الأحد، 14 مايو 2023

ج3وج4. الدر المصون في علم الكتاب المكنون المؤلف : السمين الحلبي

ج3. الدر المصون في علم الكتاب المكنون
المؤلف : السمين الحلبي

ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)

قوله تعالى : { ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ } استشكل الناسُ مجيءَ « ثم » هنا من حيث إنَّ الإِفاضة الثانية هي الإِفاضةُ الأولى؛ لأنَّ قريشاً كانت تَقِفُ بمزدلفة وسائرُ الناسِ بعرفة ، فأُمروا أن يَفيضوا من عرفةَ كسائرِ الناسِ ، فكيف يُجاء ب « ثم » التي تقتضي الترتيب والتراخيَ؟ وفي ذلك أجوبةٌ : أحدُها : أنَّ الترتيبَ في الذِّكر لا في الزمانِ الواقعِ فيه الأفعالُ ، وحَسَّنَ ذلك أن الإِفاضةَ الأولى غيرُ مأمورٍ بها ، إنما المأمورُ به ذكرُ اللهِ إذا فُعِلَت الإِفاضةَ . والثاني : أن تكونَ هذه الجملة معطوفةً على قولِه : { واتقوني يا أولي } ففي الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ وهو بعيدٌ . الثالث : أن تكونَ « ثم » بمعنى الواو ، وقد قال به بعضُ النحويين ، فهي لعطفِ كلامٍ على كلامٍ منقطعٍ من الاول . الرابع : أن الإِفاضة الثانيةَ هي من جَمْعٍ إلى مُنى ، والمخاطبون بها جميعُ الناس ، وبهذا قال جماعةٌ كالضحاك ورجَّحه الطبري ، وهو الذي يقتضيه ظاهرُ القرآنِ وعلى هذا ف « ثم » على بابها ، قال الزمخشري : « فإنْ قلت : كيف موقعُ » ثم «؟ قلت : نحوُ موقِعها في قولك : » أحْسِنْ إلى الناس ثم لا تُحْسِن إلى غير كريم « تأتي ب » ثم « لتفاوتِ ما بين الإِحسانِ إلى الكريمِ والإِحسان إلى غيرِه وبُعْدِ ما بينهما ، فكذلك حين أمرَهم بالذكر عند الإِفاضةِ من عرفات قال : » ثم أفيضوا « لتفاوتِ ما بين الإِفاضَتَيْنِ وأنَّ إحداهما صوابٌ والثانيةَ خطأٌ » . قال الشيخ : « وليست الآية نظيرَ المثال الذي مثَّله ، وحاصلُ ما ذَكَرَ أن » ثم « تَسْلُب الترتيبَ وأنَّ لها معنىً غيرَه سَمَّاه بالتفاوتِ/ والبُعْدِ لما بعدها مِمَّا قبلها ، ولم يَذْكُر في الآية إفاضة الخطأ حتى تجيء » ثم « لتفاوتِ ما بينها ، ولا نعلمُ أحداً سبقه إلى إثبات هذا المعنى لثم » . وهذا الذي ناقشَ الشيخُ به الزمخشري تحاملٌ عليه ، فإنه يعني بالتفاوتِ والبُعْد التراخيَ الواقعَ بين الرتبتين . وسيأتي له نظائرُ ، وبمثلِ هذه الأشياءِ لا يُرَدُّ كَلامُ مثلِ هذا الرجل .
و « من حيث » متعلِّقٌ بأَفيضوا ، و « مِنْ » لابتداءِ الغايةِ ، و « حيث » هنا على بابِها من كونِها ظرفَ زمانٍ ، وقال القفال : « هي هنا لزمانِ الإِفاضة » وقد تقدَّم أن هذا قولُ الأخفش ، وتقدَّم دليلُه ، وكأن القفال رام بذلك التغايرَ بين الإِفاضتين ليقع الجوابُ عن مجيء « ثم » هنا ، ولا يفيدُ ذلك لأن الزمان يستلزمُ مكانَ الفعلِ الواقعِ فيه .
و « أفاض الناسُ » في محلِّ جرٍّ بإضافة « حيثُ » إليها . والجمهورُ على رفعِ السين من « الناسُ » .

وقرأ سعيد بن جبير : « الناسي » وفيها تأويلان ، أحدهما : أنه يُراد به آدمُ عليه السلام ، وأيَّدوه بقوله : { فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } [ طه : 115 ] . والثاني : أن يُراد به التاركُ للوقوف بمزدلفة ، وهم جَمْعُ الناس ، فيكون المرادُ بالناسي حنسَ الناسين . قال ابن عطية : « ويجوزُ عند بعضِهم حذفُ الياءِ ، فيقول : » الناس كالقاضِ والهادِ « قال : أمّا جوازُه في العربية فذكره سيبويه ، وأمّا جوازُه قراءَةً فلا أحفظه » . قال الشيخ : « لم يُجِزْ سيبويه ذلك إلا في الشعر ، وأجازه الفراء في الكلامِ ، وأمّا قوله : » لم أحفظْه « قد حَفِظَه غيرُه ، حكاها المهدوي قراءةً عن سِعيد بن جبير أيضاً .
قوله : { واستغفروا الله } » استغفر « يتعدَّى لاثنين أولُهما بنفسِه ، والثاني » ب « مِنْ » ، نحو : استغفرتُ الله من ذنبي ، وقد يُحْذَفُ حرفُ الجر كقولِه :
890 أستغفرُ اللهَ ذنباً لستُ مُحْصِيَه ... ربُّ العبادِ إليه الوجهُ والعَمَلُ
هذا مذهبُ سيبويه وجمهورِ الناس . وقال ابن الطراوة : إنه يتعدَّى إليهما بنفسِه أصالةً ، وإنما يتعدَّى ب « من » لتضمُّنه معنى ما يتعدَّى بها ، فعنده « استغفرت الله من كذا » بمعنى تُبْت إليه من كذا ، ولم يَجِىءْ « استغفر » في القرآن متعدِّياً إلاَّ للأولِ فقط ، فأمَّا قولُه تعالى : { واستغفر لِذَنبِكَ } [ غافر : 55 ] { واستغفري لِذَنبِكِ } [ يوسف : 29 ] { فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ } [ آل عمران : 135 ] فالظاهرُ أنَّ هذه اللامَ لامُ العلةِ لا لامُ التعديةِ ، ومجرورُها مفعولٌ من أجلِه لا مفعولٌ به . وأمّا « غَفَر » فَذُكِرَ مفعولُه في القرآنِ تارةً : { وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله } [ آل عمران : 135 ] ، وحُذِف أخرى : { وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ } [ المائدة : 40 ] . والسين في « استغفر » للطلبِ على بابها . والمفعولُ الثاني هنا محذوفٌ للعلم به ، أي : مِنْ ذنوبكم التي فَرَطَتْ منكم .

فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200)

قوله تعالى : { مَّنَاسِكَكُمْ } : جمعُ « مَنْسَك » بفتحِ السين وكسرِها ، وسيأتي تحقيقُهما ، وقد تقدَّم اشتقاقها قريباً . والقُراء على إظهار هذا ، وروى عن أبي عمرو الإِدغامُ ، قالوا : شَبَّه الإِعرابِ بحركةِ البناءِ فَحَذَفَها للإِدغام ، وأدغم أيضاً « مناسككم » ولم يُدْغِم ما يُشْبِهه من نحو : { جِبَاهُهُمْ } [ التوبة : 35 ] و { وُجُوهُهُمْ } [ آل عمران : 106 ] قوله : { كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ } الكافُ كالكاف في قوله { كَمَا هَدَاكُمْ } [ البقرة : 198 ] إلاَّ في كونِها بمعنى « على » أو بمعنى اللام ، فَلْيُلتفت إليه . والجمهورُ على نصبِ « آباءكم » مفعولاً به ، والمصدرُ مضافٌ لفاعِلِه على الأصل . وقرأ محمد بن كعب : « آباؤكم » رفعاً ، على أنَّ المصدرَ مضافٌ للمفعولِ ، والمعنى : كما يَلْهَجُ الابنُ بذكر أبيه . ورُوِيَ عنه أيضاً : « أباكم » بالإِفراد على إرادة الجنسِ ، وهي توافِقُ قراءةَ الجماعة في كونِ المصدر مضافاً لفاعله ، ويَبْعُد أن يقال : هو مرفوعٌ على لغةِ مَنْ يُجري « أباك » ونحوَهُ مُجرى المقصورِ .
قوله : { أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً } يجوزُ في « أشد » أن يكونَ مجروراً وأَنْ يكونَ منصوباً : فأمّا جَرُّه فذكروا فيه وجهين ، أحدهما : أن يكونَ مجروراً عطفاً على « ذكِركم » المجرورِ بكافِ التشبيه ، تقديرُه : أو كذكرٍ أشدَّ ذكراً ، فتجعلُ للذكرِ ذِكْرَاً مجازاً ، وإليه ذهب الزجاج ، وتبعه أبو البقاء ، وابن عطية .
والثاني : أنه مجرورٌ عطفاً على المخفوض بإضافة المصدرِ إليه ، وهو ضميرُ المخاطبين . قال الزمخشري : « أو أَشدَّ ذكراً في موضع جر عطفاً على ما أُضِيف إليه الذكر في قولِه : » كذكركم « كما تقول : كذكرِ قريشٍ آباءَهم أو قومٍ أشدَّ منهم ذِكْراً » وهذا الذي قاله الزمخشري معنى حسنٌ ، ليس فيه تَجوُّزٌ بأَنْ يُجْعَل للذكْرِ ذِكْرٌ ، لأنه جَعَلَ « أشد » من صفات الذاكرين ، إلا أن فيه العطفَ على الضميرِ المجرور من غير إعادة الجار وهو ممنوعٌ عند البصريين ومَحَلُّ ضرورة .
وأمَّا نصبُه فمن أوجهٍ ، أحدُه : أن يكونَ معطوفاً على « آباءكم » قال الزمخشري ، فإنه قال : « بمعنى أو أشدَّ ذكراً من آبائِكم ، على أن » ذِكْراً « من فِعْلِ المذكور » وهذا كلامٌ يَحْتاج إلى تفسيرٍ ، فقولُه : « هو معطوفٌ على آباءكم » معناه أنك إذا عَطَفْتَ « أشدّ » على « آباءكم » كان التقديرُ : أو قوماً أشدَّ ذكراً من آبائكم ، فكان القومُ مذكورين ، والذكرُ الذي هو تمييزُ بعد « أشدَّ » هو من فِعْلهم ، أي : من فعلِ القوم المذكورين ، لأنه جاء بعد « أَفْعَلَ » الذي هو صفةٌ/ للقومِ ، ومعنى « من آبائِكم » أي من ذكرِكم لآبائكم وهذا أيضاً ليس فيه تجوزٌّ بأنْ جُعِل الذكرُ ذاكراً .
الثاني : أن يكونَ معطوفاً على محلِّ الكاف في « كذكركم » لأنها عندهم نعتٌ لمصدر محذوف ، تقديرُه : ذكراً كذكركم آباءكم أو أشدََّ ، وجَعَلوا الذِّكْرَ ذاكراً مجازاً كقولهم : شعرٌ شاعِرٌ ، وهذا تخريجُ أبي علي وابن جني .

الثالث : قاله مكي : أن يكونَ منصوباً بإضمار فعلٍ ، قال : « تقديرُه : فاذكروه ذكراً أشد من ذكركم لآبائكم ، فيكونُ نعتاً لمصدر في موضع الحالِ ، أي : اذكروه بالغين في الذِّكْر .
الرابع : أن يكونَ منصوباً بإضمار فعلِ الكون ، قال أبو البقاء : » وعندي أنَّ الكلام محمولٌ على المعنى ، والتقدير : أو كونوا أشدَّ لله ذِكْراً منكم لآبائكم ، ودلَّ على هذا المعنى قولُه : « فاذكروا الله » أي : كونوا ذاكِريه ، وهذا أسهلُ مِنْ حَمْلِه على المجاز « يعني المجاز الذي تقدَّم ذكره عن الفارسي وتلميذه .
الخامس : أن يكون » أشدَّ « نصباً على الحال من » ذِكْراً « لأنه لو تأخَّر عنه لكان صفةً له ، كقوله :
891 لميَّةَ موحشاًَ طَلَلٌ ... يَلُوح كأنه خِلَلُ
» موحشاً « حالٌ من » طلل « ، لأنه في الأصلِ صفةٌ ، فلما قُدِّم تعذَّر بقاؤه صفةً فَجُعِلَ حالاً ، قاله الشيخ ، فإنه قال بعد ذكره ثلاثةَ أوجه لنصبه ووجهين لجِرّه : » فهذه خمسةُ أوجه كلُّها ضعيفة ، والذي يتبادر إلى الذهنِ في الآية أنهم أُمروا بأَنْ يَذْكُروا الله ذكراً يُماثل ذكرَ آبائِهم أو أشدَّ ، وقد ساغ لنا حَمْلُ هذه الآية عليه بوجهٍ ، ذُهلوا عنه « ، فَذَكَر ما تقدم . ثم جَوَّز في » ذِكْراً « والحالةُ هذه وجهين ، أَحدُهما : أن يكونَ معطوفاً على محلِّ الكاف في » كذكركم « . ثم اعترض على نفسِه في هذا الوجه بأنه يلزم منه الفصلُ بين حرفِ العطف وهو » أو « وبين المعطوف وهو » ذِكْراً « بالحال » وهو « أشدَّ » ، وقد نصَّ النحويون [ على ] أن الفصلَ بينهما لا يجوز إلا بشرطين ، أحدُهُما : أن يكون حرفُ العطفِ أكثرَ من حرفٍ واحد . والثاني : أن يكونَ الفاصلُ قَسَماً أو ظرفاً أو جاراً ، وأحدُ الشرطين موجودٌ وهو الزيادة على حرفٍ والآخرُ مفقودٌ ، وهو كونُ الفاصل ليس أحدَ الثلاثةِ المتقدمة . ثم أجابَ بأن الحالَ مقدرةٌ بحرفِ الجر وشَبَّهه بالظرفِ فَأُجْرِيَت مُجْرَاهما .
والثاني : من الوجهين في « ذِكْراً » أن يكونَ مصدراً لقوله : « فاذكروا » ويكون قولُه : « كذكركم » في محلِّ نصبٍ على الحال من « ذِكْراً » لأنها في الأصل صفةٌ له ، فلما قُدِّمت كانت في محلِّ حال ، ويكون « أشدَّ » عطفاً على هذه الحالِ ، وتقديرُ الكلام : فاذكروا الله ذكراً كذكركم ، أي : مُشْبِهاً ذكركم أو أشدَّ ، فيصيرُ نظيرَ : « اضربْ مثل ضربِ فلانٍ ضرباً أو أشد » الأصل : اضرب ضرباً مثلَ ضَرْبِ فلانٍ أو أشدَّ .
و « ذِكْراً » تمييزٌ عند غير الشيخ كما تقدَّم ، واستشكلوا كونَه تمييزاً منصوباً وذلك أن أفعلَ التفضيلِ يجب أن تُضاف إلى ما بعدها إذا كان مِنْ جنسِ ما قبلها نحو : « وجهُ زيدٍ أحسنُ وجهٍ » ، « وعِلْمُهُ أكثرُ علم » وإنْ لم يكن مِنْ جنسِ ما قبلها وجب نصبُه نحو : « زيد أحسنُ وجهاً وخالدٌ أكثرُ علماً » .

إذا تقرَّرَ ذلكَ فقولُه : « ذِكْراً » هو من جنس ما قبلها فعلى ما قُرِّر كان يقتضي جَرَّه ، فإنه نظيرُ : « اضربْ بكراً كضربِ عمرو زيداً أو أشدَّ ضربٍ » بالجرِّ فقط . والجوابُ عن هذا الإِشكالِ مأخوذٌ من الأوجه المتقدمة في النصبِ والجر المذكورين في « أشدَّ » من حيث أن يُجْعَل الذكرُ ذاكراً مجازاً كقولهم : « شِعْرٌ شاعرٌ » كما قال به الفارسي وصاحبُه ، أو يُجْعَلَ « أشدَّ » من صفاتِ الأعيان لا من صفاتِ الإِذكار كما قال به الزمخشري ، أو يُجْعَلَ « أشدَّ » حالاً من « ذِكْراً » أو ننصبَه بفعلٍ . وهذا كلُّه وإن كان مفهوماً مِمّا تقدَّم إلا أني ذكرتُه بالتنصيص ، تسهيلاً للأمر فإنه موضعٌ يحتاج إلى نظرٍ وتأمل . وهذا نهايةُ القول في هذه المسألةِ بالنسبة لهذا الكتاب . و « أو » هنا قيل للإباحةِ ، وقيل للتخيير ، وقيل : بمعنى بل .
قوله : { مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا } « مَنْ » مبتدأٌ ، وخبرُه في الجارِّ قبله ، ويجوز أن تكونَ فاعلةً عند الأخفش ، وأن تكونَ نكرةً موصوفة . وفي هذا الكلام التفاتٌ ، إذ لو جَرَى على النسقِ الأولِ لقيل : « فمنكم » ، وحُمِل على معنى « مَنْ » إذ جاء جَمْعاً في قوله : « ربَّنا آتِنا » ، ولو حُمِل على لفظِها لقال « ربِّ آتني » .
وفي مفعول « آتِنا » الثاني - لأنه يتعدَّى لاثنين ثانيهما غيرُ الأول - ثلاثةُ أقوالٍ ، أظهرُها : أنه محذوفٌ اختصاراً أو اقتصاراً ، لأنه من باب « أعطى » ، أي : آتِنا ما نريد أو مطلوبنَا . والثاني : أن « في » بمعنى « مِنْ » أي : من الدنيا . والثالث : أنها زائدةُ ، أي : آتِنا الدنيا ، وليسا بشيء .

وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)

قوله تعالى : { فِي الدنيا حَسَنَةً } : يجوز في الجار وجهان ، أحدهما : أن يتعلَّقَ بآتِنا كالذي قبله . والثاني : أجازه أبو البقاء أن يتعلَّقَ بمحذوف على أنه حالٌ من « حسنةً » لأنه كان في الأصل صفةً لها ، فلما قُدِّم عليها انتصَبَ حالاً .
قوله : { وَفِي الآخرة حَسَنَةً } هذه الواوُ عاطفةٌ شيئين على شيئين متقدمين . ف « في الآخرة » عطفٌ على « في الدنيا » بإعادةِ العاملِ . و « حسنةً » عطفٌ على « حسنةٍ » . والواو تَعْطِفُ شيئين فأكثرَ على شيئين فأكثرَ . تقول : « أَعْلَمَ الله زيداً عمراً فاضلاً وبكراً خالداً صالحاً » اللهم إلا أن تنوبَ عن عاملين ففيها خلافٌ لأهلِ العربية وتفصيلٌ كثيرٌ يأتي في موضعِه إنْ شاء الله تعالى . وليس هذا كما زعم بعضهُم أنه من بابِ الفصلِ/ بين حرفِ العطفِ وهو على حرفٍ واحد وبين المعطوفِ بالجار والمجرور ، وجعله دليلاً على أبي علي الفارسي حيث منع ذلك إلا في ضرورةٍ؛ لأن هذا من باب عَطْفِ شيئين على شيئين كما ذكرتُ لك ، لا من باب الفصلِ ، ومحلُّ الخلافِ إنما هو نحو : « أكرمت زيداً وعندك عمراً » . وإنما يُرَدُّ على أبي علي بقولِه : { إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ [ بالعدل ] } [ النساء : 58 ] وقوله تعالى : { الله الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ } [ الطلاق : 12 ] .
وقوله : « قِنا » ممَّا حُذِفَ منه فاؤُه ولامُه من وقى يقي وقاية . أمَّا حذفُ فائه فبالحَمْلِ على المضارع لوقوعِ الواوِ بين ياءٍ وكسرةٍ ، وأمَّا حذفُ لامه فلأنَّه الأمرَ جارٍ مجرى المضارعِ المجزوم ، وجزمِه بحذفِ حرفِ العلةِ فكذلك الأمرُ منه ، فوزن « قِنا » حينئذ : عِنا ، والأصل : اوْقِنا ، فلمَّا حُذِفَت الفاءُ اسْتُغْنِي عن همزةِ الوصلِ فَحُذِفَتْ . و « عذاب » مفعولٌ ثانٍ .

أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)

قوله تعالى : { أولئك } : مبتدأ و « لهم » خبرٌ مقدم ، و « نصيب » مبتدأ ، وهذه الجملةُ خبرُ الأولِ ، ويجوز أن يكونَ « لهم » خبرَ « أولئك » ، و « نصيب » فاعلٌ به لِما تضمَّنه من معنى الفعلِ لاعتمادِه ، والمشارُ إليه بأولئك فيه قولان ، أظهرهُما : أنهما الفريقان : طالبُ الدنيا وحدَها وطالبُ الدنيا والآخرة . وقيل : بل للفريقِ الأخيرِ فقط ، أعنى طالبَ الدنيا والآخرة .
قوله : { مِّمَّا كَسَبُواْ } متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ ل « نصيب » ، فهو في محلِّ رفعٍ . وفي « مِنْ » ثلاثةُ أقوال ، أحدُها : أنها للتبعيض ، أي : نصيب من جنس ما كسبوا . والثاني : أنها للسببيةِ ، أي : من أجلِ ما كَسَبوا . والثالث : أنها للبيان . و « ما » يجوزُ فيها وجهان ، أن تكونَ مصدريةً أي : مِنْ كَسْبِهم ، فلا تحتاجُ إلى عائدٍ . والثاني : أنها بمعنى الذي ، فالعائدُ محذوفٌ لاستكمال الشروط ، أي : من الذي كسبوه .

وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)

قوله تعالى : { مَّعْدُودَاتٍ } : صفة لأيام ، وقد تقدَّم أن صفةَ ما لا يعقل يَطَّرِد جَمْعُها بالألفِ والتاءِ . وقد طَوَّل أبو البقاء هنا بسؤال وجواب ، أما السؤالُ فقال : إنْ قيل « الأيام » واحدُها « يوم » و « المعدودات » واحدتُها « معدودةٌ » ، واليومُ لا يُوَصَفُ بمعدودة لأنَّ الصفةَ هنا مؤنثة والموصوفُ مذكَّر ، وإنما الوجهُ أن يقالَ : « أيامٌ معدودةٌ » فَتَصِفُ الجمع بالمؤنثِ ، فالجوابُ أنه أَجْرى « معدودات » على لفظ أيام ، وقابَلَ الجمعَ بالجمع مجازاً ، والأصلُ معدودة ، كما قال : { لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً } [ البقرة : 80 ] ، ولو قيل : إن الأيام تَشْتمل على الساعات ، والساعةُ مؤنثة فجاء الجمعُ على معنى ساعات الأيام ، وفيه تنبيهٌ على الأمر بالذكر في كلِّ ساعاتِ هذه الأيامِ أو في معظمِها لكانَ جواباً سديداً . ونظيرُ ذلكَ الشهر والصيف والشتاء فإنَها يُجاب بها عن كم ، [ وكم ] إنما يجابُ عنها بالعدد ، وألفاظُ هذه الأشياءِ ليسَتْ عدداً وإنما هي أسماءُ المعدودات فكانت جواباً من هذا الوجهِ « وفي هذا السؤالِ والجوابِ تطويلٌ من غيرِ فائدةٍ ، وقولُه » مفرد معدودات معدودة بالتأنيث « ممنوعٌ بل مفردُهَا » معدود « بالتذكير ، ولاَ يضُرُّ جمعُه بالألفِ والتاء ، إذ الجمع بالألفِ والتاءِ لاَ يسْتْدعي تأنيثَ المفرد ، ألا ترى إلى قولِهم : حَمَّامات وسِجِلاَّت وسُرادِقات .
قوله : { فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ } » مَنْ « يجوزُ فيها وجهان ، أحدهما : أن تكونَ شرطيةً ، ف » تَعَجَّل « في محلِّ جزمٍ ، والفاءُ في قولِه : » فلا « جوابُ الشرط ، والفاءُ وما في حَيِّزها في محلِّ جزمٍ أيضاً على الجواب . والثاني : أنها موصولةٌ لا فلا محلَّ لتَعَجَّل لوقوعِه صلةً ، ولفظه ماضٍ ومعناه يحتمل المضيَّ والاستقبالَ؛ لأنَّ كلَّ ما وقع صلةً فهذا حكمُه . والفاءُ في » فلا « زائدةُ في الخبرِ ، وهي وما بعدها في محلِّ رفعٍ خبراً للمبتدأ . و » في يومين « متعلق بتَعجَّل ، ولا بد من ارتكابِ مجاز لأن الفعلَ الواقعَ في الظرفِ المعدودِ يستلزم أن يكونَ واقعاً في كلٍّ مِنْ معدوداتِه ، تقولُ : » سِرْت يومين « لا بد وأَنْ يكونَ السيرُ وقع في الأول والثاني أو بعضِ الثاني ، وهنا لا يقع التعجيل في اليوم الأول من هذين اليومين بوجهٍ ، ووجهُ المجاز : إمَّا من حيث إنه نَسَب الواقعَ في أحدهما واقعاً فيها كقوله : { نَسِيَا حُوتَهُمَا } [ الكهف : 61 ] و { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } [ الرحمن : 22 ] ، والناسي أحدُهما ، وكذلك المُخْرَجُ من أحدِهما ، وإمَّا من حيث حَذْفُ مضافٍ أي : في تمامِ يومين أو كمالِهما .
و » تعجَّل « يجوزُ أن يكونَ بمعنى استعجَلَ ، كتكبَّر واستكبر ، أو مطاوعاً لعجَّل نحو كَسَّرْتُه فَتَكَسَّر ، أو بمعنى المجرد ، وهو عَجِل ، قال الزمخشري : » والمطاوعة أوفق ، لقوله : « ومَنْ تأخَّر » ، كما هي كذلك في قوله :

892 قد يُدْرِك المتأنِّي بعضَ حاجتِه ... وقد يكونُ مع المُسْتعجِلِ الزَّلَلُ
لأجلِ قولِه « المتأني » . وتعجَّل واستعجل يكونان لازمين ومتعديين ، ومتعلَّقُ التعجيلِ محذوفٌ ، فيجوزُ أن تقدِّرَه مفعولاً صريحاً أي : من تعجَّل النَّفْر ، وأن تقدِّرَه مجروراً أي : بالنفر ، حَسَبَ استعمالِه لازماً ومتعدياً .
وفي هذه الآيات من علمِ البديعِ : الطباقُ ، وهو ذكرُ الشيء وضدِّه في « تعجَّل وتأخر » فهو كقوله : { هُوَ أَضْحَكَ وأبكى } [ النجم : 43 ] و { أَمَاتَ وَأَحْيَا } [ النجم : 43 ] وهذا طباقٌ غريب ، من حيث جَعَل ضدَّ « تَعَجَّل » : « تأخَّر » ، وإنما ضدُّ « تعجَّل » : « تأنَّى » وضدُّ تأخَّر : تقدَّم ، ولكنه في « تعجَّل » عَبَّر بالملزوم عن اللازم ، وفي « تأخَّر » باللازم عن الملزومِ . وفيها من علم البيان : المقابلةُ اللفظية ، وذلك أن المتأخِّرَ بالنَّفْر آتٍ بزيادةٍ في العبادة فله زيادةٌ في الأجر على المتعجِّل فقال في حقه أيضاً : { فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ } ليقابلَ قولَه أولاً : { فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ } ، فهو كقولِهِ : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] و { فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ } [ البقرة : 194 ] .
وقرأ الجمهور { فلا إِثْمَ } بقطعِ الهمزةِ على الأصلِ ، وقرأ سالم ابنَ عبد الله : « فلا اثمَ » بوصلِها وحَذْفِ ألفِ لا ، ووجهُه أنه خَفَّف الهمزةَ بينَ بينَ فَقَرُبَتْ من الساكنِ فَحذَفَها تشبيهاً بالألف ، فالتقى ساكنان : ألفُ لا وثاء « أثم » ، فَحُذِفت ألفُ « لا » لالتقاءِ الساكنين . وقال أبو البقاء : « ووجهُها أنَّه لمَّا خَلَطَ الاسمَ ب » لا « حَذَفَ الهمزةَ تشبيهاً لها بالألف » يعني أنه لمَّا رُكِّبت « لا » مع اسمها صارا كالشيء الواحد ، والهمزةُ شبيهةُ الألف ، فكأنه اجتمعَ ألِفان فَحُذِفَت الثانيةُ لذلك ، ثم حُذِفَت الألفُ لِما ذكرْتُ لك .
قوله : { لِمَنِ اتقى } / هذا الجارُّ خبرُ مبتدأ محذوفٍ ، واختلفوا في ذلك المبتدأ حَسَبَ اختلافِهم في تعلُّقِ هذا الجارِّ من جهةِ المعنى لا الصناعة فقيل : يتعلَّقُ من جهةِ المعنى بقولِه : { فلا إِثْمَ عَلَيْهِ } فتُقَدِّر له ما يَليقُ به أي : انتفاءُ الإِثمِ لِمَن اتَّقى . وقيل : متعلِّقٌ بقولِه : « واذكروا » أي : الذكرُ لمَنِ اتقى . وقيل : متعلِّق بقولِه : « غفورٌ رحيم » أي : المغفرة لمن اتقى . وقيل : التقديرُ : السلامة لمن اتقى . وقيل : التقديرُ : ذلك التخييرُ وَنفْيُ الإِثم عن المستعجلِ والمتأخرِ لأجلِ الحاجِّ المتَّقي ، لئلا يتخالجَ في قلبِه شيءٌ منهما فيحسَبَ أنَّ أحدَهما يُرهِقُ صاحبَه إثماً في الإِقدامِ عليه ، لأنَّ ذا التقوى حَذِرٌ متحرزٌ من كلِّ ما يُريبه . وقيل : التقديرُ : ذلكَ الذي مَرَّ ذكرهُ من أحكام الحج وغيرهِ لِمَنِ اتقى ، لأنه هو المنتفعُ به دون مَنْ سِواه ، كقوله : { ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ الله } [ الروم : 38 ] . قال هذين التقديرين الزمخشري . وقال أبو البقاء : « تقديرُه : جوازُ التعجيل والتأخير لمن اتقى » . وكلُّها أقوالٌ متقاربة . ويجوز أن يكونَ « لمَن اتقى » في محلِّ نصب على أن اللامَ لامُ التعليل ، وتيعلَّقُ بقولِه { فلا إِثْمَ عَلَيْهِ } أي : انتقى الإِثمُ لأجلٍ المتَّقي ، ومفعولُ : اتَّقى « محذوفٌ ، أي : اتَّقى اللهَ ، وقد جاءَ مصرَّحاً به في مصحفِ عبدِ الله وقيل : اتقى الصيدَ .

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204)

قولُه تعالى : { مَن يُعْجِبُكَ } : « مَنْ » يجوزُ أن تكونَ موصولةً ، وأن تكونَ نكرةً موصوفةً ، وقد تقدَّم نظيرُها أول السورة فيُنْظر هناك . والإِعجاب : استحسان الشيء والميلُ إليه والتعظيمُ له . والهمزةُ فيه للتعدي . وقال الراغب : « العَجَبُ حَيْرَةٌ تَعْرِضُ للإِنسان [ عند الجهل ] بسبب الشيء ، وليس هو شيئاً له في ذاته حالةٌ . بل هو بحسَبِ الإِضافات إلى مَنْ يَعْرِف السبب ومَنْ لا يعرفه ، وحقيقةُ أعجبني كذا : ظَهَر لي ظهوراً لم أَعْرِفْ سبَبه » . انتهى . ويقال : عَجِبْتُ من كذا ، قال :
893 عَجِبْتُ والدهرُ كثيرٌ عجبُهْ ... مِنْ عَنَزِيٍّ سَبَّني لم أَضْرِبُهْ
قوله : { فِي الحياة } في وجهانِ ، أحدهُما أن يتعلَّقَ ب « قوله » ، أي : يعجِبُك ما يقولُه في معنى الدنيا ، لأنَّ ادِّعاءَه المحبةَ بالباطلِ يَطْلُب حظاً من الدنيا . والثاني : أن يتعلَّقَ ب « يعجِبُك » أي : قولُه حلوٌ فصيحٌ في الدنيا فهو يعجبُك ولا يعجبُك في الآخرة ، لِمَا يُرْهِقُه في الموقف من الحَبْسَة واللُّكْنة ، أو لأنه لا يُؤْذَنُ لهم في الكلامِ . قال الشيخ : « والذي يظهرُ أنه متعلق بيعجُبك ، لا على المعنى الذي قاله الزمخشري ، بل على معنى أنك تستحْسِنُ مقالتَه دائماً في مدةِ حياته إذ لا يَصْدُرُ منه من القولِ إلا ما هو معجِبٌ رائقٌ لطيفٌ ، فمقالتُه في الظاهرِ مُعْجِبَةٌ دائماً ، لا تراه يَعْدِل عن تلك المقالةِ الحسنةِ الرائعة إلى مقالةٍ خَشِنَةٍ منافيةٍ » .
قوله : { وَيُشْهِدُ الله } في هذه الجملةِ وجهان ، أظهرُهما : أنها عطفٌ على « يُعْجِبَك » ، فهي صلةٌ لا محلَّ لها من الإِعراب أو صفةٌ ، فتكونُ في محلِّ رفعٍ على حَسَبِ القول في « مَنْ » . والثاني : أن تكونَ حاليةً ، وفي صاحبِها حينئذٍ وجهان ، أحدهُما : أنه الضميرُ المرفوعُ المستكنُّ في « يعجبك » ، والثاني : أنه الضميرُ المجرُور في « قوله » تقديرُه : يُعْجِبُك أَنْ يقولَ في أمر الدنيا ، مُقْسِماً على ذلك . وفي جَعْلها حالاً نظرٌ من وجهين ، أحدهُما : من جهةِ المعنى ، والثاني من جهةِ الصناعة ، وأمَّا الأول فلأنه يَلْزَمُ منه أن يكونَ الإعجابُ والقولُ مقيدين بحالٍ والظاهرُ خلافهُ . وأمَّا الثاني فلأنه مضارع مثبتٌ فلا يَقَعُ حالاً إلا في شذوذٍ ، نحو : « قُمْتُ وأصُكُّ عينه ، أو ضرورةً نحو :
894 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... نَجَوْتُ وأَرْهُنُهم مالِكا
وتقديرُه مبتدأً قبلَه على خلافِ الأصلِ ، أي : وهو يُشْهِدُ .
والجمهورُ على ضَمِّ حرفِ المضارعة وكسرِ الهاء ، مأخوذاً من أَشْهَدَ ونصبِ الجلالة مفعولاً به . وقرأ أبو حيوة وابن محيصن بفتحهِما ورفعِ الجلالةِ فاعلاً ، وقرأ أُبيّ : » يستشهد الله « . فأمَّا قراءةُ الجمهور وتفسيرُهم فإن المعنى : يَحْلف بالله ويُشْهده إنه صادق ، وقد جاءَتِ الشهادةُ بمعنى القَسَم في آية اللِّعان ، قيل : فيكونُ اسمُ الله منتصباً على حَذْفِ حرفِ الجر أي : يُقْسِمُ بالله ، وهذا سهوٌ من قائِله ، لأنَّ المستعملَ بمعنى القسَم » شَهِد « الثلاثي لا » أَشْهَد « الرباعي ، لا تقولُ : أُشْهِد بالله ، بل : أَشْهَدُ بالله ، فمعنى قراءةِ الجمهور : يَطَّلِعُ الله على ما في قلبه ، ولا يَعْلَمُ به أحدٌ لشدةِ تكتُّمِه
وأمَّا تفسيرُ الجمهورِ فيحتاجُ إلى حَذْفِ ما يَصِحُّ به المعنى ، تقديرُه : وَيْحْلِفُ بالله على خِلافِ ما في قلبه ، لأنَّ الذي في قلبه هو الكفرُ ، وهو لا يَحْلِفُ عليه ، إنما يَحْلِفُ على ضدِّه وهو الذي يُعْجِبُ سامعَه ، ويُقَوِّي هذا التأويلَ قراءةُ أبي حيوة؛ إذ معناها : وَيطَّلِعُ الله على ما في قلبه من الكفر .

وأمَّا قراءة أُبيّ فيَحْتمل استَفْعَل وجهين ، أحدهما : أن يكونَ بمعنى أَفْعل فيوافِقَ قراءةَ الجمهور . والثاني : أنه بمعنى المجرد وهو شَهِد ، وتكونُ الجلالةُ منصوبةً على إسقاطِ الخافضِ .
قوله : { وَهُوَ أَلَدُّ الخصام } الكلامُ في هذه الجملةِ كالتي قبلَها ، ونزيد عليها وجهاً آخرَ وهو أن تكونَ حالاً من الضميرِ في « يُشْهِدُ » . والأَلَدُّ : الشديدُ من اللَّدَدِ وهو شدةُ الخصومةِ ، قال :
895 إنَّ تحتَ الترابَ عَزْماً وحَزْما ... وخَصيماً أَلَدَّ ذا مِغْلاقِ
ويقال : لَدِدْتُ بكسر العين ألَدُّ بفتحهِا ، ولَدَدْتُه بفتح العَيْن ألُدُّ بضمها أي : غَلَبْتُه في ذلك فيكونُ متعدياً قال :
896 تَلُدُّ أقرانَ الرجالِ اللَّدَدِ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ورجلٌ أَلَدُّ وأَلَنْدَدٌ وَيَلَنْدَدٌ ، وامرأةٌ لَدَّاءُ ، والجمعُ لُدٌّ كحُمْر .
وفي اشتقاقهِ أقوالٌ ، أحدُها : من لُدَيْدَي العُنُق وهما صَفْحتاه قاله الزجاج ، وقيل : مَن لُدَيْدَي الوادي وهما جانباه ، سُمِّيا بذلك لاعوجاجهما وقيل : هو مِنْ لدَّه إذا حَبَسه فكأنه يَحْبِسُ خصمَه عن مفاوضِته .
وفي « الخصامِ » قولان ، أحدُهما : أنه جَمْعُ خَصْم/ بالفتح نحو : كَعْب وكِعاب وكَلْب وكِلاَب وبَحْر وبِحار ، وعلى هذا فلا تَحْتاج إلى تأويلِ ، والثاني : أنه مصدرٌ ، يقال : خاصَمَ خِصاماً نحو : قاتَل قِتالاً ، وعلى هذا فلا بد من مُصَحِّحٍ لوقوعِه خبراً عن الجثة ، فقيل : في الكلام حذفٌ من الأولِ أي : وخصامُه أشدُّ الخصامِ ، وقيل : من الثاني : أي وهو أشدُّ ذوي الخصام . وقيل : [ أُريد ] بالمصدر اسمُ الفاعلِ كما يُوصَفُ به في قولِهم : رجلٌ عَدْلٌ . وقيل : « أفْعَلُ » هنا ليسَتْ للتفضيلِ ، بل هي بمعنى لَديدُ الخِصام ، فهو من بابِ إضافةِ الصفةِ المشبهةِ . وقال الزمخشري : « والخِصامُ المُخَاصَمَةُ ، وإضافةُ الألدِّ بمعنى » في « كقولِهم : » ثَبْتُ الغَدْر « يعني أن » أَفْعَل « ليس من بابِ ما أُضيف إلى ما هو بعضه بل هي إضافةٌ على معنى » في « قال الشيخ : » وهذا مخالِفٌ لِما يَزْعمه النحاةُ من أن أَفْعَل لا تُضاف إلا إلى ما هي بعضُه ، وفيه إثباتُ الإِضافةِ بمعنى « في » وهو قولٌ مرجوحٌ . وقيل : « هو » ليس ضميرَ « مَنْ » بل ضميرُ الخصومة يفسِّرهُ سياقُ الكلامِ ، أي : وخصامُه أشدُّ الخصام . وجعل أبو البقاء « هو » ضميرَ المصدر الذي هو « قوله » فإنه قال : « وَيجوزُ أن يكونَ » هو « ضميرَ المصدرِ الذي هو » قولُه « وقوله خِصام » .

وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)

قوله تعالى : { وَإِذَا تولى سعى } : « سَعَى » جوابُ إذا الشرطية وهذه الجملةُ الشرطيةُ تحتملُ وَجْهَيْنِ ، أحدُهما : أن تكونَ عطفاً على ما قبلَها وهو « يُعْجِبُكَ » فتكون : إمَّا صلةً أو صفةً حسب ما تقدَّم في « مَنْ » ، والثاني أن تكونَ مستأنفةً لمجردِ الاخبارِ بحالِهِ ، وقد تَمَّ الكلامُ عند قولِهِ : « ألدُّ الخصام » .
والتولِّي والسَّعْيُ يحتملان الحقيقةَ أي : تولَّى ببدنِهِ عنكَ وسعى بِقَدَمَيْهِ ، والمجازَ بأن يريدَ بالتولِّي الرجوعَ عن القولِ الأولِ ، وبالسعي العملَ والكَسْبَ من السَّعاية ، وهو مجازٌ شائعٌ ، ومنه : { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى } [ النجم : 39 ] وقال امرؤُ القيس :
897 فلو أنَّ ما أسْعى لأدنى معيشةٍ ... كفاني ولم أَطْلُبْ قليلٌ من المالِ
ولكنَّمَا أسعى لمجدٍ مُؤثَّلٍ ... وقد يُدْرِكُ المجدَ المؤثَّلَ أَمْثَالي
وقال آخر :
898 أسعى على حَيِّ بني مالِكِ ... كلُّ امرىءٍ في شَأْنِهِ ساعي
والسَّعايَةُ بالقولِ ما يقتضي التفريقَ بين الأخِلاَّءِ ، قال :
899 ما قلتُ ما قال وشاةٌ سَعَوْا ... سَعْيَ عَدُوٍ بَيْنَنَا يَرْجُفُ
قوله : { فِي الأرض } « متعلِّقٌ ب » سَعَىَ « ، فإنْ قيل : معلومٌ أنَّ السَّعْيَ لا يكونُ إلاَّ في الأرضِ قيل : لأنه يُفيدُ العمومَ ، كأنه قيل : أيَّ مكانٍ حَلَّ فيه من الأرضِ أفسدَ فيه ، فَيَدُلُّ لفظُ الأرضِ على كثرة فسادِهِ ، إذ يلزَمُ مِنْ عمومِ الظَّرفِ عمومُ المظروفِ ، و » ليفسِدَ « متعلقٌ ب » سعى « علةً له .
قوله : { وَيُهْلِكَ الحرث } الجمهورُ على : » يُهْلِكَ « بضم الياء وكسر اللامِ ونصبِ الكافِ . » الحَرْثَ « مفعولٌ به ، وهي قراءةٌ واضحةٌ من : أَهْلَكَ يُهْلك ، والنصبُ عطفٌ على الفعِل قبلَهُ ، وهذا شبيهٌ بقولِهِ تعالى : { وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ } [ البقرة : 98 ] فإنَّ قولَه : » ليفسدَ « يشتملُ على أنه يُهْلكُ الحرثَ والنسلَ ، فخصَّهُما بالذكر لذلك . وقرأ أُبيّ : » وليُهْلِكَ « بإظهارِ لامِ العلة وهي معنى قراءةِ الجمهور ، وقرأ أبو حيوة - ورُويت عن ابن كثير وأبي عمرو - » وَيَهْلِكَ الحرثُ والنَّسْلُ « بفتح الياء وكسرِ اللام من هَلَك الثلاثي ، و » الحرث « فاعل ، و » النسلُ « عطفٌ عليه . وقرأ قوم : » ويُهْلِكُ الحرثَ « من أَهْلَكَ ، و » الحرث « مفعولٌ به إلا أنهم رفعوا الكافَ . وخُرِّجتْ على أربعةِ أوجهٍ : أن تكونَ عطفاً على » يُعْجِبُك « أو على » سَعَى « لأنه في معنى المستقبل ، أو على خبر مبتدأٍ محذوفٍ أي : وهو يُهْلِكُ ، أو على الاستئنافِ . وقرأ الحسن : » ويُهْلَكَ « مبنياً للمفعول ، » الحَرْثُ « رفعاً ، وقرأ أيضاً : » ويَهَلَكُ « بفتح الياء واللامِ ورفعِ الكافِ ، » الحرثُ « رفعاً على الفاعلية ، وفتحُ عينِ المضارعِ هنا شاذٌّ لفَتْحِ عينِ ماضِيهِ ، وليس عينُهُ ولا لامُهُ حرفَ حلقٍ فهو مثلُ رَكَنَ يَ‍رْكَنُ بالفتحِ فيهما . و » ألحَرثُ « تقدَّم .
والنَّسْلُ : مصدرُ نَسَلَ ينسُل أي : خَرَجَ بسرعة ، ومنه : نَسَلَ وَبَرُ البعيرِ ، ونَسَلَ ريشُ الطائِر أي : خَرَجَ وتطايَرَ ، وقيل : النسلُ الخروجُ متتابعاً ، ومنه : » نُسالُ الطائر « ما تتابعَ سقوطُهُ من ريشِهِ ، قال امرؤُ القيس :
900 وإنهْ تَكُ قَدْ سَاءَتْكِ مني خليقَةٌ ... فَسُلِّي ثيابي من ثيابِكِ تَنْسُلِ
وقوله : { مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ } [ الأنبياء : 96 ] يحتمِلُ المعنيين . و » الحرثَ والنسلَ « وإن كانا في الأصلِ مصدَرَيْنِ فإنهما هنا واقعان موقعَ المفعولِ به .

وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)

قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله } : هذه الجملةُ الشرطيةُ تحتملُ الوجهين المتقدِّمَيْنِ في نظيرتِها ، أعني كونَها مستأنفةً أو معطوفةً على « يُعْجِبُك » وقد تقدَّم أيضاً أولَ السورةِ عند قولِهِ : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ } ما الذي قام مقامَ الفاعلِ؟ وخلافُ الناسِ فيه .
قوله : « بالإِثمِ » في هذه الباءِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنْ تكونَ للتعديةِ وهو قولُ الزمخشري فإنه قال : « أَخَذْتُهُ بكذا إذا حَملْتُهُ عليه وأَلْزَمْتُهُ إياه أي : حَمَلَتْهُ العِزَّةُ على الإِثْمِ وأَلْزَمَتْهُ ارتكابَه » قال الشيخ : « وباء التعدية بابُها الفعلُ اللازم نحو : { ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ } [ البقرة : 17 ] ، { [ وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ ] بِسَمْعِهِمْ } [ البقرة : 20 ] ، ونَدَرَتِ التعديةُ بالباءِ في المتعدِّي نحو : » صَكَكْتُ الحجرَ بالحجرِ « أي : جَعَلْتُ أحدَهما يَصُكُّ الآخرَ . الثاني : أن تكونَ للسببيةِ بمعنى أنَّ إثمَه كان سبباً لأخْذِ العِزَّةِ له كما في قوله :
901 أَخَذَتْهُ عِزَّةٌ مِنْ جَهْلِهِ ... فَتَوَلَّى مُغْضَباً فِعْلَ الضَّجِرْ
والثالث : أن تكونَ للمصاحبةِ فتكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ ، وفيها حينئذٍ وجهانِ ، أحدُهما : أن تكونَ حالاً من » العزَّةُ « أي : ملتبسةً بالإِثمِ . والثاني : أن تكونَ حالاً من المفعولِ أي : أَخَذَتْهُ ملتبساً بالإِثمِ .
وفي قوله » العزَّةُ بالإِثم « التَتْميم وهو نوعٌ من عِلْمِ البديعِ ، وهو عبارةٌ عن إردافِ الكلمةِ بأُخْرَى تَرْفَعُ عنها اللَّبْسَ وتُقَرِّبُها من الفَهْم ، وذلك أنَّ العزَّةَ تكونُ محمودةً ومَذمومةً . فَمِنْ مجيئها محمودة : { وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } [ المنافقون : 8 ] { أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين } [ المائدة : 54 ] ، فلو أُطْلِقَتْ لَتَوَهَّمَ فيها بعضُ مَنْ لا عنايةَ له المحمودةَ فقيل : » بالإِثم « تتميماً للمرادِ فَرُفِعَ اللَّبْسُ بها .
قوله : { فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ } » حَسْبُهُ « مبتدأ و » جهنَّمُ « خبرُه أي : كافيهم جهنَّمُ ، وقيل : » جهنَّمُ « فاعلٌ ب » حَسْب « ، ثم اختلف القائلُ بذلك في » حَسْب « فقيل : هو بمعنى اسم الفاعل ، أي الكافي ، وهو في الأصل مصدرٌ/ أريد به اسمُ الفاعِل ، والفاعِلُ - وهو جهنَّمُ - سَدَّ مَسَدَّ الخبر ، وقَوِيَ » حَسْب « لاعتمادِهِ على الفاءِ الرابطةِ للجملةِ بما قبلَها ، وهذا كلُّه معنى كلام أبي البقاء . وقيل : بل » حَسْب « اسمُ فعلٍ ، والقائِلُ بذلك اختلَفَ : فقيل : اسمُ [ فعلٍ ] ماضٍ ، أي : كفاهم ، وقيل فعلُ أمرٍ أي : لِيَكْفِهم ، إلاَّ أن إعرابَه ودخولَ حروفِ الجر عليه يمنُع كونَه اسم فعلٍ . وقد تلخَّصَ مِمَّا تقدَّم أن » حَسْب « هل هو بمعنى اسم الفاعل وأصلُه مصدرٌ أو اسمُ فعلٍ ماضٍ أو فِعْلُ أمر؟ وهو من الأسماء اللازمةِ للإِضافةِ ، ولا يَتَعَرَّفُ بإضافتِه إلى معرفةٍ ، تقولُ ، مَرَرْتُ برجلٍ حَسْبِك ، ويُنْصَبُ عنه التمييزُ ، ويكونُ مبتدأ فيُجَرُّ بباء زائدة ، وخبراً فلا يُجَرُّ بها ، ولا يُثَنَّى ولا يُجْمَعُ ولا يُؤَنَّثُ وإنْ وقع صفةً لهذه الأشياء .

و « جهنَّمُ » اخَتَلَفَ الناسُ فيها ، فقيل : هي أعجميةٌ وعُرِّبتْ ، وأصلُها كَهْنَام ، فمنعُها من الصرفِ للعلمية والعُجْمَةِ . وقيل : بل هي عربيةُ الأصلِ ، والقائلون بذلك اختلَفوا في نونِها : هل هي زائدةٌ أم أصليةٌ؟ فالصحيحُ أنها زائدةٌ ووزنُها « فَعَنَّل » مشتقةٌ من « رَكِيَّةٌ جَهْنام » أي : بعيدةُ القَعْر ، وهي من الجَهْم وهو الكراهةُ ، وقيل : بل نونُها أصليَّةٌ ووزنُها فَعَلَّل كعَدَبَّس ، قال : لأن « فعنَّلاً » مفقودٌ في كلامِهم ، وجعل « زَوْنَكاً » فَعَلَّلاً أيضاً ، لأنَّ الواوَ أصلٌ في بناتِ الأربعةِ كوَرَنْتَل ، لكنَّ الصحيحَ إثباتُ هذا البناءِ ، وجاءَتْ منه ألفاظ ، قالوا : « ضَغَنَّط » من الضَّغاطة وهي الضخامة ، و « سَفَنَّج » و « هَجَنَّف » للظَّلِيم ، والزَّوْنَك : القصير سُمِّي بذلك لأنه يَنْزَوِكُ في مِشْيَتِهِ أي : يَتَبَخْتَرُ ، قال حسان :
902 أَجْمَعْتَ أَنَّك أنتَ أَلأَمُ مَنْ مَشَى ... في فُحْشِ زانيةٍ وَزْوكِ غُرابِ
وهذا كلُّه يَدُلُّ على أنَّ النونَ زائدةٌ في « زَوْنَكَ » وعلى هذا فامتناعُها للتأنيثِ والعلَميةِ .
« ولَبِئْسَ المِهادُ » المخصوصُ بالذَّمِّ محذوفٌ ، أي : وَلَبِئْسَ المِهادُ جَهَنَّمُ ، وحَسَّنَ حَذْفَهُ هنا كونُ « المِهاد » وقعَ فاصلةً ، وقد تقدَّمَ الكلامُ على « بئس » وخلافِ الناسِ فيها . وحُذِفَ هذا المخصوصُ بذلك على أنه مبتدأ والجملةُ من نِعْمَ وبِئْسَ خبرُهُ ، سواء تقدَّم أو تأخَّرَ؛ لأنَّا لو جَعَلْنَاه خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ أو مبتدأً محذوفَ الخبرِ ، ثم حذَفْنَاهُ ، كنا قد حَذَفْنَا الجملةَ بأسْرِهَا من غَيْرِ أنْ ينوبَ عنها شيءٌ ، وأيضاً فإنَّه يَلْزَمُ من ذلك أنْ تكونَ الجملةُ مُفْلَتَةً مِمَّا قبلها إذ ليس لها موضعٌ من الإِعرابِ ، وليست معترضةً ولا مفسِّرةً ولا صلةً ولا مستأنفةً .
والمِهَادُ فيه قولان ، أحدُهماٌٌٌ : أنه جَمْعُ « مَهْد » وهو ما يوطأُ للنومِ والثاني : أنه اسمٌ مفردٌ ، سُمِّيَ به الفراشُ المُوَطَّأُ للنومُ ، وهذا من بابِ التهكم والاستهزاءِ ، أي : جُعِلَتْ جَهَنَّمُ لهم بَدَلَ مِهادٍ يَفْترشونه وهو كقولِهِ :
903 وخيلٍ قد دَلَفْتُ لها بِخَيْلٍ ... تحيةُ بينِهم ضَرْبٌ وَجِيعُ
أي : القائمُ لهم مقامَ التحيةِ الضربُ الوجيع .

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)

قوله تعالى : { مَن يَشْرِي } : في « مَنْ » الوجهانِ المتقدِّمان في « مَنْ » الأولى ، ومعنى يَشْري : يَبيع ، قال تعالى : { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ } [ يوسف : 20 ] ، إن أَعَدْنَا الضميرَ المرفوعَ على الآخرة ، وقال :
904 وَشَرَيْتُ بُرْداً ليتني ... من بعدِ بُرْدٍ كنتُ هامَهْ
فالمعنى : يَبْذُل نفسَه في اللَّهِ ، وقيل : بل هو على أصلِهِ من الشِّراء وذلك أَنَّ صُهَيْباً اشترى نفسَه من قريشٍ لمَّا هاجَرَ ، والآيةُ نَزَلَتْ فيه .
قوله : { ابتغآء } منصوبٌ على أنه مفعولٌ من أجله . والشروطُ المقتضيةُ للنصبِ موجودةٌ . والصحيحُ أنَّ إضافةَ المفعولِ له مَحْضَةٌ ، خلافاً للجرمي والمبرد والرياشي وجماعةٍ من المتأخَّرين . و « مرضاة » مصدرٌ مبنيٌّ على تاء التأنيث كَمَدْعَاة ، والقياسُ تجريدُهُ عنها نحو : مَغْزَى ومَرْمَى
ووقَفَ حمزة عليها بالتاء ، وذلك لوجهين : أحدهما أَنَّ بعضَ العربِ يقِفُ على تاء التأنيثِ بالتاءِ كما هي : وأنشدوا :
905 دارٌ لسَلْمَى بعد حولٍ قد عَفَتْ ... بل جَوْزِ تيهاءَ كظهْرِ الجَحَفَتْ
وقد حكى هذه اللغةَ سيبويه . والثاني : أن يكونَ وقف على نيةِ الإِضافة ، كأنه نَوَى لفظَ المضافِ إليه لشدةِ اتِّصال المتضايفَيْنِ فأَقَرَّ التاءَ على حالِها مَنْبَهَةً على ذلك ، وهذا كما أَشَمُّوا الحرفَ المضمومَ ليُعْلِمُوا أنَّ الضَّمَّة كالمنطوق بها . وقد أمالَ الكسائي وورش « مَرْضات » .
وفي قولِهِ : { بالعباد } خروجٌ من ضميرِ الغَيْبَةِ إلى الاسمِ الظاهِرِ ، إذ كان الأصلُ « رؤوف به » أو « بهم » ، وفائدةُ هذا الخروجِ أنَّ لفظَ « العباد » يُؤْذِنُ بالتشريفِ ، أو لأنَّ فاصلةٌ فاخْتِير لذلك .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)

قولُه تعالى : { السلم } : قرأ هنا « السَّلْم » بالفتحِ نافعُ والكسائي وابن كثير ، والباقون بالكَسْر ، وأمَّا التي في الأنفال فلم يَقْرَأها بالكسر إلا أبو بكر وحدَه عن عاصم ، والتي في القتال فلم يَقْرأْها بالكسر إلا حمزةُ وأبو بكر وحدَه عن عاصم ، والتي في القتال فلم يَقْرَأْها بالكسر إلا حمزةُ وأبو بكر أيضاً ، وسيأتي . فقيل : هما بمعنىً وهو الصلحُ ، ويُذَكَّر ويُؤَنَّث ، قال تعالى : { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا } ، وحَكَوْا : « بنو فلان سِلْمٌ وسَلْمٌ » ، وأصلُه من الاستسلام وهو الانقيادُ ، ويُطْلَقُ على الإِسلامِ ، قاله الكسائي وجماعة ، وأنشدوا :
906 دَعَوْتُ عشيرتي للسِّلْمِ لَمَّا ... رأيُتُهمُ تَوَلَّوا مُدْبِرِينا
يُنْشَد بالكسر ، وقال آخر في المفتوح :
907 شرائِعُ السَّلْم قد بانَتْ معالِمُها ... فما يَرى الكفرَ إلا مَنْ بِه خَبَلُ
فالسِّلْمُ والسَّلْمُ في هذين البيتين بمعنى الإِسلام ، إلاَّ أنَّ الفَتْح فيما هو بمعنى الإِسلام قليلٌ . وقرىء « السَّلَم » بفتحِهِما ، وقيل : بل هما مختلفا المعنى : فبالكسر الإِسلامُ وبالفتحِ الصلحُ .
قوله : { كَآفَّةً } منصوبٌ على الحالِ ، وفي صاحبِها ثلاثةُ أقوالٍ ، أحدُها : وهو الأظهَرُ أنه الفاعلُ في « ادخُلوا » والمعنى : ادخُلُوا السِّلْم جميعاً . وهذه حالٌ تُؤَكِّدُ معنى العمومِ ، فإنَّ قولَكَ : « قام القومُ كافةً » بمنزلةِ : قاموا كلُّهم . والثاني : أنه « السِّلْم » ، قاله الزمخشري وأبو البقاء ، قال الزمخشري : « ويَجُوزُ أن تكونَ » كافةً « حالاً من » السِّلْمِ « لأنها تُؤَنَّثُ كما تُؤَنَّثُ كما تُؤَنَّث الحَرْبُ ، قال الشاعر :
908 السِّلْمُ تأخذُ منها ما رَضِيتَ به ... والحربُ يَكْفيكَ من أَنْفَاسِها جُرَعُ
على أنَّ المؤمنينَ أُمِرُوا أن يدخُلُوا في الطاعاتِ كلِّها ، ولا يَدْخُلوا في طاعةٍ دونَ طاعةٍ ، قال الشيخ : » تعليلُه كونُ « كافةً » حالاً من « السِّلم » بقولِه : « لأنها تُؤَنَّثُ كما تُؤَنَّثُ الحرب » ليس بشيء/ لأنَّ التاءَ في « كافة » ليست للتأنيثِ ، وإن كان أصلُها أَنْ تَدُلُّ عليه ، بل صار هذا نقلاً مَحْضاً إلى معنى جميع وكل ، كما صار قاطبةً وعامَّة إذا كانَ حالاً نَقْلاً مَحْضاً . فإذا قلت : « قامَ الناسُ كافً وقاطبةً » لم يَدُلَّ شيءٌ من ذلك على التأنيث ، كما لا يَدُلُّ عليه « كُلّ » و « جميع » .
والثالثُ : أن يكونَ صاحبُ الحالِ هما جميعاً ، أعني فاعلَ « ادخُلُوا » و « السِّلْم » فتكونُ حالاً من شيئين . وهذا ما أجازه ابنُ عطية فإنه قال : « وتَسْتَغْرِقُ » « كافة » حينئذٍ المؤمنين وجميعَ أجزاءِ الشرع ، فتكونُ الحالُ مِنْ شيئين ، وذلك جائِزٌ نحو قولِهِ : { فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ } [ مريم : 37 ] . ثم قال بعد كلامٍ : « وكافةً معناه جميعاً ، فالمرادُ بالكافة الجماعةُ التي تَكُفُّ مخالِفيها » .

وقوله : « نحو قوله : تَحْمِلُه » يعني أنَّ « تَحْمِلُهُ » حالٌ من فاعل « أَتَتْ » ومِنَ الهاء في « بِهِ » . قال الشيخ : « هذا المثالُ ليس مطابقاً للحال من شيئين لأنَّ لفظَ » تَحْمِلُهُ « لا يحتمل شيئين ، ولا تقع الحالُ من شيئين إلا إذا كان اللفظُ يحتملُهما ، واعتبارُ ذلك بجَعْلِ ذوي الحال مبتدأين ، وجَعَل تلك الحالَ خبراً عنهما ، فمتى صَحَّ ذلك صَحَّتِ الحالُ نحو :
909 وَعُلِّقْتُ سلمى وَهْيَ ذاتُ مُوَصَّدٍ ... ولم يَبْدُ للأتْرابِ من ثَدْيِها حَجْمُ
صَغِيرَيْنِ نَرْعى البَهْم يا ليت أنَّنا ... إلى اليومِ لم نَكْبَر ولم تكْبَرِ البُهْمُ
فصغيرَيْنِ حالٌ من فاعل » عُلِّقْتُ « ومن » سلمى « لأنك لو قُلْت : أنا وسَلْمى صغيران [ لَصَحَّ ] ، ومثلُه قولُ امرىءِ القيس :
910 خَرَجْتُ بها نمشي تَجُرُّ وراءَنا ... على أَثَرَيْنَا ذَيْلَ مِرْطٍ مُرَحَّلِ
فنمشي حالٌ من فاعل » خَرَجْتُ « ومن » ها « في » بها « ، لأنَّك لو قلت : » أنا وهي نمشي « لصَحَّ ، ولذلك أَعْرب المُعْرِبون » نَمْشِي « حالاً منهما كما تَقَدَّم ، و » تَجُرُّ « حالاً من » ها « في » بها « فقط ، لأنه لا يصلح أن تجعل » تَجُرُّ « خبراً عنهما ، لو قلت : » أنا وهي تَجَرُّ « لم يَصِحَّ فكذلك يتقدَّر بمفردٍ وهو » جارَّة « وأنت لو أَخْبَرْتَ به عن اثنين لم يَصِحَّ فكذلك » تحمله « لا يَصْلُح أن يكونَ خبراً عن اثنين ، فلا يَصِحُّ أن يكونَ حالاً منهما ، وأمَّا » كافة « فإنها بمعنى » جميع « ، و » جميع « يَصحُّ فيها ذلك ، لا يُقال : » كافة « لا يَصحُّ وقوعُها خبراً لو قلتَ : » الزيدون ، والعمرون كافة « لم يَجُزْ ، فلذلك لا تقع حالاً على ما قَرَّرتُ؛ لأنَّ ذلك إنما هو بسبب التزام نصب » كافةً « على الحال ، وأنها لا تتصرَّف لا من مانعِ معنوي ، بدليلِ أنَّ مرادفها وهو » جميع « و » كل « يُخْبَرُ به ، فالعارضُ المانِعُ ل » كافَّة « من التصرُّفِ لا يَضُرُّ ، وقوله : » الجماعة التي تَكُفُّ مخالِفيها « يعني أنَّها في الأصلِ كذلك ، ثم صار استعمالها بمعنى جميع وكُل » .
واعلَمْ أنَّ أصلَ « كافة » اسمُ فاعل من كَفَّ يَكُفُّ أي مَنَع ، ومنه : « كَفُّ الإِنسان » ، لأنها تَمْنَعُ ما يقتضيه ، و « كِفّة الميزان » لجمعِها الموزون ، والكُفَّة بالضم لكل مستطيلٍ ، وبالكسر لكلِّ مستدير . وقيل : « كافة » مصدرٌ كالعاقبة والعافية . وكافة وقاطبة مِمَّا لَزِم نصبُهما على الحالِ فإخراجُهما عن ذلك لَحْنٌ .

فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)

والجمهورُ على { زَلَلْتُمْ } : بفتح العين ، وأبو السَّمَّال قرأها بالكسرِ ، وهما لغتان كضَلَلْتُ وضَلِلْتُ . و « ما » في « مِنْ بعدِما » مصدريَّةٌ ، و « مِنْ » لابتداءِ الغايةِ ، وهي متعلِّقَةٌ ب « زَللْتُم » .

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)

قولُه تعالى : { هَلْ يَنظُرُونَ } : « هل » لفظُهُ استفهامٌ والمرادُ به النفيُ كقوله :
911 وهلْ أنا إلا مِنْ غُزَيَّةَ إنْ غَوَتْ ... غَوَيْتُ وإنْ تَرْشُدْ غُزَيَّةُ أَرْشُدِ
أي : ما ينظُرون ، وما أنا ، ولذلك وقَعَ بعدها « إلاَّ » كما تَقَعُ بعد « ما » .
و « يَنْظُرون » هنا بمعنى يَنْتَظِرُون ، وهو مُعَدَّىً بنفسِه ، قال امرؤ القيس :
912 فإنَّكما إنْ تَنْظُراني ساعةً ... من الدَّهْرَ يَنْفَعْني لدى أُمِّ جُنْدَبِ
وليس المرادُ هنا بالنظرِ تَرَدُّدَ العينِ ، لأنَّ المعنى ليس عليه . واستدّلَّ بعضُهم على ذلك بأن النظر بمعنى البصر يتعدَّى بإلى ، ويُضافُ إلى الوجه ، وفي الآية الكريمة متعدٍّ بنفسِه ، وليسَ مضافاً إلى الوجه ، ويعني بإضافته إلى الوجهِ قوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [ القيامة : 23 ] فيكونُ بمعنى الانتظار . وهذا ليس بشيءٍ . أمَّا قولُه : « إنَّ الذي بمعنى البصر يتعدَّى بإلى فمُسَلَّم ، قوله : » وهو هنا متعدٍّ بنفسه « ممنوعٌ ، إذ يُحتمل أن يكونَ حرفُ الجر وهو » إلى « محذوفاً ، لأنه يَطَّرِدُ حَذْفُه مع » أَنْ « ، إذا لم يكن لَبْسٌ ، وأمَّا قولُه : » يُضافُ إلى الوجهِ « فممنوعٌ أيضاً ، إذ قد جاء مضافاً للذاتِ . قال تعالى : { أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ } [ الأعراف : 143 ] { أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل } [ الغاشية : 17 ] . والضميرُ في » ينظرون « عائدٌ على المخاطبين بقولِه : » زَلَلْتُم « فهو التفاتٌ .
قولُه : { إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ } هذا مفعولُ » ينظرون « وهو استثناءٌ مفرَّغٌ أي : ما ينظرون إلا إتيان الله .
قوله : { فِي ظُلَلٍ } فيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدُها : أن يتعلَّق بيأتِيَهم ، والمعنى : يأتيهم أمرُه أو قُدْرَتُه أو عقابُه أو نحوُ ذلك ، أو يكونُ كنايةً عن الانتقام؛ إذ الإتيان يمتنعُ إسنادُه إلى الله تعالى حقيقةً . والثاني : أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ ، وفي صاحبها وجهان ، أحدُهما : هو مفعولُ يأتيهم ، أي : في حالِ كونِهم مستقرين في ظُلَل وهذا حقيقةٌ . والثاني : أنه الله تعالى بالمجاز المتقدَّم ، أي : أمرُ الله في حال كونه مستقراً في ظُلَل . الثالث : أن تكونَ » في « بمعنى الباء ، وهو متعلقٌ بالإِتيانِ ، أي : إلاَّ أَنْ يأتيهم بظُلَل . ومِنْ مجيءِ » في « بمعنى الباءِ قوله :
913 . . . . . . . . . . . . . . . . . ... خَبيرون في طَعْنِ الكُلى والأباهِرِ
لأنَّ » خبيرين « إنَّما يتعدَّى بالباءِ كقوله :
914 . . . . . . . . . . . . . . . . ... خبيرٌ بأَدْواءِ النِّساء طَبيبُ
الرابع : أن يكونَ حالاً من » الملائكة « مقدَّماً عليها ، والأصل : إلاَّ أَنْ يأتيَهم اللهُ والملائكةُ في ظُلَلٍ ، ويؤيَّد هذا قراءة عبد الله إياه كذلك ، وبهذا أيضاً يَقِلُّ المجازُ ، فإنَّه والحالةُ هذه لم يُسْنَدْ إلى اللهِ تعالى إلا الإِتيانُ فقط بالمجازِ المتقدِّم .
وقرأ أُبَيّ وقتادةُ والضحاكُ : في ظلالٍ ، وفيها وجهان ، أَحدُهما : أَنَّها جمع ظِلّ نحو : صِلّ وصِلال .

