررت بكَ يا رجل وبكِ يا امرأة وإذا ثنيت قلت في المذكر والمؤنث : ضربتكما وللجميع المذكرين : ضربتكم وكذلك تقول : مررت بكما في التذكير والتأنيث ومررت بكم في المذكرين ومررت بكن للمؤنث
الضرب الثاني وهو علامات المضمرين المتصلة :
أما علامة المرفوعين فللمتكلم أنا فالإسم الألف والنون وإنما تأتي بهذه الألف الأخيرة في الوقف فإن وصلت سقطت فقلت : أن فعلتُ ذاكَ وإن حدث عن نفسه وعن آخر قال : نحو وكذلك إن تحدث عن نفسه وعن
جماعة قال : نحن ولا يقع ( أنا ) في موضع التاء والموضع الذي يصلح فيه المتصل لا يصلح فيه المنفصل لا تقول فعل أنا وعلامة المخاطب إن كان واحداً أنت وإن خاطبت اثنين فعلامتها أنتما والجميع أنتم فالإسم هو الألف والنون في ( أنت ) والتاء علامة المخاطب والمضمر الغائب علامته ( هو ) وإن كان مؤنثاً فعلامته ( هي ) والإثنين والإثنتين هما والجميع هم وإن كان الجمع جمع مؤنث فعلامته هن وأما علامة المضمر المنصوب ( فأيا ) فإن كان غائباً قلت إياه وإن كان متكلماً قلت : إياي ويانا في التثنية والجمع وللمخاطب المذكر : إياكَ وللمؤنث إياكِ وإياكما إذا ثنيت المؤنث والمذكر وإياكم للمذكرين وإياكن في التأنيث وللغائب المذكر إياه وللمؤنث إياها وإياهما للمذكر والمؤنث وأياهم للمذكرين وإياهن للجميع المؤنث وقد قالوا : إن ( أيا ) مضاف إلى الهاء والكاف والقياس أن يكون ( أيا ) مثل الألف والنون التي في أنت فيكون ( أيا ) الإسم وما بعدها للخطاب ويقوي ذلك أن الأسماء المبهمة وسائر المكنيات لا تضاف و ( أيا ) مع ما يتصل بها كالشيء الواحد نحو : أنت فأما المجرور فليست له علامة منفصلة لأنه لا يفارق الجار ولا يتقدم عليه وجميع المواضع التي يقع فيها المنفصل لا يقع المتصل والموضع الذي يقع فيه لا يقع المنفصل لأن المنفصل كالظاهر تقول : إني وزيداً منطلقانِ ولا تقول : إن إياي وزيداً منطلقانِ وتقول : ما قام إلا أنت ولا تقول : إلاتَ وتقول : إن زيداً وإياك منطلقانِ ولا يقول : إن زيداً إلاك منطلقان ومما يدل على ( إن وأخواتها ) مشبهة بالفعل أن المكنى معها كالمكنى مع الفعل تقول : إنني كما تقول : ضربني وأما قولهم : عجبتُ من ضريبكَ وضريبه فالأصل من ضربي إياك وضربي إياه وأقل العرب من يقول : ضَريبهُ وإنما وقع هذا مع المصدر لأنه لم تستحكم علامات الإِضمار معه ألا ترى أنهم لا يقولون :
عجبت من ضربكني إذا بدأت بالمخاطب قبل المتكلم ولا من ضربهيك إذا بدأت بالبعيد قبل القريب وقالوا : عجبت من ضريبك وضربكه ولو كان هذا موضعاً يصلح فيه المتصل لجاز فيه جميع هذا ألا ترى أنك تقول : ضَريبكَ إذا جئت بالفعل ضربته وموضع ضربكه ضربته وكان الذين قالوا : ضريبه قالوا : ذلك إختصاراً لأن المصدر اسم فإذا أضفته إلى مضمر فحقه إن عديته لمعنى الفعل أن تعديه إلى ظاهر أو ما أشبه الظاهر من المضمر المتصل وكان حق المضمر المتصل أن لا يصلح أن يقع موقع المنفصل والأصل في هذا : عجبتُ من ضربي إياك كما تقول : من ضربي زيداً ومن ضربك إياه كما تقول من ضربك عمراً والكسائي يصل جميع المؤنث فيقول : أعطيتهنه والضارباناه لأنه لم يتفق حرفان ولا أعلم بين الواحد والجمع فرقاً ومن ذلك قولهم : كان إياه لأن ( كانَهُ ) قليلة ولا تقول : كانني وليسني ولا كانَكَ لأن موضعه موضع ابتداء وخبر فالمنفصل أحق به قال الشاعر :
( لَيْتَ هَذَا اللَّيْلَ شَهْرٌ ... لا نَرى فيهِ عَريبا )
( لَيس إيايَ وإيَاكَ ... ولا نخشَى رَقيبا )
وقد حكوا : ليسني وكأنني واعلم أنك إذا أكدت المرفوع المتصل والمنصوب والمخفوض المتصلين أكدته بما كان علامة المضمر المرفوع المنفصل وذلك قولك : قمت أنتَ وضربتُك أنت وإنما جاز ذلك لأن الخطاب جنس واحد وليس بأسماء معربة والأصل في كل مبني أن يكون المرفوع والمنصوب والمخفوض على صيغة واحدة وإنما فرق في هذا للبيان فإذا أمنوا اللبس رجع المبني إلى أصله ومع ذلك فلو أكد المرفوع والمنصوب المتصلان بالمنفصلين اللذين لهما لبقي المجرور بغير شيء يؤكده ولا يحسن أن يعطف الإسم الظاهر على المرفوع المتصل لا يحسن أن تقول : قمتُ وزيدٌ حتى تؤكد فتقول : أنا وزيدٌ ولا تقول : قام وزيدٌ حتى تقول : قام هو وزيدٌ وقال عز و جل : ( اذهب أنت وأخوك ) ربما جاء على قبحه غير مؤكد ويحتمل لضرورة الشاعر
وإنما قَبُحَ أن تقول : قمت وزيد لأن التاء قد صارت كأنها جزء من الفعل إذ كانت لا تقوم بنفسها وقد غير الفعل لها فإن عوضت من التأكيد شيئاً يفصل به بين المعطوف والمعطوف عليه نحو : ما قمتُ ولا عمرو وقعدتُ اليومَ وزيدْ : حسن فأما ضمير المنصوب فيجوز أن يعطف عليه الظاهر : تقول : ضربتُك وزيداً وضربت زيداً وإياكَ فيجوز يتقدم وتأخيره وأما المخفوض فلا يجوز أن يعطف عليه الظاهر لا يجوز أن تقول : مررت بكِ وزيدٍ لأن المجرور ليس له اسم منفصل يقتدم ويتأخر كما للمنصوب وكل اسم معطوف عليه فهو يجوز أن يؤخر ويقدم الآخر عليه فلما خالف المجرور سائر الأسماء لم يجزْ أن يعطف عليه وقد حكي أنه قد جاء في الشعر :
( فَاذْهَب فَمَا بِكَ والأيَّامِ مِنْ عَجَبِ ... )
وتقول : عجبت من ضربِ زيدٍ أنت إذا جعلت زيداً مفعولاً ومن ضربكه إذا جعلت الكاف مفعولاً وتقول فيما يجري من الأسماء مجرى الفعل : عليكهُ ورويدهُ وعليكني ولا تقول : عليك إيايَ ومنهم من لا يستعمل ( ني ) ولا ( نا ) استغناء بعليك ( بي ) و ( بنا ) وهو القياس ولو قلت : عليك إياه كان جائزاً لأنه ليس بفعل والشاعر إن اضطر جعل المنفصل موضع المتصل قال حميد الأرقط :
( إليك حَتىَّ بَلَغتْ إياكا ... )
يريد : حتى بلغتَكَ فإن ذكرتَ الفعل الذي يتعدى إلى مفعولين فحق هذا الباب إذا جئت بالمتصل أن تبتدأ بالأقرب قبل الأبعد وأعني بالأقرب المتكلم قبل المخاطب والمخاطب قبل الغائب وتعرف القوي من غيره فإن الفعلين إذا اجتمعا إلى القوي فتقول : قمت وأنت ثم تقول : قمنا وقام وأنتَ ثم تقول : قمتما فتغلب المخاطب على الغائب وتقول : أعطانيه وأعطانيك ويجوز : أعطاكني فإن بدأ بالغائب قال : أعطاهوني وقال سيبويه : هو قبيح لا تكلم به العرب وقال أبو العباس : هذا كلام جيدّ ليس بقبيحٍ وقال الله عز و جل : ( أنلزُمُكموها وأنتم لها كارهون ) فتقول
على هذا أعطاه إياك وهو أحسن من أعطاهوكَ فإذا ذكرت مفعولين كلاهما غائب قلت : لمعطاهوه وليس بالكثير في كلامهم والأكثر المعطاه إياه والمنفصل بمنزلة الظاهر فأما المفعولان في ظننت وأخواتها فأصلها الإبتداء الخبر كما جاء في ( كان ) فالأحسن أن نقول ظننتك إياه كما تقول : كان إياهُ وكنت إياهُ
واعلم : أنه لا يجوز أن يجتمع ضمير الفاعل والمفعول إذا كان المفعول هو الفاعل في الأفعال المتعدية والمؤثرة لا يجوز أن تقول : ضربتني ولا أضربك إذا أمرت فإن أردت هذا قلت : ضربت نفسي واضرب نفسك وكذلك الغائب لا يجوز أن تقول : ضربه إذا أردت ضرب نفسه ويجوز في باب ظننت وحسبت أن يتعدى المضمر إلى المضمر ولا يجوز أن يتعدى المضمر إلى الظاهر تقول : ظننتي قائماً وخلتني منطلقاً لأنها أفعال غير مؤثرة ولا نافذة منك إلى غيرك فتقول على هذا : زيد ظنه منطلقاً فتعدى فعل المضمر في ظن إلى الهاء ولا يجوز زيداً ظن منطلقاً فتعدى فعل المضمر الذي في ظن إلى زيدٍ فتكون قد عديت في هذا الباب فعل المضمر إلى الظاهر وإنما حقه أن يتعدى فعل المضمر إلى المضمر وتكون أيضاً قد جعلت المفعول الذي هو فضلة في الكلام لا بد منه وإلا بطل الكلامُ فهذه جميع علامات المضمر المرفوع والمنصوب قد بينتها في المنفصل والمتصل وقد خبرتك أن المجرور لا علامة له منفصلة وإن علامته في الإتصال كعلامة المنصوب لا فرق بينها في الكاف والهاء تقول : رأيتك كما تقول : مررت بك وتقول : ضربته كما تقول : مررت به فهذا مطرد لا زيادة فيه فإذا جاءوا إلى الياء التي هي ضمير المتكلم زادوا في الفعل نونا قبل الياء لئلا يكسروا لام الفعل والفعل لا جرّ فيه فقالوا : ضربني فسلمت الفتحة بالنون ووقع الكسر على النون وكذلك : يضربني فإذا جاءوا بالإسم لم يحتاجوا إلى النون فقالوا : الضاربي في النصب واستحسنوا
الكسرة في الباء موضع لأنه يدخله الجر ولم يستحسنوا ذلك في لام الفعل لأنه موضع لا يدخله الجر وقالوا : إنني ولعلني ولكنني لأن هذه حروف مشبهة بالفعل
قال سيبويه : قلت له : يعني الخليل ما بال العرب قالت : إني وكأني ولعلي ولكني فزعم : أن هذه الحروف اجتمع فيها أنها كثيرة من كلامهم وأنهم يستثقلون في كلامهم التضعيف فلما كثر استعمالهم إياها مع تضعيف الحروف حذفوا النون التي تلي الياء قال : فإن قلت : ( لعلي ) ليس فيها تضعيف فإنه زعم : أن اللام قريبة من النون يعني في مخرجها من الفم وقد قال الشعراء في الضرورة : ليتي
وقال : سألته عن قولهم : عني وقطني ولدني : ما بالهم جعلوا علامة المجرور ها هنا كعلامة المنصوب فقال : إنه ليس من حرف تلحقه ياء الإِضافة إلا كان متحركاً مكسوراً ولم يريدوا أن يحركوا الطاء التي في ( قط ) ولا النون التي في ( من ) فجاءوا بالنون ليسلم السكون وقدني بهذه المنزلة وهذه النون لا ينبغي أن نذكرها في غير ما سمع من العرب لا يجوز أن تقول : قدي كما قلت مني وقد جاء في الشعر ( قدي ) قال الشاعر :
( قدْنِيَ مِنْ نصر الخُبيْبَيْن قَدِي ... )
فقال : قدي لما اضطر شبهه بحسبي كما قال : ليتي حيث اضطر وقال سيبويه : لو أضفت إلى الياء الكاف تجر بها لقلت : ما أنت كِي لأنها متحركة قال الشاعر لما اضطر :
( وأمّ أو عالٍ كها أو أقربا ... )
وقال آخر لما اضطر :
( فلا تَرى بَعْلاً ولا حَلائِلاً ... كَهُ ولا كَهُنَّ إلاّ حَاظِلا )
فهذا قاله سيبويه قياساً وهو غير معروف في الكلام واستغنى عن ( كي ) بمثلي
ولام الإِضافة تفتح مع المضمر إلا مع الياء لأن الياء تكسر ما قبلها تقول : لَهُ ولَكَ ثم تقول : لِي فتكسر لأن هذه الياء لا يكون ما
قبلها حرف متحرك إلا مكسوراً وهي مفارقة لأخواتها في هذا ألا ترى أنك تقول : هذا غلامُه فتصرف فإذا أضفت غلاماً إلى نفسك قلت : هذا غلامي فذهب الإِعراب وإنما فعلوا ذلك لأن الضم قبلها لا يصلح فلما غير لها الرفع وهو أول غير لها النصب إذا كان ثانياً وألزمت حالاً واحداً فقلت : رأيت غلامي
واعلم أن الذي حكي من قولهم : لولاي ولولا شيء شذ عن القياس كان عند شيخنا يجري مجرى الغلط والكلام الفصيح ما جاء به القرآن : لولا أنت
كما قال عز و جل : ( لولا أنتم لكنّا مؤمنين ) والذين قالوا : لولاك ولولاي قالوا : لأنها أسماء مبنية يؤكد المرفوع منها المخفوض فكأنهم إنما يقتصرون العبارة عن المتكلم والمخاطب والغائب لا بأي لفظ كان لأنه غير ملبس ولكنهم لا يجعلون غائباً مكان مخاطب لا يقولون : لولاه مكان لولاك فأما قولهم : عساك فالكاف منصوبة لأنك تقول : عساني فعساك مثل رماك وعساني مثل رماني
واعلم : أن علامة الإِضمار قد ترد أشياء إلى أصولها فمن ذلك قولك : لعبد الله مال ثم تقول : لك وله إنما كسرت مع الظاهر في قولك
لزيدٍ مالٌ كيلا يلتبس بلام الإبتداء إذا قلت : لهذا أفضل منك ألا تراهم قالوا : يا لبَكر حين أمنوا الإلتباس فمن ذلك : أعطيكموه في قول من قال : أعطيتكم ذاك فأسكن ردوه بالإِضمار إلى أصله كما ردوا بالألف واللام حين قالوا : أعطيتكموه اليوم فكان الذين وقفوا بإسكان الميم كرهوا الوقف على الواو
فلما وصلوا زال ما كرهوا فردوا وزعم يونس أنه يقول : أعطيتُكُمْه بإسكان الميم كما قال في الظاهر أعطيتكم زيداً
واعلم : أنَّ أنت وأنا ونحن وأخواتهن يكن فصلاً ومعنى الفصل أنهن يدخلن زوائد على المبتدأ المعرفة وخبره وما كان بمنزلة الإبتداء والخبر ليؤذن بأن الخبر معرفة أو بمنزلة المعرفة ولا يكون الفصل إلا ما يصلح أن يكون كناية عن الإسم المذكور فأما ما الخبر فيه معرفة واضحة فنحو قولك : زيد هو العاقلُ وكان زيد هو العاقل وأما ما الخبر فيه يقرب من المعرفة إذا أردت المعرفة وكان على لفظه فنحو قولك حسبت زيداً هو خيراً منك وكان زيد هو خيراً منك وتقول : إن زيداً هو الظريف فيكون فصل وإن زيداً هو الظريف وتقول : إن كان زيدٌ لهو الظريفُ وإن كنا لنحن هي ( نا ) في كنا ولو قلت كان زيدٌ أنت خيرا منه لم يجز أن تجعل أنت فصلاً لأن أنت غير زيد فإن قلت : كنت أنت خيراً من زيدٍ جاز أن يكون فصلاً وأن يكون تأكيداً فجميع هذه لمسائل الإسم فيها معرفة والخبر معرفة أو قريب منها مما لا يجوز أن يدخل عليه الألف واللام ولو قلت : ما أظن أحداً هو خير منك لم يجز أن تجعل ( هو ) فصلاً لأن واحداً نكرة ولكن تقول : ما أظن أحداً هو خير منك فجعل : هو مبتدأ و ( خير منك ) خبره وهذا الباب يسميه الكوفيون العماد وقال الفراء : ادخلوا العمادَ ليفرقوا بين الفعل والنعت لأنك لو قلت : زيدٌ العاقل لأشبه النعت فإذا قلت : زيدٌ هو العاقل قطعت ( هو ) عن توهم النعتِ فهذا الذي يسميه البصريون فصلاً ويسميه الكوفيون عِماداً وهو ملغى من الإِعراب فلا يؤكد ولا ينسق عليه ولا يحال بينه وبين الألف واللام وما قاربهما ولا يقدم قبل الإسم المبتدأ ولا قبل ( كان ) ولا يجوز كان هو القائم زيدٌ ولا هو القائم كان زيدْ وقد حكي هذا عن الكسائي لأنه كان يجعل العماد بمنزلة الألف
واللام في كل موضع يجوز وضعه معهما فإذا قلت : كنت أنت القائم جاز أن يكون أنت فصلاً وجاز أن يكون تأكيداً ويجوز أن يبتدأ به فترفع القائم
ولك أن تثني الفعل وتجمعه وتؤنثه فتقول : كان الزيدان هما القائمينِ وكان الزيدونَ هم القائمين وكانت هندٌ هي القائمة والظن وإنّ وجميع ما يدخل على المبتدأ والخبر يجوز الفصل فيه تقول : ظننتُ زيداً هو العاقلَ وإن زيداً هو العاقلُ فإذا قلت كان زيدٌ قائمةً جاريته فأدخلت الألف واللام على ( قائمةٍ ) وجعلتها لزيدٍ قلت : كان زيدق القائمةُ جاريتهُ فإن كانت الألف واللام للجارية صار المعنى : كان زيد التي قامت جاريتهُ فقلت : كان زيدُ القائمة جاريتُه حينئذٍ وهذا لا يجوز عندي ولا عند الفراء من قبل أنه ينبغي أن يكون الألف واللام هي الفصل بعينه وأن يصلح أن يكون ضميراً للأول
الباب الثالث من المبنيات : وهو الإسم الذي يشار به إلى المسمى
وفيه من أجل ذلك معنى الفعل وهي : ذَا وذه وتثنى ذا وذه فتقول : ذانِ في الرفع وذينِ في النصب والجر وتثنية ( تا ) تان وتجمع ذا وذه وتا أُولى وأولاءِ والمذكر والمؤنث فيه وسواء فذا اسم تشير به إلى المخاطب إلى كل ما حضر كما يدخلون عليه هاء التنبيه فيقولون : هذا زيدٌ وهذي أمةُ الله فإذا وقفوا على الياء أبدلوا منها هاءً في الوقف فإذا وصلوا أسقطوا الهاء وردوا الياء ويبدلون من الياء فيقولون : هذهِ أمةُ الله فإذا وصلوا قالوا : هذي أمةُ اللِه فإذا وقفوا حذفوا الهاء وردوا الياء ومنهم من يقول : هذه أمةُ اللِه
وهؤلاءِ تُمد وتقصرُ وإذا مدوا بنوه على الكسر لإلتقاء الساكنين فإن أدخلوا كاف المخاطبة فأول كلامهم لما يشار إليه وآخره للمخاطب والكاف ها هنا حرف جيء به للخطاب وليس باسمٍ لأن إضافة المبهمة محال من قبل أنها معارفٌ فلا يجوز تنكيرها وكل مضافٍ فهو نكرةٌ قبل إضافته فإذا أُضيف إلى معرفة صار بالإِضافة معرفةٌ وهو قولك : ذاكَ وذلكَ واللام في ( ذلكَ ) زائدة والأصل ( ذَا ) والكاف للخطاب فقط ومحالٌ أن تكون هنا اسماً لما بينت لك فإنما زدت الكاف على ( ذَا ) وكانت ( ذَا ) لما يومي إليه بالقرب
فإذا قلت ذلك دلت على أن الذي يومي إليه بعيدٌ وكذلك جميع الأسماء المبهمة إذا أردت المتراخي زدت كافاً للمخاطبة لحاجتك أن تنبه بالكاف المخاطب ونظير هذا هنا وها هنا وهناكَ وهنالكَ إذا أشرت إلى مكان فإن سألت رجلاً عن رجلٍ قلت : كيف ذاكَ الرجلُ
فتحت الكاف
فإن سألت امرأة عن رجلٍ قلت : كيفَ ذاكِ الرجلُ فكسرت الكاف قال الله عز و جل : ( كذلكِ الله يخلقُ ما يشاءُ ) فإن سألت رجلاً عن امرأةٍ قلت : كيفَ تلكَ المرأةُ فإن سألت المرأة عن امرأةٍ قلت : كيف تلكِ المرأةُ تكسر الكاف فإن سالت رجلاً عن رجلينِ قلت : كيف ذانكَ الرجلانِ ومن قال في الرجلِ ذلكَ : قال في الإِثنينِ : ذانّكَ بتشديد النون أبدلوا من اللام نوناً وأدغمت إحدى النونين في الأخرى كما قال عز و جل : ( فَذانِكَ بُرهَانانِ ) فإن سألت عن جماعةٍ رجلاً قلت : كيف أولئك الرجالُ وأولاكَ الرجالُ فإن سألت رجلاً عن امرأتين قلت : كيفَ تانك المرأتانِ وإن سألت امرأة عن رجلين قلت : كيف ذانِك الرجلانِ يا امرأةُ وإن سألتها عن جماعةٍ قلت : كيف أولئكِ الرجالُ يا امرأةَ فإن سألت رجلينِ عن رجلينِ قلت : كيف ذانكما الرجلانِ يا رجلانِ وإن سألتهما عن جماعةٍ قلت : كيف أولئكما الرجالُ يا رجلانِ وإن سألتهما عن امرأةٍ قلت : كيف تيكما وتلكما المرأةُ يا رجلانِ وإن سألتهما عن امرأتين قلت : كيفَ تانكما المرأتان يا رجلانِ وإن سألت جماعةٍ عن واحدٍ قلت : كيف ذاكم الرجلُ يا رجالُ وإن سألتهم عن رجلين قلت : كيف ذانكم الرجلانِ يا رجالُ وإن سألتهم عن جماعة قلت : كيف أُولئكَ الرجالُ يا رجالُ وإن سألتهم عن امرأةٍ قلت : كيف تلكم المرأة يا رجال وإن سألتهم عن امرأتين قلت : كيف تانكم المرأتانِ يا رجالُ وإن سألت امرأتين فعلامة المرأتينِ والرجلين في الخطاب سواءٌ فإن سألت نساء عن رجلٍ قلت : كيف ذاكنَّ الرجلُ يا نساءُ وباللام : كيف ذلكن الرجلُ يا نساءُ قال الله عز و جل : ( فذلكنَّ الذي لُمتْنُنَّيِ فيهِ ) فإن سألتهن عن رجلين قلت : كيف تيكن وإن سألتهن عن جماعةٍ قلت : كيفَ أُولئكنَّ النساءُ مثل المذكرِ
واعلم : أنه يجوز لك أن تجعل مخاطب الجماعة على لفظ الجنس أو تخاطبُ واحداً عن الجماعة فيكون الكلام له والمعنى يرجع إليهم كما قال الله تعالى : ( ذلكَ أَدنى ألاّ تَعُولوا ) ولم يقل : ذلكمُ لأن المخاطب النبي والدليل على أن في هذا معنى فعلٍ قولهم : هذا زيدٌ منطلقاً لأن منطلقاً انتصب على الحالِ والحال لا بد من أن يكون العامل فيها فعلٌ أو معنى فعلٍ
باب الأسماء المبنية المفردة التي سمي بها الفعل وذلك قولهم : صه ومه ورويدَ وإيه وما جاء على فَعالٍ نحو : حَذارِ ونزالِ وشتانَ فمعنى صه : اسكت ومعنى مه : أكفف فهذانِ حرفانِ مبنيانِ على السكون سمى الفعلَ بهما فأما رويدَ : فمعناه : المهلةُ وهو مبني على الفتح ولم يسكن آخره لأن قبله ساكناً فاختير له الفتح للياء قبله تقول : رويدَ زيداً فتعديهِ فأما قولك : رويدَك زيداً فإن الكاف زائدةٌ للمخاطبة وليست باسم وإنما هي بمنزلة قولك : التجاءَك يا فتى وأرأيتُك زيداً ما فعلَ ويدلك على أن الكاف ليست باسمٍ في التجاءَكَ دخول الألف واللام والألف واللام والإِضافة لا يجتمعان وكذلك الكاف في : أرأيتُكَ زيداً زائدةٌ للخطاب وتأكيده ألا ترى أن الفعل إنما عمل في زيد فإن قلت : إرودّ كان المصدر إرواداً وتصرف جميع المصادر فإن حذفت الزوائد على هذه الشريطة صرفت : رويدَ فقلت : رويداً يا فتى وإن نعت به قلت : ضعهُ وضعاً رويداً وتضيفه لأنه كسائر المصادر تقول : رويدَ زيدٍ كما قال الله عز و جل : ( فَضرب الرقاب ) ورويداً زيداً كما تقول ضرباً زيداً في الأمر فأما إيه وآه فمعنى إيه الأمر بأن : يزيدكُ من الحديث المعهودِ بينمكا فإذا نونت قلت : إيهٍ والتنوين للتنكير كأنك قلت : هات حديثاً وذاك كأنه قال : هات الحديثَ قال ذو الرمةِ :
( وقَفْنَا فَقُلْنَا إيهِ عَنْ أمِّ سَالِمٍ ... وَمَا بَالُ تَكْلِيمِ الدِّيَارِ البَلاقِعِ )
فإذا فتحت فهي زجرٌ ونهي كقولك : إيه يا رجلُ إني جئتُكَ فإذا لم ينون فالتصويت يريد الزجر عن شيءٍ معروفٍ وإذا نونت فإنما تريد الزجر عن شيءٍ منكورٍ قال حاتم :
( إيهاً فِدَىً لَكُمْ أُمّي وَمَا وَلَدَتْ ... حَامُوا على مَجْدِكُم واكْفُوا مَنِ اتَّكَلاَ )
ومن ينون إذا فتح فكثير والقليل من يفتح ولا ينون وجميع التنوين الذي يدخل في هذه الأصوات إنما يفرق بين التعريف والتنكير تقول : صه يا رجلُ هذا الأصل في جميع هذه المبنيات ومنها ما يستعمل بغير تنوين البتة فما دخله التنوين لأنه نكرةٌ قولهم : فدىً لكَ يريدون به الدعاء والدعاء حقه أن يكون على لفظ الأمر فمن العرب من يبني هذه اللفظة على الكسر وينونها لأنها نكرةٌ يريدُ بها معنى الدعاء
ومن هذا الباب قولهم : هاء يا فتى ويثنى فيقول هائِماً وهائم
للجميع كما قال : ( هاؤم اقرؤواْ كتابيه ) وللمؤنث هاءِ بلا ياءٍ مثل هاكَ والتثنية هاؤما مثل المذكرين وهاؤن تقوم الهمزة في جميع ذا مقام الكاف ولك أن تقول : هاءَ يا قوم كما قال عز و جل : ( ذلكَ خيرٌ لَّكُمْ ) وأصل الكلام ( ذلكم ) هذا في الخطاب يجوز لأن كل واحدٍ منهم يخاطب وقال : هاكَ وهاكما وهاكم والمؤنث هاكِ وأما ما كان على مثالِ فَعالِ مكسورِ الآخر فهو على أربعةِ أضربٍ والأصل واحدٌ
واعلم : أنه لا يبني شيءٌ من هذا الباب على الكسر إلا وهو مؤنثٌ معرفة ومعدولٌ عن جهته وإنما يبنى على الكسر لأن الكسر مما يؤنث به تقول للمرأة : أنتِ فعلتِ وإنكِ فاعلة وكان أصل هذا إذا أردت به الأمر السكون فحركت لإلتقاء الساكنين فجعلت الحركة الكسر للتأنيث وذلك قولك : نَزالِ وتَراكِ ومعناه : أنزلْ واتركْ فهما معدولان عن المتاركة والمنازلة قال الشاعر :
( وَلِنعْمَ حَشْوُ الدِّرْعِ أنْتَ إذَا ... دُعِيتْ نَزالِ وَلُجَّ في الذُّعْرِ )
فقال : دُعيت لما ذكر ذلك في التأنيث
وقالوا : تراكَها وحَذارِ ونَظارِ فهذا ما سمي الفعل به باسم مؤنثٍ ويكون ( فَعالِ ) صفةً غالبةً تحل محل الإسم نحو قولهم : للضبعِ جَعارِ يا فتى وللمنية : حَلاقِ ويكون في التأنيث نحو يا فَساقِ
والثالث : أن تسمي امرأةً أو شيئاً مؤنثاً باسم مصوغ على هذا المثال نحو : حَذامِ ورَقاشِ
والرابع : ما عَدَلَ مِن المصدر نحو قوله :
( جَمَادِ لَهَا جَمَادِ ولا تَقولِي ... طَوَالَ الدَّهْرِ ما ذُكِرَتْ حَمَادٍ )
قال سيبويه : يريد : قولي لَها جمودُ ولا تقولي لَها حَمْداً ومن ذلك فَجارِ يريدون : الفَجْرَةَ ومَسارِ يريدون : المَسرةَ وبَداوِ يريدون : البَدوَ وقد جاء من بَنات الأربعة معدولاً مبني قَرْ قارِ وعَرْ عَارِ وهي لُغيةٌ وشتان : مبني على الفتح لأنه غير مؤنثٍ فهو اسم للفعل إلا أن الفعل هنا غير أمر وهو خبر ومعناه : البعدُ المفرط وذلك قولك : شتانَ زيدق وعمروٌ فمعناه : بَعُد ما بين زيدٍ وعَمروٍ جداً وهو مأخوذ من شَتَّ والتشتتُ التبعيد ما بين الشيئين أو الأشياء فتقدير : شتانَ زيدٌ وعمروٌ تباعدَ زيدٌ وعمروٌ ولأنه اسم لفعلٍ ما تم به كلام قال الشاعر :
( شَتَّانَ هَذَا والعِناقُ والنَّوم ... والمَشْربُ البَارِدُ في ظِلِّ الدَّوْمْ )
فجميع هذه الأسماء التي سمي بها الفعل إنما أُريد بها المبالغة ولولا ذلك لكانت الأفعال قد كَفَتْ عنها
باب الإسم الذي قام مقام الحرف وذلك كَمْ ومَنْ وما وكيفَ ومتى وأينَ فأما ( كَمْ ) فبنيت لأنها وقعت موقع حرف الإستفهام وهو الألف وأصل الإستفهام بحروف المعاني لأنها آلة إذا دخلت في الكلام أعلمت أن الخبر استخبارٌ : و ( كَمْ ) اسم لعدد مبهم
فقالوا : كَم مالكَ فأوقعوا ( كَمْ ) موقف الألف لما في ذلك من الحكمة والإختصار إذ كان قد أغناهم عن أن يقولوا أعشرونَ مالَكَ أثلاثونَ مالكَ أخمسونَ والعدد بلا نهايةٍ فأتوا باسم ينتظم العدد كلَّهُ
وأما ( مَنْ ) فجعلون سؤالاً عن منْ يعقلُ نحو قولك : مَنْ هذا ومَن عمروٌ فاستغني بمن عن قولك : أزيدٌ هذا أعمروٌ هذا أبكرٌ هذا والأسماء لا تحصى فانتظم بِمَنْ جميع ذلك ووقعت أيضاً موقع حرف الجزاء وهو ( إنْ ) في قولك : مَنْ يأتني آتِه
وأما ( ما ) فيسأل بها عن الأجناس والنعوت تقول : ما هذا الشيء فيقال : إنسانٌ أو حمارٌ أو ذهَبٌ أو فِضَّةٌ ففيها من الإختصار مثل ما كان في ( مَنْ ) وتسأل بها عن الصفات فتقول : ما زيدٌ فيقال : الطويلُ والقصيرُ وما أشبه ذلك ولا يكون جوابها زيدٌ ولا عمروٌ فإن جعلت الصفة في موضع الموصوف على العموم جاز أن تقع على مَن يعقلُ
ومن كلام العرب : سبحانَ ما سبحَ الرعدُ بحمدهِ وسبحانَ ما سخركنَ لنا وقال الله عز و جل :
( والسماء وما بناها ) فقال قوم : معناه : ومنْ بَناها وقال آخرون : إنما والسماءَ وبنائها كما تقول : بلغني ما صنعتَ : أي صنيعُكَ لأن ( ما ) إذا وصلت بالفعل كانت بمعنى المصدرِ
وأما ( كيفَ ) فسؤال عن حال ينتظم جميع الأحوال يقالُ : كيف أنتَ فتقول : صالحٌ وصحيح وآكلٌ وشارب ونائمٌ وجالس وقاعدٌ والأحوال أكثر من أن يحاط بها فإذا قلت : ( كيفَ ) فقد أغنى عن ذكر ذلك كلهِ وهي مبنيةٌ على الفتح لأن قبل الياءِ فاءٌ فاستثقلوا الكسر مع الياء وأصل تحريك التقاء الساكنين الكسر فمتى حركوا بغير ذلك فإنما هو للإستثقالِ أو لإتباع اللفظِ اللفظَ
فأما ( متى ) فسؤالٌ عن زمانٍ وهو اسمٌ مبنيٌّ والقصة فيه كقصةِ ( مَنْ وكيف ) في أنه مغنٍ عن جميع أسماء الزمان أيوم الجمعةِ القتال أمْ يوم السبتِ أم يوم الأحدِ أم سنة كذا أم شهر كذا فمتى يغني عَنْ هذا كله وكذا ( أيانَ ) في معناها : كما قال الله عز و جل : ( أيانَ يومُ القيامةِ ) وقال : ( يسألونَك عن الساعةِ أيَان مُرساها ) وبنيت على الفتح لأن قبلها ألفاً فأتبعوا الفتحَ الفتحَ
وأما ( أينَ ) فسؤالٌ عن مكانٍ وهي كمَتى في السؤال عن الزمان إذا قلت : أينَ زيد قيل لك : في بغدادَ أو البصرة أو السوقِ فلا يمتنع مكانُ من أن يكون جواباً وإنما الجواب من جنس السؤال فإذا سئلت عن مكان لم يجز أن تخبر بزمان وإذا سئلت عن عددٍ لم يجز أن تخَبرَ بحالٍ وإذا سئلت عن معرفةٍ لم يجز أن تخبر بنكرةٍ وإذا سئلتَ عن نكرةٍ لم يجز أن تخبر بمعرفةٍ فهذه المبنيات المبهمات إنما تعرف بأخواتها وتعلم مواضعها من الإِعراب بذلك
باب الظرف الذي يتمكن وهو الخامس من المبنيات وذلك نحو الآنَ ومُذْ ومنذُ فأما الآن فقال أبو العباس رحمه الله : إنما بني لأنه وقع معرفةً وهو مما وقعت معرفته قبل نكرته لأنك إذا قلت : الآنَ فإنما تعني به الوقت الذي أنت فيه من الزمان فليس له ما يشركه ليس هو آنٌ وآنٌ فتدخل عليه الألف واللام للمعرفة وإنما وقع معرفةً لِما أنت فيه من الوقت
وأما ( مُنذ ) فإذا استعملت اسماً أن يقع ما بعدها مرفوع أو جملة نحو : ما رأيته منذ يومان وإن المعنى : بيني وبينَ رؤيته يومانِ وقد فسرت ذلك فيما تقدم وهي مبنيةٌ على الضم وإنما حركت لذلك لأن قبلها ساكناً وبنيت على الضم لأنها غاية عند سيبويه واتبعوا الضَّم الضَّم وقد يستعمل حرفاً يجر وأما ( مذ ) فمحذوفةٌ من ( مُنْذُ ) والأغلب على ( مُذْ ) أن تستعمل اسماً ولو سميت إنساناً بمذ لقلت مُنيذُ إذا صغرته فرددت ما ذهب وصار ( مُذْ ) أغلب على الأسماءِ لأنها منقوصة ولَدن ومِنْ عَلُ
كما قال الشاعر :
( وهي تَنُوشُ الحَوْضَ نَوْشاً مِن علا ... )
وأما الأفعال فنحو : خذْ وكُلْ وع كلامي وشِ ثَوباً وأما الحروف فلا يلحقها ذلك وكانت مذ ومنذ أغلب على الحروف فكل واحدٍ منهما يصلحُ في مكانِ أُختِها وإنما ذكرنا منذُ ومذْ في الظروف لأنهما مستعملان في الزمان
الباب السادس من المبنيات المفردة وهو الصوت المحكى وذلك نحو : غاق وهي حكاية صوت الغراب وماء وهو حكاية صوت الشاةِ وعاءٍ وحاءٍ زجرٌ ومن ذلك حروف الهجاء نحو ألفٍ باء تاء ثاء وجميع حروف المعجم إذا تهيجت مقصورة موقوفة وكذلك كاف ميم موقوفة في التهجي أما زاي فيقال : زاي وزي والعدد مثله إذا أردت العدد فقط وقال سيبويه تقول : واحد اثنانِ فتشم الواحد لأنه اسمٌ ليس كالصوتِ ومنهم من يقول : ثلاثة أربعة فيطرحُ حركة الهمزة على الهاء ويفتحها ولم يحولها تاءً لأنه جعلها ساكنة والساكن لا يغير في الإِدراج فإذا لم ترد التهجي بهذه الحروف ولم تردْ أن تعد بأسماء العدد فررت منها جرت مجرى الأسماء ومددت المقصور في الهجاء فقلت : هذه الباء أحسن من هذه الباءِ وتقول : هذه الميم أحسن من هذه الميمِ وكذلك إذا عطفت بعضها على بعضٍ أعربت لأنها قد خرجت من باب الحكاية وذلك نحو قولك : ميمٌ وباءٌ وثلاثةٌ وأربعةٌ إنما مددت المقصور من حروف الهجاء إذا جعلته اسماً وأعربته لأن الأسماء لا يكون منها شيءٌ على حرفين أحدهما حرف علةٍ
ذكر الضرب الثاني من المبنيات وهو الكلم المركب :
هذه الأسماء على ضربين : فضربٌ منها يبنى فيه الإسم مع غيره وكان الأصل أن يكون كل واحدٍ منهما منفرداً من صاحبه والضرب الثاني : أن يكون أصلُ الإسم الإِضافة فيحذف المضافُ إليه وهو في النية
فالضرب الأول على ستة أقسم : اسمٌ مبني مع اسمٍ واسمٌ مبني مع فعلٍ واسم مبني مع حرفٍ واسم مع صوتٍ وحرف بنيَ مع فعلٍ وصوت مع صوتٍ فأما الإسم الذي بني مع الإسم فخمسةَ عشر وستَة عشَر
وكل كلمتين من هذا الضرب من العدد فهما مبنيان على الفتح
وكان الأصلُ خمسةٌ وعشرةٌ
فحذفت الواو وبني أحدهما مع الآخر اختصاراً وجعُلا كاسمٍ واحدٍ وكذلك حادي عشَرَ وثالث عشر إلى تاسعَ عشَر والعرب تدع خمسة عشر في الإِضافة والألف واللام على حالها ومنهم من يقول : خمسةَ عشَركَ وهي رديئة ومن ذلك : حيصَ بيص بنيا على الفتح وهي تقال عند اختلاط الأمر وذهب شغَرَ بغَرَ وأيادي سبأ ومعناه الإفتراق وقَالى قَلا بمنزلة خمسَةَ عشَر ولكنهم كرهوا الفتح في الياء والألف لا يمكن تحريكها
ومن ذلك : خَازِ بَازَ وهو ذباب عند بعضهم وعند بعضهم داءٌ ومنهم من يكسر فيقول خاز باز وبعضُ يقول : الخازَ بازَ كحضرموتَ ومنهم من يقول : خاز بازٍ فيضيفُ وينون ومن ذلك قولهم : بيتَ بيتَ وبينَ بينَ ومنهم من يبني هذا ومنهم من يضيف ويبني صباحَ مساءَ ويومَ يومٍ ومنهم من يضيف جميع هذا ومن ذلك لقيته كفةَ كفةَ وكفةً كفةً
واعلم : أنهم لا يجعلون شيئاً من هذه الأسماء بمنزلة اسم واحدٍ إلا إذا أرادا الحالَ والظرفَ والأصل والقياسُ الإِضافة فإذا سميت بشيءٍ من ذا أضفته فإذا قلت : أنت تأتينا في كل صباح ومساءٍ أضفت لا غير لأنه قد زال الظرف وصار اسماً خالصاً فمعنى قولهم : هُوَ جاري بيتَ بيتَ أي ملاصقاً ووقع بينَ بينَ أي وسطاً وأما قَالى قَلا فبمنزلة : حضرموتَ لأنه اسم بلدٍ وليسَ بظرفٍ ولا حالٍ
وأسماء الزمان إذا أضيفت إلى اسمٍ مبني جاز أن تعربَها وجاز أن تبنيَها وذاك نحو : ( يومئذ ) تقول : سيرَ عليهِ يومئْذٍ ويومئذِ والتنوين ها هنا مقتطع ليعلم أنه ليس يراد به الإِضافة والكسر في الذال من أجل سكون النون فتقرأ على هذا إن شئت : من
عذابٍ يومئذِ ومن عذابٍ يومئذٍ ومذهب أبي العباس رحمه الله في دخول التنوين هنا أنه عوض من حذف المضاف إليه
الثاني اسم بني مع فعل : وهو قولهم : حبذا هندٌ وحبذا زيدٌ بنيَ حَبَّ وهو فعلٌ مع ذا وهو اسم
ومن العرب من يقول في أحبَّ حَبَّ وقولهم : محبوب إنما جاء على حَبَّ ولو كان على أحبَّ لكان محبُ فإذا بنوا أحَبَّ مع ذا اجتمعوا على طرح الألف والدليل على أن حبذا بمنزلة اسم أنك لا تقول حبذهِ وأنه لا يجوز أن تقول حبذا وتقف حتى تقول : زيدٌ أو هندٌ فتأتي بخبرٍ فحبَذا مبتدأٌ وهند وزيد خبرٌ ومما يدل على أن حَبَّ مع ذَا بمنزلة اسم أنه لا يجوز لك أن تقول : حَبَّ في الدار ذَا زيدٌ فلا يجوز أن تفصل بينهما وبين ( ذَا ) كما تفصل في باب نِعْمَ
الثالث اسم بني مع حرف : وذلك قولك : لا رجل ولا غلامَ ويدلك على أن ( لا ) مع رجلٍ بمنزلة اسم واحدٍ أنه لا يجوز لك أن تفصل رجلاً من ( لا ) لا تقول : لا فيها رحلٌ لكَ يجوز القول : لا ماءَ ماءَ بارداً ولا رجلَ رجل صالحاً عندكَ فبني ( ماءٌ مع ماءٍ ورجلاً مع رجلٍ ) قال أبو بكر : وقد استقصيتُ ذكر ذَا في بابه ومن ذلك قولهم : يا زيداه ويا أيها الرجلُ فأي اسمٌ وهاءُ حرفٌ وهو غير مفارقٍ لأيٍّ في النداء وقد بينا ذَا في باب النداء
الرابع اسم بني مع صوت : وذلك نحو سيبويه وعمرويه تقول : هذا سيبويه يا هذا وهذا عمرويهِ يا فلانُ وهو مبنيٌ على الكسرِ وإن قلت : مررتُ بعمرويهِ وعمرويهٍ آخر نونت الثاني لأنه نكرةٌ
الخامس : الحرف الذي بني مع الفعل : وذلك : هَلمَّ مبنياً على الفتح وهو اسمٌ للفعل ومعناه : تعالَ ويدل على أنه حرفٌ بني مع فعلٍ قول من
قال من العرب : هلما للإثنينِ وهلموا للجماعة وصرفوه تصريف لَمَّ بكذا والمعنى يدلُّ على ذلكَ
السادس الصوت الذي بني مع الصوت : وذلك قولهم : حَيَّ هَلَ الثريدَ ومعناه : إيتوا الثريدَ وحكى سيبويه : عن أبي الخطاب أّن بعض العرب يقول : حَيَّهلَ الصلاةَ
الضرب الثاني : من القسمة الأولى وهو ما أصله الإِضافة إلى اسم فحذف المضاف إليه :
فهذه المضافات على قسمين : قسم حذف المضاف إليه البتة وضربٌ منع الإِضافة إلى الواحد وأُضيف إلى جملة فأما ما حذف المضاف إليه فيجيء على ضربين : منهما ما بني على الضمة وهي التي يسميها النحويون الغاياتِ فمصروفة عن وجهها قبلُ وغيرُ وحسبُ فجميع هذه كانَ أصلها الإِضافة تقول : جئت من قبل هذا ومن بعد هذا وكنت أول هذا أو فوقَ وغيرَ هذا وهذا حسبُك أي كافيكَ فلما حذف ما أُضيفت إليه بنيت وإنما بنيت على الحركة ولم تبنَ على السكون وفي بعضها ما قبل لامه متحرك لأنها أسماءٌ أصلها التمكن وتكون نكراتٍ معرباتٍ فلما بنيتْ تجنب إسكانها وزادوها فضيلة على ما لا أصل له في التمكن فهذه علة بنائها على الحركة وأما بناؤها على الضم خاصةً فلأنَّ أكثر أحوالِ هذه الظروف أن تكون منصوبةً وذلك الغالب عليها فأخرجت إلى الضم ولم تخرج إلى الكسر لأن الكسر أخو النصب وجعلوا ذلك علامة للغاية لأن الكسر حقه أن يكون لإلتقاء الساكنين فتجنبوه ها هنا لأنه موضع تحرك لغير التقاء الساكنين
الثاني : ما بني وليس بغاية من ذلك أمس مبنية على الكسر وكسرت
لإلتقاء الساكنين وإنما بني لأنه يقال لليوم الذي قبل يومك الذي أنت فيه وهو ملازم لكل يوم من أيام الجمعة ووقع في أول أحواله معرفة فمعرفته قبل نكرته فمتى نكرته أعربته وغدٌ ليس كذلك لأنه غير معلوم لأنه مستقبلٌ لا تعرفه فإذا أضفت أمسِ نكرته ثم أضفته فيصير معرفة بالإِضافة كما تقول : زيدكَ إذا جعلتَهُ من أمةٍ كُلها زيدٌ وعرفته بالإِضافة وزالت المعرفة الأولى
وقال أبو العباس رحمه الله في قول الشاعر :
( طَلبُوا صُلْحَنَا وَلاَتَ أَوَانٍ ... فَأَجَبْنَا أنْ لَيْسَ حِينَ بقاءِ )
كان ( أوان ) مما لا يستعمل إلا مضافاً فلما حذف ما يضاف إليه بنوه على الكسر لإلتقاء الساكنين كما فُعِلَ بأمسِ وأُدخل التنوين عوضاً لحذف ما يُضاف إليه ( أوانَ ) ألا ترى أنهم لا يكادون يقولون : أوان صدقٍ كما يقولون في الوقت والزمن
ولكن يدخلون الألف واللام فيقولون : كانَ ذلكَ في هذا الأوانِ فيكونان عوضاً
الضرب الثاني ما منع الإِضافة إلى الواحد وأُضيف إلى جملة :
وذلك : حيثُ وإذْ وإذا فأما ( حيثُ ) فإن من العرب من يبنيها على الضم ومنهم من يبنيها على الفتح ولم تجىء إلا مضافةً إلى جملةٍ نحو
قولك : أقومُ حيثُ يقوم زيدٌ وأصلي حيثُ يصلي فالحركة التي في الثاء لإلتقاء الساكنين فَمنْ فتح فَمِنْ أجل الياء التي قبلها وفتح استثقالاً للكسر ومن ضمَّ فلشبهها بالغايات إذ كانت لا تضاف إلى واحدٍ ومعناها الإِضافةُ وكان الأصل فيها أن تقول : قمتُ حيثُ زيدٌ كما تقولُ : قمتُ مكانَ زيدٍ وأما إذْ فمبنية على السكون
وتضاف إلى الجمل أيضاً نحو قولك : إذْ قامَ زيدٌ وهي تدل على ما مضى من الزمان ويستقبحون جئتُكَ إذْ زيدٌ قامَ إذا كان الفعلُ ماضياً لم يحسن أن نفرق بينه وبين إذْ لأن معناهما في المضي واحدٌ
وتقول : جئتُكَ إذْ زيدٌ قام وإذ زيدٌ يقوم فحقها أن تجيء مضافة إلى جملة فإذا لم تضف نونته قال أبو ذؤيب :
( نَهيتُك عِنْ طِلابِكَ أُمَّ عَمْروٍ ... بِعَاقِبةٍ وأَنْتَ إذٍ صَحِيح )
وأما ( إذا ) فقلما تأتي من الزمان وهي مضافة إلى الجملة تقول : أجيئُكَ إذا أحمَر البسرُ وإذا قدَم فلانٌ ويدلك على أنها اسم أنها تقع موقع قولك : آتيكَ يوم الجمعةِ وآتيكَ زمَن كَذا ووقتَ كذا وهي لما يستأنف من الزمان ولم تستعمل إلا مضافةً إلى جملة
فأما ( لَدُنْ ) فجاءت مضافةً ومن العرب من يحذف النون فيقول : لدُ كذا وقد جعل حذف النون بعضهم أن قال : لَدُن غدوةً فنصب غدوةً لأنه توهم أن هذه النون زائدةٌ تقوم مقام التنوين فنصب كما تقول : قائمٌ غدوةً ولم يعملوا ( لَدن ) إلا في غدوةً خاصةً قال أبو بكر : قد ذكرنا الأسماء المعربة والأسماء المبنية وقد كنا قلنا : أن الكلام اسم وفعلٌ وحرفٌ ونحن نتبع الأسماء والأفعال ونذكر إعرابها وبناءها إن شاء الله
باب إعراب الأفعال وبنائها الأفعال تقسم قسمين : مبنيٌ ومعرب
فالمبني ينقسم قسمين : مبنيٌ على حركةٍ ومبنيٌ على سكونٍ فأما المبني على حركةٍ فالفعل الماضي بجميع أبنيته نحو : قام واستقام وضربَ واضطربَ ودحرجَ وتدحرجَ وأحمرَ واحمارَّ وما أشبه ذلك وإنما بني على الحركة لأنه ضارعَ الفعل المضارع في بعض المواضع نحو قولك : إنْ قامَ قمتُ فوقع في موضعٍ : إنْ تَقم ويقولون مررتَ برجلٍ ضَرَبَ كما تقول : مررتُ برجلٍ يضربُ فبنيَ على الحركة كما بني ( أولُ وعلُ ) في بابه على الحركة وجعل له فضيلة على ما ليس بمضارع المضارعِ عما حصل ( لأول وعل ) أو من قبل ومن بعد فضيلة على المبنيات وأما المبني على السكون فما أمرت به وليس فيه حرف من حروف المضارعة وحروف المضارعة الألف والتاءُ والنون والياءُ وذلك نحو قولك : قُم واقعدْ واضربْ فلما لم يكن مضارعاً للإسم ولا مضارعاً للمضارع ترك على سكونه لأن أصل الأفعال السكونُ والبناءُ وإنما أعربوا منها ما أشبه الأسماء وضارعها وبنوا منها على الحركة ما ضارع المضارع وما خلا من ذلك أسكنوهُ وهذه الألف في قولك : اقعد ألفُ وصلٍ إنما تنطق بها إذا ابتدأت لأنه لا يجوز أن تبتدىء بساكنٍ وما بعد حروف المضارعة ساكن فلما خلا الفعل منها واحتيج إلى النطق به أدخلت ألف الوصل وحق ألف الوصل أن تدخل على الأفعال المبنية فقط ولا تدخل على الأفعال المضارعة لأنها لا تدخل على الأسماء إلا
على ابنٍ وأخواته وهو قليل العدد وإنما بني فعلُ التعجب الذي يجيء على لفظ الأمر بنيَ على السكونِ نحو قولك : أكرمْ بزيدٍ وأسمعْ بهم وأبصرْ
وقد مضى ذكر ذا في باب التعجب
وأما الفعل المعرب فقد بينا أنه الذي يكون في أوله الحروف الزوائد التي تسمى حروف المضارعة وهذا الفعل إنما أُعرب لمضارعته الأسماءَ وشبهه بها والإِعراب في الأصل للأسماء وما أشبهها من الأفعال أُعرب كما أنه إنما أعرب من أسماء الفاعلين ما جرى على الأفعال المضارعة وأشباهها ألا ترى أنك إنما تُعمِلُ ( ضارباً ) إذا كان بمعنى يفعلُ فتقول : هذا ضاربٌ زيداً فإن كان بمعنى ( ضرب ) لم تعمله فمنعت هذا العمل كما منعت ذلك الإِعراب واعلم أنه إنما يدخله من الإِعراب الذي يكون في الأسماء : الرفعُ والنصب ولا جرَّ فيه وفيه الجزم وهو نظير الخفض في الأسماء لأن الجَرَّ يخص الأسماء والجزم يخص الأفعال ونحن نذكرها نوعاً نوعاً بعونِ الله
الأفعال المرفوعة :
الفعل يرتفع بموقعهِ موقَع الأسماءِ كانت تلك الأسماء مرفوعةً أو مخفوضةً أو منصوبةً فمتى كان الفعل لا يجوز أن يقع موقعه اسمٌ لم يجزْ رفعه وذلك نحو قولك : يقومُ زيدٌ ويقعدُ عمروٌ وكذلك عمروٌ يقولُ وبكرٌ ينظرُ ومررتُ برجلٍ يقومُ ورأيت رجلاً يقولُ ذاكَ ألا تَرى أنك إذا قلت : يقومُ زيدٌ جاز أن تجعل زيداً موضع ( يقومُ ) فتقول : زيدٌ يفعلُ كَذا وكذلك إذا قلت : عمروٌ ينطلق فإنما ارتفع ( ينطلقُ ) لأنه وقع موقع ( أخوكَ ) إذا قلت : زيدٌ أخوكَ فمتى وقع الفعل المضارع في موضع لا تقع فيه الأسماء فلا يجوزُ رفعه
وذلك نحو قولك : لم يقمْ زيدٌ لا يجوز أن ترفعه لأنه لا يجوز أن تقول : لم زيدٌ فافهَم هذا
واعلم : أن الفعل إنما أعُرب ما أُعرب منه لمشابهته الأسماء فأما الرفع
خاصةً فإنما هو لموقعه موقع الأسماء فالمعنى الذي رفعت به غير المعنى الذي أعربتَ بهِ
الأفعال المنصوبة :
وهي تنقسم على ثلاثة أقسام : فعلٌ ينصبُ بحرفٍ ظاهرٍ ولا يجوز إضمارهُ وفعلٌ ينتصبُ بحرفٍ يجوز أن يُضمَر وفعلٌ ينتصب بحرفٍ لا يجوزُ إظهارهُ والحروفُ التي تنصبُ : أنْ ولَن وكي وإذن
الأول : ما انتصب بحرف ظاهر لا يجوز إضماره وذلك ما انتصب بلن وكي تقول : لن يقومَ زيدٌ ولن يجلسَ فقولك : لن يفعلَ يعني : سَيفعلُ يقول القائل : سيقومُ عمروٌ فتقول : لَن يقومَ عمروٌ وكان الخليل يقول : أصلها لا أَنْ فألزمه سيبويه : أن يكون يقدم ما في صلة ( أن ) في قوله : زيداً لَنْ أضربَ وليس يمتنع أحد من نصب هذا وتقديمه فإن كان على تقديره فقد قدم ما في الصلة على الموصول
وأما ( كي ) فجواب لقولك : لِمه إذا قال القائل : لِمَ فعلت كذا فتقول : كي يكون كذا ولِمَ جئتني فتقول : كي تعطيَني فهو مقارب لمعنى اللام إذا قلت : فعلتُ ذلك لِكذا فأما قول من قال : كيمه في الإستفهام فإنه جعلها مثل لِمَه فقياس ذلك أن يُضمر ( أنْ ) بعد ( كي ) إذا قال : كي يفعل لأنه قد أدخلها على الأسماء
وكذا قول سيبويه : والذي عندي أنه إنما قيل : كيمه لَما تشبيهاً
وقد يشبهون الشيء بالشيءِ وإن كان بعيداً منه
وأما إذِنٍ فتعمل إذا كانت جواباً وكانت مبتدأة ولم يكن الفعل الذي بعدها معتمداً على ما قبلها وكان فعلاً مستقبلاً فإنما يعمل بجميع هذه الشرائط وذلك أن يقول القائل : أنا أكرمكَ فتقول : إذن أجيئَك إذن أحسنَ إليكَ إذن آتيَكَ
فإن اعتمدت بالفعل على شيءٍ قبل ( إذنْ ) نحو قولك : أنا إذنْ آتيكَ رفعت وألغيتَ كما تلغى ظننتُ وحسبتُ وليس بشيءٍ من أخواتها التي تعمل في الفعل يُلغى غيرها فهي في الحروف نظير أرى في الأفعال ومن ذلك إن تأتني إذن آتك لأن الفعل جواب : إنْ تأتني فإن تم الكلام دونها جاز أن تستأنف بها وتنصب ويكون جواباً وذلك نحو قول ابن عَنَمة :
( أرْدُدْ حِمَارَكَ لا تُنْزَع سَوِيَّتُهُ ... إذنْ يُردَّ وقَيْدُ العَيْرِ مَكْرُوبُ )
فهذا نصبٌ لأن ما قبله من الكلام قد استغنى وتمَّ ألا ترى أنَّ قوله : اردد حمارَك لا تُنزعْ سويَتُه كلام قد تمَّ ثم استأنف كأنه أجاب من قال : لا أفعلُ ذاكَ فقال :
( إذنْ يُردَّ وقَيْدُ العيرِ مكروبُ ... )
فإن كان الفعل الذي دخلت عليه ( إذنْ ) فعلاً حاضراً لم يجز أن تعمل فيه لأن أخواتها لا يدخلن إلا على المستقبل وذلك إذا حدثت بحديثٍ فقلت : إذنْ أظنه فاعلاً وإذن أخالكَ كاذباً وذلك لأنك تخبر عن الحال
التي أنت فيها في وقت كلامك فلا تعمل ( إذن ) لأنه موضع لا تعمل فيه أخواتها فإذا وقعت ( إذن ) بين الفاء والواو وبين الفعل المستقبل فإنك فيها بالخيار : إن شئتَ أعملتها كإعمالك أرى وحسبت إذا كانت واحدةٌ منها بين اسمين وإن شئت ألغيت فأما الإِعمال فقولك : فإذنْ آتيكَ فإذنْ أكرمَكَ قال سيبويه : وبلغنا أن هذا الحرف في بعض المصاحف : ( وإذن لا يلبثوا خلفك إلا قليلا ) وأما الإِلغاء فقولك : فإذن أجيئُكَ وقال عز و جل : ( وإذنْ لا يؤتون الناس نقيرا )
واعلم : أنه لا يجوز أن تفصل بين الفعل وبين ما ينصبه بسوى إذن وهي تُلغى وتقدم وتؤخر تقول : إذنْ والله أجيئكَ فتفصل والإِلغاء قد عرفتك إياهُ وتقول : أنا أفعلُ كذا إذنْ فتؤخرها وهي ملغاة أيضاً وإذا قلت : إذنْ عبدُ اللّه يقولُ ذلكَ فالرفع لا غير لأنه قد وليها المبتدأ فصارت بمنزلة ( هَلْ ) وزعم عيسى : أن ناساً يقولون : إذن أفعلُ في الجواب
الثاني ما انتصب بحرف يجوز إظهاره وإضماره :
وهذا يقع على ضربين : أحدهما أن تعطف بالفعل على الإسم والآخر أن تدخل لامَ الجر على الفعل فأما الضرب الأول من هذا وهو أن تعطف الفعل على المصدر فنحو قولك : يعجبني ضربُ زيدٍ وتغضبَ
تريد : وأنْ
تغضَب فهذا إظهار ( أنْ ) فيه أحسنُ
ويجوز إضمارها فأنْ مع الفعل بمنزلة المصدر فإذا نصبت فقد عطفت اسماً على أسمٍ ولولا أنك أضمرت ( أنْ ) ما جاز أن تعطف الفعل على الإسم لأن الأسماء لا تُعطف على الأفعالِ ولا تُعطفُ الأفعالُ على الأسماءِ لأن العطف نظير التثنية فكما لا يجتمع الفعل والإسم في التثنية كذلك لا يجتمعان في العطف فمما نصب من الأفعال المضارعة لما عطف على اسمٍ قول الشاعر :
( لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وتَقَرَّ عيني ... أَحَبُّ إليَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ )
كأنه قال : للبسُ عباءةٍ وأنْ تقرَّ عيني
وأما الضرب الآخر فما دخلت عليه لامَ الجر وذلك نحو قولك : جئتُكَ لتعطيني ولتقومَ ولتذهبَ وتأويل هذا : جئتُك لأنْ تقومَ جئتُكَ لأنْ تعطيني ولأن تذهبَ وإنْ شئتَ أظهرتَ فقلت ( لأنَّ ) في جميعِ ذلك وإن شئت حذفت ( أنْ ) وأضمرتها ويدلك على أنه لا بدّ من إضمار ( أنْ ) هنا إذا لم تذكرها أن لام الجر لا تدخل على الأفعال وأن جميع الحروف العوامل في الأسماء لا تدخل على الأفعالِ وكذلك عوامل الأفعال لاتدخل على الأسماء وليس لك أن تفعل هذا مع غير اللام لو قلت : هذا لك بتقوم تريد بأن تقوم لم يجز وإنما شاع هذا مع اللام من بين حروف الجر فقط للمقاربة التي بين كي واللام في المعنى
الثالث وهو الفعل الذي ينتصب بحرف لا يجوز إظهاره :
وذلك الحرف ( أنْ ) والحروفُ التي تضمر معها ولا يجوز إظهارها أربعة أحرفٍ ( حتى ) إذا كانت بمعنى إلى أنْ والفاء إذا عطفت على معنى الفعل لا على لفظه والواو إذا كانت بمعنى الإجتماع فقط وأو إذا كانت بمعنى إلى ( أنْ )
شرح الأول من ذلك وهو حتى :
اعلم : أن ( حتىَ ) إذا وقعت الموقع الذي تخفض فيه الأسماء ووليها فعلٌ مضارع أضمر بعدها ( أنْ ) ونصب الفعلَ وهي تجيء على ضربين : بمعنى ( إلى ) وبمعنى ( كي ) فالضرب الأول قولك : أنا أسيرٌ حتى أدخلَها والمعنى : أسير إلى أن أدخلَها وسرت حتى أدخلهَا كأنه قال : سرت إلى دخولِها فالدخول غايةٌ للسير وليسَ بعلةٍ للسيرٍ وكذلك : أنا أقف حتى تطلعَ الشمسُ وسرتُ حتى تطلَع الشمسُ والضربُ الآخر أن يكون الدخول علة للسيرِ فتكون بمعنى ( كي ) كأنه قال : ( سرتُ كي أدخلَها ) فهذا الوجه يكون السير فيه كان والدخول لم يكن كما تقول : أسلمت حتى أدخلَ الجنةَ وكلمته كي يأمر لي بشيءٍ ( فَحتىَّ ) متى كانت من هذين القسمين اللذين أحدهما يكون غاية الفعل وهي متعلقة به وهي من الجملة التي قبلها فهي ناصبة وإن جاءت بمعنى العطف فقد تقع ما بعدها جملة وارتفاع الفعل بعدها على وجهين : على أن يكون الفعل الذي بعدها متصلاً بالفعل الذي قبلها أو يكون منقطعاً منه ولا بدّ في الجميع من أن يكون الفعلُ الثاني يؤديه الفعل الأول فأما الوجه الأول فنحو قولك : سرتُ حتى أدخلَها ذكرت أن الدخول اتصل بالسير بلا مهلة بينهما كمعنى الفاء إذاعطفت بها فقلت : سرت فأنا أدخلَها
وصلت الدخول بالسير كما قال الشاعر :
( تُرادى عَلَى دِمْنِ الحِيَاضِ فإنْ تَعَفْ ... فإنَّ المُنَدَّى رِحْلَةٌ فَرُكُوبُ )
وينشدُ تراد لم يجعل بين الرحلة والركوب مهلةُ ولم يرد أنَّ رحلته فيما مضى وركوبه الآن ولكنه وصل الثاني بالأول ومعنى قولي : إنَّكَ إذا رفعتَ ما بعد حتى فلا بدّ من أن يكون الفعلُ الذي قبلها هو الذي أدى الفعلَ الذي بعدها أن السير به كان الدخول إذا قلت : سرتُ حتى أدخلَها
ولو لمْ يسرْ لَم يدخلْها ولو قلت : سرتُ حتى يدخلُ زيدٌ فرفعت ( يدخلُ ) لمِ تَجر لأن سيرك لا يؤدي زيداً إلى الدخول فإن نصبت وجعلتَها غايةً جازَ فقلت : سرتُ حتى يدخلَ زيدٌ تريدُ إلى أن يدخل زيدٌ وكذلك : سرتُ حتى تطلعَ الشمسُ ولا يجوز أن ترفع ( تَطلعُ ) لأنَّ سيركَ ليس بسببٍ لطلوع الشمسِ وجاز النصب لأن طلوع الشمسِ قد يكون غايةً لسيرك
وأما الوجه الثاني من الرفع : فأن يكون الفعلُ الذي بعد ( حتىَّ ) حاضراً ولا يراد به اتصاله بما قبله ويجوز أن يكون ما قبله منقطعاً ومن ذلك قولك : لقد سرت حتى أدخلها وما أمنع حتى أني أدخلُها الآن أدخلُها كيفَ شئت ومثل قول الرجل : لقد رأى مني عاماً أول شيئاً حتى لا أستطيع أن أكلَمه العامَ بشيءٍ
ولقد مَرِض حتى لا يرجونه إنما يراد أنه الآن لا يرجونه وأن هذه حاله وقت كلامه ( فحتى ) ها هنا كحرفٍ من حروف الإبتداء والرفع
في الوجهين جميعاً كالرفع في الإسم لأن حتى ينبغي أن يكون الفعل الأول هو الذي أدى إلى الثاني لأنه لولا سيره لم يدخل ولولا ما رأى منه في العام الأول ما كان لا يستطيع أن يكلمه العام ولولا المرضُ ما كان لا يُرجى وهذا مسألة تبين لك فيما فرق ما بين النصب والرفع تقول : كان سيري حتَى أدخلُها فإذا نصبت كان المعنى : إلى أن أدخلَها فتكون ( حتى ) وما عملت فيه خبرَ كان فإن رفعت ما بعد ( حتى ) لم يجز أن تقول : كان سيري حتَّى أدخلَها لأنك قد تركت ( كانَ ) بغير خبرٍ لأن معنى ( حتى ) معنى الفاء فكأنك قلت : كان سيري فأدخلها فإن زدت في المسألة ما يكون خبراً ( لكانَ ) جاز فقلت : كان سيري سيراً متعباً حتى أدخلَها وعلى ذلك قرىء : ( حتى يقولُ الرسول ) وحتى يقولُ : مَنْ نصبَ جعلَهُ غايةً ومَن رفَع جعلَه حالاً
شرح الثاني : وهو الفاء :
اعلم : أن الفاء عاطفة في الفعل كما يعطف في الإسم كما بينت لك فيما تقدم فإذا قلت : زيدٌ يقومُ فيتحدث فقد عطفت فعلاً موجباً على فعلٍ موجبٍ وإذا قلت : ما يقومُ فيتحدث فقد عطفت فعلاً منفياً على منفيّ فمتى جئت بالفاء وخالف ما بعدها ما قبلها لم يجز أن تحمل عليه فحينئذٍ تحمل الأول على معناه وينصب الثاني بإضمار ( أنْ ) وذلك قولك : ما تأتني فتكرمني وما أزورك فتحدثني لَم ترد : ما أزورك وما تحدثني ولو أردت
ذلك لرفعت ولكنك لما خالفت في المعنى فصار : ما أزوركَ فكيف تحدثني وما أزوركَ إلاّ لم تحدثني حمل الثاني على مصدر الفعل الأول وأضمر ( أنْ ) كي يعطف اسماً على اسمٍ فصار المعنى ما يكون زيارةٌ مني فحديثٌ منكَ