والثاني : أنها جمعُ ظُلَّة كقُلَّة وقِلال ، وخُلَّة وخِلال ، إلاَّ أنَّ فِعالاً لا يَنقاس في فُعْلَة .
قوله : { مِّنَ الغمام } فيه وجهانِ ، أحدُهما : أنه متعلقٌ بمحذوف؛ لأنه صفةٌ ل « ظُلَل » التقدير : ظُلَلٍ كائنةٍ من الغَمام . و « مِنْ » على هذا للتبعيضِ .
والثاني : أنها متعلقةٌ ب « يأتيهم » ، وهي على هذا لابتداءِ الغاية ، / أي : من ناحيةِ الغمام .
والجمهور : « الملائكةُ » رفعاً عطفاً على اسم « الله » . وقرأ الحسن وأبو جعفر : « والملائكةِ » جراً وفيه وجهان ، أحدُهما : الجر عطفاً على « ظُلَلٍ » ، أي : إلا أن يأتيهم في ظللٍ وفي الملائكة؛ والثاني : الجر عطفاً على « الغمام » أي : من الغمام ومن الملائكة ، فتوصفُ الملائكة بكونِهَا ظُللاً على التشبيه .
قوله : { وَقُضِيَ الأمور } الجمهور على « قُضِيَ » فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول وفيه وجهان ، أحدُهما : أن يكونَ معطوفاً على « يَأْتِيهم » وهو داخلٌ في حَيِّز الانتظار ، ويكونُ ذلك من وَضْعِ الماضي موضعَ المستقبل ، والأصل ، ويُقْضى الأمر ، وإنما جِيء به كذلك لأنه محققٌ كقوله : { أتى أَمْرُ الله } [ النحل : 1 ] . والثاني : أن يكونَ جملةً مستأنفةً برأسِها ، أَخْبر الله تعالى بأنه قد فَرَغَ من أمرهم ، فهو من عطفِ الجملِ وليس داخلاً في حَيِّز الانتظار ، وقرأ معاذ ابن جبل « وقضاء الأمر » قال الزمخشري : « على المصدرِ المرفوع عطفاً على الملائكة » . وقال غيرُه : بالمدِّ والخفض عطفاً على « الملائكة » قيل : « وتكون على هذا » في « بمعنى الباء » أي : بُظللٍ وبالملائكةِ وبقضاء الأمر ، فيكونُ عن معاذ قراءتان في الملائكة : الرفعُ والخفضُ ، فنشأ عنهما قراءتان له في قوله : « وقُضي الأمر » .
قوله : { وَإِلَى الله تُرْجَعُ الامور } هذا الجار متعلِّقٌ بما بعدَه ، وإنما قُدِّم للاختصاص ، أي : لا تَرْجعُ إلا إليه دون غيره . وقرأ الجمهور : « تُرْجَعُ » بالتأنيث لجريان جمعِ التكسير مَجْرى المؤنث ، إلاَّ أنَّ حمزةَ والكسائي ونافعاً قرؤوا ببنائِه للفاعل ، والباقون ببنائِه للمفعول ، و « رجع » يُستعمل متعدياً تارةً ولازماً أخرى . وقال تعالى : { فَإِن رَّجَعَكَ الله } [ التوبة : 83 ] فجاءت القراءتان على ذلك ، وقد سُمِع في المتعدي « أرجع » رباعياً وهي لغةٌ ضعيفة ، ولذلك أَبَت العلماءُ أن تَجْعَل قراءَة مَنْ بناه للمفعول مأخوذةً منها . وقرأ خارجة عن نافع :
« يُرْجَعُ » بالتذكير وببنائه للمفعول لأن تأنيثه مجازي ، والفاعلُ المحذوفُ في قراءةِ مَنْ بناه للمفعول : إمَّا اللهُ تعالى ، أي : يرجعها إلى نفسه بإفناء هذه الدار ، وإمَّا ذوو الأمور؛ لأنه لَمَّا كانت ذواتُهم وأحوالُهم شاهدةً عليهم بأنهم مَرْبوبون مَجْزِيُّون بأعمالهم كانوا رادِّين أمورَهم إلى خالقها .

سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)

قوله تعالى : { سَلْ } : قرأ الجمهور : « سَلْ » وهي تحتمل وجهين ، أحدُهما : أَن تكونَ مِنْ لغة : سال يَسال مثل : خاف يخاف ، وهل هذه الألفُ مُبْدَلَةٌ من همزة أو واو أو ياء؟ خلافٌ تقدَّم في قوله : { فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ } فحينذٍ يكونُ الأمر منها : « سَلْ » مثل « خَفْ » ، لَمَّا سكنت اللام حَمْلاً للأمر على المجزوم التقى ساكنان فَحُذِفت العين لذلك ، فوزنُه على هذا فَلْ . والثاني : أن تكون من سأل بالهمز ، والأصل : اسْأَلْ ثم أُلقيت حركة الهمزة على السين تخفيفاً ، واعتدَدْنا بحركةِ النقلِ فاستَغْنينا عَنْ همزة الوصلِ فَحَذَفْنَاها ووزنُه أيضاً : فُلْ بحذفِ العين ، وإن كان المأخَذُ مختلفاً . وروى عباس عن أبي عمرو : « اسأَلْ » على الأصْلِ من غير نَقْلٍ . وقرأ قومُ : « اسَلْ » بالنقلِ وهمزةِ الوصلِ ، كأنهم لم يَعْتَدُّوا بالحركةِ المنقولةِ كقولِهم : « الحْمَر » بالهمز . وسيأتي لهذه المسائل مزيدُ بيانٍ في مواضِعها كما ستقفُ عليه إنْ شاء الله . و « بنى » مفعولٌ أولُ عند الجمهور .
وقوله : { كَمْ آتَيْنَاهُم } في « كَمْ » وجهانِ ، أحدُهما أنَّها في محل نصبٍ . واختُلف في ذلك فقيل : نصبُها على أنها مفعولٌ ثانٍ لآتيناهم على مذهبِ الجمهور ، وأولُ على مذهبِ السهيلي ، كما تقدَّم تقريرُه . وقيل : يجوزُ أَن يَنْتَصِبَ بفعل مقدَّر يفسِّرهُ الفعلُ بعدَها تقديرُه : كم آتينا آتيناهم ، وإنما قدَّرْنَا ناصبَها بعدَها لأنَّ الاستفهامَ له صدُر الكلامِ ولا يَعْمَلُ فيه ما قبلَه ، قاله ابنُ عطية ، يعني أنه عنده من بابِ الاشتغالِ . قال الشيخ : « وهذا غيرُ جائز إنْ كان » من آية « تمييزاً ، لأن الفعلَ المفسِّر لم يعملْ في ضمير » كم « ولا في سببّها ، وإذا لم يكن كذلك امتنع أن يكون من باب الاشتغال ، إذ من شرطِ الاشتغال أن يعملَ المفسِّرُ في ضميرِ الأولِ أو في سببِّه . ونظيرُ ما أجازه أن تقولَ : » زيداً ضربْتُ « ويكونُ من بابِ الاشتغال ، وهذا ما لا يُجيزه أحدٌ . فإنْ قُلْنَا إنَّ مميِّزها محذوفٌ ، وأُطْلِقَتْ » كم « على القوم جاز ذلك لأنَّ في جملةِ الاشتغالِ ضميرَ الأول ، لأنَّ التقديرَ : » كم من قومٍ آتيناهُمْ « قلت : هذا الذي قاله الشيخُ مِنْ كونِه لا يتمشَّى على كونِ » من آية « تمييزاً قد صَرَّح به ابنُ عطية فإنه قال : » وقولُه « مِن آية » هو على التقديرِ الأولِ مفعولٌ ثانٍ لآتيناهم ، وعلى الثاني في موضعِ التمييز « يعني بالأول نصبَها على الاشتغالِ ، وبالثاني نصبَها بما بعدَها .
والثاني من وَجْهَي كم : أن تكون في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ والجملةُ بعدَها في محلِّ رفعٍ خبراً لها والعائدُ محذوفٌ تقديرُه : كم آتيناهموها أو أتيناهم إياها ، أجاز ذلك ابنُ عطية وأبو البقاء ، واستَضْعَفَه الشيخ من حيث إنَّ حَذْفَ عائدِ المنصوبِ لا يجوزُ إلاَّ في ضرورةٍ كقوله .

915 وخالدٌ يَحْمَدُ ساداتُنا ... بالحقِّ لا يُحْمَدُ بالباطِل
أي : وخالدٌ يحمَدُه/ . وهذا نقلُ بعضِهم ، وأمَّا ابنُ مالك فَنَقَل أنَّ المبتدأ إذا كانَ لفظَ « كُل » أو ما أشبهها في الانتقار والمعموم جازَ حَذْفُ عائده المنصوب اتفاقاً من البصريين والكوفيين ، ومنه : { وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى } [ النساء : 95 ] في قراءة نافعٍ ، وإذا كان المبتدأُ غيرَ ذلك فالكوفيون يَمْنَعُون ذلك إلاَّ في السَّعَةِ ، والبصريُّون يُجيزونه بضعفٍ ، ومنه : { أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ } [ المائدة : 50 ] برفع « حكم » . فقد حَصَل أنَّ الذي أجازَه ابن عطية ممنوعٌ عند الكوفيين ضعيفٌ عند البصريين .
وهل « كَمْ » هذه استفهاميةٌ أو خبريةٌ؟ الظاهرُ الأولُ ، وجَوَّزَ الزمخشري فيها الوجهين ، ومَنَعَه الشيخُ من حيث « إنَّ » كَمْ « الخبرية مستقلةٌ بنفسها غيرُ متعلقةٍ بالسؤال ، فتكونُ مفلتةً مِمّا قبلها ، والمعنى يؤدِّي إلى انصباب السؤال عليها ، وأيضاً فَيَحْتَاج إلى حَذْفِ المفعول الثاني للسؤالِ تقديرُه : سَلْ بَنِي إسرائيل عن الآيات التي آتيناهم ، ثم قال : كثيراً من الآيات التي آتيناهم ، والاستفهاميةُ لا تحتاجُ إلى ذلك .
و » من آيةٍ « فيه وجهان ، أحدُهما : أنها مفعولٌ ثانٍ على القولِ بأن » كم « منصوبةٌ على الاشتغال كما تقدَّم تحقيقُه ، ويكون مميِّز » كم « محذوفاً ، و » مِن « زائدةٌ في المفعول؛ لأنَّ الكلام غيرُ موجب إذ هو استفهامٌ . وهذا إذا قلنا إنَّ » كم « استفهاميةٌ لا خبريةٌ ، إذ الكلام مع الخبرية إيجابٌ ، و » مِنْ « لا تُزادُ في الواجب إلا على رأي الأخفش والكوفيين ، بخلاف ما إذا كانت استفهاميةً . قال الشيخ : » فيمكن أن يجوزَ ذلك فيه لانسحابِ الاستفهام على ما بعده وفيه بُعْدٌ ، لأنَّ متعلَّقَ الاستفهامِ هو المفعولُ الأول لا الثاني ، فلو قلت : « كم من درهمٍ أعطيتهُ من رجلٍ » على زيادةِ « من » في « رجل » لكان فيه نظرٌ « انتهى .
والثاني : أنها تمييزٌ ، ويجوزُ دخولُ » مِنْ « على ممِّيِز » كم « استفهاميةٌ كانت أو خبريةً مطلقاً ، أي : سواءً وليها مميِّزها أم فُصِل بينهما بجملةٍ أو ظرفٍ أو جارٍ ومجرورٍ ، على ما قَرَّره النحاةُ . و » كم « وما في حَيِّزها في محلِّ نصب أو خفضٍ ، لأنها في محلِّ المفعول الثاني للسؤال فإنه يتعدَّى لاثنين : إلى الأول بنفسه وإلى الثاني بحرفِ جَر : إمّا عن وإمَّا الباء نحو : سألته عن كذا وبكذا ، قال تعالى : { فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً } [ الفرقان : 59 ] ، وقد جُمِع بينهما في قوله :
916 فَأَصْبَحْنَ لا يَسْأَلْنني عن بما بِه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد يُحْذَفُ حرفُ الجرِّ ، فمِنْ ثَمَّ جاز في محلِّ » كم « النصبُ والخفضُ بحسَبِ التقديرين و » كم « هنا معلِّقةٌ للسؤال ، والسؤالُ لا يُعَلَّقُ إلا بالاستفهامِ كهذه الآية ، وقوله تعالى :

{ سَلْهُمْ : أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ } [ القلم : 40 ] وقوله :
917 يا أيُّها الراكبُ المُزْجِي مَطِيَّتَه ... سائلْ بني أسدٍ ما هذه الصَّوْتُ
وقال آخر :
918 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... واسألْ بمَصْقَلَةَ البَكْرِيِّ ما فَعَلا
وإنما علَّق السؤالَ وإن لم يكن من أفعال القلوب ، قالوا : لأنه سببٌ للعلمِ والعلمُ يُعَلَّق فكذلك سَبَبُه ، وإذا كانوا قد أَجْرَوا نقيضه في التعليق مُجْراه في قوله :
919 - وَمَنْ أنتُمُ إنَّا نسِينا مَنَ أَنْتُمُ ... وريحُكمُ من أيِّ ريحِ الأَعاصِرِ
فإجراؤهم سبَبَه مُجْراه أَوْلى .
واختلفَ النحويون في « كم » : هل بسيطةٌ أو مركبةٌ من كافِ التشبيه وما الاستفهاميةُ حُذِفَتْ ألفُها لانجرارِها ، ثم سُكِّنَتْ ميمُها ، كما سُكِّنَّتْ ميمُ « لِمْ » من « لِمْ فَعَلْتَ كذا » في بعض اللغاتِ ، فَرُكِّبتا تركيباً لازماً؟ والصحيحُ الأول . وأكثرُ ما تجيء في القرآنِ خبريةً مراداً بها التكثيرُ ولم يأتِ مميِّزُها في القرآنِ إلا مجروراً بِمِنْ .
قوله : { وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ الله } « مَنْ » شرطيةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداء . وقد تقَدَّمَ الخلافُ في خبرِ اسمِ الشرطِ ما هو؟ ولا بُدَّ للتبديل من مفعولين : مُبَدَّل وبَدَل ، ولم يَذْكر هنا إلا أحدَهما وهو المُبَدَّل ، وحَذَفَ البَدَلَ ، وهو المفعول الثاني لفهمِ المعنى . وقد صَرَّح به في قوله : { بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً } [ إبراهيم : 28 ] فكفراً هو المحذوفُ هنا . وكان قد تقدَّم عند قولِهِ تعالى : { فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ } [ البقرة : 59 ] أن « بَدَّل » يتعدَّى لاثنين أحدُهما بنفسه وهو البدلُ وهو الذي يكون موجوداً وإلى الآخر بحرفِ الجر وهو المُبَدَّلُ وهو الذي يكون متروكاً ، وقد يُحْذَفُ حرفُ الجَرِّ لفهمٍ المعنى فالتقدير هنا : « وَمَنْ يُبَدِّل بنعمتِهِ كفراً » ، فَحَذَفَ حرفَ الجر والبدل لفهمِ المعنى . ولا جائِزٌ أَنْ تُقَدِّر حرفَ الجر داخِلاً على « كفراً » فيكونَ التقديرُ : « وَمَنْ يُبَدِّل بالكفرِ نعمةَ الله » لأنه لا يترتَّبُ عليه الوعيد في قوله : { فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب } . وكذلك قولُه : { فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } [ الفرقان : 70 ] تقديرُهُ : بسيئاتهم حسناتٍ ، ولا يجوز تقديرُه : « سيئاتِهِم بحسناتٍ » لأنه لا يترتَّبُ على قوله : { إِلاَّ مَن تَابَ } .
وقُرِىء : « يُبْدِل » مخففاً ، و « مِنْ » لابتداءِ الغايةِ . و « ما » مصدريةٌ ، والعائدُ من جملةِ الجزاءِ على اسمِ الشرطِ محذوفٌ لفهمِ المعنى أي : العقاب له ، أو لأنَّ « أَلْ » نابَتْ منابَه عند الكوفيين .

زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)

قوله تعالى : { زُيِّنَ } : إنَّما لم تَلْحَقِ الفعلَ علامةُ تأنيثٍ لكونِهِ مؤنثاً مجازياً ، وحَسَّن ذلك الفصلُ . وقرأ ابن أبي عبلة : « زُيِّنَتْ » بالتأنيث مراعاةً للفظِ . وقرأ مجاهد وأبو حيوة : « زَيَّنَ » مبنياً للفاعل ، و « الحياة » مفعولٌ ، والفاعلُ هو الله تعالى ، والمعتزلةُ يقولون : إنه الشيطان .
وقوله : { وَيَسْخَرُونَ } يَحْتَمِل أن يكونَ من باب عَطْفِ الجملةِ الفعلية على الجملة الفعليةِ ، لا من بابِ عطفِ الفعلِ وحدَه على فعلٍ آخرَ ، فيكونُ من عطف المفردات ، لِعَدَمِ اتِّحادِ الزمانِ . ويَحْتَمل أن يكونَ « يَسْخَرُون » خبرَ مبتدأ محذوفٍ ، أي : وهم يَسْخَرُون فيكون مستأنفاً ، وهو من عَطْفِ الجملةِ الاسمية على الفعلية . وجِيءَ بقولِهِ : « زُيِّن » ماضياً دلالةً على أنَّ ذلك قد وقع وَفُرِغَ منه ، وبقوله : « وَيَسْخَرُون » مضارعاً دلالةً/ على التَّجَدُّدِ والحدوثِ .
قوله : { والذين اتقوا فَوْقَهُمْ } مبتدأٌ وخبرٌُ ، و « فوق » هنا تَحْتَمل وجهين ، أحدُهما : أن تكونَ ظرفَ مكانٍ على حقيقتِها ، لأنَّ المتقين في أَعلى عَلِّيِّين ، والكافرين في أسفلِ سِجِّين . والثاني : أن تكون الفوقيةُ مجازاً : إمَّا بالنسبة إلى نعيمِ المؤمنين في الآخرة ونعيمِ الكافرين في الدنيا . و « يوم » منصوب بالاستقرار الذي تعلَّق به « فوقهم » .
قولُه : { مَن يَشَآءُ } مفعولُ « يشاء » محذوفٌ ، أي : مَنْ يشاءُ أَنْ يَرزقَه . و « بغيرِ حساب » هذا الجارُّ فيه وجهان ، أحدُهما : أنه زائدٌ . والثاني : أنه غيرُ زائدٍ ، فعلى الأول لا تَعَلُّقَ له بشيء ، وعلى الثاني هو متعلِّقٌ بمحذوف . فأمّا وجهُ الزيادةِ : فهو أنه تقدَّمه ثلاثةُ أشياءَ في قوله : { والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ } الفعلُ والفاعلُ والمفعولُ ، وهو صالحٌ لأنْ يتعَلَّقَ من جهةِ المعنى بكلِّ واحدٍ منها ، فإذا تعلَّق بالفعلِ كان من صفاتِ الأفعالِ ، تقديرُهُ : والله يرزق رزقاً غيرَ حساب ، أي : غير ذي حساب ، أي : أنه لا يُحْسَب ولا يُحْصَى لكثرتِهِ ، فيكونُ في محلِّ نصبٍ على أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ ، والباءُ زائدةٌ .
وإذا تَعَلَّقَ بالفاعل كان من صفاتِ الفاعلين ، والتقديرُ : واللَّهُ يرزق غيرَ محاسِبٍ بل متفضلاً أو غيرَ حاسِبٍ ، أي : عادٍّ . ف « حساب » واقعٌ موقعَ اسمِ فاعلٍ من حاسَب أو من حَسَبَ ، ويجوزُ أن يكونَ المصدرُ واقعاً موقعَ اسمِ مفعولٍ من حاسَبَ ، أي : الله يرزقُ غيرَ مُحَاسَبٍ أي : لا يحاسبه أحدٌ على ما يُعْطِي ، فيكونُ المصدرُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الفاعل ، والباءُ فيه مزيدةٌ .
وإذا تعلَّق بالمفعولِ كانَ من صفاتِهِ أيضاً والتقديرُ : والله يرزقُ مَنْ يشاء غيرَ محاسَبٍ أو غيرَ محسوبٍ عليه ، أي : معدودٍ عليه ، أي : إنَّ المرزوق لا يحاسِبُهُ أحدٌ ، أو لا يَحْسُبُ عليه أي : لا يَعُدُّ . فيكونُ المصدرُ أيضاً واقعاً موقعَ اسمِ مفعولٍ من حاسَبَ أو حَسَبَ ، أو يكونُ على حَذْفِ مضافٍ أي غيرَ ذي حساب أي : محاسبة ، فالمصدرُ واقعٌ موقعَ الحالِ والباءُ أيضاً زائدةٌ فيه ، ويحتمل في هذا الوجهِ أن يكونَ المعنى أنه يُرْزَق مِنْ حيثُ لا يَحْتَسِبُ ، أي : من حيث لا يظنُّ أن يأتيَه الرزقُ ، والتقديرُ : يرزقُه غيرَ محتسِب ذلك ، أي : غيرَ ظانٍّ له ، فهو حالٌ أيضاً .

ومثلُه في المعنى { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } [ الطلاق : 3 ] وكونُ الباء تُزادُ في الحال ذكروا لذلك شرطاً - على خلافٍ في جواز ذلك في الأصل - وهو أن تكون الحال منفيَّةً كقوله :
920 فما رَجَعَتْ بخائبةٍ رِكابٌ ... حكيمُ بن المُسَيَّب مُنْتَهَاها
وهذه الحالُ - كما رأيتَ - غيرُ منفيةٍ فالمنعُ من الزيادة فيها أَوْلى .
وأمَّا وجهُ عدمِ الزيادةِ فهو أن تَجْعَلَ الباءَ للحالِ والمصاحبة . وصلاحيةُ وصفِ الأشياء الثلاثة - أعني الفعلَ والفاعلَ والمفعولَ - بقولِهِ : « بغير حساب » باقيةٌ أيضاً ، كما تقدَّم في القولِ بزيادَتِها . والمُراد بالمصدرِ المحاسبةُ أو العدُّ والإِحصاءُ أي : يرزقُ مَنْ يشاء ولا حسابَ على الرزقِ ، أو ولا حسابَ للرازق ، أو ولا حسابَ على المرزوق ، وهذا أَوْلَى لما فيه من عدمِ الزيادةِ ، التي الأصلُ عدمُها ولِما فيه من تَبَعِيَّة المصدرِ على حالِهِ ، غيرَ واقعٍ موقع اسمِ فاعلٍ أو اسم مفعولٍ ، ولِما فيه من عَدَمِ تقديرِ مضافٍ بعد « غير » أي : غيرَ ذي حساب . فإذاً هذا الجارُّ والمجرورُ متعلِّقٌ بمحذوفٍ لوقوعِه حالاً من أي الثلاثةِ المقتدِّمةِ شِئْتَ كما تقدَّم تقريرُه ، أي : ملتبساً بغيرِ حسابٍ .

كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)

قولُه تعالى : { مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ } : حالان من « النبيين » . قيل : وهي حالٌ مقارنَةٌ ، لأنَّ بعثَهم كان وقتِ البِشارة والنِّذارة . وفيه نظرٌ ، لأنَّ البِشارةَ والنِّذارةَ بعدَ البعثِ . والظاهِرُ أنها حالٌ مقدَّرَةٌ . وقد تقدَّم معنى البشارة والنذارةِ في قولِهِ : { أَأَنذَرْتَهُمْ } [ البقرة : 6 ] { وَبَشِّرِ الذين آمَنُواْ } [ البقرة : 25 ] .
قوله : { مَعَهُمُ } هذا الظرفُ فيه وجهان ، أحدُهما : أنه متعلقٌ بأنزلَ . وهذا لا بُدَّ فيه من تأويلٍ ، وذلك أنه يلزَمُ من تعلُّقِهِ بأَنْزَلَ أن يكونَ النبيون مصاحِبين للكتابِ في الإِنزالِ ، وهم لا يُوصَفُونَ بذلك لِعَدَمِهِ فيهم . وتأويلُهُ أنَّ المرادَ بالإِنزالِ الإِرسالُ ، لأنه مُسَبِّبٌ عنه ، كأنه قيل : وأرسلَ معهم الكتابَ فتصِحُّ مشاركتُهم له في الإِنزالِ بهذا التأويلِ . والثاني : أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الكتاب ، وتكونُ حالاً مقدرةً أي : وأنزلَ مقدِّراً مصاحبتَه إياهم ، وقدَّره أبو البقاء بقوله : « شاهداً لهم ومُؤَيِّداً » ، وهذا تفسيرُ معنىً لا إعرابٍ .
والألفُ واللامُ في « الكتاب » يجوزُ أَنْ تكونَ للعهدِ بمعنى أنه كتابٌ معينٌ كالتوراةِ مثلاً ، فإنها أُنْزِلَتْ على موسى وعلى النبيين بعدَه ، بمعنى أنَّهَم حَكَموا بها ، واستداموا على ذلك ، وأَنْ تكونَ للجنس ، أي : أنزلَ مع كلِّ واحدٍ منهم من هذا الجنسِ . وقيل : هو مفردٌ وُضِعَ مَوْضِعَ الجَمْعِ ، أي : وأَنْزَلَ معهم الكُتُبَ وهو ضعيفٌ .
وهذه الجملةُ معطوفةٌ على قولِهِ : « فَبَعَثَ » لا يُقال : البشارة والنِّذارة ناشئةٌ عن الإِنزال فكيفَ قُدِّما عليه؟ لأنا لا نُسَلِّم أنَّهما إنما يكونَان بإنزالِ كتابٍ ، بل قد يكونَانِ بوحيٍ من اللَّهِ تعالى غير مَتْلُوٍّ ولا مَكْتُوبٍ . ولئن سَلَّمنا ذلك ، فإنَّما قُدِّما لأنهما حالان من « النبيين » فالأَوْلَى اتَّصالُهُما بهم .
قوله : { بالحق } فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أن يكونَ متعلِّقاً بمحذوف على أنه حالٌ من الكتابِ أيضاً عند مَنْ يُجَوِّزُ تعَدُّدَ الحالِ وهو الصحيحُ . والثاني : أن يتعلَّق بنفسِ الكتابِ لما فيه من معنى الفعلِ ، إذ المرادُ به المكتوبُ . والثالث : أن يتعلَّق بأنزالَ ، وهذا أَوْلَى لأنَّ/ جَعْلَه حالاً لا يَسْتَقِيم إلا أَنْ يكونَ حالاً مؤكدةً ، إذ كُتُب اللَّهِ تعالى لا تكونُ ملتبسةً بالحقِّ ، والأصلُ فيها أَنْ تكونَ منتقلةً ، ولا ضرورةَ بنا إلى الخروج عن الأصلِ . ولأنَّ الكتابَ جارٍ مَجْرى الجوامِدِ .
قوله : { لِيَحْكُمَ } هذا الجارُّ متعلقٌ بقوله : « أنزل » واللامُ للعلةِ . وفي الفاعلِ المضمرِ في « ليحكم » ثلاثةُ أقوالٍ ، أحدُها : وهو أظهرُها ، أنه يعودُ على اللَّهِ تعالى لتقدُّمِهِ في قوله : « فَبَعَثَ الله » ولأنَّ نسبةَ الحكمَ إليه حقيقةٌ ، ويؤيِّده قراءةُ الجَحْدَرِي فيما نقله عنه مكي : « لنحكمَ » بنون العظَمَةِ ، وفيه التفاتٌ من الغَيْبَةِ إلى التكلُّمِ . وقد ظَنَّ ابنُ عطية أن مكياً غَلِطَ في نَقْلِ هذه القراءةِ عنه وقال : « إنَّ الناسَ رَوَوْا عن الجحدري : » ليُحْكَمَ « على بناءِ الفعلِ للمفعولِ » ولا ينبغي أن يُغَلِّطَه لاحتمالِ أن يكونَ عنه قراءتان .

والثاني : أنه يعودُ على « الكتاب » أي : ليحكم الكتابُ ، ونسبةُ الحكم إليه مجازٌ كنسبةِ النطق إليه في قوله تعالى : { هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق } [ الجاثية : 29 ] ، ونسبةُ القضاء إليه في قوله :
921 - ضَرَبَتْ عليكَ العنكبُوتُ بنَسْجِها ... وقضى عليك به الكتابُ المُنَزَّلُ
ووجهُ المجازِ أنَّ الحكمَ فيه فَنُسِبَ إليه . والثالثُ : أنه يعودَ على النبي ، وهذا استضعَفَهُ الشيخُ من حيث إفرادُ الضميرِ ، إذ كان ينبغي على هذا أن يُجْمَعَ ليطابِقَ « النبيين » . ثم قال : « وما قالَه جائزٌ على أَنْ يعودَ الضميرُ على إفراد الجمعِ على معنى : ليحكمَ كلُ نبي بكتابِهِ . و » بين « متعلق ب » يَحْكم « . والظرفيةُ هنا مجازٌ . وكذلك » فيما اختلفوا « متعلقٌ به أيضاً . و » ما « موصولةٌ ، والمرادُ بها الدين ، أي : ليحكم اللَّهُ بين الناسِ في الدِّين ، بعد أن كانوا متفقين عليه . ويَضْعُفُ أن يُرَادَ ب » ما « النبيُّ صلى الله عليه وسلم ، لأنها لغير العقلاءِ غالباً . و » فيه « متعلِّقٌ ب » اختلفوا « ، والضميرُ عائدٌ على » ما « الموصولةِ .
قوله : { وَمَا اختلف فِيهِ } الضمير في » فيه « فيه أوجهٌ ، أظهُرها : أنه عائدٌ على » ما « الموصولةِ أيضاً ، وكذلك الضميرُ في » أوتوه « . وقيل : يعودان على الكتابِ ، أي : وما اخْتَلَفَ في الكتاب إلا الذين أُوتوا الكتابَ . وقيل : يعودان على النبيِّ قاله الزجاج . أي : وما اختلفَ في النبيّ إلا الذين أُوتوا علمَ نبوتِه . وقيل : يعودُ على عيسى للدلالةِ عليه .
قوله : { مِن بَعْدِ } فيه وجهانِ ، أحدُهما : وهو الصحيحُ ، أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ تقديرُهُ : اختلفوا فيه مِنْ بَعْد . والثاني : أنه متعلِّقٌ ب » اختلف « الملفوظِ به ، قال أبو البقاء : ولا تَمْنَعُ » إلاَّ « من ذلك ، كما تقول : » ما قام إلا زيدٌ يومَ الجمعة « . وهذا الذي أجازه أبو البقاء للنحاةِ فيه كلامٌ كثيرٌ . وملخَّصُه أن » إلا « لا يُسْتَثْنَى بها شيئان دونَ عطفٍ أو بدليةٍ ، وذلك أنَّ » إلاَّ « مُعَدِّيَةٌ للفعلِ ، ولذلك جازَ تَعَلُّقُ ما بعدها بما قبلَها ، فهي كواوِ مع وهمزة التعدية ، فكما أن واو » مع « وهمزة التعدية لا يُعَدِّيان الفعلَ لأكثرَ من واحدٍ ، إلاَّ مع العطفِ ، أو البدليةِ كذلك » إلا « . وهذا هو الصحيحُ ، وإنْ كان بعضُهم خالَفَ . فإن وَرَدَ من لسانِهم ما يُوهم جوازَ ذلك يُؤَوَّل . فمنه قولُه : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي } [ النحل : 43-44 ] ثم قال : » بالبينات « ، فظاهر هذا أن » بالبينات « متعلقٌ بأرسلنا ، فقد استُثْنِيَ ب » إلا « شيئان ، أحدُهما » رجالاً « والآخرُ » بالبينات « .

وتأويلُه أنَّ « بالبينات » متعلِّقٌ بمحذوفٍ لئلا يلزَمَ منه ذلك المحذورُ . وقد منع أبو الحسن وأبو علي : « ما أخذ أحدٌ إلا زيدٌ درهماً » و « ما ضربَ القومُ إلا بعضُهم بعضا » . واختلفا في تصحيحِها فقال أبو الحسن : « طريقُ تصحيحِها بأَنْ تُقَدِّم المرفوعَ الذي بعد » إلاَّ « عليها ، فيقال : ما أخذَ أحدٌ زيدٌ إلا درهماً ، فيكونُ » زيدٌ « بدلاً من » أحد « و » درهماً « مستثنى مفرغٌ من ذلك المحذوف ، تقديرُهُ : ما أخذ أحدٌ زيدٌ شيئاً إلا درهماً » . وقال أبو علي : « طريقُ ذلك زيادةُ منصوبٍ في اللفظ فَيَظْهَرُ ذلك المقدَّرُ المستثنى منه ، فيقال : » ما أخذ أحدٌ شيئاً إلا زيدٌ درهماً « فيكونُ المرفوعُ بدلاً من المرفوعِ ، والمنصوبُ بدلاً من المنصوب وكذلك : ما ضَرَبَ القومُ أحداً إلا بعضُهم بعضاً . وقال أبو بكر بن السراج : تقول : » أعطيت الناسَ درهماً إلا عُمَراً « جائز . ولو قلت : » أعطيتُ الناسَ درهماً إلا عمراً الدنانيرَ « لم يَجُزْ ، لأنَّ الحرفَ لا يُسْتَثْنَى به إلا واحدٌ . فإنْ قُلْتَ : » ما أَعْطَيْتُ الناسَ درهماً إلا عَمْراً دانقاً « على الاستثناءِ لم يَجُزْ ، أو على البدلِ [ جاز ] فَتُبْدِلُ » عمراً « من الناس ، و » دانقاً « من » درهماً « . كأنك قلتَ : » ما أعطيت إلا عمراً دانقاً « يعني أنَّ الحصرَ واقعٌ في المفعولين .
قال بعض المحققين : » وما أجازَه ابن السراج من البدل في هذه المسألة ضعيفٌ ، وذلك أنَّ البدلَ في الاستثناء لا بُدَّ من مُقارَنَتِهِ ب « إلاَّ » ، فَأَشْبَهَ العطفَ ، فكما أنه لا يَقَعُ بعدَ حرفِ العطفِ معطوفان لا يَقَعُ بعدَ « إلاَّ » بدلان « .
فإذا عُرِفَ هذا الأصلُ وما قال الناسُ فيه كان إعرابُ أبي البقاء في هذه الآيةِ الكريمةِ من هذا البابِ ، وذلك أنه استثناءٌ مفرَّغٌ ، وقد وَقَعَ بعدَ » إلاَّ « الفاعلُ وهو » الذين « ، والجارُّ والمجرورُ وهو » مِنْ بعد « ، والمفعولُ من أجلِهِ وهو » بغياً « فيكونُ كلٌّ منهما محصوراً . والمعنى : وما اختلفَ فيه إلا الذين أُوتوه إلاَّ من بعدِ ما جَاءَتْهُم البيناتُ إلا بغياً . وإذا كان التقدير كذلك فقد اسْتُثْنِيَ ب » إلاَّ « شيئان دونَ الأولِ الذي هو فاعلٌ من غيرِ عطفِ ولا بدليةٍ . وإنما استوفيتُ الكلام في هذه المسألة لكثرةِ دُوْرِها .
قوله : { بَغْياً } في نصبِهِ وجهان ، أظهرُهما : أنه مفعولٌ من أجلِهِ لاستكمالِ الشروطِ ، هو علةٌ باعثةٌ . والعامِلُ فيه مضمرٌ على ما اخترناه ، وهو الذي تُعَلِّقُ به » فيه « و » اختلف « المفلوظُ به عند مَنْ يرى أنَّ » إلاَّ « يُسْتثنى بها شيئان .

والثاني : أنه مصدرٌ في محلِّ حالٍ أي : باغين ، والعامِلُ فيها ما تقدَّم . و « بينهم » متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ ل « بغياً » . أي : بَغْياً كائناً بينهم .
قوله : { لِمَا اختلفوا فِيهِ } « لِما » متعلِّقٌ ب « هَدَى » وما موصولةٌ ، والضمِيرُ في « اختلفوا » عائدٌ على « الذين أوتوه » ، وفي « فيه » عائدٌ على « ما » وهو متعلِّقٌ ب « اختلف » .
و { مِنَ الحق } متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه في موضعِ الحالِ من « ما » في « لِما » . و « مَنْ » يجوزُ أن تكونَ للتبعيضِ وأن تكونَ للبيانِ عند مَنْ يرى ذلك تقديرُهُ : الذي هو الحق . وأجاز أبو البقاء أن يكونَ « مِنَ الحق » حالاً من الضميرِ في « فيه » والعامِلُ فيها « اختلفوا » . وزعم الفراء أنَّ في الكلامِ قَلْباً والأصلُ : « فَهَدى الله الذينَ آمنوا للحقِّ ممَّا اختلفوا » واختاره الطبري . وقال ابن عطية : « ودعَاه إلى هذا التقديرِ خَوْفُ أن يحتملَ اللفظُ أنهم اختلفوا في الحقِّ ، فهدى الله المؤمنين لبعضِ ما اختلفوا فيه ، وعَسَاهُ أن يكونَ غيرَ حقٍ في نفسِهِ » قال : « والقلبُ في كتابِ اللَّهِ دونَ ضرورةٍ تدفعُ إليه عجزٌ وسوءُ فهمٍ » انتهى . قلت : وهذا الاحتمالُ الذي جَعَلَه ابنُ عطية حاملاً للفراء على ادعاءِ القلبِ لا يُتَوَهَّمُ أصلاً .
قوله : { بِإِذْنِهِ } فيه وجهان ، أحدُهما : أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنه حالٌ من « الذين آمنوا » أي : مأذوناً لهم . والثاني : أن يكونَ متعلقاً بهدى مفعولاً به ، أي : هداهم بأمرهِ .

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)

قوله تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ } : « أم » هذه فيها أربعةُ أقوالٍ : أنْ تكونَ منقطعةً فتتقدَّر ب « بل » والهمزةِ . ف « بل » لإِضرابِ انتقالٍ من إخبارٍ إلى إخبارٍ ، والهمزةُ للتقريرِ . والتقديرُ/ : بل أحَسِبْتُم . والثاني : أنها لمجردِ الإِضرابِ من غير تقديرِ همزةٍ بعدها ، وهو قولُ الزجاج وأنشد :
922 بَدَتْ مثل قَرْنِ الشمسِ في رَوْنَقِ الضحى ... وصورتِها أم أنتَ في العينِ أَمْلَحُ
أي : بل أنت . والثالث : وهو قولُ بعض الكوفيين أنها بمعنى الهمزةِ فعلى هذا يُبْتَدَأُ بها في أولِ الكلامِ . ولا تحتاجُ إلى الجملةِ قبلَها يُضْرَبُ عنها . والرابع : أنها متصلةٌ ، ولا يَسْتَقِيمُ ذلك إلا بتقديرِ جملةٍ محذوفةٍ قبلَها ، فقدَّرَهُ بعضُهم : فَهَدَى اللَّهُ الذين آمنوا ، فصَبَروا على استهزاءِ قومهم ، أفتسلُكون سبيلَهم أم تحسَبون أن تدخلوا الجنة من غير سلوكِ سبيلهِم .
و « حَسِبْتُم » هنا من أخوات « ظنَّ » ، تنصبُ مفعولَيْن أصلُهما المبتدأ والخبرُ ، و « أَنْ » وما بعدَها سادَّةٌ مَسَدَّ المفعولَيْنِ عند سيبويهِ ، ومسدَّ الأولِ والثاني محذوفٌ عند أبي الأخفش ، كما تقرَّر ذلك . ومضارِعُها فيه الوجهان : الفتحُ - وهو القياسُ - والكسرُ . ولها من الأفعالِ نظائِرُ ، سيأتي ذلك في آخرِ السورةِ ، ومعناها الظنُّ ، وقد تُسْتَعْمَلُ في اليقين قال :
923 حَسِبْتُ التقى والجودَ خيرَ تجارةٍ ... رَباحاً إذا ما المرءُ أصبحَ ثاقِلا
ومصدرُها : الحُسْبان . وتكون غيرَ متعديةٍ إذا كان معناها الشقرة ، تقول : حَسِبَ زيدٌ ، أي اشْقَرَّ ، فهو أَحْسَبُ أي : أَشْقَرُ .
قوله : { وَلَمَّا يَأْتِكُم } الواوُ للحالِ ، والجملةُ بعدَها في محلِّ نصبٍ عليها ، أي : غيرَ آتيكم مثلُهم . و « لَمَّا » حرفُ جزمٍ معناهُ النفي ك « لم » ، وهو أبلغُ من النفي ب « لم » ، لأنها لا تنفي إلا الزمانَ المتصلَ بزمانِ الحالِ . والفرقُ بينها وبين « لم » من وجوهٍ ، أحدُها : أنه قد يُحْذَفُ الفعلُ بعدها في فصيحِ الكلام إذا دَلَّ عليه دليلٌ كقولِهِ :
924 فَجِئْتُ قبورَهم بَدْءاً وَلَمَّا ... فنادَيْتُ القبورَ فلم تُجِبْنَهْ
أي : ولمَّا أكن بدءاً أي : مبتدئاً ، بخلافِ « لم » فإنه لا يجوزُ ذلك فيها إلا ضرورةً . ومنها : أنَّها لنفيِ الماضي المتصلِ بزمانِ الحال و « لم » لنفِيهِ مطلقاً أو منقطعاً على ما مَرَّ . ومنها : أنَّ « لَمَّا » لاَ تَدْخُل على فعلِ شرطٍ ولا جزاءٍ بخلافِ « لم » . واختُلِفَ في « لمَّا » فقيل : بسيطةٌ ، وقيل : مركبةٌ مِنْ لم و « ما » زيدَتْ عليها .
وفي قولِه { مَّثَلُ الذين } حَذْفُ مضافٍ وحَذْفُ موصوفٍ تقديرُهُ : ولَمَّا يأتِكُمْ مَثَلُ محنةِ المؤمنينِ الذين خَلَوْا .
و « مِنْ قبلِكم » متعلِّقٌ ب « خَلَوا » وهو كالتأكيدِ ، فإنَّ الصلةَ مفهومةٌ من قولِهِ : « خَلَوا » .

قوله : { مَّسَّتْهُمُ البأسآء } في هذه الجملةِ وجهان ، أحدُهما : أن تكونَ لا محلَّ لها من الإِعراب لأنها تفسيريةٌ أي : فَسَّرَتِ المَثَلَ وَشَرَحَتْهُ كأنه قيل : ما كانَ مَثَلُهم؟ فقيل : مَسَّتهم البأساءُ . والثاني : أن تكونَ حالاً على إضمارِ « قد » جَوَّزَ ذلك أبو البقاء ، وهي حالٌ من فاعلِ « خَلَوا » . وفي جَعْلِهَا حالاً بُعْدٌ .
قوله : { حتى يَقُولَ } قرأ الجمهورُ : « يقولُ » نصباً ، وله وجهان ، أحدُهما : أنَّ « حتى » بمعنى « إلى » ، أي : إلى أن يقولَ ، فهو غايةٌ لما تقدَّم من المسِّ والزلزالِ ، و « حتى » إنما يُنْصَبُ بعدها المضارعُ المستقبلُ ، وهذا قد وقع ومَضَى . فالجوابُ : أنه على حكايةِ الحالِ ، حكى تلك الحالَ . والثاني : أنَّ « حتى » بمعنى « كي » ، فتفيدُ العِلَّةَ ، وهذا ضَعيفٌ؛ لأنَّ قولَ الرسول والمؤمنين ليس علةً للمسِّ والزلزالِ ، وإن كان ظاهرُ كلامِ أبي البقاء على ذلك فإنه قال : « ويُقْرَأ بالرفعِ على أن يكونَ التقديرُ : زُلْزِلُوا فقالوا : فالزَّلْزَلَةُ سببُ القولِ » و « أَنْ » بعد « حتى » مضمرةٌ على كِلا التقديرين . وقرأ نافع برفِعِهِ على أنَّه حالٌ ، والحالُ لا يُنْصَبُ بعد « حتى » ولا غيرِها ، لأنَّ الناصبَ يُخَلِّصُ للاستقبالِ فتَنَافيا .
واعلم أنَّ « حتى » إذا وَقَعَ بعدها فعلٌ : فإمَّا أن يكونَ حالاً أو مستقبلاً أو ماضياً ، فإنْ كان حالاً رُفِعَ نحو : « مَرِض حتى لا يَرْجونه » أي في الحال . وإن كان مستقبلاً نُصِبَ ، تقول : سِرْتُ حتى أدخلَ البلدَ وأنت لم تدخُلْ بعدُ . وإن كان ماضياً فتحكيه ، ثم حكايتُك له : إمَّا أَنْ تَكونَ بحسَب كونِهِ مستقبلاً ، فتنصبَه على حكايةِ هذه الحالِ ، وإمَّا أن يكونَ بحسَبِ كونِهِ حالاً ، فترفَعَهُ على حكايةِ هذه الحالِ ، فيصدُقُ أن تقولَ في قراءةِ الجماعةِ : حكايةُ حالٍ ، وفي قراءةِ نافع أيضاً : حكايةُ حالٍ . وإنَّما نَبَّهْتُ على ذلك لأنَّ عبارةَ بعضِهم تَخُصُّ حكايةً الحالِ بقراءةِ الجمهورِ ، وعبارَةَ آخرين تَخُصُّها بقراءةِ نافع . قال أبو البقاء في قراءةِ الجمهور : « والفعلُ هنا مستقبلٌ حُكِيت به حالُهم والمعنى على المُضِيِّ » وكان قد تقدَّم أنه وجَّه الرفعَ بأنَّ « حتى » للتعليلِ .
قوله : « معه » هذا الظرفُ يجوزُ أن يكونَ منصوباً بيقول ، أي : إنهم صاحبوه في هذا القولِ وجامَعُوه فيه ، وأن يكونَ منصوباً بآمنوا ، أي : صاحبوه في الإِيمانِ .
قوله : { متى نَصْرُ الله } « متى » منصوبٌ على الظرفِ فموضعُهُ رفعٌ خبراً مقدماً ، و « نصرٌ » مبتدأٌ مؤخرٌ . وقال أبو البقاء : « وعلى قولِ الأخفش موضعُه نصبٌ على الظرفِ و » نصرُ « مرفوعٌ به » . و « متى » ظرفُ زمانٍ لا يَتَصَرَّفُ إلا بجرِّه بحرفٍ .

وهو مبنيٌّ لِتَضَمُّنِهِ : إما لِمَعْنَى همزة الاستفهام وإمَّا معنى « مَنْ » الشرطية ، فإنه يكونُ اسمَ استفهامٍ ، ويكونُ اسمَ شرطٍ فيجزمُ فعلين شرطاً وجزاءً .
والظاهرُ أنَّ جملةَ { متى نَصْرُ الله } من قولِ المؤمنينَ ، وجملةَ { ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ } من قولِ الرسولِ ، فَنُسِبَ القولُ إلى الجميعِ إجمالاً ، ودلالةُ الحالِ مبيِّنَةٌ للتفصيلِ المذكور . وهذا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ مَنْ زَعَم أَن في الكلامِ تقديماً وتأخيراً ، والتقديرُ : حتى يقولَ الذين آمنوا { متى نَصْرُ الله } فيقولُ الرسولُ « إلا إنَّ » ، فَقُدِّمَ الرسولُ لمكانَتِهِ ، وقُدِّم المؤمنون لتقدُّمِهِم في الزمان . قال ابن عطية : « هذا تَحَكُّمٌ وحَمْلُ الكلامِ على غير وجهِهِ » وهو كما قال . وقيل : الجملتانِ من قولِ الرسولِ والمؤمنين معاً ، يعني أن الرسولَ قالَهما معاً ، وكذلك أتباعُهُ قالوهما معاً ، وقولُ الرسول { متى نَصْرُ الله } ليس على سبيلِ الشَّكِّ ، إنما هو على سبيلِ الدعاء باستِعْجَال النصر . وقيل : إنَّ الجملةَ الأولى من كلام الرسولِ وأتباعه ، والجملة الأخيرةَ من كلامِ اللَّهِ تعالى ، أجابهُم بما سألوه الرسُلُ واستبطَأَهُ الأتباع . فالحاصل أن الجملتين في محل نصب بالقول .

يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)

قوله تعالى : { مَاذَا يُنْفِقُونَ } : قد تقدَّم أنَّ « ماذا » له ستة استعمالات/ وتحقيقُ القولِ فيه عند قولِه { مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا } [ البقرة : 26 ] . وهنا يجوزُ أَنْ تكونَ « ماذا » بمنزلةِ اسمٍ واحدٍ بمعنى الاستفهام فتكونَ مفعولاً مقدَّماً ، ويجوزُ أن تكونَ « ما » و « ذا » خبرَه ، وهو موصولٌ . و « ينفقون » صلتُه والعائدُ محذوفٌ ، و « ماذا » معلِّقٌ للسؤال فهو في موضعِ المفعولِ الثاني ، وقد تقدَّم تحقيقُه في قوله : { سَلْ بني إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم } [ البقرة : 211 ] ، وجاء « ينفقون » بلفظ الغيبة؛ لأنَّ فاعلٌ الفعلِ قبلَه ضميرُ غَيْبَةٍ في « يسألونك » ، ويجوزُ في الكلامِ « ماذا ننفقُ » كما يجوزُ : أَقْسَمَ زيدٌ ليَضْرِبَنَّ ولأضْرِبَنَّ ، وسيأتي لهذا مزيدٌ بيانٍ في قولِه تعالى : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ } [ المائدة : 4 ] في المائدةِ .
[ قوله ] : { قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ } يجوزُ في « ما » وجهان ، أحدُهما : أن تكونَ شرطيةً ، وهو الظاهرُ لتوافق ما بعدها ، ف « ما » في محلِّ نصبٍ مفعولٌ مقدَّمٌ واجبُ التقديمِ ، لأنَّ له صدرَ الكلامِ . و « أنفقْتُمْ » في محلِّ جزمٍ بالشرطِ ، و « مِنْ خيرٍ » تقدَّم إعرابُه في قوله : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } [ البقرة : 106 ] .
وقوله : { فَلِلْوَالِدَيْنِ } جوابُ الشرطِ ، وهذا الجارُ خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي : فمَصْرِفُه للوالدَيْن ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ : إمَّا مفردٌ وإمَّا جملةٌ على حَسَبِ ما ذُكِر من الخلافِ فيما مَضَى . وتكونُ الجملةُ في محلِّ جزمٍ بجوابِ الشرطِ . والثاني : أن تكونَ « ما » موصولةً ، و « أنفقتم » صلتُها ، والعائدُ محذوفٌ لاستكمالِ الشروطِ ، أي : الذي أنفقتموه . والفاءُ زائدةٌ في الخبرِ الذي هو الجارُّ والمجرورُ . قال أبو البقاء في هذا الوجهِ : « ومِنْ خيرٍ يكونُ حالاً من العائدِ المحذوفِ » .
وهم إنما سألوا عن المُنْفَقِ ، فكيف أُجيبوا ببيانِ المَصْرِفِ للمُنْفِقِ عليه؟ فيه أجوبةٌ منها : أنَّ في الآيةِ حَذْفاً وهو المُنْفَقُ عليه فَحُذف ، تقديره : ماذا ينفقون ولِمَنْ يُعْطونه ، فجاء الجوابُ عنهما ، فأجابَ عن المُنْفَقِ بقوله : « مِنْ خيرٍ » وعن المُنْفقِ عليه بقوله : « فللوالدَيْن » وما بعده . ومنها : أن يكون « ماذا » سؤالاً عن المَصْرِفِ على حَذْفِ مضافٍ ، تقديرُه : مَصْرِفُ ماذا يُنْفقون؟ ومنها : أن يكونَ حَذَفَ من الأولِ ذِكْرَ المَصْرِفِ ومن الثاني ذِكْرَ المُنْفَقِ ، وكلاهما مرادٌ ، وقد تقدَّم شيءٌ من ذلك في قولِه تعالى : { وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ كَمَثَلِ } [ البقرة : 171 ] . وقال الزمخشري : قد تضمَّن قولُه : { مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ } بيانَ ما يُنفقونه . وهو كلُّ خيرٍ؛ وبُني الكلامُ على ما هو أَهَمُّ وهو بيانُ المَصْرِفِ ، لأنَّ النفقة لا يُعْتَدُّ بها أَنْ تقعَ موقِعَها . [ قال ] :
925 إنَّ الصنيعة لا تكونُ صنيعةً ... حتى يُصابَ بها طريقُ المَصْنَعِ «
وأمَّا قولُه : { وَمَا تَفْعَلُواْ } ف » ما « شرطيةٌ فقط لظهورِ عملها الجزمَ بخلافِ الأولى . وقرأ علي رضي الله عنه : » وما يفعلوا « بالياء على الغَيْبَة ، فيُحْتمل أن يكونَ من بابِ الالتفات من الخطابِ ، وأن يكونَ مِنْ الإِضمارِ لدلالةِ السياقِ عليه ، أي : وما يفعلِ الناسُ .

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)

وقرىء : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال } : ببناءِ « كَتَب » للفاعل وهو ضميرُ اللهِ تعالى ونَصْبِ « القتال » .
قوله : { وَهُوَ كُرْهٌ } هذه واوُ الحالِ ، والجملةُ بعدها في محلِّ نصبٍ عليها والظاهرُ أنَّ « هو » عائدٌ على القتالِ . وقيل : يعودُ على المصدرِ المفهومِ من كَتَب ، أي : وكَتْبُه وفَرْضُه . وقرأ الجمهورُ « كُرْهٌ » بضمِّ الكافِ ، وقرأ السلميُّ بفتحِها . فقيل : هما بمعنىً واحدٍ ، أي : مصدران كالضَّعْف والضُّعْف ، قاله الزجاج وتبعه الزمشخري . وقيل : المضمومُ اسمُ مفعولٍ والمفتوحُ المصدرُ . وقيل : المفتوحُ بمعنى الإِكراه ، قالَه الزمخشري في توجيهِ قراءةِ السُّلَمي ، إلا أنَّ هذا من بابِ مجيءِ المصدرِ على حَذْفِ الزوائدِ وهو لا ينقاسُ . وقيل : المفتوحُ ما أُكْرِهَ عليه المرءُ ، والمضمومُ ما كَرِهَهُ هو .
فإن كان « الكَرْهُ » و « الكُرْه » مصدراً فلا بُدَّ من تأويلٍ يجوزُ معه الإِخبار به عن « هو » ، وذلك التأويلُ : إمَّا على حَذْفِ مضاف ، أي : والقتالُ ذو كُرْهٍ ، أو على المبالَغَةِ ، أو على وقوعِه موقعَ اسمِ المفعول . وإنْ قُلْنا : إنَّ « كُرْهاً » بالضمِّ اسمُ مفعولٍ فلا يُحْتاجُ إلى شيءٍ من ذلك . و « لكم » في محلِّ رفعٍ ، لأنه صفةٌ لكُره ، فيتعلَّقُ بمحذوفِ أي : كرهٌ كائِنٌ .
قوله : { وعسى أَن تَكْرَهُواْ } « عسى » فعلٌ ماضٍ نُقِل إلى إنشاءِ الترجِّي والإِشفاق . وهو يرفعُ الاسمَ ويَنْصِبُ الخَبَر ، ولا يكونُ خبرُها إلا فعلاً مضارعاً مقروناً ب « أَنْ » . وقد يجيءُ اسماً صريحاً كقوله :
926 أَكْثَرْتَ في العَذْلِ مُلِحَّاً دائماً ... لا تُكْثِرَنْ إني عَسَيْتُ صائِماً
وقالَتِ الزبَّاء : « عسى الغُوَيْرُ أَبُؤسا » وقد يَتَجَرَّدُ خبرُها من « أَنْ » كقوله :
927 عسى فَرَجٌ يأتي به اللهُ إنه ... له كلَّ يومٍ في خَلِقَتِهِ أَمْرُ
وقال آخر :
928 عَسَى الكربُ الذي أَمْسَيْتَ فيه ... يكونُ وراءَه فرجٌ قَرِيبُ
وقال آخر :
929 - فأمَّا كَيِّسٌ فَنَجا ولكِنْ ... عَسَى يَغْتَرُّ بي حَمِقٌ لَئيمُ
وتكونُ تامة إذا أُسْنِدَتْ إلى « أَنْ » أو « أنَّ » ، لأنهما يَسُدَّان مَسَدَّ اسمها وخبرها ، والأصحُّ أنها فعلٌ لا حرفٌ ، لاتصالِ الضمائرِ البارزةِ المرفوعةِ بها ، ووزنُها « فَعَل » بفتح العين ، ويجوزُ كَسْرُ عينِها إذا أُسْنِدَتْ لضمير متكلمٍ أو مخاطبٍ أو نونِ إناثٍ ، وهي قراءةُ نافعٍ ، وستأتي : ولا تتصرَّفُ بل تلزم المضيَّ . والفرقُ بين الإِشفاقِ والترجِّي بها في المعنى : أنَّ الترجِّي في المحبوباتِ والإِشفاقَ في المكروهاتِ . و « عسى » من الله تعالى واجبةٌ؛ لأنَّ الترجِّي والإِشفاق مُحالان في حقَّه . وقيل : كلُّ « عسى » في القرآن للتحقيقِ ، يَعْنُون الوقوعَ ، إلا قولَه تعالى : { عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ } [ التحريم : 5 ] الآية ، وهي في هذه الآيةِ ليسَتْ ناقصةً فتحتاجُ إلى خبرٍ بل تامةٌ ، لأنها أُسْنِدَتْ إلى « أَنْ » ، وقد تقدَّم أنها تَسُدُّ مسدَّ الخبرين بعدها .

وزعم الحوفي أن « أَن تكرهوا » في محلِّ نصب ، ولا يمكن ذلك إلا بتكلُّفٍ بعيد .
قوله : { وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } في هذه الجملةِ وجهان ، أظهرُهما : أنها في محلِّ نصبٍ على الحال/ وإنْ كانَتْ الحالُ من النكرةِ بغيرِ شرطٍ من الشروطِ المعروفةِ قليلةً . والثاني : أن تكونَ في محلِّ نصبٍ على أنها صفةٌ لشيئاً . وإنما دخلتِ الواوُ على الجملةِ الواقعةِ لأنَّ صورتَها صورةُ الحالِ . فكما تدخل الواوُ عليها حاليةً تدخلُ عليها صفةً ، قاله أبو البقاء . ومثلُ ذلك ما أجازه الزمخشري في قوله : { وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ } فَجَعل : « ولها كتابٌ » صفةً لقرية ، قال : « وكان القياسُ ألاَّ تتوسَّطَ هذه الواوُ بينهما كقولِه : { وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ } وإنما توسَّطَتْ لتأكيدِ لصوقِ الصفةِ بالموصوفِ ، وما يُقال في الحالِ : » جاءني زيدٌ عليه ثوبٌ ، وعليه ثوبٌ « . وهذا الذي أجازه أبو البقاء هنا والزمخشري هناك هو رأيُ ابنِ جني ، وسائرُ النَّحْويين يُخالِفونه .

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)

قوله تعالى : { قِتَالٍ فِيهِ } : قراءةُ الجمهور : « قتالٍ » بالجر ، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ أحدها : أنه خفضٌ على البدلِ من « الشهر » بدلِ الاشتمال؛ إذ القتالُ واقعٌ فيه فهو مشتملٌ عليه . والثاني : أنه خفضٌ على التكرير ، قال أبو البقاء : « يريد أنَّ التقديرَ : » عن قتالٍ فيه « . وهو معنى قول الفراء ، لأنه قال : » وهو مخفوضٌ ب « عَنْ » مضمرةً . وهذا ضعيفٌ جداً ، لأنَّ حرفَ الجر لا يبقى عملُه بعد حذفِه في الاختيار « . وهذا لا ينبغي أن يُعَدَّ خلافاً بين البصريين والكسائي والفراء ، لأنَّ البدلَ عند جمهور البصريين على نِيَّةِ تكرار العامل ، وهذا هو بعينه قولُ الكسائي . وقوله : لأنَّ حرفَ الجرِّ لا يَبْقَى عملُه بعد حَذْفِه » إن أراد في غيرِ البدل فَمُسَلَّم ، وإن أرادَ في البدلِ فممنوعٌ ، وهذا هو الذي عناه الكسائي . الثالث : قاله أبو عبيدة : « أنه خفضٌ على الجِوار » . قال أبو البقاء : « وهو أَبْعَدُ من قولِهما - يعني الكسائيَّ والفراء - لأن الجِوار من مواضعِ الضرورةِ أو الشذوذِ فلا يُحْمَلُ عليه ما وُجِدَتْ عنه مَنْدُوحة » . وقال ابن عطية : « هو خطأ » . قال الشيخ : « إن كان أبو عبيدة عَنَى بالجِوار المصطلحَ عليه فهو خطأ . وجهةٌ الخطأِ أنَّ الخفض على الجوار عبارةٌ عن أن يكونَ الشيءُّ تابعاً لمرفوعٍ أو منصوبٍ من حيثُ اللفظُ والمعنى فَيُعْدَلَ به عن تَبَعيِّتِه لمتبوعِه لفظاً ، ويُخْفَضَ لمجاوَرَتِه لمخفوضٍ . كقولِهم : » هذا جُحْر ضَبًّ خَرِبٍ « بجرِّ » خرب « ، وكان من حقِّه الرفعُ؛ لأنه من صفاتِ الجحر لا من صفاتِ الضبِّ ، ولهذه المسألةِ مزيدُ بيانٍ يأتي في موضِعه إن شاء الله تعالى ، و » قتالٍ « هنا ليس تابعاً لمرفوعٍ أو منصوب وجاور مخفوضاً فَخُفِض . وإن كان عَنَى أنه تابعٌ لمخفوضٍ فَخَفْضُه بكونه جاور مخفوضاً ، أي صار تابعاً له ، لم يكنْ خطأً ، إلا أنه أغْمَضَ في عبارته فالتبس بالمصطلحِ عليه .
وقرأ ابن عباس والأعمش : » عن قتالٍ « بإظهارِ » عن « وهي في مصحفِ عبد الله كذلك ، ، وقرأ عكرمة : » قَتْلٍ فيه ، قل قتلٌ فيه « بغير ألف .
وقُرىء شاذاً : » قتالٌ فيه « بالرفع ، وفيه وجهان ، أحدهما : أنه مبتدأٌ والجارُّ والمجرورُ بعده خبرٌ ، وسَوَّغ الابتداء به وهو نكرةٌ أنه على نيةِ همزةِ الاستفهامِ ، تقديرُه : أقتالٌ فيه . والثاني : أنه مرفوعٌ باسم فاعل تقديرُه : أجائزٌ قتالٌ فيه ، فهو فاعلٌ به . وعَبَّر أبو البقاء في هذا الوجهِ بان يكونَ خبر مبتدأٍ محذوفٍ ، فجاء رفعُه من ثلاثةِ أوجهٍ : إمَّا مبتدأٌ وإمَّا فاعلٌ وإمَّا خبرُ مبتدأٍِ .

قالوا : ويَظْهَرُ هذا من حيث إنَّ سؤالهم لم يكن عن كينونةِ القتالِ في الشهرِ أم لا ، وإنما كان سؤالُهم : هل يجوزُ القتالُ فيه أولا؟ وعلى كِلا هذين الوجهين فهذه الجملةُ المُسْتَفْهَمُ عنها في محلِّ جرٍ بدلاً من الشهرِ الحرامِ ، لأن « سأل » قد أخَذَ مفعولَيْه فلا تكونُ هي المفعولَ وإن كانت مَحَطَّ السؤالِ .
وقوله : { فِيهِ } على قراءةِ خفضٍ « قتالٍ » فيه وجهان ، أحدُهما : أنه في محلِّ خفضٍ لأنه صفةٌ ل « قتال » . والثاني : أنه في محلِّ نصبٍ لتعلُّقه بقتال لكونه مصدراً . وقال أبو البقاء : « كما يتعلَّقُ بقاتل » . ولا حاجة إلى هذا التشبيه ، فإنَّ المصدر عاملٌ بالحَمْلِ على الفعلِ . والضميرُ في « يسألونك » قيل للمشركين ، وقيل للمؤمنين . والألفُ واللامُ في « الشهر » قيل : للعهدِ وهو رجب ، وقيل : للجنسِ فَيَعُمُّ جميعَ الأشهرِ الحُرُمِ .
قوله : { قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ ، مَحلُّها النصبُ بقُلْ ، وجازَ الابتداءُ بالنكرةِ لأحدِ وجهينِ : إمَّا الوصفُ ، إذا جَعَلْنَا قولَه « فيه » صفةً له وإمَّا التخصيصُ بالعملِ إذا جَعَلْناه متعلقاً بقتال ، كما تقدَّم في نظيرِه . فإنْ قيل : قد تقدَّم لفظُ نكرة وأُعيدت من غيرِ دخول ألفٍ ولامٍ عليها وكان حقُّها ذلك ، كقوله تعالى : { كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فعصى فِرْعَوْنُ الرسول } [ المزمل : 15-16 ] فقال أبو البقاء : « ليس المرادُ تعظيمُ أيِّ قتالٍ كان ، فعلى هذا » قتالٌ « الثاني غيرُ الأول » ، وهذا غيرُ واضحٍ؛ لأنَّ الألف واللامَ في الاسمِ المُعادِ أولاً لا تفيدُ تعظيماً ، بل إنما تفيدُ العهد في الاسمِ السابقِ . وأَحْسَنُ منه قَولُ بعضِهم : « إنَّ الثاني غيرُ الأولِ ، وذلك أنَّ سؤالهم عن قتالِ عبدِ الله بن جحش ، وكان لنصرةِ الإِسلامِ . وخُذْلانِ الكفرِ فليس من الكبائرِ ، بل الذي من الكبائرِ قتالٌ غيرُ هذا ، وهو ما كانَ فيه إذلالُ الإِسلامِ ونصرةُ الكفرِ ، فاختير التنكيرُ في هذين اللفظين لهذه الدقيقةِ ، ولو جِيء بهما معرفتين أو بأَحدِهما مُعَرَّفاً لَبَطَلَتْ هذه الفائدةُ » .
قوله : { وَصَدٌّ } فيه وجهان ، أحدُهما مبتدأٌ وما بعده عطفٌ عليه ، و « أكبرُ » خبرٌ عن الجميعِ . وجاز الابتداءُ بصدّ لأحدِ ثلاثةِ أوجهٍ : إمَّا لتخصيصِه بالوصفِ بقولِه : { عَن سَبِيلِ الله } وإمَّا لتعلُّقِه به ، وإمَّا لكونِه معطوفاً ، والعطفُ من المسوِّغات . والثاني : أنه عطفٌ على « كبيرٌ » أي : قتالٌ فيه كبيرٌ وصَدٌّ ، قاله الفراء . قال ابن عطية : « وهو خطأٌ لأنَّ المعنى يسوقُ إلى أنَّ قوله : » وكفرٌ به « عَطْفٌ أيضاً على » كبيرٌ « ، ويَجِيءُ من ذلك أنَّ إخراجَ أهلِ المسجدِ منه أكبرُ من الكفرِ ، وهو بَيِّنٌ فسادُه » . وهذا الذي رَدَّ به قولَ الفراء غيرُ لازم له؛ إذ له أن يقول : إنَّ قولَه « وكفرٌ به » مبتدأٌ ، وما بعده عطفٌ عليه ، و « أكبرُ » خبرٌ عنهما ، أي : مجموعُ الأمرين أكبرُ من القتال والصدِّ ، ولا يلزَمُ من ذلك أن يكونَ إخراجُ أهلِ المسجدِ أكبرَ من الكفر ، بل يلزمُ منه أنه أكبرُ من القتالِ .

في الشهرِ الحرامِ .
وهو مصدرٌ حُذِفَ فاعلُه ومفعولُه؛ إذ التقديرُ : وصَدُّكم - يا كفارُ - المسلمين عن سبيلِ الله وهو الإِسلامُ .
و « كفرٌ » فيه وجهان ، أحدُهما : أنه عطفٌ على « صَدّ » على قولنا بأن « صداً » مبتدأٌ لا على قولنا بأنه خبرٌ ثان عن « قتال » ، لأنه يلزَمُ منه أن يكونَ القتالُ في الشهرِ الحرامِ كفراً وليس كذلك ، إلا أَنْ يرادَ بقتالِ الثاني ما فيه هَدْمُ الإِسلامِ وتقويةُ الكفرِ كما تقدَّم ذلك عن بعضِهم ، فيكونُ كفراً ، فَيَصِحُّ عطفُه عليه مطلقاً ، وهو أيضاً مصدرٌ لكنه لازمٌ ، فيكونُ قد حُذِفَ فاعلُه فقط : أي : وكُفْرُكم . والثاني : أن يكونَ مبتدأً كما يأتي تفصيلُ القولِ فيه . والضميرُ في « به » فيه وجهان ، أحدُهما : / أنه يعودُ على « سبيل » لأنه المحدَّثُ عنه . والثاني أنه يعودُ على الله ، والأولُ أظهرُ . و « به » فيه الوجهان ، أعني كونَه صفةً لكفر ، أو متعلقاً به ، كما تقدَّم في « فيه » .
قوله : { والمسجد الحرام } الجمهورُ على قراءته مجروراً . وقرىء شاذاً مرفوعاً . فأمَّا جرُّه فاختلف فيه النحويون على أربعةِ أوجهٍ ، أحدها : - وهو قولُ المبرد وتبعه في ذلك الزمخشري وابنُ عطية ، قال ابن عطية : « وهو الصحيحُ - أنه عطفٌ على » سبيلِ الله « أي : وصَدٌّ عن سبيلِ الله وعن المسجد » . وهذا مردودٌ بأنه يؤدِّي إلى الفصلِ بين أبعاضِ الصلةِ بأجنبي تقريرُه أنَّ « صداً » مصدرٌ مقدَّرٌ بأَنْ والفعلِ و « أَنْ » موصولٌ ، وقد جعلتم « والمسجدِ » عطفاً على « سبيلِ » فهو من تمام صلته ، وفُصِل بينهما بأجنبي وهو « وكفرٌ به » . ومعنى كونِه أجنبياً أنه لا تعلُّق له بالصلةِ . فإن قيل : يُتَوَسَّعُ في الظرفِ وحرفِ الجر ما لم يُتَّسَعْ في غيرِهما . قيل : إنما قيل بذلك في التقديمِ لا في الفصلِ .
الثاني : أنه عطفٌ على الهاءِ في « به » أي : وكفرٌ به وبالمسجِد ، وهذا يتخرَّج على قول الكوفيين . وأمَّا البصريون فيشترطون في العطفِ على الضميرِ المجرورِ إعادةَ الخافض إلا في ضرورة ، فهذا التخريجُ عندهم فاسدٌ . ولا بد من التعرُّض لهذه المسألة وما هو الصحيحُ فيها . فأقولُ وبالله العون : اختلف النحاةُ في العطفِ على الضمير المجرورِ على ثلاثةِ مذاهبَ : أحدُها - وهو مذهبُ الجمهور من البصريين - : وجوبُ إعادةِ الجار إلا في ضرورةٍ . الثاني : أنه يجوزُ ذلك في السَّعَةِ مطلقاً ، وهو مذهبُ الكوفيين ، وتَبِعهم أبو الحسن ويونس والشلوبيين .