وكذا كلما كان غير واجب نحو الأمر والنهي والإستفهام فالأمرُ نحو قولك : إئتني فأكرِمَكَ والنهي مثل : لا تأتني فأكرمَكَ والإستفهام مثل : أتأتني فأعطيَك لأنه إنما يستفهم عن الإِتيان ولم يستفهم عن الإِعطاء وإنما تضمر ( أنْ ) إذا خالف الأول الثاني فمتى أشركت الفاء الفعلَ الثاني بالأول فلا تضمر ( أنْ ) وكذلك إذا وقعت موقع الإبتداء أو مبنيٌّ على الإبتداء
شرح الثاني : وهو الواو :
الواو تنصب ما بعدها في غير الواجب من حيث انتصب ما بعد الفاء وإنما تكون كذلك إذا لم ترد الإِشراك بين الفعلِ والفعلِ وأردت عطفَ الفعلِ على مصدر الفعلِ الذي قبلَها كما كان في الفاء وأضمرت ( أنْ ) وتكون الواو في جميع هذا بمعنى ( مَع ) فقط وذلك قولك : لا تأكلِ السمكَ وتشربَ اللبنَ أي لا تجمعْ بين أكلِ السمكِ وشربِ اللبنِ فإنْ نهاه عن كل واحدٍ منهما على حالٍ قال : ولاَ تشربِ اللبنَ على حالٍ وتقول : لا يسعني شيءٌ ويعجز عنكَ فتنصبُ ولا معنى للرفع في ( يعجزُ ) لأنه ليس يخبر أن الأشياء كلها لا تسعه وأن الأشياء كلها لا تعجز عنه إنما يعني لا يجتمع أن يسعني شيءٌ ويعجز عنك كما قال :
( لاتَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وتَأْتِيَ مِثْلَهُ ... عَارٌ عَلَيْكَ إذا فَعَلْتَ عَظِيمُ )
أي لا يجتمع أن تنهي وتأتي ولو جزم كان المعنى فاسداً
ولو قلت بالفاء : لا يسعني شيءٌ فيعجزَ عنكَ كان جيداً لأن معناه : لا يسعني شيءٌ إلا لم يعجزْ عنكَ ولا يسعني شيءٌ عاجزاً عنكَ
فهذا تمثيلٌ كما تمثلُ : ما تأتيني فتحدثني إذا نصبت بما تأتيني إلاّ لم تحدثني وبما تأتيني محدثاً وتنصب مع الواو في كل موضع تنصب فيه مع الفاء وكذلك إذا قلت : زرني فأزوركَ تريدُ ليجتمعَ هذان قال الشاعر :
( أَلم أَكُ جَاَركُمْ ويَكُونَ بَيْنِي ... وَبَيْنَكُم المَوَدَّةُ والإِخَاءُ )
أراد : ألم يجتمعْ هذانِ ولو أراد الإِفراد فيهما لم يكن إلا مجزوماً والآية تقرأ على وجهين ( ولما يعلمِ الله الذينَ جاهدوا منكم ويعلم الصابرينَ ) وإنما وقع النصب في باب الواو والفاء في غير الواجب لأنه لو كان الفعلُ المعطوف عليه واجباً لم يبنِ الخلاف فيصلحُ إضمارُ ( أنْ )
شرح الرابع وهو ( أو ) :
اعلم : أن الفعل ينتصب بعدها إذا كان المعنى معنى إلا أن تفعلَ تقول : لألزمنَّكَ أو تعطيني كأنه قال : ليكوننَّ اللزومُ والعطيةُ وفي مصحف أُبي ( تقاتلونهم أو يسلموا ) على معنى : إلا أن يُسلموا أو حتى يسلموا وقال امرؤ القيس :
( فَقُلْتُ لَهُ : لا تَبْكِ عَينُكَ إنَّما ... نُحَاوِلُ مُلْكاً أو نَمُوتَ فَنُعْذَرَا )
أي : إلا أن نموت فنعذَرا فكلُ موضعٍ وقعتْ فيهِ أو يصلح فيه إلا أنْ وحتى فالفعل منصوب فإن جاء فعلٌ لا يصلحُ هذا فيهِ رفعت وذلك نحو قولك أتجلس أو تقومُ يا فَتى والمعنى : أيكونَ منكَ أحدُ هذينِ وهل تكلمنا أو تنبسطُ إلينا لا معنى للنصبِ هنا وقال الله عز و جل : ( هل يسمعونكم إذْ تدعونَ أو ينفعونكم أو يضُرُّونَ ) فهذا مرفوع لا يجوز فيه النصب لأن هذا موضع لا يصلحُ فيه ( إلاّ أنْ )
الأفعال المجزومة :
الحروف التي تجزم خمسةٌ : لَمْ ولَمّا ولا في النهي واللام في الأمر وإنْ التي للجزاء وهذه الحروفُ تنقسم قسمين : فأربعة منها لا يقع موقعَها غيرُها ولا تحذف من الكلام إذا أريدت وهي لَمْ وَلمَّا ولا في النهي ولامُ الأمر والقسم الآخر حرف الجزاء قد يحذف ويقعَ موقعه غيره من الأسماء وحذف حرف الجزاء على ضربين : ضربٌ يقومُ مقامه اسمٌ يجازى بهِ وضربٌ يحذفُ البتةَ ويكونُ في الكلامِ دليلٌ عليه والأسماء التي يجازى بها على ضربين : اسمٌ غيرُ ظرفٍ واسم ظرفُ وهو نحو : مَا ومَنْ وأي وأينَ ومَتى وحيثَما ومتهما وإذْ ما
شرح القسم الأول وهو الأحرف الأربعة :
لم ولمَّا ولا في النهي ولام الأمر أما لَمْ فتدخلُ على الأفعال المضارعة واللفظُ لفظُ المضارع والمعنى معنى الماضي تقولُ : لَمْ يقمْ زيدٌ أمسِ ولَم يقعدْ خالدٌ وأما ( لَمَّا ) لَمْ ضمتْ إليها ( مَا ) وبنيتْ معها فغيرت حالها كما غيرت لو ( ما ) ونحوها ألا تَرى أنكَ تقول : لمّا ولا يتبعها شيءٌ ولا تقول ذلك في ( لَمْ ) وجوابُ ( لمّا ) قد فَعلَ يقول القائل : لمَّا يفعلْ فيقول : قد فعَلَ ويقول أيضاً للأمر الذي قد وقع لوقوع غيره وتقول : لما جئتَ جئتُ فيصيرُ ظرفاً وأما ( لا في النهي ) فنحو قولِكَ : لا تقمْ ولا تقعدْ ولفظ الدعاء لفظُ النهي كما كان كلفظِ الأمر تقول : لا يقطع اللهُ يدكَ ولا يتعس اللهُ جدك ولا يبعدُ الله غيرَك ولا في النهي بمعنى واحدٍ لأنك إنَّما تأمره أن يكون ذلك الشيء الموجب منفياً ألا ترى أنَّكَ إذا قلت : قُمْ إنّما تأمره بأن يكون منه قيامُ فإذا نهيت فقلت : لا تَقم فقد أردت منه نفي ذلكَ فكما أنَّ الأمر يراد به الإِيجاب فكذلك النهي يراد به النفي وأما لام الأمر فنحو قولك : ليقم زيدٌ وليقعدْ عمروٌ ولتقم يا فلانُ تأمر بها المخاطب كما تأمرُ الغائب وقال عز و جل ( فبذلكَ فلتفرحوا ) ويجوز حذف هذه اللام في الشعر وتعمل مضمرة قال متمم بن نويرة :
( علَى مِثْلِ أَصْحَابِ البَعُوضَةِ فَاخْمِشِي ... لَكِ الوَيْلُ حُرَّ الوَجْهِ أو يَبْكِ مَنْ بَكَى )
أراد : ليبكِ ولا يجوزُ أن تضمر لَمْ وَلا في ضرورة شاعرٍ
ولو أضمرا لالتبس الأمر بالإِيجاب
شرح القسم الثاني وهو حرف الجزاء :
اعلَمْ : أنَّ لحرف الجزاء ثلاثة أحوال حالٍ يظهر فيها وحالٍ يقع موقعه اسم يقوم مقامه ولا يجو أن يظهر معه والثالث أن يحذف مع ما عمل فيه ويكون في الكلام دليل عليه
فأما الأول الذي هو حرف الجزاء : فإن الخفيفة ويقال لها : أم الجزاء وذلك قولك : إن تأتني آتِكَ وإنْ تقمْ أقم فقولك : إن تأتني شرط وآتِكَ جوابهُ ولا بُدَّ للشرطِ من جوابٍ وإلا لم يتم الكلام وهو نظيرُ المبتدأ الذي لا بُدَّ له من خبر ألا ترى أنَّك لو قلت : ( زيدٌ ) لم يكن كلاماً يقال فيه صدقٌ ولا كذبٌ فإذا قلت : منطلقٌ تَمَّ الكلام فكذلك إذا قلت : إنْ تأتني لم يكن كلاماً حتى تقولَ : آتِكَ وما أشبه وحَقُّ ( إن ) في الجزاء أن يليها المستقبل من الفعل لأنك إنما تشترط فيما يأتي أنْ يقعَ شيءٌ لوقوع غيره وإنْ وليها فعل ماضٍ أحالت معناه إلى الإستقبال وذلك قولك : إنْ قمتَ قمتُ إنما المعنى : إنْ تَقمْ أقم ( فإنْ ) تجعل الماضي مستقبلاً كما أنَّ ( لَمْ ) إذا وليها المستقبل جعلته ماضياً تقول : لم يقمْ زيدٌ أمسِ والمعنى : ما قام فعلى هذا يجوز أن تقول : إنْ لَم أَقمْ لَم أَقمْ فلا بد لشرط الجزاء من جواب والجواب يكون على ضربين : بالفعل ويكون بالفاء فالفعل ما خبرتُكَ به فأما الفاء فنحو قولك : إنْ تأتني فأنا أكرمُكَ وإنْ تأتِ زيداً فأخوه يحسن إليكَ وإنْ تتّقِ الله فأنتَ كريمٌ فحق الفاء إذا جاءت للجواب أن يُبتدأ بعدها اللام ولا يجوز أن
تعمل فيما بعدها شيءٌ مما قبلها وكذلك قولك : إنْ تأتني فلكَ درهمٌ وما أشبه هذا وقد أجازوا للشاعر إذا اضطر أن يحذف الفاء
وأما الثاني : فأن يقع موقع حرف الجزاء اسم والأسماء التي تقع موقعه على ضربين : اسمٌ غير ظرفٍ واسمٌ ظرفٌ
فالأسماء التي هي غير الظروف : مَنْ ومَا وأيّهم تقول : مَنْ تكرمْ أكرمْ وكان الأصل : إنْ تكرمْ زيداً وأشباهَ زيدٍ أكرم فوقعت ( مَنْ ) لما يعقل كما وقعت ( مَنْ ) في الإستفهام مبهمةً لما في ذلك من الحكمة وكذلك : ما تصنعُ أَصنعْ وأّيَّهم تضرب أَضربْ تنصب أيهم بتضرب لأن المعنى : إنْ تضربْ أياً ما منهم أَضربْ ولكن لا يجوز أن تقدم ( تضربْ ) على ( أي ) لأن هذه الأسماء إذا كانت جزاءً أو استفهاماً فلها صدور الكلام كما كان للحروف التي وقعت مواقعها فكذلك مَنْ وما إذا قلت : مَنْ تكرمْ أكرمْ وما تصنعْ أَصنعْ
وموضعها نصب وإذا أردت أن تبين مواضعها من الإِعراب فضع موضعها ( إن ) حتى يتبين لك وإذا قلت : مَنْ يقمْ أَقم إليه فموضع ( مَنْ ) رفعٌ لأنها غير معقولة وكذا ايهم يضرب زيداً أضربه وأيهم يأتني أحسن إليه وأما ( مَهما ) فقال الخليل : هي ( مَا ) أدخلت معها ( ما ) لغواً وأبدلوا الالفَ هاء
قال سيبويه : ويجوز أن تكون كإِذْ ضُمتْ إليها ( مَا ) وأما الظروف التي يجازى بها : فمتى وأينَ وأنَّى وأي حين وحيثُما وإذْ ما لا يجازى بحيثُ وإذْ حتى يُضم إليهما ( مَا ) تصير مع كل واحد منهما بمنزلة حرف واحد
فتقول إذا جازيت بهن : متى تأتني آتِكَ وأينْ تقمْ أَقمْ وأَنى تذهبْ أَذهبْ وأي حين تصلْ أَصلْ ( فأيُّ ) إلى أي شيء أضفتها كانت منه إن أضفتها إلى الزمان فهي زمانٌ
وإن أضفتها إلى المكان فهي مكانٌ وتقول : حيثُما تذهبْ أذهبْ وإذ ما تفعلُ أفعلْ قال الشاعر :
( إِذْ مَا تَرَيْنِي اليَوْمَ مُزْجى ظعينتي ... أُصَعِّدُ سيراً في البلادِ وأَفرَعُ )
( فإِنِّيَ مِنْ قَوْمٍ سِواكُم وإِنَّما ... رِجالي فَهْمٌ بالحِجَازِ وأشجعُ )
قال سيبويه : والمعنى : إما
وإذا لا يجازى بها إلا في الشعر ضرورةً وهي توصل بالفعل كما توصل ( حيثُ ) ويقع بعدها مبتدأٌ وكل الحروف والأسماء التي يجازى بها فلك أن تزيد عليها ( ما ) ملغاةً فإن زدتَ ( مَا ) على ( مَا ) لم يحسن حتى تقول : مهما فيتغيرُ فأمَّا ( حيثما وإذ ما ) لا يجازى بهما إلاّ و ( مَا ) لازمةٌ لهما
واعلم : أن الفعل في الجزاء ليس بعلةٍ لما قبله كما أنه في حروف الإستفهام ليس بعلة لِمَا قبله
واعلم : أن الفعل إذا كان مجزوماً في الجزاء وغيره فإنه يعمل عمله إذا كان مرفوعاً أو منصوباً تقول إنْ تأتني ماشياً أمشِ معكَ وإن جعلت ( تمشي ) موضع ( ماشياً ) جاز فقلت : إنْ تأتني تمشي أمشِ معكَ وإن تأتني تضحكُ أَذهبْ معكَ تريد ( ضاحكاً ) فإن جئتَ بفعلٍ يجوزُ أن يبدل من فعلٍ ولم ترد الحال جزمت فقلت : إنْ تأتني تمشِ أَمشِ معكَ وإنَّما جاز البدل لأن المشيَ ضرب من الإِتيان ولو لَمْ يكن ضرباً منه لم يجز لا يصلح أن تقول : إنْ تأتني تضحكُ أَمشي معكَ فتجزم ( تضحكُ ) وتجعله بدلاً وقد كنت عرفتك أنَّ جميع جواب الجزاء لا يكون إلا بالفعل أو بالفاء وحكى الخليل : أنَّ ( إذا ) تكون جواباً بمنزلة الفاء لأنها في معناها لأن الفاء تصحب الثاني
الأول وتتبعه إياه وإذا وقعت لشيءٍ يصحبه وذلك قوله عز و جل : ( وإنْ تُصبهم سيئةٌ بما قدمتْ أَيديهم إذا هُم يقنطون )
والمعنى : إنْ أصابتهُم سيئةٌ قَنطوا ونظيره : ( سواءٌ عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون ) بمنزلة : أم صمتم ولا يجوز : إنْ تأتني لأفعلنّ
ويجوز : إنْ أتيتني لأكرمنَّك وإنْ لَم تأتني لأغمنك لأنَّ المعنى : لئن أتيتني لأكرمنَّك فما حسن أن تدخل اللام على الشرط فيه حسنُ أن يكون الجواب لأَفعلنَّ وما لم يحسن في الشرط اللام لم يحسنْ في الجواب لأنَّ الجواب تابعٌ فحقه أن يكون على شكل المتبوع ولا يحسن أن تقول : لإِنْ تأتني لأَفعلنَّ فلما قبح دخول اللام في الشرط قَبح في الجواب ولو قلت ذاك أيضاً لكنت قد جزمت ( بإنْ ) الشرط وأتيت بجوابها غير مجزومٍ ويجوز أن تقول : ( آتيكَ إنْ تأتني ) فتستغني عن جواب الجزاء بما تقدم ولا يجوز : إن تأتني آتيكَ إلاّ في ضرورة شاعرٍ على إضمار الفاء وأما ما كان سوى ( إن ) منها فلا يحسن أن يحذف الجواب وسيبويه يجيز : إنْ أتيتني آتِكَ وإنْ لم تأتني أَجزكَ لأنه في موضع الفعل المجزومِ وينبغي أن تعلم أنَّ المواضع التي لا يصلح فيها ( إنْ ) لا يجوز أن يجازى فيها بشيءٍ من هذه الأسماء البتةَ لأن الجزاء في الحقيقة إنما هو بها إذا دخل حرف الجر على الأسماء التي يجازى بها لم يغيرها عن الجزاء تقول : على أي دابةٍ أحمل أَركبه وبِمَنْ تؤخذْ أوْ خذ به وإنما قدم حرف الجرِّ للضرورة لأنه لا يكون متعلقاً بالمفعول
فإن قلت : بمَنْ تَمرُّ بهِ أمرُّ وعلى أيهم تنزل عليه انزلُ رفعت وصارت بمعنى الذي
وصارت الباء الداخلة في ( مَنْ ) لأمرَّ والباء في ( بهِ ) لتَمرَّ وقد يجوز أن تجزم بمَنْ تَمررْ
أَمررْ وأنت تريد ( بهِ ) وهو ضعيفٌ وتقول على ذلك : غلامَ مَنْ تضربْ أضربه قدمت الغلام للإِضافة كما قدمت الباء وهو منصوب بالفعل ولكن لا سبيل إلى تقديم الفعل على ( مَنْ ) في الجزاء والإستفهام
وأما الثالث : الذي يحذف فيه حرف الجزاء مع ما عمل فيه وفيما بقي من الكلام دليل عليه وذلك إذا كان الفعل جواباً للأمر والنهي أو الإستفهام أو التمني أو العرض تقول : آتني آتِكَ فالتأويل : ائتني فإِنَّك إنْ تأتني آتِكَ هذا أمرٌ ولا تفعلْ يكنْ خيراً لكَ وهذا نهيٌ والتأويل لا تفعلْ فإِنَّكَ إن لا تفعلْ يكن خيراً لكَ وإلا تأتني أُحدثك وأينَ تكون أزرك وألا ماءَ أشربهُ وليته عندنا يحدثْنَا فهذا تمنٍّ ألا تنزل تُصب خيراً وهذا عرضٌ ففي هذا كلِّه معنى ( إنْ تفعلْ ) فإن كان للإستفهام وجه من التقدير لم تجزم جوابهُ
ولا يجوز : لا تدنُ من الأسدِ فإنَّكَ إن تدنُ مِنَ الأسدِ يأكلكَ فتجعل التباعد من الأسد سبباً لأكلكَ فإذا أدخلت الفاء ونصبت جاز فقلت : لا تدنُ منَ الأسد فيأكلَكَ لأنَّ المعنى لا يكونُ دنوٌ ولا أَكلٌ وتقول : مُرْهُ يحفْرها وقل له : يقل ذاك فتجزم ويجوز أن تقول : مُرْهُ يحفرُها فترفعُ على الإبتداءِ وقال سيبويه : وإن شئتَ على حذف ( أنْ ) كقوله :
( ألا أيُّهَا الزَّاجري احْضرُ الوَغى ... )
وعسينا نفعلُ كذا وهو قليل وقد جاءت أشياءٌ أنزلوها بمنزلة الأمرِ والنهي وذلك قولهم : حسبُكَ ينمُ الناسُ واتقى الله امرؤٌ وفعلَ خيراً يُثَبْ عليهِ
باب إعراب الفعل المعتل اللام اعلم : أن إعراب الفعل المعتل الذي لامهُ ياءٌ أو واوٌ أو ألفٌ مخالفٌ للفعل الصحيح والفرق بينهما أن الفعل الذي آخره واوٌ أو ياءٌ نحو : يغزو أو يرمي تقول فيهما : هذا يغزو ويرمي فيستوي هو والفعل الصحيح في الرفع في الوقت كما تقول : هو يقتلُ ويضرب فإن وصلت خالف يقتل ويضرب فقلت : هو يغزوْ عمراً ويرمي بكراً فتسكن الياء والواو ولا يجوز ضمها إلا في ضرورةٍ شَاعرٍ فإن نصبت كان كالصحيح فقلت : لنْ يغزوَ ولَنْ يرميَ وإنما امتنع من ضم الياء والواو لأنها تثقل فيهما فإن دخل الجزم اختلفا في الوقف والوصل فقلت : لم يغزُ ولَم يرمِ فحذفت الياء والواو وكذلك في الوصل تقول : لم يغزُ عمراً ولم يرمِ بكراً وإنما حذفت الياء والواو في الجزم إذا لم تصادف الجازم حركة يحذفها فحذفت الياء والواو لأن الحركة منهما وليكون للجزم دليل . والأمر كالجزم
تقول : ارمِ خالداً واغزُ بكراً فتحذف في الوقف والوصل إلا أنكَ تضم الزايَ من ( يغزو ) وتكسر الميم من ( يرمِي ) إذا وصلتَ
فيدلان على ما ذهبَ للجزمِ والوقفِ وإنما تساوي الوقف في الأمر للجزم لأنهما استويا في اللفظ الصحيح فلما كان ذلك في الصحيح على لفظٍ واحدٍ جعلوا المعتل مثل الصحيح فقالوا : ارمِ واغزُ كما قالوا لم يرمِ ولَم يغزُ وقالوا : اضربا واضربوا كما قالوا : لم يضربا ولم يضربوا
مسائل من سائر أبواب إعراب الفعل تقول : انتظرْ حتى إن يقسمْ شيءٌ تأخذْ تجزم ( تأخذْ ) لأنه جوابُ لقولك : إنْ يقسمْ وانتظرْ حتى إن قسَم شيءٌ تأخذْ تنصبُ ( تأخذ ) إن شئت على حتَّى تأخذَ إن قسمَ وإنْ شئتَ جزمت ( تأخذ ) فجعلته جواباً لقولك : إنْ قسَم هذا قول الأخفش وقبيح أن تفصل بين حتى وبينَ المنصوب قال : ومما يدلُّكَ على أنه يكون جواباً ولا يحمل على ( حتى ) أنك تقول : حتى إنْ قسَم شيءٌ أخذتُه يعني أنه معلقٌ بالجواب فلا يرجعُ إلى ( حتى ) ألا ترى أنك لا تقول : حتى أخذت إنْ قُسِمَ شيءٌ وتقول : اجلسْ حتى إنْ يقلْ شيئاً فتسمعه تجبْنَا جزمٌ كله ولا يجوز أن تنصب ( تُجبنا ) على حتى لأن قولك : إن تفعلُ مجزومٌ في اللفظ فلا بد من أن يكون جوابه مجزوماً في اللفظ وتقو ل : أَقم حتّى تأكلْ معَنا وأَقم حتى أيانا يخرجْ تخرجْ معَهُ فأيُّ مبتدأٌ لأنها للمجازاة وحتى معلقةٌ وكذلك اجلسْ حتى إنْ يخرجْ تخرجْ معَهُ وانتظر حتى مَن يذهبْ تذهبْ معهُ ( فَمن ) في موضعِ رفعٍ واجلس حتى ( أَياً ) يأخذْ تأخذْ معهُ ( أياً ) منصوبة ( بتأخذ ) وتقولُ : أقم حتى أي القومِ تعط يعطْكَ تعمل في ( أي ) ما بعدها ولا تعمل فيها ما قبلها وتقول : اجلس حتى غلامَ مَنْ تَلقّ تُكرَّمْ تنصب الغلام ( بتعلق ) واجلس حتى غلامُ مَنْ تلقه تكرمْ ترفع الغلام على الإبتداء ولو أن ( حَتَّى ) تكون معلقة في شيءٍ ما جاز دخولُها هَا هُنا لأن حرف الجزاء إذا دخل عليه عاملٌ أزالهُ عن حرف الجزاء ألا ترى أنك تقول : مَنْ يزرنا نزرْهُ فيكون مرفوعاً بالإبتداء وتكون للجزاء وذلك لأنَّ حال الإبتداء كحالِ ( إنْ ) التي للجزاء والشرط نظيرُ المبتدأِ والجوابُ نظيرُ الخبر
قال الأخفش : ومما يقوي ( مَنْ ) إذا كانت مبتدأة على الجزاء أنْ ( إنْ ) التي للجزاء تقع موقعها ولو أدخلت إنَّ المشددة على ( مَنْ ) لقلت : إنَّ مَنْ
يزرونا نزورهُ لأنَّ المجازاة لا تقع ها هنا فإن قلت : فَلِمَ لا تعملُ إنَّ في ( مَنْ ) وتدعها للمجازاة كما أعملت إنَّ الإبتداء فلأن ( إنْ ) التي للمجازة لا تقع ها هنا لأن إنَّ المشددة توجب بها والمجازاة أمرٌ مبهمٌ يعني أنه لا تقع ( إنْ ) التي للمجازاة بعد ( أنَّ ) الناصبة والمجازاة ليسَ بشيءٍ مخصوص إنما هو للعامة وإن الناصبة للإِيجاب وكذلك : ليت مَنْ يزورنا نزورُه ولعلَ وكانَ وليسَ لأنك إذا قلت مَنْ يزورُنا نزوره ولعلَ وكانَ وليسَ لأنك إذا قلت مَنْ يزورُنا نزورثه وما تعطي تأخذْ فأنتَ تبهمُ ولا توضحُ وهكذا يجيءُ الجزاءُ بمَنْ وأخواته فإن أوضحت منه شيئاً بصلةٍ ذهبَ عنه هذا العملُ وجرى مجرى ( الذي ) وتقول : سكتَ حتى أردنا أن نقومَ تقول : افعلوا كذا وكَذا فترده على جواب ( إذا ) ولو رددته على حتى جاز على قبحه وحقُّ ( حَتى ) أن لا تفصل بينها وبين ما تعمل فيه وتقول : لا واللهِ حتى إذا أمرتُك بأَمرٍ تطيعني ترفع جواب ( إذا ) وإن شئتَ نصبت على ( حتى ) على قبحٍ عندي إلا أن الفصل بالظرف أحسن من الفصل بغيره
وتقول : لا والله حتى إنْ أَقلْ لكَ لا تشتمْ أَحداً لا تشتمه
ولا تشتمهُ جوابُ ( إنْ أَقلْ لك ) فلا يكون فيه النصبُ لأنه لا يرجع إلى : حتى لا والله وإذا قلت لكَ اركبْ تركب يا هذا تنصبُ ( تركبُ ) على أو وفصلت بالظرف والفصل بالظرف أحسنُ من الفصل بغيره أردت : ولا واللَّه أو تركب إذا قلت لكَ اركبْ ومَنْ رفع ما بعد ( أوْ ) في هذا المعنى رفع هذه المسألة وتقول : تسكت حتى إذا قلنا ارتحلوا لا يذهب الليلُ تخالفْنا فلا تَذهبْ ( تذهبُ ) معطوفٌ على ( تخالفنا ) وحتى إن نقل إيتِ فلاناً تصبْ منهُ خيراً لا تأتهِ فتصب خيراً جزمٌ على جواب إيتِ ولا تأته جواب ( إنْ نقلْ )
وتقول : لئن جئتني لأكرمنّكَ الأولى توكيدٌ والثانية لليمين ولا يجوز بغير النون ولئن جئتني لإِليكَ أقصدْ ولإِيّاك أَكرمْ ولا تنون أكرمْ لأن اللام لم تقع عليه ولو وقعت عليه فقلتَ أكرمنّكَ وكذلكَ : لئن جئتني لأكفلن بكَ وفي كتابِ اللِه عز و جل : ( ولئن مُتم أو قُتلتم لإلى اللِه تحشرون ) لما وقعت اللام
على كلام مع الفعل لم تدخله النون وكذلك : ( ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرةٌ من الله ورحمةٌ خيُر مِمَا يجمعونَ ) وكذلك لئن جئتني لأهلٌ وكذلك : ولئن وصلتك للصلاة أنفعُ لك
قالَ الأخفش : المعنى : والله للصلة أنفعُ وإنْ وصلتكَ كما أن قولك : لئن جئتني لأكرمنكَ إنما هي : والله لأكرمنك إنْ جئتني قال : واللام التي في ( لئن جئتني ) زائدة وقوله عز و جل ( ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبةٌ مِن عندِ الله ) على معنى اليمين كأنه قال والله أعلَم واللِه لمثوبةٌ مِن عندِ اللِه خيرٌ لَهم ولو آمنوا وقال لا تقول : إنَّ زيداً لقامَ وتقولُ : إنَّ زيداً إليكَ كفيلٌ وإن زيداً لهُ ولك منزلٌ لأنَّ اللام لا تقع على فعلٍ فإذا كان قبلَها كلامٌ ضمتهُ معها جاز دخول اللام وتقول : سرت حتى أدخلُ أو أكادُ ترفعهما جميعاً لأنك تقول : حتى أكادُ والكيدودة كائنةٌ وكذلكَ سرت حتى أدخلَها أو أقرب منها لأنه قد كان القرب أو الدخول وكذلك : سرتُ حتى أكاد أو أدخلُ وأشكلَ عليَّ كُلُّ شيءٍ حتى أظن أني ذاهبُ العقلِ فجميع هذا مرفوع لأنه فِعلٌ وهو فيه قال الجعدي :
( ونُنْكِرُ يَوْمَ الرَّوْعِ أَلْوانَ خَيْلِنَا ... مِنَ الطَّعنِ حَتى تحسبَ الجونَ أشقرا )
قال : يجوز في ( تحسب ) الرفع والنصب والرفع على الحال والنصب على الغاية وكأنكَ أردت إلى أن تحسب وحكى الأخفش إن النحويين ينصبون إذا قالوا : سرتُ أكادَ أو أدخل يا هذا ينصبون الدخول ويقولون :
الفعلُ لم يجبْ . والكيدودة قد وجَبَتْ
قال : وهذا عندي يجوز فيه الرفع يعني الدخول لأنه في حال فعل إذا قلت : حتى أكاد يعني إذا كنت في حال مقاربة و ( حتى ) لا تعملُ في هذا المعنى إنما تعمل في كل فعل لم يقع بعد والكيدودةُ قد وقعتْ وأنت فيها وتقول : الذي يأتيني فَلهُ درهمْ والذي في الدارِ فلَهُ درهمْ فدخولُ الفاء لمعنى المجازاة ولا يجوزُ : ظننتَ الذي في الدار فيأتيك
تريد : ظننتُ الذي في الدار يأتيك والأخفش يجيزه على أن تكون الفاء زائدة وقال : قول الله عز و جل : ( قُل إنَّ الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ) ولكن زدت ( إن ) توكيداً وقالَ : لو قلت : إن هذا لا يجوز أن يكون في معنى المجازاة كان صالحاً لأنك إذا قلت : إن الذي يأتينا فلهُ درهمْ فمعناه : الذي يأتينا فله درهمْ ولا يحسن ليتَ الذي يأتينا فلَهُ درهمْ ولا لعل الذي يأتينا فنكرمُه لأنَّ هذا لا يحوز أن يكون في معنى المجازاة ولا يحسنُ ( كأنَّ الذي يأتينا فلَهُ درهمْ ) لأن معنى الجزاء إنما يكون على ما يأتي لا على ما كان فإن قدرت فيه زيادة الفاء جاز على مذهب الأخفشِ
فصل يذكر فيه قَلَّ وأقلّ
اعلم : أنَّ قَلَّ : فعلُ ماضٍ وأقلَّ : اسمْ إلاّ أن أقلّ رجلِ قد أَجروه مجرى قَلَّ رجلْ فلا تدخل عليه العوامل وقد وضعته العرب موضع ( ما ) لأنه أقرب شيءٍ إلى المنفى القليل كما أن أبعد شيءٌ منه الكثير وجعلت ( أقلَّ ) مبتدأةً صدراً إذا جُعلتْ تنوبُ عن النفي كما أن النفيَ صدرٌ فلا يبنونَ أقلَّ على شيءٍ فتقول : أقلّ رجلٍ يقول ذاك ولا تقولُ : لَيتَ أقلَّ رجلٍ يقول ذاك ولا لعل ولا إنَّ إلا أن تضمر في ( إنَّ ) وترفع أقلُّ بالإبتداء قال الأخفش : هو أيضاً قبيحٌ لأن أقلَّ رجلٍ يجري مجرى :
قَلَّ رجلٍ وربُّ رجلٍ لو قلت : كان أقلُّ رجلٍ يقولُ ذاكَ فرفعت ( أقلّ ) على ( كانَ ) لم يجز ولكن تضمر في ( كانَ ) وترفع أقلَّ على الإبتداء وأقلُّ رجلٍ وقلَّ رجلٌ قد أجروه مجرى النفي فقالوا : أقلُّ رجلٍ يقولُ ذاكَ إلا زيدٌ وقال سيبويه : لأنه صار في معنى : ما أحَدٌ فيهما إلا زيد وقال : وتقولُ : قلَّ رجلٌ يقولُ ذاك إلا زيدٌ فليس زيدٌ بدلاً من الرجل في ( قَلَّ ) ولكن : قَلَّ رجلٌ في موضعِ أقلّ رجلٍ ومعناه كمعناه وأقل رجل مبتدأ مبني عليه والمستثنى بدل منه لأنك تدخله في شيءٍ يخرج من سواه
قال : وكذلك : أقلُّ مَنْ وقَلُّ مَنْ إذا جعلت ( مَنْ ) بمنزلة رجلٍ
حدثنا بذلك يونس عِنِ العرب يجعلونه نكرةً كما قال :
( رُبَّما تَجْزَعُ النُّفُوسُ مِنَ الأمرِ لهُ فَرْجَةٌ كَحَلِّ العِقَالِ ... )
يريد أنَّ ( رُبَّ ) دخلت على ( مَا ) وهي لا تدخلُ إلا على نكرةٍ فتنكيرُ ( مَا ) كتنكير ( مَنْ ) قالَ : وتقولُ : قَلَّ ما سرتُ حتى أدخلُها مِنْ قبل أنَّ قَلَّما نفي لقوله كَثُرَ مَا كما أنَّ ما سرتُ نفي لقوله : سرتُ ألا ترى أنه قبيحُ أن تقول : قلما سرتُ فأدخلها كما يقبح في ما سرت إذا أردت معنى فإذا أنا أدخل إنما قبحُه لأنه إذا لَمْ يكن سيرٌ لم يكن دخولٌ فكذلك قلّما لَمّا أُريدَ بها النفي كان حكمُها حكمُ قالَ وتقولُ : قلَّما سرت فأدخلها فاتنصب بالغاءها هنا كما تنصبُ فيما قال
وتقول : قلّما سرت إذا عنيت سيراً واحداً
أو عنيت غير سيرٍ كأنك قد تنفي كثيرَ من السير الواحدِ كما تنفيه من غير سيرٍ يريدُ بقولِه : من غير سيرٍ أي سيراً بعد سيرٍ قالَ الأخفش : الدليلُ على أن أقلَّ رجلٍ يجري مجرى رُبَّ وما أشبهها أنَّك تقول : أقلَّ امرأةٍ تقولُ ذاك فتجعلُ اللفظَ على امرأة وأقلَّ امرأتين يقولان ذاكَ فينفي أقلَّ كأنه ليس له خبر ولا تحمله إلا على الآخر يعني : لا تحمل الفعلَ إلا على الذي أضفت إليه أقلَّ فهذا يدل على أنه لا يشبه الأسماء يعني إذا كان الخبر يجيء على الثاني وكذلك : أقلُّ رجالِ يقولون ذاك ولا يحسن كذلك لو قلت : أقَلُّ رجلينِ صالحانِ لم يُحسنْ ولا يحسنُ من خبره إلا الفعل والظرف أقلُّ رجلين صالحين في الدار وأقلُّ امرأةٍ ذاتُ جمةٍ في الدار وأقلُّ رجلٍ ذي جمةٍ في الدار كان جيداً ولو ألغيت الخبر كان مذهبه كمذهب ( رُبَّ ) فإنْ قلت : فمالي إذا قُلت : قلَّ رجلٌ يقولُ ذاك وقَلّ رجلٌ قائلٌ ذاكَ وهو صفة لا يجوز حذفه فلأنك إنما قللتَ الموصوفين ولم تقللِ الرجال مفردين في الوصف ألا ترى أنك لا تقول : قَلِّ رجلٌ قائلٌ ذاك إلا وأنت تريد القائلين ولست تريد أن تقلل الرجال كلهم
فصل من مسائل الدعاء والأمر والنهي اعلم : أن أصل الدعاء أن يكون على لفظ الأمر وإنما استعظم أن يقال أمرٌ والأمر لمن دونَك والدعاء لمن فوقك وإذا قلت : اللهم اغفر لي فهو كلفظك إذا أمرت فقلت : يا زيدُ أكرم عمراً وكذلك إذا عرضت فقلت : انزل فهو على لفظ اضربْ وقد يجيء الأمر والنهي والدعاء على لفظ الخبر إذا لم يلبس تقول : أطالَ الله بقاءهُ فاللفظُ لفظ الخبر والمعنى دعاءٌ ولم يلبسْ لأنك لا تعلم أنّ الله قد أطالَ بقاءهُ لا محالة فمتى أُلبسَ شيءٌ مِنْ ذَا بالخبر لم يجز حتى يبينَ فتقول على ذا : لا يغفر الله لَهُ ولا يرحمهُ فإن قلت : لا يغفرُ الله لَهُ ويقطعُ يدهُ لم يجز أن تجزم ( يقطعُ ) لأنهُ لا يشاكل الأول لأنَّ الأول دعاءٌ عليه وإذا جزمتَ ( يقطعُ ) فقد أردت : ولا يقطعُ الله فهذا دعاء له فلا يتفق المعنى
وإذا لم يتفق لم يجز النسق
وكذلك إذا قلت : ليغفر الله لزيدٍ ويقطعُ يَدهُ لم يجز جزم ( يقطعُ ) لإختلاف المعنى ولكن يجوز في جميع ذا الرفع فيكون لفظه لفظ الخبر والمعنى الدعاءُ وإذا أسقطت اللام ولا رفعت الفعلَ المضارع فقلت : يغفرُ الله لكَ وغفَر الله لكَ وقال الله عز و جل : ( اليومَ يغفرُ الله لكم ) وقال : ( فلا يؤمنوا ) وقال الله تبارك وتعالى : ( ليضلوا عن سبيلك ) باللام
وقال : قومْ يجوزُ الدعاءُ بلَنْ مثل قوله : ( فَلَن أكونَ ظهيراً للمجرمينَ )
وقال الشاعر :
( لن تَزالوا كذلكم ثُمَ لا زلتَ لهم ... خالداً خُلُود الجبال )
والدعاء ( بلَنْ ) غير معروف إنما الأصلُ ما ذكرنا أن يجيء على لفظ الأمر والنهي ولكنه قد تجيء أخبار يقصدُ بها الدعاءُ إذا دلت الحالُ على ذلكَ الا ترى أنك إذا قلت : ( اللهم افعلْ بنَا ) لَم يحسنْ أن تأتي إلا بلفظ الأمر وقد حكى قوم : اللهم قطعت يده وفقئت عينهُ قال الشاعر :
( لا هم ربَّ الناس إن كذبت ليلى ... . . . )
وإن قدمتَ الأسماءَ فقلتَ : زيدٌ قطعتْ يده كانَ قبيحاً لأنه يشبهُ الخبرِ وهو جائزٌ إذا لم يشكل وإذا قلت : زيدٌ ليقطع الله يده كانَ أمثلَ لأنهُ غيرُ
ملبسٍ وهو على ذلك اتساعٌ في الكلام لأن المبتدأ ينبغي أن يكون خبره يجوزُ فيه الصدق والكذب والأمر والنهي ليسا بخبرين والدعاء كالأمر وإنما قالوا : زيدٌ قم إليه وعمروٌ اضربْهُ اتساعاً كما قالوا : زيدٌ هَلْ ضربَتهُ فسدّ الإستفهام مسد الخبرِ وليس بخبر على الحقيقة وقال : إذا اجزت افعلْ ولا تفعل أمروا ولم ينهُوا وذلك في المصادر والأسماء والأدوات فتقول : ضرباً ضرباً والله تريد : اضربْ ضربا واتقِ الله
وهلمَّ وهاؤم إنما لم يجز في النهي لأنه لا يجوز أن يضمر شيئان لا والفعل ولو جاءوا ( بلا ) وحدها لم يجز أيضاً أن يحال بين ( لا ) والفعلِ لأنها عاملةٌ وتقولُ : ليضرب زيدٌ وليضرب عمروٌ وتقولُ : زيداً اضربْ تنصبُ زيداً ( باضربْ ) وقال قوم : تنصبُ زيداً بفعل مضمرٌ ودليلهم على ذلك أنك تدخلُ فيه الفاء فتقول : زيداً فاضربْ وقالوا : إنَّ الأمر والنهي لا يتقدمها منصوبهما لأن لهما الإستصدارَ والذين يجيزونَ التقديم يحتجون بقول العربِ بزيد امرر ويقولون : إن الباءَ متعلقة بامرر ولأنه لا يكون الفعل فارغاً وقد تقدمه مفعوله ويضمرون إذا شغلوا نحو قولهم : زيداً اضربْه ولهذا موضع يذكر فيه إن شاء الله
وتقول : ضرباً زيداً تريد : اضربْ زيداً
وقوم يجيزون ضرب زيد وأنت تريدُ : ضرباً زيداً ثم تضيف وهذا عندي قبيحٌ لأن ضرباً قامَ مقامَ اضربْ واضربْ لا يضاف والألفُ في الأمر تذهب إذا اتصلت بكلام نحو قولك : اضربْ اضربْ واذهبْ اذهبْ ويقولون : ادخلْ ادخلْ واذهبْ ادخلْ ويختارون الضم إذا كانت بعد مضمومٍ والكسر جائزٌ تقول : اذهبْ ادخلْ
وقد حكوا : ادخلِ الدارِ للواحدِ على الإِتباع وهو رديءٌ لأنه ملبسٌ وقالوا : يجوز الإِتباع في المفتوح مثل قولك : اصنع الخير
وقالوا : لا نجيزهُ ولم نسمعْهُ لأنّا قد سمعناهُ إذا حرك نحو قول الشاعر :
( يَحسَبُهُ الجَاهِلُ مَا لَمْ يَعْلَما ... )
وقوله :
( أَجِّرهِ الرُّمْحَ ولا تُهالَهْ ... )
لما كان قبله فتحٌ اتبع
فأما قول القائل : ما لَمْ يعلَما فقد قيلَ فيه أنهُ يريدُ النونَ الخفيفة وأما قولُه لا تُهالِه فإنه حركَ اللام لإلتقاء الساكنين لأنه قد علم أنه لا بد من حذفٍ أو تحريكٍ وكان الباب هُنا الحذف وأن تقولَ لا تهل ولكن فعلَ ذلك من أجل القافية لأن الالف لازمةٌ لحرف الروي فرده إلى أصله فالتقى ساكنان الألف واللام التي أسكنت للجزم فحرك اللام بالفتح لفتحة ما قبلها ولما منه الفتح وهي الألف وأدخل الهاءَ لبيان الحركة وتقولُ : زرني ولأزركَ فتدخل اللام لأن الأمر لكَ فإذا كان المأمور مخاطباً
ففعلهُ مبنيٌ غير مجزومٍ وقد بينا هذا فيما تقدم وقوم من النحويين يزعمون أنَّ هذا مجزومٌ وأن أصلِ الأمرِ أن يكونَ باللامِ في المخاطب إلا أنه كثر فأسقطوا التاءَ واللامَ يعنونَ أن أصلَ اضربْ لتضربْ فأسقطوا اللامَ والتاء قال محمد بن يزيد وهذا خطأٌ فاحش وذلك لأن الإِعراب لا يدخل من الأفعال إلا فيما كان مضارعاً للأسماء وقولُكَ : اضربْ وقم ليسَ فيه شيءٌ من حروف المضارعة ولو كانت فيه لم يكن جزمهُ إلا بحرفٍ يدخل عليه
ويروى عن رسولِ الله أنه قرأ : ( فبذلك فلتفرحوا ) فإذا لم يكن الأمرُ للحاضرِ فلا بد من إدخال اللامِ تقول : ليقمْ زيدٌ وتقول : زرْ زيداً وليزرْكَ إذا كان الأمرُ لهما جميعاً لأن زيداً غائبٌ فلا يكون الأمر له إلا بإدخال اللام وكذلكَ إذا قلتَ : ضُرِبَ زيدٌ فأردتَ الأمرَ من هذا قلتَ : ليُضرَبْ زيداً لأنَّ المأمور ليس بمواجه والنحويون يجيزونَ إضمارَ هذه اللام للشاعر إذا اضطر وينشدون لمتمم بن نويرة :
( على مِثْلِ أصْحَابِ البَعُوضَةِ فاخْمِشِي ... لكِ الوَيْلَ حُرَّ الوَجْهِ أو يَبْكِ مَنْ بَكَى )
أراد : ليبكِ وقولُ الآخر :
( مُحَمَّدُ تَفْدِ نَفْسُكَ كُلَّ نَفْسٍ ... إذا مَا خِفْتَ مِنْ شيءٍ تَبَالا )
قال أبو العباس : ولا أرى ذا على ما قالوا : لأنَّ عوامل الأفعالِ لا تضمرُ وأضعفها الجازمة لأن الجزم في الأفعال نظيرُ الخفض في الأسماء ولكن بيت متمم يُحملُ على المعنى لأنه إذا قال : فاخمشي فهو في موضع فلتَخْمشي فعطَف الثاني على المعنى
وأما هذا البيت الأخيرُ فليس بمعروف على أنه في كتاب سيبويه على ما ذكرت لكَ وتقول : ليقمْ زيدٌ ويقعدْ خالدُ وينطلقْ عبدُ اللِه لأنك عطفت على اللام
ولو قلت : قُمْ ويقعدْ زيدٌ لم يجزْ الجزم في الكلام
ولكنْ لو اضطر إليه الشاعر فحمله على موضع الأول لأنه مما كان حقهُ اللام جازَ وتقول : لا يقمْ زيدٌ ولا يقعدْ عبد الله لأنك عطفت نهياً على نهيٍ فإن شئتَ قلتَ : لا يقمْ زيدٌ ويقعْد عبد اللِه وهو بإعادتِكَ ( لا ) أوضحَ لأنك إذا قلت : لا يقمْ زيدٌ ولا يقعدْ عبد اللِه تبين أنكَ قد نهيتَ كل واحدٍ منهما على حياله فإذا قلت : لا يقمْ زيدٌ ويقعدْ عبدُ اللِه بغير ( لا ) ففيه أوجهٍ : قَد يجوزُ أن يقع عند السامع أنك أردتَ لا يجتمع هذان فإن قَعد عبدُ اللِه ولم يقمْ زيدٌ لم يكن المأمور مخالفاً وكذلك إن لَم يقمْ زيدٌ وقعدَ عبدُ الله
ووجه الإجتماع إذا قصدته أن تقول : لا يقمْ زيدٌ ويقصدْ عبدُ الله أي لا يجتمع قيام عبد الله
وأنْ يقعدْ زيدٌ ( فلا ) المؤكدة تدخل في النفي لمعنى تقول : ما جاءني زيدٌ ولا عمرٌو إذا أردت أنه لم يأتِكَ واحد منهما على الإنفرادِ ولا مع صاحبه لأنك لو قلت : لم يأتني زيدٌ وعمروٌ وقد أتاك أحدُهما لم تكن كاذباً ( فلا ) في قولك : لا يقمْ زيدٌ ولا يقعدْ عمروٌ يجوزُ أن تكون التي للنهي وتكون المؤكدة التي تقعُ لما ذكرت لكَ في كل نفيٍ
واعلم : أن الطلب من النهي بمنزلته من الأمر يجري على لفظه وتقول ائتني أكرمْكَ وأينَ بيتُك أزرك وهل تأتيني أعطك وأحسن إليكَ لأنَّ المعنى : فإنَّكَ إنْ تفعلْ أفعلْ فأما قول الله عز و جل : ( يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارةٍ تنجيكم من عذابٍ أليمٍ ) ثم قَال : ( تؤمنونَ بالله ) فإن أبا العباس رحمه الله يقول : ليسَ هذا الجواب ولكنه شرح ما دعوا إليه
والجواب : ( يغفرْ لكم ذنوبكم ويدخلكم ) فإن قال قائلٌ : فَهلا كان الشرح ( أن تؤمنوا ) لأنه بدلٌ من تجارةٍ
فالجواب في ذلك : أن الفعل يكون دليلاً على مصدره فإذا ذكرت ما يدل على الشيء فهو كذكرِكَ إياهُ ألا ترى أنهم يقولون : منْ كذبَ كانَ شَراً لَهُ يريدون : كانَ الكذبُ
وقال الله عز و جل : ( ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم ) لأن المعنى البخل خير لهم فدل عليه بقوله ( يبخلون ) وقال الشاعر :
( أَلا أيُّهذا الزَّاجِرِي أحْضُرُ الوَغَى ... )
المعنى : عن أن أحضر الوَغَى فأنْ والفعل كقولك : عن حضور الوغى فلما ذكر ( أَحضرُ ) دل على الحضور وقد نصبُه قومٌ على إضمار ( أنْ ) وقدموا الرفع
فأما الرفع فلأن الفعلَ لا يضمرُ عامله فإذا حذف رفع
الفعل وكان دالاً على مصدره بمنزلة الآية
وهي : ( هل أدلكم على تجارةٍ تنجيكم مِنْ عَذاب أليم ) ثم قال : ( تؤمنون بالله ) وذلك لو قالَ قائلٌ : ما يصنع زيدٌ فقلت : يأكلُ أو يصلي لأغناك عن أن تقول : الأكلُ والصلاةُ
ألا ترى أنَّ الفعل إنَّما مفعوله اللازم له إنما هو مصدرهُ لأن قولك : قد قامَ زيدٌ بمنزلة قولك : قد كان منه قيامٌ
فأما الذين نصبوا فلمْ يأبوا الرفعَ ولكنهم أجازوا معه النصب لأن المعنى ( بأنْ ) وقَد أبانَ ذلك بقوله فيما بعده
( وأنْ أَشهد ) فجعله بمنزلة الأسماء التي تجيءُ بعضها محذوفاً للدليل عليه وفي كتاب الله عز و جل : ( يسألُه مَنْ في السمواتِ والأرضِ ) قال : والقولُ عندنا أنَّ ( مَنْ ) مشتملةٌ على الجميعِ لأنها تقعُ للجميعِ على لفظها للواحد
وقد ذهب هؤلاء إلى أن المعنى : ومَنْ في الأرضِ وليسَ القولُ عندي كما قالوا
وقالوا في بيت حسان بن ثابت :
( فَمَنْ يَهْجُو رَسُول الله مِنْكُمْ ... ويَمْدَحهُ ويَنْصُره سَوَاءُ )
إنما المعنى : ومن يمدحهُ وينصرهُ وليس الأمر عند أهلِ النظر كذلك ولكنه جعل ( مَنْ ) نكرةً وجعل الفعلَ وصفاً لها ثم أقام في الثانية الوصف مقامَ الموصوف فكأنه قال : وواحدٌ يمدحهُ وينصرهُ لأن الوصف يقعُ موضع
الموصوفِ إذا كان دالاً عليه
وعلى هذا قول الله عز و جل : ( وإنْ مِنْ أهلِ الكتَاب إلاَّ ليَؤُمنن بهِ ) وقال الشاعر :
( كأنَّك مِنْ جَمالِ بني أُقَيْشٍ ... يُقَعْقَعُ خَلْفَ رِجْلَيْهِ بِشَنِّ )
يريدُ : كأنَكَ جَملٌ ولذلك قال : يقعقعُ خلفَ رجليهِ . وقالَ في أشدِ مِن ذا :
( مَا لَك عِنْدِي غَيْرُ سَهْم وحَجَرْ ... وغَيْر كَبْدَاءَ شَدِيدَةِ الوَتَرْ )
( جَادَت بِكفِّيْ كانَ مِنْ أرمى البَشَرْ ... )
قال أبو بكر : وهذا كله قولُ أبي العباس ومذهبهُ
فصل من مسائل الجواب بالفاء يَقول : هَلْ يقوم زيدٌ فتكرمُهُ يجوزُ الرفع والنصب النصب على الجواب والرفعُ على العطف وقال الله عز و جل : ( منَ ذا الذي يقرضُ الله قرضاً حسناً فيضاعفُهُ ) يقرأ بالرفع والنصب وتقول : ما أنَتَ الذي تقومُ فتقومَ إليهِ الرفع والنصب فالرفعُ على النسق والنصبُ على الجواب وتقول : مَنْ ذا الذي يقومَ فيقومُ إليهِ زيدٌ الرفع والنصب وقوم يجيزون توسط الفاء في الجزاء فيقولون : هَلْ تضربْ فيأتيكَ زيدٌ وهو عندي في الجزاء كما قالوا : لأنَّ ما بعد الفاء إذا نُصِبَ فهو مع ما قبله من جملةٍ واحدةٍ والجزاء وجوابه جملتان تنفصلُ كلُّ واحدة منهما عن صاحبتها
فلا يجوز أن يختلطا فإن قالَ قائلٌ : ينبغي أن يكون غيرَ جائز علىمذهبكم من قبل أن التقدير عندكم : هَلْ يقع ضَربٌ زيداً فإتيانك فلو أجزت ( زيداً ) في هذه المسألة لم يجزْ لأنه في صلة ( ضَربٌ ) فلا يجوز أن تفصل بين الصلة والموصول بشيءٍ فالجواب في ذلك أنك إذا قلت : هل تضربُ فيأتيكَ زيداً فإنما العطفُ على مصدرٍ يدلُ عليه ( يضربُ ) فأغنى عنه وعلى ذلك فينبغي أن لا يجري على التقديم والتأخير في مثل هذا إلا أن يسمع نحوه من العرب لأنه قد خولفَ به الكلام للمعنى الحادث وإذا أزيلَ الكلام عن جهته لمعنىً فحقه أن لا يزال بضده ولا يتصرف فيه التصرف الذي له في الأصل إلا أن يقول العرب شيئاً فتقوله والفراء يقول : إنما نصبوا الجواب بالفاء لأن المعنى كان جواباً بالجواب
فلما لم يؤتِ بالجزاء فينسقَ على غير شكله فنصب مثل قولكَ : هل تقومَ فأقومَ ومَا قمتُ فأقوم إنما التأويلُ لو قمت لقمتُ وشبههُ بقولهم : لو تركت والأسدَ لأكلك
وتقول : لا يسعني شيء ويضيقَ عنكَ لم
يحسن التكريرُ فنصبتَ وقال بعضهم : إنما نصب الجواب بالفاء وإنْ لا تلي إلا المستقبلَ فشبه ( بأنْ ) والفاء في الجزاء تلي كل شيءٍ فبطلتْ والذي يجيزون توسط الجواب يقولون : ما زيدٌ فنأتيَهُ بمذنبٍ يجيزونَ النصب ولا يجيزون الرفع ولا يجوز أن تقول : ما زيدٌ نأتيهِ إلا أن تريد الإستفهامَ
وأعلم : أنه لا يجوز أن تلي الفاء ( ما ) ولا شيءٌ مما يكون جواباً وفي كتاب سيبويه في هذا الباب مسألةٌ مشكلةٌ وأنا ذاكرٌ لفظَهُ وما يجب فيها من السؤال والجواب عنه
قال سبيويه : لا تدنُ من الأسدِ يأكُلكَ قبيحٌ إن جزمت وليس وجه كلام الناس لأنك لا تريد أن تجعل تباعدهُ مِنَ الأسد سبباً لأكله فإن رفعت فالكلام حسنٌ فإن أدخلت الفاء فحسنٌ وذلك قولك : لا تدنُ منهُ فيأكلُكَ وليس كل موضعٍ تدخل فيه الفاءُ يحسنُ فيه الجزاء ألا ترى أنه يقول : ما أتيتنا فتحدثنا والجزاء ها هنا محال وإنما قَبُحَ الجزم في هذا لأنه لا يجىء فيه المعنى الذي يجيء إذا أدخلت الفاء فمما يسأل عنه في هذا أن يقال : لِمَ حَسُنَ مع الفاءِ النصبُ وقبح في الجزم ولمْ يفصل بينهما سيبويه بشيءٍ قَبحه فالجواب في ذلك أن الفرق بين المنصوب والمجرور أنك إذا جزمت إنما تقدر مع حرف الجزاء الفعل الذي ظهر وإن كان أمراً قدرت فِعلاً موجباً وإن كان نهياً قدرت فِعلاً منفياً ألا ترى أنك إذا قلت : قُم أعطكَ فالتأويلُ : إنْ تَقم أعطِكَ وإذا قلتَ لا تقمْ أعطكَ
فالتأويل : إلاّ تقمْ أعطكَ فالإِيجابُ نظيرُ الأمرِ والنفي نظيرُ النهي لأنَّ النهيَ نفيٌ فهذا الجزاء على أنه لم ينقل فيه فِعلٌ إلى اسمٍ ولا يستدلُ فيه بفعل على اسم ثم عطف عليه وإن قال : ما تأتيني فتحدثني فما بعد الفاء في تقدير اسم قد عطف على اسم دل عليه ( تأتيني ) لأن الأفعال تدل على مصادرها وكذلك إذا قال : لا تفعلْ فأضربكَ فالتأويل على ما قال سيبويه : أن المنصوب معطوفٌ على اسم كأنه إذا قال : ليس تأتيني
فتحدثَني قال : ليسَ إتيانٌ فحديثٌ وإذا قال : لا تفعلْ فتضربْ قد قال : لا يكنْ فِعلٌ فتضربَ وهذا تمثيلٌ وقد فَسرهُ وقواهُ ودل على أن الثاني المنصوب من الجملة الأولى : وإن كانت الأولى مسألة
قال : اعلم : أن ما ينتصب على باب الفاء ينتصب على غير معنى واحدٍ وكل ذلك على إضمار ( أنْ ) إلا أن المعاني مختلفة كما أن قولك : ( يعلمُ اللَّهُ ) يرتفع كما يرتفعُ : يذهبُ زيدٌ وعَلِمَ اللَّهُ يُفتحُ كما يُفتح : ذَهَب زيدٌ وفيها معنى اليمينِ قال : فالنصب هنا كأنك قلت : لم يكنْ إتيانٌ فإن تحدثَ والمعنى غير ذلك كما أن معنى : عَلِمَ اللَّهُ لأفعلن غير معنى : رَزقَ اللَّهُ فإن ( تحدث ) في اللفظ فمرفوعة بيكن لأن المعنى لم يكن إتيانٌ فيكون حديثٌ فقوله مرفوعةٌ يدل على أن الفاءَ عاطفةٌ عطفت اسماً على اسمٍ والكلامُ جملةٌ واحدةٌ ومن شأن العرب إذا أزالوا الكلام عن أصله إلى شيءٍ آخر غيروا لفظه وحذفوا منه شيئاً وألزموه موضعاً واحداً إذا لم يأتوا بحرف يدلُّ على ذلك المعنى ولم يصرفوه وجعلوه كالمثل ليكون ذلك دليلاً لهم على أنهم خالفوا به أصل الكلام فقد دل ما قال سيبويه : على أن النفي والنهي إنما وقعا على المصدرين اللذين دل عليهما الفعلان ويقوى أن الفاء للعطف إذا نصبت ما بعدها الواو إن قصتها في النصب وهما للعطف فإن قال قائلٌ : فَلِمَ جاءوا بالفعلِ بعدَ الفاء وهم يريدون الأسمَ قيل : لأن الظاهر الذي عُطِفَ عليهِ فعلٌ
فكانَ الأحسن أن يعطفَ فعلٌ على فعل ويغير اللفظُ فيكون ذلكَ التغيير دليلاً على المصدرين ألا تراهم في النفي كما قالوا : لا أبالكَ فأضافوا إلى المعرفِة أقحموا اللام ليشبه النكرة والمعطوف بالفاء والواو وغيرهما على ما قبله يجوز أن يكون ما قبله سبباً لَهُ ويجوز أن لا يكون سبباً لهُ إذا كان لفظهُ كلفظهِ نحو قولك : يقومُ زيدٌ فيضربُ ويقومُ ويضربُ وزيدٌ يقوم فيقعد عمروٌ
فيجوز أن يكون القيامُ سبباً للضرب ويجوز أن لا يكونَ إلا أن الفاء معناه اتباعُ الثاني الأولَ بلا مهلةٍ فإذا أرادوا أن يجعلوا الفعل سبباً للثاني جاءوا به في الجزاء وفيما ضارعَ الجزاء وجميع هذه المواضع يصلح فيها المعنى الذي فيها من الإتباع ألا ترى أن الشاعر إذا اضطر فعطف على الفعل الواجب الذي على غير شرطٍ بالفاءِ وكان الأول سبباً للثاني نصب كما قال :
( سَأَتْرُكُ مَنْزِلي لِبَني تَمِيمٍ ... وألْحَقَ بالحِجَازِ فأَسْتَرِيَحا )
جعل لحاقَهُ بالحجاز سبباً لأستراحته فتقديرهُ لما نصب كأنه قال : يكونُ لحاقٌ فاستراحةٌ وقد جاء مثله في الشعر أبياتٌ لقوم فصحاءَ إلاّ أنهُ قبيحٌ أن تنصب وتعطف على الواجبِ الذي على غير شِعْرٍ وأَلحق بالحجاز فإذا لحقتَ استرحتَ وإنْ أَلحقْ أسترح ومع ذلك فإن الإِيحاب على غير الشرط أصلُ الكلامِ وإزالةُ اللفظ عن جهتهِ في الفروعِ أحسنُ منها في الأَصولِ لأنها أَدَلُّ على المعاني ألا ترى أنهم جازوا بحرف الإستفهامِ والإستفهام وإنما جازوا بالأخبارِ لأفعالِ المستفهمِ عنها فقالَ أَينَ بيتُكَ يُرادُ به أعلمني
والعطفُ بالفاء مضارعٌ للجزاءِ لأنَّ الأولَ سببٌ للثاني وهو مخالف له من قبل عقدَهُ عَقدَ جملةٍ واحدةٍ ألا ترى أنهم مثلوا
ما تأتينا فتحدثَنا في بعض وجوهها بما يأتينا محدثنا فإن قلت : لا تعصِ فتدخل النار فالنهي هُو النفي كما عرفتُكَ فصارَ بمنزلةِ قولك : ما تعصي فتدخلُ النارَ فقد نفيتَ العصيانَ الذي يتبعُه دخولُ النارِ
وكذلك قد نهيتَ عنه
فالنهي قد اشتمل على الجميع إلا أن فيه من المعنى في النصب ما ذكرنا فإن قلت : قُمْ فاعطيكَ فالمعنى ليكن منكَ قيامٌ يوجبُ عَطيتي وكذلك اقعدْ فتستريحُ أي : ليكن منكَ قعودٌ تتبعهُ راحةٌ فيقرب معناه من الجزاء إذا قلتَ : قم أعطكَ أي إن تقم أعطك وإذا دخلت الفاء في جواب الجزاء فهي غيرُ عاطفةٍ إلاّ أنَّ معناها الذاتي يخصها تفارقهُ إنها تتبع ما بعدها ما قبلها في كُلِّ موضعٍ وقالَ الشاعرُ في جواب الأمر :
( يَا نَاقُ سِيرِي عَنقاً فَسِيحَا ... إلى سُلَيْمَانَ فَنَسْتَريحَا )
فقد جعل سير ناقته سبباً لراحتِه فكأنه قال : ليكن منك سيرٌ يوجبُ راحتَنا وهذا مضارعٌ لقولهِ : إنْ تسيري نستريحْ ولذلكَ سمى النحويون ما عُطفَ بالفاء ونُصِبَ جواباً لشبهه بجواب الجزاءِ وكذلك إذا قالَ : أدنُ مِنَ الأسدِ يأكلُكَ فهو مضارعٌ لقولهِ : ادنُ مِنَ الأسد فيأكلُكَ لأن معنى ذاكَ إنْ تدنُ مِنَ الأسدِ يأكلُكَ ومعنى هذا : ليكن مِنك دنوٌ مِنَ الأسدِ يوجبُ أكَلكَ أو يتبعهُ أَكَلُكَ إلاّ أنّ هذا مما لا يؤمر بهِ لأنَّ مِنْ شأنِ الناس النهيُ عَن مثلِ ذلكَ لا الأمرُ به فإنْ أردتَ ذاك جازَ فإذا قلت : لا تدن مِنَ الأسد يأكلْكَ لَم يجزْ لأن المعنى : أنكَ تدنُ مِنَ الأسدِ يأكلُكَ لم يكنْ إلاّ على المجازِ وإن السامعَ يعلمُ ما تعني لأنَّ المعنى : إلاّ تدنِ مِن الأسدِ يأكلْكَ وهذا محالٌ لأن البعدَ لا يوجبُ الأكلَ فإذا قلتَ : لا تدنِ من الأسدِ فيأكلُكَ جاز لأنَّ النهي مشتملٌ في المعنى على الجميع كأنه قال : لا يكنْ منكَ دنوٌ مِنَ الأسدِ
يوجبُ أكَلكَ أو يتبعه أكلُكَ وكذلك قوله : ما تدنو من الأسدِ فيأكلُكَ هو مثل لا تدنِ لا فرقَ بينهما
وفي الجزاء قد جعل نفي الدنِّو موجباً للأكلِ
واعلَمْ : أنَّ كل نفيٍ معنى تحقيق للإِيجاب بالفاء نحو : ما زال ولَم يزْل لا تقول : ما زالَ زيدٌ قائماً فأعطيكَ وإنما صار النفي في معنى الإِيجاب من أجلِ أنَّ قولهم زالَ بغير ذكر ما في معنى النفي لأنك تريدُ عدم الخَبرِ فكأنَكَ لو قلت : زالَ زيدٌ قائماً لكان المعنى زالَ قيامُه فهو ضد كان زيدٌ قائماً وكانَ وأَخواتُها إنما الفائدة في أخبارها والإِيجابُ والنفي يقع على الأخبار فلما كان زالَ بمعنى : ما كانَ ثم أدخلتْ ( ما ) صار إيجاباً لأنَّ نفيَ النفي إيجابٌ فلذلك لم يجزْ أن يجابَ بالفاءِ وقوم يجيزونَ أنت غيرُ قائمٍ فَتأتيكَ قال أبو بكر : وهذا عندي لا يجوز لأنَّا إنما نَعطف المنصوب على مصدر يدلُّ عليه الفعلُ فيكون حرف النفي منفصلاً وغير اسمٍ مضافٍ وليست بحرفٍ فتقول : ما قامَ زيدٌ فيحسَنْ إلاّ حُمِدَ وما قامَ فيأكل إلا طعامَهُ قال الشاعر :
( ومَا قَام مِنَّا قَائمٌ في نَدِيِّنَا ... فَيَنْطِقَ إلا بالَّتِي هِىَ أَعْرَفُ )
تقول : ألا سيفٌ فأكونَ أَوَلَ مقاتلٍ وليتَ لي مالاً فأعينَك
وقوله : ( يا ليتنا نُردُ ولا نكذب ) كانَ حمزةُ ينصبُ لأنه اعتبر قراءة ابن مسعود
الذي كانَ يقرأُ بالفاء وينصبُ
والفراءُ يختار في الواو والفاء الرفع لأن المعنى : يا ليتنا نرد ولسنا نكذبُ استأنفَ ومن مسائلهم لعلِّي سأَحجُّ فأزورَكَ ولعلكَ تشتمنا فأقومَ إليكَ ويقولون ( لعل ) تُجاب إذا كانت استفهاماً أو شكاً وأصحابنا لا يعرفون الإستفهامَ بلعلَ وتقول : إنَّما هي ضربةٌ مِنَ الأسدِ فتحطم ظهرهُ كأنه قال : إنَّما هي ضربةٌ فحطمهُ فأضمر ( أنْ ) ليعطفَ مصدراً على مصدر وقالوا : الأمرُ مَنْ ينصبُ الجوابُ فيه والنهي يُجابُ بالفاءِ لأنهُ بمنزلةِ النفي ويجوزُ النسق
وقالوا : العَربُ تذهبُ بالأمر إلى الإستهزاء والنهي فتنصب الجواب فيقولون : استأذنْ فيؤذنَ لكَ أي لا تستأذنْ وتحركْ فأصبنَكَ قالوا : والعربُ تحذفُ الفعلَ الأول مع الإستفهام للجواب ومعرفة الكلام فيقولون : متى فأَسيرُ معكَ وأجازوا : متى فآتيكَ تخرجْ ولَم فأسيرَ تسرْ وقالوا : كأنَّ ينصب الجواب معها وليس بالوجه وذاك إذا كانت في غير معنى التشبيه نحو قولك
كأنَّكَ والٍ علينَا فتشتمنَا والمعنى لست والياً علينا فتشتمنا وتقول أريد أن آتيك فأستشيرك لأنك تريد إتيانه ومشورته جميعاً
فلذلك عطفت على ( أن ) فإن قلت أريد أن آتيك فيمنعني الشغل رفعت لأنك لا تريد منع الشغلِ فإنْ أردت ذلك نصبت وقالوا : ( لولا ) إذا وليتْ فعلاً فهي بمنزلةِ هَلاّ ولَوما تكون استفهاماً وتجاب بالفاء وإذا وليت الأسماء لم ينسق عليها بلا ولَم تجب بالفاء وكانت خبراً نحو قوله : ( ولولا أنتم لكنا مؤمنين ) و ( لولا أخرتني إلى أَجلٍ قَريبٍ فأصدقَ ) وقالوا : الإختيارُ في الواجبِ منها الرفعُ وقد نصبَ منها الجوابُ قال الشاعر :
( ولَو نُبِشَ المَقَابِرُ عَن كُلَيْبٍ ... فَيَعْلَمَ بالذَّنائبِ أَيُّ زِيرِ )
ذهب بِه مذهب ( ليتَ ) والكلام الرفع في قولهِ عز و جل : ( ودوُّا لَو تُدْهِنُ فيُدهنونَ )
واعلم أن الأسماء التي سمى بها الأمر وسائر الألفاظ التي أقيمت مقام فعلِ الأمر وليست بفعل لا يجوز أن تجاب بالفاء نحو قولك : تراكَها ونَزالِ ودونَك زيداً وعليك زيداً لا يجابُ لأنه لا ينهى به
وكذلك إليك لا يجابُ بالفاءِ لأنه لم يظهر فعلٌ ومَه وصه كذلك
قالوا : الدعاءُ أيضاً لا يجابُ نحو قولك : ليغفرُ اللَّهُ وغفرَ اللَّهُ لَك والكسائي يجيزُ الجواب في ذلك كله وأما الفراء فقال في الدعاء : إنَّما يكون مع الشروط : غَفر الله لكَ إنْ اسلمتَ وإنْ قلتَ : غَفَر اللَّهُ لكَ فيدخلُك الجنةَ جازَ وهو عندي في الدعاء جائزٌ إذا كان في لفظ الأمر لا فرق بينهما ولا يكونُ للفاء جواب ثانٍ ولا لشيءٍ جَوابانِ وأما قولهُ عزَ وجلَ : ( ولا تَطْرُدِ الَّذِينَ يدعونَ ربَّهم بالغَدَاةِ والعشي يريدونَ وجهُه ما عليكَ مِنْ حسابهم مِن شيءِ ومَا مِن حسابِكَ عليهم من شيءٍ فتطردَهم فتكونَ من الظالمين )
إنما هُوَ : ولا تطردِ الذين يدعونَ ربهم فتكون من الظالمينَ ما عليك من حسابهم من شيءٍ فتطردَهم فتكونَ جَوابُ ( لا ) وقولهُ : فتطردهم جَوابُ ( مَا ) وتقول : ما قاَم أَحدٌ إلا زيدٌ فتحسنَ إليهِ إنْ كانتِ الهاءُ لأحدٍ فجائز لأن التقدير ما قام أَحدٌ فيحسنَ إليه وإنْ كانت الفاءُ لزيدٍ فَخطأٌ لأن الموجبَ لا يكون له جوابٌ والإستثناء إذا جاء بعد النفي فالمستثنى موجبٌ
وكذلك إنْ قلت : ما قامَ إلاّ زيدٌ فتحسنَ إليه محالٌ لأن التحقيق لا جوابَ لَهُ
فصل من مسائل المجازاة إذا شغلت حروف المجازاة بحرف سواها لم تجزم نحو : إنْ وكان وإذا عَمِلَ في حرف المجازاة الشيءُ الذي عمل فيه الحرف لم يغيره نحو قولك مَنْ تَضربْ يَضربْ
وأياً تَضربْ يَضربْ فَمَن وأي قد عملت في الفعل وعمل الفعلُ فِيهما