والثالث : التفصيلُ ، وهو إنْ أُكِّد الضميرُ جاز العطفُ من غيرِ إعادةِ الخافِض نحو : « مررت بك نفسِك وزيدٍ » ، وإلا فلا يجوزُ إلا ضرورةً ، وهو قولُ الجَرْميّ . والذي ينبغي أنه يجوزُ مطلقاً لكثرةِ السماعِ الوارد به ، وضَعْفِ دليل المانعين واعتضاده بالقياس .
أما السَّماعُ : ففي النثرِ كقولِهم : « ما فيها غيرُه وفرسه » بجرِّ « فرسه » عطفاً على الهاء في « غيره » . وقوله : { تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام } في قراءة جماعةٍ كثيرة ، منهم حمزةُ ، وستأتي هذه الآيةُ إن شاء الله ، ومنه : { وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ } [ الحجر : 20 ] ف « مَنْ » عطف على « لكم » في قولِه تعالى : { لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ } وقولُه : { مَا يتلى عَلَيْكُمْ } [ النساء : 127 ] عطف على « فيهِنّ » وفيما يُتْلى عليكم « . وفي النظم وهو كثيرٌ جداً ، فمنه قولُ العباس بن مرداس :
930 أَكُرُّ على الكتيبةِ لا أُبالي ... أفيها كان حَتْفي أم سواها
ف » سواها « عطفٌ على » فيها « ، وقولُ الآخر :
931 تُعَلَّقُ في مثلِ السَّوارِي سيوفُنا ... وما بينها والأرضِ غَوْطٌ نَفانِفٌ
وقول الآخر :
932 هَلاَّ سَأَلْتَ بذي الجماجم عنهمُ ... وأبي نُعَيْم ذي اللِّواء المُحْرِقِ
وقول الآخر :
933 بنا أبداً لا غيرِنا تُدْرَكُ المُنَى ... وتُكْشَفُ غَمَّاءُ الخطوبِ الفَوادِحِ
وقول الآخر :
934 لو كانَ لي وزهيرٍ ثالثٌ وَرَدَتْ ... من الحِمامِ عِدانا شَرَّ مَوْرودِ
وقال آخر :
935 إذا أَوْقدوا ناراً لحربِ عَدُوِّهمْ ... فَقَدْ خابَ مَنْ يَصْلَى بها وسعيرِها
وقال آخر :
936 إذا بنا بل أُنَيْسانَ اتَّقَتْ فِئَةٌ ... ظَلَّتْ مُؤَمَنَّةً مِمَّنْ يُعادِيها
وقال آخر :
937 آبَكَ أيِّهْ بيَ أو مُصَدَّرِ ... من حُمُرِ الجِلَّةِ جَأْبٍ حَشُوَرِ
وأنشد سيبويه :
938 فاليومَ قَرَّبْتَ تهجُونا وَتشْتِمُنا ... فاذهبْ فما بك والأيام مِنْ عَجَبِ
فكثرةُ ورودِ هذا وتصرُّفُهم في حروفِ العطفِ ، فجاؤوا تارة بالواو ، وأخرى ب » لا « ، وأخرى ب » أم « ، وأخرى ب » بل « دليلٌ على جوازِه . وأمّا ضَعْفُ الدليل : فهو أنهم منعوا ذلك لأنَّ الضميرَ كالتنوين ، فكما لا يُعْطف على التنوين لا يُعْطَفُ عليه إلا بإعادة الجار . ووجهُ ضعفه أنه كان بمقتضى هذه العلةِ ألاَّ يُعْطَفَ على الضمير مطلقاً ، أعنى سواءً كان مرفوعَ الموضعِ أو منصوبَه أو مجرورَه ، وسواءً أُعيد معه الخافِضُ أم لا كالتنوين .
وأمَّا القياسُ فلأنه تابعٌ من التوابعِ الخمسةِ فكما يُؤَكَّدُ الضميرُ المجرورُ ويُبْدَلُ منه فكذلك يُعْطَفُ عليه .
الثالث : أن يكونَ معطوفاً على » الشهر الحرام « أي : يسألونَك عن الشهرِ الحرامِ وعن المسجدِ الحرام . قال أبو البقاء : » وضَعُفَ هذا بأنَّ القومَ لم يَسْأَلوا عن المسجدِ الحرام إذ لم يَشُكُّوا في تعظيمِه ، وإنما سَأَلوا عن القتالِ في الشهرِ الحرامِ لأنه وَقَعَ منهم ، ولم يَشْعُروا بدخولِه فخافُوا من الإِثمِ ، وكانَ المشركونَ عيَّروهم بذلك « ولا يَظْهَرُ ضَعْفُه بذلكَ لأنه على هذا التخريجِ يكونُ سؤالُهم عن شيئين ، أحدُهما القتالُ في الشهر الحرامِ .

والثاني : القتالُ في المسجد الحرام ، لأنهم لم يَسْأَلوا عن ذات الشهر ولا عن ذاتِ المسجدِ ، إنما سألوا عن القتالِ فيهما كما ذَكَرْتُم ، فَأُجيبوا بأنَّ القتالَ في الشهرِ الحرامِ كبيرٌ وصَدُّ عن سبيلَ الله تعالى ، يكون « قتال » أَخْبر عنه بأنه كبيرٌ ، وبأنه صَدٌّ عن سبيل الله ، وأُجيبوا بأنَّ القتالَ في المسجد الحرامِ وإخراجَ أهلِه أكبرُ من القتالِ فيه . وفي الجملةِ فَعَطْفُه على الشهرِ الحرامِ متكلَّفٌ جداً يَبْعُدُ عنه نَظمُ القرآنِ والتركيبُ الفصيحُ .
الرابع : أَنْ يتعلَّقَ بفعلٍ محذوفٍ دَلَّ عليه المصدرُ تقديرُه : ويَصُدُّون عن المسجدِ ، كما قال تعالى : { هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام } [ الفتح : 25 ] قاله أبو البقاء ، وجَعَله جيداً . وهذا غيرُ جيد لأنه يَلْزَمُ منه حذفُ حرفِ الجرِ وإبقاءُ عملهِ ، ولا يجوزُ ذلك إلا في صورٍ ليس هذا منها ، على خلافٍ في بعضها ، ونصَّ النحويون على أنَّه ضرورةٌ كقوله :
939 إذا قيل : أيُّ الناسِ شَرُّ قبيلةٍ ... أشارَتْ كليبٍ بالأكفِّ الأصابعُ
أي : إلى كليب فهذه أربعة أوجه ، أجودها الثاني .
وأمَّا رفعُه فوجهُه أنَه عَطْفٌ على « وكفرٌ به » على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه « وكفرٌّ بالمسجدِ » فَحُذِفَتْ الباءُ وأُضيف « كفرٌ » إلى المسجدِ ، ثم حُذِفَ المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مُقامه ، ولا يَخْفَى ما فيه من التكلُّفِ ، إلا أنه لا تُخَرَّجُ هذه القراءةُ الشاذةُ بأكثرُ مِنْ ذلك .
قوله : { وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ } عَطْفٌ على « كفرٌ » أو « صدٌ » على حَسَبِ الخلافِ المتقدَّمِ ، وهو مصدرٌ حُذِفَ فاعلُه ، وأُضيف إلى مفعولُه ، تقديرُه : « وإخراجُكم أهلَه » . والضميرُ في « أهله » و « مِنه » عائدٌ على المسجدِ وقيل : الضميرُ في « منه » عائدٌ على سبيلِ الله ، والأول أظهرُ و « منه » متعلِّقٌ بالمصدرِ .
قوله : { أَكْبَرُ } فيه وجهان ، أحدُهما : أنه خبرٌ عن الثلاثةِ ، أعني : صداً وكفراً وإخراجاً كما تقدَّم ، وفيه حينئذٍ احتمالان ، أحدُهما : أن يكونَ خبراً عن المجموعِ ، والاحتمالُ الآخرُ أن يكونَ خبراً عنها باعتبارِ كلِّ واحدٍ ، كما تقول : « زيدٌ وبكرٌ وعمرٌ أفضلُ من خالدٍ » أي : كلُّ واحِدٍ منهم على انفرادِه أفضلُ من خالدٍ . وهذا هو الظاهرُ . وإنما أُفْرِد الخبرُ لأنه أفضلُ من تقديرِه : أكبر من القتال في الشهرِ الحرامِ . وإنِّما حُذِفَ لدلالةِ المعنى .
الثاني من الوجهين في « أكبر » : أن يكونَ خبراً عن الأخير ، ويكون خبر « وصد » و « كفر » محذوفاً لدلالة خبر الثالث عليه تقديرُه : وصد وكفر أكبر . قال أبو البقاء/ في هذا الوجه : « ويجب أن يكونَ المحذوفُ على هذا » أكبر « لا » « كبير » كما قدَّره بعضهم؛ لأن ذلك يوجب أن يكون إخراج أهل المسجد منه حُذِفَ خبر « وصد » و « كفر » لدلالة خبر « قتال » عليه أي : القتال في الشهر الحرام كبير ، والصد والكفر كبيران أيضاً ، وإخراجُ أهل المسجد أكبرُ من القتالِ في الشهر الحرام .

ولا يلزم من ذلك أن يكونَ أكبرَ من مجموعِ ما تقدَّم حتى يلزمَ ما قاله من المحذور .
قوله : { عِندَ الله } متعلِّق ب « أكبر » ، والعنديةُ هنا مجازٌ لِما عُرف . وصرح هنا بالمفضول في قوله : { والفتنة أَكْبَرُ مِنَ القتل } ؛ لأنه لا دلالة عليه لو حُذِفَ ، بخلاف الذي قبله حيث حُذِفَ . قوله : « حتى يَرُدُّوكم » حتى حرف جر ، ومعناها يَحتمل وجهين : أحدهما : الغاية ، والثاني : التعليل بمعنى كي ، والتعليلُ أحسنُ لأن فيه ذِكْرَ الحامل لهم على الفعل ، والغاية ليس فيها ذلك ، ولذلك لم يَذْكر الزمخشري غيرَ كونِها للتعليل قال : « وحتى » معناها التعليل كقولك : فلان يعبد الله حتى يدخل الجنة « أي : » يقاتلونكم كي يردُّكم « ولم يذكر ابن عطية غير كونها غايةً قال : » ويردُّوكم « نصب ب » حتى « لأنها غاية مجردة » وظاهر قوله : « منصوب بحتى » أنه لا يُضْمِر « أَنْ » لكنه لا يريدُ ذلك وإن كان بعضهم يقول بذلك . الفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمار أن وجوباً .
و « يزالون » مضارع زال الناقصة التي ترفع الاسم وتنصب الخبر ، ولا تعمل إلا بشرطِ أَنْ يتقدَّمها نفيٌ أو نهي أو دعاء ، وقد يُحْذف النافي بإطِّراد إذا كان الفعل مضارعاً في جوابِ قسم وإلاَّ فسماعاً ، وأحكامُها في كتب النحو ، ووزنُها فَعِل بكسر العين ، وهي من ذوات الياء بدليل ما حكى الكسائي في مضارعها : يَزيل ، وإن كان الأكثر يَزال ، فأمَّا زال التامة فوزنها فَعَل بالفتح ، وهي من ذوات الواو لقولِهم في مضارعها يَزُول ، ومعناها التحول . و « عن دينكم » متعلق « بيردوكم » وقوله : « إن استطاعوا » شرط جوابه محذوف للدلالة عليه أي : إن استطاعوا ذلك فلا يزالون يقاتلونكم ، ومَنْ رأى جوازَ تقديمِ الجواب جعل « لا يزالون » جواباً مقدماً ، وقد تقدَّم الردُّ عليه بأنه كان ينبغي أَنْ تَجِبَ الفاَءُ في قولِهم : « أنت ظالم إنْ فعلت » .
قوله : { وَمَن يَرْتَدِدْ } « مَنْ » شرطيةٌ في محلِّ رفع بالابتداءِ ، ولم يَقْرأ هنا أحدٌ بالإِدغام ، وفي المائدة اختلفوا فيه ، فنُؤَخِّر الكلامَ على هذه المسألةِ إلى هناك إن شاءَ اللهُ تعالى .
وَيَرْتَدِدُ يَفْتَعِلُ من الردِّ وهو الرجوعُ كقولِه : { فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً } [ الكهف : 64 ] : قال الشيخ : « وقد عَدَّها بعضُهم فيما يتعدَّى إلى اثنين إذا كانت عنده بمعنى صَيَّر ، وَجَعَلَ من ذلك قولَه :

{ فارتد بَصِيراً } [ يوسف : 96 ] أي : رَجَع « وهذا منه [ سهو ] ؛ لأنَّ الخلافَ إنما هو بالنسبةِ إلى كونِها بمعنى صار أم لا ، ولذلك مثَّلوا بقوله : » فارتدَّ بصيراً « فمنهم مَنْ جَعَلها بمعنى » صار « ، ومنهم مَنْ جَعَل المنصوبَ بعدَها حالاً ، وإلا فأينَ المفعولان هنا؟ وأمَّا الذي عَدُّوه يتعدَّى لاثنين بمعنى » صَيَّر « فهو رَدَّ لا ارتدَّ ، فاشتبه عليه ردَّ ب » ارتَدَّ « . وصيَّر ب » صارَ « .
و » منكم « متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه حالٌ من الضميرِ المستكنِّ في » يَرْتَدِدْ « ، و » من « للتبعيض ، تقديرُه : ومَنْ يَرْتَدِدْ في حالِ كونِه كائناً منكم ، أي : بعضكم . و » عن دينه « متعلِّقٌ بيرتددْ . و » فَيَمُتْ « عطفٌ على الشرط والفاءُ مُؤْذِنَةٌ بالتعقيب .
{ وَهُوَ كَافِرٌ } جملةٌ حاليةٌ من ضميرِ » يَمُتْ « ، وكأنها حالٌ مؤكِّدَةٌ لأنها لو حُذِفَتْ لفُهِم معناها ، لأنَّ ما قبلَها يُشْعِرُ بالتعقيبِ للارتداد ، وجيء بالحالِ هنا جملةً ، مبالغةً في التأكيدِ من حيث تكرُّرُ الضميرِ بخلافِ ما لو جِيء بها اسماً مفرداً .
وقوله : { فأولائك } جوابُ الشرطِ . قالَ أبو البقاء : و » مَنْ في موضعِ مبتدأ ، والخبرُ هو الجملةُ التي هي قولُه : « فأولئك حَبِطَتْ » ، وكان قد سَلَفَ له عند قوله : { فَمَن تَبِعَ هُدَايَ } [ البقرة : 38 ] أنَّ خبرَ اسم الشرطِ هو فعلُ الشرطِ لا جوابُه ورَدَّ على مَنْ يَدَّعي ذلك بما حَكَيْتُه عنه ثَمَّةَ ، ويَبْعُدُ منه تَوَهُّمُ كونِها موصولةً لظهورِ الجزمِ في الفعلِ بعدها ، ومثلُه لا يقعُ في ذلك .
و « حَبِط » فيه لغتان : كسرُ العينِ - وهي المشهورةُ - وفَتْحُها ، وبها قرأ أبو السَّمَّال في جميعِ القرآنِ ، ورويتْ عن الحسنِ أيضاً . والحُبوط : أصلُه الفسادُ ومنه : « حَبِطَ بطنُه » أي : انتفخ ، ومنه « رَجلٌ حَبَنْطَى » أي : منتفخُ البطنِ .
وحُمِل أولاً على لفظِ « مَنْ » فَأَفْرَدَ في قوله : « يَرْتَدِدْ ، فيمتْ وهو كافرٌ » وعلى معناها ثانياً في قولِه : « فأولئك » إلى آخره ، فَجَمَع ، وقد تقدَّم أن مثلَ هذا التركيبِ أحسنُ الاستعمالَيْنِ : أعني الحَمْلَ أولاً على اللفظِ ثم على المعنى . وقولُه « في الدنيا » متعلِّقٌ ب « حَبِطَتْ » .
وقوله : { وأولائك أَصْحَابُ النار } إلى آخرِهِ تقدَّم إعرابُ نظيرتِها . واختلفوا في هذه الجملةِ : هل هي استئنافيةٌ ، أي : لمجرَّدِ الإخبارِ بأنهم أصحابُ النارِ ، فلا تكونُ داخلةٍ في جزاء الشرطِ ، بل تكونُ معطوفةً على جملةِ الشرطِ ، أو هيَ معطوفةً على الجوابِ فيكونُ محلُّها الجزم؟ قولان ، رُجِّع الأولُ بالاستقلالِ وعدمِ التقييدِ ، والثاني بأنَّ عطفَها على الجزاءِ أقربُ من عطفِها على جملةِ الشرطِ ، والقربُ مُرَجِّحٌ .

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)

قولُه تعالى : { إِنَّ الذين آمَنُواْ } : إنَّ واسمُها ، و « أولئك » مبتدأ ، و « يَرْجُون » خبرُه ، والجملةُ خبرُ « إنَّ » ، وهو أحسنُ من كونِ « أولئك » بدلاً من « الذين » و « يرجُون خبرٌ » إنَّ « . وجيء بهذه الأوصافِ الثلاثةِ مترتبةً على حَسَبِ الواقعِ ، إذ الإيمانُ أولُ ثم المهاجَرةُ ثم الجهادُ . وأَفْرَدَ الإِيمانَ بموصولٍ وحدَه لأنه أصلُ الهجرةِ والجهادِ ، وجَمَعَ الهجرةَ والجهادَ في موصولٍ واحدٍ لأنَّهما فَرْعانِ عنه ، وأتى بخبرِ » إنَّ « اسمَ إشارة لأنه متضمِّنٌ للأوصافِ السابقةِ . وتكريرُ الموصولِ بالنسبةِ إلى الصفاتِ لا الذواتِ ، فإنَّ الذوات متحدةٌ موصوفةٌ بالأوصافِ الثلاثةِ ، فهو من بابِ عَطْفِ بعضِ الصفاتِ على بعض والموصوفُ واحدُ . ولا تقولُ : إنَّ تكريرَ الموصولِ يَدُلُّ على تَغايرِ الذواتِ والموصوفةِ لأنَّ الواقعَ كان كذلك . وأتى ب » يَرْجُون « لِيَدُلَّ على التجدُّدِ وأنهم في كلِّ وقتٍ يُحْدِثُون رجاءً .
والمهاجَرةُ مُفاعَلَةٌ من الهَجْرِ ، وهي الانتقالُ من أرضِ إلى أرضٍ ، وأصلُ الهجرِ التركُ . والمجاهدةُ مفاعلةٌ من الجُهْدِ . وهو استخراجُ الوُسْع وبَذْلُ المجهود ، والإِجهادُ : بَذْلُ المجهودِ في طَلَبِ المقصودِ ، والرجاءُ : الطمعُ ، وقال الراغب : وهو ظَنُّ يقتضي حصولَ ما فيه مَسَرَّةٌ ، وقد يُطْلَقُ على الخوفِ ، وأنشد :
940 إذا لَسَعَتْه النحلُ لَم يَرْجُ لَسْعَها ... وخالَفَها في بَيْتِ نُوبٍ عَواسلِ
أي : لم يخف/ ، وقال تعالى : { لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا } [ يونس : 7 ] أي : لا يَخافون ، وهل إطلاقُه عليه بطريقِ الحقيقةِ أو المجازِ؟ فزعم قومٌ أنَّه حقيقةٌ ، ويكونُ من الاشتراك اللفظي ، وزعم قومٌ أنه من الأضدادِ ، فهو اشتراكٌ لفظي أيضاً . قال ابنُ عطية : » وليس هذا بجيدٍ « . يعني أن الرجاء والخوفَ ليسا بضدين إذ يمكنُ اجتماعُهما ، ولذلك قال الراغب : - بعد إنشادِه البيتَ المتقدم - » ووجْهُ [ ذلك ] أن الرجاءَ والخوفَ يتلازمان « ، وقال ابن عطية : » والرجاءُ أبداً معه خوفٌ ، كما أن الخوفَ معه رجاءٌ « . وزعم قومٌ أنه مجازٌ للتلازمِ الذي ذكرناه عن الراغب وابنِ عطية .
وأجاب الجاحظُ عن البيتِ بأنَّ معناه لَم يَرْجُ بُرْءَ لَسْعِها وزواله فالرجاءُ على بابه » . وأمَّا قولُه : { لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا } أي لا يَرْجُون ثوابَ لقائِنا ، فالرجاءُ أيضاً على بابِه ، قاله ابنُ عطية . وقال الأصمعي : « إذا اقترن الرجاءُ بحرفِ النفي كان بمعنى الخوفِ كهذا البيتِ والآيةِ . وفيه نظرٌ إذ النفيُ لا يُغَيِّر مدلولاتِ الألفاظِ .
وكُتبت » رحمة « هنا بالتاءِ : إمَّا جرياً على لغةِ مَنْ يَقِفُ على تاءِ التأنيث بالتاءِ ، وإمَّا اعتباراً بحالِها في الوصلِ ، وهي في القرآن في سبعةِ مواضعَ كُتبت في الجميع تاءً ، هنا وفي الأعراف : { إِنَّ رَحْمَةَ الله } [ الأعراف : 56 ] ، وفي هود : { رَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ } [ هود : 73 ] ، وفي مريم : { ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ } [ مريم : 2 ] ، وفي الروم : { فانظر إلى آثَارِ رَحْمَتِ الله } [ الروم : 50 ] ، وفي الزخرف : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ . . . وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ } [ الزخرف : 32 ] .

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)

قوله تعالى : { عَنِ الخمر والميسر } : الخمرُ : المُعْتَصَرُ من العِنَبِ إذا غَلى وقَذَفَ بالزَّبَدِ ، ويُطْلَقُ على ما غلى وقَذَف بالزَّبَد من غيرِ ماءِ العنب مجازاً .
وفي تسميِتها « خمراً » أربعةُ أقوال ، أحدُها : - وهو المشهورُ - أنها سُمِّيتْ بذلك لأنهَا تَخْمُر العقلَ أي تستُرُه ، ومنه : خِمارُ المرأة لسَتْرِهِ وَجْهَها ، و : « خامِري حَضاجِرُ ، أتَاك ما تُحَاذِرُ » يُضْرَبُ للأحمقِ ، وحضاجرُ عَلَمٌ للضبُع ، أي : استتر عن الناس . ودخَل في خِمار الناس وغِمارهم . وفي الحديث : « خَمِّروا آنيتَكم » ، وقال :
941 ألا يا زيدُ والضحاكَ سِيرا ... فَقَدْ جاوَزْتُما خَمَرَ الطرِيقِ
أي : ما يَسُْرُكما من شجرٍ وغيرِه . وقال العَّجاج يصف مسير جيشٍ ظاهر :
942 في لامعِ العِقْبَانِ لا يَمْشِي الخَمَرْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والثاني : لأنها تُغَطَّى حتى تُدْرَكَ وتشتدَّ ، ومنه « خَمِّروا آنيتَكم »
والثالث : - قال ابنُ الأنباري - لأنها تخامِرُ العقلَ أي : تخالِطُه ، يقال : خامره الداءُ أي : خالَطَه . والرابع : لأنها تُتْرَكُ حتى تُدْرَكَ ، ومنه : « اختمر العجينُ » أي : بَلَغَ إدراكُه ، وخَمَّر الرأيَ أي : تركَه حتى ظهرَ له فيه وجهُ الصوابِ ، وهذه أقوالٌ متقاربةٌ . وعلى هذه الأقوال كلِّها تكونُ الخمرُ في الأصل مصدراً مراداً به اسمُ الفاعلِ أو اسمُ المفعولِ .
والمَيْسِرُ : القِمار ، مَفْعِل من اليُسْر ، يقال : يَسَرَ يَيْسِر . قال علقمة :
943 لو يَيْسِرون بخيلٍ قد يَسَرْتُ بها ... وكلُّ ما يَسَرَ الأقَوامُ مَغْرومُ
وقال آخر :
944 أقولُ لهم بالشِّعْبِ إذ يَيْسِرونَني ... ألم تَيْئَسوا أني ابنُ فارسِ زَهْدَمِ
وفي اشتقاقِه أربعةُ أقوال ، أحدُها : من اليُسْر وهو السهولةُ ، لأنَّ أَخْذَه سهل . الثاني : من اليَسار وهو الغنى ، لأنه يَسْلُبه يساره ، الثالثة : مِنْ يَسَر لي كذا أي : وَجَب ، حكَاه الطبري عن مجاهد . وردَّ ابنُ عطية عليه . الرابع : من يَسَر إذا جَزَر ، والياسرُ الجازرُ ، وهو الذي يُجَزِّىء الجَزُور أجزاءً . قال ابن عطية : « وسُمِّيت الجَزُور التي يُسْتَهَمُ عليها مَيْسِراً لأنَّها موضعُ اليُسْرِ ، ثم سُمِّيت السهامُ مَيْسِراً للمجاورة » واليَسَرُ : الذي يَدْخُل في الضربِ بالقِدَاح ، ويُجْمع على أَيْسار ، وقيل ، بل « يُسَّر » جمع ياسِر كحارِس وحُرَّس وأَحْراس .
وللميسر كيفيةٌ ، ولسهامه - وتُسَمَّى القِداحَ والأزلامَ أيضاً - أسماءٌ لا بُدَّ من ذِكْرها لتوقَّفِ المعنى عليها . فالكيفيةُ أنَّ لهم عشرةَ أقداح وقيل أحدَ عشرَ ، لسبعةٍ منها حظوظٌ ، وعلى كل منها خطوطٌ ، فالخطُّ يقدِّرُ الحَظَّ ، وتلك القداحُ هي : الفَذُّ وله سهمٌ واحد ، والتَّوْءَمُ وله اثنان ، والرقيبُ وله ثلاثةُ ، والحِلْسُ وله أربعةٌ ، والنافِسُ وله خمسةٌ ، والمُسْبِلُ وله ستةٌ ، والمُعَلَّى وله سبعةٌ ، وثلاثةٌ أغفالٌ لا خطوطَ عليها وهي المَنِيح والسَّفِيح والوَغْدُ ، ومَنْ زاد رابعاً سمَّاه المُضَعَّفُ . وإنما كَثُروا بهذه الأغفالِ ليختلطَ على الحُرْضَة وهو الضاربُ ، فلا يميلُ مع أحدٍ ، وهو رجلٌ عَدْلٌ عندهم ، فيجثوا ويلتحِفُ بثوبٍ ، ويُخْرِج رأسه ، فيجعلُ تلك القداحَ في الرِّبابة وهي الخَريطةُ ، ثم يُخَلْخِلُها ويُدْخِلُ يده فيها ، ويُخْرِجُ باسم رجلٍ رجلٍ قَدَحاً فَمَنْ خَرَجَ على اسمه قدحٌ : فإنْ كانَ من ذوات السهام فاز بذلك النصيبِ وأخذَه ، وإنْ كان من الأغفال غرِّم من الجَزور ، وكانوا يفعلون هذا في الشَّتْوة وضيقِ العيش ، ويُقَسِّمونه على الفقراء ولا يأكلون منه شيئاً ، ويفتخرون بذلك ، ويسمون مَنْ لم يَدْخُل معهم فيه : البَرَم ، والجَزورُ تُقْسَمُ عند الجمهور على عددِ القداحِ فتقسَمُ عشرةَ أجزاء ، وعند الأصمعي على عددِ خطوط القداحِ ، فتقسم على ثمانيةٍ وعشرين جزءاً .

وخَطَّأ ابنُ عطية الأصمعيَّ في ذلك ، وهذا عجيبٌ منه ، لأنه يُحْتَمل أنَّ العربَ كانت تقسِّمُها مرةً على عشرةٍ ومرةً على ثمانية وعشرين/ .
وقولُه { عَنِ الخمر } لا بد من حذفِ مضافٍ ، إذ السؤالُ عن ذَاتَيْ الخمرِ والميسرِ غيرُ مُرادٍ . والتقدير . عن حكمِ الخمرِ والميسرِ حِلاًّ ، وحُرْمَةً ، ولذلك جاء الجوابُ مناسباً لهذا المُقَدَّرِ .
قوله : { فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ } الجارُّ خبرٌ مقدمٌ ، و « إثمٌ » مبتدأٌ مؤخر ، وتقديمُ الخبرِ هنا ليس بواجبٍ وإن كان المبتدأُ نكرةً ، لأنَّ هنا مسوغاً آخر ، وهو الوصفُ أو العطفُ ، ولا بد من حَذْفِ مضافٍ أيضاً ، أي : في تعاطِيهما إثمٌ ، لأنَّ الإِثمَ ليس في ذاتِهما .
وقرأ حمزةُ الكسائي : « كثيرٌ » بالثاء المثلثة ، والباقونَ بالباء ثانيةِ الحروفِ . ووجهُ قراءةِ الجمهور واضح ، وهو أن الإِثمَ يُوصف بالكِبرَ ، ومنه آية { حُوباً كَبِيراً } [ النساء : 2 ] . وسُمِّيت الموبِقات : « الكبائر » ، ومنه قولُه تعالى : { يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثم } [ الشورى : 37 ] ، وشربُ الخمرِ والقمارُ من الكبائرِ ، فناسب وصفُ إثمهما بالكِبَر ، وقد أجمعَتِ السبعةُ على قوله : « وإثْمهما أكبرُ » بالباء الموحَّدة ، وهذه توافقها لفظاً .
وأمَّا وجهُ قراءة الأَخَوَين : فإمَّا باعتبارِ الآثمين من الشاربين والمقامرين فلكلِّ واحدٍ إثمٌ ، وإما باعتبارِ ما يترتب على تعاطيهما من توالي العقابِ وتضعيفه ، وإمّا باعتبارِ ما يترتَّبُ على شُرْبها مِمَّا يصدُر من شاربها من الأقوال السيئة والأفعال القبيحةِ ، وإمَّا باعتبار مَنْ يزاولها من لَدُنْ كانت عِنباً إلى أن شُربَتْ ، فقد لَعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمر ، ولعن معها عشرةً : بائِعَها ومُبتاعَها ، فناسَب ذلك أن يُوصَف إثمُها بالكثرةِ . وأيضاً فإن قوله : « إثم » مقابلٌ ل « منافع » و « منافع » جمعٌ ، فناسَبَ أن تُوصفَ مقابلةً بمعنى الجمعية وهو الكَثْرَةُ . وهذا الذي ينبغي أن يفعله الإِنسانُ في القرآن ، وهو أن يَذْكر لكلِّ قراءةٍ توجيهاً من غير تعرُّضٍ لتضعيفِ القراءة الأخرى كما فعل بعضهُم ، وقد تقدَّم فصلٌ صالحٌ من ذلك في قراءَتَيْ : « مَلِكَ » و « مالِك » .
وقال أبو البقاء : « الأحسنُ القراءةُ بالباء لأنه يُقال : إثمٌ كبير وصغير ، ويُقال في الفواحش العظامِ » الكَبائرُ « ، وفيما دونَ ذلك » الصغائرُ « وقد قُرىء بالثاءِ وهو جَيدٌ في المعنى ، لأن الكثرةَ كِبر ، والكثيرَ كبيرٌ ، كما أنَّ الصغيرَ حقيرٌ ويَسيرٌ .

فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)

قوله تعالى : { فِي الدنيا } : فيه خمسةُ أوجهٍ ، أظهرُها : أن يتعلَّقَ بيتفكرون على معنى يتفكرون في أمرهما ، فيأخذونَ ما هو الأصلحُ ، ويُؤْثِرُون ما هو أبقى نفعاً . والثاني : أن يتعلَّقَ ب « يبيِّن » ويُرْوَى معناه عن الحسن ، وحينئذٍ يُحْتَمَلُ أن يُقَدَّر مضافٍ ، أي : في أمرِ الدنيا والآخرة ، ويُحْتَمل ألاَّ يقدَّرَ ، لأنَّ بيانَ الآيات وهي العلاماتُ يظهرُ فيها . وجعل بعضُهم قولَ الحسن من التقديم والتأخير ، ثم قال : « ولا حاجة لذلك ، لحَمْلِ الكلام على ظاهره ، يعني مِنْ تعلق في الدنيا ب » تتفكرون « . وهذا ليس من التقديم والتأخير في شيء ، لأنَّ جملةَ الترجِّي جاريةٌ مَجْرى العلةِ فهي متعلقةٌ بالفعل معنى ، وتقديمُ أحدِ المعمولاتِ على الآخرِ لا يقال فيه تقديمٌ وتأخيرٌ ، ويُحْتَمل أن تكونَ اعتراضيةً فلا تقديمَ ولا تأخيرَ .
والثالث : ان تتعلَّق بنفسِ » الآيات « لِما فيها من معنى الفعل وهو ظاهرُ قول مكي فيما فهمه عنه ابنُ عطية . قال مكي : » معنى الآيةِ أنه يبيِّن للمؤمنين آياتٍ في الدنيا والآخرةِ يَدُلُّ عليها وعلى منزِلَتِها لعلهم يتفكرون في تلك الآيات « قال ابن عطية : » فقولُه : « في الدنيا » يتعلَّقُ على هذا التأويلِ بالآيات « وما قاله عنه ليس بظاهرٍ ، لأنَّ شرحَهُ الآيةُ لا يقتضي تَعَلُّقَ الجار بالآيات . ثم إن عنى ابنُ عطية بالتعلُّق التعلُّق/ الاصطلاحي ، فقال الشيخ : » فهو فاسدٌ ، لأنَّ « الآيات » لا تعملُ شيئاً البتة ، ولا يتعلَّقُ بها ظرفٌ ولا مجرورٌ « وهذا من الشيخ فيه نظرٌ ، فإن الظروفَ تتعلَّقُ بروائح الأفعال ، ولا شك أن معنى الآياتِ العلاماتُ الظاهرةُ فيتعلَّق بها الظرفُ على هذا . وإن عنى التعلقَ المعنويَّ وهو كونُ الجارِّ من تمام معنى » الآيات « فذلك لا يكون إلا إذا جَعَلْنا الجارَّ حالاً من » الآيات « ولذلك قَدَّرَها مكي نكرةً فقال : » يبيِّن لهم آياتٍ في الدنيا « لِيُعْلِمَ أنها واقعةً موقعَ الصفةِ لآيات ، ولا فرقَ في المعنى بين الصفةِ والحالِ فيما نحن بصدده ، فعلى هذا تتعلق بمحذوفٍ لوقوعِها صفةً .
الرابع : أن تكونَ حالاً من » الآيات « كما تقدَّم تقريرُه الآن . الخامسُ : أن تكون صلةً للآيات فتتعلَّق بمحذوفٍ أيضاً ، وذلك مذهبُ الكوفيين فإنهم يَجْعَلُون من الموصولات الاسمَ المعرَّفَ بأَل وأنشدوا :
946 لَعَمْرِي لأنت البيتُ أُكْرِمُ أَهْلَهُ ... وَأَقْعُدُ في أَفْيَائِهِ بالأصائِلِ
ف » البيت « عندهم موصول ، ولتقرير مذهبِهم والردِّ عليه موضعٌ هو أليقُ به .
والتَّفكُّر : تَفَعُّل من الفِكْر ، والفِكْر : الذهنُ ، فمعنى تفكَّر في كذا : أجال ذهنَه فيه وردَّده .
قوله : { إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ } » إصلاحٌ « مبتدأ ، وسَوَّغَ الابتداءَ به أحدُ شيئين : إمَّا وصفُه بقوله » لهم « ، وإمَّا تخصيصُه بعملِه فيه ، و » خيرٌ « خبرُه .

و « إصلاحٌ » مصدرٌ حُذِفَ فاعلُهُ ، تقديره : إصلاحُكم له ، فالخيريَّةُ للجانبين أعني جانبَ المُصْلِحِ والمُصْلَح له ، وهذا أَوْلى من تخصيصِ أحدِ الجانبين بالإصلاح كما فَعَلَ بعضُهم . قال أبو البقاء : « فيجوزُ أن يكونَ التقديرُ : » خيرٌ لكم « ، ويجوز أن يكونَ : » خيرٌ لهم « أي إصلاحُهم نافعٌ لكم » .
و « لهم » : إمَّا في محلِّ رفعٍ على أنه صفةً ل « خير » ، أو نصبٍ على أنه متعلق به معمول له كما تقدم . وأجاز أبو البقاء فيه أن يكونَ حالاً من « خير » قُدِّم عليه ، وكان أصلُه صفةً فلما قُدِّم انتصَبَ حالاً عنه ، واعتذَرَ عن الابتداءِ بالنكرةِ حينئذٍ بأحد وجهينِ : إمَّا لأنَّ النكرةَ في معنى الفعلِ تقديرُه : أَصْلِحُوهم ، وإمَّا بأنَّ النكرةَ والمعرفة هنا سواءٌ لأنَّه جنسٌ .
قوله : { فَإِخْوَانُكُمْ } الفاء جوابُ الشرط ، و « إخوانُكم » خبرُ مبتدأ محذوفٍ ، أي : فهم إخوانُكم . والجملةُ ي محلِّ جزمٍ على جوابِ الشرط . والجمهورُ على الرفع ، وقرأ أبو مُجْلز : « فإخوانَكم » نصباً بفعل مقدر ، أي : فقد خالَطْتُم إخوانَكم . والجملةُ الفعلية أيضاً في محلِّ جزمٍ ، وكأن هذه القراءة لم يَطَّلِعْ عليها أبو البقاء ، فإنه قال : « ويجوزُ النصبُ في الكلام ، أي : فقد خالطْتُم إخوانَكم » .
وقوله : { يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح } تقدَّم الكلام عليه في قوله : { إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول مِمَّن يَنقَلِبُ } [ البقرة : 143 ] ، والمُفْسِدُ والمُصْلِحُ جنسان هنا ، وليس الألف واللام لتعريفِ المعهود ، وهذا هو الظاهرُ . وقد يجوز أن تكونَ للعهدِ أيضاً .
وفي قوله : { تُخَالِطُوهُمْ } التفاتٌ من ضميرِ الغيبةِ في قولِهِ : « ويسألونك » إلى الخطابِ لينبِّه السامعَ إلى ما يُلْقَى إليه . ووقََع جوابُ السؤالِ بجملتين : إحداهما من مبتدأٍ وخبرٍ ، وأُبْرِزَتْ ثبوتيةً مُنَكَّرَة المبتدإِ لتدلَّ على تناولِهِ كلَّ إصلاح على طريقِ البدليةِ ، ولو أُضيفَ لَعَمَّ أو لكانَ معهوداً في إصلاحٍ خاص ، وكلاهُما غيرُ مرادٍ ، إمَّا العمومُ فلا يُمْكِنُ ، وأمَّا المعهودُ فلا يتناولُ غيره؛ فلذلك أُوثر التنكيرُ الدالُّ على عمومِ البدل ، وأُخْبِرَ عنه ب « خير » الدالِّ على تحصيل الثواب ، ليتبادَرَ المسلمُ إليه . والآخرُ من شرطٍ وجزاءٍ ، دالّ على جوازِ الوقوعِ لا على طلبه وندبيَّتِهِ .
قوله : { وَلَوْ شَآءَ الله } مفعولُ « شاءَ » محذوفٌ ، أي : إعناتَكم . وجوابُ لو : « لأعنَتَكم » ، وهو الكثيرُ أعني ثبوتَ اللامِ في الفعلِ المُثْبَتِ .
والمشهورُ قطعُ همزةِ « لأعنتكم » لأنها همزةُ قطعٍ . وقرأ البزي عن ابن كثير في المشهور بتخفيفِها بينَ بينَ ، وليس من أصلِهِ ذلك ، ورُوِيَ سقوطُها البتة ، وهي كقراءة : { فلا إِثْمَ عَلَيْهِ } [ البقرة : 173 ] شذوذاً وتوجيهاً . ونسبَ بعضُهم هذه القراءة إلى وَهْم الراوي ، باعتبارِ أنه اعتقدَ في سماعِهِ التخفيفَ إسقاطاً ، لكنَّ الصحيحَ ثبوتُها شاذةً .
والمخالطةُ : الممازَجَةُ . والعَنَتُ : المشقةُ ، ومنه « عَقَبَةٌ عَنَوُتٌ » ، أي : شاقةُ المَصْعَدِ .

وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)

قولُه تعالى : { وَلاَ تَنْكِحُواْ } : الجمهورُ على فتح تاءِ المضارعةِ ، وقرأ الأعمش بضمِّها من : أنكَحَ الرباعي ، فالهمزةُ فيه للتعديةِ ، وعلى هذا فأحدُ المفعولين محذوفٌ ، وهو المفعولُ الأولُ لأنه فاعلٌ معنىً تقديرُهُ : ولا تُنْكِحُوا أنفسَكم المشركاتِ .
والنكاحُ في الأصلِ عند العرب : لزومُ الشيءِ والإِكبابُ عليه ، ومنه : « نَكَح المطرُ الأرضَ » ، حكاه ثعلب عن أبي زيد وابن الأعرابي . وقيل : أصلُه المداخَلَةُ ومنه : تناكَحَت الشجر : أي تداخلت أغصانُها ، ويُطْلق النكاح على العَقْد كقوله :
947 ولا تَقْرَبَنَّ جارةً إنَّ سِرَّها ... حرامٌ عليك فانِكحَنْ أو تأبَّدا
أي : فاعقد أو توحَّشْ وتجَنَّبِ النساء . ويُطْلَقُ أيضاً على الوَطْءِ كقوله :
948 البارِكينَ على ظهورِ نِسْوَتِهِمْ ... والناكحينَ بِشَطْءِ دجلةَ البَقَرَا
وحكى الفراء « نُكُح المرأةِ » بضمِّ النونِ على بناء « القُبُل » و « الدُّبُر » ، وهو بُضْعُها ، فمعنى قولِهم : « نَكَحَها » أي أصابَ ذلك الموضعَ ، نحو كَبَده : أي أصابَ كَبِدَه ، وقلَّما يقال : ناكحها ، كما يقال باضَعَهَا .
وقال أبو علي : « فَرَّقَتِ العربُ بين العَقْد والوطء بفرق لطيف ، فإذا قالوا : » نكح فلانٌ فلانةً « أو ابنةَ فلان أرادوا عقدَ عليها ، وإذا قالوا : نَكَحَ امرأتَه أو زوجته فلا يريدون غير المجامعَةِ وهل إطلاقُهُ عليهما بطريق الحقيقةِ فيكونُ من باب الاشتراكِ أو بطريق الحقيقة والمجاز؟ الظاهر : الثاني : فإنَّ المجازَ خيرٌ من الاشتراكِ ، وإذا قيلَ بالحقيقةِ والمجاز فإنهما حقيقة : ذهب قومٌ إلى أنه حقيقةٌ في الوطء وذهبَ قومٌ إلى العكس . قال الراغب : » أصلُ النكاحِ للعقدِ ثم استُعِيرَ للجِماع ، ومُحالٌ أن يكونَ في الأصلِ للجماعِ ثم استُعير للعقد ، لأنَّ أسماءَ الجماعِ كلَّها كناياتٌ لاستقباحِهم ذِكْرَه كاستقباحِهم تعاطِيه ، ومُحالٌ أن يستعير مَنْ لا يقصِدُ فُحشاً اسمَ ما يستفظعونه لِما يستحسنونه . قال تعالى : { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } [ النساء : 3 ] قوله : { حتى يُؤْمِنَّ } / « حتى » بمعنى « إلى » فقط ، والفعلُ بعدَها منصوبٌ بإضمار « أَنْ » أي : إلى أن يؤمنَّ ، وهو مبنيٌّ على المشهورِ لاتصاله بنونِ الإِناث ، والأصل : يُؤْمِنْنَ ، فَأُدْغِمَت لامُ الفعلِ في نون الإِناث .
قوله : { وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ } سَوَّغَ الابتداءَ ب « أَمَة » شيئان : لامُ الابتداء والوصفُ « وأصل » أمة « : أَمَوٌ ، فَحُذِفَت لامُها على غيرِ قياسٍ ، وعُوِّضَ منها تاءُ التأنيث ك » قُلَة « و » ثُبَة « يدلُّ على أنَّ لامَها واوٌ رجوعُها في الجمع . قال الكلابي :
949 أمَّا الإِماءُ فلا يَدْعُونني ولداً ... إذا تداعى بنون الإِمْوانِ بالعارِ
ولظهورها في المصدرِ أيضاً ، قالوا : أَمَةٌ بيِّنة الأُمُوَّة وأَقَرَّت له بالأُمُوَّة . وهل وزنُها » فَعَلة « بتحريكِ العين أو » فَعْلة « بسكونها؟ قولان ، أظهرُهُما الأولُ ، وكان قياسُها على هذا أن تُقْلَبَ لأمُها ألِفاً لتحرُّكِها وانفتاحِ ما قبلَها كفتاة وقَناة ، ولكنْ حُذِفَتْ على غيرِ قياس .

والثاني : قال به أبو الهيثم ، فإنه زَعَمَ أنَّ جَمْعَ الأمة أَمْوٌ ، وأنَّ وزنَها فعْلَة بسكون العين فيكون مثل نخل ونخلة فأصلها أَمْوَة ، فحذفوا لامها إذ كانت حرف لين ، فلمَّا جَمَعوها على مثل نَخْلة ونَخْل لَزِمَهُم أن يقولوا : أَمَة وأَم ، فكَرهوا أن يَجْعَلُوها حرفين ، وكَرِهُوا أن يَرُدُّوا الواوَ المحذوفَةَ لمَّا كانت [ آخر ] الاسمِ ، فقدَّموا الواوَ وَجَعَلُوا ألفاً بين الهمزة والميم فقالوا : أام . وما زعَمه ليس بشيء إذ كان يلزَمُ أن يكونَ الإِعرابُ على الميمِ كما كان على لام « نَخْل » وراء « تمر » ، ولكنه على التاءِ المحذوفَةِ مقدَّرٌ كما سيأتي بيانُهُ . وجُمِعَت على « إمْوان » كما تقدَّم ، وعلى إماء ، والأصلُ : إماؤٌ ، نحو رقبة ورِقاب ، فَقُلِبَت الواوُ همزةً لوقوعها طرفاً بعد ألفٍ زائدةٍ ككساء . وفي الحديث : « لا تَمْنَعُوا إماءَ اللَّهِ مساجدَ الله » وعلى آمِ ، قال الشاعر :
950 تَمْشِي بها رُبْدُ النَّعا ... مِ تَماشِيَ الآمِ الزوافِرْ
والأصل « أَأْمُوٌ » بهمزتين ، الأولى مفتوحةٌ زائدةٌ ، والثانيةُ ساكنةٌ هي فاءُ الكلمة نحو : أَكَمَةَ وأَأْكُم ، فوقعت الواوُ طرفاً مضموماً ما قبلَها في اسمٍ معربٍ ولا نظيرَ له ، فَقُلِبَتِ الواوُ ياءً والضمةُ كسرةً لتصِحَّ الياءُ ، فصارَ الاسمُ من قبيلِ المنقوصِ . نحو : غازٍ وقاضٍ ، ثم قُلِبَتِ الهمزةُ الثانيةُ ألِفاً لسكونِها بعد أخرى مفتوحةٍ ، فتقولُ : جاء آمٌ ومررت بآمٍ ورأيت آمياً ، تقدِّرُ الضمة والكسرة وتُظْهِرُ الفتحةَ ، ونظيرُهُ في هذا القلبِ مجموعاً أَدْلٍ وأَجْرٍ جمعُ دَلْو وجَرْو ، وهذا التصريفُ الذي ذكرناهُ يَرُدُّ على أبي الهيثم قولَه المتقدمَ ، أعني كونَه زعمَ أن آمياً جمع أَمْوَة بسكونِ العينِ ، وأنه قُلب ، إذ لو كان كذلكَ لكانَ ينبغي أن يُقالَ جاء آمٌ ومررت بآمٍ ورأيت آماً ، وجاء الأم ومررتُ بالآم ، فَتُعْرَبُ بالحركاتِ الظاهرِةِ .
والتفضيلُ في قوله : { خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكةٍ } : إمَّا على سبيلِ الاعتقادِ لا على سبيلِ الوجودِ ، وإمَّا لأنَّ نكاحَ المؤمنةِ يشتملُ على منافعَ أُخْرَوِيَّة ونكاحَ المشركةِ الحرة يشتملُ على منافعَ دنيويةٍ ، هذا إذا التزمنا بأن « أَفْعَلَ » لا بد أن يَدُلَّ على زيادةٍ ما وإلاَّ فلا حاجةَ إلى هذا التأويلِ كما هو مذهبُ الفراء وجماعةٌ .
وقوله : { مِّن مُّشْرِكَةٍ } يَحْتَمِلُ أن يكونَ « مشركةٍ » صفةً لمحذوفٍ مدلولٍ عليه مقابِلِهِ أي : مِنْ حرَّةٍ مشركةٍ ، أو مدلول عليه بلفظِهِ أي : مِنْ أَمَةٍ مشركةٍ ، على حَسَبِ الخلافِ في قوله : « ولأمةٌ » هل المرادُ المملوكَةُ للآدميين أو مطلقُ النساء لأنهنَّ مِلكٌ لله تعالى؟ وكذلك الخلافُ في قولِهِ : { وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ } والكلامُ عليه كالكلامُ على هذا .
قوله : { وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ } وقوله « ولو أَعْجَبَكم » هذه الجملةُ في محلِّ نصبِ على الحالِ ، وقد تقدَّم أنَّ « لو » هذه في مثل هذا التركيبِ شرطيةٌ بمعنى « إنْ » نحو : « رُدُّوا السائلَ ولو بظَلْفٍ مُحْرقٍ » ، وأنَّ الواوَ للعطفِ على حالٍ محذوفةٍ ، التقديرُ : خيرٌ من مشركةٍ على كلِّ حالٍ ، ولو في هذه الحال ، وأنَّ هذا يكون لاستقصاءِ الأحوالِ ، وأنَّ ما بعدَ « لو » هذه إنما يأتي وهو مُنافٍ لِما قبلَه بوجهٍ ما ، فالإِعجابُ منافٍ لحكمِ الخيريةِ ، ومقتضٍ جوازَ النكاح لرغبةِ الناكحِ فيها .

وقال أبو البقاء : « لو » هنا بمعنى « إنْ » ، وكذا كُلُّ موضعٍ وقع بعد « لو » الفعلُ الماضي ، وكان جوابُها متقدماً عليها ، وكونُها بمعنى « إنْ » لا يُشْتَرَطُ فيه تقدُّمُ جوابِها ، ألا ترى أنَّهم قالوا في قولِهِ تعالى : { لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ } [ النساء : 9 ] إنها بمعنى « إنْ » مع أنَّ جوابَها وهو « خافوا » متأخِّرٌ عنها ، وقد نَصَّ هو على ذلك في آيةِ النساء قال في خافوا : « وهو جوابُ » لو « ومعناها » إنْ « .
قوله : { والمغفرة } الجمهورُ على جَرَّ » المغفرة « عطفاً على » الجنة « و » بإذنه « متعلِّقٌ بيدعو ، أي : بتسهيلهِ .
وفي غير هذه الآيةِ تقدَّمَتِ » المغفرة « على الجنة : { سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ } [ الحديد : 21 ] { وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ } [ آل عمران : 133 ] ، وهذا هو الأصل لأنَّ المغفرةَ سببٌ في دُخُولِ الجنَّةِ ، وإنما أُخِّرَت هنا للمقابلَةِ ، فإنَّ قبلَها » يدعو إلى النار « ، فقدَّم الجنة ليقابِلَ بها النارَ لفظاً ، ولتشُّوقِ النفوسِ إليها حين ذَكَرَ دعاءَ اللَّهِ إليها فأتى بالأَشْرَفِ . وقرأ الحسن » والمغفرةُ بإذنِهِ « على الابتداءِ والخبرِ ، أي : حاصلةٌ بإِذنِهِ .

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)

قولُه تعالى : { عَنِ المحيض } : مَفْعِلِ من الحَيْضِ ، ويُراد به المصدرُ والزمانُ والمكانُ ، تقولُ : حاضَتِ المرأَةُ تحيضُ حَيْضاً ، ومَحِيضاً ومَحاضاً ، فَبَنَوْه على مَفْعِل ومَفْعَل بالكسرِ والفتحِ .
واعلم أنَّ في المَفْعَل مِنْ يَفْعِل بكسر العينِ اليائيها ثلاثةَ مذاهبَ ، أحدُها : أنه كالصحيح ، فتُفْتَحُ عينُه مراداً به المصدرُ ، وتُكْسَرُ مراداً به الزمانُ والمكانُ . والثاني : أَنْ يُتَخَيَّرُ بين الفتحِ والكسر في المصدرِ خاصةً ، كما جاء هنا : المَحيضُ والمَحاضُ ، ووجهُ هذا القول أنه كَثُر هذان الوجهان : أعني الكسر والفتح فاقتاسا . والثالث : أن يُقْتَصَرَ على السماع ، فيما سُمِع فيه الكسرُ أو الفتحُ لا يَتَعَدَّى . فالمحيضُ المرادُ به المصدرُ ليس بمقيس على المذهبين الأول والثالث ، مقيسٌ على الثاني . ويقال : امرأَةٌ حائِضٌ ولا يُقال : « حائِضَةٌ » إلا قليلاً ، أنشدَ الفراء :
951 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كحائِضَةٍ يُزْنَى بها غيرِ طاهرِ
والمعروفُ أن النَّحويين فَرَّقوا بين حائض وحائضة : فالمجرد من تاء التأنيث بمعنى النَسَب أي : ذاتُ حيضٍ ، وإنْ لم يكن عليها حَيْضٌ ، والملتبسُ بالتاءِ لِمَنْ عليها الحَيْضُ في الحال ، فيُحتمل أن يكونَ مرادُ الشاعرِ ذلك ، وهكذا كلُّ صفةٍ مختصةٍ بالمؤنثِ نحو : طامِث ومُرْضِع وشبهِهما/ .
وأصلُ الحَيْض السَّيَلانُ والانفجار ، يُقال : حاضَ السيلُ وفاضَ ، قال الفراء : « حاضَت الشَجرةُ أي : سالَ صَمْغُها » ، قال الأزهري : « ومن هذا قيل للحوضِ : حَيْضٌ ، لأنَّ الماءَ يسيل إليه » والعربُ تُدْخِلُ الواو على الياءِ ، والياءَ على الواو ، لأنهما من حَيَّز واحدٍ وهو الهواء . والظاهرُ أن المحيض في هذه الآية يُراد به المصدرُ وإليه ذهب الزمخشري وابن عطية ، قال ابن عطية : « والمحيضُ مصدرٌ كالحيضِ ، ومثله : » المقيل « مِنْ قال يَقيل ، قال الراعي :
952 بُنِيَتْ مَرافِقُهُنَّ فوقَ مَزَلَّة ... لا يَسْتَطِيعُ بها القُرادُ مَقيلا
وكذلك قال الطبري : » إنَّ المحيضَ اسمُ كالمعيش اسمُ العيشِ « وأنشد لرؤبة :
953 إليك أشكو شدَّة المعيشِ ... ومَرَّ أعوامٍ نَتَفْنَ ريشي
وقيل : المَحيضُ في الآية المرادُ به اسمُ موضعِ الدم وعلى هذا فهو مقيسٌ اتِّفاقاً ، ويؤيِّد الأول قولُه : { قُلْ هُوَ أَذًى } . وقد يجاب عنه بأنَّ ثَمَّ حذفَ مضافٍ أي : هو ذو أذىً ، ويؤيِّدُ الثانيَ قولُه : { فاعتزلوا النسآء فِي المحيض } . ومَنْ حَمَلَه على المصدر قَدَّر هنا حذف مضافٍ أي : فاعتزلوا وَطْءَ النساءِ في زمانِ الحَيْضِ ، ويجوزُ أن يكونَ المحيضُ الأولُ مصدراً والثاني مكاناً .
وقوله : { هُوَ أَذَى } فيه وجهان : أحدُهما قالَه أبو البقاء : » أن يكونَ ضميرَ الوطءِ الممنوعِ « وكأنه يقول : إن السياقَ يَدُلُّ عليه وإنْ لم يَجْرِ له ذِكْرٌ . الثاني : أن يعودَ على المحيض ، قال أبو البقاء : » ويكون التقديرُ : « هو سببُ أذىً » ، وفيه نظرٌ ، فإنَّهم فَسَّروا الأذى هنا بالشيء القذِرِ ، فإذا أَرَدْنا بالمحيضِ نَفْسَ الدمِ كانَ شيئاً مُسْتَقْذَراً فلا حاجة إلى تقديرِ حذفِ مضافٍ .

وجاء : { وَيَسْأَلُونَكَ } ثلاثَ مرات بحرفِ العطفِ بعدَ قولِه : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر } [ البقرة : 21 ] وهي : { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ } [ البقرة : 219 ] ، و { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى } [ البقرة : 320 ] { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيض } [ البقرة : 222 ] . وجاء « يَسْأَلُونك » أربعَ مراتٍ من غيرِ عطفٍ . { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة } [ البقرة : 189 ] { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ } [ البقرة : 215 ] { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام } [ البقرة : 217 ] { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر } [ البقرة : 219 ] . فما الفرقُ؟ والجوابُ : أنَّ السؤالاتِ الأواخرَ وقعَتْ في وقتٍ واحدٍ فَجُمِع بينها بحرفِ الجمعِ وهو الواوُ ، أمَّا السؤالاتُ الأُوَلُ فوقعَتْ في أوقاتٍ متفرقةٍ ، فلذلك استؤْنِفَتْ كلُّ جملةٍ ، وجيء بها وحدها .
قوله : { حتى يَطْهُرْنَ } « حتى » هنا بمعنى « إلى » والفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمار أَنْ ، وهو مبنيٌّ لاتصالِه بنون الإِناثِ .
وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر بتشديد الطاءِ والهاءِ ، والأصلُ : يَتَطَهَّرْنَ ، فَأُدغم . والباقون : « يَطْهُرْنَ » مضارعُ طَهُر . قالوا : وقراءةُ التشديد معناها يَغْتَسِلْنِ . وقراءةُ التخفيف معناها يَنْقَطِعُ دَمُهُنَّ . ورجَّح الطبري قراءة التشديدِ وقال : « هي بمعنى يَغْتَسِلْنَ لإِجماع الجميع على تحريمِ قُرْبان الرجالِ امرأتَه بعد انقطاع الدم حتى تَطْهُرَ ، وإنما الخلافُ في الطُهْر ما هو؟ هل هو الغُسْلُ أو الوضوءُ أو غَسْل الفرجِ فقط؟ » قال ابنُ عطية : « وكُلٌّ واحدة من القراءتين تَحْتِمَل أن يُرادَ بها الاغتسالُ بالماءِ ، وأن يُرادَ بها انقطاع الدمِ وزوالُ أذاه . قال : » وما ذَهَبَ إليه الطبري مِنْ أنَّ قراءَة التشديدُ مُضَمَّنُها الاغتسالُ ، وقراءةُ التخفيف مُضَمَّنُها انقطاعُ الدم أمرٌ غيرُ لازم ، وكذلك ادعاؤه الإِجماع « وفي رَدَّ ابنِ عطية عليه نظرٌ؛ إذ لو حَمَلْنَا القراءتين على معنىً واحدٍ لَزِم التكرارُ . ورجَّح الفارسي قراءةَ التخفيف لأنها من الثلاثي المضادِّ لطمِثَ وهو ثلاثي .
قوله : { مِنْ حَيْثُ } في » مِنْ « قولان ، أحدُهما : أنُّها لابتداءِ الغايةِ ، أي : من الجهة التي تنتهي إلى موضِعْ الحَيْض . والثاني : أن تكونَ [ بمعنى ] » في « ، أي : في المكان الذي نُهيْتُم عنه في الحَيْض . ورَجَّح هذا بعضُهم بأنه ملائمٌ لقولِه : { فاعتزلوا النسآء فِي المحيض } ، ونَظَّر بعضُهم هذه الآية بقولِهِ : { لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة } [ الجمعة : 9 ] { مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض } [ فاطر : 40 ] أي : في يوم الجمعة وفي الأرضِ . قال أبو البقاء : » وفي الكلامِ حَذْفٌ تقديرُه : أَمَرَكُم اللهُ بالإِتيانِ منه « يعني أنَّ المفعولَ الثاني حُذِفَ للدلالةِ عليه . وكَرَّر قولَه » يحب « دلالةً على اختلافِ المقتضي للمحبَّة فتختلفُ المحبَّةُ .

نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)

قولُه تعالى : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } : مبتدأٌ وخبرٌ . ولا بدَّ من تأويلٍ ليصحَّ الإِخبارُ عن الجثةِ بالمصدرِ . فقيل : على المبالغة ، جُعِلوا نفس الفعل . وقيل : أراد بالمصدر اسم المفعول . وقيل : عَلى حَذْفِ مضافٍ من الأولِ ، أي : وَطْءُ نسائِكم حَرْثٌ أي : كحَرْث ، وقيل : من الثاني أي : نساؤكم ذواتُ حَرْثٍ . و « لكم » في موضِع رفعٍ لأنه صفةٌ لحَرْث ، فيتعلَّق بمحذوفٍ . وإنما أفرد الخبرَ والمبتدأُ جمعٌ لأنه مصدرٌ والأفصحُ فيه الإِفرادُ والتذكيرُ حينئذٍ .
قوله : { أنى شِئْتُمْ } « أنَّى » ظرفُ مكانٍ ، ويُسْتَعْمَلُ شرطاً واستفهاماً بمعنى « متى » ، فيكونُ ظرفَ زمانٍ ويكونُ بمعنى كيف ، وبمعنى مِنْ أين ، وقد فُسِّرت الآية الكريمةُ بكلٍّ من هذه الوجوهِ . وقال النحويون : « أنَّى » لتعميم الأحوال . وقال بعضُهم : إنما تجيءُ سؤالاً وإخباراً عن أمرٍ له جهاتٌ ، فهي على هذا أعمُّ مِنْ « كيف » ومِنْ « أين » ومِنْ « متى » . وقالوا : إذا كانت شرطيةً فهي ظرفُ مكانٍ فقط . واعلم انها مبنيةٌ لتضمُّنها : إمَّا معنى حرفِ الشرطِ أو الاستفهامِ ، وهي لازمةُ النصب على الظرفيةِ . والعاملُ فيها هنا قالوا : الفعلُ قبلها وهو : « فأتوا » قال الشيخ : « وهذا لا يَصِحُّ ، لأنَّها : إمَّا/ شرطيةٌ أو استفهاميةٌ ، لا جائزٌ أن تكونَ شرطيةً لوجهين ، أحدُهما : من جهة المعنى وهو أنَّها إذا كانَتْ شرطاً كانت ظرف مكانٍ كما تقدَّم ، وحينئذ يقتضى الكلامُ الإِباحةَ في غير القُبُل وقد ثبت تحريمُ ذلك . والثاني : من جهةِ الصناعةِ . وهو أنَّ اسمَ الشرط لا يعملُ فيه ما قبله ، لأنَّ له صدرَ الكلام ، بل يعمل فيه فعلُ الشرط ، كما أنه عاملٌ في فعلِ الشرطِ الجزمَ . ولا جائزٌ أن تكون استفهاماً؛ لأنَّ الاستفهامَ لا يعملُ فيه ما قبلَه لأنَّ له صدرَ الكلام ، ولأنَّ » أنَّى « إذا كانَتْ استفهاميةً اكتفَتْ بما بعدَها من فعلٍ واسم نحو : { أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ } [ الأنعام : 101 ] { أنى لَكِ هذا } [ آل عمران : 37 ] وهذه في هذه الآية مفتقرةٌ لِما قبلَها كما ترى ، وهذا موضعٌ مُشْكِلٌ يَحْتَاجُ إلى تأمُّلٍ ونظرِ .
ثم الذي يظهرُ أنها هنا شرطيةٌ ويكونُ قد حُذِف جوابُها : لدلالة ما قبله عليه ، تقديرُه : أنَّى شِئْتُم فَأْتُوه ، ويكون قد جُعِلَت الأحوالُ فيها جَعْلَ الظروفِ ، وأُجْرِيَتْ مُجراها تشبيهاً للحالِ بظرفِ المكانِ ولذلك تُقَدَّرُ ب » في « ، كما أُجْرِيت » كيف « الاستفهاميةُ مُجْرى الشرطِ في قولِهِ : { يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ } [ المائدة : 64 ] وقالوا : كيف تصنع أصنع ، فالمعنى هنا ليس استفهاماً بل شرطاً ، فيكونُ ثَمَّ حَذْفٌ في قوله : { يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ } أي : كيف يشاء ينفق ، وهكذا كلُّ موضعٍ يُشْبِهُه . وسيأتي له مزيدٌ بيانٍ . فإنْ قلتَ : قد أَخْرَجْتَ » أنَّى « عن الظرفيةِ الحقيقيةِ وجعلتَها لتعميمِ الأحوالِ مثل كيف ، وقلت : إنها مقتضيةٌ لجملةٍ أخرى كالشرطِ ، فهل الفعلُ بعدها في محلِّ جزمٍ اعتباراً بكونِها شرطيةً ، أو في محلِّ رفعٍ كما تكونُ كذلك بعد » كيف « التي تُسْتَعْمَل شرطية؟ قلت : تَحْتَمِل الأمرين ، والأرجحُ الأولُ لثبوتِ عمل الجزم ، لأنَّ غايةَ ما في البابِ تشبيهُ الأحوالِ بالظروفِ للعلاقةِ المذكورةِ ، وهو تقديرُ » في « في كلٍّ منهما » .

ولم يَجْزِمْ ب « كيف » إلا بعضُهم قياساً لا سماعاً . ومفعولُ « شئتم » محذوفٌ أي : شِئْتُمْ إتيانَه بعد أن يكونَ في المحلِّ المُباح .
قوله : { وَقَدِّمُواْ } مفعولُه محذوفٌ أي : نيَّةَ الولدِ أو نيةَ الإِعفاف وذِكْرَ اللَّهِ أو الخيرِ ، كقولِهِ : { وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ } [ البقرة : 110 ] و « لأنفسكم » متعلقٌ بقَدِّموا . واللامُ تحتملُ التعليلَ والتعدي . والهاءُ في « ملاقوه » يجوزُ أَنْ تعودَ على اللهِ تعالى . ولا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ أي : ملاقو جزائِه ، وأَن تعودَ على مفعولِ « قَدِّموا » المحذوفِ ، على حَذْفِ مضافٍ أيضاً أي : ملاقُو جزاءِ ما قَدَّمتم ، وأن تعودَ على الجزاءِ الدالِّ عليه مفعولُ « قَدِّموا » المحذوف .
والضميرُ في « وبَشِّر » للرسول عليه السلام لِجَرْي ذِكْرِه في قوله : { يَسْأَلُونَكَ } قاله أبو البقاء ، وفيه نظرٌ لأنَّ ضميرَ الخطابِ والتكلم لا يَحْتَاج أَنْ يُقالَ فيهما تَقدَّم ذِكْرُ ما يَدُلُّ عليهما . ويجوزُ أن يكونَ لكلِّ مَنْ يَصِحُّ منه البِشارة .

وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)

قوله تعالى : { لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ } : هذه اللامُ تحتملُ وجهينِ ، أحدُهما : أن تكونَ مقويةً لتعديةِ « عُرْضة » تقديرُه : ولا تجعلوا اللَّهَ مُعَدَّاً ومَرْصَدَآً لحَلْفِكم . والثاني : ان تكون للتعليلِ ، فتتعلَّقَ بفعلِ النهيِ أي : لا تَجْعلوه عُرْضَةً لأجْلِ أَيْمانكم .
قوله : { أَنْ تَبَرَّواْ } فيه ستةُ أوجهٍ ، أحدُها وهو قولُ الزجاج والتبريزي وغيرهما ، أنها في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ ، والخبرُ محذوفٌ تقديرُه : أَنْ تَبَرُّوا وتتقوا وتُصْلِحُوا خيرٌ لكم مِنْ أَنْ تجعلوه عُرْضَةً لأَيْمانكم ، أو بِرُّكم أَوْلَى وأَمْثَلُ ، وهذا ضعيفٌ؛ لأنه يؤدِّي إلى انقطاع هذه الجملةِ عمَّا قبلها ، والظاهر تعلُّقُها به .
الثاني : أنَّها في محلِّ نصبٍ على أنها مفعولٌ من أجله ، وهذا قولُ الجمهورِ ، ثم اختلفوا في تقديرِه ، فقيل : إرادةَ أن تَبَرُّوا ، وقيل : كراهةَ أن تبروا ، قاله المهدوي ، وقيل : لترك أَنْ تَبروا ، قال المبرد ، وقيل : لئلا تبروا : قاله أبو عبيدة والطبري ، وأنشدا :
954 . . . فلا واللهِ تَهْبِطُ تَلْعَةً . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... أي : لا تهبطُ ، فحذف « لا » ومثله : { يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ } [ النساء : 176 ] أي : لئلا تضِلُّوا . وتقديرُ الإِرادة هو الوجهُ ، وذلك أنَّ التقاديرَ التي ذكرتها بعدَ تقديرِ الإِرادة لا يظهرُ معناها ، لِما فيه من تعليل امتناعِ الحَلْفِ بانتفاء البِر ، بل وقوع الحَلْف مُعَلَّلٌ بانتفاء البِرِّ ، ولا ينعقد منهما شرطٌ وجزاءٌ ، لو قلتَ في معنى هذا النهي وعلَّتِه : « إنْ حَلَفْتَ بالله بَرَرْتَ » لم يصحَّ ، بخلافِ تقديرِ الإِرادة ، فإنه يُعَلِّل امتناعَ الحَلْفِ بإرادة وجودِ البِرِّ ، وينعقدُ منهما شرطٌ وجزاءٌ ، تقول : إنْ حَلَفْتَ لم تَبَرَّ وإنْ لم تَحْلِفْ بَرَرْتَ .
الثالث ، أنَّها على إسقاطِ حرف الجرِّ ، أي : في أَنْ تَبَرُّوا ، وحينئذ يَجِيء فيها القولان : قولُ سيبويه والفراء ، فتكونُ في محلِّ نصبٍ ، وقولُ الخليل والكسائي فتكونُ في محلِّ جرٍّ . وقال الزمخشري : « ويتعلَّقُ » أَنْ تَبَرُّوا « بالفعلِ أو بالعُرْضَةِ ، أي : ولا تَجْعَلُوا اللهَ لأجلِ أيْمانكم عُرْضَةً لأنْ تَبَرُّوا » . قال الشيخ : « وهذا التقديرُ لا يصحُّ للفصلِ بين العاملِ ومعمولهِ بأجنبي ، وذلك أنَّ » لأيمانِكم « عنده متعلقٌ بتجعلوا ، فوقع فاصلاً بين » عُرْضَة « التي هي العاملُ وبين » أَنْ تَبَرُّوا « الذي هو في أن تبروا ، وهو أجنبيٌّ منهما . ونظيرُ ما أجازه أن تقولَ : » امرُرْ واضربْ بزيدٍ هنداً ، وهو غيرُ جائزِ ، ونَصُّوا على أنه لا يجوزُ/ : « جاءني رجلٌ ذو فرسٍ راكبٌ أَبْلَقَ » أي رجلٌ ذو فرسٍ أبلقَ راكبٌ ، لِما فيه من الفصلِ بالأجنبي .
الرابع : أنها في محلِّ جَرٍّ عطفُ بيان لأَيْمانكم ، أي للأمورِ المَحْلُوفِ عليها التي هي البِرُّ والتقوى والإِصلاحِ . قال الشيخ : « وهو ضعيفٌ لِما فيه من جَعْل الأيمان بمعنى المَحْلوف عليه » ، والظاهرُ أنها هي الأقسام التي يُقْسَمُ بها ، ولا حاجةَ إلى تأويلها بما ذُكِر مِنْ كَوْنِها بمعنى المَحْلُوف عليه إذ لم تَدْعُ إليه ضرورةٌ ، وهذا بخلافِ الحديثِ ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم :

« إذا حَلَفْتَ على يمينٍ فرأيت غَيرها خيراً منها » فإنه لا بد من تأويله فيه بالمحلوف عليه ، ولا ضرورةَ تدعو إلى ذلك في الآية الكريمة .
الخامسُ : أَنْ تكونَ في محلِّ جرٍ على البدلِ من « لأَيْمانكم » بالتأويل الذي ذكره الزمخشري ، وهذا أَوْلَى من وجهِ عطفِ البيانِ ، فإنَّ عَطْفَ البيانِ أكثرُ ما يكونُ في الأعلام .
السادس : - وهو الظاهرُ - أنَّها على إسقاطِ حرفِ الجر لا على ذلك الوجه المتقدم ، بل الحرفُ غيرُ الحرفِ ، والمتعلَّقُ غيرُ المتعلَّقِ ، والتقديرُ : « لأِقْسامِكِم على أَنْ تَبَرُّوا » ف « على » متعلقٌ بإقْسامكم ، والمعنى : ولا تَجْعَلوا الله مُعَرَّضاً ومُتبدَّلاً لإِقسامكم على البرِّ والقتوى والإِصلاح التي هي أوصافٌ جميلةٌ خوفاً من الحِنْثِ ، فكيف بالإِقسام على ما ليس فيه بِرٌّ ولا تقوى ‍!!! .
والعُرْضَةُ في اشتقاقها ثلاثةُ أقوال ، أحدُها : أنها فُعْلَة بمعنى مَفْعول من العَرْض كالقُطْبَة والغُرْفَة . ومعنى الآية على هذا : لاَ تَجْعَلُوه مُعَرَّضاً للحَلْفِ من قولهم : فلانٌ عُرْضَةٌ لكذا أي : مُعَرَّضٌ ، قال كعب :
955 من كلِّ نَضَّاخَة الذِّفْرَى إذا عَرِقَتْ ... عُرضَتُها طامِسُ الأعلامِ مَجْهُولُ
وقال حبيب :
956 متى كانَ سَمْعي عُرْضَةً لِلَّوائِمِ ... وكيفَ صَفَتْ للعاذِلِين عَزائِمي
وقال حسان :
957 . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... هُمُ الأنصارُ عُرْضَتُها اللِّقاءُ
وقال أوس :
958 وأَدْمَاءُ مثلُ الفَحْلِ يوماً عَرَضْتُها ... لرحلي وفيها هِزَّةٌ وتقاذُفُ
فهذا كلُّه بمعنى مُعَرَّضٌ لكذا .
والثاني : أنها اسمُ ما تَعْرِضُه على الشيءِ ، فيكونُ من : عَرَضَ العُودَ على الاناء فيعترضُ دونَه ، ويصيرُ حاجزاً ومانعاً ، ومعنى الآية على هذا النَهْيُ عن أَنْ يَحْلِفُوا باللهِ على أنهم لا يَبَرُّون ولا يتقون ويقولون : لا نَقْدِرُ أَنْ نَفْعَلَ ذلك لأجلِ حَلْفِنَا .
والثالث : أنَّها من العُرْضَة وهي القوة ، يقال : « جَمَلٌ عُرْضَةَ للسفرِ » أي قويٌّ عليه ، وقال ابن الزبير :
959 فهذي لأيَّامِ الحروبِ وهذه ... لِلَهْوي وهَذي عُرْضَةٌ لارتحالِنا
أي قوةٌ وعُدَّةٌ ، ومعنى الآية على هذا : لا تَجْعَلُوا اليمينَ بالله تعالى قوةً لأنفسكم في الامتناعِ عن البّرِ .
والأيمان : جمعُ يمين ، وأصلُها العَضْوُ ، واستُعْملت في الحَلْفِ مجازاً لما جَرَتْ عادةُ المتعاقِدِين بتصافِحِ أَيْمانهم . واشتقاقُها من اليُمْن . واليمينُ أيضاً اسمٌ للجهةِ التي تكونُ من ناحيةِ هذا العضو فينتصبُ على الظرف ، وكذلك اليسارُ تقول : زيدٌ يمينَ عمروٍ وبكرٌ يسارَه . وتُجْمَع اليمينُ على أَيْمُن وأَيْمان . وهل المرادُ بالأَيْمَان في الآية القسمُ نفسُه أو المُقْسَمُ عليه؟ قولان ، الأولُ أولى . وقد تقدَّمَ تجويزُ أن يكونَ المرادُ به المحلوفَ عليه واستدلالُه بالحديث والجوابُ عن ذلك .
قوله : { والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } خَتَم بهاتين الصفتين لتقدُّم مناسبتهما ، فإنَّ الحَلْفَ متعلِّقٌ بالسمع ، وإرادة البرِ من فِعْلِ القلبِ متعلقةٌ بالعِلْم . وقَدَّم السميع لتقدُّم متعلَّقِه وهو الحَلْفُ .

لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)

قوله تعالى : { باللغو } : متعلَّقٌ ب « يُؤاخِذُكم » . والباءُ معناها السببيةُ كقولِه تعالى : { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ } [ العنكبوت : 40 ] ، { وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ } [ النحل : 61 ] .
واللَّغْوُ : مصدرُ لَغا يَلْغو ، يقال : لَغا يلغو لَغْواً ، مثل غَزا يغزوا غزواً ولَغِي يَلْغَى لَغَىً مثل لَقِيَ يَلْقَى لَقَىً ، ومن الثاني قولُه تعالى : { والغوا فِيهِ } واختُلِفَ في اللغُو : فقيل : ما سَبَقَ به اللسانُ مِنْ غيرِ قصدٍ ، قاله الفراء ، ومنه قول الفرزدق :
960 ولَسْتَ بمأخوذٍ بلَغْوٍ تَقُوله ... إذا لم تُعَمِّدْ عاقِدَاتِ العَزائِمِ
ويُحْكى أن الحسنُ سُئل عن اللغو وعن المَسْبِيَّة ذاتِ زَوْج ، فنهض الفرزدق وقال : « ألم تَسْمَع مَا قُلْتُ ، وأنشد : ولستَ بمأخوذ ، وقوله :
961 وذاتِ حليلٍ أَنْكَحَتْها رِماحُنا ... حلالٌ لِمَنْ يَبْني بها لم تُطَلَّقِ
فقال الحسنُ : ما أذكاك لولا حِنْثُك » . وقد يُطْلَقُ على كل كلامٍ قبيح « لَغْو » .
قال تعالى : { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ } [ الفرقان : 72 ] { لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً } [ مريم : 62 ] وقال :
962 - ورَبِّ أسرابِ حجيجٍ كُظَّمِ ... عن اللَّغَا ورفَثِ التكلُّمِ
وقيل : ما يُطْرَحُ من الكلامِ استغناءً عنه ، مأخوذٌ من قولِهِم لِما لا يُعْتَدُّ به من أولادِ الإِبلِ في الدِيَةَ « لَغْوُ » ومنه :
963 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كما أَلْغَيْتَ في الدِّيَة الحُوارا
وقيل : هو ما لا يُفْهَمُ ، من قولِهم : « لغا الطائرُ » صَوَّت : واللغوُ : ما لَهِجَ به الإِنسانُ ، واللغةُ مأخوذةٌ من هذا . قال الراغب : « ولَغِي بكذا : أي لَهج به لَهَج العُصفور بِلَغاه ، ومنه قيل للكلام الذي تَلْهَجُ به فَرقةٌ لغة ، لجعلها مشتقةً من لَغِي بكذا أي أولعَ به . وقال ابن عيسى : - وقد ذكر أن اللغةَ ما لا يفيدُ - : » ومنه اللغةُ لأنَّها عند غيرِ أهلِها لَغْوٌ « وقد غَلَّطوه في ذلك .
قوله : { في أَيْمَانِكُمْ } فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أن يتعلَّقَ بالفعلِ قبلَه . الثاني : أَنْ يتعلَّقَ بنفسِ المصدرِ قبلَه كقولك : » لغا في يمينِه « . الثالث : أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من اللغو ، وتعرفه من حيث المعنى أنك لو جعلتَه صلةً لموصولٍ ، ووصفْتَ به اللغوَ لصَحَّ المعنى ، أي : اللغوُ الذي في أَيْمانِكم .
قوله : { ولكن يُؤَاخِذُكُم } وَقَعْت هنا » لكن « بين نقيضَيْنِ باعتبار وجودِ اليمينِ ، لأنها لا تَخْلُوا : إمَّا أَنْ لا يقصِدَها القلبُ بل جَرَتْ على اللسانِ وهي اللغُو ، وإمَّا أن يقصِدَها وهي المنعقدةُ .
قوله { بِمَا كَسَبَتْ } متعلِّقٌ بالفعلِ قبلَه ، والباءُ للسببيةِ كما تقدَّم . و » ما « يجوزُ فيها ثلاثةُ أوجهٍ ، أظهرُها : أنها مصدريةٌ لتقابِلَ المصدرَ وهو اللغوُ ، أي : لا يؤاخِذُكم باللغوِ ولكنْ بالكَسْبِ . والثاني . أنها بمعنى الذي .
ولا بُدَّ من عائدٍ محذوفٍ أي : كَسَبَته ، ويرجِّحُ هذا أنها بمعنى الذي أكثرُ منها مصدريةً . والثالثُ : أن تكونَ نكرةً موصوفةً والعائدُ/ أيضاً محذوفٌ وهو ضعيفٌ ، وفي هذا الكلام حَذْفٌ تقديرُه : ولكنْ يُؤاخِذُكم في أَيْمانكم بما كَسَبَتْ قلوبُكم ، فحَذَفَ لدلالةِ ما قبلَه عليه .

والحليمُ مِنْ حَلُم - بالضم - يَحْلُم إذا عَفَا مع قدرة ، وأمَّا حَلِمَ الأديمُ فبالكسر ، وتَثَقَّبَ يَحْلَم بالفتح أي : فسد وتثقَّب قال :
964 فإنَّك والكتابَ إلى عليٍّ ... كدابِغَةٍ وقد حَلِمَ الأَديمُ
وأمَّا « حَلَم » أي رأى في نومِه فبالفتح ، ومصدرُ الأولِ « الحِلْم » بالكسر قال الجَعْدي :
965 ولا خيرَ في حِلْمٍ إذا لم تَكُنْ له ... بوادرُ تَحْمي صَفْوَه أن يُكَدَّرا
ومصدرُ الثاني « الحَلَمُ » بفتحِ اللامِ ، ومصدرُ الثَالثِ ، « الحُلُم » و « الحُلْم » بضمِّ الحاءِ مع ضمِّ اللامِ وسكونِها .

لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226)

قوله تعالى : { لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ } : هذه جملةٌ من مبتدأ وخبرٍ ، وعلى رأي الأخفش من بابِ الفعلِ والفاعلِ لأنه لا يَشْتَرِط الاعتماد . و « من نسائهم » في هذا الجارِّ ثمانيةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنْ يتعَلَّقَ بيُؤْلُون ، قال الزمخشري : « فإنْ قلت : كيف عُدِّي بمِنْ وهو مُعَدَّى ب » على «؟ قلت : قد ضُمِّنَ في القَسَم المخصوص معنى البُعْد ، فكأنه قيل : يَبْعُدُون من نسائِهم مُؤْلين أو مُقْسِمينَ » . الثاني : أنَّ « آلى » يتَعَدَّى بعلى وبمن ، قاله أبو البقاء نقلاً عن غيرِه أنهُ يقال : آلى من امرأتِهِ وعلى امرأتِه . والثالث : أنَّ « مِنْ » قائمةٌ مقامَ « على » ، وهذا رأيٌ الكوفيين . والرابع : أنها قائمةٌ مقامَ « في » ، ويكونُ ثَمَّ مضافٌ محذوفٌ أي : على تَرْكِ وَطْءِ نسائِهم أو في تركِ وطءِ نسائِهم . والخامس : أنَّ « مِنْ » زائدةٌ والتقديرَ : يُؤْلُون أَنْ يَعْتَزِلوا نساءَهم . والسادسُ : أَنْ تتعلَّقَ بمحذوفِ ، والتقديرُ : والذين يُؤْلُون لهم من نسائِهم تربُّص أربعةِ ، فتتعلَّقَ بما يتعلق به « لهم » المحذوفُ ، هكذا قَدَّره الشيخ وعَزاه للزمخشري ، وفيه نظرٌ ، فإنَّ الزمخشري قال : « ويجوزُ أن يُراد : لهم من نسائهم تربُّصُ ، كقولك : » لي منك كذا « فقوله » لهم « لم يُرد به أن ثَمَّ شيئاً محذوفاً وهو لفظُ » لهم « إنما أرادَ أَنْ يعلِّق » مِنْ « بالاستقرار الذي تعلَّقَ به » للذين « غايةُ ما فيه أنه أتى بضمير » الذين « تبييناً للمعنى . وإلى هذا المنحى نحا أبو البقاء فإنه قال : » وقيل : الأصلُ « على » ولا يَجُوزُ أن تقومَ « مِنْ » مقامَ « على » ، فعندَ ذلك تتعلَّقُ « مِنْ » بمعنى الاستقرار ، يريدُ الاستقرارَ الذي تعلَّقَ به قولُه « للذين » ، وعلى تقدير تسليمِ أنَّ لَفظةَ « لهم » مقدرةٌ وهي مُرادةٌ فحينئذٍ إنما تكونُ بدلاً من « للذين » بإعادةِ العاملِ ، وإلاَّ يبقَ قولُه « للذين يُؤْلُون » مُفْلَتاً . وبالجملةِ فتعلُّقه بالاستقرار غيرُ ظاهرٍ . وأمَّا تقديرُ الشيخِ : « والذين يُؤْلون لهم من نسائهم تربُّصُ » فليس كذلك ، لأنَّ « الذين لو جاء كذلك غيرَ مجرورِ باللام سَهُل الأمرُ الذي ادَّعاه ، ولكن إنما جاءَ كما تراه مجروراً باللام . ثم قال الشيخ : » وهذا كلَّه ضعيفٌ يُنَزَّه القرآنُ عنه ، وإنما يتعلَّق بيُؤْلُون علَى أحدِ وجهين : إمَّا أنْ تكونَ « مِنْ » للسبب ، أي يَحْلِفون بسببِ نسائِهم ، وإمَّا أَنْ يُضَمَّنَ معنى الامتناع ، فيتعدَّى ب « مِنْ » ، فكأنه قيل : للذين يمتنعون من نسائِهم بالإِيلاءِ ، فهذان وَجْهان مع الستة المتقدمة ، فتكونُ ثمانيةً ، وإن اعتَبَرْتَ مطلقَ التضمينِ فتجيءُ سبعةً .

والإِيلاءُ : الحَلْف ، مصدرُ آلى يُولي نحو : أَكْرم يُكرِم إكراماً ، والأصل : إإلاء ، فأُبْدِلت الهمزةُ الثانيةُ ياءً لسكونِها وانكسار ما قبلها نحو : « إيمان » .
ويقال تَأَلَّى وايتَلى على افْتَعل ، والأصلُ : اإتَلْى ، فَقُلِبَتْ الثانيةُ لِما تقدَّم .
والحَلْفَةُ : يُقال لها الأَلِيَّة والأَلُوَّة والأَلْوَةِ والإِلْوَة ، وتُجْمَعُ الأَلِيَّةُ على « ألايا » كعَشِيَّة وعَشايا ، ويجوزُ أن تُجْمَعَ الأَلُوَّة أيضاً على « ألايا » كرَكُوبة ورَكائب . قال كُثَيِّر عزة :
966 قليلُ الأَلايا حافظٌ ليمينِه ... إذا صَدَرَتْ منه الأَلِيَّةُ بَرَّتِ
وقد تقدَّم كيف تصريفُ أَلِيَّة وأَلايا عند قولِه : { نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ } [ البقرة : 58 ] جمع خطيئة .
والتَّرَبُّصُ : الانتظارُ ، وهو مقلوبُ التصبُّر . قال :
967 تَرَبَّصْ بها رَيْب المنونِ لعلَّها ... تُطَلَّقُ يوماً أو يموتُ حليلُها
وإضافةُ التربُّصِ إلى الأشهرِ فيها قولان ، أحدهُما : أنَّه من بابِ إضافةِ المصدر لمفعولِه على الاتساع في الظَّرْفِ حتى صارَ مفعولاً به فأُضيفَ إليه والحالةُ هذه . والثاني : أنه أضيفَ الحَدَثُ إلى الظرفِ من غيرِ اتِّساعِ . فتكونُ الإِضافةُ بمعنى « في » وهو مذهبٌ كوفي ، والفاعلُ محذوفٌ تقديرُه : تربُّصُهم أربعةُ أشهرٍ .
قوله : { فَآءُوا } ألفُ « فاء » منقلبةٌ عن ياءِ لقولِهم : فاء يفيءُ فَيْئَةً . رجَع . والفَيءُ : الظِلُّ لرجوعِه من بعد الزوال . وقال علقمة :
968 فقلتُ لها فِيئي فما تَسْتَفِزُّني ... ذَواتُ العيونِ والبنانِ المُخَضَّبِ

وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)

قوله تعالى : { عَزَمُواْ الطلاق } : في نصبِ « الطلاق » وجهان ، أحدُهما : أنه على إسقاطِ الخافضِ ، لأنَّ « عزم » يتعدَّى ب « على » ، قال :
969 عَزَمْتُ على إقامةِ ذي صباحٍ ... لأمرٍ ما يُسَوَّدُ مَنْ يسَودُ
والثاني : أن تَضَمِّن « عزم » معنى نَوَى ، فينتصبَ مفعولاً به .
والعَزْم : عَقْدُ القلبِ وتصميمُه : عَزَمَ يَعْزِم عَزْماً وعُزْماً بالفتحة والضمة ، وعَزِيمة وعِزاماً بالكسر . ويستعمل بمعنى القَسَمِ : عَزَمْتُ عليكَ لتَفعلَّنَّ .
والطلاقُ : إحلالُ العَقْدِ ، يقال : طَلَقَتْ بفتح اللام - تَطْلُقُ فهي طالِقٌ وطالقَةٌ ، قال الأعشى :
970 أيا جارتا بيني فإنَّكِ طالِقَهْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وحكى ثعلب : « طَلُقت » بالضم ، وأنكره الأخفش ، والطلاقُ يجوز أَنْ يكون مصدراً أو اسمَ مصدرٍ وهو التطليقُ .
قوله : { فَإِنَّ الله } ظاهرُه أنَّه جوابُ الشرطِ ، وقال الشيخ : « ويَظْهَرُ أنَّه محذوفٌ ، أي : فَلْيُوقِعوه . وقرأ عبد الله : » فإن فاؤوا فيهنَّ « وقرأ أبَيّ » فيها « ، والضميرُ للأَشْهُرِ .
وقراءةُ الجمهورِ ظاهرُها أنَّ الفَيْئَة والطلاقَ إنما تكونُ بعد مضيِّ أربعة الأشهر ، إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ لمَّا كان يَرى بمذهبِ أبي حنيفة : وهو أنَّ الفَيْئَة في مدة أربعةِ الأشهرِ ، ويؤيِّدُه القراءةُ المقتدِّمَةُ احتاج إلى تأويلِ الآيةِ بما نصُّه . » فإنْ قلت : كيف موقعُ الفاءِ إذا كانت الفيئةُ قبل انتهاءِ مدةِ التربُّص؟ قلت : موقعٌ صحيحٌ ، لأنَّ قولَه : « فإنْ فاؤوا ، وإنْ عَزَموا » تفصيلٌ لقولِه : « للذين يُؤْلُون مِنْ نسائِهِم ، والتفصيلُ يَعْقُب المُفَصَّل ، كما تقول : » أنَا نزيلُكم هذا الشهرَ فإنْ أَحْمَدْتُكم أقمتُ عندَكم إلى آخرِه ، وإلاَّ لم أقُمْ إلاَّ ريثما أتحولُ « . قال الشيخ : » وليس بصحيحٍ ، لأنَّ ما مثَّله ليس بنظيرِ الآيةِ ، ألا ترى أنَّ المثالَ فيه إخبارٌ عن المُفَصَّل حالُه ، وهو قولُه : « أنا نزيلُكم هذا الشهر » ، وما بعد الشرطينِ مُصَرَّحٌ فيه بالجوابِ الدالِّ على اختلافِ متعلَّقِ/ فعلِ الجزاء ، والآيةُ ليسَتْ كذلك ، لأنَّ الذين يُؤْلُون ليس مُخْبَراً عنهم ولا مُسْنَداً إليهم حكمٌ ، وإنما المحكومُ عليه تربُّصُهم ، والمعنى : تربُّص المُؤْلِين أربعةُ أشهر مشروعٌ لهم بعد إيلائِهم ، ثم قال : فإنْ فاؤوا وإنْ عَزَموا « فالظاهرُ أنَّهُ يَعْقُبُ تربُّصَ المدةِ المشروعةِ بأسْرِها ، لأنَّ الفيئةَ تكونُ فيها ، والعَزْمَ على الطلاقِ بعدَها ، لأنهَّ التقييدَ المغايرَ لا يَدُلُّ عليه اللفظُ ، وإنما يُطابقُ الآيةَ أَنْ تقولَ : » للضيفِ إكرامُ ثلاثةِ أيامٍ ، فإنْ أقامَ فنحن كرماءُ مُؤْثِرُون وإنْ عَزَم على الرحيلِ فله أنْ يَرْحَلَ « فالمتبادَرُ إلى الذِّهْنِ أنَّ الشرطينُ مُقَدَّران بعدَ إكرامِه » .

وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)

قوله تعالى : { والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ } : مبتدأٌ وخبرٌ ، وهل هذه الجملةُ من بابِ الخبرِ الواقعِ موقعَ الأمرِ أي : ليترَبَّصْنَ ، أو على بابها؟ قولان . وقال الكوفيون : إنَّ لَفظَها أمرٌ على تقدير لام الأمرِ ، ومَنْ جَعَلَها على بابها قَدَّر : وحكمُ المطلقاتِ أَنْ يتربَّصْنَ ، فَحَذَفَ « حكم » مِن الأول و « أنْ » المصدرية من الثاني ، وهو بعيدٌ جداً .
و « تَرَبَّص » يتعدَّى بنفسِه لأنه بمعنى انتظَر ، وهذه الآيةُ تَحتَمِلُ وجهين ، أحدُهما : أن يكونَ مفعول التربص محذوفاً وهو الظاهرُ ، تقديرُه : يتربَّصْنَ التزويجَ أو الأزواجَ ، ويكونُ « ثلاثة قروءٍ » على هذا منصوباً على الظرفِ ، لأنَّه اسمُ عددٍ مضافٍ إلى ظرفٍ ، والثاني : أن يكونَ المفعولُ هو نفسَ « ثلاثةَ قروءٍ » أي ينتظرونَ مُضِيَّ ثلاثةِ قروء .
وأمَّا قولُه : { بِأَنْفُسِهِنَّ } فيحتملُ وَجْهَيْن ، أحدُهما وهو الظاهرُ : أَنْ يتعلَّق ب « يتربَّصْنَ » ، ويكونُ معنى الباءِ السببيةَ أي : بسبب أنفسِهنَّ : وذِكْرُ الأنفسِ أو الضميرِ المنفصلِ في مثلِ هذا التركيب واجبٌ ، ولا يجوزُ أَنْ يُؤْتى بالضميرِ المتصلِ ، لو قيل في نظيرِه : « الهنداتُ يتربَّصْنَ بهنَّ » لم يَجُزْ لئلاَ يَتَعَدَّى فِعْلُ المضمرِ المنفصلِ إلى ضميرِه المتصلِ في غير الأبواب الجائز فيها ذلك .
والثاني : أن يكونَ « بأنفسِهِنَّ » تأكيداً للمضمرِ المرفوعِ المتصلِ وهو النونُ ، والباءُ زائدة في التوكيد ، لأنه يجوزُ زيادتُها في النفسِ والعينِ مؤكَّداً بهما . تقولُ : جاء زيدٌ نفسُه وبنفسِه وعينُه وبعينِه . وعلى هَذا فلا تتعلَّقُ بشيء لزيادتِها . لا يقالُ : لا جائزُ أن تكونَ تأكيداً للضمير؛ لأنَّه كانَ يجِبُ أن تُؤكَّدَ بضميرِ رفعٍ منفصلٍ ، لأنه لا يُؤَكَّدُ الضميرُ المرفوعُ المتصلُ بالنفسِ والعينِ إلاَّ بعد تأكيدِه بالضميرِ المرفوعِ المنفصلِ فيقال : زيد جاء هو نفسُه عينُه ، لأنَّ هذا المؤكَّد خَرَج عن الأصلِ ، لمَّا جُرَّ بالباءِ الزائدةِ أَشْبَهَ الفَضَلات ، فَخَرَج بذلك عن حكمِ التوابعِ فلم يُلْتَزَمْ فيه ما التُزِمَ في غيرِه ، ويُؤيِّد ذلك قولُهم : « أَحْسِنْ بزيدٍ وأَجْمِلْ » ، أي : به ، وهذا المجرورُ فاعلٌ عند البصريين ، والفاعلُ عندَهم لا يُحْذَفُ ، لكنه لَمَّا جَرَى مَجْرى الفَضَلاتِ بسبب جَرِّه بالحرفِ أو خَرَجَ عن أصلِ بابِ الفاعلِ ، فلذلك جازَ حَذْفُه ، على أنَّ أبا الحسنِ الأَخفشَ ذَكَر في « المسائل » أنهم قالوا : « قاموا أنفسُهم » من غير تأكيدٍ . وفائدةُ التوكيدِ هنا أن يباشِرْنَ التربُّصَ هُنَّ ، لا أنَّ غيرَهُنَّ يباشِرْنَهُنَّ التَربُّصَ ، ليكونَ ذلك أَبلغَ في المرادِ .
والقُروءُ : جَمْعُ كثرةٍ ، ومِنْ ثلاثةٍ إلى عشرةُ يُمَيَّز بجموع القلةِ ولا يُعْدَلُ عن القلةِ إلى ذلك إلا عند عدم استعمالِ جمعِ قلةٍ غالباً ، وههنا فلفظُ جمعِ القلةِ موجودٌ وهو « أَقْراء » ، فما الحكمةُ بالإِتيانِ بجمعِ الكثرةِ مع وجودِ جمع القلةِ؟ .

فيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه لَمَّا جَمَع المطلقاتِ جمعَ القُروء ، لأنَّ كَلَّ مطلقةً تترَّبصُ ثلاثةَ أقراءٍ فصارَتْ كثيرةً بها الاعتبارِ .
الثاني : أنه من باب الاتساعِ ووضعِ أحدِ الجمعين موضعَ الآخر . والثالث : أنَّ قروءاً جمعُ قَرْءٍ بفتحِ القافِ ، فلو جاءَ على « أَقْراء » لجاءَ على غير القياسِ لأنَّ أَفْعالاً لا يطَّرِدُ في فَعْل بفتح الفاء . والرابع - وهو مذهب المبرد - : أنَّ التقديرَ « ثلاثةً من قروء » ، فَحَذَفَ « مِنْ » . وأجاز : ثلاثة حمير وثلاثةَ كلابٍ ، أي : مِنْ حمير ومِنْ كلاب . وقال أبو البقاء : « وقيل : التقديرُ ثلاثة أقراء مِنْ قروء » وهذا هو مذهبُ المبرد بعيِنه ، وإنما فسَّر معناه وأَوْضَحَه .
والقَرْءُ في اللغةِ قيل : أصلُه الوقتُ المعتادُ تردُّدُهُ ، ومنه : قَرْءُ النجمِ لوقتِ طلوعِه وأُفولِه ، يقال : « أَقْرأ النجمُ » أي : طَلَع أو أَفَل . [ ومنه قيلَ لوقت ] هبوبِ الريحِ : « قَرْؤُها وقارِئُها ، قال الشاعر :
971 شَنِئْتُ العَقْر عَقْرَ بني شُلَيْلٍ ... إذا هَبَّتْ لقارِئِها الرِّياحُ
أي : لوقتها ، وقيل : أصلُه الخروجُ من طُهْرٍ إلى حَيْضٍ أو عكسُه ، وقيل : هو مِنْ قولِهم : قَرَيْتُ الماءَ في الحوضِ أي : جَمَعْتُهُ ، وهو غَلَطٌ لأنَّ هذا من ذواتِ الياءِ والقَرْءُ مهموزٌ .
وإذا تقرَّر ما ذَكَرْتُ لك فاعلمْ أنَّ أهلَ العلمِ اختلفوا في إطلاقِه على الحيضِ والطُّهر : هل هو من بابِ الاشتراكِ اللفظي ، ويكونُ من الأضدادِ أو مِنَ الاشتراكِ المعنوي فيكونُ من المتواطِىء ، كما إذا أَخَذْنا القَدْرَ المشتركَ : إمَّا الاجتماعَ وإمَّا الوقتَ وإمَّا الخروجَ ونحوَ ذلك . وقَرْءُ المرأةِ لوقتِ حَيْضِها وطُهْرِها ، ويُقال فيهما : أَقْرأتْ المرأةُ أي : حاضَتْ أو طَهُرت . وقال الأخفش : أَقْرَأَتْ أي : صارَتْ ذاتَ حيضٍ ، وقَرَأَت بغير ألفٍ أي : حاضَتْ . وقيل : القَرْءُ : الحَيْضُ مع الطهرِ ، وقيل : ما بَيْنَ الحَيْضَتين . وقيل : أصلُه الجمعُ ، ومنه : قَرأْتُ الماءَ في الحوضِ : جَمَعْتُه ، ومنه : قرأ القرآنَ : وقولُهم : ما أَقْرَأَتْ هذه الناقةُ في بطنِها سلاقِط ، أي : لم تجمعْ فيه جنيناً ، ومنه قولُ عمرو بن كلثوم :
972 ذِرَاعَيْ عَيْطَلٍ أدماءَ بِكْرٍ ... هِجانِ اللونِ لَم تَقْرأْ جَنِينَا
وعلى هذا إذا أُريد به الحيضُ فلاجتماعِ الدمِ في الرحمِ ، وإذا أُريدَ به الطُّهرُ فلاجتماع/ الدم في البدنِ ، ولكنَّ القائلَ بالاشتراكِ اللفظي وجَعْلِهما من الأضدادِ هم جمهورُ أهلِ اللسانِ كأبي عمرو ويونس وأبي عبيدة .
ومن مجيء القَرْء والمرادُ به الطُّهرُ قولُ الأعشى :
973 أفي كلِّ عامٍ أنتَ جاشِمُ غَزْوَةٍ ... تَشُدُّ لأقْصاها عظيمَ عَزائِكا
مُوَرِّثَةً عِزَّاً وفي الحي رفعةً ... لِما ضاعَ فيها مِنْ قُروءِ نِسائكا
ومن مجيئِه للحيضِ قولُه :
974 يا رُبَّ ذي ضِغْن عليَّ فارِضِ ... له قُروءٌ كقُروءِ الحائِضِ
أي : فسالَ دَمُه كدمِ الحائضِ . ويقال » قُرْء « بالضمِّ نقله الأصمعي ، و » قَرْء « بالفتح نقله أبو زيد ، وهما بمعنى واحدٍ .

وقرأ الحسن : « ثلاثَةَ قَرْوٍ » بفتحِ القافِ وسكونِ الراءِ وتخفيفِ الواوِ من غير همزٍ : ووجهُها أنه أضافَ العددَ لاسمِ الجنسِ ، والقَرْو لغةً في القَرْءِ . وقرأ الزهري - ويُروى عن نافع - : « قُرُوّ » بتشديدِ الواوِ ، وهي كقراءةِ الجمهورِ إلا أنه خَفَّفَ فَأَبْدَلَ الهمزةَ واواً وأَدْغَمَ فيها الواوَ قبلها .
قوله : { لَهُنَّ } متعلَّقٌ ب « يَحِلُّ ، واللامُ للتبليغِ ، كهي في » قُلْتُ لك « .
قوله : { مَا خَلَقَ } في » ما « وجهان ، أظهرُهما : أنَّها موصولةٌ بمعنى الذي ، والثاني : أنها نكرةٌ موصوفةٌ ، وعلى كِلا التقديرين فالعائدُ محذوفٌ لاستكمالِ الشروطِ ، والتقديرُ : ما خَلَقَه ، و » ما « يجوزُ أن يُرَاد بها الجنينُ وهو في حكمِ غيرِ العاقلِ . فلذلك أُوقِعَتْ عليه » ما « وأَنْ يُرادَ بها دمُ الحيضِ .
قوله : { في أَرْحَامِهِنَّ } فيه وجهان ، أحدُهما : أن يتعلَّق بخَلق . والثاني : أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من عائِد » ما « المحذوفِ ، التقديرُ ما خَلَقه الله كائناً في أرحامِهِنَّ ، قالوا : وهي حالٌ مقدَّرَةٌ قال أبو البقاء : » لأنَّ وقتَ خَلْقِه ليس بشيءٍ حتى يَتِمَّ خَلْقُه « . وقرأ مُبَشّر بن عُبَيْد : » في أرحامهنَّ « و » بردِّهُنَّ « بضمِّ هاءِ الكنايةِ ، وقد تقدَّم أنه الأصلُ وأنه لغةُ الحجازِ ، وأنَّ الكسرَ لأجلِ تجانسِ الياءِ أو الكسرةِ .
قوله : { إِن كُنَّ } هذا شرطٌ ، وفي جوابه المذهبانِ المشهورانِ : إمَّا محذوفٌ ، وتقديرهُ مِنْ لفظِ ما تقدَّم لتقوى الدلالةُ عليه ، أي : إن كُنَّ يُؤْمِنَّ باللهِ واليومِ الآخرِ فلا يَحِلُّ لهنَّ أَنْ يكتُمْنَ ، وإمَّا أنه متقدِّمٌ كما هو مذهبُ الكوفيين وأبي زيد ، وقيل : » إنْ « بمعنى إذ وهو ضعيفٌ .
قوله : { وَبُعُولَتُهُنَّ } الجمهورُ على رفعِ تاءِ بعولتهن ، وسَكَّنها مسلمة بن محارب ، وذلك لتوالي الحركاتِ فَخُفِّف ، ونظيرُه قراءةُ : { وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } [ الزخرف : 30 ] بسكونِ اللامِ حكاها أبو زيد ، وحكى أبو عمروٍ أنَّ لغةَ تميم تسكينُ المرفوعِ من » يُعَلِّمُهم « ونحوه ، وقيل : أجرى ذلك مُجْرى عَضُد وعَجُز ، تشبيهاً للمنفصِل بالمتصلِ . وقد تقدَّم ذلك بأشبع مِنْ هذا .
و » أَحَقُّ « خبرٌ عن » بُعُولتهنّ « وهو بمعنى حقيقُون ، إذ لا معنى للتفضيلِ هنا ، فإنَّ غيرَ الأزواجِ لا حقَّ لهنَّ فيهن البتة ، ولا حقَّ أيضاً للنساء في ذلك ، حتى لو أَبَتْ هي الرَّجْعَةَ لم يُعْتَدَّ بذلك فلذلك قلت : إنَّ » أحقُّ « هنا لا تفضيلَ فيه .
والبعولةُ : جَمْعُ » بَعْلٍ « وهو زوجُ المرأةِ . . . ، قالوا : وسُمِّي بذلك . . . المستعلي على . . . ولِما علا من الأرض . . . فَشَرِبَ بعروقِه ، بَعْلٌ ، ويقال : بَعَلَ الرجلُ يَبْعَل كمَنَعَ يَمْنَعُ . والتاء في بعولة لتأنيثِ الجمعِ نحو فُحولة وذُكورة ، ولا يَنْقاس هذا لو قلت : كَعْب وكُعوبة لم يَجُزْ .

والبُعولة أيضاً مصدرُ بَعَل الرجلُ بُعولةً وبِعالاً ، وامرأةٌ حسنةُ التَّبَعُّلِ ، وباعَلَها كنايةُ عن الجِماع .
قوله : { بِرَدِّهِنَّ } متعلِّقٌ بأحقّ . وأمَّا « في ذلك » ففيه وجهان ، أحدُهما : أنه متعلقٌ أيضاً بأحقّ ، ويكونُ المشارُ إليه بذلك على هذا العِدَّةَ ، أي تستحق رَجْعَتَهَا ما دامَتْ في العِدَّة ، وليس المعنى أنه أحقُّ أن يَرُدَّها في العِدَّة ، وإنما يَرُدُّها في النكاح أو إلى النكاحِ . والثاني : أن تتعلَّقَ بالردِّ ويكونُ المشارُ إليه بذلك على هذا النكاحَ ، قاله أبو البقاء .
والضميرُ في « بُعولَتِهِنّ » عائدٌ على بعضِ المطلقات وهنَّ الرَّجْعِيَّات خاصةً . وقال الشيخ : « والأَولى عندي أن يكونَ على حَذْفِ مضافٍ دَلَّ عليه الحكمُ ، أي : وبعولةُ رجعياتِهِنَّ » فعلى ما قاله الشيخُ يعودُ الضميرُ على جميعِ المطلقاتِ .
قوله : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ } خبرٌ مقدَّمٌ فهو متعلق بمحذوف ، وعلى مذهبِ الأخفش من باب الفعلِ والفاعلِ . وهذا من بديعِ الكلامِ ، وذلك أنه قد حِذِف من أوَّله شيءٌ أُثبت في آخره نظيرُه ، وحُذِفَ من آخره شيءٌ أُثبتَ نظيرُه في الأولِ ، وأصلُ التركيبِ . ولهنَّ على أزواجِهنَّ مِثْلُ الذي لأزواجِهِنَّ عليهنَّ ، فَحُذِف « على أزواجهن » لإِثباتِ نظيرِه وهو « عليهنَّ » ، وحُذِفَتْ « لأزواجِهنَّ » لإِثباتِ نظيرِه وهو « لَهُنَّ » .
قوله : { بالمعروف } فيها وجهان ، أحدُهما : أن يتعلَّقَ بما تعلَّقَ به « لَهُنَّ » من الاستقرار أي : استقرَّ لهن بالمعروفِ . والثاني : أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لمثل ، لأنَّ « مثل » لا يتعرَّفُ بالإِضافةِ ، فعلى الأول هو في محلِّ نصبٍ ، وعلى الثاني هو في محلِّ رفعٍ .
قوله : { وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } فيه وجهان ، أظهرُهما : أنَّ « للرجال » خبرٌ مقدَّمٌ و « درجةٌ » مبتدأٌ مؤخرٌ ، و « عليهنَّ » فيه وجهان على هذا التقديرِ : إمَّا التعلُّقُ بما تعلَّقَ به « للرجالِ » ، وإمَّا التعلقُ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من « درجة » مقدَّماً عليها لأنه كان صفةً في الأصلِ فلمَّا قُدِّم انتصبَ حالاً . والثاني : أن يكونَ « عليهنّ » هو الخبرَ ، و « للرجالِ » حالٌ من « درجة » لأنه يجوزُ أن يكونَ صفةً لها في الأصل ، ولكنَّ هذا ضعيفٌ من حيث إنه يَلْزَمُ تقديمُ الحالِ على عامِلها/ المعنوي لأنَّ « عليهنَّ » حينئذٍ هو العاملُ فيها لوقوعه خبراً . على أنَّ بعضَهم قال : متى كانتِ الحالُ نفسُها ظرفاً أو جاراً ومجروراً قوي تقديمُها على عاملها المعنويّ ، وهذا مِنْ ذاك ، هذا معنى قول أبي البقاء . وقد رَدَّه الشيخُ بأنَّ هذه الحالَ قد تَقَدَّمَتْ على جُزْأَي الجملةِ فهي نظيرُ : « قائماً في الدارِ زيدٌ » ، قال : « وهذا ممنوعٌ لا ضعيفٌ ، كما زعم بعضُهم ، وجَعَلَ محلَّ الخلافِ فيما إذا لم تتقدَّم الحالُ - العاملُ فيها المعنى - على جُزْأَي الجملةِ ، بل تتوسَّطُ نحو : » زيدٌ قائماً في الدار « ، قال : » فأبو الحسن يُجيزها وغيرُه يَمْنَعُها « .

الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)

قوله تعالى : { الطلاق مَرَّتَانِ } : مبتدأٌ وخبرٌ ، والطلاقُ يجوزُ أَنْ يكونَ مصدرَ طَلَقَتْ المرأةُ طَلاقاً ، وأن يكونَ اسمَ مصدر وهو التطليق كالسلام بمعنى التسليم . ولا بد من حذف مضافٍ قبل المبتدأ ليكونَ المبتدأُ عين الخبرِ ، والتقديرُ : عددُ الطلاقِ المشروعِ فيه الرَّجْعَةُ مرتان .
والتثنية في « مرَّتان » حقيقةٌ يُراد بها شَفْع الواحد . وقال الزمخشري : « إنها من باب التثنية التي يُراد بها التكرير ، وجعلها مثل : لَبَيَّك وسَعْديك وَهَذَاذَيك » . وردَّ عليه الشيخ ذلك « بأنه مناقضٌ في الظاهر لما قاله أولاً وبأنه مخالفٌ للحكم في نفس الأمر ، أمّا المناقضةُ فإنه قال : الطلاقُ مرتان ، أي : الطلاقُ الشرعي تطليقةٌ بعد تطليقةٍ على التفريق دونَ الإِرسال دفعةً واحدةً ، فقولُه هذا ظاهرٌ في التثنية الحقيقية . وأمَّا المخالفة فلأنه لا يُراد أن الطلاقَ المشروعَ يقع ثلاثَ مراتٍ فأكثر ، بل مرتين فقط ، ويَدُلُّ عليه قولُه بعدَ ذلك : » فإمساكُ « أي بالرَّجْعَةِ من الطَّلْقَة الثانية ، » أو تسريحٌ « أي : بالطلقة الثالثة ، ولذلك جاء بعده » فإن طلَّقها « . انتهى ما ردَّ به عليه ، والزمخشري إنما قال ذلك لأجلِ معنى ذكره ، فيُنْظَرُ كلامُه في » الكشاف « ، فإنه صحيحٌ .
والألفُ وللام في » الطلاق « قيل : هي للعهدِ المدلولِ عليه بقوله : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ } وقيل : هي للاستغراق ، وهذا على قولنا : إن هذه الجملة مقتطعة مِمَّا قبلَها ولا تَعَلُّقَ لها بها .
قوله : { فَإِمْسَاكٌ } في الفاء وجهان ، أحدُهما : أنها للتعقيبِ ، أي : بعد أن عرَّفَ حكم الطلاقِ الشرعي أنه مرتان ، فيترتب عليه أحدُ هذين الشيئين . والثاني : أن تكونَ جوابَ شرطٍ مقدرٍ تقديرُه : فإنْ أوقعَ الطَّلْقَتَيْنِ ورَدَّ الزوجةَ فإمساكُ .
وارتفاعُ » إمساك « على أحدِ ثلاثةِ أوجهٍ : إمَّا مبتدأ وخبرُه محذوفٌ متقدماً ، تقديرُه [ عند ] بعضِهم : فعليكم إمساكُ ، وقَدَّره ابنُ عطية متأخراً ، تقديرُه : فإمساكٌ أمثلُ أو أحسنُ . والثاني : أن يكونَ خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ ، أي : فالواجبُ إمساكُ . والثالث : أن يكونَ فاعلَ فعلٍ محذوفٍ أي : فليكن إمساكٌ بمعروف .
قوله : { بِمَعْرُوفٍ } و » بإحسان « في هذه الباءِ قولان ، أحدُهما : أنها متعلقةٌ بنفسِ المصدرِ الذي يليه . ويكونُ معناها الإِلصاق . والثاني : أن تتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنها صفةٌ لما قبلها ، فتكونَ في محلِّ رفعٍ أي : فإمساكٌ كائنٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ كائنٌ بإحسان .
والتسريحُ : الإِرسالُ والإِطلاقُ ، ومنه قيل للماشيةِ : سَرْح ، وناقة سُرُح ، أي : سَهْلَةُ السير لاسترسالها فيه . قالوا : ويجوزُ في العربيةِ نَصْبُ » فإمساكُ « و » تسريحٌ « على المصدرِ ، أي : فأمسكوهُنَّ إمساكاً بمعروفٍ أو سَرِّحُوهُنَّ تسريحاً بإحسان ، إلا أنه لم يَقْرأ به أحدٌ .
قوله : { أَن تَأْخُذُواْ } أَنْ وما في حَيِّزها في محلِّ رفعٍ على أنه فاعلٌ يَحِلُّ ، أي : ولا يَحِلُّ لكم أخْذُ شيءٍ مِمَّا آتيتموهنَّ .

و « مِمَّا » فيه وجهان ، أحدُهما : أن يتعلَّقَ بنفسِ « تأخذوا » ، و « مِنْ » على هذا لابتداءِ الغايةِ . والثاني : أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من « شيئاً » قُدِّمتَ عليه ، لأنها لو تأَخَّرَتْ عنه لكانَتْ وصفاً . و « مِنْ » على هذا للتبعيضِ . و « ما » موصولةٌ ، والعائدُ محذوفٌ ، تقديرُه : من الذي آتيتموهُنَّ إياه . وقد تقدَّم الإِشكالُ والجوابُ في حَذْفِ العائدِ المنصوبِ المنفصلِ عند قوله تعالى { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [ يس : 54 ] . وهذا مثلُه فَلْيُلْتفتْ إليه .
و « آتى » يتعدَّى لاثنين أولُهما « هُنَّ » والثاني هو العائدُ المحذوفُ . و « شيئاً » مفعولٌ به ناصبُه « تأخذوا » . ويجوزُ أن يكونَ مصدراً أي : شيئاً من الأخْذِ . والوجهانِ منقولانِ في قوله : { لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً } [ البقرة : 3 ] قوله : { إِلاَّ أَن يَخَافَآ } هذا استثناءٌ مفرغٌ ، وفي « أَنْ يخافا » وجهان ، أحدُهما : أنه في محلِّ نصبٍ على أنه مفعولٌ من أجلِه ، فيكونُ مسثتنىً من ذلك العامِّ المحذوفِ ، والتقديرُ : ولا يَحِلُّ لكم أن تأخُذوا بسبب من الأسباب إلا بسببِ خوفِ عدم إقامة حدودِ الله ، وحُذِفَ حرفُ العلةِ لاستكمالِ شروطِ النصب ، لا سيما مع « أَنْ » ، ولا يجيء هنا خلافُ الخليل وسيوبه : أهي في موضعِ نصبٍ أو جرّ بعد حَذْفِ اللامِ ، بل هي في محلِّ نصبٍ فقط ، لأنَّ هذا المصدرَ لو صُرِّح به لنُصِبَ وهذا قد نصَّ عليه النحويون ، أعني كونَ أَنْ وما بعدها في محلِّ نصبٍ بلا خلافٍ إذا وقعَتْ موقعَ المفعولِ له .
والثاني : أنه في محلِّ نصبٍ على الحالِ فيكونُ مستثنىً من العامِّ أيضاً تقديرُه : ولا يحِلُّ لكم في كلَّ حالٍ من الأحوالِ إلا في حالِ خوفِ ألاَّ يقيما/ حدودَ الله . قال أبو البقاء : والتقديرُ : إلاَّ خائفين ، وفيه حَذْفُ مضافٍ تقديرُه : ولا يَحِلُّ أَنْ تأخذوا على كلِّ حال أو في كلِّ حالٍ إلا في حالِ الخوفِ . والوجهُ الأولُ أحسنُ وذلك أنَّ « أَنْ » وما في حَيِّزها مؤولةٌ بمصدرٍ ، وذلك المصدرُ واقعٌ موقع اسمِ الفاعلِ المنصوبِ على الحال ، والمصدرُ لا يطَّرِدُ وقوعُه حالاً فكيف بما هو في تأويله!! وأيضاً فقد نَصَّ سيبويه على أنَّ « أَنْ » المصدرية لا تقع موقعَ الحالِ .
والألفُ في قوله « يخافا » و « يُقيما » عائدةٌ على صنفي الزوجين . وهذا الكلامُ فيه التفاتٌ ، إذ لو جَرَى على نَسَقِ الكلامِ لقيل : « ألاَّ أَنْ تَخافوا ألاَّ تقيموا بتاءِ الخطابِ للجماعةِ ، وقد قَرأَها كذلك عبد الله ، ورُوي عنه أيضاً بياءِ الغَيْبة وهو التفاتٌ إيضاً .
والقراءةُ في » يخافا « بفتحِ الياءِ واضحةٌ ، وقرأها حمزة بضمِّها على البناء للمفعول . وقد استشكلها جماعة وطعن فيها آخرون لعدم معرفتهم بلسان العرب .

وقد ذكروا فيها توجيهاتٍ كثيرةً . أحسنُها أَنْ يكونَ « أَنْ يقيما » بدلاً من الضميرِ في « يخافا » لأنه يَحُلُّ مَحَلَّه ، تقديرُه : إلا أَنْ يُخاف عدمُ إقامتهما حدودَ الله ، وهذا من بدلِ الاشتمال كقولك : « الزيدان أعجباني عِلْمُهما » ، وكان الأصلُ : إلا أن يخاف الولاةُ الزوجين ألاَّ يقيما حدودَ الله ، فَحُذِفَ الفاعلُ الذي هو « الوُلاةُ » للدلالة عليه ، وقامَ ضميرُ الزوجين مقامَ الفاعلِ ، وبقيتْ « أَنْ » وما بعدها في محلِّ رفعٍ بدلاً كما تقدَّم تقديرُه .
وقد خَرَّجه ابن عطية على أنَّ « خاف » يتعدَّى إلى مفعولين كاستغفر ، يعني إلى أحدِهما بنفسِه وإلى الآخرِ بحرفِ الجَرِّ ، وجَعَلَ الألِفَ هي المفعولَ الأولَ قامَتْ مقامَ الفاعلِ ، وأَنْ وما في حَيِّزها هي الثاني ، وجَعَل « أَنْ » في محلِّ جرٍ عند سيبويه والكسائي . وقد رَدَّ عليه الشيخ هذا التخريج بأنَّ « خافَ » لا يتعدَّى لاثنين ، ولم يَعُدَّه النحويون حين عَدُّوا ما يَتَعدَّى لاثنين ، ولأنَّ المنصوبَ الثاني بعده في قولك : « خِفْتُ زيداً ضَرْبَه » ، إنما هو بدلٌ لا مفعولٌ به ، فليس هو كالثاني في « استغفرت الله ذنباً » ، وبأن نسبة كَوْن « أَنْ » في محلِّ جر عند سيبويه ليس بصحيح ، بل مذهبُه أنها في محلِّ نصب وتبعه الفراء ، ومذهبُ الخليل أنها في محلِّ جر ، وتَبِعه الكسائي . وهذا قد تقدَّم غيرَ مرةٍ .
وقال غيرُه كقولِه ، إلاَّ أنَّه قَدَّر حرفَ الجرِّ « على » والتقدير : إلاَّ أن يَخاف الولاةُ الزوجين على ألاّ يقيما ، فبُني للمفعولِ ، فقام ضميرُ الزوجينِ مَقامَ الفاعلِ ، وحُذِفَ حرفُ الجر مِنْ « أَنْ » ، فجاء فيه الخلافُ المتقدمُ بين سيبويه والخليلِ .
وهذا الذي قاله ابنُ عطيةُ سَبَقَه إليه أبو علي ، إلاَّ أنه لم يُنْظِّرْه ب « استغفر » .
وقد استشكل هذا القراءةَ قومٌ وطَعَنَ عليها آخرون ، لا علمَ لهم بذلك ، فقال النحاس : « لا أعلمُ في اختيارِ حمزة أبعدَ من هذا الحرفِ ، لأنه لا يُوجِبه الإِعرابُ ولا اللفظُ ولا المعنى : أمّا الإِعرابُ فلأنَّ ابنَ مسعود قرأ { إلاَّ أَنْ تخافوا ألاَّ يقيموا } فهذا إذا رُدَّ في العربيةِ لما لم يُسَمَّ فاعلُه كان ينبغي أَنْ يُقال : { إلاَّ أَنْ يُخاف } . وأمَّا اللفظُ : فإنْ كان على لفظِ » يُخافا « وَجَبَ أَنْ يقال : فإن خيف ، وإن كان على لفظ » خِفْتُم « وَجَب أن يقال : إلاَّ أَنْ تَخافوا . وأمَّا المعنى : فَأَسْتبعدُ أن يُقالَ : » ولا يَحِلُّ لكم أن تأخذوا مِمَّا آتيتموهُنَّ شيئاً إلا أن يَخاف غيرُكم ، ولم يَقُلْ تعالى : ولا جُنَاح عليكم أن تَأْخُذوا له منها فديةً ، فيكون الخَلْعُ إلى السلطان والفَرْضُ أنَّ الخَلْعَ لا يحتاج إلى السلطانِ « .

وقد رَدَّ الناسُ على النحاس : أمَّا ما ذكره من حيث الإِعرابُ فلا يَلْزَمُ حمزةَ ما قرأ به عبد الله . وأمَّا مِنْ حيثُ اللفظُ فإنه من باب الالتفاتِ كما قَدَّمْتُه أولاً ، ويَلْزَمُ النحاسَ أنه كان ينبغي على قراءةِ غيرِ حمزةَ أن يَقْرأ : « فإنْ خافا » ، وإنَّما هو في القراءتين من الالتفاتِ المستحسنِ في العربيةِ . وأمَّا من حيثُ المعنى فلأنَّ الولاةَ هم الأًصلُ في رفعِ التظالمِ بين الناس وهم الآمرون بالأخْذِ والإِيتاء .
ووجَّه الفراء قراءةَ حمزةَ بأنه اعتبرَ قراءةَ عبدِ الله { إلا أن تَخافوا } وخَطَّأَهُ الفارسي وقال : « لم يُصِبْ ، لأنَّ الخوفَ في قراءةِ عبدِ الله واقعٌ على » أَنْ « ، وفي قراءة حمزةَ واقعٌ على الرجلِ والمرأةِ » . وهذا الذي خَطَّأَ به القرَّاء ليس بشيءٍ ، لأنَّ معنى قراءةِ عبدِ الله : إلاَّ أَنْ تخافُوهُمَا ، أي الأولياءُ الزوجين ألاَّ يُقيما ، فالخوفُ واقعٌ على « أَنْ » وكذلك هي في قراءةِ حمزةَ : الخوفُ واقعٌ عليها أيضاً بأحدِ الطريقينِ المتقدِّمَيْنِ : إمَّا على كونِها بدلاً من ضميرِ الزوجينِ كما تقدَّم تقريرُه ، وإمَّا على حَذْفِ حرفِ الجَرِّ وهو « على » .
والخوفُ هنا فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه على بابِه من الحَذَرِ والخَشْيَةِ ، فتكونُ « أَنْ » في قراءةِ غير حمزةَ في محلِّ جَرٍّ أو نصبٍ على حَسَبِ الخلافِ فيها بعدَ حذفِ حرفِ الجرِّ ، إذ الأصلُ ، مِنْ أَلاَّ يُقيما ، أو في محلِّ نصبٍ فقط على تعديةِ الفعلِ إليها بنفسِهِ كأنه قيل : إلاَّ أَنْ يَحْذَرَا عدَمَ إقامةِ حدودِ اللَّهِ . والثاني : أنه بمعنى العلمِ وهو قَوْلُ أبي عبيدة ، وأنشد :
975 فقلتُ لهم خافُوا بألفَيْ مُدَجَّجٍ ... سَراتُهُمُ في الفارسِيِّ المُسَرَّدِ
ومنه أيضاً :
976 ولا تَدْفِنَنِّي في الفَلاةِ فإنَّني ... أخافُ إذا ما مِتُّ أَلاَّ أَذُوقُها/
ولذلك رُفِعَ الفعلُ بعدَ أَنْ ، وهذا لا يَصِحُّ في الآيةِ لظهورِ النصبِ . وأمَّا البيتُ فالمشهورُ في روايتِهِ « فقلت لهم ظُنُّوا بألفَيْ » . والثالث : الظنَّ ، قاله الفراء ، ويؤيِّده قراءةُ أُبَيّ : { إلاَّ أنْ يَظُنَّا } وأنشد :
977 أتاني كلامٌ مِنْ نُصَيْبٍ يقولُه ... وما خِفْتُ يا سَلاَّمُ أنَّكَ عائِبي
وعلى هذينِ الوجهينِ فتكونُ « أَنْ » وما في حَيِّزها سادةً مَسَدَّ المفعولَيْنِ عند سيبويه ومسدَّ الأول والثاني محذوف عند الأخفش كما تقدَّم تقريرُه غيرَ مرة ، والأولُ هو الصحيحُ ، وذلك أَنَّ « خافَ » مِنْ أفعالِ التوقع ، وقد يميل فيه الظنُّ إلى أحدِ الجائِزَيْنِ ، ولذلك قال الراغب : « الخوفُ يُقال لِما فيه رجاءٌ ما ، ولذلك لا يُقال : خِفْتُ أَلاَّ أقدر على طلوعِ السماءِ أو نَسْفِ الجبالِ » .
وأصلُ يُقيما : يُقْوِما ، فَنُقِلَتْ كسرةُ الواوِ إلى الساكنِ قبلَها ، ثم قُلِبَتْ الواوُ ياءً لسكونِها بعد كسرةٍ ، وقد تقدَّم تقريرُه في قولِهِ : { الصراط المستقيم } [ الفاتحة : 5 ] وزعم بعضُهم أنَّ قوله : { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ } معترضٌ بين قولِهِ : { الطلاق مَرَّتَانِ } وبين قولِهِ : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ } وفيه بُعْدٌ .

قوله : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } « لا » واسمُها وخبرُها ، وقولُه : { فِيمَا افتدت بِهِ } متعلِّقٌ بالاستقرار الذي تضمَّنَهُ الخبرُ وهو : « عَلَيْهِما » . ولا جائزٌ أن يكونَ « عليهما » متعلقاً « ب » جُنَاح « ، و » فيما افتَدَتْ « الخبرَ ، لأنه حينئذٍ يكونُ مُطَوَّلاً والمُطَوَّلُ مُعْرَبٌ ، وهذا - كما رأيتَ - مبنيٌّ .
والضميرُ في » عليهِما « عائدٌ على الزوجينِ ، أي لا جُنَاحَ على الزوجِ فيما أَخَذَ ، ولا على المرأةِ فيما أَعْطَتْ . وقال الفراء : » إنَّما يعودُ على الزوجِ فقط ، وإنما أعادَهُ مُثَنَّى والمرادُ واحِدٌ كقولِهِ تعالى : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } [ الرحمن : 22 ] { نَسِيَا حُوتَهُمَا } [ الكهف : 61 ] وقولُه :
978 فإنْ تَزْجُرَاني يا بنَ عَفَّانَ أَنْزَجِرْ ... وإنْ تَدَعاني أَحْمِ عِرْضاً مُمَنَّعَا
وإنما يخرجُ من الملحِ ، والناسي يُوشَعُ وحدَه ، والمنادى واحدٌ في قوله : « يابنَ عفان » . و « ما » بمعنى الذي أو نكرةٌ موصوفة ، ولا جائزٌ أن تكونَ مصدريةً لعَوْدِ الضميرِ مِنْ « به » عليها ، إلا على رَأْيِ مَنْ يجعلُ المصدريةَ اسماً كالأخفشِ وابنِ السراج و [ مَنْ ] تابَعهما .
قوله : { تِلْكَ حُدُودُ الله } مبتدأٌ وخبرٌ ، والمشارُ إليه جميعُ الآياتِ من قولِهِ : { وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات } إلى هنا .
وقوله : { فَلاَ تَعْتَدُوهَا } أصلُه : تَعْتَدِيُوهَا ، فاسْتُثْقِلَتِ الضمَّةُ على الياءِ؛ فَحُذِفَتْ فَسَكَنَتِ الياءُ وبعدَها واوُ الضمير ساكنةٌ ، فَحُذِفَت الياءُ لالتقاءِ الساكنينِ ، وضُمَّ ما قبلَ الواوِ لتصِحَّ ، ووزنُ الكَلِمَةِ : تَفْتَعُوها .
قوله : { وَمَن يَتَعَدَّ } « مَنْ » شرطيةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ ، وفي خبرِها الخلافُ المتقدِّمُ .
وقوله : { فأولئك } جوابُها . ولا جائزٌ أَنْ تَكونَ موصولةً ، والفاءُ زائدةً في الخبرِ لظهورِ عملِها الجزمَ فيما بعدَها . و « هم » من قوله : « فأولئك هم » يحتمل ثلاثةَ أوجهٍ ، أحدُها : أن يكونَ فصلاً . والثاني : أن يكونَ بدلاً و « الظالمون » على هذين خبرُ « أولئك » والإِخبارُ بمفردٍ . والثالث : أن يكونَ مبتدأً ثانياً ، و « الظالمونَ » خبرَه ، والجملةُ خبرَ « أولئك » ، والإِخبارُ على هذا بجملةٍ ولا يَخْفى ما في هذه الجملةِ من التأكيدِ من حيثُ الإِتيانُ باسمِ الإِشارةِ للبعيدِ وتوسُّطُ الفصل والتعريفُ باللامِ في « الظالمون » أي : المبالغون في الظلم . وَحَمَل أولاً على لفظِ « مَنْ » فَأَفْرَد في قولِهِ « يَتَعَدَّ » ، وعلى معناها ثانياً فَجَمَعَ في قولِهِ : { فأولئك هُمُ الظالمون } .

فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)

قولُه تعالى : { فَإِنْ طَلَّقَهَا } : أي : مِنْ بعدِ الطلاقِ الثالثِ ، فلمَّا قُطِعَتْ « بعدُ » عن الإِضافةِ بُنِيَتْ على الضَّمِّ لِما تَقَدَّم تقريُرُه . و « له » و « مِنْ بعد » و « حتى » ثلاثتُها متعلقةٌ ب « يَحِلُّ » . ومعنى « مِنْ » ابتداءُ الغايةِ واللامُ للتبليغِ ، وحتى للتعليل ، كذا قال الشيخ ، والظاهرُ أنها للغايةِ ، لأنَّ المعنى على ذلك ، أي : يمتدُّ عدمُ التحليلِ له إلى أَنْ تنكَحَ زوجاً غيرَه ، فإذا طَلَّقها وانقَضَتْ عِدَّتُها منه حَلَّت للأولِ المُطَلِّقِ ثلاثاً ، ويَدُلُّ على هذا الحذفِ فحوى الكلامِ .
و « غيرَه » صفةٌ ل « زوجاً » ، وإن كان نكرةً ، لأنَّ « غير » وأخواتِها لا تتعرَّفُ بالإِضافة لكونِها في قوةِ اسمِ الفاعلِ العاملِ . و « زوجاً » هل هو للتقييد أو للتوطِئَةِ؟ وينبني على ذلكَ فائدةٌ ، وهي أنه إنْ كان للتقييدِ : فلو كانت المرأةُ أَمَةً وطَلَّقها زوجُها ثلاثاً ووطئِها سَيِّدُها لم تَحِلُّ للأولِ لأنه ليس بزوجٍ ، وإن كانت للتوطئةِ حَلَّتْ ، لأنَّ ذِكْرَ الزوج كالمُلْغَى ، كأنه قيل : حتى تنكِحَ غيره ، وإنما أتى بلفظ « زَوْج » لأنه الغالبُ .
قوله : { فَإِنْ طَلَّقَهَا } الضميرُ المرفوعُ عائدٌ على « زوجاً » النكرةِ ، أي : فإنْ طَلَّقها ذلك الزوجُ الثاني ، وأتى بلفظِ « إنْ » الشرطية دونَ « إذا » تنبيهاً أنَّ طلاقَه يجبُ أن يكونَ باختياره من غيرِ أَنْ يُشترط عليه ذلك ، لأنَّ « إذا » للمحققِ وقوعُه و « إنْ للمبهم وقوعُه أو المتحقَّقِ وقوعُه ، المبهمِ زمانُ وقوعِه ، نحو قولِهِ تعالى : { أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون } [ الأنبياء : 34 ] قوله : { عَلَيْهِمَآ } الضميرُ في » عليهما « يجوزُ أن يعودَ على المرأةِ والزوجِ الأولِ المُطَلِّقِ ثلاثاً ، أي : فإنْ طَلَّقَها الثاني وانقَضَتْ عِدَّتُها منه فلا جُنَاحَ على الزوجِ المُطَلِّقِ ثلاثاً ولا عليها أن يتراجَعَا . ويجوزُ أن يعودَ عليها وعلى الزوجِ الثاني ، أي : فلا جُنَاحَ على المرأةِ ولا على الزوجِ الثاني أَنْ يتراجَعَا ما دامَتْ عِدَّتُها باقيةً ، وعلى هذا فلا يُحْتَاجُ إلى حَذْفِ تلك الجملةِ المقدَّرَةِ وهي » وانقَضَتْ عِدَّتُها « وتكون الآيةُ قد أفادَتْ حكمينِ ، أحدُهما : أَنها لا تَحِلُّ للأول إلاَّ بعدَ أن تتزوجَ بغيرِهِ ، والثاني : أنه يجوزُ أَنْ يراجِعَها الثاني ما دامَتْ عِدَّتُها منه باقيةً ، ويكونُ ذلك دفعاً لوَهْمِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أنها إذا نَكَحَتْ غيرَ الأولِ حَلَّت للأولِ فقط ولم يكُنْ للثاني عليها رَجْعَةٌ .
قوله : { أَن يَتَرَاجَعَآ } أي : في أَنْ ، ففي محلِّها القولانِ المشهوران ، و » عليهما « خبرُ » لا « ، و » في أن « متعلِّقٌ بالاستقرارِ ، وقد تقدَّم أنه لا يجوزُ أن يكونَ » عليهما « متعلقاً » ب « جُنَاح ، والجارُّ الخبرُ ، لما يَلْزَمُ من تنوينِ اسمِ » لا « ، لأنه حينئذٍ يكونُ مُطَوَّلاً .

قولُهُ : « إنْ ظَنَّا » شرطٌ جوابُهُ محذوفٌ عند سيبويهِ لدلالةِ ما قبلَه عليه ، ومتقدِّمٌ عند الكوفيين وأبي زيد . والظَّنُّ هنا على بابِهِ من ترجيحِ أحدِ الجانبين ، وهو مُقَوٍّ أن الخوفَ المتقدِّمَ بمعنى الظَّنِّ . وزعم أبو عبيدة وغيرُهُ أنه بمعنى اليقين ، وضَعَّفَ هذا القولَ الزمخشري لوجهين ، أحدُهما من جهةِ اللفظِ وهو أَنَّ « أَنْ » الناصبة لا يعمل فيها يقينٌ ، وإنما ذلك للمشدَّدة والمخففةِ منها ، لا تقول : عَلِمْتُ أَنْ يقومَ زيدٌ/ ، إنما تقولُ : عَلِمْتُ أن يقومَ زيدٌ . والثاني من جهةِ المعنى : فإنَّ الإِنسانَ لا يتيقَّنُ ما في الغدِ وإنما يَظُنُّه ظناً .
قال الشيخ : « أمَّا ما ذكرَهُ من أنه لا يقال : » علمت أن يقومَ زيد « فقد ذكره غيرُه مثل الفارسي وغيره ، إلا أن سيبويه أجاز : » ما علْمتُ إلا أن يقومَ زيدٌ « فظاهرُ هذا الردُّ على الفارسي . قال بعضُهم : الجمعُ بينهما أنَّ » عَلِمَ « قد يُرَادُ بها الظَّنُّ القويُّ كقوله : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ } [ الممتحنة : 10 ] وقوله :
979 وأعلمُ علمَ حقٍ غيرِ ظنٍّ ... وتَقْوى اللَّهِ من خير العتادِ
فقوله : » علمَ حق « يُفْهَمُ منه أنه قد يكونُ علمَ غيرِ حق ، وكذا قولُه : » غيرِ ظَنٍّ « يُفْهَمُ [ منه ] أنه قد يكونُ عِلْمٌ بمعنى الظن . ومِمَّا يدلُّ على أنَّ » عَلِمَ « التي بمعنى » ظَنَّ « تعملُ في » أَنْ « الناصبةِ قولُ جرير :
980 نرضَى عن الناسِ إنَّ الناسَ قد علموا ... أنْ لا يدانَينا مِنْ خَلْقِهِ أَحَدُ
ثم قال الشيخ : » وَثَبَت بقولِ جرير وتجويز سيبويهِ أنَّ « عَلِمَ » تعملُ « أَنْ » الناصبةِ ، فليسَ بوهمٍ من طريقِ اللفظِ كما ذكره الزمخشري . وأَمَّا قولُهُ : « لأنَّ الإِنسانَ لا يعلمُ ما في الغدِ » فليسَ كما ذَكَرَ ، بل الإِنسانُ يعلمُ أشياءَ كثيرةً واقعةً في الغدِ وَيَجْزِمُ بها « وهذا الرَّدُّ من الشيخِ عجيبٌ جداً ، كيف يُقال في الآية : إنَّ الظن بمعنَى اليقين ، ثم يَجْعَل اليقينَ بمعنى الظن المسوغِ لعمِلِهِ في » أَنْ « الناصبةِ . وقولُهُ » لأنَّ الإِنسانَ قد يَجْزِمُ بأشياءَ في الغد « مُسَلَّمٌ ، لكنْ ليس هذا منها .
وقوله : { أَن يُقِيمَا } إمَّا سادٌّ مسدَّ المفعولَيْن ، أو الأولِ والثاني محذوفٌ ، على حَسَبِ المذهبين المتقدمين .
قوله : { يُبَيِّنُهَا } في هذه الجملةِ وجهان ، أحدُهما : أنها في محلِّ رفعٍ خبراً بعد خبرٍ ، عند مَنْ يرى ذلك . والثاني : أنها في محلِّ نصبٍ على الحال ، وصاحبُها » حدودُ الله « والعاملُ فيها اسمُ الإِشارة وقُرِىءَ : » نبيِّنها « بالنون ، ويُروى عن عاصم ، على الالتفاتِ من الغَيْبَةِ إلى التكلم للتعظيم . و » لقومٍ « متعلقٌ به . و » يعلمون « في محلِّ خفضٍ صفةً لقومٍ . وخَصَّ العلماءَ بالذكرَ لأنهم هم المنتفعون بالبيانِ دونَ غيرهم .

وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)

قولُه تعالى : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ } : شرطٌ جوابُهُ « فَأَمْسِكُوهُنَّ » ، وقوله : « فبَلَغْنَ » عطفٌ على فعلِ الشرط . والبلوغُ : الوصولُ إلى الشيء : بَلَغَهُ يبلُغه بُلوغاً ، قال امرؤ القيس :
981 ومَجْرٍ كَغُلاَّنِ الأُنَيْعِمِ بالِغٍ ... ديارَ العدوِّ ذي زُهاءٍ وَأَرْكَانِ
ومنه : البُلْغَةُ والبَلاغُ اسمٌ لِما يُتَبَلَّغُ به .
قوله : { بِمَعْرُوفٍ } في محلِّ نصبٍ على الحال ، وصاحبُها : إمَّا الفاعلُ أي : مصاحبين للمعروف ، أو المفعولُ أي : مصاحباتٍ للمعروف .
قوله : { ضِرَاراً } فيه وجهان ، أظهرهُما أنه مفعولٌ من أجِلِهِ أي : لأجلِ الضِّرارِ . والثاني : أنه مصدرٌ في موضِعِ الحالِ أي : حالَ كونِكُم مُضَارِّينَ لهنَّ .
قوله : { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ } أدغم أبو الحارث عن الكسائي اللامَ في الذالِ إذا كان الفعلُ مجزوماً كهذه الآية ، وهي في سبعةِ مواضعَ في القرآن : { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } في موضعين ، { وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءِ } [ آل عمران : 28 ] ، { وَمَن يَفْعَلْ ذلك عُدْوَاناً وَظُلْماً } [ النساء : 30 ] ، { وَمَن يَفْعَلْ ذلك ابتغآء مَرْضَاتِ الله } [ النساء : 114 ] { وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً } [ الفرقان : 68 ] ، { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فأولئك هُمُ الخاسرون } [ المنافقون : 9 ] . وجاز لتقارُبِ مَخْرَجَيْهِمَا واشتراكِهِما في الانفتاحِ والاستفال والجَهْر . وتَحَرَّز من غيرِ المجزومِ نحوُ : يفعلُ ذلك . وقد طَعَنَ قومٌ على هذه الروايةِ فقالوا : لا تَصِحُّ عن الكسائي لأنها تخالِفُ أصولَه ، وهذا غيرُ صوابٍ .
قوله : { لِّتَعْتَدُواْ } هذه لامُ العلة ، وأجاز أبو البقاء : « أن تكونَ لامَ العاقبةِ ، أي : الصيرورة ، وفي متعلَّقِها وجهان ، أحدُهما : أنه » لا تُمْسِكُوهُنَّ « . والثاني : أنه المصدرُ إنْ قلنا إنه حال ، وإنْ قُلْنَا إنه مفعولٌ من أجله تعلَّقَتْ به فقط ، وتكون علةً للعلةِ ، كما تقول : » ضربت ابني تأديباً لينتفعَ « ، فالتأديب علةٌ للضربِ والانتفاعُ علةٌ للتأديب ، ولا يجوز أن تتعلَّقُ والحالةُ هذه ب » لا تُمْسِكُوهن « . و » تَعْتَدُوا « منصوبٌ بإضمارِ » أنْ « وهي وما بعدَها في محلِّ جر بهذه اللام ، كما تقدَّم تقريرُه غيرَ مرةٍ . وأصل » تَعْتَدُوا « تَعْتَدِيُوا ، فأُعِلَّ كنظائرِهِ ، ولا يخفَى ذلك مِمَّا تَقدم .
قوله : { عَلَيْكُمْ } يجوزُ فيه وجهان ، أحدُهما : أن يتعلَّقَ بنفسِ » النعمة « إن أريدَ بها الإِنعامُ ، لأنها اسمُ مصدر كنبات من أَنْبَتَ ، ولا تمنع تاءُ التأنيث من عملِ هذا المصدرِ لأنه مبنيٌّ عليها كقوله :
982 فلولا رجاءُ النصرِ منك ورهبةٌ ... عقابَكَ قد كانوا لنا كالموارِدِ
فأعمل » رهبةٌ « في » عقابك « ، وإنما المحذُور أن يعملَ المصدرُ الذي لا يُبْنَى عليها نحو : ضربٌ وضَرْبَةٌ ، ولذلك اعتذر الناس عن قوله :
983 يُحايي به الجَلْدُ الذي هو حازِمٌ ... بضربةِ كَفَّيْهِ المَلاَ وهْوَ راكِبُ
بأنَّ المَلا وهو السراب منصوبٌ بفعلٍ مقدر لا بضربة . والثاني : ان يتعلَّقَ بمحذوفٍ ، على أنه حالٌ من » نعمة « إنْ أريد بها المُنْعَمُ به ، فعلى الأول تكون الجلالةُ في محلِّ رفعٍ ، لأنَّ المصدرَ رافعٌ لها تقديراً إذا هي فاعلةٌ به وعلى الثاني في محلِّ جر لفظاً وتقديراً .

قوله : { وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ } يجوزُ في « ما » وجهان ، أحدُهما : أن تكونَ في محلِّ نصبٍ عطفاً على « نعمة » أي اذكروا نعمتَه والمُنَزَّل عليكم ، فعلى هذا يكون قولُه « يَعِظُكُم » حالاً ، وفي صاحبِها ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه الفاعلُ في « أنزل » وهو اسمُ الله تعالى ، أي : أنزله واعظاً به لكم . والثاني : أنه « ما » الموصولةُ ، والعاملُ في الحالِ اذكروا . والثالث : أنه العائد على « ما » المحذوفُ ، أي : وما أنزلهُ موعوظاً به ، فالعاملُ في الحالِ على هذا القولِ وعلى القولِ الأولِ أَنْزَل .
والثاني : من وَجْهَي « ما » أن تكونَ في محلِّ رفع بالابتداء ، ويكون « يَعِظُكُم » على هذا في محلِّ رفعٍ خبراً لهذا المتبدإِ ، أي : والمُنَزَّلُ عليكم موعوظُ به . وأولُ الوَجْهَيْنِ أقوى وأحسنُ .
قوله : { عَلَيْكُمْ } متعلِّقٌ ب « أَنْزَلَ » . و « من الكتاب » متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه حالٌ ، وفي صاحبِهِ وجهان ، أحدُهما : أنه « ما » الموصولةُ . والثاني : « أنه عائدُها المحذوفُ ، إذ التقدير : أنزله في حالِ كونِهِ من الكتاب . و » مِنْ « يجوز أن تكون تبعيضية وأن/ تكونَ لبيانِ الجنسِ عند مَنْ يرى ذلك . والضمير في » به « يعودُ على » ما « الموصولةِ .

وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)

قوله تعالى : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ } : الآية . كالتي قبلها ، إلاَّ أنَّ الخطابَ في « طَلَّقتم » للأزواجِ ، وفي « فلا تعضُلُوهُنَّ » للأولياء . وقيل : الخطابُ فيهما للأولياءِ وفيهِ بَعْدٌ من حيث إنَّ الطلاقَ لا يُنْسَبُ إليهم إلا بمجازٍ بعيد ، وهو أَنْ جَعَلَ تَسَبُّبهُمْ في الطلاق طلاقاً . وقيل : الخطابُ فيهما للأزواج ونُسِبَ العَضْلُ إليهم ، لأنهم كذلك كانوا يفعلون ، يُطَلِّقونَ ويأْبَوْنَ أن تتزوجَ المرأَةُ بعدَهم ظلماً وقهراً .
قوله : { أَزْوَاجَهُنَّ } مجازٌ لأنه إنْ أُريد المطلَّقون فتسميتُهم بذلك اعتباراً بما كانوا عليه ، وإن أُريد بهم غيرُهم مِمَّن يُرِدْنَ تزويجهم فباعتبار ما يَؤُولون إليه . والفاء [ في ] فلا تَعْضُلُوهُنَّ جوابُ « إذا » .
والعَضْلُ قيل : المَنْعُ ، ومنه : « عَضَلَ أَمَته » مَنَعَها من التزوَّجِ يَعْضِلُها بكسر العين وضَمِّها ، قال ابن هرمز :
984 وإنَّ قصائدي لك فاصطَنِعْني ... كرائمُ قد عُضِلْنَ عن النِّكاحِ
وقال :
985 ونحنُ عَضَلْنا بالرماحِ نساءَنا ... وما فيكُمُ عن حُرْمَةِ اللهِ عاضِلُ
ومنه : « دجاجةٌ مُعْضِل » أي : احتبس بيضُها : وقيل : أَصلُه الضيقُ ، قال أوس :
986 تَرى الأرضَ منَّا بالفضاءِ مريضةً ... مُعَضَّلَةً منا بجيشٍ عَرَمْرم
أي : ضيقةً بهم ، وعَضَلَتِ المرأةُ أي : نَشَبَ ولدُها في بطنِها ، وداءٌ عُضال أي : ضَيِّقُ العلاجِ ، وقالت ليلى الأخيلية :
987 شَفاهَا من الداءِ العُضالِ الذي بها ... غلامٌ إذا هَزَّ القَناةَ شَفاها
والمُعْضِلات : المُشْكَلات لضِيق فَهْمها ، قال الشافعي :
988 إذا المُعْضِلاَتُ تَصَدَّيْنَنِي ... كَشَفْتُ حقائقَها بالنَّظَرْ
قوله : { أَن يَنكِحْنَ } فيه وجهان : أحدُهما : أنه بدلٌ من الضمير المنصوبِ في « تَعْضُلوهُنَّ » بدلُ اشتمال ، فيكونُ في محلِّ نصبِ ، أي : فلاَ تَمْنَعُوا نكاحَهُنَّ . والثاني : أن يكونَ على إسقاطِ الخافض ، وهو إمَّا « مِنْ » أو « عَنْ » ، فيكونُ في محلِّ « أَنْ » الوجهانِ المشهوران : أعني مذهبَ سيبويه ومذهب الخليل . و « يَنْكِحْنَ » مضارعُ نَكَح الثلاثي وكانَ قياسُه أنْ تُفْتَحَ عينُه لأنَّ لامَه حرُف حلقٍ .
قوله : { إِذَا تَرَاضَوْاْ } في ناصبِ هذا الظرفِ وجهان ، أحدُهما : « ينكِحْنَ » أي : أَنْ ينكِحْنَ وقتَ التراضي . والثاني : أن يكونَ « تعضُلوهنَّ » أي : لاَ تعضُلوهنَّ وقتَ التراضي ، والأولُ أظهرُ . و « إذا » هنا متمحضةٌ للظرفية . والضميرُ في « تراضَوا » يجوزُ أن يعودَ إلى الأولياءِ وللأزواج ، وأَنْ يعودَ على الأزواج والزوجاتِ ، ويكونُ مِنْ تغليبِ المذكرِ على المؤنِثِ .
قوله { بَيْنَهُمْ } ظرفُ مكانٍ مجازي ، وناصبُه « تراضَوا » .
قوله : { بالمعروف } فيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدُهما : أنه متعلقٌ بتراضَوا ، أي : تراضَوا بما يَحْسُن من الدِّينِ والمروءةِ ، والثاني : أن يتعلَّقَ ب « يَنْكِحْنَ » فيكونُ « ينكِحْنَ » ناصباً للظرفِ ، وهو « إذا »؛ ولهذا الجارِّ أيضاً : والثالث : أَنْ يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حالٌ من فاعلِ تراضَوا .

والرابع : أنه نعتُ مصدر محذوف ، دَلَّ عليه الفعلُ أي : تراضِياً كائناً بالمعروف .
قوله : { ذلك } مبتدأُ . و « يُوعظ » وما بعدَه خبرُه . والمخاطَبُ : إمَّا الرسولُ عليه السلام أو كلُّ سامعٍ ، ولذلك جِيءَ بالكافِ الدالَّةِ على الواحدِ ، وإمَّا الجماعةُ وهو الظاهرُ ، فيكونُ ذلك بمعنى « ذلكم » ولذلك قال بعدَه : « منكم » .
و « مَنْ كان » في محلِّ رفع لقيامِه مقامَ الفاعلِ . وفي « كان » اسمُها يعودُ على « مَنْ » ، و « يؤمِنُ » في محلِّ نصبٍ خبراً لها ، و « منكم » : إمَّا متعلِّقٌ بكانَ عندَ مَنْ يرى أنها تعملُ في الظرفِ وشبهِه ، وإمَّا بمحذوفٍ على أنه حالٌ من فاعل يؤمنُ . وأتى باسم إشارةِ البعيدِ تعظيماً للمشار إليه ، لأنَّ المشارَ إليه قريبٌ ، وهو الحكمُ المذكورُ في العَضْل . وأَلفُ « أزكى » عن واو .
وقوله : { ذلكم } متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ ل « أَزْكى » فهو في محلِّ رفع . وقولُه : « وَأَطْهَرُ » أي : لكم ، والمُفَضَّلُ عليه محذوفٌ للعلمِ أي : من العَضْلِ .

وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)

قوله تعالى : { والوالدات يُرْضِعْنَ } : كقوله : { والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ } فَلْيُلتفتْ إليه . والوالدُ والوالدةُ صفتان غالبتانِ جاريتانِ مَجْرى الجوامدِ ، ولذلك لم يُذْكَرَ موصوفُهما .
قوله { حَوْلَيْنِ } منصوبٌ على ظرفِ الزمانِ ، ووصفُهما بكاملين رفعاً للتجوُّز ، إذ قد يُطْلَقُ « الحولان » على الناقصين شهراً وشهرين . والحَوْلُ : السنةُ ، سَمُيِّتْ لتحوُّلِها ، والحَوْلُ أيضاً : الحَيْلُ ويقال : لا حولَ ولا قوة ، ولا حَيْلَ ولا قوة .
قوله : { لِمَنْ أَرَادَ } في هذا الجارِّ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه متعلقٌ بيُرْضِعْنَ ، وتكونُ اللامُ للتعليلِ ، و « مَنْ » واقعةٌ على الآباء ، أي : الوالدات يُرْضِعْنَ لأجلِ مَنْ أَرادَ إتمام الرضاعةِ من الآباءِ ، وهذا نظيرٌ قولِك : « أَرْضَعَتْ فلانةٌ لفلانٍ ولدَه » . والثاني : أنها للتبيين ، فتتعَلَّق بمحذوفٍ ، وتكونُ هذه اللامُ كاللام في قوله تعالى : { هَيْتَ لَكَ } [ يوسف : 23 ] ، وفي قولهم : « سُقْياً لك » . فاللامُ بيانٌ للمدعوِّ له بالسَّقْي وللمُهَيَّتِ به ، وذلك أنه لمّا ذَكَر أنَّ الوالداتِ يُرْضِعْنَ أولاَدَهُنَّ حولينِ كاملينِ بيَّن أنَّ ذلكَ الحكمَ إنما هو لِمَنْ أرادَ أن يُتِمَّ الرَّضَاعَة . و « مَنْ » تحتمل حينئذ أن يُرادَ بها الوالداتُ فقط أو هُنَّ والوالدون معاً . كلُّ ذلك محتملٌ . والثالث : أنَّ هذه اللامَ خبرٌ لمبتدأ محذوفٌ فتتعلَّقُ بمحذوفٍ ، والتقديرُ : ذلك الحكمُ لِمَنْ أرادَ . و « مَنْ » على هذا تكونُ للوالداتِ والوالدَيْنِ معا .
قوله : { أَن يُتِمَّ الرضاعة } « أَنْ » وما في حَيِّزها في محلِّ نصب مفعولاً بأراد ، أي : لمن أراد إتمامَها . والجمهور على « يُتمَّ الرَّضاعة » بالياء . المضمومة من « أتَمَّ » وإعمال أنْ الناصبة ، ونصب « الرَّضاعة » مفعولاً به ، وفتح رائها . وقرأ مجاهد والحسن وابن محيصن وأبو رجاء : « تَتِمَّ » بفتح التاء من تَمَّ ، « الرضاعة » بالرفع فاعلاً وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة كذلك إلا أنهما كَسَرا راء « الرضاعة » ، وهي لغةٌ كالحَضارة والحِضارة ، والبصريون يقولون : فتحُ الراء مع هاء التأنيثِ وكسرُها مع عدمِ الهاء ، والكوفيون يزعمون العكسَ . وقرأ مجاهد - ويُرْوى عن ابنِ عباس - : { أَنْ يُتِمُّ الرَّضاعة } برفع « يُتِمُّ » وفيها قولان ، أحدُهما قولُ البصريين : أنها « أَنْ » الناصبة أُهْمِلت حَمْلاً على « ما » أختِها لاشتراكِهما في المصدرية ، وأنشدوا على ذلك قوله :
989 إني زعيمٌ يا نُوَيْ ... قَةُ إنْ أَمِنْتِ من الرَّزاحِ
أنْ تهبطِين بلادَ قَوْ ... مٍ يَرْتَعُون من الطِّلاحِ
وقولَ الآخر :
990 يا صاحبيَّ فَدَتْ نفسي نفوسَكما ... وحيثما كُنتما لُقِّيتما رَشَدا
أَنْ تقرآنِ على أسماءَ ويَحْكُما ... مني السلامَ وألاَّ تُشْعِرا أَحَدا
فأَهْملها ولذلك ثَبَتَتْ نونُ الرفع ، وأَبَوأ أن يَجْعلوها المخففةَ من الثقيلةِ
لوجهين ، أحد لوجهين ، أحدُهما : أنه لم يُفْصَل بينها وبين الجملةِ الفعليةِ بعدَها ، والثاني : أنَّ ما قبلَها ليس بفعلِ علمٍ ويقينٍ .

والثاني : وهو قولُ الكوفيين أنها المخففةُ من الثقيلة ، وشَذَّ وقوعُها موقعَ الناصبةِ ، كما شذَّ وقعُ « أَنْ » الناصبةِ موقعَها في قوله :
991 . . . . . . . . . . . . قد علموا ... أَنْ لا يُدانِينَا في خَلْقهِ أحدُ
وقرأ مجاهد : « الرَّضْعَة » بوزن القَصْعة . والرَّضْعُ : مَصُّ الثَّدْي : ويقال للَّئيم : راضعٌ ، وذلك أنه يَخاف أن يَحْلُبَ الشاةَ فَيُسْمَعَ منه الحَلْبُ ، فَيُطْلَبَ منه اللبنُ ، فَيَرْتَضِعُ ثديَ الشاةِ بفَمِه .
قوله : { وَعلَى المولود لَهُ } هذا الجارُّ خبرٌ مقدَّمٌ ، والمبتدأ قولُه : « رِزْقُهن » ، و « أل » في المولودِ موصولةٌ ، و « له » قائمٌ مقامَ الفاعل للمولودِ ، وهو عائدُ الموصولِ ، تقديرُه : وعلى الذي وُلِدَ له رِزْقُهُنَّ ، فَحُذِف الفاعلُ وهو الوالداتُ ، والمفعولُ وهو الأولادُ ، وأُقيمَ هذا الجارُّ والمجرورُ مُقامَ الفاعلِ .
وذَكَر بعضُ الناسِ أنه لا خلافَ في إقامةِ الجارِّ والمجرور مُقامَ الفاعلِ إلا السهيلي ، فإنهَ مَنَع من ذلك . وليس كما ذَكَر هذا القائلُ ، وأنا أبسُطُ مذاهبَ الناسِ في هذه المسألةِ ، فأقول بعونِ الله : اختلف الكوفيون والبصريون في هذه المسألةِ فأجازها البصريون مطلقاً ، وأما الكوفيون فقالوا : لا يَخْلو : إمَّا أن يكونَ حرفُ الجر زائداً فيجوزَ ذلك نحو : ما ضُرب من أحد ، وإن كان غيرَ زائدٍ لم يَجُزْ ذلك عندَهم ، ولا يجوزُ عندَهم أن يكونَ الاسمُ المجرورُ في موضعِ رفعٍ باتفاقٍ بينهم . ثم اختلفوا بعد هذا الاتفاقِ في القائمِ مقامَ الفاعل : فذهب الفراء إلى أنَّ حرفَ الجرِّ وحدَه في موضعِ رفعٍ ، كما أنَّ « يقوم » من « زيد يقوم » في موضع رفعٍ . وذهب الكسائي وهِشام إلى أنَّ مفعولَ الفعلِ ضميرٌ مستترٌ فيه ، وهو ضَميرٌ مبهمٌ من حيثُ أَنْ يرادَ به ما يَدُلُّ عليه الفعلُ من مصدر وزمانٍ ومكانٍ ولم يَدُلَّ دليلٌ على أحدِها ، وذهب بعضُهم إلى أنَّ القائمَ مقامَ الفاعلِ ضميرُ المصدرِ ، فإذا قلت : « سِيرَ بزيدٍ » فالتقديرُ : سير هو ، أي : السيرُ ، لأنَّ دلالةَ الفعلِ على مصدرهِ قويةٌ ، وهذا يوافِقُهم فيه بعضُ البصريين . ولهذه الأقوالِ دلائلُ واعتراضاتٌ وأجوبةٌ لا يحتملها هذا الموضوعُ فَلْيُطْلب من كتبِ النَّحْويين .
قوله : { بالمعروف } يجوز أن يتعلَّقَ بكلٍّ مِنْ قولِه : « رزقُهنَّ » و « كسوتُهنَّ » على أن المسألة من بابِ الإِعمالِ ، وهو على إعمالِ الثاني ، إذ لو أُعْمِل الأولُ لأُضْمِر في الثاني ، فكان يقال : وكسوتهنَّ به بالمعروفِ . هذا إنْ أُريد بالرزقِ والكسوةِ المصدران ، وقد تقَدَّم أنَّ الرزقَ يكون مصدراً ، وإنْ كانَ ابنُ الطراوةِ قد رَدَّ على الفارسي ذلك في قوله : { مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ السماوات والأرض } [ النحل : 73 ] كما سيأتي تحقيقُه في النحل ، وإنْ أريدَ بهما اسمُ المرزوقِ والمكسوِّ كالطِّحْن والرِّعْي فلا بدَّ من حذفِ مضافٍ ، تقديرُه : اتِّصالُ أو دفعُ أو ما أشبهَ ذلك مِمَّا يَصِحُّ به المعنى ، ويكونُ « بالمعروف » متعلِّقاً بمحذوفٍ على أنه حالٌ منهما .

وجَعَلَ أبو البقاء العاملَ في هذه الحالِ الاستقرار الذي تَضَمَّنه « على » .
والجمهورُ على « كِسْوَتِهِنَّ » بكسر الكاف ، وقرأ طلحة بضمها ، وهما لغتان في المصدر واسم المكسوِّ ، وفعلُها يتعدَّى لاثنين ، وهما كمفعولّيْ « أعطى » في جوازِ حَذْفِهما أو حَذْفِ أحدِهما اختصاراً أو اقتصاراً . قيل : وقد يتعدَّى إلى وَاحدٍ وأنشدوا :
992 وَأْركَبُ في الروعِ خَيْفانَةً ... كسا وجَهَا سَعَفٌ مُنْتَشِرْ
ضَمَّنه معنى غَطَّى . وفيه نظرٌ لاحتمالِ أنه حُذِف أحدُ المفعولين للدلالةِ عليه ، أي : كسا وجهَها غبارٌ أو نحوه .
قوله : { لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ } الجمهورُ على « تُكَلَّفُ » مبنياً للمفعولِ ، « نفسٌ » قائمٌ مقامَ الفاعلِ وهو الله تعالى ، « وُسْعَها » مفعولٌ ثانٍ ، وهو استثناءٌ مفرغٌ ، لأنَّ « كَلَّفَ » يتعدَّى لاثنين . قال أبو البقاء : « ولو رُفِعَ الوُسْعُ هنا لم يَجُزْ لأنه ليس ببدَلٍ » .
وقرأ أبو رجاء : { لاَ تَكَلَّفُ نفسٌ } بفتح التاءِ والأصلُ : « تتكلف » فَحُذِفَتْ إحدى التاءين تخفيفاً : إمَّا الأولى أو الثانيةُ على خلافٍ في ذلك تقدَّم ، فتكونُ « نفسٌ » فاعلاً ، و « وُسْعَها » مفعول به ، استثناء مفرغاً أيضاً . وَرَوى أبو الأشهب عن أبي رجاء أيضاً : { لا يُكَلِّفُ نفساً } بإسناد الفعلِ إلى ضميرِ الله تعالى ، فتكونُ « نفساً » و « وُسْعَها » مفعولَيْنِ .
والتكليفُ : الإِلزامُ ، وأصلُه من الكَلَفِ ، وهو الأثرُ من السَّوادِ في الوجهِ ، قال :
993 يَهْدِي بها أَكْلَفُ الخَدَّيْنِ مُخْتَبِرٌ ... من الجِمالِ كثيرُ اللَّحْمَ عَيْثُومُ
وَفلانٌ كَلِفٌ بكذا : أي مُغْرىً به .
وقوله : { لاَ تُضَآرَّ } / ابنُ كثير وأبو عمرو : « لا تضارُّ » برفع الراء مشددةً ، وتوجيهُها واضحٌ ، لأنه فعلٌ مضارعٌ لم يَدْخُلْ عليه ناصبٌ ولا جازمٌ فَرُفِعَ ، وهذه القراءةُ مناسِبَةٌ لِما قبلِهَا من حيث إنه عَطَفَ جملةً خبريةً على خبريةً لفظاً نَهْيِيَّةٌ معنى ، ويدل عليه قراءةُ الباقين كما سيأتي . وقرأ باقي السبعة بفتح الراءِ مشددةً ، وتوجيهُها أنَّ « لا » ناهيةٌ فهي جازمةٌ ، فَسَكَنَتِ الراء الأخيرةُ للجزمِ وقبلَها راءٌ ساكنةٌ مدغمةٌ فيها ، فالتقى ساكنان فَحَرَّكْنا الثانيةَ لا الأولى ، وإنْ كان الأصلُ الإِدغامَ ، وكانَتِ الحركةُ فتحةً وإنْ كانَ أصلُ التقاءِ الساكنينِ الكسرَ لأجلِ الألفِ إذ هي أختُ الفتحةِ ، ولذلك لَمَّا رَخَّمَتِ العربُ « إسحارّ » وهو اسمُ نباتٍ قالوا : « إسحارَ » بفتح الراء خفيفةً ، لأنهم لمَّا حَذَفوا الراءَ الأخيرةَ بقيتِ الراءُ الأولى ساكنةً والألفُ قبلَها ساكنةٌ فالتقى ساكنان ، والألفُ لا تقبلُ الحركَةَ فحَرَّكوا الثاني وهو الراءُ ، وكانَتِ الحركةُ فتحةً لأجلِ الألفِ قبلَها ، ولم يَكْسِروا وإنْ كان الأصلَ ، لما ذكرْتُ لك من مراعاةِ الألف .
وقرأ الحسن بكسرِها مشددةً ، على أصلِ التقاءِ الساكنين ، ولم يُراعِ الألفَ ، وقرأ أبو جعفرٍ بسكونِها مشددةً كأنه أجرى الوصلَ مُجْرى الوقفِ فسكَّنَ ، ورُوِي عنه وعن ابن هرمز بسكونِهَا مخففةً ، وتَحْتمل هذه وجهين ، أحدهما : أن يكونَ من ضارَ يَضير ، ويكونُ السكونُ لإِجراءِ الوصلِ مُجْرى الوقف .

والثاني : أن يكونَ من ضارَّ يُضارُّ بتشديد الراءِ ، وإنما استثقل تكريرَ حرفٍ هو مكررٌ في نفسِه فَحَذَفَ الثانيَ منهما ، وَجَمَع بين الساكنين - أعني الألفَ والراء - إمَّا إجراءً للوصلِ مُجْرى الوقفِ ، وإمَّا لأنَّ الألفَ قائمةٌ مقامَ الحركةِ لكونِها حرفَ مَدٍّ .
وزعم الزمخشري « أن أبا جعفر إنما اختلس الضمة فتَوَهَّم الراوي أنه سَكَّنَ ، وليس كذلك » انتهى . وقد تقدَّم شيءٌ من ذلك عند { يَأْمُرُكُمْ } [ البقرة : 67 ] ونحوه .
ثم قراءةُ تسكينِ الراء تحتملُ أَنْ تكونَ مِنْ رفعٍ فتكونَ كقراءةِ ابن كثير وأبي عمرو ، وأن تكونَ من فَتْح فتكونَ كقراءةِ الباقين ، والأولُ أَوْلى ، إِذ التسكينُ من الضمةِ أكثرُ من التسكينِ من الفتحةِ لخفتها .
وقرأ ابن عباس بكسر الراءِ الأولى والفكِّ ، ورُوي عن عمر ابن الخطاب : « لا تضارَرْ » بفتح الراء الأولى والفك ، وهذه لغةُ الحجاز أعني [ فكَّ ] المِثْلين فيما سَكَنَ ثانيهما للجزمِ أو للوقفِ نحو : لم تَمْرُرْ ، وامرُرْ ، وبنو تميم يُدْغِمون ، والتنزيلُ جاء باللغتين نحو : { وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ } [ المائدة : 54 ] في المائدةِ ، قُرىء في السبعِ بالوجهين وسيأتي بيانُه واضحاً .
ثم قراءةُ مَنْ شَدَّد الراءَ مضمومةً أو مفتوحةً أو مكسورةً أو مُسْكَّنةُ أو خَفَّفها تحتملُ أن تكونَ الراءُ الأولى مفتوحةً ، فيكونُ الفعلُ مبنياً للمفعول ، وتكونُ « والدةٌ » مفعولاً لم يُسَمَّ فاعله ، وحُذِفَ الفاعلُ للعِلْمِ به ، ويؤيده قراءةُ عمرَ رضي الله عنه . وأَنْ تكونَ مكسورةً فيكونُ الفعلُ مبنياً للفاعلِ ، وتكونُ « والدةٌ » حينئذ فاعلاً به ، ويؤيده قراءةُ ابنِ عباس .
وفي المفعولِ على هذا الاحتمالِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدهما - وهو الظاهر - أنه محذوفٌ تقديرُه : « لا تُضَارِرْ والدةٌ زوجَها بسسبِ ولدِها بما لا يَقْدِرُ عليه من رزقٍ وكِسْوةٍ ونحو ذلك ، ولا يضارِرْ مولودٌ له زوجتَه بسبب ولدِه بما وَجَبَ لها من رزقٍ وكسوةٍ ، فالباءُ للسببيةِ . والثاني : - قاله الزمخشري - أن يكونَ » تُضارَّ « بمعنى تَضُرُّ ، وأن تكونَ الباءُ من صلتِه أي : لا تضرُّ والدةٌ بولِدها فلا تسيءُ غذاءه وتعهُّدَه ولا يَضُرُّ الوالدُ به بأن ينزِعه منها بعدما ألِفَها . » انتهى . ويعني بقولِه « الباءُ من صلته » أي : تكونَ متعلقةً به ومُعَدِّيةً له إلى المفعول ، كهي في « ذهبت بزيدٍ » ويكونُ ضارَّ بمعنى أضرَّ فاعَلَ بمعنى أَفْعَل ، ومثلُه : ضاعفْتُ الحِسابَ وأَضْعَفْتُه ، وباعَدْته وأبعدْتُه ، وقد تقدَّم أن « فاعَلَ » يأتي بمعنى أَفْعَل فيما تقدَّم ، فعلى هذا نفسُ المجرور بهذه الباءِ هو المفعول به في المعنى ، والباءُ على هذا للتعديةِ ، كما ذكرْتُ في التنظيرِ بذَهَبْتُ بزيدٍ ، فإنه بمعنى أَذْهبته .

والثالث : أن الباءَ مزيدةٌ ، وأنَّ « ضارَّ » بمعنى ضَرَّ ، فيكون « فاعَلَ » بمعنى « فعَلَ » المجردِ ، والتقديرُ : لا تَضُرُّ والدةٌ ولدَها بسوءِ غذائِه وعَدَم تعهُّدِه ، ولا يَضُرُّ والدٌ ولدَه بانتزاعِه من أمه بعدما أَلِفهَا ونحوِ ذلك . وقد جاء « فاعَل » بمعنى فَعَل المجرد نحو : واعَدْته ووعَدْتُه ، وجاوَزْته وجُزْته ، إلا أنَّ الكثيرَ في فاعَل الدلالةُ على المشاركةِ بين مرفوعِه ومنصوبِه ، ولذلك كان مرفوعهُ منصوباً في التقدير ، ومنصوبُه مرفوعاً في التقدير ، فمن ثَمَّ كانَ التوجيهُ الأولُ أرجحَ مِنْ توجيهِ الزمخشري وما بعدَه ، وتوجيهُ الزمخشري أَوْجَهَ مِمَّا بعدَه .
و « له » في محلِّ رفعٍ لقيامِه مَقامَ الفاعلِ .
وقوله : { لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ } فيه دلالةٌ على ما يقولُه النحويون ، وهو أنه إذا اجتمع مذكرٌ ومؤنثٌ ، معطوفاً أحدُهما على الآخرِ كان حكمُ الفعلِ السابِق عليهما للسابِق منهما ، تقول : قامَ زيدٌ وهندٌ ، فلا تُلْحِقُ علامةَ تأنيثٍ ، وقامَتْ هندٌ وزيدٌ ، فتلحقُ العلامةَ ، والآيةُ الكريمة من هذا القبيل ، ولا يُستثنى من ذلك إلاَّ أَنْ يكونَ المؤنثُ مجازياً ، فَيَحْسُنُ الاَّ يراعي المؤنثُ وإنْ تقدَّم كقوله تعالى : { وَجُمِعَ الشمس والقمر } [ القيامة : 9 ] .
ولا يَخْفى ما في هذه الجملِ من علمِ البيان ، فمنه : الفصلُ والوصلُ/ أمَّا الفصلُ وهو عدمُ العطفِ بين قولِه : { لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ } وبين قوله : « لا تضارَّ » لأنَّ قوله : « لا تُضارَّ » كالشرحِ للجملةِ قبَلها ، لأنه إذا لَمْ تُكَلَّفِ النفسُ إلا طاقَتَها لم يقع ضررٌ ، لا للوالدة ولا للمولود له . وكذلك أيضاً لم يَعْطِف { لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ } على ما قبلَها ، لأنها مع ما بعدَها تفسيرٌ لقوله « بالمعروفِ » . وأمَّا الوصلُ وهو العطفُ بين قوله : « والوالداتُ يُرْضِعْنَ » وبين قولِه : « وعلى المولودِ له رزقُهن » فلأنَّهما جملتان متغايرتان في كلٍّ منهما حكمٌ ليس في الأخرى . ومنه إبراز الجملةِ الأولى مبتدأ وخبراً ، وجَعْلُ الخبرِ فعلاً ، لأنَّ الإِرضاع إنما يتجدَّدُ دائماً . وأُضيفت الوالداتُ للأولاد تنبيهاً على شفقتهنَّ وحَثَّاً لهنَّ على الارضاع . وجيء بالوالدات بلفظِ العموم وإنْ كان جمعَ قلة ، لأنَّ جمعَ القلةِ متى حُلِّي بأَل عمَّ ، وكذلك « أولادَهُنَّ » عامٌّ ، لإِضافته إلى ضمير العامِّ ، وإنْ كان أيضاً جمع قلةٍ . ومنه إبرازُ الجملةِ الثانيةِ مبتدأً وخبراً ، والخبرُ جارٌّ ومجرورٌ بحرفِ « على » الدالِّ على الاستعلاء المجازي في الوجوبِ وقُدِّم الخبرُ اعتناءً به . وقُدِّم الرزْقُ على الكسوةِ لأنه الأهمُّ في بقاءِ الحياةِ ولتكرره كلَّ يومٍ . وأُبرزت الثالثة فعلاً ومرفوعَه ، وجُعِل مرفوعُه نكرةً في سياقِ النفي ليعمَّ ويتناولَ ما سبقَ لأجله من حكم الوالدات في الإِرضاع والمولود له في الرزق والكِسْوة الواجبَتَيْنِ عليه للوالدةِ ، وأُبْرِزَت الرابعةُ كذلك لأنها كالإِيضاح لما قبلها والتفصيلِ بعد الإِجمال ، ولذلك لم يُعْطَفْ عليها كما ذَكَرْتُه لك .

ولَمَّا كان تكليفُ النفسِ فوق الطاقة ومُضَارَّةُ أحدِ الزوجينِ للآخر مِمّ يتكرَّر ويتجدَّدُ أتى بهاتين الجملتين فعليتين وأَدْخَلَ عليهما حرف النفي وهو « لا » لأنه موضوعٌ للاستقبال غالباً .
وأمَّا في قراءة مَنْ جَزَمَ فإنَّها ناهيةٌ ، وهي للاستقبالِ فقط ، وأضافَ الولدَ إلى الوالدة والمولودِ له تنبيهاً على الشفقةِ والاستعطافِ ، وقدَّمَ ذِكْرَ عدم مُضَارَّةِ الوالد مراعاةً لِمَا تقدَّم من الجملتين ، إذ قد بدأ بحكمِ الوالداتِ وثَنَّى بحكمِ الوالدِ . ولولا خوفُ السآمةِ وأنَّ الكتابَ غيرُ موضوعٍ لهذا الفنِّ لذكرْتُ ما تَحتمِلُه هذه الآية الكريمةُ من ذلك .
قولُه : { وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك } هذه جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ ، قَدَّم الخبرَ اهتماماً ، ولا يَخْفَى ما فيها ، وهي معطوفةٌ على قولِه : { وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ } وما بينهما اعتراضٌ؛ لأنه كالتفسيرِ لقوله « بالمعروف » كما تقدَّم التنبيهُ عليه .
والألفُ واللامُ في « الوارث » بدلٌ من الضميرِ عندَ مَنْ يَرى ذلك ، ثم اختلفوا في ذلك الضمير : هل يعودُ على المولود له وهو الأبُ ، فكأنه قيل : وعلى وارِثِه ، أي : وارِثِ المولدِ له ، أو يعودُ على الولدِ نفسه ، أي : وارثِ الولد؟ وهذا على حَسَبِ اختلافِهم في الوارثِ .
وقرأ يحيى بن يعمر : « الوَرَثَة » بلفظ الجمعِ ، والمشارُ إليه بقوله « مثلُ ذلك » إلى الواجبِ من الرزق والكسوة ، وهذا أحسنُ مِنْ قول مَنْ يقول : أُشير به إلى الرزق والكسوة . وأشير بما للواحدِ للاثنين كقوله : { عَوَانٌ بَيْنَ ذلك } [ البقرة : 68 ] . وإنما كان أحسنَ لأنه لا يُحْوِج إلى تأويل ، وقيل : المشارُ إليه هو عَدَمُ المُضَارَّة ، وقيل : أجرةُ المثلِ ، وغيرُ ذلك .
قوله : { عَن تَرَاضٍ } فيه وجهان ، أحدُهما : - وهو الظاهر - أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ إذ هو صفةٌ ل « فِصالاً » ، فهو في محلِّ نصبٍ أي : فصالاً كائناً عن تراضٍ ، وقدَّره الزمخشري : صادراً عن تراضٍ ، وفيه نظرٌ من حيث كونُه كوناً مقيَّداً . والثني : أنه متعلَّقٌ بأراد ، قاله أبو البقاء ، ولا معنى له إلاَّ بتكلفٍ . و « عن » للمجاوزة مجازاً لأنَّ التراضيَ معنىً لا عينٌ .
و « تراض » مصدرُ تفاعَل ، فعينُه مضمومةٌ وأصله : تفاعُل تراضُوٌ ، فَفُعِل فيه ما فُعِل ب « أَدْلٍ » جمعَ دَلْوٍ ، مِنْ قلبِ الواو ياءً والضمةِ قلبِها كسرةً ، إذ لا يوجَدُ في الأسماءِ المعربةِ واوٌ قبلَها ضمةٌ لغير الجمع إلا ويُفْعَلُ بها ذلك تخفيفاً .
قوله { مِّنْهُمَا } في محلِّ جرٍّ صفةً ل « تَراضٍ » ، فيتعلَّق بمحذوفٍ ، أي تراضٍ كائنٍ أو صادرٍ منهما . و « مِنْ لابتداء الغايةِ .
وقوله : { وَتَشَاوُرٍ } حُذِفَتْ لدلالةِ ما قبلَها عليها والتقدير : وتشاورٍ منهما ، ويُحْتَمَل أَنْ يكونَ التشاوُرُ من أحدِهما مع غيرِ الآخر لتتفق الآراءُ منهما ومِنْ غيرِهما على المصلحةِ .
قوله : { فَلاَ جُنَاحَ } الفاءُ جوابُ الشرطِ ، وقد تقدَّم نظيرُ هذه الجملة ، ولا بُدَّ قبلَ هذا الجواب من جملةٍ قد حُذِفَت ليصحَّ المعنى بذلك تقديرُه : فَفَصَلاه أو فَعَلا ما تراضيا عليه فلا جُناحَ عليهما في الفِصال أو في الفَصْلِ .

قوله : { أَن تسترضعوا } أنْ وما في حَيِّزها في محلِّ نصبٍ مفعولاً ب « أراد » وفي « استرضع » قولان للنحْويين ، أحدُهما : أنه يتعدَّى لاثنين ثانيهما بحرف الجرِّ ، والتقديرُ : أَنْ تسترضعوا المراضعَ لأولادِكم ، فَحُذِف المفعولُ الأول وحرفُ الجر من الثاني ، فهو نظيرُ « أمرتُ الخيرَ » ، ذكرْتَ المأمورَ به لوم تَذْكُرِ المأمورَ ، لأنَّ الثاني منهما غيرُ الأول ، وكلُّ مفعولين كانا كذلك فأنتَ فيهما بالخيار بين ذِكْرِهما وحَذْفِهما ، وذِكْرِ الأولِ ، دونَ الثاني والعكس . والثاني : أنه متعدٍّ إليهما بنفسِه ، ولكنه حُذِفَ المفعولُ الأولُ وهذا رأيُ الزمخشري ، ونَظَّر الآية الكريمة بقولك : « أنجح الحاجة » واستَنْجَحَتْه الحاجة « وهذا يكون نقلاً بعد نقلٍ ، لأنَّ الأصلَ/ » رَضِعَ الولدُ « ، ثم تقول : » أَرْضَعَت المرأةُ الولدَ « ، ثم تقول : » استرضَعْتُها الولد « هكذا قال الشيخ .
وفيه نظرٌ ، لأنَّ قولَه » رضِع الولدُ « يُعتقدُ أنَّ هذا لازمٌ ثمَ عَدَّيْتَه بهمزةِ النقلِ ، ثمَ عَدَّيْتَه ثانياً بسينِ الاستفعال ، وليس كذلك لأنَّ » رَضِع الولدُ « متعدٍّ ، غاية ما فيه أنَّ مفعولَه غيرُ مذكورٍ تقديرُه : رَضِع الولدُ أمَّه ، لأنَّ المادةَ تقتضي مفعولاً به كضَربَ ، وأيضاً فالتعديةُ بالسين قولٌ مرغوب عنه . والسينُ للطلبِ على بابها نحو : استسقيتُ زيداً ماءً واستطْعَمْته خبزاً ، فكما أنَّ ماءٌ وخبزاً منصوبان لا على إسقاط الخافضِ كذلك » أولادكم « . وقد [ جاء ] استفعل للطلب وهو مُعَدَّى إلى الثاني بحرف جر ، وإن كان » أَفْعَل « الذي هو أصلُه متعدِّياً لاثنين نحو : » أفهمني زيدٌ المسألةَ « واستفهمتُه عنها ، ويجوز حَذْفُ » عن « ، فلم يَجِىءْ مجيء » استَسْقَيْت « و » استطعمت « من كونِ ثانيهما منصوباً على لا على إسقاطِ الخافض .
وفي هذا الكلام التفاتٌ وتكوينٌ : أمَّا الالتفاتُ فإنه خروجٌ من ضميرِ الغَيْبةِ في قوله » فإنْ أرادوا « إلى الخطابِ في قولِه : » وإنْ أردْتُم « إذا المخَاطَبُ الباءُ والأمهاتُ . وأمَّا التكوينُ في الضمائِر فإنَّ الأول ضميرُ تثنيةٍ وهذا ضميرُ جمعٍ ، والمرادُ بهما الآباءُ والأمهاتُ أيضاً ، وكأنه رَجَعَ بهذا الضمير المجموع إلى الوالدات والمولودِ له ، ولكنه غَلَّب المذكَّرَ وهو المولودُ له ، وإنْ كان مفرداً لفظاً . و » فلا جُناحَ « جوابُ الشرط .
قوله : { إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم } » إذا « شرطٌ حُذِفَ جوابُه لدلالةِ الشرطِ الأولِ وجوابِه عليه ، قال أبو البقاء : » وذلك المعنى هو العاملُ في « إذا » وهو متعلقٌ بما تَعَلَّق به « عليكم » . وهذا خطأٌ في الظاهرِ ، لأنه جَعَلَ العاملَ فيها أولاً ذلك المعنى المدولَ عليه بالشرطِ الأولِ .

وجوابِه ، فقولُه ثانياً « وهو متعلقٌ بما تعلَّقَ به عليكم » تناقضٌ ، اللهم إلا أن يُقالَ : قد يكونُ سقطت من الكاتب ألفٌ ، وكان الأصلُ « أو هو متعلقٌ » فَيَصِحُّ ، إلا أنه إذا كان كذلك تمحَّضَتْ « إذا » للظرفية ، ولم تكنْ للشرطِ ، وكلامُ هذا القائِل يُشْعر بأنها شرطيةٌ في الوجهينِ على تقدير الاعتذارِ عنه .
وقرأ الجمهور : « آتيتم » بالمدِّ هنا وفي الروم : { وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً } [ الروم : 39 ] ، وقَصَرَهما ابنُ كثير . ورُوي عن عاصم « أوتيتم » مبنياً للمفعول ، أي : ما أَقْدَرَكم الله عليه . فأمَّا قراءةُ الجمهورِ فواضحةٌ لأنَّ آتى بمعنى أعطى فهي تتعدَّى لاثنين أحدُهما ضميرٌ يعودُ على « ما » الموصولةِ ، والآخر ضميرٌ يعودُ على المراضعِ ، والتقديرُ : ما آتيتموهنَّ إياه ، ف « هُنَّ » هو المفعولُ الأول ، لأنه فاعلٌ في المعنى ، والعائدُ هو الثاني ، لأنه هو المفعولُ في المعنى . والكلامُ على حذفِ هذا الضمير وهو منفصلٌ قد تقدَّم ما عليه من الإِشكال والجوابُ عند قوله : { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [ البقرة : 3 ] فَلْيُلْتفتْ إليه .
وأمَّا قراءةُ القصرِ فمعناها جِئْتم وفَعَلْتُم كقولِ زهير :
994 وما كان مِن خيرٍ أَتَوْه فإنَّما ... توارَثَهُ آباءُ آبائِهم قَبْلُ
أي : فعلوه ، والمعنى إذا سَلَّمتم ما جِئْتُمُ وفَعَلْتُم ، قال أبو علي : « تقديرُ : ما أتيتم نَقْدَه أو إعطاءه ، فَحُذِفَ المضافُ وأقيم المضافُ إليه مُقامَه ، وهو عائدُ الموصول ، فصار : آتيتموه أي جئتموه ، ثم حُذِفَ عائدُ الموصولِ » . وأجاز أبو البقاء أن يكونَ التقديرُ : ما جِئْتُم به فَحُذِفَ ، يعني حُذِف على التدريج ، بأنَّ حُذِفَ حرف الجر أولاً فاتصل الضمير منصوباً بفعلٍ فَحُذِفَ .
و « ما » فيها وجهان ، أظهرهُما : أنها بمعنى الذي ، وأجاز أبو عليّ فيها أن تكون موصولةً حرفيةً ، ولكنْ ذَكَر ذلك مع قراءةِ القصرِ خاصة ، والتقدير : إذا سَلَّمتم الإِتيان ، وحينئذٍ يُسْتَغْنَى عن ذلك الضمير المحذوف . ولا يختصُّ ذلك بقراءة القصرِ ، بل يجوزُ أن تكونَ مصدريةً مع المدِّ أيضاً على أَن المصدرَ واقعٌ موقع المفعولِ ، تقديرُه : إذا سلَّمتم الإِعطاء ، أي المُعْطَى والظاهرُ في « ما » أن يكونَ المرادُ بها الأجرةَ التي تُعْطاها المرضعُ ، والخطابُ على هذا في قولِه : « سَلَّمتم » و « آتيتم » للآباء خاصةً ، وأجازوا أن يكونَ المرادُ بها الأولادَ ، قاله قتادة والزهري . وفيه نظرٌ من حيث وقوعُها على العقلاء ، وعلى هذا فالخطابُ في « سَلَّمتم » للآباء والأمهاتِ .
وقرأ عاصم في رواية شيبان : « أُوتيتم » على البناء للمجهول ومعناه : ما آتاكم الله وأَقْدركم عليه من الأجرة ، وهو في معنى قولِه تعالى : { وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } [ الحديد : 7 ] قوله : { بالمعروف } فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أَنْ يتعلَّق ب « سَلَّمْتم » أي : بالقولِ الجميلِ . والثاني : أنْ يتعلَّق ب « آتيتم » ، والثالثُ : أن يكونَ حالاً من فاعل « سَلَّمْتم » أو « آتيتم » ، فالعاملُ فيه حينئذٍ محذوفٌ أي : ملتبسين بالمعروفِ .

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)

قولُه تعالى : { والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ } الآية : فيه أوجهٌ : الأولُ : أَنَّ « الذين » مبتدأٌ لا خبرَ له ، بل أَخْبر عن الزوجات المتصلِ ذِكْرُهُنَّ به ، لأنَّ الحديثَ معهنَّ في الاعتدادِ ، فجاء الخبرُ عن المقصود ، إذ المعنى : مَنْ مات عنها زوجُها تربَّصت . وإليه ذهب الكسائي والفراء ، وأنشد الفراء :
995 لعَلِّيَ إنْ مَالَتْ بِيَ الريحُ مَيْلَةً ... على ابن أبي ذِبَّانَ أَنْ يتندَّما
فقال : « لعلي » ثم قال : « أن يتندم » فأخبر عن ابن أبي ذبَّان ، فترك المتكلم ، إذا التقديرُ : لعل ابن أبي ذبان أن يتندَّمَ إنْ مالت بي الريحُ ميلةً . وقال آخر :
996 بني أسدٍ إنَّ ابن قَيسٍ وقَتْلَه ... بغيرِ دَمٍ دارُ المَذَلَّةِ حُلَّتِ
فأخبرَ عن قتلِه بأنه دارُ مذلَّة ، وتَرَكَ الإِخبار عن ابن قيس .
وتحريرُ مذهبِ الكسائي والفراء أنه إذا ذُكِر اسمٌ ، وذُكِر اسمٌ مضافٌ إليه فيه معنى الإِخبارِ تُرِك عن الأولِ وأُخْبِر عن الثاني/ نحو : « إنَّ زيداً وأخته منطلقةٌ » ، المعنى : أنَّ أخت زيد منطلقة ، لكنَّ الآية الكريمة والبيتَ الأول ليسا من هذا الضربِ ، وإنما الذي أورده تشبيهاً بهذا الضرب قوله :
997 فَمَنْ يكُ سائِلاً عني فإني ... وجِرْوَةَ لا تَرُودُ ولا تُعارُ
ولتحرير هذا المذهب والردِّ عليه وتأويلِ دلائِله كتابٌ غيرُ هذا .
الثاني : أَنَّ له خبراً وهو « يتربَّصْن » ولا بُدَّ من حذفٍ يصحِّحُ وقوعَ هذه الجملةِ خبراً عن الأول لخلوِّها من الرابط ، والتقديرُ : وأزواجُ الذين يُتَوفَّوْن يتربَّصْنَ . ويدلُّ على هذا المحذوفِ قولُه : « ويَذَرون أزواجاً » فَحُذِفَ المضافُ وأقيم المضافُ إليهُ مُقامَه لتلك الدلالةِ . الثالث أن الخبرَ أيضاً « يتربَّصْن » ولكن حُذِفَ العائدُ من الكلامِ لدلالةِ عليه ، والتقدير : يتربصن بعدهم أو بعد موتِهم ، قاله الأخفش . الرابع : أنَّ « يتربَّصْنَ » خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ ، التقديرُ : أزواجُهم يتربَّصْنَ ، وهذه الجملةُ خبرٌ عن الأول ، قاله المبردُ . الخامس : أنَّ الخبرَ محذوفٌ بجملتِه قبلَ المبتدأ ، تقديرُه : فيما يُتْلى عليكم حكمُ الذين يُتَوَفَّوْن ، ويكون قولُه « يتربَّصْنَ » جملةً مبيِّنَةً للحكم ومفسِّرة له ، فلا موضع لها من الإِعرابِ ، ويُعْزى هذا لسيبويه . قال ابن عطية : « وحكى المهدويُّ عن سيبويه أنَّ المعنى : » وفيما يُتْلَى عليكم الذين يُتَوَفَّون ، ولا أعرفُ هذا الذي حكاه ، لأنَّ ذلك إنما يتَّجهُ إذا كان في الكلام لفظُ أمرٍ بعد المبتدأ نحو قوله تعالى : { والسارق والسارقة فاقطعوا } [ المائدة : 38 ] ، { الزانية والزاني فاجلدوا } [ النور : 2 ] ، وهذه الآيةُ فيها معنى الأمر لا لفظُه ، فتحتاجُ مع هذا التقديرِ إلى تقديرِ آخر يُسْتغنى عنه إذا حَضَرَ لفظُ الأمرِ « . السادس : أنّ بعضَ الجملةِ قَام مَقام شَيءً مضافٍ إلى عائدِ المبتدأ ، والتقديرُ : » والذين يُتَوفَّون منكم ويذرون أزواجاً يتربصُ أزواجُهم « فَحُذِف » أزواجهُم « بجملته ، وقامَتِ النون التي هي ضميرُ الأزواج مَقامَهُنَّ بقيدِ إضافتهنَّ إلى ضميرِ المبتدأ .

وقراءةُ الجمهورِ « يُتَوَفَّوْنَ » مبنياً لِما لم يُسَمَّ فاعلُه ، وقرأ مير المؤمنين - ورواها المفضل عن عاصم - بفتح الياء على بنائه للفاعل ، ومعناها يَسْتوفون آجالَهم ، قاله أبو القاسم الزمخشري .
والذي يُحكى أن أبا الأسود كان خلفَ جنازةٍ فقال له رجل : مَن المتوفِّي؟ بكسر الفاء ، فقال : اللهُ ، وكان أحدَ الأسباب الباعثة لعلي رضي الله عنه على أَنْ أمرَه بوضعِ كتابٍ في النحو . [ وهذا ] تُناقِضُه هذه القراءة .
وقد تقدَّم احتمالات في قوله : « يَتَرَبَّصْنَ بأنفسِهن ثلاثةَ قُروء » وهل « بأنفسهن » تأكيدٌ أو لا؟ وهل نصبُ « قروء » على الظرفِ أو المفعوليةِ؟ وهي جاريةٌ ههنا .
قوله : { مِنكُمْ } في محلِّ نصبٍ على الحالِ من مرفوعِ « يَتَوَفَّوْن » والعاملُ فيه محذوفٌ تقديره : حالَ كونِهم منكم . و « مِنْ » تحتمل التبعيض وبيانَ الجنسِ .
قوله : { وَعَشْراً } إنما قال « عشراً » من غير تأنيثٍ في العدد لأحد أوجهٍ ، الأولُ : أنَّ المراد « عَشْر ليال » . مع أيامِها ، وإنما أوثرت الليالي على الأيام في التاريخ لسَبْقها . قال الزمخشري : « وقيل » عَشْراً « ذهاباً إلى الليالي ، والأيامُ داخلةٌ فيها ، ولا تراهم قطُّ يستعملون التذكيرَ ذاهبين فيه إلى الأيام ، تقول : » صُمْت عشراً « ، ولو ذكَّرْت خَرَجْتَ من كلامِهم ، ومن البيِّن قولُه تعالى : { إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً } [ طه : 103 ] ، { إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً } [ طه : 104 ] .
والثاني - وهو قولُ المبرد - : أَنَّ حَذْف التاء لأجلِ أنَّ التقديرَ عشرُ مُدَدٍ كلُّ مدة منها يومٌ وليلةٌ ، تقول العرب : » سِرْنا خمساً « أي : بين يوم وليلة قال :
998 فطافَتْ ثلاثاً بين يومٍ وليلةٍ ... وكان النكيرُ أَنْ تُضِيفَ وتَجْأرا
والثالث : أنَّ المعدودَ مذكرٌ وهو الأيام ، وإنما حُذِفَت التاء لأنَّ المعدودَ المذكَّر متى ذُكِرَ وَجَبَ لَحاقُ التاء في عدده ، وإذا حُذِفَ لفظاً جاز في العددِ الوجهان : ذِكْرُ التاءِ وعدمُها . حكى الكسائي : » صُمْنَا من الشهرِ خمساً « ، ومنه الحديث : » وأتبعَه بستٍّ من شوال « ، وقال آخر :
999 - وإلاَّ فسيري مثلَ ما سار راكبٌ ... تيمَّمَ خَمْساً ليس في سيره أَمَمْ
نَصَّ النحويون على ذلك . قال الشيخ : » فلا يُحْتَاج إلى تأويلها بالليالي ولا بالمُدَد كما قدَّره الزمخشري والمبرد على هذا « قال : » وإذا تقرر هذا فجاء قولُهُ : « وعشراً » على أحدِ الجائزين ، وإنما حَسُنَ حذفُ التاءِ هنا لأنه مقطعُ كلامٍ فهو شبيهٌ بالفواصِلِ ، كما حَسَّنَ قولَه : { إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً } [ طه : 103 ] كونُه فاصلةً ، فقوله : « ولو ذَكَّرْتَ لخرَجْتَ من كلامهم » ليس كما ذكر ، بل هو الأفصحُ . وفائدةُ ذكره « إن لبثتم إلاَّ يوماً » بعد قولِهِ « إلا عَشْراً » أنه على زعمِهِ أرادَ الليالي والأيامُ داخلةٌ معها ، فقولُهُ « إلا يوماً » دليلٌ على إرادةِ الأيام « ، قال الشيخ : » وهذا عندنا يَدُلُّ على أنَّ المرادَ بالعشر الأيامُ ، لأنهم اختلفوا في مُدَّة اللَّبْث ، فقال بعضُهم : « عشراً » وقال بعضُهم : « يوما » فدلَّ على أنَّ المقابَلَ باليومِ إنما هو أيام ، إذ لا يَحْسُنُ في المقابَلَةِ أن يقولَ بعضُهم : عشرُ ليال ، فيقول البعضُ : يومٌ « .

قوله : { بالمعروف } فيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدُها : أن يكونَ حالاً من فاعل « فَعَلْنَ » أي : فَعَلْنَ ملتبساتٍ بالمعروفِ ومصاحباتٍ له . والثاني : أنه مفعولٌ به أي : تكونُ الباءُ باءَ التعدية . والثالثُ : أن يكونَ نعتَ مصدر محذوفٍ أي : فَعَلْنَ فِعْلاً بالمعروف ، أي : كائناً ، ويجيءُ فيه مذهب/ سيبويه : أنه حالٌ من ضميرِ المصدرِ المعرفةِ أي : فَعَلْنَه - أي الفعلَ - ملتبساً بالمعروفِ وهو الوجهُ الرابعُ .
و « بما تعملون » متعلق ب « خبيرٌ » . وقُدِّمَ لأجلِ الفاصلةِ . و « ما » يجوزُ أن تكونَ مصدريةً وأن تكونَ بمعنى الذي أو نكرةً موصوفة ، وهو ضعيفٌ . وعلى هذين القولين فلا بدَّ من عائدٍ محذوفٍ ، وعلى الأولِ لا يُحتاج إليه إلا على رأيٍ ضعيفٍ .

وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)

قوله تعالى : { مِنْ خِطْبَةِ النسآء } : في محل نصبٍ على الحالِ وفي صاحبها وجهان ، أحدُهما : الهاءُ المجرورةُ في « به » ، والثاني : « ما » المجرورُة ب « في » ، والعاملُ على كِلا التقديرين محذوفٌ ، وقال أبو البقاء : « حالٌ من الهاءِ المجرورةِ ، فيكونُ العاملُ فيه » عَرَّضْتم « . ويجوزُ أن يكونَ حالاً من » ما « فيكونُ العاملُ فيه الاستقرارَ » . وهذا على ظاهره ليس بجيد ، لأنَّ العاملَ فيه محذوفٌ على ما تقرَّر ، إلا أَنْ تريدَ من حيث المعنى لا الصناعةُ فقد يجوزُ له ذلك .
والخِطْبَةُ مصدرٌ مضافٍ للمفعول أي : من خِطْبَتِكم النساء ، فَحُذِفَ الفاعلُ للعلم به . والخِطْبَةُ مصدرٌ في الأصل بمعنى الخَطْب ، والخَطْب : الحاجة ، ثم خُصَّت بالتماس النكاح لأنه بعضُ الحاجات ، يقال : ما خطبُكَ؟ أي : ما حاجتُك . وقال الفراء : « الخِطْبَةُ مصدرٌ بمعنى الخَطْب وهي من قولك : إنه لَحَسَنُ الجِلْسَةِ والقِعْدَةِ أي : الجلوس والقعود ، والخُطْبَةُ - بالضم - الكلامُ المشتملُ على الوعظِ والزجرِ ، وكلاهما من الخَطْب الذي هو الكلام ، وكانت سَجاحُ يُقال لها خِطْبٌ فتقول : نِكْحٌ .
قوله : { أَوْ أَكْنَنتُمْ } » أو « هنا للإِباحةِ أو التخيير أو التفصيلِ أو الإِبهامِ على المخاطب ، وأَكَنَّ في نفسِهِ شيئاً أي : أَخْفاه ، وَكَنَّ الشيء بثوبٍ ونحوهِ : أي سَتَرَهُ به ، فالهمزةُ في » أكنَّ « للتفرقة بين الاستعمالَيْنِ كأشرَقَتْ وشَرَقَتْ . ومفعول » أكنَّ « محذوفٌ يعودُ على » ما « الموصولةِ في قوله : » فيما عَرَّضْتم « أي : أو أكننتموه . ف » في أنفسكم « متعلِّقٌ ب » أَكْنَنتم « ، ويَضْعُفُ جَعْلُهُ حالاً من المفعولِ المقدَّرِ .
قوله : { ولكن } هذا الاستدراكُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه استدراكٌ من الجملةِ قبلَه ، وهي قولُهُ : » ستذكرونَهُنَّ « ، فإنَّ الذِّكْرَ يقع على أنحاءٍ كثيرةٍ ووجوهٍ متعددةٍ ، فاسْتُدْرِكَ منه وجهٌ نُهِيَ فيه عن ذِكْرٍ مخصوص ، ولو لم يُسْتَدْرَك لكانَ من الجائز ، لاندراجِهِ تحت مطلقِ الذِّكْرِ . وهو نظيرُ : » زيدٌ سيلقى خالداً ولكنْ لا يواجهُهُ بِشَرٍّ « . لمَّا كانت أَحوالُ اللقاءِ كثيرةً ، من جملتها مواجهتُه بالشرِّ ، استُدْرِكَت هذه الحالةُ من بينِها . والثاني - قاله أبو البقاء - قاله الزمخشري - أنَّ المُسْتَدْرَكَ منه جملةٌ محذوفةٌ قبل » لكنْ « تقديرُهُ : » فاذكروهُنَّ ، ولكن لا تواعِدُوهُنَّ سراً « وقد تقدَّم أنَّ المعنى على الاستدراكِ من الجملةِ قبلَه فلا حاجَةَ إلى حذفِ . . . ، وإنما الذي يَحْتاجه ما بعدَ » لكن « وقوعُ ما قبلَها من حيثُ المعنى لا من حيثُ اللفظُ ، لأنَّ نَفْيَ المواجهةِ بالشرِّ يستدعي وقوعَ اللقاءِ .
قوله : { سِرّاً } فيه خمسةُ أوجهٍ ، أحدُها : أن يكونَ مفعولاً ثانياً لتواعِدُوهُنَّ .

والثاني أنه حالٌ من فاعلِ « تواعدوهُنَّ » أي : لا تواعدوهُنَّ مُسْتَخْفين بذلك . والثالث : أنه نعت مصدرٍ محذوفٍ أي : مواعدةً سراً . والرابعُ : أنه حالٌ من ذلكَ المصدرِ المُعَرَّفِ ، أي : المواعدةَ مستخفيةً والخامس : أَنْ ينتصِبَ على الظرفِ مجازاً أي : في سِرٍّ . وعلى الأقوالِ الأربعةِ فلا بُدَّ من حَذْفِ مفعولٍ تقديرُهُ : لا تواعدوهُنَّ نكاحاً .
والسِّرُّ : ضدُّ الجَهْرِ ، وقيل : يُطْلَقُ على الوَطْءِ وعلى الزِّنا بخصوصيةٍ ، وأنشدوا للحُطَيئة :
1000 ويَحْرُم سِرُّ جارتِهم عليهم ... ويأكلُ جارُهُمْ أُنُفَ القِصاعِ
وقولَ الآخر - هو الأعشى - :
1001 ولا تَقْرَبَنَّ جارةً إنَّ سِرَّها ... حَرامٌ عليكَ فانكِحَنْ أو تَأَبَّدا
قوله : { إِلاَّ أَن تَقُولُواْ } في هذا الاستثناءِ قولان ، أحدُهما : أنه استثناءٌ منقطعٌ لأنه لا يندرجُ تحت « سِرّ » على أيِّ تفسيرٍ فَسَّرْتَه ، به ، كأنه [ قال ] : لكنْ قولوا قولاً معروفاً . والثاني : أنه متصلٌ وفيه تأويلان ذكَرهما الزمخشري فإنه قال : « فإنْ قلتَ بِمَ يَتَعَلَّقُ حرفُ الاستثناءِ؟ قلت : ب » لا تواعِدُوهُنَّ « ، أي : لا تواعِدُوهُنَّ مواعَدةً قط إلا مواعدةً معروفة غيرَ مُنْكَرةٍ ، أو لا تواعِدُوهُنَّ إلا بِأَنْ تقولوا ، أي : لا تواعدوهُنَّ إلاَّ بالتعريض ، ولا يكونُ استثناءً منقطعاً من » سراً « لأدائِهِ إلى قولِكَ : لا تواعِدوهُنَّ إلا التعريضَ » انتهى . فَجَعَلَهُ استثناءً متصلاً مفرغاً على أحدِ تأويلين ، الأولُ : أنه مستثنى من المصدرِ ، ولذلك قَدَّره : لا تواعِدُوهُنَّ مواعدةً قط إلاَّ مواعدةً معروفةً . والثاني : أنه من مجرورٍ محذوفٍ ، ولذلك قَدَّره ب « إلاَّ بأَنْ تقولوا » ، لأنَّ التقديرَ عنده : لا تواعِدُوهُنَّ بشيء إلا بِأَنْ تقولوا ، ثم أَوْضَحَ قولَه بأنْ تقولوا بالتعريضِ ، فلمَّا حُذِفَتْ الباءُ من « أَنْ » وهي باءُ السببيةِ بقي في « أَنْ » الخلافُ المشهورُ بعدَ حَذْفِ حرفِ الجرِّ ، هل هي في محلِّ نصبٍ أم جر؟ وقولُهُ : « لأدائِهِ إلى قولِكَ إلى آخره » يعني أنه لا يَصِحُّ تسلُّط العاملِ عليه فإنَّ القولَ المعروفَ عندَهُ المرادُ به التعريضُ ، وأنت لو قلت : « لا تواعِدُوهُنَّ/ إلاَّ التعريض » لم يَصِحَّ لأنَّ التعريضَ ليس مواعداً .
ورَدَّ عليه الشيخ بأنَّ الاستثناءَ المنقطعَ ليس مِنْ شرطِهِ صِحَّةُ تسلُّطِ العاملِ عليه بل هو على قسمين : قسمٍ يَصِحُّ فيه ذلك ، وفيه لغتان : لغةُ الحجازِ وجوبُ النصب مطلقاً نحو : « ما جاء أحدُ ألا حماراً » ، ولغةُ تميم إجراؤه مُجْرى المتصلِ فيُجْرون فيه النصبَ والبدلية بشرطه ، وقسم لا يَصِحُّ فيه ذلك نحو : « ما زادَ إلا ما نَقَصَ » ، و « ما نفَعَ إلا ما ضَرَّ » . وحكمُ هذا النصبُ عند العربِ قاطبةً ، فالقسمان يشتركان في التقديرِ بلكن عند البصريين ، إلاَّ أنَّ أحدَهما يَصِحُّ تسلُّط العاملِ عليه في قولك : « ما جاء أَحدٌ إلا حمار » لو قلت : « ما جاءَ إلا حمارٌ » صَحَّ بخلافِ القسمِ الثاني ، فإنَّه لا يتوجَّه عليه العاملُ « ولتحقيقِ هذا موضعٌ هو أليقُ به ، وقد تقدَّمَ منه طرفٌ صالحٌ .