واعلم أنه لا يجوز الجواب بالواو ولو قلت : مَنْ يخرجُ الدلو لَهُ درهمانِ رفعت ( يخرجُ ) وصار استفهاما وإن جزمت لم يجز إلا بالفاء وتقول : مَنْ كانَ يأتينا وأيٌّ كانَ يأتينا نأتيهِ أذَهبتَ المجازاة لأنكَ قد شغلت ( أياً ومَنْ ) عن ( يأتينا )
وحكى الأخفش : ( كنتُ ومَنْ يأتني آته ) يجعلون الواو زائدة في ( بابِ كانَ ) خاصةً وإن توصل ( بما ) فتقولَ : أمَّا تقمْ أقمْ تدغم النون في الميم وتوصل ( بلا ) تقول : ألا تقمْ أقمْ إلا أن ( ما ) زائدة للتوكيد فقط و ( لا ) دخلت للنفي والكوفيون يقولونَ : إذا وليت أنَّ الأسماءَ فُتحت يقولون أما زيدٌ قائماً تقمْ وإنْ شرطٌ للفعلِ وقالَ الكسائي : إنْ شرطٌ والجزاء الفعل الثاني وهذا الذي ذكره الفراء مخالف لمعنى الكلام وما يجب من ترتيبه وللإستعمال وذلكَ أنَّ كُل شيءٍ يكون سبباً لشيءٍ أو علةً لهُ فينبغي أن تقدم فيه العلةُ على المعلولِ فإذا قلت : إن تأتني أعطكَ درهماً فالإِتيانُ سببٌ للعطيةِ بهِ يستوجبها فينبغي أن يتقدم وكذلك إذا قلت : إنْ تعصِ اللَّهَ تدخلْ النَّارَ فالعصيان سبب لدخول النار فينبغي أن يتقدم فأما قولهم : أَجيئكَ إنْ جئتَني وإنك إنْ تأتني فالذي عندنَا أن هذا الجواب محذوف كفى عنه الفعل المقدم وإنَّما يستعملُ هذا على جهتين : إما أنْ يضطر إليه الشاعر فيقدم الجزاء للضرورة وحقه التأخير وإما أن تذكر الجزاء بغير شرط ولا نية فيه فتقول : أَجيئكَ فيعدُكَ بذلَكَ على كل حال ثم يبدو له ألا يجيئك بسبب فتقول : إنْ جئتني ويستغنى عن الجواب بما قدم فيشبه الإستثناء وتقول : اضربْ إنْ تضربْ زيداً تنصبُ زيداً بأي الفعلين شئت ما لم يلبسْ فإذا قدمت فقلتَ : اضربْ زيداً إنْ تضربْ فإنما
تنصب زيداً بالأول ولا تنصب بالثاني لأن الذي ينتصبُ بما بعد الشروط لا يتقدم وكذلك يقول الفراءُ ولا يجوزُ عنده إذا قلت : أَقوم كي تضربَ زيداً أنْ تقول : أقومَ زيداً كي تضرب والكسائي يجيزهُ وينشد :
( وشِفَاءُ غَيِّكَ خابراً أنْ تسألي ... )
وقال الفراء : ( خَابراً ) حال من النفي : قمتُ كي تقومَ وأقومُ كَيْ تقومَ فهذا خلاف الجزاء لأن الأول وإن كان سبباً للثاني فقد يكون واقعاً ماضياً والجزاء ليس كذلك وهم يخلطونَ بالجزاء كل فعل يكونُ سبباً لفعلٍ والبصريونَ يقتصرون باسم الجزاء على ما كانَ لهُ شرطٌ وكان جوابه مجزوماً وكان لِما يستقبلُ
وتقول : إنْ لم تقمْ قمتُ فلم في الأصل تقلب المستقبل إلى الماضي لأنها تنفي ما مضى فإذا أدخلت عليها إنْ أحالت الماضي إلى المستقبل وأما ( لا ) فتدع الكلام بحا إلا ما تحدثه مِنَ النفي تقول : إنْ لا تقمْ أقَمْ وإنْ لا تقمْ وتحسنُ آتكَ وقوم يجيزون : إنْ لا تقمْ وأَحسنت آتكَ ويقولون : إذا أردتُ الإِتيانَ بالنسقِ جاز فيه الماضي فإذا قلت : إنْ لَم تقمْ وتحسنُ آتكَ جاز معه الماضي إذا كان الأول بتأويلِ الماضي تقولُ : إنْ لم تقمْ ورغبتَ فينا نأتكَ وتقول : إنْ تقمْ فأقومُ فترفعُ إذا أدخلت الفاءَ لأن ما بعد الفاءِ استئنافٌ يقع فيه كل الكلام فالجوابُ حقهُ أنْ يكونَ على قدر الأول إنْ كان ماضياً فالجوابُ ماضٍ وإنْ كانَ مستقبلاً فكذلك
وتقول : إنْ تقمْ وتحسنُ آتكَ تريد : إنْ تجمعُ مع قيامِكَ إحساناً آتك وكذلك : إنْ تقمْ تحسنُ آتكَ تريد : إنْ تقمْ محسناً ولم ترد :
إنْ تقمْ وإن تحسنْ آتكَ وهذا النصب يسميهِ الكوفيونَ الصرف لأنَّهم صرفوه علىالنسقِ إلى معنى غيره وكذلك في الجواب تقول : إنْ تقمْ آتِكَ وأحسنَ إليك وإنْ تقم أنك فأحسنَ إليكَ وإذا قلتَ : أَقومُ إن تقمْ فنسقت بفعل عليها فإن كان من شكل الأول رفعته وإن كان من شكل الثاني ففيه ثلاثة أوجه : الجزم على النسقِ على ( إنْ ) والنصب على الصرف والرفع على الإستئناف فأمَّا ما شاكلَ الأول فقولك : تُحمدُ إنْ تأمرْ بالمعروفِ وتؤجر لأنَه من شكل تُحمدُ فهذا الرفع فيه لا غير وأما ما يكون للثاني فقولُك تُحمد إنْ تأمر بالمعروفِ وتنهَ عن المنكرِ فيكون فيه ثلاثة أوجهِ : فإنْ نَسقت بفعلٍ يصلح للأول ففيه أربعة أوجهٍ : الرفع من جهتين : نسقاً على الأول وعلى الإستئنافِ والجزمُ والنصبُ على الصرفِ وقال قوم : يردُ بعد الجزاءِ فَعلَ على يفعلُ ويفعلُ على فَعَلَ نحو قولك : آتيكَ إنْ تأتني وأحسنتَ وإنْ أحسنتَ وتأتني والوجهُ الإتفاقُ وإذا جئتَ بفعلينِ لا نسق معهما فلك أنْ تجعل الثاني حالاً أو بدلاً والكوفيون يقولون موضع بدل مترجماً أو تكريراً فإن كررتَ جزمتَ وإنْ كانَ حالاً رفعتَهُ وهو موضعُ نصبٍ إذا ردَّ إلى اسم الفاعلِ نصب فأما الحال فقولك : إنْ تأتني تطلب ما عندي أحسنُ إليكَ تريد : طالباً والتكرير مثل قولك : إنْ تأتني تأتني تريدُ الخيرَ أعطكَ والبدل مثل قوله : ( وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثَاماً ) ثم فسر فقال : ( يُضَاعَفْ لَهُ العَذَابُ ) وكذلك إنْ تَبْرر أباكَ تصل رحمك
تفعلْ ذاكَ للَّهِ تؤجرْ إذا ترجمت عن ا لأفعال بفعلٍ ولا يجوز البدل في الفعل إلا أن يكون الثاني من معنى الأول نحو قولك : إن تأتني تمشي أَمشِ معكَ لأن المشي ضرب من الإِتيان ولو قلت : إنْ تأتني تضحكُ معي آتكَ فجزمتَ تضحكْ لَمْ يجز قال سيبويه : سألت الخليل عن قوله عز و جل : ( ولئن أَرسلنا ريحاً فرأوهُ مُصْفراً لظلوا ) فقال المعنى : ليَظلُّنَّ وكذلك ( وَلَئِن أتيْتَ الَّذِينَ أُتوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ ) وإنما يقعُ ما بعدها من الماضي في معنى المستقبل
لأنها مجازاة نظير ذلك : ( ولئن زالتا إن أمسكهما ) أي : لا يمسكهما وقال محمد بن يزيد رحمه الله : وأما قوله : والله لا فعلتُ ذاك أبداً فإنه لو أراد الماضي لقال : ما فعلتُ فإنما قلبت لأنها لِمَا يقعُ ألا ترى أنها نفي سيفعل تقول : زيدٌ لا يأكلُ فيكون في معنى ما يستقبل فإنْ قلت : ما يأكلُ نفيتَ ما في الحال
والحروف تغلب الأفعال ألا ترى أنكَ تدخلُ ( لَم ) على المستقبل فيصير في معنى الماضي تقول : لم يقمْ زيدٌ : فكذلك حروف الجزاء تقلب الماضي إلى المستقبل تقول : إنْ أَتيتني أَتيتك قال أبو العباس رحمه الله : مما يسأل عنه في هذا الباب قولك : إنْ كنتَ زرتني أَمسِ أكرمتُكَ اليومَ فقد صار ما بعد ( إنْ ) يقع في معنى الماضي فيقال للسائل عن هذا
ليس هذا من قبل ( إن ) ولكن لقوة كانَ
وأنها أصل الأفعال وعبارتها جازَ أن تقلب ( إنْ ) فتقول : إنْ كنتَ أعطيتني فسوفَ أكافيكَ فلا يكون ذلك إلا ماضياً كقول الله عز و جل : ( إنْ كنت قلتهُ فَقَدْ علمته ) والدليل على أنه كما قلت وإن هذا لقوة ( كانَ ) أنه ليس شيءٌ من الأفعال يقع بعد ( إنْ ) غير ( كانَ ) إلا ومعناه الإستقبال لا تقول : إن جئتني أمسِ أكرمتُكَ اليومَ قال أبو بكر :
وهذا الذي قاله أبو العباس رحمه الله لست أقوله ولا يجوز أن تكون ( إن ) تخلو من الفعلِ المستقبل لأن الجزاء لا يكون إلا بالمستقبل وهذا الذي قال عندي نقض لأصول الكلام
فالتأويل عندي لقوله : إنْ كنتَ زرتني أمسِ أكرمتُك اليومَ إنْ تكن كنتَ ممن زارني أمسِ أكرمتُكَ اليوم وإن كنت زرتني أمس زرتُكَ اليومَ فدلتْ ( كنت ) على ( تكن ) وكذلك قوله عز و جل : ( إنْ كُنْت قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ) أي إنْ أكنْ كنت ( أو ) إنْ أقل كنت قلته أو أقر بهذا الكلامِ وقد حكي عن المازني ما يقاربُ هذا ورأيت في كتاب أبي العباس بخطهِ موقعاً عند الجواب في هذه المسألة ينظرُ فيه وأحسبه ترك هذا القولَ وقال : قال سيبويه في قوله عز و جل : ( قل إنَّ الموتَ الذي تفّرونَ منهُ فإنَّه مُلاَقِيكُم ) : إنما دخلت الفاء لذكره تفرون ونحن نعلمُ أنَّ الموتَ ليس يلاقيكم من أجل أنهم فروا كقولكَ : الذي يأتينا فلَهُ درهمانِ فإنما وجب لَهُ الدرهمانِ من أجل الإِتيان ولكن القول فيه والله أَعلم : إنما هو مخاطبة لِمَنْ يهرب من الموت ولَم يتمنَّه قال الله عز و جل : ( فتمنَّوا الموتَ إنْ كنتم صادقين )
فالمعنى : أي أنتم إنْ فررتم منهُ فإنه ملاقيكم ودخلت الفاء لإعتلالهم من الموت عن أنفسهم بالفرار نحو قول زهير :
( ومَنْ هَابَ أَسْبَابَ المَنِيَّةَ يَلْقَها ... وإنْ رَامَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ )
ومن يهبها أيضاً يلقَها ولكنه قالَ هذا لِمَنْ يهابُ لينجو ومثل ذلك : إنْ شتمتني لم اشتمكَ وهو يعلم أنه إنْ لم يشتمني لم اشتمُه ولكنهُ قيل هذا لأنه كان في التقدير أنه إنْ شتَم شُتِمَ كما كان في تقدير الفارِّ من الموت : أن فراره ينجيه
وقال : قال سيبويه : إنَّ حروف الجزاء إذا لم تجزم جاز أن يتقدمها أخبارها نحو : أنت ظالمٌ إن فعلت ثم أجرى حروفَ الجزاء كلها مجرىً واحداً وهذه حكاية قول سيبويه وقد تقول : إنْ أتيتني آتيكَ أي : آتيك إنْ أَتيتني قال زهير :
( وإنْ أَتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْأَلَةٍ ... يَقُولُ لا غَائِبٌ مالِي ولا حَرِمُ )
ولا يحسن : إنْ تأتني آتيكَ مِنْ قبل أنَّ ( إنْ ) هي العاملة
وقد جاء في الشعر قال :
( يَا أَقْرَعُ بنُ حَابِسٍ يا أَقْرَعُ ... إنَّكَ إنْ يُصْرَعْ أَخُوكَ تُصْرَعُ )
أي : أنَّكَ تصرعُ إنْ يصرعْ أخوكَ
ومثلَ ذلكَ قوله :
( هَذَا سُرَاقَةُ لِلقُرآنِ يَدْرُسُهُ ... والمَرْء عِنْدَ الرُّشا إن يَلْقَها ذِيبُ )
أي : المرء ذيب إنْ يلقَ الرُّشا فجاز هذا في الشعر
وشبهوه فالجزاء إذا كان جوابه منجزماً لأنَّ المعنى واحدٌ قال : ثم قال في الباب الذي بعده
فإذا قلتَ : آتي مَن أتاني فأنتَ بالخيار إنْ شئت كانت بمنزلتِها في ( إنْ ) وقد يجوز في الشعر : آتي مَنْ يأتيني قال الشاعر :
( فَقُلتَ تَحَمَّلْ فَوْقَ طَوْقِكَ إنَّها ... مُطَبَّعَةٌ مَنْ يأتِها لا يَضِيرُهَا )
كأنه قال : لا يضيرها من يأتها ولو أريد أنه حذف الفاء جازَ وأنشد في بابِ بعده :
( وَمَا ذَاكَ أَنْ كَانَ ابنَ عمِّي ولا أَخِي ... وَلكِنْ مَتَى مَا أَملكُ الضُّرَّ أَنْفَعُ )
كأنه قال : ولكن أنفع متى ما أَملكِ الضرَّ قال أبو العباس رحمه الله : أما قوله : آتيك إنْ أتيتني فغير منكرٍ ولا مرفوع استغنى عن الجواب بما تقدم
ولم تجزم ( إنْ ) شيئاً فيحتاج إلى جواب مجزوم أو شيءٍ في مكانه
وأما قولُهم : وإن أتاه خليلٌ يومَ مسألةٍ تقول على القلب فهو محال وذلك كان الجواب حقه أن يكون بعد ( إنْ ) وفعلها الأول وإنما يعني بالشيء موضعه إذا كان في غير موضعه نحو : ضَربَ غلامُهُ زيدٌ لأن حد الكلام أن يكون بعد زيدٍ وهذا قد وقع في موضعه من الجزاء فلو جاز أن يعني به التقديم لجاز أن تقول : ضربُ غلامُهُ زيداً تريد : ضربَ زيداً غلامُه وأما ما ذكره من ( مَنْ ومَتى ) وسائر الحروف فإنه يستحيل في الأسماء منها والظروف
من وجوه في التقديم والتأخير لأنكَ إذا قلت : آتي مَنْ أتاني وجب أن تكون ( مَنْ ) منصوبة بقولكَ : أَتى ونحوهُ وحروف الجزاء لا يعمل فيها ما قبلها فليس يجوز هذا إلا أن تريد بها معنى الذي
و ( متى ) إذا قلت : آتيك متى أتيتني فمتى للجزاء وهي ظرف ( لأَتيتني ) لأنَّ حروف الجزاء لا يعمل فيها ما قبلها ولكن الفعل الذي قبل متى قد أغنى عن الجواب كما قلت في الجواب : أَنتَ ظالمٌ إنْ فَعَلتَ
فأنتَ ظالمٌ منقطع مِنْ ( إنْ ) وقَد سَدَّ مسدَّ جواب ( متى ) و ( إنْ ) لم تكن منها في شيءٍ لأنَّ ( مَتى ) منصوبة ( بيأتيني ) لأنَّ حروف الجزاء من الظروف والأسماء إنما يعملُ فيها ما بعدها وهو الجزاء الذي يعملُ فيه الجزم
والباب كله على هذا لا يجوز غيره ولو وضع الكلام في موضعه لكانَ تقديره : متى أتيتني فآتيكَ أي : فأنا
آتيكَ وإنما قوله ( مَنْ ) يأتها فمحالٌ أَنْ يرتفع ( مَنْ ) بقولكَ : لا يضيرها ومَنْ مبتدأٌ كما لا تقول : زيدٌ يقومُ فترفعه ( بيقوم ) وكل ما كان مثله فهذا قياسه وهذه الأبيات التي أُنشدت كلها لا تصلح إلا على إرادة الفاء في الجواب
كقوله : ( الله يشكرها ) لا يجوز إلا ذلك
وتقولُ : إن الله أمكنني من فلانٍ فعلتُ : فتلى ( إنْ ) الإسم إلا أنكَ تضمر فعلاً يليها يفسرهُ ( أمكنني ) كما تفعل بألف الإستفهام
وزعم سيبويه أنه جاز فيها ما امتنع في غيرها لأنها أصل الجزاء
قال : والدليل على ذلك أنها حرفه الذي لا يزولُ عنه لأنها لا تكون أبداً إلا للجزاء ومَنْ تكون استفهاماً وتكون في معنى الذي وكذلكَ ما وأيُّ وأينَ ومتىَ تكون استفهاماً وجميعُ الحروف تنقل غيرها
قال أبو العباس رحمه الله : فيقال له : ( إنْ ) قد تكون في معنى ( مَا ) نحو : ( إن الكافرونَ إلا في غرورٍ ) وتكون مخففة من الثقيلة وتكون زائدةً نحو قوله :
( وما إنْ طبنَا جُبنٌ ... )
ثم قال : والدليل على ما قال سيبويه : أنَّ هذا السؤال لا يلزمُ أنَّ ( مَنْ ) تكونُ لِما يعقل في الجزاء والإستفهام ومعنى الذي فهي حيث تصرفتْ واحدة و ( ما ) واقعة على كل شيء غير الناس وعلى صفات الناس وغيرهم حيث وقعت فهي واحدة وكذلك هذه الحروف و ( إنْ ) للجزاء لا تخرجُ عنه وتلك الحروف التي هي ( إنْ ) للنفي ومخففة من الثقيلة وزائدة ليسَ على معنى ( إنْ ) الجزاءُ ولا منها في شيءٍ وإنْ وقع اللفظان سواء فإنهما حرفانِ بمنزلةِ الإسم والفعل إذا وقعا في لفظ وليس أحدهما مشتقاً من الآخر : نحو قولِكَ : هذا ذهبٌ وأنت تعني التِّبْر وذهب من الذهاب ونحو قولِكَ : زيدٌ على الجبَلِ وعلا الجبلَ فهذا فعلٌ والأول حرفٌ قال : وسألت أبا عثمان عن ( ما ) و ( مَنْ ) في الإستفهام والجزاء أمعرفة هما أم نكرةٌ فقال : يجوز أن يكونا معرفة وأن يكونا نكرة فقلت : فأيُّ : ما تقول فيها قال : أنا أقول : إنَّها مضافة معرفة ومفردة نكرة والدليل على ذلك أنك تقول : أيةُ صاحبتُكَ ولو كانت معرفةً لم تتصرفْ
قال : وكان الأخفش يقول : هي معرفة ولكن أَنونُ لأن التنوينَ وقع وسط الإسم فهو بمنزلة امرأةٍ سميتَها خيراً منكَ وكانَ غيرهُ لا يصرفها ويقول : أيّةَ صاحبتُك لأنّها معرفةٌ
وشرح أبو العباس ذلك فقالَ : إن مَنْ وما وأيُّ مفردة نكراتٍ وذلك أنَّ أيا منونةٌ في التأنيث إذا قلت : أيّةٌ جاريتُكَ وقول الأخفش : التنوينُ وقعَ وسطاً غَلَط وذاك لأنَّ ( أَيَّ ) في الجزاء والإستفهام لا صلة لها ( ومَنْ وما ) إذا كانتا خبراً فإنهما يعرفانِ بصلتهما
فقد حذفَ ما كان يعرفهما فهما بمنزلة ( أي ) مفردةً ومن الدليل على أنهن نكراتٌ أنك
تسأل بمنْ سؤالاً شائعاً ولو كنتَ تعرف ما تسأل عنه لم يكنْ للسؤال عنه وجه فالتقدير فيها على ما ذكرنا إذا قلت : ما زيدٌ وأيُّ زيدٍ وما عندك وأيُّ رجلٍ وأي شيءٍ فإذا قلت : أَيهم وأيُّ القومِ زيدٌ فقد اختصصتَه من قوم فأضفته إليهم والتقدير : أهذا زيدٌ منَ القومِ أم هذا للإختصاصِ
فلذلك كانت بالإِضافة معرفةً وفي الإِفراد نكرةً
وقال سيبويه : سألتُ الخليلَ عن ( كيفَ ) : لِمَ لَمْ يجازوا بها فقالَ : هي فيه مستكرهةٌ وأصلها من الجزاء ذلك لأنَّ معناها على أي حالٍ تكن أكن
وقال محمد بن يزيد : والقول عندي في ذلك : إنَّ علة الجزاءِ موجودةٌ في معناها فما صَحَّ فيهِ معنى الجزاء جوزيَ بهِ وما امتنعَ فلا جزاءَ فيهِ وإنما امتنعت ( كيفَ ) من المجازاة لأن حروف الجزاء التي يستفهم بها كانت استفهاماً قبل أن تكون جزاءً والدليلُ على تقديم الإستفهام وتمكنه أنَّ الإستفهام يدخل على الجزاء كدخوله على سائر الأخبارِ فتقول : أَإِنْ تأتني آتِكَ ونحوه ولا يدخلُ الجزاء على الإستفهام ثم رأيتَ أنه ما كان من حروف الإستفهام متمكناً يقعُ على المعرفة والنكرة جوزيَ به : لأنَّ حروفَ الجزاء الخالصة تقع على المعرفة والنكرة تقول إنْ تأتني زيدٌ آتِه وإن يأتني رجلٌ أَعطهِ فكذلك من وما وأيَ وأينَ ومتَى وأنّى
وذلك إذا قلت في الإستفهام : من عندك جاز أن تقول : زيدٌ أو رجل أم امرأةٌ وكذلك كلما ذكرنا من هذه الحروف
وأما كيف فحقٌّ جوابها النكرة وذلك قولك كيف زيدٌ فيقالُ صالحٌ أو فاسدٌ ولا يقالُ الصالح ولا أخوكَ لأنَّها حالٌ والحالُ نكرةٌ وكذلك كم لم يجازوا بها لأنَّ جوابها لا يكون نكرةً إذا قام كمْ مالُكَ فالجواب : مائةٌ أو ألفٌ أو نحو ذلك والكوفيون يدخلون ( كيف وكيفما ) في حروف الجزاء ولو جازت العرب بها
لأتبعناها وتقول : إنْ تأمر أن آتيك تريد إنَّك إنْ تأمرْ بأنْ آتيكَ وإنْ أسقطت ( إنْ ) قلت : إنْ تأمر آتيكَ آتكَ ولا يجوز عندي إن تأمر لا أقم لا أقم إلا على بعدٍ وقومٌ يجيزونهُ وتقول : إنْ تقمْ إنَّ زيداً قائمٌ تضمرُ الفاء تريدُ : فإنَّ زيداً قائمٌ وإنْ تقمْ لا تضرب زيداً
يريد : فلا تضربْ زيداً : وإنْ تقمْ أطرفْ بكَ أي فأطرِفْ بكَ وتقول : إنْ تَقمْ يعلم الله أزَركَ تعترضُ باليمينِ ويكون بمنزلة ما لم يذكر أعني قولك : يعلمُ اللَّهُ وإنْ جَعلتَ الجواب للقسم أَتيتَ باللام فقلت : إنْ تقمْ يعلمُ الله : لأزورنَّكَ وتضمر الفاءَ وكذلكَ : إنْ تقم يعلم الله لآتينك تريد : فيعلمُ الله لأزورنك ويعلم اللَّهُ لآتينكَ
باب الأفعال المبنية الأفعال التي تبنى على ضربين : فعلٌ أصله البناء فهو على بنائه لا يزول عنه وفعلٌ أصله الإِعراب فأدخلَ عليه حرف للتأكيد فبنيَ معَهُ
فأما الضرب الأول فقد تقدم ذكره وهو الفعل الماضي وفعل الأمر وأما الضربُ الثاني فهو الفعلُ الذي أصله الإِعراب فإذا دخلت عليه النون الثقيلة والخفيفة بني معها
ذكر النون الثقيلة هذه النونُ تلحقُ الفعلْ غيرَ الماضي إذا كانَ واجباً للتأكيدِ فيبنى معها وهي تجيءُ على ضربين : فموضعٌ لا بد منها فيه وموضعٌ يصلحُ أنْ تخلو منه فأمَّا الموضع الذي لا تخلو منه فإذا كانت مع القسم وذلك قولُكَ : والله لأفْعَلنَّ وأقسم لأفعلنَّ وأشهد لأفعلنَّ وأقسمت عليك بالله لتفعلنَّ فهذه النون ملازمةٌ للامِ وهي تفتح لام الفعل الذي كان معرباً وتبنى معهُ وهي إذا كانت مشددةً مفتوحةً قال سيبويه : سألتُ الخليلَ عن قوله : لتفعلنَّ مبتدأة لا يمينٌ قبلها فقال : جاءت على نية اليمين
وإذا حكيت عن غيرك
قلتَ : أقسم لتفعلنَّ واستحلفتهُ لتفعلنَّ
وزعم : أنَّ النونَ أُلحقت ( في لتفعلنَّ ) لئلا يشبه أنه ليفعل
فإذا أقسمتَ على ماضٍ دخلت اللامُ وحدها بغير نون نحو قولكَ : والله لقد قامَ ولقامَ وحكى سيبويه والله أنْ لو فعلتَ لفعلت وتقول : والله لا فعلتَ ذاكَ أبداً تريد : لا أَفعلُ وقال الله عز و جل ( ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا ) على معنى : ( ليظلّن ) وتقول : لئن فعلت ما فَعلَ تريد : ما هو فاعلٌ وتقول : : والله أفعلُ تريد لا أفعلُ وإن شئت أظهرت ( لا ) وإنما جاز حذف ( لا ) لأنهُ موضع لا يلبس ألا ترى أنك لو أردت الإِيحاب ولم ترد النفي قلت : لأفعلن فلما لم تأت باللام والنون علم أنك تريد النفي وأما الموضع الذي تقع فيه النون وتخلو منه فالأمر والنهي وما جرت مجراهما من الأفعال غير الواجبة وذلك قولك : أفعلنَّ ذاكَ ولا تفعلنَّ وهَل تقولنَّ وأتقولنَّ لأن معنى الإستفهام معنى أخبرني
وكذلك جميع حروف الإستفهام وزعم يونس أنك تقول : هلا تفعلنَّ وألا تقولَنَّ لأنك تعرض ومعناه أفعلُ ومثل ذلك : لولا تقولنَّ لأنه عَرض
ومن مواضعها حروف الجزاء إذا أوقعت بينها وبين الفعل ( مَا ) للتوكيد تقول : إمّا تأتني آتكَ وأيُّهم ما يقولنَّ ذاكَ نجزهِ وقد تدخل بغير ( ما ) في الجزاء في الشعر
وقد أدخلت في المجزوم تشبيهاً به للجزم ولا يجوز إلا في ضرورة قال الشاعر :
( يَحْسَبُهُ الجَاهِلُ مَا لَمْ يَعْلَما ... شَيْخَاً على كُرْسِيَّه مُعمَّمَا )
والخفيفة والثقيلة سواء ويقولون : أَقسمتُ لمَّا لم تفعلن لأن ذا طلبٌ
وزعم يونس : أنَّهم يقولونَ رُبَّما تقولنَّ ذاك وكثر ماتقولنَّ ذاك لأنه فِعْل غير واجبٍ ولا يقعُ بعد هذه الحروف إلا و ( ما ) له لازمة وإن شئت لم تدخل النون فهو أجودُ فهذه النون تفتح ما قبلها مرفوعاً كان أو مجزوماً
فإذا أدخلت النون الشديدة على ( يفعلانِ ) حذفت النون التي هي علامة الرفع لإجتماع النونات ولأن حقه البناء فينبغي أن تطرح الذي هو علامة الرفع وكذلك النون في ( يفعلون ) تقول : ليفعلنَ ذاكَ وقد حذفت النون فيما هو أشد من هذا لإجتماع النونات قرأ بعض القراء : ( أتحاجونِّي ) و ( فَبِمَ تُبشرونِّ ) وسقطت الواو لإلتقاء الساكنين فصار ليفعلنّ فإن أدخلتها على ( تَضربينَ ) حذفت أيضاً النون لإجتماع النونات لأنها تكون علماً للرفع وحذفت الياء لإلتقاء الساكنين فقلت : هل تضربينَ وتقول : اضربنَ زيداً وأكرمن عمراً وكان الأصل اضربي وأكرمي وتقول لجماعة المذكرينَ : اضربُنَّ زيداً كانَ الأصلُ : اضربوا وأكرموا فسقطتِ الواو لإلتقاء الساكنين وتقول في التثنية : اضربانِ يا رجلانِ بكسر النونِ تشبيهاً بالنون التي تقعُ بعدَ الألف وهي فيما سوى هذا مفتوحة ومتى دخلت النون بعد حرف إضمارٍ تحرك إذا لقيته لام المعرفة حرك لها تقول : ارضونَّ زيداً واخشونَّ عمراً وارضينَّ يا امرأةُ لأنك تقول : اخشُو فتضم وتقول : ارضي الرجلَ فتكسر فلذلك ضممتَ وكسرتَ مع النونِ فإنْ أدخلت النون على : تضربنَ الذي هو لجماعةِ المؤنث قلت : هَل تضربنانِ يا نسوةُ واضربنانِ لم تسقطْ هذه النون لأنها اسمٌ للجماعة وفصلت بين النونات بالألف لئلا تجتمعَ النوناتُ
واعلم : أن ما يحذف من اللامات في الجزم والأمر إذا أدخلت النون لم يحذفن تقول : ارمين زيداً وكان اللفظ : ارمِ زيداً لأن الياء والواو تحذفان في المواضع التي أصلها الإِعراب فإذا أدخلت النون عادت لأنها تبنى مع ما قبلها ولا سبيل للجزم
ذكر النون الخفيفة كل شيء تدخله النون الثقيلة تدخله الخفيفة إلا أن النون الخفيفة في الفعل نظير التونين في الإسم فلا يجوز الوقف عليها كما لا يجوز الوقف على التنوين تقول اضربْن زيداً إذا وصلت فإذا وقفت قلت اضربا كما تقول : ضربتُ زيداً في الوقف وقد فرقوا بين التنوين والنون الخفيفة بشيءٍ آخر بأن الخفيفة لا تحرك لإلتقاء الساكنين والتنوين يحرك لإلتقاء الساكنين فمتى لقي النون الخفيفة ساكن سقطت لأنهم فضلوا ما يدخل الإسم على ما يدخل الفعل وتقول : إذا أمرتَ امرأةً : اضربن يا هذه فإذا وقفت قلت : اضربي ولَم يجز أن تقول : اضربنْ في الوقف لأنها بمنزلة التنوين وأَنتَ تحذفُ التنوين إذا انكسر ما قبلهُ فحذفت التنوين ها هنا فلما حذفتها عادت الياء لأن سقوطها كان لإلتقاء الساكنين وتقول للجماعة : اضربُنْ يا قومُ فإذا وقفت قلت : اضربوا : أعدت الواو لأنها إنما سقطت لإلتقاء الساكنين ولم يجز أن تقول : اضربنْ في الوقف كما لم يجز أن تقول : زيدْ في الوقف فقد يقفون وهم ينوونَ النونَ كما ينوون التنونَ في الرفع والجزم في الوقف
وتقول في الوقف : اخشى وللرجال اخشوا وحكى سيبويه : أن يونس يقول : اخْشَي واخْشَوُوا وقال الخليل : لا أرى ذلك إلا على قول مَنْ قال : هذا عمروُ ومررتُ بعمري قول العرب على قول الخليل وإذا أدخلت النون بعد حرف إضمار تحرك إذا لقيتْهُ لام المعرفة حرك من النون
وتقول : هَلْ تضربِنْ يا امرأةُ وكان الأصل : تضربينَ فسقطت النون التي كانت علامةٌ للرفع كما تسقط الضمة في : هَل تضربنْ وتثبت النون الخفيفة أو الثقيلة إنْ شئتَ وتسقط الياء لإلتقاء الساكنين فيصير : هل تضربِنْ في الوصل وكان في الأصل تضربينَ وإذا وقفت قلت : هل تضربين
فأعدت النون التي كانت للرفع لأنك لا تقفُ على النون الخفيفة ولا يجوز أن تسقطها لأنك لم تأت بما تسقط من أجله وكذلك هل تضربونَ وهل تضربانِ فأما الثقيلة فلا تتغير في الوقف وإذا كان بعد الخفيفة ألف ولام ذهبت لإلتقاء الساكنين . تقول : اضربا الرجل
وإذا أردت فِعلَ الإثنين في الخفيفة كان بمنزلته إذا لم ترد الخفيفة في فعلِ الإثنين في الوصل والوقف لأنك لو أتيت بها لاحتجت إلى تحريكها لأنها بعد ألفٍ وهي لا تحرك وذلك قولك : اضربا وأنت تنوي النونَ وإذا أردت الخفيفة في فعلِ جمعِ النساء قلت في الوقف والوصل : اضربِنْ زيداً فيكون بمنزلته إذا لم ترد الخفيفة ولو أتيت بها للزمكَ أن تقول : اضربنانِ زيداً فتاتي بالألف لتفصلَ بين النونين وتكسر النون لالتقاء الساكنين فتحركها وهي لا تحركُ قال سيبويه وأما يونس وناسٌ من النحويين فيقولون : اضربانْ زيداً واضربنانْ زيداً
ويقولون في الوقف : اضربا واضربْنَا فيمدونَ
فإذا وقع بعدها ألف ولامْ أو ألفُ وصلٍ جعلوها همزة مخففة وهذا لم تفعلْهُ العرب والقياس أن يقولوا في : اضربنْ اضربِ الرجلَ فيحذفون لإلتقاءِ الساكنين
مسائل من باب النون تقول في المضاعف من الفعل : رُدّن يا هذا وردّانِ ورُدُّن وكان قبل النون ردّوا فسقطت الواو لإلتقاء الساكنين وتقول في المؤنث رُدّن وكان قبل النون : ردي فسقطت الياء لإلتقاء الساكنين وتثنية المؤنث كتثنية
المذكر
تقول : رُدّانِ يا امرأتانِ وتقول لجماعة النساء : ارددنانِ وكان قبل النون : اردَدنَ
فجئت بالألف لتفصل بين النونات
وتقولُ : قولنْ وقولانِ وقولّنَّ والمؤنث قولِنَّ : وقولانِ يا امرأتانِ وقُلنانِ يا نسوةُ وقس على هذا جميع ما اعتلتْ عينه وكذلك ما عتلتْ لامه اقضين زيداً واقضيانِ واقضين تسقط الواو لسكون النون الأولى اقضينَ يا امرأةُ تسقط ياءين التي هي لام الفعل وياء التأنيث أما لام الفعل فتسقط كما تسقط في ( تقضينَ ) لإلتقاء الساكنين لأنها ساكنة وياء التأنيث ساكنة
وتسقط ياء التأنيث من أجل سكون النون الأولى فإن جمعت قلت : اقضينانِ والكوفيونَ يحكون إذا أمرت رجلاً : اقضِنَّ يا هذا بكسر الضاد وإسقاط الياء كأنهم أسقطوا الياءَ لسكونها وسكون النون هكذا اعتلوا
وعندي أنا : الذي فَعلَ هذا إنما أدخلَ النون على ( اقضِ ) ولم يجد ياءً فترك الكلام على ما كان عليه وهذا شاذٌ وتقول : مِنْ دعوتُ : ادعون زيداً أو ادعوان وادعنْ للجماعة سقطت الواوان في ( ادَعن ) الواو التي هي لام الفعل سقطتْ لدخول واو الجمع وسقطت واو الجمع لدخول النون الأولى وهي ساكنة
وتقول للواحدة : ادعَنْ سقطتْ واواٌ وياءٌ فالواو لام الفعل سقطت لدخول الياء التي هي للمؤنث حين قلت : ادعي
وسقطت الياء للنون فصار ادعن وتقول : للإثنين : ادعوان مثل المذكرين وللجماعة ادعونانِ لأنكَ تقول : قبل النون : ادعون زيداً مثل اقضينْ زيداً تأتي بالألف إذا أردت النون الشديدة فتفصلُ بين النوناتِ لئلا تجتمع كما تقول : اقضنانِ زيداً وتقول : من خَشيتَ : اخشَينَ زيداً يا هذا واخشينانِ زيدً يا هذان واخشُون زيداً يا نسوةُ . تحرك الواو بالضم
وحكمُ هذا الباب أَنَّ كل واوٍ وياءٍ تحركت فيه إذا لقيتها لامُ المعرفة تحركت هنا وإنْ كانت تسقط هناك لإلتقاء الساكنين سقطت هنا فلهذا قلت : اخشُون زيداً ضممتَ الواو كما تَضمُّها إذا قلت : اخشُوا الرجلَ وتقول للمرأة : اخشين زيداً كما تقول : اخشى الرجلَ وتثنية المؤنث كتثنية المذكر وتقول لجماعة النساء : اخشين زيداً والكوفيون يحكون : اخشَن يا رجلُ بإسقاط الياء من ( اخشين ) وهذا
نظيرُ ( اقضِن ) وحكوا : لا يخفن عليكَ : يريدون لا يخفين عليكَ وقال الفراء : هذه لغة طيءٍ لأنهم يسكنون الياء في النصب ولا ينصبونَ
والنونُ لا تشبه ذلك
وتقول : لا تضربني ولا تضربننا ومنهم من يخفضُ لكثرة النونات فيقول : لا تضربني ولا تضربنَا والكوفيون يحكون : اضربن يا رجلُ ينوون الجزم قد ذكرنا جميع أصناف الأسماء المعربة والمبنية والأفعال المبنية وبقيَ ذكر الحروف مفردةً
باب الحروف التي جاءت للمعاني قد ذكرنا أول الكتاب ما يعرفُ به الحرف والفرق بينه وبين الإسم والفعل وإنما هي أدوات قليلة تدخل في الأسماء والأفعال وتحفظ لقلتها وسنذكرها بجميع أنواعها وكلها مبني وحقها البناء على السكون وما بنيَ منها على حركة فإنما حرك لسكون ما قبله أو لأنه حرف واحد فلا يمكن أن يبتدأ به إلا متحركاً وهي تنقسم أربعة أقسامٍ : ساكنٍ يقال لهُ موقوفٌ ومضمومٌ ومكسور ومفتوح الأولِ
الموقوف : ويبدأ بما كان منه على حرفين وذلكَ أَمْ وأَوْ وهَلْ وتكون بمعنى : ( قَدْ ) ولَم نفيُ فَعَلٍ ولَنْ نفيُ سيفعلُ فإنْ للجزاء ووجوب الثاني لوجوب الأول وتكون لغواً في ( ما إنْ يفعلُ ) وتكون ( كما ) في معنى ( ليسَ ) قال الشاعر :
( وَرجِّ الفتى لِلخَيْرِ ما إنْ رأَيتَهُ ... )
ومن ذلك ( أنْ ) المفتوحة يكون وما بعدها بمنزلة المصدر وتكون بمنزلة ( أَي ) وتكون مخففة من الثقيلة وتكون لغواً نحو قولك : لمَّا أَنْ جَاءَ
وأما واللِه أَنْ فَعَلْتَ فأما كونها بمنزلة المصدر فقولك : أَنْ تأتيني خيرٌ لَك واللام تحذف من أَنْ كقوله : أَنْ تقتلَ أحدهما وأنْ كانَ ذَا مالٍ ويجوز أن تضيف إلى ( أَنْ ) الأسماء تقول : إنهُ أَهلٌ أَن يفعلَ ومخافة أَن يفعلَ وإنْ شئت قلت : إنَّهُ أهلٌ أنْ يفعلَ ومخافةُ أنْ يفعلَ وإنَّهُ خليقٌ لأَنْ يفعلَ وإنَّهُ خليقٌ أنْ يفعلَ وعسيتَ أَنْ تفعلَ وقاربتَ أَنْ تفعلَ ودنوتَ أَنْ تفعلَ ولا تقول : عسيتَ الفعل ولا للفعلِ وتقول : عسى أَنْ يفعلَ وعسى أَن يفعلا وعسى أَن يفعلوا وتكون عسى للواحد والإثنين وللجميع والمذكر والمؤنث ومن العرب من يقول : عَسى وعَسيا وعسوا وعسيتُ وعسيتِ وعسينَ فمن قال ذاك كانت ( أَنْ ) فيهن منصوبةً ومن العرب من يقول : عسى يفعلُ فشبهها بكادَ يفعلُ فيفعلُ في موضعِ الإسمِ المنصوب في قوله : عسَى الغويرُ أَبؤساً
فأما ( كادَ ) فلا يذكرونَ فيها ( أَنْ ) وكذلك كربَ يفعلُ ومعناهما واحدٌ وجعلَ وأَخذَ فالفعلُ هنا بمنزلة الفعلِ في ( كانَ ) إذا قلت : كانَ يقولُ
وهو في موضع اسم منصوب بمنزلته ثَم وقد جاء في الشعر : كادَ أن يفعلَ ويجوزُ في الشعر : لعلِّي أَن أفعلَ بمنزلة عسيتُ أَنْ أفعلَ وتقول : يوشكُ أَنْ تجيءَ فيكون موضعُ ( أَن ) رفعاً ويجوز أن يكون نصباً وقد يجوز : ( يُوشكُ ) تجيء بمنزلة ( عسَى ) قال أمية بن أبي الصلتِ :
( يُوشكُ مَنْ فُرَّ مِنْ منيتهِ ... في بعضِ غراتهِ يُوافقُها )
قال سيبويه : وسألتهُ . يعني الخليل عن معنى : أريدُ لأَنْ تفعلَ فقال : المعنى إرادتي لهذا كما قال تعالى : ( وأمرتُ لأَن أكونَ أولَ المسلمين )
وأما ( إنْ ) التي بمعنى ( أيْ ) فنحو قوله ( وانطلقَ الملأُ منهم أَنْ امشوا ) ومثله : ( ما قلتُ لهم إلا ما أمرتني بهِ أنِ اعبدوا الله ) فأما كتبت إليه أنْ افعل وأمرتهُ أَنْ قُمْ فتكون على وجهينِ : على التي تنصب الأفعالَ وعلى ( أَي ) ووصلك لها بالأمرِ كوصلِكَ للذي يفعلُ إذا خاطبتَ والدليل على أّنَّها يجوز أن تكون الناصبة قولُكَ : أَوعز إليهِ بأَنْ افعلْ وقولُهم : أرسل إليه أنْ ما أَنتَ وذَا فهي على أي والتي بمعنى أَنْ لا تجيء إلا بعد استغناء الكلام لأنها تفسيرٌ وأما مخففةٌ من الثقيلة فنحو قوله : ( وآخر دَعواهم أنِ الحمدُ لله رب العالمين ) يريدُ ( أَنهُ ) ويجوز الإِضمار بعد أَنْ هذه وقولُكَ و ( كأنَّ ) هي أنَّ دخلت عليها الكاف كما دخلت على ما خففت منه وقال سيبويه :
لو أنَّهم جعلوا أنْ المخففة بمنزلة إنَّما كان قوياً وفي هذا البابِ شيءٌ مشكلٌ أنا أبينهُ
اعلم : أن الأفعال على ضروب ثلاثة : فضرب منها يقين وهو عَلِمتُ وضَرب هو لتوقعِ الشيءِ نحو : رجوتُ وخفتُ وضربٍ هو بينهما يحمل على ذا وعلى ذَا نحو : ظننتُ وحسبتُ
واعلم : أن ( أنّ ) إنما هي لما تتيقنه ويستقر عندك وأَنْ الخفيفة إنما هي لما لَم يقعْ نحو قولك : أُريد أَنْ تذهبَ فإذا كانت أن الخفيفة بعد ( علمتُ ) فهي مخففةٌ من الثقيلة وإذا خففت أتى بلا والسين وسوف عوضاً مما حذف
وجعلوا حذفها دليلاً على الإِضمار وقد ذكروا فيما تقدم و ( أَنْ ) التي تنصب بها الأفعال تقع بعد رجوت وخفتُ . تقول : خفتُ أَنْ لا تفعلَ
فأما بعد حسبت وظننت فإنها تكون على ضربين : إنْ كان حسبانكَ قد استقر كانت مخففة من الثقيلة وإن حملته على الشك كانت خفيفة كقوله ( وحسبوا أنْ لا تكونَ فتنةٌ ) . تقرأ بالرفع والنصب
فمن رفع فكأنه أرادَ وحسبوا أَنْ لا تكون لما استقر تقديرهم فصار عندهم بمنزلة اليقين وهذا مذهب مشايخنا
وقد حكي عن المازني نحوٍ منه ثم يتسعون فيحملون ( رجوتُ ) على علمتُ إذا استقر عندهم الرجاء وهذا أبعدها
وحكي عن أبي العباس ولستُ أحفظهُ من قوله : إنه إن سُئلَ عن أَنْ الخفيفة المفتوحة ومواضعها فقال : أنْ الخفيفة المفتوحة أصلها أَنَّ المفتوحة الثقيلة في جميع أحوالها وأنها مفتوحة كما انفتحت أَنَّ المعمول فيها كأنما خففت أنَّ فصارت أنْ مخففة فلها في الكلام موضعان : أحدهما تقع فيه على
الأسماء والأخبار . والآخر : تقع فيه على الأفعال المضارعة للأسماء
فأما كون وقوعها على الأسماء والأخبار : فإن ذلك لها إذا دخلت محل ( أَنَّ ) الثقيلة أعني في التأكيد للإبتداء والخبر فإذا كانت بهذه المنزلة لم يقع عليها إلا فعل واجب وكانت مؤكدة لما تدخل عليه وأما كون وقوعها على الأفعال المضارعة فلأنَّ العامل فيها غير واجب ولا واقع وإنما يترجى كونه ووقوعه فإذا وجدت العامل فيها واجباً على ( أن ) ففتحتها وأوقعتها على المضمر وجعلته اسماً لها
وأما قولهم : أما أَن جزاكَ الله خيراً أو أما أنْ يغفر اللُه لكَ
قال سيبويه : إنما جاز لأنه دعاءٌ وقال : سمعناهم يحذفونَ إنَّ المكسورة في هذا الموضع ولا يجوز حذفها في غيره
يقولون : أما إنْ جزاكَ الله خيراً وهذا على إضمار الهاء في المحذوفة وقال : يجوزُ ما علمتُ إلا أنْ تأتيهُ إذا أردت معنى الإِشارة لا أنكَ علمتَ ذلك وتيقنتهُ
والمبتدأ وخبره بعد ( أَن ) يحسنُ بلا تعويض تقول : قَد علمتُ أَن عمرو ذاهبٌ وأَنت تريدُ ( أَنهُ ) ويجوز : كتبتُ إليه أن لا تقلْ ذاكَ وأَن ترفعَ ( تقولُ ) وأنْ تنصب
فالجزم على النهي والنصبُ على ( لئلا ) والرفعُ على ( لأنَكَ لا تقول ) أو بأنَّكَ لا تقول وقد تكون أَنْ بمنزلة لام القسم في قول الله : ( أنْ لَو فعلَ ) وتوكيداً في قوله : لَما أَن فَعَلَ
ومن الحروف ( مَا ) وهي تكونُ نفيُ هو يفعلُ إذا كان في الحال وتكونُ كلَيْسَ في لغة أهل الحجاز
وتكون توكيداً لغواً تغيرُ الحرفَ عن عمله نحو : إنما وكأَنما ولعلما جعلتهنَّ بمنزلة حروف الإبتداء ومن ذلك حيثما
صارت بمجيء ( ما ) بمنزلة إنْ التي للجزاء وما في ( لمَّا ) مغيرة عن حال لم كما غيرت ( لو ما ) ألا ترى أنك تقول : ( لمَّا ) ولا تتبعها شيئاً ومنها ( لا ) وهي نفي لقوله يَفْعل ولم يقع الفعلُ وتكون ( كما ) في التوكيد واللغو في قوله ( لِئلا يَعْلَمَ أَهْلُ الكِتَابِ ) وهو لأن يعلم ولا تكون توكيداً إلا في الموضع الذي لا يلتبس فيه الإِيجاب بالنفي من أجل المعنى
وقد تغير الشيء عن حاله كما تفعلُ ( مَا ) وذلك قولك : ( لولا ) غيرت معنى لَو وستبين إذا ذكرنا معنى ( لو ) وكذلك هَلا صيرتْ ( لا ) هل في معنى آخر وتكون ضداً لنَعَمْ وَبَلى ومنها ( لوْ ) وهو كان التي للجزاء لأَنَّ إنْ توقع الثاني مِنْ أجل وقوع الأول ولم تمنع الثاني من أجل إمتناع الأول تقول : إنْ جئتني أكرمتَك فالإِكرامُ إنما يكون متى إذا كان منك مجيءٌ وتقول : لو جئتني لأكرمتُكَ والمعنى : أنه امتنع إكرامي من أجل امتناع مجيئك
وقال سيبويه : ( لو ) لما كان سيقع لوقوع غيره وهو يرجع إلى هذا المعنى لأنه لم يقع الأول لَمْ يقع الثاني فتقدير إنْ قبل ( لَو ) تقول : إنْ أتيتني أَتيتكَ
يريد فيما يستقبل فإذا لم تفعلْ وطالبتكَ بالإِتيان قلت : لو أتيتني أَتيتُكَ
ومنها ( لَولا ) وهي مركبة مِنْ معنى إنْ ولَو وتبتدأ بعدها الأسماء وذلك أنها تمنع الثاني لوجود الأول تقول : لَولا زيدٌ لهَلكنا تريدُ : لولا زيدٌ في هذا المكان لهلكنا وإنما امتنع الهلاك لوجود زيدٍ في المكان وقال عز و جل : ( لولا أنتم لكنا مؤمنينَ ) وقد يستعملونها بمعنى هَلا يولونها الفعل ومنها ( كي ) وهي جواب لقوله : كيمه كما تقول : لِمه
ومنها ( بَلْ ) وهي لترك شيءٍ من الكلام وأخذٍ في غيره
ومنها ( قَدْ ) وهي جوابٌ لقوله : لمَّا يفعلْ
وزعم الخليل : أَنَّ هذا لقومٍ
ينتظرونَ الخبرَ . وقد تكونُ ( قَدْ ) بمنزلة رُبَّما
ومنها ( يَا ) وهي تنبيهٌ وقد ذكرناها في بابِ النداء ومنها ( مِنْ ) وهي لإبتداء الغايةِ وتكون للتبعيض وتدخل توكيداً بمنزلة ( مَا ) إلا أنها تجرُّ وذلك قوله : ما أتاني من رجلٍ وويحَهُ من رجلٍ أكدتهما بمنْ
وقد ذكرناها فيما تقدمَ
ومنها ( مَذْ ) وهي في قول مَن جَرَّ بَها حرفٌ فهي لإبتداء غاية الأيام والأحيان وحقُّ ( مذ ) أن لا تدخل على ما تدخلُ عليهِ ( مِن ) وكذلك ( مِنْ ) لا تدخلُ على ما تدخل عليه ( مذ ) ومنها ( عن )
وهي لِمَا عدا الشيء وقد استعملت اسماً . وقد ذكرتها في الظروف
وذكرها سيبويه في الحروف وفي الأسماء
فقال : ( عن ) اسم إذا قلتَ : مِنْ عَن يمينِ كذا
وأما ( مَع ) فهي اسمٌ ويدلك على أَنها اسمٌ أنها متحركة ولو كانت حرفاً لَمَا جاز أَن تحرك العينُ لأنَّ الحروفَ لا تحرك إذا كان قبلها متحركٌ
باب أم وأو والفصل بينهما اعلم : أنَّ ( أَمْ ) لا تكون إلا استفهاماً وهي على وجهين : على معنى أيهما وأيهم وعلى أن تكون منقطعة من الأول
فإذا كان الكلام بهما بمنزلة أيهما وأيَّهم فهو نحو قولك : أزَيدٌ عندكَ أمْ عمروٌ وأزيداً لقيت أم بشراً . تقديم الإسم أحسن . لأَنكَ عنه تسألُ ويجوزُ تقديم الفعل
وإذا قلت : أضَربتَ زيداً أمْ قتلتَهُ كان البدء بالفعلِ أحَسنُ لأنك عنهُ تسأل وتقول : ما أبالي أزَيداً لقيتُ أمْ عمراً وسواءٌ عليَّ أزَيداً كلمتُ أمْ عمراً وما أدَري أزيدٌ ثُمَّ عمروٌ أدخلت حرف الاستفهام للتسوية وعلى ذا ما أدري أقامَ أمْ قعدَ على التسوية
وأما المنقطعة فنحو قولك : أعَمروٌ عندكَ أمْ عندكَ زيدٌ وأنَّها لإِبلٌ أَمْ شاءٌ ويجوز حذف ألف الإستفهام في الضرورة
فأما ( أو ) فقد ذكرناها مع حروف العطف كما ذكرنا أمْ
وقد تختلطُ مسائلهما لإشتراك بينهما بعض المعاني
واعلم : أنَّ ( أَوْ ) إنما تثبت أحد الشيئين أو الأشياء وأنَّ أَمْ مرتبتها أنْ تأتي بعد أو
ويقول القائل : لقيَ زيدٌ عمراً أوْ خالداً
فيثبت عندك أنه قد لقيَ أحدهما إلا أنكَ لا تدري أيَّهما هو فتقول : حَسبَ أعَمراً لقيَ زيدٌ أَمْ خالداً
وكذلك إذا قال لك القائل : قد وهبَ لكَ أبوك غلاماً أوْ جاريةً
فقد ثبت عندك أن أحدهما قد وهب لك إلا أنك لا تدري أَغلامٌ أم جاريةٌ فإذا سألتَ أباكَ عنْ ذلك قلتَ : أَغلاماً وهبتَ لي أمْ جاريةً وتقو ل : أَيَّهم تضربُ أو تقتلُ ومن يأتيكَ أو يحدثُكَ لأن ( أَمْ ) قد استقر على أَي ومَنْ وكأنَّكَ قلتَ : زيداً أمْ عمراً تضربُ أوَ تقتلُ ثم أَتيت بأَي موضع زيدٍ وعمروٍ
فقلت أيهما تضربُ أوْ تقتلُ
وعلى هذا يجري ( مَا ومَتى وكيفَ واينَ ) لأن جميع هذه الأسماء إذا كانت استفهاماً فقد قامت مقام الألف وأمْ جميعاً
واعلم : أن جواب أوْ نَعَمْ أو لا وجواب ( أَم ) الشيء بعينه إن سأل سائلٌ عن اسم أجبت بالإسم وإن سأل عن الفعل أجبتَ بالفعل إذا قال : أَزيدٌ في الدارِ أَوْ عمروٌ فالجوابُ نَعَمْ أو لا لأن المعنى : أأَحدهُما في الدار وجوابُ أَأَحدهما في الدار : نَعَمْ أو لا وكذلك إذا قال : أَتقعدُ أو تقومُ فالجوابُ : نَعمْ أو لا فإن قال أزيدٌ أم عمرو في الدار فالجواب : أن تقولَ : زيدٌ إذا كانَ هو الذي في الدار
وكذلك إذا قال : أَتقومُ أمَ تقعدُ قلت : أَقعدُ ( فأَوْ ) تثبتُ أَحدَ الشيئين أَو الأشياء مبهماً وأم تقتضي وتطلب إيضاح ذلك المبهم و ( أَوْ ) تقوم مقامَ ( أَمْ ) مع هل وذلك لأنكَ لم تذكر الالف وأو لاتعادلُ الألفَ وذلك قولُهم : هَلْ عندكَ شعيرٌ أو برٌ أو تَمرٌ وهل تأتينا أو تحدثنا لا يجوز أن تدخلَ ( أَمْ ) في ( هَلْ ) إلا على كلامين وكذلك سائر حروف الإستفهام وتقول : ما أدري هَل تأتينا أو تحدثنا يكون في التسوية كما هو في الإستفهام وإذا قلت : أَزيدٌ أفضل أَمْ عمروٌ لا يجوز إلا ( بأَمْ ) لأنك تسأل عن أيهما أفضلُ ولو قلت : ( أَو ) لم يصلح لأن المعنى يصير أحدهما أفضل فليسَ هذا بكلام ولكنك لو قلت : أَزيدٌ أو عمروٌ أَفضلُ أم خالدٌ جاز لأنَّ المعنى أحد ذَينِ أفضلٌ أمْ خالدٌ وجواب هذه المسألة أن تقول خالدٌ إنْ كان هو الأفضل أو أحدهما إنْ كان هو الأفضلُ ويوضح هذه المسألة أن يقول القائل : الحسنُ أو الحسينُ أَشرفُ أمْ ابن الحنفيةِ فالجواب في هذه المسألة أن تقول : أحدهما بهذا اللفظ ولا يجوز أن تقول : الحسنُ دونَ الحسينِ أو الحسينُ دونَ الحسنِ لأنه إنما سألك أأَحدهما أَشرفُ أَمْ ابن الحنفيةِ وكذَاكَ الدرُّ أو الياقوتُ أَفضلُ أمْ الزجاج فالجواب أحدهما فإن كان قال : الزُّجاجُ أو الخزفُ أفضلْ أم الياقوت قلت : الياقوتُ
وتقول : ما أدري أقامَ أو أَقعدَ إذا لم يطل القيام ولم يبن من سرعته وكان بمنزلة ما لم يكن كما تقول : تكلمتُ ولَم أَتكلمَ فيجوز أن يكونَ ثُمَّ كلامٌ ولكنه لقلّته جعلهُ بمنزلة مَنْ لم يتكلمْ ويجوز أن يكون لَم يبلغْ
به المرادُ فصار بمنزلة مَنْ لم يتكلم وهذا في الحكم بمنزلة قولك : صليتَ ولَمْ تصلِّ فإذا قال : ما أَدري أقام أو قعدَ وهو يريد ذا المعنى فهو قد عَلمَ منه قيامه ولكنه لم يعتد به وليس ( لأمْ ) هنا معنى لأنهُ إذا قال : ما أَدري أَقامَ أمْ قعدَ فقد استوى جهلهُ في القيام والقعود وها هنا قيام قد علم إلا أنه جعل بمنزلة ما يشك فيه لما خبرتك فعلى هذا تقول : ما أدري أَقامَ أو قعدَ إذا كان لم يبن قيامهُ حتى قعدَ فهذا الباب كله إنما جعل بأَوْ
وكذلك أَأَذنَ أو أقامَ إذا كان ساعة إذنٍ أقامَ وما أدري أَبكى أو سكتَ لأنهُ لم يعد بكاؤهُ بكاءً ولا سكوته سكوتاً فإن كان لا يدري أَأَذنَ أم أَقامَ قال : ما أدري أَأذنَ أم أقامَ كما تقول : ما أدري أَزيدٌ في الدار أو عمروٌ إذا كنت تستيقنْ أن أحدهما في الدار ولا تدري أيهما هو
باب ما جاء من ذلك على ثلاثة أحرف فمن ذلك ( عَلَى ) ذكر محمد بن يزيد : أنها تكون حرفاً واسماً وفعلاً وإنّ جميع ذلك مأخوذٌ من الإستعلاء وقد ذكرتها فيما تقدم
وقال سيبويه : ( عَلى ) معناها استعلاءُ الشيءِ ويكون أَن تطوى مستعلياً كقولك : أمررت يدي عليه ومررتُ على فلانٍ كالمثل
وكذلك علينا أميرٌ وعليه دينٌ لأنهُ شيءٌ اعتلاهُ . ويكونُ مررتُ عليه : مررت على مكانه
ويجيءُ كالمثل وهو اسم لا يكونُ إلا ظرفاً قال : ويدل على أنه اسمٌ قول بعضهم : غَدَتْ مِنْ عَليهِ ومن ذلكَ ( إلى ) وهي منتهىً لإبتداءِ الغايةِ ومنها ( سَوفَ ) وهي
تنفيسٌ فيما لم يكن بعد
ألا تراه يقول : سوفتَهُ وهذا لفظُ سيبويه ومنها ( إنَّ ) وهي توكيد لقوله زيدٌ منطلقٌ وإذا خففت فهي كذلك غير أنَّ لامَ التوكيد تلزمها إذا خفضت عوضاً لما ذهب منها لئلا تلتبس بأن التي للنفي ومنها ( ليت ) وهي تَمنٍّ ومنها بَلى وهي توجبُ بها بعد النفي ومنها نعم وهي عدةٌ وتصديقٌ قال سيبويه : ولَيس بَلى ونَعَمْ اسمين وإذا استفهمتَ فأجبتَ بنَعمْ قال أبو بكر : والدليلُ على أنَّ ( نعَم ) حرفٌ : أنها نقيضةُ ( لاَ ) ومنها ( إذن ) وهي جوابٌ وجزاءٌ . ومنها إلا وهي تنبيهٌ
باب ما جاء منها على أربعة حروف من ذلك حتى : هي كإلى وقد بَيَّن أَمرها في بابها ولها نحو ليس ( لإِلى ) يقول : الرجلُ إنما أَنا إليكَ أي أنتَ غايتي ولا تكون ( حتىَ ) ها هُنا وهي أَعم في الكلام من حتى
تقول : قمتُ إليه فتجعلَهُ منتهىً لهُ مِنْ مكانِكَ ولا تقولُ : حتاهُ ومنها ( لكنْ ) خفيفةٌ وثقيلةٌ توجبُ بها بعد النفي وقد ذكرناها فيما تقدمَ لَعَلَّ قال سيبويه : لعلَّ وعسى طَمعٌ وإشفاق
باب ما جاء منها على حرف واحد كل هذه التي جاءت على حرف واحد متحركات إلا لام المعرفة فإنها ساكنة فإذا أرادوا أن يبدأوا أيضاً أتوا بألف الوصل قبلها وأما لام الأمر فهي مكسورة ويجوز أن تسكن ولا تسكن إلا أن يكون قبلها شيءٌ نحو قولك : فليقمْ زيدٌ فالحرف على ثلاثة أضربٍ : مبنيٌ على السكون وعلى الفتح وعلى الكسر فأما المبني على الفتح فواو العطف وليس فيه دليل أن أحد المعطوفين قبل الآخر والفاء كالواو غير أنها تجعل ذلك بعضه في أثر بعض
وكاف الجر للتشبيه ولام الإِضافة مع المضمر وفي الإستغاثة وواو القسم وتاء القسم بمنزلتها والسين في ( سيفعلُ ) وزعم الخليل أنها جواب لَن
وألف الإستفهام ولام اليمين في لأفعلنَّ ولام الإبتداء في قولك : لزيدٌ منطلقٌ وأما المبني على الكسر فباء الجر
وهي للإِلزاق والإختلاط ولام الإِضافة مع الظاهر ومعناها المُلْك واستحقاقُ الشيءِ
فجميع هذه جاءت قبل الحرف الذي جيء بها لها فأَما ما جاء بَعْدُ
فالكاف التي تكون للخطاب فقط في قولك : ذاكَ والتاء في أنَتَ
باب الحرف المبني مع حرف من الحروف ما يبنى مع غيره ويصير كالحرف الواحد ويغير المعنى
فمن ذلك لولا غيرت ( لاَ ) معنى لَو
وكذلك لما غيرت ( مَا ) معنى لَمْ و ( مهما ) زعموا : أنها ( ما ) ضُمت إليها ( مَا ) وأبدلوا الألف الأولى هاء ولما فعلوا ذلك صار فيها معنى المبالغة والتأكيد فكأنَّ القائل إذا قال : مهما تفعلْ أَفعلْ فقد قال لا أصغر عن كبير من فعلكَ ولا أكبر عن صغيرٍ أو ما أشبه هذا المعنى
ومن ذلك ( إنَّما ) إذا رفعت ما بعدها يصير فيها معنى التقليل : تقول ( إنَّما أنَا بشرٌ ) إذا أردت التواضع وقال أَصحابنا : إنَّ اللام في ( لعل ) زائدة لأنهم يقولون عَلَّ والذي عندي أنهما لغتان وأن الذي يقول لَعلَّ لا يقولُ عَلَّ إلا مستعيراً لغةَ غيره لأَني لَم أَرَ زائداً لغير معنىً
فإنْ قيل : إنها زيدت توكيداً فهو قولٌ
ومن ذلكَ كأَنَّ بنيتَ الكافَ للتشبيه مع إنَّ
وجعلت صدراً ولولا بناؤها معها لم يجز أن تبتدىء بها إلا وأنتَ تريد التأخير ومنها : هلاّ بنيت ( لا ) مع ( هَلْ ) فصار فيها معنى التحضيض وما لم أذكره فهذا مجراه فيما بنى له حرفٌ مع حرفٍ قال أبو بكر : قد أَتينا على ذكر الإسم والفعل والحرف وإعرابها وبنائها ونحنُ نتبعُ ذلك ما يعرض في الكلام من التقديم والتأخير والإِضمار والإِظهار إن شاء الله
باب التقديم والتأخير الأشياء التي لا يجوز تقديمها ثلاثة عشر سنذكرها وأما ما يجوز تقديمه فكل ما عمل فيه فعلٌ متصرفٌ أو كان خبراً لمبتدأ سوى ما استثنيناه فالثلاثةُ عشر التي لا يجوز تقديمها : الصلة على الموصول والمضمر على الظاهر في اللفظ والمعنى إلا ما جاء على شريطة التفسير والصفة وما اتصل بها على الموصوف وجميع توابع الإسم حكمها كحكم الصفة والمضافُ إليه وما اتصل به على المضاف وما عمل فيه حرف أو اتصل به حرفٌ زائدٌ لا يقدم على الحرف وما شبه من هذه الحروف بالفعل فنصب ورفع فلا يقدم مرفوعه على منصوبه والفاعل لا يقدم على الفعل والأفعال التي لا تتصرف لا يقدم عليها ما بعدها والصفات المشبهة بأسماءِ الفاعلين والصفات التي لا تشبه أسماء الفاعلين لا يقدم عليها ما عملت فيه والحروف التي لها صدور الكلام لا يقدم ما بعدها على ما قبلها وما عمل فيه معنى الفعل فلا
يقدم المنصوب عليه ولا يقدم التمييز وما عمل فيه معنى الفعل وما بعد إلا وحروف الإستثناء لا تعمل فيما قبلها ولا يقدم مرفوعه على منصوبه ولا يفرق بين الفعل العامل والمعمول فيه بشيءٍ لم يعمل فيه الفعل
شرح الأول من ذلك : وهو الصلة :
لا يجوز أن تقدم على الموصول لأنها كبعضه وذلك نحو صلة ( الذي ) وأَنْ فالذي توصل بأربعة أشياءٍ بالفعل والفاعل والمبتدأ والخبر وجوابه والظرف ولا بدّ من أن تكون في صلتها ما يرجع إليها والألفُ واللام إذا كانت بمنزلة ( الذي ) فصلتها كصلة ( الذي ) إلا أنكَ تنقل الفعلَ إلى اسم الفاعلِ في ( الذي ) فتقول في ( الذي قامَ ) : القائمُ وتقول في ( الذي ضَربَ زيداً ) : الضاربُ زيداً فتصير الألف واللام اسماً يحتاج إلى صلة وأنْ تكون في صلته ما يرجع إلى الألف واللام فلو قلتَ : ( الذي ضَربَ زيداً عمروٌ ) فأردت أن تقدم زيداً على ( الذي ) لم يجزْ ولا يصلح أن تقدم شيئاً في الصلة ظرفاً كان أو غيره على ( الذي ) البتة فأما قوله ( وكانوا فيه من الزاهدين ) فلا يجوز أن تجعلَ ( فيه ) في الصلة
وقد كان بعضُ مشايخ البصريين يقول : إنَّ الألف واللام ها هنا ليستا في معنى ( الذي ) وأنَّهما دخلتا كما تدخلُ على الأسماء للتعريف وأَجاز أن يقدم عليها إذا كانت بهذا المعنى ومتى كانت بهذا المعنى لم يجزْ أن يعمل ما دخلت عليه في شيءٍ فيحتاج فيه إلى عامل فيها قال أبو بكر وأنا أظن أنهُ مذهبُ أَبي العباسِ يعني أنَّ
الألفَ واللامَ للتعريفِ والذي عندي فيه أنَّ التأويل ( وكانوا فيه زاهدين من الزاهدين ) فحذف ( زاهدينَ ) وبينَهُ بقولِه : ( مِنَ الزاهدينَ ) وهو قول الكسائي ولكنه لم يفسر هذا التفسيرَ وكان هو والفراءُ لا يجيزانِه إلا في صفتين في ( مِن وفي ) فيقولان : ( أَنتَ فينا مِنَ الراغبينَ وما أَنت فينا من الزاهدينَ ) وأما ( أَنْ ) فنحو قولكَ : ( أَن تقيمَ الصلاةَ خيرٌ لكَ ) لا يجوز أن تقول : ( الصلاةُ أنْ تقيمَ خيرٌ لكَ ) ولا تقدمُ ( تقيمُ ) على ( أَنْ ) وكذلك لو قلت : ( أنْ تقيمَ الصلاةَ الساعةَ خيرٌ لكَ ) لم يجزْ تقديمُ ( الساعةَ ) على ( أَنْ ) وكذلك إذا قلت : ( أَأَنْ تلد ناقتكم ذكراً أَحبُّ إليكم أَمْ أُنثى ) لم يجز أن تقول : أَذكراً أَأنْ تلدُ ناقتكُم أَحبُّ إليكم أم أُنثى لأن ( ذكراً ) العاملُ فيهِ ( تلدُ ) وتلدُ في صلة ( أَنْ ) وكذلك المصادر التي في معنى ( أَن نفعلَ ) لا يجوز أن يتقدم ما في صلتها عليها لو قلت : أَولادةُ ناقتكم ذكراً أَحبُّ إليكم أم ولادتُها أُنثى ما جاز أَن تقدم ( ذكراً ) على ( ولادةٍ ) وكل ما كان في صلة شيءٍ من اسمٍ أو فعلٍ مما لا يتمُّ إلا به فلا يجوز أن نفصلَ بينَهُ وبين صلته بشيءٍ غريب منه لو قلت : ( زيدٌ
نفسهُ راغبٌ فيكم ) لم يجزْ أن تؤخر ( نفسَهُ ) فتجعلهُ بين ( راغبٍ ) و ( فيكم ) فتقول : زيدٌ راغبٌ نفسهُ فيكم فإن جعلتَ ( نفسَهُ ) تأكيداً لما في ( راغبٍ ) جاز
شرح الثاني : توابع الأسماء :