قوله : { عُقْدَةَ } في نصبهِ ثلاثةُ أوجه ، أحدُها : أنه مفعولٌ به على أنه ضَمَّنَ « عَزَم » معنى ما يتعدَّى بنفِسِه وهو : تَنْووا أو تباشِروا ونحوُ ذلك . والثاني : أنه منصوبٌ على إسقاطِ حرفِ الجر وهو « على » ، فإنَّ « عَزَم » يتعدَّى بها ، قال :
1002 عَزَمَتُ على إقامةِ ذي صباحٍ ... لأمرٍ ما يُسَوَّدُ مَنْ يَسُودُ
وحذفها جائز كقول عنترة :
1003 ولقد أبيتُ على الطَّوى وأظلُّه ... حتى أنالَ به كريمَ المَطْعَمِ
أي : وأظلُّ عليه . الثالثُ : أنه منصوبٌ على المصدرِ ، فإنَّ المعنى : ولا تَعْقِدُوا عقدةَ ، فكأنه مصدرٌ على غير الصدرِ ، نحو : قَعَدْتُ جلوساً ، والعُقْدَةُ مصدرٌ مضافٍ للمفعولِ والفاعلُ محذوفٌ ، أي : عُقْدَتَكم النكاحَ .
قوله : { فاحذروه } الهاءُ في « فاحذَرُوه » تعودُ على اللَّهِ تعالى ، ولا بُدَّ من حذفِ مضافٍ أي : فاحذَرُوا عقابَه . ويَحْتَمِلُ أَنْ تعودَ على « ما » في قوله { مَا في أَنْفُسِكُمْ } بمعنى ما في أنفسكم من العَزْمِ على ما لا يجوزُ ، قاله الزمخشري .

لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)

قوله تعالى : { مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ } : في « ما » هذه ثلاثةُ أقوالٍ ، أظهرُها : أن تكونُ مصدريةً ظرفيةً ، تقديرُهُ : مدةَ عدمِ المَسيس كقوله :
1004 إني بحبلِكَ واصلٌ حَبْلِي ... وبريش نَبْلِكَ رائِشٌ نَبْلي
ما لم أَجِدْكَ على هُدَى أَثَرٍ ... يَقْرُو مِقَصَّكَ قائِفٌ قَبْلي
والثاني : أن تكونَ شرطيةً بمعنى إنْ ، نقله أبو البقاء . وليس بظاهرٍ ، لأنه يكونُ حينئذٍ من بابِ اعتراضِ الشرطِ على الشرطِ ، فيكونُ الثاني قيداً في الأول نحو : « إنْ تأتِ إنُ تُحْسِنْ إليَّ أكرمْك » أي : إنْ أتيتَ مُحْسِناً ، وكذا في الآيةِ الكريمة : إنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ غيرَ ماسِّين لَهُنَّ ، بل الظاهرُ أنَّ هذا القائل إنما أرادَ تفسير المعنى ، لأنَّ « ما » الظرفيةَ مُشَبَّهةُ بالشرطيةِ ، ولذلك تقتضي التعميم . والثالث : أن تكونَ موصولة بمعنى الذي ، وتكونُ للنساءِ؛ كأنه قيلَ : إنْ طَلَّقْتُمْ النساءَ اللائي لم تَمَسُّوهُنَّ ، وهو ضعيفٌ ، لأنَّ « ما » الموصولةَ لا يُوصَفُ بها ، وإنْ كان يوصفُ بالذي والتي وفروعِهِا .
وقرأ الجمهورُ : « تَمَسُّوهُنَّ » ثلاثياً وهي واضحةٌ . وقرأ حمزة والكسائي : « تماسُّوهُنَّ » من المفاعلَةِ ، فيُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ فاعَلَ بمعنى فَعَل كسافر ، فتوافِقَ الأولى ، ويُحْتَمل أَنْ تكونَ على بابِها من المشاركَةِ ، فإنَّ الفعلَ مِن الرجلِ والتمكينَ من المرأةِ ، ولذلك قيلَ لها زانيةٌ . ورجَّح الفارسي قراءة الجمهورِ بأنَّ أفعالَ هذا البابِ كلَّها ثلاثيةٌ نحو : نكح فرع سفد وضربَ الفحلُ .
قوله : { أَوْ تَفْرِضُواْ } فيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه مجزومٌ عطفاً على « تَمَسُّوهُنَّ » ، و « أَو » على بابها من كونِها لأحدِ الشيئين ، قاله ابن عطية . والثاني : أنه منصوبٌ بإضمار أَنْ عطفاً على مصدرٍ متوهمٍ ، و « أو » بمعنى إلاَّ التقدير : ما لم تَمَسُّوهُنَّ إلا أَنْ تَفْرِضُوا ، كقولِهِم : لألزَمَنَّكَ أو تقضيَني حقي ، قاله الزمخشري . والثالث : أنه معطوفٌ على جملةٍ محذوفةٍ تقديره : « فَرَضْتُم أو لم تَفْرِضُوا » فيكونُ هذا من بابِ حذفِ الجزمِ وإبقاءِ عمله ، وهو ضعيفٌ جداً ، وكأنَّ الذي حَسَّنَ هذا كونُ لفظِ « لم » موجوداً قبل ذلك . والرابع : أن تكونَ « أو » بمعنى الواو ، و « تَفْرِضُوا » عطفاً على « تَمَسُّوهُنَّ » فهو مجزومٌ أيضاً .
قوله : { فَرِيضَةً } فيها وجهان ، أظهرُهما : أنها مفعولٌ به وهي بمعنى مفعولة ، أي : إلاَّ أَنْ تَفْرِضُوا لهنَّ شيئاً مفروضاً . والثاني : أن تكونَ منصوبةً على المصدرِ بمعنى فَرْضاً . واستجود أبو البقاء الوجهَ الأولَ ، قال : « وأَنْ يكونَ مفعولاً به وهو الجيدُ » والموصوفُ محذوفٌ تقديرُهُ : متعةً مفروضةً .
قوله : { وَمَتِّعُوهُنَّ } قال أبو البقاء : « وَمَتِّعُوهُنَّ معطوفٌ على فعلٍ محذوف تقديرُهُ : فَطَلِّقُوهُنَّ ومَتِّعُوهُنَّ » . وهذا لا حاجَةَ إليه ، فإنَّ الضميرَ المنصوبَ في « مَتِّعوهن » عائدٌ على المطلقاتِ قبل المسيسِ وقبلَ الفَرْضِ ، المذكورَيْن في قولِه : { إِن طَلَّقْتُمُ النسآء } إلى آخرها .

قوله : { عَلَى الموسع قَدَرُهُ } ، جملةٌ من مبتدأ وخبرٍ ، وفيها قولان ، أحدُهما : أنها لا محلَّ لها من الإِعراب ، بل هي استئنافيَّةٌ بَيَّنَتْ حالَ المُطَلِّقِ بالنسبةِ إلى إيسارِهِ وإقتارِهِ . والثاني : أنها في موضعِ نصبٍ على الحالِ ، وذو الحال/ فاعل « متِّعوهن » . قال أبو البقاء : « تقديرُهُ : بقَدر الوُسْع » ، وهذا تفسير معنىً . وعلى جَعْلِهَا حاليةً فلا بُدَّ من رابطٍ بينها وبين صاحبها ، وهو محذوفٌ تقديرهُ : على الموسِع منكم . ويجوزُ على مذهبِ الكوفيين ومَنْ تابعهم أن تكونَ الألفُ واللامُ قامَتْ مقامَ الضميرِ المضافِ إليه تقديرُهُ : « على مُوْسِعِكُم قَدَرُه » .
وقرأ الجمهورُ : « المُوسِعِ » بسكونِ الواو وكسرِ السينِ اسمَ فاعِلٍ من أَوْسع يُوسع . وقرأ أبو حيوة بفتح الواو والسين مشددة ، اسمَ مفعولٍ من « وسَّعَ » . وقرأ حمزة والكسائي وابن ذكوان وحفص : « قَدَرَه » بفتحِ الدالِ في الموضعين ، والباقون بسكونِها .
واختلفوا : هل هما بمعنىً واحدٍ أو مختلفان؟ فذهب أبو زيد والأخفش وأكبرُ أئمةِ العربيةِ إلى أنهما بمعنىً واحدٍ ، حكى أبو زيد : « خُذْ قَدَر كذا وقَدْر كذا » ، بمعنى واحدٍ ، قال : « ويُقْرَأُ في كتابِ اللَّهِ : » فسالتْ أوديةٌ بقدَرها « و » قَدْرها « ، وقال : { وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ } [ الرعد : 17 ] ولو حُرِّكَت الدالُ لكان جائزاً . وذهبَ جماعةٌ إلى أنهما مختلفانِ ، فالساكنُ مصدرٌ والمتحركُ اسمٌ كالعَدِّ والعَدَدِ والمَدِّ والمَدَد ، وكأنَّ القَدْر بالتسكين الوُسْعُ ، يقال : » هو يُنفق على قَدْرِهِ « أي وُسْعِهِ . وقيل : بالتسكين الطاقةُ ، وبالتحريك المقدارُ . قال أبو جعفر : » وأكثرُ ما يُسْتَعْمَل بالتحريكِ إذا كان مساوياً للشيءِ ، يُقال : « هذا على قدَر هذا » .
وقرأ بعضهم بفتحِ الراء ، وفي نصبِه وجهان ، أحدُهما : أن يكونَ منصوباً على المعنى ، قال أبو البقاء : « وهو مفعولٌ على المعنى ، لأنَّ معنى » مَتِّعوهن « لِيُؤَدِّ كلٌّ منكم قدَرَ وُسْعِهِ » وشَرْحُ ما قاله أن يكونَ من باب التضمين ، ضَمَّنَ « مَتِّعوهنَّ » معنى « أدُّوا » . والثاني : أن يكونَ منصوباً بإضمارِ فعلٍ تقديرُهُ : فَأَوْجِبوا على الموسِعِ قَدَره . وجعله أبو البقاء أجودَ من الأول . وفي السجاوندي : « وقال ابن أبي عبلة : » قَدَرَه أي قَدَرَه الله « انتهى . وظاهِرُ هذا أنه قرأ بفتحِ الدالِ والراءِ ، فيكونُ » قَدَرَه « فعلاً ماضياً ، وجَعَلَ فيه ضميراً فاعلاً يعودُ على اللِّهِ تعالى ، والضميرُ المنصوبُ يعود على المصدرِ المفهومِ من » مَتِّعوهن « . والمعنى : أنَّ الله قَدَرَ وكَتَبَ الإِمتاعَ على المُوسِعِ وعلى المُقْتِرِ .
قوله : { مَتَاعاً } في نصبِهِ وجهان ، أحدُهما : أنه منصوبٌ على المصدرِ ، وتحريرُه أنه اسمُ مصدرٍ ، لأنَّ المصدرَ الجاريَ على صَدْرِهِ إنَّما هو التمتيعُ ، فهو من بابِ :

{ أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] . وقال الشيخ : « قالوا : انتصَبَ على المصدرِ ، وتحريرُهُ أن المتاعَ هو ما يُمَتَّع به ، فهو اسمٌ له ، ثم أُطْلِقَ على المصدرِ على سبيلِ المجازِ ، والعامِلُ فيه : » وَمَتِّعوهُنَّ « وفيه نظرٌ ، لأنَّ المعهود أنْ يُطلَق المصدرُ على أسماءِ الأعيان كضَرْب بمعنى مَضْروب ، وإمَّا إطلاقُ الأعيان على المصدرِ فلا يجوزُ ، وإنْ كانَ بعضُهم جَوَّزه على قلةٍ نحو قولهم : » تِرْبَاً وَجَنْدلاً « و » أقائماً وقد قَعَدَ الناسُ « . والصحيح أن » تِرْباً « ونحوَه مفعولٌ به ، و » قائماً « نصبٌ على الحالِ .
والثاني من وَجْهَي » متاعاً « أن يَنْتَصِبَ على الحالِ . والعاملُ فيه ما تضمَّنه الجارُّ والمجرورُ من معنى الفعلِ ، وصاحبُ الحالِ ذلك الضميرُ المستكنُّ في ذلك العاملِ ، والتقديرُ : قَدَرُ الموسِعِ يستقرُّ عليه في حالِ كونِهِ متاعاً .
قوله : { بالمعروف } فيه وجهان ، أحدُهما : أَنْ يتعلَّقَ بمتِّعوهن فتكون الباءُ للتعديةِ . والثاني : أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لمتاعا ، فيكونَ في محلِّ نصبٍ ، والباءُ للمصاحبةِ ، أي : متاعاً ملتبساً بالمعروفِ . وجَوَّز الحوفي وجهاً ثالثاً وهو أنْ يتعلَّقَ بنفسِ » متاعاً « .
قوله : { حَقّاً } في نصبِه أربعةُ أوجهٍ ، أحدُهما : أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ لمعنى الجملةِ قبله كقولِك : » هذا ابني حقاً « وهذا المصدرُ يَجبُ إضمارُ عامِله تقديرُه : حَقَّ ذلك حقاً . ولا يجوزُ تقديمُ هذا المصدر على الجملةِ قبلَه . والثاني : أَنْ يكونَ صفةً لمتاعاً ، أي : متاعاً واجباً على المحسنين . والثالث : أنه حالٌ مِمَّا كان حالاً منه » متاعاً « ، وهذا على رأي مَنْ يجيز تعدُّد الحالِ . والرابعُ : أن يكونَ حالاً من » المعروف « ، أي بالذي عُرِف في حالِ وجوبِه على المحسنين . و » على المحسنين « يجوزُ أن يتعلَّقَ بحقاً ، لأنه بمعنى الواجبِ ، وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ له .

وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)

قولُه تعالى : { وَقَدْ فَرَضْتُمْ } : هذه الجملةُ في موضع نصبٍ على الحالِ ، وذو الحالِ يجوزُ أن يكونَ ضميرَ الفاعلِ ، وأَنْ يكونَ ضميرَ المفعولِ لأنَّ الرابطَ موجودٌ فيهما . والتقديرُ : وإنْ طَلَّقتموهنَّ فارِضين لهن أو مفروضاً لهن ، و « فريضة » فيهما الوجهان المتقدمان .
والفاءُ في « فنصفُ » جوابُ الشرطِ ، فالجملةُ في محلِّ جزمِ جواباً للشرطِ ، وارتفاعُ « نصفُ » على أحدِ وجهين : إمَّا الابتداءُ والخبر حينئذ محذوفٌ ، وإنْ شِئْتَ قَدَّرْتُه قبله ، أي : فعليكم أو فَلَهُنَّ نصفُ ، وإنْ شِئْتَ بعدَه أي : فنصفُ ما فرضتُم عليكم - أو لَهُنَّ - وإمَّا على خبرِ مبتدأٍ محذوفٍ تقديرُه : فالواجبُ نصفُ .
وقرأ فرقة : « فنصفَ » بالنصبِ على تقدير : « فادْفَعُوا أو أَدُّوا » . وقال أبو البقاء : ولو قُرِىء بالنصبِ لكان وجهُه « فأَدُّوا نصفَ » فكأنه لم يَطَّلِعْ عليها قراءةً مرويَّةً .
والجمهورُ على كسر نونِ « نِصْف » . وقرأ زيد وعلي ، ورواها الأصمعي قراءةً عن أبي عمرو : « فَنُصف » بضمِّ النون هنا وفي جميع القرآن ، وهما لغتان . وفيه لغةٌ ثالثة : « نَصيف » بزيادةِ ياءٍ ، ومنه الحديث : « ما بَلَغ مُدَّ أحدِهم ولا نَصِيفه » و « ما » في « ما فرضتم » بمعنى الذي ، والعائدُ محذوفٌ لاستكمالِ الشروطِ ، ويَضْعُفُ جَعْلُها نكرةً موصوفةً/ .
قوله : { إَلاَّ أَن يَعْفُونَ } في هذا الاستثناءِ وجهان ، أحدُهما : أن يكونَ استثناءً منقطعاً ، قال ابن عطية وغيرُه : « لأنَّ عفوهُنَّ عن النصف ليس من جنسِ أَخْذِهِنَّ » . والثاني : أنه متصلٌ ، لكنه من الأحوال ، لأنَّ قولَه : { فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } معناه : فالواجبُ عليكم نصفُ ما فَرَضْتُم في كلِّ حال إلا في حالِ عَفْوِهِنَّ ، فإنه لا يَجِبُ ، وإليه نحا أبو البقاء ، وهذا ظاهرٌ ، ونظيرُه : { لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ } [ يوسف : 66 ] . قال الشيخ : « إلاَّ أَنْ مَنْ مَنَعَ أَنْ تَقع أَنْ وصلتُها حالاً كسيبويه فإنه يمنعُ ذلك ، ويكونُ حينئذٍ منقطعاً » .
وقرأ الحسن « يَعْفُونَه » بهاء مضمومةٍ ، وفيها وجهان ، أحدهما : أنها ضميرٌ يعودُ على النصفِ . والأصلُ : إلاَّ أَنْ يَعْفُونَ عنه ، فَحُذِف حرفُ الجرِّ ، فاتصل الضميرُ بالفعلِ . والثاني : أنها هاءُ السكتِ والاستراحةِ ، وإنما ضَمَّها تشبيهاً بهاءِ الضميرِ كقول الآخر :
1005 هم الفاعلونَ الخيرَ والآمرونَه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
على أحدِ التأويلين في البيت أيضاً .
وقرأ ابن أبي إسحاق : « تَعْفُون » بتاءِ الخطابِ ، ووجهُها الالتفاتُ من ضميرِ الغَيْبة إلى الخطابِ ، وفائدةُ هذا الالتفاتِ التحضيضُ على عَفْوِهِنَّ وأنه مندوبٌ .
و « يَعْفُون » منصوبٌ بأَنْ تقديراً فإنَّه مبنيٌّ لاتصالِه بنونِ الإِناثِ . هذا رأيُ الجمهور . وأمَّا ابن درستويه والسهيلي فإنه عندهما معربٌ . وقد فَرَّق الزمخشري وأبو البقاء بين قولك : « الرجالَ يَعْفُون » و « النساءُ يَعْفُون » وإنْ كان هذا من واضحاتِ النحو : بأنَّ قولك « الرجالُ يَعْفُون » : الواو فيه ضميرُ جماعة الذكورِ وحُذِفت قبلها واوٌ أخرى هي لام الكلمة ، فإن الأصل : يَعْفُوُون فاستُثْقلت الضمةُ على الواوِ الأولى فحُذِفَتْ فبقيت ساكنة ، وبعدها واو الضمير أيضاً ساكنةً ، فحُذِفت الواو الأولى لئلاَّ يتلقى ساكنان ، فوزنُه يَفْعُون والنونُ علامة الرفعِ فإنه من الأمثلةِ الخمسةِ .

وأنَّ قولك : « النساء يَعْفُون » الواوُ لامُ الكلمةِ والنونُ ضميرُ جماعةِ الإِناثِ ، والفعلُ معها مبنيٌّ لا يَظْهَرُ للعامِل فيه أثرٌ . وقد ناقش الشيخُ الزمخشريَّ بأنَّ هذا من الواضحات التي بأدنى قراءة في هذا العلمِ تُعْرَفُ ، وبأنه لم يبيِّن حَذْفَ الواو من قولك « الرجال يعفون » وأنه لم يذكر خلافاً في بناء المضارع المتصل بنون الإِناث ، وكلُّ هذا سهلٌ لا ينبغي أن يُنَاقَشَ بمثلِه .
قوله : { أَوْ يَعْفُوَاْ الذي } « أو » هنا فيها وجهان ، أحدُهما : هي للتنويع . والثاني : أنها للتخييرِ . والمشهورُ فتحُ الواوِ عطفاً على المنصوبِ قبله . وقرأ الحسن بسكونِها ، استثقل الفتحةَ على الواوِ فقدَّرها كما يقدِّرُها في الألف ، وسائرُ العرب على استخفافها ، ولا يجوزُ تقديرُها إلا في ضرورةٍ كقوله - هو عامر بن الطفيل - :
1006 فما سَوَّدَتْني عامِرٌ عن وراثةٍ ... أبى اللَّهُ أَنْ أَسْمو بأمٍّ ولا أَبِ
ولَمَّا سَكَّن الواوَ حُذِفَتْ للساكن بعدَها وهو اللامُ من « الذي » . وقال ابنُ عطية : « والذي عندي أنه استثقل الفتحةَ على واو متطرفةٍ قبلها متحركٌ لقلَّةِ مجيئِها في كلامِهم ، وقال الخليلُ : » لم يَجِيء في الكلامِ واوٌ مفتوحةٌ متطرفةٌ قبلَها فتحةٌ إلا قولُهم : « عَفَوة » جمع عَفْو ، وهو ولدُ الحِمار ، وكذلك الحركةُ - ما كانت - قبلَ الواو المفتوحةِ فإنَّها ثقيلةٌ « انتهى . قالَ الشيخ : » فقوله : لقلَّةِ مجيئها يعني مفتوحةً مفتوحاً ما قبلَها ، وهذا الذي ذكره فيه تفصيلٌ ، وذلكَ أنَّ الحركةَ قبلَهَا : إمَّا أَنْ تكونَ ضمةً أو كسرةً أو فتحةً . فإنْ كانَتْ ضمةً : فإمَّا أَنْ يكونَ ذلك في اسم أو فعلٍ ، فإنْ كان في فعلٍ فهو كثيرٌ ، وذلك جميعُ أمثلةِ المضارعِ الداخلِ عليها حرفُ نصبٍ نحو : « لَنْ يغزُوَ » ، والذي لحِقَه نونُ التوكيد منها نحو : « هلَ يَغْزُوَنَّ » ، وكذا الأمرُ نحو : « اغزُوَنَّ » ، وكذا الماضي على فَعُل في التعجِب نحو : سَرُوَ الرجل ، حتى إن ذوات الياء تُرَدُّ إلى الواو في التعجب فيقولون : « لَقَضُوَ الرجلُ » ، على ما أُحْكِم في بابِ التصريف . وإنْ كان ذلك في اسم : فإمَّا أن يكونَ مبنياً على هاءِ التأنيث فيكثرُ أيضاً نحو : عَرْقُوة وتَرْقُوة وقَمَحْدُوَة . وإنْ كان قبلها فتحة فهو قليل كما ذكر الخليل ، وإن كان قبلها كسرةٌ قُلِبت الواوُ ياءً نحو : الغازي والغازية ، وشَذَّ من ذلك « أَفْرِوَة » جمع فَرِوَة وهي مَيْلَغَةُ الكلب ، و « سواسِوَة » وهم : المستوون في الشر ، و « مقاتِوَة » جمعُ مُقْتَوٍ وهو السائسُ الخادِمُ .

وتلخَّص من هذا أنَّ المرادَ بالقليلِ واوٌ مفتوحةٌ متطرفةً ما قبلها في اسم غيرٍ ملتبسٍ بتاءِ التأنيثِ ، فليس قولُ ابنِ عطية « والذي عندي إلى آخره » بظاهر .
والمرادُ بقولِه : { الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح } قيل : الزوجُ : وقيلَ : الوليُّ ، وأل في النكاحِ للعهدِ ، وقيد بدلٌ من الإِضافةِ ، أي : نكاحُه كقوله :
1007 لهمْ شَيمَةٌ لم يُعْطِها اللهُ غيرَهم ... من الجودِ ، والأحلامُ غيرُ عَوازِبِ
أي أحلامُهم ، وهذا رأيُ الكوفيين . وقال بعضُهم : في الكلامِ حذفٌ تقديره : بيده حلُّ عقدةِ النكاحِ ، كما قيل ذلك في قوله : { وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح } [ البقرة : 235 ] أي عَقْدَ عقدة النكاح وهذا يؤيِّد أنَّ المرادَ الزوجُ/ .
قوله : { وَأَن تعفوا أَقْرَبُ } « أن تَعْفُوا » في محل رفع بالابتداء لأنه في تأويل « عَفْوُكم » ، و « أقربُ » خبره . وقرأ الجمهور « تَعْفُوا » بالخطاب ، والمرادُ الرجالُ والنساءُ ، فَغَلَّبَ المذكَّرَ ، والظاهرُ أنه للأزواجِ خاصةً ، لأنهم المخاطَبون في صدرِ الآيةِ ، وعلى هذا فيكونُ التفاتاً من غائبٍ ، وهو قولُه : { الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح } - على قولنا أنَّ المرادَ به الزوجُ وهو المختارُ - إلى الخطابِ الأولِ في صدرِ الآيةِ . وقرأ الشعبي وأبو نهيك : « يَعْفوا » بياء من تحت . قال الشيخ : « جعله غائباً ، وجُمِع على معنى : » الذي بيدِه عقدةُ النكاح « لأنه للجنس لا يُراد به واحد » يعني أنَّ قولَه : « وأن يَعْفوا » أصله « يَعْفُوُون » فلمَّا دَخَل الناصبُ حُذِفَتْ نونُ الرفعِ ثم حُذِفَتِ الواوُ التي هي لامُ الكلمةِ ، وهذه الياءُ فيه هي ضميرُ الجماعةِ ، جُمِعَ على معنى الموصولِ ، لأنه وإنْ كان مفرداً لفظاً فهو مجموعٌ في المعنى لأنه جنسٌ . ويظهر فيه وجهٌ آخرُ ، وهو أن تكونَ الواوُ لامَ الكلمةِ ، وفي هذا الفصلِ ضميرٌ مفردٌ يعودُ على الذي بيده عقدةُ النكاحِ ، إلا أنه قَدَّر الفتحة في الواوِ استثقالاً كما تقدَّم في قراءةِ الحسن ، تقديرُه : وأَنْ يعفو الذي بيده عقدةُ .
قوله : { للتقوى } متعلِّقٌ بأقرب ، وهي هنا للتعديةِ ، وقيل : بل هي للتعليلِ . و « أقربُ » تتعدَّى تارةً باللام كهذه الآيةِ ، وتارةً بإلى كقولِه تعالى : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد } [ ق : 16 ] . وليست « إلى » بمعنى اللام ، وقيل : بل هي بمعناها ، وهذا مذهبُ الكوفيين ، أعني التجوُّزَ في الحروفِ . ومعنى اللامِ و « إلى » في هذا الموضعِ يتقارَبُ .
وقال أبو البقاء : « ويجوزُ في غيرِ القرآن : » أقربُ من التقوى وإلى التقوى « إلاَّ أنَّ اللامَ هنا تَدُلُّ على معنىً غير معنى » إلى « وغير معنى » مِنْ « ، فمعنى اللامِ : العفو أقربُ من أجل التقوى ، واللام تدلُّ على علة قرب العفو ، وإذا قلت : أقربُ إلى التقوى كان المعنى : يقارب التقوى ، كما تقول : أنت أقربُ إليَّ ، و » أقرب من التقوى « يقتضي أن يكونَ العفوُ والتقوى قريبَيْن ، ولكنَّ العفوَ أشدُّ قُرباً من التقوى ، وليس معنى الآية على هذا » انتهى .

فَجَعَلَ اللامَ للعلة لا التعديةِ ، و « إلى » للتعديةِ .
واعلمْ أنَّ فِعْلَ التعجب وأفعلَ التفضيلِ يتعدَّيان بالحرفِ الذي يتعدَّى به فعلُهما قبل أن يكونَ تعجباً وتفضيلاً نحو : « ما أزهدني فيه وهو أزهدُ فيه » ، وإنْ كان من متعدٍّ في الأصلِ : فإن كان الفعلُ يُفْهِمُ علماً أو جَهْلاً تعدَّيا بالباءِ نحو : « هو أعلمُ بالفقه » ، وإنْ كان لا يُفْهِمُ ذلك تعدَّيا باللامِ نحو : « ما أضربَكَ لزيدٍ » ، و « أنت أضربُ لعمروٍ » إلاَّ في بابِ الحُبِّ والبغضِ فإنهما يتعدَّيان إلى المفعولِ ب « في » نحو : « ما أحبَّ زيداً في عمروٍ وأبغضه في خالدٍ ، وهو أحبُّ في بكر وأبغض في خالد » وإلى الفاعل المعنوي ب « إلى » نحو : « زيدٌ أحبُّ إلى عمروٍ من خالد ، وما أحبَّ زيداً إلى عمرو » ، أي : إنَّ عمراً يحبُ زيداً . وهذه قاعدةٌ جليلةٌ قَلَّ مَنْ يَضْبِطُها .
والمُفَضَّلُ عليه في الآيةِ الكريمةِ محذوفٌ ، تقديرُه : أقربُ للتقوى من تَرْكِ العفوِ . والياءُ في التقوى بدلٌ من واو ، وواوُها بدلٌ من ياءٍ لأنها من وَقَيْتُ أقِي وقايةً ، وقد تقدَّم ذلك أول السورةِ .
قوله : { وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل } الجمهورُ على ضَمِّ الواو مِنْ « تَنْسَوا » لأنها واوُ ضميرٍ . وقرأ ابن يعمر بكسرِها تشبيهاً بواو « لو » كما ضَمُّوا الواو من « لو » تشبيهاً بواوِ الضميرِ . وقال أبو البقاء « في واو » تَنْسَوا « من القراءات ووجوهها ما ذكرناه في { اشتروا الضلالة } [ البقرة : 16 ] . وكان قد قَدَّم فيها خمسَ قراءاتٍ ، فظاهرُ كلامِه عَوْدُها كلِّها إلى هنا ، إلاَّ أنه لم يُنْقَلْ هنا إلا الوجهان اللذان ذَكَرْتُهما .
وقرأ عليٌّ رضي الله عنه : » ولا تناسَوا « قال ابن عطية : » وهي قراءةُ متمكِّنةٌ في المعنى ، لأنه موضعُ تناسٍ لا نسيانٍ ، إلاَّ على التشبيه « . وقال أبو البقاء : على بابِ المفاعلة ، وهي بمعنى المتاركةِ لا بمعنى السهو ، وهو قريبٌ من قولِ ابنِ عطية .
قوله : { بَيْنَكُمْ } فيه وجهان ، أحدُهما : أنه منصوبٌ ب » تَنْسَوُا « . والثاني : أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من الفضلِ أي : كائناً بينكم . والأولُ أَوْلى لأنَّ النهيَ عن فِعْلٍ يكونُ بينَهم أبلغَ من فعلٍ لا يكونُ بينهم .

حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)

قوله تعالى : { حَافِظُواْ } : في « فاعَل » هنا قولان ، أحدُهما : أنه بمعنى فَعِل كطارَقْتُ النعل وعاقَبْتُ اللصَّ . ولمَّا ضَمَّن المحافظةَ معنى المواظبةِ عَدَّاها ب « على » الثاني : أنَّ « فاعَل » على بابِها من كونِها بين اثنين ، فقيل : بين العبدِ وربِّه ، كأنه قيل : احفَظْ هذه الصلاةَ يحفظْكَ اللهُ . وقيل : بين العبدِ والصلاةِ أي : احفَظْها تحفَظْك .
وقال أبو البقاء : « ويكون وجوبُ تكريرِ الحفظِ جارياً مَجْرى الفاعِلين ، إذ كان الوجوبُ حاثَّاً على الفعلِ ، فكأنه شريكُ الفاعلِ للحفظ ، كما قالوا في { وَاعَدْنَا موسى } [ البقرة : 51 ] فالوعدُ من اللهِ والقَبولُ من موسى بمنزلةِ الوعد . وفي » حافِظوا « معنىً لا يوجَدُ في » احفظوا « وهو تكريرُ الحفظ » وفيه نظر؛ إذ المفاعلةُ لا تَدُلُّ على تكريرِ فعلٍ البتةِ .
قوله : { والصلاة الوسطى } ذَكَر الخاصَّ بعد العامَّ ، وقد تقدَّم فائدُته عند قولِه : { مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ } [ البقرة : 98 ] ، والوُسْطى : فُعْلَى معناها التفضيلُ ، فإنها مؤنثةٌ للأوسط ، كقولِه - يمدح الرسول عليه السلام - :
1008 يا أوسطَ الناسِ طُرَّاً في مفاخِرهمْ ... وأكرمَ الناسِ أمَّا بَرَّةً وأَبَا
وهي [ من ] الوسطِ الذي هو الخِيارُ/ وليست من الوَسَطِ الذي معناه : متوسطٌ بين شيئين ، لأنَّ فُعْلى معناها التفضيلُ؛ ولا يُبْنى للتفضيل إلا ما يَقْبل الزيادةَ والنقصَ ، والوَسَطُ بمعنى العَدْل والخيارِ يقبلُهما بخلافِ المتوسطِ بين الشيئين فإنه لا يَقْبَلُهما فلا يُبْنى منه أفعلُ التفضيل .
وقرأ علي : « وعلى الصلاة » بإعادةِ حرفِ الجَرِّ توكيداً ، وقَرَأَتْ عائشةُ - رضي الله عنها - « والصلاةَ » بالنصبِ ، وفيها وجهان ، أحدُهما على الاختصاصِ ، ذكرَه الزمخشري ، والثاني على موضعِ المجرورِ ، مثلُه نحو : مررتُ بزيدٍ وعَمْراً ، وسيأتي بيانُه في المائدة .
قوله : { قَانِتِينَ } حالٌ من فاعلِ « قوموا » . و « لله » يجوزُ أَنْ تتعلَّقَ اللامُ بقوموا ، ويجوزُ أنَ تتعلَّق بقانتين ، ويدلُّ للثاني قولُه تعالى : { كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ } [ البقرة : 116 ] . ومعنى اللامِ التعليلُ .

فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)

قوله تعالى : { فَرِجَالاً } : منصوبٌ على الحالِ ، والعاملُ فيه محذوفٌ تقديرُه : « فَصَلُّوا رجالاً ، أو فحافِظُوا عليها رِجالاً وهذا أَوْلَى لأنه و » رجال « جَمْعُ راجِل كقائِم وقيام ، وصاحِب وصِحاب ، يُقال منه : رَجِل يَرْجَلُ رَجْلاً ، فهو راجِلٌ ورَجُلٌ بوزن عَضُد ، وهي لغةُ الحجازِ ، يقولونَ : رَجِل فلانٌ فهو رَجُلٌ ويقال : رَجْلان ورَجِيل قال الشاعر :
1009 عليَّ إذا لاقَيْتُ ليلى بخُفْيَةٍ ... أَنَ أزدارَ بيتَ اللهِ رَجْلانَ حافِيا
كلُّ هذا بمعنى مَشَى على قدميه لعدمِ المركوبِ . ولهذا اللفظ جموعٌ كثيرة : رِجال كما تقدَّم ، وقال تعالى : { يَأْتُوكَ رِجَالاً وعلى كُلِّ ضَامِرٍ } [ الحج : 27 ] ، وقال
1010 وبنو غُدانَةَ شاخِصٌ أبصارُهُمْ ... يَمْشُون تحتَ بُطونِهِنَّ رِجَالا
ورَجِيل ورُجالى ، وتُروى قراءةً عن عكرمة ، ورَجالى ورَجَّالة ورُجَّال وبها قرأ عكرمةُ وابن مَخْلد ، ورُجَّالى ورُجلان ورِجْلة ورَجْلَة بسكونِ الجيمِ وفتحِها وأَرْجِلَة وأراجِل وأراجِيل ورُجَّلاً بضم الراءِ وتشديد الجيمِ من غير ألفٍ ، وبها قُرِىء شاذَاً .
ورُكْبَان جمع راكِب ، قيل : ولا يُقال إلاَّ لِمَنْ رَكِبَ جَمَلاً ، فأمَّا راكبُ الفرسِ ففارسٌ ، وراكبُ الحمار والبغل حَمَّار وبَغَّال ، والأَجْوَدُ صاحبُ حمارٍ وبَغْلٍ . و » أو « هنا للتقسيمِ وقيلَ : للإِباحةِ ، وقيل : للتخييرِ .
قوله : { كَمَا عَلَّمَكُم } الكافُ في محلِّ نصبٍ : إمَّا نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ ، أو حالاً من ضميرِ المصدر المحذوفِ ، ويجوزُ فيها أن تكونَ للتعليلِ أي : فاذكروه لأجلِ تعليمِهِ إياكم . و » ما « يجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً وهو الظاهرُ ، ويجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى الذي ، والمعنى : فصَلُّوا الصلاةَ كالصلاةِ التي عَلَّمكم ، وعَبَّر بالذكر عن الصلاةِ ، ويكونُ التشبيهُ بين هيئتي الصلاتين الواقعةِ قبلَ الخوفِ وبعدَه في حالةِ الأمنِ . قال ابنُ عطية : » وعلى هذا التأويلِ يكونُ قولُه : { مَّا لَمْ تَكُونُواْ } بدلاً من « ما » في « كما » وإلاَّ لَم يَتَّسِقْ لفظُ الآية « قال الشيخ : » وهو تخريجٌ ممكِنٌ ، وأحسنُ منه أن يكونَ « ما لم تكونوا » بدلاً من الضمير المحذوفِ في « عَلَّمكم » العائدِ على الموصول ، إذ التقديرُ : عَلَّمكموه ، ونَصَّ النحويون على أنه يجوزُ : ضَرَبْتُ الذي رأيتُ أخاك « أي : رأيته أخاك ، فأخاك بدلٌ من العائدِ المحذوف » .

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)

قوله تعالى : { والذين يُتَوَفَّوْنَ } فيه ثمانية أوجهٍ ، أحدُها : أنه مبتدأ ، و « وصيةًٌ » مبتدأٌ ثانٍ ، وسَوَّغَ الابتداءَ بها كونُها موصوفةً تقديراً ، إذ التقديرُ : « وصيةٌ من الله » أو « منهم » على حَسَبِ الخلافِ فيها : أهي واجبةٌ من الله أو مندوبةٌ للأزواج؟ و « لأزواجِهم » خبرُ المبتدأ الثاني فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، والمبتدأُ الثاني وخبرُهُ خبرُ الأولِ . وفي هذه الجملةِ ضميرُ الأولِ . وهذه نظيرُ قولِهِم : « السمنُ مَنَوانِ بدرهمٍ » تقديرُهُ : مَنَوانِ منه ، وجَعَلَ ابنُ عطية المسوِّغَ للابتداء بها كونَها في موضِعِ تخصيصٍ . قال : « كما حَسُنَ أَنْ يرتفعَ : » سلامٌ عليك « و » خيرٌ بين يديك « لأنها موضعُ دعاءٍ » وفيه نظرٌ .
والثاني : أن تكونَ « وصيةٌ » مبتدأٌ ، و « لأزواجِهم » صفتَها ، والخبرُ محذوفٌ ، تقديرُهُ : فعليهم وصيةٌ لأزواجِهم ، والجملةُ خبرُ الأول .
والثالث : أنها مرفوعةٌ بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه : كُتِبَ عليهم وصيةٌ ، و « لأزواجهم » صفةٌ ، والجملةُ خبرُ الأولِ أيضاً . ويؤيِّد هذا قراءةُ عبدِ الله : « كُتِبَ عليهم وصيةٌ » وهذا من تفسيرِ المعنى لا الإِعرابِ ، إذ ليس هذا من المواضعِ التي يُضْمَرُ فيها الفعْلُ .
الرابع : « أن » الذينَ « مبتدأٌ على حَذْفِ مضافٍ من الأولِ تقديرُهُ : ووصيةُ الذين .
والخامسُ : أنه كذلك إلا أنه على حَذْفِ مضاف من الثاني : تقديرُهُ : » والذين يُتَوَفَّوْنَ أهلُ وصية « ذكر هذين الوجهين الزمخشري . قال الشيخ : » ولا ضرورةَ تدعو إلى ذلك « .
وهذه الأوجُهُ الخمسةُ فيمنَ رَفَع » وصيةٌ « ، وهم ابن كثير ونافع والكسائي وأبو بكر عن عاصم ، والباقونَ يَنْصِبُونها ، وارتفاعُ » الذين « على قراءتهم فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه فاعلُ فعلٍ محذوفٍ تقديرُهُ : وَلْيُوصِ الذين ، ويكون نصبُ » وصية « على المصدر . والثاني : أنه مرفوعٌ بفعلٍ مبني للمفعولِ يتعدَّى لاثنين ، تقديرُه : وأُلْزِم الذين يُتَوَفَّوْنَ/ ويكونُ نصبُ » وصية « على أنها مفعولٌ ثانٍ لألْزِمَ ، ذكره الزمخشري . وهو والذي قبلَه ضعيفان؛ لأنه ليس من مواضع إضمار الفعل . والثالث : أنه مبتدأٌ وخبرُهُ محذوفٌ ، وهو الناصبُ لوصية تقديرُهُ : والذين يُتَوَفَّوْنَ يُوصُون وصيةً ، وقَدَّرَهُ ابنُ عطية : » لِيوصوا « ، و » وصيةً « منصوبةٌ على المصدرِ أيضاً . وفي حرفِ عبد الله : » الوصيةُ « رفعاً بالابتداء والخبرُ الجارُّ بعدها ، أو مضمرٌ أي : فعليهم الوصيةُ : والجارُّ بعدَها حالٌ أو خبرٌ ثانٍ أو بيان .
قوله : { مَّتَاعاً } في نصبِهِ سبعةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنَّه منصوبٌ بلفظِ » وصية « لأنها مصدرٌ منونٌ ، ولا يَضُرُّ تأنيثُها بالتاءِ لبنائِها عليها ، فهي كقولِهِ :
1011 فلولا رجاءُ النصر مِنْكَ ورهبةٌ ... عقابَك قد كانوا لنا كالموارِدِ

والأصلُ : وصيةٌ بمتاعٍ ، ثم حُذِفَ حرفُ الجَرِّ اتساعاً ، فَنُصِبَ ما بعدَه ، وهذا إذا لم تَجْعَلِ « الوصية » منصوبةً على المصدرِ ، لأنَّ المصدرَ المؤكِّد لا يعملُ ، وإنما يجيء ذلك حالَ رفعِها أو نصبِها على المفعولِ كما تقدَّم تفصيلْهُ .
والثاني : أنه منصوبٌ بفعلٍ : إمَّا من لفظِهِ أي : مَتِّعوهن متاعاً أي : تمتيعاً ، أو من غير لفظهِ أي : جَعَل اللَّهُ لهنَّ متاعاً . والثالث : أنه صفةٌ لوصيةٍ ، والرابع : أنه بدلٌ منها . الخامس : أنه منصوبٌ بما نصبَها أي : يُوصُون متاعاً ، فهو مصدرٌ أيضاً على غير الصدر ك « قَعَدْتُ جُلوساً » ، هذا فيمن نَصَبَ « وصية . السادس : أنه حالٌ من الموصين : أي مُمَتَّعين أو ذوي مَتاعٍ . السابع : أنه حالٌ من أزواجهم ، أي : ممتعاتٍ أو ذواتِ متاع ، وهي حالٌ مقدَّرة إن كانتِ الوصيةُ من الأزواج .
وقرأ أُبَيّ : » متاعٌ لأزواجِهِم « بدلَ » وصيةٌ « ، ورُوي عنه » فمتاعٌ « ، ودخولُ الفاءِ في خبرِ الموصولِ لشبهِهِ بالشرطِ ، وينتصِبُ » متاعاً « في هاتين الروايتين على المصدرِ بهذا المصدر ، فإنه بمعنى التمتيع ، نحو : » يعجبني ضربٌ لك زيداً ضرباً شديداً « ونظيرُه : { فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً } [ الإسراء : 63 ] و » إلى الحَوْلِ « متعلِّقٌ ب » مَتاع « أو بمحذوفٍ على أنه صفةٌ له .
قوله : { غَيْرَ إِخْرَاجٍ } في نصبِهِ ستةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه نعتٌ ل » متاعاً « . الثاني : أنه بدلٌ منه . الثالث : أنه حالٌ من الزوجات أي : غيرَ مخرجاتٍ . الرابع : أنه حالٌ من الموصين ، أي : غيرَ مُخْرَجين . الخامس : أنه منصوب على المصدر تقديرُهُ : لا إخراجاً قاله الأخفش . السادس : أنه على حذفِ حرفِ الجرِّ ، تقديرُهُ : مِنْ غيرِ إخراجٍ ، قاله أبو البقاء ، وفيه نظر .
قوله : { فِي مَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ } هذان الجارَّان يتعلَّقان بما تعلَّق به خبرُ » لا « وهو » عليكم « من الاستقرارِ ، والتقديرُ : لا جُنَاح مستقرٌّ عليكم فيما فَعَلْنَ في أنفسِهِنَّ . و » ما « موصولةٌ اسميةٌ والعائدُ محذوفٌ تقديرُهُ : فَعَلْنَهُ . و » مِنْ معروف « متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه حالٌ من ذلك العائِد المحذوفِ تقديرُهُ . فيما فَعَلْنَه كائناً من معروف .
وجاء في هذه الآية » من معروفٍ « نكرةً مجرورةٌ ب » مِنْ « ، وفي الآيةِ قبلها » بالمعروفِ « مُعَرَّفاً مجروراً بالباء لأنَّ هذه لامُ العهدِ ، كقولك : » رأيتُ رجلاً فأكرمْتُ الرجلَ « إلاَّ أنَّ هذه وإنْ كانت متأخرةً في اللفظ فهي مُقَدَّمةٌ في التنزيل ، ولذلك جَعَلَها العلماء منسوخةً بها إلا عند شذوذ . وتقدَّم نظائر هذه الجملِ ، فلا حاجة إلى إعادةِ الكلامِ فيها .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)

قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين } : هذه همزةُ الاستفهامِ دَخَلَتْ على حرفِ النفيِ ، فَصَيَّرَتِ النفيَ تقريراً ، وكذا كلُّ استفهامٍ دخَلَ على نفي نحو : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } [ الانشراح : 1 ] { أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ } [ الزمر : 36 ] فيمكن أن يكونَ المخاطبُ عَلِمَ بهذه القصةِ قبلَ نزولِ هذه الآيةِ ، فيكونُ التقريرُ ظاهراً أي : قد رأيتَ حالَ هؤلاء ، ويمكن أنه لم يَعْلَمْ بها إلا مِنْ هذه الآيةِ ، فيكون معنى هذا الكلامِ التنبيهَ والتعجُّبَ من حالِ هؤلاءِ ، والمخاطَبُ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم َ أو كُلُّ سامِعٍ . ويجوزُ أن يكونَ المرادُ بهذا الاستفهام التعجبَ من حالِ هؤلاءِ ، وأكثرُ ما يَرِدُ كذلك : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين تَوَلَّوْاْ قَوْماً } [ المجادلة : 14 ] { أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل } [ الفرقان : 45 ] ، وقالَ الشاعر :
1012 ألم تَرَ أني كلما جِئْتُ طارِقاً ... وَجَدْتُ بها طِيباً وإنْ لم تَطَيَّبِ
والرؤية هنا عِلْمية فكانَ من حَقِّها أن تتعدَّى لاثنين ، ولكنها ضُمِّنَتْ معنى ما يتعدَّى بإلى ، والمعنى : ألم ينته علمُك إلى كذا . وقال الراغب : « رأيت : يتعدَّى بنفسه دونَ الجارِّ ، لكن لما استعيرَ قولُهم : » ألم تَرَ « بمعنى ألم تَنْظُر عُدِّيَ تعديتَه ، وقَلَّما يُستعمل ذلك في غيرِ التقديرِ ، لا يُقال : رأيت إلى كذا » .
وقرأ السلمي : « تَرْ » بسكون الراء ، وفيها وجهان ، أحدُهما : أنه تَوَهَّم أن الراءَ لامُ الكلمةِ فسَكَّنَهَا للجزمِ كقولِهِ :
1013 قالَتْ سُلَيْمَى اشترْ لنا سَوِيقاً ... واشترْ فَعَجِّل خادِماً لَبِيقا
وقيل : هي لغة قوم ، لم يكتفوا في الجزم بحذف حرف العلة . والثاني : أنه أَجْرى الوصلَ مُجْرى الوقف ، وهذا أَوْلى فإنه كثيرٌ في القرآنِ نحوُ : « الظنونا » و « الرسولا » و « السبيلا » و « لم يَتَسَنَّهْ » « وبهداهم اقتده » وقوله : « ونُصْلِهِ » و « نؤته » و « يُؤدّه » ، وسيأتي ذلك .
قوله : { وَهُمْ أُلُوفٌ } مبتدأٌ وخبرٌ ، وهذه الجملةُ في [ موضع ] نصبٍ على الحال ، وهذا أحسنُ مجيئِها ، إذ قد جُمَعَ فيها بين الواوِ والضمير . و « أُلوفٌ » فيه قولان ، أظهرُهُما : أنه جمعُ « أَلْف » لهذا العَدَدِ الخاصِّ وهو جَمْعُ كثرةٍ ، وجمعُ القلةِ : آلاف كحُمول وأَحْمال . والثاني : أَنه جَمْعُ « آلِف » على فاعِل كشاهد وشُهود وقاعِد وقُعود . أي : خَرَجوا وهم مؤتلفون ، قال الزمخشري : « وهذا من بِدَع التفاسير » .
قوله : { حَذَرَ الموت } مفعولٌ من أجلِهِ ، وفيه شروطُ النصبِ ، أعني المصدريةَ واتحادَ الفاعلِ والزمانِ . /
قوله : { ثُمَّ أَحْيَاهُمْ } فيه وجهانِ ، أحدُهما : أنه معطوفٌ على معنى : فقالَ لهم اللَّهُ : موتوا ، لأنه أَمْرٌ في معنى الخبرِ تقديرُهُ : فأماتَهُم اللَّهُ ثم أحياهُمْ . والثاني : أنه معطوفٌ على محذوفٍ ، تقديرهُ : فماتوا ثم أحياهم ، و « ثم » تقتضي تراخي الإِحياءِ عن الإِماتَةِ .

وألفُ « أحيا » عن ياء ، لأنه من « حَيِيَ » ، وقد تقدَّم تصريفُ هذه المادةِ عند قولِه : { إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً } [ البقرة : 26 ] قوله : { إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ } أَتَى بهذه الجملةِ مؤكَّدة ب « إنَّ » واللام ، وأتى بخبرِ « إنَّ » : « ذو » الدالة على الشرفِ بخلافِ « صاحب » . و « على الناسِ » متعلقٌ بفَضْل . تقول : تَفَضَّل فلان عليَّ ، أو بمحذوفٍ لأنه صفة له فهو في محل جر ، أي : فضلٍ كائنٍ على الناس . وأل في الناسِ للعمومِ ، وقيل للعهدِ ، والمرادُ بهم الذين أماتهم .
قوله : { ولكن أَكْثَرَ الناس } هذا استدراكٌ مِمَّا تَضَمَّنَهُ قولُهُ { إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس } ، لأنَّ تقديرَه : فيجِبُ عليهم أَنْ يشكُروا لتفضُّلِهِ عليهم بالإِيجادِ والرزق ، ولكنَّ أكثرَهم غيرُ شاكرٍ .

وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)

قولُه تعالى : { وَقَاتِلُواْ } : هذه الجملةُ فيها أقوالٌ ، أحدُها : أنها عطفٌ على قولِهِ : « موتوا » وهو أمرٌ لِمَنْ أَحْيَاهُم اللَّهُ بعدَ الإِماتَةِ بالجهادِ ، أي : فقال لهم : مُوتوا وقاتِلوا ، رُوي ذلك عن ابنِ عباس والضحاك . قال الطبري : « ولا وجهَ لهذا القولِ » . والثاني : أنها معطوفةٌ على قوله : { حَافِظُواْ عَلَى الصلوات } وما بينهما اعتراضٌ . والثالث : أنها معطوفةٌ على محذوفٍ تقديرُهُ « فَأَطِيعُوا وقاتِلوا ، أو فلا تَحْذَروا الموتَ كما حَذِرَهُ الذين مِنْ قَبْلِكُمْ فلم يَنْفَعهم الحذرُ » ، قاله أبو البقاء . والظاهرُ أنَّ هذا أمرٌ لهذه الأمةِ بالجهادِ ، بعد أَنْ ذَكَرَ أن قوماً لم ينفعْهم الحذرُ من الموتِ ، فهو تشيجعٌ لهم ، فيكونُ من عطفِ الجملِ فلا يُشْتَرَطُ التوافُق في أمرٍ ولا غيرِه .

مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)

قوله تعالى : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً } : « مَنْ » للاستفهام ومَحَلُّها الرفعُ على الابتداءِ ، و « ذا » اسم إشارةٍ خبرُهُ ، و « الذي » وصلتُهُ نعتٌ لاسمِ الإِشارةِ أو بدلٌ منه ، ويجوزُ أن يكونَ « مَنْ ذا » كلُّه بمنزلَةِ اسمٍ واحدٍ تركَّبا كقولِكَ : « ماذا صَنَعْتَ » كما تقدَّم شرحُه في قوله : { مَاذَآ أَرَادَ الله } [ البقرة : 26 ] . ومَنَع أبو البقاء هذا الوجه وفَرَّق بينه وبين قولِكَ : « ماذا » حيثُ يُجْعَلان اسماً واحداً بأنَّ « ما » أشدُّ إبهاماً مِنْ « مَنْ » لأنَّ « مَنْ » لمَنْ يَعْقِلُ . ولا معنى لهذا المنعِ بهذه العلةِ ، والنحويون نَصُّوا على أنَّ حكمَ « مَنْ ذا » حكمُ « ماذا » .
ويجوز أن يكونَ « ذا » بمعنى الذي ، وفيه حينئذٍ تأويلان ، أحدُهما : أنَّ « الذي » الثاني تأكيدٌ له ، لأنه بمعناه ، كأنه قيل : مَنْ الذي الذي يُقْرِضُ؟ والثاني : أن يكونَ « الذي » خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ ، والجملةُ صلةُ ذا ، تقديرهُ : « مَنْ الذي هو الذي يُقْرِضُ » وذا وصلتُه خبرُ « مَنِ » الاستفهامية . أجاز هذين الوجهين جمالُ الدين بن مالك ، وهما ضعيفان ، والوجهُ ما قَدَّمْتُهُ .
وانتصَبَ « قرْضاً » على المصدرِ على حذفِ الزوائدِ ، إذ المعنى : إقراضاً كقوله : { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ البقرة : 26 ] ، وعلى هذا فالمفعولُ الثاني محذوفٌ تقديرُهُ : « يُقْرِض اللَّهَ مالاً وصدقةً » ، ولا بدَّ من حذفِ مضافًٍ تقديرهُ : يقرضُ عبادَ اللَّهِ المحاويجَ ، لتعاليه عن ذلك ، أو يكونُ على سبيل التجوُّزِ ، ويجوز أن يكونَ بمعنى المفعول نحو : الخَلْق بمعنى المخلوق ، وانتصابُهُ حينئذٍ على أنه مفعولٌ ثانٍ ل « يُقْرِض » .
« وحَسَناً » يجوزُ أن يكونَ صفةً لقرضاً بالمعنيينِ المذكورين ، ويجوز أن يكونَ نعتَ مصدرٍ محذوفٍ ، إذ جعلنا « قَرْضاً » بمعنى مفعول أي : إقراضاً حسناً .
قوله : { فَيُضَاعِفَهُ } قرأ عاصم وابن عامر هنا ، وفي الحديد بنصب الفاء ، إلاَّ أنَّ ابنَ عامر يشدِّد العينَ من غير ألفٍ . والباقون برفعِها ، إلاَّ أنَّ ابن كثير يشدِّد العينَ من غير ألفٍ ، فالرفعُ من وجهين ، أحدُهما : أنه عطفٌ على « يقرضُ » الصلةِ . والثاني : أنه رفعٌ على الاستئناف أي : فهو يُضاعِفُهُ ، والأولُ أحسنُ لعدَمِ الإِضمارِ .
والنصبُ من وجهين ، أحدُهما : أنه منصوبٌ بإضمارٍ « أَنْ » عطفاً على المصدر المفهومِ من « يقرضُ » في المعنى ، فيكونُ مصدراً معطوفاً على مصدرٍ تقديرُهُ : مَنْ ذا الذي يكونُ منه إقراضٌ فمضاعفةٌ من اللَّهِ ، كقوله :
1014 لَلُبْسُ عباءَةٍ وتَقرَّعيني ... أحبُّ إليَّ مِنْ لُبْسِ الشفوفِ
والثاني : أنه نصبٌ على جوابِ الاستفهامِ في المعنى ، لأنَّ الاستفهامِ وإنْ وَقَعَ عن المُقْرِضِ لفظاً فهو عن الإِقراضِ .

معنىً كأنه قال : أيقرضُ اللَّهَ أَحَدٌ فيضاعفَه .
قال أبو البقاء : « ولا يجوز أن يكونَ جوابَ الاستفهامِ على اللفظِ لأنَّ المُسْتَفْهَمَ عنه في اللفظِ المُقْرِضُ أي الفاعلُ للقرضِ ، لا عن القرضِ ، أي : الذي هو الفعلُ » وقد مَنَعَ بعضُ النحويين النصبَ بعد الفاء في جواب الاستفهام الواقعِ عن المسندِ إليه الحكمُ لا عن الحكمِ ، وهو مَحْجوجٌ بهذه الآيةِ وغيرِها ، كقوله : « مَنْ يستغفرُونِي فأغفرَ له ، مَنْ يدعوني فأستجيبَ له » بالنصبِ فيهما .
قال أبو البقاء : « فإنْ قيلَ : لِمَ لاَ يُعْطَفُ الفعلُ على المصدرِ/ الذي هو » قرضاً « كما يُعْطَفُ الفعلُ على المصدرِ بإضمار » أَنْ « مثلَ قولِ الشاعر :
1015 لَلُبْسُ عباءةٍ وتَقَرَّعَيْني ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قيل : هذا لا يَصِحُّ لوجهين ، أحدُهما : أنَّ » قرضاً « هنا مصدرٌ مؤكِّدٌ ، والمصدرُ المُؤَكِّدِ لا يُقَدَّرُ ب » أَنْ « والفعلِ . والثاني : أنَّ عَطْفَهُ عليه يُوجِبُ أن يكونَ معمولاً ليقرضُ ، ولا يَصِحُّ هذا في المعنى ، لأن المضاعفَةَ ليستُ مُقْرِضَةً ، وإنما هي فعلُ اللِّهِ تعالى ، وتعليلُه في الوجهِ الأولِ يُؤْذِنُ بأنه يَشْتَرِط في النصبِ أنْ يُعْطَفَ على مصدرٍ يتقدَّر ب » أَنْ « والفعلِ ، وهذا ليسَ بشرطٍ ، بل يجوزُ ذلك وإن كان الاسمُ المعطوفُ عليه غيرَ مصدرٍ كقوله :
1016 ولولا رجالٌ من رِزامٍ أَعِزَّةٍ ... وآلُ سبيعٍ أو أَسُوءَك عَلْقَما
ف » أسوءَك « منصوبٌ بأنْ عطفاً على » رجالٌ « فالوجهُ في مَنْعِ ذلك أنْ يُقال : لو عُطِفَ على » قرضاً « لشاركه في عاملِهِ وهو » يُقْرض « فيصيرُ التقديرُ : مَنْ ذا الذي يقرض مضاعفةً ، وهذا ليسَ صحيحاً معنىً .
وقد تقدَّم أنه قرىء » يُضاعِفُ « و » يُضَعِّفُ « فقيل : هما بمعنىً ، وتكونُ المفاعلَةُ بمعنى فَعَل المجرد ، نحو : عاقَبْت ، وقيل : بل هما مختلفان ، فقيل : إنَّ المضعَّفَ للتكثير . وقيل : إنَّ » يُضَعِّف « لِما جُعِلَ مثلين ، و » ضاعَفَه « لِما زيد عليه أكثرُ من ذلك .
والقَرْضُ : القَطْعُ ، ومنه : » المِقْراضُ « لِما يُقْطَع به ، وقيل للقَرْض » قرض « لأنه قَطْعُ شيءٍ من المالِ ، هذا أصلُ الاشتقاقِ ، ثم اختلف أهل العلم في » القَرْض « فقيل : هو اسمٌ لكلِّ ما يُلْتَمَسُ الجزاءُ عليه . وقيل : أن تُعْطِيَ شيئاً ليرجِعَ إليك مثلُهُ . وقال الزجاج : » هو البلاءُ حَسَناً كان أو سيئاً « .
قوله : { أَضْعَافاً } فيه ثلاثة أوجهٍ ، أظهرُها : أنه حالٌ من الهاء في » يضاعِفُ « وهل هذه حالٌ مؤكِّدَةٌ أو مبيِّنة ، الظاهرُ أنها مُبَيِّنَةٌ ، لأنَّها وإنْ كانَتْ من لفظِ العامِلِ ، إلاَّ أنَّها اختصَّتْ بوصفِها بشيءٍ آخرَ ، فَفُهِمَ منها ما لا يُفْهَمُ من عاملِها ، وهذا شأنُ المبيِّنة . والثاني : أنه مفعولٌ به على تضمين » يضاعِفُ « معنى يُصَيِّر ، أي : يُصَيِّره بالمضاعَفَةِ أضْعافاً .

والثالث : أنه منصوبٌ على المصدرِ .
قال الشيخ : « قيل : ويجوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ على المصدرِ باعتبار أَنْ يُطْلَقَ الضِّعْفُ - وهو المضاعَفُ أو المضعَّفُ - بمعنى المضاعفَة أو التضعيف ، كما أُطلِقَ العَطاء وهو اسمُ المُعْطَى بمعنى الإِعطاء . وجُمِعَ لاختلافِ جهاتِ التضعيفِ باعتبارِ اختلاف الأشخاصِ واختلاف المُقْرِضِ واختلافِ أنواعِ الجزاء » وسَبَقَه إلى هذا أبو البقاء ، وهذه عبارتُهُ ، وأنشد :
1017 أكفراً بعد ردِّ الموتِ عني ... وبعدَ عطائِكَ المئةَ الرِّتاعا
والأَضْعافُ جمع « ضِعْف » ، والضِّعْفُ مثل قَدْرَيْنِ متساويين . وقيل : مثلُ الشيء في المِقْدَارِ . ويقال : ضِعْفُ الشيء : مثلُهُ ثلاثَ مرات ، إلاَّ أنه إذا قيل « ضعفان » فقد يُطْلَقُ على الاثنين المِثْلَيْنِ في القَدْرِ من حيث إنَّ كلَّ واحدٍ يُضَعِّفُ الآخرَ ، كما يقال زَوْجان ، من حيث إنَّ كلاً منهما زوجٌ للآخر .
وقرأ أبو عمرو [ وابن عامر وحمزة وحفص وقنبل ] « وَيَبْسُطُ » بالسين على الأصلِ ، والباقون بالصادِ لأجل الطاء . وقد تقدَّم تحقيقُه في « الصراط » .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)

قوله تعالى : { مِن بني } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنه صلةٌ للملأ على مذهب الكوفيين ، لأنهم يَجْعِلون المعرَّفَ بأل موصولاً ويُنْشِدُون :
1018 لَعَمْرِي لأنتَ البيتُ أُكَرِمُ أهلَه ... وأَقْعُدُ في أفنائِهِ بالأصائِلِ
فالبيت موصولٌ ، فعلى هذا لا محلَّ لهذا الجارِّ من الإِعرابِ . والثاني : أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حال من الملأ ، و « مِنْ » للتبعيض ، أي : في حالِ كونِهم بعضَ بني إسرائيل .
والملأ : الأشْرافُ ، سُمُّوا بذلك لأنهم يَمْلَؤُون العيونَ هيبةً ، [ أو المجالسَ إذا حَضَروا ] ، أو لأنهم مَليئون بما يُحْتاج إليهم فيه . وقال الفراء : « الملأُ : [ الرجالُ في كلِّ القرآن ، وكذلك ] القومُ والرهطُ والنفرُ ، ويُجْمع على أَمْلاء ، قال :
1019 وقالَ لها الأملاءُ من كلِّ مَعْشَرٍ ... وخيرُ أقاويل الرجالِ سديدُها
وهو اسمُ جمعٍ لا واحدَ له من لفظه كالقومِ والرهطِ .
و { مِن بَعْدِ موسى } متعلِّقٌ بما تعلَّقَ به الجارُّ الأولُ وهو الاستقرار ، ولا يَضُرُّ اتحادُ الحرفينِ لفظاً لاختلافِهما معنىً ، فإنَّ الأولى للتبعيض والثانيةَ لابتداءِ الغايةِ . وقال أبو البقاء : » مِنْ بعدِ « متعلِّقٌ بالجار الأول ، أو بما تعلَّق به الأول » يعني بالأول : « من بني » ، وجعله عاملاً في « مِنْ بعد » لِما تضمَّنه من الاستقرار ، فلذلك نَسَبَ العملَ إليه ، وهذا على رأي بعضِهم ، يَنْسِبُ العمل للظرفِ والجارِّ الواقِعَيْن خبراً أو صفةً أو حالاً أو صلةً ، فتقول في نحو : « زيدٌ في الدار أبوه » أبوه : فاعلٌ بالجارِّ ، والتحقيقُ أنه فاعلٌ بالاستقرار الذي تعلَّق به الجارُّ ، وهو الوجهُ الثاني . وقَدَّر أبو البقاء مضافاً محذوفاً . تقديرُه : مِنْ بعدِ موتِ موسى ، ليصِحَّ المعنى بذلك .
قوله : { إِذْ قَالُواْ } العاملُ في هذا الظرفِ أجازوا فيه وجهين ، أحدُهما : أنه العاملُ في « مِنْ بعد » لأنَّه بدلٌ منه ، إذ هما زمانان ، قاله أبو البقاء والثاني : أنه « ألم تر » وكلاهما غيرُ صحيحٍ . أمَّا الأولُ فلوجهين . أحدُهما : من جهة اللفظِ ، والآخرُ : مِنْ جهةِ المعنى . فأمّا الذي من جهةِ اللفظِ فإنه على تقدير إعادة « مِنْ » و « إذ » لا تُجَرُّ ب « مِنْ » . الثاني : أنه ولو كانَتْ « إذ » من الظروف التي تُجَرُّ ب « من » كوقت وحين لم يَصِحَّ ذلك أيضاً ، لأنَّ العاملَ في « مِنْ بعد » محذوفٌ فإنه حالٌ تقديرُه : كائنين من بعد ، ولو قلت : كائن من حين قالوا لنبيٍّ لهم ابعثْ لنا ملكاً لم يَصِحَّ هذا المعنى . وأمَّا الثاني فلأنه تقدَّم أن معنى « ألم تر » تقريرٌ للنفي ، والمعنى : ألم ينته علمُك ، أو قد نَظَرْتَ إلى الملأ ، وليس انتهاءُ علمِه إليهم ولا نظرُه إليهم كان في وقتِ قولِهم ذلك ، وإذا لم تكنْ ظرفاً للانتهاءِ ولا للنظر فكيف تكونُ معمولاً لهما أو لأحدِهما؟
وإذ قد بَطَلَ هذان الوجهان فلا بُدَّ له من عاملٍ يَصِحُّ به المعنى وهو محذوفٌ ، تقديرُه : ألم تَر إلى قصة الملأ أو حديثِ الملأ أو ما في معناه؛ وذلك لأنَّ الذواتِ لا يُتَعَجَّبُ منها ، إنما يُتَعَجَّبُ من أحداثها ، فصار المعنى : ألم تَرَ إلى ما جرى للملأ من بني إسرائيل إلى آخرها ، فالعاملُ هو ذلك المجرورُ ، ولا يَصِحُّ إلا به لِما تَقدَّم .

قوله : { لِنَبِيٍّ } متعلِّقٌ ب « قالوا » ، فاللامُ فيه للتبليغ ، و « لهم » متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لنبي ، ومحلُّه الجرُّ ، و « ابعَثْ » وما في حَيِّزه في محلِّ نصبٍ بالقولِ . و « لنا » الظاهرُ أنه متعلِّقٌ بابعَثْ ، واللامُ للتعليلِ أي : لأجلِنا .
قوله : { نُّقَاتِلْ } الجمهورُ بالنونِ والجزمِ على جوابِ الأمر . وقرىء بالياء والجزمِ على ما تقدَّم ، وابنُ أبي عبلة بالياءِ ورفعِ اللامِ على الصفةِ لملكاً ، فمحلُّها النصبُ . وقُرىء بالنونِ ورفعِ اللام على أنها حالٌ من « لنا » فمحلُّها النصبُ أيضاً أي : ابعَثْه ، لنا مقدِّرين القتال ، أو على أنها استئنافُ جوابٍ لسؤالٍ مقدَّرٍ كأنه قال لهم : ما يَصْنعون بالملكِ؟ فقالوا نقاتِلْ .
قوله : { هَلْ عَسَيْتُمْ } عسى واسمُها ، وخبرُها { أَلاَّ تُقَاتِلُواْ } والشرطُ معترضٌ بينهما ، وجوابُه محذوفٌ للدلالة عليه ، وهذا كما توسَّط في قوله : { وَإِنَّآ إِن شَآءَ الله لَمُهْتَدُونَ } [ البقرة : 70 ] ، وهذا على رأي مَنْ يَجْعَلُ « عسى » داخلةً على المبتدأ والخبرِ ، ويقولُ إنَّ « أَنْ » زائدةٌ لئلا يُخْبَرَ بالمعنى عن العين . وأمّا مَنْ يرى أنّها تُضَمَّنُ معنى فعلٍ متعدٍ فيقولُ : « عَسَيْتم » فعلٌ وفاعلٌ ، و « أَنْ » وما بعدَها مفعولٌ به تقديرُه : هل قَارَبْتُم عدم القتالِ ، فهي عنده ليسَتْ من النواسخِ ، والأولُ هو المشهورُ .
وقرأ نافع « عَسِيْتُم » هنا وفي القتال : بكسرِ السينِ ، وهي لغةٌ مع تاءِ الفاعلِ مطلقاً/ ومع ن ، ومع نونِ الإناثِ نحو : عَسِينا وعَسِين ، وهي لغةُ الحجاز ، ولهذا غَلِطَ مَنْ قال : « عسى تُكْسَرُ مع المضمر » وأَطْلَقَ ، بل كان ينبغي له أن يُقَيِّدَ بما ذَكَرْتُ ، إذ لا يقال : الزيدان عَسِيا والزيدون عَسِيوا بالكسرِ البتة .
وقال الفارسي : « ووجهُ الكسرِ قولُ العربِ : » هو عَسٍ بكذا « مثلَ : حَرٍ وشَجٍ ، وقد جاء فَعَل وفَعِل في نحو : نَقَم ونَقِم ، فكذلك عَسَيْتُ وعَسِيْتُ ، فإنْ أُسْنِدَ الفعلُ إلى ظاهرٍ فقياسُ عَسِيتم - أي بالكسر - أن يقال : » عَسِيَ زيدٌ « مثل : » رَضِي زيدٌ « . فإن قيل فهو القياسُ ، وإنْ لم يُقَلْ فسائِغٌ أن يُؤْخَذَ باللغتين ، فتُسْتَعملَ إحداهما موضعَ الأخرى كما فُعِل ذلك في غيره » فظاهر هذه العبارة أنه يجوز كسرُ سينِها مع الظاهرِ بطريق القياسِ على المضمرِ ، وغيرُه من النحويين يمنعُ ذلك حتى مع المضمر مطلقاً ، ولكن لا يُلتفت إليه لورودِه متواتراً ، وظاهرُ قوله « قولُ العرب : عسىٍ » أنه مسموعٌ منهم اسمُ فاعلها ، وكذلك حكاه أبو البقاء أيضاً عن ابن الأعرابي ، وقد نَصَّ النحويون على أن « عسى » لا تتصرَّف .