وهي الصفة والبدل والعطفُ لا يجوز أن تقدم الصفة على الموصوف ولا أن تُعملَ الصفة فيما قبل الموصوف ولا تقدم شيئاً بصيغة المجهول مما يتصل بالصفة على الموصوف وكذلك البدل إذا قلت : مررتُ برجلٍ ضاربٍ ( زيداً ) لم يجز أن تقدم ( زيداً ) على ( رجل ) وكذلك إذا قلت : ( هذا رجلٌ يضربُ زيداً ) لم يجز أن تقول ( هذا زيداً رجلٌ يضربُ ) لأن الصفة مع الإسم بمنزلة الشيء الواحد وكذلك كل ما اتصل بها فإذا قلت : ( عبد الله رجلٌ يأكلُ طعامَكَ ) لم يجز أن تقدم ( طعامَك ) قبل ( عبد الله ) ولا قبل ( رجل )
والكوفيون يجيزون إلغاء ( رجلٍ ) فيجعلونه بمنزلة ما ليس في الكلام فيقولون : ( طعامَكَ عبد اللِه رجلٌ يأكلُ ) لا يعتدون برجلٍ وتقديره عندهم ( طعامكَ عبد الله يأكلُ وإلغاء هذا غيرُ معروف وللإِلغاء حقوق سنذكرها إن شاءَ الله ولكن هذه المسألة تجوز على غير ما قدروا وهو أنْ تجعل ( رجلاً ) بدلاً من ( عبد الله ) ترفعهُ بالإبتداء وتجعلُ ( يأكلُ ) خبراً فحينئذٍ يصلحُ تقديم ( طعامَك ) وأما البدلُ فلا يتقدم على البدلِ منه وكذلك ما اتصل به لا يتقدم على الإسم المبدلِ منه
وأما العطفُ فهو كذلك
لا يجوز أن يتقدم ما بعد حرف العطف عليه وكذلك ما اتصل به والذين أجازوا من ذلك شيئاً أجازوه في الشعر ولو جعلنا ما جاء في ضرورات الشعر أصولاً لزال الكلام عن جهته فقدموا حرف النسق مع المنسوق به على ما نُسقَ به عليه وقالوا : إذا لم يكن شيءٌ يرفعُ لم يجزْ تقديم الواو والبيتُ الذي أنشدوه :
( عليكِ ورحمةُ اللِه السلامُ ... )
فإنما جاز عندهم لأن الرافع في مذهبهم ( عليكَ ) وقد تقدم ولا يجيزونَ للشاعر إذا اضطر أن يقول : ( إنَّ وزيداً عمراً قائمانٍ ) لأن ( إنّ ) أداةٌ وكل شيءٍ لم يكن يرفع لم يجز أن تليه الواو عندهم على كل حالٍ فهذا شاذٌ لا يقاسُ عليه وليس شيءٌ منصوب مما بعد حرف النسق يجوز تقديمه إلا شيءٌ أجازهُ الكوفيونَ فقط وذلك قولهم : زيداً قمتُ فَضَربتُ وزيداً أَقبلَ عبد اللِه فشتمَ . وقالوا : الإِقبالُ والقيام هُنا لغوٌ
شرح الثالث : وهو المضاف إليه :
لا يجوز أن تقدم على المضاف ولا ما اتصل به ولا يجوز أن تقدم عليه نفسه ما اتصل به فتفصل به بين المضاف والمضاف إليه إذا قلت : ( هذا يومُ تضربُ زيداً ) لَمْ يجزْ أن تقول : ( هذا زيداً يومُ تضربُ ) ولا هذا يومُ زيداً ( تضربُ ) وكذلك : هذا يومُ ضربِكَ زيداً لا يجوز أن تقدم ( زيداً ) على ( يومٍ ) ولا على ( ضربِكَ ) وأما قولُ الشاعر :
( للِه دَرُّ اليومَ مَنْ لاَمَهَا ... )
وقوله :
( كَما خُطَّ الكِتَابُ بِكَفِّ يوماً ... يهوديٍ يُقارِبُ أو يُزِيلُ )
فزعموا : أن هذا لما اضطر فصل بالظرف لأنَّ الظروف تقع مواقعَ لا تكون فيها غيرها وأجازوا : ( أَنا طعامَكَ غيرُ آكلٍ ) وكان شيخنا يقول : حملته على ( لا ) إذ كانت ( لا ) تقعُ موقعَ ( غير )
قال أبو بكر :
والحق في ذا عندي أنْ يكون طعامُكَ منصوباً بغيرِ ( آكلٍ ) هذا ولكن تقدر ناصباً يفسره ( هذا ) كأنك قلت : أنا لا آكلُ طعامَك واستغنيت ( بغيرِ آكلٍ ) ومثل هذا في العربية كثيرٌ مما يضمرُ إذا أتى بما يدل عليه
شرح الرابع : الفاعل :
لا يجوزُ أن يقدم على الفعل إذا قلت : ( قامَ زيدٌ ) لا يجوز أن تقدم الفاعل فتقول : زيدٌ قامَ فترفع ( زيداً ) بقامَ ويكون ( قامَ ) فارغاً ولو جاز هذا لجاز أن تقول : ( الزيدانِ قامَ والزيدونَ قامَ ) تريد : ( قام الزيدانِ وقامَ الزيدونَ ) وما قام مقام الفاعل مما لم يُسمَ فاعلهُ
فحكمه حكم الفاعل إذا قلت : ( ضُرِبَ زيدٌ ) لم يجز أن تقدم ( زيداً ) فتقول : ( زيدٌ ضُرِبَ ) وترفع زيداً ( بضُرِبَ ) ولو جاز ذلك لجاز : ( الزيدانِ ضُرِبَ والزيدونَ ضُرِبَ ) فأما تقديم المفعول على الفاعل وعلى الفعل إذا كان الفعل متصرفاً فجائزٌ وأعنيِ بمتصرفٍ أن يقال : منه فَعَلَ يفعَلُ فهو فاعلٌ كضَرَبَ يضربُ وهو ضاربٌ وذلك اسم الفاعل الذي يعملُ عملَ الفعل حكمهُ حكمُ الفعلِ
الخامس : الأفعال التي لا تتصرف :
لا يجوز أن يقدم عليها شيءٌ مما عملتْ فيه وهي نحو : نِعْمَ وبِئْسَ وفِعلُ التعجب ( وليسَ ) تجري عندي ذلك المجرى لأنها غير متصرفةٍ ومَه وصَه وعليكَ وما أشبهَ هذا أبعد في التقديم والتأخير
السادس : ما أعمل من الصفات تشبيهاً بأسماء الفاعلين وعمل عمل الفعل :
وذلك نحو ( حَسَنٌ وشديدٌ وكريمٌ ) إذا قلتَ : هو كريمٌ حَسبَ الأبِ
وهو حَسَنُ وجهاً لم يجز أن تقول : هُوَ وجهًا حَسَنٌ ولا هُوَ حَسَب الأبِ كريمٌ وما كان من الصفات لا يشبه أسماء الفاعلين فهو أَبعدُ لهُ من العمل والتقديم وكل ما كان فيه معنى فعل وليسَ بفعلٍ ولا اسم فاعلٍ فلا يجوزُ أن يتقدم ما عَمِلَ فيهِ عليهِ
السابع : التمييز :
اعلم : أن الأسماء التي تنتصب انتصاب التمييز لا يجوز أن تقدم على ما عمل فيها وذلك قولك : ( عشرونَ درهماً ) لا يجوزُ : ( درهماً عشرونَ ) وكذلك له عندي رطلٌ زيتاً لا يجوز : ( زيتاً رطلٌ ) وكذلك إذا قلت : ( هو خيرٌ عبداً ) لا يجوز : ( هُو عبداً خَيرٌ ) فإن كان العامل في التمييز فعلاً فالناس على ترك إجازة تقديمه سوى المازني ومن قال بقوله وذلكَ قولكَ : ( تفقأتُ سمناً ) فالمازني يجيز : ( سمناً تفقأتُ ) وقياس بابه أن لا يجوز لأنه فاعل في الحقيقة وهو مخالف للمفعولات ألا ترى أنهُ إذا قال : ( تفقأتُ شحماً ) فالشحمُ هو المفقىء كما أنه إذا قال : ( هو خيرٌ عبداً ) فالعبدُ هو خيرٌ ولا يجوز تعريفهُ فبابه أولى به وإن كان العاملُ فيه فعلاً وفي الجملة أن المفسر إنَّما ( ينبغي أن ) يكون بعد المفسر واختلف النحويون في : بطرتِ القريةُ
معيشتَها وسفَه زيدٌ رأَيه فقال بعضهم : نصبُه كنصبِ التفسير والمعنى : ( سَفِهَ رأَي زيد ) ثم حول السفهُ إلى زيدٍ فخرج الرأي مفسراً فكأنَ حكمه أن يكون : ( سفَه زيدٌ رأياً ) فترك على إضافته ونُصبَ كنصبِ النكرة قالوا : وكما لا يجوز تقديم ما نصب على التفسير لا يجوز تقديم هذا وأجاز بعض التقديم وهو عندي القياس لأن المفسر لا يكون إلا نكرةً وإنما يجري هذا والله أعلم على : جَهِلَ زيدٌ رأيهُ وضيّعَ زيدٌ رأيهُ
وما أشبه هذا وكذلك : بطرتْ معيشَتها
كأنه : كرهت معيشتها وأحسبُ البطر أنه كراهيةُ الشيءِ من غير أنْ يستحقَ أن يكره وكان شيخنا رحمه الله لا يجيز : ( وجعَ عبد اللِه رأسَهُ ) في تقديمٍ ولا تأخيرٍ لأن ( وجعَ ) لا يكون متعدية وهي جائزةٌ في قول الكسائي والفراء
الثامن : العوامل في الأسماء والحروف التي تدخل على الأفعال :
الأول من ذلك : ما يدخلُ على الأسماء ويعمل فيها فمن ذلك : حروف الجر لا يجوز أن يقدم عليها ما عملت فيه ولا يجوز أن يفرق بينها وبين ما تعملُ فيه ولا يجوز أن يفصل بين الجار والمجرور حشوٍ إلا ما جاء في ضرورة الشعر لا يجوز أن تقول : ( زيدٌ في اليوم الدارِ ) تريدُ : ( في الدار اليومَ ) ولا ما أشبه ذلك وقد أجاز قومٌ : ( لستَ زيداً بضاربٍ ) لأن الباء تسقط والقياس يوجب أن تضمر فعلاً ينصب ( زيداً ) تفسرهُ
( بضاربٍ ) ومن ذلك ( إنَّ وأخواتها ) لا يجوز أن يقدم عليهنَ ما عَملنَّ فيه ولا يجوز أن تفرقَ بينهن وبين ما عَملنَّ فيه بفعلٍ ولا تقدمُ أخبارهن على أسمائِهن إلا أن تكون الأخبارُ ظروفاً فإن كان الخبرُ ظرفاً قلت : إنَّ في الدار زيداً وإنَّ خلفكَ عمراً والظروف يتسع فيهن خاصة ولكن لا يجوز أن تقدم الظرف على ( إنَّ ) ومن الحروف التي لا يقدم عليها ما يليها : ( إلا ) وجميع ما يستثنى به لأنَّ ما بعد حرف الإستثناء نظيرُ ما بعد ( لا ) إذا كانت عاطفةً وقد فسرنا هذا فيما تقدم
وأما الحروف التي تدخلُ على الأفعال فلا تتقدم فيها الأسماء وهي على ضربين : حروفٌ عواملُ وحروفٌ غيرَ عواملَ فالحروفُ العوامل في الأفعالِ الناصبةِ نحو : ( جئتكَ كي زيدٌ يقولَ ذاكَ ) لا يجوز : ( ولا خفتُ أن زيدٌ يقول ذاكَ ) ومنها الحروف الجوازم وهي : لَمْ ولمَّا ولا التي تجزمُ في النهي واللام التي تجزم في الأمر لا يجوزُ أن تقولَ : ( لَمْ زيد يأتِكَ ) لأن الجزمَ نظير الجر ولا يجوز لك أن تفصل بينها وبين الفعلِ بحشو كما لا يجوز لك أن تفصل بين الجار والمجرور بحشوٍ إلا في ضرورة شعرٍ ولا يجوز ذلك في التي تعمل في الأفعال فتنصب كراهية أن تشبه بما يعمل في الأسماء لأن الإسم ليس كالفعل كذلك ( ما يشبههُ ) ألا
ترى كثرة ما يعمل في الإسم وقلة ما يعملُ في الفعلِ وحروف الجزاء يقبحُ أن يقدم الإسمُ معها على الأفعال شبهوها بالجوازم التي لا تخلو من الجزم إلا أنَّ حروف الجزاءِ ( فقط ) جاز ذلك فيها في الشعر لأن حروف الجزاء يدخلها ( فَعَلَ ويفعلُ ) ويكون فيها الإستفهام ويجوز في الكلام أن تلي ( إن ) الإسم إذا لم يجزم نحو قوله :
( عَاودْ هراةَ وإنْ معمورُها خرِبا ... )
وإن جزمت فلا يجوز إلا في الشعر لأنها تشبهُ ( بلَم ) وإنما جازَ هذا في ( إنْ ) لأنها أم الجزاء لا تفارقه كما جاز إضمار الفعل فيها حين قالوا : ( إنْ خيراً فخيرٌ وإنْ شراً فشرٌ ) وهي على كل حالٍ : إنْ لَم يلها فِعلٌ في اللفظ فهو مقدر في الضمير
وأما سائر حروف الجزاء فهذا فيها ضعيفٌ ومما جاء في الشعر مجزوماً في غير ( إنْ ) قول عَديٍ بن زيدٍ :
( فَمَتَى وَاغِلٌ يَنُبْهُم يُحيُّوهُ ... وتُعْطَفْ عليهِ كَأْسُ السَّاقي )
وقال الحسامُ :
( صَعْدَةٌ نَابِتَةٌ في حَائِرٍ ... أيْنَمَا الرِّيحُ تُمَيِّلْهَا تَمِلْ )
وإذا قالوا في الشعر : ( إنْ زيدٌ يأتكَ يكن كَذا ) إنما ارتفع على فعل هذا تفسيره وهذا يبين في باب ما يضمر من الفعل ويظهر إن شاء الله
الضرب الثاني منه الحروف التي لا تعمل فمنها :
( قَدْ ) وهي جواب لقوله : ( أَفعلُ ) كما كانت ( ما فعلَ ) جواباً لِهَلْ ( فَعَلَ ) إذا أخبرت أنه لم يقع ولما يفعلْ وقد فَعلَ إنما هُما لقومٍ ينتظرون شيئاً فمن ثم أشبهت ( قَد ) لما في أنها لا يفصل بينها وبين الفعلِ ومن هذه الحروف ( سوفَ يفعلُ ) لا يجوز أن تفصل بين ( سوفَ ) وبين ( يفعلُ ) لأنها بمنزلة ( السين ) في ( سيفعلُ ) وهي إثبات لقوله : ( لَنْ يفعلَ ) ومما شبُهَ بهذه
الحروف ( رُبَّمَا وقَلما وأشباهما ) جعلوا ( رُبَّ ) مع ( مَا ) بمنزلة كلمة واحدة ليذكر بعدها الفعلُ ومثل ذلك ( هَلاَّ ولولا وألا ألزموهن لا ) وجعلوا كل واحدة مع ( لا ) بمنزلة حرف واحد وأخلصوهن للفعلِ حيثُ دخل فيهنَ معنى التحضيض وقد يجوز في الشعر تقديمُ الإسم قال الشاعر :
( صَدَدْتِ فأَطْوَلْتِ الصُّدُودَ وقَلَّما ... وِصَالٌ على طُولِ الصُّدودِ يَدُومُ )
وهذا لفظُ سيبويه
التاسع : الحروف التي تكون صدور الكلام :
هذه الحروف عاملة كانت أو غير عاملةٍ فلا يجوز أن يقدم ما بعدها على ما قبلها وذلك نحو ألف الإستفهام و ( ما ) التي للنفي ولامُ الإبتداء لا يجوز أن تقول : ( طعامَكَ أَزيد آكلٌ ) ولا ( طعامَكَ لزيدٌ آكلٌ ) وإنَّما أَجزنا : إنَّ زيداً طعامَك لآكلٌ لأن تقدير اللام أنْ يكون قبل ( إنَّ ) وقد بينا هذا فيما تقدم هذه اللام التي تكسر ( إنَّ ) هي لام الإبتداء وإنما فُرقَ بينهما لأن معناهما في التأكيد واحدٌ فلما أُزيلت عن المبتدأِ وقعت على خبره وهي
لا يجوز أن تقع إلا على اسم ( إنَّ ) أو يكونُ بعدها خبره فالإسم نحو قولك : ( إنَّ خلفَك لزيداً ) والخبرُ نحو : ( إنَّ زيداً لآكلٌ طعامَكَ ) فإن قلت : ( إنَّ زيداً آكلٌ لطعامَكَ ) لم يجز لأنها لم تقع على الإسم ولا الخبر
ومن ذلك ( ما ) النافية تقول : ( ما زيدٌ آكلاً طعامَك ) ولا يجوزُ أن تقدم ( طعامَكَ ) فتقول : ( طعامَكَ ما زيدٌ آكلاً ) ولا يجوز عندي تقديمهُ وإن رفعت الخبر وأما الكوفيون فيجيزون : ( طعامَكَ ما زيدُ آكلاً ) يشبهونها ( بلَم ) و ( لنْ ) وأَباهُ البصريون وحجة البصريين أنهم لا يوقعون المفعول إلا حيثُ يصلحُ لناصبه أن يقعه فلما لم يجزْ أن يتقدم الفعلُ على ما لم يجز أن يتقدم ما عَمِلَ فيه الفعل والفرق بين ( مَا ) وبين ( لَمْ ولَنْ ) : أنَّ ( لَنْ ولَمْ لا يليهما إلا الفعلُ فصارتا مع الفعلِ بمنزلة حروف الفعل )
وأجازَ البصريون : ( ما طعامَكَ آكلٌ إلاّ زيدٌ ) وأحالها الكوفيونَ إلا أحمد بن يحيى
ومن ذلك ( لا ) التي تعمل في النكرة النصب وتُبنى معها لا تكون إلا صدراً ولا يجوز أن تقدم ما بعدها على ما قبلها وهي مشبهة ( بإنَّ ) وإنما يقع بعدها المبتدأُ والخبرُ فكما لا يجوز أن تقدم ما بعد ( إنَّ ) عليها كذلك
هي والتقديم فيما أَبعدُ لأن ( إنَّ ) أشبهُ بالفعل منها فأما ( لا ) إذا كانت تلي الأسماء والأفعال وتصرفت في ذلك ولم تُشبه ( بليسَ ) فلك التقديم والتأخير تقول : ( أَنتَ زيداً لا ضاربٌ ولا مكرمٌ ) وما أشبه ذلك ومن ذلك ( إنْ ) التي للجزاء لا تكون إلا صدراً ولا بُدَّ من شرط وجوابٍ فالجزاء مشبه بالمبتدأ والخبر إذ كان لا يستغنى أحدهما عن الآخر ولا يتم الكلام إلا بالجميع فلا يجوز أن تقدم ما بعدها على ما قبلها لا يجوز أن تقول : ( زيداً إنْ تضربْ أَضربْ ) بأي الفعلين نصبته فهو غير جائزٍ لأنه إذا لم يجز أن يتقدم العاملُ لم يجز أن يتقدم المعمولُ عليه وأجاز الكسائي أن تنصبهُ بالفعل الأول ولم يجزها أحدٌ من النحويين وأجاز هو والفراءُ أن يكون منصوباً بالفعل الثاني
قال الفراء : إنما أَجزتُ أن يكونَ منصوباً بالفعل الثاني وإنْ كان مجزوماً لأنهُ يصلحُ فيه الرفعُ وأن يكون مقدماً فإذا قلت : ( إنْ زيداً تضربْ آتِكَ ) فليس بينهم خلاف ( وتضربْ جَزمٌ ) إلا أنهم يختلفون في نصب ( زيدٍ ) فأَهل البصرة يضمرونَ فعلاً ينصبُ وبعضهم ينصبه بالذي بعدهُ وهو قولُ الكوفيينَ وأجازوا : ( إنْ تأتني زيداً أضربْ ) إلا أنَّ البصريينَ يقولونَ بجزمِ الفعلِ بعد ( زيدٍ ) وأبى الكوفيونَ جزمَهُ وكان الكسائي يجيزُ الجزِمَ إذا فرق بين الفعلين بصفةٍ نحو قولك : ( إنْ تأتني إليك أَقصدْ )
فإذا فرق بينهما بشيءٍ من سبب الفعل الأول فكلهم يجزم الفعل الثاني
العاشر : أن يفرق بين العامل والمعمول فيه بما ليس للعامل فيه سبب وهو غريب منه :
وقد بينا أنَّ العوامل على ضربين : فعل وحرف وقد شرحنا أمر الحرف فأما الفعل الذي لا يجوز أن يفرق بينُه وبينَ ما عَمِلَ فيه فنحو قولك : ( كانت زيداً الحمى تأخذ ) هذا لا يجوز لأنك فرقتَ بين ( كانَ ) واسمها بما هو غريبٌ منها لأن ( زيداً ) ليس بخبرٍ لها ولا اسم ولا يجوز : ( زيدٌ فيكَ وعمروٌ رغبَ ) إذا أرددت : ( زيدٌ فيكَ رَغِبَ وعمروٌ ) لأنك فرقتَ بين ( فيكَ ) ورغب بما ليس منهُ
وإذا قلت : ( زيدٌ راغبٌ نفسه فيكَ ) فجعلتَ ( نفسَهُ ) تأكيداً ( لزيدٍ ) لم يجزْ لأنك فرقت بينَ ( راغبٍ وفيكَ ) بما هو غريب منه فإنْ جعلتَ ( نفسَهُ ) تأكيداً لما في ( راغبٍ ) جازَ وكذلك الموصولاتُ لا يجوز أن يفرقَ بين بعض صلاتها وبعضٍ بشيءٍ غريب منها تقول : ( ضربي زيداً قائماً ) تريد : إذا كان قائماً ( فقائماً ) حالٌ لزيدٍ وقد سدت مسدَّ الخبر لأن ( ضربي ) مبتدأ فإن
قدمت ( قائماً ) على زيدٍ لم يجزْ لأن ( زيداً ) في صلة ( ضربي ) و ( قائماً ) بمنزلة الخبر فكما لا يجوزُ : ( ضَرْبي حَسَنٌ زيداً ) تريد : ( ضربي زيداً حَسَن ) كذاك لا يجوز هذا وكذلك جميع الصلات
الحادي عشر : تقديم المضمر على الظاهر في اللفظ والمعنى :
أما تقديم المضمر على الظاهر الذي يجوز في اللفظ فهو أن يكون مقدماً في اللفظ مؤخراً في معناهُ ومرتبته وذلك نحو قولك : ( ضَربَ غلامَه زيدٌ ) كان الأصل : ضَرَبَ زيدٌ غلامَهُ فقدمتَ ونيتُكَ التأخير ومرتبةُ المفعول أن يكون بعد الفاعل فإذا قلت : ( ضَربَ زيداً غلامُه ) كان الأصل : ( ضَرَبَ غلامُ زيدِ زيداً ) فلما قدمتَ ( زيداً ) المفعول فقلت : ضَربَ زيداً قلت : غلامهُ وكان الأصل : ( غلامُ زيدٍ ) فاستغنيت عن إظهارهِ لتقدمِه قال الله عز و جل : ( وإذْ ابتلى إبراهيم ربهُ بكلماتٍ ) وهذه المسألة في جميع أحوالها لم تقدم فيها مضمراً على مظهرٍ
إنما جئتَ بالمضمر بعدَ المظهرِ إذا استغنيتَ عن إعادته فلو قدمتَ فقلت : ( ضَرِبَ غلامَهُ زيداً ) تريدُ : ضربَ زيداً غلامهُ لم يجزْ لأنك قدمتَ المضمرَ على الظاهر في اللفظ والمرتبةِ لأن حق الفاعل أن يكون قبل المفعول فإذا كان في موضعه وعلى معناه فليس لك أن تنوي به غير موضعه إنما تنوي بما كان في غير موضعهِ موضعَه فافهم هذا فإنَّ هذا الباب عليه يدور
فإذا قلت :
( في بيتهِ يؤتى الحكمُ ) جازَ لأن التقدير ( يؤتى الحكمُ في بيتهِ ) فالذي قامَ مقامَ الفاعلِ ظاهرٌ وهو ( الحكمُ ) ولم تقدم ضميراً على ظاهرٍ مرتبتُه أنْ يكون قبل الظاهر فإن قلت : ( في بيتِ الحكمِ يؤتى الحكمُ ) جاز أن تقول : ( يؤتى ) وتضمر استغناءً عن إظهاره إذ كان قد ذكره كما تقول : إذا ذكر إنسانٌ زيداً قامَ وفعلَ وكذلك إذا ذكر اثنين قلت : ( قاماَ وفَعلا ) فتضمر اسم من لم تذكر استغناءً بأنَّ ذاكراً قد ذكره فإنْ لم تقدره هذا التقدير لم يجز فإن قدمت فقلت : ( يؤتيانِ في بيتِ الحكمينِ ) تريد : ( في بيتِ الحكمينِ يؤتيانِ ) لم يجز ومن هذا : زيداً أبوهُ ضَربَ أو يضربُ أو ضاربٌ فحقهُ أن تقول : ( زيداً أبو زيدٍ ضَرَبَ ) واختلفوا في قولهم : ( ما أَرادَ أَخَذ زيدٌ ) فأجازهُ البصريون
ورفعوا زيداً ( بأَخذَ ) وفي ( أَرادَ ) ذكرٌ من زيدٍ وأبى ذلك الكوفيون ففرقوا بينهُ وبين ( غلامَهُ ضَربَ زيدٌ ) بأن الهاءَ من نفس الإسم بمنزلة التنوين فصار بمنزلة : غلاماً ضَربَ زيدٌ ويقولُ قومٌ من النحويين : إذا كان المخفوض ليس في نية نصب فلا يقدم مكنيهُ تقول ( في داره ضربتُ زيداً ) ولا يجوز عندهم : ( في داره قيامُ زيدٍ ) وهذا الذي لم يجيزوهُ هو كما قالوا مِنْ قبل أَني إذا قلت قيامُ زيدٍ فقيام مبتدأ ويجوز أن يسقط ( زيدٌ ) فيتم الإسم فهو بمنزلة ما ليس في الكلام لأنَّهُ من حشو الإسم وليسَ بالإسم وإنما أجزت : ( قيامَ زيدٍ في دارهِ ) استغناءً بذكرِ ( زيدٍ ) ولو قلت : قيام زيدٍ في دارٍ تمَّ الكلام ولم يُضطرْ فيه إلى إضمار فإذا جاءَ الضمير والكلام غير مضطر إليه كان بمنزلة ما لم يذكر فإذا كان الضمير مؤخراً بهذه الصفة فهو في التقديم أَبعدُ
واختلفوا في قولهم : ( لبستُ مِنَ الثياب أَلينَها ) فمنهم من يجيزها كما يجيز درهَمهُ أَعطيتُ زيداً ومن أَباهُ قال :
الفعلُ واقعٌ على ( أَلينَ ) دون الثيابِ وأَجازوا جميعاً : ( أَخذَ ما أرَادَ زيدٌ ) ( وأحبَّ ما أَعجبَهُ زيدٌ ) ( وخَرجَ راكباً زيدٌ ) لم يختلفوا إذا قدموا الفعلَ وأهل البصرة أجازوا ( راكباً خَرجَ زيدٌ ) ولم يجزها الفراءُ والكسائي وقالا : فيها ذكر من الإسم فلا يقدم على الظاهرِ ولو كان لا يقدمُ ضمير البتةَ على ظاهرٍ لوجبَ ما قالا ولكن المضمر يقدمُ على الظاهر إذا كان في غير موضعه بالصفة التي ذكرت لك وأجمعوا على قولهم : ( أَحرز زيداً أَجلُه ) وفي القرآن : ( لا ينفعُ نفساً إيمانَها ) لأنه ليس في ذا تقديمُ مضمرٍ على ظاهرٍ وأجمعوا على : ( أَحرزَ زيداً أَجلُه ) وعلى : ( زيداً أحرزَ أَجلهُ ) فإن قالوا : ( زيداً أَجلهُ أَحرزَ ) فأكثر النحويين المتقدمين وغيرهم يحيلُها إلاّ هِشاماً وهي تجوز لأن المعنى : ( أَجلُ زيدٍ أحرزَ زيداً ) فلما قلت : ( زيداً أَجلُ زيدٍ أحرزَ ) لم تحتج إلى إظهار زيدٍ مع الأجلِ واختلفوا في ( ثوبِ أَخويكَ يلبسانِ ) وهي عندي جائزةٌ لأن المعنى : ( ثوبُ أَخويكَ يلبسُ أَخواكَ ) فاستغنى عن إعادة الأخوين بذكرهما فأُضمرا
وأجاز الفراء : دارُ قومِكَ يهدمُ هُم ( ويهدمونَ هُم ) وتقول : ( حينَ يقومُ زيدٌ يغضبُ ) لأنكَ تريد : ( حينَ يقومُ زيدٌ يغضبُ زيدٌ ) فلو أظهرتهُ لجاز واستغنى عن إضماره بذكرِ زيدٍ ولو أظهرتهُ لظن أنه زيدٌ آخرُ وهو على إلباسه يجوزُ ولَيس هذا مثل : ( زيداً ضَربَ ) إذا أردتَ : ( ضَربَ نفسهُ )
لأن هذا إنما امتنع لأنه فاعل مفعولٍ وقد جعلت المفعولَ لا بدّ منهُ وحقُّ الفاعل أن يكون غير المفعول إلا في الظن وأخواته فإذا أردت هذا المعنى قلت : ( ضَربَ زيداً نفسُهُ ) ( وضَربَ زيدٌ نفسَهُ ) وقالوا : فإن لم تجيء بالنفس فلا بدّ من إظهار المكنى ليقوم مقامَ ما هو منفصلٌ من الفعل لأن الضميرَ المنفصل بمنزلة الأجنبي فتقول : ( ضَربَ زيداً هُوَ ) ( وضَربَ زيدٌ إيَّاهُ ) واحتجوا بقوله عز و جل : ( وما يَعلمُ جنودَ ربِّكَ إلا هُو ) كأنه في التقدير : ( وما يَعلمُ جنودَ ربِكَ إلاّ ربُّكَ ) ولو جاز أن تقولَ : ضربتني وضربتُكَ فأوقعتَ فعلَكَ على نفسِكَ ومَنْ تخاطِبهُ للزمكَ أن تقول : ( ضَربهُ ) للغائَبِ فتوقع فِعْلَ الغائب على نفسه بالكناية فلا يعلم لَمْن الهاء فإذا قلت : ( ضَربَ نفسَهُ ) بأنَّ لكَ ذلكَ وما الذي يجوز فيه تعدى فعلِ الفاعل إلى نفسهِ فقولك : ( ظننتي قائماً وخلتني جالساً ) فإنَّ هذا وما أشبههُ يتعدى فيه فعلُ المضمر إلى المضمر ولا يتعدى فَعلُ المضمر إلى الظاهر لأنَّهُ يصيرُ في المفعولُ الذي هو فضلةٌ لا بدَّ منهُ وإلا بطلَ الكلام
وهذه مسألةٌ شرحها أبو العباس وذكر قول أصحابه ثم قولهُ قالَ : قال سيبويه : ( أزيداً ضربَهُ أبوهُ ) لأن ما كانَ من سببهِ موقعٌ به الفِعلَ كما يوقعه ما ليس من سببه ولا أقول : ( أزيداً ضربَ ) فيكون الضمير في ( ضربَ ) هو الفاعلُ وزيدٌ مفعولٌ فيكون هو الضاربُ نفسَهُ وأضع الضمير في موضع أبيه حيث كان فاعلاً قيلَ لهُ : لِمَ لا يجوزُ هذا وما الفصلُ بينَهُ
وبينَ أبيه وقد رأينا ما كانَ من سببه يحلُّ محلَهُ في أَبوابٍ فالجوابُ في ذلك : أنَ المفعولَ منفصلٌ مستغنٍ عنهُ بمنزلةِ ما ليس في الكلامِ وإنما ينبغي أن يصححَ الكلامُ بغير مفعولٍ ثم يؤتي بالمفعول فضلةً وأنت إذا قلت : ( أزيداً ضَربَ ) فَلو حذفتَ المفعول بطلَ الكلامُ فصار المفعولُ لا يستغنى عنه وإنما الذي لا بدّ منه مع الفعلِ الفاعلُ
وكذلك لا تقول : ( أَزيداً ظنهُ منطلقاً ) لأن الفاعلَ إذا مَثُلَ بطلَ فصرتَ إنْ قدمتهُ لتضعهُ في موضعه صار ( ظَنَّ زيداً منطلقاً ) فأضمرتَ قبلَ الذكرِ ولكن لو قلت : ( ظنهُ زيدٌ قائماً ) وإياهُ ظُن زيدٌ أَخاً كان أجودُ كلامٍ لأنَّ فِعلَ زيدٍ يتعدى إليه في باب ( ظننتُ وعلمتُ وأَخواتهما ) و لا يتعدى إليه في ( ضَربَ ) ونحوه ألا ترى أنكَ تقول : غلامُ هندٍ ضَربَها فترد الضمير إليها لأنها مستغنٍ عنها لأنكِ لو قلت ( غلامُ هندٍ ضَربَ ) لم تحتج إلى المفعول فلما كانت في ذكرك رددتَ إليها وحلتْ محلَ الأجنبي ولو قلتَ : ( غلامُ هندٍ ضربتَ ) تجعل ضمير هندٍ الفاعل لكان غلطاً عند بعضهم لأن هنداً من تمام الغلام والغلامُ مفعولٌ فقد جعلت المفعول الذي هو فضلة لا بدّ منه ليرجع الضمير الذي هو الفاعلُ إليه فإن قلت : فما بالي أقول : ( غلامُ هندٍ ضاربتهُ هي ) فيجوز واجعل هِيَ إنْ شئت إظهارَ الفاعل وهو ( لهند ) وإنْ شئت ابتداءً وخبراً فالجواب فيه أنه إنما جازَ هنا لأن الغلام مبتدأٌ و ( ضاربتهُ ) على هذا التقدير مبتدأٌ والفاعلُ يسدُّ مسدَّ الخبرِ فهو منفصلٌ بمنزلةِ الأجنبي ألا ترى أنَّكَ لو وضعتَ مكانَ ( هي ) جاريتَكَ أو غيرها استقامَ والفاعلُ المتصلُ لا يحلُ محلَّهُ غيرهُ فإن قلت أَفتجيزُ : ( غلامُ هندٍ ضاربتُه هي ) تجعلُ ( هي ) إن شئتَ ابتداءً مؤخراً وإن شئتَ جعلت ( ضاربتُه ) ابتداءً و ( هي ) فاعلٌ يسدُّ مسدَ
الخبر فكل هذا جيد لأن ( هي ) منفصلٌ بمنزلة الأجنبي ولو قلت : ( غلامَ هندٍ ضربتْ أمُّها ) كان جيداً لأن الأم منفصلة وإنَّما أضفتها إلى هند لما تقدم من ذكرها فهندٌ ها هنا وغيرها سواءٌ ألا ترى أني لو قلتُ : غلامُ هندٍ ضربتْ أمُّ هندٍ كانَ بتلك المنزلةِ إلا أن الإِضمار أحسن لما تقدم الذكر والضمير المتصل لا يقع موقعه المنفصل المذكور إلا على معناه وتقديره وإنما هذا كقولك : ( زيداً ضَربَ أَبُوه ) لأنَّ الأب ظاهرٌ ولو حذفت ما أضفت إليه صَلُحَ فقلت : أبٌ وغلامٌ ونحوهما والأول بمنزلة : ( زيداً ضَربَ ) الذي لا يحل محله ظاهرٌ فلذلك استحالَ
قال أبو العباس : وأنا أرى أنه يجوز : ( غُلامَ هندٍ ضَرَبتْ ) وباب جوازه أنَّك اضمرتَ ( هنداً ) لذكركَ إياها وكان التقدير غُلامَ هندٍ ( ضَربَتْ هِندٌ ) فلم تحتج إلى إظهارها لتقدم ذكرها وكان الوجه ( غلامَها ضَربَتْ هندٌ ) ويجوز الإِظهار على قولك : ( ضَربَ أبَا زيدٍ زيدٌ ) ولو قلت : ( أَباهُ ) كان أحسن فإنما أَضمرتَها في موضع ذكرها الظاهر ولكن لا يجوز بوجهٍ من الوجوه : ( زيداً ضَربَ ) إذا جعلت ضمير زيدٍ ناصباً لظاهره لعلتين : إحداهما : أنَّ فعلَهُ لا يتعدى إليه في هذا الباب لا تقول : ( زيدٌ ضربَهُ ) إذا رددتَ الضمير إلى ( زيدٍ ) ولا تقول : ضربتني إذا كنتَ الفاعلَ والمفعولَ وقد بينَ هذا والعلة الأخرى : ما تقدم ذكره من أن المفعول الذي فضلةٌ يصيرُ لازماً لأنَّ الفاعل الذي لا بدّ منه معلق به ولهذا لم يجز : زيداً ظَنَّ منطلقاً إذا أضمرتَ ( زيداً ) في ( ظَنَّ ) وإن كان فعله في هذا الباب يتعدى إليه نحو : ( ظننتي أَخاكَ ) ولكن لم يتعد المضمر إلى الظاهر لما ذكرتُ لكَ وأما ( غُلامَ هندٍ ضَرَبَتْ ) فجاز لأن هنداً غيرُ الغلامِ وإن كانت بالإِضافة قد صارت من تمامه ألا ترى أنك تقول : ( غلامُ هندٍ ضَربهَا ) ولا تقول : ( زيدٌ ضربهُ )