واعلم أنَّ مدلولَ « عسى » إنشاءٌ لأنها للترجي أو للإِشفاق ، فعلى هذا : فكيف دَخَلَتْ عليها « هل » التي تقتضي الاستفهامَ؟ فالجوابُ أن الكلامَ محمولٌ على المعنى ، قال الزمخشري : « والمعنى : هل قارَبْتم ألاَّ تقاتلوا ، يعني : هل الأمرُ كما أتوقعه أنكم لا تقاتلون ، أراد أن يقولَ : عَسَيْتُم ألاَّ تقاتلوا ، بمعنى أتوقَّعُ جبنَكم عن القتالِ ، فأدخلَ » هل « مستفهماً عما هو متوقعٌ عنده ومَظْنونٌ ، وأرادَ بالاستفهام التقريرَ ، وثَبَتَ أنّ المتوقَّع كائنٌ وأنه صائبٌ في توقعه ، كقوله تعالى : { هَلْ أتى عَلَى الإنسان } [ الإنسان : 1 ] معناه التقريرُ » وهذا من أَحسنِ الكلامِ ، وأحسنُ مِنْ قول مَنْ زعم أنها خبرٌ لا إنشاءٌ ، مُسْتَدِلاً بدخولِ الاستفهام عليها ، وبوقوعِها خبراً لإنَّ في قوله :
1020 لا تُكْثِرَنْ إني عَسَيْتُ صائماً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهذا لا دليلَ فيه لأنه على إضمار القولِ كقوله :
1021 إنَّ الذين قَتَلْتُمْ أمسِ سيِّدَهمْ ... لا تَحْسَبُوا ليلَهم عن ليلكِم ناما
ولذلك لا توصلُ بها الموصولات خلافاً لهشام .
قوله : { وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ } هذه الواوُ رابطةٌ لهذا الكلام بما قبلَه ، ولو حُذِفَتْ لجازَ أن يكونَ منقطعاً مِمَّا قبله . و « ما » في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ ، ومعناها الاستفهامُ ، وهو استفهامُ إنكارٍ . و « لنا في محلِّ رفع خبر ل » ما « .
و » ألاَّ نقاتِلَ « فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أظهرُها : أنَّها على حذفِ حرفِ الجرِّ ، والتقديرُ : وما لَنا في ألاَّ نقاتل ، أي : في تركِ القتالِ ، ثم حُذِفَتْ » في « مع » أَنْ « فجرى فيها الخلافُ المشهورُ بين الخليل وسيبويه : أهي في محلِّ جر أم نصبٍ؟ وهذا الجارَّ يتعلَّقُ بنفسِ الجارِّ الذي هو » لنا « ، أو بما يتعلَّق هو به على حَسَبِ ما تقدَّم في { مِن بَعْدِ موسى } . والثاني : مذهبُ الأخفش أنَّ » أَنْ « زائدةٌ ، ولا يَضُرُّ عملُهَا مع زيادتِها ، كما لا يضرُّ ذلك في حروف الجرِ الزائدةِ ، وعلى هذا فالجملةُ المنفيَّة بعدَها في محلِّ نصبٍ على الحال ، كأنه قيل : ما لَنا غيرَ مقاتِلين ، كقولِه : { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } [ نوح : 13 ] { وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ } [ المائدة : 84 ] وقول العرب : » مالك قائماً « ، وقوله تعالى : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ } [ المدثر : 49 ] وهذا المذهبُ ضعيفٌ لأنَّ الأصلَ عدمُ الزيادة ، فلا يُصارُ إليها دون ضرورةٍ . والثالث : - وهو أضعفُها - مذهبُ الطبري أنَّ ثَمَّ واواً محذوفةً قبلَ قولِه : » أن لا نقاتلَ « . قال : » تقديرُه : وما لنا ولأن لا نقاتلَ ، كقولك : إياك أن تتكلَّمَ ، أي : إياك وأن تتكلم ، فَحُذِفَتْ الواوُ ، وهذا كما ترى ضعيفٌ جداً .

وأمَّا قولُه : « إنَّ قولَهم إياك أَنْ تتكلم على حذفِ الواوِ » فليس كما زعم ، بل « إياك » ضُمِّنتْ معنى الفعلِ المرادِ به التحذيرُ ، و « أَنْ تتكلمَ » في محلِّ نصبٍ به تقديره : احذَرْ التكلمَ .
قولُه : { وَقَدْ أُخْرِجْنَا } هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ ، والعاملُ فيها : « نقاتلُ » ، أنكروا ترك القتال وقد التبسوا بهذه الحالِ . وهذه قراءةُ الجمهورِ ، أعني بناء الفعلِ للمفعولِ . وقرأ عمرو بن عبيد : « أَخْرَجَنا » على البناء للفاعل . وفيه وَجْهان ، أحدُهما : أنه ضميرُ اللهِ تعالى ، أي : وقد أَخرَجَنا الله بذنوبنا . والثاني : أنه ضميرُ العدوّ .
« وأبنائنا » عَطْفٌ على « ديارنا » أي : ومن أبنائِنا ، فلا بُدَّ من حذفِ مضافٍ تقديرُه : « من بين أبنائِنا » كذا قدَّره أبو البقاء . وقيل : إنَّ هذا على القلبِ ، والأصلُ : وقد أُخْرِجَ أبناؤنا منا ، ولا حاجةَ إلى هذا .
قوله : { إِلاَّ قَلِيلاً } نصبٌ على الاستثناء المتصلِ من فاعل « تَوَلَّوا » والمستثنى لا يكونُ مبهماً ، لو قلت : « قام القومُ إلا رجالاً » لم يَصِحَّ ، وإنما صَحَّ هذا لأنَّ « قليلاً » في الحقيقةِ صفةٌ لمحذوفٍ ، ولأنه قد تَخَصَّص بوصفِه بقولِه : « منهم » ، فَقَرُبَ من الاختصاصِ بذلك .
وقرأ أُبَي : « إلاَّ أن يكونَ قليلٌ منهم » وهو استثناءٌ منقطعٌ ، لأنَّ الكونَ معنىً من المعاني والمستثنى منه جُثَتٌ . وهذه المسألةُ/ تحتاجُ إلى إيضاحها لكثرة ِفائدتِها . وذلك أنّ العربَ تقول : « قام القومُ إلا أَنْ يكونَ زيدٌ وزيداً » بالرفع والنصبِ ، فالرفعُ على جَعْلِ « كان » تامةً ، و « زيدٌ » فاعلٌ ، والنصبُ على جَعْلَهَا ناقصةً ، و « زيداً » خبرُها واسمُها ضميرُ عائدٌ على البعض المفهومِ من قوةِ الكلامِ ، والتقديرُ : قام القوم إلا أَنْ يكونَ هو - أي بعضُهم - زيداً ، والمعنى : قام القوم إلا كونَ زيدٍ في القائمين ، وإذا انتفى كونُه قائماً انتفى قيامُهُ . فلا فرقَ من حيث المعنى بين العبارتين ، أعني « قام القوم إلا زيداً » و « قاموا إلا أن يكون زيداً » ، إلا أن الأولَ استثناءٌ متصلٌ ، والثاني منقطعٌ لِما تقدَّم تقريرُه .

وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)

قوله تعالى : { طَالُوتَ مَلِكاً } : « مَلِكاً » حال من « طالوت » فالعاملُ في الحالِ « بَعَثَ » . و « طالوتُ » فيه قولان ، أظهرهُما : أنه اسمٌ أعجميٌّ فلذلك لم ينصَرِفْ للعلتين ، أعني العلمية والعجمة الشخصيةَ . والثاني : أنه مشتقٌ من الطُول ، ووزنه فَعَلوت كرَهَبوت ورَحَموت ، وأصلُه طَوَلُوت ، فقُلِبت الواوُ ألفاً لتحركها وانفتاحِ ما قبلها ، وكأنَّ الحاملَ لهذا القائلِ بهذا القولِ ما روي في القصةِ أنه كان أطولَ رجلٍ في زمانه ، إلا أنَّ هذا القولَ مردودٌ بأنه لو كان مشتقاً من الطول لكان ينبغي أن ينصرفَ ، إذ ليس فيه إلا العلميةُ . وقد أجابوا عن هذا بأنه وإن لم يكن أعجمياً ولكنه شبيه بالأعجمي ، من حيث إنه ليس في أبنية العرب ما هو على هذه الصيغة ، وهذا كما قالوا في حَمْدُون وسراويل ويعقوب وإسحق عند مَنْ جعلهما مِنْ سَحَقَ وعَقِب وقد تقدمَ .
قوله : { أنى يَكُونُ لَهُ الملك } « أنَّى » فيه وجهان ، أحدُهما : أنها بمعنى كيف ، وهذا هو الصحيحُ . والثاني : أنها بمعنى مِنْ أين ، أجازه أبو البقاء ، وليس المعنى عليه . ومحلُّها النصبُ على الحالِ ، وسيأتي الكلام في عامِلها ما هو؟ و « يكون » فيها وجهان ، أحدُهما : أنها تامةٌ ، و « الملك » فاعلٌ بها و « له » متعلقٌ بها ، و « علينا » متعلقٌ بالملك ، تقول : « فلان مَلَك على بني فلان أمرَهم » فتتعدى هذه المادةُ ب « على » ، ويجوز أن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حالٌ من « المُلْك » ، و « يكون » هي العاملةُ في « أنَّى » ، ولا يجوز أن يعملَ فيها أحدُ الظرفين ، أعني « له » و « علينا » لأنه عاملٌ معنوي والعاملُ المعنوي لا تتقدَّمُ عليه الحالُ على المشهور . والثاني : أنها ناقصةٌ و « له » الخبر « ، و » علينا « متعلقٌ : إمَّا بما تعلَّق به هذا الخبرُ ، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ من » المُلك « كما تقدَّم ، والعاملُ في هذه الحالِ » يكون « عند مَنْ يُجيز في » كان « الناقصةِ أن تعملَ في الظرفِ وشبهِه ، وإمَّا بنفس المُلْك كما تقدَّم تقريرُه ، والعاملُ في » أنَّى « ما تعلَّق به الخبرُ أيضاً ، ويجوز أن يكونَ » علينا « هو الخبر ، و » له « نصبٌ على الحال ، والعاملُ فيه الاستقرارُ المتعلِّقُُ به الخبرُ ، كما تقدم تقريره ، أو » يكون « عند مَنْ يُجيز ذلك في الناقصة . ولم أرَ مَنْ جَوَّز أن تكونَ » أنى « في محلِّ نصب خبراً ل » يكون « بمعنى » كيف يكون الملك علينا له « ولو قِيل به لم يمتنع معنىً ولا صناعةً .

قوله : { وَنَحْنُ أَحَقُّ } جملةٌ حاليةٌ ، و « بالمُلْك » و « منه » كلاهما متعلقٌ ب « أحقُّ » . { وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً } هذه الجملةُ الفعليةُ عطفٌ على الاسمية قبلها ، فهي في محلِّ نصب على الحالِ ، ودخلت الواوُ على المضارعِ لكونه منفياً و « سعةً » مفعولٌ ثانٍ ليُؤْتَ ، والأولُ قَام مقامَ الفاعلِ .
و « سَعَةً » وزنُها « عَلَة » بحذفِ الفاءِ وأصلُها « وُسْعَة » وإنما حُذِفَتِ الفاءُ في المصدر حَمْلاً على المضارع ، وإنما حُذِفَتْ في المضارع لوقوعِها بين ياءٍ - وهي حرفُ المضارعة - وكسرةٍ مقدرة ، وذلك أنَّ « وَسِع » مثلُ « وَثِق » ، فحقُّ مضارعهِ أن يجيء على يَفْعِل بكسرِ العين ، وإنما مَنَعَ ذلك في « يَسَع » كونُ لامهِ حرف حلقٍ فَفُتِحَ عينُ مضارعهِ لذلك ، وإنْ كان أصلُها الكسرَ ، فَمِنْ ثَمَّ قلنا : بين ياءٍ وكسرةٍ مقدرةٍ ، والدليلُ على ذلك أنهم قالوا : وَجِلَ يَوْجَل فلم يَحْذفوها لمَّا كانت الفتحةُ أصليةً غير عَارِضةً ، بخلاف فتحة « يَسَع » و « يَهَب » وبابِهما .
فإن قيل : قد رأيناهم يَحْذِفُون هذه الواو وإنْ لم تَقَعْ بين ياءٍ وكسرةٍ ، وذلك إذا كان حرفُ المضارعةِ همزة نحو : « أَعِدُ » أو تاءً نحو : « تَعِد » أو نوناً نحو : « نَعِد » ، وكذلك في الأمرِ والمصدر نحو : « عِدْ عِدة حسنةً » فالجوابُ أنَّ ذلك بالحَمْلِ على المضارع مع الياءَ طَرْداً لِلْبَاب ، كما تقدَّم لنا في حذفِ همزةِ أَفْعَلَ إذا صار مضارعاً لأجلِ همزةِ المتكلمِ ثم حُمِل باقي البابِ عليه .
وفُتِحَتْ سينُ « السَّعة » لَمَّا فُتِحَتْ في المضارعِ لأجل حرفِ الحلقِ ، كما كُسِرت عينُ « عِدة » لَمَّا كُسِرَت في « يَعِد » إلا أنه يُشْكِلُ على هذا : وَهَبَ يَهَبُ هِبة ، فإنهم كَسَروا الهاء في المصدرِ وإنْ كانت مفتوحةً في المضارعِ لأجْلِ أنَّ العينَ حرفُ حلقٍ ، فلا فرقَ بين « يَهَب » و « يَسَع » في كونِ الفتحةِ عارضةً والكسرةِ مقدرةً ، ومع ذلك فالهاء مكسورةٌ في « هِبة » ، وكان مِنْ حَقِّها الفتحُ لفتحِها في المضارع ك « سَعَة » .
و « من المال » فيه وجهان ، أحدُهما : أنه متعلقٌ بيُؤْتَ . والثاني : أنه متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لسَعَة ، أي : سَعَةً كائنةً من المالِ .
قوله : { فِي العلم } فيه وجهان ، أحدُهما : أنه متعلِّقٌ ب « بَسْطَة » كقولِك : « بَسَطْتُ له في كذا » . والثاني : أنه متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ ل « بَسْطَة » أي : بَسْطَة مستقرةً أو كائنة .
و « واسعٌ » فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه على النسبِ أي : ذو سَعَةِ رحمةٍ ، كقولهم : لابن وتامر أي : صاحبُ تمرٍ ولبنٍ . والثاني : أنه جاءَ على حذفِ الزوائدِ من أَوْسَع ، وأصلُه مُوْسِع . وهذه العبارةُ إنما يتداولُها النحويون في المصادرِ فيقولون : مصدر/ على حذفِ الزوائدِ . والثالث : أنه اسمُ فاعلٍ من « وَسِع » ثلاثياً . قال أبو البقاء : فالتقديرُ على هذا : واسعُ الحلم ، لأنك تقول وَسِعَ حلمُه « .

وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)

قوله تعالى : { أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت } : « أَنْ » وما في حَيِّزها في محلِّ رفعٍ خبراً ل « إنَّ » ، تقديرُه : إنَّ علامَة مُلْكِه إيتاؤُكم التابوت .
وفي « التابوتِ » قولان ، أحدُهما : أنه فاعولٌ ، ولا يُعْرَفُ له اشتقاقٌ ، وَمَنَع قائلُ هذا أن يكون وَزْنُه فَعَلُوتاً مشتقاً من تابَ يَتوبُ كَمَلَكوت من المُلْكِ ورهَبوت من الرُّهْبِ ، قال : لأنَّ المعنى لا يساعِدُ على ذلك . والقول الثاني : أن وزنَه فَعَلوت كمَلَكوت ، وجَعَلَه مشتقاً من التَّوْب وهو الرجوعُ ، وجَعَلَ معناه صحيحاً فيه ، لأنَّ التابوتَ هو الصندوقُ الذي توضع فيه الأشياءُ فيَرجع إليه صاحبُه عند احتياجِه إليه ، فقد جعلنا فيه معنى الرجوعِ .
والمشهورُ أن يوقَفَ على تائِه بتاءٍ من غير إبدالِها هاءً لأنها : إمَّا أصلٌ إنْ كان وزنُه فاعولاً ، وإمَّا زائدةٌ لغيرِ التأنيثِ كمَلَكوت ، ومنهم مَنْ يَقْلِبها هاءً ، وقد قُرِىء بها شاذاً ، قرأها أُبيّ وزيد بن ثابت وهي لغةُ الأنصار ، ويحكى أنهم لمَّا كَتَبوا المصاحفَ زمنَ عثمانَ رضي الله عنه اختلفوا فيه فقالَ زيد : « بالهاء » ، وقال [ أُبَيّ : ] « بالتاء » ، فجاؤوا عثمان فقال : « اكتبوه على لغةِ قريش » يعني بالتاء .
وهذه الهاءُ هل هي أصلٌ بنفسِها فيكونُ فيه لغتان ، ووزنُه على هذا فاعول ليس إلا ، أو بَدَلٌ من التاءِ لأنها قريبةٌ منها لاجتماعهما في الهَمْسِ ، أو إجراءً لها مُجْرى تاءِ التأنيث؟ فقال الزمخشري : « فإنْ قلت : ما وزنُ التابوت؟ قلت : لا يَخْلو أَنْ يكونَ فَعَلوتا أو فاعولا ، فلا يكون فاعولا لقلةِ نحو سَلِسٌ وقَلِقٌ » ، يعني أنَّ اتِّحاد الفاءِ واللامِ في اللفظِ قليلٌ جداً . « ولأنه تركيبٌ غيرُ معروفٍ » يعني في الأوزان العربية ، ولا يجوز تَركُ المعروفِ [ إليه ] فهو إذاً فَعَلوت من التوبِ وهو الرجوعُ ، لأنه ظرفٌ تُودَعُ فيه الأشياءُ فَيُرْجَعُ إليه كلَّ وقتٍ .
وأَمَّا مَنْ قرأ بالهاءِ فهو فاعول عندَه ، إلاَّ مَنْ يَجْعَلُ هاءَه بدلاً من التاءِ لاجتماعِهِما في الهَمْسِ ، ولأنهما من حروفِ الزيادة ، ولذلك أُبْدِلَتْ منه تاءِ التَّأنِيثِ .
قوله : { فِيهِ سَكِينَةٌ } يجوز أن يكونَ « فيه » وحدَه حالاً من التابوت ، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ ، ويرتفعُ « سكينة » بالفاعلية ، والعاملُ فيه الاستقرارُ والحالُ هنا من قبيلِ المفردات ، ويجوزُ أن يكونَ « فيه » خبراً مقدماً . و « سكينةٌ » مبتدأ مؤخراً ، والجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال ، والحالُ هنا من قبيلِ الجملِ . و « سكينةٌ » فعيلة من السكون ، وهو الوقارُ . وقرأ أبو السَّمَّال بتشديدِ الكافِ ، قال الزمخشري : « وهو غريبٌ » .
قوله : { مِّن رَّبِّكُمْ } يجوز أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل « سكينة » ، ومحلُّه الرفعُ .

ويجوز أن يتعلَّق بما تعلَّق به « فيه » من الاستقرار . و « مِنْ » يجوز أن تكونَ لابتداءِ الغايةِ وأَنْ تكونَ للتبعيضِ . وثَمَّ مضافٌ محذوفٌ أي : من سكيناتِ ربكم .
و « بَقِيَّة » وزنها فَعِيلة والأصلُ : بَقِيْيَة بياءين ، الأولى زائدةٌ والثانيةُ لامُ الكلمةِ ، ثم أُدْغِمَ ، ولا يُسْتَدَلُّ على أنَّ لامَ « بَقِيَّة » ياءٌ بقولهِم : « بَقِيَ » في الماضي ، لأنَّ الواوَ إذا انكسَرَ ما قبلَهَا قُلِبَت ياءً ، ألا ترى أنَّ « رَضِي » و « شَقِيَ » أصلهما من الواوِ : الشِّقْوَة والرِّضوان .
و « مِمَّا تَرَك » في محلِّ رفعٍ لأنه صفةٌ ل « بَقَيَّة » فيتعلَّقُ بمحذوفٍ أي : بقيةٌ كائنةٌ . و « مِنْ » للتبعيضِ ، أي : من بَقِيَّاتِ ربكم ، و « ما » موصولةٌ اسميةٌ ، ولا تكونُ نكرةً ولا مصدريةً .
و « آل » تقدَّم الكلامُ فيه ، وقيل : هو هنا زائدٌ كقولِهِ :
1022 بثينةُ من آلِ النساءِ وإنَّما ... يَكُنَّ لوصلٍ لا وصالَ لغائِبِ
يريدُ بُثَيْنَةُ من النساء . قال الزمخشري : « ويجوزُ أن يريدَ : مِمَّا تَرَكَ موسى وهارون ، والآلُ مقحمٌ لتفخيم شأنِهِما ، أي زائدٌ للتعظيمِ . واستشكل الشيخ كيفية إفادةِ التفخيمِ بزيادةِ الآل . و » هارون « أعجمي . قيل : لم يَرِدْ في شيءٍ من لغةِ العربِ ، قاله الراغب ، أي : لم تَرِدْ مادُتُه في لُغَتِهِم .
قوله : { تَحْمِلُهُ الملائكة } هذه الجملةُ تحتملُ أن يكونَ لها محلٌّ من الإِعرابِ على أنها حالٌ من التابوتِ أي : محمولاً للملائكةِ وألاَّ يكونَ لها محلٌّ لأنها مستأنفةٌ ، إذ هي جوابُ سؤالٍ مقدَّرٍ كأنه قيل : كيف يأتي؟ فقيل : تَحْمِلُهُ الملائكةُ .
وقرأ مجاهد » يَحْمِلُه « بالياء من أسفلَ ، لأنَّ الفعلَ مُسْنَدٌ لجمعِ تكسيرٍ فيجوزُ في فِعْلِهِ الوجهان . و » ذلك « مشارٌ به قيل : إلى التابوت . وقيل : إلى إتيانه ، وهو الأحسنُ لتناسِبَ آخرُ الآيةِ أولَها . و » إنْ « الأظهَرُ فيها أنها على بابها من كونِها شرطيةً وجوابُها محذوفٌ . وقيل : هي بمعنى » إذ « .

فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)

قوله تعالى : { فَصَلَ } : أي : انفصلَ ، فلذلك كان قاصراً . وقيل : إنَّ أصلَه التَّعدِّي إلى مفعولٍ ولكنه حُذِفَ ، والتقديرُ : فَصَلَ نفسَه ثم كَثُرَ حَذْفُ هذا المفعولِ حتى صار الفعلُ كالقاصِرِ .
و « بالجنودِ » متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه حالٌ من « طالوت » أي : مصاحباً لهم . وبين جملةِ قولِهِ « فلمَّا فَصَلَ » وبين ما قبلَها من الجملِ جملةٌ محذوفةٌ يَدُلُّ عليها فحوى الكلامِ وقوتُه ، تقديرُهُ : فجاءَهم التابوت ، فَمَلَكُوا طالوتَ وتأهَّبوا للخروجِ وهي كقولِهِ : { فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق } [ يوسف : 45-46 ] .
والجمهورُ على قراءةِ « بنهَر » بفتح الهاء وهي اللغةُ الفصيحةُ ، وفيه لغةً أخرى : تسكينُ الهاء ، وبها قرأ مجاهد وأبو السَّمَّال في جميع القرآنِ ، وقد تقدَّم ذلك واشتقاقُ هذه/ اللفظة عند قولِهِ تعالى : { مِن تَحْتِهَا الأنهار } [ البقرة : 25 ] .
وأصلُ الياء في « مُبْتَلِيكُمْ » واوٌ لأنه من بَلاَ يَبْلُوا أي : اختبَرَ ، وإنَّما قُلِبَتْ لانكسارِ ما قبلَها .
وقوله : { فَلَيْسَ مِنِّي } أي : من أشياعي وأصحابي ، و « من » للتبعيضِ ، كأنه يجعلُ أصحابَه بعضَه ، ومثلُه قولُ النابغة :
1023 إذا حاوَلْتَ في أسدٍ فُجوراً ... فإني لَسْتُ منكَ ولَسْتَ مِنِّي
ومعنى يَطْعَمْهُ : يَذُقْهُ ، تقولُ العربُ : « طَعِمْتُ الشيءَ » أي : ذُقْتُ طَعْمَهُ قال :
1024 فإنْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النساءَ سِواكُمُ ... وإنْ شئتِ لم أَطْعَمْ نُقاخاً ولا بَرْدا
قوله : { إِلاَّ مَنِ اغترف } منصوبٌ على الاستثناء ، وفي المستثنى منه وجهان ، الصحيحُ أنه الجملة الأولى وهي : « فَمَنْ شَرِبَ منه فليس مني » ، والجملة الثانيةُ معترِضَةٌ بين المستثنى والمستثنَى منه ، وأصلُها التأخيرُ ، وإنَّما قُدِّمَتْ لأنها تَدُلُّ عليها الأولى بطريقِ المفهومِ ، فإنَّه لَمَّا قال تعالى : { فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي } فُهِمَ منه أنَّ مَنْ لم يَشربْ فإنَّه منه ، فلمَّا كانَتْ مدلولاً عليها بالمفهومِ صارَ الفصلُ بها كَلا فصل . وقال الزمخشري : « والجملةُ الثانية في حكم المتأخرةِ ، إلاَّ أنها قُدِّمَتْ للعنايةِ ، كما قُدِّمَ » والصابئون « في قولِهِ : { إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئون } [ المائدة : 69 ] .
والثاني : أنه مستثنى من الجملةِ الثانيةِ ، وإليه ذهب أبو البقاء . وهذا غيرُ سديدٍ لأنه يؤدِّي إلى أن المعنى : ومَنْ لم يَطْعَمْه فإنه مني إلاَّ مَنِ اغتَرَف بيدِهِ فإنه ليس مني ، لأنَّ الاستثناءَ من النفي إثباتٌ ، ومن الإِثباتِ نفيٌ ، كما هو الصحيحُ ، ولكن هذا فاسدٌ في المعنى لأنهم مفسوحٌ لهم في الاغترافِ غَرفةً واحدةً .
والاستثناء إذا تعقَّبَ الجملَ وصَلَحَ عَوْدُهُ على كلٍّ منها هل يختصُّ بالأخيرة أم لا؟ خلافٌ مشهورٌ ، فإنْ دَلَّ دليلٌ على اختصاصِهِ بإحدى الجملِ عمِلَ به ، والآيةُ من هذا القبيلِ ، فإنَّ المعْنى يعود إلى عَوْدِه إلى الجملَةِ الأولى لا الثانيةِ لِمَا ذكرْتُ لك .
وقرأ الحَرَمِيَّان وأبو عمرو : » غَرفة « بفتحِ الغين والباقون بضمها .

فقيل : هما بمعنى المصدرِ ، إلاَّ أنهما جاءا على غيرِ الصدر كنبات من أَنْبَتَ ، ولو جاءَ على الصدرِ لقيل : اغترافاً . وقيل : هما بمعنى المُغْتَرَفِ كالأكل بمعنى المأكول . وقيل : المفتوحُ مصدرٌ قُصِدَ به الدلالة على الوَحْدَةِ فإنَّ « فَعْلَة » يدلُّ على المَرَّة ، والمضِمُومُ بمعنى المفعول ، فحيث جعلتهما مصدراً فالمفعولُ محذوفٌ ، تقديرُهُ : إلاَّ من اغترف ماءً ، وحيث جعلَتهما بمعنى المفعولِ كانا مفعولاً به ، فلا يُحتاج إلى تقديرِ مفعولٍ .
ونُقِلَ عن أبي عليّ أنه كان يُرَجِّح قراءة الضم لأنه في قراءةِ الفتح يَجْعلها مصدراً ، والمصدرُ لا يوافق الفعلَ في بنائِهِ ، إنما جاء على حَذْفِ الزوائد وجَعْلُها بمعنى المفعول لا يُحْوِج إلى ذلك فكانَ أرجَح .
قوله : { بِيَدِهِ } يجوزُ أن يتعلَّق ب « اغَتَرف » وهو الظاهِرُ . ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه نعتٌ ل « غُرْفة » ، وهذا على قولِنا بأن « غُرفة » ، بمعنى المفعولِ أظهرُ منه على قولِنَا بأنها مصدرٌ ، فإنَّ الظاهرَ من الباءِ على هذا أَنْ تكونَ ظرفيةً ، أي غُرفةً كائنةً في يدهِ .
قوله : { إِلاَّ قَلِيلاً } هذه القراءةُ المشهورةُ ، وقرأ عبدُ الله وأُبَيّ « إلا قليلٌ » ، وتأويلُهُ أنَّ هذا الكلامَ وإن كان موجباً لفظاً فهو منفيٌّ معنىً ، فإنه في قوةِ : لم يُطيعوه إلا قليلٌ منهم ، فلذلك جَعَلَهُ تابعاً لِمَا قبله في الإِعراب . قال الزمخشري : « وهذا مِنْ مَيْلِهم مع المعنى والإِعراضِ عن اللفظِ جانباً ، وهو بابٌ جليلٌ من علمِ العربيةِ ، فلمَّا كان معنى » فَشَرِبُوا منه « في معنى » فلم يُطيعوه « حَمَل عليه ، ونحوُه قولُ الفرزدق : » لم يَدَعْ من المالِ إلا مُسْحَتاً أو مُجَلَّفُ « يشير إلى قولِهِ :
1025 وَعَضُّ زمانٍ يابنَ مروانَ لم يَدَعْ ... من المالِ إلا مُسْحَتاً أو مُجَلَّفُ
فإنَّ معنى » لم يَدَعْ من المالِ إلا مُسْحَتاً « لم يَبْقَ من المال إلا مُسْحَتٌ ، فلذلك عَطَفَ عليه » مُجَلَّفُ « بالرفعِ مراعاةً للمعنى الذي ذكرْتُهُ لك . وفي البيت وجهان آخران ، أحدُهما . . . .
ولا بُدَّ من التعرُّضِ لهذه المسألةِ لعمومِ فائدِتهَا فأقولُ : إذا وَقَع في كلامِهِم استثناءٌ موجَبٌ نحو : » قام القومُ إلا زيداً « فالمشهورُ وجوبُ النصبِ على الاستثناءِ . وقال بعضُهم : يجوزُ أن يَتْبَعَ ما بعدَ » إلا « ما قبلَها في الإِعراب فتقول : » مررت بالقومِ إلا زيدٍ « بجرّ » زيد « ، واختلفوا في تابِعِيَّةِ هذا ، فعبارةُ بعضِهم أنه نعتٌ لما قبلَه ، ويقولُ : إنه يُنْعَتُ بإلاَّ وما بعدَها مطلقاً سواءً كان متبوعُها معرفةً أم نكرةً مضمراً أم ظاهراً ، وهذا خارجٌ عن قياس باب النعتِ لِما قَد عَرَفْتَ فيما تقدَّم . ومنهم مَنْ قال : لا يُنْعَتُ بها إلا نكرةً أو معرفةً بأل الجنسيةِ لقربِها من النكرةِ .

ومنهم مَنْ قال : قَوْلُ النَّحْوِيين هنا نعتٌ إنما يَعْنُون به عطفَ البيانِ . ومن مجيءِ الإِتباعِ بما بعد « إلاَّ » قولُهُ :
1026 وكلُّ أَخٍ مفارقُه أخوه ... لَعَمْرُ أبيكَ إلا الفرقدانِ
قولُهُ : { جَاوَزَهُ هُوَ والذين آمَنُواْ } « هو » ضميرٌ مرفوعٌ منفصلٌ مؤكِّدٌ للضميرِ المستكنِّ في « جاوَزَ » .
وقوله : { والذين } يَحْتَمِلُ وجهين ، أظهرُهُما : أنه عطفٌ على الضميرِ المستكنِّ في « جاوَزَ » لوجودِ الشرطِ ، وهو توكيدُ المعطوفِ عليه بالضمير المنفصلِ . والثاني : أن تكونَ الواوُ للحالِ ، قالوا : ويَلْزَمُ من الحالِ أن يكونوا جاوزوا معه ، وهذا القائلُ يجعلُ « الذين » مبتدأ والخبرَ « قالوا : لا طاقة » فصارَ المعنى : « فلمَّا جاوزه والحالُ أنَّ الذين آمنوا قالوا هذه المقالة » والمعنى ليس عليه .
ويجوز إدغامُ هاء « جاوزه » في هاء « هو » ، ولا يُعْتَدُّ بفصلِ صلةِ الهاءِ لأنها ضعيفةٌ ، وإنْ كان بعضُهم استضعَفَ/ الإِدغامَ ، قال : إلا أَنْ تُخْتَلَس الهاءُ « يعني فلا يبقى فاصلٌ . وهي قراءةُ أبي عمرو . وأَدْغَمَ أيضاً واوَ » هو « في واو العطف بخلافٍ عنه ، فوجهُ الإِدغام ظاهرٌ لالتقاء مِثْلين بشروطِهِما . ومَنْ أظهر وهو ابنُ مجاهد وأصحابُهُ قال : » لأنَّ الواو إذا أُدْغِمَت سَكَنَتْ ، وإذا سَكَنَت صَدَقَ عليها أنها واوٌ ساكنة قبلَها ضمة ، فصارَتْ نظيرَ : « آمنوا وكانوا » فكما لا يُدْغم ذاك لا يدغم هذا « . وهذه العلةُ فاسدةٌ لوجهين ، أحدُهما : أنها [ ما ] صارَتْ مثلَ » آمنوا وكانوا « إلا بعد الإِدغام ، فكيف يُقال ذلك؟ وأيضاً فإنهم أدغموا : { يَأْتِيَ يَوْمٌ } [ البقرة : 254 ] وهو نظيرُ : { فِي يَوْمٍ } [ إبراهيم : 18 ] و { الذى يُوَسْوِسُ } [ الناس : 4 ] بعينِ ما عَلَّلوا به .
وشرطُ هذا الإِدغام في هذا الحرفِ عند أبي عمرو ضمُّ الهاءِ كهذه الآيةِ ، ومثله { هُوَ والملائكة } [ آل عمران : 18 ] { هُوَ وَجُنُودُهُ } [ القصص : 39 ] ، فلو سَكَنَتِ الهاءُ امتنع الإِدغامُ نحو : { وهو وليُّهم } [ الأنعام : 127 ] ولو جرى فيه الخلاف أيضاً لم يكن بعيداً ، فله أُسوة بقوله : { خُذِ العفو وَأْمُرْ } [ الأعراف : 199 ] بل أَوْلى لأن سكونَ هذا عارضٌ بخلافِ : { العفو وَأْمُرْ } .
قوله : { لاَ طَاقَةَ لَنَا } » لنا « هو خبرٌ » لا « فيتعلَّقُ بمحذوفٍ . ولا يجوز أن يتعلَّقَ بطاقة ، وكذلك ما بعدَه من قولِهِ » اليوم « و » بجالوت « لأنه حينئذٍ يَصير مُطَوَّلاً ، والمُطوَّلُ ينصبُ منوناً ، وهذا كما تراه مبنياً على الفتح ، بل » اليوم « و » بجالوت « متعلِّقان بالاستقرارِ الذي تعلَّق به » لنا « .
وأجاز أبو البقاء أن يكونَ » بجالوت « هو خبرَ » لا « ، و » لنا « حينئذٍ : إما تبيينٌ أو متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لطاقة .
والطاقَةُ : القدرةُ وعينُها واو ، لأنها من الطَّوْق وهو القدرةُ ، وهي مصدرٌ على حذفِ الزوائِد ، فإنَّها من » أَطَاق « ونظيرُها : أجاب جابةً ، وأغار غارةً ، وأطاع طاعةً .

و « جالوت » اسمٌ أعجميٌّ ممنوعُ الصرفِ ، لا اشتقاقَ له ، وليس هو فَعَلوتا من جال يَجُول كما تقدَّم في طالوت ، ومثلُهما داود .
قوله : { كَم مِّن فِئَةٍ } « كم » خبريةٌ فإنَّ معناها التكثيرُ ، ويدل على ذلك قراءة أُبَيّ : « وكائن » وهي للتكثير ومحلُّها الرفعُ بالابتداء و « من فئةٍ » تمييزُها ، و « مِنْ » زائدةٌ فيه . وأكثرُ ما يجيء مميِّزها ومميِّز « كائن » مجروراً بمِنْ ، ولهذا جاء التنزيلُ على ذلك ، وقد تُحْذَفُ « مِنْ » فَيُجَرُّ مميِّزها بالإِضافة لا بمِنْ مقدرةً على الصحيح ، وقد يُنْصَبُ حَمْلاً على مميِّز « كم » . الاستفهامية ، كما أنه قد يُجَرُّ الاستفهاميةِ حمْلاً عليها وذلك بشروط مذكورةٍ في النحو . ومِنْ مجيءِ مميِّز « كائن » منصوباً قولُ الشاعر :
1027 اطرُدِ اليأسَ بالرجاءِ فكائِنْ ... آلماً حُمَّ يُسْرُهُ بعدَ عُسْرِ
وأجازوا أن يكون « من فئةٍ » في محلِّ رفعٍ صفةً ل « كم » فيتعلَّقَ بمحذوفٍ . و « غَلَبَت » هذه الجملةُ هي خبرُ « كم » والتقديرُ : كثيرٌ من الفئاتِ القليلةِ غالبةٌ الفئاتِ الكثيرةَ .
وفي « فئة » قولان أحدُهما : أنها من فاء يَفِيء أي : رَجَعَ فَحُذِفَتْ عينُها ووزنُها فِلَة . والثاني : أنها من فَأْوَتُّ رأسَه ي : كسرتُه ، فحُذِفَت لامُها ووزنُها فِعَة كمئة ، إلاَّ أنَّ لامَ مئة ياءٌ ولامَ هذه واوٌ ، ومعناها على كلٍّ من الاشتقاقين صحيحٌ ، فإنَّ الجماعَةَ من الناس يَرْجِعُ بعضُهم إلى بعضٍ ، وهم أيضاً قطعةٌ من الناسِ كقِطَعِ الرأسِ الكسَّرة .
قوله : { بِإِذْنِ الله } فيه وجهان ، أظهرُهما : أنه حالٌ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، والتقدير : ملتبسين بتيسيرِ الله لهم . والثاني : أنَّ الباءَ للتعدية ومجرورُها مفعولٌ به في المعنى ، ولهذا قال أبو البقاء : « وإنْ شِئْتَ جَعَلْتَها مفعولاً به » .
وقوله : { والله مَعَ الصابرين } مبتدأٌ وخبرٌ ، وتَحْتَمِل وجهين ، أحدُهما : أن يكونَ محلُّها النصبَ على أنها من مقولهم . والثاني : أنها لا محلَّ لها من الإِعراب ، على أنها استئنافٌ أَخْبَرَ اللَّهُ تعالى بها .

وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250)

قوله تعالى : { بَرَزُواْ لِجَالُوتَ } : في هذه اللام وجهان ، أحدُهما : أنَّها تتعلَّق ببرزوا ، والثاني : أنها تتعلَّقُ بمحذوفٍ على أنها ومجرورَها حالٌ من فاعلِ « بَرَزوا » قال أبو البقاء : « ويجوزُ أن تكونَ حالاً أي : برزوا قاصدين لجالوتَ » . ومعنى برزوا صاروا إلى بَراز من الأرض ، وهو ما انكشَفَ منها واستوى ، ومنه المُبَارَزَةُ في الحَرْبِ لظهورِ كلِّ قِرْن لصاحبهِ . وفي ندائِهِم بقولِهم : « رَبَّنا » اعترافٌ منهم بالعبودية وطلبٌ لإِصلاحهم لأنَّ لفظة « الرب » تُشْعر بذلك دونَ غيرها ، وأتوا بلفظِ « على » في قولهم : « أَفْرِغ علينا » طلباً لأنْ يكونَ الصبرُ مستعلياً عليهم وشاملاً لهم كالظرفِ .

فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)

قوله تعالى : { وَالهَزْمُ } : أصلُه الكَسْر ، ومنه « سِقاء مُتَهَزِّم » و « قَصَبٌ متهزِّمٌ » أي متكسِّر . قوله : « بإذنِ الله » فيه الوجهانِ المتقدِّمان أعني كونَه حالاً أو مفعولاً به . و « مِمَّا يشاء » فاعلٌ « يشاء » ضميرُ الله تعالى . وقيل : ضميرُ داود والاولُ أظهرُ .
قوله : { وَلَوْلاَ دَفْعُ } قرأ نافع هنا ، وفي الحج : « دِفاع » والباقون : « دَفْع » . فأمَّا « دَفْع » فمصدر دَفَعَ يَدْفَع ثلاثياً . وأمَّا « دفاع » فيحتمل وجهين : أحدُهما : أن يكونَ مصدر دَفَعَ الثلاثي أيضاً نحو : كَتَب كِتاباً ، وأن يكونَ مصدرَ « دافع » نحو : قاتل قِتالاً ، قال أبو ذؤيب :
1028 ولقد حَرَصْتُ بأَنْ أدافعَ عنهُم ... فإذا المَنِيَّةُ أَقْبَلَتْ لا تُدْفَعُ
و « فاعَل » هنا بمعنى فَعَل المجرد فتتَّحد القراءتان في المعنى .
ومَنْ قرأ « دفاع » وقرأ في الحج { يُدَافِعُ عَنِ الذين آمنوا } [ الآية : 38 ] وهو نافع ، أو قرأ « دَفْع » وقرأ « يَدْفَع » - وهما أبو عمرو وابن كثير - فقد وافق أصلَه ، فجاء بالمصدرِ على وَفْقِ الفعل . وأمَّا من قرأ هنا « دَفْع » وفي الحج « يُدافِع » وهم الباقون فقد جَمَعَ بين اللغتين ، فاستعمل الفعلَ من الرباعي والمصدرَ من الثلاثي . والمصدرُ هنا مضافٌ لفاعِله وهو الله تعالى ، و « الناسَ » مفعول أول ، و « بعضهم » بدلٌ من « الناسِ » بدلٌ بعضٍ مِنْ كُلٍّ .
و « ببعضٍ » متعلِّقٌ بالمصدرِ ، والباءُ للتعديةِ ، فمجرورُها المفعولُ الثاني في المعنى ، والباءُ إنما تكون للتعديةِ في اللازمِ نحو : « ذَهَبَ به » فأمّا المتعدِّي لواحدٍ فإنما يتعدَّى بالهمزة تقول : « طَعِمَ زيدٌ اللحم وأَطْعَمْتُه اللحم » / ولا تقول : « طَعِمْته باللحم » فتعدِّيه إلى الثاني بالباءِ إلاَّ فيما شَذَّ قياساً وهو « دَفَع » و « صَكَّ » ، نحو : صَكَكْتُ الحجرَ بالحجرِ أي : جَعَلْتُ أحدَهما يَصُكُّ الآخر ، ولذلك قالوا : صَكَكْتُ الحجرَيْنِ أحدَهما بالآخر .
قوله : { ولكن الله } وجهُ الاستدراكِ أنه لَمَّا قسَّم الناسَ إلى مدفوعٍ ومدفوعٍ به ، وأنه بهذا الدفعِ امتنع فسادُ الأرض فقد يَهْجِسُ في نفسِ مَنْ غُلِب عمّا يريدُ من الفساد أنَّ الله غيرُ متفضِّلٍ عليه حيث لم يُبْلِغه مقاصده وطلبه ، فاستدرك عليه أنَّه وإن لم يَبْلُغْ مقاصده أنَّ الله متفضلٌ عليه ومُحْسِنٌ إليه لأنه مندرجٌ تحت العالمين ، وما مِنْ أحدٍ ألا ولله عليه فضلٌ وله فضلُ الاختراعِ والإِيجادِ .
و « على » يتعلَّق ب « فَضْل » ، لأنَّ فعلَه يتعدَّى بها ، وربما حُذِفَتْ مع الفعلِ . قال - فَجَمع بين الحذف والإِثبات - :
1029 وجَدْنا نَهْشَلاً فَضَلَتْ فُقَيْماً ... كفَضْلِ ابنِ المَخاض على الفَصيلِ
أمّا إذا ضُعِّف فإنه لا تُحْذَفُ « على » أصلاً كقولِه : { فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } [ البقرة : 253 ] ، ويجوزُ ان تتعلَّقٌ « على » بمحذوفٍ لوقوعِها صفةً لفَضْل .

تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)

قوله تعالى : { تِلْكَ آيَاتُ الله } : مبتدأٌ وخبرٌ ، و « نَتْلوها » فيه قولان ، أحدُهما : أن تكونَ حالاً ، والعاملُ فيها معنى الإِشارة . والثاني أن تكونَ مستأنفةً فلا محلَّ لها . ويجوزُ غيرُ ذلك ، وأَخْذُه مِمّا مضى سَهْلٌ وأُشير إليها إشارةُ البعيدِ لِما تقدَّم في قولِه : { ذَلِكَ الكتاب } [ البقرة : 2 ] . قوله : « بالحقِّ » يجوزُ فيه أن يكونَ حالاً من مفعولِ « نَتْلوها » أي : ملتبسةً بالحق ، أو مِنْ فاعِله؛ أي : نَتْلوها ومعنا الحقُّ ، أو من مجرورِ « عليك » أي : ملتبساً بالحق .

تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)

قوله تعالى : { فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ } : يجوزُ أن يكونَ حالاً من المشارِ إليه ، والعاملُ معنى الإِشارةِ كما تقدَّم ، ويجوزُ أن يكونَ مستأنفاً ، ويجوزُ أن يكونَ خيرَ « تلك » على أن يكونَ « الرسلُ » نعتاً ل « تلك » أو عطفَ بيانٍ أو بدلاً .
قوله : { مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله } هذه الجملةُ تحتملُ وجهين ، أحدهما : أن تكونَ لا محلَّ لها من الإِعراب لاستئنافِها . والثاني : أنها بدلٌ من جملةِ قوله « فَضَّلْنا » والجمهورُ على رفعِ الجلالة على أنه فاعلٌ ، والمفعولُ محذوفٌ وهو عائدُ الموصولِ أي : مَنْ كَلَّمه الله . وقُرِىء بالنصبِ على أنَّ الفاعلَ ضميرٌ مستترٌ وهو عائدٌ الموصولِ أيضاً ، والجلالةُ نَصْبٌ على التعظيمِ .
وقرأ أبو المتوكل وابن السَّمَيْفَع : « كالَمَ اللهَ » على وزن فاعَلَ ونصبِ الجلالة ، و « كليم » على هذا معنى مكالِم نحو : جَلِيس بمعنى مُجالِس ، وخليط بمعنى مخالط . وفي هذا الكلامِ التفاتٌ لأنه خروجٌ من ضميرِ المتكلمِ المعظِّم نفسَه في قوله : « فَضَّلْنا » إلى الاسمِ الظاهرِ الذي هو في حكمِ الغائبِ .
قوله : { دَرَجَاتٍ } في نصبِه ستةُ أوجهٍ ، أحدها أنه مصدرٌ واقعٌ موقع الحالِ . الثاني : انه حالٌ على حذفِ مضافٍ ، أي : ذوي درجاتٍ . الثالث : أنه مفعول ثان ل « رفع » على أنه ضُمِّنَ معنى بلَّغ بعضهم درجات . الرابع أنه بدلُ اشتمالٍ أي : رَفَع درجاتٍ بعضَهم ، والمعنى : على درجاتِ بعض . الخامس : أنه مصدرٌ على معنى الفعل لا لفظِه ، لأن الدرجةَ بمعنى الرَّفْعة ، فكأنه قيل : ورَفَع بعضَهم رَفعاتٍ . السادس : أنه على إسقاطِ الخافضِ ، وذلك الخافضُ يَحْتمل أن يكونَ « على » أو « في » أو « إلى » تقديرُه : على درجاتٍ أو في درجاتٍ أو إلى درجاتٍ ، فلمَّا حُذِفَ حرفُ الجر انتصَبَ ما بعده .
قوله : { وَلَوْ شَآءَ الله } مفعولُه محذوفٌ ، فقيل : تقديرُه : أَنْ لا تختلفوا وقيل : أَنْ لا تفشلوا ، وقيل : أَنْ لا تُؤمروا بالقتال ، وقيل : أَنْ يضطرَّهم إلى الإِيمانِ ، وكلُّها متقاربة .
و « مِنْ بعدِهم » متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه صلةٌ ، والضميرُ يعودُ على الرسل . و { مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ } فيه قولان ، أحدُهما : أنه بدلٌ من قولِه : « مِنْ بعدِهم » بإعادةِ العاملِ . والثاني : أنه متعلقٌ باقتتل ، إذ في البينات - وهي الدلالاتُ الواضحةُ - ما يُغْنِي عن التقاتلِ والاختلافِ . والضميرُ في « جاءتهم » يعودُ على الذين مِنْ بعدِهم ، وهم أممُ الأنبياء .
قوله : { ولكن اختلفوا } وجهُ هذا الاستدراكِ واضحٌ ، فإنَّ « لكن » واقعةٌ بين ضدين ، إذ المعنى : ولو شاءَ اللهُ الاتفاقَ لاتفقوا ولكنْ شاءَ الاختلافَ فاختلفوا . وقال أبو البقاء : « لكنْ » استدراكٌ لما دَلَّ الكلامُ عليه ، لأنَّ اقتتالهم كان لاختلافهم ، ثم بيَّن الاختلاف بقوله : { فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ } فلا محلَّ حينئذٍ لقولِه : { فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ } .

وقوله : { وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتلوا } فيه قولان ، أحدُهما : أنها الجملةُ الأولى كُرِّرت تأكيداً قاله الزمخشري . والثاني : أنها ليست لتأكيدِ الأولى ، بل أفادَتْ فائدةٌ جديدةً ، والمغايَرةُ حَصَلَتْ بتغايرِ متعلَّقهما ، فإنَّ متعلَّقَ الأولى مغايرٌ لمتعلَّق المشيئةِ الثانيةِ ، والتقديرُ في الأولى : « ولو شاءَ الله أن يَحُولَ بينهم وبين القتال بأن يَسْلُبَهم القِوى والعقول ، وفي الثاني : ولو شاءَ لم يأمرِ المؤمنين بالقتال ، ولكن شاءَ أَمَرهم بذلك . وقوله : { ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } هذا استدراكٌ أيضاً على المعنى ، لأنَّ المعنى : ولو شاءَ الله لمنعَهم [ من ذلك ] ، ولكنَّ اللهَ يفعل ما يريدُ مِنْ عدمِ منعِهم من ذلك أو يفعلُ ما يريدُ من اختلافِهم .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)

قوله تعالى : { أَنْفِقُواْ } : مفعولُه محذوفٌ ، تقديرُه : شيئاً ممَّا رزقناكم فعلى هذا « ممَّا رزقناكم » متعلقٌ بمحذوفٍ في الأصل لوقوعِه صفةٌ لذلك المفعولِ ، وإنْ لم تقدِّرْ مفعولاً محذوفاً فتكونُ متعلقةً بنفسِ الفعلِ .
و « ما » يجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى الذي ، والعائدُ محذوفٌ أي : رزقناكُموه ، وأن تكونَ مصدريةً فلا حاجةَ إلى عائدٍ ، ولكن الرزقَ المرادَ به المصدرُ لا يُنفقُ ، فالمراد به اسمُ المفعول ، وأن تكونَ نكرةً موصوفةً وقد تقدَّم تحقيقُ هذا عند قولِه : { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [ البقرة : 3 ] .
قوله : { مِّن قَبْلِ } متعلقٌ أيضاً بأنفِقوا ، وجاز تعلُّقُ حرفين بلفظٍ واحدٍ بفعلٍ واحدٍ لاختلافِهما معنىً؛ فإنَّ الأولى للتبعيضِ والثانيةَ لابتداءِ الغايةِ ، و « أَنْ يأتي » في محلِّ جرٍ بإضافة « قبل » إليه أي : من قبلِ إتيانه .
وقوله : { لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ } إلى آخره : الجملةُ المنفيَّةُ صفةٌ ل « يوم » فمحلُّها الرفعُ . وقرأ/ « بَيْعٌ » وما بعدَه مرفوعاً منوناً نافع والكوفيون وابن عامر ، وبالفتح أبو عمرو وابن كثير ، وتوجيهُ ذلك ، مذكورٌ في قوله : { فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ } [ البقرة : 197 ] فليُنْظر ثَمَّةَ .
والخُلَّة : الصداقة كأنها تتخلَّل الأعضاء ، أي : تدخل خلالها ، أي وَسْطَها .
والخُلَّة : الصديقُ نفسه ، قال :
1030 وكان لها في سالفِ الدهرِ خُلَّةً ... يُسارِقُ بالطَّرْفِ الخِباءَ المُسَتَّرا
وكأنه من إطلاقِ المصدرِ على العينِ مبالغةً ، أو على حذفِ مضافٍ ، أي : كان لها ذو خُلَّة . والخليلُ : الصديقُ لمداخَلَتِه إياك ، ويَصْلُح أَنْ يكونَ بمعنى فاعل أو مفعول ، وجَمْعُه « خُلاَّن » ، وفُعْلان جمعُ فَعيل نُقِل في الصفات ، وإنما يَكْثرُ في الجوامِدِ نحو : « رُغفانٍ . وقوله : » هم الظالمون « يجوز أن يكونَ » هم « فصلاً أو مبتدأً وما بعده خبرٌ ، والجملةُ خبرُ الأولِ .

اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)

قوله تعالى : { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ [ الحي ] } : مبتدأٌ وخبرٌ . و « الحيّ » فيه سبعةُ أوجه ، أحدُها : أن يكونَ خبراً ثانياً للجلالة . الثاني : أن يكونَ خبراً لمبتدأ محذوف أي : هو الحيُّ . الثالث : أن يكونَ بدلاً من قوله : « لا إله إلا الله هو » فيكونَ في المعنى خبراً للجلالةِ ، وهذا في المعنى كالأولِ ، إلا أنه هنا لم يُخْبَرْ عن الجلالةِ إلاَّ بخبرٍ واحدٍ بخلافِ الأول . الرابع : أن يكونَ بدلاً من « هو » وحدَه ، وهذا يبقى من بابِ إقامةِ الظاهرُ مُقامَ المضمرِ ، لأنَّ جملةَ النفي خبرٌ عن الجلالةِ ، وإذا جعلتَه بدلاً حَلَّ محَلَّ الأولِ فيصيرُ التقدير : الله لا إله إلا اللهُ . الخامس : أن يكون مبتدأً وخبرُه { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ } . السادس : أنه بدلٌ من « الله » السابع : أنه صفة لله ، وهو أجودُها ، لأنه قرىء بنصبِهما « الحيَّ القيومَ » على القطع ، والقطعُ إنما هو في باب النعتِ ، لا يقال في هذا الوجهِ الفصلُ بين الصفة والموصوفِ بالخبرِ ، لأنَّ ذلك جائزٌ حسن [ تقول : زيدٌ قائمٌ العاقلُ ] .
و « الحيُّ » فيه قولان ، أحدهما : أن أصله حَيْيٌ بياءين من حَيي يَحْيَا فهو حيٌّ ، وهذا واضح ، وإليه ذهب أبو البقاء . والثاني : أن أصلَه حَيْوٌ فلامه واو ، فَقُلِبت الواوُ ياءً لانكسارِ ما قبلها متطرفةً ، وهذا لا حاجةَ إليه وكأنَّ الذي أَحْوجَ هذا القائلَ إلى ادِّعاء ذلك أنَّ كونَ العينِ واللامِ من وادٍ واحد هو قليلٌ في كلامِهم بالنسبةِ إلى عَدَمِ ذلك فيه ، ولذلك كتبوا « الحياة » بواوٍ في رسم المصحف العزيز تنبيهاً على هذا الأصلِ ، ويؤيده « الحيوان » لظهورِ الواو فيه . ولناصِر القول الأول أن يقول : قلبت الياءُ الثانيةُ واواً تخفيفاً ، لأنه لمّا زيد في آخره ألفٌ ونونٌ استثُقْل المِثْلان .
وفي وزنه أيضاً قولان ، أحدُهما : أنه فَعْل ، والثاني : أنه فَيْعِل فَخُفِّف ، كما قالوا مَيْت وهَيْن ، والأصل : هَيّن ومَيّت .
والقَيُّوم : فَيْعُول من قام بالأمر يَقُوم به إذا دَبَّره ، قال أمية :
1031 لم تُخْلَقِ السماءُ والنجومُ ... والشمسُ معها قَمَر يَعُومُ
قَدَّره مهيمنٌ قَيُّومُ ... والحشرُ والجنةُ والنعيمُ
إلا لأمرٍ شأنُه عظيمُ ... وأصلُه قَيْوُوم ، فاجتمعت الياءُ والواوُ وسَبَقَت إحداهما بالسكون فَقُلِبت الواوُ ياءً وأُدغمت فيها الياءُ فصارَ قَيُّوماً .
وقرأ ابن مسعود والأعمش : « القَيَّام » ، وقرأ علقمة : « القَيِّم » وهذا كما يقولون : دَيُّور وديار ودَيِّر . ولا يجوز أن يكونَ وزنُه فَعُّولاً ك « سَفُّود » إذ لو كان كذلك لكان لفظُه قَوُّوما ، لأن العينَ المضاعَفَةَ أبداً من جنس الأصلية كسُبُّوح وقُدُّوس وضَرَّاب وقَتَّال ، فالزائدُ من جنسِ العَيْنِ ، فلمَّا جاء بالياء دونَ الواوِ علمنا أن أصله فَيْعُول لا فَعُّول؛ وعدَّ بعضُهم فَيْعُولاً من صيغ المبالغة كضَرُوب وضَرَّاب .

قوله : { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ } في هذه الجملةِ خمسةُ أوجه ، أحدُها : أنها في محلِّ رفعٍ خبراً للحيّ كما تقدَّم في أحدِ أوجهِ رفعٍ الحيّ . الثاني : أنها خبرٌ عن الله تعالى عند مَنْ يُجيز تعدُّد الخبرِ . الثالث : أنها في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الضمير المستكنِّ في « القَيُّوم » كأنه قيل : يقوم بأمر الخلق غيرَ غافلٍ ، قاله أبو البقاء . الرابع : أنها استئنافٌ إخبارٍ ، أخبر تعالى عن ذاتِه القديمة بذلك . الخامس : أنها تأكيدٌ للقَيُّوم لأن مَنْ جاز عليه ذلك استحالَ أن يكونَ قَيُّوماً ، قاله الزمخشري ، فعلى قولِه إنها تأكيدٌ يجوز أن يكونَ محلُّها النصبَ على الحالِ المؤكدة ، ويجوز أن تكونَ استئنافاً وفيها معنى التأكيدِ فتصيرُ الأوْجُه أربعةً .
والسِّنَةُ : النُّعاس ، وهو ما يتقدَّم النومَ من الفتور ، قال عديّ بن الرقاع :
1032 وَسْنانُ أَقْصَدَه النُّعاسُ فَرَنَّقَتْ ... في عينِه سِنَةٌ وليس بنائمِ
وهي مصدرُ وَسَن يَسِنُ مثلَ : وَعَد يَعِد ، وقد تقدَّم علةُ الحذفِ عند قوله { سَعَةً مِّنَ المال } [ البقرة : 247 ] . وقال ابن زيد : « الوَسْنان : الذي يقوم من النوم وهو لا يعقل ، حتى إنه ربما جرَّد السيف على أهله » وهذا القولُ ليس بشيءٍ لأنه لا يُفْهَمُ من لغةِ العرب ذلك . وقال المفضَّل : « السِّنَةُ : ثِقَلٌ في الرأسِ ، والنعاسُ في العينين ، والنومُ في القلب » .
وكررت « لا » في قوله : « ولا نومٌ » تأكيداً ، وفائدتها انتفاءُ كلِّ واحدٍ منهما ، ولو لم تُذْكَرْ لاحتُمِلَ نفيُهما بقيدِ الاجتماعِ ، ولا يَلْزَمُ منه نفيُ كلِ واحدٍ منهما على حِدَته ، ولذلك تقول : « ما قامَ زيدٌ وعمروٌ بل أحدُهما » ، ولو قلت : « ما قامَ زيدٌ ولا عمرو بل أحدُهما » لم يَصِحَّ ، والمعنى : لا يَغْفَلُ عن شيءٍ دقيقٍ ولا جليلٍ ، فعبَّر بذلك عن الغفلةِ ، لأنه سببها ، فَأَطْلَقَ اسمَ السببِ على مُسَبَّبه .
قوله : { لَّهُ مَا فِي السماوات } هي كالتي قبلها إلاَّ في كونِها تأكيداً و « ما » للشمولِ . واللامُ في « له » للمِلْك ، وكرَّر « ما » تأكيداً ، وذَكَر هنا المظروفَ دون الظرفِ لأنَّ المقصودَ نفيُ الإلهية عن غيرِ الله تعالى ، وأنه لا ينبغي أَنْ يُعْبد إلا هو ، لأنَّ ما عُبِد من دونِه في السماء كالشمس والقمر والنجوم أو في الأرض كالأصنامِ وبعضِ بني آدم ، فكلُّهم مِلْكُه تعالى تحتَ قهرِه ، واستغنى عن ذِكْر أنَّ السماواتِ والأرضَ مِلْكٌ له بذكرِه/ قبل ذلك أنه خالقُ السماوات والأرض .
قوله : { مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ } كقوله : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ } [ البقرة : 245 ] و « مَنْ » وإن كان لفظُها استفهاماً فمعناه النفيُ ، ولذلك دَخَلتْ « إلا » في قولِه « إلاّ بإذنه » .
و « عنده » فيه وجهان ، أحدُهما : أنه متعلِّقٌ بيَشْفَع .

والثاني : أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ لكونِه [ حالاً ] من الضمير في « يَشْفع » أي يَشْفَعُ مستقراً عنده ، وقوي هذا الوجهُ بأنه إذا لم يَشْفَعُ عنده مَنْ هو عنده وقريبٌ منه فشفاعةُ غيرِه أبعدُ . وضَعَّفَ بعضُهم الحالِيَّة بأنَّ المعنى : يَشْفَع إليه .
و « إلاَّ بإذنه » متعلقٌ بمحذوفٍ ، لأنه حالٌ من فاعلِ « يَشْفَع » فهو استثناءٌ مفرَّغ ، والباءُ للمصاحبةِ ، والمعنى : لا أحدَ يشفعُ عندَه إلاَّ مأذوناً له منه ، ويجوزُ أن يكونَ مفعولاً به أي : بإذنه يَشْفعون كما تقول : « ضَرَب بسيفه » أي هو آلةٌ للضربِ ، والباءُ للتعديةِ .
و « يَعْلَمُ » هذه الجملةُ يجوز أن تكونَ خبراً لأحدِ المبتدأين المتقدمين أو استئنافاً أو حالاً . والضميرُ في « أيديهم » و « خلفهم » يعودُ على « ما » في قوله : { لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } إنه غَلَّبَ مَنْ يعقِلُ على غيرِه . وقيل : يعودُ على العُقَلاء ممَّن تضمَّنه لفظُ « ما » دونَ غيرِهم . وقيل : يعودُ على ما دَلَّ عليه « مَنْ ذا » من الملائكةِ والأنبياء . وقيل : من الملائكة خاصةً .
قوله : { بِشَيْءٍ } متعلِّقٌ بيحيطون . والعلمُ هنا بمعنى المَعْلوم لأنَّ عِلْمَه تعالى الذي هو صفةٌ قائمةٌ بذاتِه المقدَّسة لا يتبعَّضُ ، ومِنْ وقوعِ العلم موقعَ المعلوم قولُهم : « اللهم اغفر لنا عِلْمَك فينا » وحديثُ موسى والخَضِر عليهما السلام « ما نَقَص عِلْمي وعلمُك من عِلمه إلاَّ كما نَقَص هذا العصفورُ من هذا البحر » ولكونِ العلمِ بمعنى المعلومَ صَحَّ دخولُ التبعيضِ ، والاستثناءُ عليه . و « مِنْ علمه » يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بيحيطون ، وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لشيء ، فيكونَ في محلَّ جر . و « بما شاءَ » متعلِّقٌ بيُحيطون أيضاً ، ولا يَضُرُّ تعلُّقُ هذين الحرفين المتَّحدين لفظاً ومعنىً بعاملٍ واحدٍ؛ لأنَّ الثاني ومجروره بدلان من الأوَّلَيْن بإعادةِ العاملِ بطريقِ الاستثناءِ ، كقولك : « ما مررت بأحدٍ إلا بزيدٍ » ومفعولُ « شاء » محذوفٌ تقديرُه : إلا بما شاء أن يُحيطوا به ، وإنما قَدَّرتُه كذلك لدلالةِ قوله : { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ } .
قوله : { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ } الجمهورُ على « وَسِعَ » بفتح الواوِ وكسرِ السينِ وفتحِ العينِ فعلاً ماضياً .
و « كرسيُّه » بالرفع على أنه فاعلُه ، وقُرىء « وَسْعَ » سَكَّن عينَ الفعلِ تخفيفاً نحو : عَلْمَ في عَلِمَ . وقرىء أيضاً : « وَسْعُ كرسيِّه » بفتح الواو وسكونِ السين ورفعِ العين على الابتداء ، « كرسيِّه » خفضٌ بالإِضافة ، « السماواتُ » رفعاً على أنه خبرٌ للمبتدأ .
والكُرْسِيُّ الياءُ فيه لغير النسب واشتقاقُه من الكِرْس وهو الجمع ، ومنه الكُرَّاسة للصحائف الجامعةِ للعلمِ ، ومنه قولُ العجاج :
1033 يا صاحِ هل تَعْرِفُ رسماً مُكْرَساً ... قال نَعَمْ أعرِفُه وأَبْلَسا
وجمعه كَرَاسيّ كبُخْتيّ وبَخَاتيّ ، وفيه لغتان : المشهورةُ ضمُّ كافِه ، والثانيةُ كسرُها ، وكأنه كسرُ إتباع ، وقد يُعَبَّر به عن المَلِك لجلوسه عليه تسميةُ للحالِّ باسم المَحَلِّ ، ومنه :

1034 قد عَلِمَ القُدُّوسُ مَوْلى القُدْسِ ... أنَّ أبا العباسِ أَوْلِى نَفْسِ
في مَعْدِنِ المَلِكِ القديمِ الكُرْسي ... وعن العلمِ تسميةً للصفةِ باسمِ مكانِ صاحبِها ، ومنه قيل للعلماء : « الكَراسيّ » قال :
1035 يَحُفُّ بهم بيضُ الوجوه وعُصْبَةٌ ... كراسِيُّ بالأحداثِ حين تَنُوبُ
وَصَفَهم بأنهم عالمونَ بحوادثِ الأمورِ ونوازِلِها ويُعَبَّرُ به عن السِّرِّ قال :
1036 مالي بأَمْرِكَ كُرْسِيٌّ أُكاتِمُهُ ... ولا بِكُرْسِيِّ - عَلْمَ اللَّهُ - مَخْلُوقِ
وقيل : الكُرْسيُّ لكل شيء أصلُه .
قوله : { وَلاَ يَؤُودُهُ } يقال : آدَه كذا أي : أَثْقله ولَحِقه منه مَشَقَّةٌ ، قال :
1037 ألا ما لسَلْمَى اليومَ بَتَّ جَدِيدُها ... وَضَنَّتْ وما كانُ النَّوالُ يَؤُودُها
أي : يُثْقِلها ، ومنه المَوْءُوْدَة للبنت تُدْفَنُ حيةً ، لأنهم يثقلونها بالتراب . وقُرىء « يَوْدُه » بحذفِ الهمزة ، كما تُحذف همزة « أناس » ، وقرىء « يَوُوده » بإبدال الهمزة واواً .
و « حِفْظ » مصدرٌ مضافٌ لمفعولِهِ ، أي لا يَؤُوْده أَنْ يحفظَهما .
و « العليّ » أصلُه : عَلِيْوٌ فأُدْغم نحو : مَيِّت ، لأنه من علا يعلو ، قال :
1038 فَلَمَّا عَلَوْنَا واستَوَيْنَا عليهِمُ ... تَرَكْنَاهُمُ صَرْعَى لنسرٍ وكاسِرِ
و العظيمُ « تقدَّم معناها ، وقيل : هو هنا بمعنى المُعَظَّم كما قالوا : » عتيق « بمعنى مُعَتَّق قال :
1039 فكأنَّ الخمرَ العتيقَ من الإِسْ ... فَنْطِ ممزوجةً بماءٍ زُلالِ
قيل : وأُنْكِرَ ذلك لانتفاء هذا الوصفِ قبل الخَلْقِ وبعد فنائِهم ، إذ لا مُعَظَّم له حينئذٍ ، وهذا فاسدٌ لأنه مستحقٌ هذا الوصفَ . وقيل في الجواب عنه : إنه صفة فعلٍ كالخَلْق والرِّزْق ، والأولُ أصحُّ .
قال الزمخشري : » فإنْ قلت : كيف تَرَتَّبَتِ الجملُ في آيةِ الكرسي غير حرفِ عطفٍ؟ قلت : ما منها جملةٌ إلا وهي واردةٌ على سبيل البيانِ لما تَرَتَّبَتْ عليه ، والبيانُ مُتَّحِدٌ بالمُبَيَّن ، فلو توسَّط بينهما عاطفٌ لكان كما تقول العرب : « بين العصا ولِحائها » فالأُولى بيانٌ لقيامِهِ بتدبيرِ الخَلْق وكونِهِ مهيمناً عليه غيرَ ساهِ عنه ، والثانيةُ لكونِهِ مالكاً لما يدبِّره ، والثالثة لكبرياء شأنه ، والرابعة لإِحاطته بأحوال الخلق وعِلْمِه بالمرتضى منهم ، المستوجِب للشفاعةِ وغير المُرْتَضَى ، والخامسةُ لسَعَةِ علمه وتعلُّقِهِ بالمعلوماتِ كلِّها أو لجلالِهِ وعِظَم قدرتِهِ « انتهى . يعني غالبَ الجملِ وإلاَّ فبعضُ الجملِ فيها معطوفة وهي قولُهُ : » ولا يُحيطُونَ « وقولُهُ » ولا يَؤُودُه « وقولُه : { وَهُوَ العلي العظيم } .

لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)

قوله تعالى : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين } : كقولِهِ : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } [ البقرة : 2 ] وقد تقدَّم . والجمهور على إدغام دالِ « قد » في تاءِ « تَبَيَّن » لأنها من مَخْرَجِها . ومعنى الإِكراه نسبتُهم إلى كراهةِ الإِسلام . قال الزجاجُ : « لا تَنْسُبوا إلى الكراهةِ مَنْ أسلم مُكْرَهاً » . يقال : « أَكْفَره » نَسَبَه إلى الكفرِ ، قال :
1040 وطائفةٌ قد أَكْفروني بحبِّهم ... وطائفةٌ قالوا مسيءٌ ومُذْنِبُ
[ وأل في « الدين » للعهدِ ، وقيل : عِوَضٌ من الإِضافة أي « في دين الله » ] .
والرُّشْدُ : مصدرُ رَشَدَ بفتح العين يَرْشُد بضمها . وقرأ الحسن « الرُّشُد » [ بضمتين كالعُنُق ، فيجوز أن يكونَ هذا أصلَه ، ويجوزُ أَنْ يكونَ إتباعاً ، وهي مسألةُ خلافٍ أعني ضَمَّ عينِ الفعلِ . وقرأ أبو عبد الرحمن ] الرَّشَد بفتح الفاء والعينِ ، وهو مصدرُ رشِد بكسرِ العينِ يَرْشَد بفتحها ، ورُوي عن أبي عبد الرحمن أيضاً : « الرَّشادُ » بالألف .
/قوله { مِنَ الغي } متعلِّقٌ بتبيَّن ، و « مِنْ » للفصلِ والتمييزِ كقولك : مَيَّزتُ هذا من ذاك . وقال أبو البقاء : « في موضعِ نصبٍ على أنه مفعولٌ » وليس بظاهرٍ لأنَّ معنى كونِهِ مفعولاً به غيرُ لائقٍ بهذا المحلِّ . ولا محلَّ لهذه الجملةِ من الإِعرابِ ، لأنها استئنافٌ جارٍ مجرى التعليلِ لعدَمِ الإِكراه في الدين . والغَيُّ : مصدرُ غَوَى بفتح العين قال : { فغوى } [ طه : 121 ] ، ويقال : « غَوَى الفصيلُ » إذا بَشِمَ وإذا جاع أيضاً ، فهو من الأضداد . وأصلُ الغَيّ : « غَوْيٌ » فاجتمعت الياء والواو ، فَأُدْغِمَتْ نحو : مَيّت وبابِهِ .
قوله : { بالطاغوت } متعلِّقٌ ب « يكْفر » ، والطاغوتُ بناء مبالغةٍ كالجَبَروت والملَكوت . واختُلِفَ واختُلِفَ فيه ، فقيل : هو مصدرٌ في الأصلِ ولذلك يُوَحَّد ويُذَكَّر ، كسائرِ المصادرِ الواقعةِ على الأَعْيَان ، وهذا مذهبُ الفارسي ، وقيل : هو اسمُ جنسٍ مفردٍ ، فلذلك لَزِمَ الإِفرادَ والتذكيرَ ، وهذا مذهبُ سيبويه . وقيل هو جمعٌ ، وهذا مذهبُ المبردِ ، وهو مؤنثٌ بدليلِ قوله تعالى : { والذين اجتنبوا الطاغوت أَن يَعْبُدُوهَا } [ الزمر : 17 ] . واشتقاقُه من طغَى يَطْغَى ، أو من طَغَا يَطْغُو ، على حَسَبِ ما تقدَّم أولَ السورة؟ هل هو من ذواتِ الواوِ أو من ذواتِ الياء؟ وعلى كِلا التقديرين فأصلُه طَغَيُوت أو طَغَوُوت لقولِهم « طُغْيان » في معناه ، فَقُلِبَت الكلمةُ بأَنْ قُدِّمَتْ اللامُ وأُخِّرت العينُ ، فتحرَّك حرفُ العلةِ وانفَتَحَ ما قبلَه فَقُلِبَ ألفاً ، فوزنه الآن فَلَعُوت ، وقيل : تاؤُه ليسَتْ زائدةً ، وإنما هي بدلٌ من لامِ الكلمة ، ووزنُه فاعول . قال مكي : « وقد يَجُوز أن يكونَ أصلُ لامِهِ واواً فيكونُ أصلُه طَغَووتاً لأنه يقال : طَغَى يَطْغى ويَطْغو ، وطَغَيْتُ وطَغَوْتُ ، ومثلُه في القلب والاعتلال والوزن : حانوت ، لأنه من حَنا يَحْنو وأصله حَنَوُوت ، ثم قُلِب وأُعِلَّ ، ولا يجوزُ أن يكونَ من : حانَ يَحِين لقولِهم في الجمع حَوانيت » انتهى .

كأنَّه لمَّا رأى أَنَّ الواوَ قد تُبْدَل تاءً كما في تُجاه وتُخَمَة وتُراث وتُكَأة ، ادَّعى قَلْبَ الواوِ التي هي لامٌ تاءً ، وهذا ليسَ بشيءٍ .
وقَدَّم ذِكْرَ الكفر بالطاغوتِ على ذِكْرِ الإِيمانِ باللَّهِ اهتماماً بوجوبِ الكفرِ بالطاغوتِ ، وناسَبَه اتصالُهُ بلفظٍ « الغَيّ » .
والعُرْوَة : موضعُ شَدِّ الأيدي ، وأصلُ المادةِ يَدُلُّ على التعلُّق ، ومنه : عَرَوْتُه : أَلْمَمْتُ به متعلِّقاً ، واعتراه الهَمُّ : تعلَّق به . والوُثْقى : فُعْلى للتفضيل تأنيثَ الأوثق ، كفُضْلى تأنيثَ الأفضل ، وجَمْعُها على وُثَق نحو : كُبْرى وكُبَر ، فأمَّا « وُثُق » بضمتين فجمع وَثِيق .
قوله : { لاَ انفصام لَهَا } كقولِهِ : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } [ البقرة : 2 ] والجملةُ فيها ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُهما : أن تكونَ استئنافاً فلا محلَّ لها حينئذٍ . والثاني : أنها حالٌ من العُرْوة ، والعاملُ فيها « استمسَكَ » . والثالث : أنها حالٌ من الضميرِ المستترِ في « الوُثْقى » . و « لها » في موضِعِ الخبرِ فتتعلَّقُ بمحذوفٍ أي : كائنٌ لها . والانفصامُ - بالفاء - القَطْعُ من غير بَيْنُونة ، والقصمُ بالقافِ قَطْعٌ ببينونةٍ ، وقد يُستعمل ما بالفاءِ مكانَ ما بالقافِ .

اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)

قولُه تعالى : { والذين كفروا أَوْلِيَآؤُهُمُ } : الذين مبتدأٌ أولُ ، وأولياؤهم مبتدأٌ ثانٍ ، والطاغوتُ : خبرُه ، والجملةُ خبرُ الأول . وقرأ الحسن [ « الطواغيت » بالجمعِ ، وإن كان أصلُه مصدراً لأنه لمَّا ] أطلق على المعبودِ مِنْ دونِ الله اختلفَت أنواعُه ، ويؤيِّد ذلك عَوْدُ الضمير مَجْمُوعاً من قولِهِ : « يُخْرِجونهم » .
قوله : { يُخْرِجُونَهُمْ } هذه الجملةُ وما قبلَها من قولِهِ : « يُخْرِجُهم » الأحْسنُ فيها ألاَّ يكونَ لها محلٌّ من الإِعراب ، لأنهما خَرَجا مخرجَ التفسيرِ للولاية ، ويجوزُ أن يكونَ « يُخْرِجُهم » خبراً ثانياً لقولِهِ : « الله » وأن يكونَ حالاً من الضمير في « وليُّ » ، وكذلك « يُخْرجونهم » والعامِلُ في الحال ما في معنى الطاغوت ، وهذا نظيرُ ما قاله الفارسي في قولِهِ : { نَزَّاعَةً } [ المعارج : 16 ] إنها حالٌ العاملُ فيها « لَظَى » وسيأتي تحقيقُه . و « من » [ و ] « إلى » متعلقان بفعلي الإِخراج .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)

قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي } : تقدَّم نظيرُه في قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ } [ البقرة : 243 ] . وقرأ عليٌّ رضي الله عنه : « تَرْ » بسكون الراء ، وتقدَّم أيضاً توجيهُها . والهاءُ في « ربه » فيهما قولان ، أظهرهُما : أنها تعودُ على « إبراهيم » ، والثاني : تعودُ على « الذي » ، ومعنى حاجَّه : أظهرَ المغالَبَة في حُجَّتِهِ .
قوله : { أَنْ آتَاهُ الله } فيه وجهان ، أظهرهُما : أنه مفعولٌ من أجله على حذفِ حرفِ العلةِ ، أي : لأنْ آتاه ، فحينئذٍ في محلِّ « أَنْ » الوجهان المشهوران ، أعني النصبَ أو الجرَّ ، ولا بُدَّ من تقديرِ حرفِ الجرِ قبل « أَنْ » لأنَّ المفعول من أجله هنا نَقَّص شرطاً وهو عدمُ اتحادِ الفاعلِ ، وإنما حُذِفَت اللام ، لأنَّ حرفَ الجرِّ يطَّرد حَذْفُهُ معها ومع أنَّ ، كما تقدَّم غيرَ مرة . وفي كونِهِ مفعولاً من أجلِهِ معنيان ، أحدُهما : أنه من بابِ العكسِ في الكلام بمعنى أنه وَضَعَ المُحَاجَّة موضعَ الشكر ، إذ كان من حَقِّه أن يشكرَ في مقابلة إتيانِ المُلْك ، ولكنه عَمِلَ على عكس القضية ، ومنه : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } [ الواقعة : 82 ] ، وتقول : « عاداني فلانٌ لأني أَحْسنت أليه » وهو باب بليغٌ . والثاني : أنَّ إيتاءَ المُلْكِ حَمَلَه على ذلك ، لأنه أورثه الكِبْرَ والبَطَرَ ، فتسبَّب عنهما المُحاجَّةُ .
الوجه الثاني : أنَّ « أَنْ » وما في حَيِّزها واقعةٌ موقعَ ظرفِ الزمان ، قال الزمخشري : « ويجوزُ أن يكونَ التقديرُ : حاجَّ وقتَ أَنْ آتاه » . وهذا الذي أجازه الزمخشري محلُّ نظرٍ ، لأنه إنْ عنى أنَّ ذلكَ على حَذْفِ مضاف ففيه بُعْدٌ من جهةِ أنَّ المُحاجَّةَ لم تقعْ وقتَ إيتاءِ اللهِ له المُلْكَ ، إلا أنْ يُتَجَوَّزَ في الوقتِ ، فلا يُحْمَل على الظاهِرِ ، وهو أنَّ المُحاجَّة وَقَعَتْ ابتداءَ إيتاءِ المُلْك ، بل يُحْمَلُ على أنَّ المُحاجَّة وقعتْ وقتَ وجودِ المُلْك ، وإنْ عنى أَنْ « أَنْ » وما في حَيَّزها واقعةٌ موقعَ الظرفِ فقد نَصَّ النحويون على منعِ ذلك وقالوا : لا يَنْوب عن الظرفِ الزماني إلا المصدرُ الصريحُ ، نحو : « أتيتُك صياحَ الديك » ولو قلت : « أن يصيح الديك » لم يَجُزْ . كذا قاله الشيخ ، وفيه نظرٌ ، لأنه قال : « لا ينوبُ عن الظرفِ إلا المصدرُ الصريحُ » وهذا معارَضٌ بأنهم نَصُّوا على أنَّ « ما » المصدريةَ تنوبُ عن الزمان ، وليست بمصدرٍ صريحٍ .
والضمير في « آتاه » فيه وجهان ، أحدُهما - وهو الأظهرُ - أن يعودَ على « الذي » ، وأجاز المهدوي أن يعودَ على « إبراهيم » أي : مَلَكَ النبوة . قال ابن عطية : « هذا تحاملٌ من التأويل » وقال الشيخ : « هذا قولُ المعتزلة ، قالوا : لأنَّ الله تعالى قال :

{ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين } [ البقرة : 124 ] والمُلْك عهدٌ ، ولقولِهِ تعالى : { فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الكتاب والحكمة وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً } [ النساء : 54 ] .
قوله : { إِذْ قَالَ } فيه أربعةُ أوجهٍ ، أظهرُها : أنه معمولٌ لحاجَّ . الثاني : أن يكونَ معمولاً لآتاه ، ذَكَرَهُ أبو البقاء . وفيه نَظَرٌ من حيث إنَّ وقتَ إيتاءِ المُلْكِ ليس وقتَ قولِ إبراهيم : { رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ } ، إلا أن يتُجَوَّز في الظرفِ كما تقدَّم . والثالث : أن يكونَ بدلاً من « أنْ آتاه الله المُلْك » إذا جُعِلَ بمعنى الوقت ، أجازه الزمخشري بناءً منه على أنَّ « أَنْ » واقعةٌ موقعَ الظرفِ ، وقد تقدَّم ضعفُهُ ، وأيضاً فإن الظرفَيْنِ مختلفان كما تقدَّم إلا بالتجوزِ المذكورِ . وقال أبو البقاء : « وذكر بعضُهم أنه بدلٌ من » أَنْ آتاه « وليس بشيءٍ ، لأنَّ الظرفَ غيرُ المصدرِ ، فلو كانَ بدلاً لكانَ غلطاً إلا أَنْ تُجْعَل » إذ « بمعنى » أَنْ « المصدرية ، وقد جاء ذلك » انتهى . وهذا بناءٌ منه على أنَّ « أَنْ » مفعولٌ من أجله/ وليست واقعةً موقعَ الظرفِ ، أمَّا إذا كانَتْ « أَنْ » واقعةً موقعَ الظرفِ فلا تكونُ بدلَ غلط ، بل بدلُ كلٍ من كلٍ ، كما هو قولُ الزمخشري وفيه ما تقدَّم ، مع أنه يجوزُ أَنْ تكونَ بدلاً مِنْ « أَنْ آتاه » و « أن آتاه » مصدرٌ مفعولٌ من أجلِهِ بدلَ اشتمالٍ ، لأنَّ وقتَ القولِ لاتساعِهِ مشتملٌ عليه وعلى غيره . الرابع : أنَّ العاملَ فيه « تَرَ » من قوله : « ألم ترَ » ذكره مكي ، وهذا ليس بشيءٍ ، لأنَّ الرؤيةَ على كِلا التفسيرين المذكورين في نظيرتِها لم تكنْ في وقتِ قوله : { رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ } .
و { رَبِّيَ الذي يُحْيِي } مبتدأٌ وخبرٌ في محلِّ نصب بالقول . قولُه : { قَالَ أَنَا أُحْيِي } مبتدأٌ وخبرٌ منصوبُ المحل بالقول أيضاً . وأخبر عن « أنا » بالجملةِ الفعلية ، وعن « ربي » بالموصولِ بها ، لأنه في الإِخبارِ بالموصولِ يُفيد الاختصاصَ بالمُخْبَرِ عنه بخلافِ الثاني ، فإنه لم يَدَّعِ لنفسِهِ الخسيسةِ الخصوصيةَ بذلك .
و « أنا » ضميرٌ مرفوعٌ منفصلٌ ، والاسمُ منه « أَنْ » والألفُ زائدةٌ لبيانِ الحركةِ في الوقفِ ، ولذلك حُذِفَتْ وصلاً ، ومن العربِ مَنْ يُثبتها مطلقاً ، فقيل : أُجري الوصلُ مُجْرى الوقف . قال :
1041 وكيفَ أنا وانتحالِ القوا ... في بعدَ المشيبِ كفى ذاك عارَا
وقال آخر :
1042 أنا سيفُ العشيرةِ فاعرِفوني ... حَمِيداً قد تَذَرَّيْتُ السَّناما
والصحيح أنه فيه لغتان ، إحداهما : لغةُ تميمٍ ، وهي إثباتُ ألفه وصلاً ووقفاً وعليها تُحْمَلُ قراءةُ نافع فإنه قرأ بثبوتِ الألفِ وصلاً قبل همزةٍ مضمومة نحو : « أنا أُحيي » أو مفتوحةٍ نحو : { وَأَنَاْ أَوَّلُ } [ الأعراف : 143 ] ، واخْتُلِفَ عنه في المكسورة نحو : { إِنْ أَنَاْ إِلاَّ [ نَذِيرٌ ] } [ الشعراء : 115 ] ، وقراءةُ ابن عامر :

{ لكنا هُوَ الله رَبِّي } على ما سيأتي ، هذا أحسنُ من توجيهِ مَنْ يقول : « أَجْرِي الوصلُ مُجرى الوقف » . واللغةُ الثانية : إثباتُها وقفاً وَحَذْفُها وصلاً ، ولا يجوزُ إثباتُها وصلاً إلا ضرورةً كالبيتين المتقدِّمين . وقيل : بل « أنا » كلُّه ضمير .
وفيه لغاتٌ : أنا وأَنْ - كلفظِ أَنْ الناصبةِ - وآن ، وكأنه قَدَّم الألفَ على النونِ فصار أان . قيل : إنَّ المرادُ به الزمانُ ، [ و ] قالوا : أنَهْ وهي هاءُ السكت ، لا بدلٌ من الألف : قال : « هكذا فَرْدِي أَنَهْ » وقال آخر :
1043 إنْ كنتُ أدري فعليَّ بَدَنَهْ ... من كَثْرةِ التخليطِ فيَّ مَنْ أَنَهْ
وإنما أثبت نافع ألفَه قبل الهمز جمعاً بين اللغتين ، أو لأنَّ النطقَ بالهمزِ عَسِرٌ فاستراح له بالألف لأنها حرفُ مدٍّ .
قوله : { فَإِنَّ الله } هذه الفاءُ جوابُ شرطٍ مقدَّرٍ تقديرُه : قال إبراهيم إنْ زعمت أو مَوَّهت بذلك فإن الله ، ولو كانت الجملةُ محكيةً بالقولِ لَمَا دَخَلَتْ هذه الفاءُ ، بل كان تركيبُ الكلامِ : قال إبراهيم إنَّ الله يأتي . وقال أبو البقاء : « دخلَتِ الفاءُ إيذاناً بتعلُّق هذا الكلامِ بما قَبْلَه ، والمعنى إذا أدَّعَيْت الإِحياء والإِماتَة ولم تَفْهَمْ فالحجةُ أنَّ الله يأتي ، هذا هو المعنى » . والباءُ في « بالشمسِ » للتعديةِ ، تقولُ : أَتَتِ الشمسُ ، وأتى اللهُ بها ، أي : أجاءها . و « من المشرق » و « مِن المغرب » متعلقان بالفعلَيْن قبلهما ، وأجاز أبو البقاء فيهما بَعْدَ أَنْ منع ذلك أن يكونا حالَيْن ، وجَعَلَ التقدير : مسخرةً أو منقادةً . وليته استمرَّ على مَنْعِه ذلك .
قوله : { فَبُهِتَ } الجمهورُ : « بُهِتَ » مبنياً للمفعول ، والموصولُ مرفوعٌ به ، والفاعلُ في الأصل هو إبراهيمُ ، لأنه المناظِرُ له . ويُحْتمل أن يكونَ الفاعلُ في الأصل ضميرَ المصدرِ المفهوم من « قال » أي : فَبَهَته قولُ إبراهيم . وقرأ ابن السَّمَيْفَع : « فَبَهَتَ » بفتحِ الباءِ والهاءِ مبنياً للفاعلِ ، وهذا يَحْتَمِلُ وجهين ، أحدُهما : أن يكونَ الفعلُ متعدِّياً ، وفاعلُه ضميرٌ يعودُ على إبراهيم ، و « الذي » هو المفعولُ ، أي : فَبَهَت إبراهيمُ الكافرَ ، أي غَلَبة في الحُجَّة ، أو يكونُ الفاعلُ الموصولَ ، والمفعولُ محذوفٌ وهو إبراهيمُ ، أي : بَهَتَ الكافرُ إبراهيم أي : لَمّا انقطَع عن الحُجَّة بَهَته . والثاني : أن يكونَ لازماً والموصولُ فاعلٌ ، والمعنى معنى بُهِت ، فتتَّحدُ القراءتان ، أو بمعنى أَتَى بالبُهْتان . وقرأ أبو حَيْوة : « فَبَهُتَ » بفتح الباء وضمِّ الهاء كظَرُفَ ، والفاعلُ الموصولُ . وحكى الأخفش : « فَبُهِتَ » بكسر الهاء ، وهو قاصرُ أيضاً . فيَحصُلُ فيه ثلاثُ لغاتٍ : بَهَتَ بفتحهما ، بَهُت بضم العين ، بَهِت بكسرها ، فالمفتوحُ يكون لازماً ومتعدياً ، قال : { فَتَبْهَتُهُمْ } [ الأنبياء : 40 ] . والبَهْتُ : التحيُّر والدَّهَشُ ، وباهَتَه وبَهَته واجهه بالكذبِ ، ومنه الحديث : « إنَّ اليهودَ قومٌ بُهُتٌ » ، وذلك أن الكذب يُحَيِّر المكذوبَ عليه .

أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)

قوله تعالى : { أَوْ كالذي مَرَّ } : الجمهورُ على سكونِ واوِ « أو » وهي هنا للتفصيلِ ، وقيل : للتخيير بين التعجب مِنْ شأنهما . وقرأ أبو سفيان ابن حسين « أوَ » بفتحِها ، على أنها واوُ العطفِ ، والهمزةُ قبلها للاستفهام .
وفي قوله : { كالذي } أربعةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه عطفٌ على المعنى وتقديرُه عند الكسائي والفراء : هل رأيتَ كالذي حاجَّ إبراهيم أو كالذي مَرَّ على قرية ، هكذا قال مكي ، أمَّا العطفُ على المعنى فهو وإنْ كان موجوداً في لسانهم كقوله :
1044 تقيٌّ نقيٌّ لم يُكَثِّرْ غنيمةً ... بِنَهْكَةِ ذي قُرْبى ولا بِحَقَلِّدِ
وقول الآخر :
1045 أجِدَّكَ لن تَرَى بثُعَيْلِباتٍ ... ولا بَيْدَانَ ناجيةً ذَمُولا
ولا متدارِكٍ والليلُ طَفْلٌ ... ببعضِ نواشغِ الوادي حُمُولا
فإنَّ معنى الأولِ : ليسَ بمكثرٍ ولذلك عَطَفَ عليه « ولا بِحَقَلَّدِ » ومعنى الثاني : أَجِدَّك لستَ براءٍ ، ولذلك عَطَفَ عليه « ولا متداركٍ » ، إلا أنهم نَصُّوا على عدمِ اقتياسِه .
الثاني : أنه منصوبٌ على إضمارِ فعلٍ ، وإليه نَحَا الزمخشري ، وأبو البقاء ، قال الزمخشري : « أو كالذي : معناه أو رَأَيْتَ مثلَ الذي » ، فَحُذِفَ لدلالةِ « ألم تَرَ » لأنَّ كلتيهما كلمتا تعجُّبٍ ، وهو حسنٌ ، لأنَّ الحذفَ ثابتٌ كثيرٌ بخلافِ العطفِ على المعنى .
الثالث : انَّ الكافَ زائدةٌ كهي في قوله : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] وقول الآخر :
1046 فَصُيِّروا مثلَ كَعَصْفٍ مأكولْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والتقدير : ألم تَرَ إلى الذي حاجَّ ، أو إلى الذي مَرَّ على قريةٍ . وفيه ضعفٌ لأنَّ الأصلَ عدمُ الزيادةِ .
والرابع : أنَّ الكافَ اسمٌ بمعنى مِثْل ، لا حرفٌ ، وهو مذهبُ الأخفش وهو الصحيحُ من جهةِ الدليل ، وإنْ كان جمهورُ البصريين على خلافِه ، فالتقديرُ : ألم تَرَ إلى الذي حاجَّ ، أو إلى مِثْل الذي مَرَّ وهو معنى حسنٌ . وللقولِ باسميةِ الكافِ دلائلُ مذكورةٌ في كتب القوم ، ذَكَرْنَا أحسَنها في هذا الكتابِ ، منها معادَلَتُها في الفاعليةِ ب « مثل » في قوله :
1047 وإنّك لم يَفْخَرْ عليك كفاخرٍ ... ضعيفٍ ولم يَغْلِبْكَ مثلُ مُغَلَّبِ
ومنها دخولُ حروف الجرِ ، والإِسناد إليها . وتقدَّم الكلامُ في اشتقاقِ القرية .
قوله : { وَهِيَ خَاوِيَةٌ } هذه الجملةُ فيها/ خمسةُ أوجهٍ ، أحدُها أنْ تكونَ حالاً من فاعلِ « مَرَّ » والواوُ هنا رابطةٌ بين الجملةِ الحاليةِ وصاحبها ، والإِتيانُ بها واجبٌ لخلوِّ الجملةِ من ضميرٍ يعودُ إليه . والثاني : أنها حالٌ من « قرية » : إمَّا على جَعْل « على عروشها » صفةً لقرية على أحدِ الأوجهِ الآتيةِ في هذا الجارِّ ، أو على رأي مَنْ يجيزُ الإِتيانَ بالحالِ من النكرة مطلقاً ، وهو ضعيفُ عند سيبويهِ . الثالث : أنها حالٌ من « عروشها » مقدَّمةٌ عليه ، تقديرُه : مَرَّ على قرية على عروشِها وهي خاويةٌ .

الرابع : أن تكونَ حالاً من « ها » المضافِ إليها « عروش » قال أبو البقاء : « والعاملُ معنى الإِضافة وهو ضعيفٌ مع جوازه » انتهى . والذي سَهَّل مجيءَ الحال من المضاف إليه كونُه بعضَ المضافِ ، لأنَّ « العروش » بعضُ القريةِ ، فهو قريبٌ من قولِه تعالى : { مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً } [ الأعراف : 43 ] . الخامس : أن تكونَ الجملةُ صفةً لقرية ، وهذا ليسَ بمرتضى عندَهم ، لأنَّ الواوَ لا تَدْخُلُ بين الصفةِ والموصوفِ ، وإنْ كانَ الزمخشري قد أجازَ ذلك في قوله تعالى : { وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ } [ الحجر : 4 ] فَجَعَل « ولَهَا كتابٌ » صفةً ، قال : « وتوسَّطت الواوُ إيذاناً بإلصاق الصفة بالموصوف » وهذا مذهبٌ سبقه إليه أبو الفتح ابن جني في بعضِ تصانيفِه ، وفيه ما تقدَّم ، وكأنَّ الذي سَهَّل ذلك تشبيهُ الجملة الواقعة صفةً بالواقعَةِ حالاً ، لأنَّ الحالَ صفةٌ في المعنى . ورتَّب أبو البقاء جَعْلَ هذه الجملة صفةً لقرية على جوازِ جَعْلِ « على عروشها » بدلاً من « قرية » على إعادةِ حرفِ الجر ورتَّب جَعْلَ « وهي خاويةٌ » حالاً من العروش أو من القرية أو مِنْ « ها » المضافِ إليها على جَعْلِ « على عروشها » صفةً للقرية ، وهذا نصُّه قد ذكرتُه ليتضِحَ لك ، فإنه قال : « وقيل هو بدلٌ من القرية تقديرُه : مَرَّ على قرية على عروشها أي : مَرَّ على عروش القرية ، وأعادَ حرفَ الجر مع البدلِ ، ويجوز أن يكونَ » على عروشها « على هذا القول صفةً للقريةِ لا بدلاً ، تقديرُه : على قريةٍ ساقطةٍ على عروشها ، فعلى هذا يجوزُ أن تكونَ » وهي خاويةٌ « حالاً من العروشِ وأن تكونَ حالاً من القرية لأنها قد وُصِفَتْ ، وأن تكونَ حالاً من » ها « المضافِ إليه ، وفي هذا البناءِ نظرٌ لا يخفى .
قوله : { على عُرُوشِهَا } فيه أربعةُ أوجه ، أحدُها : أن يكونَ بدلاً من » قرية « بإعادة العاملِ . الثاني : أن يكونَ صفةً ل » قرية « كما تقدَّم تحقيقُه ، فعلى الأولِ يتعلَّقُ ب » مَرَّ « لأنَّ العاملَ في البدلِ العاملُ في المُبْدَلِ منه ، وعلى الثاني يتعلَّقُ بمحذوفٍ أي : ساقطةٍ على عروشِها . الثالث : أن يتعلَّقَ بنفسِ خاوية ، إذا فَسَّرنا » خاوية « بمعنى متهدِّمة ساقطة . الرابع : أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ يَدُلُّ عليه المعنى ، وذلك المحذوفُ قالوا : هو لفظُ » ثابتة « ، لأنهم فَسَّروا » خاويةٌ « بمعنى : خاليةٌ مِنْ أهلِها ثابتةٌ على عروشِها ، وبيوتُها قائمةٌ لم تتهدَّمْ ، وهذا حَذْفٌ من غيرِ دليلٍ ولا يتبادَرُ إليه الذهن . وقيل : » على « بمعنى » مع « أي : مع عروشِها ، قالوا : وعلى هذا فالمرادُ بالعروشِ الأبنيةُ .
والخاوي : الخالي . يقال : خَوَتِ الدارُ تَخْوِي خَواءً بالمد ، وخُوِيَّاً ، وخَوِيَتْ أيضاً بكسرِ العينِ تَخْوَى خَوَىً بالقصر ، وخَوْياً .

والخَوَى : الجوعُ لخلوِّ البطنِ من الزاد . والخَوِيُّ على فَعِيل : البطنُ السهل من الأرض ، وخَوَّى البعيرُ : جافى جَنْبَه عن الأرض . قال :
1048 خَوَّى على مُسْتَوِيات خَمْسِ ... كِرْكِرَةٍ وثَفِناتٍ مُلْسٍ
والعروشُ : جمعُ عَرْش ، وهو سقفُ البيت ، وكذلك كل ما هُيِّىء ليُسْتَظَلَّ به . وقيل : هو البنيانُ نفسُه ، قال :
1049 إنْ يَقْتُلوكَ فقد ثَلَلْتُ عروشَهُمْ ... بعُتيبةَ بنِ الحارثِ بِنْ شهابِ
قوله : { أنى يُحْيِي هذه الله } في « أنِّى » وجهان ، أحدُهما : أَنْ تكونَ بمعنى « متى » قال أبو البقاء : « فعلى هذا تكونُ ظرفاً » والثاني : انها بمعنى كيف . قال أبو البقاء : فيكونُ موضعُها حالاً من « هذه » وتقدَّم لما فيه من الاستفهام ، والظاهر انها بمعنى كيف ، وعلى كلا القولين فالعاملُ فيها « يُحْيي » . و « بعد » أيضاً معمولٌ له . والإِحياءُ والإِماتةُ مَجازٌ إنْ أُريدَ بهما العمرانُ والخرابُ ، أو حقيقةٌ إنْ قَدَّرْنا مضافاً أي : أنَّى يُحْيي أهلَ هذه القريةِ بعد مَوْتِ أهلِها ، ويجوزُ أن تكونَ هذه إشارةً إلى عظامِ أهلِ القريةِ البالية وجثثهم المتمزقةِ ، دَ‍لَّ على ذلك السياقُ .
قوله : { مِئَةَ عَامٍ } قال أبو البقاء : « مئة عام ظرفٌ لأماتَه على المعنى ، لأنَّ المعنى ألبثه مئة عام ، ولا يجوزُ أن يكونَ ظرفاً على ظاهر اللفظِ ، لأنَّ الإِماتةَ تقعُ في أدنى زمان ، ويجوزُ أن يكونَ ظرفاً لفعلٍ محذوف تقديرُه : » فأَماته اللهُ فلبِثَ مئة عام « ، ويَدُلُّ على ذلك قولُه : » كم لَبِثْتَ « ، ولا حاجَةَ إلى هذين التأويلين ، بل المعنى جَعَلَه ميِّتاً مئة عام .
و » مئة « عقدٌ من العدد معروفٌ ، ولامُها محذوفةٌ ، وهي ياءٌ ، يدُلُّ على ذلك قولُهم : » أَمْأَيْتُ الدراهم « أي : صَيَّرْتُها مئةً ، فوزنُها فِعَة ويُجْمَع على » مِئات « وشذَّ فيها مِئُون قال :
1050 ثلاثُ مئينٍ للملوكِ وَفَى بها ... ردائي وَجَلَّتْ عن وجوه الأهاتِمِ
كأنهم جَرَوها بهذا الجمعِ لِما حُذِفَ منها ، كما قالوا : سِنون في سَنَة .
والعامُ مدةٌ من الزمانِ معلومةٌ ، وعينُهُ واوٌ لقولِهم في التصغير ، عُوَيْم ، وفي التكسير : » أَعْوَام « . وقال النقاش : » هو في الأصلِ مصدَرٌ سُمِّيَ به الزمانُ لأنه عَوْمَةٌ من الشمس في الفلك ، والعَوْمُ : هو السَّبْح . وقال تعالى : { وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ يس : 40 ] فعلى هذا يكونُ العامُ والعَوْمُ كالقَوْل والقَال « .
قوله : { كَمْ } منصوبٌ على الظرفِ ، ومميِّزُها محذوفٌ تقديرُهُ : كم يوماً أو وقتاً . والناصبُ له » لَبِثْتَ « ، والجملةُ في محلِّ نصبٍ بالقولِ ، والظاهرُ أنَّ » أو « في قوله : { يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } بمعنى » بل « للإِضراب وهو قولٌ ثابتٌ ، وقيل : هي للشك . وقوله : { قَالَ بَل لَّبِثْتَ } عَطَفَتْ » بل « هذه الجملةَ على جملةٍ محذوفةٍ تقديرهُ : ما لبثتُ يوماً أو بعضَ يوم ، بل لبثتُ مئةَ عام .

وقرأ نافع وعاصم وابن كثير بإِظهارِ الثاء في جميع القرآن ، والباقُون بالإِدغام .
قوله : { لَمْ يَتَسَنَّهْ } هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال . وزعم بعضُهم أن المضارعَ المنفيَّ ب « لم » إذا وَقَع حالاً فالمختارُ دخولُ واوِ الحال وأنشد : /
1051 بأَيْدي رجالٍ لم يَشِيْموا سيوفَهُمْ ... ولم تَكْثُر القَتْلى بها حينَ سُلَّتِ
وزعم آخرون أنَّ الأَوْلَى نفيُ المضارعِ الواقعِ حالاً بما ولمَّا وكلا الزعمين غيرُ صحيحين . لأنَّ الاستعمالَيْنِ واردان في القرآنِ ، قال تعالى : { فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء } [ آل عمران : 174 ] ، وقال تعالى : { أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ } [ الأنعام : 93 ] فجاء النفيُ ب لم مع الواوِ ودونِها .
قيل : قد تقدَّم شيئاَن وهما « طعامِك وشرابِك » ولم يُعِدِ الضميرَ إلا مفرداً ، وفي ذلك ثلاثةُ أجوبةٍ ، أحدُها : أنهما لمَّا كانا متلازِمَيْنِ ، بمعنى أنَّ أحدَهما لا يُكْتَفَى به بدونِ الآخر صارا بمنزلةِ شيءٍ واحدٍ حتى كأنه [ قال : ] فانظُرْ إلى غذائِك . الثاني : أنَّ الضميرَ يعودُ إلى الشراب فقط ، لأنه أقربُ مذكورٍ ، وثَمَّ جملةٌ أخرى حُذِفَتْ لدلالةِ هذه عليها . والتقديرُ : وانظرْ إلى طعامِكَ لم يَتَسَنَّهْ وإلى شرابِك لم يَتَسَنَّهْ ، أو يكونُ سكتَ عن تغيُّرِ الطعامِ تنبيهاً بالأدنى على الأعلى ، وذلك أنه إذا لم يتغيَّرِ الشرابُ مع نَزْعَة النفس إليه فَعَدَمُ تغيُّر الطعامِ أَوْلَى ، قال معناه أبو البقاء . والثالث : أنه أفردَ في موضِعِ التثنيةِ ، قاله أبو البقاء وأنشد :
1052 فكأنَّ في العينين حَبَّ قَرَنْفُلٍ ... أو سُنْبَلٍ كُحِلَتْ به فانْهَلَّتِ
وليس بشيءٍ .
وقرأ حمزةُ والكسائي : « لم يَتَسَنَّهْ » بالهاء وقفاً وبحذفها وصلاً ، والباقون بإثباتِها في الحالين . فأمَّا قراءتهما فالهاءُ فيها للسكتِ . وأمَّا قراءةُ الجماعَةِ فالهاء تحتملُ وجهين ، أحدُهما : أن تكونَ أيضاً للسكتِ ، وإنما أُثبتت وصلاً إجراء للوصلِ مُجْرى الوقفِ ، وهو في القرآن كثيرٌ ، سيمرُّ بك منه مواضعُ ، فعلى هذا يكون أصلُ الكلمةِ : إمَّا مشتقاً من لفظ « السَّنة » على قولنا إنَّ لامَها المحذوفةَ واوٌ ، ولذلكَ تُرَدُّ في التصغير والجمع ، قالوا : سُنَيَّة وسَنَوات ، وعلى هذه اللغة قالوا : « سانَيْتُ » أُبْدِلَتِ الواوُ ياءً لوقوعِها رابعةً ، وقالوا : أَسْنَتَ القومُ ، فقلبوا الواوَ تاءً ، والأصل أَسْنَوُوا ، فأَبْدَلوها في تُجاه وتُخَمة كما تقدَّم ، فأصله : يَتَسَنَّى فحُذِفَتْ الألفُ جزماً ، وإمَّا مِنْ لفظ « مَسْنون » وهو المتغيِّرُ ومنه { مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } [ الحجر : 26 ] ، والأصل : يتَسَنَّنُ بثلاثِ نونات ، فاسْتُثْقِلَ توالي الأمثال ، فَأَبْدَلْنَا الأخيرةَ ياءً ، كما قالوا في تَظَنَّنَ : تظَنَّى ، وفي قَصَّصْت أظفاري : قَصَّيْت ، ثم أَبْدَلْنَا الياء ألفاً لتحرُّكِها وانفتاح ما قبلَها ، ثم حُذِفَتْ جزماً ، قاله أبو عمرو ، وخَطَّأَه الزجاج ، قال : « لأنَّ المسنونَ المصبوبَ على سَنَنِ الطريق » .
وحُكِيَ عن النقاش أنه قال : « هو مأخوذٌ من أَسِنَ الماءُ » أي تغيَّر ، وهذا وإن كان صحيحاً معنىً فقد رَدَّ عليه النحويون قولَه لأنه فاسدٌ اشتقاقاً ، إذ لو كان مشتقاً من « أَسِنَ الماء » لكان ينبغي حين يُبْنَى منه تفعَّل أن يقال تأسَّن .

ويمكن أَنْ يُجَابَ عنه أنه يمكنُ أن يكونَ قد قُلِبَت الكلمةُ بَنْ أُخِّرَتْ فاؤها - وهي الهمزة - إلى موضِع لامِها فبقي : يَتَسَنَّأ بالهمزةِ آخِراً ، ثم أُبْدِلَت الهمزةُ ألفاً كقولِهم في قرأ : « قَرَا » ، وفي استَهْزا « ثم حُذِفَتْ جزماً .
والوجه الثاني : أن تكونَ الهاءُ أصلاً بنفسِها ، ويكونُ مشتقاً من لفظ » سنة « أيضاً ، ولكن في لغةِ من يَجْعَلُ لامَها المحذوفَةَ هاءً ، وهم الحجازيون ، والأصلِ : سُنَيْهَة ، يَدُلُّ على ذلك التصغيرُ والتكسير ، قالوا : سُنَيْهَة وسُنَيْهات وسانَهْتُ ، قال شاعرهم :
1053 وليسَتْ بِسَنْهَاء ولا رُجَّبِيَّةٍ ... ولكنْ عرايا في السنينِ الجوائِحِ
ومعنى » لم يَتَسَنَّهْ « على قولِنا : إنه من لفظِ السَّنَة ، أي : لم يتغيَّر بمَرِّ السنين عليه ، بل بقي على حالِه ، وهذا أَوْلى من قولِ أبي البقاء في أثناءِ كلامه » من قولك أَسْنى يُسْنِي إذا مَضَتْ عليه سِنونَ « لأنه يَصِيرُ المعنى : لم تَمْضِ عليه سنونَ ، وهذا يخالِفُهُ الحِسُّ والواقعُ .
وقرأ أُبَيّ : » لم يَسَّنَّه « بإدغام التاء في السين ، والأصل : » لم يَتَسَنَّه « كما قرىء { لاَّ يَسَّمَّعُونَ إلى الملإ } [ الصافات : 8 ] ، والأصل : يَتَسَمَّعون فَأُدْغِم . وقرأ طلحة بن مصرف : » لمئة سنة « .
قوله : { وَلِنَجْعَلَكَ } فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه متعلقٌ بفعلٍ محذوفٍ مقدَّرٍ بعده ، تقديرُهُ : ولنجعلكَ فَعَلْنا ذلك . والثاني : أنه معطوفٌ على محذوفٍ تقديرُهُ : فَعَلْنا ذلك لتعلَمَ قدرتَنا ولنجعلَكَ . الثالث : أن الواوَ زائدةٌ ، واللامُ متعلقةٌ بالفعلِ قبلَها أي : وانظُرْ إلى حمارِك لنعجلَكَ . وليس في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ كما زعم بعضُهم فقال : إنَّ قوله : » ولنجعلَكَ « مؤخر بعد قولِهِ : » وانظُرْ إلى العظامِ « ، وأَنْ الأنظارَ الثلاثةَ منسوقةٌ بعضُها على بعضٍ ، فُصِل بينها بهذا الجار ، لأنَّ النظرَ الثالثَ من تمامِ الثاني ، فلذلك لم تُجْعَل هذه العلةُ فاصلةً معترضةً . وهذه اللامُ لامُ كي ، والفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمار » أَنْ « وهي وما بعدَها من الفعلِ في محلِّ جرٍ على ما سبَقَ بيانُهُ غيرَ مرةٍ . و » آية « مفعولٌ ثانٍ لأنَّ الجَعْلَ هنا بمعنى التصيير . و » للناس « صفةٌ لآية ، و » أل « في الناسِ قيل : للعهدِ إنْ عَنَى بهم بقيةَ قومِهِ . وقيل : للجنس إنْ عَنَى جميعَ بني آدم .
قوله : { كَيْفَ } منصوبٌ نصبَ الأحوالِ ، والعاملُ فيها » نُنْشِزُها « وصاحبُ الحالِ الضميرُ المنصوبُ في » نُنْشِزُها « ، ولا يعملُ في هذه الحالِ » انظُرْ « ، إذ الاستفهامُ له صدرُ الكلامِ ، فلا يعملُ فيه ما قبلَه ، هذا هو القولُ في هذه المسألةِ ونظائِرها .

وقال أبو البقاء : « كيف نُنْشِزُها في موضِعِ الحالِ من » العظام « ، والعامل في » كيف « ننشِزُها ، ولا يجوز أن يعمل فيها » انظر « لأنَّ الاستفهامَ لا يعملُ فيه ما قبلَه ، ولكن » كيف « و » نُنْشِزُها « جميعاً حالٌ من » العظام « ، والعاملُ فيها » انظر « تقديره : انظرْ إلى العظامِ مُحْياةً وهذا ليس بشيء ، لأن هذه جملة استفهام ، والاستفهام لا يقع حالاً ، وإنما الذي يقع حالاً وحدَه » كيف « ، ولذلك تُبْدَلُ منه الحالُ بإعادةِ حرفِ الاستفهامِ نحو : » كيف ضَرَبْتَ زيداً أقائماً أم قاعداً «؟
والذي يقتضيه النظرُ الصحيحُ في هذه المسألةِ وأمثالِها أَنْ تكونَ جملةُ » كيف نُنْشِزُها « بدلاً من » العظام « ، فتكونَ في محلِّ نصبٍ ، وذلك أنَّ » نظر « البصرية تتعدَّى ب » إلى « ، ويجوزُ فيها التعليقُ كقولِهِ تعالى : { انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } [ هود : 21 ] فتكونُ الجملةُ في محلِّ نصبٍ؛ لأن ما يتعدى بحرف الجر يكون ما بعده في محل نصب به . ولا بدَّ من حَذْفِ مضافٍ لتصِحَّ البدليةُ ، والتقديرُ : إلى حالِ العظام ، ونظيرُهُ قولُهم : » عَرفْتُ زيداً : أبو مَنْ هو؟ فأبو مَنْ هو بدلٌ من « زيداً » ، على حذفٍ تقديرُهُ : « عَرَفْتُ قصةَ زيد » . والاستفهامُ في بابِ التعليقِ لا يُراد به معناه ، بل جرى في لسانِهم مُعَلَّقاً عليه حكمُ اللفظِ دونَ المعنى ، و [ هو ] نظيرُ « أيّ » في الاختصاص نحو : « اللهم اغفر لنا أَيَّتُها العِصابة » فاللفظُ كالنداء في جميعِ أحكامه ، وليس معناه عليه .
وقرأ أبو عمرو والحرميَّان : « نُنْشِرُها » بضم النون وكسر الشين والراءِ المهملةِ ، والباقون كذلك إلاَّ أنها بالزاي المعجمة . وابنُ عباس بفتح النونِ وضَمِّ الشين والراء المهملةِ أيضاً/ . والنخعي كذلك إلا أنها بالزاي المعجمةِ ، ونُقِلَ عنه أيضاً ضَمُّ الياء وفتحِها مع الراءِ والزاي .
فَأَمَّا قراءة الحرميّين : فَمِنْ « أَنْشَرَ اللَّهُ الموتى » بمعنى أَحْيَاهم ، وأمَّا قراءةُ ابنِ عباس فَمِنْ « نَشَر » ثلاثياً ، وفيه حينئذٍ وجهان ، أحدُهما : أَنْ يكونَ بمعنى أَفْعَلَ فتتحدَ القراءتان . والثاني : أَنْ يكونَ مِنْ « نَشَرَ » ضِدَّ طَوى أي يَبْسُطها بالإِحياءِ ، ويكونُ « نَشَرَ » أيضاً مطاوعَ أَنْشَرَ ، نحو : أَنْشَرَ الله الميت فَنَشَرَ ، فيكونُ المتعدي واللازمُ بلفظٍ واحد ، إلاَّ أنَّ كونَه مطاوعاً لا يُتَصَوَّر في هذه الآيةِ الكريمةِ لتعدِّي الفعل فيها ، وإنْ كان في عبارةٍ أبي البقاء في هذا الموضِعِ بعضُ إبهامٍ . ومِنْ مجيء « نشر » لازماً قوله :
1054 حتى يقولَ الناسُ مِمَّا رَأَوا ... يا عجباً للميِّت الناشِرِ
فناشِر مِنْ نَشَر بمعنى حَيِيَ .
وأمَّا قراءةُ الزاي فَمِنْ « النَّشْز » وهو الارتفاعُ ، ومنه : « نَشْزُ الأرضِ » وهو المرتفعُ ، ونشوزُ المرأةِ وهو ارتفاعُها عن حالِها إلى حالةٍ أخرى ، فالمعنى : يُحَرِّك العظامَ ويرفعُ بعضَها إلى بعضٍ للإحياء .

قال ابنُ عطية : « وَيَقْلَقُ عندي أن يكونَ النشوزُ رَفْعَ العظامِ بعضِها إلى بعضٍ ، وإنما النشوزُ الارتفاعُ قليلاً قليلاً » ، قال : « وانظُر استعمالَ العربِ تجدْه كذلك ، ومنه : » نَشَزَ نابُ البعير « و » أَنْشَزُوا فَأَنْشَزوا « ، فالمعنى هنا على التدرُّجِ في الفعلِ فَجَعَل ابنُ عطية النشوزُ ارتفاعاً خاصاً .
ومَنْ ضَمَّ النونَ فَمِنْ » أَنْشَزَ « ، ومَنْ فَتَحَها فَمِنْ » نَشَزَ « ، يقال : » نَشَزه « و » أَنْشَزَه « بمعنىً . ومَنْ قرأ بالياءِ فالضميرُ لله تعالى . وقر أبُيّ » نُنْشِئُها « من النَّشْأَة . ورجَّح بعضُهم قراءة الزاي على الراء بِأَنْ قال : العِظامُ لا تُحْيَا على الانفرادِ بل بانضمامِ بعضِها إلى بعضٍ ، والزايُ أَوْلى بهذا المعنى ، إذ هو بمعنى الانضمام دونَ الإِحياءِ ، فالموصوفُ بالإِحياءِ الرجلُ دونَ العظامِ ، ولا يقال : هذا عَظمٌ حيٌّ ، وهذا ليس بشيءٍ لقولِه : { مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ } [ يس : 1 ] .
ولا بُدَّ من ضميرٍ محذوفٍ من قوله : » العِظام « أي العظامِ منه ، أي : من الحمارِ ، أو تكونُ » أل « قائمةً مقامَ الإِضافة أي عظامِ حمارِك .
قوله : { لَحْماً } مفعولٌ ثانٍ ل » نَكْسُوها « وهو من بابِ أعطى ، وهذا من الاستعارة ، ومثلُه قولُ لبيد :
1055 الحمدُ للَّهِ إذْ لم يَأْتِنِي أَجَلي ... حتى اكتسَيْتُ من الإِسلامِ سِرْبالا
قوله : { فَلَمَّا تَبَيَّنَ } في فاعِل » تبيَّن « قولان ، أحدُهما : مضمرٌ يُفَسِّره سياقُ الكلام ، تقديرُهُ : فلمَّا تبيَّن له كيفيةُ الإِحياء التي استقر بها . وقدَّره الزمخشري : » فلمَّا تبيَّن له ما أَشْكَل عليه « يعني من أَمْر إحياء الموتى ، والأولُ أَوْلَى ، لأنَّ قوة الكلامِ تَدِلُّ عليه بخلافِ الثاني . والثاني - وبه بدأ الزمخشري - : أن تكونَ المسألةُ من بابِ الإِعمال ، يعني أن » تَبَيَّن « يطلُبُ فاعلاً ، و » أَعْلَمُ « يطلبُ مفعولاً ، و { أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } يصْلُح أن يكونَ فاعلاً لتبيَّن ، ومفعولاً لأعلَمُ ، فصارَتِ المسألةُ من التنازعِ ، وهذا نصُّه قال : » وفاعل « تبيَّن » مضمرٌ تقديرُه : فلمَّا تبيَّن له أن الله على كل شيء قدير قال : أَعْلَمُ أنَّ اللَّهَ على كل شيء قديرٌ ، فَحُذِفَ الأولُ لدلالةِ الثاني عليه ، كما في قولهم : « ضربني وضربتُ زيداً » فَجَعَله مِنْ بابِ التنازعِ كما ترى ، وجَعَله من إعمال الثاني وهو المختارُ عند البصريين ، فلمَّا أعملَ الثاني أَضْمَرَ في الأولِ فاعلاً ، ولا يجوزُ أن يكونَ من إعمال الأولِ؛ لأنه كان يلزَمُ الإِضمارُ في الثاني بضميرِ المفعول فكان يُقال : فلما تبيَّن له قال أَعلمُه أن الله . ومثلُه في إعمالِ الثاني :

{ آتوني أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً } [ الكهف : 96 ] { هَآؤُمُ اقرؤا كِتَابيَهْ } [ الحاقة : 19 ] .
إلاَّ أنَّ الشيخَ ردَّ عليه بأنَّ شرطَ الإِعمالِ على ما نصَّ عليه النحويون اشتراكُ العاملَيْنِ ، وأَدْنى ذلك بحرف العطف - حتى لا يكونَ الفصلُ معتبراً - أو يكونُ العاملُ الثاني معمولاً للأول نحو : « جاءني يضحكُ زيدٌ » فإنَّ « يضحك » حالٌ عاملُها « جاءني » فيجعل في « جاءني » أو في « يضحك » ضميراً حتى لا يكونَ الفعلُ فاصلاً ، ولا يَردُ على هذا جَعلُهُم { آتوني أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً } { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة } [ النساء : 176 ] { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله } [ المنافقون : 5 ] { هَآؤُمُ اقرؤا كِتَابيَهْ } [ الحاقة : 19 ] من بابِ الإِعمال ، لأنَّ هذه العواملَ مشتركةٌ بوجهٍ ما من وجوهِ الاشتراك ، ولم يُحْصَرِ الاشتراكُ في العطفِ ولا العملِ ، فإذا كان على ما نَصُّوا فليس العاملُ الثاني مشتركاً مع الأولِ بحرفِ العطفِ ولا بغيره ، ولا هو معمولٌ للأولِ بل هو معمولٌ لقال ، و « قال » جوابُ « لَمَّا » إنْ قلنا إنَّها حرفٌ ، وعاملةٌ في « لَمَّا » إن قلنا إنها ظرفٌ ، و « تبيَّن » على هذا القولِ مخفوضٌ بالظرفِ ، ولم يذكر النحاةُ التنازعَ في نحو : « لو جاء قتلتُ زيداً » ولا « لَمَّا جاء ضربتُ زيداً » ولا « حين جاء قتلتُ زيداً » ولا « إذا جاء قتلت زيداً » ، ولذلك حَكَى النحاةُ أنَّ العربَ لا تقول : « أَكْرَمْتُ أهنتُ زيداً » - يعني لعدمِ الاشتراكِ بين العاملين - وقد ناقضَ قولَه حيث جَعَل الفاعلَ محذوفاً كما تقدَّم في عبارتِهِ ، والحذفُ ينافي الإِضمارَ ، فإنْ كان أرادَ بالإِضمارِ في قوله : « وفاعل تبيَّن مضمرٌ » الحذفَ فهو قول الكسائي ، لأنه لا يُجيز إضمارَ المرفوع قبلَ الذكر فيدَّعي فيه الحذفَ ويُنْشِدُ :
1056 تَعَفَّقَ بالأَرْطى لها وأرادَها ... رجالٌ فَبَذَّت نبلَهم وكَلِيبُ
ولهذا تأويلٌ مذكورٌ ، ورُدَّ عيه بالسماع قال :
1057 هَوَيْنَنِي وهَوَيْتُ الخُرَّدَ العُرُبا ... أزمانَ كنتُ منوطاً بي هوىً وصِبا
فقال : « هَوَيْنَنِي » فجاءَ في الأول بضمير الإِناث من غيرِ حذفٍ . انتهى ما رُدَّ به عليه ، وفيه نَظَرٌ لا يَخْفى .
وقرأ ابن عباس : « تُبُيِّن » مبنياً للمفعولِ ، والقائمُ مقامَ الفاعلِ الجارُّ والمجرورُ بعدَه . ابنُ السَّمَيْفَع « يُبَيِّن » من غيرِ تاءٍ مبنياً للمفعولِ ، والقائمُ مقامَه ضميرُ كيفيةِ الإِحياء أو الجارُّ والمجرورُ .
قوله : { قَالَ أَعْلَمُ } الجمهورُ على « قال » مبنياً للفاعلِ . وفي فاعلِهِ على قراءةِ حمزة والكسائي : « اعْلَمْ » أمراً من « عَلِمَ » قولان ، أظهرِهُما : أنه ضميرٌ يعودُ على اللِّهِ تعالى أو على المَلِكِ ، أي : قال اللَّهُ أو المَلِكُ أو المَلِكُ لذلك المارِّ اعْلَمْ . والثاني : أنه ضميرٌ يعودُ على المارِّ نفسهِ ، نَزَّلَ نفسَه منزلَةَ الأجنبي فخاطَبَهَا ، ومنه :

1058 وَدِّعْ هُرَيْرَةَ . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
[ وقوله ] :
1059 ألم تَغْتَمِضْ عيناك . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
[ قوله ] :
1060 تطاولَ ليلُك . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يعني نفسَه . قال أبو البقاء : « ما تقولُ لنفسِك : اعلمْ يا عبدَ الله ، ويُسَمَّى هذا التجريدَ » يعني كأنه جَرَّد من نفسه مخاطباً يخاطِبُه . وأمَّا على قراءةِ غيرهما : « أعلمُ » مضارعاً للمتكلمِ ففاعلُ « قال » ضميرُ المارِّ ، أي : قال المارُّ : أعلَمُ أنا .
وقرأ الأعمش : « قيل » مبنياً للمفعولِ . والقائمُ مقامَ الفاعلِ : إمَّا ضميرُ المصدرِ من الفعلِ ، وإمَّا الجملةُ التي بعده ، على حَسَبَ ما تقدَّم في أولِ السورة .
وقرأ حمزة والكسائي : « اعلمْ » على الأمر ، والباقون : « أعلمُ » مضارعاً « والجعفي عن أبي بكر : » أَعْلِمُ « أمراً من » أَعْلَمَ « ، والكلامُ فيها كالكلامِ في قراءةِ حمزة والكسائي بالنسبةِ إلى فاعل » قال « ما هو؟ و » أنَّ الله « في محلِّ نصب ، سادَّةً مسدَّ المفعولين ، أو الأولِ/ والثاني محذوفٌ على ما تقدم من الخلاف .

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)

قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ } : في العامل في « إذ » ثلاثةُ أوجهٍ ، أظهرُها : أنه قال : { أَوَلَمْ تُؤْمِن } أي : قال له ربُّه وقتَ قولِه ذلك . والثاني : أنه « ألم تَرَ » أي : ألم تر إذا قال إبراهيم . والثالث : أنه مضمرٌ تقديرُه : واذكر . ف « إذ » على هذين القولين مفعولٌ به لا ظرفٌ . و « ربِّ » منادى مضافٌ لياءِ المتكلم ، حُذِفَتْ استغناءً عنها بالكسرةِ قبلَها ، وهي اللغةُ الفصيحةُ ، وحُذِفَ حرفُ النداءِ .
وقوله : { أَرِنِي } تقدَّم ما فيه من القراءاتِ والتوجيهِ في قوله : { وَأَرِنَا } [ البقرة : 128 ] . والرؤيةُ هنا بصريةٌ تتعدَّى لواحدٍ ، ولَمَّا دخلَتْ همزةُ النقلِ أكسبته مفعولاً ثانياً ، والأول ياء المتكلم ، والثاني الجملة الاستفهامية ، وهي معلقة للرؤية و « رأى » البصرية تُعَلَّق كما تعلق « نظر » البصرية ، ومن كلامهم : « أما تَرى أيُّ برقِ ههنا » .
و « كيف » في محلِّ نصبٍ : إمَّا على التشبيه بالظرفِ ، وإمَّا على التشبيهِ بالحال كما تقدَّم في { كَيْفَ تَكْفُرُونَ } [ البقرة : 28 ] . والعاملُ فيها « تُحْيي » وقَدَّره مكي : بأي حالٍ تُحْيي الموتى ، وهو تفسيرُ معنىً لا إعرابٍ .
قوله : { قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن } في هذه الواوِ وجهان ، أظهرُهما : أنها للعطفِ قُدِّمَتْ عليها همزةُ الاستفهامِ لأنها لها صدرُ الكلامِ كما تقدَّم تحريرُه غيرَ مرةٍ ، والهمزةُ هنا للتقريرِ ، لأنَّ الاستفهامَ إذا دخل على النفي قَرَّره كقوله :
1061 ألستُمْ خيرَ مَنْ رَكِبَ المطايا ... وأندى العاملينَ بطونَ راحِ
[ و ] : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } [ الانشراح : 1 ] ، المعنى : أنتم خيرُ ، وقد شَرَحْنا .
والثاني : أنها واوُ الحالِ ، دَخَلَت عليها ألفُ التقريرِ ، قاله ابن عطية ، وفيه نظرٌ من حيث إنها إذا كانَتْ للحالِ كانَتِ الجملةُ بعدَها في محلِّ نصبٍ ، وإذا كانَتْ كذلك استدعَتْ ناصباً وليس ثَمَّ ناصبٌ في اللفظِ ، فلا بدَّ من تقديرِه : والتقدير « أسألْتَ ولم تؤمِنْ » ، فالهمزةُ في الحقيقةِ إنما دَخَلَتْ على العاملِ في الحالِ . وهذا ليس بظاهرِ ، بل الظاهرُ الأولُ ، ولذلك أُجيبت ببلى ، وعلى ما قالَ ابنُ عطية يَعْسُر هذا المعنى . وقوله « بلى » جوابٌ للجملةِ المنفيَّةِ وإنْ صارَ معناها الإِثباتَ اعتباراً باللفظِ لا بالمعنى ، وهذا من قسمِ ما اعتُبر فيه جانبُ اللفظِ دون المعنى ، نحو : { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ } [ البقرة : 6 ] وقد تقدَّم تحقيقُه .
قوله : { لِّيَطْمَئِنَّ } اللامُ لامُ كي ، فالفعلُ منصوبٌ بعدها بإضمار « أَنْ » ، وهو مبنيٌّ لاتصالِه بنونِ التوكيدِ ، واللامُ متعلقةٌ بمحذوفٍ بعد « لكنْ » تقديرُه : ولكنْ سألتك كيفية الإِحياء للاطمئنانِ ، ولا بُدَّ من تقديرِ حذفٍ آخرَ قبلَ « لكنْ » حتى يَصِحَّ معه الاستدراكُ والتقديرُ : بلى آمنْتُ وما سألتُ غيرَ مؤمنٍ ، ولكنْ سألتُ ليطمئِنَّ قلبي .

والطُّمأنينة « السكونُ ، وهي مصدرُ » اطمأنَّ « بوزن اقشعرَّ ، وهي على غيرِ قياسِ المصادرِ ، إذ قياسُ » اطمأنَّ « أَنْ يكونَ مصدرُه على الاطمئنان . واختُلِف في » اطمأنَّ « هل هو مقلوبٌ أم لا؟ فمذهب سيبويه أنه مقلوبٌ من » طَأْمَنَ « ، فالفاءُ طاءٌ ، والعينُ همزةٌ ، واللامُ ميمٌ ، فَقُدِّمَتِ اللامُ على العينِ فوزنُه : افْلَعَلَّ بدليلِ قولهم : طامنتُه فتطامَنَ . ومذهب الجرمي أنه غيرُ مقلوبٍ ، وكأنه يقولُ : إن اطمأنَّ وطَأْمَنَ مادتان مستقلتان ، وهو ظاهرُ كلام أبي البقاء ، فإنه قال : » والهمزةُ في « ليطمَئِنَّ » أصلٌ ، ووزنه يَفْعَلِلُّ ، ولذلك جاء { فَإِذَا اطمأننتم } [ النساء : 103 ] مثل : اقْشَعْررتم « . انتهى . فوَزنُهُ على الأصلِ دونَ القلبِ ، وهذا غيرُ بعيدٍ ، ألا ترى أنهم في جَبَذَ وجَذَبَ قالوا : ليس أحدُهما مقلوباً من الآخرِ لاستواءِ المادَّتين في الاستعمالِ . ولترجيحِ كلٍّ من المذهبين موضعٌ غيرُ هذا .
قوله : { مِّنَ الطير } في متعلِّقه قولان ، أحدُهما : أنه محذوفٌ لوقوعِ الجارِّ صفةً لأربعة ، تقديرُه : أربعةً كائنةً من الطيرِ . والثاني : أنه متعلقٌ بخُذْ ، أي : خُذْ من الطير .
و » الطيرُ « اسمُ جمعٍ كرَكْب وسَفْر . وقيل : بل هو جمعُ طائرٍ نحو : تاجر وتَجْر ، وهذا مذهبُ أبي الحسن . وقيل : بل هو مخففٌ من » طَيِّر « بتشديدِ [ الياء ] كقولِهم : » هَيْنَ ومَيْت « في : هَيِّن ومَيَّت . قال أبو البقاء : » هو في الأصلِ مصدرُ طارَ يطير ، ثم سُمِّي به هذا الجنسُ « . فَتَحَصَّلَ فيه أربعةُ أقوالٍ .
وجاء جَرُّه ب » مِنْ « بعد العددِ على أفصحِ الاستعمالِ ، إذ الأفصحُ في اسمِ الجَمْعِ في بابِ العددِ أَنْ يُفْصَل بمِنْ كهذه الآيةِ ، ويجوزُ الإِضافةُ كقولِه تعالى : { تِسْعَةُ رَهْطٍ } [ النمل : 48 ] ، وقال :
1062 ثلاثةُ أنفسٍ وثلاثُ ذَوْدٍ ... لقد جارَ الزمانُ على عيالي
وزعم بعضهم أن إضافته نادرةٌ لا يُقاس عليها ، وبعضُهم أَنَّ اسمَ الجمعِ لما يَعْقِل مؤنثٌ ، وكلا الزعمين ليس بصوابٍ ، لما تقدَّم من الآيةِ الكريمةِ ، واسمُ الجمع لما لا يَعْقِل يُذَكَّر ويؤنَّثُ ، وهنا جاء مذكراً لثبوتِ التاءِ في عددِه .
قوله : { فَصُرْهُنَّ } قرأ حمزة بكسر الصادِ ، والباقونَ بضمِّها وتخفيفِ الراء . واختُلِف في ذلك فقيل : القراءتان يُحتمل أَنْ تكونا بمعنىً واحدٍ ، وذلك أنه يقال : صارَه يَصُوره ويَصِيره ، بمعنى قَطَعه أو أماله فاللغتان لفظٌ مشتركٌ بين هذين المعنيين ، والقراءتان تَحْتَمِلهما معاً ، وهذا مذهبُ أبي عليّ . وقال الفراء : » الضمُّ مشتركٌ بين المعنيين ، وأمَّا الكسرُ فمعناه القطعُ فقط « . وقال غيرُه : » الكسرُ بمعنى القَطْعِ والضمُّ بمعنى الإِمالةِ « . ونُقِل عن الفراء أيضاً أنه قال : » صَارَه « مقلوبُ من قولهم : » صَراه عن كذا « أي : قَطَعه عنه . ويقال : صُرْتُ الشيءَ فانصار أي : قالت الخنساء :
1063 فلو يُلاقي الذي لاقَيْتُه حَضِنٌ ... لَظَلَّتِ الشمُّ منه وَهْيَ تَنْصارُ

أي : تَنْقَطِعُ . واختُلف في هذه اللفظةِ : هل هي عربيةٌ او مُعَرَّبة؟ فعن ابنِ عباس أنها مُعَرَّبةٌ من النبطية ، وعن أبي الأسود أنها من السريانية ، والجمهورُ على أنها عربيةٌ لا معرَّبةٌ .
و « إليك » إنْ قلنا : إنَّ « صُرْهُنَّ » بمهنى أمِلْهُنَّ تعلَّق به ، وإنَّ قلنا : إنه بمعنى قَطِّعْهُنَّ تعلَّقَ ب « خُذْ » .
وقرأ ابن عباس : « فَصُرَّهُنَّ » بتشديد الراءِ مع ضَم الصادِ وكسرِها ، مِنْ : صَرَّه يَصُرُّه إذا جَمَعه؛ إلا أنَّ مجيءَ المضعَّفِ المتعدِّي على يَفْعِل بكسر العين في المضارعِ قليلٌ . ونقل أبو البقاء عَمَّنْ شَدَّد الراءَ أنَّ منهم مَنْ يَضُمُّها ، ومنهم مَنْ يفتَحُها ، ومنهم مَنْ يكسِرُها مثل : « مُدَّهُنَّ » فالضمُّ على الإِتباعِ ، والفتحُ للتخفيفِ ، والكسرُ على أصلِ التقاءِ الساكنينِ .
ولمَّا فَسَّر أبو البقاء « فَصُرْهُنَّ » بمعنى « أَمِلْهُنَّ » قَدَّر محذوفاً بعده تقديرُه : فَأَمِلْهُنَّ إليك ثم قَطِّعْهُنَّ ، ولمَّا فسَّره بقطِّعْهن قَدَّر محذوفاً يتعلَّق به « إلى » تقديرُه : قَطِّعْهُنَّ بعد أَنْ تُميلَهُنَّ [ إليك ] . ثم قال : « والأجودُ عندي أن يكونَ » إليك « حالاً من المفعولِ المضمرِ تقديرُه : فَقَطِّعْهُنَّ مُقَرَّبةً إليك أو ممالةً أو نحوُ ذلك .
قوله : { ثُمَّ ا } » جَعَلَ « يُحتمل أَنْ يكونَ بمعنى الإِلقاء فيتعدَّى لواحدٍ وهو » جزءاً « ، فعلى هذا يتعلَّقُ » على كل « و » منهنَّ « باجعَلْ ، وأن يكونَ بمعنى » صَيَّر « فيتعدَّى لاثنين فيكونَ » جُزْءاً « الأولَ ، و » على كل « هو الثاني ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ . و » منهنَّ « يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ على هذا بمحذوفٍ على أنه حالٌ من » جزءاً « لأنه في الأصل صفةُ نكرةٍ ، فلمَّا قُدِّم عليها نُصب حالاً . وأجازَ أبو البقاء أن يكونَ مفعولاً ل » اجْعَلْ « يعني إذا كانَت » اجْعَلْ « بمعنى » صَيِّر « فيكونُ » جزءاً « مفعولاً أول ، و » منهنَّ « مفعولاً ثانياً قُدِّم على الأولِ ، ويتعلَّقُ حينئذٍ بمحذوفٍ . [ ولا بد من حذفِ صفةٍ مخصِّصةٍ بعدَ ] قولِه : » كلِّ جبلٍ « ت