فهذا بَينٌ جداً واختلفوا في : ( ضربني وضربت زيداً ) فرواهُ سيبويه وذكر : أنهم أضمروا الفاعلَ قبلَ ذكره على شريطة التفسير وزعم الفراء : أنه لا يجيزُ نصبَ ( زيدٍ ) وأجاز الكسائي على أن ( ضربَ ) لا شيء فيها وحذفَ ( زيداً ) وقال بعضُ علمائنا ( رحمه الله ) : والذي قال الفراء : لولا السماعُ لكانَ قياساً
وأما ( عبد اللِه زيدٌ ضاربٌ أباهُ ) فالبصريونَ يجيزون : ( أَباهُ عبد اللِه زيدٌ ضاربٌ ) وغيرهم لا يجيزها وهو عندي : قبيحٌ لبعدِ العاملِ من الذي عَمِلَ فيه
وطعامَكَ زيدٌ يأكلُ أبوه لا يجيزها الفراء ولا يجيزُ : ( آكلٌ ) أيضاً ويجيزها الكسائي إذا قال : ( طعامَكَ زيدٌ آكلٌ أبوهُ ) لأن زيداً ارتفع عنده ( بآكلٍ ) فأجاز تقديم الطعام ولما كان يرتفع بما عاد عليه من الذكر لم يجزه وقال الفراء : هو في الدائم غيرُ جائزٍ لأنه لا يخلو من أن أقدرَهُ تقديرَ الأفعال فيكون بمنزلة الماضي والمستقبل إذا قَدَرهُ تقديرَ الأسماءِ فلا يجوزُ أنْ أُقدم مفعول الأسماء ولكني أجيزهُ في الصفات ويعني بالصفات ( الظروف ) وهذه المسألةُ لم يقدم فيها مضمرٌ على ظاهرٍ
والمضمرُ في موضعه إلا أن ( أَبوهُ ) فاعلٌ ( يأكلُ ) وطعامكَ مفعولٌ وقد بعد ما بينهما وفرقت بين الفاعل والمفعول بهِ ( بزيدٍ ) وليسَ لهُ في الفعل نصيبٌ ولكن يجوز أن تقولهُ من حيث قلت : ( طعامَكَ زيدٌ يأكلُ ) فالفاعلُ مضمرٌ فقامَ ( أَبوهُ ) مقامَ ذلك المضمرِ
الثاني عشر : التقديم إذا ألبس على السامع أنه مقدم :
وذلك نحو قولكَ : ( ضربَ عيسى موسى ) إذا كان ( عيسى ) الفاعل لم يجز أن يقدم ( موسى ) عليه لأنه ملبس لا يبين فيه إعرابٌ وكذلك : ( ضرَبَ العَصا الرحى ) لا يجوز التقديم والتأخير فإن قلت : ( كسر الرحى العصا ) وكانت الرحى هي الفاعل وقد عُلِمَ أنَّ العَصا لا تكسرُ الرحى جاز التقديم والتأخير ومن ذلك قولك : ( ضربتُ زيداً قائماً ) إذا كان السامع لا يعلم من القائم الفاعلُ أمْ المفعولُ لم يجز أن تكون الحال مِن صاحبها إلا في وضع الصفة ولم يجز أن تقدم على صاحبها فإن كنت أنتَ القائم قلت : ( ضربتُ قائماً زيداً ) وإن كان زيدٌ القائمَ قلت : ضربتُ زيداً قائماً فإن لم يُلبس جاز التقديمُ والتأخير وكذلك إذا قلت : ( لقيتُ مصعداً زيداً منحدراً ) لا يجوز أن يكون المصعدُ إلا أنتَ والمنحدرُ إلا ( زيدٌ ) لأنك إن
قدمت وأخرتَ التبسَ ولو قلت : ( ضربَ هَذا هَذا ) تريدُ تقديماً وتأخيراً لم يجز فإذا قلت : ( ضربَ هَذا هذهِ ) جازَ التقديمُ والتأخيرُ فقلت : ( ضربتَ هَذه هَذا ) لأنه غيرُ ملبسٍ ولو قلتَ : ( ضَرَب الذي في الدار الذي في البيت ) لم يجز التقديمُ والتأخيرُ لإِلباسه ومن ذلك إذا قلت : ( أعطيتُ زيداً عمراً ) لم يجز أن تقدم ( عمراً ) على ( زيدٍ ) وعمروٌ هو المأخوذ لأنه ملبس إذا كان كل واحدٍ منهما يجوز أن يكون الآخذَ فإذا قلت : ( أعطيتُ زيداً درهماً ) جازَ التقديم والتأخير فقلت : ( أعطيتُ درهماً زيداً ) لأنه غير ملبسٍ والدرهم لا يكون إلا مأخوذاً
الثالث عشر : إذا كان العامل معنى الفعل ولم يكن فعلاً :
لا يجوز أن يقدم ما عمل فيه عليه إلا أن يكون ظرفاً وذلك قولك : ( فيها زيد قائماً ) لا يجوز أن تقدم ( قائماً ) على فيها لأنه ليس هنا فعلٌ وإنما أعملتَ ( فيها ) في الحال لما تدل عليه من الإستقرار وكذلك إذا قلت : ( هذا زيدٌ منطلقاً ) لا يجوز أن تقدم ( منطلقاً ) على ( هذا ) لأن العامل هنا دلَّ على ما دل عليه ( هذا ) وهو التنبيه وليس بفعلٍ ظاهر ومن ذلك : ( هُو عبد الله حقاً ) لا يجوز أن تقدم ( حقاً ) على ( هُوَ ) لأن العامل هو المعنى وإنما نصبت ( حقاً ) لأنك لما قلت : هُو عبد الله دَلَّكَ على ( أحقَ
دَلكَ ) فقلت ( حقاً ) فأما الظرف الذي يقدم إذا كان العامل فيه معنى فنحو قولك : ( أكلُّ يومٍ لَكَ ثوبٌ ) العامل في ( كُلِّ ) معنى ( لَكَ ) وهو الملك
ذكر ما يعرض من الإِضمار والإِظهار
اعلم أنَّ الكلام يجيءَ على ثلاثة أضربٍ : ظاهرٌ لا يحسنُ إضمارهُ ومضمرٌ مستعملٌ إظهارهُ ومضمرٌ متروكٌ إظهاره
الأول : الذي لا يحسنُ إضمارهُ : ما ليس عليه دليل من لفظٍ ولا حال مشاهدةٍ لو قلت : زيداً وأنت تريدُ : كَلِمْ زيداً فأضمرت ولم يتقدم ما يدل على ( كَلِمْ ) ولم يكن إنسان مستعداً للكلام لم يجز وكذلك غيره من جميع الأفعال
الثاني : المضمرُ المستعملُ إظهارهُ : هذا الباب إنما يجوز إذا علمت أنَّ الرجل مستغنٍ عن لفظكَ بما تضمره فمن ذلك ما يجري في الأمر والنهي وهو أن يكون الرجل في حال ضربٍ فتقول : زيداً ورأسَهُ وما أشبه ذلك تريد : اضربْ رأسَهُ وتقول في النهي : الأسدَ الأسدَ نهيتهُ أنْ يقربَ الأسد وهذا الإِضمار أجمع في الأمر والنهي وإنما يجوز مع المخاطب ولا يجوز مع الغائب ولا يجوز إضمار حرف الجر ومن ذلك أن ترى رجلاً يسدد سهماً فتقول : ( القرطاس واللِه ) أي يصيبُ القرطاسَ أو رأيتهُ في حال رجلٍ قد أوقعَ فِعْلاً أو أخبرت عنهُ بفعلٍ فقلتَ : ( القرطاسَ واللِه ) أي : أصاب القرطاسُ وجاز أن تَضمر الفعلَ للغائبِ لأنه غير مأمورٍ ولا منهيٍّ وإنما الكلامُ
خبرٌ فلا لُبّسَ فيه كما يقع في الأمر وقالوا : ( الناسُ مجزيونَ بأعمالهم ) إنْ خيراً فخيرٌ وإنْ شراً فشرٌ يراد إن كانَ خيراً
ومن العرب من يقول : ( إنْ خيراً فخيراً ) كأنه قال : ( إنْ كان ما فَعلَ خيراً جُزي خيراً ) والرفع في الآخر أكثر لأن ما بعد الفاء حقه الإستئناف ويجوز : ( إن خيرٌ فخيرٌ ) على أن تضمر ( كانَ ) التي لها خبر وتضمر خبرها وإن شئت أضمرت ( كانَ ) التي بمعنى ( وقَع ) ومثل ذلك قد مررتُ برجلٍ إنْ طويلاً وإنْ قصيراً ولا يجوز في هذا إلا النصب وزعم يونس : أنَّ من العرب من يقول : ( إنْ لا صالحٌ فطالحٌ ) على إنْ : لا أكن مررتُ بصالحٍ فطالحٍ وقال سيبويه : هذا ضعيفٌ قبيحٌ قال : ولا يجوزُ أن تقول عبد الله المقتولُ وأنت تريد ( كن عبد اللِه ) لأنه ليس فعلاً يصلُ من الشيء إلى الشيء ومن ذلك : أو فرقاً خيراً مِنْ حُبٍّ ) ولو رفع جاز كأنه قال : ( أو امرىءٍ فرقٌ ) وألا طعامَ ولو تمراً أي : ( ولو كانَ الطعامُ تمراً ) ويجوز : ( ولو تمرٌ ) أي : ولو كان تمرٌ ومن هذا الباب : ( خيرَ مقدمٍ )
أي قدمتَ وإن شئتَ قلتَ : ( خيرُ مقدمٍ ) فجميع ما يرفع إنما تضمرُ في نفسك ما تظهرُ وجميع ما ينصبُ إنما تضمر في نفسكَ غير ما تظهرُ فافْهم هذا فإنَّ عليه يجري هذا البابُ ألا ترى أنكَ إذا قلت : خيرَ مقدمٍ فالمعنى : قدمتَ فقدمتَ فعْلٌ وخيرَ مقدم اسمٌ والإسمُ غيرُ الفعلِ فانتصبَ بالفعل فإذا رفعتَ فكأنَّك قلت : قدومُكَ خيرُ مقدم فإنما تضمر قدومك خيرُ مقدمٍ فقدومكَ ( هو خيرُ مقدمٍ ) وخبرُ المبتدأ هو المبتدأُ وإذا قلت : ( خير مقدمٍ ) فالذي أضمرت ( قدمت ) وهو فعلُ وفاعلٌ والفعل والفاعل غير المفعول فافهم هذا فإن عليه يجري هذا الباب ومن هذا الباب قولهم : ( ضربت وضربني زيدٌ ) تريد : ( ضربتُ زيداً وضربني ) إلا أن هذا الباب أضمرت ما عَمِلَ فيه الفعلُ وذلك أضمرت الفعل نفسهُ وكذلك كلُّ فعلين يعطفُ أحدهما على الآخر فيكون الفاعل فيهما هو المفعول فلك أن تضمره مع الفعل وتعمل المجاور له فتقول على هذا متى ظننتُ أو قلتُ : زيدٌ منطلقٌ لأنَّ ما بعد القولَ محكيٌ وتقول : ( متى قلتَ أو ظننتَ زيداً منطلقاً ) فإذا قلت : ( ضربني وضربتُ زيداً ) ثنيت فقلت : ( ضرباني وضربتُ الزيدينِ ) فأضمرت قبل الذكر لأنَّ الفعلَ لا بد لهُ من فاعل ولولا أنَّ هذا مسموعٌ من العرب لم يجز وإنما حَسُنَ هذا لأنكَ إذا قلت : ( ضربتُ وضربني زيدٌ ) وضربني وضربتُ زيداً فالتأويل : تضاربنا فكل واحدٍ فاعلٌ مفعولٌ في المعنى فسومح في اللفظ لذلك
ومن ذلك : ( ما منهم يقومُ ) فحذفَ المبتدأُ كأنهُ قال : ( أحدٌ منهم يقومُ ) ومن ذلك قوله عز و جل : ( فَصبرٌ جميلٌ )
أي : ( أَمرى صبرٌ جميلٌ )
الثالث : المضمرُ المتروك إظهارهُ : المستولي على هذا الباب الأمر وما جرى مجراه وقد يجوز فيه غيره فمن ذلك ما جرى على الأمر والتحذير نحو قولهم : ( إياكَ ) إذا حذرته والمعنى : ( باعدْ إياكَ ) ولكن لا يجوز إظهاره
وإياك والأسدَ وإياك الشرَّ كأنه قال : إيايَ لأتقينَّ وإياكَ فأتَقينَّ فصارت ( إياكَ ) بدلاً من اللفظ بالفعلِ ومن ذلك : ( رأسَهُ والحائطَ وشأنك والحجَّ وامرأً ونفسَهُ ) فجميع هذا المعطوفِ إنما يكون بمنزلة ( إياكَ ) لا يظهر فيه الفعلُ ما دام معطوفاً فإن أفردتَ جازَ الإِظهار والواو ها هنا بمعنى ( مَع ) ومما جُعلَ بدلاً من الفعل : ( الحذرَ الحذرَ والنجاءَ النجاءَ وضرباً ضرباً ) انتصب على ( الزم ) ولكنهم حذفوا لأنه صار بمعنى ( افعلِ ) ودخولُ ( إلزم ) على ( افعلْ ) محالٌ وتقول : ( إياكَ أنت نفسُكَ أنْ تفعلَ ) ونفسك إنْ وصفتَ المضمر الفاعل رفعت وإنْ أضفتَ إياكَ نصبتَ وذلك لأنَّ ( إياكَ ) بدلٌ من فِعْلٍ وذلك الفعلُ لا بُدَّ لَهُ من ضمير الفاعل المأمور وإنْ وصفت ( إياكَ ) نصبتَ وتقول : ( إياكَ أنتَ وزيدٌ وزيداً ) بحسب ما تقدر ولا يجوز : ( إياكَ زيداً ) بغير واوٍ وكذلك : ( إياكَ أن تفعلَ ) إن أردتَ : ( إياك والفعلَ ) وإنْ أردت : إياكَ أعِظُ مخافةَ أَنْ تفعلَ جازَ وزعموا أن ابن أبي اسحق أجازَ :
( إيَّاكَ إيَّاكَ المِرَاءَ فإنَّهُ ... إلى الشَّرِّ دعاءٌ ولِلَخيْرِ زِاجِرٌ )
كأنهُ قال : ( إياكَ ) ثم أضمر بعد ( إياك ) فعلاً آخر فقال : اتقِ المراءَ
وقال الخليل : لو أنَّ رجلاً قالَ : إياكَ نفسَكَ لم أُعنفْهُ يريدُ أن ( الكافَ ) اسمٌ وموضعها خفضٌ قال سيبويه : وحدثني منْ لا أتهم عن الخليلِ أنهُ سمعَ أعرابياً يقول : ( إذا بلغَ الستينَ فإيَّاهُ وإياّ الشوابِ ) ومن ذلك : ( ما شأنُكَ وزيداً ) كأنَهُ قال : ( وما شأنكَ وملابسَةَ زيداً ) وإنما فعلوا ذلك فراراً من العطف على المضمر المخفوض وحكوا ما أنتَ وزيداً وما شأنُ عبد الله وزيداً كأنه قال ما كان : فأما : ويلَهُ وأَخاهُ فانتصب بالفعل الذي نصبَ ويلَهُ كأنَّكَ قلت ألزمهُ اللُه ويلَهُ
وإن قلت : ويلٌ لَهُ وأَخاهُ نصبت لأنَّ فيه ذلك المعنى ومن ذلك سقياً ورعياً وخيبةً ودفراً
وجدعاً وعَقْراً وبؤساً وأفُةً وتفةً لهُ وبُعداً وسحقاً وتعْساً وتَبّاً وبَهْراً وجميع هذا بدل من الفعلِ كأنه قال : سقاكَ الله ورعاكَ وأما ذكرهم ( لَكَ ) بعد ( سقياً ) فليبينوا المعنى بالدعاء وليس بمبني على الأول ومنه : ( تُرباً ) وجَنْدَلاً أي : ألزمكَ الله وقالوا : فاهاً لفيك يريدون : الداهية ومنه هنيئاً مَرِياً ومنها ويْلَكَ وويْحَكَ وويْسكَ وويُبَكَ وعَوْلكَ لا يتكلمُ به مفرداً ولا يكون إلا بعد ( ويلكَ ) ومن ذلك سبحان الله ومعاذَ الله وريحانهُ وعمْرِكَ الله إلا فعلتَ وقعدك الله إلا فعلت بمنزلة : نشدتُكَ اللَه وزعمَ الخليلُ : أنهُ تمثيلٌ لا يتكلمُ به ومنه قولهم : كَرَماً وصَلَفَاً وفيه معنى التعجب كأنه قال : ( أَلزمكَ الله ) وصار بدلاً من أكرمْ به وأصْلِفْ بهِ ومنه : لبيكَ وسعديكَ وحنانيكَ وهذا مثنى وجميعُ ذا الباب إنما يعرف بالسماع ولا يقاسُ وفيما ذكرنا ما يدلُّكَ على الشيءِ المحذوف إذا سمعته ومن ذلك قولهم . ( مررتُ به فإذا لَهُ صوتٌ صوتَ حمارٍ ) لأنَّ معنى : ( لَهُ صوتٌ ) هو يصوتُ فصار لهُ صوتٌ بدلاً منهُ ومن هذا : ( أَزيداً ضربتَهُ ) تريد : أضَرَبْتَ زيداً ضربتَهُ فاستغنى ( بضربتَهُ ) وأُضمر فِعْلٌ يلي حرف الإستفهام وكذلك يحسنُ في كل موضعٍ هو بالفعل أولى كالأمر والنهي والجزاء تقول : ( زيداً اضربهُ ) وعمراً لا يقطع الله يدهُ وبكراً لا تضربْهُ
وإنْ زيداً ترهُ تضربهُ وكذلك إذا عطفت جملةً على جملةٍ فكانت الجملة الأولى فيها الإسم مبنيٌ على الفعل كان الأحسنُ في الجملة الثانية أن تشاكلَ الأولى وذلك نحو : ( ضربتُ زيداً وعمراً كلمتهُ ) والتقدير : ضربتُ زيداً وكلمتُ عمراً فأضمرت فعلاً يفسرهُ ( كلمتهُ ) وكذلك إنْ اتصلَ الفعل بشيءٍ من سبب الأول تقول : ( لقيتُ زيداً وعمراً ضربتُ أَبَاهُ ) كأنك قلت ( لقيتُ زيداً وأهنتُ عمراً وضربتُ أبَاهُ ) فتضمر ما يليق بما ظهر فإن كان في الكلام الأول المعطوف عليه جملتان متداخلتان كنت بالخيار وذلك نحو قولك : ( زيدٌ ضربتُه وعمروٌ كلمتهُ ) إن عطفت على الجملة الأولى التي هي الإبتداءُ والخبرُ رفعتَ وإنْ عطفت على الثانية التي هي فِعْلٌ وفاعلٌ وذلك قولك : ضربتُه نصبتَ ومن ذلك قولهم : أمَّا سميناً فسمينٌ وأما عالِماً فعالمٌ ومنه قولهم : ( لكَ الشاءُ شاةً بدرهمٍ ) ومنه قولهم : ( هذا ولا زعَماتِكَ ) أي لا أتوهم زَعماتِكَ وكِليهما وتمراً
ومن العرب من يقول : ( كِلاهما وتمراً كأنه قال ( كِلاهما لي ثابتانِ وزدني تمراً ) ومن ذلك : ( انتهوا خيراً لكم ووراءكَ أوسع لك وحسبك خيراً لك ) لأنَّك تخرجهُ منْ أمرٍ وتدخله في آخر ولا يجوزُ ينتهي خيراً لي لأنَّكَ إذا نهيتَهُ فأنتَ ترجيه إلى أمرٍ وإذا أخبرتَ فلستَ تريد شيئاً من ذلك ومن ذلك : ( أخذتُه فصاعداً وبدرهمٍ فزائداً )
أخبرت بأدنى الثمن فجعلتَهُ أولاً ثم قررت
شيئاً بعد شيءٍ لأثمانٍ شتى ولا يجوز دخولُ الواو هنا ويجوز دخول ( ثُمَّ ) وممَّا انتصب على الفعل المتروك إظهارهُ المنادى في قولِكَ : ( يا عبد الله ) وقد ذكرت ذلك في بابِ النداءِ
قال سيبويه : ومما يدلُّكَ على أنهُ انتصبَ على الفعل قولُكَ : ( يا إياَّكَ ) إنما قلت : يا إياكَ أَعني ولكنهم حذفوا وذكر أَمَّا أنت منطلقاً انطلقتُ معكَ فقال : إنها ( إن ) ضمت إليها ( مَا ) وجعلت عوضاً من اللفظ بالفعل تريد : إن كنتَ منطلقاً قال : ومثل ذلك : ( إمّا لا ) كأنَّهُ قال : ( افعلْ هذا إنْ كنتَ لا تفعلُ غيرهُ ) وإنما هي ( لا ) أميلت في هذا الموضع لأنَّها جعلت مع ما قبلها كالشيء الواحد فصارت كأنها ألفٌ رابعةٌ فأميلتْ لِذاكَ ومن ذلك : مرحباً وأهلاً زعم الخليل أنه بدلٌ من : رحبتْ بلادَكَ ومنهم من يرفع فيجعل ما يضمر هو ما يظهر
واعلم أن جميع ما يحذف فإنهم لا يحذفون شيئاً إلا وفيما أبَقوا دليلٌ على ما ألقوا
الإتساع اعلم : أن الإتساع ضربٌ من الحذف إلا أن الفرقَ بين هذا الباب والباب الذي قبلهُ أن هذا تقيمه مقام المحذوف وتعربهُ بإعرابه وذلك الباب تحذف العاملَ فيه وتدعُ ما عَمِلَ فيه على حالهِ في الإِعراب وهذا البابُ العاملُ فيه بحاله وإنما تقيم فيه المضاف إليه مقام المضاف أو تجعل الظرف يقوم مقامَ الاسم فأمَّا الاتساع في إقامة المضاف إليه مقام المضاف فنحو قولِه : ( سَلِ القريةَ ) تريد : أهل القرية وقول العرب : بنو فلانٍ يطؤهم الطريقُ : يريدون : أهل الطريقِ وقولهُ : ( ولكنَّ البرَّ مَنْ آمن بالله ) إنما هو برٌ مَنْ آمنَ بالله
وأما اتساعهم في الظروف فنحو قولهم : ( صيدَ عليه يومانِ ) وإنما المعنى : صيدَ عليه الوحش في يومين
( وولدَ لَهُ الولدَ ستونَ عاماً ) والتأويل : ( ولدَ لَهُ في ستين عاماً ) ومن ذلك قولهُ عز و جل : ( بل مكر الليل والنهار ) وقولهم : ( نَهاركَ صائمٌ وليلُكَ قائمٌ ) وإنما المعنى : ( أنَّكَ صائمٌ في النهار وقائمٌ في الليل ) وكذلك :
( يا ساَرِقَ اللَّيلِة أهلَ الدَّارْ ... )
وإنما سرق في الليلة وهذا الإتساع أكثر في كلامهم من أن يحاط به وتقول : ( سرتُ فرسخينِ يومينِ ) إن شئت نصبتَ انتصابَ الظروف وإن
شئت جعلت نصبهما بأنهما مفعولان على السعة وعلى ذلك قولك : ( سِيرَ بزيدٍ فرسخانِ يومينِ ) إذا جعلت الفرسخينَ يقومان مقامَ الفاعل ولك أن تقول : سِيرَ بزيدٍ فرسخينِ يومانِ فتقوم اليومين مقامَ الفاعل
اعلم : أن الإِلغاء إنما هو أن تأتي الكلمة لا موضع لها من الإِعراب إنْ كانت مما تعرب وإنها متى أسقطت من الكلام لم يختل لكلام وإنما يأتي ما يلغى من الكلام تأكيداً أو تبييناً والجملُ التي تأتي مؤكدةً ملغاة أيضاً وقد عَمِلَ بعضُها في بعضٍ فلا موضعَ لها من الإِعراب والتي تلغى تنقسم أربعة أقسام : اسمٌ وفعلٌ وحرفٌ وجملةٌ
الأول : الإسمُ : وذلك نحو : ( هو ) إذا كان الكلام فصلاً فإنه لا موضع له من الإِعراب لو كان له موضع لوجبَ أن يكون له خبرٌ إن كان مبتدأً أو يكون له مبتدأٌ إنْ كان هو خبراً وقيل في قوله : ( ولبِاسُ التقوى ذلك خير ) ( ذلك ) زائدةٌ
الثاني : الفِعْلُ : ولا يجوز عندنا أن يُلغى فعلٌ ينفذ منك إلى غيركَ ولكن الملغى نحو : ( كانَ ) في قولك : ( ما كانَ أحسنَ زيداً ) الكلامُ ما أحسنَ زيداً و ( كانَ ) إنما جِيءَ بها لتبيّن أنَّ ذلك كان فيما مضى
الثالث : الحرفُ : وذلك نحو : ما في قوله عز و جل : ( فبما نقضهم ميثاقهم ) لو كان ( لِمَا ) موضع من الإِعراب ما عملت الباء في ( نقضِهم ) وإنما جِيءَ بها زائدةً للتأكيد ومن ذلك ( إنْ ) الخفيفة تدخل مع ( ما ) للنفي في نحو قوله : وما إنْ طُبنا جُبنْ وكذلك ( إنْ ) في قولك : ( لَما إنْ جَاء قمتُ إليه ) المعنى : ( لَما جاءَ قمتَ ) وكذلك ( مَا ) إذا كانت كافةً فلا موضع لها من الإِعراب في نحو قولك : ( إنَّما زيدٌ منطلقٌ ) كفت ( مَا ) ( إنْ ) عن الإِعراب كما منعت إنْ ( مَا ) مِنَ الإِعراب وكذلك ( رُبَّما ) تقول : ( رُبَّما يقومُ زيدٌ ) لولا ( ما ) لما جاز أن يلي ( رُبَّ ) فِعلٌ ومن ذلك ( بعدَ ما ) قال الشاعر :
( أَعلاقَةً أُمَّ الوُلَيِّدِ بَعْدَمَا ... أَفنانُ رأسِكَ كالشِّهَابِ المُخْلِس )
فجميع هذه لا موضع لها من الإِعراب وقد جاءت حروفٌ خافضةٌ وذكروا أنها زوائد إلا أنها تدخل لمعانٍ فمن ذلك : ( ليس زيدٌ بقائمٍ ) أصل الكلام : ( ليسَ زيدٌ قائماً ) ودخلت الباء لتؤكد النفي وخُص النفي بها دون الإِيجاب ومن ذلك : ( مَا مِنْ رجلٍ في الدارِ ) دخلت ( مِنْ ) لتبين أن الجنس كلُه منفي وأنه لم يرد القائلُ أن ينفي رجلاً واحداً
قال أبو بكر : وحقُّ الملغى عندي أنْ لا يكونَ عاملاً ولا معمولاً فيه حتى يلغى من الجميع وأنْ يكون دخوله كخروجه لا يحدث معنى غير التأكيد وهذه الحروف التي خُفضَ بها قد دخلت لمعانٍ غير التأكيد من الحروف الملغاة ( لا ) شبهوها ( بمَا ) فمن ذلك قولك : ( ما قامَ زيدٌ ولا عمروٌ ) والواو العاطفةُ ولا لَغْوٌ و ( لا ) إنما دخلت تأكيداً للنفي وليزولَ بها اللبسُ إذا كانَ منفياً لأنَّهُ قد يجوزُ أنْ تقول : ما قامَ زيدٌ وعمروٌ ما قاما معاً وقالوا في قوله : ( لا أقسمُ بيومِ القيامة ) إنّ ( لا ) زائدةٌ ( ولئلاِ يعلَم أهلُ الكتابِ ) إنما هو : لأَنْ يعلَم وجملةُ الأمر أنها لا تزادُ إلا في موضع غير مُلبسٍ كما لا تزاد ( مَا ) وأما
قولك : ( حسبُكَ بِه ) كلامٌ صحيحٌ كما تقول : كفايتُك بهِ وفيه معنى الأمر أو التعجب وقولهم : ( كفى بالله ) قال سيبويه : إنما هو ( كفى الله ) والباء زائدة والقياس يوجب أنْ يكون التأويل : ( كفى كفايتي بالله ) فحذفَ المصدر لدلالة الفعل عليه وهذا في العربية موجود
الرابع : الجملةُ : وذلك نحو قولك : ( زيدٌ ظننتُ منطلقٌ ) بنيتَ ( منطلقاً ) على ( زيد ) ولم تعمل ( ظننتُ ) وألغيته وصار المعنى زيدٌ منطلقٌ في ظني فإنْ قدمت ( ظننتُ ) قَبُحَ الإِلغاءَ ومن هذا الباب الإعتراضات وذلك نحو قولك : زيدٌ أشهدٌ بالله منطلقٌ وإنَّ زيداً فافهمْ ما أقولُ رجلُ صدْقٍ وإنَّ عمراً والله ظالمٌ وإنَّ زيداً هو المسكينُ مرجومٌ وعلى ذلك يتأول قوله عز و جل : ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا أولئك لهم جنات عدن ) فأُولئكَ هو الخبر وإنَّا لا نضيعُ أَجرَ مَنْ أَحسنَ عملاً ( اعتراض ) ومنه قول الشاعر :
( إنِّي لأَمنَحُكَ الصُّدُودَ وإنَّني ... قسماً إلَيكَ معَ الصُّدودِ لأَميَلُ )
قوله ( قسماً ) اعتراضُ
وجملةٌ هذا الذي يجيء معترضاً إنما يكون توكيداً للشيء أو لدفعه لأنَّهُ بمنزلة الصفة في الفائدة يوضحُ عن الشيء ويؤكدهُ
واعلم أنهُ لا يجوز أن يعترض بين واو العطف وبين المعطوف بشيءٍ لا يجوز أن تقول : ( قامَ زيدٌ فأفْهَم عرموٌ ولا قام زيدٌ ووالله عمروٌ )
وقد أجاز قوم الإعتراض في ( ثُمَّ وأوْ ولا ) لأنَّ أوْ ولا وثُمَّ ( يقمنَ بأنفسهنَّ ) فيقولون : ( قامَ زيدٌ ثم والله محمدٌ )
ومما يلغيه الكوفيون ولا يعرفه البصريون : ( زيداً قمتُ فضربتُ ) يلغون القيام كأنهم قالوا : ( زيداً ضربتُ ) وهذا رديءٌ في الإِلغاء لأن ما يلغى ليس حقه أن يكون بعد فاءٍ تعلقُ ما بعدها به
قال أبو بكر : قد انتهينا إلى الموضع الذي يتساوى فيه كتابُ الأصول وكتاب الجُمل بعد ذكر ( الذي ) والألف واللام ثُمَّ لا فرق بينهما إلا أنَّ بعد التصريف زيادة المسائل فيه والجملُ ليسَ فيه ذلك
ذكر الذي والألف واللام :
الإِخبار بالذي والألف واللام التي في معناهُ : ضربٌ من المبتدأ والخبر وموضع ( الذي ) من الكلام أن يكون مع صلته صفةً لشيءٍ وإنما اضطر إلى الصفة ( بالذي ) للمعرفة لأن وصف النكرة على ضربين : مفردٌ وجملةٌ فالمفرد نحو قولك : مررتُ برجلٍ عاقلٍ وقائمٍ وما أشبه ذلك والجملة التي توصفُ بها النكرة تنقسم قسمين : مبتدأٌ وخبرٌ نحو قولهم : مررتُ برجلٍ ( أبوهُ منطلقٌ ) وفِعْلٌ وفاعلٌ نحو قولك
مررتُ برجلٍ قامَ أبوهُ فلما كانت النكرات قد توصف بالحديث والكلام التام احتيج في المعرفة إلى مثل ذلك فلم يجز أن توصف المعرفة بما توصفُ به النكرة لأن
صفة النكرةِ نكرةٌ مثلها وصفةُ المعرفةِ معرفةٌ مثلها فجاز وصف النكرة بالجمل لأن كُلَّ جملةٍ فهي نكرةٌ ولولا أنها نكرة ما كان للمخاطب فيها فائدة لأن ما يعرف لا يستفاد فلما كان الأمر كذلك وأريد مثلهُ في المعرفة جاءوا باسمٍ مبهمٍ معرفةٍ لا يصح معناه إلا بصلتهِ وهو ( الذي ) فوصلوهُ بالجمل التي أرادوا أن يضعوا المعرفة بها لتكونَ صفةُ المعرفةِ معرفةَ كما أن صفةَ النكرةِ نكرةٌ ( فالذي ) عند البصريين أصلُه ( لذي ) مثل ( عمى ) ولزمته الألف واللام فلا يفارقانه ويثنى فيقال ( اللذانِ ) في الرفع ( واللذينِ ) في الخفض والنصبِ ويجمع فيقال : ( الذينَ ) في الرفع وغيره ومنهم من يقول : ( اللذونَ ) في الرفع ( واللذينَ ) في الخفض والنصب والمؤنث ( التي واللتان واللاتي واللواتي ) وقد حكى في ( الذي ) ( الذي ) بإثبات الياء ( والذِ ) بكسر الذال بغير ياء والذْ باسكان الذال ( والذيّ ) بتشديد الياء وفي التثنية ( اللذان ) بتشديد النون ( واللّذا ) بحذف النون وفي الجمع ( الذينَ والذونَ واللاؤنَ وفي النصب والخفض اللائينَ واللاءِ بلا نونٍ واللاي ) بإثبات الياء في كل حالٍ والأولى وللمؤنث التي واللاءِ بالكسر ولا ياءَ والتي والتِ بالكسر بغير ياءٍ والتْ بإسكان التاء واللتانِ واللتا بغير نونٍ واللتانَّ بتشديد النون وجمعُ ( التي ) اللاتي واللاتِ بغير ياءٍ واللواتي واللواتِ بالكسر بغير ياء واللواء واللاءِ بهمزةٍ مكسورةٍ واللااتِ مثل اللغات مسدودٌ مكسور التاءِ وطيء تقول : ( هذا ذو قالَ ذاكَ ) يريدون : الذي قالَ ذلكَ
و ( مررت بذو قال ذاك ) في كل وجهٍ في الجمع وحكى : أنه يجوز ذواتِ قلت ذاكَ ورأيتُ ذو قالَ ذاكَ وللأنثى : ذاتَ قالتْ ذاكَ قُلتِ ذاكَ ( فذوُ ) يكون في كل حالٍ رفعاً ويكون موحداً في التثنية والجمع من المذكر والمؤنث قالوا : ويجوز في المؤنث أن تقول : ( هذه ذاتُ قالتْ ذاكَ ) في الرفع والنصب والخفض فأما التثنية في ( ذو وذاتِ ) فلا يجوز فيه إلا الإِعراب في كل الوجوه وحكى : أنه قد سمع في ( ذاتِ ) و ( ذواتِ ) الرفع في كل حالٍ
وقال غير البصريين : إن أصل ( الذي ) هَذا وهَذا عندهم أصلهُ ذال واحدةٌ وما قالوه : بعيد جداً لأنه لا يجوز أن يكون اسمٌ على حرفٍ في كلام العرب إلا المضمر المتصل ولو كان أيضاً الأصلُ حرفاً واحداً ما جاز أن يصغر والتصغير لا يدخلُ إلا على اسمٍ ثلاثي وقد صغرت العربُ ( ذَا ) والموجودُ والمسموعُ مع ردنا له إلى الأصول من ( الذي ) ثلاثة أحرفٍ لامٌ وذالٌ وياءٌ وليس لنا أن ندفع الموجود إلا بالدليل الواضح والحجة البينة على أني لا لا أدفع أنَّ ( ذَا ) يجوز أن يستعمل في موضع ( الذي ) فيشار به إلى الغائب ويوضح بالصلة لأنه نقل من الإِشارة إلى الحاضر إلى الإِشارة إلى الغائب فاحتاج إلى ما يوضحه لما ذكرنا
وقال سيبويه : إن ( ذَا ) تجري بمنزلة ( الذي ) وحدها وتجري مع ( مَا ) بمنزلة اسم واحد فأما إجراؤهم ( ذَا ) بمنزلة ( الذي ) فهو قولهم : ماذا رأيت فيقول : متاعٌ حَسَنٌ وقال لبيد : الاتي بمشيئة الله ج4.وج5وج6.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق